نتائج البحث عن (وَعِبَارَتُهُ)

1-المعجم العربي لأسماء الملابس (الزنارى)

الزُّنَّارى: بضم الزاى وتشديد النون: نوع من الأجلال -المفرد جل- يكون مفتوحًا فوق صدر الحصان ومسدولًا على الكفل بحيث لا يرى الذيل، وكان الزُّنَّارى يُعطى بدل الكنبوش لمن عظمت مقدرته ومقامه عند السلطان؛ ويصنع من الأطلس الأحمر أو من الجوخ.

ورد ذكره عند القلقشندى؛ وعبارته: ويكون عوض كنبوشه زنارى أطلس أحمر.

وعند دوزى: الزُّنَّارى: هو في مصر جل الفرس؛ وهو غطاء من الجوخ مفتوح من الصدر ويلتف حول جسم الحصان بحيث لا يرى ذيله.

المعجم العربي لأسماء الملابس-رجب عبدالجواد إبراهيم-صدر: 1423هـ/2002م


2-موسوعة الفقه الكويتية (أوقات الصلاة 2)

أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ -2

24- وَلَا يُعْلَمُ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي كَرَاهَةِ التَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ.أَمَّا السُّنَنُ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى كَرَاهَتِهَا لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: «ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيلَ الشَّمْسُ، وَحِينَ تُضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ- أَيْ حِينَ تَمِيلُ- حَتَّى تَغْرُبَ».وَالْمُرَادُ بِقَبْرِ الْمَوْتَى فِي الْحَدِيثِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ، لَا الدَّفْنُ، فَإِنَّ الدَّفْنَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ.

وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا إِبَاحَةُ السُّنَنِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، إِلاَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ فَإِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ عِنْدَهُ، وَالثَّانِيَةُ: كَرَاهَةُ السُّنَنِ مُطْلَقًا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ.

وَحُجَّتُهُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى: أَنَّهُ وَرَدَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ دَلِيلَانِ مُتَعَارِضَانِ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا (أَحَدُهُمَا) حَدِيثُ عُقْبَةَ الْمَارُّ ذِكْرُهُ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ أَيَّ صَلَاةٍ كَانَتْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ.

(ثَانِيهِمَا) قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- «إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلَاةِ أَوْ غَفَلَ فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا»، فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ عِنْدَ التَّذَكُّرِ.وَأَشَارَ ابْنُ رُشْدٍ إِلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، بِأَنْ نَسْتَثْنِيَ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ السُّنَنَ، وَيَكُونُ النَّهْيُ مُنَصَّبًا عَلَى الْفَرَائِضِ، أَمَّا السُّنَنُ فَلَيْسَتْ مَنْهِيًّا عَنْهَا.

وَحُجَّةُ مَالِكٍ عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ كَرَاهَةُ السُّنَنِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ: حَدِيثُ عُقْبَةَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا فِيهَا.

وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَتَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ لَا لِغَرَضِ أَنْ يُصَلِّيَهَا، بِأَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ، ثُمَّ صَلَّى تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ.

وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ.

25- وَأَمَّا حُكْمُ صَلَاةِ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ؛ لِحَدِيثِ عُقْبَةَ الْمَارِّ ذِكْرُهُ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا مُطْلَقًا.

وَلَا تَجُوزُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ إِذَا حَضَرَتْ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ أُخِّرَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا بِدُونِ عُذْرٍ إِلَى الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ.وَلَا تَجُوزُ سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ تُلِيَتْ آيَتُهَا أَوْ سُمِعَتْ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ سَجَدَ لَهَا التَّالِي أَوِ السَّامِعُ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ.أَمَّا إِذَا حَضَرَتِ الْجِنَازَةُ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَهِيَ صَحِيحَةٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ.

وَمِثْلُ ذَلِكَ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ إِذَا تُلِيَتْ آيَتُهَا فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ سَجَدَ لَهَا التَّالِي أَوِ السَّامِعُ فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَإِنَّهَا تَصِحُّ مَعَ الْكَرَاهَةِ.

وَدَلِيلُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، إِذَا حَضَرَتِ الْجِنَازَةُ فِي الْوَقْتِ غَيْرِ الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ أُخِّرَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا إِلَى الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ: حَدِيثُ عُقْبَةَ الْمَارُّ ذِكْرُهُ.وَدَلِيلُهُمْ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ مَعَ الْكَرَاهَةِ: أَنَّ مَا وَجَبَ فِي وَقْتٍ نَاقِصٍ يُؤَدَّى فِي النَّاقِصِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَمَا وَجَبَ فِي كَامِلٍ لَا يُؤَدَّى فِي النَّاقِصِ، وَمَنْ أَجْلِ ذَلِكَ صَحَّ عَصْرُ الْيَوْمِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، إِذَا أُدِّيَ فِي وَقْتِ الِاصْفِرَارِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ فِي نَاقِصٍ فَيُؤَدَّى كَمَا وَجَبَ، وَلَمْ يَصِحَّ عَصْرُ أَمْسِ إِذَا أَدَّاهُ فِي وَقْتِ الِاصْفِرَارِ الْيَوْمَ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ فِي كَامِلٍ فَلَا يُؤَدَّى فِي النَّاقِصِ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ قَضَاءِ الْفَائِتَةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ؛ لِحَدِيثِ: «إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلَاةِ أَوْ غَفَلَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا»، دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِ قَضَاءِ الْفَائِتَةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ عِنْدَ التَّذَكُّرِ.

ثَانِيًا: أَوْقَاتُ الْكَرَاهَةِ لِأَمْرٍ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ

26- وَهِيَ عَشْرَةُ أَوْقَاتٍ، كَمَا ذَكَرَهَا الشُّرُنْبُلَالِيُّ: وَأَوْصَلَهَا ابْنُ عَابِدِينَ إِلَى نَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ مَوْضِعًا، أَهَمُّهَا:

الْوَقْتُ الْأَوَّلُ: قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ.

27- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى كَرَاهِيَةِ التَّنَفُّلِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلاَّ بِسُنَّةِ الْفَجْرِ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْوِتْرَ إِذَا كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يُصَلِّيَهُ بِاللَّيْلِ، فَلَمْ يُصَلِّهِ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «لِيُبَلِّغَ شَاهِدُكُمْ غَائِبَكُمْ، وَلَا تُصَلُّوا بَعْدَ الْفَجْرِ إِلاَّ سَجْدَتَيْنِ».

أَيْ لَا صَلَاةَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلاَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ.

الْوَقْتُ الثَّانِي: بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ:

28- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ الْمُطْلَقِ (وَهُوَ مَا لَا سَبَبَ لَهُ) بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، لِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ».

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ أَدَاءِ كُلِّ صَلَاةٍ لَهَا سَبَبٌ، كَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالطَّوَافِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ فَائِتَةً فَرْضًا أَمْ نَفْلًا، «لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ: هُمَا اللَّتَانِ بَعْدَ الظُّهْرِ».

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ الْإِتْيَانِ بِسُنَّةِ الْفَجْرِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، إِذَا نَسِيَهَا وَلَمْ يَتَذَكَّرْهَا إِلاَّ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ فَهْدٍ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَصَلَّيْتُ مَعَهُ الصُّبْحَ، فَوَجَدَنِي أُصَلِّي، فَقَالَ: مَهْلًا يَا قَيْسُ أَصَلَاتَانِ مَعًا؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ أَكُنْ رَكَعْتُ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ.قَالَ: فَلَا إِذَنْ» ظَنَّ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ الرَّجُلَ يُصَلِّي الصُّبْحَ بَعْدَ أَنْ صَلاَّهُ مَعَهُ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ يُصَلِّي سُنَّةَ الْفَجْرِ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ.وَلِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى سُنَّةَ الظُّهْرِ بَعْدِ الْعَصْرِ، وَسُنَّةُ الْفَجْرِ فِي مَعْنَاهَا.

الْوَقْتُ الثَّالِثُ: بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ:

29- ذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ الْمُطْلَقِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، لِحَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ الَّذِي تَقَدَّمَ: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ».

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ قَضَاءِ سُنَّةِ الظُّهْرِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى نَافِلَةَ الظُّهْرِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ.

الْوَقْتُ الرَّابِعُ: قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ:

30- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ إِلاَّ الْمَغْرِبَ».وَالْمُرَادُ بِالْأَذَانَيْنِ: الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ، فَبَيْنَ أَذَانِ الصُّبْحِ وَإِقَامَتِهِ سُنَّةُ الْفَجْرِ، وَبَيْنَ أَذَانِ الظُّهْرِ وَإِقَامَتِهِ سُنَّةُ الظُّهْرِ الْقَبْلِيَّةُ، وَبَيْنَ أَذَانِ الْعَصْرِ وَإِقَامَتِهِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ مَنْدُوبَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبَيْنَ أَذَانِ الْعِشَاءِ وَإِقَامَتِهِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ مَنْدُوبَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلاَّ الْمَغْرِبَ لِقِصَرِ وَقْتِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ سُنَّةٌ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ؛ لِلْأَمْرِ بِهِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُد «صَلُّوا قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ»، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: هُمَا جَائِزَتَانِ، وَلَيْسَتَا بِسُنَّةٍ.

كَمَا اسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: «كُنَّا بِالْمَدِينَةِ فَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ ابْتَدَرُوا السَّوَارِيَ، فَيَرْكَعُونَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ الْغَرِيبَ لَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ، فَيَحْسِبُ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ صُلِّيَتْ مِنْ كَثْرَةِ مَنْ يُصَلِّيهِمَا».

الْوَقْتُ الْخَامِسُ: عِنْدَ خُرُوجِ الْخَطِيبِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ:

31- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ عِنْدِ خُرُوجِ الْخَطِيبِ إِلَى الْمِنْبَرِ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أَنْصِتْ- وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ- فَقَدْ لَغَوْتَ».دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَنْ يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِالْإِنْصَاتِ، كَانَ أَمْرُهُ لَغْوًا مِنَ الْكَلَامِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ بِالْإِنْصَاتِ- وَهُوَ أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ- لَغْوًا مِنَ الْكَلَامِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، كَانَ التَّنَفُّلُ لَغْوًا مِنَ الْأَعْمَالِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، أَضِفْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ التَّنَفُّلَ يُفَوِّتُ الِاسْتِمَاعَ إِلَى الْخَطِيبِ الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ، فَلَا يُتْرَكُ الْوَاجِبُ مِنْ أَجْلِ النَّفْلِ.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ لِمَنْ دَخَلَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَأَجَازُوا التَّنَفُّلَ بِرَكْعَتَيْنِ.

لِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: «جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ فَجَلَسَ، فَقَالَ لَهُ: يَا سُلَيْكُ قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا».

الْوَقْتُ السَّادِسُ: عِنْدَ الْإِقَامَةِ:

32- ذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ عِنْدَ الْإِقَامَةِ لِلصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، إِلاَّ سُنَّةَ الْفَجْرِ إِذَا لَمْ يَخَفْ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ، أَمَّا إِذَا خَافَ فَوْتَهَا تَرَكَهَا، وَإِنَّمَا كُرِهَ التَّنَفُّلُ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ».وَاسْتَثْنَى مِنَ الْحَدِيثِ سُنَّةَ الْفَجْرِ لِكَوْنِهَا آكَدَ السُّنَنِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَ الْإِمَامَ يُصَلِّي الصُّبْحَ، فَلْيَدْخُلْ مَعَهُ فِي صَلَاتِهِ، وَيَتْرُكْ سُنَّةَ الْفَجْرِ.وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ: فَإِنْ خَافَ أَنْ يَفُوتَهُ الْإِمَامُ بِرَكْعَةٍ تَرَكَ سُنَّةَ الْفَجْرِ وَقَضَاهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَإِنْ لَمْ يَخَفْ أَنْ يَفُوتَهُ الْإِمَامُ بِرَكْعَةٍ أَتَى بِالسُّنَّةِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِهِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَكَوْنِهِ دَاخِلَهُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ وَصَلَّى سُنَّةَ الْفَجْرِ، وَالْإِمَامُ يُصَلِّي الصُّبْحَ، كَانَتَا صَلَاتَيْنِ مَعًا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَيَكُونُ مُخْتَلِفًا مَعَ الْإِمَامِ، فَهُوَ يُصَلِّي نَفْلًا، وَالْإِمَامُ يُصَلِّي فَرْضًا، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: «سَمِعَ قَوْمٌ الْإِقَامَةَ، فَقَامُوا يُصَلُّونَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَصَلَاتَانِ مَعًا؟ أَصَلَاتَانِ مَعًا؟» وَذَلِكَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا يَشْرَعُ فِي صَلَاةٍ نَافِلَةٍ وَلَوْ رَاتِبَةً، وَلَوْ شَرَعَ فِيهَا لَا تَنْعَقِدُ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ سُنَّةُ الْفَجْرِ وَغَيْرُهَا مِنَ السُّنَنِ؛ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.

الْوَقْتُ السَّابِعُ: قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَبَعْدَهَا:

33- ذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ فِي الْمَنْزِلِ وَالْمَسْجِدِ، وَبَعْدَ الصَّلَاةِ يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا يُكْرَهُ فِي الْمَنْزِلِ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ لَا يُصَلِّي قَبْلَ الْعِيدِ شَيْئًا، فَإِذَا رَجَعَ إِلَى الْمَنْزِلِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ».

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَبَعْدَهَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا فِي الْمُصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا بَعْدَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ لِغَيْرِ الْإِمَامِ.

الْوَقْتُ الثَّامِنُ: بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ فِي كُلٍّ مِنْ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ:

34- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ جَمْعَ تَقْدِيمٍ فِي عَرَفَةَ، وَالْمَجْمُوعَتَيْنِ جَمْعَ تَأْخِيرٍ فِي مُزْدَلِفَةَ، فَإِذَا جَمَعَ الْإِمَامُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ، يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ، وَيَتْرُكُ سُنَّةَ الظُّهْرِ الْبَعْدِيَّةَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ.فَيُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ، وَيَتْرُكُ سُنَّةَ الْمَغْرِبِ الْبَعْدِيَّةَ؛ لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَتَطَوَّعْ بَيْنَهُمَا.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَأَمَّا الْفَصْلُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعَمَلٍ غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ فَتَوَضَّأَ، فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الْعِشَاءُ فَصَلَّى، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا».وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ السُّنَّةَ أَلاَّ يَتَطَوَّعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ.

الْوَقْتُ التَّاسِعُ: عِنْدَ ضِيقِ وَقْتِ الْمَكْتُوبَةِ:

35- لَا يُعْلَمُ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّنَفُّلُ عِنْدَ ضِيقِ وَقْتِ الْمَكْتُوبَةِ، فَإِذَا ضَاقَ وَقْتُ الظُّهْرِ مَثَلًا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلاَّ مَا يَسَعُ صَلَاتَهُ، حَرُمَ التَّنَفُّلُ لِمَا فِي التَّنَفُّلِ مِنْ تَرْكِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِالنَّفْلِ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَمْ تَنْعَقِدْ نَافِلَةً- وَلَوْ رَاتِبَةً- مَعَ ضِيقِ الْوَقْتِ.

حُكْمُ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا

تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ بِلَا عُذْرٍ:

36- لَا يُعْلَمُ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا بِدُونِ عُذْرٍ ذَنْبٌ عَظِيمٌ، لَا يُرْفَعُ إِلاَّ بِالتَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ عَلَى مَا فَرَّطَ مِنَ الْعَبْدِ، وَقَدْ سَمَّى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ أَيْ مُقَصِّرٌ، حَيْثُ قَالَ: «لَيْسَ التَّفْرِيطُ فِي النَّوْمِ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ».

37- أَمَّا تَأْخِيرُهَا بِعُذْرِ النِّسْيَانِ، فَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ أَيْضًا فِي أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ عَلَى هَذَا التَّأْخِيرِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».

38- وَأَمَّا تَأْخِيرُهَا بِعُذْرِ النَّوْمِ، فَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ، فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا».

أَنَّ النَّوْمَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا لَا يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَلَا يُعْتَبَرُ مُفَرِّطًا، وَقَدْ نَامَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي حَدِيثِ التَّعْرِيسِ عَنْ «أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةً، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: لَوْ عَرَّسْتَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَخَافُ أَنْ تَنَامُوا عَنِ الصَّلَاةِ، قَالَ بِلَالٌ: أَنَا أُوقِظُكُمْ، فَاضْطَجَعُوا، وَأَسْنَدَ بِلَالٌ ظَهْرَهُ إِلَى رَاحِلَتِهِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ، فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَقَالَ: يَا بِلَالُ أَيْنَ مَا قُلْتَ؟ فَقَالَ: مَا أُلْقِيَتْ عَلَيَّ نَوْمَةٌ مِثْلُهَا قَطُّ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ، وَرَدَّهَا عَلَيْكُمْ حِينَ شَاءَ، يَا بِلَالُ قُمْ فَأَذِّنِ النَّاسَ بِالصَّلَاةِ، فَتَوَضَّأْ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ، وَابْيَاضَّتْ، قَامَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ» غَيْرَ أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ نَامَ تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ يُكَلِّفُ أَحَدًا بِإِيقَاظِهِ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.وَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ يُكْرَهُ النَّوْمُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ، لِحَدِيثِ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا».

وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ يُكْرَهُ النَّوْمُ قَبْلَ الصَّلَاةِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَالظَّاهِرُ عِنْدَهُمْ كَرَاهَةُ النَّوْمِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، أَمَّا قَبْلَ دُخُولِهِ فَجَائِزٌ عِنْدَهُمْ.

39- أَمَّا تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا، أَوْ تَقْدِيمُهَا بِعُذْرِ السَّفَرِ أَوِ الْمَطَرِ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بِعُذْرِ السَّفَرِ أَوِ الْمَطَرِ لِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ «ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا عَجَّلَ بِهِ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ».وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ- أَيْ قَبْلَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ عَنْ وَسَطِ السَّمَاءِ- أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ زَاغَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ».دَلَّ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَانَ مُسَافِرًا، وَأَسْرَعَ فِي السَّيْرِ؛ لِيَصِلَ إِلَى غَرَضِهِ فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ، أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ.وَدَلَّ الْحَدِيثُ الثَّانِي عَلَى أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا ابْتَدَأَ السَّفَرَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الظُّهْرِ، أَخَّرَ الظُّهْرَ وَجَمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَصْرِ، وَإِذَا ابْتَدَأَ السَّفَرَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الظُّهْرِ، صَلاَّهَا ثُمَّ سَافَرَ، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَصْرِ، وَيُسْتَدَلُّ لِلْجُمْهُورِ أَيْضًا بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِلسَّفَرِ وَغَيْرِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلاَّ فِي عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ، فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَيَجْمَعُ الْإِمَامُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَمْعَ تَقْدِيمٍ، بِأَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِعَرَفَاتٍ، وَيَجْمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ جَمْعَ تَأْخِيرٍ بِمُزْدَلِفَةَ فَيُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ.

وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ لِجَوَازِ هَذَا الْجَمْعِ: أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ لَا عُمْرَةٍ، وَأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصَّلَاةُ بِجَمَاعَةٍ، وَأَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ فِي جَمْعِ عَرَفَةَ هُوَ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ.

وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ- أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ بِجَمَاعَةٍ، وَأَجَازُوا لِلْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْجَمْعِ وَلَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا، أَمَّا الْجَمْعُ فِي مُزْدَلِفَةَ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ غَيْرُ الْإِحْرَامِ وَالْمَكَانِ، وَهُوَ مُزْدَلِفَةُ.

40- وَقَدْ تَضَمَّنَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَمْرَيْنِ: (الْأَوَّلُ) أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ بِالشُّرُوطِ السَّابِقَةِ. (الثَّانِي) لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ بِعُذْرِ سَفَرٍ أَوْ مَطَرٍ.

أَمَّا الْأَمْرُ الْأَوَّلُ فَدَلِيلُهُ: أَنَّ الَّذِينَ رَوَوْا نُسُكَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَجِّهِ، اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ هَذَا الْجَمْعَ الْمَذْكُورَ.

وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي- وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي غَيْرِ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ بِعُذْرِ سَفَرٍ أَوْ مَطَرٍ- فَدَلِيلُهُ: أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةَ عُرِفَتْ مُؤَقَّتَةً بِأَوْقَاتِهَا بِالدَّلَائِلِ الْمَقْطُوعِ بِهَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْإِجْمَاعِ، فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهَا عَنْ أَوْقَاتِهَا بِنَوْعٍ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالسَّفَرُ أَوِ الْمَطَرُ لَا أَثَرَ لَهُمَا فِي تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا أَوْ تَقْدِيمِهَا عَنْ وَقْتِهَا.

مَنْ لَمْ يَجِدْ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ

41- اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَنْ لَمْ يَجِدْ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ، كَسُكَّانِ الْمَنَاطِقِ الْقُطْبِيَّةِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَنَاطِقَ تَسْتَمِرُّ فِي نَهَارٍ دَائِمٍ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَفِي لَيْلٍ دَائِمٍ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أُخْرَى، كَمَا يَقُولُ الْجُغْرَافِيُّونَ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَى سُكَّانِ هَذِهِ الْمَنَاطِقِ- إِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ- أَنْ يُصَلُّوا الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَمْ يَجِدُوا وَقْتًا لَهَا، بِأَنْ يُقَدِّرُوا لِكُلِّ صَلَاةٍ وَقْتًا أَوْ تَسْقُطُ عَنْهُمْ هَذِهِ الصَّلَوَاتُ؟.

وَكَذَلِكَ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْمَنَاطِقِ الْقُطْبِيَّةِ، تَأْتِي فِيهَا فَتَرَاتٌ لَا يُوجَدُ وَقْتُ الْعِشَاءِ، أَوْ يَطْلُعُ الْفَجْرُ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ مُبَاشَرَةً.

وَفِي بَعْضِ الْمَنَاطِقِ لَا تَغِيبُ الشَّمْسُ مُطْلَقًا.

ذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدَمِ سُقُوطِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ عَنْهُمْ، وَيُقَدِّرُونَ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَقْتًا، فَفِي السِّتَّةِ الْأَشْهُرِ الَّتِي تَسْتَمِرُّ فِي نَهَارٍ دَائِمٍ يُقَدِّرُونَ لِلْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالْوِتْرِ وَالْفَجْرِ وَقْتًا، مِثْلُ ذَلِكَ السِّتَّةُ الْأَشْهُرِ الْأُخْرَى يُقَدِّرُونَ لِلصُّبْحِ وَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَقْتًا، بِاعْتِبَارِ أَقْرَبِ الْبِلَادِ الَّتِي لَا تَتَوَارَى فِيهَا الْأَوْقَاتُ الْخَمْسَةُ.

وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَيَّامِ الدَّجَّالِ، الَّذِي هُوَ مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ الْكُبْرَى، فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِالتَّقْدِيرِ فِيهَا، فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ قَالَ: «ذَكَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الدَّجَّالَ وَلُبْثَهُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا: يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ.قَالَ الرَّاوِي: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ الْيَوْمَ الَّذِي كَالسَّنَةِ، أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِ اقْدُرُوا لَهُ».أَيْ صَلُّوا صَلَاةَ سَنَةٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ كَسَنَةٍ، وَقَدِّرُوا لِكُلِّ صَلَاةٍ وَقْتًا. وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى سُقُوطِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَمْ يَجِدُوا وَقْتًا لَهَا؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ سَبَبٌ لِلْوُجُوبِ، فَإِذَا عُدِمَ السَّبَبُ- وَهُوَ الْوَقْتُ- عُدِمَ الْمُسَبَّبُ وَهُوَ الْوُجُوبُ.

وَهَذَا يَنْطَبِقُ عَلَى الْبِلَادِ الَّتِي يَقْصُرُ فِيهَا اللَّيْلُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي الصَّيْفِ، فَقَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ الْأَحْمَرُ، يَظْهَرُ الْفَجْرُ الصَّادِقُ فَلَا يُوجَدُ وَقْتٌ لِلْعِشَاءِ وَالْوِتْرِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْعِشَاءِ مَغِيبُ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ، وَقَدْ ظَهَرَ الْفَجْرُ الصَّادِقُ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ.

فَذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ سُقُوطِ الْوِتْرِ وَالْعِشَاءِ عَنْ أَهْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ، بَلْ يُقَدِّرُونَ لِلْعِشَاءِ وَالْوِتْرِ وَقْتًا بِاعْتِبَارِ أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِمْ.وَذَهَبَ بَعْضٌ آخَرُ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى سُقُوطِ الْوِتْرِ وَالْعِشَاءِ، وَهُوَ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ صَاحِبُ نُورِ الْإِيضَاحِ وَعِبَارَتُهُ: وَمَنْ لَمْ يَجِدْ وَقْتَهَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ.لَكِنَّهُ خِلَافُ الْمَذْهَبِ وَمَا عَلَيْهِ الْمُتُونُ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى تَقْدِيرِ مَغِيبِ شَفَقِ أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا كَانَ أَقْرَبُ الْبِلَادِ إِلَيْهِمْ يَغِيبُ فِيهَا الشَّفَقُ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَمُدَّةُ اللَّيْلِ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ ثَمَانِي سَاعَاتٍ، فَيَكُونُ أَوَّلُ الْعِشَاءِ عِنْدَهُمْ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَإِذَا كَانَتْ مُدَّةُ اللَّيْلِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا عِشَاءٌ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَاعَةً، فَيُقَدَّرُ مَغِيبُ الشَّفَقِ عِنْدَهُمْ بِسَاعَةٍ وَنِصْفٍ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ بَقَاءِ الشَّفَقِ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِمْ سَاعَةٌ، وَهِيَ تُعَادِلُ الثُّمُنَ مِنَ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ عِنْدَهُمْ ثَمَانِي سَاعَاتٍ، وَالْبِلَادُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا عِشَاءٌ وَلَيْلُهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً، يُقَدَّرُ لِغِيَابِ الشَّفَقِ ثُمُنَ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَهِيَ سَاعَةٌ وَنِصْفٌ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ قَضَاءِ الْعِشَاءِ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُمْ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نَقَلُوا فِيهَا الْخِلَافَ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ مِنْ مَشَايِخِنَا وَهُمُ: الْبَقَّالِيُّ وَالْحَلْوَانِيُّ وَالْبُرْهَانِيُّ الْكَبِيرُ، وَأَفْتَى الْبَقَّالِيُّ: بِعَدَمِ الْوُجُوبِ، وَكَانَ الْحَلْوَانِيُّ يُفْتِي بِالْقَضَاءِ، ثُمَّ وَافَقَ الْبَقَّالِيَّ حِينَمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ يَسْأَلُهُ عَمَّنْ أَسْقَطَ صَلَاةً مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ: أَيَكْفُرُ؟ فَأَجَابَ الْبَقَّالِيُّ السَّائِلَ: مَنْ قُطِعَتْ يَدَاهُ أَوْ رِجْلَاهُ كَمْ فُرُوضُ وُضُوئِهِ؟ قَالَ: ثَلَاثٌ.قَالَ: فَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ، فَاسْتَحْسَنَ الْحَلْوَانِيُّ، وَرَجَعَ إِلَى قَوْلِ الْبَقَّالِيِّ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ.أَمَّا الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ فَقَدْ رَجَّحَ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ، وَمَنَعَ مَا أَفْتَى بِهِ الْبَقَّالِيُّ مِنَ الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ لِعَدَمِ السَّبَبِ وَهُوَ الْوَقْتُ، كَمَا يَسْقُطُ غُسْلُ الْيَدَيْنِ عَنْ مَقْطُوعِهِمَا.

وَقَالَ: لَا يَرْتَابُ مُتَأَمِّلٌ فِي ثُبُوتِ الْفَرْقِ بَيْنَ عَدَمِ مَحَلِّ الْفَرْضِ، وَبَيْنَ عَدَمِ السَّبَبِ وَهُوَ الْوَقْتُ.إِلَى أَنْ قَالَ: وَانْتِفَاءُ الدَّلِيلِ عَلَى الشَّيْءِ لَا يَلْزَمُ فِيهِ انْتِفَاءُ هَذَا الشَّيْءِ؛ لِجَوَازِ دَلِيلٍ آخَرَ.وَقَدْ وُجِدَ وَهُوَ مَا تَوَاطَأَتْ عَلَيْهِ أَخْبَارُ الْإِسْرَاءِ، مِنْ فَرْضِ اللَّهِ تَعَالَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَجَعْلِهَا شَرْعًا عَامًّا لِأَهْلِ الْآفَاقِ، لَا تَفْضِيلَ بَيْنَ قُطْرٍ وَقُطْرٍ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ مُصَحَّحَانِ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْأَرْجَحُ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ، لَا سِيَّمَا إِذَا قَالَ بِهِ إِمَامٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ- رضي الله عنه-، وَهَلْ يَنْوِي الْقَضَاءَ أَوْ لَا يَنْوِيهِ؟ ذَكَرَ فِي الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَنْوِي الْقَضَاءَ لِفَقْدِ وَقْتِ الْأَدَاءِ، وَاعْتَرَضَهُ الزَّيْلَعِيُّ بِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَنْوِ الْقَضَاءَ يَكُونُ أَدَاءً، ضَرُورَةً لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ لَيْسَتْ أَدَاءً؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي صُلِّيَتْ فِيهِ لَيْسَ وَقْتًا لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ، بَلْ وَقْتٌ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ.

وَمَعْنَى التَّقْدِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: افْتِرَاضُ أَنَّ الْوَقْتَ مَوْجُودٌ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ وَقْتًا لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ سَابِقًا مِنْ مَذْهَبِهِمْ.

أَمَّا الْبِلَادُ الَّتِي يَقْصُرُ فِيهَا وَقْتُ الظُّهْرِ، فَيَبْلُغُ ظِلُّ الشَّيْءِ مِثْلَهُ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ عَنْ وَسَطِ السَّمَاءِ بِوَقْتٍ قَصِيرٍ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ الْمُصَلِّي مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ، فَلَمْ نَجِدْ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ نَصًّا عَلَى حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


3-موسوعة الفقه الكويتية (توقيف)

تَوْقِيفٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّوْقِيفُ مَصْدَرُ وَقَّفَ بِالتَّشْدِيدِ

وَالتَّوْقِيفُ: الِاطِّلَاعُ عَلَى الشَّيْءِ، يُقَالُ: وَقَفْتُهُ عَلَى ذَنْبِهِ: أَطْلَعْتُهُ عَلَيْهِ، وَوَقَّفْتُ الْقَارِئَ تَوْقِيفًا: إِذَا أَعْلَمْتُهُ مَوَاضِعَ الْوُقُوفِ.

وَتَوْقِيفُ النَّاسِ فِي الْحَجِّ: وُقُوفُهُمْ بِالْمَوَاقِفِ.

وَالتَّوْقِيفُ كَالنَّصِّ (نَصُّ الشَّارِعِ الْمُتَعَلِّقُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ) يُقَالُ: أَسْمَاءُ اللَّهِ تَوْقِيفِيَّةٌ.

وَيُسْتَعْمَلُ التَّوْقِيفُ أَيْضًا بِمَعْنَى مَنْعِ التَّصَرُّفِ فِي الشَّيْءِ.

وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الِاصْطِلَاحِيُّ عَمَّا وَرَدَ فِي اللُّغَةِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

2- التَّوْقِيفُ فِي إِثْبَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى.

قَالَ صَاحِبُ شَرْحِ جَوْهَرَةِ التَّوْحِيدِ: اخْتَارَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ، وَكَذَا صِفَاتُهُ، فَلَا تُثْبِتُ لَهُ اسْمًا وَلَا صِفَةً إِلاَّ إِذَا وَرَدَ بِذَلِكَ تَوْقِيفٌ مِنَ الشَّارِعِ.

وَذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى جَوَازِ إِثْبَاتِ مَا كَانَ اللَّهُ مُتَّصِفًا بِمَعْنَاهُ وَلَمْ يُوهِمْ نَقْصًا وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِهِ تَوْقِيفٌ مِنَ الشَّارِعِ، وَمَالَ إِلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ.وَتَوَقَّفَ فِيهِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ،

وَفَصَّلَ الْغَزَالِيُّ فَجَوَّزَ إِطْلَاقَ الصِّفَةِ، وَهِيَ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ عَلَى الذَّاتِ، وَمَنَعَ إِطْلَاقَ الِاسْمِ وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَى نَفْسِ الذَّاتِ.

وَالْمُخْتَارُ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.

3- وَفِي الْمَوَاقِفِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ: تَسْمِيَتُهُ تَعَالَى بِالْأَسْمَاءِ تَوْقِيفِيَّةٌ أَيْ يَتَوَقَّفُ إِطْلَاقُهَا عَلَى الْإِذْنِ فِيهِ، وَذَلِكَ لِلِاحْتِيَاطِ احْتِرَازًا عَمَّا يُوهِمُ بَاطِلًا لِعِظَمِ الْخَطَرِ فِي ذَلِكَ.

وَاَلَّذِي وَرَدَ بِهِ التَّوْقِيفُ فِي الْمَشْهُورِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا.

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: لِيُعْلَمْ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِي تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ، بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَصَابَ أَحَدًا هَمٌّ وَلَا حُزْنٌ قَطُّ.فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُك ابْنُ عَبْدِك ابْنُ أَمَتِك، نَاصِيَتِي بِيَدِك مَاضٍ فِيَّ حُكْمُك، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُك، أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلاَّ أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلَا نَتَعَلَّمَهَا؟ فَقَالَ: بَلَى.يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا».

وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ الْبُسْتِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِمِثْلِهِ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ فِي كِتَابِهِ الْأَحْوَذِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ بَعْضَهُمْ جَمَعَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَلْفَ اسْمٍ، فَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

التَّوْقِيفُ فِي تَرْتِيبِ آيِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَسُوَرِهِ:

4- جَاءَ فِي مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْحَقِّ أَيْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ آيِ كُلِّ سُورَةٍ تَوْقِيفِيٌّ أَيْ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِأَمْرِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- وَعَلَى هَذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَتَوَاتَرَ بِلَا شُبْهَةٍ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم-.

وَفِي الْإِتْقَانِ: الْإِجْمَاعُ وَالنُّصُوصُ الْمُتَرَادِفَةُ عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ الْآيَاتِ تَوْقِيفِيٌّ لَا شُبْهَةَ فِي ذَلِكَ.أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَنَقَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبُرْهَانِ، وَأَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي مُنَاسَبَاتِهِ، وَعِبَارَتُهُ تَرْتِيبُ الْآيَاتِ فِي سُوَرِهَا وَاقِعٌ بِتَوْقِيفِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَمْرِهِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِي هَذَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.

ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ: أَمَّا تَرْتِيبُ السُّوَرِ فِيمَا بَيْنَهَا، فَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.

وَقِيلَ: هَذَا التَّرْتِيبُ بِاجْتِهَادٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ ابْنُ فَارِسٍ بِاخْتِلَافِ الْمَصَاحِفِ فِي تَرْتِيبِ السُّوَرِ.فَمُصْحَفُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ كَانَ عَلَى تَرْتِيبِ النُّزُولِ، وَمُصْحَفُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى غَيْرِ هَذَا، وَالْحَقُّ هُوَ الْأَوَّلُ.

ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ الْمُتَوَارَثَ الْمُتَوَاتِرَ بِلَا شُبْهَةٍ فِيمَا بَيْنَ الْآيَاتِ وَالسُّوَرِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى قَطْعًا.

وَنَقَلَ الزَّرْكَشِيُّ فِي ذَلِكَ خِلَافًا وَلَمْ يُرَجِّحْ شَيْئًا إِلَا أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ، وَتَرْتِيبُ بَعْضِهَا بَعْدَ بَعْضٍ لَيْسَ هُوَ أَمْرًا أَوْجَبَهُ اللَّهُ، بَلْ أَمْرٌ رَاجِعٌ إِلَى اجْتِهَادِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ؛ وَلِهَذَا كَانَ لِكُلِّ مُصْحَفٍ تَرْتِيبٌ، وَلَكِنْ تَرْتِيبُ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ أَكْمَلُ. (ر: الْمُلْحَقُ الْأُصُولِيُّ).

التَّوْقِيفُ فِي مُقَدَّرَاتِ الشَّرِيعَةِ:

5- ذَكَرَ السُّيُوطِيّ فِي الْأَشْبَاهِ أَنَّ مُقَدَّرَاتِ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:

أَحَدِهَا: مَا يُمْنَعُ فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ، وَالْحُدُودِ، وَفُرُوضِ الْمَوَارِيثِ.

الثَّانِي: مَا لَا يُمْنَعُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَالثَّلَاثِ فِي الطَّهَارَةِ.

الثَّالِثِ: مَا يُمْنَعُ فِيهِ الزِّيَادَةُ دُونَ النُّقْصَانِ كَخِيَارِ الشَّرْطِ بِثَلَاثٍ، وَإِمْهَالِ الْمُرْتَدِّ ثَلَاثًا.

الرَّابِعِ عَكْسُهُ: كَالثَّلَاثِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ، وَالتَّسْبِيعِ فِي الْوُلُوغِ، وَالطَّوَافِ، وَالْخَمْسِ فِي الرَّضَاعِ، وَنُصُبِ الزَّكَاةِ، وَالشَّهَادَةِ، وَالسَّرِقَةِ.

وَهَذَا التَّفْصِيلُ لِلشَّافِعِيَّةِ وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ خِلَافٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مَوَاضِعِهِ.

التَّوْقِيفُ بِمَعْنَى مَنْعِ التَّصَرُّفِ فِي الْمُدَّعَى بِهِ:

6- اسْتَعْمَلَ الْفُقَهَاءُ التَّوْقِيفَ بِمَعْنَى مَنْعِ التَّصَرُّفِ فِي الْمُدَّعَى بِهِ.يَقُولُ ابْنُ فَرْحُونَ فِي التَّبْصِرَةِ:

تَوْقِيفُ الْمُدَّعَى بِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: تَوْقِيفُ الْعَقَارِ وَيَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: دُورٍ، وَأَرَاضٍ، وَالتَّوْقِيفُ لَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْخَصْمِ فِي الشَّيْءِ الْمُدَّعَى بِهِ، وَلَا يُعْقَلُ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْغَيْرِ فِيهِ حَتَّى يَنْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ سَبَبٌ يُقَوِّي الدَّعْوَى كَشَهَادَةِ الْعَدْلِ أَوْ لَطْخٍ (الشُّهُودُ غَيْرُ الْعُدُولِ) فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالِاعْتِقَالُ فِي الرُّبَاعِ عَلَى وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلِ: عِنْدَ قِيَامِ الشُّبْهَةِ الظَّاهِرَةِ أَوْ ظُهُورِ اللَّطْخِ فَيُرِيدُ الْمُدَّعِي تَوْقِيفَهُ لِيُثْبِتَهُ، فَالتَّوْقِيفُ هُنَا بِأَنْ يُمْنَعَ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ (الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفًا يُفِيتُهُ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، أَوْ يُخْرِجُهُ بِهِ عَنْ حَالِهِ، كَالْبِنَاءِ وَالْهَدْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ عَنْهُ.

الثَّانِي: بَعْدَ أَنْ يُثْبِتَ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ فِي ذَلِكَ بِشَهَادَةٍ، قَاطِعَةٍ وَيَدَّعِيَ الْمُسْتَحِقُّ مِنْهُ مَدْفَعًا فِيمَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ لِلْمُدَّعِي، فَيُضْرَبُ لِلْمُسْتَحِقِّ مِنْهُ الْآجَالُ.فَيُوقَفُ الْمُدَّعَى بِهِ حِينَئِذٍ بِأَنْ تُرْفَعَ يَدُ الْأَوَّلِ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَتْ دَارًا اُعْتُقِلَتْ بِالْقَفْلِ، أَوْ أَرْضًا مُنِعَ مِنْ حَرْثِهَا، أَوْ حَانُوتًا لَهُ خَرَاجٌ وُقِفَ الْخَرَاجُ.

النَّوْعُ الثَّانِي: تَوْقِيفُ الْحَيَوَانِ- فَمَنِ ادَّعَى دَابَّةً بِيَدِ رَجُلٍ وَأَرَادَ تَوْقِيفَهَا لِيَأْتِيَ عَلَى ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ فَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ بُعْدٌ، فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مَا ادَّعَى مِنَ الْبَيِّنَةِ بِمَوْضِعِهِ ذَلِكَ وَقَفَهُ فِيمَا قَرُبَ مِنْ يَوْمٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ، ثُمَّ لَا يَكُونُ لَهُ يَمِينٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي إِنْكَارِ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: لَا عِلْمَ عِنْدِي مِمَّا تَقُولُ.فَإِنْ ظَنَّ بِهِ عِلْمَ ذَلِكَ حَلَفَ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: تَوْقِيفُ مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، كَاللَّحْمِ وَرُطَبِ الْفَوَاكِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَإِنْ شَهِدَ لِلْمُدَّعِي شَاهِدٌ وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ، وَقَالَ عِنْدِي شَاهِدٌ آخَرُ أَوْ أَتَى بِلَطْخٍ وَادَّعَى بَيِّنَةً قَاطِعَةً، فَإِنَّهُ يُؤَجَّلُ أَجَلًا لَا يَفْسُدُ فِي مِثْلِهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ، فَإِنْ أَحْضَرَ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ، وَإِلاَّ خُلِّيَ بَيْنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَمَتَاعِهِ.

وَيَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مَنْقُولًا وَطَلَبَ الْمُدَّعِي مِنَ الْقَاضِي أَنْ يَضَعَهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ وَلَمْ يَكْتَفِ بِإِعْطَاءِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ وَبِنَفْسِ الْمُدَّعَى بِهِ- فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَدْلًا فَالْقَاضِي لَا يُجِيبُهُ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا أَجَابَهُ.

وَلَوِ ادَّعَى عَقَارًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً لَا يَأْمُرُهُ الْقَاضِي بِالْوَضْعِ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ وَلَا بِالْكَفِيلِ بِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَرْضًا فِيهَا شَجَرٌ فِيهِ ثَمَرٌ فَيُوضَعُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ.

وَإِذَا تَنَازَعَ شَخْصَانِ فِي عَقَارٍ، وَلَمْ يُثْبِتْ أَحَدٌ مِنَ الْخَصْمَيْنِ كَوْنَهُ ذَا الْيَدِ يَحْلِفُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِطَلَبِ الْآخَرِ عَلَى عَدَمِ كَوْنِ خَصْمِهِ ذَا الْيَدِ فِي ذَلِكَ الْعَقَارِ، فَإِنْ نَكَلَا عَنِ الْيَمِينِ يَثْبُتُ كَوْنُهُمَا ذَوِي الْيَدِ فِي ذَلِكَ الْعَقَارِ وَيَشْتَرِكَانِ فِيهِ.

وَإِنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا وَحَلَفَ الْآخَرُ، يَحْكُمُ بِكَوْنِ الْحَالِفِ ذَا الْيَدِ مُسْتَقِلًّا بِذَلِكَ الْعَقَارِ، وَيُعَدُّ الْآخَرُ خَارِجًا.

وَإِنْ حَلَفَا مَعًا فَلَا يُحْكَمُ لِأَحَدٍ مِنْهُمَا بِكَوْنِهِ ذَا الْيَدِ، وَيُوقَفُ الْعَقَارُ الْمُدَّعَى بِهِ إِلَى ظُهُورِ حَقِيقَةِ الْحَالِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ عَيْنًا فِي يَدِهِ، وَكَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ غَائِبَةٌ أَوْ حَاضِرَةٌ لَكِنَّهَا مَجْهُولَةٌ، وَخَافَ مِنْ نَقْلِهَا، أَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ دَيْنًا أَوْ أَعْيَانًا حَاضِرَةً مِنْ عَقَارٍ وَغَيْرِهِ فَأَنْكَرَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ، وَخِيفَ مِنْ إِقْرَارِهِ بِمَا هُوَ فِي يَدِهِ لِأَوْلَادِهِ أَوْ لِغَيْرِهِمْ، وَجَرَى هَذَا فِي بَلَدٍ قَدْ عَمَّ هَذَا بَيْنَهُمْ، وَاشْتُهِرَ هَذَا فِيمَا لَدَيْهِمْ، وَهَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَشْهَرُ مِنْ غَيْرِهِ فِي فِعْلِ هَذَا فَالْتَمَسَ الْمُدَّعِي الْحَجْرَ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ، فَذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِيهِ خِلَافًا، وَرَأَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَآخَرُونَ- أَنَّهُ إِنْ عُرِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْحِيلَةِ وَاسْتَمَرَّتْ لَهُ عَادَةٌ بِهَا حَجَرَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ وَرَأَى غَيْرُهُمْ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ هَذَا كَالْمُفْلِسِ إِذَا أَحَاطَتْ بِهِ الدُّيُونُ وَتَحَقَّقَ أَنَّ خَرْجَهُ أَكْثَرُ مِنْ دَخْلِهِ وَخِيفَ عَلَيْهِ فَوَاتُ مَالِهِ، وَهُنَاكَ يَتَعَيَّنُ ضَرْبُ الْحَجْرِ عَلَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ، فَهَذَا قَرِيبُ الشَّبَهِ بِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا: إِذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدَيْنِ مَجْهُولَيْنِ وَطَلَبَ الْحَيْلُولَةَ بَيْنَ الدَّاخِلِ وَبَيْنَهُ إِلَى أَنْ يُزَكِّيَ بَيِّنَتَهُ هَلْ يُجَابُ إِلَيْهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.

وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْحَنَابِلَةِ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْمُغْنِي أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِالتَّوْقِيفِ فِي الدَّعْوَى.

وَمِنْ ذَلِكَ تَوْقِيفُ مَالِ الْغَائِبِ وَالْيَتِيمِ.

وَكَذَلِكَ تَوْقِيفُ قَسْمِ التَّرِكَةِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهَا بِسَبَبِ الْحَمْلِ أَوِ الْفَقْدِ (ر: إِرْثٌ).

تَوْقِيفُ الْمُولِي:

7- مَنْ آلَى مِنْ زَوْجَتِهِ وَمَضَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ (أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ) فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ تَطْلُقُ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ؟ أَمْ يَقِفُهُ الْقَاضِي، فَإِمَّا فَاءَ وَإِمَّا طَلَّقَ؟.

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّهُ يَقِفُهُ الْحَاكِمُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ فَإِمَّا فَاءَ وَإِمَّا طَلَّقَ، وَلَا تَطْلُقُ زَوْجَتُهُ بِنَفْسِ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، قَالَ أَحْمَدُ: فِي الْإِيلَاءِ يُوقَفُ، عَنِ الْأَكَابِرِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ عُمَرَ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَعَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَجَعَلَ يُثْبِتُ حَدِيثَ عَلِيٍّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: كَانَ تِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- يُوقِفُونَ فِي الْإِيلَاءِ، وَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ: سَأَلْتُ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَكُلُّهُمْ يَقُولُ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى يَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَيُوقَفُ، فَإِنْ فَاءَ وَإِلاَّ طَلَّقَ، وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةُ وَمُجَاهِدٌ وَطَاوسٌ.وَدَلِيلُ ذَلِكَ قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّ الْفَيْئَةَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ؛ لِذِكْرِهِ الْفَيْئَةَ بَعْدَهَا بِالْفَاءِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّعْقِيبِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}

وَلَوْ وَقَعَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى عَزْمٍ عَلَيْهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِيلَاءِ عَزَمَ عَلَى مَنْعِ نَفْسِهِ مِنْ إِيفَاءِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ فِي الْمُدَّةِ وَأَكَّدَ الْعَزْمَ بِالْيَمِينِ، فَإِذَا مَضَتِ الْمُدَّةُ، وَلَمْ يَفِئْ إِلَيْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْفَيْءِ فَقَدْ حَقَّقَ الْعَزْمَ الْمُؤَكَّدَ بِالْيَمِينِ بِالْفِعْلِ، فَتَأَكَّدَ الظُّلْمُ فِي حَقِّهَا، فَتَبِينُ مِنْهُ عُقُوبَةً لَهُ جَزَاءً عَلَى ظُلْمِهِ وَمَرْحَمَةً عَلَيْهَا، وَلَا يُوقَفُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مُدَّةَ التَّرَبُّصِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَالْوَقْفُ يُوجِبُ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


4-موسوعة الفقه الكويتية (جنين)

جَنِينٌ

التَّعْرِيف:

1- الْجَنِينُ لُغَةً: الْوَلَدُ فِي الْبَطْنِ، وَالْجَمْعُ أَجِنَّةٌ وَأَجْنُنٌ.وَالْجَنِينُ كُلُّ مَسْتُورٍ، وَجُنَّ فِي الرَّحِمِ يُجَنُّ اسْتَتَرَ، وَأَجَنَّتْهُ الْحَامِلُ سَتَرَتْهُ.

وَالْجَنِينُ هُوَ الْمَادَّةُ الَّتِي تَتَكَوَّنُ فِي الرَّحِمِ مِنْ عُنْصُرَيِ الْحَيَوَانِ الْمَنْوِيِّ وَالْبُوَيْضَةِ.وَهَذَا هُوَ مَا يُؤَيِّدُ مَعْنَى مَادَّةِ جَنِينٍ، فَإِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الِاسْتِتَارِ الْمُتَحَقَّقِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَمِنْهُ الْمَجْنُونُ لِاسْتِتَارِ عَقْلِهِ، وَالْجَانُّ لِاسْتِتَارِهِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ.

فَالْجَنِينُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: الْمَسْتُورُ فِي رَحِمِ أُمِّهِ بَيْنَ ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ.قَالَ تَعَالَى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ}.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.غَيْرَ أَنَّ الْمُزَنِيَّ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ نَقَلَ عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ الْحَقِيقِيَّ لِلْجَنِينِ فِيمَا يَكُونُ بَعْدَ مَرْحَلَةِ الْمُضْغَةِ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِيمَا قَبْلَ ذَلِكَ يَكُونُ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ.وَعِبَارَتُهُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَنِينِ: أَقَلُّ مَا يَكُونُ بِهِ جَنِينًا أَنْ يُفَارِقَ الْمُضْغَةَ وَالْعَلَقَةَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ آدَمِيٍّ....

أَطْوَارُ الْجَنِينِ فِي الرَّحِمِ:

2- لِلْجَنِينِ أَطْوَارٌ جَاءَ النَّصُّ عَلَيْهَا فِي قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}.

فَأَصْلُ الْجَنِينِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْ طِينٍ كَمَا أَفَادَتِ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ.وَلِكُلِّ طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ الْجَنِينِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ.

وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ أَطْوَارِ الْجَنِينِ:

أ- النُّطْفَة:

3- ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ النُّطْفَةَ مَاءُ الرَّجُلِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ {مَاءٍ دَافِقٍ} وَالدَّفْقُ لَا يَكُونُ إِلاَّ مِنَ الرَّجُلِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.وَقِيلَ إِنَّهَا نُطْفَةٌ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَجَمْعُهَا نُطَفٌ.وَفِيهَا كُلُّ الْقُوَى، وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ الْوَاضِحُ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ: «إِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدُ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ نَزَعَتْ» وَوَاضِحٌ مِنْ عِبَارَةِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْجَنِينَ يَتَكَوَّنُ مِنَ النُّطْفَةِ الْمُمْتَزِجَةِ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَمَاءِ الْمَرْأَةِ.

4- وَيَتَعَلَّقُ بِالنُّطْفَةِ أَحْكَامٌ مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ- خِلَافَ الْمَشْهُورِ- إِلَى أَنَّهَا نَجِسَةٌ، وَلَا فَرْقَ فِي النَّجَاسَةِ بَيْنَ مَاءِ الرَّجُلِ وَمَاءِ الْمَرْأَةِ، وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا طَاهِرَةٌ.وَالْقَائِلُونَ بِالنَّجَاسَةِ مُطْلَقًا لَا بُدَّ عِنْدَهُمْ مِنْ غَسْلِ مَنِيِّ الْمَرْأَةِ أَيْضًا رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا، وَالْقَائِلُونَ بِطَهَارَتِهِ يُسْتَحَبُّ عِنْدَهُمْ غَسْلُ الْمَنِيِّ رَطْبًا وَيُسْتَحَبُّ فَرْكُ مَنِيِّ الرَّجُلِ.وَبِذَا تَرَى أَنَّ الطَّهَارَةَ أَوِ النَّجَاسَةَ لَا يَفْتَرِقُ فِيهَا الْخَارِجُ مِنَ الرَّجُلِ وَالْخَارِجُ مِنَ الْمَرْأَةِ.

وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْفَرْكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي مَنِيِّ الرَّجُلِ دُونَ مَنِيِّ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ رَقِيقٌ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (طَهَارَةٌ وَنَجَاسَةٌ).

ب- الْعَلَقَة:

5- الْكَثِيرُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يُفَسِّرُونَ الْعَلَقَةَ بِنُقْطَةِ الدَّمِ الْجَامِدَةِ، وَذَلِكَ اسْتِنَادًا إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ تَفْسِيرَاتِهَا اللُّغَوِيَّةِ، وَالنُّطْفَةُ فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ تَدْخُلُ فِي مَرْحَلَةٍ مُغَايِرَةٍ، وَلِذَلِكَ اسْتَحَقَّتْ أَنْ تُوصَفَ بِوَصْفِ الْخَلْقِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ}.

6- وَقَدْ بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَلَقَةِ مِنْ نَاحِيَةِ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، بِنَجَاسَتِهَا.وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا طَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّهَا بَدْءُ خَلْقِ الْآدَمِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّهَا نَجِسَةٌ لِأَنَّهَا دَمٌ.

أَمَّا مِنْ نَاحِيَةِ حِلِّ الْإِسْقَاطِ وَحُرْمَتِهِ

فَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (إِجْهَاضٌ).

