نتائج البحث عن (وَلِخَبَرٍ)
1-التوقيف على مهمات التعاريف (الخطأ)
الخطأ: الزلل عن الحق عن غير تعمد بل عزم الإصابة، أو ود أن لا يخطىء، ذكره الحرالي. وقال ابن الكمال: الخطأ ما لا يقصد وهو عذر صالح لسقوط حق الله إذا حصل عن اجتهاد، ويصير شبهة في العقوبة حتى لا يأثم الخاطىء ولا يؤخذ بحد أو قود، ولم يجعل عذرا في حقوق العباد حتى يلزمه ضمان ما أتلفه، هذا ما ذكره ابن الكمال، ولا يخفى ما فيه من إجمال. وقد حققه الإمام الراغب حيث قال: الخطأ العدول عن الجهة، وذلك أضرب أحدهما: أن يريد غير ما تحسن إرادته فيفعله، هذا هو الخطأ التام المؤاخذ به، الثاني: أن يريد ما يحسن فعله لكن يقع عنه بخلاف ما يريد، وهذا اصاب في الإرادة وأخطأ في الفعل، وهو المعني بحديث "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"، ولخبر "من اجتهد فأخطأ فله أجر"، الثالث: أن يريد ما لا يحسن ويتفق منه خلافه فهو مخطىء في الإرادة مصيب في الفعل فهو مذموم بقصده [غير] محمود على فعله ومنه قوله:أردت مساءتي فأجرت مسرتي... وقد يحسن الإنسان من حيث لا يدري
التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م
2-موسوعة الفقه الكويتية (آبار 1)
آبَارٌ -1الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ
تَعْرِيفُ الْآبَارِ وَبَيَانُ أَحْكَامِهَا الْعَامَّةِ
1- الْآبَارُ جَمْعُ بِئْرٍ، مَأْخُوذٌ مِنْ «بَأَرَ» أَيْ حَفَرَ. وَيُجْمَعُ أَيْضًا جَمْعَ قِلَّةٍ عَلَى أَبُورٍ وَآبُرٍ. وَجَمْعُ الْكَثْرَةِ مِنْهُ بِئَارٌ.
وَيَنْقُلُ ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ عَنْ «النُّتَفِ»: الْبِئْرُ هِيَ الَّتِي لَهَا مَوَادُّ مِنْ أَسْفَلِهَا، أَيْ لَهَا مِيَاهٌ تَمُدُّهَا وَتَنْبُعُ مِنْ أَسْفَلِهَا. وَقَالَ: وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ يَخْرُجُ الصِّهْرِيجُ وَالْجُبُّ وَالْآبَارُ الَّتِي تُمْلأُ مِنَ الْمَطَرِ، أَوْ مِنَ الْأَنْهَارِ، وَالَّتِي يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الرَّكِيَّةِ (عَلَى وَزْنِ عَطِيَّةٍ) كَمَا هُوَ الْعُرْفُ، إِذِ الرَّكِيَّةُ هِيَ الْبِئْرُ، كَمَا فِي الْقَامُوسِ. لَكِنْ فِي الْعُرْفِ هِيَ بِئْرٌ يَجْتَمِعُ مَاؤُهَا مِنَ الْمَطَرِ، فَهِيَ بِمَعْنَى الصِّهْرِيجِ. وَفِي حَاشِيَةِ الْبُجَيْرِمِيِّ عَلَى شَرْحِ الْخَطِيبِ أَنَّ «الْبِئْرَ» قَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَنْزِلُ فِيهِ الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ، وَهِيَ الْحَاصِلُ الَّذِي تَحْتَ بَيْتِ الرَّاحَةِ. وَيُسَمَّى الْآنَ بِالْخَزَّانِ. وَيُقَالُ عَنْ هَذِهِ الْبِئْرِ: بِئْرُ الْحُشِّ، وَالْحُشُّ هُوَ بَيْتُ الْخَلَاءِ.
2- وَالْأَصْلُ فِي مَاءِ الْآبَارِ الطَّهُورِيَّةُ (أَيْ كَوْنُهُ طَاهِرًا فِي نَفْسِهِ مُطَهِّرًا لِغَيْرِهِ)، فَيَصِحُّ التَّطْهِيرُ بِهِ اتِّفَاقًا، إِلاَّ إِذَا تَنَجَّسَ الْمَاءُ أَوْ تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي التَّغَيُّرِ يُعْرَفُ فِي أَحْكَامِ الْمِيَاهِ. غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ آبَارًا تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَنْ كَرَاهَةِ التَّطْهِيرِ بِمَائِهَا لِأَنَّهَا فِي أَرْضٍ مَغْضُوبٍ عَلَيْهَا. وَهُنَاكَ مِنَ الْآبَارِ مَا نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِالْفَضْلِ، وَرَتَّبُوا عَلَى ذَلِكَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ.
الْمَبْحَثُ الثَّانِي
حَفْرُ الْآبَارِ لِإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَتَعَلُّقُ حَقِّ النَّاسِ بِمَائِهَا
أَوَّلًا: حَفْرُ الْبِئْرِ لِإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ:
3- حَفْرُ الْبِئْرِ وَخُرُوجُ الْمَاءِ مِنْهَا طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْإِحْيَاءِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَمَّ تَفْجِيرُ الْمَاءِ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الْإِنْبَاتِ، مَعَ نِيَّةِ التَّمَلُّكِ، يَتِمُّ بِهِ الْإِحْيَاءُ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ تَفْجِيرَ الْمَاءِ يَتِمُّ بِهِ الْإِحْيَاءُ فِي الْجُمْلَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَشْتَرِطُونَ إِعْلَانَ النِّيَّةِ إِذَا كَانَتِ الْبِئْرُ بِئْرَ مَاشِيَةٍ. وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ يَشْتَرِطُونَ الْغَرْسَ إِذَا كَانَتِ الْبِئْرُ لِبُسْتَانٍ، كَمَا يَشْتَرِطُونَ نِيَّةَ التَّمَلُّكِ. وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ طَيَّهَا (أَيْ بِنَاءَ جُدْرَانِهَا) إِذَا كَانَتْ فِي أَرْضٍ رَخْوَةٍ أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ الْإِحْيَاءَ لَا يَتِمُّ بِتَفْجِيرِ الْمَاءِ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا بِالْحَفْرِ وَسَقْيِ الْأَرْضِ.
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ لِلْبِئْرِ فِي الْأَرْضِ الْمَوَاتِ حَرِيمًا، لِحَاجَةِ الْحَفْرِ وَالِانْتِفَاعِ، حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي حَرِيمِهِ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- جَعَلَ لِلْبِئْرِ حَرِيمًا. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي يُعْتَبَرُ حَرِيمًا، فَحَدَّدَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِالْأَذْرُعِ حَسَبَ نَوْعِ الْبِئْرِ. وَيَسْتَنِدُ الْمَذْهَبَانِ فِي ذَلِكَ إِلَى مَا وَرَدَ مِنْ أَخْبَارٍ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَقَدَّرُوهُ بِمَا لَا يَضِيقُ عَلَى الْوَارِدِ، وَلَا عَلَى مُنَاخِ إِبِلِهَا، وَلَا مَرَابِضِ مَوَاشِيهَا عِنْدَ الْوُرُودِ، وَلَا يَضُرُّ بِمَاءِ الْبِئْرِ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ «إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ».
ثَانِيًا: تَعَلُّقُ حَقِّ النَّاسِ بِمَاءِ الْآبَارِ:
4- الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا رَوَاهُ الْخَلاَّلُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَنَّهُ قَالَ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ وَالْكَلَإِ وَالنَّارِ». كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ إِلاَّ مَا حُمِلَ مِنْهُ». وَالِاسْتِثْنَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَاءِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ غَيْرُ الْمُحْرَزِ.
وَعَلَى هَذَا فَمِيَاهُ الْآبَارِ الْعَامَّةِ مُبَاحَةٌ وَلَا مِلْكَ فِيهَا لِأَحَدٍ إِلاَّ بِالِاغْتِرَافِ. وَأَمَّا مِيَاهُ الْآبَارِ الْخَاصَّةِ فَإِنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ الْإِبَاحَةِ الْعَامَّةِ. وَلَمَّا كَانَتْ حَاجَةُ الْإِنْسَانِ إِلَى الْمَاءِ لِشُرْبِهِ وَشُرْبِ حَيَوَانِهِ مِمَّا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ بِحَقِّ الشَّفَةِ مَاسَّةً وَمُتَكَرِّرَةً، كَمَا أَنَّ أَصْلَ الْمَاءِ قَبْلَ جَرَيَانِهِ فِي الْمِلْكِ الْخَاصِّ مُبَاحٌ، وَأَنَّ مِيَاهَ الْآبَارِ فِي الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ مُتَّصِلَةٌ بِالْمَجْرَى الْعَامِّ، أَوْجَدَ ذَلِكَ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ فِي مَاءِ الْآبَارِ الْخَاصَّةِ، لَكِنَّهَا إِبَاحَةٌ قَاصِرَةٌ عَلَى حَقِّ الشَّفَةِ دُونَ حَقِّ الشُّرْبِ.
5- وَاتِّجَاهَاتُ الْفُقَهَاءِ مُخْتَلِفَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِمِلْكِيَّةِ مَاءِ آبَارِ الدُّورِ وَالْأَرَاضِي الْمَمْلُوكَةِ، وَتَعَلُّقِ حَقِّ النَّاسِ بِهَا. فَقِيلَ بِأَنَّ لِلنَّاسِ حَقًّا فِيهَا. وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَاءٌ قَرِيبٌ فِي غَيْرِ مِلْكِ أَحَدٍ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَفِضْ عَنْ حَاجَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَيَّدَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ يَفِيضُ عَنْ حَاجَتِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ الْبِئْرَ مَا وُضِعَ لِلْإِحْرَازِ، وَلِأَنَّ فِي بَقَاءِ حَقِّ الشَّفَةِ ضَرُورَةً، وَلِأَنَّ الْبِئْرَ تَتْبَعُ الْأَرْضَ دُونَ الْمَاءِ، وَلِخَبَرِ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ وَالْكَلَإِ وَالنَّارِ». وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَ حَفْرُ الْبِئْرِ بِقَصْدِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَاءِ، أَوْ حُفِرَ بِقَصْدِ التَّمَلُّكِ، وَهُوَ غَيْرُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي غَيْرِ آبَارِ الدُّورِ وَالْحَوَائِطِ الْمُسَوَّرَةِ. وَقَيَّدَ ذَلِكَ ابْنُ رُشْدٍ بِمَا إِذَا كَانَتِ الْبِئْرُ فِي أَرْضٍ لَا يَضُرُّهَا الدُّخُولُ فِيهَا.
الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ أَحَدٍ، وَمِلْكِيَّتُهُ خَالِصَةٌ لِصَاحِبِهِ. وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لآِبَارِ الدُّورِ وَالْحَوَائِطِ الْمُسَوَّرَةِ، وَالْقَوْلُ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِهَا مِنَ الْآبَارِ الْخَاصَّةِ فِي الْأَرَاضِيِ الْمَمْلُوكَةِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَ يَمْلِكُ الْمَنْبَعَ، أَوْ كَانَ حَفَرَهَا بِقَصْدِ التَّمَلُّكِ. فَلِصَاحِبِ الْبِئْرِ عَلَى هَذَا أَنْ يَمْنَعَ الْغَيْرَ مِنْ حَقِّ الشَّفَةِ أَيْضًا، وَأَنْ يَبِيعَ الْمَاءَ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُحْرَزِ. وَيُقَيَّدُ الْمَنْعُ بِغَيْرِ مَنْ خِيفَ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ؛ لِأَنَّهَا حَالَةُ ضَرُورَةٍ. وَفِي مَعْنَى الْمَاءِ الْمَعَادِنُ الْجَارِيَةُ فِي الْأَمْلَاكِ، كَالْقَارِ وَالنَّفْطِ.
الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ
حَدُّ الْكَثْرَةِ فِي مَاءِ الْبِئْرِ وَأَثَرُ اخْتِلَاطِهِ بِطَاهِرٍ وَانْغِمَاسُ آدَمِيٍّ فِيهِ طَاهِرٍ أَوْ بِهِ نَجَاسَةٌ
6- اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ. وَيَخْتَلِفُونَ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ، فَيُقَدِّرُهَا الْحَنَفِيَّةُ بِمَا يُوَازِي عَشْرَ أَذْرُعٍ فِي عَشْرٍ دُونَ اعْتِبَارٍ لِلْعُمْقِ مَا دَامَ الْقَاعُ لَا يَظْهَرُ بِالِاغْتِرَافِ. وَالذِّرَاعُ سَبْعُ قَبَضَاتٍ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَشْرًا فِي عَشْرٍ فَإِنَّ الْمَاءَ لَا يَتَنَجَّسُ بِشَيْءٍ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ، اعْتِبَارًا بِالْمَاءِ الْجَارِي. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَطْهُرَ، لَكِنْ تُرِكَ الْقِيَاسُ لِلْآثَارِ، وَمَسَائِلُ الْآبَارِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْآثَارِ. وَالْمُفْتَى بِهِ الْقَوْلُ بِالْعَشْرِ وَلَوْ حُكْمًا لِيَعُمَّ مَا لَهُ طُولٌ بِلَا عَرْضٍ فِي الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: الْمُعْتَبَرُ فِي الْقَدْرِ الْكَثِيرِ رَأْيُ الْمُبْتَلَى بِهِ، بِنَاءً عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ثُبُوتِ تَقْدِيرٍ شَرْعًا.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْكَثِيرَ مَا زَادَ قَدْرُهُ عَنْ آنِيَةِ الْغُسْلِ، وَكَذَا مَا زَادَ عَنْ قَدْرِ آنِيَةِ الْوُضُوءِ، عَلَى الرَّاجِحِ. وَيَتَّفِقُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، عَلَى أَنَّ الْكَثِيرَ مَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ، لِحَدِيثِ «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» وَفِي رِوَايَةٍ: «لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ». وَإِنْ نَقَصَ عَنْ الْقُلَّتَيْنِ بِرِطْلٍ أَوْ رِطْلَيْنِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْقُلَّتَيْنِ.
7- إِذَا اخْتَلَطَ بِمَاءِ الْبِئْرِ طَاهِرٌ، مَائِعًا كَانَ أَوْ جَامِدًا، وَكَانَتْ الْبِئْرُ مِمَّا يُعْتَبَرُ مَاؤُهَا قَلِيلًا، تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمَاءِ الْقَلِيلِ الْمُخْتَلِطِ بِطَاهِرٍ، وَيُرْجَعُ فِي تَحْدِيدِ الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ إِلَى تَفْصِيلَاتِ الْمَذَاهِبِ فِي مُصْطَلَحِ (مِيَاه).
انْغِمَاسُ الْآدَمِيِّ فِي مَاءِ الْبِئْرِ:
8- اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ الْآدَمِيَّ إِذَا انْغَمَسَ فِي الْبِئْرِ، وَكَانَ طَاهِرًا مِنَ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ، وَكَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا، فَإِنَّ الْمَاءَ لَا يُعْتَبَرُ مُسْتَعْمَلًا، وَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ طَهُورِيَّتِهِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُنْزَحُ مِنْهُ عِشْرُونَ دَلْوًا.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْآدَمِيَّ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَأَنَّ مَوْتَ الْآدَمِيِّ فِي الْمَاءِ لَا يُنَجِّسُهُ إِلاَّ إِنْ تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِ الْمَاءِ تَغَيُّرًا فَاحِشًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ». وَلِأَنَّهُ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، كَالشَّهِيدِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَجُسَ بِالْمَوْتِ لَمْ يَطْهُرْ بِالْغُسْلِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْآدَمِيَّةِ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ نَزْحَ كُلِّ مَاءِ الْبِئْرِ بِمَوْتِ الْآدَمِيِّ فِيهِ، إِذْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ بِمَوْتِ سِنَّوْرَيْنِ أَوْ كَلْبٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ آدَمِيٍّ. وَمَوْتُ الْكَلْبِ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ انْغَمَسَ وَأُخْرِجَ حَيًّا يُنْزَحُ جَمِيعُ الْمَاءِ.
9- وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ الْحَنْبَلِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُنَجِّسَ الْكَافِرُ الْمَاءَ بِانْغِمَاسِهِ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ وَرَدَ فِي الْمُسْلِمِ.
وَإِذَا انْغَمَسَ فِي الْبِئْرِ مَنْ بِهِ نَجَاسَةٌ حُكْمِيَّةٌ، بِأَنْ كَانَ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا، فَإِنَّهُ يُنْظَرُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَاءُ الْبِئْرِ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَوَى بِالِانْغِمَاسِ رَفْعَ الْحَدَثِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِقَصْدِ التَّبَرُّدِ أَوْ إِحْضَارِ الدَّلْوِ.
فَإِنْ كَانَ الْبِئْرُ مَعِينًا- أَيْ مَاؤُهُ جَارٍ- فَإِنَّ انْغِمَاسَ الْجُنُبِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ لَا يُنَجِّسُهُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ إِنْ لَمْ يَنْوِ رَفْعَ الْحَدَثِ. وَهُوَ اتِّجَاهُ مَنْ قَالَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرٌ لِغَلَبَةِ غَيْرِ الْمُسْتَعْمَلِ، أَوْ لِأَنَّ الِانْغِمَاسَ لَا يُصَيِّرُهُ مُسْتَعْمَلًا، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُنْزَحُ مِنْهُ شَيْءٌ.
10- وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ كَرَاهَةَ انْغِمَاسِ الْجُنُبِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ فِي الْبِئْرِ، وَإِنْ كَانَ مَعِينًا، لِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ». وَهُوَ رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ إِنْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ. وَإِلَى هَذَا يَتَّجِهُ مَنْ يَرَى مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمَاءَ بِالِانْغِمَاسِ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا، وَيَرَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ نَجِسٌ يُنْزَحُ كُلُّهُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ دَلْوًا لَوْ كَانَ مُحْدِثًا، وَيُنْزَحُ جَمِيعُهُ لَوْ كَانَ جُنُبًا أَوْ كَافِرًا؛ لِأَنَّ بَدَنَ الْكَافِرِ لَا يَخْلُو مِنْ نَجَاسَةٍ حَقِيقِيَّةٍ أَوْ حُكْمِيَّةٍ، إِلاَّ إِذَا تَثَبَّتْنَا مِنْ طَهَارَتِهِ وَقْتَ انْغِمَاسِهِ.
11- وَإِذَا كَانَ مَاءُ الْبِئْرِ قَلِيلًا وَانْغَمَسَ فِيهِ بِغَيْرِ نِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ، فَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُجَاوِرَ فَقَطْ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْمَاءُ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ. وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ تَرْمِزُ لَهَا كُتُبُهُمْ «مَسْأَلَةُ الْبِئْرِ جحط» وَيَرْمِزُونَ بِالْجِيمِ إِلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ مِنْ أَنَّ الْمَاءَ نَجِسٌ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْ الْبَعْضِ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ، وَالرَّجُلُ نَجِسٌ لِبَقَاءِ الْحَدَثِ فِي بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ، أَوْ لِنَجَاسَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَيَرْمِزُونَ بِالْحَاءِ لِرَأْيِ أَبِي يُوسُفَ مِنْ أَنَّ الرَّجُلَ عَلَى حَالِهِ مِنَ الْحَدَثِ، لِعَدَمِ الصَّبِّ، وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَهُ، وَالْمَاءُ عَلَى حَالِهِ لِعَدَمِ نِيَّةِ الْقُرْبَةِ، وَعَدَمِ إِزَالَةِ الْحَدَثِ. وَيَرْمِزُونَ بِالطَّاءِ لِرَأْيِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنْ أَنَّ الرَّجُلَ طَاهِرٌ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الصَّبِّ، وَكَذَا الْمَاءُ، لِعَدَمِ نِيَّةِ الْقُرْبَةِ.
12- أَمَّا إِذَا انْغَمَسَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ، كَانَ الْمَاءُ كُلُّهُ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، لَكِنْ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَبْقَى الْمَاءُ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ وَلَا يُرْفَعُ الْحَدَثُ. وَكَذَلِكَ يَكُونُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَوْ تَدَلَّكَ وَلَوْ لَمْ يَنْوِ رَفْعَ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّ التَّدَلُّكَ فِعْلٌ مِنْهُ يَقُومُ مَقَامَ نِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ. 13- أَمَّا إِذَا انْغَمَسَ إِنْسَانٌ فِي مَاءِ الْبِئْرِ وَعَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، أَوْ أُلْقِيَ فِيهِ شَيْءٌ نَجِسٌ، فَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ لَا يَتَنَجَّسُ بِشَيْءٍ، مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ، عَلَى مَا سَبَقَ.
غَيْرَ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ فِي أَشْهَرِ رِوَايَتَيْنِ عِنْدَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ مَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ، إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَلَا يَتَنَجَّسُ بِشَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَاتِ، إِلاَّ بِبَوْلِ الْآدَمِيِّينَ أَوْ عَذِرَتِهِمُ الْمَائِعَةِ. وَجْهُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ». وَكَذَلِكَ إِذَا مَا سَقَطَ فِيهِ شَيْءٌ نَجِسٌ، وَفِي مُقَابِلِ الْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ إِلاَّ بِالتَّغَيُّرِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ.
14- وَقَدْ فَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا بِمَا لَمْ يُفَصِّلْهُ غَيْرُهُمْ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ بِخُرْءِ الْحَمَامِ وَالْعُصْفُورِ، وَلَوْ كَانَ كَثِيرًا؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ اسْتِحْسَانًا، بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ الصَّدْرَ الْأَوَّلَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ اقْتِنَاءِ الْحَمَامِ فِي الْمَسَاجِدِ، حَتَّى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، مَعَ وُرُودِ الْأَمْرِ بِتَطْهِيرِهَا. وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى عَدَمِ نَجَاسَتِهِ. وَخُرْءُ الْعُصْفُورِ كَخُرْءِ الْحَمَامَةِ، فَمَا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَةِ هَذَا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَةِ ذَاكَ. وَكَذَلِكَ خُرْءُ جَمِيعِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ عَلَى الْأَرْجَحِ.
الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ
أَثَرُ وُقُوعِ حَيَوَانٍ فِي الْبِئْرِ
15- الْأَصْلُ أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ لَا يَنْجُسُ إِلاَّ بِتَغَيُّرِ أَحَدِ أَوْصَافِهِ كَمَا سَبَقَ. وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ، إِذَا مَا وَقَعَ فِي مَاءِ الْبِئْرِ لَا يُؤَثِّرُ فِي طَهَارَتِهِ، كَالنَّحْلِ، لِحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَقَعَتْ فِيهِ دَابَّةٌ لَيْسَ لَهَا دَمٌ فَمَاتَتْ فَهُوَ حَلَالٌ». وَمِمَّا قِيلَ فِي تَوْجِيهِهِ أَنَّ الْمُنَجِّسَ لَهُ الدِّمَاءُ السَّائِلَةُ، فَمَا لَا دَمَ لَهُ سَائِلًا لَا يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ مَا مَاتَ فِيهِ مِنَ الْمَائِعَاتِ. وَكَذَا مَا كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ يُعْلَمُ أَنَّ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ مَخْرَجِهِ نَجَاسَةً، وَخَرَجَ حَيًّا، مَا دَامَ لَمْ يَتَسَبَّبْ فِي تَغَيُّرِ أَحَدِ أَوْصَافِ الْمَاءِ، عَدَا مَا كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ كَالْخِنْزِيرِ. وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ السُّؤْرُ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَصِلْ فَمُهُ إِلَى الْمَاءِ لَا يُنْزَحُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ وَصَلَ وَكَانَ سُؤْرُهُ طَاهِرًا فَإِنَّهُ طَاهِرٌ. يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: وَقَالَ الْبَعْضُ: الْمُعْتَبَرُ السُّؤْرُ. وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: وَكُلُّ حَيَوَانٍ حُكْمُ جِلْدِهِ وَشَعْرِهِ وَعَرَقِهِ وَدَمْعِهِ وَلُعَابِهِ حُكْمُ سُؤْرِهِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ. وَيُنْظَرُ حُكْمُ السُّؤْرِ فِي مُصْطَلَحِ «سُؤْر».
16- وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَغَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ يَتَّجِهُونَ إِلَى عَدَمِ التَّوَسُّعِ فِي الْحُكْمِ بِالتَّنَجُّسِ بِوُقُوعِ الْحَيَوَانِ ذِي النَّفْسِ السَّائِلَةِ (الدَّمِ السَّائِلِ) عُمُومًا، وَإِنْ وُجِدَ بَعْضُ اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ.
فَالْمَالِكِيَّةُ يَنُصُّونَ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الرَّاكِدَ، أَوِ الَّذِي لَهُ مَادَّةٌ، أَوْ كَانَ الْمَاءُ جَارِيًا، إِذَا مَاتَ فِيهِ حَيَوَانٌ بَرِّيٌّ ذُو نَفْسٍ سَائِلَةٍ، أَوْ حَيَوَانٌ بَحْرِيٌّ، لَا يَنْجُسُ، وَإِنْ كَانَ يُنْدَبُ نَزْحُ قَدْرٍ مُعَيَّنٍ، لِاحْتِمَالِ نُزُولِ فَضَلَاتٍ مِنَ الْمَيِّتِ، وَلِأَنَّهُ تَعَافُهُ النَّفْسُ. وَإِذَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَأُخْرِجَ حَيًّا، أَوْ وَقَعَ بَعْدَ أَنْ مَاتَ بِالْخَارِجِ، فَإِنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ وَلَا يُنْزَحُ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ لَا يُطْلَبُ بِسَبَبِهِ النَّزْحُ. وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْخِلَافَ فِيهِ إِذَا كَانَ يَسِيرًا. وَمَوْتُ الدَّابَّةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ فِيهَا. وَلِأَنَّ سُقُوطَ الدَّابَّةِ بَعْدَ مَوْتِهَا فِي الْمَاءِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ سُقُوطِ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ مِنْ بَوْلٍ وَغَائِطٍ، وَذَاتُهَا صَارَتْ نَجِسَةً بِالْمَوْتِ. فَلَوْ طُلِبَ النَّزْحُ فِي سُقُوطِهَا مَيِّتَةً لَطُلِبَ فِي سَائِرِ النَّجَاسَاتِ، وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ فِي الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ النَّزْحُ بِحَسَبِ كِبَرِ الدَّابَّةِ وَصِغَرِهَا، وَكَثْرَةِ مَاءِ الْبِئْرِ وَقِلَّتِهِ.
وَعَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونَ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغَ: أَنَّ الْآبَارَ الصِّغَارَ مِثْلَ آبَارِ الدُّورِ، تَفْسُدُ بِمَا وَقَعَ فِيهَا حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فِيهَا، مِنْ شَاةٍ أَوْ دَجَاجَةٍ، وَإِنْ لَمْ تَتَغَيَّرْ، وَلَا تَفْسُدُ بِمَا وَقَعَ فِيهَا مَيِّتًا حَتَّى تَتَغَيَّرَ. وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِيهَا مَيِّتًا فَقِيلَ: إِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا مَاتَ فِيهِ، وَقِيلَ: لَا تَفْسُدُ حَتَّى تَتَغَيَّرَ. وَقَالُوا: إِذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رِيحًا بِتَفَسُّخِ الْحَيَوَانِ فِيهِ تَنَجَّسَ.
17- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَانَ مَاءُ الْبِئْرِ كَثِيرًا طَاهِرًا، وَتَفَتَّتَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، كَفَأْرَةٍ تَمَعَّطَ شَعْرُهَا بِحَيْثُ لَا يَخْلُو دَلْوٌ مِنْ شَعْرَةٍ، فَهُوَ طَهُورٌ كَمَا كَانَ إِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الشَّعْرَ نَجِسٌ يُنْزَحُ الْمَاءُ كُلُّهُ لِيَذْهَبَ الشَّعْرُ، مَعَ مُلَاحَظَةِ أَنَّ الْيَسِيرَ عُرْفًا مِنَ الشَّعْرِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ مَا عَدَا شَعْرَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ.
وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ إِذَا كَانَ قَلِيلًا فَإِنَّهُ يَتَنَجَّسُ وَلَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ الْمَاجِشُونَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْآبَارِ الصِّغَارِ إِذَا مَاتَ فِيهَا حَيَوَانٌ ذُو نَفْسٍ سَائِلَةٍ.
18- وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا وَقَعَتِ الْفَأْرَةُ أَوِ الْهِرَّةُ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ، ثُمَّ خَرَجَتْ حَيَّةً، فَهُوَ طَاهِرٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ. وَإِصَابَةُ الْمَاءِ لِمَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مَشْكُوكٌ فِيهِ. وَكُلُّ حَيَوَانٍ حُكْمُ جِلْدِهِ وَشَعْرِهِ وَعَرَقِهِ وَدَمْعِهِ وَلُعَابِهِ حُكْمُ سُؤْرِهِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ. وَيُفْهَمُ مِنْ قَيْدِ «ثُمَّ خَرَجَتْ حَيَّةً» أَنَّهَا لَوْ مَاتَتْ فِيهِ يَتَنَجَّسُ الْمَاءُ، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ تَقْيِيدِ الْمَاءِ «بِالْيَسِيرِ» أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ لَا يَنْجُسُ إِلاَّ إِذَا تَغَيَّرَ وَصْفُهُ.
19- أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ أَكْثَرُوا مِنَ التَّفْصِيلَاتِ، فَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الْفَأْرَةَ إِذَا وَقَعَتْ هَارِبَةً مِنَ الْقِطِّ يُنْزَحُ كُلُّ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهَا تَبُولُ. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مَجْرُوحَةً أَوْ مُتَنَجِّسَةً. وَقَالُوا: إِنْ كَانَتِ الْبِئْرُ مَعِينًا، أَوِ الْمَاءُ عَشْرًا فِي عَشْرٍ، لَكِنْ تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ، وَلَمْ يُمْكِنْ نَزْحُهَا، نُزِحَ قَدْرُ مَا كَانَ فِيهَا.
20- وَإِذَا كَانَتِ الْبِئْرُ غَيْرَ مَعِينٍ، وَلَا عَشْرًا فِي عَشْرٍ، نُزِحَ مِنْهَا عِشْرُونَ دَلْوًا بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ، إِلَى ثَلَاثِينَ نَدْبًا، بِمَوْتِ فَأْرَةٍ أَوْ عُصْفُورٍ أَوْ سَامٍّ أَبْرَصَ. وَلَوْ وَقَعَ أَكْثَرُ مِنْ فَأْرَةٍ إِلَى الْأَرْبَعِ فَكَالْوَاحِدَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَلَوْ خَمْسًا إِلَى التِّسْعِ كَالدَّجَاجَةِ، وَعَشْرًا كَالشَّاةِ، وَلَوْ فَأْرَتَيْنِ كَهَيْئَةِ الدَّجَاجَةِ يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ. وَإِذَا مَاتَ فِيهَا حَمَامَةٌ أَوْ دَجَاجَةٌ أَوْ سِنَّوْرٌ يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ وُجُوبًا إِلَى سِتِّينَ اسْتِحْبَابًا. وَفِي رِوَايَةٍ إِلَى خَمْسِينَ.
وَيُنْزَحُ كُلُّهُ لِسِنَّوْرَيْنِ وَشَاةٍ، أَوِ انْتِفَاخِ الْحَيَوَانِ الدَّمَوِيِّ، أَوْ تَفَسُّخِهِ وَلَوْ صَغِيرًا. وَبِانْغِمَاسِ كَلْبٍ حَتَّى لَوْ خَرَجَ حَيًّا. وَكَذَا كُلُّ مَا سُؤْرُهُ نَجِسٌ أَوْ مَشْكُوكٌ فِيهِ. وَقَالُوا فِي الشَّاةِ: إِنْ خَرَجَتْ حَيَّةً فَإِنْ كَانَتْ هَارِبَةً مِنَ السَّبُعِ نُزِحَ كُلُّهُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ أَنَّهُ يُنَجِّسُ الْمَاءَ؛ لِأَنَّهَا تَبُولُ بَيْنَ أَفْخَاذِهَا فَلَا تَخْلُو مِنَ الْبَوْلِ. وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ نَزْحَ عِشْرِينَ دَلْوًا، لِأَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيفَةً، وَقَدِ ازْدَادَ خِفَّةً بِسَبَبِ الْبِئْرِ فَيَكْفِي نَزْحُ أَدْنَى مَا يُنْزَحُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ، لِاسْتِوَاءِ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ وَالْغَلِيظَةِ فِي حُكْمِ تَنَجُّسِ الْمَاءِ.
الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ
تَطْهِيرُ الْآبَارِ وَحُكْمُ تَغْوِيرِهَا
21- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَ مَاءُ الْبِئْرِ فَإِنَّ التَّكْثِيرَ طَرِيقُ تَطْهِيرِهِ عِنْدَ تَنَجُّسِهَا إِذَا زَالَ التَّغَيُّرُ. وَيَكُونُ التَّكْثِيرُ بِالتَّرْكِ حَتَّى يَزِيدَ الْمَاءُ وَيَصِلَ حَدَّ الْكَثْرَةِ، أَوْ بِصَبِّ مَاءٍ طَاهِرٍ فِيهِ حَتَّى يَصِلَ هَذَا الْحَدَّ.
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ طُرُقًا أُخْرَى، إِذْ يَقُولُونَ: إِذَا تَغَيَّرَ مَاءُ الْبِئْرِ بِتَفَسُّخِ الْحَيَوَانِ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رِيحًا يَطْهُرُ بِالنَّزْحِ أَوْ بِزَوَالِ أَثَرِ النَّجَاسَةِ بِأَيِّ شَيْءٍ. بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا زَالَتِ النَّجَاسَةُ مِنْ نَفْسِهَا طَهُرَ. وَقَالُوا فِي بِئْرِ الدَّارِ الْمُنْتِنَةِ: طَهُورُ مَائِهَا بِنَزْحِ مَا يُذْهِبُ نَتْنَهُ.
22- وَيَقْصُرُ الشَّافِعِيَّةُ التَّطْهِيرَ عَلَى التَّكْثِيرِ فَقَطْ إِذَا كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا (دُونَ الْقُلَّتَيْنِ) إِمَّا بِالتَّرْكِ حَتَّى يَزِيدَ الْمَاءُ، أَوْ بِصَبِّ مَاءٍ عَلَيْهِ لِيَكْثُرَ، وَلَا يَعْتَبِرُونَ النَّزْحَ لِيَنْبُعَ الْمَاءُ الطَّهُورُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ نُزِحَ فَقَعْرُ الْبِئْرِ يَبْقَى نَجِسًا كَمَا تَتَنَجَّسُ جُدْرَانُ الْبِئْرِ بِالنَّزْحِ. وَقَالُوا فِيمَا إِذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ شَيْءٌ نَجِسٌ، كَفَأْرَةٍ تَمَعَّطَ شَعْرُهَا، فَإِنَّ الْمَاءَ يُنْزَحُ لَا لِتَطْهِيرِ الْمَاءِ، وَإِنَّمَا بِقَصْدِ التَّخَلُّصِ مِنَ الشَّعْرِ.
23- وَيُفَصِّلُ الْحَنَابِلَةُ فِي التَّطْهِيرِ بِالتَّكْثِيرِ إِذَا كَانَ الْمَاءُ الْمُتَنَجِّسُ قَلِيلًا، أَوْ كَثِيرًا لَا يَشُقُّ نَزْحُهُ، وَيَخُصُّونَ ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ تَنَجَّسَ الْمَاءُ بِغَيْرِ بَوْلِ الْآدَمِيِّ أَوْ عَذِرَتِهِ. وَيَكُونُ التَّكْثِيرُ بِإِضَافَةِ مَاءٍ طَهُورٍ كَثِيرٍ، حَتَّى يَعُودَ الْكُلُّ طَهُورًا بِزَوَالِ التَّغَيُّرِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ تَنَجُّسُ الْمَاءِ بِبَوْلِ الْآدَمِيِّ أَوْ عَذِرَتِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ نَزْحُ مَائِهَا، فَإِنْ شَقَّ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ بِزَوَالِ تَغَيُّرِهِ، سَوَاءٌ بِنَزْحِ مَا لَا يَشُقُّ نَزْحُهُ، أَوْ بِإِضَافَةِ مَاءٍ إِلَيْهِ، أَوْ بِطُولِ الْمُكْثِ. عَلَى أَنَّ النَّزْحَ إِذَا زَالَ بِهِ التَّغَيُّرُ وَكَانَ الْبَاقِي مِنَ الْمَاءِ كَثِيرًا (قُلَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ) يُعْتَبَرُ مُطَهِّرًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
24- أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَقْصُرُونَ التَّطْهِيرَ عَلَى النَّزْحِ فَقَطْ، لِكُلِّ مَاءِ الْبِئْرِ، أَوْ عَدَدٍ مُحَدَّدٍ مِنَ الدِّلَاءِ عَلَى مَا سَبَقَ. وَإِذَا كَانَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ اعْتَبَرُوا النَّزْحَ طَرِيقًا لِلتَّطْهِيرِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ عِنْدَهُمْ كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يُحَدِّدُوا مِقْدَارًا مِنَ الدِّلَاءِ وَإِنَّمَا يَتْرُكُونَ ذَلِكَ لِتَقْدِيرِ النَّازِحِ. وَمِنْ أَجْلِ هَذَا نَجِدُ الْحَنَفِيَّةَ هُمُ الَّذِينَ فَصَّلُوا الْكَلَامَ فِي النَّزْحِ، وَهُمُ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا عَلَى آلَةِ النَّزْحِ، وَمَا يَكُونُ عَلَيْهِ حَجْمُهَا.
25- فَإِذَا وَقَعَتْ فِي الْبِئْرِ نَجَاسَةٌ نُزِحَتْ، وَكَانَ نَزْحُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ طَهَارَةً لَهَا. لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبِئْرِ أَنَّهُ وُجِدَ فِيهَا قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا تَطْهُرُ أَصْلًا، لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ، لِاخْتِلَاطِ النَّجَاسَةِ بِالْأَوْحَالِ وَالْجُدْرَانِ.
الثَّانِي: لَا تَنْجَسُ، إِذْ يَسْقُطُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ، لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ أَوِ التَّطْهِيرِ. وَقَدْ تَرَكُوا الْقِيَاسَيْنِ الظَّاهِرَيْنِ بِالْخَبَرِ وَالْأَثَرِ، وَضَرْبٍ مِنَ الْفِقْهِ الْخَفِيِّ وَقَالُوا: إِنَّ مَسَائِلَ الْآبَارِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اتِّبَاعِ الْآثَارِ. أَمَّا الْخَبَرُ فَمَا رُوِيَ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي الْبِئْرِ: يُنْزَحُ مِنْهَا عِشْرُونَ» وَفِي رِوَايَةٍ: «يُنْزَحُ مِنْهَا ثَلَاثُونَ دَلْوًا».
وَأَمَّا الْأَثَرُ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: يُنْزَحُ عِشْرُونَ. وَفِي رِوَايَةٍ: ثَلَاثُونَ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي دَجَاجَةٍ مَاتَتْ فِي الْبِئْرِ: يُنْزَحُ مِنْهَا أَرْبَعُونَ دَلْوًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا أَمَرَا بِنَزْحِ مَاءِ زَمْزَمَ حِينَ مَاتَ فِيهَا زِنْجِيٌّ. وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ.
وَأَمَّا الْفِقْهُ الْخَفِيُّ فَهُوَ أَنَّ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَمًا سَائِلًا وَقَدْ تَشَرَّبَ فِي أَجْزَائِهَا عِنْدَ الْمَوْتِ فَنَجَّسَهَا. وَقَدْ جَاوَرَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْمَاءَ، وَهُوَ يَنْجُسُ أَوْ يَفْسُدُ بِمُجَاوَرَةِ النَّجَسِ، حَتَّى قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إِذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ ذَنَبُ فَأْرَةٍ، يُنْزَحُ جَمِيعُ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ بِلَّةٍ، فَيُجَاوِرُ أَجْزَاءَ الْمَاءِ فَيُفْسِدُهَا.
26- وَقَالُوا: لَوْ نُزِحَ مَاءُ الْبِئْرِ، وَبَقِيَ الدَّلْوُ الْأَخِيرُ فَإِنْ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ لَا يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ، وَإِنْ انْفَصَلَ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ، وَنُحِّيَ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ، طَهُرَ. وَأَمَّا إِذَا انْفَصَلَ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ، وَلَمْ يُنَحَّ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ، وَالْمَاءُ يَتَقَاطَرُ فِيهِ، لَا يَطْهُرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ أَنَّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَطْهُرُ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّجِسَ انْفَصَلَ مِنَ الطَّاهِرِ، فَإِنَّ الدَّلْوَ الْأَخِيرَ تَعَيَّنَ لِلنَّجَاسَةِ شَرْعًا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ إِذَا نُحِّيَ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ يَبْقَى الْمَاءُ طَاهِرًا، وَمَا يَتَقَاطَرُ فِيهَا مِنَ الدَّلْوِ سَقَطَ اعْتِبَارُ نَجَاسَتِهِ شَرْعًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ.
وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِالطَّهَارَةِ إِلاَّ بَعْدَ انْفِصَالِ النَّجِسِ عَنْهَا، وَهُوَ مَاءُ الدَّلْوِ الْأَخِيرِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الِانْفِصَالُ إِلاَّ بَعْدَ تَنْحِيَةِ الدَّلْوِ عَنْ الْبِئْرِ؛ لِأَنَّ مَاءَهُ مُتَّصِلٌ بِمَاءِ الْبِئْرِ. وَاعْتِبَارُ نَجَاسَةِ الْقَطَرَاتِ لَا يَجُوزُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِأَنْ يُعْطَى لِهَذَا الدَّلْوِ حُكْمُ الِانْفِصَالِ بَعْدَ انْعِدَامِ التَّقَاطُرِ، بِالتَّنْحِيَةِ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ.
27- وَإِذَا وَجَبَ نَزْحُ جَمِيعِ الْمَاءِ مِنَ الْبِئْرِ يَنْبَغِي أَنْ تُسَدَّ جَمِيعُ مَنَابِعِ الْمَاءِ إِنْ أَمْكَنَ، ثُمَّ يُنْزَحَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ النَّجِسِ. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ سَدُّ مَنَابِعِهِ لِغَلَبَةِ الْمَاءِ، رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُنْزَحُ مِائَةُ دَلْوٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُنْزَحُ مِائَتَا دَلْوٍ، أَوْ ثَلَاثُمِائَةِ دَلْوٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ، فِي رِوَايَةٍ: يُحْفَرُ بِجَانِبِهَا حُفْرَةٌ مِقْدَارُ عَرْضِ الْمَاءِ وَطُولِهِ وَعُمْقِهِ، ثُمَّ يُنْزَحُ مَاؤُهَا وَيُصَبُّ فِي الْحُفْرَةِ حَتَّى تَمْتَلِئَ، فَإِذَا امْتَلأَتْ حُكِمَ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ. وَفِي رِوَايَةٍ: يُرْسَلُ فِيهَا قَصَبَةٌ، وَيُجْعَلُ لِمَبْلَغِ الْمَاءِ عَلَامَةٌ، ثُمَّ يُنْزَحُ مِنْهَا عَشْرُ دِلَاءٍ مَثَلًا، ثُمَّ يُنْظَرُ كَمْ انْتَقَصَ، فَيُنْزَحُ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ إِلاَّ إِذَا كَانَ دَوْرُ الْبِئْرِ مِنْ أَوَّلِ حَدِّ الْمَاءِ إِلَى مَقَرِّ الْبِئْرِ مُتَسَاوِيًا، وَإِلاَّ لَا يَلْزَمُ إِذَا نَقَصَ شِبْرٌ بِنَزْحِ عَشْرِ دِلَاءٍ مِنْ أَعْلَى الْمَاءِ أَنْ يَنْقُصَ شِبْرٌ بِنَزْحِ مِثْلِهِ مِنْ أَسْفَلِهِ.
وَالْأَوْفَقُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي نَصْرٍ أَنَّهُ يُؤْتَى بِرَجُلَيْنِ لَهُمَا بَصَرٌ فِي أَمْرِ الْمَاءِ فَيُنْزَحُ بِقَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ مَا يُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ يُرْجَعُ فِيهِ لِأَهْلِ الْخِبْرَةِ.
28- وَالْمَالِكِيَّةُ كَمَا بَيَّنَّا يَرَوْنَ أَنَّ النَّزْحَ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ التَّطْهِيرِ. وَلَمْ يُحَدِّدُوا قَدْرًا لِلنَّزْحِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يُتْرَكُ مِقْدَارُ النَّزْحِ لِظَنِّ النَّازِحِ. قَالُوا: وَيَنْبَغِي لِلتَّطْهِيرِ أَنْ تُرْفَعَ الدِّلَاءُ نَاقِصَةً؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ مِنَ الْحَيَوَانِ عِنْدَ الْمَوْتِ مَوَادُّ دُهْنِيَّةٌ، وَشَأْنُ الدُّهْنِ أَنْ يَطْفُوَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، فَإِذَا امْتَلأَ الدَّلْوُ خُشِيَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْبِئْرِ.
وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا: لَا يَجِبُ غَسْلُ جَوَانِبِ بِئْرٍ نُزِحَتْ، ضَيِّقَةً كَانَتْ أَوْ وَاسِعَةً، وَلَا غَسْلُ أَرْضِهَا، بِخِلَافِ رَأْسِهَا. وَقِيلَ: يَجِبُ غَسْلُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْبِئْرِ الْوَاسِعَةِ. أَمَّا الضَّيِّقَةُ فَيَجِبُ غَسْلُهَا رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ لَا يَرَوْنَ التَّطْهِيرَ بِمُجَرَّدِ النَّزْحِ.
آلَةُ النَّزْحِ:
29- مَنْهَجُ الْحَنَفِيَّةِ- الْقَائِلُ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الدِّلَاءِ لِلتَّطْهِيرِ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ- يَتَطَلَّبُ بَيَانَ حَجْمِ الدَّلْوِ الَّذِي يُنْزَحُ بِهِ الْمَاءُ النَّجِسُ. فَقَالَ الْبَعْضُ: الْمُعْتَبَرُ فِي كُلِّ بِئْرٍ دَلْوُهَا، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ دَلْوٌ يَسَعُ قَدْرَ صَاعٍ. وَقِيلَ: الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ. وَلَوْ نُزِحَ بِدَلْوٍ عَظِيمٍ مَرَّةً مِقْدَارُ عِشْرِينَ دَلْوًا جَازَ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بِتَوَاتُرِ الدَّلْوِ يَصِيرُ كَالْمَاءِ الْجَارِي.
وَبِطَهَارَةِ الْبِئْرِ يَطْهُرُ الدَّلْوُ وَالرِّشَاءُ وَالْبَكَرَةُ وَنَوَاحِي الْبِئْرِ وَيَدُ الْمُسْتَقِي. رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ نَجَاسَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِنَجَاسَةِ الْبِئْرِ، فَتَكُونُ طَهَارَتُهَا بِطَهَارَتِهَا، نَفْيًا لِلْحَرَجِ. وَقِيلَ: لَا تَطْهُرُ الدَّلْوُ فِي حَقِّ بِئْرٍ أُخْرَى، كَدَمِ الشَّهِيدِ طَاهِرٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ.
30- وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى- عَلَى مَا نَعْلَمُ- لِمِقْدَارِ آلَةِ النَّزْحِ. وَكُلُّ مَا قَالُوهُ أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ إِذَا كَانَ قَلِيلًا، وَتَنَجَّسَ، فَإِنَّ الدَّلْوَ إِذَا مَا غُرِفَ بِهِ مِنَ الْمَاءِ النَّجِسِ الْقَلِيلِ تَنَجَّسَ مِنَ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ مِقْدَارَ قُلَّتَيْنِ فَقَطْ، وَفِيهِ نَجَاسَةٌ جَامِدَةٌ، وَغُرِفَ بِالدَّلْوِ مِنْ هَذَا الْمَاءِ، وَلَمْ تُغْرَفْ الْعَيْنُ النَّجِسَةُ فِي الدَّلْوِ مَعَ الْمَاءِ، فَبَاطِنُ الدَّلْوِ طَاهِرٌ، وَظَاهِرُهُ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ غَرْفِ الدَّلْوِ يَكُونُ الْمَاءُ الْبَاقِي فِي الْبِئْرِ وَالَّذِي احْتَكَّ بِهِ ظَاهِرُ الدَّلْوِ قَلِيلًا نَجِسًا. وَاسْتَظْهَرَ الْبُهُوتِيُّ مِنْ قَوْلِ الْحَنَابِلَةِ بِعَدَمِ غَسْلِ جَوَانِبِ الْبِئْرِ لِلْمَشَقَّةِ وَوُجُوبِ غَسْلِ رَأْسِهَا لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ، وُجُوبَ غَسْلِ آلَةِ النَّضْحِ إِلْحَاقًا لَهَا بِرَأْسِ الْبِئْرِ فِي عَدَمِ مَشَقَّةِ الْغَسْلِ. وَقَالَ: إِنَّ مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ: الْمَنْزُوحُ طَهُورٌ، أَنَّ الْآلَةَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا ذَلِكَ لِلْحَرَجِ.
تَغْوِيرُ الْآبَارِ:
31- كُتُبُ الْمَذَاهِبِ تَذْكُرُ اتِّفَاقَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إِلَى تَخْرِيبٍ وَإِتْلَافِ بَعْضِ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ وَتَغْوِيرِ الْآبَارِ لِقَطْعِ الْمَاءِ عَنْهُمْ جَازَ ذَلِكَ.
بِدَلِيلِ «فِعْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ أَمَرَ بِالْقُلُبِ فَغُوِّرَتْ».
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
3-موسوعة الفقه الكويتية (اتحاد المجلس)
اتِّحَاد الْمَجْلِسِالتَّعْرِيفُ:
1- الِاتِّحَادُ لُغَةً: صَيْرُورَةُ الذَّاتَيْنِ وَاحِدَةً، وَلَا يَكُونُ إِلاَّ فِي الْعَدَدِ مِنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا وَالْمَجْلِسُ هُوَ مَوْضِعُ الْجُلُوسِ.
وَيُرَادُ بِهِ الْمَجْلِسُ الْوَاحِدُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى ذَلِكَ يَسْتَعْمِلُهُ الْحَنَفِيَّةُ دُونَ غَيْرِهِمْ بِمَعْنَى تَدَاخُلِ مُتَفَرِّقَاتِ الْمَجْلِسِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمَجْلِسِ مَوْضِعَ الْجُلُوسِ، بَلْ هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ يَحْصُلُ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ مَعَ الْوُقُوفِ، وَمَعَ تَغَايُرِ الْمَكَانِ وَالْهَيْئَةِ.
2- وَالْأَصْلُ إِضَافَةُ الْأَحْكَامِ إِلَى أَسْبَابِهَا، كَقَوْلِهِمْ: كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، أَوْ: سَجْدَةُ السَّهْوِ، وَقَدْ يُتْرَكُ ذَلِكَ وَتُضَافُ إِلَى غَيْرِ الْأَسْبَابِ، كَالْمَجْلِسِ لِلضَّرُورَةِ، كَمَا فِي سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ إِذَا تَكَرَّرَتْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، أَوْ لِلْعُرْفِ، كَمَا فِي الْأَقَارِيرِ، أَوْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ كَمَا فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.
وَاتِّحَادُ الْمَجْلِسِ يُؤَثِّرُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ مُنْفَرِدًا، وَأَحْيَانًا لَا يُؤَثِّرُ إِلاَّ مَعَ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ نَحْوُ اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ النَّوْعِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ فِي تَدَاخُلِ فِدْيَةِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ.
وَاتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فِي الْعُقُودِ وَغَيْرِهَا عَلَى قِسْمَيْنِ: حَقِيقِيٌّ بِأَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ فِي مَجْلِسِ الْإِيجَابِ، وَحُكْمِيٌّ إِذَا تَفَرَّقَ مَجْلِسُ الْقَبُولِ عَنْ مَجْلِسِ الْإِيجَابِ كَمَا فِي الْكِتَابَةِ وَالْمُرَاسَلَةِ، فَيَتَّحِدَانِ حُكْمًا.
وَاتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فِي الْحَجِّ يُرَادُ بِهِ اتِّحَادُ الْمَكَانِ وَلَوْ تَغَيَّرَتِ الْحَالُ، وَفِي تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ عَدَمُ تَخَلُّلِ زَمَنٍ طَوِيلٍ، أَوْ عَدَمُ الْفَصْلِ بِأَدَاءِ قُرْبَةٍ، كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي الْوُضُوءِ وَالْحَجِّ.
اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فِي الْعِبَادَاتِ:
3- تَجْدِيدُ الْوُضُوءِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ:
تَكَلَّمَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:
الْأَوَّلُ: الْكَرَاهَةُ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ، لِلْإِسْرَافِ، وَهُوَ مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ- وَوَصَفُوهُ بِالْغَرَابَةِ- إِذَا وَصَلَهُ بِالْوُضُوءِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَمْضِ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالتَّجْدِيدِ زَمَنٌ يَقَعُ بِمِثْلِهِ تَفْرِيقٌ؛ لِأَنَّهُمْ اعْتَبَرُوهُ بِمَثَابَةِ غَسْلَةٍ رَابِعَةٍ
الثَّانِي: اسْتِحْبَابُ التَّجْدِيدِ مَرَّةً وَاحِدَةً مُطْلَقًا، تَبَدَّلَ الْمَجْلِسُ أَمْ لَا، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الْغَنِيِّ النَّابُلُسِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، لِحَدِيثِ: «مَنْ تَوَضَّأَ عَلَى طُهْرٍ كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ».
الثَّالِثُ: الْكَرَاهَةُ إِذَا تَكَرَّرَ مِرَارًا فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ، وَانْتِفَاؤُهَا إِذَا أَعَادَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَهُوَ مَا وَفَّقَ بِهِ صَاحِبُ النَّهْرِ بَيْنَ مَا جَاءَ فِي التَّتَارْخَانِيَّةِ وَمَا فِي السِّرَاجِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ.
هَذَا وَأَغْلَبُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ تَجْدِيدُ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ أَوْ تَعَدُّدِهِ، وَذَلِكَ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.
تَكَرُّرُ الْقَيْءِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ:
4- لَوْ قَاءَ الْمُتَوَضِّئُ مُتَفَرِّقًا بِحَيْثُ لَوْ جُمِعَ صَارَ مِلْءَ الْفَمِ فَإِنِ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ وَالسَّبَبُ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِنِ اتَّحَدَ السَّبَبُ فَقَطِ انْتَقَضَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَإِنِ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ دُونَ السَّبَبِ انْتَقَضَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ يَجْمَعُ مُتَفَرِّقَاتِهِ.
وَلَمْ يُشَارِكِ الْحَنَفِيَّةَ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِالْقَيْءِ إِلاَّ الْحَنَابِلَةُ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَنْظُرُوا إِلَى اتِّحَادِ السَّبَبِ أَوِ الْمَجْلِسِ، بَلْ رَاعَوْا قِلَّةَ الْقَيْءِ وَكَثْرَتِهِ، تَكَرَّرَ السَّبَبُ وَالْمَجْلِسُ أَوْ لَا.
سُجُودُ التِّلَاوَةِ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ:
5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَارِئَ يَسْجُدُ لِلتِّلَاوَةِ عِنْدَ قِرَاءَةِ أَوْ سَمَاعِ آيَةِ السَّجْدَةِ، أَمَّا إِذَا تَكَرَّرَتْ قِرَاءَتُهَا فَإِنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ عَلَى أَنَّ الْقَارِئَ يَسْجُدُ كُلَّمَا مَرَّتْ بِهِ آيَةُ سَجْدَةٍ وَلَوْ كَرَّرَهَا، لِتَعَدُّدِ السَّبَبِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَلَا يَتَكَرَّرُ السُّجُودُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنِ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ وَالْآيَةُ، حَتَّى وَلَوِ اجْتَمَعَ سَبَبَا الْوُجُوبِ، وَهُمَا التِّلَاوَةُ وَالسَّمَاعُ، بِأَنْ تَلَاهَا ثُمَّ سَمِعَهَا أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ تَكَرَّرَ أَحَدُهُمَا. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ إِنْ لَمْ يَسْجُدْ لِلْأُولَى. وَمَنْ تَكَرَّرَ مَجْلِسُهُ مِنْ سَامِعٍ أَوْ تَالٍ تَكَرَّرَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ.
اخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ وَأَنْوَاعُهُ:
6- مَا لَهُ حُكْمُ الْمَكَانِ الْوَاحِدِ كَالْمَسْجِدِ وَالْبَيْتِ لَا يَنْقَطِعُ فِيهِ الْمَجْلِسُ بِالِانْتِقَالِ إِلاَّ إِنِ اقْتَرَنَ بِعَمَلٍ أَجْنَبِيٍّ كَالْأَكْلِ وَالْعَمَلِ الْكَثِيرَيْنِ، وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ.
وَاخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ عَلَى نَوْعَيْنِ:
حَقِيقِيٌّ، بِأَنْ يَنْتَقِلَ مِنَ الْمَكَانِ إِلَى آخَرَ بِأَكْثَرَ مِنْ خُطْوَتَيْنِ كَمَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْكُتُبِ، أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ كَمَا فِي الْمُحِيطِ.
وَحُكْمِيٌّ، وَذَلِكَ بِمُبَاشَرَةِ عَمَلٍ يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ قَاطِعًا لِمَا قَبْلَهُ، هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، أَمَّا غَيْرُهُمْ فَالْعِبْرَةُ عِنْدَهُمْ بِالسَّبَبِ اتِّحَادًا وَتَعَدُّدًا لَا لِلْمَجْلِسِ.
سُجُودُ السَّامِعِ:
7- لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَارِئِ وَالسَّامِعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَيَأْخُذُ الْمُسْتَمِعُ لَا السَّامِعُ حُكْمَ الْقَارِئِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ عَلَيْنَا السُّورَةَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ مَعَهُ»
وَرَبَطَ الْمَالِكِيَّةُ سُجُودَ الْمُسْتَمِعِ الَّذِي جَلَسَ لِلثَّوَابِ وَالْأَجْرِ وَالتَّعْلِيمِ بِسُجُودِ الْقَارِئِ، فَلَا يَسْجُدُ إِنْ لَمْ يَسْجُدِ الْقَارِئُ، فَإِنْ سَجَدَ فَحَكَى ابْنُ شَعْبَانَ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ.
الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ:
8- لِلْفُقَهَاءِ آرَاءٌ عَدِيدَةٌ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- كُلَّمَا ذُكِرَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَيَتَعَلَّقُ بِالْمَجْلِسِ مِنْهَا ثَلَاثَةُ آرَاءٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تَجِبُ كُلَّمَا ذُكِرَ اسْمُهُ- صلى الله عليه وسلم- وَلَوِ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ، وَبِهِ قَالَ جَمْعٌ، مِنْهُمُ الطَّحَاوِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالطُّرْطُوشِيُّ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَالْفَاكِهَانِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيُّ وَأَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَابْنُ بَطَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ لِحَدِيثِ «مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ»
الثَّانِي: وُجُوبُ الصَّلَاةِ مَرَّةً فِي كُلِّ مَجْلِسٍ، وَهُوَ مَا صَحَّحَهُ النَّسَفِيُّ فِي الْكَافِي حَيْثُ قَالَ فِي بَابِ التِّلَاوَةِ: وَهُوَ كَمَنْ سَمِعَ اسْمَهُ مِرَارًا، لَمْ تَلْزَمْهُ الصَّلَاةُ إِلاَّ مَرَّةً فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ اسْمِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِحِفْظِ سُنَّتِهِ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الشَّرِيعَةِ، فَلَوْ وَجَبَتِ الصَّلَاةُ بِكُلِّ مَرَّةٍ لأَفْضَى إِلَى الْحَرَجِ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيِّ إِنْ كَانَ السَّامِعُ غَافِلًا فَيَكْفِيهِ مَرَّةٌ فِي آخَرِ الْمَجْلِسِ
الثَّالِثُ: نَدْبُ التَّكْرَارِ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ فِي تَحْصِيلِهِ لآِرَاءِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَبَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالنَّدْبِ مُطْلَقًا، اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ أَمِ اخْتَلَفَ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُذْكَرُ فِي مَبْحَثِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.
مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ:
أَوَّلًا- مَا يَتِمُّ بِهِ التَّعَاقُدُ فِي الْجُمْلَةِ:
9- وَيُرَادُ بِهِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: أَلاَّ يَشْتَغِلَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ بِعَمَلٍ غَيْرِ مَا عُقِدَ لَهُ الْمَجْلِسُ، أَوْ بِمَا هُوَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْعَقْدِ. وَهُوَ شَرْطٌ لِلِانْعِقَادِ عِنْدَهُمْ. وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يُعْتَبَرُ شَرْطًا فِي الصِّيغَةِ عِنْدَ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ.
وَهُوَ يَدْخُلُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَوَقْتُهُ مَا بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.
وَمَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ لَا يَضُرُّ الْفَصْلُ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ عِنْدَ غَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ مَا لَمْ يُشْعِرْ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّ الْقَابِلَ يَحْتَاجُ إِلَى التَّأَمُّلِ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْفَوْرِ لَا يُمْكِنُهُ التَّأَمُّلُ.
وَيَضُرُّ الْفَصْلُ الطَّوِيلُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
خِيَارُ الْقَبُولِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ:
10- يَثْبُتُ خِيَارُ الْقَبُولِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا دَامَا جَالِسَيْنِ وَلَمْ يَتِمَّ الْقَبُولُ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقُّ الرُّجُوعِ مَا لَمْ يَقْبَلِ الْآخَرُ.
وَلَا يُخَالِفُهُمُ الْحَنَابِلَةُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ عِنْدَهُمْ يَكُونُ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ وَاحِدًا، فَخِيَارُ الْقَبُولِ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ.
وَلَا خِيَارَ لِلْقَبُولِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَجُوزُ الرُّجُوعُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَلَوْ بَعْدَ الْقَبُولِ مَا دَامَ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَلَوْ قَبْلَ الِارْتِبَاطِ بَيْنَهُمَا إِلاَّ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْإِيجَابُ أَوِ الْقَبُولُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ ثُمَّ يَدَّعِي الْقَابِلُ أَوِ الْمُوجِبُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ الْبَيْعَ فَيَحْلِفُ وَيُصَدَّقُ.
بِمَ يَنْقَطِعُ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ؟
11- يَنْقَطِعُ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِيجَابِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَحْصُلُ مَعَهَا الْإِعْرَاضُ، فَالشَّافِعِيَّةُ جَعَلُوا الِاشْتِغَالَ بِأَجْنَبِيٍّ خَارِجٍ عَنِ الْعَقْدِ إِبْطَالًا لَهُ، وَكَذَلِكَ السُّكُوتُ الطَّوِيلُ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، لَكِنَّ الْيَسِيرَ لَا يَضُرُّ.
وَجَعَلَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْعُرْفَ هُوَ الضَّابِطَ لِذَلِكَ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَنْقَطِعُ بِاخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ، فَلَوْ قَامَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَذْهَبْ بَطَلَ الْإِيجَابُ، إِذْ لَا يَبْقَى الْمَجْلِسُ مَعَ الْقِيَامِ. وَإِنْ تَبَايَعَا وَهُمَا يَسِيرَانِ، وَلَوْ كَانَا عَلَى دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ يَصِحَّ لِاخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ. وَاخْتَارَ غَيْرُ وَاحِدٍ كَالطَّحَاوِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ إِنْ أَجَابَ عَلَى فَوْرِ كَلَامِهِ مُتَّصِلًا جَازَ. وَفِي الْخُلَاصَةِ عَنِ النَّوَازِلِ إِذَا أَجَابَ بَعْدَمَا مَشَى خُطْوَةً أَوْ خُطْوَتَيْنِ جَازَ.
وَكَذَلِكَ يَخْتَلِفُ الْمَجْلِسُ بِالِاشْتِغَالِ بِالْأَكْلِ وَتُغْتَفَرُ اللُّقْمَةُ الْوَاحِدَةُ، وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ كُوزٌ فَشَرِبَ ثُمَّ أَجَابَ جَازَ.
وَلَوْ نَامَا جَالِسَيْنِ فَلَا يَتَبَدَّلُ الْمَجْلِسُ، وَلَوْ مُضْطَجِعَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَهِيَ فُرْقَةٌ.
وَهَذِهِ الصُّوَرُ الَّتِي تَكَلَّمَ عَنْهَا الْحَنَفِيَّةُ لَمْ تُغْفِلْهَا كُتُبُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى، غَيْرَ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا عَنْهَا أَثْنَاءَ الْكَلَامِ عَنِ الْمَجْلِسِ لَا فِي الْكَلَامِ عَنِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ اصْطِلَاحٌ خَاصٌّ بِالْحَنَفِيَّةِ، وَمَوْطِنُ تَفْصِيلِهَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ.
12- وَغَيْرُ الْبَيْعِ مِثْلُهُ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ غَيْرَ أَنَّ الْمُتَتَبِّعَ لِعُقُودِ الْمَالِكِيَّةِ يَجِدُ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ الْفَوْرِيَّةَ فِي الْوَكَالَةِ وَالنِّكَاحِ.
وَلَا تَخْتَلِفُ أَيْضًا الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ عَنِ الْبَيْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْفَوْرِيَّةِ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ. أَمَّا غَيْرُ اللاَّزِمَةِ فَلَا يَضُرُّ التَّرَاخِي فِيهَا بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.
ثَانِيًا- التَّقَابُضُ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ:
13- إِذَا بِيعَ رِبَوِيٌّ بِمِثْلِهِ اشْتُرِطَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ، وَسَوَاءٌ اتَّحَدَ جِنْسُ الْمَبِيعِ أَوِ اخْتَلَفَ، لِمَا صَحَّ مِنْ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ؛ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَجْنَاسُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» وَبَيَانُ الرِّبَوِيِّ مِنْ غَيْرِهِ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي الرِّبَا.
اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فِي السَّلَمِ:
14- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ تَسْلِيمُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، إِذْ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» وَلِأَنَّ السَّلَمَ عَقْدُ غَرَرٍ فَلَا يُضَمُّ إِلَيْهِ غَرَرٌ آخَرُ، وَلِأَنَّ السَّلَمَ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْتِلَامِ رَأْسِ الْمَالِ، أَيْ تَعْجِيلِهِ، وَأَسْمَاءُ الْعُقُودِ الْمُشْتَقَّةُ مِنَ الْمَعَانِي لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ تَحَقُّقِ تِلْكَ الْمَعَانِي.
وَلَا يَخْتَلِفُ مَجْلِسُ السَّلَمِ عَنْ مَجْلِسِ الْبَيْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُخَالِفُ مَجْلِسُ السَّلَمِ مَجْلِسَ الْبَيْعِ، فَمَجْلِسُ الْبَيْعِ يَنْتَهِي بِمُجَرَّدِ ارْتِبَاطِ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْآثَارُ. أَمَّا السَّلَمُ فَيَعْتَرِيهِ الْفَسْخُ إِنْ لَمْ يَتِمَّ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطُ بَقَاءٍ عَلَى الصِّحَّةِ وَلَيْسَ شَرْطَ انْعِقَادٍ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِتَأْخِيرِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يَأْخُذُ حُكْمَهُ، وَإِذَا أَخَّرَهُ عَنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِغَيْرِ شَرْطٍ وَهُوَ نَقْدٌ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالْفَسَادِ؛ لِأَنَّهُ ضَارَعَ الدَّيْنَ بِالدَّيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ تَأْخِيرٌ بِغَيْرِ شَرْطٍ، وَهَذَا مَا لَمْ تَبْلُغِ الزِّيَادَةُ إِلَى حُلُولِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ إِلَى حُلُولِ أَجَلِ السَّلَمِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ فِي فَسَادِهِ.
وَلَا يَدْخُلُهُ خِيَارُ الشَّرْطِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَيَدْخُلُهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ الْخِيَارِ فِي السَّلَمِ إِنْ شَرَطَ وَلَمْ يَنْقُدْ رَأْسَ الْمَالِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَقَدَ وَتَمَّ السَّلَمُ لَكَانَ فَسْخَ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ، لِإِعْطَاءِ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ سِلْعَةً مَوْصُوفَةً لِأَجَلٍ عَمَّا تَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ حَقِيقَةُ فَسْخِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ.
اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ:
15- لِلْعُلَمَاءِ فِي ارْتِبَاطِ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:
الْأَوَّلُ: اشْتِرَاطُ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ، فَلَوِ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ لَمْ يَنْعَقِدْ كَمَا لَوْ أَوْجَبَ أَحَدُهُمَا فَقَامَ الْآخَرُ أَوِ اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ آخَرَ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْفَوْرُ.
وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَا فِي الْمِعْيَارِ عَنِ الْبَاجِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
الثَّانِي: اشْتِرَاطُ الْفَوْرِيَّةِ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ عَدَا مَا تَقَدَّمَ عَنِ الْبَاجِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّهُمُ اغْتَفَرُوا فِيهِ الْفَاصِلَ الْيَسِيرَ. وَضَبَطَ الْقَفَّالُ الْفَاصِلَ الْكَثِيرَ بِأَنْ يَكُونَ زَمَنًا لَوْ سَكَتَا فِيهِ لَخَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ كَوْنِهِ جَوَابًا. وَالْأَوْلَى ضَبْطُهُ بِالْعُرْفِ.
الثَّالِثُ: صِحَّةُ الْعَقْدِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ. وَعَلَيْهَا لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ مَعَ التَّفَرُّقِ.
وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ الْحَقِيقِيِّ، أَمَّا مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ الْحُكْمِيِّ فَلَا يَخْتَلِفُ الْأَمْرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ الْفَوْرِيَّةَ فِي الْإِيجَابِ حِينَ الْعِلْمِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْكِتَابَةِ. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا وَبَلَغَهُ الْإِيجَابُ مِنْ وَلِيِّ الزَّوْجَةِ. وَإِذَا صَحَّحْنَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ فَيُشْتَرَطُ الْقَبُولُ فِي مَجْلِسِ بُلُوغِ الْخَبَرِ وَعَلَى الْفَوْرِ.
تَدَاخُلُ الْفِدْيَةِ فِي الْإِحْرَامِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ:
16- لَا يَحْصُلُ التَّدَاخُلُ فِي الْمَحْظُورَاتِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ إِلاَّ إِنِ اتَّحَدَ النَّوْعُ، وَأَمَّا مَعَ اخْتِلَافِ النَّوْعِ وَالْجِنْسِ فِي الْمَحْظُورَاتِ فَلَا اعْتِبَارَ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ حِينَئِذٍ بِاتِّحَادِ السَّبَبِ.
وَاتِّحَادُ الْمَجْلِسِ لَهُ أَثَرُهُ فِي تَدَاخُلِ فِدْيَةِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، غَيْرَ فِدْيَةِ الْإِتْلَافِ فَإِنَّهَا تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمُتْلَفِ، وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّهُ لَا جَزَاءَ عَلَى الْعَائِدِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَحْظُورُ إِتْلَافًا أَمْ غَيْرَهُ.
وَالتَّدَاخُلُ مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ يَخْتَلِفُ فِي فِدْيَةِ الْجِمَاعِ عَنْهُ فِي بَقِيَّةِ مَحْظُورَاتِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ.
تَدَاخُلُ فِدْيَةِ غَيْرِ الْجِمَاعِ:
17- لَوْ تَطَيَّبَ الْمُحْرِمُ بِأَنْوَاعِ الطِّيبِ، أَوْ لَبِسَ أَنْوَاعًا كَالْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالْخُفِّ، أَوْ نَوْعًا وَاحِدًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَعَلَى التَّوَالِي فَفِيهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ.
وَالْحَنَفِيَّةُ- غَيْرَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ- وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَابْنُ أَبِي مُوسَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَدَثَ مَا ذُكِرَ فِي مَكَانَيْنِ تَعَدَّدَتِ الْفِدْيَةُ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ أَنَّ عَلَيْهِ فِدْيَةً وَاحِدَةً إِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَنِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ لَا بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَجْنَاسِ.
وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ نَوَى التَّكْرَارَ.
تَدَاخُلُ فِدْيَةِ الْجِمَاعِ فِي الْإِحْرَامِ:
18- لِلْفُقَهَاءِ فِي تَعَدُّدِ الْفِدْيَةِ وَتَدَاخُلِهَا بِتَكَرُّرِ الْجِمَاعِ مِنَ الْمُحْرِمِ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:
أ- اتِّحَادُ الْفِدْيَةِ إِنِ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَنِ الْأَوَّلِ. وَيُكَفِّرُ عَنِ الْأَخِيرِ إِنْ كَانَ كَفَّرَ لِلسَّابِقِ.
ب- اتِّحَادُ الْفِدْيَةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ أَوِ اخْتَلَفَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْوَطْءِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ.
ج- تَكَرُّرُ الْفِدْيَةِ بِتَكَرُّرِ الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْكَفَّارَةِ فَأَوْجَبَهَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فِي الْخُلْعِ:
19- الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ فَإِنَّ الْقَبُولَ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ، غَيْرَ أَنَّ الْعِبْرَةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِمَجْلِسِ الزَّوْجَةِ إِنْ لَمْ يَشْتَرِطَا الْخِيَارَ فِيهِ، وَمَا لَمْ تَبْدَأِ الزَّوْجَةُ بِهِ، وَلَا يَصِحُّ رُجُوعُ الزَّوْجِ وَلَوْ قَبْلَ قَبُولِهَا، وَيَصِحُّ رُجُوعُهَا مَا لَمْ يَقْبَلْ إِنْ كَانَتْ هِيَ الْبَادِئَةَ.
وَالْعِبْرَةُ عِنْدَ بَقِيَّةِ الْفُقَهَاءِ بِمَجْلِسِ الْمُتَخَالِعَيْنِ مَعًا، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ هِيَ الْمُوجِبَةَ، وَكَذَلِكَ إِنِ اشْتَرَطَا الْخِيَارَ فِيهِ، وَالْفَوْرَ وَالتَّرَاخِيَ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ كَالْبَيْعِ عِنْدَهُمْ. وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ عَدَمِ التَّعْلِيقِ.
وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ فِي الْمَجْلِسِ فِي صِيغَةِ التَّعْلِيقِ إِلاَّ عِنْدَ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ هِيَ الْبَادِئَةَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ نَظَرًا لِلْمُعَاوَضَةِ.
وَإِنَّمَا يَكُونُ الْقَبُولُ فِي صِيغَةِ التَّعْلِيقِ عِنْدَ حُصُولِ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ.
وَمَجْلِسُ الْعِلْمِ كَمَجْلِسِ التَّوَاجُبِ فِي الْخُلْعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَلَمْ يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ، لَكِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ صِيغَةَ الْخُلْعِ كَصِيغَةِ الْبَيْعِ، وَفِي كَلَامِهِمْ عَنِ الْخُلْعِ مَعَ غَيْبَةِ الزَّوْجَةِ لَمْ يَأْتُوا بِجَدِيدٍ يُخَالِفُ حُضُورَ الزَّوْجَةِ، وَلَمْ يَخُصُّوا الْوَكِيلَ بِجَدِيدٍ كَذَلِكَ.
اتِّحَادُ مَجْلِسِ الْمُخَيَّرَةِ:
20- الْمُخَيَّرَةُ هِيَ الَّتِي مَلَّكَهَا زَوْجُهَا طَلَاقَهَا بِقَوْلِهِ لَهَا مَثَلًا: اخْتَارِي نَفْسَكِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَوْ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ أَوْ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا، فَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ طَالَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ- فَلَوْ قَامَتْ أَوْ أَخَذَتْ فِي عَمَلٍ آخَرَ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ وَالتَّخْيِيرُ يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الْإِعْرَاضِ فَكَذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ الْعِبْرَةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِمَجْلِسِ الزَّوْجَةِ لَا بِمَجْلِسِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ، وَالْعِبْرَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِمَجْلِسِهِمَا مَعًا.
وَالشَّافِعِيَّةُ- عَلَى الْأَصَحِّ- وَالْحَنَابِلَةُ يَشْتَرِطُونَ الْفَوْرِيَّةَ فِي الْمَجْلِسِ، وَالِاعْتِدَادُ بِمَجْلِسِهِمَا مَعًا، فَلَوْ قَامَ أَحَدُهُمَا بَطَلَ خِيَارُهَا. رَوَى النَّجَّادُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: قَضَى عُمَرُ وَعُثْمَانُ فِي الرَّجُلِ يُخَيِّرُ امْرَأَتَهُ أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا.
وَجَعَلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ الْخِيَارَ لَهَا خَارِجَ الْمَجْلِسِ مَا لَمْ تَقِفْ أَمَامَ حَاكِمٍ أَوْ تُوطَأْ طَائِعَةً. وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَاحْتَجَّ ابْنُ الْمُنْذِرِ «بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَائِشَةَ لَمَّا خَيَّرَهَا: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، فَلَا عَلَيْكِ أَلاَّ تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ» وَهَذَا يَمْنَعُ قَصْرَهُ عَلَى الْمَجْلِسِ.
وَمَا تَقَدَّمَ هُوَ فِي الْحَاضِرَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُخَيَّرَةُ غَائِبَةً فَلَا يَخْتَلِفُ الْحَالُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَيُفْهَمُ مِنْ عِبَارَاتِ الشَّافِعِيَّةِ كَذَلِكَ عَدَمُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْغَائِبَةِ وَالْحَاضِرَةِ، فَالْخُلْعُ- عَلَى الْأَصَحِّ- طَلَاقٌ، وَمَجْلِسُ الْعِلْمِ فِيهِ كَمَجْلِسِ التَّوَاجُبِ. وَكَمَا يُجْرَى الْخِلَافُ فِي الْمُخَيَّرَةِ الْحَاضِرَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُجْرَى أَيْضًا فِي الْمُخَيَّرَةِ الْغَائِبَةِ عَلَى طَرِيقَةِ اللَّخْمِيِّ. وَطَرِيقَةُ ابْنِ رُشْدٍ أَنَّهُ يَبْقَى التَّخْيِيرُ فِي يَدِهَا مَا لَمْ يَطُلْ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرَيْنِ، كَمَا فِي التَّوْضِيحِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ رِضَاهَا بِالْإِسْقَاطِ، وَمَا لَمْ تُوقَفْ أَمَامَ حَاكِمٍ، أَوْ تُوطَأْ طَائِعَةً.
وَاخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ فِي الْمُخَيَّرَةِ كَاخْتِلَافِهِ فِي الْبَيْعِ.
تَكْرَارُ الطَّلَاقِ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ:
21- لَوْ قَالَ لِمَدْخُولٍ بِهَا وَمَنْ فِي حُكْمِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَنَوَى تَكْرَارَ الْوُقُوعِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ ثَلَاثًا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: «أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ: أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَقْتُلُهُ؟».
وَعِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ تَقَعُ طَلْقَةً وَاحِدَةً. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَطَاوُسٌ وَعِكْرِمَةُ، لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ».
وَإِنْ أَرَادَ التَّأْكِيدَ أَوِ الْإِفْهَامَ فَإِنَّهُ تَقَعُ وَاحِدَةً.
وَتُقْبَلُ نِيَّةُ التَّأْكِيدِ دِيَانَةً لَا قَضَاءً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَتُقْبَلُ قَضَاءً وَإِفْتَاءً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَإِنْ أَطْلَقَ فَيَقَعُ ثَلَاثًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّأْكِيدِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ تَقَعُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ مُحْتَمَلٌ، فَيُؤْخَذُ بِالْيَقِينِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ.
وَمِثْلُ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَتَعَدُّدِهِ عِنْدَ نِيَّتِهِ، وَفِي إِرَادَةِ التَّأْكِيدِ وَالْإِفْهَامِ. أَمَّا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا فِي الْأُولَى، وَتَقَعُ وَاحِدَةٌ فِي الثَّانِيَةِ.
الْفَصْلُ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَعَدَدِهِ:
22- لَا تَضُرُّ سَكْتَةُ التَّنَفُّسِ، وَالْعِيِّ فِي الِاتِّصَالِ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَعَدَدِهِ. فَإِنْ كَانَ السُّكُوتُ فَوْقَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَضُرُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَا تَقَعُ مَعَهُ نِيَّةُ التَّأْكِيدِ. وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَضُرُّ إِلاَّ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا. وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا يَحْصُلُ التَّأْكِيدُ بِدُونِ نَسَقٍ (أَيْ عَطْفِهِ بِالْفَاءِ أَوْ بِالْوَاوِ أَوْ ثُمَّ).
تَكْرَارُ طَلَاقِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا:
23- لِلْعُلَمَاءِ فِي تَكْرِيرِ الطَّلَاقِ لِغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:
أ- الْأَوَّلُ: وُقُوعُ الطَّلَاقِ وَاحِدَةً، اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ أَمْ تَعَدَّدَ.
وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ حَزْمٍ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْأُولَى وَصَارَتْ أَجْنَبِيَّةً عَنْهُ، وَطَلَاقُ الْأَجْنَبِيَّةِ بَاطِلٌ.
الثَّانِي: وُقُوعُ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا إِنْ نَسَّقَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَ كَلَامِهِ فَهِيَ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ.
الثَّالِثُ: وُقُوعُ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا إِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ شَتَّى وَقَعَ مَا كَانَ فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ فَقَطْ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ.
اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ الرَّأْيِ الْأَوَّلِ بِمَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ عَتَّابِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِيمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا، قَالَ: هِيَ ثَلَاثٌ، فَإِنْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً ثُمَّ ثَنَّى ثُمَّ ثَلَّثَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ بِالْأُولَى. وَصَحَّ هَذَا عَنْ خِلَاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ. وَدَلِيلُ الثَّانِي مَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِيمَنْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، وَقَالَهَا مُتَّصِلَةً، لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ قَالَ. أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، بَانَتْ بِالْأُولَى وَلَمْ تَكُنِ الْأُخْرَيَانِ شَيْئًا، وَمِثْلُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ.
وَدَلِيلُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ مَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: قَالَ لِي مَنْصُورٌ: حُدِّثْتُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا قَالَ لِلَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، فَلَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. فَإِنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ طَلَّقَ طَلْقَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ طَلَّقَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
تَكْرَارُ الطَّلَاقِ مَعَ الْعَطْفِ:
24- التَّكْرَارُ مَعَ الْعَطْفِ كَعَدَمِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فِي تَعَدُّدِ الطَّلَاقِ، وَفِي نِيَّةِ التَّأْكِيدِ وَالْإِفْهَامِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَأَنْتِ طَالِقٌ، وَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ وَالْفَاءِ وَثُمَّ.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، وَلَا تُقْبَلُ نِيَّةُ التَّوْكِيدِ مَعَ الْفَاءِ وَثُمَّ، وَفِي بَعْضِ كُتُبِهِمْ مَا يُفِيدُ أَنَّ التَّأْكِيدَ بِثُمَّ كَالتَّأْكِيدِ بِالْوَاوِ، كَمَا فِي الْعُبَابِ.
وَلَا تُقْبَلُ نِيَّةُ التَّأْكِيدِ مَعَ الْعَطْفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، وَلَا يَتَأَتَّى مَعَهَا التَّأْكِيدُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ وَثُمَّ.
تَكَرُّرُ الْإِيلَاءِ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ:
25- الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَرَّرَ يَمِينَ الْإِيلَاءِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَنَوَى التَّأْكِيدَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ إِيلَاءً وَاحِدًا وَيَمِينًا وَاحِدَةً، حَتَّى لَوْ لَمْ يَقْرَبْهَا فِي الْمُدَّةِ طَلُقَتْ طَلْقَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ قَرَبَهَا فِيهَا لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ التَّأْكِيدَ أَوْ أَطْلَقَ، فَالْيَمِينُ وَاحِدَةٌ، وَالْإِيلَاءُ ثَلَاثٌ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَتَكَرَّرُ الْإِيلَاءُ إِنْ نَوَى التَّأْكِيدَ. وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَمْ فِي مَجَالِسَ، فَإِنْ أَطْلَقَ فَالْيَمِينُ وَاحِدَةٌ إِنِ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ.
وَلَمْ يَتَكَلَّمِ الْحَنَابِلَةُ عَنِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ فِي الْإِيلَاءِ.
وَلَمْ أَقِفْ عَلَى نَصٍّ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي تَكْرَارِ الْإِيلَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَهُ يَمِينًا. وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَهُمْ لَا تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْيَمِينِ مَا لَمْ يَنْوِ التَّكْرَارَ.
اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فِي الظِّهَارِ:
26- لَيْسَ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ أَثَرٌ إِلاَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ مَا إِذَا كَرَّرَ الظِّهَارَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَأَرَادَ التَّأْكِيدَ، فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ قَضَاءً، وَلَا تَتَكَرَّرُ الْكَفَّارَةُ، وَلَكِنَّهَا تَتَعَدَّدُ إِنْ كَرَّرَهُ فِي مَجَالِسَ. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَنَوَى التَّكْرَارَ، أَوْ أَطْلَقَ.
وَلَا تَتَعَدَّدُ الْكَفَّارَةُ بِتَكْرَارِ الظِّهَارِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ مَا لَمْ يَنْوِ الِاسْتِئْنَافَ. وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَمْ فِي مَجَالِسَ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا بِعَدَمِ التَّعَدُّدِ بِتَكْرَارِ الظِّهَارِ وَلَوْ نَوَى الِاسْتِئْنَافَ؛ لِأَنَّ تَكْرِيرَهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ لِتَحْرِيمِهَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَقَاسُوهُ عَلَى الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
4-موسوعة الفقه الكويتية (احتضار)
احْتِضَارٌالتَّعْرِيفُ:
1- الِاحْتِضَارُ لُغَةً: الْإِشْرَافُ عَلَى الْمَوْتِ بِظُهُورِ عَلَامَاتِهِ.وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْإِصَابَةِ بِاللَّمَمِ أَوِ الْجُنُونِ، وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَاهُ فِي الِاصْطِلَاحِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْأَوَّلِ.
عَلَامَاتُ الِاحْتِضَارِ:
2- لِلِاحْتِضَارِ عَلَامَاتٌ كَثِيرَةٌ يَعْرِفُهَا الْمُخْتَصُّونَ، ذَكَرَ مِنْهَا الْفُقَهَاءُ: اسْتِرْخَاءَ الْقَدَمَيْنِ، وَاعْوِجَاجَ الْأَنْفِ، وَانْخِسَافَ الصُّدْغَيْنِ، وَامْتِدَادَ جِلْدَةِ الْوَجْهِ.
مُلَازَمَةُ أَهْلِ الْمُحْتَضَرِ لَهُ:
3- يَجِبُ عَلَى أَقَارِبِ الْمُحْتَضَرِ أَنْ يُلَازِمُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَى أَصْحَابِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَى جِيرَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَى عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِ الْكِفَايَةِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَلِيَهُ مِنْ أَقَارِبِهِ أَحْسَنُهُمْ خَلْقًا وَخُلُقًا وَدِينًا، وَأَرْفَقُهُمْ بِهِ، وَأَعْلَمُهُمْ بِسِيَاسَتِهِ، وَأَتْقَاهُمْ لِلَّهِ.وَنُدِبَ أَنْ يُحْضِرُوا عِنْدَهُ طِيبًا، وَأَنْ يُبْعِدُوا النِّسَاءَ لِقِلَّةِ صَبْرِهِنَّ، وَنُدِبَ إِظْهَارُ التَّجَلُّدِ لِمَنْ حَضَرَ مِنَ الرِّجَالِ.وَلَا بَأْسَ بِحُضُورِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْجُنُبِ عِنْدَ الْمُحْتَضَرِ وَقْتَ الْمَوْتِ، إِذْ إِنَّهُ قَدْ لَا يُمْكِنُ مَنْعُهُنَّ، لِلشَّفَقَةِ، أَوْ لِلِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِنَّ.وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ تَحْضُرَ الْحَائِضُ الْمَيِّتَ وَالْكَرَاهَةُ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ.وَقَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ تَجَنُّبُ حَائِضٍ وَجُنُبٍ وَتِمْثَالٍ وَآلَةِ لَهْوٍ.
مَنْ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الِاحْتِضَارِ:
4- يَجْرِي حُكْمُ الِاحْتِضَارِ عَلَى مَنْ قُدِّمَ لِلْقَتْلِ حَدًّا، أَوْ قِصَاصًا، أَوْ ظُلْمًا، أَوْ مَنْ أُصِيبَ إِصَابَةً قَاتِلَةً كَمَا يَجْرِي عَلَى مَنْ كَانَ عِنْدَ الْتِحَامِ صُفُوفِ الْمَعْرَكَةِ.
مَا يَفْعَلُهُ الْمُحْتَضَرُ:
5- أ- يَنْبَغِي لِلْمُحْتَضَرِ تَحْسِينُ الظَّنِّ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَيُنْدَبُ لِمَنْ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَنْ يَرْجُوَ رَحْمَةَ رَبِّهِ وَمَغْفِرَتَهُ وَسَعَةَ عَفْوِهِ، زِيَادَةً عَلَى حَالَةِ الصِّحَّةِ، تَرْجِيحًا لِلرَّجَاءِ عَلَى الْخَوْفِ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ تَعَالَى» وَلِخَبَرِ الشَّيْخَيْنِ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَنَا عِنْدَ حُسْنِ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلَا يَظُنُّ بِي إِلاَّ خَيْرًا».وَلِحَدِيثِ أَنَسٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ بِالْمَوْتِ، فَقَالَ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرْجُو اللَّهَ، وَإِنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إِلاَّ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَأَمَّنَهُ مِمَّا يَخَافُ».
ب- وُجُوبُ الْإِيصَاءِ بِأَدَاءِ الْحُقُوقِ لِأَصْحَابِهَا.
ج- تَوْصِيَةُ أَهْلِهِ بِاتِّبَاعِ مَا جَرَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي التَّجْهِيزِ وَالدَّفْنِ وَاجْتِنَابِ الْبِدَعِ فِي ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَدْ وَرَدَتِ الْآثَارُ الْكَثِيرَةُ عَنْهُمْ فِي هَذَا الْمَجَالِ، مِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: أَوْصَى أَبُو مُوسَى- رضي الله عنه- حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، قَالَ: إِذَا انْطَلَقْتُمْ بِجِنَازَتِي فَأَسْرِعُوا بِيَ الْمَشْيَ، وَلَا تَتْبَعُونِي بِمُجَمِّرٍ، وَلَا تَجْعَلُوا عَلَى لَحْدِي شَيْئًا يَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ التُّرَابِ، وَلَا تَجْعَلُوا عَلَى قَبْرِي بِنَاءً.وَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ حَالِقَةٍ أَوْ سَالِقَةٍ أَوْ خَارِقَةٍ.قَالُوا: سَمِعْتَ فِيهِ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.
د- التَّوْصِيَةُ لِأَقْرِبَائِهِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ مِنْهُ، إِنْ لَمْ يَكُنْ وَصَّى لَهُمْ فِي حَالِ صِحَّتِهِ، لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}.وَلِحَدِيثِ «سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ- رضي الله عنه- قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمَرِضْتُ مَرَضًا أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ، فَعَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَالًا كَثِيرًا، وَلَيْسَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ لِي، أَفَأُوصِي بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لَا.قُلْتُ: بِشَطْرِ مَالِي؟ قَالَ: لَا.قُلْتُ: فَثُلُثُ مَالِي؟ قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ يَا سَعْدُ إِنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ».
التَّوْبَةُ إِلَى اللَّهِ:
6- يَجِبُ عَلَى الْمُحْتَضَرِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ مِنْ ذُنُوبِهِ قَبْلَ وُصُولِ الرُّوحِ إِلَى الْحُلْقُومِ؛ لِأَنَّ قُرْبَ الْمَوْتِ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ».وَتَفْصِيلُ مَا يَتَّصِلُ بِالتَّوْبَةِ مِنْ أَحْكَامٍ فِي مُصْطَلَحِ «تَوْبَةٌ».
تَصَرُّفَاتُ الْمُحْتَضَرِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ:
7- يَجْرِي عَلَى تَصَرُّفَاتِ الْمُحْتَضَرِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ مَا يَجْرِي عَلَى تَصَرُّفَاتِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ مِنْ أَحْكَامٍ، إِذَا كَانَ فِي وَعْيِهِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ «مَرَضُ الْمَوْتِ».
مَا يُسَنُّ لِلْحَاضِرِينَ أَنْ يَفْعَلُوهُ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ:
أَوَّلًا: التَّلْقِينُ:
8- يَنْبَغِي تَلْقِينُ الْمُحْتَضَرِ: «لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ».قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِالْمَوْتَى فِي الْحَدِيثِ الْمُحْتَضَرُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ، سُمُّوا مَوْتَى لِقُرْبِهِمْ مِنَ الْمَوْتِ، تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ مَجَازًا.
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي وُجُوبَ التَّلْقِينِ، وَإِلَيْهِ مَالَ الْقُرْطُبِيُّ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَأَنَّهُ لَا يُسَنُّ زِيَادَةُ «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» وَهُوَ مَا صَحَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ، وَالْمَجْمُوعِ.
وَيَكُونُ التَّلْقِينُ قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ، جَهْرًا وَهُوَ يَسْمَعُ؛ لِأَنَّ الْغَرْغَرَةَ تَكُونُ قُرْبَ كَوْنِ الرُّوحِ فِي الْحُلْقُومِ، وَحِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ النُّطْقُ بِهَا.وَالتَّلْقِينُ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ حَضَرَ عَقْلُهُ وَقَدَرَ عَلَى الْكَلَامِ، فَإِنَّ شَارِدَ اللُّبِّ لَا يُمْكِنُ تَلْقِينُهُ، وَالْعَاجِزُ عَنِ الْكَلَامِ يُرَدِّدُ الشَّهَادَةَ فِي نَفْسِهِ.وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» ذَكِّرُوا الْمُحْتَضَرَ «لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» لِكَيْ تَكُونَ آخِرَ كَلَامِهِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ».
وَيَرَى جَمَاعَةٌ أَنَّهُ يُلَقَّنُ الشَّهَادَةَ، وَقَالُوا: صُورَةُ التَّلْقِينِ أَنْ يُقَالَ عِنْدَهُ فِي حَالَةِ النَّزْعِ قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ، جَهْرًا وَهُوَ يَسْمَعُ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» وَلَا يُقَالُ لَهُ: قُلْ، وَلَا يُلَحُّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهَا، مَخَافَةَ أَنْ يَضْجَرَ فَيَأْتِي بِكَلَامٍ غَيْرِ لَائِقٍ.فَإِذَا قَالَهَا مَرَّةً لَا يُعِيدُهَا عَلَيْهِ الْمُلَقِّنُ، إِلاَّ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ غَيْرِهَا.وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُلَقِّنُ غَيْرَ مُتَّهَمٍ بِالْمَسَرَّةِ بِمَوْتِهِ، كَعَدُوٍّ أَوْ حَاسِدٍ أَوْ وَارِثٍ غَيْرِ وَلَدِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُعْتَقَدُ فِيهِ الْخَيْرُ.وَإِذَا ظَهَرَتْ مِنَ الْمُحْتَضَرِ كَلِمَاتٌ تُوجِبُ الْكُفْرَ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، وَيُعَامَلُ مُعَامَلَةَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ.
