نتائج البحث عن (وَالتَّعْبِيرُ)
1-العربية المعاصرة (أنق)
أنِقَ/أنِقَ ب يأنَق، أناقةً وأنَقًا، فهو أنيق، والمفعول مأنوق (للمتعدِّي).* أنِق شابٌّ: أحسن اختيارَ ألفاظه وطرق تعبيره، وجمال مظهره فأعجب الناس بلباقته وشياكته (شابٌّ أنيق).
* أنِق الشَّيءَ: أحبَّه.
* أنِق به: أُعجب به، وفضَّله على سواه.
آنقَ يؤنق، إيناقًا، فهو مؤنِق وأنيق، والمفعول مؤنَق.
* آنقه منظرُ الحديقة: أعجبه، خلبَه (روضةٌ أنيقة).
* آنَق البستانَ: جعله أنيقًا متَّسقًا يعجب الناظرين.
أنَّقَ يؤنِّق، تأنيقًا، فهو مؤنِّق، والمفعول مُؤنَّق (للمتعدِّي).
* أنَّق الدَّجاجُ: صوَّت، أصدر نقيقًا.
* أنَّق الأثاثَ ونحوَه: آنقه؛ صيَّره أنيقًا، حسَّن مظهره (أنَّق المنزلَ القديم/مظهَره- أنّقَت صديقتها حتى صارت تأخذ بالألباب).
تأنَّقَ/تأنَّقَ في يتأنَّق، تأنُّقًا، فهو مُتأنِّق، والمفعول مُتأنَّق فيه.
* تأنَّق الشَّخصُ: اعتنى بمظهره وأسلوبه وبدا أنيقًا، تزوّق وتهندم وبالغ في زينته.
* تأنَّق في العمل ونحوه: أتقنه وجوّده (كان كاتبًا يتأنَّق في اختيار كلماته وعباراته- تأنّق في عمله وفي كلامه- كان شديدَ التأنُّق في كتاباته).
أناقة [مفرد]:
1 - مصدر أنِقَ/أنِقَ ب.
2 - حُسْن معجب في الترتيب والتنسيق، أو في المظهر والتعبير (أناقة بستان/مظهر/أسلوب).
أَنَق [مفرد]: مصدر أنِقَ/أنِقَ ب.
أنيق [مفرد]: مؤنثه: أنيقة: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من آنقَ وأنِقَ/أنِقَ ب: حَسَن المظهر والتنسيق.
إيناق [مفرد]: مصدر آنقَ.
تأنُّق [مفرد]: مصدر تأنَّقَ/تأنَّقَ في.
* التَّأنُّق اللَّفظيّ/التَّأنُّق البديعيّ: [في البلاغة] أسلوب مصطنع في الكتابة والكلام يتميّز بالإسراف في استخدام أنواع السَّجع والطِّباق والتَّلميحات ونحوها.
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
2-العربية المعاصرة (بدع)
بدَعَ يَبدَع، بَدْعًا، فهو بَديع، والمفعول بَديع.* بدَع الأمرَ: ابتكره؛ أَنْشَأه على غير مثالٍ سابقٍ (بدع اللهُ الكونَ- بدَع الزِّيَّ الجديدَ لروّاد الفضاء).
بدُعَ يَبدُع، بَداعَةً، فهو بَديع.
* بدُع الأمرُ: صار غايةً في صِفتِه، خيرًا كان أو شرًّا (بدُع شِعْرُه في وصف الطبيعة).
أبدعَ/أبدعَ في يُبدع، إبداعًا، فهو مُبدِع، والمفعول مُبدَع (للمتعدِّي).
* أبدع الرَّجلُ: أتى بالبِدْعَة، أَحَدَثَ في الدين بعد الاكتمال (أبدعتِ البهائِيّةُ في الإسلام).
* أبدعَ اللهُ الكونَ: خلَقه، أوجده مِن العدم.
* أبدع الأمرَ/أبدع في الأمر: اخترعه؛ ابتكره على غير مثال سابق، أتقنه وأجاد فيه (أبدع في حفر النحاس وزخرفته/العملِ/الشّعرِ) (*) تفكير إبداعيّ: خلاَّق أصيل.
ابتدعَ/ابتدعَ في يبتدع، ابْتِداعًا، فهو مُبتدِع، والمفعول مُبتدَع (للمتعدِّي).
* ابتدع الشَّخصُ: أتى بِبِدْعة (ابتدع القرامطةُ في الدين الإسلاميّ ما ليس فيه).
* ابتدع الشَّيءَ/ابتدع في الشَّيءِ: بَدَعَه، ابتكره واستحدثه، أنْشَأه على غير مثالٍ سابقٍ (ابتدع الطبُّ أسلوبًا جديدًا في تشخيص الأمراض- يبتدع الرسَّامون طرائق جديدة في الرَّسم- ابتدع آلة/نظامًا: اخترع، ابتكر- هو مبتدع وليس مقلِّدًا- {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [قرآن]).
بدَّعَ يبدِّع، تبْديعًا، فهو مُبدِّع، والمفعول مُبدَّع (للمتعدِّي).
* بدَّع الشَّخصُ: أجاد وتميَّز في عمله، بلغ الغايةَ فيه (بدّع العالِم زويل في أبحاثه).
* بدَّع الشَّخصَ: اتهمه بالبِدعَة ونسبه إليها (بدّع الخوارجُ مُخالفيهم في الاعتقاد).
إبداع [مفرد]: جمعه إبداعات (لغير المصدر):
1 - مصدر أبدعَ/أبدعَ في.
2 - ابتكار، إيجاد شيء غير مسبوق بمادّة أو زمان (يساعد التطوّر في تعدّد الإبداعات) (*) قوَّة الإبداع: قوَّة الابتكار والخَلْق.
3 - [في البلاغة] اشتمال الكلام على عدّة ضروب من البديع.
4 - [في البلاغة] استعارة الأديب فقرة من سواه على وجه يَصْرفها عن معناها المراد.
5 - [في الفلسفة والتصوُّف] إيجاد الشيء من عدم، فهو أخصُّ من الخلْق.
إبداعيّ [مفرد]: اسم منسوب إلى إبداع (*) تفكير إبداعيّ: خلاَّق أصيل- قوّة إبداعيّة: صاحبة إبداع.
* أدب إبداعيّ: رومانسيّ، رومانتيكيّ.
* فنان إبداعيّ/أديب إبداعيّ: مبتكِر، له قدرة على الإبداع والتأسيس.
إبداعيَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى إبداع (*) قوة إبداعيّة: صاحبة إبداع.
2 - مصدر صناعيّ من إبداع.
3 - (دب، فن) ابتداعيَّة، نزعة أدبية وفنية تبرز الخيال الإبداعيّ والتَّعبير الذاتيّ والتَّغنِّي بالطَّبيعة وجمالها وتتميّز بالخروج عن أساليب القدماء باستحداث أساليب جديدة، والعودة إلى الطبيعة وإيثار الحسّ والعاطفة على العقل والمنطق (خلاف الاتباعيّة الكلاسيكيّة) وتعرف كذلك بالرومانسيّة أو الرومانتيكيّة أو الرومانطيقيّة.
4 - [في العلوم اللغوية] قدرة متكلِّمي اللغة على فهم وتكوين جُمل جديدة لم يسمعوها أو يكوِّنوها من قبل.
ابتِداع [مفرد]:
1 - مصدر ابتدعَ/ابتدعَ في.
2 - [في الآداب] إتيان بنماذج جديدة أو استحداث منهج أو شكل.
3 - [في الديانات] إحداث بِدعة جديدة في المعتقَد، خلاف اتّباع.
ابتداعيّ [مفرد]: اسم منسوب إلى ابتِداع (*) فنّ ابتداعيّ: ابتكاريّ.
ابْتِداعِيَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى ابْتِداع.
2 - مصدر صناعيّ من ابْتِداع.
3 - [في الثقافة والفنون] إبداعيّة، نزعة أدبية وفنية تُبرز الخيال الإبداعيّ والتَّعبير الذاتيّ والتَّغنِّي بالطبيعة وجمالها، وتتميّز بالخروج عن أساليب القدماء باستحداث أساليب جديدة، والعودة إلى الطبيعة وإيثار الحسّ والعاطفة على العقل والمنطق (خلاف الاتباعيّة الكلاسيكيّة)، وتعرف كذلك بالرومانسيّة أو الرومانتيكيّة أو الرومانطيقيّة.
بَداعَة [مفرد]: مصدر بدُعَ.
بَدْع [مفرد]: مصدر بدَعَ.
بِدْع [مفرد]: جمعه أبْداع وبُدُع:
1 - أوَّل لا نظيرَ له (هذا الشعر بِدْعٌ في بابه- {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [قرآن]: مخالفًا لمن تقدَّمني من الرُّسُل، أو مبتدعًا فيما أقول) (*) ما كان فلانٌ بِدْعًا في هذا الأمر: ليس أوَّلَ مَن فَعَلَهُ.
2 - مُحْدَث جديد يُفْعَل لأول مرة (أتى بأمرٍ بِدْع).
3 - عَجَب (لا بِدْعَ مِن/في ذلك: لا عَجَب).
بِدْعَة [مفرد]: جمعه بِدْعات وبِدَع:
1 - شيء جديد قصير الأمد.
2 - كلّ مُحدَثة جديدة (جاء التطوُّر والابتكار ببدَع جديدة- بِدْعة علميّة/تقنيّة: إحداث جديد/ابتكار، اختراع- {قُلْ مَا كُنْتُ بِدَعًا مِنَ الرُّسُلِ} [قرآن]: ما كنت صاحبَ بِدَعٍ ولا معروفة مِنّي البِدَع).
3 - نزعة جديدة تُطلق غالبًا على الخروج الشاذّ أو الانحراف عن الدين (عُني العلماء المسلمون بمحاربة البدع والخرافات- وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ) [حديث] (*) أهل البِدَع: الخارجون على التَّعاليم الدينيّة المتَّبعة.
* طلاق البِدْعَة: [في الفقه] أن يطلِّق الرجلُ امرأتَه ثلاثًا بكلمة واحدة أو ثلاثًا في طُهْر واحد، أو يطلِّقها أثناءَ الحيضِ.
بِدْعيّ [مفرد]:
1 - اسم منسوب إلى بِدْع وبِدْعَة: (أتى المفكرُ برأي بِدْعيّ).
2 - مخالف للإجماع، غير مُستقيم، فيه بدعة (آراء بدعيّة).
3 - بديع.
بَديع [مفرد]: جمعه بدائعُ:
1 - صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من بدَعَ وبدُعَ.
2 - صفة ثابتة للمفعول من بدَعَ.
3 - أصيل لا نظير له (هذا من البَدائِع: ممّا بلَغ الغَاية في بَابه) (*) طقس بديع: مدهش، رائع.
* البَديع: اسم مِن أسماء الله الحسنى، ومعناه: الَّذي لا مثيلَ له ولا شبيهَ في ذاته أو صفاته أو أفعاله، والمبدِع الَّذي خلق الأشياء ابتداء لا على مثالٍ سابق، وفردًا لم يشاركُه فيها غيرُه ({بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [قرآن]: مُوجِدها).
* علم البديع: [في البلاغة] أحد علوم البلاغة الثلاثة (المعاني والبيان والبديع) ويُعنى بتحسين وجوه الكلام وتزيينه (المقالة بها كثير من البديع اللفظيّ).
بَدِيعة [مفرد]: جمعه بديعات وبدائعُ: عجيبة، رائعة (ألَّف عددًا من الروايات البدائع- بدائع الله في خلقه).
بَديعيّ [مفرد]: اسم منسوب إلى بَديع.
* أسلوب بديعيّ: [في البلاغة] أسلوب يعنى بتحسين وجوه الكلام.
* المحسِّنات البديعيَّة: [في البلاغة] وجوه تحسين الكلام من ناحية اللَّفظ كالجناس والسَّجع، أو من ناحية المعنى كالمطابقة والتَّورية (يُسْرف بعض الكُتّاب القدامى في استعمال المحسِّنات البديعيّة).
بديعيّات [جمع]: مفرده بَدِيعيَّة.
* البَديعيَّات: اسم يطلق على قصائد نُظِمت في علم البديع، أشهرها بديعيّة صفيّ الدين الحِلِّيّ، وبديعيّة ابن حُجّة الحمويّ.
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
3-العربية المعاصرة (أشار)
أشارَ إلى/أشارَ على يُشِير، أشِرْ، إشارةً، فهو مُشير، والمفعول مشار إليه.* أشار إليه بيده أو نحوها: لوَّح، أومأ إليه معبِّرًا عن معنى من المعاني كالدعوة إلى الدخول أو الخروج أو السكوت أو الاستمرار، أو غير ذلك (أشار إليه بالسَّبّابة/بعينه- {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [قرآن]) (*) أشار إلى الانطلاق: أعطى إشارة- يُشار إليه بالبنان: مشهور.
* أشار إلى الوقت: دَلّ عليه (سهم يشير إلى الاتِّجاه).
* أشار إلى صُعوبات العمل: أوردها وتحدَّث عنها.
* أشار عليه بكذا: أرشده، ونصحه أن يفعل كذا، مبيِّنًا ما فيه من الصواب (خليليَّ ليس الرَّأيُ في صدر واحدٍ.. أشيرا عليّ بالذي تريانِ).
استشارَ يَستشير، استشِرْ، استشارةً، فهو مُسْتَشير، والمفعول مُستشار.
* استشار فلانًا في كذا: طلب رأيَه (استشِرْ عدوّك تعرف مقدار عداوته).
تشاورَ يتشاور، تشاوُرًا، فهو مُتشاوِر.
* تشاور القومُ: شاور بعضُهم بعضًا، تبادلوا الآراء والأفكار (تشاور القضاةُ في الحكم- {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [قرآن]).
تمشوَرَ يتمشور، تَمَشْوُرًا، فهو مُتمشوِر (انظر: م ش و ر - تمشوَرَ).
شاورَ يشاور، مُشاورةً، فهو مُشاوِر، والمفعول مُشاوَر.
* شاور عقلَه ونحوَه: استرشد بشيء واتّخذه هاديًا له ومُوجِّهًا (شاور ضميرَه).
* شاور فلانًا في الأمر: استشاره، طلب رأيَه ونصيحتَه فيه (إذا شاورت العاقلَ صار عقلُه لك- وإن بابُ أمرٍ عليك التوى.. فشاور حكيمًا ولا تعصِهِ- {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [قرآن]).
شوَّرَ إلى يُشوِّر، تشويرًا، فهو مُشوِّر، والمفعول مُشوَّر إليه.
* شوَّر إليه بيده: أشارَ، لوّح إليه، أومأ (شوَّر إليه بعينه).
مشوَرَ يمشور، مَشْوَرَةً، فهو مُمشوِر، والمفعول مُمشوَر (انظر: م ش و ر - مشوَرَ).
إشارة [مفرد]: جمعه إشارات (لغير المصدر):
1 - مصدر أشارَ إلى/أشارَ على.
2 - علامة أو رمز أو حركة للدّلالة على أمرٍ ما (أجاب بإشارة من رأسه) (*) إشارة الخَطر: إنذار بقدوم خطر، علامة توضع على الموادّ السامّة أو القابلة للاشتعال أو الانفجار- إشارة المرور- إشارة ضبط الوقت: علامة بصوت مميّز لضبط الوقت- رهن إشارته: تحت أمره، سريع الاستجابة له- لُغَة الإشارة: لُغَة تعتمد على الحركات اليدويَّة؛ للوصول للمعنى، لُغَة الصُّم والبُكْم.
3 - تعليمات تُرْسل بطريق البرق أو الهاتف (وصلت إشارة من المحافظ بكذا- إشارة برقيّة/تلغرافيَّة- إشارة لاسلكيّة: تعليمات مرسلة بطريق اللاّسلكيّ).
4 - تأشيرة (إشارة دخول/مرور).
* سلاح الإشارة: [في العلوم العسكرية] إحدى وحدات الجيش المُكلَّفة بتلقِّي الرسائل وإرسالها.
* اسم الإشارة: [في النحو والصرف] ما وضع لمشار إليه، مثل: هذا، هذه، هذان.. إلخ.
إشاريَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى إشارة: (علامات إشاريَّة: خاصّة، سرِّيّة، إرشاديّة).
2 - مصدر صناعيّ من إشارة: نزعة تميل إلى تكثيف الكلام والتعبير عنه بالإشارة القوليّة أو الحركيّة (اتَّسم خطابه بالإشاريّة في التعبير).
استشارة [مفرد]: جمعه استشارات (لغير المصدر): مصدر استشارَ (*) استشارة طبّيَّة: رأي الطّبيب في الحالة الصِّحيّة- استشارة قانونيَّة: رأي المحامي في القضيَّة.
استشاريّ [مفرد]:
1 - اسم منسوب إلى استشارة: (لجنة استشاريَّة- مجلس استشاريّ: لجنة تقوم بتقديم المعلومات والنصائح الفنِّيّة للاعتماد عليها في تحقيق الأغراض المطلوبة والأهداف المنظَّمة).
2 - مَنْ يعطي رأيًا أو نصيحة، وصف للوظائف التي تنطوي على أعمال توجيهيّة أو مساعدة أو على تقديم التسهيلات والخدمات (استشاريّ النساء والتوليد/فنِّيّ).
3 - غير مُلزِم (رأي استشاريّ).
* طبيب استشاريّ: طبيب معالج حصل على درجة الأستاذيّة في تخصّصه، يلجأ إليه الأطباء الصِّغار لأخذ المشورة.
* السُّلطة الاستشاريَّة: هيئة مساعدة للسُّلطة التَّنفيذيّة، تقوم بتقديم المقترحات والتَّوصيات.
شارة [مفرد]: جمعه شارات:
1 - علامَة (شارة الجوّالة/الشرطة/الجامعة).
2 - هيئة (فلان حَسَن الشارة).
3 - حُسْنٌ وجمال (أظهر شارة الشيء).
شُورَى [مفرد]: تشاور (ترك عمر رضى الله عنه الخلافة شورَى بين المسلمين- {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [قرآن]: لا يقطعون بأمر حتى يجتمعوا ويتشاوروا).
* الشُّورَى: اسم سورة من سُور القرآن الكريم، وهي السُّورة رقم 42 في ترتيب المصحف، مكِّيَّة، عدد آياتها ثلاثٌ وخمسون آية.
* مجلس الشُّورَى: مجلس يتكون من أصحاب الرأي تستشيره الحكومة في شئون البلاد.
مُستشار [مفرد]:
1 - اسم مفعول من استشارَ.
2 - خبير، متخصِّص يُؤخذ رأيُه في أمر هامّ، علميّ أو فنّيّ أو سياسيّ أو قضائيّ أو نحو ذلك (مستشار السفارة).
3 - رتبة من رتب القضاء (مستشار في مجلس الدولة/محكمة النَّقض).
مُسْتشاريَّة [مفرد]: مصدر صناعيّ من مُستشار: وهو لقب لرئاسة الحكومة في بعض دول العالم، مثل النِّمسا وألمانيا الاتحادية (تولّى المستشاريّة منذ عدّة سنوات).
مُسْتشير [مفرد]: اسم فاعل من استشارَ.
مُشار [مفرد]: اسم مفعول من أشارَ إلى/أشارَ على.
مِشْوار [مفرد]: جمعه مشاويرُ:
1 - مدًى تجري فيه الدّابّة حين بيعها، ثم استعمل في المسافة يقطعها الإنسان (مِشوار طويل).
2 - [في الطبيعة والفيزياء] بعد بين حالتي السكون لجسم متحرك حركة تردّديّة في خط مستقيم.
مَشُورة [مفرد]: ما يُنصح به من رأي وغيره (عليك بالمشورة في أمورك كلّها- عمل بمشورة أبيه- أول الحزم المشورة [مثل]).
مُشير [مفرد]:
1 - اسم فاعل من أشارَ إلى/أشارَ على.
2 - [في العلوم العسكرية] رُتْبة عسكريَّة فوق الفريق أوَّل، وهي أعلى رتبة عسكريَّة.
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
4-العربية المعاصرة (كعب)
كعَبَ يَكعُب، كُعُوبًا، فهو كاعِب وكَعاب.* كعَبتِ الفتاةُ: نهَد ثَدْيُها وارتفع (كعَب الثّديُ: نهَد وارتفع).
تكعَّبَ يتكعَّب، تكعُّبًا، فهو مُتَكَعِّب.
* تكعَّب ثديُ الفتاة: كعَبَ؛ نهَد وبرز.
كعَّبَ يكعِّب، تكعيبًا، فهو مُكعِّب، والمفعول مُكعَّب.
* كعَّب العُلبةَ: جعلها مُكعَّبة وصاغها على شكل مُكعَّب.
* كعَّب العددَ: ضربه في نفسه مرَّتين، رفَع قوَّتَه إلى ثلاثة (كعَّب الاثنين فصار ثمانية).
تكعيب [مفرد]:
1 - مصدر كعَّبَ.
2 - عمليّة تتمّ في تجليد الكتب بعد خياطة المَلازم.
تَكْعيبة [مفرد]: عرش الكَرْم أو ما يُدْعَم به (تكعيبة العِنَب ظليلة وارفة).
تَكعيبيَّة [مفرد].
* التَّكعيبيَّة: [في الثقافة والفنون] مذهب فنِّي تجريديّ حديث في التَّصوير والرَّسم والنَّحت، يقوم على تحليل واختزال وتجزئة الأشكال الطَّبيعيّة والأشياء والمناظر إلى أشكال تجريديّة والتَّعبير عنها برُسُوم هندسيّة مُكعَّبة، وأبرز مُمَثِّليها (بيكاسُّو).
كاعِب [مفرد]: جمعه كواعِبُ: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من كعَبَ: (الكاعب الحسناء تَرْ.. فُلُ في الدِّمَقْس وفي الحريرِ- {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا. حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا. وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} [قرآن]).
كَعاب [مفرد]: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من كعَبَ.
كَعْب [مفرد]: جمعه أكْعُب وكِعاب وكُعْب وكُعُوب:
1 - كلّ ما ارتفع وعلا (كَعْب الباب/الحِذاء).
2 - عُقْدة القَصَب بين الأنبوبتين.
3 - [في التشريح] عظم ناتئ على جانبي السَّاق عند ملتقاها بالقدم (لكل قدم كعبان عن يمينها وعن يسارها- أحسّ بألم في كعبه- {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [قرآن]).
4 - شرف ومَجْد (هو عالي الكَعْب: من أشراف الناس- ذهب كعبُهم) (*) أعلى اللهُ كعبَهم: رفع شأنهم.
* كعْب العدد: [في الجبر والإحصاء] الحاصل من ضربه بمربعه أو الحاصل من ثلاثة عوامل متساوية لهذا العدد.
* كَعْب الشِّيك: [في الاقتصاد] الجزء المتبقي بالدَّفتر الذي تكتب فيه بيانات مطابقة لبيانات الشِّيك الصَّادر.
* كعبا النّرد: عظمان مُكعَّبان يُلعب بهما فيه.
كَعْبَة [مفرد]: جمعه كَعَبَات وكَعْبات وكِعاب: مُتَّجَه (القاهرة كَعْبَة القُصّاد).
* الكَعْبة: أوّل بناء وضع للنَّاس من أجل العبادة؛ مُكعَّب الشّكل رفع بناءه النَّبيّ إبراهيم عليه السَّلام بمكّة وجدَّدته قريش، وتسمَّى كذلك البيت العتيق، والبيت الحرام {جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [قرآن] (*) سدانة الكعبة: خِدْمتُها.
كُعوب [مفرد]: مصدر كعَبَ.
مُكعَّب [مفرد]:
1 - اسم مفعول من كعَّبَ.
2 - [في الجبر والإحصاء] عدد حاصل من ضربه بمُرَبّعه؛ فثمانية هو مكعَّب اثنين (جذْر مكعَّب- ثلاثة أمتار مُكعَّبة).
3 - مُجَسَّم له ستَّه سُطُوح أو أوجه مُربّعة متساوية ومتوازية (علبه مُكعَّبة).
* مُكعَّب المَرَق: مُكعَّب صغير يحوي خلاصةَ الدَّجاج أو اللّحم المبَهَّر أو الخضراوات، يستخدم في الحَساء للنكهة.
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
5-العربية المعاصرة (مدن)
مدَنَ يمدُن، مُدونًا، فهو مادِن.* مدَن الشَّخصُ: أتى المدينةَ (مدَن البدويُّ حامِلًا بضاعتَه من لَبَن وزُبْد).
تمدَّنَ يتمدَّن، تمدُّنًا، فهو مُتمدِّن.
* تمدَّن أهلُ الرِّيف: عاشوا عيشة أهل المدن وأخذوا بأسباب الحضارة، تحضّروا وتخلَّقوا بأخلاق سُكّان المدن منتقلين من الخشونة إلى الأنس وحالة الظَّرف (عاش في مجتمع متمدِّن- تمدّن شعب).
تمدينَ يتمدين، تَمَدْيُنًا، فهو مُتمديِن.
* تمدين الشَّخصُ: مُطاوع مدينَ: تنعَّم، تمدَّن، عاش عيشةَ أهل المدن وأخذ بأسباب الحضارة (ريفيّ مُتمديِن- هذه الفظائع التي صدمت ضميرَ الأمم المُتمدينة).
مدَّنَ يمدِّن، تمدينًا، فهو مُمدِّن، والمفعول مُمدَّن.
* مدَّن المدائِنَ: بناها ومصّرها.
* مدَّن الشَّخصَ/مدَّن الشَّيءَ: حضَّره، نقله إلى حالة الرقيّ والحضارة (مدّن الريفَ/أهلَ القُرى- ليس كالتعليم يمدّن الإنسانَ ويدفعه إلى الرُّقيّ).
مدينَ يُمديِن، مَدْيَنةً، فهو مُمدْيِن، والمفعول مُمدْيَن.
* مدين الشَّخصُ حياتَه: جعلها تتَّسم بالمدنيَّة، أخذ بأسباب الحضارة.
تمدينيَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى تَمَدْيُن: (حملة تمدينيَّة- رسالة/مهمّة تمدينيَّة).
2 - مصدر صناعيّ من تَمَدْيُن: حالة من التحضّر والتنعُّم التي تعيشها بلد ما أو شخص ما (لم تستطع التمدينيّة بكلِّ وسائلها إيقافَ الغزو الوحشيّ للعراق).
مَدَنِيّ [مفرد]:
1 - اسم منسوب إلى مَدينة.
2 - خاصّ بالمواطن أو بمجموع المواطنين، عكس عسكريّ (التحق بالدِّفاع المدنيّ- قتل السّفاحُ المدنيين الأبرياء- زيٌّ مدنيٌّ).
3 - [في القانون] فرع من فروع القضاء، يتناول حالة الأفراد وأهليّتهم والميراث ونقل الممتلكات والعقود (قانون مدنيّ- مسئوليّة مدنيّة).
* الدِّفاع المدنيّ: النظم والخطط والأبنية المُصمَّمة لحماية المدنيين من الكوارث الطَّبيعيّة واعتداءات العدوّ.
* الموت المدنيّ: [في القانون] الحرمان من الحقوق المدنيّة نتيجة الإدانة بالخيانة أو جريمة كبرى غيرها.
* الطَّيران المدنيّ: الإدارة العامّة المشرفة على الطّائرات والمنشآت المستخدمة لنقل الرُّكّاب والبضائع جوًّا.
* الحقوق المدنيَّة: [في القانون] الحقوق التي يخوِّلها القانون لجميع المقيمين في الدَّولة، وهي أشمل من الحقوق السِّياسيّة المتَّصلة باختيار الحاكم، كما أنَّها تتميَّز عن الحقوق الطَّبيعيّة في أنّ لها قيمة قانونيّة إلى جانب قيمتها الفلسفيّة المثاليّة، والحقوق المدنيَّة نسبيَّة غير مُطلقة تتكيَّف أوضاعُها مع الزَّمان والمكان.
* التَّربيَة المدنيَّة: التَّربيّة المعتمدة على الرُّوح المدنيّة، وقيم المجتمع مع الاعتراف بحريّة الفكرة والعقيدة والتَّعبير عن الرَّأي.
* الحريَّات المدنيَّة: [في القانون] أن يُترك للفرد الحقّ في التَّعبير عن رأيه وفكره بصراحة ووضوح، وكذلك حريّة اختيار المهنة التي يريد مزاولتها، وحريّة الانضمام إلى الجمعيَّات التَّطوّعية وحريّة العبادة.
* المجتمع المدنيّ: [في علوم الاجتماع] مؤسَّسات المجتمع المستقلَّة عن سلطة الدَّولة التي تقوم العلاقات بينها على أساس رابطة اختياريّة طوعيّة، مثل النِّقابات والأحزاب والجمعيّات الأهليّة ومنظَّمات حقوق الإنسان.
مَدَنِيَّة [مفرد].
* المَدَنِيَّة: الجانب المادّيّ من الحضارة كالعمران ووسائل الاتّصال والتّرفيه، يقابلها الجانب الفكريّ والرُّوحيّ والخلقيّ من الحضارة (انبهر بالمدنيّة الأوربيّة).
* دعوى مدنيَّة: [في القانون] دعوى ترفع لحمل الخَصْم على دفع مبلغ من النقود أو أداء شيء خاصّ ذي صفة مدنيّة محضة أو لاستيفاء حقوق مدنيّة خصوصيّة.
مُدون [مفرد]: مصدر مدَنَ.
مَدِينة [مفرد]: جمعه مَدائِنُ ومُدْن ومُدُن: تجمُّع سكَّانيّ متحضِّر يزيد على تجمُّع القرية (انظر: د ي ن - مَدِينة) (اهتمتِ الدولة بالمدن الجامعيّة- تجوّل في ضواحي المدينة- القاهرة مدينة كبيرة- مدينة المدائن بناها أحد القادة- مدينةٌ آهلةٌ بالسُّكَّان:) (*) هو ابن مدينتها: عالم بها- المدينة الفاضلة: المجتمع الإنسانيّ المثاليّ الذي يسير على هدي الأخلاق وحكمة رئيس فيلسوف أو نبيّ اكتملت لديه الخصال التي لا تتوافر لدى عامّة النَّاس- المدينة المقدّسة: القدس- المدينة المنوَّرة: يثرب، مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم- مَجْلِس المدينة.
* مدينة الملاهي: مواضع تعرض فيها ألعاب بهلوانيّة للتسلية.
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
6-العربية المعاصرة (نشأ)
نشَأَ/نشَأَ عن/نشَأَ في/نشَأَ من يَنشَأ، نَشْأةً ونَشْئًا ونُشوءًا، فهو ناشئ، والمفعول مَنشُوء عنه.* نشَأ الشّيءُ: حدَث وتجدّد (نشَأت بينهما صداقة/علاقة تجاريّة).
* نشَأ الصَّبيُّ: شبّ ونما (نشَأ فلان نشأة حسنة- وينشأ ناشئ الفتيان مِنَّا.. على ما كان عوّده أبوه).
* نشَأ الشّيءُ عن غيره/نشَأ من غيره: تولّد منه أو عنه ونَجَم (ينشأ البخارُ من الحرارة- ينشأ الدخانُ من الاحتراق).
* نشَأ في بيت فلان: تربّى فيه وترعرع (نشَأ نشْأةً صالحة- ينشأ أبناءُ العمّال المهاجرين في مجتمعات غريبة عنهم) (*) نشأ في حجر فلان: في كنفه ومنعته وحمايته.
أنشأَ يُنْشِئ، إنشاءً، فهو مُنْشِئ، والمفعول مُنشَأ.
* أنشأ الشَّيءَ: أقامه، أوجدَه وأحدَثه (أنشأ مُجمَّعًا تعليميًّا/مدرسة/جريدة/شركة- أنشأ نظامًا سياسيًّا جديدًا).
* أنشأه اللهُ: خَلَقه، وأبدعه {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [قرآن] - {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} [قرآن].
* أنشأ مقالًا: ألَّفه وصاغه (أنشأ كتابًا/قصيدةً).
* أنشأ العَلَمَ: رفعه ({وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ} [قرآن]: السُّفن المرفوعات القلوع أو المصنوعات وقُرئ المنشِآت أي الرافعات الشُّرُع).
* أنشأ الخطيبُ يتكلَّم: شرع (من أفعال الشُّروع) (أنشأ المطرُ يهطل).
نشَّأَ ينشِّئ، تَنْشِئةً، فهو مُنشِّئ، والمفعول مُنشَّأ.
* نشَّأ الصَّبيَّ: ربَّاه وهذّبه وعلَّمه (نشَّأه على البرِّ والتقوى- نشَّأتِ الأسرةُ أبناءها على حُسن الخلق وحبّ الوطن- إن أثر تنشئتِهِ على الأخلاق الفاضلة ظاهر في سلوكه- {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [قرآن]).
إنشاء [مفرد]: جمعه إنشاءات (لغير المصدر):
1 - مصدر أنشأَ.
2 - بناء (إنشاء مُجمَّعات سكنيَّة/تعليميَّة/ترفيهيّة- إنشاءات عسكريّة- اختصّ المهندس بإنشاء الجسور- البنك الدوليّ للإنشاء والتعمير) (*) الهندسة الإنشائيّة: هندسة البناء.
3 - [في البلاغة] كلام ليس لنسبته خارج تطابقه هذه النسبة أو لا تطابقه كالأمر والنهي والاستفهام ولا يحتمل صدقًا ولا تكذيبًا عكسه الخبر (جملة إنشائيّة).
4 - مقالة قصيرة أو فقرة تكتب كنوع من التمْرين في الدِّراسة الأكاديميَّة.
* علم الإنشاء: [في الآداب] فن تأليف المعاني وتنسيقها والتعبير عنها وفقًا لمقتضى الحال (حصُل على درجة مرتفعة في الإنشاء- احتاج إنشاء هذه المقالة جهدًا كبيرًا).
تَنْشِئة [مفرد]: مصدر نشَّأَ.
* التَّنشئة الاجتماعيَّة: تحويل النَّشاط الفرديّ عن الأغراض الشَّخصيَّة إلى الأهداف العامّة.
مَنْشَأ [مفرد]:
1 - اسم مكان من نشَأَ/نشَأَ عن/نشَأَ في/نشَأَ من: مكان النّشأة (مَنْشؤه مدينة القاهرة- بلَد المنشَأ للسِّلعة: البلد المنتج لها- من نفس المنشأ/منشأ الإنتاج).
2 - أصلٌ أو عِلَّة (منشأ الاضطراب/الخلافات القائمة بينهما- ما منشأ هذا التشاؤم في شعر المعرّي؟).
مَنْشَأة [مفرد]: مكانٌ للعمل أو الصّناعة يجمع الآلات والعُمّال.
مُنْشَأة [مفرد]: جمعه منشآت: مكان للعمل أو الصناعة يجمع الآلات والعاملين (منشآت صناعيّة/عسكريّة/خيريّة/تعليميَّة- مُنشأة تجاريّة: مؤسّسة تجاريّة تعمل خارج بلادها- المنشآت الحيويّة تحت حراسة مسلّحة/مشدّدة).
* المنشآت من السُّفُن: مرفوعة الشُّرع {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ} [قرآن].
ناشئ [مفرد]: جمعه نَشْء ونَشَأ، والمؤنث ناشئ: غُلام جاوز حدَّ الصِّغَر وشبّ، ناهز سِنّ الرشْد (نشْء صاعد- وينشأ ناشئ الفتيان مِنَّا.. على ما كان عوّده أبوهُ).
* النَّشء: النَّسل (النشء الجديد: الجيل الجديد- تحرص الدولة على تربية النشء وتعليمه).
ناشئ [مفرد]: جمعه ناشئون، والمؤنث ناشئة، والجمع المؤنث ناشئات ونواشِئُ:
1 - اسم فاعل من نشَأَ/نشَأَ عن/نشَأَ في/نشَأَ من.
2 - مبتدئ، حديث العهد (مخرج/فنّان/رسّام/معلِّم ناشئ- صداقة ناشئة- كافأت وزارة الثقافة عددًا من الأدباء الناشئين).
ناشئة [مفرد]: جمعه ناشئات ونواشِئُ: مؤنَّث ناشئ: جارية جاوزت حدّ الصِّغر وشبَّت.
* ناشِئَةُ اللَّيْل:
1 - الاستيقاظ من النوم والقيام للصّلاة {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [قرآن].
2 - ساعاته {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [قرآن].
ناشئة [جمع]: جيلُ الشّباب (ناشئة مثقَّفة- ناشئة اليوم قادة الغد).
نَشْء [مفرد]: مصدر نشَأَ/نشَأَ عن/نشَأَ في/نشَأَ من.
نَشْأَة [مفرد]: جمعه نَشَآت (لغير المصدر) ونَشْآت (لغير المصدر):
1 - مصدر نشَأَ/نشَأَ عن/نشَأَ في/نشَأَ من.
2 - ما ارتفع من كلّ نبات ولم يغلظ بعدُ.
* النَّشأة: الحياة، الإيجاد والتَّربية {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى} [قرآن] - {ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ} [قرآن].
* النَّشأتان: النَّشأة الأولى (الحياة الدُّنيا/الخلق أوَّل مرَّة)، والنَّشأة الأخرى (الآخرة/الخلق الثَّاني للبعث يوم القيامة).
نُشوء [مفرد]:
1 - مصدر نشَأَ/نشَأَ عن/نشَأَ في/نشَأَ من.
2 - [في البيئة والجيولوجيا] سلسلة تغيّرات متتابعة طرأت على الكائنات الحيّة في العصور الجيولوجيَّة (نُشوء الكائنات الحيّة).
* نظريّة النُّشوء والارتقاء: نظريّة علميّة تبحث في نشأة الأجناس والأنواع وتطوُّرها وهي نظريّة بيولوجيَّة للعالم داروين.
* النُّشوء الأحيائيّ: المبدأ القائل بأنّ الكائنات الحيَّة تنشأ فقط من كائنات حيَّة أخرى وليس من مادَّة غير حيَّة.
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
7-المعجم الوسيط (التَّكْعِيبِيَّة)
[التَّكْعِيبِيَّة]: اتجاه معاصر في التصوير يقوم على تحليل الأشكال والأشياء والمناظر، والتعبير عنها برسوم هندسية؛ وأبرز ممثليه (بيكاسُّو).(مما أقره مجمع اللغة العربية بالقاهرة).
المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م
8-المعجم الوسيط (المُنْشِئُّ)
[المُنْشِئُّ]: الذي يجيد استنباطَ المعاني وتأْلِيفَها والتعبيرَ عنها بكلام بليغ.المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م
9-شمس العلوم (التعبير)
الكلمة: التعبير. الجذر: عبر. الوزن: التَّفْعِيل.[التعبير]: تفسير الرؤيا.
ويقال: عَبَّر فلانٌ عن فلان: إذا تكلم عنه.
ويقال: عَبَّر الكتابَ: إذا تَدَبَّرَه في نفسه ولم تسمع له قراءة، ويقال بالتخفيف.
والتعبير: وزن الدراهم والدنانير وكيل الطعام ليُعلم كم هو.
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
10-المصطلحات السياسية في الإسلام (الإصلاح للأمر العام)
الإصلاح للأمر العام: (الصلاح): ضد الفساد، والإصلاح تقويم الفساد وتغيير المفسدة بما هو مصلحة وتبديل وخسر ذات البين في علاقات المجتمع بما هو وفاق، وهو تبديل ما تغيرت حوله ظروف البلاد فأحالته قصورًا وظلمًا وفسادًا.و (إصلاح) المرء نفسه توبة الى الخير بعد سوء، و (الصلاح) كسب عمل الصالحات كما يوصي بذلك القرآن كثيرًا ـ تصديقًا وكسبًا للفلاح واتقاء للخسران. و (اصلاح) المجتمع الأوبة به عامة للحق بعد نهج الباطل، وللعدل والخير والنظام بعد الظلم والفساد، في سبيل حسن العواقب {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه انيب}. [36] [36] [36]
و (الاصلاح)، كلمة تستعمل الآن في العربية مقابلة للاتينية الأصل (Reform) التي تعني ظاهر الحياة او تبديله، وفي المناهج السياسية (الإصلاحية) تعني الى جانب ذلك اتخاذ التدرج في سلام وسيلة لذلك الغرض.
لكن (الاصلاح) في لغة القرآن أجمع لابتغاء كل الصلاح أصولًا وظواهر بكل الوسائل المشروعة دعوة رفيقة صبورة متدرجة او جهادًا حميًا مسارعًا نحو المقاصد الخيرة.
و (الاصلاح للأمر العام) هو محاولة تغيير سياسي حركة نحو المثل العامة اذا غفل او قصر عنها المجتمع بواقعه، او اذا جمد على موافق الحق ومظاهره القديمة رغم ابتلاءات وظروف طرأت فرقت ذات بين المجتمع والمثل، مما يستدعي مذاهب وصورًا جديدة لتصلح وتستقيم مع الحق ابدًا.
و (الحركة الاصلاحية) للمجتمع هي حركة (احياء) بعد (موات) في لغة القرآن. وتبدو في النفوس (يقظة) او صحوة ايمانية (Revival, Rebirth)، لا تقتصر على حال النفوس الخاصة كما هو شأن العقائد الدينية التي انتهى اليها الغرب، بل هي تتصدق بحركة نشاط الاجتهاد) الفكري وتجديد الرؤى الفقهية للدين بعد الخمود والتقليد، وذلك (الاحياء) (Renaissance) هو بدوافع الايمان المذكر (بعث) للطاقة والنهضة المادية في الحياة، لا تجمد او تعقم او تموت بل تتحرك وتنمو وتنتج جديدًا.
واذا تيسرت لحركة (الاصلاح) السياسي الحرية وانفتحت السبل مهادًا لاندفاع (المشيئة)، يخطر وينشأ ثم يثمر التجديد عند بعض نفوس المجتمع عواطفًا وافكارًا واعمالًا، ثم ينتشر التجديد: بالدعوة والبلاغ والجدال والقدوة ويتخذ لذلك طريق السلام لأنه أحسن العلاقات بالإنسان وأيسرها وأسرعها للانتشار وأبلغها لضمان الصدق والفعالية: والغاية عندئذ تتقارب (تقدمًا) (Progress) نحو المثل المنشودة ولو في وجه من يجادل داعيًا (للمحافظة) على التقاليد: (Traditionalist Conservative).
لكن القديم قد يتصلب في وجه الاصلاح والتجديد فكرًا وعرفًا تقليديا ويتخذ مذهبا (رجعيًا) (Reactionary)، من شدة حب الرجوع الى التراث ذاته في كل شيء.
الا ان العود الى الاصول الاولى للاسلام يدفع لتجاوز بعض التقاليد الراكمة عقائد وأعرافًا اصبحت منسوبة الى الحق من طول العهد الراتب، لكنها تحجب اصول الحق وتثقل كل حركة تستوحي منها حوافز التجديد والتعبير الصادق عنها في حادثات الظروف.
(فالأصولية) هي اندفاعة تقدمية تقاوم (التقليدية) التي تدعي النسبة للتراث خلال كسب قديم للسلف، تحجرت وقست بها نفوس الخلف. لكن تلك (الأصولية) هي غير ما عهدته النصرانية في أميركا، ومدت منه الكلمة بالقياس الخاطئ والنفوذ الدعائي نحو ظواهر الجديد في حاضر الاسلام.
وقد يكون الاعتصام بالقديم اصرارًا على اعراف ومنافع معهودة اسرت العصبيات والشهوات أهلها، وصاروا يشفقون من الخطر على موازنهم ومكاسبهم لمتاع الدنيا اذا دخل الاصلاح الجديد.هكذا قامت في وجه دعوة الانبياء الصالحين دعايات الحذرين من قادم الحق والعدل {قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا او ان نفعل في أموالنا من نشاء انك لأنت الحليم الرشيد} [37] [37] [37] {وكذلك ما ارسلنا من قبلك في قرية من نذير الا قال متوفوها انا وجدنا آباءنا على امة وإنا على آثارهم مقتدون}. [38] [38] [38]
وفي وجه (الاصلاح) اذا أدرك اهل القديم ومن يواليهم في الأرض ان الجديد خطر ممتد لا تجدي ضده المناظرة والمجادلة قد يلجأون الى رفع القوة والسلاح لاسيما اذا كان ذلك (الاصلاح) يتهدد المعهود لذوي القوة والسلطان في المجتمع القديم من منافع وقدرة على البطش والجبروت والظلم، كقصة فرعون وآله وجنده مع موسى عليه السلام وقومه.
عندئذ يأذن الدين لحاملي رسالته في وجه ذلك العدوان ان يقاومون بالمجاهدة ما داموا هم يجادلون بالتي هي أحسن ويكفون، ولا يبادرون بالقوة والعدوان وانما اضطروا لمجاوبة العادي سيئة بمثلها دفاعًا وقتالًا {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق الا ان يقولوا ربنا الله ولو دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا ولينصرن الله من ينصره ان الله لقوي عزيز}. [39] [39] [39]
وفي المذاهب السياسية الغربية ما يجعل المقاومة والمجاهدة والمقاتلة نهجًا مشروعًا في سبيل الحرية (Freedom Frighting, Struggle, Resistance).
واذا دارت معارك المرافعة وكان النصر لحزب (الاصلاح) بانحياز قوة جماهير من الناس يدركون الظلم ويحملون عليه، فأصبحت العاقبة والدولة لمشروع (الإصلاح)، فقد تأتي حركة التغيير فجأة انفجارًا وتحولًا، فتكون في حركة المجتمع وحياته (ثورة) هائجة وتقلب اوضاعه (Revoluation).
وقد تكون الثورة شاملة لغالب مساقات الحياة، او تأتي حركتها قاصرة على تبديل مواقع السلطة والغنى والجاه، التي كانت تتغالب عليها قوى من سادة واحزاب وطبقات وأقوام وطائف.
وكلمة (الثورة) اصبحت شعارًا شائعًا محبوبًا بأثر كثير من التجارب ذات الوقع التاريخي الهائل، ولذلك يتخذ الشعار عنوانا لحركات تغيير شتى مهما كانت المواقع والمقاصد محدودة. وقد لا تكون حركة القوة الا مبادرة عدوان او مجاوبة دفاع لكنها لا تصوب الا على الشريحة المتمكنة المتحكمة في السلطان، وتسمى عندئذ (انقلابًا) (Coup d’Etat) وهي ضربة لخلع ذوي السلطة ونزعها منهم، وربما تهدف من وراء ذلك للتمكن من تسيير كل الحياة العامة وتغيير ميزان المصالح والسلطان، وسياسات الأمن والعدل والسلطان، او ما هي الا طمع ممن قلب الحكم وغلب ليتمتع هو من بعد السلطة ويصرف الأمر العام ولا يبلغ كسبًا مقدرًا من (الاصلاح) الا شعارات ودعاوى.
ومهما تكن سنن التحولات السلطانية البشرية فان شرعة الدين ومنهاجه حقًا ان يقوم (بالإصلاح) سواد مجتمع المؤمنين الموحدين الذين ان مكنوا في الارض دعوة او جهادًا، اقاموا شعائر الصلة بالله دفعًا وتقوى وآتوا الزكاة تكافلًا وعدلًا وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، اجماعًا على سياسة استقامة في سبيل الصلاح والفلاح في الخاتمة.
المصطلحات السياسية في الإسلام-حسن الترابي-صدر: 1421هـ/2000م
11-السياسة (13 الليبرالية)
13- الليبرالية: مشتقة من كلمة الحرية الإنجليزية "liberty" وهي مذهب يرى حرية الأفراد والجماعات في اعتناق ما يشاؤون من أفكار والتعبير عنها بشكل مطلق.. (أعتقد أنها واضحه)السياسة
12-التوقيف على مهمات التعاريف (عبارة النص)
عبارة النص: النظم المعنوي المسوق له الكلام، سميت عبارة لأن المستدل يعبر من النظم إلى المعنى، والمتكلم من المعنى إلى النظم، فكانت هي محل العبور، فإذا عمل بموجب الكلام من الأمر والنهي سمي استدلالا بعبارة النص، ذكره ابن الكمال. وقال الراغب: العبارة مختصة بالكلام العابر بالهواء من لسان المتكلم إلى سمع السامع، والاعتبار العبرة: الحالة التي يتوصل بها من معرفة الشاهد إلى ما ليس بمشاهد، والتعبير مختص بتفسير الرؤيا وهو العبور من ظاهرها إلى باطنها، وهو أخص من التأويل. وقال في السراج: العبارة: ما استفيد من لفظ وغيره مع بقاء رسم ذلك الغير.التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م
13-المعجم الاشتقاقي المؤصل (رجو)
(رجو): {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة: 218]الرَجَا -كفَتَى: ناحيةُ البئر من أعلاها إلى أسفلها وحافَتَيها. وكل ناحية رَجَا، وأرجاء الوادي: نواحيه.
° المعنى المحوري
إشرافُ الجسم القائم على مَهْواة فيها مادّة نافعة - كجوانب البئر والوادي. ومن النظر إلى جوانب المهواة فحسب "رَجَوا القبر: جانبا حفرته ". ومن الشكل العام لذلك "أرجاءُ السماء جَوَانبُها " {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 17]. (أي بعد تفتحها أبوابًا).
وإشراف الجدار ونحوه على الماء يؤخذ منه الإشراف عل نَيْل خير، كما يشعر بنقص الاطمئنان إلى يقينية الحصول عليه، وهذا هو الرجاء بمعنى الأمل والطمع، لأن الراجي ليس مطمئنًّا متيقنًا بحصول ما يرجو، بل تخالجه درجة من توقع الحرمان. وذلك واضح في تفسير قوله تعالى عن المؤمن {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9] وهو معنى الطمع الذي يفسّر به {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة: 218] وكذلك ما في [النساء 104، هود 12، الإسراء 28، 57، النور 60، القصص 86، فاطر 29] [ينظر بحر 2/ 161] أما في قوله تعالى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف: 110] {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [الفرقان 21] وكذا سائر الآيات التي تثبت أو تنفي الرجاء في لقاء الله واليوم الآخر أو النشور أو الحساب أو أيام الله = فإن الرجاء فيها بمعنى التوقع، وهو صورة من الطمع.
[ينظر بحر 6/ 160، 7/ 137] والتعبير بالرجاء هنا يوازن التعبير عن نفس لقاء الله واليوم الآخر بالظن في آيات كثيرة كما في {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 46، وكذلك ما في 249، الحاقة 20، الجن 12]. {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [الفرقان: 21].
ومن الإشراف على مهواة عميقة ومن الاضطراب الذي يتأتى من ذلك جاء معنى الخوف، وكأن مأتاه استشعار المهابة. وبالخوف فُسِّرَ {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]، والعرب تقول: ما رَجَوْتك: أي ما خِفْتك، وبه فُسِّرَ قول الشاعر: [إذا لَسَعَتْه النَّخْل لم يَرجُ لَسْعَها]
لكني أرجح تأويلًا أنسب لآية (نوح) هذه، ويتأتى من الطمع وهو: لا تضمرون/ لا تعتقدون. وواضح أن الإضمار والاعتقاد شيء في النفس كالرجاء والطمع والظن. وأما (أرجه)، (مرجون)، (ترجى) فهن من المهموز.
وجاء من الإشرافِ على مهواة أيضًا: "رَجِىَ -كرضى: دَهِش (ملأه التهيب).
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
14-المعجم الاشتقاقي المؤصل (سهو)
(سهو): {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5]السَهْوة - بالفتح: الأرض اللينة التربة، والكُوَّة بين الدارين، وبيتٌ على الماء (أي قريب من البئر) يستظلون به تَنْصُبه الأعراب، وبيت (داخل البيت) صغير منحدر في الأرض، سَمكُه مرتفع في السماء، شبيه بالخزانة الصغيرة يكون فيها المتاع، والكُوَّة في الحائط، والحَجَلة أو شِبْهُ الحَجَلة (= الكِلّة = الناموسية المنصوبة)، وسترة تكون قدام فناء البيت، ربما أحاطت بالبيت شِبْهَ سور.
° المعنى المحوري
فراغ نافذ بين أشياء أو أثناء (1): كالكُوَّة بين الدارين
ولين التربة إنما هو من تسيُّبها وتفكُّكها بفراغ ما بين ذراتها، وكالظُلة، وسهوة البيت؛ فإنما هي فراغات محاطة كأنها متخلَّلة.
ومن ذلك: "السَهْو والسَهْوة: نسيان الشيء والغفلة عنه (يذهب من خلال الذهن ولا يضبطه الذهن أو يُمسكه؛ فتخلو منه أثناؤه) {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5]، {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} [الذاريات: 10, 11]. وفي ضوء ما سبق يمكن أن نقول إن في السهو إهمالًا وتراخيًا في ضبط المسهوّ عنه وإمساكه في القلب؛ ولهذا فالساهي مسئول. وذم الساهين في الآيتين يحقق هذه الملاحظة. قال [قر في الآية الأولى 17/ 34] أي لاهون غافلون. وأورد في الثانية [20/ 212] حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الساهين عن الصلاة أنهم "الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها تهاونًا بها ". وقال ابن الأثير: "السهو في الشيء: تَرْكه عن غير علم، والسهو عنه: تركه مع العلم " [ل] (ولعله يقصد العلم به مع أمور أخرى تشغله عنه) ومردّ هذا الفرق إلى الحرفين "في "و "عن ".
ومن الأصل: "السَهْوة من الإبل: الليّنة السير الوطيئة " (لينة كأن أثناءها إسفنجية). "والمساهاة: حسن المخالقة والعشرة. المساهاة في العشرة: ترك الاستقصاء " (أي ترك المحاسبة على أشياء عابرة كأنه يسهو عنها. والترك تخلية؛ فهو من باب الفراغ).
وأرى أن قولهم: "حَمَلَت المرأة سهوًا، أي حَبِلَتْ على حيض "، هو من التجاوز والتخطي الذي حدث والتعبير مخفف.
أما "السَهوة: الصخرة التي يقوم عليها الساقي في أعلى رأس البئر " (وهي طائية ليست من اللغة العامة) فيمكن أن تكون منقولة عن البيت الذي على الماء، أو تكون سُمّيت كذلك من كونها على رأس البئر (التي هي فجوة عظيمة عميقة) فكأنما لازمة لها.
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
15-المعجم الاشتقاقي المؤصل (شبه)
(شبه): {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25]الشِبْه -بالكسر، وبالتحريك: ضرب من النُحاس يُلقَى عليه (أي يخلط به) دَوَاءٌ فيه صفرة. والشبه -محركة: شجرة كثيرة الثوك تشبه السَمُرة - كذلك الضرب من النحاس يشبه الذهب.
° المعنى المحوري
مقاربةٌ في الشكل والملامح الظاهرية بين شيء وآخر: كذلك الضرب من النحاس يشبه الذهب، وكتلك الشجرة التي تشبه السمرة {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} [الأنعام: 99] {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة 25] متفق المنظر مختلف الطعوم. [بحر 2/ 396]. وبالشبه الظاهري يفسر كل ما لا نذكره هنا. {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118] في التعنيت والاقتراح وترك الإيمان في الكفر [قر 2/ 92]، {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] ألقى شبهه على غيره [قر 4/ 100، 6/ 9]. فهذا في التشابه المقصود به معناه الحقيقي. ومنه {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23] فالمعنى أنه يشبه بعضه بعضا ويصدق بعضه بعضًا [ينظر عن الآيتين قر 10/ 12 وفيه أمثلة].
وكذا قولهم "الشِبْه -بالكسر، وبالتحريك- والشَبِيه: المِثْل "والتعبير بالمماثلة فيه تجاوز، والمقصود التقارب الشديد في الملامح والسمات الظاهرية فيهما فحسب.
أما في قوله تعالى {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] فالمقصود لازم التشابه وهو الالتباس وعدم التمييز وعدم الفهم [ينظر بحر 2/ 396] وهذا يستدعي البحث عن معناه تفهما. لكن بعضه غير قريب فيكون قضده تعنتا. مثل أ) ما استأثر اللَّه بعلمه كقيام الساعة وطلوع الشمس من مغربها ب) المراد بفواتح السور (ألم، المر) إلخ. جـ) ما خفيت علته كأعداد الصلوات واختصاص الصوم برمضان دون شعبان مثلا. د) ما لا سبيل إلى معرفته كالوجه واليد بالنسبة للَّه عز وجل) والاستواء وسائر الكيفيات المجهولة. هـ) ما احتمل من التأويل أوجهًا. [ينظر بحر 2/ 396]. وليس في القرآن من التركيب ما يخرج عن معنى الشبه: التقارب في الشكل، أما المتشابه في [آل عمران 7] فقد ذكرناه.
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
16-المعجم الاشتقاقي المؤصل (وضع)
(وضع): {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 2 - 3]وَضَعَ الشيءَ من يده: ألقاه. ووَضَع الشيءَ: ضِدُّ رَفَعه، ووضع الشيءَ في المكان: أَثْبته فيه. ووَضَع العَلَمَ (= بناء مرتفع في الصحراء): هَدَمَهُ وأَلْصَقَه بالأرض. واتضع بعيرَه: أخذَ برأسه وخَفَضه إذا كان قائمًا يَضَعُ قَدَمه عَلَى عُنُقه فيركبه.
° المعنى المحوري
الهُوِيّ بالشيء إلى مقرّ منخفض يثبت فيه (عن حيز عال كان فيه). {وَأَكْوَابٍ مَوْضُوعَةٌ} [الغاشية: 14] كلما أرادوها وجدوها موضوعة بين أيديهم عتيدة حاضرة لا يحْتاجون إلى أن يدعوا بها [الكشاف 4/ 731]، أي هي متاحة دائما. {وَتَضعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج: 2]: إسقاطه من بطنها إلى الأرض ولو لغير حينه كما في هذه الآية، أو لحينه كما في سائر آيات وضع الحمل وسياقاتها واضحة. {أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء: 102]، المقصود تخلعوها
عن أبدانكم وتنحوها جانبا بعد أن كنتم تحملونها. وإلى هذا يئول ما في [محمد 4] والمقصود توقف الحرب مؤقتا أو نهائيا بأن لا تكون للكافرين شوكة [ينظر الكشاف 4/ 310، قر 16/ 228]. ومن هذه التنحية ما في {تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} [النور: 58 وما في 60 منها]. ومن مجازيّ هذا الحطّ وتنحية المحمول {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} [الشرح 2 وانظر وزر هنا، وكذا الأعراف 157]. {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران: 96] (أقيم ثابتًا للناس يأتونه من كل الجهات للتعبد [ينظر بحر 3/ 7]. {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} [الكهف: 49] (نَصْب وإثبات والتعبير بـ "وضع "هنا لأن كتب الأعمال هي مدار الحساب وهي المرجع الثابت لكل شيء في ذلك اليوم العصيب). ومثل هذا ما في [الزمر: 69]. {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7]: أقره وأثبته [بحر 8/ 188] (أي هدى إليه سبيلًا للموازنة والتقويم والعدل الذي أمر به سبحانه) [وينظر قر 17/ 154]، وقريب منه ما في [الأنبياء: 47] وإن كان هذا في الآخرة. {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} [الرحمن: 10] خفضها مدحوة.. [بحر 8/ 188] (أي بسطها ومهّدها قرارًا لهم).
ومنه "وضع البعيرُ والناقةُ: عَدَوا. وأوضعتُ الدابة: حَمَلتُها عليه (إسراع كأنه هُوِيٌّ وانحدار) وقوله تعالى: {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ} [التوبة: 47]: لأسرعوا فيما بينكم بالإفساد والنميمة [قر 8/ 157]. {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46، المائدة: 13، ومثله ما فيها 41] أي يغيرون ألفاظ التوراة أو القرآن أو كلام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عما أُنْشِئ عليه إلى ما يوافق أهواءهم، أو يغيرون تأويلها كذلك [ينظر بحر 3/ 273 - 274].
ومن معنويه "الضَعَة: الذل والهوان والدناءة، والخسارة في التجارة،
والتواضع: التذلل " (كل ذلك هُوِيٌّ وهُبوط إلَّا التواضع فإنه عزة معها أدب). ومن الإقرار والإثبات "وضع الشيء: اختلقه (أثبته - زُورًا)، والوضائع (نحو الضرائب المقررة)، وكُتُبٌ يكتب فيها الحكمة " (قواعد ثابتة).
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
17-المعجم الاشتقاقي المؤصل (غير)
(غير): {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد: 15]غار الرجلُ على امرأته، والمرأةُ على بَعْلها: (دخلته) الحَمِيَّة والأَنَفَة. والغِيار: البِدال - ككتاب فيهما. غَايَره: عارضه بالبيع وبادله. تَغَيَّر الشيءُ عن حاله: تَحول. غيّره - ض: حَوّله وبَدّله كأنه جعله غَيْرَ ما كان. وغيّر عليه الأمرَ: حَوَّله. والغِيَر - كعِنَب: الدِيَةُ. غاره يغوره ويَغِيره: وَدَاه.
° المعنى المحوري
تحوُّلُ الشيء لحدَة تخالطه تحولا تامًّا أو أو كالتامّ. كتحول نفس الغَيْرانِ من الرضا ونحوه إلى الغضب الشديد، وكالمبادلة في البيع لرغبة النفس عن المتروك، وكالتحوّل من القصاص إلى الدية. (وأرجح أن الأصل أن هذا التحول يكون من حَسَن أو خَير إلى شر. كما جاء في الآية الكريمة {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}
[الأنفال: 53]، وكذلك سياق الآية {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. وكذلك: {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد: 15]، والتعبير عن المصائب بـ "غِيَر الدهر "، والقدماء كانوا يستعملون "تَغَيَّر عليه "و "تَغَيَّر له "في الشر. {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] في [بحر 3/ 369 - 370] عشرة أقوال في هذا التغيير يشمل أكثرَها تغييرُ الأبدان عما خلقها اللَّه عليه، وإفساد الفطرة التي فطر اللَّه الناس عليها.
والتحول من ذات أو حال إلى ذات أو حال أخرى ينشأ عنه معنى الاختلاف والمخالفة من جهتين: أولاهما أن أحدهما مختلف عن الآخر ضرورة. والثانية أن المتأخر منهما يخلف السابق. قالوا: "تغايرت الأشياء: اختلفت ".
ومن هذا الاختلاف جاءت (غير) صفة بمعناه: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 59] وجاءت بمعنى الاستثناء من حيث إن الاستثناء يعني أن حال المستثنَى أو أمرَه يختلف عن حال المستثنى منه: {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55]، وجاءت بمعنى النفي أخذًا من معنى الاختلاف، لكن مع صرف النظر عن المختلَف عنه والاقتصار على أن الموصوف بها مغاير لكذا أي ليس كذا. والضابط التقريبي لهذا أنه إذا كان معنى التبديل واضحًا مقصودًا فهي للتعبير عنه مثل {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173] فالسياق لبيان تحريم هذا الذي ذكر اسم غير اللَّه عليه. ومن هذا ما في [آل عمران: 83، 85، النساء: 81، 82، المائدة: 3، الأنعام: 14، 40، 46، 93، 114، 145، 164، الأعراف: 53، 140؛ 162، الأنفال: 7، يونس: 15، إبراهيم: 48، النحل: 52، 115، النور: 27، القصص: 71، 72، فاطر: 3، 37، الزمر: 64، الطور: 43 وكل (غير
المضافة للضمير)]. وإذا كان السياق لبيان تنحية شيء معين بحيث يصح وضع (لا) أو (ليس) مكان (غير) فهي للنفي، مثل: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212]، وإن كان السياق لاستبقاء شيء معين ونفي كل ما عداه فهي للاستثناء ويصلح مكانها (إلا)، مثل: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101]. وكذا ما في [الروم: 155، الذاريات: 36] وما عدا ما كانت للتبديل وللاستثناء فهي للنفي. وبعض السياقات يتأتى فيه أكثر من معنى لـ (غير).