ج- الْمُضْغَة:

7- الْمُضْغَةُ مِقْدَارُ مَا يُمْضَغُ، وَالْقَصْدُ هُنَا الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ بِمِقْدَارِ مَا يُمْضَغُ، يَقُولُ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِهِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً}...سَمَّى تَحْوِيلَ الْعَلَقَةِ مُضْغَةً خَلْقًا؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُفْنِي بَعْضَ أَعْرَاضِهَا وَيَخْلُقُ أَعْرَاضًا غَيْرَهَا، فَسَمَّى خَلْقَ الْأَعْرَاضِ خَلْقًا لَهَا وَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ فِيهَا أَجْزَاءً زَائِدَةً.

8- وَتَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهَا مِنْ حَيْثُ النَّجَاسَةُ وَالطَّهَارَةُ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهَا نَجِسَةٌ كَالْعَلَقَةِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْهُمَامِ أَنَّ الْعَلَقَةَ إِذَا صَارَتْ مُضْغَةً تَطْهُرُ.وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ ذَلِكَ مُشْكِلٌ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (مُضْغَةٌ).أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِإِسْقَاطِهَا فَسَيَأْتِي بَعْدُ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجْهَاضٌ وَسِقْطٌ).

أَهْلِيَّةُ الْجَنِينِ:

9- لِلْجَنِينِ حُقُوقٌ بَيَّنَهَا الشَّارِعُ، أَسَاسُهَا أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ وَالذِّمَّةِ.وَأَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ بِالنِّسْبَةِ لِلْجَنِينِ تَكُونُ نَاقِصَةً.قَالَ الْبَزْدَوِيُّ: إِنَّ الْجَنِينَ لَهُ ذِمَّةٌ مُطْلَقَةٌ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَهْلِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ لِلْجَنِينِ نَاقِصَةً؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ.

فَتَجِبُ لَهُ الْحُقُوقُ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إِلَى قَبُولٍ، كَثُبُوتِ النَّسَبِ، وَالْإِرْثِ، وَالِاسْتِحْقَاقِ فِي الْوَقْفِ.وَالشَّارِعُ وَإِنْ أَجَازَ إِقَامَةَ أَمِينٍ لِيُحَافِظَ عَلَى مَالِ الْجَنِينِ إِلاَّ أَنَّ هَذَا الْأَمِينَ لَيْسَ فِي حُكْمِ الْوَصِيِّ، وَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِاسْمِهِ.وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَهْلِيَّةٌ).

أَثَرُ الْجَنِينِ فِي نَفَقَةِ أُمِّهِ:

10- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحَامِلَ الْمُطَلَّقَةَ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَالنَّفَقَةُ لَهَا بِسَبَبِ الْجَنِينِ أَوِ الْعِدَّةِ عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ (حَامِلٌ، وَنَفَقَةٌ).

أَثَرُ الْجَنِينِ فِي الْعِدَّةِ:

11- عِدَّةُ الْحَامِلِ تَكُونُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ لقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الْحَامِلَ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ.وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِذَا كَانَتْ حَامِلًا فَعِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ

يُنْظَرُ تَحْتَ عِنْوَانِ (عِدَّةٌ).

أَثَرُ الْجَنِينِ فِي تَصَرُّفَاتِ الْحَامِلِ:

12- لِلْجَنِينِ أَثَرٌ فِي تَصَرُّفَاتِ الْحَامِلِ فِي الشُّهُورِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الْحَمْلِ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (حَامِلٌ.وَمَرَضُ الْمَوْتِ).

مَوْتُ الْحَامِلِ وَفِي بَطْنِهَا جَنِينٌ حَيٌّ:

13- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْحَامِلَ إِذَا مَاتَتْ وَفِي بَطْنِهَا جَنِينٌ حَيٌّ يُشَقُّ بَطْنُهَا، وَيُخْرَجُ وَلَدُهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتِبْقَاءُ حَيٍّ بِإِتْلَافِ جُزْءٍ مِنْ مَيِّتٍ.وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَامِلٌ).

أَثَرُ الْجَنِينِ فِي الطَّلَاقِ:

14- يَقَعُ طَلَاقُ الْحَامِلِ رَجْعِيًّا وَبَائِنًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَامِلٌ، وَطَلَاقٌ).

أَثَرُ الْجَنِينِ فِي عُقُوبَةِ أُمِّهِ:

15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ الْحَدُّ أَوِ الْقِصَاصُ عَلَى الْحَامِلِ حَتَّى تَضَعَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَمْلُ مِنْ زِنًى أَمْ مِنْ غَيْرِهِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَامِلٌ).

أَثَرُ الْجَنِينِ فِي دَفْنِ أُمِّهِ:

16- إِذَا مَاتَتْ كَافِرَةٌ فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ مِنْ مُسْلِمٍ بِنِكَاحٍ أَوْ وَطْءِ شُبْهَةٍ.فَقَدِ اخْتُلِفَ، هَلْ تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ مُرَاعَاةً لِجَنِينِهَا، أَوْ فِي مَقَابِرِ الْكُفَّارِ مُرَاعَاةً لِحَالِهَا عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَامِلٌ).

اسْتِحْقَاقُ الْجَنِينِ فِي تَرِكَةِ مُوَرِّثِهِ:

17- نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ إِذَا تُيُقِّنَ وُجُودُهُ عِنْدَ الْوَفَاةِ وَانْفَصَلَ عَنْ أُمِّهِ حَيًّا وَكَانَ يَتَحَقَّقُ فِيهِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْإِرْثِ.وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْجَنِينُ ذَكَرًا، كَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُنْثَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّدًا، كَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا، وَلِكُلٍّ حُكْمُهُ الْخَاصُّ فِي الْإِرْثِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (إِرْثٌ، وَحَمْلٌ).

أَثَرُ الْجَنِينِ فِي الْإِرْثِ:

18- يُؤَثِّرُ الْجَنِينُ فِي الْمِيرَاثِ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ، فَإِذَا كَانَ نَصِيبُ الْوَارِثِ يَتَأَثَّرُ بِالْحَمْلِ، عُومِلَ الْوَارِثُ بِأَقَلِّ الْأَنْصِبَاءِ عَلَى فَرْضِ كَوْنِ الْجَنِينِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَكَوْنِهِ مُتَعَدِّدًا أَوْ وَاحِدًا، وَكَوْنِهِ وَارِثًا أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ، عَلَى مَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحِ: (إِرْثٌ).

وَعَلَى الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ الْجَنِينَ قَدْ يُؤَثِّرُ عَلَى أَنْصِبَاءِ كَثِيرٍ مِنَ الْوَارِثِينَ، وَمِنْ صُوَرِ ذَلِكَ مَا إِذَا تُوُفِّيَتِ امْرَأَةٌ عَنْ زَوْجِهَا وَابْنِ أَخِيهَا الشَّقِيقِ، وَعَنْ حَمْلٍ لِأَخٍ شَقِيقٍ آخَرَ مُتَوَفًّى، فَإِنَّهُ لَوْ فُرِضَ الْحَمْلُ ذَكَرًا لَاسْتَحَقَّ مَعَ الْآخَرِ نِصْفَ الْبَاقِي بَعْدَ الزَّوْجِ، وَإِذَا فُرِضَ الْجَنِينُ أُنْثَى فَإِنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ الْحَمْلُ مُتَعَدِّدًا مِنَ الذُّكُورِ لَشَارَكُوا الْمَوْجُودَ فِي الْبَاقِي، وَإِنْ كُنَّ إِنَاثًا لَمْ يَسْتَحْقِقْنَ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا وَأُنْثَى يُشَارِكُ الذَّكَرُ دُونَ الْأُنْثَى.

وَعَلَى كُلٍّ فَتَقْسِيمُ التَّرِكَةِ مَعَ وُجُودِ الْحَمْلِ يَكُونُ غَيْرَ نِهَائِيٍّ، فَتُقْسَمُ التَّرِكَةُ إِنْ طَالَبَ الْوَرَثَةُ، وَيُدْفَعُ إِلَى مَنْ لَا يُنْقِصُهُ الْحَمْلُ كُلَّ مِيرَاثِهِ، وَيُدْفَعُ إِلَى مَنْ يُنْقِصُهُ الْحَمْلُ أَقَلَّ نَصِيبِهِ، وَمَنْ يُسْقِطُ الْحَمْلُ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ شَيْءٌ.وَالتَّفْصِيلُ فِي (إِرْثٌ).

حُكْمُ الْوَصِيَّةِ لِلْجَنِينِ:

19- صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَثْبُتُ لِلْجَنِينِ اسْتِحْسَانًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى قَبُولٍ، بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا اسْتِخْلَافٌ مِنْ وَجْهٍ، وَالْجَنِينُ يَصْلُحُ خَلِيفَةً فِي الْإِرْثِ، فَكَذَا فِي الْوَصِيَّةِ.بَلْ لَعَلَّ الْوَصِيَّةَ فِي هَذَا أَظْهَرُ، يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: وَالْحَمْلُ يَرِثُ فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ- فَإِذَا وَرِثَ الْحَمْلُ فَالْوَصِيَّةُ لَهُ أَوْلَى.

وَالْجَنِينُ يَسْتَحِقُّ غَلَّةَ الْعَيْنِ الْمُوصَى بِهَا مِنْ وَقْتِ وَفَاةِ الْمُوصِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلِذَا فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ تُوقَفُ حَتَّى يَتِمَّ الْوَضْعُ وَتُتَيَقَّنَ حَيَاتُهُ.كَمَا أَنَّهُ يَمْلِكُ الْمُوصَى بِهِ جَمِيعَهُ إِنْ كَانَ وَاحِدًا، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ وَبَيْنَ وِلَادَتِهِمْ أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِنَّ الْمُوصَى بِهِ يَكُونُ لَهُمَا أَوْ لَهُمْ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَمْلٌ، وَصِيَّةٌ).

الْوَقْفُ عَلَى الْجَنِينِ:

20- أَجَازَ الْفُقَهَاءُ الْوَقْفَ عَلَى الْأَوْلَادِ وَالذُّرِّيَّةِ الْمَوْجُودِ مِنْهُمْ وَمَنْ سَيُولَدُ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (حَمْلٌ، وَوَقْفٌ). الْجِنَايَةُ عَلَى الْجَنِينِ:

21- إِذَا وَقَعَ اعْتِدَاءٌ عَلَى الْجَنِينِ وَتَسَبَّبَ فِي إِسْقَاطِهِ مَيِّتًا فَفِيهِ الْغُرَّةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجْهَاضٌ).

تَغْسِيلُ الْجَنِينِ، وَتَكْفِينُهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَدَفْنُه:

22- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا انْفَصَلَ الْجَنِينُ مَيِّتًا وَلَمْ يَسْتَهِلَّ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ، وَيُسَمَّى، وَيُدْرَجُ فِي خِرْقَةٍ، وَيُدْفَنُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ.يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا الْكَلَامُ يَشْمَلُ مَا تَمَّ خَلْقُهُ، وَمَا لَمْ يَتِمَّ خَلْقُهُ.أَمَّا مَا تَمَّ خَلْقُهُ فَلَا خِلَافَ فِي تَغْسِيلِهِ، وَأَمَّا مَا لَمْ يَتِمَّ، فَفِيهِ خِلَافٌ.وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ.وَجَزَمَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِأَنَّ مَنِ اسْتَهَلَّ بَعْدَ الْوِلَادَةِ سُمِّيَ، وَغُسِّلَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ.وَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ صُلِّيَ عَلَيْهِ، وَوَرِثَ» وَبِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ دَلَالَةُ الْحَيَاةِ، فَيَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِ سُنَّةُ الْمَوْتَى، ثُمَّ يَقُولُ: وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ أُدْرِجَ فِي خِرْقَةٍ كَرَامَةً لِبَنِي آدَمَ، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ، لِمَا رَوَيْنَاهُ، وَيُغَسَّلُ فِي غَيْرِ الظَّاهِرِ مِنَ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ.

وَأَوْرَدَ الْكَاسَانِيُّ تَفْصِيلَ الْخِلَافِ فِي هَذَا بَيْنَ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ.

وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ السِّقْطَ الْمُسْلِمَ يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ.يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ فِي الْبَدَائِعِ: لَوْ كَانَتْ كِتَابِيَّةٌ تَحْتَ مُسْلِمٍ ثُمَّ مَاتَتْ، وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ، اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي الدَّفْنِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْوَلَدِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الْوَلَدَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْهَا مَا دَامَ فِي الْبَطْنِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَالَ الدَّرْدِيرُ: لَا يُغَسَّلُ سِقْطٌ لَمْ يَسْتَهِلَّ صَارِخًا وَلَوْ تَحَرَّكَ؛ إِذِ الْحَرَكَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ...وَيُغَسَّلُ دَمُ السِّقْطِ، وَيُلَفُّ بِخِرْقَةٍ، وَيُوَارَى وُجُوبًا فِي التَّكْفِينِ وَالدَّفْنِ.وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ يَقُولُ: وَتُدْفَنُ غَيْرُ الْمُسْلِمَةِ الَّتِي فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ مِنْ مُسْلِمٍ بِحَضْرَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ لِعَدَمِ حُرْمَةِ جَنِينِهَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا اسْتَهَلَّ الْجَنِينُ أَوْ تَحَرَّكَ، ثُمَّ مَاتَ، غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ وَلَمْ يَتَحَرَّكْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، كُفِّنَ بِخِرْقَةٍ وَدُفِنَ.

وَإِنْ تَمَّ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَفِي الْقَدِيمِ يُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ، وَفِي الْأُمِّ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ.وَيَقُولُ الرَّمْلِيُّ: إِنَّ الْوَلَدَ النَّازِلَ بَعْدَ تَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ يَجِبُ فِيهِ مَا يَجِبُ فِي الْكَبِيرِ مِنْ صَلَاةٍ وَغَيْرِهَا، وَإِنْ نَزَلَ مَيِّتًا وَلَمْ يُعْلَمْ سَبْقُ حَيَاتِهِ...ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ لِلسِّقْطِ أَحْوَالًا حَاصِلُهَا: أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ خَلْقُ آدَمِيٍّ لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ.نَعَمْ يُسَنُّ سَتْرُهُ بِخِرْقَةٍ وَدَفْنُهُ، وَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ خِلْقَةٌ وَلَمْ تَظْهَرْ فِيهِ أَمَارَةُ الْحَيَاةِ وَجَبَ فِيهِ مَا سِوَى الصَّلَاةِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا أَكْمَلَ السِّقْطُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ بَانَ فِيهِ خَلْقُ إِنْسَانٍ، غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَسْتَهِلَّ، وَيُسْتَحَبُّ تَسْمِيَتُهُ، وَنَقَلَ جَمَاعَةٌ أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَفِي الْفُرُوعِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْعَلَقَةِ وَفِي كُلٍّ مِنَ الرَّوْضِ الْمُرْبِعِ، وَكَشَّافِ الْقِنَاعِ إِذَا وُلِدَ السِّقْطُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ غُسِّلَ، «لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: وَالسِّقْطُ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَالْغُسْلُ وَاجِبٌ وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ».

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


5-موسوعة الفقه الكويتية (حق 4)

حَقٌّ -4

الْحَقُّ الثَّابِتُ أَوِ الْحَقُّ الْوَاجِبُ:

48- الْحَقُّ الثَّابِتُ- وَيُسَمَّى الْحَقَّ الْوَاجِبَ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ-: هُوَ حَقُّ الشَّخْصِ فِي أَنْ يَتَمَلَّكَ شَيْئًا مُحَدَّدًا- وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ- بِإِرَادَتِهِ وَحْدَهُ، بَعْدَ وُجُودِ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ، وَقَبْلَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ.وَهَذَا الْحَقُّ لَمْ يَصِلْ إِلَى دَرَجَةِ حَقِّ الْمِلْكِ، لِأَنَّهُ أَدْنَى مِنْهُ، وَلَا يُفِيدُ مِلْكًا كَمَا أَنَّهُ أَعْلَى دَرَجَةً مِنَ الْمُبَاحِ وَحَقُّ التَّمَلُّكِ، حَيْثُ إِنَّ الْحَقَّ الثَّابِتَ يُعْطِي حُقُوقًا أَكْثَرَ مِنْ حَقِّ التَّمَلُّكِ، وَلَهُ آثَارٌ أَقْوَى، لِأَنَّ صَاحِبَ حَقِّ التَّمَلُّكِ إِذَا تَحَقَّقَ لَهُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ كَالْإِيجَابِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، تَرَقَّى حَقُّهُ إِلَى حَقٍّ ثَابِتٍ، وَلَكِنَّهُ مُجَرَّدٌ عَنِ الْمِلْكِ.وَيُمْكِنُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ الثَّابِتِ- بِإِرَادَتِهِ وَحْدَهُ- أَنْ يَتَرَقَّى بِهَذَا الْحَقِّ الثَّابِتِ إِلَى حَقِّ الْمِلْكِ، لِأَنَّهُ أَصْبَحَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَبُولِ الْإِيجَابِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ فَيُصْبِحُ مَالِكًا، أَوْ رَفْضِ الْإِيجَابِ، وَهَذَا الْأَمْرُ لَا يَتَوَفَّرُ لِصَاحِبِ حَقِّ التَّمَلُّكِ، وَهُوَ أَهَمُّ فَرْقٍ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَقَّيْنِ.وَهَذَا فِي التَّمَلُّكِ الِاخْتِيَارِيِّ بِإِرَادَةِ الْمَالِكِ وَإِيجَابِهِ، فَالْحَقُّ الْوَسَطُ هُوَ الْحَقُّ الثَّابِتُ فَقَطْ، وَيُسَمَّى الْحَقَّ الْوَاجِبَ.

أَمَّا فِي التَّمَلُّكِ الْجَبْرِيِّ بِغَيْرِ إِرَادَةِ الْمَالِكِ، مِثْلُ: الْغَنِيمَةِ وَالشُّفْعَةِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي شَأْنِ الْغَنِيمَةِ: (وَالْحَاصِلُ كَمَا فِي الْفَتْحِ عَنِ الْمَبْسُوطِ: أَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ عِنْدَنَا بِنَفْسِ الْأَخْذِ، وَيَتَأَكَّدُ بِالْإِحْرَازِ، وَيُمْلَكُ بِالْقِسْمَةِ، وَمَا دَامَ الْحَقُّ ضَعِيفًا لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ.قُلْتُ: وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ عَسْكَرُنَا عَلَى الْبَلَدِ، فَلَوْ ظَهَرُوا عَلَيْهَا، وَصَارَتْ بَلَدَ إِسْلَامٍ، وَصَارَتِ الْغَنِيمَةُ مُحْرَزَةً بِدَارِنَا، وَيَتَأَكَّدُ الْحَقُّ، فَتَصِحُّ الْقِسْمَةُ).

وَيَسْتَوِي الْحَقُّ الْمُبَاحُ (أَيْ: حَقُّ التَّمَلُّكِ) وَالْحَقُّ الثَّابِتُ فِيمَا يَلِي: 1- أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حَقٌّ مُجَرَّدٌ عَنِ الْمِلْكِ، وَمَعْنَى مُجَرَّدٌ عَنِ الْمِلْكِ، أَنَّهَا لَيْسَتْ مِلْكًا، وَسُمِّيَتْ فِي الْبَدَائِعِ الْحُقُوقُ الْمُفْرَدَةُ، وَهِيَ لَا تُمْلَكُ وَلَا تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ، وَلَا يُسْتَعَاضُ عَنْهَا بِمَالٍ، لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ حَقٍّ فَقَطْ.

2- أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حَقٌّ ضَعِيفٌ، وَلِذَلِكَ لَا تَجُوزُ قِسْمَتُهُ أَوِ الصُّلْحُ عَنْهُ.

3- أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يُبَاعُ، وَلَا يُورَثُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

4- أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَيْسَ حَقَّ مِلْكٍ، وَلَا نَوْعَ مِلْكٍ كَالْحَقِّ الْمُؤَكَّدِ.

5- أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يُضْمَنُ عِنْدَ الْإِتْلَافِ.

وَيَفْتَرِقُ الْحَقُّ الْمُبَاحُ- حَقُّ التَّمَلُّكِ- عَنِ الْحَقِّ الثَّابِتِ فِيمَ يَأْتِي:

1- أَنَّ الْحَقَّ الثَّابِتَ تَعَلَّقَ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ.

أَمَّا الْحَقُّ الْمُبَاحُ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ.

2- أَنَّ الْحَقَّ الثَّابِتَ تَحَقَّقَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ.أَمَّا الْحَقُّ الْمُبَاحُ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ.

3- أَنَّ الْحَقَّ الثَّابِتَ فِي مَقْدُورِ صَاحِبِهِ وَسُلْطَتِهِ أَنْ يَرْتَقِيَ بِهَذَا الْحَقِّ وَيَجْعَلَهُ حَقًّا مُؤَكَّدًا، أَوْ حَقَّ مِلْكٍ، وَذَلِكَ بِإِرَادَتِهِ وَقَبُولِهِ وَحْدَهُ، أَمَّا الْحَقُّ الْمُبَاحُ فَصَاحِبُهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَرَقَّى بِهِ وَيُحَوِّلَهُ إِلَى حَقٍّ مُؤَكَّدٍ، أَوْ حَقِّ مِلْكٍ، بِقَبُولِهِ وَعِبَارَتِهِ وَحْدَهُ.

4- أَنَّ الْحَقَّ الثَّابِتَ يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، كَمَا فِي خِيَارِ الْقَبُولِ، أَمَّا الْحَقُّ الْمُبَاحُ فَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ.

الْحَقُّ الْمُؤَكَّدُ:

49- الْحَقُّ الْمُؤَكَّدُ حَقٌّ اسْتَقَرَّ فِي عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ لَمْ تُمْلَكْ بَعْدُ، وَإِنْ كَانَتْ لِصَاحِبِهِ نَوْعَ مِلْكٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالْقِسْمَةِ.

وَيُسَمَّى: الْحَقَّ الْمُسْتَمِرَّ، لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِبْطَالِ الْحَقِّ الْمُؤَكَّدِ مِنْ جَانِبِهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ بِالْحَقِّ الْمُؤَكَّدِ لِصَاحِبِهِ، وَإِذَا امْتَنَعَ أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ.

مِثَالُهُ فِي الْغَنِيمَةِ: الْحَقُّ الْمُؤَكَّدُ فِيهَا يَكُونُ بَعْدَ إِحْرَازِ الْمُسْلِمِينَ لِلْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا قَدْ تَأَكَّدَ وَاسْتَقَرَّ بَعْدَ هَذَا الْإِحْرَازِ، لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ وَالْمَعَارِكِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ كَانَتْ مُجَرَّدَ حَقٍّ لَمْ يَتَأَكَّدْ بَعْدُ، حَيْثُ كَانَ هَذَا الْحَقُّ مُهَدَّدًا بِاسْتِرْدَادِ الْأَعْدَاءِ لِأَمْوَالِهِمْ، وَبَعْدَ الْإِحْرَازِ لِلْغَنَائِمِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ زَالَ الْخَطَرُ، وَتَأَكَّدَ الْحَقُّ، وَلَمْ يَبْقَ مُجَرَّدَ حَقٍّ، أَوْ حَقًّا مُجَرَّدًا.

قَالَ فِي الدُّرِّ الْمُنْتَقَى: (وَالَّذِي قَرَّرَهُ فِي الْمِنَحِ كَغَيْرِهِ: أَنَّهُ لَا مِلْكَ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِنَا أَيْضًا إِلاَّ بِالْقِسْمَةِ، فَلَا يَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ مِلْكٌ لِأَحَدٍ، بَلْ يَتَأَكَّدُ الْحَقُّ، وَلِهَذَا لَوْ أَعْتَقَ وَاحِدٌ مِنَ الْغَانِمِينَ عَبْدًا بَعْدَ الْإِحْرَازِ لَا يَعْتِقُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مِلْكٌ وَلَوْ بِشَرِكَةٍ لِعِتْقٍ.

نَعَمَ لَوْ قُسِّمَتِ الْغَنِيمَةُ عَلَى الرَّايَاتِ فَوَقَعَ عَبْدٌ بَيْنَ أَهْلِ رَايَةٍ صَحَّ عِتْقُ أَحَدِهِمْ لِلشَّرِكَةِ الْخَاصَّةِ، حَيْثُ كَانُوا قَلِيلًا كَمِائَةٍ فَأَقَلَّ، وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ.

وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِ الْغَانِمِينَ شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَمْ بَعْدَ الْإِحْرَازِ فِي دَارِنَا، لِأَنَّهَا لَا تُمْلَكُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ كَمَا عَلِمْتَ، قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي بَيْعِ الْغُزَاةِ، وَأَمَّا بَيْعُ الْإِمَامِ لَهَا فَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ: أَنَّهُ يَصِحُّ، لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، يَعْنِي أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ).

حُكْمُ الْحَقِّ الْمُؤَكَّدِ:

50- أ- يُضْمَنُ عِنْدَ الْإِتْلَافِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: (إِذَا فَوَّتَ حَقًّا مُؤَكَّدًا فَإِنَّهُ يَلْحَقُ بِتَفْوِيتِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ كَحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَلِذَا لَا يَضْمَنُ بِإِتْلَافِ شَيْءٍ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ، لِأَنَّ الْفَائِتَ مُجَرَّدُ الْحَقِّ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ، وَبَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ- وَلَوْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ- يَضْمَنُ، لِتَفْوِيتِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ فِي «إِتْلَافِهِ شَيْئًا» مِنَ الْغَنِيمَةِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: لِتَفْوِيتِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ الْحَقَّ الْمُؤَكَّدَ، إِذْ لَا تَحْصُلُ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ إِلاَّ بَعْدَ الْقِسْمَةِ كَمَا مَرَّ)

ب- لَا يُعْتَبَرُ دَاخِلًا فِي مِلْكِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ، قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ: (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْغَنَائِمِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا قَبْلَ ذَلِكَ)

ج- يُورَثُ الْحَقُّ الْمُؤَكَّدُ إِذَا مَاتَ صَاحِبُهُ بَعْدَ التَّأَكُّدِ وَقَبْلَ الْمِلْكِ، مِثْلُ: التَّحْجِيرِ.

وَالْغَنِيمَةُ إِذَا أُحْرِزَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: (بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِنَا يُورَثُ نَصِيبُ الْغَازِي إِذَا مَاتَ فِي دَارِنَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، لِلتَّأَكُّدِ لَا الْمِلْكِ، لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَقَّ الْمُتَأَكِّدَ يُورَثُ، كَحَقِّ الرَّهْنِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، بِخِلَافِ الْحَقِّ الضَّعِيفِ) كَالشُّفْعَةِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ.

د- يُعْتَبَرُ الْحَقُّ الْمُؤَكَّدُ مَمْلُوكًا لِصَاحِبِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِهِ بَعْدُ، إِلاَّ أَنَّهُ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبٌ يُرَتِّبُ لَهُ حَقًّا فِي الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ لِمَا يَأْتِي.

1- أَنَّ هَذَا الْحَقَّ قَدِ اسْتَقَرَّ وَتَحَدَّدَ وَتَعَيَّنَ الْمُسْتَحِقُّونَ لَهُ، وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ نَقْلُ الْمِلْكِيَّةِ، وَيَتِمُّ ذَلِكَ فِي الْغَنِيمَةِ الْمُحْرَزَةِ بِقِسْمَتِهَا.

2- أَنَّهُ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَانِمِينَ بِهِ، وَتَحَقُّقِ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِ الْأَعْدَاءِ، وَانْتِهَاءِ الْإِبَاحَةِ الَّتِي لَحِقَتْ بِالْغَنِيمَةِ وَقْتَ الْمَعْرَكَةِ إِلَى قُبَيْلِ الْإِحْرَازِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: (وَبَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ مِمَّا يَجُوزُ لِلْغَانِمِينَ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، لِزَوَالِ الْمُبِيحِ، وَلِأَنَّ حَقَّهُمْ قَدْ تَأَكَّدَ حَتَّى يُورَثَ نَصِيبُهُمْ).

3- أَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ الْمُؤَكَّدِ فِي الْغَنِيمَةِ لَهُ الْحَقُّ فِي الْمُطَالَبَةِ بِقِسْمَتِهَا وَتَمْلِيكِهَا، حَتَّى يَتَحَقَّقَ دُخُولُ نَصِيبِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ فِي مِلْكِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ الْحَقِّ الْمُؤَكَّدِ صَاحِبَ اخْتِصَاصٍ أَوْ لَهُ نَوْعُ مِلْكٍ لَمَا كَانَ لَهُ الْحَقُّ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْقِسْمَةِ وَالتَّمْلِيكِ.

قَالَ الْقَرَافِيُّ: (إِذَا حِيزَتِ الْغَنِيمَةُ فَقَدِ انْعَقَدَ لِلْمُجَاهِدِينَ سَبَبُ الْمُطَالَبَةِ بِالْقِسْمَةِ وَالتَّمْلِيكِ، فَهَلْ يُعَدُّونَ مَالِكِينَ لِذَلِكَ أَمْ لَا؟ قَوْلَانِ: فَقِيلَ: يَمْلِكُونَ بِالْحَوْزِ وَالْأَخْذِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقِيلَ: لَا يَمْلِكُونَ إِلاَّ بِالْقِسْمَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ) - وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- كَمَا قَالَهُ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ. ثُمَّ قَالَ الْقَرَافِيُّ: (إِذَا قُلْنَا انْعَقَدَ لَهُ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْمُطَالَبَةَ بِالتَّمْلِيكِ، فَهُوَ مُنَاسِبٌ لأَنْ يُعَدَّ مَالِكًا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، تَنْزِيلًا لِسَبَبِ السَّبَبِ مَنْزِلَةَ السَّبَبِ، وَإِقَامَةً لِلسَّبَبِ الْبَعِيدِ مَقَامَ السَّبَبِ الْقَرِيبِ، فَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَخَيَّلَ وُقُوعُهُ قَاعِدَةً فِي الشَّرِيعَةِ، وَيَجْرِي فِيهَا الْخِلَافُ فِي بَعْضِ فُرُوعِهَا لَا فِي كُلِّهَا)

4- أَنَّ الْحَقَّ الْمُؤَكَّدَ إِذَا مَاتَ صَاحِبُهُ انْتَقَلَ إِلَى وَرَثَتِهِ كَمَا فِي الْغَنِيمَةِ إِذَا حِيزَتْ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ نَوْعُ مِلْكٍ لِمَا انْتَقَلَ إِلَى الْوَرَثَةِ، كَالْحَقِّ الثَّابِتِ حَيْثُ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ خَالِيًا عَنِ الْمِلْكِ أَصْلًا، وَلَيْسَ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمِلْكِ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى الْوَرَثَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ الْمُؤَكَّدَ فِيهِ نَوْعُ مِلْكٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَلِذَلِكَ انْتَقَلَ إِلَى الْوَرَثَةِ.

51- وَيَفْتَرِقُ الْحَقُّ الْمُؤَكَّدُ عَنِ الْحَقِّ الثَّابِتِ- وَكِلَاهُمَا حَقٌّ وَسَطٌ بَيْنَ التَّمَلُّكِ وَالْمِلْكِ- فِيمَا يَأْتِي: -

1- أَنَّ الْحَقَّ الْمُؤَكَّدَ يُضْمَنُ عِنْدَ الْإِتْلَافِ.أَمَّا الْحَقُّ الثَّابِتُ فَلَا يُضْمَنُ عِنْدَ الْإِتْلَافِ.

2- أَنَّ الْحَقَّ الْمُؤَكَّدَ يُورَثُ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا الْحَقُّ الثَّابِتُ فَلَا يُورَثُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ.

3- أَنَّ الْحَقَّ الْمُؤَكَّدَ يُعْتَبَرُ مَمْلُوكًا فِي الْجُمْلَةِ، فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ.

أَمَّا الْحَقُّ الثَّابِتُ فَلَا يُعْتَبَرُ مَمْلُوكًا.

4- أَنَّ الْحَقَّ الْمُؤَكَّدَ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ إِلَى حَقِّ الْمِلْكِ، لِوُجُودِ الشَّبَهِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ.

أَمَّا الْحَقُّ الثَّابِتُ فَأَبْعَدُ مَا يَكُونُ عَنْ حَقِّ الْمِلْكِ، لِعَدَمِ وُجُودِ الشَّبَهِ فِي أَكْثَرِ الْأُمُورِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كُلِّهَا.

5- أَنَّ الْحَقَّ الْمُؤَكَّدَ أَبْعَدُ مَا يَكُونُ عَنْ حَقِّ التَّمَلُّكِ.

أَمَّا الْحَقُّ الثَّابِتُ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ حَقِّ التَّمَلُّكِ، لِوُجُودِ الشَّبَهِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ.

وَيَخْتَلِفُ الْحَقُّ الْمُؤَكَّدُ عَنِ الْمِلْكِ فِيمَا يَأْتِي:

أَنَّ الْحَقَّ الْمُؤَكَّدَ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ الْمُؤَكَّدِ.

أَمَّا حَقُّ الْمِلْكِ، فَإِنَّ لِصَاحِبِهِ حَقَّ الْمَبِيعِ وَالتَّصَرُّفَ فِيهِ وَالِانْتِفَاعَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ.

اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ:

52- تَنْقَسِمُ الْحُقُوقُ مِنْ حَيْثُ اسْتِيفَاؤُهَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

الْأَوَّلُ: مَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الرَّفْعِ إِلَى الْقَضَاءِ، بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، كَتَحْصِيلِ الْعُقُوبَاتِ وَمَا يُخَافُ مِنَ اسْتِيفَائِهِ الْفِتْنَةُ، كَالْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّكَاحِ وَاللِّعَانِ وَالطَّلَاقِ بِالْإِعْسَارِ وَالْإِضْرَارِ وَذَلِكَ لِخَطَرِهَا وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنَ الْحُقُوقِ مُخْتَلَفًا فِي أَصْلِ ثُبُوتِهِ.

الثَّانِي: مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْقَضَاءِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِتَحْصِيلِ الْأَعْيَانِ الْمُسْتَحَقَّةِ، وَتَحْصِيلِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ.

الثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ تَحْصِيلِهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ، كَاسْتِيفَاءِ الدُّيُونِ.وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (اسْتِيفَاءٌ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


6-موسوعة الفقه الكويتية (صيد 2)

صَيْدٌ -2

23- الشَّرْطُ الرَّابِعُ:

أَنْ لَا يُدْرَكَ الصَّيْدُ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً بَعْدَ الْإِصَابَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَذْهَبَ الصَّائِدُ، أَوْ تَأْتِيَ بِهِ الْجَارِحَةُ فَيَجِدَهُ مَيِّتًا، أَوْ فِي حَرَكَةِ مَذْبُوحٍ، أَوْ يَكُونُ بِحَيْثُ لَوْ ذَهَبَ إِلَيْهِ لَوَجَدَهُ كَذَلِكَ، فَفِي

الْحَالَةِ الْأُولَى: وَهِيَ وُجُودُهُ مَيِّتًا يَحِلُّ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَفِي

الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ- وَهِيَ وُجُودُهُ فِي حَيَاةٍ غَيْرِ مُسْتَقِرَّةٍ- إِذَا ذَبَحَهُ حَلَّ، وَكَذَا إِذَا لَمْ يَذْبَحْهُ وَمَاتَ، لِأَنَّ الذَّكَاةَ فِي مِثْلِ هَذَا لَا تُفِيدُ شَيْئًا، إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إِمْرَارُ السِّكِّينِ عَلَيْهِ.

أَمَّا إِذَا وَجَدَ الصَّائِدُ الصَّيْدَ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً بَعْدَ الْإِصَابَةِ، أَوْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ ذَهَبَ إِلَيْهِ لَوَجَدَهُ كَذَلِكَ وَلَمْ يَذْبَحْهُ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَمَاتَ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ، لِأَنَّ ذَكَاتَهُ تَحَوَّلَتْ مِنَ الْجُرْحِ إِلَى الذَّبْحِ، فَإِذَا لَمْ يُذْبَحْ كَانَ مَيْتَةً، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا رَدَّ عَلَيْكَ كَلْبُكَ الْمُكَلَّبُ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَذَكِّهِ، وَإِنْ لَمْ تُدْرِكْ ذَكَاتَهُ فَلَا تَأْكُلْ، وَمَا رَدَّتْ عَلَيْكَ يَدُكَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ وَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَذَكِّهِ، وَإِنْ لَمْ تُدْرِكْ ذَكَاتَهُ فَكُلْهُ».

وَكَذَا إِذَا جَاءَ الصَّائِدُ وَلَيْسَ مَعَهُ آلَةُ الذَّبْحِ، أَوْ تَرَاخَى فِي اتِّبَاعِ الصَّيْدِ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا، أَوْ جَعَلَ الْآلَةَ مَعَ غُلَامِهِ، وَكَانَ شَأْنُهُ أَنْ يَسْبِقَ الْغُلَامُ فَسَبَقَهُ، وَأَدْرَكَ الصَّيْدَ حَيًّا، وَلَمْ يَأْتِ الْغُلَامُ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ الصَّيْدِ، أَوْ وَضْعِ الْآلَةِ فِي خُرْجِهِ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا يَسْتَدْعِي طُولَ زَمَنٍ فِي إِخْرَاجِهَا مِنْهُ، فَأَدْرَكَهُ حَيًّا فَلَمْ يَتِمَّ إِخْرَاجُ الْآلَةِ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ الصَّيْدِ أَوْ تَشَبَّثَتِ الْآلَةُ فِي الْغِمْدِ وَكَانَ ضَيِّقًا، أَوْ سَقَطَتْ مِنْهُ، أَوْ ضَاعَتْ فَمَاتَ الصَّيْدُ حَرُمَ أَكْلُهُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، وَكَذَا كُلُّ صُورَةٍ لَا يُتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ ذَبْحِ الصَّيْدِ بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ.

أَمَّا إِذَا تَعَذَّرَ ذَبْحُهُ بِدُونِ تَقْصِيرٍ مِنْ صَائِدِهِ، كَأَنْ سَلَّ السِّكِّينَ فَمَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ ذَبْحِهِ، أَوِ امْتَنَعَ بِقُوَّتِهِ، وَمَاتَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَاشْتَغَلَ الصَّائِدُ بِطَلَبِ الْمَذْبَحِ، أَوْ وَقَعَ الصَّيْدُ مُنَكَّسًا فَاحْتَاجَ إِلَى قَلْبِهِ فَقَلَبَهُ، أَوِ اشْتَغَلَ بِتَوْجِيهِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ، أَوْ تَشَبَّثَتِ السِّكِّينُ فِي الْغِمْدِ لِعَارِضٍ وَلَمْ يَكُنْ ضَيِّقًا، أَوْ حَالَ بَيْنَ الصَّيْدِ وَصَائِدِهِ سَبُعٌ فَمَاتَ الصَّيْدُ الْمُصَابُ حَلَّ أَكْلُهُ لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ مَشَى الصَّائِدُ عَلَى هَيْئَتِهِ وَلَمْ يَأْتِهِ عَدْوًا فَوَجَدَهُ مَيِّتًا بِسَبَبِ الْإِصَابَةِ حَلَّ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي: يُشْتَرَطُ الْعَدْوُ إِلَى الصَّيْدِ عِنْدَ إِصَابَتِهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُعْتَادُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ- فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ- إِذَا أَدْرَكَ الصَّائِدُ الصَّيْدَ وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، وَلَمْ يَجِدْ مَا يَذْبَحُ بِهِ، وَكَانَتْ مَعَهُ جَارِحَةٌ، وَجَبَ أَنْ يُرْسِلَهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَقْتُلَهُ فَيَحِلَّ أَكْلُهُ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لَا يَحِلُّ مُطْلَقًا، وَقَالَ الْقَاضِي: يَحِلُّ إِذَا مَاتَ مِنْ غَيْرِ ذَبْحٍ وَلَا إِرْسَالِ جَارِحَةٍ عَلَيْهِ.

24- الشَّرْطُ الْخَامِسُ:

أَنْ لَا يَغِيبَ عَنِ الصَّائِدِ مُدَّةً طَوِيلَةً وَهُوَ قَاعِدٌ عَنْ طَلَبِهِ، فَإِنْ تَوَارَى الصَّيْدُ عَنْهُ، وَقَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ لَمْ يُؤْكَلْ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَوَارَ، أَوْ تَوَارَى وَلَمْ يَقْعُدْ عَنْ طَلَبِهِ أُكِلَ، وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ وَآرَاؤُهُمْ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ.

وَالْغَرَضُ مِنِ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ هُوَ حُصُولُ التَّيَقُّنِ أَوِ الظَّنِّ، أَيِ الِاعْتِقَادِ الرَّاجِحِ، بِأَنَّ مَا وَجَدَهُ قَبْلَ الْغِيَابِ، أَوْ بَعْدَهُ مَعَ اسْتِمْرَارِ الطَّلَبِ هُوَ صَيْدُهُ، وَمَا أَرْسَلَهُ مِنَ السَّهْمِ أَوِ الْكَلْبِ أَوْ نَحْوِهِمَا مِنَ الْآلَةِ هُوَ الَّذِي أَصَابَهُ وَأَمَاتَهُ دُونَ غَيْرِهِ.

فَإِنْ شَكَّ فِي صَيْدِهِ، هَلْ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ؟ أَوْ شَكَّ فِي الْآلَةِ الَّتِي أَرْسَلَهَا هَلْ هِيَ قَتَلَتْهُ؟ أَوْ غَيْرُهَا فَلَا يُؤْكَلُ.

وَقَدْ فَرَّعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فُرُوعًا، مِنْهَا:

25- أ- إِذَا غَابَ الصَّيْدُ بَعْدَ إِرْسَالِ السَّهْمِ أَوِ الْكَلْبِ عَلَيْهِ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا وَفِيهِ جُرْحٌ آخَرُ غَيْرُ سَهْمِهِ، لَمْ يُؤْكَلْ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ هَلْ قُتِلَ بِسَهْمِهِ أَوْ بِسَهْمٍ آخَرَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنِي فِي قَوْسِي، قَالَ: مَا رَدَّ عَلَيْكَ سَهْمُكَ فَكُلْ.قَالَ: وَإِنْ تَغَيَّبَ عَلَيَّ؟ قَالَ: وَإِنْ تَغَيَّبَ عَلَيْكَ، مَا لَمْ تَجِدْ فِيهِ أَثَرَ سَهْمٍ غَيْرَ سَهْمِكَ».

26- ب- إِنْ أَرْسَلَ سَهْمًا أَوْ كَلْبًا إِلَى الصَّيْدِ وَغَابَ عَنْهُ، فَقَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ غَيْرَ مُتَحَامِلٍ عَلَى الْمَشْيِ ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا لَا يَحِلُّ مَا لَمْ يَعْلَمْ جُرْحَهُ بِسَهْمِهِ يَقِينًا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ.

وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ قَيْدَ الْقُعُودِ عَنِ الطَّلَبِ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ: لَوْ غَابَ عَنْهُ الْكَلْبُ وَالصَّيْدُ قَبْلَ أَنْ يَجْرَحَهُ الْكَلْبُ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا حُرِّمَ عَلَى الصَّحِيحِ، لِاحْتِمَالِ مَوْتِهِ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ إِنْ جَرَحَهُ الْكَلْبُ، أَوْ أَصَابَهُ بِسَهْمٍ وَغَابَ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا حُرِّمَ فِي الْأَظْهَرِ، قَالَ الرَّمْلِيُّ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ قَالَ ابْنُ جُزَيٍّ: لَوْ فَاتَ عَنْهُ الصَّيْدُ ثُمَّ وَجَدَهُ غَدًا مَنْفُوذَ الْمَقَاتِلِ لَمْ يُؤْكَلْ فِي الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: يُؤْكَلُ، وَقِيلَ: يُكْرَهُ.

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: «لَعَلَّ هَوَامَّ الْأَرْضِ قَتَلَتْهُ».

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ مَنْ رَمَى صَيْدًا، وَلَوْ لَيْلاً، فَجَرَحَهُ وَلَوْ جُرْحًا غَيْرَ مُوحٍ فَغَابَ عَنْ عَيْنِهِ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا، بَعْدَ مَوْتِهِ الَّذِي رَمَاهُ فِيهِ وَسَهْمُهُ فَقَطْ فِيهِ، أَوْ أَثَرُ السَّهْمِ وَلَا أَثَرَ بِهِ غَيْرُهُ حَلَّ ذَلِكَ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ السَّابِقِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ.

وَعَنْهُ: إِنْ غَابَ نَهَارًا فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ غَابَ لَيْلاً لَمْ يَأْكُلْهُ، وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنْ غَابَ مُدَّةً طَوِيلَةً لَمْ يُبَحْ، وَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً أُبِيحَ لَهُ، لِأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنْ غَابَ يَوْمًا؟ قَالَ: يَوْمٌ كَثِيرٌ.

وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- إِذَا رَمَيْتَ فَأَقْعَصْتَ فَكُلْ، وَإِنْ رَمَيْتَ فَوَجَدْتَ فِيهِ سَهْمَكَ مِنْ يَوْمِكَ أَوْ لَيْلَتِكَ فَكُلْ، وَإِنْ بَاتَ عَنْكَ لَيْلَةً فَلَا تَأْكُلُ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا حَدَثَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ.

تَحْدِيدُ مُدَّةِ الْغِيَابِ:

27- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ- إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لِغِيَابِ الصَّيْدِ لِيَحْرُمَ بَعْدَ ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ وَجَدَهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِشَرْطِ الطَّلَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمُطْلَقًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَبْلَ أَنْ يُنْتِنَ حَلَّ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «وَإِنْ رَمَيْتَ الصَّيْدَ فَوَجَدْتَهُ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَيْسَ بِهِ إِلاَّ أَثَرُ سَهْمِكَ فَكُلْ» وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا رَمَيْتَ الصَّيْدَ فَأَدْرَكْتَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَسَهْمُكَ فِيهِ فَكُلْهُ، مَا لَمْ يُنْتِنْ».وَلِأَنَّ جُرْحَهُ بِسَهْمِهِ سَبَبُ إِبَاحَتِهِ، وَقَدْ وُجِدَ يَقِينًا، وَالْمُعَارِضُ لَهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا نُزُولَ عَنِ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ.

لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي أَكْلِهِ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَلِكَ تَوْفِيقًا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَعَلَّ هَوَامَّ الْأَرْضِ قَتَلَتْهُ» فَيُحْمَلُ هَذَا عَلَى مَا إِذَا قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ، وَالْأَوَّلُ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَقْعُدْ.

وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَمُوتَ بِسَبَبٍ آخَرَ فَيُعْتَبَرَ فِيمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، لِأَنَّ الْمَوْهُومَ فِي الْحُرُمَاتِ كَالْمُتَحَقَّقِ، وَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ لِلضَّرُورَةِ، لِأَنَّ اعْتِبَارَهُ فِيهِ يُؤَدِّي إِلَى سَدِّ بَابِ الِاصْطِيَادِ، وَهَذَا لِأَنَّ الِاصْطِيَادَ يَكُونُ فِي الصَّحْرَاءِ بَيْنَ الْأَشْجَارِ عَادَةً، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْتُلَهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ وَتَوَارٍ عَنْ عَيْنِهِ غَالِبًا، فَيُعْذَرُ- مَا لَمْ يَقْعُدْ عَنْ طَلَبِهِ- لِلضَّرُورَةِ لِعَدَمِ إِمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ، وَلَا يُعْذَرُ فِيمَا إِذَا قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ، لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ مِثْلِهِ مُمْكِنٌ فَلَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ فَيَحْرُمُ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمُ التَّحْدِيدُ بِأَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ حَيْثُ قَالُوا: (لَوْ مَاتَ مِنْهُ صَيْدٌ ثُمَّ وَجَدَهُ غَدًا مَنْفُوذَ الْمَقَاتِلِ لَمْ يُؤْكَلْ فِي الْمَشْهُورِ).

وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ بِالْحُرْمَةِ بِمُجَرَّدِ الْغِيَابِ، وَلَمْ يُحَدِّدُوا لَهُ مُدَّةً مُعَيَّنَةً، فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لَوْ غَابَ عَنْهُ الْكَلْبُ وَالصَّيْدُ قَبْلَ أَنْ يَجْرَحَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا حَرُمَ، وَكَذَلِكَ إِنْ جَرَحَهُ الْكَلْبُ، أَوْ أَصَابَهُ سَهْمٌ ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا يَحْرُمُ فِي الْأَظْهَرِ لِاحْتِمَالِ مَوْتِهِ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَالتَّحْرِيمُ يُحْتَاطُ لَهُ.

28- ج لَوْ رَمَى صَيْدًا فَوَقَعَ فِي مَاءٍ، أَوْ عَلَى سَطْحٍ أَوْ جَبَلٍ ثُمَّ تَرَدَّى مِنْهُ إِلَى الْأَرْضِ حَرُمَ، لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} إِلَى قوله تعالى: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَدِيٍّ- رضي الله عنه-: «إِذَا رَمَيْتَ سَهْمَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنْ وَجَدْتَهُ قَدْ قُتِلَ فَكُلْ، إِلاَّ أَنْ تَجِدَهُ قَدْ وَقَعَ فِي مَاءٍ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي: الْمَاءُ قَتَلَهُ أَوْ سَهْمُكَ» وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْحُكْمِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ الْجِرَاحَةُ مُوحِيَةً أَوْ غَيْرَ مُوحِيَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- وَعَطَاءٍ وَرَبِيعَةَ وَإِسْحَاقَ.وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُونَ: إِنْ كَانَتِ الْجِرَاحَةُ مُوحِيَةً كَأَنْ ذَبَحَهُ أَوْ أَبَانَ حَشْوَتَهُ لَمْ يَضُرَّ وُقُوعُهُ فِي الْمَاءِ، وَلَا تَرَدِّيهِ، لِأَنَّ هَذَا صَارَ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ بِالذَّبْحِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مَا أَصَابَهُ.

وَلَوْ وَقَعَ الصَّيْدُ فِي الْمَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْتُلُهُ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ رَأْسُهُ خَارِجًا مِنَ الْمَاءِ، أَوْ يَكُونَ مِنْ طَيْرِ الْمَاءِ الَّذِي لَا يَقْتُلُهُ الْمَاءُ، أَوْ كَانَ التَّرَدِّي لَا يَقْتُلُ مِثْلَ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ فَلَا خِلَافَ فِي إِبَاحَتِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ»، وَلِأَنَّ الْوُقُوعَ فِي الْمَاءِ وَالتَّرَدِّي إِنَّمَا حُرِّمَ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ قَاتِلاً أَوْ مُعِينًا عَلَى الْقَتْلِ، وَهَذَا مُنْتَفٍ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ.

وَكَذَلِكَ إِذَا وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ ابْتِدَاءً، بَعْدَ أَنْ رَمَاهُ بِسَهْمٍ فَمَاتَ حَلَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ كَيْ لَا يَنْسَدَّ بَابُ الِاصْطِيَادِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، لِأَنَّ اعْتِبَارَهُ لَا يُؤَدِّي إِلَى سَدِّ بَابِهِ، وَلَا يُؤَدِّي إِلَى الْحَرَجِ، فَأَمْكَنَ تَرْجِيحُ الْمُحَرَّمِ عِنْدَ التَّعَارُضِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الشَّرْعِ.

هَذَا، وَإِذَا أَدْرَكَ الصَّيْدَ حَيًّا غَيْرَ مَنْفُوذِ مَقْتَلٍ لَمْ يُؤْكَلْ إِلاَّ بِذَكَاةٍ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، كَمَا قَدَّمْنَا.وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

حُكْمُ جُزْءِ الْمَصِيدِ:

29- إِذَا رَمَى صَيْدًا فَأَبَانَ مِنْهُ عُضْوًا، وَبَقِيَ الصَّيْدُ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً يَحْرُمُ الْعُضْوُ الْمُبَانُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَمَا قُطِعَ مِنْهَا فَهُوَ مَيْتَةٌ».

أَمَّا الْمَقْطُوعُ مِنْهُ، وَهُوَ الْحَيَوَانُ الْحَيُّ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ ذَكَاةٍ، وَإِلاَّ يَحْرُمُ- أَيْضًا- بِاتِّفَاقٍ.

وَإِذَا رَمَاهُ فَقَطَعَ رَأْسَهُ، أَوْ قَدَّهُ نِصْفَيْنِ أَوْ أَثْلَاثًا- وَالْأَكْثَرُ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ- حَلَّ كُلُّهُ، لِأَنَّ الْمُبَانَ مِنْهُ حَيٌّ صُورَةً لَا حُكْمًا، إِذْ لَا يُتَوَهَّمُ سَلَامَتُهُ وَبَقَاؤُهُ حَيًّا بَعْدَ هَذِهِ الْجِرَاحَةِ، فَوَقَعَ ذَكَاةً فِي الْحَالِ فَحَلَّ كُلُّهُ.

أَمَّا إِذَا قَطَعَ مِنْهُ يَدًا أَوْ رِجْلاً أَوْ فَخِذًا، أَوْ نَحْوَهَا وَلَمْ تَبْقَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَفِيهِ التَّفْصِيلُ الْآتِي:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَطَعَ يَدًا أَوْ رِجْلاً أَوْ فَخِذًا أَوْ ثُلُثَهُ مِمَّا يَلِي الْقَوَائِمَ أَوْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الرَّأْسِ يَحْرُمُ الْمُبَانُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ بَقَاءُ الْحَيَاةِ فِي الْبَاقِي.