ثَانِيًا: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ:
9- يُنْدَبُ قِرَاءَةُ سُورَةِ (يس) عِنْدَ الْمُحْتَضَرِ، لِمَا رَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ صَفْوَانَ، قَالَ: كَانَتِ الْمَشْيَخَةُ يَقُولُونَ: إِذَا قُرِئَتْ (يس) عِنْدَ الْمَوْتِ خُفِّفَ عَنْهُ بِهَا.وَأَسْنَدَهُ صَاحِبُ مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي ذَرٍّ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فَتُقْرَأُ عِنْدَهُ يس إِلاَّ هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ».
قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: أَرَادَ بِهِ مَنْ حَضَرَتْهُ الْمَنِيَّةُ، لَا أَنَّ الْمَيِّتَ يُقْرَأُ عَلَيْهِ.وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.وَزَادَتِ الْحَنَابِلَةُ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ.وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: «كَانَ الْأَنْصَارُ يَقْرَءُونَ عِنْدَ الْمَيِّتِ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ».
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ عِنْدَ الْمَيِّتِ سُورَةَ الرَّعْدِ.وَقَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ قِرَاءَةُ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ وَعَلَى الْقُبُورِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ.
ثَالِثًا: التَّوْجِيهُ:
10- يُوَجَّهُ الْمُحْتَضَرُ لِلْقِبْلَةِ عِنْدَ شُخُوصِ بَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، لَا قَبْلَ ذَلِكَ، لِئَلاَّ يُفْزِعَهُ، وَيُوَجَّهُ إِلَيْهَا مُضْطَجِعًا عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ عَلَيْهِ.وَفِي تَوْجِيهِ الْمُحْتَضَرِ إِلَى الْقِبْلَةِ وَرَدَ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ سَأَلَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ.فَقَالُوا: تُوُفِّيَ وَأَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لَكَ، وَأَنْ يُوَجَّهَ لِلْقِبْلَةِ لَمَّا احْتُضِرَ.فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: أَصَابَ الْفِطْرَةَ، وَقَدْ رَدَدْتُ ثُلُثَ مَالِهِ عَلَى وَلَدِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَأَدْخِلْهُ جَنَّتَكَ، وَقَدْ فَعَلْتَ».قَالَ الْحَاكِمُ: وَلَا أَعْلَمُ فِي تَوْجِيهِ الْمُحْتَضَرِ إِلَى الْقِبْلَةِ غَيْرَهُ.
وَفِي اضْطِجَاعِهِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ قِيلَ: يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ النَّوْمِ، فَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: »إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ، وَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ..إِلَى أَنْ قَالَ: فَإِنْ مِتَّ مِتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ» وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْقِبْلَةِ.
وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ شَاهِينَ فِي بَابِ الْمُحْتَضَرِ مِنْ كِتَابِ الْجَنَائِزِ لَهُ غَيْرَ أَثَرٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: «يُسْتَقْبَلُ بِالْمَيِّتِ الْقِبْلَةُ» وَزَادَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: «عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ.مَا عَلِمْتُ أَحَدًا تَرَكَهُ مِنْ مَيِّتٍ»، وَلِأَنَّهُ قَرِيبٌ مِنَ الْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ، وَمِنَ اضْطِجَاعِهِ فِي مَرَضِهِ، وَالسُّنَّةُ فِيهِمَا ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ فِيمَا قَرُبَ مِنْهُمَا.وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا بِمَا رَوَى أَحْمَدُ أَنَّ فَاطِمَةَ- رضي الله عنها- عِنْدَ مَوْتِهَا اسْتَقْبَلَتِ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ تَوَسَّدَتْ يَمِينَهَا.
وَيَصِحُّ أَنْ يُوَجَّهَ الْمُحْتَضَرُ إِلَى الْقِبْلَةِ مُسْتَلْقِيًا عَلَى ظَهْرِهِ، فَذَلِكَ أَسْهَلُ لِخُرُوجِ الرُّوحِ، وَأَيْسَرُ لِتَغْمِيضِهِ وَشَدِّ لَحْيَيْهِ، وَأَمْنَعُ مِنْ تَقَوُّسِ أَعْضَائِهِ، ثُمَّ إِذَا أُلْقِيَ عَلَى الْقَفَا يُرْفَعُ رَأْسُهُ قَلِيلًا لِيَصِيرَ وَجْهُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ دُونَ السَّمَاءِ.
وَيَقُولُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ حَدِيثٌ فِي تَوْجِيهِ الْمُحْتَضَرِ إِلَى الْقِبْلَةِ، بَلْ كَرِهَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ تَوْجِيهَهُ إِلَيْهَا.فَقَدْ وَرَدَ عَنْ زُرْعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: «أَنَّهُ شَهِدَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فِي مَرَضِهِ، وَعِنْدَهُ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَغُشِيَ عَلَى سَعِيدٍ، فَأَمَرَ أَبُو سَلَمَةَ أَنْ يُحَوَّلَ فِرَاشُهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَأَفَاقَ، فَقَالَ: حَوَّلْتُمْ فِرَاشِي؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَنَظَرَ إِلَى أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ: أَرَاهُ بِعِلْمِكَ، فَقَالَ: أَنَا أَمَرْتُهُمْ.فَأَمَرَ سَعِيدٌ أَنْ يُعَادَ فِرَاشُهُ».
رَابِعًا: بَلُّ حَلْقِ الْمُحْتَضَرِ بِالْمَاءِ:
11- يُسَنُّ لِلْحَاضِرِينَ أَنْ يَتَعَاهَدُوا بَلَّ حَلْقِ الْمُحْتَضَرِ بِمَاءٍ أَوْ شَرَابٍ، وَأَنْ يَتَعَاهَدُوا تَنْدِيَةَ شَفَتَيْهِ بِقُطْنَةٍ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَنْشَفُ حَلْقُهُ مِنْ شِدَّةِ مَا نَزَلَ بِهِ فَيَعْجِزُ عَنِ الْكَلَامِ.وَتَعَاهُدُهُ بِذَلِكَ يُطْفِئُ مَا نَزَلَ بِهِ مِنَ الشِّدَّةِ، وَيُسَهِّلُ عَلَيْهِ النُّطْقَ بِالشَّهَادَةِ.
خَامِسًا: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى:
12- يُسْتَحَبُّ لِلصَّالِحِينَ مِمَّنْ يَحْضُرُونَ عِنْدَ الْمُحْتَضَرِ أَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى، وَأَنْ يُكْثِرُوا مِنَ الدُّعَاءِ لَهُ بِتَسْهِيلِ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَأَنْ يَدْعُوا لِلْحَاضِرِينَ، إِذْ هُوَ مِنْ مَوَاطِنِ الْإِجَابَةِ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى قَوْلِهِمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا حَضَرْتُمُ الْمَرِيضَ، أَوِ الْمَيِّتَ، فَقُولُوا خَيْرًا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ».
سَادِسًا: تَحْسِينُ ظَنِّ الْمُحْتَضَرِ بِاللَّهِ تَعَالَى:
13- إِذَا رَأَى الْحَاضِرُونَ مِنَ الْمُحْتَضَرِ أَمَارَاتِ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُحَسِّنُوا ظَنَّهُ بِرَبِّهِ، وَأَنْ يُطَمِّعُوهُ فِي رَحْمَتِهِ، إِذْ قَدْ يُفَارِقُ عَلَى ذَلِكَ فَيَهْلِكُ، فَتَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، أَخْذًا مِنْ قَاعِدَةِ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ.وَهَذَا الْحَالُ مِنْ أَهَمِّهَا.
مَا يُسَنُّ لِلْحَاضِرِينَ أَنْ يَفْعَلُوهُ عِنْدَ مَوْتِ الْمُحْتَضَرِ:
14- إِذَا تَيَقَّنَ الْحَاضِرُونَ مَوْتَ الْمُحْتَضَرِ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ انْقِطَاعُ نَفَسِهِ وَانْفِرَاجُ شَفَتَيْهِ تَوَلَّى أَرْفَقُ أَهْلِهِ بِهِ إِغْمَاضَ عَيْنَيْهِ، وَالدُّعَاءَ لَهُ، وَشَدَّ لَحْيَيْهِ بِعِصَابَةٍ عَرِيضَةٍ تُشَدُّ فِي لَحْيَيْهِ لِلْأَسْفَلِ وَتُرْبَطُ فَوْقَ رَأْسِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ تُرِكَ مَفْتُوحَ الْعَيْنَيْنِ وَالْفَمِ حَتَّى يَبْرُدَ بَقِيَ مَفْتُوحَهُمَا فَيَقْبُحُ مَنْظَرُهُ، وَلَا يُؤْمَنُ دُخُولُ الْهَوَامِّ فِيهِ وَالْمَاءُ فِي وَقْتِ غُسْلِهِ، وَيُلَيِّنُ مَفَاصِلَهُ وَيَرُدُّ ذِرَاعَيْهِ إِلَى عَضُدَيْهِ ثُمَّ يَمُدُّهُمَا، وَيَرُدُّ أَصَابِعَ يَدَيْهِ إِلَى كَفَّيْهِ ثُمَّ يَمُدُّهَا، وَيَرُدُّ فَخِذَيْهِ إِلَى بَطْنِهِ، وَسَاقَيْهِ إِلَى فَخِذَيْهِ ثُمَّ يَمُدُّهُمَا.وَيَقُولُ مُغْمِضُهُ: «بِاسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.اللَّهُمَّ يَسِّرْ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَسَهِّلْ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، وَأَسْعِدْهُ بِلِقَائِكَ، وَاجْعَلْ مَا خَرَجَ إِلَيْهِ خَيْرًا مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ».فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شُقَّ بَصَرُهُ، فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ.فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ فَقَالَ: لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ بِخَيْرٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ.ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ الْمُقَرَّبِينَ وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَأَفْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ».
وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا حَضَرْتُمْ مَوْتَاكُمْ فَأَغْمِضُوا الْبَصَرَ.وَإِنَّ الْبَصَرَ يَتْبَعُ الرُّوحَ.وَقُولُوا خَيْرًا، فَإِنَّهُ يُؤَمَّنُ عَلَى مَا قَالَ أَهْلُ الْمَيِّتِ».
كَشْفُ وَجْهِ الْمَيِّتِ وَالْبُكَاءُ عَلَيْهِ:
15- يَجُوزُ لِلْحَاضِرِينَ وَغَيْرِهِمْ كَشْفُ وَجْهِ الْمَيِّتِ وَتَقْبِيلُهُ، وَالْبُكَاءُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بُكَاءً خَالِيًا مِنَ الصُّرَاخِ وَالنُّوَاحِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنه- قَالَ: «لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ أَبْكِي، وَنَهَوْنِي، وَالنَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لَا يَنْهَانِي، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَرُفِعَ فَجَعَلَتْ عَمَّتِي فَاطِمَةُ تَبْكِي.فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: تَبْكِينَ أَوْ لَا تَبْكِينَ، مَا زَالَتِ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ».وَلِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَشَفَ وَجْهَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَقَبَّلَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ بَكَى، وَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا «وَأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَهُوَ مَيِّتٌ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ، فَقَبَّلَهُ وَبَكَى حَتَّى رَأَيْتُ الدُّمُوعَ تَسِيلُ عَلَى وَجْنَتَيْهِ» وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ أَمْهَلَ آلَ جَعْفَرٍ ثَلَاثًا أَنْ يَأْتِيَهُمْ، ثُمَّ أَتَاهُمْ، فَقَالَ: لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ».
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
5-موسوعة الفقه الكويتية (استخفاف)
اسْتِخْفَافٌالتَّعْرِيفُ:
1- مِنْ مَعَانِي الِاسْتِخْفَافِ لُغَةً: الِاسْتِهَانَةُ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ يُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ عَنِ الِاسْتِخْفَافِ بِالِاحْتِقَارِ، وَالِازْدِرَاءِ، وَالِانْتِقَاصِ.
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
2- لَيْسَ لِلِاسْتِخْفَافِ حُكْمٌ عَامٌّ جَامِعٌ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ.
فَقَدْ يَكُونُ مَحْظُورًا، وَقَدْ يَكُونُ مَطْلُوبًا.فَمِنَ الْمَطْلُوبِ: الِاسْتِخْفَافُ بِالْكَافِرِ لِكُفْرِهِ، وَالْمُبْتَدِعِ لِبِدْعَتِهِ، وَالْفَاسِقِ لِفِسْقِهِ.وَكَذَلِكَ الِاسْتِخْفَافُ بِالْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ وَالْمِلَلِ الْمُنْحَرِفَةِ، وَعَدَمُ احْتِرَامِهَا، وَاعْتِقَادُ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ إِذَا عَلِمَ تَحْرِيفَهَا، وَهَذَا مِنَ الدِّينِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِخْفَافٌ بِكُفْرٍ أَوْ بِبَاطِلٍ.
وَأَمَّا الْمَحْظُورُ: فَهُوَ مَا سَيَأْتِي.
مَا يَكُونُ بِهِ الِاسْتِخْفَافُ:
يَكُونُ الِاسْتِخْفَافُ بِالْأَقْوَالِ أَوِ الْأَفْعَالِ أَوْ الِاعْتِقَادَاتِ.
أ- الِاسْتِخْفَافُ بِاَللَّهِ تَعَالَى:
3- قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْلِ، مِثْلَ الْكَلَامِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الِانْتِقَاصُ وَالِاسْتِخْفَافُ فِي مَفْهُومِ النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ اعْتِقَادَاتِهِمْ، كَاللَّعْنِ وَالتَّقْبِيحِ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الِاسْتِخْفَافُ الْقَوْلِيُّ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ أَمْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى، مُنْتَهِكًا لِحُرْمَتِهِ انْتِهَاكًا يَعْلَمُ هُوَ نَفْسُهُ أَنَّهُ مُنْتَهِكٌ مُسْتَخِفٌّ مُسْتَهْزِئٌ.مِثْلُ وَصْفِ اللَّهِ بِمَا لَا يَلِيقُ، أَوْ الِاسْتِخْفَافِ بِأَمْرٍ مِنْ أَوَامِرِهِ، أَوْ وَعْدٍ مِنْ وَعِيدِهِ، أَوْ قَدْرِهِ.
وَقَدْ يَكُونُ بِالْأَفْعَالِ، وَذَلِكَ بِكُلِّ عَمَلٍ يَتَضَمَّنُ الِاسْتِهَانَةَ، أَوِ الِانْتِقَاصَ، أَوْ تَشْبِيهَ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ بِالْمَخْلُوقَاتِ، مِثْلُ رَسْمِ صُورَةٍ لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ، أَوْ تَصْوِيرِهِ فِي مُجَسَّمٍ كَتِمْثَالٍ وَغَيْرِهِ.وَقَدْ يَكُونُ بِالِاعْتِقَادِ، مِثْلُ اعْتِقَادِ حَاجَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الشَّرِيكِ
حُكْمُ الِاسْتِخْفَافِ بِاَللَّهِ تَعَالَى:
4- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِخْفَافَ بِاَللَّهِ تَعَالَى بِالْقَوْلِ، أَوِ الْفِعْلِ، أَوْ الِاعْتِقَادِ حَرَامٌ، فَاعِلُهُ مُرْتَدٌّ عَنِ الْإِسْلَامِ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَازِحًا أَمْ جَادًّا.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.
الِاسْتِخْفَافُ بِالْأَنْبِيَاءِ:
5- الِاسْتِخْفَافُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَانْتِقَاصُهُمْ وَالِاسْتِهَانَةُ بِهِمْ، كَسَبِّهِمْ، أَوْ تَسْمِيَتِهِمْ بِأَسْمَاءٍ شَائِنَةٍ، أَوْ وَصْفِهِمْ بِصِفَاتٍ مُهِينَةٍ، مِثْلُ وَصْفِ النَّبِيِّ بِأَنَّهُ سَاحِرٌ، أَوْ خَادِعٌ، أَوْ مُحْتَالٌ، وَأَنَّهُ يَضُرُّ مَنِ اتَّبَعَهُ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ زُورٌ وَبَاطِلٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ.فَإِنَّ نَظْمَ ذَلِكَ شَعْرًا كَانَ أَبْلَغَ فِي الشَّتْمِ؛ لِأَنَّ الشِّعْرَ يُحْفَظُ وَيُرْوَى، وَيُؤَثِّرُ فِي النُّفُوسِ كَثِيرًا- مَعَ الْعِلْمِ بِبُطْلَانِهِ- أَكْثَرَ مِنْ تَأْثِيرِ الْبَرَاهِينِ، وَكَذَلِكَ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي الْغِنَاءِ أَوِ الْإِنْشَادِ.
حُكْمُ الِاسْتِخْفَافِ بِالْأَنْبِيَاءِ:
6- اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِخْفَافَ بِالْأَنْبِيَاءِ حَرَامٌ، وَأَنَّ الْمُسْتَخِفَّ بِهِمْ مُرْتَدٌّ، وَهَذَا فِيمَنْ ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ لقوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا}.
وقوله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.
وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمُسْتَخِفُّ هَازِلًا أَمْ كَانَ جَادًّا، لقوله تعالى، {قُلْ أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.
إِلاَّ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي اسْتِتَابَتِهِ قَبْلَ الْقَتْلِ، فَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّ الْمُسْتَخِفَّ بِالرَّسُولِ وَالْأَنْبِيَاءِ لَا يُسْتَتَابُ بَلْ يُقْتَلُ، وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ فِي الدُّنْيَا؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا}.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ: يُسْتَتَابُ مِثْلَ الْمُرْتَدِّ، وَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ إِنْ تَابَ وَرَجَعَ لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}
وَلِخَبَرِ: «فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ»
7- وَفَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الِاسْتِخْفَافِ بِالسَّلَفِ، وَبَيْنَ الِاسْتِخْفَافِ بِغَيْرِهِمْ، وَأَرَادُوا بِالسَّلَفِ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ.
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي سَابِّ الصَّحَابَةِ وَسَابِّ السَّلَفِ: إِنَّهُ يُفَسَّقُ وَيُضَلَّلُ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُؤَدَّبُ.
وَلَكِنْ مَنْ سَبَّ السَّيِّدَةَ عَائِشَةَ- بِالْإِفْكِ الَّذِي بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ- أَوْ أَنْكَرَ صُحْبَةَ أَبِي بَكْرٍ الَّتِي ثَبَتَتْ بِنَصِّ الْقُرْآنِ يَكْفُرُ؛ لِإِنْكَارِهِ تِلْكَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى بَرَاءَتِهَا وَصُحْبَةِ أَبِيهَا، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قَالَ: هَذَا فِي شَأْنِ عَائِشَةَ وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- خَاصَّةً، وَلَيْسَ فِيهَا تَوْبَةٌ.
وَأَمَّا الِاسْتِخْفَافُ بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ مَسْتُورَ الْحَالِ، فَقَدْ قَالَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ: إِنَّهُ ذَنْبٌ يُوجِبُ الْعِقَابَ وَالزَّجْرَ عَلَى مَا يَرَاهُ السُّلْطَانُ، مَعَ مُرَاعَاةِ قَدْرِ الْقَائِلِ وَسَفَاهَتِهِ، وَقَدْرِ الْمَقُولِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْفَافَ وَالسُّخْرِيَةَ مِنَ الْمُسْلِمِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لقوله تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ}.
حُكْمُ الِاسْتِخْفَافِ بِالْمَلَائِكَةِ:
8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَخَفَّ بِمَلَكٍ، بِأَنْ وَصَفَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ، أَوْ سَبَّهُ، أَوْ عَرَّضَ بِهِ كَفَرَ وَقُتِلَ.
وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا تَحَقَّقَ كَوْنُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ كَجِبْرِيلَ، وَمَلَكِ الْمَوْتِ، وَمَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ.
حُكْمُ الِاسْتِخْفَافِ بِالْكُتُبِ وَالصُّحُفِ السَّمَاوِيَّةِ:
9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ مَنِ اسْتَخَفَّ بِالْقُرْآنِ، أَوْ بِالْمُصْحَفِ، أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ، أَوْ جَحَدَ حَرْفًا مِنْهُ، أَوْ كَذَبَ بِشَيْءٍ مِمَّا صَرَّحَ بِهِ مِنْ حُكْمٍ أَوْ خَبَرٍ، أَوْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ حَاوَلَ إِهَانَتَهُ بِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ، مِثْلُ إِلْقَائِهِ فِي الْقَاذُورَاتِ كَفَرَ بِهَذَا الْفِعْلِ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمَتْلُوُّ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ، الْمَكْتُوبُ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي بِأَيْدِينَا، وَهُوَ مَا جَمَعَتْهُ الدَّفَّتَانِ مِنْ أَوَّلِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إِلَى آخِرِ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}.
وَكَذَلِكَ مَنِ اسْتَخَفَّ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، أَوْ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ، أَوْ كَفَرَ بِهَا، أَوْ سَبَّهَا فَهُوَ كَافِرٌ.وَالْمُرَادُ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى، لَا مَا فِي أَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَعْيَانِهَا؛ لِأَنَّ عَقِيدَةَ الْمُسْلِمِينَ الْمَأْخُوذَةَ مِنَ النُّصُوصِ فِيهَا: أَنَّ بَعْضَ مَا فِي تِلْكَ الْكُتُبِ بَاطِلٌ قَطْعًا، وَبَعْضٌ مِنْهُ صَحِيحُ الْمَعْنَى وَإِنْ حَرَّفُوا لَفْظَهُ.وَكَذَلِكَ مَنِ اسْتَخَفَّ بِالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي ظَهَرَ لَهُ ثُبُوتُهَا.
الِاسْتِخْفَافُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ:
10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كُفْرِ مَنِ اسْتَخَفَّ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً، مِثْلَ الِاسْتِخْفَافِ بِالصَّلَاةِ، أَوِ الزَّكَاةِ، أَوِ الْحَجِّ، أَوِ الصِّيَامِ، أَوْ الِاسْتِخْفَافِ بِحُدُودِ اللَّهِ كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَالزِّنَى.
الِاسْتِخْفَافُ بِالْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ الْفَاضِلَةِ وَغَيْرِهَا:
11- مَنَعَ الْعُلَمَاءُ سَبَّ الدَّهْرِ وَالزَّمَانِ وَالِاسْتِخْفَافَ بِهِمَا، لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «لَا تَقُولُوا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ»
وَحَدِيثِ «يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ».
وَكَذَلِكَ الْأَزْمِنَةُ وَالْأَمْكِنَةُ الْفَاضِلَةُ وَالِاسْتِخْفَافُ بِهَا، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْحُكْمَ السَّابِقَ مِنَ الْمَنْعِ وَالْحُرْمَةِ.
أَمَّا إِذَا قَصَدَ مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِخْفَافَ بِالشَّرِيعَةِ، كَأَنْ يَسْتَخِفَّ بِشَهْرِ رَمَضَانَ، أَوْ بِيَوْمِ عَرَفَةَ، أَوْ بِالْحَرَمِ وَالْكَعْبَةِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ حُكْمَ الِاسْتِخْفَافِ بِالشَّرِيعَةِ أَوْ بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهَا، وَقَدْ مَرَّ حُكْمُ ذَلِكَ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
6-موسوعة الفقه الكويتية (الإمامة الكبرى 1)
الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى -1التَّعْرِيفُ:
1- (الْإِمَامَةُ): مَصْدَرُ أَمَّ الْقَوْمَ وَأَمَّ بِهِمْ.إِذَا تَقَدَّمَهُمْ وَصَارَ لَهُمْ إِمَامًا.وَالْإِمَامُ- وَجَمْعُهُ أَئِمَّةٌ-: كُلُّ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ قَوْمٌ سَوَاءٌ أَكَانُوا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ: كَمَا فِي قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} أَمْ كَانُوا ضَالِّينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ}.
ثُمَّ تَوَسَّعُوا فِي اسْتِعْمَالِهِ، حَتَّى شَمَلَ كُلَّ مَنْ صَارَ قُدْوَةً فِي فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ.فَالْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ قُدْوَةٌ فِي الْفِقْهِ، وَالْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ قُدْوَةٌ فِي الْحَدِيثِ...إِلَخْ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ لَا يَنْصَرِفُ إِلاَّ إِلَى صَاحِبِ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى، وَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْبَاقِي إِلاَّ بِالْإِضَافَةِ، لِذَلِكَ عَرَّفَ الرَّازِيَّ الْإِمَامَ بِأَنَّهُ: كُلُّ شَخْصٍ يُقْتَدَى بِهِ فِي الدِّينِ.
وَالْإِمَامَةُ الْكُبْرَى فِي الِاصْطِلَاحِ: رِئَاسَةٌ عَامَّةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا خِلَافَةً عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَسُمِّيَتْ كُبْرَى تَمْيِيزًا لَهَا عَنِ الْإِمَامَةِ الصُّغْرَى، وَهِيَ إِمَامَةُ الصَّلَاةِ وَتُنْظَرُ فِي مَوْضِعِهَا.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْخِلَافَةُ:
2- الْخِلَافَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ خَلَفَ يَخْلُفُ خِلَافَةً: أَيْ: بَقِيَ بَعْدَهُ أَوْ قَامَ مَقَامَهُ، وَكُلُّ مَنْ يَخْلُفُ شَخْصًا آخَرَ يُسَمَّى خَلِيفَةً، لِذَلِكَ سُمِّيَ مَنْ يَخْلُفُ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- فِي إِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَرِئَاسَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا خَلِيفَةً، وَيُسَمَّى الْمَنْصِبُ خِلَافَةً وَإِمَامَةً.
أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ: فَهِيَ تُرَادِفُ الْإِمَامَةَ، وَقَدْ عَرَّفَهَا ابْنُ خَلْدُونٍ بِقَوْلِهِ: هِيَ حَمْلُ الْكَافَّةِ عَلَى مُقْتَضَى النَّظَرِ الشَّرْعِيِّ، فِي مَصَالِحِهِمُ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَالدُّنْيَوِيَّةِ الرَّاجِعَةِ إِلَيْهَا، ثُمَّ فَسَّرَ هَذَا التَّعْرِيفَ بِقَوْلِهِ: فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ خِلَافَةٌ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.
ب- الْإِمَارَةُ:
3- الْإِمَارَةُ لُغَةً: الْوِلَايَةُ، وَالْوِلَايَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَامَّةً، فَهِيَ الْخِلَافَةُ أَوِ الْإِمَامَةُ الْعُظْمَى، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ خَاصَّةً عَلَى نَاحِيَةٍ كَأَنْ يَنَالَ أَمْرَ مِصْرٍ وَنَحْوِهِ، أَوْ عَلَى عَمَلٍ خَاصٍّ مِنْ شُئُونِ الدَّوْلَةِ كَإِمَارَةِ الْجَيْشِ وَإِمَارَةِ الصَّدَقَاتِ، وَتُطْلَقُ عَلَى مَنْصِبِ أَمِيرٍ.
ج- السُّلْطَةُ:
4- السُّلْطَةُ هِيَ: السَّيْطَرَةُ وَالتَّمَكُّنُ وَالْقَهْرُ وَالتَّحَكُّمُ وَمِنْهُ السُّلْطَانُ وَهُوَ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ التَّحَكُّمِ وَالسَّيْطَرَةِ فِي الدَّوْلَةِ، فَإِنْ كَانَتْ سُلْطَتُهُ قَاصِرَةً عَلَى نَاحِيَةٍ خَاصَّةٍ فَلَيْسَ بِخَلِيفَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً فَهُوَ الْخَلِيفَةُ، وَقَدْ وُجِدَتْ فِي الْعُصُورِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ خِلَافَةٌ بِلَا سُلْطَةٍ، كَمَا وَقَعَ فِي أَوَاخِرِ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَسُلْطَةٌ بِلَا خِلَافَةٍ كَمَا كَانَ الْحَالُ فِي عَهْدِ الْمَمَالِيكِ د- الْحُكْمُ:
5- الْحُكْمُ هُوَ فِي اللُّغَةِ: الْقَضَاءُ، يُقَالُ: حَكَمَ لَهُ وَعَلَيْهِ وَحَكَمَ بَيْنَهُمَا، فَالْحَاكِمُ هُوَ الْقَاضِي فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ.
وَقَدْ تَعَارَفَ النَّاسُ فِي الْعَصْرِ الْحَاضِرِ عَلَى إِطْلَاقِهِ عَلَى مَنْ يَتَوَلَّى السُّلْطَةَ الْعَامَّةَ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6- أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ عَقْدِ الْإِمَامَةِ، وَعَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ يَجِبُ عَلَيْهَا الِانْقِيَادُ لِإِمَامٍ عَادِلٍ، يُقِيمُ فِيهِمْ أَحْكَامَ اللَّهِ، وَيَسُوسُهُمْ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي أَتَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ هَذَا الْإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ، بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهم-، بِمُجَرَّدِ أَنْ بَلَغَهُمْ نَبَأُ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَادَرُوا إِلَى عَقْدِ اجْتِمَاعٍ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، وَاشْتَرَكَ فِي الِاجْتِمَاعِ كِبَارُ الصَّحَابَةِ، وَتَرَكُوا أَهَمَّ الْأُمُورِ لَدَيْهِمْ فِي تَجْهِيزِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَتَشْيِيعِ جُثْمَانِهِ الشَّرِيفِ، وَتَدَاوَلُوا فِي أَمْرِ خِلَافَتِهِ.
وَهُمْ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَادِئِ الْأَمْرِ حَوْلَ الشَّخْصِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُبَايَعَ، أَوْ عَلَى الصِّفَاتِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَتَوَفَّرَ فِيمَنْ يَخْتَارُونَهُ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي وُجُوبِ نَصْبِ إِمَامٍ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مُطْلَقًا إِنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ، وَبَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه-، وَوَافَقَ بَقِيَّةُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا حَاضِرِينَ فِي السَّقِيفَةِ، وَبَقِيَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ فِي كُلِّ الْعُصُورِ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا عَلَى وُجُوبِ نَصْبِ الْإِمَامِ.
وَهَذَا الْوُجُوبُ وُجُوبُ كِفَايَةٍ، كَالْجِهَادِ وَنَحْوِهِ، فَإِذَا قَامَ بِهَا مَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهَا سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْكَافَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهَا أَحَدٌ، أَثِمَ مِنَ الْأُمَّةِ فَرِيقَانِ:
أ- أَهْلُ الِاخْتِيَارِ وَهُمْ: أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَوُجُوهِ النَّاسِ، حَتَّى يَخْتَارُوا إِمَامًا لِلْأُمَّةِ.
ب- أَهْلُ الْإِمَامَةِ وَهُمْ: مَنْ تَتَوَفَّرُ فِيهِمْ شُرُوطُ الْإِمَامَةِ، إِلَى أَنْ يُنْصَبَ أَحَدُهُمْ إِمَامًا.
مَا يَجُوزُ تَسْمِيَةُ الْإِمَامِ بِهِ:
7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ تَسْمِيَةِ الْإِمَامِ: خَلِيفَةً، وَإِمَامًا، وَأَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
فَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ إِمَامًا فَتَشْبِيهًا بِإِمَامِ الصَّلَاةِ فِي وُجُوبِ الِاتِّبَاعِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِيمَا وَافَقَ الشَّرْعَ، وَلِهَذَا سُمِّيَ مَنْصِبُهُ بِالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى.
وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ خَلِيفَةً فَلِكَوْنِهِ يَخْلُفُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا فِي الْأُمَّةِ، فَيُقَالُ خَلِيفَةٌ بِإِطْلَاقٍ، وَخَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَسْمِيَتِهِ خَلِيفَةَ اللَّهِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ تَسْمِيَتِهِ بِخَلِيفَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- نَهَى عَنْ ذَلِكَ لَمَّا دُعِيَ بِهِ، وَقَالَ: لَسْتُ خَلِيفَةَ اللَّهِ، وَلَكِنِّي خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَلِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْغَائِبِ، وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ.وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمُ اقْتِبَاسًا مِنَ الْخِلَافَةِ الْعَامَّةِ لِلْآدَمِيِّينَ فِي قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} وَقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ}.
مَعْرِفَةُ الْإِمَامِ بِاسْمِهِ وَعَيْنِهِ:
8- لَا تَجِبُ مَعْرِفَةُ الْإِمَامِ بِاسْمِهِ وَعَيْنِهِ عَلَى كَافَّةِ الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَعْرِفُوا أَنَّ الْخِلَافَةَ أَفْضَتْ إِلَى أَهْلِهَا، لِمَا فِي إِيجَابِ مَعْرِفَتِهِ عَلَيْهِمْ بِاسْمِهِ وَعَيْنِهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الِاخْتِيَارِ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِبَيْعَتِهِمُ الْخِلَافَةُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
حُكْمُ طَلَبِ الْإِمَامَةِ:
9- يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الطَّالِبِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ لَهَا إِلاَّ شَخْصٌ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَهَا، وَوَجَبَ عَلَى أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ أَنْ يُبَايِعُوهُ.
وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ لَهَا جَمَاعَةٌ صَحَّ أَنْ يَطْلُبَهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَوَجَبَ اخْتِيَارُ أَحَدِهِمْ، وَإِلاَّ أُجْبِرَ أَحَدُهُمْ عَلَى قَبُولِهَا جَمْعًا لِكَلِمَةِ الْأُمَّةِ.وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ كُرِهَ لَهُ طَلَبُهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ لَهَا حَرُمَ عَلَيْهِ طَلَبُهَا.
شُرُوطُ الْإِمَامَةِ:
10- يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِلْإِمَامِ شُرُوطًا، مِنْهَا مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنْ شُرُوطِ الْإِمَامَةِ:
أ- الْإِسْلَامُ، لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ.وَصِحَّةُ الْوِلَايَةِ عَلَى مَا هُوَ دُونَ الْإِمَامَةِ فِي الْأَهَمِّيَّةِ.قَالَ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} وَالْإِمَامَةُ كَمَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: أَعْظَمُ (السَّبِيلِ)، وَلِيُرَاعَى مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ.
ب- التَّكْلِيفُ: وَيَشْمَلُ الْعَقْلَ، وَالْبُلُوغَ، فَلَا تَصِحُّ إِمَامَةُ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ، لِأَنَّهُمَا فِي وِلَايَةِ غَيْرِهِمَا، فَلَا يَلِيَانِ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَاءَ فِي الْأَثَرِ « تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ رَأْسِ السَّبْعِينَ، وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ »
ج- الذُّكُورَةُ: فَلَا تَصِحُّ إِمَارَةُ النِّسَاءِ، لِخَبَرِ: « لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً » وَلِأَنَّ هَذَا الْمَنْصِبَ تُنَاطُ بِهِ أَعْمَالٌ خَطِيرَةٌ وَأَعْبَاءٌ جَسِيمَةٌ تَتَنَافَى مَعَ طَبِيعَةِ الْمَرْأَةِ، وَفَوْقَ طَاقَتِهَا.فَيَتَوَلَّى الْإِمَامُ قِيَادَةَ الْجُيُوشِ وَيَشْتَرِكُ فِي الْقِتَالِ بِنَفْسِهِ أَحْيَانًا. د- الْكِفَايَةُ وَلَوْ بِغَيْرِهِ، وَالْكِفَايَةُ هِيَ الْجُرْأَةُ وَالشَّجَاعَةُ وَالنَّجْدَةُ، بِحَيْثُ يَكُونُ قَيِّمًا بِأَمْرِ الْحَرْبِ وَالسِّيَاسَةِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالذَّبِّ عَنِ الْأُمَّةِ.
هـ- الْحُرِّيَّةُ: فَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الْإِمَامَةِ لِمَنْ فِيهِ رِقٌّ، لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ فِي خِدْمَةِ سَيِّدِهِ.
و- سَلَامَةُ الْحَوَاسِّ وَالْأَعْضَاءِ مِمَّا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْحَرَكَةِ لِلنُّهُوضِ بِمَهَامِّ الْإِمَامَةِ.وَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الشُّرُوطِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
11- أَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ مِنَ الشُّرُوطِ فَهُوَ:
أ- الْعَدَالَةُ وَالِاجْتِهَادُ.ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْعَدَالَةَ وَالِاجْتِهَادَ شَرْطَا صِحَّةٍ، فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ أَوِ الْمُقَلِّدِ إِلاَّ عِنْدَ فَقْدِ الْعَدْلِ وَالْمُجْتَهِدِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمَا شَرْطَا أَوْلَوِيَّةٍ، فَيَصِحُّ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ وَالْعَامِّيِّ، وَلَوْ عِنْدَ وُجُودِ الْعَدْلِ وَالْمُجْتَهِدِ.
ب- السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَسَلَامَةُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ.ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهَا شُرُوطُ انْعِقَادٍ، فَلَا تَصِحُّ إِمَامَةُ الْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَمَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ابْتِدَاءً، وَيَنْعَزِلُ إِذَا طَرَأَتْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَخْرُجُ بِهَا عَنْ أَهْلِيَّةِ الْإِمَامَةِ إِذَا طَرَأَتْ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، فَلَا يَضُرُّ الْإِمَامَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ فِي خَلْقِهِ عَيْبٌ جَسَدِيٌّ أَوْ مَرَضٌ مُنَفِّرٌ، كَالْعَمَى وَالصَّمَمِ وَقَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْجَدْعِ وَالْجُذَامِ، إِذْ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ قُرْآنٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا إِجْمَاعٌ.
ج- النَّسَبُ:
وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قُرَشِيًّا لِحَدِيثِ: « الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ » وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ عُمَرَ: لَوْ كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ حَيًّا لَوَلَّيْتُهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ هَاشِمِيًّا وَلَا عَلَوِيًّا بِاتِّفَاقِ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ لَمْ يَكُونُوا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَلَمْ يَطْعَنْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي خِلَافَتِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ.
دَوَامُ الْإِمَامَةِ:
12- يُشْتَرَطُ لِدَوَامِ الْإِمَامَةِ دَوَامُ شُرُوطِهَا، وَتَزُولُ بِزَوَالِهَا إِلاَّ الْعَدَالَةَ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَثَرِ زَوَالِهَا عَلَى مَنْصِبِ الْإِمَامَةِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي: عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَيْسَتِ الْعَدَالَةُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْوِلَايَةِ، فَيَصِحُّ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ الْإِمَامَةَ عِنْدَهُمْ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَإِذَا قُلِّدَ إِنْسَانٌ الْإِمَامَةَ حَالَ كَوْنِهِ عَدْلًا، ثُمَّ جَارَ فِي الْحُكْمِ، وَفَسَقَ بِذَلِكَ أَوْ غَيْرِهِ لَا يَنْعَزِلُ، وَلَكِنْ يَسْتَحِقُّ الْعَزْلَ إِنْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ عَزْلُهُ فِتْنَةً، وَيَجِبُ أَنْ يُدْعَى لَهُ بِالصَّلَاحِ وَنَحْوِهِ، وَلَا يَجِبُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ، كَذَا نَقَلَ الْحَنَفِيَّةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَلِمَتُهُمْ قَاطِبَةً مُتَّفِقَةٌ فِي تَوْجِيهِهِ عَلَى أَنَّ وَجْهَهُ: هُوَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- صَلَّوْا خَلْفَ أَئِمَّةِ الْجَوْرِ وَقَبِلُوا الْوِلَايَةَ عَنْهُمْ.وَهَذَا عِنْدَهُمْ لِلضَّرُورَةِ وَخَشْيَةَ الْفِتْنَةِ.
وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: يَحْرُمُ الْخُرُوجُ عَلَى الْإِمَامِ الْجَائِرِ لِأَنَّهُ لَا يُعْزَلُ السُّلْطَانُ بِالظُّلْمِ وَالْفِسْقِ وَتَعْطِيلِ الْحُقُوقِ بَعْدَ انْعِقَادِ إِمَامَتِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ وَعْظُهُ وَعَدَمُ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ، إِنَّمَا هُوَ لِتَقْدِيمِ أَخَفِّ الْمَفْسَدَتَيْنِ، إِلاَّ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ إِمَامٌ عَدْلٌ، فَيَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ وَإِعَانَةُ ذَلِكَ الْقَائِمِ.
وَقَالَ الْخَرَشِيُّ: رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: إِنْ كَانَ الْإِمَامُ مِثْلَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَجَبَ عَلَى النَّاسِ الذَّبُّ عَنْهُ وَالْقِتَالُ مَعَهُ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا، دَعْهُ وَمَا يُرَادُ مِنْهُ، يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنَ الظَّالِمِ بِظَالِمٍ، ثُمَّ يَنْتَقِمُ مِنْ كِلَيْهِمَا.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّ الْجَرْحَ فِي عَدَالَةِ الْإِمَامِ، وَهُوَ الْفِسْقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا تَبِعَ فِيهِ الشَّهْوَةَ، وَالثَّانِي مَا تَعَلَّقَ فِيهِ بِشُبْهَةٍ.فَأَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا فَمُتَعَلِّقٌ بِأَفْعَالِ الْجَوَارِحِ، وَهُوَ ارْتِكَابُهُ لِلْمَحْظُورَاتِ وَإِقْدَامُهُ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ تَحْكِيمًا لِلشَّهْوَةِ وَانْقِيَادًا لِلْهَوَى، فَهَذَا فِسْقٌ يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ وَمِنِ اسْتِدَامَتِهَا، فَإِذَا طَرَأَ عَلَى مَنِ انْعَقَدَتْ إِمَامَتُهُ خَرَجَ مِنْهَا، فَلَوْ عَادَ إِلَى الْعَدَالَةِ لَمْ يَعُدْ إِلَى الْإِمَامَةِ إِلاَّ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ.وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: يَعُودُ إِلَى الْإِمَامَةِ بِعَوْدَةِ الْعَدَالَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْتَأْنَفَ لَهُ عَقْدٌ وَلَا بَيْعَةٌ، لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ وَلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِي اسْتِئْنَافِ بَيْعَتِهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا فَمُتَعَلِّقٌ بِالِاعْتِقَادِ الْمُتَأَوَّلِ بِشُبْهَةٍ تَعْتَرِضُ، فَيُتَأَوَّلُ لَهَا خِلَافُ الْحَقِّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا: فَذَهَبَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهَا تَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ وَمِنِ اسْتِدَامَتِهَا، وَيَخْرُجُ مِنْهَا بِحُدُوثِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ الْكُفْرِ بِتَأْوِيلٍ وَغَيْرِ تَأْوِيلٍ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حَالُ الْفِسْقِ بِتَأْوِيلٍ وَغَيْرِ تَأْوِيلٍ.وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْبَصْرَةِ: إِنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ، وَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْهَا، كَمَا لَا يَمْنَعُ مِنْ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ وَجَوَازِ الشَّهَادَةِ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: إِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ حَالَةَ الْعَقْدِ، ثُمَّ عُدِمَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ نَظَرْتَ، فَإِنْ كَانَ جَرْحًا فِي عَدَالَتِهِ، وَهُوَ الْفِسْقُ، فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِدَامَةِ الْإِمَامَةِ.سَوَاءٌ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِأَفْعَالِ الْجَوَارِحِ.وَهُوَ ارْتِكَابُ الْمَحْظُورَاتِ، وَإِقْدَامُهُ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ اتِّبَاعًا لِشَهْوَتِهِ، أَوْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالِاعْتِقَادِ، وَهُوَ الْمُتَأَوِّلُ لِشُبْهَةٍ تَعْرِضُ يَذْهَبُ فِيهَا إِلَى خِلَافِ الْحَقِّ.وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِهِ (أَحْمَدَ) فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ فِي الْأَمِيرِ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ وَيَغُلُّ، يُغْزَى مَعَهُ، وَقَدْ كَانَ يَدْعُو الْمُعْتَصِمَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ دَعَاهُ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ حَنْبَلٌ: فِي وِلَايَةِ الْوَاثِقِ اجْتَمَعَ فُقَهَاءُ بَغْدَادَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالُوا: هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَفَاقَمَ وَفَشَا- يَعْنُونَ إِظْهَارَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ- نُشَاوِرُكَ فِي أَنَّا لَسْنَا نَرْضَى بِإِمْرَتِهِ وَلَا سُلْطَانِهِ.فَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالنَّكِيرِ بِقُلُوبِكُمْ، وَلَا تَخْلَعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، وَلَا تَشُقُّوا عَصَا الْمُسْلِمِينَ.وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ، وَذَكَرَ الْحَسَنَ بْنَ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ الزَّيْدِيَّ فَقَالَ: كَانَ يَرَى السَّيْفَ، وَلَا نَرْضَى بِمَذْهَبِهِ.
مَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْإِمَامَةُ:
تَنْعَقِدُ الْإِمَامَةُ بِطُرُقٍ ثَلَاثَةٍ، بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ:
أَوَّلًا- الْبَيْعَةُ:
13- وَالْمُرَادُ بِالْبَيْعَةِ بَيْعَةُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَهُمْ: عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَرُؤَسَاؤُهُمْ وَوُجُوهُ النَّاسِ، الَّذِينَ يَتَيَسَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ حَالَةَ الْبَيْعَةِ بِلَا كُلْفَةٍ عُرْفًا، وَلَكِنْ هَلْ يُشْتَرَطُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ؟
اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ، فَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ جَمَاعَةٌ دُونَ تَحْدِيدِ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إِلاَّ بِجُمْهُورِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، بِالْحُضُورِ وَالْمُبَاشَرَةِ بِصَفْقَةِ الْيَدِ، وَإِشْهَادِ الْغَائِبِ مِنْهُمْ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ، لِيَكُونَ الرِّضَا بِهِ عَامًّا، وَالتَّسْلِيمُ بِإِمَامَتِهِ إِجْمَاعًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ، لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَذَكَرُوا أَقْوَالًا خَمْسَةً فِي ذَلِكَ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَقَلُّ مَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْإِمَامَةُ خَمْسَةٌ، يَجْتَمِعُونَ عَلَى عَقْدِهَا أَوْ يَعْقِدُ أَحَدُهُمْ بِرِضَا الْبَاقِينَ، وَاسْتَدَلُّوا بِخِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ لِأَنَّهَا انْعَقَدَتْ بِخَمْسَةٍ اجْتَمَعُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ تَابَعَهُمُ النَّاسُ فِيهَا.وَجَعَلَ عُمَرُ الشُّورَى فِي سِتَّةٍ لِيَعْقِدُوا لِأَحَدِهِمْ بِرِضَا الْخَمْسَةِ.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ لَا تَنْعَقِدُ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ، لِأَنَّهَا أَشَدُّ خَطَرًا مِنَ الْجُمُعَةِ، وَهِيَ لَا تَنْعَقِدُ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ، بَلْ لَا يُشْتَرَطُ عَدَدٌ، حَتَّى لَوِ انْحَصَرَتْ أَهْلِيَّةُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ بِوَاحِدٍ مُطَاعٍ كَفَتْ بَيْعَتُهُ لِانْعِقَادِ الْإِمَامَةِ، وَلَزِمَ عَلَى النَّاسِ الْمُوَافَقَةُ وَالْمُتَابَعَةُ. شُرُوطُ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ
14- يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِأَهْلِ الِاخْتِيَارِ أُمُورًا، هِيَ: الْعَدَالَةُ بِشُرُوطِهَا، وَالْعِلْمُ بِشُرُوطِ الْإِمَامَةِ، وَالرَّأْيُ وَالْحِكْمَةُ وَالتَّدْبِيرُ.
وَيَزِيدُ الشَّافِعِيَّةُ شَرْطًا آخَرَ وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِي أَحْكَامِ الْإِمَامَةِ إِنْ كَانَ الِاخْتِيَارُ مِنْ وَاحِدٍ، وَأَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مُجْتَهِدٌ إِنْ كَانَ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ جَمَاعَةً.
15- ثَانِيًا: وِلَايَةُ الْعَهْدِ (الِاسْتِخْلَافُ):
وَهِيَ: عَهْدُ الْإِمَامِ بِالْخِلَافَةِ إِلَى مَنْ يَصِحُّ إِلَيْهِ الْعَهْدُ لِيَكُونَ إِمَامًا بَعْدَهُ.قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: انْعِقَادُ الْإِمَامَةِ بِعَهْدِ مَنْ قَبْلَهُ مِمَّا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِهِ، وَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى صِحَّتِهِ، لِأَمْرَيْنِ عَمِلَ الْمُسْلِمُونَ بِهِمَا وَلَمْ يَتَنَاكَرُوهُمَا.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- عَهِدَ بِهَا إِلَى عُمَرَ- رضي الله عنه-، فَأَثْبَتَ الْمُسْلِمُونَ إِمَامَتَهُ بِعَهْدِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- عَهِدَ بِهَا إِلَى أَهْلِ الشُّورَى، فَقَبِلَتِ الْجَمَاعَةُ دُخُولَهُمْ فِيهَا، وَهُمْ أَعْيَانُ الْعَصْرِ اعْتِقَادًا لِصِحَّةِ الْعَهْدِ بِهَا وَخَرَجَ بَاقِي الصَّحَابَةِ مِنْهَا، وَقَالَ عَلِيٌّ لِلْعَبَّاسِ ( (حِينَ عَاتَبَهُ عَلَى الدُّخُولِ فِي الشُّورَى: كَانَ أَمْرًا عَظِيمًا فِي أُمُورِ الْإِسْلَامِ لَمْ أَرَ لِنَفْسِي الْخُرُوجَ مِنْهُ فَصَارَ الْعَهْدُ بِهَا إِجْمَاعًا فِي انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِي الْأَحَقِّ بِهَا وَالْأَقْوَمِ بِشُرُوطِهَا، فَإِذَا تَعَيَّنَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي وَاحِدٍ نَظَرَ فِيهِ:
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدًا وَلَا وَالِدًا جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لَهُ وَبِتَفْوِيضِ الْعَهْدِ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَشِرْ فِيهِ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا هَلْ يَكُونُ ظُهُورُ الرِّضَا مِنْهُمْ شَرْطًا فِي انْعِقَادِ بَيْعَتِهِ أَوْ لَا؟ فَذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ إِلَى أَنَّ رِضَا أَهْلِ الِاخْتِيَارِ لِبَيْعَتِهِ شَرْطٌ فِي لُزُومِهَا لِلْأُمَّةِ، لِأَنَّهَا حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ، فَلَمْ تَلْزَمْهُمْ إِلاَّ بِرِضَا أَهْلِ الِاخْتِيَارِ مِنْهُمْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ بَيْعَتَهُ مُنْعَقِدَةٌ وَأَنَّ الرِّضَا بِهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، لِأَنَّ بَيْعَةَ عُمَرَ- رضي الله عنه- لَمْ تَتَوَقَّفْ عَلَى رِضَا الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ أَحَقُّ بِهَا فَكَانَ اخْتِيَارُهُ فِيهَا أَمْضَى، وَقَوْلُهُ فِيهَا أَنْفَذَ.
وَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الْعَهْدِ وَلَدًا أَوْ وَالِدًا فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ انْفِرَادِهِ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ.
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لِوَلَدٍ وَلَا لِوَالِدٍ، حَتَّى يُشَاوِرَ فِيهِ أَهْلَ الِاخْتِيَارِ فَيَرَوْنَهُ أَهْلًا لَهَا، فَيَصِحُّ مِنْهُ حِينَئِذٍ عَقْدُ الْبَيْعَةِ لَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ تَزْكِيَةٌ لَهُ تَجْرِي مَجْرَى الشَّهَادَةِ، وَتَقْلِيدُهُ عَلَى الْأُمَّةِ يَجْرِي مَجْرَى الْحُكْمِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لِوَالِدٍ وَلَا لِوَلَدٍ، وَلَا يَحْكُمَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلتُّهْمَةِ الْعَائِدَةِ إِلَيْهِ بِمَا جُبِلَ مِنَ الْمَيْلِ إِلَيْهِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُفْرَدَ بِعَقْدِهَا لِوَلَدٍ، وَوَالِدٍ، لِأَنَّهُ أَمِيرُ الْأُمَّةِ نَافِذُ الْأَمْرِ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ.فَغَلَبَ حُكْمُ الْمَنْصِبِ عَلَى حُكْمِ النَّسَبِ، وَلَمْ يُجْعَلْ لِلتُّهْمَةِ طَرِيقًا عَلَى أَمَانَتِهِ وَلَا سَبِيلًا إِلَى مُعَارَضَتِهِ، وَصَارَ فِيهَا كَعَهْدِهِ بِهَا إِلَى غَيْرِ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ، وَهَلْ يَكُونُ رِضَا أَهْلِ الِاخْتِيَارِ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَهْدِ مُعْتَبَرًا فِي لُزُومِهِ لِلْأُمَّةِ أَوْ لَا؟ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لِوَالِدِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَا لِوَلَدِهِ، لِأَنَّ الطَّبْعَ يَبْعَثُ عَلَى مُمَايَلَةِ الْوَلَدِ أَكْثَرَ مِمَّا يَبْعَثُ عَلَى مُمَايَلَةِ الْوَالِدِ، وَلِذَلِكَ كَانَ كُلُّ مَا يَقْتَنِيهِ فِي الْأَغْلَبِ مَذْخُورًا لِوَلَدِهِ دُونَ وَالِدِهِ.
فَأَمَّا عَقْدُهَا لِأَخِيهِ وَمَنْ قَارَبَهُ مِنْ عَصَبَتِهِ وَمُنَاسِبِيهِ فَكَعَقْدِهَا لِلْبُعَدَاءِ الْأَجَانِبِ فِي جَوَازِ تَفَرُّدِهِ بِهَا.
وَقَالَ ابْنُ خَلْدُونٍ، بَعْدَ أَنْ قَدَّمَ الْكَلَامَ فِي الْإِمَامَةِ وَمَشْرُوعِيَّتِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَأَنَّ حَقِيقَتَهَا لِلنَّظَرِ فِي مَصَالِحِ الْأُمَّةِ لِدِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.
قَالَ: فَالْإِمَامُ هُوَ وَلِيُّهُمْ وَالْأَمِينُ عَلَيْهِمْ، يَنْظُرُ لَهُمْ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ لَهُمْ بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَيُقِيمَ لَهُمْ مَنْ يَتَوَلَّى أُمُورَهُمْ كَمَا كَانَ هُوَ يَتَوَلاَّهَا، وَيَثِقُونَ بِنَظَرِهِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، كَمَا وَثِقُوا بِهِ فِيمَا قَبْلُ، وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ مِنَ الشَّرْعِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى جَوَازِهِ وَانْعِقَادِهِ، إِذْ وَقَعَ بِعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه- لِعُمَرِ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَجَازُوهُ، وَأَوْجَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِهِ طَاعَةَ عُمَرَ- رضي الله عنه- وَعَنْهُمْ، وَكَذَلِكَ عَهِدَ عُمَرُ فِي الشُّورَى إِلَى السِّتَّةِ بَقِيَّةِ الْعَشَرَةِ، وَجَعَلَ لَهُمْ أَنْ يَخْتَارُوا لِلْمُسْلِمِينَ، فَفَوَّضَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، حَتَّى أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَاجْتَهَدَ وَنَاظَرَ الْمُسْلِمِينَ فَوَجَدَهُمْ مُتَّفِقِينَ عَلَى عُثْمَانَ وَعَلَى عَلِيٍّ، فَآثَرَ عُثْمَانَ بِالْبَيْعَةِ عَلَى ذَلِكَ لِمُوَافَقَتِهِ إِيَّاهُ عَلَى لُزُومِ الِاقْتِدَاءِ بِالشَّيْخَيْنِ فِي كُلِّ مَا يَعْرِضُ لَهُ دُونَ اجْتِهَادِهِ، فَانْعَقَدَ أَمْرُ عُثْمَانَ لِذَلِكَ، وَأَوْجَبُوا طَاعَتَهُ، وَالْمَلأَُ مِنَ الصَّحَابَةِ حَاضِرُونَ لِلْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْعَهْدِ، عَارِفُونَ بِمَشْرُوعِيَّتِهِ، وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ كَمَا عُرِفَ، وَلَا يُتَّهَمُ الْإِمَامُ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَإِنْ عَهِدَ إِلَى أَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ، لِأَنَّهُ مَأْمُونٌ عَلَى النَّظَرِ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَحْتَمِلَ فِيهَا تَبِعَةً بَعْدَ مَمَاتِهِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِاتِّهَامِهِ فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، أَوْ لِمَنْ خَصَّصَ التُّهْمَةَ بِالْوَلَدِ دُونَ الْوَالِدِ، فَإِنَّهُ بَعِيدٌ عَنِ الظِّنَّةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ دَاعِيَةٌ تَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ إِيثَارِ مَصْلَحَةٍ أَوْ تَوَقُّعِ مَفْسَدَةٍ فَتَنْتَفِي الظِّنَّةُ فِي ذَلِكَ رَأْسًا.
هَذَا، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَهَا شُورَى بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ مِنْ أَهْلِ الْإِمَامَةِ، فَيَتَعَيَّنُ مَنْ عَيَّنُوهُ بَعْدَ مَوْتِ الْإِمَامِ، لِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- جَعَلَ الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ، فَاتَّفَقُوا عَلَى عُثْمَانَ- رضي الله عنه-، فَلَمْ يُخَالِفْ مِنَ الصَّحَابَةِ أَحَدٌ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا.
اسْتِخْلَافُ الْغَائِبِ:
16- صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِخْلَافُ غَائِبٍ عَنِ الْبَلَدِ، إِنْ عُلِمَ حَيَاتُهُ، وَيُسْتَقْدَمُ بَعْدَ مَوْتِ الْإِمَامِ، فَإِنْ طَالَ غِيَابُهُ وَتَضَرَّرَ الْمُسْلِمُونَ بِغِيَابِهِ يَجُوزُ لِأَهْلِ الِاخْتِيَارِ نَصْبُ نَائِبٍ عَنْهُ، وَيَنْعَزِلُ النَّائِبُ بِقُدُومِهِ. شُرُوطُ صِحَّةِ وِلَايَةِ الْعَهْدِ:
17- يَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لِصِحَّةِ وِلَايَةِ الْعَهْدِ شُرُوطًا مِنْهَا:
أ- أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَخْلِفُ جَامِعًا لِشُرُوطِ الْإِمَامَةِ، فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِخْلَافُ مِنَ الْإِمَامِ الْفَاسِقِ أَوِ الْجَاهِلِ.
ب- أَنْ يَقْبَلَ وَلِيُّ الْعَهْدِ فِي حَيَاةِ الْإِمَامِ، فَإِنْ تَأَخَّرَ قَبُولُهُ عَنْ حَيَاةِ الْإِمَامِ تَكُونُ وَصِيَّةً بِالْخِلَافَةِ، فَيَجْرِي فِيهَا أَحْكَامُ الْوَصِيَّةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ بِبُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ فِي الِاسْتِخْلَافِ، لِأَنَّ الْإِمَامَ يَخْرُجُ عَنِ الْوِلَايَةِ بِالْمَوْتِ.
ج- أَنْ يَكُونَ وَلِيُّ الْعَهْدِ مُسْتَجْمِعًا لِشُرُوطِ الْإِمَامَةِ، وَقْتَ عَهْدِ الْوِلَايَةِ إِلَيْهِ، مَعَ اسْتِدَامَتِهَا إِلَى مَا بَعْدَ مَوْتِ الْإِمَامِ، فَلَا يَصِحُّ- عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- عَهْدُ الْوِلَايَةِ إِلَى صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ فَاسِقٍ وَإِنْ كَمُلُوا بَعْدَ وَفَاةِ الْإِمَامِ، وَتَبْطُلُ بِزَوَالِ أَحَدِ الشُّرُوطِ مِنْ وَلِيِّ الْعَهْدِ فِي حَيَاةِ الْإِمَامِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْعَهْدِ إِلَى صَبِيٍّ وَقْتَ الْعَهْدِ، وَيُفَوَّضُ الْأَمْرُ إِلَى وَالٍ يَقُومُ بِهِ، حَتَّى يَبْلُغَ وَلِيُّ الْعَهْدِ.وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِأَنَّهُ إِذَا بَلَغَ جُدِّدَتْ بَيْعَتُهُ وَانْعَزَلَ الْوَالِي الْمُفَوَّضُ عَنْهُ بِبُلُوغِهِ.
ثَالِثًا: الِاسْتِيلَاءُ بِالْقُوَّةِ:
18- قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ثُبُوتِ إِمَامَةِ الْمُتَغَلِّبِ وَانْعِقَادِ وِلَايَتِهِ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا اخْتِيَارٍ، فَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ إِلَى ثُبُوتِ وِلَايَتِهِ، وَانْعِقَادِ إِمَامَتِهِ، وَحَمْلِ الْأُمَّةِ عَلَى طَاعَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْقِدْهَا أَهْلُ الِاخْتِيَارِ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الِاخْتِيَارِ تَمْيِيزُ الْمُوَلَّى، وَقَدْ تَمَيَّزَ هَذَا بِصِفَتِهِ.وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ إِمَامَتَهُ لَا تَنْعَقِدُ إِلاَّ بِالرِّضَا وَالِاخْتِيَارِ، لَكِنْ يَلْزَمُ أَهْلَ الِاخْتِيَارِ عَقْدُ الْإِمَامَةِ لَهُ، فَإِنْ تَوَقَّفُوا أَثِمُوا لِأَنَّ الْإِمَامَةَ عَقْدٌ لَا يَتِمُّ إِلاَّ بِعَاقِدٍ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: الْإِمَامَةُ تَنْعَقِدُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِاخْتِيَارِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ.
وَالثَّانِي: بِعَهْدِ الْإِمَامِ مِنْ قَبْلُ.
فَأَمَّا انْعِقَادُهَا بِاخْتِيَارِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، فَلَا تَنْعَقِدُ إِلاَّ بِجُمْهُورِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ.قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: الْإِمَامُ: الَّذِي يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ، كُلُّهُمْ يَقُولُ: هَذَا إِمَامٌ.
وَظَاهِرُ هَذَا: أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِجَمَاعَتِهِمْ.
وَرُوِيَ عَنْهُ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا تَثْبُتُ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَلَا تَفْتَقِرُ إِلَى الْعَقْدِ.فَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدُوسِ بْنِ مَالِكٍ الْعَطَّارِ: وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى صَارَ خَلِيفَةً وَسُمِّيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَبِيتَ وَلَا يَرَاهُ إِمَامًا، بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا.وَقَالَ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ- فِي الْإِمَامِ يَخْرُجُ عَلَيْهِ مَنْ يَطْلُبُ الْمُلْكَ، فَيَكُونُ مَعَ هَذَا قَوْمٌ وَمَعَ هَذَا قَوْمٌ-: تَكُونُ الْجُمُعَةُ مَعَ مَنْ غَلَبَ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ صَلَّى بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ الْحَرَّةِ.وَقَالَ: نَحْنُ مَعَ مَنْ غَلَبَ.
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى: أَنَّهُ لَمَّا اخْتَلَفَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ »
حَاجَّهُمْ عُمَرُ، وَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنهما-.مُدَّ يَدَكَ أُبَايِعْكَ فَلَمْ يَعْتَبِرِ الْغَلَبَةَ وَاعْتَبَرَ الْعَقْدَ مَعَ وُجُودِ الِاخْتِلَافِ.
وَوَجْهُ الثَّانِيَةِ: مَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَقَوْلُهُ: نَحْنُ مَعَ مَنْ غَلَبَ وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَقِفُ عَلَى عَقْدٍ لَصَحَّ رَفْعُهُ وَفَسْخُهُ بِقَوْلِهِمْ وَقَوْلِهِ، كَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُقُودِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ (أَيِ الْمُتَغَلِّبَ) لَوْ عَزَلَ نَفْسَهُ أَوْ عَزَلُوهُ لَمْ يَنْعَزِلْ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى عَقْدِهِ.
وَلِأَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ خَرَجَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَاسْتَوْلَى عَلَى الْبِلَادِ وَأَهْلِهَا، حَتَّى بَايَعُوهُ طَوْعًا وَكَرْهًا، فَصَارَ إِمَامًا يَحْرُمُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ، وَلِمَا فِي الْخُرُوجِ عَلَيْهِ مِنْ شَقِّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ، وَإِرَاقَةِ دِمَائِهِمْ، وَذَهَابِ أَمْوَالِهِمْ.وَلِخَبَرِ: « اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ أَجْدَعُ ».
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ قَوْلًا: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ إِمَامَةِ الْمُتَغَلِّبِ اسْتِجْمَاعُ شُرُوطِ الْإِمَامَةِ.كَمَا يَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا: أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى الْأَمْرِ بَعْدَ مَوْتِ الْإِمَامِ الْمُبَايَعِ لَهُ، وَقَبْلَ نَصْبِ إِمَامٍ جَدِيدٍ بِالْبَيْعَةِ، أَوْ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى حَيٍّ مُتَغَلِّبٍ مِثْلِهِ.أَمَّا إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْأَمْرِ وَقَهَرَ إِمَامًا مُوَلًّى بِالْبَيْعَةِ أَوْ بِالْعَهْدِ فَلَا تَثْبُتُ إِمَامَتُهُ، وَيَبْقَى الْإِمَامُ الْمَقْهُورُ عَلَى إِمَامَتِهِ شَرْعًا.
اخْتِيَارُ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ:
19- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَيَّنَ لِأَهْلِ الِاخْتِيَارِ وَاحِدٌ هُوَ أَفْضَلُ الْجَمَاعَةِ، فَبَايَعُوهُ عَلَى الْإِمَامَةِ، فَظَهَرَ بَعْدَ الْبَيْعَةِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ، انْعَقَدَتْ بِبَيْعَتِهِمْ إِمَامَةُ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ.كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوِ ابْتَدَءُوا بَيْعَةَ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ لِعُذْرٍ، كَكَوْنِ الْأَفْضَلِ غَائِبًا أَوْ مَرِيضًا، أَوْ كَوْنِ الْمَفْضُولِ أَطْوَعَ فِي النَّاسِ، وَأَقْرَبَ إِلَى قُلُوبِهِمُ، انْعَقَدَتْ بَيْعَةُ الْمَفْضُولِ وَصَحَّتْ إِمَامَتُهُ، وَلَوْ عَدَلُوا عَنِ الْأَفْضَلِ فِي الِابْتِدَاءِ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَجُزْ.
أَمَّا الِانْعِقَادُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ بَيْعَةِ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ بَيْعَتَهُ لَا تَنْعَقِدُ، لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ إِذَا دَعَا إِلَى أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ.
وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ جَائِزَةٌ لِلْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ، وَصَحَّتْ إِمَامَتُهُ إِذَا تَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطُ الْإِمَامَةِ.كَمَا يَجُوزُ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ تَقْلِيدُ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْفَضْلِ مُبَالَغَةٌ فِي الِاخْتِيَارِ، وَلَيْسَتْ شَرْطًا فِيهِ.وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَوْمَ السَّقِيفَةِ: قَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ: أَبِي عُبَيْدَة بْنِ الْجَرَّاحِ، وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.وَهُمَا عَلَى فَضْلِهِمَا دُونَ أَبِي بَكْرٍ فِي الْفَضْلِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ.
وَدَعَتِ الْأَنْصَارُ إِلَى بَيْعَةِ سَعْدٍ، وَلَمْ يَكُنْ أَفْضَلَ الصَّحَابَةِ بِالِاتِّفَاقِ، ثُمَّ عَهِدَ عُمَرُ- رضي الله عنه- إِلَى سِتَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ.
وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ حِينَئِذٍ عَلَى أَنَّهُ لَوْ بُويِعَ أَحَدُهُمْ فَهُوَ الْإِمَامُ الْوَاجِبُ طَاعَتُهُ.فَصَحَّ بِذَلِكَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- عَلَى جَوَازِ إِمَامَةِ الْمَفْضُولِ.
عَقْدُ الْبَيْعَةِ لِإِمَامَيْنِ:
20- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَوْنُ إِمَامَيْنِ فِي الْعَالَمِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَجُوزُ إِلاَّ إِمَامٌ وَاحِدٌ.وَاسْتَدَلُّوا بِخَبَرِ: « إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخِرَ مِنْهُمَا ».وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا}
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَرَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ التَّفَرُّقَ وَالتَّنَازُعَ، وَإِذَا كَانَ إِمَامَانِ فَقَدْ حَصَلَ التَّفَرُّقُ الْمُحَرَّمُ، فَوُجِدَ التَّنَازُعُ وَوَقَعَتِ الْمَعْصِيَةُ لِلَّهِ تَعَالَى.
فَإِنْ عُقِدَتْ لِاثْنَيْنِ مَعًا بَطَلَتْ فِيهِمَا، أَوْ مُرَتَّبًا فَهِيَ لِلسَّابِقِ مِنْهُمَا.وَيُعَزَّرُ الثَّانِي وَمُبَايِعُوهُ؛ لِخَبَرِ: « إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخِرَ مِنْهُمَا ».وَإِنْ جُهِلَ السَّابِقُ مِنْهُمَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِامْتِنَاعِ تَعَدُّدِ الْأَئِمَّةِ، وَعَدَمِ الْمُرَجِّحِ لِأَحَدِهِمَا.
وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: بُطْلَانُ الْعَقْدِ، وَالثَّانِيَةُ: اسْتِعْمَالُ الْقُرْعَةِ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَبَاعَدَتِ الْبِلَادُ، وَتَعَذَّرَتِ الِاسْتِنَابَةُ، جَازَ تَعَدُّدُ الْأَئِمَّةِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
7-موسوعة الفقه الكويتية (تأخير)
تَأْخِيرٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّأْخِيرُ لُغَةً: ضِدُّ التَّقْدِيمِ، وَمُؤَخَّرُ كُلِّ شَيْءٍ: خِلَافُ مُقَدَّمِهِ.
وَاصْطِلَاحًا: هُوَ فِعْلُ الشَّيْءِ فِي آخِرِ وَقْتِهِ الْمُحَدَّدِ لَهُ شَرْعًا، كَتَأْخِيرِ السُّحُورِ وَالصَّلَاةِ، أَوْ خَارِجَ الْوَقْتِ (سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَقْتُ مُحَدَّدًا شَرْعًا أَوْ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ) كَتَأْخِيرِ الزَّكَاةِ وَالدَّيْنِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- التَّرَاخِي:
2- التَّرَاخِي فِي اللُّغَةِ: الِامْتِدَادُ فِي الزَّمَانِ.يُقَالُ: تَرَاخَى الْأَمْرُ تَرَاخِيًا: امْتَدَّ زَمَانُهُ، وَفِي الْأَمْرِ تَرَاخٍ أَيْ فُسْحَةٌ.وَمَعْنَى التَّرَاخِي عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: هُوَ مَشْرُوعِيَّةُ فِعْلِ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا الْمُمْتَدِّ، وَهُوَ ضِدُّ الْفَوْرِ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، وَعَلَى هَذَا فَيَتَّفِقُ التَّأْخِيرُ مَعَ التَّرَاخِي فِي فِعْلِ الْعِبَادَةِ فِي آخِرِ وَقْتِهَا، وَيَخْتَلِفَانِ فِي حَالِ إِيقَاعِ الْعِبَادَةِ خَارِجَ الْوَقْتِ، فَيُسَمَّى ذَلِكَ تَأْخِيرًا لَا تَرَاخِيًا.
ب- الْفَوْرُ:
3- الْفَوْرُ فِي اللُّغَةِ: كَوْنُ الشَّيْءِ عَلَى الْوَقْتِ الْحَاضِرِ الَّذِي لَا تَأْخِيرَ فِيهِ.
يُقَالُ: فَارَتِ الْقِدْرُ فَوْرًا وَفَوَرَانًا: غَلَتْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمُ: الشُّفْعَةُ عَلَى الْفَوْرِ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ مَشْرُوعِيَّةُ الْأَدَاءِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ بِحَيْثُ يَلْحَقُهُ الذَّمُّ بِالتَّأْخِيرِ عَنْهُ.
وَيَتَبَيَّنُ مِنْ هَذَا أَنَّ بَيْنَ الْفَوْرِ وَالتَّأْخِيرِ تَبَايُنًا.
ج- التَّأْجِيلُ:
4- التَّأْجِيلُ فِي اللُّغَةِ: أَنْ تَضْرِبَ لِلشَّيْءِ أَجَلًا.يُقَالُ: أَجَّلْتُهُ تَأْجِيلًا أَيْ جَعَلْتَ لَهُ أَجَلًا.
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
وَعَلَى هَذَا فَالتَّأْخِيرُ أَعَمُّ مِنَ التَّأْجِيلِ، إِذْ يَكُونُ التَّأْخِيرُ بِأَجَلٍ وَبِغَيْرِ أَجَلٍ.
هـ- التَّعْجِيلُ:
5- التَّعْجِيلُ: الْإِسْرَاعُ بِالشَّيْءِ.يُقَالُ: عَجَّلْتُ إِلَيْهِ الْمَالَ: أَسْرَعْتَ إِلَيْهِ بِحُضُورِهِ فَتَعَجَّلَهُ أَيْ أَخَذَهُ بِسُرْعَةٍ.
وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: الْإِتْيَانُ بِالْفِعْلِ قَبْلَ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لَهُ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ، أَوْ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ كَتَعْجِيلِ الْفِطْرِ قَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ، وَأَخَّرُوا السُّحُورَ».فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ بَيْنَ التَّأْخِيرِ وَالتَّعْجِيلِ تَبَايُنًا.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ (لِلتَّأْخِيرِ):
6- الْأَصْلُ فِي الشَّرْعِ عَدَمُ تَأْخِيرِ الْفِعْلِ إِلَى آخِرِ وَقْتِهِ أَوْ خَارِجَ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لَهُ شَرْعًا، كَتَأْخِيرِ الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ مِثْلِ الصَّلَاةِ، أَوْ عَنِ الْوَقْتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَأَدَاءِ مَا فِي الذِّمَّةِ، إِلاَّ إِذَا وُجِدَ نَصٌّ يُجِيزُ التَّأْخِيرَ، أَوْ قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ أَوْ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ خَارِجٌ عَنْ مَقْدُورِ الْعَبْدِ.
وَقَدْ يَعْرِضُ مَا يُخْرِجُ التَّأْخِيرَ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ إِلَى الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ أَوِ الْكَرَاهَةِ أَوِ الْإِبَاحَةِ.
فَيَجِبُ التَّأْخِيرُ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْحَامِلِ حَتَّى تَلِدَ، وَيَسْتَغْنِيَ عَنْهَا وَلِيدُهَا.
أَمَّا الْمَرِيضُ، فَإِنْ كَانَ يُرْجَى بُرْؤُهُ يُؤَخَّرُ عَنْهُ الْحَدُّ حَتَّى يَبْرَأَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَا يُؤَخَّرُ.وَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْقِصَاصِ بِالنَّفْسِ.
وَيُنْدَبُ: كَتَأْخِيرِ السُّحُورِ إِلَى آخِرِ اللَّيْلِ، وَتَأْخِيرِ الْوِتْرِ إِلَى وَقْتِ السَّحَرِ لِمَنْ وَثِقَ بِصَلَاتِهِ فِيهِ، وَكَتَأْخِيرِ أَدَاءِ الدَّيْنِ عَنْ وَقْتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعْسِرِ لِوُجُودِ عُذْرِ الْإِعْسَارِ.قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وَيُكْرَهُ: كَتَأْخِيرِ الْإِفْطَارِ لِلصَّائِمِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، إِذِ السُّنَّةُ فِي الْإِفْطَارِ التَّعْجِيلُ.
وَيُبَاحُ: كَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي وَقْتِ الْكَرَاهَةِ.
تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ:
7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ لِتُصَلَّى جَمْعًا مَعَ الْعِشَاءِ، وَذَلِكَ لِلْحَاجِّ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ.وَأَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ جَمْعِ صَلَاتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا، وَكَذَا فِي جَمْعِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِهِ فِي أَعْذَارٍ مُعَيَّنَةٍ، وَمَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَيُنْظَرُ الْخِلَافُ وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (جَمْعُ الصَّلَاةِ).
تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لِفَاقِدِ الْمَاءِ:
8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى سُنِّيَّةِ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ إِذَا تُيُقِّنَ وُجُودُ الْمَاءِ فِي آخِرِهِ، وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِأَلاَّ يَدْخُلَ وَقْتُ الْكَرَاهَةِ.
أَمَّا إِذَا ظَنَّ وُجُودَ الْمَاءِ، أَوْ رَجَاهُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ بِشَرْطِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُتَرَدِّدَ يَتَيَمَّمُ فِي وَسَطِ الْوَقْتِ نَدْبًا، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّعْجِيلَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَفْضَلُ.
تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ بِلَا عُذْرٍ:
9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا بِلَا عُذْرٍ شَرْعِيٍّ.
أَمَّا مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ كَسَلًا وَهُوَ مُوقِنٌ بِوُجُوبِهَا، وَكَانَ تَرْكُهُ لَهَا بِلَا عُذْرٍ وَلَا تَأَوُّلٍ وَلَا جَهْلٍ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُحْبَسُ حَتَّى يُصَلِّيَ.قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: لِأَنَّهُ يُحْبَسُ لِحَقِّ الْعَبْدِ، فَحَقُّ (الْحَقِّ) أَحَقُّ.
وَقِيلَ: يُضْرَبُ حَتَّى يَسِيلَ مِنْهُ الدَّمُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَخَّرَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا دُعِيَ إِلَى فِعْلِهَا، فَإِنْ تَضَيَّقَ وَقْتُ الَّتِي تَلِيهَا وَأَبَى الصَّلَاةَ يُقْتَلُ حَدًّا.وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُقْتَلُ لِكُفْرِهِ.
قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ.
أَمَّا تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا فَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَوَسَطُهُ رَحْمَةُ اللَّهِ، وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ» وَيُكْرَهُ التَّأْخِيرُ إِلَى أَحَدِ أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ.وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ).
تَأْخِيرُ دَفْعِ الزَّكَاةِ:
10- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَهُمْ، إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ دَفْعِ الزَّكَاةِ عَنْ وَقْتِ اسْتِحْقَاقِهَا وَأَنَّهَا يَجِبُ إِخْرَاجُهَا عَلَى الْفَوْرِ، لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَهَذَا فِي زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَيُلْحَقُ بِهَا غَيْرُهَا.
وَالَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ، وَصَحَّحَهُ الْبَاقِلاَّنِيُّ وَالْجَصَّاصُ: أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى التَّرَاخِي، فَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ، وَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى آخِرِ عُمْرِهِ يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ، حَتَّى لَوْ لَمْ يُؤَدِّ إِلَى أَنْ مَاتَ يَأْثَمُ.
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَخَّرَ الزَّكَاةَ بَعْدَ الْحَوْلِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْإِخْرَاجِ فَتَلِفَ بَعْضُ الْمَالِ أَوْ كُلُّهُ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ لَهَا، وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا أَخَّرَهَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ يُقَصِّرَ فِي حِفْظِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ الزَّكَاةِ بِهَلَاكِ الْمَالِ بَعْدَ الْحَوْلِ، سَوَاءٌ تَمَكَّنَ مِنَ الْأَدَاءِ أَمْ لَمْ يَتَمَكَّنْ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةٌ).
تَأْخِيرُ قَضَاءِ الصَّوْمِ:
11- الْأَصْلُ الْمُبَادَرَةُ إِلَى قَضَاءِ مَا فَاتَ مِنْ صِيَامِ رَمَضَانَ، وَيَجُوزُ تَأْخِيرُ الْقَضَاءِ مَا لَمْ يَتَضَيَّقِ الْوَقْتُ، بِأَلاَّ يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَمَضَانَ الْقَادِمِ إِلاَّ مَا يَسَعُ أَدَاءَ مَا عَلَيْهِ.فَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْوَقْتُ لِلْقَضَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
فَإِنْ لَمْ يَقْضِ فِيهِ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى تَأْثِيمِهِ بِالتَّأْخِيرِ إِذَا فَاتَ وَقْتُ الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلاَّ فِي شَعْبَانَ لِمَكَانِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالُوا: وَلَوْ أَمْكَنَهَا لأَخَّرَتْهُ، وَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ الْأُولَى عَنِ الثَّانِيَةِ كَالصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْقَضَاءِ مُطْلَقًا وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ هَلَّ عَلَيْهِ رَمَضَانُ آخَرُ.لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ عِنْدَهُمُ الْمُتَابَعَةُ مُسَارَعَةً إِلَى إِسْقَاطِ الْوَاجِبِ.
12- هَذَا، وَإِذَا أَخَّرَ الْقَضَاءَ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ Cآخَرُ فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُفَرِّطًا فَإِنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ مَعَ الْفِدْيَةِ، وَهِيَ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي رَجُلٍ مَرِضَ فِي رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ، ثُمَّ صَحَّ فَلَمْ يَصُمْ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ: يَصُومُ الَّذِي أَدْرَكَهُ، ثُمَّ يَصُومُ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ وَيُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا» وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَطْعِمْ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَلَمْ يَرِدْ خِلَافٌ فِي ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ.
ثُمَّ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْفِدْيَةَ تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ السِّنِينَ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ الْمَالِيَّةَ لَا تَتَدَاخَلُ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ: لَا تَتَكَرَّرُ كَالْحُدُودِ.وَمَحَلُّ الْخِلَافِ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَخْرَجَ الْفِدْيَةَ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا ثُمَّ لَمْ يَقْضِ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ وَجَبَتْ ثَانِيًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ حَتَّى هَلَّ عَلَيْهِ رَمَضَانُ آخَرُ، فَإِنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَلَا فِدْيَةَ، وَاسْتَدَلُّوا بِإِطْلَاقِ قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ.وَقَالُوا: إِنَّ إِطْلَاقَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى التَّرَاخِي، فَلَا يَلْزَمُهُ بِالتَّأْخِيرِ شَيْءٌ، غَيْرَ أَنَّهُ تَارِكٌ لِلْأَوْلَى مِنَ الْمُسَارَعَةِ.
تَأْخِيرُ الْحَجِّ:
13- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ، أَيِ الْإِتْيَانُ بِهِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الِاسْتِطَاعَةِ.لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَالْأَمْرُ لِلْفَوْرِ، وَلِخَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- مَرْفُوعًا قَالَ: «تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ».
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ يَجِبُ عَلَى التَّرَاخِي، لَكِنَّ جَوَازَ التَّأْخِيرِ عِنْدَهُمْ مَشْرُوطٌ بِأَمْرَيْنِ: الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ فِي Cالْمُسْتَقْبَلِ، وَأَنْ يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ السَّلَامَةُ إِلَى وَقْتِ فِعْلِهِ.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ نَزَلَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ سَنَةَ سِتٍّ، وَفَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَانْصَرَفَ عَنْهَا فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَتِهِ.
وَحَجَّ النَّاسُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَرَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مُقِيمٌ بِالْمَدِينَةِ هُوَ وَأَزْوَاجُهُ وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ فِي سَنَةِ تِسْعٍ بَعَثَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَبَا بَكْرٍ لِلْحَجِّ، وَالنَّبِيُّ مَعَ عَامَّةِ أَصْحَابِهِ فِي الْمَدِينَةِ، وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْحَجِّ غَيْرُ مُشْتَغِلِينَ بِقِتَالٍ وَلَا غَيْرِهِ.
ثُمَّ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ.
تَأْخِيرُ رَمْيِ الْجِمَارِ:
14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخَّرَ الرَّمْيَ حَتَّى غُرُوبِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، عَلَيْهِ دَمٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ أَخَّرَهُ حَتَّى غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي غَيْرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْهَا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ الرَّمْيَ فِيمَا قَبْلَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَرْمِي فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي تَلِي ذَلِكَ الْيَوْمَ الَّذِي أَخَّرَ رَمْيَهُ وَيَقَعُ أَدَاءً؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لَهُ وَكُرِهَ لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ، وَإِنْ أَخَّرَهُ إِلَى الْيَوْمِ التَّالِي كَانَ قَضَاءً، وَلَزِمَهُ الْجَزَاءُ.
وَكَذَا لَوْ أَخَّرَ الْكُلَّ إِلَى الثَّالِثِ مَا لَمْ تَغْرُبْ شَمْسُهُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ الرَّمْيَ إِلَى اللَّيْلِ وَقَعَ قَضَاءً وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ رَمْيَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ تَدَارَكَهُ فِي بَاقِي الْأَيَّامِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَمَى لَيْلًا لَمْ يُجْزِئْهُ الرَّمْيُ وَيُعِيدُ.
تَأْخِيرُ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
15- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا آخِرَ لِلْوَقْتِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ آخِرَ وَقْتِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ آخِرُ ذِي الْحِجَّةِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ أَخَّرَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا تَأْخِيرُهُ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ وَلَيَالِيِهَا (وَهِيَ يَوْمُ الْعِيدِ وَيَوْمَانِ Cبَعْدَهُ) وَيَلْزَمُهُ دَمٌ لِتَرْكِ الْوَاجِبِ، وَهُوَ إيقَاعُ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فِي وَقْتِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَخَّرَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ حَتَّى خَرَجَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ- وَهِيَ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ التَّالِيَةُ لِيَوْمِ الْعِيدِ- فَإِنَّ عَلَيْهِ دَمًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ عَنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَتَأْخِيرُهُ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَشَدُّ كَرَاهَةً، وَعَنْ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ أَشَدُّ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَخَّرَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ عَنْ أَيَّامِ مِنًى (أَيَّامِ التَّشْرِيقِ) جَازَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ وَقْتَهُ غَيْرُ مَحْدُودٍ.وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهِ بَعْدَ نِصْفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَالْأَفْضَلُ فِعْلُهُ يَوْمَ النَّحْرِ، لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: «أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ النَّحْرِ».
تَأْخِيرُ الْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ:
16- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ تَأْخِيرُ النَّحْرِ- وَهُوَ فِي التَّرْتِيبِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْحَلْقِ- فَتَأْخِيرُ الْحَلْقِ أَوْلَى، فَإِنْ أَخَّرَ الْحَلْقَ حَتَّى خَرَجَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ لَزِمَهُ دَمٌ بِالتَّأْخِيرِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَخَّرَ الْحَلْقَ حَتَّى خَرَجَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّأْقِيتِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَوَّلَ وَقْتِهِ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}.وَلَمْ يُبَيِّنْ آخِرَهُ، فَمَتَى أَتَى بِهِ أَجْزَأَهُ، كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ وَالسَّعْيِ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى كَرَاهِيَةِ تَأْخِيرِهِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي (الْحَجِّ).
تَأْخِيرُ دَفْنِ الْمَيِّتِ:
17- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ تَأْخِيرِ دَفْنِ الْمَيِّتِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَنْ مَاتَ فَجْأَةً أَوْ بِهَدْمٍ أَوْ غَرَقٍ، فَيَجِبُ التَّأْخِيرُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْمَوْتُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَحْرُمُ تَأْخِيرُ الدَّفْنِ، وَقِيلَ: يُكْرَهُ، وَاسْتَثْنَوْا تَأْخِيرَ الدَّفْنِ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ بِقُرْبِ مَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، نَصَّ عَلَيْهِ Cالشَّافِعِيُّ، فَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ هُنَا لِدَفْنِهِ فِي تِلْكَ الْأَمْكِنَةِ.
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقُرْبِ مَسَافَةٌ لَا يَتَغَيَّرُ فِيهَا الْمَيِّتُ قَبْلَ وُصُولِهِ.
تَأْخِيرُ الْكَفَّارَاتِ:
مِنْ تَأْخِيرِ الْكَفَّارَاتِ مَا يَلِي:
أ- تَأْخِيرُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ:
18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَأَنَّهَا تَجِبُ بِالْحِنْثِ عَلَى الْفَوْرِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ تَجِبُ عَلَى التَّرَاخِي. (وَانْظُرْ: أَيْمَانٌ ف 138).
ب- تَأْخِيرُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ:
19- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ وَاجِبَةٌ عَلَى التَّرَاخِي، فَلَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ.
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهَا تَتَضَيَّقُ عِنْدَ آخِرِ عُمْرِهِ، فَيَأْثَمُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ أَدَائِهَا، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ بِلَا وَصِيَّةٍ مِنَ الثُّلُثِ، وَلَوْ تَبَرَّعَ الْوَرَثَةُ بِهَا جَازَ، وَقِيلَ: يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ، وَيُجْبَرُ عَنِ التَّكْفِيرِ لِلظِّهَارِ.وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (ظِهَارٌ).
وَيُنْظَرُ أَحْكَامُ تَأْخِيرِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فِي مُصْطَلَحِ (جِنَايَةٌ)، وَأَحْكَامُ تَأْخِيرِ كَفَّارَةِ الْوِقَاعِ فِي رَمَضَانَ فِي مُصْطَلَحِ (صَوْمٌ).
تَأْخِيرُ زَكَاةِ الْفِطْرِ:
20- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِلْمَالِكِيَّةِ إِلَى: أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ تَجِبُ عِنْدَ غُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ أَيَّامِ رَمَضَانَ.وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ: تَجِبُ بِطُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ الْعِيدِ.
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِخْرَاجُهَا إِلَى غُرُوبِ شَمْسِ يَوْمِ الْعِيدِ، وَيُسَنُّ عِنْدَهُمْ أَلاَّ تَتَأَخَّرَ عَنْ صَلَاةِ الْعِيدِ.
وَيَحْرُمُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا تَأْخِيرُهَا عَنْ يَوْمِ الْعِيدِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَلَا تَسْقُطُ بِهَذَا التَّأْخِيرِ بَلْ يَجِبُ قَضَاؤُهَا، وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ هَذَا الْقَوْلَ؛ لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام- فِي الْفُقَرَاءِ: «أَغْنُوهُمْ عَنْ طَوَافِ هَذَا الْيَوْمِ».
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ وُجُوبَ زَكَاةِ الْفِطْرِ هُوَ وُجُوبٌ مُوَسَّعٌ فِي الْعُمْرِ كُلِّهِ، فَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا، غَيْرَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ إِخْرَاجُهَا قَبْلَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى، وَلَوْ مَاتَ فَأَدَّاهَا وَارِثُهُ جَازَ.
لَكِنْ ذَهَبَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ تَسْقُطُ بِتَأْخِيرِهَا عَنْ يَوْمِ الْفِطْرِ كَالْأُضْحِيَّةِ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ ثَالِثٌ خَارِجٌ عَنِ الْمَذْهَبِ.
تَأْخِيرُ نِيَّةِ الصَّوْمِ:
21- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ نِيَّةِ الصَّوْمِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُعَيَّنِ وَالنَّفَلِ إِلَى الضَّحْوَةِ الْكُبْرَى، أَمَّا فِي غَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَمَنَعُوا تَأْخِيرَ النِّيَّةِ فِيهَا.وَقَالُوا بِوُجُوبِ تَبْيِيتِهَا أَوْ قِرَانِهَا مَعَ الْفَجْرِ، كَقَضَاءِ رَمَضَانَ، وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ، وَقَضَاءِ النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ، وَالنَّفَلِ بَعْدَ إِفْسَادِهِ، وَالْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّوْمَ لَا يُجْزِئُ إِلاَّ إِذَا تَقَدَّمَتِ النِّيَّةُ عَلَى سَائِرِ أَجْزَائِهِ، فَإِنْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَلَمْ يَنْوِهِ لَمْ يُجْزِهِ فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ الصِّيَامِ، إِلاَّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ كَغَيْرِهِ.
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ، فَاشْتَرَطُوا لِلْفَرْضِ التَّبْيِيتَ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ لَمْ يُجَمِّعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ» وَأَمَّا النَّفَلُ فَاتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ صَوْمِهِ بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِعَائِشَةَ يَوْمًا: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: لَا.قَالَ: فَإِنِّي إِذَنْ أَصُومُ» وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ النَّفَلَ يَصِحُّ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الزَّوَالِ أَيْضًا لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ وُجِدَتْ فِي جُزْءِ النَّهَارِ فَأَشْبَهَ وُجُودَهَا قَبْلَ الزَّوَالِ بِلَحْظَةٍ.
تَأْخِيرُ قَضَاءِ الصَّلَاةِ:
22- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ عَلَى الْفَوْرِ وَيَحْرُمُ تَأْخِيرُهَا.لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ Cنَسِيَ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» فَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ عِنْدَ الذِّكْرِ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَقَدْ أَلْحَقَ الْجُمْهُورُ مُطْلَقَ التَّرْكِ بِالنَّوْمِ وَالنِّسْيَانِ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ تَأْخِيرُ الْفَائِتَةِ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ، وَقَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَتَحْصِيلِ مَا يَحْتَاجُ لَهُ فِي مَعَاشِهِ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ لِعُذْرٍ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَهَا عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنْ أَخَّرَهَا جَازَ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «فَاتَتْهُ صَلَاةُ الصُّبْحِ فَلَمْ يُصَلِّهَا حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْوَادِي».قَالُوا: وَلَوْ كَانَتْ عَلَى الْفَوْرِ لَمَا أَخَّرَهَا.
تَأْخِيرُ الْوِتْرِ:
23- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِ الْوِتْرِ إِلَى وَقْتِ السَّحَرِ، وَهَذَا الِاسْتِحْبَابُ لِمَنْ وَثِقَ بِأَنَّهُ يُصَلِّيهِ آخِرَ اللَّيْلِ، فَإِنْ لَمْ يَثِقْ بِذَلِكَ أَوْتَرَ قَبْلَ أَنْ يَرْقُدَ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: أَيُّكُمْ خَافَ أَلاَّ يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ ثُمَّ لْيَرْقُدْ، وَمَنْ وَثِقَ بِقِيَامِهِ مِنَ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ مِنْ آخِرِهِ، فَإِنَّ قِرَاءَةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَحْضُورَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ»..
تَأْخِيرُ السُّحُورِ:
24- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ السُّحُورِ وَتَقْدِيمَ الْفِطْرِ مِنَ السُّنَّةِ، لِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: «تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ.قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالسُّحُورِ؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً».
وَلِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ وَأَخَّرُوا السُّحُورَ».
وَمَوْطِنُ السُّنِّيَّةِ فِيمَا إِذَا تَحَقَّقَ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ الشَّكُّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَإِنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ، كَأَنْ تَرَدَّدَ فِي بَقَاءِ اللَّيْلِ لَمْ يُسَنَّ التَّأْخِيرُ بَلِ الْأَفْضَلُ تَرْكُهُ.