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
18-المعجم الاشتقاقي المؤصل (فعل)
(فعل): {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107]الفعال - ككتاب: نِصاب الفأس والقدوم والمطرقة وهو العود الذي يُجْعل في خُرْتها. والفَعَلة: صفة غالبة على عَمَلة الطين والحَفْر والنجارين.
° المعنى المحوري
نفاذ أو مخالطة مادّية عنيفة أو جادّة (قَطْع أو فك أو حَمْل ثقل أو تحريك..) يُغير شيئًا أو يحدثه: كما ينفذ العود في خرت الفأس إلخ ليمكن العمل بها أو كما يُفْعل بالفأس والقدوم.. إلخ تلك الآلات، وكما يَفْعله عَمَلةُ الطين والحَفْر إلخ.. ثم عُمِّمَ في كل ممارسة عملية تتطلب قوة زائدة تتمثل في تحمل المشقة أو التأثير أو الجِدّ "فالفعل كناية عن كل عمل " (أي لا كلام وينبغي أن يزاد قيد: فيه زيادة جِدّ)؛ ولذا قوبل بالقول في {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 وكذا ما في 3]. ويستعمل في الأحداث العنيفة: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} [الشعراء: 19] هي قتله رجلًا، وفي إنزال العذاب: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1]، {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [إبراهيم: 45]، {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج: 7]، وكذا كل (فَعَل ب، يفعل ب). وبجسامة النفع المنفي يفسَّر ما في {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ} [النساء: 147]، وبجسامة الاحتمالات يفسر ما في [الأحقاف: 9]. وأما ما استعملت فيه (فعل) في أداء الخير مثل {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} [آل عمران: 115، وكذا ما في النساء: 127، 197، 225، الأحزاب: 6]
فكل ذلك يفسّر استعمال (فعل) فيه بالأداء أو التنفيذ الجادّ الذي لا فتور ولا تساهل فيه: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16].
ولمعنى الإحداث يقال: "افتعل حديثًا: اخترقه، وافتعل كذبًا وزورًا: اختلقه ".
هذا وقد عورض الليث في تخصيصّ الفَعَال - كسحاب: بالفعل الحسن من الجُود والكَرم ونحوه ". وأصل المعنى عامٌّ، إلا أن يكون مرجع التخصيص كثرة الاستعمال. فيسلَّم، إذا ثبت.
وفي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4] قال في [ل زكا] ص 78]: والزكاة.. وزنُها فَعَلة كصَدَقة.. وهي من الأسماء المشتركة بين المُخْرَج (أي الحب أو المال إلخ) والفِعْل. فيطلق على العين وهي الطائفة من المال المزكَّى بها، وعلى المعنى وهي التَزْكية.. ومن الجهل بهذا البيان أُتِى من ظلم نفسه بالطعن على قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} ذاهبًا إلى أن الزكاة هنا بمعنى العين أي المال المُخرَج (أي فهذا لا يُفْعَل وإنما يُؤتَى أو يُؤَذى) وإنما المراد المعنى الذي هو التزكية ". اهـ. وأقول أولًا: إنه يشير إلى ما حكاه أبو سليمان الخطابي في كتابه عن إعجاز القرآن وردّ عليه [ينظر ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ص 38 و 45 و 69]. ثم أقول ثانيًا: إن كلمة الزكاة اسم مصدر وهو قد يستعمل بمعنى الفعل كالمصدر، فـ "فاعلون "هنا يتأتى أن يكون بمعنى يفعلون التزكية (: أداء الزكاة) أو يتزكَّون {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9]، وقد أشير إلى بعض هذا في [ل]. كما ذكرنا آنفا. لكن التعبير بتركيب (فعل) دون (أدّى) أو (آتى) وراءه ما أسلفنا من أن التركيب يعبر عن الممارسة العملية المقترنة بنوع من الجِدّ، والقوة الإضافيه (المبالغة والمواظبة) كما فى [ثلاث رسائل 45] وهي تتمثل هنا فى:
أ) الدأب والمواظبة على إيتاء الزكاة.
ب) الالتزام الصارم بكل آداب أداء الزكاة: الالتزام في توقيت وجوبها، والمقدار المخرج، وجودة المخرَج {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}، والتوزيع، واستحقاق المخرج إليه - بلا تهاون في أي من ذلك. ومراعاة ذلك كله هي التي تجعل إخراج الزكاة يتطلب غاية الجِدّ بحيث يعبر عنه بالفعل لا بمجرد الإيتاء. والتعبير بهذا يشير إلى مستوى لا يبلغه الكثيرون، فمن رحمة اللَّه تعالى أن ذكر التعبير الآخر في آيات أُخَر توسعة على عامة عباده.
وبعد، فلعله مما يؤيد ما ذكرته من استعمال لفظ (فعل) وما اشتق منه في ما هو جِدٌّ لا هوادة فيه:
أ) استعمال هذا التركيب في مقابل القول {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3] وغيرهما.
ب) في إيقاع العذاب {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [إبراهيم: 45]، {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [المرسلات: 16 - 18، الصافات: 34] وغيرهن مما أشرنا إليه قبلا. وقد عُبّر عن هذا في [ثلاث رسائل 69] باستعمال هذا التعبير في العقوبات ونحوها.
ج) انصباب استعمال هذا التركيب في كثير من الآيات على ارتكاب المعاصي والمخالفات {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155]، {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 173]. وآيات أخر كثيرة.
د) وهذا إحصاء تقريبي يؤكد ما قلنا: مفردات التركيب في القرآن الكريم 108 منها (40) تعبر عن عمل شر أو منكر، و (10) إيقاع عقوبة أو نحو ذلك، و (5) عمل يتسم بزيادة الجد، و (10) عمل خير، و (43) عمل مطلق أي أداء تنفيذي كالذي هو مقابل القول.
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
19-المعجم الاشتقاقي المؤصل (قل)
° معنى الفصل المعجمي (قل): الرفع بصورة من الصور كما يتمثل ذلك في ارتفاع القُلّة أعلى الجبل والسنام والرأس - في (قلل)، وكما يتمثل في إزالة الراسخ - في (قلى)، فزوال الراسخ مفارقة مقرّ، والتعبير عن الإزالة بالرفع جارٍ (رفع اسمه من القائمة والعامة تقول شاله)، وكما في إخراج المستكن في النفس ورفعه بالصوت لضبطه - في (قول)، وكذلك رفع القُلَة بالقال، وكما في زوال الناس وانقشاعهم إلى مقارهم - في (قيل)، وكما في قلب الشيء أي رفعه وإدارته ليصير ظاهره باطنًا وباطنه ظاهرًا - في (قلب)، وكما في نقل الشيء قليلًا قليلًا ليجتمع في شيء - في (قلد) فهذا النقل إزالة ورفع، وكما في قلع المَدَر ونحوه من الأرض - في (قلع) فإنه رفع، وكما في قشر طرف مقدم القلم والسهم - في (قلم)، فإنه إزالة ورفع أيضًا، كما أن المقدَّم من جنس الأعلى.المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
20-المعجم الاشتقاقي المؤصل (كون)
(كون): {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]كُنْتُ الغَزْلَ: غَزَلته. [ق] والكُونِيّ - بالضم: الكبير العمر.
° المعنى المحوري
التحوُّل من هيأة هَشّة إلى هيأة متينة لَيًّا وفَتْلًا: كتحول الصوف المنفوش إلى خيط مغزولٍ متين بالليّ والفَتْل. ومن هذا التحول إلى شيء متين عبّرت عن الوجود، وهو تحقُّقٌ ماديٌّ قويٌّ: "كوَّنه الله - ض: فتكوَّن: أحْدَثه وأوجده - والله مكوِّن الأشياء يُخرِجها إلى الوجود "، وهو تحقُّقٌ ماديٌّ عن عَدَم وغيب: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]. والتعبير بالمضارع في [آل عمران 59] حكاية حال ماضية [بحر 2/ 502]، ومن هذا: "كان "التامّة {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280] أي وُجد. و "الكائنة: الحادثة (التي وُجدت). ومن هنا أيضًا: "كان "الدالة على الاستمرار {وَكَانَ اللَّهُ
غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] ويمكن التعبير عن الاستمرار هذا بجريان عادته سبحانه وتعالى مع عباده طائعين أو عصاة كلّ على حسب ما يقضي فيه سبحانه. والدالة على لزوم الوصف مثل {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54]، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ومن هذا أيضًا: "كان "الناقصة، ولعلّ أصلَ خَبَرِها بيانُ حال الكينونة تلك {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 283].
ومن التحول قولُهم: "لا كانَ ولا تكوَّنَ، أي: لا خُلِقَ ولا تحرَّكَ (تحوُّل). وبالتحول فسِّر {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50]، {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89]، {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] قيل كان هنا بمعنى صار [قر 1/ 296] وكذلك: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 43] وشاهدها:
... والمَطِيُّ كأنّها... قطا الحَزْنِ قد كانت فِراخًا بُيُوضُها
أي قد صارت.
ومن اللَيّ في الأصل قولهم: "كانَ عليه كَوْنًا وكِيَانًا واكْتَانَ: كَفَلَ عليه/ تكفَّلَ به " (انطَوى عليه والتفَّ عليه = احتواه) ومنه قول الطِرِمّاح:
وإني لآتيكُمْ تَشَكُّرَ ما مضى... من الأمر واستنجازَ ما كان في غدِ
كأنما يقول: ما استَكَنّ (انطوى) في غد. ويقال: "مضيتُ على مَكَانَتِي ومَكِينتي أي: طِيَّتي " (وهي مطوية في الصدر).
ومن هذا الأصل: المكانُ، وهو موضع الكَيْنونة، أي الوجود {فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} [مريم: 22]. وكل ما في القرآن من التركيب فهو من (كان)
بأي من تصرفاتهما ومعانيها التي ذكرناها، والسياق يعيّن، ومنه (المكان).
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
21-المعجم الاشتقاقي المؤصل (لدى)
(لدى): {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيءٍ عَدَدًا (28)} [الجن: 28]يقال: "رأيتُه لدى باب الأمير، وجاءني أمر من لَديكَ، أي مِنْ عِندكَ ".
° المعنى المحوري
المكان الذي يكون فيه الشيء (يَحتبِس فيه الشيءُ وَيمتسِك)، {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25]. {لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 10] كان المعنى: لا يخافون غيري أيا كان وهم في مقام كلامي "وقيل لا يخافون في الموضع الذي يُوحَى إليهم فيه، وهم أخوف الناس من الله [بحر 7/ 1155] {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} [الأنبياء: 17] لو أردنا اتخاذ لهو لاتخذناه من جهتنا مما يناسب الجلال- لا ما تزعمون. لكن جناب المولى يجل عن ذلك. (والتعبير بـ (لو) ثم (إن) في {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} يعطي هذا التنزيه.
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
22-المعجم الاشتقاقي المؤصل (أله)
(أله): {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}الإلاهة- كرسالة: الشمس. وقيَّد بعضهم بأن العرب سمَّت الشمس- لما عبَدوها- إلاهة [التهذيب]، وتقال أيضًا كرُخَامة. وقال بعضهم هي كرخامة: الشمس الحارّة، أو الإلاهة- كرسالة: الحَيَّة: وهي الهلال. وفي [ل] (هلل): والهِلال: الحيَّة إذا سُلِخَت. وفي [تاج] الهلال: سِلْخ الحيَّة) (1) (بكسر السين وهو
غِلاف شفاف يتربَّى عليها بين حين وآخر فتَخلعه). فالذي أرجحه أن عبارة "الإلاهة الحية "تحريرها "الإلاهةُ: سِفخُ الحية ". فهو المتسق مع "الإلهة: الشمس "في الشفافية. ولعل هذا مقصود ثعلب بقوله "الإلاهة: الهلال [تاج].
° المعنى المحوري
شفافية أو ضوء مع أثر تُستَشعر حدّتُه: كضوء الشمس ومعه حرارتها، وكسِلْخ الحية بشفافيته مع استشعار ارتباطه بحدّة السم في الأفعى.
هذا، وقد قال فريق من العلماء إن لفظ الجلالة (الله) ليس من الأسماء التي يجوز اشتقاقُ فعل منها كما يجوز في الرحمن الرحيم (1)، أي أنه غير مشتق. وقال فريق آخر إن أصله الإلاه- وحذفت الهمزة كما حذفت من الناس وأصله الأناس، وكما حذفت من {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} وأصلها لكن أنا (2) - فإذا جرينا على الرأي الثاني تأتَّى فيه من المعنى المحوري الذي ذكرناه معنى النور والتعالي والغيبية واستشعار الأثر- وهي معان لغوية تُؤخذ من استعمال لفظ "إلاه "للشمس وسِلْخ الحية. ولهذه المعاني اللغوية تجليات في معاني الألوهية، فالإله
الحق جل جلاله نور لا يحاط بكنه حقيقته، بيده كل شيء: العالم كله مما هو أدق من الذرة إلى ما هو أعظم من كل مجرّة عِلمًا وملكًا وإيجادًا وتصريفًا وإفناء. وأستغفر الله من قصور العبارة. وكل ما جاء من مفردات هذا التركيب فهو إما الإله الحق سبحانه ومنه لفظ الجلالة أصله (الإله) حذفت الهمزة، وأدغمت اللام في اللام. وإما ما اتخذه المشركون إلاهًا وجمعه آلهة تعالى الله عما يصفون. والسياقات واضحة في المراد. وفي [طب 1/ 122] و [تاج] أن الإلاهة تعني العبادة. ومنه يكون (الإلاه) تعني المعبود. والتعبير عن العبودية والمملوكية هو من أول لوازم اعتقاد الألوهية. [ينظر تركيب عبد هنا]. وقد رد بعضهم لفظ (إلاه) إلى أَلِهَ- كفرح بمعنى: تحيَّر، أو لجأ إلى كذا (وينظر [تاج] - أله).- لكن ما قلناه -أوفق لمنهج هذه الرسالة. والله أعلم {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180] - ونعوذ بالله أن نكون منهم. {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل: 60]، {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27]. {مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43، الجاثية: 23] أي أقام الإله الذي يعبده هواه، فهو جارٍ على ما يكون في هواه. والمعنى أنه لم يتخذ إلهًا إلا هواه [بحر 9/ 459] أقول: وفي الآية إثبات لدخول الطاعة ضمن معنى عبادة إله. وهو معنى كان محل تساؤل عدي بن حاتم عن حقيقة اتخاذ اليهود والنصارى الأحبار والرهبان أربابًا [التوبة: 31] فأجابه - صلى الله عليه وسلم - بأنهم كانوا يطيعوضهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله [ينظر طب تركي 11/ 416 - 421] والطاعة من صميم لوازم المملوكية في معنى (عبد). وقد قالوا أن لفظ (اللهم) الميم فيه بدل عن ياء النداء فمعناها يا ألله، والأقرب إلى نفسي أنها بمعنى يا من هو إلهي.
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
23-المعجم الاشتقاقي المؤصل (نحت)
(نحت): {تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَال بُيُوتًا} [الأعراف: 74]"النحيتة: جِذْعُ شَجَرة يُنْحَتُ فيُجَوَّف كهيئة الحُبِّ للنَحْل. والنحائت آبار
معروفة (صفة غالبة). والحافرُ النَحِيتُ: الذي ذهبت حُروفه. نحت النجار الخشبة: نَشَرها، وقَشَرها. والحبلَ: قَطَعه. ونَحَته: بَرَاه. ونَحَت نَحِيتًا: زَحَر."
° المعنى المحوري
اقتطاعٌ من ظاهر الجرم الجافّ (باتجاه باطنه) بدقة نحو البَرْي.. {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَال بُيُوتًا} [الأعراف: 74 ومثلها ما في الحجر: 82، والشعراء: 149] , (يُجوّفون فَجَوات يها يتخذونها بيوتًا أو يقتطعون من حجارتها ويبنون بيوتًا). ومنه نَحْت التماثيل: فهو اقتطاعٌ كذلك ثم تسوية {قَال أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95)} [الصافات: 95]. والتعبير بهذا للتذكير بأصلها.
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
24-المعجم الاشتقاقي المؤصل (نحل)
(نحل): {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [النحل: 68]النَحْل: ذُبابُ العسل. والنُحل - بالضم: العطية.
° المعنى المحوري
قويٌّ أو طيبٌ يَحُوزُه الباطن يُفْرَزُ أو يُبْذل إلى حوزة أخرى -كما يُخْرِجُ النَحْلُ عسله فيحاز (ومنه ما في آية التركيب)، والعطية تُخْرَج فتُحَاز. {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] , (عطية تمليك والتعبير بالنِحلة هنا إشارة إلى أن المهر ليس ثمنًا، كما أن الصَدَاق والصدُقة هما من الصِدْق وليستا من الصدَقة). ومن القوي الطيب في الباطن "النِحْلة - بالكسر: الدِين والملة (اتخاذها عقيدة في القلب كما تُتَّخَذُ العطية) "وهو يَنْتَحِل مذهب كذا: يتخذه (تعلق)، ونحله القولَ: نسبه إليه " (ادَّعى أنه منه).
ويلزم من بذل ما يجوزه باطن الشيء فراغُه، ومن ثَمَّ نُحول الشيء يقال:
نَحِل جسمه (كفرح وفتح وقعد): ذَهَبَ من مَرَض أو سَفَر. جَمَل ناحل مهزول، وسيف ناحل: رَقيق، قَمَرٌ ناحل: دق واستقوس. (كأن الأصل كفرح).
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
25-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (الإسلامية في الأدب-من المدارس الأدبية)
الإسلامية في الأدبالتعريف:
الإسلامية (في الأدب) هي انطلاق الأديب في العملية الإبداعية من رؤية أخلاقية تبرز مصداقيته في الالتزام بتوظيف الأدب لخدمة العقيدة والشريعة والقيم وتعاليم الإسلام ومقاصده، وتبين إيجابيته عند معالجة قضايا العصر والحياة، التي ينفعل بها الأديب انفعالًا مستمرًا، فلا يصدر عنه إلا نتاج أدبي متفق مع أخلاق الإسلام وتصوراته ونظرته الشاملة للكون والحياة والإنسان، في إطار من الوضوح الذي يبلور حقيقة علاقة الإنسان بالأديان، وعلاقته بسائر المخلوقات فرادى وجماعات، وبشكل لا يتصادم مع حقائق الإسلام، ولا يخالفها في أي جزئية من جزئياتها ودقائقها.
معيار الإسلامية:
- ينطوي التعريف المتقدم، على مجموعة معايير متكاملة، يؤدي توافرها إلى صيرورة العمل الأدبي متسمًا بالإسلامية، وبعض هذه المعايير موضوعي يتعلق بجوهر العمل وبعضها عضوي أو شكلي يتعلق بإطار التعبير عن العمل، بحيث يتفاعل كل منهما مع الغاية من العمل الأدبي الممثل
1- الالتزام:
ويعني وجوب تقيد الأديب بإشاعة الرؤية العقدية في تيار العمل الأدبي المتدفق خدمة للعقيدة والشريعة والقيم الإسلامية والأخلاق وكليات الإسلام ومقاصده، وأهدافه العامة وبشرط ألا يخالف الإحساس الفطري بحقائق الإسلام.
2- المصداقية:
وتعني قدرة الأديب على إعطاء المتلقي إحساسًا صادقًا في كافة أعماله الأدبية بأنها قد صدرت عن تصور إسلامي، ودعوة إلى مكارم الأخلاق، وإشاعة الخير والمعروف، ونأي عن كل ما هو منكر وغير مألوف في الوجدان الإسلامي، فإذا كانت بعض أعمال الأديب فقط هي التي تتسم بالمصداقية الإسلامية، فإن ذلك لا يكفي لرفعه إلى مصاف أنصار الإسلامية.
3- الوضوح:
الإسلامية جوهر ومظهر، أو مضمون وشكل، لذا يجب أن يكون مضمون العمل وشكله معًا من الوضوح، في الدلالة على الإسلامية، بحيث يتسنى لأي متلقٍ، أن يصنف الأديب، بسهولة، ضمن أنصار الإسلامية، بمجرد إطلاعه على مجمل أعماله.
4- الإيجابية:
وتعني أنه لا يكفي في الأديب المنتمي إلى الإسلامية، أن يلتزم بالتصور العقدي الإسلامي، ولا يخالفه، بل يجب عليه فضلًا عن ذلك، أن يكون إيجابيًا في توجهه، فيقف مع الإسلام، ويدافع عنه، ويتصدى لمناهضيه، فكرًا وقولًا وعملًا وسلوكًا، فالإسلامية تستلزم اتخاذ الأديب موقفًا لا تدع ظروف الحال شكًا في دلالته على دفاع صاحبه عن عقيدته في كل الظروف والأحوال.
5- القدرة:
وتعني قدرة الأديب على إفراغ العمل الأدبي في الإطار الشكلي الذي يخدم الموضوع، ويناسب المضمون، ويشد القارىء ويقنع المتلقي بوجه عام.
6- الاستمرارية:
وتعني وجوب قيام الأديب المنتمي للإسلامية بتعميق انتمائه باستمرار، فإن أصبح غير قادر على العطاء الإسلامي، فيجب ألا يصدر عنه ما يعارض صراحة أو ضمنًا أعماله السابقة التي تتسم بالإسلامية، وقد يكون للاستمرارية معنى أخص، بالنسبة لمن كانوا غير ملتزمين من قبل ثم انتموا للإسلامية، إذ تعني الاستمرارية عدم عودتهم إلى مثل ما كانوا عليه قبل التزامهم، وقد نلمح هذا عند كعب بن زهير وحسان بن ثابت وغيرهما من الشعراء المخضرمين.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
كعب بن زهير رضي الله عنه:
من الممكن توسيع دائرة الإسلامية في الأدب لتبدأ بكعب بن زهير، ذلك أن الإسلامية إطار عام، لا يمكن نسبته إلى شخص بعينه أو زمن بعينه في العالم الإسلامي، وعندما جاهد بعض علماء الإسلام في سبيل تكوين مدرسة للأدب الإسلامي فإنهم في الحقيقة، كانوا يريدون التعبير عن مضمون أعمق من مجرد الإطار الشخصي هو النزعة الإسلامية في الأدب أو في كلمة واحدة "الإسلامية Islamism" وهي نزعة يمكن أن نلمحها من لحظة إلقاء رسول الله r بردته على كعب بن زهير عندما أنشده قصيدته اللامية في مدحه r، فسر بالتزامه ومصداقيته، وصحح له الشطرة التي تقول: "مهند من سيوف الهند مسلول" إلى "مهند من سيوف الله مسلول" فهذا شعر ذو هدف نبيل وغاية شريفة في مجال الدعوة بلا غلوٍ ولا تجاوز، وهي نزعة حبذها الزمخشري في الكشاف بعبارات جلية.
حسان بن ثابت رضي الله عنه:
حسان بن ثابت شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من الشعراء المخضرمين الذين حضروا الجاهلية والإسلام، وقد أسلم مع السابقين من الخزرجيين، ومنذ شرح الله صدره للإسلام وهو شاعر العقيدة الذي يسجل أحداث المسلمين، ويمجد غزوات الرسول، ويرد على شعراء المشركين بجزالة، قال النثر والنظر في بيان عظمة الإسلام والدعوة إلى التأدب بآدابه والعمل بأحكامه، وقد سفه قريشًا في أشعاره، ونوّه بالقرآن الكريم كمصدر أول للتشريع الإسلامي وأساسًا لشريعة الحق ونبي الهدى، وبين بجلاء دور الأدب في بيان حقائق الإسلام، وقال أفضل أشعاره يوم قريظة وفي غزوة الأحزاب وفي رثائه لنبينا محمد r بين أن قيمة الإسلام تكمن في التوحيد.
عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:
كان أحد شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين نافحوا عن الرسالة، ورغم أنه استشهد في السنة الثامنة من الهجرة، وأن ما وصل إلينا من شعره كان قليلًا، إلا أن ما كتبه كان يجسد أهم قيم الإسلام كالشجاعة النابعة من أعماقه، والحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والحرص على التمسك بالدين والدفاع عنه، وطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولذا فقد كان عبد الله بن رواحة - بحق – رائد شعر الجهاد الإسلامي، تشهد على ذلك أشعاره. يقول الدكتور محمد بن سعد الشويعر: "من اللفتات النبوية الكريمة استمد عبد الله بن رواحة التوجه إلى الطريق الأمثل، الذي يجب أن يسلكه الشعر الإسلامي، والإطار الذي يحسن أن يبرز فيه: صدق في التعبير، وسلامة في المقصد، وعدم الفحش في ذكر المثالب، أو النيل من الأعراض، واعتدال في القول".
عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
ربما كان العقاد من أكثر الكتاب التزامًا بالإسلامية في الأدب، في مواجهة تيار التغريب الذي قاده طه حسين، ولذا فإن كلام العقاد له وزنه في هذا الصدد ومما قاله في عبقرية عمر:
كان عمر بن الخطاب أديبًا مؤرخًا فقيهًا (ص 344) عظيم الشغف بالشعر والأمثال والطرف الأدبية، وكان يروي الشعر ويتمثل به، ولم يزل عمر الخليفة هو عمر الأديب طوال حياته، لم ينكر من الشعر إلا ما ينكره المسؤول عن دين، أو القاضي المتحرز الأمين، ولذا فقد نهى عن التشبيب بالمحصنات، ونهى عن الهجاء، وأعجبته الأشعار التي تنطوي على معان سامية، دعى إليها الإسلام، وكان يرى أن للشعر غاية تعليمية تربوية فقد كتب إلى أبي موسى الأشعري قائلًا: مر من قبلك بتعلم الشعر فإنه يدل على معالي الأخلاق وصواب الرأي ومعرفة الأنساب.. وقال لابنه يا بني.. احفظ محاسن الشعر يحسن أدبك.. فإن من لم يحفظ محاسن الشعر لم يؤد حقًا ولم يقترف أدبًا.
وفي معايير الإسلامية قال: "ارووا من الشعر أعفه ومن الحديث أحسنه.. فمحاسن الشعر تدل على مكارم الأخلاق وتنهي عن مساويها".
ومما يؤكد تصور الإسلامية في الأدب عنده رضي الله عنه، أنه عزل النعمان بن عدي عندما تجاوز في شعره غايات الإسلام ومقاصده، بالرغم من أنه كان أحد ولاته، ولم يقبل اعتذاره وتعلله بأنه مجرد شاعر ولم يصنع شيئًا مما رواه في إحدى قصائده المبنية على الغزل الفاحش، كما سجن الحطيئة عندما هجا الزبرقان بن بدر، فلم يكن لمثل عمر أن يفعل غير ذلك فالإسلامية التزام إجباري إن صح التعبير، وإذا كانت الإسلامية التزام فإنها تستلزم المسؤولية.
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:
يعتبر عمر بن عبد العزيز من أبرز مؤسسي الإسلامية على الإطلاق لأنه لم يكتف بالحديث عن وجوب الالتزام والتقيد التام بالإسلام عند مباشرة المعالجة الأدبية، بل قدم أسلوبًا عمليًّا لذلك، في موقف كان يمكن أن يتقبل فيه الناتج الأدبي المنطوي على مدحه ولكنه قدم درسًا تطبيقيًا في الحيلولة دون تخطي الأدب غاية الإسلامية فقد منع الشعراء أن يمدحوه، فلما ألح عليه كثير بن عبد الرحمن في إنشاده، وضع معيار الحقيقة كأساس لقبول سماع الإبداع الشعري، فقد قال لكثير: نعم. ولا تقل إلا حقًا.
ومما يؤكد عدم تساهل عمر بن عبد العزيز في التزام الأدب بالأخلاق والأهداف السامية قصته المشهورة مع الشعراء عندما تولى الخلافة وقيل له إنهم بالباب يريدون المثول بين يديه. وعندما توسط أحد جلسائه للشعراء وأخبره أن الرسول r، قد سمع الشعر وأجاز الشعراء سأل من بالباب من الشعراء، وعندما أخبر بأسمائهم رفضهم واحدًا تلو الآخر مع تبيان أسباب الرفض باستشهاد من أشعارهم ولم يدخل إلا جريرًا حيث وجده أقل المجموعة فحشًا.
ابن قتيبة وآخرون:
فضل ابن قتيبة الشعر الذي ينطوي على فائدة في المعنى، سواء تعلق هذا المعنى بالقيم الدينية أو الخلقية أو الحكم. ومثله كذلك مهلهل بن يموت بن المزرع وابن وكيع التنيئسي والثعالبي وعمرو بن عبيد، ومسكوية وابن شرف القيرواني وابن حزم الذي نهى عن الغزل وغالى في وضع القيود على الأدب لتحقيق الإسلامية حسبما تصورها، رغم أنه خرج على ذلك أحيانًا كثيرة في طوق الحمامة. ولا شك أن الشعر مجرد فن من فنون الأدب ولكن ضوابطه الإسلامية ومعاييرها بشأنه تصلح لكل فروع الأدب.
علي أحمد باكثير:
يوصف بأنه من طلائع الإسلامية في الأدب في مجال الشعر والقصة والمسرحية، وكان لنشأته وبنائه الفكري واتساع أفقه وتنوع مصادره الثقافية أكبر الأثر في تكوين شخصيته وقلمه، ولذا كتب المسرحية الحديثة عن فهم ووعي وعن دراسة وتعمق في معرفة أصول الصنعة المسرحية.
ولقد كان الموجه الرئيسي لباكثير في فنه الأدبي هو عقيدته الإسلامية وقيمها وتصوراتها الصائبة للحياة. يقول د. نجيب الكيلاني عن مسرحيته حبل الغسيل إنها كانت صرخة شجاعة أدانت فساد المنهج وعفن الإدارة وانحراف المؤسسات الشعبية حينما استبد الشيوعيون بمقاليد الأمور في مصر في النصف الأول من عقد الستينات، حيث صنعوا من الشعارات واجهة للبلاد بينما هم يستغلونه وينفذون مخططًا موحى به إليهم من سادتهم خارج البلاد وفي ذلك إدانة للفكر الماركسي وتجربته المشينة بمصر.
مصطفى صادق الرافعي:
كانت الإسلامية في أدبه تيارًا متدفقًا، فقرظ محمود سامي البارودي شعره الملتزم، وأثنى عليه مصطفى لطفي المنفلوطي، وحيَّاه الشيخ محمد عبده قائلًا: "أسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفًا يمحق الباطل" وقد كان. ففي كافة مؤلفاته وأشعاره ودراساته ونثره، جعل الإسلام غايته وخدمة عقيدة التوحيد مقصده وبغيته. وقد وقف أمام مؤامرات الإنجليز ضد الإسلام ومؤامرات الصهيونية في فلسطين ومؤامرات الذين أرادوا إحياء العامية والقضاء على اللغة العربية، وأبرز قضايا الإسلامية عند الرافعي هي قضية إعجاز القرآن الكريم، وقضية البلاغة النبوية وقضية المقالات الإسلامية.
أحمد شوقي:
كانت الإسلامية واضحة في بعض أشعار أحمد شوقي، ولم يكن يلتزم في هذه الأشعار بالمقاصد الإسلامية فقط، بل إنه خاض بعض معارك الدفاع عن المبادىء الإسلامية وقضاياه، فقد بيَّن أن الحرب في الإسلام لم تكن حرب عدوان وإنما كانت حرب جهاد ودفاع، وبيَّن أن الإسراء كان بالروح والجسد معًا، وربط بين المفاهيم الدينية وبين قضايا النضال واليقظة والتحرر ودافع عن الفضائل الإسلامية والحرية والنظام والشورى، ويمكن القول كذلك أن حافظ إبراهيم رغم ثقافته الأزهرية المتواضعة وأحمد محرم شاعر العروبة والإسلام كانا يستظلان كذلك بظل الإسلامية في أدائهما الملتزم.
محمد إقبال:
وفكرة الإسلامية عند الشاعر محمد إقبال 1873م تستلزم توافر ثلاث مراحل: الأولى: الوقوف على المقاصد الشرعية التي بيَّنها الدين الإسلامي فهي حقائق أبدية لا تتغير، والثانية الجهاد الديني في سبيل تحقيقها كل في مجاله، وعلى الأديب أن يعتصم في سبيل ذلك بالصبر وهذا يستلزم الانقياد التام لأمر الله تعالى عن عقيدة ثابتة وإيمان راسخ، ومحاربة نوازع النفس. وثالثها: انطلاق الذوات الإسلامية كلها لتحقيق أهداف الأمة الإسلامية.
الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي:
في 2 ربيع الأول 1405هـ (24/11/1984م) أعلن الشيخ الأديب والمفكر الداعية أبو الحسن علي الحسني الندوي في لقاء ضم الكثير من مفكري وأدباء العالم الإسلامي عن ولادة رابطة الأدب الإسلامي، التي أعطت الأدب الإسلامي كيانًا متميزًا عن بقية المذاهب الأدبية الأخرى، على أنه يجب ملاحظة أن مفهوم الإسلامية سبق الإعلان عن الرابطة بسنين طويلة، فإنا نجد الدعوة للأدب الإسلامي في كتابات الداعية والأديب سيد قطب حينما كان يشرف على باب الأدب في الجريدة التي كان يرأس تحريرها في مصر عام 1952م. ونجدها أيضًا في كتابات أخيه محمد قطب عام 1961م وخاصة في كتابه منهج الفن الإسلامي، ونجدها أيضًا عند الدكتور نجيب الكيلاني سنة 1963م في كتابه: الإسلامية والمذاهب الأدبية، ونجدها أيضًا عند الدكتور عماد الدين خليل عام 1392هـ (1972م) في كتابه: النقد الإسلامي المعاصر وكتابه: محاولات جديدة في النقد الإسلامي الذي أصدره عام 1401هـ (1982م) وفي كتابه: فن الأدب الإسلامي المعاصر دراسة وتطبيق وفي كتاباته الأدبية التي سبقت نشر هذا الكتاب ومنذ عام 1961م في مجلة: حاضرة الإسلام الدمشقية.
ولذا فإن الشيخ أبا الحسن علي الحسني الندوي رئيس جامعة ندوة العلماء في الهند ورئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية يعتبر أحدث دعاة الإسلامية والمؤسسين لها، وإنه وإن كانت الرابطة لم تتشح باسم الإسلامية متخذة اسم الأدب الإسلامي، إلا أن الأمر مجرد اصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاحات.
الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا:
- رحمه الله – نائب رئيس الرابطة للبلاد العربية، وكان أستاذًا للأدب والنقد في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ويعتبر من أوائل من نظر للإسلامية ودافع عن الأدب الإسلامي.
الدكتور عبد القدوس أبو صالح:
أستاذ الأدب والنقد في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ونائب رئيس الرابطة ورئيس مكتب البلاد العربية.
الشيخ محمد الرابع الندوي:
نائب رئيس الرابطة ورئيس مكتب الهند.
الأستاذ محمد حسن بريغش:
أمين سر الرابطة للبلاد العربية وعضو مجلس الإفتاء في الرابطة.
الدكتور عدنان رضا النحوي:
الشاعر والأديب السعودي وعضو مجلس أمناء رابطة الأدب الإسلامي العالمية.
الأستاذ محمد قطب:
المفكر والداعية المعروف، والأستاذ في جامعة الملك عبد العزيز وعضو الشرف في الرابطة، فقد تابع جهود شقيقه سيد قطب – رحمه الله – في الإسلامية في الأدب.
الدكتور عبد الباسط بدر:
الأستاذ في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وأمين سر مجلس أمناء الرابطة.
الدكتور حسن الأمراني:
(مغربي): عضو رابطة الأدب الإسلامي ورئيس تحرير مجلة المشكاة التي تعني بالأدب الإسلامي.
الدكتور محمد مصطفى هدارة:
(مصري) عضو الرابطة والأستاذ في جامعة الإسكندرية.. وهو أول من أظهر حقيقة مذهب الحداثة الفكري والأدبي وأهدافه الهدامة.
الدكتور عبد الرحمن العشماوي:
وهو يعتبر أبرز الأصوات الشابة الملتزمة بالإسلام والمدافعة عن القضايا الإسلامية والتصور الإيماني.
الأفكار والمعتقدات:
جعل التصور الإسلامي الصحيح للإنسان والكون والحياة، أهم أركان العمل الأدبي أيًّا كان نوعه.
الالتزام بالتصور الإسلامي، لا يعني التوجيه القسري على غرار ما يفرضه أصحاب التفسير المادي للتاريخ وإنما هو أخذ النفس البشرية بالتصور الإسلامي للحياة في سائر فنون الأدب، وبذا تتميز الإسلامية عن فكرة الالتزام عند كل من الواقعية والاشتراكية والوجودية، فالالتزام عند الأولى هو الالتزام بقضايا الجماهير حسب المفهوم الماركسي المنهار، والالتزام عند الثانية – في النثر فقط دون الشعر – بقضايا الحرية حسب المفهوم الوجودي فحسب.
التعبير المؤثر، له أهمية في مجال الأدب ولا يستغني عنه بحجة سلامة المضمون، وبذلك يتميز الأدب عن الكلام العادي، فذلك مما يحقق غاية الإسلامية.
وغاية الإسلامية هي وجود أدب هادف، فالأديب المسلم لا يجعل الأدب غاية لذاته كما يدعو أصحاب مذهب: (الفن للفن) وإنما يجعله وسيلة إلى غاية، وهذه الغاية تتمثل في ترسيخ الإيمان بالله عز وجل، وتأصيل القيم الفاضلة في النفوس.
حرية التفكير والتعبير من متطلبات الإبداع والصدق الأدبي وهي وسيلة لإثراء الأدب كمًا وكيفًا.
وقد وضع الإسلام حدودًا للحرية في كل مجالاتها، ومنها مجال الأدب إذ إنه لا يعترف بحرية القول التي منحت للأدباء وغيرهم إذ رأى فيها خطرًا يهدد سلامة المجتمع وأمنه العقدي أو الأخلاقي أو الاجتماعي أو الاقتصادي.
الأدب طريق مهم من طرق بناء الإنسان الصالح والمجتمع الصالح وأداة من أدوات الدعوة إلى الله والدفاع عن الشخصية الإسلامية.
الإسلامية حقيقة قائمة قديمًا وحديثًا وهي تبدأ من القرآن الكريم والحديث النبوي، ومعركة شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش، وتمتد إلى عصرنا الحاضر لتسهم في الدعوة إلى الله ومحاربة أعداء الإسلام والمنحرفين عنه.
الإسلامية هي أدب الشعوب الإسلامية على اختلاف أجناسها ولغاتها، وخصائصها هي الخصائص الفنية المشتركة بين آداب الشعوب الإسلامية كلها.
ترفض الإسلامية أي محاولة لقطع الصلة بين الأدب القديم والأدب الحديث بدعوى التطور أو الحداثة أو المعاصرة وترى أن الأدب الحديث مرتبط بجذوره القديمة.
ترفض الإسلامية المذاهب الأدبية التي تخالف التصور الإسلامي والأدب العربي المزور، والنقد الأدبي المبني على المجاملة المشبوهة أو الحقد الشخصي، كما ترفض اللغة التي يشوبها الغموض وتكثر فيها المصطلحات الدخيلة والرموز المشبوهة وتدعو إلى نقد واضح بناء.
تستفيد الإسلامية من الأجناس الأدبية جميعها شعرًا ونثرًا ولا ترفض أي شكل من أشكال التعبير، وتعني بالمضمون الذي يحدد طبيعة الشكل الملائم للأداء.
والإسلامية في الأدب تأبى الانحراف عن القيود الواردة في تعريف الإسلامية، فهي كما يقول أحد الباحثين تأبى مثلًا "تأليه الإنسان (كلاسيكيًا)، وإغراقه الذاتي الأناني (رومنسيًا)، وتمجيد لحظات الضعف البشري (واقعيًّا، وتصوير الانحراف الفكري أو النفسي أو الأخلاقي (وجوديًّا) " فليس ثمة عبث وليس ثمة حرية أخلاقية مطلقة من كل قيد كما يرى (سارتر) وليس ثمة تناقضات نفسية لا نهاية لها تنتهي دائمًا بالضياع كما يرى (ديستوفيسكي).
والإسلامية إطار واقعي للعمل الأدبي، فهي ليست مجالًا لتحقيق الخيال الجامح أو التعبير عن شطحات منبتة الصلة بالواقع، وواقع الإسلامية أنها فكرة غائية عقدية، وغايتها ليست تحقيق مصلحة ذاتية أو شخصية كإطار للبراجماتية وإنما تحقيق مصلحة العقيدة وكل من يتمسك بهذه العقيدة، فالإسلامية إطار للحقيقة لا الزيف والاستقامة لا الانحراف، ذلك أنها تدور مع وجود المسلم، وللوجود الإنساني غاية إسلامية كبرى هي الكدح والعمل والعبادة {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] وهذه الواقعية توجد في القرآن الكريم ذاته، فأحد معجزاته أنه قدم أمثلة عليا للأداء الفني المتجانس في القصة وغيرها وما قصة يوسف عليه السلام عنا ببعيد.
والإسلامية ليست قيدًا على الإبداع وإنما هي إطار موضوعي وشكلي لتحصين العمل الأدبي من الإسفاف الذي قد يقضي على الأديب، أما التحرر المطلق من كل القيم الذي ينهي وجود الأديب، أو الخروج عن منطق الأدب ذاته، فهذا أمر يفرغ العمل الأدبي من مضمونه، فمنطق الإسلامية، ينبثق من حضارة إسلامية، تتيح للأديب فرصة التعبير عن كل ما يجول بخاطره، فيطرح المضمون الذي يريد في الشكل الذي يريد طالما كان في إطار التصور الإسلامي.
وترتيبًا على ما تقدم فإن الإسلامية تختلف عن سائر المضمونات الدينية البعيدة عن العقيدة الإسلامية سواء كانت دينية سماوية أو دينية وضعية، ولذا فإن الانفتاح على الأعمال الأدبية يجب أن يتم من خلال وجدان إسلامي راق وحسّ إنساني مرهف، للتخفيف من هموم الإنسان ومعاناته لا دفعه في أتون الصراع اللانهائي بين العبث واللامعقول، والعدمية والوجودية، وغيرها من المذاهب التي لا تروي الظمأ الديني لدى المتلقي ولا تسمو بأحاسيسه ومشاعره، بل تلغي له الزمن في العمل الأدبي، وتفكك له الأحداث، وتلغي له الشخصيات، وتمس جوهر العمل، فمسخ العمل أو تشويهه ليس من طبيعة الإسلامية.
بل إن هذا العمل لا يمكن أن يرتطم بطبائع الأمور ولا النظرة الإسلامية للكون والحياة والوجود، ومن أجل هذا فإنه وإن كان لا يجوز دمج الإسلامية في غيرها من المذاهب إلا أن الإسلامية لا تأبى التعايش مع أي نتاج أدبي عالمي، طالما لم تهدم الحواجز بين الأمرين، فخصوصية الإسلامية أنها وليدة الزمن والمكان، وأنها نسيج لقاء العقيدة بالإنسان، ولذا فإنها عالمية الأثر، كونية الرؤية، شمولية النزعة، توفق بين المنظور الواقعي والغيب اللامرئي، وتوائم بين المادي والروحي، وتجانس بين الثابت والمتغير، ولا يوجد فيها أي تنافٍ لوجود المحدود مع المطلق، ومعالجة الجزئي مع الكلي، طالما أن الهدف الأساسي للإسلامية هو صنع عالم سعيد لبني البشر، يعينهم على تجاوز متاعبهم، ويزيل المتاريس التي تقف أمام انطلاق عقيدتهم. ومن أمثلة هذه المتاريس النتاج الأدبي المتأثر بالنصرانية والذي نجده عند لويس شيخو، وسلامة موسى، وغالي شكري، ولويس عوض، وإيليا حاوي، وخليل حاوي، وسعيد عقل، وجبرا إبراهيم جبرا وغيرهم، وقد تأثر بهم بدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وغيرهم.
- والإسلامية كبنيان أدبي عقدي، تجد في الإسلام مجالًا رحبًا، يقدم الأدباء من خلاله فكرهم البناء، وسلوكهم الهادف، وتصورهم الصائب، وقضايا الإنسان التي تحتاج إلى معالجة. والإسلامية تجعل كل هذه الأمور ذات بنيان متجانس السمات، غير متنافر الأهداف والغايات، ولا ح
أماكن الانتشار:
أصبح للإسلامية أنصار في جميع أنحاء العالم.. ولها مكتبات في الهند وفي البلاد العربية وعقدت رابطة الأدب الإسلامية العالمية عدة مؤتمرات في الهند وتركيا ومصر، واشترك فيها عدد كبير من أدباء العالم الإسلامي.
ويتضح مما سبق:
أن الإسلامية ذات مدلول شامل في الزمان والمكان، فهي قديمة قدم الدعوة الإسلامية، وممتدة مع الإسلام عبر الأزمان. وهي لا تختص باللسان العربي المسلم دون سواه، بل تتعلق بكل مسلم أيًا كان مكان ولادته أو نشأته. والإسلامية ليست حبيسة صفحات الكتاب المتفرغين للأدب والمعنيين به، وإنما توجد في ثنايا كتابة تعرض لأي مسألة، حتى وإن كانت من مسائل العلم في شتى فروعه. ومن هذا المنطلق فإن المدرسة الأدبية الإسلامية الهندية أو الباكستانية أو الأندونيسية أو التشادية أو السنغالية أو غيرها تعتبر تجسيدًا للإسلامية في الأدب، كما تعتبر الكتابات العلمية ذات الأسس الجمالية والبنيانات الفنية من هذا القبيل أيضًا، فآداب الشعوب الإسلامية غير العربية هي رافد من روافد الإسلامية مادام أنها في إطار التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة ولا تعرض ما يرفض الإسلام أو يتعارض مع منهجه الفكري.
(page)
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م
26-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (الكلاسيكية-من المدارس الأدبية)
الكلاسيكيـةالتعريف:
الكلاسيكية مذهب أدبي، ويطلق عليه أيضًا "المذهب الإتباعي" أو المدرسي.. وقد كان يقصد به في القرن الثاني الميلادي الكتابة الأرستقراطية الرفيعة الموجهة للصفوة المثقفة الموسرة من المجتمع الأوروبي.
أما في عصر النهضة الأوروبية، وكذلك في العصر الحديث: فيقصد به كل أدب يبلور المثل الإنسانية المتمثلة في الخير والحق والجمال "وهي المثل التي لا تتغير باختلاف المكان والزمان والطبقة الاجتماعية" وهذا المذهب له من الخصائص الجيدة ما يمكنه من البقاء وإثارة اهتمام الأجيال المتعاقبة. ومن خصائصه كذلك عنايته الكبرى بالأسلوب والحرص على فصاحة اللغة وأناقة العبارة ومخاطبة جمهور مثقف غالبًا والتعبير عن العواطف الإنسانية العامة وربط الأدب بالبادىء الأخلاقية وتوظيفه لخدمة الغايات التعليمية واحترام التقاليد الاجتماعية السائدة.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
يعد الكاتب اللاتيني أولوس جيليوس هو أول من استعمل لفظ الكلاسيكية على أنه اصطلاح مضاد للكتابة الشعبية، في القرن الثاني الميلادي.
وتعد مدرسة الإسكندرية القديمة أصدق مثال على الكلاسيكية التقليدية، التي تنحصر في تقليد وبلورة ما أنجزه القدماء وخاصة الإغريق دون محاولة الابتكار والإبداع.
وأول من طور الكلاسيكية الكاتب الإيطالي بوكاتشيو 1313-1375م فألغى الهوة بين الكتابة الأرستقراطية والكتابة الشعبية، وتعود له أصول اللغة الإيطالية المعاصرة.
كما أن رائد المدرسة الإنكليزية شكسبير 1564-1616م طور الكلاسيكية في عصره، ووجه الأذهان إلى الأدب الإيطالي في العصور الوسطى ومطالع عصر النهضة.
أما المذهب الكلاسيكي الحديث في الغرب، فإن المدرسة الفرنسية هي التي أسسته على يد الناقد الفرنسي نيكولا بوالو 1636 – 1711م في كتابه الشهير فن الأدب الذي ألفه عام 1674م. حيث قنن قواعد الكلاسيكية وأبرزها للوجود من جديد، ولذا يعد مُنظر المذهب الكلاسيكي الفرنسي الذي يحظى باعتراف الجميع.
ومن أبرز شخصيات المذهب الكلاسيكي في أوروبا بعد بوالو:
- الشاعر الإنكليزي جون أولدهام 1653 – 1773م وهو ناقد أدبي ومن المؤيدين للكلاسيكية.
- الناقد الألماني جوتشهيد 1700 – 1766م الذي ألف كتاب فن الشعر ونقده.
- الأديب الفرنسي راسين 1639 – 1699م وأشهر مسرحياته فيدرا والإسكندر.
- والأديب كورني 1606 – 1784م وأشهر مسرحياته السيد – أوديب.
- الأديب موليير 1622 – 1673م وأشهر مسرحياته البخيل – طرطوف.
- والأديب لافونتين 1621 – 1695م الذي اشتهر بالقصص الشعرية وقد تأثر به أحمد شوقي في مسرحياته.
الأفكار والمعتقدات:
يقوم المذهب الكلاسيكي الحديث، الذي أنشأته المدرسة الفرنسية مؤسسة المذهب على الأفكار والمبادىء التالية:
- تقليد الأدب اليوناني والروماني في تطبيق القواعد الأدبية والنقدية وخاصة القواعد الأرسطية في الكتابين الشهيرين: فن الشعر وفن الخطابة لأرسطو.
- العقل هو الأساس والمعيار لفلسفة الجمال في الأدب، وهو الذي يحدد الرسالة الاجتماعية للأديب والشاعر، وهو الذي يوحد بين المتعة والمنفعة.
- الأدب للصفوة المثقفة الموسرة وليس لسواد الشعب، لأن أهل هذه الصفوة هم أعرف بالفن والجمال، فالجمال الشعري خاصة لا تراه كل العيون.
- الاهتمام بالشكل وبالأسلوب وما يتبعه من فصاحة وجمال وتعبير.
- تكمن قيمة العمل الأدبي في تحليله للنفس البشرية والكشف عن أسرارها بأسلوب بارع ودقيق وموضوعي، بصرف النظر عما في هذه النفس من خير أو شر.
- غاية الأدب هو الفائدة الخلقية من خلال المتعة الفنية، وهذا يتطلب التعلم والصنعة، ويعتمد عليها أكثر مما يعتمد على الإلهام والموهبة.
الجذور الفكرية والعقائدية:
ارتبط المذهب الكلاسيكي بالنظرة اليونانية الوثنية، وحمل كل تصوراتها وأفكارها وأخلاقها وعاداتها وتقاليدها.
والأدب اليوناني ارتبط بالوثنية في جميع الأجناس الأدبية من نقد أدبي وأسطورة إلى شعر ومسرح.
ثم جاء الرومان واقتبسوا جميع القيم الأدبية اليونانية وما تحويه عن عقائد وأفكار وثنية.
وجاءت النصرانية وحاربت هذه القيم باعتبارها قيمًا وثنية، وحاولت أن تصبغ الأدب في عصرها بالطابع النصراني، وتستمد قيمها من الإنجيل إلا أنها فشلت، وذلك لقوة الأصول اليونانية وبسبب التحريف الذي أصابها.
وبعد القرن الثالث عشر الميلادي ظهرت في إيطاليا بداية حركة إحياء للآداب اليونانية القديمة، وذلك بعد اطلاع النقاد والأدباء على كتب أرسطو في أصولها اليونانية وترجماتها العربية، التي نقلت عن طريق الأندلس وصقلية وبلاد الشام بعد الحروب الصليبية.
وازدهر المذهب الكلاسيكي في الأدب والنقد بعد القرن السادس عشر والسابع عشر الميلادي.
1) الكلاسيكية الحديثة
تطورت الكلاسيكية في الوقت الحاضر إلى ما أطلق عليه النقاد (النيوكلاسيكية) أو الكلاسيكية الحديثة، والتي حاولت أن تنظر إلى الأمور نظرة تجمع بين الموضوعية الجامدة للكلاسيكية القديمة والذاتية المتطرفة للرومانسية الجديدة. وقد بدأت هذه المدرسة في الظهور على يد كل من ت. س. اليوت الكاتب والأديب الأمريكي، وأ. أ. ريتشاردز وغيرهم من النقاد المعاصرين.
الانتشار ومواقع النفوذ
تعد فرنسا البلد الأم لأكثر المذاهب الأدبية والفكرية في أوروبا، ومنها المذهب الكلاسيكي، وفرنسا – كما رأينا – هي التي قننت المذهب ووضعت له الأسس والقواعد النابعة من الأصول اليونانية.
ثم انتشر المذهب في إيطاليا وبريطانيا وألمانيا.. على يد كبار الأدباء مثل بوكاتشيو وشكسبير.
ويتضح مما سبق:
أن الكلاسيكية مذهب أدبي يقول عنه أتباعه إنه يبلور المثل الإنسانية الثابتة كالحق والخير والجمال، ويهدف إلى العناية بأسلوب الكتابة وفصاحة اللغة وربط الأدب بالمبادىء الأخلاقية، ويعتبر شكسبير رائد المدرسة الكلاسيكية في عصره، ولكن المذهب الكلاسيكي الحديث ينسب إلى المدرسة الفرنسية، حيث تبناه الناقد الفرنسي نيكولا بوالو 1636 – 1711م في كتابه الشهير علم الأدب. ويقوم المذهب الكلاسيكي الحديث على أفكار هامة منها، تقليد الأدب اليوناني والروماني من بعض الاتجاهات، واعتبار العقل هو الأساس والمعيار لفلسفة الجمال في الأدب، فضلًا عن جعل الأدب للصفوة المثقفة الموسرة وليس لسواد الشعب مع الاهتمام بالشكل والأسلوب وما يستتبع ذلك من جمال التعبير، على نحو تتحقق معه فكرة تحليل النفس البشرية والكشف عن أسرارها بأسلوب بارع ودقيق وموضوعي.
ومن أهم الجوانب التي تستحق التعليق في الكلاسيكية أنها تعلي من قدر الأدبين اليوناني والروماني مع ارتباطهما بالتصورات الوثنية، ورغم ما فيهما من تصوير بارع للعواطف الإنسانية فإن اهتماماتهما توجه بالدرجة الأولى إلى الطبقات العليا من المجتمع وربما استتبع ذلك الانصراف عن الاهتمام بالمشكلات الاجتماعية والسياسية.
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م
27-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (الرومانسية-من المدارس الأدبية)
الرومانســيةالتعريف:
الرومانسية أو الرومانتيكية مذهب أدبي يهتم بالنفس الإنسانية وما تزخر به من عواطف ومشاعر وأخيلة أيًا كانت طبيعة صاحبها مؤمنًا أو ملحدًا، مع فصل الأدب عن الأخلاق. ولذا يتصف هذا المذهب بالسهولة في التعبير والتفكير، وإطلاق النفس على سجيتها، والاستجابة لأهوائها. وهو مذهب متحرر من قيود العقل والواقعية اللذين نجدهما لدى المذهب الكلاسيكي الأدبي، وقد زخرت بتيارات لا دينية وغير أخلاقية.
- ويحتوي هذا المذهب على جميع تيارات الفكر التي سادت في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي وأوائل القرن التاسع عشر.
- والرومانسية أصل كلمتها من: رومانس romance باللغة الإنجليزية ومعناها قصة أو رواية تتضمن مغامرات عاطفية وخيالية ولا تخضع للرغبة العقلية المتجردة ولا تعتمد الأسلوب الكلاسيكي المتأنق وتعظم الخيال المجنح وتسعى للانطلاق والهروب من الواقع المرير، ولهذا يقول ب
التأسيس وأبرز الشخصيات:
بدأت الرومانسية في فرنسا عندما قدّم الباحث الفرنسي عام 1776م ترجمة لمسرحيات شكسبير إلى الفرنسية، واستخدم الرومانسية كمصطلح في النقد الأدبي.
ويعد الناقد الألماني فريدريك شليجل أول من وضع الرومانسية كنقيض للكلاسيكية.
ثم تبلورت الرومانسية كمذهب أدبي، وبدأ الناس يدركون معناها الحقيقي التجديدي وثورتها ضد الكلاسيكية.
وترجع الرومانسية الإنكليزية إلى عام 1711م ولكن على شكل فلسفة فكرية.. ونضجت الرومانسية الإنكليزية على يد توماس جراي وويليام بليك.
ولا شك أن الثورة الفرنسية 1798م هي أحد العوامل الكبرى التي كانت باعثًا ونتيجة في آن واحد للفكر الرومانسي المتحرر والمتمرد على أوضاع كثيرة، أهمها الكنيسة وسطوتها والواقع الفرنسي وما فيه.
وفي إيطاليا ارتبط الأدب بالسياسة عام 1815م وأصبح اصطلاح رومانسي في الأدب يعني ليبراليا (أي: حرًا أو حرية) في السياسة.
ومن أبرز المفكرين والأدباء الذين اعتنقوا الرومانسية:
- المفكر والأديب الفرنسي جان جاك روسو 1712 – 1788م ويعد رائد الرومانسية الحديثة.
- الكاتب الفرنسي شاتو بريان 1768 – 1848م ويعد من رواد المذهب الذين ثاروا على الأدب اليوناني القائم على تعدد الآلهة.
- مجموعة من الشعراء الإنكليز، امتازوا بالعاطفة الجياشة والذاتية والغموض رغم أنهم تغنوا بجمال الطبيعة وهم: توماس جراي 1716 – 1771م ووليم بليك 1757 – 1927م وشيلي 1762 – 1822م كيتش 1795 – 1821م وبايرون 1788 – 1824م.
- الشاعر الألماني جوته 1749 – 1832م مؤلف رواية آلام فرتر عام 1782م وفاوست التي تظهر الصراع بين الإنسان والشيطان.
- الشاعر الألماني شيلر 1759 – 1805م ويعد أيضًا من رواد المذهب.
- الشاعر الفرنسي بودلير 1821 – 1867م الذي اتخذ المذهب الرومانسي في عصره شكل الإلحاد بالدين.
الأفكار والمعتقدات:
لقد كانت الرومانسية ثورة ضد الكلاسيكية، وهذا ما نراه واضحًا من خلال أفكارها ومبادئها وأساليبها التي قد لا تكون واحدة عند جميع الرومانسيين، ويمكن إجمال هذه الأفكار والمباديء فيما يلي:
- الذاتية أو الفردية: وتعد من أهم مبادىء الرومانسية، وتتضمن الذاتية عواطف الحزن والكآبة والأمل، وأحيانًا الثورة على المجتمع. فضلًا عن التحرر من قيود العقل والواقعية والتحليق في رحاب الخيال والصور والأحلام.
التركيز على التلقائية والعفوية في التعبير الأدبي، لذلك لا تهتم الرمانسية بالأسلوب المتأنق، والألفاظ اللغوية القوية الجزلة.
تنزع بشدة إلى الثورة وتتعلق بالمطلق واللامحدود.
- الحرية الفردية أمر مقدس لدى الرومانسية، لذلك نجد من الرومانسيين من هو شديد التدين مثل: شاتوبريان ونجد منهم شديد الإلحاد مثل شيلي. ولكن معظمهم يتعالى على الأديان والمعتقدات والشرائع التي يعدها قيودًا.
- الاهتمام بالطبيعة، والدعوة بالرجوع إليها حيث فيها الصفاء والفطرة السليمة، وإليها دعا روسو.
- فصل الأدب عن الأخلاق، فليس من الضروري أن يكون الأديب الفذ فذ الخلق. ولا أن يكون الأدب الرائع خاضعًا للقوانين الخلقية.
- الإبداع والابتكار القائمان على إظهار أسرار الحياة من صميم عمل الأديب، وذلك خلافًا لما ذهب إليه أرسطو من أن عمل الأديب محاكاة الحياة وتصويرها.
- الاهتمام بالمسرح لأنه هو الذي يطلق الأخيلة المثيرة التي تؤدي إلى جيشان العاطفة وهيجانها.
- الاهتمام بالآداب الشعبية والقومية، والاهتمام باللون المحلي الذي يطبع الأديب بطابعه، وخاصة في الأعمال القصصية والمسرحية.
الجذور الفكرية العقائدية:
تعد الرومانسية ثورة ضد الكلاسيكية المتشددة في قواعدها العقلية والأدبية، وكذلك ثورة ضد العقائد اليونانية المبنية على تعدد الآلهة… ومن جذور هذه الثورة ظهور التيارات الفلسفية التي تدعو إلى التحرر من القيود العقلية والدينية والاجتماعية. فضلًا عن اضطراب الأحوال السياسية في أوروبا بعد الثورة الفرنسية الداعية إلى الحرية والمساواة وما يتبع ذلك من صراع على المستعمرات، وحروب داخلية.. كل هذه الأمور تركت الإنسان الأوروبي قلقًا حزينًا متشائمًا، فانتشر فيه مرض العصر، وهو الإحساس بالكآبة والإحباط ومحاولة الهروب من الواقع، وكان من نتيجة ذلك ظهور اتجاهات متعددة في الرومانسية، إذ توغلت في العقيدة والأخلاق والفلسفة والتاريخ والفنون الجميلة.
- ودخلت الرومانسية في الفلسفة وتجلت في نظرية الإنسان الأعلى (السوبرمان) عند نيتشة 1844 – 1900م ونظرية الوثبة الحيوية عند برغسون 1859 – 1941م.
الرومانسية الجديدة:
انحسرت الرومانسية في مطلع القرن العشرين عندما أعلن النقاد الفرنسيون هجومهم عليها – وذلك لأنها تسلب الإنسان عقله ومنطقه – وهاجموا روسو الذي نادى بالعودة إلى الطبيعة. وقالوا: لا خير في عاطفة وخيال لا يحكمهما العقل المفكر والذكاء الإنساني والحكمة الواعية والإرادة المدركة.
وكان من نتيجة ذلك نشوء الرومانسية الجديدة ودعوتها إلى الربط بين العاطفة التلقائية والإرادة الواعية في وحدة فكرية وعاطفية، ومن ثم نشأت الرومانسية الجديدة حاملة معها أكثر المعتقدات القديمة للرومانسية.
الانتشار ومواقع النفوذ:
تعد فرنسا موطن المذهب الرومانسي، ومنها انتقل إلى ألمانيا ومنها إلى إنكلترا وإيطاليا.
ويتضح مما سبق:
أن الرومانسية أو الرومانتيكية مذهب أدبي يقول أنصاره أنه يهدف إلى سبر أغوار النفس البشرية واستظهار ما تزخر به من عواطف ومشاعر وأحاسيس وأخيلة، للتعبير من خلال الذاتية عن عواطف الحزن والأسى والكآبة والألم والأمل، ومن خلال العفوية الخالية من تأنق الأسلوب وجزالة اللفظ ودقة التراكيب اللغوية، مع الاهتمام بالطبيعة وضرورة الرجوع إليها، وفصل الأخلاق عن الأدب، والاهتمام بالآداب الشعبية.
وقد اعتنق كثير من الحداثيين الرومانسية بل عدها بعضهم أحد اتجاهات الحداثة.
تعقيب:
ومن وجهة النظر الإسلامية فإن أي تيار أدبي لا بد أن يكون ملتزمًا بالدين والأخلاق كجزء من العقيدة، وإذا كانت ملازمة الحزن والتعبير عنه لها سلبيات كثيرة، فإن الإسلام يتطلب من معتنقيه مواجهة الظروف التي يتعرضون لها بشجاعة والتسليم بقضاء الله وتلمس الأسباب للخروج من الأزمات دون يأس أو إحباط، وكل إنسان مسئول عن تصرفاته ومحاسب عليها بين يدي الله، طالما كان يملك أهلية التصرف، أما المكره فهو معذور وتسقط عنه الأوزار فيما يرتكبه قسرًا، ولكنه لا يعذر في التعبير الحر عما ينافي العقيدة ويتعارض معها.
مراجع للتوسع:
- نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد، د. عبد الرحمن رأفت الباشا – ط. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية – الرياض.
