نتائج البحث عن (وَاعْتَبِرُوا)

1-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (المكلا)

المكلّا

هو اسم دالّ على مسمّاه؛ إذ جاء في مادّة (كلأ) من «التّاج» و «أصله»: (أنّ الكلّاء ـ ككتّان ـ مرفأ السّفن. وهو عند سيبويه: فعّال، مثل جبّار؛ لأنّه يكلأ السّفن من الرّيح. وساحل كلّ نهر كالمكلّا، مهموز مقصور) اه باختصار.

ومنه تعرف أنّه عربيّ فصيح، لم تتصرّف فيه العامّة على ممرّ السّنين إلّا بالشّيء اليسير.

وكانت المكلّا خيصة صغيرة لبني حسن والعكابرة، وملجأ تعوذ به سفائن أهل الشّحر، والواردين إليه من الآفاق عندما يهتاج البحر في أيّام الخريف؛ لتأمن به من عواصف الرّياح؛ لأنّه مصون بالجبال، بخلاف ساحل الشّحر.. فإنّه مكشوف.

وقد اتّخذ الصّيّادون به أكواخا، ففرضت عليهم العكابرة ضريبة خفيفة إزاء استيطانهم بها؛ لأنّها من حدود أرضهم، ثمّ ازدادت الأكواخ، واستوطنها كثير من العكابرة أنفسهم وناس من أهل روكب.

ويقال: إنّ آل الجديانيّ ـ وهم من يافع ـ مرّوا بها في أواخر سنة (980 ه‍) مجتازين، فأعجبتهم، فاستوطنوها، وصار أمر أهل تلك الخيصة إلى رئيسهم يشاورونه في أمورهم حتّى صار أميرا عليهم.

وكان كبير آل كساد ـ واسمه: سالم ـ موجودا بالمكلّا إذ ذاك، فاغتال الجديانيّ واستقلّ بأمر المكلّا.

ثمّ جاء سالم بن أحمد بن بحجم الكساديّ ومعه ولده صلاح وأخوه مقبل، فاغتالوا سالم الكساديّ في البير المعروفة إلى اليوم ببير بشهر، واستولى سالم بن أحمد بن بحجم على البلاد، وحكمها سنة ثمّ مات، وخلفه عليها ابنه صلاح ثمّ مات، وله ثلاثة أولاد: عبد الرّبّ، وعبد الحبيب، وعبد النّبيّ.

وكان النّفوذ لعبد الحبيب؛ لأنّه الأكبر، ولمّا مات.. خلفه عليها أخوه عبد الرّبّ، وبقي يحكم المكلّا إلى أن توفّي في سنة (1142 ه‍)، وخلفه عليها ابنه صلاح، فأخذ محمّد بن عبد الحبيب ينازعه حتّى اتّفقوا على تحكيم صاحب عدن، فركبوا إليها، فقضى بها لمحمّد بن عبد الحبيب.

فسافر صلاح وأخوه مطلق وعمّهم عبد النّبيّ إلى السّواحل الإفريقيّة، وبقي محمّد عبد الحبيب يحكم المكلّا.

وفي أيّامه بنيت حافة العبيد، وسمّيت بذلك؛ لأنّ أوّل ما بني بها بيت لعبيد آل كساد.

ولمّا مات محمّد عبد الحبيب في سنة (1207 ه‍).. قام من بعده ولده صلاح بن محمّد بن عبد الحبيب، وكان عمّه عبد الله بن عبد الحبيب ينازعه الإمارة، ولكنّه تغلّب عليه بمساعدة عمّه عليّ بن عبد الحبيب، وبقي على حكم المكلّا إلى أن مات في سنة (1290 ه‍).

وقام بعده ولده عمر بن صلاح، وكان صلاح في أيّامه استدان مئة ألف ريال من عوض بن عمر القعيطيّ في سنة (1285 ه‍) ـ وهي حصّته في نفقة غزوة المحائل عامئذ ـ وبإثر موته.. وصل عوض من الهند إلى الشّحر، وأقام بها أشهرا، ثمّ سار إلى المكلّا بهيئة التّعزية، وبعد أن اجتمع له بها من عسكره نحو ثلاث مئة دخلوا أرسالا.. طالب بذلك الدّين، فسفر النّاس بين عمر بن صلاح والقعيطيّ على أن يحتلّ القعيطيّ ناصفة المكلّا إلى أن يستوفي ماله من الدّين، ولكنّ عمر صلاح استدعى عسكره من كلّ ناحية، وأذكى نار الحرب، وعندما أحسّ القعيطيّ بالهزيمة.. استوقف الحرب، ونجا بنفسه.

هذه إحدى الرّوايات في إمارة آل كساد على المكلّا.

والأخرى: (أنّ في أواخر القرن الحادي عشر ـ أو أوائل الثّاني عشر ـ ورد المكلّا أحد آل ذي ناخب وهو جدّ آل كساد، وبمجرّد ما استقرّت قدمه بالمكلّا.. اتّجهت همّته للتّجارة والمضاربة مع أهل السّفن، ثمّ اتّفق هو وإيّاهم على شيء يدفعونه إليه برسم الحراسة، يعطي العكابرة وبني حسن بعضه، ويستأثر بالباقي، إلى أن استقوى أمره، وضعف أمر أولئك وانشقّ رأيهم، فما زال يتدرّج حتّى صار أمير المكلّا).

والثّالثة: عن الشّيخ المعمّر أحمد بن مرعيّ بن عليّ بن ناجي الثّاني: (أنّ صلاح بن سالم الكساديّ كان بغيل ابن يمين، فكثر شرّه، فطرده اليافعيّون الشّناظير، فالتجأ إلى علي ناجي الأوّل بن بريك بالشّحر، فأجاره هو وأولاده: عبد الحبيب، وعبد الرّبّ، وعبد النّبيّ.

وكانت لصلاح بنت تدعى عائشة، جميلة الطّلعة، استهوت قلب عليّ ناجي، فطلب يدها، واستاء آل بريك من بنائه عليها؛ لما يعلمون من شيطنة صلاح، وخافوا أن يستولي بواسطة بنته على خاطر السّلطان علي ناجي فيتنمّر لهم، فبيّتوا قتل صلاح بن سالم الكساديّ، فغدر بهم عليّ ناجي.

فذهب به إلى المكلّا ـ وهي إذ ذاك خيصة للعكابرة وبني حسن ـ فبنى بها السّلطان عليّ ناجي حصنا على ساحل البحر، سمّاه: حصن عبد النّبيّ؛ احتفاظا بالاسم لولده، وعاهد أهل المكلّا لعمّه صلاح بن سالم، وأجلسه بها مع عائلته) اه

وقد نزغ الشّيطان آخرا بين علي ناجي وعبد الرّبّ بن صلاح بن سالم الكساديّ. وجاء في «تاريخ باحسن الشّحريّ» [2 / 98 ـ 99 خ]: (أنّ علي ناجي نفى آل همام إلى المكلّا، فاستنجدوا بعبد الرّبّ بن صلاح ـ صاحب المكلّا ـ فجهّز قوما التقوا بعسكر علي ناجي في الحدبة، وقتل محسن بن جابر بن همام، وانكسر عسكر الكساديّ، وغنم آل بريك جميع ما معهم) اه

وسيأتي في تريم أنّ الكساديّ لم يجىء إلى المكلّا إلّا بعد سنة (1117 ه‍).

وفي أواخر سنة (1163 ه‍): غزا ناجي بن بريك المكلّا بسبع مئة من الحموم وغيرهم، فلاقاهم آل كساد إلى رأس الجبل، فهزموهم، وقتلوا منهم نحو العشرين، ولم يقتل من الكساديّ إلّا أربعة، ولا تزال قبورهم ظاهرة برأس الجبل.

ولمّا مات صلاح بن سالم ـ على هذه الرّواية ـ خلفه على المكلّا ولده عبد الرّبّ بن صلاح، ثمّ أخوه عبد الحبيب، وكان شهما صارما حازما. ثمّ تولّى بعده ولده محمّد.

وفي أيّامه: أخذ آل عبد الرّبّ بن صلاح يدبّرون المكايد لاغتياله، فأحسّ بذلك، فوطّأ لهم كنفه، وكان ذلك في اقتبال رمضان، فأظهر النّسك واشتغل بالعبادة، فخفّ حقدهم عليه، وهو يعمل عمله ليتغدّاهم قبل أن يتعشّوه.

وفي اللّيلة السّابعة والعشرين من رمضان: هجم عليهم وهم غارّون نائمون، بعد أن اشترى ذمم عبيدهم ففتحوا له الباب، فأباد خضراءهم، وقتل منهم ومن حاشيتهم ثلاثة عشر رجلا في ساعة واحدة، وهرب من بقي منهم بخيط رقبته إلى السّواحل الإفريقيّة.

ولمّا مات محمّد بن عبد الحبيب.. وقعت عصابته على ابنه صلاح بن محمّد بن عبد الحبيب، وكانت له محاسن، وعدل تامّ، وشدّة قاسية على أهل الفساد، ولم يزل على ذلك إلى أن توفّي في ربيع الثّاني من سنة (1290 ه‍).

وخلفه ولده عمر بن صلاح، وجرت بينه وبين السّلطان عوض بن عمر القعيطيّ خطوب انهزم في أوّلها القعيطيّ، ثمّ استعان بحكومة عدن، فاستدعت عمر صلاح، وخيّرته ـ بعد أن أخذت التّحكيم من الطّرفين ـ بين أن: يدفع المئة الألف حالا، أو يتسلّم مئة ألف ريال من القعيطيّ، ويترك له البلاد. وبين أن يتسلّم بروما من القعيطيّ، وقدرا دون الأوّل من الرّيالات. فلم يقبل، فأجبروه على الجلاء من المكلّا، فذهب إلى السّواحل الإفريقيّة ـ حسبما فصّلناه ب «الأصل» ـ واحتفظوا لأنفسهم منّة كبرى على القعيطيّ بهذا الصّنيع.

وكان ليوم سفر النّقيب من المكلّا رنّة حزن في جميع الدّيار؛ لأنّهم كانوا متفانين في محبّته.

«سارت سفائنهم والنّوح يتبعها *** كأنّها إبل يحدو بها الحادي »

«والنّاس قد ملؤوا العبرين واعتبروا *** وأرسلوا الدّمع حتّى سال بالوادي »

«كم سال في البحر من دمع وكم حملت *** تلك القطائع من أفلاذ أكباد »

هذا حال أهل المكلّا في توديعهم، وأمّا هم (أعني آل النقيب).. فكما قال الرّضيّ [في «ديوانه» 2 / 571 من الطّويل]:

«ترحّلت عنكم لي أمامي نظرة *** وعشر وعشر نحوكم من ورائيا»

وزعم بعضهم أنّ صاحب زنجبار لذلك العهد ـ وهو السّلطان سعيد بن سلطان ـ منع السّلطان عمر بن صلاح من النّزول ببلاده؛ لما سبق من فعلة جدّه الشّنعاء بأقاربه، وكاد يرجع أدراجه، ولكنّ بقايا الموتورين من آل عبد الرّبّ أظأرتهم الرّحم عليه، فشفعوا إلى سلطان زنجبار في قبوله، فقبل نزوله. ولا تزال الدّراهم مرصّدة له بأرباحها في خزينة عدن، كذا يقول بعضهم.

ويزعم آخرون أنّ الحكومة اختلقت مبرّرا لحرمانه منها. ولا بأس بإيراد وثيقتين تتعلّقان بالقضيّة. هذه صورة الأولى:

"بسم الله الرّحمن الرّحيم

أقرّ أنا عمر صلاح، نقيب بندر المكلّا بأنّي قد قبلت بتوقيف وقطع العداوة التي بيني وبين عوض بن عمر القعيطيّ وأخيه عبد الله بن عمر حاكم بندر الشّحر، وأن ""أجري وأقبل صلح هدنة لمدّة سنتين من هذا التّاريخ، وكذلك أقبل وألزم نفسي بنيّة صالحة بأن لا أعاون ولا أساعد بأيّ وجه كان ظاهرا أو باطنا كلّ عدوّ للقعيطيّ المذكور في أثناء هذه الهدنة السنتين المذكورة، وقد رضيت وصحّحت هذه الشّروط برضاي واختياري، والله خير الشّاهدين.

النقيب عمر صلاح

ثم الختم

حرّر في المركب كونتنك

""

الدّولة العظمى الإنكليزيّة (22) ديسمبر سنة (1876 م)، (6) الحجة سنة (1295 ه‍).

والأخرى:

"بسم الله الرّحمن الرّحيم

أقرّ أنا الجمعدار عبد الله بن عمر القعيطيّ حاكم بندر الشّحر بأنّي قبلت بتوقيف وقطع العداوة التي بيني وبين النّقيب عمر صلاح نقيب المكلّا، وأن أجري وأقبل صلح هدنة لمدّة سنة واحدة من هذا التّاريخ، وكذلك أقبل وألزم نفسي بنيّة صالحة بأن لا أعاون ولا أساعد بأيّ وجه كان ظاهرا أو باطنا كلّ عدوّ للنّقيب عمر في أثناء هذه الهدنة السّنة المذكورة، وقد رضيت وصحّحت هذه الشّروط برضاي واختياري، والله خير الشّاهدين.

صحيح عبد الله بن عمر القعيطيّ

حرر في المركب الحربيّ المسمّى: عرب تعلق الدّولة العظمى في (7) مي سنة (1879 م)، الموافق (12) جمادى أولى سنة (1296 ه‍).

وفي الأولى إمضاء الوكيل السّياسيّ صالح جعفر، وفي الأخرى كومندور الدّراعة فرانسيس لوك، المقيم السياسيّ. عدن.

وفي معنى الوثيقة الأولى ولفظها وتاريخها وموضعها وثيقة بإمضاء السّلطان

عوض بن عمر، وهو: صحيح عوض بن عمر القعيطيّ عن نفسه وعن أخيه عبد الله بن عمر حاكم الشّحر.

ثمّ وجدت عريضة تضمّ ما انتشر، وتفصّل ما أجمل، تشبه أن تكون بأمر النّقيب عمر صلاح قدّمها فيما يظنّ لدولة الإنكليز، جاء فيها:

أولا: كان بين النّقيب صلاح بن محمّد الكساديّ سلطان المكلّا، وبين الجمعداريّة صالح وعبد الله وعوض أبناء عمر بن عوض القعيطيّ صداقة، وكانوا تابعين للنّقيب، حتّى عزم على حرب الشّحر، فجهز ومعه عوض بن عمر على الشّحر، وأخذوها على أنّها أنصاف بينهم، وبقي عوض بن عمر حاكما عليها.

وبعد ستّ سنين من أخذ الشّحر.. توفّي النّقيب صلاح بن محمّد، وخلفه ولده عمر صلاح، فاشتبك في حرب مع آل العموديّ وقبائل دوعن، فانتهز عوض بن عمر الفرصة، واستأذن في الوصول إلى المكلّا؛ للتّوسّط بين النّقيب عمر صلاح وآل دوعن في الصّلح، فوصل على حين غفلة، فخرج عمر صلاح لاستقباله.. فاستنكر كثرة العساكر التّي جاء بها معه؛ لأنّها تقدّر بسبع مئة، فقال له: لم لم تبعث برسول يخبرنا بوصولك؟

فاعتذر وأظهر أنّ قصده المصالحة بين النّقيب وبين قبائل دوعن، وفي ثاني يوم وصوله.. ادّعى بمئة وستين ألف ريال عند النّقيب صلاح بن محمّد.. فأجابه النّقيب عمر ب: (لا أعلم شيئا على والدي، وقد عاش ستّ سنين بعد أخذ الشّحر ولم تطلبوا بشيء، وإن كان بها سند صحيح على والدي.. فأنا مستعدّ للوفاء).

لكنّ عوض بن عمر لمّا رأى المكلّا خالية.. اعتمد على القوّة، وقال لعمر صلاح: إن لم تمض على بيع ناصفة المكلّا لي بالمبلغ المذكور.. أخذتها بالقوّة، فأمضى النّقيب مضطرّا، ثمّ استدعى عساكره من دوعن، وحصل من عسكر القعيطيّ تعدّ بقتل أحد عسكر النّقيب، فنشبت الحرب ثلاثة أيّام، انهزم في آخرها عوض بن عمر، فطلب الأمان لنفسه.. فأمّنه النّقيب.

فسار إلى الشّحر بسلاحه وعساكره في عدّة سفن، وبعد وصوله إلى الشّحر.. استمرّت المناوشات بين النّقيب والقعيطيّ ثلاث سنين، حتّى وصل الجنرال سندر من عدن، وعقد هدنة لمدّة سنتين، ولمّا انقضت.. وصل والي عدن فرانسيس لوك، وعقد هدنة لمدّة سنة، ولمّا انقضت.. منع الطّرفين عن جهة البحر، ولكنّ عبد القعيطيّ جهّز عساكره بحرا، وهجم على بروم في اللّيل، واستولى عليها، وأرسل النّقيب سلطان المكلّا خبرا لوالي عدن.. فتغافل عن تعدّي القعيطيّ، فطلب النّقيب آل كثير، وجهّز على بروم، وجهّز عسكر القعيطيّ بها من جهة البرّ.

وفي (25) ديسمبر سنة (1881 م) وصل مركب إنكليزيّ فيه صالح جعفر مندوب من والي عدن.. فوجد عسكر القعيطيّ محصورين في بروم، وسفنه في المرسى ملآنة بالرّصاص والزانة، فربط سفينتين منها بمركبه إلى عدن، وهربت أربع سفن إلى الشّحر، ثمّ أرسل الوالي بمركب حربيّ اسمه (سيجل)، يرأسه القبطان بيلس، وأقام هدنة خمسة عشر يوما.

وفي (22) فبروري وصل المركب (دجمار) وفيه صالح جعفر ووكيل القعيطيّ الواصل من الهند.. فدفع صالح جعفر للنّقيب عمر كتابا من والي عدن يقول له فيه: واصلك مرسولنا صالح جعفر.. فاقبل ما أودعناه لك من خطاب، فقال صالح جعفر: إنّ الدّولة حرّرت بينكم معاهدة على ثلاثة شروط، كلّ شرط في ورقة؛ لتخرج عساكر القعيطيّ من بروم بغير سفك دماء، وبعد خروج عساكر القعيطيّ بانسلّمها لك، وبانعطيك حماية لبلادك، وتكون تبع للدّولة الإنكليزيّة.

فلمّا وقف النّقيب على الشّروط الثّلاثة.. امتنع عن الإمضاء، وبقي صالح جعفر يرغّبه ويقول له: إنّما هي وسيلة إلى خروج عسكر القعيطيّ من بروم، وتكون الشّروط تحت اختيارك بعد ذلك، وكان النّقيب واثقا بصالح جعفر.. فأمضى على الشّروط الثّلاثة، كلّ شرط في ورقة، فتوجّه صالح جعفر ونزعوا عساكر القعيطيّ من بروم، وسلّموها للنّقيب.

وبعد أربعين يوما.. وصل القبطان هنتر وصالح جعفر، وقالوا للنّقيب: إنّ والي

عدن استحسن أن تبيع بلادك المكلّا لعدوّك القعيطيّ بثلاثة لكّ ريال، وطلب إمضاءه على ورقة بيع مكتوبة بالإنكليزيّة.. فأبى، فألزموه أن يواجه الوالي بنفسه في عدن، فتوجّه على أمل من إنصاف الوالي، فلم يكن منه إلّا أن ألزمه الإمضاء على ورقة البيع.. فامتنع، وبقي خمسة وعشرين يوما في مراجعة مع الوالي.

ثمّ عاد إلى المكلّا في نفس المركب الّذي سار فيه، واسمه (دجمار) ومعه صالح جعفر، ولمّا وصل المكلّا.. وجد المنور الحربيّ المسمّى (دراقين) راسيا بالمكلّا، وفي اليوم الثّاني.. نزل قبطانه ـ واسمه هلتن ـ ورافقه صالح جعفر وأعطى للنّقيب ورقة مكتوبة بالعربيّ: إنّك راضي أن تفارق بلدك وحدودك ما عدا بروم، ونسلّم لك لاكين وعشرين ألف ريال، فامتنع النّقيب عن الإمضاء عليها، فعاد هلتن للمنور المسمّى (دراقين) ومعه صالح جعفر.. فضربوا ثلاثة مدافع؛ إعلانا بحصر المكلّا ومنعوا السّفن الواردة، فضربوا السّفن الرّاسية، وبقي ذلك المنور محاصرا للمكلّا ستّة أشهر، وبعدما وصل المنور (دجمار) من عدن وفيه حاكم صغير اسمه (والش).. قال للنّقيب عمر: إنّ دولة الإنكليز رفعت الحصر عن بلادك، وإنّها لا تتداخل بينك وبين القعيطيّ.

وبعد عشرين يوما وصلت المناور الحربيّة (دراقين) و (عرب) و (دجمار)، وفيها القبطان (هولتن) والقبطان (هنتر)، وألزموا النّقيب صلاح يصحّح على ورقة بيع بلاده للقعيطيّ بثلاثة لكّ ريال.. فامتنع، فتوجّه المنور (دراقين) والمنور (دجمار) إلى الشّحر عند القعيطيّ، وأقاما خمسة أيّام، وفي اليوم السّادس.. وصلت مناور إنكليزيّة شاحنة بعسكر القعيطيّ وآلات الحرب، ومعهم عبد الله بن عمر القعيطيّ، ونزل هنتر إلى بروم، وقال لحاميتها: إن لم تفرغوها.. أثرنا عليكم الحرب، وفي أوّل يوم من نوفمبر سنة (1881 م).. أطلقوا المدافع، وهدموا القلاع، فهزمت عسكر النّقيب، واستولت المناور على بروم، ثمّ سلّموها لعبد الله بن عمر القعيطيّ، ثمّ توجّه (دراقين) وسفن القعيطي بحرا، وبعض عساكره برّا حتّى وصلوا بلاد فوّة، فنزل هولتن وطرد عسكر النّقيب، وسلّم فوة للقعيطيّ.

ثمّ توجّه المنور والسّفن إلى المكلّا، وحصروا المكلّا، وقطعوا وارد الماء من البرّ، فطفق النّقيب يخاطب هولتن ويذكّره الصّداقة والمعاهدة، ولمّا رآه مصمّما على حربه بما لا طاقة له به.. طلب الأمان، وسلّم بلاده للقبطان هولتن، ونزلت عساكر الإنكليز، وركب النّقيب عمر صلاح في حاشيته ونسائه وأطفاله ورجاله المقدّرين بألفين وسبع مئة نفس، سار بهم القبطان هولتن إلى عدن بعد أن سلّم المكلّا للقعيطيّ، ولمّا وصل النّقيب بحاشيته إلى مرسى عدن.. طلب مواجهة الوالي.. فلم يجبه، بل شدّد عليه الحصر في السّفن، ومنعهم النّزول إلى البرّ، واشتدّ عليهم الضّيق والزّحام حتّى مات منهم نحو مئتي نفس، وبقوا في الحصر اثنين وعشرين يوما، يطلع إليهم هنتر وصالح جعفر إلى البحر في كلّ يوم يتهدّدون النّقيب عمر بالحبس والقيد إذا لم يمض على خطّ البيع.. فلم يوافقهم، ولمّا أيسوا من موافقته.. نزّلوا فرقة من عسكره تقدّر بسبع مئة إلى برّ عدن، ورخّصوا له بالسّفر، فتوجّه مظلوما مقهورا من مأموري عدن إلى بندر زنجبار، والآن له مدّة سنتين يخاطب دولة الهند فيما حصل من ظلم مأموري عدن، ويطلب الإنصاف من دولة الإنكليز بوجه الحقّ.. فلم تفده بجواب، وهو في انتظار الإنصاف إلى هذا الوقت، وقد حرّر هذا لأعتاب دولتكم؛ ليكون الأمر معلوما، والسّلام. اه بنوع اختصار.

ومنها يعرف أنّ الوثيقة الأولى هي الّتي انعقدت على يد سندر سنة (1295 ه‍)، والثّانية هي الّتي انعقدت على يد فرانسيس لوك سنة (1296 ه‍)، والله أعلم.

ومن ذلك اليوم صفت المكلّا لآل القعيطيّ، يتداول حكمها بين السّلطان عوض وأخيه عبد الله بن عمر، إلى أن مات الثّاني في سنة (1306 ه‍) عن ولدين، كان لهما مع عمّهما عوض نبأ يأتي ذكر بعضه في الشّحر.

وفي سنة (1888 ميلاديّة) ـ ولعلّها موافقة سنة (1305 هجريّة) ـ انعقدت معاهدة بين الحكومة الإنكليزيّة والحكومة القعيطيّة، هذا نصّها:

المادة الأولى: تلبية لرغبة الموقّع أدناه: عبد الله بن عمر القعيطيّ، بالأصالة عن نفسه، وبالنّيابة عن أخيه عوض.. تتعهّد الحكومة البريطانيّة بأن تمدّ إلى المكلّا والشّحر ومتعلّقاتهما الّتي في دائرة تفويضهما وحكمهما المنّة السّامية، وحماية صاحبة الجلالة الملكة الإمبراطورة.

المادة الثّانية: يرتضي ويتعهّد عبد الله بن عمر القعيطيّ، بالأصالة عن نفسه، وبالنّيابة عن أخيه عوض وورثائهما وحلفائهما.. بأن يتجنّب الدّخول في مكاتبات أو اتفاقيّات أو معاهدات، مع أيّ شعب أو دولة أجنبيّة إلّا بعلم وموافقة الحكومة البريطانيّة.

ويتعهّد أيضا: بأن يقدّم إعلاما سريعا لوالي عدن، أو لضابط بريطانيّ آخر عند محاولة أيّة دولة أخرى في التّدخّل في شؤون المكلّا والشّحر ومتعلّقاتهما.

المادة الثّالثة: يسري مفعول هذه المعاهدة من هذا التّاريخ.

وشهادة على ذلك فقد وضع الموقّعون أدناه إمضاءاتهم أو ختوماتهم في الشّحر باليوم من شهر مايو سنة (1888 م) اه

وكنت أتوهّم هذه أوّل معاهدة بين القعيطيّ والإنكليز، ولكن رأيت قبلها أخرى بواسطة (جايمس بلار) والي عدن بتاريخ (29) مارس سنة (1882 م) و (12) رجب سنة (1299 ه‍) جاء فيها ما يوافق الّتي قبلها، مع زيادات:

أولاها: أنّ عبد الله بن عمر وأخاه عوض بن عمر تمكّنا ـ بواسطة المساعدة لهما من الحكومة البريطانيّة ـ من الاستيلاء على مرفأي بروم والمكلّا في أكتوبر سنة (1881 م)، وعلى الأراضي الّتي كان يحتلّها النّقيب.

وبما أنّ الحكومة قد أسدت إليهما مساعدات ومننا أخرى.. فقد وافقوا على المعاهدة الآتية، وهي معاهدة سنة (1888 م).

والزّيادة الثّانية هي: بما أنّ الممتلكات الّتي كانت سابقا في قبضة النّقيب عمر بن صلاح قد انتقلت إلى يد عبد الله بن عمر القعيطيّ، وهو قد دفع مئة ألف ريال للوالي

في عدن لقاء نفقات النّقيب عمر بن صلاح.. فإنّ هذا المبلغ سيصرف بنظر الوالي في عدن عن النّقيب عمر بن صلاح المذكور.

والزّيادة الثّالثة هي: تعهّد الحكومة البريطانيّة بمعاش سنويّ لآل القعيطيّ، قدره: ثلاث مئة وستّون ربيّة، ما داموا قائمين بشروط هذه المعاهدة. اه

ولكنّ آل القعيطيّ ترفّعوا عن ذلك المعاش الزّهيد، ولم يقبضوا منه شيئا من يوم المعاهدة إلى اليوم.

ومقدّم تربة المكلّا هو: الشّيخ يعقوب بن يوسف باوزير، وهو آخر من وصل إليه العلم من أجداده المشايخ آل باوزير، وكانت وفاته بالمكلّا في سنة (553 ه‍).

وقال السّيّد علويّ بن حسن مدهر: (إنّ آل باوزير يرجعون إلى الشّيخ حسن الطّرفيّ، المقبور بجزيرة كمران).

وقال الشّيخ عبد الله بن عمر بامخرمة: (إنّ آل باوزير ينسبون إلى قرية يقال لها: وزيريّة من شرعب باليمن، على مقربة من تعزّ، بينهما مرحلة، تطلّ على تهامة)

وقد اجتمعت بالفاضل السّيّد: محمّد بن محمّد بن عبد الله بن المتوكّل، فحدّثني عن وزيريّة هذه وقال: (إنّها الوزيرة لا وزيريّة، وهي ما بين شرعب والعدين، بلاد خصبة جدّا، يمرّ فيها غيل غزير، لا تزال به خضراء صيفا وشتاء).

وزعم قوم: أنّ الشّيخ يعقوب بن يوسف من آل الجيلانيّ.

وكان لآل باوزير منصب عظيم، وجاه واسع، حتّى لقد كانت لهم دولة بأنقزيجة وهي من جزائر القمر، وآخر سلاطينهم بها يقال له: (مرسى فوم)، ولكنّ السّيّد عليّ بن عمر المسيليّ طلب منه أن يولّيه على بعض البلاد.. فلم يرض، فخرج عن طاعته، واستعان بفرنسا.. فساعدته بالأموال والعتاد، وبباخرة حربيّة حاصر بها مرسى فوم، ولمّا رغب في الصّلح.. اتّعد هو وإيّاه إلى مكان أعدّ فيه الرّجال، وبمجرّد ما وصل.. غدر به وقتله خنقا، واستولى على ملكه، وكان جبّارا ظالما، معاصرا لسيّدي أحمد بن أبي بكر بن سميط، ولا تزال لأولاده سلطنة اسميّة إلى اليوم، وأمّه من ذرّيّة السّيّد أحمد بن عليّ، أحد آل الشّيخ أبي بكر بن سالم، وكان له أولاد يزيدون عن المئة، وسلطته على أنقزيجة انتهت بآل باوزير، ثمّ انتهت دولة آل باوزير بحكم عليّ بن عمر، وليس من آل الشّيخ أبي بكر، ولكنّ أمّه منهم، وأمّا هو.. فمن آل المسيلة، ولهذا قيل له: المسيلي.

وللمكلّا ذكر كثير في أخبار بدر ـ أبو طويرق ـ الكثيريّ، المتوفّى بسيئون سنة (977 ه‍)، وشيء من ذلك لا ينافي كونها خيصة صغيرة لذلك العهد، لم تعمّر إلّا في أيّام الكساديّ؛ لأنّه لا ينكر وجودها من زمن متقدّم، وصغرها لا يمنع ذكرها، فمن ذكرها.. فقد نظر إلى مجرّد وجودها، ومن لم يذكرها.. فلحقارتها، ولأنّها لا تستحقّ الذّكر إذ ذاك.

إلّا أنّه يشكل على ذلك شيئان:

أحدهما: أنّ الشّيخ عمر بن صالح هرهره لم يذكرها في «رحلته» الّتي استولى فيها على حضرموت والشّحر، ولقد ذكر فيها أنّه أقام بالشّحر ثلاثة أشهر، وأنّ ما جباه منها في هذه المدّة: خمسة وثلاثون ألف ريال، مع أنّه متأخّر الزّمان في سنة (1117 ه‍)؛ فإنّ هذا يدلّ على فرط تأخّرها، إلّا أن يقال: إنّ الشّيخ عمر صالح احترمها لمكان إخوانه اليافعيّين فيها، ولكنّه لا يصلح إلّا جوابا عن الغزو لا عن الذّكر.

وثانيهما: أنّ كثرة المقابر بها تدلّ على عمران قديم.

وقد يجاب بأنّها: ربّما كانت كلّها مقبرة للعكابرة وبني حسن ومن داناهم؛ حرصا على مجاورة الشّيخ يعقوب، كما هي عادة أهل البلاد، وأهل البادية أكثر النّاس حرصا على مثل ذلك.

وقد عمّر كثير من تلك المقابر بعد دثورها مساكن ومساجد، وكنت أشتدّ في إنكار ذلك، حتّى رأيت كلام «التّحفة» و «الإيعاب» في ذلك.

وحاصل ما فيهما: (أنّ الموات المعتاد للدّفن بلا مانع يدخل في قسم المسبّل، ويجوز زرعه وبناؤه متى تيقّن بلاء من دفن به، ولا سيّما إذا أعرض أهل البلد عن الدّفن فيه حالا واستقبالا. وإنّما يمتنع الإحياء والتّصرّف فيما تيقّن وقفها، أو أنّ مالكا سبّلها)

وقال العينيّ ـ وهو من الحنفيّة ـ: (ذكر أصحابنا أنّ المقبرة إذا دثرت.. تعود لأربابها، فإن لم يعرف أربابها.. كانت لبيت المال). اه وفي شروح «المنهاج» ما يوافقه.

وقال ابن القاسم من المالكيّة: (لو أنّ مقبرة عفت، فبنى عليها قوم مسجدا.. لم أر بذلك بأسا) اه

وهذا شامل لما تحقّق وقفها أو تسبيل مسبّل لها.

أمّا ما لم يتحقّق فيه ذلك.. فنحن وإيّاهم على اتّفاق في جواز إحيائه والتّصرّف فيه.

وقال بعض الحنابلة: (إذا صار الميت رميما.. جازت زراعة المقبرة والبناء عليها)

وهذا في غير قبور الأولياء والعلماء والصّحابة؛ أمّا هؤلاء.. فلا تجوز على قبورهم مطلقا.

وفي شرحي بيتي السّلطان غالب بن محسن من ثالث أجزاء «الأصل» ما يصرّح بأنّ المكلّا لم تزل خيصة في سنة (1249 ه‍)، وأنّ سكّانها إذ ذاك لا يزيدون عن أربعة آلاف وخمس مئة نفس.

ثمّ إنّه لم يكن للعلم شأن يذكر بالمكلّا ونواحيها؛ لانصراف وزير الحكومة القعيطيّة السّيّد حسين بن حامد المحضار إذ ذاك عن هذه النّاحية، بل كان ـ رحمه الله ـ يتعمّد ذلك؛ لأنّ في العلم والمدارس تنبيه الأفكار، وهو يكره وجود النّابغين؛ لئلّا يزاحموه أو يغلبوه على السّلطان، أو يطالبوه بحقوقهم.

وإنّما كان يوجد فيها الأفذاذ النّاقلون بحكم الفلتات؛ كالشّيخ عوض بن سعيد بن محمّد بن ثعلب، الّذي تولّى القضاء بها فيما قبل سنة (1313 ه‍)، وكالشّيخ عبد الله بن عوض باحشوان، والشّيخ سعيد بن امبارك باعامر في قليل من أمثالهم، لا تحضرني أسماؤهم.

ومن أواخرهم: الشّيخ عبد الله بن محمّد بن عبد الله بن عوض باوزير، قرأ على الشّيخ محمّد بن سلم، وله رحلات في طلب العلم إلى الحجاز وعدن وحضرموت، وكان ذا لسان ونفس طيّب في الوعظ والتّذكير، توفّي بالغيل في سنة (1354 ه‍)، ودفن إلى جانب شيخه ابن سلم.

وبإثر وصول السّادة آل الدّبّاغ إلى المكلّا في حدود سنة (1343 ه‍).. فتحوا المدارس وأحسنوا التّعليم، وكان حزب الأحرار الحجازيّ يغدق عليهم الأموال، وتصلهم مع ذلك المواساة من العراق.

إلّا أنّهم كانوا يضمرون من التّعليم غير ما يظهرون، وحاولوا تربية الأولاد على الطّريقة الحربيّة؛ ليعدّوهم لغزو الحجاز، واستمالوا رؤساء يافع، وكان لهم إذ ذاك أكبر النّفوذ في المكلّا، وربّما تركوا صندوق الذّهب مفتوحا ليروه عندما يزورونهم، وبالآخرة طالبوهم بعسكر على أن يدفعوا لهم مرتّبات ضخمة، فالتزموا لهم بخمسة وأربعين ألف مقاتل من يافع، ولكنّ آل الدّبّاغ تأخّروا بعد ذلك لمؤثّر إمّا من الحجاز، وإمّا من العراق، وحاولوا إثارة حفيظة ملك العراق لغزو المكلّا وحضرموت.

وفيما كانت فرقة الكشّافة مارّة بسوق المكلّا، ترفرف عليها الأعلام العراقيّة.. تكدّر لذلك الشّيخ الأديب عبد الله أحمد النّاخبيّ، وكان شريكهم في التّعليم، ولكنّه لم يصبر على هذا التّطرّف، فنبّه الوزير، ولكنّه خاف من يافع ـ وكان خوّارا ـ فسكت على مضض، حتّى قدم الفاضل السّيّد طاهر الدّبّاغ، فعرف تهوّر أصحابه فقذعهم، ولكنّه بارح المكلّا وشيكا، فعادت القضيّة إلى أسوأ ممّا كانت، إلّا أنّ المسألة انحلّت بطبيعة الحال؛ إذ سافر عليّ الدّبّاغ إلى جازان؛ لتدبير الثّورة، فغرق هناك، وكان آخر العهد به.

وأمّا حسين: فلم يزل مصرّا على رأيه في الانتقام من الحكومة السّعوديّة، وكانت خاتمة أمره أن نزل بالحالمين من بلاد يافع، فمنعه أهلها آل مفلح، فلم يقدر عليه أحد، ثمّ نشبت بينهم وبين جيرانهم من يافع أيضا فتنة، ولمّا علموا أنّه السّبب فيها.. اعتزموا قتله، فغدر بهم فهرب ـ كما فعل الكميت ـ في زيّ امرأة، وذهب إلى الحمراء في آخر حدود يافع، فأذكى شرّا بينهم وبين آل القويمي من الزّيديّة، وكثرت بينهم القتلى.

«ولمّا أحسّ بالفشل.. هرب إلى ***...»

القطيب ـ وهي إحدى المحميّات ـ فألفى هناك ضابطا إنكليزيّا، فأغرى به بدويّا فقتله بجعل دفعه له، فطلبته حكومة عدن، بهذه التّهمة فحماه حسن بن عليّ القطيبيّ، وأبى أن يخيّس بجواره وذمّته، وبعد أن أقام لديه مدّة.. خطر له أن يخرج متنكّرا إلى حضرموت، وكانت الحكومة الإنكليزيّة جعلت أربعة آلاف ربيّة لمن يلقي القبض عليه، فلمّا انتهى إلى أرباض الهجرين.. أمسك به عاملها ـ وهو الشّيخ محمّد بن عوض النّقيب، وكان أحد تلاميذه بمدرسة النّجاح بالمكلّا ـ وهناك أخذه الضّابط السّياسيّ انجرامس وهو يصيح ويستثير حفائظ المسلمين، وقد حضر كثير فلم يتحرّك من أحد عرق.

ولمّا وصلوا به إلى عدن.. طلبه ملك الحجاز، وأمر بإنزاله مكرّما في جيزان، وأعلن له عاملها عفو الملك عنه، وأنّه حرّ في نفسه تحت حراسة عسكر بمثابة خدم له، حتّى يعرف سلوكه.

فلم يزل يخاطب رؤساء العشائر، ويعمل أعمالا لا تنطبق مع المنطق، وكان ذلك إثر مرض لم يزل يتزايد به حتّى توفّي وهو مشمول بإكرام الحكومة السّعوديّة وسماحها.

فمن حين فتح آل الدّبّاغ المدارس.. بدأت المعارف تتقدّم بخطى قصيرة، حتّى لقد عنيت مدارس المكلّا بما ذكرته في مقدّمة كتابي «النّجم المضيّ في نقد عبقريّة الرّضيّ».

إلّا أنّ السّلطان الحاليّ لمّا كان من جملة العلماء.. أخذ يناصر المدارس، وأغدق عليها الأموال، حتّى لقد قيل لي: إنّ ما ينفقه عليها سنويّا أكثر من ثلاث مئة ألف ربيّة، عبارة عمّا يقارب ربع إيراد المكلّا. وقد استجلب لها ناظرا خبيرا محنّكا من السّودان، هو الفاضل الشّيخ سعيد القدال، فأدارها أحسن إدارة، وظهر الأثر وينع الثّمر. فالمكلّا بل وسائر الموانىء اليوم في المعارف غيرها بالأمس.

إلّا أنّني اقترحت على السّلطان يوم كان بمنزلي في سنة (1365 ه‍) أن يهتمّ بإيجاد مدرسة تحضيريّة لتربية التّلاميذ على الأخلاق الفاضلة؛ فإنّ الهمم قد سقطت، والذّمم قد خربت، ولن تعود سيرتها الأولى إلّا بمدرسة تأخذ بطريق التّربية الصّوفيّة، أو قريب منها، مع الابتعاد عن الخلطة؛ لأنّ أكبر المؤثّرات على الصّبيان المشاهدة، فلن ينفعهم ما يسمعون إذا خالفه ما ينظرون؛ إذ المنظور لا ينمحي من الذّاكرة، بخلاف المسموع.. فإنّه لا يبقى إلّا عند صدق التّوجّه، فلا مطمع في إصلاح نشء مع اختلاطه بمن لا تحمد سيرته البتّة؛ ولذا لم يكن لبني إسرائيل علاج من أمراضهم الأخلاقيّة إلّا بإهلاك الجيل الفاسد في التّيه، وتكوين ناشئة لم تتأثّر بهم.

وفي «الصّحيح» [خ 1319]: «كلّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه، أو يمجّسانه».

فنحن بحاجة ماسّة إلى إيجاد البشريّة الصّحيحة قبل العالميّة، ومعلوم أنّ التّخلية مقدّمة على التّخلية، والتّلاميذ ظلّ آبائهم وأمّهاتهم ومعلّميهم، إن خيرا.. فخير، وإن شرّا.. فشرّ، وكثيرا ما أذكّر المعلّمين بخاتمة قصيدة جزلة لي في الموضوع، وتلك الخاتمة هي قولي [في «ديوان المؤلّف» 207 من البسيط]:

«وفّوا الكلام وكونوا في الذّمام وفي *** خوف الملام على ما كانت العرب »

ثمّ إنّه لم يكن عندي تصّور لمناحي التّعليم وأخلاق الطّلّاب والمدرّسين بالسّاحل.. حتّى يسوغ لي الحكم؛ فإنّما يتناول ثنائي ما ظهر من جمال الأسلوب، وحركة الانقلاب، وعموم التّيقّظ والانتباه، وإجادة بعضهم في الشّعر حتّى يسوغ لي الحكم.

وفي المكلّا: ديوان للحكومة، وإدارة للكهرباء ووزارة للماليّة، وليس للسّلطان إلّا مرتّب مخصوص قدره عشرة آلاف ربيّة في الشّهر، ثمّ رفع إلى خمسة عشر ألف ربيّة، مع إضافات معيّنة لا يتجاوزها.

وفيها غرفة تجاريّة تراعي أغراض التّجّار وتقدّمها على مصالح الشّعب.

وفيها إدارة للقضاء، ومجلس عال، لكنّ ذلك المجلس العالي هو أكبر حجار العثار في طريق العدالة! !

فالحقوق مهضومة، والحقائق مكتومة، وطالما رفعت إليّ أحكام ذلك المجلس.. فإذا بها شرّ ممّا نتألّم منه بسيئون؛ وذلك أنّ وزير الدّولة الّذي يقولون له: (السكرتير) ـ وهو الشّيخ سيف أبو عليّ ـ جعل كلمة ذلك المجلس النّهائيّة لا معقّب لها بحال، فسقطت عنه مؤنة التّحفّظ، ولم يحتج إلى مراجعة الكتب؛ إذ هو في أمان من النّقض، والشّعب ميت، والخاصّة نفعيّون يتساكتون.

وإلّا.. فلو احتجّوا لدى السّلطان.. لعدّل الأمر؛ لأنّه يكره الجور.

أمّا الآن.. فإنّ المجلس يفعل ما يشاء بدون رقيب؛ فبعد أن ينشق الخصوم إنشاق الخردل.. يصكّهم بتلك الأحكام ـ المضحكة المبكية ـ صكّ الجندل.

ولله درّ العبسيّ في قوله [في «البيان والتبيين» 1 / 164 من البسيط]:

«إنّ المحكّم ما لم يرتقب حسبا *** أو يرهب السّيف أو حدّ القنا.. جنفا»

ودفاتر التّسجيل شاهدة بصدق ما أقول، لا تخفى على من له أدنى إلمام بالفقه.

وفي الحفظ عن «جمع الجوامع»: (أنّه لم يقع أن قيل لنبيّ من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم: احكم بما شئت ففيه الصّواب، وإنّما الاختلاف في الجواز).

غير أنّ الحفظ يخون، والعهد بعيد.

ومثله عند غيره من أهل الأصول، وقد قال تعالى لأشرف الخلق: (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) وقال لداود عليه السّلام: (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)

فإن قيل: إنّ في قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) تفويضا مطلقا.. قيل: لا، وإنّما هو بما أراه الله من الحقّ، كما يشهد السّياق، وقد جاء في «التّحفة» [7 / 98] قبيل (الوديعة) ما نصّه: (قال بعضهم: وفيما إذا فوّض للوصيّ التّفرقة بحسب ما يراه.. يلزمه تفضيل أهل الحاجة... إلخ).

على اتّساع شقّة الفرق بين ما تراه وبين ما أراك الله، وقد روي عن عمر رضي الله عنه: لا يقولنّ أحدكم: قضيت بما أراني الله؛ فإنّ الله لم يجعل ذلك إلّا لنبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم. ولكن ليجتهد رأيه؛ لأنّ الرأي من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان مصيبا؛ لأنّ الله كان يريه إيّاه، وهو منّا الظّنّ والتّكلّف. ثمّ ما أبعد البون بين ما تراه الأدنى ممّا أراك الله ـ كما تقدّم ـ وبين ما تشاء في الآية (48) من (المائدة): (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) وفي الّتي بعدها: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ)

ولكنّ المجلس العالي بالمكلّا وقع من وزير الدّولة على ما لم تحصل عليه الأنبياء من ربّها، فصارت أحكامه شرّا من الأحكام العرفيّة؛ لأنّها ليست إلّا عبارة عن مشيئة وهوى الاستئناف، بل رئيسه فقط، من دون تقيّد بقانون شرعيّ ولا عرفيّ، وإنّما قلنا شرّا من الحكم العرفيّ؛ لأنّ الحاكم العرفيّ بمصر وغيرها يكون تحت مراقبة البرلمان، بخلاف هذا.. فلا مراقبة عليه أصلا، وهل تقبل هذا أمّة في بعض أفرادها نبض من الحياة؟! ! كلّا، ولكنّ المتنبّي يقول [في «العكبريّ» 4 / 94 من الخفيف]:

«من يهن يسهل الهوان عليه *** ما لجرح بميّت إيلام »

هذا مع أنّ هوى السّلطان ـ كما سبق ـ العدل، وغاية ما يتمنّاه الإنصاف، لكنّ الأمّة انتهت إلى ذلك الحدّ من السّقوط والانحطاط.. فسحقا، سحقا.

وسيأتي في الظّاهرة من أرض الكسر ما يستخرج عند التّمثيل العجب العجاب، ويستلفت أنظار طالبي الحقيقة في هذا الباب.

وسكّان المكلّا اليوم يزيدون عن خمسة وعشرين ألفا.

"وفيها عدّة مساجد، أشهرها:

الجامع القديم. ومسجد الرّوضة: بناه صاحب الأحوال الغريبة، السّيّد عمر ـ المشهور ببو علامة ـ ابن عليّ بن شيخ بن أحمد بن عليّ ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم، المتوفّى في شبام سنة (1278 ه‍)، وقد أنكر عليه بعضهم بناءه بشطّ البحر محتجّا بما جاء في رسالة للسّيوطيّ في الموضوع، وهي مدرجة ب «الحاوي». وجامع السّلطان عمر: وهو أنزه مسجد رأيت.

ومسجد النّور. ومسجد باحليوة. ومسجد السّلطان غالب بن عوض. وغيرها.

وبها كانت وفاة العلّامة الجليل الصّادع بالحقّ، النّاطق بالصّدق، السّيّد شيخان بن عليّ بن هاشم السّقّاف العلويّ، وكان رباؤه بالغرفة، ثمّ تنقّل في القرى، ثمّ سار إلى جاوة، ثمّ عاد إلى الوهط ولحج، وكان له جاه عند سلاطينها عظيم، ثمّ عاد إلى الشّحر، وجرت بينه وبين السّيّد عبد الله عيديد أمور، ثمّ سار إلى المكلّا، وبها توفّي سنة (1313 ه‍)، وعليه قبّة صغيرة لا يزال أبناؤه في شجار بشأنها؛ إذ كان علويّ يحمل صكّا بشرائها، وعمر يدّعي تسبيلها.

وترك أولادا: أحدهم: محمّد بلحج. والثّاني: جعفر، وهو حافظ للقرآن، مشهور بالصّلاح، بسربايا من أرض جاوة. والثّالث: عبد الله كان خفيف الظّلّ، مقبولا، راوية لأخبار من اتّصل بهم من الرّجال، وفيهم كثرة. والرّابع: ـ وهو أكبرهم ـ: علويّ، بالمكلّا، وله أولاد فتحوا بها مدرسة أهليّة منذ عشر سنوات. والخامس: عمر، وهو أصغرهم، بالمكلّا أيضا.

ولئن قلّ العلم بالمكلّا في الأزمنة السّابقة.. فقد كانت ملأى بفحول الرّجال.

ولقد أخبرني الثّقة أنّ وسط البقعة ـ المسمّاة بالحارة منها ـ كان مزدانا ـ في حدود سنة (1328 ه‍) ـ برجال لم تعوّض عنهم؛ كالسّيّد حسين بن حامد، وأخيه عبد الرّحمن، وسعيد وأحمد وعوض آل بو سبعة، وعليّ بامختار وأولاده، وآل زيّاد من يافع، وسعيد باعمر، وعبد الله بن عوض باحشوان وعوض بن سعيد بن ثعلب السّابق ذكرهما، وعمر وأحمد وعبد الرّحمن آل لعجم، وعقيل بن عوض بلربيعة الشباميّين، وبو بكر وعبد الصّمد وعبد الكريم آل بفلح، وسالم عمر وعوض عمر آل قيسان، والشّيخ عمر بن عبد الله عبّاد، وابن عمّه الشّيخ حسن بن عبد الرّحمن عبّاد، وأحمد ومحمّد وسعيد آل مسلّم الغرفيّين، وعمر الجرو، وولديه: عبد الله وعليّ، وسالم وسعيد آل بشير هؤلاء من خلع راشد، والشّيخ عبد الله بارحيم، وآل غزّي، وآل غريب، وغيرهم.

فهؤلاء كلّهم من نقطة صغيرة من الحارة ـ دع ما سواها ـ كانت العيون بقربهم تقرّ، والنّفوس بجوارهم تستبشر، فتواتر نعيهم، واشتدّت الواعية بهم.

«فلو قيل هاتوا فيكم اليوم مثلهم *** لعزّ عليكم أن تجيئوا بواحد »

وفي غربيّ المكلّا قرية يقال لها: شرج باسالم، وفي شمالها إلى الغرب بستان مسوّر يسمّى (القرية)، وذلك أنّ كثيرا من الأيتام نجعوا من المنطقة الكثيريّة بحضرموت في أيّام المجاعة الّتي ابتدأت من سنة (1360 ه‍) إلى المكلّا، فأدركهم عطف السّلطان، وتصدّق عليهم بذلك البستان، وبنوا لهم فيه بنايات تؤويهم، فأنقذوهم من المجاعة، وعلّموهم من الجهالة، وقد نيّف عددهم على المئتين والخمسين، ولكنّ كلّ من اشتدّ ساعده، وعرف أهله.. رجع إليهم، والباقون بها اليوم يزيدون على المئة، في عيش رغيد، وتعليم نافع، وحال مشكور.

وفي شمالها: البقرين، والدّيس. ثمّ: الخربة. والحرشيّات. وثلة عضد.

وهذه هي ضواحي المكلّا وأرباضها ومخترفات أهاليها.

وفي شرقيّ المكلّا على السّاحل: روكب وفيها جامع. ثمّ: بويش، تبعد قليلا عن السّاحل، وفيها عيون ماء جارية، ومزارع.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


2-المعجم المفصل في النحو العربي (أن الشرطية)

أن الشرطيّة

اصطلاحا: أن الشرطيّة، في رأي الكوفيّين واستدلّوا على هذا المعنى بما في قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى}، من دخول «الفاء» في الجواب وفي مثل: «أما أنت منطلقا انطلقت» واعتبروا «أمّا» مركّبة من «أن» الشّرطيّة و «ما» الزّائدة والتقدير لأن كنت منطلقا... فحذفت لام التعليل، ثم حذفت «كان» وعوّض منها «ما» الزّائدة، وانفصل الضّمير المتّصل بـ «كان» بعد الحذف فصارت: «أن ما أنت» ثم قلبت «نون»، «أن»، «ميما» وأدغمت في «ما» فصارت أمّا. ومثل:

«أتغضب أن أذنا قتيبة حزّتا***جهارا ولم تجزع لقتل ابن خازم»

فاعتبروا «أن» شرطيّة والاسم المنصوب بعدها مفعول به لفعل محذوف يفسره الفعل الظاهر والتّقدير: أن حزّت أذنا قتيبة حزّتا.

ورفض بعضهم قول الكوفيّين وأيّده ابن هشام لأمور ثلاثة هي:

1 ـ كثر ورود «أن» مكان «إن». وأن البيت السّابق يروى «إن أذنا» و «أن أذنا» وكما قرئت الآية السّابقة «إن تضلّ» و «أن تضلّ».

2 ـ «إن» الشرطيّة يكثر مجيء «الفاء» في جوابها، وقد وردت في الآية السّابقة «الفاء» في الجواب «فتذكّر» كما وردت «الفاء» في الجواب في قول الشاعر:

«أبا خراشة أمّا أنت ذا نفر***فإن قومي لم تأكلهم الضّبع»

والتّقدير: لأن كنت ذا نفر، فحذفت لام التعليل لأنها وقعت قبل «أن» وحذفت «كان» وعوض منها «ما» الزّائدة فانفصل الضّمير المتّصل ثم قلبت نون «أن» «ميما» وأدغمت في «ما».

فوجود «أن» الشرطيّة أعقبه دخول الفاء على الجواب في الشّطر الثّاني «فإن قومي...».

ولذلك حملا على «إن» الشرطيّة، اعتبرت «أن» مثلها.

3 ـ تأتي «أن» الشّرطية معطوفة على «إن» الشرطيّة، كما في قول الشاعر:

«إمّا أقمت وأمّا أنت مرتحلا***فالله يكلأ ما تأتي وما تذر»

حيث عطفت «إمّا» المركّبة من «إن» حرف الشرط مع «ما» النّافية على «أمّا» المركّبة من «أن» و «ما» النّافية. فلو كانت «أن» في «أمّا» غير شرطيّة، أي: إذا كانت مصدريّة للزم عطف المفرد على الجملة.

المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م


3-موسوعة الفقه الكويتية (الفقه الإسلامي 3)

الْفِقْهُ الْإِسْلَامِيُّ-3

بَقَاءُ الْمَذَاهِبِ وَانْتِشَارُهَا:

35- مِمَّا تَقَدَّمَ عَلِمْنَا أَنَّ هُنَاكَ مَذَاهِبَ انْدَثَرَتْ، وَأُخْرَى بَقِيَتْ وَنَمَتْ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى قُوَّةِ السُّلْطَانِ وَالنُّفُوذِ.

وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَى إِطْلَاقِهِ- مَرْدُودٌ- فَقَدْ يَكُونُ لِلسُّلْطَانِ وَالنُّفُوذِ بَعْضُ الْأَثَرِ فِي بَقَاءِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَذَاهِبِ وَانْتِشَارِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْأَثَرَ ضَئِيلٌ، إِذْ إِنَّ الدَّوْلَةَ الْعَبَّاسِيَّةَ- وَكَانَ نُفُوذُهَا مُمْتَدًّا عَلَى جَمِيعِ الْأَقْطَارِ الْإِسْلَامِيَّةِ- كَانَ الْقَضَاءُ بِيَدِ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيِّينَ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّنَا نَجِدُ أَنَّ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ لَمْ يَجِدْ لَهُ أَتْبَاعًا فِي الشَّمَالِ الْإِفْرِيقِيِّ أَوْ فِي مِصْرَ إِلاَّ قِلَّةً قَلِيلَةً، بَلْ إِنَّ الْكَثْرَةَ الْكَثِيرَةَ مِنْ بِلَادِ فَارِسَ كَانَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ الْغَالِبَ عَلَى أَهْلِهَا يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ إِبَّانَ هَذِهِ الدَّوْلَةِ قَاصِرًا عَلَى الْعِرَاقِ وَبِلَادِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَبَعْضِ بِلَادِ فَارِسَ. كَمَا أَنَّ الدَّوْلَةَ الْعُثْمَانِيَّةَ وَكَانَ سُلْطَانُهَا يَمْتَدُّ عَلَى أَكْثَرِ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَانَ مَذْهَبُهَا الرَّسْمِيُّ هُوَ الْمَذْهَبَ الْحَنَفِيَّ، وَكَانَ الْقَضَاءُ فِي كُلِّ السَّلْطَنَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ فِي عُلَمَاءِ هَذَا الْمَذْهَبِ، وَمَعَ هَذَا نَجِدُ أَنَّ الشَّمَالَ الْإِفْرِيقِيَّ كُلَّهُ لَا يَنْتَشِرُ فِيهِ إِلاَّ مَذْهَبُ مَالِكٍ، اللَّهُمَّ إِلاَّ النَّزْرَ الْيَسِيرَ فِي عَاصِمَةِ تُونُسَ فِي بَعْضِ الْأُسَرِ الْمُنْحَدِرَةِ مِنْ أَصْلٍ تُرْكِيٍّ. وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي مِصْرَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِهَا شَافِعِيُّ الْمَذْهَبِ وَمِنْهُمْ الْمَالِكِيُّونَ فِي صَعِيدِ مِصْرَ أَوْ فِي مُحَافَظَةِ الْبُحَيْرَةِ، وَلَا نَجِدُ الْحَنَفِيِّينَ إِلاَّ قِلَّةً قَلِيلَةً مُنْحَدِرَةً مِنْ أَصْلٍ تُرْكِيٍّ أَوْ شَرْكَسِيٍّ أَوْ تَمَذْهَبَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ طَمَعًا فِي تَوَلِّي الْقَضَاءِ... وَإِنْ كَانَتْ حَلَقَاتُ الدِّرَاسَةِ فِي الْأَزْهَرِ عَامِرَةً بِطُلاَّبِ هَذَا الْمَذْهَبِ، وَلَكِنَّ الْعَامَّةَ إِمَّا شَافِعِيُّونَ أَوْ مَالِكِيُّونَ، فَأَيْنَ تَأْثِيرُ السُّلْطَانِ فِي فَرْضِ مَذْهَبٍ خَاصٍّ؟.

وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي شِبْهِ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَنَاطِقِ الْخَلِيجِ، فَقَدْ كَانَتْ كُلُّهَا تَابِعَةً لِلدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ نَرَى أَنَّ الْمَذَاهِبَ الْمُنْتَشِرَةَ فِي هَذِهِ الْمَنَاطِقِ هِيَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَرُبَّمَا الشَّافِعِيَّةِ، وَلَا وُجُودَ لِمُعْتَنِقِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ إِلاَّ شِرْذِمَةً قَلِيلَةً.

وَالْحَقُّ أَنَّ بَقَاءَ مَذْهَبٍ مَا أَوِ انْتِشَارَهُ يَعْتَمِدُ- أَوَّلًا وَقَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ- عَلَى ثِقَةِ النَّاسِ بِصَاحِبِ الْمَذْهَبِ وَاطْمِئْنَانِهِمْ إِلَيْهِ، وَعَلَى قُوَّةِ أَصْحَابِهِ وَدَأْبِهِمْ عَلَى نَشْرِهِ وَتَحْقِيقِ مَسَائِلِهِ وَتَيْسِيرِ فَهْمِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِحُسْنِ عَرْضِهَا.

التَّقْلِيدُ:

36- يُبَالِغُ بَعْضُ النَّاسِ فِي الطَّعْنِ عَلَى مَنْ قَلَّدَ عَالِمًا فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ دِينِهِ، وَرُبَّمَا شَبَّهَ بَعْضُهُمْ الْمُقَلِّدِينَ بِالْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِمْ: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}

وَالْحَقُّ أَنَّ التَّقْلِيدَ فِي الْعَقَائِدِ وَالْمَسَائِلِ الْأَسَاسِيَّةِ فِي الدِّينِ، وَهِيَ الْمَعْلُومَةُ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ لَا تَقْلِيدَ فِيهَا لِعَالِمٍ، مَهْمَا كَانَتْ مَكَانَتُهُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنِ اقْتِنَاعٍ تَامٍّ بِثُبُوتِهَا عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَلَوْ بِصِفَةٍ إِجْمَالِيَّةٍ. أَمَّا الْمَسَائِلُ الْفَرْعِيَّةُ الَّتِي تَتَطَلَّبُ النَّظَرَ فِي الْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ فَإِنَّ تَكْلِيفَ الْعَامَّةِ بِالنَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ تَكْلِيفٌ شَاقٌّ لَا تَسْتَقِيمُ مَعَهُ الْحَيَاةُ، إِذْ لَوْ كَلَّفْنَا كُلَّ مُسْلِمٍ أَنْ يَنْظُرَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ نَظْرَةَ الْمُجْتَهِدِ فَإِنَّ الصِّنَاعَاتِ سَتَتَعَطَّلُ، وَمَصَالِحَ النَّاسِ سَتُهْمَلُ. وَمَا لَنَا نُطِيلُ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ وَسَلَفُ الْأُمَّةِ- وَهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ كَمَا شَهِدَ لَهُمْ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مُجْتَهِدِينَ، بَلْ كَانَ الْمُجْتَهِدُونَ قِلَّةً قَلِيلَةً، وَكَانَ الْمُكْثِرُونَ مِنْهُمْ لَا يَتَجَاوَزُونَ الثَّلَاثَةَ عَشَرَ شَخْصًا.

عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَجْتَهِدَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ مَتَى تَوَفَّرَتْ لَهُ أَسْبَابُهُ وَتَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطُهُ الَّتِي سَنُبَيِّنُهَا بِالتَّفْصِيلِ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ لِهَذِهِ الْمَوْسُوعَةِ.

وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْمُغَالِينَ يَقُولُ: إِنَّهُ يَكْفِي الشَّخْصَ لِيَكُونَ مُجْتَهِدًا أَنْ يَكُونَ لَدَيْهِ مُصْحَفٌ وَسُنَنُ أَبِي دَاوُدَ وَقَامُوسٌ لُغَوِيٌّ، فَيُصْبِحُ بِذَلِكَ مُجْتَهِدًا لَا حَاجَةَ لَهُ إِلَى تَقْلِيدِ إِمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَوْ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِالْمُصْحَفِ وَبِسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالْقَامُوسِ لَكَانَ صَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كُلُّهُمْ مُجْتَهِدِينَ؛ لِأَنَّهُمْ إِمَّا عَرَبٌ خُلَّصٌ، أَوْ نَشَأُوا فِي بِيئَةٍ عَرَبِيَّةٍ خَالِصَةٍ، وَشَاهَدُوا أَحْدَاثَ التَّنْزِيلِ، وَقَرِيبُو عَهْدٍ بِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَذَلِكَ الِادِّعَاءُ يُكَذِّبُهُ الْوَاقِعُ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ تَقْلِيدَ الْأَئِمَّةِ فِي الْأُمُورِ الظَّنِّيَّةِ شِرْكٌ وَتَأْلِيهٌ لَهُمْ، قَوْلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، فَلَيْسَ هُنَاكَ أُمِّيٌّ- فَضْلًا عَنْ مُتَعَلِّمٍ- يَرَى أَنَّ لِلْأَئِمَّةِ حَقَّ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ الَّذِي هُوَ حَقٌّ خَالِصٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بَلْ كُلُّ مَا يُعْتَقَدُ فِيهُمْ أَنَّ هَذَا الْإِمَامَ أَوْ ذَاكَ مَوْثُوقٌ بِعِلْمِهِ مَوْثُوقٌ بِدِينِهِ أَمِينٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ غَيْرُ مُتَّهَمٍ. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الِاجْتِهَادَ وَيَدْعُونَ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لَا يُحْسِنُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَقْرَأَ آيَةً صَحِيحَةً مِنْ الْمُصْحَفِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَسْتَنْبِطَ مِنْهَا حُكْمًا شَرْعِيًّا، فَأَقَلُّ مَا يَجِبُ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ الْمُجْتَهِدُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَمِّقًا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، عَالِمًا بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَالْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَطَلَّبُ إِعْدَادًا خَاصًّا لَا يَتَوَفَّرُ إِلاَّ لِلْقِلَّةِ الْقَلِيلَةِ الْمُتَفَرِّغَةِ.

37- وَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الضَّرُورِيِّ أَنْ يَلْتَزِمَ الشَّخْصُ مَذْهَبًا خَاصًّا فِي عِبَادَاتِهِ وَمُعَامَلَاتِهِ، بَلْ إِذَا نَزَلَتْ بِهِ نَازِلَةٌ أَوْ عَرَضَتْ لَهُ مُشْكِلَةٌ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَلْتَمِسَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ مِنْ شَخْصٍ مَوْثُوقٍ بِعِلْمِهِ مَوْثُوقٍ بِدِينِهِ، يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ قَلْبُهُ. وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمَسَائِلِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيهَا قَوْلٌ لِقَائِلٍ غَيْرَ مَا عُرِفَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ. فَمَهْمَا أَفْتَى بَعْضُ النَّاسِ بِحِلِّ الرِّبَا أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالِاسْتِعَاضَةِ عَنْهَا بِالصَّدَقَةِ مَثَلًا، فَلَا يَقْبَلُ قَوْلَهُ، وَلَا تَكُونُ فَتْوَى مِثْلِ هَؤُلَاءِ عُذْرًا يُعْتَذَرُ بِهِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

إِقْفَالُ بَابِ الِاجْتِهَادِ:

38- مَا إِنْ أَهَلَّ الْقَرْنُ السَّادِسِ الْهِجْرِيِّ حَتَّى نَادَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِإِقْفَالِ بَابِ الِاجْتِهَادِ، وَقَالُوا: لَمْ يَتْرُكْ الْأَوَائِلُ لِلْأَوَاخِرِ شَيْئًا. وَكَانَتْ حُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ قُصُورَ الْهِمَمِ وَخَرَابَ الذِّمَمِ، وَتَسَلُّطَ الْحُكَّامِ الْمُسْتَبِدِّينَ، وَخَشْيَةَ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلِاجْتِهَادِ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لَهُ، إِمَّا رَهْبَةً أَوْ رَغْبَةً، فَسَدًّا لِلذَّرَائِعِ أَفْتَوْا بِإِقْفَالِ بَابِ الِاجْتِهَادِ.

وَتَعَرَّضَ بَعْضُ مَنْ خَالَفَ الْأَوَائِلَ فِي آرَائِهِمْ لِسَخَطِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا فَقَدْ كَانَ يَظْهَرُ بَيْنَ الْفَيْنَةِ وَالْفَيْنَةِ مَنْ ادَّعَى الِاجْتِهَادَ أَوِ ادُّعِيَ لَهُ، وَكَانَتْ لَهُمْ اجْتِهَادَاتٌ لَا بَأْسَ بِهَا كَابْنِ تَيْمِيَّةَ وَتِلْمِيذِهِ ابْنِ الْقَيِّمِ، وَالْكَمَالِ بْنِ الْهُمَامِ الْحَنَفِيِّ الْمَذْهَبِ. فَقَدْ كَانَتْ لَهُ اجْتِهَادَاتٌ خَرَجَ فِيهَا عَلَى الْمَذْهَبِ... وَمِنْ هَؤُلَاءِ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ صَاحِبُ جَمْعِ الْجَوَامِعِ، وَأَبُوهُ مِنْ قَبْلِهِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَدْ كَانَ اجْتِهَادُ هَؤُلَاءِ لَا يَخْرُجُ عَنْ تَرْجِيحِ رَأْيٍ عَلَى رَأْيٍ، أَوْ حَلٍّ لِمُشْكِلَةٍ عَارِضَةٍ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا الْأَئِمَّةُ الْمُتَقَدِّمُونَ.

وَالَّذِي نَدِينُ اللَّهَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْأُمَّةِ عُلَمَاءُ مُتَخَصِّصُونَ، عَلَى عِلْمٍ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَمَوَاطِنِ الْإِجْمَاعِ وَفَتَاوَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ. كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا عَلَى خِبْرَةٍ تَامَّةٍ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، وَدُوِّنَتْ بِهَا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ، وَأَنْ يَكُونُوا قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، لَا يَخْشَوْنَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، لِتَرْجِعَ إِلَيْهِمْ الْأُمَّةُ فِيمَا نَزَلَ بِهَا مِنْ أَحْدَاثٍ، وَمَا يَجِدُّ مِنْ نَوَازِلَ، وَأَلاَّ يُفْتَحَ بَابُ الِاجْتِهَادِ عَلَى مِصْرَاعَيْهِ، فَيَلِجَ فِيهِ مَنْ لَا يُحْسِنُ قِرَاءَةَ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي الْمُصْحَفِ، كَمَا لَا يُحْسِنُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَشْتَاتِ الْمَوْضُوعِ، وَيُرَجِّحَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ.

وَالَّذِينَ أَفْتَوْا بِإِقْفَالِ بَابِ الِاجْتِهَادِ إِنَّمَا نَزَعُوا عَنْ خَوْفٍ مِنْ أَنْ يَدَّعِيَ الِاجْتِهَادَ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ، وَأَنْ يَفْتَرِيَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، فَيَقُولُونَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ إِرْضَاءً لِلْحُكَّامِ. وَلَقَدْ رَأَيْنَا بَعْضَ مَنْ يَدَّعِي الِاجْتِهَادَ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْقَوْلَ بِكَذَا وَكَذَا فِيهِ تَرْضِيَةٌ لِهَؤُلَاءِ السَّادَةِ، فَيَسْبِقُونَهُمْBبِالْقَوْلِ. وَيَعْتَمِدُ هَؤُلَاءِ الْحُكَّامُ عَلَى آرَاءِ هَؤُلَاءِ الْمُدَّعِينَ. فَقَدْ رَأَيْنَا فِي عَصْرِنَا هَذَا مَنْ أَفْتَى بِحِلِّ الرِّبَا الِاسْتِغْلَالِيِّ دُونَ الِاسْتِهْلَاكِيِّ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِحِلِّهِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ- فِي زَعْمِهِ- تُوجِبُ الْأَخْذَ بِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَفْتَى بِجَوَازِ الْإِجْهَاضِ ابْتِغَاءَ تَحْدِيدِ النَّسْلِ، لِأَنَّ بَعْضَ الْحُكَّامِ يَرَى هَذَا الرَّأْيَ، وَيُسَمِّيهِ تَنْظِيمَ الْأُسْرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ لَا تَثْبُتُ إِلاَّ عَلَى مَنْ اعْتَادَ الْجَرِيمَةَ الْمُوجِبَةَ لِلْحَدِّ، وَمِنْهُمْ... وَمِنْهُمْ... فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ حَمَلُوا أَهْلَ الْوَرَعِ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِإِقْفَالِ بَابِ الِاجْتِهَادِ.

وَلَكِنَّا نَقُولُ: إِنَّ الْقَوْلَ بِحُرْمَةِ الِاجْتِهَادِ وَإِقْفَالِ بَابِهِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا لَا يَتَّفِقُ مَعَ الشَّرِيعَةِ نَصًّا وَرُوحًا، وَإِنَّمَا الْقَوْلَةُ الصَّحِيحَةُ هِيَ إِبَاحَتُهُ، بَلْ وُجُوبُهُ عَلَى مَنْ تَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطُهُ. لِأَنَّ الْأُمَّةَ فِي حَاجَةٍ، إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِيمَا جَدَّ مِنْ أَحْدَاثٍ لَمْ تَقَعْ فِي الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ.

مَصَادِرُ الِاجْتِهَادِ:

39- بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُمَّةِ جَمِيعًا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا حُكْمَ إِلاَّ لِلَّهِ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ مَصْدَرَ الْأَحْكَامِ كُلِّهَا مِنْهُ تَعَالَى بِوَاسِطَةِ الْوَحْيِ.

وَالْوَحْيُ إِمَّا مَتْلُوٌّ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، أَوْ غَيْرُ مَتْلُوٍّ وَهُوَ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ الْمُطَهَّرَةُ، فَإِنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- بِصِفَتِهِ رَسُولًا، لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى.

وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَصَادِرَ الْأَحْكَامِ كُلَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِصِفَةٍ مُبَاشِرَةٍ.

أَمَّا الْإِجْمَاعُ- إِذَا تَحَقَّقَ- فَهُوَ كَاشِفٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ.

وَأَمَّا الْقِيَاسُ- عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ- فَهُوَ كَاشِفٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ، وَهَذَا الظَّنُّ كَافٍ فِي الِاحْتِجَاجِ مَتَى تَوَفَّرَتْ شُرُوطُ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، سَوَاءٌ قُلْنَا بِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَتَعَدَّدُ أَمْ قُلْنَا بِغَيْرِ ذَلِكَ.

وَسَيَتَبَيَّنُ لَنَا مِنْ الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ تَوْضِيحُ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ، إِلاَّ أَنَّنَا سَنَتَنَاوَلُ مَسْأَلَتَيْنِ عَاجِلَتَيْنِ كَثُرَ الْحَدِيثُ عَنْهُمَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ.

أ- الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: حَوْلَ السُّنَّةِ

40- أَثَارَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ السُّنَّةَ لَيْسَتْ مَصْدَرًا لِلتَّشْرِيعِ، وَسَمُّوا أَنْفُسَهُمْ بِالْقُرْآنِيِّينَ، وَقَالُوا: إِنَّ أَمَامَنَا الْقُرْآنَ، نُحِلُّ حَلَالَهُ وَنُحَرِّمُ حَرَامَهُ، وَالسُّنَّةُ كَمَا يَزْعُمُونَ قَدْ دُسَّ فِيهَا أَحَادِيثُ مَكْذُوبَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-. وَهَؤُلَاءِ امْتِدَادٌ لِقَوْمٍ آخَرِينَ نَبَّأَنَا عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-. فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الْمِقْدَامِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «يُوشِكُ أَنْ يَقْعُدَ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ» وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا بِقُرْآنِيِّينَ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ أَوْجَبَ طَاعَةَ الرَّسُولِ فِيمَا يَقْرُبُ مِنْ مِائَةِ آيَةٍ، وَاعْتَبَرَ طَاعَةَ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} بَلْ إِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ الَّذِي يَدَّعُونَ التَّمَسُّكَ بِهِ نَفَى الْإِيمَانَ عَمَّنْ رَفَضَ طَاعَةَ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يَقْبَلْ حُكْمَهُ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ السُّنَّةَ قَدْ دُسَّتْ فِيهَا أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ مَرْدُودٌ بِأَنَّ عُلَمَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ عُنُوا أَشَدَّ الْعِنَايَةِ بِتَنْقِيَةِ السُّنَّةِ مِنْ كُلِّ دَخِيلٍ، وَاعْتَبَرُوا الشَّكَّ فِي صِدْقِ رَاوٍ مِنْ الرُّوَاةِ أَوِ احْتِمَالَ سَهْوِهِ رَادًّا لِلْحَدِيثِ.

وَقَدْ شَهِدَ أَعْدَاءُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَنَّهُ لَيْسَتْ هُنَاكَ أُمَّةٌ عُنِيَتْ بِالسَّنَدِ وَبِتَنْقِيحِ الْأَخْبَارِ وَلَا سِيَّمَا الْمَرْوِيَّةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَهَذِهِ الْأُمَّةِ.

وَيَكْفِي لِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِأَنَّهُ صَادِرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَدْ كَانَ- صلى الله عليه وسلم- يَكْتَفِي بِإِبْلَاغِ دَعْوَتِهِ بِإِرْسَالِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ.

ثُمَّ نَسْأَلُ هَؤُلَاءِ: أَيْنَ هِيَ الْآيَاتُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ، وَعَلَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةَ خَمْسٌ، وَعَلَى أَنْصِبَةِ الزَّكَاةِ، وَعَلَى أَعْمَالِ الْحَجِّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا إِلاَّ مِنْ السُّنَّةِ.

وَهُنَاكَ فِرْقَةٌ أُخْرَى لَا تَقِلُّ خَطَرًا عَنْ هَذِهِ الْفِرْقَةِ تَقُولُ: إِنَّنَا نَقْبَلُ السُّنَّةَ كَمَصْدَرٍ تَشْرِيعِيٍّ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْعِبَادَاتِ، أَمَّا مَا يَتَّصِلُ بِأُمُورِ الدُّنْيَا مِنْ تَشْرِيعَاتٍ أَوْ سُلُوكٍ فَلَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَيْنَا، وَيَتَعَلَّقُونَ بِشُبْهَةٍ وَاهِيَةٍ، وَهِيَ حَادِثَةُ تَأْبِيرِ النَّخْلِ، وَحَاصِلُهَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَمَا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ رَأَى أَهْلَهَا يُؤَبِّرُونَ النَّخْلَ أَيْ يُلَقِّحُونَ إِنَاثَ النَّخْلِ بِطَلْعِ ذُكُورِهَا، فَقَالَ لَهُمْ: لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلَحَ، فَتَرَكُوهُ فَشَاصَ؛ أَيْ فَسَدَ وَصَارَ حَمْلُهُ شِيصًا وَهُوَ رَدِيءُ التَّمْرِ فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ: مَا لِنَخْلِكُمْ؟ قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ».

هَذَا الْخَبَرُ إِنْ دَلَّ عَلَى شَيْءٍ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأُمُورَ الدُّنْيَوِيَّةَ الَّتِي لَا صِلَةَ لَهَا بِالتَّشْرِيعِ تَحْلِيلًا أَوْ تَحْرِيمًا أَوْ صِحَّةً أَوْ فَسَادًا، بَلْ هِيَ مِنْ الْأُمُورِ التَّجْرِيبِيَّةِ، لَا تَدْخُلُ تَحْتَ مُهِمَّةِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- كَمُبَلِّغٍ عَنْ رَبِّهِ، بَلْ هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ خَاضِعَةٌ لِلتَّجْرِبَةِ، وَالرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- بِهَذَا كَانَ قُدْوَةً عَمَلِيَّةً لِحَثِّنَا عَلَى أَنَّ الْأُمُورَ الدُّنْيَوِيَّةَ الْبَحْتَةَ الَّتِي لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِالتَّشْرِيعِ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَبْذُلَ الْجَهْدَ فِي مَعْرِفَةِ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ مِنْ غَيْرِهِ، وَشَتَّانَ بَيْنَ هَذِهِBالْحَادِثَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَرِدَ عَنْ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ هَذَا حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ، أَوْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ مُوجِبٌ لِلْعُقُوبَةِ أَوْ غَيْرُ مُوجِبٍ، أَوْ أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ صَحِيحٌ أَوْ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصُّوَرَ مِنْ صُلْبِ وَظِيفَةِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا طَاعَتَهُ فِي كُلِّ مَا يُبَلِّغُ عَنْ رَبِّهِ.

ب- الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:

41- تُثَارُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بَيْنَ الْفَيْنَةِ وَالْفَيْنَةِ دَعْوَى الِاعْتِمَادِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ فِي تَشْرِيعَاتِنَا بِحُجَّةِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ إِنَّمَا جَاءَتْ لِخَيْرِ الْبَشَرِيَّةِ، فَمَا كَانَ خَيْرًا أَخَذْنَا بِهِ، وَمَا كَانَ شَرًّا أَعْرَضْنَا عَنْهُ. وَهَذِهِ كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ التَّشْرِيعَ الْإِسْلَامِيَّ- جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، عِبَادَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ- إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ مَصْلَحَةُ الْبَشَرِ. وَلَكِنْ مَا هِيَ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ؟ أَهِيَ مُسَايَرَةُ الْأَهْوَاءِ وَتَرْضِيَةُ النُّفُوسِ الْجَامِحَةِ؟ أَمْ هِيَ الْمَصْلَحَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي يَسْتَقِيمُ عَلَيْهَا أَمْرُ النَّاسِ؟ ثُمَّ مَا السَّبِيلُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ الْمَوْهُومَةِ وَالْمَصْلَحَةِ الْحَقِيقِيَّةِ؟

وَطَبَائِعُ النَّاسِ كَمَا نَعْلَمُ وَنُشَاهِدُ مُخْتَلِفَةٌ، فَمَا يُحِبُّهُ هَذَا يَكْرَهُهُ ذَاكَ، وَمَا يَكْرَهُهُ ذَاكَ يُحِبُّهُ هَذَا، وَالْمُحِبُّ لَا يَرَى فِيمَا أَحَبَّ إِلاَّ جَانِبَ الْخَيْرِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَالْكَارِهُ لَا يَرَى فِيمَا يَكْرَهُ إِلاَّ جَانِبَ الشَّرِّ وَالضُّرِّ.

وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ، كَمَا أَنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا، وَقَدْ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَخْتَلِطَ الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، فَتَرْجِيحُ مَصْلَحَةٍ عَلَى مَصْلَحَةٍ، أَوْ مَفْسَدَةٍ عَلَى مَفْسَدَةٍ، أَوْ مُقَارَنَةُ الْمَفَاسِدِ بِالْمَصَالِحِ وَتَرْجِيحُ إِحْدَاهَا عَلَى الْأُخْرَى، كُلُّ ذَلِكَ يَتَطَلَّبُ أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ يَتَنَزَّهُ عَنْ الْأَهْوَاءِ وَالْأَغْرَاضِ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لِأَنَّهُ الْغَنِيُّ عَنْ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ الَّذِي يُرِيدُ لِعِبَادِهِ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِهِمُ الْعُسْرَ.

وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ لَنَا أَنَّ الْمَصَالِحَ ثَلَاثٌ: مَصْلَحَةٌ اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ بِرَغْمِ مَا قَدْ يَخْتَلِطُ بِهَا مِنْ بَعْضِ الْأَضْرَارِ الْبَسِيطَةِ؛ لِأَنَّ الْخَيْرَ فِيهَا أَرْجَحُ، كَالْمَصْلَحَةِ فِي الصَّوْمِBمَعَ مَا فِيهِ مِنْ بَعْضِ الْمَشَاقِّ، وَالْمَصْلَحَةِ فِي الْجِهَادِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ بَذْلِ الْأَمْوَالِ وَالْأَرْوَاحِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ.

وَهُنَاكَ مَصَالِحُ أَلْغَاهَا الشَّارِعُ إِلْغَاءً تَامًّا؛ لِأَنَّ ضَرَرَهَا أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهَا، كَالْمَصْلَحَةِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} وَكَالْمَصْلَحَةِ فِي الرِّبَا، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَرَّمَهُ بِأَيِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِهِ أَوْ شَكْلٍ مِنْ أَشْكَالِهِ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}.

وَهُنَاكَ مَصَالِحُ سَكَتَ عَنْهَا الشَّارِعُ فَلَمْ يَعْتَبِرْهَا وَلَمْ يُلْغِهَا بِخُصُوصِهَا، فَهَذِهِ الْمَصَالِحُ إِنَّمَا يُقَدِّرُهَا الْمُخْتَصُّونَ دُونَ غَيْرِهِمْ، مَعَ وُجُوبِ مُرَاعَاةِ حِمَايَتِهِمْ- قَدْرَ الْإِمْكَانِ- مِنْ ذَهَبِ الْمُعِزِّ وَسَيْفِهِ، وَأَنْ يَكُونَ الْبَتُّ فِي هَذَا الْأَمْرِ مِنْ شَأْنِ الْجَمَاعَةِ لَا الْأَفْرَادِ، كَمَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِثْلُ هَذِهِ الْمَصَالِحِ تَحْتَ التَّجْرِبَةِ، فَإِنَّ أَمْثَالَهَا تَخْتَلِفُ مِنْ عَصْرٍ إِلَى عَصْرٍ وَمِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ.

تَقْسِيمَاتُ الْفِقْهِ:

لِلْفِقْهِ تَقْسِيمَاتٌ شَتَّى لِاعْتِبَارَاتٍ شَتَّى، نَكْتَفِي مِنْهَا بِذِكْرِ التَّقْسِيمَاتِ الْآتِيَةِ:

أ- تَقْسِيمُ مَسَائِلِهِ بِاعْتِبَارِ أَدِلَّتِهِ:

42- وَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:

أَوَّلُهُمَا: فِقْهٌ مُعْتَمِدٌ عَلَى أَدِلَّةٍ قَطْعِيَّةٍ فِي ثُبُوتِهَا وَدَلَالَتِهَا، كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ، وَكَحُرْمَةِ الزِّنَى وَالرِّبَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَإِبَاحَةِBالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ.

وَثَانِيهِمَا: فِقْهٌ يَعْتَمِدُ عَلَى أَدِلَّةٍ ظَنِّيَّةٍ كَتَحْدِيدِ الْقَدْرِ الْمَمْسُوحِ مِنْ الرَّأْسِ، وَالْقِرَاءَةِ الْمُتَعَيَّنَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَتَعْيِينِ عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ ذَاتِ الْحَيْضِ أَبِالطُّهْرِ أَمْ بِالْحَيْضِ؟ وَهَلْ الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ مُوجِبَةٌ لِتَمَامِ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ؟.. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَكَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الثَّابِتَةَ بِأَدِلَّةٍ قَطْعِيَّةٍ مَعْلُومَةٌ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ لَا تُعْتَبَرُ فِي نَظَرِ الْأُصُولِيِّينَ فِقْهًا، وَإِنْ اعْتُبِرَتْ فِي نَظَرِ الْفُقَهَاءِ.

ب- تَقْسِيمُ الْفِقْهِ بِاعْتِبَارِ مَوْضُوعَاتِهِ:

43- لَمَّا كَانَ عِلْمُ الْفِقْهِ هُوَ الْعِلْمَ الَّذِي تُعْرَفُ مِنْهُ أَحْكَامُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ، اقْتِضَاءً أَوْ تَخْيِيرًا أَوْ وَضْعًا، فَإِنَّهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَصْدُرُ عَنْ الْعِبَادِ. وَبِهَذَا تَعَدَّدَتْ مَوْضُوعَاتُهُ، فَالْأَحْكَامُ الَّتِي تُنَظِّمُ عَلَاقَةَ الْعَبْدِ بِاللَّهِ تَعَالَى سُمِّيَتْ بِالْعِبَادَاتِ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْعِبَادَاتُ بَدَنِيَّةً مَحْضَةً وَهِيَ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ، أَوْ مَالِيَّةً مَحْضَةً وَهِيَ الزَّكَاةُ، أَوْ مِنْهُمَا وَهِيَ فَرِيضَةُ الْحَجِّ. وَالْأَحْكَامُ الَّتِي تُنَظِّمُ الْأُسْرَةَ مِنْ زَوَاجٍ وَطَلَاقٍ وَنَفَقَةٍ وَحَضَانَةٍ وَوِلَايَةٍ وَنَسَبٍ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَيْهَا الْآنَ فِقْهُ الْأَحْوَالِ الشَّخْصِيَّةِ، وَأَلْحَقُوا بِهَا الْوَصَايَا وَالْإِرْثَ لِاتِّصَالِهِمَا الْوَثِيقِ بِأَحْكَامِ الْأُسْرَةِ.

وَالْأَحْكَامُ الَّتِي تُنَظِّمُ مُعَامَلَاتِ النَّاسِ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَشَرِكَةٍ- بِكُلِّ صُوَرِهَا- وَرَهْنٍ وَكَفَالَةٍ وَوَكَالَةٍ وَهِبَةٍ وَإِعَارَةٍ وَإِجَارَةٍ، قَدْ أَطْلَقُوا عَلَيْهَا الْآنَ اسْمَ الْقَانُونِ الْمَدَنِيِّ أَوِ التِّجَارِيِّ.

وَالْأَحْكَامُ الَّتِي تُنَظِّمُ الْقَضَاءَ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ طُرُقِ الْإِثْبَاتِ أَطْلَقُوا عَلَيْهَا اسْمَ قَانُونِ الْمُرَافَعَاتِ.

وَالْأَحْكَامُ الَّتِي تُنَظِّمُ عَلَاقَةَ الْحَاكِمِ بِالْمَحْكُومِينَ، وَالْمَحْكُومِينَ بِالْحَاكِمِ أَطْلَقُوا عَلَيْهَا الْآنَ اسْمَ الْقَانُونِ الدُّسْتُورِيِّ.

وَالْأَحْكَامُ الَّتِي نَظَّمَتْ عَلَاقَةَ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِهِمْ سِلْمًا وَحَرْبًا قَدْ أَطْلَقَ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ الْقُدَامَى اسْمَ السِّيَرِ، وَسَمَّاهَا الْمُحْدَثُونَ بِاسْمِ الْقَانُونِ الدُّوَلِيِّ.

وَالْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَنَاوَلُ تَصَرُّفَاتِ الْعِبَادِ فِي مَأْكَلِهِمْ وَمَلْبَسِهِمْ وَسُلُوكِهِمْ أَطْلَقَ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ مَسَائِلَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ.

وَالْأَحْكَامُ الَّتِي حَدَّدَتِ الْجَرَائِمَ وَالْعُقُوبَاتِ قَدْ أَطْلَقَ عَلَيْهَا فُقَهَاؤُنَا اسْمَ الْحُدُودِ وَالْجِنَايَاتِ وَالتَّعْزِيرَاتِ، وَسَمَّاهَا الْمُحْدَثُونَ بِاسْمِ الْقَانُونِ الْجَزَائِيِّ أَوِ الْجِنَائِيِّ.

وَمِنْ هَذَا الْبَيَانِ الْمُخْتَصَرِ يَتَبَيَّنُ لَنَا أَنَّ الْفِقْهَ تَنَاوَلَ كُلَّ مَا يَتَّصِلُ بِالْإِنْسَانِ، فَلَيْسَ قَاصِرًا- كَمَا يَزْعُمُ الْبَعْضُ- عَلَى تَنْظِيمِ عَلَاقَةِ الْإِنْسَانِ بِرَبِّهِ، فَمَنْ ذَهَبَ هَذَا الْمَذْهَبَ إِمَّا جَاهِلٌ أَوْ مُتَجَاهِلٌ بِالْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ وَمَوْضُوعَاتِهِ.

ج- تَقْسِيمُ الْفِقْهِ بِاعْتِبَارِ حِكْمَتِهِ:

44- تَنْقَسِمُ مَسَائِلُ الْفِقْهِ مِنْ حَيْثُ إِدْرَاكُ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ فِيهِ أَوْ عَدَمُ إِدْرَاكِهَا إِلَى قِسْمَيْنِ:

أَوَّلُهُمَا: أَحْكَامٌ مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى، وَقَدْ تُسَمَّى أَحْكَامًا مُعَلَّلَةً، وَهِيَ تِلْكَ الْأَحْكَامُ الَّتِي تُدْرَكُ حِكْمَةُ تَشْرِيعِهَا، إِمَّا لِلتَّنْصِيصِ عَلَى هَذِهِ الْحِكْمَةِ، أَوْ يُسْرِ اسْتِنْبَاطِهَا. وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ هِيَ الْأَكْثَرُ فِيمَا شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، حَيْثُ: لَمْ يَمْتَحِنَّا بِمَا تَعْيَا الْعُقُولُ بِهِ حِرْصًا عَلَيْنَا فَلَمْ نَرْتَبْ وَلَمْ نَهِمْ وَذَلِكَ كَتَشْرِيعِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ فِي الْجُمْلَةِ، وَكَتَشْرِيعِ إِيجَابِ الْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ، وَالْعِدَّةِ فِي الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ، وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَقَارِبِ، وَكَتَشْرِيعِ الطَّلَاقِ عِنْدَمَا تَتَعَقَّدُ الْحَيَاةُ الزَّوْجِيَّةُ... إِلَى آلَافِ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ.

وَثَانِيهِمَا: أَحْكَامٌ تَعَبُّدِيَّةٌ، وَهِيَ تِلْكَ الْأَحْكَامُ الَّتِي لَا تُدْرَكُ فِيهَا الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ كَعَدَدِ الصَّلَوَاتِ وَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَكَأَكْثَرِ أَعْمَالِ الْحَجِّ. وَمِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ قَلِيلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْمَعْقُولَةِ الْمَعْنَى.

وَتَشْرِيعُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ التَّعَبُّدِيَّةِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ اخْتِبَارُ الْعَبْدِ هَلْ هُوَ مُؤْمِنٌ حَقًّا؟.

وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ فِي أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا لَمْ تَأْتِ بِمَا تَرْفُضُهُ الْعُقُولُ، وَلَكِنَّهَا قَدْ تَأْتِي بِمَا لَا تُدْرِكُهُ الْعُقُولُ، وَشَتَّانَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَالْإِنْسَانُ إِذَا اقْتَنَعَ- عَقْلِيًّا- بِأَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ وَأَنَّهُ حَكِيمٌ وَأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ وَحْدَهُ لِلرُّبُوبِيَّةِ دُونَ غَيْرِهِ، وَاقْتَنَعَ- عَقْلِيًّا- بِمَا شَاهَدَ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ وَالْأَدِلَّةِ، بِصِدْقِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- الْمُبَلِّغِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ بِذَلِكَ قَدْ أَقَرَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْحَاكِمِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَأَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَإِذَا مَا أُمِرَ بِأَمْرٍ، أَوْ نُهِيَ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: لَا أَمْتَثِلُ حَتَّى أَعْرِفَ الْحِكْمَةَ فِيمَا أُمِرْتُ بِهِ أَوْ نُهِيتُ عَنْهُ، يَكُونُ قَدْ كَذَّبَ نَفْسَهُ فِي دَعْوَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّ لِلْعُقُولِ حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ إِدْرَاكُهَا، كَمَا أَنَّ لِلْحَوَاسِّ حَدًّا تَقِفُ عِنْدَهُ لَا تَتَجَاوَزُهُ.

وَمَا مَثَلُ الْمُتَمَرِّدِ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى التَّعَبُّدِيَّةِ إِلاَّ كَمَثَلِ مَرِيضٍ ذَهَبَ إِلَى طَبِيبٍ مَوْثُوقٍ بِعِلْمِهِ وَأَمَانَتِهِ، فَوَصَفَ لَهُ أَنْوَاعًا مِنْ الْأَدْوِيَةِ، بَعْضَهَا قَبْلَ الْأَكْلِ وَبَعْضَهَا أَثْنَاءَهُ وَبَعْضَهَا بَعْدَهُ، مُخْتَلِفَةَ الْمَقَادِيرِ، فَقَالَ لِلطَّبِيبِ: لَا أَتَعَاطَى دَوَاءَكَ حَتَّى تُبَيِّنَ لِي الْحِكْمَةَ فِي كَوْنِ هَذَا قَبْلَ الطَّعَامِ وَهَذَا بَعْدَهُ، وَهَذَا أَثْنَاءَهُ، وَلِمَاذَا تَفَاوَتَتِ الْجَرْعَاتُ قِلَّةً وَكَثْرَةً؟

فَهَلْ هَذَا الْمَرِيضُ وَاثِقٌ حَقًّا بِطَبِيبِهِ؟ فَكَذَلِكَ مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يَتَمَرَّدُ عَلَى الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا يُدْرِكُ حِكْمَتَهَا، إِذْ الْمُؤْمِنُ الْحَقُّ إِذَا أُمِرَ بِأَمْرٍ أَوْ نُهِيَ عَنْهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ وَأَطَعْتُ، وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ أَنْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَحْكَامٌ تَرْفُضُهَا الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ، فَعَدَمُ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ لَيْسَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِهِ، فَكَمْ مِنْ أَحْكَامٍ خَفِيَتْ عَلَيْنَا حِكْمَتُهَا فِيمَا مَضَى ثُمَّ انْكَشَفَ لَنَا مَا فِيهَا مِنْ حِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، فَقَدْ كَانَ خَافِيًا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ حِكْمَةُ تَحْرِيمِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَنَا مَا يَحْمِلُهُ هَذَا الْحَيَوَانُ الْخَبِيثُ مِنْ أَمْرَاضٍ وَصِفَاتٍ خَبِيثَةٍ، أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَحْمِيَ مِنْهَا الْمُجْتَمَعَ الْإِسْلَامِيَّ. وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي الْأَمْرِ بِغَسْلِ الْإِنَاءِ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ سَبْعَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ.. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَكْشِفُ الْأَيَّامُ عَنْ سِرِّ تَشْرِيعِهَا وَإِنْ كَانَتْ خَافِيَةً عَلَيْنَا الْآنَ.