وَلَوْ ضَرَبَ صَيْدًا فَقَطَعَ يَدَهُ أَوْ رِجْلَهُ وَلَمْ يَنْفَصِلْ، ثُمَّ مَاتَ، إِنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ الْتِئَامُهُ وَانْدِمَالُهُ حَلَّ أَكْلُهُ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَجْزَائِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُتَوَهَّمُ، بِأَنْ بَقِيَ مُتَعَلِّقًا بِجِلْدٍ حَلَّ مَا سِوَاهُ دُونَهُ، لِوُجُودِ الْإِبَانَةِ مَعْنًى، وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعَانِي.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا كَانَ الْمَقْطُوعُ النِّصْفَ فَأَكْثَرَ جَازَ أَكْلُ الْجَمِيعِ، وَلَوْ قَطَعَ الْجَارِحُ دُونَ النِّصْفِ كَيَدٍ أَوْ رِجْلٍ فَهُوَ مَيْتَةٌ، وَيُؤْكَلُ مَا سِوَاهُ، إِلاَّ أَنْ يَحْصُلَ بِالْقَطْعِ إِنْفَاذُ مَقْتَلٍ كَالرَّأْسِ فَلَيْسَ بِمَيْتَةٍ فَيُؤْكَلَ كَالْبَاقِي.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهُ لَوْ أَبَانَ مِنَ الصَّيْدِ عُضْوًا كَيَدِهِ بِجُرْحٍ مُذَفِّفٍ (أَيْ مُسْرِعٍ لِلْقَتْلِ) فَمَاتَ حَلَّ الْعُضْوُ وَالْبَدَنُ كُلُّهُ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ: أَشْهَرُهُمَا عَنْ أَحْمَدَ إِبَاحَتُهُمَا.

قَالَ أَحْمَدُ: إِنَّمَا حَدِيثُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا قَطَعْتَ مِنَ الْحَيِّ مَيْتَةٌ».إِذَا قَطَعْتَ وَهِيَ حَيَّةٌ تَمْشِي وَتَذْهَبُ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ وَالْمَوْتُ جَمِيعًا أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ إِذَا كَانَ فِي عِلَاجِ الْمَوْتِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، أَلَا تَرَى الَّذِي يَذْبَحُ رُبَّمَا مَكَثَ سَاعَةً، وَرُبَّمَا مَشَى حَتَّى يَمُوتَ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لَا يُبَاحُ مَا بَانَ مِنْهُ، عَمَلاً بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ».

وَلِأَنَّ هَذِهِ الْبَيْنُونَةَ لَا تَمْنَعُ بَقَاءَ الْحَيَوَانِ فِي الْعَادَةِ فَلَمْ يُبَحْ أَكْلُ الْبَائِنِ.

وَهَذِهِ الشُّرُوطُ كُلُّهَا إِنَّمَا تُشْتَرَطُ فِي الْمَصِيدِ الْبَرِّيِّ، إِذَا عَقَرَتْهُ الْجَوَارِحُ أَوِ السِّلَاحُ أَوْ أَنْفَذَتْ مَقَاتِلَهُ، فَإِنْ أَدْرَكَهُ حَيًّا غَيْرَ مَنْفُوذِ الْمَقَاتِلِ ذُكِّيَ، وَيُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ مَا يُشْتَرَطُ فِي الذَّبْحِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (ذَبَائِح ف 16- 39).

30- أَمَّا الْمَصِيدُ الْبَحْرِيُّ فَلَا تُشْتَرَطُ فِيهِ هَذِهِ الشُّرُوطُ.

وَيَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) صَيْدُ وَأَكْلُ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ سَمَكًا أَمْ غَيْرَهُ، لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} أَيْ مَصِيدُهُ وَمَطْعُومُهُ، وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مِيتَتُهُ».

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَحِلُّ مَا لَيْسَ عَلَى صُورَةِ السَّمَكِ الْمَشْهُورَةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَهُمْ: إِنْ أُكِلَ مِثْلُهُ فِي الْبَرِّ كَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَلَّ، وَإِلاَّ فَلَا.

لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ اسْتَثْنَوْا مِنَ الْحِلِّ الضُّفْدَعَ، وَالتِّمْسَاحَ، وَالْحَيَّةَ؛ وَذَلِكَ لِنَهْيِهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ وَلِاسْتِخْبَاثِ النَّاسِ التِّمْسَاحَ، وَلِأَكْلِهِ النَّاسَ، وَلِلسُّمِّيَّةِ فِي الْحَيَّةِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: لَا يُؤْكَلُ مَائِيٌّ إِلاَّ السَّمَكُ غَيْرَ طَافٍ، لقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وَمَا سِوَى السَّمَكِ خَبِيثٌ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، أَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالسَّمَكُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ».

وَأَمَّا الطَّافِي فَيُكْرَهُ أَكْلُهُ لِقَوْلِ جَابِرٍ- رضي الله عنه-: أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- قَالَ: «مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ فَكُلُوا، وَمَا طَفَا فَلَا تَأْكُلُوا».

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَطْعِمَة ف 6 ج 5).

شُرُوطُ آلَةِ الصَّيْدِ:

آلَةُ الصَّيْدِ نَوْعَانِ: أَدَاةٌ جَامِدَةٌ، أَوْ حَيَوَانٌ.

أَوَّلاً- الْأَدَاةُ الْجَامِدَةُ:

31- الْأَدَاةُ الْجَامِدَةُ: مِنْهَا مَا لَهُ حَدٌّ يَصْلُحُ لِلْقَطْعِ، كَالسَّيْفِ وَالسِّكِّينِ، وَمِنْهَا مَا يَنْطَلِقُ مِنْ آلَةٍ أُخْرَى وَلَهُ رَأْسٌ مُحَدَّدٌ يَصْلُحُ لِلْخَزْقِ كَالسَّهْمِ، وَمِنْهَا مَا لَهُ رَأْسٌ مُحَدَّدٌ لَا يَنْطَلِقُ مِنْ آلَةٍ أُخْرَى كَالْحَدِيدَةِ الْمُثَبَّتَةِ فِي رَأْسِ الْعَصَا، أَوِ الْعَصَا الَّتِي بُرِيَ رَأْسُهَا حَتَّى صَارَ مُحَدَّدًا يُمْكِنُ الْقَتْلُ بِهِ طَعْنًا. وَهَذِهِ الْأَدَوَاتُ وَنَحْوُهَا يَجُوزُ الِاصْطِيَادُ بِهَا إِذَا قَتَلَتِ الصَّيْدَ بِحَدِّهَا أَوْ رَأْسِهَا وَحَصَلَ الْجُرْحُ بِالْمَصِيدِ بِلَا خِلَافٍ.

أَمَّا الْآلَاتُ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلْقَتْلِ بِحَدِّهَا وَلَا بِرَأْسِهَا الْمُحَدَّدِ، وَإِنَّمَا تَقْتُلُ بِالثِّقَلِ كَالْحَجَرِ الَّذِي لَمْ يُرَقَّقْ، أَوِ الْعَمُودِ وَالْعَصَا غَيْرِ مُحَدَّدَةِ الرَّأْسِ، أَوِ الْمِعْرَاضِ بِعَرْضِهِ وَنَحْوِهَا، فَلَا يَجُوزُ بِهَا الِاصْطِيَادُ، وَإِذَا اسْتُعْمِلَتْ فَلَا بُدَّ فِي الْمَرْمِيِّ مِنَ التَّذْكِيَةِ، وَإِلاَّ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ.

وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْآلَاتِ الْمُحَدَّدَةِ إِذَا اسْتُعْمِلَتْ وَأَصَابَتْ بِعَرْضِهَا غَيْرِ الْمُحَدَّدِ لَا يَحِلُّ الْمَرْمِيُّ بِهَا إِلاَّ بِالتَّذْكِيَةِ.

وَيُمْكِنُ أَنْ تُخْتَصَرَ شُرُوطُ الْآلَةِ فِيمَا يَلِي:

32- الشَّرْطُ الْأَوَّلُ:

أَنْ تَكُونَ الْآلَةُ مُحَدَّدَةً تَجْرَحُ وَتُؤَثِّرُ فِي اللَّحْمِ بِالْقَطْعِ أَوِ الْخَزْقِ، وَإِلاَّ لَا يَحِلُّ بِغَيْرِ الذَّبْحِ.

وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْحَدِيدِ، فَيَصِحُّ الِاصْطِيَادُ بِكُلِّ آلَةٍ حَادَّةٍ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ حَدِيدَةً، أَمْ خَشَبَةً حَادَّةً، أَمْ حِجَارَةً مُرَقَّقَةَ الرَّأْسِ، أَمْ نَحْوَهَا تَنْفُذُ دَاخِلَ الْجِسْمِ.

33- الشَّرْطُ الثَّانِي:

أَنْ تُصِيبَ الصَّيْدَ بِحَدِّهَا فَتَجْرَحَهُ، وَيُتَيَقَّنَ كَوْنُ الْمَوْتِ بِالْجُرْحِ، وَإِلاَّ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ؛ لِأَنَّ مَا يُقْتَلُ بِعَرْضِ الْآلَةِ أَوْ بِثِقَلِهِ يُعْتَبَرُ مَوْقُوذَةً.وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَالْمَوْقُوذَةُ} وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ «عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ- رضي الله عنه- قَالَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: إِنِّي أَرْمِي الصَّيْدَ بِالْمِعْرَاضِ فَأُصِيبُ، فَقَالَ: إِذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ فَخَزَقَ فَكُلْهُ وَإِنْ أَصَابَهُ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْهُ».وَفِي لَفْظٍ لَهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا رَمَيْتَ فَسَمَّيْتَ فَخَزَقْتَ فَكُلْ، فَإِنْ لَمْ يَتَخَزَّقْ فَلَا تَأْكُلْ، وَلَا تَأْكُلْ مِنَ الْمِعْرَاضِ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتَ، وَلَا تَأْكُلْ مِنَ الْبُنْدُقَةِ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتَ» وَلِمَا وَرَدَ «أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- نَهَى عَنِ الْخَذْفِ، وَقَالَ: إِنَّهَا لَا تَصِيدُ صَيْدًا وَلَا تَنْكَأُ عَدُوًّا، وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ». 34- الشَّرْطُ الثَّالِثُ:

اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يُصِيبَ الرَّمْيُ الصَّيْدَ مُبَاشَرَةً، وَلَا يَعْدِلَ عَنْ جِهَتِهِ، فَإِذَا رَدَّ السَّهْمَ رِيحٌ إِلَى وَرَائِهِ، أَوْ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً، فَأَصَابَ صَيْدًا لَا يَحِلُّ، وَكَذَا لَوْ رَدَّهُ حَائِطٌ أَوْ شَجَرَةٌ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِعَانَةِ الرِّيحِ لِلسَّهْمِ: لَوْ قَتَلَ الصَّيْدَ بِإِعَانَةِ الرِّيحِ لِلسَّهْمِ لَمْ يَحْرُمْ.

وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ لَوْ رَدَّ السَّهْمَ حَجَرٌ أَوْ غَيْرُهُ عَلَى الصَّيْدِ فَقَتَلَهُ لَمْ يَحْرُمْ، لِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ.

مَسَائِلُ وَفُرُوعٌ فِي الْآلَةِ الْجَامِدَةِ:

تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ فِي شُرُوطِ الْآلَةِ الْجَامِدَةِ لِمَسَائِلَ بَيَّنُوا أَحْكَامَهَا، وَمِنْ أَهَمِّ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَا يَلِي:

أ- الِاصْطِيَادُ بِالشَّبَكَةِ وَالْأُحْبُولَةِ:

35- لَوْ نَصَبَ شَبَكَةً أَوْ أُحْبُولَةً، وَسَمَّى، فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ وَمَاتَ مَجْرُوحًا لَمْ يَحِلَّ إِذَا لَمْ تَكُنْ بِهَا آلَةٌ جَارِحَةٌ، وَلَوْ كَانَ بِهَا آلَةٌ جَارِحَةٌ كَمِنْجَلٍ، أَوْ نَصَبَ سَكَاكِينَ وَسَمَّى حَلَّ، كَمَا لَوْ رَمَاهُ بِهَا، صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ يَحِلُّ، وَلَوْ بَعْدَ مَوْتِ نَاصِبِهِ أَوْ رِدَّتِهِ، اعْتِبَارًا بِوَقْتِ النَّصْبِ، لِأَنَّهُ كَالرَّمْيِ.

قَالَ الْبُهُوتِيُّ: لِأَنَّ النَّصْبَ جَرَى مَجْرَى الْمُبَاشَرَةِ فِي الضَّمَانِ، فَكَذَا فِي الْإِبَاحَةِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلْ مَا رَدَّتْ إِلَيْكَ يَدُكَ».وَلِأَنَّهُ قَتَلَ الصَّيْدَ بِمَا لَهُ حَدٌّ جَرَتِ الْعَادَةُ بِالصَّيْدِ بِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ رَمَاهُ.

أَمَّا إِذَا لَمْ يَجْرَحْهُ مَا نَصَبَهُ مِنْ مَنَاجِلَ أَوْ سَكَاكِينَ- كَالْمُنْخَنِقَةِ بِالْأُحْبُولَةِ- فَلَا يُبَاحُ الصَّيْدُ لِعَدَمِ الْجُرْحِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُحَرَّمَاتِ {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِذَا قَتَلَتِ الْحِبَالَاتُ مِنَ الصَّيْدِ، أَيُؤْكَلُ أَمْ لَا؟ قَالَ مَالِكٌ: لَا يُؤْكَلُ إِلاَّ مَا أَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَقُلْتُ لِمَالِكٍ: فَإِنْ كَانَتْ فِي الْحِبَالَاتِ حَدِيدَةٌ فَأَنْفَذَتِ الْحَدِيدَةُ

مَقَاتِلَ الصَّيْدِ؟ قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: لَا يُؤْكَلُ إِلاَّ مَا أَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ.

ب- الِاصْطِيَادُ بِالْبُنْدُقِ:

36- يُطْلَقُ الْبُنْدُقُ عَلَى مَعَانٍ، مِنْهَا: مَا يُؤْكَلُ، وَمِنْهَا: مَا يُصْنَعُ مِنْ طِينَةٍ مُدَوَّرَةٍ أَوْ رَصَاصَةٍ يُرْمَى بِهَا الصَّيْدُ.وَالْوَاحِدَةُ بُنْدُقَةٌ، وَالْجَمْعُ بَنَادِقُ.

وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: مَا يُرْمَى بِهِ الصَّيْدُ.

أَمَّا مَا يُصْنَعُ مِنَ الطِّينِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا قُتِلَ بِبُنْدُقَةِ الطِّينِ الثَّقِيلَةِ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، لِأَنَّهَا تَقْتُلُ بِالثِّقَلِ لَا بِالْحَدِّ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ قَاضِيخَانْ: لَا يَحِلُّ صَيْدُ الْبُنْدُقَةِ وَالْحَجَرِ وَالْمِعْرَاضِ وَالْعَصَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَإِنْ جَرَحَ، لِأَنَّهُ لَا يَخْزِقُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَدْ حَدَّدَهُ وَطَوَّلَهُ، كَالسَّهْمِ، وَأَمْكَنَ أَنْ يَرْمِيَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ وَخَزَقَهُ بِحَدِّهِ حَلَّ أَكْلُهُ، فَأَمَّا الْجُرْحُ الَّذِي يَدُقُّ فِي الْبَاطِنِ وَلَا يَخْزِقُ فِي الظَّاهِرِ لَا يَحِلُّ، لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ إِنْهَارُ الدَّمِ، وَمُثَقَّلُ الْحَدِيدِ وَغَيْرِ الْحَدِيدِ سَوَاءٌ، إِنْ خَزَقَ حَلَّ وَإِلاَّ فَلَا.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا يَحِلُّ مَا صِيدَ بِبُنْدُقِ الطِّينِ لِأَنَّهُ لَا يَجْرَحُ، وَإِنَّمَا يَرُضُّ وَيَكْسِرُ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ: فَلَوْ قَتَلَهُ بِمُثَقَّلٍ، أَوْ ثِقَلٍ مُحَدَّدٍ، كَبُنْدُقَةٍ وَسَوْطٍ- حَرُمَ، أَيِ الْأَكْلُ مِنْهُ.

وَقَالَ الْبُجَيْرِمِيُّ: وَأَفْتَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِحُرْمَةِ الرَّمْيِ بِالْبُنْدُقِ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الذَّخَائِرِ، وَلَكِنْ أَفْتَى النَّوَوِيُّ بِجَوَازِهِ، أَيِ الرَّمْيِ بِالْبُنْدُقِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِمَا إِذَا كَانَ الصَّيْدُ لَا يَمُوتُ فِيهِ غَالِبًا، كَالْإِوَزِّ، فَإِنْ مَاتَ كَالْعَصَافِيرِ فَيَحْرُمُ، فَلَوْ أَصَابَتْهُ الْبُنْدُقَةُ فَذَبَحَتْهُ بِقُوَّتِهَا، أَوْ قَطَعَتْ رَقَبَتَهُ حَرُمَ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ.

وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ، وَعِبَارَتُهُ: فَإِنْ كَانَ يَمُوتُ مِنْهُ غَالِبًا، كَالْعَصَافِيرِ وَصِغَارِ الْوَحْشِ حَرُمَ، كَمَا قَالَهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، فَإِنِ احْتَمَلَ وَاحْتَمَلَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْرُمَ.

وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: وَلَا بُدَّ مِنْ جُرْحِهِ، أَيِ الصَّيْدِ بِالْمُحَدَّدِ، فَإِنْ قَتَلَهُ بِثِقَلِهِ لَمْ يُبَحْ، كَشَبَكَةٍ، وَفَخٍّ، وَبُنْدُقَةٍ، وَعَصَا، وَحَجَرٍ لَا حَدَّ لَهُ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَلَوْ شَدَخَهُ أَوْ حَرَّقَهُ أَوْ قَطَعَ حُلْقُومَهُ وَمَرِيئَهُ.

وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْبُنْدُقِ الْمَصْنُوعِ مِنَ الطِّينِ أَوِ الرَّصَاصِ مِنْ غَيْرِ نَارٍ، أَمَّا مَا صُنِعَ مِنَ الْحَدِيدِ وَيُرْمَى بِالنَّارِ، فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ: فَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِالْحُرْمَةِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْجُرْحَ بِالرَّصَاصِ إِنَّمَا هُوَ بِالْإِحْرَاقِ وَالثِّقَلِ بِوَاسِطَةِ انْدِفَاعِهِ الْعَنِيفِ، إِذْ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ، وَبِهِ أَفْتَى ابْنُ نُجَيْمٍ وَيَقُولُ الزَّيْلَعِيُّ: الْجُرْحُ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَالْبُنْدُقَةُ لَا تَجْرَحُ.

وَقَالَ الْبُجَيْرِمِيُّ: أَمَّا مَا يُصْنَعُ مِنَ الْحَدِيدِ وَيُرْمَى بِالنَّارِ فَحَرَامٌ مُطْلَقًا، مَا لَمْ يَكُنِ الرَّامِي حَاذِقًا، وَقَصَدَ جَنَاحَهُ لِإِزْمَانِهِ، وَأَصَابَهُ.

وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ بِحُرْمَةِ الِاصْطِيَادِ بِالْبُنْدُقَةِ فِيمَا يَمُوتُ بِهَا كَالْعَصَافِيرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الِاصْطِيَادُ بِالْبُنْدُقَةِ بِوَاسِطَةِ نَارٍ أَمْ لَا.

وَصَرَّحَ الدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِالْجَوَازِ حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا الرَّصَاصُ فَيُؤْكَلُ بِهِ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنَ السِّلَاحِ، كَذَا اعْتَمَدَهُ بَعْضُهُمْ.

ثُمَّ فَصَّلَ الدُّسُوقِيُّ فَقَالَ: الْحَاصِلُ أَنَّ الصَّيْدَ بِبُنْدُقِ الرَّصَاصِ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ نَصٌّ لِلْمُتَقَدِّمِينَ، لِحُدُوثِ الرَّمْيِ بِهِ بِحُدُوثِ الْبَارُودِ فِي وَسَطِ الْمِائَةِ الثَّامِنَةِ.

وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْمَنْعِ، قِيَاسًا عَلَى بُنْدُقِ الطِّينِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ..لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِنْهَارِ وَالْإِجْهَازِ بِسُرْعَةٍ، الَّذِي شُرِعَتِ الذَّكَاةُ لِأَجْلِهِ، وَقِيَاسُهُ عَلَى بُنْدُقِ الطِّينِ فَاسِدٌ لِوُجُودِ الْفَارِقِ، وَهُوَ وُجُودُ الْخَزْقِ وَالنُّفُوذِ فِي الرَّصَاصِ تَحْقِيقًا، وَعَدَمُ ذَلِكَ فِي بُنْدُقِ الطِّينِ، وَإِنَّمَا شَأْنُهُ الرَّضُّ وَالْكَسْرُ.

ج- الِاصْطِيَادُ بِالسَّهْمِ الْمَسْمُومِ:

37- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاصْطِيَادِ بِالسَّهْمِ الْمَسْمُومِ إِذَا تَيَقَّنَ أَوْ ظَنَّ أَنَّ السُّمَّ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ أَوِ احْتُمِلَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي قَتْلِهِ مُبِيحٌ وَمُحَرَّمٌ، فَغَلَبَ الْمُحَرَّمُ، كَمَا لَوِ اجْتَمَعَ سَهْمُ مَجُوسِيٍّ وَمُسْلِمٍ فِي قَتْلِ الْحَيَوَانِ.فَإِنْ لَمْ يُحْتَمَلْ ذَلِكَ فَلَا يَحْرُمُ.

وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالُوا: مَا مَاتَ بِسَهْمٍ مَسْمُومٍ وَلَمْ يَنْفُذْ مَقْتَلَهُ وَلَا أُدْرِكَتْ ذَكَاتُهُ طُرِحَ، فَإِنْ أَنْفَذَ السَّهْمُ مَقَاتِلَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْرِيَ السُّمُّ فِيهِ لَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهُ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ، خَوْفًا مِنْ أَذَى السُّمِّ، قَالَ الْمَوَّاقُ نَقْلاً عَنِ الْبَاجِيِّ: فَإِنْ أَنْفَذَ مَقَاتِلَهُ فَقَدْ ذَهَبَتْ عِلَّةُ الْخَوْفِ مِنْ أَنْ يُعِينَ عَلَى قَتْلِهِ السُّمُّ، وَبَقِيَتْ عِلَّةُ الْخَوْفِ مِنْ أَكْلِهِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنَ السُّمُومِ الَّتِي يُؤْمَنُ عَلَى أَكْلِهَا كَالْبَقْلَةِ فَقَدِ ارْتَفَعَتِ الْعِلَّتَانِ، وَجَازَ أَكْلُهُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ.

وَإِذَا رَمَى بِسَهْمٍ مَسْمُومٍ وَلَمْ يَنْفُذْ مَقَاتِلَهُ، وَأُدْرِكَتْ ذَكَاتُهُ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ: لَا يُؤْكَلُ، وَنَحْوَهُ حَكَى ابْنُ حَبِيبٍ، وَقَالَ سَحْنُونٌ: إِنَّهُ يُؤْكَلُ، وَاسْتَظْهَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ، لِأَنَّهُ قَدْ ذُكِيَ وَحَيَاتُهُ فِيهِ مُجْتَمِعَةٌ قَبْلَ أَنْ يُنْفِذَ مَقَاتِلَهُ.

ثَانِيًا- الْحَيَوَانُ:

38- يَجُوزُ الِاصْطِيَادُ بِالْحَيَوَانِ الْمُعَلَّمِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْجَوَارِحِ، مِنَ الْكِلَابِ وَالسِّبَاعِ وَالطُّيُورِ مِمَّا لَهُ نَابٌ أَوْ مِخْلَبٌ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ وَالْفَهْدُ وَالنَّمِرُ وَالْأَسَدُ وَالْبَازِي وَسَائِرُ الْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَةِ، كَالشَّاهِينِ وَالْبَاشِقِ وَالْعُقَابِ وَالصَّقْرِ وَنَحْوِهَا.

فَالْقَاعِدَةُ: أَنَّ كُلَّ مَا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ وَعُلِّمَ يَجُوزُ الِاصْطِيَادُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَسَيَأْتِي مَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.

وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْحَيَوَانِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، كَمَا لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ}.

وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْخِنْزِيرَ، فَلَا يَحِلُّ الِاصْطِيَادُ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ.

وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ كَذَلِكَ الْكَلْبَ الْأَسْوَدَ، وَالْبَهِيمَ الْأَسْوَدَ، وَهُوَ مَا لَا بَيَاضَ فِيهِ، أَوْ كَانَ أَسْوَدَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ نُكْتَتَانِ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ.

وَوَجْهُ الِاسْتِثْنَاءِ: مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي الطُّفْيَتَيْنِ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ» قَالُوا: فَيَحْرُمُ صَيْدُهُ، لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِقَتْلِهِ.

وَاسْتَثْنَى أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْجَوَارِحِ الْأَسَدَ وَالدُّبَّ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَعْمَلَانِ لِغَيْرِهِمَا، أَمَّا الْأَسَدُ فَلِعُلُوِّ هِمَّتِهِ، وَأَمَّا الدُّبُّ فَلِخَسَاسَتِهِ، وَلِأَنَّهُمَا لَا يَتَعَلَّمَانِ عَادَةً.

وَأَلْحَقَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ الْحِدَأَةَ بِهِمَا لِخَسَاسَتِهَا.

وَاسْتَثْنَى ابْنُ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ النِّمْسَ، فَلَا يُؤْكَلُ مَا قَتَلَ، لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الْمَدَارَ عَلَى كَوْنِهِ عُلِّمَ بِالْفِعْلِ، وَلَوْ فِي نَوْعِ مَا لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ، كَأَسَدٍ وَنَمِرٍ وَنِمْسٍ، كَمَا قَالَ الْعَدَوِيُّ.

وَيُشْتَرَطُ فِي الْحَيَوَانِ الشُّرُوطُ التَّالِيَةُ:

39- الشَّرْطُ الْأَوَّلُ:

يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّمًا، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لقوله تعالى {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِأَبِي ثَعْلَبَةَ- رضي الله عنه-: «مَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرِ مُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ».

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ أَنَّهُ إِذَا أُرْسِلَ أَطَاعَ وَإِذَا زُجِرَ انْزَجَرَ.

وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ شَرْطًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ لَمْ يَأْكُلْ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِلاَّ أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ».

وَيُشْتَرَطُ هَذَا فِي جَارِحَةِ الطَّيْرِ- أَيْضًا- عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ، قِيَاسًا عَلَى جَارِحَةِ السِّبَاعِ، وَلَا يُشْتَرَطُ هَذَا الشَّرْطُ فِي جَارِحَةِ الطَّيْرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الضَّرْبَ لِتَتَعَلَّمَ تَرْكَ الْأَكْلِ، بِخِلَافِ الْكَلْبِ وَنَحْوِهِ، وَلِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: إِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ فَلَا تَأْكُلْ، وَإِنْ أَكَلَ الصَّقْرُ فَكُلْ.

وَإِنْ شَرِبَ الْكَلْبُ وَنَحْوُهُ دَمَ الصَّيْدِ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ لَمْ يَحْرُمْ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ تَكَرُّرُ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي التَّعْلِيمِ بِحَيْثُ يُظَنُّ تَأَدُّبُ الْجَارِحَةِ، وَلَا يَنْضَبِطُ ذَلِكَ بِعَدَدٍ، بَلِ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِالْجَوَارِحِ.

وَلَوْ ظَهَرَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الشُّرُوطِ كَوْنُهُ مُعَلَّمًا، ثُمَّ أَكَلَ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ لَمْ يَحِلَّ ذَلِكَ الصَّيْدُ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ، فَيُشْتَرَطُ تَعْلِيمٌ جَدِيدٌ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يُعْتَبَرُ تَكْرَارُ تَرْكِ الْأَكْلِ، بَلْ يَحْصُلُ التَّعْلِيمُ بِتَرْكِ الْأَكْلِ مَرَّةً، لِأَنَّهُ تَعَلَّمَ صَنْعَةً أَشْبَهَ سَائِرَ الصَّنَائِعِ، فَإِنْ أَكَلَ بَعْدَ تَعْلِيمِهِ لَمْ يَحْرُمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَيْدِهِ، لِعُمُومِ الْآيَةِ وَالْأَخْبَارِ، وَلَمْ يُبَحْ مَا أَكَلَ مِنْهُ، وَلَمْ يَخْرُجْ بِالْأَكْلِ عَنْ كَوْنِهِ مُعَلَّمًا، فَيُبَاحُ مَا صَادَهُ بَعْدَ الَّذِي أَكَلَ مِنْهُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عِصْيَانُ الْمُعَلَّمِ مَرَّةً لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُعَلَّمًا، كَمَا لَا يَكُونُ مُعَلَّمًا بِطَاعَتِهِ مَرَّةً، بَلِ الْعُرْفُ فِي ذَلِكَ كَافٍ.

وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: إِنَّ شَرْطَ الِانْزِجَارِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْبَازِي، لِأَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ بِالزَّجْرِ بَلْ رَجَّحَ بَعْضُهُمْ عَدَمَ اعْتِبَارِ الِانْزِجَارِ مُطْلَقًا، لِأَنَّ الْجَارِحَ لَا يَرْجِعُ بَعْدَ اسْتِيلَائِهِ.

وَقَالَ الصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ التَّعْلِيمَ فِي الْكَلْبِ وَنَحْوِهِ يَكُونُ بِتَرْكِ الْأَكْلِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَفِي الْبَازِي وَنَحْوِهِ مِنَ الطُّيُورِ بِالرُّجُوعِ إِذَا دُعِيَ، قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- .وَإِنَّمَا شَرَطَ تَرْكَ الْأَكْلِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.لِأَنَّ تَعَلُّمَهُ يُعْرَفُ بِتَكْرَارِ التَّجَارِبِ وَالِامْتِحَانِ.

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَثْبُتُ التَّعَلُّمُ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ أَنْ قَدْ تَعَلَّمَ، وَلَا يُقَدَّرُ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْمَقَادِيرَ تُعْرَفُ بِالنَّصِّ لَا بِالِاجْتِهَادِ.وَلَا نَصَّ هُنَا، فَيُفَوَّضُ إِلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى بِهِ، كَمَا هُوَ دَأْبُهُ، وَلِأَنَّ مُدَّةَ التَّعَلُّمِ تَخْتَلِفُ بِالْحَذَاقَةِ وَالْبَلَادَةِ، فَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: ظَاهِرُ الْمُلْتَقَى تَرْجِيحُ عَدَمِ التَّقْدِيرِ.

أَمَّا شُرْبُ الْجَارِحِ دَمَ الْمَصِيدِ فَلَا يَضُرُّ عِنْدَ الْجَمِيعِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


7-موسوعة الفقه الكويتية (طلاق 1)

طَلَاقٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الطَّلَاقُ فِي اللُّغَةِ: الْحَلُّ وَرَفْعُ الْقَيْدِ، وَهُوَ اسْمٌ مَصْدَرُهُ التَّطْلِيقُ، وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْمَصْدَرِ، وَأَصْلُهُ: طَلُقَتِ الْمَرْأَةُ تَطْلُقُ فَهِيَ طَالِقٌ بِدُونِ هَاءٍ، وَرُوِيَ بِالْهَاءِ (طَالِقَةٌ) إِذَا بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا، وَيُرَادِفُهُ الْإِطْلَاقُ، يُقَالُ: طَلَّقْتُ وَأَطْلَقْتُ بِمَعْنَى سَرَّحْتُ، وَقِيلَ: الطَّلَاقُ لِلْمَرْأَةِ إِذَا طَلُقَتْ، وَالْإِطْلَاقُ لِغَيْرِهَا إِذَا سُرِّحَ، فَيُقَالُ: طَلَّقْتُ الْمَرْأَةَ، وَأَطْلَقْتُ الْأَسِيرَ، وَقَدِ اعْتَمَدَ الْفُقَهَاءُ هَذَا الْفَرْقَ، فَقَالُوا: بِلَفْظِ الطَّلَاقِ يَكُونُ صَرِيحًا، وَبِلَفْظِ الْإِطْلَاقِ يَكُونُ كِنَايَةً.

وَجَمْعُ طَالِقٍ طُلَّقٌ، وَطَالِقَةٌ تُجْمَعُ عَلَى طَوَالِقَ، وَإِذَا أَكْثَرَ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ كَانَ مِطْلَاقًا وَمِطْلِيقًا، وَطَلِقَةً.وَالطَّلَاقُ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: رَفْعُ قَيْدِ النِّكَاحِ فِي الْحَالِ أَوِ الْمَآلِ بِلَفْظٍ مَخْصُوصٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ.

وَالْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ هُنَا: النِّكَاحُ الصَّحِيحُ خَاصَّةً، فَلَوْ كَانَ فَاسِدًا لَمْ يَصِحَّ فِيهِ الطَّلَاقُ، وَلَكِنْ يَكُونُ مُتَارَكَةً أَوْ فَسْخًا.

وَالْأَصْلُ فِي الطَّلَاقِ أَنَّهُ مِلْكُ الزَّوْجِ وَحْدَهُ، وَقَدْ يَقُومُ بِهِ غَيْرُهُ بِإِنَابَتِهِ، كَمَا فِي الْوَكَالَةِ وَالتَّفْوِيضِ، أَوْ بِدُونِ إِنَابَةٍ، كَالْقَاضِي فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ فِي تَعْرِيفِ الطَّلَاقِ نَقْلًا عَنِ التَّهْذِيبِ: تَصَرُّفٌ مَمْلُوكٌ لِلزَّوْجِ يُحْدِثُهُ بِلَا سَبَبٍ، فَيَقْطَعُ النِّكَاحَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْفَسْخُ:

2- الْفَسْخُ فِي اللُّغَةِ: النَّقْضُ وَالْإِزَالَةُ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: حَلُّ رَابِطَةِ الْعَقْدِ وَبِهِ تَنْهَدِمُ آثَارُ الْعَقْدِ وَأَحْكَامُهُ الَّتِي نَشَأَتْ عَنْهُ.

وَبِهَذَا يُقَارِبُ الطَّلَاقَ، إِلاَّ أَنَّهُ يُخَالِفُهُ فِي أَنَّ الْفَسْخَ نَقْضٌ لِلْعَقْدِ الْمُنْشِئِ لِهَذِهِ الْآثَارِ، أَمَّا الطَّلَاقُ فَلَا يَنْقُضُ الْعَقْدَ، وَلَكِنْ يُنْهِي آثَارَهُ فَقَطْ.

الْمُتَارَكَةُ:

3- الْمُتَارَكَةُ فِي اللُّغَةِ: الرَّحِيلُ وَالْمُفَارَقَةُ مُطْلَقًا، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ لِلْإِسْقَاطِ فِي الْمَعَانِي، يُقَالُ: تَرَكَ حَقَّهُ إِذَا أَسْقَطَهُ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: تَرْكُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، وَالتَّرْكُ بَعْدَ الدُّخُولِ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِالْقَوْلِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، كَقَوْلِهِ لَهَا: خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ، أَوْ تَرَكْتُكِ، وَكَذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الْأَصَحِّ.

وَالْمُتَارَكَةُ تُوَافِقُ الطَّلَاقَ مِنْ وَجْهٍ وَتُخَالِفُهُ مِنْ وَجْهٍ، تُوَافِقُهُ فِي حَقِّ إِنْهَاءِ آثَارِ النِّكَاحِ، وَفِي أَنَّهَا حَقُّ الرَّجُلِ وَحْدَهُ، وَتُخَالِفُهُ فِي أَنَّهَا لَا تُحْسَبُ عَلَيْهِ وَاحِدَةً، وَأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، وَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ، أَمَّا الطَّلَاقُ فَمَخْصُوصٌ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ.

الْخُلْعُ:

4- الْخُلْعُ فِي اللُّغَةِ: النَّزْعُ، وَخَالَعَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا مُخَالَعَةً وَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ إِذَا افْتَدَتْ مِنْهُ وَطَلَّقَهَا عَلَى الْفِدْيَةِ، وَالْمَصْدَرُ الْخَلْعُ، وَالْخُلْعُ اسْمٌ.وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: إِزَالَة

ُ مِلْكِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْخُلْعِ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مُقَابِلَ عِوَضٍ تَلْتَزِمُ بِهِ الزَّوْجَةُ أَوْ غَيْرُهَا لِلزَّوْجِ.وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُفْتَى بِهِ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ: إِلَى أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَشْهَرِ مَا يُرْوَى عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ فَسْخٌ.

التَّفْرِيقُ:

5- التَّفْرِيقُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ فَرَّقَ، وَفِعْلُهُ الثُّلَاثِيُّ فَرَقَ، يُقَالُ: فَرَقْتُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَيْ فَصَلْتُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ فِي الْمَعَانِي بِالتَّخْفِيفِ، يُقَالُ: فَرَقْتُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ، وَبِالتَّشْدِيدِ فِي الْأَعْيَانِ، يُقَالُ: فَرَّقْتُ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ، قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَالْخَطَّابِيُّ.وَقَالَ غَيْرُهُمَا: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالتَّشْدِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ.وَالتَّفْرِيقُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: إِنْهَاءُ الْعَلَاقَةِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِحُكْمِ الْقَاضِي بِنَاءً عَلَى طَلَبِ أَحَدِهِمَا لِسَبَبٍ، كَالشِّقَاقِ وَالضَّرَرِ وَعَدَمِ الْإِنْفَاقِ..أَوْ بِدُونِ طَلَبٍ مِنْ أَحَدٍ حِفْظًا لِحَقِّ الشَّرْعِ، كَمَا إِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ.

وَمَا يَقَعُ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي: طَلَاقٌ بَائِنٌ فِي أَحْوَالٍ، وَفَسْخٌ فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى، وَهُوَ طَلَاقٌ رَجْعِيٌّ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ.

الْإِيلَاءُ:

6- الْإِيلَاءُ فِي اللُّغَةِ الْحَلِفُ، مِنْ آلَى يُؤْلِي إِيلَاءً، يُجْمَعُ عَلَى أَلَايَا.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: حَلِفُ الزَّوْجِ عَلَى تَرْكِ قُرْبِ زَوْجَتِهِ مُدَّةً مَخْصُوصَةً.وَقَدْ حَدَّدَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فِي قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} فَإِذَا انْقَضَتِ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ بِغَيْرِ قُرْبٍ مِنْهُ لَهَا طَلُقَتْ مِنْهُ بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَاسْتَحَقَّتِ الطَّلَاقَ مِنْهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، حَيْثُ تَرْفَعُهُ الزَّوْجَةُ لِلْقَاضِي لِيُخَيِّرَهُ بَيْنَ الْقُرْبِ وَالْفِرَاقِ، فَإِنْ قَرِبَهَا انْحَلَّ الْإِيلَاءُ، وَإِنْ رَفَضَ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِطَلْقَةٍ.

اللِّعَانُ:

7- اللَّعْنُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ مِنَ الْخَيْرِ، وَالْمِسَبَّةُ، يُقَالُ: لَعَنَهُ لَعْنًا، وَلَاعَنَهُ مُلَاعَنَةً، وَلِعَانًا، وَتَلَاعَنُوا، إِذَا لَعَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: عَرَّفَهُ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: بِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الشَّهَادَاتِ بِالْأَلْفَاظِ الْمَعْرُوفَةِ.وَقَدْ سُمِّيَ بِاللِّعَانِ لِمَا فِي قَوْلِ الزَّوْجِ فِي الْأَيْمَانِ: إِنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَذَلِكَ وَفْقًا لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}.وَالتَّحْرِيمُ بَعْدَ اللِّعَانِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ يَكُونُ عَلَى التَّأْبِيدِ، أَمَّا الطَّلَاقُ فَلَيْسَ بِالضَّرُورَةِ كَذَلِكَ.

الظِّهَارُ:

8- الظِّهَارُ قَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: «أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي»، وَكَانَ عِنْدَ الْعَرَبِ ضَرْبًا مِنَ الطَّلَاقِ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: تَشْبِيهُ الْمُسْلِمِ زَوْجَتَهُ أَوْ جُزْءًا شَائِعًا مِنْهَا بِمُحَرَّمٍ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ كَأُمِّهِ وَأُخْتِهِ، بِخِلَافِ زَوْجَةِ الْغَيْرِ، فَإِنَّ حُرْمَتَهَا مُؤَقَّتَةٌ، وَيُسَمَّى الظِّهَارُ بِذَلِكَ لِمَا غَلَبَ عَلَى الْمُظَاهِرَيْنِ مِنَ التَّشْبِيهِ بِظَهْرِ الْمُحَرَّمِ، كَقَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ: «أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي» وَإِنْ كَانَ الظِّهَارُ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِالتَّشْبِيهِ بِالظَّهْرِ.

وَلَا تَفْرِيقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الظِّهَارِ، وَلَكِنْ يَحْرُمُ بِهِ الْوَطْءُ وَدَوَاعِيهِ حَتَّى يُكَفِّرَ الْمُظَاهِرُ، فَإِنْ كَفَّرَ حَلَّتْ لَهُ زَوْجَتُهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلطَّلَاقِ:

9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَصْلِ مَشْرُوعِيَّةِ الطَّلَاقِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا:

1- قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}.

2- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}.

3- قَوْلُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا أَحَلَّ اللَّهُ شَيْئًا أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّلَاقِ».

4- حَدِيثُ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- طَلَّقَ حَفْصَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا».

5- حَدِيثُ «ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي حَيْضِهَا، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِارْتِجَاعِهَا ثُمَّ طَلَاقِهَا بَعْدَ طُهْرِهَا، إِنْ شَاءَ».

6- إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ زَمَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ- لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ لِلطَّلَاقِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ الْإِبَاحَةُ، وَقَدْ يَخْرُجُ عَنْهَا فِي أَحْوَالٍ.

وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْحَظْرُ، وَيَخْرُجُ عَنِ الْحَظْرِ فِي أَحْوَالٍ.وَعَلَى كُلٍّ فَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ فِي النِّهَايَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعْتَرِيهِ الْأَحْكَامُ؛ فَيَكُونُ مُبَاحًا أَوْ مَنْدُوبًا أَوْ وَاجِبًا، كَمَا يَكُون مَكْرُوهًا أَوْ حَرَامًا وَذَلِكَ بِحَسَبِ الظُّرُوفِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي تُرَافِقُهُ، بِحَسَبِ مَا يَلِي: -

1- فَيَكُونُ وَاجِبًا كَالْمُولِي إِذَا أَبَى الْفَيْئَةَ إِلَى زَوْجَتِهِ بَعْدَ التَّرَبُّصِ، عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنَّهُمْ يُوقِعُونَ الْفُرْقَةَ بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ حُكْمًا، وَكَطَلَاقِ الْحَكَمَيْنِ فِي الشِّقَاقِ إِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِمَا التَّوْفِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَرَأَيَا الطَّلَاقَ، عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالتَّفْرِيقِ لِذَلِكَ.

2- وَيَكُونُ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ إِذَا فَرَّطَتِ الزَّوْجَةُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهَا- مِثْلِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا- وَكَذَلِكَ يُنْدَبُ الطَّلَاقُ لِلزَّوْجِ إِذَا طَلَبَتْ زَوْجَتُهُ ذَلِكَ لِلشِّقَاقِ.

3- وَيَكُونُ مُبَاحًا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِدَفْعِ سُوءِ خُلُقِ الْمَرْأَةِ وَسُوءِ عِشْرَتِهَا، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يُحِبُّهَا.

4- وَيَكُونُ مَكْرُوهًا إِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مِنْ دَاعٍ إِلَيْهِ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَقِيلَ: هُوَ حَرَامٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالزَّوْجَةِ مِنْ غَيْرِ دَاعٍ إِلَيْهِ.

5- وَيَكُونُ حَرَامًا وَهُوَ الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ، أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ الْبِدْعِيُّ، وَسَوْفَ يَأْتِي بَيَانُهُ.قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَاعْلَمْ أَنَّ الطَّلَاقَ مِنْ حَيْثُ هُوَ جَائِزٌ، وَقَدْ تَعْتَرِيهِ الْأَحْكَامُ الْأَرْبَعَةُ: مِنْ حُرْمَةٍ وَكَرَاهَةٍ، وَوُجُوبٍ وَنَدْبٍ.

حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الطَّلَاقِ:

10- لَقَدْ نَبَّهَ الْإِسْلَامُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ إِلَى حُسْنِ اخْتِيَارِ الشَّرِيكِ وَالشَّرِيكَةِ فِي الزَّوَاجِ عِنْدَ الْخِطْبَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- «تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ وَانْكِحُوا الْأَكْفَاءَ وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ».وَقَالَ: «لَا تَزَوَّجُوا النِّسَاءَ لِحُسْنِهِنَّ، فَعَسَى حُسْنُهُنَّ أَنْ يُرْدِيَهُنَّ، وَلَا تَزَوَّجُوهُنَّ لِأَمْوَالِهِنَّ فَلَعَلَّ أَمْوَالَهُنَّ أَنْ تُطْغِيَهُنَّ وَلَكِنْ تَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى الدِّينِ، وَلأَمَةٌ خَرْمَاءُ سَوْدَاءُ ذَاتُ دِينٍ، أَفْضَلُ» وَقَالَ: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك» «وَقَالَ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عِنْدَمَا خَطَبَ امْرَأَةً: انْظُرْ إِلَيْهَا؛ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا».وَقَالَ: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ»، وَقَالَ لِأَوْلِيَاءِ النِّسَاءِ: «إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ، إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ».

إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ- عَلَى أَهَمِّيَّتِهِ- قَدْ لَا يَضْمَنُ اسْتِمْرَارَ السَّعَادَةِ وَالِاسْتِقْرَارِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَرُبَّمَا قَصَّرَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي الْأَخْذِ بِمَا تَقَدَّمَ، وَرُبَّمَا أَخَذَا بِهِ، وَلَكِنْ جَدَّ فِي حَيَاةِ الزَّوْجَيْنِ الْهَانِئَيْنِ مَا يُثِيرُ بَيْنَهُمَا الْقَلَاقِلَ وَالشِّقَاقَ، كَمَرَضِ أَحَدِهِمَا أَوْ عَجْزِهِ وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ عَنَاصِرَ خَارِجَةٍ عَنِ الزَّوْجَيْنِ أَصْلًا، كَالْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ، وَرُبَّمَا كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ انْصِرَافَ الْقَلْبِ وَتَغَيُّرَهُ، فَيُبْدَأُ بِنُصْحِ الزَّوْجَيْنِ وَإِرْشَادِهِمَا إِلَى الصَّبْرِ وَالِاحْتِمَالِ، وَبِخَاصَّةٍ إِذَا كَانَ التَّقْصِيرُ مِنَ الزَّوْجَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}.

إِلاَّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الصَّبْرِ قَدْ لَا يَتَيَسَّرُ لِلزَّوْجَيْنِ أَوْ لَا يَسْتَطِيعَانِهِ، فَرُبَّمَا كَانَتْ أَسْبَابُ الشِّقَاقِ فَوْقَ الِاحْتِمَالِ، أَوْ كَانَا فِي حَالَةٍ نَفْسِيَّةٍ لَا تُسَاعِدُهُمَا عَلَى الصَّبْرِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالِ: إِمَّا أَنْ يَأْمُرَ الشَّرْعُ بِالْإِبْقَاءِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ مَعَ اسْتِمْرَارِ الشِّقَاقِ الَّذِي قَدْ يَتَضَاعَفُ وَيُنْتَجُ عَنْهُ فِتْنَةٌ، أَوْ جَرِيمَةٌ، أَوْ تَقْصِيرٌ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ عَلَى الْأَقَلِّ تَفْوِيتُ الْحِكْمَةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا شُرِعَ النِّكَاحُ، وَهِيَ الْمَوَدَّةُ وَالْأُلْفَةُ وَالنَّسْلُ الصَّالِحُ، وَإِمَّا أَنْ يَأْذَنَ بِالطَّلَاقِ وَالْفِرَاقِ، وَهُوَ مَا اتَّجَهَ إِلَيْهِ التَّشْرِيعُ الْإِسْلَامِيُّ، وَبِذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ يَتَمَحَّضُ طَرِيقًا لِإِنْهَاءِ الشِّقَاقِ وَالْخِلَافِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ؛ لِيَسْتَأْنِفَ الزَّوْجَانِ بَعْدَهُ حَيَاتَهُمَا مُنْفَرِدَيْنِ أَوْ مُرْتَبِطَيْنِ بِرَوَابِطَ زَوْجِيَّةٍ أُخْرَى، حَيْثُ يَجِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَنْ يَأْلَفُهُ وَيَحْتَمِلُهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا}

وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: بِوُجُوبِ الطَّلَاقِ فِي أَحْوَالٍ، وَبِنَدْبِهِ فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى- كَمَا تَقَدَّمَ- عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ، وَذَلِكَ تَقْدِيمًا لِلضَّرَرِ الْأَخَفِّ عَلَى الضَّرَرِ الْأَشَدِّ، وَفْقًا لِلْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ «يُخْتَارُ أَهْوَنُ الشَّرَّيْنِ».وَالْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ الْقَائِلَةُ: «الضَّرَرُ الْأَشَدُّ يُزَالُ بِالضَّرَرِ الْأَخَفِّ» وَيُسْتَأْنَسُ فِي ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ زَوْجَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنَّنِي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً».

مَنْ لَهُ حَقُّ الطَّلَاقِ:

11- الطَّلَاقُ: نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَرْقِ وَهُوَ مِلْكٌ لِلزَّوْجِ وَحْدَهُ، ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ يَمْلِكُ مُفَارَقَةَ زَوْجَتِهِ إِذَا وَجَدَ مَا يَدْعُوهُ إِلَى ذَلِكَ بِعِبَارَتِهِ وَإِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ، كَمَا تَمْلِكُ الزَّوْجَةُ طَلَبَ إِنْهَاءِ عَلَاقَتِهَا الزَّوْجِيَّةِ إِذَا وُجِدَ مَا يُبَرِّرُ ذَلِكَ، كَإِعْسَارِ الزَّوْجِ بِالنَّفَقَةِ، وَغَيْبَةِ الزَّوْجِ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابٍ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا تَوْسِعَةً وَتَضْيِيقًا، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ بِعِبَارَتِهَا، وَإِنَّمَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، إِلاَّ أَنْ يُفَوِّضَهَا الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ، فَإِنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ تَمْلِكُهُ بِقَوْلِهَا أَيْضًا.

فَإِذَا اتَّفَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى الْفِرَاقِ، جَازَ ذَلِكَ، وَهُوَ يَتِمُّ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى قَضَاءٍ، وَكَذَلِكَ الْقَاضِي، فَإِنَّ لَهُ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا قَامَ مِنَ الْأَسْبَابِ مَا يَدْعُوهُ لِذَلِكَ، حِمَايَةً لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا فِي رِدَّةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ- وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى- أَوْ إِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْمَجُوسِيَّيْنِ وَامْتِنَاعِ الْآخَرِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ..إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يُسَمَّى طَلَاقًا سِوَى الْأَوَّلِ الَّذِي يَكُونُ بِإِرَادَةِ الزَّوْجِ الْخَاصَّةِ وَعِبَارَتِهِ.وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ هَذَا حَقُّ الزَّوْجِ خَاصَّةً قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ».ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ الْمُطَلِّقَ لَا يُسْأَلُ عَنْ سَبَبِ الطَّلَاقِ عِنْدَ إِقْدَامِهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا:

1- حِفْظُ أَسْرَارِ الْأُسْرَةِ.

2- حِفْظُ كَرَامَةِ الزَّوْجَةِ وَسُمْعَتِهَا.

3- الْعَجْزُ عَنْ إِثْبَاتِ الْكَثِيرِ مِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّ غَالِبَ أَسْبَابِ الشِّقَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ تَكُونُ خَفِيَّةً يَصْعُبُ إِثْبَاتُهَا، فَإِذَا كَلَّفْنَاهُ بِذَلِكَ نَكُونُ قَدْ كَلَّفْنَاهُ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ أَوْ يُحْرِجُهُ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.

4- ثُمَّ إِنَّ فِي إِقْدَامِ الزَّوْجِ عَلَى الطَّلَاقِ وَتَحَمُّلِهِ الْأَعْبَاءَ الْمَالِيَّةَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَيْهِ، مِنْ مَهْرٍ مُؤَجَّلٍ، وَنَفَقَةٍ وَمُتْعَةٍ- عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِهَا- وَأُجْرَةِ حَضَانَةٍ لِلْأَوْلَادِ..لَقَرِينَةٌ كَافِيَةٌ عَلَى قِيَامِ أَسْبَابٍ مَشْرُوعَةٍ تَدْعُوهُ لِلطَّلَاقِ.

5- وَلِكَوْنِ الطَّلَاقِ مُبَاحًا أَصْلًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا تَقَدَّمَ، إِبَاحَةً مُطْلَقَةً عَنْ أَيِّ شَرْطٍ أَوْ قَيْدٍ.