- مذاهب الأدب الغربي، د. عبد الباسط بدر/ نشر دار الشعاع – الكويت.
- المذاهب الأدبية من الكلاسيكية إلى العبثية، د. نبيل راغب – مكتبة مصر – القاهرة.
- الأدب المقارن، د. محمد غنيمي هلال – دار العودة – بيروت.
- المدخل إلى النقد الحديث، د. محمد غنيمي هلال – القاهرة: 1959م.
- الرومانتيية، د. محمد غنيمي هلال – القاهرة: 1955م.
- الأدب المقارن، ماريوس فرنسوا غويار – (سلسلة زدني علمًا).
- المذاهب الأدبية الكبرى، فيليب فان تيغيمة (سلسلة زدني علما).
المراجع الأجنبية:
- Braunschvig: Notre Litterature Etudiee dans le Texte. Paris 1949.
- Lanson: Histoire de La Litterature Francaise. Paris. 1960.
- De Segur (Nicola): Histoire de la litterature Europieenne, Paris, 1959.
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م
28-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (الواقعية-من المدارس الأدبية)
الواقعــيةالتعريف:
الواقعية مذهب أدبي فكري مادي ملحد، إذ يقتصر في تصويره الحياة والتعبير عنها على عالم المادة، ويرفض عالم الغيب والإيمان بالله، ويصور الإنسان بالحيوان الذي تسيره غرائزه لا عقله.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
ارتبطت نشأة المذهب الواقعي بالفلسفات الوضعية والتجريبية والمادية الجدلية التي ظهرت في النصف الأول من القرن التاسع عشر وما بعده، وسارت الواقعية في ثلاثة اتجاهات: الواقعية النقدية والواقعية الطبيعية والواقعية الاشتراكية. وللواقعية أعلام في شتى فروعها:
أعلام الواقعية النقدية:
- القصّاص الفرنسي أنوريه دي بلزاك 1799 – 1850م ومن قصصه روايته المشهورة الملهاة الإنسانية في 94 جزءً، صور فيها الحياة الفرنسية بين عام 1829 – 1948م.
- الكاتب الإنكليزي شارل ديكنز 1812 – 1850م وله الرواية المشهورة قصة مدينتين.
- الأديب الروسي تولستوي 1828 – 1910م وله القصة المشهورة الحرب والسلام.
- الأديب الروسي دستوفسكي مؤلف الجريمة والعقاب.
- والأديب الأمريكي أرنست همنجواي 1899 – 1961م وله القصة المشهورة العجوز والبحر وقد مات منتحرًا.
أعلام الواقعية الطبيعية:
- إميل زولا الأديب الفرنسي 1840 – 1920م مؤلف قصة الحيوان البشري وفيها يطبق نظريات دارون في التطور، ونظريات مندل في الوراثة، وكلود برنار في الطب.
- جوستاف فلوبير 1821- 1880م الأديب الفرنسي ومؤلف القصة المشهورة مدام بوفاري.
أعلام الواقعية الاشتراكية:
- مكسيم جوركي 1868 – 1936م كاتب روسي، عاصر الثورة الروسية الشيوعية، ومؤلف قصة الأم.
- ماياكو فسكي 1892 – 1930م وهو شاعر الثورة الروسية الشيوعية، وقد مات منتحرًا.
- لوركا 1898 – 1936م وهو شاعر أسباني.
- بابللو نيرودا 1904 – 1973م وهو شاعر تشيلي.
- جورج لوكاش – وهو كاتب فرنسي حديث.
- كما كان من أعلامها: روجيه جارودي – وهو مفكر فرنسي اهتدى إلى الإسلام وسمى نفسه رجاء جارودي وأن كان مازال يتأرجح بين ماضيه وحاضره.
الأفكار والمعتقدات:
تشعب المذهب الواقعي، كما تقدم، إلى ثلاثة اتجاهات.
- الواقعية النقدية ومن أفكارها:
1- الاهتمام بنقد المجتمع ومشكلاته.
2- التركيز على جوانب الشر والجريمة.
3- الميل إلى التشاؤم واعتبار الشر عنصرًا أصيلًا في الحياة.
4- المهمة الرئيسية للواقعية النقدية الكشف عن حقيقة الطبيعة.
5- اختيار القصة وسيلة لبث الأفكار التي يريدونها.
- الواقعية الطبيعية:
تتفق مع الواقعية في جميع آرائها وأفكارها وتزيد عليها:
1- التأثر بالنظريات العلمية والدعوة إلى تطبيقها في مجال العمل الأدبي.
2- الإنسان في نظرها حيوان تسيره غرائزه، وكل شيء فيه يمكن تحليله، فحياته الشعورية والفكرية والجسمية ترجع إلى إفرازات غددية.
الواقعية الاشتراكية:
وقد نادت بها الماركسية ومن أفكارها:
1- إن النشاط الاقتصادي في نشأته وتطوره هو أساس الإبداع الفني، لذلك يجب توظيف الأدب لخدمة المجتمع حسب المفهوم الماركسي.
2- العمل الأدبي الفني عليه أن يهتم بتصوير الصراع الطبقي بين طبقة العمال والفلاحين وطبقة الرأسمالية والبرجوازيين، وانتصار الأولى التي تحمل الخير والإبداع على الثانية التي هي مصدر الشرور في الحياة.
3- رفض أي تصورات غيبية، وخاصة ما يتعلق منها بالعقائد السماوية.
4- استغلال جميع الفنون الأدبية لنشر المذهب الماركسي.
الجذور الفكرية والعقائدية:
إن الأسس التي قامت عليها الواقعية هي المذاهب الفلسفية المادية، مثل الفلسفة الوضعية التي انتشرت في فرنسا في النصف الأول من القرن التاسع عشر ورائدها الفيلسوف الفرنسي كونت التي ترفض كل ما هو غيبي، وتقتصر على عالم المادة والحس.
وكذلك تعد الفلسفة التجريبية التي تلتقي مع الوضعية في رفض الغيبيات من جذور الواقعية.
ومن الجذور الفكرية العميقة للواقعية الاشتراكية: الفلسفة المادية الجدلية التي نادى بها ماركس وإنجلز التي تعد العقيدة الرسمية للشيوعية الدولية والتي من مفاهيمها أن المادة هي الوجود الحقيقي، وأن القيم العقلية انبثقت من العلاقات المادية بين الناس.
وكذلك ترتبط الواقعية بالنظرية الفلسفية التي ترى أن الحياة تنبت على الشر، وأن ما يبدو من مظاهر الخير ليس إلا طلاءً زائفًا يموه واقع الحياة الفكرية ويخفي طبيعة الإنسان الحقيقية.
وقد عبر الفيلسوف الإنكليزي هوبز عن هذا الاتجاه بقوله: "إن الإنسان ذئب لا هم له إلا الفتك بالإنسان".
وقد عمل دعاة الواقعية على ربط الإنسان الغربي بغرائزه وحيوانيته، وتوجيه نظره إلى التراب لا إلى السماء، وزادوا في ماديته، وساعدوا على إفساده وإيقاظ شهوته.
أما دعاة الواقعية الاشتراكية أو الشيوعية، الذين سطروا الكتب والمقالات والقصص والمسرحيات والأشعار في تمجيد الشيوعية، والزعم أنها الحقيقة للسعادة البشرية، فقد زادوا الإنسانية شقاء وتعاسة ومعيشة ضنكا، وقد تحطمت فلسفتهم في أوروبا الشرقية تحت مطارق الواقع المؤلم.. كما نرى بأم أعيننا الآن، إذ بدأت تتراجع بخطى سريعة إلى عفن التاريخ الذي لا يرحم، وتفكك ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي، وعاد الإسلام إلى الدول الإسلامية.
والإسلام يدعو إلى الاهتمام بالدنيا" اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا" ويرفض النظر بتشاؤم إلى تصاريف القدر وليس ثمة ما يمنع الإنسان من التأثير والتغيير في حياته والمجتمع الذي يعيش فيه. وقد كرم الإسلام الإنسان ولم يضعه في مصاف القرود واهتم بجانبه الروحي باعتباره – أي الإنسان – جسدًا وروحًا، ولكلًّ مطالبه التي لا يجوز إغفالها ولا الاقتصار على أحدها دون الآخر. والمسلم يرفض النظرية الفلسفية التي تقول: "إن الحياة قد بنيت على الشر" والأديان عمومًا جاءت للقضاء على الشر والنهوض بالنفس البشرية.
ويتضح مما سبق:
أن الواقعية مذهب أدبي فكري مادي ملحد، يصور الحياة كمادة ويرفض عالم الغيب ولا يؤمن بالله، ويرى أن الإنسان عبارة عن مجموعة من الغرائز الحيوانية، ويتخذ كل ذلك أساسًا لأفكاره التي تقوم على الاهتمام بنقد المجتمع وبحث مشكلاته مع التركيز على جوانب الشر والجريمة، والميل إلى النزعات التشاؤمية وجعل مهمة النقد مركزة في الكشف عن حقيقة الطبيعة كطبيعة بلا روح أو قيم. ومن هنا كانت آثار هذا المذهب الأدبي المدمرة على الشباب المسلم إذا لم يضع هذه الأمور في حسبانه وهو يتعامل مع الإفرازات الأدبية لهذا المذهب.
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م
29-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (البرناسية مذهب الفن للفن من المدارس الأدبية)
البرناسية (مذهب الفن للفن)التعريف:
البرناسية مذهب أدبي فلسفي لا ديني قام على معارضة الرومانسية من حيث أنها مذهب الذاتية في الشعر، وعرض عواطف الفرد الخاصة على الناس شعرًا واتخاذه وسيلة للتعبير عن الذات، بينما تقوم البرناسية على اعتبار الفن غاية في ذاته لا وسيلة للتعبير عن الذات، وهي تهدف إلى جعل الشعر فنًا موضوعيًّا همه استخراج الجمال من مظاهر الطبيعة أو إضفائه على تلك المظاهر، وترفض البرناسية التقيد سلفًا بأي عقيدة أو فكر أو أخلاق سابقة.
وهي تتخذ شعار "الفن للفن".
التأسيس وأبرز الشخصيات:
أطلق أحد الناشرين الفرنسيين على مجموعة من القصائد لبعض الشعراء الناشئين اسم "البرناس المعاصر" إشارة إلى جبل البرناس الشهير باليونان التي تقطنه "آلهة الشعر" كما كان يعتقد قدماء اليونان إلا أن الاسم ذاع وانتشر للتعبير عن اتجاه أدبي جديد. وإن كان دعاة هذا
- شارل بودلير 1821 – 1867م وهو شاعر فرنسي، نادى بالفوضى الجنسية، ووصف بـ "السادية" أي التلذذ بتعذيب الآخرين.
- ومنهم تيوفيل جوتييه 1811 – 1872م وهو من أكبر طلائع البرناسية.
- ومنهم لو كنت دي ليل ويعد رئيس هذا المذهب، وقد تبلورت مبادئه بعد منتصف القرن التاسع عشر وانتهى به الأمر إلى أن ترك النصرانية إلى البوذية.
- ومالا راميه 1842 – 1898م وهو شاعر فرنسي، ويعد من أشد المدافعين عن هذا المذهب. ومن أعمدة المذهب الرمزي أيضًا.
الأفكار والمعتقدات:
اعتبار الأدب والفن غاية في ذاتيهما وأن مهمتهما الإمتاع فقط لا المنفعة، وإثارة المشاعر وإلهاب الإحساس ليتذوق الإنسان الفن الجيد.
تحطيم القديم وتدميره لبناء العالم الجديد الخالي من الضياع، حسب زعمهم، والقديم في رأيهم، هو كل ما ينطوي على العقائد والأخلاق والقيم.
يحقق الإنسان سعادته عن طريق الفن لا عن طريق العلم.
استبعاد التعليم والتوجيه التربوي عن الشعر والفن عامة. والاهتمام بالشكل والتعبير الأدبي أكثر من اهتمامهم بالمضامين الفنية والأدبية.
أن الحياة تقليد للفن وليس العكس.
الجذور الفكرية والعقائدية:
كان أرسطو الفيلسوف اليوناني 383 – 322 ق.م أول من هاجم الاتجاه التعليمي والأخلاقي في الشعر، وكان يرد بذلك على أفلاطون الذي قرر أن الشعر خادم الفلسفة الأخلاقية وفكرة الإرشاد التعليمي.
وبعد سقوط الإمبراطورية الإغريقية، وسيطرة الإمبراطورية الرومانية بكل اتجاهاتها العملية والنفعية، سيطر الاتجاه التعليمي على الأدب.
سيطرت الكنيسة على الفلسفة والأدب وبقي الاتجاه التعليمي في الشعر هو السائد. ومع ذل وجد من يتذوق الشعر من أجل القيم الجمالية، كالقديس أوغسطيوس في كتابه النظرية المسيحية حيث يؤكد على المتعة الفنية التي تذوقها هو في الأسلوب الأدبي الذي كتبت به الأناجيل.
ورغم تطور النقد الأدبي في القرن السادس عشر إلا أنه لم يتغلب على الاتجاه التعليمي في الأدب.
وفي القرن السابع عشر يؤكد بيركورني أن الهدف الأساسي في الشعر المسرحي هو المتعة الفنية.
وبمرور الزمن ازداد الهجوم على الجانب التعليمي للفن من قبل ورد زورث 1770- 1850م والشاعر شيللي 1792 – 1822م ورواد المدرسة الرمزية أمثال بودلير ومالا راميه.
وفي مطلع القرن العشرين اعتبر النقاد نظرية الفن للفن.. دفاعًا مستميتًا عن الفن حتى لا تستخدم في الأغراض النفعية المؤقتة.
والواقع أن المضمون الفكري والعقائدي لهذا المذهب - غير الصورة الخارجية المتعلقة بالمتعة الفنية – هو رفض كل فكرة وعقيدة وأخلاق سابقة وخاصة ما يتعلق بالدين وأن كان هذا الأمر لم يكن واضحًا في آثار أصحاب المذاهب.
لذلك كان الهجوم على مدرسة الفن للفن، بعد انحرافها الكبير عن الحياة الواعية العاقلة من قبل بعض النقاد أمثال ت.س. اليوت الذي اتهم أصحابها بالخطأ وقصر النظر، وقرر أنه لابد من الالتزام للأديب أو الشاعر. وأن غاية الشعر والنقد تُلزم كل شاعر وناقد أن تكون الكت
الانتشار ومناطق النفوذ:
مذهب الفن للفن مثل بقية المذاهب الأدبية نشأ في أوروبا، وأشد المتحمسين له كانوا في فرنسا، أم المذاهب تقريبًا، ولكن كان له أنصار في ألمانيا وإيطاليا، ووصل المذهب إلى أمريكا وغيرها من الدول.
إلا أنه تقلص بعد ذلك وتقوقع على نفسه بعد أن وجه له النقد الشديد لانحرافه عن كثير من الأصول التي بني عليها، والقيم التي كان يلزمه التقيد بها.
ملاحظـة:
- يلاحظ أن البرناسية تعزل الأدب عن قضايا الحياة الاجتماعية والسياسية وتجعله غاية في حد ذاته، والإسلام يحدد غايات الإنسان في الحياة، ولا يقبل أن يكون الأدب غاية في ذاته، كما يرفض الإسلام الأدب المكشوف الذي يستخدم كأداة للانحراف ويقيس قيمته بموازين الخير وا
ويتضح مما سبق:
أن البرناسية مذهب أدبي فلسفي لا ديني، يعارض الرومانسية من حيث أنها مذهب الذاتية في الشعر، وهو يعتبر الأدب والفن غاية في حد ذاتيهما، لا وسيلة للتعبير عن الذات، ويرنو إلى تحطيم كل ما هو قديم وتدميره من أجل بناء العالم الجديد الخالي من الضياع حسب زعم أنصار المذهب. ولما كان القديم في هذا المذهب يعني كل ما ينطوي على العقائد والأخلاق والقيم، فإن تحطيم القديم يعني في هذا المذهب وجوب تحطيم الدين والقيم الأخلاقية الأمر الذي يجب أن يتنبه له الشباب المسلم وهو يدرس هذا المذهب ويتعامل مع حصاده الفكري.
الرد الإسلامي على نظرية الفن للفن:
- الأدب في الإسلام والفن يجب أن يكون ملتزمًا بالقيم الإسلامية وبمراعاة مبدأ التوحيد الخالص وبمراعاة نهي الإسلام عن التصوير والتجسيد، أما الفن للفن فإتباع للهوى وقد يؤدي بالفنان إلى تصوير ما يثير الشهوات ويفسد الأخلاق، وذلك مناقض لما تجب مراعاته من ضرورة ا
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م
30-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (الميتافيزيقية-من المدارس الأدبية)
الميتافـيزيقـيةالتعريف:
الميتافيزيقية اتجاه أدبي وفلسفي يبحث في ظواهر العالم بطريقة عقلية وليست حدسية صوفية ويمزج العقل بالعاطفة ويبتدع أساليب أدبية تجمع بين المختلف والمؤتلف من الأخيلة الفكرية والظواهر الطبيعية.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
جون دن 1572 – 1631م الشاعر الإنكليزي الذي أسس المدرسة الميتافيزيقية في الشعر الإنكليزي مع باقي الشعراء في القرن السابع عشر من أمثال، جون هيربرت، وهنري فون، وروبرت كرشوا وأندرو مارفيل وإبراهام كاولي، وهم الشعراء الذين ساروا على نهج جون دن في أسرار الوجود
جون درايدن: شاعر إنكليزي نقد جون دن، وقال إن شعره مفعم بالفلسفة العويصة الفهم… والشعر المرهف الرقيق لا يستطيع حمل الأفكار الفلسفية الثقيلة.
هـ. ج. س. جريرسون: ناقد إنكليزي من الكلاسيكية الحديثة، أحيا المدرسة الميتافيزيقية في كتابه عن الأشعار الميتافيزيقية سنة 1921م.
ت.س. إليوت ناقد وأديب إنكليزي، أحيا الميتافيزيقية بعد أن كادت أن تندثر في كتابه الشعراء الميتافيزيقيون ودراسة خاصة عن الشاعر الميتافيزيقي أندرو مارفيل سنة 1921م.
وفي مجال الفلسفة هيجل وبرادلي وصمويل الكسندر وغيرهم.
الأفكار والمعتقدات:
محاولة تفسير الظواهر الميتافيزيقية، بأساليب تجسيدية تقرب بينها وبين الظواهر الطبيعية كتشبيه الحب بعلم التجميع وتشبيه الروح بقطرة الذل.
أن الإنسان يستطيع أن يقترب من القوى الميتافيزيقية عندما يجدها متجسدة في أعمال مسرحية وشعرية وروائية.
الميتافيزيقيا في مجال الفلسفة تعتمد على العقل في إنشاء نظرية إلهية – عن الوجود الإلهي – بديلة عن التثليث، من ذلك فلسفة هيجل الروح المطلق وكلها مذاهب يعارضها التوحيد الخالص معارضته للصليبية نفسها.
الشعر الميتافيزيقي يعد نموذجًا لتحليل الشعور الإنساني وليس لتجسيده والبحث عن الفلسفة الكامنة وراء الحب بكل أنواعه وليس تعبيرًا عن التجربة النفسية التي يخوضها المحبون.
تأكيد الدلالات الدينية. والأخلاقية الكامنة وراء القوى الميتافيزيقية، والشعر هو خير أداة للتعبير عن هذه الدلالات عن طريق إثارة قوى التفكير والتأمل لدى الإنسان العادي.
الأسلوب السهل والتعبير الجميل هو الوسيلة الوحيدة لنقل الأفكار العميقة إلى القراء والتأثير فيهم، وإن أدى إلى المبالغة الشعرية.
يختلف الشعر الميتافيزيقي عن الشعر الصوفي الذي يدعو إلى وحدة الوجود، وإلى الحب الإلهي الذي يسمو على الحب المادي الفاني والذي ينتهي بحدود الزمان والمكان.
الجذور الفكرية والعقائدية:
يرى بعضهم أن العقائد الدينية النصرانية هي الخلفية الفكرية للمذهب الميتافيزيقي الأدبي… ولعل عجز الإنسان عن فهم الأمور الغيبية في الحياة، دفعه إلى التعبير عن جميع الظواهر الغيبية مثل الروح والحياة، والقدر والموت.. عن طريق الشعر والرواية والمسرحية.. لعل الإنسان يستطيع التوصل إلى فهم كنه هذه الظواهر.
أماكن النفوذ والانتشار:
بدأ المذهب الميتافيزيقي في إنكلترا… وإن كانت أفكاره أثرت تأثيرًا كبيرًا في أدباء الكلاسيكية الجديدة في أوروبا كلها والعالم الغربي برمته.
ويتضح مما سبق:
الميتافيزيقية هي اتجاه أدبي، يبحث عن ظواهر العالم بطريقة عقلية ممزوجة بالعاطفة، من أجل الجمع بين كل ما هو مؤتلف ومختلف من الأخيلة الفكرية والظواهر الطبيعية، وإبرازه في أعمال مسرحية وشعرية وروائية تجسد الفلسفة الكامنة وراء الحب، بأسلوب سهل وتعبير سلس. ومع أن هذا الاتجاه يؤكد الدلالات الدينية والأخلاقية الكامنة وراء القوى الميتافيزيقية إلا أنه يتبنى، كالخيال الصوفي الجامح، فكرة وحدة الوجود، ومن هنا كانت خطورة التعبيرات الأدبية في هذا الاتجاه على الشباب المسلم الذي يجب أن يعيها بدقة ويعرف أبعادها قبل أن ينجرف مع تيارها عندما يتعامل مع إفرازات هذا المذهب الأدبي.
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م
31-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (مجاز المجاز)
مجاز المجاز:قال عز الدين بن عبد السّلام: «هو أن يجعل المجاز المأخوذ عن الحقيقة بمثابة الحقيقة بالنسبة الى مجاز آخر فتجوز بالمجاز الأوّل عن الثاني لعلاقة بينه وبين الثاني». كقوله تعالى: {وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا}
فانّه مجاز عن مجاز فإنّ الوطء يتجوّز عنه بالسر لأنّه لا يقع غالبا إلّا في السرّ فلما لازم السر في الغالب سمّي سرّا، ويتجوّز بالسّر عن العقد لأنّه سبب فيه، فالمصحح للمجاز الأول الملازمة، والمصحح للمجاز الثاني التعبير باسم المسبب الذي هو السر عن العقد الذي هو سبب، كما سمّي عقد النكاح نكاحا لكونه سببا في النكاح وكذلك سمّي العقد سرّا لأنّه سبب في السر الذي هو النكاح، فهذا مجاز عن مجاز مع اختلاف المصحح، فمعنى قوله تعالى: {لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا} لا تواعدوهن عقد نكاح.
ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} فانّ قول {لا إِلهَ إِلَّا اللهُ*} مجاز عن تصديق القلب بمدلول هذا اللفظ والعلامة السببية لأنّ توحيد اللسان مسبب عن توحيد الجنان والتعبير بـ {لا إِلهَ إِلَّا اللهُ} عن الوحدانية من مجاز التعبير بالقول عن المقول فيه.
ونقل السّيوطي ذلك وقال: «وجعل منه ابن السيد قوله: {أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسًا} فانّ المنزل عليهم ليس هو نفس اللباس بل الماء المنبت للزرع المتخذ منه الغزل المنسوج منها للباس». وقال الزركشي: «قلت: وهذا تسمية ابن السيد مجاز المراتب».
معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م
32-موسوعة الفقه الكويتية (إباحة)
إِبَاحَةالتَّعْرِيفُ:
1- الْإِبَاحَةُ فِي اللُّغَةِ: الْإِحْلَالُ، يُقَالُ: أَبَحْتُكَ الشَّيْءَ؛ أَيْ أَحْلَلْتُهُ لَكَ. وَالْمُبَاحُ خِلَافُ الْمَحْظُورِ. وَعَرَّفَ الْأُصُولِيُّونَ الْإِبَاحَةَ بِأَنَّهَا خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ تَخْيِيرًا مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ.
وَعَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا الْإِذْنُ بِإِتْيَانِ الْفِعْلِ حَسَبَ مَشِيئَةِ الْفَاعِلِ فِي حُدُودِ الْإِذْنِ. وَقَدْ تُطْلَقُ الْإِبَاحَةُ عَلَى مَا قَابَلَ الْحَظْرَ، فَتَشْمَلُ الْفَرْضَ وَالْإِيجَابَ وَالنَّدْبَ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ بِالْإِبَاحَةِ:
الْجَوَازُ:
2- اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي الصِّلَةِ بَيْنَ الْإِبَاحَةِ وَالْجَوَازِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْجَائِزَ يُطْلَقُ عَلَى خَمْسَةِ مَعَانٍ: الْمُبَاحِ، وَمَا لَا يَمْتَنِعُ شَرْعًا، وَمَا لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا، أَوْ مَا اسْتَوَى فِيهِ الْأَمْرَانِ، وَالْمَشْكُوكُ فِي حُكْمِهِ كَسُؤْرِ الْحِمَارِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَهُ عَلَى أَعَمَّ مِنَ الْمُبَاحِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَصَرَهُ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ الْجَوَازَ مُرَادِفًا لِلْإِبَاحَةِ.
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الْجَوَازَ فِيمَا قَابَلَ الْحَرَامَ، فَيَشْمَلُ الْمَكْرُوهَ. وَهُنَاكَ اسْتِعْمَالٌ فِقْهِيٌّ لِكَلِمَةِ الْجَوَازِ بِمَعْنَى الصِّحَّةِ، وَهِيَ مُوَافَقَةُ الْفِعْلِ ذِي الْوَجْهَيْنِ لِلشَّرْعِ، وَالْجَوَازُ بِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ حُكْمٌ وَضْعِيٌّ، وَبِالِاسْتِعْمَالَيْنِ السَّابِقَيْنِ حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ.
الْحِلُّ:
3- الْإِبَاحَةُ فِيهَا تَخْيِيرٌ، أَمَّا الْحِلُّ فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى مَا سِوَى التَّحْرِيمِ، وَقَدْ جَاءَ مُقَابِلًا لَهُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَمَا إِنِّي وَاللَّهِ لَا أُحِلُّ حَرَامًا وَلَا أُحَرِّمُ حَلَالًا». وَلَمَّا كَانَ الْحَلَالُ مُقَابِلًا لِلْحَرَامِ شَمِلَ مَا عَدَاهُ مِنَ الْمُبَاحِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْوَاجِبِ وَالْمَكْرُوهِ مُطْلَقًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَتَنْزِيهًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَلِهَذَا قَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ حَلَالًا وَمَكْرُوهًا فِي آنٍ وَاحِدٍ، كَالطَّلَاقِ، فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ وَصَفَهُ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- بِأَنَّهُ حَلَالٌ
وَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ كُلُّ مُبَاحٍ حَلَالًا وَلَا عَكْسَ.
الصِّحَّةُ:
4- الصِّحَّةُ هِيَ مُوَافَقَةُ الْفِعْلِ ذِي الْوَجْهَيْنِ لِلشَّرْعِ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ ذَا وَجْهَيْنِ أَنَّهُ يَقَعُ تَارَةً مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الشُّرُوطِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ، وَيَقَعُ تَارَةً أُخْرَى مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ. وَالْإِبَاحَةُ الَّتِي فِيهَا تَخْيِيرٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ مُغَايِرَةٌ لِلصِّحَّةِ. وَهُمَا وَإِنْ كَانَا مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الْإِبَاحَةَ حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ، وَالصِّحَّةَ حُكْمٌ وَضْعِيٌّ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرُدُّ الصِّحَّةَ إِلَى الْإِبَاحَةِ فَيَقُولُ: إِنَّ الصِّحَّةَ إِبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ.
وَالْفِعْلُ الْمُبَاحُ قَدْ يَجْتَمِعُ مَعَ الْفِعْلِ الصَّحِيحِ، فَصَوْمُ يَوْمٍ مِنْ غَيْرِ رَمَضَانَ مُبَاحٌ، أَيْ مَأْذُونٌ فِيهِ مِنَ الشَّرْعِ، وَهُوَ صَحِيحٌ إِنِ اسْتَوْفَى أَرْكَانَهُ وَشُرُوطَهُ. وَقَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ مُبَاحًا فِي أَصْلِهِ وَغَيْرَ صَحِيحٍ لِاخْتِلَالِ شَرْطِهِ، كَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ. وَقَدْ يَكُونُ صَحِيحًا غَيْرَ مُبَاحٍ كَالصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ مَغْصُوبٍ إِذَا اسْتَوْفَتْ أَرْكَانَهَا وَشُرُوطَهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ.
التَّخْيِيرُ:
5- الْإِبَاحَةُ تَخْيِيرٌ مِنَ الشَّارِعِ بَيْنَ فِعْلِ الشَّيْءِ وَتَرْكِهِ، مَعَ اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ بِلَا تَرَتُّبِ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ، أَمَّا التَّخْيِيرُ فَقَدْ يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ، أَيْ بَيْنَ فِعْلِ الْمُبَاحِ وَتَرْكِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بَيْنَ الْوَاجِبَاتِ بَعْضِهَا وَبَعْضٍ، وَهِيَ وَاجِبَاتٌ لَيْسَتْ عَلَى التَّعْيِينِ، كَمَا فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ فِي قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْcolأَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فَإِنَّ فِعْلَ أَيِّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُسْقِطُ الْمُطَالَبَةَ، لَكِنَّ تَرْكَهَا كُلَّهَا يَقْتَضِي الْإِثْمَ.
وَقَدْ يَكُونُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْمَنْدُوبَاتِ كَالتَّنَفُّلِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَالْمُصَلِّي مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَتَنَفَّلَ بِرَكْعَتَيْنِ أَوْ بِأَرْبَعٍ.
وَالْمَنْدُوبُ نَفْسُهُ فِي مَفْهُومِهِ تَخْيِيرٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَإِنْ رُجِّحَ جَانِبُ الْفِعْلِ، وَفِيهِ ثَوَابٌ، بَيْنَمَا التَّخْيِيرُ فِي الْإِبَاحَةِ لَا يُرَجَّحُ فِيهِ جَانِبٌ عَلَى جَانِبٍ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ.
الْعَفْوُ:
6- مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَعَلَ الْعَفْوَ الَّذِي رُفِعَتْ فِيهِ الْمُؤَاخَذَةُ، وَنُفِيَ فِيهِ الْحَرَجُ، مُسَاوِيًا لِلْإِبَاحَةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَعَفَا عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا». وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قوله تعالى {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا}. فَمَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُكَلِّفْنَا بِهِ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا،
وَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهِ مَثُوبَةً وَلَا عِقَابًا. وَهُوَ بِهَذَا مُسَاوٍ لِلْمُبَاحِ.
أَلْفَاظُ الْإِبَاحَةِ:
7- الْإِبَاحَةُ إِمَّا بِلَفْظٍ أَوْ غَيْرِهِ، سَوَاءٌ مِنَ الشَّارِعِ أَوْ مِنَ الْعِبَادِ. فَمِثَالُ غَيْرِ اللَّفْظِ مِنَ الشَّارِعِ أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِعْلًا مِنَ الْأَفْعَالِ، أَوْ يَسْمَعُ قَوْلًا، فَلَا يُنْكِرُهُ، فَيَكُونُ هَذَا تَقْرِيرًا يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ.
وَمِثَالُهُ مِنَ الْعِبَادِ أَنْ يَضَعَ الشَّخْصُ مَائِدَةً عَامَّةً لِيَأْكُلَ مِنْهَا مَنْ يَشَاءُ.
وَأَمَّا اللَّفْظُ فَقَدْ يَكُونُ صَرِيحًا، وَمِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الْجُنَاحِ وَنَفْيُ الْإِثْمِ أَوِ الْحِنْثِ أَوِ السَّبِيلِ أَوِ الْمُؤَاخَذَةِ. وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ صَرِيحٍ، وَهُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْإِبَاحَةِ إِلَى قَرِينَةٍ. وَمِنْ ذَلِكَ: الْأَمْرُ بَعْدَ الْحَظْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} وَمِنْهُ الْأَمْرُ الْمُقْتَرِنُ بِالْمَشِيئَةِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْحِلِّ، أَوْ نَفْيُ التَّحْرِيمِ، أَوِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ التَّحْرِيمِ.
مَنْ لَهُ حَقُّ الْإِبَاحَةِ:
الشَّارِعُ:
8- الْأَصْلُ أَنَّ حَقَّ الْإِبَاحَةِ لِلشَّارِعِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى إِذْنٍ مِنْ أَحَدٍ، وَقَدْ تَكُونُ الْإِبَاحَةُ مُطْلَقَةً كَالْمُبَاحَاتِ الْأَصْلِيَّةِ، وَقَدْ تَكُونُ مُقَيَّدَةً إِمَّا بِشَرْطٍ كَمَا فِي قوله تعالى {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} فِي شَأْنِ مَا يُبَاحُ أَكْلُهُ مِنْ مِلْكِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، أَوْ مُقَيَّدَةً بِوَقْتٍ كَإِبَاحَةِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ الْعِبَادُ:
9- الْإِبَاحَةُ مِنَ الْعِبَادِ لَا بُدَّ فِيهَا أَنْ تَكُونَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَأْبَاهُ الشَّرْعُ، وَأَلاَّ تَكُونَ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ، وَإِلاَّ كَانَتْ هِبَةً أَوْ إِعَارَةً.
وَإِذَا كَانَتِ الْإِبَاحَةُ مِنْ وَلِيِّ الْأَمْرِ فَالْمَدَارُ فِيهَا- بَعْدَ الشَّرْطَيْنِ السَّابِقَيْنِ- أَنْ تَكُونَ مَنُوطَةً بِالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ.
وَهَذِهِ الْإِبَاحَةُ قَدْ تَكُونُ فِي وَاجِبٍ يَسْقُطُ بِهَا عَنْهُ، كَمَنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، وَاخْتَارَ التَّكْفِيرَ بِالْإِطْعَامِ، فَإِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى تَنَاوُلِهِ إِبَاحَةٌ تُسْقِطُ عَنْهُ الْكَفَّارَةَ، إِذْ هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهَا بَيْنَ التَّمْلِيكِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ، وَبَيْنَ الْإِبَاحَةِ.
وَهَذَا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ كَالْحَنَفِيَّةِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمُ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ الْإِطْعَامَ فِي الْكَفَّارَةِ يَجِبُ فِيهِ التَّمْلِيكُ. وَالْإِنْسَانُ يَعْرِفُ إِذْنَ غَيْرِهِ إِمَّا بِنَفْسِهِ، وَإِمَّا بِإِخْبَارِ ثِقَةٍ يَقَعُ فِي الْقَلْبِ صِدْقُهُ. فَلَوْ قَالَ مَمْلُوكٌ مَثَلًا: هَذِهِ هَدِيَّةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْكَ سَيِّدِي، أَوْ قَالَ صَبِيٌّ: هَذِهِ هَدِيَّةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْكَ وَالِدِي، قُبِلَ قَوْلُهُمَا فِي حِلِّهَا؛ لِأَنَّ الْهَدَايَا تُبْعَثُ فِي الْعَادَةِ عَلَى أَيْدِي هَؤُلَاءِ.
دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ وَأَسْبَابُهَا:
10- قَدْ يُوجَدُ فِعْلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ عَلَى حُكْمِهِ بِخُصُوصِهِ، وَذَلِكَ صَادِقٌ بِصُورَتَيْنِ: الْأُولَى عَدَمُ وُرُودِ دَلِيلٍ لِهَذَا الْفِعْلِ أَصْلًا، وَالثَّانِيَةُ وُرُودُهُ وَلَكِنَّهُ جُهِلَ. وَأَكْثَرُ الْأَفْعَالِ دَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ عَلَيْهَا وَعُرِفَ حُكْمُهَا، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي: أ- الْبَقَاءُ عَلَى الْأَصْلِ:
11- وَهَذَا مَا يُعْرَفُ بِالْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ أَوْ فَعَلَهُ. وَيَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ فِيمَا كَانَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ.
وَهُنَاكَ تَفْصِيلَاتٌ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ، أَوْ فِي كُتُبِ عِلْمِ الْكَلَامِ. وَهَذَا الْخِلَافُ لَا مُحَصِّلَ لَهُ الْآنَ بَعْدَ وُرُودِ الْبَعْثَةِ، إِذْ دَلَّ النَّصُّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ. قَالَ تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
ب- مَا جُهِلَ حُكْمُهُ:
12- قَدْ يَكُونُ الْجَهْلُ مَعَ وُجُودِ الدَّلِيلِ، وَلَكِنَّ الْمُكَلَّفَ- مُجْتَهِدًا أَوْ غَيْرَ مُجْتَهِدٍ- لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ، أَوِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ وَلَمْ يَسْتَطِعْ اسْتِنْبَاطَ الْحُكْمِ.
وَالْقَاعِدَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْجَهْلَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِنَّمَا يَكُونُ عُذْرًا إِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْمُكَلَّفِ الِاطِّلَاعُ عَلَى الدَّلِيلِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ فِي إِمْكَانِهِ الِاطِّلَاعُ عَلَى الدَّلِيلِ وَقَصَّرَ فِي تَحْصِيلِهِ لَا يَكُونُ مَعْذُورًا. وَيُفَصِّلُ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاطِنِهَا.
وَمَنْ عُذِرَ بِجَهْلِهِ فَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِحُكْمِ الْفِعْلِ، فَلَا يُوصَفُ فِعْلُهُ بِالْإِبَاحَةِ بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ الَّذِي فِيهِ خِطَابٌ بِالتَّخْيِيرِ. وَإِنْ كَانَ الْإِثْمُ مَرْفُوعًا عَنْهُ بِعُذْرِ الْجَهْلِ. وَتُفَصَّلُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ فِي مَوَاطِنِهَا فِي بَحْثِ (الْجَهْلِ). وَيُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
طُرُقُ مَعْرِفَةِ الْإِبَاحَةِ:
13- طُرُقُ مَعْرِفَةِ الْإِبَاحَةِ كَثِيرَةٌ، مِنْ أَهَمِّهَا:
النَّصُّ: وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَفْصِيلًا.
بَعْضُ أَسْبَابِ الرُّخَصِ: وَالرُّخْصَةُ هِيَ مَا شُرِعَ لِعُذْرٍ شَاقٍّ اسْتِثْنَاءً مِنْ أَصْلٍ كُلِّيٍّ يَقْتَضِي الْمَنْعَ، مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَوَاضِعِ الْحَاجَةِ فِيهِ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِ الْأَصْلِ. وَذَلِكَ كَالْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ، وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، عَلَى تَفْصِيلٍ لِلْفُقَهَاءِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مَوَاطِنِهِ.
النَّسْخُ: وَهُوَ رَفْعُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِنَصٍّ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ.
وَالَّذِي يُهِمُّنَا هُنَا هُوَ نَسْخُ الْحَظْرِ بِنَصٍّ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ فِيمَا كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ الْحَظْرِ، مِثْلُ جَوَازِ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ بَعْدَ حَظْرِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْأَوْعِيَةِ فَانْتَبِذُوا وَاجْتَنِبُوا كُلَّ مُسْكِرٍ» فَالْأَمْرُ بِالنَّبْذِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ يُفِيدُ رَفْعَ الْحَرَجِ، وَهُوَ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ.
الْعُرْفُ. وَالْمُخْتَارُ فِي تَعْرِيفِهِ أَنَّهُ مَا اسْتَقَرَّ فِي النُّفُوسِ مِنْ جِهَةِ الْعُقُولِ، وَتَلَقَّتْهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ بِالْقَبُولِ. وَهُوَ دَلِيلٌ كَاشِفٌ إِذَا لَمْ يُوجَدْ نَصٌّ وَلَا إِجْمَاعٌ عَلَى اعْتِبَارِهِ أَوْ إِلْغَائِهِ، كَالِاسْتِئْجَارِ بِعِوَضٍ مَجْهُولٍ لَا يُفْضِي إِلَى النِّزَاعِ.
الِاسْتِصْلَاحُ (الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ):
هِيَ كُلُّ مَصْلَحَةٍ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ وَلَا مُلْغَاةٍ بِنَصٍّ مِنَ الشَّارِعِ بِخُصُوصِهَا، يَكُونُ فِي الْأَخْذِ بِهَا جَلْبُ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعُ ضَرَرٍ
، كَمُشَاطَرَةِ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَمْوَالَ الَّذِينَ اتَّهَمَهُمْ بِالْإِثْرَاءِ بِسَبَبِ عَمَلِهِمْ لِلدَّوْلَةِ، وَهَذَا حَتَّى يَضَعَ مَبْدَأً لِلْعُمَّالِ أَلاَّ يَسْتَغِلُّوا مَرَاكِزَهُمْ لِصَالِحِ أَنْفُسِهِمْ.
مُتَعَلَّقُ الْإِبَاحَةِ:
14- مُتَعَلِّقُ الْإِبَاحَةِ اهْتَمَّ بِهِ الْفُقَهَاءُ وَتَحَدَّثُوا عَنْ أَقْسَامِهِ وَفُرُوعِهِ، فَقَسَّمُوهُ مِنْ حَيْثُ مَصْدَرُ الْإِبَاحَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ: مَا أَذِنَ فِيهِ الشَّارِعُ، وَمَا أَذِنَ فِيهِ الْعِبَادُ. وَمِنْ حَيْثُ نَوْعُ الْإِبَاحَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ أَيْضًا: مَا فِيهِ تَمَلُّكٌ وَاسْتِهْلَاكٌ وَانْتِفَاعٌ، وَمَا فِيهِ اسْتِهْلَاكٌ وَانْتِفَاعٌ دُونَ تَمَلُّكٍ. وَلِكُلِّ قِسْمٍ حُكْمُهُ، وَبَيَانُهُ فِيمَا يَأْتِي.
الْمَأْذُونُ بِهِ مِنَ الشَّارِعِ:
15- الْمَأْذُونُ بِهِ مِنَ الشَّارِعِ مَا وَرَدَ دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَتِهِ مِنْ نَصٍّ أَوْ مِنْ مَصْدَرٍ مِنْ مَصَادِرِ التَّشْرِيعِ الْأُخْرَى. وَالْحَدِيثُ هُنَا سَيَكُونُ عَنِ الْمَأْذُونِ فِيهِ إِذْنًا عَامًّا لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَفْرَادِ دُونَ بَعْضِهِمُ الْآخَرِ.
وَفِي ذَلِكَ مَطْلَبَانِ: مَطْلَبٌ لِلْمَأْذُونِ فِيهِ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِالْمَالِ الْمُبَاحِ، وَمَطْلَبٌ لِلْمَأْذُونِ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الِانْتِفَاعِ فَقَطْ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ.
الْمَطْلَبُ الْأَوَّلُ
مَا أَذِنَ فِيهِ الشَّارِعُ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ
16- الْمَالُ الْمُبَاحُ هُوَ كُلُّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ لِيَنْتَفِعَ بِهِ النَّاسُ عَلَى وَجْهٍ مُعْتَادٍ، وَلَيْسَ فِي حِيَازَةِ أَحَدٍ، مَعَ إِمْكَانِ حِيَازَتِهِ، وَلِكُلِّ إِنْسَانٍ حَقُّ تَمَلُّكِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ حَيَوَانًا أَمْ نَبَاتًا أَمْ جَمَادًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-. «مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ». وَهَذَا التَّمَلُّكُ لَا يَسْتَقِرُّ إِلاَّ عِنْدَ الِاسْتِيلَاءِ الْحَقِيقِيِّ، الَّذِي ضَبَطُوهُ بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ الْمُبَاحِ، أَيْ الِاسْتِيلَاءِ الْفِعْلِيِّ، أَوْ كَوْنِهِ فِي مُتَنَاوَلِ الْيَدِ، وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ بِالْقُوَّةِ. وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ هَذَا الِاسْتِيلَاءَ بِإِحْدَى صُورَتَيْهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ وَقَصْدٍ فِي اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِيَّةِ، كَمَا قَالُوا: إِنَّ الِاسْتِيلَاءَ بِوَسَاطَةِ آلَةٍ وَحِرْفَةٍ وَمَهَارَةٍ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَصْدِ لِيَكُونَ اسْتِيلَاءً حَقِيقِيًّا، وَإِلاَّ كَانَ اسْتِيلَاءً حُكْمِيًّا. جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ فِيمَنْ عَلَّقَ كُوزَهُ، أَوْ وَضَعَهُ فِي سَطْحِهِ، فَأَمْطَرَ السَّحَابُ وَامْتَلأَ الْكُوزُ مِنَ الْمَطَرِ، فَأَخَذَهُ إِنْسَانٌ، فَالْحُكْمُ هُوَ اسْتِرْدَادُ الْكُوزِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ صَاحِبِهِ، وَأَمَّا الْمَاءُ فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْكُوزِ قَدْ وَضَعَهُ مِنْ أَجْلِ جَمْعِ الْمَاءِ فَيَسْتَرِدُّ الْمَاءَ أَيْضًا، لِأَنَّ مِلْكَهُ حَقِيقِيٌّ حِينَئِذٍ، فَإِنْ لَمْ يَضَعْهُ لِذَلِكَ لَمْ يَسْتَرِدُّهُ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْأَمْوَالِ الْمُبَاحَةِ الْمَاءُ وَالْكَلأَُ وَالنَّارُ وَالْمَوَاتُ وَالرِّكَازُ وَالْمَعَادِنُ وَالْحَيَوَانَاتُ غَيْرُ الْمَمْلُوكَةِ. وَلِكُلٍّ أَحْكَامُهُ
الْمَطْلَبُ الثَّانِي
مَا أَذِنَ فِيهِ الشَّارِعُ عَلَى وَجْهِ الِانْتِفَاعِ
17- وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ، الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ إِبَاحَتَهَا تَيْسِيرًا عَلَى عِبَادِهِ، لِيَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ فِيهَا، أَوْ لِيُمَارِسُوا أَعْمَالَهُمْ فِي الْحَيَاةِ مُسْتَعِينِينَ بِهَا، كَالْمَسَاجِدِ، وَالطُّرُقِ. وَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ تَفْصِيلِ أَحْكَامِهِمَا إِلَى مُصْطَلَحَيْهِمَا.
الْمَأْذُونُ فِيهِ مِنَ الْعِبَادِ
18- إِبَاحَةُ الْعِبَادِ كَذَلِكَ عَلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ يَكُونُ التَّسْلِيطُ فِيهِ عَلَى الْعَيْنِ لِاسْتِهْلَاكِهَا، وَنَوْعٌ يَكُونُ التَّسْلِيطُ فِيهِ عَلَى الْعَيْنِ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا فَقَطْ.
إِبَاحَةُ الِاسْتِهْلَاكِ:
19- لِهَذِهِ الْإِبَاحَةِ جُزْئِيَّاتٌ كَثِيرَةٌ نَكْتَفِي مِنْهَا بِمَا يَأْتِي:
أ- الْوَلَائِمُ بِمُنَاسَبَاتِهَا الْمُتَعَدِّدَةِ وَالْمُبَاحُ فِيهَا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ دُونَ الْأَخْذِ. ب- الضِّيَافَةُ. وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِ أَحْكَامِهِمَا إِلَى مُصْطَلَحَيْهِمَا.
إِبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ:
20- هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْإِبَاحَةِ قَدْ يَكُونُ مَعَ مِلْكِ الْآذِنِ لِعَيْنِ مَا أُذِنَ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَإِذْنِ مَالِكِ الدَّابَّةِ أَوِ السَّيَّارَةِ لِغَيْرِهِ بِرُكُوبِهَا، وَإِذْنِ مَالِكِ الْكُتُبِ لِلِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا. وَقَدْ يَكُونُ الْإِذْنُ فِيمَا لَا يُمْلَكُ عَيْنُهُ، وَلَكِنْ يُمْلَكُ مَنْفَعَتُهُ بِمِثْلِ الْإِجَارَةِ أَوِ الْإِعَارَةِ، إِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِمَا أَنْ يَكُونَ الِانْتِفَاعُ شَخْصِيًّا لِلْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ.
تَقْسِيمَاتُ الْإِبَاحَةِ:
21- لِلْإِبَاحَةِ تَقْسِيمَاتٌ شَتَّى بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَكْثَرُهَا. وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَنْ تَقْسِيمِهَا مِنْ حَيْثُ مَصْدَرُهَا وَمِنْ حَيْثُ الْكُلِّيَّةُ وَالْجُزْئِيَّةُ:
أ- تَقْسِيمُهَا مِنْ حَيْثُ مَصْدَرُهَا:
22- تُقَسَّمُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ إِلَى
إِبَاحَةٍ أَصْلِيَّةٍ.
بِأَلاَّ يَرِدَ فِيهَا نَصٌّ مِنَ الشَّارِعِ، وَبَقِيَتْ عَلَى الْأَصْلِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهَا.
وَإِبَاحَةٌ شَرْعِيَّةٌ:
بِمَعْنَى وُرُودِ نَصٍّ مِنَ الشَّارِعِ بِالتَّخْيِيرِ، وَذَلِكَ إِمَّا ابْتِدَاءً كَإِبَاحَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَإِمَّا بَعْدَ حُكْمٍ سَابِقٍ مُخَالِفٍ، كَمَا فِي النَّسْخِ أَوِ الرُّخَصِ، وَقَدْ سَبَقَ.
عَلَى أَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي مُلَاحَظَتُهُ أَنَّهُ بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ أَصْبَحَتِ الْإِبَاحَةُ الْأَصْلِيَّةُ إِبَاحَةً شَرْعِيَّةً لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وَقَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ}
فَإِنَّ هَذَا النَّصَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ يَكُونُ مُبَاحًا إِلاَّ مَا وَرَدَ دَلِيلٌ يُثْبِتُ لَهُ حُكْمًا آخَرَ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
وَقَدْ يَكُونُ مَصْدَرُ الْإِبَاحَةِ إِذْنَ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ عَلَى مَا سَبَقَ. (ف9).
ب- تَقْسِيمُهَا بِاعْتِبَارِ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ:
23- تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ:
1- إِبَاحَةٌ لِلْجُزْءِ مَعَ طَلَبِ الْكُلِّ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ، كَالْأَكْلِ مَثَلًا، فَيُبَاحُ أَكْلُ نَوْعٍ وَتَرْكُ آخَرَ مِمَّا أَذِنَ بِهِ الشَّرْعُ، وَلَكِنَّ الِامْتِنَاعَ عَنِ الْأَكْلِ جُمْلَةً حَرَامٌ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْهَلَاكِ.
2- إِبَاحَةٌ لِلْجُزْءِ مَعَ طَلَبِ الْكُلِّ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ، كَالتَّمَتُّعِ بِمَا فَوْقَ الْحَاجَةِ مِنْ طَيِّبَاتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَذَلِكَ مُبَاحٌ يَجُوزُ تَرْكُهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّمَتُّعَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْكُلِّ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ تَرْكَهُ جُمْلَةً يُخَالِفُ مَا نَدَبَ إِلَيْهِ الشَّرْعُ مِنَ التَّحَدُّثِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ وَالتَّوْسِعَةِ، كَمَا فِي حَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ» وَكَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- إِذَا أَوْسَعَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَوْسِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ.
3- إِبَاحَةٌ لِلْجُزْءِ مَعَ التَّحْرِيمِ بِاعْتِبَارِ الْكُلِّ، كَالْمُبَاحَاتِ الَّتِي تَقْدَحُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا فِي الْعَدَالَةِ، كَاعْتِيَادِ الْحَلِفِ، وَشَتْمِ الْأَوْلَادِ، فَذَلِكَ مُبَاحٌ فِي الْأَصْلِ، لَكِنَّهُ مُحَرَّمٌ بِالِاعْتِيَادِ.
4- إِبَاحَةٌ لِلْجُزْءِ مَعَ الْكَرَاهَةِ بِاعْتِبَارِ الْكُلِّ، كَاللَّعِبِ الْمُبَاحِ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا بِالْأَصْلِ إِلاَّ أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ مَكْرُوهَةٌ.
آثَارُ الْإِبَاحَةِ:
24- إِذَا ثَبَتَتِ الْإِبَاحَةُ ثَبَتَ لَهَا مِنَ الْآثَارِ مَا يَلِي:
1- رَفْعُ الْإِثْمِ وَالْحَرَجِ.
وَذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْرِيفُ الْإِبَاحَةِ بِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْفِعْلِ الْمُبَاحِ إِثْمٌ.
2- التَّمْكِينُ مِنَ التَّمَلُّكِ الْمُسْتَقِرِّ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَيْنِ، وَالِاخْتِصَاصُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَنْفَعَةِ:
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ طَرِيقٌ لِتَمَلُّكِ الْعَيْنِ الْمُبَاحَةِ. هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْعَيْنِ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَنْفَعَةِ الْمُبَاحَةِ فَإِنَّ أَثَرَ الْإِبَاحَةِ فِيهَا اخْتِصَاصُ الْمُبَاحِ لَهُ بِالِانْتِفَاعِ، وَعِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَذَاهِبِ الْمُخْتَلِفَةِ تَتَّفِقُ فِي أَنَّ تَصَرُّفَ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي طَعَامِ الْوَلِيمَةِ قَبْلَ وَضْعِهِ فِي فَمِهِ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ الْأَكْلِ، إِلاَّ إِذَا أَذِنَ لَهُ صَاحِبُ الْوَلِيمَةِ أَوْ دَلَّ عَلَيْهِ عُرْفٌ أَوْ قَرِينَةٌ. وَبِهَذَا تُفَارِقُ الْإِبَاحَةُ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ بِأَنَّ فِيهِمَا تَمْلِيكًا، كَمَا أَنَّهَا تُفَارِقُ الْوَصِيَّةَ حَيْثُ تَكُونُ هَذِهِ مُضَافَةً إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ إِذْنِ الدَّائِنِينَ وَالْوَرَثَةِ أَحْيَانًا، كَمَا لَا بُدَّ مِنْ صِيغَةٍ فِي الْوَصِيَّةِ.
25- هَذِهِ هِيَ آثَارُ الْإِبَاحَةِ لِلْأَعْيَانِ فِي إِذْنِ الْعِبَادِ. أَمَّا آثَارُ الْإِبَاحَةِ لِلْمَنَافِعِ فَإِنَّ إِبَاحَتَهَا لَا تُفِيدُ إِلاَّ حِلَّ الِانْتِفَاعِ فَقَطْ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ. فَحَقُّ الِانْتِفَاعِ الْمُجَرَّدِ مِنْ قَبِيلِ التَّرْخِيصِ بِالِانْتِفَاعِ الشَّخْصِيِّ دُونَ الِامْتِلَاكِ، وَمِلْكُ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ اخْتِصَاصٌ حَاجِزٌ لِحَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ مَنَافِعِ الْمُؤَجِّرِ، فَهُوَ أَقْوَى وَأَشْمَلَ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الِانْتِفَاعِ وَزِيَادَةً. وَآثَارُ ذَلِكَ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا.
الْإِبَاحَةُ وَالضَّمَانُ:
26- الْإِبَاحَةُ لَا تُنَافِي الضَّمَانَ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ إِبَاحَةَ اللَّهِ- وَإِنْ كَانَ فِيهَا رَفْعُ الْحَرَجِ وَالْإِثْمِ- إِلاَّ أَنَّهَا قَدْ يَكُونُ مَعَهَا ضَمَانٌ، فَإِبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ تَقْتَضِي صِيَانَةَ الْعَيْنِ الْمُبَاحَةِ عَنِ التَّخْرِيبِ وَالضَّرَرِ، وَمَا حَدَثَ مِنْ ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ ضَمَانِهِ. وَإِبَاحَةُ الْأَعْيَانِ كَأَخْذِ الْمُضْطَرِّ طَعَامَ غَيْرِهِ لَا تَمْنَعُ ضَمَانَ قِيمَتِهِ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْعَبْدِ حَقًّا فِي مِلْكِهِ، فَلَا يُنْقَلُ الْمِلْكُ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ إِلاَّ بِرِضَاهُ، وَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ إِلاَّ بِإِسْقَاطِهِ، كَمَا يَقُولُ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ.
وَحَكَى الْقَرَافِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُضْمَنُ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْمَالِكِ، وَالْوَاجِبُ لَا يُؤْخَذُ لَهُ عِوَضٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجِبُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَالْأَشْهَرُ؛ لِأَنَّ إِذْنَ الْمَالِكِ لَمْ يُوجَدْ، وَإِنَّمَا وُجِدَ إِذْنُ صَاحِبِ الشَّرْعِ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الضَّمَانِ، وَإِنَّمَا يَنْفِي الْإِثْمَ وَالْمُؤَاخَذَةَ بِالْعِقَابِ.
أَمَّا إِبَاحَةُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا مُفَصَّلًا.
مَا تَنْتَهِي بِهِ الْإِبَاحَةُ:
27- أَوَّلًا: إِبَاحَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا تَنْتَهِي مِنْ جِهَتِهِ هُوَ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَيٌّ بَاقٍ، وَالْوَحْيُ قَدِ انْقَطَعَ، فَلَا وَحْيَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- وَإِنَّمَا تَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ دَوَاعِيهَا، كَمَا فِي الرُّخَصِ، فَإِذَا وُجِدَ السَّفَرُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مَثَلًا وُجِدَتِ الْإِبَاحَةُ بِالتَّرْخِيصِ فِي الْفِطْرِ، فَإِذَا انْتَهَى السَّفَرُ انْتَهَتِ الرُّخْصَةُ.
28- ثَانِيًا: وَإِبَاحَةُ الْعِبَادِ تَنْتَهِي بِأُمُورٍ:
أ- انْتِهَاءُ مُدَّتِهَا إِنْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِزَمَنٍ، فَالْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ، وَإِذَا فُقِدَ الشَّرْطُ فُقِدَ الْمَشْرُوطُ.
ب- رُجُوعُ الْآذِنِ فِي إِذْنِهِ، حَيْثُ إِنَّهُ لَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَهُوَ تَبَرُّعٌ مِنْهُ، كَمَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَهِيَ لَا تَنْتَهِي بِمُجَرَّدِ الرُّجُوعِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ عِلْمِ الْمَأْذُونِ لَهُ بِهِ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ.
وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ قَوْلًا آخَرَ لِلشَّافِعِيِّ، يُفِيدُ أَنَّ الْإِبَاحَةَ تَنْتَهِي بِمُجَرَّدِ رُجُوعِ الْآذِنِ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ الْمَأْذُونُ لَهُ.
ج- مَوْتُ الْآذِنِ؛ لِبُطْلَانِ الْإِذْنِ بِمَوْتِهِ، فَتَنْتَهِي آثَارُهُ.
د- مَوْتُ الْمَأْذُونِ لَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الِانْتِفَاعِ رُخْصَةٌ شَخْصِيَّةٌ لَهُ لَا تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ إِلاَّ إِذَا نَصَّ الْآذِنُ عَلَى خِلَافِهِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
33-موسوعة الفقه الكويتية (أرحام)
أَرْحَامٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْأَرْحَامُ جَمْعُ رَحِمٍ، وَالرَّحِمُ وَالرَّحْمُ وَالرِّحْمُ بَيْتُ مَنْبَتِ الْوَلَدِ وَوِعَاؤُهُ، وَمِنَ الْمَجَازِ: الرَّحِمُ الْقَرَابَةُ، وَفِي التَّهْذِيبِ: بَيْنَهُمَا رَحِمٌ: أَيْ قَرَابَةٌ قَرِيبَةٌ.وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: ذَوُو الرَّحِمِ: هُمُ الْأَقَارِبُ.وَالرَّحِمُ يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ.
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ- غَيْرُ الْفَرْضِيِّينَ مِنْهُمْ- يُرَادُ بِهِمْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ الْأَقَارِبُ غَيْرَ أَنَّهُ فِي فُرُوعِ بَعْضِ الْمَذَاهِبِ بَيْنَ الْأَرْحَامِ وَالْأَقَارِبِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَمَثَلًا لَا تَدْخُلُ قَرَابَةُ الْأُمِّ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْقَرَابَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، بَيْنَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى ذَوِي رَحِمِهِ يَدْخُلُ الْأَقَارِبُ مِنَ الْجِهَتَيْنِ.وَهُمْ عِنْدَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ، وَيُرَادُ بِهِمْ «مَنْ لَيْسُوا بِذَوِي سَهْمٍ وَلَا عَصَبَةٍ، ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا».وَالْأَرْحَامُ وَذَوُو الْأَرْحَامِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ.
2- الرَّحِمُ نَوْعَانِ:
رَحِمٌ مَحْرَمٌ، وَرَحِمُ غَيْرُ مَحْرَمٍ.
وَضَابِطُ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ: كُلُّ شَخْصَيْنِ بَيْنَهُمَا قَرَابَةُ لَوْ فُرِضَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى لَمْ يَحِلَّ لَهُمَا أَنْ يَتَنَاكَحَا، كَالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَإِنْ عَلَوْا، وَالْأَوْلَادِ وَأَوْلَادِهِمْ وَإِنْ نَزَلُوا، وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ، وَمَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ مِنَ الْأَرْحَامِ، فَلَا تَتَحَقَّقُ فِيهِمُ الْمَحْرَمِيَّةُ، كَبَنَاتِ الْأَعْمَامِ وَبَنَاتِ الْعَمَّاتِ وَبَنَاتِ الْأَخْوَالِ وَبَنَاتِ الْخَالَاتِ.
الصِّفَةُ (الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ):
تَتَّصِلُ بِالْأَرْحَامِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقِهَا.وَبَيَانُهَا فِيمَا يَأْتِي:
صِلَةُ الْأَرْحَامِ:
3- الصِّلَةُ هِيَ فِعْلُ مَا يُعَدُّ بِهِ الْإِنْسَانُ وَاصِلًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ: «الصِّلَةُ إِيصَالُ نَوْعٍ مِنَ الْإِحْسَانِ».
وَصِلَةُ الرَّحِمِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَبَوَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا وَاجِبَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ مَا صَوَّبَهُ النَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ}.
وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ».وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، فَاتَّفَقُوا مَعَ غَيْرِهِمْ عَلَى وُجُوبِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَأَنَّ عُقُوقَهُمَا كَبِيرَةٌ، وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ صِلَةَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَقَارِبِ سُنَّةٌ.عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ صَرَّحُوا بِأَنَّ ابْتِدَاءَ فِعْلِ الْمَعْرُوفِ مَعَ الْأَقَارِبِ سُنَّةٌ، وَأَنَّ قَطْعَهُ بَعْدَ حُصُولِهِ كَبِيرَةٌ.
صِلَةُ الْأَبَوَيْنِ:
4- وَصِلَةُ الْأُمِّ مُقَدَّمَةٌ عَلَى صِلَةِ الْأَبِ بِالْإِجْمَاعِ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِرَجُلٍ سَأَلَهُ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟: أُمُّكَ ثُمَّ أُمُّكَ ثُمَّ أُمُّكَ ثُمَّ أَبُوكَ».