التَّعْرِيفُ بِالْمَوْسُوعَةِ الْفِقْهِيَّةِ

تَطْوِيرُ عَرْضِ الْفِقْهِ وَ (التَّدْوِينُ الْجَمَاعِيُّ):

45- لَقَدْ مَرَّ الْفِقْهُ الْإِسْلَامِيُّ فِي رِحْلَةِ تَدْوِينِهِ بِأَطْوَارٍ مُخْتَلِفَةٍ تُشْبِهُ أَطْوَارَ تَكْوِينِهِ، وَلَا يَتَّسِعُ الْمَجَالُ لِأَكْثَرَ مِنْ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ بَدَأَ مُمْتَزِجًا بِالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ، ثُمَّ ظَهَرَ فِي صُورَةِ الْأَمَالِي وَالْمَسَائِلِ وَالْجَوَامِعِ الْمُهْتَمَّةِ بِالصُّوَرِ وَالْفُرُوعِ أَكْثَرَ مِنْ الْمَبَادِئِ، ثُمَّ تَلَا ذَلِكَ تَأْلِيفُ الْمُدَوَّنَاتِ وَأُمَّهَاتِ الْكُتُبِ الْمَبْسُوطَةِ الَّتِي حُفِظَتْ بِهَا الْمَذَاهِبُ مِنْ الِانْدِثَارِ، وَقَدْ آلَ التَّصْنِيفُ فِي الْفِقْهِ بَعْدَئِذٍ إِلَى عَرْضِهِ بِأُسْلُوبٍ عِلْمِيٍّ شَدِيدِ التَّرْكِيزِ، مُتَفَاوِتِ التَّرْتِيبِ، مُسْتَغْلِقِ الْعِبَارَةِ لِغَيْرِ الْمُتَمَرِّسِ، وَظَهَرَتْ (الْمُتُونُ) الَّتِي اسْتَلْزَمَ إِيضَاحُهَا وَضْعَ (الشُّرُوحِ) وَتَعْلِيقَ (الْحَوَاشِي) عَلَى نَمَطٍ صَعْبٍ لَا تَكْمُلُ الْفَائِدَةُ مِنْهُ إِلاَّ لِلْمُتَخَصِّصِ، بَلْ رُبَّمَا تَنْحَصِرُ خِبْرَةُ الْفَرْدِ بِمَذْهَبٍ دُونَ آخَرَ لِمَا تَعَارَفَ عَلَيْهِ أَهْلُ كُلِّ مَذْهَبٍ فِي دِرَاسَتِهِ وَالْإِفْتَاءِ بِهِ وَالتَّأْلِيفِ فِيهِ، مِنْ أُصُولٍ وَرُمُوزٍ وَاصْطِلَاحَاتٍ، بَعْضُهَا مُدَوَّنٌ فِي مَوَاطِنَ مُتَفَرِّقَةٍ، وَبَعْضُهَا لَا يُدْرَكُ إِلاَّ بِالتَّلْقِينِ وَالتَّوْقِيفِ عَلَيْهِ.

وَالْغَرَضُ هُنَا الْإِشَارَةُ إِلَى ظُهُورِ بَعْضِ الْمُؤَلَّفَاتِ الْمُطَوَّرَةِ فِي عَرْضِ الْفِقْهِ تُشْبِهُ الْمَوْسُوعَةَ- إِذَا غُضَّ النَّظَرُ عَنْ قَضِيَّةِ التَّرْتِيبِ، عَلَى أَهَمِّيَّتِهَا- لِاشْتِمَالِهَا عَلَى بَعْضِ خَصَائِصِ الْكِتَابَةِ الْمَوْسُوعِيَّةِ كَالشُّمُولِ وَإِطْلَاقِ الْبَحْثِ عَنْ التَّقَيُّدِ بِإِيضَاحِ كِتَابٍ، أَوْ مَنْهَجِ تَدْرِيسٍ، أَوْ طَاقَةِ الْفَرْدِ الْعَادِيِّ... وَالْأَمْثِلَةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْكُتُبِ الَّتِي تَجْمَعُ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ مَا تَفَرَّقَ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْمُؤَلَّفَاتِ، وَتُعْنَى بِمَا كَانَ يُسَمَّى: عِلْمَ الْخِلَافِ (مُقَارَنَةُ الْمَذَاهِبِ) وَتُجْرَى عَلَى أُسْلُوبِ الْبَسْطِ وَالِاسْتِيفَاءِ لِكُلِّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ بِحَسَبِ تَقْدِيرِ الْمُؤَلِّفِ.. لَكِنَّ تِلْكَ الْأَشْبَاهَ الْمَوْسُوعِيَّةَ كَانَتْ جُهُودًا فَرْدِيَّةً (أَوْ شِبْهَ فَرْدِيَّةٍ حِينَ تَخْتَرِمُ الْمَنِيَّةُ الْمُؤَلِّفَ فَيَأْتِيَ مَنْBيَضَعُ تَكْمِلَةً لِكِتَابِهِ) وَالنَّزْرُ الْيَسِيرُ مِنْهَا كَانَ جَهْدًا جَمَاعِيًّا وَغَالِبُهُ ثَمَرَةُ اهْتِمَامِ أُولِي الْأَمْرِ، اقْتِرَاحًا أَوْ تَشْجِيعًا أَوْ تَبَنِّيًا وَاحْتِضَانًا.

46- وَمِنْ الْأَمْثِلَةِ لِلْجَهْدِ الْجَمَاعِيِّ فِي الْمُؤَلَّفَاتِ الْفِقْهِيَّةِ الْجَارِيَةِ مَجْرَى الْمَوْسُوعَاتِ: الْكِتَابُ الْمَعْرُوفُ فِي الْفِقْهِ الْحَنَفِيِّ بِالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ، وَالَّذِي اشْتَرَكَ فِي إِنْجَازِهِ (23) فَقِيهًا مِنْ كِبَارِ عُلَمَاءِ الْهِنْدِ بِطَلَبِ وَتَمْوِيلِ مَلِكِهَا (مُحَمَّدٍ أورنكزيب) الْمُلَقَّبِ: «عَالَم كير» أَيْ فَاتِحِ الْعَالَمِ، وَلِذَا سُمِّيَتْ «الْفَتَاوَى الْعَالَمْكِيرِيَّةِ».

وَيَجْرِي عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ مِنْ حَيْثُ تَحَقُّقُ بَعْضِ أَهْدَافِ الْمَوْسُوعَةِ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهَا وَالِاعْتِمَادِ عَلَى مَا فِيهَا: الْمُخْتَارَاتُ التَّشْرِيعِيَّةُ الْفِقْهِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ مَثَابَةً لِلْقُضَاةِ وَالْمُفْتِينَ بِالِالْتِزَامِ فَضْلًا عَنْ الْإِلْزَامِ، كَمَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ وَالَّتِي وَضَعَتْهَا لَجْنَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِتَكْلِيفٍ مِنْ الْخِلَافَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَكَانَ بَيْنَ أَعْضَائِهَا الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ عَابِدِينَ (نَجْلُ صَاحِبِ الْحَاشِيَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي الْفِقْهِ الْحَنَفِيِّ). وَيُقَارِبُهَا فِي الذُّيُوعِ ثَلَاثَةُ كُتُبٍ لِلْعَلاَّمَةِ مُحَمَّد قَدْرِي بَاشَا مَصُوغَةً كَقَوَانِينَ مُقْتَرَحَةً (وَهِيَ مُرْشِدُ الْحَيْرَانِ فِي مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ، وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْأَحْوَالِ الشَّخْصِيَّةِ، وَالْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ فِي أَحْكَامِ الْأَوْقَافِ) تِلْكَ الْكُتُبُ الَّتِي يُورِدُ بَعْضُ الْكُتَّابِ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ مُؤَلِّفُهَا قَدْ أَعَانَهُ عَلَيْهَا قَوْمٌ آخَرُونَ، بِالرَّغْمِ مِنْ أَهْلِيَّتِهِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي لَا يُسْتَغْرَبُ مَعَهَا نُهُوضُهُ بِهَذَا الْعَمَلِ وَحْدَهُ، وَهُوَ مِمَّا يَنُوءُ بِهِ الْأَفْرَادُ.

وَلَا يَتَّسِعُ الْمَقَامُ لِلْإِفَاضَةِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ وَضَرْبِ الْأَمْثِلَةِ الْكَثِيرَةِ عَلَيْهِ، فَهُوَ مِمَّا يُعْنَى بِهِ عِلْمُ وَصْفِ الْكُتُبِ (الببليوغرافيا) وَمَا كُتِبَ فِي تَارِيخِ الْفِقْهِ وَالتَّشْرِيعِ، وَالْمَدَاخِلِ إِلَى الْفِقْهِ وَمَذَاهِبِهِ وَسِيَرِ الْأَئِمَّةِ وَطَبَقَاتِ الْفُقَهَاءِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


4-موسوعة الفقه الكويتية (إبضاع)

إِبْضَاع

التَّعْرِيفُ:

1- الْإِبْضَاعُ مَصْدَرُ أَبْضَعَ، وَمِنْهُ الْبِضَاعَةُ. وَالْبِضَاعَةُ مِنْ مَعَانِيهَا الْقِطْعَةُ مِنَ الْمَالِ، أَوْ هِيَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَالِ تُبْعَثُ لِلتِّجَارَةِ. وَأَبْضَعَهُ الْبِضَاعَةَ: أَعْطَاهُ إِيَّاهَا. وَيُعَرِّفُ الْفُقَهَاءُ الْإِبْضَاعَ بِأَنَّهُ بَعْثُ الْمَالِ مَعَ مَنْ يَتَّجِرُ بِهِ تَبَرُّعًا، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ. هَذَا وَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ الْإِبْضَاعُ تَبَرُّعًا مِنَ الْعَامِلِ. وَاعْتَبَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ إِبْضَاعًا وَلَوْ كَانَ بِأَجْرٍ.

وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الْبِضَاعَةِ عَلَى الْمَالِ الْمَبْعُوثِ لِلِاتِّجَارِ بِهِ، وَالْإِبْضَاعَ عَلَى الْعَقْدِ ذَاتِهِ، وَقَدْ يُطْلِقُونَ الْبِضَاعَةَ وَيُرِيدُونَ بِهَا الْعَقْدَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

2- الْقِرَاضُ:

وَيُسَمَّى عِنْدَ أَهْلِ الْعِرَاقِ الْمُضَارَبَةَ، وَهُوَ دَفْعُ الرَّجُلِ مَالَهُ إِلَى آخَرَ لِيَتَّجِرَ فِيهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْعَامِلِ جُزْءٌ شَائِعٌ مِنَ الرِّبْحِ. فَالْقِرَاضُ شَرِكَةٌ فِي الرِّبْحِ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْعَامِلِ، بَيْنَمَا الْإِبْضَاعُ لَا يَحْمِلُ صُورَةَ الْمُشَارَكَةِ، بَلْ صُورَةَ التَّبَرُّعِ مِنَ الْعَامِلِ فِي التِّجَارَةِ لِرَبِّ الْمَالِ دُونَ مُقَابِلٍ.

الْقَرْضُ: وَهُوَ لُغَةً الْقَطْعُ. وَعَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ دَفْعُ الْمَالِ إِرْفَاقًا لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَرُدُّ بَدَلَهُ. وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ السَّلَفِ، فَيَصِحُّ بِلَفْظِ قَرْضٍ وَسَلَفٍ.

الْوَكَالَةُ: وَهِيَ فِي اللُّغَةِ التَّفْوِيضُ. وَعَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا إِقَامَةُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِيمَا يَقْبَلُ الْإِنَابَةَ. وَالْوَكَالَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ، لَكِنَّ الْإِبْضَاعَ قَاصِرٌ عَلَى مَا يَدْفَعُهُ رَبُّ الْمَالِ لِلْعَامِلِ لِيَتَّجِرَ فِيهِ، فَهُوَ وَكِيلٌ فِي هَذَا فَقَطْ.

صِفَةُ الْإِبْضَاعِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):

3- الْإِبْضَاعُ عَقْدٌ جَائِزٌ لِأَنَّهُ يَتِمُّ عَلَى وَجْهٍ لَا غَرَرَ فِيهِ. وَإِذَا كَانَتِ الْمُضَارَبَةُ، مَعَ مَا فِيهَا مِنْ شُبْهَةِ غَرَرٍ، جَائِزَةً فَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يَقَعَ الْإِبْضَاعُ جَائِزًا، سَوَاءٌ أَكَانَ عَقْدُهُ مُسْتَقِلًّا أَمْ تَابِعًا لِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، كَأَنْ دَفَعَ الْعَامِلُ الْمَالَ بِضَاعَةً لِعَامِلٍ آخَرَ، فَهُوَ عَقْدٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْإِبْضَاعَ سَبِيلٌ لِإِنْمَاءِ الْمَالِ بِلَا أَجْرٍ، وَهَذَا مِمَّا يَرْتَضِيهِ رَبُّ الْمَالِ.

حِكْمَةُ تَشْرِيعِهِ:

4- الْإِبْضَاعُ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ، وَالْحَاجَةُ قَدْ تَدْعُو إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ قَدْ لَا يُحْسِنُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، أَوْ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إِلَى السُّوقِ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ مَالٌ وَلَا يُحْسِنُ التِّجَارَةَ فِيهِ، وَقَدْ يُحْسِنُ وَلَا يَتَفَرَّغُ وَقَدْ لَا تَلِيقُ بِهِ التِّجَارَةُ، لِكَوْنِهِ امْرَأَةً، أَوْ مِمَّنْ يَتَعَيَّرُ بِهَا، فَيُوَكِّلُ غَيْرَهُ. وَمَا الْإِبْضَاعُ إِلاَّ تَوْكِيلٌ بِلَا جُعْلٍ، فَهُوَ حِينَئِذٍ سَبِيلٌ لِلْمَعْرُوفِ وَتَآلُفِ الْقُلُوبِ وَتَوْثِيقِ الرَّوَابِطِ، خُصُوصًا بَيْنَ التُّجَّارِ.

وَكَمَا أَنَّ عَقْدَ الْإِبْضَاعِ سَبِيلٌ لِإِنْمَاءِ مَالِ رَبِّ الْمَالِ، فَقَدْ يَكُونُ سَبِيلًا لِإِنْمَاءِ مَالِ الْعَامِلِ الْمُتَبَرِّعِ، وَذَلِكَ إِذَا دَخَلَ الْعَامِلُ مَعَ رَبِّ الْمَالِ بِالنِّصْفِ مَثَلًا، كَأَنْ يُقَدِّمَ رَبُّ الْمَالِ أَلْفًا وَالْعَامِلُ أَلْفًا، وَيَكُونَ الرِّبْحُ مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا، فَالْمُشَارَكَةُ هُنَا تَزِيدُ فِي رَأْسِ الْمَالِ، وَبِالتَّالِي تَزِيدُ الْأَرْبَاحُ، وَفِي ذَلِكَ مَا فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ الْعَامِلِ. فَيَكُونُ الْعَامِلُ هُنَا اسْتَخْدَمَ مَالَ رَبِّ الْمَالِ، وَهُوَ النِّصْفُ، وَرَدَّ لَهُ أَرْبَاحَهُ مُتَبَرِّعًا بِعَمَلِهِ، وَاسْتَفَادَ هُوَ مِنْ مُشَارَكَةِ مَالِ رَبِّ الْمَالِ فِي زِيَادَةِ رَأْسِ مَالِهِ، وَمِنْ ثَمَّ يَزِيدُ رِبْحُهُ.

صِيغَةُ الْإِبْضَاعِ:

5- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ الصِّيغَةِ، وَهِيَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، رُكْنًا فِي كُلِّ عَقْدٍ. وَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْعَقْدِ.

وَأَمَّا مَا يَتَّصِلُ بِالْإِبْضَاعِ فَإِنَّ الصِّيغَةَ اللَّفْظِيَّةَ قَدْ تَكُونُ صَرِيحَةً بِلَفْظِ الْإِبْضَاعِ، أَوِ الْبِضَاعَةِ، وَقَدْ تَكُونُ غَيْرَ صَرِيحَةٍ، كَأَنْ يَقُولَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً، عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِي. وَهَذِهِ الصُّورَةُ مَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَا يَصِحُّ، وَاعْتَبَرُوا ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّنَاقُضِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: «مُضَارَبَةً» يَقْتَضِي الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ، وَقَوْلَهُ: «الرِّبْحُ كُلُّهُ لِي» يَقْتَضِي عَدَمَهَا، فَتَنَاقَضَ قَوْلُهُ، فَفَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ، وَلِأَنَّهُ اشْتَرَطَ اخْتِصَاصَ أَحَدِهِمَا بِالرِّبْحِ، وَهَذَا شَرْطٌ يُنَاقِضُ الْعَقْدَ فَفَسَدَ، وَلِأَنَّ اللَّفْظَ الصَّرِيحَ فِي بَابِهِ لَا يَكُونُ كِنَايَةً فِي غَيْرِهِ، فَالْمُضَارَبَةُ لَا تَنْقَلِبُ إِبْضَاعًا وَلَا قَرْضًا. وَعَلَى هَذَا اعْتَبَرُوا هَذَا الْعَقْدَ مُضَارَبَةً فَاسِدَةً.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ هَذَا إِبْضَاعٌ صَحِيحٌ، لِوُجُودِ مَعْنَى الْإِبْضَاعِ هُنَا، فَانْصَرَفَ إِلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: اتَّجِرْ بِهِ وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْعُقُودِ لِمَعَانِيهَا.

وَالْمَالِكِيَّةُ أَجَازُوا اشْتِرَاطَ رِبْحِ الْقِرَاضِ كُلِّهِ لِرَبِّ الْمَالِ أَوْ لِلْعَامِلِ فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِ مَالِكٍ، أَوْ لِغَيْرِهِمَا فِي الْمُدَوَّنَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّبَرُّعِ، لَكِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ كَمَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْعَقْدَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ إِبْضَاعٌ، بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّ إِطْلَاقَ الْقِرَاضِ عَلَيْهِ مَجَازٌ. وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ رَأْيُهُمْ كَرَأْيِ الْحَنَفِيَّةِ وَإِنْ كَانُوا يُخَالِفُونَ فِي التَّسْمِيَةِ.

وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ مَنِ اعْتَبَرَ مِثْلَ هَذَا الْعَقْدِ صَحِيحًا فَلَا يَرَى أَنَّ الْعَامِلَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا بَلْ هُوَ مُتَبَرِّعٌ بِالْعَمَلِ. وَأَمَّا مَنِ اعْتَبَرَهُ فَاسِدًا فَيُوجِبُ لَهُ أَجْرَ الْمِثْلِ.

وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ اعْتَبَرَ حَالَ الْعَامِلِ، فَإِنْ كَانَ يَجْهَلُ حُكْمَ الْإِبْضَاعِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ لَهُ أَجْرًا وَلَا جُزْءًا مِنَ الرِّبْحِ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ لَهُ أَجْرَ الْمِثْلِ. وَيُنْسَبُ هَذَا الرَّأْيُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَجَهْلُ مِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ مِمَّا يُعْذَرُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ.

مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِبْضَاعِ بِلَفْظِ الْمُضَارَبَةِ:

6- يَذْكُرُ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ إِذَا قَالَ لِلْعَامِلِ: خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً وَلِي رِبْحُهُ كُلُّهُ، لَمْ يَصِحَّ مُضَارَبَةً. وَلَا أُجْرَةَ لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ لِأَنَّ الْعَامِلَ رَضِيَ بِالْعَمَلِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَعَانَهُ فِي شَيْءٍ وَتَوَكَّلَ لَهُ بِغَيْرِ جُعْلٍ.

الْإِبْضَاعُ بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى:

7- يَتَحَقَّقُ الْإِبْضَاعُ بِعِبَارَاتٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يُصَرِّحْ بِلَفْظِ الْإِبْضَاعِ، مِنْهَا قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ: خُذْ هَذَا الْمَالَ وَاتَّجِرْ فِيهِ، أَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ، أَوْ خُذْهُ وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِي. فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ إِبْضَاعًا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ يَحْتَمِلُ الْقِرَاضَ وَالْقَرْضَ وَالْإِبْضَاعَ، وَقَدْ قُرِنَ بِهِ حُكْمُ الْإِبْضَاعِ، وَهُوَ أَنَّ الرِّبْحَ كُلَّهُ لِرَبِّ الْمَالِ، فَيَنْصَرِفُ إِلَى الْإِبْضَاعِ. وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوَاعِدِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.

كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي صُورَةِ مَا إِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ أَلْفًا وَقَالَ: أَضِفْ إِلَيْهِ أَلْفًا مِنْ عِنْدِكَ، وَاتَّجِرْ فِيهِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ إِبْضَاعًا عَلَى مَا سَبَقَ (ف 4)

اجْتِمَاعُ الْإِبْضَاعِ وَالْمُضَارَبَةِ:

8- إِذَا دَفَعَ نِصْفَ الْمَالِ بِضَاعَةً وَنِصْفَهُ مُضَارَبَةً فَقَبَضَ الْمُضَارِبُ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ، وَالْمَالُ عَلَى مَا سَمَّيَا مِنَ الْمُضَارَبَةِ وَالْإِبْضَاعِ، وَالْخَسَارَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَنِصْفُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَنِصْفُهُ الْآخَرُ عَلَى مَا شَرَطَا؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْعَمَلِ فِي الْمَالِ مُضَارَبَةً وَبِضَاعَةً، وَجَازَتِ الْمُضَارَبَةُ وَالْبِضَاعَةُ.

وَإِنَّمَا كَانَتِ الْخَسَارَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُبْضِعِ وَالْمُضَارِبِ فِي الْبِضَاعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ، وَحِصَّةُ الْبِضَاعَةِ مِنَ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ خَاصَّةً لِأَنَّ الْمُبْضَعَ لَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ.

شُرُوطُ الصِّحَّةِ:

9- شُرُوطُ صِحَّةِ الْإِبْضَاعِ لَا تَخْرُجُ فِي الْجُمْلَةِ عَمَّا اشْتُرِطَ فِي صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ مَا عَدَا الشُّرُوطَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالرِّبْحِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي الْعَامِلِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (مُضَارَبَة).

مَنْ يَمْلِكُ إِبْضَاعَ الْمَالِ:

10- الَّذِي يَمْلِكُ إِبْضَاعَ الْمَالِ:

أ- الْمَالِكُ:

لِلْمَالِكِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ لِلْعَامِلِ بِضَاعَةً، وَهَذِهِ هِيَ الصُّورَةُ الْأَصْلِيَّةُ لِلْإِبْضَاعِ.

ب- الْمُضَارِبُ:

لِلْمُضَارِبِ (الْعَامِلِ) أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ بِضَاعَةً لآِخَرَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ الرِّبْحُ، وَالْإِبْضَاعُ طَرِيقٌ إِلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الِاسْتِئْجَارَ، فَالْإِبْضَاعُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الِاسْتِئْجَارَ اسْتِعْمَالٌ فِي الْمَالِ بِعِوَضٍ، وَالْإِبْضَاعَ اسْتِعْمَالٌ فِيهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَكَانَ أَوْلَى.

وَالْإِبْضَاعُ يَمْلِكُهُ الْمُضَارِبُ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ عِنْدَ الْبَعْضِ عَلَى مَا سَيَأْتِي. وَجَوَازُهُ لِلْمُضَارِبِ أَوْلَى مِنْ جَوَازِ التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالرَّهْنِ وَالِارْتِهَانِ وَالْإِجَارَةِ وَالْإِيدَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

ج- الشَّرِيكُ:

لِلشَّرِيكِ أَنْ يُبْضِعَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ، وَالشَّافِعِيَّةُ، بِشَرْطِ إِذْنِ الشَّرِيكِ. الِاعْتِبَارُ الشَّرْعِيُّ لِلْمُبْضَعِ وَتَصَرُّفَاتِهِ:

11- الْمُبْضَعُ أَمِينٌ فِيمَا يَقْبِضُهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِبْضَاعِ عَقْدُ أَمَانَةٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِلاَّ بِالْإِهْمَالِ أَوِ التَّعَدِّي. وَهُوَ وَكِيلُ رَبِّ الْمَالِ فِي مَالِهِ، يَنُوبُ عَنْهُ فِي تَصَرُّفَاتِهِ التِّجَارِيَّةِ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ مِمَّا فِيهِ إِنْمَاءٌ لِلْمَالِ، عَلَى مَا جَرَى بِهِ عُرْفُ التُّجَّارِ، دُونَ حَاجَةٍ إِلَى إِذْنٍ خَاصٍّ. لَكِنْ لَوْ أَبْضَعَهُ لآِخَرَ لِيَعْمَلَ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْضَاعِ، فَهَذَا الصَّنِيعُ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ رَبِّ الْمَالِ قِيَاسًا عَلَى الْمُضَارَبَةِ.

وَكَذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى الْإِذْنِ مِنْ رَبِّ الْمَالِ مَا كَانَ خَارِجًا مِنَ الْأَعْمَالِ عَنْ عَادَةِ التُّجَّارِ، كَالْإِقْرَاضِ وَالتَّبَرُّعَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْهِبَاتِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ الْمُخَصَّصِ لِأَغْرَاضِ الْإِنْمَاءِ وَالتِّجَارَةِ.

شِرَاءُ الْمُبْضَعِ الْمَالَ لِنَفْسِهِ:

12- إِذَا دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ الْمَالَ لِلْعَامِلِ بِضَاعَةً، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَّجِرَ فِيهِ لِنَفْسِهِ، شَأْنُهُ شَأْنُ الْمُقَارِضِ (الْمُضَارِبِ)، فَإِنَّ الْمَالَ إِنَّمَا دُفِعَ لِلْعَامِلِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْإِبْضَاعِ عَلَى طَلَبِ الْفَضْلِ فِيهِ، فَلَيْسَ لِلْمُضَارِبِ وَلَا لِلْمُبْضَعِ أَنْ يَجْعَلَا ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمَا دُونَ رَبِّ الْمَالِ.

وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُبْضَعَ (الْعَامِلَ) إِذَا ابْتَاعَ لِنَفْسِهِ، أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ مَا ابْتَاعَ لِنَفْسِهِ، أَوْ يُضَمِّنَهُ رَأْسَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا دَفَعَ الْمَالَ عَلَى النِّيَابَةِ عَنْهُ وَابْتِيَاعِ مَا أَمَرَهُ بِهِ، فَكَانَ أَحَقَّ بِمَا ابْتَاعَهُ. وَهَذَا إِذَا ظَفِرَ بِالْأَمْرِ قَبْلَ بَيْعِ مَا ابْتَاعَهُ، فَإِنْ فَاتَ مَا ابْتَاعَهُ فَإِنَّ رِبْحَهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَخَسَارَتَهُ عَلَى الْمُبْضِعِ مَعَهُ. وَمِثْلُهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي تَعَدِّي الْمُبْضَعِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِنْ ظَهَرَ رِبْحٌ فَهُوَ لِرَبِّ الْمَالِ، وَإِنْ ظَهَرَتْ خَسَارَةٌ فَهِيَ عَلَى الْعَامِلِ لِتَعَدِّيهِ. وَقَوَاعِدُ الْحَنَفِيَّةِ لَا تَأْبَى ذَلِكَ.

تَلَفُ الْمَالِ أَوْ خَسَارَتُهُ:

13- عَقْدُ الْإِبْضَاعِ مِنْ عُقُودِ الْأَمَانَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ فِي يَدِهِ الْمَالُ إِنْ تَلِفَ أَوْ خَسِرَ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلَا تَعَدٍّ، فَيُسْمَعُ قَوْلُهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ هَلَاكٍ أَوْ خَسَارَةٍ. بَلْ قَالُوا: إِنَّهُ لَا يَضْمَنُ حَتَّى وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: وَعَلَيْكَ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ أَمَانَةً. وَالْمَرْوِيُّ عَنْ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي شَأْنِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ، أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْهَلَاكِ إِلاَّ إِذَا كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ، كَالْحَرِيقِ الْغَالِبِ، وَاللِّصِّ الْكَاسِرِ، وَالْعَدُوِّ الْمُكَابِرِ، وَقَالَا: إِنَّ ذَلِكَ هُوَ الِاسْتِحْسَانُ، لِتَغَيُّرِ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَأَفْتَى بِذَلِكَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ فِي شَأْنِ الصُّنَّاعِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعَيْنَ فِي يَدِ الصُّنَّاعِ أَمَانَةٌ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي يَدِ الْمُبْضَعِ، فَلَا يَبْعُدُ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ.

اخْتِلَافُ الْعَامِلِ وَرَبِّ الْمَالِ:

14- إِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الْمَالِ وَالْعَامِلُ فَادَّعَى الْعَامِلُ أَنَّهُ أَخَذَ الْمَالَ مُضَارَبَةً، وَادَّعَى الْمَالِكُ أَنَّهُ بِضَاعَةٌ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ. وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ لِلْعَامِلِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ رِبْحِ الْقِرَاضِ، فَلَا يُعْطَى أَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَى. وَبَيَّنُوا أَنَّ فَائِدَةَ كَوْنِ الْقَوْلِ قَوْلَهُ عَدَمُ غَرَامَةِ الْجُزْءِ الَّذِي ادَّعَاهُ الْعَامِلُ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ تَضَمَّنَتْ دَعْوَاهُ أَنَّ الْعَامِلَ تَبَرَّعَ لَهُ بِالْعَمَلِ، وَهُوَ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَدَّعِي أَنَّهُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُتَبَرِّعًا.

وَإِنْ نَكَلَ رَبُّ الْمَالِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْعَامِلِ مَعَ يَمِينِهِ إِذَا كَانَ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ مِثْلُهُ فِي الْقِرَاضِ.

وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْقَرَوِيِّينَ: إِنْ كَانَ عُرْفُهُمْ أَنَّ لِلْإِبْضَاعِ أَجْرًا فَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْعَامِلِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ احْتِمَالَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ لَهُ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيهِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَتَحَالَفَا، وَيَكُونَ لِلْعَامِلِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نَصِيبِهِ مِنَ الرِّبْحِ أَوْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ مِنَ الرِّبْحِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الْأَقَلُّ أَجْرَ مِثْلِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ قِرَاضًا، فَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَالْبَاقِي لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ نَمَاءَ مَالِهِ تَبَعٌ لَهُ.

وَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ هَذَا مِنْ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ، فَقَالَ: إِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ تَعَارَضَا، وَقُسِّمَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ.

وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ، فَيَحْلِفُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى إِنْكَارِ مَا ادَّعَاهُ خَصْمُهُ، وَيَكُونُ لِلْعَامِلِ أَجْرُ عَمَلِهِ.

وَلَا يَتَأَتَّى عَكْسُ هَذِهِ الصُّورَةِ، بِأَنْ يَدَّعِيَ الْعَامِلُ الْإِبْضَاعَ وَرَبُّ الْمَالِ الْقِرَاضَ، لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَادَةً، إِلاَّ أَنْ يَقْصِدَ مِنَّتَهُ عَلَى رَبِّهِ.

15- وَإِذَا ادَّعَى الْعَامِلُ الْقِرَاضَ، وَرَبُّ الْمَالِ الْإِبْضَاعَ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ- وَهُوَ مَا سَمَّاهُ الْمَالِكِيَّةُ إِبْضَاعًا، وَجَعَلَهُ غَيْرُهُمْ مِنْ قَبِيلِ الْإِجَارَةِ- فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ مَعَ يَمِينِهِ، وَيَأْخُذُ الْجُزْءَ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ هُنَا فِي الْجُزْءِ الْمَشْرُوطِ لِلْمُضَارِبِ مِنَ الرِّبْحِ، وَالْمُصَدَّقُ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي هَذَا الْجُزْءِ الْمُضَارِبُ.

وَلِهَذَا إِذَا كَانَتِ الْأُجْرَةُ مِثْلَ الْجُزْءِ الَّذِي ادَّعَاهُ فِي الْقِرَاضِ فَلَا يَمِينَ؛ لِأَنَّهُمَا قَدِ اتَّفَقَا فِي الْمَعْنَى، وَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُهُمَا فِي اللَّفْظِ.

وَلِضَبْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ:

الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ الْمُنَازَعَةُ بَعْدَ الْعَمَلِ الْمُوجِبِ لِلُزُومِ الْقِرَاضِ.

الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ يَعْمَلُ فِي قِرَاضٍ، وَأَنْ يَكُونَ مِثْلُ الْمَالِ يُدْفَعُ قِرَاضًا.

الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْجُزْءُ الْمُدَّعَى اشْتِرَاطُهُ مِنْ رِبْحِ الْقِرَاضِ أَزْيَدَ مِنَ الْأُجْرَةِ الْمُدَّعَى الِاتِّفَاقُ عَلَيْهَا.

الرَّابِعُ: أَنْ يُشْبِهَ أَنْ يُقَارِضَ بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ نِصْفِ الرِّبْحِ مَثَلًا، كَأَنْ تَقُومَ قَرَائِنُ عَلَى أَنَّ مِثْلَهُ لَا يَعْمَلُ إِلاَّ بِمِثْلِ هَذَا الْجُزْءِ مِنَ الرِّبْحِ.

الْخَامِسُ: أَلاَّ يُطَابِقَ الْعُرْفُ دَعْوَى رَبِّ الْمَالِ.

16- وَإِذَا ادَّعَى الْعَامِلُ الْإِبْضَاعَ بِأَجْرٍ، وَرَبُّ الْمَالِ الْقِرَاضَ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنَ الرِّبْحِ، فَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَالَ الْعَامِلُ: الْمَالُ بِيَدِي بِضَاعَةٌ بِأَجْرٍ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: هُوَ بِيَدِكَ قِرَاضٌ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ، فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْعَامِلِ.

وَتَجْرِي هُنَا الشُّرُوطُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ.

17- وَإِذَا ادَّعَى الْعَامِلُ الْقِرَاضَ وَرَبُّ الْمَالِ الْإِبْضَاعَ، وَطَلَبَ كُلٌّ مِنْهُمَا الرِّبْحَ لَهُ وَحْدَهُ، فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَحْلِفُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى إِنْكَارِ مَا ادَّعَاهُ خَصْمُهُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُنْكِرٌ مَا ادَّعَاهُ خَصْمُهُ عَلَيْهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ، وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ عَمَلِهِ فَقَطْ، وَالْبَاقِي لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ نَمَاءَ مَالِهِ تَابِعٌ لَهُ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ فِي الْقِرَاضِ- أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ بِيَمِينِهِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ التَّمْلِيكَ، وَالْمَالِكُ يُنْكِرُهُ.

انْتِهَاءُ عَقْدِ الْإِبْضَاعِ:

18- يَنْتَهِي عَقْدُ الْإِبْضَاعِ بِمَا يَنْتَهِي بِهِ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَيُمْكِنُ إِجْمَالُ أَسْبَابِ الِانْتِهَاءِ بِالْآتِي:

أ- انْقِضَاءُ الْعَقْدِ الْأَصْلِيِّ أَوِ الْمَتْبُوعِ، فَإِذَا كَانَ الْإِبْضَاعُ لِمُدَّةٍ مُحَدَّدَةٍ فَيَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ كَانَ تَابِعًا لِعَقْدٍ آخَرَ كَالْمُضَارَبَةِ فَإِنَّهُ يَنْتَهِي بِانْتِهَائِهَا.

ب- الْفَسْخُ: سَوَاءٌ كَانَ بِعَزْلِ رَبِّ الْمَالِ لِلْعَامِلِ أَوْ عَزْلِ الْعَامِلِ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ.

ج- الِانْفِسَاخُ: سَوَاءٌ كَانَ بِالْمَوْتِ، أَوْ زَوَالِ الْأَهْلِيَّةِ، أَوْ هَلَاكِ الْمَحَلِّ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


5-موسوعة الفقه الكويتية (إجارة 4)

إِجَارَة -4

94- وَبَيَانُ الْمَنْفَعَةِ فِي إِجَارَةِ الدُّورِ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى مَجْهُولَةُ الْمِقْدَارِ فِي نَفْسِهَا، وَلَا تَنْضَبِطُ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَيْسَ لِمُدَّةِ الْإِجَارَةِ حَدٌّ أَقْصَى عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَتَجُوزُ الْمُدَّةُ الَّتِي تَبْقَى فِيهَا وَإِنْ طَالَتْ. وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ كَافَّةً. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا تَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ. وَفِي قَوْلٍ: إِنَّهَا لَا تَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً. وَقَالَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ بِالنَّقْدِ وَالْمُؤَجَّلِ. وَتَبْدَأُ الْمُدَّةُ مِنَ الْوَقْتِ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ. فَإِنْ لَمْ يَكُونَا سَمَّيَا وَقْتًا فَمِنْ حِينِ الْعَقْدِ. وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ عَدَمُ بَيَانِ ابْتِدَاءِ الْمُدَّةِ لِسَكَنِهِ شَهْرًا أَوْ سَنَةً مَثَلاً. وَيُحْمَلُ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ وَجِيبَةً (أَيْ مُدَّةً مُحَدَّدَةً لَا تَتَجَدَّدُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ) أَوْ مُشَاهَرَةً. فَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ فَثَلَاثُونَ يَوْمًا مِنْ يَوْمِ الْعَقْدِ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: لَا تَجُوزُ إِجَارَةُ الدُّورِ إِلاَّ لِمُدَّةٍ مَعْلُومَةِ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ. فَإِنْ قَالَ: آجَرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا، وَلَمْ يُحَدِّدِ الشَّهْرَ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ تَعْيِينَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الشَّهْرُ، فِي عَقْدٍ شُرِطَ فِيهِ التَّعْيِينُ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ دَارًا.

95- وَإِذَا وَقَعَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى مُدَّةٍ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً. وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ تَلِيَ الْعَقْدَ مُبَاشَرَةً، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. فَإِذَا قَالَ: آجَرْتُكَ دَارِي كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا صَحِيحَةٌ. وَتَلْزَمُ الْإِجَارَةُ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ بِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْعَقْدِ، وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الشُّهُورِ يَلْزَمُ الْعَقْدُ فِيهِ بِالتَّلَبُّسِ بِهِ، وَهُوَ السُّكْنَى فِي الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ حَالَ الْعَقْدِ، فَإِذَا تَلَبَّسَ بِهِ تَعَيَّنَ بِالدُّخُولِ فِيهِ، فَصَحَّ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ لَمْ يَتَلَبَّسْ بِهِ، أَوْ فُسِخَ الْعَقْدُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ، انْفَسَخَ. وَفِي الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَصِحُّ. وَقَالَ بِهِ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ «كُلِّ» اسْمٌ لِلْعَدَدِ، فَإِذَا لَمْ يُقَدِّرْهُ كَانَ مُبْهَمًا مَجْهُولاً. وَإِذَا قَالَ: آجَرْتُكَ دَارِي عِشْرِينَ شَهْرًا، كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ، جَازَ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ مَعْلُومَةٌ، وَأَجْرَهَا مَعْلُومٌ. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَصِحُّ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ الْمَعْلُومِ، وَتَبْطُلُ فِي الْبَاقِي الْمَجْهُولِ. وَإِنْ قَالَ: آجَرْتُكَهَا شَهْرًا بِدِرْهَمٍ، وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ، صَحَّ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَفْرَدَهُ بِالْعَقْدِ، وَبَطَلَ فِي الزَّائِدِ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَصِحَّ فِي كُلِّ شَهْرٍ تَلَبَّسَ بِهِ.

96- وَإِنْ قُدِّرَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ بِالسِّنِينَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ نَوْعَهَا، حُمِلَ عَلَى السَّنَةِ الْهِلَالِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا الْمَعْهُودَةُ فِي الشَّرْعِ.

وَإِنِ اسْتَأْجَرَ سَنَةً هِلَالِيَّةً أَوَّلَ الْهِلَالِ، عُدَّ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ، ثُمَّ يُكَمَّلُ الْمُنْكَسِرُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. رُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَرُوِيَ عَنْهُمْ أَيْضًا أَنَّهُ يُسْتَوْفَى فِي الْجَمِيعِ بِالْعَدَدِ

وَإِنِ اسْتَأْجَرَ الدَّارَ بِالسَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ أَوِ الرُّومِيَّةِ أَوِ الْقِبْطِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ فِي رِوَايَةٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ مَعْلُومَةٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ إِنْ كَانَا يَعْلَمَانِ أَيَّامَهَا. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ الشَّافِعِيِّ: لَا يَصِحُّ، إِذْ فِي السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ أَيَّامُ نَسِيءٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ إِنْ كَانَا يَجْهَلَانِهَا.

وَإِنْ آجَرَهُ لَهُ إِلَى الْعِيدِ انْصَرَفَ إِلَى أَوَّلِ عِيدٍ يَأْتِي، الْفِطْرُ أَوِ الْأَضْحَى. وَإِنْ أَضَافَهُ إِلَى عِيدٍ مِنْ أَعْيَادِ الْكُفَّارِ صَحَّ إِذَا عَلِمَاهُ.

97- وَبِالنِّسْبَةِ لِلْأُجْرَةِ فَإِذَا آجَرَهَا سَنَةً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ قِسْطَ كُلِّ شَهْرٍ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ مَعْلُومَةٌ، فَصَارَ كَالْإِجَارَةِ شَهْرًا وَاحِدًا. غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ لَهُمْ تَأْوِيلَانِ فِي كَوْنِهِ وَجِيبَةً، لِاحْتِمَالِ إِرَادَةِ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: هَذِهِ السَّنَةَ. وَهُوَ تَأْوِيلُ ابْنِ لُبَابَةَ. وَالْأَكْثَرِ، بَلْ هُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ، أَوْ غَيْرَ وَجِيبَةٍ، لِاحْتِمَالِ إِرَادَةِ كُلِّ سَنَةٍ. وَهُوَ تَأْوِيلُ أَبِي مُحَمَّدٍ صَالِحٍ.

98- إِذَا اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ دَارًا مِنْ مُسْلِمٍ عَلَى أَنَّهُ سَيَتَّخِذُهَا كَنِيسَةً أَوْ حَانُوتًا لِبَيْعِ الْخَمْرِ، فَالْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ) عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا عَلَى مَعْصِيَةٍ. وَانْفَرَدَ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْقَوْلِ بِجَوَازِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَارِدٌ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ مُطْلَقًا، وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ اتِّخَاذُهَا لِتِلْكَ الْمَعْصِيَةِ. وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ مَا فِيهِ.

أَمَّا إِذَا اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيُّ دَارًا لِلسُّكْنَى مَثَلاً، ثُمَّ اتَّخَذَهَا كَنِيسَةً، أَوْ مَعْبَدًا عَامًّا، فَالْإِجَارَةُ انْعَقَدَتْ بِلَا خِلَافٍ. وَلِمَالِكِ الدَّارِ، وَلِلْمُسْلِمِ عَامَّةً، مَنْعُهُ حِسْبَةً، كَمَا يُمْنَعُ مِنْ إِحْدَاثِ ذَلِكَ فِي الدَّارِ الْمَمْلُوكَةِ لِلذِّمِّيِّ.

الْتِزَامَاتُ الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ فِي إِجَارَةِ الدُّورِ:

99- يَجِبُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ تَمْكِينُ الْمُسْتَأْجِرِ مِنَ الِانْتِفَاعِ. وَيَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ الْأَجْرُ مِنْ وَقْتِ التَّمْكِينِ وَلَوْ لَمْ يَسْتَوْفِ الْمَنْفَعَةَ. وَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ مِنْ غَيْرِ التَّمْكِينِ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُؤَجِّرُ شَيْئًا، وَلَوْ مَضَى مِنَ الْعَقْدِ مُدَّةٌ قَبْلَ التَّمْكِينِ فَلَا يَلْزَمُهُ أَجْرُ مَا مَضَى قَبْلَ التَّمْكِينِ. وَمِنْ حَقِّ الْمُؤَجِّرِ حَبْسُ الدَّارِ لِاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ الْمُشْتَرَطِ تَعْجِيلُهَا.

وَمِنْ مُقْتَضَى التَّمْكِينِ أَلاَّ تَعُودَ الدَّارُ لِحِيَازَةِ الْمُؤَجِّرِ بِشَرْطٍ فِي الْعَقْدِ. وَمَا دَامَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إِيجَارُهَا لِلْغَيْرِ بِمِثْلِ مَا اسْتَأْجَرَهَا بِهِ أَوْ أَكْثَرَ، مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَا اسْتَأْجَرَ بِهِ، أَوْ مِنْ جِنْسِهِ، وَكَانَ وَضَعَ فِيهَا شَيْئًا مِنْ مَالِهِ (كَالْمَسَاكِنِ الْمَفْرُوشَةِ) فَإِنَّ الزِّيَادَةَ تَحِلُّ لَهُ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ.

وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَرْطٌ يَمْنَعُ إِسْكَانَ غَيْرِهِ، عَلَى مَا سَبَقَ.

كَمَا يَلْزَمُ الْمُؤَجِّرَ عِمَارَةُ الدَّارِ وَإِصْلَاحُ كُلِّ مَا يُخِلُّ بِالسُّكْنَى. فَإِنْ أَبَى حُقَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَسْخُ الْعَقْدِ إِلاَّ إِذَا كَانَ اسْتَأْجَرَهَا عَلَى حَالِهَا. وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يُجْبَرُ الْآجِرُ عَلَى إِصْلَاحٍ لِمُكْتَرٍ مُطْلَقًا، وَيُخَيَّرُ السَّاكِنُ بَيْنَ السُّكْنَى وَيَلْزَمُهُ الْكِرَاءُ كَامِلاً، وَالْخُرُوجِ مِنْهَا. وَلَوْ أَنْفَقَ الْمُكْتَرِي شَيْئًا فِي الْإِصْلَاحِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ وَتَفْوِيضٍ مِنَ الْمُؤَجِّرِ، فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ. وَعِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ خُيِّرَ رَبُّ الدَّارِ بَيْنَ دَفْعِ قِيمَةِ الْإِصْلَاحِ مَنْقُوضًا أَوْ أَمْرِهِ بِنَقْضِهِ إِنْ أَمْكَنَ فَصْلُهُ.

وَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ صِيَانَةِ الْعَيْنِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةِ الْأُجْرَةِ، فَتَفْسُدُ الْإِجَارَةُ بِهَذَا الِاشْتِرَاطِ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ. وَإِنْ سَكَنَ الْمُسْتَأْجِرُ، لَزِمَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَلَهُ مَا أَنْفَقَ عَلَى الْعِمَارَةِ، وَأَجْرُ مِثْلِهِ فِي الْقِيَامِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ بِإِذْنِهِ، وَإِلاَّ كَانَ مُتَبَرِّعًا.

غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ أَجَازُوا كِرَاءَ الدَّارِ وَنَحْوِهَا مَعَ اشْتِرَاطِ الْمَرَمَّةِ عَلَى الْمُكْتَرِي مِنَ الْكِرَاءِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ عَنْ مُدَّةٍ سَابِقَةٍ أَوْ مِنَ الْكِرَاءِ الْمُشْتَرَطِ تَعْجِيلُهُ. وَيَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ فِي مِثْلِ هَذَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ.

100- وَالدَّارُ الْمُسْتَأْجَرَةُ تَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَلَا يَضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ الْمُخَالَفَةِ. وَتَوَابِعُ الدَّارِ كَالْمِفْتَاحِ أَمَانَةٌ أَيْضًا. وَإِنْ تَلِفَ شَيْءٌ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ لَا يَضْمَنُهُ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الدَّارَ عَلَى أَنْ تُتَّخَذَ لِلْحِدَادَةِ، فَاسْتَعْمَلَهَا لِلْقِصَارَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا لَا يَزِيدُ ضَرَرُهُ عَادَةً عَنِ الْحِدَادَةِ، فَانْهَدَمَ شَيْءٌ مِنَ الْبِنَاءِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. أَمَّا إِنِ اسْتَأْجَرَهَا عَلَى أَنْ يَتَّخِذَهَا لِلسُّكْنَى، فَاسْتَعْمَلَهَا لِلْحِدَادَةِ أَوِ الْقِصَارَةِ، فَانْهَدَمَ شَيْءٌ مِنْهَا ضَمِنَ.

وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ السُّلُوكَ الشَّخْصِيَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ لَا أَثَرَ لَهُ عَلَى الْعَقْدِ، وَلَيْسَ لِلْآجِرِ وَلَا لِلْجِيرَانِ إِخْرَاجُهُ مِنَ الدَّارِ، وَإِنَّمَا يُؤَدِّبُهُ الْحَاكِمُ. فَإِنْ لَمْ يَكُفَّ أَجَّرَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا. وَتَنْقَضِي إِجَارَةُ الدُّورِ بِأَحَدِ الْأَسْبَابِ السَّابِقِ ذِكْرُهَا فِي مَبْحَثِ انْقِضَاءِ الْإِجَارَةِ.

وَقَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ اتِّجَاهَاتِ الْفُقَهَاءِ فِي انْقِضَاءِ الْإِجَارَةِ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ. وَعَلَى هَذَا فَلَوْ قَامَ الْمُؤَجِّرُ بِإِجَارَةِ دَارِهِ عَنْ شَهْرِ صَفَرٍ مَثَلاً، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ الْمُحَرَّمِ، وَكَانَتِ الدَّارُ فِي يَدِ مُسْتَأْجِرٍ آخَرَ فِي شَهْرِ الْمُحَرَّمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ فَسْخًا لِلْإِجَارَةِ الْأُولَى. وَيَظْهَرُ أَثَرُ هَذَا الْفَسْخِ عَقِبَ انْتِهَاءِ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ. وَيَرَى الْبَعْضُ أَنَّ ذَلِكَ إِنْهَاءٌ لِلْعَقْدِ وَلَيْسَ فَسْخًا.

الْفَرْعُ الثَّانِي

إِجَارَةُ الْحَيَوَانِ

101- إِجَارَةُ الْحَيَوَانِ تَنْطَبِقُ عَلَيْهَا شُرُوطُ الْإِجَارَةِ وَأَحْكَامُهَا السَّابِقَةُ، إِلاَّ أَنَّ هُنَاكَ صُوَرًا مِنْ إِجَارَةِ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ لَهَا أَحْكَامٌ تَخُصُّهَا كَإِجَارَةِ الْكَلْبِ وَنَحْوِهِ لِلْحِرَاسَةِ، فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ مَنَعُوهَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ حَمْلُهُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْحِرَاسَةِ بِضَرْبٍ أَوْ غَيْرِهِ. أَمَّا إِجَارَةُ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ لِلصَّيْدِ فَمَحَلُّ خِلَافٍ فِي جَوَازِهِ وَعَدَمِهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ يُرْجَعُ إِلَى بَيَانِهِ وَتَفْصِيلِهِ فِي مَحَلِّهِ «صَيْد».

وَفِي إِجَارَةِ الْفَحْلِ لِلضِّرَابِ خِلَافٌ، فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَأَصْلُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، عَلَى مَنْعِهِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ.

غَيْرَ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا: إِنِ احْتَاجَ إِنْسَانٌ إِلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُطْرِقُ لَهُ، جَازَ أَنْ يَبْذُلَ الْكِرَاءَ، وَلَيْسَ لِلْمُطْرِقِ أَخْذُهُ. قَالَ عَطَاءٌ: لَا يَأْخُذُ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يُطْرِقُ لَهُ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ بَذْلُ مَالٍ لِتَحْصِيلِ مَنْفَعَةٍ مُبَاحَةٍ تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهَا. وَقَالُوا: إِنْ أَطْرَقَ إِنْسَانٌ فَحْلَهُ بِغَيْرِ إِجَارَةٍ وَلَا شَرْطٍ، فَأُهْدِيَتْ لَهُ هَدِيَّةٌ، فَلَا بَأْسَ.

وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ الْجَوَازُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، تَشْبِيهًا لَهُ بِسَائِرِ الْمَنَافِعِ، وَلِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ، كَإِجَارَةِ الظِّئْرِ لِلرَّضَاعِ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِالْإِعَارَةِ، فَجَازَ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِالْإِجَارَةِ، كَسَائِرِ الْمَنَافِعِ.

وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُفْضِيَ إِجَارَةُ الْحَيَوَانِ إِلَى بَيْعِ عَيْنٍ مِنْ نِتَاجِهِ، كَتَأْجِيرِ الشَّاةِ لِأَخْذِ لَبَنِهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ هُوَ الْمَنْفَعَةُ لَا الْأَعْيَانُ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: تَجُوزُ إِجَارَةُ الْحَيَوَانِ لِلَبَنِهِ، وَقَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي الْمَذْهَبِ.

الْفَرْعُ الثَّالِثُ

إِجَارَةُ الْأَشْخَاصِ

102- إِجَارَةُ الْأَشْخَاصِ تَقَعُ عَلَى صُورَتَيْنِ: أَجِيرٌ خَاصٌّ اسْتُؤْجِرَ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَقَطْ وَيُسَمِّيهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ «أَجِيرُ الْوَحْدِ» كَالْخَادِمِ وَالْمُوَظَّفِ، وَأَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ يُكْتَرَى لِأَكْثَرَ مِنْ مُسْتَأْجِرٍ بِعُقُودٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلَا يَتَقَيَّدُ بِالْعَمَلِ لِوَاحِدٍ دُونَ غَيْرِهِ، كَالطَّبِيبِ فِي عِيَادَتِهِ، وَالْمُهَنْدَسِ وَالْمُحَامِي فِي مَكْتَبَيْهِمَا. وَالْأَجِيرُ الْخَاصُّ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةً عَلَى الْمُدَّةِ. أَمَّا الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ فَيَسْتَحِقُّ أُجْرَةً عَلَى الْعَمَلِ غَالِبًا. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ.

الْمَطْلَبُ الْأَوَّلُ الْأَجِيرُ الْخَاصُّ

103- الْأَجِيرُ الْخَاصُّ: هُوَ مَنْ يَعْمَلُ لِمُعَيَّنٍ عَمَلاً مُؤَقَّتًا، وَيَكُونُ عَقْدُهُ لِمُدَّةٍ. وَيَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ صَارَتْ مُسْتَحَقَّةً لِمَنِ اسْتَأْجَرَهُ فِي مُدَّةِ الْعَقْدِ.

وَكَرِهَ الْحَنَفِيَّةُ اسْتِئْجَارَ الْمَرْأَةِ لِلْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهَا وَالْوُقُوعُ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَلِأَنَّ الْخَلْوَةَ بِهَا مَعْصِيَةٌ.

وَأَجَازَ أَحْمَدُ اسْتِئْجَارَهَا، وَلَكِنْ يَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنِ النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَخْلُو مَعَهَا فِي مَكَانٍ اتِّقَاءً لِلْفِتْنَةِ.

104- وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَجِيرُ ذِمِّيًّا وَالْمُسْتَأْجِرُ مُسْلِمًا بِلَا خِلَافٍ. أَمَّا أَنْ يَكُونَ الْأَجِيرُ مُسْلِمًا وَالْمُسْتَأْجِرُ ذِمِّيًّا فَقَدْ أَجَازَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ وَضَعُوا مِعْيَارًا خَاصًّا هُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ الَّذِي يُؤَجِّرُ نَفْسَهُ لِلْقِيَامِ بِهِ مِمَّا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ لِنَفْسِهِ، كَالْخِيَاطَةِ وَالْبِنَاءِ وَالْحَرْثِ. أَمَّا إِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ لِنَفْسِهِ، كَعَصْرِ الْخَمْرِ، وَرَعِي الْخَنَازِيرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. فَإِنْ فَعَلَ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ تُرَدُّ قَبْلَ الْعَمَلِ. وَإِنْ عَمِلَ فَإِنَّ الْأُجْرَةَ تُؤْخَذُ مِنَ الْكَافِرِ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا. وَلَا يَسْتَحِلُّهَا لِنَفْسِهِ إِلاَّ أَنْ يُعْذَرَ لِأَجْلِ الْجَهْلِ.

وَالْمِعْيَارُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ غَيْرَ الْخِدْمَةِ الشَّخْصِيَّةِ. أَمَّا إِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى أَنْ يَقُومَ بِخِدْمَتِهِ مِنْ نَحْوِ تَقْدِيمِ الطَّعَامِ لَهُ، وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ الْبَعْضُ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَتَضَمَّنُ حَبْسَ الْمُسْلِمِ عِنْدَ الْكَافِرِ، وَإِذْلَالَهُ فِي خِدْمَتِهِ. وَهُوَ فِيمَا يَبْدُو الْمَقْصُودُ مِنَ الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ- كَالْبَيْعِ- مَعَ الْكَرَاهَةِ الَّتِي عَلَّلُوهَا بِأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ اسْتِذْلَالٌ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ، خُصُوصًا بِخِدْمَةِ الْكَافِرِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إِجَارَةُ نَفْسِهِ فِي غَيْرِ الْخِدْمَةِ، فَجَازَ فِيهَا. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ.

وَفِي حَاشِيَةِ الْقَلْيُوبِيِّ وَالشِّرْوَانِيِّ يَصِحُّ مَعَ الْكَرَاهَةِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الذِّمِّيُّ مُسْلِمًا، وَلَوْ إِجَارَةَ عَيْنٍ وَيُؤْمَرُ وُجُوبًا بِإِجَارَتِهِ لِمُسْلِمٍ. وَلِلْحَاكِمِ مَنْعُهُ مِنْهَا. وَلَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ خِدْمَةُ كَافِرٍ وَلَوْ غَيْرَ إِجَارَةٍ.

وَفِي الْمُهَذَّبِ أَنَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ قَالَ: لَوِ اسْتَأْجَرَ الْكَافِرُ مُسْلِمًا فَفِيهِ قَوْلَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَصِحُّ قَوْلاً وَاحِدًا. 105- وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَبُّ الْعَمَلِ جَمَاعَةً فِي حُكْمِ شَخْصٍ وَاحِدٍ (مُؤَسَّسَةً) فَلَوِ اسْتَأْجَرَ أَهْلُ قَرْيَةٍ مُعَلِّمًا أَوْ إِمَامًا أَوْ مُؤَذِّنًا، وَكَانَ خَاصًّا بِهِمْ كَانَ أَجِيرًا خَاصًّا. وَكَذَا لَوِ اسْتَأْجَرَ أَهْلُ قَرْيَةٍ رَاعِيًا لِيَرْعَى أَغْنَامَهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا لَهُمْ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ، كَانَ أَجِيرًا خَاصًّا.

وَلَا بُدَّ فِي إِجَارَةِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ مِنْ تَعْيِينِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهَا إِجَارَةُ عَيْنٍ لِمُدَّةٍ. فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُعَيِّنَةُ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَالْمَنْفَعَةُ لَا تُعْتَبَرُ مَعْلُومَةً إِلاَّ بِذَلِكَ. وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ بَقَاءُ الْأَجِيرِ فِيهَا قَادِرًا عَلَى الْعَمَلِ، حَتَّى قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ إِجَارَةُ الْعَامِلِ لِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.

وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْفُقَهَاءُ تَعْيِينَ نَوْعِ الْخِدْمَةِ.

وَعِنْدَ عَدَمِ التَّعْيِينِ يُحْمَلُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِالْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ.

106- وَيَجِبُ عَلَى الْأَجِيرِ الْخَاصِّ أَنْ يَقُومَ بِالْعَمَلِ فِي الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لَهُ أَوِ الْمُتَعَارَفِ عَلَيْهِ. وَلَا يَمْنَعُ هَذَا مِنْ أَدَائِهِ الْمَفْرُوضَ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ، بِدُونِ إِذْنِ الْمُسْتَأْجِرِ. وَقِيلَ: إِنَّ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ السُّنَّةَ أَيْضًا، وَأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، دُونَ أَنْ يُنْقِصَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا إِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ قَرِيبًا وَلَا يَسْتَغْرِقُ ذَلِكَ وَقْتًا كَبِيرًا، بَلْ جَاءَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ أَنَّ مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا شَهْرًا لِيَعْمَلَ لَهُ كَذَا لَا تَدْخُلُ فِيهِ أَيَّامُ الْجُمَعِ لِلْعُرْفِ. قَالَ الرَّشِيدِيُّ: «لَوْ آجَرَ نَفْسَهُ بِشَرْطِ عَدَمِ الصَّلَاةِ وَصَرْفِ زَمَنِهَا فِي الْعَمَلِ الْمُسْتَأْجَرِ لَهُ، فَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ تَصِحُّ الْإِجَارَةُ وَيَلْغُو الشَّرْطُ» وَلَا يَدْخُلُ فِي الْإِجَارَةِ بِالزَّمَنِ نَحْوَ شَهْرٍ مَثَلاً لِغَيْرِ مُسْلِمٍ أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ وَلَا أَيَّامُ عُطْلَتِهِمُ الدِّينِيَّةِ.

وَلَيْسَ لِلْأَجِيرِ الْخَاصِّ أَنْ يَعْمَلَ لِغَيْرِ مُسْتَأْجِرِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَإِلاَّ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ بِقَدْرِ مَا عَمِلَ. وَلَوْ عَمِلَ لِغَيْرِهِ مَجَّانًا أَسْقَطَ رَبُّ الْعَمَلِ مِنْ أَجْرِهِ بِقَدْرِ قِيمَةِ مَا عَمِلَ.

107- وَالْأَجِيرُ الْخَاصُّ أَمِينٌ، فَلَا يَضْمَنُ مَا هَلَكَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالٍ، أَوْ مَا هَلَكَ بِعَمَلِهِ، إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّقْصِيرِ. وَلَهُ الْأُجْرَةُ كَامِلَةً. أَمَّا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالٍ فَلِأَنَّ الْعَيْنَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ رَبِّ الْعَمَلِ، فَلَا يَضْمَنُ. وَأَمَّا مَا هَلَكَ بِعَمَلِهِ فَإِنَّ الْمَنَافِعَ تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِلْمُسْتَأْجِرِ، لِكَوْنِهِ يَعْمَلُ فِي حُضُورِهِ، فَإِذَا أَمَرَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ صَحَّ، وَيَصِيرُ نَائِبًا مَنَابَهُ، وَيَصِيرُ فِعْلُهُ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ، كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ. فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ. بَلْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: حَتَّى لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ الضَّمَانَ، فَهُوَ شَرْطٌ يُنَاقِضُ الْعَقْدَ وَيُفْسِدُ الْإِجَارَةَ. فَإِنْ وَقَعَ الشَّرْطُ فَسَدَتِ الْإِجَارَةُ. فَإِنْ عَمِلَ فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ، زَادَتْ عَلَى الْمُسَمَّى أَوْ نَقَصَتْ. وَإِنْ أَسْقَطَ الشَّرْطَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعَمَلِ صَحَّتِ الْإِجَارَةُ. وَمِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كَالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فَيَضْمَنُ، لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ: الْأُجَرَاءُ سَوَاءٌ، وَذَلِكَ صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ. وَكَانَ يَقُولُ: لَا يُصْلِحُ النَّاسَ إِلاَّ ذَاكَ.

الْإِجَارَةُ عَلَى الْمَعَاصِي وَالطَّاعَاتِ:

108- الْإِجَارَةُ عَلَى الْمَنَافِعِ الْمُحَرَّمَةِ كَالزِّنَى وَالنَّوْحِ وَالْغِنَاءِ وَالْمَلَاهِي مُحَرَّمَةٌ وَعَقْدُهَا بَاطِلٌ لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ أُجْرَةٌ.

وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ كَاتِبٍ لِيَكْتُبَ لَهُ غِنَاءً وَنَوْحًا؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِمُحَرَّمٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ.

وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى حَمْلِ الْخَمْرِ لِمَنْ يَشْرَبُهَا، وَلَا عَلَى حَمْلِ الْخِنْزِيرِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ، لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَمَلَ مِثْلَهُ جَازَ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ حَمَلَ خِنْزِيرًا أَوْ خَمْرًا لِنَصْرَانِيٍّ قَوْلُهُ: إِنِّي أَكْرَهُ أَكْلَ كِرَائِهِ، وَلَكِنْ يُقْضَى لِلْحَمَّالِ بِالْكِرَاءِ. وَالْمَذْهَبُ خِلَافُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ، فَلَمْ يَصِحَّ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- لَعَنَ حَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ.

وَأَمَّا حَمْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِإِرَاقَتِهَا وَإِتْلَافِهَا فَجَائِزٌ إِجْمَاعًا.

109- وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ طَاعَةٍ يَخْتَصُّ بِهَا الْمُسْلِمُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهَا، كَالْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ وَالْحَجِّ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْجِهَادِ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ؛ لِمَا رَوَى عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، قَالَ: إِنَّ «آخِرَ مَا عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- أَنْ أَتَّخِذَ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا». وَمَا رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، قَالَ: «عَلَّمْتُ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الْقُرْآنَ وَالْكِتَابَةَ، فَأَهْدَى إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَوْسًا. قَالَ: قُلْتُ: قَوْسٌ وَلَيْسَتْ بِمَالٍ، أَتَقَلَّدُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَ: إِنْ سَرَّكَ أَنْ يُقَلِّدَكَ اللَّهُ قَوْسًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا» وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا تَغْلُوا فِيهِ وَلَا تَجْفُوا عَنْهُ وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ وَلَا تَسْتَكْثِرُوا بِهِ» وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ كَوْنَهَا قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهَا. وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِأَجْرٍ، وَأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ ثَوَابٌ، وَالْآخِذُ وَالْمُعْطِي آثِمَانِ، وَأَنَّ مَا يَحْدُثُ فِي زَمَانِنَا مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِأَجْرٍ عِنْدَ الْمَقَابِرِ وَفِي الْمَآتِمِ لَا يَجُوزُ. وَالْإِجَارَةُ عَلَى مُجَرَّدِ الْقِرَاءَةِ بَاطِلَةٌ، وَأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى تَعْلِيمِهِ غَيْرُ جَائِزَةٍ.

لَكِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ أَجَازُوا الْإِجَارَةَ عَلَى تَعْلِيمِهِ اسْتِحْسَانًا. وَكَذَا مَا يَتَّصِلُ بِإِقَامَةِ الشَّعَائِرِ كَالْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ لِلْحَاجَةِ.

110- وَأَجَازَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ أَخْذَ الْأَجْرِ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمِهِ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَقَالَ بِهِ أَبُو قِلَابَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، «لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- زَوَّجَ رَجُلاً بِمَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ الْمَهْرِ»، فَجَازَ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ». وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ مُتَبَرِّعٌ بِذَلِكَ، فَيُحْتَاجُ إِلَى بَذْلِ الْأَجْرِ فِيهِ. وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ الْأُجْرَةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِلَحْنٍ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَكْرُوهَةٌ إِذَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّهِ. قَالَ الصَّاوِيُّ: أَمَّا الْإِجَارَةُ عَلَى أَصْلِ الْقِرَاءَةِ فَجَائِزٌ. وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَالِاسْتِئْجَارِ عَلَى ذَلِكَ.

111- وَقَدْ أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى الْإِمَامَةِ. كَمَا أَجَازُوا لِلْمُفْتِي أَخْذَ الْأَجْرِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رِزْقٌ. وَقَالُوا: يَجُوزُ الْإِجَارَةُ لِلْمَنْدُوبَاتِ وَفُرُوضِ الْكِفَايَةِ. وَكَذَلِكَ أَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَنِ الْغَيْرِ مَعَ التَّعْيِينِ.

كَمَا أَجَازُوا لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْكَافِرَ لِلْجِهَادِ. أَمَّا الْمُسْلِمُ، وَلَوْ صَبِيًّا، فَلَا تَصِحُّ إِجَارَتُهُ لِلْجِهَادِ، لِتَعَيُّنِهِ عَلَيْهِ.

112- وَرَبُّ الْعَمَلِ مُلْتَزِمٌ بِالْوَفَاءِ بِأَجْرِ الْعَامِلِ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلُ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ، وَبِشَرْطِ أَلاَّ يَمْتَنِعَ عَمَّا يُطْلَبُ مِنْهُ مِنْ عَمَلٍ. فَإِنِ امْتَنَعَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ، بِغَيْرِ خِلَافٍ فِي هَذَا.

113- وَالْعَطِيَّةُ الَّتِي تُقَدَّمُ لِلْأَجِيرِ مِنَ الْخَارِجِ لَا تُحْسَبُ مِنَ الْأُجْرَةِ. وَلَوْ قَالَ شَخْصٌ لآِخَرَ: اعْمَلْ هَذَا الْعَمَلَ أُكْرِمْكَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ مَا يُكْرِمُهُ بِهِ، فَعَمِلَ مَا طَلَبَ مِنْهُ اسْتَحَقَّ أَجْرَ الْمِثْلِ، لِأَنَّهَا إِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ، لِجَهَالَةِ الْأَجْرِ. 114- وَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ الْأَجْرُ مَعْلُومًا، فَإِذَا مَا تَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْأَجْرُ هُنَا طَعَامَ الْأَجِيرِ وَكِسْوَتَهُ. أَوْ جَعَلَ لَهُ أَجْرًا وَشَرَطَ طَعَامَهُ وَكِسْوَتَهُ، فَإِنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ اتِّجَاهَاتٍ:

فَالْمَالِكِيَّةُ، وَالرِّوَايَةُ الْمُعْتَبَرَةُ عِنْدَ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَجُوزُ، لِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ النُّدَّرِ قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- فَقَرَأَ {طسم} سُورَةَ الْقَصَصِ، حَتَّى بَلَغَ قِصَّةَ مُوسَى، قَالَ: إِنَّ مُوسَى آجَرَ نَفْسَهُ عَلَى عِفَّةِ فَرْجِهِ وَطَعَامِ بَطْنِهِ» وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَجِيرًا لِابْنَةِ غَزْوَانَ بِطَعَامِ بَطْنِي وَعَقَبَةِ رِجْلِي، أَحْطِبُ لَهُمْ إِذَا نَزَلُوا، وَأَحْدُو بِهِمْ إِذَا رَكِبُوا وَلِأَنَّ جَوَازَ ذَلِكَ ثَبَتَ فِي الظِّئْرِ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فَيَثْبُتُ فِي غَيْرِهَا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّهُ عِوَضُ مَنْفَعَةٍ فَقَامَ الْعُرْفُ فِيهِ مَقَامَ التَّسْمِيَةِ، وَإِنْ تَشَاحَّا فِي مِقْدَارِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ رُجِعَ فِي الْقُوتِ إِلَى الْإِطْعَامِ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَفِي الْكِسْوَةِ إِلَى أَقَلِّ مَلْبُوسِ مِثْلِهِ، أَوْ يُحَكَّمُ الْعُرْفُ. وَإِنِ اشْتَرَطَ الْأَجِيرُ كِسْوَةً وَنَفَقَةً مَعْلُومَةً مَوْصُوفَةً جَازَ ذَلِكَ عِنْدَ الْجَمِيعِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا الْقَاضِي، أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ جَهَالَةٍ بِالْأَجْرِ. وَاسْتَثْنَوْا إِجَارَةَ الظِّئْرِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِإِكْرَامِ الظِّئْرِ. وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، عَدَمَ جَوَازِ ذَلِكَ مُطْلَقًا فِي الظِّئْرِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا كَثِيرًا مُتَبَايِنًا فَيَكُونُ مَجْهُولاً، وَمِنْ شَرْطِ الْأَجْرِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا.

انْقِضَاءُ إِجَارَةِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ:

115- تَنْقَضِي إِجَارَةُ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ بِالْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَإِذَا أَكْرَى الْأَجِيرُ نَفْسَهُ، فَهَرَبَ، فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ اسْتُؤْجِرَ بَدَلُهُ مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَثْبُتُ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ أَوِ الِانْتِظَارُ، وَذَلِكَ كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَ سَيَّارَةً بِسَائِقِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَيِّنَ السَّائِقَ، أَوْ جِمَالاً بِقَائِدِهَا دُونَ تَعْيِينٍ، فَهَرَبَ السَّائِقُ أَوِ الْقَائِدُ، فَإِنِ انْتَظَرَ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ يَمْضِي؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَتْلَفُ بِمُضِيِّ الزَّمَنِ.

وَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى عَمَلٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يَنْفَسِخْ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ إِذَا وَجَدَهُ. إِجَارَةُ الظِّئْرِ (الْمُرْضِعِ):

116- إِجَارَةُ الظِّئْرِ وَرَدَ بِهَا الشَّرْعُ كَمَا سَبَقَ. وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ. وَتَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ هُنَا، فَقِيلَ: إِنَّ الْعَقْدَ يَنْصَبُّ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَهِيَ خِدْمَتُهَا لِلصَّبِيِّ، وَالْقِيَامُ بِهِ. وَاللَّبَنُ يُسْتَحَقُّ عَنْ طَرِيقِ التَّبَعِ، بِمَنْزِلَةِ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ عَيْنٌ فَلَا يُعْقَدُ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ عَلَى اللَّبَنِ أَصْلاً، وَالْخِدْمَةُ تَبَعٌ، فَلَوْ أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ شَاةٍ لَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ، وَلَوْ أَرْضَعَتْهُ دُونَ أَنْ تَخْدُمَهُ اسْتَحَقَّتِ الْأُجْرَةَ. وَلَوْ خَدَمَتْهُ بِدُونِ الرَّضَاعِ لَمْ تَسْتَحِقَّ شَيْئًا. وَأَمَّا كَوْنُهُ عَيْنًا فَإِنَّ الْعَقْدَ مُرَخَّصٌ فِيهِ فِي الْإِجَارَةِ لِلضَّرُورَةِ لِحِفْظِ الْآدَمِيِّ. وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُهَا بِالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ إِذَا تَحَدَّدَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ وَبُيِّنَ، اتِّفَاقًا. جَاءَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «فَإِنْ سَمَّى الطَّعَامَ وَوَصَفَ جِنْسَ الْكِسْوَةِ وَأَجَلَهَا وَذَرْعَهَا، فَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ». أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَحَدَّدْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى مَا سَبَقَ.

117- وَعَلَى الْمُرْضِعَةِ أَنْ تَأْكُلَ وَتَشْرَبَ مَا يَدِرُّ لَبَنَهَا وَيَصْلُحُ بِهِ. وَلِلْمُكْتَرِي مُطَالَبَتُهَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ التَّمْكِينِ مِنَ الْإِرْضَاعِ، وَفِي تَرْكِهِ إِضْرَارٌ بِالرَّضِيعِ. وَإِنْ دَفَعَتْهُ إِلَى خَادِمَتِهَا فَأَرْضَعَتْهُ فَلَا أَجْرَ لَهَا. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَهَا أَجْرُهَا. لِأَنَّ رَضَاعَهُ حَصَلَ بِفِعْلِهَا. وَعَلَيْهَا أَنْ تَقُومَ بِشُئُونِ الرَّضِيعِ مِنْ تَنْظِيفِهِ وَغَسْلِ ثِيَابِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ هُوَ الْخِدْمَةُ، وَتُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ. وَيَتَّفِقُ مَعَهُمْ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ إِنِ اشْتُرِطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ، أَوْ جَرَى الْعُرْفُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ عِنْدَ مَالِكٍ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْحَضَانَةَ وَالرَّضَاعَةَ مَنْفَعَتَانِ مَقْصُودَتَانِ تَنْفَرِدُ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى، فَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْعَقْدِ عَلَى الْإِرْضَاعِ دُخُولُ الْحَضَانَةِ.

118- وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الظِّئْرِ بِدُونِ إِذْنِ زَوْجِهَا. وَلَهُ حَقُّ فَسْخِ الْإِجَارَةِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهَا، صِيَانَةً لِحَقِّهِ. وَلَهُ أَنْ يَطْلُبَهَا عِنْدَهُ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ الشَّرْعِيِّ مِنْهَا. وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَإِذَا حَبِلَتْ حُقَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ إِنْ خَشِيَ عَلَى الصَّبِيِّ مِنْ لَبَنِهَا بَعْدَ الْحَبَلِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْنَعَ الزَّوْجَ مِنْ وَطْئِهَا مَا دَامَ قَدْ أَذِنَ لَهَا فِي الْإِرْضَاعِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الطِّفْلِ بِسَبَبِهِ مُحْتَمَلٌ.

119- وَلَوْ مَاتَ الصَّبِيُّ الْمَعْقُودُ عَلَى إِرْضَاعِهِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ، فَلَا يُمْكِنُ إِقَامَةُ غَيْرِ الصَّبِيِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مُقَامَهُ لِاخْتِلَافِ الصِّبْيَةِ فِي الرَّضَاعَةِ. وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ قَالَ: لَا يَنْفَسِخُ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ بَاقِيَةٌ، وَإِنَّمَا هَلَكَ الْمُسْتَوْفِي، فَلَوْ تَرَاضَيَا عَلَى إِرْضَاعِ صَبِيٍّ آخَرَ جَازَ. وَلِلظِّئْرِ حَقُّ الْفَسْخِ إِنْ مَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ «وَلِيُّ الطِّفْلِ» وَكَانَتْ لَمْ تَقْبِضِ الْأُجْرَةَ مِنْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ لَهُ مَالاً تَسْتَوْفِي أَجْرَهَا مِنْهُ، وَلَا مَالَ لِلْوَلَدِ وَلَمْ يَتَطَوَّعْ أَحَدٌ بِالْأُجْرَةِ.

وَيُصَرِّحُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُرْضِعَةِ لِفَوَاتِ الْمَنْفَعَةِ بِهَلَاكِ مَحَلِّهَا. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا لَا تَنْفَسِخُ، وَيَجِبُ فِي مَالِهَا أَجْرُ مَنْ تُرْضِعُهُ تَمَامَ الْوَقْتِ إِنْ كَانَتْ قَدْ عَجَّلَتْ لَهَا الْأُجْرَةَ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهَا.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَصِحُّ حَتَّى يُعْرَفَ الصَّبِيُّ الَّذِي عُقِدَ عَلَى إِرْضَاعِهِ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ الرَّضَاعُ بِاخْتِلَافِهِ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالتَّعْيِينِ. كَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَوْضِعِ الرَّضَاعِ. وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ التَّصْرِيحَ بِمَعْرِفَةِ الْعِوَضِ وَمُدَّةِ الرَّضَاعَةِ. كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا.

إِجَارَةُ الْعَامِلِينَ فِي الدَّوْلَةِ:

120- عَالَجَ الْفُقَهَاءُ قَدِيمًا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَاعْتَبَرُوا بَعْضَ الْوَظَائِفِ مِمَّا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَتَّصِلُ بِالْقُرُبَاتِ، وَلَا تُشْتَرَطُ لَهُ النِّيَّةُ، كَتَنْفِيذِ الْحُدُودِ، وَالْكِتَابَةِ فِي الدَّوَاوِينِ، وَجِبَايَةِ الْأَمْوَالِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ يُطَبَّقُ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ فِي أَكْثَرِ الْأَقْوَالِ وَفِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ. وَقَالُوا: إِنَّ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُنْهِيَ الْإِجَارَةَ مَتَى رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ هَؤُلَاءِ أَنْ يَسْتَقِيلَ بِاخْتِيَارِهِ.

121- وَهُنَاكَ وَظَائِفُ أُخْرَى، كَوَظَائِفِ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ، وَكُلُّ مَنْ يَقُومُ بِعَمَلٍ فِيهِ قُرْبَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ، فَمُرَتَّبَاتُهُمْ مِنْ قَبِيلِ الْأَرْزَاقِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْأُجْرَةِ، لِدَفْعِ الْحَاجَةِ، وَهُمْ غَيْرُ مُقَيَّدِينَ بِوَقْتٍ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ رَأْيُ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ أَوْ عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمِهِ وَالْأَذَانِ وَالْإِمَامَةِ وَغَيْرِهَا. هَذَا حَاصِلُ مَا أَوْرَدَهُ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

الْمَطْلَبُ الثَّانِي

ثَانِيًا- الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ

122- الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ هُوَ الَّذِي يَعْمَلُ لِلْمُؤَجِّرِ وَلِغَيْرِهِ، كَالْبَنَّاءِ الَّذِي يَبْنِي لِكُلِّ أَحَدٍ، وَالْمَلاَّحِ الَّذِي يَحْمِلُ لِكُلِّ أَحَدٍ. وَهَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ تَعْرِيفَاتِ الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا.

123- وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ عَقْدُهُ يَقَعُ عَلَى الْعَمَلِ، وَلَا تَصِحُّ إِجَارَتُهُ إِلاَّ بِبَيَانِ نَوْعِ الْعَمَلِ أَوَّلاً. وَلَا يَمْنَعُ هَذَا مِنْ ذِكْرِ الْمُدَّةِ أَيْضًا. فَإِنْ قَالَ لِلرَّاعِي: تَرْعَى غَنَمِي مُدَّةَ شَهْرٍ، كَانَ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا، إِلاَّ إِذَا شَرَطَ عَلَيْهِ عَدَمَ الرَّعْيِ لِغَيْرِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي. 124- وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُؤَجِّرَ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ مِنْ ذِمِّيٍّ إِجَارَةً مُشْتَرَكَةً، كَأَنْ يَكُونَ طَبِيبًا أَوْ خَيَّاطًا أَوْ مُعَلِّمًا. فَيُقَدِّمُ عَمَلَهُ لِمَنْ يَطْلُبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ إِلَى حَدِّ التَّبَعِيَّةِ وَالْخُضُوعِ لَهُ، وَلَيْسَ فِيهِ اسْتِذْلَالٌ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


6-موسوعة الفقه الكويتية (احتقان)

احْتِقَانٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الِاحْتِقَانُ لُغَةً: مَصْدَرُ احْتَقَنَ، بِمَعْنَى احْتَبَسَ.يُقَالُ: حَقَنَ الرَّجُلُ بَوْلَهُ: حَبَسَهُ وَجَمَعَهُ، فَهُوَ حَاقِنٌ وَمُطَاوِعُهُ: الِاحْتِقَانُ: وَحَقَنْتُ الْمَرِيضَ إِذَا أَوْصَلْتَ الدَّوَاءَ إِلَى بَاطِنِهِ بِالْمِحْقَنِ.وَيُطْلَقُ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى احْتِبَاسِ الْبَوْلِ، كَمَا يُطْلِقُونَهُ عَلَى تَعَاطِي الدَّوَاءِ بِالْحُقْنَةِ فِي الدُّبُرِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

2- الِاحْتِبَاسُ.مَصْدَرُ احْتَبَسَ.يُقَالُ: حَبَسْتُهُ فَاحْتَبَسَ بِمَعْنَى مَنَعْتُهُ فَامْتَنَعَ.فَالِاحْتِبَاسُ أَعَمُّ.

الْحَصْرُ: هُوَ الْإِحَاطَةُ وَالْمَنْعُ وَالْحَبْسُ.يُقَالُ حَصَرَهُ الْعَدُوُّ فِي مَنْزِلِهِ: حَبَسَهُ، وَأَحْصَرَهُ الْمَرَضُ: مَنَعَهُ مِنَ السَّفَرِ.وَيُطْلَقُ عَلَى احْتِبَاسِ النَّجْوِ مِنْ ضِيقِ الْمَخْرَجِ، فَهُوَ كَذَلِكَ أَعَمُّ.

الْحُقْبُ: حَقِبَ بِالْكَسْرِ حُقْبًا فَهُوَ حَقِيبٌ: تَعَسَّرَ عَلَيْهِ الْبَوْلُ، أَوْ أَعْجَلَهُ.وَقِيلَ: الْحَاقِبُ الَّذِي احْتَبَسَ غَائِطُهُ.فَهُوَ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي مُبَايِنٌ لِلِاحْتِقَانِ.

صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):

3- يَخْتَلِفُ حُكْمُ الِاحْتِقَانِ تَبَعًا لِإِطْلَاقَاتِهِ، فَيُطْلَقُ الِاحْتِقَانُ عَلَى امْتِنَاعِ خُرُوجِ الْبَوْلِ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الِاحْتِقَانُ الطَّبِيعِيُّ.وَيُعْتَبَرُ أَحَدَ الْأَعْذَارِ الَّتِي يَسْقُطُ مَعَهَا الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ مَا دَامَتْ مَوْجُودَةً.

أَمَّا مَنْعُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ مِنْ خُرُوجِ الْبَوْلِ عِنْدَ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ لِلتَّبَوُّلِ فَهُوَ الْحَقْنُ.وَيُسَمَّى الْإِنْسَانُ حِينَئِذٍ حَاقِنًا.وَحُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ الْكَرَاهَةُ أَوِ الْحُرْمَةُ- عَلَى خِلَافٍ سَيَأْتِي ذِكْرُهُ- فِي حَالَتَيِ الصَّلَاةِ، وَالْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ.

وَيُطْلَقُ الِاحْتِقَانُ أَيْضًا عَلَى تَعَاطِي الدَّوَاءِ أَوِ الْمَاءِ عَنْ طَرِيقِ الشَّرَجِ، وَحُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ تَارَةً الْإِبَاحَةُ، وَتَارَةً الْحَظْرُ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ سَيَأْتِي بَيَانُهُ.وَدَلِيلُ حُكْمِ الْحَقْنِ فِي الصَّلَاةِ أَوِ الْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ هُوَ حَدِيثُ عَائِشَةَ، - رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ» وَحَدِيثُ «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مُسْلِمٍ أَنْ يَنْظُرَ فِي جَوْفِ امْرِئٍ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ، وَلَا يَقُومَ إِلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ حَاقِنٌ».وَحَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الَّذِي رَوَاهُ أَبُو بَكْرَةَ عَنْهُ قَالَ: «لَا يَحْكُمُ أَحَدُكُمْ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ».وَقَاسُوا عَلَيْهِ الْحَاقِنَ.وَدَلِيلُ الِاحْتِقَانِ لِلتَّدَاوِي هُوَ دَلِيلُ التَّدَاوِي نَفْسِهِ بِشُرُوطٍ. (ر: تَدَاوِي).

أَوَّلًا- احْتِقَانُ الْبَوْلِ

وُضُوءُ الْحَاقِنِ:

4- فِي الْمَسْأَلَةِ رَأْيَانِ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُ الْحَاقِنِ؛ لِأَنَّهُمُ اعْتَبَرُوا لِانْتِقَاضِ الْوُضُوءِ الْخُرُوجَ الْفِعْلِيَّ مِنَ السَّبِيلَيْنِ، لَا الْخُرُوجَ الْحُكْمِيَّ.وَالْحَاقِنُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ السَّبِيلَيْنِ.أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمُ اعْتَبَرُوا الْخُرُوجَ الْفِعْلِيَّ أَوِ الْحُكْمِيَّ نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ، وَاعْتَبَرُوا الْحَقْنَ الشَّدِيدَ خُرُوجًا حُكْمِيًّا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.وَلَكِنَّهُمُ انْقَسَمُوا إِلَى رَأْيَيْنِ فِي تَحْدِيدِ دَرَجَةِ الِاحْتِقَانِ الَّتِي تَنْقُضُ الْوُضُوءَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا كَانَ الِاحْتِقَانُ شَدِيدًا بِحَيْثُ يَمْنَعُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، كَمَا لَوْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَا بِعُسْرٍ، فَقَدْ أَبْطَلَ الْحَقْنُ الْوُضُوءَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الطَّهَارَةِ، كَمَسِّ الْمُصْحَفِ.وَاعْتَبَرُوا هَذَا خُرُوجًا حُكْمِيًّا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.

وَقَالَ الْبَعْضُ الْآخَرُ: الْحَقْنُ الشَّدِيدُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْإِتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ.

صَلَاةُ الْحَاقِنِ:

5- لِلْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ صَلَاةِ الْحَاقِنِ اتِّجَاهَانِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّ صَلَاةَ الْحَاقِنِ مَكْرُوهَةٌ، لِمَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ.وَقَالَ الْخُرَاسَانِيُّونَ وَأَبُو زَيْدٍ الْمَرْوَزِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا كَانَتْ مُدَافَعَةُ الْأَخْبَثَيْنِ شَدِيدَةً لَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ.وَاسْتَدَلَّ الْجَمِيعُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ».وَمَا رَوَى ثَوْبَانُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ أَنْ يَنْظُرَ فِي جَوْفِ بَيْتِ امْرِئٍ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ، وَلَا يَقُومَ إِلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ حَاقِنٌ» فَالْقَائِلُونَ بِالْكَرَاهَةِ حَمَلُوا النَّهْيَ فِي الْأَحَادِيثِ عَلَى الْكَرَاهَةِ.وَأَخَذَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ أَصْحَابُ الرَّأْيِ الثَّانِي فَحَمَلُوهُ عَلَى الْفَسَادِ.أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْحَقْنَ الشَّدِيدَ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ، فَتَكُونُ صَلَاتُهُ بَاطِلَةً.

إِعَادَةُ الْحَاقِنِ لِلصَّلَاةِ:

6- لَمْ يَقُلْ بِإِعَادَةِ صَلَاةِ الْحَاقِنِ أَحَدٌ مِمَّنْ قَالَ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، إِلاَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى رَأْيٍ، فَقَدْ صَرَّحُوا بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ لِلْحَاقِنِ لِظَاهِرِ الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ.وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَرَوْنَ بُطْلَانَ صَلَاةِ الْحَاقِنِ حَقْنًا شَدِيدًا فَلَا بُدَّ مِنْ إِعَادَتِهَا.

الْحَاقِنُ وَخَوْفُ فَوْتِ الْوَقْتِ:

7- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْوَقْتِ مُتَّسَعٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُزِيلَ الْعَارِضَ أَوَّلًا، ثُمَّ يَشْرَعَ فِي الصَّلَاةِ.فَإِنْ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ فَفِي الْمَسْأَلَةِ رَأْيَانِ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ يُصَلِّي وَهُوَ حَاقِنٌ، وَلَا يَتْرُكُ الْوَقْتَ يَضِيعُ مِنْهُ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا بِالْإِعَادَةِ فِي الظَّاهِرِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي مُوسَى لِلْحَدِيثِ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي رَأْيٍ آخَرَ حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي إِلَى أَنَّهُ يُزِيلُ الْعَارِضَ أَوَّلًا وَيَتَوَضَّأُ وَإِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ، ثُمَّ يَقْضِيهَا، لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ؛ وَلِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الصَّلَاةِ الْخُشُوعُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافِظَ عَلَيْهِ وَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ.

الْحَاقِنُ وَخَوْفُ فَوْتِ الْجَمَاعَةِ أَوِ الْجُمُعَةِ:

8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ خَافَ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ أَوِ الْجُمُعَةِ صَلَّى وَهُوَ حَاقِنٌ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُ الْجَمَاعَةِ وَإِزَالَةُ الْعَارِضِ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ عُذْرًا مُبِيحًا لِتَرْكِ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ، لِعُمُومِ لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ.

أَمَّا رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ فِي حَقْنِ الْبَوْلِ فَقَدْ سَبَقَ.

قَضَاءُ الْقَاضِي الْحَاقِنِ:

9- لَا يُعْلَمُ خِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْكُمَ، وَهُوَ حَاقِنٌ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ قَضَائِهِ وَنَفَاذِ حُكْمِهِ عَلَى رَأْيَيْنِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلُ شُرَيْحٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي وَهُوَ حَاقِنٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ حُضُورَ الْقَلْبِ وَاسْتِيفَاءَ الْفِكْرِ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى إِصَابَةِ الْحَقِّ فِي الْغَالِبِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى الْغَضَبِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ.سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لَا يَحْكُمُ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ.».

فَإِذَا قَضَى وَهُوَ حَاقِنٌ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ قِيَاسًا عَلَى قَضَاءِ الْغَضْبَانِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي رَأْيٍ ثَانٍ لَهُمْ، حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَضَاءُ الْقَاضِي وَهُوَ حَاقِنٌ.فَإِذَا حَكَمَ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.وَقِيلَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّمَا يَمْنَعُ الْغَضَبُ الْحَاكِمَ إِذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَتَّضِحَ لَهُ الْحُكْمُ فِي الْمَسْأَلَةِ.فَأَمَّا إِنِ اتَّضَحَ لَهُ الْحُكْمُ ثُمَّ عَرَضَ الْغَضَبُ لَا يَمْنَعُهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدِ اسْتَبَانَ قَبْلَ الْغَضَبِ فَلَا يُؤَثِّرُ الْغَضَبُ فِيهِ.

ثَانِيًا- الِاحْتِقَانُ لِلتَّدَاوِي

وَأَثَرُهُ عَلَى الْوُضُوءِ

10- فِي نَقْضِ وُضُوءِ الْمُحْتَقِنِ فِي الْقُبُلِ أَوِ الدُّبُرِ ثَلَاثَةُ اتِّجَاهَاتٍ:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى نَقْضِ الْوُضُوءِ.وَذَكَرُوا أَنَّهُ إِذَا أَدْخَلَ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ فِي الْقُبُلِ أَوِ الدُّبُرِ شَيْئًا مِنْ حُقْنَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، ثُمَّ خَرَجَ، انْتَقَضَ الْوُضُوءُ، سَوَاءٌ اخْتَلَطَ بِهِ أَذًى أَمْ لَا، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ تَبَعًا لِقَوَاعِدِهِمْ: فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرَةً فِي نَفْسِهَا لَكِنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ النَّجَاسَةِ يَخْرُجُ مَعَهَا، وَالْقَلِيلُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ نَاقِضٌ.

وَعَلَّلَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الدَّاخِلَ إِذَا خَرَجَ يُعْتَبَرُ خُرُوجًا مِنَ السَّبِيلَيْنِ، فَيُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ، سَوَاءٌ اخْتَلَطَ بِهِ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ أُخْرِجَ كُلُّهُ أَوْ قِطْعَةٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنَ السَّبِيلِ

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَذَكَرُوا أَنَّ إِدْخَالَ الْحُقْنَةِ فِي الدُّبُرِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَصْحَبَهَا نَجَاسَةٌ عِنْدَ خُرُوجِهَا؛ وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ خَارِجٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ فَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، مِثْلَ الدُّودِ وَالْحَصَى وَلَوْ صَاحَبَهُ بَلَلٌ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى التَّفْصِيلِ: فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الدَّاخِلُ حُقْنَةً أَوْ قُطْنًا أَوْ غَيْرَهُ، فَإِنْ خَرَجَ وَعَلَيْهِ بَلَلٌ نَقَضَ الْوُضُوءَ؛ لِأَنَّ الْبَلَلَ لَوْ خَرَجَ مُنْفَرِدًا لَنَقَضَ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنَ السَّبِيلَيْنِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ مَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا، وَإِنْ خَرَجَ الدَّاخِلُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ بَلَلٌ ظَاهِرٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ:

الْأَوَّلُ: يَنْقُضُ الْوُضُوءَ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنَ السَّبِيلَيْنِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ مَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا.وَالثَّانِي: لَا يَنْقُضُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْمَثَانَةِ وَالْجَوْفِ مَنْفَذٌ فَلَا يَكُونُ خَارِجًا مِنَ الْجَوْفِ.

احْتِقَانُ الصَّائِمِ:

11- احْتِقَانُ الصَّائِمِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي دُبُرٍ أَوْ فِي قُبُلٍ أَوْ فِي جِرَاحَةِ جَائِفَةٍ (أَيِ الَّتِي تَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ)

الِاحْتِقَانُ فِي الدُّبُرِ:

فِي الْمَسْأَلَةِ رَأْيَانِ:

12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ الِاحْتِقَانَ فِي الدُّبُرِ يُفْطِرُ الصَّائِمَ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ هَلْ مِنْ كِسْرَةٍ؟ فَأَتَيْتُهُ بِقُرْصٍ، فَوَضَعَهُ فِي فِيهِ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ هَلْ دَخَلَ بَطْنِي مِنْهُ شَيْءٌ؟ كَذَلِكَ قُبْلَةُ الصَّائِمِ، إِنَّمَا الْإِفْطَارُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ».وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ: الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ.وَلِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ بِاخْتِيَارِهِ، فَأَشْبَهَ الْأَكْلَ، وَلِوُجُودِ مَعْنَى الْفِطْرِ وَهُوَ وُصُولُ مَا فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ.

غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الدَّاخِلُ مَائِعًا.وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ غَيْرُهُمْ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي غَيْرِ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ رَأْيُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ- وُصِفَ بِأَنَّهُ شَاذٌّ- وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا احْتَقَنَ الصَّائِمُ فِي الدُّبُرِ لَا يُفْطِرُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ.وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الصِّيَامَ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ مِمَّا حَرَّمَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَكَانَ وَاجِبًا عَلَى الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- بَيَانُهُ، وَلَوْ ذَكَرَ ذَلِكَ لَعَلِمَهُ الصَّحَابَةُ، وَبَلَّغُوهُ الْأُمَّةَ، كَمَا بَلَّغُوا سَائِرَ شَرْعِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي ذَلِكَ حَدِيثًا صَحِيحًا وَلَا ضَعِيفًا وَلَا مُسْنَدًا وَلَا مُرْسَلًا عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.