مَحَلُّ الطَّلَاقِ:

12- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الطَّلَاقِ الزَّوْجَةُ فِي زَوْجِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، حَصَلَ فِيهَا دُخُولٌ أَمْ لَا، فَلَوْ كَانَ الزَّوَاجُ بَاطِلًا أَوْ فَاسِدًا، فَطَلَّقَهَا، لَمْ تَطْلُقْ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الزَّوَاجِ الصَّحِيحِ خَاصَّةً.وَهَلْ يُعَدُّ لَفْظُ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ مُتَارَكَةً؟ وَالْجَوَابُ: نَعَمْ، لَكِنْ لَا يَنْقُصُ بِهِ الْعَدَدُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ طَلَاقًا، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: طَلَّقَ الْمَنْكُوحَةَ فَاسِدًا ثَلَاثًا، لَهُ تَزَوُّجُهَا بِلَا مُحَلِّلٍ..لِكَوْنِ الطَّلَاقِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْفَاسِدِ، وَلِذَا كَانَ غَيْرَ مُنْقِصٍ لِلْعَدَدِ، بَلْ مُتَارَكَةً.وَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بَعْدَ الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ، لِانْعِدَامِ الزَّوْجِيَّةِ أَصْلًا.وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- إِلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ، حَتَّى لَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِزَوْجَتِهِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ لَهَا فِي عِدَّتِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، ثَانِيَةً، كَانَتَا طَلْقَتَيْنِ، مَا لَمْ يُرِدْ تَأْكِيدَ الْأُولَى، فَإِنْ أَرَادَ تَأْكِيدَ الْأُولَى لَمْ تَقَعِ الثَّانِيَةُ، مَا لَمْ تَكُنْ قَرَائِنُ الْحَالِ تَمْنَعُ صِحَّةَ إِرَادَةِ التَّأْكِيدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُنْهِي الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، بِدَلَالَةِ جَوَازِ رُجُوعِهِ إِلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ دُونَ عَقْدٍ جَدِيدٍ.أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ بَائِنًا وَالْمَفْسُوخُ زَوَاجُهَا إِذَا طَلَّقَهَا فِي عِدَّتِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهَا: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْبَيْنُونَةُ صُغْرَى أَمْ كُبْرَى، وَكَذَلِكَ الْمَفْسُوخُ زَوَاجُهَا، وَذَلِكَ لِانْقِضَاءِ النِّكَاحِ بِالْبَيْنُونَةِ وَالْفَسْخِ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُبَانَةَ بَيْنُونَةً صُغْرَى فِي عِدَّتِهَا زَوْجَةٌ مِنْ وَجْهٍ بِدَلَالَةِ جَوَازِ عَوْدِهَا إِلَى زَوْجِهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ أَثْنَاءَ الْعِدَّةِ، وَلَا يَجُوزُ زَوَاجُهَا مِنْ غَيْرِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهَا مَحَلٌّ لِصِحَّةِ الطَّلَاقِ عِنْدَهُمْ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ طَلَّقَ رَجُلٌ زَوْجَتَهُ الْمَدْخُولَ بِهَا بَائِنًا مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ طَلَّقَهَا أُخْرَى فِي عِدَّتِهَا كَانَتَا اثْنَتَيْنِ، هَذَا مَا لَمْ يَقْصِدْ تَأْكِيدَ الْأُولَى، فَإِنْ قَصَدَ تَأْكِيدَ الْأُولَى لَمْ تَقَعِ الثَّانِيَةُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ.

وَأَمَّا الْمَفْسُوخُ زَوَاجُهَا فَلَمْ يَرَ الْحَنَفِيَّةُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي عِدَّتِهَا إِذَا كَانَ سَبَبُ الْفَسْخِ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً، كَتَقْبِيلِهَا ابْنَ زَوْجِهَا بِشَهْوَةٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْحُرْمَةُ غَيْرَ مُؤَبَّدَةٍ كَانَتْ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ فِي أَحْوَالٍ، وَغَيْرَ مَحَلٍّ لَهُ فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ فَقَالَ: وَمَحَلُّهُ الْمَنْكُوحَةُ، أَيْ وَلَوْ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ أَوْ بَائِنٍ غَيْرِ ثَلَاثٍ فِي حُرَّةٍ وَثِنْتَيْنِ فِي أَمَةٍ، أَوْ عَنْ فَسْخٍ بِتَفْرِيقٍ لِإِبَاءِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْإِسْلَامِ أَوْ بِارْتِدَادِ أَحَدِهِمَا..بِخِلَافِ عِدَّةِ الْفَسْخِ بِحُرْمَةٍ مُؤَبَّدَةٍ كَتَقْبِيلِ ابْنِ الزَّوْجِ، أَوْ غَيْرِ مُؤَبَّدَةٍ، كَالْفَسْخِ بِخِيَارِ عِتْقٍ، وَبُلُوغٍ، وَعَدَمِ كَفَاءَةٍ، وَنُقْصَانِ مَهْرٍ، وَسَبْيِ أَحَدِهِمَا، وَمُهَاجَرَتِهِ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِيهَا كَمَا حَرَّرَهُ فِي الْبَحْرِ عَنِ الْفَتْحِ.

رُكْنُ الطَّلَاقِ:

13- رُكْنُ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الصِّيغَةُ الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَنْهُ.أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: فَإِنَّهُمْ يَتَوَسَّعُونَ فِي مَعْنَى الرُّكْنِ، وَيُدْخِلُونَ فِيهِ مَا يُسَمِّيهِ الْحَنَفِيَّةُ أَطْرَافَ التَّصَرُّفِ.وَالطَّلَاقُ بِالِاتِّفَاقِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ، فَرُكْنُ الطَّلَاقِ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ: الصِّيغَةُ الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَنْهُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لِلطَّلَاقِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ، هِيَ: أَهْلٌ، وَقَصْدٌ، وَمَحَلٌّ، وَلَفْظٌ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَرْكَانٌ خَمْسَةٌ: مُطَلِّقٌ، وَصِيغَةٌ، وَمَحَلٌّ، وَوِلَايَةٌ، وَقَصْدٌ.وَالْأَصْلُ فِي الصِّيغَةِ الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الطَّلَاقِ الْكَلَامُ، وَقَدْ يَنُوبُ عَنْهُ الْكِتَابَةُ أَوِ الْإِشَارَةُ، وَلَا يَنْعَقِدُ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَوْ نَوَى الطَّلَاقَ دُونَ لَفْظٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ لَمْ يَكُنْ مُطَلِّقًا، وَكَذَلِكَ إِذَا أَمَرَ زَوْجَتَهُ بِحَلْقِ شَعْرِهَا بِقَصْدِ الطَّلَاقِ، لَا يَكُونُ مُطَلِّقًا أَيْضًا.

شُرُوطُ الطَّلَاقِ:

14- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الطَّلَاقِ لَدَى الْفُقَهَاءِ شُرُوطٌ مُوَزَّعَةٌ عَلَى أَطْرَافِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثَةِ، فَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُطَلِّقِ، وَبَعْضُهَا بِالْمُطَلَّقَةِ، وَبَعْضُهَا بِالصِّيغَةِ، وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:

الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُطَلِّقِ:

يُشْتَرَطُ فِي الْمُطَلِّقِ لِيَقَعَ طَلَاقُهُ عَلَى زَوْجَتِهِ صَحِيحًا شُرُوطٌ، هِيَ:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ- أَنْ يَكُونَ زَوْجًا:

15- وَالزَّوْجُ: هُوَ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُطَلَّقَةِ عَقْدُ زَوَاجٍ صَحِيحٍ.

الشَّرْطُ الثَّانِي- الْبُلُوغُ:

16- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ وُقُوعِ طَلَاقِ الصَّغِيرِ مُمَيِّزًا أَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ، مُرَاهِقًا أَوْ غَيْرَ مُرَاهِقٍ، أُذِنَ لَهُ بِذَلِكَ أَمْ لَا، أُجِيزَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْوَلِيِّ أَمْ لَا، عَلَى سَوَاءٍ، ذَلِكَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ ضَرَرٌ مَحْضٌ، فَلَا يَمْلِكُهُ الصَّغِيرُ وَلَا يَمْلِكُهُ وَلِيُّهُ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ».وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ الطَّلَاقَ، فَقَالُوا: إِنَّ طَلَاقَهُ وَاقِعٌ عَلَى أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ.أَمَّا مَنْ لَا يَعْقِلُ فَوَافَقُوا الْجُمْهُورَ فِي أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ.قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَأَمَّا الصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا طَلَاقَ لَهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَعْقِلُ الطَّلَاقَ، وَيَعْلَمُ أَنَّ زَوْجَتَهُ تَبِينُ مِنْهُ بِهِ وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ: فَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ طَلَاقَهُ يَقَعُ، اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَالْخِرَقِيُّ وَابْنُ حَامِدٍ..وَرَوَى أَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ: لَا يَجُوزُ طَلَاقُهُ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ..وَرَوَى أَبُو الْحَارِثِ عَنْ أَحْمَدَ: إِذَا عَقَلَ الطَّلَاقَ جَازَ طَلَاقُهُ مَا بَيْنَ عَشْرٍ إِلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ لِدُونِ الْعَشْرِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، لِأَنَّ الْعَشْرَ حَدُّ الضَّرْبِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ، فَكَذَلِكَ هَذَا، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: إِذَا أَحْصَى الصَّلَاةَ وَصَامَ رَمَضَانَ جَازَ طَلَاقُهُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا بَلَغَ أَنْ يُصِيبَ النِّسَاءَ وَعَنِ الْحَسَنِ: إِذَا عَقَلَ وَحَفِظَ الصَّلَاةَ وَصَامَ رَمَضَانَ وَقَالَ إِسْحَاقُ: إِذَا جَاوَزَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ- الْعَقْلُ:

17- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ طَلَاقِ الْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ لِفِقْدَانِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ فِي الْأَوَّلِ، وَنُقْصَانِهَا فِي الثَّانِي، فَأَلْحَقُوهُمَا بِالصَّغِيرِ غَيْرِ الْبَالِغِ، فَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُمَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ.

وَهَذَا فِي الْجُنُونِ الدَّائِمِ الْمُطْبِقِ، أَمَّا الْجُنُونُ الْمُتَقَطِّعُ فَإِنَّ حُكْمَ طَلَاقِ الْمُبْتَلَى بِهِ مَنُوطٌ بِحَالِهِ عِنْدَ الطَّلَاقِ، فَإِنْ طَلَّقَ وَهُوَ مَجْنُونٌ لَمْ يَقَعْ، وَإِنْ طَلَّقَ فِي إِفَاقَتِهِ وَقَعَ لِكَمَالِ أَهْلِيَّتِهِ.وَقَدْ أَلْحَقَ الْفُقَهَاءُ بِالْمَجْنُونِ النَّائِمَ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمُبَرْسَمَ وَالْمَدْهُوشَ، وَذَلِكَ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ لَدَيْهِمْ وَلِحَدِيثِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ...» وَحَدِيثِ: «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ».

18- وَأَمَّا السَّكْرَانُ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِسُكْرِهِ، كَمَا إِذَا سَكِرَ مُضْطَرًّا، أَوْ مُكْرَهًا أَوْ بِقَصْدِ الْعِلَاجِ الضَّرُورِيِّ إِذَا تَعَيَّنَ بِقَوْلِ طَبِيبٍ مُسْلِمٍ ثِقَةٍ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مُسْكِرٌ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ بِالِاتِّفَاقِ، لِفِقْدَانِ الْعَقْلِ لَدَيْهِ كَالْمَجْنُونِ دُونَ تَعَدٍّ، هَذَا إِذَا غَابَ عَقْلُهُ أَوِ اخْتَلَّتْ تَصَرُّفَاتُهُ، وَإِلاَّ وَقَعَ طَلَاقُهُ.

وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا بِسُكْرِهِ، كَأَنْ شَرِبَ الْخَمْرَةَ طَائِعًا بِدُونِ حَاجَةٍ، وَقَعَ طَلَاقُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ رَغْمَ غِيَابِ عَقْلِهِ بِالسُّكْرِ، وَذَلِكَ عِقَابًا لَهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدٍ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَغَيْرِهِمْ.

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَيْنِ: الْأُولَى: بِوُقُوعِ طَلَاقِهِ كَالْجُمْهُورِ، اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ الْخَلاَّلُ وَالْقَاضِي.وَالثَّانِيَةُ: بِعَدَمِ وُقُوعِ طَلَاقِهِ، اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا اخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ وَالْكَرْخِيُّ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْقَاسِمِ، وَطَاوُسٍ، وَرَبِيعَةَ، وَغَيْرِهِمْ.

وَقَدِ اسْتُدِلَّ لِمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ جَعَلُوا السَّكْرَانَ كَالصَّاحِي فِي الْحَدِّ بِالْقَذْفِ.

كَمَا اسْتُدِلَّ لِعَدَمِ وُقُوعِ طَلَاقِهِ بِأَنَّهُ فَاقِدُ الْعَقْلِ كَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ، وَبِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ زَوَالِ الْعَقْلِ بِمَعْصِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ كُسِرَ سَاقَيْهِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا، وَأَنَّ امْرَأَةً لَوْ ضَرَبَتْ بَطْنَ نَفْسِهَا فَنَفِسَتْ، سَقَطَتْ عَنْهَا الصَّلَاةُ.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ- الْقَصْدُ وَالِاخْتِيَارُ:

19- الْمُرَادُ بِهِ هُنَا: قَصْدُ اللَّفْظِ الْمُوجِبِ لِلطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ إِجْبَارٍ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ طَلَاقِ الْهَازِلِ، وَهُوَ: مَنْ قَصَدَ اللَّفْظَ، وَلَمْ يَرِدْ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ» وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ ذُو خَطَرٍ كَبِيرٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَحَلَّهُ الْمَرْأَةُ، وَهِيَ إِنْسَانٌ، وَالْإِنْسَانُ أَكْرَمُ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ فِي أَمْرِهِ الْهَزْلُ، وَلِأَنَّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ لِلَّفْظِ الَّذِي رَبَطَ الشَّارِعُ بِهِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِوُجُودِهِ مُطْلَقًا.

أَمَّا الْمُخْطِئُ، وَالْمُكْرَهُ، وَالْغَضْبَانُ، وَالسَّفِيهُ، وَالْمَرِيضُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ طَلَاقِهِمْ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي.

أ- الْمُخْطِئُ:

20- الْمُخْطِئُ هُنَا: مَنْ لَمْ يَقْصِدِ التَّلَفُّظَ بِالطَّلَاقِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا قَصَدَ لَفْظًا آخَرَ، فَسَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، كَأَنْ يُرِيدَ أَنْ يَقُولَ لِزَوْجَتِهِ: يَا جَمِيلَةُ، فَإِذَا بِهِ يَقُولُ لَهَا خَطَأً: يَا طَالِقُ وَهُوَ غَيْرُ الْهَازِلِ، لِأَنَّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ لِلَفْظِ الطَّلَاقِ، إِلاَّ أَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلْفُرْقَةِ بِهِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ طَلَاقِ الْمُخْطِئِ.

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ وُقُوعِ طَلَاقِهِ قَضَاءً وَدِيَانَةً، هَذَا إِذَا ثَبَتَ خَطَؤُهُ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ خَطَؤُهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ قَضَاءً، وَلَمْ يَقَعْ دِيَانَةً، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَلَا يُقَاسُ حَالُهُ عَلَى الْهَازِلِ؛ لِأَنَّ الْهَازِلَ ثَبَتَ وُقُوعُ طَلَاقِهِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالْحَدِيثِ الشَّرِيفِ الْمُتَقَدِّمِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُقَاسُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ طَلَاقَ الْمُخْطِئِ وَاقِعٌ قَضَاءً، ثَبَتَ خَطَؤُهُ أَمْ لَا، وَلَا يَقَعُ دِيَانَةً، وَذَلِكَ لِخُطُورَةِ مَحَلِّ الطَّلَاقِ، وَهُوَ الْمَرْأَةُ، وَلِأَنَّ فِي عَدَمِ إِيقَاعِ طَلَاقِهِ فَتْحَ بَابِ الِادِّعَاءِ بِذَلِكَ بِغَيْرِ حَقٍّ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَهُوَ خَطِيرٌ، وَذَرِيعَةٌ يَجِبُ سَدُّهَا.

ب- الْمُكْرَهُ:

21- الْإِكْرَاهُ هُنَا مَعْنَاهُ: حَمْلُ الزَّوْجِ عَلَى الطَّلَاقِ بِأَدَاةٍ مُرْهِبَةٍ.

وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ وُقُوعِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ إِذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ شَدِيدًا، كَالْقَتْلِ، وَالْقَطْعِ، وَالضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ» وَلِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَلِأَنَّهُ مُنْعَدِمُ الْإِرَادَةِ وَالْقَصْدِ، فَكَانَ كَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ، فَإِذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ ضَعِيفًا، أَوْ ثَبَتَ عَدَمُ تَأَثُّرِ الْمُكْرَهِ بِهِ، وَقَعَ طَلَاقُهُ لِوُجُودِ الِاخْتِيَارِ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى وُقُوعِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ لَهُ بِدَفْعِ غَيْرِهِ عَنْهُ بِهِ، فَوَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ الِاخْتِيَارِ.وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْإِكْرَاهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ بِحَقٍّ، كَالْمُولِي إِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ بِدُونِ فَيْءٍ فَأَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى الطَّلَاقِ فَطَلَّقَ، فَإِنَّهُ يَقَعُ بِالْإِجْمَاعِ.

ج- الْغَضْبَانُ:

22- الْغَضَبُ: حَالَةٌ مِنْ الِاضْطِرَابِ الْعَصَبِيِّ، وَعَدَمِ التَّوَازُنِ الْفِكْرِيِّ، تَحِلُّ بِالْإِنْسَانِ إِذَا عَدَا عَلَيْهِ أَحَدٌ بِالْكَلَامِ أَوْ غَيْرِهِ.وَالْغَضَبُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي صِحَّةِ تَصَرُّفَاتِ الْإِنْسَانِ الْقَوْلِيَّةِ، وَمِنْهَا الطَّلَاقُ، إِلاَّ أَنْ يَصِلَ الْغَضَبُ إِلَى دَرَجَةِ الدَّهَشِ، فَإِنْ وَصَلَ إِلَيْهَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ، لِأَنَّهُ يُصْبِحُ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.وَالْمَدْهُوشُ هُوَ: مَنْ غَلَبَ الْخَلَلُ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ الْخَارِجَةِ عَنْ عَادَتِهِ بِسَبَبِ غَضَبٍ اعْتَرَاهُ.

وَقَسَّمَ ابْنُ الْقَيِّمِ الْغَضَبَ أَقْسَامًا ثَلَاثَةً نَقَلَهَا عَنْهُ ابْنُ عَابِدِينَ وَعَلَّقَ عَلَيْهَا فَقَالَ: طَلَاقُ الْغَضْبَانِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مَبَادِئُ الْغَضَبِ بِحَيْثُ لَا يَتَغَيَّرُ عَقْلُهُ، وَيَعْلَمُ مَا يَقُولُ وَيَقْصِدُهُ، وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ.

الثَّانِي: أَنْ يَبْلُغَ النِّهَايَةَ، فَلَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ وَلَا يُرِيدُهُ، فَهَذَا لَا رَيْبَ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِهِ.

الثَّالِثُ: مَنْ تَوَسَّطَ بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ بِحَيْثُ لَمْ يَصِرْ كَالْمَجْنُونِ، فَهَذَا مَحَلُّ النَّظَرِ وَالْأَدِلَّةُ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ نُفُوذِ أَقْوَالِهِ.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَدْهُوشِ وَالْغَضْبَانِ لَا يَلْزَمُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ، بَلْ يُكْتَفَى فِيهِ بِغَلَبَةِ الْهَذَيَانِ وَاخْتِلَاطِ الْجِدِّ بِالْهَزْلِ كَمَا هُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي السَّكْرَانِ..ثُمَّ قَالَ: فَاَلَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي الْمَدْهُوشِ وَنَحْوِهِ: إِنَاطَةُ الْحُكْمِ بِغَلَبَةِ الْخَلَلِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ الْخَارِجَةِ عَنْ عَادَتِهِ، فَمَا دَامَ فِي حَالِ غَلَبَةِ الْخَلَلِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ لَا تُعْتَبَرُ أَقْوَالُهُ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُهَا وَيُرِيدُهَا، لِأَنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ وَالْإِرَادَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِعَدَمِ حُصُولِهَا عَنْ إِدْرَاكٍ صَحِيحٍ كَمَا لَا تُعْتَبَرُ مِنَ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ.

د- السَّفِيهُ:

23- السَّفَهُ: خِفَّةٌ فِي الْعَقْلِ تَدْعُو إِلَى التَّصَرُّفِ بِالْمَالِ عَلَى غَيْرِ وَفْقِ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ.وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُقُوعِ طَلَاقِ السَّفِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ مَالِكٌ لِمَحَلِّ الطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ السَّفَهَ مُوجِبٌ لِلْحَجْرِ فِي الْمَالِ خَاصَّةً، وَهَذَا تَصَرُّفٌ فِي النَّفْسِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَإِنْ نَشَأَ عَنْ طَلَاقِ السَّفِيهِ آثَارٌ مَالِيَّةٌ كَالْمَهْرِ فَهِيَ تَبَعٌ لَا أَصْلٌ.

وَخَالَفَ عَطَاءٌ، وَقَالَ بِعَدَمِ وُقُوعِ طَلَاقِ السَّفِيهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


8-موسوعة الفقه الكويتية (عاهة 1)

عَاهَة -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْعَاهَةُ لُغَةً: الْآفَةُ، يُقَالُ: عِيهَ الزَّرْعُ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ- فَهُوَ مَعْيُوهٌ.

وَعَاهَ الْمَالُ يَعِيهِ: أَصَابَتْهُ الْعَاهَةُ- أَيِ الْآفَةُ- وَأَرْضٌ مَعْيُوهَةٌ: ذَاتُ عَاهَةٍ، وَأَعَاهُوا وَأَعْوَهُوا وَعَوَّهُوا: أَصَابَتْ مَاشِيَتَهُمْ أَوْ زَرْعَهُمُ الْعَاهَةُ.

وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَى الْعَاهَةِ الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْمَرَضُ:

2- الْمَرَضُ فِي اللُّغَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ: السَّقَمُ نَقِيضُ الصِّحَّةِ، وَقَالَ الْفَيُّومِيُّ: الْمَرَضُ حَالَةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الطَّبْعِ ضَارَّةٌ بِالْفِعْلِ، وَالْآلَامُ وَالْأَوْرَامُ أَعْرَاضٌ عَنِ الْمَرَضِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: مَا يَعْرِضُ لِلْبَدَنِ.

فَيُخْرِجُهُ عَنْ حَالَةِ الِاعْتِدَالِ الْخَاصِّ.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْمَرَضِ وَالْعَاهَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، يَجْتَمِعَانِ فِيمَا نَزَلَ بِالْإِنْسَانِ مِنِ اضْطِرَابِ شَأْنِهِ أَنَّهُ يَزُولُ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي شَخْصِهِ أَمْ كَانَ فِي الْمَالِ، يَقُولُ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ: أَمْرَضَ الرَّجُلُ إِذَا وَقَعَ فِي مَالِهِ عَاهَةٌ.

وَتَنْفَرِدُ الْعَاهَةُ بِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَبْقَى، كَالْأَقْطَعِ فِي حَدٍّ مَثَلًا، فَهِيَ عَاهَةٌ لَيْسَتْ بِسَبَبِ مَرَضٍ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَحْكَامُهَا فِي الشَّرِيعَةِ.

ب- الْعَيْبُ:

3- الْعَيْبُ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى: الشَّيْنِ، وَبِمَعْنَى الْوَصْمَةِ، وَبِمَعْنَى الْعَاهَةِ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَعْنَى الْأَخِيرِ كَثِيرًا، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْإِنْسَانِ أَمِ الْحَيَوَانِ أَمِ الزَّرْعِ أَمْ غَيْرِهَا.

فَالْعَيْبُ أَعَمُّ مِنَ الْعَاهَةِ.

ج- الْجَائِحَةُ:

4- الْجَائِحَةُ: كُلُّ شَيْءٍ لَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ لَوْ عُلِمَ بِهِ كَسَمَاوِيٍّ كَالْبَرْدِ وَالْحَرِّ وَالْجَرَادِ وَالْمَطَرِ

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْعَاهَةِ وَالْجَائِحَةِ عَلَاقَةُ الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ، فَالْجَائِحَةُ سَبَبٌ لِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْعَاهَاتِ وَلَيْسَتْ هِيَ الْعَاهَةُ ذَاتُهَا.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَاهَةِ:

الْعَاهَةُ وَأَثَرُهَا فِي أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ:

أَوَّلًا: اسْتِعَانَةُ مَنْ بِهِ عَاهَةٌ بِمَنْ يَصُبُّ عَلَيْهِ

كَالْأَقْطَعِ وَالْأَشَلِّ:

5- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ بِهِ عَاهَةٌ تَمْنَعُهُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ بِنَفْسِهِ، كَالْأَقْطَعِ وَالْأَشَلِّ، وَوَجَدَ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ لِلْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ مُتَبَرِّعًا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِعَانَةُ.

كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ بِأُجْرَةِ مِثْلٍ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا، لَزِمَهُ الِاسْتِعَانَةُ، إِلاَّ مَا قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ كَمَا لَوْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْجَارُ مَنْ يُقِيمُهُ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلِ اسْتِعَانَةِ ذِي الْعَاهَةِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ.

6- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِعَانَةِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الِاسْتِعَانَةِ، فَهُوَ عَاجِزٌ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَيَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ لِتَحَقُّقِ عَجْزِهِ عَنِ الْوُضُوءِ، وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: إِنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ.

وَيُفَرِّقُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بَيْنَهُمَا حَيْثُ قَالَ: إِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُعِينُهُ فِي الْوُضُوءِ مِنَ الْخَدَمِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ فِي الْحَضَرِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعَ الْيَدِ.

وَوَجْهُهُ: أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ فِي الْحَضَرِ يَجِدُ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ مِنْ بَعِيدٍ، وَالْعَجْزُ بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُوَضِّئُهُ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ.

أَمَّا مَنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ فِي الْوُضُوءِ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى، فَفِي إِعَادَةِ الصَّلَاةِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُعِيدُ وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَيَنْقُلُ الْعَدَوِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُعِيدُ إِذَا تَمَكَّنَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي الْوَقْتِ.

ثَانِيهُمَا: أَنَّهُ يُعِيدُ الصَّلَاةَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ، أَوْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَقَاسَهُ الشِّيرَازِيُّ عَلَى فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ وَعِبَارَتُهُ: وَإِنْ لَمْ يَقْدِرِ الْأَقْطَعُ عَلَى الْوُضُوءِ وَوَجَدَ مَنْ يُوَضِّئُهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ لَزِمَهُ، كَمَا يَلْزَمُهُ شِرَاءُ الْمَاءِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَلَّى وَأَعَادَ، كَمَا لَوْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا.

وَمَنْ لَمْ يَجِدْ مُعِينًا يُعِينُهُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ أَوِ التُّرَابِ فَإِنَّهُ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ.

ثَانِيًا: غُسْلُ مَكَانِ الْقَطْعِ مِنَ الْأَقْطَعِ:

7- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا كَانَ عَلَى طَهَارَةٍ وَقُطِعَ مِنْهُ عُضْوٌ أَوْ شَعْرٌ أَوْ ظُفْرٌ لَا يَلْزَمُهُ غُسْلُ مَا ظَهَرَ، إِلاَّ إِذَا أَرَادَ ابْتِدَاءَ طَهَارَةٍ جَدِيدَةٍ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ قَدْ سَقَطَ بِغُسْلِهِ أَوْ مَسْحِهِ فَلَا يَعُودُ بِزَوَالِهِ، كَمَا إِذَا مَسَحَ وَجْهَهُ فِي التَّيَمُّمِ أَوْ غَسَلَهُ فِي الْوُضُوءِ ثُمَّ قُطِعَ أَنْفُهُ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُعِيدُ الطَّهَارَةَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا قُطِعَ مَحَلُّ الْفَرْضِ بِكَمَالِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ.

وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ وَجَبَ غُسْلُهُ إِذَا كَانَ مِمَّا يُغْسَلُ وَمَسْحُهُ إِذَا كَانَ مِمَّا يُمْسَحُ.

وَلَكِنْ هَلْ يَدْخُلُ عَظْمُ الْمَرْفِقِ بِتَمَامِهِ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ؟ وَهَلْ يَدْخُلُ عَظْمُ الْكَعْبَيْنِ كَذَلِكَ؟

8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَيَمَّمَ وَهُوَ مَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ مِنَ الْمَرْفِقَيْنِ فَعَلَيْهِ مَسْحُ مَوْضِعِ الْقَطْعِ مِنَ الْمَرْفِقِ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ مِنْ فَوْقِ الْمَرْفِقِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَسْحُهُ، فَإِنَّ مَا فَوْقَ الْمَرْفِقِ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِلطَّهَارَةِ، وَيَنُصُّ الْمَرْغِينَانِيُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْفِقَيْنِ وَالْكَعْبَيْنِ يَدْخُلَانِ فِي الْغُسْلِ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ أَنَّهُ إِنْ فَكَّ عِظَامَ الْمَرْفِقِ فَأَصْبَحَ عَظْمُ الذِّرَاعِ مُنْفَصِلًا عَنْ عَظْمِ الْعَضُدِ، وَجَبَ غَسْلُ رَأْسِ الْعَضُدِ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَمُقَابِلُهُ يَقُولُ: لَا، وَإِنَّمَا وَجَبَ غَسْلُهُ حَالَةَ الِاتِّصَالِ لِضَرُورَةِ غَسْلِ الْمَرْفِقِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِالْوُجُوبِ، وَصَحَّحَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَرْفِقَيْنِ وَالْكَعْبَيْنِ تَبَعًا لِنَصِّ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ قُطِعَتْ رِجْلَاهُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ: إِذَا تَوَضَّأَ غَسَلَ مَا بَقِيَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ وَغَسَلَ مَوْضِعَ الْقَطْعِ أَيْضًا.

وَقَالَ سَحْنُونٌ لِابْنِ الْقَاسِمِ: أَيَبْقَى مِنَ الْكَعْبَيْنِ شَيْءٌ؟ قَالَ نَعَمْ، إِنَّمَا يُقْطَعُ مِنْ تَحْتِ الْكَعْبَيْنِ.

وَيَسْأَلُ سَحْنُونٌ ابْنَ الْقَاسِمِ فَيَقُولُ: فَإِنْ هُوَ قُطِعَتْ يَدَاهُ مِنَ الْمَرْفِقَيْنِ، أَيَغْسِلُ مَا بَقِيَ مِنَ الْمَرْفِقَيْنِ، وَيَغْسِلُ مَوْضِعَ الْقَطْعِ؟ قَالَ: لَا يَغْسِلُ مَوْضِعَ الْقَطْعِ وَلَمْ يَبْقَ مِنَ الْمَرْفِقَيْنِ شَيْءٌ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ شَيْئًا مِنْ يَدَيْهِ إِذَا قُطِعَتَا مِنَ الْمَرْفِقِ لِأَنَّ الْقَطْعَ قَدْ أَتَى عَلَى جَمِيعِ الذِّرَاعَيْنِ، وَلِأَنَّ الْمَرْفِقَيْنِ فِي الذِّرَاعَيْنِ فَلَمَّا ذَهَبَ الْمَرْفِقَانِ مَعَ الذِّرَاعَيْنِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ مَوْضِعَ الْقَطْعِ.

ثَالِثًا: الْأَعْضَاءُ الزَّائِدَةُ:

9- الْأَعْضَاءُ الزَّائِدَةُ يَجِبُ غَسْلُهَا فِي رَفْعِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ لِجَنَابَةٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَكَذَا فِي الْغَسْلِ الْمَسْنُونِ، وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.

أَمَّا غَسْلُهَا أَوْ مَسْحُهَا فِي رَفْعِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ: فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ خُلِقَ لَهُ عُضْوَانِ مُتَمَاثِلَانِ كَالْيَدَيْنِ عَلَى مَنْكِبٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُمْكِنْ تَمْيِيزُ الزَّائِدَةِ مِنَ الْأَصْلِيَّةِ، وَجَبَ غَسْلُهُمَا جَمِيعًا لِلْأَمْرِ بِهِ فِي قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}.

أَمَّا إِذَا أَمْكَنَ تَمْيِيزُ الزَّائِدَةِ مِنَ الْأَصْلِيَّةِ، وَجَبَ غَسْلُ الْأَصْلِيَّةِ بِاتِّفَاقٍ وَكَذَا الزَّائِدَةُ إِذَا نَبَتَتْ عَلَى مَحَلِّ الْفَرْضِ.

أَمَّا إِذَا نَبَتَتْ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ وَلَمْ تُحَاذِ مَحَلَّ الْفَرْضِ فَالِاتِّفَاقُ وَاقِعٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ غَسْلِهَا فِي الْوُضُوءِ وَلَا مَسْحِهَا فِي التَّيَمُّمِ.

أَمَّا إِذَا كَانَتِ الزَّائِدَةُ نَابِتَةً فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ وَحَاذَتْ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا مَحَلَّ الْفَرْضِ، فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ يُوجِبُونَ غَسْلَ مَا حَاذَى مَحَلَّ الْفَرْضِ مِنْهَا أَوْ كُلَّهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا كَانَ لَهَا مِرْفَقٌ أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَهُمْ فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَعَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يَعْلَى، وَالثَّانِي: قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ وَابْنِ عَقِيلٍ: إِنَّ النَّابِتَةَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ لَا يَجِبُ غَسْلُهَا، قَصِيرَةً أَوْ طَوِيلَةً، لِأَنَّهَا أَشْبَهَتْ شَعْرَ الرَّأْسِ إِذَا نَزَلَ عَنْ حَدِّ الْوَجْهِ، وَرَجَّحَهُ الْفَتُوحِيُّ، حَيْثُ قَالَ: فِيمَا يَجِبُ غَسْلُهُ مِنْهُمَا: وَيَدٌ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَلَمْ تَتَمَيَّزْ.

الْجِلْدَةُ الَّتِي كُشِطَتْ:

10- إِذَا كُشِطَتِ الْجِلْدَةُ وَانْفَصَلَتْ عَنِ الْجِسْمِ عُومِلَ مَا ظَهَرَ مِنَ الْجِسْمِ بَعْدَ كَشْطِهَا مُعَامَلَةَ الظَّاهِرِ مُطْلَقًا.

أَمَّا إِذَا كُشِطَتْ وَبَقِيَتْ مُتَعَلِّقَةً مُتَّصِلَةً بِالْجِسْمِ، فَفِي الْغَسْلِ يَجِبُ غَسْلُهَا، وَتُعَامَلُ كَسَائِرِ الْبَشَرَةِ.

أَمَّا فِي الْوُضُوءِ فَإِنْ تَقَلَّعَ الْجِلْدُ مِنَ الذِّرَاعِ وَتَدَلَّى مِنْهَا لَزِمَ الْمُكَلَّفَ غَسْلُهُ مَعَ غَسْلِ الْيَدِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ فَأَشْبَهَ الْأُصْبُعَ الزَّائِدَةَ.

وَإِنْ تَقَلَّعَ مِنَ الذِّرَاعِ وَبَلَغَ التَّقَلُّعُ الْعَضُدَ ثُمَّ تَدَلَّى مِنْهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ غَسْلُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِنَ الْعَضُدِ.

وَإِنْ تَقَلَّعَ مِنَ الْعَضُدِ، وَبَلَغَ التَّقَلُّعُ إِلَى الذِّرَاعِ ثُمَّ تَدَلَّى مِنْهُ، لَزِمَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِنَ الذِّرَاعِ فَهُوَ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ.وَإِنْ تَقَلَّعَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْتَحَمَ بِالْآخَرِ، لَزِمَهُ غَسْلُ مَا حَاذَى مَحَلَّ الْفَرْضِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْجِلْدِ الَّذِي عَلَى الذِّرَاعِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُتَجَافِيًا عَنْ ذِرَاعِهِ لَزِمَهُ غَسْلُ مَا تَحْتَهُ مَعَ غَسْلِهِ.

رَابِعًا: الْأَصَابِعُ الْمُلْتَفَّةُ وَنَحْوُهَا:

11- إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَصَابِعُ الْمُلْتَفَّةُ يَصِلُ الْمَاءُ إِلَى بَاطِنِهَا فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَقُولُونَ: إِنَّ تَخْلِيلَ الْأَصَابِعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ سُنَّةً سَوَاءٌ أَصَابِعُ الْيَدَيْنِ أَوْ أَصَابِعُ الرِّجْلَيْنِ.

وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا بِوُجُوبِ تَخْلِيلِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَبِوُجُوبِ تَخْلِيلِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ عَلَى الرَّاجِحِ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ أَنَّ تَخْلِيلَ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ سُنَّةٌ.

أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْأَصَابِعُ الْمُلْتَفَّةُ لَا يَصِلُ الْمَاءُ إِلَى بَاطِنِهَا إِلاَّ بِالتَّخْلِيلِ وَجَبَ التَّخْلِيلُ عِنْدَ الْجَمِيعِ.

فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَصَابِعُ مُلْتَصِقَةً وَمُلْتَحِمَةً فَلَا يَجُوزُ فَتْقُهَا لِتُخَلَّلٍ، بَلْ يَحْرُمُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَضَرَّةٌ، وَقَدْ صَارَتْ كَالْأُصْبُعِ الْوَاحِدَةِ.

خَامِسًا: سَلَسُ الْبَوْلِ وَنَحْوُ:

12- مَنْ عَاهَتُهُ سَلَسُ بَوْلٍ وَنَحْوُهُ كَاسْتِحَاضَةٍ وَسَلَسِ مَذْيٍ وَخُرُوجِ رِيحٍ دَائِمٍ وَنَاصُورٍ وَبَاسُورٍ وَغَيْرِهَا مِنَ الْجُرُوحِ الدَّائِمَةِ الْفَوَرَانِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (سَلَس ف 5، وَاسْتِحَاضَة ف 30).

سَادِسًا: الْخَارِجُ مِنْ فَتْحَةٍ قَامَتْ مَقَامَ السَّبِيلَيْنِ:

13- إِذَا كَانَتِ الْعَاهَةُ تَتَمَثَّلُ فِي فَتْحَةِ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، يَخْرُجُ مِنْهَا مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ أَوْ دَمٍ أَوْ دُودٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُعْتَادٌ أَوْ غَيْرُ مُعْتَادٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ.

فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: قَصَرُوا التَّعْمِيمَ بِالْقَوْلِ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا بَيْنَهُمْ وَهِيَ مَا إِذَا انْسَدَّ الْمَخْرَجُ الْأَصْلِيُّ وَكَانَتِ الْفَتْحَةُ تَحْتَ السُّرَّةِ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ مَخْرَجٍ تَخْرُجُ مِنْهُ هَذِهِ الْفَضَلَاتُ، فَأُقِيمَ الْمُنْفَتِحُ تَحْتَ السُّرَّةِ مَكَانَ الْمَخْرَجِ وَهُوَ الْقُبُلُ وَالدُّبُرُ، فَأَخَذَ الْخَارِجُ مِنْ هَذَا الْمَخْرَجِ حُكْمَ الْخَارِجِ مِنْهُمَا فَنُقِضَ الْوُضُوءُ قَوْلًا وَاحِدًا.

أَمَّا مَا عَدَا هَذِهِ الصُّورَةَ فَلَهُمْ فِيهَا خِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَوَاقِضُ الْوُضُوءِ).

وَالْحَنَفِيَّةُ عَمَّمُوا الْقَوْلَ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ مِنْ كُلِّ خَارِجٍ نَجِسٍ، سَوَاءٌ خَرَجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِمَا بِشُرُوطِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَنْفَذًا مُنْفَتِحًا كَالْآنِفِ وَالْفَمِ أَمْ لَمْ يَكُنْ، كَالْفَتْحَةِ تَحْتَ السُّرَّةِ أَمْ فَوْقَهَا، حَيْثُ قَاسُوا مَا خَرَجَ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ عَلَى الْخَارِجِ مِنْهُمَا.

وَالْحَنَابِلَةُ يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَا خَرَجَ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ مِنْ أَيِّ مَكَانٍ فِي الْجِسْمِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْفَتْحَةُ تَحْتَ السُّرَّةِ أَوْ فَوْقَهَا، لِأَنَّ الْخَارِجَ بَوْلٌ وَغَائِطٌ بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ الْمَحَلِّ، وَلَكِنَّهُمْ فَارَقُوهُمْ فِي غَيْرِ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، كَالرِّيحِ وَالدَّمِ وَغَيْرِهِمَا إِذَا خَرَجَ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ.

فَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ طَاهِرًا فَلَا يُنْقَضُ الْوُضُوءُ بِحَالٍ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي الْجُمْلَةِ رِوَايَةً وَاحِدَةً إِنْ كَانَ كَثِيرًا دُونَ الْيَسِيرِ.

سَابِعًا: الْبَوْلُ قَائِمًا لِمَنْ بِهِ عَاهَةٌ:

14- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ مَنْ بِهِ عَاهَةٌ تَمْنَعُهُ مِنَ الْقُعُودِ لَهُ أَنْ يَبُولَ قَائِمًا، كَمَنْ بِهِ عَاهَةٌ فِي رِجْلِهِ لَا يَسْتَطِيعُ الْجُلُوسَ أَوْ بِهِ بَاسُورٌ فَإِذَا جَلَسَ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً ضَايَقَهُ ذَلِكَ وَنَزَفَ مِنْهُ بَاسُورُهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْعَاهَاتِ وَالْعِلَلِ.

وَقَدْ «فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- فَبَالَ قَائِمًا» فِيمَا رَوَاهُ حُذَيْفَةُ - رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- انْتَهَى إِلَى سُبَاطَةِ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا» وَمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَبُولَ الرَّجُلُ قَائِمًا».

وَقَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءُ الْمُحَدِّثُونَ وَالْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَوْجُهٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا: أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم- فَعَلَ ذَلِكَ لِجُرْحٍ كَانَ فِي مَأْبِضِهِ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه-: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- بَالَ قَائِمًا مِنْ جُرْحٍ كَانَ بِمَأْبِضِهِ» وَالْمَأْبِضُ مَا تَحْتَ الرُّكْبَةِ.

وَقِيلَ: إِنَّمَا بَالَ - صلى الله عليه وسلم- قَائِمًا لِوَجَعٍ فِي صُلْبِهِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَمَّا غَيْرُ صَاحِبِ الْعَاهَةِ فَالْبَوْلُ قَائِمًا مَكْرُوهٌ لَهُ تَنْزِيهًا.

ثَامِنًا: مَنْ بِهِ عَاهَةٌ تَمْنَعُهُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ:

15- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ بِهِ مَرَضٌ يَمْنَعُهُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْوَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَالْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءًفَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَدَلَّ حُكْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَبَاحَ التَّيَمُّمَ فِي حَالَتَيْنِ، أَحَدُهُمَا: السَّفَرُ وَالْإِعْوَازُ مِنَ الْمَاءِ، وَالْآخَرُ: لِلْمَرِيضِ فِي حَضَرٍ كَانَ أَوْ سَفَرٍ.

وَقَدِ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَرَضِ الْمُبِيحِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْفُرُوعِ (ر: تَيَمُّم ف 21- 22).

الْعَاهَةُ وَأَثَرُهَا فِي أَحْكَامِ الصَّلَاةِ:

أَوَّلًا- أَذَانُ الْأَعْمَى:

16- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ: إِلَى أَنَّ أَذَانَ الْأَعْمَى جَائِزٌ إِذَا عَلِمَ دُخُولَ الْوَقْتِ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ أَذَانَ الْبَصِيرِ أَفْضَلُ مِنْ أَذَانِ الْأَعْمَى، فَيُكْرَهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ أَذَانُ الْأَعْمَى، إِلاَّ إِذَا كَانَ مَعَهُ بَصِيرٌ يُعْلِمُهُ أَوْقَاتَ الصَّلَاةِ فَلَا كَرَاهَةَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ أَذَانُ الْأَعْمَى إِنْ كَانَ تَابِعًا لِغَيْرِهِ فِي أَذَانِهِ أَوْ قَلَّدَ ثِقَةً فِي دُخُولِ الْوَقْتِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ أَعْمَى، لِأَنَّهُ رُبَّمَا غَلِطَ فِي الْوَقْتِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ بَصِيرٌ لَمْ يُكْرَهْ لِأَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ أَعْمَى كَانَ يُؤَذِّنُ مَعَ بِلَالٍ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ بَصِيرًا، لِأَنَّ الْأَعْمَى لَا يَعْرِفُ الْوَقْتَ فَرُبَّمَا غَلِطَ، فَإِنْ أَذَّنَ الْأَعْمَى صَحَّ أَذَانُهُ، قَالَ فِي الْمُبْدِعِ: كَرِهَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ - رضي الله عنهما- أَذَانَ الْأَعْمَى، وَكَرِهَ ابْنُ عَبَّاسِ إِقَامَتَهُ.

ثَانِيًا: اسْتِقْبَالُ الْأَعْمَى لِلْقِبْلَةِ:

17- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْأَعْمَى عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ الْأَدِلَّةِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُشَاهَدَةِ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْهَا تَحَرَّى، وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (اسْتِقْبَال ف 36).

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَجُوزُ لِلْأَعْمَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ بَلْ يَسْأَلُ عَنِ الْأَدِلَّةِ لِيَهْتَدِيَ بِهَا إِلَى الْقِبْلَةِ.

أَمَّا غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ، وَهُوَ الْجَاهِلُ بِالْأَدِلَّةِ أَوْ يَكْفِيهِ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَلِّدَ مُكَلَّفًا عَدْلًا عَارِفًا بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ أَوْ مِحْرَابًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُرْشِدُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ يَتَخَيَّرُ جِهَةً مِنَ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ وَيُصَلِّي إِلَيْهَا مَرَّةً وَاحِدَةً.

18- أَمَّا مَنْ بِهِ عَاهَةٌ أُخْرَى كَالْمَشْلُولِ وَمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ مُفَارَقَةَ سَرِيرِهِ لِعَاهَةٍ فِي عَيْنَيْهِ، أَوْ لِجُرْحٍ فِي جَسَدِهِ لَوْ حَرَّكَ لَنَزَفَ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ وَنَحْوَهُمْ إِذَا وَجَدُوا مَنْ يُوَجِّهُهُمْ إِلَى الْقِبْلَةِ دُونَ ضَرَرٍ يَلْحَقُ بِهِمْ وَجَبَ عَلَيْهِمُ التَّوَجُّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَلَوْ صَلَّوْا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. أَمَّا مَنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُوَجِّهُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ، أَوْ وَجَدَ وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ تَحْوِيلُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ لِعَاهَةٍ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، يُخْشَى عَلَيْهِ مِنَ الضَّرَرِ إِنْ تَحَرَّكَ سَرِيرُهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أَوَّلُهَا: أَنَّهُ يُصَلِّي عَلَى حَالَةٍ وَيُعِيدُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ الرَّازِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَدَلِيلُهُمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ التَّوَجُّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ عَلَى الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} وَلَمْ يُبِحْ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَتْرُكَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، وَإِذَا وَجَدَ مَنْ يُحَوِّلُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ أَعَادَ.

وَثَانِيهَا: قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ وَلَا يَسْتَطِيعُ التَّوَجُّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ لَا بِنَفْسِهِ وَلَا بِمُسَاعِدٍ صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، وَيُعِيدُ إِذَا وَجَدَ مَنْ يُحَوِّلُهُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فِي الْوَقْتِ

وَجَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي الْمَرِيضِ الَّذِي لَا يُسْتَطَاعُ تَحْوِيلُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ لِمَرَضٍ بِهِ أَوْ جُرْحٍ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي إِلاَّ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَيُحْتَالُ لَهُ فِي- ذَلِكَ، فَإِنْ هُوَ صَلَّى إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ.

ثَالِثُهَا: قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ: أَنَّ الْعَاجِزَ عَنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، وَلَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ مَا دَامَ لَا يَسْتَطِيعُ التَّحَوُّلَ إِلَى الْقِبْلَةِ وَلَا يَجِدُ مَنْ يُحَوِّلُهُ إِلَيْهَا، نَقَلَهُ السَّرَخْسِيُّ عَنْ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.

وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِأَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ، وَالْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ أَرْكَانٌ، ثُمَّ مَا سَقَطَ عَنْهُ مِنَ الْأَرْكَانِ بِعُذْرِ الْمَرَضِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ، فَكَذَلِكَ مَا سَقَطَ عَنْهُ مِنَ الشُّرُوطِ بِعُذْرِ الْمَرَضِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ.

وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}

وَلِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ».

ثَالِثًا: مَنْ بِهِ عَاهَةٌ تَمْنَعُهُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ:

19- مَنْ بِهِ عَاهَةٌ تَمْنَعُهُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، كَالْعَاجِزِ عَنِ الْقِيَامِ أَوِ الْجُلُوسِ أَوِ السُّجُودِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَرْكَانِ صَلَّى كَيْفَ أَمْكَنَهُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْفَرْضُ أَوِ النَّفَلُ.

وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ.

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْعَاجِزِ عَنِ السُّجُودِ:

20- إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنِ السُّجُودِ وَأَمْكَنَ رَفْعُ وِسَادَةٍ وَنَحْوِهَا لِيَسْجُدَ عَلَيْهَا:

فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلَا يَرْفَعُ إِلَى وَجْهِهِ شَيْئًا يَسْجُدُ عَلَيْهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ جَابِرٌ - رضي الله عنه-: «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- عَادَ مَرِيضًا فَرَآهُ يُصَلِّي عَلَى وِسَادَةٍ، فَأَخَذَهَا فَرَمَى بِهَا، فَأَخَذَ عُودًا لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ فَرَمَى بِهِ وَقَالَ: صَلِّ عَلَى الْأَرْضِ إِنِ اسْتَطَعْتَ وَإِلاَّ فَأَوْمِئْ إِيمَاءً، وَاجْعَلْ سُجُودَكَ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِكَ».

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، أَوْ يُومِئُ بِالسُّجُودِ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- لِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: سَأَلْتُ أَبِي عَنِ الْمَرِيضِ يُومِئُ أَوْ يَسْجُدُ عَلَى مِرْفَقَةٍ؟ قَالَ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ رُوِيَ، لَا بَأْسَ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَالْإِيمَاءُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنهم- مَوْقُوفًا وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا، وَالسُّجُودُ عَلَى الْمِرْفَقَةِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُمِّ سَلَمَةَ - رضي الله عنهم-.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَيْفِيَّةُ قُعُودِ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ:

21- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ يُؤَدِّيهَا قَاعِدًا إِنِ اسْتَطَاعَ، لِأَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رضي الله عنه- يَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ فَقَالَ كَيْفَ أُصَلِّي؟ فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم-: صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ».

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْقُعُودِ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقُعُودَ عَلَى هَيْئَةِ التَّرَبُّعِ مُسْتَحَبٌّ، لِأَنَّ الْقُعُودَ فِي حَالَةِ الْعَجْزِ بَدَلٌ عَنِ الْقِيَامِ وَالْقِيَامُ يُخَالِفُ قُعُودَ الصَّلَاةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَدَلُهُ مُخَالِفًا لَهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ- إِلَى أَنَّ الِافْتِرَاشَ فِي الْقُعُودِ أَفْضَلُ مِنَ التَّرَبُّعِ لِأَنَّ الِافْتِرَاشَ قُعُودُ عِبَادَةٍ بِخِلَافِ التَّرَبُّعِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: حُكْمُ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْقُعُودِ:

22- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْقُعُودِ صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ مُسْتَقْبِلًا الْقِبْلَةَ وَنُدِبَ عَلَى الْجَنْبِ الْأَيْمَنِ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ السَّابِقِ «فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ».

وَظَاهِرُ كَلَامِ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ لَوْ صَلَّى مُسْتَلْقِيًا مَعَ إِمْكَانِ الصَّلَاةِ عَلَى جَنْبِهِ أَنَّهُ يَصِحُّ، وَالدَّلِيلُ يَقْتَضِي أَلاَّ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- «فَعَلَى جَنْبٍ» وَلِأَنَّهُ نَقَلَهُ إِلَى الِاسْتِلْقَاءِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى جَنْبٍ، فَهِيَ مُرَتَّبَةٌ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ «عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ - رضي الله عنه- قَالَ: كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ».

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْقُعُودَ اسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ، وَرِجْلَاهُ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَأَوْمَأَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: «يُصَلِّي الْمَرِيضُ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى قَفَاهُ يُومِئُ إِيمَاءً».

وَقَدْ جَوَّزَ الْمَرْغِينَانِيُّ أَنَّهُ إِذَا اسْتَلْقَى عَلَى جَنْبِهِ وَوَجْهِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ جَازَ.

فَالْأَصْلُ فِي صَلَاةِ الْمَرِيضِ كَمَا يَقُولُ السَّرَخْسِيُّ قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} قَالَ الضَّحَّاكُ فِي تَفْسِيرِهِ: هُوَ بَيَانُ حَالِ الْمَرِيضِ فِي أَدَاءِ الصَّلَاةِ عَلَى حَسَبِ الطَّاقَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَنْ كَانَ عَاجِزًا فَقَدَرَ أَوْ كَانَ قَادِرًا فَعَجَزَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ:

23- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ كَانَ عَاجِزًا فَاسْتَطَاعَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، أَوْ كَانَ مُسْتَطِيعًا فَعَجَزَ، صَلَّى كُلٌّ حَسَبَ الْحَالَةِ الَّتِي صَارَ إِلَيْهَا، وَاَللَّهُ أَوْلَى بِعُذْرِهِ وَأَعْلَمُ، فَمَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنِ الْقِيَامِ ثُمَّ اسْتَطَاعَهُ انْتَقَلَ إِلَيْهِ وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ، وَلَا يَسْتَأْنِفُهَا، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ ثُمَّ عَجَزَ عَنْهُ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ انْتَقَلَ إِلَى الْجُلُوسِ، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ وَبِحَالِهِ الَّتِي صَارَ إِلَيْهَا لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَ صَلَاتَهُ كُلَّهَا قَاعِدًا عِنْدَ الْعَجْزِ، وَيُؤَدِّيَهَا جَمِيعًا قَائِمًا عِنْدَ الْقُدْرَةِ، فَتَأْخُذُ كُلُّ حَالَةٍ حُكْمَهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ صُوَرٍ ثَلَاثٍ فِي الْحُكْمِ:

أُولَاهَا: إِنْ صَلَّى الصَّحِيحُ بَعْضَ صَلَاتِهِ قَائِمًا، ثُمَّ حَدَثَ بِهِ مَرَضٌ يُتِمُّهَا قَاعِدًا، يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ أَوْ يُومِئُ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ، أَوْ مُسْتَلْقِيًا إِنْ لَمْ يَقْدِرْ، لِأَنَّهُ بِنَاءُ الْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، فَصَارَ كَالِاقْتِدَاءِ، فَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ.