وَالتَّعْبِيرُ الْغَالِبُ لِلْفُقَهَاءِ عَنِ الْإِحْسَانِ لِلْأَبَوَيْنِ بِالْبِرِّ، وَفِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَقَارِبِ بِالصِّلَةِ، لَكِنَّهُ قَدْ يَحْدُثُ الْعَكْسُ فَيَقُولُونَ: صِلَةُ الْأَبَوَيْنِ، وَبِرُّ الْأَرْحَامِ، وَلَمَّا كَانَتْ أَكْثَرُ أَحْكَامِ صِلَةِ الْوَالِدَيْنِ مُعَبَّرًا عَنْهَا بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، فَإِنَّ مَوْطِنَ تَفْصِيلِهَا فِي ذَلِكَ الْمُصْطَلَحِ، مَعَ الْبَيَانِ هُنَا لِلتَّيْسِيرِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ مَعَ التَّفْصِيلِ لِأَحْكَامِ بَقِيَّةِ الْأَرْحَامِ
صِلَةُ الْأَقَارِبِ:
5- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- فِي قَوْلٍ لَهُمْ- إِلَى أَنَّ الْأَخَ الْأَكْبَرَ كَالْأَبِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي حُكْمِ الصِّلَةِ، وَكَذَا الْجَدُّ، وَإِنْ عَلَا، وَالْأُخْتُ الْكَبِيرَةُ، وَالْخَالَةُ كَالْأُمِّ فِي الصِّلَةِ.وَقَرِيبٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَا اخْتَارَهُ الزَّرْكَشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَمِّ وَالْخَالَةِ، إِذْ يَجْعَلُ الْعَمَّ بِمَثَابَةِ الْأَبِ، وَالْخَالَةَ بِمَثَابَةِ الْأُمِّ، لِمَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْخَالَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ، وَأَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ.
لَكِنْ كَلَامُ الزَّرْكَشِيِّ مُخَالِفٌ لِأَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، لِأَنَّ الْوَالِدَيْنِ اخْتَصَّا مِنَ الرِّعَايَةِ وَالِاحْتِرَامِ وَالْإِحْسَانِ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ جِدًّا وَغَايَةٍ رَفِيعَةٍ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ بَقِيَّةِ الْأَرْحَامِ، وَأَجَابُوا عَمَّا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ يَكْفِي التَّشَابُهُ فِي أَمْرٍ مَا كَالْحَضَانَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَالَةِ وَالْأُمِّ، وَالْإِكْرَامِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَبِ وَالْعَمِّ.
مَنْ تُطْلَبُ صِلَتُهُ مِنَ الْأَرْحَامِ:
6- لِلْعُلَمَاءِ فِي الرَّحِمِ الَّتِي يُطْلَبُ وَصْلُهَا رَأْيَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الصِّلَةَ خَاصَّةٌ بِالرَّحِمِ الْمَحْرَمِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَغَيْرُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.قَالُوا: لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لِجَمِيعِ الْأَقَارِبِ لَوَجَبَ صِلَةُ جَمِيعِ بَنِي آدَمَ، وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ضَبْطِ ذَلِكَ بِقَرَابَةٍ تَجِبُ صِلَتُهَا وَإِكْرَامُهَا وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا، وَتِلْكَ قَرَابَةُ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ.
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا وَلَا عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا وَأُخْتِهَا، فَإِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ».
الثَّانِي: أَنَّ الصِّلَةَ تُطْلَبُ لِكُلِّ قَرِيبٍ، مَحْرَمًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ نَصُّ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ إِطْلَاقِ الشَّافِعِيَّةِ، فَلَمْ يُخَصِّصْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالرَّحِمِ الْمَحْرَمِ.
الصِّلَةُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ:
7- لَا خِلَافَ فِي أَنَّ صِلَةَ الِابْنِ الْمُسْلِمِ لِأَبَوَيْهِ الْكَافِرَيْنِ مَطْلُوبَةٌ.أَمَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْأَقَارِبِ الْكُفَّارِ فَلَا تُطْلَبُ صِلَتُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}.وَدَلِيلُ اسْتِثْنَاءِ الْأَبَوَيْنِ قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}.ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لَكِنْ نَقَلَ السَّمَرْقَنْدِيُّ عَنْ سَحْنُونِ بْنِ مُهَمَّدَانَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِي الصِّلَةِ.
دَرَجَاتُ الصِّلَةِ:
8- ذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ دَرَجَاتِ الصِّلَةِ تَتَفَاوَتُ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَقَارِبِ، فَهِيَ فِي الْوَالِدَيْنِ أَشَدُّ مِنَ الْمَحَارِمِ، وَفِيهِمْ أَشَدُّ مِنْ غَيْرِهِمْ.وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالصِّلَةِ أَنْ تَصِلَهُمْ إِنْ وَصَلُوكَ؛ لِأَنَّ هَذَا مُكَافَأَةٌ، بَلْ أَنْ تَصِلَهُمْ وَإِنْ قَطَعُوكَ.فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ «لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا»
بِمَ تَحْصُلُ الصِّلَةُ؟
9- تَحْصُلُ صِلَةُ الْأَرْحَامِ بِأُمُورٍ عَدِيدَةٍ مِنْهَا:
الزِّيَارَةُ، وَالْمُعَاوَنَةُ، وَقَضَاءُ الْحَوَائِجِ، وَالسَّلَامُ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «بُلُّوا أَرْحَامَكُمْ وَلَوْ بِالسَّلَامِ» وَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ السَّلَامِ عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ
كَمَا تَحْصُلُ الصِّلَةُ بِالْكِتَابَةِ إِنْ كَانَ غَائِبًا، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهَذَا فِي غَيْرِ الْأَبَوَيْنِ، أَمَّا هُمَا فَلَا تَكْفِي الْكِتَابَةُ إِنْ طَلَبَا حُضُورَهُ.
وَكَذَلِكَ بَذْلُ الْمَالِ لِلْأَقَارِبِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ صِلَةٌ لَهُمْ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ، وَصِلَةٌ»
وَظَاهِرُ عِبَارَةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْغَنِيَّ لَا تَحْصُلُ صِلَتُهُ بِالزِّيَارَةِ لِقَرِيبِهِ الْمُحْتَاجِ إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى بَذْلِ الْمَالِ لَهُ.وَيَدْخُلُ فِي الصِّلَةِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ مِمَّا تَتَأَتَّى بِهِ الصِّلَةُ
حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الصِّلَةِ:
10- فِي صِلَةِ الرَّحِمِ حِكَمٌ جَلِيلَةٌ، عَبَّرَ عَنْ أَهَمِّهَا حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ رِزْقُهُ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» وَمِنَ الْفَوَائِدِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الْفُقَهَاءُ: رَضِيَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى الْأَرْحَامِ.
وَمِنْهَا زِيَادَةُ الْمُرُوءَةِ، وَزِيَادَةُ الْأَجْرِ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ كُلَّمَا ذَكَرُوا إِحْسَانَهُ.
قَطْعُ الرَّحِمِ:
11- بَيَّنَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَا يَكُونُ بِهِ قَطْعُ الرَّحِمِ، وَوَافَقَهُ صَاحِبُ تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ حَجَرٍ فِيهِ رَأْيَيْنِ:
أَحَدَهُمَا: الْإِسَاءَةُ إِلَى الْأَرْحَامِ.
الثَّانِيَ: يَتَعَدَّى إِلَى تَرْكِ الْإِحْسَانِ، فَقَطْعُ الْمُكَلَّفِ مَا أَلِفَهُ قَرِيبُهُ مِنْهُ مِنْ سَابِقِ الصِّلَةِ وَالْإِحْسَانِ لِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَطَعَ رَحِمَهُ، وَقَدْ عَدَّهُ بَعْضُهُمْ كَبِيرَةً كَمَا سَبَقَ.
وَالْأَعْذَارُ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ نَوْعِ الصِّلَةِ، فَعُذْرُ تَرْكِ الزِّيَارَةِ ضَبَطَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِالْعُذْرِ الَّذِي تُتْرَكُ بِهِ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ وَتَرْكُهُ كَبِيرَةٌ، وَإِنْ كَانَتِ الصِّلَةُ بِبَذْلِ الْمَالِ، فَلَمْ يَبْذُلْهُ لِشِدَّةِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، أَوْ فَقْدِهِ، أَوْ قَدَّمَ غَيْرَ الْقَرِيبِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ الشَّرْعِ، كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا.وَعُذْرُ الْمُرَاسَلَةِ وَالْكِتَابَةِ أَلاَّ يَجِدَ مَنْ يَثِقُ بِهِ فِي أَدَاءِ الرِّسَالَةِ.
وَمِنَ الْأَعْذَارِ الَّتِي زَادَهَا الْمَالِكِيَّةُ تَكَبُّرُ الْقَرِيبِ الْغَنِيِّ عَلَى قَرِيبِهِ الْفَقِيرِ، فَلَا صِلَةَ عَلَى الْفَقِيرِ حِينَئِذٍ.
حُكْمُ قَطْعِ الرَّحِمِ:
12- قَطْعُ الرَّحِمِ الْمَأْمُورِ بِوَصْلِهَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقٍ لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ {وَاَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}.
تَقْدِيمُ الْأَرْحَامِ فِيمَا يَلْزَمُ الْمَيِّتَ:
13- أَغْلَبُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ ذَوِي الْأَرْحَامِ يُقَدَّمُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ فِي الْأُمُورِ الَّتِي تَجِبُ لِلْمَيِّتِ مِنْ غُسْلٍ وَصَلَاةٍ عَلَيْهِ، وَدَفْنٍ.إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُقَدِّمُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْأَقَارِبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُ الْوَصِيَّ عَلَيْهِمْ وَقَدْ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَفِي الْغُسْلِ وَالدَّفْنِ، وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي مُصْطَلَحِ الْجَنَائِزِ.
الْهِبَةُ لِلْأَرْحَامِ:
14- لَوْ وَهَبَ إِنْسَانٌ لِرَحِمِهِ، وَأَرَادَ الرُّجُوعَ فِيمَا وَهَبَهُ بَعْدَ قَبْضِهِ، فَفِي غَيْرِ الْفُرُوعِ يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ بِاتِّفَاقٍ، أَمَّا الْفُرُوعُ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِمْ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:
أ- مَنْعُ الرُّجُوعِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ لِحَدِيثِ الْحَاكِمِ مَرْفُوعًا: «إِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ لَمْ يَرْجِعْ فِيهَا» وَصَحَّحَهُ وَقَالَ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.
ب- جَوَازُ الرُّجُوعِ لِلْأَبِ وَلِسَائِرِ الْأُصُولِ، إِذَا بَقِيَ الْمَوْهُوبُ فِي سُلْطَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيهَا إِلاَّ الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ».
وَفِي شَرْحِ الرَّوْضِ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ، إِنْ سَوَّى بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِي الْعَطِيَّةِ.
ج- جَوَازُ الرُّجُوعِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ دُونَ غَيْرِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الْأُمَّ لَا تَعْتَصِرُ (تَرْجِعُ) إِلاَّ مِنَ الْكَبِيرِ الْبَالِغِ، وَمِنَ الصَّغِيرِ إِنْ كَانَ أَبُوهُ حَيًّا، فَإِنْ تَيَتَّمَ بَعْدَ الْهِبَةِ فَفِي الرُّجُوعِ وَجْهَانِ، وَهَذَا مَا لَمْ يَقُلِ الْوَاهِبُ: هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ يَجْعَلُهَا صِلَةَ رَحِمٍ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ الرُّجُوعُ.وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ كَالْمَالِكِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَبِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْأُمِّ، لَكِنِ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا الرُّجُوعُ.وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلَاتٌ أُخْرَى فِي أَصْلِ الْحُكْمِ وَمُسْتَثْنَيَاتِهِ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي (الْهِبَةِ).
إِرْثُ الْأَرْحَامِ:
15- الرَّحِمُ فِي الْفَرَائِضِ: هِيَ كُلُّ قَرِيبٍ لَيْسَ بِذِي فَرْضٍ وَلَا عَصَبَةٍ.وَيَرِثُونَ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ عَاصِبٍ أَوْ صَاحِبِ فَرْضٍ يُرَدُّ عَلَيْهِ، وَيُقَدَّمُونَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَا أَخَذَ بِهِ مُتَأَخِّرُو كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِنْ لَمْ يَنْتَظِمْ بَيْتُ الْمَالِ.
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي تَوْرِيثِهِمْ مَذْهَبَانِ مَشْهُورَانِ: مَذْهَبُ أَهْلِ التَّنْزِيلِ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْقَرَابَةِ.وَهُنَاكَ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ يُسَمَّى أَهْلَ الرَّحِمِ، وَقَدْ هَجَرَهُ الْفُقَهَاءُ.وَكَيْفِيَّةُ تَوْرِيثِهِمْ ذُكِرَتْ فِي مُصْطَلَحِ (إِرْث).
الْوَصِيَّةُ لِلْأَرْحَامِ:
16- الْوَصِيَّةُ لِذَوِي الْأَرْحَامِ غَيْرِ الْوَارِثِينَ جَائِزَةٌ اتِّفَاقًا.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَوْصَى لِأَرْحَامِهِ غَيْرِ الْوَارِثِينَ يَدْخُلُ الْوَالِدَانِ وَالْوَلَدُ إِذَا كَانُوا مَمْنُوعِينَ مِنَ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ شَرْعًا هُوَ الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَدْخُلُونَ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ (عُرْفًا) أَنَّهُمْ أَقَارِبُ، وَلَوْ أُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ كَانَ عُقُوقًا.
وَيَدْخُلُ الْجَدُّ مُطْلَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ غَيْرَ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِدُخُولِ الْجَدِّ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّهِ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ.
أ- دُخُولُ أَقْرَبِ جَدٍّ يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ.
ب- دُخُولُ جَدِّ الْأَبِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَا صَرَفَ إِلَيْهِ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، إِذْ قَالَا: تُصْرَفُ إِلَى أَقْصَى جَدٍّ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ.وَقَالَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ، حِينَ لَمْ يَكُنْ فِي أَقْرِبَاءِ الْإِنْسَانِ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إِلَى أَقْرَبِ أَبٍ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ كَثْرَةٌ، وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَفِيهِمْ كَثْرَةٌ لَا يُمْكِنُ إِحْصَاؤُهُمْ، فَتُصْرَفُ الْوَصِيَّةُ إِلَى أَوْلَادِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَجَدِّ أَبِيهِ وَأَوْلَادِ أُمِّهِ وَجَدِّ أُمِّهِ وَجَدَّتِهِ وَجَدَّةِ أُمِّهِ.وَلَا يُصْرَفُ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
ج- تَجَاوُزُ الْجَدِّ الرَّابِعِ وَهُوَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ.وَأَوْلَادُ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الْأَجْدَادِ يَدْخُلُونَ فِي الْأَرْحَامِ.
وَالْأَحْفَادُ كَالْأَجْدَادِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ- وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ عَدَمُ دُخُولِهِمْ فِي الْأَرْحَامِ.
17- وَيَسْتَوِي فِي الْوَصِيَّةِ لِلْأَرْحَامِ- إِنْ كَانُوا مَحْصُورِينَ- الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى مَعَ وُجُوبِ اسْتِيعَابِهِمْ بِاتِّفَاقٍ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُونُوا مَحْصُورِينَ فَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْوَصِيَّةِ.
وَلَا فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِنَ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَلَوْ عَدِمَ رَحِمَهُ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ عِنْدَهُ، وَلَوْ وُجِدَ وَاحِدٌ أَخَذَ نِصْفَهَا.
وَالْغَنِيُّ كَالْفَقِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَانَ فِيهِمْ مُحْتَاجٌ، أَوْ أَحْوَجُ وَجَبَ إِيثَارُهُ، أَيْ زِيَادَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ الْمُحْتَاجُ أَقْرَبَ أَمْ أَبْعَدَ.
18- وَإِذَا وُجِدَتْ قَرَابَةُ الْأُمِّ مَعَ قَرَابَةِ الْأَبِ فَالْفُقَهَاءُ فِي الِاسْتِوَاءِ وَعَدَمِهِ عَلَى رَأْيَيْنِ:
الْأَوَّلُ: اسْتِوَاؤُهُمَا مَعَ قَرَابَةِ الْأَبِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِوَصِيَّةِ غَيْرِ الْعَرَبِ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِهِمْ بِالنِّسْبَةِ لِوَصِيَّةِ الْعَرَبِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ يَفْتَخِرُونَ بِالْأُمِّ، فَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ عَنْ Cسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: سَعْدٌ خَالِي فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ».
وَاسْتِوَاءُ قَرَابَةِ الْأُمِّ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا، إِنْ كَانَ يَصِلُهُمْ فِي حَيَاتِهِ.
الثَّانِي: الْمَنْعُ مِنْ دُخُولِ قَرَابَةِ الْأُمِّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ وُجِدَتْ قَرَابَةٌ لِلْمُوصِي مِنْ جِهَةِ الْأَبِ غَيْرُ وَارِثَةٍ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِوَصِيَّةِ الْعَرَبِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا يَفْتَخِرُونَ بِالْأُمِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ يَصِلُهُمْ فِي حَيَاتِهِ.
وَلَا يَدْخُلُ الْوَارِثُ بِالْفِعْلِ إِنْ أَوْصَى لِأَرْحَامِ نَفْسِهِ وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ، وَقِيلَ يَدْخُلُ؛ لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهِ ثُمَّ يَبْطُلُ نَصِيبُهُ لِتَعَذُّرِ إِجَازَتِهِ لِنَفْسِهِ، وَيُصْبِحُ الْبَاقِي لِغَيْرِهِ، وَقِيلَ يَدْخُلُ وَيُعْطَى نَصِيبُهُ، فَإِنْ مَنَعَ فَلَا يَدْخُلُ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَيَدْخُلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيَّةِ السَّابِقِ.
الْمُحَرَّمَاتُ مِنَ الْأَرْحَامِ:
19- الْقَرَابَةُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ تَحْرِيمِ النِّكَاحِ فِي الْجُمْلَةِ، وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أَقَارِبُهُ إِلاَّ أَرْبَعَةً.بَنَاتَ كُلٍّ مِنْ أَعْمَامِهِ، وَأَخْوَالِهِ، وَعَمَّاتِهِ، وَخَالَاتِهِ.وَبَيَانُ الْمُحَرَّمَاتِ تَفْصِيلًا، وَأَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ يَأْتِي ذِكْرُهَا فِي (نِكَاحِ) الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ النِّكَاحِ.
نَفَقَةُ الْأَرْحَامِ:
20- تَجِبُ نَفَقَةُ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْأَوْلَادِ، وَنَفَقَةُ الْأَوْلَادِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ بِاتِّفَاقٍ، وَكَذَلِكَ تَجِبُ لِلْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَالْأَحْفَادِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَصَرَهَا الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ لَيْسَ بِأَبٍ حَقِيقِيٍّ وَكَذَلِكَ وَلَدُ الْوَلَدِ.أَمَّا بَقِيَّةُ الْأَرْحَامِ غَيْرِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، فَلَا تَجِبُ لَهُمْ نَفَقَةٌ وَلَا تَلْزَمُهُمْ إِلاَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ أَوْجَبُوهَا لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ دُونَ غَيْرِهِ، وَتَوَسَّعَ الْحَنَابِلَةُ فِي ذَلِكَ فَأَوْجَبُوهَا لِكُلِّ وَارِثٍ، وَفِي غَيْرِ الْوَارِثِ رِوَايَتَانِ، هَذَا إِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْأَرْحَامِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ بِفَرْضٍ وَلَا تَعْصِيبٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ فَلَا تَجِبُ لَهُ نَفَقَةٌ، وَلَا تَلْزَمُهُ إِلاَّ عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَةِ وَأَصْحَابِ الْفُرُوضِ.
وَأَدِلَّةُ نَفَقَةِ الْأَرْحَامِ وَشُرُوطُهَا وَمِقْدَارُهَا وَسُقُوطُهَا Cوَبَقِيَّةُ أَحْكَامِهَا تَأْتِي فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ).
النَّظَرُ وَاللَّمْسُ وَالْخَلْوَةُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَحَارِمِ:
21- الرَّحِمُ غَيْرُ الْمَحْرَمِ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي النَّظَرِ وَاللَّمْسِ وَالْخَلْوَةِ (ر: أَجْنَبِيٌّ).
أَمَّا الْمَحَارِمُ مِنَ الْأَرْحَامِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي نَظَرِ الرِّجَالِ إِلَى النِّسَاءِ- مَا لَمْ يَكُنْ بِشَهْوَةٍ- ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:
أ- جَوَازُ النَّظَرِ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِ الْمَرْأَةِ، عَدَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ، وَلِلْحَنَابِلَةِ فِيهِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ.
ب- جَوَازُ النَّظَرِ إِلَى الذِّرَاعَيْنِ وَالشَّعْرِ وَمَا فَوْقَ النَّحْرِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ
ج- جَوَازُ النَّظَرِ إِلَى الْوَجْهِ وَالرَّقَبَةِ وَالْيَدِ وَالْقَدَمِ وَالرَّأْسِ وَالسَّاقِ، وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَابِلَةِ وَيُكْرَهُ عِنْدَهُمْ النَّظَرُ إِلَى السَّاقِ وَالصَّدْرِ لِلتَّوَقِّي لَا لِلتَّحْرِيمِ.
د- جَوَازُ النَّظَرِ إِلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَالصَّدْرِ وَالسَّاقِ وَالْعَضُدِ وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنَ الرَّجُلِ فَهُوَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ.وَلِكُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَوْلٌ آخَرُ، هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمَا، أَنَّهَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَنْظُرَ مِنْهُ إِلاَّ مَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَيَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى مَا دُونَ ذَلِكَ.
وَكُلُّ مَا حَرُمَ نَظَرُهُ حَرُمَ مَسُّهُ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي اللَّذَّةِ.وَتَجُوزُ الْخَلْوَةُ بِالْمَحَارِمِ بِاتِّفَاقٍ.وَتَفَاصِيلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ تَأْتِي فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
وِلَايَةُ الْأَرْحَامِ لِلنِّكَاحِ:
22- الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَرْحَامَ- غَيْرَ الْعَصَبَةِ- لَيْسَ لَهُمْ حَقٌّ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ.
وَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمْ يَلُونَ عَقْدَ النِّكَاحِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَةِ.
وَبَيَانُهُمْ وَتَرْتِيبُهُمْ فِي الْوِلَايَةِ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ نِكَاح (وِلَايَتُهُ).
الرَّحِمِيَّةُ فِي الْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ:
23- أَحْيَانًا تَكُونُ الرَّحِمِيَّةُ سَبَبًا فِي تَشْدِيدِ الْعُقُوبَةِ، كَمَا فِي قَتْلِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَأَحْيَانًا تَكُونُ سَبَبًا فِي رَفْعِهَا، كَمَا لَوْ قَتَلَ الْأَبُ وَلَدَهُ أَوْ قَذَفَهُ، وَلِتَفْصِيلِ ذَلِكَ اُنْظُرْ: (قِصَاص، زِنا، قَذْف، سَرِقَة).
شَهَادَةُ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَالْقَضَاءُ لَهُمْ:
24- لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَصْلٍ لِفَرْعِهِ، وَلَا فَرْعٍ لِأَصْلِهِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَمِيلُ بِطَبْعِهِ لِلْآخَرِ، وَلِحَدِيثِ: «فَاطِمَةُ بِضْعَةٌ مِنِّي، يَرِيبُنِي مَا أَرَابَهَا».
أَمَّا بَقِيَّةُ الْأَرْحَامِ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا لِقَبُولِ شَهَادَةِ الْأَخِ أَنْ يَكُونَ مُبْرِزًا فِي الْعَدَالَةِ، وَأَلاَّ يَكُونَ فِي عِيَالِ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ، وَأَلاَّ تَكُونَ الشَّهَادَةُ فِي جُرْحٍ فِيهِ قِصَاصٌ.
وَلَا يَقْضِي الْقَاضِي لِمَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَيَجُوزُ قَضَاؤُهُ لِبَاقِي أَقَارِبِهِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: لَا يَقْضِي لِلْعَمِّ، إِلاَّ إِنْ كَانَ مُبْرِزًا فِي الْعَدَالَةِ.وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ جَوَازُ الْقَضَاءِ لِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ، قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ.وَقِيلَ: يَجُوزُ بَيْنَ وَالِدَيْهِ وَوَلَدِهِ.
عِتْقُ الْأَرْحَامِ
25- الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الْوَالِدَيْنِ- وَإِنْ عَلَوْا- يُعْتَقُونَ عَلَى الْمَوْلُودِينَ بِالتَّمَلُّكِ، وَأَنَّ الْمَوْلُودِينَ- وَإِنْ نَزَلُوا- يُعْتَقُونَ عَلَى الْوَالِدَيْنِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَالْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَرَابَةِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْجَمِيعُ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِ إِعْتَاقِ الْوَالِدَيْنِ بِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} الْآيَةَ، وَلَا يَتَأَتَّى خَفْضُ الْجَنَاحِ مَعَ الِاسْتِرْقَاقِ، وَعَلَى عِتْقِ الْمَوْلُودِينَ بِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} الْآيَةَ.
وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} الْآيَةَ، دَلَّ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى نَفْيِ اجْتِمَاعِ الْوَلَدِيَّةِ وَالْعَبْدِيَّةِ.
أَمَّا بَقِيَّةُ الْأَرْحَامِ غَيْرِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فَلِلْعُلَمَاءِ فِي عِتْقِهِمْ عِنْدَ تَمَلُّكِهِمْ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ.
الْأَوَّلُ: عِتْقُ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَمَنْ مَلَكَ قَرِيبًا ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ عَلَيْهِ.وَصِفَةُ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا حَرُمَ نِكَاحُهُ.وَالْمَحْرَمُ بِلَا رَحِمٍ كَأَنْ يَمْلِكَ زَوْجَةَ ابْنِهِ أَوْ أَبِيهِ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَكَذَا الرَّحِمُ بِلَا مَحْرَمٍ، كَبَنِي الْأَعْمَامِ وَالْأَخْوَالِ.
الثَّانِي: الِاقْتِصَارُ عَلَى الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ أَوْلَادِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقُ أَحَدٌ Cمِنْ هَؤُلَاءِ بِالْمِلْكِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ.
الثَّالِثُ: الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
34-موسوعة الفقه الكويتية (أنوثة 1)
أُنُوثَةٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْأُنُوثَةُ خِلَافُ الذُّكُورَةِ، وَالْأُنْثَى- كَمَا جَاءَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ- خِلَافُ الذَّكَرِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} وَتُجْمَعُ عَلَى إِنَاثٍ وَأَنَاثَى، وَامْرَأَةٌ أُنْثَى.أَيْ كَامِلَةٌ فِي أُنُوثَتِهَا.
وَالْأُنْثَيَانِ: الْخُصْيَتَانِ. (ر: خِصَاءٌ).
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
هَذَا، وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ لِلْأُنُوثَةِ عَلَامَاتٍ وَأَمَارَاتٍ تُمَيِّزُهَا عَنِ الذُّكُورَةِ فَضْلًا عَنْ أَعْضَاءِ الْأُنُوثَةِ، وَتِلْكَ الْأَمَارَاتُ إِمَّا حِسِّيَّةٌ كَالْحَيْضِ، وَإِمَّا مَعْنَوِيَّةٌ كَالطِّبَاعِ.
وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (خُنْثَى).
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْخُنُوثَةُ:
2- الْخُنُوثَةُ حَالَةٌ بَيْنَ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ.وَتَذْكُرُ كُتُبُ اللُّغَةِ أَنَّ الْخُنْثَى مَنْ لَهُ مَا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا.
وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، فَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ: الْخُنْثَى ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ لَهُ فَرْجُ الْمَرْأَةِ وَذَكَرُ الرِّجَالِ، وَضَرْبٌ لَيْسَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا.
وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (خُنْثَى).
أَحْكَامُ الْأُنُوثَةِ
أُنْثَى الْآدَمِيِّ:
أَوَّلًا: تَكْرِيمُ الْإِسْلَامِ لِلْأُنْثَى:
يَتَمَثَّلُ تَكْرِيمُ الْإِسْلَامِ لِلْأُنْثَى فِيمَا يَأْتِي:
حُسْنُ اسْتِقْبَالِهَا عِنْدَ وِلَادَتِهَا:
3- كَانَ اسْتِقْبَالُ الْأُنْثَى فِي الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ اسْتِقْبَالًا سَيِّئًا، يَتَبَرَّمُونَ بِهَا، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُهُمْ، وَيَتَوَارَوْنَ عَنِ الْأَعْيُنِ، إِذْ هِيَ فِي نَظَرِهِمْ مَجْلَبَةٌ لِلْفَقْرِ أَوْ لِلْعَارِ، فَكَانُوا يَئِدُونَهَا حَيَّةً، وَيَسْتَكْثِرُ الرَّجُلُ عَلَيْهَا النَّفَقَةَ الَّتِي لَا يَسْتَكْثِرُهَا عَلَى عَبْدِهِ أَوْ حَيَوَانِهِ فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ، وَذَمَّ هَذَا الْفِعْلَ الشَّنِيعَ، وَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ بَاءَ بِالْخُسْرَانِ الْمُبِينِ، {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}.
وَنَبَّهَ الْإِسْلَامُ إِلَى أَنَّ حَقَّ الْوُجُودِ وَحَقَّ الْحَيَاةِ هِبَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ}.
قَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ قَدَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا كَانَتْ تُؤَخِّرُهُ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ أَمْرِ الْبَنَاتِ حَتَّى كَانُوا يَئِدُونَهُنَّ، أَيْ هَذَا النَّوْعَ الْمُؤَخَّرَ الْحَقِيرَ عِنْدَكُمْ مُقَدَّمٌ عِنْدِي فِي الذِّكْرِ.وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّسَخُّطَ بِالْإِنَاثِ مِنْ أَخْلَاقِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ ذَمَّهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسَوَّدًا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}.
وَقَالَ قَتَادَةَ فِيمَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِخُبْثِ صَنِيعِهِمْ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَهُوَ حَقِيقٌ أَنْ يَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ، وَقَضَاءُ اللَّهِ لَهُ خَيْرٌ مِنْ قَضَاءِ الْمَرْءِ نَفْسِهِ، وَلَعَمْرِي مَا يَدْرِي أَنَّهُ خَيْرٌ؛ لَرُبَّ جَارِيَةٍ خَيْرٌ لِأَهْلِهَا مِنْ غُلَامٍ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَكُمُ اللَّهُ بِصَنِيعِهِمْ لِتَجْتَنِبُوهُ وَتَنْتَهُوا عَنْهُ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَغْذُو كَلْبَهُ وَيَئِدُ ابْنَتَهُ.
وَالْإِسْلَامُ لَا يَكْتَفِي مِنَ الْمُسْلِمِ بِأَنْ يَجْتَنِبَ وَأْدَ الْبَنَاتِ، بَلْ يَرْتَقِي بِالْمُسْلِمِ إِلَى دَرَجَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْمُثْلَى، فَيَأْبَى عَلَيْهِ أَنْ يَتَبَرَّمَ بِذُرِّيَّةِ الْبَنَاتِ، وَيَتَلَقَّى وِلَادَتَهُنَّ بِالْعَبُوسِ وَالِانْقِبَاضِ، بَلْ يَتَقَبَّلُهَا بِالرِّضَى وَالْحَمْدِ، قَالَ صَالِحُ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: كَانَ أَحْمَدُ إِذَا وُلِدَ لَهُ ابْنَةٌ يَقُولُ: الْأَنْبِيَاءُ كَانُوا آبَاءَ بَنَاتٍ، وَيَقُولُ: قَدْ جَاءَ فِي الْبَنَاتِ مَا عَلِمْتَ.
الْعَقُّ عَنْهَا:
4- الْعَقِيقَةُ عَنِ الْمَوْلُودِ سُنَّةٌ، وَيَسْتَوِي فِي السُّنَّةِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، فَكَمَا يَعُقُّ الْوَلِيُّ عَنِ الذَّكَرِ يَوْمَ السَّابِعِ يَعُقُّ عَنِ الْأُنْثَى أَيْضًا وَلَكِنْ يَعُقُّ عَنِ الْأُنْثَى شَاةٌ، وَعَنِ الذَّكَرِ شَاتَانِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلٌ ذُكِرَ فِي (عَقِيقَةٍ).
تَسْمِيَتُهَا بِاسْمٍ حَسَنٍ:
5- مِنَ السُّنَّةِ تَسْمِيَةُ الْمَوْلُودِ بِاسْمٍ حَسَنٍ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَكَمَا كَانَ النَّبِيُّ يُغَيِّرُ أَسْمَاءَ الذُّكُورِ مِنَ الْقَبِيحِ إِلَى الْحَسَنِ، فَإِنَّهُ كَذَلِكَ كَانَ يُغَيِّرُ أَسْمَاءَ الْإِنَاثِ مِنَ الْقَبِيحِ إِلَى الْحَسَنِ فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ «ابْنَةً لِعُمَرِ- رضي الله عنه- كَانَ يُقَالُ لَهَا عَاصِيَةٌ فَسَمَّاهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- جَمِيلَةٌ».
وَالْكُنْيَةُ مِنَ الْأُمُورِ الْمَحْمُودَةِ، يَقُولُ النَّوَوِيُّ: مِنَ الْأَدَبِ أَنْ يُخَاطَبَ أَهْلُ الْفَضْلِ وَمَنْ قَارَبَهُمْ بِالْكُنْيَةِ، وَقَدْ كُنِّيَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِأَبِي الْقَاسِمِ، بِابْنِهِ الْقَاسِمِ.وَالْكُنْيَةُ كَمَا تَكُونُ لِلذَّكَرِ تَكُونُ لِلْأُنْثَى.قَالَ النَّوَوِيُّ: رَوَيْنَا بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ عَنْ «عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّ صَوَاحِبِي لَهُنَّ كُنًى، قَالَ: فَاكْتَنِّي بِابْنِكِ عَبْدِ اللَّهِ» قَالَ الرَّاوِي.يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ تُكَنَّى أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ.
لَهَا نَصِيبٌ فِي الْمِيرَاثِ:
6- جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْأُنْثَى نَصِيبًا فِي الْمِيرَاثِ كَمَا لِلذَّكَرِ نَصِيبٌ، وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ الْإِنَاثَ.قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْعَلُونَ الْمَالَ لِلرِّجَالِ الْكِبَارِ وَلَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَلَا الْأَطْفَالَ شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} أَيِ الْجَمِيعُ فِيهِ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَوُونَ فِي أَصْلِ الْوِرَاثَةِ وَإِنْ تَفَاوَتُوا بِحَسَبِ مَا فَرَضَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُوَرِّثُونَ الذُّكُورَ دُونَ الْإِنَاثِ، فَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: «نَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ}.الْآيَةَ فِي أُمِّ كَجَّةَ وَبَنَاتِهَا وَثَعْلَبَةَ وَأَوْسِ بْنِ سُوَيْدٌ وَهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا زَوْجَهَا وَالْآخَرُ عَمَّ وَلَدِهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوُفِّيَ زَوْجِي وَتَرَكَنِي وَابْنَتَهُ وَلَمْ نُوَرَّثْ، فَقَالَ عَمُّ وَلَدِهَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَدُهَا لَا يَرْكَبُ فَرَسًا وَلَا يَحْمِلُ كَلًّا، وَلَا يَنْكَأُ عَدُوًّا يَكْسِبُ عَلَيْهَا وَلَا تَكْسِبُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ».
وَوَرَدَ كَذَلِكَ فِي سَبَبِ نُزُولِ قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ شَهِيدًا، وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا، وَلَا يُنْكَحَانِ إِلاَّ وَلَهُمَا مَالٌ فَقَالَ: يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى عَمِّهِمَا فَقَالَ: أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأُمَّهُمَا الثُّمُنَ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ».
رِعَايَةُ طُفُولَتِهَا، وَعَدَمُ تَفْضِيلِ الذَّكَرِ عَلَيْهَا:
7- يَعْتَنِي الْإِسْلَامُ بِالْأُنْثَى فِي كُلِّ أَطْوَارِ حَيَاتِهَا فَيَرْعَاهَا وَهِيَ طِفْلَةٌ، وَيَجْعَلُ رِعَايَتَهَا سِتْرًا مِنَ النَّارِ وَسَبِيلًا إِلَى الْجَنَّةِ.فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ عَالَ جَارَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ، وَضَمَّ أَصَابِعَهُ».
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَضِّلَ الذَّكَرَ عَلَيْهَا فِي التَّرْبِيَةِ وَالْعِنَايَةِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أُنْثَى فَلَمْ يَئِدْهَا وَلَمْ يُهِنْهَا وَلَمْ يُؤْثِرْ وَلَدَهُ (يَعْنِي الذُّكُورَ) عَلَيْهَا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ».وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَجُلًا كَانَ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَجَاءَ ابْنٌ لَهُ فَقَبَّلَهُ وَأَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ جَاءَتْ بِنْتُهُ فَأَخَذَهَا فَأَجْلَسَهَا إِلَى جَنْبِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: فَمَا عَدَلْتَ بَيْنَهُمَا».وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: لَا يَجُوزُ تَفْضِيلُ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْعَطِيَّةِ وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَبْطُلُ الْوَقْفُ إِذَا وَقَفَ عَلَى بَنِيهِ الذُّكُورِ دُونَ بَنَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَتَشْمَلُ الْعِنَايَةُ بِهَا فِي طُفُولَتِهَا تَأْهِيلَهَا لِحَيَاتِهَا الْمُسْتَقْبَلَةِ، فَيُسْتَثْنَى مِمَّا يَحْرُمُ مِنَ الصُّوَرِ صُوَرُ لَعِبِ الْبَنَاتِ فَإِنَّهَا لَا تَحْرُمُ، وَيَجُوزُ اسْتِصْنَاعُهَا وَصُنْعُهَا وَبَيْعُهَا وَشِرَاؤُهَا لَهُنَّ؛ لِأَنَّهُنَّ يَتَدَرَّبْنَ بِذَلِكَ عَلَى رِعَايَةِ الْأَطْفَالِ، وَقَدْ «كَانَ لِعَائِشَةَ- رضي الله عنها- جَوَارٍ يُلَاعِبْنَهَا بِصُوَرِ الْبَنَاتِ الْمَصْنُوعَةِ مِنْ نَحْوِ خَشَبٍ، فَإِذَا رَأَيْنَ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَحِينَ مِنْهُ وَيَتَقَمَّعْنَ، وَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَشْتَرِيهَا لَهَا». (ر: تَصْوِيرٌ).
إِكْرَامُ الْأُنْثَى حِينَ تَكُونُ زَوْجَةً:
8- أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِحْسَانِ مُعَاشَرَةِ الزَّوْجَةِ فَقَالَ: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَيْ طَيِّبُوا أَقْوَالَكُمْ لَهُنَّ، وَحَسِّنُوا أَفْعَالَكُمْ وَهَيْئَاتِكُمْ بِحَسَبِ قُدْرَتِكُمْ، كَمَا تُحِبُّ ذَلِكَ مِنْهَا فَافْعَلْ أَنْتَ بِهَا مِثْلَهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}.وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي»، وَكَانَ مِنْ أَخْلَاقِهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ جَمِيلُ الْعِشْرَةِ دَائِمُ الْبِشْرِ، يُدَاعِبُ أَهْلَهُ وَيَتَلَطَّفُ بِهِمْ وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِمْ فِي النَّفَقَةِ وَيُضَاحِكُ نِسَاءَهُ، حَتَّى أَنَّهُ كَانَ يُسَابِقُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ- رضي الله عنها- يَتَوَدَّدُ إِلَيْهَا بِذَلِكَ، قَالَتْ: سَابَقَنِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَسَبَقْتُهُ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ أَحْمِلَ اللَّحْمَ، ثُمَّ سَابَقْتُهُ بَعْدَمَا حَمَلْتُ اللَّحْمَ فَسَبَقَنِي فَقَالَ: «هَذِهِ بِتِلْكَ» وَ «كَانَ إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ يَدْخُلُ مَنْزِلَهُ يَسْمُرُ مَعَ أَهْلِهِ قَلِيلًا قَبْلَ أَنْ يَنَامَ».
وَيَنْبَغِي الصَّبْرُ عَلَى الزَّوْجَةِ حَتَّى لَوْ كَرِهَهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ، أَيْ فَعَسَى أَنْ يَكُونَ صَبْرُكُمْ فِي إِمْسَاكِهِنَّ مَعَ الْكَرَاهَةِ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهَا فَيُرْزَقَ مِنْهَا وَلَدًا وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْوَلَدِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ».
هَذَا، وَحُقُوقُ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا مَبْسُوطَةٌ فِي بَابِ النِّكَاحِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَنَذْكُرُ هُنَا مَثَلًا وَاحِدًا مِمَّا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ، يَتَّصِلُ بِإِكْرَامِ أُمُومَةِ الْأُنْثَى، فَقَدْ أَكْثَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْوِصَايَةِ بِالْأُمِّ وَقَدَّمَهَا فِي الرِّعَايَةِ عَلَى الْأَبِ، رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أَبُوكَ».وَجَعَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- رِضَاهَا طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، فَقَدْ «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْتُ الْغَزْوَ وَجِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ، فَقَالَ: فَهَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَالْزَمْهَا، فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلَيْهَا».
ثَانِيًا: الْحُقُوقُ الَّتِي تَتَسَاوَى فِيهَا مَعَ الرَّجُلِ:
تَتَسَاوَى الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ مَعَ التَّقْيِيدِ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ بِمَا يَتَلَاءَمُ مَعَ طَبِيعَتِهَا.
وَفِيمَا يَأْتِي بَعْضُ هَذِهِ الْحُقُوقِ:
أ- حَقُّ التَّعْلِيمِ:
9- لِلْمَرْأَةِ حَقُّ التَّعْلِيمِ مِثْلُ الرَّجُلِ: فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ».وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى الْمُسْلِمَةِ أَيْضًا، فَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ السَّخَاوِيُّ: قَدْ أَلْحَقَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ بِآخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ (وَمُسْلِمَةٍ) وَلَيْسَ لَهَا ذِكْرٌ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا صَحِيحًا.
وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَن أَدَبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَسْبَغَ عَلَيْهَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ الَّتِي أَسْبَغَ عَلَيْهِ كَانَتْ لَهُ سِتْرًا أَوْ حِجَابًا مِنَ النَّارِ».
وَقَدْ كَانَ النِّسَاءُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْعَيْنَ إِلَى الْعِلْمِ.رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «قَالَتِ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ، فَوَاعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ».وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُنَّ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ».
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْحَدِيثُ يَتَنَاوَلُ بِمَنْطُوقِهِ الصَّبِيَّ وَالصَّبِيَّةَ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا بِلَا خِلَافٍ، ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ تَعْلِيمُ أَوْلَادِهِمُ الصِّغَارِ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ وَنَحْوَهَا، وَتَعْلِيمُهُمْ تَحْرِيمَ الزِّنَى وَاللِّوَاطِ وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَشِبْهِهَا، وَأَنَّهُمْ بِالْبُلُوغِ يَدْخُلُونَ فِي التَّكْلِيفِ، وَهَذَا التَّعْلِيمُ وَاجِبٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَأُجْرَةُ التَّعْلِيمِ تَكُونُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَقَدْ جَعَلَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ لِلْأُمِّ مَدْخَلًا فِي وُجُوبِ التَّعْلِيمِ؛ لِكَوْنِهِ مِنَ التَّرْبِيَةِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهَا كَالنَّفَقَةِ.
وَمِنَ الْعُلُومِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُعْتَبَرُ ضَرُورَةً بِالنِّسْبَةِ لِلْأُنْثَى كَطِبِّ النِّسَاءِ حَتَّى لَا يَطَّلِعَ الرِّجَالُ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ.جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: امْرَأَةٌ أَصَابَتْهَا قُرْحَةٌ فِي مَوْضِعٍ لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، لَا يَحِلُّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا، لَكِنْ يُعَلِّمُ امْرَأَةً تُدَاوِيهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا امْرَأَةً تُدَاوِيهَا وَلَا امْرَأَةً تَتَعَلَّمُ ذَلِكَ إِذَا عُلِّمَتْ، وَخِيفَ عَلَيْهَا الْبَلَاءُ أَوِ الْوَجَعُ أَوِ الْهَلَاكُ فَإِنَّهُ يَسْتُرُ مِنْهَا كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ مَوْضِعَ تِلْكَ الْقُرْحَةِ، ثُمَّ يُدَاوِيهَا الرَّجُلُ، وَيَغُضُّ بَصَرَهُ مَا اسْتَطَاعَ إِلاَّ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ.
10- وَإِذَنْ، فَلَا خِلَافَ فِي مَشْرُوعِيَّةِ تَعْلِيمِ الْأُنْثَى.لَكِنْ فِي الْحُدُودِ الَّتِي لَا مُخَالَفَةَ فِيهَا لِلشَّرْعِ وَذَلِكَ مِنَ النَّوَاحِي الْآتِيَةِ:
أ- أَنْ تَحْذَرَ الِاخْتِلَاطَ بِالشَّبَابِ فِي قَاعَاتِ الدَّرْسِ، فَلَا تَجْلِسِ الْمَرْأَةُ بِجَانِبِ الرَّجُلِ، فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِلنِّسَاءِ يَوْمًا غَيْرَ يَوْمِ الرِّجَالِ يَعِظُهُنَّ فِيهِ.بَلْ حَتَّى فِي الْعِبَادَةِ لَا يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ، بَلْ يَكُنْ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهُمْ يَسْتَمِعْنَ إِلَى الْوَعْظِ وَيُؤَدِّينَ الصَّلَاةَ، وَلَا يَجِبُ اسْتِحْدَاثُ مَكَانٍ خَاصٍّ لِصَلَاتِهِنَّ، أَوْ إِقَامَةِ حَاجِزٍ بَيْنَ صُفُوفِهِنَّ وَصُفُوفِ الرِّجَالِ.
ب- أَنْ تَكُونَ مُحْتَشِمَةً غَيْرَ مُتَبَرِّجَةٍ بِزِينَتِهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} وَفِي اتِّبَاعِ ذَلِكَ مَا يَمْنَعُ مِنَ الْفِتْنَةِ وَمِنْ إِشَاعَةِ الْفَسَادِ.
ب- أَهْلِيَّتُهَا لِلتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ:
11- الْمَرْأَةُ أَهْلٌ لِلتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ مِثْلُ الرَّجُلِ، وَوَلِيُّ أَمْرِهَا مُطَالَبٌ بِأَمْرِهَا بِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ، وَتَعْلِيمِهَا لَهَا مُنْذُ الصِّغَرِ؛ لِمَا جَاءَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُنَّ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» وَالْحَدِيثُ يَتَنَاوَلُ الْأُنْثَى بِلَا خِلَافٍ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ.
وَهِيَ بَعْدَ الْبُلُوغِ مُكَلَّفَةٌ بِالْعِبَادَاتِ مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَزَكَاةٍ وَحَجٍّ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ- زَوْجٍ أَوْ غَيْرِهِ- مَنْعُهَا مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ.فَجُمْلَةُ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَحْكَامِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لِلْإِنْسَانِ يَسْتَوِي فِي التَّكْلِيفِ بِهَا وَالْجَزَاءِ عَلَيْهَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى.
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.وَيُؤَكِّدُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} وَيُرْوَى فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «قَالَ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مَا لَهُ يَذْكُرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَذْكُرُ الْمُؤْمِنَاتِ، فَنَزَلَتْ».وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُذْكَرُ الرِّجَالُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا نُذْكَرُ؟، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ».
وَفِي اسْتِجَابَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِسُؤَالِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}.
وَلَقَدْ رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَيَقُولُ ابْنُ كَثِيرٍ: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} أَيْ جَمِيعُكُمْ فِي ثَوَابِي سَوَاءٌ.وَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الَّذِي يُؤْذِي الْمُؤْمِنَاتِ هُوَ فِي الْإِثْمِ كَمَنْ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}.
وَهِيَ مُطَالَبَةٌ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ كَالرَّجُلِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتَوْنَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
وَالْجِهَادُ كَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا هَاجَمَ الْعَدُوُّ الْبِلَادَ.يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: إِذَا غَشِيَ الْعَدُوُّ مَحَلَّةَ قَوْمٍ كَانَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْجَمِيعِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا وَتَخْرُجُ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ فَرْضِ الْعَيْنِ.
وَقَدْ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الْعِبَادَاتِ فِي فَتَرَاتِ تَعَبِهَا مِنَ الْحَيْضِ وَالْحَمْلِ وَالنِّفَاسِ وَالرَّضَاعِ.وَتُنْظَرُ الْأَحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِذَلِكَ فِي (حَيْضٌ، حَمْلٌ، نِفَاسٌ، رَضَاعٌ).
ج- احْتِرَامُ إِرَادَتِهَا:
12- لِلْأُنْثَى حُرِّيَّةُ الْإِرَادَةِ وَالتَّعْبِيرُ عَمَّا فِي نَفْسِهَا، وَقَدْ مَنَحَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَا الْحَقَّ الَّذِي سَلَبَتْهُ مِنْهَا الْجَاهِلِيَّةُ وَحَرَمَتْهَا مِنْهُ، فَقَدْ كَانَتْ حِينَ يَمُوتُ زَوْجُهَا لَا تَمْلِكُ مِنْ أَمْرِ نَفْسِهَا شَيْئًا، وَكَانَ يَرِثُهَا مَنْ يَرِثُ مَالَ زَوْجِهَا.رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} قَالَ: كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ، إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجُوهَا، وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا.فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ كَانَ أَهْلُ يَثْرِب إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَرِثَ امْرَأَتَهُ مَنْ يَرِثُ مَالَهُ، وَكَانَ يَعْضُلُهَا حَتَّى يَرِثَهَا أَوْ يُزَوِّجَهَا مَنْ أَرَادَ، وَكَانَ أَهْلُ تِهَامَةَ يُسِيءُ الرَّجُلُ صُحْبَةَ الْمَرْأَةِ حَتَّى يُطَلِّقَهَا، وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهَا أَلاَّ تَنْكِحَ إِلاَّ مَنْ أَرَادَ حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ بِبَعْضِ مَا أَعْطَاهَا، فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَبِيشَةِ بِنْتِ مَعْنِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ الْأَوْسِ، تُوُفِّيَ عَنْهَا أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ، فَجَنَحَ عَلَيْهَا ابْنُهُ، فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أَنَا وَرِثْتُ زَوْجِي، وَلَا أَنَا تُرِكْتُ فَأُنْكَحَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فَالْآيَةُ تَعُمُّ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكُلُّ مَا كَانَ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَإِرَادَتُهَا كَذَلِكَ مُعْتَبَرَةٌ فِي نِكَاحِهَا، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا يَرْوِيهِ الْبُخَارِيُّ: «لَا تُنْكَحِ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحِ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ».
وَالِاسْتِئْمَارُ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ الْكَبِيرَةِ الْعَاقِلَةِ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَإِذَا زُوِّجَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهَا فَنِكَاحُهَا مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَتِهَا، عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي بَابِ النِّكَاحِ.وَهُوَ فِي حَقِّ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَأْمِرُ بَنَاتِهِ إِذَا أَنْكَحَهُنَّ».وَاسْتِئْذَانُهَا وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.بَلْ إِنَّهَا يَجُوزُ لَهَا تَزْوِيجُ نَفْسِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.جَاءَ فِي الِاخْتِيَارِ: عِبَارَةُ النِّسَاءِ مُعْتَبَرَةٌ فِي النِّكَاحِ، حَتَّى لَوْ زَوَّجَتِ الْحُرَّةُ الْعَاقِلَةُ الْبَالِغَةُ نَفْسَهَا جَازَ، وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّجَتْ غَيْرَهَا بِالْوِلَايَةِ أَوِ الْوَكَالَةِ، وَكَذَا إِذَا وَكَّلَتْ غَيْرَهَا فِي تَزْوِيجِهَا، أَوْ زَوَّجَهَا غَيْرُهَا فَأَجَازَتْ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَيَسْتَدِلُّونَ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ «أَنَّ خَنْسَاءَ بِنْتَ حِزَامٍ أَنْكَحَهَا أَبُوهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَرَدَّهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- » وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً زَوَّجَتْ بِنْتَهَا بِرِضَاهَا فَجَاءَ الْأَوْلِيَاءُ وَخَاصَمُوهَا إِلَى عَلِيٍّ- رضي الله عنه- فَأَجَازَ النِّكَاحَ.هَذَا دَلِيلُ الِانْعِقَادِ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ، وَأَنَّهُ أَجَازَ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا غَائِبِينَ؛ لِأَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ لِغَيْرِهَا فَيَنْفُذُ، كَتَصَرُّفِهَا فِي مَالِهَا.
هَذَا مَا انْفَرَدَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَتَفْصِيلُ الْخِلَافِ فِي هَذَا يَنْظُرُ فِي (نِكَاحٌ).
وَلِلْمَرْأَةِ أَيْضًا مُشَارَكَةُ زَوْجِهَا الرَّأْيَ بَلْ وَمُعَارَضَتُهُ، «قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَاللَّهِ إِنْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ، وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ، قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا فِي أَمْرٍ أَتَأَمَّرُهُ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتِي: لَوْ صَنَعْتُ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَقُلْتُ لَهَا: مَا لَكِ وَلِمَا هَا هُنَا، فِيمَا تَكَلُّفُكِ فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ؟ فَقَالَتْ لِي: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ أَنْتَ، وَإِنَّ ابْنَتَك لَتُرَاجِعَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ.فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ مَكَانَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، فَقَالَ لَهَا: يَا بُنَيَّةُ إِنَّكِ لَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ؟ فَقَالَتْ حَفْصَةُ: وَاللَّهِ إِنَّا لَنُرَاجِعُهُ.
فَقُلْتُ: تَعْلَمِينَ أَنِّي أُحَذِّرُكِ عُقُوبَةَ اللَّهِ، وَغَضَبَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.يَا بُنَيَّةُ لَا يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا حُبُّ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِيَّاهَا- يُرِيدُ عَائِشَةَ- قَالَ: خَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا فَكَلَّمْتُهَا، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: عَجَبًا لَك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، دَخَلْتَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى تَبْتَغِيَ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَزْوَاجِهِ.فَأَخَذَتْنِي وَاللَّهِ أَخْذًا كَسَرَتْنِي عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُ أَجِدُ، فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدَهَا، وَكَانَ لِي صَاحِبٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِذَا غِبْتُ أَتَانِي بِالْخَبَرِ، وَإِذَا غَابَ كُنْتُ أَنَا آتِيهِ بِالْخَبَرِ، وَنَحْنُ نَتَخَوَّفُ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْنَا، فَقَدِ امْتَلأَتْ صُدُورُنَا مِنْهُ، فَإِذَا صَاحِبِي الْأَنْصَارِيُّ يَدُقُّ الْبَابَ، فَقَالَ: افْتَحِ افْتَحْ، فَقُلْتُ: جَاءَ الْغَسَّانِيُّ؟ فَقَالَ: بَلْ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، اعْتَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَزْوَاجَهُ، فَقُلْتُ رَغِمَ أَنْفُ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ.فَأَخَذْتُ ثَوْبِي، فَأَخْرُجُ حَتَّى جِئْتُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ يَرْقَى عَلَيْهَا بِعَجَلَةٍ، وَغُلَامٌ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَسْوَدُ عَلَى رَأْسِ الدَّرَجَةِ، فَقُلْتُ لَهُ: قُلْ هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.
فَأَذِنَ لِي.قَالَ عُمَرُ: فَقَصَصْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- هَذَا الْحَدِيثَ، فَلَمَّا بَلَغْتُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا، وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ، فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: أَمَّا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ»؟
وَاسْتِشَارَةُ الْمَرْأَةِ فِيمَا يَتَّصِلُ بِشُئُونِ النِّسَاءِ أَوْ فِيمَا لَدَيْهَا خِبْرَةٌ بِهِ مَطْلُوبَةٌ، بِأَصْلِ نَدْبِ الْمَشُورَةِ فِي قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} وَلِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُ: «لَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ كِتَابِ الصُّلْحِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا، فَمَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، قَالَتْ لَهُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً، حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا».
وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْقِدَ الْأَمَانَ مَعَ الْكُفَّارِ، وَيَسْرِي ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَفِي الْمُغْنِي: إِذَا أَعْطَتِ الْمَرْأَةُ الْأَمَانَ لِلْكُفَّارِ جَازَ عَقْدُهَا، وَقَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ لَتُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَجُوزُ، وَعَنْ «أُمِّ هَانِئٍ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَجَرْتُ أَحْمَائِي وَأَغْلَقْتُ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّ ابْنَ أُمِّي أَرَادَ قَتْلَهُمْ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ» وَأَجَارَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ فَأَمْضَاهُ رَسُولُ اللَّهِ.
د- ذِمَّتُهَا الْمَالِيَّةُ:
13- لِلْأُنْثَى ذِمَّةٌ مَالِيَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ كَالرَّجُلِ، وَحَقُّهَا فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِهَا أَمْرٌ مُقَرَّرٌ فِي الشَّرِيعَةِ مَا دَامَتْ رَشِيدَةً؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}.وَلَهَا أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي مَالِهَا كُلِّهِ عَنْ طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ بِدُونِ إِذْنٍ مِنْ أَحَدٍ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.أَمَّا تَصَرُّفُهَا فِي مَالِهَا عَنْ طَرِيقِ التَّبَرُّعِ بِهِ، فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: يَجُوزُ لَهَا التَّصَرُّفُ فِي كُلِّ مَالِهَا بِالتَّبَرُّعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَرِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ» وَأَنَّهُنَّ تَصَدَّقْنَ فَقَبِلَ صَدَقَتَهُنَّ، وَلَمْ يَسْأَلْ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ.وَلِهَذَا جَازَ لَهَا التَّصَرُّفُ بِدُونِ إِذْنٍ لِزَوْجِهَا فِي مَالِهَا، فَلَمْ يَمْلِكِ الْحَجْرَ عَلَيْهَا فِي التَّصَرُّفِ بِجَمِيعِهِ.
وَعِنْدَ الْإِمَامِ مَالِكٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا التَّبَرُّعُ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا التَّبَرُّعُ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا.
وَلِأَنَّ لِلْمَرْأَةِ ذِمَّةً مَالِيَّةً مُسْتَقِلَّةً فَقَدْ أَجَازَ الْفُقَهَاءُ لَهَا أَنْ تَضْمَنَ غَيْرَهَا، جَاءَ فِي الْمُغْنِي: يَصِحُّ ضَمَانُ كُلِّ جَائِزِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً؛ لِأَنَّهُ عَمْدٌ يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ، فَصَحَّ مِنَ الْمَرْأَةِ كَالْبَيْعِ.
وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ لَهَا التَّبَرُّعَ بِكُلِّ مَالِهَا، أَمَّا مَنْ لَا يُجِيزُ لَهَا التَّبَرُّعَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا، فَإِنَّهُمْ يُجِيزُونَ لَهَا الضَّمَانَ فِي حُدُودِ ثُلُثِ مَالِهَا أَوْ بِزَائِدٍ يَسِيرٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الضَّمَانَ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ، وَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الزَّوْجِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
35-موسوعة الفقه الكويتية (بيع منهي عنه 7)
بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ -7113- فَمِنْ أَمْثِلَتِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: بَيْعُ الْأَمَةِ لِأَهْلِ الْفَسَادِ، وَالْأَرْضِ لِتُتَّخَذَ كَنِيسَةً أَوْ خَمَّارَةً، وَبَيْعُ الْخَشَبِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ صَلِيبًا، وَالنُّحَاسُ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ نَاقُوسًا.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَكَذَا يُمْنَعُ أَنْ يُبَاعَ لِلْحَرْبِيَّيْنِ آلَةُ الْحَرْبِ، مِنْ سِلَاحٍ أَوْ كُرَاعٍ أَوْ سَرْجٍ، وَكُلُّ مَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ فِي الْحَرْبِ، مِنْ نُحَاسٍ أَوْ خِبَاءٍ أَوْ مَاعُونٍ.
وَأَمَّا بَيْعُ الطَّعَامِ لَهُمْ، فَقَالَ ابْنُ يُونُسَ عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ: يَجُوزُ فِي الْهُدْنَةِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْهُدْنَةِ فَلَا يَجُوزُ.وَالَّذِي فِي الْمِعْيَارِ عَنِ الشَّاطِبِيِّ: أَنَّ الْمَذْهَبَ الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَهُوَ الَّذِي عَزَاهُ ابْنُ فَرْحُونَ فِي التَّبْصِرَةِ، وَابْنُ جُزَيٍّ فِي الْقَوَانِينِ لِابْنِ الْقَاسِمِ.
وَذَكَرَ فِي الْمِعْيَارِ أَيْضًا عَنِ الشَّاطِبِيِّ: أَنَّ بَيْعَ الشَّمْعِ لَهُمْ مَمْنُوعٌ، إِذَا كَانُوا يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى إِضْرَارِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ لِأَعْيَادِهِمْ فَمَكْرُوهٌ.
114- وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: بَيْعُ مُخَدِّرٍ لِمَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَتَعَاطَاهُ عَلَى وَجْهٍ مُحَرَّمٍ، وَخَشَبٍ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ آلَةَ لَهْوٍ، وَثَوْبِ حَرِيرٍ لِرَجُلٍ يَلْبَسُهُ بِلَا نَحْوِ ضَرُورَةٍ.وَكَذَا بَيْعُ سِلَاحٍ لِنَحْوِ بَاغٍ وَقَاطِعِ طَرِيقٍ، وَدِيكٍ لِمَنْ يُهَارِشُ بِهِ، وَكَبْشٍ لِمَنْ يُنَاطِحُ بِهِ، وَدَابَّةٍ لِمَنْ يُحَمِّلُهَا فَوْقَ طَاقَتِهَا.
كَمَا نَصَّ الشِّرْوَانِيُّ وَابْنُ قَاسِمٍ الْعَبَّادِيُّ عَلَى مَنْعِ بَيْعِ مُسْلِمٍ كَافِرًا طَعَامًا، عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ يَأْكُلُهُ نَهَارًا فِي رَمَضَانَ، كَمَا أَفْتَى بِهِ الرَّمْلِيُّ، قَالَ: لِأَنَّ ذَلِكَ إِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ
115- وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: بَيْعُ السِّلَاحِ لِأَهْلِ الْحَرْبِ، أَوْ لِقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، أَوْ فِي الْفِتْنَةِ، أَوْ إِجَارَةُ دَارِهِ لِبَيْعِ الْخَمْرِ فِيهَا، أَوْ لِتُتَّخَذَ كَنِيسَةً، أَوْ بَيْتَ نَارٍ وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، فَهَذَا حَرَامٌ.
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ- رحمه الله- (- عَلَى مَسَائِلَ نَبَّهَ بِهَا عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ فِي الْقَصَّابِ وَالْخَبَّازِ: إِذَا عَلِمَ أَنَّ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ، يَدْعُو عَلَيْهِ مَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ، لَا يَبِيعُهُ، وَمِنْ يَخْتَرِطُ (يَصْنَعُ) الْأَقْدَاحَ لَا يَبِيعُهَا مِمَّنْ يَشْرَبُ فِيهَا (أَيِ الْخَمْرَ) وَنَهَى عَنْ بَيْعِ الدِّيبَاجِ (أَيِ الْحَرِيرِ) لِلرِّجَالِ.
116- ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ: لَا يُكْرَهُ بَيْعُ مَا لَمْ تَقُمِ الْمَعْصِيَةُ بِهِ، كَبَيْعِ الْكَبْشِ النَّطُوحِ، وَالْحَمَامَةِ الطَّيَّارَةِ، وَالْخَشَبِ مِمَّنْ يَتَّخِذُ مِنْهُ الْمَعَازِفَ.بِخِلَافِ بَيْعِ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَقُومُ بِعَيْنِهِ، وَهِيَ الْإِعَانَةُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.بِخِلَافِ بَيْعِ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ السِّلَاحُ كَالْحَدِيدِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مُعَدًّا لِلْقِتَالِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْإِعَانَةِ.
وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَهُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُمَا، خِلَافًا لِلْإِمَامِ، وَلَيْسَ بِحَرَامٍ، خِلَافًا لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ.
وَبَحَثَ الْحَنَفِيَّةُ نَظِيرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْإِجَارَةِ، كَمَا سَبَقَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، كَمَا لَوْ آجَرَ شَخْصٌ نَفْسَهُ لِيَعْمَلَ فِي بِنَاءِ كَنِيسَةٍ، أَوْ لِيَحْمِلَ خَمْرَ الذِّمِّيِّ بِنَفْسِهِ أَوْ عَلَى دَابَّتِهِ، أَوْ لِيَرْعَى لَهُ الْخَنَازِيرَ، أَوْ آجَرَ بَيْتًا لِيُتَّخَذَ بَيْتَ نَارٍ، أَوْ كَنِيسَةً أَوْ بِيعَةً، أَوْ يُبَاعَ فِيهِ الْخَمْرُ، جَازَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ لَا مَعْصِيَةَ فِي عَيْنِ الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَهُوَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ كَشُرْبِهِ الْخَمْرَ وَبَيْعِهَا، فَفِي هَذَا يَقُولُ الْمَرْغِينَانِيُّ: إِنَّ الْإِجَارَةَ تَرِدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ (وَنَحْوِهِ) وَلِهَذَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ، وَلَا مَعْصِيَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَهُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ، فَقَطَعَ نِسْبَتَهُ عَنْهُ.
وَيَرَى الصَّاحِبَانِ كَرَاهَةَ ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِعَانَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ.
وَطَرَحَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ هَذَا الضَّابِطَ: وَهُوَ أَنَّ مَا قَامَتِ الْمَعْصِيَةُ بِعَيْنِهِ، يُكْرَهُ بَيْعُهُ تَحْرِيمًا (كَبَيْعِ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ) وَمَا لَمْ تَقُمْ بِعَيْنِهِ يُكْرَهُ تَنْزِيهًا.
حُكْمُ بَيْعِ مَا يُقْصَدُ بِهِ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ، مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةُ وَالْبُطْلَانُ:
117- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) وَهُوَ أَيْضًا احْتِمَالٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَفْقِدْ رُكْنًا وَلَا شَرْطًا.
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا مَعَ ذَلِكَ، فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ السِّلَاحِ، عَلَى إِجْبَارِ الْمُشْتَرِي عَلَى إِخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ، بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ لِلْبَيْعِ.
يَقُولُ الدُّسُوقِيُّ: يُمْنَعُ أَنْ يُبَاعَ لِلْحَرْبِيَّيْنِ آلَةُ الْحَرْبِ، مِنْ سِلَاحٍ أَوْ كُرَاعٍ أَوْ سَرْجٍ، وَكُلِّ مَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ فِي الْحَرْبِ، مِنْ نُحَاسٍ أَوْ خِبَاءٍ أَوْ مَاعُونٍ، وَيُجْبَرُونَ عَلَى إِخْرَاجِ ذَلِكَ.
كَمَا نَصَّ الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، عَلَى أَنَّ مَنْ بَاعَ أَمَةً لِمَنْ يُكْرِهُهَا عَلَى الزِّنَى، وَدَابَّةً لِمَنْ يُحَمِّلُهَا فَوْقَ طَاقَتِهَا، فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَبِيعَ هَذَيْنِ عَلَى مَالِكِهِمَا قَهْرًا عَلَيْهِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَيْنٍ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا، فَلَمْ يَصِحَّ.
ج- بَيْعُ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ:
118- مِنْ صُوَرِهِ أَنْ يَتَرَاضَى الْمُتَبَايِعَانِ عَلَى ثَمَنِ سِلْعَةٍ، فَيَجِيءَ آخَرُ، فَيَقُولَ: أَنَا أَبِيعُكَ مِثْلَ هَذِهِ السِّلْعَةِ بِأَنْقَصَ مِنْ هَذَا الثَّمَنِ، أَوْ يَقُولَ: أَبِيعُكَ خَيْرًا مِنْهَا بِثَمَنِهَا أَوْ بِدُونِهِ- أَيْ بِأَقَلَّ مِنْهُ- أَوْ يَعْرِضَ عَلَى الْمُشْتَرِي سِلْعَةً رَغِبَ فِيهَا الْمُشْتَرِي، فَفَسَخَ الْبَيْعَ وَاشْتَرَى هَذِهِ.
وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ».
وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: «لَا يَبِعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ».
وَفِي لَفْظٍ: «لَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، حَتَّى يَبْتَاعَ أَوْ يَذَرَ».
وَفِي لَفْظٍ: «لَا يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ».
وَفِي لَفْظٍ: «لَا يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ».
حُكْمُهُ:
119- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ وَجْهٌ مُحْتَمَلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ مُحَرَّمٌ، لَكِنَّهُ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ، بَلْ هُوَ صَحِيحٌ لِرُجُوعِ النَّهْيِ إِلَى مَعْنًى خَارِجٍ عَنِ الذَّاتِ وَعَنْ لَازِمِهَا، إِذْ لَمْ يَفْقِدْ رُكْنًا وَلَا شَرْطًا، لَكِنَّ النَّهْيَ لِمَعْنًى مُقْتَرِنٍ بِهِ، وَهُوَ خَارِجٌ غَيْرُ لَازِمٍ، وَهُوَ الْإِيذَاءُ هُنَا.هَذَا تَعْلِيلُ الشَّافِعِيَّةِ.
وَتَعْلِيلُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ عَرْضُ سِلْعَتِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي، أَوْ قَوْلُهُ الَّذِي فَسَخَ الْبَيْعَ مِنْ أَجْلِهِ، وَذَلِكَ سَابِقٌ عَلَى الْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا صَحَّ الْفَسْخُ الَّذِي حَصَلَ بِهِ الضَّرَرُ، فَالْبَيْعُ الْمُحَصَّلُ لِلْمَصْلَحَةِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ النَّهْيَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ النَّجْشِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ وَنَحْوَهُ مِنَ الْبِيَاعَاتِ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هَذِهِ الْكَرَاهَاتُ كُلُّهَا تَحْرِيمِيَّةٌ، لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي الْإِثْمِ، وَذَلِكَ لِلْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيحَاشِ وَالْإِضْرَارِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَهُوَ حَرَامٌ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْبَيْعُ، بَلْ هُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِ وَالْإِفْسَادِ عَلَيْهِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ.
120- وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْبَيْعَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بِمَا يَلِي:
(1) أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ عَلَى الْبَيْعِ قَبْلَ لُزُومِ الْبَيْعِ، وَذَلِكَ لِبَقَاءِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ أَوِ الشَّرْطِ، وَكَذَا بَعْدَ اللُّزُومِ فِي زَمَنِ خِيَارِ الْعَيْبِ، إِذَا اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ، عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ.
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْحَنَابِلَةِ: أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ زَمَنَ الْخِيَارَيْنِ، فَلَوْ حَدَثَ بَعْدَ مُضِيِّ الْخِيَارِ وَلُزُومِ الْبَيْعِ لَا يَحْرُمُ، لِعَدَمِ تَمَكُّنِ الْمُشْتَرِي مِنَ الْفَسْخِ إِذًا، وَلَا مَعْنًى لَهُ.
(2) أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ عَلَى الْبَيْعِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَهُ C- كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي زَكَرِيَّا- (أَيْ بِغَيْرِ إِذْنِ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ، لِلَّذِي بَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ).
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ مَنْعَ الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ غَيْرِهِ بِمَا إِذَا تَرَاضَى الْمُتَبَايِعَانِ عَلَى الْبَيْعِ.
121- وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ بَعْضَ الْفُرُوعِ وَالْأَحْكَامِ، فِي هَذِهِ الْجُزْئِيَّةِ، فَقَرَّرُوا:
- أَنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي مَغْبُونًا فِي صَفْقَتِهِ، إِذِ النَّصِيحَةُ الْوَاجِبَةُ تَحْصُلُ بِالتَّعْرِيفِ مِنْ غَيْرِ بَيْعٍ.وَقَيَّدَ الْقَلْيُوبِيُّ الْحُرْمَةَ بِمَا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الرِّضَا بَاطِنًا.
- مِثْلُ الْبَيْعِ عَلَى الْبَيْعِ، أَنْ يَبِيعَ بَائِعٌ الْمُشْتَرِيَ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ سِلْعَةً مِثْلَ الَّتِي اشْتَرَاهَا.
وَسَبَبُ الْمَنْعِ الْخَشْيَةَ مِنْ أَنْ يَرُدَّ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ السِّلْعَةَ الْأُولَى، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ- رضي الله عنه-.
- يُمْنَعُ الْبَيْعُ عَلَى بَيْعِ غَيْرِهِ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ، بِأَنْ يَلْزَمَ الْبَيْعُ أَوْ يُعْرِضَ الْمُشْتَرِي عَنِ الشِّرَاءِ، فَإِنْ أَعْرَضَ انْتَهَتْ مُدَّةُ الْمَنْعِ، وَجَازَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَبِيعَهُ.
- مِثْلُ الْبَيْعِ فِي التَّحْرِيمِ عَلَى الْبَيْعِ غَيْرِهِ مِنْ بَقِيَّةِ الْعُقُودِ، كَالْإِجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ (أَيِ الِاسْتِعَارَةِ) وَالِاقْتِرَاضِ وَالِاتِّهَابِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَالْمُزَارَعَةِ، وَالْجَعَالَةِ.قَالَ الْحَنَابِلَةُ: فَتَحْرُمُ وَلَا تَصِحُّ إِذَا سَبَقَتْ لِلْغَيْرِ، قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِيذَاءِ.
بَلْ نَصَّ الْبِرْمَاوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ أُنْعِمَ عَلَيْهِ بِكِتَابٍ (عَارِيَّةً) لِيُطَالِعَ فِيهِ، حَرُمَ عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَسْأَلَ صَاحِبَهُ فِيهِ، أَيْ يَطْلُبَهُ مِنْ صَاحِبِهِ لِيُطَالِعَ فِيهِ هُوَ أَيْضًا، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيذَاءِ، وَبَنَوْا عَلَى هَذَا حُرْمَةَ طَلَبِ الْعَارِيَّةِ بَعْدَ عَقْدِهَا مُطْلَقًا.
د- السَّوْمُ، وَالشِّرَاءُ عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ.
122- أَمَّا السَّوْمُ عَلَى السَّوْمِ فَمِنْ صُوَرِهِ:
مَا إِذَا تَسَاوَمَ رَجُلَانِ، فَطَلَبَ الْبَائِعُ بِسِلْعَتِهِ ثَمَنًا، وَرَضِيَ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ الثَّمَنِ، فَجَاءَ مُشْتَرٍ آخَرَ، وَدَخَلَ عَلَى سَوْمِ الْأَوَّلِ، فَاشْتَرَاهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ بِذَلِكَ الثَّمَنِ نَفْسِهِ.لَكِنَّهُ رَجُلٌ وَجِيهٌ، فَبَاعَهُ مِنْهُ الْبَائِعُ لِوَجَاهَتِهِ.
123- وَأَمَّا الشِّرَاءُ عَلَى الشِّرَاءِ فَمِنْ صُوَرِهِ: أَنْ يَأْمُرَ شَخْصٌ الْبَائِعَ بِفَسْخِ الْعَقْدِ لِيَشْتَرِيَهُ هُوَ بِأَكْثَرَ، أَوْ يَجِيءَ شَخْصٌ إِلَى الْبَائِعِ قَبْلَ لُزُومِ Cالْعَقْدِ، لِيَدْفَعَ فِي الْمَبِيعِ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتُرِيَ بِهِ، لِيَفْسَخَ الْبَيْعَ وَيَعْقِدَ مَعَهُ.
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ مَنْعَ هَذَا الشِّرَاءِ أَوِ السَّوْمِ بِمَا إِذَا اتَّفَقَ الْمُتَبَايِعَانِ عَلَى الثَّمَنِ أَوْ تَرَاضَيَا، أَوْ جَنَحَ الْبَائِعُ إِلَى الْبَيْعِ بِالثَّمَنِ الَّذِي سَمَّاهُ الْمُشْتَرِي، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَجْنَحْ وَلَمْ يَرْضَهُ، فَلَا بَأْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِأَزْيَدَ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعُ مَنْ يَزِيدُ، وَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الْمَنْعَ بِأَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ قَبْلَ اللُّزُومِ، أَيْ زَمَنَ الْخِيَارِ- كَمَا عَبَّرَ الْقَاضِي- أَوْ يَكُونَ بَعْدَ اللُّزُومِ، وَقَدِ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ- كَمَا مَرَّ فِي الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ غَيْرِهِ-
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلِلسَّوْمِ عَلَى السَّوْمِ عِنْدَهُمْ صُوَرٌ:
الْأُولَى: أَنْ يُوجَدَ مِنَ الْبَائِعِ تَصْرِيحٌ بِالرِّضَا بِالْبَيْعِ، فَهَذَا يَحْرُمُ السَّوْمُ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرِّضَا فَلَا يَحْرُمُ السَّوْمُ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يُوجَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا أَوْ عَدَمِهِ، فَلَا يَجُوزُ السَّوْمُ لِغَيْرِهِ أَيْضًا.
الرَّابِعَةُ: أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ.فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَحْرُمُ السَّوْمُ.وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يَحْرُمُ.
كَمَا قَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا بِأَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ إِذْنٍ لَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي، فَلَوْ وَقَعَ الْإِذْنُ مِنْ أَحَدِهِمَا لَمْ يَحْرُمْ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا وَقَدْ أَسْقَطَاهُ، وَلِمَفْهُومِ الْخَبَرِ السَّابِقِ: «حَتَّى يَبْتَاعَ أَوْ يَذَرَ».
وَقَرَّرُوا: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ إِذْنُ الْمَالِكِ، لَا الْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ، إِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمَالِكِ، وَأَنَّ مَوْضِعَ الْجَوَازِ مَعَ الْإِذْنِ إِذَا دَلَّتِ الْحَالُ عَلَى الرِّضَا بَاطِنًا، فَإِنْ دَلَّتْ عَلَى عَدَمِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا أَذِنَ ضَجَرًا وَحَنَقًا فَلَا، كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ مِنْهُمْ.
حُكْمُهُ:
124- هَذَا الشِّرَاءُ أَوِ السَّوْمُ بِهَذِهِ الصُّوَرِ وَالْقُيُودِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ، لَكِنَّهُ صَحِيحٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، بَاطِلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلاَّ فِي وَجْهٍ مُحْتَمِلٍ لِلصِّحَّةِ عِنْدَهُمْ كَالْجُمْهُورِ.وَالْحَنَفِيَّةُ يَعْنُونَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ، لَا الْحُرْمَةَ.
أ- فَدَلِيلُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْوَجْهُ الْمُحْتَمَلُ عِنْدَ Cالْحَنَابِلَةِ عَلَى الْحُرْمَةِ مَعَ صِحَّةِ الشِّرَاءِ.حَدِيثُ «لَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ» الْمُتَقَدِّمُ.
فَقَالَ الْمَحَلِّيُّ: وَفِي مَعْنَاهُ الشِّرَاءُ عَلَى الشِّرَاءِ.
وَأَشَارَ الْبُهُوتِيُّ إِلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْبَيْعِ، وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ يُسَمَّى بَيْعًا.
وَلِأَنَّ فِيهِ إِيذَاءً، قَالَ الْمَحَلِّيُّ: الْمَعْنَى فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ: الْإِيذَاءُ لِلْعَالِمِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ.
وَلِأَنَّهُ إِذَا صَحَّ الْفَسْخُ الَّذِي حَصَلَ بِهِ الضَّرَرُ، فَالْبَيْعُ الْمُحَصِّلُ لِلْمَصْلَحَةِ أَوْلَى.وَلِأَنَّ النَّهْيَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ النَّجْشِ.
ب- وَدَلِيلُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى الْكَرَاهَةِ مَعَ صِحَّةِ الشِّرَاءِ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى أَنْ يُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ، وَلَا يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَأَنْ تَسْأَلَ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا، وَعَنِ النَّجْشِ وَالتَّصْرِيَةِ، وَأَنْ يَسْتَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ».
وَقَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ نَصٌّ فِي النَّهْيِ عَنِ الِاسْتِيَامِ، فَلَا حَاجَةَ- كَمَا أَوْضَحَ ابْنُ الْهُمَامِ- إِلَى جَعْلِ لَفْظِ الْبَيْعِ فِي حَدِيثِ: «لَا يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ» جَامِعًا لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَجَازًا، إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَرِدْ حَدِيثُ الِاسْتِيَامِ، وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِيحَاشًا وَإِضْرَارًا بِهِ فَيُكْرَهُ.
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَالنَّهْيُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْبَيْعِ، وَهُوَ الْإِيذَاءُ، فَكَانَ نَفْسُ الْبَيْعِ مَشْرُوعًا، فَيَجُوزُ شِرَاؤُهُ، وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ.
ج- وَدَلِيلُ الْحَنَابِلَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالْبُطْلَانِ، أَنَّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ.
125- وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ الْفُرُوعِ وَالتَّفْصِيلَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالسَّوْمِ، وَالشِّرَاءِ عَلَى شِرَاءِ الْآخَرِينَ:
أ- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ السَّوْمَ عَلَى سَوْمِ الْآخَرِينَ مَكْرُوهٌ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَامُ عَلَيْهِ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا.وَقَالُوا: ذِكْرُ الْأَخِ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ قَيْدًا، بَلْ لِزِيَادَةِ التَّنْفِيرِ؛ لِأَنَّ السَّوْمَ عَلَى السَّوْمِ يُوجِبُ إِيحَاشًا وَإِضْرَارًا، وَهُوَ فِي حَقِّ الْأَخِ أَشَدُّ مَنْعًا، فَهُوَ كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي الْغِيبَةِ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ» إِذْ لَا خَفَاءَ فِي مَنْعِ غِيبَةِ الذِّمِّيِّ.
وَقَرَّرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ ذِكْرَ الرَّجُلِ خَرَجَ مَخْرَجَ Cالْغَالِبِ، كَمَا أَنَّ تَخْصِيصَ الْأَخِ لِإِثَارَةِ الرِّقَّةِ وَالْعَطْفِ عَلَيْهِ، وَسُرْعَةِ امْتِثَالِهِ، فَغَيْرُهُمَا مِثْلُهُمَا.
فَالذِّمِّيُّ وَالْمُعَاهَدُ وَالْمُسْتَأْمَنُ مِثْلُ الْمُسْلِمِ.وَخَرَجَ الْحَرْبِيُّ وَالْمُرْتَدُّ فَلَا يَحْرُمُ.
ب- أَلْحَقَ الْحَنَفِيَّةُ الْإِجَارَةَ بِالْبَيْعِ فِي مَنْعِ السَّوْمِ عَلَى السَّوْمِ، إِذْ هِيَ بَيْعُ الْمَنَافِعِ.
كَمَا أَلْحَقَ الْحَنَابِلَةُ جُمْلَةً مِنَ الْعُقُودِ، كَالْقَرْضِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا، قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ، وَكُلُّهَا تَحْرُمُ وَلَا تَصِحُّ لِلْإِيذَاءِ.
ج- أَلْحَقَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِالشِّرَاءِ عَلَى الشِّرَاءِ، تَحْرِيمَ طَلَبِ السِّلْعَةِ مِنَ الْمُشْتَرِي بِأَكْثَرَ- وَالْبَائِعُ حَاضِرٌ- قَبْلَ اللُّزُومِ، لِأَدَائِهِ إِلَى الْفَسْخِ أَوِ النَّدَمِ.
د- وَكَذَلِكَ قَاسَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى كَلَامِ الْمَاوَرْدِيُّ فِي التَّحْرِيمِ، مَا لَوْ طَلَبَ شَخْصٌ مِنَ الْبَائِعِ، فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، شَيْئًا مِنْ جِنْسِ السِّلْعَةِ الْمَبِيعَةِ، بِأَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي بَاعَ بِهِ، لَا سِيَّمَا إِنْ طَلَبَ مِنْهُ مِقْدَارًا لَا يَكْمُلُ إِلاَّ بِانْضِمَامِ مَا بِيعَ مِنْهَا.
هـ- وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِحُرْمَةِ مَا ذُكِرَ، سَوَاءٌ أَبَلَغَ الْمَبِيعُ قِيمَتَهُ أَمْ نَقَصَ عَنْهَا- عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ و- وَتَكَلَّمُوا أَيْضًا فِي مَسْأَلَةِ تَعْرِيفِ الْمَغْبُونِ فِي الشِّرَاءِ بِغَبْنِهِ، فَصَرَّحَ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّهُ لَا مَحْذُورَ فِيهِ، لِأَنَّهُ مِنَ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ، لَكِنَّهُ اسْتَظْهَرَ أَنَّ مَحَلَّهُ فِي غَبْنٍ نَشَأَ عَنْ نَحْوِ غِشِّ الْبَائِعِ، فَلَمْ يُبَالَ بِإِضْرَارِهِ، لِأَنَّهُ آثِمٌ.بِخِلَافِ مَا إِذَا نَشَأَ لَا عَنْ نَحْوِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ ضَرَرٌ عَلَيْهِ، وَالضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِالضَّرَرِ.
وَصَرَّحَ الشِّرْوَانِيُّ بِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِالْمَبِيعِ عَيْبًا، وَجَبَ إِعْلَامُ الْمُشْتَرِي بِهِ، وَهَذَا صَادِقٌ بِمَا إِذَا كَانَ الْبَائِعُ جَاهِلًا بِالْعَيْبِ، مَعَ أَنَّهُ لَا تَقْصِيرَ مِنْهُ حِينَئِذٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْغَبْنِ؛ لِأَنَّ الْمَلْحَظَ حُصُولُ الضَّرَرِ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ هَذَا مَحَلُّ تَأَمُّلٍ، وَرَأَى أَنَّ وُجُوبَ النَّصِيحَةِ يَقْتَضِي وُجُوبَ تَعْرِيفِ الْمَغْبُونِ، وَإِنْ نَشَأَ الْغَبْنُ مِنْ تَقْصِيرِهِ، وَلَكِنَّهَا تَحْصُلُ بِالتَّعْرِيفِ مِنْ غَيْرِ بَيْعٍ.
126- وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ بَيْعَ الْمُزَايَدَةِ بِالْمُنَادَاةِ، وَيُسَمَّى بَيْعَ الدَّلَالَةِ.وَيُسَمَّى أَيْضًا: الْمُزَايَدَةَ.اسْتَثْنَوْهَا مِنَ الشِّرَاءِ عَلَى الشِّرَاءِ، وَمِنَ السَّوْمِ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ.وَهِيَ: أَنْ يُنَادَى عَلَى السِّلْعَةِ، وَيَزِيدَ النَّاسُ فِيهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، حَتَّى تَقِفَ عَلَى آخِرِ- زَائِدٍ فِيهَا فَيَأْخُذَهَا.
وَهَذَا بَيْعٌ جَائِزٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَابِلَةُ، فَصَحَّحُوهُ وَلَمْ يَكْرَهُوهُ.وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَمْرَيْنِ: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ قَصْدُ الْإِضْرَارِ بِأَحَدٍ، وَبِإِرَادَةِ الشِّرَاءِ، وَإِلاَّ حَرُمَتِ الزِّيَادَةُ، لِأَنَّهَا مِنَ النَّجْشِ.
127- وَدَلِيلُ جَوَازِ بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ:
- مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْأَلُهُ فَقَالَ لَهُ: مَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ؟ قَالَ: بَلَى، حِلْسٌ يُلْبَسُ بَعْضُهُ، وَيُبْسَطُ بَعْضُهُ، وَقَعْبٌ يُشْرَبُ فِيهِ الْمَاءُ.قَالَ: ائْتِنِي بِهِمَا.فَأَتَاهُ بِهِمَا، فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ، قَالَ: مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ؟ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ، فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ، وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ، فَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ، وَقَالَ: اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ، وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُومًا، فَائْتِنِي بِهِ.فَأَتَاهُ بِهِ، فَشَدَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عُودًا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ، وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا.فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ، فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا، وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلاَّ لِثَلَاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ».
قَالَ الْكَاسَانِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: وَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِيَبِيعَ بَيْعًا مَكْرُوهًا.
- وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَزَالُوا يَتَبَايَعُونَ فِي أَسْوَاقِهِمْ بِالْمُزَايَدَةِ.
- وَأَنَّهُ بَيْعُ الْفُقَرَاءِ، كَمَا قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ، وَالْحَاجَةُ مَاسَةٌ إِلَيْهِ.
- وَلِأَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا وَرَدَ عَنِ السَّوْمِ حَالَ الْبَيْعِ، وَحَالُ الْمُزَايَدَةِ خَارِجٌ عَنِ الْبَيْعِ.
وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِ (الْمُزَايَدَةِ) فِي مُصْطَلَحِهَا.
هـ- النَّجْشُ:
128- النَّجْشُ هُوَ بِسُكُونِ الْجِيمِ مَصْدَرٌ، Cوَبِالْفَتْحِ اسْمُ مَصْدَرٍ، وَمِنْ مَعَانِيهِ اللُّغَوِيَّةِ: الْإِثَارَةُ.يُقَالُ: نَجَشَ الطَّائِرَ: إِذَا أَثَارَهُ مِنْ مَكَانِهِ.قَالَ الْفَيُّومِيُّ: نَجَشَ الرَّجُلُ يَنْجُشُ نَجْشًا: إِذَا زَادَ فِي سِلْعَةٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا، وَلَيْسَ قَصْدُهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا، بَلْ لِيَغُرَّ غَيْرَهُ، فَيُوقِعَهُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ.
وَأَصْلُ النَّجْشِ: الِاسْتِتَارُ؛ لِأَنَّ النَّاجِشَ يَسْتُرُ قَصْدَهُ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلصَّائِدِ: نَاجِشٌ لِاسْتِتَارِهِ.
وَقَدْ عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِأَنْ يَزِيدَ الرَّجُلُ فِي الثَّمَنِ وَلَا يُرِيدُ الشِّرَاءَ، لِيُرَغِّبَ غَيْرَهُ.أَوْ أَنْ يَمْدَحَ الْمَبِيعَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ لِيُرَوِّجَهُ.
وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ، فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تَلَقُّوا الرُّكْبَانَ، وَلَا يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَا تَصُرُّوا الْغَنَمَ».
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ النَّجْشِ»
أ- فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ حَرَامٌ، وَذَلِكَ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْهُ، عَلَى مَا سَبَقَ.وَلِمَا فِيهِ مِنْ خَدِيعَةِ الْمُسْلِمِ، وَهِيَ حَرَامٌ.
ب- وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا إِذَا بَلَغَتِ السِّلْعَةُ قِيمَتَهَا، أَمَّا إِذَا لَمْ تَبْلُغْ فَلَا يُكْرَهُ، لِانْتِفَاءِ الْخِدَاعِ.
ذَلِكَ حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ.أَمَّا حُكْمُهُ الْوَضْعِيُّ:
أ- فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ النَّجْشَ فِعْلُ النَّاجِشِ لَا الْعَاقِدِ، فَلَمْ يُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ، وَالنَّهْيُ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ فَلَمْ يَفْسُدِ الْعَقْدُ، كَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ وَبَيْعِ الْمَعِيبِ وَالْمُدَلَّسِ، بِخِلَافِ مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ يَنْجَبِرُ بِالْخِيَارِ أَوْ زِيَادَةِ الثَّمَنِ.
ب- وَمَذْهَبُ مَالِكٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ Cلَا يَصِحُّ بَيْعُ النَّجْشِ، لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى خِيَارِ الْفَسْخِ فِي هَذَا الْبَيْعِ:
- فَالْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: إِنْ عَلِمَ الْبَائِعُ بِالنَّاجِشِ وَسَكَتَ، فَلِلْمُشْتَرِي رَدُّ الْمَبِيعِ إِنْ كَانَ قَائِمًا، وَلَهُ التَّمَسُّكُ بِهِ، فَإِنْ فَاتَ الْمَبِيعُ فَالْوَاجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْقَبْضِ إِنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ أَدَّى ثَمَنَ النَّجْشِ.
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْبَائِعُ بِالنَّاجِشِ، فَلَا كَلَامَ لِلْمُشْتَرِي، وَلَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ، وَالْإِثْمُ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ.وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، حَيْثُ جَعَلُوا لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارَ عِنْدَ التَّوَاطُؤِ.
- وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي لِتَفْرِيطِهِ.
- وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: الْبَيْعُ صَحِيحٌ سَوَاءٌ أَكَانَ النَّجْشُ بِمُوَاطَأَةٍ مِنَ الْبَائِعِ أَمْ لَمْ يَكُنْ، لَكِنْ إِنْ كَانَ فِي الْبَيْعِ غَبْنٌ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِمِثْلِهِ فَالْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِمْضَاءِ، كَمَا فِي تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، وَإِنْ كَانَ يُتَغَابَنُ بِمِثْلِهِ فَلَا خِيَارَ لَهُ.
وَفِيهِ أَحْكَامٌ تَفْصِيلِيَّةٌ تُرَاجَعُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَجْش).
و- تَلَقِّي الْجَلَبِ أَوِ الرُّكْبَانِ أَوِ السِّلَعِ:
129- عَبَّرَ الْحَنَفِيَّةُ بِتَلَقِّي الْجَلَبِ، وَعَبَّرَ الْمَالِكِيَّةُ بِتَلَقِّي السِّلَعِ.قَالَ خَلِيلٌ: كَتَلَقِّي السِّلَعِ أَوْ صَاحِبِهَا.وَعَبَّرَ ابْنُ جُزَيٍّ مِنْهُمْ بِتَلَقِّي السِّلْعَةِ.
وَعَبَّرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِتَلَقِّي الرُّكْبَانِ.
وَالتَّلَقِّي: هُوَ الْخُرُوجُ مِنَ الْبَلَدِ الَّتِي يُجْلَبُ إِلَيْهَا الْقُوتُ (وَنَحْوُهُ).
وَالْجَلَبُ- بِفَتْحَتَيْنِ- بِمَعْنَى الْجَالِبِ، أَوْ هُوَ بِمَعْنَى الْمَجْلُوبِ، فَهُوَ فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَهُوَ مَا تَجْلِبُهُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِتَلَقِّي السِّلَعِ فِي تَعْبِيرِ الْمَالِكِيَّةِ.
كَمَا أَنَّ الرُّكْبَانَ- فِي تَعْبِيرِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- جَمْعُ رَاكِبٍ، وَالتَّعْبِيرُ بِهِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ، وَالْمُرَادُ الْقَادِمُ وَلَوْ وَاحِدًا أَوْ مَاشِيًا.
حُكْمُ التَّلَقِّي التَّكْلِيفِيُّ:
130- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ بَيْعَ التَّلَقِّي مُحَرَّمٌ، لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَلَقُّوا الْجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى Cسَيِّدُهُ أَيْ صَاحِبُهُ السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ».
وَالْحَنَفِيَّةُ ذَهَبُوا إِلَى كَرَاهَةِ التَّلَقِّي، وَذَلِكَ لِلضَّرَرِ أَوِ الْغَرَرِ، أَوْ كَمَا قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لِأَنَّ الْبَيْعَ مَشْرُوعٌ فِي ذَاتِهِ، وَالنَّهْيُ فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ الْإِضْرَارُ بِالْعَامَّةِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ- الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عِنْدَهُمْ- وَتَغْرِيرُ أَصْحَابِ السِّلَعِ عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ضَرَرٌ أَوْ غَرَرٌ فَلَا بَأْسَ، وَلَا يُكْرَهُ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَرْغِينَانِيُّ وَالْكَرْلَانِيُّ وَالْكَاسَانِيُّ وَالزَّيْلَعِيُّ وَالْحَصْكَفِيُّ، لِانْعِدَامِ الضَّرَرِ.
فَقَوْلُ ابْنِ قُدَامَةَ: وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ.لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ.وَفَسْخُ الْمَكْرُوهِ- مِنَ الْبِيَاعَاتِ- وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِرَفْعِ الْإِثْمِ، وَهِيَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عِنْدَهُمْ لِلتَّحْرِيمِ، كَمَا هُنَا، وَكَمَا فِي كُلِّ بَيْعٍ مَكْرُوهٍ.
حُكْمُ التَّلَقِّي الْوَضْعِيُّ:
131- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ بَيْعَ التَّلَقِّي صَحِيحٌ، وَلَا يُفْسَخُ الْعَقْدُ بِهِ.وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَعَلَّلَ الصِّحَّةَ:
- بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقِ، وَالْخِيَارُ لَا يَكُونُ إِلاَّ فِي عَقْدٍ صَحِيحٍ.
- وَلِأَنَّ النَّهْيَ لَا لِمَعْنًى فِي الْبَيْعِ، بَلْ يَعُودُ إِلَى ضَرْبٍ مِنَ الْخَدِيعَةِ، يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ الْمُصَرَّاةِ.وَفَارَقَ بَيْعَ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ بِالْخِيَارِ، إِذْ لَيْسَ الضَّرَرُ عَلَيْهِ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
- وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، أَنَّ التَّلَقِّي فَاسِدٌ، وَذَلِكَ لِظَاهِرِ النَّهْيِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
ز- بَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي:
132- وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي أَحَادِيثَ مِنْهَا مَا رَوَاهُ جَابِرٌ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ، دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ».
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي.فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ: أَنْ يَكُونَ الْحَاضِرُ سِمْسَارًا لِلْبَادِي، لِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ ذَلِكَ مِنَ الْإِضْرَارِ بِأَهْلِ الْبَلَدِ لِارْتِفَاعِ السِّعْرِ، وَفُسِّرَ بِغَيْرِ Cذَلِكَ.وَلِلْمَنْعِ شُرُوطٌ وَتَفْصِيلَاتٌ مِنْ حَيْثُ الْجَوَازُ وَعَدَمُهُ وَالصِّحَّةُ أَوِ الْبُطْلَانُ.
وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي).
النَّوْعُ الثَّانِي: الْأَسْبَابُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى مُخَالَفَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ عِبَادِيَّةٍ مَحْضَةٍ
أ- الْبَيْعُ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ:
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
36-موسوعة الفقه الكويتية (حجاب)
حِجَابٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْحِجَابُ فِي اللُّغَةِ: السَّتْرُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ يُقَالُ حَجَبَ الشَّيْءَ يَحْجُبُهُ حَجْبًا وَحِجَابًا: أَيْ سَتَرَهُ، وَقَدِ احْتَجَبَ وَتَحَجَّبَ إِذَا اكْتَنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ.
وَالْحِجَابُ اسْمُ مَا احْتُجِبَ بِهِ، وَكُلُّ مَا حَالَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَهُوَ حِجَابٌ.
وَالْحِجَابُ كُلُّ مَا يَسْتُرُ الْمَطْلُوبَ وَيَمْنَعُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ كَالسِّتْرِ وَالْبَوَّابِ وَالْجِسْمِ وَالْعَجْزِ وَالْمَعْصِيَةِ.
وقوله تعالى {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} مَعْنَاهُ: وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حَاجِزٌ فِي النِّحْلَةِ وَالدِّينِ.
وَالْأَصْلُ فِي الْحِجَابِ أَنَّهُ جِسْمٌ حَائِلٌ بَيْنَ جَسَدَيْنِ.
وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي الْمَعَانِي، فَقِيلَ: الْعَجْزُ حِجَابٌ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَمُرَادِهِ، وَالْمَعْصِيَةُ حِجَابٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ.
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ الَّذِي هُوَ السَّتْرُ وَالْحَيْلُولَةُ.
وَالْحَاجِبُ يَأْتِي بِمَعْنَى الْمَانِعِ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْعَظْمِ الَّذِي فَوْقَ الْعَيْنِ بِلَحْمِهِ وَشَعْرِهِ.وَيُنْظَرُ مَا يَتَّصِلُ بِهِمَا مِنْ أَحْكَامٍ فِي مُصْطَلَحِ: (حَاجِبٌ).
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْخِمَارُ:
2- الْخِمَارُ مِنَ الْخَمْرِ وَأَصْلُهُ السَّتْرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «خَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ» وَكُلُّ مَا يَسْتُرُ شَيْئًا فَهُوَ خِمَارُهُ.
لَكِنَّ الْخِمَارَ صَارَ فِي التَّعَارُفِ اسْمًا لِمَا تُغَطِّي بِهِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لِلْخِمَارِ فِي بَعْضِ الْإِطْلَاقَاتِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَيُعَرِّفُهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ مَا يَسْتُرُ الرَّأْسَ وَالصُّدْغَيْنِ أَوِ الْعُنُقَ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحِجَابِ وَالْخِمَارِ أَنَّ الْحِجَابَ سَاتِرٌ عَامٌّ لِجِسْمِ الْمَرْأَةِ، أَمَّا الْخِمَارُ فَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ مَا تَسْتُرُ بِهِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا.
النِّقَابُ:
3- النِّقَابُ- بِكَسْرِ النُّونِ- مَا تَنْتَقِبُ بِهِ الْمَرْأَةُ، يُقَالُ انْتَقَبَتِ الْمَرْأَةُ وَتَنَقَّبَتْ غَطَّتْ وَجْهَهَا بِالنِّقَابِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحِجَابِ وَالنِّقَابِ، أَنَّ الْحِجَابَ سَاتِرٌ عَامٌّ، أَمَّا النِّقَابُ فَسَاتِرٌ لِوَجْهِ الْمَرْأَةِ فَقَطْ
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
4- لِلَفْظِ الْحِجَابِ إِطْلَاقَانِ:
أَحَدُهُمَا: اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحِسِّيَّاتِ، وَهُوَ الْجِسْمُ الَّذِي يَحُولُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ.
وَالثَّانِي: اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَعَانِي، وَهُوَ الْأَمْرُ الْمَعْنَوِيُّ الَّذِي يَحُولُ دُونَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَطْلُوبِ.
وَتَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ مَوَاضِعِهِ.
أَوَّلًا: اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحِسِّيَّاتِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَلِي:
1- الْحِجَابُ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَوْرَةِ:
5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ حَجْبِ عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ الْبَالِغَيْنِ بِسَتْرِهَا عَنْ نَظَرِ الْغَيْرِ الَّذِي لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا.
وَعَوْرَةُ الْمَرْأَةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْهَا حَجْبُهَا عَنِ الْأَجْنَبِيِّ هِيَ فِي الْجُمْلَةِ جَمِيعُ جَسَدِهَا عَدَا الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَحْرَمِ مِنَ الرِّجَالِ مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالرَّأْسَ وَالْعُنُقَ وَالذِّرَاعَ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَمَا عَدَا الصَّدْرَ وَالسَّاقَيْنِ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَا عَدَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَبِالنِّسْبَةِ لِمِثْلِهَا مِنَ النِّسَاءِ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ.
وَعَوْرَةُ الرَّجُلِ الَّتِي يَجِبُ حَجْبُهَا عَنِ الْغَيْرِ هِيَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي حَجْبِ الْفَخِذِ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (عَوْرَةٌ).
وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ حَجْبِ الْعَوْرَةِ عَمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}...الْآيَةَ.
وَقَوْلُ «النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِأَسْمَاءِ: يَا أَسْمَاءُ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلاَّ هَذَا وَهَذَا وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ».
وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَالِ: «عَوْرَةُ الرَّجُلِ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ إِلَى رُكْبَتِهِ» وَوُجُوبُ حَجْبِ الْعَوْرَةِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِمَا يَحُولُ بَيْنَ النَّاظِرِ وَلَوْنِ الْبَشَرَةِ أَوْ حَجْمِ الْأَعْضَاءِ.
وَكَمَا يَجِبُ حَجْبُ الْعَوْرَةِ عَنْ نَظَرِ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ- وَقِيلَ يَجِبُ- حَجْبُهَا فِي الْخَلْوَةِ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
هَذَا مَعَ مُرَاعَاةِ أَنَّهُ لَا حِجَابَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَزَوْجَتِهِ.
فَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ؟ قَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟ قَالَ: اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ».
وَالصَّغِيرَةُ إِنْ كَانَتْ بِنْتَ سَبْعِ سِنِينَ إِلَى تِسْعٍ فَعَوْرَتُهَا الَّتِي يَجِبُ حَجْبُهَا هِيَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ سَبْعِ سِنِينَ فَلَا حُكْمَ لِعَوْرَتِهَا، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ.
كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَحْتَجِبَ مِنَ الْمُرَاهِقِ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا فَلَا بَأْسَ مِنْ إِبْدَاءِ الزِّينَةِ لَهُ لقوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ وُجُوبِ حَجْبِ الْعَوْرَةِ إِبَاحَةُ كَشْفِهَا لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ كَالتَّدَاوِي وَالْخِتَانِ وَالشَّهَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَعَنْ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيِّ قَالَ: كُنْتُ مِنْ سَبْيِ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَكَانُوا يَنْظُرُونَ، فَمَنْ أَنْبَتَ الشَّعْرَ قُتِلَ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ لَمْ يُقْتَلْ، فَكُنْتُ فِيمَنْ لَمْ يُنْبِتْ.
وَفِي كُلِّ مَا سَبَقَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَوْرَةٌ).
2- الِاحْتِجَابُ أَثْنَاءَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ:
6- يُسْتَحَبُّ لِقَاضِي الْحَاجَةِ فِي الْفَضَاءِ أَنْ يَسْتَتِرَ عَنْ أَعْيَنِ النَّاسِ بِحَيْثُ لَا يَرَى جِسْمَهُ.أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْعَوْرَةِ فَيَجِبُ حَجْبُهَا، فَإِنْ وَجَدَ حَائِطًا أَوْ كَثِيبًا أَوْ شَجَرَةً اسْتَتَرَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا أَبْعَدَ حَتَّى لَا يَرَاهُ أَحَدٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَتَى الْغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ أَنْ يَجْمَعَ كَثِيبًا مِنَ الرَّمَلِ فَلْيَسْتَدْبِرْهُ» وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (اسْتِنْجَاءٌ).
3- الْحِجَابُ الَّذِي يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ:
7- مِنْ شَرَائِطِ الِاقْتِدَاءِ أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَ الْمَأْمُومِ وَالْإِمَامِ مَا يَمْنَعُ مُتَابَعَتَهُ.فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ جِدَارٌ لَا بَابَ فِيهِ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا بَابٌ مُغْلَقٌ يَحُولُ مِنَ الْمُتَابَعَةِ لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- لِنِسَاءٍ كُنَّ يُصَلِّينَ فِي حُجْرَتِهَا: لَا تُصَلِّينَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فَإِنَّكُنَّ دُونَهُ فِي حِجَابٍ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي (اقْتِدَاءٌ).
4- الطَّلَاقُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ:
8- مَنْ خَاطَبَ زَوْجَتَهُ بِالطَّلَاقِ وَهُوَ يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً بِأَنْ كَانَتْ فِي ظُلْمَةٍ، أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَقَعَ الطَّلَاقُ، كَمَا جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ، لِأَنَّهُ أَتَى بِاللَّفْظِ عَنْ قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ، وَعَدِمَ رِضَاهُ بِوُقُوعِهِ
لِظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ لَا أَثَرَ لَهُ لِخَطَأِ ظَنِّهِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: تُطْلَقُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (طَلَاقٌ).
5- احْتِجَابُ الْقَاضِي:
9- لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْتَجِبَ عَنِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ إِلاَّ فِي أَوْقَاتِ اسْتِرَاحَتِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئًا فَاحْتَجَبَ دُونَ خَلَّتِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ وَفَاقَتِهِمُ احْتَجَبَ اللَّهُ دُونَ خَلَّتِهِ وَفَاقَتِهِ وَحَاجَتِهِ وَفَقْرِهِ».
وَكَرِهَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنْ يَتَّخِذَ الْقَاضِي حَاجِبًا، لِأَنَّ حَاجِبَهُ رُبَّمَا قَدَّمَ الْمُتَأَخِّرَ وَأَخَّرَ الْمُتَقَدِّمَ، فَإِنْ دَعَتْ حَاجَةٌ إِلَى ذَلِكَ اتَّخَذَ أَمِينًا بَعِيدًا مِنَ الطَّمَعِ.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَتَّخِذَ الْقَاضِي حَاجِبًا لِمَنْعِ دُخُولِ مَنْ لَا حَاجَةَ لَهُ وَتَأْخِيرِ مَنْ جَاءَ بَعْدُ حَتَّى يَفْرُغَ السَّابِقُ مِنْ قَضِيَّتِهِ.
أَمَّا الْأَمِيرُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ حَاجِبًا، لِأَنَّهُ يَنْظُرُ فِي جَمِيعِ الْمَصَالِحِ فَتَدْعُوهُ الْحَاجَةُ إِلَى أَنْ يَجْعَلَ لِكُلِّ مَصْلَحَةٍ وَقْتًا لَا يَدْخُلُ فِيهِ أَحَدٌ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (حَاجِبٌ)
6- الشَّهَادَةُ بِالسَّمَاعِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ:
10- مُدْرَكُ الْعِلْمِ الَّذِي تَقَعُ بِهِ الشَّهَادَةُ الرُّؤْيَةُ وَالسَّمَاعُ، وَالرُّؤْيَةُ تَكُونُ فِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مِنَ الْأَفْعَالِ كَالْجِنَايَةِ وَالْغَصْبِ وَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُدْرَكُ بِالْعَيْنِ، لِأَنَّهَا لَا تُدْرَكُ إِلاَّ بِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُقُودِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ لَا بُدَّ مِنَ الرُّؤْيَةِ وَالسَّمَاعِ؟ أَمْ يَكْفِي السَّمَاعُ فَقَطْ؟ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَكْفِي السَّمَاعُ إِذَا عُرِفَ الْقَائِلُ وَتُحُقِّقَ أَنَّهُ كَلَامُهُ جَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: لَوْ سَمِعَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَثِيفٍ لَا يَشِفُّ مِنْ وَرَائِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَلَوْ شَهِدَ وَفَسَّرَهُ لِلْقَاضِي بِأَنْ قَالَ: سَمِعْتُهُ بَاعَ وَلَمْ أَرَ شَخْصَهُ حِينَ تَكَلَّمَ لَا يَقْبَلُهُ، لِأَنَّ النَّغْمَةَ تُشْبِهُ النَّغْمَةَ، إِلاَّ إِذَا أَحَاطَ بِعِلْمِ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُسَوِّغَ هُوَ الْعِلْمُ غَيْرَ أَنَّ رُؤْيَتَهُ مُتَكَلِّمًا بِالْعَقْدِ طَرِيقُ الْعِلْمِ، فَإِذَا فُرِضَ تَحَقُّقُ طَرِيقٍ آخَرَ جَازَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ دَخَلَ الْبَيْتَ فَرَآهُ فِيهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ وَلَا مَنْفَذَ غَيْرُ الْبَابِ، وَهُوَ قَدْ جَلَسَ عَلَيْهِ وَسَمِعَ الْإِقْرَارَ أَوِ الْبَيْعَ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَجُوزُ لَهُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِمَا سَمِعَ، لِأَنَّهُ حَصَلَ بِهِ الْعِلْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ.
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَلَا بُدَّ مِنَ الرُّؤْيَةِ مَعَ السَّمَاعِ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ إِنْسَانٌ عَلَى مُنْتَقِبَةٍ حَتَّى تَكْشِفَ عَنْ وَجْهِهَا لِيَشْهَدَ عَلَى عَيْنِهَا وَوَصْفِهَا لِتَتَعَيَّنَ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا وَذَلِكَ لَا يَكُونُ مَعَ الِانْتِقَابِ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (شَهَادَةٌ).
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ مَا تُقْبَلُ فِيهِ الشَّهَادَةُ بِالسَّمَاعِ فِي مُصْطَلَحِ: (تَسَامُعٌ).
ثَانِيًا: اسْتِعْمَالُ الْحِجَابِ فِي الْمَعَانِي:
11- يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ الْحِجَابِ مَجَازًا فِي الْمَعَانِي وَذَلِكَ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ «مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْيَمَنِ وَقَالَ لَهُ:...وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ».
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَوْلُهُ (حِجَابٌ) أَيْ لَيْسَ لَهَا صَارِفٌ يَصْرِفُهَا وَلَا مَانِعٌ وَالْمُرَادُ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى حِجَابًا يَحْجُبُهُ عَنِ النَّاسِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ تَعْلِيلٌ لِلِاتِّقَاءِ وَتَمْثِيلٌ لِلدُّعَاءِ كَمَنْ يَقْصِدُ دَارَ السُّلْطَانِ مُتَظَلِّمًا فَلَا يُحْجَبُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْعَلَائِيُّ: الْمُرَادُ بِالْحَاجِبِ وَالْحِجَابِ نَفْيُ عَدَمِ إِجَابَةِ دُعَاءِ الْمَظْلُومِ ثُمَّ اسْتَعَارَ الْحِجَابَ لِلرَّدِّ، فَكَانَ نَفْيُهُ دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِ الْإِجَابَةِ، وَالتَّعْبِيرُ بِنَفْيِ الْحِجَابِ أَبْلَغُ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالْقَبُولِ، لِأَنَّ الْحِجَابَ مِنْ شَأْنِهِ الْمَنْعُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَقْصُودِ فَاسْتُعِيرَ نَفْيُهُ لِعَدَمِ الْمَنْعِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ وَلَا حِجَابٌ يَحْجُبُهُ».
2- الْحَجْبُ فِي الْمِيرَاثِ:
12- الْحَجْبُ فِي الْمِيرَاثِ مَعْنَاهُ شَرْعًا: مَنْعُ مَنْ قَامَ بِهِ سَبَبُ الْإِرْثِ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ مِنْ أَوْفَرِ حَظَّيْهِ، وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ حَجْبَ حِرْمَانٍ، وَالثَّانِي حَجْبَ نُقْصَانٍ.
وَحَجْبُ الْحِرْمَانِ قِسْمَانِ، حَجْبٌ بِالْوَصْفِ وَيُسَمَّى مَنْعًا كَالْقَتْلِ وَالرِّقِّ، وَيُمْكِنُ دُخُولُهُ عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ.وَحَجْبٌ بِالشَّخْصِ أَوِ الِاسْتِغْرَاقِ، كَالْأَخِ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ يَحْجُبُهُ الْأَبُ وَالِابْنُ وَابْنُ الِابْنِ.
وَحَجْبُ النُّقْصَانِ كَحَجْبِ الْوَلَدِ الزَّوْجَ مِنَ النِّصْفِ إِلَى الرُّبُعِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي (إِرْثٌ- حَاجِبٌ).
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
37-موسوعة الفقه الكويتية (زنى 1)
زِنَى -1التَّعْرِيفُ:
1- الزِّنَى: الْفُجُورُ.
وَهَذِهِ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَبَنُو تَمِيمٍ يَقُولُونَ: زَنَى زِنَاءً: وَيُقَالُ: زَانَى مُزَانَاةً، وَزِنَاءً بِمَعْنَاهُ.
وَشَرْعًا: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِتَعْرِيفَيْنِ: أَعَمُّ، وَأَخَصُّ.فَالْأَعَمُّ: يَشْمَلُ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَمَا لَا يُوجِبُهُ، وَهُوَ وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ.
قَالَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ تَعْرِيفٌ لِلزِّنَى فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ.
فَإِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَخُصَّ اسْمَ الزِّنَى بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ مِنْهُ بَلْ هُوَ أَعَمُّ.وَالْمُوجِبُ لِلْحَدِّ مِنْهُ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ.وَلِذَا قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ...» الْحَدِيثُ.وَلَوْ وَطِئَ رَجُلٌ جَارِيَةَ ابْنِهِ لَا يُحَدُّ لِلزِّنَا، وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ بِالزِّنَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ زِنًا وَإِنْ كَانَ لَا يُحَدُّ بِهِ.
وَالْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ الْأَخَصُّ لِلزِّنَى: هُوَ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَهُوَ «وَطْءُ مُكَلَّفٍ طَائِعٍ مُشْتَهَاةً حَالًا أَوْ مَاضِيًا فِي قُبُلٍ خَالٍ مِنْ مِلْكِهِ وَشُبْهَتِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ تَمْكِينُهُ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ تَمْكِينُهَا».وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّهُ وَطْءُ مُكَلَّفٍ مُسْلِمٍ فَرْجَ آدَمِيٍّ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ بِلَا شُبْهَةٍ تَعَمُّدًا.
وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِيلَاجُ حَشَفَةٍ أَوْ قَدْرِهَا فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ لِعَيْنِهِ مُشْتَهًى طَبْعًا بِلَا شُبْهَةٍ.
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهُ فِعْلُ الْفَاحِشَةِ فِي قُبُلٍ أَوْ فِي دُبُرٍ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْوَطْءُ، وَالْجِمَاعُ:
2- أَصْلُ الْوَطْءِ فِي اللُّغَةِ: الدَّوْسُ بِالْقَدَمِ، وَمِنْ مَعَانِيهِ النِّكَاحُ، يُقَالُ: وَطِئَ الْمَرْأَةَ يَطَؤُهَا أَيْ نَكَحَهَا وَجَامَعَهَا.وَمَعْنَاهُ اصْطِلَاحًا: الْجِمَاعُ.
فَكُلٌّ مِنَ الْوَطْءِ وَالْجِمَاعِ أَعَمُّ مِنَ الزِّنَى، إِذْ قَدْ يَكُونُ مَعَ امْرَأَتِهِ فَيَكُونُ نِكَاحًا حَلَالًا، وَمَعَ أَجْنَبِيَّةٍ فَيَكُونُ زِنًى حَرَامًا.
ب- اللِّوَاطُ:
3- اللِّوَاطُ لُغَةً: إِتْيَانُ الذُّكُورِ فِي الدُّبُرِ، وَهُوَ عَمَلُ قَوْمِ نَبِيِّ اللَّهِ لُوطٍ- عليه السلام-.يُقَالُ: لَاطَ الرَّجُلُ لِوَاطًا وَلَاوَطَ، أَيْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ.
وَاصْطِلَاحًا: إِدْخَالُ الْحَشَفَةِ فِي دُبُرِ ذَكَرٍ.وَحُكْمُهُ حُكْمُ الزِّنَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.
ج- السِّحَاقُ:
4- السِّحَاقُ وَالْمُسَاحَقَةُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا: فِعْلُ النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ بِبَعْضٍ، وَكَذَلِكَ فِعْلُ الْمَجْبُوبِ بِالْمَرْأَةِ يُسَمَّى سِحَاقًا.
فَالْفَرْقُ بَيْنَ الزِّنَى وَالسِّحَاقِ، أَنَّ السِّحَاقَ لَا إِيلَاجَ فِيهِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5- الزِّنَى حَرَامٌ.وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ وَالْقَتْلِ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَوَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}.وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى} أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يَقُولَ: وَلَا تَزْنُوا.فَإِنَّ مَعْنَاهُ لَا تَدْنُوا مِنَ الزِّنَى.
وَرَوَى «عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَكْبَرُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ.قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ.قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ».
وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْمِلَلِ عَلَى تَحْرِيمِهِ.فَلَمْ يَحِلَّ فِي مِلَّةٍ قَطُّ.وَلِذَا كَانَ حَدُّهُ أَشَدَّ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الْأَعْرَاضِ وَالْأَنْسَابِ.وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ، وَهِيَ حِفْظُ النَّفْسِ وَالدِّينِ وَالنَّسَبِ وَالْعَقْلِ وَالْمَالِ.
تَفَاوُتُ إِثْمِ الزِّنَى:
6- يَتَفَاوَتُ إِثْمُ الزِّنَى وَيَعْظُمُ جُرْمُهُ بِحَسَبِ مَوَارِدِهِ.فَالزِّنَى بِذَاتِ الْمَحْرَمِ أَوْ بِذَاتِ الزَّوْجِ أَعْظَمُ مِنَ الزِّنَى بِأَجْنَبِيَّةٍ أَوْ مَنْ لَا زَوْجَ لَهَا، إِذْ فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ الزَّوْجِ، وَإِفْسَادُ فِرَاشِهِ، وَتَعْلِيقُ نَسَبٍ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ أَذَاهُ.فَهُوَ أَعْظَمُ إِثْمًا وَجُرْمًا مِنَ الزِّنَى بِغَيْرِ ذَاتِ الْبَعْلِ وَالْأَجْنَبِيَّةِ.فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا جَارًا انْضَمَّ لَهُ سُوءُ الْجِوَارِ.وَإِيذَاءُ الْجَارِ بِأَعْلَى أَنْوَاعِ الْأَذَى، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْبَوَائِقِ، فَلَوْ كَانَ الْجَارُ أَخًا أَوْ قَرِيبًا مِنْ أَقَارِبِهِ انْضَمَّ لَهُ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ فَيَتَضَاعَفُ الْإِثْمُ.وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَدْخُلِ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنْ جَارُهُ بَوَائِقَهُ».وَلَا بَائِقَةَ أَعْظَمُ مِنَ الزِّنَى بِامْرَأَةِ الْجَارِ.فَإِنْ كَانَ الْجَارُ غَائِبًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ كَالْعِبَادَةِ، وَطَلَبِ الْعِلْمِ، وَالْجِهَادِ، تَضَاعَفَ الْإِثْمُ حَتَّى إِنَّ الزَّانِيَ بِامْرَأَةِ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوقَفُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَأْخُذُ مِنْ عَمَلِهِ مَا شَاءَ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْقَاعِدِينَ يَخْلُفُ رَجُلًا مِنَ الْمُجَاهِدِينَ فِي أَهْلِهِ فَيَخُونُهُ فِيهِمْ، إِلاَّ وَقَفَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ مِنْ عَمَلِهِ مَا شَاءَ فَمَا ظَنُّكُمْ؟» أَيْ مَا ظَنُّكُمْ أَنْ يَتْرُكَ لَهُ مِنْ حَسَنَاتِهِ؟ قَدْ حَكَمَ فِي أَنَّهُ يَأْخُذُ مَا شَاءَ عَلَى شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى حَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ رَحِمًا لَهُ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ قَطِيعَةُ رَحِمِهَا، فَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ يَكُونَ الزَّانِي مُحْصَنًا كَانَ الْإِثْمُ أَعْظَمَ، فَإِنْ كَانَ شَيْخًا كَانَ أَعْظَمَ إِثْمًا وَعُقُوبَةً، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، أَوْ بَلَدٍ حَرَامٍ، أَوْ وَقْتٍ مُعَظَّمٍ عِنْدَ اللَّهِ كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَأَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ تَضَاعَفَ الْإِثْمُ.
أَرْكَانُ الزِّنَى:
7- صَرَّحَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ رُكْنَ الزِّنَى الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ هُوَ الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ.فَقَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَرُكْنُهُ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ وَمُوَارَاةُ الْحَشَفَةِ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ الْإِيلَاجُ وَالْوَطْءُ.وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى، حَيْثُ إِنَّهُمْ يُعَلِّقُونَ حَدَّ الزِّنَى عَلَى تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرِهَا عِنْدَ عَدَمِهَا، حَتَّى إِذَا لَمْ يَكُنْ تَغْيِيبٌ انْتَفَى الْحَدُّ.وَالْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ هُوَ الَّذِي يَحْدُثُ فِي غَيْرِ مِلْكِ الْوَاطِئِ- مِلْكِ يَمِينِهِ وَمِلْكِ نِكَاحِهِ- فَكُلُّ وَطْءٍ حَدَثَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَهُوَ زِنًى يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ.أَمَّا إِذَا حَدَثَ الْوَطْءُ فِي مِلْكِ الْوَاطِئِ فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ زِنًى وَلَوْ كَانَ الْوَطْءُ مُحَرَّمًا، حَيْثُ إِنَّ التَّحْرِيمَ هُنَا لَيْسَ لِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا هُوَ لِعَارِضٍ.كَوَطْءِ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ الْحَائِضَ أَوِ النُّفَسَاءَ.
وَيُشْتَرَطُ تَعَمُّدُ الْوَطْءِ، وَهُوَ أَنْ يَرْتَكِبَ الزَّانِي الْفِعْلَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَطَأُ امْرَأَةً مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، أَوْ أَنْ تُمَكِّنَ الزَّانِيَةُ مِنْ نَفْسِهَا وَهِيَ تَعْلَمُ أَنَّ مَنْ يَطَؤُهَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهَا.وَمِنْ ثَمَّ فَلَا حَدَّ عَلَى الْغَالِطِ وَالْجَاهِلِ وَالنَّاسِي.
حَدُّ الزِّنَى:
8- كَانَ الْحَبْسُ وَالْإِمْسَاكُ فِي الْبُيُوتِ أَوَّلَ عُقُوبَاتِ الزِّنَى فِي الْإِسْلَامِ لقوله تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}.
ثُمَّ إِنَّ الْإِجْمَاعَ قَدِ انْعَقَدَ عَلَى أَنَّ الْحَبْسَ مَنْسُوخٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَذَى هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، فَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا} كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَنَسَخَتْهُمَا الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ.وَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ فَالْأَذَى وَالتَّعْبِيرُ بَاقٍ مَعَ الْجَلْدِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَعَارَضَانِ بَلْ يُحْمَلَانِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ.وَالْوَاجِبُ أَنْ يُؤَدَّبَا بِالتَّوْبِيخِ فَيُقَالُ لَهُمَا: فَجَرْتُمَا وَفَسَقْتُمَا، وَخَالَفْتُمَا أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَالنَّاسِخُ هُوَ قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَاطَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.وَبِمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا.الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ».
9- وَمِنْ ثَمَّ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَدَّ الزَّانِي الْمُحْصَنِ الرَّجْمُ حَتَّى الْمَوْتِ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.
قَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَجَمَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ فِي أَخْبَارٍ تُشْبِهُ التَّوَاتُرَ.وَقَدْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، ثُمَّ نُسِخَ رَسْمُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم- بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ.فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: وَاللَّهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أَحْصَنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوِ الِاعْتِرَافُ.وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: زَادَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُهَا: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يُجْلَدُ وَيُرْجَمُ.لِمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- » أَنَّهُ جَلَدَ شُرَاحَةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ: أَجْلِدُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأَرْجُمُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَرِوَايَةُ الرَّجْمِ فَقَطْ هِيَ الْمَذْهَبُ.
10- كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَدَّ الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً مِائَةُ جَلْدَةٍ إِنْ كَانَ حُرًّا.وَأَمَّا الْعَبْدُ أَوِ الْأَمَةُ فَحَدُّهُمَا خَمْسُونَ جَلْدَةً سَوَاءٌ كَانَا بِكْرَيْنِ أَوْ ثَيِّبَيْنِ لقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}.
وَزَادَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) التَّغْرِيبَ عَامًا لِلْبِكْرِ الْحُرِّ الذَّكَرِ.
وَعَدَّى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ التَّغْرِيبَ لِلْمَرْأَةِ أَيْضًا.كَمَا زَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمُ التَّغْرِيبَ نِصْفَ عَامٍ لِلْعَبْدِ.
وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى تَعْرِيفِ الْإِحْصَانِ وَشُرُوطِهِ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْصَانٍ 2/ 200).
كَمَا سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى التَّغْرِيبِ وَأَحْكَامِهِ فِي مُصْطَلَحِ: (تَغْرِيبٍ 13).