الِاحْتِقَانُ فِي الْقُبُلِ:

13- الِاحْتِقَانُ فِي الْقُبُلِ إِذَا لَمْ يَصِلْ إِلَى الْمَثَانَةِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَلَا يُؤَدِّي إِلَى فِطْرٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَصَحِّ الْوُجُوهِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُفْطِرُ، وَفِي وَجْهٍ لَهُمْ: إِنْ جَاوَزَ الْحَشَفَةَ أَفْطَرَ وَإِلاَّ فَلَا.أَمَّا إِذَا وَصَلَ الْمَثَانَةَ فَإِنَّ حُكْمَ الِاحْتِقَانِ بِالنِّسْبَةِ لِقُبُلِ الْمَرْأَةِ يَأْخُذُ حُكْمَ الِاحْتِقَانِ فِي الدُّبُرِ.

وَأَمَّا الِاحْتِقَانُ؛ فِي قُبُلِ الرَّجُلِ (الْإِحْلِيلِ) فَإِنْ وَصَلَ إِلَى الْمَثَانَةِ فَفِيهِ رَأْيَانِ:

ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَرَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ.وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، وَمَنْ قَاسَهُ عَلَى غَيْرِهِ جَانَبَ الْحَقَّ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَنْفُذُ إِلَى الْجَوْفِ وَلَا يُؤَدِّي إِلَى التَّغْذِيَةِ الْمَمْنُوعَةِ.وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَطَّرَ فِي إِحْلِيلِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ بِاخْتِيَارِهِ فَأَشْبَهَ الْأَكْلَ.

الِاحْتِقَانُ فِي الْجَائِفَةِ:

14- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَدَاوَى بِمَا يَصِلُ إِلَى جَوْفِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ يَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ؛ وَلِأَنَّ غَيْرَ الْمُعْتَادِ كَالْمُعْتَادِ، وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ وَأَوْلَى، وَالنَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- «أَمَرَ بِالْإِثْمِدِ عِنْدَ النَّوْمِ، وَقَالَ لِيَتَّقِهِ الصَّائِمُ» وَلِأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ بِاخْتِيَارِهِ، فَأَشْبَهَ الْأَكْلَ، وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ».

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِكُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَعَلَّلَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ ذَلِكَ بِمَا سَبَقَ فِي الِاحْتِقَانِ مُطْلَقًا.

الِاحْتِقَانُ بِالْمُحَرَّمِ:

15- أَجَازَ الْعُلَمَاءُ اسْتِعْمَالَ الْحُقْنَةِ فِي الدَّوَاءِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ هُزَالٍ بِطَاهِرٍ، وَلَمْ يُجِزِ الْحَنَفِيَّةُ اسْتِعْمَالَ الْحُقْنَةِ لِلتَّقَوِّي عَلَى الْجِمَاعِ أَوِ السِّمَنِ.

أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلِاحْتِقَانِ بِالْمُحَرَّمِ فَقَدْ مَنَعَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنِ الْمُحَرَّمِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الِاحْتِقَانُ لِضَرُورَةٍ، وَمُتَعَيِّنًا، فَقَدْ أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الِاحْتِقَانَ لِضَرُورَةٍ إِذَا كَانَتِ الضَّرُورَةُ يَخْشَى مَعَهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَأَخْبَرَهُ طَبِيبٌ مُسْلِمٌ حَاذِقٌ أَنَّ شِفَاءَهُ يَتَعَيَّنُ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ، عَلَى أَنْ يَسْتَعْمِلَ قَدْرَ حَاجَتِهِ.وَقَالُوا: إِنَّ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ» نَفَى الْحُرْمَةَ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالشِّفَاءِ، فَصَارَ مَعْنَى الْحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذِنَ لَكُمْ بِالتَّدَاوِي، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَإِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ الدَّوَاءِ شَيْءٌ مُحَرَّمٌ وَعَلِمْتُمْ أَنَّ فِيهِ الشِّفَاءَ فَقَدْ زَالَتْ حُرْمَةُ اسْتِعْمَالِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ.وَأَيَّدَ هَذَا ابْنُ حَزْمٍ.

أَمَّا إِذَا كَانَ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ لِتَعْجِيلِ الشِّفَاءِ فَفِي الْمَسْأَلَةِ رَأْيَانِ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.فَبَعْضُهُمْ مَنَعَهُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ فِي ذَلِكَ مَا دَامَ هُنَاكَ مَا يَحِلُّ مَحَلَّهُ.وَبَعْضُهُمْ أَجَازَهُ إِذَا أَشَارَ بِذَلِكَ طَبِيبٌ مُسْلِمٌ حَاذِقٌ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الطِّلَاءُ وَلَا الِاحْتِقَانُ وَالتَّدَاوِي بِالْخَمْرِ وَالنَّجِسِ، وَلَوْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْهَلَاكِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا»؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- ذُكِرَ لَهُ النَّبِيذُ يُصْنَعُ لِلدَّوَاءِ فَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ».

حَقْنُ الصَّغِيرِ بِاللَّبَنِ وَأَثَرُهُ فِي تَحْرِيمِ النِّكَاحِ:

16- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَرْجُوحِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ رَأْيٌ لِكُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا حُقِنَ الصَّغِيرُ فِي الشَّرَجِ بِاللَّبَنِ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُرْمَةُ النِّكَاحِ.وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- حَرَّمَ بِالرَّضَاعَةِ الَّتِي تُقَابِلُ الْمَجَاعَةَ وَلَمْ يُحَرِّمْ بِغَيْرِهَا شَيْئًا، فَلَا يَقَعُ تَحْرِيمٌ مَا لَمْ تُقَابَلْ بِهِ الْمَجَاعَةُ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُنْبِتُ اللَّحْمَ، وَلَا يَنْشِزُ الْعَظْمَ، وَلَا يَكْتَفِي بِهِ الصَّبِيُّ.

وَفِي رَأْيٍ لِكُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ.وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ مَا فِي الْحُقْنَةِ يَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ فَيَكُونُ غِذَاءً.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ حَقْنُ الصَّغِيرِ بِاللَّبَنِ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ لِلْغِذَاءِ وَقَبْلَ أَنْ يَسْتَغْنِيَ، فَالرَّاجِحُ تَرَتُّبُ التَّحْرِيمِ.

نَظَرُ الْحَاقِنِ إِلَى الْعَوْرَةِ:

17- مَنَعَ الْعُلَمَاءُ النَّظَرَ إِلَى الْعَوْرَةِ إِلاَّ فِي حَالَاتِ الضَّرُورَةِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ.وَعَدُّوا مِنْ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الِاحْتِقَانَ.فَإِذَا انْتَفَتِ الضَّرُورَةُ حَرُمَ النَّظَرُ إِلَى الْعَوْرَةِ.وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: تَطْبِيبٌ.ضَرُورَةٌ.عَوْرَةٌ)

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


7-موسوعة الفقه الكويتية (إرادة)

إِرَادَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْإِرَادَةُ فِي اللُّغَةِ الْمَشِيئَةُ.وَيَسْتَعْمِلُهَا الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى الْقَصْدِ إِلَى الشَّيْءِ وَالِاتِّجَاهِ إِلَيْهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- النِّيَّةُ:

2- إِذَا كَانَتِ الْإِرَادَةُ مَا سَبَقَ، فَإِنَّ النِّيَّةَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَصْدُ الشَّيْءِ مُقْتَرِنًا بِفِعْلِهِ وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ: عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى إِيجَادِ الْفِعْلِ جَزْمًا وَعَلَى هَذَا فَإِنَّهُ يُلْحَظُ فِي النِّيَّةِ ارْتِبَاطُهَا بِالْعَمَلِ، وَهِيَ بِغَيْرِ هَذَا الِارْتِبَاطِ لَا تُسَمَّى نِيَّةً، بَيْنَمَا لَا يُلَاحَظُ ذَلِكَ فِي الْإِرَادَةِ.

ب- الرِّضَا:

3- الرِّضَا هُوَ الرَّغْبَةُ فِي الْفِعْلِ وَالِارْتِيَاحُ إِلَيْهِ، فَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالرِّضَا، فَقَدْ يُرِيدُ الْمَرْءُ شَيْئًا مَعَ أَنَّهُ لَا يَرْضَاهُ- أَيْ لَا يَرْتَاحُ إِلَيْهِ وَلَا يُحِبُّهُ- وَمِنْ هُنَا كَانَ تَفْرِيقُ عُلَمَاءِ الْعَقِيدَةِ بَيْنَ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرِضَاهُ، وَكَذَلِكَ تَفْرِقَةُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَهُمَا فِي بَابِ الْإِكْرَاهِ وَغَيْرِهِ.

ج- الِاخْتِيَارُ:

4- الِاخْتِيَارُ لُغَةً: تَفْضِيلُ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ.وَاصْطِلَاحًا: الْقَصْدُ إِلَى أَمْرٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ بِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ.فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِرَادَةِ أَنَّهَا تُتَّجَهُ إِلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ، وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:

5- أ- لَا تُعْتَبَرُ الْإِرَادَةُ صَحِيحَةً إِلاَّ إِذَا صَدَرَتْ عَنْ ذِي أَهْلِيَّةٍ وَقَدْ تَنَاوَلَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ، عِنْدَمَا حَكَمُوا بِفَسَادِ تَبَرُّعَاتِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ، وَالسَّفِيهِ وَالْمُفْلِسِ وَنَحْوِهِمْ، وَاعْتَبَرُوا إِرَادَتَهُمْ الصَّادِرَةَ بِذَلِكَ لَاغِيَةً لِصُدُورِهَا عَنْ غَيْرِ ذِي أَهْلِيَّةٍ، أَوْ عَنْ مُقَيَّدِ الْأَهْلِيَّةِ، أَوْ نَاقِصِهَا.

ب- الْأَصْلُ فِي الْإِرَادَةِ أَنْ تَصْدُرَ عَنِ الْأَصِيلِ، وَلَكِنْ قَدْ تَنُوبُ عَنْ إِرَادَةِ الْأَصِيلِ إِرَادَةُ غَيْرِهِ، كَمَا فِي الْوَكَالَةِ، حَيْثُ تَنُوبُ إِرَادَةُ الْوَكِيلِ عَنْ إِرَادَةِ الْمُوَكِّلِ، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.

وَقَدْ تَنُوبُ إِرَادَةُ غَيْرِ الْأَصِيلِ عَنْ الْأَصِيلِ جَبْرًا كَالْوِلَايَةِ أَوِ الْوِصَايَةِ فَيَلْزَمُ الْأَصِيلَ بِمَا أَمْضَاهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ مِنْ تَصَرُّفَاتٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَنْهُ فِي مُصْطَلَحِ (إِجْبَار).

مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْإِرَادَةِ:

6- الْأَصْلُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنِ الْإِرَادَةِ بِاللَّفْظِ الصَّادِرِ عَنْ أَهْلِهِ، وَتَقُومُ مَقَامَهُ الْإِشَارَةُ مِنَ الْعَاجِزِ عَنِ اللَّفْظِ، أَوِ الرِّسَالَةُ، أَوِ السُّكُوتُ، أَوِ التَّعَاطِي، أَوِ الْقَرَائِنُ الْقَوِيَّةُ.وَذَلِكَ مَنْثُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ فِي أَبْوَابٍ شَتَّى: كَالطَّلَاقِ، وَالنِّكَاحِ، وَالْبُيُوعِ، وَمِنْ هُنَا اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ إِشَارَةَ الْأَخْرَسِ كَعِبَارَتِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ.

الْإِرَادَةُ وَالتَّصَرُّفَاتُ:

7- هُنَاكَ تَصَرُّفَاتٌ لَا تُنْتِجُ آثَارَهَا إِلاَّ بِمُطَابَقَةِ الْقَبُولِ لِلْإِيجَابِ، كَالْعُقُودِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَقَدَ طَرَفَيِ الْحَبْلِ، وَقَدْ شَبَّهَ الْفُقَهَاءُ الْعَقْدَ بِالْحَبْلِ، لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى طَرَفَيْنِ، وَبِالتَّالِي إِلَى إِرَادَتَيْنِ، نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ الْبَيْعَ، وَالْإِجَارَةَ، وَالرَّهْنَ، وَالصُّلْحَ، وَالشَّرِكَةَ، وَالْمُضَارَبَةَ، وَالْمُزَارَعَةَ، وَالنِّكَاحَ، وَالْخُلْعَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.

وَهُنَاكَ تَصَرُّفَاتٌ تُنْتِجُ آثَارَهَا بِالْإِرَادَةِ الْمُنْفَرِدَةِ وَهِيَ عَلَى نَوْعَيْنِ:

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَا لَا تَرِدُ فِيهِ الْإِرَادَةُ بِالرَّدِّ كَالْوَقْفِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.

النَّوْعُ الثَّانِي: مَا تَرِدُ فِيهِ الْإِرَادَةُ بِالرَّدِّ، كَالْإِقْرَارِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ أَيْضًا.

8- إِنَّ إِرَادَةَ الْعَاقِدَيْنِ تُنْشِئُ الْعَقْدَ، ْ وَالإِرَادَةُ الْمُنْفَرِدَةُ تُنْشِئُ التَّصَرُّفَاتِ غَيْرَ الْعَقْدِيَّةِ.أَمَّا أَحْكَامُ الْعُقُودِ، وَآثَارُهَا فَإِنَّهَا مِنْ تَرْتِيبِ الشَّارِعِ لَا الْعَاقِدِ.

9- إِذَا وَقَعَ فِي تَصَرُّفٍ مَا الْغَلَطُ أَوِ التَّغْرِيرُ أَوِ التَّدْلِيسُ أَوِ الْإِكْرَاهُ كَانَ هَذَا التَّصَرُّفُ قَابِلًا لِلْإِبْطَالِ فِي الْجُمْلَةِ، بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ لِمَنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي إِرَادَتِهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


8-موسوعة الفقه الكويتية (استخارة)

اسْتِخَارَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الِاسْتِخَارَةُ لُغَةً: طَلَبُ الْخِيَرَةِ فِي الشَّيْءِ.يُقَالُ: اسْتَخِرِ اللَّهَ يَخِرْ لَكَ.وَفِي الْحَدِيثِ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا».

وَاصْطِلَاحًا: طَلَبُ الِاخْتِيَارِ.أَيْ طَلَبُ صَرْفِ الْهِمَّةِ لِمَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْأَوْلَى، بِالصَّلَاةِ، أَوِ الدُّعَاءِ الْوَارِدِ فِي الِاسْتِخَارَةِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الطِّيَرَةُ:

2- الطِّيَرَةُ مَا يُتَشَاءَمُ بِهِ مِنَ الْفَأْلِ الرَّدِيءِ وَفِي الْحَدِيثِ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ، وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ».

ب- الْفَأْلُ:

3- الْفَأْلُ مَا يُسْتَبْشَرُ بِهِ، كَأَنْ يَكُونَ مَرِيضًا فَيَسْمَعُ مَنْ يَقُولُ: يَا سَالِمُ، أَوْ يَكُونَ طَالِبًا فَيَسْمَعُ مَنْ يَقُولُ: يَا وَاجِدُ وَفِي الْحَدِيثِ: «كَانَ- صلى الله عليه وسلم- يُحِبُّ الْفَأْلَ»

ج- الرُّؤْيَا:

4- الرُّؤْيَا بِالضَّمِّ مَهْمُوزًا، وَقَدْ يُخَفَّفُ: مَا رَأَيْتَهُ فِي مَنَامِكَ.

د- الِاسْتِقْسَامُ:

5- الِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ: هُوَ ضَرْبٌ بِالْقِدَاحِ لِيَخْرُجَ لَهُ قَدَحٌ مِنْهَا يَأْتَمِرُ بِمَا كُتِبَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لقوله تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ}.

هـ- الِاسْتِفْتَاحُ:

6- الِاسْتِفْتَاحُ: طَلَبُ النَّصْرِ وَفِي الْحَدِيثِ: «كَانَ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَفْتِحُ وَيَسْتَنْصِرُ بِصَعَالِيكِ الْمُسْلِمِينَ» وَبَعْضُ النَّاسِ قَدْ يَسْتَفْتِحُ وَيَسْتَطْلِعُ الْغَيْبَ مِنَ الْمُصْحَفِ أَوِ الرَّمْلِ أَوِ الْقُرْعَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِحُرْمَتِهِ.قَالَ الطُّرْطُوشِي وَأَبُو الْحَسَنِ الْمَغْرِبِيُّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ: هُوَ مِنَ الْأَزْلَامِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْغَيْبِ وَيَطْلُبَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ رَفَعَهُ بَعْدَ نَبِيِّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلاَّ فِي الرُّؤْيَا.

صِفَتُهَا (حُكْمُهَا التَّكْلِيفِيُّ):

7- أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِخَارَةَ سُنَّةٌ، وَدَلِيلُ مَشْرُوعِيَّتِهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، كَالسُّورَةِ مِنَ الْقُرْآنِ: إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ يَقُولُ»: إِلَخْ وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ».

حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا:

8- حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الِاسْتِخَارَةِ، هِيَ التَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالْخُرُوجُ مِنَ الْحَوْلِ وَالطَّوْلِ، وَالِالْتِجَاءُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ.لِلْجَمْعِ بَيْنَ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.وَيَحْتَاجُ فِي هَذَا إِلَى قَرْعِ بَابِ الْمَلِكِ، وَلَا شَيْءَ أَنْجَعُ لِذَلِكَ مِنَ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَالِافْتِقَارِ إِلَيْهِ قَالًا وَحَالًا.

سَبَبُهَا (مَا يَجْرِي فِيهِ الِاسْتِخَارَةُ):

9- اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِخَارَةَ تَكُونُ فِي الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَدْرِي الْعَبْدُ وَجْهَ الصَّوَابِ فِيهَا، أَمَّا مَا هُوَ مَعْرُوفٌ خَيْرَهُ أَوْ شَرَّهُ كَالْعِبَادَاتِ وَصَنَائِعِ الْمَعْرُوفِ وَالْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الِاسْتِخَارَةِ فِيهَا، إِلاَّ إِذَا أَرَادَ بَيَانَ خُصُوصِ الْوَقْتِ كَالْحَجِّ مَثَلًا فِي هَذِهِ السُّنَّةِ؛ لِاحْتِمَالِ عَدُوٍّ أَوْ فِتْنَةٍ، وَالرُّفْقَةِ فِيهِ، أَيُرَافِقُ فُلَانًا أَمْ لَا؟

وَعَلَى هَذَا فَالِاسْتِخَارَةُ لَا مَحَلَّ لَهَا فِي الْوَاجِبِ وَالْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ فِي الْمَنْدُوبَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ.وَالِاسْتِخَارَةُ فِي الْمَنْدُوبِ لَا تَكُونُ فِي أَصْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ، وَإِنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ التَّعَارُضِ، أَيْ إِذَا تَعَارَضَ عِنْدَهُ أَمْرَانِ أَيُّهُمَا يَبْدَأُ بِهِ أَوْ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ؟

أَمَّا الْمُبَاحُ فَيُسْتَخَارُ فِي أَصْلِهِ.وَهَلْ يَسْتَخِيرُ فِي مُعَيَّنٍ أَوْ مُطْلَقٍ؟ اخْتَارَ بَعْضُهُمُ الْأَوَّلَ؛ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ.لِأَنَّ فِيهِ «إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ» إِلَخْ، وَاخْتَارَ ابْنُ عَرَفَةَ الثَّانِيَ، وَقَالَ الشَّعْرَانِيُّ: وَهُوَ أَحْسَنُ، وَقَدْ جَرَّبْنَاهُ فَوَجَدْنَاهُ صَحِيحًا.

مَتَى يَبْدَأُ الِاسْتِخَارَةَ؟

10- يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَخِيرُ خَالِيَ الذِّهْنِ، غَيْرَ عَازِمٍ عَلَى أَمْرٍ مُعَيَّنٍ، فَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْحَدِيثِ: «إِذَا هَمَّ» يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الِاسْتِخَارَةَ تَكُونُ عِنْدَ أَوَّلِ مَا يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ، فَيَظْهَرُ لَهُ بِبَرَكَةِ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ مَا هُوَ الْخَيْرُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَمَكَّنَ الْأَمْرُ عِنْدَهُ، وَقَوِيَتْ فِيهِ عَزِيمَتُهُ وَإِرَادَتُهُ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ إِلَيْهِ مَيْلٌ وَحُبٌّ، فَيَخْشَى أَنْ يَخْفَى عَنْهُ الرَّشَادُ؛ لِغَلَبَةِ مَيْلِهِ إِلَى مَا عَزَمَ عَلَيْهِ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْهَمِّ الْعَزِيمَةَ؛ لِأَنَّ الْخَاطِرَ لَا يَثْبُتُ فَلَا يَسْتَمِرُّ إِلاَّ عَلَى مَا يَقْصِدُ التَّصْمِيمَ عَلَى فِعْلِهِ مِنْ غَيْرِ مَيْلٍ.وَإِلاَّ لَوِ اسْتَخَارَ فِي كُلِّ خَاطِرٍ لَاسْتَخَارَ فِيمَا لَا يَعْبَأُ بِهِ، فَتَضِيعُ عَلَيْهِ أَوْقَاتُهُ.وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَمْرًا فَلْيَقُلْ»..

الِاسْتِشَارَةُ قَبْلَ الِاسْتِخَارَةِ:

11- قَالَ النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَشِيرَ قَبْلَ الِاسْتِخَارَةِ مَنْ يَعْلَمُ مَنْ حَالِهِ النَّصِيحَةَ وَالشَّفَقَةَ وَالْخِبْرَةَ، وَيَثِقُ بِدِينِهِ وَمَعْرِفَتِهِ.قَالَ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} وَإِذَا اسْتَشَارَ وَظَهَرَ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ، اسْتَخَارَ اللَّهَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ: حَتَّى عِنْدَ التَّعَارُضِ (أَيْ تَقَدُّمِ الِاسْتِشَارَةِ) لِأَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ إِلَى قَوْلِ الْمُسْتَشَارِ أَقْوَى مِنْهَا إِلَى النَّفْسِ لِغَلَبَةِ حُظُوظِهَا وَفَسَادِ خَوَاطِرِهَا.وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ نَفْسُهُ مُطْمَئِنَّةً صَادِقَةً إِرَادَتُهَا مُتَخَلِّيَةً عَنْ حُظُوظِهَا، قَدَّمَ الِاسْتِخَارَةَ

كَيْفِيَّةُ الِاسْتِخَارَةِ:

12- وَرَدَ فِي الِاسْتِخَارَةِ حَالَاتٌ ثَلَاثٌ:

الْأُولَى: وَهِيَ الْأَوْفَقُ، وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ، تَكُونُ بِرَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ بِنِيَّةِ الِاسْتِخَارَةِ، ثُمَّ يَكُونُ الدُّعَاءُ الْمَأْثُورُ بَعْدَهَا.

الثَّانِيَةُ: قَالَ بِهَا الْمَذَاهِبُ الثَّلَاثَةُ: الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، تَجُوزُ بِالدُّعَاءِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ صَلَاةٍ إِذَا تَعَذَّرَتِ الِاسْتِخَارَةُ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ مَعًا.

الثَّالِثَةُ: وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهَا غَيْرَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، فَقَالُوا: تَجُوزُ بِالدُّعَاءِ عَقِبَ أَيِّ صَلَاةٍ كَانَتْ مَعَ نِيَّتِهَا، وَهُوَ أَوْلَى، أَوْ بِغَيْرِ نِيَّتِهَا كَمَا فِي تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ.

وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ قُدَامَةَ إِلاَّ الْحَالَةَ الْأُولَى، وَهِيَ الِاسْتِخَارَةُ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ.

وَإِذَا صَلَّى الْفَرِيضَةَ أَوِ النَّافِلَةَ، نَاوِيًا بِهَا الِاسْتِخَارَةَ، حَصَلَ لَهُ بِهَا فَضْلُ سُنَّةِ صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ النِّيَّةُ؛ لِيَحْصُلَ الثَّوَابُ قِيَاسًا عَلَى تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَعَضَّدَ هَذَا الرَّأْيَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ، وَقَدْ خَالَفَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي ذَلِكَ وَنَفَوْا حُصُولَ الثَّوَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقْتُ الِاسْتِخَارَةِ:

13- أَجَازَ الْقَائِلُونَ بِحُصُولِ الِاسْتِخَارَةِ بِالدُّعَاءِ فَقَطْ وُقُوعَ ذَلِكَ فِي أَيِّ وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ.

أَمَّا إِذَا كَانَتِ الِاسْتِخَارَةُ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ فَالْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ تَمْنَعُهَا فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ.نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ صَرَاحَةً عَلَى الْمَنْعِ غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ أَبَاحُوهَا فِي الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ، قِيَاسًا عَلَى رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ.لِمَا رُوِيَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى فِي أَيِّ سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ».

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَلِعُمُومِ الْمَنْعِ عِنْدَهُمْ.

فَهُمْ يَمْنَعُونَ صَلَاةَ النَّفْلِ فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ، لِعُمُومِ أَحَادِيثِ النَّهْيِ، وَمِنْهَا:

رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: «شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ، وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ- رضي الله عنه-، أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَشْرُقَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ».

وَعَنْ «عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَخْبِرْنِي عَنِ الصَّلَاةِ.قَالَ: صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ اقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ، ثُمَّ صَلِّ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَحْضُورَةٌ مَشْهُودَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ، ثُمَّ اقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ، فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ، ثُمَّ اقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ»

كَيْفِيَّةُ صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ:

14- اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ أَنْ تَكُونَ رَكْعَتَيْنِ.وَلَمْ يُصَرِّحِ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَأَجَازُوا أَكْثَرَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَاعْتَبَرُوا التَّقْيِيدَ بِالرَّكْعَتَيْنِ لِبَيَانِ أَقَلِّ مَا يَحْصُلُ بِهِ.

الْقِرَاءَةُ فِي صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ:

15- فِيمَا يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:

أ- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وَفِي الثَّانِيَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.وَذَكَر النَّوَوِيُّ تَعْلِيلًا لِذَلِكَ فَقَالَ: نَاسَبَ الْإِتْيَانُ بِهِمَا فِي صَلَاةٍ يُرَادُ مِنْهَا إِخْلَاصُ الرَّغْبَةِ وَصِدْقُ التَّفْوِيضِ وَإِظْهَارُ الْعَجْزِ، وَأَجَازُوا أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِمَا مَا وَقَعَ فِيهِ ذِكْرُ الْخِيَرَةِ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.

ب- وَاسْتَحْسَنَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنْ يَزِيدَ فِي صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}

ج- أَمَّا الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ فَلَمْ يَقُولُوا بِقِرَاءَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ.

دُعَاءُ الِاسْتِخَارَةِ:

16- رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، كَالسُّورَةِ مِنَ الْقُرْآنِ إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيُقَلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِك الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ.اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي- أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ- فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي- أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ- فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ.وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ.قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ».

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ افْتِتَاحُ الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ وَخَتْمُهُ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ وَالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.

اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي الدُّعَاءِ:

17- يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ فِي دُعَاءِ الِاسْتِخَارَةِ رَافِعًا يَدَيْهِ مُرَاعِيًا جَمِيعَ آدَابِ الدُّعَاءِ.

مَوْطِنُ دُعَاءِ الِاسْتِخَارَةِ:

18- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: يَكُونُ الدُّعَاءُ عَقِبَ الصَّلَاةِ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا جَاءَ فِي نَصِّ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَزَادَ الشَّوْبَرِيُّ وَابْنُ حَجَرٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْعَدَوِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازَهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ فِي السُّجُودِ، أَوْ بَعْدَ التَّشَهُّدِ.

مَا يُطْلَبُ مِنَ الْمُسْتَخِيرِ بَعْدَ الِاسْتِخَارَةِ:

19- يُطْلَبُ مِنَ الْمُسْتَخِيرِ أَلاَّ يَتَعَجَّلَ الْإِجَابَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ، لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ.يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي».كَمَا يُطْلَبُ مِنْهُ الرِّضَا بِمَا يَخْتَارُهُ اللَّهُ لَهُ.

تَكْرَارُ الِاسْتِخَارَةِ:

20- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ: يَنْبَغِي أَنْ يُكَرِّرَ الْمُسْتَخِيرُ الِاسْتِخَارَةَ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ سَبْعَ مَرَّاتٍ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ عَنْ أَنَسٍ.قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: يَا أَنَسُ إِذَا هَمَمْتَ بِأَمْرٍ فَاسْتَخِرْ رَبَّكَ فِيهِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ اُنْظُرْ إِلَى الَّذِي يَسْبِقُ إِلَى قَلْبِكَ فَإِنَّ الْخَيْرَ فِيهِ».

وَيُؤْخَذُ مِنْ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ تَكْرَارَ الِاسْتِخَارَةِ يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ ظُهُورِ شَيْءٍ لِلْمُسْتَخِيرِ، فَإِذَا ظَهَرَ لَهُ مَا يَنْشَرِحُ بِهِ صَدْرُهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَا يَدْعُو إِلَى التَّكْرَارِ.وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ شَيْءٌ بَعْدَ السَّابِعَةِ اسْتَخَارَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ رَأْيًا فِي تَكْرَارِ الِاسْتِخَارَةِ فِي كُتُبِهِمُ الَّتِي تَحْتَ أَيْدِينَا رَغْمَ كَثْرَتِهَا.

النِّيَابَةُ فِي الِاسْتِخَارَةِ:

21- الِاسْتِخَارَةُ لِلْغَيْرِ قَالَ بِجَوَازِهَا الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ».

وَجَعَلَهُ الْحَطَّابُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَحَلَّ نَظَرٍ.فَقَالَ: هَلْ وَرَدَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَسْتَخِيرُ لِغَيْرِهِ؟ لَمْ أَقِفْ فِي ذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ، وَرَأَيْتُ بَعْضَ الْمَشَايِخِ يَفْعَلُهُ.

وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، وَالْحَنَفِيَّةُ.

أَثَرُ الِاسْتِخَارَةِ:

أ- عَلَامَاتُ الْقَبُولِ:

22- اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ عَلَامَاتِ الْقَبُولِ فِي الِاسْتِخَارَةِ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ، لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ فِي (فِقْرَةِ 20): ثُمَّ اُنْظُرْ إِلَى الَّذِي سَبَقَ إِلَى قَلْبِكَ فَإِنَّ الْخَيْرَ فِيهِ «أَيْ فَيَمْضِي إِلَى مَا انْشَرَحَ بِهِ صَدْرُهُ وَشَرْحُ الصَّدْرِ: عِبَارَةٌ عَنْ مَيْلِ الْإِنْسَانِ وَحُبِّهِ لِلشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ هَوًى لِلنَّفْسِ، أَوْ مَيْلٍ مَصْحُوبٍ بِغَرَضٍ، عَلَى مَا قَرَّرَهُ الْعَدَوِيُّ.قَالَ الزَّمْلَكَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يُشْتَرَطُ شَرْحُ الصَّدْرِ.فَإِذَا اسْتَخَارَ الْإِنْسَانُ رَبَّهُ فِي شَيْءٍ فَلْيَفْعَلْ مَا بَدَا لَهُ، سَوَاءٌ انْشَرَحَ لَهُ صَدْرُهُ أَمْ لَا، فَإِنَّ فِيهِ الْخَيْرَ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ.

ب- عَلَامَاتُ عَدَمِ الْقَبُولِ:

23- وَأَمَّا عَلَامَاتُ عَدَمِ الْقَبُولِ فَهُوَ: أَنْ يُصْرَفَ الْإِنْسَانُ عَنِ الشَّيْءِ، لِنَصِّ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي هَذَا أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَعَلَامَاتُ الصَّرْفِ: أَلاَّ يَبْقَى قَلْبُهُ بَعْدَ صَرْفِ الْأَمْرِ عَنْهُ مُعَلَّقًا بِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ: «فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ».

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


9-موسوعة الفقه الكويتية (إقطاع)

إِقْطَاعٌ

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الْإِقْطَاعِ فِي اللُّغَةِ: التَّمْلِيكُ وَالْإِرْفَاقُ، يُقَالُ اسْتَقْطَعَ الْإِمَامُ قَطِيعَةً فَأَقْطَعَهُ إِيَّاهَا: أَيْ سَأَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ إِقْطَاعًا يَتَمَلَّكُهُ وَيَسْتَبِدُّ بِهِ وَيَنْفَرِدُ، وَيُقَالُ: أَقْطَعَ الْإِمَامُ الْجُنْدَ الْبَلَدَ: إِذَا جَعَلَ لَهُمْ غَلَّتَهَا رِزْقًا.

وَهُوَ كَذَلِكَ شَرْعًا يُطْلَقُ عَلَى مَا يُقْطِعُهُ الْإِمَامُ، أَيْ يُعْطِيهِ مِنَ الْأَرَاضِي رَقَبَةً أَوْ مَنْفَعَةً لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ:

2- هُوَ كَمَا عَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: عِمَارَةُ الْأَرْضِ الْخَرِبَةِ الَّتِي لَا مَالِكَ لَهَا وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا أَحَدٌ.

ب- أَعْطِيَاتُ السُّلْطَانِ:

3- الْعَطَاءُ وَالْعَطِيَّةُ: اسْمٌ لِمَا يُعْطَى، وَالْجَمْعُ عَطَايَا وَأَعْطِيَةٌ، وَجَمْعُ الْجَمْعِ أَعْطِيَاتٌ.وَأَعْطِيَاتُ السُّلْطَانِ: مَا يُعْطِيهِ لِأَحَدٍ مِنَ الرَّعِيَّةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ.

وَعَلَى هَذَا قَدْ يَكُونُ الْإِقْطَاعُ عَطَاءً، وَقَدْ يَنْفَصِلُ الْعَطَاءُ، فَيَكُونُ فِي الْأَمْوَالِ الْمَنْقُولَةِ غَالِبًا.

ج- الْحِمَى:

4- الْمَشْرُوعُ مِنْهُ: أَنْ يَحْمِيَ الْإِمَامُ أَرْضًا مِنَ الْمَوَاتِ، يَمْنَعُ النَّاسَ رَعْيَ مَا فِيهَا مِنَ الْكَلَأِ لِتَكُونَ خَاصَّةً لِبَعْضِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَمَوَاشِي الصَّدَقَةِ.

د- الْإِرْصَادُ:

5- الْإِرْصَادُ لُغَةً: الْإِعْدَادُ، وَاصْطِلَاحًا: تَخْصِيصُ الْإِمَامِ غَلَّةَ بَعْضِ أَرَاضِي بَيْتِ الْمَالِ لِبَعْضِ مَصَارِفِهِ.وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (إِرْصَاد).فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِقْطَاعِ أَنَّ الْإِرْصَادَ لَا يَصِيرُ مِلْكًا لِلْمُرْصَدِ لَهُ، بِحَيْثُ يَتَوَارَثُهُ أَوْلَادُهُ أَوْ يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ كَمَا شَاءُوا.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

6- الْإِقْطَاعُ جَائِزٌ بِشُرُوطِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ إِقْطَاعَ تَمْلِيكٍ أَمْ إِقْطَاعَ إِرْفَاقٍ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ أَنَّ « النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ رَكْضَ فَرَسِهِ مِنْ مَوَاتِ النَّقِيعِ »، وَكَذَلِكَ فَعَلَ الْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِهِ.

أَنْوَاعُ الْإِقْطَاعِ:

الْإِقْطَاعُ نَوْعَانِ:

7- النَّوْعُ الْأَوَّلُ: إِقْطَاعُ الْإِرْفَاقِ (أَوِ الْإِمْتَاعِ أَوِ الِانْتِفَاعِ).

وَهُوَ: إِرْفَاقُ النَّاسِ بِمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ، وَأَفْنِيَةِ الشَّوَارِعِ، وَحَرِيمِ الْأَمْصَارِ، وَمَنَازِلِ الْمُسَافِرِينَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ:

8- مَا يَخْتَصُّ الْإِرْفَاقُ فِيهِ بِالصَّحَارَى وَالْفَلَوَاتِ.حَيْثُ مَنَازِلُ الْمُسَافِرِينَ وَحُلُولُ الْمِيَاهِ، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ:

(أَحَدُهُمَا): أَنْ يَكُونَ لِاجْتِيَازِ السَّابِلَةِ وَاسْتِرَاحَةِ الْمُسَافِرِينَ فِيهِ.وَهَذَا لَا نَظَرَ لِلسُّلْطَانِ فِيهِ لِبُعْدِهِ عَنْهُ، وَاَلَّذِي يَخُصُّ السُّلْطَانَ مِنْ ذَلِكَ إِصْلَاحُ عَوْرَتِهِ وَحِفْظُ مِيَاهِهِ، وَالتَّخْلِيَةُ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ نُزُولِهِ، وَيَكُونُ السَّابِقُ إِلَى الْمَنْزِلِ أَحَقَّ بِحُلُولِهِ فِيهِ مِنَ الْمَسْبُوقِ حَتَّى يَرْتَحِلَ عَنْهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- « مِنَى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ ».فَإِنْ نَزَلُوهُ سَوَاءً، عُدِلَ بَيْنَهُمْ نَفْيًا لِلتَّنَازُعِ.

(وَالثَّانِي) أَنْ يَكُونَ نُزُولُهُمْ لِلِاسْتِيطَانِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلِلْإِمَامِ مَنْعُهُمْ أَوْ تَرْكُهُمْ حَسَبَ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.

الْقِسْمُ الثَّانِي:

9- وَهُوَ مَا يَخْتَصُّ بِأَفْنِيَةِ الدُّورِ وَالْأَمْلَاكِ.يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ الِارْتِفَاقُ مُضِرًّا بِهِمْ مُنِعَ اتِّفَاقًا، إِلاَّ أَنْ يَأْذَنُوا بِدُخُولِ الضَّرَرِ عَلَيْهِمْ.

فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُضِرٍّ بِهِمْ فَفِي إِبَاحَةِ ارْتِفَاقِهِمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ أَرْبَابِهَا اتِّجَاهَانِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ لَهُمْ الِارْتِفَاقَ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ أَرْبَابُهَا، لِأَنَّ الْحَرِيمَ (وَهُوَ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَهْلُ الدُّورِ مِنْ أَمَاكِنَ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ) يُعْتَبَرُ مِرْفَقًا إِذَا وَصَلَ أَهْلُهُ إِلَى حَقِّهِمْ مِنْهُ سَاوَاهُمُ النَّاسُ فِيمَا عَدَاهُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ.

الثَّانِي: لَا يَجُوزُ الِارْتِفَاقُ بِحَرِيمِهِمْ إِلاَّ عَنْ إِذْنِهِمْ، لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِأَمْلَاكِهِمْ فَكَانُوا بِهِ أَحَقَّ، وَبِالتَّصَرُّفِ فِيهِ أَخَصَّ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ:

10- هُوَ مَا اخْتَصَّ بِأَفْنِيَةِ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ، فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى نَظَرِ السُّلْطَانِ، وَفِي حُكْمِ نَظَرِهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَظَرَهُ فِيهِ مَقْصُورٌ عَلَى كَفِّهِمْ عَنِ التَّعَدِّي، وَمَنْعِهِمْ مِنَ الْإِضْرَارِ، وَالْإِصْلَاحِ بَيْنِهِمْ عِنْدَ التَّشَاجُرِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ نَظَرَهُ فِيهِ نَظَرُ مُجْتَهِدٍ فِيمَا يَرَاهُ صَالِحًا، فِي إِجْلَاسِ مَنْ يَجْلِسُ، وَمَنْعِ مَنْ يَمْنَعُهُ، وَتَقْدِيمِ مَنْ يُقَدِّمُهُ.

النَّوْعُ الثَّانِي: إِقْطَاعُ التَّمْلِيكِ:

11- هُوَ تَمْلِيكٌ مِنَ الْإِمَامِ مُجَرَّدٌ عَنْ شَائِبَةِ الْعِوَضِيَّةِ بِإِحْيَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ.

أَقْسَامُهُ وَحُكْمُ تِلْكَ الْأَقْسَامِ:

12- يَنْقَسِمُ إِقْطَاعُ التَّمْلِيكِ فِي الْأَرْضِ الْمُقْطَعَةِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

مَوَاتٍ، وَعَامِرٍ، وَمَعَادِنَ.

إِقْطَاعُ الْمَوَاتِ:

إِقْطَاعُ الْمَوَاتِ ضَرْبَانِ:

13- الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: مَا لَمْ يَزَلْ مَوَاتًا مِنْ قَدِيمِ الدَّهْرِ، فَلَمْ تَجْرِ فِيهِ عِمَارَةٌ وَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ مِلْكٌ، فَهَذَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقْطِعَهُ مَنْ يُحْيِيهِ وَمَنْ يُعَمِّرُهُ، وَقَدْ « أَقْطَعَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ رَكْضَ فَرَسِهِ مِنْ مَوَاتِ النَّقِيعِ، فَأَجْرَاهُ، ثُمَّ رَمَى بِسَوْطِهِ رَغْبَةً فِي الزِّيَادَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَعْطُوهُ مُنْتَهَى سَوْطِهِ ».

وَيَمْتَنِعُ بِهِ إِقْدَامُ غَيْرِ الْمُقْطَعِ عَلَى إِحْيَائِهِ، لِأَنَّهُ مَلَكَ رَقَبَتَهُ بِالْإِقْطَاعِ نَفْسِهِ، خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ، فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ إِقْطَاعَ الْمَوَاتِ مُطْلَقًا لَا يُفِيدُ تَمْلِيكًا، لَكِنَّهُ يَصِيرُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ أَحْيَاهُ مَلَكَهُ بِالْإِحْيَاءِ لَا بِالْإِقْطَاعِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْإِقْطَاعُ مُطْلَقًا، أَوْ مَشْكُوكًا فِيهِ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى إِقْطَاعِ الْإِرْفَاقِ، لِأَنَّهُ الْمُحَقَّقُ.

14- الضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ الْمَوَاتِ: مَا كَانَ عَامِرًا فَخَرِبَ، فَصَارَ مَوَاتًا عَاطِلًا، وَذَلِكَ نَوْعَانِ:

(أَحَدُهُمَا) مَا كَانَ عَادِيًّا (أَيْ قَدِيمًا، جَاهِلِيًّا) فَهُوَ كَالْمَوَاتِ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ عِمَارَةٌ وَيَجُوزُ إِقْطَاعُهُ.قَالَ- صلى الله عليه وسلم- « عَادِيُّ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي »

(ثَانِيهِمَا) مَا كَانَ إِسْلَامِيًّا جَرَى عَلَيْهِ مِلْكُ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ خَرِبَ حَتَّى صَارَ مَوَاتًا عَاطِلًا، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مَالِكٌ وَلَا وَرَثَةُ مَالِكٍ.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ مُطْلَقًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ مُطْلَقًا، إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ غَيْرَ مُقْطَعَةٍ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ مُقْطَعَةً فَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا لَا تُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ.وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ لَمْ يُعْرَفْ أَرْبَابُهُ مُلِكَ بِالْإِحْيَاءِ، بِشَرْطِ إِقْطَاعِ الْإِمَامِ لَهُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ.

إِقْطَاعُ الْعَامِرِ

إِقْطَاعُ الْعَامِرِ ضَرْبَانِ:

15- الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: مَا تَعَيَّنَ مَالِكُهُ فَلَا نَظَرَ لِلسُّلْطَانِ فِي إِقْطَاعِهِ اتِّفَاقًا، إِلاَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ الْأَرْضِ مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ أَوِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ.وَهَذَا إِذَا كَانَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ لِمُسْلِمٍ أَمْ لِذِمِّيٍّ.فَإِنْ كَانَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ الَّتِي لَا يَثْبُتُ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا يَدٌ، فَأَرَادَ الْإِمَامُ إِقْطَاعَهَا عِنْدَ الظَّفَرِ جَازَ.وَقَدْ: « سَأَلَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُقْطِعَهُ عُيُونَ الْبَلَدِ الَّذِي كَانَ مِنْهُ بِالشَّامِ قَبْلَ فَتْحِهِ فَفَعَلَ ».

16- الضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ الْعَامِرِ: مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُوهُ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ مُسْتَحِقُّوهُ: فَمَا اصْطَفَاهُ الْإِمَامُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا دَخَلَ بَيْتَ الْمَالِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ، أَوْ مَا مَاتَ عَنْهُ أَرْبَابُهُ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ وَارِثٌ بِفَرْضٍ وَلَا تَعْصِيبٍ فَفِي إِقْطَاعِهِ رَأْيَانِ:

الْأَوَّلُ: عَدَمُ الْجَوَازِ.وَهُوَ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِقْطَاعُ رَقَبَتِهِ لِاصْطِفَائِهِ لِبَيْتِ الْمَالِ، فَكَانَ بِذَلِكَ مِلْكًا لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ.فَجَرَى عَلَى رَقَبَتِهِ حُكْمُ الْوَقْفِ الْمُؤَبَّدِ.

الثَّانِي: الْجَوَازُ.وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُجِيزَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَنْ لَهُ غَنَاءٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَمَنْ يَقْوَى بِهِ عَلَى الْعَدُوِّ، وَيَعْمَلُ فِي ذَلِكَ بِاَلَّذِي يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَصْلَحُ لِأَمْرِهِمْ، وَالْأَرْضُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ يَصِحُّ تَمْلِيكُ رَقَبَتِهَا، كَمَا يُعْطَى الْمَالُ حَيْثُ ظَهَرَتِ الْمَصْلَحَةُ.

إِقْطَاعُ الْمَعَادِنِ

الْمَعَادِنُ هِيَ الْبِقَاعُ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ جَوَاهِرَ الْأَرْضِ.وَهِيَ ضَرْبَانِ: ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ.

17- أَمَّا الظَّاهِرَةُ: فَمَا كَانَ جَوْهَرُهَا الْمُسْتَوْدَعُ فِيهَا بَارِزًا.كَمَعَادِنِ الْكُحْلِ، وَالْمِلْحِ، وَالنَّفْطِ، فَهُوَ كَالْمَاءِ الَّذِي لَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ، وَالنَّاسُ فِيهِ سَوَاءٌ، يَأْخُذُهُ مَنْ وَرَدَ إِلَيْهِ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ أَبْيَضَ بْنَ حَمَّالٍ « اسْتَقْطَعَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِلْحَ مَأْرَبٍ فَأَقْطَعَهُ، فَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَرَدْتُ هَذَا الْمِلْحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ بِأَرْضٍ لَيْسَ فِيهَا غَيْرُهُ، مَنْ وَرَدَهُ أَخَذَهُ وَهُوَ مِثْلُ الْمَاءِ الْعِدِّ بِالْأَرْضِ، فَاسْتَقَالَ أَبْيَضَ قَطِيعَةَ الْمِلْحِ.فَقَالَ: قَدْ أَقَلْتُكَ عَلَى أَنْ تَجْعَلَهُ مِنِّي صَدَقَةً.فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: هُوَ مِنْكَ صَدَقَةٌ، وَهُوَ مِثْلُ الْمَاءِ الْعِدِّ، مَنْ وَرَدَهُ أَخَذَهُ »

وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ أَجَازُوا إِقْطَاعَ الْإِمَامِ لِلْمَعَادِنِ بِغَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ.

18- وَأَمَّا الْمَعَادِنُ الْبَاطِنَةُ: فَهِيَ مَا كَانَ جَوْهَرُهُ مُسْتَكِنًّا فِيهَا، لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلاَّ بِالْعَمَلِ، كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالصُّفْرِ وَالْحَدِيدِ.فَهَذِهِ وَمَا أَشْبَهَهَا مَعَادِنُ بَاطِنَةٌ، سَوَاءٌ احْتَاجَ الْمَأْخُوذُ مِنْهَا إِلَى سَبْكٍ وَتَصْفِيَةٍ وَتَخْلِيصٍ أَوْ لَمْ يَحْتَجْ.وَقَدْ أَجَازَ إِقْطَاعَهَا الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الرَّأْيُ الرَّاجِحُ لِلشَّافِعِيَّةِ.

التَّصَرُّفُ فِي الْأَرَاضِيِ الْأَمِيرِيَّةِ:

19- يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَدْفَعَ الْأَرْضَ الْأَمِيرِيَّةَ لِلزِّرَاعَةِ، إِمَّا بِإِقَامَتِهِمْ مَقَامَ الْمُلاَّكِ فِي الزِّرَاعَةِ وَإِعْطَاءِ الْخَرَاجِ، أَوَإِجَارَتِهَا لِلزُّرَّاعِ بِقَدْرِ الْخَرَاجِ، وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ.

وَأَمَّا إِقْطَاعُهَا أَوْ تَمْلِيكُهَا: فَمَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، لِأَنَّهُ صَارَ مِلْكًا عَامًّا لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُجِيزَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَنْ لَهُ غَنَاءٌ فِي الْإِسْلَامِ، كَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ مَا يَرَاهُ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ وَأَصْلَحَ، وَالْأَرْضُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ.

وَعَلَى هَذَا فَمَنْ يُلْغِي إِقْطَاعَهَا لَا يُجِيزُ تَمْلِيكَهَا، أَوْ إِرْثَهَا أَوْ إِرْثَ اخْتِصَاصِهَا، وَإِنَّمَا مَنَافِعُهَا هِيَ الَّتِي تُمْلَكُ فَقَطْ.فَلَهُ إِيجَارُهَا، وَلِلْإِمَامِ إِخْرَاجُهَا عَنْهُ مَتَى شَاءَ، غَيْرَ أَنَّهُ جَرَى الرَّسْمُ فِي الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَنِ ابْنٍ انْتَقَلَ الِاخْتِصَاصُ لِلِابْنِ مَجَّانًا، وَإِلاَّ فَلِبَيْتِ الْمَالِ، وَلَوْ لَهُ بِنْتٌ أَوْ أَخٌ لِأَبٍ لَهُ أَخْذُهَا بِالْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ.وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الْأَرَاضِي الْأَمِيرِيَّةُ عَامِرَةً، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مَوَاتًا فَإِنَّهَا تُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ، وَتُؤْخَذُ بِالْإِقْطَاعِ كَمَا سَبَقَ، وَتُورَثُ عَنْهُ إِذَا مَاتَ، وَيَصِحُّ بَيْعُهَا، وَعَلَيْهِ وَظِيفَتُهَا مِنْ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ- (أَرْضُ الْحَوْزِ).

إِقْطَاعُ الْمَرَافِقِ:

20- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إِقْطَاعُ الْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ وَمَا لَا غِنَى عَنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ أَرْضُ الْمِلْحِ وَالْقَارِ وَنَحْوِهَا.وَكَذَلِكَ مَا قَرُبَ مِنَ الْعَامِرِ، وَتَعَلَّقَتْ بِهِ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ طُرُقٍ وَسَيْلِ مَاءٍ وَمَطْرَحِ قُمَامَةٍ وَمَلْقَى تُرَابٍ وَآلَاتٍ، فَلَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَكَذَلِكَ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ مَصَالِحُ الْقَرْيَةِ، كَفِنَائِهَا وَمَرْعَى مَاشِيَتِهَا وَمُحْتَطَبِهَا وَطُرُقِهَا وَمَسِيلِ مَائِهَا، لَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ.

إِجَارَةُ الْإِقْطَاعَاتِ وَإِعَارَتُهَا:

21- مَا أَقْطَعَهُ الْإِمَامُ لِلنَّاسِ مِلْكًا، أَوِ اشْتُرِيَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ شِرَاءً مُسَوِّغًا، فَلَا خَفَاءَ فِي جَوَازِ إِجَارَتِهِ وَإِعَارَتِهِ، حَيْثُ صَارَ مِلْكًا لِلْأَشْخَاصِ يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ، وَمَنْ أَقْطَعَهُ الْإِمَامُ أَرْضًا إِقْطَاعَ انْتِفَاعٍ فِي مُقَابَلَةِ خِدْمَةٍ عَامَّةٍ يُؤَدِّيهَا، وَبِعِبَارَةِ الْفُقَهَاءِ: فِي مُقَابَلَةِ اسْتِعْدَادِهِ لِمَا أُعِدَّ لَهُ، فَإِنَّ لِلْمُقْطَعِ إِجَارَتَهَا وَإِعَارَتَهَا، لِأَنَّهُ مَلَكَهَا مِلْكَ مَنْفَعَةٍ.

وَإِذَا مَاتَ الْمُؤَجِّرُ، أَوْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ الْأَرْضَ الْمُقْطَعَةَ مِنْهُ انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ، لِانْتِقَالِ الْمِلْكِ إِلَى غَيْرِ الْمُؤَجِّرِ.

اسْتِرْجَاعُ الْإِقْطَاعَاتِ:

22- إِذَا أَقْطَعَ الْإِمَامُ أَرْضًا مَوَاتًا، وَتَمَّ إِحْيَاؤُهَا، أَوْ لَمْ تَمْضِ الْمُدَّةُ الْمُقَرَّرَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لِلْإِحْيَاءِ، فَلَيْسَ لَهُ اسْتِرْجَاعُ الْإِقْطَاعِ مِنْ مُقْطَعِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْإِقْطَاعُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بِشِرَاءٍ مَسُوغٍ أَوْ بِمُقَابِلٍ، لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ يَكُونُ تَمْلِيكًا بِالْإِحْيَاءِ، وَفِي الثَّانِي يَكُونُ تَمْلِيكًا بِالشِّرَاءِ فَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ مِنْهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ.

تَرْكُ عِمَارَةِ الْأَرْضِ الْمُقْطَعَةِ:

23- لَا يُعَارِضُ الْمُقْطَعُ إِذَا أَهْمَلَ أَرْضَهُ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ قَبْلَ طُولِ انْدِرَاسِهَا.وَقَدَّرَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ.وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ أَحْيَاهَا غَيْرُهُ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَتْ مِلْكًا لِلْمُقْطَعِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ:

إِنْ أَحْيَاهَا عَالِمًا بِالْإِقْطَاعِ كَانَتْ مِلْكًا لِلْمُقْطَعِ، وَإِنْ أَحْيَاهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِالْإِقْطَاعِ، خُيِّرَ الْمُقْطَعُ بَيْنَ أَخْذِهَا وَإِعْطَاءِ الْمُحْيِي نَفَقَةَ عِمَارَتِهِ، وَبَيْنَ تَرْكِهَا لِلْمُحْيِي وَالرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْأَرْضِ الْمُحْيَاةِ.وَقَالَ سَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا تَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ مُحْيِيهَا وَلَوْ طَالَ انْدِرَاسُهَا، وَإِنْ أَعْمَرَهَا غَيْرُهُ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِ الْأَوَّلِ.

وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مُدَّةً مُعَيَّنَةً، وَاعْتَبَرُوا الْقُدْرَةَ عَلَى الْإِحْيَاءِ بَدَلًا مِنْهَا.فَإِنْ مَضَى زَمَانٌ يَقْدِرُ عَلَى إِحْيَائِهَا فِيهِ قِيلَ لَهُ: إِمَّا أَنْ تُحْيِيَهَا فَتَقِرَّ فِي يَدِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ يَدَكَ عَنْهَا لِتَعُودَ إِلَى حَالِهَا قَبْلَ الْإِقْطَاعِ.وَقَدِ اعْتَبَرَ الْحَنَابِلَةُ الْأَعْذَارَ الْمَقْبُولَةَ مُسَوِّغًا لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ بِدُونِ إِحْيَاءٍ، إِلَى أَنْ يَزُولَ الْعُذْرُ.وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- جَعَلَ أَجَلَ الْإِقْطَاعِ إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ التَّأْجِيلَ لَا يَلْزَمُ، وَتَأْجِيلُ عُمَرَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِسَبَبٍ اقْتَضَاهُ.

وَقْفُ الْإِقْطَاعَاتِ:

24- إِنَّ وَقْفَ الْإِقْطَاعِ يَدُورُ صِحَّةً وَعَدَمًا عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِيَّةِ وَعَدَمِهِ لِلْوَاقِفِ، فَمَنْ أَثْبَتَهَا لَهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ حَكَمَ بِصِحَّةِ وَقْفِ الْإِقْطَاعِ، وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْهَا لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّتِهِ.عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقِفَ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى جِهَةٍ أَوْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَا يَقِفُهُ، إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ.

الْإِقْطَاعُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ:

25- الْأَصْلُ فِي إِقْطَاعِ التَّمْلِيكِ: أَنْ يَكُونَ مُجَرَّدًا عَنِ الْعِوَضِ، فَإِنْ أَقْطَعَهُ الْإِمَامُ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ كَذَا أَوْ كُلَّ عَامٍ كَذَا- جَازَ وَعُمِلَ بِهِ، وَمَحَلُّ الْعِوَضِ الْمَأْخُوذِ بَيْتُ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، لَا يَخْتَصُّ الْإِمَامُ بِهِ، لِعَدَمِ مِلْكِهِ لِمَا أَقْطَعَهُ، وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَرَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، حَيْثُ إِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ.وَهُنَاكَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ بِخِلَافِهِ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ الْإِقْطَاعَ عَطِيَّةٌ وَهِبَةٌ وَصِلَةٌ وَلَيْسَ بَيْعًا، وَالْأَثْمَانُ مِنْ صِفَةِ الْبَيْعِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


10-موسوعة الفقه الكويتية (بساط اليمين)

بِسَاطُ الْيَمِينِ

التَّعْرِيفُ:

1- رُكِّبَ هَذَا الْمُصْطَلَحُ مِنْ لَفْظَيْنِ.أَوَّلُهُمَا: لَفْظُ بِسَاطٍ.وَثَانِيهِمَا: لَفْظُ الْيَمِينِ.وَأَوَّلُهُمَا مُضَافٌ إِلَى ثَانِيهِمَا.وَهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ فِي الْحَلِفِ.وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُمَا بِهَذِهِ الصُّورَةِ سِوَى فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُتَضَايِفَيْنِ لِلْوُصُولِ إِلَى تَعْرِيفِ الْمُرَكَّبِ الْإِضَافِيِّ.

مِنْ مَعَانِي الْيَمِينِ فِي اللُّغَةِ: الْقَسَمُ وَالْحَلِفُ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا.

وَفِي اصْطِلَاحِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ: تَحْقِيقُ مَا لَمْ يَجِبْ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ.وَهَذَا أَدَقُّ تَعْرِيفٍ وَأَوْجَزُهُ، وَهُنَاكَ تَعَارِيفُ أُخْرَى لِلْيَمِينِ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.

2- أَمَّا الْبِسَاطُ فَهُوَ: السَّبَبُ الْحَامِلُ عَلَى الْيَمِينِ إِذْ هُوَ مَظِنَّتُهَا فَلَيْسَ فِيهِ انْتِفَاعُ النِّيَّةِ، بَلْ هُوَ مُتَضَمِّنٌ لَهَا.وَضَابِطُهُ: صِحَّةُ تَقْيِيدِ يَمِينِهِ بِقَوْلِهِ: مَا دَامَ هَذَا الشَّيْءُ أَيِ الْحَامِلُ عَلَى الْيَمِينِ مَوْجُودًا.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

3- بِسَاطُ الْيَمِينِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ انْفَرَدُوا بِهَذَا التَّعْبِيرِ: هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الْيَمِينِ، وَالْحَامِلُ عَلَيْهَا.

وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُقَيِّدًا لِمُطْلَقِ الْيَمِينِ، أَوْ مُخَصِّصًا لِعُمُومِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ هُنَاكَ ظَالِمٌ فِي السُّوقِ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَشْتَرِي لَحْمًا مِنْ هَذَا السُّوقِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَيِّدَ يَمِينَهُ بِوُجُودِ هَذَا الظَّالِمِ، فَإِذَا زَالَ هَذَا الظَّالِمُ جَازَ لَهُ شِرَاءُ اللَّحْمِ مِنْ هَذَا السُّوقِ، وَلَا يَكُونُ حَانِثًا.

وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ خَادِمُ الْمَسْجِدِ سَيِّئَ الْخُلُقِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَدْخُلُ هَذَا الْمَسْجِدَ، ثُمَّ زَالَ هَذَا الْخَادِمُ، فَلَوْ دَخَلَ هَذَا الْمَسْجِدَ لَا يَحْنَثُ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَيِّدَ الْيَمِينَ بِقَوْلِهِ: مَا دَامَ هَذَا الْخَادِمُ مَوْجُودًا.

وَيُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْبِسَاطِ أَلاَّ تَكُونَ لِلْحَالِفِ نِيَّةٌ، وَأَلاَّ يَكُونَ لَهُ مَدْخَلٌ فِي هَذَا الْبَاعِثِ، وَالتَّقْيِيدُ بِهِ أَوِ التَّخْصِيصُ بِهِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ زَوَالِ هَذَا الْبَاعِثِ.

وَيُقَابِلُ بِسَاطَ الْيَمِينِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، مَا يُسَمَّى يَمِينَ الْعُذْرِ، كَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ عِنْدَمَا تَهَيَّأَتْ لِلْخُرُوجِ: وَاللَّهِ لَا تَخْرُجِي، فَإِذَا جَلَسَتْ سَاعَةً ثُمَّ خَرَجَتْ لَا يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، خِلَافًا لِزُفَرَ الَّذِي أَخَذَ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ الْحِنْثُ.

وَلَيْسَ هُنَاكَ دَخْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِلْبَاعِثِ عَلَى الْيَمِينِ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ، وَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمْ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، إِنْ عَامًّا فَعَامٌّ، أَوْ مُطْلَقًا فَمُطْلَقٌ، أَوْ خَاصًّا فَخَاصٌّ.

وَسَمَّى الْحَنَابِلَةُ بِسَاطَ الْيَمِينِ: سَبَبَ الْيَمِينِ وَمَا هَيَّجَهَا، وَاعْتَبَرُوا مُطْلَقَ الْيَمِينِ، إِذَا لَمْ يَنْوِ الْحَالِفُ شَيْئًا.وَمَنْ أَرَادَ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى مُصْطَلَحِ (أَيْمَان).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


11-موسوعة الفقه الكويتية (تكفير)

تَكْفِيرٌ

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي التَّكْفِيرِ فِي اللُّغَةِ: التَّغْطِيَةُ وَالسَّتْرُ وَهُوَ أَصْلُ الْبَابِ.

تَقُولُ الْعَرَبُ لِلزَّرَّاعِ: كَافِرٌ، وَمِنْهُ قوله تعالى {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُه} وَأَيْضًا يُقَالُ: التَّكْفِيرُ فِي الْمُحَارِبِ: إِذَا تَكَفَّرَ فِي سِلَاحِهِ، وَالتَّكْفِيرُ أَيْضًا: هُوَ أَنْ يَنْحَنِيَ الْإِنْسَانُ وَيُطَأْطِئَ رَأْسَهُ قَرِيبًا مِنَ الرُّكُوعِ، كَمَا يَفْعَلُ مَنْ يُرِيدُ تَعْظِيمَ صَاحِبِهِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي مَعْشَرٍ «أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ التَّكْفِيرَ فِي الصَّلَاةِ» أَيِ الِانْحِنَاءَ الْكَثِيرَ فِي حَالِ الْقِيَامِ.

وَالْكُفْرُ فِي الشَّرْعِ: نَقِيضُ الْإِيمَانِ، وَهُوَ الْجُحُودُ، وَمِنْهُ قوله تعالى {إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} أَيْ جَاحِدُونَ.

وَهُوَ بِهَذَا لَا يَخْرُجُ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، لِأَنَّ الْكَافِرَ ذُو كُفْرٍ، أَيْ ذُو تَغْطِيَةٍ لِقَلْبِهِ بِكُفْرِهِ، قَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: الْكُفْرُ شَرْعًا: تَكْذِيبُهُ- صلى الله عليه وسلم- فِي شَيْءٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً.

وَالتَّكْفِيرُ: هُوَ نِسْبَةُ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ إِلَى الْكُفْرِ.وَتَكْفِيرُ الذُّنُوبِ مَحْوُهَا بِفِعْلِ الْحَسَنَاتِ وَنَحْوِهِ، لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.

وَالتَّكْفِيرُ عَنِ الْيَمِينِ: هُوَ فِعْلُ مَا يَجِبُ بِالْحِنْثِ فِيهَا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّشْرِيكُ:

2- التَّشْرِيكُ: مَصْدَرُ شَرَّكَ، يُقَالُ: شَرَّكْتُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَالِ تَشْرِيكًا، وَشَرَّكَ النَّعْلَ: جَعَلَ لَهَا شِرَاكًا.

وَشَرْعًا: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ شَرِيكًا فِي مُلْكِهِ أَوْ رُبُوبِيَّتِهِ.

قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عَبْدِهِ لُقْمَانَ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاَللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}

وَالْكُفْرُ أَعَمُّ مِنَ الشِّرْكِ فَهُوَ أَحَدُ أَفْرَادِهِ.

وَالتَّشْرِيكُ أَيْضًا: بَيْعُ بَعْضِ مَا اشْتَرَى بِمَا اشْتَرَاهُ بِهِ، فَهُوَ التَّوْلِيَةُ بِجُزْءِ السِّلْعَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْبَحْثِ هُوَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ.

ب- التَّفْسِيقُ:

3- التَّفْسِيقُ: تَفْعِيلٌ مِنَ الْفِسْقِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْخُرُوجُ عَنِ الْأَمْرِ، وَيُقَالُ: أَصْلُهُ خُرُوجُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ، يُقَالُ: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ: إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا، وَكَأَنَّ الْفَأْرَةَ إِنَّمَا سُمِّيَتْ فُوَيْسِقَةً لِخُرُوجِهَا مِنْ جُحْرِهَا عَلَى النَّاسِ.وَهُوَ شَرْعًا: الْعِصْيَانُ وَالتَّرْكُ لِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْخُرُوجُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، وَمِنْهُ قوله تعالى حِكَايَةً عَنْ إِبْلِيسَ {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أَيْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ.وَقَدْ يَكُونُ الْفِسْقُ شِرْكًا، أَوْ كُفْرًا، أَوْ إِثْمًا.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّكْفِيرِ:

(أَوَّلًا) تَكْفِيرُ الْمُسْلِمِ

4- الْأَصْلُ بَقَاءُ الْمُسْلِمِ عَلَى إِسْلَامِهِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، لِمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ الْمُسْلِمُ، لَهُ مَا لَنَا وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا».

وَيَجِبُ قَبْلَ تَكْفِيرِ أَيِّ مُسْلِمٍ النَّظَرُ وَالتَّفَحُّصُ فِيمَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، فَلَيْسَ كُلُّ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ فَاسِدٍ يُعْتَبَرُ مُكَفِّرًا.

وَيَجِبُ كَذَلِكَ عَلَى النَّاسِ اجْتِنَابُ هَذَا الْأَمْرِ وَالْفِرَارُ مِنْهُ وَتَرْكُهُ لِعُلَمَائِهِمْ لِخَطَرِهِ الْعَظِيمِ، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنه- قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا، فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ».

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ، أَوْ قَالَ: عَدُوُّ اللَّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلاَّ حَارَ عَلَيْهِ».

التَّحَرُّزُ مِنَ التَّكْفِيرِ:

5- لَا يَنْبَغِي أَنْ يُكَفَّرَ مُسْلِمٌ أَمْكَنَ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى مَحْمَلٍ حَسَنٍ، أَوْ كَانَ فِي كُفْرِهِ خِلَافٌ وَلَوْ كَانَ رِوَايَةً ضَعِيفَةً.مَا يُشَكُّ فِي أَنَّهُ كُفْرٌ لَا يُحْكَمُ بِهِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْإِيمَانِ إِلاَّ جُحُودُ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ، إِذِ الْإِسْلَامُ الثَّابِتُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ مَعَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ وُجُوهٌ تُوجِبُ التَّكْفِيرَ وَوَجْهٌ وَاحِدٌ يَمْنَعُهُ فَعَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَمِيلَ إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ؛ لِعِظَمِ خَطَرِهِ وَتَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ الْكُفْرَ نِهَايَةٌ فِي الْعُقُوبَةِ فَيَسْتَدْعِي نِهَايَةً فِي الْجِنَايَةِ، وَمَعَ الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ لَا نِهَايَةَ.

مَتَى يُحْكَمُ بِالْكُفْرِ:

6- يُشْتَرَطُ فِي تَكْفِيرِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا مُخْتَارًا عِنْدَ صُدُورِ مَا هُوَ مُكَفِّرٌ مِنْهُ، فَلَا يَصِحُّ تَكْفِيرُ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ، وَلَا مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِنَوْمٍ أَوْ إِغْمَاءٍ، لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِمْ، فَلَا اعْتِدَادَ بِقَوْلِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ.

وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَكْفِيرُ مُكْرَهٍ عَلَى الْكُفْرِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، قَالَ تَعَالَى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}.

وَجَرَى الْخِلَافُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ تَكْفِيرِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَالسَّكْرَانِ إِذَا صَدَرَ مِنْهُمَا مَا هُوَ مُكَفِّرٌ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ تَكْفِيرِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ إِذَا صَدَرَ مِنْهُ مَا هُوَ مُكَفِّرٌ.

وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ تَقْيِيدُهُ بِالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ الْمُرَاهِقِ فَقَطْ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ تَكْفِيرِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بَلْ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالضَّرْبِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْحَبْسِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُنْتَظَرُ إِلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالِاسْتِتَابَةِ، فَإِنْ أَصَرَّ قُتِلَ لِحَدِيثِ «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَبْرَأَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبَرَ».

تَكْفِيرُ السَّكْرَانِ:

7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السَّكْرَانَ غَيْرُ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ لَا يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ إِذَا صَدَرَ مِنْهُ مَا هُوَ مُكَفِّرٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي السَّكْرَانِ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ:

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى تَكْفِيرِهِ إِذَا صَدَرَ مِنْهُ مَا هُوَ مُكَفِّرٌ.

لِقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- إِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَعَلَى الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ حَدَّ الْفِرْيَةِ الَّتِي يَأْتِي بِهَا فِي سُكْرِهِ وَاعْتَبَرُوا مَظِنَّتَهَا، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ وَسَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ فَتَصِحُّ رِدَّتُهُ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ تَكْفِيرِ السَّكْرَانِ مُطْلَقًا.

بِمَ يَكُونُ التَّكْفِيرُ:

أ- التَّكْفِيرُ بِالِاعْتِقَادِ:

8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَكْفِيرِ مَنِ اعْتَقَدَ الْكُفْرَ بَاطِنًا، إِلاَّ أَنَّهُ لَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ إِلاَّ إِذَا صَرَّحَ بِهِ.

وَمَنْ عَزَمَ عَلَى الْكُفْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَوْ تَرَدَّدَ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَكْفُرُ حَالًا لِانْتِفَاءِ التَّصْدِيقِ بِعَزْمِهِ عَلَى الْكُفْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَتَطَرَّقَ الشَّكُّ إِلَيْهِ بِالتَّرَدُّدِ فِي الْكُفْرِ.وَلَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ إِلاَّ إِذَا صَرَّحَ بِالْكُفْرِ أَيْضًا.

ب- التَّكْفِيرُ بِالْقَوْلِ:

9- اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ قَوْلٌ مُكَفِّرٌ، سَوَاءٌ أَقَالَهُ اسْتِهْزَاءً، أَمْ عِنَادًا، أَمِ اعْتِقَادًا لقوله تعالى: {قُلْ أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.

وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ الْمُكَفِّرَةُ قَدْ تَكُونُ صَرِيحَةً كَقَوْلِهِ: أُشْرِكُ أَوْ أَكْفُرُ بِاَللَّهِ، أَوْ غَيْرَ صَرِيحَةٍ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ جِسْمٌ مُتَحَيِّزٌ أَوْ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ، أَوْ جَحَدَ حُكْمًا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَحُرْمَةِ الزِّنَى.

وَأَمَّا مَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِشِدَّةِ فَرَحٍ أَوْ دَهَشٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، كَقَوْلِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، فَقَالَ غَلَطًا: أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ».

أَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ.لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».

تَكْفِيرُ مَنْ سَبَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ:

10- اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ سَبَّ الذَّاتَ الْمُقَدَّسَةَ الْعَلِيَّةَ أَوِ اسْتَخَفَّ بِهَا أَوِ اسْتَهْزَأَ، لقوله تعالى: {قُلْ أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُم} وَاخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى قَبُولِهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ قَبُولِهَا، وَيُقْتَلُ بِكُلِّ حَالٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَنْبَهُ عَظِيمٌ جِدًّا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ عَقِيدَتِهِ.وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْآخِرَةِ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي تَوْبَتِهِ قُبِلَتْ بَاطِنًا وَنَفَعَهُ ذَلِكَ.

تَكْفِيرُ مَنْ سَبَّ الْأَنْبِيَاءَ ( (:

11- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى تَكْفِيرِ مَنْ سَبَّ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوِ اسْتَخَفَّ بِحَقِّهِ، أَوْ تَنَقَّصَهُ، أَوْ نَسَبَ إِلَيْهِ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، كَعَدَمِ الصِّدْقِ وَالتَّبْلِيغِ، وَالسَّابُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يَأْخُذُ حُكْمَ الْمُرْتَدِّ فَيُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِلَ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُقْتَلُ حَدًّا.وَإِنْ تَابَ.وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ.

وَسَبُّ الْمَلَائِكَةِ كَسَبِّ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِالنَّبِيِّ أَوِ الْمَلَكِ الْمُجْمَعِ عَلَى كَوْنِهِ نَبِيًّا أَوْ مَلَكًا، فَإِنْ سَبَّ مَنْ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى كَوْنِهِ نَبِيًّا أَوْ مَلَكًا كَالْخَضِرِ وَهَارُوتَ وَمَارُوتَ لَمْ يَكْفُرْ، وَأَدَّبَهُ الْحَاكِمُ اجْتِهَادًا.

تَكْفِيرُ مُكَفِّرِ الصَّحَابَةِ:

12- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ كَفَّرَ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَكَذَّبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ قَذَفَ السَّيِّدَةَ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- بِمَا بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ، أَوْ أَنْكَرَ صُحْبَةَ الصِّدِّيقِ كَفَرَ، لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِنَصِّ الْكِتَابِ.وَأَمَّا مَنْ كَفَّرَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ دُونَ بَعْضٍ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إِلَى عَدَمِ كُفْرِهِ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَسَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى تَكْفِيرِ مَنْ كَفَّرَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ وَتُطَبَّقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ.

قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ فِي الْإِنْصَافِ- وَهُوَ الصَّوَابُ- وَاَلَّذِي نَدِينُ اللَّهَ بِهِ، وَنَصَّ صَاحِبُ الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي عَلَى أَنَّ مَنْ كَفَّرَ أَحَدَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ.

تَكْفِيرُ مَنْ سَبَّ الشَّيْخَيْنِ:

13- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ تَكْفِيرِ مَنْ سَبَّ أَحَدَ الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ- رضي الله عنهما-، وَتَوَقَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كُفْرِهِ وَقَتْلِهِ، وَقَالَ: يُعَاقَبُ وَيُجْلَدُ وَيُحْبَسُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَرْجِعَ عَنْ ذَلِكَ، وَعَنْهُ: مَنْ سَبَّ صَحَابِيًّا مُسْتَحِلًّا كَفَرَ، وَإِلاَّ فُسِّقَ.وَنَقَلَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ عَنْهُ فِيمَنْ شَتَمَ صَحَابِيًّا قَوْلُهُ: الْقَتْلُ أَجْبُنُ عَنْهُ، وَيُضْرَبُ، مَا أَرَاهُ عَلَى الْإِسْلَامِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ حَكَاهُ الْقَاضِي فِي تَكْفِيرِ مَنْ سَبَّ الشَّيْخَيْنِ- رضي الله عنهما-، وَمِمَّنْ قَالَ بِتَكْفِيرِهِ كَذَلِكَ الدَّبُوسِيُّ، وَأَبُو اللَّيْثِ، وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْأَشْبَاهِ.

قَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي الْإِفْتَاءِ وَالْقَضَاءِ، رِعَايَةً لِجَانِبِ حَضْرَةِ الْمُصْطَفَى- صلى الله عليه وسلم- وَهَذَا خِلَافُ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ.

تَكْفِيرُ مُنْكِرِ الْإِجْمَاعِ:

14- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى تَكْفِيرِ مَنْ جَحَدَ حُكْمًا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً، كَوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالزَّكَاةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ.

وَأَمَّا مَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ وَلَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ، كَوُجُوبِ إِعْطَاءِ السُّدُسِ لِبِنْتِ الِابْنِ مَعَ وُجُودِ الْبِنْتِ فَلَا تَكْفِيرَ لِمُنْكِرِهِ.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَمْ يَشْرِطُوا لِلتَّكْفِيرِ سِوَى قَطْعِيَّةِ الثُّبُوتِ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا بِتَكْفِيرِ مَنْ جَحَدَ اسْتِحْقَاقَ بِنْتِ الِابْنِ السُّدُسَ مَعَ الْبِنْتِ فِي ظَاهِرِ كَلَامِهِمْ.

ج- التَّكْفِيرُ بِالْعَمَلِ:

15- نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَفْعَالٍ لَوْ فَعَلَهَا الْمُكَلَّفُ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ بِهَا، وَهِيَ كُلُّ مَا تَعَمَّدَهُ اسْتِهْزَاءً صَرِيحًا بِالدِّينِ أَوْ جُحُودًا لَهُ، كَالسُّجُودِ لِصَنَمٍ أَوْ شَمْسٍ أَوْ قَمَرٍ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّصْدِيقِ، وَكَإِلْقَاءِ الْمُصْحَفِ فِي قَاذُورَةٍ، فَإِنَّهُ يَكْفُرُ وَإِنْ كَانَ مُصَدِّقًا، لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حُكْمِ التَّكْذِيبِ، وَلِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الِاسْتِخْفَافِ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالِاسْتِخْفَافُ بِالْكَلَامِ اسْتِخْفَافٌ بِالْمُتَكَلِّمِ.

وَقَدْ أَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلْقَاءَ كُتُبِ الْحَدِيثِ بِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى تَكْفِيرِ مَنْ تَزَيَّا بِزِيِّ الْكُفْرِ مِنْ لُبْسِ غِيَارٍ، وَشَدِّ زُنَّارٍ، وَتَعْلِيقِ صَلِيبٍ.وَقَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِمَا إِذَا فَعَلَهُ حُبًّا فِيهِ وَمَيْلًا لِأَهْلِهِ، وَأَمَّا إِنْ لَبِسَهُ لَعِبًا فَحَرَامٌ وَلَيْسَ بِكُفْرٍ.

تَكْفِيرُ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ:

16- مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَدَمُ تَكْفِيرِ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ، وَعَدَمُ تَخْلِيدِهِ فِي النَّارِ إِذَا مَاتَ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ».فَلَوْ كَانَ مُرْتَكِبُ الْكَبِيرَةِ يَكْفُرُ بِكَبِيرَتِهِ لَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مُؤْمِنًا.

تَكْفِيرُ السَّاحِرِ:

17- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَكْفِيرِ مَنِ اعْتَقَدَ إِبَاحَةَ السِّحْرِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي تَكْفِيرِ مَنْ تَعَلَّمَهُ أَوْ عَمِلَهُ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِمُجَرَّدِ تَعَلُّمِ السِّحْرِ وَعَمَلِهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ اعْتِقَادٌ أَوْ عَمَلُ مَا هُوَ مُكَفِّرٌ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى تَكْفِيرِهِ مُطْلَقًا، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْظِيمِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَنِسْبَةِ الْكَائِنَاتِ وَالْمَقَادِيرِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ قَتْلِهِ، وَلَا يُسْتَتَابُ لِعَمَلِ السِّحْرِ، لِسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، لَا بِمُجَرَّدِ عِلْمِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي اعْتِقَادِهِ مَا يُوجِبُ كُفْرَهُ، وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ» فَسَمَّاهُ حَدًّا، وَالْحَدُّ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ.

وَقَصَرَهُ الْحَنَابِلَةُ عَلَى السَّاحِرِ الَّذِي يَكْفُرُ بِسِحْرِهِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُقْتَلُ إِنْ كَانَ مُتَجَاهِرًا بِهِ مَا لَمْ يَتُبْ، فَإِنْ كَانَ يَسُرُّهُ قُتِلَ مُطْلَقًا، وَلَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ.

آثَارُ التَّكْفِيرِ:

18- يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّكْفِيرِ آثَارٌ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْمُكَفِّرِ وَالْمُكَفَّرِ فَآثَارُهُ عَلَى الْمُكَفَّرِ إِذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ هِيَ:

أ- حُبُوطُ الْعَمَلِ:

19- إِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ وَاسْتَمَرَّ كَافِرًا حَتَّى مَوْتِهِ كَانَتْ رِدَّتُهُ مُحْبِطَةً لِلْعَمَلِ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}.

فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْحَجِّ وَمَا بَقِيَ سَبَبُهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ لِأَنَّهُ بِالرِّدَّةِ صَارَ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ فَإِذَا أَسْلَمَ وَهُوَ غَنِيٌّ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ.وَلِأَنَّ وَقْتَهُ مُتَّسِعٌ إِلَى آخِرِ الْعُمْرِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بِخِطَابٍ مُبْتَدَأٍ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالزَّكَاةُ لِلْأَوْقَاتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَلِأَنَّ سَبَبَهُ الْبَيْتُ الْمُكَرَّمُ وَهُوَ بَاقٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي أَدَّاهَا، لِخُرُوجِ سَبَبِهَا.

وَمَا بَقِيَ سَبَبُهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ كَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ مَثَلًا ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ تَابَ فِي الْوَقْتِ يُعِيدُ الظُّهْرَ لِبَقَاءِ السَّبَبِ وَهُوَ الْوَقْتُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ عِبَادَاتِهِ الَّتِي فَعَلَهَا فِي إِسْلَامِهِ مِنْ صَلَاةٍ وَحَجٍّ وَغَيْرِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فَعَلَهَا عَلَى وَجْهِهَا وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْهَا فَلَا تَعُودُ إِلَى ذِمَّتِهِ، كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ.وَالْمَنْصُوصُ عَنِ الشَّافِعِيِّ- رحمه الله- (حُبُوطُ ثَوَابِ الْأَعْمَالِ لَا نَفْسُ الْأَعْمَالِ.

ب- الْقَتْلُ:

20- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَحَوَّلَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ إِلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ».

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّةٌ).

آثَارُ التَّكْفِيرِ عَلَى الْمُكَفِّرِ:

21- لَمَّا كَانَ التَّكْفِيرُ مِنَ الْأُمُورِ الْخَطِيرَةِ فَقَدْ جَعَلَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ التَّعْزِيرَ، فَمَنْ نَسَبَ أَحَدًا إِلَى الْكُفْرِ، أَوْ قَذَفَهُ بِوَصْفٍ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْكُفْرِ، كَيَا يَهُودِيُّ، وَيَا نَصْرَانِيُّ، وَيَا مَجُوسِيُّ عُزِّرَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ».

(ثَانِيًا) تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ

أ- الذُّنُوبُ الَّتِي شُرِعَتْ لَهَا كَفَّارَاتٌ مُحَدَّدَةٌ:

22- أَوْجَبَ الشَّارِعُ عَلَى الْإِنْسَانِ كَفَّارَاتٍ مُحَدَّدَةً لِبَعْضِ الذُّنُوبِ بِمُلَابَسَتِهِ إِيَّاهَا وَذَلِكَ لِعِظَمِ هَذِهِ الذُّنُوبِ وَخَطَرِهَا، وَالْقَصْدُ مِنْ هَذِهِ الْكَفَّارَاتِ تَدَارُكُ مَا فَرَّطَ مِنَ التَّقْصِيرِ وَهِيَ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ.

وَهِيَ خَمْسُ كَفَّارَاتٍ: كَفَّارَةُ الْقَتْلِ، وَالْوَطْءِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَالظِّهَارِ، وَالْحِنْثِ فِي الْأَيْمَانِ، وَفِعْلِ مَحْظُورٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (كَفَّارَةٌ).

ب- الذُّنُوبُ الَّتِي لَمْ تُشَرَّعْ لَهَا كَفَّارَاتٌ مُحَدَّدَةٌ:

23- لَمْ يَشْرَعِ الْإِسْلَامُ كَفَّارَاتٍ مُحَدَّدَةً غَيْرَ الْخَمْسِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ وَالْعِبَادَاتِ الَّتِي تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ عُمُومًا كَاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، فَإِنَّهُ يُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ، قَالَ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}.

وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا مِنْ عَبْدٍ يُؤَدِّي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ، وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ السَّبْعَ إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى إِنَّهَا لَتُصَفِّقُ» وَلَا يَنْحَصِرُ تَكْفِيرُ الصَّغَائِرِ فِي اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ بَلْ هُنَاكَ بَعْضُ الْعِبَادَاتِ تُكَفِّرُهَا أَيْضًا كَالْوُضُوءِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَالْعُمْرَةِ إِلَى الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ الْمَبْرُورِ.

وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

وَذَكَرَ الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْغِيبِ فِي سُنَّةِ الْوُضُوءِ لِيَزِيدَ ثَوَابُهُ، وَإِلاَّ فَالتَّكْفِيرُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الصَّلَاةِ كَمَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ مَرْفُوعًا «الْوُضُوءُ يُكَفِّرُ مَا قَبْلَهُ ثُمَّ تَصِيرُ الصَّلَاةُ نَافِلَةً».وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ» وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ».

وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا كَفَّرَ الْوُضُوءُ لَمْ يَجِدِ الصَّوْمُ مَا يُكَفِّرُهُ، وَهَكَذَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الذُّنُوبَ كَالْأَمْرَاضِ، وَالطَّاعَاتِ كَالْأَدْوِيَةِ، فَكَمَا أَنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَمْرَاضِ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْأَدْوِيَةِ لَا يَنْفَعُ فِيهِ غَيْرُهُ، كَذَلِكَ الطَّاعَاتُ مَعَ الذُّنُوبِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مِنَ الذُّنُوبِ ذُنُوبًا لَا يُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَلَا الصِّيَامُ وَلَا الْحَجُّ وَلَا الْعُمْرَةُ، قَالُوا فَمَا يُكَفِّرُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الْهُمُومُ فِي طَلَبِ الْمَعِيشَةِ».

وَهَذَا كُلُّهُ فِي الذُّنُوبِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الْمُتَعَلِّقَةُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْمُقَاصَّةِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


12-موسوعة الفقه الكويتية (تلف 1)

تَلَفٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- التَّلَفُ لُغَةً: الْهَلَاكُ وَالْعَطَبُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالْإِتْلَافُ: إِحْدَاثُ التَّلَفِ، وَيُنْظَرُ لِتَفْصِيلِهِ مُصْطَلَحُ: (إِتْلَافٌ) وَالتَّلَفُ فِي بَابِ الْمُضَارَبَةِ مَخْصُوصٌ بِالنَّقْصِ الْحَاصِلِ لَا عَنْ تَحْرِيكٍ، بِخِلَافِ الْخُسْرِ فَهُوَ مَا نَشَأَ عَنْ تَحْرِيكٍ

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

2- التَّلَفُ يَتَعَلَّقُ بِهِ خِطَابُ الْوَضْعِ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارٌ أَهَمُّهَا الضَّمَانُ.وَالتَّلَفُ لَا يُوصَفُ بِحِلٍّ أَوْ حُرْمَةٍ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ فِيمَنْ يَضْمَنُ التَّلَفَ.

أَمَّا الْإِتْلَافُ، فَهُوَ إِحْدَاثُ التَّلَفِ، وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِهِ فِي مُصْطَلَحِ: (إِتْلَافٌ)

أَسْبَابُ التَّلَفِ:

3- التَّلَفُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِعَارِضٍ سَمَاوِيٍّ، وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ أَوْ بِالْجَائِحَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِفِعْلٍ مِنَ الْمَخْلُوقِ، وَهَذَا يُقَسِّمُهُ الْفُقَهَاءُ إِلَى نَوْعَيْنِ: تَلَفٌ حِسِّيٌّ، وَتَلَفٌ شَرْعِيٌّ، وَيُسَمِّيهِ الْمَالِكِيَّةُ التَّلَفَ الْحُكْمِيَّ.

فَالتَّلَفُ الْحِسِّيُّ: هُوَ هَلَاكُ الْعَيْنِ نَفْسِهَا، سَوَاءٌ أَتَى عَلَيْهَا كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا.

وَالتَّلَفُ الشَّرْعِيُّ (الْحُكْمِيُّ): هُوَ مَنْعُ الشَّارِعِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ مَعَ بَقَائِهَا بِسَبَبٍ مِنَ الْمُتْلِفِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَنْعُ عَامًّا يَدْخُلُ فِيهِ التَّلَفُ وَغَيْرُهُ، كَمَا فِي الْعَيْنِ، أَمْ مُبَاحًا لِلْمُتْلِفِ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا فِي وَطْءِ الْأَمَةِ، أَمْ كَانَ مُبَاحًا لِغَيْرِ الْمُتْلِفِ كَمَا فِي الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لَهُ صُوَرًا مِنْهَا، مَا لَوِ اشْتَرَى أَمَةً فَأَعْتَقَهَا أَبُوهُ قَبْلَ قَبْضِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ عِتْقَ أَبِيهِ كَعِتْقِهِ، حَيْثُ رَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمَهُ، وَمِثْلُهُ الْكِتَابَةُ، وَالتَّدْبِيرُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالْهِبَةُ.

وَهَذَا التَّقْسِيمُ بِاعْتِبَارِ الْمُتْلِفِ، أَمَّا بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ، فَهُوَ إِمَّا أَنْ يَرِدَ عَلَى النَّفْسِ وَالْأَعْضَاءِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (جِنَايَةٌ، وَدِيَةٌ، وَقِصَاصٌ)

وَإِمَّا أَنْ يَرِدَ عَلَى الْأَمْوَالِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا.

أَوَّلًا: أَثَرُ التَّلَفِ فِي الْعِبَادَاتِ:

أ- تَلَفُ زَكَاةِ الْمَالِ:

4- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَالِ بَعْدَ الْحَوْلِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُزَكِّي الضَّمَانُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَالٌ وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِتَلَفِ النِّصَابِ، كَالدَّيْنِ، فَضَمِنَهَا بِتَلَفِهَا فِي يَدِهِ.فَلَا يُعْتَبَرُ بَقَاءُ الْمَالِ.

وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ هَذَا الْحُكْمَ بِقَيْدَيْنِ: التَّمَكُّنُ مِنَ الْأَدَاءِ، وَالتَّفْرِيطُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ.فَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَدَاءِ أَوْ بِتَفْرِيطٍ مِنْ رَبِّ الْمَالِ فَلَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَنْهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ.

وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْحَنَابِلَةُ هَذَيْنِ الْقَيْدَيْنِ وَأَوْجَبُوا الضَّمَانَ مُطْلَقًا وَاعْتَبَرُوا إِمْكَانَ الْأَدَاءِ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْإِخْرَاجِ لَا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ.لِمَفْهُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ بَعْدَ الْحَوْلِ مُطْلَقًا.

وَلِأَنَّهَا حَقُّ الْفَقِيرِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا إِمْكَانُ الْأَدَاءِ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ، وَلِأَنَّهُ لَوِ اشْتُرِطَ لَمْ يَنْعَقِدِ الْحَوْلُ الثَّانِي، حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنَ الْأَدَاءِ.وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَنْعَقِدُ عَقِبَ الْأَوَّلِ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ فَلَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهَا إِمْكَانُ الْأَدَاءِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ.وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَدَاءِ مُطْلَقًا أَيْ وَلَوْ بِلَا تَفْرِيطٍ، وَاخْتَارَهَا ابْنُ قُدَامَةَ.

وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الزَّرْعَ وَالثَّمَرَ إِذَا تَلِفَ بِجَائِحَةٍ قَبْلَ الْقَطْعِ، فَإِنَّ زَكَاتَهُمَا تَسْقُطُ، فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ الْجَائِحَةِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ زَكَّاهُ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْخَارِصَ إِذَا خَرَصَ الثَّمَرَ ثُمَّ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ قَبْلَ الْجُذَاذِ، وَلِأَنَّهُ قَبْلَ الْجُذَاذِ فِي حُكْمِ مَا لَا تَثْبُتُ الْيَدُ عَلَيْهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى ثَمَرَهُ فَتَلِفَتْ بِجَائِحَةٍ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْبَائِعِ.

وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ فِي تَلَفِ الْمَوَاشِي قَيْدًا ثَالِثًا وَهُوَ مَجِيءُ السَّاعِي، فَإِذَا تَلِفَتْ أَوْ ضَاعَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ مَجِيءِ السَّاعِي فَلَا يُحْسَبُ مَا تَلِفَ أَوْ ضَاعَ، وَإِنَّمَا يُزَكَّى الْبَاقِي إِنْ كَانَ فِيهِ زَكَاةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ مَجِيءَ السَّاعِي شَرْطَ وُجُوبٍ، وَكَذَلِكَ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عِنْدَهُمْ عَنْهَا لَوْ تَلِفَتْ بَعْدَ مَجِيءِ السَّاعِي وَالْعَدِّ وَقَبْلَ أَخْذِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَجِيئَهُ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا إِلَى الْأَخْذِ، كَدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَقَدْ يَطْرَأُ أَثْنَاءَ الْوَقْتِ مَا يُسْقِطُهَا كَالْحَيْضِ، كَذَلِكَ التَّلَفُ بَعْدَ الْمَجِيءِ وَالْعَدِّ، وَأَمَّا لَوْ ذَبَحَ مِنْهَا شَيْئًا بِغَيْرِ قَصْدِ الْفِرَارِ، أَوْ بَاعَ شَيْئًا كَذَلِكَ بَعْدَ مَجِيءِ السَّاعِي وَقَبْلَ الْأَخْذِ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَيُحْسَبُ عِلْمُ الْمُعْتَمَدِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ بِقَصْدِ الْفِرَارِ فَتَجِبُ زَكَاتُهُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْحَوْلِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَالِ بَعْدَ الْحَوْلِ سَوَاءٌ أَتَمَكَّنَ مِنَ الْأَدَاءِ أَمْ لَا.

وَإِنْ هَلَكَ بَعْضُ النِّصَابِ سَقَطَ مِنَ الْوَاجِبِ فِيهِ بِقَدْرِ مَا هَلَكَ مِنْهُ لِتَعَلُّقِهَا بِالْعَيْنِ لَا بِالذِّمَّةِ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ وُجُوبَهَا بِقُدْرَةٍ مُيَسَّرَةٍ، وَالْمُعَلَّقُ بِقُدْرَةٍ مُيَسَّرَةٍ لَا يَبْقَى دُونَهَا، وَيَقْصِدُونَ بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسَّرَةِ هُنَا وَصْفُ النَّمَاءِ أَيْ إِمْكَانُ الِاسْتِثْمَارِ، لَا مُجَرَّدُ وُجُودِ النِّصَابِ.

وَأَمَّا إِذَا تَلِفَ الْمَالُ بَعْدَ الْحَوْلِ بِفِعْلِ الْمُزَكِّي نَفْسِهِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ، وَإِنِ انْتَفَتِ الْقُدْرَةُ الْمُيَسَّرَةُ لِبَقَائِهَا تَقْدِيرًا، زَجْرًا لَهُ عَنِ التَّعَدِّي وَنَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ.

هَذِهِ الْأَحْكَامُ فِيمَا إِذَا كَانَ التَّلَفُ بَعْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ التَّلَفُ قَبْلَ حُلُولِ الْحَوْلِ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ عَنْهُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ عَنْهُ إِنْ أَتْلَفَ رَبُّ الْمَالِ قَبْلَ الْحَوْلِ إِنْ لَمْ يَقْصِدِ الْفِرَارَ مِنْهَا، فَإِنْ قَصَدَ بِالْإِتْلَافِ الْفِرَارَ مِنَ الزَّكَاةِ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) إِلَى سُقُوطِ الزَّكَاةِ عَنْهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ سُقُوطِ الزَّكَاةِ عَنْهُ.