تَأْخِيرُ أَدَاءِ الدَّيْنِ:
25- إِذَا حَلَّ أَجَلُ الدَّيْنِ وَلَمْ يُؤَدِّهِ الْمَدِينُ، فَإِنْ Cكَانَ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ وَأَخَّرَهُ بِلَا عُذْرٍ مَنَعَهُ الْقَاضِي مِنَ السَّفَرِ وَحَبَسَهُ إِلَى أَنْ يُوفِيَ دَيْنَهُ، قَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ».
فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ، وَكَانَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ، بَاعَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، وَإِذَا كَانَ تَأْخِيرُ سَدَادِ الدَّيْنِ لِعُذْرٍ كَالْإِعْسَارِ أُمْهِلَ إِلَى أَنْ يُوسِرَ، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}.
أَمَّا إِذَا كَانَ لِلْمَدِينِ مَالٌ، وَلَكِنَّهُ لَا يَفِي بِالدُّيُونِ، وَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لَزِمَ الْقَاضِيَ إِجَابَتُهُمْ (.عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِي الْمَذَاهِبِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (أَدَاءٌ) وَبَابَيِ (الْحَجْرُ وَالتَّفْلِيسُ).
تَأْخِيرُ الْمَهْرِ:
26- يَجِبُ الْمَهْرُ بِنَفْسِ عَقْدِ الزَّوَاجِ، وَيَجُوزُ تَأْخِيرُ الصَّدَاقِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ عَنِ الدُّخُولِ
عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (النِّكَاحُ).
تَأْخِيرُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ:
27- يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْإِنْفَاقُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَمَنْ يَعُولُ، وَيَجُوزُ لَهُ وَلِزَوْجَتِهِ الِاتِّفَاقُ عَلَى تَعْجِيلِ أَوْ تَأْخِيرِ النَّفَقَةِ، وَيُعْتَبَرُ كُلُّ زَوْجٍ بِحَسَبِ حَالِ مَوْرِدِهِ، فَإِنْ أَخَّرَ النَّفَقَةَ عَنْ زَوْجَتِهِ بِعُذْرِ الْإِعْسَارِ جَازَ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ طَلَبُ التَّطْلِيقِ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ أَوِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا.
ثُمَّ إِنْ أَخَّرَ النَّفَقَةَ وَتَرَاكَمَتْ عَلَيْهِ هَلْ تَسْقُطُ بِالتَّقَادُمِ أَمْ تَبْقَى دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ؟ فِي كُلِّ ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي بَابِ (النَّفَقَةُ).
تَأْخِيرُ تَسْلِيمِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ:
28- يُشْتَرَطُ لِبَيْعِ الرِّبَوِيِّ بِالرِّبَوِيِّ الْحُلُولُ- لَا التَّأْخِيرُ- وَالتَّقَابُضُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ جِنْسًا وَاحِدًا أَمْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَيُزَادُ شَرْطُ التَّمَاثُلِ إِذَا كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: C {الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَجْنَاسُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ» فَيَحْرُمُ التَّأْخِيرُ فِي تَسْلِيمِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ.وَلِلتَّفْصِيلِ ر: (الرِّبَا، وَالْبَيْعُ).
التَّأْخِيرُ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ:
29- الْحَدُّ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا تُقَامُ عَلَى مُرْتَكِبِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ زَجْرًا لَهُ وَتَأْدِيبًا لِغَيْرِهِ؛ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْجَانِيَ يُحَدُّ فَوْرًا بَعْدَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ دُونَ تَأْخِيرٍ، لَكِنْ قَدْ يَطْرَأُ مَا يُوجِبُ التَّأْخِيرَ أَوْ يُسْتَحَبُّ مَعَهُ التَّأْخِيرُ:
أ- فَيَجِبُ تَأْخِيرُ الْحَدِّ بِالْجَلْدِ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ؛ لِمَا فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ فِيهِمَا مِنْ خَوْفِ الْهَلَاكِ خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ.وَلَا يُقَامُ عَلَى مَرِيضٍ يُرْجَى بُرْؤُهُ حَتَّى يَبْرَأَ؛ لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ وَجَعُ الْمَرَضِ وَأَلَمُ الضَّرْبِ فَيُخَافُ الْهَلَاكُ، خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ.وَلَا يُقَامُ عَلَى النُّفَسَاءِ حَتَّى يَنْقَضِيَ النِّفَاسُ؛ لِأَنَّ النِّفَاسَ نَوْعُ مَرَضٍ، وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْحَائِضِ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ لَيْسَ بِمَرَضٍ.وَلَا يُقَامُ عَلَى الْحَامِلِ حَتَّى تَضَعَ وَتَطْهُرَ مِنَ النِّفَاسِ- لِأَنَّ فِيهِ هَلَاكَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدَةِ- وَحَتَّى يَسْتَغْنِيَ وَلَدُهَا عَنْهَا بِمَنْ تُرْضِعُهُ؛ حِفَاظًا عَلَى حَيَاةِ وَلَدِهَا.
وَلِلتَّفْصِيلِ اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (حَدٌّ).
ب- أَمَّا فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الرَّجْمِ فَلَا تَأْخِيرَ إلاَّ لِلْحَامِلِ بِالْقَيْدِ السَّابِقِ، هَذَا إِذَا كَانَ الْأَوْلِيَاءُ فِي الْقِصَاصِ مَوْجُودِينَ، أَمَّا إِذَا كَانُوا صِغَارًا أَوْ غَائِبِينَ فَيُؤَخَّرُ الْقِصَاصُ حَتَّى يَكْبُرَ الصِّغَارُ وَيَقْدَمَ الْغَائِبُ.عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (قِصَاصٌ).
ج- وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ يُؤَخَّرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وُجُوبًا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَنَدْبًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَيُحْبَسُ فِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ وَلَا يُخَلَّى سَبِيلُهُ بِقَصْدِ اسْتِتَابَتِهِ وَإِزَالَةِ الشُّبَهِ الَّتِي عَلِقَتْ بِهِ، فَإِنْ تَابَ خُلِّيَ سَبِيلُهُ، وَإِلاَّ قُتِلَ حَدًّا لِكُفْرِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ.
د- وَيُؤَخَّرُ حَدُّ السَّكْرَانِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ السُّكْرُ تَحْصِيلًا لِلْمَقْصُودِ- وَهُوَ Cالِانْزِجَارُ- بِوِجْدَانِ الْأَلَمِ، وَالسَّكْرَانُ زَائِلُ الْعَقْلِ كَالْمَجْنُونِ.فَلَوْ حُدَّ قَبْلَ الْإِفَاقَةِ فَإِنَّ الْحَدَّ يُعَادُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ مُصَحَّحَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، نَسَبَهُ الْمِرْدَاوِيُّ إِلَى ابْنِ نَصْرِ اللَّهِ فِي حَوَاشِي الْفُرُوعِ، وَقَالَ: الصَّوَابُ إِنْ حَصَلَ بِهِ أَلَمٌ يُوجِبُ الزَّجْرَ سَقَطَ، وَإِلاَّ فَلَا، وَمِثْلُهُ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ.
تَأْخِيرُ إِقَامَةِ الدَّعْوَى:
30- إِذَا تَأَخَّرَ الْمُدَّعِي فِي إِقَامَةِ دَعْوَاهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً سَقَطَتْ دَعْوَاهُ بِالتَّقَادُمِ، وَمِنْ ثَمَّ فَلَا تُسْمَعُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لِنَهْيِ السُّلْطَانِ عَنْ سَمَاعِهَا بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ إِلاَّ فِي الْوَقْفِ وَالْإِرْثِ وَعِنْدَ وُجُودِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ، وَسَبَبُ هَذَا النَّهْيِ قَطْعُ الْحِيَلِ وَالتَّزْوِيرِ فِي الدَّعَاوَى.ثُمَّ قَالَ: وَنُقِلَ فِي الْحَامِدِيَّةِ فَتَاوَى مِنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ بِعَدَمِ سَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ نَهْيِ السُّلْطَانِ.
وَأَفْتَى فِي الْخَيْرِيَّةِ بِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ السُّلْطَانُ لَا بُدَّ مِنْ تَجْدِيدِ النَّهْيِ، وَلَا يَسْتَمِرُّ النَّهْيُ بَعْدَهُ.
تَأْخِيرُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ:
31- تَأْخِيرُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ بِلَا عُذْرٍ- كَمَرَضٍ أَوْ بُعْدِ مَسَافَةٍ أَوْ خَوْفٍ- يُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ قَبُولِهَا لِتُهْمَةِ الشَّاهِدِ إِلاَّ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، فَإِنَّ التَّقَادُمَ فِيهِ لَا يُؤَثِّرُ عَلَى قَبُولِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ، وَكَذَلِكَ يَضْمَنُ السَّارِقُ الْمَالَ الْمَسْرُوقَ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَلَا يَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ.
وَيَسْقُطُ حَدُّ الْخَمْرِ لِتَأْخِيرِ الشَّهَادَةِ شَهْرًا عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَتَأْخِيرُ الشَّهَادَةِ فِي الْقِصَاصِ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَالضَّابِطُ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: أَنَّ التَّقَادُمَ مَانِعٌ فِي حُقُوقِ اللَّهِ، غَيْرُ مَانِعٍ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ يُنْظَرُ فِي بَابِ (الشَّهَادَةُ) وَمُصْطَلَحِ (تَقَادُمٌ).
تَأْخِيرُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ:
32- مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَقِفَ الرِّجَالُ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَيَقِفَ بَعْدَ الرِّجَالِ الصِّبْيَانُ، وَيُنْدَبُ تَأَخُّرُ النِّسَاءِ خَلْفَ الْجَمِيعِ.لِقَوْلِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ: «إِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى وَأَقَامَ الرِّجَالَ يَلُونَهُ، وَأَقَامَ الصِّبْيَانَ خَلْفَ ذَلِكَ، وَأَقَامَ النِّسَاءَ خَلْفَ ذَلِكَ».
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
8-موسوعة الفقه الكويتية (تزاحم)
تَزَاحُمٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّزَاحُمُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ تَزَاحَمَ، يُقَالُ: تَزَاحَمَ الْقَوْمُ: إِذَا زَحَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَيْ تَضَايَقُوا فِي الْمَجْلِسِ، أَوْ تَدَافَعُوا فِي الْمَكَانِ الضَّيِّقِ.
وَالِاصْطِلَاحُ الشَّرْعِيُّ لَا يَخْتَلِفُ عَنْ هَذَا.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2- تَحْرُمُ الْمُزَاحَمَةُ إِنْ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا أَذًى لِأَحَدٍ، كَمُزَاحَمَةِ الْأَقْوِيَاءِ لِلضُّعَفَاءِ عِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، أَوْ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا أَمْرٌ مَحْظُورٌ شَرْعًا، كَمُزَاحَمَةِ الْمَرْأَةِ لِلرِّجَالِ فِي الطَّوَافِ وَعِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ.
وَقَدْ وَرَدَ التَّزَاحُمُ فِي أُمُورٍ مِنْهَا:
أَوَّلًا: زَحْمُ الْمَأْمُومِ:
3- إِذَا زُحِمَ الْمَأْمُومُ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ السُّجُودُ عَلَى الْأَرْضِ مُتَابَعَةً لِلْإِمَامِ، وَقَدَرَ عَلَى السُّجُودِ عَلَى ظَهْرِ إِنْسَانٍ أَوْ دَابَّةٍ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ السُّجُودُ عَلَى ذَلِكَ؟ اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَئِمَّةُ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى مَا يُمْكِنُهُ السُّجُودُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى ظَهْرِ إِنْسَانٍ أَوْ قَدَمِهِ؛ لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الْمُتَابَعَةِ، وَلِخَبَرِ «إِذَا اشْتَدَّ الزِّحَامُ فَلْيَسْجُدْ أَحَدُكُمْ عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ» فَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ فَمُتَخَلِّفٌ عَنِ الْمُتَابَعَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورِينَ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يَجُوزُ السُّجُودُ عَلَى ظَهْرِ الْإِنْسَانِ، فَإِنْ سَجَدَ أَعَادَ الصَّلَاةَ.وَيَسْتَدِلُّونَ لِذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَكِّنْ جَبْهَتَكَ مِنَ الْأَرْضِ» وَلَا يَحْصُلُ التَّمْكِينُ مِنَ الْأَرْضِ فِي حَالَةِ السُّجُودِ عَلَى ظَهْرِ إِنْسَانٍ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ السُّجُودِ مُطْلَقًا، فَهَلْ يَخْرُجُ عَنِ الْمُتَابَعَةِ أَوْ يَنْتَظِرُ؟
فِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ) (وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ).
ثَانِيًا: التَّزَاحُمُ فِي الطَّوَافِ:
4- إِذَا مَنَعَتِ الزَّحْمَةُ الطَّائِفَ مِنْ تَقْبِيلِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ أَوِ اسْتِلَامِهِ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
لِمَا رُوِيَ «عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ: - رضي الله عنه- يَا عُمَرُ إِنَّك رَجُلٌ قَوِيٌّ، لَا تُؤْذِ الضَّعِيفَ، إِذَا أَرَدْتَ اسْتِلَامَ الْحَجَرِ، فَإِنْ خَلَا لَكَ فَاسْتَلِمْهُ، وَإِلاَّ فَاسْتَقْبِلْهُ وَكَبِّرْ»،،.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (إِشَارَةٌ وَطَوَافٌ).
ثَالِثًا: تَزَاحُمُ الْغُرَمَاءِ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ:
5- إِذَا أَقَرَّ الْمَدِينُ الْمُفْلِسُ- بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ- بِدَيْنٍ قَدْ لَزِمَهُ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، فَهَلْ يُقْبَلُ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ الَّذِينَ حُجِرَ عَلَيْهِ لِحَقِّهِمْ وَيُزَاحِمُهُمُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْمَالِ، أَمْ يَبْقَى الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ؛ لِئَلاَّ يَتَضَرَّرَ الْغُرَمَاءُ بِالْمُزَاحَمَةِ؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ، إِنْ أَقَرَّ فِي حَالِ الْحَجْرِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَقَّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْأَوَّلِينَ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ.
وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُقْبَلُ أَيْضًا فِي حَقِّهِمْ وَيُزَاحِمُهُمْ فِي الْمَالِ، كَإِقْرَارِ الْمَرِيضِ فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ يُزَاحِمُ غُرَمَاءَ دَيْنِ الصِّحَّةِ.
هَذَا إِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ لَزِمَ الدَّيْنُ قَبْلَ الْحَجْرِ.أَمَّا إِذَا لَزِمَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ فَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (تَفْلِيسٌ).
تَزَاحُمُ الْوَصَايَا:
6- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَزَاحَمَتِ الْوَصَايَا نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا لِلَّهِ تَعَالَى: فَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا فَرَائِضٌ كَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ، أَوْ كَانَتْ كُلُّهَا وَاجِبَاتٍ كَالْكَفَّارَاتِ وَالنَّذْرِ، وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، أَوْ كَانَتْ كُلُّهَا تَطَوُّعَاتٍ: كَحَجِّ التَّطَوُّعِ وَالصَّدَقَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ يُبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمُوصِي.وَإِنْ جَمَعَتْ مَا ذُكِرَ كَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنَّذْرِ وَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَيُبْدَأُ بِالْفَرْضِ، ثُمَّ بِالْوَاجِبِ، ثُمَّ بِالتَّطَوُّعِ أَمَّا إِذَا جَمَعَتْ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعِبَادِ فَإِنَّهُ يُقْسَمُ الثُّلُثُ عَلَى جَمِيعِهَا؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ كُلَّهَا لِلَّهِ فِي وَاقِعِ الْأَمْرِ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مَقْصُودَةٌ فِي نَفْسِهَا فَتَنْفَرِدُ.
فَلَوْ قَالَ: ثُلُثُ مَالِي فِي الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَلِزَيْدٍ وَالْكَفَّارَاتِ.قُسِمَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ، وَلَا يُقَدَّمُ الْفَرْضُ عَلَى حَقِّ الْآدَمِيِّ لِحَاجَتِهِ.
هَذَا إِذَا كَانَ الْآدَمِيُّ مُعَيَّنًا، أَمَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَلَا يُقْسَمُ بَلْ يُقَدَّمُ الْأَقْوَى فَالْأَقْوَى؛ لِأَنَّ الْكُلَّ يَبْقَى حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُسْتَحِقٌّ مُعَيَّنٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يُقَدَّمُ الْوَاجِبُ عَلَى غَيْرِ الْوَاجِبِ سَوَاءٌ كَانَ تَطَوُّعًا لِلَّهِ أَوْ لآِدَمِيٍّ.بَلْ تَتَزَاحَمُ الْوَصَايَا فَيُوَزَّعُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، ثُمَّ يُكَمَّلُ الْوَاجِبُ مِنْ صُلْبِ الْمَالِ، إِنْ لَمْ يَفِ الثُّلُثُ، وَبِهَذَا قَالَ: أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ أَوْصَى بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ مِنَ الثُّلُثِ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ وَصِيَّةٌ غَيْرَ هَذِهِ لَمْ تُفِدِ الْوَصِيَّةُ شَيْئًا وَيُؤَدِّي مِنْ مَالِهِ كُلِّهِ كَمَا لَوْ لَمْ يُوصِ.وَإِنْ أَوْصَى لِجِهَةٍ أُخْرَى قُدِّمَ الْوَاجِبُ، وَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ الْوَاجِبِ فَهُوَ لِلتَّبَرُّعِ. (ر: الْوَصِيَّةُ).
7- وَإِنْ أَوْصَى بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ لِشَخْصٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لآِخَرَ، فَالْمُوصَى بِهِ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِهِ أَوَّلًا وَالْمُوصَى لَهُ بِهِ ثَانِيًا؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى السَّوَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكَا كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْوَصِيَّةِ.
وَإِنْ أَوْصَى لِشَخْصٍ بِثُلُثِ مَالِهِ ثُمَّ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لآِخَرَ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا إِنْ لَمْ يُجِزِ الْوَرَثَةُ الثُّلُثَيْنِ، وَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَهُ؛ لِتَغَايُرِهِمَا.وَكَذَا إِنْ أَوْصَى بِكُلِّ مَالِهِ لِشَخْصٍ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لآِخَرَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا لِلتَّزَاحُمِ.
وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَكُلُّ الْمَالِ لِلْآخَرِ، وَكَذَا إِنْ تَأَخَّرَ مَوْتُهُمَا عَنْ مَوْتِ الْمُوصِي وَرَدَّ أَحَدُهُمَا الْوَصِيَّةَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي لِأَنَّهُ اشْتِرَاكُ تَزَاحُمٍ، وَقَدْ زَالَ بِمَوْتِ الْمُزَاحِمِ وَرَدِّهِ.
هَذَا إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِ الْمُوصِي عَنِ الْوَصِيَّةِ، فَإِنْ وُجِدَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ عَنِ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى، كَأَنْ يَقُولَ: أَوْصَيْتُ لِفُلَانٍ بِمَا أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلَانٍ، فَهُوَ رُجُوعٌ عَنِ الْوَصِيَّةِ لِظُهُورِهِ فِيهِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَصِيَّةٌ).
خَامِسًا: الْقَتْلُ بِالزِّحَامِ:
8- ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَزَاحَمَ قَوْمٌ عَلَى بِئْرٍ، أَوْ بَابِ الْكَعْبَةِ، أَوْ فِي الطَّوَافِ، أَوْ فِي مَضِيقٍ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا عَلَى قَتِيلٍ لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ لَا يَكُونُ ذَلِكَ لَوْثًا، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهما-.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي دِيَتِهِ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ دِيَتَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قُتِلَ رَجُلٌ فِي زِحَامِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ، فَجَاءَ أَهْلُهُ لِعُمَرِ فَقَالَ: بَيِّنَتُكُمْ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ.فَقَالَ عَلِيٌّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: لَا يُطَلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، إِنْ عَلِمْتَ قَاتِلَهُ، وَإِلاَّ فَأَعْطِ دِيَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: دَمُهُ هَدَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ لَهُ قَاتِلٌ، وَلَا وُجِدَ لَوْثٌ فَيُحْكَمَ بِالْقَسَامَةِ، لِأَنَّ أَسْبَابَ الْقَسَامَةِ عِنْدَهُمْ خَمْسَةٌ.وَلَيْسَ فِيهَا التَّفَرُّقُ فِي الزِّحَامِ عَنْ قَتِيلٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ لَوْثًا، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ.وَقَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ فِيمَنْ مَاتَ فِي الزِّحَامِ: دِيَتُهُ عَلَى مَنْ حَضَرَ لِأَنَّ قَتْلَهُ حَصَلَ مِنْهُمْ، وَكَذَا لَوْ تَزَاحَمَ قَوْمٌ لَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْقَتْلِ فِي مَضِيقٍ، وَتَفَرَّقُوا عَنْ قَتِيلٍ، فَادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَى عَدَدٍ مِنْهُمْ يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ فَيُقْبَلُ، وَيُمَكَّنُ مِنَ الْقَسَامَةِ. مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
9- يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ التَّزَاحُمَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ: فِي حَالِ تَعَذُّرِ مُتَابَعَةِ الْمَأْمُومِ لِلْإِمَامِ فِي انْتِقَالَاتِهِ لِلزَّحْمَةِ.
وَفِي بَابِ التَّفْلِيسِ: إِذَا ظَهَرَ دَيْنٌ بَعْدَ حَجْرِ الْمُفْلِسِ لِلْغُرَمَاءِ أَوْ طَرَأَ الْتِزَامٌ مَالِيٌّ جَدِيدٌ.
وَفِي الطَّوَافِ: إِذَا عَسُرَ عَلَيْهِ اسْتِلَامُ الْحَجَرِ أَوْ تَقْبِيلُهُ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
9-موسوعة الفقه الكويتية (تشوف)
تَشَوُّفٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّشَوُّفُ لُغَةً: مَصْدَرُ تَشَوَّفَ.يُقَالُ: تَشَوَّفَتِ الْأَوْعَالُ: إِذَا عَلَتْ رُءُوسَ الْجِبَالِ تَنْظُرُ السَّهْلَ وَخُلُوَّهُ مِمَّا تَخَافُهُ لِتَرِدَ الْمَاءَ.وَمِنْهُ قِيلَ تَشَوَّفَ فُلَانٌ لِكَذَا: إِذَا طَمَحَ بَصَرُهُ إِلَيْهِ.ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي تَعَلُّقِ الْآمَالِ، وَالتَّطَلُّبِ.
وَالْمُشَوِّفَةُ مِنَ النِّسَاءِ: الَّتِي تُظْهِرُ نَفْسَهَا لِيَرَاهَا النَّاسُ.
وَتَشَوَّفَتِ الْمَرْأَةُ: تَزَيَّنَتْ وَتَطَلَّعَتْ لِلْخِطَابِ- مِنْ شفتُ الدِّرْهَمَ: إِذَا جَلَوْتَهُ.
وَدِينَارٌ مُشَوَّفٌ: أَيْ مَجْلُوٌّ- وَهُوَ أَنْ تَجْلُوَ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا وَتَصْقُلَ خَدَّيْهَا.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لِلَفْظِ تَشَوُّفٍ عَنْ مَعَانِيهِ الْوَارِدَةِ فِي اللُّغَةِ.
وَقِيلَ: التَّشَوُّفُ بِمَعْنَى التَّزَيُّنِ خَاصٌّ بِالْوَجْهِ، وَالتَّزَيُّنُ عَامٌّ يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَجْهِ وَغَيْرِهِ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
أ- تَشَوُّفُ الشَّارِعِ لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ:
2- مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ: أَنَّ الشَّارِعَ مُتَشَوِّفٌ لِلَحَاقِ النَّسَبِ، لِأَنَّ النَّسَبَ أَقْوَى الدَّعَائِمِ الَّتِي تَقُومُ عَلَيْهَا الْأُسْرَةُ، وَيَرْتَبِطُ بِهِ أَفْرَادُهَا، قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}.
وَلِاعْتِنَاءِ الشَّرِيعَةِ بِحِفْظِ النَّسَبِ وَتَشَوُّفِهَا لِإِثْبَاتِهِ تَكَرَّرَ فِيهَا الْأَمْرُ بِحِفْظِهِ عَنْ تَطَرُّقِ الشَّكِّ إِلَيْهِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ ذَرَائِعِ التَّهَاوُنِ بِهِ.
وَلِمُرَاعَاةِ هَذَا الْمَقْصِدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ النَّادِرَةِ فِي إِلْحَاقِ النَّسَبِ، لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ لِإِثْبَاتِهِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: نَسَبٌ).
ب- التَّشَوُّفُ إِلَى الْعِتْقِ:
3- مِنْ مَحَاسِنِ الْإِعْتَاقِ أَنَّهُ إِحْيَاءٌ حُكْمِيٌّ، يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنْ كَوْنِهِ مُلْحَقًا بِالْجَمَادَاتِ إِلَى كَوْنِهِ أَهْلًا لِلْكَرَامَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالْوِلَايَةِ وَالْقَضَاءِ.وَيَقَعُ الْعِتْقُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ كُلِّ: مُكَلَّفٍ مُسْلِمٍ- وَلَوْ سَكْرَانَ أَوْ هَازِلًا وَلَوْ دُونَ نِيَّةٍ- لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إِلَى الْحُرِّيَّةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ تَصَرُّفٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَيَجِبُ لِعَارِضٍ، وَيَحْصُلُ بِهِ الْقُرْبَةُ لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وَقَوْلُه عز وجلُ {فَكُّ رَقَبَةٍ}.
وَلِخَبَرِ «أَيُّمَا مُسْلِمٍ أَعْتَقَ مُؤْمِنًا أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ» (ر: عِتْقٌ، إِعْتَاقٌ).
ج- التَّشَوُّفُ فِي الْعِدَّةِ:
4- الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ لَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ؛ لِأَنَّهَا حَلَالٌ لِلزَّوْجِ، لِقِيَامِ نِكَاحِهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَالرَّجْعَةُ مُسْتَحَبَّةٌ، وَالتَّزَيُّنُ حَامِلٌ عَلَيْهَا فَيَكُونُ مَشْرُوعًا.وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَيَرَوْنَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهَا الْإِحْدَادُ.فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهَا التَّزَيُّنُ.وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْأَوْلَى أَنْ تَتَزَيَّنَ بِمَا يَدْعُو الزَّوْجَ إِلَى رَجْعَتِهَا. (ر: عِدَّةٌ)
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْرِيمِ الزِّينَةِ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مُدَّةَ عِدَّتِهَا؛ لِوُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا الْمُبَانَةُ فِي الْحَيَاةِ بَيْنُونَةً كُبْرَى، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى أَقْوَالٍ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهَا الزِّينَةُ، حِدَادًا وَأَسَفًا عَلَى زَوْجِهَا، وَإِظْهَارًا لِلتَّأَسُّفِ عَلَى فَوْتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ، الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِصَوْنِهَا وَكِفَايَةِ مَئُونَتِهَا، وَلِحُرْمَةِ النَّظَرِ إِلَيْهَا، وَعَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الرَّجْعَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ لَهَا الْإِحْدَادُ.وَفِي قَوْلٍ: الْإِحْدَادُ وَاجِبٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: لَا إِحْدَادَ إِلاَّ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَقَطْ.وَمُفَادُهُ: لَا إِحْدَادَ عَلَى الْمُبَانَةِ وَإِنِ اسْتُحِبَّ لَهَا فِي عِدَّتِهَا.
وَلَا يُسَنُّ لَهَا الْإِحْدَادُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهَا أَنْ تَتَجَنَّبَ مَا يُرَغِّبُ فِي النَّظَرِ إِلَيْهَا مِنَ الزِّينَةِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: عِدَّةٌ).
د- التَّشَوُّفُ لِلْخِطَابِ:
5- يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلَّتِي تَكُونُ صَالِحَةً لِلْخُطْبَةِ وَالزَّوَاجِ أَنْ تَتَزَيَّنَ اسْتِعْدَادًا لِرُؤْيَةِ مَنْ يَرْغَبُ فِي خِطْبَتِهَا وَالزَّوَاجِ بِهَا.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْخَاطِبِ أَنْ يَرَى بِنَفْسِهِ مَنْ يَرْغَبُ فِي زَوَاجِهَا لِكَيْ يَقْدَمَ عَلَى الْعَقْدِ إِنْ أَعْجَبَتْهُ، وَيَحْجُمَ عَنْهُ إِنْ لَمْ تُعْجِبْهُ، لِخَبَرِ «إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ» وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ وَالْوِئَامِ.
«وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ خَطَبَ امْرَأَةً، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: أَنَظَرْتَ إِلَيْهَا؟ قَالَ: لَا.فَقَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا».
وَيَرَى أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ لِلْخَاطِبِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ فَقَطْ، لِأَنَّ رُؤْيَتَهُمَا تُحَقِّقُ الْمَطْلُوبَ مِنَ الْجَمَالِ وَخُصُوبَةِ الْجَسَدِ وَعَدَمِهَا.فَيَدُلُّ الْوَجْهُ عَلَى الْجَمَالِ أَوْ ضِدُّهُ لِأَنَّهُ مَجْمَعُ الْمَحَاسِنِ، وَالْكَفَّانِ عَلَى خُصُوبَةِ الْبَدَنِ.
وَأَجَازَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ النَّظَرَ إِلَى الرَّقَبَةِ وَالْقَدَمَيْنِ.وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ النَّظَرَ إِلَى مَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْقِيَامِ بِالْأَعْمَالِ، وَهِيَ سِتَّةُ أَعْضَاءٍ: الْوَجْهُ، وَالرَّأْسُ، وَالرَّقَبَةُ، وَالْيَدُ، وَالْقَدَمُ، وَالسَّاقُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى ذَلِكَ، وَلِإِطْلَاقِ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: نِكَاحٌ، خِطْبَةٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
10-موسوعة الفقه الكويتية (تعميم)
تَعْمِيمٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّعْمِيمُ لُغَةً: جَعْلُ الشَّيْءِ عَامًّا أَيْ شَامِلًا، يُقَالُ: عَمَّ الْمَطَرُ الْأَرْضَ: إِذَا شَمِلَهَا.وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنَ الِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
التَّعْمِيمُ يَكُونُ فِي أُمُورٍ مِنْهَا:
أ- الْوُضُوءُ:
2- الْقَاعِدَةُ أَنَّ كُلَّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْجِسْمِ يَجِبُ غَسْلُهُ فِي الْوُضُوءِ يَجِبُ تَعْمِيمُهُ بِالْمَاءِ، إِلاَّ فِي حَالَةِ التَّعَذُّرِ وَالضَّرُورَةِ
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ- مَا عَدَا الزُّهْرِيَّ- عَلَى أَنَّ الْأُذُنَيْنِ لَيْسَتَا مِنَ الْوَجْهِ، فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُمَا بِالْمَاءِ فِي الْوُضُوءِ.
وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ الْأَئِمَّةَ الثَّلَاثَةَ فِي دَاخِلِ الْفَمِ وَالْأَنْفِ، وَقَالُوا: إِنَّهُمَا مِنَ الْوَجْهِ، فَيُفْتَرَضُ غَسْلُهُمَا أَيْ: بِالْمَضْمَضَةِ لِلْفَمِ وَالِاسْتِنْشَاقِ لِلْأَنْفِ.وَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ: غَسْلُ ظَاهِرِ الْأَنْفِ.
3- وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى وُجُوبِ تَعْمِيمِ الْيَدَيْنِ وَالْمِرْفَقَيْنِ بِالْمَاءِ، وَقَالُوا: إِذَا لَصِقَ بِالْيَدَيْنِ، أَوْ بِأَصْلِ الظُّفُرِ طِينٌ أَوْ عَجِينٌ، يَجِبُ إِزَالَتُهُ وَإِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى أَصْلِ الظُّفُرِ، وَإِلاَّ بَطَلَ وُضُوءُهُ.وَيَجِبُ غَسْلُ تَكَامِيشِ (تَجَاعِيدِ) الْأَنَامِلِ لِيَعُمَّهَا الْمَاءُ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْحَنَفِيَّةِ يَرَى ضَرُورَةَ غَسْلِ الْأَوْسَاخِ اللاَّصِقَةِ بِبَاطِنِ الظُّفُرِ الطَّوِيلِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ بَطَلَ وُضُوءُهُ.وَاغْتَفَرُوا لِلْخَبَّازِ الَّذِي تَطُولُ أَظْفَارُهُ، فَيَبْقَى تَحْتَهَا شَيْءٌ مِنَ الْعَجِينِ لِضَرُورَةِ الْمِهْنَةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ وَسَخَ الْأَظْفَارِ يُعْفَى عَنْهُ إِلاَّ إِذَا تَفَاحَشَ وَكَثُرَ، فَيَجِبُ إِزَالَتُهُ لِيَصِلَ الْمَاءُ إِلَى مَا تَحْتَ الظُّفُرِ.أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ الْأَوْسَاخَ الَّتِي تَحْتَ الْأَظْفَارِ إِنْ مَنَعَتْ مِنْ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى الْجِلْدِ الْمُحَاذِي لَهَا مِنَ الْأُصْبُعِ، فَإِنَّ إِزَالَتَهَا وَاجِبَةٌ لِيَعُمَّ الْمَاءُ الْجِلْدَ، وَلَكِنْ يُعْفَى عَنِ الْعُمَّالِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي الطِّينِ وَنَحْوِهِ، بِشَرْطِ أَلاَّ يَكُونَ كَثِيرًا يُلَوِّثُ رَأْسَ الْأُصْبُعِ.
ب- الْغُسْلُ:
4- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَعْمِيمَ الْجَسَدِ كُلِّهِ بِالْمَاءِ فَرْضٌ فِي الْغُسْلِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَرْكَانِ الْغُسْلِ: تَعْمِيمَ الْجَسَدِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي دَاخِلِ الْفَمِ وَالْأَنْفِ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ مِنَ الْبَدَنِ، فَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ فَرْضٌ عِنْدَهُمَا فِي الْغُسْلِ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْفَرْضَ هُوَ غَسْلُ الظَّاهِرِ فَقَطْ، فَلَا تَجِبُ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ فِي الْغُسْلِ.وَيَجِبُ تَعْمِيمُ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ وَإِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى مَنَابِتِ شَعْرِهِ وَإِنْ كَثُفَ.وَيَجِبُ نَقْضُ ضَفَائِرَ لَا يَصِلُ الْمَاءُ إِلَى بَاطِنِهَا إِلاَّ بِالنَّقْضِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: يُسْتَثْنَى مِنْ وُجُوبِ غَسْلِ الرَّأْسِ فِي الْغُسْلِ الْعَرُوسُ إِذَا كَانَ شَعْرُهَا مُزَيَّنًا، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا غَسْلُهُ، بَلْ يَكْفِيهَا الْمَسْحُ، قَالُوا: لِمَا فِي الْغُسْلِ مِنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ.كَمَا يَجِبُ غَسْلُ مَا ظَهَرَ مِنْ صِمَاخَيِ الْأُذُنَيْنِ، وَمَا يَبْدُو مِنْ شُقُوقِ الْبَدَنِ الَّتِي لَا غَوْرَ لَهَا.وَاتَّفَقُوا عَلَى ضَرُورَةِ إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى مَا يُمْكِنُ إِيصَالُهُ إِلَيْهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ، وَلَوْ كَانَتْ غَائِرَةً، كَعُمْقِ السُّرَّةِ وَمَحَلِّ الْعَمَلِيَّاتِ الْجِرَاحِيَّةِ الَّتِي لَهَا أَثَرٌ غَائِرٌ.وَلَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ اعْتَبَرُوا شُعَبَ الْأُذُنِ يَدْخُلُ فِيهِ الْقُرْطُ مِنَ الْبَاطِنِ، لَا مِنَ الظَّاهِرِ، فَلَا يَلْزَمُ إِدْخَالُ الْمَاءِ إِلَيْهِ وَلَوْ أَمْكَنَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى إِزَالَةِ كُلِّ حَائِلٍ يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَهُ، كَعَجِينٍ وَعُمَاصٍ فِي الْعَيْنِ لِيَحْصُلَ التَّعْمِيمُ.
ج- التَّيَمُّمُ:
5- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْمِيمِ أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ بِالْمَسْحِ فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ تَعْمِيمُ الْمَسْحِ عَلَى الْوَجْهِ وَيَدْخُلُ فِيهِ اللِّحْيَةُ وَلَوْ طَالَتْ، لِأَنَّهَا مِنَ الْوَجْهِ، لِمُشَارَكَتِهَا فِي حُصُولِ الْمُوَاجَهَةِ.وَالْمُعْتَبَرُ تَوْصِيلُ التُّرَابِ إِلَى جَمِيعِ الْبَشَرَةِ الظَّاهِرَةِ مِنَ الْوَجْهِ، وَإِلَى مَا ظَهَرَ مِنَ الشَّعْرِ.وَلَا يَجِبُ إِيصَالُ التُّرَابِ إِلَى مَا تَحْتَ الْحَاجِبَيْنِ وَالشَّارِبِ وَالْعِذَارَيْنِ وَالْعَنْفَقَةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَصَفَ التَّيَمُّمَ، وَاقْتَصَرَ عَلَى ضَرْبَتَيْنِ، وَمَسَحَ وَجْهَهُ بِإِحْدَاهُمَا، وَمَسَحَ إِحْدَى الْيَدَيْنِ بِالْأُخْرَى وَبِذَلِكَ لَا يَصِلُ التُّرَابُ إِلَى بَاطِنِ هَذِهِ الشُّعُورِ لِلْمَشَقَّةِ فِي إِيصَالِهِ فَسَقَطَ وُجُوبُهُ، وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ تَعْمِيمُ الْمَسْحِ لَا التُّرَابِ.وَيَجِبُ تَعْمِيمُ مَسْحِ يَدَيْهِ وَكُوعَيْهِ مَعَ تَخْلِيلِ أَصَابِعِهِ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.وَيَلْزَمُ نَزْعُ الْخَاتَمِ- وَلَوْ مَأْذُونًا فِيهِ أَوْ وَاسِعًا- وَإِلاَّ كَانَ حَائِلًا، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. (ر: تَيَمُّمٌ).
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تَعْمِيمُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِالْمَسْحِ فِي التَّيَمُّمِ شَرْطٌ لَا رُكْنٌ.فَإِنْ كَانَ الْمَسْحُ بِيَدِهِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَمْسَحَ بِجَمِيعِ يَدِهِ أَوْ أَكْثَرِهَا، وَالْمَفْرُوضُ الْمَسْحُ بِالْيَدِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا، وَيَجِبُ مَسْحُ الشَّعْرِ الَّذِي يَجِبُ غَسْلُهُ فِي الْوُضُوءِ، وَهُوَ الْمُحَاذِي لِلْبَشَرَةِ، فَلَا يَجِبُ مَسْحُ مَا طَالَ مِنَ اللِّحْيَةِ وَقَالُوا: إنَّ تَحْرِيكَ الْخَاتَمِ الضَّيِّقِ وَالسِّوَارِ يَكْفِي فِي التَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيكَ مَسْحٌ لِمَا تَحْتَهُ، وَالْمَفْرُوضُ هُوَ الْمَسْحُ لَا وُصُولُ الْغُبَارِ.
د- الدُّعَاءُ:
6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّعْمِيمَ فِي الدُّعَاءِ مِنَ السُّنَّةِ لقوله تعالى {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وَلِخَبَرِ «مَا مِنْ دُعَاءٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ رَحْمَةً عَامَّةً» وَلِحَدِيثِ «الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا فَقَالَ: لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا».
تَعْمِيمُ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فِي الزَّكَاةِ:
7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ تَعْمِيمِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فِي الزَّكَاةِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (الزَّكَاةُ).
تَعْمِيمُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلَائِمِ:
8- اخْتُلِفَ فِي حُكْمِ الدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى (الْجَفْلَى) فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ إِجَابَتِهَا، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ إِجَابَتِهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (دَعْوَةٌ)
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
11-موسوعة الفقه الكويتية (جائزة)
جَائِزَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْجَائِزَةُ: الْعَطِيَّةُ إِذَا كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ يُقَالُ: أَجَازَهُ أَيْ: أَعْطَاهُ جَائِزَةً.وَالْجَمْعُ جَوَائِزُ.وَقَرِيبٌ مِنْهَا التُّحْفَةُ فَهِيَ مَا أَتْحَفْتَهُ غَيْرَكَ مِنَ الْبِرِّ.قَالَ صَاحِبُ اللِّسَانِ:
«وَأَصْلُهَا أَنَّ أَمِيرًا وَاقَفَ عَدُوًّا وَبَيْنَهُمَا نَهْرٌ فَقَالَ:
مَنْ جَازَ هَذَا النَّهْرَ فَلَهُ كَذَا، فَكُلَّمَا جَازَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ أَخَذَ جَائِزَةً وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي قَوْلِهِمْ: أَجَازَ السُّلْطَانُ فُلَانًا بِجَائِزَةٍ: أَصْلُ الْجَائِزَةِ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مَاءً وَيُجِيزَهُ لِيَذْهَبَ لِوَجْهِهِ فَيَقُولَ الرَّجُلُ إِذَا وَرَدَ مَاءً لِقَيِّمِ الْمَاءِ: أَجِزْنِي مَاءً، أَيْ: أَعْطِنِي مَاءً حَتَّى أَذْهَبَ لِوَجْهِي وَأَجُوزَ عَنْكَ، ثُمَّ كَثُرَ هَذَا حَتَّى سَمَّوُا الْعَطِيَّةَ جَائِزَةً.وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْجِيزَةُ مِنَ الْمَاءِ مِقْدَارُ مَا يَجُوزُ بِهِ الْمُسَافِرُ مِنْ مَنْهَلٍ إِلَى مَنْهَلٍ، يُقَالُ: اسْقِنِي جِيزَةً وَجَائِزَةً وَجَوْزَةً: وَفِي الْحَدِيثِ: «الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَجَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَمَا زَادَ فَهُوَ صَدَقَةٌ» أَيْ: يُضَافُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَيَتَكَلَّفُ لَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ بِمَا اتَّسَعَ لَهُ مِنْ بِرٍّ وَإِلْطَافٍ، وَيُقَدِّمُ لَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مَا حَضَرَهُ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى عَادَتِهِ، ثُمَّ يُعْطِيهِ مَا يَجُوزُ بِهِ مَسَافَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَهِيَ قَدْرُ مَا يَجُوزُ بِهِ الْمُسَافِرُ مِنْ مَنْهَلٍ إِلَى مَنْهَلٍ، فَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ وَمَعْرُوفٌ، إِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ...وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَجَازَهُ بِجَائِزَةٍ سَنِيَّةٍ أَيْ بِعَطَاءٍ...وَفِي الْحَدِيثِ: «أَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ» أَيْ: أَعْطُوهُمُ الْجِيزَةَ (أَيْ الْجَائِزَةَ) وَمِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ- رضي الله عنه-: «أَلَا أَمْنَحُكَ أَلَا أُجِيزُكَ» أَيْ أُعْطِيكَ، وَالْأَصْلُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُلِّ عَطَاءٍ».
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْمُكَافَأَةُ
2- هِيَ مَصْدَرُ كَافَأَ، يُقَالُ: كَافَأَهُ عَلَى الشَّيْءِ مُكَافَأَةً وَكِفَاءً أَيْ جَازَاهُ، وَكَافَأَ فُلَانٌ فُلَانًا: مَاثَلَهُ.
وَاصْطِلَاحًا عَرَّفَ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ الْمُكَافَأَةَ بِأَنَّهَا: الْمُسَاوَاةُ وَالْمُقَابَلَةُ فِي الْفِعْلِ، أَوْ مُقَابَلَةُ نِعْمَةٍ بِنِعْمَةٍ هِيَ كُفْؤُهَا.
وَعَرَّفَهَا الْجُرْجَانِيُّ بِأَنَّهَا: مُقَابَلَةُ الْإِحْسَانِ بِمِثْلِهِ أَوْ زِيَادَةٍ.
فَالْجَائِزَةُ تَكُونُ بِلَا مُقَابِلٍ، أَمَّا الْمُكَافَأَةُ فَتَكُونُ بِمُقَابِلٍ وَتَكُونُ مُمَاثِلَةً عَلَى الْأَقَلِّ.
ب- الْأَجْرُ:
3- مِنْ مَعَانِي الْأَجْرِ: الْجَزَاءُ عَلَى الْعَمَلِ، وَالثَّوَابُ، وَالذِّكْرُ الْحَسَنُ، وَالْمَهْرُ.وَالْأَجْرُ قَدْ يَكُونُ دُنْيَوِيًّا أَوْ أُخْرَوِيًّا، وَيُقَالُ فِيمَا كَانَ عَنْ عَقْدٍ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الْعَقْدِ، وَلَا يُقَالُ إِلاَّ فِي النَّفْعِ دُونَ الضَّرِّ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَائِزَةِ وَالْأَجْرِ، أَنَّ الْجَائِزَةَ بِلَا مُقَابِلٍ وَلَا تَعَاقُدٍ وَلَا عِلْمَ بِهَا، أَمَّا الْأَجْرُ فَيُخَالِفُ فِي كُلِّ ذَلِكَ.
ج- الْجَزَاءُ:
4- هُوَ مَصْدَرُ جَزَى، يُقَالُ: جَزَى الشَّيْءُ يَجْزِي أَيْ كَفَى، وَجَزَى عَنْهُ أَيْ قَضَى، وَالْجَزَاءُ يَكُونُ مَنْفَعَةً أَوْ مَضَرَّةً أَيْ بِالْمُقَابَلَةِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وَيُقَالُ فِيمَا كَانَ عَنْ عَقْدٍ وَغَيْرِ عَقْدٍ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لَفْظُ جَزَى دُونَ جَازَى؛ لِأَنَّ الْمُجَازَاةَ هِيَ الْمُكَافَأَةُ أَيْ مُقَابَلَةُ نِعْمَةٍ بِنِعْمَةٍ هِيَ كُفْؤُهَا، وَنِعْمَةُ اللَّهِ لَا كُفْءَ لَهَا، وَلِهَذَا لَا يَسْتَعْمِلُ الْمُكَافَأَةَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْجَزَاءُ يَكُونُ بِمُقَابِلٍ وَيَكُونُ بِالْمَنْفَعَةِ أَوِ الْمَضَرَّةِ بِخِلَافِ الْجَائِزَةِ.
د- الْجُعْلُ:
5- الْجُعْلُ: لُغَةً مَا يُجْعَلُ لِلْعَامِلِ عَلَى عَمَلِهِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ
وَاصْطِلَاحًا: الْمَالُ الْمَعْلُومُ سُمِّيَ فِي الْجَعَالَةِ لِمَنْ يَعْمَلُ عَمَلًا مُبَاحًا وَلَوْ كَانَ مَجْهُولًا فِي الْقَدْرِ أَوْ الْمُدَّةِ أَوْ بِهِمَا فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَائِزَةِ أَنَّ الْجَائِزَةَ عَطِيَّةٌ بِلَا مُقَابِلٍ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6- الْأَصْلُ إِبَاحَةُ الْجَائِزَةِ عَلَى عَمَلٍ مَشْرُوعٍ سَوَاءٌ أَكَانَ دِينِيًّا أَوْ دُنْيَوِيًّا لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْحَثِّ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَالْإِعَانَةِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْهِبَةِ.
وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْجَائِزَةِ بِاخْتِلَافِ مَبْحَثِهَا الْفِقْهِيِّ.
وَهُنَاكَ مَوَاطِنُ لِلْجَائِزَةِ لَهَا حُكْمٌ خَاصٌّ مِنْهَا: جَائِزَةُ السُّلْطَانِ، وَالْجَائِزَةُ فِي السِّبَاقِ (السَّبَقِ).
أَوَّلًا: جَائِزَةُ السُّلْطَانِ:
7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُولِ جَائِزَةِ السُّلْطَانِ أَوْ هَدِيَّتِهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَبُولُ هَدِيَّةِ أُمَرَاءِ الْجَوْرِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي مَالِهِمُ الْحُرْمَةُ إِلاَّ إِذَا عَلِمَ أَنَّ أَكْثَرَ الْمَالِ حَلَالٌ، بِأَنْ كَانَ لِصَاحِبِهِ تِجَارَةٌ، أَوْ زَرْعٌ، فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَ النَّاسِ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ حَرَامٍ فَالْمُعْتَبَرُ الْغَالِبُ.
وَأَمَّا جَائِزَةُ السُّلْطَانِ الَّذِي لَمْ يُعْرَفْ بِالْجَوْرِ فَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: إِنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي أَخْذِهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يُعْطِيهِ مِنْ حَرَامٍ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: وَبِهِ نَأْخُذُ مَا لَمْ نَعْرِفْ شَيْئًا حَرَامًا بِعَيْنِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ- رحمه الله- (وَأَصْحَابِهِ.
وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَحْرُمُ الْأَكْلُ وَلَا الْمُعَامَلَةُ، وَلَا أَخْذُ الصَّدَقَةِ، وَالْهَدِيَّةِ، مِمَّنْ أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامٌ إِلاَّ مَا عُلِمَ حُرْمَتُهُ، وَلَا يَخْفَى الْوَرَعُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي جَائِزَةِ السُّلْطَانِ: أَكْرَهُهَا، وَكَانَ يَتَوَرَّعُ عَنْهَا، وَيَمْنَعُ بَنِيهِ وَعَمَّهُ مِنْ أَخْذِهَا، وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ بِمَا أَخَذُوهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ تَخْتَلِطُ بِمَا يَأْخُذُونَهُ مِنَ الْحَرَامِ مِنَ الظُّلْمِ وَغَيْرِهِ فَيَصِيرُ شُبْهَةً، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ» وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ».
وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِأَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ تَنَزَّهُوا عَنْ مَالِ السُّلْطَانِ، مِنْهُمْ: حُذَيْفَةُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، - رضي الله عنهما-.
وَلَمْ يَرَ أَحْمَدُ ذَلِكَ حَرَامًا، فَإِنَّهُ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ: مَالُ السُّلْطَانِ حَرَامٌ؟ فَقَالَ: لَا، وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُتَنَزَّهَ عَنْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ وَلَهُ فِي هَذِهِ الدَّرَاهِمِ حَقٌّ، فَكَيْفَ أَقُولُ إِنَّهَا سُحْتٌ؟
وَقَالَ أَحْمَدُ: جَوَائِزُ السُّلْطَانِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الصَّدَقَةِ، يَعْنِي أَنَّ الصَّدَقَةَ أَوْسَاخُ النَّاسِ صِينَ عَنْهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَآلُهُ لِدَنَاءَتِهَا وَلَمْ يُصَانُوا عَنْ جَوَائِزِ السُّلْطَانِ.
ثَانِيًا- جَائِزَةُ السَّبَقِ (الْجُعْلِ):
8- السَّبْقُ- بِسُكُونِ الْبَاءِ- مَصْدَرُ سَبَقَ، وَالسَّبَقُ- بِفَتْحِ الْبَاءِ- الْجُعْلُ أَيِ الْمَالُ الَّذِي يُوضَعُ بَيْنَ الْمُتَسَابِقِينَ لِيَأْخُذَهُ السَّابِقُ، أَيِ الْجَائِزَةُ.
وَيُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ بِالسَّبَقِ، أَوْ السِّبَاقِ، أَوْ الْمُسَابَقَةِ، وَيُرِيدُونَ مَا يَعُمُّ سِبَاقَ الْخَيْلِ أَوْ الْإِبِلِ وَالرَّمْيِ، لِقَوْلِ الْأَزْهَرِيِّ: النِّضَالُ فِي الرَّمْيِ، وَالرِّهَانُ فِي الْخَيْلِ، وَالسِّبَاقُ يَكُونُ فِي الْخَيْلِ وَالرَّمْيِ، كَمَا فِي قوله تعالى: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} قِيلَ: مَعْنَاهُ نَنْتَضِلُ بِالسِّهَامِ.
وَقَدْ يُعَبِّرُونَ عَنِ الْمُسَابَقَةِ فِي الرَّمْيِ بِالسِّهَامِ بِلَفْظِ الْمُنَاضَلَةِ أَيِ الْمُبَارَاةِ وَالْمُغَالَبَةِ فِي الرَّمْيِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاضَلْتُهُ فَنَضَلْتُهُ، كَغَالَبْتُهُ فَغَلَبْتُهُ، وَزْنًا وَمَعْنًى.
9- وَالْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْمُسَابَقَةِ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ.
فَمِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الْمُضْمَرَةِ مِنَ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ سِتَّةُ أَمْيَالٍ أَوْ سَبْعَةٌ وَبَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ مِنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي رُزَيْقٍ».مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْمُسَابَقَةِ فِي الْجُمْلَةِ.
10- وَالْمُسَابَقَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُسَابَقَةٌ بِعِوَضٍ وَهُوَ الْجُعْلُ أَوِ الْجَائِزَةُ، وَمُسَابَقَةٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ.
فَإِنْ كَانَتِ الْمُسَابَقَةُ بِغَيْرِ جُعْلٍ فَتَجُوزُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ فِي سَفَرٍ مَعَ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- فَسَابَقَتْهُ عَلَى رِجْلِهَا فَسَبَقَتْهُ، قَالَتْ- رضي الله عنها-: فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي فَقَالَ: هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ».وَلِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ: «خَرَجَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ فَقَالَ: ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا».
وَيَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ إِذَا قُصِدَ بِالْمُسَابِقَةِ التَّلَهِّي أَوِ الْمُفَاخَرَةُ فَتَكُونُ مَكْرُوهَةً، أَمَّا إِذَا قُصِدَ بِهَا التَّقَوِّي وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْجِهَادِ فَإِنَّهَا تَكُونُ مَنْدُوبَةً، بَلْ تَكُونُ وَاجِبَةً عَلَى الْكِفَايَةِ إِذَا لَمْ يَتِمَّ التَّقَوِّي عَلَى الْجِهَادِ وَالْإِعْدَادُ لِلِقَاءِ الْعَدُوِّ إِلاَّ بِهَا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}
وَإِنْ كَانَتِ الْمُسَابَقَةُ بِجَائِزَةٍ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا فِي الْخَيْلِ، وَالْإِبِلِ، وَالسَّهْمِ، لِحَدِيثِ: «لَا سَبَقَ إِلاَّ فِي خُفٍّ، أَوْ حَافِرٍ، أَوْ نَصْلٍ».
وَقَالُوا: إِنَّهَا تَكُونُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَنْدُوبَةً إِذَا قُصِدَ بِهَا الْإِعْدَادُ لِلْجِهَادِ، بَلْ تَكُونُ وَاجِبَةً عَلَى الْكِفَايَةِ إِذَا لَمْ يَتِمَّ الْإِعْدَادُ لِلْجِهَادِ إِلاَّ بِهَا.
11- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا فِي غَيْرِ الْخَيْلِ، وَالْإِبِلِ، وَالسَّهْمِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي «سِبَاقٍ».
وَالْجُعْلُ أَوِ الْجَائِزَةُ- يَجُوزُ بِشُرُوطٍ، مِنْهَا: كَوْنُهُ مَعْلُومًا جِنْسًا، وَقَدْرًا، وَصِفَةً، وَمِمَّا يَصِحُّ بَيْعُهُ.وَالْجَائِزَةُ قَدْ يُخْرِجُهَا الْإِمَامُ أَوْ غَيْرُهُ، أَوْ أَحَدُ الْمُتَسَابِقَيْنِ، أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا.
فَإِنْ أَخْرَجَهَا الْإِمَامُ أَوْ غَيْرُهُ، أَوْ أَحَدُ الْمُتَسَابِقَيْنِ لِيَأْخُذَهَا السَّابِقُ مِنْهُمَا فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ عَقْدَ السَّبَقِ صَحِيحٌ وَالْجُعْلَ حَلَالٌ.
وَإِنْ أَخْرَجَهَا الْمُتَسَابِقَانِ لِيَأْخُذَهَا السَّابِقُ مِنْهُمَا لَمْ تَصِحَّ الْمُسَابَقَةُ وَلَمْ يَحِلَّ الْجُعْلُ لِأَنَّ ذَلِكَ قِمَارٌ وَهُوَ حَرَامٌ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَصِحُّ الْمُسَابَقَةُ، وَيَحِلُّ الْجُعْلُ فِي حَالَةِ إِخْرَاجِهِ، أَوِ اشْتِرَاطِهِ مِنَ الْمُتَسَابِقَيْنِ إِذَا أَدْخَلَا بَيْنَهُمَا مُحَلِّلًا يُخْرِجُ عَقْدَ الْمُسَابَقَةِ عَنْ صُورَةِ الْقِمَارِ، يَغْنَمُ إِنْ سَبَقَ وَلَا يَغْرَمُ إِنْ سُبِقَ، عَلَى أَنْ يَكُونَ فَرَسُهُ أَوْ بَعِيرُهُ أَوْ رَمْيُهُ مُكَافِئًا لِفَرَسَيْهِمَا، أَوْ بَعِيرَيْهِمَا، أَوْ رَمْيَيْهِمَا، وَيَتَوَهَّمُ أَنْ يَسْبِقَهُمَا أَيْ يَجُوزُ أَنْ يَسْبِقَ أَوْ يُسْبَقَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ ضَعِيفًا عَنْهُمَا بِحَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ سَبْقُهُ، أَوْ قَوِيًّا بِحَيْثُ يَسْبِقُ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّ السِّبَاقَ لَا يَصِحُّ، وَالْجُعْلَ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ قِمَارًا، وَلِذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ فَلَيْسَ بِقِمَارٍ، وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ أُمِنَ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
12- وَالْجَائِزَةُ فِي حَالَةِ وُجُودِ الْمُحَلِّلِ تُسْتَحَقُّ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي: إِنْ جَاءَ الْمُتَسَابِقَانِ وَالْمُحَلِّلُ كُلُّهُمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً أَحْرَزَ كُلٌّ مِنْهُمَا سَبَقَ نَفْسِهِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُحَلِّلِ لِأَنَّهُ لَا سَابِقَ فِيهِمْ، وَكَذَلِكَ إِنْ سَبَقَا الْمُحَلِّلَ، وَإِنْ سَبَقَ الْمُحَلِّلُ وَحْدَهُ أَحْرَزَ السَّبَقَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا أَحْرَزَ سَبَقَ نَفْسِهِ، وَأَخَذَ سَبَقَ صَاحِبِهِ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْمُحَلِّلِ شَيْئًا، وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا وَالْمُحَلِّلُ أَحْرَزَ السَّابِقُ مَالَ نَفْسِهِ، وَيَكُونُ سَبَقُ الْمَسْبُوقِ بَيْنَ السَّابِقِ وَالْمُحَلِّلِ نِصْفَيْنِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَخْرَجَ كُلٌّ مِنَ الْمُتَسَابِقَيْنِ جُعْلًا مُتَسَاوِيًا أَوْ مُخْتَلِفًا لِيَأْخُذَهُ السَّابِقُ مِنْهُمَا فِي الْجَرْيِ أَوِ الرَّمْيِ فَيُمْنَعُ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْقِمَارِ، وَمَنَعَ الشَّرْعُ فِي بَابِ الْمُعَاوَضَةِ مِنِ اجْتِمَاعِ الْعِوَضَيْنِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَيَظَلُّ الْحُكْمُ الْمَنْعُ وَلَوْ بِمُحَلِّلٍ لَمْ يُخْرِجْ شَيْئًا يُمْكِنُ سَبْقُهُ لَهُمَا فِي الْجَرْيِ وَالرَّمْيِ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَقَ أَخَذَ الْجَمِيعَ؛ لِعَوْدِ الْجُعْلِ إِلَى مُخْرِجِهِ عَلَى تَقْدِيرِ سَبْقِهِ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
12-موسوعة الفقه الكويتية (حرابة)
حِرَابَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْحِرَابَةُ مِنَ الْحَرْبِ الَّتِي هِيَ نَقِيضُ السِّلْمِ: يُقَالُ: حَارَبَهُ مُحَارَبَةً، وَحِرَابًا، أَوْ مِنَ الْحَرَبِ.
بِفَتْحِ الرَّاءِ: وَهُوَ السَّلْبُ.
يُقَالُ: حَرَبَ فُلَانًا مَالَهُ أَيْ سَلَبَهُ فَهُوَ مَحْرُوبٌ وَحَرِيبٌ.
وَالْحِرَابَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ وَتُسَمَّى قَطْعَ الطَّرِيقِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ هِيَ الْبُرُوزُ لِأَخْذِ مَالٍ، أَوْ لِقَتْلٍ، أَوْ لِإِرْعَابٍ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ مُكَابَرَةً، اعْتِمَادًا عَلَى الْقُوَّةِ مَعَ الْبُعْدِ عَنِ الْغَوْثِ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ مُحَاوَلَةَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْعِرْضِ مُغَالَبَةً.
وَجَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ مَنْ كَابَرَ رَجُلًا عَلَى مَالِهِ بِسِلَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ فِي زُقَاقٍ أَوْ دَخَلَ عَلَى حَرِيمِهِ فِي الْمِصْرِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْحِرَابَةِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْبَغْيُ:
2- الْبَغْيُ فِي اللُّغَةِ: الْجَوْرُ، وَالظُّلْمُ، وَالْعُدُولُ عَنِ الْحَقِّ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ: هُوَ الْخُرُوجُ عَنْ طَاعَةِ إِمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ بِتَأْوِيلٍ غَيْرِ مَقْطُوعِ الْفَسَادِ.
وَفَرَّقَ الْإِمَامُ مَالِكٌ بَيْنَ الْحِرَابَةِ وَالْبَغْيِ بِقَوْلِهِ: الْبَغْيُ يَكُونُ بِالْخُرُوجِ عَلَى تَأْوِيلٍ- غَيْرِ قَطْعِيِّ الْفَسَادِ- وَالْمُحَارِبُونَ خَرَجُوا فِسْقًا وَخُلُوعًا عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلٍ
ب- السَّرِقَةُ:
3- السَّرِقَةُ فِي اللُّغَةِ: أَخْذُ الشَّيْءِ خُفْيَةً.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: أَخْذُهُ خُفْيَةً ظُلْمًا فِي حِرْزِ مِثْلِهِ، بِشُرُوطٍ تُذْكَرُ فِي بَابِهَا.
فَالْفَرْقُ أَنَّ الْحِرَابَةَ فِيهَا مُجَاهَرَةٌ وَمُكَابَرَةٌ وَسِلَاحٌ.
ج- النَّهْبُ، وَالِاخْتِلَاسُ:
4- النَّهْبُ لُغَةً: الْغَلَبَةُ عَلَى الْمَالِ.وَاصْطِلَاحًا: أَخْذُ الشَّيْءِ عَلَانِيَةً دُونَ رِضًا.
وَالِاخْتِلَاسُ: خَطْفُ الشَّيْءِ بِسُرْعَةٍ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْ صَاحِبِهِ، مَعَ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْهَرَبِ.
فَالنَّهْبُ وَالِاخْتِلَاسُ كِلَاهُمَا أَخْذُ الشَّيْءِ عَلَانِيَةً، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا هُوَ: سُرْعَةُ الْأَخْذِ فِي الِاخْتِلَاسِ بِخِلَافِ النَّهْبِ فَإِنْ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيهِ.
أَمَّا الْحِرَابَةُ فَهِيَ الْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ.
د- الْغَصْبُ:
5- الْغَصْبُ أَخْذُ الشَّيْءِ ظُلْمًا مَعَ الْمُجَاهَرَةِ.
وَشَرْعًا: الِاسْتِيلَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَقِيلَ: هُوَ إِزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ مَالِهِ الْمُتَقَوِّمِ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ.فَالْغَصْبُ قَدْ يَكُونُ بِسِلَاحٍ أَوْ بِغَيْرِ سِلَاحٍ مَعَ إِمْكَانِ الْغَوْثِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6- الْحِرَابَةُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَهِيَ مِنَ الْحُدُودِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَسَمَّى الْقُرْآنُ مُرْتَكِبِيهَا: مُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَسَاعِينَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَغَلَّظَ عُقُوبَتَهَا أَشَدَّ التَّغْلِيظِ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِفَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} إِلَخْ.
وَنَفَى الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- انْتِسَابَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا».
الْأَصْلُ فِي جَزَاءِ الْحِرَابَةِ:
7- الْأَصْلُ فِي بَيَانِ جَزَاءِ الْحِرَابَةِ قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْض} إِلَخْ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَدِّ قَاطِعِ الطَّرِيقِ كَمَا سَيَأْتِي.وَحَدِيثُ الْعُرَنِيِّينَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُكْلٍ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- كَانُوا فِي الصُّفَّةِ، فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْغِنَا رِسْلًا، فَقَالَ مَا أَجِدُ لَكُمْ إِلاَّ أَنْ تَلْحَقُوا بِإِبِلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَأَتَوْهَا فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا حَتَّى صَحُّوا وَسَمِنُوا وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، فَأَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- الصَّرِيخُ، فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ، فَمَا تَرَجَّلَ النَّهَارُ حَتَّى أُتِيَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَأُحْمِيَتْ فَكَحَّلَهُمْ وَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَمَا حَسَمَهُمْ، ثُمَّ أُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ، فَمَا سُقُوا حَتَّى مَاتُوا.وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ: سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ».
مَنْ يُعْتَبَرُ مُحَارِبًا:
8- الْمُحَارِبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: هُوَ كُلُّ مُلْتَزِمٍ مُكَلَّفٍ أَخَذَ الْمَالَ بِقُوَّةٍ فِي الْبُعْدِ عَنِ الْغَوْثِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ تَعْرِيفَاتٌ أُخْرَى لَا تَخْرُجُ فِي مَفْهُومِهَا عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
وَلَا بُدَّ مِنْ تَوَافُرِ شُرُوطٍ فِي الْمُحَارِبِينَ حَتَّى يُحَدُّوا حَدَّ الْحِرَابَةِ.وَهَذِهِ الشُّرُوطُ فِي الْجُمْلَةِ هِيَ:
أ- الِالْتِزَامُ.
ب- التَّكْلِيفُ.
ج- وُجُودُ السِّلَاحِ مَعَهُمُ.
د- الْبُعْدُ عَنِ الْعُمْرَانِ.
هـ- الذُّكُورَةُ.
و- الْمُجَاهَرَةُ.
وَلَمْ يَتَّفِقِ الْفُقَهَاءُ عَلَى هَذِهِ الشُّرُوطِ كُلِّهَا، بَلْ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِهَا اخْتِلَافٌ بَيَانُهُ كَمَا يَلِي:
أ- الِالْتِزَامُ:
9- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَارِبِ: أَنْ يَكُونَ مُلْتَزِمًا بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، بِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا، أَوْ مُرْتَدًّا، فَلَا يُحَدُّ الْحَرْبِيُّ، وَلَا الْمُعَاهَدُ، وَلَا الْمُسْتَأْمَنُ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وَهَؤُلَاءِ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ قَبْلَ الْقُدْرَةِ، وَبَعْدَهَا، لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وَلِخَبَرِ: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ».وَلَمْ يَلْتَزِمُوا أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ، أَمَّا الذِّمِّيُّ فَقَدِ الْتَزَمَ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ فَلَهُ مَا لَنَا، وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا.
وَظَاهِرُ عِبَارَةِ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الذِّمِّيَّ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الْمُسْلِمِ فِي أَحْكَامِ الْحِرَابَةِ.وَأَمَّا الْمُسْتَأْمَنُ فَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّهُ يَكُونُ مُحَارِبًا أَوْ لَا.
ب- التَّكْلِيفُ:
10- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْبُلُوغَ وَالْعَقْلَ شَرْطَانِ فِي عُقُوبَةِ الْحِرَابَةِ لِأَنَّهُمَا شَرْطَا التَّكْلِيفِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ مَنْ اشْتَرَكَ مَعَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ عَنْهُمْ وَعَلَيْهِمُ الْحَدُّ.وَقَالُوا: لِأَنَّهَا شُبْهَةٌ اخْتُصَّ بِهَا وَاحِدٌ فَلَمْ يَسْقُطِ الْحَدُّ عَنِ الْبَاقِينَ.كَمَا لَوِ اشْتَرَكُوا فِي الزِّنَى بِامْرَأَةٍ.
نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ شَرِيكَ الصَّبِيِّ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَحَصَرُوا مُسْقِطَاتِ الْحَدِّ عَلَى قَاطِعِ الطَّرِيقِ فِي تَوْبَتِهِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرُوا مُسْقِطًا آخَرَ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ رَجُلٌ هَارِبًا وَقَتَلَهُ صَبِيٌّ يُقْتَلُ الْمُمْسِكُ عِنْدَهُمْ.وَمُقْتَضَى ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ شَرِيكَ الصَّبِيِّ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ يُحَدُّ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ فِي الْقُطَّاعِ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ أَحَدِ الْمَارَّةِ فَلَا حَدَّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، بَاشَرَ الْعُقَلَاءُ الْفِعْلَ أَمْ لَمْ يُبَاشِرُوا، وَقَالُوا: لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ قَامَتْ بِالْكُلِّ، فَإِنْ لَمْ يَقَعْ فِعْلُ بَعْضِهِمْ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، كَانَ فِعْلُ الْبَاقِينَ بَعْضُ الْعِلَّةِ فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْحُكْمُ.وَقَالَ وَأَبُو يُوسُفَ: إِذَا بَاشَرَ الْعُقَلَاءُ الْفِعْلَ يُحَدُّونَ.
ج- الذُّكُورَةُ:
11- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَارِبِ الذُّكُورَةُ.
فَلَوِ اجْتَمَعَ نِسْوَةٌ لَهُنَّ قُوَّةٌ وَمَنَعَةٌ فَهُنَّ قَاطِعَاتُ طَرِيقٍ وَلَا تَأْثِيرَ لِلْأُنُوثَةِ عَلَى الْحِرَابَةِ، فَقَدْ يَكُونُ لِلْمَرْأَةِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالتَّدْبِيرِ مَا لِلرَّجُلِ فَيَجْرِي عَلَيْهَا مَا يَجْرِي عَلَى الرَّجُلِ مِنْ أَحْكَامِ الْحِرَابَةِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَارِبِ الذُّكُورَةُ: فَلَا تُحَدُّ الْمَرْأَةُ وَإِنْ وَلِيَتِ الْقِتَالَ وَأَخْذَ الْمَالِ، لِأَنَّ رُكْنَ الْحِرَابَةِ هُوَ: الْخُرُوجُ عَلَى وَجْهِ الْمُحَارَبَةِ وَالْمُغَالَبَةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ عَادَةً لِرِقَّةِ قُلُوبِهِنَّ وَضَعْفِ بِنْيَتِهِنَّ، فَلَا يَكُنَّ مِنْ أَهْلِ الْحِرَابَةِ.
وَلِهَذَا لَا يُقْتَلْنَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَا يُحَدُّ كَذَلِكَ مَنْ يُشَارِكُهُنَّ فِي الْقَطْعِ مِنَ الرِّجَالِ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.سَوَاءٌ بَاشَرُوا الْجَرِيمَةَ أَمْ لَمْ يُبَاشِرُوا.وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِذَا بَاشَرَتْ الْمَرْأَةُ الْقِتَالَ وَأَخْذَ الْمَالِ، يُحَدُّ الرِّجَالُ الَّذِينَ يُشَارِكُونَهَا، لِأَنَّ امْتِنَاعَ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ لَيْسَ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ، لِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ، بَلْ لِعَدَمِ الْمُحَارَبَةِ عَادَةً، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الرِّجَالِ الَّذِينَ يُشَارِكُونَهَا، فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ.
د- السِّلَاحُ:
12- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ السِّلَاحِ فِي الْمُحَارِبِ.
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمُحَارِبِ سِلَاحٌ، وَالْحِجَارَةُ وَالْعِصِيُّ سِلَاحٌ «هُنَا» فَإِنْ تَعَرَّضُوا لِلنَّاسِ بِالْعِصِيِّ وَالْأَحْجَارِ فَهُمْ مُحَارِبُونَ.أَمَّا إِذَا لَمْ يَحْمِلُوا شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ فَلَيْسُوا بِمُحَارِبِينَ.
وَلَا يَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ حَمْلَ السِّلَاحِ بَلْ يَكْفِي عِنْدَهُمُ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ وَأَخْذُ الْمَالِ وَلَوْ بِاللَّكْزِ وَالضَّرْبِ بِجَمْعِ الْكَفِّ.
هـ- الْبُعْدُ عَنِ الْعُمْرَانِ:
13- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رَأْيُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْبُعْدُ عَنِ الْعُمْرَانِ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ فَقْدُ الْغَوْثِ.
وَلِفَقْدِ الْغَوْثِ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ، وَلَا يَنْحَصِرُ فِي الْبُعْدِ عَنِ الْعُمْرَانِ.
فَقَدْ يَكُونُ لِلْبُعْدِ عَنِ الْعُمْرَانِ أَوِ السُّلْطَانِ.
وَقَدْ يَكُونُ لِضَعْفِ أَهْلِ الْعُمْرَانِ، أَوْ لِضَعْفِ السُّلْطَانِ.
فَإِنْ دَخَلَ قَوْمٌ بَيْتًا وَشَهَرُوا السِّلَاحَ وَمَنَعُوا أَهْلَ الْبَيْتِ مِنَ الِاسْتِغَاثَةِ فَهُمْ قُطَّاعُ طُرُقٍ فِي حَقِّهِمْ.
وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِعُمُومِ آيَةِ الْمُحَارَبَةِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ إِذَا وُجِدَ فِي الْعُمْرَانِ وَالْأَمْصَارِ وَالْقُرَى كَانَ أَعْظَمَ خَوْفًا وَأَكْثَرَ ضَرَرًا، فَكَانَ أَوْلَى بِحَدِّ الْحِرَابَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى اشْتِرَاطِ الْبُعْدِ عَنِ الْعُمْرَانِ.فَإِنْ حَصَلَ مِنْهُمُ الْإِرْعَابُ وَأَخْذُ الْمَالِ فِي الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ فَلَيْسُوا بِمُحَارِبِينَ، وَقَالُوا: لِأَنَّ الْوَاجِبَ يُسَمَّى حَدَّ قُطَّاعِ الطُّرُقِ، وَقَطْعُ الطَّرِيقِ إِنَّمَا هُوَ فِي الصَّحْرَاءِ، وَلِأَنَّ مَنْ فِي الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ غَالِبًا فَتَذْهَبُ شَوْكَةُ الْمُعْتَدِينَ، وَيَكُونُونَ مُخْتَلِسِينَ وَهُوَ لَيْسَ بِقَاطِعٍ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.
و- الْمُجَاهَرَةُ:
14- الْمُجَاهَرَةُ أَنْ يَأْخُذَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ الْمَالَ جَهْرًا فَإِنْ أَخَذُوهُ مُخْتَفِينَ فَهُمْ سُرَّاقٌ، وَإِنِ اخْتَطَفُوا وَهَرَبُوا فَهُمْ مُنْتَهِبُونَ وَلَا قَطْعَ عَلَيْهِمْ.
وَكَذَلِكَ إِنْ خَرَجَ الْوَاحِدُ، وَالِاثْنَانِ عَلَى آخِرِ قَافِلَةٍ، فَاسْتَلَبُوا مِنْهَا شَيْئًا، فَلَيْسُوا بِمُحَارِبِينَ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى قُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ.وَإِنْ تَعَرَّضُوا لِعَدَدٍ يَسِيرٍ فَقَهَرُوهُمْ، فَهُمْ قُطَّاعُ طُرُقٍ.
حُكْمُ الرِّدْءِ:
15- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الرِّدْءِ أَيْ الْمُعِينِ لِلْقَاطِعِ بِجَاهِهِ أَوْ بِتَكْثِيرِ السَّوَادِ أَوْ بِتَقْدِيمِ أَيِّ عَوْنٍ لَهُمْ وَلَمْ يُبَاشِرْ الْقَطْعَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمُبَاشِرِ، لِأَنَّهُمْ مُتَمَالِئُونَ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ يَحْصُلُ بِالْكُلِّ، وَلِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْقُطَّاعِ أَنْ يُبَاشِرَ الْبَعْضُ، وَيَدْفَعَ عَنْهُمُ الْبَعْضُ الْآخَرُ، فَلَوْ لَمْ يُلْحَقِ الرِّدْءُ بِالْمُبَاشِرِ فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْحَدِّ لأَدَّى ذَلِكَ إِلَى انْفِتَاحِ بَابِ قَطْعِ الطَّرِيقِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يُحَدُّ الرِّدْءُ، وَإِنَّمَا يُعَزَّرُ كَسَائِرِ الْجَرَائِمِ الَّتِي لَا حَدَّ فِيهَا.
عُقُوبَةُ الْمُحَارِبِينَ:
16- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ عُقُوبَةَ الْمُحَارِبِ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ وَلَا الْعَفْوَ مَا لَمْ يَتُوبُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
17- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ: أَهِيَ عَلَى التَّخْيِيرِ أَمْ عَلَى التَّنْوِيعِ.فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ «أَوْ» فِي الْآيَةِ عَلَى تَرْتِيبِ الْأَحْكَامِ، وَتَوْزِيعِهَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِهَا فِي الْجِنَايَاتِ: فَمَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ، قُتِلَ وَصُلِبَ.وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى.
وَمَنْ أَخَافَ الطَّرِيقَ، وَلَمْ يَقْتُلْ، وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا نُفِيَ مِنَ الْأَرْضِ.
وَالنَّفْيُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَعْزِيرٌ وَلَيْسَ حَدًّا، فَيَجُوزُ التَّعْزِيرُ بِغَيْرِهِ وَيَجُوزُ تَرْكُهُ إِنْ رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ.
وَقَالُوا: بِهَذَا فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْآيَةَ فَقَالَ: الْمَعْنَى: أَنْ يُقَتَّلُوا إِنْ قَتَلُوا.أَوْ يُصَلَّبُوا مَعَ الْقَتْلِ إِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ.أَوْ تُقَطَّعُ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، إِنِ اقْتَصَرُوا عَلَى أَخْذِ الْمَالِ، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ، إِنْ أَرْعَبُوا، وَلَمْ يَأْخُذُوا شَيْئًا وَلَمْ يَقْتُلُوا، وَحَمَلُوا كَلِمَةَ «أَوْ» عَلَى التَّنْوِيعِ لَا التَّخْيِيرِ، كَمَا فِي قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} أَيْ قَالَتْ الْيَهُودُ: كُونُوا هُودًا وَقَالَتِ النَّصَارَى: كُونُوا نَصَارَى وَلَمْ يَقَعْ تَخْيِيرُهُمْ بَيْنَ الْيَهُودِيَّةِ، وَالنَّصْرَانِيَّة.
وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِ التَّخْيِيرِ فِي مُطْلَقِ الْمُحَارِبِ لِأَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى قَدْرِ الْجِنَايَةِ، يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الْجِنَايَةِ، وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهَا بِمُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ أَيْضًا قَالَ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} فَالتَّخْيِيرُ فِي جَزَاءِ الْجِنَايَةِ الْقَاصِرَةِ بِمَا يَشْمَلُ جَزَاءَ الْجِنَايَةِ الْكَامِلَةِ، وَفِي الْجِنَايَةِ الْكَامِلَةِ بِمَا يَشْمَلُ جَزَاءَ الْجِنَايَةِ الْقَاصِرَةِ خِلَافُ الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ.
يَزِيدُ هَذَا إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ قُطَّاعَ الطُّرُقِ إِذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ، لَا يَكُونُ جَزَاؤُهُمُ الْمَعْقُولُ النَّفْيَ وَحْدَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ التَّخْيِيرِ.
الثَّانِي: أَنَّ التَّخْيِيرَ الْوَارِدَ فِي الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ بِحَرْفِ التَّخْيِيرِ إِنَّمَا يَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهِ إِذَا كَانَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَاحِدًا كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَكَفَّارَةِ جَزَاءِ الصَّيْدِ، أَمَّا إِذَا كَانَ السَّبَبُ مُخْتَلِفًا، فَإِنَّهُ يُخْرِجُ التَّخْيِيرَ عَنْ ظَاهِرِهِ وَيَكُونُ الْغَرَضُ بَيَانَ الْحُكْمِ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي نَفْسِهِ.
وَقَطْعُ الطَّرِيقِ مُتَنَوِّعٌ، وَبَيْنَ أَنْوَاعِهِ تَفَاوُتٌ فِي الْجَرِيمَةِ، فَقَدْ يَكُونُ بِأَخْذِ الْمَالِ فَقَطْ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْقَتْلِ لَا غَيْرُ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّخْوِيفِ فَحَسْبُ، فَكَانَ سَبَبُ الْعِقَابِ مُخْتَلِفًا.فَتُحْمَلُ الْآيَةُ عَلَى بَيَانِ حُكْمِ كُلِّ نَوْعٍ فَيُقَتَّلُونَ وَيُصَلَّبُونَ إِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ، وَتُقَطَّعُ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ إِنْ أَخَذُوا الْمَالَ لَا غَيْرُ، وَيُنْفَوْنَ مِنَ الْأَرْضِ، إِنْ أَخَافُوا الطَّرِيقَ، وَلَمْ يَقْتُلُوا نَفْسًا وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا.وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: بَدَأَ بِالْأَغْلَظِ فَالْأَغْلَظِ وَالْمَعْهُودُ مِنَ الْقُرْآنِ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ التَّخْيِيرُ، الْبُدَاءَةُ بِالْأَخَفِّ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ التَّرْتِيبُ يَبْدَأُ فِيهِ بِالْأَغْلَظِ فَالْأَغْلَظِ كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَالْقَتْلِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَخَذَ قَبْلَ قَتْلِ نَفْسٍ أَوْ أَخْذِ شَيْءٍ حُبِسَ بَعْدَ التَّعْزِيرِ حَتَّى يَتُوبَ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ فِي الْآيَةِ، وَإِنْ أَخَذَ مَالًا مَعْصُومًا بِمِقْدَارِ النِّصَابِ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَإِنْ قَتَلَ مَعْصُومًا وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا قُتِلَ.أَمَّا إِنْ قَتَلَ النَّفْسَ وَأَخَذَ الْمَالَ، وَهُوَ الْمُحَارِبُ الْخَاصُّ فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: إِنْ شَاءَ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ قَتَلَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ فَقَطْ، وَإِنْ شَاءَ صَلَبَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالصَّلْبِ هُنَا طَعْنُهُ وَتَرْكُهُ حَتَّى يَمُوتَ وَلَا يُتْرَكُ أَكْثَر مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ إِفْرَادُ الْقَطْعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنِ انْضِمَامِ الْقَتْلِ أَوِ الصَّلْبِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَتْلٌ وَأَخْذُ مَالٍ، وَالْقَتْلُ وَحْدَهُ فِيهِ الْقَتْلُ، وَأَخْذُ الْمَالِ وَحْدَهُ فِيهِ الْقَطْعُ، فَفِيهِمَا مَعَ الْإِخَافَةِ لَا يُعْقَلُ الْقَطْعُ وَحْدَهُ.وَقَالَ: صَاحِبَاهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: يُصْلَبُونَ وَيُقْتَلُونَ وَلَا يُقْطَعُونَ.
وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْجَزَاءَاتِ الْأَرْبَعَةِ.
فَإِذَا خَرَجُوا لِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَقَدَرَ عَلَيْهِمُ الْإِمَامُ، خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يُجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَيْ هَذِهِ الْأَحْكَامَ إِنْ رَأَى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا.وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:
وَهُوَ إِنْ قَتَلَ فَلَا بُدَّ مِنْ قَتْلِهِ، إِلاَّ إِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنَّ فِي إِبْقَائِهِ مَصْلَحَةً أَعْظَمَ مِنْ قَتْلِهِ.
وَلَيْسَ لَهُ تَخْيِيرٌ فِي قَطْعِهِ، وَلَا نَفْيِهِ، وَإِنَّمَا التَّخْيِيرُ فِي قَتْلِهِ أَوْ صَلْبِهِ.وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ لَا تَخْيِيرَ فِي نَفْيِهِ، وَإِنَّمَا التَّخْيِيرُ فِي قَتْلِهِ، أَوْ صَلْبِهِ، أَوْ قَطْعِهِ مِنْ خِلَافٍ، وَإِنْ أَخَافَ السَّبِيلَ فَقَطْ فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قَتْلِهِ، أَوْ صَلْبِهِ، أَوْ قَطْعِهِ، بِاعْتِبَارِ الْمَصْلَحَةِ.هَذَا فِي حَقِّ الرِّجَالِ.
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا تُصْلَبُ، وَلَا تُنْفَى، وَإِنَّمَا حَدُّهَا: الْقَطْعُ مِنْ خِلَافٍ، أَوِ الْقَتْلُ الْمُجَرَّدُ وَاسْتَدَلُّوا بِظَاهِرِ الْآيَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ بِكَلِمَةِ «أَوْ» وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّخْيِيرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ «أَوْ» فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ.
كَيْفِيَّةُ تَنْفِيذِ الْعُقُوبَةِ:
أ- (النَّفْيُ):
18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَخَافَ الطَّرِيقَ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا وَلَمْ يَقْتُلْ نَفْسًا فَعُقُوبَتُهُ النَّفْيُ مِنَ الْأَرْضِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى النَّفْيِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: نَفْيُهُ حَبْسُهُ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ أَوْ يَمُوتَ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ: إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ إِبْعَادُهُ عَنْ بَلَدِهِ إِلَى مَسَافَةِ الْبُعْدِ وَحَبْسُهُ فِيهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ الْحَبْسُ أَوْ غَيْرُهُ كَالتَّغْرِيبِ كَمَا فِي الزِّنَى.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: نَفْيُهُمْ: أَنْ يُشَرَّدُوا فَلَا يُتْرَكُوا يَسْتَقِرُّونَ فِي بَلَدٍ.
وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ، وَعَطَاءٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ يُنْفَى مِنْ بَلَدِهِ إِلَى بَلَدٍ غَيْرِهِ كَنَفْيِ الزَّانِي.
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا تُغَرَّبُ وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِعُمُومِ النَّصِّ {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}.
وَاشْتَرَطُوا لِتَغْرِيبِ الْمَرْأَةِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا مَحْرَمُهَا فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَعَهَا مَحْرَمُهَا فَعِنْدَ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهَا تُغَرَّبُ إِلَى دُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ لِتَقْرَبَ مِنْ أَهْلِهَا فَيَحْفَظُوهَا.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُؤَخَّرُ التَّغْرِيبُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَغْرِيبَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَلَا صَلْبَ.
ب- الْقَتْلُ:
19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُغَلَّبُ فِي قَتْلِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ، إِذَا قَتَلَ فَقَطْ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهُ يُغَلَّبُ الْحَدُّ، فَيُقْتَلُ وَإِنْ قَتَلَ بِمُثَقَّلٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ، فَيَقْتُلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ، وَالْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ، كَمَا لَا عِبْرَةَ بِعَفْوِ مُسْتَحِقِّ الْقَوَدِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ لِأَحْمَدَ: يُغَلَّبُ جَانِبُ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُضَايَقَةِ فَيُقْتَلُ قِصَاصًا أَوَّلًا، فَإِذَا عَفَا مُسْتَحِقُّ الْقِصَاصِ عَنْهُ يُقْتَلُ حَدًّا، وَيُشْتَرَطُ التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ، لِخَبَرِ: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» وَعَلَى هَذَا إِذَا قَتَلَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا، أَوِ الْحُرُّ غَيْرَ حُرٍّ، وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا، لَمْ يَقْتُلْ قِصَاصًا، وَيَغْرَمُ دِيَةَ الذِّمِّيِّ، وَقِيمَةَ الرَّقِيقِ.
ج- الْقَطْعُ مِنْ خِلَافٍ:
20- يُرَاعَى فِي كَيْفِيَّةِ الْقَطْعِ مَا يُرَاعَى فِي قَطْعِ السَّارِقِ.وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (سَرِقَةٌ).
د- الصَّلْبُ:
21- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ الصَّلْبِ، وَمُدَّتِهِ: فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: يُصْلَبُ حَيًّا، وَيُقْتَلُ مَصْلُوبًا.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُتْرَكُ مَصْلُوبًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تُحَدَّدُ مُدَّةُ الصُّلْبِ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ يُصْلَبُ حَيًّا لِلتَّشْهِيرِ بِهِ ثُمَّ يُنْزَلُ فَيُقْتَلُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالْحَنَابِلَةُ: يُصْلَبُ بَعْدَ الْقَتْلِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ الْقَتْلَ عَلَى الصَّلْبِ لَفْظًا.فَيَجِبُ تَقْدِيمُ مَا ذُكِرَ أَوَّلًا فِي الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}.وَلِأَنَّ فِي صَلْبِهِ حَيًّا تَعْذِيبًا لَهُ.وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ».
وَعَلَى هَذَا الرَّأْيِ: يُقْتَلُ، ثُمَّ يُغَسَّلُ، وَيُكَفَّنُ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصْلَبُ، وَيُتْرَكُ مَصْلُوبًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا وَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ مَا يَتَّصِلُ بِالصَّلْبِ فِي مُصْطَلَحِ: (تَصْلِيبٌ).
ضَمَانُ الْمَالِ وَالْجِرَاحَاتِ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ:
22- إِذَا أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى الْمُحَارِبِ، فَهَلْ يُضْمَنُ مَا أَخَذَهُ مِنَ الْمَالِ، وَيُقْتَصُّ مِنْهُ لِلْجِرَاحَاتِ؟ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي ذَلِكَ:
فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا أَخَذَ الْمُحَارِبُونَ مَالًا وَأُقِيمَ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ ضَمِنُوا الْمَالَ مُطْلَقًا.
ثُمَّ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْآخِذِ فَقَطْ، لَا عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ وَلَمْ يُبَاشِرِ الْأَخْذَ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَالُوا: لِأَنَّ وُجُودَ الضَّمَانِ لَيْسَ بِحَدٍّ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ الْمُبَاشِرِ لَهُ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ضَامِنًا لِلْمَالِ الْمَأْخُوذِ بِفِعْلِهِ أَوْ بِفِعْلِ صَاحِبِهِ لِأَنَّهُمْ كَالْحُمَلَاءِ (الْكُفَلَاءِ) فَكُلُّ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ أُخِذَ بِجَمِيعِ مَا أَخَذَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لِتَقَوِّي بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَمَنْ دَفَعَ أَكْثَر مِمَّا أَخَذَ يَرْجِعُ عَلَى أَصْحَابِهِ.
أَمَّا الْجِرَاحَاتُ فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا جَرَحَ جَرْحًا فِيهِ قَوَدٌ فَانْدَمَلَ لَمْ يَتَحَتَّمْ بِهِ قِصَاصٌ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بَلْ يُتَخَيَّرُ الْمَجْرُوحُ بَيْنَ الْقَوَدِ وَالْعَفْوِ عَلَى مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ لِأَنَّ التَّحَتُّمَ تَغْلِيظٌ لِحَقِّ اللَّهِ، فَاخْتُصَّ بِالنَّفْسِ كَالْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِشَرْعِ الْحَدِّ فِي حَقِّ الْمُحَارِبِ بِالْجِرَاحِ، فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِهِ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَإِحْدَى رِوَايَتَيْنِ لِأَحْمَدَ: يَتَحَتَّمُ فِيهِ الْقِصَاصُ كَالنَّفْسِ لِأَنَّ الْجِرَاحَ تَابِعَةٌ لِلْقَتْلِ فَيَثْبُتُ فِيهَا مِثْلُ حُكْمِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ لِلشَّافِعِيَّةِ: يَتَحَتَّمُ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لِأَنَّهُمَا مِمَّا يَسْتَحِقَّانِ فِي الْمُحَارَبَةِ دُونَ غَيْرِهِمَا.
أَمَّا إِذَا سَرَى الْجُرْحُ إِلَى النَّفْسِ فَمَاتَ الْمَجْرُوحُ يَتَحَتَّمُ الْقَتْلُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَخَذَ الْمُحَارِبُونَ مَالًا وَأُقِيمَ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَائِمًا رَدُّوهُ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا أَوْ مُسْتَهْلَكًا لَا يَضْمَنُونَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُجْمَعُ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْحَدِّ وَالضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ الْجِرَاحَاتُ سَوَاءٌ كَانَتْ خَطَأً أَمْ عَمْدًا، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتْ خَطَأً، فَإِنَّهَا تُوجِبُ الضَّمَانَ، وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا، فَإِنَّ الْجِنَايَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ، وَلَا يَجِبُ ضَمَانُ الْمَالِ مَعَ إِقَامَةِ الْحَدِّ فَكَذَلِكَ الْجِرَاحَاتُ.
مَا تَثْبُتُ بِهِ الْحِرَابَةُ:
23- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ جَرِيمَةَ الْحِرَابَةِ تَثْبُتُ قَضَاءً بِالْإِقْرَارِ، أَوْ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ.وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الرُّفْقَةِ فِي الْحِرَابَةِ، فَإِذَا شَهِدَ عَلَى الْمُحَارِبِ اثْنَانِ مِنَ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ لِغَيْرِهِمَا وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِأَنْفُسِهِمَا فِي الشَّهَادَةِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَلَيْسَ عَلَى الْقَاضِي الْبَحْثُ عَنْ كَوْنِهِمَا مِنَ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ بَحَثَ لَمْ يَلْزَمْهُمُ الْإِجَابَةُ، أَمَّا إِذَا تَعَرَّضُوا لِأَنْفُسِهِمَا بِأَنْ يَقُولَا: قَطَعُوا عَلَيْنَا الطَّرِيقَ، وَنَهَبُوا أَمْوَالَنَا لَمْ يُقْبَلَا، لَا فِي حَقِّهِمَا وَلَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا لِلْعَدَاوَةِ.وَقَالَ مَالِكٌ: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَتُقْبَلُ عِنْدَهُ فِي الْحِرَابَةِ شَهَادَةُ السَّمَاعِ.حَتَّى لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى رَجُلٍ اشْتُهِرَ بِالْحِرَابَةِ أَنَّهُ هُوَ الْمُشْتَهِرُ بِالْحِرَابَةِ تَثْبُتُ الْحِرَابَةُ بِشَهَادَتِهِمَا وَإِنْ لَمْ يُعَايِنَاهُ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (شَهَادَةٌ وَإِقْرَارٌ).
سُقُوطُ عُقُوبَةِ الْحِرَابَةِ:
24- يَسْقُطُ حَدُّ الْحِرَابَةِ عَنِ الْمُحَارِبِينَ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي شَأْنِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ حَقًّا لِلَّهِ، وَهُوَ تَحَتُّمُ الْقَتْلِ، وَالصَّلْبِ، وَالْقَطْعِ مِنْ خِلَافٍ، وَالنَّفْيِ، وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْحَدَّ، ثُمَّ اسْتَثْنَى التَّائِبِينَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ.
أَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَلَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ.فَيَغْرَمُونَ مَا أَخَذُوهُ مِنَ الْمَالِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَ الْمَالُ قَائِمًا، وَيُقْتَصُّ مِنْهُمْ إِذَا قَتَلُوا عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ، وَلَا يَسْقُطُ إِلاَّ بِعَفْوِ مُسْتَحِقِّ الْحَقِّ فِي مَالٍ أَوْ قِصَاصٍ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
13-موسوعة الفقه الكويتية (حمام)
حَمَّامٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْحَمَّامُ مُشَدَّدًا وَالْمُسْتَحَمُّ فِي الْأَصْلِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُغْتَسَلُ فِيهِ بِالْحَمِيمِ وَهُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ، ثُمَّ قِيلَ لِلِاغْتِسَالِ بِأَيِّ مَاءٍ كَانَ «اسْتِحْمَامٌ».وَالْعَرَبُ تُذَكِّرُ الْحَمَّامَ وَتُؤَنِّثُهُ، وَالْحَمَّامِيُّ صَاحِبُهُ، وَاسْتَحَمَّ فُلَانٌ: دَخَلَ الْحَمَّامَ.وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي مُسْتَحَمِّهِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ فِيهِ».
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِالْحَمَّامِ:
بِنَاءُ الْحَمَّامِ، وَبَيْعُهُ، وَإِجَارَتُهُ وَالْكَسْبُ الْحَاصِلُ مِنْهُ:
2- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ بِنَاءِ الْحَمَّامِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ، وَيُكْرَهُ إِذَا كَانَ فِيهِ ذَلِكَ.وَيَجُوزُ أَيْضًا بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ، وَإِجَارَتُهُ وَذَلِكَ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ.
وَيَجُوزُ أَخْذُ أُجْرَةِ الْحَمَّامِ، وَلَمْ تُعْتَبَرِ الْجَهَالَةُ فِي قَدْرِ الْمُكْثِ وَغَيْرِهِ، لِتَعَارُفِ النَّاسِ، وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ لَدُنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، لِمَا وَرَدَ: «مَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ».
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ اتِّخَاذِ الْحَمَّامِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذِ الْحَاجَةُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ أَظْهَرُ، لِأَنَّهُنَّ يَحْتَجْنَ إِلَى الِاغْتِسَالِ عَنِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَلَا يَتَمَكَّنَّ مِنْ ذَلِكَ فِي الْأَنْهَارِ وَالْحِيَاضِ تَمَكُّنَ الرِّجَالِ.
وَقَالَ اللَّخْمِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِجَارَةُ الْحَمَّامِ لِلنِّسَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: جَائِزَةٌ إِنْ كَانَتْ عَادَتُهُنَّ سَتْرَ جَمِيعِ الْجَسَدِ، وَغَيْرُ جَائِزَةٍ إِذَا كَانَتْ عَادَتُهُنَّ عَدَمَ السَّتْرِ، وَاخْتُلِفَ إِذَا كَانَتْ عَادَتُهُنَّ الدُّخُولَ بِالْمَآزِرِ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ إِجَارَةَ الْحَمَّامِ وَبَيْعَهُ وَشِرَاءَهُ مَكْرُوهٌ.قَالَ أَبُو دَاوُدَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ كَرْيِ الْحَمَّامِ؟ قَالَ: أَخْشَى، كَأَنَّهُ كَرِهَهُ.وَقِيلَ لَهُ: فَإِنِ اشْتُرِطَ عَلَى الْمُكْتَرِي أَنْ لَا يَدْخُلَهُ أَحَدٌ بِغَيْرِ إِزَارٍ، فَقَالَ: وَيُضْبَطُ هَذَا؟ وَكَأَنَّهُ لَمْ يُعْجِبْهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ فِعْلِ الْمُنْكَرَاتِ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ، وَالنَّظَرِ إِلَيْهَا، وَدُخُولِ النِّسَاءِ إِلَيْهِ.
وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُقْبَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَسَأَلَنِي عَنْ مَالِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ لِي غِلْمَانًا وَحَمَّامًا لَهُ غَلَّةٌ: فَكَرِهَ لَهُ غَلَّةَ الْحَجَّامِينَ، وَغَلَّةَ الْحَمَّامِ، وَقَالَ: إِنَّهُ بَيْتُ الشَّيَاطِينِ، «وَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- شَرَّ بَيْتٍ».
وَكَسْبُ الْحَمَّامِيِّ مَكْرُوهٌ، وَحَمَّامِيَّةُ النِّسَاءِ أَشَدُّ كَرَاهَةً.
قَالَ أَحْمَدُ فِي الَّذِي يَبْنِي حَمَّامًا لِلنِّسَاءِ: لَيْسَ بِعَدْلٍ، وَحَمَلَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَلَى غَيْرِ الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الزَّيْلَعِيِّ: أَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَصَّلَ بَيْنَ حَمَّامِ الرَّجُلِ وَحَمَّامِ النِّسَاءِ.
الشُّفْعَةُ فِي الْحَمَّامِ:
3- لَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فِي الْحَمَّامِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمْ: أَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْقِسْمَةِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُهَا وَتَثْبُتُ فِي الْكَبِيرِ الَّذِي يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ بِشَرْطِ أَنْ يَتَأَتَّى الِانْتِفَاعُ بِالْمَأْخُوذِ بِالشُّفْعَةِ.
قَالَ الْمَحَلِّيُّ: كُلُّ مَا لَوْ قُسِمَ بِطَلَبِ مَنْفَعَتِهِ الْمَقْصُودَةِ كَحَمَّامٍ وَرَحًى صَغِيرَيْنِ لَا شُفْعَةَ فِيهِ فِي الْأَصَحِّ.وَمُقَابِلُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- وَمِثْلُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ- ثُبُوتُ الشُّفْعَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ دَفْعُ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ فِيمَا يَدُومُ، وَكُلٌّ مِنَ الضَّرَرَيْنِ حَاصِلٌ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَمِنْ حَقِّ الرَّاغِبِ فِيهِ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُخَلِّصَ صَاحِبَهُ بِالْبَيْعِ لَهُ، فَإِذَا بَاعَ لِغَيْرِهِ سَلَّطَهُ الشَّرْعُ عَلَى أَخْذِهِ مِنْهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ فِي الْحَمَّامِ فَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِقَدْرِهِ، لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ عِنْدَهُمْ لِدَفْعِ ضَرَرِ التَّأَذِّي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: «شُفْعَةٌ».
قِسْمَةُ الْحَمَّامِ:
4- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْقِسْمَةِ جَبْرًا عَدَمَ فَوْتِ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالْقِسْمَةِ، وَلِذَا لَا يُقَسَّمُ حَمَّامٌ وَنَحْوُهُ عِنْدَ عَدَمِ الرِّضَا، أَمَّا عِنْدَ رِضَا الْجَمِيعِ فَتَجُوزُ قِسْمَتُهُ، لِوُجُودِ التَّرَاضِي مِنْهُمْ بِالْتِزَامِ الضَّرَرِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ فِيمَا شَاءَ كَأَنْ يَجْعَلَهُ بَيْتًا.
وَقَيَّدَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَدَمَ جَوَازِ قِسْمَةِ الْحَمَّامِ بِأَنْ يَكُونَ صَغِيرًا.وَلِتَفْصِيلِ ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ «قِسْمَةٌ».
دُخُولُ الْحَمَّامِ:
5- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ دُخُولَ الْحَمَّامِ مَشْرُوعٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.
وَقَدْ دَخَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَمَّامَ حِمْصَ، وَدَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ حَمَّامَ الْجُحْفَةِ.وَكَانَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ يَدْخُلَانِ الْحَمَّامَ.وَلَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ، مَعَ مُرَاعَاةِ مَا يَلِي:
6- إِذَا كَانَ الدَّاخِلُ رَجُلًا فَيُبَاحُ لَهُ دُخُولُهُ إِذَا أَمِنَ وُقُوعَ مُحَرَّمٍ: بِأَنْ يَسْلَمَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى عَوْرَاتِ النَّاسِ وَمَسِّهَا، وَيَسْلَمَ مِنْ نَظَرِهِمْ إِلَى عَوْرَتِهِ وَمَسِّهَا، وَإِنْ خَشِيَ أَنْ لَا يَسْلَمَ مِنْ ذَلِكَ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ وُقُوعَهُ فِي الْمَحْظُورِ، فَإِنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ وَمُشَاهَدَتَهَا حَرَامٌ، لِمَا «رَوَى بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ.قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ؟ قَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا.قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ.إِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا.قَالَ: اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ».
وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَنْ فِي الْحَمَّامِ عَلَيْهِ إِزَارٌ، قَالَ أَحْمَدُ: إِنْ عَلِمْتَ أَنَّ كُلَّ مَنْ فِي الْحَمَّامِ عَلَيْهِ إِزَارٌ فَادْخُلْهُ، وَإِلاَّ فَلَا تَدْخُلْ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: دُخُولُ الْحَمَّامِ بِغَيْرِ إِزَارٍ حَرَامٌ.لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدْخُلِ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ إِزَارٍ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُدْخِلْ حَلِيلَتَهُ الْحَمَّامَ».
وَأَيْضًا رُوِيَ «مَنْ دَخَلَ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ مِئْزَرٍ لَعَنَهُ الْمَلَكَانِ»
قَالَ ابْنُ نَاجِي مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: دُخُولُ الرَّجُلِ الْحَمَّامَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: دُخُولُهُ مَعَ زَوْجَتِهِ، أَوْ وَحْدَهُ فَمُبَاحٌ، الثَّانِي: دُخُولُهُ مَعَ قَوْمٍ لَا يَسْتَتِرُونَ فَمَمْنُوعٌ، الثَّالِثُ: دُخُولُهُ مَعَ قَوْمٍ مُسْتَتِرِينَ فَمَكْرُوهٌ، إِذْ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَنْكَشِفَ بَعْضُهُمْ فَيَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ.وَقِيلَ فِي هَذَا الْوَجْهِ: إِنَّهُ جَائِزٌ.
7- إِذَا كَانَ الدَّاخِلُ امْرَأَةً فَيُبَاحُ لَهَا دُخُولُهُ مَعَ مُرَاعَاةِ مَا سَبَقَ، وَبِوُجُودِ عُذْرٍ مِنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ، أَوْ جَنَابَةٍ أَوْ مَرَضٍ، أَوْ حَاجَةٍ إِلَى الْغُسْلِ، وَأَنْ لَا يُمْكِنَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ فِي بَيْتِهَا لِخَوْفِهَا مِنْ مَرَضٍ أَوْ ضَرَرٍ، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِنَّهَا سَتُفْتَحُ لَكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ وَسَتَجِدُونَ فِيهَا بُيُوتًا يُقَالُ لَهَا الْحَمَّامَاتُ، فَلَا يَدْخُلَنَّهَا الرِّجَالُ إِلاَّ بِالْأُزُرِ، وَامْنَعُوهَا النِّسَاءَ إِلاَّ مَرِيضَةً أَوْ نُفَسَاءَ» وَلِخَبَرِ «مَا مِنِ امْرَأَةٍ تَضَعُ أَثْيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلاَّ هَتَكَتِ السِّتْرَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا».
وَلِأَنَّ أَمْرَ النِّسَاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي السِّتْرِ، وَلِمَا فِي خُرُوجِهِنَّ وَاجْتِمَاعِهِنَّ مِنَ الْفِتْنَةِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عُذْرٌ كُرِهَ لَهَا دُخُولُ الْحَمَّامِ.وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنْ إِحْكَامَاتِ الْأَشْبَاهِ: أَنَّ الْمُعْتَمَدَ أَنْ لَا كَرَاهَةَ مُطْلَقًا، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَفِي زَمَانِنَا لَا شَكَّ فِي الْكَرَاهَةِ لِتَحَقُّقِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّمَا مُنِعَ دُخُولُهُنَّ حِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ حَمَّامَاتٌ مُنْفَرِدَةٌ، فَأَمَّا مَعَ انْفِرَادِهِنَّ عَنِ الرِّجَالِ فَلَا بَأْسَ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا اعْتَادَتِ الْحَمَّامَ وَشَقَّ عَلَيْهَا تَرَكَتْ دُخُولَهُ إِلاَّ لِعُذْرٍ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا دُخُولُهُ.
دُخُولُ الذِّمِّيَّةِ الْحَمَّامَ مَعَ الْمُسْلِمَاتِ:
8- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ فِي الْمُعْتَمَدِ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ إِذَا كَانَتْ فِي الْحَمَّامِ مَعَ النِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ أَنْ تَكْشِفَ عَنْ بَدَنِهَا مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ، وَهُوَ مَا عَدَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ.
وَعِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ يَجِبُ عَلَيْهَا فِي الْحَمَّامِ أَنْ تَسْتُرَ جَمِيعَ بَدَنِهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ وَضَعَتْ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا هَتَكَتْ سِتْرَ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ».
أَمَّا الذِّمِّيَّةُ فَلَيْسَ لَهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنْ تَنْظُرَ مِنَ الْمُسْلِمَةِ إِلاَّ مَا يَرَاهُ الرَّجُلُ الْأَجْنَبِيُّ مِنْهَا، وَلِهَذَا نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الذِّمِّيَّةَ تُمْنَعُ مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامِ مَعَ النِّسَاءِ، وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ- رضي الله عنه- إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ نِسَاءَ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَاتِ مَعَ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَامْنَعْ مِنْ ذَلِكَ.وَحُلْ دُونَهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَرَى الذِّمِّيَّةُ عَرِيَّةَ الْمُسْلِمَةِ.وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمَةِ أَنْ تَرَاهَا يَهُودِيَّةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ لِئَلاَّ تَصِفَهَا لِزَوْجِهَا.
آدَابُ الدُّخُولِ إِلَى الْحَمَّامِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ:
9- مِنْ آدَابِهِ:
- أَنْ يُسَلِّمَ الْأُجْرَةَ أَوَّلًا أَيْ قَبْلَ دُخُولِهِ، ذَكَرَ هَذَا الشَّافِعِيَّةُ.
- وَأَنْ يَقْصِدَ بِدُخُولِهِ التَّنْظِيفَ وَالتَّطْهِيرَ لَا التَّرَفُّهَ وَالتَّنَعُّمَ.
- وَأَنْ يُقَدِّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فِي دُخُولِهِ، وَالْيُمْنَى فِي خُرُوجِهِ.
- وَيَقْصِدَ مَوْضِعًا خَالِيًا، لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِي مَحْظُورٍ.
- وَيُقَلِّلَ الِالْتِفَاتَ تَجَنُّبًا لِرُؤْيَةِ عَوْرَةٍ.
- وَلَا يُكْثِرَ الْكَلَامَ، وَيَتَحَيَّنَ بِدُخُولِهِ وَقْتَ الْفَرَاغِ أَوِ الْخَلْوَةِ إِنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ.
- وَلَا يُطِيلُ الْمَقَامَ، وَيَمْكُثَ فِيهِ مُكْثًا مُتَعَارَفًا، وَأَنْ يَصُبَّ صَبًّا مُتَعَارَفًا مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ.
طَهَارَةُ مَاءِ الْحَمَّامِ
10- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ الْغُسْلُ وَالْوُضُوءُ بِمَاءِ الْحَمَّامِ، وَيُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْجَارِي، لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ مَنْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي حَوْضِ الْحَمَّامِ وَعَلَيْهَا نَجَاسَةٌ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ سَاكِنًا لَا يَدْخُلُ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْأُنْبُوبِ، وَلَا يَغْتَرِفُ النَّاسُ بِالْقَصْعَةِ، يَتَنَجَّسُ مَاءُ الْحَوْضِ، وَإِنْ كَانُوا يَغْتَرِفُونَ مِنَ الْحَوْضِ بِقِصَاعِهِمْ، وَلَا يَدْخُلُ مِنَ الْأُنْبُوبِ مَاءٌ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُنَجِّسُ مَاءَ الْحَوْضِ.
وَإِنْ كَانَ النَّاسُ يَغْتَرِفُونَ بِقِصَاعِهِمْ، وَيَدْخُلُ الْمَاءُ مِنَ الْأُنْبُوبِ، اخْتَلَفُوا فِيهِ: وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ.وَأَمَّا الْمَاءُ الَّذِي صُبَّ عَلَى وَجْهِ الْحَمَّامِ (أَيْ أَرْضِهِ) فَالْأَصَحُّ أَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ طَاهِرٌ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ فِيهِ خَبَثًا، حَتَّى لَوْ خَرَجَ إِنْسَانٌ مِنَ الْحَمَّامِ وَقَدْ أَدْخَلَ رِجْلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ، وَلَمْ يَغْسِلْهُمَا بَعْدَ الْخُرُوجِ وَصَلَّى جَازَ.
وَإِذَا تَنَجَّسَ حَوْضُ الْحَمَّامِ فَدَخَلَ فِيهِ الْمَاءُ فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ مِثْلُ مَا كَانَ فِيهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا خَرَجَ مِنْهُ مِثْلُ مَا كَانَ فِيهِ مَرَّةً وَاحِدَةً يَطْهُرُ، لِغَلَبَةِ الْمَاءِ الْجَارِي عَلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ.
السَّلَامُ فِي الْحَمَّامِ:
11- لَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى مَنْ فِي الْحَمَّامِ لِأَنَّ أَحْوَالَهُ لَا تُنَاسِبُ ذَلِكَ، وَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَا يَجِبُ الرَّدُّ، وَقِيلَ: لَا يَرُدُّ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا أَعْلَمُ أَنَّنِي سَمِعْتُ فِيهِ شَيْئًا، وَيَرَى بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْأَوْلَى جَوَازُهُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» وَلِأَنَّهُ لَمْ يَرِدُ فِيهِ نَصٌّ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ.
قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرُ فِي الْحَمَّامِ:
12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي الْحَمَّامِ تُكْرَهُ، لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِكَشْفِ الْعَوْرَةِ، وَيُفْعَلُ فِيهِ مَا لَا يَحْسُنُ فِي غَيْرِهِ، فَيُصَانُ الْقُرْآنُ عَنْهُ.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَيَّدُوا الْكَرَاهَةَ بِرَفْعِ الصَّوْتِ، فَإِنْ لَمْ يَرْفَعْ لَا يُكْرَهُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ، وَحَكَى ابْنُ عَقِيلٍ الْكَرَاهَةَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-، وَبِهِ قَالَ أَبُو وَائِلٍ، وَالشَّعْبِيُّ وَمَكْحُولٌ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ، وَأَمَّا إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ خَارِجَ الْحَمَّامِ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ فِيهِ غُسَالَةُ النَّاسِ نَحْوِ مَجْلِسِ الْحَمَّامِيِّ وَالثِّيَابِيِّ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُكْرَهُ.وَيُكْرَهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ كَرَاهِيَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْحَمَّامِ وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ.
13- وَأَمَّا الذِّكْرُ وَالتَّسْبِيحُ فِي الْحَمَّامِ فَلَا بَأْسَ لِلْمُسْتَتِرِ فِيهِ، فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ حَسَنٌ فِي كُلِّ مَكَان مَا لَمْ يَرِدِ الْمَنْعُ مِنْهُ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- دَخَلَ الْحَمَّامَ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ «أَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ».
الصَّلَاةُ فِي الْحَمَّامِ وَعَلَيْهِ وَإِلَيْهِ
14- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْحَمَّامِ صَحِيحَةٌ مَا لَمْ يَكُنْ نَجَسًا، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» وَفِي لَفْظٍ: «أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ فَهُوَ مَسْجِدٌ».وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ طَاهِرٌ فَصَحَّتِ الصَّلَاةُ فِيهِ كَالصَّحْرَاءِ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَهِيَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْحَمَّامِ لَا تَصِحُّ بِحَالٍ، لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلاَّ الْحَمَّامَ وَالْمَقْبَرَةَ»، وَلِأَنَّهُ مَظِنَّةُ النَّجَاسَاتِ، فَعَلَّقَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ دُونَ حَقِيقَتِهِ.وَيُصَلَّى فِيهِ لِعُذْرٍ، كَأَنْ حُبِسَ فِيهِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْخُرُوجُ، ثُمَّ لَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ وَلَوْ زَالَ الْعُذْرُ فِي الْوَقْتِ وَخَرَجَ مِنْهَا، لِصِحَّةِ صَلَاتِهِ.وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ فِي الْحَمَّامِ بَيْنَ مَكَانِ الْغُسْلِ وَصَبِّ الْمَاءِ وَبَيْنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُنْزَعُ فِيهِ الثِّيَابُ وَالْأَتُونُ، وَكُلُّ مَا يُغْلَقُ عَلَيْهِ بَابُ الْحَمَّامِ، لِتَنَاوُلِ الِاسْمِ لَهُ.
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّلَاةُ عَلَى سَطْحِ الْحَمَّامِ، لِأَنَّ الْهَوَاءَ تَابِعٌ لِلْقَرَارِ فَيَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُهُ.
15- وَفِي الصَّلَاةِ إِلَى الْحَمَّامِ قَالَ مُحَمَّدٌ: أَكْرَهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ إِلَى الْحَمَّامِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ هَذَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ حَائِطَ الْحَمَّامِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الْمَحَمُّ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُصَبُّ فِيهِ الْحَمِيمُ، وَهُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْضِعُ الْأَنْجَاسِ.وَاسْتِقْبَالُ الْأَنْجَاسِ فِي الصَّلَاةِ مَكْرُوهٌ.وَأَمَّا إِنِ اسْتَقْبَلَ حَائِطَ الْحَمَّامِ فَلَمْ يَسْتَقْبِلِ الْأَنْجَاسَ وَإِنَّمَا اسْتَقْبَلَ الْحَجَرَ وَالْمَدَرَ، فَلَا يُكْرَهُ.
قَطْعُ مَنْ سَرَقَ مِنْ حَمَّامٍ:
16- فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ: فَإِذَا سَرَقَ مِنَ الْحَمَّامِ لَيْلًا قُطِعَ، لِأَنَّهُ بُنِيَ لِلْحِرْزِ، وَإِذَا سَرَقَ مِنْهُ نَهَارًا لَا يُقْطَعُ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ بِالدُّخُولِ فِيهِ نَهَارًا، فَاخْتَلَّ الْحِرْزُ، وَمَا اعْتَادَ النَّاسُ مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامِ بَعْضَ اللَّيْلِ فَهُوَ كَالنَّهَارِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ سَرَقَ مِنْ حَمَّامٍ نِصَابًا مِنْ آلَاتِهِ أَوْ مِنْ ثِيَابِ الدَّاخِلِينَ يُقْطَعُ: إِنْ كَانَ دَخَلَهُ لِلسَّرِقَةِ لَا لِلِاسْتِحْمَامِ، أَوْ نَقَبَ حَائِطَهُ وَدَخَلَ مِنَ النَّقْبِ أَوْ تَسَوَّرَ وَسَرَقَ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ لِلْحَمَّامِ حَارِسٌ أَمْ لَا.أَمَّا إِنْ سَرَقَ الْحَمَّامَ مِنْ بَابِهِ أَوْ دَخَلَهُ مُغْتَسِلًا فَسَرَقَ لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّهُ خَائِنٌ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُقْطَعُ سَارِقُ الْحَمَّامِ إِنْ كَانَ لِلْمَتَاعِ حَافِظٌ، سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبَ الثِّيَابِ الْمَسْرُوقَةِ أَوْ غَيْرَهُ.فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا حَافِظٌ فَلَا يُقْطَعُ، لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ، فَجَرَى مَجْرَى سَرِقَةِ الضَّيْفِ مِنَ الْبَيْتِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي دُخُولِهِ.وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ لِأَنَّهُ مَتَاعٌ لَهُ حَافِظٌ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: «سَرِقَةٌ».
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
14-موسوعة الفقه الكويتية (ردة 1)
رِدَّةٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الرِّدَّةُ لُغَةً: الرُّجُوعُ عَنِ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ الرِّدَّةُ عَنِ الْإِسْلَامِ.
يُقَالُ: ارْتَدَّ عَنْهُ ارْتِدَادًا أَيْ تَحَوَّلَ.وَالِاسْمُ الرِّدَّةُ، وَالرِّدَّةُ عَنِ الْإِسْلَامِ: الرُّجُوعُ عَنْهُ.وَارْتَدَّ فُلَانٌ عَنْ دِينِهِ إِذَا كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: (الرِّدَّةُ: كُفْرُ الْمُسْلِمِ بِقَوْلٍ صَرِيحٍ أَوْ لَفْظٍ يَقْتَضِيهِ أَوْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ).
شَرَائِطُ الرِّدَّةِ:
2- لَا تَقَعُ الرِّدَّةُ مِنَ الْمُسْلِمِ إِلاَّ إِذَا تَوَفَّرَتْ شَرَائِطُ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالِاخْتِيَارِ.
رِدَّةُ الصَّبِيِّ:
3- رِدَّةُ الصَّبِيِّ لَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ، وَقَوْلٌ لِأَحْمَدَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَمُحَمَّدٌ: يُحْكَمُ بِرِدَّةِ الصَّبِيِّ اسْتِحْسَانًا وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ.
الْمُرْتَدُّ قَبْلَ الْبُلُوغِ لَا يُقْتَلُ:
4- ذَهَبَ الْقَائِلُونَ بِوُقُوعِ رِدَّةِ الصَّبِيِّ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ قَبْلَ بُلُوغِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ الصَّبِيَّ إِذَا ارْتَدَّ لَا يُقْتَلُ حَتَّى بَعْدَ بُلُوغِهِ، قَالَ فِي الْأُمِّ: (فَمَنْ أَقَرَّ بِالْإِيمَانِ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا، ثُمَّ ارْتَدَّ قَبْلَ الْبُلُوغِ أَوْ بَعْدَهُ، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَلَا يُقْتَلُ؛ لِأَنَّ إِيمَانَهُ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ بَالِغٌ، وَيُؤْمَرُ بِالْإِيمَانِ، وَيُجْهَدُ عَلَيْهِ بِلَا قَتْلٍ).
رِدَّةُ الْمَجْنُونِ:
5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا صِحَّةَ لِإِسْلَامِ مَجْنُونٍ وَلَا لِرِدَّتِهِ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ تَبْقَى سَائِرَةً عَلَيْهِ.
لَكِنْ إِنْ كَانَ يُجَنُّ سَاعَةً وَيُفِيقُ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهُ فِي إِفَاقَتِهِ وَقَعَتْ، وَإِنْ كَانَتْ فِي جُنُونِهِ لَا تَقَعُ، كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ الْكَاسَانِيُّ.رِدَّةُ السَّكْرَانِ:
6- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّ رِدَّةَ السَّكْرَانِ لَا تُعْتَبَرُ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الرِّدَّةَ تُبْنَى عَلَى الِاعْتِقَادِ، وَالسَّكْرَانُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِمَا يَقُولُ.
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى وُقُوعِ رِدَّةِ السَّكْرَانِ، وَحُجَّتُهُمْ: أَنَّ الصَّحَابَةَ أَقَامُوا حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى السَّكْرَانِ، وَأَنَّهُ يَقَعُ طَلَاقُهُ، فَتَقَعُ رِدَّتُهُ، وَأَنَّهُ مُكَلَّفٌ، وَأَنَّ عَقْلَهُ لَا يَزُولُ كُلِّيًّا، فَهُوَ أَشْبَهُ بِالنَّاعِسِ مِنْهُ بِالنَّائِمِ أَوِ الْمَجْنُونِ.
الْمُكْرَهُ عَلَى الرِّدَّةِ:
7- الْإِكْرَاهُ: اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ، فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ، أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْعَدِمَ بِهِ أَهْلِيَّتُهُ، أَوْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْخِطَابُ.
وَالْإِكْرَاهُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالِاضْطِرَارَ طَبْعًا، كَالْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ أَوِ الْقَطْعِ أَوِ الضَّرْبِ الَّذِي يُخَافُ فِيهِ تَلَفُ النَّفْسِ أَوِ الْعُضْوِ، قَلَّ الضَّرْبُ أَوْ كَثُرَ.وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمَّى إِكْرَاهًا تَامًّا.
وَنَوْعٌ لَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالِاضْطِرَارَ، وَهُوَ الْحَبْسُ أَوِ الْقَيْدُ أَوِ الضَّرْبُ الَّذِي لَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْإِكْرَاهِ يُسَمَّى إِكْرَاهًا نَاقِصًا.
8- وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، لَمْ يَصِرْ كَافِرًا لقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِإِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْأُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّبِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ}.
وَمَا نُقِلَ مِنْ «أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ- رضي الله عنهما- حَمَلَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَا يَكْرَهُ فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ: إِنْ عَادُوا فَعُدْ» وَهَذَا فِي الْإِكْرَاهِ التَّامِّ.
9- وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِسْلَامِ طَوْعًا، مِثْلَ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ إِكْرَاهُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ- وَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ وَالْمُسْتَأْمَنُونَ- فَلَا يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا، وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ وَلَا إِجْبَارُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ لِعَدَمِ صِحَّةِ إِسْلَامِهِ ابْتِدَاءً.
أَمَّا إِنْ كَانَ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ مِمَّنْ يَجُوزُ إِكْرَاهُهُ وَهُوَ الْحَرْبِيُّ وَالْمُرْتَدُّ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا بِرُجُوعِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَيُطَبَّقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ.
مَا تَقَعُ بِهِ الرِّدَّةُ:
10- تَنْقَسِمُ الْأُمُورُ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا الرِّدَّةُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أ- رِدَّةٌ فِي الِاعْتِقَادِ.
ب- رِدَّةٌ فِي الْأَقْوَالِ.
ج- رِدَّةٌ فِي الْأَفْعَالِ.
د- رِدَّةٌ فِي التَّرْكِ.
إِلاَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْسَامَ تَتَدَاخَلُ، فَمَنِ اعْتَقَدَ شَيْئًا عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلٍ، أَوْ فِعْلٍ، أَوْ تَرْكٍ.
مَا يُوجِبُ الرِّدَّةَ مِنَ الِاعْتِقَادِ:
11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ، أَوْ جَحَدَهُ، أَوْ نَفَى صِفَةً ثَابِتَةً مِنْ صِفَاتِهِ، أَوْ أَثْبَتَ لِلَّهِ الْوَلَدَ فَهُوَ مُرْتَدٌّ كَافِرٌ.
وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَوْ بَقَائِهِ، أَوْ شَكَّ فِي ذَلِكَ.وَدَلِيلُهُمْ قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: (لِأَنَّ حُدُوثَ الْعَالَمِ مِنْ قَبِيلِ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْإِجْمَاعُ وَالتَّوَاتُرُ، بِالنَّقْلِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ، فَيَكْفُرُ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِ النَّقْلَ الْمُتَوَاتِرَ).
12- وَيَكْفُرُ مَنْ جَحَدَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ وَلَوْ كَلِمَةً.وَقَالَ الْبَعْضُ: بَلْ يَحْصُلُ الْكُفْرُ بِجَحْدِ حَرْفٍ وَاحِدٍ.كَمَا يَقَعُ الْكُفْرُ بِاعْتِقَادِ تَنَاقُضِهِ وَاخْتِلَافِهِ، أَوِ الشَّكِّ بِإِعْجَازِهِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى مِثْلِهِ، أَوْ إِسْقَاطِ حُرْمَتِهِ، أَوِ الزِّيَادَةِ فِيهِ.
أَمَّا تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ وَتَأْوِيلُهُ، فَلَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ، وَلَا رَادُّهُ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ اجْتِهَادِيٌّ مِنْ فِعْلِ الْبَشَرِ.
وَقَدْ نَصَّ ابْنُ قُدَامَةَ عَلَى أَنَّ اسْتِحْلَالَ دِمَاءِ الْمَعْصُومِينَ وَأَمْوَالِهِمْ، إِنْ جَرَى بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ- كَمَا فَعَلَ الْخَوَارِجُ- لَمْ يَكْفُرْ صَاحِبُهُ.وَلَعَلَّ السَّبَبَ أَنَّ الِاسْتِحْلَالَ جَرَى بِاجْتِهَادٍ خَاطِئٍ، فَلَا يَكْفُرُ صَاحِبُهُ.
13- وَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا مَنِ اعْتَقَدَ كَذِبَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ، وَمَنِ اعْتَقَدَ حِلَّ شَيْءٍ مُجْمَعٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ، كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ أَنْكَرَ أَمْرًا مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.
حُكْمُ سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى:
14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى كَفَرَ، سَوَاءٌ كَانَ مَازِحًا أَوْ جَادًّا أَوْ مُسْتَهْزِئًا.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَإِيمَانِكُمْ}.
وَاخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى قَبُولِهَا، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَلَمْ نَجِدْ لِلشَّافِعِيَّةِ تَفْرِقَةً بَيْنَ الرِّدَّةِ بِذَلِكَ وَبَيْنَ الرِّدَّةِ بِغَيْرِهِ.
حُكْمُ سَبِّ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-:
15- السَّبُّ هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الِانْتِقَادُ وَالِاسْتِخْفَافُ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ السَّبُّ فِي عُقُولِ النَّاسِ، عَلَى اخْتِلَافِ اعْتِقَادَاتِهِمْ، كَاللَّعْنِ وَالتَّقْبِيحِ.
وَحُكْمُ سَابِّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ مُرْتَدٌّ بِلَا خِلَافٍ.
وَيُعْتَبَرُ سَابًّا لَهُ- صلى الله عليه وسلم- كُلُّ مَنْ أَلْحَقَ بِهِ- صلى الله عليه وسلم- عَيْبًا أَوْ نَقْصًا، فِي نَفْسِهِ، أَوْ نَسَبِهِ، أَوْ دِينِهِ، أَوْ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِهِ، أَوِ ازْدَرَاهُ، أَوْ عَرَّضَ بِهِ، أَوْ لَعَنَهُ أَوْ شَتَمَهُ، أَوْ عَابَهُ، أَوْ قَذَفَهُ، أَوِ اسْتَخَفَّ بِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
هَلْ يُقْتَلُ السَّابُّ رِدَّةً أَمْ حَدًّا؟
16- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ إِنَّ سَابَّ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا، كَأَيِّ مُرْتَدٍّ؛ لِأَنَّهُ بَدَّلَ دِينَهُ فَيُسْتَتَابُ، وَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ- فِيمَا يَنْقُلُهُ السُّبْكِيُّ- فَيَرَوْنَ أَنَّ سَبَّ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- رِدَّةٌ وَزِيَادَةٌ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ السَّابَّ كَفَرَ أَوَّلًا، فَهُوَ مُرْتَدٌّ، وَأَنَّهُ سَبَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَاجْتَمَعَتْ عَلَى قَتْلِهِ عِلَّتَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا تُوجِبُ قَتْلَهُ
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ سَابَّ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لَا يُسْتَتَابُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا فَيُسْلِمَ.
حُكْمُ سَبِّ الْأَنْبِيَاءِ ( (:
17- مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ هُمْ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ، فَمَنْ سَبَّهُمْ فَكَأَنَّمَا سَبَّ نَبِيَّنَا- صلى الله عليه وسلم- وَسَابُّهُ كَافِرٌ، فَكَذَا كُلُّ نَبِيٍّ مَقْطُوعٍ بِنُبُوَّتِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ.
وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِنُبُوَّتِهِ، فَمَنْ سَبَّهُ زُجِرَ، وَأُدِّبَ وَنُكِّلَ بِهِ، لَكِنْ لَا يُقْتَلُ، صَرَّحَ بِهَذَا الْحَنَفِيَّةُ.
حُكْمُ سَبِّ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-:
18- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-، فَقَدْ كَذَّبَ صَرِيحَ الْقُرْآنِ الَّذِي نَزَلَ بِحَقِّهَا، وَهُوَ بِذَلِكَ كَافِرٌ قَالَ تَعَالَى فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ بَعْدَ أَنْ بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
فَمَنْ عَادَ لِذَلِكَ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ.
وَهَلْ تُعْتَبَرُ مِثْلَهَا سَائِرُ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ؟ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّهُنَّ مِثْلُهَا فِي ذَلِكَ.وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.
وَالطَّعْنُ بِهِنَّ يَلْزَمُ مِنْهُ الطَّعْنُ بِالرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- وَالْعَارُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ.
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ وَهُوَ مَذْهَبٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى لِلْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُنَّ- سِوَى عَائِشَةَ- كَسَائِرِ الصَّحَابَةِ، وَسَابُّهُنَّ يُجْلَدُ، لِأَنَّهُ قَاذِفٌ.
أَمَّا سَابُّ الْخُلَفَاءِ فَهُوَ لَا يَكْفُرُ، وَتَوْبَتُهُ مَقْبُولَةٌ.
حُكْمُ مَنْ قَالَ لِمُسْلِمٍ يَا كَافِرُ:
19- عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ»
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ بِفِسْقِ الْقَائِلِ.قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ: وَأَمَّا التَّعْزِيرُ فَيَجِبُ فِي جِنَايَةٍ لَيْسَتْ بِمُوجِبَةٍ لِلْحَدِّ، بِأَنْ قَالَ: يَا كَافِرُ، أَوْ يَا فَاسِقُ، أَوْ يَا فَاجِرُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ مَنْ أَطْلَقَ الشَّارِعُ كُفْرَهُ، مِثْلَ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- ».
فَهَذَا كُفْرٌ لَا يُخْرِجُ عَنِ الْإِسْلَامِ بَلْ هُوَ تَشْدِيدٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ كَفَّرَ مُسْلِمًا وَلَوْ لِذَنْبِهِ كَفَرَ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى الْإِسْلَامَ كُفْرًا، وَلِخَبَرِ مُسْلِمٍ: «مَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ عَدُوَّ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلاَّ حَارَ عَلَيْهِ».أَيْ رَجَعَ عَلَيْهِ هَذَا إِنْ كَفَّرَهُ بِلَا تَأْوِيلٍ لِلْكُفْرِ بِكُفْرِ النِّعْمَةِ أَوْ نَحْوِهِ وَإِلاَّ فَلَا يَكْفُرُ، وَهَذَا مَا نَقَلَهُ الْأَصْلُ عَنِ الْمُتَوَلِّي، وَأَقَرَّهُ، وَالْأَوْجَهُ مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ الْخَبَرَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ فَلَا يَكْفُرُ غَيْرُهُ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ فِي أَذْكَارِهِ أَنَّ ذَلِكَ يُحَرَّمُ تَحْرِيمًا مُغَلَّظًا.
مَا يُوجِبُ الرِّدَّةَ مِنَ الْأَفْعَالِ:
20- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِلْقَاءَ الْمُصْحَفِ كُلِّهِ فِي مَحَلٍّ قَذِرٍ يُوجِبُ الرِّدَّةَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ اسْتِخْفَافٌ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ أَمَارَةُ عَدَمِ التَّصْدِيقِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: وَكَذَا إِلْقَاءُ بَعْضِهِ.وَكَذَا كُلُّ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ سَجَدَ لِصَنَمٍ، أَوْ لِلشَّمْسِ، أَوْ لِلْقَمَرِ فَقَدْ كَفَرَ.
وَمَنْ أَتَى بِفِعْلٍ صَرِيحٍ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِالْإِسْلَامِ، فَقَدْ كَفَرَ.قَالَ بِهَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَدَلِيلُهُمْ قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}.
الرِّدَّةُ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ:
21- لَا خِلَافَ فِي أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ جَاحِدًا لَهَا يَكُونُ مُرْتَدًّا وَكَذَا الزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.
وَأَمَّا تَارِكُ الصَّلَاةِ كَسَلًا فَفِي حُكْمِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: يُقْتَلُ رِدَّةً، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَحَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَفْسِهِ، وَحَكَاهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُقْتَلُ حَدًّا لَا كُفْرًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ كَسَلًا يَكُونُ فَاسِقًا وَيُحْبَسُ حَتَّى يُصَلِّيَ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
جِنَايَاتُ الْمُرْتَدِّ وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ:
22- جِنَايَاتُ الْمُرْتَدِّ عَلَى غَيْرِهِ لَا تَخْلُو: إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَكُلٌّ مِنْهَا، إِمَّا أَنْ تَقَعَ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ ذِمِّيٍّ، أَوْ مُسْتَأْمَنٍ، أَوْ مُرْتَدٍّ مِثْلِهِ.
وَهَذِهِ الْجِنَايَاتُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى النَّفْسِ بِالْقَتْلِ، أَوْ عَلَى مَا دُونَهَا، كَالْقَطْعِ وَالْجَرْحِ، أَوْ عَلَى الْعِرْضِ كَالزِّنَى وَالْقَذْفِ، أَوْ عَلَى الْمَالِ كَالسَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ.وَهَذِهِ الْجِنَايَاتُ قَدْ تَقَعُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يَهْرُبُ الْمُرْتَدُّ إِلَى بِلَادِ الْحَرْبِ، أَوْ لَا يَهْرُبُ، أَوْ تَقَعُ فِي بِلَادِ الْحَرْبِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ الْمُرْتَدُّ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ.
وَقَدْ تَقَعُ مِنْهُ هَذِهِ كُلُّهَا فِي إِسْلَامِهِ، أَوْ رِدَّتِهِ، وَقَدْ يَسْتَمِرُّ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ يَعُودُ مُسْلِمًا، وَقَدْ تَقَعُ مِنْهُ مُنْفَرِدًا، أَوْ فِي جَمَاعَةٍ، أَوْ أَهْلِ بَلَدٍ.
وَمِثْلُ هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْمُرْتَدِّ.
جِنَايَةُ الْمُرْتَدِّ عَلَى النَّفْسِ:
23- إِذَا قَتَلَ مُرْتَدٌّ مُسْلِمًا عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، اتِّفَاقًا.
أَمَّا إِذَا قَتَلَ الْمُرْتَدُّ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا عَمْدًا فَيُقْتَلُ بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الذِّمِّيِّ، إِذِ الْمُرْتَدُّ مُهْدَرُ الدَّمِ وَلَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ، وَلَا مُنَاكَحَتُهُ، وَلَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ.
وَلَا يُقْتَلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ لِبَقَاءِ عُلْقَةِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى رِدَّتِهِ.
وَإِذَا قَتَلَ الْمُرْتَدُّ حُرًّا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا خَطَأً وَجَبَتِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَلَا تَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَالدِّيَةُ يُشْتَرَطُ لَهَا عِصْمَةُ الدَّمِ لَا الْإِسْلَامُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَلَّ دَمُهُ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّ الضَّمَانَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ يَأْخُذُ أَرْشَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ مِمَّنْ جَنَى فَكَمَا يَأْخُذُ مَالَهُ يَغْرَمُ عَنْهُ.وَهَذَا إِنْ لَمْ يَتُبْ.فَإِنْ تَابَ فَقِيلَ: فِي مَالِهِ، وَقِيلَ: عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَقِيلَ: عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ: عَلَى مَنِ ارْتَدَّ إِلَيْهِمْ.
جِنَايَةُ الْمُرْتَدِّ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ:
24- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا فَرْقَ فِي جِنَايَةِ الْمُرْتَدِّ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتْ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى مَا دُونَهَا، وَلَا يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ بِالذِّمِّيِّ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لِزِيَادَتِهِ عَلَى الذِّمِّيِّ بِالْإِسْلَامِ الْحُكْمِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ بِالْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ.وَإِنْ قَطَعَ طَرَفًا مِنْ أَحَدِهِمَا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِيهِ أَيْضًا.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَا يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ بِالذِّمِّيِّ وَلَا يُقْطَعُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهِ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِ بَاقِيَةٌ بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْعِبَادَاتِ عَلَيْهِ وَمُطَالَبَتِهِ بِالْإِسْلَامِ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَنَا: أَنَّهُ كَافِرٌ فَيُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ كَالْأَصْلِيِّ.
وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: الْأَظْهَرُ قَتْلُ الْمُرْتَدِّ بِالذِّمِّيِّ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْكُفْرِ.بَلِ الْمُرْتَدُّ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ فَأَوْلَى أَنْ يُقْتَلَ بِالذِّمِّيِّ.
زِنَى الْمُرْتَدِّ:
25- إِذَا زَنَى مُرْتَدٌّ أَوْ مُرْتَدَّةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا جُلِدَ.وَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا فَفِي زَوَالِ الْإِحْصَانِ بِرِدَّتِهِ خِلَافٌ.أَسَاسُهُ الْخِلَافُ فِي شُرُوطِ الْإِحْصَانِ، هَلْ مِنْ بَيْنِهَا الْإِسْلَامُ أَمْ لَا؟
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: مَنِ ارْتَدَّ بَطَلَ إِحْصَانُهُ، إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ أَوْ يَتَزَوَّجَ ثَانِيَةً.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ: إِنَّ الرِّدَّةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْإِحْصَانِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ مِنْ شُرُوطِ الْإِحْصَانِ.
قَذْفُ الْمُرْتَدِّ غَيْرَهُ:
26- إِذَا قَذَفَ الْمُرْتَدُّ غَيْرَهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِشُرُوطِهِ، إِلاَّ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، حَيْثُ لَا سُلْطَةَ لِلْمُسْلِمِينَ.وَالْقَضِيَّةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى شَرَائِطِ الْقَذْفِ، وَلَيْسَ مِنْ بَيْنِهَا إِسْلَامُ الْقَاذِفِ.
إِتْلَافُ الْمُرْتَدِّ الْمَالَ:
27- إِذَا اعْتَدَى مُرْتَدٌّ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ- فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ- فَهُوَ ضَامِنٌ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ جِنَايَةٌ، وَهِيَ لَا تَمْنَحُ صَاحِبَهَا حَقَّ الِاعْتِدَاءِ.
السَّرِقَةُ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ:
28- إِذَا سَرَقَ الْمُرْتَدُّ مَالًا، أَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ، فَهُوَ كَغَيْرِهِ مُؤَاخَذٌ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ السَّرِقَةِ أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ الْإِسْلَامُ.لِذَا فَالْمُسْلِمُ وَالْمُرْتَدُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
مَسْئُولِيَّةُ الْمُرْتَدِّ عَنْ جِنَايَاتِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ:
29- إِذَا جَنَى مُسْلِمٌ عَلَى غَيْرِهِ، ثُمَّ ارْتَدَّ الْجَانِي يَكُونُ مُؤَاخَذًا بِكُلِّ مَا فَعَلَ سَوَاءٌ اسْتَمَرَّ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ تَابَ عَنْهَا.
الِارْتِدَادُ الْجَمَاعِيُّ:
30- الْمَقْصُودُ بِالِارْتِدَادِ الْجَمَاعِيِّ: هُوَ أَنْ تُفَارِقَ الْإِسْلَامَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِهِ، أَوْ أَهْلِ بَلَدٍ.كَمَا حَدَثَ عَلَى عَهْدِ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه-.
فَإِنْ حَصَلَ ذَلِكَ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِهِمْ مُسْتَدِلِّينَ بِمَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ بِأَهْلِ الرِّدَّةِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا بِمَصِيرِ دَارِهِمْ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْأَوَّلُ لِلْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ): إِذَا أَظْهَرُوا أَحْكَامَ الشِّرْكِ فِيهَا، فَقَدْ صَارَتْ دَارُهُمْ دَارَ حَرْبٍ؛ لِأَنَّ الْبُقْعَةَ إِنَّمَا تُنْسَبُ إِلَيْنَا، أَوْ إِلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ وَالْغَلَبَةِ.فَكُلُّ مَوْضِعٍ ظَهَرَ فِيهِ أَحْكَامُ الشِّرْكِ فَهُوَ دَارُ حَرْبٍ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ كَانَ الظَّاهِرُ فِيهِ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ دَارُ إِسْلَامٍ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رضي الله عنه- إِنَّمَا تَصِيرُ دَارُ الْمُرْتَدِّينَ دَارَ حَرْبٍ بِثَلَاثِ شَرَائِطَ: أَوَّلًا: أَنْ تَكُونَ مُتَاخِمَةً أَرْضَ الشِّرْكِ، لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَرْضِ الْحَرْبِ دَارٌ لِلْمُسْلِمِينَ.
ثَانِيًا: أَنْ لَا يَبْقَى فِيهَا مُسْلِمٌ آمِنٌ بِإِيمَانِهِ، وَلَا ذِمِّيٌّ آمِنٌ بِأَمَانِهِ.
ثَالِثًا: أَنْ يُظْهِرُوا أَحْكَامَ الشِّرْكِ فِيهَا.
(فَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ تَمَامَ الْقَهْرِ وَالْقُوَّةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْبَلْدَةَ كَانَتْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ مُحْرَزَةً لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ الْإِحْرَازُ، إِلاَّ بِتَمَامِ الْقَهْرِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ بِاسْتِجْمَاعِ الشَّرَائِطِ الثَّلَاثِ).
الْجِنَايَةُ عَلَى الْمُرْتَدِّ:
31- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا ارْتَدَّ مُسْلِمٌ فَقَدْ أُهْدِرَ دَمُهُ، لَكِنَّ قَتْلَهُ لِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، وَمَنْ قَتَلَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عُزِّرَ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ افْتَاتَ عَلَى حَقِّ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ لَهُ.
وَأَمَّا إِذَا قَتَلَهُ ذِمِّيٌّ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ) إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنَ الذِّمِّيِّ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنَ الذِّمِّيِّ.
الْجِنَايَةُ عَلَى الْمُرْتَدِّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ:
32- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْمُرْتَدِّ هَدَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ لَهُ.
أَمَّا إِذَا وَقَعَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى مُسْلِمٍ ثُمَّ ارْتَدَّ فَسَرَتْ وَمَاتَ مِنْهَا، أَوْ وَقَعَتْ عَلَى مُرْتَدٍّ ثُمَّ أَسْلَمَ فَسَرَتْ وَمَاتَ مِنْهَا فَفِيهَا أَقْوَالٌ تُنْظَرُ فِي بَابِ «الْقِصَاصِ» مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
قَذْفُ الْمُرْتَدِّ:
33- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى قَاذِفِ الْمُرْتَدِّ، لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ: أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ مُسْلِمًا.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَذْف)
ثُبُوتُ الرِّدَّةِ:
34- تَثْبُتُ الرِّدَّةُ بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالشَّهَادَةِ.
وَتَثْبُتُ الرِّدَّةُ عَنْ طَرِيقِ الشَّهَادَةِ، بِشَرْطَيْنِ:
أ- شَرْطُ الْعَدَدِ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِشَاهِدَيْنِ فِي ثُبُوتِ الرِّدَّةِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلاَّ الْحَسَنُ، فَإِنَّهُ اشْتَرَطَ شَهَادَةَ أَرْبَعَةٍ.
ب- تَفْصِيلُ الشَّهَادَةِ:
يَجِبُ التَّفْصِيلُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الرِّدَّةِ بِأَنْ يُبَيِّنَ الشُّهُودُ وَجْهَ كُفْرِهِ، نَظَرًا لِلْخِلَافِ فِي مُوجِبَاتِهَا، وَحِفَاظًا عَلَى الْأَرْوَاحِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِثْبَات، وَشَهَادَة).
وَإِذَا ثَبَتَتِ الرِّدَّةُ بِالْإِقْرَارِ وَبِالشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِلَ.
وَإِنْ أَنْكَرَ الْمُرْتَدُّ مَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ اعْتُبِرَ إِنْكَارُهُ تَوْبَةً وَرُجُوعًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَيَمْتَنِعُ الْقَتْلُ فِي حَقِّهِ.
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ: يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالشَّهَادَةِ وَلَا يَنْفَعُهُ إِنْكَارُهُ، بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَصِيرُ بِهِ الْكَافِرُ مُسْلِمًا.
اسْتِتَابَةُ الْمُرْتَدِّ
حُكْمُهَا:
35- ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ- فِي قَوْلٍ- وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّ اسْتِتَابَةَ الْمُرْتَدِّ غَيْرُ وَاجِبَةٍ.بَلْ مُسْتَحَبَّةٌ كَمَا يُسْتَحَبُّ الْإِمْهَالُ، إِنْ طَلَبَ الْمُرْتَدُّ ذَلِكَ، فَيُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
وَعِنْدَ مَالِكٍ تَجِبُ الِاسْتِتَابَةُ وَيُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ يَجِبُ الِاسْتِتَابَةُ وَتَكُونُ فِي الْحَالِ فَلَا يُمْهَلُ.
وَثَبَتَتْ الِاسْتِتَابَةُ بِمَا وَرَدَ «أَنَّ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ رُومَانَ ارْتَدَّتْ فَأَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ فَإِنْ تَابَتْ وَإِلاَّ قُتِلَتْ».وَلِأَثَرٍ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ اسْتَتَابَ الْمُرْتَدَّ ثَلَاثًا.
كَيْفِيَّةُ تَوْبَةِ الْمُرْتَدِّ:
36- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ أَنْ يَتَبَرَّأَ عَنِ الْأَدْيَانِ سِوَى الْإِسْلَامِ، أَوْ عَمَّا انْتَقَلَ إِلَيْهِ بَعْدَ نُطْقِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَلَوْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ أَوْ بِدُونِ التَّبَرِّي لَمْ يَنْفَعْهُ مَا لَمْ يَرْجِعْ عَمَّا قَالَ إِذْ لَا يَرْتَفِعُ بِهِمَا كُفْرُهُ.
قَالُوا: إِنْ شَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَى مُسْلِمٍ بِالرِّدَّةِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لَا يُتَعَرَّضْ لَهُ لَا لِتَكْذِيبِ الشُّهُودِ، بَلْ لِأَنَّ إِنْكَارَهُ تَوْبَةٌ وَرُجُوعٌ، فَيَمْتَنِعُ الْقَتْلُ فَقَطْ وَتَثْبُتُ بَقِيَّةُ أَحْكَامِ الرِّدَّةِ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْكَارُ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالشَّهَادَتَيْنِ.
وَإِذَا نَطَقَ الْمُرْتَدُّ بِالشَّهَادَتَيْنِ: صَحَّتْ تَوْبَتُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ».مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.وَحَيْثُ إِنَّ الشَّهَادَةَ يَثْبُتُ بِهَا إِسْلَامُ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ فَكَذَا الْمُرْتَدُّ.فَإِذَا ادَّعَى الْمُرْتَدُّ الْإِسْلَامَ، وَرَفَضَ النُّطْقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، لَا تَصِحُّ تَوْبَتُهُ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْمُرْتَدَّ إِنْ مَاتَ، فَأَقَامَ وَارِثُهُ بَيِّنَةً أَنَّهُ صَلَّى بَعْدَ الرِّدَّةِ: حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ.وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ تَحْصُلُ تَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ بِصَلَاتِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَا بُدَّ فِي إِسْلَامِ الْمُرْتَدِّ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ كُفْرُهُ لِإِنْكَارِ شَيْءٍ آخَرَ، كَمَنْ خَصَّصَ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ بِالْعَرَبِ أَوْ جَحَدَ فَرْضًا أَوْ تَحْرِيمًا فَيَلْزَمُهُ مَعَ الشَّهَادَتَيْنِ الْإِقْرَارُ بِمَا أَنْكَرَ.
قَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَلَوْ صَلَّى الْمُرْتَدُّ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ رِدَّتُهُ بِجَحْدِ فَرِيضَةٍ، أَوْ كِتَابٍ، أَوْ نَبِيٍّ، أَوْ مَلَكٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْبِدَعِ الْمُكَفِّرَةِ الَّتِي يَنْتَسِبُ أَهْلُهَا إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِمُجَرَّدِ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَيَفْعَلُهَا مَعَ كُفْرِهِ.وَأَمَّا لَوْ زَكَّى أَوْ صَامَ فَلَا يَكْفِي ذَلِكَ لِلْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ يَتَصَدَّقُونَ، وَالصَّوْمُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُعْلَمُ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ، وَتَوْبَةِ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ، وَتَوْبَةُ السَّاحِرِ عَلَى أَقْوَالٍ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (تَوْبَة).
تَوْبَةُ سَابِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم-:
37- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ بِقَبُولِ تَوْبَةِ سَابِّ اللَّهِ تَعَالَى.وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ، مَعَ ضَرُورَةِ تَأْدِيبِ السَّابِّ وَعَدَمِ تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُ ثَلَاثًا.
وَفِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ خِلَافٌ، الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ قَبُولُ تَوْبَتِهِ، وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ.
أَمَّا سَابُّ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تُقْبَلُ تَوْبَةُ قَاذِفِهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ: يُقْتَلُ حَدًّا وَلَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: يُجْلَدُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ ارْتَفَعَتْ بِإِسْلَامِهِ وَبَقِيَ جَلْدُهُ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ شَتَمَ نَبِيًّا مُجْمَعًا عَلَى نُبُوَّتِهِ بِقُرْآنٍ أَوْ نَحْوِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ؛ لِأَنَّ كُفْرَهُ يُشْبِهُ كُفْرَ الزِّنْدِيقِ، وَيُقْتَلُ حَدًّا لَا كُفْرًا إِنْ قُتِلَ بَعْدَ تَوْبَتِهِ لِأَنَّ قَتْلَهُ حِينَئِذٍ لِأَجْلِ ازْدِرَائِهِ لَا لِأَجْلِ كُفْرِهِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
15-موسوعة الفقه الكويتية (رفقة)
رُفْقَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الرُّفْقَةُ فِي اللُّغَةِ: الصُّحْبَةُ، وَالرُّفْقَةُ أَيْضًا اسْمُ جَمْعٍ وَمُفْرَدُهُ رَفِيقٌ، وَالْجَمْعُ مِنْهُ رِفَاقٌ وَرُفَقَاءُ، وَهُمُ الْجَمَاعَةُ الَّتِي تُرَافِقُ الرَّجُلَ فِي السَّفَرِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الصَّحْبُ:
2- الصَّحْبُ اسْمُ جَمْعٍ لِصَاحِبٍ، وَهُوَ مِنْ صَحِبَهُ أَصْحَبُهُ صُحْبَةً، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ لِمَنْ حَصَلَ لَهُ رَوِيَّةٌ وَمُجَالَسَةٌ.
ب- الرَّكْبُ:
3- الرَّكْبُ فِي الْأَصْلِ: جَمَاعَةُ رُكْبَانِ الْإِبِلِ فِي السَّفَرِ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ وَأُطْلِقَ عَلَى رُكْبَانِ أَيِّ وَسِيلَةٍ مِنْ وَسَائِلِ السَّفَرِ.
ج- النَّفَرُ:
4- النَّفَرُ وَالنَّفِيرُ فِي اللُّغَةِ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ.وَالْجَمْعُ أَنْفَارٌ.وَيُطْلَقُ عَلَى عَشِيرَةِ الرَّجُلِ وَقَوْمِهِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: «نَفَرُ الرَّجُلِ رَهْطُهُ».
د- الرَّهْطُ:
5- الرَّهْطُ فِي اللُّغَةِ: قَوْمُ الرَّجُلِ وَعَشِيرَتُهُ، وَمِنْهُ قوله تعالى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} وَيُطْلَقُ عَلَى الْجَمَاعَةِ مِنَ الرِّجَالِ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ كَالنَّفَرِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6- يُسْتَحَبُّ لِمَنْ يُسَافِرُ أَنْ يُسَافِرَ مَعَ رُفْقَةٍ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُسَافِرَ الرَّجُلُ مُنْفَرِدًا، وَلَا تُزَالُ الْكَرَاهَةُ إِلاَّ بِثَلَاثَةٍ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْوِحْدَةِ مَا أَعْلَمُ مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ» وَلِخَبَرِ: «الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ، وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ» فَيَنْبَغِي أَنْ يَسِيرَ مَعَ النَّاسِ وَلَا يَنْفَرِدَ بِطَرِيقٍ، وَلَا يَرْكَبَ اثْنَانِ الطَّرِيقَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الرُّفْقَةُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ الْخَيْرَ وَيَكْرَهُونَ الشَّرَّ، يُذَكِّرُونَهُ إِنْ نَسِيَ، وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانُوهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الرُّفْقَةُ مِنَ الْأَصْدِقَاءِ وَالْأَقَارِبِ الْمَوْثُوقِينَ، لِأَنَّهُمْ أَعْوَنُ لَهُ فِي مُهِمَّاتِهِ، وَأَرْفَقُ بِهِ فِي أُمُورِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْرِصَ عَلَى إِرْضَاءِ رُفَقَائِهِ فِي جَمِيعِ طَرِيقِهِ، وَأَنْ يَحْتَمِلَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مِنْ هَفَوَاتٍ، وَيَصْبِرَ عَلَى مَا يَقَعُ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ.
7- وَيَنْبَغِي لِلرُّفْقَةِ أَنْ يُؤَمِّرُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَفْضَلَهُمْ، وَأَجْوَدَهُمْ رَأْيًا، وَأَنْ يُطِيعُوهُ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنهما- قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ» قَالَ النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ لِلرُّفْقَةِ أَلاَّ يَشْتَرِكُوا فِي الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَالنَّفَقَةِ، لِأَنَّ تَرْكَ الْمُشَارَكَةِ أَسْلَمُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ بِسَبَبِهَا مِنَ التَّصَرُّفِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ مِنَ الصَّدَاقَةِ، وَغَيْرِهَا، وَلَوْ أَذِنَ شَرِيكُهُ لَمْ يُوثَقْ بِاسْتِمْرَارِهِ، فَإِنْ شَارَكَ جَازَ، وَاسْتُحِبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَا دُونَ حَقِّهِ؛ وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا أَفْضَى إِلَى النِّزَاعِ.
أَمَّا اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى طَعَامٍ يَوْمًا بِيَوْمٍ، أَوْ يَأْكُلُوا كُلَّ يَوْمٍ عِنْدَ أَحَدِهِمْ تَنَاوُبًا فَحَسَنٌ.
فَقَدْ رُوِيَ: «أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَأْكُلُ وَلَا نَشْبَعُ، فَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ، قَالُوا: نَعَمْ.قَالَ: فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ يُبَارِكْ لَكُمْ فِيهِ».
اشْتِرَاطُ وُجُودِ رُفْقَةٍ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ:
8- يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ وُجُودُ رُفْقَةٍ يَخْرُجُ مَعَهُمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي جَرَتْ عَادَةُ بَلَدِهِ بِالْخُرُوجِ فِيهِ، إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا، وَأَنْ يَسِيرُوا السَّيْرَ الْمُعْتَادَ، فَإِنْ خَرَجُوا قَبْلَ الْوَقْتِ الْمُعْتَادِ، أَوْ أَخَّرُوا الْخُرُوجَ بِحَيْثُ لَا يَصِلُونَ إِلَى مَكَّةَ إِلاَّ بِالسَّيْرِ بِأَكْثَرَ مِنْ مَرْحَلَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ، أَوْ كَانُوا يَسِيرُونَ فَوْقَ الْعَادَةِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ، أَمَّا إِنْ كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا بِحَيْثُ لَا يَخَافُ الْوَاحِدُ فِيهِ لَزِمَهُ الْحَجُّ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ رُفْقَةً وَلَا غَيْرَهُ لِلْوَحْشَةِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي (حَجّ).
هَذَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ.
9- أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ وَلَا يَجُوزُ لَهَا السَّفَرُ إِلاَّ مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ، لِحَدِيثِ «لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، وَلَا يُدْخَلُ عَلَيْهَا إِلاَّ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ».
وَحَدِيثِ «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ».
وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَا تَخْرُجُ إِلاَّ مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَخْرُجُ مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ أَوْ جَمَاعَةٍ مِنَ النِّسَاءِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا لَمْ تَجِدِ الْمَرْأَةُ مَحْرَمًا وَلَا زَوْجًا تَخْرُجُ مَعَهُ، أَوِ امْتَنَعَا مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهَا جَازَ أَنْ تَخْرُجَ لِلسَّفَرِ الْوَاجِبِ مَعَ رُفْقَةٍ مَأْمُونَةٍ، وَقَالُوا: وَالرُّفْقَةُ الْمَأْمُونَةُ رِجَالٌ صَالِحُونَ، أَوْ نِسَاءٌ صَالِحَاتٌ، وَأَوْلَى إِنِ اجْتَمَعَا.وَقَالَ صَاحِبُ مَوَاهِبِ الْجَلِيلِ: قَالَ مَالِكٌ: إِذَا أَرَادَتِ الْمَرْأَةُ الْحَجَّ وَلَيْسَ لَهَا وَلِيٌّ فَلْتَخْرُجْ مَعَ مَنْ تَثِقُ بِهِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَإِنْ كَانَ وَلِيٌّ فَأَبَى أَنْ يَحُجَّ مَعَهَا فَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ تَخْرُجَ مَعَ مَنْ ذَكَرْتُ لَكَ.وَقَالَ أَيْضًا: وَتَخْرُجُ الْمَرْأَةُ مَعَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ.
أَمَّا سَفَرُ التَّطَوُّعِ وَالْمُبَاحِ فَلَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ فِيهِ إِلاَّ مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ.وَقَيَّدَ الْبَاجِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ الْمَنْعَ بِالْعَدَدِ الْقَلِيلِ مِنَ الرُّفْقَةِ.أَمَّا الْقَوَافِلُ الْعَظِيمَةُ فَهِيَ كَالْبِلَادِ فَيَجُوزُ فِيهَا سَفَرُهَا، دُونَ نِسَاءٍ أَوْ مَحَارِمَ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (حَجّ).
الرُّفْقَةُ فِي السَّفَرِ بِمَنْزِلَةِ الْأَهْلِ فِي الْحَضَرِ:
10- يَجِبُ عَلَى الرُّفْقَةِ فِي سَفَرٍ دَفْنُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ وَتَجْهِيزُهُ، فَإِنْ لَمْ يَدْفِنُوهُ أَثِمُوا، وَلِلْحَاكِمِ تَعْزِيرُهُمْ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرُّفْقَةِ فِي السَّفَرِ الشِّرَاءُ لِلْمَرِيضِ مِنْ مَالِهِ إِذَا احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ، كَمَا يَجُوزُ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَشْتَرُوا مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الرُّفْقَةَ فِي السَّفَرِ بِمَنْزِلَةِ الْأَهْلِ فِي الْحَضَرِ.
بَيْعُ الرُّفْقَةِ مَتَاعَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ.
11- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لِلرُّفْقَةِ بَيْعُ مَتَاعِ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ، وَمَرْكَبِهِ، وَحَمْلُهُ إِلَى وَرَثَتِهِ بَعْدَ مُؤْنَةِ التَّجْهِيزِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ؛ لِأَنَّ الرَّفِيقَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي ذَلِكَ دَلَالَةً، كَمَا يَجُوزُ لَهُ الْإِحْرَامُ عَنْهُ إِذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ، وَكَذَا إِنْفَاقُهُ عَلَيْهِ، جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي سَفَرٍ لَهُ: مَاتَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَبَاعَ كُتُبَهُ، وَأَمْتِعَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ تَفْعَلُ ذَلِكَ وَلَسْتَ بِقَاضٍ؟ فَقَالَ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} وَلِأَنَّهُ لَوْ حَمَلَ أَمْتِعَتَهُ إِلَى أَهْلِهِ لَاحْتَاجَ إِلَى نَفَقَةٍ رُبَّمَا تَسْتَغْرِقُ الْمَتَاعَ.
شَهَادَةُ الرُّفْقَةِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ:
12- يَثْبُتُ قَطْعُ الطَّرِيقِ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ مِنَ الرُّفْقَةِ بِشَرْطِ: أَلاَّ يَتَعَرَّضَا لِأَنْفُسِهِمَا، وَلَيْسَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَبْحَثَ عَنْهُمَا هَلْ هُمَا مِنَ الرُّفْقَةِ أَمْ لَا، فَإِنْ بَحَثَ فَلَهُمَا أَلاَّ يُجِيبَا، وَإِنْ تَعَرَّضَا لِأَنْفُسِهَا بِأَنْ قَالَا: قَطَعَ عَلَيْنَا هَؤُلَاءِ الطَّرِيقَ فَأَخَذُوا مَالَنَا وَمَالَ رُفْقَتِنَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا، لِأَنَّهُمَا صَارَا عَدُوَّيْنِ. (ر: شَهَادَة).
سُؤَالُ الْمُسَافِرِ رُفْقَتَهُ عَنِ الْمَاءِ:
13- يَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ إِنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً لِلْوُضُوءِ أَنْ يَسْأَلَ رُفْقَتَهُ عَنِ الْمَاءِ، وَأَنْ يَسْتَوْعِبَهُمْ بِالسُّؤَالِ، بِأَنْ يُنَادِيَ فِيهِمْ: مَنْ مَعَهُ مَاءٌ؟ فَإِنْ تَيَمَّمَ قَبْلَ سُؤَالِ الرُّفْقَةِ لَمْ يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ.وَالتَّفْصِيلُ فِي: (تَيَمُّم).
جَوَازُ السَّفَرِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ خَشْيَةَ فَوَاتِ الرُّفْقَةِ:
14- يَجُوزُ لِمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ أَنْ يُسَافِرَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إِذَا كَانَ يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ بِتَخَلُّفِهِ عَنِ الرُّفْقَةِ (ر: صَلَاةُ الْجُمُعَةِ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
16-موسوعة الفقه الكويتية (رقبى)
رُقْبَىالتَّعْرِيفُ:
1- الرُّقْبَى فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْمُرَاقَبَةِ.يُقَالُ: رَقَبْتُهُ، وَأَرْقَبْتُهُ، وَارْتَقَبْتُهُ: انْتَظَرْتُهُ.وَأَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: أَرْقَبْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ، أَوْ هِيَ لَكَ رُقْبَى مُدَّةَ حَيَاتِكَ عَلَى أَنَّكَ إِنْ مِتَّ قَبْلِي عَادَتْ إِلَيَّ، وَإِنْ مِتُّ قَبْلَكَ فَهِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ.
وَسُمِّيَتِ الرُّقْبَى لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَرْقُبُ مَوْتَ صَاحِبِهِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: هِيَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلْآخَرِ: إِنْ مِتَّ قَبْلِي فَدَارُكَ لِي، وَإِنْ مِتُّ قَبْلَكَ فَدَارِي لَكَ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْعُمْرَى:
2- الْعُمْرَى- وَهِيَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْمِيمِ مَعَ الْقَصْرِ- مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعُمُرِ، وَهُوَ الْحَيَاةُ، وَمَعْنَاهَا: أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: أَعْمَرْتُكَ دَارِي هَذِهِ أَوْ هِيَ لَكَ عُمْرَى مُدَّةَ حَيَاتِكَ، فَإِذَا مِتَّ فَهِيَ لِعَقِبِكَ.
ب- الْهِبَةُ وَالْإِعَارَةُ وَالْمَنِيحَةُ:
3- الْهِبَةُ: تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِلَا عِوَضٍ.وَالْعَارِيَّةُ: تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِلَا عِوَضٍ.وَالْمَنِيحَةُ: الشَّاةُ أَوِ النَّاقَةُ يُعْطِيهَا صَاحِبُهَا رَجُلًا لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا ثُمَّ يَرُدَّهَا إِذَا انْقَطَعَ اللَّبَنُ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4- الرُّقْبَى نَوْعٌ مِنَ الْهِبَةِ، كَانَ الْعَرَبُ يَتَعَامَلُونَ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ.فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَقُولُ لِلرَّجُلِ: أَرْقَبْتُكَ دَارِي أَوْ أَرْضِي فِي حَيَاتِكَ، فَإِذَا مِتَّ قَبْلِي رَجَعَتْ إِلَيَّ، وَإِنْ مِتُّ قَبْلَكَ اسْتَقَرَّتْ لَكَ.وَسُمِّيَتْ رُقْبَى: لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَرْقُبُ الْآخَرَ مَتَى يَمُوتُ لِتَرْجِعَ إِلَيْهِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهَا جَائِزَةٌ، وَهِيَ لِمَنْ أُرْقِبَهَا، وَلَا تَرْجِعُ إِلَى الْمُرْقِبِ، وَيَلْغُو الشَّرْطُ، وَاسْتَدَلُّوا بِخَبَرِ: «مَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا فَهُوَ لِمُعْمَرِهِ مَحْيَاهُ وَمَمَاتَهُ، وَلَا تَرْقُبُوا، فَمَنْ أَرْقَبَ شَيْئًا فَهُوَ سَبِيلُهُ».وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: الرُّقْبَى جَائِزَةٌ» وَفِي رِوَايَةٍ «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا»، وَقَالُوا: فَهَذِهِ نُصُوصٌ تَدُلُّ عَلَى مِلْكِ الْمُعْمَرِ وَالْمُرْقَبِ (بِالْفَتْحِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا) وَبُطْلَانِ شَرْطِ الْعَوْدِ إِلَى الْمُرْقِبِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: قَوْلُ الْمُرْقِبِ: دَارِي لَكَ، تَمْلِيكٌ، وَقَوْلُهُ: رُقْبَى شَرْطٌ فَاسِدٌ فَيَلْغُو.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: إِنَّ الرُّقْبَى بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الرُّقْبَى: إِنْ مِتُّ قَبْلَكَ فَهُوَ لَكَ وَإِنْ مِتَّ قَبْلِي رَجَعَتْ إِلَيَّ، وَهَذَا تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ (أَيِ الْأَمْرُ الْمُتَرَدِّدُ بَيْنَ الْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ) فَيَبْطُلُ.
وَلِخَبَرِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَجَازَ الْعُمْرَى وَرَدَّ الرُّقْبَى» وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الرُّقْبَى تَكُونُ الْعَيْنُ عَارِيَّةً؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِطْلَاقَ الِانْتِفَاعِ بِهِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
17-موسوعة الفقه الكويتية (زنى 2)
زِنَى -2ب- أَنْوَاعُ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
19- قَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ الشُّبْهَةَ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ فِي إِفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: شُبْهَةٍ فِي الْوَاطِئِ، وَشُبْهَةٍ فِي الْمَوْطُوءَةِ، وَشُبْهَةٍ فِي الطَّرِيقِ.
فَالشُّبْهَةُ فِي الْوَاطِئِ: كَاعْتِقَادِ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْنَبِيَّةَ امْرَأَتُهُ، فَالِاعْتِقَادُ الَّذِي هُوَ جَهْلٌ مُرَكَّبٌ وَغَيْرُ مُطَابِقٍ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُعْتَقِدٌ الْإِبَاحَةَ، وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ فِي اعْتِقَادِهِ يَقْتَضِي الْحَدَّ، فَحَصَلَ الِاشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ.
وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَوْطُوءَةِ: كَالْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ إِذَا وَطِئَهَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ.فَمَا فِيهَا مِنْ نَصِيبِهِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ، وَمَا فِيهَا مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ يَقْتَضِي الْحَدَّ، فَحَصَلَ الِاشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ.وَالشُّبْهَةُ فِي الطَّرِيقِ: كَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي إِبَاحَةِ الْمَوْطُوءَةِ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَنَحْوِهِ.فَإِنَّ قَوْلَ الْمُحَرِّمِ يَقْتَضِي الْحَدَّ، وَقَوْلَ الْمُبِيحِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ، فَحَصَلَ الِاشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ.
فَهَذِهِ الثَّلَاثُ هِيَ ضَابِطُ الشُّبْهَةِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَهُمْ فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ.غَيْرَ أَنَّ لَهَا شَرْطًا وَهُوَ اعْتِقَادُ الْمُقْدِمِ عَلَى الْفِعْلِ مُقَارَنَةَ السَّبَبِ الْمُبِيحِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فِي حُصُولِ السَّبَبِ كَأَنْ يَطَأَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً يَعْتَقِدُ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ.وَضَابِطُ الشُّبْهَةِ الَّتِي لَا تُعْتَبَرُ فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ تَتَحَقَّقُ بِأَمْرَيْنِ: إِمَّا بِالْخُرُوجِ عَنِ الشُّبُهَاتِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ كَمَنْ تَزَوَّجَ خَامِسَةً أَوْ مَبْتُوتَةً ثَلَاثًا قَبْلَ زَوْجٍ، أَوْ أُخْتَهُ مِنَ الرَّضَاعِ أَوِ النَّسَبِ أَوْ ذَاتَ مَحْرَمٍ عَامِدًا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، أَوْ بِعَدَمِ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ كَأَنْ يَطَأَ امْرَأَةً يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سَيَتَزَوَّجُهَا فَإِنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ لِعَدَمِ اعْتِقَادِ مُقَارَنَةِ الْعِلْمِ لِسَبَبِهِ.
ج- أَنْوَاعُ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:
20- الشُّبْهَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: شُبْهَةٍ فِي الْمَحَلِّ، وَشُبْهَةٍ فِي الْفَاعِلِ، وَشُبْهَةٍ فِي الْجِهَةِ.
فَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ، كَوَطْءِ زَوْجَتِهِ الْحَائِضِ وَالصَّائِمَةِ، وَالْمُحْرِمَةِ، وَأَمَتِهِ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَجَارِيَةِ وَلَدِهِ.فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.وَكَذَا لَوْ وَطِئَ مَمْلُوكَتَهُ الْمُحَرَّمَةَ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، كَأُخْتِهِ مِنْهُمَا، أَوْ بِمُصَاهَرَةٍ كَمَوْطُوءَةِ أَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ، فَلَا حَدَّ بِوَطْئِهَا فِي الْأَظْهَرِ؛ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ.قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَمَحَلُّ ذَلِكَ فِيمَنْ يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا كَأُخْتِهِ.أَمَّا مَنْ لَا يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا كَالْأُمِّ وَالْجَدَّةِ فَهُوَ زَانٍ قَطْعًا.وَكَذَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ، أَوْ أَمَتَهُ الْمُزَوَّجَةَ، أَوِ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ غَيْرِهِ، أَوِ الْمَجُوسِيَّةَ وَالْوَثَنِيَّةَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ أَسْلَمَتْ أَمَةُ ذِمِّيٍّ فَوَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ تُبَاعَ.وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْفَاعِلِ، فَمِثْلُ أَنْ يَجِدَ امْرَأَةً فِي فِرَاشِهِ فَيَطَؤُهَا ظَانًّا أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ ظَنَّ ذَلِكَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ.وَلَوْ ظَنَّهَا جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ فَكَانَتْ غَيْرَهَا فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ لِأَنَّهُ عَلِمَ التَّحْرِيمَ فَكَانَ عَلَيْهِ الِامْتِنَاعُ.وَهَذَا مَا رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ مِنَ احْتِمَالَيْنِ.وَجَزَمَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِسُقُوطِهِ.وَيَدْخُلُ فِي شُبْهَةِ الْفَاعِلِ الْمُكْرَهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْجِهَةِ: فَهِيَ كُلُّ طَرِيقٍ صَحَّحَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَأَبَاحَ الْوَطْءَ بِهَا فَلَا حَدَّ فِيهَا عَلَى الْمَذْهَبِ وَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ نَظَرًا لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ.فَلَا حَدَّ فِي الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ.وَبِلَا شُهُودٍ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ.وَلَا فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ كَمَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِشُبْهَةِ الْخِلَافِ.
ثُمَّ إِنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي النِّكَاحِ الْمَذْكُورِ أَنْ لَا يُقَارِنَهُ حُكْمٌ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.فَإِنْ قَارَنَهُ حُكْمٌ قَاضٍ بِبُطْلَانِهِ حُدَّ قَطْعًا، أَوْ حُكْمٌ قَاضٍ بِصِحَّتِهِ لَمْ يُحَدَّ قَطْعًا.
وَقَدْ صَرَّحَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الضَّابِطَ فِي الشُّبْهَةِ قُوَّةُ الْمُدْرِكِ لَا عَيْنُ الْخِلَافِ.فَلَوْ وَطِئَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ حُدَّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ حُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ حِلُّ ذَلِكَ.
وَصَرَّحَ الرَّمْلِيُّ بِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ مِنْ عَالِمٍ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَإِنْ لَمْ يُقَلِّدْهُ الْفَاعِلُ.
د- الشُّبْهَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:
21- لَمْ يُقَسِّمِ الْحَنَابِلَةُ الشُّبْهَةَ إِلَى أَنْوَاعٍ كَالْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا لَهَا أَمْثِلَةً فَقَالُوا: لَا حَدَّ عَلَى الْأَبِ إِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ سَوَاءٌ وَطِئَهَا الِابْنُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ تَمَكَّنَتِ الشُّبْهَةُ فِيهِ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي مِلْكِ وَلَدِهِ لِحَدِيثِ «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ».وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ، أَوْ لِوَلَدِهِ فِيهَا شِرْكٌ، أَوْ لِمُكَاتَبِهِ فِيهَا شِرْكٌ؛ لِلْمِلْكِ أَوْ شُبْهَتِهِ، وَلَا حَدَّ إِنْ وَطِئَ أَمَةً كُلَّهَا لِبَيْتِ الْمَالِ أَوْ بَعْضَهَا لِبَيْتِ الْمَالِ وَهُوَ حُرٌّ مُسْلِمٌ، لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي بَيْتِ الْمَالِ.وَلَا حَدَّ إِنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ دُبُرٍ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ قَدْ صَادَفَ مِلْكًا، وَإِنْ وَطِئَ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ أَوْ فِي مَنْزِلِهِ ظَنَّهَا امْرَأَتَهُ أَوْ زُفَّتْ إِلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يُقَلْ لَهُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ.وَلَوْ دَعَا ضَرِيرٌ امْرَأَتَهُ فَأَجَابَتْهُ امْرَأَةٌ غَيْرُهَا فَوَطِئَهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ.بِخِلَافِ مَا لَوْ دَعَا مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ فَأَجَابَهُ غَيْرُهَا فَوَطِئَهَا يَظُنُّهَا الْمَدْعُوَّةَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمَدْعُوَّةُ مِمَّنْ لَهُ فِيهَا شُبْهَةٌ كَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ أَمْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ بِهَذَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَ رَجُلًا يَظُنُّهُ ابْنَهُ فَبَانَ أَجْنَبِيًّا.وَإِنْ وَطِئَ أَمَتَهُ الْمَجُوسِيَّةَ أَوِ الْوَثَنِيَّةَ أَوِ الْمُرْتَدَّةَ أَوِ الْمُعْتَدَّةَ، أَوِ الْمُزَوَّجَةَ، أَوْ فِي مُدَّةِ اسْتِبْرَائِهَا فَلَا حَدَّ، لِأَنَّهَا مِلْكُهُ.وَإِنْ وَطِئَ فِي نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ أَوْ فِي مِلْكٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ، أَوْ بِلَا شُهُودٍ، وَنِكَاحِ الشِّغَارِ، وَنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، وَنِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا، وَنَحْوِهَا، وَنِكَاحِ الْبَائِنِ مِنْهُ، وَنِكَاحِ خَامِسَةٍ فِي عِدَّةِ رَابِعَةٍ لَمْ تَبِنْ، وَنِكَاحِ الْمَجُوسِيَّةِ، وَعَقْدِ الْفُضُولِيِّ وَلَوْ قَبْلَ الْإِجَازَةِ، سَوَاءٌ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ أَمْ لَا.
هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ.وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ، أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ إِذَا اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ.
وَإِنْ جَهِلَ نِكَاحًا بَاطِلًا إِجْمَاعًا كَخَامِسَةٍ فَلَا حَدَّ لِلْعُذْرِ، وَيُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا.أَمَّا إِذَا عَلِمَ بِبُطْلَانِهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ.وَلَا حَدَّ فِي الْوَطْءِ فِي شِرَاءٍ فَاسِدٍ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَوِ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ لِلشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ بِإِقْبَاضِهِ الْأَمَةَ كَأَنَّهُ أَذِنَهُ فِي فِعْلِ مَا يَمْلِكُهُ بِالْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَمِنْهُ الْوَطْءُ، أَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ فَيُحَدُّ عَلَى الصَّحِيحِ.كَمَا يَجِبُ الْحَدُّ فِي وَطْءِ الْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ إِذَا كَانَ يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ وَيَعْلَمُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ عَلَى الصَّحِيحِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ.
5- مِنْ شُرُوطِ حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُخْتَارًا:
22- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُكْرَهَةِ عَلَى الزِّنَى لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».وَعَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ امْرَأَةً اسْتُكْرِهَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ».وَلِأَنَّ هَذَا شُبْهَةٌ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِهَا.
وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الرَّجُلِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَى.فَذَهَبَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ وَالَّذِي بِهِ الْفَتْوَى وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ إِلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الرَّجُلِ الْمُكْرَهِ عَلَى الزِّنَى لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ وَلِشُبْهَةِ الْإِكْرَاهِ.
وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ- وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ- وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِالِانْتِشَارِ الْحَادِثِ بِالِاخْتِيَارِ.
وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ إِكْرَاهِ السُّلْطَانِ وَإِكْرَاهِ غَيْرِهِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي إِكْرَاهِ السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ الْمُلْجِئَ قَائِمٌ ظَاهِرًا، وَالِانْتِشَارُ دَلِيلٌ مُتَرَدِّدٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ؛ لِأَنَّ الِانْتِشَارَ قَدْ يَكُونُ طَبْعًا لَا طَوْعًا، كَمَا فِي النَّائِمِ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً، وَعَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ، لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ لَا يَدُومُ إِلاَّ نَادِرًا لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِالسُّلْطَانِ أَوْ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَيُمْكِنُهُ دَفْعُهُ بِنَفْسِهِ بِالسِّلَاحِ.وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ، بِخِلَافِ السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِعَانَةُ بِغَيْرِهِ وَلَا الْخُرُوجُ بِالسِّلَاحِ عَلَيْهِ فَافْتَرَقَا.وَالْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْلِ الصَّاحِبَيْنِ.قَالَ مَشَايِخُ الْحَنَفِيَّةِ: وَهَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ، فَفِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لِغَيْرِ السُّلْطَانِ مِنَ الْقُوَّةِ مَا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالسُّلْطَانِ، وَفِي زَمَنِهِمَا ظَهَرَتِ الْقُوَّةُ لِكُلِّ مُتَغَلِّبٍ فَيُفْتَى بِقَوْلِهِمَا.
ثَانِيًا: الشُّرُوطُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا:
1- اشْتِرَاطُ كَوْنِ الْمَوْطُوءَةِ حَيَّةً:
23- اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) فِي وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَى أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ حَيَّةً، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عِنْدَهُمْ بِوَطْءِ الْمَيْتَةِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا وَجَبَ لِلزَّجْرِ، وَهَذَا مِمَّا يَنْفِرُ الطَّبْعُ عَنْهُ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الزَّجْرِ عَنْهُ بِحَدٍّ لِزَجْرِ الطَّبْعِ عَنْهُ.وَفِيهِ التَّعْزِيرُ عِنْدَهُمْ.
وَيُعَبِّرُ الشَّافِعِيَّةُ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ بِالْفَرْجِ الْمُشْتَهَى طَبْعًا، وَهُوَ فَرْجُ الْآدَمِيِّ الْحَيِّ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ فَيَجِبُ عِنْدَهُمُ الْحَدُّ بِوَطْءِ الْمَيْتَةِ سَوَاءٌ كَانَ فِي قُبُلِهَا أَوْ دُبُرِهَا.وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الزَّوْجَ فَلَا يُحَدُّ بِوَطْءِ زَوْجَتِهِ الْمَيْتَةِ.وَاسْتَثْنَوْا كَذَلِكَ الْمَرْأَةَ إِذَا أَدْخَلَتْ ذَكَرَ مَيْتٍ غَيْرَ زَوْجٍ فِي فَرْجِهَا فَلَا تُحَدُّ لِعَدَمِ اللَّذَّةِ.
كَوْنُ الْمَوْطُوءَةِ امْرَأَةً:
24- اشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ امْرَأَةً.فَلَا حَدَّ عِنْدَهُ فِيمَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ وَيُسْجَنُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَتُوبَ، وَلَوِ اعْتَادَ اللِّوَاطَةَ قَتَلَهُ الْإِمَامُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مِحْصَنٍ سِيَاسَةً.أَمَّا الْحَدُّ الْمُقَدَّرُ شَرْعًا فَلَيْسَ حُكْمًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًى وَلَا فِي مَعْنَاهُ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حَدٌّ.
وَلَمْ يَشْتَرِطْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ هَذَا الشَّرْطَ، فَذَهَبَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ حَدَّ الزِّنَى عَلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ جَلْدًا إِنْ لَمْ يَكُنْ أُحْصِنَ، وَرَجْمًا إِنْ أُحْصِنَ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمَا يُرْجَمَانِ حَدًّا أُحْصِنَا أَمْ لَا.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْفَاعِلِ.أَمَّا الْمَفْعُولُ بِهِ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ وَيُغَرَّبُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ إِحْصَانٌ. وَطْءُ الْبَهِيمَةِ:
25- ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ أَتَى بَهِيمَةً لَكِنَّهُ يُعَزَّرُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.وَمِثْلُ هَذَا لَا يَقُولُهُ إِلاَّ عَنْ تَوْقِيفٍ، وَلِأَنَّ الطَّبْعَ السَّلِيمَ يَأْبَاهُ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى زَجْرٍ بِحَدٍّ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ: إِنَّهُ يُحَدُّ حَدَّ الزِّنَى وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ: بِأَنَّهُ يُقْتَلُ مُطْلَقًا مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ.
وَمِثْلُ وَطْءِ الْبَهِيمَةِ مَا لَوْ مَكَّنَتِ امْرَأَةٌ حَيَوَانًا مِنْ نَفْسِهَا حَتَّى وَطِئَهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا بَلْ تُعَزَّرُ.
وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ) أَنَّهُ لَا تُقْتَلُ الْبَهِيمَةُ، وَإِذَا قُتِلَتْ فَإِنَّهَا يَجُوزُ أَكْلُهَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُؤْكَلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَمَنَعَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ أَكْلَهَا.وَقَالَا: تُذْبَحُ وَتُحْرَقُ.وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ الِانْتِفَاعِ بِهَا حَيَّةً وَمَيِّتَةً.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْبَهِيمَةَ تُقْتَلُ سَوَاءٌ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ.وَسَوَاءٌ كَانَتْ مَأْكُولَةً أَوْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ.وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا قَالَ: «مَنْ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ».وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّهَا تُذْبَحُ إِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً، وَصَرَّحُوا بِحُرْمَةِ أَكْلِهَا إِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ مَا يُؤْكَلُ.
3- كَوْنُ الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ:
26- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَى عَلَى مَنْ أَتَى امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فِي دُبُرِهَا، لِأَنَّهُ فَرْجٌ أَصْلِيٌّ كَالْقُبُلِ.
وَخَصَّ الشَّافِعِيَّةُ الْحَدَّ بِالْفَاعِلِ فَقَطْ.أَمَّا الْمَفْعُولُ بِهَا فَإِنَّهَا تُجْلَدُ وَتُغَرَّبُ، مُحْصَنَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ إِحْصَانٌ.
وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ فِي الْقُبُلِ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عِنْدَهُ عَلَى مَنْ أَتَى امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فِي دُبُرِهَا، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ.
ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ.أَمَّا إِتْيَانُ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ أَوْ مَمْلُوكَتَهُ فِي دُبُرِهَا فَلَا حَدَّ فِيهِ اتِّفَاقًا، وَيُعَزَّرُ فَاعِلُهُ لِارْتِكَابِهِ مَعْصِيَةً.وَقَصَرَ الشَّافِعِيَّةُ التَّعْزِيرَ عَلَى مَا إِذَا تَكَرَّرَ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَكَرَّرْ فَلَا تَعْزِيرَ فِيهِ.
4- كَوْنُ الْوَطْءِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ:
27- اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ الزِّنَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوِ الْبَغْيِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ زَنَى أَوْ سَرَقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَصَابَ بِهَا حَدًّا ثُمَّ هَرَبَ فَخَرَجَ إِلَيْنَا فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ».
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقَامَ عَلَى أَحَدٍ حَدٌّ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ.
وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ، وَلَا قُدْرَةَ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِ حَالَ كَوْنِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا وُجُوبَ وَإِلاَّ عَرَى عَنِ الْفَائِدَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الِاسْتِيفَاءُ لِيَحْصُلَ الزَّجْرُ، وَالْفَرْضُ أَنْ لَا قُدْرَةَ عَلَيْهِ، وَإِذَا خَرَجَ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِلْإِيجَابِ حَالَ وُجُودِهِ لَمْ يَنْقَلِبْ مُوجِبًا لَهُ حَالَ عَدَمِهِ.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ إِذَا زَنَى فِي عَسْكَرٍ لِأَمِيرِهِ وِلَايَةُ إِقَامَةِ الْحَدِّ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُقِيمُ عَلَيْهِ حَدَّ الزِّنَى؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَالْقُدْرَةُ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ خَرَجَ مِنَ الْعَسْكَرِ فَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَزَنَى ثُمَّ عَادَ إِلَى الْعَسْكَرِ فَإِنَّهُ لَا يُقِيمُهُ، وَكَذَا لَوْ زَنَى فِي الْعَسْكَرِ وَالْعَسْكَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي أَيَّامِ الْمُحَارَبَةِ قَبْلَ الْفَتْحِ فَإِنَّهُ يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ.وَهَذَا الْحُكْمُ خَاصٌّ بِمَا إِذَا كَانَ فِي الْعَسْكَرِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ إِقَامَةِ الْحُدُودِ، بِخِلَافِ أَمِيرِ الْعَسْكَرِ أَوِ السَّرِيَّةِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا فَوَّضَ لَهُمَا تَدْبِيرَ الْحَرْبِ لَا إِقَامَةَ الْحُدُودِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلْإِمَامِ، وَوِلَايَةُ الْإِمَامِ مُنْقَطِعَةٌ ثَمَّةَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ إِنْ لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً مِنْ نَحْوِ رِدَّةِ الْمَحْدُودِ وَالْتِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مَنْ أَتَى حَدًّا فِي الْغَزْوِ لَمْ يُسْتَوْفَ مِنْهُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لِمَا رَوَى جُنَادَةُ بْنُ أُمَيَّةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ بُسْرِ بْنِ أَرْطَاةَ فِي الْبَحْرِ، فَأُتِيَ بِسَارِقٍ يُقَالُ لَهُ: مَصْدَرٌ، قَدْ سَرَقَ بُخْتِيَّةً، فَقَالَ: قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي السَّفَرِ» وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَطَعْتُهُ.
وَنَقَلُوا إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ مَتَى رَجَعَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعُمُومِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ، وَإِنَّمَا أُخِّرَ لِعَارِضٍ، وَقَدْ زَالَ.
وَإِذَا أَتَى حَدًّا فِي الثُّغُورِ أُقِيمَ عَلَيْهِ فِيهَا بِغَيْرِ خِلَافٍ، لِأَنَّهَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إِلَى زَجْرِ أَهْلِهَا كَالْحَاجَةِ إِلَى زَجْرِ غَيْرِهِمْ.
5- أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُسْلِمًا:
28- اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُسْلِمًا، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْكَافِرِ إِذَا زَنَى بِمُسْلِمَةٍ طَائِعَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ.وَيُرَدُّ إِلَى أَهْلِ مِلَّتِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ الْعُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ، وَتُحَدُّ الْمُسْلِمَةُ.وَإِنِ اسْتَكْرَهَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَةَ عَلَى الزِّنَى قُتِلَ.