شُرُوطُ حَدِّ الزِّنَى:
أَوَّلًا: الشُّرُوطُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا:
1- إِدْخَالُ الْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرِهَا مِنْ مَقْطُوعِهَا:
11- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حَدِّ الزِّنَى إِدْخَالُ الْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرِهَا مِنْ مَقْطُوعِهَا فِي الْفَرَجِ.فَلَوْ لَمْ يُدْخِلْهَا أَصْلًا أَوْ أَدْخَلَ بَعْضَهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ وَطْئًا.وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِنْزَالُ وَلَا الِانْتِشَارُ عِنْدَ الْإِدْخَالِ.فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ سَوَاءٌ أَنْزَلَ أَمْ لَا.انْتَشَرَ ذَكَرُهُ أَمْ لَا. 2- أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُكَلَّفًا:
(11 م) - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُكَلَّفًا أَيْ عَاقِلًا بَالِغًا.فَالْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا إِذَا زَنَيَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ».
وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى النَّائِمِ وَالنَّائِمَةِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى حَدِّ السَّكْرَانِ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ إِذَا زَنَى.
12- وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ مَسْأَلَةٌ مَا لَوْ وَطِئَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ- الْمُكَلَّفُ- مَجْنُونَةً أَوْ صَغِيرَةً يُوطَأُ مِثْلُهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّ الْوَاطِئَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْحَدِّ؛ وَلِأَنَّ وُجُودَ الْعُذْرِ مِنْ جَانِبِهَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَدِّ مِنْ جَانِبِهِ.وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الصَّغِيرَةَ الَّتِي لَا يُوطَأُ مِثْلُهَا لَا حَدَّ عَلَى وَاطِئَهَا.
3- أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ:
13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّحْرِيمِ شَرْطٌ فِي حَدِّ الزِّنَى.فَإِنْ كَانَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ غَيْرَ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِ الزِّنَى لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بُعْدِهِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا لَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ.وَلِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَجُلًا زَنَى بِالْيَمَنِ، فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ- رضي الله عنه- إِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الزِّنَى فَاجْلِدُوهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ فَعَلِّمُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا أَنَّهُ عَذَرَ رَجُلًا زَنَى بِالشَّامِ وَادَّعَى الْجَهْلَ بِتَحْرِيمِ الزِّنَى.وَكَذَا رُوِيَ عَنْهُ وَعَنْ عُثْمَانَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُمَا عَذَرَا جَارِيَةً زَنَتْ وَهِيَ أَعْجَمِيَّةً وَادَّعَتْ أَنَّهَا لَا تَعْلَمُ التَّحْرِيمَ.وَلِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بَعْدَ الْعِلْمِ.
وَقَدْ أَوْضَحَ ابْنُ عَابِدِينَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْجَهْلِ بِالتَّحْرِيمِ إِلاَّ مِمَّنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ أَمَارَةُ ذَلِكَ، بِأَنْ نَشَأَ وَحْدَهُ فِي شَاهِقٍ، أَوْ بَيْنَ قَوْمٍ جُهَّالٍ مِثْلِهِ لَا يَعْلَمُونَ تَحْرِيمَهُ، أَوْ يَعْتَقِدُونَ إِبَاحَتَهُ، إِذْ لَا يُنْكَرُ وُجُودُ ذَلِكَ.فَمَنْ زَنَى وَهُوَ كَذَلِكَ فِي فَوْرِ دُخُولِهِ دَارَنَا لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَا يُحَدُّ، إِذِ التَّكْلِيفُ بِالْأَحْكَامِ فَرْعُ الْعِلْمِ بِهَا، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ مَنِ اشْتَرَطَ الْعِلْمَ بِالتَّحْرِيمِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ نَقْلِ الْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ مَنْ نَشَأَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ فِي دَارِ أَهْلِ الْحَرْبِ الْمُعْتَقِدِينَ حُرْمَتَهُ، ثُمَّ دَخَلَ دَارَنَا فَإِنَّهُ إِذَا زَنَى يُحَدُّ وَلَا يُقْبَلُ اعْتِذَارُهُ بِالْجَهْلِ.
وَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِجَهْلِ الْعُقُوبَةِ إِذَا عُلِمَ التَّحْرِيمُ، لِحَدِيثِ «مَاعِزٍ فَإِنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِرَجْمِهِ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ فِي أَثْنَاءِ رَجْمِهِ رُدُّونِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَإِنَّ قَوْمِي قَتَلُونِي غَرُّونِي مِنْ نَفْسِي وَأَخْبَرُونِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- غَيْرُ قَاتِلِي».
انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ:
14- مِنَ الشُّرُوطِ الْمُوجِبَةِ لِحَدِّ الزِّنَى وَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ».
وَقَدْ نَازَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالْإِرْسَالِ تَارَةً وَبِالْوَقْفِ تَارَةً أُخْرَى.قَالَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْإِرْسَالَ لَا يَقْدَحُ، وَإِنَّ الْمَوْقُوفَ فِي هَذَا لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ؛ لِأَنَّ إِسْقَاطَ الْوَاجِبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِشُبْهَةٍ خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَقْلِ، بَلْ مُقْتَضَاهُ أَنَّ بَعْدَ تَحَقُّقِ الثُّبُوتِ لَا يَرْتَفِعُ بِشُبْهَةٍ فَحَيْثُ ذَكَرَهُ صَحَابِيٌّ حُمِلَ عَلَى الرَّفْعِ.وَأَيْضًا فِي إِجْمَاعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ كِفَايَةٌ.وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: هَذَا الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ.وَأَيْضًا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ.وَفِي تَتَبُّعِ الْمَرْوِيِّ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَالصَّحَابَةِ مَا يَقْطَعُ فِي الْمَسْأَلَةِ.فَقَدْ عَلِمْنَا «أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- قَالَ لِمَاعِزٍ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ».كُلُّ ذَلِكَ يُلَقِّنُهُ أَنْ يَقُولَ: نَعَمْ بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِالزِّنَى، وَلَيْسَ لِذَلِكَ فَائِدَةٌ إِلاَّ كَوْنَهُ إِذَا قَالَهَا تُرِكَ، وَإِلاَّ فَلَا فَائِدَةَ.وَلَمْ يَقُلْ لِمَنِ اعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِدَيْنٍ، لَعَلَّهُ كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَكَ فَضَاعَتْ، وَنَحْوِهِ.
وَكَذَا قَالَ لِلْغَامِدِيَّةِ نَحْوَ ذَلِكَ.وَكَذَا قَالَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- لِشُرَاحَةَ: لَعَلَّهُ وَقَعَ عَلَيْكِ وَأَنْتِ نَائِمَةٌ، لَعَلَّهُ اسْتَكْرَهَكِ، لَعَلَّ مَوْلَاكِ زَوَّجَكِ مِنْهُ وَأَنْتِ تَكْتُمِينَهُ.
فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ كَوْنُ الْحَدِّ يُحْتَالُ فِي دَرْئِهِ بِلَا شَكٍّ.وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِفْسَارَاتِ الْمُفِيدَةَ لِقَصْدِ الِاحْتِيَالِ لِلدَّرْءِ كُلَّهَا كَانَتْ بَعْدَ الثُّبُوتِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بَعْدَ صَرِيحِ الْإِقْرَارِ وَبِهِ الثُّبُوتُ.وَهَذَا هُوَ الْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ وَمِنْ قَوْلِهِ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ».فَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَقْطُوعًا بِثُبُوتِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، فَكَانَ الشَّكُّ فِيهِ شَكًّا فِي ضَرُورِيٍّ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَائِلِهِ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الِاخْتِلَافُ أَحْيَانًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ الشُّبُهَاتِ أَهِيَ شُبْهَةٌ صَالِحَةٌ لِلدَّرْءِ بِهَا أَمْ لَا.
وَعَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ الشُّبْهَةَ بِأَنَّهَا مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ.
وَقَدْ قَسَّمَ كُلٌّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ الشُّبْهَةَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ.تَفْصِيلُهَا فِيمَا يَلِي:
أ- أَنْوَاعُ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
15- الشُّبْهَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: شُبْهَةٌ فِي الْفِعْلِ، وَشُبْهَةٌ فِي الْمَحَلِّ، وَشُبْهَةُ الْعَقْدِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّالِثِ.
1- الشُّبْهَةُ فِي الْفِعْلِ:
16- وَتُسَمَّى أَيْضًا: شُبْهَةُ الْمُشَابَهَةِ، وَشُبْهَةُ الِاشْتِبَاهِ.
وَهِيَ: أَنْ يُظَنَّ غَيْرُ الدَّلِيلِ دَلِيلًا.فَتَتَحَقَّقَ فِي حَقِّ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ فَقَطْ، أَيْ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ، وَلَا دَلِيلَ فِي السَّمْعِ يُفِيدُ الْحِلَّ بَلْ ظَنُّ غَيْرِ الدَّلِيلِ دَلِيلًا، فَلَا بُدَّ مِنَ الظَّنِّ، وَإِلاَّ فَلَا شُبْهَةَ أَصْلًا، لِفَرْضِ أَنْ لَا دَلِيلَ أَصْلًا لِتَثْبُتَ الشُّبْهَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ظَنُّهُ ثَابِتًا لَمْ تَكُنْ شُبْهَةٌ أَصْلًا، وَلَيْسَتْ بِشُبْهَةٍ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ قَالَ: إِنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ حُدَّ.
ثُمَّ إِنَّ شُبْهَةَ الْفِعْلِ تَكُونُ فِي ثَمَانِيَةِ مَوَاضِعَ: ثَلَاثَةٍ مِنْهَا فِي الزَّوْجَاتِ، وَخَمْسَةٍ فِي الْجَوَارِي.
فَمَوَاضِعُ الزَّوْجَاتِ: مَا لَوْ وَطِئَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا فِي الْعِدَّةِ، أَوْ وَطِئَ مُطَلَّقَتَهُ الْبَائِنَ فِي الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، أَوِ الْمُخْتَلِعَةَ.
وَمَوَاضِعُ الْجَوَارِي: هِيَ وَطْءُ جَارِيَةِ الْأَبِ أَوِ الْأُمِّ أَوِ الْجَدِّ أَوِ الْجَدَّةِ وَإِنْ عَلَوْا، وَوَطْءُ جَارِيَةِ الزَّوْجَةِ، وَوَطْءُ أُمِّ وَلَدِهِ الَّتِي أَعْتَقَهَا وَهِيَ فِي الِاسْتِبْرَاءِ، وَالْعَبْدُ يَطَأُ جَارِيَةَ مَوْلَاهُ، وَالْمُرْتَهِنُ يَطَأُ الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ عِنْدَهُ، وَكَذَا الْمُسْتَعِيرُ لِلرَّهْنِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَهِنِ.
فَالْوَاطِئُ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ إِذَا ظَنَّ الْحِلَّ يُعْذَرُ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَطِئَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً وَقَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ لِي، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى دَعْوَاهُ وَيُحَدُّ.وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ فِي شُبْهَةِ الْفِعْلِ وَإِنِ ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ تَمَحَّضَ زِنًى لِفَرْضِ أَنْ لَا شُبْهَةَ مِلْكٍ هُنَا، إِلاَّ أَنَّ الْحَدَّ سَقَطَ لِظَنِّهِ الْمَحَلَّ، فَضْلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَمْرٌ رَاجِعٌ إِلَى الْوَاطِئِ لَا إِلَى الْمَحَلِّ، فَكَأَنَّ الْمَحَلَّ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ حِلٍّ، فَلَا يَثْبُتُ نَسَبٌ بِهَذَا الْوَطْءِ، وَكَذَا لَا تَثْبُتُ بِهِ عِدَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ مِنَ الزَّانِي.
وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا غَيْرُ مُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ، فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي شُبْهَةِ الْعَقْدِ، فَيَكْفِي ذَلِكَ لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ.وَأُلْحِقَتْ بِهَا الْمُطَلَّقَةُ بِعِوَضٍ، وَالْمُخْتَلِعَةُ.
وَثُبُوتُ النَّسَبِ هُنَا لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْوَطْءِ فِي الْعِدَّةِ، بَلْ بِاعْتِبَارِ الْعُلُوقِ السَّابِقِ عَلَى الطَّلَاقِ.وَلِذَا ذَكَرُوا أَنَّ نَسَبَ وَلَدِهَا يَثْبُتُ إِلَى أَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ، وَلَا يَثْبُتُ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ.وَيَجِبُ فِي شُبْهَةِ الْفِعْلِ مَهْرُ الْمِثْلِ.
2- الشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ: وَتُسَمَّى أَيْضًا الشُّبْهَةُ الْحُكْمِيَّةُ وَشُبْهَةُ الْمِلْكِ:
17- وَتَنْشَأُ عَنْ دَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْحِلِّ فِي الْمَحَلِّ، فَتُصْبِحُ الْحُرْمَةُ الْقَائِمَةُ فِيهَا شُبْهَةً أَنَّهَا لَيْسَتْ ثَابِتَةً، نَظَرًا إِلَى دَلِيلِ الْحِلِّ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ».فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ لِأَجْلِ شُبْهَةٍ وُجِدَتْ فِي الْمَحَلِّ وَإِنْ عَلِمَ حُرْمَتَهُ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ إِذَا كَانَتْ فِي الْمَوْطُوءَةِ يَثْبُتُ فِيهَا الْمِلْكُ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ اسْمُ الزِّنَى فَامْتَنَعَ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْمُثْبِتَ لِلْحِلِّ قَائِمٌ، وَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْ إِثْبَاتِهِ لِمَانِعٍ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً.
وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ تَكُونُ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ: وَاحِدٌ مِنْهَا فِي الزَّوْجَاتِ، وَالْبَاقِي فِي الْجَوَارِي.
فَمَوْضِعُ الزَّوْجَاتِ: وَطْءُ الْمُعْتَدَّةِ بِالطَّلَاقِ الْبَائِنِ بِالْكِنَايَاتِ، فَلَا يُحَدُّ، لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- فِي كَوْنِهَا رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنَةً.
وَمَوَاضِعُ الْجَوَارِي: هِيَ وَطْءُ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ، وَوَطْءُ الْبَائِعِ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ قَبْلَ تَسْلِيمِهَا لِلْمُشْتَرِي، وَوَطْءُ الزَّوْجِ الْجَارِيَةَ الْمَجْعُولَةَ مَهْرًا قَبْلَ تَسْلِيمِهَا لِلزَّوْجَةِ حَيْثُ إِنَّ الْمِلْكَ فِيهِمَا لَمْ يَسْتَقِرَّ لِلْمُشْتَرِي وَالزَّوْجَةِ، وَوَطْءُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَغَيْرِهِ، وَوَطْءُ الْمُرْتَهِنِ لِلْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ فِي رِوَايَةٍ لَيْسَتْ بِالْمُخْتَارَةِ.وَزَادَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: وَطْءَ جَارِيَةِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ، وَوَطْءَ جَارِيَةِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ، وَوَطْءَ جَارِيَةِ عَبْدِهِ الْمُكَاتَبِ، وَوَطْءَ الْبَائِعِ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالَّتِي فِيهَا الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي.وَكَذَا وَطْءُ جَارِيَتِهِ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنَ الرَّضَاعِ، وَجَارِيَتُهُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَوَطْءُ الزَّوْجَةِ الَّتِي حُرِّمَتْ بِرِدَّتِهَا، أَوْ بِمُطَاوَعَتِهَا لِابْنِهِ أَوْ جِمَاعِهِ أُمَّهَا ثُمَّ جَامَعَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا عَلَيْهِ حَرَامٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ لَمْ يُحَرِّمْ بِهِ، فَاسْتُحْسِنَ أَنْ يَدْرَأَ بِذَلِكَ الْحَدِّ.قَالَ: وَالِاسْتِقْرَاءُ يُفِيدُ غَيْرَ ذَلِكَ أَيْضًا، فَالِاقْتِصَارُ عَلَى السِّتَّةِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ.فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ وَإِنْ قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهَا حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الشُّبْهَةُ، وَهِيَ هَاهُنَا قَائِمَةٌ فِي نَفْسِ الْحُكْمِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَعْرِفَتِهِ بِالْحُرْمَةِ وَعَدَمِهَا.وَيَثْبُتُ النَّسَبُ فِي شُبْهَةِ الْمَحَلِّ إِذَا ادَّعَى الْوَلَدَ.
3- شُبْهَةُ الْعَقْدِ:
18- قَالَ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَزُفَرُ.
وَهِيَ عِنْدَهُ تَثْبُتُ بِالْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ النَّسَبِيَّةِ، أَوْ بِالرَّضَاعِ، أَوْ بِالْمُصَاهَرَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ بِهِمَا، فَإِذَا وَطِئَ الشَّخْصُ إِحْدَى مَحَارِمِهِ بَعْدَ أَنْ عَقَدَ عَلَيْهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَكِنْ يَجِبُ الْمَهْرُ وَيُعَاقَبُ عُقُوبَةً هِيَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ التَّعْزِيرِ سِيَاسَةً لَا حَدًّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا تَعْزِيرَ.فَوُجُودُ الْعَقْدِ يَنْفِي الْحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَلَالًا كَانَ الْعَقْدُ أَوْ حَرَامًا، مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ، عَلِمَ الْوَاطِئُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ.
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ بِأَنَّ الْأُنْثَى مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ مَحَلٌّ لِهَذَا الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْعَقْدِ مَا يَكُونُ قَابِلًا لِمَقْصُودِهِ الْأَصْلِيِّ، وَكُلُّ أُنْثَى مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ قَابِلَةٌ لِمَقْصُودِ النِّكَاحِ وَهُوَ التَّوَالُدُ وَالتَّنَاسُلُ.وَإِذَا كَانَتْ قَابِلَةً لِمَقْصُودِهِ كَانَتْ قَابِلَةً لِحُكْمِهِ، إِذِ الْحُكْمُ يَثْبُتُ ذَرِيعَةً إِلَى الْمَقْصُودِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، إِلاَّ أَنَّهُ تَقَاعَدَ عَنْ إِفَادَةِ الْحِلِّ حَقِيقَةً لِمَكَانِ الْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ فِيهِنَّ بِالنَّصِّ فَيُورِثُ شُبْهَةً، إِذِ الشُّبْهَةُ مَا يُشْبِهُ الْحَقِيقَةَ لَا الْحَقِيقَةَ نَفْسَهَا.
وَالْأُنْثَى مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ مَحَلٌّ لِلْعَقْدِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ أَوْلَى بِإِيرَاثِ الشُّبْهَةِ، وَكَوْنُهَا مُحَرَّمَةً عَلَى التَّأْبِيدِ لَا يُنَافِي الشُّبْهَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَطِئَ أَمَتَهُ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنَ الرَّضَاعِ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.وَالنِّكَاحُ فِي إِفَادَةِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ أَقْوَى مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ، لِأَنَّهُ شَرَعَ لَهُ بِخِلَافِ مِلْكِ الْيَمِينِ، فَكَانَ أَوْلَى فِي إِفَادَةِ الشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تُشْبِهُ الْحَقِيقَةَ فَمَا كَانَ أَقْوَى فِي إِثْبَاتِ الْحَقِيقَةِ كَانَ أَقْوَى فِي إِثْبَاتِ الشُّبْهَةِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّا لِذَلِكَ بِأَنَّ حُرْمَتَهُنَّ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَإِضَافَةُ الْعَقْدِ إِلَيْهِنَّ كَإِضَافَتِهِ إِلَى الذُّكُورِ، لِكَوْنِهِ صَادَفَ غَيْرَ الْمَحَلِّ فَيَلْغُو؛ لِأَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ مَا يَكُونُ مَحَلًّا لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْحِلُّ هُنَا، وَهِيَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ فَيَكُونُ وَطْؤُهَا زِنًى حَقِيقَةً لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَالْحَقِّ فِيهَا.وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَآبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} وَالْفَاحِشَةُ هِيَ الزِّنَى لقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} وَمُجَرَّدُ إِضَافَةِ الْعَقْدِ إِلَى غَيْرِ الْمَحَلِّ لَا عِبْرَةَ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ الْوَارِدَ عَلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا حَتَّى لَا يُفِيدَ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الْبَيْعِ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا يُعْذَرُ بِالِاشْتِبَاهِ.وَمَحَلُّ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ فِي النِّكَاحِ الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى التَّأْبِيدِ.أَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، كَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَبِلَا شُهُودٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْكُلِّ.فَالشُّبْهَةُ إِنَّمَا تَنْتَفِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إِذَا كَانَ النِّكَاحُ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى التَّأْبِيدِ.وَالْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
38-موسوعة الفقه الكويتية (ضمان 4)
ضَمَانٌ -4الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ: «الْأَمْرُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بَاطِلٌ».
74- الْأَمْرُ: هُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ جَزْمًا، فَإِذَا أَمَرَ شَخْصٌ غَيْرَهُ بِأَخْذِ مَالِ شَخْصٍ آخَرَ أَوْ بِإِتْلَافِهِ عَلَيْهِ فَلَا عِبْرَةَ بِهَذَا الْأَمْرِ، وَيَضْمَنُ الْفَاعِلُ.
وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُقَيَّدَةٌ:
بِأَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ عَاقِلًا بَالِغًا، فَإِذَا كَانَ صَغِيرًا، كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ.وَأَنْ لَا يَكُونَ الْآمِرُ ذَا وِلَايَةٍ وَسُلْطَانٍ عَلَى الْمَأْمُورِ.
فَلَوْ كَانَ الْآمِرُ هُوَ السُّلْطَانَ أَوِ الْوَالِدَ، كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا.
الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ: «جِنَايَةُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ».
75- هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُقْتَبَسَةٌ مِنْ حَدِيثٍ شَرِيفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ» وَالْعَجْمَاءُ: الْبَهِيمَةُ، لِأَنَّهَا لَا تُفْصِحُ، وَمَعْنَى جُبَارٌ: أَنَّهُ هَدَرٌ وَبَاطِلٌ.
وَالْمُرَادُ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مُسَيَّبَةً حَيْثُ تُسَيَّبُ الْحَيَوَانَاتُ، وَلَا يَدَ عَلَيْهَا، أَمَّا لَوْ كَانَ مَعَهَا رَاكِبٌ فَيَضْمَنُ، فَلَوِ اصْطَادَتْ هِرَّتُهُ طَائِرًا لِغَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنْ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يَأْتِي فِي ضَمَانِ جِنَايَةِ الْحَيَوَانِ.
الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ: «الْجَوَازُ الشَّرْعِيُّ يُنَافِي الضَّمَانَ».
76- يَعْنِي إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى الْفِعْلِ الْجَائِزِ الْمُبَاحِ شَرْعًا، ضَرَرٌ لِلْآخَرِينَ، لَا يُضْمَنُ الضَّرَرُ.فَلَوْ حَفَرَ حُفْرَةً فِي مِلْكِهِ، أَوْ فِي الطَّرِيقِ، بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، فَتَرَدَّى فِيهَا حَيَوَانٌ أَوْ إِنْسَانٌ، لَا يَضْمَنُ الْحَافِرُ شَيْئًا.وَهَذَا مُقَيَّدٌ بِشَرْطَيْنِ:
1- أَنْ لَا يَكُونَ الْمُبَاحُ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، فَيَضْمَنُ- مَثَلًا- رَاكِبُ السَّيَّارَةِ وَقَائِدُ الدَّابَّةِ أَوْ رَاكِبُهَا فِي الطَّرِيقِ.
2- أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمُبَاحِ إِتْلَافُ الْآخَرِينَ وَإِلاَّ كَانَ مَضْمُونًا.
فَيَضْمَنُ مَا يُتْلِفُهُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ لِلْمَخْمَصَةِ، مَعَ أَنَّ أَكْلَهُ لِأَجْلِهَا جَائِزٌ، بَلْ وَاجِبٌ.
الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ»
77- الْخَرَاجُ: هُوَ غَلَّةُ الشَّيْءِ وَمَنْفَعَتُهُ، إِذَا كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنْهُ، غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ.كَسُكْنَى الدَّارِ، وَأُجْرَةِ الدَّابَّةِ.
وَالضَّمَانُ: هُوَ التَّعْوِيضُ الْمَالِيُّ عَنِ الضَّرَرِ الْمَادِّيِّ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنَافِعَ الشَّيْءِ يَسْتَحِقُّهَا مَنْ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ لَوْ هَلَكَ، فَتَكُونُ الْمَنْفَعَةُ فِي مُقَابِلِ تَحَمُّلِ خَسَارَةِ هَلَاكِهِ، فَمَا لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ لَا يَسْتَحِقُّ مَنَافِعَهُ وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ».
الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ: «الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ».
78- هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَعْنَاهَا أَنَّ التَّكَلُّفَاتِ وَالْغَرَامَاتِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الشَّيْءِ، تَجِبُ عَلَى مَنِ اسْتَفَادَ مِنْهُ وَانْتَفَعَ بِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ: 1- نَفَقَةُ رَدِّ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي انْتَفَعَ بِهَا.
2- وَنَفَقَةُ رَدِّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمُودِعِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَفَادَ مِنْ حِفْظِهَا.
3- وَأُجْرَةِ كِتَابَةِ عَقْدِ الْمِلْكِيَّةِ عَلَى الْمُشْتَرِي، لِأَنَّهَا تَوْثِيقٌ لِانْتِقَالِ الْمِلْكِيَّةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْمُسْتَفِيدُ مِنْ ذَلِكَ.
الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ: «لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَخْذُ مَالِ أَحَدٍ بِلَا سَبَبٍ شَرْعِيٍّ».
79- هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ حَدِيثِ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ».
فَيَحْرُمُ أَخْذُ أَمْوَالِ الْآخَرِينَ بِالْبَاطِلِ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِهِمَا.
أَحْكَامُ الضَّمَانِ:
أَحْكَامُ الضَّمَانِ- بِوَجْهٍ عَامٍّ- تُقَسَّمُ إِلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ.
1- ضَمَانُ الدِّمَاءِ (الْأَنْفُسِ وَالْجِرَاحِ).
2- ضَمَانُ الْعُقُودِ.
3- ضَمَانُ الْأَفْعَالِ الضَّارَّةِ بِالْأَمْوَالِ، كَالْإِتْلَافَاتِ، وَالْغُصُوبِ.
وَحَيْثُ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ضَمَانِ الْعُقُودِ فِي أَنْوَاعِ الضَّمَانِ وَمَحَلِّهِ، فَنَقْصِرُ الْقَوْلَ عَلَى ضَمَانِ الدِّمَاءِ، وَضَمَانِ الْأَفْعَالِ الضَّارَّةِ بِالْأَمْوَالِ.
ضَمَانُ الدِّمَاءِ (الْأَنْفُسِ وَالْجِرَاحِ)
80- ضَمَانُ الدِّمَاءِ أَوِ الْأَنْفُسِ هُوَ: الْجَزَاءُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الضَّرَرِ الْوَاقِعِ عَلَى النَّفْسِ فَمَا دُونَهَا.
وَيَشْمَلُ الْقِصَاصَ وَالْحُدُودَ، وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ، كَمَا يَشْمَلُ التَّعْزِيرُ حُكُومَةَ الْعَدْلِ وَهِيَ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ.
وَيُقَسَّمُ الضَّمَانُ- بِحَسَبِ الْجِنَايَةِ- إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
1- ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ.
2- ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، مِنَ الْأَطْرَافِ وَالْجِرَاحِ.
3- ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ، وَهِيَ: الْإِجْهَاضُ.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلًا: ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ:
يَتَمَثَّلُ فِيمَا يَلِي، بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهَا:
الْقَتْلُ الْعَمْدُ:
81- الْقَتْلُ الْعَمْدُ، إِذَا تَحَقَّقَتْ شُرُوطُهُ، فَضَمَانُهُ بِالْقِصَاصِ.
(ر: مُصْطَلَح: قَتْل، قِصَاص).
وَأَوْجَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَآخَرُونَ الْكَفَّارَةَ فِيهِ أَيْضًا.
فَإِنِ امْتَنَعَ الْقِصَاصُ، أَوْ تَعَذَّرَ أَوْ صَالَحَ عَنْهُ، كَانَ الضَّمَانُ بِالدِّيَةِ أَوْ بِمَا صُولِحَ عَنْهُ (ر: مُصْطَلَح: دِيَات).
وَيُوجِبُ الْمَالِكِيَّةُ حِينَئِذٍ التَّعْزِيرَ، كَمَا يُوجِبُونَ فِي الْقَتْلِ غِيلَةً- الْقَتْلِ عَلَى وَجْهِ الْمُخَادِعَةِ وَالْحِيلَةِ- قَتْلَ الْقَاتِلِ تَعْزِيرًا، إِنْ عَفَا عَنْهُ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ.
كَمَا يُحْرَمُ الْقَاتِلُ مِنْ مِيرَاثِ الْمَقْتُولِ وَوَصِيَّتِهِ.
الْقَتْلُ الشَّبِيهُ بِالْعَمْدِ:
82- هُوَ: الْقَتْلُ بِمَا لَا يَقْتُلُ فِي الْغَالِبِ- عِنْدَ الْجُمْهُورِ- وَبِالْمُثْقَلَاتِ كَذَلِكَ- عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، مِنْ غَيْرِ الْحَدِيدِ وَالْمَعْدِنِ- وَإِنْ كَانَ الْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَ هَذَا مِنَ الْعَمْدِ.
وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ فِي الْحَدِيثِ: «أَلَا وَإِنَّ قَتِيلَ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ، مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا، مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا».
الْقَتْلُ الْخَطَأُ:
83- وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ اتِّفَاقًا بِالنَّصِّ الْكَرِيمِ، وَفِيهِ كَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ وَالْحِرْمَانُ مِنَ الْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ وَهَذَا لِعُمُومِ النَّصِّ.
وَالضَّمَانُ كَذَلِكَ فِي الْقَتْلِ الشَّبِيهِ بِالْخَطَأِ فِي اصْطِلَاحِ الْحَنَفِيَّةِ، وَيَتَمَثَّلُ بِانْقِلَابِ النَّائِمِ عَلَى شَخْصٍ فَيَقْتُلُهُ، أَوِ انْقِلَابِ الْأُمِّ عَلَى رَضِيعِهَا فَيَمُوتُ بِذَلِكَ.
الْقَتْلُ بِسَبَبٍ:
84- قَالَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَيَتَمَثَّلُ بِمَا لَوْ حَفَرَ حُفْرَةً فِي الطَّرِيقِ، فَتَرَدَّى فِيهَا إِنْسَانٌ فَمَاتَ.
وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ فَقَطْ، عِنْدَهُمْ، فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَلَا حِرْمَانَ، لِانْعِدَامِ الْقَتْلِ فِيهِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا أَوْجَبُوا الدِّيَةَ صَوْنًا لِلدِّمَاءِ عَنِ الْهَدَرِ.
وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ، يُلْحِقُونَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْقَتْلِ بِالْخَطَأِ فِي أَحْكَامِهِ، دِيَةً، وَكَفَّارَةً، وَحِرْمَانًا، لِأَنَّ الشَّارِعَ أَنْزَلَهُ مَنْزِلَةَ الْقَاتِلِ.
(وَلِلتَّفْصِيلِ ر: مُصْطَلَح: قَتْل وَدِيَات وَجِنَايَة).
ثَانِيًا: ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ:
وَتَتَحَقَّقُ فِي الْأَطْرَافِ، وَالْجِرَاحِ فِي غَيْرِ الرَّأْسِ، وَفِي الشِّجَاجِ.
85- أ- أَمَّا الْأَطْرَافُ:
فَحُدِّدَتْ عُقُوبَتُهَا بِالْقِصَاصِ بِالنَّصِّ، فِي قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ}.
وَزَادَ مَالِكٌ عَلَى ذَلِكَ التَّعْزِيرَ بِالتَّأْدِيبِ، لِيَتَنَاهَى النَّاسُ.
فَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ، بِسَبَبِ الْعَفْوِ أَوِ الصُّلْحِ أَوْ لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ، كَانَ الضَّمَانُ بِالدِّيَةِ وَالْأَرْشِ، وَهُوَ: اسْمٌ لِلْوَاجِبِ مِنَ الْمَالِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ.
(ر: جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ).
86- ب- وَأَمَّا الْجِرَاحُ
فَخَاصَّةٌ بِمَا كَانَ فِي غَيْرِ الرَّأْسِ، فَإِذَا كَانَتْ جَائِفَةً، أَيْ بَالِغَةَ الْجَوْفِ، فَلَا قِصَاصَ فِيهَا اتِّفَاقًا، خَشْيَةَ الْمَوْتِ.
وَإِذَا كَانَتْ غَيْرَ جَائِفَةٍ، فَفِيهَا الْقِصَاصُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ مَنَعُوا الْقِصَاصَ فِيهَا مُطْلَقًا لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ.
فَإِنِ امْتَنَعَ الْقِصَاصُ فِي الْجِرَاحِ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ:
فَفِي الْجَائِفَةِ يَجِبُ ثُلُثُ الدِّيَةِ، لِحَدِيثِ: «فِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الْعَقْلِ».
وَفِي غَيْرِ الْجَائِفَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَفُسِّرَتْ بِأَنَّهَا أُجْرَةُ الطَّبِيبِ وَثَمَنُ الْأَدْوِيَةِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (جِرَاح، وَحُكُومَةُ عَدْلٍ).
87- ج- وَأَمَّا الشِّجَاجُ، وَهِيَ مَا يَكُونُ مِنَ الْجِرَاحِ فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ فَإِنْ تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ فِيهَا: فَفِيهِ الْأَرْشُ مُقَدَّرًا، كَمَا فِي الْمُوضِحَةِ، لِحَدِيثِ «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمُوضِحَةِ، خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ».
وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُقَدَّرٍ، فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ.وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ، لَيْسَ فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَقْضِ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ بِشَيْءٍ».فَتَجِبُ فِيهِ الْحُكُومَةُ.
وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ أَنَّهُ وَرَدَ التَّقْدِيرُ فِي أَرْشِ الْمُوضِحَةِ، وَفِيمَا دُونَهَا، كَمَا وَرَدَ فِيمَا فَوْقَهَا فَيُعْمَلُ بِهِ.
لِلتَّفْصِيلِ: (ر: مُصْطَلَحَ: شِجَاج، دِيَات، حُكُومَةُ عَدْلٍ).
ثَالِثًا: ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ:
88- وَهِيَ الْإِجْهَاضُ، فَإِذَا سَقَطَ الْجَنِينُ مَيِّتًا بِشُرُوطِهِ، فَضَمَانُهُ بِالْغُرَّةِ اتِّفَاقًا، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي لِحْيَانَ، بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ».
وَتَجِبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي مَالِ الْعَاقِلَةِ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الَّذِينَ أَوْجَبُوهَا فِي مَالِ الْجَانِي.
وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِنَّمَا تُنْدَبُ، وَأَوْجَبَهَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِأَنَّ الْجَنِينَ آدَمِيٌّ مَعْصُومٌ، وَإِذَا لَمْ تُوجَدِ الرَّقَبَةُ، انْتَقَلَتِ الْعُقُوبَةُ إِلَى بَدَلِهَا مَالًا، وَهُوَ: نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَعُشْرُ دِيَةِ الْمَرْأَةِ.
(ر: جَنِين، غُرَّة).
ضَمَانُ الْأَفْعَالِ الضَّارَّةِ بِالْأَمْوَالِ:
89- تَتَمَثَّلُ الْأَفْعَالُ الضَّارَّةُ بِالْأَمْوَالِ فِي الْإِتْلَافَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَالْغُصُوبِ، وَنَحْوِهَا.
وَلِضَمَانِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْأَفْعَالِ الضَّارَّةِ، أَحْكَامٌ عَامَّةٌ، وَأَحْكَامٌ خَاصَّةٌ: أَوَّلًا: الْأَحْكَامُ الْعَامَّةُ فِي ضَمَانِ الْأَفْعَالِ الضَّارَّةِ بِالْأَمْوَالِ:
90- تَقُومُ فِكْرَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الضَّمَانِ- خِلَافًا لِمَا تَقَدَّمَ فِي ضَمَانِ الْأَفْعَالِ الضَّارَّةِ بِالْأَنْفُسِ- عَلَى مَبْدَأِ جَبْرِ الضَّرَرِ الْمَادِّيِّ الْحَائِقِ بِالْآخَرِينَ، أَمَّا فِي تِلْكَ فَهُوَ قَائِمٌ عَلَى مَبْدَأِ زَجْرِ الْجُنَاةِ، وَرَدْعِ غَيْرِهِمْ.
وَالتَّعْبِيرُ بِالضَّمَانِ عَنْ جَبْرِ الضَّرَرِ وَإِزَالَتِهِ، هُوَ التَّعْبِيرُ الشَّائِعُ فِي الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ، وَعَبَّرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ بِالتَّعْوِيضِ، كَمَا فَعَلَ ابْنُ عَابِدِينَ.
وَتَوَسَّعَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا النَّوْعِ فِي أَنْوَاعِ الضَّمَانِ وَتَفْصِيلِ أَحْكَامِهِ، حَتَّى أَفْرَدَهُ الْبَغْدَادِيُّ بِالتَّصْنِيفِ فِي كِتَابِهِ: (مَجْمَعِ الضَّمَانَاتِ).
وَمِنْ أَهَمِّ قَوَاعِدِ الضَّمَانِ قَاعِدَةُ: «الضَّرَرُ يُزَالُ».وَإِزَالَةُ الضَّرَرِ الْوَاقِعِ عَلَى الْأَمْوَالِ يَتَحَقَّقُ بِالتَّعْوِيضِ الَّذِي يُجْبَرُ فِيهِ الضَّرَرُ.
وَقَدْ عَرَّفَ الْفُقَهَاءُ الضَّمَانَ بِهَذَا الْمَعْنَى، بِأَنَّهُ: رَدُّ مِثْلِ الْهَالِكِ أَوْ قِيمَتِهِ.
وَعَرَّفَهُ الشَّوْكَانِيُّ بِأَنَّهُ: عِبَارَةٌ عَنْ غَرَامَةِ التَّالِفِ.
وَكِلَا التَّعْرِيفَيْنِ يَسْتَهْدِفُ إِزَالَةَ الضَّرَرِ، وَإِصْلَاحَ الْخَلَلِ الَّذِي طَرَأَ عَلَى الْمَضْرُورِ، وَإِعَادَةَ حَالَتِهِ الْمَالِيَّةِ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ وُقُوعِ الضَّرَرِ.
طَرِيقَةُ التَّضْمِينِ:
91- الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ فِي تَضْمِينِ الْمَالِيَّاتِ، هِيَ: مُرَاعَاةُ الْمِثْلِيَّةِ التَّامَّةِ بَيْنَ الضَّرَرِ، وَبَيْنَ الْعِوَضِ، كُلَّمَا أَمْكَنَ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ: «ضَمَانُ الْعُدْوَانِ مُقَدَّرٌ بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ» يُشِيرُ إِلَى قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}.
وَالْمِثْلُ وَإِنْ كَانَ بِهِ يَتَحَقَّقُ الْعَدْلُ، لَكِنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَرُدَّ الشَّيْءَ الْمَالِيَّ الْمُعْتَدَى فِيهِ نَفْسَهُ، كُلَّمَا أَمْكَنَ، مَا دَامَ قَائِمًا مَوْجُودًا، لَمْ يَدْخُلْهُ عَيْبٌ يُنْقِصُ مِنْ مَنْفَعَتِهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الْحَسَنُ، عَنْ سَمُرَةَ- رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ».
بَلْ هَذَا هُوَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ فِي الْغَصْبِ، الَّذِي هُوَ أَوَّلُ صُوَرِ الضَّرَرِ وَأَهَمُّهَا.
فَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ، لِهَلَاكِهِ أَوِ اسْتِهْلَاكِهِ أَوْ فَقْدِهِ، وَجَبَ حِينَئِذٍ رَدُّ مِثْلِهِ، إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيمِيًّا.
وَالْمِثْلِيُّ هُوَ: مَا لَهُ مِثْلٌ فِي الْأَسْوَاقِ، أَوْ نَظِيرٌ، بِغَيْرِ تَفَاوُتٍ يُعْتَدُّ بِهِ، كَالْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ، وَالْمَذْرُوعَاتِ، وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ.
وَالْقِيمِيُّ هُوَ: مَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ فِي الْأَسْوَاقِ، أَوْ هُوَ مَا تَتَفَاوَتُ أَفْرَادُهُ، كَالْكُتُبِ الْمَخْطُوطَةِ، وَالثِّيَابِ الْمُفَصَّلَةِ الْمَخِيطَةِ لِأَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ.
وَالْمِثْلُ أَعْدَلُ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ، لِمَا فِيهِ مِنِ اجْتِمَاعِ الْجِنْسِ وَالْمَالِيَّةِ.
وَالْقِيمَةُ تَقُومُ مَقَامَ الْمِثْلِ، فِي الْمَعْنَى وَالِاعْتِبَارِ الْمَالِيِّ.
وَقْتُ تَقْدِيرِ التَّضْمِينِ:
92- تَنَاوَلَ الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، فِي الْمَغْصُوبِ- عَلَى التَّخْصِيصِ- إِذَا كَانَ مِثْلِيًّا، وَفُقِدَ مِنَ السُّوقِ، وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَنْظَارُهُمْ فِيهَا عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:
ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ: إِلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْغَصْبِ، لِأَنَّهُ لَمَّا انْقَطَعَ مِنَ السُّوقِ الْتَحَقَ بِمَا لَا مِثْلَ لَهُ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ انْعِقَادِ السَّبَبِ، وَهُوَ الْغَصْبُ، كَمَا أَنَّ الْقِيمِيَّ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ كَذَلِكَ يَوْمَ الْغَصْبِ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدٌ: إِلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمِثْلُ فِي الذِّمَّةِ وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْقِيمَةِ بِالِانْقِطَاعِ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ.
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْقَضَاءِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمِثْلُ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْقِيمَةِ بِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ، لِأَنَّ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَنْتَظِرَ حَتَّى يُوجَدَ الْمِثْلُ، بَلْ إِنَّمَا يَنْتَقِلُ بِالْقَضَاءِ، فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْقَضَاءِ.
أَمَّا الْقِيمِيُّ إِذَا تَلِفَ، فَتَجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْغَصْبِ اتِّفَاقًا.
أَمَّا فِي الِاسْتِهْلَاكِ: فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْإِمَامِ وَعِنْدَهُمَا يَوْمَ الِاسْتِهْلَاكِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ ضَمَانَ الْقِيمَةِ يُعْتَبَرُ يَوْمَ الْغَصْبِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمَغْصُوبِ سَوَاءٌ أَكَانَ عَقَارًا، أَمْ غَيْرَهُ، لَا يَوْمَ حُصُولِ الْمُفَوِّتِ، وَلَا يَوْمَ الرَّدِّ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ التَّلَفُ بِسَمَاوِيٍّ أَمْ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ.
وَفِي الْإِتْلَافِ وَالِاسْتِهْلَاكِ- فِي غَيْرِ الْمِثْلِيَّاتِ- كَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ، تُعْتَبَرُ يَوْمَ الِاسْتِهْلَاكِ وَالْإِتْلَافِ.
وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْمِثْلِيَّ إِذَا تَعَذَّرَ وُجُودُهُ، فِي بَلَدِهِ وَحَوَالَيْهِ تُعْتَبَرُ أَقْصَى قِيمَةٍ، مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى تَعَذُّرِ الْمِثْلِ، وَفِي قَوْلٍ إِلَى التَّلَفِ، وَفِي قَوْلٍ إِلَى الْمُطَالَبَةِ.
وَإِذَا كَانَ الْمِثْلُ مَفْقُودًا عِنْدَ التَّلَفِ، فَالْأَصَحُّ وُجُوبُ أَكْثَرِ الْقِيَمِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى التَّلَفِ، لَا إِلَى وَقْتِ الْفَقْدِ.وَأَمَّا الْمُتَقَوِّمُ فَيُضْمَنُ فِي الْغَصْبِ بِأَقْصَى قِيمَةٍ مِنَ الْغَصْبِ إِلَى التَّلَفِ.
وَأَمَّا الْإِتْلَافُ بِلَا غَصْبٍ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ التَّلَفِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَتُعْتَبَرُ فِي مَوْضِعِ الْإِتْلَافِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَكَانُ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ كَالْمَفَازَةِ، فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَجِبُ رَدُّ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا، يَوْمَ تَلَفِهِ فِي بَلَدِ غَصْبِهِ مِنْ نَقْدِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ زَمَنُ الضَّمَانِ وَمَوْضِعُ الضَّمَانِ وَمُنْصَرَفُ اللَّفْظِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ (كَالدِّينَارِ) كَمَا يَقُولُ الْبُهُوتِيُّ إِنْ لَمْ تَخْتَلِفْ قِيمَةُ التَّالِفِ، مِنْ حِينِ الْغَصْبِ إِلَى حِينِ الرَّدِّ.
فَإِنِ اخْتَلَفَتْ لِمَعْنًى فِي التَّالِفِ مِنْ كِبَرٍ وَصِغَرٍ وَسِمَنٍ وَهُزَالٍ- وَنَحْوِهَا- مِمَّا يَزِيدُ فِي الْقِيمَةِ وَيَنْقُصُ مِنْهَا، فَالْوَاجِبُ رَدُّ أَكْثَرِ مَا تَكُونُ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ مِنْ حِينِ الْغَصْبِ إِلَى حِينِ الرَّدِّ، لِأَنَّهَا مَغْصُوبَةٌ فِي الْحَالِ الَّتِي زَادَتْ فِيهَا، وَالزِّيَادَةُ مَضْمُونَةٌ لِمَالِكِهَا.
وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِثْلِيًّا يَجِبُ رَدُّ مِثْلِهِ، فَإِنْ فُقِدَ الْمِثْلُ، فَتَجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ انْقِطَاعِ الْمِثْلِ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ حِينَ انْقِطَاعِ الْمِثْلِ، فَاعْتُبِرَتِ الْقِيمَةُ حِينَئِذٍ، كَتَلَفِ الْمُتَقَوِّمِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: تَجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ قَبْضِ الْبَدَلِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمِثْلُ، إِلَى حِينِ قَبْضِ الْبَدَلِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ الْمِثْلُ بَعْدَ فَقْدِهِ، لَكَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْمِثْلُ دُونَ الْقِيمَةِ، لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، قَدَرَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَدَاءِ الْبَدَلِ، فَأَشْبَهَ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَاءِ بَعْدَ التَّيَمُّمِ.
تَقَادُمُ الْحَقِّ فِي التَّضْمِينِ:
93- التَّقَادُمُ- أَوْ مُرُورُ الزَّمَانِ- هُوَ: مُضِيُّ زَمَنٍ طَوِيلٍ، عَلَى حَقٍّ أَوْ عَيْنٍ فِي ذِمَّةِ إِنْسَانٍ، لِغَيْرِهِ دُونَ مُطَالَبَةٍ بِهِمَا، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا.
وَالشَّرِيعَةُ- بِوَجْهٍ عَامٍّ- اعْتَبَرَتِ التَّقَادُمَ مَانِعًا مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى، فِي الْمِلْكِ وَفِي الْحَقِّ، مَعَ بَقَائِهِمَا عَلَى حَالِهِمَا السَّابِقَةِ، وَلَمْ تَعْتَبِرْهُ مَكْسَبًا لِمِلْكِيَّةٍ أَوْ قَاطِعًا لِحَقٍّ.
فَيَقُولُ الْحَصْكَفِيُّ: الْقَضَاءُ مُظْهِرٌ لَا مُثْبِتٌ، وَيَتَخَصَّصُ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ وَخُصُومَةٍ حَتَّى لَوْ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِعَدَمِ سَمَاعِ الدَّعْوَى، بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَسَمِعَهَا الْقَاضِي، لَمْ يَنْفُذْ.
وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْأَشْبَاهِ وَغَيْرِهَا، أَنَّ الْحَقَّ لَا يَسْقُطُ بِتَقَادُمِ الزَّمَانِ.
فَبِنَاءً عَلَى هَذَا يُقَالُ: إِذَا لَمْ يَرْفَعْ الشَّخْصُ الْمَضْرُورُ دَعْوَى، يُطَالِبُ فِيهَا بِالضَّمَانِ أَوِ التَّعْوِيضِ عَنِ الضَّرَرِ، مِمَّنْ أَلْحَقَهُ بِهِ، مُدَّةَ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا، سَقَطَ حَقُّهُ، قَضَاءً فَقَطْ لَا دِيَانَةً، فِي إِقَامَةِ الدَّعْوَى مِنْ جَدِيدٍ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَضْرُورُ غَائِبًا، أَوْ كَانَ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا وَلَيْسَ لَهُ وَلِيٌّ، أَوْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَاكِمًا جَائِرًا، أَوْ كَانَ ثَابِتَ الْإِعْسَارِ خِلَالَ هَذِهِ الْمُدَّةِ، ثُمَّ أَيْسَر بَعْدَهَا، فَإِنَّهُ يَبْقَى حَقُّهُ فِي إِقَامَةِ الدَّعْوَى قَائِمًا، مَهْمَا طَالَ الزَّمَنُ بِسَبَبِ الْعُذْرِ، الَّذِي يَنْفِي شُبْهَةَ التَّزْوِيرِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا أَمَرَ السُّلْطَانُ الْعَادِلُ نَفْسَهُ بِسَمَاعِ هَذِهِ الدَّعْوَى، بَعْدَ مُضِيِّ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا أَوْ سَمِعَهَا بِنَفْسِهِ- كَمَا يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ- حِفْظًا لِحَقِّ الْمَضْرُورِ، إِذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّزْوِيرِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ الْخَصْمُ بِحَقِّ الْمَضْرُورِ فِي الضَّمَانِ، وَالتَّعْوِيضِ عَنِ الضَّرَرِ، بَعْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ، فَإِنَّهُ يَتَلَاشَى بِذَلِكَ مُضِيُّ الزَّمَنِ وَيَسْقُطُ لِظُهُورِ الْحَقِّ بِإِقْرَارِهِ وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ.
ثَانِيًا: الْأَحْكَامُ الْخَاصَّةُ فِي ضَمَانِ الْأَفْعَالِ الضَّارَّةِ بِالْأَمْوَالِ:
94- قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَاعِدَةَ فِي الضَّمَانِ، هِيَ رَدُّ الْعَيْنِ أَصْلًا، وَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ، وَجَبَ الضَّمَانُ بِرَدِّ الْمِثْلِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ، وَدَفْعِ الْقِيمَةِ فِي الْقِيمِيَّاتِ.
وَنَذْكُرُ- هُنَا- التَّضْمِينَ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ مُسْتَثْنَاةٍ مِنَ الْأَصْلِ، إِذْ يُحْكَمُ فِيهَا بِالتَّعْوِيضِ الْمَالِيِّ أَحْيَانًا، وَبِالتَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ضَمَانِ الْمِثْلِ فِي أَحْيَانٍ أُخْرَى، وَهِيَ: قَطْعُ الشَّجَرِ، وَهَدْمُ الْمَبَانِي، وَالْبِنَاءُ عَلَى الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، أَوِ الْغَرْسُ فِيهَا، وَقَلْعُ عَيْنِ الْحَيَوَانِ، وَتَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِيهَا كَمَا يَلِي: أ- قَطْعُ الشَّجَرِ:
95- لَوْ قَطَعَ شَخْصٌ لآِخَرَ، شَجَرَ حَدِيقَتِهِ، ضَمِنَ قِيمَةَ الشَّجَرِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ.
وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ: أَنْ تُقَوَّمُ الْحَدِيقَةُ مَعَ الشَّجَرِ الْقَائِمِ، وَتُقَوَّمَ بِدُونِهِ فَالْفَضْلُ هُوَ قِيمَتُهُ، فَالْمَالِكُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ تِلْكَ الْقِيمَةَ، وَيَدْفَعَ لَهُ الْأَشْجَارَ الْمَقْطُوعَةَ، وَبَيْنَ أَنْ يُمْسِكَهَا، وَيُضَمِّنَهُ نُقْصَانَ تِلْكَ الْقِيمَةِ.
وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأَشْجَارِ مَقْطُوعَةً وَغَيْرَ مَقْطُوعَةٍ سَوَاءً، بَرِئَ.
وَلَوْ أَتْلَفَ شَجَرَةً مِنْ ضَيْعَةٍ، وَلَمْ يَتْلَفْ بِهِ شَيْءٌ، قِيلَ: تَجِبُ قِيمَةُ الشَّجَرَةِ الْمَقْطُوعَةِ، وَقِيلَ تَجِبُ قِيمَتُهَا نَابِتَةً وَلَوْ أَتْلَفَ شَجَرَةً، قُوِّمَتْ مَغْرُوسَةً وَقُوِّمَتْ مَقْطُوعَةً، وَيَغْرَمُ مَا بَيْنَهُمَا.
وَلَوْ أَتْلَفَ ثِمَارَهَا، أَوْ نَفَضَهَا لَمَّا نَوَّرَتْ، حَتَّى تَنَاثَرَ نَوْرُهَا، قُوِّمَتِ الشَّجَرَةُ مَعَ ذَلِكَ، وَقُوِّمَتْ بِدُونِهَا فَيَغْرَمُ مَا بَيْنَهُمَا، وَكَذَا الزَّرْعُ.
ب- هَدْمُ الْمَبَانِي:
96- إِذَا هَدَمَ إِنْسَانٌ بِنَاءً أَوْ جِدَارًا لِغَيْرِهِ، يَجِبُ عَلَيْهِ بِنَاءُ مِثْلِهِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، فَإِنْ تَعَذَّرَتِ الْمُمَاثَلَةُ رَجَعَ إِلَى الْقِيمَةِ لِحَدِيثِ: أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «كَانَ رَجُلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ: جُرَيْجٌ، يُصَلِّي، فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ، فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهَا، فَقَالَ: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي؟ ثُمَّ أَتَتْهُ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ، وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: لأَفْتِنَنَّ جُرَيْجًا، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَكَلَّمَتْهُ، فَأَبَى.فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا.فَوَلَدَتْ غُلَامًا، فَقَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ.فَأَتَوْهُ كَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى الْغُلَامَ فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ؟ قَالَ: الرَّاعِي.قَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: لَا، إِلاَّ مِنْ طِينٍ».
وَالْأَصْلُ: أَنَّ الْحَائِطَ وَالْبِنَاءَ مِنَ الْقِيمِيَّاتِ، فَتُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ.
وَقَدْ نَقَلَ الرَّمْلِيُّ الْحَنَفِيُّ أَنَّهُ لَوْ هَدَمَ جِدَارَ غَيْرِهِ، تُقَوَّمُ دَارُهُ مَعَ جُدْرَانِهَا، وَتُقَوَّمُ بِدُونِ هَذَا الْجِدَارِ فَيَضْمَنُ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا.
وَفِي الْقُنْيَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ: إِذَا هَدَمَ حَائِطًا مُتَّخَذًا مِنْ خَشَبٍ أَوْ عَتِيقًا مُتَّخَذًا مِنْ رَهْصٍ (طِينٍ) يَضْمَنُ قِيمَتَهُ، وَإِنْ كَانَ حَدِيثًا يُؤْمَرُ بِإِعَادَتِهِ كَمَا كَانَ.
وَقَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: مَنْ هَدَمَ حَائِطَ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ نُقْصَانَهَا (أَيْ قِيمَتَهَا مَبْنِيَّةً) وَلَا يُؤْمَرُ بِعِمَارَتِهَا، إِلاَّ فِي حَائِطِ الْمَسْجِدِ، كَمَا فِي كَرَاهَةِ الْخَانِيَّةِ.
لَكِنَّ الْمَذْهَبَ، مَا قَالَهُ الْعَلاَّمَةُ قَاسِمٌ فِي شَرْحِهِ لِلنُّقَايَةِ: وَإِذَا هَدَمَ الرَّجُلُ حَائِطَ جَارِهِ فَلِلْجَارِ الْخِيَارُ: إِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْحَائِطِ، وَالنَّقْضُ لِلضَّامِنِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ النَّقْضَ، وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ، لِأَنَّ الْحَائِطَ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهَالِكٌ مِنْ وَجْهٍ، فَإِنْ شَاءَ مَالَ إِلَى جِهَةِ الْقِيَامِ، وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إِلَى جِهَةِ الْهَلَاكِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْحَائِطِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى الْبِنَاءِ، كَمَا كَانَ، لِأَنَّ الْحَائِطَ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ.
وَطَرِيقُ تَقْوِيمِ النُّقْصَانِ: أَنْ تُقَوَّمَ الدَّارُ مَعَ حِيطَانِهَا، وَتُقَوَّمَ بِدُونِ هَذَا الْحَائِطِ فَيَضْمَنُ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا.
وَالضَّمَانُ فِي هَذِهِ الْحَالِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْهَدْمُ لِلضَّرُورَةِ، كَمَنْعِ سَرَيَانِ الْحَرِيقِ، بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، ضَمِنَ الْهَادِمُ قِيمَتَهَا مُعَرَّضَةً لِلْحَرِيقِ.
ج- الْبِنَاءُ عَلَى الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ أَوِ الْغَرْسُ فِيهَا:
97- إِذَا غَرَسَ شَخْصٌ شَجَرًا، أَوْ أَقَامَ بِنَاءً عَلَى أَرْضٍ غَصَبَهَا، فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِقَلْعِ الشَّجَرِ، وَهَدْمِ الْبِنَاءِ، وَتَفْرِيغِ الْأَرْضِ مِنْ كُلِّ مَا أَنْشَأَ فِيهَا، وَإِعَادَتِهَا كَمَا كَانَتْ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا وَذَلِكَ: لِحَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لِعِرَقِ ظَالِمٍ حَقٌّ»، قَالَ: فَلَقَدْ أَخْبَرَنِي الَّذِي حَدَّثَنِي هَذَا الْحَدِيثَ، «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- غَرَسَ أَحَدُهُمَا نَخْلًا فِي أَرْضِ الْآخَرِ، فَقَضَى لِصَاحِبِ الْأَرْضِ بِأَرْضِهِ وَأَمَرَ صَاحِبَ النَّخْلِ أَنْ يُخْرِجَ نَخْلَهُ مِنْهَا، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا، وَإِنَّهَا لَتُضْرَبُ أُصُولُهَا بِالْفُؤُوسِ، وَإِنَّهَا لَنَخْلٌ عَمٌّ» أَيْ طَوِيلَةٌ.
وَلِأَنَّهُ شَغَلَ مِلْكَ غَيْرِهِ، فَيُؤْمَرُ بِتَفْرِيغِهِ، دَفْعًا لِلظُّلْمِ، وَرَدًّا لِلْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ.
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: عَلَيْهِ أَرْشُ نَقْصِهَا إِنْ كَانَ، وَتَسْوِيَتُهَا، لِأَنَّهُ ضَرَرٌ حَصَلَ بِفِعْلِهِ، مَعَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ إِلَى وَقْتِ التَّسْلِيمِ.
وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: وَلِلْغَاصِبِ قَلْعُهُمَا قَهْرًا عَلَى الْمَالِكِ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِجَابَةُ الْمَالِكِ لَوْ طَلَبَ الْإِبْقَاءَ بِالْأَجْرِ، أَوِ التَّمَلُّكَ بِالْقِيمَةِ، وَلِلْمَالِكِ قَلْعُهُمَا جَبْرًا عَلَى الْغَاصِبِ، بِلَا أَرْشٍ لِعَدَمِ احْتِرَامِهِمَا عَلَيْهِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ خَيَّرُوا الْمَالِكَ بَيْنَ قَلْعِ الشَّجَرِ وَهَدْمِ الْبِنَاءِ، وَبَيْنَ تَرْكِهِمَا، عَلَى أَنْ يُعْطَى الْمَالِكُ الْغَاصِبُ، قِيمَةَ أَنْقَاضِ الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ، مَقْلُوعًا، بَعْدَ طَرْحِ أُجْرَةِ النَّقْضِ وَالْقَلْعِ، لَكِنَّهُمْ قَيَّدُوا قَلْعَ الزَّرْعِ بِمَا إِذَا لَمْ يَفُتْ، أَيْ لَمْ يَمْضِ وَقْتٌ مَا تُرَادُ الْأَرْضُ لَهُ فَلَهُ عِنْدَئِذٍ أَخْذُهُ بِقِيمَتِهِ مَقْلُوعًا مَطْرُوحًا مِنْهُ أُجْرَةُ الْقَلْعِ.فَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ، بَقِيَ الزَّرْعُ لِلزَّارِعِ، وَلَزِمَهُ الْكِرَاءُ إِلَى انْتِهَائِهِ.
وَنَصَّ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْحَنَفِيَّةُ.
(ر: غَرْس- غَصْب).
د- قَلْعُ عَيْنِ الْحَيَوَانِ:
98- الْحَيَوَانُ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُطَبَّقَ فِي إِتْلَافِهِ- كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا- الْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ، إِلاَّ أَنَّهُ وَرَدَ فِي السَّمْعِ تَضْمِينُ رُبُعِ قِيمَتِهِ، بِقَلْعِ عَيْنِهِ:
فَفِي الْحَدِيثِ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي عَيْنِ الدَّابَّةِ رُبُعَ ثَمَنِهَا»
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَشُرَيْحٍ- رضي الله عنهما- وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى شُرَيْحٍ، لَمَّا كَتَبَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ عَيْنِ الدَّابَّةِ: إِنَّا كُنَّا نُنْزِلُهَا مَنْزِلَةَ الْآدَمِيِّ، إِلاَّ أَنَّهُ أَجْمَعَ رَأْيُنَا أَنَّ قِيمَتَهَا رُبُعُ الثَّمَنِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: هَذَا إِجْمَاعٌ يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ.
وَهَذَا مِمَّا جَعَلَ الْحَنَفِيَّةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَنْ أَحْمَدَ- يَعْدِلُونَ عَنِ الْقِيَاسِ، بِالنَّظَرِ إِلَى ضَمَانِ الْعَيْنِ فَقَطْ.
فَعَمِلُوا بِالْحَدِيثِ، وَتَرَكُوا فِيهِ الْقِيَاسَ، لَكِنَّهُمْ خَصُّوهُ بِالْحَيَوَانِ الَّذِي يُقْصَدُ لِلَّحْمِ، كَمَا يُقْصَدُ لِلرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ وَالزِّينَةِ أَيْضًا، كَمَا فِي عَيْنِ الْفَرَسِ وَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ، وَكَذَا فِي عَيْنِ الْبَقَرَةِ وَالْجَزُورِ.
أَمَّا غَيْرُهُ، كَشَاةِ الْقَصَّابِ الْمُعَدَّةِ لِلذَّبْحِ، مِمَّا يُقْصَدُ مِنْهُ اللَّحْمُ فَقَطْ، فَيُعْتَبَرُ مَا نَقَصَتْ قِيمَتُهُ.
وَطَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْقِيَاسَ، فَضَمَّنُوا مَا يَتْلَفُ مِنْ سَائِرِ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ، بِمَا يَنْقُصُ مِنْ قِيمَتِهِ، بِفَقْدِ عَيْنِهِ وَغَيْرِهَا، بَالِغًا مَا بَلَغَ النَّقْصُ بِلَا تَفْرِقَةٍ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ.
قَالَ الْمَحَلِّيُّ: وَيَضْمَنُ مَا تَلِفَ أَوْ أَتْلَفَ مِنْ أَجْزَائِهِ بِمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَا يَجِبُ فِي عَيْنِ الْبَقَرَةِ وَالْفَرَسِ إِلاَّ أَرْشُ النَّقْصِ.