ب- تَلَفُ الْمَالِ بَعْدَ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ:

5- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ- وَمِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ- إِلَى أَنَّ تَلَفَ الْمَالِ بَعْدَ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ وَبَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَدَائِهَا لَا يُسْقِطُهَا، بَلْ تَسْتَقِرُّ فِي ذِمَّتِهِ اتِّفَاقًا، وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَكَاةِ الْمَالِ بِأَنَّ وُجُوبَ زَكَاةِ الْفِطْرِ مُتَعَلِّقٌ بِالْقُدْرَةِ الْمُمْكِنَةِ، وَهِيَ أَدْنَى مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ غَالِبًا، أَمَّا زَكَاةُ الْمَالِ فَيَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسَّرَةِ، وَهِيَ مَا يُوجِبُ يُسْرَ الْأَدَاءِ عَلَى الْمُكَلَّفِ بَعْدَمَا ثَبَتَ الْإِمْكَانُ بِالْقُدْرَةِ الْمُمْكِنَةِ، وَدَوَامُهَا شَرْطٌ لِدَوَامِ الْوَاجِبِ الشَّاقِّ عَلَى النَّفْسِ كَأَكْثَرِ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ، حَتَّى سَقَطَتِ الزَّكَاةُ وَالْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ بِهَلَاكِ الْمَالِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ الْمُيَسَّرَةَ وَهِيَ وَصْفُ النَّمَاءِ قَدْ فَاتَتْ بِالْهَلَاكِ، فَيَفُوتُ دَوَامُ الْوُجُوبِ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ، بِخِلَافِ الْقُدْرَةِ الْمُمْكِنَةِ فَلَيْسَ بَقَاؤُهَا شَرْطًا لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ تَلَفُ الْمَالِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَدَاءِ فَفِي سُقُوطِ زَكَاةِ الْفِطْرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا تَسْقُطُ كَزَكَاةِ الْمَالِ، وَالثَّانِي: لَا تَسْقُطُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ زَكَاةِ الْفِطْرِ بِالتَّلَفِ، إِلاَّ أَنْ يُخْرِجَهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا فَتَضِيعُ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا حِينَئِذٍ.

ج- تَلَفُ الْأُضْحِيَّةِ:

6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ الْمُعَيَّنَةَ إِذَا تَلِفَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَى صَاحِبِهَا وَلَا يَلْزَمُهُ بَدَلُهَا- فِي الْجُمْلَةِ- وَيُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ.وَخَصُّوا الْقَوْلَ بِعَدَمِ الضَّمَانِ بِالْمُعْسِرِ، قَالُوا: لِأَنَّ شِرَاءَ الْفَقِيرِ لِلْأُضْحِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ.فَإِذَا هَلَكَتْ فَقَدْ هَلَكَ مَحَلُّ إِقَامَةِ الْوَاجِبِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً، لِفَقْدِ شَرْطِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْيَسَارُ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ مُوسِرًا، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ شَاةً أُخْرَى، لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي جُمْلَةِ الْوَقْتِ، وَالْأُضْحِيَّةُ الْمُشْتَرَاةُ لَمْ تَتَعَيَّنْ لِلْوُجُوبِ، وَالْوَقْتُ بَاقٍ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ فَيَجِبُ.وَخَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْقَوْلَ بِعَدَمِ الضَّمَانِ بِمَا إِذَا تَلِفَتْ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَبْحِهَا، أَوْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ، وَأَمَّا إِذَا تَلِفَتْ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَبْحِهَا أَوْ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ الضَّمَانَ.

وَإِنْ تَعَدَّى أَجْنَبِيٌّ عَلَيْهَا فَأَتْلَفَهَا، فَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ الْقِيمَةُ بِلَا نِزَاعٍ، يَأْخُذُهَا الْمُضَحِّي وَيَشْتَرِي بِهَا مِثْلَ الْأُولَى، وَإِنْ أَتْلَفَهَا الْمُضَحِّي نَفْسُهُ لَزِمَهُ أَكْثَرُ الْقَدْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا وَثَمَنِ مِثْلِهَا عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَضْمَنُهَا بِالْقِيمَةِ يَوْمَ التَّلَفِ.

د- تَلَفُ الْهَدْيِ:

7- مَنْ سَاقَ هَدْيًا وَاجِبًا فَعَطِبَ أَوْ تَعَيَّبَ بِمَا يَمْنَعُ الْأُضْحِيَّةَ، أَقَامَ غَيْرَهُ مَقَامَهُ، وَصَنَعَ بِالْمَعِيبِ مَا شَاءَ، فَإِنْ كَانَ الْمَعِيبُ تَطَوُّعًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَيَنْحَرُهُ وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ وَيَضْرِبُ صَفْحَةَ سَنَامِهِ، لِيُعْلَمَ أَنَّهُ هَدْيٌ لِلْفُقَرَاءِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ سُرِقَ الْهَدْيُ الْوَاجِبُ، أَوْ تَلِفَ بَعْدَ ذَبْحِهِ أَوْ نَحْرِهِ أَجْزَأَ، لِأَنَّهُ بَلَغَ مَحِلَّهُ.

أَمَّا إِنْ سُرِقَ أَوْ تَلِفَ قَبْلَ ذَبْحِهِ أَوْ نَحْرِهِ، فَلَا يُجْزِئُ وَيَلْزَمُهُ الْبَدَلُ.

وَأَمَّا الْهَدْيُ الْمُتَطَوِّعُ بِهِ فَلَا بَدَلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ سُرِقَ قَبْلَ ذَبْحِهِ أَوْ نَحْرِهِ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ هَدْيَ التَّطَوُّعِ لَا يُضْمَنُ بِالتَّلَفِ وَلَا بِالْإِتْلَافِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ تَطَوَّعَ بِهِ مَالِكُهُ فَإِنَّ مِلْكِيَّتَهُ لَهُ لَا تَزُولُ عَنْهُ بِالتَّطَوُّعِ، فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِذَبْحِهِ وَأَكْلِهِ وَبَيْعِهِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، لِأَنَّ مِلْكَهُ ثَابِتٌ وَلَمْ يُنْذِرْهُ، وَإِنَّمَا وُجِدَ مِنْهُ مُجَرَّدُ نِيَّةِ ذَبْحِهِ، وَهَذَا لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ، كَمَا لَوْ نَوَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ، أَوْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ، أَوْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ، أَوْ يَقِفَ دَارَهُ، وَفِي قَوْلٍ شَاذٍّ لِلشَّافِعِيَّةِ، إِنَّهُ إِذَا قَلَّدَ الْهَدْيَ صَارَ كَالْمَنْذُورِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.

فَإِذَا عَطِبَ وَذَبَحَهُ، قَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ وَغَيْرُهُ: لَا يَصِيرُ مُبَاحًا لِلْفُقَرَاءِ إِلاَّ بِلَفْظِهِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَبَحْتُهُ لِلْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَسَاكِينِ، قَالَ: وَيَجُوزُ لِمَنْ سَمِعَهُ الْأَكْلُ، وَفِي غَيْرِهِ قَوْلَانِ: قَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: لَا يَحِلُّ حَتَّى يُعْلَمَ الْإِذْنُ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ وَالْأُمِّ: يَحِلُّ وَهُوَ الْأَظْهَرُ.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْهَدْيِ الْوَاجِبِ أَنَّهُ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ لَا بِالتَّلَفِ، فَإِنْ تَلِفَ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ لَمْ يَضْمَنْهُ، لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ، فَإِذَا هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ لَمْ تُضْمَنْ كَالْوَدِيعَةِ، وَإِنْ أَصَابَهُ عَيْبٌ وَذَبَحَهُ أَجْزَأَهُ، لِأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ أُتِيَ فِي هَدَايَاهُ بِنَاقَةٍ عَوْرَاءَ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ أَصَابَهَا بَعْدَمَا اشْتَرَيْتُمُوهَا فَأَمْضُوهَا، وَإِنْ كَانَ أَصَابَهَا قَبْلَ أَنْ تَشْتَرُوهَا فَأَبْدِلُوهَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ جَمِيعُهُ لَمْ يَضْمَنْهُ، فَإِذَا نَقَصَ بَعْضُهُ لَمْ يَضْمَنْهُ كَالْوَدِيعَةِ.

وَإِنْ تَلِفَ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ بِأَنْ أَخَّرَ ذَبْحَهُ بَعْدَمَا عَطِبَ فِي الطَّرِيقِ حَتَّى هَلَكَ ضَمِنَهُ، أَوْ خَالَفَ فَبَاعَ الْهَدْيَ فَتَلِفَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي أَوْ أَتْلَفَهُ لَزِمَهُ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ إِلَى حِينِ التَّلَفِ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ، وَيَشْتَرِي النَّاذِرُ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ مِثْلَ التَّالِفِ جِنْسًا وَنَوْعًا وَسِنًّا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِالْقِيمَةِ الْمِثْلَ لِغَلَاءٍ حَدَثَ لَزِمَهُ أَنْ يَضُمَّ مِنْ مَالِهِ إِلَيْهَا تَمَامَ الثَّمَنِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْأَصْحَابِ يَضْمَنُ مَا بَاعَهُ بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِثْلِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ تَلِفَتِ الْمُعَيَّنَةُ هَدْيًا أَوْ ضَلَّتْ أَوْ سُرِقَتْ وَلَوْ قَبْلَ الذَّبْحِ فَلَا بَدَلَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يُفَرِّطْ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ.

وَإِنْ عَيَّنَ عَنْ وَاجِبٍ فِي الذِّمَّةِ مَا يُجْزِئُ فِيهِ، كَالْمُتَمَتِّعِ يُعَيِّنُ دَمَ التَّمَتُّعِ شَاةً أَوْ بَقَرَةً أَوْ بَدَنَةً، أَوْ عَيَّنَ هَدْيًا بِنَذْرِهِ فِي ذِمَّتِهِ، وَتَعَيَّبَ أَوْ تَلِفَ أَوْ ضَلَّ أَوْ سُرِقَ أَوْ عَطِبَ وَنَحْوُهُ لَمْ يُجْزِئْهُ، لِأَنَّ الذِّمَّةَ لَمْ تَبْرَأْ مِنَ الْوَاجِبِ بِمُجَرَّدِ التَّعْيِينِ عَنْهُ، وَلَزِمَهُ بَدَلُهُ.

ثَانِيًا: التَّلَفُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ:

أ- تَلَفُ الْمَبِيعِ:

8- تَلَفُ الْمَبِيعِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا، قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، وَلِكُلِّ قِسْمٍ أَحْكَامٌ.وَالتَّلَفُ قَدْ يَكُونُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَقَدْ يَكُونُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي، أَوِ الْبَائِعِ، أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ.

تَلَفُ كُلِّ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ:

9- إِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ كُلُّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ- بِأَنْ كَانَ حَيَوَانًا فَقَتَلَ نَفْسَهُ- انْفَسَخَ الْبَيْعُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَسَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلَا رِبْحٌ مَا لَمْ يُضْمَنْ» وَالْمُرَادُ بِهِ رِبْحُ مَا بِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْمَبِيعُ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي لَهُ هُوَ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ أَوْجَبَ مُطَالَبَةَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، وَإِذَا طَالَبَهُ بِالثَّمَنِ فَهُوَ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ التَّسْلِيمِ، فَتَمْتَنِعُ الْمُطَالَبَةُ أَصْلًا.فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْبَيْعِ فَائِدَةٌ فَيَنْفَسِخُ، وَإِذَا انْفَسَخَ الْبَيْعُ سَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ ارْتِفَاعُهُ مِنَ الْأَصْلِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ إِلَى مِثْلِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَفِي غَيْرِهِمَا يَهْلَكُ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى حِسَابِ الْمُشْتَرِي، وَمِثْلُ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مَا بِيعَ بِرُؤْيَةٍ أَوْ صِفَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ.وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ».

وَأَمَّا إِذَا كَانَ التَّلَفُ بِفِعْلِ الْبَائِعِ فَإِنَّ حُكْمَهُ كَالتَّلَفِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَبِيعِ إِذَا كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَوْ نَحْوَهُمَا إِلَى تَخْيِيرِ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْفَسْخِ وَأَخْذِ الثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَهُ إِنْ كَانَ، وَبَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ، وَيُطَالِبُ الْمُشْتَرِي مُتْلِفَهُ الْبَائِعَ بِمِثْلِهِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَإِلاَّ فَبِقِيمَتِهِ، لِأَنَّ الْإِتْلَافَ كَالْعَيْبِ وَقَدْ حَصَلَ فِي مَوْضِعٍ يَلْزَمُ الْبَائِعَ ضَمَانُهُ، فَكَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ كَالْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ.

أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَبِيعُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَوْ نَحْوَهُمَا لَمْ يَنْفَسِخِ الْبَيْعُ عِنْدَهُمْ، وَيُطَالِبُ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِالْقِيمَةِ.وَهَذَا قَوْلٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ

وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ عَلَى الْبَتِّ أَوْ عَلَى الْخِيَارِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّلَفُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، فَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ عَلَى الْبَتِّ فَإِتْلَافُ الْبَائِعِ يُوجِبُ الْغُرْمَ لِلْمُشْتَرِي، كَانَ الضَّمَانُ مِنْهُ أَوْ مِنَ الْبَائِعِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْإِتْلَافُ عَمْدًا أَمْ خَطَأً.

10- وَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ عَلَى الْخِيَارِ، فَالْخِيَارُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي، فَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ سَوَاءٌ أَكَانَ الْإِتْلَافُ عَمْدًا أَمْ خَطَأً.

وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَكَانَ إِتْلَافُ الْبَائِعِ لِلْمَبِيعِ عَمْدًا ضَمِنَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي الْأَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ أَوِ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَخْتَارَ الرَّدَّ إِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ أَوِ الْإِمْضَاءَ إِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ إِتْلَافُ الْبَائِعِ لِلْمَبِيعِ خَطَأً فَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ.

11- وَإِذَا تَلِفَ كُلُّ الْمَبِيعِ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ، لِأَنَّهُ بِالْإِتْلَافِ صَارَ قَابِضًا كُلَّ الْمَبِيعِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إِتْلَافُهُ إِلاَّ بَعْدَ إِثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَعْنَى الْقَبْضِ فَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَيْعُ بَاتًّا أَمْ بِالْخِيَارِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَقَصَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ الْحُكْمَ السَّابِقَ عَلَى الْبَيْعِ الْبَاتِّ، أَوْ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي، لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ زَوَالَ الْبَيْعِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ بِلَا خِلَافٍ، فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ، فَلَا يَمْنَعُ تَقَرُّرَ الثَّمَنِ.

فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ عَلَيْهِ ضَمَانَ مِثْلِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ وَقِيمَتِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ، لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ السِّلْعَةِ عَنْ مِلْكِهِ بِلَا خِلَافٍ، فَكَانَ الْمَبِيعُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَمِلْكُهُ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ أَوِ الْقِيمَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَضْمَنُ الْأَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ وَالْقِيمَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ لِمَا لَهُ فِيهِ مِنَ الْخِيَارِ، وَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرُدَّ الْبَيْعَ لِمَا لَهُ فِيهِ مِنَ الْخِيَارِ وَيَأْخُذُ الْقِيمَةَ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّلَفُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، إِلاَّ أَنْ يَحْلِفَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ ضَاعَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ أَوْ تَلِفَ بِغَيْرِ سَبَبِهِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الثَّمَنَ دُونَ الْتِفَاتٍ إِلَى الْقِيمَةِ.وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ مِنَ الْقِيمَةِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهَا؛ ضَمِنَ الثَّمَنَ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ.

12- وَإِذَا كَانَ التَّلَفُ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ- سَوَاءٌ أَكَانَ الْإِتْلَافُ عَمْدًا أَمْ خَطَأً عِنْدَ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْفُقَهَاءِ- لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَلَا يَدَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْمِثْلِ أَوِ الْقِيمَةِ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ فَيَعُودُ الْمَبِيعُ إِلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَيَتْبَعُ الْجَانِيَ فَيُضَمِّنُهُ، وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْبَيْعَ فَأَتْبَعَ الْجَانِيَ بِالضَّمَانِ وَأَتْبَعَهُ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى مِثْلِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَوْ نَحْوَهُمَا.فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ هَلَكَ عَلَى حِسَابِ الْمُشْتَرِي وَيَتْبَعُ الْمُتْلِفَ بِالضَّمَانِ.

تَلَفُ بَعْضِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ:

13- إِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ، وَبَيْنَ قَبُولِهِ نَاقِصًا وَلَا شَيْءَ لَهُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْفَسْخِ.هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مَكِيلًا أَوْ نَحْوَهُ.أَمَّا غَيْرُ الْمَكِيلِ وَنَحْوِهِ فَتَلَفُ بَعْضِهِ وَتَعَيُّبِهِ يَكُونُ عَلَى حِسَابِ الْمُشْتَرِي وَلَا فَسْخَ. وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ التَّلَفِ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْهُ نُقْصَانُ قَدْرٍ، وَالتَّلَفُ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْهُ نُقْصَانُ وَصْفٍ.وَنُقْصَانُ الْوَصْفِ وَهُوَ كُلُّ مَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ، كَالشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ فِي الْأَرْضِ وَأَطْرَافِ الْحَيَوَانِ وَالْجَوْدَةِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، فَخَصُّوا الْحُكْمَ السَّابِقَ بِنُقْصَانِ الْوَصْفِ دُونَ نُقْصَانِ الْقَدْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا حِصَّةَ لَهَا مِنَ الثَّمَنِ إِلاَّ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهَا الْقَبْضُ أَوِ الْجِنَايَةُ، لِأَنَّهَا تَصِيرُ مَقْصُودَةً بِالْقَبْضِ أَوِ الْجِنَايَةِ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ التَّلَفُ قَدْ نَشَأَ عَنْهُ نُقْصَانُ قَدْرٍ- بِأَنْ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَوْ مَعْدُودًا- فَالْعَقْدُ يَنْفَسِخُ بِقَدْرِ الْهَالِكِ وَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنَ الثَّمَنِ، لِأَنَّ كُلَّ قَدْرٍ مِنَ الْمُقَدَّرَاتِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ، فَيُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، وَهَلَاكُ كُلِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ فِي الْكُلِّ وَسُقُوطَ الثَّمَنِ.

فَهَلَاكُ بَعْضِهِ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ وَسُقُوطَ الثَّمَنِ بِقَدْرِهِ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي الْبَاقِي، إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ قَدْ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ التَّلَفِ النِّصْفُ فَأَكْثَرُ لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَيَرْجِعُ بِحِصَّةِ مَا تَلِفَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَقَاءَ النِّصْفِ كَبَقَاءِ الْجُلِّ (الْأَكْثَرِ) فَيَلْزَمُهُ، وَهَذَا فِي الْمَبِيعِ الْمُتَعَدِّدِ.

فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مُتَّحِدًا كَفَرَسٍ مَثَلًا وَبَقِيَ بَعْدَ التَّلَفِ النِّصْفُ فَأَكْثَرُ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ رَدِّ الْمَبِيعِ وَأَخْذِ ثَمَنِهِ، وَبَيْنَ التَّمَسُّكِ بِالْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ.

وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ التَّلَفِ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ حَرُمَ التَّمَسُّكُ بِالْبَاقِي وَوَجَبَ رَدُّ الْمَبِيعِ وَأَخْذُ جَمِيعِ ثَمَنِهِ لِاخْتِلَالِ الْبَيْعِ بِتَلَفِ جُلِّ الْمَبِيعِ، فَتَمَسَّكَ الْمُشْتَرِي بِبَاقِيهِ كَإِنْشَاءِ عَقْدٍ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ، إِذْ لَا يُعْلَمُ مَا يَخُصُّ الْبَاقِيَ إِلاَّ بَعْدَ تَقْوِيمِ الْجَمِيعِ، ثُمَّ النَّظَرُ فِيمَا يَخُصُّ كُلَّ جُزْءٍ عَلَى انْفِرَادِهِ إِلاَّ الْمِثْلِيُّ فَلَا يَحْرُمُ التَّمَسُّكُ بِالْأَقَلِّ، بَلِ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ وَبَيْنَ التَّمَسُّكِ بِالْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمِثْلِيَّ مَنَابُهُ (مُقَابِلُهُ) مِنَ الثَّمَنِ مَعْلُومٌ، فَلَيْسَ التَّمَسُّكُ بِالْبَاقِي الْقَلِيلِ، كَإِنْشَاءِ عَقْدٍ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ، وَإِنَّمَا يَأْتِي هَذَا فِي الْمُقَوَّمِ.

تَلَفُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِفِعْلِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ:

14- أَمَّا إِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِفِعْلِ الْبَائِعِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى بُطْلَانِ الْبَيْعِ بِقَدْرِهِ وَيَسْقُطُ عَنِ الْمُشْتَرِي حِصَّةُ الْمَالِكِ مِنَ الثَّمَنِ سَوَاءٌ أَكَانَ النُّقْصَانُ نُقْصَانَ قِيمَةٍ أَمْ نُقْصَانَ وَصْفٍ- لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَهَا حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ عِنْدَ وُرُودِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا تَصِيرُ أَصْلًا بِالْفِعْلِ فَتُقَابَلُ بِالثَّمَنِ- وَالْمُشْتَرِي بِالْخَيْلِ فِي الْبَاقِي، إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: قِيَاسُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ، وَبَيْنَ أَخْذِهِ وَالرُّجُوعِ عَلَى الْبَائِعِ بِعِوَضِ مَا أَتْلَفَ أَوْ عَيَّبَ.

وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَبِيعُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا فَلَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِعِوَضِ مَا أَتْلَفَ.

وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّلَفُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي.

فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَإِتْلَافُهُ لِلْمَبِيعِ عَمْدًا.

كَانَ فِعْلُهُ رَدًّا لِلْبَيْعِ قَبْلَ جِنَايَتِهِ، لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ الْإِنْسَانُ إِلاَّ فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ إِتْلَافُهُ لَهُ خَطَأً، فَلِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْعَيْبِ، إِنْ شَاءَ تَمَسَّكَ وَلَا شَيْءَ لَهُ، أَوْ رَدَّ وَأَخَذَ الثَّمَنَ بَعْدَ إِجَازَةِ الْبَائِعِ بِمَا لَهُ فِيهِ مِنَ الْخِيَارِ.وَإِنَّمَا لَمْ تَكُنْ جِنَايَتُهُ خَطَأً رَدًّا كَجِنَايَتِهِ عَمْدًا لِأَنَّ الْخَطَأَ مُنَافٍ لِقَصْدِ الْفَسْخِ، إِذِ الْخَطَأُ لَا يُجَامِعُ الْقَصْدَ.

وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَكَانَ إِتْلَافُ الْبَائِعِ لِلْمَبِيعِ عَمْدًا، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الرَّدِّ أَوْ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَأَخْذِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ كَانَ إِتْلَافُهُ لَهُ خَطَأً فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ رَدِّهِ لِلْبَائِعِ أَوْ أَخْذِهِ نَاقِصًا وَلَا شَيْءَ لَهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى تَخْيِيرِ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ وَبَيْنَ إِجَازَةِ الْعَقْدِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَلَا يَغْرَمُ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي شَيْئًا عَلَى الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ.

تَلَفُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي:

15- إِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَلَا خِيَارَ لَهُ لِحُصُولِهِ بِفِعْلِهِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لِلْكُلِّ بِإِتْلَافِ الْبَعْضِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِتْلَافِ الْبَعْضِ إِلاَّ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى الْكُلِّ، وَصَارَ قَابِضًا قَدْرَ الْمُتْلَفِ بِالْإِتْلَافِ وَالْبَاقِي بِالتَّعْيِيبِ فَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ كُلُّ الثَّمَنِ.

هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ).

وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي، وَبَيْنَ التَّلَفِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَكَانَ إِتْلَافُهُ لِلْمَبِيعِ عَمْدًا فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ رِضًا مِنْهُ بِالْبَيْعِ وَلَا رُجُوعَ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَلِلْمُشْتَرِي رَدُّهُ وَمَا نَقَصَ، وَلَهُ التَّمَسُّكُ بِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ، فَإِنْ رَدَّ وَكَانَ عَيْبًا مُفْسِدًا ضَمِنَ الثَّمَنَ كُلَّهُ.وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ رَدِّ الْبَيْعِ وَأَخْذِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، أَوِ الْإِمْضَاءِ وَأَخْذِ الثَّمَنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ التَّلَفُ عَمْدًا أَمْ خَطَأً.وَعَنِ ابْنِ عَرَفَةَ أَنَّ الْخِيَارَ الْمَذْكُورَ لِلْبَائِعِ حَيْثُ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا، فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً خُيِّرَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ أَخْذِ الْمَبِيعِ وَدَفْعِ الثَّمَنِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَبَيْنَ تَرْكِ الْمَبِيعِ لِلْبَائِعِ وَدَفْعِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، فَأَرْشُ الْجِنَايَةِ يَدْفَعُهُ فِي كُلٍّ مِنْ حَالَتَيْ تَخْيِيرِهِ عِنْدَهُ، وَاعْتَمَدَ بَعْضُهُمْ هَذَا.

تَلَفُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ:

16- إِنْ تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَأَتْبَعَ الْبَائِعُ الْجَانِيَ بِضَمَانِ مَا أَتْلَفَهُ، وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْبَيْعَ وَأَتْبَعَ (أَيِ الْمُشْتَرِي) الْجَانِيَ بِالضَّمَانِ وَعَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ- وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَبِيعِ إِذَا كَانَ مَكِيلًا وَنَحْوَهُ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: لَا يَغْرَمُ الْأَجْنَبِيُّ الْأَرْشَ إِلاَّ بَعْدَ قَبْضِ الْمَبِيعِ لِجَوَازِ تَلَفِهِ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ.

أَمَّا مَا عَدَا الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ، وَإِنَّمَا يَتْبَعُ الْمُتْلِفَ بِالضَّمَانِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَرْشَ مَا جَنَى الْأَجْنَبِيُّ لِلْبَائِعِ وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِغَيْرِهِ، وَإِذَا أَخَذَ الْبَائِعُ أَرْشَ الْجِنَايَةِ فَالْمُشْتَرِي حِينَئِذٍ بِالْخِيَارِ، إِمَّا أَنْ يَأْخُذَ الْمَبِيعَ مَعِيبًا مَجَّانًا، وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

17- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَلَفَ كُلِّ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ لَا يُفْسَخُ بِهِ الْبَيْعُ، وَالْهَلَاكُ يَكُونُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ، لِأَنَّ الْبَيْعَ تَقَرَّرَ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ فَتَقَرَّرَ الثَّمَنُ- هَذَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ- سَوَاءٌ أَكَانَ التَّلَفُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَمْ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أَمْ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي، وَإِذَا كَانَ التَّلَفُ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِضَمَانِهِ.

وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: إِذَا تَلِفَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ فَيُنْظَرُ إِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.فَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ بِإِذْنِهِ فَاسْتِهْلَاكُهُ وَاسْتِهْلَاكُ الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ.وَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْبَائِعِ صَارَ الْبَائِعُ بِالِاسْتِهْلَاكِ مُسْتَرِدًّا لِلْمَبِيعِ، فَحَصَلَ الِاسْتِهْلَاكُ فِي ضَمَانِهِ، فَيُوجِبُ بُطْلَانَ الْبَيْعِ وَسُقُوطَ الثَّمَنِ، كَمَا لَوِ اسْتُهْلِكَ وَهُوَ فِي يَدِهِ.وَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَ الْمَبِيعَ عَلَى الْخِيَارِ لَهُ أَوْ لِلْبَائِعِ أَوْ لَهُمَا، فَفِي الْمَذَاهِبِ تَفْصِيلٌ فِي ضَمَانِ التَّلَفِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي بَحْثِ: (الْخِيَارِ)

تَلَفُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ:

18- إِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَإِنَّ التَّلَفَ يَكُونُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْبَائِعِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، لِأَنَّ الْمَبِيعَ خَرَجَ عَنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي فَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ.وَكَذَا إِذَا هَلَكَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَالْهَلَاكُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَيُرْجَعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ.

وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ التَّلَفَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ مَا لَوْ كَانَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ أَمْ لَا.فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ فَإِتْلَافُهُ وَالْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الْمُتْلَفِ، وَيَسْقُطُ عَنِ الْمُشْتَرِي حِصَّتُهُ مِنَ الثَّمَنِ، لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَرِدًّا لِذَلِكَ الْقَدْرِ بِالْإِتْلَافِ، فَتَلَفُ ذَلِكَ الْقَدْرِ فِي ضَمَانِهِ، فَيَسْقُطُ قَدْرُهُ مِنَ الثَّمَنِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


13-موسوعة الفقه الكويتية (رؤية الهلال 1)

رُؤْيَةُ الْهِلَالِ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الرُّؤْيَةُ: النَّظَرُ بِالْعَيْنِ وَالْقَلْبِ، وَهِيَ مَصْدَرُ رَأَى، وَالرُّؤْيَةُ بِالْعَيْنِ تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَبِمَعْنَى الْعِلْمِ تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ.وَحَقِيقَةُ الرُّؤْيَةِ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى الْأَعْيَانِ كَانَتْ بِالْبَصَرِ، كَقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام- «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ»،، وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الْعِلْمُ مَجَازًا.

وَتَرَاءَى الْقَوْمُ: رَأَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَتَرَاءَيْنَا الْهِلَالَ: نَظَرْنَا.

وَلِلْهِلَالِ عِدَّةُ مَعَانٍ مِنْهَا: الْقَمَرُ فِي أَوَّلِ اسْتِقْبَالِهِ الشَّمْسَ كُلَّ شَهْرٍ قَمَرِيٍّ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، قِيلَ: وَالثَّالِثَةِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَسَبْعٍ وَعِشْرِينَ لِأَنَّهُ فِي قَدْرِ الْهِلَالِ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ.

وَقِيلَ يُسَمَّى هِلَالًا إِلَى أَنْ يَبْهَرَ ضَوْءُهُ سَوَادَ اللَّيْلِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلاَّ فِي اللَّيْلَةِ السَّابِعَةِ.

وَالْمَقْصُودُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ: مُشَاهَدَتُهُ بِالْعَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ السَّابِقِ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ خَبَرُهُ وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فَيَثْبُتُ دُخُولُ الشَّهْرِ بِرُؤْيَتِهِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

طَلَبُ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ:

2- رُؤْيَةُ الْهِلَالِ أَمْرٌ يَقْتَضِيهِ ارْتِبَاطُ تَوْقِيتِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ بِهَا، فَيُشْرَعُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَجِدُّوا فِي طَلَبِهَا وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي لَيْلَةِ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ لِمَعْرِفَةِ دُخُولِ رَمَضَانَ، وَلَيْلَةِ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ لِمَعْرِفَةِ نِهَايَتِهِ وَدُخُولِ شَوَّالٍ، وَلَيْلَةِ الثَّلَاثِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ لِمَعْرِفَةِ ابْتِدَاءِ ذِي الْحِجَّةِ.فَهَذِهِ الْأَشْهُرُ الثَّلَاثَةُ يَتَعَلَّقُ بِهَا رُكْنَانِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ هُمَا الصِّيَامُ وَالْحَجُّ، وَلِتَحْدِيدِ عِيدِ الْفِطْرِ وَعِيدِ الْأَضْحَى.

وَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى طَلَبِ الرُّؤْيَةِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ».

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ».

أَوْجَبَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ بِرُؤْيَةِ هِلَالِهِ أَوْ بِإِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ، وَأَمَرَ بِالْإِفْطَارِ لِرُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ، أَوْ بِإِتْمَامِ رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ.

وَنَهَى الْحَدِيثُ الثَّانِي عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ قَبْلَ رُؤْيَةِ هِلَالِهِ أَوْ قَبْلَ إِتْمَامِ شَعْبَانَ فِي حَالَةِ الصَّحْوِ.

وَوَرَدَ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- حَدِيثٌ فِيهِ أَمْرٌ بِالِاعْتِنَاءِ بِهِلَالِ شَعْبَانَ لِأَجْلِ رَمَضَانَ قَالَ: «أَحْصُوا هِلَالَ شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ» وَحَدِيثٌ يُبَيِّنُ اعْتِنَاءَهُ بِشَهْرِ شَعْبَانَ لِضَبْطِ دُخُولِ رَمَضَانَ، عَنْ عَائِشَةَ «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَتَحَفَّظُ مِنْ شَعْبَانَ مَا لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ يَصُومُ لِرُؤْيَةِ رَمَضَانَ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِ عَدَّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَ» قَالَ الشُّرَّاحُ: أَيْ يَتَكَلَّفُ فِي عَدِّ أَيَّامِ شَعْبَانَ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ.وَقَدِ اهْتَمَّ الصَّحَابَةُ- رضي الله عنهم- فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَبَعْدَ وَفَاتِهِ- صلى الله عليه وسلم- بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ فَكَانُوا يَتَرَاءَوْنَهُ.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: «تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ فَأَخْبَرْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ».

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ عُمَرَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَتَرَاءَيْنَا الْهِلَالَ، وَكُنْتُ رَجُلًا حَدِيدَ الْبَصَرِ فَرَأَيْتُهُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَآهُ غَيْرِي.قَالَ: فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِعُمَرَ: أَمَا تَرَاهُ؟ فَجَعَلَ لَا يَرَاهُ.قَالَ: يَقُولُ عُمَرُ: سَأَرَاهُ وَأَنَا مُسْتَلْقٍ عَلَى فِرَاشِي.

وَقَدْ أَوْجَبَ الْحَنَفِيَّةُ كِفَايَةَ الْتِمَاسِ رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ فَإِنْ رَأَوْهُ صَامُوا، وَإِلاَّ أَكْمَلُوا الْعِدَّةَ ثُمَّ صَامُوا؛ لِأَنَّ مَا لَا يَحْصُلُ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ تَرَائِي الْهِلَالِ احْتِيَاطًا لِلصَّوْمِ وَحِذَارًا مِنْ الِاخْتِلَافِ.

وَلَمْ نَجِدْ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ تَصْرِيحًا بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

طُرُقُ إِثْبَاتِ الْهِلَالِ:

أَوَّلًا: الرُّؤْيَةُ بِالْعَيْنِ:

أ- الرُّؤْيَةُ مِنَ الْجَمِّ الْغَفِيرِ الَّذِينَ تَحْصُلُ بِهِمْ الِاسْتِفَاضَةُ:

3- هِيَ رُؤْيَةُ الْجَمِّ الْغَفِيرِ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ عَادَةً، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي صِفَتِهِمْ مَا يُشْتَرَطُ فِي صِفَةِ الشَّاهِدِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ وَالْبُلُوغِ وَالْعَدَالَةِ.

وَهَذَا أَحَدُ تَفْسِيرَيْ الِاسْتِفَاضَةِ، وَقَدِ ارْتَقَتْ بِهِ إِلَى التَّوَاتُرِ، أَمَّا التَّفْسِيرُ الثَّانِي لِلِاسْتِفَاضَةِ فَقَدْ حُدِّدَتْ بِمَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْخَاصٍ.

وَالتَّفْسِيرَانِ يَلْتَقِيَانِ فِي أَنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ تَكُونُ فِي حَالَةِ الصَّحْوِ، وَأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَا دُخُولُ رَمَضَانَ.

وَقَدْ قَالَ بِهَذَا النَّوْعِ فِي الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ الْحَنَفِيَّةُ لِإِثْبَاتِ رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ.

وَقَالَ بِهِ أَيْضًا الْمَالِكِيَّةُ لَكِنَّهُمْ سَكَتُوا عَنِ اشْتِرَاطِ الصَّحْوِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

ب- رُؤْيَةُ عَدْلَيْنِ:

4- نُقِلَ الْقَوْلُ بِاشْتِرَاطِ رُؤْيَةِ عَدْلَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- وَابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ بِهَذَا الرَّأْيِ الْمَالِكِيَّةُ فِي حَالَةِ الْغَيْمِ وَالصَّحْوِ فِي الْمِصْرِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فَيَثْبُتُ بِرُؤْيَةِ الْعَدْلَيْنِ الصَّوْمُ وَالْفِطْرُ وَشَهْرُ ذِي الْحِجَّةِ، وَاشْتَرَطُوا فِي الْعَدْلِ الْإِسْلَامَ وَالْحُرِّيَّةَ وَالذُّكُورَةَ وَمَا تَقْتَضِيهِ الْعَدَالَةُ مِنَ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَالِالْتِزَامِ بِالْإِسْلَامِ.

وَاعْتَبَرَ سَحْنُونٌ شَهَادَةَ اثْنَيْنِ فَقَطْ فِي الصَّحْوِ، وَفِي الْمِصْرِ الْكَبِيرِ رِيبَةً، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ تَعْيِينُ الْعَدَدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي مِثْلِهَا غَيْرُ الرُّؤْيَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ.

قَالَ: «وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ إِذَا لَمْ يَشْهَدْ غَيْرُهُمَا فِي الْمِصْرِ الْكَبِيرِ وَالصَّحْوِ، وَأَيَّةُ رِيبَةٍ أَكْبَرُ مِنْ هَذِهِ».

وَنُقِلَ الْقَوْلُ بِاشْتِرَاطِ عَدْلَيْنِ فِي الشَّهَادَةِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا هِلَالُ رَمَضَانَ عَنِ الْبُوَيْطِيِّ تِلْمِيذِ الشَّافِعِيِّ.

ج- رُؤْيَةُ عَدْلٍ وَاحِدٍ:

5- لِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلَاتٌ وَشُرُوطٌ فِي قَبُولِ رُؤْيَةِ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي: قَبِلَ الْحَنَفِيَّةُ فِي رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ شَهَادَةَ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ فِي الْغَيْمِ أَوِ الْغُبَارِ وَانْعِدَامِ صَحْوِ السَّمَاءِ، وَاكْتَفَوْا فِي وَصْفِ الْعَدَالَةِ بِتَرْجِيحِ الْحَسَنَاتِ عَلَى السَّيِّئَاتِ، وَقَبِلُوا شَهَادَةَ مَسْتُورِ الْحَالِ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا الذُّكُورَةَ وَالْحُرِّيَّةَ، وَاعْتَبَرُوا الْإِعْلَامَ بِالرُّؤْيَةِ مِنْ قَبِيلِ الْإِخْبَارِ.

وَتَتِمُّ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُمْ فِي الْمِصْرِ أَمَامَ الْقَاضِي، وَفِي الْقَرْيَةِ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ وَلَمْ يَقْبَلِ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ صَامَ، فَلَوْ أَفْطَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَبْصَرْتُ الْهِلَالَ اللَّيْلَةَ، قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: يَا بِلَالُ أَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا».

وَتَقَدَّمَ فِي تَرَائِي الْهِلَالِ حَدِيثُ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَفِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَصَامَ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ».

وَبِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ مِنَ الرِّوَايَةِ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ؛ لِأَنَّهُ يُلْزِمُ الْمُخْبَرَ بِالصَّوْمِ، وَمَضْمُونُ الشَّهَادَةِ لَا يُلْزِمُ الشَّاهِدَ بِشَيْءٍ، وَالْعَدَدُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الرِّوَايَةِ فَأَمْكَنَ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ بِالشُّرُوطِ الْوَاجِبِ تَوَفُّرُهَا فِي الرَّاوِي لِخَبَرٍ دِينِيٍّ، وَهِيَ: الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْعَدَالَةُ.

وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْمَالِكِيَّةُ رُؤْيَةَ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ فِي إِثْبَاتِ الْهِلَالِ، وَلَمْ يُوجِبُوا الصَّوْمَ بِمُقْتَضَاهَا عَلَى الْجَمَاعَةِ وَأَلْزَمُوا مَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ بِإِعْلَامِ الْإِمَامِ بِرُؤْيَتِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ رَأَى أَوْ عَلِمَ فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا، وَأَوْجَبُوا عَلَى الرَّائِي الْمُنْفَرِدِ الصِّيَامَ، وَلَوْ رَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ فَإِنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ.وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ، فَقَالَ: إِنِّي جَالَسْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَسَأَلْتُهُمْ وَأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ حَدَّثُونِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا ثَلَاثِينَ فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا».

وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ قَبُولُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الرُّؤْيَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ مَنْ يَعْتَنِي بِأَمْرِ الْهِلَالِ.

وَقَبِلَ بَعْضُهُمْ رُؤْيَةَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ وَالْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ إِذَا أُرِيدَ مِنَ الشَّهْرِ مَعْرِفَةُ عِلْمِ التَّارِيخِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ حُلُولُ دَيْنٍ أَوْ إِكْمَالُ عِدَّةٍ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ.

وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَبُولُ رُؤْيَةِ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَإِلْزَامُ الْجَمِيعِ الصِّيَامَ بِمُقْتَضَاهَا احْتِيَاطًا لِلْفَرْضِ، وَلَمْ يَقْبَلُوهَا مِنَ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِالرُّؤْيَةِ عِنْدَهُمْ مِنْ قَبِيلِ الشَّهَادَةِ، وَاسْتَدَلُّوا «بِقَبُولِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِخْبَارَ ابْنِ عُمَرَ وَحْدَهُ بِهِلَالِ رَمَضَانَ»، وَقَبُولِهِ أَيْضًا إِخْبَارَ أَعْرَابِيٍّ بِذَلِكَ وَأَوْجَبُوا عَلَى الرَّائِي الصَّوْمَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا.

وَقَبِلَ الْحَنَابِلَةُ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ رُؤْيَةَ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا الذُّكُورَةَ وَالْحُرِّيَّةَ وَرَفَضُوا شَهَادَةَ مَسْتُورِ الْحَالِ فِي الصَّحْوِ وَالْغَيْمِ، وَمُسْتَنَدُهُمْ قَبُولُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- خَبَرَ الْأَعْرَابِيِّ.وَلَمْ يَقْبَلُوا فِي بَقِيَّةِ الشُّهُورِ إِلاَّ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ عَلَى مَا سَيَأْتِي.

رُؤْيَةُ هِلَالِ شَوَّالٍ وَبَقِيَّةِ الشُّهُورِ:

6- اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى اشْتِرَاطِ رُؤْيَةِ عَدْلَيْنِ فِي هِلَالِ شَوَّالٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفْصِيلَاتِ.

فَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِإِثْبَاتِ هِلَالِ شَوَّالٍ فِي حَالَةِ الصَّحْوِ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ جَمَاعَةً يَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي بِخَبَرِهِمْ كَمَا فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، وَلَمْ يَقْبَلُوا فِي حَالِ الْغَيْمِ إِلاَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَيْنِ حُرَّيْنِ عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ غَيْرَ مَحْدُودَيْنِ فِي قَذْفٍ، وَإِنْ تَابَا كَمَا فِي الشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ وَالْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِهِلَالِ شَوَّالٍ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ.وَفِيهِ نَفْعٌ لِلْمُخْبِرِ، وَهُوَ إسْقَاطُ الصَّوْمِ عَنْهُ فَكَانَ مُتَّهَمًا فَاشْتُرِطَ فِيهِ الْعَدَدُ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ بِخِلَافِ هِلَالِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهِ.

وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي هِلَالِ شَوَّالٍ الرُّؤْيَةَ الْمُسْتَفِيضَةَ أَوْ شَهَادَةَ عَدْلَيْنِ مِمَّنْ يَشْهَدُونَ فِي الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ.وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ مَنْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ وَحْدَهُ لَا يُفْطِرُ، خَوْفًا مِنَ التُّهْمَةِ وَسَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَإِنْ أَفْطَرَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ عُثِرَ عَلَيْهِ عُوقِبَ إِنِ اتُّهِمَ.

وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي ثُبُوتِ هِلَالِ شَوَّالٍ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حُرَّيْنِ عَدْلَيْنِ احْتِيَاطًا لِلْفَرْضِ، وَأَبَاحَ الشَّافِعِيَّةُ الْفِطْرَ سِرًّا لِمَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ أَظْهَرَهُ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتُّهْمَةِ وَالْعُقُوبَةِ، وَمَنَعَ الْحَنَابِلَةُ الْفِطْرَ لِمَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ.

وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْفِطْرُ سِرًّا لِأَنَّهُ تَيَقَّنَهُ يَوْمَ عِيدٍ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ صَوْمِهِ.

وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ فِي حَالَةِ الصَّحْوِ بَيْنَ أَهِلَّةِ رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ وَذِي الْحِجَّةِ وَاشْتَرَطُوا فِي الثَّلَاثَةِ رُؤْيَةَ جَمْعٍ يَثْبُتُ بِهِ الْعِلْمُ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهَا فِي حَالَةِ الْغَيْمِ فَاكْتَفَوْا فِي ثُبُوتِ هِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ بِشَهَادَةِ عَدْلٍ وَاحِدٍ.وَاشْتَرَطَ الْكَرْخِيُّ مِنْهُمْ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَمَا فِي هِلَالِ شَوَّالٍ لِأَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمُ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ فَيَجِبُ فِيهَا الْعَدَدُ.

وَرَدَّ عَلَيْهِ الْكَاسَانِيُّ بِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ هِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ لَا الشَّهَادَةِ لِوُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى الشَّاهِدِ وَغَيْرِهِ، فَلَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ.

وَأَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ شَهَادَةَ عَدْلَيْنِ، فَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَوْسِمِ بِأَنَّهُ يُقَامُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ إِذَا كَانَا عَدْلَيْنِ.

وَسَوَّى الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ شَوَّالٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ فَاشْتَرَطُوا رُؤْيَةَ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا».

رُؤْيَةُ الْهِلَالِ نَهَارًا:

7- وَرَدَتْ عَنْ صَحَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نُقُولٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي حُكْمِ رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ نَهَارًا، وَهَلْ هُوَ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ أَوِ الْمُقْبِلَةِ؟ فَعَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنهم- التَّفْرِيقُ بَيْنَ الرُّؤْيَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ.فَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ الزَّوَالِ فَالْهِلَالُ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ الزَّوَالِ، فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى هَذَا الرَّأْيِ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْهِلَالَ لَا يُرَى قَبْلَ الزَّوَالِ عَادَةً إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لِلَيْلَتَيْنِ، وَهَذَا يُوجِبُ كَوْنَ الْيَوْمِ مِنْ رَمَضَانَ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، وَكَوْنَهُ يَوْمَ الْفِطْرِ فِي هِلَالِ شَوَّالٍ.

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَفِي نَقْلٍ عَنِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رُؤْيَةَ الْهِلَالِ يَوْمَ الشَّكِّ هِيَ لِلَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ قَبْلَ الزَّوَالِ أَمْ بَعْدَهُ.

وَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ الْأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ نَهَارًا فَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تُمْسُوا إِلاَّ أَنْ يَشْهَدَ رَجُلَانِ مُسْلِمَانِ أَنَّهُمَا أَهَلاَّهُ بِالْأَمْسِ عَشِيَّةً.

وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ نَاسًا رَأَوْا هِلَالَ الْفِطْرِ نَهَارًا، فَأَتَمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ صِيَامَهُ إِلَى اللَّيْلِ، وَقَالَ: لَا، حَتَّى يُرَى مِنْ حَيْثُ يُرَى بِاللَّيْلِ.

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «...إِنَّمَا مَجْرَاهُ فِي السَّمَاءِ، وَلَعَلَّهُ أَبْيَنُ سَاعَتَئِذٍ، وَإِنَّمَا الْفِطْرُ مِنَ الْغَدِ فِي يَوْمِ يُرَى الْهِلَالُ».

وَنُسِبَ هَذَا الرَّأْيُ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ.

وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا النَّقْلُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَيَكُونُ رِوَايَةً ثَانِيَةً عَنْهُ تُخَالِفُ مَا نُقِلَ عَنْهُ مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الرُّؤْيَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ.

وَقَدْ رَفَضَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ التَّفْرِيقَ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُمَا أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَلَا بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ لِرُؤْيَتِهِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ.

وَعَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ «مَنْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ نَهَارًا فَلَا يُفْطِرُ، وَيُتِمُّ صِيَامَ يَوْمِهِ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا هُوَ هِلَالُ اللَّيْلَةِ الَّتِي تَأْتِي».

وَهُوَ فِي هَذَا النَّقْلِ عَنْهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الرُّؤْيَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ، وَاعْتَبَرَ الْهِلَالَ الَّذِي رُئِيَ نَهَارًا لِلَّيْلَةِ الْقَادِمَةِ، وَذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ إِلَى التَّفْرِيقِ، وَنَسَبَهُ إِلَى مَالِكٍ، قَالَ: «فَإِنْ رُئِيَ الْهِلَالُ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ فَيُمْسِكُونَ إِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي شَعْبَانَ وَيُفْطِرُونَ إِنْ وَقَعَ فِي رَمَضَانَ وَيُصَلُّونَ الْعِيدَ، وَإِذَا رُئِيَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلْقَادِمَةِ سَوَاءٌ أَصَلَّيْتَ الظُّهْرَ أَمْ لَمْ تُصَلِّ».

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ رُئِيَ الْهِلَالُ بِالنَّهَارِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لِمَا رَوَى سُفْيَانُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- وَنَحْنُ بِخَانِقِينَ: إِنَّ الْأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ نَهَارًا فَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى يَشْهَدَ رَجُلَانِ مُسْلِمَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ بِالْأَمْسِ.

وَنَبَّهَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْهِلَالَ لَا يُرَى يَوْمَ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ قَبْلَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّهُ أَهَّلَ سَاعَتَئِذٍ، وَلِأَنَّ الشَّهْرَ لَا يَكُونُ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ فَتَحَدَّدَ مَجَالُ رُؤْيَتِهِ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ فِي يَوْمِ ثَلَاثِينَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ، فَإِذَا رُئِيَ يَوْمَ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَمْ يُرَ لَيْلًا، فَالظَّاهِرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَثْبُتُ بِالرُّؤْيَةِ النَّهَارِيَّةِ، وَعَارَضَ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: لَا يَكْفِي ذَلِكَ عَنْ رُؤْيَتِهِ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ، وَأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِرُؤْيَتِهِ نَهَارًا.

وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ نَهَارًا يَوْمَ ثَلَاثِينَ فَلَا يُبْحَثُ مَعَهَا عَنْ رُؤْيَتِهِ لَيْلًا لِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ.

ثَانِيًا: إِكْمَالُ الشَّهْرِ ثَلَاثِينَ:

8- يَكُونُ الشَّهْرُ الْقَمَرِيُّ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِحَدِيثِ: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا» يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ.

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «لَمَا صُمْنَا مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- تِسْعًا وَعِشْرِينَ أَكْثَرُ مِمَّا صُمْنَا ثَلَاثِينَ».

وَإِذَا لَمْ يُرَ الْهِلَالُ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ أَوْ رَمَضَانَ أَوْ ذِي الْقَعْدَةِ أَكْمَلَ الشَّهْرَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا حَسَبَ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ».

وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ حَالَةِ الصَّحْوِ وَحَالَةِ الْغَيْمِ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ وُجُوبُ صِيَامِ يَوْمِ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ إِنْ حَالَ دُونَ مَطْلَعِهِ غَيْمٌ أَوْ قَتَرٌ وَنَحْوُهُمَا بِنِيَّةِ رَمَضَانَ احْتِيَاطًا لَا يَقِينًا وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسَمَّى صِيَامَ يَوْمِ الشَّكِّ وَتَفْصِيلُهَا فِي: (صَوْمٌ).

فَإِنْ تَبَيَّنَ فِي نِهَايَةِ رَمَضَانَ أَنَّ شَعْبَانَ نَاقِصٌ وَجَبَ قَضَاءُ الْيَوْمِ الَّذِي غُمَّ فِيهِ الْهِلَالُ.

تَوَالِي الْغَيْمِ:

9- عِنْدَ تَوَالِي الْغَيْمِ فِي نِهَايَةِ الشُّهُورِ الْقَمَرِيَّةِ تُكْمَلُ ثَلَاثِينَ ثَلَاثِينَ عَمَلًا بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ».

وَيَقَعُ قَضَاءُ مَا ثَبَتَ إِفْطَارُهُ، فَإِذَا حَصَلَ الْغَيْمُ فِي شَهْرٍ أَوْ أَكْثَرَ قَبْلَ رَمَضَانَ فَكَمُلَتْ، ثُمَّ رُئِيَ هِلَالُ شَوَّالٍ لَيْلَةَ ثَلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَلَا قَضَاءَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَمَضَانُ نَاقِصًا، وَإِنْ رُئِيَ لَيْلَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ وَجَبَ قَضَاءُ يَوْمٍ، وَإِنْ رُئِيَ لَيْلَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَجَبَ قَضَاءُ يَوْمَيْنِ، وَإِنْ رُئِيَ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ تَمَّ قَضَاءُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.

وَإِنَّ مَا أَجْرَى اللَّهُ بِهِ الْعَادَةَ أَنْ لَا تَتَوَالَى أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ نَاقِصَةٌ وَلَا كَامِلَةٌ، وَمِنَ النَّادِرِ تَوَالِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ نَاقِصَةٍ أَوْ كَامِلَةٍ أَيْضًا.

قَالَ الْحَطَّابُ: فَإِنْ تَوَالَى الْكَمَالُ فِي شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ عُمِلَ عَلَى أَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ نَاقِصٌ فَأَصْبَحَ النَّاسُ صِيَامًا، وَإِنْ تَوَالَتْ نَاقِصَةً عُمِلَ عَلَى أَنَّ رَمَضَانَ كَامِلٌ فَأَصْبَحَ النَّاسُ مُفْطِرِينَ وَإِنْ لَمْ يَتَوَالَ قَبْلَ هَذَا الشَّهْرِ الَّذِي غُمَّ الْهِلَالُ فِي آخِرِهِ شَهْرَانِ فَأَكْثَرُ كَامِلَةٌ وَلَا نَاقِصَةٌ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّهْرُ نَاقِصًا أَوْ كَامِلًا احْتِمَالًا وَاحِدًا يُوجِبُ أَنْ يَكْمُلَ ثَلَاثِينَ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ.ثُمَّ قَالَ: هَذَا فِي الصَّوْمِ، أَمَّا فِي الْفِطْرِ إِذَا غُمَّ هِلَالُ شَوَّالٍ فَلَا يُفْطِرُ بِالتَّقْدِيرِ الَّذِي يَغْلِبُ فِيهِ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ رَمَضَانَ نَاقِصٌ.

وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى نَصٍّ لِلْفُقَهَاءِ فِي شَأْنِ الْبِلَادِ الَّتِي يَسْتَقِرُّ الْغَيْمُ أَوِ الضَّبَابُ فِي سَمَائِهَا.

صَوْمُ مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْأَشْهُرُ:

10- مَنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ فِي مَكَانٍ لَا تَصِلُهُ فِيهِ أَخْبَارُ رَمَضَانَ، كَالسَّجِينِ وَالْأَسِيرِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَاشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْأَشْهُرُ، وَلَمْ يَعْرِفْ مَوْعِدَ رَمَضَانَ، يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ لِمَعْرِفَتِهِ فَإِنِ اجْتَهَدَ وَتَحَرَّى وَوَافَقَ صِيَامُهُ شَهْرَ رَمَضَانَ أَوْ مَا بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي صَامَهُ نَاقِصًا، وَرَمَضَانُ كَامِلًا قَضَى النَّقْصَ، وَإِنْ صَامَ شَهْرًا قَبْلَ رَمَضَانَ لَمْ يَكْفِهِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَصِحُّ قَبْلَ وَقْتِهَا، فَلَوْ وَافَقَ بَعْضَهُ فَمَا وَافَقَهُ أَوْ بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ دُونَ مَا قَبْلَهُ، وَإِنْ صَامَ بِلَا اجْتِهَادٍ لَمْ يُجْزِهِ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الِاجْتِهَادِ.

ثَالِثًا: إِثْبَاتُ الْأَهِلَّةِ بِالْحِسَابِ الْفَلَكِيِّ:

11- وَقَعَ الْخَوْضُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُنْذُ أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الْهِجْرِيِّ الْأَوَّلِ، فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا أَحَدُ التَّابِعِينَ وَبُحِثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ لَدُنْ فُقَهَائِنَا السَّابِقِينَ بِالْقَدْرِ الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ.

وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ بَحْثِهَا وُجُودُ لَفْظَةٍ مُشْكِلَةٍ فِي حَدِيثٍ ثَابِتٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- اخْتَلَفَ الشُّرَّاحُ فِي الْمُرَادِ مِنْهَا، وَاسْتَدَلَّ بِهَا الْقَائِلُونَ بِالْحِسَابِ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ.

وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ مِنْ إيرَادِ الْحَدِيثِ بِلَفْظِهِ، وَإِتْبَاعِهِ بِتَفْسِيرِ الَّذِينَ اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى جَوَازِ اعْتِمَادِ الْحِسَابِ فِي إِثْبَاتِ الْهِلَالِ، ثُمَّ آرَاءِ الَّذِينَ فَهِمُوا مِنْهُ خِلَافَ فَهْمِهِمْ.عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ».

عَلَّقَ الْحَدِيثُ بِدَايَةَ صِيَامِ رَمَضَانَ وَالشُّرُوعِ فِي الْإِفْطَارِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَأَمَرَ عِنْدَ تَعَذُّرِهَا فِي حَالَةِ الْغَيْمِ بِالتَّقْدِيرِ، فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ»، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ.

رَأْيُ الْقَائِلِينَ بِالْحِسَابِ:

12- تَضَمَّنَ هَذَا الرَّأْيُ الْقَوْلَ بِتَقْدِيرِ الْهِلَالِ بِالْحِسَابِ الْفَلَكِيِّ وَنُسِبَ إِلَى مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ مِنَ التَّابِعِينَ وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَصِحُّ عَنْ مُطَرِّفٍ، وَنَفَى نِسْبَةَ مَا عُرِفَ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ إِلَى الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عَنْهُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ.

وَنَقَلَ ابْنُ رُشْدٍ عَنْ مُطَرِّفٍ قَوْلَهُ: «يُعْتَبَرُ الْهِلَالُ إِذَا غُمَّ بِالنُّجُومِ وَمَنَازِلِ الْقَمَرِ وَطَرِيقِ الْحِسَابِ، قَالَ: وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي رِوَايَةٍ، وَالْمَعْرُوفُ لَهُ الْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُصَامُ إِلاَّ بِرُؤْيَةٍ فَاشِيَةٍ أَوْ شَهَادَةٍ عَادِلَةٍ كَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ».

وَعَنْ مُطَرِّفٍ أَيْضًا أَنَّ الْعَارِفَ بِالْحِسَابِ يَعْمَلُ بِهِ فِي نَفْسِهِ.

أَمَّا ابْنُ سُرَيْجٍ فَاعْتَبَرَ قَوْلَهُ- صلى الله عليه وسلم-: «فَاقْدُرُوا لَهُ»: خِطَابًا لِمَنْ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِ الْحِسَابِ، وَقَوْلَهُ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ» خِطَابًا لِلْعَامَّةِ.

وَبَيَّنَ ابْنُ الصَّلَاحِ مَا قَصَدَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِالْحِسَابِ فَقَالَ: «مَعْرِفَةُ مَنَازِلِ الْقَمَرِ هِيَ مَعْرِفَةُ سَيْرِ الْأَهِلَّةِ، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْحِسَابِ فَأَمْرٌ دَقِيقٌ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الْآحَادُ.فَمَعْرِفَةُ مَنَازِلِ الْقَمَرِ تُدْرَكُ بِأَمْرٍ مَحْسُوسٍ يُدْرِكُهُ مَنْ يُرَاقِبُ النُّجُومَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَقَالَ بِهِ فِي حَقِّ الْعَارِفِ بِهَا فِيمَا يَخُصُّهُ».

وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ فِي حُكْمِ صِيَامِ الْعَارِفِ بِالْحِسَابِ عِنْدَ ثُبُوتِ الْهِلَالِ عِنْدَهُ، فَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَ بِجَوَازِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ لُزُومُ الصِّيَامِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ.

وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلُ: لَا بَأْسَ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِ الْمُنَجِّمِينَ.

وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: «إِذَا دَلَّ الْحِسَابُ عَلَى أَنَّ الْهِلَالَ قَدْ طَلَعَ مِنَ الْأُفُقِ عَلَى وَجْهٍ يُرَى لَوْلَا وُجُودُ الْمَانِعِ كَالْغَيْمِ مَثَلًا، فَهَذَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ لِوُجُودِ السَّبَبِ الشَّرْعِيِّ، وَلَيْسَ حَقِيقَةُ الرُّؤْيَةِ مَشْرُوطَةً فِي اللُّزُومِ، فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْمَحْبُوسَ فِي الْمَطْمُورَةِ إِذَا عَلِمَ بِإِتْمَامِ الْعِدَّةِ أَوْ بِالِاجْتِهَادِ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ».

آرَاءُ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ إِثْبَاتِ الْأَهِلَّةِ بِالْحِسَابِ وَأَدِلَّتُهُمْ:

13- الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ أَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الصَّوْمِ وَالْإِفْطَارِ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ، وَأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ الْمُؤَقِّتِينَ وَلَوْ عُدُولًا، وَمَنْ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِمْ فَقَدْ خَالَفَ الشَّرْعَ، وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُجْتَهَدَ فِي ذَلِكَ، وَيُعْمَلَ بِقَوْلِ أَهْلِ الْحِسَابِ.

وَمَنَعَ مَالِكٌ مِنَ اعْتِمَادِ الْحِسَابِ فِي إِثْبَاتِ الْهِلَالِ، فَقَالَ: «إِنَّ الْإِمَامَ الَّذِي يَعْتَمِدُ عَلَى الْحِسَابِ لَا يُقْتَدَى بِهِ، وَلَا يُتَّبَعُ».

وَبَيَّنَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ حُكْمَ صِيَامِ مَنِ اعْتَمَدَ الْحِسَابَ فَقَالَ: «فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ فَالَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِمَا صَامَ مِنْهُ عَلَى الْحِسَابِ وَيَرْجِعُ إِلَى الرُّؤْيَةِ وَإِكْمَالِ الْعَدَدِ، فَإِنِ اقْتَضَى ذَلِكَ قَضَاءَ شَيْءٍ مِنْ صَوْمِهِ قَضَاهُ».

وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ قَوْلًا آخَرَ لِلْمَالِكِيَّةِ بِجَوَازِ اعْتِمَادِ الْحِسَابِ فِي إِثْبَاتِ الْأَهْلِيَّةِ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ: «لَا يَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ إِلاَّ بِدُخُولِهِ، وَيُعْلَمُ دُخُولُهُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَإِنْ غُمَّ وَجَبَ اسْتِكْمَالُ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ، ثُمَّ يَصُومُونَ سَوَاءٌ كَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً أَوْ مُغَيِّمَةً غَيْمًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا».وَفِي هَذَا حَصْرُ طُرُقِ إِثْبَاتِ هِلَالِ رَمَضَانَ فِي الرُّؤْيَةِ وَإِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ، وَفِي هَذَا الْحَصْرِ نَفْيٌ لِاعْتِمَادِ الْحِسَابِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِرَفْضِهِ؛ لِأَنَّهُ حَدْسٌ وَتَخْمِينٌ وَرَأَى اعْتِبَارَهُ فِي الْقِبْلَةِ وَالْوَقْتِ.

نَقَلَ الْقَلْيُوبِيُّ عَنِ الْعَبَّادِيِّ قَوْلَهُ: إِذَا دَلَّ الْحِسَابُ الْقَطْعِيُّ عَلَى عَدَمِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْعُدُولِ بِرُؤْيَتِهِ، وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ.ثُمَّ قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ، وَلَا يَجُوزُ الصَّوْمُ حِينَئِذٍ وَمُخَالَفَةُ ذَلِكَ مُعَانَدَةٌ وَمُكَابَرَةٌ.

وَلَا يَعْتَمِدُ الْحَنَابِلَةُ الْحِسَابَ الْفَلَكِيَّ فِي إِثْبَاتِ هِلَالِ رَمَضَانَ، وَلَوْ كَثُرَتْ إِصَابَتُهُ.

أَدِلَّةُ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ إِثْبَاتِ الْأَهِلَّةِ بِالْحِسَابِ:

اسْتَدَلَّ الْمَانِعُونَ بِالْحَدِيثِ نَفْسِهِ الَّذِي اسْتَدَلَّ الْمُثْبِتُونَ بِهِ فَفَسَّرُوهُ بِغَيْرِ الْمُرَادِ مِنْهُ.

أَوَّلًا: تَفْسِيرُ الْحَدِيثِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى التَّقْدِيرِ بِمَا يَنْقُضُ مَفْهُومَ التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِالْحِسَابِ.

فَسَّرَ الْأَئِمَّةُ الْأَجِلَّةُ قَوْلَهُ- صلى الله عليه وسلم-: «فَاقْدُرُوا لَهُ» بِتَفْسِيرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: حَمْلُ التَّقْدِيرِ عَلَى إِتْمَامِ الشَّهْرِ ثَلَاثِينَ.

الثَّانِي: تَفْسِيرٌ بِمَعْنَى تَضْيِيقِ عَدَدِ أَيَّامِ الشَّهْرِ.

التَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ:

جَاءَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ يُصْبِحُ مُفْطِرًا إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ صَاحِيَةً وَصَائِمًا إِذَا كَانَتْ مُغَيِّمَةً لِأَنَّهُ يَتَأَوَّلُ قَوْلَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ إِتْمَامُ الشَّهْرِ ثَلَاثِينَ.

وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، فَحَمَلُوا عِبَارَةَ: «فَاقْدُرُوا لَهُ» عَلَى تَمَامِ الْعَدَدِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا.

وَالْبُخَارِيُّ أَتْبَعَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ هُنَا بِرِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ جَاءَ فِيهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ».وَأَتْبَعَهُ فِي نَفْسِ الْبَابِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ- صلى الله عليه وسلم-: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ».

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَصَدَ (الْبُخَارِيُّ) بِذَلِكَ بَيَانَ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ «فَاقْدُرُوا لَهُ»،، وَأَيَّدَ ابْنُ رُشْدٍ تَفْسِيرَ الْبُخَارِيِّ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ يَكُونُ بِمَعْنَى التَّمَامِ، وَدَعَّمَ رَأْيَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} أَيْ تَمَامًا.

التَّفْسِيرُ الثَّانِي بِمَعْنَى تَضْيِيقِ عَدَدِ أَيَّامِ الشَّهْرِ:

فَسَّرَ الْقَائِلُونَ بِهِ «اقْدُرُوا لَهُ» بِمَعْنَى ضَيِّقُوا لَهُ الْعَدَدَ مِنْ قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} وَالتَّضْيِيقُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ شَعْبَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا.وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الرَّأْيِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يُجَوِّزُ صَوْمَ يَوْمِ الشَّكِّ إِنْ كَانَتِ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا» يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ.

بَيَّنَ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ الْمَنْفِيَّ عَنْهُمُ الْكِتَابُ وَالْحِسَابُ هُمْ أَغْلَبُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ تَحْدِيثِهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّبِيُّ نَفْسُهُ- عليه الصلاة والسلام-.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: «الْمُرَادُ بِالْحِسَابِ هُنَا حِسَابُ النُّجُومِ وَتَسْيِيرُهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ النَّزْرَ الْيَسِيرَ، فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِالصَّوْمِ وَغَيْرِهِ بِالرُّؤْيَةِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُمْ فِي مُعَانَاةِ حِسَابِ التَّسْيِيرِ، وَاسْتَمَرَّ الْحُكْمُ فِي الصَّوْمِ وَلَوْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ، بَلْ ظَاهِرُ السِّيَاقِ يُشْعِرُ بِنَفْيِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالْحِسَابِ أَصْلًا.وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ» وَلَمْ يَقُلْ فَسَلُوا أَهْلَ الْحِسَابِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ كَوْنُ الْعَدَدِ عِنْدَ الْإِغْمَاءِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُكَلَّفُونَ فَيَرْتَفِعُ الِاخْتِلَافُ وَالنِّزَاعُ عَنْهُمْ».

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


14-موسوعة الفقه الكويتية (رؤية الهلال 2)

رُؤْيَةُ الْهِلَالِ -2

اخْتِلَافُ الْمَطَالِعِ:

14- اخْتِلَافُ مَطَالِعِ الْهِلَالِ أَمْرٌ وَاقِعٌ بَيْنَ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ كَاخْتِلَافِ مَطَالِعِ الشَّمْسِ، لَكِنْ هَلْ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي بَدْءِ صِيَامِ الْمُسْلِمِينَ وَتَوْقِيتِ عِيدَيِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى وَسَائِرِ الشُّهُورِ فَتَخْتَلِفُ بَيْنَهُمْ بَدْءًا وَنِهَايَةً أَمْ لَا يُعْتَبَرُ بِذَلِكَ، وَيَتَوَحَّدُ الْمُسْلِمُونَ فِي صَوْمِهِمْ وَفِي عِيدَيْهِمْ؟

ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِاخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ، وَهُنَاكَ مَنْ قَالَ بِاعْتِبَارِهَا، وَخَاصَّةً بَيْنَ الْأَقْطَارِ الْبَعِيدَةِ، فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ: بِأَنَّهُ لِكُلِّ بَلَدٍ رُؤْيَتُهُمْ، وَأَوْجَبُوا عَلَى الْأَمْصَارِ الْقَرِيبَةِ اتِّبَاعَ بَعْضِهَا بَعْضًا، وَأَلْزَمُوا أَهْلَ الْمِصْرِ الْقَرِيبِ فِي حَالَةِ اخْتِلَافِهِمْ مَعَ مِصْرٍ قَرِيبٍ مِنْهُمْ بِصِيَامِهِمْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَصِيَامِ الْآخَرِينَ ثَلَاثِينَ اعْتِمَادًا عَلَى الرُّؤْيَةِ أَوْ إِتْمَامَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ أَنْ يَقْضُوا الْيَوْمَ الَّذِي أَفْطَرُوهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ حَسَبَ مَا ثَبَتَ عِنْدَ الْمِصْرِ الْآخَرِ، وَالْمُعْتَمَدُ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِاخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ فَإِذَا ثَبَتَ الْهِلَالُ فِي مِصْرٍ لَزِمَ سَائِرَ النَّاسِ فَيُلْزَمُ أَهْلُ الْمَشْرِقِ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ الْمَغْرِبِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى جَمِيعِ أَقْطَارِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا رُئِيَ الْهِلَالُ فِي أَحَدِهَا.

وَقَيَّدَ بَعْضُهُمْ هَذَا التَّعْمِيمَ فَاسْتَثْنَى الْبِلَادَ الْبَعِيدَةَ كَثِيرًا كَالْأَنْدَلُسِ وَخُرَاسَانَ.

وَبَيَّنَ الْقَرَافِيُّ اخْتِلَافَ مَطَالِعِ الْهِلَالِ عِلْمِيًّا، وَذَكَرَ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِهِ مُكْتَفِيًا بِهِ عَنِ الْبَقِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ: وَهُوَ أَنَّ الْبِلَادَ الْمَشْرِقِيَّةَ إِذَا كَانَ الْهِلَالُ فِيهَا فِي الشُّعَاعِ وَبَقِيَتِ الشَّمْسُ تَتَحَرَّكُ مَعَ الْقَمَرِ إِلَى الْجِهَةِ الْغَرْبِيَّةِ فَمَا تَصِلُ الشَّمْسُ إِلَى أُفُقِ الْمَغْرِبِ إِلاَّ وَقَدْ خَرَجَ الْهِلَالُ عَنِ الشُّعَاعِ فَيَرَاهُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ وَلَا يَرَاهُ أَهْلُ الْمَشْرِقِ.وَاسْتَنْتَجَ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ وَمِنَ اتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعِهِمْ عَلَى اخْتِلَافِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ وَمُرَاعَاةِ ذَلِكَ فِي الْمِيرَاثِ بِحَيْثُ أَفْتَوْا بِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ أَخَوَانِ عِنْدَ الزَّوَالِ أَحَدُهُمَا بِالْمَشْرِقِ وَالْآخَرُ بِالْمَغْرِبِ حُكِمَ بِأَسْبَقِيَّةِ مَوْتِ الْمَشْرِقِيِّ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمَشْرِقِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى زَوَالِ الْمَغْرِبِ فَيَرِثُ الْمَغْرِبِيُّ الْمَشْرِقِيَّ، فَقَرَّرَ بَعْدَ إِثْبَاتِهِ اخْتِلَافَ الْهِلَالِ بِاخْتِلَافِ الْآفَاقِ وُجُوبَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ قَوْمٍ رُؤْيَتُهُمْ فِي الْأَهِلَّةِ، كَمَا أَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ أَوْقَاتَ صَلَوَاتِهِمْ، وَرَأَى أَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ عَلَى جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ بِقُطْرٍ مِنْهَا بَعِيدٌ عَنِ الْقَوَاعِدِ، وَالْأَدِلَّةُ لَمْ تَقْتَضِ ذَلِكَ.

وَعَمِلَ الشَّافِعِيَّةُ بِاخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ فَقَالُوا: «إِنَّ لِكُلِّ بَلَدٍ رُؤْيَتَهُمْ وَإِنَّ رُؤْيَةَ الْهِلَالِ بِبَلَدٍ لَا يَثْبُتُ بِهَا حُكْمُهُ لِمَا بَعُدَ عَنْهُمْ».كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ النَّوَوِيُّ.

وَاسْتَدَلُّوا مَعَ مَنْ وَافَقَهُمْ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَعْمَلْ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ الشَّامِ لِحَدِيثِ «كُرَيْبٍ أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ بَعَثَتْهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، قَالَ: فَقَدِمْتُ الشَّامَ فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا وَاسْتَهَلَّ عَلَيَّ رَمَضَانُ، وَأَنَا بِالشَّامِ، فَرَأَيْتُ الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ فَسَأَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُمْ؟ فَقُلْتُ: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ.فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ.وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا، وَصَامَ مُعَاوِيَةُ فَقَالَ: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ أَوْ نَرَاهُ، فَقُلْتُ: أَوَلَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ، فَقَالَ: لَا.هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ».

وَقَدْ عَلَّلَ النَّوَوِيُّ هَذِهِ الْفَتْوَى مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّ الرُّؤْيَةَ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهَا فِي حَقِّ الْبَعِيدِ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ، وَأَلْزَمُوا جَمِيعَ الْبِلَادِ بِالصَّوْمِ إِذَا رُئِيَ الْهِلَالُ فِي بَلَدٍ.

وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ»،، فَقَدْ أَوْجَبَ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّوْمَ بِمُطْلَقِ الرُّؤْيَةِ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ تَقْيِيدِهَا بِمَكَانٍ، وَاعْتَبَرُوا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنَ اجْتِهَادِهِ، وَلَيْسَ نَقْلًا عَنِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-.

أَثَرُ الْخَطَأِ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ:

15- قَدْ يُنْتَجُ عَنْ تَوَاصُلِ الْغَيْمِ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ قَبْلَ رَمَضَانَ أَوْ شَوَّالٍ أَوْ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ عَنْ عَدَمِ التَّحَرِّي فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ خَطَأٌ فِي بِدَايَةِ رَمَضَانَ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِفْطَارُ يَوْمٍ مِنْهُ، أَوْ خَطَأٌ فِي بِدَايَةِ شَوَّالٍ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِفْطَارُ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ صِيَامُ يَوْمِ الْعِيدِ، أَوْ خَطَأٌ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وُقُوفٌ بِعَرَفَةَ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، وَهَذَا أَخْطَرُهَا.

وَقَدِ اسْتَنَدَ الْقَائِلُونَ بِصِحَّةِ الْوُقُوفِ فِي غَيْرِ يَوْمِهِ إِلَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «شَهْرَانِ لَا يَنْقُصَانِ: شَهْرَا عِيدٍ: رَمَضَانُ وَذُو الْحِجَّةِ».

وَفَهِمُوا مِنْهُ أَنَّ الْخَطَأَ فِي الْوَقْفَةِ لَا يَنْقُصُ أَجْرَهَا، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى لَا يُفْسِدُهَا.

قَالَ الطِّيبِيُّ: ظَاهِرُ سِيَاقِ الْحَدِيثِ بَيَانُ اخْتِصَاصِ الشَّهْرَيْنِ بِمَزِيَّةٍ لَيْسَتْ فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الشُّهُورِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ثَوَابَ الطَّاعَةِ فِي غَيْرِهِمَا يَنْقُصُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ رَفْعُ الْحَرَجِ عَمَّا عَسَى أَنْ يَقَعَ فِيهِ خَطَأٌ فِي الْحُكْمِ لِاخْتِصَاصِهِمَا بِالْعِيدَيْنِ وَجَوَازِ احْتِمَالِ وُقُوعِ الْخَطَأِ فِيهِمَا.وَمِنْ ثَمَّ قَالَ: «شَهْرَا عِيدٍ» بَعْدَ قَوْلِهِ: «شَهْرَانِ لَا يَنْقُصَانِ» وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى قَوْلِهِ: «رَمَضَانُ وَذُو الْحِجَّةِ».

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْعَيْنِيُّ: «قَالَتْ طَائِفَةٌ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ بِخَطَأٍ شَامِلٍ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْمَوْقِفِ فِي يَوْمٍ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ أَوْ بَعْدَهُ أَنَّهُ يُجْزِئُ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُهُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ بِصِيَامِ مَنِ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الشُّهُورُ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَقَعَ صِيَامُهُ قَبْلَ رَمَضَانَ أَوْ بَعْدَهُ».

وَإِلَى نَفْسِ هَذَا الرَّأْيِ ذَهَبَ النَّوَوِيُّ فَقَالَ: «إِنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ فِي رَمَضَانَ وَذِي الْحِجَّةِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْأَحْكَامِ حَاصِلٌ سَوَاءٌ كَانَ رَمَضَانُ ثَلَاثِينَ أَوْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، سَوَاءٌ صَادَفَ الْوُقُوفُ الْيَوْمَ التَّاسِعَ أَوْ غَيْرَهُ بِشَرْطِ انْتِفَاءِ التَّقْصِيرِ فِي ابْتِغَاءِ الْهِلَالِ».

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: «الْحَدِيثُ يُطَمْئِنُ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ أَوْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ فِي غَيْرِ يَوْمِهَا اجْتِهَادًا».

وَنَظَرًا إِلَى أَنَّ حُصُولَ النَّقْصِ فِي رَمَضَانَ وَاضِحٌ، وَفِي ذِي الْحِجَّةِ غَيْرُ وَاضِحٍ لِوُقُوعِ الْمَنَاسِكِ فِي أَوَّلِهِ فَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الْعَيْنِيُّ بِقَوْلِهِ: «قَدْ تَكُونُ أَيَّامُ الْحَجِّ مِنَ الْإِغْمَاءِ وَالنُّقْصَانِ مِثْلَ مَا يَكُونُ فِي آخِرِ رَمَضَانَ بِأَنْ يُغَمَّى هِلَالُ ذِي الْقَعْدَةِ وَيَقَعُ فِيهِ الْغَلَطُ بِزِيَادَةِ يَوْمٍ أَوْ نُقْصَانِهِ فَيَقَعُ عَرَفَةُ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ أَوِ الْعَاشِرِ مِنْهُ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ أَجْرَ الْوَاقِفِينَ بِعَرَفَةَ فِي مِثْلِهِ لَا يَنْقُصُ عَمَّا لَا غَلَطَ فِيهِ».

وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُمْ إِنْ أَخْطَئُوا وَوَقَفُوا بَعْدَ يَوْمِ عَرَفَةَ يَوْمَ النَّحْرِ يُجْزِيهِمْ، وَإِنْ قَدَّمُوا الْوُقُوفَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَعَادُوا الْوُقُوفَ مِنَ الْغَدِ وَلَمْ يُجْزِهِمْ.

تَبْلِيغُ الرُّؤْيَةِ:

16- إِذَا ثَبَتَ الْهِلَالُ عِنْدَ الْجِهَةِ الْمُخْتَصَّةِ الْمَوْثُوقِ بِهَا وَجَبَ إِعْلَامُ النَّاسِ لِلشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ، أَوِ الْإِفْطَارِ وَصَلَاةِ عِيدِ الْفِطْرِ، أَوْ صَلَاةِ عِيدِ الْأَضْحَى وَذَبْحِ الْأُضْحِيَّةِ بِالْخَبَرِ كَمَا قَالَ الْقَرَافِيُّ: «ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ رِوَايَةٌ مَحْضَةٌ كَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ وَشَهَادَةٌ مَحْضَةٌ كَإِخْبَارِ الشُّهُودِ عَنِ الْحُقُوقِ عَلَى الْمُعَيَّنِينَ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَمُرَكَّبٌ مِنْ شَهَادَةٍ وَرِوَايَةٍ، وَلَهُ صُوَرٌ أَحَدُهَا الْإِخْبَارُ عَنْ رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَخْتَصُّ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بَلْ عَامٌّ عَلَى جَمِيعِ الْمِصْرِ أَوْ أَهْلِ الْآفَاقِ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ رِوَايَةٌ لِعَدَمِ الِاخْتِصَاصِ بِمُعَيَّنٍ وَلِعُمُومِ الْحُكْمِ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِهَذَا الْعَامِّ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ».

وَإِذَا كَانَتِ الرُّؤْيَةُ فِي حَدِّ ذَاتِهَا تُشْبِهُ الشَّهَادَةَ وَالرِّوَايَةَ، فَإِنَّ الْإِعْلَامَ بِهَا بَعْدَ ثُبُوتِهَا لَا خِلَافَ فِي كَوْنِهِ رِوَايَةً، لِذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعْتَمَدُ فِي نَقْلِهَا وَسَائِلُ نَقْلِ الْخَبَرِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُخْبِرِ بِهَا شُرُوطُ الرَّاوِي الْمَقْبُولِ الرِّوَايَةِ الْمُتَعَارَفُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَهِيَ: الْعَدَالَةُ وَالضَّبْطُ.

وَقْتُ الْإِعْلَامِ:

17- إِنَّ وَقْتَ الْإِعْلَامِ بِالنِّسْبَةِ لِرَمَضَانَ هُوَ مَا قَبْلَ فَجْرِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْهُ فَإِنْ حَصَلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَبَ الْإِمْسَاكُ وَعَقْدُ نِيَّةِ الصِّيَامِ وَقَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ بَيَّتَ الصِّيَامَ عَلَى غَيْرِ جَزْمٍ بِدُخُولِ رَمَضَانَ.عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْمٌ).

الْأَدْعِيَةُ الْمَأْثُورَةُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ:

18- وَرَدَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَدْعِيَةٌ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ مِنْهَا مَا جَاءَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ: اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالْإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ».

وَمِنْهَا رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ لِهَذَا الْمَتْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا رَأَى الْهِلَالَ، قَالَ: اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ، وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ وَالتَّوْفِيقِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، رَبُّنَا وَرَبُّكَ اللَّهُ».

وَمِنْهَا مَا جَاءَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذَا الشَّهْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ الْقَدَرِ، وَمِنْ سُوءِ الْحَشْرِ».

وَمِنْهَا عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ: هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، آمَنْتُ بِالَّذِي خَلَقَكَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ذَهَبَ بِشَهْرِ كَذَا وَجَاءَ بِشَهْرِ كَذَا».

هَذِهِ الْأَحَادِيثُ نَقَلَهَا أَيْضًا النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ، وَالْحَطَّابُ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيلِ، وَنَقَلَ إِثْرَهَا قَوْلًا لِلدَّمِيرِيِّ نَصَّ فِيهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْمُلْكِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ لِلْأَثَرِ الْوَارِدِ فِيهَا، وَلِأَنَّهَا الْمُنَجِّيَةُ الْوَاقِيَةُ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


15-موسوعة الفقه الكويتية (سياسة)

سِيَاسَة

التَّعْرِيفُ:

1- لِلسِّيَاسَةِ فِي اللُّغَةِ مَعْنَيَانِ:

الْأَوَّلُ: فِعْلُ السَّائِسِ، وَهُوَ مَنْ يَقُومُ عَلَى الدَّوَابِّ وَيُرَوِّضُهَا.

يُقَالُ: سَاسَ الدَّابَّةَ يَسُوسُهَا سِيَاسَةً.

الثَّانِي: الْقِيَامُ عَلَى الشَّيْءِ بِمَا يُصْلِحُهُ.يُقَالُ: سَاسَ الْأَمْرَ سِيَاسَةً: إِذَا دَبَّرَهُ.

وَسَاسَ الْوَالِي الرَّعِيَّةَ: أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ وَتَوَلَّى قِيَادَتَهُمْ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ السِّيَاسَةَ فِي اللُّغَةِ تَدُلُّ عَلَى التَّدْبِيرِ وَالْإِصْلَاحِ وَالتَّرْبِيَةِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ تَأْتِي لَمَعَانٍ، 2- مِنْهَا: الْأَوَّلُ: مَعْنًى عَامٌّ يَتَّصِلُ بِالدَّوْلَةِ وَالسُّلْطَةِ.فَيُقَالُ: هِيَ اسْتِصْلَاحُ الْخَلْقِ بِإِرْشَادِهِمْ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُنَجِّي فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَتَدْبِيرُ أُمُورِهِمْ.

وَقَالَ الْبُجَيْرِمِيُّ: «السِّيَاسَةُ: إِصْلَاحُ أُمُورِ الرَّعِيَّةِ، وَتَدْبِيرُ أُمُورِهِمْ» وَقَدْ أَطْلَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى السِّيَاسَةِ اسْمَ: «الْأَحْكَامُ السُّلْطَانِيَّةُ» أَوِ «السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ» أَوِ «السِّيَاسَةُ الْمَدَنِيَّةُ».

وَلَمَّا كَانَتِ السِّيَاسَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَسَاسَ الْحُكْمِ، لِذَلِكَ سُمِّيَتْ أَفْعَالُ رُؤَسَاءِ الدُّوَلِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِالسُّلْطَةِ «سِيَاسَةٌ» وَقِيلَ بِأَنَّ الْإِمَامَةَ الْكُبْرَى- رِئَاسَةَ الدَّوْلَةِ- «مَوْضُوعَةٌ لِخِلَافَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا» وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ عِلْمَ السِّيَاسَةِ: هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُعْرَفُ مِنْهُ أَنْوَاعُ الرِّيَاسَاتِ وَالسِّيَاسَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ، وَأَحْوَالُهَا: مِنْ أَحْوَالِ السَّلَاطِينِ وَالْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَأَهْلِ الِاحْتِسَابِ وَالْقَضَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَزُعَمَاءِ الْأَمْوَالِ وَوُكَلَاءِ بَيْتِ الْمَالِ، وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُمْ.

وَمَوْضُوعُهُ الْمَرَاتِبُ الْمَدَنِيَّةُ وَأَحْكَامُهَا، وَالسِّيَاسَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى فَرْعٌ مِنَ الْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ.

وَلَعَلَّ أَقْدَمَ نَصٍّ وَرَدَتْ فِيهِ كَلِمَةُ «السِّيَاسَةِ» بِالْمَعْنَى الْمُتَعَلِّقِ بِالْحُكْمِ هُوَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي وَصْفِ مُعَاوِيَةَ- رضي الله عنهم-: إِنِّي وَجَدْتُهُ وَلِيَّ الْخَلِيفَةِ الْمَظْلُومِ، وَالطَّالِبَ بِدَمِهِ، الْحَسَنَ السِّيَاسَةِ، الْحَسَنَ التَّدْبِيرِ.

3- الْمَعْنَى الثَّانِي: يَتَّصِلُ بِالْعُقُوبَةِ، وَهُوَ أَنَّ السِّيَاسَةَ: «فِعْلُ شَيْءٍ مِنَ الْحَاكِمِ لِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ الْفِعْلِ دَلِيلٌ جُزْئِيٌّ».

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

التَّعْزِيرُ:

هُوَ تَأْدِيبٌ عَلَى ذَنْبٍ لَا حَدَّ فِيهِ وَلَا كَفَّارَةَ غَالِبًا، سَوَاءٌ أَكَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَمْ لآِدَمِيٍّ.وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْعُقُوبَةِ قَالَ: هُوَ تَأْدِيبٌ دُونَ الْحَدِّ.

أَوْ قَالَ: عُقُوبَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلْعَبْدِ.

وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: التَّعْزِيرُ لَا يَتَقَدَّرُ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ.بَلْ هُوَ بِحَسَبِ الْجَرِيمَةِ فِي جِنْسِهَا وَصِفَتِهَا وَكِبَرِهَا وَصِغَرِهَا.وَعِنْدَهُ أَنَّ التَّعْزِيرَ يُمْكِنُ أَنْ يَزِيدَ عَنِ الْحَدِّ.

وَحُجَّتُهُ أَنَّ الْحَدَّ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ أَعَمُّ مِنْهُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ.

فَالتَّعْزِيرُ أَخَصُّ مِنَ السِّيَاسَةِ.

الْمَصْلَحَةُ:

4- الْمَصْلَحَةُ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ.وَمَقْصُودُ الشَّرْعِ مِنَ الْخَلْقِ خَمْسَةٌ:

وَهُوَ أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ، وَنَفْسَهُمْ، وَعَقْلَهُمْ، وَنَسْلَهُمْ، وَمَالَهُمْ.فَكُلُّ مَا يَتَضَمَّنُ حِفْظَ هَذِهِ الْأُصُولِ الْخَمْسَةِ فَهُوَ مَصْلَحَةٌ.وَكُلُّ مَا يُفَوِّتُ هَذِهِ الْأُصُولَ فَهُوَ مَفْسَدَةٌ، وَدَفْعُهَا مَصْلَحَةٌ.

أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى: هِيَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ بِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ عَنِ الْخَلْقِ فَالْمَصْلَحَةُ هِيَ الْغَرَضُ مِنَ السِّيَاسَةِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

5- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلسُّلْطَانِ سُلُوكَ السِّيَاسَةِ فِي تَدْبِيرِ أُمُورِ النَّاسِ وَتَقْوِيمِ الْعِوَجِ، وَفْقَ مَعَايِيرَ وَضَوَابِطَ يَأْتِي بَيَانُهَا، وَلَا تَقِفُ السِّيَاسَةُ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الشَّرْعُ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: السِّيَاسَةُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا بِخُصُوصِهَا، فَإِنَّ مَدَارَ الشَّرِيعَةِ- بَعْدَ قَوَاعِدِ الْإِيمَانِ- عَلَى حَسْمِ مَوَادِّ الْفَسَادِ لِبَقَاءِ الْعَالَمِ.وَقَالَ الْقَرَافِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ التَّوْسِعَةَ عَلَى الْحُكَّامِ فِي الْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ لَيْسَ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ، بَلْ تَشْهَدُ لَهُ الْأَدِلَّةُ، وَتَشْهَدُ لَهُ الْقَوَاعِدُ، وَمِنْ أَهَمِّهَا كَثْرَةُ الْفَسَادِ وَانْتِشَارُهُ، وَالْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ الَّتِي قَالَ بِهَا مَالِكٌ وَجَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ.

وَقَالَ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لِلسُّلْطَانِ سُلُوكُ السِّيَاسَةِ، وَهُوَ الْحَزْمُ عِنْدَنَا، وَلَا يَخْلُو مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ إِمَامٌ.وَلَا تَقِفُ السِّيَاسَةُ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الشَّرْعُ؛ إِذِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ- رضي الله عنهم- قَدْ قَتَلُوا وَمَثَّلُوا وَحَرَقُوا الْمَصَاحِفَ.وَنَفَى عُمَرُ نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ خَوْفَ فِتْنَةِ النِّسَاءِ.وَاعْتَبَرُوا ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ.

وَقَدْ حَذَّرَ ابْنُ الْقَيِّمِ مِنْ إِفْرَاطِ مَنْ مَنَعَ الْأَخْذَ بِالسِّيَاسَةِ، مُكْتَفِيًا بِمَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ، وَتَفْرِيطِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْأَخْذَ بِهَا يُبِيحُ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ فَرْضَ مَا يَرَاهُ مِنْ عُقُوبَةٍ عَلَى هَوَاهُ..ثُمَّ قَالَ: وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ أُتِيَتْ مِنْ تَقْصِيرِهَا فِي مَعْرِفَةِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كِتَابَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرْسَلَ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَهُوَ الْعَدْلُ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْأَرْضُ وَالسَّمَوَاتُ.فَإِنْ ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْعَدْلِ وَأَسْفَرَ وَجْهُهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، فَثَمَّ شَرْعُ اللَّهِ وَدِينُهُ، فَأَيُّ طَرِيقٍ اسْتُخْرِجَ بِهَا الْعَدْلُ وَالْقِسْطُ، فَهِيَ مِنَ الدِّينِ.

وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ السِّيَاسَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي حُدُودِ الشَّرِيعَةِ لَا تَتَعَدَّاهَا.حَتَّى قَالُوا: لَا سِيَاسَةَ إِلاَّ مَا وَافَقَ الشَّرْعَ.وَبِذَلِكَ كَانُوا أَبْعَدَ النَّاسِ عَنِ الْأَخْذِ بِالسِّيَاسَةِ بِالْمَعْنَى الْمُرَادِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ عَدَمُ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَا وَرَدَتْ بِهِ نُصُوصٌ بِخُصُوصِهِ.

أَقْسَامُ السِّيَاسَةِ:

6- تُقْسَمُ السِّيَاسَةُ إِلَى قِسْمَيْنِ: سِيَاسَةٍ ظَالِمَةٍ تُحَرِّمُهَا الشَّرِيعَةُ.وَسِيَاسَةٍ عَادِلَةٍ تُظْهِرُ الْحَقَّ وَتَدْفَعُ الْمَظَالِمَ وَتَرْدَعُ أَهْلَ الْفَسَادِ، وَتُوَصِّلُ إِلَى الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهِيَ الَّتِي تُوجِبُ الشَّرِيعَةُ اعْتِمَادَهَا وَالسَّيْرَ عَلَيْهَا وَالسِّيَاسَةُ الْعَادِلَةُ مِنَ الشَّرِيعَةِ، عَلِمَهَا مَنْ عَلِمَهَا، وَجَهِلَهَا مَنْ جَهِلَهَا، وَمَا يُسَمِّيهِ أَكْثَرُ السَّلَاطِينِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِأَهْوَائِهِمْ وَآرَائِهِمْ- لَا بِالْعِلْمِ- سِيَاسَةً، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ.

وَقَدْ «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ يَسُوسُونَ النَّاسَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَكَانَ الْحُكْمُ وَالسِّيَاسَةُ شَيْئًا وَاحِدًا».ثُمَّ لَمَّا اتَّسَعَتِ الدَّوْلَةُ ظَهَرَ الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّرْعِ وَالسِّيَاسَةِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ السُّلْطَةِ صَارُوا يَحْكُمُونَ بِالْأَهْوَاءِ مِنْ غَيْرِ اعْتِصَامٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: تَقْسِيمُ بَعْضِهِمْ طُرُقَ الْحُكْمِ إِلَى شَرِيعَةٍ وَسِيَاسَةٍ، كَتَقْسِيمِ غَيْرِهِمُ الدِّينَ إِلَى شَرِيعَةٍ وَحَقِيقَةٍ، وَكَتَقْسِيمِ آخَرِينَ الدِّينَ إِلَى عَقْلٍ وَنَقْلٍ..وَكُلُّ ذَلِكَ تَقْسِيمٌ بَاطِلٌ؛ بَلِ السِّيَاسَةُ، وَالْحَقِيقَةُ، وَالطَّرِيقَةُ، وَالْعَقْلُ، كُلُّ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: صَحِيحٍ، وَفَاسِدٍ.فَالصَّحِيحُ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الشَّرِيعَةِ لَا قَسِيمٌ لَهَا، وَالْبَاطِلُ ضِدُّهَا وَمُنَافِيهَا، وَهَذَا الْأَصْلُ مِنْ أَهَمِّ الْأُصُولِ وَأَنْفَعِهَا، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ عُمُومُ رِسَالَتِهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعِبَادُ فِي مَعَارِفِهِمْ وَعُلُومِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يُحْوِجْ أُمَّتَهُ إِلَى أَحَدٍ بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا حَاجَتُهُمْ إِلَى مَنْ يُبَلِّغُهُمْ عَنْهُ مَا جَاءَ بِهِ.