وَثَانِيَتُهَا: مَنْ صَلَّى قَاعِدًا يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ لِمَرَضٍ، ثُمَّ صَحَّ، بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ قَائِمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ اسْتَقْبَلَ.

وَثَالِثَتُهَا: إِنْ صَلَّى بَعْضَ صَلَاتِهِ بِإِيمَاءٍ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، اسْتَأْنَفَ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الرَّاكِعِ بِالْمُومِئِ، فَكَذَا الْبِنَاءُ.

أَمَّا زُفَرُ فَجَوَّزَهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ مِنْ تَجْوِيزِ اقْتِدَاءِ الرَّاكِعِ بِالْمُومِئِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَنْ عَجَزَ عَنِ الْإِيمَاءِ بِرَأْسِهِ:

24- مَنْ عَجَزَ عَنِ الْإِيمَاءِ بِرَأْسِهِ يُومِئُ بِطَرَفِهِ، فَإِنْ عَجَزَ أَجْرَى أَفْعَالَ الصَّلَاةِ عَلَى قَلْبِهِ، وَلَا يَتْرُكُ الصَّلَاةَ مَا دَامَ عَقْلُهُ ثَابِتًا، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مُسْتَدِلِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ - رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْمَأَ بِطَرَفِهِ» وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الصَّلَاةُ، لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ بَالِغٌ عَاقِلٌ، أَشْبَهَ الْقَادِرَ عَلَى الْإِيمَاءِ بِرَأْسِهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ تَسْقُطُ الصَّلَاةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ.

وَالرَّاجِحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْإِيمَاءَ بِرَأْسِهِ أُخِّرَتِ الصَّلَاةُ عَنْهُ، وَلَا يُومِئُ بِعَيْنِهِ وَلَا بِقَلْبِهِ وَلَا بِحَاجِبَيْهِ، خِلَافًا لِزُفَرَ وَرِوَايَةً عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: لَا أَشُكُّ أَنَّ الْإِيمَاءَ بِرَأْسِهِ يُجْزِئُهُ، وَلَا أَشُكُّ أَنَّهُ بِقَلْبِهِ لَا يُجْزِئُهُ، وَأَشُكُّ فِيهِ بِالْعَيْنِ.

وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ، حَتَّى وَلَوْ زَادَتْ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِذَا كَانَ مُفِيقًا، وَصَحَّحَ قَاضِيخَانْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إِذَا كَثُرَ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْلِ لَا يَكْفِي لِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ.

رَابِعًا- إِمَامَةُ مَنْ بِهِ عَاهَةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ رُكْنٍ مِنَ الصَّلَاةِ:

25- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى صِحَّةِ إِمَامَةِ مَنْ بِهِ عَاهَةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ رُكْنٍ مِنَ الصَّلَاةِ إِذَا كَانَ إِمَامًا بِمِثْلِهِ فِي هَذِهِ الْعَاهَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي إِمَامَةِ ذِي الْعَاهَةِ لِلصَّحِيحِ، فَجَوَّزَهَا بَعْضُهُمْ، وَمَنَعَهَا آخَرُونَ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (اقْتِدَاء ف 40).

خَامِسًا: مَنْ بِهِ عَاهَةٌ عَلَى صُورَةِ مُبْطِلٍ مِنْ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ:

الْعَاهَةُ هُنَا تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: عَاهَةٌ عَارِضَةٌ كَالتَّنَحْنُحِ وَالسُّعَالِ وَنَحْوِهِمَا، وَعَاهَةٌ خِلْقِيَّةٌ كَالتَّأْتَأَةِ وَالْفَأْفَأَةِ وَنَحْوِهَا.

26- أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ بِالسُّعَالِ وَالتَّنَحْنُحِ وَنَحْوِهِمَا حَرْفَانِ فَالصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ، وَكَذَا إِذَا ظَهَرَ حَرْفَانِ أَوْ أَكْثَرُ، وَكَانَ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ دَفْعَهُ.

أَمَّا إِذَا اسْتَطَاعَ دَفْعَهُ وَفَعَلَهُ لِتَحْسِينِ الصَّوْتِ فَقَدْ وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

فَجُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ لِأَنَّ مَا كَانَ لِمَصْلَحَةِ الْقِرَاءَةِ يُلْحَقُ بِهَا.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَفَرَّقُوا بَيْنَ التَّنَحْنُحِ وَغَيْرِهِ كَالسُّعَالِ وَالتَّأَوُّهِ مَثَلًا، أَمَّا السُّعَالُ وَنَحْوُهُ فَالْأَشْبَهُ بِأُصُولِهِمْ- وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ- أَنَّ مَنْ فَعَلَهُ مُخْتَارًا أَفْسَدَ صَلَاتَهُ..وَلِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ وَالنُّصُوصُ الْعَامَّةُ تَمْنَعُ مِنَ الْكَلَامِ كُلِّهِ، وَلَمْ يَرِدْ مَا يُخَصِّصُهُ وَلَهُمْ فِي التَّنَحْنُحِ قَوْلَانِ، وَظَاهِرُ قَوْلِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّحْنَحَةَ لَا تُسَمَّى كَلَامًا، وَتَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ.

وَذَهَبَ إِسْمَاعِيلُ الزَّاهِدُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ.

27- وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ الْعَاهَةُ الْخِلْقِيَّةُ كَصَاحِبِ التَّأْتَأَةِ وَالْفَأْفَأَةِ وَالْأَلْثَغِ وَنَحْوِهِمْ فَهَذِهِ مَعْفُوٌّ عَنْهَا فِي حَالِ الصَّلَاةِ مُنْفَرِدًا، وَيُعَامَلُ هَؤُلَاءِ مُعَامَلَةَ الْأُمِّيِّ، فِي أَنَّهُ تَصِحُّ صَلَاتُهُمْ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُمْ إِصْلَاحُ هَذَا الْمَرَضِ وَعِلَاجُهُ، وَصَلَاتُهُمْ صَحِيحَةٌ فُرَادَى وَمَأْمُومِينَ لِقَارِئٍ، وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ.

أَمَّا إِمَامَةُ كُلٍّ مِنْهُمْ لِلْقَارِئِ فَهِيَ مَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

فَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ التَّأْتَأَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا فِيهِ زِيَادَةُ حَرْفٍ، فَيَكْرَهُونَ الْإِمَامَةَ لِصَاحِبِهَا إِلاَّ لِمِثْلِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي قِرَاءَتِهِمْ نَقْصًا عَنْ حَالِ الْكَمَالِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَصَحَّتِ الصَّلَاةُ بِإِمَامَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِالْوَاجِبِ وَيَزِيدُونَ عَلَيْهِ حَرَكَةً أَوْ حَرْفًا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ كَتَكْرِيرِ الْآيَةِ.

وَأَمَّا الْأَرَتُّ، وَهُوَ الَّذِي يُدْغِمُ حَرْفًا فِي غَيْرِهِ، وَالْأَلْثَغُ وَهُوَ الَّذِي يُبَدِّلُ حَرْفًا بِغَيْرِهِ، فَهَذَانِ وَأَمْثَالُهُمَا لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِهِمَا، لِأَنَّهُمْ كَالْأُمِّيِّ، وَالْأُمِّيُّ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِهِ.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا فِيهِ زِيَادَةُ حَرْفٍ كَالتَّأْتَأَةِ، وَمَا فِيهِ تَغْيِيرُ حَرْفٍ بِحَرْفٍ، أَوْ إِدْغَامُهُ بِهِ، وَيُسَمِّي خَلِيلٌ صَاحِبَ كُلِّ هَذَا (أَلْكَنُ)، وَيُعَلِّقُ عَلَيْهِ الْخَرَشِيُّ بِقَوْلِهِ: يَعْنِي أَنَّهُ يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِأَلْكَنَ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَتِ اللُّكْنَةُ فِي الْفَاتِحَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَالْأَلْكَنُ هُوَ: مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِخْرَاجَ بَعْضِ الْحُرُوفِ مِنْ مَخَارِجِهَا، سَوَاءٌ كَانَ لَا يَنْطِقُ بِالْحَرْفِ أَلْبَتَّةَ، أَوْ يَنْطِقُ بِهِ مُغَيَّرًا، فَيَشْمَلُ التِّمْتَامَ، وَهُوَ الَّذِي يَنْطِقُ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ بِتَاءٍ مُكَرَّرَةٍ، وَالْأَرَتَّ وَهُوَ الَّذِي يَجْعَلُ اللاَّمَ تَاءً أَوْ مَنْ يُدْغِمُ حَرْفًا فِي حَرْفٍ، وَالْأَلْثَغَ وَهُوَ مَنْ يُحَوِّلُ اللِّسَانَ مِنَ السِّينِ إِلَى الثَّاءِ، أَوْ مِنَ الرَّاءِ إِلَى الْغَيْنِ، أَوِ اللاَّمِ أَوِ الْيَاءِ، أَوْ مِنْ حَرْفٍ إِلَى حَرْفٍ، أَوْ مَنْ لَا يَتِمُّ رَفْعُ لِسَانِهِ لِثِقَلٍ فِيهِ، وَالطَّمْطَامَ وَهُوَ مَنْ يُشْبِهُ كَلَامُهُ كَلَامَ الْعَجَمِ وَنَحْوِهِمْ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


9-موسوعة الفقه الكويتية (عبارة)

عِبَارَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْعِبَارَةُ.فِي اللُّغَةِ: الْبَيَانُ وَالْإِيضَاحُ، يُقَالُ: عَبَّرَ عَمَّا فِي نَفْسِهِ: أَعْرَبَ وَبَيَّنَ، وَعَبَّرَ عَنْ فُلَانٍ: تَكَلَّمَ عَنْهُ، وَاللِّسَانُ يُعَبِّرُ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ: أَيْ يُبَيِّنُ، وَتَعْبِيرُ الرُّؤْيَا تَفْسِيرُهَا: يُقَالُ: عَبَرْتُ الرُّؤْيَا عَبْرًا وَعِبَارَةً: فَسَّرْتُهَا وَفِي التَّنْزِيلِ: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْعِبَارَةُ هِيَ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَعَانِي، لِأَنَّهَا تَفْسِيرُ مَا فِي الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ مَسْتُورٌ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْقَوْلُ:

2- الْقَوْلُ لُغَةً: الْكَلَامُ أَوْ كُلُّ لَفْظٍ يَنْطِقُ بِهِ اللِّسَانُ تَامًّا أَوْ نَاقِصًا، وَقَدْ يُطْلَقُ الْقَوْلُ عَلَى الْآرَاءِ وَالِاعْتِقَادَاتِ، فَيُقَالُ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ، يُرَادُ بِهِ رَأْيُهُمَا وَمَا ذَهَبَا إِلَيْهِ.

وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْعِبَارَةِ هِيَ أَنَّ الْقَوْلَ أَعَمُّ مِنَ الْعِبَارَةِ لِأَنَّ الْعِبَارَةَ تَكُونُ دَالَّةً عَلَى مَعْنًى.

ب- الصِّيغَةُ:

3- الصِّيغَةُ لُغَةً: الْعَمَلُ وَالتَّقْدِيرُ، يُقَالُ: هَذَا صَوْغُ هَذَا إِذَا كَانَ عَلَى قَدْرِهِ، وَصِيغَةُ الْقَوْلِ كَذَا، أَيْ مِثَالُهُ وَصُورَتُهُ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْعَمَلِ وَالتَّقْدِيرِ.

وَالصِّيغَةُ اصْطِلَاحًا: الْأَلْفَاظُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ وَنَوْعِ التَّصَرُّفِ.

وَالْعِبَارَةُ أَعَمُّ مِنَ الصِّيغَةِ فِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

أَوَّلًا: عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ:

4- قَسَّمَ الْأُصُولِيُّونَ مِنَ الْحَنِيفَةِ الْأَلْفَاظَ مِنْ حَيْثُ دَلَالَتِهَا عَلَى الْمَعْنَى إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: عِبَارَةُ النَّصِّ، وَإِشَارَةُ النَّصِّ، وَدَلَالَةُ النَّصِّ، وَاقْتِضَاءُ النَّصِّ.

وَوَجْهُ ضَبْطِهِ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُسْتَفَادَ مِنَ النَّظْمِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِنَفْسِ النَّظْمِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا بِنَفْسِ النَّظْمِ وَكَانَ النَّظْمُ مَسُوقًا لَهُ فَهُوَ الْعِبَارَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسُوقًا لَهُ فَهُوَ الْإِشَارَةُ.

أَمَّا إِنْ كَانَ الْحُكْمُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ النَّظْمِ غَيْرَ ثَابِتٍ بِنَفْسِ النَّظْمِ فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ مَفْهُومًا مِنْهُ لُغَةً فَهُوَ الدَّلَالَةُ، أَوْ شَرْعًا فَهُوَ الِاقْتِضَاءُ.

فَعِبَارَةُ النَّصِّ هِيَ دَلَالَةُ الْكَلَامِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنْهُ أَصَالَةً أَوْ تَبَعًا، كَمَا فِي قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} فَإِنَّهُ يَدُلُّ بِلَفْظِهِ وَعِبَارَتِهِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرِّبَا، وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ، لِأَنَّهَا نَزَلَتْ لِلرَّدِّ عَلَى الَّذِينَ قَالُوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} وَثَانِيهُمَا: إِبَاحَةُ الْبَيْعِ وَمَنْعُ الرِّبَا، وَهُوَ مَقْصُودٌ تَبَعًا لِيُتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى إِفَادَةِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ أَصَالَةً، فَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْعِبَارَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِالنَّظْمِ، وَيَكُونُ سَوْقُ الْكَلَامِ لَهُ.

وَفِي هَذَا الْقِسْمِ وَسَائِرِ الْأَقْسَامِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

ثَانِيًا: عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:

5- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْإِنْسَانَ الْمُكَلَّفَ مُؤَاخَذٌ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنْ أَلْفَاظٍ وَعِبَارَاتٍ، لِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ «مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ عَلَى مَنْخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ»؟

وَأَمَّا غَيْرُ الْمُكَلَّفِ كَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ وَالْمَجْنُونِ فَعِبَارَتُهُمَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ. (ر: أَهْلِيَّة ف 17، 27)

وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمَعْتُوهِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَهْلِيَّة ف 19، 20، 21).

6- وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَتِ الْإِشَارَةُ وَالْعِبَارَةُ وَاخْتَلَفَ مُوجِبُهُمَا غُلِّبَتِ الْإِشَارَةُ.

قَالَ السُّيُوطِيُّ: لَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ فُلَانَةَ: هَذِهِ، وَسَمَّاهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا صَحَّ قَطْعًا، وَلَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ هَذِهِ الْعَرَبِيَّةَ فَكَانَتْ عَجَمِيَّةً، أَوْ هَذِهِ الْعَجُوزَ فَكَانَتْ شَابَّةً أَوْ هَذِهِ الْبَيْضَاءَ فَكَانَتْ سَوْدَاءَ أَوْ عَكْسَهُ، وَكَذَا الْمُخَالَفَةُ فِي جَمِيعِ وُجُوهِ النَّسَبِ وَالصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ وَالنُّزُولِ فَفِي صِحَّةِ النِّكَاحِ قَوْلَانِ وَالْأَصَحُّ الصِّحَّةُ، وَقَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: بِالصِّحَّةِ تَعْوِيلًا عَلَى الْإِشَارَةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


10-موسوعة الفقه الكويتية (معفوات)

مَعْفُوَّاتٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمَعْفُوَّاتِ لُغَةً: جَمْعٌ مُفْرَدُهُ مَعْفُوَّةٌ وَهِيَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ فِعْلِ عَفَا يَعْفُو، وَمِنْ مَعَانِي الْعَفْوِ فِي اللُّغَةِ: التَّجَاوُزُ عَنِ الذَّنْبِ وَتَرْكُ الْعِقَابِ عَلَيْهِ، وَأَصْلُهُ الْمَحْوِ وَالطَّمْسِ، يُقَالُ: عَفَوْتُ عَنْ فُلَانٍ أَوْ عَنْ ذَنْبِهِ إِذَا صَفَحْتَ عَنْهُ وَأَعْرَضْتَ عَنْ عُقُوبَتِهِ وَهُوَ يُعَدَّى بِعَنْ إِلَى الْجَانِي وَالْجِنَايَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا عُدِّيَ إِلَى الْأَوَّلِ بِاللاَّمِ فَقِيلَ عَفَوْتُ لِفُلَانِ عَنْ ذَنْبِهِ.

قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْعَفْوُ صَفْحُ اللَّهِ عَنْ ذُنُوبِ عِبَادِهِ وَمَحْوُهُ إِيَّاهَا بِتَفَضُّلِهِ.

وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.

ضَبْطُ الْمَعْفُوَّاتِ مِنَ الْأَنْجَاسِ

2- الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَأْمُورٍ يَشُقُّ عَلَى الْعِبَادِ فِعْلُهُ سَقَطَ الْأَمْرُ بِهِ وَكُلُّ مَنْهِيٍّ شَقَّ عَلَيْهِمُ اجْتِنَابُهُ سَقَطَ النَّهْيُ عَنْهُ.

وَالْمَشَاقُّ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:

- مَشَقَّةٌ فِي الْمَرْتَبَةِ الْعُلْيَا فَيُعْفَى عَنْهَا إِجْمَاعًا كَمَا لَوْ كَانَتْ طَهَارَةُ الْحَدَثِ أَوِ الْخَبَثِ تُذْهِبُ النَّفْسَ أَوِ الْأَعْضَاءَ.

- وَمَشَقَّةٌ فِي الْمَرْتَبَةِ الدُّنْيَا فَلَا يُعْفَى عَنْهَا إِجْمَاعًا، كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ فِي الشِّتَاءِ.

- وَمَشَقَّةٌ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ، فَمُخْتَلَفٌ فِي إِلْحَاقِهَا بِالْمَرْتَبَةِ الْعُلْيَا فَتُؤَثِّرُ فِي الْإِسْقَاطِ أَوْ بِالْمَرْتَبَةِ الدُّنْيَا فَلَا تُؤَثِّرُ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَتَخَرَّجُ الْخِلَافُ فِي الْعَفْوِ عَنِ النَّجَاسَاتِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ هَذِهِ النَّجَاسَةَ هَلْ يَشُقُّ اجْتِنَابُهَا أَمْ لَا؟.

وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ آرَاءَ الْفُقَهَاءِ فِي ضَبْطِ الْمَعْفُوَّاتِ

أَوَّلًا: مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:

3- بِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِ الْحَنَفِيَّةِ فِي مَسَائِلِ الْمَعْفُوَّاتِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعَفْوَ عِنْدَهُمْ يَدْخُلُ عَلَى أَنْوَاعِ النَّجَاسَاتِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمُخَفَّفَةِ وَالْمُغَلَّظَةِ وَوَضَعُوا لِكُلِّ نَوْعٍ تَقْدِيرَاتٍ وَضَوَابِطَ.فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا تَوَافَقَتْ عَلَى نَجَاسَتِهِ الْأَدِلَّةُ فَمُغَلَّظٌ سَوَاءٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ وَكَانَ فِيهِ بَلْوَى أَمْ لَا وَإِلاَّ فَهُوَ مُخَفَّفٌ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمِّدٌ: مَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ بَلْوَى فَمُغَلَّظٌ وَإِلاَّ مُخَفَّفٌ وَلَا نَظَرَ لِلْأَدِلَّةِ.

4- أَمَّا النَّجَاسَةُ الْمُغَلَّظَةُ فَقَدْ عُفِيَ عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْهَا، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِيهِ: وَالصَّحِيحُ أَنْ يُعْتَبَرَ بِالْوَزْنِ فِي النَّجَاسَةِ الْمُتَجَسِّدَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَزْنُهُ قَدْرَ الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ الْمِثْقَالِ، وَبِالْمِسَاحَةِ فِي غَيْرِهَا وَهُوَ قَدْرُ مُقَعَّرِ الْكَفِّ دَاخِلَ مَفَاصِلِ الْأَصَابِعِ، وَقَالَ مُنْلَا مِسْكِينْ: وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ أَنْ تَغْرِفَ بِالْيَدِ ثُمَّ تَبْسُطَ فَمَا بَقِيَ مِنَ الْمَاءِ فَهُوَ مِقْدَارُ الْكَفِّ.

وَالْمُرَادُ بِالْعَفْوِ عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ هُوَ الْعَفْوُ عَنْ فَسَادِ الصَّلَاةِ بِهِ وَإِلاَّ فَكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ بَاقِيَةٌ بِإِجْمَاعِ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ بَلَعَتِ النَّجَاسَةُ الْمُغَلَّظَةُ الدِّرْهَمَ، وَتَنْزِيهًا إِنْ لَمْ تَبْلُغْ.وَفَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ مَا لَوْ عَلِمَ قَلِيلَ نَجَاسَةٍ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَفِي الدِّرْهَمِ يَجِبُ قَطْعُ الصَّلَاةِ وَغَسْلُهَا وَلَوْ خَافَ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ وَغَسْلُ النَّجَاسَةِ وَاجِبٌ وَهُوَ مُقَدَّمٌ،

وَفِي الثَّانِي (أَيْ فِي أَقَلَّ مِنَ الدِّرْهَمِ) يَكُونُ ذَلِكَ أَفْضَلَ فَقَطْ مَا لَمْ يَخَفْ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ بِأَنْ لَا يُدْرِكَ جَمَاعَةً أُخْرَى وَإِلاَّ مَضَى عَلَى صَلَاتِهِ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ أَقْوَى، كَمَا يَمْضِي فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ إِذَا خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ لِأَنَّ التَّفْوِيتَ حَرَامٌ وَلَا مَهْرَبَ مِنَ الْكَرَاهَةِ إِلَى الْحَرَامِ.

قَالَ الْحَمَوِيُّ: وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ وَقْتُ الْإِصَابَةِ فَلَوْ كَانَ دُهْنًا نَجِسًا قَدْرَ الدِّرْهَمِ وَقْتَ الْإِصَابَةِ فَانْبَسَطَ فَصَارَ أَكْثَرَ مِنْهُ لَا يُمْنَعُ فِي اخْتِيَارِ الْمَرْغِينَانِيِّ وَغَيْرِهِ، وَمُخْتَارُ غَيْرِهِمُ الْمَنْعُ، وَلَوْ صَلَّى قَبْلَ انْبِسَاطِهِ جَازَتْ وَبَعْدَهُ لَا، وَبَهْ أَخَذَ الْأَكْثَرُونَ.

5- وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنِ النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ إِذَا زَادَتْ عَلَى الدِّرْهَمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِزَالَةِ، وَعُفِيَ عَنِ النَّجَاسَةِ الْمُخَفَّفَةِ عَمَّا دُونَ رُبْعِ الثَّوْبِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فِيهَا بِالْكَثِيرِ الْفَاحِشِ وَلِلرُّبُعِ حُكْمُ الْكُلِّ فِي الْأَحْكَامِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمِّدٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ- كَمَا قَالَهُ الزَّيْلَعِيُّ- ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ اعْتِبَارِ الرُّبُعِ: فَقِيلَ رُبُعُ جَمِيعِ ثَوْبٍ عَلَيْهِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رُبُعُ أَدُنَى ثَوْبٍ تَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ كَالْمِئْزَرِ، وَقِيلَ رُبُعُ طَرَفٍ أَصَابَتْهُ النَّجَاسَةُ كَالذَّيْلِ وَالْكُمِّ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ شِبْرٌ فِي شِبْرٍ وَعَنْهُ ذِرَاعٌ فِي ذِرَاعٍ وَمِثْلُهُ عَنْ مُحَمِّدٍ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمِّدٍ أَنَّ الْكَثِيرَ الْفَاحِشَ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الْقَدَمَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُحَدَّ لِذَلِكَ حَدًّا وَقَالَ: إِنَّ الْفَاحِشَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ طِبَاعِ النَّاسِ فَوَقَفَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى الْعَادَةِ كَمَا هُوَ دَأْبُهُ.

وَقَالَ الشَّلَبِيُّ نَقْلًا عَنْ زَادِ الْفَقِيرِ: وَالْأَوْجَهُ اتِّكَالُهُ إِلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى إِنِ اسْتَفْحَشَهُ مَنَعَ وَإِلاَّ فَلَا.

وَقَالُوا: إِنَّمَا قُسِّمَتِ النَّجَاسَاتُ إِلَى غَلِيظَةٍ وَخَفِيفَةٍ بِاعْتِبَارِ قِلَّةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ مِنَ الْغَلِيظَةِ وَكَثْرَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ مِنَ الْخَفِيفَةِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي كَيْفِيَّةِ التَّطْهِيرِ وَإِصَابَةِ الْمَاءِ وَالْمَائِعَاتِ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ تَنَجُّسُهَا بِهِمَا.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْمَائِعَ مَتَى أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ خَفِيفَةٌ أَوْ غَلِيظَةٌ وَإِنْ قَلَّتْ تَنَجَّسَ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ رُبُعٌ وَلَا دِرْهَمٌ، نَعَمْ تَظْهَرُ الْخِفَّةُ فِيمَا إِذَا أَصَابَ هَذَا الْمَائِعُ ثَوْبًا أَوْ بَدَنًا فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الرُّبُعُ.

وَقَالَ أَيْضًا: إِنِ اخْتَلَطَتِ الْغَلِيظَةُ وَالْخَفِيفَةُ تُرَجَّحُ الْغَلِيظَةُ مُطْلَقًا وَإِلاَّ فَإِنْ تَسَاوَيَا أَوْ زَادَتِ الْغَلِيظَةُ فَكَذَلِكَ وَإِلاَّ تُرَجَّحُ الْخَفِيفَةُ.

ثَانِيًا: مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ

6- قَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ النَّجَاسَاتِ مِنْ حَيْثُ حُكْمُ إِزَالَتِهَا إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَلَا تَجِبُ إِزَالَتُهُ إِلاَّ أَنْ يَتَفَاحَشَ جِدًّا فَيُؤْمَرُ بِهَا.وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ كُلُّ نَجَاسَةٍ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا، أَوْ يُمْكِنُ بِمَشَقَّةٍ كَثِيرَةٍ كَالْجُرْحِ يَمْصُلُ، وَالدُّمَّلِ يَسِيلُ، وَالْمَرْأَةِ تُرْضِعُ، وَالْأَحْدَاثِ تُسْتَنْكَحُ، وَالْغَازِي يَفْتَقِرُ إِلَى إِمْسَاكِ فَرَسِهِ.قَالَ ابْنُ شَاسٍ: وَخَصَّ مَالِكٌ هَذَا بِبَلَدِ الْحَرْبِ، وَتَرَجَّحَ فِي بَلَدِ الْإِسْلَامِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: يُعْفَى عَنِ الْيَسِيرِ مِنْهُ إِذَا رَآهُ فِي الصَّلَاةِ وَيُؤْمَرُ بِغَسْلِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهَا، وَقِيلَ: لَا يُؤْمَرُ بِذَلِكَ، وَهُوَ الدَّمُ، وَهَلْ يَلْحَقُ بِهِ فِي الْعَفْوِ قَلِيلُ الْقَيْحِ وَقَلِيلُ الصَّدِيدِ؟ أَوْ يَلْحَقَانِ بِقَلِيلِ الْبَوْلِ؟ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ.

وَأَمَّا حَدُّ الْيَسِيرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ قَالَ عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَابِقٍ: لَا خِلَافَ عِنْدَنَا أَنَّ فَوْقَ الدِّرْهَمِ كَثِيرٌ، وَأَنَّ مَا دُونَ الدِّرْهَمِ قَلِيلٌ، وَفِي قَدْرِ الدِّرْهَمِ رِوَايَتَانِ لِعَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ وَابْنِ حَبِيبٍ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ.

وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو الطَّاهِرِ أَنَّ الْيَسِيرَ هُوَ مِقْدَارُ الْخِنْصِرِ وَأَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا بَيْنَ الدِّرْهَمِ إِلَى الْخِنْصِرِ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: يُعْفَى عَنْ أَثَرِهِ دُونَ عَيْنِهِ.

وَهُوَ الْأَحْدَاثُ عَلَى الْمَخْرَجَيْنِ، وَالدَّمُ عَلَى السَّيْفِ الصَّقِيلِ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ الْخُفُّ يُمْشَى بِهِ عَلَى أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا.وَفِيهِ قَوْلٌ:

إِنَّهُ يُغْسَلُ كَمَا لَوْ مُشِيَ بِهِ عَلَى الدَّمِ وَالْعَذِرَةِ.

الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا عَدَا مَا ذُكِرَ، وَهَذَا الْقِسْمُ يُزَالُ كَثِيرُهُ وَقَلِيلُهُ، وَعَيْنُهُ وَأَثَرُهُ.

ثَالِثًا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ

7- قَسَّمَ الشَّافِعِيَّةُ النَّجَاسَاتِ الْمَعْفُوَّ عَنْهَا بِاعْتِبَارِ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ إِلَى عِدَّةِ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: مَا يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَهُوَ دَمُ الْبَرَاغِيثِ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَكَذَا دَمُ الْقُمَّلِ وَالْبَعُوضِ وَنَحْوِهِ عَلَى مَا رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَنَقَلَهُ عَنِ الْأَكْثَرِينَ، لَكِنْ لَهُ شَرْطَانِ:

1- أَنْ لَا يَكُونَ بِفِعْلِهِ فَلَوْ كَانَ بِفِعْلِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَ فَتَلَوَّثَ بِهِ أَوْ لَمْ يَلْبَسِ الثَّوْبَ بَلْ حَمَلَهُ وَكَانَ كَثِيرًا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إِلَيْهِ وَيَلْتَحِقُ بِالْبَرَاغِيثِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ دَمُ الْبَثَرَاتِ وَقَيْحُهَا وَصَدِيدُهَا حَتَّى لَوْ عَصَرَهُ وَكَانَ الْخَارِجُ كَثِيرًا لَمْ يُعْفَ عَنْهُ.وَكَذَلِكَ دَمُ الدَّمَامِيلِ وَالْقُرُوحِ وَمَوْضِعُ الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ مِنْهُ.

2- أَنْ لَا يَتَفَاحَشَ بِالْإِهْمَالِ، فَإِنَّ لِلنَّاسِ عَادَةً فِي غَسْلِ الثِّيَابِ كُلَّ حِينٍ فَلَوْ تَرَكَ غَسْلَ الثَّوْبِ سَنَةً مَثَلًا وَهُوَ يَتَرَاكَمُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ فِي مَحَلِّ الْعَفْوِ، قَالَهُ الْإِمَامُ.

وَمِنَ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ الْبَلْغَمُ إِذَا كَثُرَ وَالْمَاءُ الَّذِي يَسِيلُ مِنْ فَمِ النَّائِمِ إِذَا ابْتُلِيَ بِهِ وَنَحْوُهُ، وَكَذَلِكَ الْحَدَثُ الدَّائِمُ كَالْمُسْتَحَاضَةِ، وَسَلَسُ الْبَوْلِ، وَكَذَا أَوَانِي الْفَخَّارِ الْمَعْمُولَةِ بِالزِّبْلِ لَا تَطْهُرُ، وَقَدْ سُئِلَ الشَّافِعِيُّ بِمِصْرَ، فَقَالَ: إِذَا ضَاقَ الْأَمْرُ اتَّسَعَ.

الثَّانِي: مَا يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ دُونَ كَثِيرِهِ، وَهُوَ دَمُ الْأَجْنَبِيِّ إِذَا انْفَصَلَ عَنْهُ ثُمَّ أَصَابَهُ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ بَهِيمَةٍ سِوَى الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ فِي الْأَصَحِّ دُونَ كَثِيرِهِ قَطْعًا، وَكَذَلِكَ طِينُ الشَّوَارِعِ الْمُتَيَقَّنُ بِنَجَاسَتِهَا يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ دُونَ كَثِيرِهِ.

وَالْقَلِيلُ مَا يَتَعَذَّرُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْمُتَغَيِّرُ بِالْمَيْتَةِ الَّتِي لَا نَفْسَ لَهَا سَائِلَةً لَا يُعْفَى عَنِ التَّغَيُّرِ الْكَثِيرِ فِي الْأَصَحِّ.

الثَّالِثُ: مَا يُعْفَى عَنْ أَثَرِهِ دُونَ عَيْنِهِ وَهُوَ أَثَرُ الْمَخْرَجَيْنِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرِ وَكَذَلِكَ بَقَاءُ رِيحِ النَّجَاسَةِ أَوْ لَوْنُهَا إِذَا عَسُرَ زَوَالُهُ.

الرَّابِعُ: مَا لَا يُعْفَى عَنْ أَثَرِهِ وَلَا عَيْنِهِ وَلَا قَلِيلِهِ وَلَا كَثِيرِهِ وَهُوَ مَا عَدَا ذَلِكَ.

8- وَقَسَّمَ الشَّافِعِيَّةُ النَّجَاسَاتِ بِاعْتِبَارِ الْعَفْوِ عَنْهَا إِذَا حَلَّتْ فِي الْمَاءِ أَوِ الثَّوْبِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: يُعْفَى عَنْهُ فِي الْمَاءِ وَالثَّوْبِ وَذَلِكَ فِي عِشْرِينَ صُورَةً:

مَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ، وَالْمَيْتَةُ الَّتِي لَا دَمَ لَهَا كَالدُّودِ وَالْخُنْفُسَاءِ أَصْلًا أَوْ لَهَا دَمٌ وَلَكِنَّهُ لَا يَسِيلُ كَالْوَزَغِ، وَغُبَارُ النَّجَاسَةِ الْيَابِسَةِ، وَقَلِيلُ دُخَانِ النَّجَاسَةِ حَتَّى لَوْ أَوْقَدَ نَجَاسَةً تَحْتَ الْمَاءِ، وَاتَّصَلَ بِهِ قَلِيلُ دُخَانٍ لَمْ يَنْجُسْ، وَقَلِيلُ الشَّعْرِ، وَقَلِيلُ الرِّيشِ النَّجِسِ لَهُ حُكْمُ الشَّعْرِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُهُمْ إِلاَّ أَنَّ أَجَزَاءَ الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا حُكْمُ الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ، وَالْهِرَّةُ إِذَا وَلَغَتْ بَعْدَ أَكْلِهَا فَأْرَةً، وَأَلْحَقَ الْمُتَوَلِّي السَّبُعَ بِالْهِرَّةِ وَخَالَفَهُ الْغَزَالِيُّ لِانْتِفَاءِ الْمَشَقَّةِ لِعَدَمِ الِاخْتِلَاطِ، وَمَا اتَّصَلَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَفْوَاهِ الصِّبْيَانِ مَعَ تَحَقُّقِ نَجَاسَتِهَا، خَرَّجَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَأَفْوَاهُ الْمَجَانِينِ كَالصِّبْيَانِ، وَإِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ طَيْرٌ عَلَى مَنْفَذِهِ نَجَاسَةٌ يَتَعَذَّرُ صَوْنُ الْمَاءِ عَنْهُ وَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِانْكِمَاشِهِ فَإِنَّهُ صَرَّحَ فِي الرَّوْضَةِ بِأَنَّا لَوْ تَحَقَّقْنَا وُصُولَ الْمَاءِ إِلَى مَنْفَذِ الطَّيْرِ وَعَلَيْهِ ذَرْقٌ عُفِيَ عَنْهُ، وَإِذَا نَزَلَ الطَّائِرُ فِي الْمَاءِ وَغَاصَ وَذَرَقَ فِيهِ عُفِيَ عَنْهُ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ طَرَفُ الْمَاءِ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا ذُكِرَ فِي السَّمَكِ عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ سَمَكًا فِي حُبٍّ مَا ثُمَّ مَعْلُومٌ أَنَّهُ يَبُولُ فِيهِ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ لِلضَّرُورَةِ، وَفِي تَعْلِيقِ الْبَنْدَنِيجِيِّ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ نَجَسٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ لَا يُمْكِنُ، وَحَكَى الْعِجْلِيُّ عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّ وُقُوعَ الْحَيَوَانِ النَّجِسِ الْمَنْفَذِ فِي الْمَاءِ يُنَجِّسُهُ، وَحُكِيَ عَنْ غَيْرِهِ عَدَمُ التَّنْجِيسِ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِمَقْلِ الذُّبَابِ.

وَإِذَا شَرِبَ مِنَ الْمَاءِ طَائِرٌ عَلَى فِيهِ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تَتَخَلَّلْ غَيْبَتُهُ فَيَنْبَغِي إِلْحَاقُهُ بِالْمَنْفَذِ لِتَعَذُّرِ صَوْنِهِ عَنْهُ، وَوَيْنَمُ الذُّبَابِ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ لَا يُنَجِّسُهُ لِعُسْرِ صَوْنِهِ، وَمِثْلُهُ بَوْلُ الْخُفَّاشِ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ أَوِ الْمَائِعِ، وَغُسَالَةُ النَّجَاسَةِ إِذَا انْفَصَلَتْ غَيْرَ مُتَغَيِّرَةٍ وَلَا زَائِدَةِ الْوَزْنِ فَإِنَّهَا تَكُونُ طَاهِرَةً مَعَ أَنَّهَا لَاقَتْ نَجِسًا.

الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يُعْفَى عَنْهُ فِي الْمَاءِ دُونَ الثَّوْبِ كَالْمَيْتَةِ الَّتِي لَا دَمَ لَهَا سَائِلٌ وَخَرْءِ السَّمَكِ وَمَنْفَذِ الطَّائِرِ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يُعْفَى عَنْهُ فِي الثَّوْبِ دُونَ الْمَاءِ وَهُوَ الدَّمُ الْيَسِيرُ مِنْ سَائِرِ الدِّمَاءِ إِلاَّ دَمَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ بِهِ طِينُ الشَّارِعِ الْمُتَيَقَّنِ نَجَاسَتُهُ، فَلَوْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ أَوْ غَمَسَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ وَعَلَيْهَا قَلِيلُ دَمِ بُرْغُوثٍ أَوْ قَمْلٍ أَوْ غَمَسَ فِيهِ ثَوْبًا فِيهِ دَمُ بُرْغُوثٍ تَنَجَّسَ.وَفَرَّقَ الْعِمْرَانِيُّ بَيْنَ الثِّيَابِ وَالْمَاءِ بِوَجْهَيْنِ:

أَحَدِهِمَا: أَنَّ الثِّيَابَ لَا يُمْكِنُ صَوْنُهَا عَنِ النَّجَاسَةِ بِخِلَافِ الْأَوَانِي فَإِنَّ صَوْنَهَا مُمْكِنٌ بِالتَّغْطِيَةِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ غَسْلَ الثِّيَابِ كُلَّ وَقْتٍ يَقْطَعُهَا فَعُفِيَ عَنْ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ الَّتِي يُمْكِنُ وُقُوعُهَا فِيهَا بِخِلَافِ الْمَاءِ وَمِنْ ذَلِكَ الثَّوْبُ الَّذِي فِيهِ دَمُ بُرْغُوثٍ يُصَلِّي فِيهِ وَلَوْ وَضَعَهُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ يُنَجِّسُهُ فَيَحْتَاجُ الَّذِي يَغْسِلُهُ أَنْ يُطَهِّرَهُ بَعْدَ الْغَسْلِ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ، وَكَذَلِكَ مَا عَلَى مَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ يُعْفَى عَنْهُ فِي الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ حَتَّى لَوْ سَالَ بِعَرَقٍ وَنَحْوِهِ وَوَقَعَ فِي الثَّوْبِ عُفِيَ عَنْهُ فِي الْأَصَحِّ، وَلَوِ اتَّصَلَ بِالْمَاءِ نَجَّسَهُ.

الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا لَا يُعْفَى عَنْهُ فِيهِمَا وَهُوَ مَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا أَدْرَكَهُ الطَّرْفُ مِنْ سَائِرِ الْأَبْوَالِ وَالْأَرْوَاثِ وَغَيْرِهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ.

رَابِعًا: مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ

9- الْأَصْلُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ شَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَاتِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ أَوْ لَا يُدْرِكُهُ كَالَّذِي يَعْلَقُ بِأَرْجُلِ الذُّبَابِ وَالْبَقِّ وَمَا أَشْبَهَهُ، لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}، وَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما- «أُمِرْنَا أَنْ نَغْسِلَ الْأَنْجَاسَ سَبْعًا»، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ.

إِلاَّ أَنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا عَنْ هَذَا الْأَصْلِ بَعْضَ النَّجَاسَاتِ وَصَرَّحُوا بِالْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِهَا مِنْهَا: 10- الدَّمُ، وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ فِي الصَّلَاةِ دُونَ الْمَائِعَاتِ وَالْمَطْعُومَاتِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ غَالِبًا لَا يَسْلَمُ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلِقَوْلِ عَائِشَةَ - رضي الله عنهما-: «مَا كَانَ لِإِحْدَانَا إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ تَحِيضُ فِيهِ فَإِذَا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ قَالَتْ بِرِيقِهَا فَقَصَعَتْهُ بِظُفُرِهَا»، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْعَفْوِ عَنْهُ لِأَنَّ الرِّيقَ لَا يُطَهِّرُ وَيَتَنَجَّسُ بِهِ ظُفُرُهَا وَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ دَوَامِ الْفِعْلِ، وَمِثْلُهُ لَا يَخْفَى عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَا يَصْدُرُ إِلاَّ عَنْ أَمْرِهِ، وَلِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ فَعُفِيَ عَنْهُ كَأَثَرِ الِاسْتِجْمَارِ وَيُعْفَى عَنْهُ وَلَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مُصَلٍّ بِأَنْ أَصَابَتِ الْمُصَلِّيَ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ كَانَتْ مِنْهُ.

وَقِيلَ: لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ مِنْ دَمِ نَفْسِهِ، وَالْيَسِيرُ: الَّذِي لَمْ يَنْقُضِ الْوُضُوءَ، وَالْكَثِيرُ: مَا نَقَضَ الْوُضُوءَ.

وَالدَّمُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ مَا كَانَ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ لَا الْكَلْبَ وَلَا الْخِنْزِيرَ.

11- مَا تَوَلَّدَ مِنَ الدَّمِ مِنَ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ، فَإِنَّ الْعَفْوَ عَنْهُمَا أَوْلَى لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي نَجَاسَتِهِمَا، وَلِذَلِكَ قَالَ أَحَمْدُ: هُوَ أَسْهَلُ مِنَ الدَّمِ فَعَلَى هَذَا يُعْفَى مِنْهُ عَنْ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْفَى عَنْ مِثْلِهِ فِي الدَّمِ، لِأَنَّ هَذَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ نَجَاسَتُهُ لِاسْتِحَالَتِهِ مِنَ الدَّمِ، وَلِأَحْمَدَ قَوْلٌ بِطَهَارَةِ قَيْحٍ وَمِدَّةٍ وَصَدِيدٍ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دَمٍ أَوْ قَيْحٍ أَوْ صَدِيدٍ خَرَجَ مِنْ قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، وَفِي وَجْهٍ يُعْفَى عَنْ ذَلِكَ.

12- وَيُعْفَى أَثَرُ الِاسْتِجْمَارِ بِمَحَلِّهِ، بَعْدَ الْإِنْقَاءِ وَاسْتِيفَاءِ الْعَدَدِ بِلَا خِلَافٍ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَعَدَّى مَحَلَّهُ إِلَى الثَّوْبِ أَوِ الْبَدَنِ لَمْ يُعْفَ عَنْهُ.

13- وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ سَلَسِ بَوْلٍ بَعْدَ كَمَالِ التَّحَفُّظِ لِمَشَقَّةِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ.

14- وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دُخَانِ نَجَاسَةٍ وَبُخَارِهَا وَغُبَارِهَا مَا لَمْ تَظْهَرْ لَهُ صِفَةٌ فِي الشَّيْءِ الطَّاهِرِ، لِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: مَا لَمْ يَتَكَاثَفْ.

15- وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ مَاءٍ تَنَجَّسَ بِشَيْءٍ مَعْفُوٍّ عَنْ يَسِيرِهِ كَدَمٍ وَقَيْحٍ فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ، قَالَهُ ابْنُ حَمْدَانَ فِي رِعَايَتَيْهِ، وَعِبَارَتُهُ: وَعَنْ يَسِيرِ الْمَاءِ النَّجِسِ بِمَا عُفِيَ عَنْ يَسِيرِهِ مِنْ دَمٍ وَنَحْوِهِ، وَأَطْلَقَ الْمُنَقِّحُ فِي التَّنْقِيحِ الْقَوْلَ عَنِ ابْنِ حَمْدَانَ بِالْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِ الْمَاءِ النَّجِسِ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِمَا عُفِيَ عَنْ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ.

16- وَيُعْفَى عَنْ مَا فِي الْعَيْنِ مِنْ نَجَاسَةٍ فَلَا يَجِبُ غَسْلُهَا لِلتَّضَرُّرِ بِهِ وَكَذَا يُعْفَى عَنْ نَجَاسَةٍ دَاخِلَ أُذُنٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّضَرُّرِ أَيْضًا وَهُوَ مُتَّجَهٌ كَمَا قَالَ الرَّحِيبَانِيُّ.

17- وَيُعْفَى عَنْ حَمْلِ كَثِيرِ النَّجَاسَةِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ لِلضَّرُورَةِ.

18- وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ طِينِ شَارِعٍ تَحَقَّقَتْ نَجَاسَتُهُ لِعُسْرِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ وَمِثْلُهُ تُرَابٌ، قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَإِنْ هَبَّتْ رِيحٌ فَأَصَابَ شَيْئًا رَطْبًا غُبَارٌ نَجِسٌ مِنْ طَرِيقٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ مَا عُفِيَ عَنْ يَسِيرِهِ كَالدَّمِ وَنَحْوِهِ عُفِيَ عَنْ أَثَرِ كَثِيرِهِ عَلَى جِسْمٍ صَقِيلٍ بَعْدَ مَسْحٍ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْمَسْحِ يَسِيرٌ وَإِنْ كَثُرَ مَحَلُّهُ فَعُفِيَ عَنْهُ كَيَسِيرِ غَيْرِهِ.

وَقَالُوا: يُضَمُّ نَجَسٌ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ مُتَفَرِّقٌ بِثَوْبٍ وَاحِدٍ، بِأَنْ كَانَ فِيهِ بُقَعٌ مِنْ دَمٍ أَوْ قَيْحٍ أَوْ صَدِيدٍ فَإِنْ صَارَ بِالضَّمِّ كَثِيرًا لَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ فِيهِ وَإِلاَّ عُفِيَ عَنْهُ، وَلَا يُضَمُّ مُتَفَرِّقٌ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَوْبٍ بَلْ يُعْتَبَرُ كُلُّ ثَوْبٍ عَلَى حِدَتِهِ.

وَالْمُرَادُ بِالْعَفْوِ فِي جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَصِحُّ مَعَهُ مَعَ الْحُكْمِ بِنَجَاسَتِهِ حَتَّى لَوْ وَقَعَ هَذَا الْيَسِيرُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ نَجَّسَهُ.

أَعْيَانُ الْمَعْفُوَّاتِ مِنَ الْأَنْجَاسِ:

19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسَائِلِ الْعَفْوِ عَنِ النَّجَاسَاتِ تَبَعًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِي ضَوَابِطِ الْعَفْوِ عَنِ النَّجَاسَاتِ وَتَبَعًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِي التَّقْدِيرَاتِ الَّتِي اعْتَبَرُوهَا لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْكَثِيرِ وَالْيَسِيرِ.

وَلِمَعْرِفَةِ أَعْيَانِ النَّجَاسَاتِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا وَمَوْقِفِ الْفُقَهَاءِ تُجَاهَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (نَجَاسَةٌ، عَفْوٌ ف 7- 11).

الْمَعْفُوَّاتُ فِي الصَّلَاةِ

20- سَتْرُ الْعَوْرَةِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ فَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إِلاَّ بِسَتْرِهَا، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى بُطْلَانِ صَلَاةِ مَنْ كَشَفَ عَوْرَتَهُ فِيهَا قَصْدًا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا انْكَشَفَتْ بِلَا قَصْدٍ وَفِي الْمِقْدَارِ الْمَعْفُوِّ عَنِ انْكِشَافِهِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (مُصْطَلَحِ: صَلَاةٌ ف 120).

الْمَعْفُوَّاتُ فِي الزَّكَاةِ

21- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَكَاةِ أَوْقَاصِ السَّائِمَةِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (مُصْطَلَحِ: أَوْقَاصٌ ف 7- 9).

وَأَمَّا سَائِرُ الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ كَالنَّقْدَيْنِ فَلَا يَجْرِي الْعَفْوُ فِيهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَتَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ بِحِسَابِهِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ عَفْوٌ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ خُمُسَ نِصَابٍ، ثُمَّ كُلُّ مَا زَادَ عَلَى الْخُمُسِ عَفْوٌ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ خُمُسًا آخَرَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (زَكَاةٌ ف 72، وَعَفْوٌ ف 12).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


11-تاج العروس (حدب)

[حدب]: الحَدَبُ مُحَرَّكَةً هو خُرُوج الظّهْرِ ودُخُولُ الصَّدْرِ والبَطْنِ بخلافِ القَعَسِ، وقد حَدِبَ كفَرِحَ حَدَبًا وأَحْدَبَ اللهُ زَيْدًا، واحْدَوْدَبَ وتَحَادَبَ، قال العُجَيْرُ السَّلُولِيُّ:

رَأَتْنِي تَحَادَبْتُ الغَدَاةَ ومَنْ يَكُنْ *** فَتًى قَبْلَ عَامِ المَاءِ فَهْوَ كَثِيرُ

وهُوَ أَحْدَبُ بَيِّنُ الحَدَبِ وحَدِبٌ الأَخِيرَةُ عن سيبويهِ. والحَدَبُ: حُدُورٌ وفي بعض النسخ: حُدُوبٌ بالبَاءِ الموحدة بدلَ الراءِ ورَجَّحَهُ شيخُنَا، وأَنْكَرَ الرَاءَ، وجَعَله تصحيفًا، مع أَنَّه الثابتُ في الأُصولِ المَقْرُوَّة، والنُّسَخِ الصحِيحَةِ المَتْلُوَّةِ، ومِثْلُهُ في لسان العرب وعبارتُه: والحَدَبَ: حُدُور فِي صَبَبٍ كَحَدَب المَوْجِ وفي بعض النسخ: الرِّيحِ والرَّمْلِ، والحَدَبُ: الغِلَظُ المُرْتَفِعُ منَ الأَرْضِ والجَمْعُ أَحْدَابٌ وحِدَابٌ، قال كعبُ بن زُهَير:

يَوْمًا تَظَلُّ حِدَابُ الأَرْضِ يَرْفَعُهَا *** مِنَ اللَّوَامِعِ تَخْلِيطٌ وتَزْيِيلُ

والحَدَبَة، مُحَرَّكَةً: مَوْضِعُ الحَدَب في الظَّهْرِ النّاتِئِ، قاله الأَزْهَرِيّ، ومِنَ الأَرْضِ: مَا أَشْرَفَ وغَلُظ وارْتفعَ، وَلَا تَكُونُ الحَدَبَةُ إِلَّا في قُفٍّ أَوْ غِلَظِ أَرْضٍ، وفي الأَساسِ: ومن المجاز: نَزَلُوا في حَدَبٍ منَ الأَرْضِ وَحَدَبَةٍ، وهِيَ النَّشْزُ ومَا أَشْرَفَ مِنْهُ، ونَزَلُوا في حِدَابٍ، وفي التنزيل {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} يُرِيدُ يَظْهَرُونَ مِنْ غَلِيظ الأَرْضِ ومُرْتَفِعِها، وقال الفرّاء: من كُلِّ أَكَمَةٍ؛ أَي من كُلِّ موضعٍ مُرْتَفِعٍ.

والحَدَبُ مِنَ المَاءِ: تَرَاكُبُهُ وفي نسخة: تَرَاكُمُهُ فِي جَرْيِهِ وقِيلَ مَوْجُهُ، وقال الأَزهريّ: حَدَبُ المَاءِ مَا ارْتَفَع مِنْ أَمْوَاجِهِ، قال العجَّاج:

نَسْجَ الشَّمَالِ حَدَبَ الغَدِيرِ

قال ابن الأَعرابيّ: ويقال: حَدَبُ الغَدِيرِ: تَحَرُّكُ المَاءِ، وأَمْوَاجُه.

ومن المجاز: جَاءَ حَدَبُ السَّيْلِ بالغُثَاءِ، وهُوَ ارْتِفَاعُهُ وكَثْرَتُهُ، ونَظَرَ إِلى حَدَبِ الرَّمْلِ، وهُوَ ما جَاءَ به الرِّيحُ فارْتَفَع.

والحَدَبُ: الأَثَرُ الكَائِنُ فِي الجِلْدِ كالحَدَرِ، قاله الأَصمعيّ، وقال غيرُه الحَدَرُ: السِّلَعُ قال الأَزهريّ: وصوابُه بالجيم.

والحَدَبُ: نَبْتٌ أَو هو النَّصِيُّ، وأَرْضٌ حَدِبَةٌ: كَثِيرَتُهُ أَي النَّصِيِّ.

والحَدَبُ: مَا تَنَاثَرَ مِنَ البُهْمَى فَتَرَاكَمَ قال الفرزدق:

غَدَا الحَيُّ مِنْ بَيْنِ الأَعَيْلَامِ بَعْدَ مَا *** جَرَى حَدَبُ البُهْمَى وهَاجَتْ أَعَاصِرُهْ

قال ابن الأَعْرَابِيّ: حَدَبُ البُهْمَى: مَا تَنَاثَرَ منه فَرَكِبَ بعضُه بعْضًا كحَدَبِ الرَّمْلِ، وهو مَجَازٌ.