وَعَلَّلَ ذَلِكَ ابْنُ قُدَامَةَ، بِأَنَّهُ ضَمَانُ مَالٍ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ، فَكَانَ الْوَاجِبُ مَا نَقَصَ، كَالثَّوْبِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ فَاتَ الْجَمِيعُ لَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ، فَإِذَا فَاتَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَجَبَ قَدْرُهُ مِنَ الْقِيمَةِ، كَغَيْرِ الْحَيَوَانِ.
ضَمَانُ الشَّخْصِ الضَّرَرَ النَّاشِئَ عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِ وَمَا يَلْتَحِقُ بِهِ:
99- الْأَصْلُ أَنَّ الشَّخْصَ مَسْئُولٌ عَنْ ضَمَانِ الضَّرَرِ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْ فِعْلِهِ لَا عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِ لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا الْأَصْلِ ضَمَانَ أَفْعَالِ الْقُصَّرِ الْخَاضِعِينَ لِرَقَابَتِهِ، وَضَمَانَ أَفْعَالِ تَابِعِيهِ: كَالْخَدَمِ وَالْعُمَّالِ وَكَالْمُوَظِّفِينَ، وَضَمَانَ مَا يُفْسِدُهُ الْحَيَوَانُ، وَضَمَانَ الضَّرَرِ الْحَادِثِ بِسَبَبِ سُقُوطِ الْأَبْنِيَةِ، وَضَمَانَ التَّلَفِ الْحَادِثِ بِالْأَشْيَاءِ الْأُخْرَى، وَتَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلًا: ضَمَانُ الْإِنْسَانِ لِأَفْعَالِ الْأَشْخَاصِ الْخَاضِعِينَ لِرَقَابَتِهِ:
100- وَيَتَمَثَّلُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الضَّمَانِ، فِي الْأَفْعَالِ الضَّارَّةِ، الصَّادِرَةِ مِنَ الصِّغَارِ الْقُصَّرِ، الَّذِينَ هُمْ فِي وِلَايَةِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ، وَالتَّلَامِيذِ حِينَمَا يَكُونُونَ فِي الْمَدْرَسَةِ، تَحْتَ رَقَابَةِ النَّاظِرِ وَالْمُعَلِّمِ، أَوْ فِي رِعَايَةِ أَيِّ رَقِيبٍ عَلَيْهِمْ وَهُمْ صِغَارٌ، وَمِثْلُهُمْ الْمَجَانِينُ وَالْمَعَاتِيهُ.
وَلَمَّا كَانَ الْأَصْلُ الْمُقَرَّرُ فِي الشَّرِيعَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، هُوَ ضَمَانُ الْإِنْسَانِ لِأَفْعَالِهِ كُلِّهَا، دُونَ تَحَمُّلِ غَيْرِهِ عَنْهُ لِشَيْءٍ مِنْ تَبَعَاتِهَا، مَهْمَا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ.
فَقَدْ طَرَدَ الْفُقَهَاءُ قَاعِدَةَ تَضْمِينِ الصِّغَارِ، وَأَوْجَبُوا عَلَيْهِمُ الضَّمَانَ فِي مَالِهِمْ، وَلَمْ يُوجِبُوا عَلَى أَوْلِيَائِهِمْ وَالْأَوْصِيَاءِ عَلَيْهِمْ ضَمَانَ مَا أَتْلَفُوهُ، إِلاَّ فِي أَحْوَالٍ مُسْتَثْنَاةٍ، مِنْهَا:
أ- إِذَا كَانَ إِتْلَافُ الصِّغَارِ لِلْمَالِ، نَاشِئًا مِنْ تَقْصِيرِ الْأَوْلِيَاءِ وَنَحْوِهِمْ، فِي حِفْظِهِمْ، كَمَا لَوْ دَفَعَ إِلَى صَبِيٍّ سِكِّينًا لِيُمْسِكَهُ لَهُ، فَوَقَعَ السِّكِّينُ مِنْ يَدِهِ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى شَخْصٍ آخَرَ، أَوْ عَثَرَ بِهِ، فَإِنَّ الدَّافِعَ يَضْمَنُ.
ب- إِذَا كَانَ بِسَبَبِ إِغْرَاءِ الْآبَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ الصِّغَارِ بِإِتْلَافِ الْمَالِ، كَمَا لَوْ أَمَرَ الْأَبُ ابْنَهُ بِإِتْلَافِ مَالٍ أَوْ إِيقَادِ نَارٍ، فَأَوْقَدَهَا، وَتَعَدَّتْ النَّارُ إِلَى أَرْضِ جَارِهِ، فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا، يَضْمَنُ الْأَبُ، لِأَنَّ الْأَمْرَ صَحَّ، فَانْتَقَلَ الْفِعْلُ إِلَيْهِ، كَمَا لَوْ بَاشَرَهُ الْأَبُ.
فَلَوْ أَمَرَ أَجْنَبِيٌّ صَبِيًّا بِإِتْلَافِ مَالِ آخَرَ، ضَمِنَ الصَّبِيُّ، ثُمَّ رَجَعَ عَلَى آمِرِهِ.
ج- إِذَا كَانَ بِسَبَبِ تَسْلِيطِهِمْ عَلَى الْمَالِ، كَمَا لَوْ أَوْدَعَ صَبِيًّا وَدِيعَةً بِلَا إِذْنِ وَلِيِّهِ فَأَتْلَفَهَا، لَمْ يَضْمَنِ الصَّبِيُّ، وَكَذَا إِذَا أَتْلَفَ مَا أُعِيرَ لَهُ، وَمَا اقْتَرَضَهُ وَمَا بِيعَ مِنْهُ بِلَا إِذْنٍ، لِلتَّسْلِيطِ مِنْ مَالِكِهَا.
ثَانِيًا: ضَمَانُ الشَّخْصِ لِأَفْعَالِ التَّابِعِينَ لَهُ:
101- وَيَتَمَثَّلُ هَذَا فِي الْخَادِمِ فِي الْمَنْزِلِ، وَالطَّاهِي فِي الْمَطْعَمِ، وَالْمُسْتَخْدَمِ فِي الْمَحَلِّ، وَالْعَامِلِ فِي الْمَصْنَعِ، وَالْمُوَظَّفِ فِي الْحُكُومَةِ، وَفِي سَائِقِ السَّيَّارَةِ لِمَالِكِهَا كُلٌّ فِي دَائِرَةِ عَمَلِهِ.
وَالْعَلَاقَةُ هُنَا عَقَدِيَّةٌ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الرَّقَابَةِ عَلَى عَدِيمِي التَّمْيِيزِ: هِيَ: دِينِيَّةٌ أَوْ أَدَبِيَّةٌ.
وَالْفُقَهَاءُ بَحَثُوا هَذَا فِي بَابِ الْإِجَارَةِ، فِي أَحْكَامِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ، وَفِي تِلْمِيذِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ لِوَاحِدٍ عَمَلًا مُؤَقَّتًا بِالتَّخْصِيصِ، وَيَسْتَحِقُّ أَجْرَهُ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ.
وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ مَنْفَعَتُهُ، وَلَا يَضْمَنُ مَا هَلَكَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، لِأَنَّ الْعَيْنَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، لِأَنَّهُ قَبَضَ بِإِذْنِهِ، وَلَا يَضْمَنُ مَا هَلَكَ مِنْ عَمَلِهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَتَى صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُسْتَأْجِرِ، فَإِذَا أَمَرَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ، صَحَّ، وَيَصِيرُ نَائِبًا مَنَابَهُ، فَيَصِيرُ فِعْلُهُ مَنْقُولًا إِلَيْهِ، كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ، فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُهُ وَإِنَّمَا الضَّمَانُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَخْدُومِهِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (إِجَارَة).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
39-موسوعة الفقه الكويتية (لزوم)
لُزُومٌالتَّعْرِيفُ
1- اللُّزُومُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرٌ، فِعْلُهُ لَزِمَ يَلْزَمُ.يُقَالُ: لَزِمَ فُلَانٌ فُلَانًا أَيْ: كَانَ مَعَهُ فَلَمْ يُفَارِقْهُ، وَمِثْلُهُ فِي الْمَعْنَى لَازَمَهُ مُلَازَمَةً وَلِزَامًا، وَالْتَزَمَهُ بِمَعْنَى: اعْتَنَقَهُ، وَاللُّزُومُ أَيْضًا: الْمُلَازَمَةُ لِلشَّيْءِ وَالتَّمَسُّكُ بِهِ أَوِ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا: كَانَتْ إِذَا عَمِلَتِ الْعَمَلَ لَزِمَتْهُ.
وَلَزِمَهُ الْمَالُ: وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ وَجَبَ حُكْمُهُ وَهُوَ قَطْعُ الزَّوْجِيَّةِ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْجَوَازُ:
2- مِنْ مَعَانِي الْجِوَازِ فِي اللُّغَةِ: الصِّحَّةُ وَالنَّفَاذُ يُقَالُ: جَازَ الْعَقْدُ: نَفَذَ وَمَضَى عَلَى الصِّحَّةِ، وَأَجَزْتُ الْعَقْدَ: جَعَلْتَهُ جَائِزًا نَافِذًا.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: يُطْلَقُ عَلَى أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ، أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا أَوْ مَكْرُوهًا.
الثَّانِي: عَلَى مُسْتَوَى الطَّرَفَيْنِ، وَهُوَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ.
الثَّالِثُ: عَلَى مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَهُوَ اصْطِلَاحُ الْفُقَهَاءِ فِي الْعُقُودِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ اللُّزُومِ وَالْجَوَازِ أَنَّ الْجَوَازَ فِي بَعْضِ مَعَانِيهِ يُضَادُّ اللُّزُومَ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللُّزُومِ:
لُزُومُ الْأَمْرِ وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ
3- مِنْهُ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ (لُزُومِ الْجَمَاعَةِ) فِي الْفِتَنِ، كَمَا فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهُ فِي شَأْنِ الْفِتَنِ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا» قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ حُجَّةٌ لِجَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ لُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَرْكِ الْخُرُوجِ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- فِي خُطْبَتِهِ بِالْجَابِيَةِ: «عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ».
وَمِنْهُ (لُزُومُ الْعَمَلِ) بِمَعْنَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فِي التَّطَوُّعَاتِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ»،، وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا عَمِلَتْ عَمَلًا لَزِمَتْهُ.
لَكِنْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ الْمُكَلَّفُ عَلَى نِيَّةِ الِالْتِزَامِ لَهُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَشَقَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ، أَوْ يُورِثُ مَلَلًا، فَقَدْ ذَكَرَ الشَّاطِبِيُّ أَنَّهُ يَكُونُ مَكْرُوهًا ابْتِدَاءً، لِأَنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلِخَوْفِ التَّقْصِيرِ أَوِ الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِمَا هُوَ أَوْلَى وَآكَدُ فِي الشَّرْعِ.
وَقَدْ نَبَّهَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى هَذَا، فَفِي الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهُ: «أَلَمْ أُخْبِرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ».
وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَلْزَمَ طَرِيقَةً وَاحِدَةً مُخْتَرَعَةً فِي الْعِبَادَةِ بِحَيْثُ يَرَاهَا لَازِمَةً كَلُزُومِ الْفَرَائِضِ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْهَا، وَيَقْدَحُ فِيمَنْ خَرَجَ عَنْهَا وَيَذُمُّهُ، أَوْ يَلْزَمُ مَكَانًا فِي الْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ لَا يُصَلِّي إِلاَّ فِيهِ وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ: «نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُوَطِّنَ الرَّجُلُ الْمَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا يُوَطِّنُ الْبَعِيرَ».
لُزُومُ الْغَرِيمِ:
4- لُزُومُ الْغَرِيمِ نَوْعٌ مِنَ الْعُقُوبَةِ ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، فَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ- رضي الله عنه- «أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيُّ دَيْنٌ فَلَقِيَهُ فَلَزِمَهُ فَتَكَلَّمَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَمَرَّ بِهِمَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا كَعْبُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: النِّصْفُ، فَأَخَذَ نِصْفَ مَا عَلَيْهِ وَتَرَكَ نِصْفًا».
وَيَأْخُذُ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ بِعُقُوبَةِ الْمُلَازَمَةِ، وَجَعَلُوهَا حَقًّا لِصَاحِبِ الدَّيْنِ، وَقَدْ تَعَرَّضَ الْحَنَفِيَّةُ لِذَلِكَ فِي أَبْوَابِ الْحَبْسِ مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ، فَلِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يُلْزِمَ غَرِيمَهُ حَتَّى يَقْضِيَهُ حَقَّهُ، وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ لَهُ مُلَازَمَتَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَلِطَالِبِ الْحَقِّ أَنْ يُلَازِمَ الْغَرِيمَ، وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ الْقَاضِي بِمُلَازَمَتِهِ، وَلَا فَلَّسَهُ، وَهَذَا إِنْ كَانَ مُقِرًّا بِالْحَقِّ، أَوْ ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي وَأَطْلَقَهُ لِإِعْسَارِهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ قَاضٍ، وَالرَّأْيُ فِي الْمُلَازَمَةِ لِصَاحِبِ الْحَقِّ، إِنْ شَاءَ لَازَمَ الْمَدِينَ بِنَفْسِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمَدِينُ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ وَكَّلَ غَيْرَهُ بِمُلَازَمَتِهِ، فَإِنْ وَكَّلَ أَحَدًا بِمُلَازَمَتِهِ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا بِالْقَبْضِ وَلَا بِالْخُصُومَةِ، مَا لَمْ يَجْعَلْ إِلَيْهِ ذَلِكَ.
وَصِفَةُ الْمُلَازَمَةِ عَلَى مَا يَذْكُرُهُ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ فِي قِيَامِهِ وَقُعُودِهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنَ الدُّخُولِ إِلَى أَهْلِهِ، أَوْ دُخُولِ بَيْتِهِ لِطَعَامٍ وَنَحْوِهِ.قَالُوا: وَلَا يُلَازِمُهُ فِي الْمَسْجِدِ، عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَا يُقِيمُهُ فِي الشَّمْسِ، أَوْ عَلَى الثَّلْجِ، أَوْ فِي مَوْضِعٍ يَضُرُّ بِهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ عَمَلٍ يَكْتَسِبُ مِنْهُ رِزْقَهُ، بَلْ يُلَازِمُهُ وَهُوَ يَعْمَلُ، أَوْ يُعْطِيهِ نَفَقَتَهُ وَنَفَقَةَ عِيَالِهِ وَيَمْنَعُهُ مِنَ الْعَمَلِ.
قَالُوا: وَإِنْ كَانَ الْمَدِينُ امْرَأَةً وَالطَّالِبُ رَجُلًا فَلَهُ أَنْ يُلَازِمَهَا حَيْثُ لَا تُخْشَى الْفِتْنَةُ، كَالسُّوقِ وَنَحْوِهِ، أَمَّا حَيْثُ تُخْشَى الْفِتْنَةُ فَإِنَّهُ يُوَكِّلُ امْرَأَةً بِمُلَازَمَتِهَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ أَرَادَ مُسْتَحِقُّ الدَّيْنِ لُزُومَ الْمَدِينِ بَدَلًا عَنِ الْحَبْسِ مُكِّنَ مَا لَمْ يَقُلْ تَشُقُّ عَلَيَّ الطَّهَارَةُ وَالصَّلَاةُ مَعَ مُلَازَمَتِهِ، وَيَخْتَارُ الْحَبْسَ، فَيُجِيبُهُ الْقَاضِي إِلَى ذَلِكَ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَحْرُمُ مُطَالَبَةُ الْمُعْسِرِ وَمُلَازَمَتُهُ وَيَجُوزُ مُلَازَمَةُ الْمُوسِرِ الْمُمَاطِلِ إِنْ خِيفَ هُرُوبُهُ.
وَكَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَحْرُمُ مُلَازَمَةُ الْمُعْسِرِ، قَالُوا: يَحْرُمُ مُلَازَمَتُهُ بِحَيْثُ كُلَّمَا يَأْتِيهِ شَيْءٌ يَأْخُذُ مِنْهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ إِنْظَارَ الْمُعْسِرِ إِلَى الْمَيْسَرَةِ.
اللُّزُومُ بِمَعْنَى الْوُجُوبِ وَالتَّحَتُّمِ
5- يَأْتِي اللُّزُومُ بِمَعْنَى الْوُجُوبِ وَالتَّحَتُّمِ، قَالَ الطُّوفِيُّ: الْوَاجِبُ هُوَ اللاَّزِمُ الْمُسْتَحَقُّ.
مَصَادِرُ اللُّزُومِ:
اللُّزُومُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِلْزَامِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ إِلْزَامِ الْغَيْرِ، أَوْ إِلْزَامِ الْمَرْءِ نَفْسِهِ.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
اللُّزُومُ بِإِلْزَامِ اللَّهِ تَعَالَى
6- يَلْزَمُ الْعَبْدَ فِعْلُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ مِنَ الْعِبَادَاتِ عِنْدَ وُجُودِ أَسْبَابِهَا، وَتَحَقُّقِ شُرُوطِ الْوُجُوبِ، وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ، وَإِذَا فَسَدَتْ لَزِمَ قَضَاؤُهَا.
وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ إِلْزَامَهُ بِكُلِّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ، مِمَّا هُوَ مَقْدُورٌ لَهُ، كَالسَّفَرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَجِّ، وَالطَّهَارَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلَاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي قَاعِدَةِ «مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ».
وَيَلْزَمُ الْمُكَلَّفَ الْكَفُّ عَنْ كُلِّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَفْعَالِ.
اللُّزُومُ بِإِلْزَامِ الْغَيْرِ.
7- مِمَّنْ تَلْزَمُ طَاعَتُهُ شَرْعًا، وَتَلْزَمُ تَصَرُّفَاتُهُ عَلَى الْغَيْرِ، مَنْ يَلِي:
أ- وَلِيُّ الْأَمْرِ، وَهُوَ الْإِمَامُ الَّذِي صَحَّتْ وِلَايَتُهُ شَرْعًا، فَتَلْزَمُ طَاعَتُهُ الرَّعِيَّةَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وَنُوَّابُ الْإِمَامِ تَلْزَمُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا أَنَابَهُمُ الْإِمَامُ فِيهِ، كَأَمِيرِ الْجَيْشِ، وَالْوَالِي، وَالْمُتَوَلِّي جِبَايَةَ الزَّكَاةِ.
وَالطَّاعَةُ اللاَّزِمَةُ هُنَا هِيَ مَا كَانَ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أَمَرَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا طَاعَةَ لَهُ، لِأَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ أَلْزَمَ، وَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ. (ر: أُولُو الْأَمْرِ ف 5).
ب- الْقَاضِي الَّذِي وَلاَّهُ الْإِمَامُ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ، فَمَا حَكَمَ بِهِ عَلَى إِنْسَانٍ فِي خُصُومَةٍ لَزِمَهُ الْحُكْمُ، وَكَذَا إِذَا حَجَرَ عَلَى سَفِيهٍ أَوْ مُفْلِسٍ لَزِمَتْهُ أَحْكَامُ الْحَجْرِ وَإِذَا تَصَرَّفَ فِي مَالٍ ضَالٍّ بِبَيْعِ أَوْ نَحْوِهِ لَزِمَ تَصَرُّفُهُ وَلِلْقَاضِي إِلْزَامُ النَّاسِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، كَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ.
(ر: قَضَاءٌ ف 27).
ج- الزَّوْجُ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ زَوْجَتَهُ مِنَ الْمَعْرُوفِ.
(ر: طَاعَةٌ ف 10).
د- التَّصَرُّفُ بِالْوِلَايَةِ الشَّرْعِيَّةِ، كَتَصَرُّفِ الْأَبِ فِي مَالِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوِ الْمَجْنُونِ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُمَا، وَتَصَرُّفِ الْوَصِيِّ كَذَلِكَ. (ر: وِلَايَةٌ).
هـ- التَّصَرُّفُ بِالْوَكَالَةِ، فَتَصَرُّفَاتُ الْوَكِيلِ لَازِمَةٌ لِلْمُوَكِّلِ فِيمَا وَكَّلَهُ فِيهِ. (ر: وَكَالَةٌ).
اللُّزُومُ بِإِلْزَامِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ
8- قَدْ يُلْزِمُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ بِأَمْرٍ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ شَرْعًا إِنْ لَمْ يُخَالِفِ الشَّرْعَ، بِمَعْنَى أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْتِزَامَهُ سَبَبًا لِلُّزُومِ، وَمِنْ ذَلِكَ:
أ- الْعَقْدُ، فَإِذَا عَقَدَا بَيْنَهُمَا عَقْدًا لَزِمَهُمَا حُكْمُهُ، كَعَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلًا يَلْزَمُ بِهِ انْتِقَالُ مِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَمِلْكِيَّةِ الثَّمَنِ إِلَى الْبَائِعِ، وَكَعَقْدِ الْإِجَارَةِ يَلْزَمُ بِهِ الْأَجِيرَ الْعَمَلُ، وَيَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ الْأُجْرَةُ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا كُلُّ شَرْطٍ صَحِيحٍ الْتَزَمَهُ الْعَاقِدُ فِي الْعَقْدِ، فَيَلْزَمُهُ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ»،، عَلَى أَنَّ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ اخْتِلَافًا وَتَفْصِيلًا فِيمَا يَصِحُّ مِنَ الشُّرُوطِ وَمَا لَا يَصِحُّ، وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اشْتِرَاطٌ ف 11 وَمَا بَعْدَهَا). ب- تَصَرُّفَاتٌ فَرْدِيَّةٌ قَوْلِيَّةٌ تَلْزَمُ الْمُتَصَرِّفَ أَحْكَامُهَا بِمُجَرَّدِ صُدُورِ الْقَوْلِ عَنْهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْفُ وَالْكَفَالَةُ وَالْعَهْدُ وَالنَّذْرُ وَالْيَمِينُ وَالْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ، وَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ كُلٍّ مِنْهَا إِلَى مُصْطَلَحِهِ.
وَدُخُولُ الْكَافِرِ فِي الْإِسْلَامِ الْتِزَامٌ إِجْمَالِيٌّ لِأَحْكَامِهِ.
لُزُومُ الْعُقُودِ وَجِوَازُهَا
9- يُقْصَدُ بِلُزُومِ الْعَقْدِ عَدَمُ جَوَازِ فَسْخِهِ مِنْ قِبَلِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ إِلاَّ بِرِضَا الْعَاقِدِ الْآخَرِ، وَمَا جَازَ لِلْعَاقِدِ فَسْخُهُ بِغَيْرِ رِضَا الْعَاقِدِ الْآخَرِ يُسَمَّى عَقْدًا جَائِزًا.
فَالْبَيْعُ وَالسَّلَمُ وَالْإِجَارَةُ عُقُودٌ لَازِمَةٌ، إِذْ إِنَّهَا مَتَى صَحَّتْ لَا يَجُوزُ فَسْخُهَا بِغَيْرِ التَّقَايُلِ، وَلَوِ امْتَنَعَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ عَنِ الْوَفَاءِ بِهَا أُجْبِرَ.
وَعَقْدُ النِّكَاحِ لَازِمٌ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ بِالتَّرَاضِي أَصْلًا، دُونَ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ، لِأَنَّهُ وُضِعَ عَلَى الدَّوَامِ وَالتَّأْبِيدِ، وَإِنَّمَا يُفْسَخُ لِضَرُورَةٍ عَظِيمَةٍ، وَفِي قَوْلٍ: يَقْبَلُ الْفَسْخَ بِالتَّرَاضِي.
وَالْوَدِيعَةُ وَالشَّرِكَةُ وَالْوَكَالَةُ عُقُودٌ جَائِزَةٌ، لِكُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ فَسْخُهَا وَلَوْ بِغَيْرِ رِضَا الْعَاقِدِ الْآخَرِ، وَمِثْلُهَا الْمُسَاقَاةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَالْمُسَابَقَةُ وَالْعَارِيَةُ وَالْقَرْضُ وَالِاسْتِصْنَاعُ.
وَقَدْ يَكُونُ الْعَقْدُ لَازِمًا مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ جَائِزًا بِالنِّسْبَةِ لِلْآخَرِ، كَالرَّهْنِ فَلِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُهُ دُونَ الرَّاهِنِ.
وَقَدْ يَعْرِضُ لِلْعَقْدِ اللاَّزِمِ مَا يَجْعَلُهُ جَائِزًا كَالْبَيْعِ إِذَا اشْتُرِطَ فِيهِ خِيَارٌ، أَوْ تَبَيَّنَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ، فَيَكُونُ لِمَنْ لَهُ الْخِيَارُ الْفَسْخُ، كَالْإِجَارَةِ إِذَا طَرَأَ عُذْرٌ كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَ مُرْضِعًا لِطِفْلِهِ فَمَاتَ الطِّفْلُ.
وَقَدْ يَعْرِضُ لِلْعَقْدِ الْجَائِزِ مَا يَجْعَلُهُ لَازِمًا وَمِثَالُ ذَلِكَ الْوَكَالَةُ، فَهِيَ فِي الْأَصْلِ جَائِزَةٌ، فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَفْسَخَهَا وَيَعْزِلَ نَفْسَهُ عَنْهَا، كَمَا أَنَّ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَهُ، لَكِنْ إِنْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَكِيلِ بِمَا وَكَّلَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَهُ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ الْمُسْتَقْرِضُ الْمُقْرِضَ بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ لِيَكُونَ وَفَاءً لِلْقَرْضِ فَلَا يَكُونُ لِلْمُسْتَقْرِضِ عَزْلُهُ، وَكَالرَّهْنِ الْمُشْتَرَطِ فِيهِ تَوْكِيلُ الْمَدِينِ لِلْمُرْتَهِنِ فِي بَيْعِ الْمَرْهُونِ، فَلَا يَكُونُ لِلرَّاهِنِ عَزْلُهُ لِمَا فِي عَزْلِهِ مِنْ إِبْطَالِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَكَالْمُضَارَبَةِ إِذَا شَرَعَ الْعَامِلُ فِي الْعَمَلِ تَلْزَمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَا تَلْزَمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ أَثْبَتَ خِيَارَ الْمَجْلِسِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلًا، وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، فَإِنَّ الْعَقْدَ فِي مُدَّةِ الْمَجْلِسِ يَكُونُ جَائِزًا، فَإِنِ انْفَضَّ الْمَجْلِسُ دُونَ أَنْ يَخْتَارَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ الْفَسْخَ، ابْتَدَأَ لُزُومُ الْعَقْدِ مِنْ حِينَئِذٍ.
وَقَدْ يَكُونُ الْعَقْدُ مُخْتَلِفًا فِي مَدَى لُزُومِهِ أَوْ جَوَازِهِ كَالْهِبَةِ مَثَلًا، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهَا تَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّهَا لَا تَلْزَمُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزَةٌ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لَا غَيْرُ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا جَائِزَةٌ بَعْدَ الْقَبْضِ أَيْضًا، فَلِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِيهَا، مَا لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ، كَأَنْ يَكُونَ الْوَاهِبُ زَوْجًا أَوْ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا أَوْ قَضَاءِ قَاضٍ.
وَفِي كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ تَفْصِيلَاتٌ فِي مَدَى لُزُومِهَا أَوْ جِوَازِهَا، فَيُرْجَعُ فِي كُلٍّ مِنْهَا إِلَى مُصْطَلَحِهِ.
الْعَقْدُ الْفَاسِدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ غَيْرُ لَازِمٍ
10- الْعَقْدُ الْفَاسِدُ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ بِمَعْنَى الْبَاطِلِ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ مُنْعَقِدٌ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ لِصُدُورِهِ عَنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ وَتَمَامِ رُكْنِهِ وَهُوَ الصِّيغَةُ، لَكِنْ فَسَدَ لِوَصْفِهِ أَيْ لِفَقْدِهِ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ، كَاشْتِمَالِ الْبَيْعِ عَلَى جَهَالَةِ الْمَبِيعِ أَوِ الْأَجَلِ، أَوْ عَلَى شَرْطٍ مُفْسِدٍ، أَوْ رِبًا.
وَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ لَا يَكُونُ لَازِمًا، لِأَنَّهُ مُسْتَحَقُّ الْفَسْخِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى: لِمُخَالَفَتِهِ الشَّرْعَ، لَكِنْ قَدْ يَصِحُّ وَيَلْزَمُ إِنْ قَامَ الْعَاقِدَانِ بِإِزَالَةِ الْوَصْفِ الْمُفْسِدِ.كَإِسْقَاطِ الْأَجَلِ الْمَجْهُولِ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ فِيهِ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَاهُ فَاسِدًا أَوْ رَهَنَهُ، فَإِنَّ شِرَاءَهُ يَلْزَمُ، فَلَوْ عَادَ إِلَيْهِ بِفَسْخٍ أَوْ إِقَالَةٍ، عَادَ الْجَوَازُ.
(ر: بُطْلَانٌ ف 10).
حُكْمُ الْوَعْدِ مِنْ حَيْثُ الْجَوَازُ أَوِ اللُّزُومُ
11- الْوَعْدُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ غَيْرُ لَازِمٍ، وَقِيلَ يَلْزَمُ الْوَاعِدَ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ دِيَانَةً وَلَا يَلْزَمُ قَضَاءً، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، ثَالِثُهَا: يَلْزَمُ إِنْ كَانَ عَلَى سَبَبٍ، وَرَابِعُهَا: يَلْزَمُ إِنْ كَانَ عَلَى سَبَبٍ وَدَخَلَ الْمَوْعُودُ بِنَاءً عَلَى الْوَعْدِ فِي شَيْءٍ، كَأَنْ قَالَ: تَزَوَّجْ وَأَنَا أُعْطِيكَ مَا تَدْفَعُهُ مَهْرًا، أَوِ: اهْدِمْ دَارَكَ وَأَنَا أُسَلِّفُكَ مَا تَبْنِيهَا بِهِ، فَتَزَوَّجَ أَوْ هَدَمَ دَارَهُ بِنَاءً عَلَى الْوَعْدِ. (انْظُرِ: الْتِزَامٌ ف 43، وَوَعْدٌ).
اللُّزُومُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ
12- اللُّزُومُ أَنْ يَثْبُتَ أَمْرًا عِنْدَ ثُبُوتِ أَمْرٍ آخَرَ، كَلُزُومِ الْمُسَبَّبِ لِلسَّبَبِ أَوِ الْمَعْلُولِ لِلْعِلَّةِ، فَالْأَوَّلُ اللاَّزِمُ، وَالثَّانِي الْمَلْزُومُ.
وَالتَّعْبِيرُ بِاللاَّزِمِ عَنِ الْمَلْزُومِ أَوْ عَكْسُهُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ، أَمَّا إِنِ اسْتُعْمِلَ اللَّفْظُ فِي حَقِيقَتِهِ وَأُرِيدَ لَازِمُ الْمَعْنَى فَهُوَ كِنَايَةٌ، كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَدَلَالَةُ الْكَلَامِ عَلَى مَعْنًى غَيْرِ مَقْصُودٍ مِنْ سِيَاقِهِ، وَلَكِنَّهُ لَازِمٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِهِ هُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّلَالَاتِ اللَّفْظِيَّةِ يُسَمِّيهِ الْحَنَفِيَّةُ إِشَارَةَ النَّصِّ، كَدَلَالَةِ {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} مَعَ {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ.
وَلَازِمُ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ، فَمَنْ قَالَ كَلَامًا يَلْزَمُ مِنْهُ الْكُفْرُ، وَلَيْسَ كُفْرًا فِي ذَاتِهِ، لَمْ يُحْكَمْ بِتَكْفِيرِهِ إِنْ لَمْ يَقْصِدْ هَذَا اللاَّزِمَ. وَحُكْمُ الْقَاضِي بِشَيْءٍ هَلْ هُوَ حُكْمٌ بِلَازِمِهِ؟ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: نَعَمْ، فَلَا يَحْكُمُ قَاضٍ آخَرُ بِخِلَافِ اللاَّزِمِ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ نَقْضًا لِحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِحُكْمِهِ بِبَيْعِ عَبْدٍ أَعْتَقَهُ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ حُكْمًا بِبُطْلَانِ الْعِتْقِ، فَلَا يَحْكُمُ قَاضٍ آخَرُ فِيهِ بِخِلَافِهِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ نَقْضًا لِحُكْمِ الْأَوَّلِ بِالِاجْتِهَادِ، وَالِاجْتِهَادُ لَا يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
40-موسوعة الفقه الكويتية (وعظ)
وَعْظٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْوَعْظُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ زَجْرٌ مُقْتَرِنٌ بِتَخْوِيفٍ، يُقَالُ: وَعَظَهُ يَعِظُهُ وَعْظًا وَعِظَةً؛ أَيْ أَمَرَهُ بِالطَّاعَةِ وَوَصَّاهُ بِهَا.
وَمِنْ مَعَانِي الْوَعْظِ أَيْضًا: النُّصْحُ وَالتَّذْكِيرُ بِالْعَوَاقِبِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ}.
وَوَعَظَهُ فَاتَّعَظَ؛ أَيِ ائْتَمَرَ وَقَبِلَ الْمَوْعِظَةَ، وَالِاسْمُ: الْمَوْعِظَةُ، وَهِيَ مَا يُوعَظُ بِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَالْوَاعِظُ مَنْ يَنْصَحُ وَيُذَكِّرُ وَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ التَّذْكِيرُ بِالْخَيْرِ فِيمَا يَرِقُّ لَهُ الْقَلْبُ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
النَّصِيحَةُ:
2- النَّصِيحَةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الْإِخْلَاصُ وَالصِّدْقُ وَالْمَشُورَةُ وَالْعَمَلُ.
وَالنَّصِيحَةُ اصْطِلَاحًا: هِيَ الدُّعَاءُ إِلَى مَا فِيهِ الصَّلَاحُ وَالنَّهْيُ عَمَّا فِيهِ الْفَسَادُ.
وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْوَعْظِ وَالنَّصِيحَةِ: أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا الدُّعَاءَ إِلَى مَا فِيهِ الصَّلَاحُ وَالتَّذْكِيرَ بِالْخَيْرِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3- بِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوَعْظِ الِاسْتِحْبَابُ، فَقَدْ قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: التَّذْكِيرُ عَلَى الْمَنَابِرِ وَالِاتِّعَاظُ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَمَّا كَانَتِ الْمَوَاعِظُ مَنْدُوبًا إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «تَعَاهَدُوا النَّاسَ بِالتَّذْكِرَةِ» أَلَّفْتُ فِي هَذَا الْفَنِّ كُتُبًا.
وَقَالَ الرُّحَيْبَانِيُّ: ذَكَرَ الْإِمَامُ (أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ) أَلْفَاظًا كَثِيرَةً تَدُلُّ عَلَى الْحَثِّ عَلَى الْوَعْظِ، وَحُسْنِ حَالِ الْوُعَّاظِ مِمَّا قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى وَعْظِهِمْ مِنَ الْفَوَائِدِ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ- وَتَبِعَهُ الْقُرْطُبِيُّ- فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْوَعْظِ الْمُرَقِّقِ لِلْقُلُوبِ الْمُقَوِّي لِلْيَقِينِ.
وَقَدْ يَكُونُ الْوَعْظُ مَنْهِيًّا عَنْهِ كَأَنْ يُهَيِّجَ الْمُصِيبَةَ فَيُعْتَبَرُ مِنَ النِّيَاحَةِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْوَعْظِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ: الْوَعْظُ لِلرِّئَاسَةِ، وَكَسْبِ الْمَالِ، وَالْقَبُولِ لَدَى عَامَّةِ النَّاسِ.
فَقَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: لَا يَحِلُّ لِلْوَاعِظِ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا فِي مَجْلِسِهِ لِلْوَعْظِ لِأَنَّهُ اكْتِسَابُ الدُّنْيَا بِالْعِلْمِ.
أَرْكَانُ الْوَعْظِ:
أَرْكَانُ الْوَعْظِ هِيَ: الْوَاعِظُ، وَالْمَوْعُوظُ، وَأُسْلُوبُ الْوَعْظِ.
وَنَتَنَاوَلُ كُلَّ رُكْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ بِالتَّفْصِيلِ حَسَبَ الْآتِي:
الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: الْوَاعِظُ:
شُرُوطُ الْوَاعِظِ:
4- يُشْتَرَطُ فِي الْوَاعِظِ مَا يَلِي:
أ- أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا أَيْ عَاقِلًا بِالِغًا.
ب- أَنْ يَكُونَ عَدْلًا.
ج- أَنْ يَكُونَ مُحَدِّثًا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُشْتَغِلُ بِكُتُبِ الْحَدِيثِ بِأَنْ يَكُونَ قَرَأَ لَفْظَهَا وَفَهِمَ مَعْنَاهَا وَعَرَفَ صِحَّتَهَا وَسُقْمَهَا وَلَوْ بِإِخْبِارِ حَافِظٍ أَوِ اسْتِنْبَاطِ فَقِيهٍ.
د- أَنْ يَكُونَ مُفَسِّرًا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُشْتَغِلُ بِشَرْحِ غَرِيبِ كِتَابِ اللَّهِ وَتَوْجِيهِ مُشْكِلِهِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِهِ.
وَيُسْتَحَبُّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فَصِيحًا لَا يَتَكَلَّمُ مَعَ النَّاسِ إِلاَّ قَدْرَ فَهْمِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ لَطِيفًا ذَا وَجْهٍ وَمُرُوءَةٍ.
وَأَنْ يَكُونَ مُيَسِّرًا لَا مُعَسِّرًا.
آدَابُ الْوَاعِظِ:
5- مِنْ آدَابِ الْوَاعِظِ وَالْعَالِمِ وَالْمُعَلِّمِ وَنَحْوِهِمْ: أَنْ يَجْتَنِبَ الْأَفْعَالَ وَالْأَقْوَالَ وَالتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي ظَاهِرُهَا خِلَافَ الصَّوَابِ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا فِيهَا، لِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ.
مِنْ جُمْلَتِهَا: تَوَهُّمُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ عَلَى ظَاهِرِهِ بِكُلِّ حَالٍ، وَأَنْ يُصْبِحَ ذَلِكَ شَرْعًا وَأَمْرًا مَعْمُولًا بِهِ أَبَدًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْمَحْمَلِ الَّذِي صَحِبَهُ مَقْصُورًا.
وَمِنْهَا: وُقُوعُ النَّاسِ فِي الْوَاعِظِ بِالتَّنْقِيصِ بِكَوْنِهِ يُبَاشِرُ مَا لَا يَجُوزُ، فَيُطْلِقُونَ أَلْسِنَتَهُمْ عَلَيْهِ وَيُنَفِّرُونَ عَنْهُ.
وَمِنْهَا: أَنَّ النَّاسَ يُسِيئُونَ الظَّنَّ بِهِ فَيَنْفِرُوا عَنْهُ، وَيُنَفِّرُونَ غَيْرَهُمْ عَنْ أَخْذِ الْعِلْمِ عَنْهُ، وَتَسْقُطُ رِوَايَاتُهُ وَشَهَادَاتُهُ، وَيَبْطُلُ الْعَمَلُ بِفَتْوَاهُ، وَيَذْهَبُ رُكُونُ النَّفْسِ إِلَى مَا يَقُولُهُ مِنَ الْعُلُومِ، وَذَلِكَ لِانْطِلَاقِ الْأَلْسِنَةِ فِيهِ الْمُقْتَضِي عَادَةً قِلَّةَ الْوُثُوقِ مِمَّنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَهَذِهِ مَفَاسِدُ ظَاهِرَةٌ يَنْبَغِي اجْتِنَابُ أَفْرَادِهَا، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ- وَكَانَ مُحِقًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ- لَمْ يُظْهِرْهُ خَشْيَةً مِنْ حُصُولِ الضَّرَرِ الْمَذْكُورِ، فَإِنْ ظَهَرَ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ، أَوْ أَظْهَرَهُ قَصْدًا لِيُعْلَمَ جَوَازُهُ مَثَلًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: هَذَا الَّذِي فَعَلْتُهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَإِنَّمَا فَعَلْتُهُ لِتَعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ إِذَا كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلْتُهُ، وَهُوَ كَذَا وَكَذَا وَكَذَا، وَدَلِيلُهُ كَذَا وَكَذَا، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ عَنْ «سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: قَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ عُمِلَ وَوُضِعَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، كَبَّرَ وَقَامَ النَّاسُ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَرَكَعَ النَّاسُ خَلْفَهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى فَسَجَدَ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى حَتَّى سَجَدَ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي» وَلِحَدِيثِ صَفِيَّةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا، فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ لِأَنْقَلِبَ، فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي، وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَسْرَعَا، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّهَا بِنْتُ حُيَيٍّ، فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا».
وَلِمَا وَرَدَ «أَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- شَرِبَ قَائِمًا، وَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ».
قَالَ ابْنُ عَلاَّنَ: فَعَلَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- لِتَبْلِيغِ شَرْعِهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَأَنَّ فِعْلَهُ- صلى الله عليه وسلم- لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَأَنَّ نَهْيَهُ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيمِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهَةِ وَالتَّنْزِيهِ.
مَنْعُ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلْوَعْظِ مِنَ الْوَعْظِ:
6- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَصَدَّى لِلْوَعْظِ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، أَوْ كَانَ يَكْذِبُ، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ اغْتِرَارُ النَّاسِ بِهِ فِي تَأْوِيلٍ أَوْ تَحْرِيفٍ.
أَمَّا الْمُبْتَدِعُ فَلَا يَجُوزُ حُضُورُ مَجْلِسِهِ إِلاَّ عَلَى قَصْدِ إِظْهَارِ الرَّدِّ عَلَيْهِ، إِمَّا لِلْكَافَّةِ إِنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ لِبَعْضِ الْحَاضِرِينَ حَوَالَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْجُلُوسُ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}.
الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمَوْعُوظُ
7- مِنْ آدَابِ الْمَوْعُوظِ مَا يَلِي:
أ- مِنْ آدَابِ الْمَوْعُوظِينَ وَالْمُسْتَمِعِينَ لِلْوَعْظِ أَنْ يُنْصِتُوا لِلْوَاعِظِ وَأَنْ لَا يَتَكَلَّمُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُنْصِتُوا فَلِلْوَاعِظِ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ الْحَاضِرِينَ الِاسْتِمَاعَ إِلَى وَعْظِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِتَيْسِيرِ وُصُولِ الْوَعْظِ إِلَيْهِمْ، لِحَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: اسْتَنْصِتِ النَّاسَ.فَقَالَ: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» قَالَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ: إِنَّ الْإِنْصَاتَ لِلْعُلَمَاءِ لَازِمٌ لِلْمُتَعَلِّمِينَ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَكَانِتُ الْخُطْبَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَالْجَمْعُ كَثِيرٌ جِدًّا، وَكَانَ اجْتِمَاعُهُمْ لِرَمْيِ الْجِمَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْحَجِّ، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ- صلى الله عليه وسلم-: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» فَلَمَّا خَطَبَهُمْ لِيُعَلِّمَهُمْ نَاسَبَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْإِنْصَاتِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ: أَوَّلُ الْعِلْمِ الِاسْتِمَاعُ، ثُمَّ الْإِنْصَاتُ، ثُمَّ الْحِفْظُ، ثُمَّ الْعَمَلُ، ثُمَّ النَّشْرُ.
ب- وَمِنْ آدَابِ الْمَوْعُوظِينَ وَالْمُسْتَمِعِينَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا الْوَاعِظَ.
ج- وَمِنْ آدَابِهِمْ أَنْ لَا يَلْعَبُوا وَلَا يَلْغَطُوا أَثْنَاءَ الْوَعْظِ.
د- مِنْ آدَابِهِمْ أَلاَّ يُكْثِرُوا السُّؤَالَ مِنَ الْوَاعِظِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ، بَلْ إِذَا عَرَضَ خَاطِرٌ فَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْأَلَةِ تَعَلُّقًا قَوِيًّا أَوْ كَانَ دَقِيقًا لَا يَتَحَمَّلُهُ فَهْمُ الْعَامَّةِ فَلْيَسْكُتِ الْمَوْعُوظُ عَنْهُ فِي الْمَجْلِسِ الْحَاضِرِ، فَإِنْ شَاءَ سَأَلَهُ فِي الْخَلْوَةِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ قَوِيٌّ كَتَفْصِيلِ إِجَمَالٍ، وَشَرْحِ غَرِيبٍ فَلْيَنْتَظِرْ حَتَّى يَنْقَضِيَ كَلَامُهُ.
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: أُسْلُوبُ الْوَعْظِ وَمَنْهَجُهُ:
يُرَاعَى فِي أُسْلُوبِ الْوَعْظِ مَا يَلِي:
أَوَّلًا: اسْتِعْمَالُ الْأَلْفَاظِ الظَّاهِرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُرَادِ:
8- يَنْبَغِي لِلْوَاعِظِ أَنْ يُوَضِّحَ الْكَلَامَ بِاسْتِعْمَالِ الْأَلْفَاظِ الظَّاهِرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُرَادِ، وَاجْتِنَابِ الْغَرِيبِ مِنَ الْكَلِمَاتِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَوْعُوظِ، وَعَدَمِ إِخْفَاءِ شَيْءٍ مِنْ حُرُوفِ الْكَلِمَاتِ حَتَّى يَسْهُلَ عَلَى الْمَوْعُوظِ فَهْمُهُ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَلَامًا فَصْلًا يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ» لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُخَاطِبُ كُلًّا بِقَدْرِ فَهْمِهِ وَعَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ.
قَالَ ابْنُ عَلاَّنَ نَقْلًا عَنِ السَّخَاوِيِّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ: «كَلَامًا فَصْلًا» أَيْ مَفْصُولًا بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ لِبَيَانِهِ وَوُضُوحِهِ مَعَ اخْتِصَارِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يَلْتَبِسُ مَعْنَاهُ بِمَعْنَى غَيْرِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: فَاصِلًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَوْ مَفْصُولًا عَنِ الْبَاطِلِ وَمَصُونًا عَنْهُ، فَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ بَاطِلٌ أَصْلًا، وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ.
وَقَوْلُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ يسْمَعُهُ» أَيْ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْفَهْمِ.
ثَانِيًا: تَكْرَارُ كَلِمَاتِ الْوَعْظِ:
9- يَنْبَغِي لِلْوَاعِظِ أَنْ يُكَرِّرَ الْكَلِمَاتِ إِذَا لَمْ يَفْهَمْهَا الْمَوْعُوظُ إِلاَّ بِذَلِكَ التَّكْرَارِ، أَوْ إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ لِمَزِيدِ الِاعْتِنَاءِ بِمَدْلُولِ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ، أَوْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْمُخَاطَبِينَ، فَيُعِيدُ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ سَمَاعَ الْجَمِيعِ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ- رضي الله عنه- «عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ».
قَالَ ابْنُ عَلاَّنَ: الْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ هُنَا مَا يَشْمَلُ الْجُمْلَةَ وَالْجُمَلَ مِمَّا لَا يَتَبَيَّنُ لَفْظُهُ أَوْ مَعْنَاهُ إِلاَّ بِإِعَادَتِهِ، فَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يُعِيدُهَا لِذَلِكَ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا عَرَضَ لِلسَّامِعِينَ مَا خَلَطَ عَلَيْهِمْ فَيُعِيدُهُ لَهُمْ لِيَفْهَمُوهُ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَثُرُوا لَمْ يَسْتَيْقِنْ سَمَاعَ جَمِيعِهِمْ فَيُعِيدُ لِيَسْمَعَ الْكُلُّ، ثُمَّ قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يُعِيدَ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِعَادَةِ كَيْ يُفْهَمَ عَنْهُ.
ثَالِثًا: مُرَاعَاةُ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْوَعْظِ:
10- يُرَاعَى فِي أُسْلُوبِ الْوَعْظِ أَنْ لَا يُحَدِّثَ الْوَاعِظُ النَّاسَ بِمَا لَا يَفْهَمُونَهُ مِمَّا لَا تُطِيقُ عُقُولُهُمْ قَبُولَهُ، أَوْ بِمَا يَخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَحْرِيفِهِ إِذَا أَرَادُوا نَقْلَهُ وَالتَّعْبِيرَ عَنْهُ؛ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لِغُمُوضِهِ وَدِقَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَّسِعُ لَهُ عَقْلُ الْمُخَاطَبِ، كَمَا لَا يُحَدِّثُهُمْ بِمَا يَخَافُ حَمْلُهُ عَلَى خِلَافِ الْمُرَادِ الْمُتَبَادَرِ مِنْهُ إِلَى الذِّهْنِ، فَيُنْهَى الْعَالِمُ وَالْوَاعِظُ وَالْقَاصُّ عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْحَالِ؛ لِئَلاَّ يَحْمِلَهُ الْمُخَاطَبُ عَلَى خِلَافِ الْمُرَادِ.
لِمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ، وَاتْرُكُوا مَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ فَهْمُهُ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي فَتْحِ الْبَارِي: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَ الْعَامَّةِ.
وَلِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً.
رَابِعًا: الِاقْتِصَادُ فِي الْوَعْظِ:
11- يُرَاعَى فِي الْوَعْظِ أَنْ يَكُونَ مُقْتَصِدًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْبَسْطِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِمْلَالِ وَالسَّآمَةِ وَبَيْنَ الْإِيجَازِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِخْلَالِ أَوْ عُسْرِ الْفَهْمِ لِلْمَقَالِ، لِأَنَّ خَيْرَ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا، وَأَحْسَنُ الْمَوَاعِظِ مَا كَانَ جَزْلًا جَامِعًا بَلِيغًا نَافِعًا، وَلِأَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ مَا قَلَّ وَدَلَّ، لِمَا رَوَى عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ».
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْفَقِيهَ يَعْلَمُ أَنَّ الصَّلَاةَ مَقْصُودَةٌ بِالذَّاتِ وَالْخُطْبَةَ تَوْطِئَةٌ لَهَا، فَيَصْرِفُ الْعِنَايَةَ إِلَى مَا هُوَ الْأَهَمُّ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عُبُودِيَّةُ الْعَبْدِ، وَالْإِطَالَةُ فِيهَا مُبَالَغَةٌ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَالْخُطْبَةُ الْمُرَادُ مِنْهَا التَّذْكِيرُ، وَمَا قَلَّ وَقَرَّ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَفَرَّ.
12- وَذَهَبَ الْعُلَمَاءُ إِلَى اسْتِحْبَابِ تَعَهُّدِ النَّاسِ بِالْوَعْظِ وَمُرَاعَاةِ الْأَوْقَاتِ فِي وَعْظِهِمْ، وَيَتَحَرَّى مِنَ الْأَوْقَاتِ مَا كَانَ مَظِنَّةَ الْقَبُولِ، وَلَا يَعِظُ النَّاسَ كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى لَا يَسْأَمُوا مِنْ سَمَاعِ الْمَوْعِظَةِ.
وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ الْحَاجَةُ مَعَ مُرَاعَاةِ وُجُودِ النَّشَاطِ مِنَ النَّاسِ، لِأَنَّ الْمَوَاعِظَ إِذَا كَثُرَتْ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي الْقُلُوبِ فَتَسْقُطُ بِالْإِكْثَارِ فَائِدَةُ الْمَوَاعِظِ.
وَذَهَبَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا إِلَى اسْتِحْبَابِ أَنْ يَجْعَلَ الْوَاعِظُ لِوَعْظِهِ وَقْتًا مُحَدَّدًا كَيَوْمِ الْخَمِيسِ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا».
وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.
خَامِسًا: التَّعَرُّفُ عَلَى الْمُنْكَرِ وَكَيْفِيَّةُ وَعْظِ مُرْتَكِبِهِ:
13- عَلَى الْوَاعِظِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْمُنْكَرِ الَّذِي يَنْهَى عَنْهُ، وَعَارِفًا بِحَالِ الْمَوْعُوظِ، مِنْ كَوْنِهِ قَدِ ارْتَكَبَهُ عَنْ جَهْلٍ أَوْ عَنْ عِلْمٍ، وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى دَرَجَاتٍ فِي وَعْظِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ:
فَالنَّهْيُ بِالْوَعْظِ وَالنُّصْحِ وَالتَّخْوِيفِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَذَلِكَ فِيمَنْ يُقْدِمُ عَلَى الْأَمْرِ، وَهُوَ عَالِمٌ بِكَوْنِهِ مُنْكَرًا، أَوْ فِيمَنْ أَصَرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ عَرَفَ كَوْنَهُ مُنْكَرًا، كَالَّذِي يُوَاظِبُ عَلَى الشَّرَابِ، أَوْ عَلَى الظُّلْمِ أَوْ عَلَى اغْتِيَابِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُوعَظَ، وَيُخَوَّفَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَتُورَدَ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ بِالْوَعِيدِ فِي ذَلِكَ، وَتُحْكَى لَهُ سِيرَةُ السَّلَفِ وَعِبَادَةُ الْمُتَّقِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِشَفَقَةٍ وَلُطْفٍ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ وَغَضَبٍ؛ بَلْ يَنْظُرُ إِلَيْهِ نَظَرَ الْمُتَرَحِّمِ عَلَيْهِ، وَيَرَى إِقْدَامَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مُصِيبَةً عَلَى نَفْسِهِ، إِذِ الْمُسْلِمُونَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَعْظُ وَالنُّصْحُ فِي سِرٍّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَمَا كَانَ عَلَى الْمَلأَِ فَهُوَ تَوْبِيخٌ وَفَضِيحَةٌ، وَمَا كَانَ فِي السِّرِّ فَهُوَ شَفَقَةٌ وَنَصِيحَةٌ.
فَعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ- رضي الله عنها- قَالَتْ: مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ زَانَهُ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَانِيَةً فَقَدْ شَانَهُ.
قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْكِيلَانِيُّ: وَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُ وَيَنْهَاهُ فِي خَلْوَةٍ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ وَأَمْكَنَ فِي الْمَوْعِظَةِ وَالزَّجْرِ وَالنَّصِيحَةِ لَهُ، وَأَقْرَبَ إِلَى الْقَبُولِ وَالْإِقْلَاعِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْفَعْهُ أَظْهَرَ- حِينَئِذٍ- ذَلِكَ، وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِأَهْلِ الْخَيْرِ، وَإِنْ لَمْ يَنْفَعْ فَبِأَصْحَابِ السُّلْطَانِ.
14- وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: وَمِنْ دَرَجَاتِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ التَّعْنِيفُ بِالْقَوْلِ الْغَلِيظِ الْخَشِنِ، وَذَلِكَ يُعْدَلُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَنْعِ بِاللُّطْفِ وَظُهُورِ مَبَادِئِ الْإِصْرَارِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالْوَعْظِ وَالنُّصْحِ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.
ثُمَّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الْآمِرِ النَّاهِي مِنْ تَغْلِيظِ الْقَوْلِ وَتَخْشِينِهِ رُجُوعَ الْمَأْمُورِ عَنْ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ لَا الِانْتِصَارَ لِنَفْسِهِ.
سَادِسًا: مَا يَنْبَغِي اسْتِخْدَامُهُ فِي الْوَعْظِ مِنْ آيَاتٍ وَأَحَادِيثَ وَقِصَصٍ:
15- قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَالَّذِي يَنْبَغِي لِلْآمِرِ النَّاهِي بِالْوَعْظِ، وَحَمْلِ النَّاسِ عَلَى تَرْكِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَذْكُرَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْآيَاتِ الْمُخَوِّفَةِ لِلْعَاصِينَ وَالْمُذْنِبِينَ، وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وَغَيْرِهِمْ.
الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ حِكَايَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالسَّلَفِ وَمَا جَرَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَصَائِبِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُقَرِّرَ أَنَّ تَعْجِيلَ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا مُتَوَقَّعٌ عَلَى الذَّنْبِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يُصِيبُ الْعَبْدَ مِنَ الْمَصَائِبِ فَهُوَ بِسَبَبِ جِنَايَاتِهِ، فَكَمْ مِنْ عَبْدٍ يَتَسَاهَلُ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ وَيَخَافُ مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا أَكْثَرَ لِفَرْطِ جَهْلِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَوَّفَ بِهِ، فَإِنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا يُتَعَجَّلُ شُؤْمُهَا فِي الدُّنْيَا، فَفِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ مَرْفُوعًا: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِسَبَبِ الذَّنْبِ يُصِيبُهُ...».
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنِّي لأَحْسَبُ أَنَّ الْعَبْدَ يَنْسَى الْعَمَلَ بِذَنْبٍ يُصِيبُهُ.
الرَّابِعُ: مِنْ صِفَةِ الْوَعْظِ أَنْ يَذْكُرَ مَا وَقَعَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى آحَادِ الذُّنُوبِ فِي مَحَلِّهِ كَالْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ وَالْغَيْبَةِ وَالْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ.
.الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَعْظِ:
لِلْوَعْظِ أَحْكَامٌ ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي مُخْتَلِفِ الْأَبْوَابِ الْفِقْهِيَّةِ مِنْهَا:
أ- وَعْظُ الزَّوْجَةِ:
16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا نَشَزَتْ يَقُومُ الرَّجُلُ بِوَعْظِهَا، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}.
وَاخْتَلَفُوا فِي وَعْظِهَا إِذَا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ النُّشُورِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (نُشُوز ف14).
وَالْوَعْظُ يَكُونُ بِأَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ لَهَا: كُونِي مِنَ الصَّالِحَاتِ الْقَانِتَاتِ الْحَافِظَاتِ لِلْغَيْبِ، وَلَا تَكُونِي مِنْ كَذَا وَكَذَا، وَيَذْكُرُ لَهَا مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا مِنَ الْحَقِّ وَمَا يَلْحَقُهَا مِنَ الْإِثْمِ بِالْمُخَالَفَةِ، وَمَا يُسْقِطُ بِذَلِكَ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ، وَمَا يُبَاحُ لَهُ مِنْ هَجْرِهَا وَضَرْبِهَا.
ب- وَعْظُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ:
17- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُسَنُّ تَخْوِيفُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ بِالْوَعْظِ، بِأَنْ يُقَالَ لَهُمَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي اللَّعَانِ عِنْدَ الْأُولَى وَعِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وَخُصُوصًا عِنْدَ الْخَامِسَةِ: إِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْحَلِفِ بِاللَّهِ كَاذِبًا فِيهِ الْوَبَالُ الْأُخْرَوِيُّ وَالدُّنْيَوِيُّ، وَالِاعْتِرَافُ بِالْحَقِّ فِيهِ النَّجَاةُ وَإِنْ لَزِمَهُ الْحَدُّ، لِأَنَّهُ يَكُونُ كَفَّارَةً لَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَقَدْ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِهِلَالٍ: اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ».
وَيَقْرَأُ عَلَيْهِمَا {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَيُقَالُ لَهُمَا كَمَا قَالَ- صلى الله عليه وسلم- لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا مِنْ تَائِبٍ».
وَقَالَ ابْنُ شَاسٍ: فَأَمَّا سُنَّةُ اللِّعَانِ فَأَنْ يُخَوَّفَا، فَيُقَالُ لِلزَّوْجِ: تُبْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تُجْلَدْ وَيَسْقُطْ عَنْكَ الْمَأْثَمُ، وَيُقَالُ لِلْمَرْأَةِ أَيْضًا نَحْوُ ذَلِكَ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُبَالِغُ الْقَاضِي وَمَنْ فِي حُكْمِهِ فِي وَعْظِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ نَدْبًا عِنْدَ الْخَامِسَةِ مِنْ لِعَانِهِمَا قَبْلَ شُرُوعِهِمَا فِيهَا، فَيَقُولُ لِلزَّوْجِ: اتَّقِ اللَّهَ فِي قَوْلِكِ: عَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ، فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلَّعْنٍ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، وَيَقُولُ لِلزَّوْجَةِ: اتَّقِي اللَّهَ فِي قَوْلِكِ: غَضَبُ اللَّهِ عَلَيَّ، فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلْغَضَبِ إِنْ كُنْتِ كَاذِبَةً، لَعَلَّهُمَا يَنْزَجِرَانِ أَوْ يَتْرُكَانِ، وَيَأْمُرُ رَجُلًا أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ، وَامْرَأَةً أَنَ تَضَعَ يَدَهَا عَلَى فِيهَا، لِلْأَمْرِ بِذَلِكَ فِي خَبَرِ أَبِي دَاوُدَ وَيَأْتِي الَّذِي يَضَعُ يَدَهُ مِنْ وَرَائِهِ، فَإِنْ أَبَيَا إِلاَّ إِتْمَامَ اللَّعَّانِ تَرَكَهُمَا عَلَى حَالِهِمَا وَلَقَّنَهُمَا الْخَامِسَةَ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ مَوْعِظَةُ الْإِمَامِ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ بَعْدَ الرَّابِعَةِ وَقَبْلَ الْخَامِسَةِ، فَإِذَا بَلَغَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْخَامِسَةَ أَمَرَ الْحَاكِمُ رَجُلًا فَأَمْسَكَ بِيَدِهِ فَمَ الرَّجُلِ، وَأَمَرَ امْرَأَةً تَضَعُ يَدَهَا عَلَى فَمِ الْمَرْأَةِ، ثُمَّ يَعِظُهُ فَيَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّهَا الْمُوجِبَةُ، وَعَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- فِي قِصَّةِ هِلَالٍ قَالَ: «فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأَمْسَكَ عَلَى فِيهِ فَوَعَظَهُ، وَقَالَ: وَيْحَكَ كُلُّ شَيْءٍ أَهْوَنُ عَلَيْكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ ثُمَّ أَرْسَلَهُ، فَقَالَ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ.ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَأَمْسَكَ عَلَى فِيهَا فَوَعَظَهَا، وَقَالَ: وَيْحَكِ كُلُّ شَيْءٍ أَهْوَنُ عَلَيْكِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ».
ج- الْوَعْظُ قَبْلَ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ:
18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَرَادَ صَلَاةَ الِاسْتِسْقَاءِ يُسْتَحَبُّ لَهُ وَعْظُ النَّاسِ وَتَذْكِيرُهُمْ بِالْخَيْرِ، وَأَمْرُهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعَاصِي وَبِالْخُرُوجِ مِنَ الْمَظَالِمِ، وَبِأَدَاءِ الْحُقُوقِ إِلَى أَصْحَابِهَا.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (اسْتِسْقَاء ف9 وَمَا بَعْدَهَا).
د- الْوَعْظُ بَعْدَ صَلَاةِ الْكُسُوفِ:
19- صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ الْوَعْظُ بَعْدَ صَلَاةِ الْكُسُوفِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: يَسْتَقْبِلُ الْإِمَامُ النَّاسَ بَعْدَ سَلَامِهِ، فَيُذَكِّرُهُمْ وَيُخَوِّفُهُمْ وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَدْعُوا اللَّهَ وَيُكَبِّرُوا وَيَتَصَدَّقُوا.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَا خُطْبَةَ لِصَلَاةِ الْكُسُوفِ.
وَنَصُّ الْحَنَفِيَّةِ: عَلَى أَنَّهُ يَدْعُو الْإِمَامُ بَعْدَ الصَّلَاةِ جَالِسًا مُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةِ إِنْ شَاءَ، أَوْ يَدْعُو قَائِمًا مُسْتَقْبَلَ النَّاسِ، وَإِذَا دَعَا يُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ ذِكْرُ اللَّهِ وَالدُّعَاءُ وَالتَّكْبِيرُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَالصَّدَقَةُ وَالْعِتْقُ وَالتَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا اسْتَطَاعَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ أَنْ يَخْطُبَ لِصَلَاةِ الْكُسُوفِ خُطْبَتَيْنِ بَعْدَ الصَّلَاةِ كَخُطْبَتَيِ الْجُمُعَةِ فِي الْأَرْكَانِ.