حُسْنُ سِيَاسَةِ الْإِمَامِ لِلرَّعِيَّةِ:

7- إِنَّ لِلسِّيَاسَةِ أَثَرًا كَبِيرًا فِي الْأُمَّةِ، فَحُسْنُ السِّيَاسَةِ يَنْشُرُ الْأَمْنَ، وَالْأَمَانَ فِي أَنْحَاءِ الْبِلَادِ.وَعِنْدَئِذٍ يَنْطَلِقُ النَّاسُ فِي مَصَالِحِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ مُطْمَئِنِّينَ، فَتَنْمُو الثَّرْوَةُ، وَيَعُمُّ الرَّخَاءُ، وَيَقْوَى أَمْرُ الدِّينِ.

وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَقَّقَ ذَلِكَ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ لِلْإِمَامِ سِيَاسَةٌ حَازِمَةٌ، تَهْتَمُّ بِكُلِّ أُمُورِ الْأُمَّةِ، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، وَتُرَغِّبُ النَّاسَ بِفِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَتُثِيبُ عَلَى الْفِعْلِ الْجَمِيلِ، كَمَا تُحَذِّرُ مِنَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ وَتُعَاقِبُ عَلَيْهِ وَتَقْطَعُ دَابِرَ دُعَاتِهِ وَمُقْتَرِفِيهِ، وَبِغَيْرِ هَذِهِ السِّيَاسَةِ تَضْعُفُ الدَّوْلَةُ وَتَنْهَارُ وَتَخْرَبُ الْبِلَادُ.

وَالسِّيَاسَةُ الْحَازِمَةُ الْمُحَقِّقَةُ لِخَيْرِ الْأُمَّةِ هِيَ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْإِمَامُ بَيْنَ اللِّينِ وَالْعُنْفِ، وَيُقَدِّمُ اللِّينَ عَلَى الشِّدَّةِ، وَالدَّعْوَةَ الْحَسَنَةَ عَلَى الْعُقُوبَةِ.

وَعَلَيْهِ أَنْ يَهْتَمَّ بِإِصْلَاحِ دِينِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ صَلَاحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.

وَأَعْظَمُ عَوْنٍ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ:

الْأَوَّلُ: الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ.

وَالثَّانِي: الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ بِالنَّفْعِ وَالْمَالِ.

وَالثَّالِثُ: الصَّبْرُ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ وَعِنْدَ الشَّدَائِدِ.

قَوَاعِدُ السِّيَاسَةِ:

أُسُسُ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَامَّةِ: هِيَ تِلْكَ الْقَوَاعِدُ الْأَسَاسِيَّةُ الَّتِي تُبْنَى عَلَيْهَا دَوْلَةُ الْإِسْلَامِ، وَيُسْتَلْهَمُ مِنْهَا النَّهْجُ السِّيَاسِيُّ لِلْحُكْمِ.

الْأَسَاسُ الْأَوَّلُ: سِيَادَةُ الشَّرِيعَةِ:

8- يُؤَكِّدُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ هَذِهِ السِّيَادَةَ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ، مِنْ ذَلِكَ قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْيَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} وقوله تعالى: {ثُمَّرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ دُونَ سِوَاهُ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ وَذَلِكَ حَقٌّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْحِسَابِ فِي الْآخِرَةِ إِنَّمَا يَقُومُ عَلَى عَمَلِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يُحَاسَبُ النَّاسُ عَلَى مَا اجْتَرَحُوا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ عَلَى أَسَاسِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي جَاءَتْ أَحْكَامُهَا مُنَظِّمَةً لِلْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالِاقْتِصَادِيَّةِ وَأُمُورِ الْمُعَامَلَاتِ الْأُخْرَى.

9- وَمَا دَامَتِ الْحَاكِمِيَّةُ فِي هَذَا الْعَالَمِ لِشَرِيعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ شُؤُونِ الْحَيَاةِ وَإِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، فَإِنَّ الْكَثِيرَ مِنَ الْآيَاتِ جَاءَتْ آمِرَةً بِتَطْبِيقِ أَحْكَامِهَا وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَتْ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَتْ عَنْهُ.مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْأَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}.قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَاتَّبِعْ تِلْكَ الشَّرِيعَةَ الَّتِي جَعَلْنَاهَا لَكَ، وَلَا تَتَّبِعْ مَا دَعَاكَ إِلَيْهِ الْجَاهِلُونَ بِاَللَّهِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، فَتَعْمَلُ بِهِ فَتَهْلِكُ إِنْ عَمِلْتَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَاتَّبِعْ شَرِيعَتَكَ الثَّابِتَةَ بِالدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ، وَلَا تَتَّبِعْ مَا لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْوَاءِ الْجُهَّالِ وَدِينِهِمُ الْمَبْنِيِّ عَلَى هَوًى وَبِدْعَةٍ.وَمِنْ ذَلِكَ قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} يَعْنِي الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ.قَالَ تَعَالَى: {وَمَاآتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذَا أَمْرٌ يَعُمُّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَأُمَّتَهُ.وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ دُونَهُ؛ أَيِ اتَّبِعُوا مِلَّةَ الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ، وَأَحِلُّوا حَلَالَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ، وَامْتَثِلُوا أَمْرَهُ وَاجْتَنِبُوا نَهْيَهُ.وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى تَرْكِ اتِّبَاعِ الْآرَاءِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ.

10- وَمِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّ الْأَمْرَ بِاتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَخُصُّ الْقُرْآنَ فَحَسْبُ، بَلْ يَعُمُّ السُّنَّةَ أَيْضًا، مَا جَاءَ فِي عَدَدٍ مِنَ الْآيَاتِ مِنَ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهَا وَتَطْبِيقِهَا.مِنْ ذَلِكَ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}.

حَقُّ الْإِمَامِ فِي وَضْعِ الْأَنْظِمَةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنَ الشَّرِيعَةِ:

11- تَقْرِيرُ مَبْدَأِ سِيَادَةِ الشَّرِيعَةِ لَا يَعْنِي حِرْمَانَ الْإِمَامِ وَمِنْ دُونِهِ أَهْلُ الْحُكْمِ وَالسُّلْطَةِ مِنْ حَقِّ اتِّخَاذِ الْقَرَارَاتِ وَالْأَنْظِمَةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا لِسَيْرِ أُمُورِ الدَّوْلَةِ.

ذَلِكَ لِأَنَّ نُصُوصَ الشَّرِيعَةِ مَحْدُودَةٌ وَمُتَنَاهِيَةٌ، وَأَمَّا الْحَوَادِثُ وَتَطَوُّرُ الْحَيَاةِ وَالْمَسَائِلُ الَّتِي تُوَاجِهُ الْأُمَّةَ وَالدَّوْلَةَ مَعًا، فَغَيْرُ مَحْدُودَةٍ وَلَا مُتَنَاهِيَةٌ.وَلَا بُدَّ لِلْإِمَامِ وَأَهْلِ الْحُكْمِ مِنْ مُوَاجِهَةِ كُلِّ ذَلِكَ بِمَا يَرَوْنَهُ مِنْ أَنْظِمَةٍ، وَلَكِنْ هَذَا الْحَقُّ لَيْسَ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا هُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا لَا يُخَالِفُ النُّصُوصَ الشَّرْعِيَّةَ، وَلَا يَخْرُجُ عَلَى مَبَادِئِ الْإِسْلَامِ وَقَوَاعِدِهِ الْعَامَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ الْوَاجِبَةِ الرِّعَايَةِ، وَاَلَّتِي لِأَجْلِهَا قَامَتِ الدَّوْلَةُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلاَّ بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ وَالِاخْتِصَاصِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ.

الْأَسَاسُ الثَّانِي: الشُّورَى:

12- الْحُكْمُ أَمَانَةٌ، وَالْإِمَامُ وَمَنْ يَتَوَلَّى السُّلْطَةَ مَسْئُولُونَ عَنْ تِلْكَ الْأَمَانَةِ.لِذَلِكَ كَانَ مِنْ صِفَاتِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَبِدُّونَ بِرَأْيٍ وَلَا يَغْفُلُونَ عَنِ الِاسْتِفَادَةِ مِنْ عُقُولِ الرِّجَالِ لقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}.

وَعَلَيْهِ، فَإِنَّ مِنَ الْمُقَرَّرِ فِقْهًا أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ مُشَاوَرَةَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ النَّاصِحِينَ لِلدَّوْلَةِ وَلِلْأُمَّةِ، وَأَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهِمْ فِي أَحْكَامِهِ كَيْ يَدُومَ حُكْمُهُ وَيَقُومَ عَلَى أَسَاسٍ صَحِيحٍ.

وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (شُورَى).

الْأَسَاسُ الثَّالِثُ: الْعَدْلُ:

13- الْعَدْلُ هُوَ الصِّفَةُ الْجَامِعَةُ لِلرِّسَالَةِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي جَاءَ الرُّسُلُ ( (لِتَحْقِيقِهَا، وَإِرْشَادِ النَّاسِ إِلَيْهَا وَحَمْلِهِمْ عَلَيْهَا.فَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:

{لَقَدْأَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}.وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} الْآيَةَ.

فَالْعَدْلُ أَمْرٌ فَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ السَّعْيَ لِإِقَامَتِهِ فِي الْأَرْضِ، وَلِيَكُونَ مِنْ أَبْرَزِ خَصَائِصِهِمْ بَيْنَ الْأُمَمِ؛ لِأَنَّ دِينَهُمْ دِينُ الْعَدْلِ.حَتَّى قَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه- بِأَنَّهُ لَا رُخْصَةَ فِيهِ فِي قَرِيبٍ وَلَا بَعِيدٍ وَلَا فِي شِدَّةٍ وَلَا رَخَاءٍ، وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بِوُجُوبِهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عَدْل).

مَصْدَرُ السُّلُطَاتِ:

14- نَصْبُ الْإِمَامِ وَاجِبٌ شَرْعًا وَيَتَعَيَّنُ الْإِمَامُ بِالْبَيْعَةِ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَالْإِمَامُ مُكَلَّفٌ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَمُلْزَمٌ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَمَسْئُولٌ عَنْ ذَلِكَ كَأَيِّ مُسْلِمٍ فِي الْأُمَّةِ، وَهُوَ فَوْقَ ذَلِكَ مَسْئُولٌ عَنْ تَطْبِيقِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ فِي كُلِّ شَأْنٍ مِنْ شُئُونِ الدَّوْلَةِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْصِبِهِ أَقْوَى رَجُلٍ فِي الْأُمَّةِ وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا طَاعَتُهُ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (طَاعَة، الْإِمَامَة الْكُبْرَى، بَيْعَة).

أَنْوَاعُ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ:

أَوَّلًا: السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْحُكْمِ:

الْإِمَامَةُ:

15- مِنَ الثَّابِتِ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ وَدَوْلَةٌ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ هُوَ كِتَابُ عَقِيدَةٍ كَمَا هُوَ كِتَابُ أَحْكَامٍ وَقَوَاعِدُ تُنَظِّمُ صِلَةَ الْإِنْسَانِ بِالْإِنْسَانِ وَالْإِنْسَانِ بِالْمُجْتَمَعِ، وَالْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِ فِي حَالَةِ السِّلْمِ وَالْحَرْبِ.

وَهُوَ إِلَى جَانِبِ ذَلِكَ يَحْوِي كُلَّ أَنْوَاعِ الْحُقُوقِ وَفُرُوعِهَا.فَالْحُقُوقُ الْمَدَنِيَّةُ إِلَى جَانِبِ الْحُقُوقِ الْجَزَائِيَّةِ، وَالِاقْتِصَادِيَّة، وَالْمَالِيَّةِ، وَالتِّجَارِيَّةِ، وَالدُّوَلِيَّةِ بِفَرْعَيْهَا الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ.

وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْحُقُوقُ مَوَاعِظَ مَتْرُوكَةً لِرَغْبَةِ الْإِنْسَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ أَحْكَامٌ آمِرَةٌ وَاجِبَةُ التَّنْفِيذِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلاَّ بِقِيَامِ الدَّوْلَةِ.

وَهَذِهِ الدَّوْلَةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ إِمَامٍ (رَئِيسٍ) يَتَوَلَّى أُمُورَهَا، كَمَا يَسْهَرُ عَلَى مَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ أَرْشَدَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ إِلَى ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمَجِيدَةِ: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة...ً}.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي نَصْبِ إِمَامٍ وَخَلِيفَةٍ يُسْمَعُ لَهُ وَيُطَاعُ؛ لِتَجْتَمِعَ بِهِ الْكَلِمَةُ، وَتُنَفَّذَ بِهِ أَحْكَامُ الْخَلِيقَةِ.

وَفِي السُّنَّةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- عليه الصلاة والسلام- قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ يَكُونُونَ بِأَرْضِ فَلَاةٍ إِلاَّ أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ».

وَقَالَ: «إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ».

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَإِذَا شُرِعَ هَذَا لِثَلَاثَةٍ يَكُونُونَ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ أَوْ يُسَافِرُونَ، فَشَرْعِيَّتُهُ لِعَدَدٍ أَكْثَرَ يَسْكُنُونَ الْقُرَى وَالْأَمْصَارَ وَيَحْتَاجُونَ لِدَفْعِ التَّظَالُمِ وَفَصْلِ التَّخَاصُمِ، أَوْلَى وَأَحْرَى.وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نَصْبُ الْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ وَالْحُكَّامِ.وَلَمَّا كَانَ صَلَاحُ الْبِلَادِ وَأَمْنُ الْعِبَادِ وَقَطْعُ مَوَادِّ الْفَسَادِ وَإِنْصَافُ الْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ لَا يَتِمُّ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ قَاهِرٍ قَادِرٍ لِذَلِكَ وَجَبَ نَصْبُ إِمَامٍ يَقُومُ بِحِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ أُمُورِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ فَرْضٌ بِالْإِجْمَاعِ.

وَأَمَّا صِفَاتُ هَذَا الْإِمَامِ وَشُرُوطُهُ وَمَا تَنْعَقِدُ بِهِ إِمَامَتُهُ فَتُنْظَرُ فِي (الْإِمَامَة الْكُبْرَى) (وَبَيْعَة).

حُقُوقُ الْإِمَامِ:

16- ذَهَبَ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى إِلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ حَقَّيْنِ: الطَّاعَةَ وَالنُّصْرَةَ.

وَقَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ: إِنَّهَا عَشَرَةُ حُقُوقٍ: الطَّاعَةُ، وَالنَّصِيحَةُ، وَالتَّعْظِيمُ، وَالِاحْتِرَامُ، وَالْإِيقَاظُ عِنْدَ الْغَفْلَةِ، وَالْإِرْشَادُ عِنْدَ الْخَطَأِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ كُلِّ عَدُوٍّ، وَإِعْلَامُهُ بِسِيرَةِ عُمَّالِهِ، وَإِعَانَتُهُ، وَجَمْعُ الْقُلُوبِ عَلَى مَحَبَّتِهِ، وَالنُّصْرَةُ.

وَهَذِهِ الْحُقُوقُ لَا تَكُونُ لِلْإِمَامِ إِلاَّ إِذَا أَطَاعَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَلَزِمَ فَرَائِضَهُ وَحُدُودَهُ، وَأَدَّى لِلْأُمَّةِ حُقُوقَهَا الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ.وَبِرِعَايَةِ الْأُمَّةِ هَذِهِ الْحُقُوقَ تَصْفُو الْقُلُوبُ وَتَجْتَمِعُ الْكَلِمَةُ وَيَتَحَقَّقُ النَّصْرُ.

وَأَمَّا فِيمَا سِوَى مَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّ الْإِمَامَ وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ يَسْتَوِي مَعَهُمْ جَمِيعًا فِي الْحُقُوقِ وَالْأَحْكَامِ.بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ النَّاسِ خَشْيَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَأَحْسَنَهُمْ قِيَامًا بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ؛ لِأَنَّهُ رَأْسُ الدَّوْلَةِ.

وَاجِبَاتُ الْإِمَامِ:

17- حُقُوقُ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ وَاجِبَاتُ الْإِمَامِ يُمْكِنُ أَنْ تُجْمَعَ فِي عَشَرَةٍ:

(1) حِفْظُ الدِّينِ وَالْحَثُّ عَلَى تَطْبِيقِهِ، وَنَشْرُ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ وَتَعْظِيمُ أَهْلِهِ وَمُخَالَطَتُهُمْ وَمُشَاوَرَتُهُمْ.

(2) حِرَاسَةُ الْبِلَادِ وَالدِّفَاعُ عَنْهَا، وَحِفْظُ الْأَمْنِ الدَّاخِلِيِّ.

(3) النَّظَرُ فِي الْخُصُومَاتِ، وَتَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ.

(4) إقَامَةُ الْعَدْلِ فِي جَمِيعِ شُئُونِ الدَّوْلَةِ.

(5) تَطْبِيقُ الْحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ.

(6) إقَامَةُ فَرْضِ الْجِهَادِ.

(7) عِمَارَةُ الْبِلَادِ، وَتَسْهِيلُ سُبُلِ الْعَيْشِ، وَنَشْرُ الرَّخَاءِ.

(8) جِبَايَةُ الْأَمْوَالِ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، وَصَرْفُهَا فِي الْوُجُوهِ الْمَشْرُوعَةِ وَعَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ، مِنْ غَيْرِ سَرِفٍ وَلَا تَقْتِيرٍ.

(9) أَنْ يُوَلِّيَ أَعْمَالَ الدَّوْلَةِ الْأُمَنَاءَ النُّصَحَاءَ أَهْلَ الْخِبْرَةِ.

(10) أَنْ يَهْتَمَّ بِنَفْسِهِ بِسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَمَصَالِحِهَا، وَأَنْ يُرَاقِبَ أُمُورَ الدَّوْلَةِ وَيَتَصَفَّحَ أَحْوَالَ الْقَائِمِينَ عَلَيْهَا.

تَعْيِينُ الْعُمَّالِ وَفَصْلُهُمْ:

أ- تَعْيِينُ الْعُمَّالِ:

18- لَا يَسْتَطِيعُ الْإِمَامُ أَنْ يَتَوَلَّى أُمُورَ الْحُكْمِ كُلَّهَا بِنَفْسِهِ دُونَ أَنْ يُعَاوِنَهُ فِي ذَلِكَ عُمَّالٌ يُعَيِّنُهُمْ، وَكُلَّمَا اتَّسَعَتْ أُمُورُ الْحُكْمِ وَتَشَعَّبَتْ زَادَتِ الْحَاجَةُ إِلَى هَؤُلَاءِ الْعُمَّالِ.«وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ بَيِّنَةٌ فِي ضَرُورَاتِ الْعُقُولِ لَا يَسْتَرِيبُ اللَّبِيبُ بِهَا».

وَهَذَا «مَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ- عليه الصلاة والسلام- حِينَ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ.فَقَدْ وَلَّى عَلَى مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ- رضي الله عنه- وَعَلَى الطَّائِفِ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيَّ- رضي الله عنه-.وَبَعَثَ عَلِيًّا وَمُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى- رضي الله عنهم- إِلَى الْيَمَنِ.وَكَانَ يُؤَمِّرُ عَلَى السَّرَايَا، وَيَبْعَثُ جُبَاةَ الزَّكَاةِ وَيُرْسِلُ السُّفَرَاءَ إِلَى الْمُلُوكِ وَالْقَبَائِلِ».وَعَلَى هَذَا النَّهْجِ سَارَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.

وَقَدْ أَقَرَّ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ تَعْيِينَ الْعُمَّالِ مِنْ وَاجِبَاتِ الْإِمَامِ.

ب- صِفَاتُ الْعُمَّالِ:

19- يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُوَلِّيَ أَهْلَ الدِّيَانَةِ وَالْعِفَّةِ وَالْعَقْلِ وَالْأَصَالَةِ وَالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَالْحَزْمِ وَالْكِفَايَةِ، وَتَكُونُ الْكِفَايَةُ بِحَسَبِ طَبِيعَةِ الْعَمَلِ.

وَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ الْأَمْثَلَ فَالْأَمْثَلَ؛ لِحَدِيثِ: «مَنْ وَلَّى رَجُلًا عَلَى عِصَابَةٍ وَهُوَ يَجِدُ فِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ».وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَجَنَّبَ التَّعْيِينَ وَفْقَ هَوَاهُ.

وَلَا يَكُونُ اخْتِيَارُهُمْ إِلاَّ بَعْدَ امْتِحَانٍ وَتَجْرِبَةٍ.

ج- مَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ نَحْوَ عُمَّالِهِ:

20- يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ عُمَّالِهِ بِعَدَمِ الظُّلْمِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَأَنْ يُعَرِّفَهُمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ الظَّالِمَ أَعْدَى عَدُوٍّ لِلدَّوْلَةِ.

وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي أُمُورِ عُمَّالِهِ، فَإِنْ وَجَدَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّرْقِيَةَ رَقَّاهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ التَّرْقِيَةَ قَفْزًا دُونَ سَبَبٍ.

وَإِنْ وَجَدَ مِنْهُمْ مُسِيئًا حَاسَبَهُ، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ مَا أَتَاهُ يُوجِبُ حَدًّا، أَوْ تَعَدَّى عَلَى حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الرَّعِيَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْعِقَابِ.

وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْزِلَ كُلَّ مَنْ يُخِلُّ بِوَاجِبِ الْعَمَلِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَقْوِيمُهُ.

وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِدَوَامِ مُرَاقَبَةِ الْعَامِلِينَ فِي الدَّوْلَةِ، وَالْوُقُوفِ عَلَى أُمُورِهِمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ، وَعَلَاقَتِهِمْ مَعَ النَّاسِ، وَالْتِزَامِهِمْ بِتَنْفِيذِ مَا يَأْمُرُ بِهِ مِنَ السِّيَاسَةِ..وَيُعِينُهُ عَلَى هَذِهِ الْمُهِمَّةِ جِهَازٌ دَقِيقٌ يُطْلِعُهُ عَلَى جَمِيعِ شُئُونِ الدَّوْلَةِ وَالْأُمَّةِ

د- دِيوَانُ الْمُوَظَّفِينَ:

21- يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّوْلَةِ دِيوَانٌ يَخُصُّ الْعَامِلِينَ فِي أَجْهِزَتِهَا الْمُخْتَلِفَةِ.

وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (دِيوَان).

ثَانِيًا: السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْمَالِ:

22- يُقْصَدُ بِالْأَمْوَالِ فِي هَذَا الْمَجَالِ: أَمْوَالُ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الْوَارِدَةِ إِلَى خَزِينَةِ الدَّوْلَةِ.

وَهِيَ تَتَأَلَّفُ مِنْ أَنْوَاعٍ يُنْظَرُ بَيَانُهَا وَكَيْفِيَّةُ التَّصَرُّفِ فِيهَا فِي مُصْطَلَحِ (بَيْت الْمَالِ).

ثَالِثًا: السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْوِلَايَاتِ:

وِلَايَةُ الْجَيْشِ:

23- لَمَّا كَانَ الْجَيْشُ لِلْجِهَادِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْبِلَادِ، لِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ الْعِنَايَةُ بِتَرْتِيبِهِ وَإِعْدَادِهِ، وَتَنْظِيمِ قِيَادَتِهِ، وَتَفَقُّدِ أَحْوَالِهِ، وَتَعَرُّفِ أَحْوَالِ الْعَدُوِّ، وَإِنَّ تَحْقِيقَ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلاَّ بِتَأْمِينِ الْأَمْوَالِ اللاَّزِمَةِ لِتَسْلِيحِهِ وَإِدَارَتِهِ وَدَفْعِ مَا يَسْتَحِقُّهُ أَفْرَادُهُ بِشَكْلٍ مُنَظَّمٍ وَمُلَائِمٍ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (جِهَاد).

النَّظَرُ فِي أُمُورِ الْقُضَاةِ:

24- إِنَّ الْقَضَاءَ مَنْصِبٌ جَلِيلٌ وَخَطِيرٌ؛ لِأَنَّهُ يُحَقِّقُ الْعَدْلَ فِي الْأُمَّةِ، وَعَلَى الْعَدْلِ تَقُومُ الدَّوْلَةُ الصَّالِحَةُ، وَقَدْ أَحَاطَتِ الشَّرِيعَةُ هَذَا الْمَنْصِبَ بِاحْتِرَامٍ شَدِيدٍ وَنَظَّمَتْ أَحْكَامَهُ وَقَوَاعِدَهُ وَصِفَاتِ مَنْ يَتَوَلاَّهُ وَأُصُولَ التَّقَاضِي.

وَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتَفَقَّدَ أَحْوَالَ الْقُضَاةِ وَيَتَحَرَّى عَنْ أَخْبَارِهِمْ وَعَنْ سِيرَتِهِمْ فِي النَّاسِ، وَعَنْ أَحْكَامِهِمْ، وَيَسْأَلَ الثِّقَاتِ الصَّالِحِينَ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ.

وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (قَضَاء).

النَّظَرُ فِي وِلَايَةِ الصَّدَقَاتِ:

25- الزَّكَاةُ هِيَ الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ تَكَفَّلَتِ النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ بِبَيَانِ مَحِلِّهَا وَنِصَابِهَا وَجِبَايَتِهَا وَأُصُولِ صَرْفِهَا وَمُسْتَحَقِّيهَا.

وَلِذَلِكَ فَإِنَّ عَلَى رَئِيسِ الدَّوْلَةِ أَنْ يُوَلِّيَ أُمُورَ الزَّكَاةِ الْمُسْلِمَ الْعَدْلَ الْعَالِمَ بِأَحْكَامِهَا لِيَكُونَ قَادِرًا عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي تَطْبِيقِهَا.وَقَدْ تَكُونُ وِلَايَتُهُ شَامِلَةً جِبَايَةَ الزَّكَاةِ وَقِسْمَتَهَا، وَقَدْ تَكُونُ لِلْجِبَايَةِ دُونَ الْقِسْمَةِ، وَقَدْ تَكُونُ مُطْلَقَةً، فَلَهُ إِنْ شَاءَ أَنْ يَقْسِمَهَا، وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْقِسْمَةَ.أَمَّا إِنْ كَانَ مُكَلَّفًا بِأَخْذِ مَالٍ مُحَدَّدٍ مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِلْمُ بِأَحْكَامِهَا، لِأَنَّهُ عِنْدَئِذٍ يَكُونُ كَالْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ.

وَانْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاة).

السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي شَأْنِ الْمُخَالِفِينَ مِنْ بُغَاةٍ وَغَيْرِهِمْ:

26- قَدْ تَخْرُجُ فِئَةٌ مُسَلَّحَةٌ مُنَظَّمَةٌ.فَإِنْ كَانَ خُرُوجُهَا عَلَى الدِّينِ كَانَتْ مُرْتَدَّةً.

وَإِنْ كَانَ خُرُوجُهَا عَلَى الْإِمَامِ كَانَتْ فِئَةً بَاغِيَةً.

وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْفِقْهِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ (انْظُرْ: رِدَّة.بُغَاة.حِرَابَة).

رَابِعًا: السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْعُقُوبَةِ:

أ- الْعُقُوبَةُ سِيَاسَةً:

27- تَنْقَسِمُ الْعُقُوبَةُ إِلَى: عُقُوبَاتٍ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا، وَهِيَ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ.

وَعُقُوبَاتٍ غَيْرِ مُقَدَّرَةٍ، وَهِيَ التَّعْزِيرُ.

أَمَّا الْعُقُوبَةُ سِيَاسَةً: فَتَكُونُ عِنْدَ اقْتِرَافِ جَرِيمَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، وَبِهَذَا تُرَادِفُ التَّعْزِيرَ:

فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ النَّبَّاشَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ، فَإِنِ اعْتَادَ النَّبْشَ أَمْكَنَ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ عَلَى سَبِيلِ السِّيَاسَةِ.ر: مُصْطَلَحَ (سَرِقَة).

كَمَا صَرَّحُوا بِأَنَّهُ قَدْ تُزَادُ الْعُقُوبَةُ سِيَاسَةً.فَإِذَا أُقِيمَ حَدُّ السَّرِقَةِ- مَثَلًا- فَقُطِعَتْ يَدُ السَّارِقِ جَازَ حَبْسُهُ حَتَّى يَتُوبَ.

كَمَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ لِلْإِمَامِ حَبْسَ مَنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِارْتِكَابِ جَرَائِمَ ضِدَّ الْأَشْخَاصِ، أَوِ الْأَمْوَالِ وَلَوْ لَمْ يَقْتَرِفْ جَرِيمَةً جَدِيدَةً، وَيَسْتَمِرُّ حَبْسُهُ حَتَّى يَتُوبَ؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ سَجَنَ ضَابِئَ بْنَ الْحَارِثِ وَكَانَ مِنْ لُصُوصِ بَنِي تَمِيمٍ وَفُتَّاكِهِمْ، حَتَّى مَاتَ فِي السِّجْنِ.

وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ مَعَ مَنْ عُرِفَ بِالشَّرِّ وَالْأَذَى وَخِيفَ أَذَاهُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ. (ر: عُقُوبَة- تَعْزِير).

التَّغْرِيبُ سِيَاسَةً:

28- ثَبَتَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَزَّرَ الْمُخَنَّثِينَ وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ وَنَفْيِهِمْ».

وَجَاءَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَنْفِي شَارِبَ الْخَمْرِ إِلَى خَيْبَرَ زِيَادَةً فِي عُقُوبَتِهِ.

وَنَفَى نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ لَمَّا خَافَ فِتْنَةَ نِسَاءِ الْمَدِينَةِ بِجَمَالِهِ، بَعْدَ أَنْ قَصَّ شَعْرَهُ فَرَآهُ زَادَ جَمَالًا.

وَلِذَلِكَ جَازَ نَفْيُ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ إِلَى بَلَدٍ يُؤْمَنُ فَسَادُ أَهْلِهِ.فَإِنْ خَافَ بِهِ عَلَيْهِمْ حُبِسَ.وَبِهَذَا أَخَذَ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الْمُعَاقَبَةِ، وَإِنَّمَا مِنْ قَبِيلِ الْخَوْفِ مِنَ الْفَاحِشَةِ قَبْلَ وُقُوعِهَا. (ر: تَغْرِيب).

وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ تَغْرِيبُ الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ بَعْدَ جَلْدِهِ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ.

وَهَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ جُزْءٌ مِنَ الْحَدِّ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ لَا يُغَرَّبُ حَدًّا، وَأَجَازُوا تَغْرِيبَهُ سِيَاسَةً، دُونَ تَحْدِيدِهِ بِسَنَةٍ، بَلْ بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ تُوجِبُ ذَلِكَ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى تَحْرِيمِ حَبْسِهِ بَعْدَ الْحَدِّ.فَإِنْ لَمْ يَنْزَجِرْ جَازَ لِلْإِمَامِ حَبْسُهُ حَتَّى يَتُوبَ.وَقِيلَ: حَتَّى يَمُوتَ.

الْقَتْلُ سِيَاسَةً:

29- يُجِيزُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْقَتْلَ عَلَى سَبِيلِ السِّيَاسَةِ فِي جَرَائِمَ مُعَيَّنَةٍ.وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَعْزِير).

مَنْ لَهُ حَقُّ الْعُقُوبَةِ سِيَاسَةً:

30- لِلْعُلَمَاءِ خِلَافٌ فِي تَحْدِيدِ مَنْ لَهُ حَقُّ فَرْضِ الْعُقُوبَةِ سِيَاسَةً..هَلْ هُوَ الْإِمَامُ وَنُوَّابُهُ، أَمْ هُوَ الْقَاضِي؟.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عُقُوبَة، تَعْزِير).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


16-موسوعة الفقه الكويتية (صلاة المسافر 1)

صَلَاةُ الْمُسَافِرِ -1

التَّعْرِيفُ:

1- السَّفَرُ لُغَةً: قَطْعُ الْمَسَافَةِ، وَخِلَافُ الْحَضَرِ (أَيِ الْإِقَامَةِ)، وَالْجَمْعُ: أَسْفَارٌ، وَرَجُلٌ سَفْرٌ، وَقَوْمٌ سَفْرٌ: ذَوُو سَفْرٍ.

وَالْفُقَهَاءُ يَقْصِدُونَ بِالسَّفَرِ: السَّفَرَ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ وَهُوَ: أَنْ يَخْرُجَ الْإِنْسَانُ مِنْ وَطَنِهِ قَاصِدًا مَكَانًا يَسْتَغْرِقُ الْمَسِيرُ إِلَيْهِ مَسَافَةً مُقَدَّرَةً عِنْدَهُمْ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهَا.

وَالْمُرَادُ بِالْقَصْدِ: الْإِرَادَةُ الْمُقَارِنَةُ لِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ، فَلَوْ طَافَ الْإِنْسَانُ جَمِيعَ الْعَالَمِ بِلَا قَصْدِ الْوُصُولِ إِلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ فَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا.

وَلَوْ أَنَّهُ قَصَدَ السَّفَرَ، وَلَمْ يَقْتَرِنْ قَصْدُهُ بِالْخُرُوجِ فِعْلًا فَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّ تَغْيِيرِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ هُوَ السَّفَرُ الَّذِي اجْتَمَعَ فِيهِ الْقَصْدُ وَالْفِعْلُ.

خَصَائِصُ السَّفَرِ:

2- يَخْتَصُّ السَّفَرُ بِأَحْكَامٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ، وَتَتَغَيَّرُ بِوُجُودِهِ، وَمِنْ أَهَمِّهَا: قَصْرُ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ، وَإِبَاحَةُ الْفِطْرِ لِلصَّائِمِ، وَامْتِدَادُ مُدَّةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَحُرْمَةُ السَّفَرِ عَلَى الْحُرَّةِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، وَوِلَايَةُ الْأَبْعَدِ.

وَيَقْتَصِرُ هَذَا الْبَحْثُ عَلَى مَا يَتَّصِلُ بِالسَّفَرِ مِنْ حَيْثُ قَصْرُ الصَّلَاةِ.أَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِغَيْرِهَا مِنْ أَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (سَفَر، صَوْم، الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ، نِكَاح، وَوِلَايَة).

تَقْسِيمُ الْوَطَنِ:

يَنْقَسِمُ الْوَطَنُ إِلَى: وَطَنٍ أَصْلِيٍّ، وَوَطَنِ إِقَامَةٍ، وَوَطَنِ سُكْنَى.

الْوَطَنُ الْأَصْلِيُّ:

3- هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَسْتَقِرُّ فِيهِ الْإِنْسَانُ بِأَهْلِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَوْطِنَ وِلَادَتِهِ أَمْ بَلْدَةً أُخْرَى، اتَّخَذَهَا دَارًا وَتَوَطَّنَ بِهَا مَعَ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَلَا يَقْصِدُ الِارْتِحَالَ عَنْهَا، بَلِ التَّعَيُّشُ بِهَا.

وَيَأْخُذُ حُكْمَ الْوَطَنِ: الْمَكَانُ الَّذِي تَأَهَّلَ بِهِ، أَيْ تَزَوَّجَ بِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ الْوَطَنُ الْأَصْلِيُّ إِلَى نِيَّةِ الْإِقَامَةِ.لَكِنَ الْمَالِكِيَّةُ يَشْتَرِطُونَ: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مَدْخُولًا بِهَا غَيْرَ نَاشِزٍ.

وَمِمَّا تَقَدَّمَ يَتَبَيَّنُ: أَنَّ الْوَطَنَ الْأَصْلِيَّ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ أَغْلَبِ الْفُقَهَاءِ بِالْإِقَامَةِ الدَّائِمَةِ عَلَى نِيَّةِ التَّأْبِيدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي مَكَانِ وِلَادَتِهِ أَمْ فِي مَكَانٍ آخَرَ، وَيُلْحَقُ بِذَلِكَ مَكَانُ الزَّوْجَةِ.

4- وَالْوَطَنُ الْأَصْلِيُّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَهْلٌ وَدَارٌ فِي بَلْدَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ نِيَّةِ أَهْلِهِ الْخُرُوجُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ يَنْتَقِلُ مِنْ أَهْلٍ إِلَى أَهْلٍ فِي السَّنَةِ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ خَرَجَ مُسَافِرًا مِنْ بَلْدَةٍ فِيهَا أَهْلُهُ، وَدَخَلَ بَلْدَةً أُخْرَى فِيهَا أَهْلُهُ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُقِيمًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ.

مَا يُنْتَقَضُ بِهِ الْوَطَنُ الْأَصْلِيُّ:

5- الْوَطَنُ الْأَصْلِيُّ يُنْتَقَضُ بِمِثْلِهِ لَا غَيْرُ، وَهُوَ أَنْ يَتَوَطَّنَ الْإِنْسَانُ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى وَيَنْقُلُ الْأَهْلَ إِلَيْهَا مِنْ بَلْدَتِهِ مُضْرِبًا عَنِ الْوَطَنِ الْأَوَّلِ، وَرَافِضًا سُكْنَاهُ، فَإِنَّ الْوَطَنَ الْأَوَّلَ يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ وَطَنًا أَصْلِيًّا لَهُ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ فِيهِ مُسَافِرًا لَا تَصِيرُ صَلَاتُهُ أَرْبَعًا.

وَالْأَصْلُ فِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَالْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ- رضي الله عنهم- كَانُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَكَانَ لَهُمْ بِهَا أَوْطَانٌ أَصْلِيَّةٌ، ثُمَّ لَمَّا هَاجَرُوا وَتَوَطَّنُوا بِالْمَدِينَةِ، وَجَعَلُوهَا دَارًا لِأَنْفُسِهِمُ انْتَقَضَ وَطَنُهُمُ الْأَصْلِيُّ بِمَكَّةَ، حَتَّى كَانُوا إِذَا أَتَوْا مَكَّةَ يُصَلُّونَ صَلَاةَ الْمُسَافِرِينَ.

وَلِذَلِكَ «قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ صَلَّى بِهِمْ: أَتِمُّوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ».

وَلَا يُنْتَقَضُ الْوَطَنُ الْأَصْلِيُّ بِوَطَنِ الْإِقَامَةِ، وَلَا بِوَطَنِ السُّكْنَى؛ لِأَنَّهُمَا دُونَهُ، وَالشَّيْءُ لَا يُنْسَخُ بِمَا هُوَ دُونَهُ، وَكَذَا لَا يُنْتَقَضُ بِنِيَّةِ السَّفَرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ وَطَنِهِ حَتَّى يَصِيرَ مُقِيمًا بِالْعَوْدَةِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ.

وَطَنُ الْإِقَامَةِ:

6- هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَقْصِدُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُقِيمَ بِهِ مُدَّةً قَاطِعَةً لِحُكْمِ السَّفَرِ فَأَكْثَرَ عَلَى نِيَّةِ أَنْ يُسَافِرَ بَعْدَ ذَلِكَ،

مَعَ اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ فِي مِقْدَارِ هَذِهِ الْمُدَّةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهَا.

أَمَّا شَرَائِطُهُ: فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَيْنِ:

الرِّوَايَةَ الْأُولَى: إِنَّمَا يَصِيرُ الْوَطَنُ وَطَنَ إِقَامَةٍ بِشَرِيطَتَيْنِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَتَقَدَّمَهُ سَفَرٌ.

وَالثَّانِيَةَ: أَنْ يَكُونَ بَيْنَ وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ وَبَيْنَ هَذَا الْمَوْضِعِ (الَّذِي تَوَطَّنَ فِيهِ بِنِيَّةِ إِقَامَةِ هَذِهِ الْمُدَّةِ) مَسَافَةُ الْقَصْرِ.

وَبِدُونِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ لَا يَصِيرُ وَطَنَ إِقَامَةٍ، وَإِنْ نَوَى الْإِقَامَةَ مُدَّةً قَاطِعَةً لِلسَّفَرِ فِي مَكَانٍ صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ الْمُقِيمَ لَوْ خَرَجَ مِنْ مِصْرِهِ إِلَى قَرْيَةٍ لَا لِقَصْدِ السَّفَرِ، وَنَوَى أَنْ يَتَوَطَّنَ بِهَا الْمُدَّةَ الْقَاطِعَةَ لِلسَّفَرِ فَلَا تَصِيرُ تِلْكَ الْقَرْيَةُ وَطَنَ إِقَامَةٍ لَهُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَسَافَةُ الْقَصْرِ؛ لِانْعِدَامِ تَقَدُّمِ السَّفَرِ.وَكَذَا إِذَا قَصَدَ مَسِيرَةَ سَفَرٍ، وَخَرَجَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى قَرْيَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ أَقَلُّ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَنَوَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا الْمُدَّةَ الْقَاطِعَةَ لِلسَّفَرِ لَا تَصِيرُ تِلْكَ الْقَرْيَةُ وَطَنَ إِقَامَةٍ لَهُ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ- وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ- أَنَّهُ يَصِيرُ مُقِيمًا مِنْ غَيْرِ هَاتَيْنِ الشَّرِيطَتَيْنِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.

وَالْمَالِكِيَّةُ يَشْتَرِطُونَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ إِنْ كَانَتْ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِي ابْتِدَاءِ السَّيْرِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي أَثْنَائِهِ فَلَا تُشْتَرَطُ الْمَسَافَةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ.

مَا يُنْتَقَضُ بِهِ وَطَنُ الْإِقَامَةِ:

7- وَطَنُ الْإِقَامَةِ يُنْتَقَضُ بِالْوَطَنِ الْأَصْلِيِّ؛ لِأَنَّهُ فَوْقَهُ، وَبِوَطَنِ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ وَالشَّيْءُ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ بِمِثْلِهِ، وَيُنْتَقَضَ بِالسَّفَرِ- أَيْضًا- لِأَنَّ تَوَطُّنَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَيْسَ لِلْقَرَارِ، وَلَكِنْ لِحَاجَةٍ، فَإِذَا سَافَرَ مِنْهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ، فَصَارَ مُعْرِضًا عَنِ التَّوَطُّنِ بِهِ، فَصَارَ نَاقِضًا لَهُ، وَلَا يُنْتَقَضُ وَطَنُ الْإِقَامَةِ بِوَطَنِ السُّكْنَى؛ لِأَنَّهُ دُونَهُ فَلَا يَنْسَخُهُ.

وَطَنُ السُّكْنَى:

8- هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَقْصِدُ الْإِنْسَانُ الْمَقَامَ بِهِ أَقَلَّ مِنَ الْمُدَّةِ الْقَاطِعَةِ لِلسَّفَرِ.

وَشَرْطُهُ: نِيَّةُ عَدَمِ الْإِقَامَةِ الْمُدَّةِ الْقَاطِعَةِ لِلسَّفَرِ، وَلِذَلِكَ يُعْتَبَرُ مُسَافِرًا بِهَذِهِ النِّيَّةِ وَإِنْ طَالَ مَقَامُهُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصَّلَاةَ»، وَرُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ أَقَامَ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى نَيْسَابُورَ شَهْرَيْنِ وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ.

إِلاَّ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَيْسَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

مَا يُنْتَقَضُ بِهِ وَطَنُ السُّكْنَى:

9- وَطَنُ السُّكْنَى يُنْتَقَضُ بِالْوَطَنِ الْأَصْلِيِّ وَبِوَطَنِ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّهُمَا فَوْقَهُ، وَيُنْتَقَضُ بِوَطَنِ السُّكْنَى؛ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ، وَيُنْتَقَضُ بِالسَّفَرِ؛ لِأَنَّ تَوَطُّنَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَيْسَ لِلْقَرَارِ، وَلَكِنْ لِحَاجَةٍ، فَإِذَا سَافَرَ مِنْهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى انْقِضَاءِ حَاجَتِهِ، فَصَارَ مُعْرِضًا عَنِ التَّوَطُّنِ بِهِ، فَصَارَ نَاقِضًا لَهُ.

هَذَا، وَالْفَقِيهُ الْجَلِيلُ أَبُو أَحْمَدَ الْعِيَاضِيُّ قَسَّمَ الْوَطَنَ إِلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدِهِمَا: وَطَنِ قَرَارٍ وَالْآخَرِ: مُسْتَعَارٍ.

صَيْرُورَةُ الْمُقِيمِ مُسَافِرًا وَشَرَائِطُهَا:

10- يَصِيرُ الْمُقِيمُ مُسَافِرًا إِذَا تَحَقَّقَتِ الشَّرَائِطُ الْآتِيَةُ:

الشَّرِيطَةُ الْأُولَى: الْخُرُوجُ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ مَوْطِنِ إِقَامَتِهِ، وَهُوَ أَنْ يُجَاوِزَ عُمْرَانَ بَلْدَتِهِ وَيُفَارِقَ بُيُوتَهَا، وَيَدْخُلَ فِي ذَلِكَ مَا يُعَدُّ مِنْهُ عُرْفًا كَالْأَبْنِيَةِ الْمُتَّصِلَةِ، وَالْبَسَاتِينِ الْمَسْكُونَةِ، وَالْمَزَارِعِ، وَالْأَسْوَارِ، وَذَلِكَ عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

وَلَا بُدَّ مِنَ اقْتِرَانِ النِّيَّةِ بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ الشَّرْعِيَّ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نِيَّةِ السَّفَرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا تُعْتَبَرُ النِّيَّةُ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ، وَهُوَ الْخُرُوجُ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ قَصْدِ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَانٍ بِالْفِعْلِ يُسَمَّى عَزْمًا، وَلَا يُسَمَّى نِيَّةً، وَفِعْلُ السَّفَرِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْمِصْرِ، فَمَا لَمْ يَخْرُجْ لَا يَتَحَقَّقُ قِرَانُ النِّيَّةِ بِالْفِعْلِ، فَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا.

الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ: نِيَّةُ مَسَافَةِ السَّفَرِ، فَلِكَيْ يَصِيرَ الْمُقِيمُ مُسَافِرًا لَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَ سَيْرَ مَسَافَةِ السَّفَرِ الشَّرْعِيِّ؛ لِأَنَّ السَّيْرَ قَدْ يَكُونُ سَفَرًا وَقَدْ لَا يَكُونُ، فَالْإِنْسَانُ قَدْ يَخْرُجُ مِنْ مَوْطِنِ إِقَامَتِهِ إِلَى مَوْضِعٍ لِإِصْلَاحِ ضَيْعَةٍ، ثُمَّ تَبْدُو لَهُ حَاجَةٌ أُخْرَى إِلَى الْمُجَاوَزَةِ عَنْهُ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مُدَّةُ سَفَرٍ، ثُمَّ يَتَجَاوَزُ ذَلِكَ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَقْطَعَ مَسَافَةً بَعِيدَةً أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ، وَلِذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ مُدَّةِ السَّفَرِ لِلتَّمْيِيزِ.

وَعَلَى هَذَا قَالُوا: أَمِيرٌ خَرَجَ مَعَ جَيْشِهِ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَيْنَ يُدْرِكُهُمْ فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ صَلَاةَ الْمُقِيمِ فِي الذَّهَابِ، وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَافَ الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى قَطْعِ الْمَسَافَةِ فَلَا يُعَدُّ مُسَافِرًا، وَلَا يَتَرَخَّصُ.

تَحْدِيدُ أَقَلِّ مَسَافَةِ السَّفَرِ بِالْأَيَّامِ:

11- أَقَلُّ هَذِهِ الْمَسَافَةِ مُقَدَّرٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي التَّقْدِيرِ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ: إِلَى أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ السَّفَرِ مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ مُعْتَدِلَيْنِ بِلَا لَيْلَةٍ، أَوْ مَسِيرَةُ لَيْلَتَيْنِ مُعْتَدِلَتَيْنِ بِلَا يَوْمٍ، أَوْ مَسِيرَةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ.

وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ قَدَّرُوا السَّفَرَ بِالْأَمْيَالِ، وَاعْتَبَرُوا ذَلِكَ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ مِيلًا، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ، وَتُقَدَّرُ بِسَيْرِ يَوْمَيْنِ مُعْتَدِلَيْنِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «يَا أَهْلَ مَكَّةَ: لَا تَقْصُرُوا الصَّلَاةَ فِي أَدْنَى مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ» وَلِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ كَانَا يَقْصُرَانِ وَيُفْطِرَانِ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ فَمَا فَوْقَهَا، وَلَا يُعْرَفُ لَهُمَا مُخَالِفٌ، وَأَسْنَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، مِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ إِلاَّ عَنْ تَوْقِيفٍ، وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ، وَقَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فِي كَمْ تُقْصَرُ الصَّلَاةُ؟ قَالَ: فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، قِيلَ لَهُ: مَسِيرَةُ يَوْمٍ تَامٍّ؟ قَالَ: لَا، أَرْبَعَةُ بُرُدٍ: سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا: مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ.وَقَدْ قَدَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ عُسْفَانَ إِلَى مَكَّةَ مُسْتَدِلًّا بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَقَلَّ مَسَافَةِ السَّفَرِ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ «عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ» فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِكُلِّ مُسَافِرٍ أَنْ يَمْسَحَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا، وَلَنْ يُتَصَوَّرَ أَنْ يَمْسَحَ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا، وَمُدَّةُ السَّفَرِ أَقَلُّ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ.وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إِلاَّ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ» فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْمُدَّةُ مُقَدَّرَةً بِالثَّلَاثِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الثَّلَاثِ مَعْنًى.

وَقَدِ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ.

وَالْعِبْرَةُ بِالسَّيْرِ هُوَ السَّيْرُ الْوَسَطُ، وَهُوَ سَيْرُ الْإِبِلِ الْمُثْقَلَةِ بِالْأَحْمَالِ، وَمَشْيُ الْأَقْدَامِ عَلَى مَا يُعْتَادُ مِنْ ذَلِكَ، مَعَ مَا يَتَخَلَّلُهُ مِنْ نُزُولٍ وَاسْتِرَاحَةٍ وَأَكْلٍ وَصَلَاةٍ.

وَيُحْتَرَزُ بِالسَّيْرِ الْوَسَطِ عَنِ السَّيْرِ الْأَسْرَعِ، كَسَيْرِ الْفَرَسِ وَالْبَرِيدِ، وَعَنِ السَّيْرِ الْأَبْطَأِ، كَسَيْرِ الْبَقَرِ يَجُرُّ الْعَجَلَةَ، فَاعْتُبِرَ الْوَسَطُ؛ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ.

وَالسَّيْرُ فِي الْبَحْرِ يُرَاعَى فِيهِ اعْتِدَالُ الرِّيَاحِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَسَطُ، وَهُوَ أَلاَّ تَكُونَ الرِّيَاحُ غَالِبَةً وَلَا سَاكِنَةً، وَيُعْتَبَرُ فِي الْجَبَلِ مَا يَلِيقُ بِهِ، فَيُنْظَرُ كَمْ يَسِيرُ فِي مِثْلِ هَذَا مَسَافَةُ الْقَصْرِ فَيُجْعَلُ أَصْلًا، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ فَيُرْجَعُ إِلَيْهِمْ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ.

سُلُوكُ أَحَدِ طَرِيقَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِغَايَةٍ وَاحِدَةٍ:

12- إِذَا كَانَ لِمَكَانٍ وَاحِدٍ طَرِيقَانِ مُخْتَلِفَانِ، أَحَدُهُمَا يَقْطَعُهُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَالْآخَرُ يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقْصُرُ لَوْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْأَقْرَبَ؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ مُسَافِرًا، هَكَذَا ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ فِي الْبَدَائِعِ، وَجَاءَ فِي الْعِنَايَةِ: إِذَا كَانَ لِمَوْضِعٍ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا فِي الْمَاءِ يُقْطَعُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهَا إِذَا كَانَتِ الرِّيحُ مُتَوَسِّطَةً، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي فِي الْبَرِّ يُقْطَعُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، فَلَا يُعْتَبَرُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، فَإِنْ ذَهَبَ إِلَى طَرِيقِ الْمَاءِ قَصَرَ، وَإِنْ ذَهَبَ إِلَى طَرِيقِ الْبَرِّ أَتَمَّ، وَلَوِ انْعَكَسَ انْعَكَسَ الْحُكْمُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَقْصُرُ عَادِلٌ عَنْ طَرِيقٍ قَصِيرٍ، وَهُوَ مَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ إِلَى طَرِيقٍ طَوِيلٍ فِيهِ الْمَسَافَةُ بِدُونِ عُذْرٍ، بَلْ لِمُجَرَّدِ قَصْدِ الْقَصْرِ، أَوْ لَا قَصْدَ لَهُ، فَإِنْ عَدَلَ لِعُذْرٍ أَوْ لِأَمْرٍ، وَلَوْ مُبَاحًا فِيمَا يَظْهَرُ قَصَرَ.

وَبِمِثْلِ ذَلِكَ يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ.

وَالْحَنَابِلَةُ يُجِيزُونَ الْقَصْرَ لِمَنْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْأَبْعَدَ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَبِ، وَلَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ.

الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ لِوَسَائِلِ السَّفَرِ الْحَدِيثَةِ:

13- مَعْلُومٌ مِمَّا سَبَقَ: أَنَّ الْفُقَهَاءَ حَدَّدُوا أَقَلَّ الْمَسَافَةِ الَّتِي تُشْتَرَطُ لِقَصْرِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهُمُ اعْتَبَرُوا السَّيْرَ الْوَسَطَ (مَشْيَ الْأَقْدَامِ وَسَيْرَ الْإِبِلِ) هُوَ الْأَسَاسُ فِي التَّقْدِيرِ، وَالْمَقْصُودُ- هُنَا- هُوَ مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ إِذَا اسْتُعْمِلَتْ وَسَائِلُ السَّفَرِ الْحَدِيثَةِ كَالْقِطَارِ وَالطَّائِرَةِ، حَيْثُ الرَّاحَةُ وَقِصَرُ الْمُدَّةِ.

وَقَدْ تَحَدَّثَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ: فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- كَمَا يَتَّضِحُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ- أَنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ قَطَعَ مَسَافَةَ السَّفَرِ الْمُحَدَّدَةَ فِي زَمَنٍ أَقَلَّ؛ لِاسْتِعْمَالِهِ وَسَائِلَ أَسْرَعَ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَافَرَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ.

فَقَدْ قَالَ الدُّسُوقِيُّ: مَنْ كَانَ يَقْطَعُ الْمَسَافَةَ بِسَفَرِهِ قَصَرَ، وَلَوْ كَانَ يَقْطَعُهَا فِي لَحْظَةٍ بِطَيَرَانٍ وَنَحْوِهِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ، وَلَوْ قَطَعَ الْمَسَافَةَ فِي سَاعَةٍ.وَقَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ، لَوْ قَطَعَ الْمَسَافَةَ فِي بَعْضِ يَوْمٍ كَمَا لَوْ قَطَعَهَا عَلَى فَرَسٍ جَوَادٍ.

وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ الرُّبَاعِيَّةَ إِلَى رَكْعَتَيْنِ إِجْمَاعًا، وَلَوْ قَطَعَ الْمَسَافَةَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُسَافِرُ أَرْبَعَةَ بُرُدٍ (مَسَافَةُ الْقَصْرِ).

وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّقْلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَنَقَلَ الْكَاسَانِيُّ فِي بَدَائِعِهِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: مِنْ أَنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ سَارَ إِلَى مَوْضِعٍ فِي يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَأَنَّهُ بِسَيْرِ الْإِبِلِ، وَالْمَشْيِ الْمُعْتَادِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ، اعْتِبَارًا لِلسَّيْرِ الْمُعْتَادِ.

وَهَذَا الْقَوْلُ يُوَافِقُ الْمَذَاهِبَ السَّابِقَةَ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اعْتَبَرَ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ قَطْعُ الْمَسَافَةِ.

لَكِنِ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: اعْتَبَرَ أَنَّ الْعِلَّةَ لِقَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ هِيَ الْمَشَقَّةُ الَّتِي تَلْحَقُ بِالْمُسَافِرِ، وَلِذَلِكَ يُذْكَرُ: أَنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ قَطَعَ الْمَسَافَةَ فِي سَاعَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَإِنْ كَانَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَطَعَ مَسَافَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِسَيْرِ الْإِبِلِ؛ لِانْتِفَاءِ مَظِنَّةِ الْمَشَقَّةِ، وَهِيَ الْعِلَّةُ.

الْعِبْرَةُ بِنِيَّةِ الْأَصْلِ دُونَ التَّبَعِ:

14- الْمُعْتَبَرُ فِي نِيَّةِ السَّفَرِ الشَّرْعِيِّ نِيَّةُ الْأَصْلِ دُونَ التَّابِعِ، فَمَنْ كَانَ سَفَرُهُ تَابِعًا لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُسَافِرًا بِنِيَّةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَذَلِكَ كَالزَّوْجَةِ التَّابِعَةِ لِزَوْجِهَا؛ فَإِنَّهَا تَصِيرُ مُسَافِرَةً بِنِيَّةِ زَوْجِهَا، وَكَذَلِكَ مَنْ لَزِمَهُ طَاعَةُ غَيْرِهِ كَالسُّلْطَانِ وَأَمِيرِ الْجَيْشِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُسَافِرًا بِنِيَّةِ مَنْ لَزِمَتْهُ طَاعَتُهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّبَعِ حُكْمُ الْأَصْلِ.

أَمَّا الْغَرِيمُ الَّذِي يُلَازِمُهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ مَلِيئًا، فَالنِّيَّةُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ قَضَاءُ الدَّيْنِ، وَالْخُرُوجُ مِنْ يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ مُفْلِسًا، فَالنِّيَّةُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْ يَدِهِ، فَكَانَ تَابِعًا لَهُ.هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ تَبِعَتِ الزَّوْجَةُ زَوْجَهَا، أَوِ الْجُنْدِيُّ قَائِدَهُ فِي السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَقْصِدَهُ فَلَا قَصْرَ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ- وَهُوَ قَصْدُ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ- لَمْ يَتَحَقَّقْ، وَهَذَا قَبْلَ بُلُوغِهِمْ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، فَإِنْ قَطَعُوهَا قَصُرُوا.

فَلَوْ نَوَتِ الزَّوْجَةُ دُونَ زَوْجِهَا، أَوِ الْجُنْدِيُّ دُونَ قَائِدِهِ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، أَوْ جَهِلَا الْحَالَ قَصَرَ الْجُنْدِيُّ غَيْرُ الْمُثْبَتِ فِي الدِّيوَانِ، دُونَ الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّ الْجُنْدِيَّ حِينَئِذٍ لَيْسَ تَحْتَ يَدِ الْأَمِيرِ وَقَهْرِهِ، بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ، فَنِيَّتُهَا كَالْعَدَمِ.أَمَّا الْجُنْدِيُّ الْمُثْبَتُ فِي الدِّيوَانِ فَلَا يَقْصُرُ؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ يَدِ الْأَمِيرِ، وَمِثْلُهُ الْجَيْشُ، إِذْ لَوْ قِيلَ: بِأَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ يَدِ الْأَمِيرِ وَقَهْرِهِ كَالْآحَادِ لَعَظُمَ الْفَسَادُ.

أَحْكَامُ الْقَصْرِ:

مَشْرُوعِيَّةُ الْقَصْرِ:

15- الْقَصْرُ مَعْنَاهُ: أَنْ تَصِيرَ الصَّلَاةُ الرُّبَاعِيَّةُ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ، سَوَاءٌ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ، أَوْ فِي حَالَةِ الْأَمْنِ.

وَقَدْ شُرِعَ الْقَصْرُ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ.

وَمَشْرُوعِيَّةُ الْقَصْرِ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.

أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}.

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا وَرَدَ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: «قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}، فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ.قَالَ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ».

وَقَالَ «ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: صَحِبْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ»، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ.

وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ.

فَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ دَلَّتْ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقَصْرِ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ، وَدَلَّتِ الْأَحَادِيثُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ فِي حَالَتَيِ الْخَوْفِ وَالْأَمْنِ.وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقَصْرِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْقَصْرِ:

16- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ الْقَصْرَ جَائِزٌ تَخْفِيفًا عَلَى الْمُسَافِرِ؛ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ مَشَقَّةِ السَّفَرِ غَالِبًا، وَاسْتَدَلُّوا بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فَقَدْ عَلَّقَ الْقَصْرَ عَلَى الْخَوْفِ؛ لِأَنَّ غَالِبَ أَسْفَارِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ تَخْلُ مِنْهُ.وَنَفْيُ الْجُنَاحِ فِي الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ، لَا عَلَى وُجُوبِهِ.

وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِحَدِيثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ السَّابِقِ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ».

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ رَكْعَتَانِ لَا غَيْرُ، فَلَيْسَ لِلْمُسَافِرِ عِنْدَهُمْ أَنْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعًا؛ لِقَوْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ».وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إِلاَّ تَوْقِيفًا وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ وَعَلَى الْمُقِيمِ أَرْبَعًا، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً».

وَالرَّاجِحُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْقَصْرَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ، بَلِ الْمَنْقُولُ عَنْهُ الْقَصْرُ فِي كُلِّ أَسْفَارِهِ، وَمَا كَانَ هَذَا شَأْنُهُ فَهُوَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ.

وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى فِي الْمَذْهَبِ فَقِيلَ: إِنَّهُ فَرْضٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُبَاحٌ.

هَلِ الْأَصْلُ الْقَصْرُ أَوِ الْإِتْمَامُ؟

17- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْإِتْمَامُ وَأَنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ مُسْلِمٍ السَّابِقِ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ».

إِلاَّ أَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْقَصْرَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِتْمَامِ، إِذَا بَلَغَ السَّفَرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-؛ وَخُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ، كَأَبِي حَنِيفَةَ، إِلاَّ الْمَلاَّحَ الَّذِي يُسَافِرُ فِي الْبَحْرِ بِأَهْلِهِ، وَمَنْ لَا يَزَالُ مُسَافِرًا بِلَا وَطَنٍ، فَالْإِتْمَامُ لَهُمَا أَفْضَلُ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمَا، كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ.وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ: إِنَّ الْإِتْمَامَ أَفْضَلُ مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَالْأَكْثَرُ عَمَلًا، أَمَّا إِذَا لَمْ يَبْلُغِ السَّفَرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَالْإِتْمَامُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الْقَصْرُ أَفْضَلُ مِنَ الْإِتْمَامِ نَصًّا، لِمُدَاوَمَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَالْخُلَفَاءِ عَلَيْهِ.لَكِنْ إِنْ أَتَمَّ مَنْ يُبَاحُ لَهُ الْقَصْرُ لَمْ يُكْرَهْ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الْقَصْرُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الصَّلَاةِ؛ إِذِ الصَّلَاةُ فِي الْأَصْلِ فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ، فِي حَقِّ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ جَمِيعًا، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، ثُمَّ زِيدَتْ رَكْعَتَانِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ.وَأُقِرَّتِ الرَّكْعَتَانِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ كَمَا كَانَتَا فِي الْأَصْلِ، فَالرَّكْعَتَانِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ لَيْسَتَا قَصْرًا حَقِيقَةً، بَلْ هُوَ تَمَامُ فَرْضِ الْمُسَافِرِ، وَالْإِكْمَالُ لَيْسَ رُخْصَةً فِي حَقِّهِ، بَلْ هُوَ إِسَاءَةٌ وَمُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ.وَالْقَصْرُ عَزِيمَةٌ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: «مَا سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلاَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ إِلاَّ الْمَغْرِبَ» وَلَوْ كَانَ الْقَصْرُ رُخْصَةً وَالْإِكْمَالُ هُوَ الْعَزِيمَةَ لَمَا تَرَكَ الْعَزِيمَةَ إِلاَّ أَحْيَانًا؛ إِذِ الْعَزِيمَةُ أَفْضَلُ، «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَا يَخْتَارُ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلاَّ أَفْضَلَهَا، وَكَانَ لَا يَتْرُكُ الْأَفْضَلَ إِلاَّ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ تَعْلِيمًا لِلرُّخْصَةِ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ»، وَلَقَدْ «قَصَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ لِأَهْلِ مَكَّةَ: أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» فَلَوْ جَازَ الْأَرْبَعُ لَمَا اقْتَصَرَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ.

شَرَائِطُ الْقَصْرِ:

يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ الصَّلَاةَ الرُّبَاعِيَّةَ إِلَى رَكْعَتَيْنِ إِذَا تَوَفَّرَتِ الشَّرَائِطُ الْآتِيَةُ:

الْأُولَى: نِيَّةُ السَّفَرِ:

18- وَهِيَ شَرِيطَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ كَمَا سَبَقَ.

وَالْمُعْتَبَرُ فِيهَا: نِيَّةُ الْأَصْلِ دُونَ التَّابِعِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَأَنْ تَكُونَ مِنْ بَالِغٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلِذَلِكَ لَوْ خَرَجَ الصَّبِيُّ قَاصِدًا السَّفَرَ وَسَارَ مَسَافَةً حَتَّى بَقِيَ إِلَى مَقْصِدِهِ أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ فَبَلَغَ حِينَذَاكَ، فَإِنَّهُ لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، بَلْ يُصَلِّي أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ السَّفَرَ لَمْ يَصِحَّ ابْتِدَاءً، وَحِينَ بَلَغَ لَمْ يَبْقَ إِلَى مَقْصِدِهِ مُدَّةُ السَّفَرِ فَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا عِنْدَهُمْ.

وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي السَّفَرِ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ: أَلاَّ يَكُونَ لِمَعْصِيَةٍ، فَلَا يَقْصُرُ عَاصٍ بِسَفَرِهِ، كَآبِقٍ وَقَاطِعِ طَرِيقٍ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالْمَعَاصِي؛ وَجَوَازُ الرُّخْصِ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ إِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ.

فَإِنْ قَصَرَ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ عَلَى الْأَصْوَبِ، وَإِنْ أَثِمَ بِعِصْيَانِهِ.

وَمَنْ أَنْشَأَ السَّفَرَ عَاصِيًا بِهِ، ثُمَّ تَابَ فِي أَثْنَائِهِ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَقْصُرُ إِنْ كَانَ مَا بَقِيَ مِنْ سَفَرٍ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، وَلَوْ سَافَرَ سَفَرًا مُبَاحًا ثُمَّ قَصَدَ بِسَفَرِهِ الْمَعْصِيَةَ قَبْلَ تَمَامِ سَفَرِهِ، انْقَطَعَ التَّرَخُّصُ، فَلَا يَقْصُرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِلشَّافِعِيَّةِ.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ- إِلَى أَنَّهُ يَقْصُرُ.

وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ مُبَاحًا، بَلْ أَجَازُوا الْقَصْرَ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ- أَيْضًا-، فَإِنَّهُ يَسْتَوِي فِي الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ عَلَى الْمُسَافِرِ مِنَ الصَّلَاةِ سَفَرُ الطَّاعَةِ مِنَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ، وَسَفَرُ الْمُبَاحِ كَسَفَرِ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهِ، وَسَفَرُ الْمَعْصِيَةِ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالْبَغْيِ؛ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الَّتِي وَرَدَتْ لَا تُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ مُسَافِرٍ وَمُسَافِرٍ.وَمِنْ هَذِهِ الدَّلَائِلِ قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} وقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} وَقَوْلُ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: «جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ سَفَرٍ وَسَفَرٍ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِعُمُومِ النُّصُوصِ وَإِطْلَاقِهَا.

الثَّانِيَةُ: مَسَافَةُ السَّفَرِ:

19- وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْإِنْسَانُ مَسِيرَةَ مَسَافَةِ السَّفَرِ الْمُقَدَّرَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ طَافَ الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ مَسِيرَةِ الْمَسَافَةِ الْمُحَدَّدَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مُسَافِرًا، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ.

الثَّالِثَةُ: الْخُرُوجُ مِنْ عِمْرَانِ بَلْدَتِهِ:

20- فَالْقَصْرُ لَا يَجُوزُ إِلاَّ أَنْ يُجَاوِزَ الْمُسَافِرُ مَحَلَّ إِقَامَتِهِ، وَمَا يَتْبَعُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

لَكِنْ هَلْ يُشْتَرَطُ الْخُرُوجُ لِلسَّفَرِ قَبْلَ مُضِيِّ وَقْتٍ يَسَعُ الْإِتْمَامَ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:

يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ الْحَنَفِيُّ: وَسَوَاءٌ خَرَجَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَوْ فِي وَسَطِهِ أَوْ فِي آخِرِهِ، حَتَّى لَوْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يَتَّسِعُ لِأَدَاءِ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يَقْصُرُ فِي ظَاهِرِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا.وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثَّلْجِيُّ: إِنَّمَا يَقْصُرُ إِذَا خَرَجَ قَبْلَ الزَّوَالِ، فَأَمَّا إِذَا خَرَجَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَإِنَّهُ يُكْمِلُ الظُّهْرَ وَيَقْصُرُ الْعَصْرَ.وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ هَلْ تَجِبُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَوْ فِي آخِرِهِ؟

فَعِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَا تَجِبُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنَ الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا التَّعْيِينُ إِلَى الْمُصَلِّي مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ، حَتَّى إِنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ تَجِبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَذَلِكَ إِذَا شَرَعَ فِي وَسَطِهِ أَوْ فِي آخِرِهِ.وَثَمَّةَ أَصْلٌ آخَرُ، وَهُوَ مِقْدَارُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، فَقَالَ الْكَرْخِيُّ وَأَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ بِمِقْدَارِ التَّحْرِيمَةِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ الْأَدَاءَ يَتَغَيَّرُ وَإِنْ بَقِيَ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ التَّحْرِيمَةَ فَقَطْ، وَقَالَ زُفَرُ وَاخْتَارَهُ الْقُدُورِيُّ: لَا يَجِبُ إِلاَّ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُؤَدِّي فِيهِ الْفَرْضَ.وَعَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ فَلَا يَتَغَيَّرُ الْفَرْضُ إِلاَّ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يُمْكِنُ فِيهِ الْأَدَاءُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: تُقْصَرُ الصَّلَاةُ الَّتِي يُسَافَرُ فِي وَقْتِهَا وَلَوِ الضَّرُورِيِّ، فَيَقْصُرُ الظُّهْرَيْنِ قَبْلَ الْغُرُوبِ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فَأَكْثَرَ وَلَوْ أَخَّرَهُمَا عَمْدًا، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ بِمِقْدَارِ رَكْعَتَيْنِ أَوْ رَكْعَةٍ صَلَّى الْعَصْرَ فَقَطْ سَفَرِيَّةً.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ سَافَرَ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ أَقَلُّ مِنْ قَدْرِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُؤَدٍّ لِجَمِيعِ الصَّلَاةِ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُؤَدٍّ لِمَا فَعَلَ فِي الْوَقْتِ قَاضٍ لِمَا فَعَلَ بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ فِي الْحَضَرِ، ثُمَّ سَافَرَ، لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ؛ لِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ تَامَّةً بِدُخُولِ وَقْتِهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


17-موسوعة الفقه الكويتية (ضمان 1)

ضَمَانٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- يُطْلَقُ الضَّمَانُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ:

أ- مِنْهَا الِالْتِزَامُ، تَقُولُ: ضَمِنْتُ الْمَالَ، إِذَا الْتَزَمْتَهُ، وَيَتَعَدَّى بِالتَّضْعِيفِ، فَتَقُولُ: ضَمَّنْتُهُ الْمَالَ، إِذَا أَلْزَمْتَهُ إِيَّاهُ.

ب- وَمِنْهَا: الْكَفَالَةُ، تَقُولُ: ضَمَّنْتُهُ الشَّيْءَ ضَمَانًا، فَهُوَ ضَامِنٌ وَضَمِينٌ، إِذَا كَفَلَهُ.

ج- وَمِنْهَا التَّغْرِيمُ، تَقُولُ: ضَمَّنْتُهُ الشَّيْءَ تَضْمِينًا، إِذَا غَرَّمْتَهُ، فَالْتَزَمَهُ

أَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ فَيُطْلَقُ عَلَى الْمَعَانِي التَّالِيَةِ:

أ- يُطْلَقُ عَلَى كَفَالَةِ النَّفْسِ وَكَفَالَةِ الْمَالِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَنْوَنُوا لِلْكَفَالَةِ بِالضَّمَانِ.

ب- وَيُطْلَقُ عَلَى غَرَامَةِ الْمُتْلَفَاتِ وَالْغُصُوبِ وَالتَّعْيِيبَاتِ وَالتَّغْيِيرَاتِ الطَّارِئَةِ.

ج- كَمَا يُطْلَقُ عَلَى ضَمَانِ الْمَالِ، وَالْتِزَامِهِ بِعَقْدٍ وَبِغَيْرِ عَقْدٍ.

د- كَمَا يُطْلَقُ عَلَى وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْمَالِ، بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ بِحَقٍّ عَلَى الْعُمُومِ.

هـ- كَمَا يُطْلَقُ عَلَى مَا يَجِبُ بِإِلْزَامِ الشَّارِعِ، بِسَبَبِ الِاعْتِدَاءَاتِ: كَالدِّيَاتِ ضَمَانًا لِلْأَنْفُسِ، وَالْأُرُوشِ ضَمَانًا لِمَا دُونَهَا، وَكَضَمَانِ قِيمَةِ صَيْدِ الْحَرَمِ، وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَكَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ عَمْدًا فِي رَمَضَانَ.

وَقَدْ وُضِعَتْ لَهُ تَعَارِيفُ شَتَّى، تَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ فِي الْجُمْلَةِ، أَوْ تَتَنَاوَلُ بَعْضَهَا، مِنْهَا:

أ- أَنَّهُ (عِبَارَةٌ عَنْ رَدِّ مِثْلِ الْهَالِكِ، إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيمِيًّا).

ب- وَأَنَّهُ (عِبَارَةٌ عَنْ غَرَامَةِ التَّالِفِ).

ج- وَبِالْمَعْنَى الشَّامِلِ لِلْكَفَالَةِ- كَمَا يَقُولُ الْقَلْيُوبِيُّ-: إِنَّهُ الْتِزَامُ دَيْنٍ أَوْ إِحْضَارُ عَيْنٍ أَوْ بَدَنٍ.

د- وَفِي مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ أَنَّهُ إِعْطَاءُ مِثْلِ الشَّيْءِ إِنْ كَانَ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ وَقِيمَتِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْقِيمِيَّاتِ.

هـ- وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: (شَغْلُ ذِمَّةٍ أُخْرَى بِالْحَقِّ).

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الِالْتِزَامُ:

2- الِالْتِزَامُ فِي اللُّغَةِ.الثُّبُوتُ وَالدَّوَامُ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ الْفِقْهِيِّ: إِلْزَامُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهَا.

ب- الْعَقْدُ:

3- الْعَقْدُ: ارْتِبَاطُ أَجْزَاءِ التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ، بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَفِي الْمَجَلَّةِ ارْتِبَاطُ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ عَلَى وَجْهٍ مَشْرُوعٍ يَثْبُتُ أَثَرُهُ فِي مَحَلِّهِ، فَإِذَا قُلْتَ: زَوَّجْتُ، وَقَالَ: قَبِلْتُ، وُجِدَ مَعْنًى شَرْعِيٌّ، وَهُوَ النِّكَاحُ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ: مِلْكُ الْمُتْعَةِ.

ج- الْعُهْدَةُ:

4- الْعُهْدَةُ فِي اللُّغَةِ: وَثِيقَةُ الْمُتَبَايِعَيْنِ، لِأَنَّهُ يُرْجَعُ إِلَيْهَا عِنْدَ الِالْتِبَاسِ.وَهِيَ كِتَابُ الشِّرَاءِ، أَوْ هِيَ الدَّرَكُ أَيْ ضَمَانُ الثَّمَنِ لِلْمُشْتَرِي إِنِ اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ أَوْ وُجِدَ فِيهِ عَيْبٌ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ تُطْلَقُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ عَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ: الْوَثِيقَةِ وَالدَّرَكِ.

وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا: تَعَلُّقُ ضَمَانِ الْمَبِيعِ بِالْبَائِعِ أَيْ كَوْنُ الْمَبِيعِ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ بَعْدَ الْعَقْدِ، مِمَّا يُصِيبُهُ فِي مُدَّةٍ خَاصَّةٍ.

وَالضَّمَانُ أَعَمُّ، وَالْعُهْدَةُ أَخَصُّ.

د- التَّصَرُّفُ:

5- التَّصَرُّفُ هُوَ التَّقْلِيبُ، تَقُولُ: صَرَّفْتُهُ فِي الْأَمْرِ تَصْرِيفًا فَتَصَرَّفَ، أَيْ قَلَّبْتُهُ فَتَقَلَّبَ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ مَا يَصْدُرُ مِنَ الشَّخْصِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَيُرَتِّبُ عَلَيْهِ الشَّارِعُ حُكْمًا، كَالْعَقْدِ وَالطَّلَاقِ وَالْإِبْرَاءِ وَالْإِتْلَافِ.

(ر: تَصَرُّفٌ ف 1) وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنَ الضَّمَانِ.

مَشْرُوعِيَّةُ الضَّمَانِ:

6- شُرِعَ الضَّمَانُ، حِفْظًا لِلْحُقُوقِ، وَرِعَايَةً لِلْعُهُودِ، وَجَبْرًا لِلْأَضْرَارِ، وَزَجْرًا لِلْجُنَاةِ، وَحَدًّا لِلِاعْتِدَاءِ، فِي نُصُوصٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ- فِيمَا يَتَّصِلُ بِمَعْنَى الْكَفَالَةِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} أَيْ كَفِيلٌ ضَامِنٌ، فَقَدْ ضَمِنَ يُوسُفُ- عليه السلام- لِمَنْ جَاءَ بِصُوَاعِ الْمَلِكِ- وَهُوَ إِنَاؤُهُ الَّذِي كَانَ يَشْرَبُ بِهِ- قَدْرَ مَا يَحْمِلُهُ الْبَعِيرُ مِنَ الطَّعَامِ.

ب- وَفِيمَا يَتَّصِلُ بِالْإِتْلَافَاتِ الْمَالِيَّةِ وَنَحْوِهَا، بِحَدِيثِ: أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «أَهْدَتْ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- طَعَامًا فِي قَصْعَةٍ، فَضَرَبَتْ عَائِشَةُ الْقَصْعَةَ بِيَدِهَا فَأَلْقَتْ مَا فِيهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: طَعَامٌ بِطَعَامٍ، وَإِنَاءٌ بِإِنَاءٍ».

ج- وَفِيمَا يَتَّصِلُ بِضَمَانِ وَضْعِ الْيَدِ: حَدِيثُ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ» أَيْ ضَمَانَهُ.

د- وَفِيمَا يَتَّصِلُ بِالْجِنَايَاتِ- بِوَجْهٍ عَامٍّ وَنَحْوِهَا قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}.

هـ- وَفِيمَا يَتَّصِلُ بِجِنَايَاتِ الْبَهَائِمِ: حَدِيثُ «الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ ضَارِيَةٌ فَدَخَلَتْ حَائِطًا فَأَفْسَدَتْ فِيهِ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ حِفْظَ الْحَوَائِطِ بِالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ حِفْظَ الْمَاشِيَةِ بِاللَّيْلِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ مَا أَصَابَتِ الْمَاشِيَةُ بِاللَّيْلِ فَهُوَ عَلَى أَهْلِهَا».

وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَوْقَفَ دَابَّةً فِي سَبِيلٍ مِنْ سُبُلِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ فِي سُوقٍ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ، فَأَوْطَأَتْ بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ فَهُوَ ضَامِنٌ».

وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ مَصُونَةٌ فِي الشَّرْعِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْحَظْرُ، وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ دَمُ الْمُسْلِمِ وَلَا يَحِلُّ مَالُهُ إِلاَّ بِحَقٍّ.

مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الضَّمَانُ:

7- لَا يَتَحَقَّقُ الضَّمَانُ إِلاَّ إِذَا تَحَقَّقَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ: التَّعَدِّي، وَالضَّرَرُ، وَالْإِفْضَاءُ.

أَوَّلًا: التَّعَدِّي:

8- التَّعَدِّي فِي اللُّغَةِ، التَّجَاوُزُ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ: مُجَاوَزَةُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَصَرَ عَلَيْهِ شَرْعًا أَوْ عُرْفًا أَوْ عَادَةً.وَضَابِطُ التَّعَدِّي هُوَ: مُخَالَفَةُ مَا حَدَّهُ الشَّرْعُ أَوِ الْعُرْفُ.

وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ (أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ مُطْلَقًا، وَلَا ضَابِطَ لَهُ فِيهِ، وَلَا فِي اللُّغَةِ، يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ).

وَذَلِكَ مِثْلُ: الْحِرْزِ فِي السَّرِقَةِ، وَالْإِحْيَاءِ فِي الْمَوَاتِ، وَالِاسْتِيلَاءِ فِي الْغَصْبِ، وَكَذَلِكَ التَّعَدِّي فِي الضَّمَانِ، فَإِذَا كَانَ التَّعَدِّي مُجَاوَزَةَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَيْهِ، رَجَعَ فِي ضَابِطِهِ إِلَى عُرْفِ النَّاسِ فِيمَا يَعُدُّونَهُ مُجَاوَزَةً وَتَعَدِّيًا، سَوَاءٌ أَكَانَ عُرْفًا عَامًّا أَمْ خَاصًّا.

وَيَشْمَلُ التَّعَدِّي: الْمُجَاوَزَةَ وَالتَّقْصِيرَ، وَالْإِهْمَالَ، وَقِلَّةَ الِاحْتِرَازِ، كَمَا يَشْتَمِلُ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ.

ثَانِيًا: الضَّرَرُ:

9- الضَّرَرُ فِي اللُّغَةِ: نَقْصٌ يَدْخُلُ عَلَى الْأَعْيَانِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: إِلْحَاقُ مَفْسَدَةٍ بِالْغَيْرِ وَهَذَا يَشْمَلُ الْإِتْلَافَ وَالْإِفْسَادَ وَغَيْرَهُمَا.

وَالضَّرَرُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْلِ، كَرُجُوعِ الشَّاهِدَيْنِ عَنْ شَهَادَتِهِمَا، بَعْدَ الْقَضَاءِ وَقَبْضِ الْمُدَّعِي الْمَالَ، فَلَا يُفْسَخُ الْحُكْمُ، وَيَضْمَنَانِ مَا أَتْلَفَاهُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ دَيْنًا أَمْ عَيْنًا.

وَقَدْ يَنْشَأُ الضَّرَرُ عَنِ الْفِعْلِ كَتَمْزِيقِ الثِّيَابِ، وَقَطْعِ الْأَشْجَارِ، وَحَرْقِ الْحَصَائِدِ.

وَالضَّرَرُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ كَمَا سَبَقَ، وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّرْكِ، وَمِثَالُهُ: امْرَأَةٌ تُصْرَعُ أَحْيَانًا فَتَحْتَاجُ إِلَى حِفْظِهَا، فَإِنْ لَمْ يَحْفَظْهَا الزَّوْجُ حَتَّى أَلْقَتْ نَفْسَهَا فِي النَّارِ عِنْدَ الصَّرْعِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا.

وَدَابَّةٌ غُصِبَتْ فَتَبِعَهَا وَلَدُهَا، فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ يَضْمَنُهُ الْغَاصِبُ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ فِيهِ فِعْلًا.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَرَر).

ثَالِثًا: الْإِفْضَاءُ:

10- مِنْ مَعَانِي الْإِفْضَاءِ فِي اللُّغَةِ: الْوُصُولُ يُقَالُ: أَفْضَيْتُ إِلَى الشَّيْءِ: وَصَلْتُ إِلَيْهِ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَيُشْتَرَطُ لِاعْتِبَارِ الْإِفْضَاءِ فِي الضَّمَانِ مَا يَلِي:

أَنْ لَا يُوجَدَ لِلضَّرَرِ أَوِ الْإِتْلَافِ سَبَبٌ آخَرُ غَيْرُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ هُوَ مُبَاشَرَةً أَمْ تَسْبِيبًا.

وَأَنْ لَا يَتَخَلَّلَ بَيْنَ السَّبَبِ وَبَيْنَ الضَّرَرِ، فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَإِلاَّ أُضِيفَ الضَّمَانُ إِلَيْهِ، لَا إِلَى السَّبَبِ، وَذَلِكَ لِمُبَاشَرَتِهِ.

تَعَدُّدُ مُحْدِثِي الضَّرَرِ:

إِذَا اعْتَدَى جَمْعٌ مِنَ الْأَشْخَاصِ، وَأَحْدَثُوا ضَرَرًا: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اعْتِدَاؤُهُمْ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، بِأَنْ يَكُونُوا جَمِيعًا مُتَسَبِّبِينَ أَوْ مُبَاشِرِينَ، وَإِمَّا أَنْ يَخْتَلِفَ بِأَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ مُبَاشِرًا، وَالْآخَرُ مُتَسَبِّبًا، فَهَاتَانِ حَالَانِ:

الْحَالُ الْأُولَى:

11- أَنْ يَكُونُوا جَمِيعًا مُبَاشِرِينَ أَوْ مُتَسَبِّبِينَ: فَإِمَّا أَنْ يَتَّحِدَ عَمَلُهُمْ فِي النَّوْعِ، أَوْ يَخْتَلِفَ.

أ- فَفِي الصُّورَةِ الْأُولَى، أَيْ إِذَا كَانُوا جَمِيعًا مُبَاشِرِينَ أَوْ مُتَسَبِّبِينَ وَاتَّحَدَ عَمَلُهُمْ نَوْعًا، كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ بِالسَّوِيَّةِ، كَمَا لَوْ تَعَمَّدَ جَمَاعَةٌ إِطْلَاقَ النَّارِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ تُعْلَمْ إِصَابَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، يُقْتَصُّ مِنْهُمْ جَمِيعًا، وَهَذَا مَحْمَلُ قَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ- رضي الله عنه- لَوِ اشْتَرَكَ فِي قَتْلِهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ، لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا.

ب- وَإِذَا كَانُوا جَمِيعًا مُبَاشِرِينَ أَوْ مُتَسَبِّبِينَ، وَاتَّحَدَ عَمَلُهُمْ نَوْعًا، لَكِنِ اخْتَلَفَ عَمَلُهُمْ قُوَّةً وَضَعْفًا، كَمَا لَوْ حَفَرَ شَخْصٌ حُفْرَةً فِي الطَّرِيقِ، وَجَاءَ آخَرُ فَوَسَّعَ رَأْسَهَا، أَوْ حَفَرَ الْأَوَّلُ حُفْرَةً وَعَمَّقَ الْآخَرُ أَسْفَلَهَا، فَتَرَدَّى فِي الْحُفْرَةِ حَيَوَانٌ أَوْ إِنْسَانٌ، فَالْقِيَاسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الِاعْتِدَادُ بِالسَّبَبِ الْقَوِيِّ، لِأَنَّهُ كَالْعِلَّةِ، عِنْدَ اجْتِمَاعِهَا مَعَ السَّبَبِ، وَهَذَا رَأْيُ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ مِنْهُمْ.

وَالِاسْتِحْسَانُ عِنْدَهُمْ، هُوَ الِاعْتِدَادُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي أَدَّتْ إِلَى الضَّرَرِ جَمِيعًا، قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، وَتَوْزِيعُ الضَّمَانِ عَلَيْهَا بِحَسَبِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، فَيَجِبُ الضَّمَانُ أَثْلَاثًا، وَهُوَ رَأْيُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَآخَرِينَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَإِنْ لَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَاعْتَبَرُوا الِاشْتِرَاكَ وَرُبَّمَا رَجَّحَ بَعْضُهُمُ السَّبَبَ الْأَوَّلَ.كَحَافِرِ الْحُفْرَةِ وَنَاصِبِ السِّكِّينِ فِيهَا.

الْحَالُ الثَّانِيَةُ:

12- أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَدُونَ مُخْتَلِفِينَ، بَعْضُهُمْ مُبَاشِرٌ، وَبَعْضُهُمْ مُتَسَبِّبٌ:

وَالْأَصْلُ- عِنْدَئِذٍ- تَقْدِيمُ الْمُبَاشِرِ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ فِي التَّضْمِينِ وَذَلِكَ لِلْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ: (إِذَا اجْتَمَعَ الْمُبَاشِرُ وَالْمُتَسَبِّبُ، يُضَافُ الْحُكْمُ إِلَى الْمُبَاشِرِ).

وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا يَلِي:

أ- لَوْ حَفَرَ شَخْصٌ حُفْرَةً فِي الطَّرِيقِ، فَأَلْقَى آخَرُ نَفْسَهُ، أَوْ أَلْقَى غَيْرَهُ فِيهَا عَمْدًا، لَا يَضْمَنُ الْحَافِرُ، بَلِ الْمُلْقِي وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ.

ب- لَوْ دَلَّ سَارِقًا عَلَى مَالِ إِنْسَانٍ، فَسَرَقَهُ، لَا ضَمَانَ عَلَى الدَّالِّ.

13- وَيُسْتَثْنَى مِنْ قَاعِدَةِ تَقْدِيمِ الْمُبَاشَرَةِ عَلَى التَّسْبِيبِ صُوَرٌ، يُقَدَّمُ فِيهَا السَّبَبُ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُبَاشِرَةِ، وَذَلِكَ إِذَا تَعَذَّرَتْ إِضَافَةُ الْحُكْمِ إِلَى الْمُبَاشِرِ بِالْكُلِّيَّةِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ- وَهُوَ الضَّمَانُ هُنَا- إِلَى الْمُتَسَبِّبِ وَحْدَهُ، كَمَا إِذَا دَفَعَ رَجُلٌ إِلَى صَبِيٍّ سِكِّينًا لِيُمْسِكَهُ لَهُ، فَسَقَطَ مِنْ يَدِهِ، فَجَرَحَهُ، ضَمِنَ الدَّافِعُ، لِأَنَّ السَّبَبَ هُنَا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ.

تَتَابُعُ الْأَضْرَارِ:

14- إِذَا تَرَتَّبَتْ عَلَى السَّبَبِ الْوَاحِدِ أَضْرَارٌ مُتَعَدِّدَةٌ، فَالْحُكْمُ أَنَّ الْمُتَعَدِّيَ الْمُتَسَبِّبَ يَضْمَنُ جَمِيعَ الْأَضْرَارِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى تَسَبُّبِهِ، مَا دَامَ أَثَرُ تَسَبُّبِهِ بَاقِيًا لَمْ يَنْقَطِعْ، فَإِنِ انْقَطَعَ بِتَسَبُّبٍ آخَرَ لَمْ يَضْمَنْ.

فَمِنْ صُوَرِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:

أ- سَقَطَ حَائِطُ إِنْسَانٍ عَلَى حَائِطِ إِنْسَانٍ آخَرَ، وَسَقَطَ الْحَائِطُ الثَّانِي عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ: كَانَ ضَمَانُ الْحَائِطِ الثَّانِيَ وَالْقَتِيلِ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ تَسَبُّبَ حَائِطِهِ لَمْ يَنْقَطِعْ.

فَإِنْ عَثَرَ إِنْسَانٌ بِأَنْقَاضِ الْحَائِطِ الثَّانِي، فَانْكَسَرَ، لَمْ يَضْمَنِ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ التَّفْرِيغَ لَيْسَ عَلَيْهِ، وَلَا يَضْمَنُ صَاحِبُ الْحَائِطِ الثَّانِي إِلاَّ إِذَا عَلِمَ بِسُقُوطِ حَائِطِهِ، وَلَمْ يَنْقُلْ تُرَابَهُ فِي مُدَّةٍ تَسَعُ النَّقْلَ.

ب- لَوْ أُشْهِدَ عَلَى حَائِطِهِ بِالْمَيْلِ، فَلَمْ يَنْقُضْهُ صَاحِبُهُ حَتَّى سَقَطَ، فَقَتَلَ إِنْسَانًا، وَعَثَرَ بِالْأَنْقَاضِ شَخْصٌ فَعَطِبَ، وَعَطِبَ آخَرُ بِالْقَتِيلِ، كَانَ ضَمَانُ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ وَعَطَبُ الثَّانِي عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْحَائِطَ وَأَنْقَاضَهُ مَطْلُوبَانِ مِنْهُ، أَمَّا التَّلَفُ الْحَاصِلُ بِالْقَتِيلِ الْأَوَّلِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ نَقْلَهُ لَيْسَ مَطْلُوبًا مِنْهُ، بَلْ هُوَ لِأَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ.

إِثْبَاتُ السَّبَبِيَّةِ:

15- الْأَصْلُ فِي الشَّرِيعَةِ، هُوَ أَنَّ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الضَّرَرُ، أَوْ وَلِيُّهُ إِنْ قُتِلَ، هُوَ الْمُكَلَّفُ بِإِثْبَاتِ الضَّرَرِ، وَإِثْبَاتِ تَعَدِّي مَنْ أُلْحَقَ بِهِ الضَّرَرُ، وَأَنَّ تَعَدِّيَهُ كَانَ هُوَ السَّبَبَ فِي الضَّرَرِ.

وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُمْ، لَكِنِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ».

وَتَثْبُتُ السَّبَبِيَّةُ بِإِقْرَارِ الْمُعْتَدِي، كَمَا تَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ إِذَا أَنْكَرَ وَتَثْبُتُ بِالْقَرَائِنِ، وَبِيَمِينِ الْمُدَّعِي وَشَاهِدٍ- عَلَى الْجُمْلَةِ- وَنَحْوِهَا مِنْ طُرُقِ الْإِثْبَاتِ.

(ر: إِثْبَات).

شُرُوطُ الضَّمَانِ:

16- يُمْكِنُ تَقْسِيمُ شُرُوطِ الضَّمَانِ إِلَى قِسْمَيْنِ: شُرُوطِ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ، وَشُرُوطِ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ.

أَوَّلًا: شُرُوطُ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ:

الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ إِنْ كَانَتْ عَمْدًا وَكَانَ الْجَانِي مُكَلَّفًا يَجِبُ فِيهَا الْقِصَاصُ، فَإِنْ كَانَ الْجَانِي غَيْرَ مُكَلَّفٍ، أَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً وَجَبَتْ فِيهَا الدِّيَةُ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي: (دِيَات).

ثَانِيًا: شُرُوطُ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ:

تَتَلَخَّصُ هَذِهِ الشُّرُوطُ فِي أَنْ يَكُونَ الِاعْتِدَاءُ، وَاقِعًا عَلَى مَالٍ مُتَقَوِّمٍ، مَمْلُوكٍ، مُحْتَرَمٍ، كَمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الضَّرَرُ الْحَادِثُ دَائِمًا (فَلَوْ نَبَتَتْ سِنُّ الْحَيَوَانِ لَمْ تُضْمَنِ الْمَكْسُورَةُ)، وَأَنْ يَكُونَ الْمُعْتَدِي مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ، فَلَا تَضْمَنُ الْبَهِيمَةُ، وَلَا مَالِكُهَا إِذَا أَتْلَفَتْ مَالَ إِنْسَانٍ وَهِيَ مُسَيَّبَةٌ، لِأَنَّهُ جُبَارٌ.

وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْجَانِي عَلَى الْمَالِ مُكَلَّفًا، فَيَضْمَنُ الصَّبِيُّ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ مَالٍ عَلَى الْآخَرِينَ، وَلَا عَدَمُ اضْطِرَارِهِ، وَالْمُضْطَرُّ فِي الْمَخْمَصَةِ ضَامِنٌ، لِأَنَّ الِاضْطِرَارَ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْغَيْرِ.

أَسْبَابُ الضَّمَانِ:

17- مِنْ أَسْبَابِ الضَّمَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَا يَلِي:

1- الْعَقْدُ، كَالْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالسَّلَمِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ.

2- الْيَدُ، مُؤْتَمَنَةٌ كَانَتْ كَالْوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ إِذَا حَصَلَ التَّعَدِّي، أَوْ غَيْرَ مُؤْتَمَنَةٍ كَالْغَصْبِ وَالشِّرَاءِ فَاسِدًا.

ج- الْإِتْلَافُ، نَفْسًا أَوْ مَالًا.

وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: الْحَيْلُولَةَ، كَمَا لَوْ نَقَلَ الْمَغْصُوبَ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ وَأَبْعَدَهُ، فَلِلْمَالِكِ الْمُطَالَبَةُ بِالْقِيمَةِ فِي الْحَالِ، لِلْحَيْلُولَةِ قَطْعًا، فَإِذَا رَدَّهُ رَدَّهَا.

وَجَعَلَ الْمَالِكِيَّةُ أَسْبَابَ الضَّمَانِ ثَلَاثَةً: أَحَدُهَا: الْإِتْلَافُ مُبَاشَرَةً، كَإِحْرَاقِ الثَّوْبِ.

وَثَانِيَهَا: التَّسَبُّبُ لِلْإِتْلَافِ، كَحَفْرِ بِئْرٍ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ مِمَّا شَأْنُهُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يُفْضِيَ غَالِبًا لِلْإِتْلَافِ.

وَثَالِثُهَا: وَضْعُ الْيَدِ غَيْرِ الْمُؤْتَمَنَةِ، فَيَنْدَرِجُ فِيهَا يَدُ الْغَاصِبِ، وَالْبَائِعُ يَضْمَنُ الْمَبِيعَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ قَبْلَ الْقَبْضِ.