والحَدَبُ مِنَ الشِّتَاءِ: شِدَّةُ بَرْدِهِ يقال: أَصَابَنَا حَدَبُ الشِّتَاءِ، وهو مجازٌ، في الناموس: لكَوْنِهَا السَّبَب لِقعْدَةِ الأَحْدَبِ، قال شيخنا: وهَذَا السَّبَبُ مِمَّا يُقْضَى له العَجَبُ، وقال ابنُ أَحْمَرَ في صفة فَرَسِ:

لَمْ يَدْرِ مَا حَدَبُ الشِّتَاءِ ونَقْصُهُ *** ومَضَتْ صَنَابِرُهُ ولَمْ يَتَخَدَّدِ

واحْدَوْدَبَ الرَّمْلُ: احْقَوْقَفَ.

وحُدْبُ الأُمُورِ بالضَّمِّ: شَوَاقُّهَا جَمْعُ شَاقَّةٍ، وهو الأَمْرُ الذي فيه مَشَقَّة واحِدَتُهَا: حَدْبَاءُ وهو مجازٌ قال الراعي:

مَرْوَانُ أَحْزَمُهَا إِذَا نَزَلَتْ بِه *** حُدْبُ الأُمُورِ، وخَيْرُهَا مَأْمُولًا

والأَحْدَبُ: الشِّدَّةُ، وخُطَّةٌ حَدْبَاءُ، وأُمُورٌ حُدْبٌ، وسَنَةٌ حَدْبَاءُ: شَدِيدَةٌ، بارِدَةٌ، شُبِّهَتْ بالدَّابَّةِ الحَدْبَاءِ والأَحْدَبُ: عِرْقٌ مُسْتَبْطِنٌ عَظْمَ الذِّرَاع وقيلَ: الأَحْدَبَانِ فِي وَظيفَيِ الفَرَسِ: عِرْقَانِ، وأَمَّا العُجَايَتَانِ فَالعَصَبَتَانِ تَحْمِلَانِ الرِّجْلَ كُلَّهَا.

والأَحْدَبُ: جَبَلٌ لِفَزَارَةَ في دِيَارِهِم، أَو هو أَحَدُ الأَثْبِرَةِ بمَكَّةَ حَرَسَهَا الله تعالى أَنشد ثعلب:

أَلَمْ تَسَلِ الرَّبْعَ القَوَاءَ فَيَنطِقُ *** وهَلْ تُخْبِرَنْكَ اليَوْمَ بَيْدَاءُ سَمْلَقُ

فَمُخْتَلَفُ الأَرْيَاحِ بَيْنَ سُوَيْقَةٍ *** وأَحْدَبَ كَادَتْ بَعْدَ عَهْدِكَ تُخْلِقُ

والذي يَقْتَضِيهِ ذِكْرُه في أَشْعَارِ بَنِي فَزَارَةَ أَنَّه في دِيَارِهِم، ولعَلَّهُمَا جَبَلَانِ يُسَمَّى كلُّ واحدٍ منهما بأَحْدَبَ.

والأُحَيْدِبُ مُصَغَّرًا: جَبَلٌ بالرُّومِ مُشْرِفٌ على الحَدَثِ الذي غَيَّرَ بِنَاءَهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ، ذَكَرَه أَبُو فِرَاسِ بن حمْدَانِ فقالَ:

ويومٍ عَلَى ظَهْرِ الأُحَيْدِبِ مُظْلِمٍ *** جَلَاهُ بِبِيضِ الهِنْدِ بِيضٌ أَزَاهِرُ

أَتَتْ أُمَمُ الكُفّارِ فيه يَؤُمُّها *** إِلى الحَيْنِ مَمْدُودُ المَطَالِبِ كافِرُ

فَحَسْبِي به يَوْمَ الأُحَيْدِبِ وَقْعَةً *** عَلَى مِثْلِهَا في العِزِّ تُثْنَى الخَنَاصِرُ

وقال أَبو الطيِّب المتنَبِّي:

نَثَرْتَهُمُ يَوْمَ الأُحَيْدِبِ نَثْرَةً *** كَمَا نُثِرَتْ فَوْقَ العَرُوسِ الدَّرَاهِمُ

وحَدَابِ كقَطَامِ مَبْنِيٌّ على الكَسْرِ. السَّنَةُ المُجْدِبَةُ الشَّدِيدَةُ القَحْطِ، وحَدَابِ: موضع، ويُعْرَبُ أَي يُسْتَعْمَلُ مُعْرَبًا أَيضًا، نَقَلَه الفراء، وهو المعروفُ المشهورُ، قال جرير:

لَقَدْ جُرِّدَتْ يَوْمَ الحِدَابِ نِسَاؤُكمْ *** فَسَاءَتْ مَجَالِيهَا وقَلَّتْ مُهُورُهَا

والحِدَابُ كَكِتَابٍ: موضع بِحَزْنِ بَنِي يَرْبُوعٍ، لَهُ يَوْمٌ مَعْرُوفٌ وقالَ أَبُو حَنِيفَة: الحِداب: جِبَالٌ بالسَّرَاةِ يَنْزِلُهَا بَنُو شَبَابَةَ، قَومٌ مِنْ فَهْمِ بنِ مالكٍ.

والحُدَيْبِيَةُ مُخَفَّفَةً كدُوَيْهِيَةٍ نقَلَه الطُّرْطُوشِيُّ في التفسير، وهو المنقول عن الشافعيّ، وقال أَحْمَدُ بنُ عِيسَى: لَا يَجُوزُ غيرُهُ، وقال السُّهَيْلِيُّ: التَّخْفِيفُ أَكْثَرُ عندَ أَهلِ العربية، وقال أَبو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: سأَلتُ كلَّ مَنْ لَقيتُ ممن وَثِقْتُ بعِلْمِه من أَهلِ العَرَبِيّة عنِ الحُدَيْبِيةِ فلم يَخْتَلِفوا علَى أَنَّهَا مُخففَةٌ، ونقَلَه البَكْرِيُّ عنِ الأَصمعيِّ أَيضًا، ومِثْلُه في المَشَارِق والمَطَالع، وهو رأْيُ أَهْلِ العِرَاقِ وقَدْ تُشَدَّدُ يَاؤُهَا، كما ذَهَب إِليه أَهلُ المَدِينَةِ، بَلْ عامَّةُ الفُقَهَاءِ والمُحَدِّثِينَ، وقال بعضُهُم: التَّخْفِيفُ هو الثَّابِتُ عند المُحَقِّقِينَ، والتثقيل عندَ أَكْثَرِ المُحَدِّثِينَ، بل كثيرٌ من اللُّغَوِيِّينَ والمُحَدِّثِينَ أَنْكَرَ التخفيفَ، وفي العناية: المُحَقِّقُونَ على التَّخْفِيفِ كما قاله الشافعيُّ وغيرهُ، وإِن جَرى الجمهورُ على التشديدِ، ثم إِنهم اختلفوا فيها، فقال في المصباح: إِنَّهَا بِئرٌ قُرْبَ مَكَّةَ، حَرَسَهَا الله تعالى، على طَرِيقِ جُدَّةَ دُونَ مَرْحَلَةٍ، وجَزَمَ المُتَأَخِّرُونَ أنها قَرِيبَةَ من قَهْوَة الشُّمَيْسِيّ، ثم أُطلِق على المَوْضِعِ، ويقال: بعضُها في الحِلِّ وبعضُهَا في الحَرَمِ، انتهى، ويقال، إِنَّها وادٍ بَيْنَهُ وبينَ مَكَّةَ عَشَرَةُ أَميالٍ أَو خَمْسَةَ عَشَرَ مِيلًا، على طريق جُدَّةَ، ولذا قيل: إِنَّهَا على مَرْحَلَةٍ من مَكَّةَ أَو أَقلَّ من مَرْحَلَةٍ، وقيل: إِنها قَرْيَةٌ ليست بالكَبِيرَةِ سُمِّيَتْ بالبِئرِ التي هُنَاكَ عندَ مَسْجِدِ الشَّجَرَةِ، وبينَهَا وبينَ المَدِينَةِ تِسْعُ مَرَاحِلَ، ومَرْحَلَةٌ إِلى مكةَ، وهي أَسْفَل مَكَّةَ، وقال مالك: وهي من الحَرَمِ، وحَكَى ابنُ القَصَّارِ أَنَّ بعضَها حِلٌّ، أَو سُمِّيَتْ لِشَجَرَةٍ حَدْبَاءَ كانت هُنَاكَ، وهي التي كانت تَحْتَهَا بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ.

والحُدَيْبَاءُ تَصْغِيرُ الحَدْبَاءِ: مَاءٌ لِجَذِيمَةَ.

وتحَدَّبَ بِهِ: تَعَلَّقَ، والمُتَحَدِّبُ المُتَعَلِّقُ بالشَّيْ‌ءِ المُلازِمُ له.

وتَحَدَّبَ عَلَيْهِ: تَعَطَّفَ وحَنَا، وتَحَدَّبَتِ المَرْأَةُ أَي لم تَتَزَوَّجْ وأَشْبَلَتْ أَي أَقَامَتْ من غيرِ تَزْوِيجٍ وعَطَفَتْ عَلَى وَلَدِهَا، كحَدِبَ بالكَسْرِ يَحْدَبُ، مَفْتُوحَ المُضَارِعِ، حَدَبًا، فهو حَدِبٌ فيهما أَي في المعنيينِ، وحَدِبَتِ المَرْأَةُ على وَلَدِهَا كتَحَدَّبَتْ، قال أَبُو عَمْرٍو: الحَدَأَ: مِثْلُ الحَدَبِ، حَدِثْتُ عَلَيْهِ حَدَأً وَحَدِبْتُ عَلَيْهِ حَدَبًا أَي أَشْفَقْتُ عليه، وفي حديث عليٍّ يَصِفُ أَبَا بَكْرٍ رضيَ الله عنهما، «وأَحْدَبُهُمْ عَلَى المُسْلِمِينَ» أَيْ أَعْطَفُهُمْ وأَشْفَقُهُم، مِنْ حَدِبَ عَلَيْهِ يَحْدَبُ إِذَا عَطَفَ، ومنه قولُهم: الحَدَبُ عَلَى حَفَدَةِ العِلْمِ والأَدَب.

والحَدْبَاءُ في قصيدة كَعْبِ بن زُهير:

كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهُ *** يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ

يُرِيدُ على النَّعْشِ، وقيل: أَرادَ بالآلَةِ الحَالَةَ، وبالحَدْبَاءِ الصَّعْبةَ الشَّدِيدَةَ، ويقالُ: المُرْتَفِعَة.

ومن المَجَازِ: حُمِلَ عَلى آلَةٍ حَدْبَاءَ، وكَذَا سَنَةٌ حَدْبَاءُ: شَدِيدَة بَارِدَةٌ، وخُطَّةٌ حَدْبَاءُ.

والحَدْبَاءُ أَيْضًا: الدَّابَّةُ التي بَدَتْ حراقِفُهَا وعَظْمُ ظَهْرِهَا، والحَرَاقِفُ: جَمْعُ حَرْقَفَةٍ، وهي رَأْسُ الوَرِكِ، وفي الأَساس: ومن المجاز: دَابَّةٌ حَدْبَاءُ: بدَتْ حَرَاقِفُهَا مِنْ هُزَالِهَا، انتهى، وفي اللسان: وكذلك يقالُ: حَدْبَاءُ حِدْبِيرٌ وحِدْبَارٌ، ويقال هُنَّ حُدْبٌ حَدَابِيرُ، انتهى؛ أَي ضُمَّ إِلى حُرُوفِ «الحدب» حَرْفٌ رابعٌ فَرُكِّبَ منها رُبَاعِيٌّ، كذا في الأَساس.

وَوَسِيقٌ أَحْدَبُ: سَرِيعٌ، قال:

قَرَّبهَا ولَمْ تَكُنْ تُقَرَّبُ *** مِنْ أَهْلِ تَيَّانَ وَسِيقٌ أَحْدَبُ

كذا في اللسان.

والحَدْبُ: المدَافَعَةُ، يقالُ: حَدَبَ عَنْهُ كَضَرَبَ إِذَا دَافَعَ عنه، ومَنَعَه، حَكَاهُ غَيْرُ واحِدٍ، نَقَلَه شيخُنَا وقال الشيخُ ابنُ بَرِّيّ: وَجَدْتُ حَاشِيَةً مَكْتُوبَةً لَيْسَتْ من أَصْلِ الكِتَابِ حَدَبْدَبَى اسْمُ لُعْبَةٍ لِلنَّبِيطِ وأَنْشَدَ لِسَالم بنِ دَارَةَ يَهْجُو مُرَّةَ ابنَ رافِعٍ الفَزَارِيَّ.

حَدَبْدَبَى حَدَبْدَبَى يا صِبْيَانْ *** إِنَّ بَنِي فَزَارَةَ بنِ ذُبْيَانْ

قَدْ طَرَّقَتْ ناقَتُهُمْ بِإِنْسَانْ *** مُشَيَّإٍ أَعْجِبْ بِخَلْقِ الرَّحْمَنْ

قال الصاغانيّ: والعَامَّةُ تجعلُ مكانُ الباءِ الأُولى نُونًا، ومكانَ الباءِ الثانيةِ لامًا، وهو خَطَأٌ، وسيأْتي في ح بلد ب د.

* ومما يستدركُ عليه:

حُدْبَانُ بالضَّمِّ: جَدُّ رَبِيعَةَ بنِ مُكَدَّمٍ كَذَا ضبَطه الحافظُ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


12-تاج العروس (حصب)

[حصب]: الحَصْبَةُ ويُحَرَّكُ، والحَصِبَةُ كَفَرِحَةٍ وهذه عن الفَرَّاءِ: بَئْرٌ يَخْرُجُ بالجَسَدِ، ومنه تقول: قد حُصِبَ، بالضَّمِّ، كما تقول: قد جُدِرَ، فهو مَحْصُوبٌ ومَجْدُورٌ وحَصِب كَسَمعَ يَحْصَبُ فهو مَحْصُوبٌ أَيضًا، والمُحَصَّبُ كَالمُجَدَّرِ وفي حَدِيثِ مَسْرُوقٍ «أَتَيْنَا عَبْدَ اللهِ فِي مُجَدَّرِينَ ومُحَصَّبِينَ» هم الَّذِين أَصَابَهُمُ الجُدَرِيُّ والحَصْبَةُ.

والحَصَبُ، مُحَرَّكَةً، والحَصْبَةُ بِفَتْح فَسُكُون: الحِجَارَةُ، وَاحِدَتُهَا حَصَبَةٌ، مُحَرَّكَةً كَقَصَبَةٍ وهو نَادِرٌ وحَصَبْتُه: رَمَيْتُهُ بها، والحَجَرُ المَرْمِيُّ به حَصَبٌ، كما يقال نَفَضْتُ الشي‌ءَ نَفْضًا، والمَنْفُوضُ نَفَضٌ، والحَصَبُ: الحَطَبُ عَامَّةً وقَال الفَرَّاءُ: هي لُغَةُ اليَمَنِ وكُلّ ما يُرْمَى به في النَّارِ من حَطَبٍ وغَيْرِه فهو حَصَبٌ وهو لُغَةُ أَهْلِ نَجْدٍ، كما رُوِيَ عن الفَرَّاءِ أَيضًا، أَوْ لَا يَكُونُ الحَطَبُ حَصَبًا حَتَّى يُسْجَرَ به، وفي التنزيل {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} ورُويَ عنْ عليٍّ كَرَّم الله وجهَه أَنه قرأَه «حَطَبُ جَهَنَّمَ». وحَصَبَ النَّارَ بالحَصَبِ يَحْصُبُهَا حَصْبًا: أَضْرَمَهَا، وقال الأَزهَرِيُّ: الحَصَبُ: الحَطَبُ الذي يُلْقَى في تَنُّورٍ أَوْ في وَقُودٍ فأَمَّا مَا دَامَ غَيْرَ مُسْتَعْمَلٍ للسَّجُورِ فلا يُسَمَّى حَصَبًا، وقال عِكْرِمَةُ: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} هو حَطَبُ جَهَنَّمَ بالحَبَشِيَّةِ، قال ابْنُ عَرَفَةَ: إِنْ كان أَرَادَ أَنَّ العَرَبَ تَكَلَّمَتْ به فَصَارَ عَرَبِيَّةً وإِلَّا فليس في القُرْآنِ غَيْرُ العَرَبِيّةِ.

والحَصْبَاءُ: الحَصَى، وَاحِدَتُهَا حَصَبَةٌ مُحَرَّكَةً كَقَصَبَةٍ، وحَصْبَاءُ كقَصْبَاءَ، وهو عندَ سيبويهِ اسمٌ للجَمْعِ، وفي حَدِيثِ الكَوْثَرِ «فَأَخْرَجَ من حَصْبَائِهِ فَإِذَا يَاقُوتٌ أَحْمَرُ» أَي حَصَاهُ الذي في قَعْرِه، وفي الحديث «أَنَّهُ نَهَى عن مَسِّ الحَصْبَاءِ في الصَّلَاةِ» كَانُوا يُصَلُّونَ على حَصْبَاءِ المَسْجدِ ولا حَائِلَ بين وُجُوهِهِم وبينها، فكانوا إِذَا سَجَدُوا سَوَّوْهَا بِأَيْدِيهِمْ، فَنُهُوا عن ذلك لأَنَّهُ فِعْلٌ مِنْ [غير] أَفعالِ الصَّلَاةِ، والعَبَثُ فيها لا يَجُوزُ وتَبْطُلُ به إِذَا تَكَرَّرَ، ومنه‌الحَدِيثُ «إِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ مَسِّ الحَصْبَاءِ فَوَاحِدَةً» أَي مَرَّةً وَاحِدَ رُخِّصَ له فِيها لِأَنَّهَا غَيْرُ مُكَرَّرَةٍ.

وأَرْضٌ حَصِبَةٌ، كَفَرِحَةٍ ومَحْصَبَةٌ بالفَتْح: كَثِيرَتُهَا؛ أَي الحَصْبَاءِ وقَال الأَزهرِيُّ: مَحْصَبَةٌ: ذَاتُ حَصْبَةٍ ومَجْدَرَةً: ذَاتُ جُدَرِيٍّ، ومَكَانٌ حَاصِبٌ ذو حَصْبَاءَ، كَحَصِبٍ، على النَّسَبِ، لأَنَّا لم نَسْمَعْ له فِعْلًا، قال أَبُو ذُؤَيْبٍ:

فَكَرَعْنَ فِي حَجَرَاتِ عَذْبٍ بارِدٍ *** حَصِبِ البِطَاحِ تَغِيبُ فِيهِ الأَكْرُعُ

والحَصْبُ: رَمْيُكَ بالحَصْباءِ، حَصَبَهُ يَحْصُبُهُ حَصْبًا: رَمَاهُ بها وفي حَديثِ ابن عُمَرَ أَنَّهُ رَأَى رَجُلَيْنِ يَتَحَدَّثَانِ والإِمَامُ يَخْطُبُ فَحَصَبَهُمَا» أَي رَجَمَهَا بِالحَصْبَاءِ. وحَصَبَ المَكَانَ: بَسَطَهَا فيه أَيْ أَلْقَى فِيهِ الحَصْبَاءَ الصِّغَارَ وفَرَشَهُ بالحَصْبَاءِ وفي الحديثِ «أَنَّهُ حَصَبَ المَسْجِدَ وقَالَ: هُوَ أَغْفَرُ للنُّخَامَةِ» أَيْ أَسْتَرُ لِلْبُزَاقَةِ إِذَا سَقَطَتْ فِيهِ كَحَصَّبَهُ، في الحَدِيثِ «أَنَّ عُمَرَ رضي ‌الله‌ عنه أَمَرَ بِتَحْصِيبِ المَسْجِدِ».

والحَصْبَاءُ هو الحَصَى الصِّغَارُ.

وحَصَبَ عن صَاحِبِهِ: تَوَلَّى عنه مُسْرِعًا، كَحَاصِبِ الرِّيحِ كَأَحْصَبَ، وفي الأَرْضِ: ذَهَبَ فيها.

وفي الحَدِيثِ الذي جَاءَ في مَقْتَلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عنه قال «إِنَّهُمْ تَحَاصَبُوا فِي المَسْجِدِ حَتَّى مَا أُبْصِرَ أَدِيمُ السَّمَاءِ «أَي تَرَامَوْا بهَا والحَصْبَاءُ: صِغَارُهَا وكِبَارُهَا.

والإِحْصَابُ: أَنْ يُثِيرَ الحَصَى فِي عَدْوِهِ، وقال اللَّحْيَانِيُّ: يكون ذلك في الفَرَسِ وغيره مِمَّا يَعْدُو، تَقُولُ منه: أَحْصَبَ الفَرَسُ وغَيْرُه إِذَا أَثَارَ الحَصْبَاءَ فِي جَرْيِهِ، وفَرَسٌ مُهْلِبٌ مُحْصِب.

وَلَيْلَةُ الحَصْبَةِ بِالفَتْحِ فالسُّكُونِ هي اللَّيْلَةُ الَّتي بعد أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وقال الأَزهريُّ: التَّحْصِيبُ: النَّوْمُ بِالمُحَصَّبِ اسْمِ الشِّعْبِ الذي مَخْرَجُهُ إِلى الأَبْطَحِ بينَ مَكَّةَ ومِنًى يُقَامُ فيه سَاعَةً مِن اللَّيْلِ ثمَّ يُخرَج إِلى مَكَّةَ، سُمِّيَ به لِلْحَصْبَاءِ الذي فيه، وكان مَوْضِعًا نَزَلَ بِهِ رسُولُ الله صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم من غَيْرِ أَنْ سَنَّهُ لِلنَّاسِ، فَمَنْ شَاءَ حَصَّبَ ومَنْ شَاءَ لم يُحَصِّبْ. ومنه‌حَدِيثُ عَائِشةَ رَضِي اللهُ عنها «ليْسَ التَّحْصِيبُ بِشَيْ‌ءٍ» أَرادَتْ به النَّوْمَ بالمُحَصَّبِ عند الخُرُوج مِن مَكَّةَ سَاعَةً والنُّزُولَ به، ورُوِيَ عن عُمَرَ أَنَّهُ قَال «يَنْفِرُ النَّاسُ كُلُّهُمْ إِلَّا بَنِي خُزَيْمَةَ ـ يَعْنِي قُرَيْشًا ـ لا يَنْفِرُونَ فِي النَّفْرِ الأَوَلِ، قال: وقال: يا آل خُزَيْمَةَ حَصِّبُّوا» أَي أَقِيمُوا بالمُحَصَّبِ، وقال أَبُو عُبَيْدٍ: التَّحْصِيبُ إِذَا نَفَرَ الرَّجُلُ مِن مِنًى إِلى مَكَّةَ لِلتَّوْدِيعِ أَقَامَ بالأَبْطَحِ حتى يَهْجَعَ بها سَاعَةً مِن اللَّيْلِ، ثُمَّ يَدْخُل مَكَّةَ، قال: وهذَا شي‌ءٌ كان يُفعَلُ ثُمَّ تُرِكَ، وخُزَيْمَةُ هم قُرَيْشٌ وكِنَانَةُ، وليس فيهم أَسَدٌ، وقال القَعْنَبِيّ: التَّحْصِيبُ: نُزُولُ المُحَصَّبِ، بِمَكّةَ، وأَنشد:

فَلِلَّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مِنْ تَفَرُّقٍ *** أَشَتَّ وأَنْأَى مِنْ فِرَاقِ المُحَصَّبِ

أَو هو؛ أَي المُحَصَّبُ: مَوْضِعُ رَمْيِ الجِمَارِ بِمِنًى قاله الأَصْمَعِيُّ، وأَنشد:

أَقَامَ ثَلَاثًا بالمُحَصَّبِ مِنْ مِنًى *** ولَمَّا يَبِنْ لِلنَّاعِجَاتِ طَرِيقُ

وقال الرَّاعي:

أَلَمْ تَعْلَمِي يا أَلْأَمَ النَّاسِ أَنَّنِي *** بِمَكَّةَ مَعْرُوفٌ وعِنْدَ المُحَصَّبِ

يُرِيدُ مَوْضِع الجِمَارِ، ويقال له أَيْضًا: حِصَابٌ بِكَسْرِ الحَاءِ.

والحَاصِبُ رِيحٌ شَدِيدَةٌ تَحْمِلُ التُّرَابَ والحَصْبَاءَ أَو هو ما تَنَاثَرَ مِن دُقَاقِ الثَّلْجِ والبَرَدِ، وفي التَّنْزِيلِ {إِنّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِبًا} وكذلك الحَصِبَةُ قَالَ لَبِيدٌ:

جَرَّتْ عَلَيْهَا أَنْ خَوَتْ مِنْ أَهْلِهَا *** أَذْيَالَهَا كُلُّ عَصُوفٍ حَصِبَهْ

وقوله {إِنّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِبًا} أَي عَذَابًا يَحْصِبُهُمْ؛ أَي يَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِن سِجِّيلٍ، وقيل: حَاصِبًا؛ أَي رِيحًا تَقْلَعُ الحَصْبَاءَ لِقُوَّتِهَا، وهي صِغَارُهَا وكِبَارُهَا، وفي حدِيثِ عليٍّ رضي ‌الله‌ عنه قَالَ لِلْخَوَارِجِ «أَصَابَكُمْ حَاصِبٌ» أَي عَذَابٌ مِن اللهِ، وأَصْلُهُ رُمِيتُمْ بالحصْبَاءِ مِن السماءِ، ويقال لِلرِّيح التي تَحْمِلُ التُّرَابَ والحَصى: حَاصِبٌ والحَاصِبُ: السَّحَابُ؛ لأَنَّهُ يَرْمِي بِهِما أَي الثَّلْجِ والبَرَدِ رَمْيًا، وقال الأَزهريُّ: الحَاصِبُ: العَدَدُ الكَثِيرُ مِن الرَّجَّالةِ، وهو مَعْنَى قولِ الأَعشى:

لَنَا حَاصِبٌ مِثلُ رِجْلِ الدَّبَى

وقيل المُرَادُ بِهِ الرُّمَاةُ، وعنِ ابنِ الأَعْرَابِيِّ: الحَاصِبُ مِنَ التُّرَابِ مَا كَانَ فيه الحَصْبَاءُ. وقال ابن شُمَيْلٍ: الحَاصِبُ: الحَصْبَاءُ في الرِّيحِ، كَانَ يَوْمُنَا ذَا حَاصِبٍ، وَرِيحٌ حَاصِبٌ وحَصِبَةٌ: فِيهَا حَصْبَاءُ، قال لبيد:

جَرَّتْ عَلَيْهَا أَنْ خَوَتْ مِنْ أَهْلِهَا *** أَذْيَالَهَا كُلُّ عَصُوفٍ حَصِبَهْ

وتقول: هُو حَاصِب، ليسَ بِصَاحِب.

والحَصَبُ، مُحَرَّكَةً، وضَبَطَهُ الصاغانيُّ بالفَتْحِ: انْقِلَابُ الوتَرِ عن القَوْسِ قال:

لَا كَزَّةِ السَّيْرِ وَلَا حَصُوبِ

ويقَال: هو وَهَمٌ إِنَّمَا هو الحَضْبُ، بالضَّادِ المُعْجَمَةِ لا غيرُ، كما سَيَأْتِي.

وحَصَبَةُ بِهَاءٍ مِنْ غَيْرِ لَام اسْمُ رَجُلٍ، عن ابن الأَعْرَابِيّ، وأَنشد:

أَلَسْتَ عَبْدَ عَامِرِ بنِ حَصَبَهْ

وحَصَبَةُ مِنْ بَنِي أَزْنَمَ، جَدُّ ثَعْلَبَةَ بنِ الحَارِثِ اليَرْبُوعِيْ، له ذِكرٌ في السِّيَرِ.

والحَصِبُ كَكَتِفٍ هو اللَّبَنُ لا يَخْرُجُ زُبْدُهُ، مِنْ بَرْدِه وحُصَيْبٌ كَزُبَيْرٍ: موضع باليَمَنِ وهو وَادِي زَبِيدَ حَرَسَهَا اللهُ تعالى وسَائِرَ بِلَاد المُسْلِمِينَ، حَسَنُ الهَوَاءِ فَاقَتْ نِسَاؤُهُ حُسْنًا وجَمَالًا وظَرَافَةً ورِقَّةً، ومنه قَوْلُهُمُ المَشْهُورُ إِذَا دَخَلْتَ أَرْضَ الحُصَيْبِ فَهَرْوِلْ أَي أَسْرِعْ في المَشْيِ لِئَلَّا تُفْتَتَنَ بِهِنَّ.

ويَحْصِبُ بنُ مَالِكٍ مُثَلَّثَة الصَّادِ: حَيٌّ بِهَا أَيْ باليَمَنِ، وهو من حِمْيَرَ، ذَكَرَ الحَافِظُ ابنُ حَزْمٍ في جَمْهَرَةِ الأَنْسَاب أَنَّ يَحْصِبُ أَخُو ذِي أَصْبَحَ جَدِّ الإِمَامِ مَالِكٍ رضي ‌الله‌ عنه وقيل هي يَحْصُبُ، نُقِلَتْ مِن قَوْلِكَ: حَصَبَهُ بالحَصَى يَحْصُبُه، وليس بِقَوِيٍّ والنِّسْبَةُ إِليها مُثَلَّثَةً أَيْضًا لا بالفَتْحِ فقط، كما زَعَمَ الجَوْهَرِيُّ وعِبَارَتُهُ في الصّحَاح: ويَحْصِبُ، بالكَسْرِ: حَيٌّ من اليَمَنِ، وإِذَا نَسَبْتَ إِليه قلت: يَحْصَبِيٌّ، بالفَتْحِ مِثْل تَغْلِبَ وتَغْلَبِيٍّ، وهكذا قالَهُ أَبُو عُبَيْد.

قُلْت: ونَقلَ شَيْخُنَا عن ابنِ مَالِك في شَرْحِ الكَافِيَةِ ما نَصُّهُ: الجَيِّدُ في النَّسَبِ إِلى تَغْلِبَ ونَحْوِه من الرُّبَاعِيِّ السَّاكِنِ الثَّانِي المَكْسُورِ الثَّالِثِ إِبْقاءُ الكَسْرَةِ، والفَتْح عنْدَ أَبي العَبَّاسِ، وهو مَطَّرِدٌ، وعِنْدَ سيبويهِ مَقْصُورٌ على السَّمَاعِ، ومن المَنْقُولِ بالفَتْحِ والكَسْرِ تَغْلِبِيُّ ويَحْصِبِيُّ ويَثْرَبِيُّ، انْتَهى، ونَقَلَ عنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّ فَتحَ العَيْنِ المَكْسُورَةِ من الرُّبَاعِيِّ شَاذٌ يُحْفَظُ ما وَرَدَ منهُ ولا يُقَاسُ عَلَيْه، صَحَّحَهُ بَعْضٌ، وقَالُوا: هو مَذْهَبُ سِيْبَوَيْهِ والخَلِيلِ، وقال بَعْضٌ: إِنَّهُ يُقَاسُ، وعُزِيَ لِلْمُبَرّدِ وابنِ السَّرَّاجِ والرُّمّانِيِّ والفَارِسِيِّ، وتَوَسَّطَ أَبو مُوسَى الحَامِضُ فقال: المُخْتَارُ أَنْ لا يُفْتَحَ، ونَقَلَ أَبُو القَاسِمِ البَطَلْيَوسِيُّ أَنَّ جَوَازَ الوَجْهَيْنِ فيه مَذْهَبُ الجُمْهُورِ، وإِنَّما خَالَفَ فيه أَبُو عَمْرٍو، فالجَوْهرِيُّ إِنَّمَا ذَكَرَ ما صَحَّ عِنْدَهُ كما هو مِن عادَتِهِ، وهو رأْي المُبَرِّدِ ومَن وافَقَهُ، ويَعْضُدُهُ النَّظَرُ، وهو أَنَّ العَرَبَ دائِمًا تَمِيلُ إِلى التَّخْفِيفِ ما أَمكنَ، فَحَسْبُ المَجْدِ أَنْ يُقَلِّدَهُ لأَنَّهُ في مَقَامِ الاجْتِهَادِ والنَظَّرِ، وهو كَلامٌ ليس عَلَيْهِ غُبَارٌ.

ويَحْصِبٌ كَيَضْرِب: قَلْعَةٌ بالأَنْدَلُسِ. سُمِّيَتْ بِمَن نَزَلَ بها مِن اليَحْصَبيِّينَ مِن حِمْيَرَ، فكان الظاهر فيه التَّثْلِيث أَيضًا كما جَرَى عَلَيْهِ مُؤرِّخُو الأَنْدَلُسِ، منها سَعِيدُ بن مَقْرُونِ بنِ عَفَّانَ، له رِحْلَةٌ وسَمَاعٌ، والنَّابِغَةُ بنُ إِبْرَاهِيمَ بنِ عَبْدِ الوَاحِدِ، المُحَدِّثَانِ رَوَى الأَخِيرُ عن مُحَمَّدِ بنِ وَضَّاحٍ، ومَاتَ سنة 313 والقَاضِي عِيَاضُ بْنُ مُوسَى اليَحْصِبِيُّ صَاحِبُ الشِّفَاءِ والمطالع في اللُّغَةِ، وأَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْدَانَ اليَحْصِبِيُّ الأَنْدَلُسِيُّ، كَتَبَ عنه السِّلَفِيُّ، وكذَا أَخُوهُ أَبُو الحَسَنِ عَلِيٌّ، مُحَدِّثُونَ، ذَكَرَهُمَا الصَّابُونِيُّ.

وبُرَيْدَةُ بنُ الحُصَيْبِ كَزُبَيْرٍ بنِ الحَارِثِ بنِ الأَعْرَجِ الأَسْلَمِيُّ أَبو الحُصَيْبِ صَحَابِيٌّ، دُفِنَ بِمَرْوَ ومُحَمَّدُ بنُ الحُصَيْب بنِ أَوْس بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ بُرَيْدَةَ حَفِيدُهُ، وجَدُّهُ عَبْدُ اللهِ دُفِنَ بِجَاوَرْسَةَ إِحْدَى قُرَى مَرْوَ.

وتَحَصَّبَ الحَمَامُ: خرَجَ إِلى الصَّحْرَاءِ لطَلَبِ الحَبِّ.

ومن المجاز: حَصَبُوا عنه: أَسْرَعُوا في الهَرَبِ، كما في الأَساس.

والأَحْصَبَانِ: تَثْنِيَةُ الأَحْصَبِ، قال أَبو سَعِيدٍ: اسْمُ مَوْضعٍ باليَمَنِ، يُنْسَبُ إِليه أَبو الفَتْحِ أَحمدُ بنُ عبدِ الرحمن بن الحُسَين الأَحْصَبِيُّ الوَرَّاقُ، كذا في المعجم.

ويَحْصِبُ أَيضًا: مِخْلَافٌ فيه قَصْرُ زَيْدَانَ، يَزْعُمُونُ أَنه لم يُبْنَ قَطُّ مِثْلُهُ، وبينَهُ وبينَ ذَمَارِ ثمانيةُ فراسخَ، ويقال له: عِلْوُ يَحْصِبَ، وبينه وبين السحول ثَمَانِيَةُ فَراسِخَ، وسِفْلُ يَحْصِب: مِخْلَافٌ آخَرُ كذا في المعجم.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


13-تاج العروس (تيت)

[تكملة لمادة تيت]: ثم إِنَّ ابنَ منظور ذكر في مادة تيت: رجلٌ تِيتاءُ وتَيْتاءُ، بالكسر والفتح، وهو الذِي تُقْضَى شَهوتُه قبلَ أَنْ يُفْضِيَ إلى امرأَتِه. وعن أَبي عمرو: التِيتاءُ الرّجل الّذي إِذا أَتَى المرْأَةَ أَحْدثَ، وهو العِذْيَوْطُ. وقال ابن الأَعْرَابيّ: التِّئْتاء: الرجل الّذي يُنْزِل قبلَ أَن يُولِجَ.

قال شيخنا: فظهر بهذا أَن مادته ت ي ت، فيكون وزنه فِعْلاءُ. وقال ابن القَطّاع في كتاب الأَبنية: وزنه فِعّال، وعبارته: وأَمّا فِعّالٌ، فيكون اسمًا موضوعًا نحو قثّاء وحِنّاء، ويكون نعتًا نحو رجُل تِيتاءَ للعِذْيوْطِ، على رأْي سيبويه، وعليه فلامه همزةٌ، كما هو ظاهر. وقال محمد بن جَعْفر: ت ي ن التِّيناءُ، عن أَبي الحَسن، تِفْعَالٌ، من الأَنَاة. وعن الفَرّاءِ: إِنّه هو الّذِي يَرْمِي بمائِه قبلَ أَن يَصلَ إِلى المرأَة.

وقال محمَّد بن جعفر أَيضًا: ت ي ت استُعمِلَ منه التِّيتاءُ، وهو الرَّجل العِذْيَوْط، وهو أَيضًا الّذي يَقْضِي قبلَ أَن يُجَامِع. وقال رَضيُّ الدِّين الشّاطِبِيّ وهو تِفْعال من التَّأَتِّي، أَي: يَتأَتَّى له الماءُ قبلَ الجِماع. قال شيخُنَا: وعلى كلّ حال، فتركه هنا من غير إشارة، قصورٌ، وكان الأَليقَ عليه التَّنْبِيهُ على ذلك.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


14-تاج العروس (قعد)

[قعد]: القُعُودُ، بالضّم، والمَقْعَدُ، بالفتح: الجُلُوسُ.

قَعَد يَقْعُد قُعُودًا ومَقْعَدًا، وكَوْنُ الجُلُوس والقُعود مُترادِفَيْنِ اقتصَر عليه الجوهريُّ وغيرُه، ورَجَّحه العلَّامة ابنُ ظفَر ونقلَه عن عُرْوَةَ بنِ الزُّبيرِ، ولا شكَّ أَنَّه مِن فُرْسَانِ الكَلَامِ، كما قالَه شيخُنَا. أَو هُوَ أَي القُعُود مِنَ القِيَامِ، والجُلُوسُ مِنَ الضَّجْعَةِ ومِنَ السُّجودِ، وهذا قد صَرَّحَ به ابنُ خَالَوَيْهِ وبعضُ أَئمَّة الاشتقاقِ، وجَزَم به الحَرِيريُّ في الدُّرَّة، ونَسَبَه إِلى الخَليل بن أَحمدَ، قال شيخُنا: وهناك قولٌ آخَرُ، وهو عَكْسُ قولِ الخَلِيل، حكاه الشَّنَوانيُّ، ونقلَه عن بعض المُتَقدِّمِين، وهو أَن القُعُودَ يكون من اضْطِجَاع وسُجودٍ، والجُلوس يكون مِن قِيامٍ، وهو أَضْعَفُهَا، ولستُ منه عَلى ثِقَةٍ، ولا رأَيْتُه لِمَن أَعتمدهُ، وكثيرًا ما يَنْقُل الشَّنَوَانيُّ غَرَائبَ لا تَكاد تُوجَدُ في النَّقْلِيَّاتِ. فالعُمْدَة على نَحْوِه وآرائِه النَّظَرِيَّة أَكثرُ. وهناك قولٌ آخرُ رابعٌ، وهو أَن القُعُودَ ما يكون فيه لُبْثٌ وإِقامةٌ مَا، قال صاحِبُه: ولذا يُقَال قَوَاعِدُ البَيْتِ، ولا يُقَال جَوَالِسُه. والله أَعلم.

وقَعَدَ بِه: أَقْعَدَه. والمَقْعَدُ والمَقْعَدَةُ: مَكَانُه أَي القُعودِ.

قال شيخُنا: واقْتِصارُه على قَوْلِه «مَكَانُه» قُصُورٌ، فإِن المَفْعَل مِن الثلاثيِّ الذي مُضَارِعه غيرُ مكسورٍ بالفَتْحِ في المَصْدَرِ، والمكانِ، والزَّمَانِ، على ما عُرِف في الصَّرْفِ.

انتهى. وفي اللسان: وحَكى اللِّحيانيُّ: ارْزُنْ في مَقْعَدِك ومَقْعَدَتِك، قال سيبويهِ: وقالوا: هو مِنّي مَقْعَدَ القَابِلَة؛ أَي في القُرْبِ، وذلك إِذا دَنَا فَلَزِقَ مِن بَيْنِ يَديْكَ، يرِيد: بِتِلْكَ المَنْزِلَة، ولكنه حذف وأَوْصَلَ، كما قالوا: دَخَلْت البيتَ؛ أَي في البيْتِ.

والقِعْدَةُ، بالكسر: نَوْعٌ منه؛ أَي القُعُودِ، كالجِلْسَةِ، يُقَال: قَعَدَ قِعْدَةَ الدُّبِّ، وثَرِيدَةٌ كقِعْدَةِ الرَّجُلِ. وقِعْدَةُ الرَّجُل: مِقْدَارُ ما أَخَذَه القَاعِدُ مِن المَكَانِ قعوده.

ويُفْتَح، وفي اللسان: وبالفَتْحِ المَرَّةُ الواحِدَةُ. قال اللِّحيانيُّ: ولها نَظائرُ. وقال اليَزيدِيُّ: قَعَدَ قَعْدَةً واحِدَةً وهو حَسَنُ القِعْدَةِ.

والقِعْدَةُ: آخِرُ وَلَدِكَ، يقال: للذَّكَرِ والأُنْثَى والجَمْعِ، نقلَه الصاغانيّ.

ويقال: أَقْعَدَ البِئرَ: حَفَرَهَا قَدْرَ قِعْدَةٍ بالكسر، أَوْ أَقْعَدَها، إِذا تَرَكَهَا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ ولَمْ يَنْتَهِ بها المَاءِ وقال الأَصمعيُّ: بِئْرٌ قِعْدَةٌ؛ أَي طُولُها طُولُ إِنسانٍ قاعِدٍ؛ وقال غيره: عُمْقُ بِئْرِنا قِعْدَةٌ وقَعْدَةٌ؛ أَي قَدْرُ ذلك، ومرَرْتُ بماءٍ قِعْدَةَ رَجُلٍ، حكاه سِيبويهِ، قال: والجَرُّ الوَجْهُ، وحكى اللِّحْيَانيُّ: ما حَفَرْتُ في الأَرْضِ إِلَّا قِعْدَةً وقَعْدَةً.

فظهر بذلك أَن الفَتْحَ لُغَةٌ فيه. فاقتصارُ المصنِّف على الكَسْرِ: قُصورٌ، ولم يُنَبّه على ذلك شَيْخُنَا.

وذو القَعْدَةِ، بالفتح ويُكْسَر: شَهْرٌ يَلِي شَوَّالًا، سُمِّيَ به لأَن العرَبَ كانوا يَقْعُدُونَ فِيه عَنِ الأَسْفَارِ والغَزْوِ والمِيرَةِ وطَلَبِ الكَلإِ ويَحُجُّون في ذي الحِجَّةِ، الجمع: ذَوَاتُ القَعْدَةِ يعني: بجمْع ذي وإِفراد القَعْدَة، وهو الأَكثر، وزاد في المِصْباح: وذَوَات القَعَدَاتِ. قلت: وفي التهذيب في ترجمة شعب، قال يونس: ذَوَات القَعَدَاتِ، ثم قال: والقِيَاس أَن يقول: ذَوَاتُ القَعْدَة.

والقَعَدُ، مُحَرَّكَةً، جمعُ قاعدٍ، كما قالوا حَارِسٌ وحَرَسٌ، وخادِمٌ وخَدَمٌ. وفي بعض النسخ: القَعَدَةُ. بزيادة الهاءِ ومثله في الأَساس، وعبارته: وهو من القَعَدَةِ قَوْمٍ من الخَوَارِج قَعَدُوا عن نُصْرَةِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَه و [عن] مُقَاتَلَتِه، وهو مَجاز. ومَنْ يَرَى رَأْيَهُمْ أَي الخوارِجِ قَعَدِيُّ، مُحَرَّكَةً كَعَرَبِيٍّ وعَرَبٍ، وعَجَمِيٍّ وعَجَمٍ، وهم يَرَوْنَ التَّحْكِيمَ حَقًّا، غيرَ أَنّهُمْ قَعَدُوا عَن الخُرُوجِ على الناسِ؛ وقال بعضُ مُجَّان المُحْدَثِينَ فيمَن يَأْبَى أَنْ يَشْربَ الخَمْرَ وهو يسْتَحْسِن شُرْبَها لِغَيْرِه، فشَبَّهه بالذي يَرَى التَّحْكِيمَ وقد قَعَد عنه فقال:

فَكَأَنِّي وَمَا أُحَسِّن مِنْهَا *** قَعَدِيٌّ يُزَيِّنُ التَّحْكِيمَا

والقَعَدُ: الذينَ لا دِيوانَ لَهُمْ، وقيل: القَعَدُ: الذين لا يَمْضُونَ إِلى القِتَالِ، وهو اسمٌ للجَمْع، وبه سُمِّيَ قَعَدُ الحَرُورِيَّة، ويقال: رَجُلٌ قاعِدٌ عن الغَزْوِ وقَوْمٌ قُعَّادٌ وقاعِدُون، وعن ابنِ الأَعرابيّ: القَعَدُ: الشُّرَاةُ الذين يُحَكِّمُونَ ولا يُحَارِبُون، وهو جمعُ قاعدٍ، كما قالُوا حَرَسٌ وحارِسٌ.

وقال النضْرُ: القَعَدُ: العَذِرةُ والطَّوْفُ.

والقَعَدُ: أَن يَكونَ بِوَظِيفِ البَعِير تَطَامُنٌ واسْتِرْخَاءٌ، وجملٌ أَقْعَدُ، من ذلك، والقَعَدَة، بِهَاءٍ: مَرْكَبٌ للنِّساءِ، هكذا في سائر النُّسخ التي عندنا، والصواب على ما في اللسان والتكملة: مَرْكَب الإِنسان، وأَمّا مَرْكَب النِّساءِ فهو القَعِيدةُ، وسيأْتي في كلام المصنف قريبًا. والقَعَدَةُ أَيضًا الطِّنْفِسَةُ التي يُجْلَس عليها وما أَشبهَها.

وقالوا: ضَرَبَه ضَرْبَةَ ابْنَة اقْعُدِي وقُومِي أَي ضَرْبَ الأَمَة، وذلك لِقُعودِهَا وقِيَامِها في خِدْمَة مَوالِيها، لأَنها تُؤْمَر بذلك، وهو نَصُّ كلامِ ابنِ الأَعرابيّ.

وأُقْعِد الرَّجُلُ: لم يَنْهَضْ، وقال ابنُ القَطَّاع: مُنِعَ القِيَامَ، وبه قُعَادٌ، بالضمّ، وإِقْعَادٌ أَي، دَاءٌ يُقْعِدُه، فهو مُقْعَدٌ، إِذا أَزْمَنَه داءٌ في جَسَدِه حتى لا حَرَاك به، وهو مَجَازٌ. وفي حديث الحُدُودِ: «أُتِيَ بامرأَةٍ قد زَنَتْ، فقال مِمَّنْ؟ قالت: من المُقْعَد الذي في حائِطِ سَعْدٍ»، قال ابنُ الأَثير: المُقْعَد: الذي لا يَقْدِر على القِيَامِ لِزَمَانَةٍ به، كأَنَّه قد أَلْزِم القُعُودَ، وقيل: هو من القُعَادِ الذي هو الدَّاءُ يأُخُذُ الإِبلَ في أَوْرَاكِها فيُمِيلُها إِلى الأَرض.

ومن المَجاز: أَسْهَرَتْنِي المُقْعَدَاتُ وهي الضَّفَادِعُ، قال الشَّمَّاخُ:

تَوَجَّسْنَ وَاسْتَيْقَنَّ أَنْ لَيْسَ حَاضِرًا

وجَعل ذُو الرُّمَّةِ فِرَاخ القَطَا قَبْلَ أَنْ تَنْهَضَ للطَّيَرانِ مُقْعَدَاتٍ فقال:

إِلى مُقْعَدَاتٍ تَطْرَحُ الرِّيحُ بِالضُّحَى *** عَلَيْهِنَّ رَفْضًا مِنْ حَصَادِ القَلَاقِلِ

وقال أَبو زيدٍ قَعَدَ الرجلُ: قَامَ، وروى أُبَيُّ بنُ كعْبٍ: «عن النبيّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم أَنّه قَرَأَ: {فَوَجَدا فِيها جِدارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} فهدَمه ثُمَّ قَعَدَ يَبْنِيه، قال أَبو بكرٍ: معناه ثُمَّ قامَ يَبنيه» وقال الَّلعِين المِنْقَرِيّ واسمُه مُنَازِلٌ، ويُكنى أَبا الأُكَيْدرِ:

كَلَّا وَرَبِّ البَيْتِ يا كَعَابُ *** لَا يُقنِعُ الجَارِيَةَ الخِضَابُ

ولَا الوِشَاحَانِ وَلَا الجِلْبَابُ *** مِنْ دُونِ أَنْ تَلْتَقِيَ الأَرْكَابُ

ويَقْعُدَ الأَيْرُ لَهُ لُعَابُ

أَي يَقُوم. وقَعَد: جَلَس، فهو ضِدٌّ. صَرَّح به ابنُ القَطَّاع في كتابِه، والصَّاغانيُّ وغيرُه.

ومن المجاز: قَعَدت الرَّخَمَةُ، إِذا جَثَمَتْ، ومن المَجَازِ: قعَدَدَت النَّخْلَةُ: حَمَلَتْ سَنَةً ولمْ تَحْمِلْ أُخْرَى، فهي قاعِدَةٌ، كذا في الأَساس، وفي الأَفعال: لم تَحْمِل عَامَهَا.

وقَعَدَ فُلانٌ بِقِرْنةِ: أَطَاقَهُ و [قَعَد] بَنُو فُلانٍ لبَنِي فُلانٍ يَقْعُدُون: أَطاقُوهُم وجَاءُوهم بأَعْدَادِهِم.

ومن المَجاز: قَعَدَ للحَرْبِ: هَيَّأَ لَهَا أَقْرَانَها، قال:

لأُصْبِحَنْ ظَالِمًا حَرْبًا رَبَاعِيَةً *** فَاقْعُدْ لَهَا وَدَعَنْ عَنْكَ الأَظَانِينَا

وقوله:

سَتَقْعُدُ عَبْدُ اللهِ عَنَّا بِنَهْشَلٍ

أَي سَتُطِيقُها بأَقْرَانِهَا فتَكْفِينا نحن الحَرْبَ.

ومن المجاز: قَعَدَت الفَسِيلَةُ: صَارَ لَهَا جِذْعٌ تَقْعُد عَلَيْه.

والقَاعِدُ هي، يقال: في أَرْض فُلانٍ مِن القاعِدِ كذا وكذا أَصْلًا، ذَهَبُوا به إِلى الجِنْسِ، أَو القاعِدُ من النَّخْلِ: التي تَنَالُهَا اليَدُ، وقال ابنُ الأَعرابيّ في قول الراجز:

تُعْجِلُ إِضْجَاعَ الجَشِيرِ القَاعِدِ

قال: القاعِدُ: الجُوَالِقُ المُمْتَلِي‌ءُ حَبًّا كأَنَّه من امتلائه قاعِدٌ. والجَشِير: الجُوَالِق.

ومن المجاز: القَاعِدُ من النساءِ: التي قَعَدَتْ عَنِ الوَلَدِ و [عَن] الحَيض و [عن] الزَّوْجِ، والجمْعُ قَوَاعِدُ. وفي الأَفعال: قَعَدت المرأَةُ عن الحَيْضِ: انقَطَعَ عنهَا، وعن الأَزواج: صَبَرتْ، وفي التنزيل: {وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ}، قال الزجَّاجُ: هن اللواتي قَعَدْنَ عن الأَزواجِ، وقال ابن السّكّيت: امرأَةٌ قاعِدٌ. إِذا قَعَدَتْ عن المَحيضِ، فإِذا أَرَدْتَ القُعُودَ قلت: قاعِدَةٌ. قال: ويقولون: امرأَةٌ واضِعٌ، إِذا لم يكن عليها خِمَارٌ، وأَتَانٌ جامِعٌ إِذا حَمَلَت، وقال أَبو الهيثم: القواعِدُ من [صِفات]: الإِناث، لا يقال: رِجَالٌ قواعدُ.

وفي حديث أَسماءَ الأَشْهَلِيَّةِ: «إِنَّا مَعاشِرَ النِّسَاءِ مَحْصوراتٌ مقصوراتٌ قَوَاعِدُ بُيُوتِكم، وحَوَامِلُ أَوْلادِكم» قال ابن الأَثير: القواعِدُ: جمع قاعِدٍ، وهي المرأَةُ الكبيرةُ المُسِنَّةُ، هكذا يقال بغير هاءٍ؛ أَي أَنها ذاتُ قُعُودٍ، فأَمَّا قاعِدةٌ فهي فاعِلَة من قولِك قَدْ قَعَدَتْ قُعُودًا، ويجمع على قواعِدَ أَيضًا. وقَوَاعِدُ الهَوْدَجِ: خَشَبَاتٌ أَرْبَعُ مُعْترِضَة تَحْتَه رُكِّب فِيهِنَّ الهَوْدَجُ.

ورَجُلٌ قُعْدِيٌّ، بالضمّ والكسر: عاجِزٌ، كأَنه يُؤْثِر القُعُودَ، وكذلك ضُجْعِيٌّ وضِجْعِيّ، إِذا كان كثير الاضْطِجَاعِ.

ويقال: فلانٌ قَعِيدُ النَّسَبِ ذو قُعْدَدٍ ورجل قُعْدُدٌ بضمّ الأَوّل والثالث وقُعْدَدٌ بضم الأَوّل وفتح الثالث أَثبتَه الأَخْفَشُ ولم يُثْبِته سيبويه وأَقْعَدُ، وقُعْدُودٌ بالضمّ، وهذه طائِيَّةٌ: قَرِيبُ الآباءِ مِنَ الجَدِّ الأَكْبَرِ، وهو أَمْلَكُ القَرَابَةِ في النَّسبِ، قال سيبويه: قُعْدُدٌ مُلْحَق بِجُعْشُمٍ، ولذلك ظَهر فيه المِثْلَان.