وَقَدْ وَافَقَتِ الْمَذَاهِبُ الْأُخْرَى مَذْهَبَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمُسْتَأْمَنِ فَقَطْ.
وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ فِي الْمَذَاهِبِ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي: فَفِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يُحَدُّ الْمُسْتَأْمَنُ سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، وَيُحَدُّ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ: يُحَدُّ الْجَمِيعُ.وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ: لَا يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ.فَإِذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ بِالْمُسْلِمَةِ أَوِ الذِّمِّيَّةِ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ دُونَ الْحَرْبِيِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ جَمِيعًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَلَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَتَقْيِيدُ الْمَسْأَلَةِ بِالْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ زَنَى بِحَرْبِيَّةٍ مُسْتَأْمَنَةٍ لَا يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُحَدَّانِ، وَإِنْ زَنَى الْمُسْلِمُ أَوِ الذِّمِّيُّ بِالْحَرْبِيَّةِ الْمُسْتَأْمَنَةِ حُدَّ الرَّجُلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُحَدَّانِ جَمِيعًا.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْمُعَاهَدِ وَالْمُسْتَأْمَنِ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِمَا بِالْأَحْكَامِ، وَيُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ لِالْتِزَامِهِ بِالْأَحْكَامِ، وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَجَمَ رَجُلًا وَامْرَأَةً مِنَ الْيَهُودِ زَنَيَا».وَكَانَا قَدْ أُحْصِنَا.قَالَ الرَّمْلِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ الْيَوْمَ لَا يُحَدُّونَ عَلَى الْمَذْهَبِ كَالْمُسْتَأْمَنِ، لِأَنَّهُمْ لَا يُجَدَّدُ لَهُمْ عَهْدٌ، بَلْ يَجْرُونَ عَلَى ذِمَّةِ آبَائِهِمْ.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يُحَدُّونَ حَدَّ الزِّنَى، «لِأَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِامْرَأَةٍ وَرَجُلٍ مِنْهُمْ قَدْ زَنَيَا فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَرُجِمَا» وَيَلْزَمُ الْإِمَامَ إِقَامَةُ الْحَدِّ فِي زِنَى بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ؛ لِالْتِزَامِهِمْ حُكْمَنَا.وَلَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى مُسْتَأْمَنٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ حُكْمَنَا.
وَلِأَنَّ زِنَى الْمُسْتَأْمَنِ يَجِبُ بِهِ الْقَتْلُ لِنَقْضِ الْعَهْدِ، وَلَا يَجِبُ مَعَ الْقَتْلِ حَدٌّ سِوَاهُ.وَهَذَا إِذَا زَنَى بِمُسْلِمَةٍ.أَمَّا إِذَا زَنَى الْمُسْتَأْمَنُ بِغَيْرِ مُسْلِمَةٍ فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.
6- أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ نَاطِقًا:
29- اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ نَاطِقًا.فَلَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عِنْدَهُمْ عَلَى الْأَخْرَسِ مُطْلَقًا، حَتَّى وَلَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَى أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي كِتَابٍ كَتَبَهُ أَوْ إِشَارَةٍ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِالزِّنَى لَا تُقْبَلُ لِلشُّبْهَةِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ هَذَا الشَّرْطَ فَيَجِبُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْأَخْرَسِ إِذَا زَنَى.
ثُبُوتُ الزِّنَى:
يَثْبُتُ الزِّنَى بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: بِالشَّهَادَةِ، وَالْإِقْرَارِ، وَالْقَرَائِنِ.
أ- الشَّهَادَةُ:
30- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ الزِّنَى بِالشَّهَادَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْيَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْيَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}
وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: نَعَمْ».
وَيُشْتَرَطُ فِي الشُّهُودِ عَلَى الزِّنَى بِالْإِضَافَةِ إِلَى الشُّرُوطِ الْعَامَّةِ لِلشَّهَادَةِ (الْمَذْكُورَةِ فِي مُصْطَلَحِ شَهَادَةٍ) أَنْ تَتَوَافَرَ فِيهِمْ شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ حَتَّى يَثْبُتَ الزِّنَى، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ هِيَ:
الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: الذُّكُورَةُ:
31- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِي شُهُودِ الزِّنَى، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا رِجَالًا كُلَّهُمْ، لِلنُّصُوصِ السَّابِقَةِ.
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الزِّنَى بِحَالٍ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْأَرْبَعَةِ اسْمٌ لِعَدَدِ الْمَذْكُورِينَ، وَيَقْتَضِي أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ بِأَرْبَعَةٍ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأَرْبَعَةَ إِذَا كَانَ بَعْضُهُمْ نِسَاءً لَا يُكْتَفَى بِهِمْ، وَأَنَّ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ خَمْسَةٌ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَا مَدْخَلَ لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا أَرْبَعَةً:
32- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزِّنَى لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ، لِلنُّصُوصِ السَّابِقَةِ؛ وَلِأَنَّ الزِّنَى مِنْ أَغْلَظِ الْفَوَاحِشِ فَغُلِّظَتِ الشَّهَادَةُ فِيهِ لِيَكُونَ أَسْتَرَ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَمُلُوا أَرْبَعَةً حُدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكْمُلُوا فَهُمْ قَذَفَةٌ، وَعَلَيْهِمْ حَدُّ الْقَذْفِ، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْيَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وَلِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- حَدَّ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالزِّنَى.وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ، وَلِئَلاَّ يَتَّخِذَ صُورَةَ الشَّهَادَةِ ذَرِيعَةً إِلَى الْوَقِيعَةِ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ.
وَعِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي الْمَذْهَبِ، أَنَّهُ لَا يُجْلَدُ الشُّهُودُ إِذَا نَقَصَ عَدَدُهُمْ عَنْ أَرْبَعَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا شَاهِدِينَ لَا هَاتِكِينَ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ:
33- اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَى أَنْ تَكُونَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ شَهِدَ بَعْضُ الْأَرْبَعَةِ فِي مَجْلِسٍ، وَبَعْضُهُمْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ.كَمَا اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَأْتِيَ الشُّهُودُ مُجْتَمِعِينَ إِلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعُوا خَارِجَ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ وَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ، أَمَّا لَوْ كَانُوا قُعُودًا فِي مَوْضِعِ الشُّهُودِ فَقَامَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ وَشَهِدَ، فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ بَعْدَ إِتْيَانِهِمْ مَحَلَّ الْحَاكِمِ جَمِيعًا فَإِنَّهُمْ يُفَرَّقُونَ وُجُوبًا لِيَسْأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا أَوْ بَعْضُهُمْ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَحُدُّوا.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَابِلَةُ إِتْيَانَهُمْ مُجْتَمِعِينَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَأْتُوا مُتَفَرِّقِينَ لِقِصَّةِ الْمُغِيرَةِ، فَإِنَّهُمْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ، وَسُمِعَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَإِنَّمَا حُدُّوا لِعَدَمِ كَمَالِهَا.عَلَى أَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ جَاءَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ أَنْ قَامَ الْحَاكِمُ مِنْ مَجْلِسِهِ فَهُمْ قَذَفَةٌ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَلَا صَحِيحَةٌ، وَعَلَيْهِمُ الْحَدُّ.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ فَيَسْتَوِي عِنْدَهُمْ أَنْ يَأْتِيَ الشُّهُودُ مُتَفَرِّقِينَ أَوْ مُجْتَمِعِينَ، وَأَنْ تُؤَدَّى الشَّهَادَةُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مَجْلِسٍ، لقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}.وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَجْلِسَ.وَقَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ}.وَلِأَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ مَقْبُولَةٌ إِنِ اتَّفَقَتْ، تُقْبَلُ إِذَا افْتَرَقَتْ فِي مَجَالِسَ، كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: تَفْصِيلُ الشَّهَادَةِ:
34- يُشْتَرَطُ فِي شَهَادَةِ الزِّنَى التَّفْصِيلُ، فَيَصِفُ الشُّهُودُ كَيْفِيَّةَ الزِّنَى، فَيَقُولُونَ: رَأَيْنَاهُ مُغَيِّبًا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا، أَوْ غَيَّبَ حَشَفَتَهُ أَوْ قَدْرَهَا- إِنْ كَانَ مَقْطُوعَهَا- فِي فَرْجِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، أَوِ الرِّشَاءِ فِي الْبِئْرِ، لِأَنَّهُ إِذَا اعْتَبَرَ التَّصْرِيحَ فِي الْإِقْرَارِ كَانَ اعْتِبَارُهُ فِي الشَّهَادَةِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَعْتَقِدُ الشَّاهِدُ مَا لَيْسَ بِزِنًى زِنًى، فَاعْتُبِرَ ذِكْرُ صِفَتِهِ.كَمَا يُبَيِّنُ الشُّهُودُ كَيْفِيَّتَهُمَا مِنَ اضْطِجَاعٍ أَوْ جُلُوسٍ أَوْ قِيَامٍ، أَوْ هُوَ فَوْقَهَا أَوْ تَحْتَهَا.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا سَأَلَهُمُ الْقَاضِي فَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّهُمَا زَنَيَا، فَإِنَّهُ لَا يَحُدُّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ وَلَا الشُّهُودَ.وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْمَرْأَةِ، فَلَوْ شَهِدُوا بِأَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُونَهَا لَمْ يُحَدَّ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ.
كَمَا لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْبَلَدِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَكَذَا تَعْيِينُ الْمَكَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، كَكَوْنِهَا فِي رُكْنِ الْبَيْتِ الشَّرْقِيِّ أَوِ الْغَرْبِيِّ، أَوْ وَسَطِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْمَكَانِ فِي الْبَيْتِ الْوَاحِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الشُّهُودُ فِيهِ حُدَّ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ لِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ حَقِيقَةً وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ فِي زَاوِيَةٍ وَالِانْتِهَاءُ فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى بِالِاضْطِرَابِ، أَوْ لِأَنَّ الْوَاقِعَ فِي وَسَطِ الْبَيْتِ فَيَحْسِبُهُ مَنْ فِي الْمُقَدَّمِ فِي الْمُقَدَّمِ، وَمَنْ فِي الْمُؤَخَّرِ فِي الْمُؤَخَّرِ فَيَشْهَدُ بِحَسَبِ مَا عِنْدَهُ، وَهَذَا فِي الْبَيْتِ الصَّغِيرِ، أَمَّا فِي الْبَيْتِ الْكَبِيرِ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّعْيِينِ.
وَلَا بُدَّ أَيْضًا مِنْ تَعْيِينِ الزَّمَانِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، لِتَكُونَ الشَّهَادَةُ مِنْهُمْ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَا شَهِدَ بِهِ أَحَدُهُمْ غَيْرَ مَا شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ.فَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَى فَشَهِدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَنَّهُ زَنَى بِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا يَوْمَ السَّبْتِ فَإِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.وَكَذَا لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِيمَا لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي سَاعَةٍ أُخْرَى.
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَصَالَةُ الشَّهَادَةِ:
35- اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- فِي شُهُودِ الزِّنَى الْأَصَالَةَ، فَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَى؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السِّتْرِ وَالدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيهَا شُبْهَةٌ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا اجْتِمَاعُ الْغَلَطِ وَالسَّهْوِ وَالْكَذِبِ فِي شُهُودِ الْفَرْعِ مَعَ احْتِمَالِ ذَلِكَ فِي شُهُودِ الْأَصْلِ، وَهَذَا احْتِمَالٌ زَائِدٌ لَا يُوجَدُ فِي شُهُودِ الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ إِنَّمَا تُقْبَلُ لِلْحَاجَةِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهَا فِي الْحَدِّ، لِأَنَّ سِتْرَ صَاحِبِهِ أَوْلَى مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ فَتَجُوزُ عِنْدَهُمُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَى بِشَرْطِ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ كُلِّ شَاهِدٍ أَصِيلٍ شَاهِدَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْقُلَ الشَّاهِدَانِ عَنْ شَاهِدٍ وَاحِدٍ أَوْ عَنْ شَاهِدَيْنِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الشَّاهِدَيْنِ النَّاقِلَيْنِ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُهُمَا شَاهِدًا أَصِيلًا، فَيَجُوزُ فِي الزِّنَى أَنْ يَشْهَدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ، أَوْ يَشْهَدَ كُلُّ اثْنَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ، أَوْ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ، أَوْ يَشْهَدَ ثَلَاثَةٌ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَيَشْهَدَ اثْنَانِ عَلَى شَهَادَةِ الرَّابِعِ، وَإِذَا نَقَلَ اثْنَانِ عَنْ ثَلَاثَةٍ وَعَنِ الرَّابِعِ اثْنَانِ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَشْهُورِ خِلَافًا لِابْنِ الْمَاجِشُونِ؛ وَوَجْهُ عَدَمِ صِحَّتِهَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْفَرْعُ إِلاَّ حَيْثُ تَصِحُّ شَهَادَةُ الْأَصْلِ لَوْ حَضَرَ، وَالرَّابِعُ الَّذِي نَقَلَ عَنْهُ الِاثْنَانِ الْآخَرَانِ لَوْ حَضَرَ مَا صَحَّتْ شَهَادَتُهُ مَعَ الِاثْنَيْنِ النَّاقِلَيْنِ عَنِ الثَّلَاثَةِ لِنَقْصِ الْعَدَدِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ عَدَمَ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ عَدَدَ الْفَرْعِ فِيهَا نَاقِصٌ عَنْ عَدَدِ الْأَصْلِ حَيْثُ نَقَلَ عَنِ الثَّلَاثَةِ اثْنَانِ فَقَطْ، وَالْفَرْعُ لَا يَنْقُصُ عَنِ الْأَصْلِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ وَنِيَابَتِهِ مَنَابَهُ.كَمَا يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ التَّلْفِيقُ بَيْنَ شُهُودِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، كَأَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ عَلَى رُؤْيَةِ الزِّنَى، وَيَنْقُلَ اثْنَانِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الِاثْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
18-موسوعة الفقه الكويتية (زيوف)
زُيُوفٌالتَّعْرِيفُ:
1- الزُّيُوفُ لُغَةً: النُّقُودُ الرَّدِيئَةُ، وَهِيَ جَمْعُ زَيْفٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ، ثُمَّ وُصِفَ بِالْمَصْدَرِ، فَيُقَالُ: دِرْهَمٌ زَيْفٌ، وَدَرَاهِمُ زُيُوفٌ، وَرُبَّمَا قِيلَ: زَائِفَةٌ.قَالَ بَعْضُهُمْ: الزُّيُوفُ هِيَ الْمَطْلِيَّةُ بِالزِّئْبَقِ الْمَعْقُودِ بِمُزَاوَجَةِ الْكِبْرِيتِ وَتُسَكُّ بِقَدْرِ الدَّرَاهِمِ الْجَيِّدَةِ لِتَلْتَبِسَ بِهَا.وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-: أَنَّهُ بَاعَ نُفَايَةَ بَيْتِ الْمَالِ وَكَانَتْ زُيُوفًا وَقَسِّيَّةً.أَيْ رَدِيئَةً.
وَالتَّزْيِيفُ لُغَةً: إِظْهَارُ زَيْفِ الدَّرَاهِمِ.
وَلَا يَخْرُجُ اصْطِلَاحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَقَدْ أَصْبَحَ لِلزُّيُوفِ فِي الْعَصْرِ الْحَاضِرِ مَعْنًى آخَرَ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْجِيَادُ:
2- الْجِيَادُ لُغَةً: جَمِيعُ جَيِّدَةٍ، وَالدَّرَاهِمُ الْجِيَادُ مَا كَانَ مِنَ الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ تَرُوجُ فِي التِّجَارَاتِ وَتُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ.وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَهُمَا التَّضَادُّ.
ب- النَّبَهْرَجَةُ:
3- التَّبَهْرُجُ وَالْبَهْرَجُ: الرَّدِيءُ مِنَ الشَّيْءِ، وَدِرْهَمٌ نُبَهْرَجٌ، أَوْ بَهْرَجٌ، أَوْ مُبَهْرَجٌ أَيْ رَدِيءُ الْفِضَّةِ، وَهُوَ مَا يَرُدُّهُ التُّجَّارُ، وَقِيلَ هُوَ: مَا ضُرِبَ فِي غَيْرِ دَارِ السُّلْطَانِ.
ج- السَّتُّوقَةُ:
4- وَهِيَ صُفْرٌ مُمَوَّهٌ بِالْفِضَّةِ نُحَاسُهَا أَكْثَرُ مِنْ فِضَّتِهَا.
د- الْفُلُوسُ:
5- الْفُلُوسُ جَمْعُ فَلْسٍ، وَهُوَ قِطْعَةٌ مَضْرُوبَةٌ مِنَ النُّحَاسِ يُتَعَامَلُ بِهَا.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَا:
6- يَجُوزُ التَّعَامُلُ بِدَرَاهِمَ زُيُوفٍ أَيْ «مَغْشُوشَةٍ» وَإِنْ جَهِلَ قَدْرَ غِشِّهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ لَهَا قِيمَةٌ إِنِ انْفَرَدَتِ الْفِضَّةُ أَمْ لَا، اسْتُهْلِكَتْ فِيهَا أَمْ لَا، وَلَوْ فِي الذِّمَّةِ، وَلَا يَضُرُّ اخْتِلَاطُهَا بِالنُّحَاسِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ رَوَاجُهَا، وَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يَتَعَامَلُونَ بِدَرَاهِمِ الْعَجَمِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَضْرِبْ نُقُودًا وَلَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، - رضي الله عنهم-، وَكَانُوا إِذَا زَافَتْ عَلَيْهِمْ أَتَوْا بِهَا إِلَى السُّوقِ وَقَالُوا: مَنْ يَبِيعُنَا بِهَذِهِ، وَسُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي دَرَاهِمَ يُقَالُ لَهَا: الْمُسَيَّبِيَّةُ عَامَّتُهَا مِنْ نُحَاسٍ، إِلاَّ أَنَّ فِيهَا شَيْئًا مِنَ الْفِضَّةِ فَقَالَ: إِذَا كَانَ شَيْئًا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ أَرْجُو أَلاَّ يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ؛ وَلِأَنَّهُ لَا تَغْرِيرَ فِيهِ وَلَا يُمْنَعُ النَّاسُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ مُسْتَفِيضٌ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ جَارٍ بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَعَارَفِ النَّاسُ عَلَى التَّعَامُلِ بِهَا فَلَا يَجُوزُ.
ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ الزُّيُوفِ:
7- يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ ضَرْبُ نُقُودٍ زَائِفَةٍ، كَمَا يُكْرَهُ لِلْأَفْرَادِ اتِّخَاذُهَا، أَوْ إِمْسَاكُهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَامَلُ بِهَا مَنْ لَا يَعْرِفُ حَالَهَا فَيَظُنُّهَا جَيِّدَةً وَلِخَبَرِ «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا».
وَمَنِ اجْتَمَعَتْ عِنْدَهُ زُيُوفٌ فَلَا يُمْسِكُهَا بَلْ يَسْبِكُهَا وَيَصُوغُهَا، وَلَا يَبِيعُهَا لِلنَّاسِ، إِلاَّ أَنْ يُبَيِّنَ حَالَهَا لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا خَلَطَهَا بِدَرَاهِمَ جَيِّدَةٍ، وَيُعَامِلَ مَنْ لَا يَعْرِفُهَا فَيَكُونُ تَغْرِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ وَإِدْخَالًا لِلضَّرَرِ عَلَيْهِمْ.وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغُرَّ بِهَا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا أَقُولُ إِنَّهَا حَرَامٌ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ الزُّيُوفَ لِبَيْتِ الْمَالِ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ وَمِنْ أَهْلِ الْأَرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ.
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- يَكْسِرُ الزُّيُوفَ وَهُوَ فِي بَيْتِ الْمَالِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ دِرْهَمٍ زَائِفٍ بِدِرْهَمٍ جَيِّدٍ وَزْنًا بِوَزْنٍ وَلَا بِعَرَضٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَاعِيَةٌ إِلَى إِدْخَالِ الْغِشِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يُرِيقُ اللَّبَنَ الْمَشُوبَ بِالْمَاءِ، تَأْدِيبًا لِصَاحِبِهِ، فَإِجَازَةُ شِرَائِهِ إِجَازَةٌ لِغِشِّهِ وَإِفْسَادٌ لِأَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِخَبَرِ «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا».
وَقَدْ نَهَى عُمَرُ- رضي الله عنه- عَنْ بَيْعِ نُفَايَةِ بَيْتِ الْمَالِ، وَكَانَتْ زُيُوفًا؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِ- وَهُوَ الْفِضَّةُ- مَجْهُولٌ، فَأَشْبَهَ تُرَابَ الصَّاغَةِ، وَاللَّبَنُ الْمَشُوبُ بِالْمَاءِ.
وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَيُعَلِّلُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مَنْعَ بَيْعِ الدَّرَاهِمِ الْجَيِّدَةِ بِالدَّرَاهِمِ الزُّيُوفِ بِأَنَّهُ مِنْ رِبَا الْفَضْلِ لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ التَّمَاثُلِ مَعَ وَحْدَةِ الْجِنْسِ فِي الْعِوَضَيْنِ.
وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي الزُّيُوفِ:
8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الزُّيُوفِ مِنَ الدَّرَاهِمِ.
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَتِ الْفِضَّةُ فِيهَا هِيَ الْغَالِبَةُ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ الْغِشَّ مُسْتَهْلَكٌ مَغْمُورٌ، وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ قَالَ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الدَّرَاهِمِ الْجِيَادِ، وَالزُّيُوفِ، وَالنَّبَهْرَجَةِ، وَالْمُزَيَّفَةِ، إِذَا كَانَ الْغَالِبُ فِيهَا الْفِضَّةَ؛ لِأَنَّ مَا يَغْلِبُ فِضَّتُهُ عَلَى غِشِّهِ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الدِّرْهَمِ مُطْلَقًا، وَالشَّرْعُ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ بِاسْمِ الدِّرْهَمِ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ فِيهَا الْغِشَّ وَالْفِضَّةُ مَغْلُوبَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ أَثْمَانًا رَائِجَةً، أَوْ يُمْسِكُهَا لِلتِّجَارَةِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا، فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنْ أَدْنَى الدَّرَاهِمِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ- وَهِيَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا الْفِضَّةُ- تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ.وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ فَلَا تَجِبُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَثْمَانًا رَائِجَةً، وَلَا مُعَدَّةً لِلتِّجَارَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الصُّفْرَ أَيِ النُّحَاسَ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ إِلاَّ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ، فَإِذَا أَعَدَّهَا لِلتِّجَارَةِ اعْتَبَرْنَا فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا الْقِيمَةَ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ، وَلَيْسَتْ أَثْمَانًا رَائِجَةً، اعْتَبَرْنَا مَا فِيهَا مِنَ الْفِضَّةِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الزُّيُوفِ مِنَ النُّقُودِ حَتَّى يَبْلُغَ خَالِصُهَا نِصَابًا.فَإِذَا بَلَغَ خَالِصُهَا النِّصَابَ أَخْرَجَ الْوَاجِبَ خَالِصًا، أَوْ أَخْرَجَ مِنَ الْمَغْشُوشِ مَا يَعْلَمُ اشْتِمَالَهُ عَلَى خَالِصٍ بِقَدْرِ الْوَاجِبِ.
وَلِتَفْصِيلِ ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (زَكَاةٍ).
بَيْعُ الزُّيُوفِ بِالْجِيَادِ:
9- لَا يَجُوزُ بَيْعُ الزُّيُوفِ بِالْجِيَادِ مُتَفَاضِلًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِخَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ...مِثْلًا بِمِثْلٍ».
وَعَنْ عُبَادَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا»، وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ أَنَّهُ سَأَلَ عَلِيًّا- رضي الله عنه- عَنِ الدَّرَاهِمِ تَكُونُ مَعِي لَا تُنْفَقُ فِي حَاجَتِي أَيْ رَدِيئَةً، فَأَشْتَرِي بِهَا دَرَاهِمَ تُنْفَقُ فِي حَاجَتِي وَأَهْضِمُ مِنْهَا؟ أَيْ أُنْقِصُ مِنَ الْبَدَلِ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ بِعْ دَرَاهِمَكَ بِدَنَانِيرَ ثُمَّ اشْتَرِ بِهَا دَرَاهِمَ تُنْفَقُ فِي حَاجَتِكَ؛ وَلِأَنَّ الْجِيَادَ وَالزُّيُوفَ نَوْعٌ وَاحِدٌ فَيَحْرُمُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا.
وَلَا مَعْنَى لِمُرَاعَاةِ فَرْقِ الْجَوْدَةِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ «جَيِّدِهَا وَرَدِيئِهَا سَوَاءٌ».
وَمَنَعَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْعَ الدَّرَاهِمِ الْجِيَادِ بِالدَّرَاهِمِ الرَّدِيئَةِ حَتَّى تُكْسَرَ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَغُشَّ غَيْرَهُ فِي أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ عِنْدَهُمْ.
وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: وَالْخِلَافُ فِي الْمَغْشُوشِ الَّذِي لَا يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ كَغَيْرِهِ، وَإِلاَّ جَازَ قَطْعًا.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (رِبًا)، (صَرْفٍ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
19-موسوعة الفقه الكويتية (سباق)
سِبَاقٌالتَّعْرِيفُ:
1- السِّبَاقُ لُغَةً: مَصْدَرُ سَابَقَ إِلَى الشَّيْءِ سَبَقَهُ وَسِبَاقًا، أَسْرَعَ إِلَيْهِ.
وَالسَّبْقُ: التَّقَدُّمُ فِي الْجَرْيِ، وَفِي كُلِّ شَيْءٍ، تَقُولُ: لَهُ فِي كُلِّ أَمْرٍ سِبْقَةٌ، وَسَابِقَةٌ، وَسَبْقٌ.
وَلَهُ سَابِقَةٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ: إِذَا سَبَقَ النَّاسَ إِلَيْهِ.
يُقَالُ: تَسَابَقُوا إِلَى كَذَا وَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ.
وَالسَّبَقُ- بِالتَّحْرِيكِ-: مَا يَتَرَاهَنُ عَلَيْهِ الْمُتَسَابِقُونَ فِي الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَفِي النِّضَالِ فَمَنْ سَبَقَ أَخَذَهُ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الرِّهَانُ:
2- قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: رَاهَنْتُ فُلَانًا عَلَى كَذَا رِهَانًا- مِنْ بَابِ قَاتَلَ- وَتَرَاهَنَ الْقَوْمُ: أَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ رَهْنًا لِيَفُوزَ السَّابِقُ بِالْجَمِيعِ إِذَا غَلَبَ وَالرِّهَانُ: الْمُخَاطَرَةُ، وَالْمُسَابَقَةُ عَلَى الْخَيْلِ.
ب- الْقِمَارُ:
3- الْقِمَارُ مَصْدَرُ قَامَرَ الرَّجُلُ مُقَامَرَةً وَقِمَارًا، إِذَا لَاعَبَهُ لَعِبًا فِيهِ رِهَانٌ، وَهُوَ التَّقَامُرُ.
وَتَقَامَرُوا: لَعِبُوا الْقِمَارَ.وَقَمِرْتُ الرَّجُلَ أَقْمَرُهُ قَمْرًا: إِذَا لَاعَبْتُهُ فِيهِ فَغَلَبْتُهُ.
ج- الْمَيْسِرُ:
4- الْمَيْسِرُ كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ قِمَارٌ حَتَّى لَعِبُ الصِّبْيَانِ بِالْجَوْزِ.
حُكْمُ السِّبَاقِ:
5- السِّبَاقُ جَائِزٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.
أَمَّا السُّنَّةُ: فَرَوَى ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الْمُضْمَرَةِ مِنَ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَبَيْنَ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ مِنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ».
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: مِنَ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ سِتَّةُ أَمْيَالٍ أَوْ سَبْعَةُ أَمْيَالٍ.
وَقَالَ سُفْيَانُ: مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ مِيلٌ أَوْ نَحْوُهُ.وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْمُسَابَقَةِ فِي الْجُمْلَةِ.وَالْمُسَابَقَةُ سُنَّةٌ إِنْ كَانَتْ بِقَصْدِ التَّأَهُّبِ لِلْقِتَالِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: « {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} الْآيَةَ.وَفَسَّرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْقُوَّةَ بِالرَّمْيِ».وَلِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ: «خَرَجَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ، فَقَالَ: ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا».وَلِخَبَرِ أَنَسٍ: «كَانَتْ نَاقَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تُسَمَّى الْعَضْبَاءُ لَا تُسْبَقُ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ فَسَبَقَهَا، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: سُبِقَتِ الْعَضْبَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَرْفَعَ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ وَضَعَهُ».
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمُسَابَقَةُ وَالْمُنَاضَلَةُ فَرْضَ كِفَايَةٍ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ وَسَائِلِ الْجِهَادِ وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى الْوَاجِبِ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَالْأَمْرُ بِالْمُسَابَقَةِ يَقْتَضِيهِ.
وَالْمُسَابَقَةُ بِالسِّهَامِ آكَدُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «ارْمُوا وَارْكَبُوا، لأَنْ تَرْمُوا خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا».
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ السَّهْمَ يَنْفَعُ فِي السَّعَةِ وَالضِّيقِ كَمَوَاضِعِ الْحِصَارِ بِخِلَافِ الْفَرَسِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الضِّيقِ بَلْ قَدْ يَضُرُّ.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: وَيُكْرَهُ لِمَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ تَرْكُهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا، أَوْ قَدْ عَصَى».
أَمَّا إِذَا قَصَدَ فِي الْمُسَابَقَةِ غَيْرَ الْجِهَادِ فَالْمُسَابَقَةُ حِينَئِذٍ مُبَاحَةٌ.
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: فَإِنْ قَصَدَ بِالْمُسَابَقَةِ مُحَرَّمًا كَقَطْعِ الطَّرِيقِ حَرُمَتْ.
أَنْوَاعُ الْمُسَابَقَةِ:
الْمُسَابَقَةُ نَوْعَانِ: مُسَابَقَةٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَمُسَابَقَةٌ بِعِوَضٍ.
أ- الْمُسَابَقَةُ بِغَيْرِ عِوَضٍ:
6- الْأَصْلُ أَنَّهُ تَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْمُسَابَقَةِ عَلَى الْأَقْدَامِ وَبِالسُّفُنِ وَالطُّيُورِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْفِيَلَةِ وَالْمَزَارِيقِ وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْأَصْلِ بَعْضُ الصُّوَرِ يَأْتِي بَيَانُهَا قَرِيبًا.
وَتَجُوزُ الْمُصَارَعَةُ وَرَفْعُ الْحَجَرِ لِيُعْرَفَ الْأَشَدُّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ فِي سَفَرٍ مَعَ عَائِشَةَ فَسَابَقَتْهُ عَلَى رِجْلِهَا فَسَبَقَتْهُ.قَالَتْ: فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي، فَقَالَ: هَذِهِ بِتِلْكَ».
«وَ سَابَقَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي يَوْمِ ذِي قَرَدٍ».«وَ صَارَعَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- رُكَانَةَ فَصَرَعَهُ».
{وَمَرَّ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِقَوْمٍ يَرْبَعُونَ حَجَرًا يَعْنِي يَرْفَعُونَهُ لِيَعْرِفُوا الْأَشَدَّ مِنْهُمْ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ»، وَسَائِرُ الْمُسَابَقَةِ يُقَاسُ عَلَى هَذَا.هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.
7- وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ شَرْطَ جَوَازِ السِّبَاقِ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ: الْحَافِرِ، وَالْخُفِّ، وَالنَّصْلِ، وَالْقَدَمِ لَا فِي غَيْرِهَا.لِمَا رُوِيَ عَنْهُ- عليه الصلاة والسلام- أَنَّهُ قَالَ: «لَا سَبْقَ إِلاَّ فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ».إِلاَّ أَنَّهُ زِيدَ عَلَيْهِ السَّبْقُ فِي الْقَدَمِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-، فَفِيمَا وَرَاءَهُ بَقِيَ عَلَى أَصْلِ النَّفْيِ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلِأَنَّهُ لَعِبٌ، وَاللَّعِبُ حَرَامٌ فِي الْأَصْلِ.إِلاَّ أَنَّ اللَّعِبَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ صَارَ مُسْتَثْنًى مِنَ التَّحْرِيمِ شَرْعًا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ مَا يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ بَاطِلٌ إِلاَّ رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتَهُ أَهْلَهُ، فَإِنَّهُنَّ مِنَ الْحَقِّ».
حَرَّمَ- عليه الصلاة والسلام- كُلَّ لَعِبٍ وَاسْتَثْنَى الْمُلَاعَبَةَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَخْصُوصَةِ، فَبَقِيَتِ الْمُلَاعَبَةُ بِمَا وَرَاءَهَا عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ، إِذِ الِاسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا، وَكَذَا الْمُسَابَقَةُ بِالْخُفِّ صَارَتْ مُسْتَثْنَاةً مِنَ الْحَدِيثِ.
ب- الْمُسَابَقَةُ بِعِوَضٍ:
8- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَصْلِ جَوَازِ الْمُسَابَقَةِ بِعِوَضٍ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ الْمُسَابَقَةُ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ السِّبَاقُ بِعِوَضٍ إِلاَّ فِي النَّصْلِ وَالْخُفِّ وَالْحَافِرِ، وَبِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ.
قَالَ فِي الْمُغْنِي: الْمُرَادُ بِالنَّصْلِ هُنَا: السَّهْمُ ذُو النَّصْلِ، وَبِالْحَافِرِ: الْفَرَسُ، وَبِالْخُفِّ: الْبَعِيرُ.عَبَّرَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِجُزْءٍ مِنْهُ يَخْتَصُّ بِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ السِّبَاقَ يَكُونُ فِي الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ: الْحَافِرِ، وَالْخُفِّ، وَالنَّصْلِ، وَالْقَدَمِ، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «لَا سَبْقَ إِلاَّ فِي نَصْلٍ، أَوْ خُفٍّ، أَوْ حَافِرٍ»، إِلاَّ أَنَّهُ زِيدَ عَلَيْهِ السَّبْقُ فِي الْقَدَمِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-.
9- وَقَدْ تَوَسَّعَ الشَّافِعِيَّةُ فِي جَوَازِ الْمُسَابَقَةِ عَلَى عِوَضٍ فَأَلْحَقُوا بِالسِّهَامِ الْمَزَارِيقَ (الرِّمَاحَ الصَّغِيرَةَ) وَالرِّمَاحَ وَالرَّمْيَ بِالْأَحْجَارِ بِمِقْلَاعٍ أَوْ يَدٍ، وَالرَّمْيَ بِالْمَنْجَنِيقِ، وَكُلِّ نَافِعٍ فِي الْحَرْبِ كَالرَّمْيِ بِالْمِسَلاَّتِ وَالْإِبَرِ وَالتَّرَدُّدِ بِالسُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ.
هَذَا هُوَ الْمُذَهَّبُ.قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: وَالَّذِي يَظْهَرُ امْتِنَاعُ ذَلِكَ فِي الْإِبْرَةِ، وَجَوَازُهُ فِي الْمِسَلَّةِ إِذَا كَانَ يَحْصُلُ بِرَمْيِهَا النِّكَايَةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ السَّهْمِ.
وَمُقَابِلُ الْمَذْهَبِ: عَدَمُ الصِّحَّةِ فِيمَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ آلَةِ الْحَرْبِ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ جَوَازِ رَمْيِ الْأَحْجَارِ الْمُدَاحَاةَ، بِأَنْ يَرْمِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْحَجَرَ إِلَى صَاحِبِهِ، فَالْمُسَابَقَةُ بَاطِلَةٌ قَطْعًا، وَإِشَالَةُ الْحَجَرِ بِالْيَدِ، وَيُسَمَّى الْعِلَاجُ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا النِّقَافُ: فَلَا نَقْلَ فِيهِ.قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَالْأَشْبَهُ جَوَازُهُ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَعُ فِي حَالِ الْمُسَابَقَةِ، وَقَدْ يُمْنَعُ خَشْيَةَ الضَّرَرِ، إِذْ كُلٌّ يَحْرِصُ عَلَى إِصَابَةِ صَاحِبِهِ، كَالْمُلَاكَمَةِ.
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَا تَصِحُّ الْمُسَابَقَةُ بِعِوَضٍ عَلَى كُرَةِ الصَّوْلَجَانِ، وَلَا عَلَى الْبُنْدُقِ يَرْمِي بِهِ إِلَى حُفْرَةٍ وَنَحْوِهَا، وَلَا عَلَى السِّبَاحَةِ فِي الْمَاءِ، وَلَا عَلَى الشِّطْرَنْجِ، وَلَا عَلَى الْخَاتَمِ، وَلَا عَلَى الْوُقُوفِ عَلَى رِجْلٍ، وَلَا عَلَى مَعْرِفَةِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ شَفْعٍ أَوْ وِتْرٍ، وَكَذَا سَائِرُ أَنْوَاعِ اللَّعِبِ كَالْمُسَابَقَةِ عَلَى الْأَقْدَامِ وَبِالسُّفُنِ وَالزَّوَارِقِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا تَنْفَعُ فِي الْحَرْبِ.هَذَا إِذَا عَقَدَ عَلَيْهَا بِعِوَضٍ، وَإِلاَّ فَمُبَاحٌ.وَأَمَّا الرَّمْيُ بِالْبُنْدُقِ عَنْ قَوْسٍ فَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا أَنَّهُ كَذَلِكَ، لَكِنَّ الْمَنْقُولَ فِي الْحَاوِي الْجَوَازُ.قَالَ الشَّبْرامَلِّسِي: وَمَا تَقَدَّمَ هُوَ فِي بُنْدُقِ الْعِيدِ الَّذِي يُلْعَبُ بِهِ، أَمَّا بُنْدُقُ الرَّصَاصِ وَالطِّينِ وَنَحْوِهَا فَتَصِحُّ الْمُسَابَقَةُ عَلَيْهِ وَلَوْ بِعِوَضٍ؛ لِأَنَّ لَهُ نِكَايَةً فِي الْعَدُوِّ.
وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيَّةُ بِالْخَيْلِ: الْفِيلَةَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ، فَتَصِحُّ الْمُسَابَقَةُ عَلَيْهَا بِعِوَضٍ وَغَيْرِهِ فِي الْأَظْهَرِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا سَبْقَ إِلاَّ فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نِصَالٍ».
قَالَ الْإِمَامُ الْجُوَيْنِيُّ: وَيُؤَيِّدُهُ الْعُدُولُ عَنْ ذِكْرِ الْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ إِلَى الْخُفِّ وَالْحَافِرِ، وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ غَيْرُ قَصْدِ التَّعْمِيمِ.
وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ: قَصْرُ الْحَدِيثِ عَلَى الْإِبِلِ وَالْخَيْلِ؛ لِأَنَّهَا الْمُقَاتَلُ عَلَيْهَا غَالِبًا، أَمَّا بِغَيْرِ عِوَضٍ فَيَجُوزُ.
وَلَا تَصِحُّ الْمُسَابَقَةُ بِعِوَضٍ عَلَى الْكِلَابِ وَمُهَارَشَةِ الدِّيَكَةِ، وَمُنَاطَحَةِ الْكِبَاشِ بِلَا خِلَافٍ لَا بِعِوَضٍ وَلَا غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ سَفَهٌ.
وَلَا عَلَى طَيْرٍ وَصِرَاعٍ، فَلَا تَصِحُّ الْمُسَابَقَةُ فِيهِمَا عَلَى عِوَضٍ فِي الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ آلَاتِ الْقِتَالِ.
وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ: تَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ بِعِوَضٍ عَلَى الطَّيْرِ وَالصِّرَاعِ.
أَمَّا الطَّيْرُ فَلِلْحَاجَةِ إِلَيْهَا فِي الْحَرْبِ لِإِنْهَاءِ الْأَخْبَارِ.وَأَمَّا الصِّرَاعُ «فَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَارَعَ رُكَانَةَ عَلَى شِيَاهٍ».
وَكَذَا كُلُّ مَا لَا يَنْفَعُ فِي الْحَرْبِ كَالشِّبَاكِ وَالْمُسَابَقَةُ عَلَى الْبَقَرِ فَتَجُوزُ بِلَا عِوَضٍ.
وَأَمَّا الْغَطْسُ فِي الْمَاءِ فَإِنْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِالِاسْتِعَانَةِ بِهِ فِي الْحَرْبِ فَكَالسِّبَاحَةِ فَيَجُوزُ بِلَا عِوَضٍ، وَإِلاَّ فَلَا يَجُوزُ مُطْلَقًا.
عَقْدُ الْمُسَابَقَةِ:
10- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ عَقْدَ الْمُسَابَقَةِ عَقْدٌ جَائِزٌ كَعَقْدِ الْجِعَالَةِ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ مَبْذُولٌ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَا يُوثَقُ بِهِ كَرَدِّ الْآبِقِ، فَعَلَى هَذَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْفَسْخُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمُسَابَقَةِ.
قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا الزِّيَادَةَ فِيهَا أَوِ النُّقْصَانَ مِنْهَا لَمْ يَلْزَمِ الْآخِرَ إِجَابَتُهُ، وَأَمَّا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْمُسَابَقَةِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَظْهَرْ لِأَحَدِهِمَا فَضْلٌ عَلَى الْآخَرِ جَازَ الْفَسْخُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ ظَهَرَ لِأَحَدِهِمَا فَضْلٌ مِثْلُ أَنْ يَسْبِقَهُ بِفَرَسِهِ فِي بَعْضِ الْمُسَابَقَةِ أَوْ يُصِيبَ بِسِهَامِهِ أَكْثَرَ مِنْهُ فَلِلْفَاضِلِ الْفَسْخُ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمَفْضُولِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَهُ ذَلِكَ لَفَاتَ غَرَضُ الْمُسَابَقَةِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى بَانَ لَهُ سَبْقُ صَاحِبِهِ لَهُ فَسَخَهَا وَتَرَكَ الْمُسَابَقَةَ، فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: عَقْدُ الْمُسَابَقَةِ لَازِمٌ لَيْسَ لِأَحَدِ الْمُتَسَابِقَيْنِ فَسْخُهُ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ عَقْدَ الْمُسَابَقَةِ لَازِمٌ لِمَنِ الْتَزَمَ بِالْعِوَضِ.أَمَّا مَنْ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا فَجَائِزٌ فِي حَقِّهِ.
وَعَلَى الْقَوْلِ بِاللُّزُومِ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا فَسْخُهُ إِذَا الْتَزَمَا الْمَالَ وَبَيْنَهُمَا مُحَلِّلٌ؛ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ، إِلاَّ إِذَا بَانَ بِالْعِوَضِ الْمُعَيَّنِ عَيْبٌ فَيَثْبُتُ حَقُّ الْفَسْخِ كَمَا فِي الْأُجْرَةِ.وَلَا تَرْكُ الْعَمَلِ قَبْلَ الشُّرُوعِ وَبَعْدَهُ، وَلَا زِيَادَةٌ وَلَا نَقْصٌ فِي الْعَمَلِ وَلَا فِي الْمَالِ.
الْعِوَضُ:
11- يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مَعْلُومًا لِأَنَّهُ مَالٌ فِي عَقْدٍ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا كَسَائِرِ الْعُقُودِ.وَيَكُونُ مَعْلُومًا بِالْمُشَاهَدَةِ أَوْ بِالْقَدْرِ أَوْ بِالصِّفَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًّا وَمُؤَجَّلًا كَالْعِوَضِ فِي الْبَيْعِ، وَأَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا.
مَنْ يُخْرِجُ الْعِوَضَ:
12- 1- إِذَا كَانَتِ الْمُسَابَقَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ أَخْرَجَ الْعِوَضَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ الْمُتَسَابِقَيْنِ كَأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إِنْ سَبَقْتَنِي فَلَكَ عَلَيَّ كَذَا، وَإِنْ سَبَقْتُكَ فَلَا شَيْءَ لِي عَلَيْكَ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ هَذَا.
2- أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مِنَ الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الرَّعِيَّةِ، وَهَذَا جَائِزٌ لَا خِلَافَ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ مَالِهِ أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً وَحَثًّا عَلَى تَعَلُّمِ الْجِهَادِ وَنَفْعًا لِلْمُسْلِمِينَ.
3- أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَهُوَ الرِّهَانُ.
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ وَهُوَ مِنَ الْقِمَارِ الْمُحَرَّمِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَغْنَمَ أَوْ يَغْرَمَ.وَسَوَاءٌ كَانَ مَا أَخْرَجَاهُ مُتَسَاوِيًا، مِثْلَ أَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَشْرَةَ دَنَانِيرَ، أَوْ مُتَفَاوِتًا، مِثْلَ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا عَشْرَةً، وَالْآخَرُ خَمْسَةً.
وَذَهَبَ ابْنُ الْقَيِّمِ إِلَى أَنَّ هَذَا جَائِزٌ وَنَقَلَهُ عَنِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، لِعَدَمِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي اشْتِرَاطِ الْمُحَلِّلِ.
فَإِنْ أَدْخَلَا بَيْنَهُمَا مُحَلِّلًا وَهُوَ ثَالِثٌ لَمْ يُخْرِجْ شَيْئًا جَازَ، وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ الصِّحَّةِ لِجَوَازِ رُجُوعِ الْجُعْلِ إِلَى مُخْرِجِهِ.
وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ عَلَى الْجَوَازِ بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُسْبَقَ، فَلَيْسَ بِقِمَارٍ، وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ أَمِنَ أَنْ يُسْبَقَ فَهُوَ قِمَارٌ».
فَجَعَلَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- قِمَارًا إِذَا أَمِنَ أَنْ يُسْبَقَ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَنْ يَغْنَمَ أَوْ يَغْرَمَ.وَإِذَا لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يُسْبَقَ لَمْ يَكُنْ قِمَارًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ مِنْ ذَلِكَ.فَالشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ فَرَسُ الْمُحَلِّلِ مُكَافِئًا لِفَرَسَيْهِمَا، أَوْ بَعِيرُهُ مُكَافِئًا لِبَعِيرَيْهِمَا، أَوْ رَمْيُهُ مُكَافِئًا لِرَمْيَيْهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَافِئًا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فَرَسَاهُمَا جَوَادَيْنِ وَفَرَسُهُ بَطِيئًا، فَهُوَ قِمَارٌ لِلْخَبَرِ؛ وَلِأَنَّهُ مَأْمُونٌ سَبْقُهُ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَإِنْ كَانَ مُكَافِئًا لَهُمَا جَازَ.
فَإِنْ جَاءُوا كُلُّهُمُ الْغَايَةَ دَفْعَةً وَاحِدَةً أَحْرَزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبْقَ نَفْسِهِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُحَلِّلِ لِأَنَّهُ لَا سَابِقَ فِيهِمْ، وَكَذَلِكَ إِنْ سَبَقَ الْمُسْتَبِقَانِ الْمُحَلِّلَ.
وَإِنْ سَبَقَ الْمُحَلِّلُ وَحْدَهُ أَحْرَزَ السَّبَقَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُ الْمُسْتَبِقَيْنِ وَحْدَهُ أَحْرَزَ سَبْقَ نَفْسِهِ وَأَخَذَ سَبْقَ صَاحِبِهِ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْمُحَلِّلِ شَيْئًا.
وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُ الْمُسْتَبِقِينَ وَالْمُحَلِّلِ أَحْرَزَ السَّابِقُ مَالَ نَفْسِهِ وَيَكُونُ سَبَقُ الْمَسْبُوقِ بَيْنَ السَّابِقِ وَالْمُحَلِّلِ نِصْفَيْنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَبِقُونَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ حَتَّى لَوْ كَانُوا مِائَةً وَبَيْنَهُمْ مُحَلِّلٌ لَا سَبَقَ مِنْهُ، جَازَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُحَلِّلُ جَمَاعَةً جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ سَبَقَ الْمُخْرِجُ أَوِ اسْتَوَيَا لَا يَعُودُ الْمَالُ إِلَى مُخْرِجِهِ بَلْ يَكُونُ لِمَنْ حَضَرَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ سَبَقَ الْآخَرُ أَخَذَهُ.
مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُسَابَقَةِ فِي الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَنَحْوِهِمَا:
13- يُشْتَرَطُ فِي الْمُسَابَقَةِ بِالْحَيَوَانِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْمَالِ الْمَشْرُوطِ مَا يَلِي:
أ- تَحْدِيدُ الْمَسَافَةِ: بِأَنْ يَكُونَ لِابْتِدَاءِ عَدْوِهِمَا وَآخِرِهِ غَايَةٌ لَا يَخْتَلِفَانِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مَعْرِفَةُ أَسْبَقِهِمَا، وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إِلاَّ بِتَسَاوِيهِمَا فِي الْغَايَةِ؛ وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ يَكُونُ مُقَصِّرًا فِي أَوَّلِ عَدْوِهِ سَرِيعًا فِي انْتِهَائِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِضِدِّ ذَلِكَ، فَيَحْتَاجُ إِلَى غَايَةٍ تَجْمَعُ حَالَيْهِ.وَمِنَ الْخَيْلِ مَا هُوَ أَصْبَرُ، وَالْقَارِحُ أَصْبَرُ مِنْ غَيْرِهِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا تُشْتَرَطُ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَبْدَأِ وَلَا فِي الْغَايَةِ بَلْ إِذَا دَخَلَا عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ جَازَ، كَأَنْ يَقُولَ لِصَاحِبِهِ: أُسَابِقُكَ بِشَرْطِ أَنْ أَبْتَدِئَ الرِّمَاحَةَ مِنَ الْمَحَلِّ الْفُلَانِيِّ فِي الْقَرِيبِ مِنْ آخِرِ الْمَيْدَانِ وَأَنْتَ مِنَ الْمَحَلِّ الْفُلَانِيِّ الَّذِي هُوَ بَعِيدٌ مِنْ آخِرِ الْمَيْدَانِ، وَكَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ فِي الْغَايَةِ.
رَوَى ابْنُ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- سَبَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ وَفَضَلَ الْقُرْحُ فِي الْغَايَةِ» «وَ سَبَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الْمُضْمَرَةِ مِنَ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ وَذَلِكَ سِتَّةُ أَمْيَالٍ أَوْ سَبْعَةٌ، وَبَيْنَ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ وَذَلِكَ مِيلٌ أَوْ نَحْوُهُ».
فَإِنِ اسْتَبَقَا بِغَيْرِ غَايَةٍ لِيَنْظُرَ أَيَّهُمَا يَقِفُ أَوَّلًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ لَا يَقِفَ أَحَدُهُمَا حَتَّى يَنْقَطِعَ فَرَسُهُ، وَيَتَعَذَّرَ الْإِشْهَادُ عَلَى السَّبْقِ فِيهِ.
ب- يُشْتَرَطُ فِي الْمُسَابَقَةِ إِرْسَالُ الْفَرَسَيْنِ أَوِ الْبَعِيرَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ أَرْسَلَ أَحَدَهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ لِيَعْلَمَ هَلْ يُدْرِكُهُ الْآخَرُ أَوْ لَا؟ لَمْ يَجُزْ هَذَا فِي الْمُسَابَقَةِ بِعِوَضٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُدْرِكُهُ مَعَ كَوْنِهِ أَسْرَعَ مِنْهُ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَهُمَا.
ج- أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَوَّلِ الْمَسَافَةِ مَنْ يُشَاهِدُ إِرْسَالَهُمَا وَيُرَتِّبُهُمَا، وَعِنْدَ الْغَايَةِ مَنْ يَضْبِطُ السَّابِقَ مِنْهُمَا لِئَلاَّ يَخْتَلِفَا فِي ذَلِكَ.
د- تَعْيِينُ الْفَرَسَيْنِ أَوِ الْبَعِيرَيْنِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مَعْرِفَةُ سَيْرِهِمَا، وَمِنْ ثَمَّ فَلَا يَجُوزُ إِبْدَالُهُمَا وَلَا إِبْدَالُ أَحَدِهِمَا لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ، فَإِنْ وَقَعَ هَلَاكٌ انْفَسَخَ الْعَقْدُ.
هـ- يُشْتَرَطُ فِي الرِّهَانِ أَنْ تَكُونَ الدَّابَّتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسَيْنِ كَالْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْبَعِيرَ لَا يَكَادُ يَسْبِقُ الْفَرَسَ فَلَا يَحْصُلُ الْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْمُسَابَقَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى الْجَوَازِ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ أَوِ اخْتِلَافِهِ.
و- أَنْ تَكُونَ الْمُسَابَقَةُ فِيمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَسْبِقَ وَيُسْبَقَ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ فِيمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْبِقُ غَالِبًا فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّحْرِيضِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَتَحَقَّقُ، فَبَقِيَ الرِّهَانُ الْتِزَامُ الْمَالِ بِشَرْطٍ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ فَيَكُونُ عَبَثًا وَلَعِبًا.
ز- وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا أَنْ يَرْكَبَ الْمُتَسَابِقَانِ الدَّابَّتَيْنِ، وَأَنْ يُعَيَّنَ الرَّاكِبَانِ، وَأَنْ يَجْتَنِبَ الشَّرْطَ الْمُفْسِدَ لِحِلِّ الْجُعْلِ كَأَنْ يَقُولَ الْمُخْرِجُ لِصَاحِبِهِ: إِنْ سَبَقْتَنِي فَالْجُعْلُ لَكَ عَلَى أَنْ تُطْعِمَهُ أَصْحَابَكَ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِشَرْطٍ يَمْنَعُ كَمَالَ التَّصَرُّفِ.
وَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَعْيِينُ الرَّاكِبَيْنِ.
مَا يَحْصُلُ بِهِ السَّبْقُ:
14- عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَحْصُلُ السَّبْقُ فِي الْإِبِلِ بِالْكَتِفِ وَفِي الْخَيْلِ بِالْعُنُقِ إِذَا اسْتَوَى الْفَرَسَانِ فِي خِلْفَةِ الْعُنُقِ؛ لِأَنَّ الْإِبِلَ تَرْفَعُ أَعْنَاقَهَا فِي الْعَدْوِ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا، وَالْخَيْلُ تَمُدُّهَا فَاعْتُبِرَ بِهَا.
وَقِيلَ: يُعْتَبَرُ السَّبْقُ بِالْقَوَائِمِ فِي الْإِبِلِ وَالْخَيْلِ وَنَحْوِهِمَا؛ لِأَنَّ الْعَدْوَ بِالْقَوَائِمِ.وَهُوَ الْأَقْيَسُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السَّبْقَ يَحْصُلُ فِي الْخَيْلِ بِالرَّأْسِ إِذَا تَمَاثَلَتِ الْأَعْنَاقُ، فَإِذَا اخْتَلَفَا فِي طُولِ الْعُنُقِ أَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْإِبِلِ اعْتُبِرَ السَّبْقُ بِالْكَتِفِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالرَّأْسِ مُتَعَذَّرٌ.
وَذَهَبَ الثَّوْرِيُّ إِلَى أَنَّ السَّبْقَ يَحْصُلُ بِالْأُذُنِ، فَإِذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا بِالْأُذُنِ كَانَ سَابِقًا.
الْمُنَاضَلَةُ:
15- وَهِيَ الْمُسَابَقَةُ فِي الرَّمْيِ بِالسِّهَامِ.وَالْمُنَاضَلَةُ: مَصْدَرُ نَاضَلْتُهُ نِضَالًا وَمُنَاضَلَةً.وَسُمِّيَ الرَّمْيُ نِضَالًا؛ لِأَنَّ السَّهْمَ التَّامَّ يُسَمَّى نَضْلًا، فَالرَّمْيُ بِهِ عَمَلٌ بِالنَّضْلِ، فَسُمِّيَ نِضَالًا وَمُنَاضَلَةً.
16- وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِصِحَّةِ الْمُسَابَقَةِ فِي الرَّمْيِ بِالسِّهَامِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْمَالِ الْمَشْرُوطِ مَا يَلِي:
أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الرَّشْقِ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَجْهُولًا لأَفْضَى إِلَى الْخِلَافِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُرِيدُ الْقَطْعَ، وَالْآخَرَ يُرِيدُ الزِّيَادَةَ فَيَخْتَلِفَانِ.
ب- أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الْإِصَابَةِ مَعْلُومًا، فَيَقُولَانِ: الرَّشْقُ عِشْرُونَ، وَالْإِصَابَةُ خَمْسَةٌ أَوْ سِتَّةٌ أَوْ مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ مِنْهَا.إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ إِصَابَةٍ نَادِرَةٍ كَإِصَابَةِ جَمِيعِ الرَّشْقِ، أَوْ إِصَابَةِ تِسْعَةِ أَعْشَارِهِ وَنَحْوِ هَذَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا لَا يُوجَدُ فَيَفُوتُ الْغَرَضُ.
ج- اسْتِوَاؤُهُمَا فِي عَدَدِ الرَّشْقِ وَالْإِصَابَةِ وَصِفَتِهَا وَسَائِرِ أَحْوَالِ الرَّمْيِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُشْتَرَطُ تَسَاوِي الْمُتَنَاضِلَيْنِ فِي الْمَسَافَةِ، وَلَا فِي عَدَدِ الْإِصَابَةِ، وَلَا فِي مَوْضِعِ الْإِصَابَةِ.
د- مَعْرِفَةُ قَدْرِ الْغَرَضِ.وَالْغَرَضُ: هُوَ مَا يُقْصَدُ إِصَابَتُهُ مِنْ قِرْطَاسٍ أَوْ وَرَقٍ أَوْ جِلْدٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ قَرْعٍ أَوْ غَيْرِهِ.
هـ- أَنْ يَصِفَا الْإِصَابَةَ مِنْ قَرْعٍ، وَهُوَ إِصَابَةُ الْغَرَضِ بِلَا خَدْشٍ، أَوْ خَزْقٍ، وَهُوَ أَنْ يَثْقُبَهُ وَلَا يَثْبُتَ فِيهِ، أَوْ خَسْقٍ، وَهُوَ أَنْ يُثْبِتَ فِيهِ، أَوْ مَرْقٍ، وَهُوَ أَنْ يَنْفُذَ مِنْهُ، فَإِنْ أَطْلَقَا اقْتَضَى الْقَرْعُ لِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ.
وَيُسَمَّى أَيْضًا شَارَةً وَشَنًّا.
وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْرُهُ مَعْلُومًا بِالْمُشَاهَدَةِ، أَوْ بِتَقْدِيرِهِ بِشِبْرٍ أَوْ شِبْرَيْنِ بِحَسَبِ الِاتِّفَاقِ، فَإِنَّ الْإِصَابَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ سَعَتِهِ وَضِيقِهِ.
و- مَعْرِفَةُ الْمَسَافَةِ: إِمَّا بِالْمُشَاهَدَةِ أَوْ بِالذُّرْعَانِ؛ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ تَخْتَلِفُ بِقُرْبِهَا وَبُعْدِهَا، وَمَهْمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ جَازَ، إِلاَّ أَنْ يَجْعَلَا مَسَافَةً بَعِيدَةً تَتَعَذَّرُ الْإِصَابَةُ فِي مِثْلِهَا، وَهِيَ مَا زَادَ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ يَفُوتُ بِذَلِكَ.وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مَا رَمَى إِلَى أَرْبَعِمِائَةِ ذِرَاعٍ إِلاَّ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ، - رضي الله عنه-.
ز- تَعْيِينُ الرُّمَاةِ، فَلَا يَصِحُّ مَعَ الْإِبْهَامِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مَعْرِفَةُ حِذْقِ الرَّامِي بِعَيْنِهِ لَا مَعْرِفَةُ حِذْقِ رَامٍ فِي الْجُمْلَةِ.
ح- أَنْ تَكُونَ الْمُسَابَقَةُ فِي الْإِصَابَةِ.فَلَوْ قَالَا: السَّبْقُ لِأَبْعَدِنَا رَمْيًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الرَّمْيِ الْإِصَابَةُ، لَا بُعْدُ الْمَسَافَةِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الرَّمْيِ: إِمَّا قَتْلُ الْعَدُوِّ أَوْ جَرْحُهُ، أَوِ الصَّيْدُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَكُلُّ هَذَا إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنَ الْإِصَابَةِ لَا مِنَ الْإِبْعَادِ.
ط- أَنْ يَبْتَدِئَ بِالرَّمْيِ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ رَمَيَا مَعًا لأَفْضَى إِلَى الِاخْتِلَافِ وَلَمْ يُعْرَفِ الْمُصِيبُ مِنْهُمَا.
وَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا غَرَضَانِ يَرْمِيَانِ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ يَمْضِيَانِ إِلَيْهِ فَيَأْخُذَانِ السِّهَامَ، وَيَرْمِيَانِ الْآخَرَ؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ فِعْلُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَا بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ».
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: رَأَيْتُ حُذَيْفَةَ يَشْتَدُّ بَيْنَ الْهَدَفَيْنِ، يَقُولُ: أَنَا بِهَا أَنَا بِهَا، فِي قَمِيصٍ.وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُ ذَلِكَ.
وَيُرْوَى عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَدُّونَ بَيْنَ الْأَغْرَاضِ يَضْحَكُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ كَانُوا رُهْبَانًا.
فَإِنْ جَعَلُوا غَرَضًا وَاحِدًا جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِهِ.
وَجَازَ الِافْتِخَارُ- أَيْ: ذِكْرُ الْمَفَاخِرِ بِالِانْتِسَابِ إِلَى أَبٍ أَوْ قَبِيلَةٍ- عِنْدَ الرَّمْيِ، وَالرَّجَزِ بَيْنَ الْمُتَسَابِقَيْنِ، أَوِ الْمُتَنَاضِلَيْنِ، وَكَذَا فِي الْحَرْبِ عِنْدَ الرَّمْيِ.
وَيَجُوزُ التَّسْمِيَةُ لِنَفْسِهِ كَأَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، أَوْ أَنَا فُلَانٌ أَبُو فُلَانٍ.
وَجَازَ الصِّيَاحُ حَالَ الرَّمْيِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْجِيعِ وَإِرَاحَةِ النَّفْسِ مِنَ التَّعَبِ.
وَالْأَوْلَى: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الرَّمْيِ مِنْ تَكْبِيرٍ أَوْ غَيْرِهِ.
وَتَحَدُّثُ الرَّامِي بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ خِلَافُ الْأَوْلَى، بَلْ قَدْ يَحْرُمُ إِنْ كَانَ فُحْشًا مِنَ الْقَوْلِ، أَوْ يُكْرَهُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
20-موسوعة الفقه الكويتية (سحت)
سُحْتٌالتَّعْرِيفُ:
1- السُّحْتُ لُغَةً: مَا خَبُثَ وَقَبُحَ مِنَ الْمَكَاسِبِ فَلَزِمَ عَنْهُ الْعَارُ وَقَبِيحُ الذِّكْرِ، وَهُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِهَا.
وَاصْطِلَاحًا: كُلُّ مَالٍ حَرَامٍ لَا يَحِلُّ كَسْبُهُ وَلَا أَكْلُهُ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُسْحِتُ الطَّاعَاتِ أَيْ يُذْهِبُهَا.
وَقَدْ يَخُصُّ بِهِ الرِّشْوَةَ وَمَا يَأْخُذُهُ الشَّاهِدُ وَالْقَاضِي، وَالسَّحْتُ (بِفَتْحِ السِّينِ) وَالْإِسْحَاتُ: الِاسْتِئْصَالُ وَالْإِهْلَاكُ، كَمَا فِي قوله تعالى: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} أَيْ يَسْتَأْصِلَكُمْ.
وَمِنَ السُّحْتِ: الرِّبَا وَالرِّشْوَةُ وَالْغَصْبُ وَالْقِمَارُ وَالسَّرِقَةُ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ وَالْمَالُ الْمَأْكُولُ بِالْبَاطِلِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْغَصْبُ:
2- الْغَصْبُ هُوَ فِي اللُّغَةِ: أَخْذُ الشَّيْءِ ظُلْمًا، وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الِاسْتِيلَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ عُدْوَانًا.
فَالْغَصْبُ نَوْعٌ مِنَ السُّحْتِ، وَالسُّحْتُ أَشْمَلُ مِنْهُ لِأَنَّهُ كُلُّ كَسْبٍ خَبِيثٍ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
يَنْقَسِمُ السُّحْتُ إِلَى أَنْوَاعٍ مِنْهَا:
الرِّشْوَةُ:
3- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّشْوَةَ- مَا يُعْطَى لِإِبْطَالِ حَقٍّ، أَوْ لِإِحْقَاقِ بَاطِلٍ- نَوْعٌ مِنَ السُّحْتِ لَا خِلَافَ فِي حُرْمَتِهِ وَأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ إِذَا اسْتَحَلَّهُ الْآخِذُ لقوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أَيْ كَانُوا يَسْمَعُونَ الْكَذِبَ وَيَقْبَلُونَ الرِّشَا، وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ لَحْمٍ أَنْبَتَهُ السُّحْتُ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا السُّحْتُ؟ قَالَ: الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ».
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ الْهَدِيَّةُ لِلْحَاكِمِ أَوِ الْقَاضِي أَوْ صَاحِبِ الْجَاهِ، لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا أَخَذَ الْهَدِيَّةَ فَقَدْ أَكَلَ السُّحْتَ، وَإِذَا أَخَذَ الرِّشْوَةَ بَلَغَتْ بِهِ الْكُفْرَ.وَلِخَبَرِ: «هَدَايَا الْعُمَّالِ سُحْتٌ» لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «هَدَايَا الْأُمَرَاءِ سُحْتٌ».
وَالتَّفَاصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (رِشْوَةٍ).
كَسْبُ الْحَجَّامِ:
4- مِنْ أَنْوَاعِ السُّحْتِ كَسْبُ الْحَجَّامِ: أَيْ أُجْرَتُهُ مِنَ الْحِجَامَةِ حَيْثُ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى حُرْمَةِ أُجْرَةِ الْحِجَامَةِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ» وَفِي رِوَايَةٍ: «شَرُّ الْمَكْسَبِ مَهْرُ الْبَغِيِّ وَثَمَنُ الْكَلْبِ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ».الْحَدِيثُ.وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مِنَ السُّحْتِ كَسْبَ الْحَجَّامِ».
إِلاَّ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ يَرَى إِبَاحَةَ الِاسْتِئْجَارِ لِلْحِجَامَةِ، وَأَنَّ أَجْرَ الْحَجَّامِ مُبَاحٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: «احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ».، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ، وَلَمْ يَكُنْ يَأْذَنُ أَنْ يُطْعَمَ بِهَا أَحَدٌ إِلاَّ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُجِيزِينَ يَرَى أَنَّ الْحِجَامَةَ مِنَ الْحِرَفِ الدَّنِيئَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ مُلَابَسَةِ النَّجَاسَةِ كَالْكُنَاسَةِ فَيُكْرَهُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَحْتَرِفَ بِهَا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الصَّحِيحُ فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ أَنَّهُ طَيِّبٌ وَمَنْ أَخَذَ طَيِّبًا لَا تَسْقُطُ مُرُوءَتُهُ وَلَا تَنْحَطُّ مَرْتَبَتُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بَعْدَ مَا ذَكَرَ حَدِيثَ احْتِجَامِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَسْبَ الْحَجَّامِ طَيِّبٌ، لِأَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- لَا يَجْعَلُ ثَمَنًا وَلَا جُعْلًا عِوَضًا لِشَيْءٍ مِنَ الْبَاطِلِ.
(ر: حِجَامَةٌ، أُجْرَةٌ، كَسْبٌ).
مَهْرُ الْبَغِيِّ:
5- مِنْ أَنْوَاعِ السُّحْتِ مَهْرُ الْبَغِيِّ، وَهُوَ مَا تَأْخُذُهُ الزَّانِيَةُ فِي مُقَابِلِ الزِّنَى، سُمِّيَ مَهْرًا مَجَازًا.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَتِهِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «شَرُّ الْمَكَاسِبِ ثَمَنُ الْكَلْبِ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ» وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مِنَ السُّحْتِ مَهْرُ الْبَغِيِّ» الْحَدِيثُ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِمَهْرِ الزَّانِيَةِ لِأَنَّهُ كَسْبٌ خَبِيثٌ وَلَا يُرَدُّ إِلَى الدَّافِعِ، لِأَنَّهُ دَفَعَهُ بِاخْتِيَارِهِ فِي مُقَابِلِ عِوَضٍ لَا يُمْكِنُ لِصَاحِبِهِ اسْتِرْجَاعُهُ، وَلِكَيْ لَا يُعَانَ صَاحِبُ الْمَعْصِيَةِ بِحُصُولِ غَرَضِهِ وَرُجُوعِ مَالِهِ.
وَالتَّفَاصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (زِنًى، مَهْرٍ، أُجْرَةٍ).
حُلْوَانُ الْكَاهِنِ:
6- مِنْ أَنْوَاعِ السُّحْتِ كَذَلِكَ حُلْوَانُ الْكَاهِنِ، وَهُوَ مَا يَأْخُذُهُ الْكَاهِنُ مُقَابِلَ إِخْبَارِهِ عَمَّا سَيَكُونُ، وَمُطَالَعَةِ الْغَيْبِ فِي زَعْمِهِ، وَهُوَ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ.
لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَثَمَنِ الْكَلْبِ وَالِاسْتِعْجَالِ فِي الْقَضِيَّةِ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَعَسْبِ الْفَحْلِ وَالرِّشْوَةِ فِي الْحُكْمِ وَثَمَنِ الْخَمْرِ وَثَمَنِ الْمَيْتَةِ: مِنَ السُّحْتِ.
وَلِمَا فِيهِ مِنْ أَخْذِ الْعِوَضِ عَلَى أَمْرٍ بَاطِلٍ.وَفِي مَعْنَاهُ التَّنْجِيمُ وَالضَّرْبُ بِالْحَصَى وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَاطَاهُ الْعَرَّافُونَ مِنَ اسْتِطْلَاعِ الْغَيْبِ.
وَالتَّفَاصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (كِهَانَةٍ، عِرَافَةٍ).
ثَمَنُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَمَا شَابَهَهَا:
7- مِنْ أَنْوَاعِ السُّحْتِ ثَمَنُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ وَالْأَصْنَامِ.
وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ مُتَّفَقٌ عَلَى حُرْمَتِهَا لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ».
وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: مِنَ السُّحْتِ كَسْبُ الْحَجَّامِ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ وَثَمَنُ الْكَلْبِ وَثَمَنُ الْخَمْرِ وَثَمَنُ الْمَيْتَةِ.الْحَدِيثُ.وَالتَّفَاصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٍ، أُجْرَةٍ، ثَمَنٍ).
مَا أُخِذَ بِالْحَيَاءِ:
8- مِنْ أَنْوَاعِ السُّحْتِ مَا أُخِذَ بِالْحَيَاءِ وَلَيْسَ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ كَمَنْ يَطْلُبُ مِنْ غَيْرِهِ مَالًا بِحَضْرَةِ النَّاسِ فَيَدْفَعُ إِلَيْهِ الشَّخْصُ بِبَاعِثِ الْحَيَاءِ وَالْقَهْرِ.
رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: حَيَاءٍ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
21-موسوعة الفقه الكويتية (السكر)
السُّكْرالتَّعْرِيفُ:
1- السُّكْرُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ سَكِرَ فُلَانٌ مِنَ الشَّرَابِ وَنَحْوِهِ، فَهُوَ ضِدُّ الصَّحْوِ، وَالسَّكَرُ- بِفَتْحَتَيْنِ- لُغَةً: كُلُّ مَا يُسْكِرُ مِنْ خَمْرٍ وَشَرَابٍ، وَالسَّكَرُ أَيْضًا نَقِيعُ التَّمْرِ الَّذِي لَمْ تَمَسُّهُ النَّارُ، وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِتَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَتَكُونُ مَنْسُوخَةً.وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ السُّكْرِ:
فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: السُّكْرُ نَشْوَةٌ تُزِيلُ الْعَقْلَ، فَلَا يَعْرِفُ السَّمَاءَ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَا الرَّجُلَ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَصَرَّحَ ابْنُ الْهُمَامِ بِأَنَّ تَعْرِيفَ السُّكْرِ بِمَا مَرَّ إِنَّمَا هُوَ فِي السُّكْرِ الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ.وَأَمَّا تَعْرِيفُهُ فِي غَيْرِ وُجُوبِ الْحَدِّ فَهُوَ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ كُلِّهِمْ: اخْتِلَاطُ الْكَلَامِ وَالْهَذَيَانُ.وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السَّكْرَانُ هُوَ الَّذِي اخْتَلَطَ كَلَامُهُ الْمَنْظُومُ وَانْكَشَفَ سِرُّهُ الْمَكْتُومُ.
وَقِيلَ: السُّكْرُ حَالَةٌ تَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مِنِ امْتِلَاءِ دِمَاغِهِ مِنَ الْأَبْخِرَةِ الْمُتَصَاعِدَةِ مِنَ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ، فَيَتَعَطَّلُ مَعَهُ الْعَقْلُ الْمُمَيِّزُ بَيْنَ الْأُمُورِ الْحَسَنَةِ وَالْقَبِيحَةِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْجُنُونُ:
2- الْجُنُونُ: اخْتِلَالُ الْعَقْلِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ جَرَيَانَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ عَلَى نَهْجِهِ إِلاَّ نَادِرًا.وَعُرِّفَ بِغَيْرِ ذَلِكَ (ر: جُنُون).
الْعَتَهُ:
3- الْعَتَهُ: آفَةٌ تُوجِبُ خَلَلًا فِي الْعَقْلِ فَيَصِيرُ صَاحِبُهُ مُخْتَلِطَ الْكَلَامِ فَيُشْبِهُ بَعْضُ كَلَامِهِ كَلَامَ الْعُقَلَاءِ وَبَعْضُهُ كَلَامَ الْمَجَانِينِ وَكَذَا سَائِرُ أُمُورِهِ.
4- الصَّرْعُ: عِلَّةٌ تَمْنَعُ الدِّمَاغَ مِنْ فِعْلِهِ مَنْعًا غَيْرَ تَامٍّ فَتَتَشَنَّجُ الْأَعْضَاءُ.
5- الْإِغْمَاءُ: الْإِغْمَاءُ مَصْدَرُ أُغْمِيَ عَلَى الرَّجُلِ، وَفِعْلُهُ مُلَازِمٌ لِلْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَهُوَ مَرَضٌ يُزِيلُ الْقُوَى وَيَسْتُرُ الْعَقْلَ، وَقِيلَ: هُوَ فُتُورٌ عَارِضٌ لَا بِمُخَدَّرٍ يُزِيلُ عَمَلَ الْقُوَى.
6- الْخَدَرُ: اسْتِرْخَاءٌ يَغْشَى بَعْضَ الْأَعْضَاءِ أَوِ الْجِسْمَ كُلَّهُ، وَخَدَّرَ الْعُضْوَ تَخْدِيرًا: جَعَلَهُ خَدِرًا، أَوْ حَقَنَهُ بِمُخَدِّرٍ لِإِزَالَةِ إِحْسَاسِهِ.
7- التَّرْقِيدُ: الْمُرَقِّدُ شَيْءٌ يُشْرَبُ يُنَوِّمُ مَنْ شَرِبَهُ وَيُرَقِّدُهُ وَتَذْهَبُ مَعَهُ الْحَوَاسُّ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
8- السُّكْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَعَدٍّ بِشُرْبِ مُحَرَّمٍ مَعْلُومٍ لِلشَّارِبِ كَالْخَمْرِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُسْكِرَاتِ، وَهَذَا حَرَامٌ لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وَلِحَدِيثِ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ».
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ السُّكْرُ بِغَيْرِ تَعَدٍّ كَأَنْ يَشْرَبَ شَرَابًا مُسْكِرًا يَظُنُّهُ غَيْرَ مُسْكِرٍ.وَهَذَا لَا إِثْمَ فِيهِ لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} وَكَذَا لَوْ شَرِبَهُ مُضْطَرًّا كَأَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَوْ لِدَفْعِ غُصَّةٍ وَلَمْ يَحْضُرْهُ غَيْرُهُ.
ضَابِطُ السُّكْرِ:
9- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَابِطِ السُّكْرِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ- إِلَى أَنَّ ضَابِطَ السُّكْرِ هُوَ مَنِ اخْتَلَطَ كَلَامُهُ وَكَانَ غَالِبُهُ هَذَيَانًا، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي حَدِّهِ: إِنَّهُ الَّذِي اخْتَلَّ كَلَامُهُ الْمَنْظُومُ وَانْكَشَفَ سِرُّهُ الْمَكْتُومُ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ السَّكْرَانَ هُوَ الَّذِي لَا يَعْرِفُ الْأَرْضَ مِنَ السَّمَاءِ، وَالرَّجُلَ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
انْظُرْ: أَشْرِبَة (ج 5 ص 23- 24).
وُجُوبُ الْحَدِّ بِشُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُسْكِرَاتِ:
10- السُّكْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرَابِ الْخَمْرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَشْرِبَةِ الْأُخْرَى، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ شَارِبِ الْخَمْرِ عَنْ حُكْمِ شَارِبِ الْمُسْكِرَاتِ الْأُخْرَى مِنَ الْأَنْبِذَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.
أَوَّلًا- الْخَمْرُ:
11- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ حَرَامٌ وَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَى شَارِبِهَا سَوَاءٌ أَكَانَ مَا شَرِبَهُ قَلِيلًا أَمْ كَثِيرًا وَسَوَاءٌ سَكِرَ مِنْهَا أَمْ لَمْ يَسْكَرْ.
وَاسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ جَمِيعًا عَلَى ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِالشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُالشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ ثَبَتَتْ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ تَبْلُغُ فِي مَجْمُوعِهَا حَدَّ التَّوَاتُرِ.فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَرِّضُ بِالْخَمْرِ وَلَعَلَّ اللَّهَ سَيُنَزِّلُ فِيهَا أَمْرًا، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلْيَبِعْهُ وَلْيَنْتَفِعْ بِهِ.قَالَ: فَمَا لَبِثْنَا إِلاَّ يَسِيرًا حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ، فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلَا يَشْرَبْ وَلَا يَبِعْ، قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْهَا فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ فَسَفَكُوهَا».
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ ((((قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ».
وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِهِ.
ثَانِيًا: الْمُسْكِرَاتُ الْأُخْرَى غَيْرُ الْخَمْرِ:
12- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي الشُّرْبِ مِنَ الْأَنْبِذَةِ الْأُخْرَى الْمُسْكِرَةِ- غَيْرِ الْخَمْرِ-
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْخَمْرِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الْعِنَبِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ فِي تَحْرِيمِ الشُّرْبِ، فَيُسَمَّى جَمِيعُ ذَلِكَ خَمْرًا وَيَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْهَا سَوَاءٌ سَكِرَ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَسْكَرْ.
وَقَدْ رُوِيَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَنَسٍ، وَعَائِشَةَ- رضي الله عنهم- وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْقَاسِمُ، وَقَتَادَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَإِسْحَاقُ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ».
وَحَدِيثُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْبِتْعِ فَقَالَ: كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ».
وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى قَالَ: «بَعَثَنِي النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَا وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَابًا يُصْنَعُ بِأَرْضِنَا يُقَالُ لَهُ الْمِزْرُ، مِنَ الشَّعِيرِ، وَشَرَابٌ يُقَالُ لَهُ الْبِتْعُ مِنَ الْعَسَلِ، فَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ».
الْقَوْلُ الثَّانِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ شَرِبَ سِوَى الْخَمْرِ مِنَ الْأَشْرِبَةِ الْمَعْهُودَةِ الْمُسْكِرَةِ إِلاَّ إِذَا سَكِرَ مِنْ شُرْبِهَا، كَنَقِيعِ الزَّبِيبِ وَالْمَطْبُوخِ أَدْنَى طَبْخَةٍ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَوِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْمُثَلَّثِ، وَالْأَشْرِبَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالدَّخَنِ وَالذُّرَةِ وَالْعَسَلِ وَالتِّينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حُرِّمَتِ الْخَمْرَةُ بِعَيْنِهَا، قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ
حُكْمُ تَنَاوُلِ الْبَنْجِ وَالْأَفْيُونِ وَالْحَشِيشَةِ:
13- يَحْرُمُ تَنَاوُلُ الْبَنْجِ وَالْأَفْيُونِ وَالْحَشِيشَةِ، وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بَلْ يُعَزَّرُ.
وَقَالَ الْبَزْدَوِيُّ: يُحَدُّ بِالسُّكْرِ مِنَ الْبَنْجِ فِي زَمَانِنَا عَلَى الْمُفْتَى بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: يَجِبُ الْحَدُّ سَكِرَ أَوْ لَمْ يَسْكَرْ، وَمَنِ اسْتَحَلَّ السُّكْرَ مِنْهَا وَزَعَمَ أَنَّهُ حَلَالٌ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ. خَلْطُ الْخَمْرِ بِغَيْرِهَا
14- إِنْ ثَرَدَ فِي الْخَمْرِ أَوِ اصْطَبَغَ بِهِ (أَيِ ائْتَدَمَ) أَوْ طَبَخَ بِهِ لَحْمًا فَأَكَلَ مِنْ مَرَقَتِهِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْخَمْرِ مَوْجُودَةٌ.وَكَذَلِكَ إِنْ لَتَّ بِهِ سَوِيقًا فَأَكَلَهُ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَإِنْ عَجَنَ بِهِ دَقِيقًا ثُمَّ خَبَزَهُ فَأَكَلَهُ لَمْ يُحَدَّ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ؛ لِأَنَّ النَّارَ أَكَلَتْ أَجْزَاءَ الْخَمْرِ فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَثَرُهُ.
وَإِنِ احْتَقَنَ بِالْخَمْرِ لَمْ يُحَدَّ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا، وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِشُرْبٍ وَلَا أَكْلٍ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى حَلْقِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَاوَى بِهِ جُرْحَهُ وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ عَلَى مَنِ احْتَقَنَ بِهِ الْحَدَّ، لِأَنَّهُ أَوْصَلَهُ إِلَى جَوْفِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى عِنْدَهُمْ كَمَا يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ، وَرَجَّحَ الْمُتَأَخِّرُونَ الثَّانِيَ.
وَإِنِ اسْتَعَطَ بِهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ.نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَلَهُ إِلَى بَاطِنِهِ مِنْ حَلْقِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا اكْتَحَلَ بِهَا أَوِ اقْتَطَرَهَا فِي أُذُنِهِ أَوْ دَاوَى بِهَا جَائِفَةً أَوْ آمَّةً فَوَصَلَ إِلَى دِمَاغِهِ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ يَعْتَمِدُ شُرْبَ الْخَمْرِ، وَهُوَ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ لَا يَصِيرُ شَارِبًا، وَلَيْسَ فِي طَبْعِهِ مَا يَدْعُوهُ إِلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ لِتَقَعَ الْحَاجَةُ إِلَى شَرْعِ الزَّجْرِ عَنْهُ.
وَلَوْ خُلِطَتْ الْخَمْرُ بِالْمَاءِ، فَإِنْ كَانَتِ الْخَمْرُ غَالِبَةً حُدَّ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ غَالِبًا لَا يُحَدُّ إِلاَّ إِذَا سَكِرَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ.
وَكَذَلِكَ يُحَدُّ إِذَا كَانَا سَوَاءً نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ بَاقٍ وَهِيَ عَادَةُ بَعْضِ الشَّرَبَةِ أَنَّهُمْ يَشْرَبُونَهَا مَمْزُوجَةً بِالْمَاءِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ خَلَطَ الْمُسْكِرَ بِمَاءٍ فَاسْتُهْلِكَ الْمُسْكِرُ فِيهِ فَشَرِبَهُ لَمْ يُحَدَّ.
وَقَالُوا: إِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لِعَطَشٍ وَكَانَتْ مَمْزُوجَةً بِمَا يَرْوِي مِنَ الْعَطَشِ أُبِيحَتْ لِدَفْعِ الْعَطَشِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ.وَإِنْ شَرِبَهَا مَمْزُوجَةً بِشَيْءٍ يَسِيرٍ لَا يَرْوِي مِنَ الْعَطَشِ لَمْ تُبَحْ لِعَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهَا وَعَلَيْهِ الْحَدُّ.
وَلَوْ عَجَنَ دَوَاءً بِخَمْرٍ أَوْ لَتَّهُ أَوْ جَعَلَهَا أَحَدَ أَخْلَاطِ الدَّوَاءِ ثُمَّ شَرِبَهَا وَالدَّوَاءُ هُوَ الْغَالِبُ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْخَمْرُ هِيَ الْغَالِبَةَ فَإِنَّهُ يُحَدُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا بِالْغَالِبِ إِذَا كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ وَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ.
قَدْرُ حَدِّ السُّكْرِ وَحَدِّ الشُّرْبِ:
15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ مُطْلَقًا؛ أَيْ سَوَاءٌ سَكِرَ مِنْهَا أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَا شَرِبَهُ مِنْهَا قَلِيلًا أَمْ كَثِيرًا.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَدْرِ الْحَدِّ الْوَاجِبِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ ثَمَانُونَ جَلْدَةً لَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَ النَّاسَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: اجْعَلْهُ كَأَخَفِّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ، فَضَرَبَ عُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكَتَبَ بِهِ إِلَى خَالِدٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بِالشَّامِ.
وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ فِي الْمَشُورَةِ: إِنَّهُ إِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَعَلَى الْمُفْتَرِي ثَمَانِينَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي:
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى أَنَّ قَدْرَ الْحَدِّ أَرْبَعُونَ فَقَطْ، وَلَوْ رَأَى الْإِمَامُ بُلُوغَهُ ثَمَانِينَ جَازَ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ تَكُونُ تَعْزِيرَاتٍ.
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ عَلِيًّا جَلَدَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ أَرْبَعِينَ ثُمَّ قَالَ: «جَلَدَ النَّبِيُّ ((((أَرْبَعِينَ»، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: إِنَّ «نَبِيَّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- جَلَدَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ»، ثُمَّ جَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ وَدَنَا النَّاسُ مِنَ الرِّيفِ وَالْقُرَى قَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ الْخَمْرِ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا كَأَخَفِّ الْحُدُودِ.قَالَ: فَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ.
قَالُوا: وَفِعْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- حُجَّةٌ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَا خَالَفَ فِعْلَ النَّبِيِّ ((((وَأَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهما-، فَتُحْمَلُ الزِّيَادَةُ مِنْ عُمَرَ عَلَى أَنَّهَا تَعْزِيرٌ يَجُوزُ فِعْلُهَا إِذَا رَأَى الْإِمَامُ ذَلِكَ.
شُرْبُ الْمُسْكِرِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ:
16- إِذَا شَرِبَ إِنْسَانٌ مُسْكِرًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ يُحَدُّ لِلشُّرْبِ وَيُعَزَّرُ بِعِشْرِينَ سَوْطًا لِإِفْطَارِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ مُلْزِمٌ لِلْحَدِّ، وَهَتْكُ حُرْمَةِ الشَّهْرِ وَالصَّوْمِ يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ وَلَكِنَّ الْحَدَّ أَقْوَى مِنَ التَّعْزِيرِ فَيُبْتَدَأُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ثُمَّ لَا يُوَالَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّعْزِيرِ لِكَيْ لَا يُؤَدِّيَ إِلَى الْإِتْلَافِ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَلِيٍّ أَنَّهُ أُتِيَ بِالنَّجَاشِيِّ الْحَارِثِيِّ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَحَدَّهُ ثُمَّ حَبَسَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ أَخْرَجَهُ فَضَرَبَهُ عِشْرِينَ سَوْطًا وَقَالَ: هَذَا لِجَرَاءَتِكَ عَلَى اللَّهِ وَإِفْطَارِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.
شُرُوطُ وُجُوبِ الْحَدِّ:
يُشْتَرَطُ لِإِيجَابِ الْحَدِّ مَا يَلِي:
17- أَوَّلًا: التَّكْلِيفُ وَهُوَ هُنَا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ، فَلَا حَدَّ عَلَى الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ بِاتِّفَاقٍ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ فَتَسْتَدْعِي جِنَايَةً مَحْضَةً، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِالْجِنَايَةِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا لِعَدَمِ الْجِنَايَةِ مِنْهُمَا. وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ يُؤَدَّبُ لِلزَّجْرِ.
18- ثَانِيًا: الْإِسْلَامُ فَلَا حَدَّ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ بِالشُّرْبِ وَلَا بِالسُّكْرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: وَشُرْبُ الْخَمْرِ مُبَاحٌ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَ أَكْثَرِ مَشَايِخِنَا فَلَا يَكُونُ جِنَايَةً، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا لَكِنَّنَا نُهِينَا عَنِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ، وَفِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ تَعَرُّضٌ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّنَا نَمْنَعُهُمْ مِنَ الشُّرْبِ.
وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُمْ إِذَا شَرِبُوا وَسَكِرُوا يُحَدُّونَ لِأَجْلِ السُّكْرِ لَا لِأَجْلِ الشُّرْبِ لِأَنَّ السُّكْرَ حَرَامٌ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا.قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ حَسَنٌ.
وَجَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: «إِنْ سَكِرَ الذِّمِّيُّ مِنَ الْحَرَامِ حُدَّ فِي الْأَصَحِّ لِحُرْمَةِ السُّكْرِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ» وَجَاءَ بِهَا أَيْضًا قَوْلُهُ: حُدَّ فِي الْأَصَحِّ أَفْتَى بِهِ الْحَسَنُ وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ.وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ إِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ وَسَكِرَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ كَمَا فِي النَّهْرِ عَنْ فَتَاوَى قَارِئِ الْهِدَايَةِ
وَقَالَ الْمَجْدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ: وَلَا يُحَدُّ الذِّمِّيُّ بِشُرْبِهِ وَإِنْ سَكِرَ، وَعَنْهُ: يُحَدُّ، وَعِنْدِي: إِنْ سَكِرَ حُدَّ وَإِلاَّ فَلَا.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الذِّمِّيَّ يُؤَدَّبُ بِالشُّرْبِ إِنْ أَظْهَرَهُ.
19- ثَالِثًا: عَدَمُ الضَّرُورَةِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، بِأَنْ يَشْرَبَهَا مُخْتَارًا لِشُرْبِهَا، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.فَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِهَا وَذَلِكَ لِقَوْلِ الرَّسُولِ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ فَتَسْتَدْعِي جِنَايَةً مَحْضَةً وَالشُّرْبُ بِالْإِكْرَاهِ حَلَالٌ فَلَمْ يَكُنْ جِنَايَةً فَلَا حَدَّ وَلَا إِثْمَ.
وَسَوَاءٌ أُكْرِهَ بِالْوَعِيدِ وَالضَّرْبِ أَوْ أُلْجِئَ إِلَى شُرْبِهَا بِأَنْ يُفْتَحَ فُوهُ وَتُصَبُّ فِيهِ.نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ يَكُونُ بِالتَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ أَوْ بِالضَّرْبِ الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ أَوْ بِإِتْلَافِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أَوْ بِالضَّرْبِ الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ؛ أَيْ بِقَيْدٍ أَوْ سَجْنٍ شَدِيدَيْنِ عَلَى أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ لِسَحْنُونٍ.
وَكَذَلِكَ لَا حَدَّ عَلَى مَنِ اضْطُرَّ إِلَيْهَا لِدَفْعِ غُصَّةٍ بِهَا إِذَا لَمْ يَجِدْ مَائِعًا سِوَاهَا، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَاعَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}.
وَلِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ فَتَسْتَدْعِي جِنَايَةً مَحْضَةً وَالشُّرْبُ لِضَرُورَةِ الْغُصَّةِ حَلَالٌ فَلَمْ يَكُنْ جِنَايَةً.وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَإِنْ شَرِبَهَا لِعَطَشٍ فَالْحَنَابِلَةُ يَقُولُونَ: إِنْ كَانَتْ مَمْزُوجَةً بِمَا يَرْوِي مِنَ الْعَطَشِ أُبِيحَتْ لِدَفْعِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَمَا تُبَاحُ الْمَيْتَةُ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ وَكَإِبَاحَتِهَا لِدَفْعِ الْغُصَّةِ.وَقَدْ رُوِيَ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ أَنَّهُ أَسَرَهُ الرُّومُ، فَحَبَسَهُ طَاغِيَتُهُمْ فِي بَيْتٍ فِيهِ مَاءٌ مَمْزُوجٌ بِخَمْرٍ، وَلَحْمُ خِنْزِيرٍ مَشْوِيٌّ لِيَأْكُلَهُ وَيَشْرَبَ الْخَمْرَ، وَتَرَكَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ أَخْرَجُوهُ حِينَ خَشُوا مَوْتَهُ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَقَدْ كَانَ اللَّهُ أَحَلَّهُ لِي فَإِنِّي مُضْطَرٌّ وَلَكِنْ لَمْ أَكُنْ لأُِشْمِتَكُمْ بِدِينِ الْإِسْلَامِ.
وَإِنْ شَرِبَهَا صِرْفًا أَوْ مَمْزُوجَةً بِشَيْءٍ يَسِيرٍ لَا يَرْوِي مِنَ الْعَطَشِ لَمْ يُبَحْ لَهُ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ الْحَدُّ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَحِلُّ شُرْبُهَا لِلْعَطَشِ لقوله تعالى: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، الْأَصَحُّ تَحْرِيمُهَا لِعَطَشٍ وَجُوعٍ وَلَكِنْ لَا يُحَدُّ وَقَالُوا: إِنْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ مِنْ عَطَشٍ جَازَ لَهُ شُرْبُهَا.
شُرْبُ الْمُسْكِرِ لِلتَّدَاوِي:
20- إِنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ لِلتَّدَاوِي (لَمْ يُبَحْ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَيُحَدُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ إِبَاحَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ لِلتَّدَاوِي بِحَدِيثِ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ مِنْ أَنَّ «طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ».
وَلِأَنَّ الْمُسْكِرَ مُحَرَّمٌ لِعَيْنِهِ فَلَمْ يُبَحْ لِلتَّدَاوِي كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ إِلَى جَوَازِ التَّدَاوِي بِالْقَدْرِ الَّذِي لَا يُسْكِرُ كَبَقِيَّةِ النَّجَاسَاتِ وَهَذَا فِي غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ، أَمَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ بِأَنْ لَمْ يَجِدْ دَوَاءً آخَرَ فَفِي جَوَازِهِ خِلَافٌ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي (تَدَاوِي).
21- رَابِعًا: مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَدِّ أَيْضًا بَقَاءُ اسْمِ الْخَمْرِ لِلْمَشْرُوبِ وَقْتَ الشُّرْبِ.
نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ.لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالشُّرْبِ تَعَلَّقَ بِهِ حَتَّى لَوْ خُلِطَ الْخَمْرُ بِالْمَاءِ ثُمَّ شَرِبَ نُظِرَ فِيهِ: إِنْ كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلْمَاءِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ- لِأَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ يَزُولُ عِنْدَ غَلَبَةِ الْمَاءِ، وَإِنْ كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلْخَمْرِ أَوْ كَانَا سَوَاءً يُحَدُّ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ بَاقٍ وَهِيَ عَادَةُ بَعْضِ الشَّرَبَةِ أَنَّهُمْ يَشْرَبُونَهَا مَمْزُوجَةً بِالْمَاءِ.
وَيُحَدُّ مَنْ شَرِبَ دُرْدِيَّ الْخَمْرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّهُ خَمْرٌ بِلَا شَكٍّ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ شُرْبُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ؛ لِأَنَّ الدُّرْدِيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ صَافِيهِ، وَالِانْتِفَاعُ بِالْخَمْرِ حَرَامٌ فَكَذَلِكَ بِدُرْدِيِّهِ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي الدُّرْدِيِّ أَجْزَاءَ الْخَمْرِ وَلَوْ وَقَعَتْ قَطْرَةٌ مِنْ خَمْرٍ فِي مَاءٍ لَمْ يَجُزْ شُرْبُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ، فَالدُّرْدِيُّ أَوْلَى. 22- خَامِسًا: وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا الْعِلْمُ بِأَنَّ كَثِيرَهَا يُسْكِرُ، فَالْحَدُّ إِنَّمَا يَلْزَمُ مَنْ شَرِبَهَا عَالِمًا بِأَنَّ كَثِيرَهَا يُسْكِرُ، فَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ إِلاَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ مَا شَرِبَهُ مُسْكِرًا.
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِهَا وَلَا قَاصِدٍ إِلَى ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ بِهَا فَأَشْبَهَ مَنْ زُفَّتْ إِلَيْهِ غَيْرُ زَوْجَتِهِ، وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ شَرِبَهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِهَا أَيْضًا- لِأَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ- رضي الله عنهما- قَالَا: لَا حَدَّ إِلاَّ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ- وَلِأَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِالتَّحْرِيمِ أَشْبَهَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا خَمْرٌ، وَإِذَا ادَّعَى الْجَهْلَ بِتَحْرِيمِهَا نُظِرَ.
فَإِنْ كَانَ نَاشِئًا بِبَلَدِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ لِأَنَّ هَذَا لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُهُ فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ أَوْ نَاشِئًا بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْبُلْدَانِ قُبِلَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَا قَالَهُ.
نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
23- سَادِسًا: اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ النُّطْقَ فَلَا يُحَدُّ الْأَخْرَسُ لِلشُّبْهَةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَاطِقًا يَحْتَمِلُ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا لَا يُحَدُّ بِهِ كَإِكْرَاهٍ أَوْ غَصٍّ بِلُقْمَةٍ.
وَلَا تُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ وَلَا الْحُرِّيَّةُ فَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَى كُلٍّ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالرَّقِيقِ إِلاَّ أَنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ يَكُونُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ.
وُجُودُ رَائِحَةِ الْخَمْرِ:
24- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ تُوجَدُ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الرَّاجِحَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ تُوجَدُ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ.وَذَلِكَ لِأَنَّ وُجُودَ رَائِحَةِ الْخَمْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ لِجَوَازِ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ بِهَا وَلَمْ يَشْرَبْهَا، أَوْ شَرِبَهَا عَنْ إِكْرَاهٍ أَوْ غُصَّةٍ خَافَ مِنْهَا الْهَلَاكَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ.إِلَى أَنَّهُ يُحَدُّ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ جَلَدَ رَجُلًا وَجَدَ مِنْهُ رَائِحَةَ الْخَمْرِ
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي وَجَدْتُ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ رِيحَ الشَّرَابِ فَأَقَرَّ أَنَّهُ شَرِبَ الطِّلَا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي سَائِلٌ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ.
وَلِأَنَّ الرَّائِحَةَ تَدُلُّ عَلَى شُرْبِهِ فَجَرَى مَجْرَى الْإِقْرَارِ.
تَقَيُّؤُ الْخَمْرِ:
25- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِتَقَيُّؤِ الْخَمْرِ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ.إِلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ تَقَيَّأَ الْخَمْرَ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا تُسْكِرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ يُحَدُّ بِذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ شُرْبِهَا فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِشُرْبِهَا.
وَلِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ لَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ قُدَامَةَ مَا كَانَ جَاءَ عَلْقَمَةُ الْخَصِيُّ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنِّي رَأَيْتُهُ يَتَقَيَّؤُهَا، فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ قَاءَهَا فَقَدْ شَرِبَهَا، فَضَرَبَهُ الْحَدَّ.
وَلِخَبَرِ عُثْمَانَ حِينَ أُتِيَ بِالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فَشَهِدَ عَلَيْهِ حُمْرَانُ وَرَجُلٌ آخَرُ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ رَآهُ شَرِبَهَا وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّؤُهَا فَقَالَ عُثْمَانُ: إِنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْ حَتَّى شَرِبَهَا، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ قُمْ فَاجْلِدْهُ، فَأَمَرَ عَلِيٌّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ فَضَرَبَهُ، وَهَذَا بِمَحْضَرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَسَادَتِهِمْ وَلَمْ يُنْكَرْ فَكَانَ إِجْمَاعًا.
وَلِأَنَّهُ يَكْفِي فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ أَنَّهُ شَرِبَهَا، وَلَا يَتَقَيَّؤُهَا أَوْ لَا يَسْكَرُ مِنْهَا حَتَّى يَشْرَبَهَا
إِثْبَاتُ الْحَدِّ:
لَا يَجِبُ الْحَدُّ حَتَّى يَثْبُتَ الشُّرْبُ أَوِ السُّكْرُ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ: الْإِقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ.
الْبَيِّنَةُ:
26- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشُّرْبَ- وَكَذَلِكَ السُّكْرُ- يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ- أَيْ شَهَادَةِ الشُّهُودِ- وَهِيَ شَهَادَةُ عَدْلَيْنِ وَيُشْتَرَطُ فِيهِمَا مَا يَلِي:
(1) أَنْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ.
(2) الذُّكُورَةُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ.
(3) الْأَصَالَةُ فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَلَا كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا؛ لِتَمَكُّنِ زِيَادَةِ شُبْهَةٍ فِيهَا وَالْحُدُودُ لَا تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ.
(4) عَدَمُ التَّقَادُمِ (انْظُرْ شَهَادَة) (وَحُدُود) (وَتَقَادُم) ف 13
(5) وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَسْأَلَ الْإِمَامُ الشَّاهِدَيْنِ عَنْ مَاهِيَّةِ الْخَمْرِ وَكَيْفَ شَرِبَ؛ لِاحْتِمَالِ الْإِكْرَاهِ، وَمَتَى شَرِبَ لِاحْتِمَالِ التَّقَادُمِ، وَأَيْنَ شَرِبَ لِاحْتِمَالِ شُرْبِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ حَبَسَهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ عَدَالَتِهِمْ وَلَا يَقْضِي بِظَاهِرِهَا.
(6) قِيَامُ الرَّائِحَةِ وَقْتَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فِي حَدِّ الشُّرْبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ- وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَيْسَ بِشَرْطٍ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا شَهِدَ عَدْلَانِ بِشُرْبِهِ الْخَمْرَ، وَخَالَفَهُمَا غَيْرُهُمَا مِنَ الْعُدُولِ بِأَنْ قَالَا: لَيْسَ رَائِحَتُهُ رَائِحَةَ خَمْرٍ بَلْ خَلٍّ مَثَلًا، فَلَا تُعْتَبَرُ الْمُخَالَفَةُ وَيُحَدُّ؛ لِأَنَّ الْمُثْبِتَ يُقَدَّمُ عَلَى النَّافِي.
الْإِقْرَارُ:
27- يَثْبُتُ الشُّرْبُ أَيْضًا بِإِقْرَارِ الشَّارِبِ نَفْسِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَانْظُرْ (حُدُود)، إِثْبَاتٌ.
شُرُوطُ إقَامَةِ الْحَدِّ:
28- يُشْتَرَطُ لِإِقَامَةِ حَدِّ الشُّرْبِ وَالسُّكْرِ شُرُوطٌ، مِنْهَا:
(1) الْإِمَامَةُ.اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الَّذِي يُقِيمُ الْحَدَّ هُوَ الْإِمَامُ أَوْ مَنْ وَلاَّهُ الْإِمَامُ انْظُرْ (حُدُود).
(2) أَهْلِيَّةُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِلشُّهُودِ عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ انْظُرْ (حُدُود) (3) أَنْ لَا يَكُونَ فِي تَنْفِيذِ حَدِّ الشُّرْبِ خَوْفُ الْهَلَاكِ لِأَنَّ هَذَا الْحَدَّ شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُهْلِكًا انْظُرْ مُصْطَلَحَ جَلْد وَحُدُود وَزِنًى وَقَذْف.
كَيْفِيَّةُ الضَّرْبِ فِي حَدِّ الشُّرْبِ:
29- لِلضَّرْبِ فِي حَدِّ الشُّرْبِ كَيْفِيَّةٌ خَاصَّةٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (جَلْد وَحُدُود)
سُقُوطُ الْحَدِّ بَعْدَ وُجُوبِهِ:
30- يَسْقُطُ حَدُّ الشُّرْبِ بَعْدَ وُجُوبِهِ بِأُمُورٍ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حُدُود) (وَسُقُوط).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
22-موسوعة الفقه الكويتية (صدقة 1)
صَدَقَةٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الصَّدَقَةُ بِفَتْحِ الدَّالِ لُغَةً: مَا يُعْطَى عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَى وَجْهِ الْمَكْرُمَةِ.
وَيَشْمَلُ هَذَا الْمَعْنَى الزَّكَاةَ وَصَدَقَةَ التَّطَوُّعِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ تُسْتَعْمَلُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الشَّامِلِ، فَيُقَالُ لِلزَّكَاةِ: صَدَقَةٌ، كَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الْآيَةَ.
وَيُقَالُ لِلتَّطَوُّعِ: صَدَقَةٌ كَمَا وَرَدَ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ وَتَحِلُّ لِغَنِيٍّ، أَيْ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ
يَقُولُ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ: الصَّدَقَةُ: مَا يُخْرِجُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ كَالزَّكَاةِ.لَكِنَّ الصَّدَقَةَ فِي الْأَصْلِ تُقَالُ: لِلْمُتَطَوَّعِ بِهِ، وَالزَّكَاةُ تُقَالُ: لِلْوَاجِبِ
وَالْغَالِبُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: اسْتِعْمَالُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ خَاصَّةً.
يَقُولُ الشِّرْبِينِيُّ: صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ هِيَ الْمُرَادَةُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ غَالِبًا وَيُفْهَمُ هَذَا مِنْ كَلَامِ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا، يَقُولُ الْحَطَّابُ: الْهِبَةُ إِنْ تَمَحَّضَتْ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ فَهِيَ الصَّدَقَةُ وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ الْبَعْلِيُّ الْحَنْبَلِيُّ فِي الْمُطْلِعِ عَلَى أَبْوَابِ الْمُقْنِعِ.
وَفِي وَجْهِ تَسْمِيَتِهَا صَدَقَةً يَقُولُ الْقَلْيُوبِيُّ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِإِشْعَارِهَا بِصِدْقِ نِيَّةِ بَاذِلِهَا وَهَذَا الْمَعْنَى الْأَخِيرُ أَيْ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْبَحْثِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ.
2- وَقَدْ تُطْلَقُ الصَّدَقَةُ عَلَى الْوَقْفِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ: أَنَّ «عُمَرَ تَصَدَّقَ بِمَالٍ لَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: ثَمْغٌ...فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ، وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ».
3- وَقَدْ تُطْلَقُ الصَّدَقَةُ: عَلَى كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ».
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْهِبَةُ، الْهَدِيَّةُ، الْعَطِيَّةُ:
4- الْهِبَةُ، وَالْهَدِيَّةُ، وَالْعَطِيَّةُ، كُلٌّ مِنْهَا تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا كَانَ هَذَا التَّمْلِيكُ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ فَصَدَقَةٌ، وَإِذَا كَانَ لِلْمُوَاصَلَةِ وَالْوِدَادِ فَهِبَةٌ، وَإِنْ قُصِدَ بِهِ الْإِكْرَامُ فَهَدِيَّةٌ.فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ قَسِيمٌ لِلْآخَرِ.وَالْعَطِيَّةُ شَامِلَةٌ لِلْجَمِيعِ.
ب- الْعَارِيَّةُ:
5- الْعَارِيَّةُ: إِبَاحَةٌ أَوْ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةِ عَيْنٍ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ لِصَاحِبِهَا بِشُرُوطٍ مَخْصُوصَةٍ.
وَعَلَى هَذَا فَكُلٌّ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالْعَارِيَّةِ تَبَرُّعٌ لَكِنَّ الصَّدَقَةَ تَمْلِيكُ عَيْنٍ، وَالْعَارِيَّةَ إِبَاحَةٌ أَوْ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَالصَّدَقَةُ يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ فِيهَا.كَمَا سَيَأْتِي.وَالْعَارِيَّةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ رَدِّ الْعَيْنِ لِمَالِكِهَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ مَنَافِعِهَا، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي مُصْطَلَحِ: (إِعَارَةٌ).
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الصَّدَقَةِ وَفَضْلِهَا:
6- إِنَّ أَدَاءَ الصَّدَقَةِ مِنْ بَابِ إِعَانَةِ الضَّعِيفِ، وَإِغَاثَةِ اللَّهِيفِ، وَإِقْدَارِ الْعَاجِزِ، وَتَقْوِيَتِهِ عَلَى أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَاتِ.
وَالصَّدَقَةُ شُكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ، وَهِيَ دَلِيلٌ لِصِحَّةِ إِيمَانِ مُؤَدِّيهَا وَتَصْدِيقِهِ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ صَدَقَةً.
وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ الصَّدَقَةِ أَحَادِيثُ مِنْهَا:
1- مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ...» فَذَكَرَ مِنْهُمْ: «رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ».
2- مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ، إِلاَّ أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً تَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ».
أَقْسَامُ الصَّدَقَةِ:
7- الصَّدَقَةُ أَنْوَاعٌ:
أ- صَدَقَةٌ مَفْرُوضَةٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ عَلَى الْأَمْوَالِ، وَهِيَ زَكَاةُ الْمَالِ، وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ).
ب- صَدَقَةٌ عَلَى الْأَبْدَانِ، وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةُ الْفِطْرِ).
ج- صَدَقَةٌ يَفْرِضُهَا الشَّخْصُ عَلَى نَفْسِهِ، وَهِيَ الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ بِالنَّذْرِ، وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي (نَذْرٌ).
د- الصَّدَقَاتُ الْمَفْرُوضَةُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، كَالْفِدْيَةِ، وَالْكَفَّارَةِ، وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (فِدْيَةٌ وَكَفَّارَةٌ).
هـ- صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، وَنُبَيِّنُ أَحْكَامَهَا فِيمَا يَلِي: الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
8- الصَّدَقَةُ مَسْنُونَةٌ، وَرَدَ النَّدْبُ إِلَيْهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الشَّرِيفَةِ.
أَمَّا مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
يَقُولُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: جَاءَ هَذَا الْكَلَامُ فِي مَعْرِضِ النَّدْبِ وَالتَّحْضِيضِ عَلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنُصْرَةِ الدِّينِ.وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}.
وَأَمَّا مِنَ الْأَحَادِيثِ فَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، «أَنَّ أَبَا الدَّحْدَاحِ لَمَّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَلَا أَرَى رَبَّنَا يَسْتَقْرِضُ مِمَّا أَعْطَانَا لِأَنْفُسِنَا، وَلِي أَرْضَانِ: أَرْضٌ بِالْعَالِيَةِ وَأَرْضٌ بِالسَّافِلَةِ، وَقَدْ جَعَلْتُ خَيْرَهُمَا صَدَقَةً.فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: كَمْ عِذْقٍ مُذَلَّلٍ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الْجَنَّةِ» وَمِنْهَا قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَطْعَمَ مُؤْمِنًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَقَى مُؤْمِنًا عَلَى ظَمَأٍ سَقَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ كَسَا مُؤْمِنًا عَلَى عُرْيٍ، كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ».
قَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّدَقَةُ مُسْتَحَبَّةٌ، وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ آكَدُ، وَكَذَا عِنْدَ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، وَعِنْدَ الْكُسُوفِ، وَعِنْدَ الْمَرَضِ، وَالسَّفَرِ، وَبِمَكَّةَ، وَالْمَدِينَةِ، وَفِي الْغَزْوِ وَالْحَجِّ، وَالْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ، كَعَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَيَّامِ الْعِيدِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْبُهُوتِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّدَقَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
9- الْكَلَامُ عَنِ الصَّدَقَةِ يَسْتَوْجِبُ التَّطَرُّقَ لِلْأُمُورِ التَّالِيَةِ:
(1) - الْمُتَصَدِّقُ: وَهُوَ، مَنْ يَدْفَعُ الصَّدَقَةَ وَيُخْرِجُهَا مِنْ مَالِهِ
(2) - الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ.وَهُوَ مَنْ يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ مِنَ الْغَيْرِ.
(3) - الْمُتَصَدَّقُ بِهِ: وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي يُتَطَوَّعُ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ.
(4) - النِّيَّةُ: وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلًا: الْمُتَصَدِّقُ:
10- صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ: تَبَرُّعٌ، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا:
أ- أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَدِّقُ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، أَيْ: عَاقِلًا بَالِغًا رَشِيدًا، ذَا وِلَايَةٍ فِي التَّصَرُّفِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا تَصِحُّ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ مِنَ الصَّغِيرِ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَسْبَابِ الْحَجْرِ، أَمَّا الصَّغِيرُ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ أَصْلًا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ.
وَأَمَّا الصَّغِيرُ الْمُمَيِّزُ: فَإِنَّ الصَّدَقَةَ مِنْهُ تُعْتَبَرُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ ضَرَرًا مَحْضًا، وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةَ ضَرَرًا دُنْيَوِيًّا، وَالَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ مُقَابِلٍ، كَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْوَقْفِ، وَسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ لَا تَصِحُّ، بَلْ تَقَعُ بَاطِلَةً، حَتَّى لَوْ أَذِنَ الْوَلِيُّ أَوِ الْوَصِيُّ؛ لِأَنَّ إِجَازَتَهُمَا فِي التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ لَاغِيَةٌ، وَقَدِ اسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَصِيَّةَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ الَّذِي يَعْقِلُ الْوَصِيَّةَ.
وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِمْ لِلسَّفَهِ، أَوِ الْإِفْلَاسِ، أَوْ غَيْرِهِمَا فَهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنَ التَّصَرُّفِ فَلَا تَصِحُّ مِنْهُمُ الصَّدَقَةُ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (حَجْرٌ)
وَكَمَا لَا تَصِحُّ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ مِنَ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، لَا تَصِحُّ الصَّدَقَةُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مِنْ قِبَلِ أَوْلِيَائِهِمْ نِيَابَةً عَنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ التَّبَرُّعَ مِنْ أَمْوَالِ مَنْ تَحْتَ وِلَايَتِهِمْ
ب- أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلْمَالِ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ، أَوْ وَكِيلًا عَنْهُ، فَلَا تَصِحُّ الصَّدَقَةُ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ بِلَا وَكَالَةٍ.وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ يَضْمَنُ مَا تَصَدَّقَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّعَ مَالَ الْغَيْرِ عَلَى صَاحِبِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، يَقُولُ التُّمُرْتَاشِيُّ: شَرَائِطُ صِحَّةِ الْهِبَةِ فِي الْوَاهِبِ: الْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْمِلْكُ.ثُمَّ قَالَ: وَالصَّدَقَةُ كَالْهِبَةِ بِجَامِعِ التَّبَرُّعِ
وَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ مِنَ الْقُرُبَاتِ فَتُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ فِيمَا إِذَا تَصَدَّقَ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ دُونَ إِذْنِهِ.
صَدَقَةُ الْمَرْأَةِ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا:
11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا لِلسَّائِلِ وَغَيْرِهِ بِمَا أَذِنَ الزَّوْجُ صَرِيحًا.كَمَا يَجُوزُ التَّصَدُّقُ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ بِمَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ إِذَا كَانَ يَسِيرًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ).
وَيَسْتَدِلُّ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْجَوَازِ بِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا وَلَهُ مِثْلُهُ بِمَا اكْتَسَبَ، وَلَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا» وَلَمْ يَذْكُرْ إِذْنًا.
وَعَنْ «أَسْمَاءَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا جَاءَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَيْسَ لِي شَيْءٌ إِلاَّ مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أَرْضَخَ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ، وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكَ».
وَلِأَنَّ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْهُ فِي الْعَادَةِ كَمَا عَلَّلَهُ الْمَرْغِينَانِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ.
قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ مِنْ مَنْزِلِ زَوْجِهَا بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ، كَالرَّغِيفِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْهُ فِي الْعَادَةِ وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْحَصْكَفِيُّ
وَيَقُولُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِصَحِيحِ مُسْلِمٍ: الْإِذْنُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: الْإِذْنُ الصَّرِيحُ فِي النَّفَقَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَالثَّانِي: الْإِذْنُ الْمَفْهُومُ مِنَ اطِّرَادِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، كَإِعْطَاءِ السَّائِلِ كَعُمْرَةٍ وَنَحْوِهَا مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ، وَاطَّرَدَ الْعُرْفُ فِيهِ، وَعُلِمَ بِالْعُرْفِ رِضَا الزَّوْجِ وَالْمَالِكِ بِهِ، فَإِذْنُهُ فِي ذَلِكَ حَاصِلٌ وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ.
وَمِثْلُهُ مَا حَرَّرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ حَيْثُ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْعَادَةِ.وَأَنَّهَا إِذَا عَلِمَتْ مِنْهُ، أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ الْعَطَاءَ وَالصَّدَقَةَ فَعَلَتْ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يُجْحِفْ، وَعَلَى ذَلِكَ عَادَةُ النَّاسِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «غَيْرَ مُفْسِدَةٍ»
وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: الْإِذْنُ الْعُرْفِيُّ يَقُومُ مَقَامَ الْإِذْنِ الْحَقِيقِيِّ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: افْعَلِي هَذَا
وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ التَّصَدُّقُ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا، لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لَا تُنْفِقُ امْرَأَةٌ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَلَا الطَّعَامَ؟ قَالَ: ذَاكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَا».
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَالْأَوَّلُ- أَيِ الْجَوَازُ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ- أَصَحُّ، لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ فِيهَا خَاصَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ.
أَمَّا إِذَا مَنَعَهَا مِنَ الصَّدَقَةِ مِنْ مَالِهِ، وَلَمْ يَكُنِ الْعُرْفُ جَارِيًا بِذَلِكَ، أَوِ اضْطَرَبَ الْعُرْفُ، أَوْ شَكَّتْ فِي رِضَاهُ، أَوْ كَانَ شَخْصًا يَشُحُّ بِذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ لِلْمَرْأَةِ وَغَيْرِهَا التَّصَدُّقُ مِنْ مَالِهِ إِلاَّ بِصَرِيحِ إِذْنِهِ، كَمَا حَقَّقَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ.
12- وَمَا ذُكِرَ مِنْ حُكْمِ تَصَدُّقِ الْمَرْأَةِ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا يُطَبَّقُ عَلَى تَصَدُّقِ الْخَازِنِ مِنْ مَالِ الْمَالِكِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ: «وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ» أَيْ: مِنَ الْأَجْرِ أَيْ: إِنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْمَثُوبَةِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ أَجْرٌ كَامِلٌ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، أَوْ مَعْنَاهُ الْمُشَارَكَةُ فِي الْأَجْرِ مُطْلَقًا، لِأَنَّ الْمُشَارِكَ فِي الطَّاعَةِ مُشَارِكٌ فِي الْأَجْرِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ، كَمَا حَقَّقَهُ النَّوَوِيُّ.
تَصَدُّقُ الزَّوْجَةِ مِنْ مَالِهَا بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ:
13- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْبَالِغَةَ الرَّشِيدَةَ لَهَا حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهَا، بِالتَّبَرُّعِ، أَوِ الْمُعَاوَضَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُتَزَوِّجَةً، أَمْ غَيْرَ مُتَزَوِّجَةٍ.وَعَلَى ذَلِكَ فَالزَّوْجَةُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ زَوْجِهَا فِي التَّصَدُّقِ مِنْ مَالِهَا وَلَوْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ لِلنِّسَاءِ: «تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ، فَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ» وَلَمْ يَسْأَلْ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ، فَلَوْ كَانَ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُنَّ بِغَيْرِ إِذْنِ أَزْوَاجِهِنَّ لَمَا أَمَرَهُنَّ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِالصَّدَقَةِ، وَلَا مَحَالَةَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِنَّ مَنْ لَهَا زَوْجٌ وَمَنْ لَا زَوْجَ لَهَا، كَمَا حَرَّرَهُ السُّبْكِيُّ.
وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ، وَلَا حَقَّ لِزَوْجِهَا فِي مَالِهَا، فَلَمْ يَمْلِكِ الْحَجْرَ عَلَيْهَا فِي التَّصَرُّفِ بِجَمِيعِهِ، كَمَا عَلَّلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يُحْجَرُ عَلَى الزَّوْجَةِ الْحُرَّةِ الرَّشِيدَةِ لِزَوْجِهَا الْبَالِغِ الرَّشِيدِ فِي تَبَرُّعٍ زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ «أَنَّ امْرَأَةَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَتَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- بِحُلِيٍّ لَهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ عَطِيَّةٌ حَتَّى يَأْذَنَ زَوْجُهَا، فَهَلِ اسْتَأْذَنْتِ كَعْبًا؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى كَعْبٍ، فَقَالَ: هَلْ أَذِنْتَ لَهَا أَنْ تَتَصَدَّقَ بِحُلِيِّهَا؟ قَالَ: نَعَمْ.فَقَبِلَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ».وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ مَالِهَا التَّجَمُّلُ بِهِ لِزَوْجِهَا، وَالْمَالُ مَقْصُودٌ فِي زَوَاجِهَا، حَيْثُ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا»
وَالْعَادَةُ أَنَّ الزَّوْجَ يَزِيدُ فِي مَهْرِهَا مِنْ أَجْلِ مَالِهَا وَيَتَبَسَّطُ فِيهِ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ، فَتَعَلَّقَ حَقُّ الزَّوْجِ فِي مَالِهَا وَمَحَلُّ الْحَجْرِ عَلَيْهَا فِي تَبَرُّعِهَا بِزَائِدٍ عَنِ الثُّلُثِ مِنْ مَالِهَا إِذَا كَانَ التَّبَرُّعُ لِغَيْرِ زَوْجِهَا.وَأَمَّا لَهُ فَلَهَا أَنْ تَهَبَ جَمِيعَ مَالِهَا لَهُ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ.
هَذَا، وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ مَالِهِ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ (ر: مَرَضُ الْمَوْتِ).
ثَانِيًا: الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ:
14- لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَصَدِّقِ، مِنَ الْعَقْلِ، وَالْبُلُوغِ، وَالرُّشْدِ، وَأَهْلِيَّةِ التَّبَرُّعِ، فَيَصِحُّ التَّصَدُّقُ عَلَى الصَّغِيرِ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، أَوْ إِفْلَاسٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِمْ نَفْعٌ مَحْضٌ لَهُمْ، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ الْأَوْلِيَاءِ.
وَحَيْثُ إِنَّ الصَّدَقَةَ تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ، فَهُنَاكَ أَشْخَاصٌ لَا تَصِحُّ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ، وَآخَرُونَ تَصِحُّ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ هَذَا الْمَوْضُوعَ كَالتَّالِي:
أ- الصَّدَقَةُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-:
15- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مِثْلَ صَدَقَةِ الْفَرِيضَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَى حُرْمَتِهَا، وَذَلِكَ صِيَانَةً لِمَنْصِبِهِ الشَّرِيفِ
وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ، فَإِنْ قِيلَ: صَدَقَةٌ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا، وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ لَهُ: هَدِيَّةٌ ضَرَبَ بِيَدِهِ فَأَكَلَ مَعَهُمْ».
وَعَلَى ذَلِكَ: فَالصَّدَقَةُ بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.وَقَدْ أَبْدَلَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِهَا الْفَيْءَ الَّذِي يُؤْخَذُ عَلَى سَبِيلِ الْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ الْمَبْنِيِّ عَلَى عِزِّ الْآخِذِ، وَذُلِّ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ.
ب- الصَّدَقَةُ عَلَى آلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-:
16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ: عَلَى عَدَمِ جَوَازِ صَدَقَةِ الْفَرِيضَةِ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم-، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لآِلِ مُحَمَّدٍ، إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ».
أَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِهَا عَلَيْهِمْ.وَالْبَعْضُ يَقُولُونَ: بِعَدَمِ الْجَوَازِ وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (آلٌ 4 وَ 10)
ج- التَّصَدُّقُ عَلَى ذَوِي الْقَرَابَةِ وَالْأَزْوَاجِ:
17- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي جَوَازِ التَّصَدُّقِ عَلَى الْأَقْرِبَاءِ، وَالْأَزْوَاجِ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، بَلْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ: بِأَنَّهُ يُسَنُّ التَّصَدُّقُ عَلَيْهِمْ، وَلَهُمْ أَخْذُهَا، وَلَوْ كَانُوا مِمَّنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى الْمُتَصَدِّقِ فَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ» وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ».
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: دَفْعُ الصَّدَقَةِ لِقَرِيبِ أَقْرَبَ فَأَقْرَبَ رَحِمًا وَلَوْ كَانَ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ أَفْضَلُ مِنْ دَفْعِهَا لِغَيْرِ الْقَرِيبِ، وَلِلْقَرِيبِ غَيْرِ الْأَقْرَبِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ امْرَأَتَيْنِ أَتَيَتَا رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتَا لِبِلَالٍ: سَلْ لَنَا رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- هَلْ يُجْزِئُ أَنْ نَتَصَدَّقَ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَيَتَامَى فِي حُجُورِنَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ لَهُمَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ».
هَذَا وَقَدْ رَتَّبَ الشَّافِعِيَّةُ مَنْ يُفَضَّلُ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ فَقَالُوا: هِيَ فِي الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، وَفِي الْأَشَدِّ مِنْهُمْ عَدَاوَةً أَفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِيُتَأَلَّفَ قَلْبُهُ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ مُجَانَبَةِ الرِّيَاءِ وَكَسْرِ النَّفْسِ، وَأُلْحِقَ بِهِمُ الْأَزْوَاجُ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، ثُمَّ الرَّحِمِ غَيْرِ الْمَحْرَمِ، كَأَوْلَادِ الْعَمِّ وَالْخَالِ.ثُمَّ فِي الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ رَضَاعًا، ثُمَّ مُصَاهَرَةً، ثُمَّ وَلَاءً، ثُمَّ جِوَارًا، وَقُدِّمَ الْجَارُ الْأَجْنَبِيُّ عَلَى قَرِيبٍ بَعِيدٍ عَنْ دَارِ الْمُتَصَدِّقِ، بِحَيْثُ لَا تُنْقَلُ إِلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَلَوْ كَانَ بِبَادِيَةٍ.وَمِثْلُهُ مَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
د- التَّصَدُّقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ:
18- الْأَصْلُ أَنَّ الصَّدَقَةَ تُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ، وَهَذَا هُوَ الْأَفْضَلُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ.وَذَلِكَ لقوله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا تَحِلُّ لِلْغَنِيِّ؛ لِأَنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ كَالْهِبَةِ فَتَصِحُّ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ.قَالَ السَّرَخْسِيُّ: ثُمَّ التَّصَدُّقُ عَلَى الْغَنِيِّ يَكُونُ قُرْبَةً يُسْتَحَقُّ بِهَا الثَّوَابُ، فَقَدْ يَكُونُ غَنِيًّا يَمْلِكُ النِّصَابَ، وَلَهُ عِيَالٌ كَثِيرَةٌ، وَالنَّاسُ يَتَصَدَّقُونَ عَلَى مِثْلِ هَذَا لِنَيْلِ الثَّوَابِ.لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِلْغَنِيِّ التَّنَزُّهُ عَنْهَا، وَيُكْرَهُ لَهُ التَّعَرُّضُ لِأَخْذِهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ الْمُتَعَفِّفِينَ عَنِ السُّؤَالِ مَعَ وُجُودِ حَاجَتِهِمْ، فَقَالَ: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} وَيُكْرَهُ لَهُ أَخْذُهَا وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا.وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُهَا إِنْ أَظْهَرَ الْفَاقَةَ، كَمَا يَحْرُمُ أَنْ يَسْأَلَ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْغَنِيُّ بِالْمَالِ، وَالْغَنِيُّ بِالْكَسْبِ، لِحَدِيثِ: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» أَيْ: يُعَذَّبُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
لَكِنْ نَقَلَ الرَّمْلِيُّ عَنِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: جَوَازُ طَلَبِهَا لِلْغَنِيِّ، وَيُحْمَلُ الذَّمُّ الْوَارِدُ فِي الْأَخْبَارِ عَلَى الطَّلَبِ مِنَ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ.
هـ- الصَّدَقَةُ عَلَى الْكَافِرِ:
19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الْكَافِرِ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هُوَ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَمْلِيكٌ لِأَجْلِ الثَّوَابِ، وَهَلْ يُثَابُ الشَّخْصُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْكُفَّارِ؟.
فَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَنْقُولُ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ: إِنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ لِلْكُفَّارِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَمْ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ؟ مُسْتَأْمَنِينَ أَمْ غَيْرَ مُسْتَأْمَنِينَ، وَذَلِكَ لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَمْ يَكُنِ الْأَسِيرُ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ كَافِرًا وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ «أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنهما- قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قُلْتُ: إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ» وَلِأَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحْمُودَةٌ فِي كُلِّ دِينٍ، وَالْإِهْدَاءُ إِلَى الْغَيْرِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
وَفَرَّقَ الْحَصْكَفِيُّ فِي الدُّرِّ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَغَيْرِهِ فَقَالَ: وَجَازَ دَفْعُ غَيْرِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ إِلَى الذِّمِّيِّ- وَلَوْ وَاجِبًا- كَنَذْرٍ وَكَفَّارَةٍ وَفِطْرَةٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.
وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ وَلَوْ مُسْتَأْمَنًا فَجَمِيعُ الصَّدَقَاتِ لَا تَجُوزُ لَهُ.
وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ الشِّرْبِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالَ: قَضِيَّةُ إِطْلَاقِ حِلِّ الصَّدَقَةِ لِلْكَافِرِ.أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَرْبِيِّ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَا فِي الْبَيَانِ عَنِ الصَّيْمَرِيِّ وَالْأَوْجَهُ مَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ مِنْ أَنَّ: هَذَا فِيمَنْ لَهُ عَهْدٌ، أَوْ ذِمَّةٌ أَوْ قَرَابَةٌ أَوْ يُرْجَى إِسْلَامُهُ، أَوْ كَانَ بِأَيْدِينَا بِأَسْرٍ وَنَحْوِهِ.فَإِنْ كَانَ حَرْبِيًّا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ فَلَا.
ثَالِثًا: الْمُتَصَدَّقُ بِهِ:
20- الْمُتَصَدَّقُ بِهِ هُوَ: الْمَالُ الَّذِي يُعْطَى لِلْفَقِيرِ وَذِي الْحَاجَةِ، وَحَيْثُ إِنَّ الصَّدَقَةَ تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ لِأَجْلِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، فَيَنْبَغِي فِي الْمَالِ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ، وَلَا يَكُونَ مِنَ الْحَرَامِ أَوْ مِمَّا فِيهِ شُبْهَةٌ، كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَدَّقُ بِهِ مَالًا جَيِّدًا، لَا رَدِيئًا، حَتَّى يَحْصُلَ عَلَى خَيْرِ الْبِرِّ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ.
وَقَدْ بَحَثَ الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الْأَحْكَامَ، وَحُكْمُ التَّصَدُّقِ مِنَ الْأَمْوَالِ الرَّدِيئَةِ وَالْحَرَامِ كَالتَّالِي:
التَّصَدُّقُ بِالْمَالِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْمَالِ الْمُشْتَبَهِ فِيهِ:
21- لَقَدْ حَثَّ الْإِسْلَامُ أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ مِنَ الْمَالِ الْحَلَالِ وَالطَّيِّبِ، وَأَنْ تَكُونَ مِمَّا يُحِبُّهُ الْمُتَصَدِّقُ.فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ، إِلاَّ أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلَوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ» وَالْمُرَادُ بِالطَّيِّبِ هُنَا الْحَلَالُ، كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ.
وَعَنْهُ أَيْضًا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}.وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ».
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي هِيَ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ وَمَبَانِي الْأَحْكَامِ...وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الْإِنْفَاقِ مِنَ الْحَلَالِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْإِنْفَاقِ مِنْ غَيْرِهِ.وَفِيهِ أَنَّ الْمَشْرُوبَ وَالْمَأْكُولَ وَالْمَلْبُوسَ وَنَحْوَ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَلَالًا خَالِصًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ.
وَحَذَّرَ الْحُسَيْنِيُّ فِي كِفَايَةِ الْأَخْيَارِ مِنْ أَخْذِ مَالٍ فِيهِ شُبْهَةٌ لِلتَّصَدُّقِ بِهِ، وَنَقَلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَوْلَهُ: لأَنْ أَرُدَّ دِرْهَمًا مِنْ حَرَامٍ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ حَتَّى بَلَغَ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ.
وَعَلَى هَذَا فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْتَارَ الرَّجُلُ أَحَلَّ مَالِهِ، وَأَبْعَدَهُ عَنِ الْحَرَامِ وَالشُّبْهَةِ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ، كَمَا حَرَّرَهُ النَّوَوِيُّ.
وَإِذَا كَانَ فِي عُهْدَةِ الْمُكَلَّفِ مَالٌ حَرَامٌ، فَإِنْ عَلِمَ أَصْحَابُهُ وَجَبَ رَدُّهُ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَصْحَابُهُ يَتَصَدَّقْ بِهِ.
أَمَّا الْآخِذُ أَيْ: الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ فَإِنْ عَرَفَ أَنَّ الْمَالَ الْمُتَصَدَّقَ بِهِ مِنَ النَّجِسِ أَوِ الْحَرَامِ كَالْغَصْبِ، أَوِ السَّرِقَةِ، أَوِ الْغَدْرِ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَا يَأْخُذَهُ وَلَا يَأْكُلَ مِنْهُ.وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَجَازَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ أَخْذَهُ لَهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا كَانَ عَلَيْهِ دُيُونٌ وَمَظَالِمُ لَا يَعْرِفُ أَرْبَابَهَا، وَأَيِسَ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ، فَعَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِقَدْرِهَا مِنْ مَالِهِ، وَإِنِ اسْتَغْرَقَتْ جَمِيعَ مَالِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يُؤْمَرُ بِالتَّصَدُّقِ بِالْأَمْوَالِ الَّتِي حَصَلَتْ بِالْغَدْرِ، كَالْمَالِ الْمَغْصُوبِ.
قَالَ الْجَمَلُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ تَصَدَّقَ أَوْ وَهَبَ أَوْ أَوْصَى بِالنَّجِسِ صَحَّ عَلَى مَعْنَى نَقْلِ الْيَدِ، لَا التَّمْلِيكِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّ مَنْ بِيَدِهِ نَحْوُ غُصُوبٍ، أَوْ رُهُونٍ، أَوْ أَمَانَاتٍ، لَا يَعْرِفُ أَرْبَابَهَا، وَأَيِسَ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ، فَلَهُ الصَّدَقَةُ بِهَا مِنْهُمْ- أَيْ: مِنْ قِبَلِهِمْ.وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الدُّيُونِ الَّتِي جُهِلَ أَرْبَابُهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الْأَمْوَالُ الَّتِي فِيهَا شُبْهَةٌ فَالْأَوْلَى الِابْتِعَادُ عَنْهَا، وَلِهَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي التَّصَدُّقِ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ: إِنَّهُ مَكْرُوهٌ.
قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ».
التَّصَدُّقُ بِالْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ:
22- يُسْتَحَبُّ فِي الصَّدَقَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَدَّقُ بِهِ أَيِ: الْمَالُ الْمُعْطَى مِنْ أَجْوَدِ مَالِ الْمُتَصَدِّقِ وَأَحَبِّهِ إِلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْمَعْنَى لَنْ تَكُونُوا أَبْرَارًا حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، أَيْ: نَفَائِسِ الْأَمْوَالِ وَكَرَائِمِهَا، وَكَانَ السَّلَفُ- رضي الله عنهم- إِذَا أَحَبُّوا شَيْئًا جَعَلُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى.فَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ «أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَانَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرَحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ رَاوِي الْحَدِيثِ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرَحَاءُ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ».
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَشْتَرِي أَعْدَالًا مِنْ سُكَّرٍ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا، فَقِيلَ لَهُ: هَلاَّ تَصَدَّقْتَ بِقِيمَتِهَا؟ قَالَ: لِأَنَّ السُّكَّرَ أَحَبُّ إِلَيَّ فَأَرَدْتُ أَنْ أُنْفِقَ مِمَّا أُحِبُّ.
وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ حُصُولُ كَثْرَةِ الثَّوَابِ بِالتَّصَدُّقِ مِمَّا يُحِبُّهُ.وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمُتَصَدَّقُ بِهِ كَثِيرًا، وَيُسْتَحَبُّ التَّصَدُّقُ وَلَوْ بِشَيْءٍ نَزْرٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ».
وَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنِ التَّصَدُّقِ بِالرَّدِيءِ مِنَ الْمَالِ.قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} أَيْ: لَا تَتَصَدَّقُوا بِالصَّدَقَةِ مِنَ الْمَالِ الْخَبِيثِ، وَلَا تَفْعَلُوا مَعَ اللَّهِ مَا لَا تَرْضَوْنَهُ لِأَنْفُسِكُمْ.
وَرَجَّحَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَنَّ الْآيَةَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ حَيْثُ قَالَ: لَوْ كَانَتْ فِي الْفَرِيضَةِ لَمَا قَالَ: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} لِأَنَّ الرَّدِيءَ وَالْخَبِيثَ لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ فِي الْفَرْضِ بِحَالٍ، لَا مَعَ تَقْدِيرِ الْإِغْمَاضِ وَلَا مَعَ عَدَمِهِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مَعَ عَدَمِ الْإِغْمَاضِ فِي النَّفْلِ
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ بَرَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، أَنَّ الْآيَةَ فِي التَّطَوُّعِ، نُدِبُوا إِلَيْهِ أَنْ لَا يَتَطَوَّعُوا إِلاَّ بِمُمْتَازٍ جَيِّدٍ وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي رَجُلٍ عَلَّقَ قِنْوَ حَشَفٍ فِي الْمَسْجِدِ: لَوْ شَاءَ رَبُّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ تَصَدَّقَ بِأَطْيَبَ مِنْهَا» وَقَالَ: «إِنَّ رَبَّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ يَأْكُلُ الْحَشَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
23-موسوعة الفقه الكويتية (صدقة 2)
صَدَقَةٌ -2التَّصَدُّقُ بِكُلِّ مَالِهِ:
23- يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ بِفَاضِلٍ عَنْ كِفَايَتِهِ، وَكِفَايَةِ مَنْ يَمُونُهُ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِمَا يُنْقِصُ مُؤْنَةَ مَنْ يَمُونُهُ أَثِمَ.وَمَنْ أَرَادَ التَّصَرُّفَ بِمَالِهِ كُلِّهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ حُسْنَ التَّوَكُّلِ وَالصَّبْرِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِلاَّ فَلَا يَجُوزُ.
وَيُكْرَهُ لِمَنْ لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى الضِّيقِ أَنْ يُنْقِصَ نَفَقَةَ نَفْسِهِ عَنِ الْكِفَايَةِ التَّامَّةِ.
وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ صَحِيحًا رَشِيدًا لَهُ التَّبَرُّعُ بِجَمِيعِ مَالِهِ عَلَى كُلِّ مَنْ أَحَبَّ.قَالَ فِي الرِّسَالَةِ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِمَالِهِ كُلِّهِ لِلَّهِ.لَكِنْ قَالَ النَّفْرَاوِيُّ: مَحَلُّ نَدْبِ التَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ الْمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَدِّقُ طَيِّبَ النَّفْسِ بَعْدَ الصَّدَقَةِ بِجَمِيعِ مَالِهِ، لَا يَنْدَمُ عَلَى الْبَقَاءِ بِلَا مَالٍ.وَأَنَّ مَا يَرْجُوهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُمَاثِلٌ لِمَا تَصَدَّقَ بِهِ فِي الْحَالِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، أَوْ يُنْدَبُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ لَمْ يُنْدَبْ لَهُ ذَلِكَ بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِنْ تَحَقَّقَ الْحَاجَةَ لِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، أَوْ يُكْرَهُ إِنْ تَيَقَّنَ الْحَاجَةَ لِمَنْ يُنْدَبُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِ وَمُؤْنَتِهِ، وَمُؤْنَةِ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ.
وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ الْأَوْلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنَ الْفَاضِلِ عَنْ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ مَنْ يَمُونُهُ عَلَى الدَّوَامِ لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» وَلِأَنَّ نَفَقَةَ مَنْ يَمُونُهُ وَاجِبَةٌ وَالتَّطَوُّعُ نَافِلَةٌ، وَتَقْدِيمُ النَّفْلِ عَلَى الْفَرْضِ غَيْرُ جَائِزٍ.
فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَا عِيَالَ لَهُ، فَأَرَادَ الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَكَانَ ذَا مَكْسَبٍ، أَوْ كَانَ وَاثِقًا مِنْ نَفْسِهِ يُحْسِنُ التَّوَكُّلَ وَالصَّبْرَ عَلَى الْفَقْرِ وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَحَسَنٌ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ نَتَصَدَّقَ فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ قُلْتُ: مِثْلَهُ.قَالَ: وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقُلْتُ لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ بَعْدَهُ أَبَدًا» قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَهَذَا كَانَ فَضِيلَةً فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ- رضي الله عنه- لِقُوَّةِ يَقِينِهِ، وَكَمَالِ إِيمَانِهِ، وَكَانَ أَيْضًا تَاجِرًا ذَا مَكْسَبٍ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْمُتَصَدِّقِ أَحَدُ هَذَيْنِ كُرِهَ لَهُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِ مَالِهِ.فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ، وَيَقُولُ هَذِهِ صَدَقَةٌ، ثُمَّ يَقْعُدُ يَسْتَكِفُّ النَّاسَ، خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى»؛ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَخْرَجَ جَمِيعَ مَالِهِ لَا يَأْمَنُ فِتْنَةَ الْفَقْرِ، وَشِدَّةَ نِزَاعِ النَّفْسِ إِلَى مَا خَرَجَ مِنْهُ فَيَنْدَمُ، فَيَذْهَبُ مَالُهُ، وَيَبْطُلُ أَجْرُهُ، وَيَصِيرُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ.
وَاتَّفَقَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ مَعَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ فِي: أَنَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِعِيَالِهِ وَدَيْنِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، وَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَهَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ الْفَاضِلِ؟ فِيهِ عِنْدَهُمْ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: إِنْ صَبَرَ عَلَى الضِّيقِ فَنَعَمْ، وَإِلاَّ فَلَا بَلْ يُكْرَهُ ذَلِكَ، قَالُوا: وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ الْأَخْبَارُ الْمُخْتَلِفَةُ الظَّاهِرِ
رَابِعًا- النِّيَّةُ:
24- الصَّدَقَةُ قُرْبَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ، لِأَجْلِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنَ النِّيَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَيُسْتَحَبُّ فِي الصَّدَقَةِ أَنْ يَنْوِيَ الْمُتَصَدِّقُ ثَوَابَهَا لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَتَى بِعِبَادَةٍ مَا سَوَاءٌ أَكَانَتْ صَلَاةً أَمْ صَوْمًا أَمْ صَدَقَةً أَمْ قِرَاءَةً، لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ وَإِنْ نَوَاهَا لِنَفْسِهِ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْأَفْضَلُ لِمَنْ يَتَصَدَّقُ نَفْلًا أَنْ يَنْوِيَ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ؛ لِأَنَّهَا تَصِلُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ.
وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِ النِّيَّةِ فِي مُصْطَلَحِ: (نِيَّةٌ).
إِخْفَاءُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ:
25- الْأَفْضَلُ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ أَنْ تَكُونَ سِرًّا، وَهَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَإِنْ كَانَتْ تَصِحُّ وَيُثَابُ عَلَيْهَا فِي الْعَلَنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ وَذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلًا تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ».
وَلِأَنَّ الْإِسْرَارَ بِالتَّطَوُّعِ يَخْلُو عَنِ الرِّيَاءِ وَالْمَنِّ، وَإِعْطَاءُ الصَّدَقَةِ سِرًّا يُرَادُ بِهِ رِضَا اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحْدَهُ.وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَوْلُهُ: صَدَقَةُ السِّرِّ فِي التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ مِنْ صَدَقَةِ الْعَلَانِيَةِ بِسَبْعِينَ ضِعْفًا.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْحَالَ فِي الصَّدَقَةِ يَخْتَلِفُ بِحَالِ الْمُعْطِي لَهَا وَالْمُعْطَى إِيَّاهَا وَالنَّاسِ الشَّاهِدِينَ لَهَا.
أَمَّا الْمُعْطِي فَلَهُ فَائِدَةُ إِظْهَارِ السُّنَّةِ وَثَوَابِ الْقُدْوَةِ، وَآفَتُهَا الرِّيَاءُ، وَالْمَنُّ، وَالْأَذَى.وَأَمَّا الْمُعْطَى إِيَّاهَا فَإِنَّ السِّرَّ أَسْلَمُ لَهُ مِنَ احْتِقَارِ النَّاسِ لَهُ، أَوْ نِسْبَتِهِ إِلَى أَنَّهُ أَخَذَهَا مَعَ الْغِنَى وَتَرْكِ التَّعَفُّفِ.
وَأَمَّا حَالُ النَّاسِ فَالسِّرُّ عَنْهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْعَلَانِيَةِ لَهُمْ، مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ رُبَّمَا طَعَنُوا عَلَى الْمُعْطِي لَهَا بِالرِّيَاءِ، وَعَلَى الْآخِذِ لَهَا بِالِاسْتِغْنَاءِ، وَلَهُمْ فِيهَا تَحْرِيكُ الْقُلُوبِ إِلَى الصَّدَقَةِ.لَكِنَّ هَذَا الْيَوْمَ قَلِيلٌ وَيَقُولُ الْخَطِيبُ: إِنْ كَانَ الْمُتَصَدِّقُ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَأَظْهَرَهَا لِيُقْتَدَى بِهِ مِنْ غَيْرِ رِيَاءٍ وَلَا سُمْعَةٍ، فَهُوَ أَفْضَلُ.
أَمَّا صَدَقَةُ الْفَرْضِ فَلَا خِلَافَ أَنَّ إِظْهَارَهَا أَفْضَلُ كَصَلَاةِ الْفَرْضِ وَسَائِرِ الْفَرَائِضِ.
تَرْكُ الْمَنِّ وَالْأَذَى:
26- يَحْرُمُ الْمَنُّ وَالْأَذَى بِالصَّدَقَةِ، وَيَبْطُلُ الثَّوَابُ بِذَلِكَ، فَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمَنِّ وَالْأَذَى، وَجَعَلَهُمَا مُبْطِلَيْنِ لِلصَّدَقَاتِ حَيْثُ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} وَحَثَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُنْفِقِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِعَدَمِ إِتْبَاعِ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى فَقَالَ: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، فِي أَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى فِي الصَّدَقَةِ حَرَامٌ يُبْطِلُ الثَّوَابَ.قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: عَبَّرَ تَعَالَى عَنْ عَدَمِ الْقَبُولِ وَحِرْمَانِ الثَّوَابِ بِالْإِبْطَالِ.
وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ: الْمَنُّ بِالصَّدَقَةِ حَرَامٌ مُبْطِلٌ لِلْأَجْرِ لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَلِخَبَرِ مُسْلِمٍ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ثَلَاثَ مِرَارٍ.قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ».
وَجَعَلَهُ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْكَبَائِرِ فَقَالَ: وَيَحْرُمُ الْمَنُّ بِالصَّدَقَةِ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ مِنَ الْكَبِيرَةِ وَيَبْطُلُ الثَّوَابَ بِذَلِكَ.
وَهَلْ تُبْطِلُ الْمَعْصِيَةُ الطَّاعَةَ؟ فِيهِ خِلَافٌ.قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْعَقِيدَةُ أَنَّ السَّيِّئَاتِ لَا تُبْطِلُ الْحَسَنَاتِ، وَلَا تُحْبِطُهَا.فَالْمَنُّ وَالْأَذَى فِي صَدَقَةٍ لَا يُبْطِلُ صَدَقَةً أُخْرَى
التَّصَدُّقُ فِي الْمَسْجِدِ:
27- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّصَدُّقِ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى جَوَازِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَبَعْضُهُمْ بَيَّنُوا لَهُ شُرُوطًا لَا يَجُوزُ بِغَيْرِهَا.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَا يَحِلُّ أَنْ يَسْأَلَ شَيْئًا مَنْ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقُوَّةِ، كَالصَّحِيحِ الْمُكْتَسِبِ، وَيَأْثَمُ مُعْطِيهِ إِنْ عَلِمَ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّهُ أَعَانَهُ عَلَى الْمُحَرَّمِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ السَّائِلَ إِذَا كَانَ لَا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي، وَلَا يَتَخَطَّى الرِّقَابَ، وَلَا يَسْأَلُ إِلْحَافًا، بَلْ لِأَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَلَا بَأْسَ بِالسُّؤَالِ وَالْإِعْطَاءِ.ثُمَّ قَالَ نَقْلًا عَنِ الْبَزَّازِيَّةِ: وَلَا يَجُوزُ الْإِعْطَاءُ إِذَا لَمْ يَكُونُوا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ.وَمَا نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ مِنْ تَعْلِيقِ رَجُلٍ قِنْوَ حَشَفٍ فِي الْمَسْجِدِ يَدُلُّ كَذَلِكَ عَلَى مُطْلَقِ الْجَوَازِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُعْتَبَرْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ
كَمَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَطْعَمَ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا أَنَا بِسَائِلٍ يَسْأَلُ فَوَجَدْتُ كِسْرَةَ خُبْزٍ فِي يَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَأَخَذْتُهَا فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ».
وَيَقُولُ الْبُهُوتِيُّ: يُكْرَهُ سُؤَالُ الصَّدَقَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالتَّصَدُّقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ يَقُولُ: «وَلَا يُكْرَهُ التَّصَدُّقُ عَلَى غَيْرِ السَّائِلِ وَلَا عَلَى مَنْ سَأَلَ لَهُ الْخَطِيبُ».وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْجِدٌ)
الْأَحْوَالُ وَالْأَمَاكِنُ الَّتِي تُفَضَّلُ فِيهَا الصَّدَقَةُ:
28- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الْحَالَاتِ وَالْأَمَاكِنَ الَّتِي تُفَضَّلُ فِيهَا الصَّدَقَةُ، وَيَكُونُ أَجْرُهَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا، وَمِنْ هَذِهِ الْحَالَاتِ وَالْأَمَاكِنِ مَا يَأْتِي:
قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: دَفْعُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ فِي رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ دَفْعِهَا فِي غَيْرِهِ، لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه-: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: صَدَقَةٌ فِي رَمَضَانَ».وَلِأَنَّ الْفُقَرَاءَ فِيهِ يَضْعُفُونَ وَيَعْجِزُونَ عَنِ الْكَسْبِ بِسَبَبِ الصَّوْمِ.وَتَتَأَكَّدُ فِي الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ كَعَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَيَّامِ الْعِيدِ، وَكَذَا فِي الْأَمَاكِنِ الشَّرِيفَةِ، كَمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَفِي الْغَزْوِ، وَالْحَجِّ، وَعِنْدَ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، كَالْكُسُوفِ وَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ.
ثُمَّ نَقَلَ عَنِ الْأَذْرَعِيِّ قَوْلَهُ: وَلَا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ أَرَادَ التَّطَوُّعَ بِصَدَقَةٍ، أَوْ بِرٍّ فِي رَجَبٍ، أَوْ شَعْبَانَ مَثَلًا، أَنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ إِلَى رَمَضَانَ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ، بَلِ الْمُسَارَعَةُ إِلَى الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ بِلَا شَكٍّ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ التَّصَدُّقَ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِمَّا يَقَعُ فِي غَيْرِهَا.
وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: وَفِي أَوْقَاتِ الْحَاجَةِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِهَا لقوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ}.
وَعَلَّلَ الْحَنَابِلَةُ فَضْلَ الصَّدَقَةِ فِي رَمَضَانَ بِأَنَّ الْحَسَنَاتِ تُضَاعَفُ فِيهِ، وَلِأَنَّ فِيهِ إِعَانَةً عَلَى أَدَاءِ الصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ، وَمَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ.
وَيُسْتَحَبُّ اسْتِحْبَابًا مُؤَكَّدًا، التَّوْسِيعُ عَلَى الْعِيَالِ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ- لَا سِيَّمَا فِي عَشَرَةٍ آخِرَهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّا عَدَاهُ مِنَ الْأَيَّامِ الْأُخْرَى
الرُّجُوعُ فِي الصَّدَقَةِ:
29- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِلْمُتَصَدِّقِ أَنْ يَرْجِعَ فِي صَدَقَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالصَّدَقَةِ الثَّوَابُ، وَقَدْ حَصَلَ، وَإِنَّمَا الرُّجُوعُ يَكُونُ عِنْدَ تَمَكُّنِ الْخَلَلِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ كَمَا يَقُولُ السَّرَخْسِيُّ.وَيَسْتَوِي أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ عَلَى غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ فِي أَنْ لَا رُجُوعَ فِيهَا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَعَمَّمَ الْمَالِكِيَّةُ الْحُكْمَ فَقَالُوا: كُلُّ مَا يَكُونُ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ لَا رُجُوعَ فِيهَا، وَلَوْ مِنْ وَالِدٍ لِوَلَدِهِ لَكِنَّهُمْ قَالُوا: لِلْوَالِدِ أَنْ يَعْتَصِرَ مَا وَهَبَهُ لِابْنِهِ وَذَلِكَ بِشُرُوطٍ تُذْكَرُ فِي (هِبَةٌ).
وَنُصُوصُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَتَّفِقُ مَعَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ صِحَّةِ رُجُوعِ الْمُتَصَدِّقِ فِي صَدَقَتِهِ أَمَّا الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ فَتُذْكَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (هِبَةٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
24-موسوعة الفقه الكويتية (صلاة 2)
صَلَاةٌ-2أَرْكَانُ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ هِيَ:
أ- النِّيَّةُ:
16- النِّيَّةُ وَهِيَ الْعَزْمُ عَلَى فِعْلِ الْعِبَادَةِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِهَا بِحَالٍ، وَالْأَصْلُ فِيهَا قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى اعْتِبَارِهَا فِي الصَّلَاةِ.وَلَا بُدَّ فِي النِّيَّةِ مِنْ تَعْيِينِ الْفَرْضِيَّةِ وَنَوْعِيَّةِ الصَّلَاةِ، هَلْ هِيَ ظُهْرٌ أَمْ عَصْرٌ؟
وَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ عَنِ النِّيَّةِ فِي مُصْطَلَحِ (نِيَّةٌ).
ب- تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ:
17- وَدَلِيلُ فَرْضِيَّتِهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ» وَحَدِيثُ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ» وَحَدِيثُ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- يَرْفَعُهُ قَالَ: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ الْكَلَامِ عَلَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فِي مُصْطَلَحِ (تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ 13217).
ج- الْقِيَامُ لِلْقَادِرِ فِي الْفَرْضِ:
18- لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وَلِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ الْقِيَامُ فِي فَرْضِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ وَلَوْ بِمُعِينٍ بِأُجْرَةٍ فَاضِلَةٍ عَنْ مُؤْنَتِهِ وَمُؤْنَةِ مَنْ يَعُولُهُ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ.
وَيُقَسِّمُ الْمَالِكِيَّةُ رُكْنَ الْقِيَامِ إِلَى رُكْنَيْنِ: الْقِيَامِ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَالْقِيَامِ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ.قَالُوا: وَالْمُرَادُ بِالْقِيَامِ الْقِيَامُ اسْتِقْلَالاً، فَلَا يُجْزِئُ إِيقَاعُ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فِي الْفَرْضِ لِلْقَادِرِ عَلَى الْقِيَامِ جَالِسًا أَوْ مُنْحَنِيًا، وَلَا قَائِمًا مُسْتَنِدًا لِعِمَادٍ، بِحَيْثُ لَوْ أُزِيلَ الْعِمَادُ لَسَقَطَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: شَرْطُهُ نَصْبُ فَقَارِهِ لِلْقَادِرِ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ وَقَفَ مُنْحَنِيًا أَوْ مَائِلاً بِحَيْثُ لَا يُسَمَّى قَائِمًا لَمْ يَصِحَّ، وَالِانْحِنَاءُ السَّالِبُ لِلِاسْمِ: أَنْ يَصِيرَ إِلَى الرُّكُوعِ أَقْرَب.
قَالُوا: لَوِ اسْتَنَدَ إِلَى شَيْءٍ كَجِدَارٍ أَجْزَأَهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ.وَكَذَا لَوْ تَحَامَلَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَوْ رُفِعَ مَا اسْتَنَدَ إِلَيْهِ لَسَقَطَ؛ لِوُجُودِ اسْمِ الْقِيَامِ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَرْفَعُ قَدَمَيْهِ إِنْ شَاءَ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى قَائِمًا بَلْ مُعَلِّقًا نَفْسَهُ.وَلَوْ أَمْكَنَهُ الْقِيَامُ مُتَّكِئًا عَلَى شَيْءٍ أَوِ الْقِيَامُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَيْسُورُهُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: حَدُّ الْقِيَامِ مَا لَمْ يَصِرْ رَاكِعًا، وَرُكْنُهُ الِانْتِصَابُ بِقَدْرِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَفِيمَا بَعْدَهَا بِقَدْرِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فَقَطْ.
وَرُكْنُ الْقِيَامِ خَاصٌّ بِالْفَرْضِ مِنَ الصَّلَوَاتِ دُونَ النَّوَافِلِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ» وَقَدْ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ تَطَوُّعٌ ف 16 (12 157) وَأَمَّا بَقِيَّةُ تَفْصِيلَاتِ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ فَتَأْتِي فِي مُصْطَلَحِ (قِيَامٌ).
د- قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ:
19- وَهِيَ رُكْنٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ فَرْضًا أَوْ نَفْلاً جَهْرِيَّةً كَانَتْ أَوْ سِرِّيَّةً.لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَفِي رِوَايَةٍ «لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَلِفِعْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي».
وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فَرْضٌ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ وَالْفَذِّ دُونَ الْمَأْمُومِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ بِفَرْضِيَّتِهَا فِي الْجَمِيعِ.
تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قِرَاءَةٌ).
هـ- الرُّكُوعُ:
20- وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى رُكْنِيَّتِهِ، وَسَنَدُهُ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا}.
وَحَدِيثُ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَرَدَّ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَيْهِ السَّلَام ثُمَّ قَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ.فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا.ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ فَمَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي.فَقَالَ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ.ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا».فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمُسَمَّاةَ فِي الْحَدِيثِ لَا تَسْقُطُ بِحَالٍ، فَإِنَّهَا لَوْ سَقَطَتْ لَسَقَطَتْ عَنِ الْأَعْرَابِيِّ لِجَهْلِهِ بِهَا
وَتَفْصِيلُ مَبَاحِثِ الرُّكُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (رُكُوعٌ).
و- الِاعْتِدَالُ:
21- هُوَ الْقِيَامُ مَعَ الطُّمَأْنِينَةِ بَعْدَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ، وَهُوَ رُكْنٌ فِي الْفَرْضِ وَالنَّافِلَةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ «ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا»، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- دَاوَمَ عَلَيْهِ.لِقَوْلِ أَبِي حُمَيْدٍ فِي «صِفَةِ صَلَاةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ» وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي».
وَيَدْخُلُ فِي رُكْنِ الِاعْتِدَالِ الرَّفْعُ مِنْهُ لِاسْتِلْزَامِهِ لَهُ، وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَهُمَا فَعَدُّوا كُلًّا مِنْهُمَا رُكْنًا.قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَعَمُّدِ تَرْكِ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ، وَأَمَّا إِنْ تَرَكَهُ سَهْوًا فَيَرْجِعُ مُحْدَوْدِبًا حَتَّى يَصِلَ لِحَالَةِ الرُّكُوعِ ثُمَّ يَرْفَعُ، وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ إِلاَّ الْمَأْمُومَ فَلَا يَسْجُدُ لِحَمْلِ الْإِمَامِ لِسَهْوِهِ، فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ مُحْدَوْدِبًا وَرَجَعَ قَائِمًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ مُرَاعَاةً لِقَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ: إِنَّ تَارِكَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ سَهْوًا يَرْجِعُ قَائِمًا لَا مُحْدَوْدِبًا كَتَارِكِ الرُّكُوعِ.
ثُمَّ إِنَّ أَكْثَرَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى نَفْيِ رُكْنِيَّةِ الِاعْتِدَالِ، وَأَنَّهُ سُنَّةٌ.قَالُوا: فَيَسْجُدُ لِتَرْكِهِ سَهْوًا، وَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ عَمْدًا قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ شُهِرَتْ فَرْضِيَّتُهَا.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْعَدَوِيُّ- هَذَا هُوَ الرَّاجِحُ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ الْحَطَّابِ، وَحَدُّ الِاعْتِدَالِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنْ لَا يَكُونَ مُنْحَنِيًا، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: مَا لَمْ يَصِرْ رَاكِعًا، قَالُوا: وَالْكَمَالُ مِنْهُ الِاسْتِقَامَةُ حَتَّى يَعُودَ كُلُّ عُضْوٍ إِلَى مَحَلِّهِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَضُرُّ بَقَاؤُهُ مُنْحَنِيًا يَسِيرًا حَالَ اعْتِدَالِهِ وَاطْمِئْنَانِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْهَيْئَةَ لَا تُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ قَائِمًا، وَسَبَقَ حَدُّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي رُكْنِ الْقِيَامِ.وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الِاعْتِدَالِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الطُّمَأْنِينَةُ فِي الِاعْتِدَالِ: أَنْ تَسْتَقِرَّ أَعْضَاؤُهُ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ رُكُوعِهِ، بِحَيْثُ يَنْفَصِلُ ارْتِفَاعُهُ عَنْ عَوْدِهِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَقْصِدَ غَيْرَ الِاعْتِدَالِ، فَلَوْ رَفَعَ فَزِعًا مِنْ شَيْءٍ كَحَيَّةٍ لَمْ يُحْسَبْ رَفْعُهُ اعْتِدَالاً لِوُجُودِ الصَّارِفِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِرَفْعِهِ شَيْئًا آخَرَ.
ز- السُّجُودُ:
22- مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ السُّجُودُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مَرَّتَيْنِ.وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ لقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} وَلِحَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ «ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا» وَحَدَّ الْمَالِكِيَّةُ السُّجُودَ بِأَنَّهُ مَسُّ الْأَرْضِ، أَوْ مَا اتَّصَلَ بِهَا مِنْ ثَابِتٍ بِالْجَبْهَةِ، فَلَا يُجْزِئُ السُّجُودُ عَلَى نَحْوِ السَّرِيرِ الْمُعَلَّقِ، وَيَتَحَقَّقُ السُّجُودُ عِنْدَهُمْ بِوَضْعِ أَيْسَرِ جُزْءٍ مِنَ الْجَبْهَةِ بِالْأَرْضِ أَوْ مَا اتَّصَلَ بِهَا، وَيُشْتَرَطُ اسْتِقْرَارُهَا عَلَى مَا يَسْجُدُ عَلَيْهِ، فَلَا يَصِحُّ عَلَى تِبْنٍ أَوْ قُطْنٍ.وَأَمَّا وَضْعُ الْأَنْفِ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ، لَكِنْ تُعَادُ الصَّلَاةُ لِتَرْكِهِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا فِي الظُّهْرَيْنِ لِلِاصْفِرَارِ، وَفِي غَيْرِهِمَا لِلطُّلُوعِ مُرَاعَاةً لِلْقَوْلِ بِوُجُوبِهِ.وَوَضْعُ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ- الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ- فَهُوَ سُنَّةٌ.قَالَ الدُّسُوقِيُّ.قَالَ فِي التَّوْضِيحِ:
وَكَوْنُ السُّجُودِ عَلَيْهَا سُنَّةً لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الْمَذْهَبِ.غَايَتُهُ أَنَّ ابْنَ الْقَصَّارِ قَالَ: الَّذِي يَقْوَى فِي نَفْسِي أَنَّهُ سُنَّةٌ فِي الْمَذْهَبِ.وَقِيلَ:
إِنَّ السُّجُودَ عَلَيْهَا وَاجِبٌ، وَصَرَّحُوا بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ ارْتِفَاعِ الْعَجِيزَةِ عَنِ الرَّأْسِ بَلْ يُنْدَبُ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ أَقَلَّ السُّجُودِ يَتَحَقَّقُ بِمُبَاشَرَةِ بَعْضِ جَبْهَتِهِ مَكْشُوفَةَ مُصَلاَّهُ؛ لِحَدِيثِ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: «شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- شِدَّةَ الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِنَا وَأَكُفِّنَا فَلَمْ يُشْكِنَا» أَيْ لَمْ يُزِلْ شَكْوَانَا.
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْحَدِيثِ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ كَشْفُ الْجَبْهَةِ لأَرْشَدَهُمْ إِلَى سَتْرِهَا، وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ كَشْفُهَا دُونَ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ لِسُهُولَتِهِ فِيهَا دُونَ الْبَقِيَّةِ؛ وَلِحُصُولِ مَقْصُودِ السُّجُودِ وَهُوَ غَايَةُ التَّوَاضُعِ بِكَشْفِهَا.وَيَجِبُ- أَيْضًا- وَضْعُ جُزْءٍ مِنَ الرُّكْبَتَيْنِ، وَمِنْ بَاطِنِ الْكَفَّيْنِ، وَمِنْ بَاطِنِ الْقَدَمَيْنِ عَلَى مُصَلاَّهُ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى الْجَبْهَةِ- وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَنْفِهِ- وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ» وَلَا يَجِبُ كَشْفُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، بَلْ يُكْرَهُ كَشْفُ الرُّكْبَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ.وَقِيلَ: يَجِبُ كَشْفُ بَاطِنِ الْكَفَّيْنِ.
ثُمَّ إِنَّ مَحَلَّ وُجُوبِ الْوَضْعِ إِذَا لَمْ يَتَعَذَّرْ وَضْعُ شَيْءٍ مِنْهَا، وَإِلاَّ فَيَسْقُطُ الْفَرْضُ، فَلَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ مِنَ الزَّنْدِ لَمْ يَجِبْ وَضْعُهُ؛ لِفَوْتِ مَحَلِّ الْفَرْضِ.
وَيَجِبُ- أَيْضًا- أَنْ يَنَالَ مَحَلُّ سُجُودِهِ ثِقَلَ رَأْسِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا سَجَدْتَ فَأَمْكِنْ جَبْهَتَكَ» قَالُوا: وَمَعْنَى الثِّقَلِ أَنْ يَتَحَامَلَ بِحَيْثُ لَوْ فُرِضَ تَحْتَهُ قُطْنٌ أَوْ حَشِيشٌ لَانْكَبَسَ وَظَهَرَ أَثَرُهُ فِي يَدِهِ لَوْ فُرِضَتْ تَحْتَ ذَلِكَ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّحَامُلُ فِي غَيْرِ الْجَبْهَةِ مِنَ الْأَعْضَاءِ.
وَيَجِبُ كَذَلِكَ أَنْ لَا يَهْوِيَ لِغَيْرِ السُّجُودِ، فَلَوْ سَقَطَ لِوَجْهِهِ مِنَ الِاعْتِدَالِ وَجَبَ الْعَوْدُ إِلَى الِاعْتِدَالِ لِيُهْوِيَ مِنْهُ؛ لِانْتِفَاءِ الْهُوِيِّ فِي السُّقُوطِ.وَإِنْ سَقَطَ مِنَ الْهَوِيِّ لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَوْدُ بَلْ يُحْسَبُ ذَلِكَ سُجُودًا.
وَيَجِبُ أَيْضًا أَنْ تَرْتَفِعَ أَسَافِلُهُ- عَجِيزَتُهُ وَمَا حَوْلَهَا- عَلَى أَعَالِيهِ لِخَبَرِ «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» فَلَا يَكْتَفِي بِرَفْعِ أَعَالِيهِ عَلَى أَسَافِلِهِ وَلَا بِتَسَاوِيهِمَا، لِعَدَمِ اسْمِ السُّجُودِ كَمَا لَوْ أَكَبَّ وَمَدَّ رِجْلَيْهِ، إِلاَّ إِنْ كَانَ بِهِ عِلَّةٌ لَا يُمْكِنُهُ السُّجُودُ إِلاَّ كَذَلِكَ فَيَصِحُّ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ السُّجُودُ عَلَى وِسَادَةٍ بِتَنْكِيسٍ لَزِمَهُ؛ لِحُصُولِ هَيْئَةِ السُّجُودِ بِذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُهُ بِلَا تَنْكِيسٍ.
وَإِذَا صَلَّى فِي سَفِينَةٍ مَثَلاً وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ ارْتِفَاعِ ذَلِكَ لِمَيَلَانِهَا صَلَّى عَلَى حَالِهِ وَلَزِمَهُ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا عُذْرٌ نَادِرٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السُّجُودَ عَلَى الْأَعْضَاءِ السَّبْعَةِ: الْجَبْهَةِ مَعَ الْأَنْفِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالْقَدَمَيْنِ، رُكْنٌ مَعَ الْقُدْرَةِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ عَلَى الْجَبْهَةِ- وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَنْفِهِ- وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ» وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ مَعَهُ سَبْعَةُ آرَابٍ: وَجْهُهُ، وَكَفَّاهُ، وَرُكْبَتَاهُ، وَقَدَمَاهُ».
ثُمَّ إِنَّهُ يُجْزِئُ بَعْضُ كُلِّ عُضْوٍ فِي السُّجُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْ فِي الْحَدِيثِ الْكُلَّ، وَلَوْ كَانَ سُجُودُهُ عَلَى ظَهْرِ كَفٍّ، وَظَهْرِ قَدَمٍ، وَأَطْرَافِ أَصَابِعِ يَدَيْنِ، وَلَا يُجْزِئُهُ إِنْ كَانَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ كَوَضْعِ جَبْهَتِهِ عَلَى يَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى تَدَاخُلِ أَعْضَاءِ السُّجُودِ.
وَمَتَى عَجَزَ الْمُصَلِّي عَنِ السُّجُودِ بِجَبْهَتِهِ سَقَطَ عَنْهُ لُزُومُ بَاقِي الْأَعْضَاءِ؛ لِأَنَّ الْجَبْهَةَ هِيَ الْأَصْلُ فِي السُّجُودِ، وَغَيْرُهَا تَبَعٌ لَهَا، فَإِذَا سَقَطَ الْأَصْلُ سَقَطَ التَّبَعُ، وَدَلِيلُ التَّبَعِيَّةِ، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ الْيَدَيْنِ تَسْجُدَانِ كَمَا يَسْجُدُ الْوَجْهُ، فَإِذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ فَلْيَضَعْ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَهُ فَلْيَرْفَعْهُمَا» وَبَاقِي الْأَعْضَاءِ مِثْلُهُمَا فِي ذَلِكَ لِعَدَمِ الْفَارِقِ، وَأَمَّا إِنْ قَدَرَ عَلَى السُّجُودِ بِالْجَبْهَةِ فَإِنَّهُ يَتْبَعُهَا الْبَاقِي مِنَ الْأَعْضَاءِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ السُّجُودُ مَعَ عَدَمِ اسْتِعْلَاءِ الْأَسَافِلِ إِنْ خَرَجَ عَنْ صِفَةِ السُّجُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ سَاجِدًا، وَأَمَّا الِاسْتِعْلَاءُ الْيَسِيرُ فَلَا بَأْسَ بِهِ- بِأَنْ عَلَا مَوْضِعُ رَأْسِهِ عَلَى مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ بِلَا حَاجَةٍ يَسِيرًا- وَيُكْرَهُ الْكَثِيرُ.
ح- الْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ:
23- مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ الْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ أَمِ النَّفْلِ؛ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ: ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا» وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ جَالِسًا».
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ قَبْلَ هَذَا الرُّكْنِ رُكْنًا آخَرَ وَهُوَ الرَّفْعُ مِنَ السُّجُودِ.وَمَا سَبَقَ مِنْ نَفْيِ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ الِاعْتِدَالَ مِنَ الرُّكُوعِ يَجْرِي- أَيْضًا- فِي الِاعْتِدَالِ مِنَ السُّجُودِ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِصِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ عَنِ الْأَرْضِ حَالَ الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِرَفْعِهِ غَيْرَ الْجُلُوسِ، كَمَا فِي الرُّكُوعِ.فَلَوْ رَفَعَ فَزَعًا مِنْ شَيْءٍ لَمْ يَكْفِ، وَيَجِبُ أَنْ يَعُودَ إِلَى السُّجُودِ.
وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا، قَالُوا: وَيُشْتَرَطُ فِي نَحْوِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَرَفْعٍ مِنْهُمَا: أَنْ لَا يَقْصِدَ غَيْرَهُ، فَلَوْ رَكَعَ أَوْ سَجَدَ، أَوْ رَفَعَ خَوْفًا مِنْ شَيْءٍ لَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقْصِدَهُ؛ اكْتِفَاءً بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ الْمُسْتَصْحِبِ حُكْمَهَا.
قَالَ الشَّيْخُ الرَّحِيبَانِيُّ: بَلْ لَا بُدَّ مِنْ قَصْدِ ذَلِكَ وُجُوبًا.
ط- الْجُلُوسُ لِلتَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ:
24- وَهُوَ رُكْنٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِمُدَاوَمَةِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَيْهِ، وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَلِأَنَّ التَّشَهُّدَ فَرْضٌ وَالْجُلُوسُ لَهُ مَحَلُّهُ فَيَتْبَعُهُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الرُّكْنَ هُوَ الْجُلُوسُ لِلسَّلَامِ فَقَطْ.فَالْجُزْءُ الْأَخِيرُ مِنَ الْجُلُوسِ الَّذِي يُوقِعُ فِيهِ السَّلَامَ فَرْضٌ، وَمَا قَبْلَهُ سُنَّةٌ، وَعَلَيْهِ فَلَوْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ وَاعْتَدَلَ جَالِسًا وَسَلَّمَ كَانَ ذَلِكَ الْجُلُوسُ هُوَ الْوَاجِبَ، وَفَاتَتْهُ السُّنَّةُ، وَلَوْ جَلَسَ ثُمَّ تَشَهَّدَ، ثُمَّ سَلَّمَ كَانَ آتِيًا بِالْفَرْضِ وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ جَلَسَ وَتَشَهَّدَ ثُمَّ اسْتَقَلَّ قَائِمًا وَسَلَّمَ كَانَ آتِيًا بِالسُّنَّةِ تَارِكًا لِلْفَرْضِ.
ى- التَّشَهُّدُ الْأَخِيرُ:
25- وَيَقُولُ بِرُكْنِيَّتِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ.»
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ:
«كُنَّا نَقُولُ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ التَّشَهُّدُ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-:
لَا تَقُولُوا هَذَا.فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ، وَلَكِنْ قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ.» الْحَدِيثَ، وَقَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه- لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ إِلاَّ بِتَشَهُّدٍ.
وَأَقَلُّ التَّشَهُّدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ.سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.وَهُوَ أَقَلُّهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- أَيْضًا- بِدُونِ لَفْظِ: «وَبَرَكَاتُهُ».مَعَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ «وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» «وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» لِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عَلَى ذَلِكَ.
وَالتَّشَهُّدُ الْأَخِيرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ.
ك- الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ:
26- هِيَ رُكْنٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وَلِحَدِيثِ: «قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ».
وَقَدْ «صَلَّى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى نَفْسِهِ فِي الْوِتْرِ.وَقَالَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي».
وَأَقَلُّ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ) قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَنَحْوُهُ كَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ أَوْ عَلَى رَسُولِهِ أَوْ عَلَى النَّبِيِّ أَوْ عَلَيْهِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ بَعْدَ التَّشَهُّدِ، فَلَوْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ التَّشَهُّدِ لَمْ تُجْزِئْهُ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ يَعُدُّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- رُكْنًا مُسْتَقِلًّا، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُهَا مِنْ جُمْلَةِ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ.
ل- السَّلَامُ:
27- اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى رُكْنِيَّتِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» وَقَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَخْتِمُ الصَّلَاةَ بِالتَّسْلِيمِ».
وَلَفْظُهُ الْمُجْزِئُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ».
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: فَلَا يُجْزِئُ سَلَامُ اللَّهِ، أَوْ سَلَامِي، أَوْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَلَا بُدَّ- أَيْضًا- مِنْ تَأَخُّرِ «عَلَيْكُمْ» وَأَنْ يَكُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ تَقَدُّمَ «عَلَيْكُمْ» فَيُجْزِئُ عِنْدَهُمْ «عَلَيْكُمُ السَّلَامُ» مَعَ الْكَرَاهَةِ.قَالُوا: وَلَا يُجْزِئُ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ، وَلَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ لِلْغَائِبِ، وَلَا عَلَيْكَ وَلَا عَلَيْكُمَا، وَلَا سَلَامِي عَلَيْكُمْ، وَلَا سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.فَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِالتَّحْرِيمِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَلَا تُجْزِئُ- أَيْضًا- سَلَامٌ عَلَيْكُمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ صِيغَتَهُ الْمُجْزِئَةَ:
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَقُلْ «وَرَحْمَةُ اللَّهِ» فِي غَيْرِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُهُ.وَقَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَهُوَ سَلَامٌ فِي صَلَاةِ وَرَدَ مَقْرُونًا بِالرَّحْمَةِ فَلَمْ يُجْزِئْهُ بِدُونِهَا كَالسَّلَامِ فِي التَّشَهُّدِ.فَإِنْ نَكَّرَ السَّلَامَ، كَقَوْلِهِ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، أَوْ عَرَّفَهُ بِغَيْرِ اللاَّمِ، كَسَلَامِي، أَوْ سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، أَوْ نَكَّسَهُ فَقَالَ عَلَيْكُمْ سَلَامٌ أَوْ عَلَيْكُمُ السَّلَامُ، أَوْ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ لَمْ يُجْزِئْهُ لِمُخَالَفَتِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَمَنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ يُغَيِّرُ السَّلَامَ الْوَارِدَ، وَيُخِلُّ بِحَرْفٍ يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ.
وَالْوَاجِبُ تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: بِوُجُوبِ التَّسْلِيمَتَيْنِ.وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنْ يَنْوِيَ بِالسَّلَامِ الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ، فَلَا تَجِبُ نِيَّةُ الْخُرُوجِ مِنَ الصَّلَاةِ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ؛ وَلِأَنَّ النِّيَّةَ السَّابِقَةَ مُنْسَحِبَةٌ عَلَى جَمِيعِ الصَّلَاةِ.
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْخُرُوجِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْأَوَّلِ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يُجَدِّدَ نِيَّةَ الْخُرُوجِ مِنَ الصَّلَاةِ بِالسَّلَامِ لِأَجْلِ أَنْ يَتَمَيَّزَ عَنْ جِنْسِهِ كَافْتِقَارِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ إِلَيْهَا لِتَمَيُّزِهَا عَنْ غَيْرِهَا، فَلَوْ سَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ نِيَّةٍ لَمْ يُجْزِهِ، قَالَ سَنَدٌ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ.
الثَّانِي: لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُنْدَبُ فَقَطْ؛ لِانْسِحَابِ النِّيَّةِ الْأُولَى.قَالَ ابْنُ الْفَاكِهَانِيِّ: هُوَ الْمَشْهُورُ، وَكَلَامُ ابْنِ عَرَفَةَ يُفِيدُ أَنَّهُ الْمُعْتَمَدُ.
م- الطُّمَأْنِينَةُ:
28- هِيَ: اسْتِقْرَارُ الْأَعْضَاءِ زَمَنًا مَا.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: أَقَلُّهَا أَنْ تَسْتَقِرَّ الْأَعْضَاءُ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: حُصُولُ السُّكُونِ وَإِنْ قَلَّ.وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ.
وَالثَّانِي: بِقَدْرِ الذِّكْرِ الْوَاجِبِ.وَفَائِدَةُ الْوَجْهَيْنِ: إِذَا نَسِيَ التَّسْبِيحَ فِي رُكُوعِهِ أَوْ سُجُودِهِ، أَوِ التَّحْمِيدَ فِي اعْتِدَالِهِ، أَوْ سُؤَالَ الْمَغْفِرَةِ فِي جُلُوسِهِ، أَوْ عَجَزَ عَنْهُ لِعُجْمَةٍ أَوْ خَرَسٍ، أَوْ تَعَمَّدَ تَرْكَهُ وَقُلْنَا هُوَ سُنَّةٌ وَاطْمَأَنَّ قَدْرًا لَا يَتَّسِعُ لَهُ، فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَلَا تَصِحُّ عَلَى الثَّانِي.
وَهِيَ رُكْنٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَصَحَّحَ ابْنُ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فَرْضِيَّتَهَا.
وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَلِذَا قَالَ زَرُّوقٌ: مَنْ تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ عَلَى الْمَشْهُورِ.وَقِيلَ: إِنَّهَا فَضِيلَةٌ.
وَدَلِيلُ رُكْنِيَّةِ الطُّمَأْنِينَةِ حَدِيثُ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ الْمُتَقَدِّمُ.وَحَدِيثُ «حُذَيْفَةَ: أَنَّهُ رَأَى رَجُلاً لَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَلَا السُّجُودَ فَقَالَ لَهُ:
مَا صَلَّيْتَ، وَلَوْ مِتَّ مِتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم- » وَهِيَ رُكْنٌ فِي جَمِيعِ الْأَرْكَانِ.
ن- تَرْتِيبُ الْأَرْكَانِ:
29- لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّيهَا مُرَتَّبَةً، مَعَ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَعَلَّمَهَا لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ مُرَتَّبَةً «بِثُمَّ» وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَبْطُلُ بِالْحَدَثِ كَانَ التَّرْتِيبُ فِيهَا رُكْنًا كَغَيْرِهِ.وَالتَّرْتِيبُ وَاجِبٌ فِي الْفَرَائِضِ فِي أَنْفُسِهَا فَقَطْ.وَأَمَّا تَرْتِيبُ السُّنَنِ فِي أَنْفُسِهَا، أَوْ مَعَ الْفَرَائِضِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.
أَرْكَانُ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
أَرْكَانُ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سِتَّةٌ:
أ- الْقِيَامُ:
30- وَهُوَ رُكْنٌ فِي فَرْضٍ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ، وَيَشْمَلُ التَّامَّ مِنْهُ وَهُوَ: الِانْتِصَابُ مَعَ الِاعْتِدَالِ، وَغَيْرَ التَّامِّ وَهُوَ: الِانْحِنَاءُ الْقَلِيلُ بِحَيْثُ لَا تَنَالُ يَدَاهُ رُكْبَتَيْهِ، وَيَسْقُطُ عَنَ الْعَاجِزِ عَنْهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، وَالْعَجْزُ الْحُكْمِيُّ هُوَ: كَمَا لَوْ حَصَلَ لَهُ بِهِ أَلَمٌ شَدِيدٌ، أَوْ خَافَ زِيَادَةَ الْمَرَضِ.وَمِنَ الْعَجْزِ الْحُكْمِيِّ أَيْضًا كَمَنْ يَسِيلُ جُرْحُهُ إِذَا قَامَ، أَوْ يَسْلُسُ بَوْلُهُ، أَوْ يَبْدُو رُبُعُ عَوْرَتِهِ، أَوْ يَضْعُفُ عَنِ الْقِرَاءَةِ أَصْلاً- أَمَّا لَوْ قَدَرَ عَلَى بَعْضِ الْقِرَاءَةِ إِذَا قَامَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْرَأَ مِقْدَارَ قُدْرَتِهِ، وَالْبَاقِي قَاعِدًا، أَوْ عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ، فَيَتَحَتَّمُ الْقُعُودُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ لِعَجْزِهِ عَنِ الْقِيَامِ حُكْمًا إِذْ لَوْ قَامَ لَزِمَ فَوْتُ الطَّهَارَةِ أَوِ السَّتْرِ أَوِ الْقِرَاءَةِ أَوِ الصَّوْمِ بِلَا خُلْفٍ.
ب- الْقِرَاءَةُ:
31- وَيَتَحَقَّقُ رُكْنُ الْقِرَاءَةِ بِقِرَاءَةِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمَحَلُّهَا رَكْعَتَانِ فِي الْفَرْضِ وَجَمِيعِ رَكَعَاتِ النَّفْلِ وَالْوِتْرِ.
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَدْرِ الْقِرَاءَةِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ.فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَدَّرَ أَدْنَى الْمَفْرُوضِ بِالْآيَةِ التَّامَّةِ طَوِيلَةً كَانَتْ أَوْ قَصِيرَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُدْهَامَّتَانِ} وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ نَظَرَ} وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ}.
وَفِي رِوَايَةٍ: الْفَرْضُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، بَلْ هُوَ عَلَى أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ سَوَاءٌ كَانَتْ آيَةً أَوْ مَا دُونَهَا بَعْدَ أَنْ قَرَأَهَا عَلَى قَصْدِ الْقِرَاءَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: قَدْرُ الْفَرْضِ بِآيَةٍ طَوِيلَةٍ كَآيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الدَّيْنِ، أَوْ ثَلَاثِ آيَاتٍ قِصَارٍ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ.
وَأَصْلُهُ قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} فَهُمَا يَعْتَبِرَانِ الْعُرْفَ، وَيَقُولَانِ: مُطْلَقُ الْكَلَامِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُتَعَارَفِ، وَأَدْنَى مَا يُسَمَّى الْمَرْءُ بِهِ قَارِئًا فِي الْعُرْفِ أَنْ يَقْرَأَ آيَةً طَوِيلَةً، أَوْ ثَلَاثَ آيَاتٍ قِصَارٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَحْتَجُّ بِالْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ أَمَرَ بِمُطْلَقِ الْقِرَاءَةِ، وَقِرَاءَةُ آيَةٍ قَصِيرَةٍ قِرَاءَةٌ.وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِقِرَاءَةِ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَعَسَى أَنْ لَا يَتَيَسَّرَ إِلاَّ هَذَا الْقَدْرُ.
وَقَدْ أَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَ يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ لَا يُحْسِنُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِنْ كَانَ يُحْسِنُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ يَجُوزُ، وَإِلَى قَوْلِهِمَا رَجَعَ أَبُو حَنِيفَةَ كَمَا جَاءَ فِي ابْنِ عَابِدِينَ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فَسَيَأْتِي أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ.
ج- الرُّكُوعُ:
32- وَأَقَلُّهُ طَأْطَأَةُ الرَّأْسِ مَعَ انْحِنَاءِ الظَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ مَوْضُوعِ اللُّغَةِ فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ قوله تعالى: {ارْكَعُوا}، وَفِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ: هُوَ بِحَيْثُ لَوْ مَدَّ يَدَيْهِ نَالَ رُكْبَتَيْهِ.
د- السُّجُودُ:
33- وَيَتَحَقَّقُ بِوَضْعِ جُزْءٍ مِنْ جَبْهَتِهِ وَإِنْ قَلَّ، وَوَضْعُ أَكْثَرِهَا وَاجِبٌ لِلْمُوَاظَبَةِ، كَمَا يَجِبُ وَضْعُ الْأَنْفِ مَعَ الْجَبْهَةِ، وَفِي وَضْعِ الْقَدَمَيْنِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ:
الْأُولَى: فَرْضِيَّةُ وَضْعِهِمَا.
وَالثَّانِيَةُ: فَرْضِيَّةُ إِحْدَاهُمَا.وَالثَّالِثَةُ: عَدَمُ الْفَرْضِيَّةِ: أَيْ أَنَّهُ سُنَّةٌ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْمَشْهُورَ فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ اعْتِمَادُ الْفَرْضِيَّةِ، وَالْأَرْجَحُ مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلُ وَالْقَوَاعِدُ عَدَمُ الْفَرْضِيَّةِ، وَلِذَا قَالَ فِي الْعِنَايَةِ وَالدُّرَرِ: إِنَّهُ الْحَقُّ، ثُمَّ الْأَوْجَهُ حَمْلُ عَدَمِ الْفَرْضِيَّةِ عَلَى الْوُجُوبِ.
هـ- الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ:
34- وَهِيَ مَحَلُّ خِلَافٍ عِنْدَهُمْ.فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ رُكْنٌ أَصْلِيٌّ.وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
إِنَّهَا وَاجِبَةٌ لَا فَرْضٌ، لَكِنِ الْوَاجِبُ- هُنَا- فِي قُوَّةِ الْفَرْضِ فِي الْعَمَلِ كَالْوِتْرِ.وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ: إِنَّهَا فَرْضٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ أَصْلِيٍّ بَلْ هِيَ شَرْطٌ لِلتَّحْلِيلِ.
و- الْخُرُوجُ بِصُنْعِهِ:
35- أَيْ بِصُنْعِ الْمُصَلِّي- فِعْلُهُ الِاخْتِيَارِيُّ- بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَالْوَاجِبُ الْخُرُوجُ بِلَفْظِ السَّلَامِ وَيُكْرَهُ تَحْرِيمًا الْخُرُوجُ بِغَيْرِهِ كَأَنْ يَضْحَكَ قَهْقَهَةً، أَوْ يُحْدِثَ عَمْدًا، أَوْ يَتَكَلَّمَ، أَوْ يَذْهَبَ، وَاحْتُرِزَ (بِصُنْعِهِ) عَمَّا لَوْ كَانَ سَمَاوِيًّا كَأَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ.