الْفَرْقُ بَيْنَ ضَمَانِ الْعَقْدِ وَضَمَانِ الْإِتْلَافِ:

18- ضَمَانُ الْعَقْدِ: هُوَ تَعْوِيضُ مَفْسَدَةٍ مَالِيَّةٍ مُقْتَرِنَةٍ بِعَقْدٍ.

وَضَمَانُ الْإِتْلَافِ: هُوَ تَعْوِيضُ مَفْسَدَةٍ مَالِيَّةٍ لَمْ تَقْتَرِنْ بِعَقْدٍ.

وَبَيْنَهُمَا فُرُوقٌ تَبْدُو فِيمَا يَلِي:

أ- مِنْ حَيْثُ الْأَهْلِيَّةُ، فَفِي الْعُقُودِ: الْأَهْلِيَّةُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ (وَالْأَهْلِيَّةُ- هُنَا- هِيَ: أَهْلِيَّةُ أَدَاءً، وَهِيَ: صَلَاحِيَةُ الشَّخْصِ لِمُمَارَسَةِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ اعْتِبَارُهَا عَلَى الْعَقْلِ) لِأَنَّهَا مَنُوطَةٌ بِالْإِدْرَاكِ وَالْعَقْلِ، فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقَا لَا يُعْتَدُّ بِهَا.

أَمَّا الْإِتْلَافَاتُ الْمَالِيَّةُ، وَالْغَرَامَاتُ وَالْمُؤَنُ وَالصِّلَاتُ الَّتِي تُشْبِهُ الْمُؤَنَ، فَالْأَهْلِيَّةُ الْمُجْتَزَأُ بِهَا هِيَ أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ فَقَطْ، وَهِيَ صَلَاحِيَتُهُ لِثُبُوتِ الْحُقُوقِ لَهُ وَعَلَيْهِ، فَحُكْمُ الصَّغِيرِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ فِيهَا كَحُكْمِ الْكَبِيرِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْوُجُوبِ- وَهُوَ الضَّمَانُ وَنَحْوُهُ- لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ حَيٌّ عَنْ آخَرَ، وَأَدَاءُ الصَّغِيرِ يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ.

ب- مِنْ حَيْثُ التَّعْوِيضُ، فَفِي ضَمَانِ الْعَقْدِ، لَا يَقُومُ التَّعْوِيضُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ وَيَكُونُ التَّعْوِيضُ بِنَاءً عَلَى مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ.

أَمَّا الْإِتْلَافَاتُ الْمَالِيَّةُ فَإِنَّ التَّعْوِيضَ فِيهَا يَقُومُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ، إِذِ الْمَقْصُودُ فِيهَا دَفْعُ الضَّرَرِ، وَإِزَالَةُ الْمَفْسَدَةِ، وَالضَّرَرُ مَحْظُورٌ، فَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ وَذَلِكَ بِعُمُومِ النَّصِّ الْكَرِيمِ، وَهُوَ قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}.

ج- مِنْ حَيْثُ الْأَوْصَافُ وَالْعَوَارِضُ الذَّاتِيَّةُ، فَقَدْ فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِهَا فِي الْعُقُودِ وَفِي الْإِتْلَافَاتِ، وَقَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْأَوْصَافَ لَا تُضْمَنُ بِالْعَقْدِ، وَتُضْمَنُ بِالْغَصْبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَصْبَ قَبْضٌ، وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ الْقَبْضُ، أَمَّا الْعَقْدُ فَيَرِدُ عَلَى الْأَعْيَانِ، لَا عَلَى الْأَوْصَافِ، وَالْغَصْبِ (وَكَذَا الْإِتْلَافُ) فِعْلٌ يَحُلُّ بِالذَّاتِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، فَكَانَتْ مَضْمُونَةً.

مَحَلُّ الضَّمَانِ:

19- مَحَلُّ الضَّمَانِ هُوَ: مَا يَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ سَوَاءٌ أَكَانَ الضَّمَانُ نَاشِئًا عَنْ عَقْدٍ، أَمْ كَانَ نَاشِئًا عَنْ إِتْلَافٍ وَيَدٍ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: فَهُوَ كُلُّ مَالٍ أُتْلِفَتْ عَيْنُهُ، أَوْ تَلِفَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ عَيْنُهُ، بِأَمْرٍ مِنَ السَّمَاءِ، أَوْ سُلِّطَتِ الْيَدُ عَلَيْهِ وَتُمَلِّكَ.وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: مَحَلُّ الضَّمَانِ هُوَ مَا كَانَ يَقْبَلُ الْمُعَاوَضَةَ.

وَيُمْكِنُ التَّوَسُّعُ فِي مَحَلِّ الضَّمَانِ، بِحَيْثُ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْمَضْمُونَاتِ، بِأَنْ يُقَسَّمَ الْفِعْلُ الضَّارُّ، بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهِ، إِلَى قِسْمَيْنِ: فِعْلٍ ضَارٍّ وَاقِعٍ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَفِعْلٍ ضَارٍّ وَاقِعٍ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، كَالْحَيَوَانِ وَالْأَشْيَاءِ.

وَقَدِ اعْتَبَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الِاعْتِدَاءَ عَلَى الْمَالِ وَالْحَيَوَانِ ضَرْبًا مِنَ الْجِنَايَاتِ، فَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: الْجِنَايَةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: جِنَايَةٌ عَلَى الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ وَجِنَايَةٌ عَلَى الْآدَمِيِّ فَهَذِهِ مَحَالُّ الضَّمَانِ، فَالْآدَمِيُّ مَضْمُونٌ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، فِي النَّفْسِ، أَوِ الْأَطْرَافِ.

وَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَتُقْسَمُ إِلَى: أَعْيَانٍ، وَمَنَافِعَ، وَزَوَائِدَ، وَنَوَاقِصَ، وَأَوْصَافٍ.وَنَبْحَثُهَا فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا: الْأَعْيَانُ:

20- وَهِيَ نَوْعَانِ: أَمَانَاتٌ، وَمَضْمُونَاتٌ.

فَالْأَمَانَاتُ: يَجِبُ تَسْلِيمُهَا بِذَاتِهَا، وَأَدَاؤُهَا فَوْرَ طَلَبِهَا، بِالنَّصِّ، وَهُوَ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وَتُضْمَنُ حَالَ التَّعَدِّي، وَإِلاَّ فَلَا ضَمَانَ فِيهَا، وَمِنَ التَّعَدِّي الْمَوْتُ عَنْ تَجْهِيلٍ لَهَا، إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ.

وَالْمَضْمُونَاتُ، تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ، وَبِالتَّلَفِ وَلَوْ كَانَ سَمَاوِيًّا.

وَالْأَعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ نَوْعَانِ:

الْأَوَّلُ: الْأَعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ بِنَفْسِهَا، وَهِيَ الَّتِي يَجِبُ بِهَلَاكِهَا ضَمَانُ الْمِثْلِ أَوِ الْقِيمَةِ، كَالْمَغْصُوبِ، وَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا، وَالْمَهْرِ فِي يَدِ الزَّوْجِ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ- إِذَا كَانَ عَيْنًا مُعَيَّنَةً- وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، إِذَا كَانَ عَيْنًا.

الثَّانِي: الْأَعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ بِغَيْرِهَا، وَهِيَ الَّتِي يَجِبُ بِهَلَاكِهَا الثَّمَنُ أَوِ الدَّيْنُ، كَالْمَبِيعِ إِذَا هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ، سَقَطَ الثَّمَنُ، وَالرَّهْنِ إِذَا هَلَكَ سَقَطَ الدَّيْنُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الْأَعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً بِسَبَبِ الْعُدْوَانِ، كَالْمَغْصُوبَاتِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً بِسَبَبِ قَبْضٍ بِغَيْرِ عُدْوَانٍ، بَلْ بِإِذْنِ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهِ انْتِقَالِ تَمَلُّكِهِ إِلَيْهِ، بِشِرَاءٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ، أَوْ قَرْضٍ، فَهُوَ ضَامِنٌ- أَيْضًا- سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا، أَمْ كَانَ فَاسِدًا.

وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَقَدْ عَرَّفُوا الْأَعْيَانَ الْمَضْمُونَةَ، بِأَنَّهَا الَّتِي يَجِبُ ضَمَانُهَا بِالتَّلَفِ وَالْإِتْلَافِ، سَوَاءٌ أَكَانَ حُصُولُهَا بِيَدِ الضَّامِنِ بِفِعْلٍ مُبَاحٍ، كَالْعَارِيَّةِ، أَوْ مَحْظُورٍ كَالْمَغْصُوبِ، وَالْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَنَحْوِهِمَا.

وَعَدَّ السُّيُوطِيُّ الْمَضْمُونَاتِ، وَأَوْصَلَهَا إِلَى سِتَّةَ عَشَرَ، وَبَيَّنَ حُكْمَ كُلٍّ، وَمِنْهَا: الْغَصْبُ، وَالْإِتْلَافُ، وَاللُّقَطَةُ، وَالْقَرْضُ، وَالْعَارِيَّةُ، وَالْمَقْبُوضُ بِسَوْمٍ....

21- وَهَلْ تَشْمَلُ الْأَعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ الْعَقَارَاتِ؟

مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، أَنَّ الْعَقَارَ يُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي، وَذَلِكَ بِغَصْبِهِ، وَغَصْبُهُ مُتَصَوَّرٌ، لِأَنَّ الْغَصْبَ هُوَ: إِثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ، أَوْ هُوَ: الِاسْتِيلَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ عُدْوَانًا، أَوْ إِزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ مَالِهِ- كَمَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- وَالْفِعْلُ فِي الْمَالِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ.

وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَنِ اسْتَوْلَى عَلَى أَرْضِ غَيْرِهِ «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الْأَرْضِ، طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ».

وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّ الْغَصْبَ إِزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ مَالِهِ بِفِعْلٍ فِي الْمَالِ، وَلِهَذَا عَرَّفَهُ فِي الْكَنْزِ بِأَنَّهُ إِزَالَةُ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ، بِإِثْبَاتِ الْيَدِ الْمُبْطِلَةِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْعَقَارِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ وَالتَّحْوِيلَ، فَلَمْ يُوجَدِ الْإِتْلَافُ حَقِيقَةً وَلَا تَقْدِيرًا.

فَلَوْ غَصَبَ دَارًا فَانْهَدَمَ الْبِنَاءُ، أَوْ جَاءَ سَيْلٌ فَذَهَبَ بِالْبِنَاءِ وَالْأَشْجَارِ، أَوْ غَلَبَ الْمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ فَبَقِيَتْ تَحْتَ الْمَاءِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.

وَلَوْ غَصَبَ عَقَارًا، فَجَاءَ آخَرُ فَأَتْلَفَهُ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُتْلِفِ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ تَضْمِينِ الْغَاصِبِ أَوِ الْمُتْلِفِ.

وَقَالُوا: لَوْ أَتْلَفَهُ بِفِعْلِهِ أَوْ بِسُكْنَاهُ، يَضْمَنُهُ، لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ، وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِهِ، كَمَا إِذَا نَقَلَ تُرَابَهُ.

ثَانِيًا: الْمَنَافِعُ:

22- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ مُتَقَوَّمَةٌ فِي ذَاتِهَا فَتُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ، كَمَا تُضْمَنُ الْأَعْيَانُ، وَذَلِكَ: أ- لِأَنَّهَا الْغَرَضُ الْأَظْهَرُ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْوَالِ.

ب- وَلِأَنَّ الشَّارِعَ أَجَازَ أَنْ تَكُونَ مَهْرًا فِي النِّكَاحِ، فِي قِصَّةِ مُوسَى وَشُعَيْبٍ- عليهما السلام- مَعَ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمَهْرِ فِيهِ مَالًا بِالنَّصِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}.

ج- وَلِأَنَّ الْمَالَ اسْمٌ لِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِنَا بِهِ، أَوْ هُوَ- كَمَا يَقُولُ الشَّاطِبِيُّ- مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْمِلْكُ، وَيَسْتَبِدُّ بِهِ الْمَالِكُ، وَالْمَنَافِعُ مِنَّا أَوْ مِنْ غَيْرِنَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ مَالِيَّةُ الشَّيْءِ بِالتَّمَوُّلِ وَالنَّاسُ يَعْتَادُونَ تَمَوُّلَ الْمَنَافِعِ بِالتِّجَارَةِ فِيهَا، فَإِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ تِجَارَةً الْبَاعَةُ، وَرَأْسُ مَالِهِمُ الْمَنْفَعَةُ.

د- وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ- كَمَا قَالَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ- مُبَاحَةٌ مُتَقَوَّمَةٌ، فَتُجْبَرُ فِي الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَالصَّحِيحَةِ، وَبِالْفَوَاتِ تَحْتَ الْأَيْدِي الْمُبْطِلَةِ، وَالتَّفْوِيتِ بِالِانْتِفَاعِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ قَوَّمَهَا، وَنَزَّلَهَا مَنْزِلَةَ الْأَمْوَالِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ جَبْرِهَا بِالْعُقُودِ وَبَيْنَ جَبْرِهَا بِالتَّفْوِيتِ وَالْإِتْلَافِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ، سَوَاءٌ اسْتَوْفَاهَا أَمْ عَطَّلَهَا أَمِ اسْتَغَلَّهَا، وَلَا تُضْمَنُ إِلاَّ بِالْعَقْدِ، وَذَلِكَ:

أ- لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوَّمٍ، وَلَا يُمْكِنُ ادِّخَارُهَا لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ، وَلَكِنَّهَا أَعْرَاضٌ كُلَّمَا تَخْرُجُ مِنْ حَيِّزِ الْعَدَمِ إِلَى حَيِّزِ الْوُجُودِ تَتَلَاشَى فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا التَّمَوُّلُ.وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ السَّرَخْسِيُّ: الْمَنَافِعُ لَا تُضْمَنُ بِإِتْلَافٍ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا شُبْهَةٍ.

ب- وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ إِنَّمَا وَرَدَ تَقْوِيمُهَا فِي الشَّرْعِ- مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ ذَاتَ قِيمَةٍ فِي نَفْسِهَا- بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، اسْتِثْنَاءً عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، لِلْحَاجَةِ لِوُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَمَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ.

وَالْمَالِكِيَّةُ يُضَمِّنُونَ الْغَاصِبَ إِذَا غَصَبَ لِغَرَضِ الْمَنْفَعَةِ بِالتَّعَدِّي، كَمَا لَوْ غَصَبَ دَابَّةً أَوْ دَارًا لِلرُّكُوبِ وَالسُّكْنَى فَقَطْ، فَيَضْمَنُهَا بِالِاسْتِعْمَالِ، وَلَوْ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ يَسِيرًا.

وَلَا يَضْمَنُ الذَّاتَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَوْ تَلِفَتْ بِسَمَاوِيٍّ.

ثَالِثًا: الزَّوَائِدُ:

23- وَتَتَمَثَّلُ فِي زَوَائِدِ الْمَغْصُوبِ وَنَمَائِهِ.

أ- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ ضَمَانَ الْغَصْبِ، لِأَنَّهَا مَالُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَقَدْ حَصَلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِالْغَصْبِ، فَيَضْمَنُهَا بِالتَّلَفِ كَالْأَصْلِ الَّذِي تَوَلَّدَتْ مِنْهُ.

ب- وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ زَوَائِدَ الْمَغْصُوبِ- سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُتَّصِلَةً كَالسَّمْنِ، أَمْ مُنْفَصِلَةً كَاللَّبَنِ وَالْوَلَدِ، وَثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ، وَصُوفِ الْغَنَمِ- أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، لَا تُضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي عَلَيْهَا، بِالْأَكْلِ أَوِ الْإِتْلَافِ، أَوْ بِالْمَنْعِ بَعْدَ طَلَبِ الْمَالِكِ.

وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَصْبَ إِزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ، بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الزَّوَائِدِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي يَدِ الْمَالِكِ.

ج- وَلِلْمَالِكِيَّةِ هَذَا التَّفْصِيلُ:

أَوَّلًا:

مَا كَانَ مُتَوَلِّدًا مِنَ الْأَصْلِ وَعَلَى خِلْقَتِهِ، كَالْوَلَدِ، فَهُوَ مَرْدُودٌ مَعَ الْأَصْلِ.

ثَانِيًا:

وَمَا كَانَ مُتَوَلِّدًا مِنَ الْأَصْلِ، عَلَى غَيْرِ خِلْقَتِهِ مِثْلَ الثَّمَرِ وَلَبَنِ الْمَاشِيَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لِلْغَاصِبِ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ رَدُّهُ قَائِمًا، وَقِيمَتُهُ تَالِفًا.

ثَالِثًا

وَمَا كَانَ غَيْرَ مُتَوَلِّدٍ، فَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:

1- قِيلَ: يَرُدُّ الزَّوَائِدَ مُطْلَقًا، لِتَعَدِّيهِ، مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ.

2- وَقِيلَ: لَا يَرُدُّهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ الضَّمَانِ الَّذِي عَلَيْهِ.

3- وَقِيلَ: يَرُدُّ قِيمَةَ مَنَافِعِ الْأُصُولِ وَالْعَقَارِ، لِأَنَّهُ مَأْمُونٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ الضَّمَانُ فِيهِ، وَلَا يَرُدُّ قِيمَةَ مَنَافِعِ الْحَيَوَانِ وَشَبَهُهُ مِمَّا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الضَّمَانُ.

4- وَقِيلَ: يَرُدُّهَا إِنِ انْتَفَعَ بِهَا، وَلَا يَرُدُّهَا إِنْ عَطَّلَهَا.

5- وَقِيلَ: يَرُدُّهَا إِنْ غَصَبَ الْمَنَافِعَ خَاصَّةً، وَلَا يَرُدُّهَا إِنْ غَصَبَ الْمَنَافِعَ وَالرِّقَابَ.

رَابِعًا: النَّوَاقِصُ:

24- لَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِ نَقْصِ الْأَمْوَالِ بِسَبَبِ الْغَصْبِ، أَوِ الْفِعْلِ الضَّارِّ، أَوِ الْإِتْلَافِ أَوْ نَحْوِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ النَّقْصُ عَمْدًا أَمْ خَطَأً أَمْ تَقْصِيرًا، لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ- كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ- ضَمَانُ جَبْرِ الْفَائِتِ، فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْفَوَاتِ.

فَمَنْ نَقَصَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ فِي الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ:

أ- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ النَّقْصَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا.

وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ- كَمَا قَالَ الزَّيْلَعِيُّ أَنَّ الْيَسِيرَ مَا لَا يَفُوتُ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَنْفَعَةِ، بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ نُقْصَانٌ فِي الْمَنْفَعَةِ، كَالْخَرْقِ فِي الثَّوْبِ.

وَالْفَاحِشُ: مَا يَفُوتُ بِهِ بَعْضُ الْعَيْنِ وَبَعْضُ الْمَنْفَعَةِ، وَيَبْقَى بَعْضُ الْعَيْنِ وَبَعْضُ الْمَنْفَعَةِ.

وَقِيلَ الْيَسِيرُ: مَا لَمْ يَبْلُغْ رُبُعَ الْقِيمَةِ، وَالْفَاحِشُ مَا يُسَاوِي رُبُعَ الْقِيمَةِ فَصَاعِدًا، وَبِهَذَا أَخَذَتْ الْمَجَلَّةُ فِي الْمَادَّةِ (900).

فَفِي النُّقْصَانِ الْيَسِيرِ لَيْسَ لِلْمَالِكِ إِلاَّ أَخْذُ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ، لِأَنَّ الْعَيْنَ قَائِمَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَيَضْمَنُ الْغَاصِبُ النُّقْصَانَ.

وَفِي النَّقْصِ الْفَاحِشِ، يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ أَخْذِ الْعَيْنِ، وَتَضْمِينِ الْغَاصِبِ النُّقْصَانَ، وَبَيْنَ تَرْكِ الْعَيْنِ لِلْغَاصِبِ وَتَضْمِينِهِ قِيمَةَ الْعَيْنِ.

فَلَوْ ذَبَحَ حَيَوَانًا لِغَيْرِهِ مَأْكُولَ اللَّحْمِ، أَوْ قَطَعَ يَدَهُ، كَانَ ذَلِكَ إِتْلَافًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَنَقْصًا فَاحِشًا، فَيُخَيَّرُ فِيهِ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ، ضَمِنَ الْغَاصِبُ الْجَمِيعَ، لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ مُطْلَقٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِتْلَافٌ لِجَمِيعِ الْمَنْفَعَةِ.

وَلَوْ غَصَبَ الْعَقَارَ، فَانْهَدَمَ أَوْ نَقَصَ بِسُكْنَاهُ، ضَمِنَهُ، لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ بِفِعْلِهِ، وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ، وَلَا يُشْتَرَطُ لِضَمَانِ الْإِتْلَافِ أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ.

وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ هَلَكَ الْعَقَارُ، بَعْدَ أَنْ غَصَبَهُ وَهُوَ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ بِشَيْءٍ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ، لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لِلْمَنْفَعَةِ، وَلَيْسَتْ مَالًا، وَلِأَنَّهُ مَنَعَ الْمَالِكَ عَنِ الِانْتِفَاعِ وَلَا يَضْمَنُ عَيْنَهُ.

ب- وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي النَّقْصِ، أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الْخَالِقِ، أَوْ مِنْ قِبَلِ الْمَخْلُوقِ.

فَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْخَالِقِ، فَلَيْسَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ إِلاَّ أَنْ يَأْخُذَهُ نَاقِصًا- كَمَا يَقُولُ ابْنُ جِنِّيٍّ- أَوْ يَضْمَنَ الْغَاصِبُ قِيمَةَ الْمَغْصُوبِ يَوْمَ الْغَصْبِ.

وَقِيلَ: إِنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَضْمَنَ الْغَاصِبُ قِيمَةَ الْعَيْبِ.

وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْمَخْلُوقِ وَبِجِنَايَتِهِ فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ مُخَيَّرٌ:

1- بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ يَوْمَ الْغَصْبِ، وَيَتْرُكَهُ لِلْغَاصِبِ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَأْخُذَ قِيمَةَ النَّقْصِ، يَوْمَ الْجِنَايَةِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، أَوْ يَوْمَ الْغَصْبِ، عِنْدَ سَحْنُونٍ.

2- وَعِنْدَ أَشْهَبَ وَابْنِ الْمَوَّازِ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ نَاقِصًا، وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الْجِنَايَةِ، كَالَّذِي يُصَابُ بِأَمْرٍ مِنَ السَّمَاءِ.

وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي ضَمَانِ الْبِنَاءِ أَوِ الْغَرْسِ فِي الْعَقَارِ، نَذْكُرُهُ فِي أَحْكَامِ الضَّمَانِ الْخَاصَّةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ج- وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّ كُلَّ عَيْنٍ مَغْصُوبَةٍ، عَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ نَقْصِهَا، إِذَا كَانَ نَقْصًا مُسْتَقِرًّا تَنْقُصُ بِهِ الْقِيمَةُ، سَوَاءٌ كَانَ بِاسْتِعْمَالِهِ، أَمْ كَانَ بِغَيْرِ اسْتِعْمَالِهِ، كَمَرَضِ الْحَيَوَانِ، وَكَثَوْبٍ تَخَرَّقَ، وَإِنَاءٍ تَكَسَّرَ، وَطَعَامٍ سَوَّسَ، وَبِنَاءٍ تَخَرَّبَ، وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا، وَلِلْمَالِكِ عَلَى الْغَاصِبِ أَرْشُ النَّقْصِ- مَعَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، كَمَا قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ- لِأَنَّهُ نَقْصٌ حَصَلَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


18-موسوعة الفقه الكويتية (غبن)

غَبْن

التَّعْرِيفُ:

1- الْغَبْنُ فِي اللُّغَةِ.الْغَلَبُ وَالْخَدْعُ وَالنَّقْصُ.قَالَ الْكَفَوِيُّ: الْغَبْنُ بِالْمُوَحَّدَةِ السَّاكِنَةِ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَمْوَالِ، وَبِالْمُتَحَرِّكَةِ فِي الْآرَاءِ وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ بِالْفَتْحِ، وَفِي الرَّأْيِ بِالْإِسْكَانِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ الْحَطَّابُ: الْغَبْنُ عِبَارَةٌ عَنْ بَيْعِ السِّلْعَةِ بِأَكْثَرَ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ أَنَّ النَّاسَ لَا يَتَغَابَنُونَ بِمِثْلِهِ إِذَا اشْتَرَاهَا كَذَلِكَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّدْلِيسُ:

2- التَّدْلِيسُ: كِتْمَانُ عَيْبِ السِّلْعَةِ عَنِ الْمُشْتَرِي، يُقَالُ دَلَّسَ الْبَائِعُ تَدْلِيسًا: كَتَمَ عَيْبَ السِّلْعَةِ عَنِ الْمُشْتَرِي وَأَخْفَاهُ، وَمِنْهُ التَّدْلِيسُ فِي الْإِسْنَادِ.وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا اللَّفْظَ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ نَفْسِهِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ التَّدْلِيسِ وَالْغَبْنِ هُوَ: أَنَّ التَّدْلِيسَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلْغَبْنِ.

ب- الْغِشُّ:

3- الْغِشُّ هُوَ الِاسْمُ مِنَ الْغِشِّ مَصْدَرُ غَشَّهُ: إِذَا لَمْ يَمْحَضْهُ النُّصْحَ وَزَيَّنَ لَهُ غَيْرَ الْمَصْلَحَةِ أَوْ أَظْهَرَ لَهُ خِلَافَ مَا أَضْمَرَهُ وَيَكُونُ الْغِشُّ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْغَبْنِ.

ح- الْغَرَرُ:

4- الْغَرَرُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ مِنَ التَّغْرِيرِ وَهُوَ الْخَطَرُ وَالْخُدْعَةُ وَتَعْرِيضُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ أَوْ مَالَهُ لِلْهَلَكَةِ.

وَقَالَ الْجُرْجَانِيِّ: الْغَرَرُ مَا يَكُونُ مَجْهُولَ الْعَاقِبَةِ، لَا يُدْرَى أَيَكُونُ أَمْ لَا؟ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

5- الْغَبْنُ مُحَرَّمٌ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّغْرِيرِ لِلْمُشْتَرِي وَالْغِشِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَيَحْرُمُ تَعَاطِي أَسْبَابِهِ.لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ الْغَبْنَ فِي الدُّنْيَا مَمْنُوعٌ بِإِجْمَاعٍ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا إِذْ هُوَ مِنْ بَابِ الْخِدَاعِ الْمُحَرَّمِ شَرْعًا فِي كُلِّ مِلَّةٍ.لَكِنَّ الْيَسِيرَ مِنْهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ لِأَحَدٍ فَمَضَى فِي الْبُيُوعِ، إِذْ لَوْ حَكَمْنَا بِرَدِّهِ مَا نَفَذَ بَيْعٌ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ كَثِيرًا أَمْكَنَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَجَبَ الرَّدُّ بِهِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ مَعْلُومٌ.

أَنْوَاعُ الْغَبْنِ:

6- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْغَبْنَ نَوْعَانِ: غَبْنٌ يَسِيرٌ وَغَبْنٌ فَاحِشٌ.وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَحْدِيدِ كُلٍّ مِنَ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ وَالْيَسِيرِ أَقْوَالٌ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْيَسِيرَ: مَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ.وَالْفَاحِشَ: مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ، فَيُعْذَرُ فِيمَا يُشْتَبَهُ؛ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَلَا يُعْذَرُ فِيمَا لَا يُشْتَبَهُ لِفُحْشِهِ، وَلِإِمْكَانِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي مِثْلِهِ عَادَةً إِلاَّ عَمْدًا.

وَقِيلَ: حَدُّ الْفَاحِشِ فِي الْعُرُوضِ نِصْفُ عُشْرِ الْقِيمَةِ، وَفِي الْحَيَوَانِ عُشْرُ الْقِيمَةِ، وَفِي الْعَقَارِ خُمُسُ الْقِيمَةِ، وَفِي الدَّرَاهِمِ رُبُعُ عُشْرِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْغَبْنَ يَحْصُلُ بِقِلَّةِ الْمُمَارَسَةِ فِي التَّصَرُّفِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.

هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ سِعْرُهُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بَيْنَ النَّاسِ وَيَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَالْمَوْزِ لَا يُعْفَى فِيهِ الْغَبْنُ وَإِنْ قَلَّ وَإِنْ كَانَ فَلْسًا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْغَبْنَ عِبَارَةٌ عَنْ بَيْعِ السِّلْعَةِ بِأَكْثَرَ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ أَنَّ النَّاسَ لَا يَتَغَابَنُونَ بِمِثْلِهِ، وَهِيَ الزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ وَقِيلَ: الثُّلُثُ وَأَمَّا مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فَلَا يُوجِبُ الرَّدَّ بِاتِّفَاقٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْغَبْنُ الْيَسِيرُ هُوَ مَا يُحْتَمَلُ غَالِبًا فَيُغْتَفَرُ فِيهِ، وَالْغَبْنُ الْفَاحِشُ هُوَ مَا لَا يُحْتَمَلُ غَالِبًا، وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ عُرْفُ بَلَدِ الْبَيْعِ وَالْعَادَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُرْجَعُ فِي الْغَبْنِ إِلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ نَصَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْأَصْحَابِ، وَقِيلَ: يُقَدَّرُ الْغَبْنُ بِالثُّلُثِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِرْشَادِ.وَنَقَلَ الْمِرْدَاوِيُّ عَنِ الْمُسْتَوْعِبِ: الْمَنْصُوصُ أَنَّ الْغَبْنَ الْمُثْبِتَ لِلْفَسْخِ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ.وَحَدَّهُ أَصْحَابُنَا بِقَدْرِ ثُلُثِ قِيمَةِ الْبَيْعِ.

أَثَرُ الْغَبْنِ فِي الْعُقُودِ:

7- إِذَا كَانَ الْغَبْنُ الْمُصَاحِبُ لِلْعَقْدِ يَسِيرًا فَلَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّتِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ.اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْغَبْنَ فِي الْبَيْعِ بِمَا لَا يُوحِشُ لَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّتِهِ.

إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اسْتَثْنَوْا بَعْضَ الْمَسَائِلِ، وَاعْتَبَرُوا الْغَبْنَ يُؤَثِّرُ فِيهَا حَتَّى لَوْ كَانَ يَسِيرًا.

أَمَّا الْغَبْنُ الْفَاحِشُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِهِ عَلَى الْعُقُودِ حَسَبَ الِاتِّجَاهَاتِ الْآتِيَةِ:

الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ، وَلَا يُوجِبُ الرَّدَّ.

قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: لَا رَدَّ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَبِهِ أَفْتَى بَعْضُهُمْ مُطْلَقًا.

وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: وَلَا يُرَدُّ الْمَبِيعُ بِغَبْنٍ بِأَنْ يَكْثُرَ الثَّمَنُ أَوْ يَقِلَّ جِدًّا، وَلَوْ خَالَفَ الْعَادَةَ بِأَنْ خَرَجَ عَنْ مُعْتَادِ الْعُقَلَاءِ.

وَجَاءَ فِي رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ: مُجَرَّدُ الْغَبْنِ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ وَإِنْ تَفَاحَشَ، وَلَوْ اشْتَرَى زُجَاجَةً بِثَمَنٍ كَبِيرٍ يَتَوَهَّمُهَا جَوْهَرَةً فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَلَا نَظَرَ إِلَى مَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْغَبْنِ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ مِنْهُ حَيْثُ لَمْ يُرَاجِعْ أَهْلَ الْخِبْرَةِ.

وَقَدِ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بَعْضَ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ، وَقَالُوا بِأَثَرِ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يُصَاحِبْهُ تَغْرِيرٌ، وَمِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ:

أ- تَصَرُّفُ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْوَصِيِّ وَالْمُتَوَلِّي وَالْمُضَارِبِ وَالْوَكِيلِ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، يُعْفَى فِيهِ يَسِيرُ الْغَبْنِ دُونَ فَاحِشِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ.

وَقَالَ الْمَوَّاقُ نَقْلًا عَنْ أَبِي عُمَرَ الْمَالِكِيِّ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ النَّائِبَ عَنْ غَيْرِهِ فِي بَيْعٍ وَشِرَاءٍ مِنْ وَكِيلٍ أَوْ وَصِيٍّ إِذَا بَاعَ أَوِ اشْتَرَى مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ أَنَّهُ مَرْدُودٌ.

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَحْكَامِ خِيَارِ غَبْنِ الْقَاصِرِ وَشِبْهِهِ ر: (خِيَارُ الْغَبْنِ ف 13 وَمَا بَعْدَهَا)

ب- بَيْعُ الْمُسْتَسْلِمِ الْمُسْتَنْصِحِ قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَلَا رَدَّ بِغَبْنٍ وَلَوْ خَالَفَ الْعَادَةَ، إِلاَّ أَنْ يَسْتَسْلِمَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ صَاحِبَهُ بِأَنْ يُخْبِرَهُ بِجَهْلِهِ، كَأَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي: أَنَا لَا أَعْلَمُ قِيمَةَ هَذِهِ السِّلْعَةِ، فَبِعْنِي كَمَا تَبِيعُ النَّاسَ فَقَالَ الْبَائِعُ: هِيَ فِي الْعُرْفِ بِعَشْرَةٍ فَإِذَا هِيَ بِأَقَلَّ: أَوْ يَقُولُ الْبَائِعُ: أَنَا لَا أَعْلَمُ قِيمَتَهَا فَاشْتَرِ مِنِّي كَمَا تَشْتَرِي مِنَ النَّاسِ فَقَالَ: هِيَ فِي عُرْفِهِمْ بِعَشْرَةٍ، فَإِذَا هِيَ بِأَكْثَرَ، فَلِلْمَغْبُونِ الرَّدُّ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، بَلْ بِاتِّفَاقٍ.

الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ- مِنْهُمُ ابْنُ الْقَصَّارِ- وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلْمَغْبُونِ حَقَّ الْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ وَإِنْ لَمْ يُصَاحِبِ الْغَبْنَ تَغْرِيرٌ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْحَمَوِيِّ: فَقَدْ تَحَرَّرَ أَنَّ الْمَذْهَبَ عَدَمُ الرَّدِّ بِهِ (بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ) وَلَكِنْ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَفْتَى بِالرَّدِّ مُطْلَقًا.

وَقَالَ الْمَوَّاقُ نَقْلًا عَنِ الْمُتَيْطِيِّ: تَنَازَعَ الْبَغْدَادِيُّونَ فِي هَذَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ زَادَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ عَلَى قِيمَةِ الثُّلُثِ فَأَكْثَرُ فُسِخَ الْبَيْعُ، وَكَذَلِكَ إِنْ بَاعَ بِنُقْصَانِ النَّاسِ مِنْ قِيمَتِهِ عَلَى مَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ، وَحَكَى ابْنُ الْقَصَّارِ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ: لِلْمَغْبُونِ الرَّدُّ إِذَا كَانَ فَاحِشًا وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمَغْبُونُ جَاهِلًا بِالْقِيَمِ.

وَالْحَنَابِلَةُ يَقُولُونَ بِإِعْطَاءِ الْعَاقِدِ الْمَغْبُونِ حَقَّ الْخِيَارِ فِي ثَلَاثِ صُوَرٍ إِحْدَاهَا: تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «لَا تَلَقَّوُا الْجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ أَيْ صَاحِبُهُ السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ» (ر: بَيْع مَنْهِيّ عَنْهُ ف 129.131).

وَالثَّانِيَةُ: بَيْعُ النَّاجِشِ وَلَوْ بِلَا مُوَاطَأَةٍ مِنَ الْبَائِعِ، وَمِنْهُ أُعْطِيتُ كَذَا وَهُوَ كَاذِبٌ وَالثَّالِثَةُ: الْمُسْتَرْسِلُ إِذَا اطْمَأَنَّ وَاسْتَأْنَسَ وَغَبَنَ، ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ وَلَا أَرْشَ مَعَ إِمْسَاكٍ.

الِاتِّجَاهُ الثَّالِثُ: إِعْطَاءُ الْمَغْبُونِ حَقَّ الْخِيَارِ إِذَا صَاحَبَ الْغَبْنَ تَغْرِيرٌ بِهَذَا يَقُولُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَصَحَّحَهُ الزَّيْلَعِيُّ وَأَفْتَى بِهِ صَدْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ. (ر: خِيَارُ الْغَبْنِ ف 12 وَمَا بَعْدَهَا)

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


19-موسوعة الفقه الكويتية (غسل 2)

غُسْلٌ -2

وَهُنَاكَ مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِتَعْمِيمِ الْبَشَرَةِ وَالشَّعْرِ بِالْمَاءِ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:

أ- الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ:

25- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي الْغُسْلِ، قَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْفَمُ وَالْأَنْفُ مِنَ الْوَجْهِ لِدُخُولِهِمَا فِي حَدِّهِ، فَتَجِبُ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى فَلَا يَسْقُطُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ مِنَ الْوُضُوءِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ».

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «أَمَرَ بِالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ».وَلِأَنَّ الْفَمَ وَالْأَنْفَ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّائِمَ لَا يُفْطِرُ بِوُصُولِ شَيْءٍ إِلَيْهِمَا، وَيُفْطِرُ بِعَوْدِ الْقَيْءِ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَيْهِمَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي الْغُسْلِ، لِأَنَّ الْفَمَ وَالْأَنْفَ لَيْسَا مِنْ ظَاهِرِ الْجَسَدِ فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُمَا، وَاعْتَبَرُوا غَسْلَهُمَا مِنْ سُنَنِ الْغُسْلِ.

ب- نَقْضُ الضَّفَائِرِ:

26- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ نَقْضُ الضَّفَائِرِ فِي الْغُسْلِ إِذَا كَانَ الْمَاءُ يَصِلُ إِلَى أُصُولِهَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي فَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ؟ قَالَ: لَا، إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ» فَإِذَا لَمْ يَصِلِ الْمَاءُ إِلَى أُصُولِ الضَّفَائِرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ نَقْضُهَا فِي الْجُمْلَةِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَإِذَا لَمْ يَبْتَلَّ أَصْلُهَا، بِأَنْ كَانَ مُتَلَبِّدًا أَوْ غَزِيرًا أَوْ مَضْفُورًا ضَفْرًا شَدِيدًا لَا يَنْفُذُ فِيهِ الْمَاءُ يَجِبُ نَقْضُهَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَجِبُ نَقْضُ الضَّفَائِرِ مَا لَمْ يَشْتَدَّ بِنَفْسِهِ أَوْ ضُفِّرَ بِخُيُوطٍ كَثِيرَةٍ، سَوَاءٌ اشْتَدَّ الضَّفْرُ أَمْ لَا.وَالْمُرَادُ بِهَا مَا زَادَ عَلَى الِاثْنَيْنِ فِي الضَّفِيرَةِ، وَكَذَا مَا ضُفِرَ بِخَيْطٍ أَوْ خَيْطَيْنِ مَعَ الِاشْتِدَادِ، وَصَرَّحُوا بِوُجُوبِ ضَغْثِ مَضْفُورِ الشَّعْرِ- أَيْ جَمْعِهِ وَضَمِّهِ وَتَحْرِيكِهِ- لِيُدَاخِلَهُ الْمَاءُ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَإِنْ كَانَتْ عَرُوسًا تُزَيِّنُ شَعْرَهَا، وَفِي الْبُنَانِيِّ وَغَيْرِهِ: أَنَّ الْعَرُوسَ الَّتِي تُزَيِّنُ شَعْرَهَا لَيْسَ عَلَيْهَا غُسْلُ رَأْسِهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِتْلَافِ الْمَالِ، وَيَكْفِيهَا الْمَسْحُ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ نَقْضُ الضَّفَائِرِ إِنْ لَمْ يَصِلِ الْمَاءُ إِلَى بَاطِنِهَا إِلاَّ بِالنَّقْضِ، بِخِلَافِ مَا تَعَقَّدَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَجِبُ نَقْضُهُ وَإِنْ كَثُرَ، فَإِنْ كَانَ بِفِعْلٍ عُفِيَ عَنْ قَلِيلِهِ، وَلَوْ بَقِيَ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَثَلًا شَيْءٌ وَلَوْ وَاحِدَةٌ بِلَا غُسْلٍ، ثُمَّ أَزَالَهَا بِقَصٍّ أَوْ نَتْفٍ مَثَلًا لَمْ يَكْفِ، فَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِ مَوْضِعِهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَزَالَهُ بَعْدَ غَسْلِهَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعْرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يَغْسِلْهَا فُعِلَ بِهِ كَذَا وَكَذَا مِنَ النَّارِ» قَالَ عَلِيٌّ: فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْتُ شَعْرَ رَأْسِي.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ كَالْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يَكْفِي لِلرَّجُلِ بَلُّ ضَفِيرَتِهِ، فَيَنْقُضُهَا وُجُوبًا لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ وَلِلِاحْتِيَاطِ وَلِإِمْكَانِ حَلْقِهِ.وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يَجِبُ؛ نَظَرًا إِلَى الْعَادَةِ.

وَوَافَقَ الْحَنَابِلَةُ الْجُمْهُورَ فِي عَدَمِ وُجُوبِ نَقْضِ الشَّعْرِ الْمَضْفُورِ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ إِذَا رُوَتْ أُصُولُهُ، وَخَالَفُوهُمْ فِي غُسْلِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ حَيْثُ قَالُوا بِوُجُوبِ النَّقْضِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهَا: «انْقُضِي شَعْرَكَ وَامْتَشِطِي» وَلَا يَكُونُ الْمَشْطُ إِلاَّ فِي شَعْرٍ غَيْرِ مَضْفُورٍ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ نَقْضِ الشَّعْرِ لِتَحَقُّقِ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى مَا يَجِبُ غَسْلُهُ.فَعُفِيَ عَنْهُ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ؛ لِأَنَّهُ يَكْثُرُ، فَشَقَّ ذَلِكَ فِيهِ، وَالْحَيْضُ بِخِلَافِهِ، فَبَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ فِي الْوُجُوبِ، وَالنِّفَاسُ فِي مَعْنَى الْحَيْضِ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هَذَا مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ: - صلى الله عليه وسلم- «إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي فَأَنْقُضُهُ لِلْحَيْضَةِ وَالْجَنَابَةِ؟ فَقَالَ: لَا، إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ» وَهِيَ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ.

الثَّالِثَةُ- الْمُوَالَاةُ:

27- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُوَالَاةِ هَلْ هِيَ مِنْ فَرَائِضِ الْغُسْلِ أَوْ مِنْ سُنَنِهِ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى سُنِّيَّةِ الْمُوَالَاةِ فِي غَسْلِ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ لِفِعْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا فَاتَتِ الْمُوَالَاةُ قَبْلَ إِتْمَامِ الْغُسْلِ، بِأَنْ جَفَّ مَا غَسَلَهُ مِنْ بَدَنِهِ بِزَمَنٍ مُعْتَدِلٍ وَأَرَادَ أَنْ يُتِمَّ غُسْلَهُ- جَدَّدَ لِإِتْمَامِهِ نِيَّةً وُجُوبًا، لِانْقِطَاعِ النِّيَّةِ بِفَوَاتِ الْمُوَالَاةِ، فَيَقَعُ غَسْلُ مَا بَقِيَ بِدُونِ نِيَّةٍ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَالَاةَ مِنْ فَرَائِضِ الْغُسْلِ.

الرَّابِعَةُ- الدَّلْكُ:

28- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دَلْكَ الْأَعْضَاءِ فِي الْغُسْلِ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ؛ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِأَبِي ذَرٍّ- رضي الله عنه-: فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ جِلْدَكَ» وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِزِيَادَةٍ.وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِأُمِّ سَلَمَةَ «إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ».وَلِأَنَّهُ غُسْلٌ فَلَا يَجِبُ إِمْرَارُ الْيَدِ فِيهِ.كَغُسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْمُزَنِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الدَّلْكَ فَرِيضَةٌ مِنْ فَرَائِضِ الْغُسْلِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْغُسْلَ هُوَ إِمْرَارُ الْيَدِ.وَلَا يُقَالُ لِوَاقِفٍ فِي الْمَطَرِ اغْتَسَلَ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ يُشْتَرَطُ فِيهِ إِمْرَارُ الْيَدِ فَكَذَا هُنَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: هُوَ وَاجِبٌ لِنَفْسِهِ لَا لِإِيصَالِ الْمَاءِ لِلْبَشَرَةِ، فَيُعِيدُ تَارِكُهُ أَبَدًا، وَلَوْ تَحَقَّقَ وُصُولُ الْمَاءِ لِلْبَشَرَةِ لِطُولِ مُكْثِهِ مَثَلًا فِي الْمَاءِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ وَاجِبٌ لِإِيصَالِ الْمَاءِ لِلْبَشَرَةِ، وَاخْتَارَهُ عَلِيٌّ الْأُجْهُورِيُّ لِقُوَّةِ مُدْرَكِهِ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مُقَارَنَةُ الدَّلْكِ لِلْمَاءِ، بَلْ يُجْزِئُ وَلَوْ بَعْدَ صَبِّ الْمَاءِ وَانْفِصَالِهِ مَا لَمْ يَجِفَّ الْجَسَدُ، فَلَا يُجْزِئُ الدَّلْكُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِأَنَّهُ صَارَ مَسْحًا لَا غُسْلًا، وَصَرَّحُوا بِجَوَازِ الدَّلْكِ بِالْخِرْقَةِ، يُمْسِكُ طَرَفَهَا بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَالطَّرَفَ الْآخَرَ بِالْيُسْرَى وَيُدَلِّكُ بِوَسَطِهَا، فَإِنَّهُ يَكْفِي ذَلِكَ وَلَوْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الدَّلْكِ بِالْيَدِ.وَكَذَا لَوْ لَفَّ الْخِرْقَةَ عَلَى يَدِهِ أَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي كِيسٍ فَدَلَّكَ بِهِ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ مَتَى تَعَذَّرَ الدَّلْكُ بِالْيَدِ سَقَطَ عَنْهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّلْكُ بِالْخِرْقَةِ وَلَا الِاسْتِنَابَةُ.

سُنَنُ الْغُسْلِ:

أ- التَّسْمِيَةُ:

29- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْغُسْلِ، وَعَدَّهَا الْمَالِكِيَّةُ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ، لِعُمُومِ حَدِيثِ: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَقْطَعُ»

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ وَجْهٌ حَكَاهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُ لَا تُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ لِلْجُنُبِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ ذِكْرٌ، وَلَا يَكُونُ قُرْآنًا إِلاَّ بِالْقَصْدِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ التَّسْمِيَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُذْكَرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» قِيَاسًا لِإِحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ مَسْنُونَةٌ فِي طَهَارَةِ الْأَحْدَاثِ كُلِّهَا، وَعَنْهُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فِيهَا كُلِّهَا: الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ.

وَقَالَ الْخَلاَّلُ: الَّذِي اسْتَقَرَّتِ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ.

وَلَفْظُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِاسْمِ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: الْأَفْضَلُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: صِفَةُ التَّسْمِيَةِ بِسْمِ اللَّهِ، فَإِذَا زَادَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ جَازَ، وَلَا يُقْصَدُ بِهَا الْقُرْآنُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: صِفَتُهَا بِسْمِ اللَّهِ، وَلَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، فَلَوْ قَالَ: بِسْمِ الرَّحْمَنِ، أَوِ الْقُدُّوسِ، أَوْ نَحْوِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ، لَكِنْ قَالَ الْبُهُوتِيُّ: الظَّاهِرُ إِجْزَاؤُهَا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَلَوْ مِمَّنْ يُحْسِنُهَا- كَمَا فِي التَّذْكِيَةِ- إِذْ لَا فَرْقَ.

وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَبْتَدِئَ النِّيَّةَ مَعَ التَّسْمِيَةِ، وَمُصَاحِبَةً لَهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

قَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَقْتُهَا عِنْدَ أَوَّلِ الْوَاجِبَاتِ وُجُوبًا، وَأَوَّلِ الْمَسْنُونَاتِ اسْتِحْبَابًا.

ب- غُسْلُ الْكَفَّيْنِ:

30- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ فِي الْغُسْلِ غُسْلُ الْيَدَيْنِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ ثَلَاثًا ابْتِدَاءً قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ.لِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «وَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مَاءً لِلْغُسْلِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا».

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: هَذَا إِذَا كَانَ الْمَاءُ غَيْرَ جَارٍ وَكَانَ يَسِيرًا وَأَمْكَنَ الْإِفْرَاغُ مِنْهُ، وَإِلاَّ فَلَا تَتَوَقَّفُ سُنِّيَّةُ غُسْلِهِمَا عَلَى الْأَوَّلِيَّةِ. ج- إِزَالَةُ الْأَذَى:

31- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَكْمَلُ الْغُسْلِ إِزَالَةُ الْقَذِرِ طَاهِرًا كَانَ كَالْمَنِيِّ، أَوْ نَجَسًا كَوَدْيٍ اسْتِظْهَارًا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ بَعْدَ غَسْلِ الْيَدَيْنِ الْبَدْءُ بِإِزَالَةِ الْخَبَثِ عَنْ جَسَدِهِ، سَوَاءٌ كَانَ بِفَرْجٍ أَوْ غَيْرِهِ، لِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ- رضي الله عنها- فِي صِفَةِ غُسْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ» قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: السُّنَّةُ نَفْسُ الْبُدَاءَةِ بِغُسْلِ النَّجَاسَةِ.وَأَمَّا نَفْسُ غُسْلِهَا فَلَا بُدَّ مِنْهُ وَلَوْ قَلِيلَةً.

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُسَنُّ غُسْلُ الْفَرْجِ مَعَ الْبُدَاءَةِ بِغُسْلِ الْيَدَيْنِ.وَذَلِكَ بِأَنْ يُفِيضَ الْمَاءَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَيْهِ فَيَغْسِلَهُ بِالْيُسْرَى، ثُمَّ يُنَقِّيَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ خَبَثٌ اتِّبَاعًا لِلْحَدِيثِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ يُنْدَبُ الْبَدْءُ بِإِزَالَةِ الْأَذَى أَيِ النَّجَاسَةِ فِي الْغُسْلِ. د- الْوُضُوءُ:

32- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ فِي الْغُسْلِ الْوُضُوءُ كَامِلًا، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ».وَعَدَّهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَحَلِّ غُسْلِ الرِّجْلَيْنِ، هَلْ يَغْسِلُهُمَا فِي وُضُوئِهِ أَوْ فِي آخِرِ غُسْلِهِ؟

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ.وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُؤَخِّرُ غَسْلَ قَدَمَيْهِ إِلَى آخِرِ الْغُسْلِ، بَلْ يُكْمِلُ الْوُضُوءَ بِغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ كَانَ وَاقِفًا فِي مَحَلٍّ يَجْتَمِعُ فِيهِ مَاءُ الْغُسْلِ، وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلٌ إِنَّهُ يُؤَخِّرُ غُسْلَ قَدَمَيْهِ مُطْلَقًا، وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهُوَ ظَاهِرُ إِطْلَاقِ الْأَكْثَرِ، وَإِطْلَاقِ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ، قَالَ النَّوَوِيُّ عَنْ قَوْلَيْ الشَّافِعِيَّةِ: وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ إِنَّمَا هُمَا فِي الْأَفْضَلِ، وَإِلاَّ فَكَيْفَ فَعَلَ حَصَلَ الْوُضُوءُ، وَقَدْ ثَبَتَ الْأَمْرَانِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ إِنْ كَانَ فِي مَكَانٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ فَيُؤَخِّرُ غُسْلَ قَدَمَيْهِ.وَإِلاَّ غَسَلَهُمَا فِي الْوُضُوءِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ.صَحَّحَهُ فِي الْمُجْتَبَى، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْهِدَايَةِ وَالْمَبْسُوطِ وَالْكَافِي.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِأَنَّ غُسْلَ رِجْلَيْهِ مَعَ الْوُضُوءِ وَتَأْخِيرَ غُسْلِهِمَا حَتَّى يَغْتَسِلَ سَوَاءٌ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ إِلَى نَدْبِ تَأْخِيرِ غُسْلِ الرِّجْلَيْنِ بَعْدَ فَرَاغِ الْغُسْلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ بِتَأْخِيرِ غُسْلِهِمَا فِي الْأَحَادِيثِ كَحَدِيثِ مَيْمُونَةَ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْإِطْلَاقُ، وَالْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ.

هـ- الْبَدْءُ بِالْيَمِينِ:

33- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْبَدْءِ بِالْيَمِينِ عِنْدَ غُسْلِ الْجَسَدِ، وَهُوَ مِنْ مَنْدُوبَاتِ الْغُسْلِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِحَدِيثِ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- «كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي طَهُورِهِ» وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ دَعَا بِشَيْءٍ نَحْوَ الْحِلَابِ، فَأَخَذَ بِكَفِّهِ، ثُمَّ بَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ الْأَيْسَرِ».

و- الْبَدْءُ بِأَعْلَى الْبَدَنِ:

34- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ عِنْدَ غُسْلِ الْجَسَدِ الْبَدْءُ بِأَعْلَاهُ.

وَوَافَقَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ، لَكِنَّهُمْ عَدُّوهُ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ.

ز- تَثْلِيثُ الْغُسْلِ:

35- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ تَثْلِيثَ غُسْلِ الْأَعْضَاءِ فِي الْغُسْلِ سُنَّةٌ، لِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ- رضي الله عنها-: «ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ» وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ فَيُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي أُصُولِ الشَّعْرِ، حَتَّى إِذَا رَأَى أَنْ قَدِ اسْتَبْرَأَ، حَفَنَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ» وَأَمَّا بَاقِي أَعْضَاءِ الْجَسَدِ فَقِيَاسًا عَلَى الْوُضُوءِ.

قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: إِنْ كَانَ الْمَاءُ جَارِيًا كَفَى فِي التَّثْلِيثِ أَنْ يُمِرَّ عَلَيْهِ ثَلَاثًا جِرْيَاتٍ، وَإِنْ كَانَ رَاكِدًا انْغَمَسَ فِيهِ ثَلَاثًا، بِأَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ مِنْهُ وَيَنْقُلَ قَدَمَيْهِ، أَوْ يَنْتَقِلَ فِيهِ مِنْ مَقَامِهِ إِلَى آخَرَ ثَلَاثًا، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى انْفِصَالِ جُمْلَتِهِ وَلَا رَأْسِهِ، فَإِنَّ حَرَكَتَهُ تَحْتَ الْمَاءِ كَجَرْيِ الْمَاءِ عَلَيْهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى نَدْبِ تَثْلِيثِ غُسْلِ الرَّأْسِ فَقَطْ، وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْأَعْضَاءِ فَاعْتَمَدَ الدَّرْدِيرُ كَرَاهَةَ غُسْلِهَا أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَاعْتَمَدَ الْبُنَانِيُّ تَكْرَارَ غُسْلِ الْأَعْضَاءِ.

36- وَهُنَاكَ سُنَنٌ أُخْرَى مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْرُ الْمَاءِ الْمُغْتَسَلِ بِهِ صَاعًا لِحَدِيثِ سَفِينَةَ- رضي الله عنه-: «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُغَسِّلُهُ الصَّاعُ مِنَ الْمَاءِ مِنَ الْجَنَابَةِ وَيُوَضِّئُهُ الْمُدُّ».

وَقَدَّرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِالصَّاعِ الْعِرَاقِيِّ وَهُوَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ، وَقَدَّرَهُ صَاحِبَاهُ بِالصَّاعِ الْحِجَازِيِّ وَهُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٍ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: نَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مَا يُجْزِئُ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِمِقْدَارٍ، وَمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْ أَنَّ أَدْنَى مَا يَكْفِي فِي الْغُسْلِ صَاعٌ وَفِي الْوُضُوءِ مُدٌّ لِحَدِيثِ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ، وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ» لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ، بَلْ هُوَ بَيَانُ أَدْنَى الْقَدْرِ الْمَسْنُونِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ أَسْبَغَ بِدُونِ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكْفِهِ زَادَ عَلَيْهِ.لِأَنَّ طِبَاعَ النَّاسِ وَأَحْوَالَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ.

وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: الْمَدَارُ عَلَى الْإِحْكَامِ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَجْسَامِ.

وَبَعْدَ أَنْ قَرَّرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ مَاءُ الْغُسْلِ عَنْ صَاعٍ، قَالُوا: وَلَا حَدَّ لَهُ فَلَوْ نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ وَأَسْبَغَ كَفَى.

37- وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ سُنَنَ الْغُسْلِ كَسُنَنِ الْوُضُوءِ سِوَى التَّرْتِيبِ وَالدُّعَاءِ، وَآدَابَهُ كَآدَابِ الْوُضُوءِ.

وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يَبْتَدِئَ فِي حَالِ صَبِّ الْمَاءِ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ عَلَى مَيَامِنِهِ، ثُمَّ عَلَى مَيَاسِرِهِ كَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-، وَيُسَنُّ السِّوَاكُ أَيْضًا فِي الْغُسْلِ.

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ مُطْلَقًا، أَمَّا كَلَامُ النَّاسِ فَلِكَرَاهَتِهِ حَالَ الْكَشْفِ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ فَلِأَنَّهُ فِي مَصَبِّ الْمُسْتَعْمَلِ وَمَحَلِّ الْأَقْذَارِ وَالْأَوْحَالِ.

وَصَرَّحُوا بِأَنَّ مِنْ آدَابِ الْغُسْلِ: أَنْ يَغْتَسِلَ بِمَكَانٍ لَا يَرَاهُ فِيهِ أَحَدٌ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ لِعَوْرَتِهِ؛ لِاحْتِمَالِ ظُهُورِهَا فِي حَالِ الْغُسْلِ أَوْ لُبْسِ الثِّيَابِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسِّتْرَ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ».

وَيُسْتَحَبُّ أَيْضًا أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ سُبْحَةً بَعْدَ الْغُسْلِ كَالْوُضُوءِ لِأَنَّهُ يَشْمَلُهُ.

38- وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ مَسْحُ صِمَاخِ (ثَقْبِ) الْأُذُنَيْنِ فِي الْغُسْلِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَحْمِلَ الْمَاءَ فِي يَدَيْهِ وَإِمَالَةِ رَأْسِهِ حَتَّى يُصِيبَ الْمَاءُ بَاطِنَ أُذُنَيْهِ وَلَا يَصُبُّ الْمَاءَ فِي أُذُنَيْهِ صَبًّا؛ لِأَنَّهُ يُورِثُ الضَّرَرَ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: السُّنَّةُ هُنَا مَسْحُ الثَّقْبِ الَّذِي هُوَ الصِّمَاخُ، وَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَيَجِبُ غُسْلُهُ.

39- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مِنَ السُّنَنِ اسْتِصْحَابُ النِّيَّةِ إِلَى آخِرِ الْغُسْلِ، وَأَنْ لَا يَغْتَسِلَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ وَلَوْ كَثُرَ، وَأَنْ يَكُونَ اغْتِسَالُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ بَعْدَ بَوْلٍ لِئَلاَّ يَخْرُجَ بَعْدَهُ مَنِيٌّ.

وَيُسَنُّ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ فَرَاغِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ وَيَتْرُكَ الِاسْتِعَانَةَ وَالتَّنْشِيفَ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُخَلِّلَ أُصُولَ شَعْرِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ بِمَاءٍ قَبْلَ إِفَاضَتِهِ عَلَيْهِ. مَكْرُوهَاتُ الْغُسْلِ:

40- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مِنْ مَكْرُوهَاتِ الْغُسْلِ الْإِسْرَافُ فِي الْمَاءِ.

وَمِنَ الْمَكْرُوهَاتِ ضَرْبُ الْوَجْهِ بِالْمَاءِ، وَالتَّكَلُّمُ بِكَلَامِ النَّاسِ، وَالِاسْتِعَانَةُ بِالْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَرَجَّحَ الطَّحْطَاوِيُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالِاسْتِعَانَةِ، وَتَنْكِيسِ الْفِعْلِ، وَتَكْرَارِ الْغُسْلِ بَعْدَ الْإِسْبَاغِ، وَالْغُسْلِ فِي الْخَلَاءِ وَفِي مَوَاضِعِ الْأَقْذَارِ، وَتَرْكِ الْوُضُوءِ أَوِ الْمَضْمَضَةِ أَوِ الِاسْتِنْشَاقِ وَالِاغْتِسَالِ دَاخِلَ مَاءٍ كَثِيرٍ كَالْبَحْرِ خَشْيَةَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ الْمَوْجُ فَيُغْرِقَهُ.

صِفَةُ الْغُسْلِ:

41- لِلْغُسْلِ صِفَتَانِ: صِفَةُ إِجْزَاءٍ وَصِفَةُ كَمَالٍ.

فَصِفَةُ الْإِجْزَاءِ تَحْصُلُ بِالنِّيَّةِ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُهَا، وَتَعْمِيمِ جَمِيعِ الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةِ بِالْمَاءِ.

وَصِفَةُ الْكَمَالِ تَحْصُلُ بِذَلِكَ وَبِمُرَاعَاةِ وَاجِبَاتِ الْغُسْلِ وَسُنَنِهِ وَآدَابِهِ الَّتِي سَبَقَ بَيَانُهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


20-موسوعة الفقه الكويتية (قرينة)

قَرِينَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْقَرِينَةُ لُغَةً: مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَرَنَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ، أَيْ شَدَّهُ إِلَيْهِ وَوَصَلَهُ بِهِ، كَجَمْعِ الْبَعِيرَيْنِ فِي حَبْلٍ وَاحِدٍ، وَكَالْقَرْنِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، أَوْ كَالْجَمْعِ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ أَوِ اللُّقْمَتَيْنِ عِنْدَ الْأَكْلِ، وَتَأْتِي الْمُقَارَنَةُ بِمَعْنَى الْمُرَافَقَةِ وَالْمُصَاحَبَةِ، وَمِنْهُ مَا يُطْلَقُ عَلَى الزَّوْجَةِ قَرِينَةٌ، وَعَلَى الزَّوْجِ قَرِينٌ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْ غَيْرِ كَوْنِهِ صَرِيحًا.

مَشْرُوعِيَّةُ الْقَرِينَةِ:

2- الْقَرِينَةُ مَشْرُوعَةٌ فِي الْجُمْلَةِ لِمَا وَرَدَ فِي قوله تعالى فِي سُورَةِ يُوسُفَ {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ}.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ إِنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا الدَّمَ عَلَامَةَ صِدْقِهِمْ، قَرَنَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْعَلَامَةِ عَلَامَةً تُعَارِضُهَا، وَهِيَ سَلَامَةُ الْقَمِيصِ مِنَ التَّمْزِيقِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ افْتِرَاسُ الذِّئْبِ لِيُوسُفَ وَهُوَ لَابِسُ الْقَمِيصِ وَيَسْلَمُ الْقَمِيصُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ- عليه السلام- اسْتَدَلَّ عَلَى كَذِبِهِمْ بِصِحَّةِ الْقَمِيصِ، فَاسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِعْمَالِ الْأَمَارَاتِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْفِقْهِ.

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} عَلَى جَوَازِ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِالْعَلَامَةِ، إِذْ أَثْبَتُوا بِذَلِكَ كَذِبَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ فِيمَا نَسَبَتْهُ لِيُوسُفَ- عليه الصلاة والسلام-.

وَمِنْهَا قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ، وَإِذْنُهَا سُكُوتُهَا»، فَجَعَلَ صُمَاتَهَا قَرِينَةً دَالَّةً عَلَى الرِّضَا، وَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا رَضِيَتْ، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى الْحُكْمِ بِالْقَرَائِنِ.

كَمَا سَارَ عَلَى ذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالصَّحَابَةُ فِي الْقَضَايَا الَّتِي عَرَضَتْ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا حَكَمَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعُثْمَانُ، - رضي الله عنهم- وَلَا يُعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفٌ- بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ رَائِحَةُ الْخَمْرِ، أَوْ قَاءَهَا، وَذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ- رحمه الله-، وَمِنْهُ مَا قَضَى بِهِ عُمَرُ- رضي الله عنه- بِرَجْمِ الْمَرْأَةِ إِذَا ظَهَرَ لَهَا حَمْلٌ وَلَا زَوْجَ لَهَا، وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ.

وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}.

الْقَرَائِنُ الْقَاطِعَةُ وَغَيْرُ الْقَاطِعَةِ:

3- إِنَّ مِنَ الْقَرَائِنِ مَا يَقْوَى حَتَّى يُفِيدَ الْقَطْعَ، وَمِنْهَا مَا يَضْعُفُ وَيُمَثِّلُونَ لِحَالَةِ الْقَطْعِ بِمُشَاهَدَةِ شَخْصٍ خَارِجٍ مِنْ دَارٍ خَالِيَةٍ خَائِفًا مَدْهُوشًا فِي يَدِهِ سِكِّينٌ مُلَوَّثَةٌ بِالدَّمِ، فَلَمَّا وَقَعَ الدُّخُولُ لِلدَّارِ رُئِيَ فِيهَا شَخْصٌ مَذْبُوحٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَتَشَخَّطُ فِي دِمَائِهِ، فَلَا يُشْتَبَهُ هُنَا فِي كَوْنِ ذَلِكَ الشَّخْصِ هُوَ الْقَاتِلُ، لِوُجُودِ هَذِهِ الْقَرِينَةِ الْقَاطِعَةِ.

وَأَمَّا الْقَرِينَةُ غَيْرُ قَطْعِيَّةِ الدَّلَالَةِ وَلَكِنَّهَا ظَنِّيَّةٌ أَغْلَبِيَّةٌ، وَمِنْهَا الْقَرَائِنُ الْعُرْفِيَّةُ أَوِ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنْ وَقَائِعِ الدَّعْوَى وَتَصَرُّفَاتِ الْخُصُومِ، فَهِيَ دَلِيلٌ أَوَّلِيٌّ مُرَجِّحٌ لِزَعْمِ أَحَدِ الْمُتَخَاصِمَيْنِ مَعَ يَمِينِهِ مَتَى اقْتَنَعَ بِهَا الْقَاضِي وَلَمْ يَثْبُتْ خِلَافُهَا.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تَرُدُّ حَقًّا وَلَا تُكَذِّبُ دَلِيلًا وَلَا تُبْطِلُ أَمَارَةً صَحِيحَةً، هَذَا وَقَدْ دَرَجَتْ مَجَلَّةُ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ عَلَى اعْتِبَارِ الْقَرِينَةِ الْقَاطِعَةِ أَحَدَ أَسْبَابِ الْحُكْمِ فِي الْمَادَّةِ (1740) وَعَرَّفَتْهَا بِأَنَّهَا الْأَمَارَةُ الْبَالِغَةُ حَدَّ الْيَقِينِ وَذَلِكَ فِي الْمَادَّةِ (1741).

الْأَخْذُ بِالْقَرَائِنِ:

4- قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ- رحمه الله- فِي تَبْصِرَتِهِ نَاقِلًا عَنِ الْإِمَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ الْفَقِيهِ الْمَالِكِيِّ قَوْلَهُ: عَلَى النَّاظِرِ أَنْ يَلْحَظَ الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ إِذَا تَعَارَضَتْ، فَمَا تَرَجَّحَ مِنْهَا مَضَى بِجَانِبِ التَّرْجِيحِ، وَهُوَ قُوَّةُ التُّهْمَةِ، وَلَا خِلَافَ فِي الْحُكْمِ بِهَا، وَقَدْ جَاءَ الْعَمَلُ بِهَا فِي مَسَائِلَ اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ، وَبَعْضُهَا قَالَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ خَاصَّةً.

عَلَى أَنَّ ضَبْطَ كُلِّ الصُّوَرِ الَّتِي تَعْمَلُ فِيهَا الْقَرِينَةُ أَمْرٌ مُسْتَبْعَدٌ، إِذْ أَنَّ الْوَقَائِعَ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ، وَالْقَضَايَا مُتَنَوِّعَةٌ، فَيَسْتَخْلِصُهَا الْقَاضِي بِفَهْمِهِ وَذَكَائِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ جَانِبًا مِنَ الصُّوَرِ لِلِاسْتِنَارَةِ بِهَا، وَلِلتَّدْلِيلِ عَلَى اعْتِبَارِ الْعُلَمَاءِ بِالْقَرَائِنِ الَّتِي تَوَلَّدَتْ عَنْهَا، وَهَذَا الْبَعْضُ مِنْهَا:

الْأُولَى: أَنَّ الْفُقَهَاءَ كُلَّهُمْ يَقُولُونَ بِجَوَازِ وَطْءِ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ إِذَا أُهْدِيَتْ إِلَيْهِ لَيْلَةَ الزِّفَافِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عِنْدَهُ عَدْلَانِ أَنَّ هَذِهِ فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ الَّتِي عَقَدَ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَنْطِقِ النِّسَاءُ أَنَّ هَذِهِ امْرَأَتُهُ الَّتِي عَقَدَ عَلَيْهَا، اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ، الْمُنَزَّلَةِ مَنْزِلَةَ الشَّهَادَةِ.

الثَّانِيَةُ: اعْتِمَادُ النَّاسِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا عَلَى الصِّبْيَانِ وَالْإِمَاءِ الْمُرْسَلَةِ مَعَهُمُ الْهَدَايَا إِلَيْهِمْ، فَيَقْبَلُونَ أَقْوَالَهُمْ، وَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ الْمُرْسَلَ بِهِ.

الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ إِذْنَ الصِّبْيَانِ فِي الدُّخُولِ لِلْمَنْزِلِ.

الرَّابِعَةُ: جَوَازُ أَخْذِ مَا يَسْقُطُ مِنَ الْإِنْسَانِ إِذَا لَمْ يُعْرَفْ صَاحِبُهُ، وَمَا لَا يَتْبَعُهُ الْإِنْسَانُ نَفْسُهُ لِحَقَارَتِهِ، كَالتَّمْرَةِ وَالْفَلْسِ، وَكَجِوَازِ أَخْذِ مَا بَقِيَ فِي الْحَوَائِطِ مِنَ الثِّمَارِ وَالْحَبِّ بَعْدَ انْتِقَالِ أَهْلِهِ مِنْهُ وَتَخْلِيَتِهِ وَتَسْيِيبِهِ، كَجَوَازِ أَخْذِ مَا يَسْقُطُ مِنَ الْحَبِّ عِنْدَ الْحَصَادِ مِمَّا لَا يَعْتَنِي صَاحِبُ الزَّرْعِ بِلَقْطِهِ، وَكَأَخَذِ مَا يَنْبِذُهُ النَّاسُ رَغْبَةً عَنْهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْخِرَقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَقَّرَاتِ.

الْخَامِسَةُ: الشُّرْبُ مِنَ الْمَصَانِعِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى الطُّرُقَاتِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الشَّارِبُ إِذْنَ أَرْبَابِهَا فِي ذَلِكَ لَفْظًا، اعْتِمَادًا عَلَى دَلَالَةِ الْحَالِ.

السَّادِسَةُ: قَوْلُهُمْ فِي الرِّكَازِ: إِذَا كَانَ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ كَنْزٌ، وَيَأْخُذُ حُكْمَ اللُّقَطَةِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ عَلَامَاتُ الْكُفْرِ كَالصَّلِيبِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ رِكَازٌ.

السَّابِعَةُ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ عَلَى بَيْعِ السِّلْعَةِ قَبْضُ ثَمَنِهَا، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمُوَكِّلُ فِي ذَلِكَ لَفْظًا، اعْتِمَادًا عَلَى قَرِينَةِ الْحَالِ.

الثَّامِنَةُ: الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ وَاعْتِبَارُهُ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ رُجُوعًا إِلَى مُجَرَّدِ الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ، فَقُدِّمَتْ عَلَى أَصْلِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ.

التَّاسِعَةُ: جَوَازُ دَفْعِ اللُّقَطَةِ لِوَاصِفِ عِفَاصِهَا وَوِكَائِهَا.

الْعَاشِرَةُ: النَّظَرُ فِي أَمْرِ الْخُنْثَى، وَالِاعْتِمَادُ فِيهِ عَلَى الْأَمَارَاتِ وَالْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى إِحْدَى حَالَتَيْهِ الذُّكُورَةِ أَوِ الْأُنُوثَةِ.

الْحَادِيَةَ عَشَرَةَ: مَعْرِفَةُ رِضَا الْبِكْرِ بِالزَّوْجِ بِصُمَاتِهَا.

الثَّانِيَةَ عَشَرَةَ: إِذَا أَرْخَى السِّتْرَ عَلَى الزَّوْجَةِ وَخَلَا بِهَا، قَالَ أَصْحَابُنَا: إِذَا طَلَّقَهَا وَقَالَ إِنَّهُ لَمْ يَمَسَّهَا وَادَّعَتْ هِيَ الْوَطْءَ صُدِّقَتْ، وَكَانَ لَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا.

وَمِنْ هَذَا الْعَرْضِ يَبْدُو اتِّفَاقُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ بِصِفَةٍ مُطْلَقَةٍ بِدُونِ قُيُودٍ وَلَا حُدُودٍ، وَمَصَادِرُ مَذْهَبَيْهِمْ تَشْهَدُ بِذَلِكَ.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ عَمِلُوا بِالْقَرَائِنِ فِي حُدُودٍ ضَيِّقَةٍ، وَيَعْتَدُّونَ بِالْقَرِينَةِ الْحِسِّيَّةِ وَالْحَالِيَّةِ، وَبِالْقَرِينَةِ الْقَاطِعَةِ فَقَدْ ذَكَرَ الْعَلاَّمَةُ ابْنُ نُجَيْمٍ عِنْدَ إِحْصَائِهِ لِلْحُجَجِ الَّتِي يَعْتَمِدُهَا الْقَاضِي، فَقَالَ: إِنَّ الْحُجَّةَ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ، أَوْ إِقْرَارٌ، أَوْ نُكُولٌ عَنْ يَمِينٍ، أَوْ يَمِينٌ، أَوْ قَسَامَةٌ، أَوْ عِلْمُ الْقَاضِي بَعْدَ تَوَلِّيهِ، أَوْ قَرِينَةٌ قَاطِعَةٌ، وَقَالَ: وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي الشَّرْحِ مِنَ الدَّعْوَى.

وَذُكِرَ أَنَّهُ لَا يُقْضَى بِالْقَرِينَةِ إِلاَّ فِي مَسَائِلَ ذَكَرَهَا فِي الشَّرْحِ فِي بَابِ التَّحَالُفِ.

وَقَدْ نَصَّ الْمُزَنِيُّ فِي كِتَابِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالظُّنُونِ، بَعْدَ ذِكْرِ النِّزَاعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى مَتَاعِ الْبَيْتِ، وَتَنَازُعِ عَطَّارٍ وَدَبَّاغٍ، وَأَنَّهُ لَوْ صَحَّ اسْتِعْمَالُ الظُّنُونِ لَقُضِيَ بِالْعِطْرِ لِلْعَطَّارِ، وَالدِّبَاغِ لِلدَّبَّاغِ. هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ الْجَصَّاصُ صُوَرًا كَثِيرَةً عَمِلُوا فِي بَعْضِهَا بِالْقَرَائِنِ، كَالِاخْتِلَافِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِيمَا لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلزَّوْجَةِ، وَمَا لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلزَّوْجِ، فَحَكَمُوا بِظَاهِرِ هَيْئَةِ الْمَتَاعِ.

وَمِمَّا يُؤْخَذُ مِنْ كُتُبِهِمْ أَنَّهُمْ يُعْمِلُونَ الْقَرَائِنَ- إِنِ اعْتَبَرُوهَا عَامِلَةً- فِي خُصُوصِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَلَا يُعْمِلُونَهَا فِي الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ، فَاعْتَبَرُوا مَثَلًا سُكُوتَ الْبِكْرِ أَوْ صَمْتَهَا قَرِينَةً عَلَى الرِّضَا، وَقَبْضَ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ بِحَضْرَةِ الْمَالِكِ مَعَ سُكُوتِهِ إِذْنًا بِالْقَبْضِ، وَوَضْعَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفَ قَرِينَةً عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِيَّةِ، وَقَبُولَ التَّهْنِئَةِ فِي وِلَادَةِ الْمَوْلُودِ أَيَّامَ التَّهْنِئَةِ الْمُعْتَادَةِ قَرِينَةً عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ، وَاعْتَبَرُوا عَلَامَةَ الْكَنْزِ، وَقَالُوا إِنْ كَانَتْ دَالَّةً عَلَى الْإِسْلَامِ كَانَتْ لُقَطَةً، وَإِنْ كَانَتْ دَالَّةً عَلَى الْكُفْرِ فَفِيهَا الْخُمُسُ.

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ الِابْنُ تَعْلِيقًا عَلَى رِسَالَةِ وَالِدِهِ الْمُسَمَّاةِ نَشْرَ الْعُرْفِ فِي بِنَاءِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْعُرْفِ فَقَالَ: لِلْمُفْتِي الْآنَ أَنْ يُفْتِيَ عَلَى عُرْفِ أَهْلِ زَمَانِهِ وَإِنْ خَالَفَ زَمَانَ الْمُتَقَدِّمِينَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


21-موسوعة الفقه الكويتية (مثلة)

مُثْلَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمُثْلَةُ: بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الثَّاءِ أَوْ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الثَّاءِ-: الْعُقُوبَةُ وَالتَّنْكِيلُ.

قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمُثْلَةُ الْعُقُوبَةُ الْمُبِينَةُ مِنَ الْمُعَاقِبِ شَيْئًا.

وَهُوَ تَغْيِيرُ الصُّورَةِ، فَتَبْقَى قَبِيحَةً مِنْ قَوْلِهِمْ: مَثَّلَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ: إِذَا قَبَّحَ صُورَتَهُ إِمَّا بِقَطْعِ أُذُنِهِ أَوْ جَدْعِ أَنْفِهِ أَوْ سَمْلِ عَيْنَيْهِ أَوْ بَقْرِ بَطْنِهِ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْعَارِ الْبَاقِي وَالْخِزْيِ اللاَّزِمِ مُثْلَةٌ.

وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ}.

قَالَ الرَّازِيُّ: مَعْنَى الْآيَةِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ الَّذِي لَمْ يُعَاجِلْهُمْ بِهِ، وَقَدْ عَلِمُوا مَا نَزَلَ مِنْ عُقُوبَاتِنَا بِالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ فَلَمْ يَعْتَبِرُوا بِهَا، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَرْدَعَهُمْ خَوْفُ ذَلِكَ عَنِ الْكُفْرِ اعْتِبَارًا بِحَالِ مَنْ سَبَقَ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْمُثْلَةُ: الْعُقُوبَةُ الشَّنِيعَةُ كَرَضِّ الرَّأْسِ وَقَطْعِ الْأُذُنِ أَوِ الْأَنْفِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْعَذَابُ:

2- هُوَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: الضَّرْبُ الشَّدِيدُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ عُقُوبَةٍ مُؤْلِمَةٍ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ: الْعَذَابُ هُوَ الْإِيجَاعُ الشَّدِيدُ وَالْمُثْلَةُ نَوْعٌ مِنَ الْعَذَابِ وَهِيَ أَخَصُّ مِنْهُ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

3- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ الْمُثْلَةَ ابْتِدَاءً بِالْحَيِّ حَرَامٌ، وَبِالْإِنْسَانِ مَيِّتًا كَذَلِكَ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ- رضي الله عنه-: قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ، وَيَنْهَانَا عَنِ الْمُثْلَةِ» وَبِمَا رَوَى صَفْوَانُ بْنُ عَسَّالٍ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي سَرِيَّةٍ فَقَالَ: «سِيرُوا بِاسْمِ اللَّهِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَلَا تُمَثِّلُوا» وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِنْ قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ».

وَبِمَا رَوَى هِشَامُ بْنُ زَيْدٍ: قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَنَسٍ- رضي الله عنه- عَلَى الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ فَرَأَى غِلْمَانًا أَوْ فِتْيَانًا نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا، فَقَالَ أَنَسٌ- رضي الله عنه-: «نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ» وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مَنْ مَثَّلَ بِالْحَيَوَانِ».

الْمُثْلَةُ بِالْعَدُوِّ

4- قَالَ الْفُقَهَاءُ: يَحْرُمُ التَّمْثِيلُ بِالْكُفَّارِ بِقَطْعِ أَطْرَافِهِمْ وَقَلْعِ أَعْيُنِهِمْ وَبَقْرِ بُطُونِهِمْ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، أَمَّا قَبْلَ الْقُدْرَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ إِنْ مَثَّلُوا بِمُسْلِمٍ مُثِّلَ بِهِمْ كَذَلِكَ مُعَامَلَةً بِالْمِثْلِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ الْمُثْلَةُ بِقَتْلِ الْكُفَّارِ وَتَعْذِيبِهِمْ لِمَا رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ- رضي الله عنه- قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَانَا عَنِ الْمُثْلَةِ.

حَمْلُ رَأْسِ الْعَدُوِّ

5- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ حَمْلُ رَأْسِ الْكَافِرِ الْعَدُوِّ لِمَا رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: قَالَ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَشُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ بَعَثَا بَرِيدًا إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ- رضي الله عنه- بِرَأْسِ يَنَّاقٍ بِطَرِيقِ الشَّامِ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه- أَنْكَرَ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عُقْبَةُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ: فَإِنَّهُمْ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ فَقَالَ: أَفَاسْتِنَانٌ بِفَارِسَ وَالرُّومِ؟ لَا يُحْمَلُ إِلَيَّ رَأْسٌ فَإِنَّمَا يَكْفِي الْكِتَابُ وَالْخَبَرُ.وَلِحَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ السَّابِقِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَحْرُمُ حَمْلُ رَأْسِ كَافِرٍ عَدُوٍّ مِنْ بَلَدِ قَتْلِهِ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، أَوْ لِأَمِيرِ جَيْشٍ فِي بَلَدِ الْقِتَالِ.وَاعْتَبَرُوا ذَلِكَ مُثْلَةً.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا بَأْسَ بِحَمْلِ رَأْسِ الْمُشْرِكِ إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ غَيْظُهُمْ: بِأَنْ كَانَ الْمُشْرِكُ مِنْ عُظَمَائِهِمْ.

وَقَالُوا: وَقَدْ حَمَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَوْمَ بَدْرٍ رَأْسَ أَبِي جَهْلٍ وَأَلْقَاهُ بَيْنَ يَدَيْهِ- عليه الصلاة والسلام-.

تَسْخِيمُ الْوَجْهِ

6- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَسْخِيمُ الْوَجْهِ أَيْ تَسْوِيدُهُ بِالسُّخَامِ وَهُوَ السَّوَادُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِأَسْفَلِ الْقِدْرِ وَمُحِيطِهِ، مِنْ كَثْرَةِ الدُّخَانِ.

وَقَالُوا: لِأَنَّ الْوَجْهَ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ وَمَعْدِنُ جَمَالِ الْإِنْسَانِ، وَمَنْبَعُ حَوَاسِّهِ فَوَجَبَ الِاحْتِرَازُ عَنْ تَجْرِيحِهِ وَتَقْبِيحِهِ، وَهُوَ الصُّورَةُ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ وَكَرَّمَ بِهَا بَنِي آدَمَ فَيُعْتَبَرُ كُلُّ تَغْيِيرٍ فِيهَا مُثْلَةً.

قَالَ السَّرَخْسِيُّ: الدَّلِيلُ قَدْ قَامَ عَلَى انْتِسَاخِ حُكْمِ التَّسْخِيمِ لِلْوَجْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُثْلَةٌ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْمُثْلَةِ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَزِّرَ بِمَا يَرَاهُ مُنَاسِبًا مِنْ ضَرْبٍ غَيْرِ مُبَرِّحٍ وَحَبْسٍ وَصَفْعٍ وَكَشْفِ رَأْسٍ وَتَسْوِيدِ وَجْهٍ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: تَسْوِيدٌ ف 16- وَشَهَادَةُ الزُّورِ ف 6- 7).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


22-موسوعة الفقه الكويتية (مشيمة)

مَشِيمَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمَشِيمَةُ فِي اللُّغَةِ غِشَاءُ وَلَدِ الْإِنْسَانِ، وَيُقَالُ لِلْمَشِيمَةِ مِنْ غَيْرِ الْإِنْسَانِ السَّلَى.

وَأَطْلَقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، كَسُلَيْمَانَ الْجَمَلِ، الْمَشِيمَةَ عَلَى غِشَاءِ الْوَلَدِ فِي الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ.

وَأَطْلَقَ آخَرُونَ الْمَشِيمَةَ عَلَى وِعَاءِ الْإِنْسَانِ فَقَطْ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

أ- طَهَارَةُ الْمَشِيمَةِ:

2- اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي طَهَارَةِ الْمَشِيمَةِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ الْمُذَكَّى فَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ بِطَهَارَتِهَا وَجِوَازِ أَكْلِهَا، وَصَوَّبَهُ الْبَرْزَلِيُّ قَائِلًا: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْمَشِيمَةُ الَّتِي فِيهَا الْوَلَدُ طَاهِرَةٌ مِنَ الْآدَمِيِّ، نَجِسَةٌ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَهُ حُكْمُ مَيْتَتِهِ بِلَا نِزَاعٍ.

ب- حُكْمُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَشِيمَةِ

3- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ عُضْوُ مُسْلِمٍ عُلِمَ مَوْتُهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَ غُسْلِهِ وَمُوَارَاتِهِ بِخِرْقَةٍ بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى جُمْلَةِ الْمَيِّتِ، وَاعْتَبَرُوا الْمَشِيمَةَ الْمُسَمَّاةَ بِالْخَلَاصِ كَالْعُضْوِ، لِأَنَّهَا تُقْطَعُ مِنَ الْوَلَدِ فَهِيَ جُزْءٌ مِنْهُ، وَأَمَّا الْمَشِيمَةُ الَّتِي فِيهَا الْوَلَدُ فَلَيْسَتْ جُزْءًا مِنَ الْأُمِّ وَلَا مِنَ الْوَلَدِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


23-موسوعة الفقه الكويتية (نفقة 3)

نَفَقَةٌ -3

أ- السَّفَرُ لِأَدَاءِ حَجِّ الْفَرِيضَةِ:

41- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ فِيمَا لَوْ خَرَجَتْ لِتَأْدِيَةِ حَجِّ الْفَرِيضَةِ دُونَ سَفَرِ الزَّوْجِ مَعَهَا عَلَى أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: تَجِبُ لِلزَّوْجَةِ النَّفَقَةُ إِذَا خَرَجَتْ لِحَجِّ الْفَرِيضَةِ دُونَ سَفَرِ الزَّوْجِ مَعَهَا.وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَبِهِ قَالَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

لِأَنَّ الزَّوْجَةَ فَعَلَتِ الْوَاجِبَ عَلَيْهَا بِأَصْلِ الشَّرْعِ فِي وَقْتِهِ فَلَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا كَصِيَامِ رَمَضَانَ.

وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَ الْمُطْلَقَ قَدْ حَصَلَ بِالِانْتِقَالِ إِلَى مَنْزِلِ الزَّوْجِ ثُمَّ فَاتَ بِعَارِضِ أَدَاءِ فَرْضٍ، وَهَذَا لَا يُبْطِلُ النَّفَقَةَ كَمَا لَوِ انْتَقَلَتْ إِلَى مَنْزِلِ زَوْجِهَا ثُمَّ لَزِمَهَا صَوْمُ رَمَضَانَ.

وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُؤْمَرُ بِالْخُرُوجِ مَعَهَا وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا.

الْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ مَا عَدَا رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّ فَوَاتَ الِاحْتِبَاسِ لَا مِنْ قِبَلِهِ يُوجِبُ سُقُوطَ النَّفَقَةِ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ إِحْرَامَ الزَّوْجَةِ بِحَجِّ فَرْضٍ أَوْ عُمْرَةٍ بِلَا إِذْنٍ نُشُوزٌ وَلَا نَفَقَةَ لَهَا إِنْ لَمْ يَمْلِكْ تَحْلِيلَهَا وَذَلِكَ حَالَ إِحْرَامِهَا بِفَرْضٍ عَلَى قَوْلٍ مَرْجُوحٍ، فَإِنْ مَلَكَ تَحْلِيلَهَا حَالَ إِحْرَامِهَا بِفَرْضٍ عَلَى الْأَظْهَرِ فَلَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا لِلْحَجِّ، فَإِذَا خَرَجَتْ فَمُسَافِرَةٌ لِحَاجَتِهَا، فَإِنْ سَافَرَتْ وَحْدَهَا بِإِذْنِهِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا فِي الْأَظْهَرِ، أَوْ مَعَهُ اسْتَحَقَّتِ النَّفَقَةَ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا

ب- السَّفَرُ لِحَجِّ التَّطَوُّعِ:

42- فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ سَفَرِ الزَّوْجَةِ لِتَأْدِيَةِ الْحَجِّ غَيْرِ الْفَرْضِ بِإِذْنِ الزَّوْجِ وَبَيْنَ سَفَرِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ.

فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لِلْمَرْأَةِ إِنْ سَافَرَتْ لِحَجِّ تَطَوُّعٍ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ الْمَنْذُورُ فِي الذِّمَّةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْمُسَافِرَةِ وَحْدَهَا فَلَا تَكُونُ لَهَا نَفَقَةٌ.

وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ إِنْ أَحْرَمَتْ بِحَجِّ تَطَوُّعٍ وَسَافَرَتْ بِإِذْنِ زَوْجِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لَا نَفَقَةَ لَهَا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُمَكَّنَةٍ مِنْ نَفْسِهَا فَتَسْقُطُ نَفَقَتُهَا كَمَا لَوْ سَافَرَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: تَجِبُ النَّفَقَةُ لِلزَّوْجَةِ إِذَا أَحْرَمَتْ بِحَجِّ التَّطَوُّعِ بِإِذْنِ زَوْجِهَا، وَبِهِ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ.

لِأَنَّهَا سَافَرَتْ بِإِذْنِ زَوْجِهَا فَلَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا كَمَا لَوْ سَافَرَتْ فِي حَاجَةِ زَوْجِهَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ أَحْرَمَتِ الزَّوْجَةُ بِحَجِّ تَطَوُّعٍ بِإِذْنٍ مِنْ زَوْجِهَا فَفِي الْأَصَحِّ لَهَا نَفَقَةٌ مَا لَمْ تَخْرُجْ لِأَنَّهَا فِي قَبْضَتِهِ.

وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ لَا تَجِبُ النَّفَقَةُ لِفَوَاتِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا.

وَلَوْ خَرَجَتْ لِحَجِّ التَّطَوُّعِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا إِنْ خَرَجَتْ وَحْدَهَا فَإِنْ خَرَجَ مَعَهَا لَمْ تَسْقُطْ.

امْتِنَاعُ الزَّوْجَةِ مِنَ السَّفَرِ مَعَ الزَّوْجِ:

43- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ أَوْ عَدَمِ وُجُوبِهَا إِذَا امْتَنَعَتْ عَنِ السَّفَرِ مَعَ زَوْجِهَا وَكَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا غَيْرَ مَخُوفٍ، مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ غَيْرِ الْمُحْتَمَلَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا عُذْرٌ يَمْنَعُهَا مِنَ السَّفَرِ مَعَهُ مَعَ اسْتِيفَاءِ سَائِرِ الشُّرُوطِ عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمْ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَحَمَّادٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ إِلَى أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لِلزَّوْجَةِ إِذَا امْتَنَعَتْ عَنِ السَّفَرِ مَعَ زَوْجِهَا، وَاعْتَبَرُوا الْمُمْتَنِعَةَ عَنِ السَّفَرِ مَعَ زَوْجِهَا دُونَ عُذْرٍ نَاشِزَةً.

لِأَنَّ الزَّوْجَةَ إِنَّمَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ بِتَسْلِيمِهَا نَفْسَهَا إِلَى الزَّوْجِ فَتَسْقُطُ بِامْتِنَاعِهَا عَنِ السَّفَرِ مَعَهُ.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَالْمُرَادُ بِالسُّقُوطِ عَدَمُ الْوُجُوبِ.

وَفِي قَوْلٍ لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ وَلَا تُعَدُّ نَاشِزًا إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ بِهَا مَسَافَةَ الْقَصْرِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا بِدُونِ رِضَاهَا.

وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمَسَافَةُ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَلَهُ جَبْرُهَا عَلَى السَّفَرِ مَعَهُ، فَإِنِ امْتَنَعَتْ كَانَتْ نَاشِزًا وَسَقَطَتْ نَفَقَتُهَا.

وَفِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَيْضًا يُتْرَكُ أَمْرُ ذَلِكَ إِلَى الْقَاضِي حَسَبَ مَا يَظْهَرُ لَهُ.

فَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ مِنَ السَّفَرِ الْكَيْدَ لِلُزُوجَةِ وَالْإِضْرَارَ بِهَا أَوْ كَانَ الزَّوْجُ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهَا فِي هَذَا السَّفَرِ فَلَا يَحْكُمُ الْقَاضِي بِالسَّفَرِ مَعَهُ، فَإِنِ امْتَنَعَتْ مِنَ السَّفَرِ مَعَهُ كَانَ امْتِنَاعُهَا بِحَقٍّ وَلَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا.

وَإِنْ كَانَ السَّفَرُ لَيْسَ فِيهِ إِضْرَارٌ بِالزَّوْجَةِ وَإِنَّمَا كَانَ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ كَالتِّجَارَةِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَهُوَ مَأْمُونٌ عَلَيْهَا أَجَابَهُ الْقَاضِي إِلَى طَلَبِهِ، فَإِنِ امْتَنَعَتْ كَانَ امْتِنَاعُهَا بِغَيْرِ حَقٍّ وَسَقَطَتْ نَفَقَتُهَا فِي مُدَّةِ الِامْتِنَاعِ.

نَفَقَةُ زَوْجَةِ الصَّغِيرِ:

44- إِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ كَبِيرَةً- أَيْ يُمْكِنُ وَطْؤُهَا- وَالزَّوْجُ صَغِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهِ، وَسَلَّمَتِ الزَّوْجَةُ نَفْسَهَا لَهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا عَلَى زَوْجِهَا الصَّغِيرِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبِهِ قَالَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي مُقَابِلِ الْمَشْهُورِ إِذَا كَانَ مَدْخُولًا بِهَا عَلَى مَا صَحَّحَهُ فِي التَّوْضِيحِ.

وَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا تَسْلِيمًا صَحِيحًا فَوَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ، كَمَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ كَبِيرًا.

وَبِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا مُمْكِنٌ وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ الْوَطْءُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ لِمَرَضِهِ أَوْ غَيْبَتِهِ.

وَلِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ عَلَيْهِ وَالْمَانِعُ مِنْ جِهَتِهِ فَوَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ عَلَى زَوْجِهَا الصَّغِيرِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَلَوْ دَخَلَ بِهَا وَافْتَضَّهَا وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

لِأَنَّهُ لَا يَسْتَمْتِعُ بِهَا لِسَبَبٍ هُوَ مَعْذُورٌ فِيهِ فَلَا يَلْزَمُهُ غُرْمُ نَفَقَتِهَا.

نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ مُدَّةَ حَبْسِ الزَّوْجِ فِي دَيْنِ نَفَقَتِهَا:

45- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ إِنْ حَبَسَتْ زَوْجَهَا فِي سَدَادِ مَا عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى تَأْدِيَتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لَهَا النَّفَقَةُ مُدَّةَ حَبْسِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ لَا مِنْهَا.

الْقَوْلُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهَا النَّفَقَةُ مُدَّةَ حَبْسِهِ وَلَوْ بِحَقٍّ لِلْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ.

لِأَنَّ التَّمْكِينَ الْمُوجِبَ لِلنَّفَقَةِ قَدِ انْتَفَى بِسَبَبِ سَجْنِهِ فَلَا تَجِبُ مَعَهُ النَّفَقَةُ.

وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ مُعْسِرًا لِأَنَّهَا ظَالِمَةٌ مَانِعَةٌ لَهُ مِنَ التَّمْكِينِ مِنْهَا.

طَلَبُ التَّفْرِيقِ بِسَبَبِ عَدَمِ الْإِنْفَاقِ:

أ- إِذَا كَانَ الزَّوْجُ حَاضِرًا:

46- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا كَانَ حَاضِرًا مُوسِرًا وَلَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَسْتَوْفِيَ حَقَّهَا مِنْهُ وَلَيْسَ لَهَا حَقُّ طَلَبِ التَّفْرِيقِ.

كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَعْسَرَ الزَّوْجُ بِالنَّفَقَةِ وَرَضِيَتْ بِالْمُقَامِ مَعَهُ فَلَهَا أَنْ تَبْقَى مَعَهُ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ أَعْسَرَ الزَّوْجُ وَلَمْ تَرْضَ زَوْجَتُهُ بِالْبَقَاءِ مَعَهُ فِي حَقِّهَا فِي طَلَبِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لَيْسَ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ التَّكَسُّبِ كَيْ تُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا، وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَعَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَغَيْرُهُمْ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إِلَى عُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} مُوَجِّهِينَ اسْتِدْلَالَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِإِنْظَارِ الْمُعْسِرِ إِلَى أَنْ يَتَحَقَّقَ يَسَارُهُ فَتَدْخُلُ الزَّوْجَةُ فِي عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَكُونُ مَأْمُورَةً بِإِنْظَارِ الزَّوْجِ، وَلَا يَحِقُّ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِالطَّلَاقِ.

وَإِلَى مَا رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنهما- قَالَ: «دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- فَوَجَدَ النَّاسَ جُلُوسًا بِبَابِهِ، لَمْ يُؤْذَنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ.قَالَ: فَأَذِنَ لِأَبِي بَكْرٍ فَدَخَلَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ فَوَجَدَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- جَالِسًا، حَوْلَهُ نِسَاؤُهُ، وَاجِمًا سَاكِتًا.قَالَ فَقَالَ: لأَقُولَنَّ شَيْئًا أُضْحِكُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم-.فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَ بِنْتَ خَارِجَةَ سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَوَجَأْتُ عُنُقَهَا.فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ: «هُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ»، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَائِشَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، فَقَامَ عُمَرُ إِلَى حَفْصَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، كِلَاهُمَا يَقُولُ: تَسْأَلْنَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، فَقُلْنَ: وَاللَّهِ لَا نَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا أَبَدًا لَيْسَ عِنْدَهُ، ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا أَوْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ}، حَتَّى بَلَغَ {لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}.قَالَ: فَبَدَأَ بِعَائِشَةَ فَقَالَ.«يَا عَائِشَةُ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكِ أَمْرًا أُحِبُّ أَنْ لَا تَعْجَلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْكِ» قَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! ! فَتَلَا عَلَيْهَا الْآيَةَ قَالَتْ: أَفِيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَسْتَشِيرُ أَبَوِيَّ؟ بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ لَا تُخْبِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِكَ بِالَّذِي قُلْتُ.قَالَ: لَا تَسْأَلْنِي امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ إِلاَّ أَخْبَرْتُهَا.إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا».فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَسْأَلَ زَوْجَهَا مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، فَلَا يَكُونُ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِالطَّلَاقِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى.

وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا وَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ بِعَجْزِهِ، قِيَاسًا عَلَى عَدَمِ فَسْخِهِ بِالدَّيْنِ وَعَلَى الْإِعْسَارِ بِالصَّدَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: لِلْمَرْأَةِ حَقُّ طَلَبِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا لِعَجْزِهِ عَنِ الْإِنْفَاقِ، فَإِنِ امْتَنَعَ فَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا.

وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهَذَا التَّفْرِيقُ فَسْخٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَطَلَاقٌ رَجْعِيٌّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهم-، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ.

مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فَقَدْ أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِإِمْسَاكِ الزَّوْجَةِ بِالْمَعْرُوفِ أَوِ التَّسْرِيحِ بِإِحْسَانٍ، وَعَدَمُ إِنْفَاقِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا تَفْوِيتٌ لِلْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ، فَيَتَعَيَّنُ الثَّانِي وَهُوَ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ.

وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رضي الله عنه- كَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ فِيمَنْ غَابَ عَنْ نِسَائِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى نِسَائِهِمْ إِمَّا أَنْ يُفَارِقُوا وَإِمَّا أَنْ يَبْعَثُوا بِالنَّفَقَةِ، فَمَنْ فَارَقَ مِنْهُمْ فَلْيَبْعَثْ بِنَفَقَةِ مَا تَرَكَ.

وَلِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا الزِّنَادِ سَأَلَهُ عَنِ الرَّجُلِ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ، قَالَ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: قُلْتُ: سَنَةً؟ فَقَالَ: سَنَةً. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيُشْبِهُ أَنَّهُ سُنَّةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-.

وَلِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ الْفَسْخُ بِالْعَجْزِ عَنِ الْوَطْءِ، وَالضَّرَرُ فِيهِ أَقَلُّ، فَلأَنْ يَثْبُتَ بِالْعَجْزِ عَنِ النَّفَقَةِ الَّتِي لَا يَقُومُ الْبَدَنُ إِلاَّ بِهَا أَوْلَى.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (طَلَاق ف 82- 86).

ب- إِذَا كَانَ الزَّوْجُ غَائِيًّا:

47- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ طَلَبِ الْمَرْأَةِ التَّفْرِيقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا الْغَائِبِ، إِذَا لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا وَلَمْ يَتْرُكْ لَهَا مَالًا لِتُنْفِقَ مِنْهُ وَلَمْ يُوَكِّلْ أَحَدًا بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَطْلُبَ التَّفْرِيقَ لِذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ لَمْ تَسْتَطِعِ الِاسْتِدَانَةَ عَلَيْهِ.

وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِذَلِكَ: أَنْ تَثْبُتَ الزَّوْجِيَّةُ، وَأَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ قَدْ دَخَلَ بِهَا أَوْ دُعِيَ إِلَى الدُّخُولِ بِهَا، وَأَنْ تَكُونَ الْغَيْبَةُ بِحَيْثُ لَا يُعْلَمُ مَوْضِعُهُ، أَوْ عُلِمَ وَلَمْ يُمْكِنِ الْإِعْذَارُ إِلَيْهِ، وَأَنْ تَشْهَدَ لَهَا الْبَيِّنَةُ بِأَنَّهَا لَا تَعْلَمُ أَنَّ الزَّوْجَ تَرَكَ لَهَا نَفَقَةً وَلَا كُسْوَةً وَلَا شَيْئًا مِنْ مُؤْنَتِهَا، وَلَا أَنَّهُ بَعَثَ إِلَيْهَا بِشَيْءٍ وَصَلَ إِلَيْهَا فِي عِلْمِهِمْ إِلَى هَذَا الْحِينِ.

ثُمَّ يَضْرِبُ الْقَاضِي لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَجَلًا حَسَبَ مَا يَرَاهُ: شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ أَوْ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَلَمْ يَقْدَمْ وَلَمْ يَبْعَثْ بِشَيْءٍ وَلَا ظَهْرَ لَهُ مَالٌ وَدَعَتْ إِلَى النَّظَرِ لَهَا، فَإِنَّهَا تَحْلِفُ بِمَحْضَرِ عَدْلَيْنِ أَنَّهُ مَا رَجَعَ إِلَيْهَا زَوْجُهَا الْمَذْكُورُ مِنْ مَغِيبِهِ الثَّابِتِ عِنْدَ الْحَاكِمِ إِلَى حِينِ حَلِفِهَا وَلَا تَرَكَ لَهَا نَفَقَةً وَلَا كُسْوَةً وَلَا وَضَعَتْ ذَلِكَ عَنْهُ وَلَا وَصَلَ إِلَيْهَا شَيْءٌ مِنْهُ إِلَى الْآنَ، فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي حَلِفُهَا طَلَّقَهَا عَلَيْهِ، أَوْ أَبَاحَ لَهَا التَّطْلِيقَ.

مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إِلَى: مَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه- أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ فِيمَنْ غَابَ عَنْ نِسَائِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى نِسَائِهِمْ، إِمَّا أَنْ يُفَارِقُوا وَإِمَّا أَنْ يَبْعَثُوا بِالنَّفَقَةِ، فَمَنْ فَارَقَ مِنْهُمْ فَلْيَبْعَثْ بِنَفَقَةِ مَا تَرَكَ.

وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ أَوْ بِالِاسْتِدَانَةِ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ بِالْفَسْخِ كَحَالِ الْإِعْسَارِ.

وَلِأَنَّ فِي عَدَمِ الْإِنْفَاقِ ضَرَرًا يُمْكِنُ إِزَالَتُهُ بِالْفَسْخِ فَكَانَ لَهَا حَقُّ طَلَبِهِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ الْحَقُّ فِي طَلَبِ التَّفْرِيقِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ.لِأَنَّ الْفَسْخَ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ إِعْسَارُ الزَّوْجِ لِغَيْبَتِهِ لِعَدَمِ تَبَيُّنِ حَالِهِ.

أَمَّا إِذَا ثَبَتَ الْإِعْسَارُ تَوَلَّى الْحَاكِمُ أَوْ مَنْ يَأْذَنُ لَهُ أَمْرَ التَّفْرِيقِ بِطَلَبِهَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ مُجْتَهَدٌ فِيهَا فَافْتَقَرَتْ إِلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ كَالْفَسْخِ بِالْعُنَّةِ.

فَإِذَا حَضَرَ الزَّوْجُ مِنْ سَفَرِهِ وَغَابَ مَالُهُ فَقَدْ فَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ الْقَوْلَ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ غَائِبًا مَسَافَةَ الْقَصْرِ فَأَكْثَرَ كَانَ لِلزَّوْجَةِ الْفَسْخُ وَلَا يَلْزَمُهَا الصَّبْرُ لِلضَّرَرِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا بِنَحْوِ اسْتِدَانَةٍ، وَإِلاَّ فَلَا فَسْخَ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَلَيْسَ لَهَا الْفَسْخُ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْحَضَرِ وَيُؤْمَرُ بِالْإِحْضَارِ عَاجِلًا.

وَإِنْ كَانَ لِلزَّوْجِ مَدِينٌ غَائِبٌ مُوسِرٌ وَكَانَ لَهُ مَالٌ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَفِي حَقِّ طَلَبِ الْفَسْخِ لَهَا وَجْهَانِ، أَوْجَهُهُمَا عَدَمُ الْفَسْخِ.

وَإِنْ كَانَ لَهُ مَدِينٌ حَاضِرٌ وَلَهُ مَالٌ بِمَسَافَةِ الْقَصْرِ كَانَ لَهَا الْفَسْخُ كَمَا لَوْ كَانَ مَالُ الزَّوْجِ غَائِبًا.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِعَجْزِ الزَّوْجِ عَنِ النَّفَقَةِ غَائِبًا كَانَ أَوْ حَاضِرًا مُعْسِرًا كَانَ أَوْ مُوسِرًا.

التَّبَرُّعُ بِالنَّفَقَةِ:

48- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِّ طَلَبِ الزَّوْجَةِ الْفَسْخَ وَعَدَمِ قَبُولِهَا النَّفَقَةَ إِذَا تَبَرَّعَ بِهِ أَحَدٌ عَنِ الزَّوْجِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: تُجْبَرُ الزَّوْجَةُ عَلَى قَبُولِ النَّفَقَةِ مِنَ الْمُتَبَرِّعِ وَلَيْسَ لَهَا حَقُّ طَلَبِ الْفَسْخِ.

وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلاَّ ابْنَ الْكَاتِبِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ وَبِهِ أَفْتَى الْغَزَالِيُّ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تُجْبَرُ الزَّوْجَةُ عَلَى قَبُولِ النَّفَقَةِ مِنَ الْمُتَبَرِّعِ وَلَهَا حَقُّ طَلَبِ الْفَسْخِ.

وَبِهِ قَالَ الْحَنَابِلَةُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ الْكَاتِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمُتَبَرِّعُ أَبًا أَوْ جَدًّا لِلزَّوْجِ وَهُوَ فِي وِلَايَةِ أَيٍّ مِنْهُمَا فَيَلْزَمُهَا الْقَبُولُ لِدُخُولِهَا فِي مِلْكِ الزَّوْجِ تَقْدِيرًا وَأَلْحَقَ بِهِمَا الْأَذْرَعِيُّ وَلَدَ الزَّوْجِ.

لِأَنَّ فِي قَبُولِهَا مِنَ الْمُتَبَرِّعِ مِنَّةً عَلَيْهَا وَإِلْحَاقَ ضَرَرٍ بِهَا، فَلَا تُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهَا، كَمَا لَا يُجْبَرُ رَبُّ الدَّيْنِ عَلَى الْقَبُولِ مِنَ الْمُتَبَرِّعِ سَدَادَ الدَّيْنِ الَّذِي لِلدَّائِنِ عَلَى غَيْرِهِ.

هَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا دَفَعَ الْمُتَبَرِّعُ النَّفَقَةَ إِلَى الزَّوْجِ أَوَّلًا ثُمَّ قَامَ الزَّوْجُ بِدَفْعِهَا إِلَيْهَا.

فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمُتَبَرِّعَ لَوْ سَلَّمَ النَّفَقَةَ لِلزَّوْجِ ثُمَّ دَفَعَهَا الزَّوْجُ لَهَا أَوْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ وَكِيلُهُ فَإِنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ مِنْهُ، لِأَنَّ الْمِنَّةَ حِينَئِذٍ عَلَى الزَّوْجِ دُونَهَا.

اعْتِبَارُ النَّفَقَةِ دَيْنًا عَلَى الزَّوْجِ:

49- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ النَّفَقَةِ دَيْنًا عَلَى الزَّوْجِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لَا تُعْتَبَرُ النَّفَقَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ إِلاَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِتَرَاضِي الزَّوْجَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ قَضَاءٌ وَلَا تَرَاضٍ سَقَطَتْ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، وَبِهَذَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ لِأَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ تَجْرِي مَجْرَى الصِّلَةِ وَإِنْ كَانَتْ تُشْبِهُ الْأَعْوَاضَ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِعِوَضٍ حَقِيقَةً، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عِوَضًا حَقِيقَةً لَكَانَتْ عِوَضًا عَنْ نَفْسِ الْمُتْعَةِ وَهِيَ الِاسْتِمْتَاعُ، أَوْ كَانَتْ عِوَضًا عَنْ مِلْكِ الْمُتْعَةِ وَهِيَ الِاخْتِصَاصُ بِهَا وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الزَّوْجَ مَلَكَ مُتْعَتَهَا بِالْعَقْدِ فَكَانَ هُوَ بِالِاسْتِمْتَاعِ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ بِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ، وَمَنْ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يَلْزَمُهُ عِوَضٌ لِغَيْرِهِ.

وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي لِأَنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ قَدْ قُوبِلَ بِعِوَضٍ مَرَّةً فَلَا يُقَابَلُ بِعِوَضٍ آخَرَ، فَخَلَتِ النَّفَقَةُ عَنْ مُعَوَّضٍ، فَلَا يَكُونُ عِوَضًا حَقِيقَةً بَلْ كَانَتْ صِلَةً، وَلِذَلِكَ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى رِزْقًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}

الْقَوْلُ الثَّانِي: تَصِيرُ النَّفَقَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ إِذَا امْتَنَعَ عَنْ أَدَائِهَا بَعْدَ أَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا رِضَا الزَّوْجِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، مُوَجِّهِينَ اسْتِدْلَالَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ مُطْلَقًا دُونَ تَقَيُّدٍ بِزَمَانٍ دُونَ آخَرَ، وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ قَدْ وَجَبَتْ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا وَجَبَ عَلَى إِنْسَانٍ لَا يَسْقُطُ إِلاَّ بِالْوَفَاءِ أَوِ الْإِبْرَاءِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ.

ثَانِيًا: الْقَرَابَةُ:

تَجِبُ النَّفَقَةُ- فِي الْجُمْلَةِ- بِالْقَرَابَةِ وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:

الْقَرَابَةُ الْمُوجِبَةُ لِلنَّفَقَةِ وَبَيَانُ دَرَجَاتِهَا:

50- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ مُسْتَحِقِّيهَا هُمُ الْآبَاءُ وَإِنْ عَلَوْا، وَالْأَوْلَادُ وَإِنْ سَفَلُوا، وَالْحَوَاشِي ذَوُو الْأَرْحَامِ الْمُحَرَّمَةِ كَالْعَمِّ وَالْأَخِ وَابْنِ الْأَخِ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ، وَلَا تَجِبُ لِغَيْرِهِمْ كَابْنِ الْعَمِّ وَبِنْتِ الْعَمِّ وَبِنْتِ الْخَالِ وَبِنْتِ الْخَالَةِ، وَلَا لِلْمَحْرَمِ غَيْرِ ذِي الرَّحِمِ كَابْنِ الْعَمِّ إِذَا كَانَ أَخًا مَنَ الرَّضَاعِ، وَيُشْتَرَطُ اتِّحَادُهُمْ فِي الدِّينِ فِيمَا عَدَا الزَّوْجِيَّةِ وَالْوِلَادِ فَلَا تَجِبُ لِأَحَدٍ النَّفَقَةُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ إِلاَّ بِسَبَبِ الزَّوْجِيَّةِ وَقَرَابَةِ الْوِلَادِ.

أَمَّا الْأَوْلَادُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَالْمَوْلُودُ لَهُ هُوَ الْأَبُ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ رِزْقَ النِّسَاءِ لِأَجْلِ الْأَوْلَادِ، فَلأَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْأَوْلَادِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى.

وَأَمَّا الْأَبَوَانِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} فَقَدْ نَزَلَتْ فِي حَقِّ الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ بِدَلِيلِ مَا قَبْلَهَا وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ وَلَيْسَ مِنَ الْإِحْسَانِ وَلَا مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَعِيشَ فِي نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتْرُكَهُمَا يَمُوتَانِ جُوعًا.

وَأَمَّا الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ فَكَالْأَبَوَيْنِ وَلِهَذَا يَقُومَانِ مَقَامَ الْأَبِ وَالْأُمِّ فِي الْإِرْثِ وَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُمْ تَسَبَّبُوا لِإِحْيَائِهِ فَاسْتَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْإِحْيَاءَ كَالْأَبَوَيْنِ.

أَمَّا اسْتِثْنَاءُ الزَّوْجِيَّةِ مِنَ اتِّحَادِ الدِّينِ فَلِأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِاعْتِبَارِ الْحَبْسِ الْمُسْتَحَقِّ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْوِلَادِ مِنَ اتِّحَادِ الدِّينِ أَيْضًا فَلِأَنَّ الْمَنْفَيَّ عَلَيْهِ جُزْؤُهُ، وَنَفَقَةُ الْجُزْءِ لَا تَمْتَنِعُ بِالْكُفْرِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ نَفَقَةُ أَبَوَيْهِ الْحَرْبِيَّيْنِ.

وَشَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ الْفَقْرَ لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ مُفَرِّقِينَ بَيْنَ نَفَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ وَغَيْرِهَا قَائِلِينَ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ حَيْثُ تَجِبُ مَعَ الْغِنَى، لِأَنَّهَا تَجِبُ لِأَجْلِ الْحَبْسِ الدَّائِمِ كَرِزْقِ الْقَاضِي.

وَفِي نَفَقَةِ الْقَرِيبِ فَإِنَّمَا تَجِبُ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ صَغِيرًا أَوْ أُنْثَى وَلَوْ بَالِغَةً صَحِيحَةً، أَمَّا الذَّكَرُ الْبَالِغُ فَلَا بُدَّ مِنْ عَجْزِهِ عَنِ الْكَسْبِ بِخِلَافِ الْأَبَوَيْنِ فَإِنَّهَا تَجِبُ لَهُمَا مَعَ الْقُدْرَةِ، لِأَنَّهُمَا يَلْحَقُهُمَا تَعَبُ الْكَسْبِ، وَالْوَلَدُ مَأْمُورٌ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا.

وَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ، لِأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْوَارِثِ تَنْبِيهٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْمِقْدَارِ، وَلِأَنَّ الْغُرْمَ بِالْغُنْمِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ الْمُبَاشِرِينَ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَلَا يَشْتَرِطُونَ اتِّحَادَ الدِّينِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، أَيْ بَيْنَ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَبَيْنَ مَنْ تَجِبُ لَهُ، بَلْ يُوجِبُونَهَا لِكُلٍّ مِنْهُمْ وَإِنِ اخْتَلَفَ دَيْنُهُ مَعَ الْآخَرِ، مَا دَامَ مُسْتَحِقًّا لَهَا، شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ غَيْرَ حَرْبِيٍّ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مُسْتَحِقِّيهَا هُمُ الْآبَاءُ وَإِنْ عَلَوْا وَالْأَوْلَادُ وَإِنْ نَزَلُوا.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِهَا لِلْآبَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وَمِنَ الْمَعْرُوفِ الْقِيَامُ بِكِفَايَتِهِمَا عِنْدَ حَاجَتِهِمَا، وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ».

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِهَا لِلْأَوْلَادِ وَإِنْ نَزَلُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فَإِيجَابُ الْأُجْرَةِ لِإِرْضَاعِ الْأَوْلَادِ يَقْتَضِي إِيجَابَ مُؤْنَتِهِمْ.

«وَبِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم- لِهِنْدَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ».

وَالْأَحْفَادُ مُلْحَقُونَ بِالْأَوْلَادِ وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ إِطْلَاقُ مَا تَقَدَّمَ.

وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ اتِّحَادَ الدِّينِ بَلْ يُوجِبُونَهَا مَعَ اخْتِلَافِهِ.وَلَمْ يُوجِبْهَا الشَّافِعِيَّةُ لِغَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ الْحَوَاشِي.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى اسْتِحْقَاقِهَا لِلْآبَاءِ وَإِنْ عَلَوْا وَلِلْأَوْلَادِ وَإِنْ نَزَلُوا، وَلِمَنْ يَرِثُهُمُ الْمُنْفِقُ دُونَ مِنْ سِوَاهُمْ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِيرَاثُهُ مِنْهُمْ بِفَرْضٍ أَمْ بِتَعْصِيبٍ، وَإِنْ لَمْ يَرِثُوا مِنْهُ.

وَلَا نَفَقَةَ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ مِنْ غَيْرِ عَمُودَيِ النَّسَبِ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمُ اشْتِرَاطُ اتِّحَادِ الدِّينِ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ، لِأَنَّهَا مُوَاسَاةٌ عَلَى سَبِيلِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ لَمْ تَجِبْ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ كَنَفَقَةِ غَيْرِ عَمُودَيِ النَّسَبِ، وَلِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُتَوَارِثَيْنِ، فَلَمْ تَجِبْ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ نَفَقَتُهُ بِالْقَرَابَةِ.

إِنْفَاقُ الْفُرُوعِ عَلَى الْأُصُولِ:

51- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْأَبَوَيْنِ الْمُبَاشِرَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ لقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}. وَمِنَ الْإِحْسَانِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ حَاجَتِهِمَا.

وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وَمِنَ الْمَعْرُوفِ الْقِيَامُ بِكِفَايَتِهِمَا عِنْدَ الْحَاجَةِ.

وَلِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَالًا وَوَالِدًا، وَإِنَّ وَالِدِي يَجْتَاحُ مَالِيَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم-: أَنْتَ وَمَالُكَ لِوَالِدِكِ، إِنَّ أَوْلَادَكُمْ مَنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ، فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ».فَإِذَا كَانَ كَسْبُ الْوَلَدِ يُعَدُّ مِنْ كَسْبِ الْأَبِ، فَإِنَّ نَفَقَةَ الْأَبِ تَكُونُ وَاجِبَةً فِيهِ، لِأَنَّ نَفَقَةَ الْإِنْسَانِ تَكُونُ مِنْ كَسْبِهِ.

وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ فِي هَذَا فَقَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْوَالِدَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا كَسْبَ لَهُمَا وَلَا مَالَ وَاجِبَةٌ فِي مَالِ الْوَلَدِ.

أَمَّا الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، وَقَدْ خَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ فِي ذَلِكَ حَيْثُ قَالُوا بِوُجُوبِ النَّفَقَةِ لِسَائِرِ الْأُصُولِ وَإِنْ عَلَوْا.

وَقَدِ احْتَجَّ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْأَدِلَّةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْأَبَوَيْنِ الْمُبَاشِرَيْنِ دُونَ سَائِرِ الْأُصُولِ، فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِمَا، وَمِنْ ثَمَّ لَا نَفَقَةَ عَلَى الْوَلَدِ لِجَدٍّ أَوْ جَدَّةٍ.

أَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَالُوا: إِنَّ الْأَجْدَادَ وَالْجَدَّاتِ مُلْحَقُونَ بِالْأَبَوَيْنِ الْمُبَاشِرَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ إِطْلَاقُ مَا تَقَدَّمَ، كَمَا أُلْحِقُوا بِهِمَا فِي عَدَمِ الْقَوْدِ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَلِأَنَّ الْأَجْدَادَ وَالْجَدَّاتِ يَقُومَانِ مَقَامَ الْأَبَوَيْنِ الْمُبَاشِرَيْنِ فِي الْإِرْثِ وَغَيْرِهِ.

وَلِأَنَّهُمْ تَسَبَّبُوا فِي إِحْيَاءِ وَلَدِ الْوَلَدِ، فَاسْتَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْإِحْيَاءَ كَالْأَبَوَيْنِ.

شُرُوطُ وُجُوبِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْأُصُولِ:

52- يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْأُصُولِ مَا يَأْتِي:

أ- أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ فَقِيرًا أَوْ عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْفَرْعِ نَفَقَةُ أَصْلِهِ إِنْ كَانَ أَصْلُهُ غَنِيًّا أَوْ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ، لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ وَالْبِرِّ، وَالْقَادِرُ عَلَى الْكَسْبِ كَالْمُوسِرِ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْمُوَاسَاةِ.

وَبِهَذَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ كَانَ الْأَصْلُ فَقِيرًا قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى فَرْعِهِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، وَفِي إِلْزَامِ الْآبَاءِ التَّكَسُّبَ مَعَ غِنَى الْأَبْنَاءِ تَرْكٌ لِلْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَإِيذَاءٌ لَهُمْ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ.

ب- أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ مُوسِرًا وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، أَوْ قَادِرًا عَلَى التَّكَسُّبِ وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي جَزَمَ بِهَا صَاحِبُ الْهِدَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَنْ يَكُونَ فِي مَالِهِ أَوْ كَسْبِهِ فَضْلٌ عَنْ نَفَقَةِ نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَامْرَأَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ مِنْهُ شَيْءٌ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَجِبُ عَلَى الْفَرْعِ الْمُعْسِرِ التَّكَسُّبُ لِيُنْفِقَ عَلَى وَالِدَيْهِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ الْحَلْوَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا كَانَ الِابْنُ فَقِيرًا كَسُوبًا وَكَانَ الْأَبُ كَسُوبًا لَا يُجْبَرُ الِابْنُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ غَنِيًّا بِاعْتِبَارِ الْكَسْبِ فَلَا ضَرُورَةَ فِي إِيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَى الْغَيْرِ.

ج- اتِّحَادُ الدِّينِ بَيْنَ الْمُنْفِقِ وَالْمُنْفَقِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّ النَّفَقَةَ مُوَاسَاةٌ عَلَى سَبِيلِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ، فَلَمْ تَجِبْ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ، كَنَفَقَةِ غَيْرِ عَمُودَيِ النَّسَبِ، وَلِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُتَوَارِثَيْنِ فَلَمْ يَجِبْ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ نَفَقَةٌ بِالْقَرَابَةِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ: اتِّحَادُ الدِّينِ لَيْسَ شَرْطًا لِوُجُوبِ نَفَقَةِ الْأَصْلِ عَلَى الْفَرْعِ، فَتَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ وَإِنِ اخْتَلَفَ دِينُهُمَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّ الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}. وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْإِحْسَانِ وَلَا مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَعِيشَ الْإِنْسَانُ فِي نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتْرُكَ أَبَوَيْهِ يَمُوتَانِ جُوعًا لِوُجُودِ الْمُوجِبِ وَهُوَ الْبَعْضِيَّةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


24-موسوعة الفقه الكويتية (نفقة 5)

نَفَقَةٌ -5

النَّفَقَةُ عِنْدَ إِعْسَارِ بَعْضِ الْأَقَارِبِ:

66- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الْأَقَارِبِ إِلَى رَأْيَيْنِ:

أ- يَرَى الْجُمْهُورُ: (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ

وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّ حَدَّ الْيَسَارِ الْمُوجِبِ لِنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ مُقَدَّرٌ بِمَا يَفْضُلُ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ زَوْجَتِهِ فِي يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ.

فَمَنِ اكْتَسَبَ شَيْئًا فِي يَوْمِهِ وَأَنْفَقَ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَزَوْجَتِهِ وَفَضَلَ عِنْدَهُ شَيْءٌ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهُ لِلْقَرِيبِ الْمُحْتَاجِ.

ب- وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا مُحَمَّدًا أَنَّ حَدَّ الْيَسَارِ الْمُوجِبِ لِنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ هُوَ يَسَارُ الْفُطْرَةِ: وَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ الشَّخْصُ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ بِهِ أَخْذُ الزَّكَاةِ، وَهُوَ نِصَابٌ- وَلَوْ غَيْرُ نَامٍ- فَاضِلٌ عَنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ.

فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِمِلْكِهِ النِّصَابَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ عَلَى قَرِيبِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ فَاضِلًا عَنْ نَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَرْجَحُ وَالْمُفْتَى بِهِ عِنْدَهُمْ.

وَيَرَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي قَوْلٍ لَهُ: أَنَّ حَدَّ الْيَسَارِ الْمُوجِبِ لِنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ مُقَدَّرٌ بِمَا يَفْضُلُ عَنْ نَفَقَةِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ شَهْرًا إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْغَلَّةِ، عَلَى تَخْرِيجِ الزَّيْلَعِيِّ.

وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحِرَفِ فَهُوَ مُقَدَّرٌ بِمَا يَفْضُلُ عَنْ نَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ كُلَّ يَوْمٍ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ الْقُدْرَةُ دُونَ النِّصَابِ، وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَمَّا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، فَيَصْرِفُهَا إِلَى أَقَارِبِهِ، وَهَذَا أَوْجَهُ.

67- وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِنَفَقَةِ الْوَلَدِ أَبُوهُ بِالشُّرُوطِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا.

وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ بَعْدَ الْأَبِ إِذَا أَعْسَرَ بِالنَّفَقَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْوَرَثَةِ وَتُوَزَّعُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ الْمِيرَاثِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْقُرْبِ وَالْجُزْئِيَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمُرَاعَاةِ الْإِرْثِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَمَثَّلُوا لَهُ بِأَنْ لَوْ كَانَ لَهُ أَبٌ مُعْسِرٌ وَجَدٌّ وَأُمٌّ: كَانَتِ النَّفَقَةُ: عَلَى الْجَدِّ الثُّلُثَانِ، وَعَلَى الْأُمِّ الثُّلُثُ، لِأَنَّ نَصِيبَهُمَا كَذَلِكَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

يَقُولُ ابْنُ الْهُمَامِ: إِذَا لَمْ يَفِ كَسْبُ الْأَبِ بِحَاجَةِ أَوْلَادِهِ، أَوْ لَمْ يَكْتَسِبْ لِعَدَمِ تَيَسُّرِ الْكَسْبِ أَنْفَقَ عَلَيْهِمُ الْقَرِيبُ وَرَجَعَ عَلَى الْأَبِ إِذَا أَيْسَرَ، وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ مَالٌ وَالْجَدُّ أَوِ الْأُمُّ أَوِ الْخَالُ أَوِ الْعَمُّ مُوسِرٌ يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَةِ الصَّغِيرِ، وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْأَبِ إِذَا أَيْسَرَ، وَكَذَا يُجْبَرُ الْأَبْعَدُ إِذَا غَابَ الْأَقْرَبُ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ جَدٌّ وَأُمٌّ مُوسِرَانِ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا عَلَى الْجَدِّ وَحْدَهُ لِجَعْلِهِ كَالْأَبِ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ أَعْسَرَ الْأَبُ تَحَمَّلَتْهَا الْأُمُّ وَتَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْأَبِ إِذَا أَيْسَرَ.

وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}.

مُوَجِّهِينَ اسْتِدْلَالَهُمْ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَلَى الْأَبِ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ كَانَ ذَلِكَ عَلَى الْأُمِّ وَالْجَدِّ لِأَنَّهُمَا وَارِثَانِ، فَيَجِبُ اشْتِرَاكُهُمَا فِي تَحَمُّلِ نَفَقَاتِ مَنْ أُعْسِرَ أَبُوهُ بِنَفَقَتِهِ عَلَى قَدْرِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي مِيرَاثِهِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تَجِبُ نَفَقَةُ الْوَلَدِ عَلَى الْأُمِّ وَلَا عَلَى الْجَدِّ إِنْ أُعْسِرَ الْأَبُ بِالنَّفَقَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْجَدِّ أَبِي الْأَبِ ثُمَّ عَلَى آبَائِهِ وَإِنْ عَلَوْا، ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَهُمْ إِلَى الْأُمِّ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ.

مُسْتَدِلِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْجَدَّ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْأَبِ، فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ، قَالَ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ} فَسَمَّانَا أَبْنَاءَ، وَسَمَّى آدَمَ أَبًا وَهُوَ لَيْسَ مُبَاشِرًا.

وَلِأَنَّ الْجَدَّ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ فِي الْوِلَايَةِ، وَيَخْتَصُّ دُونَ الْأُمِّ بِالتَّعْصِيبِ فَوَجَبَ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ فِي الْتِزَامِ النَّفَقَةِ.

وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَمَّى إِبْرَاهِيمَ- عليه السلام- أَبًا وَإِنْ كَانَ جَدًّا بَعِيدًا، قَالَ تَعَالَى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}.

وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}.

فَلَمَّا أَوْجَبَ عَلَى الْأُمِّ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْأَبُ مِنَ الرِّضَاعِ، وَجَبَ عَلَيْهَا مَا عَجَزَ عَنْهُ مِنَ النَّفَقَةِ.

وَلِأَنَّ الْبَعْضِيَّةَ فِيهَا مُتَحَقِّقَةٌ، وَفِي الْأَبِ مَظْنُونَةٌ، فَلَمَّا تَحَمَّلَتْ بِالْمَظْنُونَةِ كَانَ تَحَمُّلُهَا بِالْمُسْتَيْقَنَةِ أَوْلَى.

وَلِأَنَّ الْوَلَدَ لَمَّا تَحَمَّلَ نَفَقَةَ أَبَوَيْهِ، وَجَبَ أَنْ يَتَحَمَّلَ أَبَوَاهُ نَفَقَتَهُ.

دَيْنُ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ:

68- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَنِ، إِلاَّ إِذَا اعْتُبِرَ دَيْنًا فِي الْأَحْوَالِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا وَجَبَتْ سَدًّا لِلْخَلَّةِ وَكِفَايَةً لِلْحَاجَةِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ فِي الْمَاضِي بِدُونِهَا، بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ فَسَبَبُ وُجُوبِهَا الِاحْتِبَاسُ وَتَجِبُ مَعَ الْيَسَارِ، فَلَا تَسْقُطُ بِسَدِّ الْخَلَّةِ فِيمَا مَضَى.

وَاخْتَلَفُوا فِي صَيْرُورَتِهَا دَيْنًا عَلَى الْمُنْفِقِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لِلْحَنَفِيَّةِ.وَهُوَ أَنَّ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ لَا تَصِيرُ دَيْنًا إِلاَّ إِذَا أَذِنَ الْقَاضِي لِمَنْ وَجَبَتْ لَهُ النَّفَقَةُ أَنْ يَسْتَدِينَ، وَاسْتَدَانَ بِالْفِعْلِ، أَوْ أَمَرَ الْمُنْفِقُ الْغَائِبُ مَنْ وَجَبَتْ لَهُ النَّفَقَةُ بِالِاسْتِدَانَةِ.

لِأَنَّ إِذْنَ الْقَاضِي كَأَمْرِ الْغَائِبِ، فَإِنَّهَا تُصْبِحُ دَيْنًا عَلَى الْمُنْفِقِ، فَلَا تَسْقُطُ إِلاَّ بِالْأَدَاءِ أَوِ الْإِبْرَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَدِنْ بِالْفِعْلِ لَا تَصِيرُ دَيْنًا، وَلَا يَحِقُّ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُنْفِقِ فِيمَا مَضَى.

وَكَذَا إِذَا فَرَضَهَا الْقَاضِي وَمَضَتْ مُدَّةٌ تُقَدَّرُ بِشَهْرٍ فَأَكْثَرَ سَقَطَتْ وَلَا تَصِيرُ دَيْنًا، لِأَنَّ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ تَجِبُ لِلْحَاجَةِ، فَلَا تَجِبُ مَعَ الْيَسَارِ، وَقَدْ حَصَلَتِ الْكِفَايَةُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ.

هَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا فَرَضَهَا الْقَاضِي وَلَمْ يَمْضِ عَلَيْهَا سِوَى مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ، وَهِيَ مَا دُونَ الشَّهْرِ، فَلَا تَسْقُطُ وَتَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ.

وَكَذَا إِذَا قَضَى الْقَاضِي بِالنَّفَقَةِ لِلصَّغِيرِ وَمَضَتْ مُدَّةٌ، أَوْ إِذَا أَمَرَ الْأُمَّ بِالِاقْتِرَاضِ عَلَى الْوَلَدِ، وَالْحَالُ أَنَّ الْأَبَ غَائِبٌ وَتَرَكَهُمْ بِلَا نَفَقَةٍ، فَلَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَتَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تَصِيرُ دَيْنًا إِلاَّ فِي حَالَتَيْنِ:

الْأُولَى: إِذَا فَرَضَهَا الْحَاكِمُ عَلَى الْوَلَدِ أَوِ الْوَالِدَيْنِ فِي الْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ.

وَالثَّانِيَةُ: إِذَا قَامَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْوَلَدِ أَوِ الْوَالِدَيْنِ شَخْصٌ لَمْ يَقْصِدْ مِنَ الْإِنْفَاقِ التَّبَرُّعَ، فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ، وَلَا تَسْقُطُ وَتَصِيرُ دَيْنًا عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ، وَبِهَذَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: يَقْضِي لِلْمُنْفِقِ غَيْرِ الْمُتَبَرِّعِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِهَا.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: لَا تَصِيرُ النَّفَقَةُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ إِلاَّ إِذَا فَرَضَهَا الْقَاضِي عَلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ غَائِبًا أَوْ مُمْتَنِعًا عَنْهَا بَعْدَ تَوَفُّرِ شُرُوطِهَا.أَوْ إِذَا أَذِنَ الْقَاضِي لِمَنْ وَجَبَتْ لَهُ النَّفَقَةُ بِالِاقْتِرَاضِ لِغَيْبَةٍ أَوِ امْتِنَاعٍ وَاقْتَرَضَ بِالْفِعْلِ.

أَوْ إِذَا اقْتَرَضَهَا الْمُحْتَاجُ عَلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ، لِعَدَمِ وُجُودِ قَاضٍ أَوْ لِعَدَمِ إِذْنِهِ، وَحَصَلَ الِاقْتِرَاضُ بِالْفِعْلِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ.

الْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْإِنْفَاقَ الْوَاجِبَ مُدَّةً لَمْ يَلْزَمْهُ عِوَضُهُ، أَطْلَقَهُ الْأَكْثَرُ- مِنَ الْحَنَابِلَةِ- وَجَزَمَ بِهِ فِي الْفُصُولِ، وَقَالَ الْمَرْدَاوِيُّ: هَذَا الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ.

وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ: إِلاَّ إِنْ فَرَضَهَا حَاكِمٌ لِأَنَّهَا تَأَكَّدَتْ بِفَرْضِهِ كَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، أَوِ اسْتَدَانَ بِإِذْنِهِ، قَالَ فِي الْمُحَرَّرِ: وَأَمَّا نَفَقَةُ أَقَارِبِهِ فَلَا تَلْزَمُهُ لِمَا مَضَى وَإِنْ فُرِضَتْ إِلاَّ أَنْ يَسْتَدِينَ عَلَيْهِ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ.

وَصَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- بِأَنَّ مَنْ نَفَى حَمْلَ زَوْجَتِهِ ثُمَّ اسْتَلْحَقَهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فِيمَا مَضَى قَبْلَ الِاسْتِلْحَاقِ مُنْذُ الْحَمْلِ بِهِ، وَتَرْجِعُ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَتْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا أَنْفَقَتْهُ صَارَ دَيْنًا بِإِذْنِ الْقَاضِي، نَظَرًا لِتَعَدِّي الْأَبِ بِنَفْيِهِ، وَلِأَنَّهَا إِنَّمَا أَنْفَقَتْ عَلَيْهِ لِظَنِّهَا أَنَّهُ لَا أَبَ لَهُ.

فَرْضُ النَّفَقَةِ لِلْقَرِيبِ عَلَى الْغَائِبِ:

69- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ إِيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَى الْغَائِبِ لِمَنْ وَجَبَتْ لَهُ مِنَ الْأَقَارِبِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: عَدَمُ وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الْغَائِبِ إِلاَّ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- فَلَوْ كَانَ الْأَبُ غَائِبًا، وَالنَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ لِابْنِهِ، وَالْجَدُّ حَاضِرٌ، فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْجَدِّ بِأَمْرِ الْقَاضِي، لِيَرْجِعَ عَلَى الْأَبِ بِمَا أَنْفَقَ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا.

غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ لَا يُوجِبُونَ النَّفَقَةَ عَلَى الْجَدِّ لِحَصْرِهِمْ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدَيْنِ الْمُبَاشِرِينَ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ مُسْتَحِقِّيهَا، فَقَالُوا بِوُجُوبِهَا عَلَى الْغَائِبِ بِدُونِ حُكْمِ الْحَاكِمِ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ وَالْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ الصَّغِيرِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ، لِأَنَّ نَفَقَةَ هَؤُلَاءِ وَاجِبَةٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ، فَكَانَ قَضَاءُ الْقَاضِي إِعَانَةً عَلَى حُصُولِ النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ لَهُمْ.

وَعَدَمُ وُجُوبِهَا لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، إِلاَّ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ.

ثَالِثًا: الْمِلْكُ:

فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ كَوْنِ الْمَمْلُوكِ إِنْسَانًا أَوْ حَيَوَانًا أَوْ غَيْرَهُمَا.

نَفَقَةُ الرَّقِيقِ:

70- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْأَرِقَّاءِ وَكِسْوَتِهِمْ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِمْ مَنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ، وَكِسْوَتُهُمْ مِمَّا جَرَى الْعُرْفُ بِهِ لِأَمْثَالِهِمْ مَعَ مُرَاعَاةِ حَالَةِ السَّيِّدِ فِي ذَلِكَ، وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (رق ف 24 وَمَا بَعْدَهَا).

نَفَقَةُ الْحَيَوَانِ:

71- لَا خِلَافَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ نَفَقَةَ الْحَيَوَانِ عَلَى مَالِكِهِ، وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِالْكِفَايَةِ، وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْحَيَوَانُ مُحْتَرَمًا.

وَاسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ بِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ».

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِفَايَةِ فِي نَفَقَةِ الْحَيَوَانِ وُصُولُهُ إِلَى أَوَّلِ الشِّبَعِ وَالرَّيِّ دُونَ غَايَتِهِمَا.

امْتِنَاعُ مَالِكِ الْحَيَوَانِ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ:

72- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِجْبَارِ مَالِكِ الْحَيَوَانِ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ عَنِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجْبُرُهُ الْقَاضِي عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى الْحَيَوَانَاتِ، لِأَنَّ فِي الْإِجْبَارِ نَوْعَ قَضَاءٍ، وَالْقَضَاءُ يَعْتَمِدُ الْمَقْضِيَّ لَهُ وَيَعْتَمِدُ أَهْلِيَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْمَقْضِيِّ لَهُ، لَكِنَّهُ يُؤْمَرُ بِهِ دِيَانَةً فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ آثِمًا وَمُعَاقَبًا بِحَبْسِهَا عَنِ الْبَيْعِ مَعَ عَدَمِ الْإِنْفَاقِ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُجْبَرُ فِي الْحَيَوَانِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ نَفَقَةُ رَقِيقِهِ وَدَوَابِّهِ مِنْ بَقَرٍ وَإِبِلٍ وَغَنَمٍ وَحَمِيرٍ وَغَيْرِهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَرْعًى، فَإِنْ أَبَى أَوْ عَجَزَ عَنِ الْإِنْفَاقِ أُخْرِجَ عَنْ مِلْكِهِ بِبَيْعٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ هِبَةٍ.

وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ كَوْنِ الْحَيَوَانِ مَأْكُولَ اللَّحْمِ أَوْ غَيْرَ مَأْكُوْلِهِ.

فَقَرَّرُوا أَنَّ مَالِكَ الْحَيَوَانِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ لَزِمَهُ أَحَدُ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: بَيْعُهُ، أَوْ عَلْفُهُ وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ، أَوْ ذَبْحُهُ؛ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ وَإِبْقَاءً لِمَلِكِهِ وَعَدَمِ إِضَاعَةِ مَالِهِ.

وَأَمَّا مَالِكُ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَيَلْزَمُهُ بَيْعُهُ أَوِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَبْحُهُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ يَحْرُمُ ذَبْحُهُ.

فَإِنْ أَبَى ذَلِكَ تَصَرَّفَ الْحَاكِمُ فِيمَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً حَسَبَ مَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ نِيَابَةً عَنْهُ مِنْ إِجَارَةِ الدَّابَّةِ أَوْ بَيْعِهَا، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا يُنْفِقُ الْحَاكِمُ مِنْهَا عَلَيْهَا، وَجَبَ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ كِفَايَتُهَا، وَقَالَ الْأَذْرُعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَيُشْبِهُ أَلاَّ يُبَاعَ مَا أَمْكَنَ إِجَارَتُهُ، وَحَكَى ذَلِكَ عَنْ مُقْتَضَى كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنِ امْتَنَعَ مَالِكُ الْبَهِيمَةِ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا أُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ كَمَا يُجْبَرُ عَلَى سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ، فَإِنْ أَبَى الْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا أَوْ عَجَزَ عَنْهُ أُجْبِرَ عَلَى بَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ ذَبْحِ مَأْكُولٍ، لِأَنَّ بَقَاءَهَا فِي يَدِهِ بِتَرْكِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا ظُلْمٌ، وَالظُّلْمُ تَجِبُ إِزَالَتُهُ، فَإِنْ أَبَى فَعَلَ الْحَاكِمُ الْأَصَحَّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ أَوِ اقْتَرَضَ عَلَيْهِ وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا، كَمَا لَوِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الدَّيْنِ، وَيَجِبُ عَلَى مُقْتَنِي الْكَلْبِ الْمُبَاحِ وَهُوَ كَلْبُ صَيْدٍ وَمَاشِيَةٍ وَزَرْعٍ أَنْ يُطْعِمَهُ وَيَسْقِيَهُ أَوْ يُرْسِلَهُ، لِأَنَّ عَدَمَ ذَلِكَ تَعْذِيبٌ لَهُ، وَلَا يَحِلُّ حَبْسُ شَيْءٍ مِنَ الْبَهَائِمِ لِتَهْلَكَ جُوعًا أَوْ عَطَشًا.

نَفَقَةُ الْعَارِيَةِ:

73- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ الْعَيْنِ الْمُعَارَةِ زَمَنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّ نَفَقَةَ الْعَيْنِ الْمُعَارَةِ عَلَى مَالِكِهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَاسْتَدَلُّوا فِي ذَلِكَ إِلَى: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لَكَانَ كِرَاءً، وَرُبَّمَا كَانَ عَلَفُهَا أَكْثَرَ مِنَ الْكِرَاءِ، فَتَخْرُجُ الْعَارِيَةُ إِلَى الْكِرَاءِ.

وَلِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْعَارِيَةِ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ فَكَانَتْ عَلَى مَالِكِهَا.

وَلِقِيَاسِهَا عَلَى الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، فَإِنَّ النَّفَقَةَ لِإِبْقَائِهَا وَصِيَانَتِهَا عَلَى مَالِكِهَا.

الْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ الْمُسْتَعِيرَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا وَبَيْنَ تَرْكِهَا، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِنْفَاقِ لِأَنَّهُ لَا لُزُومَ فِي الْعَارِيَةِ، وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِالْمَنَافِعِ فَإِنْ شِئْتَ فَأَنْفِقْ لِيَحْصُلَ لَكَ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنْ شِئْتَ فَخَلِّ يَدَكَ عَنْهَا، أَمَّا أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا فَلَا.

وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ.

الْقَوْلُ الرَّابِعُ: قَالَ بَعْضُ الْمُفْتِينَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ النَّفَقَةَ فِي اللَّيْلَةِ وَاللَّيْلَتَيْنِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَقِيلَ أَيْضًا فِي اللَّيْلَةِ وَاللَّيْلَتَيْنِ عَلَى رَبِّهَا، وَأَمَّا فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ وَالسَّفَرِ الْبَعِيدِ فَعَلَى الْمُسْتَعِيرِ كَنَفَقَةِ الْعَبْدِ الْمُحْتَرَمِ، وَكَأَنَّهُ أَقْيَسُ.

نَفَقَةُ اللُّقَطَةِ:

74- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْإِنْفَاقِ عَلَى اللُّقَطَةِ، وَفِيمَا يَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهَا، وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَمْرُ الْقَاضِي أَمْ لَا؟ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنْ أَنْفَقَ الْمُلْتَقِطُ بِأَمْرِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَكُونُ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهَا، وَبِهِ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ.

وَذَلِكَ لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةً فِي مَالِ الْغَائِبِ نَظَرًا لَهُ إِذْ هُوَ نُصِّبَ نَاظِرًا فَصَارَ أَمْرُهُ كَأَمْرِ الْمَالِكِ.

وَإِنْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَطَوِّعًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي فَيَنْظُرَ مَا يَأْمُرُ بِهِ.

فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُحْتَمَلُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِالْإِجَارَةِ أَمَرَهُ بِأَنْ يُؤَاجِرَهَا وَيُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ أُجْرَتِهَا نَظَرًا لِلْمَالِكِ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِفَاعَ بِهَا بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ، وَخَشِيَ أَنَّهُ لَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا أَنْ تَسْتَغْرِقَ النَّفَقَةُ قِيمَتَهَا أَمَرَهُ بِبَيْعِهَا وَحِفْظِ ثَمَنِهَا مَقَامَهَا.

وَإِنْ رَأَى أَنَّ الْأَصْلَحَ أَنْ لَا يَبِيعَهَا بَلْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا، أَمَرَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا شَرِيطَةَ أَنْ لَا تَزِيدَ نَفَقَتُهَا عَلَى قِيمَتِهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهَا حَتَّى إِذَا حَضَرَ أُخِذَ مِنْهُ النَّفَقَةُ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: إِنْ أَنْفَقَ مُلْتَقِطُ اللُّقَطَةِ عَلَيْهَا، خَيَّرَ رَبَّهَا إِذَا جَاءَ بَيْنَ أَنْ يَفُكَّهَا بِمَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا مُلْتَقِطُهَا، أَوْ أَنْ يُسَلِّمَهَا لِمُلْتَقِطِهَا فِي نَظِيرِ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْإِنْفَاقُ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ أَمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِذَا أَمْسَكَ الْمُلْتَقِطُ اللُّقَطَةَ وَتَبَرَّعَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، فَذَاكَ، وَإِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى صَاحِبِهَا أَنْفَقَ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا أَشْهَدَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ.

وَقَالُوا: إِذَا أَرَادَ الْبَيْعَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا، اسْتَقَلَّ بِهِ، وَإِنْ وَجَدَهُ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجِبُ اسْتِئْذَانُهُ، وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُ جُزْءٍ مِنْهَا لِنَفَقَةِ بَاقِيهَا؟ قَالَ الْإِمَامُ: نَعَمْ كَمَا تُبَاعُ جَمِيعُهَا، وَحَكَى احْتِمَالًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ تَأْكُلَ نَفْسَهَا وَبِهَذَا قَطَعَ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ، قَالَ: وَلَا يَسْتَقْرِضُ عَلَى الْمَالِ أَيْضًا، لِهَذَا الْمَعْنَى.

الْقَوْلُ الرَّابِعُ: لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا يَبْقَى عَامًا أَوْ أَكْثَرَ، وَمَا لَا يَبْقَى عَامًا.

فَإِنِ الْتَقَطَ مَا يَبْقَى عَامًا، فَالْمُلْتَقِطُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:

أ- أَنْ يَأْكُلَ اللُّقَطَةَ فِي الْحَالِ إِذَا خِيفَ عَلَيْهَا الْهَلَاكُ، وَيَغْرَمُ قِيمَتَهَا لِصَاحِبِهَا، «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي ضَالَّةِ الْغَنَمِ: هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ».

فَقَدْ جَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَهُ فِي الْحَالِ وَسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الذِّئْبِ، وَالذِّئْبُ لَا يَسْتَأْذِنُ فِي أَكْلِهَا.

وَلِأَنَّ فِي أَكْلِهَا فِي الْحَالِ إِغْنَاءً عَنِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا وَحِرَاسَةً لِمَالِيَّتِهَا وَدَفْعًا لِغَرَامَةِ عَلَفِهَا، فَكَانَ أَكْلُهَا أَوْلَى.

ب- أَنْ يُمْسِكَهَا عَلَى صَاحِبِهَا وَيُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ وَلَا يَمْتَلِكَهَا.

فَإِنْ أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا مُحْتَسِبًا النَّفَقَةَ عَلَى مَالِكِهَا وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ، فَفِي الرُّجُوعِ بِالنَّفَقَةِ رِوَايَتَانِ.

الْأُولَى: لَهُ أَنْ يَرْجِعَ، لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَضَى فِيمَنْ وَجَدَ ضَالَّةً فَأَنْفَقَ عَلَيْهَا وَجَاءَ رَبُّهَا بِأَنَّهُ يَغْرَمُ لَهُ مَا أَنْفَقَ، لِأَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَيْهَا لِحِفْظِهَا، فَكَانَ مِنْ مَالِ صَاحِبِهَا.

الثَّانِيَةُ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، قِيَاسًا عَلَى مَنْ بَنَى دَارَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْهُ.

ج- أَنْ يَبِيعَهَا وَيَحْفَظَ ثَمَنَهَا لِصَاحِبِهَا وَأَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ لَهُ أَكْلُهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ جَازَ لَهُ بَيْعُهَا مِنْ بَابِ أَوْلَى.

وَإِنِ الْتَقَطَ مَا لَا يَبْقَى عَامًا:

فَإِنْ كَانَ لَا يَبْقَى بِعِلَاجٍ وَلَا غَيْرِهِ، كَالْبِطِّيخِ وَالْفَاكِهَةِ الَّتِي لَا تُجَفَّفُ وَالْخَضْرَوَاتِ فَالْمُلْتَقِطُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَكْلِهِ وَغَرْمِ قِيمَتِهِ لِمَالِكِهِ وَبَيْنَ بَيْعِهِ وَحِفْظِ ثَمَنِهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ إِبْقَاؤُهُ خَشْيَةَ تَلَفِهِ.

فَإِنْ تَرَكَهُ حَتَّى تَلِفَ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ، لِأَنَّهُ فَرَّطَ فِي حِفْظِهِ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ كَالْوَدِيعَةِ.

وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ بَقَاؤُهُ بِالْعِلَاجِ، كَالْعِنَبِ وَالرُّطَبِ، فَيَنْظُرُ مَا فِيهِ الْحَظُّ لِصَاحِبِهِ، فَإِنْ كَانَ الْحَظُّ فِي عِلَاجِهِ بِالتَّجْفِيفِ أَوْ غَيْرِهِ عَالَجَهُ وَلَيْسَ لَهُ سِوَاهُ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ بَعْضَهُ إِنِ احْتَاجَ إِلَى غَرَامَةٍ لِتَجْفِيفِهِ وَإِبْقَائِهِ، لِأَنَّهُ مَالُ غَيْرِهِ، فَلَزِمَهُ مَا فِيهِ الْحَظُّ لِصَاحِبِهِ، كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ.

وَإِنْ كَانَ الْحَظُّ فِي بَيْعِهِ بَاعَهُ وَحَفِظَ ثَمَنَهُ، كَالطَّعَامِ وَالرُّطَبِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ بَيْعُهُ وَلَمْ يُمْكِنْ تَجْفِيفُهُ: تَعَيَّنَ أَكْلُهُ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ كَانَ أَكْلُهُ أَنْفَعَ لِصَاحِبِهِ، لأَنَّ الْحَظَّ فِيهِ.

نَفَقَةُ الْوَدِيعَةِ:

75- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْوَدِيعَةِ إِنَّمَا تَلْزَمُ الْمُودِعَ، وَهُوَ رَبُّهَا، وَلَا تَلْزَمُ الْمُودَعَ لَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِحِفْظِهَا وَلَا تَعُودُ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ مِنْهَا.

وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (وَدِيعَة).

نَفَقَةُ الْمَرْهُونِ:

76- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ نَفَقَةَ الرَّهْنِ عَلَى الرَّاهِنِ.

لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ فَهُوَ عَلَى الرَّاهِنِ لَا عَلَى الْمُرْتَهِنِ.

لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ، لِصَاحِبِهِ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ».

وَلأَنَّ الرَّقَبَةَ وَالْمَنْفَعَةَ عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ فَكَانَتِ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ.

وَوَافَقَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ الرَّهْنِ بِنَفْسِهِ وَتَبْقِيَتِهِ، أَمَّا مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِحِفْظِ الْمَرْهُونِ فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ حَبْسَ الْمَرْهُونِ لَهُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (رَهْن ف 19، 20).

نَفَقَاتٌ أُخْرَى:

أ- نَفَقَةُ اللَّقِيطِ:

77- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ اللَّقِيطِ تَكُونُ فِي مَالِهِ إِنْ وُجِدَ مَعَهُ مَالٌ أَوْ كَانَ مُسْتَحِقًّا فِي مَالٍ عَامٍ، كَالْأَمْوَالِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى اللُّقَطَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَإِنَّ نَفَقَتَهُ تَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلَا تَلْزَمُ الْمُلْتَقِطَ فِي الْجُمْلَةِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (لَقِيط ف 15، 16).

ب- نَفَقَةُ الْيَتِيمِ:

78- إِنْ كَانَ لِلْيَتِيمِ مَالٌ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَلَهُ قَرَابَةٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا النَّفَقَةَ، فَنَفَقَتُهُ عَلَى قَرَابَتِهِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَقَارِبُ وَلَا مَالٌ فَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ (بَيْت الْمَالِ ف 12، يَتِيم).

ج- نَفَقَةُ الْعَاجِزِ الَّذِي لَا عَائِلَ لَهُ:

79- لَا خِلَافَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ نَفَقَةَ الْعَاجِزِ الَّذِي لَا عَائِلَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْكَسْبِ وَلَا يَمْلِكُ مَالًا، تَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِلصَّرْفِ عَلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ وَالْمُعْدَمِينَ وَمَنْ هُمْ فِي مِثْلِ حَالِهِ مِمَّنْ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى كَسْبِ كِفَايَتِهِمْ وَلَا عَائِلَ لَهُمْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ.

وَلِأَنَّهُمْ أَجَازُوا دَفْعَ الزَّكَاةِ إِلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّكَسُّبِ أَوْ عِنْدَ عَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى تَحْقِيقِ كَسْبٍ يَكْفِيهِ، وَاعْتَبَرُوا الْقُدْرَةَ بِغَيْرِ كَسْبٍ تَكْفِي لِحَاجَتِهِ كَعَدَمِهَا، لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ لَا تَكْسُو مَنْ عُرْيٍ وَلَا تُشْبِعُ مَنْ جُوعٍ.

وَلِأَنَّهُ بِحَالِهِ هَذَا يُعَدُّ فَقِيرًا، وَالْفَقِيرُ تَجِبُ كِفَايَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَهَذِهِ الْكِفَايَةُ تَشْمَلُ سَائِرَ مَا يَحْتَاجُهُ مِنْ مَطْعَمٍ وَمَلْبَسٍ وَمَسْكَنٍ وَأُجْرَةِ خَادِمٍ وَنَفَقَتِهِ إِنْ كَانَ فِي حَاجَةٍ إِلَى خَادِمٍ بِأَنْ كَانَ مُسِنًّا أَوْ زَمِنًا لَا يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ بِخِدْمَةِ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْ يَقُومُ عَلَى رِعَايَتِهِ وَخِدْمَتِهِ.

وَلِأَنَّ مِيرَاثَهُ يَؤُولُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ وَارِثٍ لَهُ، فَتَجِبُ نَفَقَتُهُ فِيهِ عَمَلًا بِالْقَاعِدَةِ الَّتِي تَقُولُ: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ، وَلِأَنَّ نُصُوصَ الشَّرِيعَةِ تَقْضِي بِتَأْثِيمِ مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ وَهُوَ يَعْلَمُ، وَلِأَنَّ تَرْكَهُ بِغَيْرِ تَقْدِيرِ نَفَقَةٍ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ تُعَدُّ سَلْبًا لِحَقِّهِ الَّذِي هُوَ لَهُ فِيهِ، لِقَوْلِ عُمَرَ- رضي الله عنه-: مَا مِنْ مُسْلِمٍ إِلاَّ وَلَهُ فِيهِ حَقٌّ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


25-موسوعة الفقه الكويتية (وصية 2)

وَصِيَّةٌ-2

الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمُوصِي:

17- الْمُوصِي مَنْ صَدَرَتْ مِنْهُ الْوَصِيَّةُ.

وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُوصِي مَا يَأْتِي:

أَوَّلًا: أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ: وَيَكُونُ أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ عِنْدَ تَوَافُرِ مَا يَلِي:

أ- الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ:

18- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَقْلِ، فَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عِبَارَتَهُمْ مُلْغَاةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ.

وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ، فَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَغَيْرِ الْمُمَيِّزِ، وَلَوْ كَانَ مُمَيِّزًا مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ ضَرَرًا مَحْضًا، إِذْ هِيَ تَبَرُّعٌ، كَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَعْمَالِ التِّجَارَةِ.

وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَصِيَّةَ الْمُمَيِّزِ، لِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَجَازَ وَصِيَّةَ صَبِيٍّ مِنْ غَسَّانَ لَهُ عَشْرُ سِنِينَ أَوْصَى لِأَخْوَالِهِ وَلِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الصَّبِيِّ فِي جَوَازِ وَصِيَّتِهِ، لِأَنَّ الْمَالَ سَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ عَنْ وَصِيَّتِهِ، كَكُلِّ مُوصٍ.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُمَيِّزَ الَّذِي تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ هُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ فَأَقَلَّ مِمَّا يُقَارِبُهَا إِذَا أَصَابَ وَجْهَ الْوَصِيَّةِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ اخْتِلَاطٌ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ مِنْ مُمَيِّزٍ عَاقِلٍ لِلْوَصِيَّةِ.

وَقَالَ الْمَرْدَاوِيُّ: إِذَا جَاوَزَ الصَّبِيُّ الْعَشْرَ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَلَا تَصِحُّ مِمَّنْ لَهُ دُونَ السَّبْعِ، وَفِيمَا بَيْنَ السَّبْعِ وَالْعَشْرِ رِوَايَتَانِ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا تَصِحُّ.

وَأَمَّا وَصِيَّةُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّتِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ إِلَى أَنَّهُ تَجُوزُ وَصِيَّةُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ.

وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ نَفَاذَ الْوَصِيَّةِ إِذَا كَانَتْ بِالْقُرْبِ وَأَبْوَابِ الْخَيْرِ، مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ وَاعْتَبَرُوا جَوَازَ الْوَصِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ بَابِ الِاسْتِحْسَانِ قَالُوا: وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ كَيْلَا يُتْلِفَ مَالَهُ وَيَبْقَى كَلًّا عَلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ لَا فِيمَا يَنْفُذُ مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ وَفَاتِهِ حَالَ اسْتِغْنَائِهِ وَذَلِكَ إِذَا وَافَقَتْ وَصِيَّتُهُ وَصَايَا أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ كَالْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ أَوْ لِلْمَسَاكِينِ أَوْ لِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ كَتَبَرُّعَاتِهِ وَهُوَ الْقِيَاسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْقَوْلُ الْمُقَابِلُ الْمَذْهَبِ عِنْدِ الشَّافِعِيَّةِ.

أَمَّا السَّكْرَانُ: فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ السَّكْرَانَ مِنْ مُبَاحٍ لَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ وَصِيَّةِ السَّكْرَانِ إِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا بِسُكْرِهِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وُوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ صِحَّةَ وَصِيَّةِ السَّكْرَانِ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ لِأَنَّ سُكْرَهُ بِمُحَرَّمٍ لَا يُبْطِلُ تَكْلِيفَهُ فَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ.

الثَّانِي: يَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذَاهِبِ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ السَّكْرَانِ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ غَيْرُ عَاقِلٍ أَشْبَهَ الْمَجْنُونَ.

الثَّالِثُ: يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ وَصِيَّةَ السَّكْرَانِ الْمُمَيِّزِ صَحِيحَةٌ أَمَّا غَيْرُ الْمُمَيِّزِ حَالَ الْإِيصَاءِ فَلَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ.

ب- الْحُرِّيَّةُ:

19- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ، فَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْعَبْدِ، لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا حَتَّى يُمَلِّكَهُ لِغَيْرِهِ.

ج- الرِّضَا وَالِاخْتِيَارُ:

20- أَنْ يَكُونَ الْمُوصِي رَاضِيًا مُخْتَارًا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إِيجَابُ مِلْكٍ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الرِّضَا، كَإِيجَابِ الْمِلْكِ بِسَائِرِ الْأَشْيَاءِ وَالتَّصَرُّفَاتِ مِنْ بَيْعٍ وَهِبَةٍ وَنَحْوِهِمَا، فَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْمُكْرَهِ وَالْهَازِلِ وَالْمُخْطِئِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَوَارِضَ تُفَوِّتُ الرِّضَا.

وَصَايَا غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ:

21- لَا يُشْتَرَطُ إِسْلَامُ الْمُوصِي لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، فَتَصِحُّ وَصِيَّةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ بِمَا تَصِحُّ بِهِ وَصِيَّةُ الْمُسْلِمِ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى صِحَّةِ وَصِيَّةِ الْكَافِرِ وَلَوْ كَانَ مُرْتَدًّا أَوْ حَرْبِيًّا وَلَوْ كَانَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ صِحَّةَ وَصِيَّةِ الْمُرْتَدِّ بِأَنْ لَا يَمُوتَ أَوْ يُقْتَلَ كَافِرًا لِأَنَّ مِلْكَهُ مَوْقُوفٌ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ وَصِيَّةَ الْمُرْتَدِّ فِي حَالِ رِدَّتِهِ بَاطِلَةٌ.

وَيَتَوَقَّفُ مِنْ وَصَايَا الْمُرْتَدِّ مَا يَصِحُّ مِنَ الْمُسْلِمِ وَيَبْطُلُ مَا لَا يَصِحُّ مِنَ الْمُسْلِمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ تَصَرُّفَاتُ الْمُرْتَدِّ نَافِذَةٌ لِلْحَالِ فَيَصِحُّ مِنْهُ مَا يَصِحُّ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ انْتَقَلَ إِلَيْهِمْ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ حَتَّى لَوْ أَوْصَى بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ، مَعْصِيَةٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ ذَلِكَ لِقَوْمٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُمَا.

وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنْ وَصَايَاهَا مَا يَصِحُّ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِي انْتَقَلَتْ إِلَيْهِمْ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَأَمَّا إِسْلَامُ الْمُوصِي فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ وَصِيَّتِهِ فَتَصِحُّ وَصِيَّةُ الذِّمِّيِّ بِالْمَالِ لِلْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ التَّمْلِيكِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُ الْكَافِرِ وَهِبَتُهُ فَكَذَا وَصِيَّتُهُ وَكَذَا الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ إِذَا أَوْصَى لِلْمُسْلِمِ أَوِ الذِّمِّيِّ يَصِحُّ فِي الْجُمْلَةِ لِمَا ذَكَرْنَا غَيْرَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ دَخَلَ وَارِثُهُ مَعَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ وُقِفَ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ عَلَى إِجَازَةِ وَارِثِهِ لِأَنَّهُ بِالدُّخُولِ مُسْتَأْمَنًا الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ أَوْ أَلْزَمَهُ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِهِ لِإِمْكَانِ إِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَمِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مِمَّنْ لَهُ وَارِثٌ تَقِفُ عَلَى إِجَازَةِ وَارِثِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ أَصْلًا تَصِحُّ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ كَمَا فِي الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَهُ وَارِثٌ لَكِنَّهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَحَقُّهُمْ غَيْرُ مَعْصُومٍ لِأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ لِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَلِأَنْ لَا يَكُونَ لِحَقِّهِمُ الَّذِي فِي مَالِ مُورِّثِهِمْ عِصْمَةٌ أَوْلَى.

وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ: لَوْ أَوْصَى الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِوَصِيَّةٍ ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ أَوْ صَارُوا ذِمَّةً ثُمَّ اخْتَصَمَا إِلَيْنَا فِي تِلْكَ الْوَصِيَّةِ فَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا أَجَزْتُهَا، وَإِنْ كَانَتْ قَدِ اسْتُهْلِكَتْ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ أَبْطَلْتُهَا لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ مِنْ أَهْلِ التَّمْلِيكِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ فَكَانَتْ وَصِيَّتُهُ جَائِزَةً فِي نَفْسِهَا إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا وِلَايَةُ إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَتَنْفِيذِهَا فِي دَارِهِمْ فَإِذَا أَسْلَمُوا أَوْ صَارُوا ذِمَّةً قَدَرْنَا عَلَى التَّنْفِيذِ فَنُنَفِّذُهَا مَا دَامَ الْمُوصَى بِهِ قَائِمًا، فَأَمَّا إِذَا صَارَ مُسْتَهْلَكًا أَبْطَلْنَا الْوَصِيَّةَ وَأَلْحَقْنَاهَا بِالْعَدَمِ لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ إِذَا أَسْلَمُوا أَوْ صَارُوا ذِمَّةً لَا يُؤْخَذُونَ بِمَا اسْتَهْلَكَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا اغْتَصَبَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ بَلْ يَبْطُلُ ذَلِكَ، كَذَا هَذَا.

الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمُوصَى لَهُ

22- الْمُوصَى لَهُ مَنْ تَبَرَّعَ لَهُ الْمُوصِي بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُوصَى لَهُ مَا يَأْتِي:

أَوَّلًا: أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُ مَوْجُودًا:

23- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمُوصَى لَهُ مَوْجُودًا (حِينَ الْوَصِيَّةِ) عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُوصَى لَهُ مَوْجُودًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ وَعَلَى هَذَا إِذَا قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ فَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا حَالَ الْوَصِيَّةِ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ وَإِلاَّ فَلَا.

وَجَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: مَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِزَيْدٍ وَبَكْرٍ، وَبَكْرٌ مَيِّتٌ وَهُوَ يَعْلَمُ أَوْ لَا يَعْلَمُ، أَوْ لِزَيْدٍ وَبَكْرٍ إِنْ كَانَ حَيًّا وَهُوَ مَيِّتٌ، أَوْ لَهُ وَلِمَنْ كَانَ فِي هَذَا الْبَيْتِ وَلَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، أَوْ لَهُ وَلِعَقِبِهِ، أَوْ لَهُ وَلِوَلَدِ بَكْرٍ فَمَاتَ وَلَدُهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، أَوْ لَهُ وَلِفُقَرَاءِ وَلَدِهِ، أَوْ لِمَنِ افْتَقَرَ مِنْ وَلَدِهِ وَفَاتَ شَرْطُهُ عِنْدَ مَوْتِهِ فَلِزَيْدٍ كُلُّهُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، لِأَنَّ الْمَعْدُومَ أَوِ الْمَيِّتَ لَا يَصْلُحُ مُسْتَحِقًّا فَلَمْ تَثْبُتِ الْمُزَاحَمَةُ لِزَيْدٍ، وَصَارَ كَمَا لَوْ أَوْصَى لَزِيدٍ وَجِدَارٍ، وَكَذَا الْعَقِبُ لِأَنَّ الْعَقِبَ مَنْ يَعْقُبُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَكُونُ مَعْدُومًا فِي الْحَالِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ كَوْنُ الْمُوصَى لَهُ مَوْجُودًا حَالَ الْوَصِيَّةِ وَعَلَى ذَلِكَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِمَنْ سَيَكُونُ مِنْ حَمْلٍ مَوْجُودٍ أَوْ سَيُوجَدُ فَيَسْتَحِقُّهُ إِنِ اسْتَهَلَّ صَارِخًا. وَجَزَمَ ابْنُ رَزِينٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ لِلْمَعْدُومِ.

ثَانِيًا: أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُ أَهْلًا لِلتَّمَلُّكِ:

24- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُ الْمُعَيَّنُ حَالَ الْوَصِيَّةِ أَهْلًا لِلتَّمَلُّكِ.

وَقَدْ فَرَّعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ مَسَائِلَ مِنْهَا:

أ- الْوَصِيَّةُ لِلْمَيِّتِ

25- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى لِمَيِّتٍ وَلَا يَعْلَمُ الْمُوصِي حِينَ الْوَصِيَّةِ أَنَّهُ مَيِّتٌ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّمَلُّكِ.

أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْمُوصِي حَالَ الْوَصِيَّةِ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ مَيِّتٌ فَقَدْ أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْوَصِيَّةَ وَيُصْرَفُ الشَّيْءُ الْمُوصَى بِهِ عِنْدَهُمْ لِلْمَيِّتِ فِي وَفَاءِ دَيْنِهِ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَإِلاَّ فَلِوَارِثِهِ.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَا وَارِثَ لَهُ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ وَلَا يَأْخُذُهَا بَيْتُ الْمَالِ.

ب- الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ:

26- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ لِلْحَمْلِ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا حَالَ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّ الْحَمْلَ يَرِثُ وَالْوَصِيَّةُ كَالْمِيرَاثِ وَيُعْلَمُ كَوْنُ الْحَمْلِ مَوْجُودًا بِأَنْ يُولَدَ حَيًّا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ إِنْ كَانَتِ الْأُمُّ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ، لِأَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَإِذَا وَضَعَتْهُ حَيًّا لِأَقَلَّ مِنْهَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا حِينَهَا.أَوْ تَضَعُهُ لِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ لَمْ تَكُنِ الْأُمُّ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ وَلِسَنَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ الْمُوصِي بِأَنَّهَا حَامِلٌ فَتَثْبُتُ الْوَصِيَّةُ لَهُ إِنْ وَضَعَتْهُ مَا بَيْنَ سَنَتَيْنِ مِنْ يَوْمِ أَوْصَى، لِأَنَّ وُجُودَهُ فِي الْبَطْنِ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ ثَبَتَ بِإِقْرَارِ الْمُوصِي فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيهِ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لَهُ مَا هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْإِقْرَارِ وَهُوَ الثُّلُثُ فَيَلْحَقُ بِمَا لَوْ صَارَ مَعْلُومًا يَقِينًا بِأَنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَإِنِ انْفَصَلَ الْحَمْلُ مَيِّتًا بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ لِانْتِفَاءِ أَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَصِحُّ لِلْمُوصَى لَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَوْجُودًا حِينَ الْوَصِيَّةِ، أَمْ مُنْتَظَرَ الْوُجُودِ كَالْحَمْلِ، وَتَصِحُّ لِمَنْ سَيَكُونُ مِنْ حَمْلٍ مَوْجُودٍ أَوْ سَيُوجَدُ إِنِ اسْتَهَلَّ صَارِخًا وَنَحْوَهُ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ حَيَاتِهِ، لَكِنْ فِي قَوْلٍ: لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ غَلَّةِ الْمُوصَى بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلاَّ بَعْدَ وَضْعِهِ حَيًّا، فَتَكُونُ الْغَلَّةُ لِوَارِثِ الْمُوصِي.

وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: تُوقَفُ وَتُدْفَعُ لِلْمُوصَى لَهُ إِذَا اسْتَهَلَّ كَالْمُوصَى بِهِ، وَيُوَزَّعُ الشَّيْءُ الْمُوصَى بِهِ لِمَنْ سَيَكُونُ إِنْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، بِحَسَبِ الْعَدَدِ، أَيْ إِنَّ الذَّكَرَ كَالْأُنْثَى عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَإِنْ نَصَّ الْمُوصِي عَلَى تَفْضِيلٍ عُمِلَ بِهِ.

ثَالِثًا: أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُ مَعْلُومًا غَيْرَ مَجْهُولٍ:

27- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمُوصَى لَهُ مَعْلُومًا غَيْرَ مَجْهُولٍ أَيْ مُعَيَّنًا بِشَخْصِهِ كَزَيْدٍ أَوْ بِنَوْعِهِ كَالْمَسَاكِينِ.

وَفَرَّعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ مَسَائِلَ مِنْهَا:

أ- الْوَصِيَّةُ لِمُبْهَمٍ:

28- لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِجَهَالَةِ الْمُوصَى لَهُ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنِ اصْطَلَحَا فَالْوَصِيَّةُ لَهُمَا.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْخِيَارُ إِلَى الْوَرَثَةِ يُعْطُونَ أَيَّهُمَا شَاءُوا.

ب- الْوَصِيَّةُ لِجَمَاعَةٍ:

29- لَوْ أَوْصَى رَجُلٌ لِجَمَاعَةٍ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ وَاسْتِيعَابُهُمْ كَالْقَبِيلَةِ الْعَظِيمَةِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي لُزُومِ التَّعْمِيمِ مِنْ عَدَمِهِ:

فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَلْزَمُ التَّعْمِيمُ وَلَا التَّسْوِيَةُ، وَيُعْطَوْنَ بِالِاجْتِهَادِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: فِي الْأَظْهَرِ يُجْزِئُ دَفْعُ الْوَصِيَّةِ إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُجْزِئُ الدَّفْعُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَظْهَرِ إِلَى أَنَّ مَنْ أَوْصَى لِقَبِيلَةٍ لَا تُحْصَى كَتَمِيمٍ وَعَقِيلٍ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ إِذْ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُوصَى لَهُ مَعْلُومًا أَمَّا إِذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ صَحَّتِ التَّوْصِيَةُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

وَقَالُوا: لَوْ أَوْصَى بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهِ إِلَى مُجَاوِرِي مَكَّةَ إِنْ لَا يُحْصَوْنَ يُصْرَفُ إِلَى مُحْتَاجِهِمْ وَإِنْ يُحْصَوْنَ يُقَسَّمُ عَلَى رُءُوسِهِمْ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْإِحْصَاءِ.

فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ إِلاَّ بِكِتَابٍ أَوْ حِسَابٍ فَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ فَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ.

وَقِيلَ: إِنْ كَانُوا بِحَيْثُ لَا يُحْصِيهِمْ مُحْصٍ حَتَّى يُولَدَ مِنْهُمْ مَوْلُودٌ وَيَمُوتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ فَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ.

وَقِيلَ: يُفَوَّضُ إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي.

ج- الْوَصِيَّةُ لِدَابَّةٍ:

30- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِذَاتِ الدَّابَّةِ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ، سَوَاءٌ قَصَدَ تَمْلِيكَهَا أَوْ أَطْلَقَ.

أَمَّا إِذَا أَوْصَى بِمَالٍ لِعَلَفِ دَابَّةِ فُلَانٍ جَازَ وَتَكُونُ وَصِيَّةً لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ وَيَصْرِفُهَا فِي عَلَفِهَا.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِدَابَّةٍ وَقَالَ: يُصْرَفُ فِي عَلَفِهَا فَالْمَنْقُولُ صِحَّتُهَا وَيُشْتَرَطُ قَبُولُ مَالِكِ الدَّابَّةِ.

وَإِذَا أَوْصَى بِمَالٍ لِفَرَسِ فُلَانٍ فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَصِحُّ وَلَوْ لَمْ يَقْبَلْهَا صَاحِبُ الْفَرَسِ وَيُصْرَفُ فِي عَلَفِهِ رِعَايَةً لِقَصْدِ الْمُوصِي، فَإِنْ مَاتَ الْفَرَسُ قَبْلَ إِنْفَاقِ الْكُلِّ عَلَيْهِ فَالْبَاقِي لِوَرَثَةِ الْمُوصِي لَا لِمَالِكِ الْفَرَسِ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ لَهُ عَلَى صِفَةٍ وَهِيَ الصَّرْفُ فِي مَصْلَحَةِ دَابَّتِهِ رِعَايَةً لِقَصْدِ الْمُوصِي.

وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَبُولَ صَاحِبِ الدَّابَّةِ لِلْوَصِيَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ مِمَّنْ تَصِحُّ لَهُ وَصِيَّةُ الْمُوصِي. وَقَالُوا: تُرَدُّ الْوَصِيَّةُ بِرَدِّ الْمُوصَى لَهُ وَبِمَوْتِهِ قَبْلَ الْمُوصِي.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِفَرَسٍ حَبِيسٍ مَا لَمْ يُرِدِ الْمُوصِي تَمْلِيكَهُ، أَمَّا إِذَا أَرَادَ تَمْلِيكَهُ فَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ حِينَئِذٍ لِاسْتِحَالَةِ تَمْلِيكِهِ.

وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ: يُنْفَقُ الْمُوصَى بِهِ لِلْفَرَسِ الْحَبِيسِ لِأَنَّهُ مَصْلَحَةٌ، فَإِنْ مَاتَ الْفَرَسُ الْحَبِيسُ رُدَّ الْمُوصَى بِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ أُنْفِقَ مِنْهُ شَيْءٌ، أَوْ رُدَّ بَاقِيهِ عَلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي لِأَنَّهُ لَا مَصْرِفَ لَهُ.

وَإِنْ شَرَدَ الْفَرَسُ الْمُوصَى لَهُ أَوْ سُرِقَ أَوْ غُصِبَ انْتُظِرَ عَوْدُهُ، وَعِنْدَ عَدَمِ الْعَوْدِ رُدَّ الْمُوصَى بِهِ إِلَى الْوَرَثَةِ إِذْ لَا مَصْرِفَ لَهُ.

د- الْوَصِيَّةُ لِلْعَبْدِ:

31- وَصِيَّةُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِعِتْقِهِ أَوْ بِمَالٍ لَهُ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَالِ لَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِمُشَاعٍ أَوْ بِمُعَيَّنٍ كَمَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ قَدْ تَكُونُ لِعَبْدِهِ الْمَمْلُوكِ وَقَدْ تَكُونُ لِعَبْدِ غَيْرِهِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رِقّ ف 106).

هـ- الْوَصِيَّةُ لِجِهَةٍ عَامَّةٍ:

32- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ مِنْ مُسْلِمٍ لِجِهَةٍ عَامَّةٍ كَعِمَارَةِ مَسْجِدٍ إِنْشَاءً وَتَرْمِيمًا لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ.

وَفِي مَعْنَى الْمَسْجِدِ الْمَدْرَسَةُ وَالرِّبَاطُ الْمُسْبَلُ وَالْخَانِقَاهُ وَالْقَنْطَرَةُ وَالسِّقَايَةُ.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ الْقُرْبَةُ، فَيَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِجِهَةٍ عَامَّةٍ مُبَاحَةٍ كَالْوَصِيَّةِ لِلْأَغْنِيَاءِ مَثَلًا.

كَمَا ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ) إِلَى أَنَّ وَصِيَّةَ الْمُسْلِمِ لِبِنَاءِ كَنِيسَةٍ أَوْ بِيعَةٍ لَا تَجُوزُ لِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ. وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فِي وَصِيَّةِ الذِّمِّيِّ بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْكَنِيسَةِ أَوْ لِلْبِيعَةِ وَقَالُوا:

لَوْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْبِيعَةِ أَوْ لِلْكَنِيسَةِ أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهَا فِي إِصْلَاحِهَا أَوْ أَوْصَى لِبَيْتِ النَّارِ أَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُذْبَحَ لِعِيدِهِمْ أَوْ لِلْبِيعَةِ أَوْ لِبَيْتِ النَّارِ ذَبِيحَةٌ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رحمه الله- وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ لَا يَجُوزُ.

وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي وَصَايَا أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنَّهَا لَا تَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى بِهِ أَمْرًا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ أَوْ يَكُونَ أَمْرًا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا لَا عِنْدَهُمْ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ لَا عِنْدَنَا.

فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ شَيْئًا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ بِأَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ أَنْ يُتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ بِعِتْقِ الرِّقَابِ أَوْ بِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَنَحْوِ ذَلِكَ جَازَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ.

وَإِنْ كَانَ شَيْئًا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا وَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ عِنْدَهُمْ بِأَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ أَوْ أَوْصَى أَنْ يَبْنِيَ مَسْجِدًا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَكَانَ مُسْتَهْزِئًا فِي وَصِيَّتِهِ وَالْوَصِيَّةُ يُبْطِلُهَا الْهَزْلُ.

وَإِنْ كَانَ شَيْئًا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ لَا عِنْدَنَا بِأَنْ أَوْصَى بِأَرْضٍ لَهُ تُبْنَى بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ أَوْ بِعِمَارَةِ الْبِيعَةِ أَوِ الْكَنِيسَةِ أَوْ بَيْتِ النَّارِ أَوْ بِالذَّبْحِ لِعِيدِهِمْ أَوْ لِلْبِيعَةِ أَوْ لِبَيْتِ النَّارِ ذَبِيحَةً فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رحمه الله- يَجُوزُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ.

وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَصِيَّةٌ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَعَاصِي لَا تَصِحُّ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رحمه الله- أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي وَصِيَّتِهِمْ مَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ لَا مَا هُوَ قُرْبَةٌ حَقِيقَةً لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَلِهَذَا لَوْ أَوْصَى بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا وَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ عِنْدَهُمْ لَمْ تَجُزْ وَصِيَّتُهُ كَالْحَجِّ وَبِنَاءِ الْمَسْجِدِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَدَلَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ وَقَدْ وُجِدَ، وَلَكِنَّا أُمِرْنَا أَنْ لَا نَتَعَرَّضَ لَهُمْ فِيمَا يَدِينُونَ كَمَا لَا نَتَعَرَّضَ لَهُمْ فِي عِبَادَةِ الصَّلِيبِ وَبَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ.

و- الْوَصِيَّةُ لِلَّهِ تَعَالَى

32 م- يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ وَتُصْرَفُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ، وَبِقَوْلِ مُحَمَّدٍ يُفْتَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَيُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ عِنْدَهُمْ. ز- الْوَصِيَّةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ:

33- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى.يُصْرَفُ فِي الْغَزْوِ؛ لِأَنَّهُ الْمَفْهُومُ شَرْعًا وَالْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.

وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهَا تُصْرَفُ فِي الْحَجِّ أَيْضًا قَالَ مُحَمَّدٌ: لَوْ أَعْطَى حَاجًّا مُنْقَطِعًا جَازَ وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي الْغَزْوِ.

ح- الْوَصِيَّةُ لِأَعْمَالِ الْبِرِّ وَوُجُوهِ الْخَيْرِ.

33 م- لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَعْمَالِ الْبِرِّ قَالَ الْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ-: يُصْرَفُ فِي الْقُرَبِ كُلِّهَا وَيُبْدَأُ بِالْغَزْوِ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ فِي فَتَاوَى أَبِي اللَّيْثِ أَنَّ كُلَّ مَا لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكٌ فَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، حَتَّى يَجُوزَ صَرْفُهُ إِلَى عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ وَسِرَاجِهِ، دُونَ تَزْيِينِهِ، وَلَا يَجُوزُ الصَّرْفُ إِلَى بِنَاءِ السُّجُونِ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَى أَقَارِبِ الْمُوصِي، فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا فَإِلَى أَهْلِ الزَّكَاةِ، وَقَالَ فِي التَّهْذِيبِ: يَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَى مَا فِيهِ صَلَاحُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ، وَإِصْلَاحِ الْقَنَاطِرِ وَسَدِّ الثُّغُورِ، وَدَفْنِ الْمَوْتَى وَغَيْرِهَا.

وَلَوْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَصِحُّ وَيُصْرَفُ إِلَى الْقَنْطَرَةِ، أَوْ بِنَاءِ مَسْجِدٍ أَوْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ.

وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى إِلَى جِهَةِ الْخَيْرِ، تُصْرَفُ عَلَى مَصَارِفِ الزَّكَاةِ وَلَا يُبْنَى بِهَا مَسْجِدٌ وَلَا رِبَاطٌ، وَإِنْ أَوْصَى إِلَى جِهَةِ الثَّوَابِ صُرِفَ إِلَى أَقَارِبِهِ.

وَلَوْ قَالَ: ضَعْ ثُلُثِي حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ قَالَ الْحَنَابِلَةُ يَصِحُّ وَيُصْرَفُ فِي أَيِّ جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْقُرَبِ، وَالْأَفْضَلُ صَرْفُهُ إِلَى فُقَرَاءِ أَقَارِبِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَالَ: ضَعْ ثُلُثِي حَيْثُ رَأَيْتَ أَوْ فِيمَا أَرَاكَ اللَّهُ فَالْأَوْلَى صَرْفُهُ إِلَى أَقَارِبِ الْمُوصِي الَّذِينَ لَا يَرِثُونَهُ ثُمَّ إِلَى مَحَارِمِهِ مِنَ الرِّضَاعِ ثُمَّ إِلَى جِيرَانِهِ وَلَيْسَ لَهُ وَضْعُهُ فِي نَفْسِهِ.

رَابِعًا: أَنْ لَا يَكُونَ الْمُوصَى لَهُ قَاتِلًا لِلْمُوصِي.

34- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمُوصَى لَهُ غَيْرَ قَاتِلٍ لِلْمُوصِي: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَظْهَرِ وَالثَّوْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُوصَى لَهُ أَنْ لَا يَكُونَ قَاتِلًا لِلْمُوصِي، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ لِقَاتِلٍ وَصِيَّةٌ».

وَلِأَنَّ الْقَتْلَ يَمْنَعُ الْمِيرَاثَ الَّذِي هُوَ آكَدُ مِنَ الْوَصِيَّةِ فَالْوَصِيَّةُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ، وَمُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، لِقَاعِدَةِ مَنِ اسْتَعْجَلَ شَيْئًا قَبْلَ أَوَانِهِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِهِ.

وَالْقَتْلُ الْمَانِعُ مِنَ الْوَصِيَّةِ هُوَ الْقَتْلُ الْمَضْمُونُ بِقِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ وَلَوْ كَانَ خَطَأً، وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ مُبَاشَرَةً أَوْ تَسَبُّبًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَشْتَرِطُونَ فِي الْقَتْلِ الْمَانِعِ مِنَ الْوَصِيَّةِ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَاشَرَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْمُبَاشَرَةِ فَلَا يَمْنَعُ الْوَصِيَّةَ وَالْإِرْثَ وَأَنْ يَكُونَ لِلْمُوصِي وَارِثٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصِي وَارِثٌ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ.

كَمَا يَشْتَرِطُونَ فِي الْقَاتِلِ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ كَمَا لَوْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا.

وَلَا يُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ قَبْلَ الْجُرْحِ أَوْ بَعْدَهُ فَإِنَّ الْقَاتِلَ لَا يَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ وَلَوْ أَوْصَى لَهُ الْمُوصِي بَعْدَ الْجُرْحِ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لَوِ اشْتَرَكَ عَشَرَةٌ فِي قَتْلِ رَجُلٍ فَأَوْصَى لِبَعْضِهِمْ بَعْدَ الْجِنَايَةِ لَمْ تَصِحَّ؛ لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ عَلَى الْكَمَالِ حِينَ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَكَانَتْ وَصِيَّةً لِقَاتِلِهِ فَلَمْ تَصِحَّ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ جَرَحَهُ ثُمَّ أَوْصَى لَهُ فَمَاتَ مِنَ الْجُرْحِ لَمْ تَبْطُلْ وَصِيَّتُهُ، لِأَنَّهَا صَدَرَتْ مِنْ أَهْلِهَا فِي مَحَلِّهَا وَلَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهَا مَا يُبْطِلُهَا، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَقَدَّمَتْ فَإِنَّ الْقَتْلَ طَرَأَ عَلَيْهَا فَأَبْطَلَهَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الْأَظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ- اخْتَارَهَا ابْنُ حَامِدٍ- إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُ غَيْرَ قَاتِلٍ لِلْمُوصِي سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ بِعَقْدٍ فَأَشْبَهَتِ الْهِبَةَ وَخَالَفَتِ الْإِرْثَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: صَحَّ الْإِيصَاءُ مِنْ مَقْتُولٍ إِلَى قَاتِلِهِ سَوَاءٌ قَتَلَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً إِذَا عَلِمَ الْمُوصِي بِسَبَبِ الْقَتْلِ، بِأَنْ عَلِمَ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ضَرَبَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً.

وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُوصِي بِالسَّبَبِ بِحَيْثُ لَمْ يَعْلَمْ ضَارِبَهُ فَأَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ فَتَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: صِحَّةُ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الضَّرْبِ فَلَا يُتَّهَمُ الْمُوصَى لَهُ بِالِاسْتِعْجَالِ.

وَالْآخَرُ: عَدَمُ صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّ الْمُوصِيَ لَوْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا الْقَاتِلُ لَهُ لَمْ يُوصِ لَهُ؛ لأَنَّ الشَّأْنَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُحْسِنُ لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: الظَّاهِرُ مِنَ التَّأْوِيلَيْنِ الثَّانِي وَهُوَ عَدَمُ الصِّحَّةِ.

وَلَا يَدْخُلُ فِي التَّأْوِيلَيْنِ: أَعْطُوا مَنْ قَتَلَنِي لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ اتِّفَاقًا.

وَقَالُوا: تَكُونُ الْوَصِيَّةُ فِي الْخَطَأِ فِي الْمَالِ وَالدِّيَةِ وَفِي الْعَمْدِ تَكُونُ فِي الْمَالِ فَقَطْ إِلاَّ أَنْ يَنْفُذَ مَقْتَلُهُ وَيَقْبَلَ وَارِثُهُ الدِّيَةَ وَيَعْلَمَ الْمَقْتُولَ فِيهَا فَتَكُونُ فِي الدِّيَةِ أَيْضًا.

خَامِسًا: أَنْ لَا يَكُونَ الْمُوصَى لَهُ وَارِثًا عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي:

35- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُ وَارِثًا لِلْمُوصِي عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، إِذَا كَانَ هُنَاكَ وَارِثٌ آخَرُ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ».

وَقَوْلِه- صلى الله عليه وسلم- أَيْضًا: «لَا تَجُوزُ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ» وَلِأَنَّ فِي إِيثَارِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْآخَرِينَ ضَرَرًا يُؤَدِّي إِلَى الشِّقَاقِ وَالنِّزَاعِ، وَقَطْعِ الرَّحِمِ وَإِثَارَةِ الْبَغْضَاءِ وَالْحَسَدِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ.

وَمَعْنَى الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ لَا تَنْفُذُ مَهْمَا كَانَ مِقْدَارُ الْمُوصَى بِهِ، إِلاَّ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ.

36- فَإِنْ أَجَازَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ) إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ صَحِيحَةٌ لِحَدِيثِ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إِلاَّ أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ».

وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ فَصَحَّ كَمَا لَوْ أَوْصَى لِأَجْنَبِيٍّ.

وَإِنْ أَجَازَهَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، جَازَتْ فِي حِصَّةِ الْمُجِيزِ، وَبَطَلَتْ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُجِزْ؛ لِوِلَايَةِ الْمُجِيزِ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ لِحَدِيثِ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ مَا أَوْصَى بِهِ لِلْوَارِثِ، فَعَطِيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ مِنْهُمْ، لَا تَنْفِيذٌ لِوَصِيَّةِ الْمُوصِي فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ ثَانِيًا بَعْدَ الْإِجَازَةِ، وَأَمَّا الْقَبُولُ الْأَوَّلُ فَهُوَ كَالْعَدَمِ.

وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِجَازَةِ شَرْطَانِ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُجِيزُ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ: بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا، غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ عَتَهٍ أَوْ مَرَضِ مَوْتٍ فَلَا تَصِحُّ الْإِجَازَةُ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ سَفِيهٍ وَلَا مِنْ وَلِيِّهِمْ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْمُجِيزُ عَالِمًا بِالْمُوصَى بِهِ، فَلَا تَصِحُّ عِنْدَهُمْ إِجَازَةُ وَارِثٍ لَمْ يَعْلَمْ بِمَا أَوْصَى بِهِ الْمُوصِي.

الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْإِجَازَةُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: فَلَا عِبْرَةَ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ حَالَ حَيَاةِ الْمُوصِي، فَلَوْ أَجَازُوهَا حَالَ حَيَاتِهِ، ثُمَّ رَدُّوهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، صَحَّ الرَّدُّ وَبَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَوْصَى شَخْصٌ لِوَارِثٍ، أَوْ بِزَائِدٍ عَنِ الثُّلُثِ فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ، فَلِبَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ أَوِ الْوَارِثِ الْإِجَازَةُ وَالرَّدُّ.فَإِنْ أَجَازَ حَالَ مَرَضِ الْمُوصِي لَزِمَتْهُ الْإِجَازَةُ، فَلَا رَدَّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَتَلْزَمُهُ الْإِجَازَةُ بِشُرُوطٍ خَمْسَةٍ: أَوَّلُهَا: كَوْنُ الْإِجَازَةِ بِمَرَضِ الْمُوصِي الْمَخُوفِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ فِيهِ أَوْ فِي الصِّحَّةِ.

ثَانِيهَا: أَنْ لَا يَصِحَّ الْمُوصِي بَعْدَ ذَلِكَ.

ثَالِثُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ مَعْذُورًا بِكَوْنِهِ فِي نَفَقَةِ الْمُوصَى أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَهُ أَوْ خَائِفٌ مِنْ سَطْوَتِهِ.

رَابِعُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ الْمُجِيزُ مِمَّنْ يَجْهَلُ أَنَّ لَهُ الرَّدَّ وَالْإِجَازَةَ.

خَامِسُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُجِيزُ رَشِيدًا، قَالَ الصَّاوِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْوَارِثَ أَنْ يُجِيزَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا أَجَازَ وَصِيَّةَ مُوَرِّثِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فِيمَا لَهُ فِيهِ الرَّدُّ بَعْدَهُ لَزِمَتْهُ تِلْكَ الْإِجَازَةُ بِتِلْكَ الشُّرُوطِ سَوَاءٌ تَبَرَّعَ بِالْإِجَازَةِ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ طَلَبَهَا مِنْهُ الْمُوصِي كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ شُيُوخِ عَبْدِ الْحَقِّ وَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ الرَّدُّ مُتَمَسِّكًا بِأَنَّهُ مِنْ إِسْقَاطِ الشَّيْءِ قَبْلَ وُجُوبِهِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْمَرَضُ.

وَالْعِبْرَةُ بِكَوْنِهِ وَارِثًا بِالِاتِّفَاقِ هُوَ وَقْتُ مَوْتِ الْمُوصِي، لَا وَقْتُ إِنْشَاءِ الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَحُكْمُهُ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَلَوْ كَانَ غَيْرَ وَارِثٍ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ، كَأَخٍ مَعَ وُجُودِ ابْنٍ، ثُمَّ صَارَ وَارِثًا بِأَمْرٍ حَادِثٍ عِنْدَ الْمَوْتِ كَأَنْ مَاتَ الِابْنُ، صَارَتِ الْوَصِيَّةُ مَوْقُوفَةً، وَلَوْ كَانَ وَارِثًا عِنْدَ إِنْشَاءِ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ أَصْبَحَ عِنْدَ الْمَوْتِ غَيْرَ وَارِثٍ، بِسَبَبِ حَجْبِهِ مَثَلًا، كَأَنْ أَوْصَى لِأَخٍ وَلَا وَلَدَ لَهُ، ثُمَّ وُلِدَ لَهُ، نَفَذَتِ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْإِرْثِ وَعَدِمِهِ هُوَ وَقْتُ وَفَاةِ الْمُوصِي، وَلِأَنَّ هَذَا الْوَقْتَ هُوَ أَوَانُ ثُبُوتِ حُكْمِ الْوَصِيَّةِ الَّذِي هُوَ ثُبُوتُ مِلْكِ الْمُوصَى بِهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


26-موسوعة الفقه الكويتية (وقف 5)

وَقْفٌ -5

ج- الْوَقْفُ عَلَى الْعَقِبِ:

58- لَوْ قَالَ الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ عَلَى عَقِبِي فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- فِي الْمَذْهَبِ- يَدْخُلُ فِي الْوَقْفِ أَوْلَادُ الْوَاقِفِ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ، وَأَوْلَادُ الذُّكُورِ مِنْ أَوْلَادِهِ دُونَ أَوْلَادِ الْإِنَاثِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَزْوَاجُهُنَّ مِنْ وَلَدَ وَلَدِهِ الذُّكُورِ، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلاَّ أَنْ يَجْرِيَ عُرْفٌ بِدُخُولِ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ، لِأَنَّ مَبْنَى أَلْفَاظِ الْوَاقِفِ عَلَى الْعُرْفِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْعَقِبِ.

الْوَقْفُ عَلَى الْقَرَابَةِ:

59- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَشْمَلُهُ لَفْظُ الْقَرَابَةِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْقَرَابَةِ فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: قَرَابَتُهُ وَأَرْحَامُهُ وَأَنْسَابُهُ كُلُّ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى أَبَوَيْهِ إِلَى أَقْصَى أَبٍ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الَّذِي أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ أَسْلَمَ أَوْ لَمْ يُسْلِمْ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ إِسْلَامُ الْأَبِ الْأَعْلَى وَلَا يَشْمَلُ ذَلِكَ أَبَوَيْهِ وَوَلَدَهُ لِصُلْبِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يُسَمَّوْنَ قَرَابَةً اتِّفَاقًا وَكَذَا مَنْ عَلَا مِنْهُمْ أَوْ سَفُلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فَقَدْ عَدَّهُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَتَنَاوَلُ لَفْظُ الْأَقَارِبِ أَقَارِبَ جِهَةِ أَبِيهِ وَجِهَةِ أُمِّهِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَسَوَاءٌ كَانَ مَنْ يَقْرُبُ لِأُمِّهِ مِنْ جِهَةِ أَبِيهَا أَوْ جِهَةِ أُمِّهَا، ذُكُورًا وَإِنَاثًا كَوَلَدِ الْخَالِ أَوِ الْخَالَةِ وَلَوْ كَانُوا كُفَّارًا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لِصِدْقِ اسْمِ الْقَرَابَةِ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ وَقَفَ عَلَى أَقَارِبِهِ دَخَلَ فِيهِ كُلُّ مَنْ تُعْرَفُ قَرَابَتُهُ غَيْرَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي الْأَصَحِّ، فَإِنْ كَانَ لِلْوَاقِفِ أَبٌ يُعْرَفُ بِهِ وَيُنْسَبُ إِلَيْهِ دَخَلَ فِي وَقْفِهِ كُلُّ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى ذَلِكَ الْأَبِ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى أَخِي الْأَبِ أَوْ أَبِيهِ، وَيَسْتَوِي فِيمَنْ يَدْخُلُ مَنْ قَرُبَ وَبَعُدَ مِنْ أَقَارِبِهِ وَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى لِتَسَاوِي الْجَمِيعِ فِي الْقَرَابَةِ، وَإِنْ حَدَثَ قَرِيبٌ بَعْدَ الْوَقْفِ دَخَلَ فِيهِ.

وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ أَنَّ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ يَدْخُلُونَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ وَقَفَ عَلَى قَرَابَتِهِ أَوْ قَرَابَةِ زَيْدٍ فَهُوَ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَبِيهِ وَهُمْ إِخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ، وَأَوْلَادُ جَدِّهِ وَهُمْ أَبُوهُ وَأَعْمَامُهُ وَعَمَّاتُهُ، وَأَوْلَادُ جَدِّ أَبِيهِ وَهُمْ جَدُّهُ وَأَعْمَامُهُ وَعَمَّاتُ أَبِيهِ فَقَطْ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يُجَاوِزْ بَنِي هَاشِمٍ بِسَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى فَلَمْ يُعْطِ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ كَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ شَيْئًا وَإِنَّمَا أَعْطَى بَنِي الْمُطَّلِبِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُوهُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ وَلَمْ يُعْطِ قَرَابَتَهُ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ وَهُمْ بَنُو زُهْرَةَ شَيْئًا مِنْهُ.

وَيُسَوَّى مَنْ يُعْطَى مِنْهُمْ فَلَا يُفَضِّلُ أَعْلَى وَلَا فَقِيرًا وَلَا ذَكَرًا عَلَى مَنْ سِوَاهُ وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْوَقْفِ عَلَى قَرَابَتِهِ مَنْ يُخَالِفُ دِينَهُ دِينَ الْوَاقِفِ، فَإِنْ كَانَ الْوَاقِفُ مُسْلِمًا لَمْ يَدْخُلْ فِي قَرَابَتِهِ كَافِرُهُمْ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يَدْخُلِ الْمُسْلِمُ فِي قَرَابَتِهِ إِلاَّ بِقَرِينَةٍ.

الْوَقْفُ عَلَى الْآلِ وَالْأَهْلِ:

60- الْآلُ وَالْأَهْلُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَلَكِنَّ مَدْلُولَهُمَا يَخْتَلِفُ، وَلِذَلِكَ يَخْتَلِفُ مَنْ يَشْمَلُهُ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْآلِ وَالْأَهْلِ:

فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْآلِ وَالْأَهْلِ كَالْوَقْفِ عَلَى الْقَرَابَةِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْآلِ وَالْأَهْلِ يَشْمَلُ الْعَصَبَةَ.

انْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي مُصْطَلَحِ (آلِ ف3).

انْقِرَاضُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ:

61- الِانْقِرَاضُ فِي اللُّغَةِ: الِانْقِطَاعُ، وَانْقَرَضَ الْقَوْمُ: دَرَجُوا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَهُ بِنَفْسِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَهُمْ تَارَةً يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ (انْقِرَاضٍ) وَتَارَةً يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ (انْقِطَاعٍ) وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ عِنْدَهُمَا إِلاَّ أَنَّهُمْ غَالِبًا مَا يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ انْقِرَاضٍ فِي تَرْتِيبِ الطَّبَقَاتِ أَوِ الْبُطُونِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْوَقْفِ وَذَلِكَ اتِّبَاعًا لِشَرْطِ الْوَاقِفِ، فَإِذَا قَالَ الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ عَلَى وَلَدَيَّ هَذَيْنِ فَإِذَا انْقَرَضَا فَهِيَ عَلَى أَوْلَادِهِمَا أَبَدًا مَا تَنَاسَلُوا، قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ: إِذَا انْقَرَضَ أَحَدُ الْوَلَدَيْنِ وَخَلَّفَ وَلَدًا يُصْرَفُ نِصْفُ الْغَلَّةِ إِلَى الْبَاقِي، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ فَإِذَا مَاتَ الْوَلَدُ الْآخَرُ يُصْرَفُ جَمِيعُ الْغَلَّةِ إِلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ شَرْطِ الْوَاقِفِ لَازِمَةٌ فِي الْوَقْفِ وَهُوَ إِنَّمَا جَعَلَ لِأَوْلَادِ الْأَوْلَادِ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا يُصْرَفُ الْغَلَّةُ إِلَى الْفُقَرَاءِ.

وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَ الْبُطُونِ قَدْ يَكُونُ بِحَرْفِ الْعَطْفِ (ثُمَّ) أَوِ (الْفَاءِ) فَلَوْ قَالَ الْوَاقِفُ وَقَفْتُ عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِي ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِ أَوْلَادِي مَا تَنَاسَلُوا أَوْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ فَتُصْرَفُ غَلَّةُ الْوَقْفِ إِلَى الْبَطْنِ الْأَوَّلِ وَهُمْ أَوْلَادُهُ، لَا يُصْرَفُ إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي شَيْءٌ إِلاَّ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ وَلَا يُصْرَفُ إِلَى الْبَطْنِ الثَّالِثِ شَيْءٌ مَا بَقِيَ مِنَ الْبَطْنِ الثَّانِي وَاحِدٌ.

وَقَدْ يَقْصِدُ بِالِانْقِرَاضِ انْقِطَاعَ جِهَةِ الْوَقْفِ وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَقْفِ عَلَى جِهَةٍ تَنْقَرِضُ دُونَ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَهَا جِهَةً أُخْرَى كَالْوَقْفِ عَلَى الْأَوْلَادِ فَقَطْ.

وَقَدْ تَمَّ تَفْصِيلُ ذَلِكَ وَبَيَانُ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ فِيهِ فِي فِقْرَةِ (48).

تَعَطُّلُ الْجِهَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهَا:

62- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ تَعَطَّلَتِ الْجِهَةُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهَا فَإِنَّ رَيْعَ الْوَقْفِ يُصْرَفُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى مُمَاثِلَةٍ لِلْجِهَةِ الَّتِي تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهَا وَلَمْ يُرْجَ عَوْدُهَا.

فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ وَقْفٌ عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ حَوْضٍ فَخَرِبَ الْمَسْجِدُ أَوِ الرِّبَاطُ أَوِ الْحَوْضُ وَأَصْبَحَ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا، فَإِنَّ مَا وُقِفَ عَلَى الْمَسْجِدِ يُصْرَفُ عَلَى مَسْجِدٍ آخَرَ وَلَا يُصْرَفُ إِلَى حَوْضٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ رِبَاطٍ وَمَا وُقِفَ عَلَى الْحَوْضِ أَوِ الْبِئْرِ أَوِ الرِّبَاطِ يُصْرَفُ وَقْفُهَا لِأَقْرَبِ مُجَانِسٍ لَهَا.

وَمَا حُبِسَ عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ بِمَحَلٍّ عَيَّنَهُ الْوَاقِفُ، ثُمَّ تَعَذَّرَ الطَّلَبُ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ الْحَبْسُ، وَتُصْرَفُ الْغَلَّةُ عَلَى الطَّلَبَةِ بِمَحَلٍّ آخَرَ، وَمَا حُبِسَ عَلَى مَدْرَسَةٍ فَخَرِبَتْ وَلَمْ يُرْجَ عَوْدُهَا صُرِفَ فِي مِثْلِهَا حَقِيقَةً إِنْ أَمْكَنَ، فَتُصْرَفُ الْغَلَّةُ لِمَدْرَسَةٍ أُخْرَى فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ صُرِفَ فِي مِثْلِهَا نَوْعًا فِي قُرْبَةٍ أُخْرَى، وَإِنْ رُجِيَ عَوْدُهَا وُقِفَ لَهَا لِيُصْرَفَ فِي التَّرْمِيمِ أَوِ الْإِحْدَاثِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْإِصْلَاحِ.

وَلَوْ وَقَفَ عَلَى ثَغْرٍ فَاتَّسَعَتْ خُطَّةُ الْإِسْلَامِ حَوْلَهُ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تُحْفَظُ غَلَّةُ الْوَقْفِ لِاحْتِمَالِ عَوْدِهِ ثَغْرًا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوِ اخْتَلَّ الثَّغْرُ صُرِفَ الْمَوْقُوفُ فِي ثَغْرٍ مِثْلِهِ أَخْذًا مِنْ مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْوَقْفِ إِذَا خَرِبَ، إِذِ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ هُنَا الصَّرْفُ إِلَى الْمُرَابِطِ، فَإِعْمَالُ شَرْطِ الثَّغْرِ الْمُعَيَّنِ مُعَطِّلٌ لَهُ فَوَجَبَ الصَّرْفُ إِلَى ثَغْرٍ آخَرَ، قَالَ فِي التَّنْقِيحِ: وَعَلَى قِيَاسِهِ مَسْجِدٌ وَرِبَاطٌ وَنَحْوُهُمَا وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَارِثِيُّ، قَالَ: وَالشَّرْطُ قَدْ يُخَالَفُ لِلْحَاجَةِ كَالْوَقْفِ عَلَى الْمُتَفَقِّهَةِ عَلَى مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ فَإِنَّ الصَّرْفَ يَتَعَيَّنُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُتَفَقِّهَةِ عَلَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ إِلَى الْمُتَفَقِّهَةِ عَلَى مَذْهَبٍ آخَرَ.

الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْمَوْقُوفُ:

مَا يَجُوزُ وَقْفُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ وَقْفُهُ:

63- لَمْ يَتَّفِقِ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَعْرِيفٍ مُحَدَّدٍ لِمَا يَجُوزُ وَقْفُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ، فَقَدْ عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَا جَاءَ فِي ابْنِ عَابِدِينَ: بِأَنَّهُ الْمَالُ الْمُتَقَوَّمُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عَقَارًا أَوْ مَنْقُولًا، فِيهِ تَعَامُلٌ، أَوْ هُوَ مَا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ كَالْعَقَارِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَجُوزُ وَقْفُ الْمَنْقُولِ مَقْصُودًا كَمَا قَالَ الْكَاسَانِيُّ وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ مَا مُلِكَ مِنْ ذَاتٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ.

وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: عَيْنٌ مُعَيَّنَةٌ مَمْلُوكَةٌ مِلْكًا يَقْبَلُ النَّقْلَ، وَيَحْصُلُ مِنْهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا فَائِدَةٌ، أَوْ مَنْفَعَةٌ يُسْتَأْجَرُ لَهَا.

وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: عَيْنٌ يَصِحُّ بَيْعُهَا وَيُنْتَفَعُ بِهَا عُرْفًا مَعَ بَقَائِهَا.

وَالْأَصْلُ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَيْنًا مَمْلُوكَةً يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ إِذْ يَصِحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَقْفُ الْمَنْفَعَةِ، وَالْعَيْنُ تَشْمَلُ الْعَقَارَ وَالْمَنْقُولَ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

أَوَّلًا: وَقْفُ الْعَقَارِ:

64- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ وَقْفُ الْعَقَارِ مِنْ أَرْضٍ وَدُورٍ وَآبَارٍ وَقَنَاطِرَ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ وَقْفِ الْعَقَارِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهما- أَجْمَعِينَ وَقَفُوا ذَلِكَ، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: «أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا، قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ، وَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالضَّيْفِ».

مَا يَتْبَعُ الْعَقَارَ فِي الْوَقْفِ وَمَا لَا يَتْبَعُهُ:

65- فَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ فِي بَابِ الْوَقْفِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْإِسْعَافِ: يَدْخُلُ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ مَا فِيهَا مِنَ الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ دُونَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَيَدْخُلُ أَيْضًا الشِّرْبُ وَالطَّرِيقُ كَالْإِجَارَةِ، وَلَوْ جَعَلَ الْأَرْضَ مَقْبَرَةً وَفِيهَا أَشْجَارٌ عِظَامٌ وَأَبْنِيَةٌ لَا تَدْخُلُ، وَلَوْ زَادَ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ وَقَالَ: بِحُقُوقِهَا وَجَمِيعِ مَا فِيهَا وَمِنْهَا، وَعَلَى الشَّجَرَةِ ثَمَرَةٌ قَائِمَةٌ يَوْمَ الْوَقْفِ قَالَ هِلَالٌ: لَا تَدْخُلُ قِيَاسًا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِهَا عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ لَا الْوَقْفِ، وَذَكَرَ النَّاطِفِيُّ: إِذَا قَالَ: بِحُقُوقِهَا تَدْخُلُ فِي الْوَقْفِ وَهَذَا أَوْلَى خُصُوصًا إِذَا زَادَ: بِجَمِيعِ مَا فِيهَا وَمِنْهَا، وَلَوْ وَقَفَ دَارًا بِجَمِيعِ مَا فِيهَا وَفِيهَا حَمَامَاتٌ يَطِرْنَ، أَوْ بَيْتًا وَفِيهِ كِوَارَاتُ عَسَلٍ يَدْخُلُ الْحَمَامُ وَالنَّحْلُ تَبَعًا لِلدَّارِ وَالْعَسَلُ كَمَا لَوْ وَقَفَ ضَيْعَةً وَذَكَرَ مَا فِيهَا مِنَ الْعَبِيدِ وَالدَّوَالِيبِ وَآلَاتِ الْحِرَاثَةِ.

وَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: لَوْ وَقَفَ الْعَقَارَ بِبَقَرِهِ وَأَكَرَتِهِ- أَيْ عَبِيدُهُ الْحَرَّاثُونَ- صَحَّ اسْتِحْسَانًا تَبَعًا لِلْعَقَارِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لِأَنَّهُ قَدْ يَثْبُتُ مِنَ الْحُكْمِ تَبَعًا مَا لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا كَالشِّرْبِ فِي الْبَيْعِ وَالْبِنَاءِ فِي الْوَقْفِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مَعَهُ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا أَجَازَ إِفْرَادَ بَعْضِ الْمَنْقُولِ بِالْوَقْفِ فَبِالتَّبَعِ أَوْلَى.

أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فَلَمْ يَذْكُرُوا مِثْلَ هَذَا التَّفْصِيلِ فِي بَابِ الْوَقْفِ وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُ الْكَلَامِ عَنِ الْوَقْفِ اسْتِطْرَادًا فِي بَابِ الْبَيْعِ وَاعْتَبَرُوا أَنَّ مَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْأُصُولِ كَالْأَرْضِ وَالدَّارِ وَالشَّجَرِ يَدْخُلُ فِي وَقْفِهَا كَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَقْفَ نَاقِلٌ لِلْمَلِكِ كَالْبَيْعِ، مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي التَّفْصِيلِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ إِجْمَالًا فِيمَا يَأْتِي:

أ- وَقْفُ الْأَرْضِ يُدْخِلُ مَا فِيهَا مِنْ بِنَاءٍ وَشَجَرٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ شَرْطٌ أَوْ عُرْفٌ، وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الشَّجَرَ بِكَوْنِهِ رَطْبًا لَا يَابِسًا.

وَفِي الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ لَا يَدْخُلُ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ مَا فِيهَا مِنْ زَرْعٍ، وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَسَائِرِ الزُّرُوعِ، أَمَّا الْبَذْرُ وَالْأُصُولُ الَّتِي تَبْقَى فِي الْأَرْضِ سَنَتَيْنِ- كَالْقَتِّ- فَإِنَّهَا تَدْخُلُ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ.

ب- وَقْفُ الدَّارِ يُدْخِلُ فِيهَا الْأَرْضَ وَالْبِنَاءَ وَالْفِنَاءَ وَالْأَشْيَاءَ الثَّابِتَةَ الْمُتَّصِلَةَ بِهَا وَكَذَلِكَ يُدْخِلُ فِيهَا الشَّجَرَ الْمَغْرُوسَ لَكِنْ قَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الشَّجَرَ بِالشَّجَرِ الرَّطْبِ دُونَ الْيَابِسِ، كَذَلِكَ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ وَقْفَ الدَّارِ يَتَنَاوَلُ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا الدَّارُ إِنْ لَمْ تَكُنِ الْأَرْضُ مَوْقُوفَةً كَمِصْرَ وَالشَّامِ وَسَوَادِ الْعِرَاقِ.

ج- وَقْفُ الشَّجَرِ يَدْخُلُ فِيهِ الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا الشَّجَرُ وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَيَتَنَاوَلُ حَرِيمَهَا، وَقِيلَ: لَا يَتَنَاوَلُهُ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ وَقْفَ الشَّجَرِ لَا يَتَنَاوَلُ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا الشَّجَرُ لِأَنَّ اسْمَ الشَّجَرِ لَا يَتَنَاوَلُهُ.

ذِكْرُ الْحُدُودِ فِي وَقْفِ الْعَقَارِ:

66- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ وَقْفَ الْعَقَارِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذِكْرُ حُدُودِهِ إِذَا كَانَ مَشْهُورًا، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْكَمَالِ بْنِ الْهُمَامِ قَوْلَهُ: إِذَا كَانَتِ الدَّارُ مَشْهُورَةً مَعْرُوفَةً صَحَّ وَقْفُهَا وَإِنْ لَمْ تُحَدَّدْ، اسْتِغْنَاءً لِشُهْرَتِهَا عَنْ تَحْدِيدِهَا.

وَقَدْ عَلَّقَ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ظَاهِرُهُ اشْتِرَاطُ التَّحْدِيدِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، بَلْ ذَلِكَ شَرْطٌ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ بِوَقْفِيَّتِهَا.

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: بَابٌ إِذَا وَقَفَ أَرْضًا وَلَمْ يُبَيِّنِ الْحُدُودَ فَهُوَ جَائِزٌ.

وَقَدْ عَلَّقَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: كَذَا أَطْلَقَ الْجَوَازَ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ أَوِ الْمُتَصَدَّقُ بِهِ مَشْهُورًا مُتَمَيِّزًا بِحَيْثُ يُؤْمَنُ أَنْ يَلْتَبِسَ بِغَيْرِهِ، وَإِلاَّ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّحْدِيدِ اتِّفَاقًا، لَكِنْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّ مَنْ قَالَ: اشْهَدُوا عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَمْلَاكِي وَقْفٌ عَلَى كَذَا وَذَكَرَ مَصْرِفَهَا وَلَمْ يُحَدِّدْ شَيْئًا مِنْهَا صَارَتْ جَمِيعُهَا وَقْفًا وَلَا يَضُرُّ جَهْلُ الشُّهُودِ بِالْحُدُودِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْوَقْفَ يَصِحُّ بِالصِّيغَةِ الَّتِي لَا تَحْدِيدَ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِقَادِ الْوَاقِفِ وَإِرَادَتِهِ لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ التَّحْدِيدُ لِأَجْلِ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ لِيُبَيِّنَ حَقَّ الْغَيْرِ.

ثَانِيًا: وَقْفُ الْمَنْقُولِ:

67- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى جَوَازِ وَقْفِ الْمَنْقُولِ مِنْ أَثَاثٍ وَحَيَوَانٍ وَسِلَاحٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِيمَانًا بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرِيَّهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَمَّا خَالِدٌ فَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».

وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَقْفُ الْمَنْقُولِ قَصْدًا، وَهَذَا عَلَى إِطْلَاقِهِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ وَقَفَ الْمَنْقُولِ إِذَا كَانَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ اسْتِحْسَانًا كَمَا إِذَا وَقَفَ ضَيْعَةً بِبَقَرِهَا وَأَكَرَتِهَا وَكَذَا سَائِرُ آلَاتِ الْحِرَاثَةِ، لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ فِي تَحْصِيلِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَقَدْ يَثْبُتُ مِنَ الْحُكْمِ تَبَعًا مَا لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا كَالشِّرْبِ فِي الْبَيْعِ وَالْبِنَاءِ وَفِي الْوَقْفِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَجُوزُ وَقْفُ الْكُرَاعِ- وَهِيَ الْخَيْلُ وَالسِّلَاحُ- اسْتِحْسَانًا لِلْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «وَأَمَّا خَالِدٌ فَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ قَالَ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَانْظُرُوا سِلَاحِي وَفَرَسِي فَاجْعَلُوهُ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَتَأْخُذُ الْإِبِلُ حُكْمَ الْخَيْلِ لِأَنَّ الْعَرَبَ يُجَاهِدُونَ عَلَيْهَا وَكَذَا السِّلَاحُ يُحْمَلُ عَلَيْهَا، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَقْفُ الْمَنْقُولِ لِأَنَّ شَرْطَ الْوَقْفِ التَّأْبِيدُ، وَالْمَنْقُولُ لَا يَتَأَبَّدُ، فَتُرِكَ الْقِيَاسُ لِلْآثَارِ الَّتِي وَرَدَتْ.

وَيَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ- خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ- وَقْفُ الْمَنْقُولِ قَصْدًا إِذَا كَانَ مُتَعَارَفًا وَفِيهِ تَعَامُلٌ لِلنَّاسِ كَالْفَأْسِ وَالْقَدُومِ وَالْقِدْرِ وَالْجِنَازَةِ وَثِيَابِهَا وَالْمُصْحَفِ وَالْكُتُبِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ قَدْ يُتْرَكُ بِالتَّعَامُلِ، لِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-: مَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ بِخِلَافِ مَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ، أَيْ لَمْ يَجُزِ التَّعَامُلُ بِوَقْفِهِ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ وَالْمَتَاعِ، وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ وَمِنْهُمُ السَّرَخْسِيُّ، أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ وَقْفُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ إِنَّمَا يُتْرَكُ بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ.

ثَالِثًا: وَقْفُ الْمَنْفَعَةِ:

68- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ وَقْفِ الْمَنْفَعَةِ إِذْ إِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَيْنًا يُنْتَفَعُ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا كَمَا أَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ تَأْبِيدَ الْوَقْفِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ وَقْفِ الْمَنْفَعَةِ فَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا مُدَّةً مَعْلُومَةً فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقِفَ مَنْفَعَتَهَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَيَنْقَضِيَ الْوَقْفُ بِانْقِضَائِهَا، لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ تَأْبِيدُ الْوَقْفِ.

مَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ:

يُشْتَرَطُ فِي الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ مَا يَلِي:

أ- أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ مُعَيَّنَةً:

69- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ أَنْ تَكُونَ مُعَيَّنَةً فَلَا يَصِحُّ وَقْفُ الْمُبْهَمِ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ مَعْلُومًا فَلَوْ وَقَفَ شَيْئًا مِنْ أَرْضِهِ وَلَمْ يُسَمِّهِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ وَلَوْ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ، إِذْ رُبَّمَا يُبَيِّنُ شَيْئًا قَلِيلًا لَا يُوقَفُ عَادَةً، وَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُ هَذِهِ الْأَرْضَ أَوْ هَذِهِ الْأَرْضَ كَانَ بَاطِلًا لِمَكَانِ الْجَهَالَةِ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَصِحُّ إِلاَّ فِي عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ فَإِنْ وَقَفَ عَبْدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ أَوْ فَرَسًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَالْوَقْفُ بَاطِلٌ، وَكَذَا لَوْ وَقَفَ أَحَدَ دَارَيْهِ أَوْ أَحَدَ عَبْدَيْهِ لَا يَصِحُّ، لأَنَّ الْوَقْفَ نَقْلُ مِلْكٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَالصَّدَقَةِ فَلَا يَصِحُّ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَمَا لَا يَصِحْ فِي عَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ كَدَارٍ وَعَبْدٍ وَلَوْ مَوْصُوفًا.

وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ- كَمَا جَاءَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ- أَنَّهُ يَجُوزُ الْوَقْفُ الْمُعَلَّقُ كَقَوْلِ الْوَاقِفِ: إِنْ مَلَكْتُ دَارَ فُلَانٍ فَهِيَ وَقْفٌ.وَعَلَّقَ الدُّسُوقِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَانْظُرْ هَلْ لَا بُدَّ فِي التَّعْلِيقِ مِنْ تَعْيِينِ الْمُعَلَّقِ فِيهِ أَوْ يَدْخُلُ فِيهِ مَا إِذَا قَالَ: كُلُّ مَا تَجَدَّدَ لِي مِنْ عَقَارٍ أَوْ غَيْرِهِ وَدَخَلَ فِي مِلْكِي فَهُوَ مُلْحَقٌ بِوَقْفِي؟ أَقُولُ: الْمَأْخُوذُ مِنْ كَلَامِ الرَّصَاعِ فِي شَرْحِ الْحُدُودِ أَنَّهُ إِذَا عَمَّ التَّعْلِيقُ فَإِنَّ الْوَقْفَ لَا يَلْزَمُ لِلتَّحْجِيرِ كَالطَّلَاقِ.

ب- أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ:

70- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمَوْقُوفِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَالْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَقْفُ مَا يُسْتَهْلَكُ كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ فِي اسْتِهْلَاكِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقْفُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِلتَّزْيِينِ وَالتَّحَلِّي بِهَا، أَوْ لِلْوَزْنِ، أَوْ لِيُنْتَفَعَ بِإِقْرَاضِهَا، لِأَنَّ الْوَقْفَ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ، وَمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إِلاَّ بِإِتْلَافِهِ لَا يَصِحُّ فِيهِ ذَلِكَ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَصِحُّ وَقْفُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَلَى قَوْلِ مَنْ أَجَازَ إِجَارَتَهَا.

وَيَصِحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقْفُ الْمَشْمُومِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ كَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالْعُودِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَصِحُّ وَقْفُ النَّدِّ وَالصَّنْدَلِ وَقِطَعِ الْكَافُورِ.

أَمَّا الْمَشْمُومُ الَّذِي لَا تَبْقَى عَيْنُهُ فَلَا يَجُوزُ وَقْفُهُ عِنْدَهُمْ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ فَقَدْ أَجَازُوا وَقْفَ الطَّعَامِ كَالْحِنْطَةِ وَوَقْفَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إِذَا وَقَفَ ذَلِكَ لِلسَّلَفِ وَرَدِّ الْبَدَلِ، وَاعْتَبَرُوا أَنَّ رَدَّ الْبَدَلِ قَائِمٌ مُقَامَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، أَمَّا وَقْفُهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا فَلَا يَجُوزُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الدَّرَاهِمُ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا لَكِنَّ بَدَلَهَا قَائِمٌ مَقَامَهَا لِعَدَمِ تَعَيُّنِهَا فَكَأَنَّهَا بَاقِيَةٌ وَلَا شَكَّ أَنَّهَا مِنَ الْمَنْقُولِ، فَحَيْثُ جَرَى فِيهَا تَعَامُلٌ دَخَلَتْ فِيمَا أَجَازَهُ مُحَمَّدٌ، وَيَجُوزُ وَقْفُ كُرٍّ مِنْ حِنْطَةٍ عَلَى شَرْطِ أَنْ يُقْرَضَ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ لَا بَذْرَ لَهُمْ لِيَزْرَعُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ قَدْرَ الْقَرْضِ ثُمَّ يُقْرَضُ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ أَبَدًا عَلَى هَذَا السَّبِيلِ، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ وَقْفُ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لِيُبَاعَ وَيُدْفَعَ ثَمَنُهُ مُضَارَبَةً، وَكَذَا يُفْعَلُ فِي وَقْفِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَمَا خَرَجَ مِنَ الرِّبْحِ يُتَصَدَّقُ بِهِ فِي جِهَةِ الْوَقْفِ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ وَقْفُ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَيُرَدُّ بَدَلُهُ، لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ فِي اسْتِهْلَاكِهِ وَالْوَقْفُ إِنَّمَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ.

جـ- أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ حَقُّ الْغَيْرِ:

71- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ وَقْفِ الْعَيْنِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ كَأَنْ تَكُونَ مَرْهُونَةً أَوْ مُؤَجَّرَةً.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى صِحَّةِ وَقْفِ الْعَيْنِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ، فَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى صِحَّةِ وَقْفِ الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ أَوِ الْمُؤَجَّرَةِ وَتَعُودُ الْعَيْنُ بَعْدَ افْتِكَاكِهَا مِنَ الرَّهْنِ وَبَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ، وَوَافَقَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ.

وَأَمَّا الْمَرْهُونَةُ فَفِيهَا عِنْدَهُمْ وَجْهَانِ:

الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَصِحُّ وَقْفُ الْمَرْهُونِ كَالْعِتْقِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَصِحُّ إِسْقَاطُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَصَارَ كَالْعِتْقِ.

وَفِي الْوَجْهِ الْآخَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَصِحُّ وَقْفُ الْمَرْهُونِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ لَا يَسْرِي إِلَى مِلْكِ الْغَيْرِ فَلَا يَصِحُّ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ.

وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ صِحَّةَ وَقْفِ الْمَرْهُونِ بِمَا إِذَا كَانَ الْوَقْفُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّ مَنْعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ وَقَدْ أَسْقَطَهُ بِإِذْنِهِ وَبَطَلَ الرَّهْنُ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ يَمْنَعُ الرَّهْنَ ابْتِدَاءً فَامْتَنَعَ مَعَهُ دَوَامًا.

وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ إِذْ لِكُلِّ مَذْهَبٍ نَوْعٌ مِنَ التَّفْصِيلِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْإِسْعَافِ وَغَيْرِهِ: لَوْ وَقَفَ الْمَرْهُونَ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ صَحَّ وَأَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى دَفْعِ مَا عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا أَبْطَلَ الْوَقْفَ وَبَاعَهُ فِيمَا عَلَيْهِ.

وَإِنْ وَقَفَ الْمَرْهُونَ وَافْتَكَّهُ جَازَ فَإِنْ مَاتَ عَنْ عَيْنٍ تَفِي بِالدَّيْنِ صَحَّ الْوَقْفُ وَلَا يُغَيَّرُ، وَإِنْ لَمْ يَفِ مَا تَرَكَهُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُبْطِلُ الْوَقْفَ وَيَبِيعُهُ لِلدَّيْنِ.

وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ صِحَّةَ وَقْفِ الْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ بِمَا إِذَا قَصَدَ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا بَعْدَ الْخَلَاصِ مِنَ الرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَقْفِ التَّنْجِيزُ.

د- أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ:

72- اشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ الشَّافِعِيَّةُ بِكَوْنِهِ مِمَّا يَقْبَلُ النَّقْلَ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا يَصِحُّ وَقْفُ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمَرْهُونِ وَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَسَائِرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلصَّيْدِ وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ الَّتِي لَا يُصَادُ بِهَا، لِأَنَّ الْوَقْفَ نَقْلٌ لِلْمِلْكِ فِيهَا فِي الْحَيَاةِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ وَمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لَا يَحْصُلُ فِيهِ تَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ وَالْكَلْبُ أُبِيحَ الِانْتِفَاعُ بِهِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِلضَّرُورَةِ فَلَمْ يَجُزِ التَّوَسُّعُ فِيهَا، وَالْمَرْهُونُ فِي وَقْفِهِ إِبْطَالُ حَقِّ الْمُرْتَهَنِ مِنْهُ فَلَمْ يَجُزْ إِبْطَالُهُ.

وَمَثَّلَ الشَّافِعِيَّةُ بِمَا لَا يَصِحُّ وَقْفُهُ بِأُمِّ الْوَلَدِ وَالْحَمْلِ وَالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ، وَهَذَا فِي الْأَصَحِّ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ يَصِحُّ وَقْفُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ، أَمَّا الْكَلْبُ غَيْرُ الْمُعَلَّمِ فَلَا يَصِحُّ وَقْفُهُ جَزْمًا.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا هَذَا الشَّرْطَ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: صَحَّ وَقْفُ مَمْلُوكٍ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْمَمْلُوكُ الَّذِي أُرِيدَ وَقْفُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَجِلْدِ أُضْحِيَةٍ وَكَلْبِ صَيْدٍ وَعَبْدٍ آبِقٍ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ.

وَالْحَنَفِيَّةُ لَمْ يَنُصُّوا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ وَإِنْ كَانَتْ قَوَاعِدُهُمْ لَا تَأْبَاهُ، فَالْأَصْلُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ جَوَازِ وَقْفِ الْمَنْقُولِ إِلاَّ تَبَعًا أَوْ مَا جَرَى فِيهِ التَّعَامُلُ بَيْنَ النَّاسِ.

قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ وَقْفُ كُلِّ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ قِيَاسًا عَلَى الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، قُلْنَا: الْأَصْلُ عَدَمُ جَوَازِ الْوَقْفِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ وَهُوَ الْعَقَارُ وَالْكُرَاعُ وَالسِّلَاحُ، وَأَوْرَدَ الْمِرْغِينَانِيُّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ ثُمَّ قَالَ: وَلَنَا أَنَّ الْوَقْفَ فِيهِ لَا يَتَأَبَّدُ (يَقْصِدُ الْمَنْقُولَ) بِخِلَافِ الْعَقَارِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


27-موسوعة الفقه الكويتية (وكالة 8)

وَكَالَة -8

جـ- اخْتِلَافُ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ فِي تَلَفِ الْمُوَكَّلِ فِيهِ:

163- إِذَا اخْتَلَفَ الْوَكِيلُ وَالْمُوَكِّلُ حَوْلَ تَلَفِ مَا بِيَدِ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي مِنْ ثَمَنٍ وَغَيْرِهِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ.

فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَمِينٌ، وَمَا بِيَدِهِ يُعْتَبَرُ أَمَانَةً، وَقَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، فَلَا يُكَلَّفُ ذَلِكَ كَالْمُودَعِ لَدَيْهِ.

وَلِأَنَّهُ لَوْ كَلَّفَ الْوَكِيلَ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ مَعَ تَعَذُّرِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْأَمَانَاتِ مَعَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا، فَيَلْحَقُهُمُ الضَّرَرُ مِنْ ذَلِكَ.

وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الْحُكْمَ بِمَا إِذَا كَانَ الْوَكِيلُ مُتَّهَمًا.

وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ هَذَا الْحُكْمَ بِمَا إِذَا ادَّعَى الْوَكِيلُ التَّلَفَ بِسَبَبٍ خَفِيٍّ كَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِهَا.

أَمَّا إِذَا ادَّعَى الْوَكِيلُ التَّلَفَ بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ كَالْحَرِيقِ وَالنَّهْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَدْ ذَهَبَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ عَلَى الْوَكِيلِ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى وُجُودِ هَذَا الْأَمْرِ الظَّاهِرِ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ، ثُمَّ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي التَّلَفِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الظَّاهِرِ فِي رِوَايَةٍ، وَلَا يُطَالَبُ الْوَكِيلُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى كَوْنِ الْمُوَكَّلِ فِيهِ بِعَيْنِهِ حُرِقَ أَوْ نُهِبَ لِأَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ.

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا أَثْبَتَ الْحَادِثُ الظَّاهِرُ وَلَوْ بِاسْتِفَاضَةٍ أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَحْلِفُ.

د- الِاخْتِلَافُ فِي تَعَدِّي الْوَكِيلِ وَتَفْرِيطِهِ فِي الْحِفْظِ:

164- إِذَا اخْتَلَفَ الْوَكِيلُ وَالْمُوَكِّلُ فِي تَعَدِّي الْوَكِيلِ وَتَفْرِيطِهِ فِي حِفْظِ مَا بِيَدِهِ مِنْ مَالٍ لِمُوَكِّلِهِ أَوْ مُخَالَفَتِهِ أَمْرَ مُوَكِّلِهِ، كَأَنْ يَدَّعِيَ الْمُوَكِّلُ عَلَى الْوَكِيلِ أَنَّهُ حَمَلَ عَلَى الدَّابَّةِ فَوْقَ طَاقَتِهَا، أَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا شَيْئًا لِنَفْسِهِ، أَوْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، أَوْ لَبِسَ الثَّوْبَ بِدُونِ إِذْنِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِمَا يُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ.

هـ- الِاخْتِلَافُ فِي التَّصَرُّفِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَالْقَبْضِ:

لِلْفُقَهَاءِ فِي مُعَالَجَةِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ فِي التَّصَرُّفِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ اتِّجَاهَاتٌ نَتَنَاوَلُهَا فِيمَا يَلِي:

165- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ يَبِيعُ الشَّيْءَ إِذَا قَالَ: بِعْتُ وَقَبَضْتُ الثَّمَنَ وَهَلَكَ، هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ:

إِمَّا إِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ سَلَّمَ الْمَبِيعَ إِلَى الْوَكِيلِ أَوْ كَانَ لَمْ يُسَلِّمْ إِلَيْهِ.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَلَّمَ الْمَبِيعَ إِلَيْهِ فَقَالَ الْوَكِيلُ: بِعْتُهُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَقَبَضْتُ مِنْهُ الثَّمَنَ وَهَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِي، أَوْ قَالَ: دَفَعْتُهُ إِلَى الْمُوَكِّلِ، فَهَذَا لَا يَخْلُو إِمَّا إِنْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ فِي ذَلِكَ أَوْ كَذَّبَهُ، فَإِنْ كَذَّبَهُ بِالْبَيْعِ، أَوْ صَدَّقَهُ بِالْبَيْعِ وَكَذَّبَهُ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ، أَوْ صَدَّقَهُ فِيهِمَا وَكَذَّبَهُ فِي الْهَلَاكِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَهْلَكُ الثَّمَنُ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ يَهْلَكُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ.

وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِأَنْ كَذَّبَهُ بِالْبَيْعِ، أَوْ صَدَّقَهُ بِالْبَيْعِ وَكَذَّبَهُ فِي قْبَضٍ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ يُصَدَّقُ فِي الْبَيْعِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ، لِأَنَّ إِقْرَارَ الْوَكِيلِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ جَائِزٌ عَلَيْهِ.

وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ نَقَدَ الثَّمَنَ ثَانِيًا إِلَى الْمُوَكِّلِ وَأَخَذَ مِنْهُ الْمَبِيعَ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا عَلَى الْوَكِيلِ بِمَا نَقَدَهُ.

وَلَوْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ وَزَعَمَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَبَضَ مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ وَأَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ يُصَدَّقُ فِي الْبَيْعِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي إِقْرَارِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِالْقَبْضِ، وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي عَلَى مَا ذَكَرْنَا، إِلاَّ أَنَّهُ هُنَاكَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ.

وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ فِي الْبَيْعِ وَقَبَضَ الثَّمَنَ، وَكَذَّبَهُ فِي الْهَلَاكِ أَوِ الدَّفْعِ إِلْيَهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ فِي دَعْوَى الْهَلَاكِ أَوِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ، وَيُجْبَرُ الْمُوَكِّلُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُ ثَبَتَ الْبَيْعُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ بِتَصْدِيقِهِ إِيَّاهُ، وَلَا يُؤْمَرُ الْمُشْتَرِي بِنَقْدِ الثَّمَنِ ثَانِيًا إِلَى الْمُوَكِّلِ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ وُصُولُ الثَّمَنِ إِلَى يَدِ وَكِيلِهِ بِتَصْدِيقِهِ،ِ وَوُصُولُ الثَّمَنِ إِلَى يَدِ وَكِيلِهِ كَوُصُولِهِ إِلَى يَدِهِ.

هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَبِيعُ مُسَلِّمًا إِلَى الْوَكِيلِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مُسَلِّمًا إِلَيْهِ فَقَالَ الْوَكِيلُ: بِعْتُهُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَقَبَضْتُ مِنْهُ الثَّمَنَ فَهَلَكَ عِنْدِي، أَوْ قَالَ: دَفَعْتُهُ إِلَى الْمُوَكِّلِ، أَوْ قَالَ: قَبَضَ الْمُوَكِّلُ الثَّمَنَ مِنَ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْوَكِيلَ يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَيُسَلَّمُ الْمَبِيعُ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَيَبْرَأُ الْمُشْتَرِي مِنَ الثَّمَنِ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ.

أَمَّا إِذَا صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَلَا يُشْكَلُ، وَكَذَا إِذَا كَذَّبَهُ فِي الْبَيْعِ، أَوْ صَدَّقَهُ فِيهِ وَكَذَّبَهُ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَقَرَّ بِبَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي عَنِ الثَّمَنِ فَلَا يُحَلَّفُ وَيُحَلَّفُ الْوَكِيلُ، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ بَرِئَ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ لَزِمَهُ ضَمَانُ الثَّمَنِ لِلْمُوَكِّلِ.

فَإِنِ اسْتُحِقَ الْمَبِيعُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْوَكِيلِ إِذَا أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهُ، وَالْوَكِيلُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمَا ضَمِنَ مِنَ الثَّمَنِ لِلْمُشْتَرِي، لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلَى قَبْضِ الثَّمَنِ، فَإِقْرَارُ الْوَكِيلِ فِي حَقِّهِ جَائِزٌ، وَلَا يَجُوزُ فِي حَقِّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُوَكِّلَ عَلَى الْعِلْمِ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ، فَإِنْ نَكَلَ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا ضَمِنَ.

وَلَوْ أَقَرَّ الْمُوَكِّلُ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ الثَّمَنَ لَكِنَّهُ كَذَّبَهُ فِي الْهَلَاكِ أَوِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ يَدَ وَكِيلِهِ كَيَدِهِ.

وَلَوْ كَانَ الْوَكِيلُ لَمْ يُقِرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَبَضَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَكِيلِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ الثَّمَنَ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ أَيْضًا، لِأَنَّ إِقْرَارَهُمَا عَلَى الْمُوَكِّلِ لَا يَجُوزُ.

وَلَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمَبِيعَ، وَلَكِنَّهُ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا، كَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الْوَكِيلَ، فَإِذَا رُدَّ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي رَجَعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ إِنْ أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهُ، وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمَا ضَمِنَ إِذَا أَقَرَّ الْمُوَكِّلُ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ الثَّمَنَ، وَيَكُونُ الْمَبِيعُ لِلْمُوَكِّلِ، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ الْمُوَكِّلُ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ الثَّمَنَ لَا يَرْجِعُ الْوَكِيلُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُوَكِّلَ عَلَى الْعِلْمِ بِقَبْضِهِ، فَإِنْ نَكَلَ رَجَعَ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْجِعُ، وَلَكِنَّهُ يَبِيعُ الْمَبِيعَ فَيَسْتَوْفِي مَا ضَمِنَ مِنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ رَدَّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نُقْصَانٌ فَلَا يُرْجَعُ بِالنُّقْصَانِ عَلَى أَحَدٍ.

وَلَوْ كَانَ الْوَكِيلُ لَمْ يُقِرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ أَقَرَّ بِقَبْضِ الْمُوَكِّلِ، لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْوَكِيلِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْهُ إِلَيْهِ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ أَيْضًا لِأَنَّهُمَا لَا يُصَدَّقَانِ عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ، وَعَلَى الْمُوَكِّلِ الْيَمِينُ عَلَى الْبَتَاتِ، فَإِنْ نَكَلَ رَجَعَ عَلَيْهِ وَالْمَبِيعُ لَهُ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ وَلَكِنَّ الْمَبِيعَ يُبَاعُ عَلَيْهِ.

وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الْوَكِيلَ يَبِيعُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رحمه الله- لَا يَبِيعُهُ، وَجَعَلَ هَذَا كَبَيْعِ مَالِ الْمَدْيُونِ الْمُفْلِسِ، وَلَكِنَّ الْوَكِيلَ لَوْ بَاعَهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا رَدَّهُ عَلَيْهِ فَسْخًا عَادَتِ الْوَكَالَةُ، فَإِذَا بِيعَ الْمَبِيعُ يَسْتَوْفِي الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ مِنْهُ إِنْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الْمُوَكِّلِ وَلَمْ يُقِرَّ بِقَبْضِ نَفْسِهِ.وَإِنْ أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ وَضَمِنَ الْمُشْتَرِي يَأْخُذُ مِنَ الثَّمَنِ مِقْدَارَ مَا غَرِمَ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ رَدَّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نُقْصَانٌ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ.

166- وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ إِذَا قَالَ لِلْمُوَكِّلِ: تَصَرَّفْتُ كَمَا أَذِنْتَ لِي مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَقَالَ الْمُوَكِّلُ بَعْدُ: لَمْ تَتَصَرَّفْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ، وَيَلْزَمُ الْآمِرَ التَّصَرُّفُ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِالْوَكَالَةِ.

وَلَوْ قَالَ قَبَضْتُ الثَّمَنَ وَتَلِفَ فِي يَدِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إِنْ ثَبَتَ الْقَبْضُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لَمْ يَبْرَأِ الْغَرِيمُ مِنَ الدَّعْوَى إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْقَابِضُ وَكِيلاً مُفَوِّضًا أَوْ وَصِيًّا فَيَبْرَأُ بِاعْتِرَافِهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ الْمَخْصُوصِ، وَفِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا غُرْمَ عَلَى الْوَكِيلِ.

167- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا وَكَّلَهُ فِي بَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ صُلْحٍ، أَوْ طَلَاقٍ، أَوْ إِعْتَاقٍ، أَوْ إِبْرَاءٍ، فَقَالَ الْوَكِيلُ: تَصَرَّفْتُ كَمَا أَذَنْتَ، وَقَالَ الْمُوَكِّلُ: لَمْ تَتَصَرَّفْ بَعْدُ، نُظِرَ: إِنْ جَرَى هَذَا الِاخْتِلَافُ بَعْدَ انْعِزَالِ الْوَكِيلِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلتَّصَرُّفِ حِينَئِذٍ.وَإِنْ جَرَى قَبْلَ الِانْعِزَالِ، فَهَلِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ أَمِ الْوَكِيلِ؟ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: الْأَوَّلُ، وَقِيلَ: مَا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْوَكِيلُ، كَالطَّلَاقِ وَالْإِعْتَاقِ وَالْإِبْرَاءِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ بِيَمِينِهِ، وَمَا لَا كَالْبَيْعِ فَلَا. وَلَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ: بَاعَ الْوَكِيلُ، فَقَالَ: لَمْ أَبِعْ.فَإِنْ صَدَّقَ الْمُشْتَرِي الْمُوَكِّلَ، حُكِمَ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ إِلَيْهِ، وَإِلاَّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ.

وَإِذَا وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دَيْنٍ، فَقَالَ: قَبَضْتُهُ، وَأَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ، نُظِرَ: إِنْ قَالَ: قَبَضْتُهُ وَهُوَ بَاقٍ فِي يَدِي فَخُذْهُ، لَزِمَهُ أَخْذُهُ، وَلَا مَعْنَى لِهَذَا الِاخْتِلَافِ.وَإِنْ قَالَ: قَبَضْتُهُ وَتَلِفَ فِي يَدِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ حَقِّهِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ.وَقِيلَ: بِطَرْدِ الْخِلَافِ فِي اخْتِلَافِهِمَا فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ.فَعَلَى الْمَذْهَبِ، إِذَا حَلَفَ الْمُوَكِّلُ، أَخَذَ حَقَّهُ مِمَّنْ كَانَ عَلَيْهِ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْوَكِيلِ، لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ مَظْلُومٌ.

وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي الْبَيْعِ وَقَبَضَ الثَّمَنَ، أَوْ فِي الْبَيْعِ مُطْلَقًا، وَجَوَّزْنَا لَهُ قَبْضَ الثَّمَنِ، فَاتَّفَقَا عَلَى الْبَيْعِ، وَاخْتَلَفَا فِي قَبْضِ الثَّمَنِ، فَقَالَ الْوَكِيلُ: قَبَضْتُهُ وَتَلِفَ فِي يَدِي، أَوْ دَفَعْتُهُ إِلَيْكَ، وَأَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ، فَفِي الْمُصَدَّقِ مِنْهُمَا طَرِيقَانِ:

أَحَدُهُمَا: عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ.

وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُمَا إِنِ اخْتَلَفَا قَبْلَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ، فَوَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: قَوْلُ الْمُوَكِّلِ.

وَأَصَحُّهُمَا: قَوْلُ الْوَكِيلِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ، لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ يَدَّعِي تَقْصِيرَهُ وَخِيَانَتَهُ بِالتَّسْلِيمِ بِلَا قَبْضٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ.

وَهَذَا التَّفْصِيلُ فِيمَا إِذَا أَذِنَ فِي الْبَيْعِ مُطْلَقًا.فَإِذَا أَذِنَ فِي التَّسْلِيمِ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ، أَوْ فِي الْبَيْعِ بِمُؤَجَّلٍ وَفِي الْقَبْضِ بَعْدَ الْأَجَلِ، لَمْ يَكُنْ خَائِنًا بِالتَّسْلِيمِ بِلَا قَبْضٍ، فَالِاخْتِلَافُ كَالِاخْتِلَافِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَإِذَا صَدَّقْنَا الْوَكِيلَ فَحَلَفَ، فَفِي بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ: يَبْرَأُ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ: لَا.

168- وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْوَكِيلُ: بِعْتُ الثَّوْبَ وَقَبَضْتُ الثَّمَنَ فَتَلِفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالْقَبْضَ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِمَا، كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ وَلِيِّ الْمَرْأَةِ الْمُجْبَرَةِ عَلَى النِّكَاحِ فِي تَزْوِيجِهَا.

وَقِيلَ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ، لِأَنَّهُ يُقِرُّ بِحَقٍّ لِغَيْرِهِ عَلَى مُوَكِّلِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ.

و- الِاخْتِلَافُ فِي دَعْوَى رَدِّ مَا بِيَدِ الْوَكِيلِ:

169- قَدْ يَخْتَلِفُ الْمُوَكِّلُ مَعَ الْوَكِيلِ فِي دَعْوَى رَدِّ مَا بِيَدِ الْوَكِيلِ لِمُوَكِّلِهِ مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ، بِأَنْ يَدَّعِيَ الْوَكِيلُ الرَّدَّ فَيُنْكِرُهُ الْمُوَكِّلُ: يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْوَكَالَةُ بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.

وَكَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ إِذَا كَانَ الْوَكِيلُ يَعْمَلُ بِدُونِ أَجْرٍ، أَوْ بِأَجْرٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ ثَانٍ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، إِلَى أَنَّ الْوَكِيلَ إِذَا كَانَ يَعْمَلُ بِالْأَجْرِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ مُتَطَوِّعًا أَوْ بِأَجْرٍ.

انْتِهَاءُ الْوَكَالَةِ:

تَنْتَهِي الْوَكَالَةُ بِأُمُورٍ مِنْهَا:

أَوَّلاً: الْعَزْلُ:

170- لَمَّا كَانَتِ الْوَكَالَةُ مِنَ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِأَيٍّ مِنَ الطَّرَفَيْن إِنْهَاؤُهَا، فَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَ الْوَكِيلَ مِنْهَا وَيَنْهَاهُ عَنِ التَّصَرُّفِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ، كَمَا أَنَّ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ مِنْهَا أَيْضًا، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ.

غَيْرَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَزْلِ الْوَكِيلِ مِنَ الْمُوَكِّلِ الشُّرُوطُ التَّالِيَةُ:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: عِلْمُ الْوَكِيلِ بِالْعَزْلِ:

171- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْوَكِيلِ بِالْعَزْلِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَقَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْوَكِيلِ بِالْعَزْلِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْعَزْلَ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ، فَلَا يَلْزَمُ حُكْمُهُ إِلاَّ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ، وَإِنَّهُ لَوِ انْعَزَلَ قَبْلَ عِلْمِهِ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَاتٍ فَتَقَعُ بَاطِلَةً.وَبِأَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ مُوَكِّلِهِ، وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الْمَأْمُورِ قَبْلَ عِلْمِهِ كَالْفَسْخِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْوَكِيلِ بِالْعَزْلِ، فَلَوْ تَصَرَّفَ الْوَكِيلُ بَعْدَ الْعَزْلِ فَتَصَرُّفُهُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْعَزْلَ رَفْعُ عَقْدٍ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى رِضَا صَاحِبِهِ، فَلَا يَفْتَقِرُ عَلَى عِلْمِهِ كَالطَّلَاقِ.

172- وَيَتِمُّ عِلْمُ الْوَكِيلِ بِالْعَزْلِ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- بِأُمُورٍ مِنْهَا:

أ- أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا الْعَزْلَ.

ب- إِذَا كَانَ الْوَكِيلُ غَائِبًا فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُوَكِّلُ كِتَابَ الْعَزْلِ، فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ وَعَلِمَ بِمَا فِيهِ.لِأَنَّ الْكِتَابَ مِنَ الْغَائِبِ كَالْخِطَابِ مِنَ الْحَاضِرِ.

جـ- لَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُوَكِّلُ رَسُولاً فَبَلَّغَهُ الرِّسَالَةَ، وَقَالَ لَهُ: فُلَانٌ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ وَيَقُولُ: إِنِّي عَزَلْتُكَ عَنِ الْوَكَالَةِ، فَإِنَّهُ يَنْعَزِلُ، كَائِنًا مَا كَانَ الرَّسُولُ، عَدْلاً كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا.لِأَنَّ الرَّسُولَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُرْسَلِ مُعَبِّرٌ وَسَفِيرٌ عَنْهُ، فَتَصِحُّ سِفَارَتُهُ بَعْدَ أَنْ صَحَّتْ عِبَارَتُهُ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ.

د- لَوْ أَخْبَرَ الْوَكِيلَ بِالْعَزْلِ رَجُلَانِ عَدْلَانِ كَانَا أَوْ غَيْرُ عَدْلَيْنِ، أَوْ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ يَنْعَزِلُ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ.سَوَاءٌ صَدَّقَهُ الْوَكِيلُ أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ إِذَا ظَهَرَ صِدْقُ الْخَبَرِ، لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ.فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلاً فَخَبَرُ الْعَدْلَيْنِ أَوِ الْعَدْلِ أَوْلَى.

وَإِنْ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ غَيْرُ عَدْلٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ يَنْعَزِلُ بِاتِّفَاقِهِمْ أَيْضًا.

أَمَّا إِنْ كَذَّبَهُ فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ حَتَّى وَإِنْ ظَهَرَ صِدْقُ الْخَبَرِ.لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْعَزْلِ لَهُ شَبَهُ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ فِيهِ الْتِزَامَ حُكْمِ الْمُخْبَرِ بِهِ وَهُوَ الْعَزْلُ، وَهُوَ لُزُومُ الِامْتِنَاعِ عَنِ التَّصَرُّفِ وَلُزُومُ الْعُهْدَةِ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بَعْدَ الْعَزْلِ، فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ، فَيَجِبُ اعْتِبَارُ أَحَدِ شُرُوطِهَا وَهُوَ الْعَدَالَةُ أَوِ الْعَدَدُ.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْعَزْلِ مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَاتِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ وَلَا الْعَدَالَةُ كَمَا فِي الْإِخْبَارِ فِي سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ قُلْنَا لَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ حَتَّى يَبْلُغَهُ خَبَرُ عَزْلِهِ فَالْمُعْتَبَرُ خَبَرُ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتِهِ دُونَ الصَّبِيِّ وَالْفَاسِقِ.الشَّرْطُ الثَّانِي: عَدَمُ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِالْوَكَالَةِ:

173- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ عَزْلِ الْوَكِيلِ إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ.

فَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَلَّقَ بِالْوَكَالَةِ حَقُّ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَزْلُ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ، لِأَنَّ فِي الْعَزْلِ إِبْطَالَ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، وَهُوَ كَمَنْ رَهَنَ مَالَهُ عِنْدَ رَجُلٍ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ، أَوْ وَضَعَهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ وَجَعَلَ الْمُرْتَهِنَ أَوِ الْعَدْلَ مُسَلَّطًا عَلَى بَيْعِهِ وَقَبَضَ ثَمَنَهُ عِنْدَ حِلِّ الْأَجَلِ، فَعَزْلُ الرَّاهِنِ الْمُسَلَّطِ عَلَى الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ بِهِ عَزْلُهُ.

وَكَذَلِكَ إِذَا وَكَّلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَكِيلاً بِالْخُصُومَةِ مَعَ الْمُدَّعِي بِالْتِمَاسِ الْمُدَّعِي فَعَزَلَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَضْرَةِ الْمُدَّعِي لَا يَنْعَزِلُ.

وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيمَنْ وَكَّلَ رَجُلاً بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ إِنْ غَابَ، ثُمَّ عَزَلَهُ الزَّوْجُ مِنْ غَيْرِ حَضْرَةِ الْمَرْأَةِ ثُمَّ غَابَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِحُّ عَزْلُهُ، لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهَذِهِ الْوَكَالَةِ حَقُّ الْمَرْأَةِ فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَصِحُّ عَزْلُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَجْبُورٍ عَلَى الطَّلَاقِ وَلَا عَلَى التَّوْكِيلِ بِهِ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ، فَيَمْلِكُ عَزْلَهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْوَكَالَاتِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا قَالَ الْمُوَكِّلُ: عَزَلْتُ الْوَكِيلَ أَوْ رَفَعْتُ الْوَكَالَةَ، أَوْ فَسَخْتُهَا، أَوْ أَبْطَلْتُهَا، أَوْ أَخْرَجْتُهُ عَنْهَا، فَيَنْعَزِلُ، سَوَاءٌ ابْتَدَأَ تَوْكِيلَهُ، أَوْ وَكَّلَهُ بِسُؤَالِ الْخَصْمِ، بِأَنْ سَأَلَتْ زَوْجَهَا أَنْ يُوَكِّلَ فِي الطَّلَاقِ أَوِ الْخُلْعِ، أَوْ سَأَلَ الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ أَنْ يُوَكِّلَ بِبَيْعِ الرَّهْنِ، أَوْ سَأَلَهُ خَصْمُهُ أَنْ يُوَكِّلَ فِي الْخُصُومَةِ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَيْسَ لَهُ عَزْلُ وَكِيلِهِ إِذَا قَاعَدَ الْوَكِيلُ الْخَصْمَ ثَلَاثًا، سَوَاءٌ كَانَ التَّوْكِيلُ لِعُذْرٍ أَمْ لَا.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَلاَّ تَقَعَ الْوَكَالَةُ عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ:

174- اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِصِحَّةِ عَزْلِ الْمُوَكِّلِ وَكِيلَهُ أَنْ لَا تَكُونَ الْوَكَالَةُ قَدْ وَقَعَتْ عَلَى سَبِيلِ الْإِجَارَةِ، فَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى سَبِيلِ الْإِجَارَةِ فَهِيَ لَازِمَةٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا.أَمَّا إِذَا وَقَعَتِ الْوَكَالَةُ عَلَى سَبِيلِ الْجَعَالَةِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي لُزُومِ عَقْدِ الْوَكَالَةِ وَعَدَمِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (فَقْرَةِ 30).

أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْوَكَالَةُ عَلَى سَبِيلِ الْإِجَارَةِ أَوِ الْجَعَالَةِ فَيَرَى بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا لَازِمَةٌ مِنْ جَانِبِ الْوَكِيلِ فَقَطْ، خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ كَمَا سَبَق تَفْصِيلُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ صِفَةِ عَقْدِ الْوَكَالَةِ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَلاَّ يَتَرَتَّبَ عَلَى الْعَزْلِ مَفْسَدَةٌ:

175- قَالَ الشَّرَوَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ عَلِمَ الْمُوَكِّلُ أَنَّهُ تَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَزْلِ مَفْسَدَةٌ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ فِي مَالِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ حَيْثُ جَوَّزْنَاهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ إِذَا عَزَلَ الْوَكِيلَ اسْتَوْلَى عَلَى مَالِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ ظَالِمٌ، أَوْ وَكَّلَ فِي شِرَاءِ مَاءٍ لِطُهْرِهِ، أَوْ ثَوْبٍ لِلسَّتْرِ بِهِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، أَوْ شِرَاءِ ثَوْبٍ لِدَفْعِ الْحَرِّ أَوِ الْبَرْدِ اللَّذَيْنِ يَحْصُلُ بِسَبَبِهِمَا عِنْدَ عَدَمِ السَّتْرِ مَحْذُورٌ، تَيَمَّمَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ إِذَا عَزَلَ الْوَكِيلَ لَا يَتَيَسَّرُ لَهُ ذَلِكَ، فَيَحْرُمُ الْعَزْلُ وَلَا يَنْفُذُ.

عِلْمُ الْمُوَكِّلِ بِعَزْلِ الْوَكِيلِ نَفْسَهُ:

176- لَمْ يَشْتَرِطْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عِلْمَ الْمُوَكِّلِ بِعَزْلِ الْوَكِيلِ نَفْسَهُ مِنَ الْوَكَالَةِ، لِأَنَّ فَسْخَ عَقْدِ الْوَكَالَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَحْتَاجُ لِلرِّضَا فِيهِ، وَمَا لَا يَحْتَاجُ لِلرِّضَا فِيهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْعِلْمِ فِيهِ كَذَلِكَ.

وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ أَوْ بِشِرَاءِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، حَيْثُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَزْلِ الْوَكِيلِ لِنَفْسِهِ عِلْمُ الْمُوَكِّلِ بِالْعَزْلِ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ الْوَكِيلُ أَنَّهُ لَوْ عَزَلَ نَفْسَهُ فِي غَيْبَةِ مُوَكِّلِهِ اسْتَوْلَى عَلَى الْمَالِ جَائِرٌ حَرُمَ عَلَيْهِ الْعَزْلُ عَلَى الْأَوْجَهِ كَالْمُوصِي، وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ.

ثَانِيًا: الْوَفَاةُ:

177- تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ أَوِ الْوَكِيلِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْتَ مُبْطِلٌ لِأَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُوَكِّلُ أَوِ الْوَكِيلُ بَطَلَتْ أَهْلِيَّتُهُ بِالْمَوْتِ فَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ.

وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ نَائِبٌ عَنِ الْمُوَكِّلِ فِي مَالِهِ، وَقَدِ انْتَقَلَ هَذَا الْمَالُ بِالْوَفَاةِ إِلَى وَرَثَتِهِ، فَلَا يَلْزَمُهُمْ مَا بَاعَ أَوِ اشْتَرَى.

عِلْمُ الْوَكِيلِ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ:

178- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْوَكِيلِ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ حَتَّى تَبْطُلَ الْوَكَالَةُ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ حَتَّى يَصِحَّ الْعَزْلُ، لِأَنَّهُ لَوِ انْعَزَلَ قَبْلَ عِلْمِهِ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَاتٍ فَتَقَعُ بَاطِلَةً.فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَتَى تَصَرَّفَ قَبْلَ عِلْمِهِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُتَعَاقِدُ مَعَ الْوَكِيلِ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ الَّذِي مَاتَ فِيهَا الْمُوَكِّلُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ يَتَعَاقَدُ مَعَ وَكِيلٍ بِأَنْ أَعْلَمَهُ الْوَكِيلُ بِذَلِكَ، أَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ إِلاَّ إِذَا عَلِمَ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ، وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ لِصِحَّةِ الْعَزْلِ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ.

أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُتَعَاقِدُ مَوْجُودًا بِالْبَلَدِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ الْمُوَكِّلُ، أَوْ كَانَ مَوْجُودًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِالْوَكَالَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ إِلاَّ إِذَا عَلِمَ بِوَفَاةِ مُوَكِّلِهِ.

ثَالِثًا: الْجُنُونُ:

179- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ طُرُوءِ الْجُنُونِ عَلَى الْمُوَكِّلِ أَوِ الْوَكِيلِ عَلَى الْوَكَالَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِالْجُنُونِ الْمُطْبَقِ، سَوَاءٌ طَرَأَ عَلَى الْوَكِيلِ أَوِ الْمُوَكِّلِ.

وَإِذَا جُنَّ الْوَكِيلُ أَوِ الْمُوَكِّلُ جُنُونًا مُطْبَقًا ثُمَّ أَفَاقَ لَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ.

وَحَدُّ الْجُنُونِ الْمُطْبَقِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِيهِ:

فَحَدَّهُ أَبُو يُوسُفَ بِمَا يَسْتَوْعِبُ الشَّهْرَ وَبِهِ يُفْتِي، وَعَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِسُقُوطِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بِهِ، فَقُدِّرَ بِهِ احْتِيَاطًا، وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِي ذَلِكَ.وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشَّهْرَ أَدْنَى مَا يَسْقُطُ بِهِ عِبَادَةُ الصَّوْمِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ بِهِ أَوْلَى، أَمَّا وَجْهُ حَدِّهِ بِأَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَلِسُقُوطِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بِهِ فَقَدَّرَ بِهِ احْتِيَاطًا كَمَا ذَكَرْنَا.

وَحَدَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بِمَا يَسْتَوْعِبُ السَّنَةَ، لِأَنَّ الْمُسْتَوْعِبَ لِلسَّنَةِ هُوَ الْمُسْقِطُ لِلْعِبَادَاتِ كُلِّهَا فَكَانَ التَّقْدِيرُ بِهِ أَوْلَى.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ كَذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِالْجُنُونِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمُمْتَدِّ وَغَيْرِهِ.

قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِخُرُوجِ الْمُوَكِّلِ أَوِ الْوَكِيلِ عَنْ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ بِمَوْتٍ أَوْ جُنُونٍ وَإِنْ زَالَ عَنْ قُرْبٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِجِنُونِهِ أَوْ جِنُونِ مُوَكِّلِهِ إِلاَّ أَنْ يَطُولَ جُنُونُ مُوَكِّلِهِ جِدًّا فَيَنْظُرَ لَهُ الْحَاكِمُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ: لَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِجِنُونٍ لَا يَمْتَدُّ بِحَيْثُ تَتَعَطَّلُ الْمُهِمَّاتُ وَيَخْرُجُ إِلَى نَصْبِ قَوَّامٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَرَدَ بِلَفْظِ قِيلَ: إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِالْجُنُونِ.

رَابِعًا: الْإِغْمَاء:

180- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ الْإِغْمَاءِ عَلَى الْوَكَالَةِ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِالْإِغْمَاءِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ عَنْ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ إِلَى بُطْلَانِ الْوَكَالَةِ بِإِغْمَاءِ الْمُوَكِّلِ أَوِ الْوَكِيلِ، إِلْحَاقًا لَهُ بِالْجُنُونِ، لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ يَجْعَلُ الْإِنْسَانَ غَيْرَ أَهْلٍ لِلْقِيَامِ بِالتَّصَرُّفَاتِ، فَتَبْطُلُ بِهِ الْوَكَالَةُ لِذَلِكَ.

خَامِسًا: الْحَجْرُ:

181- الْحَجْرُ مِنْ أَسْبَابِ بُطْلَانِ الْوَكَالَةِ فِي الْجُمْلَةِ.

وَلِلْفُقَهَاءِ مَنَاهِجُ مُخْتَلِفَةٌ فِي بَيَانِ آثَارِ الْحَجْرِ عَلَى الْوَكَالَةِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْمُوَكِّلِ أَوِ الْوَكِيلِ يُبْطِلُ الْوَكَالَةَ.

وَقَالُوا: إِنَّ مَنْ وَكَّلَ إِنْسَانًا فَحَجَرَ عَلَيْهِ بَطَلَتْ وَكَالَتُهُ، لِأَنَّ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ بَطَلَتْ أَهْلِيَّةُ أَمْرِهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ فَيَبْطُلُ الْأَمْرُ فَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ.

وَخَصَّصَ الْحَنَفِيَّةُ بُطْلَانَ الْوَكَالَةِ بِالْحَجْرِ عَلَى الْمُوَكِّلِ إِذَا كَانَ الْوَكِيلُ وَكِيلاً فِي الْعُقُودِ وَالْخُصُومَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَ وَكِيلاً فِي قَضَاءِ دَيْنٍ وَاقْتِضَائِهِ وَقَبْضِ وَدِيعَتِهِ فَلَا يَنْعَزِلُ بِالْحَجْرِ.

وَقَالُوا: تَبْطُلُ وَكَالَةُ الوَكِيلِ بِالْحَجْرِ، عَلِمَ الْوَكِيلُ بِالْحَجْرِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ

َصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِالْحَجْرِ لِسَفَهٍ، سَوَاءٌ طَرَأَ عَلَى الْوَكِيلِ أَوْ عَلَى الْمُوَكِّلِ، لِأَنَّ عَقْدَ الْوَكَالَةِ يَعْتَمِدُ عَلَى الْعَقْلِ وَعَدَمِ الْحَجْرِ، فَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ انْتَفَتْ صِحَّتُهُ لِانْتِفَاءِ مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ.

وَقَالُوا: الْمُرَادُ بِبُطْلَانِ الْوَكَالَةِ بِالْحَجْرِ لِلسَّفَهِ حَيْثُ كَانَتْ فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي اعْتُبِرَ لَهَا الرُّشْدُ، بِأَنْ كَانَتْ فِي شَيْءٍ لَا يَتَصَرَّفُ فِي مِثْلِهِ السَّفِيهُ، أَمَّا إِنْ كَانَتْ فِي شَيْءٍ يَسِيرٍ يَتَصَرَّفُ فِي مِثْلِهِ السَّفِيهُ بِدُونِ إِذْنٍ، أَوْ كَانَتِ الْوَكَالَةُ فِي طَلَاقٍ أَوْ رَجْعَةٍ أَوْ فِي تَمَلُّكٍ مُبَاحٍ كَاسْتِقَاءِ مَاءٍ أَوِ احْتِطَابٍ، وَالَّذِي حُجِرَ عَلَيْهِ الْمُوَكِّلُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، فَلَا تَنْفَسِخُ.

وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِفَلَسِ الْمُوَكِّلِ فِيمَا حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهِ كَالتَّصَرُّفِ فِي عَيْنِ مَالِهِ لِانْقِطَاعِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي تَصَرُّفٍ فِي الذِّمَّةِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ حَجَرَ عَلَى الْوَكِيلِ لِفَلَسٍ فَالْوَكَالَةُ بِحَالِهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ أَهْلاً لِلتَّصَرُّفِ.

وَإِنْ حَجَرَ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَكَانَتِ الْوَكَالَةُ بِأَعْيَانِ مَالِهِ بَطَلَتْ لِانْقِطَاعِ تَصَرُّفِهِ فِي أَعْيَانِ مَالِهِ.وَإِنْ كَانَتْ فِي الْخُصُومَةِ أَوِ الشِّرَاءِ فِي الذِّمَّةِ أَوِ الطَّلَاقِ أَوِ الْخُلْعِ أَوِ الْقِصَاصِ فَالْوَكَالَةُ بِحَالِهَا، لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ أَهْلٌ لِذَلِكَ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ، فَلَا تَنْقَطِعُ الِاسْتِدَامَةُ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِالْحَجْرِ عَلَى الْوَكِيلِ أَوْ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ لَا يَنْفُذُ مِنْهُمَا.وَاعْتَبَرُوا الْحَجْرَ فِي كِلَا الْحَالَيْنِ فِي مَعْنَى الْجُنُونِ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِفَلَسِ الْمُوَكِّلِ الْأَخَصِّ، لِانْتِقَالِ الْمَالِ لِلْغُرَمَاءِ.

وَالْمُرَادُ بِالْفَلَسِ الْأَخَصِّ: هُوَ حُكْمُ الْحَاكِمُ بِخَلْعِ مَا بِيَدِ الْمُفْلِسِ لِغُرَمَائِهِ بِشُرُوطِهِ، بِأَنْ يَطْلُبَ الْغُرَمَاءُ تَفْلِيسَ الْمَدِينِ، وَأَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَيْهِ حَالًّا، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الدَّيْنُ الْحَالُّ يَزِيدُ عَلَى مَا بِيَدِ الْمَدِينِ مِنَ الْمَالِ.

وَالْفَلَسُ الْأَخَصُّ يَخْتَلِفُ عَنِ الْفَلَسِ الْأَعَمِّ الَّذِي هُوَ مَنْعُ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ وَلَوْ مُؤَجَّلاً- بِمَالِهِ مِنْ تَبَرُّعِهِ بِعِتْقٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ حِمَالَةٍ.

وَيُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِفَلَسِ الْمُوَكِّلِ الْأَعَمِّ. سَادِسًا: الرِّدَّةُ:

182- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بُطْلَانِ الْوَكَالَةِ بِرِدَّةِ الْوَكِيلِ أَوِ الْمُوَكِّلِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ إِذَا حُكِمَ بِلُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، سَوَاءٌ كَانَ مُوَكِّلاً أَوْ وَكِيلاً، بَطَلَتْ وَكَالَتُهُ، ثُمَّ لَا تَعُودُ بِعَوْدِهِ مُسْلِمًا عَلَى الْمَذْهَبِ.

وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْحَوَاشِي الْيَعْقُوبِيَّةِ: أَنَّ الْوَكِيلَ إِنْ عَادَ مُسْلِمًا بَعْدَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا وَالْقَضَاءِ بِهِ، تَعُودُ الْوَكَالَةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَلَا تَعُودُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.

وَلَوْ عَادَ الْمُوَكِّلُ مُسْلِمًا بَعْدَ اللُّحُوقِ وَالْقَضَاءِ بِه لَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايِةِ.وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ تَعُودُ كَمَا فِي الْوَكِيلِ.

أَمَّا تَصَرُّفَاتُ الْمُرْتَدِّ قَبْلَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمِنْهَا الْوَكَالَةُ، فَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَ، وَإِنْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ.

وَيَرَى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ نَافِذَةٌ، فَلَا تَبْطُلُ وَكَالَتُهُ إِلاَّ أَنْ يَمُوتَ، أَوْ يُقْتَلَ عَلَى رِدَّتِهِ، أَوْ يُحْكَمَ بِلِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِرِدَّتِهِ أَيَّامَ الِاسْتِتَابَةِ، وَأَمَّا بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ فَإِنْ قُتِلَ فَوَاضِحٌ، وَإِنْ أُخِّرَ لِمَانِعٍ كَالْحَمْلِ فَقَدْ تَرَدَّدَ الْعُلَمَاءُ فِي عَزْلِهِ، وَكَذَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِرِدَّةِ مُوَكِّلِهِ بَعْدَ مُضِيِّ أَيَّامِ الِاسْتِتَابَةِ وَلَمْ يَرْجِعْ وَلَمْ يُقْتَلْ لِمَانِعٍ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ عَزْلَ الْوَكِيلِ بِرِدَّةِ الْمُوَكِّلِ يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ الْجَارِي فِي زَوَالِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ الْمُرْتَدِّ عَنْ مِلْكِهِ.

وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي زَوَالِ مِلْكِ الْمُرْتَدِّ عَنْ مَالِهِ أَقْوَالاً:

أَحَدُهَا: يَزُولُ مِلْكُ الْمُرْتَدِّ عَنْ مَالِهِ لِزَوَالِ عِصْمَةِ الْإِسْلَامِ، وَقِيَاسًا عَلَى النِّكَاحِ.وَعَلَيْهِ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ.

وَالثَّانِي: لَا يَزُولُ مِلْكُ الْمُرْتَدِّ عَنْ مَالِهِ كَالزَّانِي الْمُحْصِنِ فَلا يَنْعَزِلُ.

وَالثَّالِثُ: وَهُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ: أَنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ مَاتَ مُرْتَدًّا بَانَ زَوَالُهُ بِالرِّدَّةِ، وَإِنْ أَسْلَمَ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَزُلْ، لِأَنَّ بُطْلَانَ أَعْمَالِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَوْتِهِ مُرْتَدًّا فَكَذَا مِلْكُهُ، فَيَكُونُ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ مَوْقُوفًا.

وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ قَطَعَ بِاسْتِمْرَارِ مِلْكِهِ، وَجَعَلَ الْخِلَافَ فِي أَنَّهُ هَلْ يَصِيرُ بِالرِّدَّةِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ؟. وَقَالُوا: رِدَّةُ الْوَكِيلِ لَا تُوجِبُ انْعِزَالَهُ، وَعَلَيْهِ فَتَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ فِي زَمَنِ رِدَّتِهِ عَنِ الْمُوَكِّلِ.

وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي بُطْلَانِ الْوَكَالَةِ بِرِدَّةِ الْوَكِيلِ، أَوْ رِدَّةِ الْمُوَكِّلِ.وَلَهُمْ رَأْيَانِ:

الرَّأْيُ الْأَوَّلُ: لَا تَبْطُلُ بِرِدَّةِ الْوَكِيلِ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ، وَكَذَا بِرِدَّةِ الْمُوَكِّلِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي عِنْدَهُمْ، بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ تَصَرُّفِ الْمُوَكِّلِ بَعْدَ رِدَّتِهِ.

وَالرَّأْيُ الثَّانِي: تَبْطُلُ بِرِدَّةِ الْوَكِيلِ وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْمَذْهَبِ، وَكَذَا بِرِدَّةِ الْمُوَكِّلِ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ.

وَهَلْ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِرِدَّةِ الْمُوَكِّلِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؟ وَجْهَانِ فِي الْمَذْهَبِ أَصْلُهُمَا هَلْ يَنْقَطِعُ مِلْكُهُ وَتَصَرُّفُهُ أَوْ يَكُونُ مَوْقُوفًا.

كَمَا أَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ الْخِلَافَ فِي بُطْلَانِ الْوَكَالَةِ إِذَا وَكَّلَهُ ثُمَّ ارْتَدَّ الْوَكِيلُ وَالْمُوَكِّلُ مَعًا.

قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ: إِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُعْطَى حُكْمَهُ لَوِ انْفَرَدَ بِالِارْتِدَادِ.

(ر: رِدَّة ف43).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


28-الحضارة (فلك)

فلك: astronomy.

علم التنبؤ بالظواهر الفلكية.

وكان يلقن بواسطة الكهنة بالمعابد.

وكان لكل من قدماء المصر يين والبابليين فلكهم الخاص بهم.

فلقد عثر علي تقاويم فوق أغطية التوابيت الفرعونية ترجع لسنة 2000-1600ق.

م.

ووجد أن أسقف المقابر المملكة الحد يثة فد زينت بصور النجوم التي كانت تري بالسماء وأطلق عليها أسماؤها.

كما وجد في بلاد ما بين النهرين تشكيلات لصور النجوم.

وكان البابليون يتنبؤن بدقة بالخسوف والكسوف للشمس والقمر.

وتاريخ الفلك يبدأ منذ عصر ماقبل التاريخ حيث كان الإنسان الأول قد شغل تفكيره بالحركة الظاهرية المتكررة للشمس والقمر وتتابع الليل حيث يظهر الظلام و تظهر النجوم وحيث يتبعه النهار لتتواري في نوره.

وكان يعزي هذا للقوي الخارقة لكثير من الآلهة.

فالسومريون (مادة) كانوا بعتقدون أن الأرض هضبة يعلوها القبة السماوية.

وتقوم فوق جدار مرتفع علي أطرافها البعيدة.

واعتبروا الأرض بانثيون (مادة) هائل تسكن فوق جبل شاهق.

والابليون (مادة) إعتقدوا أن المحيطات تسند الأرض والسماء.

والأرض جوفاء تطفو فوق مياهها ومركزها بها مملكة الأموات.

لهذا ألهت الشمس والقمر وتصورت الحضارات القديمة أنهما يعبران قية السماء فوق عربات تدخل من بوابة مشرق الشمس وتخرج من بوابة مغرب الشمس.

وهذه المفاهيم بنيت علي أساسها إتجهات المعابد الجنائزية.

وكان قدماء المصريين يعتقدون أن الأرض مستطيل طويل يتوسطها نهر النيل الذي ينبع من نهر أعظم يجري حولها تسبح فوقه النجوم الآلهة.

والسماء ترتكز علي جبال بأركان الكون الأربعة وتتدلي منها هذه النجوم.

لهذا كان الإه رع يسير حول الأرض باستمرار.

ليواجه الثعبان أبوبي (رمز قوي الظلام الشريرة) حتي يصبحا خلف الجبال جهة الغرب والتي ترفع السماء.

وهناك يهزم رع ويسقط.

فيحل الظلام.

وفي الصباح ينتصر رع علي هذه القوي الشريرة.

ويستيقظ من جهة الشرق.

بينما حورس (مادة) إله القمريسير بقاربه ليطوف حول العالم.

وكان القمر بعتبر إحدي عينيه.

و يلاحقه أعداؤه لفقيءهذه العين بإلقائها في النيل وينجحوا مجتمعين في هذه المهمة فيظلم الفمر.

لكن الإله رع يهب لنجدة عين حورس (القمر) ويعيدها لحورس.

وكان الصينيون يعتبرون الأرض عربة ضخمة في أركانها أعمدة ترفع مظلة (السماء) وبلاد الصين تقع في وسط هذه العربة ويجري النهر السماوي (النهر الأصفر) من خلال عجلات العربة ز ويقوم السيد الأعلي المهيمن علي أقدار السماء والأرض بملازمة النجم القطبي بالشمال بينما التنينات تفترس الشمس والقمر.

لكن في القرن الثاني ق.

م.

وضع الفلكي الصيني (هياهونج) نظرية السماء الكروية حيث قال أن الكون بيضة والأرض صفارهاوقبة السماء الزرقاء بياضها.

والكلدانيون (مادة) من خلال مراقبتهم لحركة الشمس ومواقع النجوم بالسماء وضعوا تقويمهم (انظر: تقويم).

واستطاعوا التنبؤ من خلال دورتي الشمس والقمر بحركتيهما ما مكنهم من وضع تقويم البروج حيث ريطوا فيعا بين الإنسان وأقداره.

وأخضعوا فيها إخضاع حركات النجوم لمشيئة الآلهة.

لهذا توأموا بين التنجيم (مادة) والفلك.

ومن خلال تقويم البروج تمكنوا من التنبؤ بكسوف الشمس وخسوف القمر.

لكنهم لم يجدوا لها تفسيرا.

وكان تقويمهم يعتمد أساسا علي السنو القمرية التي لم تكن تتوافق مع الفصول المناخية.

وكان قدماء المصريين منذ 3000 سنة ق.

م.

أمكنهمة الفيام بالرصد الفلكي وقياس الزمن وتحديده من خلال السنة والأشهر.

وبنوا الأهرامات (مادة) أضلاعها (وجوهها) متجهة للجهات الأربع الأصلية.

ومن خلال هذا نجدهم قد حددوا الشمال الحقيقي.

والفلك الفرعوني لم يتهموا به عكس بلاد الرافدين ولاسيما بالدورة القمرية.

واهتموا بالشمس لأنها كانت ترمز للإله رع.

(انظر: تقويم.

تنجيم.

دوائر الحجر.

ستونهنج.

أهرامات).

موسوعة حضارة العالم-أحمد محمد عوف-صدرت: 1421هـ/2000م


29-الحضارة (تنجيم)

تنجيم:: Astrology هو علم التنبؤ الغيبي.

وقد نشأ في بلاد مابين النهرين بشمال العراق.

وكان أحد فروع علم الفلك (مادة).

وكان يعني بالطالع للتعرف عل أمور مستقبلية.

ومارس السومريون والبابليون فن التنجيم (مادة) من خلال مراقبة الشمس والقمر والنجوم والمذنبات وأقواس قزح للتنبؤ بالأوبئة والمحاصيل والحروب.

وفي سنة 1000 ق.

م.

أصبح لدي البابليين والآشوريين مجموعة دلائل نجمية للقياس التنبؤي عليها.

فحددوا من خلالها الأيام السيئة الطالع وأيام السعد.

وكان القواد في المعارك يستعينون بالمنجمين لتحديد مواعيد المعارك الحربية.

ولأنهم كانوا يعتقدون أن الفرد حياته ومصيره مرتبطان بالنجوم والكواكب.

وكان قدماء المصر يين والبابليين يعتقدون أن هذه النجوم والكواكب تؤثر علي الحياة فوق الأرض.

وانتقل التنجيم للأغريق من بلاد الفرس و مابين النهرين.

وكان يلقن بواسطة الكهنة بالمعابد.

وكان لكل من قدماء المصر يين والبابليين فلكهم الخاص بهم.

فلقد عثر علي تقاويم فوق أغطية التوابيت الفرعونية ترجع لسنة 2000-1600ق.

م.

ووجد أن أسقف المقابر المملكة الحد يثة فد زينت بصور النجوم التي كانت تري بالسماء وأطلق عليها أسماؤها.

كما وجد في بلاد ما بين النهرين تشكيلات لصور النجوم.

وكان البابليون يتنبؤن بدقة بالخسوف والكسوف للشمس والقمر.

وتاريخ الفلك يبدأ منذ عصر ماقبل التاريخ حيث كان الإنسان الأول قد شغل تفكيره بالحركة الظاهرية المتكررة للشمس والقمر وتتابع الليل حيث يظهر الظلام و تظهر النجوم وحيث يتبعه النهار لتتواري في نوره.

وكان يعزي هذا للقوي الخارقة لكثير من الآلهة.

فالسومريون (مادة) كانوا بعتقدون أن الأرض هضبة يعلوها القبة السماوية.

وتقوم فوق جدار مرتفع علي أطرافها البعيدة.

واعتبروا الأرض بانثيون (مادة) هائل تسكن فوق جبل شاهق.

والابليون (مادة) إعتقدوا أن المحيطات تسند الأرض والسماء.

والأرض جوفاء تطفو فوق مياهها ومركزها بها مملكة الأموات.

لهذا ألهت الشمس والقمر وتصورت الحضارات القديمة أنهما يعبران قية السماء فوق عربات تدخل من بوابة مشرق الشمس وتخرج من بوابة مغرب الشمس.

وهذه المفاهيم بنيت علي أساسها إتجهات المعابد الجنائزية.

وكان قدماء المصريين يعتقدون أن الأرض مستطيل طويل يتوسطها نهر النيل الذي ينبع من نهر أعظم يجري حولها تسبح فوقه النجوم الآلهة.

والسماء ترتكز علي جبال بأركان الكون الأربعة وتتدلي منها هذه النجوم.

لهذا كان الإه رع يسير حول الأرض باستمرار.

ليواجه الثعبان أبوبي (رمز قوي الظلام الشريرة) حتي يصبحا خلف الجبال جهة الغرب والتي ترفع السماء.

وهناك يهزم رع ويسقط.

فيحل الظلام.

وفي الصباح ينتصر رع علي هذه القوي الشريرة.

ويستيقظ من جهة الشرق.

بينما حورس (مادة) إله القمريسير بقاربه ليطوف حول العالم.

وكان القمر بعتبر إحدي عينيه.

و يلاحقه أعداؤه لفقيءهذه العين بإلقائها في النيل وينجحوا مجتمعين في هذه المهمة فيظلم الفمر.

لكن الإله رع يهب لنجدة عين حورس (القمر) ويعيدها لحورس.

وكان الصينيون يعتبرون الأرض عربة ضخمة في أركانها أعمدة ترفع مظلة (السماء) وبلاد الصين تقع في وسط هذه العربة ويجري النهر السماوي (النهر الأصفر) من خلال عجلات العربة ز ويقوم السيد الأعلي المهيمن علي أقدار السماء والأرض بملازمة النجم القطبي بالشمال بينما التنينات تفترس الشمس والقمر.

لكن في القرن الثاني ق.

م.

وضع الفلكي الصيني (هياهونج) نظرية السماء الكروية حيث قال أن الكون بيضة والأرض صفارهاوقبة السماء الزرقاء بياضها.

والكلدانيون (مادة) من خلال مراقبتهم لحركة الشمس ومواقع النجوم بالسماء وضعوا تقويمهم (انظر: تقويم).

واستطاعوا التنبؤ من خلال دورتي الشمس والقمر بحركتيهما ما مكنهم من وضع تقويم البروج حيث ريطوا فيعا بين الإنسان وأقداره.

وأخضعوا فيها إخضاع حركات النجوم لمشيئة الآلهة.

لهذا توأموا بين التنجيم (مادة) والفلك.

ومن خلال تقويم البروج تمكنوا من التنبؤ بكسوف الشمس وخسوف القمر.

لكنهم لم يجدوا لها تفسيرا.

وكان تقويمهم يعتمد أساسا علي السنو القمرية التي لم تكن تتوافق مع الفصول المناخية.

وكان قدماء المصريين منذ 3000 سنة ق.

م.

أمكنهمة الفيام بالرصد الفلكي وقياس الزمن وتحديده من خلال السنة والأشهر.

وبنوا الأهرامات (مادة) أضلاعها (وجوهها) متجهة للجهات الأربع الأصلية.

ومن خلال هذا نجدهم قد حددوا الشمال الحقيقي.

والفلك الفرعوني لم يتهموا به عكس بلاد الرافدين ولاسيما بالدورة القمرية.

واهتموا بالشمس لأنها كانت ترمز للإله رع.

(انظر: تقويم.

تنجيم.

دوائر الحجر.

ستونهنج.

أهرامات).

وكان فلكيو المايا يقومون بعمليات حسابية صعبة من بينها تحديد اليوم والإسبوع من التاريخ التقويمي لأي سنة منذ آلاف السنين في الماضي او المستقبل.

وكانوا يستخدمون مقهوما للصفر رغم عدم وجود الحساب والكسور العشرية.

وعرفت جضارة المايا الكتابة الرمزية (الهيروغليفية) كما عرفت التقويم عام 613ٌ.

م.

والسنة الماياوية 18 شهر كل شهر 20 يوم.

وكان يضاف للسنة 5 أيام نسيء يمارس فيها الطقوس الدينية وعرفوا الحساب.

وكان متطورا.

فالوحدة نقطة والخمسة وحدات قضيب والعشرون هلال.

وكانوا يتخذون اشكال الإنسان والحيوان كوحدات عددية.

وكان الفلكيون القدماء لديهم قد لاحظوا حركات الشمس والقمر والكواكب.

وصنعوا تقويمهم من خلال حساباتهم وملاحظاتهم الفلكية لهذه الأجرام السماوية.

وكانت ملاحظات الفلكيين تتنبأ لتبشرهم بالأحداث والساعات السعيدة في كل أنشطتهم الحياتية, ولاسيما في الزراعة أو الحرب.

وحسب الفلكيون سنة كوكب الزهرة 583,92 يوم (584 يوم).

وكانت الأيام حسب الرقم 20 أساس الحساب الماياوي.

وقد وجدت تواريخ منقوشة علي الحجر.

وكانالعرب يستعملون الأسطرالاب.

(مادة).

موسوعة حضارة العالم-أحمد محمد عوف-صدرت: 1421هـ/2000م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com