وفلان أَقْعَدُ من فُلَانٍ؛ أَي أَقْرَبُ منه إِلى جَدِّه الأَكبر، وقال اللِّحْيَانيُّ؛ رجلٌ ذو قُعْدُّدٍ، إِذا كان قريبًا مِن القبيلةِ والعَدَدُ فيه قِلَّةٌ. يقال: هو أَقْعَدُهم؛ أَي أَقرَبُهُم إِلى الجَدِّ الأَكْبَرِ. وأَطْرَفُهُم وأَفْسَلُهم؛ أَي أَبْعَدُهم من الجَدِّ الأَكبرِ، ويقال: فلانٌ طَريفٌ بَيِّنُ الطَّرَافَةِ إِذَا كَان كثيرَ الآباءِ إِلى الجَدِّ الأَكبرِ، ليس بذي قُعْدُدٍ، وقال ابنُ الأَعرابيّ: فلانٌ أَقْعَدُ من فُلانٍ أَي أَقل آباءً، والإِقعادُ: قِلَّةُ الآباءِ والأَجدادِ.

والقُعْدُدُ: البَعِيدُ الآباءِ مِنْه؛ أَي من الجَدِّ الأَكبرِ وهو مَذمومٌ، والإِطْرَافُ كَثْرَتُهم، وهو محمودٌ، وقيل: كلاهُمَا مَدْحٌ. قال الجوهريّ: وكان عبدُ الصَّمدِ بنُ عَلِيّ بن عبد اللهِ الهاشميُّ أَقْعَدَ بني العَبَّاسِ نَسَبًا في زَمانِه، وليس هذا ذَمًّا عندهم، وكان يقال له: قُعْدُّدُ بني هاشم، ضِدُّ، قال الجوهريُّ: ويُمْدَح به مِنْ وَجْهٍ لأَنّ الوَلَاءَ لِلْكُبْرِ، ويُذمُّ به مِن وَجْهٍ لأَنه من أَولادِ الهَرْمَى، ويُنْسَب إِلى الضَّعْفِ، قال الأَعشى:

طَرِفُونَ وَلَّادُونَ كُلَّ مُبَارَكٍ *** أَمِرُونَ لَا يَرِثُونَ سَهْمَ القُعْدُدِ

أَنْشَدَه المَرْزُبانيُّ في مُعْجَم الشعراءِ لأَبِي وَجْزَة السَّعْدِيّ في آلِ الزُّبَيْرِ. ورَجُلٌ مُقْعَدُ النَّسبِ: قَصِيرُه، من الفُعْدُدِ، وبه فَسَّر ابنُ السِّكيتِ قَوْلَ البَعِيثِ:

لَقًى مُقْعَدُ الأَنْسَابِ مُنْقَطَعٌ بِهِ

وقوله: مُنْقَطَعٌ به: مُلْقًى؛ أَي لا سَعْيَ له إِن أَرادَ أَنْ يَسْعَى لم يَكُنْ به عَلَى ذلك قُوَّةُ بُلْغَةٍ؛ أَي شَيْ‌ء يَتَبَلَّغُ به، ويقال: فُلانٌ مُقْعَدُ الحَسَبِ، إِذا لمْ يَكن له شَرَفٌ، وقد أَقْعَدَه آباؤُه وتَقَعَّدُوه، وقال الطِّرِمَّاح يَهجو رجُلًا:

ولكِنَّه عَبْدٌ تَقَعَّدَ رَأْيَهُ *** لِئَامُ الفُحُولِ وارْتِخَاصُ المَنَاكِحِ

أَي أَقْعَدَ حَسَبَه عَن المكارمِ لُؤْمُ آبائِه وأُمَّهَاتِه، يقال: وَرِثَ فلانٌ بالإِقْعَادِ، ولا يُقَال: وَرِثَ بالقُعودِ.

والقُعْدُدُ: الجَبَانُ اللَّئيمُ في حَسَبِه القَاعِدُ عَن الحَرْبِ والمَكارِم وهو مَذمومٌ والقُعْدُدُ: الخَامِلُ قال الأَزهريُّ: رَجلٌ قُعْدُدٌ وقُعْدَدٌ: إِذا كان لئيمًا، مِنَ الحَسَبِ المُقْعَد.

والقُعْدُدُ: الذي يَقْعُد به أَنْسَابُه. وأَنشد:

قَرَنْبَى تَسُوفُ قَفَا مُقْرِفٍ *** لَئِيمٍ مَآثِرُهُ قُعْدُدِ

ويقال: اقتَعَدَ فُلانًا عن السَّخاءِ لُؤْمُ جِنْثِه، ومنه قولُ الشاعرِ:

فَازَ قِدْحُ الْكَلْبِيِّ واقْتَعَدَتْ مَعْ *** زَاءَ عَنْ سَعْيِهِ عُرُوقُ لَئِيمِ

ورجل قُعْدِيٌّ وقُعْدِيَّةٌ، بضمِّهما، ويُكْسَرانِ الأَخيرة عن الصاغانيّ وكذلك رجل ضُجْعِيٌّ بالضمّ ويُكْسَرُ، ولا تَدْخُلُه الهاءُ، وقُعَدَةٌ ضُجَعَةٌ، كهُمَزَةٍ. أَي كَثِيرُ القُعُودِ والاضْطِجَاعِ، وسيأْتي في العين إِن شاءَ الله تعالى.

والقُعُودُ، بالضمّ: الأَيْمَةُ، نَقَلَه الصاغانيّ، مصدر آمَتِ المرأَةُ أَيْمَةً، وهي أَيِّمٌ، ككَيِّس، من لا زَوْجَ لها، بِكْرًا كانت أَو ثَيِّبًا، كما سيأْتي.

والقَعُودُ، بالفتح: ما* اتَّخذه الراعِي للرُّكوب وحَمْلِ الزَّادِ والمَتَاع. وقال أَبو عبيدةَ: وقيل: القَعُودُ من الإِبل هو الذي يَقْتَعِدُه الرَّاعِي في كُلِّ حاجَةٍ، قال: وهو بالفَارِسِيّة رَخْتْ كالقَعُودَةِ، بالهَاءِ، قاله الليثُ، قال الأَزهريّ: ولم أَسْمَعْه لغيرِه. قلت: وقال الخليلُ: القَعُودَةُ من الإِبل: ما يَقْتَعِدُه الراعي لحَمْلِ مَتاعِه. والهاءُ للمبالَغَةِ، ويقال: نِعْمَ القُعْدَة هذا، وهو بالضمّ المُقْتَعَدُ.

واقْتَعَدَهُ: اتَّخَذَه قُعْدَةً، وقال النضْر: القُعْدَة: أَن يَقْتَعِدَ الراعِي قَعُودًا مِن إِبلِه فيَرْكَبه، فجَعَل القُعْدَةَ والقَعُودَ شيئًا واحدًا، والاقْتِعَادُ: الرُّكوبُ، ويقول الرجُلُ للراعي: نَسْتَأْجِرُك بكذا، وعلينا قُعْدَتُك. أَي عَلَيْنا مَرْكَبُك، تَرْكَبُ من الإِبل ما شِئْتَ ومتَى شِئْت. الجمع: أَقْعِدَةٌ وقُعُدٌ، بضمتين وقِعْدَانٌ، بالكسر، وقعائِدُ، وقَعَادِينُ جَمْعُ الجَمْعِ.

والقَعُود: القَلُوصُ، وقال ابن شُمَيْل: القَعُودُ، من الذُّكور، والقَلُوص، من الإِناث، والقَعود أَيضًا البَكْرُ إِلى أَن يُثْنِيَ؛ أَي يَدخل في السَّنَة الثانية.

والقَعُود أَيضًا: الفَصِيلُ، وقال ابنُ الأَثير: القَعُود من الدَّوَابِّ: ما يَقْتَعِده الرجُلُ للرُّكُوب والحَمْلِ، ولا يَكُونُ إِلَّا ذَكَرًا، وقيل: القَعُودُ ذَكَرٌ، والأُنثَى قَعُودَةٌ. والقَعُود من الإِبل: ما أَمْكَن أَنْ يُرْكَبَ، وأَدْنَاه أَن يَكُون له سَنَتَانِ، ثم هو قَعُودٌ إِلى أَن يُثْنِيَ فيَدْخُل في السَّنَةِ السَّادِسَة، ثم هو جَمَلٌ. وذكر الكِسَائيُّ أَنه سَمِعَ مَن يقول: قَعُودَةٌ للقَلُوصِ، وللذَّكر قَعُودٌ. قال الأَزهريّ: وهذا عند الكسائيّ مِن نوادِرِ الكَلَامِ الذي سَمِعْتُه من بعضهم. وكلامُ أَكثرِ العَرَبِ عَلَى غَيرِه، وقال ابنُ الأَعْرَابِيّ: هي قَلُوصٌ للبَكْرَة الأُنْثَى، وللبَكْرِ قَعُودٌ مِثْل القَلُوصِ إِلى أَن يُثْنِيَا، ثم هو جَمَلٌ، قال الأَزهَرِيّ: وعلى هذا التفسيرِ قولُ مَن شاهَدْتُ من العَربِ: لا يَكون القَعُودُ إِلَّا البَكْر الذَّكَر، وجَمْعُه قِعْدَانٌ، ثم القَعَادِينُ جَمْعُ الجمْعِ. وللبُشْتِيّ اعتراضٌ لَطِيفٌ على كلامِ ابنِ السِّكيتِ وقد أَجابَ عنه الأَزهريُّ وخَطَّأَه فيما نسَبَه إِليه. راجِعْه في اللسان.

والقَعِيدُ: الجَرَادُ الذي لَمْ يَسْتَوِ جَنَاحُه، هكذا في سائر النُّسخ بالإِفراد، وفي بعض الأُمهات: جَناحَاه بَعْدُ.

والقَعِيد: الأَبُ، ومنه قولهم قَعِيدَكَ لَتَفْعَلَنَّ كذا؛ أَي بِأَبِيكَ قال شيخنا: هو مِن غَرائِبه انفرَدَ بِهَا، كحَمْلِه في القَسَم على ذلك، فإِنه لم يَذْكُره أَحدٌ في معنى القَسَمِ وما يتعلّق به، وإِنما قالوا إِنه مَصْدَر كعَمْرِ اللهِ. قلت: وهذا الذي قاله المصنّف قولُ أَبي عُبَيْدٍ. ونَسَبَه إِلى عَلْيَاءِ مُضَرَ وفسَّره هكذا. وتَحَامُلُ شيخِنا عليه في غيرِ مَحلّه، مع أَنه نقل قول أَبي عُبَيْدٍ فيما بعْدُ، ولم يُتَمِّمْه، فإِنه قالَ بعد قوله عَلْياء مُضَر: تقولُ قَعِيدَك لتَفْعَلَنَّ. القَعِيدُ: الأَبُ، فحذف آخِرَ كلامِه. وهذا عجيبٌ. وقولهم قَعِيدَك الله لا أَفعل ذلك وقِعْدَك الله، بالكَسْرِ، ويقال بالفتح أَيضًا، كما ضَبَطَه الرَّضِيُّ وغيرُه، قال مُتَمِّم بنُ نُوَيْرةَ:

قَعِيدَكِ أَنْ لا تُسْمِعِيني مَلَامَةً *** ولا تَنْكَئِي قَرْحَ الفُؤَاد فَيَيجَعَا

استعطافٌ لا قَسَمٌ، قال ابنُ بَرِّيٍّ في الحواشِي في تَرْجَمَةِ وجع في بَيت مُتَمّم السابِق، وقال: كذا قالَه أَبو عليٍّ، ثم قال: بِدليل أَنّه لم يَجِئْ جَوابُ القَسَمِ. ونصُّ عبارَة أَبي عَلِيٍّ: والدليلُ على أَنه ليس بقَسم كَوْنُه لم يُجَبْ بِجَوابِ القَسَمِ. وهو أَي قَعيدَك الله مَصْدَرٌ واقِعٌ مَوْقِعَ الفِعْل بمنزلَة عَمْرَكَ الله في كونِه يَنْتَصِب انتصابَ المَصَادِرِ الواقِعَةِ مَوْقِعَ الفِعْلِ أَي عَمَرْتُكَ الله، ومعناه: سأَلْتُ الله تَعْمِيرَكَ، وكذلك قِعْدُكَ الله بالكسر تَقْديره قِعْدك الله، هكذا في سائر النّسخ. ونصّ عبارة أَبي عَليٍّ: قَعَّدْتُك اللهَ أَي سأَلتُ الله حِفظَك، من قوله تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ أَي حفيظ، انتهت عبارَةُ ابْنِ بَرِّيّ نقلًا عن أَبي عَلِيّ. فإِذا عَرَفْتَ ذلك فقولُ شيخِنا: وقولُه استعطاف لا قَسَمٌ مُخَالِفٌ للجمهور، تَعَصُّبٌ على المصنّف وقُصُور.

وقال أَبو الهَيْثم: القَعِيدُ: المُقَاعِدُ الذي يُصاحِبك في قُعُودِك، فَعِيل بمعنى مُفَاعِل، وقَاعَدَ الرجُلَ: قَعَدَ معه، وأَنشد للفرزدق:

قَعِيدَكُما اللهَ الذي أَنْتُمَا لَه *** أَلَمْ تَسْمَعَا بِالبَيْضَتَيْنِ المُنَاديَا

والقَعِيد: الحَافِظ، للواحِدِ والجَمْعِ والمُذكّر والمُؤنَّث بلفظٍ واحِدٍ، وهما قَعِيدَانِ وفَعِيلٌ وفَعُول ممَّا يَستوِي فيه الواحِدُ والاثنانِ والجمعُ، كقوله تعالى: {إِنّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ} وكقوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ} وبه فسِّر قولُه تَعالَى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ} وقال النحويّون: معناه: عن اليَمِين قَعِيدٌ وعن الشِّمالِ قَعِيدٌ، فاكْتُفِى بذِكْرِ الواحدِ عن صاحِبِه، وله أَمثِلَةٌ وشواهدُ. راجع في اللسان وأَنشد الكسائيُّ لِقُرَيْبَةَ الأَعرابيّة.

قَعِيدَكِ عَمْرَ اللهِ يا بِنْتَ مَالِكٍ *** أَلَمْ تَعْلَمِينَا نِعْمَ مَأْوَى المُعَصِّبِ

قال: ولم أَسْمَعْ بيتًا اجْتَمَع فيه العَمْرُ والقَعِيد إِلّا هذا.

وقال ثعلبٌ: إِذا قُلْتَ قَعِيدَكُما اللهَ. جاءَ مَعه الاستفهامُ واليمين، فالاستفهامُ كقوله: قَعِيدَكُما اللهَ أَلَمْ يَكنْ كَذا وكذا؟ وأَنشد قَوْلَ الفَرزدقِ السابِقَ ذِكْرُه. والقَسمُ قَعِيدَكَ اللهَ لأُكْرِمَنَّكَ، ويقال: قعِيدَكَ اللهَ لا تَفْعَلْ كذا، وقَعْدَكَ اللهَ بفتح القافِ، وأَمَّا قِعْدَكَ فلا أَعْرفه، ويقال: قَعَدَ قَعْدًا وقُعُودًا، وأَنشد:

فَقَعْدَكِ أَنْ لَا تُسْمِعِيني مَلَامَةً

وقال الجوهريّ: هي يَمِينٌ للعربِ وهي مصادرُ استُعْمِلت مَنصوبةً بفعْلٍ مُضمَرٍ.

والقَعِيدُ: ما أَتَاكَ منْ وَرَائِكَ مِنْ ظَبْيٍ أَو طائرٍ يُتَطَيَّرُ منه، بخلافِ النَّطِيح، ومنه قول عَبِيد بن الأبْرَصِ:

ولَقَدْ جَرَى لَهُمُ ولَمْ يَتَعَيَّفُوا *** تَيْسٌ قَعِيدٌ كالوَشِيجَةِ أَعْضَبُ

ذكره أَبو عُبَيْد في بابِ السَّانِح والبَارِح.

والقَعِيدَة بهاءٍ: المرأَةُ، وهي قَعِيدَةُ الرّجلِ وقَعِيدَةُ بَيْتِه، قال الأَسْعَرُ الجُعْفِيُّ:

لكِنْ قَعِيدَةُ بَيْتِنَا مَجْفُوَّةٌ *** بَادٍ جَنَاجِنُ صَدْرِهَا ولَهَا غِنَى

والجمعُ قَعَائدُ، وقَعِيدةُ الرجُلِ: امرأَتُه، قال:

أُطَوِّفُ ما أُطَوِّفُ ثُمَّ آوِي *** إِلى بَيْتٍ قَعِيدَتُه لَكَاعِ

وكذلكِ قِعَادُه، قال عبدُ الله بن أَوْفَى الخُزَاعِيّ في امرأَتِه:

مُنَجَّدَةٌ مِثْلُ كَلْبِ الهِرَاشِ *** إِذَا هَجَعَ النَّاسُ لَمْ تَهْجَعِ

فَلَيْسَتْ بِتَارِكَةٍ مَحْرَمًا *** وَلَوْ حُفَّ بالأَسَلِ المُشْرَع

فَبِئْسَتْ قِعَادُ الفَتَى وَحْدَهَا *** وبِئْسَتْ مُوَفِّيَةُ الأَرْبَعِ

والقَعيدَة أَيضًا شيْ‌ءٌ تَنْسُجُه النساءُ كالعَيْبَةِ يُجْلَسُ عليه، وقد اقْتَعَدَها، جمْعُها قَعَائدُ، قال امرُّؤُ القَيْس:

رَفَعْنَ حَوَايَا واقْتَعَدْنَ قَعَائِدًا *** وحَفَّفْنَ مِنْ حَوْكِ العِرَاقِ المُنَمَّقِ

والقَعِيدة أَيضًا: الغِرَارَةُ أَو شِبْهُها يكونُ فيها القَدِيدُ والكَعْكُ وجَمعُها قَعائدُ، قال أَبو ذُؤَيْب يَصف صائدًا:

لَهُ مِنْ كَسْبِهِنَّ مُعَذْلَجَاتٌ *** قَعائِدُ قَدْ مُلِئْنَ مِنَ الوَشِيقِ

والضمير في كَسْبِهنّ يَعود عَلَى سِهامٍ ذَكَرها قَبْلَ البيتِ. ومُعَذْلَجَاتٌ: مَمْلُوآت. والوَشِيق: ما جَفَّ مِن اللّحْمِ، وهو القَدِيدُ.

والقَعِيدَةُ من الرَّمْلِ: التي ليسَتْ بمُسْتطيلةٍ، أَو هي الحَبْل اللاطِئُ بالأَرْضِ، بفتح الحاءِ المُهملة وسكون المُوَحَّدة، وقيل هو ما ارْتكمَ منه.

وتَقَعَّدَهُ: قَامَ بأَمْرِه، حكاه ثعلب وابن الأَعرابيّ.

وتَقَعَّدَه: رَيَّثَه عَنْ حَاجَتِه وعَاقَه.

وتَقَعَّدَ فُلانٌ عن الأَمْرِ إِذا لم يَطْلُبْهُ، وقال ثعلب: قَعْدُك الله بالفتح ويُكْسَر، كما تقدّم، وبهما ضبطَ الرضيُّ وغيره، وزعم شيخُنا أَن المصنف لم يذكر الكسر فنسبه إِلى القصور وقَعِيدُك اللهَ لا آتيك، كلاهُما بمعنى نَاشَدْتُك الله، وقيل قَعْدَك الله وقَعِيدَك الله أَي كأَنَّه قاعِدٌ مَعَك بِحفْظِهِ، كذا في النُّسخ، وفي بعض الأُمَّهَاتِ يحفظ عَلَيْكَ قَوْلَك قال ابن منظور: وليس بِقَوِيٍّ، قال أَبو عُبَيْدٍ: قال الكسَائيُّ: يقال قِعْدك الله أَي الله مَعَك أَو مَعْنَاهُ بِصَاحِبِك الذي هو صاحِبُ كلِّ نَجْوَى كما يقال، نَشَدْتُك الله، وكذا قولهم قَعِيدَك لا آتيكَ وقَعْدَك لا آتيك، وكلّ ذلك في الصّحاح. وقد تقدّم بعضُ عِبارته، قال شيخُنَا: وصَرَّح المازنيُّ وغيره بأَنَّه لا فِعْلَ لقَعيدٍ، بخلاف عَمْرَك الله، فإِنهم بَنَوْا منه فِعْلًا، وظاهرُ المُصَنِّف بل صَرِيحُه كجَماعةٍ أَنه يُبْنَى مِن كُلٍّ منهما الفعْلُ. وفي شُرُوحِ الشواهِد: وأَمَّا قَعْدَك الله وقَعيدَك الله فقيل: هما مَصدرانِ بمعنى المُرَاقَبَةِ، وانتصابُهما بتقديرِ أُقْسِم بِمُراقَبتِك الله، وقيل: قَعْد وقَعِيد بمعنى الرَّقيب والحفيظ، فالمعْنِيُّ بهما الله تعالى، ونَصبهما بتقدير أُقْسِم، مُعَدًّى بالباءِ. ثم حُذف الفِعل والباءُ وانتصبا وأُبْدِل منهما الله.

وعن الخليل بن أَحمد المُقْعَدُ مِن الشِّعْرِ: كُلُّ بيتٍ فيه زِحَافٌ ولم يَرِد به إِلَّا نُقصانُ الحَرْفِ من الفاصلة أَو ما نُقِصَتْ مِنْ عَروضِه قُوَّةٌ كقول الرَّبيع بن زِيادٍ العَبْسِيّ:

أَفَبَعْدَ مَقْتَلِ مَالِكِ بْنِ زُهَيْر *** تَرْجُو النِّسَاءُ عَوَاقِبَ الأَطْهَارِ

والقول الأَخير قاله ابنُ القَطَّاع في الأَفعال له، وأَنشد البيت، قال أَبو عبيدة: الإِقواءُ نُقْصَانُ الحُرُوفِ من الفاصلة فَتَنْقُص مِن عَرُوض البيت قُوَّةٌ، وكان الخليلُ يُسَمِّي هذا: المُقْعَدَ، قال أَبو منصورٍ: هذا صحيحٌ عن الخليل، وهذا غيرُ الزِّحافِ، وهو عَيْبٌ في الشِّعْر، والزِّحَافُ ليس بعَيْب. ونقلَ شيخُنا عن علماءِ القوافي أَنّ الإِقْعَادَ عِبَارَةٌ عن اختلافِ العَرُوض مِن بَحْرِ الكامِل، وخَصُّوه به لكثرةِ حَرَكاتِ أَجزائه، ثم أَقامَ النَّكِير على المُصَنِّف بأَن الذي ذَهَبَ إِليه لم يُصَرِّحْ به أَحدٌ من الأَئمّة، وأَنه أَدْخَل في كِتابه مِن الزِّيادَة المُفْسِدة التي يَنْبَغِي اجتنابُها، إِذ لم يَعْرِفْ مَعناها، ولا فَتَحَ لهم بابَها، وهذا مع ما أَسْبَقْنَا النَّقْلَ عن أَبي عُبَيْدَة والخَليلِ وهُمَا هُمَا مِمَا يَقْضِي به العَجَبُ، والله تعالَى يُسامِح الجميعَ بفَضْلِه وكَرَمِه آمِين.

والمُقْعَدُ اسم رَجُل كانَ يَرِيشُ السِّهَامَ بالمَدينة، وكان مُقْعَدًا، قال عاصِم بنُ ثابِتٍ الأَنصاريُّ رضي ‌الله‌ عنه، حين لَقِيَه المُشْرِكون ورَمَوْه بالنَّبْل:

أَبُو سُلَيْمَانَ وَرِيشُ المُقْعَدِ *** وَمُجْنَأٌ مِنْ مَسْكِ ثَوْرٍ أَجْرَدِ

وَضَالَةٌ مِثْلُ الجَحِيمِ المُوقَدِ *** وصَارِمٌ ذُو رَوْنَقٍ مُهَنَّدِ

وإِنما خُفِض مُهَنَّد على الجِوار أَو الإِقواءِ؛ أَي أَنا أَبو سليمان، ومعي سِهامٌ رَاشَهَا المُقْعَدُ. فما عُذْرِي أَن لا أُقاتل؟ قال الصاغانيّ: ويُرْوَى المُعْقَد، بتقديم العين وقيل: المُقْعَدُ: فَرْخُ النَّسْرِ، ورِيشُه أَجْوَدُ الرِّيشِ، قاله أَبو العباس، نقلًا عن ابنِ الأَعرابيّ وقيل: المُقْعَد: النَّسْرُ الذي قُشِبَ له فصِيدَ وأُخِذَ رِيشُه وقيل: المُقْعَدُ: فَرْخُ كُلِّ طائر لَمْ يَسْتَقِلَّ، كالمُقَعْدِدِ، فيهما أَي في النَّسْرِ وفَرْخِهِ، والذي ثَبتَ عن كُراع: المُقَعْدَدُ: فَرْخ النَّسرِ.

ومن المَجاز: المُقْعَدُ مِن الثَّدْيِ: الناتئُ على النَّحْرِ مِلْ‌ءَ الكَفِّ، النَّاهِدُ الذي لم يَنْثَنِ بَعْدُ ولم يَتَكَسَّرْ، قال النابِغَة:

والبَطْنُ ذُو عُكَنٍ لَطِيفٌ طَيُّهُ *** والإِتْبُ تَنْفُجُه بِثَدْيٍ مُقْعَدِ

ومن المجاز رَجُلٌ مُقْعَدُ الأَنْفِ إِذا كان في مَنْخِرَيْهِ سَعَةٌ وقِصَرٌ.

والمُقْعَدَةُ بهاءٍ: الدَّوْخَلَّةُ مِنَ الخُوصِ، نقله الصاغانيّ. والمُقْعَدَة: بئر حُفِرَتْ فَلَمْ يَنْبَطْ مَاؤُها وتُرِكَتْ، وهي المُسْهَبَةُ عندهم.

والمُقْعَدَانُ، بالضمّ: شَجرةٌ تَنْبُتُ نَبَاتَ المَقِرِ ولا مَرارةَ لها، يَخرُجُ في وَسَطِها قَضيبٌ يَطولُ قامَةً، وفي رأْسِهَا مثْل ثَمَرَة العَرْعَرةِ صُلْبَةٌ حمراءُ يتَرامَى بها الصِّبيَانُ ولا تُرْعَى.

قاله أَبو حنيفة.

وعن ابن الأَعرابيّ: حَدَّدَ شَفْرَتَه حَتَّى قَعَدَتْ كأَنَّهَا حَرْبَةٌ؛ أَي صَارَتْ وهو مَجازٌ. ولما غفلَ عنه شيخُنَا جعَلَه في آخرِ المادّة من المُسْتَدْرَكَات.

وقال ابن الأَعْرَابيّ أَيضًا ثَوْبَكَ لا تَقْعُدْ تَطِيرُ به الرِّيحُ؛ أَي لا تَصِيرُ الرِّيحُ طائرَةً بهِ ونَصب ثوبَكَ بفعلٍ مُضْمَر؛ أَي احفظْ ثوبَك وقال أَيضًا: قعَدَ لا يسْأَله أَحدٌ حاجَةً إِلَّا قَضَاهَا. ولم يُفَسِّره، فإِن عنَى به صارَ فقد تَقدَّم لها هذه النظائر، واسْتَغْنى بتفسير تلكَ النظائرِ عن تفسيرِ هذه، وإِن كان عنَى القُعُودَ فلا معنَى له، لأَن القُعُود ليست حالٌ أَوْلَى به مِن حالٍ، أَلَا ترَى أَنك تقول: قَعَدَ لا يَمُرُّ به أَحَدٌ إِلَّا يَسبُّه، وقَعَدَ لا يَسْأَلُه سائلٌ إِلَّا حَرَمَه، وغير ذلك مما يُخْبَر به من أَحوالِ القاعد، وإِنما هو كقولِك: قَامَ لا يُسْأَلُ حاجَةً إِلَّا قَضاها. قلت. وسيأْتي في المستدركات ما يتعلَّق به.

والقُعْدَةُ، بالضمّ: الحِمَارُ، الجمع: قُعْدَاتٌ، بضمّ فسكون، قال عُرْوَة بن مَعدِيكربَ:

سَيْبًا عَلَى القُعْدَاتِ تَخْفِقُ فَوْقَهُمْ *** رَايَاتُ أَبْيَضَ كالفَنِيقِ هِجَانِ

والقُعْدَةُ: السَّرْجُ والرَّحْلُ يُقْعَد عليهما، وقال ابنُ دُرَيْد: القُعْدَات: الرِّحَالُ والسُّرُوجُ، وقال غيره: القُعَيْدَات.

وأَقْعَدَه، إِذا خَدَمَه، وهو مُقْعِدٌ له ومُقَعِّد، قاله ابنُ الأَعرابيّ وأَنشد:

ولَيْست لِي مُقْعِدٌ في البَيْتِ يقْعِدُنِي *** ولَا سَوَامٌ ولَا مِنْ فِضَّةٍ كِيسُ

وأَنشد للآخَر:

تَخِذَهَا سُرِّيَّةً تُقَعِّدُهْ

وفي الأَساس: ما لفلان امرأَةٌ تُقْعِده وتُقَعِّده.

ومن المَجاز: أَقْعَدَ أَباهُ: كَفَاهُ الكَسْبَ وأَعانَه، كَقَعَّدَه تَقْعِيدًا، فيهما، وقد تقدَّمَ شاهده.

واقْعَنْدَدَ بالمكانِ: أَقامَ به، وقال ابنُ بُزُرْج يقال: أَقْعَدَ بِذلك المكانِ، كما يُقالُ: أَقَامَ، وأَنشد:

أَقْعَدَ حَتَّى لَمْ يَجِدْ مُقْعَنْدَدَا *** ولَا غَدًا ولَا الَّذِي يَلِي غَدَا

والأَقْعَادُ، بالفَتْح، والقُعَادُ، بالضمّ: دَاءٌ يأْخُذُ في أَوْرَاكِ الإِبلِ والنَّجَائبِ فَيُميلُها إِلى الأَرْضِ. وفي نصّ عِبارة ابنِ الأَعرابيّ: وهو شِبْهُ مَيْلِ العَجُزِ إِلى الأَرض، وقد أُقْعِدَ البَعِيرُ فهو مُقْعَد، وفي كتاب الأَفعال لابن القطّاع: وأُقْعِد الجَمَلُ: أَصابَه القُعَاد، وهو اسْتِرْخاءُ الوَرِكَيْنِ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

المَقْعَدَة: السَّافِلة.

والمَقَاعِدُ: موضِع قُعود النَّاسِ في الأَسْوَاقِ وغيرِهَا.

وعن ابنِ السِّكّيت: يقال: ما تَقَعَّدَنِي عن ذلك الأَمْرِ إِلَّا شُغُلٌ؛ أَي ما حَبَسَني.

وفي الأَفعال لابن القَطَّاع: قَعَد عن الأَمْرِ: تَأَخَّر. وبي عَنْك شُغلٌ حَبَسَني. انتهى.

والعرب تدعو على الرّجل فتقول: حَلَبْتَ قاعِدًا وشَرِبْتَ قائمًا، تقول: لا مَلَكْت غيرَ الشَّاءِ التي تُحْلَبُ مِن قُعُودٍ ولا مَلَكْتَ إِبلًا تَحْلُبُها قائمًا، معناه: ذَهبَتْ إِبلُك فصِرْتَ تَحْلُبُ الغَنَم والشَّاءُ مَالُ الضُّعفاءِ. والأَذلَّاءِ. والإِبلُ مالُ الأَشرافِ والأَقوِيَاءِ.

ويقال: رجلٌ قاعدٌ عن الغَزْوِ، وقَوْمٌ قُعَّادٌ وقاعدُونَ.

وتقَاعَدَ به فُلانٌ، إِذا لم يَخْرُج إِليه منْ حَقَّه.

وما قَعَّدَك واقْتَعَدك: ما حَبَسَك.

والقَعَدُ: النَّخْلُ، وقيل: صِغَارُ النَّخْلِ، وهو جمع قاعِدٍ، كخادمٍ وخَدَمٍ.

وفي المثل: «اتَّخذوه قُعَيِّدَ الحاجات» تصغير القَعُود، إِذا امْتَهنُوا الرَّجُلَ في حَوائجهم.

وقاعَدَ الرَجُلَ: قَعَدَ معه.

والقِعَادَةُ: السَّريرُ، يَمانِيَة.

والقاعِدَة أَصْلُ الأُسِّ. والقَوَاعِدُ الإِسَاسُ وقَوَاعِدُ البيت إِسَاسُه، وقال الزَّجّاج: القَوَاعِد: أَساطِينُ البِنَاءِ التي تَعْمِدُه، وقولُهم: بَنَى أَمْرَه على قَاعِدَةٍ، وقَوَاعِدَ، وقاعِدَةُ أَمْرِك وَاهِيَةٌ، وتَركوا مقاعِدَهم: مَرَاكِزَهم، وهو مَجازٌ، وقواعِدُ السَّحاب: أُصولُها المُعْتَرِضة في آفاق السماءِ، شُبِّهَتْ بقواعِدِ البِنَاءِ، قاله أَبو عُبَيْدٍ، وقال ابنُ الأَثير: المُرَاد بالقواعِدِ ما اعترَضَ منها وسَفَلَ، تَشْبِيهًا بقَوَاعِد البِنَاءِ.

ومن الأَمثَال: «إِذا قام بك الشَّرُّ فاقْعُدْ» قال ابنُ القَطَّاع في الأَفعال: «إِذا نَزَل بك الشرُّ» بدل «قام». وقوله فاقْعُدْ.

أَي احْلُم. قلت: ومعناه ذِلَّ له ولا تَضْطَرِبْ، وله معنًى ثَانٍ؛ أَي إِذا انْتَصَب لك الشّرُّ ولم تَجِدْ منه بُدًّا فانْتَصِبْ له وجاهِدْه، وهذا مما ذَكَرَه الفَرَّاءُ.

وفي اللسان والأَفْعَالِ: الإِقْعَادُ في رِجْلِ الفَرس: أَن تُفْرَشَ جدًّا فلا تَنْتَصِب.

وقعَدَ الرَّجلُ: عَرَجَ، والمُقْعَد: الأَعْرَجُ.

وفي الأَساس: من المَجازِ: قَعَدَ عن الأَمْرِ: تَرَكَه. وقَعَد يَشْتُمُني: أَقْبَلَ. انتهى. والذي في اللسان: الفَرَّاءُ: العَرَبُ تقول: قَعَدَ فُلانٌ يَشْتُمني، بمعنى طَفِقَ وجَعَل، وأَنشد لبعض بني عامر:

لَا يُقْنِعُ الجَارِيَةَ الخِضَابُ *** وَلَا الوِشَاحَانِ ولا الجِلْبَابُ

مِنْ دُونِ أَنْ تَلْتَقِيَ الأَرْكَابُ *** وَيَقْعُدَ الأَيْرُ لَهُ لُعَابُ

ورَحىً قاعِدَةٌ: يَطْحَن الطاحِنُ بها بالرَّائِدِ بِيَدِه.

ومن المَجاز: ما تقَعَّدَه وما اقْتَعَده إِلَّا لُؤْمُ عُنْصُرِه.

ورجُلُ قُعْدُدَةٌ. جَبَانٌ.

والمُقْعَنْدَدُ: موضِعُ القُعود. والنون زائدة قال:

أَقْعَدَ حَتَّى لَمْ يَجِدْ مُقْعَنْدَدَا

وقد أَقْعَدَ بالمكان وأُقْعِد.

وورِثَ المال بالقُعْدَى، كبُشْرَى؛ أَي بالقُعْدُد.

والقَعُود، كصَبور: أَربعَةُ كَواكِبَ خَلْفَ النَّسْرِ الطائِرِ تُسَمَّى الصَّلِيب. والقُعْدُد من الجَبَل: المُسْتَوِي أَعلاه.

ويقال: اقْتَعَد فُلانًا عن السَّخَاءِ لُؤْمُ جِنْثِه، قال:

فَازَ قِدْحُ الكَلْبِيِّ وَاقْتَعَدَتْ مَعْ *** زَاءَ عَنْ سَعْيهِ عُرُوقُ لَئِيمِ

واقْتَعَدَ مَهْرِيًّا: جعلَه قَعُودًا له.

وفي الحديث «نَهَى أَنْ يُقْعَد على القَبْر». قيل: أَرادَ القُعودَ للتَّخَلِّي والإِحْدَاثِ، أَو القُعودَ للإحْدادِ، أَو أَرادَ تَهْوِيلَ الأَمْرِ، لأَن في القُعُودِ عليه تَهاوُنًا بالمَيت والمَوْتِ.

وسَمَّوْا قِعْدَانًا، بالكسر.

وأَخَذَه المُقِيمُ المُقْعِد.

وهذا شَي‌ءٌ يَقْعُدُ به عليك العَدُوُّ ويَقومُ.

* ومما استدْرَكه شيخُنا:

التَّقَعْدُدُ: التَّثَبُّتُ والتَّمَكُّن، استعمله القاضي عياضٌ في الشفاءِ، وأَقَرَّه شُرَّاحُه. والمُقَعَّد، كمُعَظَّم: ضَرْبٌ من البُرُود يُجْلَب مِن هَجَرَ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


15-تاج العروس (نجس)

[نجس]: النَّجْسُ، بالفتح، وبه قَرَأَ بَعْضُهُم. إِنّما قَيَّدَه لِجَمْعِ اللُّغَاتِ الَّتِي يَذْكُرها بَعْدُ وهي النِّجْسُ، بالكسر، قالَ أبو عُبَيْدٍ: زعم الفَرَّاءُ أَنَّهُم إِذَا بَدَءُوا بالنَّجَسِ ولم يَذْكُرُوا الرِّجُسَ، فَتَحُوا النُّونَ والجِيمَ، وإِذا بَدءُوا بالرِّجْسِ ثُمَّ أَتْبَعُوه بالنّجس، كَسَرُوا النونَ، فهُمْ إِذا قالُوه مع الرِّجْسِ أَتْبَعُوه إِيّاه، وقالُوا: رِجْسٌ نِجْسٌ، كَسَرُوا لمَكانِ رِجْس، وثَنَّوْا وجَمَعُوا، كما قالُوا: جاءَ بالطِّمِّ والرِّمِّ، فإِذا أَفْرَدُوا قالُوا: بالطَّمِّ، ففَتَحُوا. قَالَ ابنُ سِيدَه: وكذلِكَ يَعْكِسُونَ فيَقُولُونَ: نِجْسٌ رِجْسٌ، فيَقُولُونها بالكسرِ، لمَكانِ رِجْسٍ، الذي بَعْدَه، فإِذا أَفْرَدُوه قالُوا: نَجَسٌ، وأَمّا رِجْسٌ مُفْرَدًا، فمَكْسُورٌ على كُلِّ حالٍ، هذا على مَذْهَبِ الفَرّاءِ. قال شَيْخُنا: واعْتَمَدَ الحَرِيرِيُّ في دُرَّةِ الغَوَّاصِ أَنه لا يَجِي‌ءُ إِلاّ إِتْبَاعًا لِرِجْسٍ، والحَقُّ أَنَّه أَكْثَريُّ، لقرَاءَةِ ابنِ حَيْوَةَ به في: {إِنَّمَا المُشْركُونَ نِجْسٌ}. قلتُ: وهو أَيْضًا قراءَةُ الحَسنِ بنِ عِمْرَانَ ونُبَيْحٍ وأَبِي وَاقِدٍ والجَرّاحِ وابنِ قُطَيْبٍ، كما صَرَّح به الصّاغانِيُّ في التَّكْمِلَة والعُبَابِ، والمُصَنِّف في البَصَائِر.

والنَّجَسُ بالتَّحْرِيك. والنَّجِسُ، ككَتِفٍ، وبه قَرَأَ الضَّحَاكُ، قِيلَ: النَّجَسُ بالتَّحْرِيكِ يكونُ للواحِدِ والاثْنين والجَمْعِ والمؤنَّثِ، بلُغةٍ وَاحدَةٍ، رجُلٌ نَجَسٌ، ورجُلانِ نَجَسٌ، وقَوْمٌ نَجَسٌ. قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ} نَجَسٌ فإِذا كَسَرُوا ثَنَّوْا وجَمَعُوا وأَنَّثُوا فقالُوا: أَنْجَاسٌ ونَجِسَةٌ. وقال الفَرّاءُ: نَجَسٌ، لا يُجْمَع ولا يُؤَنَّث. وقال أَبو الهَيْثَمِ في قَوْلِه تَعالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ} نَجَسٌ؛ أَي أَنْجَاسٌ أَخْبَاثُ. والنَّجُسُ مثْلُ عَضُدٍ، قال الشِّهَابُ الخَفَاجيُّ، كما وُجِدَ بخَطِّه، بَعْدَ ما سَاقَ عِبَارَةَ المُصَنِّف هذه، أَقول: بَيَّنَ أَنَّ نُونَه تُفْتَح وتُكْسَر مع سُكُونِ الجِيم، بقَرِينَةِ قولِه «وبالتَّحْرِيك» أَي تَحْرِيكِ الجيمِ بفَتْحٍ، لأَنّ التَّحْرِيك المُطْلَقَ ينصرفُ للفَتْحِ عنْدَ اللُّغَويِّينَ والقُرَّاء، واسْتَغْنَى عن التَّصْرِيحِ بالسُّكُون، لِدَلَالَة مَفْهُومِ التَّحْرِيك، مع أَنّه الأَصْلُ، فحاصِلُه أَنَّ فيه خَمْسَ لُغَاتِ: فَتْح النُّون وكَسْرهَا مع سُكُونِ الجيم، والحَرَكَات الثَّلاث في الجِيم مع فَتْحِ النُّون. وتَوْضِيحُه ما في العُبَاب، وعبارته: النَّجَسُ، بفتحتين، والنَّجِسُ، بفتحٍ فكسرٍ، والنَّجُسُ، بفتحٍ فضَمٍّ، والنَّجْسُ، بفتحٍ فسُكونٍ، والنِّجْسُ بكسرٍ فسُكُون: ضِدُّ الطاهِرِ، وقد نَجُسَ ثَوْبِه، كسَمِعَ وكَرُمَ، نَجْسًا ونَجَاسَةً.

وقال الرّاغبُ في المُفْرَدات، وتَبِعَه المصنِّف في البَصَائِر: النَّجاسَةُ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يُدْرَكُ بالحَاسَّةِ، وضَرْبٌ يُدْرَك بالبَصِيرَةِ، وعلى الثّانِي وَصَفَ الله به المُشْرِكِينَ في الآيَة المُتَقَدِّمة. قلْتُ: وذكرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّه مَجَازٌ.

وأَنْجَسَهُ غَيْرُه ونَجَّسَه تَنْجِيسًا نجَّسَ، والفُقَهَاءُ يُفَرِّقُون بَيْنَ النَّجِسِ والمُتنَجِّسِ، كما هو مُصَرَّحٌ به في مَحَلِّه.

وفي الحَدِيثِ، عن الحَسَنِ، في رَجُلٍ زَنَى بامْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا، فقال: «هُو أَنْجَسَهَا وهو أَحَقُّ بهَا». ودَاءٌ نَاجِسٌ ونَجِيسٌ، ككَرِيم، وكذا داءٌ عُقَامُ، إِذا كان لا يُبْرَأُ منه. وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: أَعْيَا المُنَجِّسِين. قال الشاعِر:

وداءٌ قَدَ أَعْيَا بالأَطبَاءِ ناجِسُ

وقال ساعِدَةُ بنُ جُؤَيَّةَ:

والشَّيْبُ دَاءٌ نَجِيسٌ لا شِفَاءَ لَهُ *** للْمَرْءِ كَانَ صَحِيحًا صائِبَ القُحَمِ

وتَنَجَّسَ: فَعَلَ فِعْلًا يَخْرُجُ به عَنِ النَّجَاسَةِ، كما قيل: تَأَثَّمَ وتَحَرَّجَ وتَحَنَّثَ، إِذا فَعَل فِعْلًا يَخْرُجُ به عن الإِثْمِ والحَرَجِ والحِنْثِ.

والتَّنْجِيسُ: اسمُ شَيْ‌ءٍ كانَت العَرَبُ تَفْعَلُه: وهو تَعْلِيقُ شيْ‌ءٍ من القَذَرِ أَوْ عِظَام الموْتَى أَو خِرْقَة الحائضِ، كان يُعَلَّقُ علَى مَن يُخَافُ عَلَيْه من وَلُوعِ الجِنِّ بِه، كالصِّبْيَان وغيرِهم، ويَقُولُون: الجِنُّ لا تَقْرَبُهَا. وعِبَارَة الصّحاحِ: والتَّنْجِيسُ: شيْ‌ءٌ كانَت العربُ تفعلُه، كالعُوذَةِ تَدْفَعُ بها العَيْنَ، ومنه قَوْلُ الشاعر:

وعَلَّقَ أَنْجَاسًا علَيَّ المُنَجِّسُ

قلْتُ: وصَدْرُه:

ولو كانَ عِنْدِي كاهِنَانِ وحَارِسٌ

وقال ابنُ الأَعْرَابيّ: من المَعَاذَاتِ: التَّميمَةُ والجُلْبَةُ والمُنَجّسَة. ويقال: المُعَوَّذُ مُنَجَّسٌ، قال ثَعْلَبٌ: قلت له: لِمَ قِيلَ للمُعَوَّذِ: مُنَجَّسٌ، وهو مأْخُوذٌ من النَّجَاسَة؟

فقالَ: لأَنَّ للعَرَبِ أَفْعَالًا تُخَالِفُ مَعانِيهَا أَلْفَاظَهَا، يُقَال؛ فُلانٌ يَتَنَجَّسُ إِذا فَعل فِعْلًا يَخْرُج به مِن النَّجَاسَة، وسَاقَ العِبَارَةَ الَّتي سُقْنَاهَا آنِفًا.

قلتُ: وسَبَقَ أَيضًا إِنْشَادُ قولِ العَجّاج في «ح معروف س»:

وَلَمْ يَهَبْنَ حُمْسَةً لأَحْمَسَا *** ولَا أَخَا عَقَدٍ ولا مُنَجِّسًا

ومن سَجَعَاتِ الأَسَاس: إِذا جاءَ القَدَرُ لَم يُغْنِ المُنَجِّمُ ولا المُنَجِّسُ، ولا الفَيْلَسُوفُ ولا المُهَنْدِس. قالَ وهو الَّذِي يُعَلِّقُ على الَّذِي يُخافُ عليه الأَنْجَاسَ، مِن عِظَامِ المَوْتَى ونَحْوِهَا، لِيَطْرُدَ الجِنَّ: لنُفْرَتِهَا من الأَقْذَارِ.

* ومِمّا يُسْتَدْرَك عليه:

النَّجْسُ، بالفَتْحِ، وككَتِفٍ: الدَّنِسُ القَذِرُ مِن النّاسِ.

ودَاءٌ نَجِسٌ، ككَتِفٍ: عَقِيمٌ، وقد يُوصَفُ به صاحِبُ الداءِ، وكذلِكَ في أَخَواتِه الّتِي ذَكَرَهَا المصنِّف.

والنَّجْسُ، بالفَتْح: اتِّخَاذُ عُوذَةِ الصَّبِيِّ، وقد نَجَسَ له ونَجَّسه: عَوَّذَه.

والنِّجَاسُ، بالكَسْرِ: التَّعْوِيذُ، عن ابنِ الأَعْرابِيِّ، قالَ: كأَنَّهُ الاسْمُ من ذلِكَ.

قالَ: والنُّجُسُ: بضَمَّتَيْنِ: المُعَوِّذُون، وفي بعض النُّسَخِ: المُعَقِّدُون، والمَعْنَى وَاحِدٌ: وهم الّذِين يَرْبِطُون على الأَطْفَالِ ما يَمْنَع العَيْنَ والجِنَّ.

ومِن المجازِ: نَجَّسَتْه الذُّنُوبُ.

والنَّاسُ أَجْنَاسٌ، وأَكثَرُهم أَنْجَاس. وتقول: لا تَرَى أَنْجَسَ من الكافِر، ولا أَنْحَسَ من الفَاجِر، كما في الأَساس.

والمَنْجَسُ: جُلَيْدَةٌ تُوضَعُ على حَزِّ الوَتَرِ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


16-تاج العروس (تسع)

[تسع]: تِسْعَةُ رِجَالٍ، في العَدَد المُذَكَّر، وتِسْعُ نِسْوَةٍ، في العَدَدِ المُؤَنَّثِ، مَعْرُوفٌ. وقَوْلُه تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ} آياتٍ {بَيِّناتٍ} هي: أخْذُ آلِ فِرْعَوْنَ بالسِّنِينَ، وإخْرَاجُ مُوسَى عَلَيْه السّلامُ يَدَهُ بَيْضَاءَ والعَصَا، والطُّوفانُ، والجَرَادُ، والقُمَّلُ، والضَّفَادِعُ، والدَّمُ، وانْفِلاقُ البَحْرِ. وقَدْ جَمَعَ ذلِكَ المُصَنِّفُ في بَيْتٍ واحدٍ فقال:

عَصًا، سَنَةٌ، بَحْرٌ، جَرَادٌ، وقُمَّلٌ *** دَمٌ، ويَدٌ، بَعْدَ الضَّفادِعِ، طُوفانُ

وقَدْ ضَمَّنْتُه بِبَيْتٍ، آخَرَ، فقُلْتُ:

آياتُ مُوسَى الكَلِيمِ التِّسْعُ يَجْمَعُهَا *** بَيْتٌ فَرِيدٌ لَهُ في السَّبْك عُنْوَانُ

عَصًا سَنَة..

إلى آخِرِه.

أمَّا العَصَا فَفِي قَوْلِه تَعَالَى: {فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ} وأمَّا السَّنَةُ ففي قَوْلِه تَعالَى: {وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ}، وهو الجَدْبُ حَتَّى ذَهَبَت ثِمَارُهُمْ وذَهَبَ من أهْلِ البَوَادِي مَوَاشِيهِم، وكَذا بَقِيَّةُ الآيَاتِ، وكُلُّهَا مَذْكُورَةٌ في القُرْآنِ. قال شَيْخُنَا: وقَدْ نَظَمَها البَدْرُ بن جَمَاعَةَ أيْضًا فِي قَوْلِه:

آيَات مُوسَى الكَلِيمِ التّسعُ يَجْمَعُهَا *** بَيْتٌ عَلَى إثْرِ هذَا البَيْتِ مَسْطُورُ

عَصًا يَدٌ وَجرادٌ قُمَّلٌ ودَمٌ *** ضَفَادِعٌ حَجَرٌ والبَحْرُ والطُّورُ

وقَالَ: وبَيْنَهُ مع بَيْتِ المُصَنِّف اتّفَاقٌ واخْتِلافٌ، وجَعَلَهَا الزَّمَخْشَرِيّ إحْدَى عَشْرَةَ آيَةً،: فزاد الطَّمْسَةَ، والنُّقْصَانَ في مَزَارِعِهِم، وعِبَارَتُه: لِقَائِلٍ أنْ يَقُولَ: كانَتِ الآيَاتُ إحْدَى عَشرَةَ: ثِنْتَانِ منها اليَدُ والعَصَا، والتِّسْعُ: الفَلقُ، والطُّوفانُ، والجَرَادُ، والقُمَّلُ، والضّفادِعُ، والدَّمُ، والطَّمْسُ، والجَدْبُ في بَوادِيهِمْ، والنَّقْصُ من مَزَارِعِهِم.

انْتَهَى، ولَمْ يَذْكُرِ الجَوَابَ. وقَوْلُه في النَّظْمِ: وحَجَرٌ، يُرِيدُ به انْفِجَارَهُ، وقد ذَكَرَهُ صاحِبُ اللِّسَانِ أيْضًا.

قال شَيْخُنَا: ثُمَّ إنَّ المُصَنِّف أطْلَق في التِّسْعِ اعْتِمَادًا على الشُّهْرَة بالكَسْرِ، فَلَمْ يَحْتَج إلَى ضَبْطِهَا، وفي سُورَةِ ص: {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ} بفَتْح التَّاءِ، وكَأَنَّهُم لَمَّا جاوَرَ التِّسْعُ الثَّمانَ والعَشْرَ قَصَدُوا مُنَاسَبتَه لِمَا فَوْقَه ولِمَا تَحْتَهُ فتَأَمَّلْ.

وِالتِّسْع أيْضًا، أي بالكَسْرِ: ظِمْ‌ءٌ من أظْمَاءِ الإِبِلِ، وهو أنْ تَرِدَ إلَى تِسْعَةِ أيّامٍ، والإِبِلُ تَوَاسِعُ.

وِالتُّسْعُ، بالضَّمِّ: جُزْءٌ من تِسْعَةٍ، كالتَّسِيعِ، كأَمِيرٍ، يَطَّرِدُ في جَمِيعِ هذِه الكُسُورِ عنْدَ بَعْضِهِم. قَالَ شَمِرٌ: ولَمْ أسْمَعْ: التَّسِيع إلَّا لِأَبِي زَيْدٍ. قُلْتُ: إلَّا الثَّلِيث، فإِنَّهُ لَمْ يُسْمَع كما نَقَلَه الشَّرَفُ الدِّمْيَاطِيّ في المُعْجَمِ، عن ابنِ الأَنْبَارِيّ، قَالَ: فَمَنْ تَكَلَّم به أخْطَأَ، وقد تَقَدَّمَت الإِشَارَةُ إلَيْه في «ث ل ث».

وِالتُّسَعُ، كصُرَدٍ: اللَّيْلَةُ السَّابِعَةُ والثامِنَةُ والتّاسِعَةُ من الشَّهْرِ وهي بَعْدَ النُّفَلَ، لأَنَّ آخِرَ لَيْلَةٍ منها هي التاسعة، وقيل: هي اللَّيَالِي الثَّلاثُ مِنْ أوَّلِ الشَّهْرِ، والأَوَّلُ أقْيَسُ.

وقال الأَزْهَرِيّ: العَرَبُ تَقُول في لَيالِي الشَّهْرِ: ثَلاثٌ غُرَرٌ، وبَعْدَهَا ثَلاثٌ نُفَلٌ، وبَعْدَهَا ثَلاثٌ تُسَعٌ، سُمِّينَ تُسَعًا لِأَنَّ آخِرَتَهُنَّ اللَّيْلَةُ التاسِعَةُ، كما قِيلَ لِثَلاثٍ بَعْدَهَا: ثَلاثٌ عُشَرٌ، لأَنَّ بَادِئَتَها اللَّيْلَةُ العاشِرَةُ.