(ر: صَلَاةُ الْكُسُوفِ ف7)
هـ- وَعْظُ السُّلْطَانِ:
20- لَا خِلَافَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ وَعْظِ السُّلْطَانِ وَأَمْرِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِ عَنِ الْمُنْكَرِ إِذَا كَانَ عَادِلًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ وَعْظِ السُّلْطَانِ إِذَا كَانَ جَائِرًا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى جَوَازِ وَعْظِ السُّلْطَانِ بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ.
وَأَمَّا تَخْشِينُ الْقَوْلِ: فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى أَنَّ تَخْشِينَ الْقَوْلِ لَهُ كَقَوْلِهِ: يَا ظَالِمُ، يَا مَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَذَلِكَ إِنْ كَانَ يُحَرِّكُ فِتْنَةً يَتَعَدَّى شَرُّهَا إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ.أَمَّا إِنْ كَانَ هَذَا الشَّرُّ لَا يَعُودُ إِلاَّ عَلَى الْوَاعِظِ فَهُوَ جَائِزٌ وَمَنْدُوبٌ إِلَيْهِ.وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ».
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ وَعْظِ السُّلْطَانِ وَتَخْوِيفِهِ وَتَحْذِيرِهِ مِنَ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ فِي قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» أَوْجَبُ مَا يَكُونُ هَذَا عَلَى مَنْ وَاكَلَهُمْ وَجَالَسَهُمْ وَكُلُّ مَنْ أَمْكَنُهُ نُصْحُ السُّلْطَانِ لَزِمَهُ ذَلِكَ، قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ إِذَا رَجَا أَنْ يَسْمَعَ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ: إِنَّ تَرْكَ الْإِنْكَارِ عَلَى السُّلْطَانِ الْجَائِزِ أَفْضَلُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا يَتَعَرَّضُ لِلسُّلْطَانِ؛ فَإِنَّ سَيْفَهُ مَسْلُولٌ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِذَا قُلْنَا بِالْإِنْكَارِ عَلَى السُّلْطَانِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ بِالتَّعْرِيفِ وَالْوَعْظِ بِالْكَلَامِ اللَّطِيفِ، وَيَذْكُرُ لَهُ الْعَاقِبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَيَجِبُ ذَلِكَ لقوله تعالى خِطَابًا لِنَبِيِّهِ مُوسَى وَهَارُونَ حِينَ أَرْسَلَهُمَا إِلَى عَدُوِّهِ فِرْعَوْنَ: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا}.أَيْ كَنِّيَاهُ، وَقِيلَ: الْقَوْلُ اللَّيِّنُ هُوَ الَّذِي لَا خُشُونَةَ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ مُوسَى أُمِرَ أَنْ يَقُولَ لِفِرْعَوْنَ قَوْلًا لَيِّنًا فَمَنْ دُونَهُ أَحْرَى بِأَنْ يَقْتَدِيَ بِذَلِكَ فِي خِطَابِهِ وَأَمْرِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَكَلَامِهِ.
و- وَعَظُ الْبُغَاةِ:
21- إِذَا بَعَثَ الْإِمَامُ إِلَى الْبُغَاةِ مَنْ يَسْأَلُهُمْ وَيَكْشِفُ لَهُمُ الصَّوَابَ فَأَبَوُا الرُّجُوعَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ وَعْظِهِمْ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ وَعْظِ الْبُغَاةِ وَتَخْوِيفِهِمُ الْقِتَالَ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ كَفُّهُمْ وَدَفْعُ شَرِّهِمْ لَا قَتْلُهُمْ، فَإِذَا أَمْكَنَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ كَانَ أَوْلَى مِنَ الْقِتَالِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ بِالْفَرِيقَيْنِ، فَإِنْ فَاءُوا وَإِلاَّ قَاتَلَهُمْ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَدْلِ إِذَا لَقُوا أَهْلَ الْبَغْيِ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْعَدْلِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ بَعَثَ ابْنَ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- إِلَى أَهْلِ حَرُورَا حَتَّى نَاظَرَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ رُبَّمَا يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ بِالْوَعْظِ وَالْإِنْذَارِ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَدَّمَ ذَلِكَ عَلَى الْقِتَالِ، لِأَنَّ الْكَيَّ آخِرُ الدَّوَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا مَا يُقَاتَلُونَ عَلَيْهِ فَحَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَحَالِ الْمُرْتَدِّينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ اسْتِحْبَابَ وَعْظِهِمْ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا، وَتَحْسِينَ اتِّحَادِ كَلِمَةِ الدِّينِ لَهُمْ وَعَدَمَ شَمَاتَةِ الْكَافِرِينَ.
(ر: بُغَاة ف10).
التَّكَسُّبُ بِالْوَعْظِ:
22- لَا يَحِلُّ لِلْوَاعِظِ سُؤَالُ النَّاسِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ فِي مَجْلِسِ الْوَعْظِ، لِأَنَّهُ اكْتِسَابُ الدُّنْيَا بِالْعِلْمِ.وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
حُضُورُ النِّسَاءِ مَجَالِسَ الْوَعْظِ:
23- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ حُضُورِ النِّسَاءِ مَجَالِسَ الْوَعْظِ إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ شَابَّةً وَذَلِكَ لِخَشْيَةِ الْفِتْنَةِ.
أَمَّا الْعَجَائِزُ فَلَهُنَّ حُضُورُ مَجَالِسِ الْوَعْظِ وَذَلِكَ لِأَمْنِ الْفِتْنَةِ فَعَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- تَقُولُ: لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: فَقُلْتُ لِعَمْرَةَ: أَنِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُنِعْنَ الْمَسْجِدَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ.
H
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
41-الغريبين في القرآن والحديث (نشش)
(نشش)في الحديث (لم يصدق امرأة من نسائه أكثر من ثنتي عشرة أوقية ونش)
قال مجاهد: الأوقية أربعون والنش عشرون.
وقال ابن الأعرابي: النش: النصف من كل شيء ونش الرغيف نصفه.
وفي حديث عمر رضي الله عنه (كان ينش الناس بعد العشاء بالدرة).
قال أبو عبيد: هو ينس الناس بالسين أي ينوس أي يتناولهم بالدرة، والنس السوق الشديد، وقال شمر صح الشين عنه شعبة وهو صحيح، قال ابن الأعرابي: النش السوق الرفيق يقال نشنش الرجل الرجل إذا دفعه وحركه.
قال: ونشنش ونش بمعنى نسنس أي ساق وطرد.
وحديث عمر رضي الله عنه: (قال لابن عباس: نشنشة أعرفها من أخزم): يعني حجرا من جبل، والتعبير في الحديث.
حدثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن مالك الرازي، حدثنا أبو علي بشر بن موسى بن شيخ بن عميرة الأسدي، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عاصم بن كليب قال أخبرني أبي أنه سمع ابن عباس يقول: (كان عمر إذا صلى صلاة جلس الناس فمن كانت له حاجة كلمه وإبن لم يكن لأحد حاجة قام فدخل فصلى صلوات لا يجلس للناس فيهن).
قال ابن عباس حضرت الباب فقلت يايرفأ أبأمير المؤمنين شكاه فقال ما بأمير المؤمنين شكوي فجلست فجاء عثمان بن عفان رضي الله عنه: فجلس فخرج يرفأ فقال: قم يا عثمان بن عفان قم يا ابن عباس فدخلنا على عمر فإذا
بين يديه صبر من مال على كل صبرة منها كتف. فقال عمر: إني نظرت في أهل المدينة فوجدتكما من أكثر أهلها عشيرة فخذا هذا المال فاقتسماه فما كان من فضل فردا فأما عثمان فحثا وأما أنا فجثوث على ركبتي فقلت: وإن كان نقصانًا رددت علينا فقال عمر: نشنشة أعرفها من أخش
وفي حديث عطاء (في الفأرة تموت في السمن الذائب أو الدهن فقال ينش وتدهن به إن لم تقذره) قال ابن الأعرابي: النش الخلط وزعفران منشوش.
وفي كلام الشافعي: رحمه الله في صفة الأدهان مثل البان المنشوش بالطيب أي مخلوط.
وفي الحديث (فإذا نش فلا تشرب) أي: إذا غلى، والخمر نشيشًا إذا أخذت تغلي.
الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م
42-المعجم الغني (إِنْسانٌ)
إِنْسانٌ- الجمع: أَناسِيُّ، أَناسِيَةٌ.1- "خَلَقَ اللَّهُ الإِنْسانَ وَصَوَّرَهُ أَحْسَنَ تَصْويرٍ": اِسْمٌ يُطْلَقُ على الكائِنِ البَشَرِيِّ. "العَقْلُ زينَةُ الإِنْسانِ".
2- "هُوَ إِنْسانٌ مِثالِيٌّ": شَخْصٌ يَمْتازُ بِصِفاتٍ نَمُوذَجِيَّةٍ غَيْرِ عادِيَةٍ. "لِكُلِّ إِنْسانٍ الحَقُّ في الوُجودِ والحُرِّيَّةِ والأمْنِ، والحَقُّ في حُرِّيَّةِ الرَّأْيِ والتَّعْبيرِ بِدونِ تَمْيِيزٍ بِسَبَبِ العُنْصُرِ أَوِ اللَّوْنِ أَوِ الجِنْسِ أَوِ الثَّقافَةِ أَوِ الدِّينِ أَوِ الرَّأْيِ". (مِنْ مَبادِئِ وَثيقَةِ حُقوقِ الإِنْسانِ)
الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
43-المعجم الغني (تَعْبِيرٌ)
تَعْبِيرٌ- الجمع: تَعَابِيرُ. [عبر]، (مصدر: عَبَّرَ):1- "يَمْتَازُ بِقُوَّةِ التَّعْبِيرِ": الصِّيَاغَةُ ذَاتُ نَبْرَةٍ وَدَلَالَةٍ، العِبَارَةُ. "جَاءَ بِتَعَابِيرَ جَدِيدَةٍ".
2- "بِتَعْبِيرٍ آخَرَ": بِعِبَارَةٍ أُخْرَى، بِشَكْلٍ آخَرَ.
3- "إِذَا جَازَ التَّعْبِيرُ": إِذَا جَازَ وَصَحَّ القَوْلُ وَالكَلَامُ. "لِكُلِّ شَخْصٍ الحَقُّ فِي حُرِّيَّةِ الرَّأْيِ وَالتَّعْبِيرِ".
4- "تَعَابِيرُ الوَجْهِ": قَسَمَاتُهُ.
الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
44-المعجم الغني (تَكْعيبِيَّةٌ)
تَكْعيبِيَّةٌ-: مَذْهَبٌ مِنَ الْمَذاهِبِ الحَديثَةِ في فَنِّ الرَّسْمِ، يَعْتَمِدُ الْمُكَعَّباتِ لِرَسْمِ شُخوصِ أَشْكالِهِ معَ اعْتِمادِ الرُّؤْيَةِ الذَّاتِيَّةِ قاعِدَةً لِلإِحْساسِ بِالأشْكالِ، والتَّعْبيرِ عَنْها على أَساسٍ مَنْظورٍ عَقْلِيٍّ وَذِهْنِيٍّ.الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
45-المعجم الغني (حَقٌّ)
حَقٌّ- الجمع: حُقُوقٌ. [حقق]، (مصدر: حَقَّ):1- "هُوَ عَلَى حَقٍّ": عَلَى صَوابٍ. "الحَقُّ مَعَكَ".
2- "مِنْ حَقِّي أنْ أَسْألَكَ": مِنْ وَاجِبِي.
3- "اُحْكُمْ بِحَقٍّ": بِعَدْلٍ، بِإنْصَافٍ. {َجاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ} [الإسراء: 81]:
4- "الحَقُّ عَلَيْكَ لأنَّكَ لَمْ تَقُمْ بِواجِبِكَ": أنْتَ الْمُتَحَمِّلُ خَطَأَ عَدَمِ القِيَامِ بِهِ.
5- "لَهُ الحَقُّ فِي إبْدَاءِ رَأْيِهِ": النَّصِيبُ الوَاجِبُ لَهُ.
6- "هُوَ حَقٌّ بِهَذَا الْمَنْصِبِ": جَدِيرٌ بِهِ.
7- "الحَقُّ يُقَالُ إِنَّهُ عَادِلٌ فِي أَحْكَامِهِ": فِي الحَقِيقَةِ، فِي الوَاقِعِ. "حَقًّا إنَّ الْمَوْضُوعَ يَسْتَحِقُّ اهْتِمَامًا أَكْثَرَ".
8- "أَعْرِفُهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ": أَعْرِفُهُ كُلَّ الْمَعْرِفَةِ.
9- "قَوْلُ الحَقِّ": الحَقِيقَةُ وَمَا هُوَ صَادِقٌ. "لَا يَمْنَعُنِي مَانِعٌ مِنْ قَوْلِ الحَقِّ". (نجيب محفوظ):
10- "مَا ضَاعَ حَقٌّ وَرَاءهُ مُطَالِبٌ": مَا ضَاعَ مَطْلَبٌ يَرْتَكِزُ عَلَى العَدْلِ.
11- "هُوَ اللَّهُ الحَقُّ": مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الحُسْنَى.
12- "عَبْدُ الحَقِّ": اِسْمُ عَلَمٍ مُرَكَّبٌ.
13- "حُقُوقُ اللَّهِ": أوَامِرُهُ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْنَا نَحْوَهُ.
14- "يَدْرُسُ الحُقُوقَ": يَدْرُسُ القَوَانِينَ وَالتَّشْرِيعَاتِ وَالأَعْرَافَ الدَّوْلِيَّةَ.
15- "صَادَقَتِ الأُمَمُ الْمُتَّحِدَةُ عَلَى مِيثَاقِ حُقُوقِ الإنْسَانِ سَنَةَ 1948": الْمُكْتَسَبَاتُ الَّتِي يَتَمَتَّعُ بِهَا كُلُّ إنْسَانٍ دُونَ تَمْيِيزٍ فِي العِرْقِ وَالدِّينِ وَاللُّغَةِ وَاللَّوْنِ وَالجِنْسِ. "يُولَدُ جَمِيعُ النَّاسِ أحْرَارًا وَمُتَسَاوِينَ فِي الكَرَامَةِ وَالحُقُوقِ": مَبْدَأٌ مِنْ مَبَادِئِ مِيثَاقِ حُقُوقِ الإنْسَانِ.
16- "الحَقُّ الشَّخْصِيُّ": مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ الْمُوَاطِنُ فِي.
عَلَاقَاتِهِ مَعَ أجْهِزَةِ الدَّوْلَةِ.
17- "الْحُقُوقُ الْمَدَنِيَّةُ": كُلُّ مَا يُعَيِّنُهُ القَانُونُ الْمَدَنِيُّ لِلْمُوَاطِنِينَ كَحَقِّ التَّجَوُّلِ وَالتَّعْبِيرِ وَالمِلْكِيَّةِ.
18- "حَقُّ الشُّفْعَةِ": حَقُّ تَمَلُّكِ العَقَارِ الْمَبِيعِ عَلَى مَنِ اشْتَرَاهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَهُ لِلْمَصَارِيفِ وَالرُّسُومِ.
19- "حَقُّ الاسْتِعْمَالِ": حَقُّ اسْتِعْمَالِ مَا يَمْلِكُ الغَيْرُ. 20. "حَقُّ الانْتِفَاعِ": حَقٌّ يُخَوِّلُ صَاحِبَهُ الانْتِفَاعَ بِمِلْكِ الغَيْرِ دُونَ تَغْيِيرٍ فِي وَصْفِهِ أوْ مَسٍّ بِجَوْهَرِهِ. 2
1- "حَقُّ الرَّفْضِ": هُوَ نِظَامٌ فِي التَّعامُلِ الدَّوْلِيِّ يُخَوِّلُ لِمُمَثِّلِي الدُّوَلِ العُظْمَى فِي مَجْلِسِ الأمْنِ رَفْضَ الْمُوافَقَةِ أوِ الْمُعَارَضَةِ فِي قِيَامِ عَمَلٍ مَّا، وَهُوَ مَا يُعْرَفُ بِحَقِّ الفيتو.
الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
46-المعجم الغني (مُسْتَنْكِرٌ)
مُسْتَنْكِرٌ(مُسْتَنْكِرَةٌ )- الجمع: (مُسْتَنْكِرُونَ، مُسْتَنْكِرَاتٌ ). [نكر]، (اسم فاعل. مِن اِسْتَنْكَرَ):1- "مُسْتَنْكِرٌ كُلَّ سُلُوكٍ سَيِّءٍ": مُسْتَقْبِحٌ، مُسْتَهْجِنٌ.
2- "لَهْجَةٌ مُسْتَنْكِرَةٌ": لَهْجَةُ الاسْتِهْجَانِ والتَّعْبِير عَنِ الاِسْتِنْكَارِ.
الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
47-المعجم الغني (نُطْقٌ)
نُطْقٌ- [نطق]، (مصدر: نَطَقَ):1- "نُطْقٌ وَاضِحٌ": لَفْظٌ وَاضِحٌ، إِلْقَاءُ الكَلَامِ وَالتَّعْبِيرُ بِهِ.
2- "يَتَلَكَّأُ فِي نُطْقِهِ": يَتَلَكَّأُ فِي اسْتِعْمَالِ الكَلَامِ.
3- "فَاقِدُ النُّطْقِ": أَبْكَمُ، أَخْرَسُ.
4- "اِشْرَأَبَّتِ الأَعْنَاقُ فِي انْتِظَارِ النُّطْقِ بِالْحُكْمِ": التَّصْرِيحُ بِهِ.
الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
48-معجم الرائد (أسلوب)
أسلوب:1- نهج خاص في الكتابة والتعبير عن الأفكار «أسلوب ابن المقفع».
2- نهج خاص في الفن والعمارة والحياة.
3- طريق.
4- شموخ في الأنف.
الرائد-جبران مسعود-صدر: 1384هـ/1965م
49-التعريفات الفقهية (الرُّؤيا)
الرُّؤيا: قال الراغب: "الرؤيا ما يُرى في المنام وهو فُعلى وقد يخفّف فيه الهمزة فيقال بالواوي". وقد يطلق على مشاهدة عالم الغيب وإن كان في اليقظة. والتعبيرُ خاص بتفسير الرؤيا المنامي وهو التفسير والإخبار بآخِرِ ما يؤول إليه أمر الرؤيا.التعريفات الفقهية-محمد عميم الإحسان-صدر: 1407هـ/1986م
50-تاج العروس (عبر)
[عبر]: عَبَرَ الرُّؤْيَا يَعْبُرُها عَبْرًا، بالفَتْح، وعِبَارَةً، بالكسر، وعَبَّرَها تَعْبِيرًا: فَسَّرَهَا وأَخْبَرَ بما يَؤُول، كذا في المحكم وغيره، وفي الأَساس: بآخرِ ما يَؤُول إِليهِ أَمْرُهَا.وفي البصائِرِ للمصنِّف: والتَّعْبِيرُ أَخَصُّ من التّأْوِيلِ، وفي التنزيل: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ} أَي إِن كُنْتُم تَعْبُرُونَ الرُّؤْيا، فعدّاها باللام والمعنى إِن كُنْتُم تَعْبُرُون، وعابِرِينَ وتُسَمَّى هذِهِ [اللَّامُ] لَامَ التَّعْقِيب؛ لأَنّهَا عَقَّبَت الإِضافَة، قال الجَوْهَرِيّ: أَوْصَلَ الفِعْلَ بلام كما يُقَال: إِن كنتَ للمالِ جامِعًا.
والعابِرُ: الذي يَنْظُرُ في الكِتَابِ فَيَعْبُرُه؛ أَي يَعْتَبِرُ بعضَهُ ببعض حتَّى يَقَعَ فَهمُه عليه، ولذلك قيل: عَبَرَ الرُّؤْيا، واعْتَبَرَ فلانٌ كذَا. وقيل: أُخِذَ هذا كلُّه من العِبْرِ، وهو جانِبُ النَّهْرِ، وهما عِبْرَانِ؛ لأَنّ عابِرَ الرُّؤْيَا يَتَأَمّلُ ناحِيَتَيِ الرُّؤْيَا، فيَتَفَكَّرُ في أَطرافِها، ويَتَدَبَّرُ كلّ شَيْءٍ منها، ويَمْضِي بفِكْره فيها مِن أَوّلِ ما رَأَى النائِمُ إِلى آخرِ ما رَأَى.
ورُوِي عن أَبي رَزِينٍ العُقَيْلِيّ أَنّه سمِعَ النَّبِيَّ صلَّى الله تَعالى عليه وسَلَّم يقول: «الرُّؤْيَا على رِجْلِ طائِرٍ، فإِذَا عُبِّرَتْ وَقَعَتْ، فلا تَقُصَّها إِلَّا على وَادٍّ، أَو ذِي رَأْي»، لأَنّ الوادَّ لا يُحِبُّ أَن يَسْتَقْبِلَك في تَفْسِيرِهَا إِلّا بما تُحِبّ، وإِن لم يكن عالِمًا بالعِبَارَةِ لم يَعْجَلْ لكَ بما يَغُمُّكَ؛ لأَنّ تعْبِيرَه يُزِيلُهَا عمّا جَعلَها الله عليه، وأَمّا ذُو الرّأْيِ فمعناه ذُو العِلْمِ بعِبارَتِهَا، فهو يُخْبِرُك بحقيقةِ تَفْسِيرِهَا، أَو بأَقْرَبِ ما يَعْلَمُه منها، ولعلّه أَن يكونَ في تَفْسِيرِهَا مَوعِظَةٌ تَرْدَعُكَ عن قَبِيح أَنتَ عليه، أَو يكون فيها بُشْرَى فتَحْمَد الله تعالى على النِّعْمَةِ فيها. وفي الحديثِ: «الرُّؤْيَا لأَوَّلِ عابِرِ» وفي الحديث «للرُّؤْيا كُنًى وأَسْمَاءٌ، فكَنُّوهَا بكُناهَا، واعتَبِرُوهَا بأَسْمَائِهَا». وفي حديثِ ابنِ سِيرِينَ كان يَقُولُ: «إِني أَعْتَبِرُ الحَدِيثَ» أَي أُعَبِّر الرُّؤْيَا بالحَدِيثِ وأَعْتَبِرُ به، كما أَعْتَبِرُها بالقُرْآنِ في تَأْوِيلِهَا، مثل أَن يُعَبِّرَ الغُرَابَ بالرَّجلِ الفاسِقِ، والضِّلَع بالمرأَةِ؛ لأَنّ النّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمَّى الغُرَابَ فاسِقًا، وجعلَ المرأَةَ كالضِّلَعِ، ونحو ذلك من الكُنَى والأَسماءِ.
واسْتَعْبَرَه إِيّاهَا: سَأَلَه عَبْرَها وتَفْسيرَها.
وعَبَّرَ عمّا في نَفْسِه تَعْبِيرًا: أَعْرَبَ وبَيَّنَ.
وعَبَّرَ عنه غَيْرُه: عَيِيَ فَأَعْرَبَ عَنْهُ وتَكَلَّمَ، واللِّسَانُ يُعَبِّرُ عمّا في الضَّمِيرِ.
والاسْمُ منه العَبْرَةُ، بالفَتْح، كذا هو مضبوطٌ في بعضِ النُسخِ، وفي بعضِها بالكسر، والعِبَارَةُ، بكسرِ العينِ وفتْحِهَا.
وعِبْرُ الوَادِي، بالكسر ويُفْتَحُ عن كُرَاع: شاطِئُه وناحِيَتُه، وهما عِبْرَانِ، قال النابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ يمدح النُّعْمَانَ:
ومَا الفُرَاتُ إِذَا جَاشَتْ غَوَارِبُه *** تَرْمِي أَوَاذِيُّه العِبْرَيْنِ بالزَّبَدِ
يَومًا بأَطْيَبَ منه سَيْبَ نافِلَةٍ *** ولا يَحُولُ عَطَاءُ اليَوْمِ دُونَ غَدِ
وعَبَرَهُ؛ أَي النّهْرَ والوَادِيَ، وكذلك الطَّرِيقَ، عَبْرًا، بالفَتْح. وعُبُورًا، بالضَّمّ: قَطَعَهُ من عِبْرِهِ إِلى عِبْرِهِ، ويُقَالُ: فُلانٌ في ذلك العِبْرِ؛ أَي في ذلك الجانبِ.
ومن المَجَاز عَبَرَ القَوْمُ: ماتُوا، وهو عابِرٌ، كأَنَّه عَبَرَ سَبِيلَ الحياةِ، وفي البصائِرِ للمصنّف: كأَنَّه عَبَرَ قَنْطَرَةَ الدُّنْيَا، قال الشاعِر:
فإِنْ تَعْبُرْ فإِنّ لنَا لُمَاتٍ *** وإِن نَغْبُرْ فَنَحْنُ على نُذورِ
يقول: إِنْ مِتْنَا فَلَنَا أَقْرَانٌ، وإِنْ بَقِينَا فنَحْنُ ننتَظِرُ ما لا بُدَّ منه، كأَنَّ لنا في إِتْيَانِه نَذْرًا.
وعَبَرَ السَّبِيلَ يَعْبُرُهَا عُبُورًا: شَقَّها، ورَجُلٌ عَابِرٌ سَبِيلٍ؛ أَي مارُّ الطّرِيقِ، وهم عابِرْو سَبِيل، وعُبَّارُ سَبِيلٍ.
وقَوْلُه تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ} قيل: معناه أَن تكونَ له حاجَةٌ في المسجِدِ وبَيْتُه بالبُعْدِ، فيدخل المسجِدَ، ويَخْرُج مُسْرِعًا، وقال الأَزْهَرِيّ: إِلّا مُسَافِرِينَ؛ لأَنّ المُسَافِرَ [قد] يُعْوِزُهُ الماءُ، وقيل: إِلّا مارِّينَ في المَسْجِدِ غيرَ مُرِيدِينَ للصّلاةِ.
وعَبَرَ بهِ الماءَ عَبْرًا وعَبَّرَهُ به تعْبِيرًا: جَازَ، عن اللِّحْيَانِيّ.
وعَبَرَ الكِتَابَ يَعْبُرُه عَبْرًا، بالفَتْح: تَدَبَّرَه في نَفْسِه ولم يَرْفَعْ صَوْتَه بقِرَاءَتِه.
وعَبَرَ المَتَاعَ والدَّرَاهِمَ يَعْبُرُها عَبْرًا: نَظَر: كَمْ وَزْنُهَا؟
وما هِيَ؟.
وقال اللّحْيَانِيّ: عَبَرَ الكَبْشَ يَعْبُرُه عَبْرًا: تَرَكَ صُوفَه عليهِ سَنَةٌ، وأَكْبُشٌ عُبْرٌ، بضمّ فسكون، إِذا تُركَ صُوفُها عليها، قال الأَزهريّ: ولا أَدْرِي كيف هذا الجَمْعُ؟.
وعَبَرَ الطَّيْرَ: زَجَرَهَا، يَعْبُرُهُ، بالضَّمّ، ويَعْبِرُهُ، بالكَسْر، عَبْرًا، فيهما.
والمِعْبَرُ، بالكسرِ: ما عُبِرَ بِهِ النَّهْرُ من فُلْكٍ أَو قَنْطَرَةٍ أَو غَيْرِه.
والمَعْبَرُ، بالفتحِ: الشَّطُّ المُهَيَّأُ للعُبُورِ.
وبه سُمِّيَ المَعْبَرُ الذي هو: د، بساحِلِ بَحْرِ الهِنْدِ.
ونَاقَةٌ عبْرُ أَسْفَارٍ، وعبْرُ سَفَر، مُثَلَّثَةً: قَوِيَّةٌ على السَفَرِ تَشُقُّ ما مَرَّتْ بهِ وتُقْطَعُ الأَسْفَارُ عَلَيْهَا، وكذا رَجُلٌ عبْرُ أَسْفَارٍ، وعبْرُ سَفَرٍ: جَرِيءٌ عليها ماضٍ فيها قَوِيٌّ عليها، وكذا جَمَلٌ عبْرُ أَسفارٍ وجِمَالٌ عبْرُ أَسْفَارٍ، للوَاحِدِ والجَمْعِ والمُؤَنّث، مثْل الفُلْكِ الذي لا يزال يُسَافَرُ عليها.
وجَمَلٌ عَبَّارٌ، ككَتّان، كذلك؛ أَي قَوِيٌّ على السَّيْرِ.
وعَبَّرَ الذَّهَبَ تَعْبِيرًا: وَزَنَه دِينَارًا دِينَارًا.
وقيل: عَبَّرَ الشَّيْءَ، إِذا لم يُبَالِغْ في وَزْنِهِ أَو كَيْلهِ، وتَعْبِيرُ الدَّراهِم: وَزْنُهَا جُمْلَةً بعد التَّفَارِيقِ.
والعِبْرَةُ، بالكِسْرِ: العَجَبُ، جمْعُه عِبَرٌ.
والعِبْرَةُ أَيضًا: الاعْتِبَارُ بما مَضَى، وقيل: هو الاسمُ من الاعْتِبَارِ.
واعْتَبَرَ منه: تَعَجَّبَ، وفي حديث أَبي ذَرٍّ: «فَمَا كانَتْ صُحُفُ مُوسَى؟ قال: كانَتْ عِبَرًا كُلُّهَا» وهي كالمَوْعِظَةِ ممّا يَتَّعِظُ به الإِنْسَانُ ويَعمَلُ بهِ ويَعْتَبِرُ: ليستَدِلَّ بهِ على غَيْرِه.
والعَبْرَةُ، بالفَتْحِ: الدَّمْعَةُ، وقيل: هو أَن يَنْهَمِلَ الدَّمْعُ ولا يُسْمَعُ البُكاءُ، وقيل: هي الدَّمْعَةُ قبلَ أَنْ تَفِيضَ، أَو هي تَرَدُّدُ البُكَاءِ في الصَّدْرِ، أَوْ هِيَ الحُزْنُ بلا بُكَاءٍ، والصحيح الأَوّل، ومنه قوله:
وإِنّ شِفَائِي عَبْرَةٌ لوْ سَفَحْتُهَا
ومن الأَخِيرَةِ قولُهُم في عِنَايَة الرَّجُلِ بأَخِيه، وإِيثَارِه إِيّاهُ على نفسِه: «لكَ ما أَبْكِي ولا عَبْرَةَ بِي» ويُرْوَى «ولا عَبْرَةَ لِي» أَي أَبْكِي من أَجْلِكَ، ولا حُزْنَ بِي في خاصَّةِ نَفْسِي. قالَه الأَصْمَعِيّ.
الجمع: عَبَرَاتٌ، مُحَرَّكةً، وعِبَرٌ، الأَخِيرَة عن ابنِ جِنِّي.
وعَبَرَ الرَّجلُ عَبْرًا، بالفَتْح، واسْتَعْبَرَ: جَرَتْ عَبْرَتُه وحَزِنَ. وفي حديث أَبِي بَكْرٍ، رضي الله عنه: «أَنّه ذكَرَ النّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، ثم اسْتَعْبَرَ فَبَكَى» أَي تَحَلَّبَ الدّمعُ.
وحَكَى الأَزْهَرِيُّ عن أَبي زَيْد: عَبِرَ الرَّجلُ يَعْبَرُ عَبَرًا، إِذا حَزِنَ.
وامرأَةٌ عابِرٌ، وعَبْرَى، كسَكْرَى، وعَبِرَةٌ، كفَرِحَةٍ: حَزِينَةٌ، ج: عَبَارَى، كسَكَارَى، قال الحارِثُ بنُ وَعْلَةَ الجَرْمِيُّ:
يَقُولُ ليَ النَّهْدِيُّ هل أَنْتَ مُرْدِفِي *** وكَيْفَ رِدَافُ الغَرِّ أُمُّكَ عَابِرُ
أَي ثاكِلٌ.
وعَيْنٌ عَبْرَى: باكِيَةٌ، ورَجُلٌ عَبْرانُ وعَبِرٌ، ككَتِفٍ: حَزِينٌ باكٍ.
والعُبْرُ، بالضَّمّ: سُخْنَةُ العَيْنِ، كأَنّه يَبْكي لمَا بهِ. ويُحَرَّكُ..
والعُبْرُ: الكَثِيرُ من كُلِّ شَيْءٍ، وقد غَلَب على الجَمَاعَة من النّاسِ. وقال كُرَاع: العُبْرُ: جماعةُ القومِ، هُذَلِيَّة.
وعَبَّرَ بِهِ تَعْبِيرًا: أَراهُ عُبْرَ عَيْنِه، ومعْنَى أَراه عُبْرَ عَيْنِه؛ أَي ما يُبْكِيهَا أَو يُسْخِنُهَا، قال ذُو الرُّمَّةِ:
ومِنْ أَزْمَةٍ حَصّاءَ تَطْرَحُ أَهْلَهَا *** علَى مَلَقِيَّاتٍ يُعَبَّرْنَ بالغُفْرِ
وفي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: «وعُبْرُ جارَتِها» أَي أَنَّ ضَرَّتَهَا تَرَى من عِفَّتِها وجَمَالِهَا ما يُعَبِّرُ عَيْنَها؛ أَي يُبْكِيها.
وفي الأَساس: وإِنّه ليَنْظُر إِلى عُبْرِ عَيْنَيْه؛ أَي ما يَكرهه ويَبْكِي منه، كما قيل:
إِذَا ابْتَزَّ عَنْ أَوْصالِهِ الثَّوْبَ عِنْدَهَا *** رَأَى عُبْرَ عَيْنَيْهَا وما عَنْه مَخْنِسُ
أَي لا تَسْتَطِيع أَن تَخْنِس عنه.
وامْرَأَةٌ مُسْتَعْبِرَةٌ، وتُفْتَح الباءُ؛ أَي غيرُ حَظِيَّةٍ، قال القُطَامِيُّ:
لهَا رَوْضَةٌ في القَلْبِ لم تَرْعَ مِثْلَهَا *** فَرُوكٌ ولا المُسْتَعْبِراتُ الصَّلائِفُ
ومَجْلِسٌ عِبْرٌ، بالكسر والفتح: كَثِيرُ الأَهْلِ، واقتصر ابنُ دُرَيْدٍ على الفَتْح.
وقَوْمٌ عَبِيرٌ: كَثِيرٌ.
وقال الكِسَائِيُّ: أَعْبَرَ الشّاةَ إِعْبَارًا: وَفَّرَ صُوفَهَا، وذلك إِذا تَرَكَهَا عامًا لا يَجُزُّهَا، فهي مُعْبَرَةٌ، وتَيْسٌ مُعْبَرٌ: غير مَجزوزٍ، قال بِشْرُ بنُ أَبي خَازِمٍ يصف كَبْشًا:
جَزِيزُ القَفَا شَبْعانُ يَرْبِضُ حَجْرَةً *** حَدِيثُ الخِصاءِ وَارِمُ العَفْلِ مُعْبَرُ
وجَمَلٌ مُعْبَرٌ: كَثِيرُ الوَبَرِ، كأَنّ وَبَرَه وُفِّرَ عليهِ. ولا تَقُلْ أَعْبَرْتُه، قال:
أَو مُعْبَر الظَّهْرِ يُنْبِي عَنْ وَلِيَّته *** ما حَجَّ رَبَّه في الدُّنْيَا ولا اعْتَمَرَا
ومن المَجَاز: سَهْمٌ مُعْبَرٌ، وعَبِيرٌ، هكذا في النُّسخ كأَمِير، والصّوابُ عَبِرٌ، ككَتِفٍ: مَوْفُورُ الرِّيشِ كالمُعْبَرِ من الشّاءِ والإِبِلِ.
وغُلامٌ مُعْبَرٌ: كادَ يَحْتَلِمُ ولم يُخْتَنْ بَعْدُ، وكذلِك الجارِيَةُ ـ زادَه الزَّمَخْشَرِيُّ ـ قال:
فَهُوَ يُلَوِّي باللِّحَاءِ الأَقْشَرِ *** تَلْوِيَةَ الخَاتِنِ زُبَّ المُعْبَرِ
وقيل: هو الذي لم يُخْتَنْ، قارَبَ الاحْتِلامَ أَو لم يُقَارِبْ. وقال الأَزْهَرِيُّ: غُلامٌ مُعْبَرٌ، إِذا كادَ يَحْتَلِمُ ولم يُخْتَنْ، وقالوا: يَا ابنَ المُعْبَرَةِ، وهو شَتْمٌ؛ أَي العَفْلاءِ، وهو من ذلِك، زادَ الزَّمَخْشَريّ كيا ابْنَ البَظْرَاءِ.
والعُبْرُ، بالضَّمّ: قَبِيلَةٌ.
والعُبْرُ: الثَّكْلَى، كأَنَّه جَمْعُ عابِرٍ، وقد تقَدَّم.
والعُبْرُ: السَّحَائِبُ التي تَعْبُر عُبُورًا؛ أَي تَسِيرُ سَيْرًا شَدِيدًا.
والعُبْرُ: العُقَابُ، وقد قيل: إِنه العُثْرُ، بالثّاءِ المثَلَّثَة، وسيُذْكَر في موضِعِه إِنْ شَاءَ الله تعالَى.
والعِبْرُ، بالكَسْر: ما أَخَذَ على غَرْبِيّ الفُراتِ إِلى بَرِّيَّةِ العَرَبِ، نقله الصّاغانيُّ.
وبَنُو العِبْرِ: قَبِيلَةٌ، وهي غيرُ الأُولَى.
وبَناتُ عِبْرٍ، بالكسر: الكَذِبُ والباطِلُ، قال:
إِذا ما جِئْتَ جَاءَ بَناتُ عِبْرٍ *** وإِنْ وَلَّيْتَ أَسْرَعْنَ الذَّهَابَا
وأَبو بَنَاتِ عِبْر: الكَذّابُ.
والعِبْرِيُّ والعِبْرانِيُّ، بالكسر فيهما: لُغَةُ اليَهُود، وهي العِبْرانِيَّةُ.
وقالَ الفَرّاءُ: العَبَرُ، بالتَّحْرِيكِ الاعْتِبَارُ، والاسمُ منه العِبْرَةُ، بالكَسْر، قال: ومِنْهُ قَوْلُ العَرَبِ، هكذا نقله ابنُ منظُور والصّاغانِيّ: اللهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَعْبُرُ الدُّنْيَا ولا يَعْمُرُهَا. وفي الأَسَاس: ومنهحديث: «اعْبُرُوا الدُّنْيَا ولا تَعْمُرُوهَا» ثم الذي ذَكَرَه المُصَنّفُ «يَعْبُر» بالباءِ «ولا يَعْمُر» بالميم هو الذي وُجدَ في سائر النُّسخ، والأُصولِ الموجودةِ بين أَيدينا. وضَبَطَه الصّاغانِيّ وجَوَّدَه فقال: ممّن يَعْبَرُ الدُّنْيَا، بفتح الموحّدَة ولا يَعْبُرها، بضمّ الموحّدَة، وهكذا في اللّسَان أَيضًا، وذَكَرَا في مَعْنَاه: أَي ممن يَعْتَبِرُ بها ولا يَمُوتُ سَرِيعًا حتَّى يُرْضِيَكَ بالطَّاعَةِ، ونقله شيخُنَا أَيضًا، وصَوّبَ ما ضَبَطَه الصّاغانِيُّ.
وأَبُو عَبَرَةَ، أَو أَبو العَبَرِ، بالتَّحْرِيك فيهما، وعلى الثّاني اقتصر الصّاغانِيُّ والحَافِظُ. وقال الأَخِيرُ: كذَا ضَبَطَهَ الأَمِيرُ، وفي حِفْظِي أَنه بكَسْرِ العَيْنِ، واسمه أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّد بنِ عبدِ الله بنِ عَبْدِ الصَّمَدِ بن عَليِّ بنِ عبدِ الله بنِ عبّاسٍ الهاشِمِيّ: هازِلٌ خَلِيعٌ، قال الصّاغانِيّ: كان يَكْتَسِب بالمُجُونِ والخَلاعَةِ، وقال الحافِظ: هو صاحِبُ النّوَادِرِ، أَحَدُ الشُّعَرَاءِ المُجَّانِ.
والعَبِيرُ: الزَّعْفَرَانُ وَحْدَه. عند أَهلِ الجاهِلِيَّة، قال الأَعْشَى:
وتَبْرُدُ بَرْدَ رِدَاءِ العَرُو *** سِ في الصَّيْفِ رَقْرَقْتَ فيهِ العَبِيرَا
وقال أَبُو ذُؤَيْب:
وسِرْبٍ تَطَلَّى بالعَبِيرِ كأَنَّه *** دِمَاءُ ظِبَاءٍ بالنُّحُورِ ذَبِيحُ
أَو العَبِيرُ: أَخْلاطٌ من الطِّيبِ يُجْمَعُ بالزَّعْفَرَانِ. وقال ابنُ الأَثِيرِ: العَبِيرُ: نَوْعٌ من الطِّيبِ ذُو لَوْنٍ يُجْمَع من أَخْلاطٍ.
قلت: وفي الحديث أَتَعْجَزُ إِحْدَاكُنّ أَن تَتَّخِذَ تُومَتَيْنِ ثم تَلْطَخَهُما بعَبِيرٍ أَو زَعْفَرَانٍ» ففي هذا الحديثِ بيانُ أَنَّ العَبِيرَ غيرُ الزَّعْفَرَانِ.
والعَبُورُ، كصَبُور: الجَذَعَةُ من الغَنَمِ أَو أَصْغَرُ. وقالَ اللِّحْيَانِيّ: العَبُورُ من الغَنَمِ: فَوْقَ الفَطِيمِ من إِناث الغَنَمِ.
وقيل: هي أَيضًا التي لم تُجَزَّ عَامَها.
الجمع: عَبَائِرُ، وحُكِيَ عن اللِّحْيَانِيّ: لي نَعْجَتانِ وثَلَاثُ عَبَائِرَ.
والعَبُورُ: الأَقْلَفُ، وهو الذي لم يُخْتَنْ، الجمع: عُبْرٌ، بالضَّمّ، قاله ابنُ الأَعرابِيّ.
والعُبَيْرَاءُ، بالضّمّ مُصَغَّرًا ممدودًا: نَبْتٌ، عن كُرَاع، حكاه مع الغُبَيْرَاءِ.
والعَوْبَرُ، كجَوْهَر: جِرْوُ الفَهْدِ، عن كُرَاع أَيضًا.
والمَعَابِيرُ: خُشُبٌ بضمتين، في السَّفِينَةِ مَنْصُوبَة يُشَدُّ إِليها الهَوْجَلُ، وهو أَصغَرُ من الأَنْجَرِ، تُحْبَس السَّفِينَةُ به، قاله الصّاغانيّ. وعابَرُ كهَاجَرَ: ابنُ أَرْفَخْشَذَ بنِ سامِ بنِ نُوحٍ عليهِ السّلامُ، إِليه اجتماعُ نِسبَةِ العَرَبِ وبَنِي إِسرائِيل، ومَن شارَكَهُم في نَسَبِهم، قاله الصّاغانِيُّ ويأْتي في «قحط» أَنَّ عَابَرَ هو ابنُ شالخ بنِ أَرْفَخْشَذ. قلْت: ويقال فيه عَيْبَرُ أَيضًا، وهو الذِي قُسِمَتْ في أَيّامِه الأَرْضُ بينَ أَوْلَادِ نُوح، ويقال: هو هُودٌ النَّبيّ عليهالسلام، وبَيْنَه وبين صالِح النَّبِيِّ عليهالسلام خَمْسمائة عام، وكان عُمْرُه مائَتَيْنِ وثَمَانِينَ سنةً، ودُفِن بِمكة، وهو أَبو قَحْطَان وفَالغ وكابر.
وعَبَّرَ بهِ، هذا الأَمْرُ تَعْبِيرًا: اشْتَدَّ عليهِ، قال أُسامَةُ بنُ الحارِثِ الهُذَلِيّ:
ومَا أَنَا والسَّيْرَ في متْلَفِ *** يُعَبِّرُ بالذَّكَرِ الضّابِطِ
ويروى «يُبَرِّحُ».
وعَبَّرْتُ به تَعْبِيرًا: أَهْلَكْتُه. كأَنّي أَرَيْتُه عُبْرَ عَيْنَيْه، وقد تقَدّم.
ومنه قيل: مُعَبَّر، كمُعَظَّمٍ: جَبَلٌ بالدَّهْنَاءِ بأَرْضِ تَمِيمٍ، قال الزَّمَخْشَرِيُّ: سُمِّيَ به لأَنّه يُعَبِّرُ بسَالِكِه. أَي يُهْلِكُ.
وفي التَّكْمِلَة: حَبْلٌ من حِبَالِ الدَّهْنَاءِ، وضَبَطَه هكذا بالحاءِ المهملة مُجَوَّدًا، ولعلَّه الصواب، وضَبَطَه بعضُ أَئمّة النَّسَب كمُحَدِّثٍ، وأُراه مُنَاسِبًا لمَا ذَهَبَ إِليه الزَّمَخْشَرِيّ.
وقَوْسٌ مُعَبَّرَةٌ: تامَّةٌ، نقلَه الصاغانيّ.
والمُعْبَرَةُ، بالتَّخْفِيفِ؛ أَي مع ضَمّ الميمِ: النّاقَةُ التي لم تُنْتَجْ ثَلاثَ سِنِينَ، فيَكُونُ أَصْلَبَ لَهَا، نقله الصّاغانِيّ.
والعَبْرَانُ، كسَكْرَانَ: موضع، نقله الصّاغانِيُّ.
وعَبَرْتَى، بفتح الأَوّل والثّاني وسكون الثّالث وزيادة مُثَنّاة: قرية قُرْبَ النَّهْرَوَانِ، منها عبدُ السّلامِ بنُ يُوسُفَ العَبَرْتِيُّ، حَدَّثَ عن ابنِ ناصِرٍ السلاميّ وغيرِه، مات سنة 623.
والعُبْرَةُ، بالضَّمّ: خَرَزَةٌ كان يَلْبَسُهَا رَبِيعَةُ بنُ الحَرِيشِ، بمنزلة التَّاجِ، فلُقِّبِ لذلِك ذا العُبْرَةِ، نقله الصّاغانِيُّ.
ويَوْمُ العَبَراتِ، مُحَرَّكَةً: من أَيّامِهِم، م، معرُوف.
ولُغَةٌ عابِرَةٌ: جائِزَةٌ، من عَبَرَ به النَّهْرَ: جازَ.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
العابِرُ: الناظِرُ في الشيْءِ.
والمُعْتَبِرُ: المُسْتَدِلُّ بالشَّيْءِ على الشَّيْءِ.
والمِعْبَرَةُ، بالكسر: سفِينَةٌ يُعْبَرُ عليها النَّهْرُ. قَاله الأَزْهَرِيُّ.
وقال ابنُ شُمَيْل: عَبَرْتُ مَتَاعِي: باعَدْتُه، والوادِي يَعْبُر السَّيْلَ عنّا؛ أَي يُبَاعِدُه.
والعُبْرِيُّ، بالضّمّ، من السِّدْرِ: ما نَبَتَ على عِبْرِ النَّهْرِ وعَظُمَ، منسوبٌ إِليه، نادِرٌ. وقيل: هو ما لَا ساقَ له منه، وإِنّما يكون ذلك فيما قارَبَ العِبْرَ. وقال يَعْقوب: العُبْريُّ والعُمْرِيُّ منه: ما شَرِبَ الماءَ، وأَنشد:
لاثٍ به الأَشَاءُ والعُبْرِيُّ
قال: والذي لا يشرب الماءَ يكونُ بَرِّيًّا، وهو الضَّالُ.
وقال أَبو زَيْدٍ: يقال للسِّدْرِ وما عَظُمَ من العَوْسَجِ: العُبْرِيُّ، والعُمْرِيُّ: القَدِيمُ من السِّدْرِ، وأَنشد قولَ ذِي الرُّمَّةِ:
قَطَعْتُ إِذَا تَجَوَّفَتِ العَوَاطِي *** ضُرُوبَ السِّدْرِ عُبْرِيًّا وضَالا
وعَبَرَ السَّفَرَ يَعْبُرُه عَبْرًا: شَقَّه، عن اللِّحْيَانِيّ.
والشِّعْرَى العَبُورُ: كَوكَبٌ نِيِّرٌ مع الجَوْزَاءِ، وقد تَقدّم في ش موضع ر، وإِنما سُمِّيَتْ عَبُورًا لأَنَّها عَبَرَت المَجَرَّةَ، وهي شامِيّةٌ، وهذا مَحَلُّ ذِكْرِهَا.
والعِبَارُ، بالكَسْر: الإِبِلُ القَوِيَّةُ على السَّيْرِ. وقال الأَصْمَعِيُّ: يقال: لقد أَسْرَعْتَ اسْتِعْبَارَكَ الدّراهِمَ؛ أَي استخْرَاجَك إِيّاها.
والعِبْرَةُ: الاعْتِبارُ بما مَضَى.
والاعْتِبَارُ: هو التَّدَبُّرُ والنَّظَرُ، وفي البصائِرِ للمصنّف: العِبْرَةُ والاعْتِبَارُ: الحالَةُ التي يُتَوَصَّلُ بها من معرفَةِ المُشَاهَد إِلى ما ليس بمُشَاهَدٍ.
وعَبْرَةُ الدَّمْعِ: جَرْيُهُ.
وعَبَرَتْ عَيْنُه، واسْتَعْبَرَتْ: دَمَعَتْ.
وحكَى الأَزْهَرِيّ عن أَبي زيد: عَبِرَ، كفَرِحَ، إِذا حَزِنَ، ومن دُعَاءِ العَرَبِ على الإِنْسَانِ: ماله سَهِرَ وعَبِرَ.
والعُبْر، بالضَّمّ: البُكَاءُ بالحُزْنِ، يقال: لأُمِّه العُبْرُ والعَبْرُ والعَبِرُ.
وجارِيَةٌ مُعْبَرَةٌ: لم تُخْفَضْ.
وعَوْبَرٌ، كجَوْهَر: مَوْضع.
والعَبْرُ، بالفَتْح: بلدٌ باليَمَن بين زَبِيدَ وعَدَنَ، قَرِيب من الساحِلِ الذي يُجْلَبُ إِليه الحَبَش.
وفي الأَزْدِ عُبْرَةُ، بالضَّمّ، وهو عَوْفُ بنُ مُنْهِبٍ. وفيها أَيضًا عُبْرَةُ بنُ زَهْرَانَ بن كَعْبٍ، ذَكرهما الصّاغانِيّ. قلتُ: والأَخيرُ جاهِلِيٌّ، ومُنْهِبٌ الذي ذكرَه هو ابنُ دَوْسٍ.
وعُبْرَةُ بنُ هَدَاد، ضَبطه الحَافِظُ.
والسَّيِّد العِبْرِيّ بالكسر، هو العَلّامَةُ بُرْهَانُ الدّينِ عُبَيْدُ الله بنُ الإِمَامِ شمْسِ الدّين مُحَمَّدِ بنِ غانِمٍ الحُسَيْنِيّ قاضِي تَبْرِيزَ، له تَصَانِيفُ تُوُفِّي بها سنة 743.
وفي الأَساسِ والبَصَائِرِ: وبنو فُلان يُعْبِرُونَ النّسَاءَ، ويَبِيعونَ الماءَ، ويَعْتَصِرُونَ العَطَاءَ. وأَحْصَى قاضِي البَدْوِ المَخْفُوضاتِ والبُظْرَ، فقال: وَجَدْتُ أَكْثَرَ العَفائِفِ مُوعَبَاتٍ، وأَكْثَرَ الفَوَاجِرِ مُعْبَرَات.
والعِبَارَةُ، بالكَسْر: الكَلامُ العَابِرُ من لِسَانِ المتكَلّم إِلى سَمْعِ السّامِع.
والعَبَّارُ، ككَتّانٍ: مُفَسِّرُ الأَحلامِ، وأَنشدَ المُبَرِّدُ في الكامِلِ:
رأَيْتُ رُؤْيَا ثُمَّ عَبَّرْتُها *** وكُنْتُ للأَحْلَامِ عَبّارَا
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
51-تاج العروس (عشق)
[عشق]: العِشْقُ بالكسْر، وإِنَّما أَهمله لشُهْرَتِه.والمَعْشَق، كمَقْعَد، قال الأَعْشَى:
وما بِيَ مِنْ سُقْمٍ وما بِيَ مَعْشَقُ
عُجْبُ المُحِبِّ بمَحْبُوبِه. أَو هو: إِفراطُ الحُبِّ. وسُئلَ أَبُو العَبَّاس أَحمدُ بنُ يَحْيى عن الحُبِّ والعِشْقِ: أَيُّهما أَحْمَدُ؟ فقالَ: الحُبُّ؛ لأَنَّ العِشْق فيه إِفراطٌ، ويَكُونُ العِشْق في عَفاف الحُبّ وفي دَعَارَةٍ، أَو هو عَمَى الحِسِّ عن إِدْرَاكِ عُيُوبِه، أَو مَرَضٌ وَسْواسِيُّ يَحْلُبُه إِلى نَفْسِه بتَسْلِيطِ فِكْرِه على استِحْسانِ بَعْضِ الصُّوَرِ.
قال شَيخُنا رَحِمهُ الله تَعالى: وقد أَلَّفَ الرَّئيسُ ابنُ سِينَا في العِشْقِ رِسالةً، وبَسَط فِيها مَعْناه، وقال: إِنه لا يَخْتَصُّ بنَوْعِ الإِنْسانِ، بل هُوَ سارٍ في جَمِيع المَوْجُوداتِ: من الفَلَكِيَّاتِ، والعُنْصُرِيّات، والنَّباتات، والمَعْدِنِيّات والحَيَوانات، وأَنّه لا يُدرَك مَعْناه ولا يُطَّلَع عَلَيه، والتَّعْبِير عنه يَزِيدُه خَفاءً، وهو كالحُسْنِ لا يُدرَكُ، ولا يُمكِن التَّعْبِير عنه، وكالوَزْن في الشِّعرِ، وغَيرِ ذلِك مِمّا يُحالُ فيه على الأَذْواقِ السَّلِيمة، والطِّباع المُسْتَقِيمة.
عَشِقه، كعَلِمه هذا هو الصَّواب، ومِثلُه في الصِّحاح والعُباب واللِّسان. وفي المِصْباح أَنّه كضَرَب، وهو غَيْر مَعْروفٍ، فلا يُعتَدُّ به، أَشارَ له شَيخُنا عِشْقًا، بالكَسْرِ، وعَشَقًا أَيضًا بالتَّحْرِيكِ عن الفَرَّاءِ. قال رُؤْبَة يَذْكُر الحِمارَ والأُتُنَ:
ولم يُضِعْهَا بَيْن فِرْكٍ وَعشَقْ
قالَ الجَوْهَرِيّ: وقالَ ابنُ السَّرّاجِ النَّمَرِيّ في كِتاب الحُلَى: إِنَّما حَرَّكه ضَرُورَةً ولم يُحَرِّكْه بالكَسْر إِتباعًا للعَيْن، كأَنَّه كَرِه الجَمْعَ بين كَسْرَتَين؛ لأَنَّ هذا عَزِيزٌ في الأَسْماءِ.
وقال زُهَيْر بنُ أَبِي سُلْمَى:
قامَتْ تَبدَّى بِذِي خالٍ لتَحْزُنَني *** ولا مَحالَة أَن يَشْتاقَ مَنْ عَشِقا
فهو عاشِقٌ من قومٍ عُشَّاق، وهي عَاشِقٌ أَيضًا. قال الفَرَّاءُ: يَقُولُونَ: امْرأَةٌ مُحِبٌّ لزَوْجِها وعاشِقٌ لزَوْجِها. وقال ابنُ فَارِسِ: حَمَلُوه على قَوْلِهم: رجل بَادِنٌ، وامرأَة بادِنٌ.
وقد يقالُ: عاشِقَةٌ كطَالِقة، وسُمِّيَ العاشِقُ عاشِقًا لأَنه يَذْبُل من شِدَّةِ الهَوَى.
وتَعَشَّقَه: تَكَلَّفَه، نَقَله الجَوْهَرِيُّ.
ورَجُلٌ عِشِّيقٌ كسِكِّيت: كَثِيرُه أَي: العِشْق، نَقَله الجوهَرِيُّ عن ابنِ السِّكِّيت.
وعَشِق به كفَرِح بالشين والسّين: لَصِق، ولذلك قِيل للكَلِف: عَاشِق، للزُومِه هَواه.
والعَشَقَة، مُحَرَّكة: شَجَرة تَخْضَرُّ، ثم تَدِقُّ وتَصْفَرُّ عن الزَّجّاج، وزَعَم أَنّ اشْتِقاقَ العَاشِقِ منه ج: عَشَقٌ. وقال كُراعٌ. هي عِنْد المُوَلَّدينَ اللَّبلاب. وقال ابنُ دُرَيْد: زَعَم ناسٌ أَنّ العَشَقَةَ اللَّبلابةُ، قالوا: ومنه اشْتُقَّ اسمُ العاشِق لِذُبُوله وهو كَلام ضعيف. وفي الأَساسِ: واشْتِقاق العِشْق من العَشَق وهو اللَّبْلاب؛ لأَنه يَلْتَوِي على الشَّجَر ويَلْزَمُه.
والمَعْشُوقُ: كُلُّ مَحْبُوب.
واسمُ قَصْرٍ بسُرَّ مَنْ رَأى بالجانِبِ الغَرْبِيِّ منه، بناه المُعْتَمِدُ على الله.
وأَيْضًا: موضع بمِقْيَاس مِصْر له ذِكْر في دِيوان ابنِ الفَارِضِ، وقد امَّحَى أَثرُه الآنَ.
وقالَ ابنُ الأَعرابِيِّ: العُشُق، بضَمَّتَيْنِ: المُصْلِحُونَ غُروسَ الرَّياحِينِ ومُسَوُّوها.
* ومما يُسْتَدْرَكُ عليه:
تَعَشَّقَه بِمَعْنى عَشِقَه.
والعَشَقُ، محركةً: الأَرَاكُ.
وقال أَبو عَمْروٍ: يُقال للنَّاقةِ إِذا اشتَدَّت ضَبَعَتُها: قد هَدِمَت، وهَوِسَت، وبَلَمَت، وتَهَالَكَت، وعَشِقَت.
وقال ابنُ الأَعرابيِّ: العُشُق، بضَمَّتَيْن مِنَ الإِبِل: الذي يَلْزَمُ طَرْوقَتَه، ولا يَحِنّ إِلى غَيْرها.
والعَشِيقُ، كأَمِيرٍ: يكونُ بمَعْنَى الفاعِلِ ويكون بمَعْنى المَفْعولِ.
ومَعْشُوقَةُ بُرغوث: قَرْيتان بمصر.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
52-مجمل اللغة (عبر)
عبر: العبر والتعبير: فسر الرؤيا.وعبرت [عن] فلان، إذا تكلمت عنه.
وعبرت الكتاب، تدبرته في نفسي غير رافع به صوتي.
وعبرت النهر عبورا.
وهذا عبر النهر، أي: شطه، ويقال: عبر بالضم.
والمعبر: ما يعبر عليه من سفينة أو قنطرة.
وهذا عابر سبيل، أي: مار الطريق.
وناقة عبر أسفار: لا يزال يسافر عليها.
وعبر القوم، إذا ماتوا.
وأنشد:
[قضاء الله يغلب كل شيء
ويلعب بالجزوع وبالصبور]
فإن نعبر فإن لنا لمات
وإن نغبر فنحن على نذور
يقول: إن متنا فلنا أقران، وإن نغير فلا بد لنا من الموت حتى كأن علينا في إتيانه نذورا.
ولغة عابرة: جائزة.
والعبرة: الدمع.
وعبر فلان، إذا سالت من الحزن دمعته، ويقال: بفلان عبر.
وعبر العين: ما يبكيها.
وبعير معبر، إذا لم يجز وبره.
وغلام معبر، إذا لم يختن، وهو في شعر بشر:
وارم العفل معبر
ويقال: (إن) المعبر: خف البعير إذا اتسع وتباعد ما بين منسمه.
والعبري من السدر: ما لا سوق له، ويقال: بل هو الذي ينبت منه على شطوط الأنهار ويعظم.
حدثنا علي (بن إبراهيم) عن المفسر عن القتيبي.
وسهم معبر: موفر الريش.
والشعرى العبور.
نجم خلف الجوزاء، ويقال: إنها تقطع السماء عرضا.
ويقال: إن العبراني لغة اليهود، وإن القوم الذين لا يسكنون إلا بيوت الشعر هم العبرانيون، وفي هذا نظر.
قال الخليل: العبرة: الاعتبار بما مضى.
لم يزد على هذا.
وتعبير الدراهم: وزنها درهما درهما.
والعبير: أخلاط تجمع من الطيب، ويقال: بل هو الزعفران وحده، والقول هو الأول؛ لحديث روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتعجز إحداكن أن تتخذ تومتين ثم تلطخهما بعبير أو زعفران.
مجمل اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م
53-منتخب الصحاح (ثرب)
الثَرْتُ: شًحْمٌ قد غَشيَ الكَرِشَ والأمعاءَ رقيقٌ.والتثريب، كالتأنيب والتعبير والاستقصاء في اللَّوْمِ.
يقال: لا تثريب عليك.
وقال بِشْر:
فَعَفَوتُ عنهم عَفْوَ غيرِ مُثَرِّبٍ *** وَتَرَكْتُهُمْ لعقاب يومٍ سَرْمَدِ
الأصمعي: ثَرَّبْتُ عليه وَعَرَّبْتُ عليه بمعنى، إذا قَبَّحْتُ عليهِ فِعْلَهُ.
منتخب الصحاح-أبونصر الجوهري-توفي: 393هـ/1003م
54-التربية الخاصة (بيئة التعلم الأقل تقييدا)
بيئة التعلم الأقل تقييدا: تم استخدام هذا المفهوم والتعبير عنه من قبل المحاكم في السبعينات من هذا القرن.وقد أصدرت قراراُ ملزما بضرورة تعليم كل فرد معوق وتربيته وخدمته في أكثر الأوضاع التعليمية طبيعية وفي أكثر الأجواء النفسية قربا الى حياة العاديين.
وقد أدى ذلك المفهوم الى ظهور مفهوم آخر يطلق عليه (الدمج).
قاموس التربية الخاصة/د.عبد العزيز السيد الشخص/د.عبد الغفار عبد الحكيم الدماطي
55-الحضارة (بشمان)
بشمان: bushman.(انظر: فن أفريقيا).
شعب بدائي يسكن جنوبي غرب أفريقيا بصحراء كالاهاري.
ويعيش علي صيد الحيوانات وجمع الثمار.
لايزرع ولايربي حيواناته.
ويختلف شعب بشمان عن الزنوج ببشرتهم البنية المصفرة وقاماتهم القصيرة وجباههم البارزة وعيونهم الضيقة.
ويعيشون عرايا في مستعمرات متناثرة.
يمتازون بمهارة الصيد بالحراب والسهام المسمومة والرماح والأفخاخ.
ويتناولون بيض النعام.
لهم فنونهم كالرسم والنقش لصور الحيوانات فوق جدران الكهوف والصخور.
وتتميز رسوماتهم بالدقة المتناهية والتناسق الهندسي الرائع والتعبير الرمزي المتقن.
وقد كانوا يقيمون هذه الأعمال طوال تاريخهم.
وكانت هذه الرسومات تصور حفلاتهم الطقوسية ورقصاتهم التقليدية..
موسوعة حضارة العالم-أحمد محمد عوف-صدرت: 1421هـ/2000م