وِالتّاسُوعاءُ: اليَوْمُ التاسِعُ من المُحَرَّمِ، وفي الصّحاح: قَبْلَ يَوْم عَاشُوراءَ، مُوَلَّدٌ، ونَصُّ الصّحاح: وأظُنُّه مُوَلَّدًا.

وقالَ غَيْرُه: هو يَوْمُ عاشُورَاءَ. وقال الأَزْهَرِيُّ في قَوْله صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم فِيما رَواهُ عَنْهُ ابنُ عَبَّاسٍ رضي ‌الله‌ عنهما: «لَئِنْ بَقِيتُ إلَى قابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» يَعْنِي يَوْمَ عاشُوراءَ، كأَنَّهُ تَأَوَّلَ فيه عِشْرَ الوِرْدِ، أنَّهَا تِسْعَةُ أيّامٍ، والعَرَبُ تَقُولُ: وَرَدْتُ الماءَ عِشْرًا، يَعْنُونُ يوْمَ التَّاسِعِ، ومِنْ ها هُنا قالُوا: عِشْرِين، ولم يَقُولُوا عِشْرَيْنِ، لأَنَّهم جَعَلُوا ثَمانِيةَ عَشَرَ يَوْمًا عِشْرَين، واليَوْمَ التَّاسِعَ عَشَرَ والمُكَمِّلَ عِشْرِينَ طائفةً من الوِرْدِ الثّالِثِ، فَجَمَعُوهُ بِذلِكَ.

وقال ابنُ بَرِّيّ: لا أحْسَبُهُم سَمَّوْا عَاشُوراء تاسُوعاءَ إلَّا عَلَى الأَظْماءِ نَحْوُ العِشْر، لِأَنَّ الإِبِلَ تَشْرَبُ في اليَوْمِ التّاسِعِ، وكَذلِكَ الخِمْسُ تَشْرَبُ في اليَوْمِ التّاسِعِ، وكَذلِكَ الخِمْسُ تَشْرَبُ في اليَوْمِ الرّابعِ. وقالَ ابْنُ الأَثِيرِ: إنَّمَا قالَ ذلِكَ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم كَرَاهَةً لِمُوَافَقَةِ اليَهُودِ، فإنَّهُمْ كانُوا يَصُومُونَ عاشُوراءَ، وهو العَاشِرُ، فأَرَادَ أنْ يُخَالِفَهُمْ ويَصُومَ التّاسِعَ، قال: وظاهِرُ الحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى خِلافِ ما ذَكَرَهُ الأَزْهَرِيّ.

قُلتُ: وقد صَحَّحَ الصّاغَانِيُّ هذا القَوْلَ: والمُرَادُ بظَاهِرِ الحَدِيثِ يَعْنِي حَدِيثَ ابنِ عَبّاسٍ المَذْكُورَ، أنَّهُ قالَ حِينَ صامَ رَسُولُ الله صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم يَوْمَ عاشُورَاءَ، وأمَرَ بصِيَامِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولُ الله إنَّه يَوْمٌ تُعَظِّمُه اليَهُودُ والنَّصَارَى، فَقَالَ: فإِذا كانَ العام القابلُ صُمْنا اليَوْمَ التاسِعَ، وفِي رِوَايَةٍ: «إنْ بَقِيتُ إلَى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ تاسُوعاءَ» أي فكَيْفَ يَعِدُ بصَوْمِ يَوْمٍ قد كَانَ يَصُومُه. فَتَأَمَّلْ.

وقَوْلُ الجَوْهَرِيِّ وغَيْرِه: إنَّه مُولَّدٌ، فيه نَظَرٌ، فإِنّ المُوَلَّدَ هو اللَّفْظُ الَّذِي يَنْطِقُ به غَيْرُ العَرَبِ من المُحْدَثِينَ، وهذِه لَفْظَةٌ وَرَدَتْ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ، وقالَهَا النَّبِيُّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم الَّذِي هو أفْصَحُ الخَلْقِ وأعْرَفُهُمْ بِأَنْوَاعِ الكَلامِ بوَحْيٍ مِن الله الحَقِّ، فَأَنَّى يُتَصَوَّرُ فِيها التَّوْلِيدُ، أوْ يَلْحَقُهَا التَّفْنِيدُ؟ كما حَقّقَه شَيْخُنَا، وأشَرْنَا إلَيْه في مُقَدّمة الكِتَابِ.

وِتَسَعَهُمْ، كمَنَع وضَرَبَ، الأَخِيرَةُ عن يُونُسَ، وعلَى الأُولَى اقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ: أخَذَ تُسْعَ أمْوَالِهِمْ، أوْ كان تاسِعَهُمْ. ذَكَرَ الجَوْهَرِيُّ المَعْنَيَيْن، أوْ تَقُولُ: كانَ القَوْمٌ ثَمَانِيَةً فَتَسَعَهُمْ، أيْ صَيَّرَهُمْ تِسْعَةً بنَفْسهِ، أوْ كَانَ تَاسِعَهُمْ، فَهُوَ تاسِعُ تِسْعَةٍ، وتَاسِعُ ثَمَانِيَةٍ، ولا يَجُوزُ أنْ يُقَالَ: هو تاسِعٌ تِسْعَةً، ولا رَابعٌ أرْبَعَةً، إنَّمَا يُقَال: رَابعُ أرْبَعَةٍ على الإِضَافَةِ، ولكِنَّكَ تَقُولُ: رَابعٌ ثَلاثةً، هذا قَوْلُ الفَرّاءِ وغَيْرِهِ من الحُذَّاقِ.

وِأتْسَعُوا: كانُوا ثَمَانِيَةً، ف صارُوا تِسْعَةً، نَقَلَهُ الجَوْهَرِيّ، وأيْضًا: وَرَدَتْ إبِلُهُمْ تِسْعًا، نَقَلَهُ الجَوْهَرِيّ أيْضًا، أيْ وَرَدَتْ لتِسْعَةِ أيّامٍ وثَمَانِي لَيَالٍ، فهم مُتْسِعُونَ.

* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:

قَوْلُهم: تِسْعَ عَشَرَةَ، مَفْتُوحَانِ عَلَى كُلِّ حال، لأَنَّهُمَا اسْمَانِ جُعِلَا اسْمًا وَاحِدًا، فأُعْطِيَا إعْرَابًا وَاحِدًا، غَيْرَ أنَّكَ تَقُولُ: تِسْع عَشَرَةَ امْرَأةً، وتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا: قال الله تَعَالَى: {عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ} أي تِسْعَةَ عَشَرَ مَلَكًا، وأكْثَرُ القُرَّاءِ عَلَى هذِه القِراءَةِ، وقَدْ قُرِئَ: تِسْعْةَ عَشَرَ، «بسُكُونِ العَيْنِ»، وإنّما أسْكَنَهَا مَنْ أسْكَنَهَا لِكَثْرَةِ الحَرَكاتِ.

وقَوْلُهم: تِسْعَهُ أكْثَرُ مِنْ ثَمَانِيَةَ، فَلا تُصْرَفُ إلَّا إذا أرَدْتَ قَدْرَ العَدَدِ لا نَفْسَ المَعْدُودِ، فإِنَّما ذلِكَ لِأَنَّهَا تُصَيِّرُ هذا اللَّفْظَ عَلَمًا لهذا المَعْنَى.

وحَبْلٌ مَتْسُوعٌ: عَلَى تِسْعِ قُوىً.

ونَقَلَ الأَزْهَرِيُّ عن اللَّيْثِ: رَجُلٌ مُتَّسِعٌ، وهو المُنْكَمِشُ الماضِي في أمْرِهِ. قال الأَزْهَرِيّ: ولا أعْرِفُ ما قَالَ، إلَّا أنْ يَكُون مُفْتَعِلًا من السَّعَةِ، وإذا كانَ كَذلِكَ فَلَيْسَ مِنْ هذا البابِ قالَ الصّاغَانِيّ: لَمْ يَقُل اللَّيْثُ شَيْئًا في هذا التَّرْكِيبِ، وإنَّمَا ذَكَرَهُ في تَرْكِيبِ «س ت ع»: رَجُلٌ مِسْتَعٌ: لُغَةٌ في مِسْدَع، فانْقَلَبَ علَى الأَزْهَرِيّ.

قُلْتُ: وهذا الَّذِي رَدَّ به علَى الأَزْهَرِيّ فإِنَّهُ ذَكَرَهُ في كتابِهِ فِيما بَعْدُ، فإِنَّهُ قالَ: وفي نُسْخَةٍ من كتَابِ اللَّيْثِ: مِسْتَعٌ ويُقَالُ: مِسْدَعٌ، لُغَةٌ، وهُوَ المُنْكَمِشُ الماضِي في أمْرِهِ. ورَجُلٌ مِسْتعٌ: سَرِيعٌ. فتَأَمَّلْ ذلِكَ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


17-تاج العروس (نزف)

[نزف]: نَزَفَ ماءَ البِئْرِ يَنْزِفُه نَزْفًا: نَزَحَه كُلَّه.

ونَزَفَت البِئْرُ بنفسِها: نُزِحَتْ، كنُزِفَتْ، بالضمِّ، لازِمٌ مُتَعَدٍّ نقَلَه الجوهرِيُّ هكذا، وفي الحَديثِ: «زَمْزَمُ لا تُنْزَفُ وَلا تُذَمُّ»: أي لا يَفْنَى ماؤُها على كَثْرةِ الاسْتِقاءِ.

وَفي المُحْكَمِ: نَزَفَ البِئْرَ يَنْزِفُها نَزْفًا، وأَنْزَفَها، بمعنًى واحدٍ، كلاهُما نَزَحَها، وأَنْزَفَت هي: نُزِحَت وذَهَبَ ماؤُها، قال لَبِيدٌ:

أَرَبَّتْ عَلَيهِ كُلُّ وَطْفاءَ جَوْنَةٍ *** هَتُوف مَتَى يُنْزِفْ لها الماءُ تَسْكُبِ

قال: وأَما ابنُ جِنِّي فقَالَ: نَزَفْتُ البِئرَ وأَنْزَفَتْ هي، فإِنَّه جاءَ مُخالِفًا للعادَةِ، وذلِكَ أَنَّكَ تجِدُ فِيها فَعَلَ مُتَعَدِّيًا، وَأَفْعَلَ غيرَ مُتَعَدٍّ، وقد ذَكَر علَّةَ ذلِك في شَنَقَ البَعِيرَ، وجَفَلَ الظَّلِيمَ. قلتُ: وهذا قَدْ نقَلَهَ الجَوْهَرِيُّ عن الفَرّاءِ.

والاسْمُ النُّزْفُ، بالضّمِّ قال:

تَغْتَرِقُ الطَّرْفَ وهيَ لاهِيَةٌ *** كأَنَّما شَفَّ وَجْهَها نُزْفُ

أَرادَ أَنّها رَقِيقَةُ المَحاسِنِ، حتَّى كأَنَّ دَمعها مَنْزُوفٌ.

وبِئْرٌ نَزُوفٌ كصَبُورٍ: أي نُزِفَتْ باليَدِ وذلِكَ إذا قَلَّ ماؤُها.

ونُزِفَ، كعُنِيَ: ذَهَبَ عَقْلُه، أو سَكِرَ، ومنه قولُه تَعالى: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْها} وَلا يُنْزِفُونَ قال الجَوْهَرِيُّ: أي لا يَسْكَرُونَ، وأَنْشَدَ للأُبَيْرِدِ:

لعَمْرِي لِئِنْ أَنْزَفْتُمُ أو صَحَوْتُمُ *** لبِئْسَ النَّدامَى كُنْتُمُ آلَ أَبْجَرَا

قال: وقومٌ يَجْعَلُونَ المُنْزِفَ: مثلَ النَّزِيفِ، الَّذِي قَدْ نُزِفَ دَمُه.

وقال أَبو عُبَيْدَةَ: نَزِفَتْ عَبْرَتُه، كسَمِعَ: فَنِيَتْ.

وأَنْزَفْتُها: أَفْنَيْتُها، قال العَجّاج:

وصَرَّحَ ابنُ مَعْمَرٍ لِمَنْ ذَمَرْ *** وأَنْزَفَ العَبْرَةَ مَنْ لَاقَى العِبَرْ

وَقال أَيْضًا:

وقد أَرانِي بالدِّيارِ مُنْزَفَا *** أَزْمانَ لا أَحْسِبُ شَيْئًا مُنْزَفَا

والنُّزْفَةُ، بالضمِّ: القَلِيلُ من الماءِ ونَحْوِه مثلُ الغُرْفَة ج: نُزَفٌ كغُرَفٍ نقَلَه الجَوْهرِيُّ، قال العَجّاجُ يصِفُ الخَمْرَ:

فشَنَّ في الإِبْرِيقِ مِنْها نُزَفَا *** مِنْ رَصَفٍ نازَعَ سَيْلًا رَصَفَا

وَقالَ ذُو الرُّمَّةِ:

يُقَطِّعُ مَوْضُونَ الحَدِيثِ ابْتِسامُها *** تَقَطُّعَ ماءِ المُزْنِ في نُزَفِ الخَمْرِ

وعُرُوقٌ نُزَّفٌ، كرُكَّعٍ: غَيْرُ سائِلَةٍ قال العَجّاجُ يصِفُ ثَوْرًا:

أَعْيَنُ بَرْبادٌ إذا تَعَسَّفَا *** أَحْوازَهَا هَدَّ العُرُوقَ النُّزَّفَا

ونُزِفَ فُلانٌ دَمَهُ، كعُنِيَ هكَذا في سائرِ النُّسَخِ، وهو نَصُّ ابنِ دُرَيْدٍ: سالَ حَتّى يُفْرِطَ فَهُوَ مَنْزُوفٌ، ونَزِيفٌ.

ونَزَفَه الدَّمُ يَنْزِفُه من حَدِّ ضَرَبَ نَزْفًا، قال: وهو من المقْلُوبِ الّذي يُعْرَفُ معْناهُ، قال الجَوهَرِيُّ: وذلِك إذا خَرَجَ منه دَمٌ كثيرٌ حَتّى يَضْعُفَ.

وفي المَثَلِ: «أَجْبَنُ منَ المَنْزُوفِ ضَرِطًا» نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ وابنُ دُرَيْدٍ: وكذا: «أَجْبَنُ من المَنْزُوفِ خَضْفًا» يقالُ: خَرَجَ رَجُلانِ في فَلاةٍ، فلاحتْ لهُما شَجَرَةٌ، فقَالَ أَحَدُهما: أَرَى قَوْما قَدْ رَصَدُونَا، فقَالَ الآخَرُ: إِنَّما هِيَ عُشَرَةٌ، فظَنَّهُ يَقُولُ: عَشَرَةٌ، فجَعَلَ يَقُولُ: وَما غَناءُ اثْنَيْنِ عَنْ عَشَرَةٍ؟ ويَضْرطُ حتّى ماتَ نَقَلَه الصّاغانِيُّ في «ضرط».

أَو نِسْوَةٌ لم يَكُنْ لهُنَّ رجُلٌ، فزَوَّجْنَ إِحْداهُنَّ رَجُلًا كانَ يَنامُ الصُّبْحَة، فإِذا أَتَيْنَه بصَبُوحٍ ونَبَّهْنَه، قال: لَوْ نَبَّهْتُنَّنِي لعادِيَةٍ؟ فلَمّا رأَيْنَ ذلِكَ قُلْنَ: إنَّ صاحِبَنا لشُجاعٌ، تعالَيْنَ حَتّى نُجَرِّبَهُ، فأَتَيْنَهُ فأَيْقَظْنَه، فقَالَ كعادَتِه، فقُلْنَ وأَخْصَرُ منه عِبارَةُ ابنِ بَرِّي، حيثُ قالَ: هو رجلٌ كانَ إذا نُبِّهَ لشُرْبِ الصَّبُوحِ قال: هَلّا نَبَّهْتَنِي لخَيْلٍ قد أَغارَتْ؟ فقِيلَ له يَوْمًا على جِهَةِ الاخْتِبارِ: هَذِه نَواصِي الخَيْلِ، فجَعَلَ يَقُولُ: الخَيْلَ الخَيْلَ ويَضْرِطُ، حتّى ماتَ وأَخْصَرُ منهُما عبارةُ اللحْيانِيّ في النّوادِرِ: هو رجُلٌ كانَ يَدَّعِي الشَّجاعَةَ، فلَمّا رَأَى الخَيْلَ جَعَلَ يَفْعَلُ حتّى ماتَ، هكَذا قالَ: يَفْعَلُ، يعنِي يَضْرِطُ.

أَو المَنْزُوفُ ضَرِطًا: هي دابَّةٌ بينَ الكَلْبِ والذِّئْبِ تَكونُ بالبادِيَةِ، إذا صِيحَ بِها لم تَزَلْ تَضْرِطُ حتّى تَمُوتَ قالَه أَبُو الهَيْثَمِ وفِيهِ قَوْلانِ آخَرانِ أَورَدَهُما الصّاغانِيُّ في العُبابِ في «ضرط» فراجِعْهُ.

والمِنْزافُ كمِصْباحٍ من المَعَز: التي يَكُونُ لَها لَبَنٌ فيَنْقَطعُ نَقَله ابنُ عَبّادٍ.

وقال ابنُ دُرَيْدٍ: المِنْزَفَةُ كمِكْنَسَةٍ: ما يُنْزَفُ به الماءُ، وَقِيلَ: هي دُلَيَّةٌ تُشَدُّ في رَأْسِ عُودٍ طَوِيلٍ، ويُنْصَبُ عُودٌ، ويُعَرَّضُ ذلِكَ العودُ الّذِي في طَرَفِه الدَّلْوُ علَيْهِ أي: عَلَى العُودِ المَنْصُوبِ ويُسْتَقَى بِهِ الماءُ.

والنَّزِيفُ كأمِيرٍ: المَحْمُومُ.

وقال أَبو عَمْرٍو: النَّزِيفُ: السَّكْرانُ قال امْرُؤُ القَيْس:

وَإِذْ هِيَ تَمْشِي كمَشْيِ النَّزِي *** فِ يَصْرَعُه بالكَثِيبِ البُهُرْ

وَقالَ آخر:

بَدَّاءُ تَمْشِي مِشْيَةَ النَّزِيفِ

والنَّزِيفُ أَيضًا: مَنْ عَطِشَ حَتّى يَبِسَتْ عُرُوقُه، وجَفَّ لِسانُه، كالمَنْزُوفِ نقَلَه الأَزْهَرِيُّ، ومِنْه قولُ جَمِيلٍ:

فلَثِمْتُ فاهَا آخِذًا بقُرُونِها *** شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ ماءِ الحَشْرَجِ

قال أَبو العَبّاسِ: الحَشْرَجُ: النُّقْرَةُ في الجَبَلِ يَجْتَمِعُ فيها الماءُ فيَصْفُو.

والنَّزِيفُ: سَيْفُ عِكْرِمَةَ بنِ أَبِي جَهْلٍ، رضي ‌الله‌ عنه وَفيه يَقُولُ:

وَقَبْلَهُما أَرْدَى النَّزِيفُ سَمَيْدَعًا *** له في سَناءِ المَجْدِ بَيْتٌ ومَنْصِبُ

ومن المَجاز: نُزِفَ الرَّجُلُ، كعُنِيَ: انْقَطَعَت حُجَّتُه في الخُصُومَةِ نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.

ونَزافِ كقَطامِ: أي انْزِفْ، أَمْرٌ ومنه قولُ ابنَةِ الجُلَنْدَى مَلِكِ عمانَ، حين أَلْبَسَتِ السُّلَحْفاةَ حُلِيَّها، فغاصَتْ في البَحْرِ: نَزافِ، لم يَبْقَ في البَحْرِ غيرُ قُدافِ: أَمَرَتْ بالنَّزْفِ.

وأَنْزَفَ الرَّجُلُ: سَكِرَ ومنه قِراءَةُ الكُوفِيِّينَ ـ غيرَ عاصِمٍ ـ في الصّافّاتِ: ولا هُمْ عَنْها يُنْزِفُونَ بكسرِ الزّايِ، وقراءَةُ الكُوفِيِّينَ في الواقعة ولا يُنْزَفُونَ كذلك ومنه قولُ الأُبَيْرِدِ اليَرْبُوعِيِّ الذي أَنشَدَه الجوهَرِيُّ وَتقَدَّمَ ذكره.

وأَنْزَفَ الرِّجلُ: ذَهَبَ ماءُ بِئْرِه بالنَّزْحِ وانْقَطَع، نقَلَه الجَوْهرِيُّ.

أَو أَنْزَفَ: ذَهَبَ ماءُ عَيْنِه بالبُكاءِ.

وقال الفَرّاءُ: أَنْزَفَ الرّجُلُ: إذا فَنِيَ خَمْرُه وبه فُسِّرَت الآيةُ: أي خَمْرُ أَهْلِ الجَنَّةِ دائِمَةٌ لا تَفْنَى، وعبارَتُه: وَيُقال: أَنْزَفَ القومُ: انْقَطَعَ شَرابُهُم، وقُرِئَ: {وَلا يُنْزِفُونَ} بكسرِ الزايِ.

وقال أَبو زَيْدٍ: نَزَّفَت المَرْأَةُ تَنْزِيفًا: إذا رَأَتْ دَمًا علَى حَمْلِها وذلِكَ مما يَزِيدُ الوَلَدَ صِغَرًا وضَعْفًا، وحَمْلَها طُولًا.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

بِئْرٌ نَزِيفٌ: قَلِيلَةُ الماءِ.

وَنَزَفهُ الحَجّامُ يَنْزِفُه ويَنْزُفُه: أَخْرَجَ دَمَه كُلَّه.

وَنَزَفَ فُلانٌ دَمَه، يَنْزِفُه نَزْفًا: اسْتَخْرَجَه بحِجامَةٍ أَو فَصْدٍ.

وَالنُّزْفُ، بالضمِّ: الضَّعْفُ الحادِثُ مِن خُرُوجِ كثيرِ الدَّمِ، وقيلُ: النُّزْفُ: الجُرْحُ الذي نَزَفَ عنهُ دَمُ الإِنْسانِ.

وَنَزَفَه الدَّمُّ والفَرَقُ: زالَ عَقْلُه، عن اللِّحيانِيِّ، قال: وإِن شِئْتَ قلتَ: أَنْزَفَه.

وَنُزِفَ الرّجلُ دَمًا، كعُنِيَ: إذا رَعَفَ فخَرَجَ دَمُه كلُّه.

وَالمُنْزَفُ: الذّاهِبُ العَقْلِ.

وَأَنْزَفَ الرَّجُلُ: انْقَطَع كلامُه، أو ذَهَبَ عَقْلُه، أو ذَهَبَتْ حُجَّتُه في خُصُومةٍ أو غَيْرِها.

وَقالَ بعضُهُم: إِنْ كانَ فاعِلًا فهو مُنْزِفٌ، وإِن كانَ مَفْعُولًا فهو مَنْزُوفٌ، كأَنَّه على حَذْفِ الزّائِدِ، أو كأَنّه وُضِعَ فيه النَّزْفُ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


18-تاج العروس (درك)

[درك]: الدَّرَكُ محرَّكةً اللّحاقُ وقد أدْرَكَهُ إذا لَحِقَهُ وهو اسمٌ من الإِدْرَاكِ. وفي الصِّحاحِ: الإِدْرَاكُ اللّحُوقُ يقالُ: مَشَيْتُ حتى أَدْرَكْتُه وعشْتُ حتى أَدْرَكْتُ زَمَانَه.

ورجُلٌ دَرَّاكٌ كثيرُ الإِدْرَاكِ؛ قالَ الجَوْهَرِيُّ: وقلَّما يَجِي‌ءُ فَعَّال من أَفْعَلَ يُفْعِل إلَّا أنَّهم قد قالُوا حَسَّاس دَرّاك لُغَةٌ أَو ازْدِوَاجٌ. وقالَ غيرُه: ولم يجئ فَعَّال من أَفْعَلَ إلَّا دَرَّاكٌ من أَدْرَكَ، وجَبَّارٌ من أَجْبَره على الحُكْمِ أَكْرَهَه وسَآر من قَوْلِه أَسْأَر في الكأْسِ إذا أَبْقَى فيها سُوْرًا من الشَّرابِ وهي البَقِيَّةُ، وحَكَى اللَّحْيَانيُّ: رجُلٌ مُدْرِكَةٌ بالهاءِ سريعُ الإدْرَاكِ. وقال غيرُه: رجُلٌ مدْرِكٌ أيضًا أي كثيرُ الإِدْرَاكِ.

قالَ ابنُ بَرِّي: وشاهِدُ دَرَّاك قَوْلُ قَيْسِ بنِ رفَاعَة:

وصاحِبُ الوَتْرِ ليسَ الدهْر مُدْرِكَهُ *** عنْدي وإِني لدَرَّاكٌ بأَوْتارِ

وتَدارَكُوا تَلاحَقُوا أي لَحِقَ آخِرُهُم أَوَّلَهُم والدِّراكُ ككِتابٍ لَحاقُ الفَرَسِ الوَحْشَ وغيْرُها. يقالُ: فَرَسٌ دَرَكَ الطّريدَةَ يُدْرِكُها كما قالُوا: فَرَسٌ قَيْدُ الأَوَابدِ أي أَنَّهُ يُقَيِّدها.

والدِّراكُ إتْباعُ الشي‌ءِ بعضِهِ على بعضٍ في الأشْياءِ كُلِّها وهو المُدَارَكَةُ؛ وقد تَدَارَك. يقالُ: دَارَك الرجُلُ صَوْتَه أي تابَعَه. والمُتَدَارِكُ من القَوَافي والحُروفِ المتحرِّكَةِ ما اتَّفَقَ متحرِّكانِ بعدَهُما ساكِنٌ مِثْل فَعُو وأشْباه ذلِكَ؛ قالَهُ اللَّيْثُ.

وفي المُحْكَم، المُتَدَارِكُ مِنَ الشِّعْرِ: كُلُّ قافِيَة تَوالى فيها حَرْفانِ مُتَحرِّكانِ بينَ ساكنَيْنِ كمُتَفاعِلُنْ وومُسْتَفْعِلُنْ ومَفَاعِلُنْ وفَعَلْ إذا اعتمد على حرفٍ ساكِنٍ نحو فَعولُنْ فَعَلْ فاللامُ من فَعَلْ ساكنَةٌ، وفُلْ إذا اعْتَمدَ على حرفٍ متحرِّكٍ نحو فعولُ فُلْ، اللامُ من فُلْ ساكِنَةٌ والواو من فَعُولُ ساكِنَةٌ، سمِّي بذلِكَ لِتَوالي حَرَكَتيْن فيها، وذلِكَ أنَّ الحَرَكَات كما قدَّمنا من آلاتِ الوصْلِ وأَمَارَاتِه، ف كأنَّ بَعْضَ الحَرَكاتِ أدْرَكَ بَعْضًا ولم يَعُقْهُ عنه اعْتِراضُ ساكِنٍ بين المُتَحرِّكَيْنِ هذا نصّ ابن سِيْدَه في المُحْكَمِ. قالَ الصَّاغَانيُّ: ومِثَالُه قَوْل امْرِئِ القَيْسِ:

قِفَا نَبْكِ من ذِكْرَى حَبِيْبٍ ومَنْزِلِ *** بسِقْطِ اللِّوَى بَيْن الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ

والتَّدْريكُ من المَطَرِ أنْ يُدَارِكَ القَطْرُ كأَنَّه يُدْرِكُ بعضُه بعضًا، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ وأَنْشَدَ أَعْرَابيٌّ يخاطِبُ ابْنَه:

وَا بِأَبِي أَرْواحُ نَشْرِ فِيكا *** كأَنَّه وهْنٌ لمن يَدْرِيكا

إذا الكَرَى سِنَاتهِ يُغْشِيكا *** رِيْحَ خُزَامَى وُلِّيَ الرَّكِيْكا

أَقْلَعَ لمَّا بَلَغَ التَّدْرِيكا

واسْتَدْرَكَ الشي‌ءَ بالشي‌ءِ إذا حاوَلَ إدْرَاكَه به واسْتَعْمل هذا الأَخْفَش في أَجْزاءِ العُروضِ لأنَّه لم ينْقِص من الجزءِ شي‌ءٌ فيَسْتَدْرِكه.

وأدْرَكَ الشي‌ءُ إدْراكًا بَلَغَ وقْتَه وانْتَهَى ومنه أَدْرَك التَّمر والقِدْر إذا بَلَغَت إنَاها. وأدْرَكَ الشي‌ءُ أيضًا إذا فَنِيَ حَكَاه شَمِرٌ عن اللَّيْثِ قالَ: ولم أَسْمَعْه لغيرِه، وبه أَوَّل قَوْله تعالَى: بلْ أَدْرَكَ عِلْمُهم أي فَنِيَ عِلْمُهم في الآخِرَةِ. قالَ الأَزْهَرِيُّ: وهذا غيرُ صحيحٍ في لغَةِ العَرَبِ، وما عَلِمْتُ أَحَدًا قالَ: أَدْرك الشي‌ءُ إذا فَنِيَ فلا يعرَّجُ على هذا القَوْلِ، ولكنْ يقالُ: أَدْرَكَتِ الثِّمارُ إذا بَلَغَتْ إناهَا وانْتَهَى نُضْجها.

قُلْتُ: وهذا الذي أَنْكَرَه الأَزْهَريُّ على اللّيْثِ فقَدْ أَثْبَتَه غيرُ واحِدٍ من الأَئِمَّةِ وكَلَامُ العَرَبِ لا يَأْبَاهُ فإنَّ إنْتِهاءَ كلَّ شيْ‌ءٍ بحسبِه فإذا قالُوا: أَدْرَكَ الدَّقيقُ فبأَيِّ شي‌ءٍ يفَسَّرُ أَيقالُ إنَّه مِثْلُ إدرَاكِ الثّمار والقِدْر وإنَّما يقالُ انْتَهَى إلى آخِرِه ففَنِيَ.

قالَ ابنُ جني في الشَّواذِ: أَدْرَكْت الرَّجُلَ وادَّرَكْته وادَّرَك الشي‌ءُ إذا تَتَابَعَ ففَنِيَ وبه فسَّر قَوْله تعالَى: {إِنّا لَمُدْرَكُونَ}. وأَيْضًا فإنَّ الثِّمارَ إذا أَدْرَكَتْ فَقَد عُرِّضَتْ للفَناءِ وكذلِكَ القدر وكلُّ شي‌ءٍ. انْتَهَى إلى حدِّهِ فالفَنَاءُ من لوازِمِ معْنَى الإِدْرَاكِ، ويُؤَيِّد ذلِكَ تَفْسِيرُ الحَسَنِ للآيةِ على ما يَأْتِي فتأَمَّلْ.

وقَوْلُه تعالَى: {حَتّى إِذَا ادّارَكُوا} فِيها جَمِيعًا أصلُهُ تَدَارَكوا فأُدْغِمَتْ التاءُ في الدَّالِ واجْتُلِبَت الأَلِفُ ليَسْلَم السكُون. وقَوْلُه تعَالَى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ،} بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ قال الحَسَنُ فيما رُوِيَ عنه: أي جَهِلوا عِلْمَها ولا عِلْمَ عندَهُم من أمْرِها كذا في النسخِ وفي بعضِ الأُصُولِ: في أمْرِها. قال ابنُ جني في المحتسب: مَعْناه أَسْرَع وخَفُّ فلم يثْبتْ ولم تَطْمئِنّ لليَقِين به قَدَم.

قُلْتُ: فهذا التَّفْسِير تأْيِيدٌ نَقَلَه شَمِرٌ عن اللَّيْثِ. قالَ الأَزْهَرِيُّ: قَرَأَ شُعْبَة ونافِعٌ: «بَلِ ادّارَكَ»، وقَرَأَ أَبُو عَمرو: بل أَدْرَك، وهي قرَاءَةُ مجاهِدٍ وأَبي جَعْفَرٍ المَدَنيّ، ورُوِيَ عن ابنِ عَبَّاس أَنَّه قَرَأ: «بلى أَأَدْرَك عِلْمُهم»، يُسْتَفهم ولا يُشَدَّد، فأَمَّا مَنْ قَرَأَ {بَلِ ادّارَكَ} فإنَّ الفَرَّاءَ قالَ: معْنَاهُ لغَةً في تَدَارَك أي تَتَابَعَ عِلْمُهُم في الآخِرَةِ، يُرِيدُ بعلمِ الآخِرَةِ تَكُون أَوْ لا تَكُون، ولذلِكَ قالَ: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ}، قالَ: وهي في قَرَاءَةِ أَبيٍّ أَم تَدَارَكَ، والعَرَبُ تجْعَلُ بَلْ مَكَانَ أَمْ، وأَمْ مكانَ بَلْ إذا كانَ أَوَّلَ الكَلِمَةِ اسْتِفْهامٌ مِثْل قَوْلِ الشاعِرِ:

فو الَّله ما أَدْرِي أَسَلْمَى تَغَوَّلَتْ *** أَم البُومُ أَمْ كلٌّ إليَّ حَبِيبُ

مَعْنَى أَمْ بَلْ؛ وقالَ أَبُو مَعَاذٍ النحويُّ: ومَنْ قَرَأَ بَلْ أَدْرَكَ، و {بَلِ ادّارَكَ} فمعْنَاهُما واحِدٌ، يقولُ: هُم عُلَمَاءُ في الآخِرَةِ كقَوْلِه تعالَى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا}، ونَحْو ذلِكَ. قالَ السَّدِيُّ في تفْسِيرِه، قالَ اجْتَمَعَ عِلْمُهُم في الآخِرةِ ومعْنَاهَا عنْدَه أي عَلِمُوا في الآخِرَةِ أَنَّ الذي كانُوا يُوعَدُون به حَقٌّ وأَنْشَدَ للأَخْطَلِ:

وأَدْرَكَ عِلْمي في سُوَاءَة أَنَّها *** تقيمُ على الأَوْتار والمَشْرَبِ الكَدْرِ

أي أَحَاطَ عِلْمِي بها أَنَّها كذلِكَ. قالَ: والقَوْلُ في تفْسِيرِ أَدْرَكَ وادّارَكَ ما قالَ السَّدِيُّ وذَهَبَ إليه أَبُو معاذٍ النحويُّ وأَبُو سَعِيْدٍ، والذي قالهُ الفَرَّاءُ في مَعْنَى تَدَارَك أي تَتَابَعَ عِلْمُهُم في الآخِرَةِ أَنَّها تكُونُ أَوْلا تكُونُ ليسَ بالبَيِّنِ، إنَّما المعْنَى أَنَّه تَتَابَع عِلْمُهُم في الآخِرَةِ وتَواطَأَ حِيْن حَقَّت القيامَةُ وخَسِرُوا بَانَ لهم صِدْقُ ما وُعِدُوا حِيْن لا ينْفَعُهم ذلِكَ العِلْمُ، ثم قالَ جلَّ وعزَّ: بَلْ هُمُ اليَوْمَ في شكٍّ من عِلْمِ الآخِرَةِ {بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ} أي جَاهِلُون، والشَّك في أَمْرِ الآخِرَةِ كفرٌ. وقالَ شَمِرٌ: هذه الكَلِمَةُ فيها أَشْيَاء، وذلِكَ أَنَّا وجَدْنا الفِعْلَ اللازِمَ والمُتَعَدي فيها في أَفْعَلَ وتَفَاعَلَ وافْتَعَل

واحِدًا، وذلِكَ أَنَّك تقولُ أَدْرَكَ الشي‌ءَ وأَدْرَكْتُه وتَدَارَك القومُ وادَّارَكوا وادَّرَكُوا إذا أَدْرَكَ بعضُهم بعضًا. ويقالُ: تَدَاركتُه وادَّارَكْتُه وادَّرَكْتُه، وأَنْشَدَ:

تَدَاركتُما عَبْسًا وذُبْيان بعْدَ ما *** تفانَوْا ودَقُّوا بينهم عِطْر مَنْشِمِ

وقالَ ذُو الرُّمَّةِ:

خَزامى اللوى هبت له الريح بعد ما *** علا نورها مَجَّ الثَّرَى المُتَدارِك

فهذا لازِمٌ. وقالَ الطرمَّاحُ:

فلمَّا ادَّرَكْنَا هُنَّ أَبْدَيْنَ للهَوَى

وهذا متعدٍّ. وقالَ اللهُ تعالَى في اللَّازِمِ: «بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ». قالَ شَمِرٌ: وسَمِعْتُ عَبْد الصَّمَدِ يحدِّث عن الثوريِّ في قولِهِ تعالَى هذا، قالَ مجاهِدٌ: أَمْ تَواطَأَ عِلْمُهُم في الآخِرَةِ، قالَ الأَزْهَرِيُّ: وهذا يوافقُ قَوْلَ السَّدِيِّ لأَنَّ مَعْنَى تَواطَأَ تحقَّقَ واتَّفَقَ حِيْنَ لا يَنْفَهم، لا على أَنَّه تَواطَأَ بالحَدْسِ كما ظنَّه الفرَّاءُ؛ قالَ: وأَمَّا ما رُويَ عن ابنِ عَبَّاس أَنَّه قالَ: بلى آأَدْرَكَ عِلْمُهُم في الآخِرَةِ فإِنَّه إنْ صحَّ اسْتِفْهامٌ فيه ردٌّ وتهكُّمٌ، ومَعْنَاه لم يُدْرِكْ عِلْمهم في الآخِرَةِ، ونَحْو ذلِكَ رَوَى شعْبةُ عن أَبي حَمْزَة عن ابنِ عَبَّاس في تفْسِيرِه؛ ومِثْلُه قَوْلُه تعَالَى: {أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ}؛ معْنَى أَمْ أَلِف الاسْتِفْهام كأَنَّه قالَ أَله البَناتِ ولكُم البَنُون، اللَّفظُ لفظُ الاسْتِفْهام ومعْنَاهُ الردّ والتكْذِيب لَهُم.

والدَّرَكُ يُحَرَّكُ ويُسَكَّنُ هكذا هو في الصِّحاحِ والعُبَابِ ولا قلق في العبارَةِ كما قالَهُ شَيْخُنَا؛ والضبْطُ عنْدَه وإنْ كانَ راجِعًا لأَولِ الكَلِمَةِ فإنَّه لمَّا عَدَا التسْكِين فإِنَّه في الأَوَّلِ لا يتصور بَلْ هو على كلِّ حالٍ راجعٌ للوَسَطِ، ومِثْلُ هذا لا يُحْتاجُ التَّنْبِيه عَلَيه. بَقي أَنَّه لو قالَ: والدَّرْكُ: ويُحَّرَّكُ على مقْتَضَى اصْطِلاحِه فاتَهُ أَرْجَحِيَّة التَّحْرِيكِ كما نَصُّوا عليه فتأَمَّلْ التَّبِعَةُ يقالُ: ما لَحِقَك من دَرَكٍ فعليَّ خلاصُه، يُرْوَى بالوَجْهَين. وفي الأَساسِ: ما أَدْرَكه من دَرَكٍ فعليَّ خلاصُه وهو اللَّحَقُ من التَّبِعَةِ أي ما يَلْحَقُه منها؛ وشاهِدُ التَّحْرِيك قَوْلُ رُؤْبَة:

ما بعدنا من طلب ولا دَرَك

ومنه ضَمَانُ الدَّركِ في عهْدةِ البَيْعِ.

والدَّرَكُ: أَقْصَى قَعْرِ الشي‌ءِ يُرْوَى بالوَجْهَين كما في المُحْكَم؛ زَادَ في التَّهْذِيبِ: كالبحرِ ونَحْوه. وقالَ شَمِرٌ: الدَّرَكُ: أَسْفَل كلِّ شي‌ء ذِي عُمْقٍ كالرَّكِيَّةِ ونحْوِها. وقالَ أَبُو عَدْنانٍ: دَرَكُ الرَّكِيَّةِ قَعْرُها الذي أُدْرِكَ فيها الماءُ؛ وبهذا تَعْلم أَنَّ قَوْلَ شَيْخِنَا وتفْسِيرَه بقَوْلِه: أَقْصَى قعْرِ الشي‌ءِ غيرُ مَعْرُوفٍ، وعِبَارَتَه غيرُ دَالَّةٍ على معْنًى صحيحٍ غيرُ وجيهٍ فتأَمَّلْ.

وقالَ المُصَنِّفْ في البصائِرِ: الدَّرَكُ اسمٌ في مقابَلَةِ الدَّرَجِ بمَعْنَى أَنَّ الدَّرَجَ مراتب باعتبارِ الصّعُودِ والدرك مراتب اعتبارًا بالهُبوطِ ولهذا عَبَّرُوا عن مَنَازِلِ الجنَّةِ بالدَّرَجاتِ وعن منازِلِ جَهَنَّم بالدَّرَكاتِ الجمع: أَدْرَاكٌ هو جَمْعٌ للمُحَرَّكِ والسَّاكِن، وهو في الأَوَّلِ كثيرٌ مقيسٌ، وفي الثاني نادِرٌ، ويُجْمَعُ أَيْضًا على الدَّرَكاتٍ وهي مَنَازلُ النارِ، نَعُوذُ باللهِ تعالَى منها. وقالَ ابنُ الأَعْرَابىِّ: الدَّرْكُ: الطَّبَقُ من أَطْباقِ جهنَّم، ورُوِيَ عن ابنِ مَسْعودٍ رَضِيَ اللهُ تعالَى عنه أَنَّه قالَ: الدَّرْكُ الأَسْفَلُ تَوابِيتُ من حديدٍ تصَفَّدُ عليهم في أَسْفلِ النارِ؛ وقالَ أَبُو عُبَيْدَة: جهنَّمُ دَرَكَاتٌ أي مَنَازل وطَبَقَات، وقَوْلُه تعالَى: {إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ} قَرَأَ الكُوفِيُّون غَيْر الأَعْشَى والبرجميّ بسكونِ الرَّاءِ، والبَاقُون بفَتْحِها.

والدَّرَكُ بالتَّحرِيكٍ حَبْلٌ يُوَثَّقُ في طَرَفِ الحَبْلِ الكَبير ليكونَ هو الذي يَلي الماءَ ولا يعفَن الرِّشاءُ عنْدَ الاسْتِقاءِ كما في المُحْكمِ. وقالَ الأَزْهَرِيُّ: هو الحَبْلُ الذي يُشَدُّ به العَرَاقي ثم يُشَدُّ الرِّشاءُ فيه وهو مَثْنى. وقالَ الجَوْهَرِيُّ: قطْعَةُ حَبْلٍ يُشَدُّ في طرفِ الرِّشاءِ إلى عَرْقُوَةِ الدَّلْوِ ليكونَ هو الذي يَلِي الماءَ فلا يعفَن الرِّشاءُ، ومِثْلُه في العُبَابِ.

والدِّرْكَةُ بالكسر حَلْقَةُ الوَتَرِ التي تَقَعُ في الفُرْضَةِ وهي أَيْضًا سَيْرٌ يوصَلُ بِوَتَرِ القَوْسِ العربيَّةِ. وقالَ اللّحْيَانيُّ: الدِّرْكَةُ: قِطْعَةٌ توصَلُ في الحِزَامِ إذا قَصُرَ وكذلِكَ في الحَبْلِ إذا قَصُرَ ويُقالُ: لا بارَكَ اللهُ تعالى فيه ولا دَارَكَ ولا تارَكَ إتْباعٌ كُلّه بمعْنًى.

ويومُ الدَّرَكِ مُحَرَّكَةً من أَيامِهِم، قالَ ابنُ دُرَيْدٍ: أحْسَبَهُ كانَ بين الأَوْسِ والخَزْرَجِ. والمُدَارِكَةُ هي المرْأَةُ التي لا تَشْبَعُ من الجِمَاعِ فكأنَّ شَهْوَتَها تَتْبَعُ بَعْضَها بَعْضًا.

والمُدْرِكَةُ كمُحْسِنَةٍ ماءَةٌ لبَني يَرْبوعٍ كذا في العُبَابِ، وقالَ نَصْر في كتابِه: هي لبَنِي زنباع من بني كلابٍ. وقالَ ابنُ عَبَّادٍ: وتُسَمَّى الحَجْمَةُ بين الكَتفَيْنِ المُدْرِكَةُ ومُدْرِكَةُ بنُ الياسَ بن مُضَر اسْمُه عَمْروٍ ولَقَّبَه بها أَبُوه لمَّا أَدْرَك الإِبِلَ وقد ذُكِرَ في «خ ن بلد ف».

ودَرَّاك كشَدَّادٍ اسمُ رجُلٍ.

ومُدْرِكٌ كمُحْسِنٍ فَرَسٌ لكُلْثوم بن الحارثِ وهو مُدْرِكُ بن الحازيّ. ومُدْرِكُ بنُ زِيادٍ الفَزَارِيُّ، قَبْرُهُ بقَرْية زادية من الغوْطَة له حدِيثٌ من طريقِ بنته، ومُدْرِكُ بنُ الحارِثِ الأزدي الغَامِديّ له رُؤْبةٌ رَوَى عنه الوليدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمن الجرشيّ، ومُدْرِكُ الغفارِيُّ أبو الطُّفَيْلِ حدِيْثُه عنْدَ أَوْلادِهِ، وهو غَيْرُ أَبي الطُّفَيْلِ اللَّيْثِيِّ من الصَّحَابةِ صحابِيُّونَ رَضِيَ اللهُ تعالَى عنهم.

ومُدْرِكُ بنُ عَوْفٍ البجلِيّ ومُدْرِكُ بنُ عَمَّارٍ مُخْتَلَفٌ في صُحْبَتِهِما؛ فابنُ عَوْف رَوَى عن عُمَرَ، وعَنْه قَيْسُ بنُ أَبي حازِم وهذا لم يَخْتَلِفوا فيه، وإنَّما اختَلَفُوا في ابن عمار قالُوا: الأَظْهَر أنه مُدْرِكُ بنُ عمارة بن عَقبَة بن أَبي مُعِيْطٍ وأنَّه تابِعِيٌّ، ثم رأيت ابنُ حَبَّان ذكَرَهما في ثقات التابِعِيْن، وقالَ في ابنِ عَمَارَة عِدَادُه في أَهْلِ الكُوفَةِ رَوَى عن ابنِ أَبي أَوْفَى وعنه يونُس بنُ أَبي إسْحق، ومُدْرِكُ بنُ سَعْدٍ مُحَدِّثٌ، وفَاتَه من التَّابِعِين: مُدْرِك بن عَبْدِ اللهِ ومُدْرِك أَبُو زيادٍ مولى عليٍّ، ومُدْرِك بن شَوْذَب الطاهِرِيّ، ومُدْرِك بن مُنِيْب ذَكَرَهم ابنُ حبَّان في الثَّقَاتِ؛ وفي الضّعَفاءِ مُدْرِك الطفاويّ عن حميد الطَّويل ومُدرِك القُهُنْدُزيّ عن أَبي حَنِيْفَة، ومُدْرِك بن عَبْدِ اللهِ أَبُو خالِدٍ، ومُدْرِك الطَّائيُّ، ومُدْرِك أَبُو الحَجَّاج ذَكَرَهم الحافِظُ الذّهَبيُّ، وخالِدُ بنُ دُرَيْكٍ كزُبَيْرٍ تابِعِيٌّ شامِيٌّ.

ودِرَاكٌ ككِتَابٍ اسمُ كَلْبٍ قالَ الكُمَيْت يَصِفُ الثورَ والكِلَابَ:

فاخْتَلَّ حِضْنَيْ دِرَاكٍ وانْثَنَى حَرِجًا *** لزَارِعٍ طَعْنَةٌ في شِدْقها نَجَل

أَي في جانِبِ الطَّعْنةِ سعةٌ. وزَارِع أَيْضًا اسمُ كَلْبٍ وقَدْ ذُكِرَ في مَوْضِعِه.

وقالُوا: دَرَاك كقَطامِ أي أَدْرِكْ مِثْلُ تَرَاكٍ بمعْنَى اتْرُكْ وهو اسمٌ لفِعْلِ الأَمْرِ وكُسِرَت الكافُ لاجْتِمَاعِ السَّاكِنين لأَنَّ حقَّها السّكون للأَمْر. قالَ ابنُ بَرِّي: جَاءَ دَرَاكَ ودَرَّاك وفَعَال وفَعَّال إنَّما هو من فعْلٍ ثلاثيٍّ ولم يُسْتَعْمل منه فِعْلٌ ثلاثيٌّ، وإنْ كانَ قد اسْتُعْمِل منه الدّرْكُ، قالَ جَحْدَرُ بنُ مالِكٍ الحَنْظَلِيُّ يخاطِبُ الأَسَدَ:

لَيْثٌ ولَيْثٌ في مَجالٍ ضنكِ *** كِلَاهما ذو أَنَف ومَحْكِ

وبَطْشةٍ وصَوْلَةٍ وفَتْكِ *** إِن يَكْشِف اللهُ قِناع الشَّكِ

بظَفَرٍ من حاجتِي ودَرْكِ *** فذا أَحَقُّ مَنْزِل برك

قالَ أَبُو سَعِيدٍ: وزَادَني هفَّان في هذا الشِّعْر:

الذِّئب يَعْوِي والغُرابُ يَبْكِي

والدَّرِيكة: كسَفِينَةٍ الطَّريدَةُ ومنه فَرَسٌ دَرَك الطَّرِيدة وقَدْ تَقَدَّمَ.

ودَرَكاتُ النارِ مُحرَّكةً مَنازِلُ أَهلِها جَمْع دَرَك محرَّكةً وقَدْ تَقَدَّمَ تفْسِيرُ ذلِكَ قريبًا.

* وممَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيه: تَدَارَك الثَّرَيان أي أَدْرَك ثَرَى المَطَرِ ثَرَى الأَرْض.

وقالَ اللّيْثُ: الدَّرَكُ إِدْرَاك الحاجَةِ ومَطْلبِه. يقالُ: بكِّرْ فَفيهِ دَرَك، ويُسَكَّنُ وشاهِدُ قَوْل حَجْدَرٍ السَّابق.

وأدْرَكْتُه ببَصرِي رَأَيْتُه.

وأدْرَك الغلامُ بَلَغَ أَقْصَى غايَةِ الصّبَا. واسْتَدْرَكَ ما فَاتَ وتَدَارَكه بمعْنًى. واسْتَدْرَك عَلَيْه قَوْلَه أَصْلَحَ خَطَأَه ومنه المُسْتَدْرَك للحَاكِمِ على البُخَارِي.

وقالَ اللّحْيَانيُّ: المُتَدَارِكَة غَيْرُ المِتَوَاتِرَة. المُتَوَاتِرُ: الشي‌ءُ الذي يكونُ هُنَيْئةً ثم يجي‌ءُ الآخَر فإذا تَتَابَعَت فليْسَتْ مُتَوَاتِرة، وهي مُتَدَارِكة مُتَواتِرَة.

وطَعَنَهُ طَعْنًا دِرَاكًا وشَرِبَ شربًا دِرَاكًا وضربٌ دِرَاكٌ: مُتَتَابعٌ.

وأَدْرَكَ ماءُ الرَّكِيَّة إدْرَاكًا عن أَبي عَدْنان، أي وَصَلَ إلى دَرْكِها أي قَعْرِها.

وقالَ الأَزْهَرِيُّ: وسَمِعْتُ بعضَ العَرَبِ يقولُ للحَبْلِ الذي يعلَّقُ في حَلْقةِ التَّصْديرِ فيُشَدُّ به القَتَبُ الدَّرَكَ والتَّبْلِغَةَ.

وقالَ أَبُو عَمْروٍ: والتَّدْرِيكُ أَنْ تعلَّقَ الحَبْل في عُنُقِ الأُخر إذا قَرَنْته إليه.

وادَّرَكَه بمعْنَى أَدْرَكه، ومنه قَوْلُه تعَالَى: إنَّا لمُدَّركون بالتَّشْديدِ وهي قرَاءَةُ الأَعْرَجِ وعُبَيْد بن عُمَير نَقَلَه ابنُ جني.

وأَدْرَكَ بَلَغَ عِلْمه أَقْصَى الشي‌ءِ ومنه المدركات الخَمْس والمَدَارِك الخَمْسِ يعْنِي الحَوَاس الخَمْس، وقَوْلُه تعالى: {لا تَخافُ دَرَكًا وَلا تَخْشى} أي لا تخاف أَنْ يدْرِكَكَ فرْعَون ولا تَخْشَاه؛ ومن قَرَأَ لا تخف فمعْنَاه لا تَخَفْ أَنْ الغَرَقَ؛ وقَوْلُه تعالَى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ}، منهم مَنْ حَمَلَ ذلِكَ على البَصَرِ الذي هو الجارِحَةُ، ومنهم مَنْ حَمَلَه على البَصِيرةِ أي لا تُحِيطُ حَقِيْقة الذَّات المُقَدَّسةِ. والتَّدَارك في الإغَاثَةِ والنعْمَةِ أَكْثَر ومنه قَوْلُ الشاعِرِ:

تَدَارَكَني من عَثْرةِ الدّهرِ قاسمُ *** بما شاء من معرُوفِهِ المتداركِ

وتَدَارَكَت الْأَخْبار تَلَاحَقَتْ وتَقَاطَرَتْ. والحُسَيْنُ بنُ طاهِر بن دُركٍ بالضمِ المُؤَدِّبُ الدُّركيّ رَوَى عن الصفار وابن السَّمَّاكِ سَمِعَ منه ابن برهان سَنَة 380.

ودَارَك كهَاجَر من قُرَى أَصْبَهان منها الحَسَنُ بنُ محمَّدٍ الدَّارَكِيُّ رَوَى عنه عُثْمانُ بنُ أَحْمد بن شبل الدَّيْنُورِيُّ ويَعْمُر بنُ بشْرٍ الدَّارَكانيّ من قُرَى مر وصاحِبُ ابن المبَارَك. ودَوْرَك كنَوْفَل مدِينَةٌ من أَعْمالِ ملْطية وقد تكْسَرُ الراءُ هكذا ضَبَطَها المحب ابن الشحنة. ويقالُ له: مدرك ودراكة أي حاسة زائدة.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com