36- قَالَ الْحَصْكَفِيُّ شَارِحُ تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ: وَبَقِيَ مِنَ الْفُرُوضِ: تَمْيِيزُ الْمَفْرُوضِ، وَتَرْتِيبُ الْقِيَامِ عَلَى الرُّكُوعِ، وَالرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ، وَالْقُعُودِ الْأَخِيرِ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَإِتْمَامُ الصَّلَاةِ، وَالِانْتِقَالُ مِنْ رُكْنٍ إِلَى آخَرَ، وَمُتَابَعَتُهُ لِإِمَامِهِ فِي الْفُرُوضِ، وَصِحَّةُ صَلَاةِ إِمَامِهِ فِي رَأْيِهِ، وَعَدَمُ تَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ، وَعَدَمُ مُخَالَفَتِهِ فِي الْجِهَةِ، وَعَدَمُ تَذَكُّرِ فَائِتَةٍ، وَعَدَمُ مُحَاذَاةِ امْرَأَةٍ بِشَرْطِهِمَا، وَتَعْدِيلُ الْأَرْكَانِ عِنْدَ الثَّانِي (وَهُوَ أَبُو يُوسُفَ).
وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ تَمْيِيزِ الْمَفْرُوضِ، فَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ: بِأَنْ يُمَيِّزَ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ عَنِ الْأُولَى، بِأَنْ يَرْفَعَ وَلَوْ قَلِيلاً أَوْ يَكُونَ إِلَى الْقُعُودِ أَقْرَب، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّمْيِيزِ تَمْيِيزُ مَا فُرِضَ عَلَيْهِ مِنَ الصَّلَوَاتِ عَمَّا لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَعْلَمْ فَرْضِيَّةَ الْخَمْسِ، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا لَا يُجْزِيهِ.
وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ الْبَعْضَ فَرْضٌ وَالْبَعْضَ سُنَّةٌ وَنَوَى الْفَرْضَ فِي الْكُلِّ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَنَوَى صَلَاةَ الْإِمَامِ عِنْدَ اقْتِدَائِهِ فِي الْفَرْضِ جَازَ، وَلَوْ عَلِمَ الْفَرْضَ دُونَ مَا فِيهِ مِنْ فَرَائِض وَسُنَنٍ جَازَتْ صَلَاتُهُ أَيْضًا؛ فَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَفْرُوضَ مِنْ أَجْزَاءِ كُلِّ صَلَاةٍ، أَيْ كَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِيهَا فَرْضٌ وَأَنَّ التَّسْبِيحَ سُنَّةٌ وَهَكَذَا.وَالْمُرَادُ بِتَرْتِيبِ الْقِيَامِ عَلَى الرُّكُوعِ، وَالرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ، وَالْقُعُودِ الْأَخِيرِ عَلَى مَا قَبْلَهُ، تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ رَكَعَ ثُمَّ قَامَ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ الرُّكُوعُ، فَإِنْ رَكَعَ ثَانِيًا صَحَّتْ صَلَاتُهُ؛ لِوُجُودِ التَّرْتِيبِ الْمَفْرُوضِ، وَلَزِمَهُ سُجُودُ السَّهْوِ لِتَقْدِيمِهِ الرُّكُوعَ الْمَفْرُوضَ، وَكَذَا تَقْدِيمُ الرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ، وَأَمَّا الْقُعُودُ الْأَخِيرُ فَيُفْتَرَضُ إِيقَاعُهُ بَعْدَ جَمِيعِ الْأَرْكَانِ، حَتَّى لَوْ تَذَكَّرَ بَعْدَهُ سَجْدَةً صُلْبِيَّةً سَجَدَهَا وَأَعَادَ الْقُعُودَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَلَوْ تَذَكَّرَ رُكُوعًا قَضَاهُ مَعَ مَا بَعْدَهُ مِنَ السُّجُودِ، أَوْ قِيَامًا أَوْ قِرَاءَةً صَلَّى رَكْعَةً.
37- وَمِنَ الْفَرَائِضِ- أَيْضًا- إِتْمَامُ الصَّلَاةِ، وَالِانْتِقَالُ مِنْ رُكْنٍ إِلَى رُكْنٍ؛ لِأَنَّ النَّصَّ الْمُوجِبَ لِلصَّلَاةِ يُوجِبُ ذَلِكَ، إِذْ لَا وُجُودَ لِلصَّلَاةِ بِدُونِ إِتْمَامِهَا وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي الْأَمْرَيْنِ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِتْمَامِ عَدَمُ الْقَطْعِ.وَبِالِانْتِقَالِ الِانْتِقَالُ عَنَ الرُّكْنِ لِلْإِتْيَانِ بِرُكْنٍ بَعْدَهُ إِذْ لَا يَتَحَقَّقُ مَا بَعْدَهُ إِلاَّ بِذَلِكَ، وَأَمَّا الِانْتِقَالُ مِنْ رُكْنٍ إِلَى آخَرَ بِلَا فَاصِلٍ بَيْنَهُمَا فَوَاجِبٌ حَتَّى لَوْ رَكَعَ ثُمَّ رَكَعَ يَجِبُ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ مِنَ الْفَرْضِ وَهُوَ الرُّكُوعُ إِلَى السُّجُودِ، بَلْ أَدْخَلَ بَيْنَهُمَا أَجْنَبِيًّا، وَهُوَ الرُّكُوعُ الثَّانِي.
وَالنِّيَّةُ عِنْدَهُمْ شَرْطٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (نِيَّة).
وَكَذَا تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ، فَهِيَ عِنْدَهُمْ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ عُمُومًا غَيْرَ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، أَمَّا فِي الْجِنَازَةِ فَهِيَ رُكْنٌ اتِّفَاقًا.تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ) ف 3 (13 218).
وَاجِبَاتُ الصَّلَاةِ:
قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِوَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ سِوَى الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ، وَوَاجِبَاتُ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَخْتَلِفُ عَنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
أ- وَاجِبَاتُ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
38- قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ.وَهِيَ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ لِثُبُوتِهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الزَّائِدِ عَلَى قوله تعالى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} وَالزِّيَادَةُ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَجُوزُ لَكِنْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا.
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالُوا بِوُجُوبِهَا.وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» وَلَوْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ رُكْنًا لَعَلَّمَهُ إِيَّاهَا لِجَهْلِهِ بِالْأَحْكَامِ وَحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْفَضِيلَةِ.
ثُمَّ إِنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنْهَا وَاجِبَةٌ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ بِتَرْكِهَا.وَهَذَا عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ الْقَائِلِ إِنَّهَا وَاجِبَةٌ بِتَمَامِهَا، وَأَمَّا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ: فَالْوَاجِبُ أَكْثَرُهَا، فَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ بِتَرْكِ أَكْثَرِهَا لَا أَقَلِّهَا.قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: وَهُوَ- أَيْ قَوْلُ الْإِمَامِ- أَوْلَى، وَعَلَيْهِ فَكُلُّ آيَةٍ وَاجِبَةٌ.
39- ضَمُّ أَقْصَرِ سُورَةٍ إِلَى الْفَاتِحَةِ- كَسُورَةِ الْكَوْثَرِ- أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ ثَلَاثِ آيَاتٍ قِصَارٍ نَحْوَ قوله تعالى: {ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} أَوْ آيَةٍ طَوِيلَةٍ تَعْدِلُ ثَلَاثَ آيَاتٍ قِصَارٍ، وَقَدَّرُوهَا بِثَلَاثِينَ حَرْفًا.
وَمَحَلُّ هَذَا الضَّمِّ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنَ الْفَرْضِ، وَجَمِيعِ رَكَعَاتِ النَّفْلِ وَالْوِتْرِ.
40- وَيَجِبُ تَعْيِينُ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ عَيْنً
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
25-موسوعة الفقه الكويتية (صلاة الكسوف)
صَلَاةُ الْكُسُوفِالتَّعْرِيفُ:
1- هَذَا الْمُصْطَلَحُ مُرَكَّبٌ فِي لَفْظَيْنِ تَرْكِيبَ إِضَافَةٍ: صَلَاةٍ، وَالْكُسُوفِ.فَالصَّلَاةُ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاة).
أَمَّا الْكُسُوفُ: فَهُوَ ذَهَابُ ضَوْءِ أَحَدِ النَّيِّرَيْنِ (الشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ) أَوْ بَعْضِهِ، وَتَغَيُّرُهُ إِلَى سَوَادٍ، يُقَالُ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ، وَكَذَا خَسَفَتْ، كَمَا يُقَالُ: كَسَفَ الْقَمَرُ، وَكَذَا خَسَفَ، فَالْكُسُوفُ، وَالْخُسُوفُ، مُتَرَادِفَانِ، وَقِيلَ: الْكُسُوفُ لِلشَّمْسِ، وَالْخُسُوفُ لِلْقَمَرِ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ فِي اللُّغَةِ.
وَصَلَاةُ الْكُسُوفِ: صَلَاةٌ تُؤَدَّى بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ، عِنْدَ ظُلْمَةِ أَحَدِ النَّيِّرَيْنِ أَوْ بَعْضِهِمَا.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2- الصَّلَاةُ لِكُسُوفِ الشَّمْسِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ.
أَمَّا الصَّلَاةُ لِخُسُوفِ الْقَمَرِ فَهِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهِيَ حَسَنَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَنْدُوبَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ: كَخَبَرِ الشَّيْخَيْنِ: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللَّهَ، وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ» «وَلِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- صَلاَّهَا لِكُسُوفِ الشَّمْسِ» كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَلِكُسُوفِ الْقَمَرِ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِهِ الثِّقَاتِ.
وَعَنِ «ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه-: أَنَّهُ صَلَّى بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ: إِنَّمَا صَلَّيْتُ لِأَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي».وَالصَّارِفُ عَنِ الْوُجُوبِ: حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الْمَعْرُوفُ: «هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا» وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ ذَاتُ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ، لَا أَذَانَ لَهَا وَلَا إِقَامَةَ، كَصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ.
وَقْتُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ:
3- وَوَقْتُهَا مِنْ ظُهُورِ الْكُسُوفِ إِلَى حِينِ زَوَالِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللَّهَ وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ» فَجَعَلَ الِانْجِلَاءَ غَايَةً لِلصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّهَا شُرِعَتْ رَغْبَةً إِلَى اللَّهِ فِي رَدِّ نِعْمَةِ الضَّوْءِ، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنَ الصَّلَاةِ.
صَلَاةُ الْكُسُوفِ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ:
4- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ إِلَى أَنَّهَا لَا تُصَلَّى فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا، كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، فَإِنْ صَادَفَ الْكُسُوفَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لَمْ تُصَلَّ، جُعِلَ فِي مَكَانِهَا تَسْبِيحًا، وَتَهْلِيلًا، وَاسْتِغْفَارًا، وَقَالُوا: لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ نَافِلَةً فَالتَّنَفُّلُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهٌ وَإِنْ كَانَ لَهَا سَبَبٌ.وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً فَأَدَاءُ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ فِيهَا مَكْرُوهٌ أَيْضًا وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ مَالِكٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ-: تُصَلَّى فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مُتَقَدِّمٌ أَوْ مُقَارِنٌ، كَالْمَقْضِيَّةِ وَصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَرَكْعَتَيِ الْوُضُوءِ، وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهَا إِذَا طَلَعَتْ مَكْسُوفَةً يُصَلَّى حَالًا، وَإِذَا دَخَلَ الْعَصْرُ مَكْسُوفَةً، أَوْ كُسِفَتْ عِنْدَهُمَا لَمْ يُصَلَّ لَهَا.
فَوَاتُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ:
5- تَفُوتُ صَلَاةُ كُسُوفِ الشَّمْسِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلِ: انْجِلَاءِ جَمِيعِهَا، فَإِنِ انْجَلَى الْبَعْضُ فَلَهُ الشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ لِلْبَاقِي، كَمَا لَوْ لَمْ يَنْكَسِفْ إِلاَّ ذَلِكَ الْقَدْرُ.
الثَّانِي: بِغُرُوبِهَا كَاسِفَةً.
وَيَفُوتُ خُسُوفُ الْقَمَرِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: الِانْجِلَاءُ الْكَامِلُ.
الثَّانِي: طُلُوعِ الشَّمْسِ،
وَلَوْ حَالَ سَحَابٌ، وَشُكَّ فِي الِانْجِلَاءِ صَلَّى؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْكُسُوفِ.وَلَوْ كَانَا تَحْتَ غَمَامٍ، فَظَنَّ الْكُسُوفَ لَمْ يُصَلَّ حَتَّى يُسْتَيْقَنَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ غَابَ الْقَمَرُ وَهُوَ خَاسِفٌ لَمْ يُصَلَّ.وَإِنْ صَلَّ وَلَمْ تَنْجَلِ لَمْ تُكَرَّرِ الصَّلَاةُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ، وَإِنِ انْجَلَتْ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ أَتَمَّهَا؛ لِأَنَّهَا صَلَاةُ أَصْلٍ، غَيْرُ بَدَلٍ عَنْ غَيْرِهَا؛ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا بِخُرُوجِ وَقْتِهَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ.
سُنَنُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ:
6- يُسَنُّ لِمُرِيدِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ:
(1) أَنْ يَغْتَسِلَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ شُرِعَ لَهَا الِاجْتِمَاعُ.
(2) وَأَنْ تُصَلَّى حَيْثُ تُصَلَّى الْجُمُعَةُ؛ لِأَنَّ « النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: صَلاَّهَا فِي الْمَسْجِدِ».
(3) وَأَنْ يُدْعَى لَهَا: «الصَّلَاةَ جَامِعَةً» لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو- رضي الله عنهما-: « قَالَ: لَمَّا كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نُودِيَ: إِنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ» وَلَيْسَ لَهَا أَذَانٌ وَلَا إِقَامَةٌ اتِّفَاقًا.
(4) وَأَنْ يُكْثِرَ ذِكْرَ اللَّهِ، وَالِاسْتِغْفَارَ، وَالتَّكْبِيرَ وَالصَّدَقَةَ، وَالتَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا اسْتَطَاعَ مِنَ الْقُرَبِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا».
(5) وَأَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلاَّهَا فِي جَمَاعَةٍ».
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: يُصَلَّى لِخُسُوفِ الْقَمَرِ وُحْدَانًا: رَكْعَتَيْنِ، رَكْعَتَيْنِ، وَلَا يُصَلُّونَهَا جَمَاعَةً، لِأَنَّ الصَّلَاةَ جَمَاعَةً لِخُسُوفِ الْقَمَرِ لَمْ تُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مَعَ أَنَّ خُسُوفَهُ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ كُسُوفِ الشَّمْسِ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ غَيْرَ الْمَكْتُوبَةِ لَا تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ إِلاَّ إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ فِيهَا.
الْخُطْبَةُ فِيهَا:
7- قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ: لَا خُطْبَةَ لِصَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَذَلِكَ لِخَبَرِ: «فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ، وَكَبِّرُوا، وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا» أَمَرَهُمْ- عليه الصلاة والسلام- بِالصَّلَاةِ، وَالدُّعَاءِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالصَّدَقَةِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِخُطْبَةٍ، وَلَوْ كَانَتِ الْخُطْبَةُ مَشْرُوعَةً فِيهَا لأَمَرَهُمْ بِهَا؛ وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ يَفْعَلُهَا الْمُنْفَرِدُ فِي بَيْتِهِ؛ فَلَمْ يُشْرَعْ لَهَا خُطْبَةٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ أَنْ يُخْطَبَ لَهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ خُطْبَتَانِ، كَخُطْبَتَيِ الْعِيدِ.لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قَامَ وَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُخْسَفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا».
8- وَتُشْرَعُ صَلَاةُ الْكُسُوفِ لِلْمُنْفَرِدِ، وَالْمُسَافِرِ وَالنِّسَاءِ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ، وَأَسْمَاءَ- رضي الله عنهما- صَلَّتَا مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.وَيُسْتَحَبُّ لِلنِّسَاءِ غَيْرِ ذَوَاتِ الْهَيْئَاتِ أَنْ يُصَلِّينَ مَعَ الْإِمَامِ، وَأَمَّا اللَّوَاتِي تُخْشَى الْفِتْنَةُ مِنْهُنَّ فَيُصَلِّينَ فِي الْبُيُوتِ مُنْفَرِدَاتٍ.فَإِنِ اجْتَمَعْنَ فَلَا بَأْسَ، إِلاَّ أَنَّهُنَّ لَا يَخْطُبْنَ.
إِذْنُ الْإِمَامِ بِصَلَاةِ الْكُسُوفِ:
9- لَا يُشْتَرَطُ لِإِقَامَتِهَا إِذْنُ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهَا نَافِلَةٌ وَلَيْسَ إِذْنُهُ شَرْطًا فِي نَافِلَةٍ، فَإِذَا تَرَكَ الْإِمَامُ صَلَاةَ الْكُسُوفِ فَلِلنَّاسِ أَنْ يُصَلُّوهَا عَلَانِيَةً إِنْ لَمْ يَخَافُوا فِتْنَةً، وَسِرًّا إِنْ خَافُوهَا، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: لَا يُقِيمُهَا جَمَاعَةً إِلاَّ الْإِمَامُ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ، لِأَنَّ أَدَاءَ هَذِهِ الصَّلَاةِ جَمَاعَةً عُرِفَ بِإِقَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَلَا يُقِيمُهَا إِلاَّ مَنْ هُوَ قَائِمٌ مَقَامَهُ.فَإِنْ لَمْ يُقِمْهَا الْإِمَامُ صَلَّى النَّاسُ حِينَئِذٍ فُرَادَى.وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ لِكُلِّ إِمَامِ مَسْجِدٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فِي مَسْجِدِهِ بِجَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْمِصْرِ، فَلَا تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِالسُّلْطَانِ كَغَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ.
كَيْفِيَّةُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ:
10- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ رَكْعَتَانِ.وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ بِهَا.
وَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ: إِلَى أَنَّهَا رَكْعَتَانِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قِيَامَانِ، وَقِرَاءَتَانِ، وَرُكُوعَانِ، وَسَجْدَتَانِ.
وَاسْتَدَلُّوا: بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ».
وَقَالُوا: وَإِنْ كَانَتْ هُنَاكَ رِوَايَاتٌ أُخْرَى، إِلاَّ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ هِيَ أَشْهَرُ الرِّوَايَاتِ فِي الْبَابِ.
وَالْخِلَافُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي الْكَمَالِ لَا فِي الْإِجْزَاءِ وَالصِّحَّةِ فَيُجْزِئُ فِي أَصْلِ السُّنَّةِ رَكْعَتَانِ كَسَائِرِ النَّوَافِلِ عِنْدَ الْجَمِيعِ.
وَأَدْنَى الْكَمَالِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ: أَنْ يُحْرِمَ بِنِيَّةِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَيَقْرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، ثُمَّ يَرْكَعَ، ثُمَّ يَرْفَعَ رَأْسَهُ وَيَطْمَئِنَّ، ثُمَّ يَرْكَعَ ثَانِيًا، ثُمَّ يَرْفَعَ وَيَطْمَئِنَّ، ثُمَّ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْنِ فَهَذِهِ رَكْعَةٌ.
ثُمَّ يُصَلِّيَ رَكْعَةً أُخْرَى كَذَلِكَ.فَهِيَ رَكْعَتَانِ: فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قِيَامَانِ، وَرُكُوعَانِ، وَسَجْدَتَانِ.وَبَاقِي الصَّلَاةِ مِنْ قِرَاءَةٍ، وَتَشَهُّدٍ، وَطُمَأْنِينَةٍ كَغَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ.
وَأَعْلَى الْكَمَالِ: أَنْ يُحْرِمَ، وَيَسْتَفْتِحَ، وَيَسْتَعِيذَ، وَيَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ، سُورَةَ الْبَقَرَةِ، أَوْ قَدْرَهَا فِي الطُّولِ، ثُمَّ يَرْكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا فَيُسَبِّحَ قَدْرَ مِائَةِ آيَةٍ، ثُمَّ يَرْفَعَ مِنْ رُكُوعِهِ، فَيُسَبِّحَ، وَيَحْمَدَ فِي اعْتِدَالِهِ.ثُمَّ يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ، وَسُورَةً دُونَ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: آلَ عِمْرَانَ، أَوْ قَدْرَهَا، ثُمَّ يَرْكَعَ فَيُطِيلَ الرُّكُوعَ، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ يَرْفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ، فَيُسَبِّحَ، وَيَحْمَدَ، وَلَا يُطِيلَ الِاعْتِدَالَ، ثُمَّ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، وَلَا يُطِيلَ الْجُلُوسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ.ثُمَّ يَقُومَ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، فَيَفْعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنَ الرُّكُوعَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، لَكِنْ يَكُونُ دُونَ الْأَوَّلِ فِي الطُّولِ فِي كُلِّ مَا يَفْعَلَ ثُمَّ يَتَشَهَّدَ وَيُسَلِّمَ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهَا رَكْعَتَانِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قِيَامٌ وَاحِدٌ، وَرُكُوعٌ وَاحِدٌ وَسَجْدَتَانِ كَسَائِرِ النَّوَافِلِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: «خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَسْجِدِ وَثَابَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ» إِلَخْ» وَمُطْلَقُ الصَّلَاةِ تَنْصَرِفُ إِلَى الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ.وَفِي رِوَايَةٍ: «فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلُّونَ».
الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ وَالْإِسْرَارُ بِهَا:
11- يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَيْلِيَّةٌ وَلِخَبَرِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «إِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- جَهَرَ فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ»
وَلَا يَجْهَرُ فِي صَلَاةِ كُسُوفِ الشَّمْسِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «إِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ، فَلَمْ نَسْمَعْ لَهُ صَوْتًا».
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.وَقَالَ أَحْمَدُ، وَأَبُو يُوسُفَ: يَجْهَرُ بِهَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ.وَقَالُوا: قَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- وَفَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَبِحَضْرَتِهِ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَم.وَرَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ، وَجَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ» وَلِأَنَّهَا نَافِلَةٌ شُرِعَتْ لَهَا الْجَمَاعَةُ، فَكَانَ مِنْ سُنَنِهَا الْجَهْرُ كَصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَالْعِيدَيْنِ.
اجْتِمَاعُ الْكُسُوفِ بِغَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ:
12- إِذَا اجْتَمَعَ مَعَ الْكُسُوفِ أَوِ الْخُسُوفِ غَيْرُهُ مِنَ الصَّلَاةِ: كَالْجُمُعَةِ، أَوِ الْعِيدِ، أَوْ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ، أَوِ الْوِتْرِ، وَلَمْ يُؤْمَنْ مِنَ الْفَوَاتِ، قُدِّمَ الْأَخْوَفُ فَوْتًا ثُمَّ الْآكَدُ، فَتُقَدَّمُ الْفَرِيضَةُ، ثُمَّ الْجِنَازَةُ، ثُمَّ الْعِيدُ، ثُمَّ الْكُسُوفُ.وَلَوِ اجْتَمَعَ وِتْرٌ وَخُسُوفٌ قُدِّمَ الْخُسُوفُ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ آكَدُ حِينَئِذٍ لِخَوْفِ فَوْتِهَا، وَإِنْ أُمِنَ مِنَ الْفَوَاتِ، تُقَدَّمُ الْجِنَازَةُ ثُمَّ الْكُسُوفُ أَوِ الْخُسُوفُ، ثُمَّ الْفَرِيضَةُ.
الصَّلَاةُ لِغَيْرِ الْكُسُوفِ مِنَ الْآيَاتِ:
13- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تُسْتَحَبُّ الصَّلَاةُ فِي كُلِّ فَزَعٍ: كَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ، وَالزَّلْزَلَةِ، وَالظُّلْمَةِ، وَالْمَطَرِ الدَّائِمِ لِكَوْنِهَا مِنَ الْأَفْزَاعِ، وَالْأَهْوَالِ.وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- صَلَّى لِزَلْزَلَةٍ بِالْبَصْرَةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا يُصَلَّى لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ الزَّلْزَلَةُ الدَّائِمَةُ، فَيُصَلَّى لَهَا كَصَلَاةِ الْكُسُوفِ؛ لِفِعْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَمَّا غَيْرُهَا فَلَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ الصَّلَاةُ لَهُ.وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يُصَلَّى لِكُلِّ آيَةٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يُصَلَّى لِغَيْرِ الْكُسُوفَيْنِ صَلَاةُ جَمَاعَةٍ، بَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلَّى فِي بَيْتِهِ، وَأَنْ يَتَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ بِالدُّعَاءِ عِنْدَ رُؤْيَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ- رحمه الله-: لَا آمُرُ بِصَلَاةِ جَمَاعَةٍ فِي زَلْزَلَةٍ، وَلَا ظُلْمَةٍ، وَلَا لِصَوَاعِقَ، وَلَا رِيحٍ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَآمُرُ بِالصَّلَاةِ مُنْفَرِدِينَ، كَمَا يُصَلُّونَ مُنْفَرِدِينَ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُصَلَّى لِهَذِهِ الْآيَاتِ مُطْلَقًا.
- رحمه الله-
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
26-موسوعة الفقه الكويتية (قصاص 1)
قِصَاص -1التَّعْرِيفُ:
1- مِنْ مَعَانِي الْقِصَاصِ فِي اللُّغَةِ: تَتَبُّعُ الْأَثَرِ، يُقَالُ: قَصَصْتُ الْأَثَرَ تَتَبَّعْتُهُ.
وَمِنْ مَعَانِيهِ: الْقَوَدُ، يُقَالُ: أَقَصَّ السُّلْطَانُ فُلَانًا إِقْصَاصًا: قَتَلَهُ قَوَدًا، وَأَقَصَّهُ مِنْ فُلَانٍ: جَرَحَهُ مِثْلَ جَرْحِهِ، وَاسْتَقَصَّهُ: سَأَلَهُ أَنْ يَقُصَّهُ.
قَالَ الْفَيُّومِيُّ: ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْقِصَاصِ فِي قَتْلِ الْقَاتِلِ، وَجُرْحِ الْجَارِحِ وَقَطْعِ الْقَاطِعِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْقِصَاصُ أَنْ يُفْعَلَ بِالْفَاعِلِ الْجَانِي مِثْلُ مَا فَعَلَ
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الثَّأْرُ:
2- الثَّأْرُ فِي اللُّغَةِ: الدَّمُ، وَالطَّلَبُ بِهِ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الثَّأْرِ وَالْقِصَاصِ: أَنَّ الْقِصَاصَ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى الْجَانِي الْمُكَافِئِ فَلَا يُؤْخَذُ غَيْرُهُ بِجَرِيرَتِهِ، أَمَّا الثَّأْرُ فَلَا يُبَالِي وَلِيُّ الدَّمِ فِي الِانْتِقَامِ مِنَ الْجَانِي أَوْ سِوَاهُ.
ب- الْحَدُّ:
3- الْحَدُّ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ، وَالْحَاجِزُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْبَوَّابُ حَدَّادًا لِلْمَنْعِ مِنَ الدُّخُولِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى.
وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ: أَنَّ كِلَيْهِمَا عُقُوبَةٌ عَلَى جِنَايَةٍ، إِلاَّ أَنَّ الْأَوَّلَ وَجَبَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى غَالِبًا، وَالثَّانِي وَجَبَ حَقًّا لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ أَوْلِيَائِهِ.
(ر: حُدُود ف 1- 2).
ج- الْجِنَايَةُ:
4- الْجِنَايَةُ فِي اللُّغَةِ: الذَّنْبُ وَالْجُرْمُ، وَتَجَنَّى عَلَيْهِ: إِذَا ادَّعَى ذَنْبًا لَمْ يَفْعَلْهُ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: هِيَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ حَلَّ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ.
وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْجِنَايَةِ وَالْقِصَاصِ: السَّبَبِيَّةُ، فَقَدْ تَكُونُ الْجِنَايَةُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ.
د- التَّعْزِيرُ:
5- التَّعْزِيرُ فِي اللُّغَةِ: التَّوْقِيرُ، وَالتَّعْظِيمُ وَالتَّأْدِيبُ، وَمِنْهُ الضَّرْبُ دُونَ الْحَدِّ
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عُقُوبَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لآِدَمِيٍّ، فِي مَعْصِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ وَلَا كَفَّارَةٌ غَالِبًا.
وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ التَّعْزِيرِ وَالْقِصَاصِ: أَنَّ الْقِصَاصَ مُقَدَّرٌ بِمَا يُسَاوِي الْجِنَايَةَ، وَالتَّعْزِيرُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِذَلِكَ.ثُمَّ إِنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ لِأَوْلِيَائِهِ، أَمَّا التَّعْزِيرُ فَقَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
هـ- الْعُقُوبَةُ:
6- الْعُقُوبَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنْ عَاقَبَ يُعَاقِبُ عِقَابًا وَمُعَاقَبَةً، وَهُوَ أَنْ تُجْزِيَ الرَّجُلَ بِمَا فَعَلَ سُوءًا، وَعَاقَبَهُ بِذَنْبِهِ: إِذَا أَخَذَهُ بِهِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ عَرَّفَهَا ابْنُ عَابِدِينَ بِأَنَّهَا: جَزَاءٌ بِالضَّرْبِ أَوِ الْقَطْعِ أَوِ الرَّجْمِ أَوِ الْقَتْلِ، وَسُمِّيَ بِهَا لِأَنَّهَا تَتْلُو الذَّنْبَ، وَمِنْ تَعَقَّبَهُ: إِذَا تَبِعَهُ.
وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْعُقُوبَةِ وَالْقِصَاصِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَالْقِصَاصُ ضَرْبٌ مِنَ الْعُقُوبَةِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْقِصَاصِ الْوُجُوبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ مِنْ مُسْتَحِقِّهِ، وَمُبَاحٌ طَلَبُهُ مِنْ قِبَلِ مُسْتَحِقِّهِ إِذَا اسْتَوْفَى شُرُوطَهُ، فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ، وَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَلَيْهِ، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَالْعَفْوُ أَفْضَلُ، ثُمَّ الصُّلْحُ.
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى مَا دُونَهَا.
وَذَلِكَ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى}، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}.وَقَوْلُهُ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ}، وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُودَى، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ»، وَمَا رَوَاهُ أَنَسٌ- رضي الله عنه- «أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَعَرَضُوا عَلَيْهِمُ الْأَرْشَ فَأَبَوْا، وَطَلَبُوا الْعَفْوَ فَأَبَوْا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَمَرَ بِالْقِصَاصِ فَجَاءَ أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا.فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ قَالَ: فَعَفَا الْقَوْمُ.ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ»؛ وَلِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ كَالنَّفْسِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى حِفْظِهِ بِالْقِصَاصِ، فَكَانَ كَالنَّفْسِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ.
أَسْبَابُ الْقِصَاصِ:
8- أَسْبَابُ الْقِصَاصِ هِيَ: الْقَتْلُ وَالْقَطْعُ وَالْجُرْحُ وَالشِّجَاجُ وَإِزَالَةُ مَعَانِي الْأَعْضَاءِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي: الْقِصَاصُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ:
9- الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ سَبَبُهُ الْقَتْلُ الْعَمْدُ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ سَوْفَ يَأْتِي تَفْصِيلُهَا.
شُرُوطُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:
10- لِلْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ شُرُوطٌ فِي الْقَاتِلِ، وَالْمَقْتُولِ، وَفِعْلِ الْقَتْلِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ إِلاَّ بِتَوَفُّرِهَا، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ، كَمَا يَلِي:
أ- التَّكْلِيفُ:
11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَاتِلِ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا، أَيْ عَاقِلًا بَالِغًا عِنْدَ الْقَتْلِ، فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ إِذَا كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا جُنُونًا مُطْبِقًا عِنْدَ الْقَتْلِ.
فَإِذَا قَتَلَهُ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ دَفَعَهُ الْقَاضِي لِلْوَلِيِّ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ اقْتُصَّ مِنْهُ، وَإِنْ جُنَّ قَبْلَ دَفْعِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ بَدَلًا مِنْهُ اسْتِحْسَانًا، وَكَذَلِكَ إِذَا جُنَّ قَبْلَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُخَاطَبًا حَالَةَ الْوُجُوبِ وَذَلِكَ بِالْقَضَاءِ وَيَتِمُّ بِالدَّفْعِ، فَإِذَا جُنَّ قَبْلَ الدَّفْعِ تَمَكَّنَ الْخَلَلُ فِي الْوُجُوبِ فَصَارَ كَمَا لَوْ جُنَّ قَبْلَ الْقَضَاءِ.
فَإِنْ كَانَ يَجِنُّ وَيُفِيقُ، فَإِنْ قَتَلَ فِي إِفَاقَتِهِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ، فَإِنْ جُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ مُطْبِقًا سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ غَيْرَ مُطْبِقٍ قُتِلَ قِصَاصًا بَعْدَ إِفَاقَتِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْتَظَرُ إِلَى حِينِ إِفَاقَتِهِ ثُمَّ يُقْتَصُّ مِنْهُ.
فَإِذَا كَانَ الْقَاتِلُ مَجْنُونًا جُنُونًا مُتَقَطِّعًا، فَإِنْ قَتَلَهُ فِي حَالِ صَحْوِهِ اقْتُصَّ مِنْهُ فِي حَالِ صَحْوِهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَتَلَهُ وَهُوَ مَجْنُونٌ جُنُونًا مُطْبِقًا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ جُنُونُهُ مُتَقَطِّعًا، فَإِنْ قَتَلَهُ حَالَ الْجُنُونِ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ حَالَ الْجُنُونِ وَهُوَ فِيهَا غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَإِنْ قَتَلَهُ حَالَ الْإِفَاقَةِ، أَوْ قَتَلَهُ وَهُوَ عَاقِلٌ ثُمَّ جُنَّ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ، وَيُقْتَصُّ مِنْهُ حَالَ جُنُونِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَتَلَهُ وَهُوَ عَاقِلٌ ثُمَّ جُنَّ لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ عَنْهُ، ثُمَّ يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ إِنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ حَتَّى يَصْحُوَ؛ لِاحْتِمَالِ رُجُوعِهِ عَنْ إِقْرَارِهِ.
وَمِثْلُ الْجُنُونِ: النَّوْمُ وَالْإِغْمَاءُ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ، لِلْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».
أَمَّا السَّكْرَانُ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمَا إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَتَلَ وَهُوَ سَكْرَانُ، فَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ بِمُحَرَّمٍ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ لِعُذْرٍ كَالْإِكْرَاهِ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ مَبْنِيٌّ عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِهِ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ، فَيَكُونُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ.
ب- عِصْمَةُ الْقَتِيلِ:
12- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَاتِلِ أَنْ يَكُونَ الْقَتِيلُ مَعْصُومَ الدَّمِ، أَوْ مَحْقُونَ الدَّمِ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ.
فَإِذَا كَانَ الْقَتِيلُ مُهْدَرَ الدَّمِ فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ- كَالْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ- لَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِ قِصَاصٌ مُطْلَقًا.
فَإِذَا كَانَ مُهْدَرَ الدَّمِ فِي حَقِّ بَعْضِ النَّاسِ دُونَ سَائِرِهِمْ، كَالْقَاتِلِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ فِي حَقِّ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ خَاصَّةً، فَإِنْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ قُتِلَ بِهِ قِصَاصًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُهْدَرِ الدَّمِ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ وَلِيُّ الدَّمِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ فِي حَقِّهِ.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مَحْقُونَ الدَّمِ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ عَلَى التَّأْبِيدِ كَالْمُسْلِمِ، فَإِنْ كَانَتْ عِصْمَتُهُ مُؤَقَّتَةً كَالْمُسْتَأْمَنِ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ قَاتِلُهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مَصُونُ الدَّمِ فِي حَالِ أَمَانِهِ فَقَطْ، وَهُوَ مُهْدَرُ الدَّمِ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ، فَلَا قِصَاصَ فِي قَتْلِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَاتِلُهُ مُسْتَأْمَنًا أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَيُقْتَلُ بِهِ لِلْمُسَاوَاةِ لَا اسْتِحْسَانًا، وَقِيلَ: لَا يُقْتَلُ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْقِصَاصُ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ؛ لِقِيَامِ الْعِصْمَةِ وَقْتَ الْقَتْلِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْعِصْمَةِ التَّأْبِيدُ، وَعَلَى ذَلِكَ يُقْتَلُ قَاتِلُ الْمُسْتَأْمَنِ، لقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ}.
ج- الْمُكَافَأَةُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ:
13- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ الْمُكَافَأَةُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ فِي أَوْصَافٍ اعْتَبَرُوهَا، فَلَا يُقْتَلُ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى، وَلَكِنْ يُقْتَلُ الْأَدْنَى بِالْأَعْلَى وَبِالْمُسَاوِي.
وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ، وَقَالُوا: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ عِنْدَهُمُ الْمُسْلِمُ وَلَا الذِّمِّيُّ بِالْحَرْبِيِّ، لَا لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بَلْ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ.
إِلاَّ أَنَّ الْجُمْهُورَ اخْتَلَفُوا فِي الْأَوْصَافِ الَّتِي اعْتَبَرُوهَا لِلْمُكَافَأَةِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ.أَوْ أَنْ يَكُونَ الْقَتِيلُ أَزْيَدَ مِنَ الْقَاتِلِ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ الْقَاتِلُ أَزْيَدَ مِنَ الْقَتِيلِ فِيهِمَا فَلَا قِصَاصَ، فَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْقَصَ مِنَ الْآخَرِ فِي أَحَدِهِمَا، كَانَ نَقْصُ الْكُفْرِ أَكْثَرَ مِنْ نَقْصِ الرِّقِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ وَلَوْ عَبْدًا بِكَافِرٍ وَلَوْ حُرًّا، وَلَا حُرٌّ بِرَقِيقٍ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ زَائِدَ إِسْلَامٍ، فَيُقْتَلُ حُرٌّ كِتَابِيٌّ بِرَقِيقٍ مُسْلِمٍ كَمَا سَيَأْتِي تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْحُرِّيَّةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا يُقْتَلُ الْكَافِرُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ مُطْلَقًا عِنْدَهُمْ، كَمَا لَا يُقْتَلُ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ بِالْحُرِّ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالْكَافِرِ مُطْلَقًا، فَإِذَا قَتَلَ مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ عَبْدًا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ، وَإِذَا قَتَلَ حُرٌّ مَنْ نِصْفُهُ عَبْدٌ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ أَيْضًا لِعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ.
وَيُقْتَلُ الْعَبْدُ الْقِنُّ بِالْمُكَاتَبِ، وَيُقْتَلُ الْمُكَاتَبُ بِهِ، وَيُقْتَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ- وَالْعَكْسُ- لِأَنَّ الْكُلَّ عَبِيدٌ.
وَيُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ مُطْلَقًا.
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِلْقَوَدِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: لَا بُدَّ فِي الْقَوَدِ مِنَ الْمُكَافَأَةِ فِي الْحَالَاتِ الثَّلَاثِ: حَالَةُ الرَّمْيِ وَحَالَةُ الْإِصَابَةِ وَحَالَةُ الْمَوْتِ، وَمَتَى فُقِدَ التَّكَافُؤُ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَبَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ فِي الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ الَّذِي فِيهِ مَالٌ إِذَا زَالَتِ الْمُكَافَأَةُ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ، أَوْ عُدِمَتْ قَبْلَ السَّبَبِ وَحَدَثَتْ بَعْدَهُ وَقَبْلَ الْمُسَبَّبِ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ، كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي ضَمَانِهَا وَقْتَ الْمُسَبَّبِ، وَهُوَ وَقْتُ الْإِصَابَةِ فِي الْجُرْحِ وَوَقْتُ التَّلَفِ فِي الْمَوْتِ، وَلَا يُرَاعَى فِيهِ وَقْتُ السَّبَبِ وَهُوَ الرَّمْيُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ سَحْنُونٌ خِلَافًا لِأَشْهَبَ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مِنِ اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ هُنَا الْقَتْلَ غِيلَةً، وَقَالُوا بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، قَالَ الدَّرْدِيرُ: إِلاَّ الْغِيلَةَ- بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَهِيَ الْقَتْلُ لِأَخْذِ الْمَالِ- فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ، بَلْ يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَالْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَوَقْتُ الْمُسَاوَاةِ الْمُشْتَرَطِ عِنْدَهُمْ هُوَ وَقْتُ الْقَتْلِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ قَتَلَ كَافِرٌ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ..فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُقْتَصُّ مِنْهُ..لِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ فَكَانَ الِاعْتِبَارُ فِيهَا بِحَالِ وُجُوبِهَا دُونَ حَالِ اسْتِيفَائِهَا كَالْحُدُودِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُقْتَلَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ.
وَيَسْتَوِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْقَتْلُ غِيلَةً وَغَيْرَهُ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَقَتْلُ الْغِيلَةِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ فِي الْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ، وَذَلِكَ لِلْوَلِيِّ دُونَ السُّلْطَانِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْأَمَانِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْأَصْلِيَّةِ وَالسِّيَادَةِ، فَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ وَلَوْ زَانِيًا مُحْصَنًا بِذِمِّيٍّ لِخَبَرِ: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ».
وَلِأَنَّهُ لَا يُقَادُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِالْإِجْمَاعِ، فَفِي النَّفْسِ أَوْلَى..وَيُقْتَلُ ذِمِّيٌّ بِهِ أَيِ الْمُسْلِمِ لِشَرَفِهِ عَلَيْهِ، وَيُقْتَلُ أَيْضًا بِذِمِّيٍّ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِلَّتُهُمَا، وَمُعَاهَدٍ وَمُسْتَأْمَنٍ وَمَجُوسِيٍّ وَعَكْسُهُ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّسْخَ شَمِلَ الْجَمِيعَ.
وَالْأَظْهَرُ: قَتْلُ مُرْتَدٍّ بِذِمِّيٍّ وَمُسْتَأْمَنٍ وَمُعَاهَدٍ سَوَاءٌ عَادَ الْمُرْتَدُّ إِلَى الْإِسْلَامِ أَمْ لَا؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْكُفْرِ، بَلِ الْمُرْتَدُّ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ.وَالثَّانِي: لَا يُقْتَلُ بِهِ لِبَقَاءِ عُلْقَةِ الْإِسْلَامِ فِي الْمُرْتَدِّ، وَالْأَظْهَرُ أَيْضًا: قَتْلُ مُرْتَدٍّ بِمُرْتَدٍّ لِتَسَاوِيهِمَا، كَمَا لَوْ قَتَلَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيًّا، وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ مُبَاحُ الدَّمِ، لَا ذِمِّيٌّ بِمُرْتَدٍّ فِي الْأَظْهَرِ، وَالثَّانِي يُقْتَلُ بِهِ أَيْضًا، وَيُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ بِالزَّانِي الْمُسْلِمِ الْمُحْصَنِ كَمَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ، وَلَا يُقْتَلُ زَانٍ مُحْصَنٌ بِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِفَضِيلَةِ الْإِسْلَامِ، وَلِخَبَرِ: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ»، وَلَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِمَنْ فِيهِ رِقٌّ وَإِنْ قَلَّ، لقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ}، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُكَاتَبُ وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَعَبْدُهُ وَعَبْدُ غَيْرِهِ.
وَيُقْتَلُ قِنٌّ وَمُدَبَّرٌ وَمُكَاتَبٌ وَأُمُّ وَلَدٍ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَلَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ لِكَافِرٍ وَالْقَاتِلُ لِمُسْلِمٍ لِلتَّسَاوِي فِي الْمِلْكِ، وَاسْتُثْنِيَ الْمُكَاتَبُ إِذَا قَتَلَ عَبْدَهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ كَمَا لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِعَبْدِهِ.
وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ لَوْ قَتَلَ مِثْلَهُ أَيْ مُبَعَّضًا، سَوَاءٌ ازْدَادَتْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِلِ عَلَى حُرِّيَّةِ الْمَقْتُولِ أَمْ لَا، لَا قِصَاصَ، وَقِيلَ: إِنْ لَمْ تَزِدْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِلِ وَجَبَ الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ أَتَسَاوَيَا أَمْ كَانَتْ حُرِّيَّةُ الْمَقْتُولِ أَكْثَرَ، أَمَّا إِنْ كَانَتْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِلِ أَكْثَرَ فَلَا قِصَاصَ قَطْعًا؛ لِانْتِفَاءِ الْمُسَاوَاةِ.
وَالْفَضِيلَةُ فِي شَخْصٍ لَا تُجْبِرُ النَّقْصَ فِيهِ، فَلَا قِصَاصَ وَاقِعٌ بَيْنَ عَبْدٍ مُسْلِمٍ وَحُرٍّ ذِمِّيٍّ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ، وَالْحُرُّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ، وَلَا تُجْبَرُ فَضِيلَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا نَقِيصَتَهُ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي وَصْفَيِ الْأَصْلِيَّةِ وَالسِّيَادَةِ.
وَالشَّافِعِيَّةُ يَعْتَبِرُونَ الْمُسَاوَاةَ الْمَشْرُوطَةَ فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَقْتَ الْقَتْلِ، وَهُوَ وَقْتُ انْعِقَادِ سَبَبِ الْقِصَاصِ، وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ، الَّذِي قَتَلَ كَافِرًا مُكَافِئًا لَهُ لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ لِتَكَافُئِهِمَا حَالَةَ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعُقُوبَاتِ بِحَالِ الْجِنَايَةِ، وَلَا نَظَرَ لِمَا يَحْدُثُ بَعْدَهَا، وَلِذَلِكَ لَوْ جَرَحَ ذِمِّيٌّ أَوْ نَحْوُهُ ذِمِّيًّا أَوْ نَحْوَهُ وَأَسْلَمَ الْجَارِحُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ بِسِرَايَةِ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ لَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ فِي الْأَصَحِّ، لِلتَّكَافُؤِ حَالَةَ الْجَرْحِ.
د- أَنْ لَا يَكُونَ الْقَاتِلُ حَرْبِيًّا:
14- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِلِ إِذَا كَانَ حَرْبِيًّا، حَتَّى وَلَوْ أَسْلَمَ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، لِمَا تَوَاتَرَ مِنْ فِعْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَالصَّحَابَةِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ عَدَمِ الْقِصَاصِ مِمَّنْ أَسْلَمَ كَوَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ وَلِعَدَمِ الْتِزَامِهِ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنْ يُقْتَلُ بِمَا هُدِرَ بِهِ دَمُهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ قَتَلَ حَرْبِيٌّ مُسْلِمًا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ قِصَاصًا، وَيُقْتَلُ لِإِهْدَارِ دَمِهِ، فَإِذَا أَسْلَمَ سَقَطَ الْقَتْلُ وَالْقِصَاصُ.
هـ- أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُتَعَمِّدًا الْقَتْلَ:
15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجِبُ فِي غَيْرِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْعَمْدُ قَوَدٌ»، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ فَلَا تَجِبُ إِلاَّ فِي جِنَايَةٍ مُتَنَاهِيَةٍ، وَالْجِنَايَةُ لَا تَتَنَاهَى إِلاَّ بِالْعَمْدِ، وَالْقَتْلُ الْعَمْدُ هُوَ قَصْدُ الْفِعْلِ وَالشَّخْصِ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (قَتْلُ عَمْدٍ ف 1).
و- أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُخْتَارًا:
16- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي إِسْقَاطِ الْقِصَاصِ عَنِ الْمُكْرَهِ، فَإِذَا قَتَلَ غَيْرَهُ مُكْرَهًا لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَلَزِمَ الْقِصَاصُ الْمُكْرَهَ أَيْضًا وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْقِصَاصِ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُخْتَارًا اخْتِيَارَ الْإِيثَارِ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى مُكْرَهٍ إِكْرَاهًا مُلْجِئًا اسْتَوْفَى شُرُوطَهُ الْأُخْرَى وَهَلْ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ؟
فِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِكْرَاه ف 19).
أَمَّا الْإِكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ فَلَا أَثَرَ لَهُ وَيُقْتَصُّ مَعَهُ مِنَ الْقَاتِلِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِكْرَاه ف 19- 24).
ز- أَنْ لَا يَكُونَ الْمَقْتُولُ جُزْءَ الْقَاتِلِ أَوْ مِنْ فُرُوعِهِ:
17- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ مُطْلَقًا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ»؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ سَبَبَ حَيَاتِهِ فَلَا يَكُونُ الْوَلَدُ سَبَبًا فِي مَوْتِهِ، وَفِي حُكْمِ الْوَالِدِ هُنَا كُلُّ الْأُصُولِ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ مَهْمَا بَعُدُوا، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأُمُّ وَالْجَدَّاتُ وَإِنْ عَلَوْنَ مِنَ الْأَبِ كُنَّ أَمْ مِنَ الْأُمِّ، كَمَا يَدْخُلُ الْأَجْدَادُ وَإِنْ عَلَوْا مِنَ الْأَبِ كَانُوا أَوْ مِنَ الْأُمِّ؛ لِشُمُولِ لَفْظِ الْوَالِدِ لَهُمْ جَمِيعًا.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْأُمَّ تُقْتَلُ بِالِابْنِ خِلَافًا لِلْأَبِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا كَالْأَبِ فَلَا تُقْتَلُ بِالِابْنِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأَبَ إِذَا قَتَلَ ابْنَهُ قُتِلَ بِهِ إِذَا كَانَ قَصَدَ إِزْهَاقَ رُوحِهِ وَاضِحًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاضِحًا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ، قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَضَابِطُهُ أَنْ لَا يَقْصِدَ إِزْهَاقَ رُوحِهِ، فَإِنْ قَصَدَهُ كَأَنْ يَرْمِيَ عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ، أَوْ يُضْجِعَهُ فَيَذْبَحَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَالْقِصَاصُ.
وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْوَالِدِ النَّسَبِيِّ، قَالَ الْحَنَابِلَةُ: أَمَّا الْوَالِدُ مِنَ الرَّضَاعِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِوَلَدِهِ مِنَ الرَّضَاعِ لِعَدَمِ الْجُزْئِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ.
ح- أَنْ لَا يَكُونَ الْمَقْتُولُ مَمْلُوكًا لِلْقَاتِلِ:
18- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَتَلَ سَيِّدَهُ قُتِلَ بِهِ، أَمَّا السَّيِّدُ إِذَا قَتَلَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً مَمْلُوكَيْنِ لَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهِمَا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدِهِ».
وَمِثْلُ الْمَمْلُوكِ هُنَا مَنْ لَهُ فِيهِ شُبْهَةُ مِلْكٍ، أَوْ كَانَ يَمْلِكُ جُزْءًا مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَا قِصَاصَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ بَعْضِ الْقِصَاصِ دُونَ بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ.
كَمَا لَا يُقْتَلُ الْمَوْلَى بِمُدَبَّرِهِ، وَأُمِّ وَلَدِهِ، وَمُكَاتَبِهِ؛ لِأَنَّهُمْ مَمَالِيكُهُ حَقِيقَةً.
ط- أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مُبَاشِرًا:
19- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسَبُّبِ عَلَى سَوَاءٍ، إِذَا تَوَافَرَتْ شُرُوطُ الْقِصَاصِ الْأُخْرَى.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مُبَاشَرَةً، فَلَوْ قَتَلَهُ بِالسَّبَبِ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فِيهَا إِنْسَانٌ فَمَاتَ فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْحَافِرِ، وَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ إِذَا شَهِدَ بِالْقَتْلِ فَاقْتُصَّ مِنَ الْقَاتِلِ بِشَهَادَتِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنِ الشَّهَادَةِ، أَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ كَاذِبًا لِثُبُوتِ حَيَاةِ الْمَقْتُولِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ عِنْدَهُمْ.
ي- أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ قَدْ حَدَثَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ:
20- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، لِإِطْلَاقِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ وَالْأَحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ بَيْنَ دَارٍ وَدَارٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ وَلَمْ يُهَاجِرْ إِلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ مَكَانًا، فَكَانَ كَالْمُحَارِبِ لَا عِصْمَةَ لَهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ تَاجِرَانِ مُسْلِمَانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَإِنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ أَيْضًا.
ك- الْعُدْوَانُ:
21- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجِبُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عُدْوَانٌ، وَالْعُدْوَانُ يَعْنِي تَجَاوُزَ الْحَدِّ وَالْحَقِّ، فَإِذَا قَتَلَهُ بِحَقٍّ أَوْ بِإِذْنِ الْقَتِيلِ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَاءِ، وَعَلَى ذَلِكَ يُخَرَّجُ الْقَتْلُ قِصَاصًا، أَوْ حَدًّا، أَوْ دِفَاعًا عَنِ النَّفْسِ، أَوْ دِفَاعًا عَنِ الْمَالِ كَقَتْلِ السَّارِقِ وَالْغَاصِبِ، أَوْ تَأْدِيبًا، أَوْ تَطْبِيبًا فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ الْقَتْلَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ لِعَدَمِ الِاعْتِدَاءِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (إِذْن ف 39 وَ 58 وَ 60، وَتَأْدِيب ف 11، وَتَطْبِيب ف 7، وَصِيَال ف 6)
ل- أَنْ لَا يَكُونَ وَلِيُّ الدَّمِ فَرْعًا لِلْقَاتِلِ:
22- لَوْ كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ فَرْعًا لِلْقَاتِلِ، كَأَنْ وَرِثَ الْقِصَاصَ عَلَيْهِ، سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ لِلْجُزْئِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْفَرْعُ أَحَدَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ.
م- أَنْ يَكُونَ وَلِيُّ الدَّمِ فِي الْقِصَاصِ مَعْلُومًا:
23- وَهَذَا شَرْطٌ نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، فَإِذَا كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ مَجْهُولًا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ وُجُوبٌ لِلِاسْتِيفَاءِ، وَاسْتِيفَاءُ الْمَجْهُولِ مُتَعَذِّرٌ فَتَعَذَّرَ الْإِيجَابُ.
ن- أَنْ لَا يَكُونَ لِلْقَاتِلِ شَرِيكٌ فِي الْقَتْلِ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ:
24- إِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْ أَحَدِ الْمُشَارِكِينَ فِي الْقَتْلِ لِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ غَيْرِ الْعَفْوِ عَنْهُ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْجَمِيعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّ الْقَتْلَ وَاحِدٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَغَيَّرَ مُوجِبُهُ بِتَغَيُّرِ الْمُشَارِكِينَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْقَاتِلِينَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ أَبًا أَوْ مُدَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ..سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْجَمِيعِ.
أَمَّا إِذَا قَتَلَ اثْنَانِ رَجُلًا، فَعَفَا الْوَلِيُّ عَنْ أَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنِ الثَّانِي بِذَلِكَ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ كَالْأَوَّلِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِذَا عَفَا عَنْ أَحَدِهِمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الثَّانِي.
هَذَا مَا دَامَ الْوَلِيُّ الْعَافِي وَاحِدًا، فَإِذَا كَانَ لِلْقَتِيلِ أَوْلِيَاءٌ فَعَفَا أَحَدُهُمْ، سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلْبَاقِينَ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَتَجَزَّأُ، فَإِذَا قَتَلَ إِنْسَانٌ رَجُلَيْنِ، فَعَفَا وَلِيُّ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، سَقَطَ حَقُّ الْأَوَّلِ وَبَقِيَ حَقُّ الثَّانِي فِي الْقِصَاصِ عَلَى حَالِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى شَرِيكِ الصَّبِيِّ إِنْ تَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ وَتَعَمَّدَا قَتْلَهُ، أَوِ الْكَبِيرُ فَقَطْ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْكَبِيرِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّ ضَرْبَ الصَّغِيرِ هُوَ الْقَاتِلُ، إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ أَنَّهُ مَاتَ بِضَرْبِ الْكَبِيرِ، وَيُقْسِمُونَ عَلَى ذَلِكَ فَيُقْتَلُ الْكَبِيرُ.
وَلَا قِصَاصَ عَلَى شَرِيكِ مُخْطِئٍ أَوْ مَجْنُونٍ، وَهَلْ يُقْتَصُّ مِنْ شَرِيكِ سَبْعٍ، أَوْ جَارِحٍ نَفْسَهُ جُرْحًا يَمُوتُ مِنْهُ غَالِبًا، أَوْ شَرِيكِ حَرْبِيٍّ لَمْ يَتَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ، وَإِلاَّ اقْتُصَّ مِنَ الشَّرِيكِ.أَوْ شَرِيكِ مَرَضٍ، بِأَنْ جَرَحَهُ ثُمَّ مَرِضَ مَرَضًا يَمُوتُ مِنْهُ غَالِبًا ثُمَّ مَاتَ، وَلَمْ يُدْرَ أَمَاتَ مِنَ الْجُرْحِ أَمْ مِنَ الْمَرَضِ؟ قَوْلَانِ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَالرَّاجِحُ فِي شَرِيكِ الْمَرَضِ الْقِصَاصُ، وَفِي غَيْرِهِ لَا يُوجَدُ تَرْجِيحٌ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَالرَّاجِحُ فِي شَرِيكِ الْمَرَضِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْجُرْحِ الْقَسَامَةُ وَيَثْبُتُ الْقَوَدُ فِي الْعَمْدِ، وَكُلُّ الدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَرَضُ قَبْلَ الْجُرْحِ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنَ الْجَارِحِ اتِّفَاقًا، وَقَالَ: وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ الْأُوَلُ فَالْقَوْلَانِ فِيهَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ كَمَا قَرَّرَهُ شَيْخُنَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْ شَرِيكٍ مُخْطِئٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ، وَيُقْتَصُّ مِنْ شَرِيكِ مَنِ امْتَنَعَ قَوَدُهُ لِمَعْنًى فِيهِ إِذَا تَعَمَّدَا جَمِيعًا، فَلَا يُقْتَلُ شَرِيكُ مُخْطِئٍ وَشِبْهِ مُخْطِئٍ وَشِبْهِ عَمْدٍ؛ لِأَنَّ الزُّهُوقَ حَصَلَ بِفِعْلَيْنِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُهُ وَالْآخَرُ يَنْفِيهِ، فَغَلَبَ الْمُسْقِطُ.
وَيُقْتَلُ شَرِيكُ الْأَبِ فِي قَتْلِ وَلَدِهِ، وَعَلَى الْأَبِ نِصْفُ الدِّيَةِ مُغَلَّظَةً، وَفَارَقَ شَرِيكُ الْأَبِ شَرِيكَ الْمُخْطِئِ بِأَنَّ الْخَطَأَ شُبْهَةٌ فِي فِعْلِ الْخَاطِئِ وَالْفِعْلَانِ مُضَافَانِ إِلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً فِي الْقِصَاصِ كَمَا لَوْ صَدَرَا مِنْ وَاحِدٍ، وَشُبْهَةُ الْأُبُوَّةِ فِي ذَاتِ الْأَبِ لَا فِي ذَاتِ الْفِعْلِ، وَذَاتُ الْأَبِ مُتَمَيِّزَةٌ عَنْ ذَاتِ الْأَجْنَبِيِّ، فَلَا تُورِثُ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا، وَكَانَ أَحَدُ الْجَمَاعَةِ أَبًا لِلْقَتِيلِ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْأَبِ وَحْدَهُ، وَوَجَبَ عَلَى الْآخَرِينَ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ قَاتِلٌ يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ مُنْفَرِدًا، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي جَمَاعَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: لَا قِصَاصَ عَلَى الْأَبِ وَلَا عَلَى شُرَكَائِهِ كَالْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ مِنْهُمْ جَمِيعًا، فَلَا يَخْتَلِفُ وَصْفُهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنِ الْآخَرِ، وَمَا دَامَ قَدْ سَقَطَ عَنْ أَحَدِهِمْ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنِ الْبَاقِينَ.
وَمِثْلُ الْأَبِ هُنَا كُلُّ مَنْ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ لِمَعْنًى فِيهِ مِنْ غَيْرِ قُصُورٍ فِي السَّبَبِ فَفِيهِ الرِّوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، كَالذِّمِّيِّ مَعَ الْمُسْلِمِ، وَالْحُرِّ مَعَ الْعَبْدِ فِي قَتْلِ الْعَبْدِ، فَإِذَا اشْتَرَكَ فِي الْقَتْلِ صَبِيٌّ وَمَجْنُونٌ وَعَاقِلٌ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُمْ جَمِيعًا فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْقِصَاصِ عَنِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِمَعْنًى فِي فِعْلِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَقَطْ، وَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ.
قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ:
25- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ تَوَاطَأَ جَمَاعَةٌ عَلَى قَتْلِ وَاحِدٍ مَعْصُومِ الدَّمِ، فَإِنَّ الْجَمْعَ يُقْتَلُونَ بِالْفَرْدِ الَّذِي تَمَّ التَّوَاطُؤُ عَلَى قَتْلِهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- قَتَلَ سَبْعَةً مِنْ صَنْعَاءَ قَتَلُوا رَجُلًا، وَقَالَ: لَوْ تَمَالأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَوَاطُؤ ف 7).
وَلِيُّ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:
26- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَقَعَتْ عَلَيْهِ فَكَانَ الْجَزَاءُ حَقَّهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا عَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِشُرُوطِهِ سَقَطَ الْقِصَاصُ، فَإِذَا مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عَفْوٍ، انْتَقَلَ الْقِصَاصُ إِلَى الْوَرَثَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَهُمْ، كُلٌّ مِنْهُمْ حَسَبَ حِصَّتِهِ فِي التَّرِكَةِ، يَسْتَوِي فِيهِمُ الْعَاصِبُ وَصَاحِبُ الْفَرْضِ، وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، فَإِذَا مَاتَ مَدِينًا بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ، أَوْ مَاتَ لَا عَنْ تَرِكَةٍ فَالْقِصَاصُ لِوَرَثَتِهِ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَرِثُوا شَيْئًا؛ لِأَنَّ فِيهِمْ قُوَّةَ الْإِرْثِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ زَائِدٌ عَنِ الدَّيْنِ لَوَرِثُوهُ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْقِصَاصِ هُوَ التَّشَفِّي، وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لِلْمَيِّتِ، وَيَحْصُلُ لِوَرَثَتِهِ، فَكَانَ حَقًّا لَهُمُ ابْتِدَاءً، وَثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْكَمَالِ لَا عَلَى الشَّرِكَةِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْمَيِّتِ فِيهِ حَقًّا حَتَّى يَسْقُطَ بِعَفْوِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ لِعَصَبَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الذُّكُورِ فَقَطْ، سَوَاءٌ كَانُوا عَصَبَةً بِالنَّسَبِ كَالِابْنِ، أَوْ بِالسَّبَبِ كَالْوَلَاءِ، فَلَا دَخْلَ فِيهِ لِزَوْجٍ وَلَا أَخٍ لأُِمٍّ أَوْ جَدٍّ لأُِمٍّ، يُقَدَّمُ فِيهِ الِابْنُ ثُمَّ ابْنُ الِابْنِ، وَيُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ مِنَ الْعَصَبَاتِ عَلَى الْأَبْعَدِ، إِلاَّ الْجَدُّ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ مَعَ الْإِخْوَةِ بِخِلَافِ الْأَبِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَصَبَةِ هُنَا الْعَصَبَةُ بِنَفْسِهِ لِاشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِيهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّهُ عَصَبَتُهُ بِغَيْرِهِ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ يَكُونُ لِلنِّسَاءِ بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُنْ مِنْ وَرَثَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، كَالْبِنْتِ وَالْأُخْتِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُسَاوِيَهُنَّ عَاصِبٌ، فَإِنْ سَاوَاهُنَّ فَلَا قِصَاصَ لَهُنَّ، كَالْبِنْتِ مَعَ الِابْنِ، وَالْأُخْتِ مَعَ الْأَخِ، فَإِنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمَا فِي الْقِصَاصِ، وَالْحَقُّ فِيهِ لِلِابْنِ وَحْدَهُ، وَلِلْأَخِ وَحْدَهُ.
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْوَارِثَةُ مِمَّنْ لَوْ ذُكِّرَتْ عُصِّبَتْ، كَالْبِنْتِ وَالْأُخْتِ الشَّقِيقَةِ أَوْ لِأَبٍ، فَأَمَّا الزَّوْجَةُ وَالْجَدَّةُ لأُِمٍّ وَالْأُخْتُ لأُِمٍّ..فَلَا قِصَاصَ لَهُنَّ مُطْلَقًا.
فَإِذَا كَانَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَارِثٌ مِنَ النِّسَاءِ، وَعَصَبَتُهُ مِنَ الرِّجَالِ أَبْعَدُ مِنْهُنَّ، كَانَ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لَهُنَّ وَلِلْعَصَبَةِ الْأَبْعَدِ مِنْهُنَّ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ الْمُنْفَرِدِينَ وَالْمُتَعَدِّدِينَ تَوْكِيلَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (وَكَالَةٌ).
وَلِلْأَبِ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ عَنِ ابْنِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ، أَمَّا غَيْرُ الْأَبِ مِنْ أَوْلِيَاءِ النَّفْسِ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ فَلَهُ ذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.أَمَّا الْوَصِيُّ فَلَيْسَ لَهُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ عَنِ الْقَاصِرِ الْمَشْمُولِ بِوِصَايَتِهِ؛ لِأَنَّ الْوِصَايَةَ عَلَى الْمَالِ فَقَطْ وَلَيْسَ الْقِصَاصُ مِنْهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ عَمَّنْ يَلِي عَلَيْهِ، أَبًا أَوْ غَيْرَهُ.
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُولِ وَارِثٌ وَلَا عَصَبَةٌ، كَانَ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِلسُّلْطَانِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِوِلَايَتِهِ الْعَامَّةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا وِلَايَةَ لِلسُّلْطَانِ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ إِذَا كَانَ الْمَقْتُولُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: حَقُّ الْقِصَاصِ لِلسُّلْطَانِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
27-موسوعة الفقه الكويتية (مرض 1)
مَرَضٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْمَرَضُ فِي اللُّغَةِ: السَّقَمُ، نَقِيضُ الصِّحَّةِ يَكُونُ لِلْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ.
وَالْمَرَضُ أَيْضًا: حَالَةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الطَّبْعِ ضَارَّةٌ بِالْفِعْلِ، قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَصْلُ الْمَرَضِ النُّقْصَانُ.
وَقَالَ الْفَيْرُوزُ آبَادِي: الْمَرَضُ إِظْلَامُ الطَّبِيعَةِ وَاضْطِرَابُهَا بَعْدَ صَفَائِهَا وَاعْتِدَالِهَا.
وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: حَالَةٌ غَيْرُ طَبِيعِيَّةٍ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ تَكُونُ بِسَبَبِهَا الْأَفْعَالُ الطَّبِيعِيَّةُ وَالنَّفْسَانِيَّةُ وَالْحَيَوَانِيَّةُ غَيْرَ سَلِيمَةٍ.
وَقِيلَ: الْمَرَضُ مَا يَعْرِضُ لِلْبَدَنِ فَيُخْرِجُهُ عَنِ الِاعْتِدَالِ الْخَاصِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الصِّحَّةُ
2- الصِّحَّةُ فِي الْبَدَنِ حَالَةٌ طَبِيعِيَّةٌ تُجْرَى الْأَفْعَالُ مَعَهَا عَلَى الْمَجْرَى الطَّبِيعِيِّ، وَرَجُلٌ صَحِيحُ الْجَسَدِ خِلَافُ مَرِيضٍ، وَجَمْعُهُ أَصِحَّاءُ.
وَالصِّحَّةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كَوْنُ الْفِعْلِ مُسْقِطًا لِلْقَضَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ، أَوْ سَبَبًا لِتَرَتُّبِ ثَمَرَاتِهِ الْمَطْلُوبَةِ عَلَيْهِ شَرْعًا فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَبِإِزَائِهِ الْبُطْلَانُ.
وَالْعِلَاقَةُ بَيْنَ الْمَرَضِ وَالصِّحَّةِ الْبَدَنِيَّةِ الضِّدِّيَّةُ.
ب- مَرَضُ الْمَوْتِ
3- مَرَضُ الْمَوْتِ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ: مَرَضٌ وَمَوْتٌ.
أَمَّا الْمَرَضُ فَقَدْ سَبَقَ تَعْرِيفُهُ، وَالْمَوْتُ: هُوَ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ الْجَسَدَ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ مَرَضِ الْمَوْتِ اصْطِلَاحًا، وَلَكِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَرَضُ مَخُوفًا: أَيْ يَغْلِبُ الْهَلَاكُ مِنْهُ عَادَةً أَوْ يَكْثُرُ، وَأَنْ يَتَّصِلَ الْمَرَضُ بِالْمَوْتِ، سَوَاءٌ وَقَعَ الْمَوْتُ بِسَبَبِهِ أَمْ بِسَبَبٍ آخَرَ خَارِجِيٍّ عَنِ الْمَرَضِ كَقَتْلٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ حَرِيقٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَعِلَاقَةُ الْمَرَضِ بِمَرَضِ الْمَوْتِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، إِذْ مَرَضُ الْمَوْتِ مَرَضٌ وَلَيْسَ الْعَكْسُ.
ج- التَّدَاوِي
4- التَّدَاوِي لُغَةً: مَصْدَرُ تَدَاوَى أَيْ: تَعَاطَى الدَّوَاءَ، وَأَصْلُهُ دَوَى يُدْوِي دَوِيًّا أَيْ مَرِضَ، وَأَدْوَى فُلَانًا يُدْوِيهِ بِمَعْنَى: أَمْرَضَهُ، وَبِمَعْنَى عَالَجَهُ أَيْضًا، فَهِيَ مِنَ الْأَضْدَادِ.
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِكَلِمَةِ التَّدَاوِي عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
وَالصِّلَةُ أَنَّ التَّدَاوِي قَدْ يَكُونُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى سَبَبًا لِلشِّفَاءِ وَزَوَالِ الْمَرَضِ.
أَقْسَامُ الْمَرَضِ
5- قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: الْأَمْرَاضُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَرَضٌ غَيْرُ مَخُوفٍ مِثْلُ: وَجَعِ الْعَيْنِ، وَالضِّرْسِ وَالصُّدَاعِ الْيَسِيرِ، وَحُمَّى سَاعَةٍ، فَهَذَا حُكْمُ صَاحِبِهِ حُكْمُ الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ لَا يُخَافُ مِنْهُ فِي الْعَادَةِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْأَمْرَاضُ الْمُمْتَدَّةُ كَالْجُذَامِ وَحُمَّى الرِّبْعِ- وَهِيَ الَّتِي تَأْخُذُ يَوْمًا وَتَذْهَبُ يَوْمَيْنِ وَتَعُودُ فِي الرَّابِعِ- وَالْفَالِجُ فِي انْتِهَائِهِ، وَالسُّلُّ فِي ابْتِدَائِهِ، وَالْحُمَّى الْغِبُّ، فَهَذَا الْقِسْمُ: إِنْ كَانَ صَاحِبُهَا يَذْهَبُ وَيَجِيءُ، وَلَمْ يَكُنْ صَاحِبَ فِرَاشٍ فَعَطَايَاهُ كَالصَّحِيحِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَإِنْ أَضْنَى صَاحِبُهَا عَلَى فِرَاشِهِ فَهِيَ مَخُوفَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَبَهْ يَقُولُ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ لِأَنَّهُ مَرِيضٌ صَاحِبُ فِرَاشٍ يَخْشَى التَّلَفَ فَأَشْبَهَ صَاحِبَ الْحُمَّى الدَّائِمَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي صَاحِبِ الْأَمْرَاضِ الْمُمْتَدَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ عَطِيَّتَهُ مِنْ صُلْبِ الْمَالِ، لِأَنَّهُ لَا يُخَافُ تَعْجِيلُ الْمَوْتِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَبْرَأُ، فَهُوَ كَالْهَرَمِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَرَضٌ مَخُوفٌ يُتَحَقَّقُ تَعْجِيلُ الْمَوْتِ بِسَبَبِهِ فَيُنْظَرُ فِيهِ: فَإِنْ كَانَ عَقْلُهُ قَدِ اخْتَلَّ مِثْلُ مَنْ ذَبَحَ أَوْ أُبِينَتْ حَشْوَتُهُ، فَهَذَا كَمَيِّتٍ لَا حُكْمَ لِكَلَامِهِ وَلَا لِعَطِيَّتِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى لَهُ عَقْلٌ ثَابِتٌ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتَ الْعَقْلِ كَمَنْ خُرِقَتْ حَشْوَتُهُ أَوِ اشْتَدَّ مَرَضُهُ وَلَكِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَقْلُهُ صَحَّ تَصَرُّفُهُ وَتَبَرُّعُهُ، وَكَانَ تَبَرُّعُهُ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِنْ عَمَّرَ- رضي الله عنه- خَرَجَتْ حَشْوَتُهُ فَقُبِلَتْ وَصِيَّتُهُ وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ، وَعَلِيٌّ- رضي الله عنه- بَعْدَ ضَرْبِ ابْنِ مُلْجِمٍ أَوْصَى وَأَمَرَ وَنَهَى فَلَمْ يُحْكَمْ بِبُطْلَانِ قَوْلِهِ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَرَضٌ مَخُوفٌ لَا يُتَعَجَّلُ مَوْتُ صَاحِبِهِ يَقِينًا لَكِنَّهُ يُخَافُ ذَلِكَ كَالْبِرْسَامِ- هُوَ بُخَارٌ يَرْتَقِي إِلَى الرَّأْسِ، وَيُؤَثِّرُ فِي الدِّمَاغِ، فَيَخْتَلُّ عَقْلُ صَاحِبِهِ- وَوَجَعُ الْقَلْبِ وَالرِّئَةِ وَأَمْثَالِهَا، فَإِنَّهَا لَا تَسْكُنُ حَرَكَتُهَا، فَلَا يَنْدَمِلُ جُرْحُهَا، فَهَذِهِ كُلُّهَا مَخُوفَةٌ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا حُمَّى أَوْ لَمْ يَكُنْ.
وَأَمَّا مَا أَشْكَلَ أَمْرُهُ فَصَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَهُمُ الْأَطِبَّاءُ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِذَلِكَ وَالتَّجْرِبَةِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَلَا يُقْبَلُ إِلاَّ قَوْلُ طَبِيبَيْنِ، مُسْلِمَيْنِ، ثِقَتَيْنِ، بَالِغَيْنِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْوَارِثِ وَأَهْلِ الْعَطَايَا فَلَمْ يُقْبَلْ فِيهِ إِلاَّ ذَلِكَ.
وَخُلَاصَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْمَرَضَ الْمَخُوفَ بِأَنْوَاعِهِ إِنِ اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ كَانَ مَرَضَ الْمَوْتِ وَيَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ مَرَضِ الْمَوْتِ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْمَوْتُ، بِأَنْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ بَعْدَ الْمَرَضِ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَرَضَ الْمَوْتِ.
وَلِتَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى مَرَضِ الْمَوْتِ، وَالْحَالَاتِ الَّتِي تَلْحَقُ بِهِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (مَرَضُ الْمَوْتِ).
أَحْكَامُ الْمَرَضِ:
الرُّخَصُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَرَضِ
6- الْأَصْلُ أَنَّ الْمَرَضَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْحُكْمِ- أَيْ ثُبُوتَ الْحُكْمِ وَوُجُوبَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ- سَوَاءٌ كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ أَوِ الْعِبَادِ، وَلَا أَهْلِيَّةَ الْعِبَارَةِ- أَيِ: التَّصَرُّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْحُكْمِ- إِذْ لَا خَلَلَ فِي الذِّمَّةِ وَالْعَقْلِ اللَّذَيْنِ هُمَا مَنَاطُ الْأَحْكَامِ، وَلِهَذَا صَحَّ نِكَاحُ الْمَرِيضِ وَطَلَاقُهُ وَإِسْلَامُهُ، وَانْعَقَدَتْ تَصَرُّفَاتُهُ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ- كَمَا سَيَأْتِي- إِلاَّ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِيهِ نَوْعٌ مِنَ الْعَجْزِ شُرِعَتِ الْعِبَادَاتُ فِيهِ عَلَى حَسَبِ الْقُدْرَةِ الْمُمْكِنَةِ، وَأُخِّرَ مَا لَا قُدْرَةَ عَلَيْهِ أَوْ مَا فِيهِ حَرَجٌ.
وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ ذَلِكَ:
أَوَّلًا: جَوَازُ التَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ لِلْمَرَضِ
7- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا تَيَقَّنَ التَّلَفَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَوْفِ الْمُبِيحِ لِلتَّيَمُّمِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (تَيَمُّمٌ ف 21 وَمَا بَعْدَهَا).
ثَانِيًا: الْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ
8- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ بِشُرُوطِهَا.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ كَيْفِيَّةُ تَطَهُّرِ وَاضِعِ الْجَبِيرَةِ وَمَا يَنْقُضُ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبِيرَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ فِي مُصْطَلَحِ (جَبِيرَةٌ ف 4- 8).
ثَالِثًا: كَيْفِيَّةُ صَلَاةِ الْمَرِيضِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ
9- الْأَصْلُ فِي الْمُصَلِّي أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا غَيْرَ مُسْتَنِدٍ إِلَى شَيْءٍ، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ لِمَرَضٍ صَلَّى قَائِمًا مُسْتَنِدًا، ثُمَّ جَالِسًا مُسْتَقْبِلًا، ثُمَّ جَالِسًا مُسْتَنِدًا، ثُمَّ مُضْطَجِعًا عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ بِوَجْهِهِ، ثُمَّ مُسْتَلْقِيًا عَلَى ظَهْرِهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ بِرِجْلَيْهِ، ثُمَّ مُضْطَجِعًا عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ، وَيُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي الِاضْطِجَاعِ وَالِاسْتِلْقَاءِ.
فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ وَكَانَ عَقْلُهُ ثَابِتًا: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يَنْوِي الصَّلَاةَ بِقَلْبِهِ مَعَ الْإِيمَاءِ بِطَرْفِهِ لِقَوْلِه- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَلِوُجُودِ مَنَاطِ التَّكْلِيفِ الَّذِي هُوَ الْعَقْلُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- مَا عَدَا زُفَرَ- وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَعَذَّرَ الْإِيمَاءُ بِرَأْسِهِ تَسْقُطُ عَنْهُ الصَّلَاةُ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْلِ لَا يَكْفِي لِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ.
وَقَالَ- زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- إِنَّهُ إِنْ تَعَذَّرَ الْإِيمَاءُ بِرَأْسِهِ يُومِئُ بِحَاجِبَيْهِ فَإِنْ عَجَزَ فَبِعَيْنَيْهِ، وَإِنْ عَجَزَ فَبِقَلْبِهِ.
إِلاَّ أَنَّ سُقُوطَ الصَّلَاةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ مُقَيَّدٌ بِكَثْرَةِ الْفَوَائِتِ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، أَمَّا لَوْ كَانَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ أَقَلَّ وَهُوَ يَعْقِلُ فَلَا تَسْقُطُ بَلْ تُقْضَى إِذَا صَحَّ اتِّفَاقًا، وَلَوْ مَاتَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الصَّلَاةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ الْإِيصَاءُ بِهَا، كَالْمُسَافِرِ إِذَا أَفْطَرَ وَمَاتَ قَبْلَ الْإِقَامَةِ.
وَكَذَلِكَ لَوِ اشْتَبَهَ عَلَى الْمَرِيضِ أَعْدَادُ الرَّكَعَاتِ وَالسَّجَدَاتِ بِأَنْ وَصَلَ إِلَى حَالٍ لَا يُمْكِنُهُ ضَبْطُ ذَلِكَ، فَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ، وَلَوْ أَدَّاهَا بِتَلْقِينِ غَيْرِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْزِئَهُ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمَرِيضَ يَفْعَلُ فِي صَلَاتِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّشَهُّدِ مَا يَفْعَلُهُ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ مُفَارَقَةَ الْمَرِيضِ الصَّحِيحَ فِيمَا هُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ، وَأَمَّا فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَهُوَ كَالصَّحِيحِ.
وَإِنْ قَضَى الْمَرِيضُ فَوَائِتَ الصِّحَّةِ فِي الْمَرَضِ، قَضَاهَا كَمَا قَدَرَ قَاعِدًا أَوْ مُومِئًا.
وَإِنْ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا مَخَافَةَ أَنْ يَشْغَلَهُ الْمَرَضُ عَنِ الصَّلَاةِ إِذَا حَانَ الْوَقْتُ، لَمْ يُجْزِئْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّى بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وُضُوءٍ.
وَإِذَا كَانَ الْمَرِيضُ عَلَى فِرَاشٍ نَجِسٍ إِنْ كَانَ لَا يَجِدُ فِرَاشًا طَاهِرًا، أَوْ يَجِدُهُ لَكِنْ لَا يَجِدُ أَحَدًا يُحَوِّلُهُ إِلَى فِرَاشٍ طَاهِرٍ، يُصَلِّي عَلَى الْفِرَاشِ النَّجِسِ، وَإِنْ كَانَ يَجِدُ أَحَدًا يُحَوِّلُهُ، يَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَهُ بِذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ، وَصَلَّى عَلَى الْفِرَاشِ النَّجِسِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ.
وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَهُ ثِيَابٌ نَجِسَةٌ، وَكَانَ بِحَالٍ لَا يُبْسَطُ شَيْءٌ إِلاَّ وَيَتَنَجَّسُ مِنْ سَاعَتِهِ يُصَلِّي عَلَى حَالِهِ، وَكَذَا إِذَا لَمْ يَتَنَجَّسِ الثَّانِي لَكِنْ تَلْحَقُهُ زِيَادَةُ مَشَقَّةٍ بِالتَّحْوِيلِ.
وَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ عَلَى كَيْفِيَّةِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ مِنْ قِيَامٍ وَجُلُوسٍ وَاضْطِجَاعٍ وَغَيْرِهَا وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ عَلَى الْعَجْزِ الْمُؤَقَّتِ، وَطُمَأْنِينَةِ الْمَرِيضِ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاةُ الْمَرِيضِ ف 2- 16).
وَأَمَّا الْعَجْزُ عَنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ لِأَجْلِ الْمَرَضِ فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِقْبَالٌ ف 38، صَلَاةُ الْمَرِيضِ ف 11).
رَابِعًا: التَّخَلُّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ
10- قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ لِلْمَرِيضِ أَنَّ يَتَخَلَّفَ عَنِ الْجَمَاعَاتِ مِنْ أَجْلِ الْمَرَضِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ سَمِعَ الْمُنَادِي فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ، قَالُوا: وَمَا الْعُذْرُ؟ قَالَ: خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّى».
وَقَدْ كَانَ بِلَالٌ- رضي الله عنه- يُؤَذِّنُ بِالصَّلَاةِ، ثُمَّ يَأْتِي النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مَرِيضٌ فَيَقُولُ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ».
وَكُلُّ مَا أَمْكَنَ تَصَوُّرُهُ فِي الْجُمُعَةِ مِنَ الْأَعْذَارِ الْمُرَخِّصَةِ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ، يُرَخِّصُ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ، إِذْ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الصِّحَّةَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمَرَضِ هُنَا بِصِفَةٍ عَامَّةٍ هُوَ الْمَرَضُ الَّذِي يَشُقُّ مَعَهُ الْإِتْيَانُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَأَمَّا إِنْ شَقَّ عَلَيْهِ مَعَهُ الْإِتْيَانُ مَاشِيًا لَا رَاكِبًا فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي: صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ، وَقَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِمَا إِذَا كَانَتِ الْأُجْرَةُ غَيْرَ مُجْحِفَةٍ وَإِلاَّ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحُضُورُ إِلَى الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَقِيلَ: لَا يَجِبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اتِّفَاقًا كَالْمُقْعَدِ.
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ فَقَالُوا: إِنْ تَبَرَّعَ أَحَدٌ بِأَنْ يُرْكِبَهُ لَزِمَتْهُ الْجُمُعَةُ لِعَدَمِ تَكَرُّرِهَا دُونَ الْجَمَاعَةِ.
وَلَوْ حَضَرَ الْمَرِيضُ الْجُمُعَةَ، تَنْعَقِدُ بِهِ، وَإِذَا أَدَّاهَا أَجْزَأَهُ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ، لِأَنَّ سُقُوطَ فَرْضِ السَّعْيِ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لِمَعْنًى فِي الصَّلَاةِ بَلْ لِلْحَرَجِ وَالضَّرَرِ، فَإِذَا تَحَمَّلَ، الْتَحَقَ فِي الْأَدَاءِ بِغَيْرِهِ، وَصَارَ كَمُسَافِرٍ صَامَ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الِانْصِرَافُ إِذَا حَضَرَ الْجَامِعَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ بَلْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ، لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ الْمَشَقَّةُ فِي حُضُورِ الْجَامِعِ وَقَدْ حَضَرَ مُتَحَمِّلًا لَهَا، وَإِنْ كَانَ يَتَخَلَّلُ زَمَنٌ بَيْنَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَالصَّلَاةِ، فَإِنْ لَمْ يَلْحَقْهُ مَزِيدُ مَشَقَّةٍ فِي الِانْتِظَارِ لَزِمَهُ وَإِلاَّ لَا.
وَيُنْدَبُ لِلْمَرِيضِ الَّذِي يَتَوَقَّعُ الْخِفَّةَ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ تَأْخِيرُهُ ظُهْرَهُ إِلَى الْيَأْسِ مِنْ إِدْرَاكِ الْجُمُعَةِ، وَيَحْصُلُ الْيَأْسُ بِرَفْعِ الْإِمَامِ رَأْسَهُ مِنْ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَزُولُ عُذْرُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَيَأْتِي بِهَا كَامِلًا، فَلَوْ لَمْ يُؤَخِّرْ، وَزَالَ عُذْرُهُ بَعْدَ فِعْلِهِ الظُّهْرَ لَمْ تَلْزَمْهُ الْجُمُعَةُ وَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْهَا.
وَيُنْدَبُ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُ زَوَالُ عُذْرِهِ كَالْمَرْأَةِ وَالزَّمِنِ تَعْجِيلُ الظُّهْرِ لِيَحُوزَ فَضِيلَةَ أَوَّلِ الْوَقْتِ.
وَالْمَرْضَى إِذَا فَاتَتْهُمُ الْجُمُعَةُ يُصَلُّونَهَا ظُهْرًا فُرَادَى، وَتُكْرَهُ لَهُمُ الْجَمَاعَةُ.
خَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَعْضَ الْأَمْرَاضِ بِالذِّكْرِ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ:
فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْجُذْمِ تَرْكُ الْجَمَاعَةِ إِنْ كَانَ رَائِحَتُهُمْ تَضُرُّ بِالْمُصَلِّينَ، وَكَانُوا لَا يَجِدُونَ مَوْضِعًا يَتَمَيَّزُونَ فِيهِ، أَمَّا لَوْ وَجَدُوا مَوْضِعًا يَصِحُّ فِيهِ الْجُمُعَةُ وَيَتَمَيَّزُونَ فِيهِ بِحَيْثُ لَا يَلْحَقُ ضَرَرُهُمْ بِالنَّاسِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِمُ اتِّفَاقًا، لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَقِّ النَّاسِ، وَمَا قِيلَ فِي الْجُذَامِ يُقَالُ فِي الْبَرَصِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَيُنْدَبُ لِلْإِمَامِ مَنْعُ صَاحِبِ الْبَرَصِ وَالْجُذَامِ مِنَ الْمَسَاجِدِ، وَمُخَالَطَةِ النَّاسِ وَالْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ.
11- وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُمَرِّضَ يَلْحَقُ بِالْمَرِيضِ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفَاصِيلِ: فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ: يَجُوزُ لِلْمُمَرِّضِ التَّخَلُّفُ إِنْ بَقِيَ الْمَرِيضُ ضَائِعًا بِخُرُوجِهِ.
وَقَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِالْقَرِيبِ الْخَاصِّ وَقَالُوا: يَجُوزُ تَخَلُّفُ مُمَرِّضِ الْقَرِيبِ الْخَاصِّ عَنِ الْجَمَاعَةِ مُطْلَقًا، كَوَلَدٍ، وَوَالِدٍ وَزَوْجٍ، وَتَخَلُّفُ مُمَرِّضِ الْأَجْنَبِيِّ عَنْهَا بِشَرْطَيْنِ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِهِ، وَأَنْ يُخْشَى عَلَيْهِ الضَّيْعَةُ لَوْ تُرِكَ، كَالْعَطَشِ أَوِ الْجَوْعِ، أَوِ الْوُقُوعِ فِي نَارٍ أَوْ مَهْوَاةٍ، أَوِ التَّمَرُّغِ فِي نَجَاسَةٍ.
وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ مُمَرِّضَ الْقَرِيبِ غَيْرَ الْخَاصِّ- كَالْعَمِّ وَابْنِ الْعَمِّ- بِالْأَجْنَبِيِّ، خِلَافًا لِابْنِ الْحَاجِبِ حَيْثُ جَعَلَ تَمْرِيضَ الْقَرِيبِ مُطْلَقًا عُذْرًا لِإِبَاحَةِ تَرْكِ الْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ شَيْءٍ مِنَ الْقَيْدَيْنِ الْمُعْتَبَرَيْنِ فِي تَمْرِيضِ الْأَجْنَبِيِّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ لِمُمَرِّضِ مَرِيضٍ قَرِيبٍ بِلَا مُتَعَهِّدٍ، أَوْ لَهُ مُتَعَهِّدٌ، لَكِنَّ الْمَرِيضَ يَأْنَسُ بِهِ لِتَضَرُّرِ الْمَرِيضِ بِغَيْبَتِهِ، فَحِفْظُهُ أَوْ تَأْنِيسُهُ أَفْضَلُ مِنْ حِفْظِ الْجَمَاعَةِ، وَالْمَمْلُوكُ وَالزَّوْجَةُ وَكُلُّ مَنْ لَهُ مُصَاهَرَةٌ، وَالصَّدِيقُ، وَالْأُسْتَاذُ كَالْقَرِيبِ، بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ الَّذِي لَهُ مُتَعَهِّدٌ، أَمَّا الْأَجْنَبِيُّ الَّذِي لَا مُتَعَهِّدَ لَهُ، فَالْحُضُورُ عِنْدَهُ عُذْرٌ لِجَوَازِ التَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُتَعَهِّدُ مَشْغُولًا بِشِرَاءِ الْأَدْوِيَةِ- مَثَلًا- عَنِ الْخِدْمَةِ فَوُجُودُهُ كَالْعَدِمِ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُعْذَرُ بِتَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ مُمَرِّضُ الْقَرِيبِ أَوِ الرَّفِيقِ وَقَيَّدُوهُ بِأَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ اسْتَصْرَخَ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ يَتَجَمَّرُ لِلْجُمُعَةِ فَأَتَاهُ بِالْعَقِيقِ وَتَرَكَ الْجُمُعَةَ، قَالَ الرَّحِيبَانِيُّ: قَالَ فِي الشَّرْحِ: وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَالْأَوْزَاعِيِّ.
12- وَيُبَاحُ لِلْمَرْضَى التَّخَلُّفُ عَنْ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ كَالْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ، أَوْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ، وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ.
وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ إِذْ أَنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ.
خَامِسًا: الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِلْمَرَضِ
13- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِلْمَرِيضِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى عَدَمِ الْجَوَازِ، وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى صَلَاةً إِلاَّ لِمِيقَاتِهَا إِلاَّ صَلَاتَيْنِ: صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ وَصَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ مِيقَاتِهَا» وَلِأَنَّ أَوْقَاتَ الصَّلَاةِ قَدْ ثَبَتَتْ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ صَلَاةٍ عَنْ وَقْتِهَا إِلاَّ بِنَصٍّ غَيْرِ مُحْتَمَلٍ، إِذْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْرَجَ عَنْ أَمْرٍ ثَابِتٍ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ: لَا يُجْمَعُ لِمَرَضٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ، وَلِخَبَرِ الْمَوَاقِيتِ فَلَا يُخَالَفُ إِلاَّ بِصَرِيحٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ- وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ- إِلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِلْمَرِيضِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ».
وَالْمُرَادُ بِالْمَرَضِ الْمُبِيحُ لِلْجَمْعِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْقَيِّمِ هُوَ مَا يَلْحَقُهُ بِتَأْدِيَةِ كُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا مَشَقَّةٌ وَضَعْفٌ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجْمَعُ إِنْ خَافَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى عَقْلِهِ، أَوْ إِنْ كَانَ الْجَمْعُ أَرْفَقَ بِهِ.
وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: مَنْ خَافَ إِغْمَاءً أَوْ حُمَّى
نَافِضًا أَوْ دَوْخَةً عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ- الْعَصْرِ أَوِ الْعِشَاءِ- قَدَّمَ الثَّانِيَةَ عِنْدَ الْأُولَى جَوَازًا عَلَى الرَّاجِحِ، فَإِنْ سَلِمَ مِنَ الْإِغْمَاءِ وَمَا بَعْدَهُ وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ الثَّانِيَةَ أَعَادَ الثَّانِيَةَ بِوَقْتٍ ضَرُورِيٍّ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الْجَمْعِ لِلْمَرَضِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَرَضُ مِمَّا يُبِيحُ الْجُلُوسَ فِي الْفَرِيضَةِ عَلَى الْأَوْجَهِ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَابْنُ يُونُسَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجْمَعُ جَمْعًا صُورِيًّا، وَهُوَ أَنْ يَجْمَعَ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ وَأَوَّلَ وَقْتِ الْعَصْرِ، وَيَحْصُلُ لَهُ فَضِيلَةُ أَوَّلِ الْوَقْتِ.
وَالْمَرِيضُ- عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الْجَمْعِ- مُخَيَّرٌ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَلَهُ أَنْ يُرَاعِيَ الْأَرْفَقَ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ يُحَمُّ مَثَلًا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ قَدَّمَهَا إِلَى الْأُولَى بِشُرُوطِهَا، وَإِنْ كَانَ يُحَمُّ فِي وَقْتِ الْأُولَى، أَخَّرَهَا إِلَى الثَّانِيَةِ.
سَادِسًا: الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ
14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرَضَ مِنْ مُبِيحَاتِ الْإِفْطَارِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ الْمَرَضِ الَّذِي يُبِيحُ الْإِفْطَارَ: قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: الْمَرَضُ لَا ضَابِطَ لَهُ، فَإِنَّ الْأَمْرَاضَ تَخْتَلِفُ: مِنْهَا مَا يَضُرُّ صَاحِبَهُ الصَّوْمُ، وَمِنْهَا مَا لَا أَثَرَ لِلصَّوْمِ فِيهِ كَوَجَعِ الضِّرْسِ، وَجُرْحٍ فِي الْأُصْبُعِ، وَالدُّمَّلِ، وَالْقُرْحَةِ الْيَسِيرَةِ، وَالْجَرَبِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَصْلُحِ الْمَرَضُ ضَابِطًا، وَأَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْحِكْمَةِ، وَهُوَ مَا يُخَافُ مِنْهُ الضَّرَرُ.
وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَا قَالَهُ الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ مُطْلَقَ الْمَرَضِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلرُّخْصَةِ، لِأَنَّ الرُّخْصَةَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ لِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ بِالصَّوْمِ تَيْسِيرًا لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَتَخْفِيفًا عَلَيْهِمَا، وَمِنَ الْأَمْرَاضِ مَا يَنْفَعُهُ الصَّوْمُ وَيَخِفُّهُ، وَيَكُونُ الصَّوْمُ عَلَى الْمَرِيضِ أَسْهَلَ مِنَ الْأَكْلِ، بَلِ الْأَكْلُ يَضُرُّهُ وَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ، وَمِنَ التَّعَبُّدِ التَّرَخُّصُ بِمَا يَسْهُلُ عَلَى الْمَرِيضِ تَحْصِيلُهُ، وَالتَّضْيِيقُ بِمَا يَشْتَدُّ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا نَوَى الْمَرِيضُ فِي رَمَضَانَ وَاجِبًا آخَرَ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَقِيلَ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَرِيضٍ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ أَنْ يَصُومَ فِي رَمَضَانَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ قَضَاءٍ وَنَذْرٍ وَغَيْرِهِمَا لِأَنَّ الْفِطْرَ أُبِيحَ تَخْفِيفًا وَرُخْصَةً، فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّهِ، لَزِمَهُ الْإِتْيَانُ بِالْأَصْلِ وَلِأَنَّ الرُّخْصَةَ لِاحْتِمَالِ تَضَرُّرِهِ وَعَجْزِهِ، فَإِذَا صَامَ انْتَفَى ذَلِكَ فَصَارَ كَالصَّحِيحِ وَلِأَنَّ أَيَّامَ رَمَضَانَ مُتَعَيِّنَةٌ لِصَوْمِهِ، فَلَهُ التَّرَخُّصُ بِالْفِطْرِ أَوِ الصِّيَامِ عَنْ رَمَضَانَ.إِلاَّ أَنَّهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ يَلْغُو صَوْمُهُ وَلَا يُجْزِئُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ سَوَاءٌ نَوَى وَاجِبًا آخَرَ أَوْ لَمْ يَنْوِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ إِلَى أَنَّهُ إِنْ نَوَى وَاجِبًا آخَرَ وَقَعَ عَنْهُ، وَإِلاَّ وَقَعَ عَنْ رَمَضَانَ، لِأَنَّ الشَّارِعَ خَصَّ لَهُ لِيَصْرِفَهُ إِلَى مَا هُوَ الْأَهَمُّ عِنْدَهُ مِنَ الصَّوْمِ أَوِ الْفِطْرِ، فَصَارَ كَشَعْبَانَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَلَمَّا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ الْأَهَمُّ عِنْدَهُ، فَيَقَعُ عَنْهُ.
وَالْكَلَامُ عَلَى خَوْفِ الْمَرِيضِ زِيَادَةَ مَرَضِهِ بِالصَّوْمِ، أَوْ إِبْطَاءَ الْبُرْءِ أَوْ فَسَادَ عُضْوٍ، وَخَوْفِ الصَّحِيحِ الْمَرَضَ أَوِ الشِّدَّةَ أَوِ الْهَلَاكَ وَحُكْمُ الْإِفْطَارِ فِي كُلِّ حَالَةٍ، وَكَيْفِيَّةُ الْقَضَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ فَاتَهُ صَوْمُ رَمَضَانَ، سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي مُصْطَلَحِ (صَوْمٌ ف 26، 55، 56، 86، 87).
وَأُلْحِقَ بِالْمَرِيضِ الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ فَيَجُوزُ لَهُمَا الْفِطْرُ بِشُرُوطٍ مُعَيَّنَةٍ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (صَوْمٌ ف 62).
الْخُرُوجُ مِنَ الِاعْتِكَافِ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ
15- ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَعُرْوَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالزُّهْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ اعْتِكَافًا وَاجِبًا أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مُعْتَكَفِهِ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَمُرُّ بِالْمَرِيضِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَيَمُرُّ كَمَا هُوَ وَلَا يُعَرِّجُ يَسْأَلُ عَنْهُ».
وَفِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ أَحْمَدَ: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعُودَ الْمَرِيضَ وَلَا يَجْلِسُ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى عَاصِمُ بْنُ خَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: إِذَا اعْتَكَفَ الرَّجُلُ فَلْيَشْهَدِ الْجُمُعَةَ، وَلْيَعُدِ الْمَرِيضَ، وَلْيَحْضُرِ الْجِنَازَةَ، وَلْيَأْتِ أَهْلَهُ، وَلْيَأْمُرْهُمْ بِالْحَاجَةِ وَهُوَ قَائِمٌ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الِاعْتِكَافُ تَطَوُّعًا فَفِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ رِوَايَتَانِ:
أ- يَفْسُدُ الِاعْتِكَافُ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ كَالصَّوْمِ، وَلِهَذَا قَالَ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الصَّوْمِ كَالِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ، وَلِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي التَّطَوُّعِ مُوجِبٌ لِلْإِتْمَامِ عَلَى أَصْلِ الْحَنَفِيَّةِ صِيَانَةً لِلْمُؤَدَّى عَنِ الْبُطْلَانِ كَمَا فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ، وَبِهِ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ.
ب- لَا يَفْسُدُ وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ، لِأَنَّ اعْتِكَافَ التَّطَوُّعِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، فَلَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، أَوْ نِصْفَ يَوْمٍ أَوْ مَا شَاءَ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ وَيَخْرُجُ، فَيَكُونُ مُعْتَكِفًا مَا أَقَامَ، تَارِكًا مَا خَرَجَ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ الْخُرُوجُ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَطَوُّعٌ فَلَا يَتَحَتَّمُ وَاحِدٌ مِنْهَا، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ الْمُقَامُ عَلَى اعْتِكَافِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَكُنْ يُعَرِّجُ عَلَى الْمَرِيضِ، وَلَمْ يَكُنِ الِاعْتِكَافُ وَاجِبًا عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْخُرُوجُ مِنَ الِاعْتِكَافِ لِلْمَرَضِ وَنَحْوِهِ فَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (اعْتِكَافٌ: ف 33، 36، 37).
الِاسْتِنَابَةُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِلْمَرَضِ
16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ سَلَامَةَ الْبَدَنِ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْعَاهَاتِ الَّتِي تَعُوقُ عَنِ الْحَجِّ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ شَرْطٌ لِأَصْلِ الْوُجُوبِ كَمَا قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ أَوْ شَرْطٌ لِلْأَدَاءِ بِالنَّفْسِ كَمَا قَالَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنِ الصَّاحِبَيْنِ.
وَعَلَى هَذَا فَمَنْ وُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ وُجُوبِ الْحَجِّ، وَلَكِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ لِمَانِعٍ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، كَزَمَانَةٍ أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، أَوْ كَانَ مَهْزُولَ الْجِسْمِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الثُّبُوتِ عَلَى الرَّاحِلَةِ إِلاَّ بِمَشَقَّةٍ غَيْرِ مُحْتَمَلَةٍ.فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُقِيمَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَيَعْتَمِرُ إِذَا وَجَدَ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ، وَمَالًا يَسْتَنِيبُهُ بِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: - رضي الله عنهما- «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمٍ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ».
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ: لَا حَجَّ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَسْتَطِيعَ بِنَفْسِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ، وَلِأَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ، فَلَا تَدْخُلُهَا مَعَ الْعَجْزِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ.
وَإِذَا عُوفِيَ مِنْ مَرَضِهِ بَعْدَ مَا أَحَجَّ غَيْرَهُ عَنْ نَفْسِهِ، يَلْزَمُهُ حَجٌّ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّ هَذَا الْحَجَّ بَدَلُ إِيَاسٍ، فَإِذَا بَرَأَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَأْيُوسًا مِنْهُ، فَلَزِمَهُ الْأَصْلُ، قِيَاسًا عَلَى الْآيِسَةِ إِذَا اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ، ثُمَّ حَاضَتْ لَا يُجْزِئُهَا تِلْكَ الْعِدَّةُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ، فَخَرَجَ مِنَ الْعُهْدَةِ كَمَا لَوْ لَمْ يَبْرَأْ، وَلِأَنَّهُ أَدَّى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ بِأَمْرِ الشَّارِعِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ حَجٌّ ثَانٍ كَمَا لَوْ حَجَّ بِنَفْسِهِ.
وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَالًا يَسْتَنِيبُ بِهِ فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ، لِأَنَّ الصَّحِيحَ لَوْ لَمْ يَجِدْ مَا يَحُجُّ بِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فَالْمَرِيضُ أَوْلَى.
17- وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَرِيضًا يُرْجَى زَوَالُ مَرَضِهِ:
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: حَجُّ الْفَرْضِ يَقْبَلُ النِّيَابَةَ عِنْدَ الْعَجْزِ فَقَطْ لَكِنْ بِشَرْطِ دَوَامِ الْعَجْزِ إِلَى الْمَوْتِ لِأَنَّهُ فَرْضُ الْعُمْرِ حَتَّى تَلْزَمَ الْإِعَادَةُ بِزَوَالِ الْعُذْرِ الَّذِي يُرْجَى زَوَالُهُ كَالْمَرَضِ.
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَالْحَجَّةِ الْمَنْذُورَةِ، وَأَمَّا الْحَجُّ النَّفْلُ فَيَقْبَلُ النِّيَابَةَ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ عَجْزٍ فَضْلًا عَنْ دَوَامِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ فَإِنِ اسْتَنَابَ فَحَجَّ النَّائِبُ فَشُفِيَ لَمْ يُجْزِئْهُ قَطْعًا وَإِنْ مَاتَ فَقَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا لَا يُجْزِئُهُ.
وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مَرْجُوِّ الزَّوَالِ فَأَحَجَّ عَنْهُ ثُمَّ شُفِيَ فَطَرِيقَانِ: أَصَحُّهُمَا طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ، وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ.
وَقَالُوا: إِنَّ حَجَّ التَّطَوُّعِ لَا يَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ فِيهِ عَنِ الْقَادِرِ قَطْعًا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُجْزِئْهُ وَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ، لِأَنَّهُ يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ، وَلَا تُجْزِئُهُ إِنْ فَعَلَ كَالْفَقِيرِ، وَلِأَنَّ النَّصَّ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْحَجِّ عَنِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُرْجَى مِنْهُ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ إِلاَّ مَنْ كَانَ مِثْلَهُ.
18- وَإِذَا مَرِضَ الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ فِي الطَّرِيقِ، فَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ دَفْعُ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِ لِيَحُجَّ عَنِ الْآمِرِ، إِلاَّ إِذَا أَذِنَ لَهُ بِذَلِكَ، بِأَنْ قِيلَ لَهُ وَقْتَ الدَّفْعِ: اصْنَعْ مَا شِئْتَ، فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ مَرِضَ أَوْ لَا، لِأَنَّهُ يَصِيرُ وَكِيلًا مُطْلَقًا.
وَلِلنِّيَابَةِ فِي الْحَجِّ شُرُوطٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (نِيَابَةٌ).
19- وَأَمَّا النِّيَابَةُ عَنِ الْمَرِيضِ فِي الرَّمْيِ فَيَجُوزُ فِي الْجُمْلَةِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي (حَجٌّ ف 66).
20- وَحُكْمُ طَوَافِ الْمَرِيضِ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (طَوَافٌ ف 11، 16)، وَكَذَا حُكْمُ سَعْيِهِ فِي مُصْطَلَحِ (سَعْيٌ ف 14).
جِهَادُ الْمَرِيضِ
21- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْجِهَادُ عَلَى مَنْ بِهِ مَرَضٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الْقِتَالِ وَمَا يَلْزَمُ لَهُ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (جِهَادٌ ف 21). التَّأْخِيرُ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ لِلْمَرَضِ
22- الْمَرَضُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُرْجَى بُرْؤُهُ أَوْ مِمَّا لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَالْحَدُّ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرِيضِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجْمَ، أَوِ الْجَلْدَ أَوِ الْقَطْعَ: فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ الرَّجْمَ فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ هُوَ أَنَّهُ لَا يُؤَخَّرُ مُطْلَقًا أَيًّا كَانَ نَوْعُ الْمَرَضِ، لِأَنَّ نَفْسَهُ مُسْتَوْفَاةٌ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّحِيحِ.
وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ الْجَلْدَ أَوِ الْقَطْعَ وَالْمَرَضُ مِمَّا يُرْجَى بُرْؤُهُ: فَيَرَى الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَالْخِرَقِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ تَأْخِيرَهُ، وَقَالَ جُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ: يُقَامُ الْحَدُّ وَلَا يُؤَخَّرُ.
وَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ مِمَّا لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، أَوْ كَانَ الْجَانِي ضَعِيفًا بِالْخِلْقَةِ لَا يَحْتَمِلُ السِّيَاطَ فَهَذَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْحَالِ وَلَا يُؤَخَّرُ، وَيُضْرَبُ بِسَوْطٍ يُؤْمَنُ مَعَهُ التَّلَفُ كَالْقَضِيبِ الصَّغِيرِ، وَشِمْرَاخِ النَّخْلِ، فَإِنْ خِيفَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ جَمَعَ ضِغْثًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَضَرَبَ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَنْكَرَهُ مَالِكٌ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وَهَذَا ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ.
هَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْجَلْدَ، وَأَمَّا فِي السَّرِقَةِ فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُقْطَعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى الصَّحِيحِ لِئَلاَّ يَفُوتَ الْحَدُّ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ (حُدُودٌ ف 41، وَجَلْدٌ ف 13).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
28-موسوعة الفقه الكويتية (مسارقة)
مُسَارَقَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْمُسَارَقَةُ- بِوَزْنِ مُفَاعَلَةٍ: مَصْدَرٌ لِفِعْلِ سَارَقَ يُسَارِقُ مُسَارَقَةً، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ النَّظَرُ مُسْتَخْفِيًا وَالسَّمْعُ كَذَلِكَ: إِذَا طَلَبَ غَفْلَةً لِيَنْظُرَ إِلَيْهِ أَوْ يَتَسَمَّعَ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
أَحْكَامُ الْمُسَارَقَةِ:
أ- مُسَارَقَةُ النَّظَرِ:
2- الْأَصْلُ فِي مُسَارَقَةِ النَّظَرِ إِلَى الْآخَرِينَ الْحُرْمَةُ؛ لِأَنَّهَا تَجَسُّسٌ وَالتَّجَسُّسُ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَجَسَّسُوا}، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ، وَاخْتِلَاسِ النَّظَرِ فِي الْمَنَازِلِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وَلِخَبَرِ: «لَوِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِكَ أَحَدٌ وَلَمْ تَأْذَنْ لَهُ، حَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ».
و (مَنْ) مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فِي الْعُقَلَاءِ فَتَشْمَلُ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ وَالْخُنْثَى، لِأَنَّ الرَّمْيَ الْوَارِدَ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ لِلتَّكْلِيفِ، بَلْ لِدَفْعِ مَفْسَدَةِ النَّظَرِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جِوَازِ الرَّمْيِ عَلَى مُسَارِقِ النَّظَرِ فِي الْبُيُوتِ
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الرَّمْيُ عَلَى النَّاظِرِ وَيَضْمَنُ إِنْ فَقَأَ عَيْنَهُ، وَالْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ.
جَاءَ فِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ: وَلَوْ نَظَرَ مِنْ كُوَّةٍ أَوْ مِنْ بَابٍ فَفَقَأَ عَيْنَهُ صَاحِبُهُ ضَمِنَ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى زَجْرِهِ وَدَفْعِهِ بِالْأَخَفِّ، وَلَوْ قَصَدَ زَجْرَهُ بِذَلِكَ فَأَصَابَ عَيْنَهُ وَلَمْ يَقْصِدْ فَقْأَهَا فَفِي ضَمَانِهِ خِلَافٌ وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنْ لَمْ يُمْكِنُ دَفْعُ الْمُطَّلِعِ إِلاَّ بِفَقْءِ عَيْنِهِ فَفَقَأَهَا فَلَا ضَمَانَ، وَإِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ بِدُونِ فَقْءِ الْعَيْنِ فَفَقَأَهَا ضَمِنَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ إِنْ نَظَرَهُ فِي دَارِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ بِمِلْكٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ كُوَّةٍ أَوْ ثُقْبٍ عَمْدًا فَرَمَاهُ بِخَفِيفٍ كَحَصَاةِ فَفَقَأَ عَيْنَهُ أَوْ أَصَابَ قُرْبَ عَيْنِهِ فَجَرَحَهُ فَمَاتَ فَهَدَرٌ لِلْخَبَرِ السَّابِقِ.
وَيُشْتَرَطُ فِي جِوَازِ الرَّمْيِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ:
1- أَنْ يَنْظُرَ فِي كُوَّةٍ أَوْ ثُقْبٍ، فَإِنْ نَظَرَ مِنْ بَابٍ مَفْتُوحٍ فَلَا يَرْمِيهِ لِتَفْرِيطِ صَاحِبِ الدَّارِ بِفَتْحِهِ.
2- وَأَنْ تَكُونَ الْكُوَّةُ صَغِيرَةً، فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً أَوْ شُبَّاكًا وَاسِعًا فَهِيَ كَالْبَابِ الْمَفْتُوحِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ رَمْيُهُ لِتَقْصِيرِ صَاحِبِ الدَّارِ، إِلاَّ أَنْ يُنْذِرَهُ فَلَا يَرْتَدِعَ فَيَرْمِيَهُ.
وَحُكْمُ النَّظَرِ مِنْ سَطْحِ نَفْسِهِ، وَالْمُؤَذِّنِ مِنَ الْمَنَارَةِ كَالْكُوَّةِ الصَّغِيرَةِ عَلَى الْأَصَحِّ إِذْ لَا تَفْرِيطَ مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ.
- أَنْ لَا يَكُونَ النَّاظِرُ أَحَدَ أُصُولِهِ الَّذِينَ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِمْ وَلَا حَدَّ قَذْفٍ، فَلَا يَجُوزُ رَمْيُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لِأَنَّ الرَّمْيَ نَوْعٌ مِنَ الْحَدِّ فَإِنْ رَمَاهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ ضَمِنَ.
4- أَنْ لَا يَكُونَ النَّظَرُ مُبَاحًا لَهُ لِخِطْبَةٍ بِشَرْطِهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
5- أَنْ لَا يَكُونَ لِلنَّاظِرِ فِي الْمَوْضِعِ مَحْرَمٌ لَهُ أَوْ زَوْجَتُهُ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَرُمَ رَمْيُهُ وَضَمِنَ إِنْ فَقَأَ عَيْنَهُ أَوْ جَرَحَهُ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي النَّظَرِ شُبْهَةً.
قِيلَ: وَيُشْتَرَطُ عَدَمُ اسْتِتَارِ الْحُرُمِ، فَإِنْ كُنَّ مُسْتَتِرَاتٍ بِالثِّيَابِ أَوْ فِي مُنْعَطَفٍ لَا يَرَاهُنَّ النَّاظِرُ فَلَا يَجُوزُ رَمْيُهُ لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَيْهِنَّ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ، وَحَسْمًا لِمَادَّةِ النَّظَرِ.
وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ إِنْذَارُهُ قَبْلَ رَمْيِهِ، وَالْأَصَحُّ عَدَمُ الِاشْتِرَاطِ.
6- أَنْ يَتَعَمَّدَ النَّظَرَ، فَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ النَّظَرَ كَأَنْ كَانَ مَجْنُونًا أَوْ مُخْطِئًا أَوْ وَقَعَ نَظَرُهُ اتِّفَاقًا فَإِنَّهُ لَا يَرْمِيهِ إِذَا عَلِمَ ذَلِكَ صَاحِبُ الدَّارِ، وَيَضْمَنُ إِنْ رَمَاهُ فَأَعْمَاهُ أَوْ جَرَحَهُ فَمَاتَ بِسِرَايَةٍ.
فَإِنْ رَمَاهُ وَادَّعَى الْمَرْمِيُّ عَدَمَ الْقَصْدِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّامِي، لِأَنَّ الِاطِّلَاعَ وَقَعَ وَالْقَصْدُ بَاطِنٌ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ.
7- أَنْ لَا يَنْصَرِفَ عَنِ النَّظَرِ قَبْلَ الرَّمْيِ.
فَلَا يَجُوزُ الرَّمْيُ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ عَنِ الْمُسَارَقَةِ.
وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ مِلْكًا لِلْمَنْظُورِ فَلِلْمُسْتَأْجَرِ رَمْيُ مَالِكِ الدَّارِ إِذَا سَارَقَهُ النَّظَرَ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (تَجَسَّسٌ ف 13).
ب- مُسَارَقَةُ النَّظَرِ مِمَّنْ يُرِيدُ الْخِطْبَةَ:
3- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ نَظَرِ الْخَاطِبِ لِمَنْ يَرْغَبُ فِي خِطْبَتِهَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي إِبَاحَةِ النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ لِمَنْ يُرِيدُ نِكَاحَهَا، كَمَا ذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْمُرَادِ خِطْبَتُهَا أَوْ إِذْنِهَا أَوْ إِذْنِ وَلِيِّهَا فِي النَّظَرِ إِلَيْهَا، فَيَجُوزُ لِمَنْ يَرْغَبُ فِي خِطْبَتِهَا أَنْ يَنْظُرَ خِلْسَةً لِإِطْلَاقِ الْأَخْبَارِ وَاكْتِفَاءً بِإِذْنِ الشَّارِعِ وَلِئَلاَّ تَتَزَيَّنَ فَيَفُوتَ غَرَضُهُ وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ:
«وَكُنْتُ أَتَخَبَّأُ لَهَا».
ج- مُسَارَقَةُ السَّمْعِ:
4- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مُسَارَقَةَ السَّمْعِ- وَهُوَ التَّنَصُّتُ عَلَى أَحَادِيثِ أُنَاسٍ بِغَيْرِ عِلْمِهِمْ وَرِضَاهُمْ- مُحَرَّمٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ السَّارِقُ فِي الْآخِرَةِ لِحَدِيثِ: «مَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ رَمْيُهُ لِعَدَمِ وُرُودِ نَصٍّ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الرَّمْيِ فِيهِ، وَلِأَنَّ السَّمْعَ لَيْسَ كَالْبَصَرِ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَوْرَاتِ.
(ر: اسْتِرَاقُ السَّمْعِ ف 4).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
29-موسوعة الفقه الكويتية (معصية)
مَعْصِيَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْمَعْصِيَةِ فِي اللُّغَةِ: الْخُرُوجُ مِنَ الطَّاعَةِ يُقَالُ عَصَاهُ مَعْصِيَةً وَعِصْيَانًا: خَرَجَ مِنْ طَاعَتِهِ وَخَالَفَ أَمْرَهُ فَهُوَ عَاصٍ وَعَصَّاءٌ وَعَصِيٌّ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: قَالَ الْبَزْدَوِيُّ: الْمَعْصِيَةُ اسْمٌ لِفِعْلِ حَرَامٍ مَقْصُودٍ بِعَيْنِهِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
1- الزَّلَّةُ:
2- مِنْ مَعَانِي الزَّلَّةِ فِي اللُّغَةِ: السَّقْطَةُ وَالْخَطِيئَةُ.
وَالزَّلَّةُ فِي الِاصْطِلَاحِ اسْمٌ لِفِعْلٍ غَيْرِ مَقْصُودٍ فِي عَيْنِهِ لَكِنَّهُ اتَّصَلَ الْفَاعِلُ بِهِ عَنْ فِعْلٍ مُبَاحٍ قَصَدَهُ فَزَلَّ بِشُغْلِهِ عَنْهُ إِلَى مَا هُوَ حَرَامٌ لَمْ يَقْصِدْهُ أَصْلًا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْصِيَةِ وَالزَّلَّةِ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِعَيْنِهِ فِي الْمَعْصِيَةِ بِخِلَافِ الزَّلَّةِ.
أَقْسَامُ الْمَعَاصِي بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ عُقُوبَةٍ:
3- لِلْعُلَمَاءِ فِي تَقْسِيمِ الْمَعَاصِي بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ عُقُوبَةٍ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:
الْأَوَّلُ: قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْمَعَاصِيَ تَنْقَسِمُ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ، لقوله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَعَاصِيَ رُتَبًا ثَلَاثَةً وَسَمَّى بَعْضَ الْمَعَاصِيَ فَسُوقًا دُونَ بَعْضٍ، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} وَفِي الْحَدِيثِ: «الْكَبَائِرُ سَبْعٌ» وَفِي رِوَايَةٍ «تِسْعٌ وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: » وَمِنْ كَذَا إِلَى كَذَا مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ فَخَصَّ الْكَبَائِرَ بِبَعْضِ الذُّنُوبِ، وَلَوْ كَانَتِ الذُّنُوبُ كُلُّهَا كَبَائِرَ لَمْ يَسُغْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ مَا عَظُمَتْ مَفْسَدَتُهُ أَحَقُّ بِاسْمِ الْكَبِيرَةِ عَلَى أَنَّ قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} صَرِيحٌ فِي انْقِسَامِ الذُّنُوبِ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: لَا يَلِيقُ إِنْكَارُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ وَقَدْ عُرِفَا مِنْ مَدَارِكِ الشَّرْعَ.
الثَّانِي: أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ فِي الذُّنُوبِ صَغِيرَةً وَقَالُوا: بَلْ سَائِرُ الْمَعَاصِي كَبَائِرُ، مِنْهُمُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَائِينِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْإِرْشَادِ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيُّ فِي الْمُرْشِدِ بَلْ حَكَاهُ ابْنُ فُورَكٍ عَنِ الْأَشَاعِرَةِ وَاخْتَارَهُ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ: مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا كُلُّهَا كَبَائِرُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِبَعْضِهَا صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا، كَمَا يُقَالُ: الزِّنَا صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُفْرِ، وَالْقُبْلَةُ الْمُحَرَّمَةُ صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزِّنَا، وَكُلُّهَا كَبَائِرُ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لَعَلَّ أَصْحَابَ هَذَا الْوَجْهِ كَرِهُوا تَسْمِيَةَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ صَغِيرَةً إِجْلَالًا لِلَّهِ وَتَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ مَعَ أَنَّهُمْ وَافَقُوا فِي الْجَرْحِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِمُطْلَقِ الْمَعْصِيَةِ.
الثَّالِثُ: قَسَمَ الْحَلِيمِيُّ الْمَعَاصِيَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ وَفَاحِشَةٌ، فَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَبِيرَةٌ، فَإِنْ قَتَلَ ذَا رَحِمٍ فَفَاحِشَةٌ، فَأَمَّا الْخَدْشَةُ وَالضَّرْبَةُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَصَغِيرَةٌ.
أَقْسَامُ الْمَعَاصِي بِاعْتِبَارِ مَيْلِ النَّفْسِ إِلَيْهَا
4- قَسَّمَ الْمَاوَرْدِيُّ الْمَعَاصِيَ الَّتِي يَمْنَعُ الشَّرْعُ مِنْهَا وَاسْتَقَرَّ التَّكْلِيفُ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا بِالنَّهْيِ عَنْهَا إِلَى قِسْمَيْنِ:
أ- مَا تَكُونُ النَّفُوسُ دَاعِيَةً إِلَيْهَا وَالشَّهَوَاتُ بَاعِثَةً عَلَيْهَا كَالسِّفَاحِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَقَدْ زَجَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا لِقُوَّةِ الْبَاعِثِ عَلَيْهَا وَشِدَّةِ الْمَيْلِ إِلَيْهَا بِنَوْعَيْنِ مِنَ الزَّجْرِ:
أَحَدُهُمَا: حَدٌّ عَاجِلٌ يَرْتَدِعُ بِهِ الْجَرِيءُ.
وَالثَّانِي: وَعِيدٌ آجِلٌ يَزْدَجِرُ بِهِ التَّقِيُّ.
ب- مَا تَكُونُ النَّفُوسُ نَافِرَةً مِنْهَا، وَالشَّهَوَاتُ مَصْرُوفَةً عَنْهَا كَأَكْلِ الْخَبَائِثِ وَالْمُسْتَقْذَرَاتِ وَشُرْبِ السَّمُومِ الْمُتْلِفَاتِ فَاقْتَصَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الزَّجْرِ عَنْهَا بِالْوَعِيدِ وَحْدَهُ دُونَ الْحَدِّ، لِأَنَّ النَّفُوسَ مُسْعَدَةٌ فِي الزَّجْرِ عَنْهَا، وَالشَّهَوَاتُ مَصْرُوفَةٌ عَنْ رُكُوبِ الْمَحْظُورِ مِنْهَا.
قَالَ الْهَيْتَمِيُّ: إِنَّ أَعْظَمَ زَاجِرٍ عَنِ الذُّنُوبِ هُوَ خَوْفُ اللَّهِ تَعَالَى وَخَشْيَةُ انْتِقَامِهِ وَسَطْوَتِهِ وَحَذَرُ عِقَابِهِ وَغَضَبِهِ وَبَطْشِهِ، قَالَ تَعَالَى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، إِنَّ السَّمَاءَ أَطَّتْ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا أَوْ مَا مِنْهَا مَوْضِعٌ أَرْبَعُ أَصَابِعَ إِلاَّ وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ- أَيِ الْجِبَالِ- تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ».
آثَارُ الْمَعَاصِي
5- أَوَجَبَ الْمُشَرِّعُ الْحَكِيمُ عَلَى مُرْتَكِبِ الْمَعْصِيَةِ عُقُوبَاتٍ دُنْيَوِيَّةً وَأُخْرَوِيَّةً.
فَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الْأُخْرَوِيَّةُ فَتَتَمَثَّلُ فِيمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مِنْ تَوَعُّدٍ عَلَى اقْتِرَافِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا قِي النَّارِ».
وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الدُّنْيَوِيَّةُ فَمِنْهَا مَا هُوَ حِسِّيٌّ وَمِنْهَا مَا هُوَ مَعْنَوِيٌّ، فَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الْحِسِّيَّةُ فَيَظْهَرُ أَثَرُهَا فِيمَا أَوَجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عُقُوبَاتٍ كَالْحُدُودِ فِيمَا يُوجِبُ حَدًّا كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَكَالْعُقُوبَاتِ الْمُقَرَّرَةِ عَلَى الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ أَوْ مَا دُونَهَا، وَكَالتَّعْزِيرِ فِيمَا لَمْ يُوجِبِ الشَّرْعُ فِيهِ عُقُوبَةً مُقَدَّرَةٌ كَمُبَاشَرَةِ أَجْنَبِيَّةٍ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَسَرِقَةِ مَا دُونَ النِّصَابِ.
وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الْمَعْنَوِيَّةُ فَكَثِيرَةٌ:
مِنْهَا: حِرْمَانُ الْعِلْمَ فَإِنَّ الْعِلْمَ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ، وَالْمَعْصِيَةُ تُطْفِئُ ذَلِكَ النُّورَ.
وَمِنْهَا: حِرْمَانُ الرِّزْقَ، وَفِي الْمُسْنَدِ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» وَكَمَا أَنَّ تَقْوَى اللَّهِ مَجْلَبَةٌ لِلرِّزْقِ، فَتَرْكُ التَّقْوَى مَجْلَبَةٌ لِلْفَقْرِ فَمَا اسْتُجْلِبَ رِزْقٌ بِمِثْلِ تَرْكِ الْمَعَاصِي.
وَمِنْهَا: وَحْشَةٌ يَجِدُهَا الْعَاصِي فِي قَلْبِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ لَا تُوَازِنُهَا وَلَا تُقَارِنُهَا لَذَّةٌ أَصْلًا، وَلَوِ اجْتَمَعَتْ لَهُ لَذَّاتُ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا لَمْ تَفِ بِتِلْكَ الْوَحْشَةِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُحِسُّ بِهِ إِلاَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ حَيَاةٌ، وَمَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامُ فَلَوْ لَمْ تُتْرُكِ الذُّنُوبُ إِلاَّ حَذَرًا مِنْ وُقُوعِ تِلْكَ الْوَحْشَةِ لَكَانَ الْعَاقِلُ حَرِيًّا بِتَرْكِهَا.
وَمِنْهَا: تَعْسِيرُ أُمُورِهِ عَلَيْهِ، فَلَا يَتَوَجَّهُ لِأَمْرٍ إِلاَّ يَجِدُهُ مُغْلَقًا دُونَهُ أَوْ مُتَعَسِّرًا عَلَيْهِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ جَعَلَ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا، فَمَنْ عَطَّلَ التَّقْوَى جَعَلَ لَهُ مَنْ أَمْرِهِ عُسْرًا.
وَمِنْهَا: ظُلْمَةٌ يَجِدُهَا فِي قَلْبِهِ حَقِيقَةً يُحِسُّ بِهَا كَمَا يُحِسُّ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ الْبَهِيمِ إِذَا ادْلَهَمَّ، فَتَصِيرُ ظُلْمَةُ الْمَعْصِيَةِ لِقَلْبِهِ كَالظُّلْمَةِ الْحِسِّيَّةِ لِبَصَرِهِ، فَإِنَّ الطَّاعَةَ نُورٌ، وَالْمَعْصِيَةَ ظُلْمَةٌ وَكُلَّمَا قَوِيَتِ الظُّلْمَةُ ازْدَادَتْ حِيرَتُهُ حَتَّى يَقَعَ فِي الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ وَالْأُمُورِ الْمُهْلِكَةِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: إِنَّ لِلْحَسَنَةِ ضِيَاءً فِي الْوَجْهِ وَنُورًا فِي الْقَلْبِ وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، وَإِنَّ لِلسَّيِّئَةِ سَوَادًا فِي الْوَجْهِ وَظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ وَوَهَنًا فِي الْبَدَنِ وَنَقْصًا فِي الرِّزْقِ وَبِغْضَةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعَاصِيَ تُقَصِّرُ الْعُمْرَ وَتَمْحَقُ بَرَكَتَهُ وَلَا بُدَّ، فَإِنَّ الْبِرَّ كَمَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ فَالْفُجُورُ يُقَصِّرُ فِي الْعُمْرِ.وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعَاصِيَ تَزْرَعُ أَمْثَالَهَا وَيُوَلِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا حَتَّى يَعِزَّ عَلَى الْعَبْدِ مُفَارِقَتُهَا وَالْخُرُوجُ مِنْهَا، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ مِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا، وَإِنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةُ بَعْدَهَا، فَالْعَبْدُ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً قَالَتْ أُخْرَى إِلَى جَنْبِهَا: اعْمَلْنِي أَيْضًا، فَإِذَا عَمِلَهَا قَالَتِ الثَّالِثَةُ كَذَلِكَ وَهَلُمَّ جَرَّا، فَتَضَاعَفَ الرِّبْحُ وَتَزَايَدَتِ الْحَسَنَاتُ وَكَذَلِكَ جَانِبُ السَّيِّئَاتِ أَيْضًا حَتَّى تَصِيرَ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي هَيْئَاتٍ رَاسِخَةً وَصِفَاتٍ لَازِمَةً.
وَمِنْهَا: وَهُوَ مِنْ أَخْوَفِهَا عَلَى الْعَبْدِ، أَنَّهَا تُضْعِفُ الْقَلْبَ عَنْ إِرَادَتِهِ فَتَقْوَى إِرَادَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَتَضْعُفُ إِرَادَةُ التَّوْبَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا إِلَى أَنْ تَنْسَلِخَ مِنْ قَلْبِهِ إِرَادَةُ التَّوْبَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَوْ مَاتَ نِصْفُهُ لَمَا تَابَ إِلَى اللَّهِ، فَيَأْتِي مِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَتَوْبَةِ الْكَذَّابِينَ بِاللِّسَانِ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ وَقَلْبُهُ مَعْقُودٌ بِالْمَعْصِيَةِ مُصِرٌّ عَلَيْهَا عَازِمٌ عَلَى مُوَاقَعَتِهَا مَتَى أَمْكَنَهُ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَمْرَاضِ وَأَقْرَبِهَا إِلَى الْهَلَاكِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعْصِيَةَ سَبَبٌ لِهَوَانِ الْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ وَسُقُوطِهِ مِنْ عَيْنِهِ.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هَانُوا عَلَيْهِ فَعَصَوْهُ وَلَوْ عَزُّوا عَلَيْهِ لَعَصَمَهُمْ، وَإِذَا هَانَ الْعَبْدُ عَلَى اللَّهِ لَمْ يُكْرِمْهُ أَحَدٌ.
وَمِنْهَا: إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَزَالُ يَرْتَكِبُ الذَّنْبَ حَتَّى يَهُونَ عَلَيْهِ وَيَصْغُرَ فِي قَلْبِهِ وَذَلِكَ عَلَامَةُ الْهَلَاكِ فَإِنَّ الذَّنْبَ كُلَّمَا صَغُرَ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ عَظُمَ عِنْدَ اللَّهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا».
وَمِنْهَا: أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ النَّاسِ يَعُودُ عَلَيْهِ شُؤْمُ ذَنْبِهِ فَيَحْتَرِقُ هُوَ وَغَيْرُهُ بِشُؤْمِ الذُّنُوبِ وَالظُّلْمِ قَالَ مُجَاهَدٌ: إِنَّ الْبَهَائِمَ تَلْعَنُ عُصَاةَ بَنِي آدَمَ إِذَا اشْتَدَّ السَّنَةُ وَأَمْسَكَ الْمَطَرُ وَتَقُولُ هَذَا بِشُؤْمِ مَعْصِيَةِ ابْنِ آدَمَ.
فَلَا يَكْفِيهِ عِقَابُ نَفْسِهِ حَتَّى يَلْعَنَهُ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعْصِيَةَ تُورِثُ الذُّلَّ وَلَا بُدَّ، فَإِنَّ الْعِزَّ كُلَّ الْعِزِّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} أَيْ فَلْيَطْلُبْهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَجِدُهَا إِلاَّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ
وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ بَعْضِ السَّلَفِ: اللَّهُمَّ أَعِزَّنِي بِطَاعَتِكَ وَلَا تُذِلَّنِي بِمَعْصِيَتِكَ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الذُّنُوبَ إِذَا تَكَاثَرَتْ طُبِعَ عَلَى قَلْبِ صَاحِبِهَا فَكَانَ مِنَ الْغَافِلِينَ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي قوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} قَالَ: هُوَ الذَّنْبُ بَعْدَ الذَّنْبِ.
قَالَ الْمُحَاسِبِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الذُّنُوبَ تُورِثُ الْغَفْلَةَ وَالْغَفْلَةُ تُورِثُ الْقَسْوَةَ وَالْقَسْوَةُ تُورِثُ الْبُعْدَ مِنَ اللَّهِ وَالْبُعْدُ مِنَ اللَّهِ يُورِثُ النَّارَ، وَإِنَّمَا يَتَفَكَّرُ فِي هَذَا الْأَحْيَاءُ، وَأَمَّا الْأَمْوَاتُ فَقَدْ أَمَاتُوا أَنَفْسَهُمْ بِحُبِّ الدُّنْيَا.
وَمِنْهَا: أَنَّهَا تُحْدِثُ فِي الْأَرْضِ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَسَادِ فِي الْمِيَاهِ وَالْهَوَاءِ وَالزَّرْعِ وَالثِّمَارِ وَالْمَسَاكِنِ، قَالَ تَعَالَى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
قَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا وَلِيَ الظَّالِمُ سَعَى بِالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ فَيَحْبِسُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْقَطْرَ فَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، ثُمَّ قَرَأَ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بَحْرُكُمْ هَذَا وَلَكِنْ كُلُّ قَرْيَةٍ عَلَى مَاءٍ جَارٍ فَهُوَ بَحْرٌ.
اسْتِدْرَاجُ أَهْلِ الْمَعَاصِي بِالنِّعَمِ
6- قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَيْسَ وَإِنْ نَالَ أَهْلُ الْمَعَاصِي لَذَّةً مِنْ عَيْشٍ أَوْ أَدْرَكُوا أَمُنْيَةً مِنْ دُنْيَا كَانَتْ عَلَيْهِمْ نِعْمَةً بَلْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجًا وَنِقْمَةً وَوَرَدَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} ».
أَحْوَالُ النَّاسِ فِي فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي
7- قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَيْسَ يَخْلُو حَالُ النَّاسِ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ:
فَمِنْهُمْ: مَنْ يَسْتَجِيبُ إِلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَيَكُفُّ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، وَهَذَا أَكْمَلُ أَحْوَالِ أَهْلِ الدِّينِ، وَأَفْضَلُ صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ، فَهَذَا يَسْتَحِقُّ جَزَاءَ الْعَامِلِينَ وَثَوَابَ الْمُطِيعِينَ.وَمِنْهُمْ: مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَيَقْدَمُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، وَهِيَ أَخْبَثُ أَحْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ، وَشَرُّ صِفَاتِ الْمُتَعَبِّدِينَ، فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ اللاَّهِي عَنْ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَعَذَابَ الْمُجْتَرِئِ عَلَى مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ مِنْ مَعَاصِيهِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: عَجِبْتُ لَمِنْ يَحْتَمِي مِنَ الطَّيِّبَاتِ مَخَافَةَ الدَّاءِ كَيْفَ لَا يَحْتَمِي مِنَ الْمَعَاصِي مَخَافَةَ النَّارِ؟
وَمِنْهُمْ: مَنْ يَسْتَجِيبُ إِلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَيُقْدَمُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ الْمُجْتَرِئِ لِأَنَّهُ تَوَرَّطَ بِغَلَبِةِ الشَّهْوَةِ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَإِنْ سَلِمَ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي فِعْلِ الطَّاعَةِ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَفَضْلُ النَّاسِ مَنْ لَمْ تُفْسِدُ الشَّهْوَةُ دِينَهُ وَلَمْ تُزِلِ الشُّبْهَةُ يَقِينَهُ.
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ: فِي كِتَابِ اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْمَعْصِيَةِ أَفَضْلُ مِنْ أَعْمَالِ الطَّاعَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اشْتَرَطَ فِي الْحَسَنَةِ الْمَجِيءَ بِهَا إِلَى الْآخِرَةِ، وَفِي تَرْكِ الذُّنُوبِ لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا سِوَى التَّرْكِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}
وَمِنْهُمْ: مَنْ يَمْتَنِعُ عَنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَيَكُفُّ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عِقَابَ اللاَّهِي عَنْ دِينِهِ الْمُنْذِرِ بِقِلَّةِ يَقِينِهِ.
التَّوْبَةُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ:
8- التَّوْبَةُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فَرِيضَةٌ عَلَى الْفَوْرِ صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً، فَتَجِبُ التَّوْبَةُ عَنْ تَأْخِيرِ التَّوْبَةِ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ الْمُهِمَّةِ وَأَوَّلُ مَنَازِلِ السَّالِكِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَمَّا وُجُوبُ التَّوْبَةِ عَلَى الْفَوْرِ فَلَا يُسْتَرَابُ فِيهِ إِذْ مُعْرِفَةُ كَوْنِ الْمَعَاصِي مُهْلِكَاتٍ مِنْ نَفْسِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: تَوْبَةٌ ف 10).
الْإِصْرَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ
9- الْإِصْرَارُ هُوَ الثَّبَاتُ عَلَى الْأَمْرِ وَلُزُومُهُ وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْآثَامِ. قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: حَدُّ الْإِصْرَارِ: أَنْ تَتَكَرَّرَ مِنْهُ تَكَرُّرًا يُشْعِرُ بِقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِدِينِهِ إِشْعَارَ ارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ بِذَلِكَ.
وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: هُوَ الْإِقَامَةُ عَلَى الذَّنْبِ وَالْعَزْمُ عَلَى فِعْلِ مِثْلِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْإِصْرَارُ هُوَ أَنْ يَنْوِيَ أَنْ لَا يَتُوبَ، فَإِنْ نَوَى التَّوْبَةَ خَرَجَ عَنِ الْإِصْرَارِ.
وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: الصَّغِيرَةُ تَكْبُرُ بِأَسْبَابٍ مِنْهَا: الْإِصْرَارُ وَالْمُوَاظَبَةُ.
وَلِذَلِكَ قِيلَ: لَا صَغِيرَةَ مَعَ إِصْرَارٍ وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ.
فَكَبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ تَنْصَرِمُ وَلَا يَتْبَعُهَا مِثْلُهَا لَوْ تُصُوِّرَ ذَلِكَ كَانَ الْعَفْوُ عَنْهَا أَرْجَى مِنْ صَغِيرَةٍ يُوَاظِبُ الْعَبْدُ عَلَيْهَا، وَمِثَالُ ذَلِكَ قَطَرَاتٌ مِنَ الْمَاءِ تَقَعُ عَلَى الْحَجَرِ عَلَى تَوَالٍ فَتُؤَثِّرُ فِيهِ وَذَلِكَ الْقَدْرُ لَوْ صُبَّ عَلَيْهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْقَلِيلُ مِنَ السَّيِّئَاتِ إِذَا دَامَ عُظِمَ تَأْثِيرُهُ فِي إِظْلَامِ الْقَلْبِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الْإِصْرَارُ حُكْمُهُ حُكْمُ مَا أَصَرَّ عَلَيْهِ، فَالْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ صَغِيرَةٌ وَالْإِصْرَارُ عَلَى الْكَبِيرَةِ كَبِيرَةٌ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (كَبَائِرُ ف 12).
التَّصَدُّقُ عَقِبَ الْمَعْصِيَةِ
10- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُنْدَبُ التَّصَدُّقُ عَقِبَ كُلِّ مَعْصِيَةٍ، قَالُوا: مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ بِلَا عُذْرٍ يُنْدَبُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِينَارِ أَوْ نِصْفِهِ وَعَمَّمَهُ بَعْضُهُمْ فِي إِتْيَانِ كُلِّ مَعْصِيَةٍ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقِ حَسَنٍ» وَقَالَ شُرَّاحُ الْحَدِيثِ: الْمُرَادُ بِالْحَسَنَةِ: صَلَاةٌ أَوْ صَدَقَةٌ أَوِ اسْتِغْفَارٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ لَمِنْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ فِي الْحَيْضِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِينَارٍ إِنْ كَانَ الْوَطْءُ فِي أَوَّلِ الْحَيْضِ وَبِنِصْفِ دِينَارٍ إِنْ كَانَ الْوَطْءُ فِي آخِرِهِ، أَوْ وَسَطِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ كَفَّارَةً لَمِنْ وَطِئَ فِي الْحَيْضِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ عِنْدَهُمْ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَيْضٌ ف 43).
سَتْرُ الْمَعْصِيَةِ
11- إِذَا تَعَلَّقَ بِالْمَعْصِيَةِ حَدُّ اللَّهِ كَحَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ يُنْدَبُ لِلْمُسْلِمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَسْتُرَ عَلَى نَفْسِهِ لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ، فَمَنْ أَلَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ وَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ»، وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحِيَاءَ وَالسَّتْرَ».فَإِنْ أَظَهَرَهُ، فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَمْ يَأْثَمْ، لِأَنَّ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ اعْتَرَفَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالزِّنَا فَرَجَمَهُمَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِظْهَارُ الْمَعْصِيَةِ لِيُحَدَّ أَوْ يُعَزَّرَ خِلَافُ الْمُسْتَحَبِّ.
وَأَمَّا التَّحَدُّثُ بِالْمَعْصِيَةِ تَفَكُّهًا فَحَرَامٌ قَطْعًا لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَأْمُورٌ بِالسَّتْرِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ فَمَنْ أَلَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ» قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّتْرَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ إِذَا أَتَى فَاحِشَةً وَوَاجِبٌ ذَلِكَ أَيْضًا فِي غَيْرِهِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ فِي مُعْرِفَةِ أَحْكَامِ سَتْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَعْصِيَةِ غَيْرِهِ، وَسَتْرِ السُّلْطَانِ عَلَى الْمَعَاصِي (ر: سَتْرٌ ف 2- 4).
الْمُجَاهَرَةُ بِالْمَعَاصِي:
12- الْمُجَاهَرَةُ بِالْمَعَاصِي مَنْهِيٌّ عَنْهَا، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهَرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحُ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ اللَّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ»
وَلِلتَّفْصِيلِ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُجَاهَرَةِ بِالْمَعَاصِي (ر: مُجَاهَرَةٌ ف 4 وَمَا بَعْدَهَا).
سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ
13- يَشْتَرِطُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي السَّفَرِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْكَامُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُسَافِرُ عَاصِيًا بِسَفَرِهِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ السَّفَرَ الَّذِي يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهُ فِعْلًا هُوَ مَعْصِيَةٌ كَسَفَرِ الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ لَا يَمْنَعُ الرُّخْصَةَ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (سَفَرٌ ف 10).
أَثَرُ مُقَارَنَةِ الْمَعَاصِي لِأَسْبَابِ الرُّخَصِ:
14- قَالَ الْقَرَافِيُّ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ كَوْنِ الْمَعَاصِي أَسْبَابًا لِلرُّخَصِ وَبَيْنَ مُقَارَنَةِ الْمَعَاصِي لِأَسْبَابِ الرُّخَصِ الْمَعَاصِي لَا تَكُونُ أَسْبَابًا لِلرُّخَصِ وَلِذَلِكَ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ لَا يَقْصُرُ وَلَا يُفْطِرُ، لِأَنَّ سَبَبَ هَذَيْنِ السَّفَرُ وَهُوَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَعْصِيَةٌ فَلَا يُنَاسِبُ الرُّخْصَةَ لِأَنَّ تَرْتِيبَ التَّرَخُّصِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ سَعْيٌ فِي تَكْثِيرِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ بِالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِسَبَبِهَا، وَأَمَّا مُقَارَنَةُ الْمَعَاصِي لِأَسْبَابِ الرُّخَصِ فَلَا تَمْنَعُ إِجْمَاعًا، كَمَا يَجُوزُ لِأَفْسَقِ النَّاسِ وَأَعْصَاهُمُ التَّيَمُّمُ إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ وَهُوَ رُخْصَةٌ، وَكَذَلِكَ الْفِطْرُ إِذَا أَضَرَّ بِهِ الصَّوْمُ، وَالْجُلُوسُ إِذَا أَضَرَّ بِهِ الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ، وَيُقَارِضُ وَيُسَاقِي وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الرُّخَصِ، وَلَا تَمْنَعُ الْمَعَاصِي مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ أَسِبَابَ هَذِهِ الْأُمُورِ غَيْرُ مَعْصِيَةٍ، بَلْ هِيَ عَجْزُهُ عَنِ الصَّوْمِ وَنَحْوِهِ، وَالْعَجْزُ لَيْسَ مَعْصِيَةً، فَالْمَعْصِيَةُ هَاهُنَا مُقَارِنَةٌ لِلسَّبَبِ لَا سَبَبٌ.
إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ لِابْنِ السَّبِيلِ الْمُسَافِرِ فِي مَعْصِيَةٍ
15- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ لَا يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ إِنْ خَرَجَ فِي مَعْصِيَةٍ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ.وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَا يَشْتَرِطُونَ لِإِعْطَاءِ الزَّكَاةِ ابْنَ السَّبِيلِ عَدَمِ الْمَعْصِيَةِ بِسَفَرِهِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (زَكَاةٌ ف 175). إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ لِلْغَارِمِ الْمُسْتَدِينِ فِي مَعْصِيَةٍ:
16- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ لِلْمُسْتَدِينِ فِي مَعْصِيَةٍ كَالْخَمْرِ وَالْقِمَارِ قَبْلَ التَّوْبَةِ لِأَنَّ فِي إِعْطَائِهِ إِعَانَةً لَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَا يَشْتَرِطُونَ فِي دَفْعِ الزَّكَاةِ إِلَى الْغَارِمِ أَنْ يَكُونَ دَيْنُهُ لِطَاعَةٍ أَوْ مُبَاحٍ.
وَتُعْطَى الزَّكَاةُ لَمِنْ تَابَ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا، وَمُقَابِلُهُ لَا تُعْطَى لِأَنَّهُ رُبَّمَا اتَّخَذَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً ثُمَّ يَعُودُ.
إِجَابَةُ دَعْوَةٍ مُقْتَرِنَةٍ بِمَعَاصٍ
17- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ وَعَلِمَ قَبْلَ حُضُورِهَا بِوُجُودِ مَعَاصٍ فِيهَا لَا يَحْضُرُهَا لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ، لِأَنَّ إِجَابَتَهَا إِنَّمَا تَلْزَمُ إِذَا كَانَتْ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَدْعُوُّ مُقْتَدًى بِهِ أَوْ لَا.
وَأَمَّا مَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ فَوَجَدَ بَعْدَ الْحُضُورِ ثَمَّةَ لَعِبًا أَوْ غِنَاءً فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْعُدَ وَيَأْكُلَ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْمَنْعِ يَمْنَعُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ يَصْبِرُ وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُقْتَدًى بِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَنْعِهِمْ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ وَلَا يَقْعُدُ.
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (دَعْوَةٌ ف 27، عُرْسٌ ف 4، وَلِيمَةٌ).
الْوَقْفُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ:
18- يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ كَوْنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ جِهَةَ بِرٍّ فَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى مَعْصِيَةٍ لِأَنَّ الْوَقْفَ طَاعَةٌ تُنَافِي الْمَعْصِيَةَ فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقِفَهَا عَلَى الزُّنَاةِ أَوِ السُّرَّاقِ، أَوْ شُرَّابِ الْخَمْرِ، أَوِ الْمُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ الْوَقْفُ فِي هَذِهِ الْجِهَاتِ بَاطِلًا لِأَنَّهَا مَعَاصٍ يَجِبُ الْكَفُّ عَنْهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَانَ عَلَيْهَا.
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: وَقْفٌ).
الْوَصِيَّةُ لِجِهَةِ الْمَعْصِيَةِ
19- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى الْمُسْلِمُ لِجِهَةٍ عَامَّةٍ فَالشَّرْطُ أَنْ لَا تَكُونَ الْجِهَةُ مَعْصِيَةً فَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِكَنِيسَةٍ وَلِحُصْرِهَا وَقَنَادِيلِهَا وَنَحْوِهِ وَلَا لِبَيْتِ نَارٍ وَلَا لِبِيعَةٍ وَصَوْمَعَةٍ وَلَا دَيْرٍ وَلَا لِإِصْلَاحِهَا وَشَعْلِهَا وَخِدْمَتِهَا وَلَا لِعَمَارَتِهَا.وَلَوْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ بِثُلُثِ مَالِهِ لِبِيعَةٍ أَوْ لِكَنِيسَةٍ أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهَا فِي إِصْلَاحِهَا أَوْ أَوْصَى لِبَيْتِ النَّارِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَجَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: وَصِيَّةٌ).
نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ
20- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ لِحَدِيثِ: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ».وَلِخَبَرِ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِ» وَلِأَنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ لَا تَحِلُّ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَذْرٌ).
طَاعَةُ الْمَخْلُوقِ فِي الْمَعْصِيَةِ:
21- لَا طَاعَةَ لِأَحَدِ الْمَخْلُوقِينَ كَائِنًا مَنْ كَانَ وَلَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوْ زَوْجًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ كُلُّ حَقٍّ وَإِنْ عَظُمَ سَاقِطٌ إِذَا جَاءَ حَقُّ اللَّهِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ».وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَحْكَامِ حُدُودِ طَاعَةِ الْمَخْلُوقِينَ مِمَّنْ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ (ر: طَاعَةٌ ف 11)
الْإِجَارَةُ عَلَى الْمَعَاصِي:
22- لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْمَعَاصِي لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا يُتَصَوَّرُ اسْتِحْقَاقُهَا بِالْعَقْدِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَحِقَّ هُوَ عَلَى الْأَجِيرِ شَيْئًا، إِذِ الْمُبَادَلَةُ لَا تَكُونُ إِلاَّ بِاسْتِحْقَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَلَوِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ لِلْمَعْصِيَةِ لَكَانَ ذَلِكَ مُضَافًا إِلَى الشَّارِعِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ شَرَعَ عَقْدًا مُوجِبًا لِلْمَعْصِيَةِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا،
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ: لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ وَالْمَزَامِيرِ وَشَيْءٍ مِنَ اللَّهْوِ، وَلَا إِجَارَةُ الدَّارِ لِتُجْعَلَ كَنِيسَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ، أَوْ لِبَيْعِ الْخَمْرِ أَوْ لِلْقِمَارِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: إِجَارَةٌ ف 108).
عِصْمَةُ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْمَعَاصِي
23- الْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ عَنِ الْكَبَائِرِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْعِصْمَةِ عَنِ الصَّغِيرَةِ الْمُفْضِيَةِ لِلْخَسَّةِ وَسُقُوطِ الْمُرُوءَةِ وَالْحِشْمَةِ.
وَمَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ صُدُورَ الصَّغَائِرِ غَيْرِ الْخَسِيسَةِ أَيْضًا.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نُبُوَّةٌ، وَنَبِيٌّ وَالْمُلْحَقُ الْأُصُولِيِّ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
30-موسوعة الفقه الكويتية (ميت)
مَيِّتٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْمَيْتُ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِهَا فِي اللُّغَةِ: هُوَ الَّذِي فَارَقَ الْحَيَاةَ وَيُجْمَعُ عَلَى أَمْوَاتٍ، وَالْمَيِّتُ، (بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ): مَنْ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ وَلَيْسَ بِهِ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَمْوَاتٍ، وَمَوْتَى.
يُقَالُ: مَاتَ يَمُوتُ مَوْتًا فَهُوَ مَيِّتٌ بِالتَّثْقِيلِ وَالتَّخْفِيفِ، وَيُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ فَيُقَالُ: أَمَاتَهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الْحَيُّ فَمَيِّتٌ بِالتَّثْقِيلِ لَا غَيْرُ، وَعَلَيْهِ قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} أَيْ سَيَمُوتُونَ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْمَيِّتُ: الَّذِي فَارَقَ الْحَيَاةَ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْحَيُّ:
2- الْحَيُّ لُغَةً: يُقَالُ: حَيِيَ يَحْيَى حَيَاةً مِنْ بَابِ تَعِبَ فَهُوَ حَيٌّ وَيَتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ فَيُقَالُ: أَحْيَاهُ اللَّهُ وَاسْتَحْيَيْتُهُ- بِيَاءَيْنِ- إِذَا تَرَكْتَهُ حَيًّا فَلَمْ تَقْتُلْهُ، فَالْحَيُّ ضِدُّ الْمَيِّتِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْحَيُّ الْمُتَّصِفُ بِالْحَيَاةِ وَهِيَ صِفَةٌ تُوجِبُ لِلْمَوْصُوفِ بِهَا أَنْ يَعْلَمَ وَيَقْدِرَ ظَاهِرًا.
وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْمَيِّتِ وَالْحَيِّ التَّضَادُّ.ب- الْمُحْتَضَرُ:
3- الْمُحْتَضَرُ: هُوَ مَنْ فِي النَّزْعِ أَيْ أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ يُقَالُ حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَاحْتَضَرَهُ: أَشْرَفَ فَهُوَ فِي النَّزْعِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُحْتَضَرِ وَالْمَيْتِ أَنَّ الِاحْتِضَارَ مُقَدِّمَةٌ لِلْمَوْتِ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَيْتِ:
أ- تَقْبِيلُ وَجْهِ الْمَيِّتِ
4- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ تَقْبِيلِ وَجْهِ الْمَيِّتِ لِخَبَرِ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَبَّلَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ بَعْدَ مَوْتِهِ» وَلِمَا ثَبَتَ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- قَبَّلَ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ مَوْتِهِ».
وَذَهَبَ السُّبْكِيُّ إِلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ، وَخَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَجْهَ الْمَيِّتِ الصَّالِحِ، أَمَّا غَيْرُهُ فَيُكْرَهُ.
ب- تَغْمِيضُ عَيْنَيْ الْمَيِّتِ
5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَغْمِيضِ عَيْنَيِ الْمَيِّتِ بَعْدَ ثُبُوتِ مَوْتِهِ لِمَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شُقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ».
وَرَوَى شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «إِذَا حَضَرْتُمْ مَوْتَاكُمْ فَأَغْمِضُوا الْبَصَرَ فَإِنَّ الْبَصَرَ يَتْبَعُ الرُّوحُ، وَقُولُوا خَيْرًا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ عَلَى مَا قَالَ أَهْلُ الْمَيِّتِ».
وَلِأَنَّ الْمَيِّتَ إِذَا كَانَ مَفْتُوحَ الْعَيْنَيْنِ فَلَمْ يُغْمَضْ حَتَّى يَبْرُدَ بَقِيَ مَفْتُوحًا فَيَقْبُحُ مَنْظَرُهُ.
وَيَقُولُ مَنْ يُغْمِضُ الْمَيِّتَ: «بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ».
وَقَالَ أَحْمَدُ: تُغْمِضُ الْمَرْأَةُ عَيْنَهُ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ مَحْرَمٍ لَهُ، وَقَالَ: يُكْرَهُ لِلْحَائِضِ وَالْجُنُبِ تَغْمِيضُهُ وَأَنْ تَقْرَبَاهُ.
ج- إِخْرَاجُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْجُنُبِ مِنْ عِنْدِ الْمَيِّتِ
6- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي إِخْرَاجُ النُّفَسَاءِ وَالْجُنُبِ مِنْ عِنْدِ الْمَيِّتِ وَكَذَلِكَ الْحَائِضُ فِي رَأْيٍ عِنْدَهُمْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِمَنْ حَضَرَتْهُ عَلَامَاتُ الْمَوْتِ تَجَنُّبُ حَائِضٍ وَنُفَسَاءَ وَجُنُبٍ لِأَجْلِ الْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيْبٍ: يُسْتَحَبُّ أَلاَّ تَحْضُرَ الْحَائِضُ وَلَا الْكَافِرَةُ وَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ وَقُرْبَهُ غَيْرُ طَاهِرٍ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ تَقْرُبَ الْحَائِضُ وَالْجُنُبُ الْمَيِّتَ لِحَدِيثِ: «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ جُنُبٌ».
(ر: احْتِضَارٌ ف 3).
د- تَلْقِينُ الْمَيِّتِ بَعْدَ الْمَوْتِ
7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَلْقِينِ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ: فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَلْقِينِهِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ».
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يُلَقَّنُ.
انْظُرْ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَلْقِينٌ ف 5 احْتِضَارٌ ف 7).
هـ- غَسْلُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ الْمَيِّتَ
8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ أَنْ يَغْسِلَ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ الْمَيِّتَ بِلَا كَرَاهَةٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّطْهِيرُ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِالْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْغَاسِلِ الطَّهَارَةُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ غَسْلِ الْجُنُبِ لِلْمَيْتِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ طُهْرَهُ وَلَا يُكْرَهُ تَغْسِيلُ الْحَائِضِ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ طُهْرَهَا.وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ كَرِهَ لِلْحَائِضِ الْغُسْلَ لِأَنَّهَا لَوِ اغْتَسَلَتْ لِنَفْسِهَا لَمْ تَعْتَدَّ بِهِ فَكَذَا إِذَا غَسَّلَتْ.
و- شَدُّ لَحْيَيِ الْمَيِّتِ وَتَلْيِينُ مَفَاصِلِهِ
9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ شَدِّ لَحْيَيِ الْمَيِّتِ بِعِصَابَةِ عَرِيضَةٍ تُرْبَطُ فَوْقَ رَأْسِهِ، لِئَلاَّ يَبْقَى فَمُهُ مَفْتُوحًا، فَتَدْخُلَهُ الْهُوَامُ وَيَتَشَوَّهُ خَلْقُهُ وَيَدْخُلَ الْمَاءُ عِنْدَ غَسْلِهِ.
وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَلْيِينِ مَفَاصِلِ الْمَيِّتِ، وَذَلِكَ بِرِدِّ سَاعِدِهِ إِلَى عَضُدِهِ وَسَاقِهِ إِلَى فَخِذِهِ وَفَخِذِهِ إِلَى بَطْنِهِ، ثُمَّ تُمَدُّ وَتَلِينُ أَصَابِعُهُ بِأَنْ تُرَدَّ إِلَى بَطْنِ كَفِّهِ ثُمَّ تُمَدُّ تَسْهِيلًا لِغَسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ، فَإِنَّ فِي الْبَدَنِ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الرُّوحِ بَقِيَّةُ حَرَارَةٍ فَإِذَا لُيِّنَتِ الْمَفَاصِلُ حِينَئِذٍ لَانَتْ وَإِلاَّ فَلَا يُمْكِنُ تَلْيِينُهَا.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ تَلْيِينَ مَفَاصِلِهِ تَكُونُ وَلَوْ بِنَحْوِ دُهْنٍ إِنْ تَوَقَّفَ التَّلْيِينُ عَلَيْهِ لِيَسْهُلَ غُسْلُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى تَرْكِ تَلْيِينِ الْمَفَاصِلِ إِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ تَنْكَسِرَ أَعْضَاؤُهُ وَصَيَّرَ بِهِ ذَلِكَ إِلَى الْمُثْلَةِ.
ز- تَوْجِيهُ الْمَيِّتِ لِلْقِبْلَةِ
10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَوْجِيهِ الْمَيِّتِ إِلَى الْقِبْلَةِ لِأَنَّهَا أَشَرَفُ الْجِهَاتِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي طَرِيقَةِ تَوْجِيهِ الْمَيِّتِ إِلَى الْقِبْلَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يُوَجَّهَ الْمُحْتَضَرُ لِلْقِبْلَةِ عَلَى يَمِينِهِ مِثْلَ تَوْجِيهِهِ فِي الْقَبْرِ وَجَازَ الِاسْتِلْقَاءُ عَلَى ظَهْرِهِ وَقَدَمَاهُ إِلَيْهَا وَلَكِنْ يُرْفَعُ رَأْسُهُ قَلِيلًا لِيَتَوَجَّهَ لِلْقِبْلَةِ، وَقِيلَ: يُوضَعُ كَمَا تَيَسَّرَ عَلَى الْأَصَحِّ وَإِنْ شُقَّ عَلَيْهِ تُرِكَ عَلَى حَالِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَوْجِيهُهُ لِلْقِبْلَةِ عَلَى يَمِينِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَعَلَى يَسَارِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَعَلَى ظَهْرِهِ وَرِجْلَاهُ لِلْقِبْلَةِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَعَلَى بَطْنِهِ وَرَأْسُهُ لَهَا، وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ شُخُوصِ بَصَرِهِ لَا قَبْلَهُ لِئَلاَّ يُفْزِعَهُ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَوْجِيهُهُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ كَمَا يُوضَعُ فِي اللَّحْدِ إِلَى الْقِبْلَةِ فَإِنْ تَعَذَّرَ وَضْعُهُ عَلَى يَمِينِهِ لِضِيقِ مَكَانٍ أَوْ لِعِلَّةٍ فِي جَنْبِهِ أَوْ غَيْرِهَا فَإِنَّهُ يُوضَعُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ أُلْقِيَ عَلَى قَفَاهُ وَوَجْهُهُ وَأَخْمَصَاهُ لِلْقِبْلَةِ بِأَنْ يُرْفَعَ رَأْسُهُ قَلِيلًا، كَأَنْ يُوضَعَ تَحْتَ رَأْسِهِ مُرْتَفِعٌ لِيَتَوَجَّهَ وَجْهُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ.
وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ أَنَّ هَذَا الِاسْتِلْقَاءَ أَفَضْلُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ اضْطَجَعَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ وُضِعَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ.
وَلِلْحَنَابِلَةِ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْجِيهِ الْمَيِّتِ لِلْقِبْلَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُجْعَلُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ وَيُرْفَعَ رَأْسُهُ قَلِيلًا، لِيَصِيرَ وَجْهُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ دُونَ السَّمَاءِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: إِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ وَاسِعًا فَعَلَى جَنْبِهِ، وَإِلاَّ فَعَلَى ظَهْرِهِ.وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا يُوَجَّهُ قَبْلَ تَيَقُّنِ مَوْتِهِ، وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْأَوْلَى التَّوْجِيهُ قَبْلَ ذَلِكَ.
ج- سَتْرُ بَدَنِ الْمَيِّتِ
11- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى اسْتِحْبَابِ سَتْرِ الْمَيِّتِ حِينَ الْغُسْلِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يُسْتَرُ وَيُغَطَّى.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ سَتْرِ الْمَيِّتِ حِينَ الْغُسْلِ، وَأَنَّ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ فِي السَّتْرِ هُوَ سَتْرُ عَوْرَتِهِ الْغَلِيظَةِ فَقَطْ عَلَى الظَّاهِرِ مِنَ الرِّوَايَةِ، وَقِيلَ مُطْلَقًا تُسْتَرُ عَوْرَتُهُ الْغَلِيظَةُ وَالْخَفِيفَةُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ أَنْ يَسْتُرَ الْغَاسِلُ الْمَيِّتَ مِنْ سُرَّتِهِ إِلَى رُكْبَتِهِ إِنْ كَانَ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَ الْمَيِّتِ سَيِّدًا أَوْ زَوْجًا لَكِنْ إِنْ كَانَ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَهُ أَجْنَبِيًّا فَإِنَّهُ يَجِبُ سَتْرُ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ سَتْرِ جَمِيعِ بَدَنِهِ بِثَوْبٍ خَفِيفٍ بَعْدَ نَزْعِ ثِيَابِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، وَيُجْعَلُ طَرَفُ الثَّوْبِ تَحْتَ رَأْسِهِ وَطَرَفُهُ الْآخَرُ تَحْتَ رِجْلَيْهِ لِئَلاَّ يَنْكَشِفَ، وَاحْتُرِزَ بِالثَّوْبِ الْخَفِيفِ عَنِ الثَّقِيلِ لِأَنَّ الثَّقِيلَ يَحْمِيهِ فَيُغَيِّرُهُ وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: «سُجِّيَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ مَاتَ بِثَوْبٍ حِبَرَةٍ».
أَمَّا الْمُحْرِمُ فَيُسْتَرُ مِنْهُ مَا يَجِبُ تَكْفِينُهُ مِنْهُ.وَصَرَّحَ الْقَلْيُوبِيُّ بِأَنَّهُ لَا يُغَطَّى رَأْسُ الْمُحْرِمِ وَلَا وَجْهُ الْمُحْرِمَةِ وَيُغْسَلُ الْمَيِّتُ نَدْبًا فِي قَمِيصٍ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا شَرَعَ فِي غَسْلِهِ وَجَبَ سَتْرُ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَلِيٍّ- رضي الله عنه-: «لَا تُبْرِزْ فَخِذَكَ، وَلَا تَنْظُرَنَّ إِلَى فَخِذِ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ» وَهَذَا فِي غَيْرِ مَنْ سِنُّهُ دُونَ سَبْعِ سِنِينَ فَلَا بَأْسَ بِغَسْلِهِ مُجَرَّدًا.
وَقَالَ الْقَاضِي: السُّنَّةُ أَنْ يُغَسَّلَ فِي قَمِيصٍ رَقِيقٍ يُنْزَلُ الْمَاءُ فِيهِ وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَصِلَ إِلَى بَدَنِهِ وَيُدْخِلَ يَدَهُ فِي كُمِّ الْقَمِيصِ فَيَمُرَّهَا عَلَى بَدَنِهِ وَالْمَاءُ يُصَبُّ فَإِنْ كَانَ الْقَمِيصُ ضَيِّقًا فَتَقَ رَأْسَ الدَّخَارِيصِ وَأَدْخَلَ يَدَهُ مِنْهُ.
ط- قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَيِّتِ وَقَبْلَ غَسْلِهِ
12- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَبْلَ غَسْلِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ عِنْدَ الْمَيِّتِ سُورَةَ (يس) وَكَذَا سُورَةُ الْفَاتِحَةِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: قِرَاءَةٌ ف 17، 18). ي- تَغْسِيلُ الْمَيِّتِ
13- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَغْسِيلَ الْمُسْلِمِ وَاجِبُ كِفَايَةٍ.
وَانْظُرْ حَقِيقَتَهُ وَحُكْمَهُ، وَمَنْ يُغَسِّلُهُ، وَكَيْفِيَّةُ تَغْسِيلِهِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنْ أَحْكَامٍ فِي مُصْطَلَحِ (تَغْسِيلِ الْمَيِّتِ).
ك- تَكْفِينُ الْمَيِّتِ
14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَكْفِينَ الْمَيِّتِ بِمَا يَسْتُرُهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ.
وَانْظُرْ حَقِيقَتَهُ وَحُكْمَهُ وَكَيْفِيَّتَهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَكْفِينٌ).
ل- حَمْلُ الْمَيِّتِ
15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَمْلَ الْجِنَازَةِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ حَمْلِهَا وَعَدَدِ حَامِلِيهَا.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (جَنَائِزُ ف 11- 13).
م- دَفْنُ الْمَيِّتِ
16- دَفْنُ الْمَيِّتِ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِجْمَاعًا إِنْ أَمْكَنَ.انْظُرْ حَقِيقَتَهُ وَحُكْمَهُ، وَأَفْضَلَ مَكَانٍ لِدَفْنِهِ، وَالْأَحَقَّ بِدَفْنِهِ، وَكَيْفِيَّتَهُ وَوَقْتَهُ، وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ أَحْكَامٍ فِي مُصْطَلَحِ (دَفْنٌ).
ن- نَبْشُ قَبْرُ الْمَيِّتِ
17- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَنْعِ نَبْشِ الْقَبْرِ إِلاَّ لِعُذْرٍ وَغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَمِنَ الْأَعْذَارِ الَّتِي تُجِيزُ نَبْشَ الْقَبْرِ كَوْنُ الْأَرْضِ مَغْصُوبَةً أَوِ الْكَفَنِ مَغْصُوبًا أَوْ سَقَطَ مَالٌ فِي الْقَبْرِ.وَعِنْدَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي هَذِهِ الْأَعْذَارِ يُنْظَرُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ (قَبْرٌ ف 21، وَنَبْشٌ).
س- نَقْلُ الْمَيِّتِ
18- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الْمَيِّتِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ بَعْدَ الدَّفْنِ مُطْلَقًا.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ نَقْلُ الْمَيِّتِ قَبْلَ الدَّفْنِ وَكَذَا بَعْدَهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ بِشُرُوطِ.يُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دَفْنٌ ف 4، وَنَبْشٌ).
ع- قَذْفُ الْمَيِّتِ
19- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَهُ حَقُّ طَلَبِ إِقَامَةِ الْحَدِّ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ طَلَبَ إِقَامَةِ الْحَدِّ يَرْجِعُ لِمَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِ بِسَبَبِ قَذْفِ الْمَيِّتِ وَهُمُ الْأُصُولُ وَالْفُرُوعُ وَإِنْ عَلَوْا أَوْ سَفَلُوا، وَلَوْ كَانَ الطَّالِبُ مَحْجُوبًا أَوْ مَحْرُومًا عَنِ الْمِيرَاثِ بِقِتْلٍ أَوْ رِقٍّ أَوْ كُفْرٍ أَوْ كَوْنِهِ وَلَدَ بِنْتٍ.وَلَوْ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَبِ أَوْ عَفْوِهِ أَوْ تَصْدِيقِهِ لِلْقَاذِفِ لِلُحُوقِ الْعَارِ بِهِمْ بِسَبَبِ الْجُزْئِيَّةِ، أَيْ كَوْنُ الْمَيِّتِ جُزْءًا مِنْهُمْ أَوْ كَوْنُهُمْ جُزْءًا مِنْهُ.
وَلَوْ قَالَ: يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ وَقَدْ مَاتَ أَبَوَاهُ فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ قَبْلَ حَدِّ قَاذِفِهِ فَلِوَارِثِهِ الْقِيَامُ بِهِ وَلَوْ مَنَعَهُ مِنَ الْإِرْثِ مَانِعٌ كَرِقٍّ وَقَتْلٍ وَكُفْرٍ إِنْ كَانَ قَذَفَهُ فِي حَيَاتِهِ.
وَإِنْ قَذَفَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلِوَارِثِهِ الْقِيَامُ بِحَدِّهِ لِلِحُوقِ الْمَعَرَّةِ لَهُ.
وَأَمَّا الْوَرَثَةُ الَّذِينَ يَحِقُّ لَهُمُ الْمُطَالَبَةُ بِالْحَدِّ فَهُمْ: وَلَدُ الْمَقْذُوفِ وَيَشْمَلُ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ وَإِنْ سَفَلُوا، وَأَبُ الْمَقْذُوفِ وَإِنْ عَلَا.
فَمَنْ قَذَفَ مَيِّتًا كَانَ لِوَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ وَلِأَبِيهِ وَإِنْ عَلَا أَنْ يَقُومُوا بِذَلِكَ وَمَنْ قَامَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ أَخَذَهُ بِحَدِّهِ وَإِنْ كَانَ ثَمَّ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ لِأَنَّهُ عَيْبٌ يَلْزَمُهُمْ، وَلَيْسَ لِلْإِخْوَةِ وَسَائِرِ الْعَصَبَةِ قِيَامٌ مَعَ هَؤُلَاءِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ أَحَدٌ فَلِلْعَصَبَةِ الْقِيَامُ، وَلِلْأَخَوَاتِ وَالْجَدَّاتِ الْقِيَامُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْمَقْذُوفِ وَارِثٌ فَلَيْسَ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَقُومَ بِحَدِّهِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَطَلَبُ إِقَامَةِ الْحَدِّ لِلْوَارِثِ إِلاَّ أَنْ يَعْفُوَ، وَلَوْ عَفَا وَارِثُ الْمَقْذُوفِ مُقَابِلَ مَالٍ يَأْخُذُهُ سَقَطَ الْحَدُّ وَلَمْ يَجِبِ الْمَالُ، وَلَوْ عَفَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ فَلِلْبَاقِي أَنْ يَسْتَوْفُوا الْحَدَّ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ عَارٌ، وَالْعَارُ يَلْزَمُ الْوَاحِدَ كَمَا يَلْزَمُ الْجَمِيعَ.
وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِيمَنْ يَرِثُ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى أَوْجُهٍ:
أَصَحُّهَا: جَمِيعُ الْوَرَثَةِ كَالْمَالِ وَالْقِصَاصِ.
وَالثَّانِي: جَمِيعُهُمْ غَيْرُ الزَّوْجَيْنِ.
وَالثَّالِثُ: رِجَالُ الْعَصَبَاتِ فَقَطْ لِأَنَّهُ لِدَفْعِ الْعَارِ كَوِلَايَةِ التَّزْوِيجِ.
وَالرَّابِعُ: رِجَالُ الْعَصَبَةِ سِوَى الْبَنِينَ كَالتَّزْوِيجِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ لِلسُّلْطَانِ.
وَلَوْ قَذَفَ رَجُلٌ مُوَرِّثَهُ، وَمَاتَ الْمَقْذُوفُ، سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ إِنْ كَانَ حَائِزًا لِلْإِرْثِ، وَلِأَنَّ الْقَذْفَ لَا يَمْنَعُ الْإِرْثَ بِخِلَافِ الْقَتْلِ.
وَلَوْ قَذَفَ وَلَدٌ أَبَاهُ فَمَاتَ الْأَبُ وَتَرَكَ الْقَاذِفَ وَابْنًا آخَرَ فَإِنَّ فِيهِ الْخِلَافَ فِيمَنْ يَرِثُ الْحَدَّ فَإِنْ قُلْنَا: إِذَا عَفَا بَعْضُ الْمُسْتَحِقِّينَ كَانَ لِلْآخَرِ اسْتِيفَاءُ الْجَمِيعِ فَلِلِابْنِ الْآخَرِ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ بِتَمَامِهِ، وَإِنْ قُلْنَا يَسْقُطُ الْجَمِيعُ فَكَذَا هُنَا، وَإِنْ قُلْنَا: يَسْقُطُ نَصِيبُ الْعَافِي فَلِلِابْنِ الْآخَرِ اسْتِيفَاءُ نِصْفِ الْحَدِّ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَقَالُوا إِذَا قُذِفَتِ الْمَرْأَةُ لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةُ إِذَا كَانَتِ الْأُمُّ فِي الْحَيَاةِ، وَإِنْ قُذِفَتْ وَهِيَ مَيِّتَةٌ- مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً حُرَّةً أَوْ أَمَةً- حُدَّ الْقَاذِفُ إِذَا طَالَبَ الِابْنُ وَكَانَ مُسْلِمًا حُرًّا وَهُوَ الْمَذْهَبُ لِأَنَّهُ قَدْحٌ فِي نَسَبِهِ وَلِأَنَّهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ يَنْسُبُهُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ زِنَا وَلَا يَسْتَحِقُّ إِقَامَةَ الْحَدِّ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ وَلِذَلِكَ تُعْتَبَرُ حَصَانَتُهُ وَلَا تُعْتَبَرُ حَصَانَةُ أُمِّهِ لِأَنَّ الْقَذْفَ لَهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَذْفِ مَيْتَةٍ، وَكَذَلِكَ تُقَاسُ الْجَدَّةُ عَلَى الْأُمِّ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ.
وَأَمَّا إِنْ قَذَفَ أَبَاهُ أَوْ جَدَّهُ أَوْ أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ غَيْرَ أُمَّهَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَوْجَبَ بِقَذْفِ أُمِّهِ حَقًّا لَهُ لِنَفْيِ نَسَبِهِ لَاحِقًا لِلْمَيِّتِ وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ إِحْصَانُ الْمَقْذُوفَةِ وَاعْتُبِرَ إِحْصَانُ الْوَلَدِ، وَمَتَى كَانَ الْمَقْذُوفُ مِنْ غَيْرِ أُمَّهَاتِهِ لَمْ يَتَضَمَّنْ نَفْيَ نَسَبِهِ فَلَمْ يَجِبِ الْحَدُّ.
وَإِذَا مَاتَ الْمَقْذُوفُ وَلَمْ يُطَالِبْ بِالْحَدِّ سَقَطَ الْحَدُّ وَإِنْ كَانَ قَدْ طَالَبَ بِهِ فَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ وَلِلْوَرَثَةِ طَلَبُهُ.
وَالْحَقُّ فِي حَدِّ الْقَذْفِ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ، حَتَّى لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.وَقَالَ الْقَاضِي: لَهُمْ سِوَى الزَّوْجَيْنِ، وَقَالَ فِي الْمُغْنِي: هُوَ لِلْعَصَبَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَرِثُهُ الْإِمَامُ أَيْضًا فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَارِثِ.وَلَوْ عَفَا بَعْضُهُمْ حُدَّ لِلْبَاقِي كَامِلًا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ.
ف- حَلْقُ شَعْرِ الْمَيِّتِ وَقَصُّ ظُفُرِهِ
20- لِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي حُكْمِ حَلْقِ شَعْرِ الْمَيِّتِ أَوْ تَسْرِيحِهِ أَوْ ضَفْرِ شَعْرِ الْمَرْأَةِ وَكَذَا سَائِرُ شَعْرِ الْبَدَنِ كَاللِّحْيَةِ وَالشَّارِبِ وَشَعْرِ الْإِبِطِ وَالْعَانَةِ.
وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (شَعْرٌ وَصُوفٌ وَوَبَرٌ ف 4، 5، 6، حَلَقَ ف 14).
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ تَقْلِيمِ أَظْفَارِ الْمَيِّتِ وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَغْسِيلُ الْمَيِّتِ ف9).
ص- تَغْسِيلُ السِّقْطِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَدَفْنُهُ
21- السِّقْطُ هُوَ الْوَلَدُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى يَسْقُطُ قَبْلَ تَمَامِهِ وَهُوَ مُسْتَبِينُ الْخَلْقِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ خِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (جَنِينٌ ف 22).
قِ- إِدْخَالُ الْمَيِّتِ الْمَسْجِدَ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِيهِ:
22- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ أَوْ مَسْجِدِ الْمَحَلَّةِ وَإِدْخَالُهُ فِيهِ تَحْرِيمًا وَقِيلَ تَنْزِيهًا وَرَجَّحَهُ الْكَمَالُ وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى الْكَرَاهَةِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (جَنَائِزُ ف 38).
ر- الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ إِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ
23- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ إِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ فِيهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ.
وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (جَنَائِزُ ف 37).
ش- طَهَارَةُ جَسَدِ الْمَيِّتِ
24- ذَهَبَ عَامَّةُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ كَمَا يَتَنَجَّسُ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ بِالْمَوْتِ وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْمَذْهَبِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ هَلْ نَجَاسَتُهُ نَجَاسَةُ خَبَثٍ أَوْ حَدَثٍ؟ فَقِيلَ: إِنَّهَا نَجَاسَةُ خَبَثٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَلَوْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ قَبْلَ غَسْلِهِ نَجَّسَهَا وَكَذَلِكَ لَوْ حَمَلَ مَيِّتًا قَبْلَ غَسْلِهِ وَصَلَّى بِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَلِذَلِكَ إِنَّمَا يَطْهُرُ الْمَيِّتُ بِالْغُسْلِ كَرَامَةً لِلْمُسْلِمِ.
أَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ نَجِسٌ وَلَوْ بَعْدَ غَسْلِهِ فَلَوْ وَقَعَ كَافِرٌ فِي بِئْرٍ بَعْدَ غُسْلِهِ فَإِنَّهُ يُنَجِّسُ الْبِئْرَ.
وَقِيلَ: هِيَ نَجَاسَةُ حَدَثٍ قَالَ فِي الْفَتْحِ:
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: «سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا»،، فَإِنْ صَحَّ وَجَبَ تَرْجِيحُ أَنَّهُ لِلْحَدَثِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «لَا تُنَجِّسُوا مَوْتَاكُمْ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا». وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثَّلْجِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْآدَمِيَّ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ بِتَشَرُّبِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ فِي أَجْزَائِهِ، كَرَامَةً لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَنَجَّسَ لَمَا حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ بِالْغُسْلِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي حُكِمَ بِنَجَاسَتِهَا بِالْمَوْتِ، وَالْآدَمِيُّ يَطْهُرُ بِالْغُسْلِ حَتَّى رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ قَبْلَ الْغُسْلِ يُوجِبُ تَنْجِيسَ الْبِئْرِ، وَلَوْ وَقَعَ بَعْدَ الْغُسْلِ لَا يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَتَنَجَّسْ بِالْمَوْتِ وَلَكِنْ وَجَبَ غُسْلُهُ لِلْحَدَثِ، لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَخْلُو عَنْ سَابِقَةِ حَدَثٍ لِوُجُودِ اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ وَزَوَالِ الْعَقْلِ، وَالْبَدَنُ فِي حَقِّ التَّطْهِيرِ لَا يَتَجَزَّأُ فَوَجَبَ غَسْلُهُ كُلُّهُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالْبَلْخِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ مَيْتَةَ الْآدَمِيِّ وَلَوْ كَافِرًا طَاهِرَةٌ، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} وَقَضِيَّةُ تَكْرِيمِهِمْ أَنْ لَا يُحْكَمَ بِنَجَاسَتِهِمْ بِالْمَوْتِ، وَلِخَبَرِ «لَا تُنَجِّسُوا مَوْتَاكُمْ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا» قَالَ عِيَاضُ: وَلِأَنَّ غَسْلَهُ وَإِكْرَامَهُ يَأْبَى تَنْجِيسُهُ، إِذْ لَا مَعْنَى لِغَسْلِ الْمَيْتَةِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْعُذْرَةِ. وَأَمَّا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} فَالْمُرَادُ نَجَاسَةُ الِاعْتِقَادِ أَوْ أَنَّا نَجْتَنِبُهُمْ كَالنَّجَاسَةِ لَا نَجَاسَةَ الْأَبَدَانِ، وَلِهَذَا رَبَطَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْأَسِيرَ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ أَحَلَّ اللَّهُ طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ فِي غَيْرِ أَجْسَادِ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ مُتَّفَقٌ عَلَى طَهَارَتِهَا، وَأَلْحَقَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ بِهِمُ الشُّهَدَاءَ.
وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي طَهَارَةِ مَيْتَةِ الْآدَمِيِّ وَنَجَاسَتِهَا فِي الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ.
فَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى نَجَاسَةِ مَيْتَةِ الْآدَمِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَنْجُسَ الْكَافِرُ بِمَوْتِهِ لِأَنَّ الْخَبَرَ: «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ» إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْمُسْلِمِ وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْكَافِرِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ حُرْمَةٌ كَحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ. حُكْمُ مَا أُبِينَ مِنَ الْآدَمِيِّ
25- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَا أُبِينَ مِنَ الْآدَمِيِّ يَأْخُذُ حُكْمَهُ فِي الْقَوْلِ بِطَهَارَتِهِ أَوْ بِنَجَاسَتِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّ شَعْرَ الْآدَمِيِّ غَيْرَ الْمَنْتُوفِ طَاهِرٌ بِخِلَافِ الْمَنْتُوفِ فَإِنَّهُ نَجِسٌ لِمَا يَحْمِلُ مِنْ دُسُومَةٍ.
وَكَذَلِكَ عَظْمُ الْمَيِّتِ وَعَصَبُهُ فَإِنَّهُمَا طَاهِرَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَكَذَلِكَ سِنُّ الْمَيِّتِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنَ الْمَذْهَبِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَا دَمَ فِيهَا وَالْمُنَجَّسُ هُوَ الدَّمُ.
وَكَذَلِكَ ظُفُرُ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ إِذَا كَانَ خَالِيًا عَنِ الدُّسُومَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى طَهَارَةِ مَا أُبِينَ مِنَ الْآدَمِيِّ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِنَاءً عَلَى الْمُعْتَمَدِ مِنْ طَهَارَةِ مَيْتَتِهِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فِي الْمَذْهَبِ فَمَا أُبِينَ مِنْهُ نَجِسٌ مُطْلَقًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى إِلْحَاقِ مَا انْفَصَلَ مِنَ الْآدَمِيِّ بِمَيْتَتِهِ فِي الطَّهَارَةِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: حُكْمُ أَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ وَأَبْعَاضِهِ حُكْمُ جُمْلَتِهِ سَوَاءٌ انْفَصَلَتْ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، لِأَنَّهَا أَجَزَاءٌ مِنْ جُمْلَتِهِ فَكَانَ حُكْمُهَا كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ وَالنَّجِسَةِ وَلِأَنَّهَا يُصَلَّى عَلَيْهَا فَكَانَتْ طَاهِرَةً كَجُمْلَتِهِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهَا نَجِسَةٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهَا لَا حُرْمَةَ لَهَا.
ت- غَسْلُ مَا أُبِينَ مِنَ الْآدَمِيِّ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ:
26- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ بَعْضُ الْمَيِّتِ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ لِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- صَلَّى عَلَى عِظَامٍ بِالشَّامِ، وَصَلَّى أَبُو عُبَيْدَةَ- رضي الله عنه- عَلَى رُءُوسٍ، وَصَلَّتِ الصَّحَابَةُ- رضي الله عنهم- عَلَى يَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ أَلْقَاهَا طَائِرٌ بِمَكَّةَ مِنْ وَقْعَةِ الْجَمَلِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا وُجِدَ رَأْسُ آدَمِيٍّ أَوْ أَحَدُ شِقَّيْهِ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ بَلْ يُدْفَنُ إِلاَّ أَنْ يُوجَدَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِهِ وَلَوْ بِلَا رَأْسٍ فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُغَسَّلُ دُونَ ثُلُثَيِ الْجَسَدِ، وَالْمُرَادُ بِالْجَسَدِ مَا عَدَا الرَّأْسِ، فَإِذَا وُجِدَ نِصْفُ الْجَسَدِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ وَدُونَ الثُّلُثَيْنِ مَعَ الرَّأْسِ لَمْ يُغْسَّلْ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ أَيْ يُكْرَهُ، لِأَنَّ شَرْطَ الْغُسْلِ وُجُودُ الْمَيِّتِ، فَإِنْ وُجِدَ بَعْضُهُ فَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ وَلَا حُكْمَ لِلْيَسِيرِ وَهُوَ مَا دُونَ الثُّلُثَيْنِ.
وَالْعِلَّةُ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَى مَا دُونَ الْجُلِّ خَوْفُ الْوُقُوعِ فِي الْمَكْرُوهِ وَهُوَ الصَّلَاةُ عَلَى غَائِبٍ، قَالَ فِي التَّوْضِيحِ لِأَنَّا لَا نُخَاطَبُ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ إِلاَّ بِشَرْطِ الْحُضُورِ، وَحُضُورُ جُلِّهِ كَحُضُورِ كُلِّهِ، وَحُضُورُ الْأَقَلِّ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ. (ر: تَغْسِيلُ الْمَيِّتِ ف 26).
ث- تَنَازُعُ الْمَيِّتِ وَالْحَيِّ الْمَاءَ:
27- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ مَيِّتٌ وَجُنُبٌ وَحَائِضٌ وَمُحْدِثٌ وَكَانَ الْمَاءُ مِلْكًا لِأَحَدِهِمْ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِمِلْكِهِ، وَلِلْفُقَهَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَاءُ مِلْكًا لِأَحَدِهِمْ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِمِلْكِهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَاءُ مُبَاحًا فَإِنَّ الْجُنُبَ أَوْلَى بِالْمَاءِ مِنَ الْحَائِضِ وَالْمُحْدِثِ وَيُيَمَّمُ الْمَيِّتُ لِيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ وَالْمُحْدِثُ وَيَقْتَدِيَانِ بِهِ، لِأَنَّ الْجَنَابَةَ أَغْلَظُ مِنَ الْحَدَثِ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَصْلُحُ إِمَامًا. وَقِيلَ فِي السِّرَاجِ: أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْلَى لِأَنَّ غُسْلَهُ يُرَادُ لِلتَّنْظِيفِ وَهُوَ لَا يَحْصُلُ بِالتُّرَابِ.
وَعَنِ الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ، وَفِي السِّرَاجِ أَيْضًا: لَوْ كَانَ الْمَاءُ يَكْفِي الْمُحْدِثَ فَقَطْ كَانَ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَاءُ مُشْتَرَكًا فَيَنْبَغِي لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَصْرِفَ نَصِيبَهُ لِلْمَيْتِ حَيْثُ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ لَا يَكْفِيهِ نَصِيبُهُ، وَلَا يُمَكَّنُ الْجُنُبُ وَلَا غَيْرُهُ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِالْكُلِّ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِحِصَّةِ الْمَيِّتِ، وَكَوْنُ الْجَنَابَةِ أَغْلَظُ لَا يُبِيحُ اسْتِعْمَالَ حِصَّةِ الْمَيِّتِ فَلَمْ يَكُنِ الْجُنُبُ أَوْلَى، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْمَاءُ مُبَاحًا فَإِنَّهُ حَيْثُ أَمْكَنَ بِهِ رَفْعَ الْجَنَابَةِ كَانَ أَوْلَى.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ صَاحِبُ الْمَاءِ وَمَعَهُ شَخْصٌ حَيٌّ مُحْدِثٌ جُنُبٌ أَوْ غَيْرُهُ فَإِنَّ الْمَيِّتَ يُقَدَّمُ عَلَى الْمُحْدِثِ الْحَيِّ لِحَقِيِّةِ الْمِلْكِ إِلاَّ أَنْ يُخَافَ عَلَى الْحَيِّ الْعَطَشُ فَإِنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ أَحَقُّ مِنْ صَاحِبِهِ وَيُيَمَّمُ الْمَيِّتُ حِفْظًا لِلنَّفُوسِ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْوَرَثَةِ.
أَمَّا لَوْ كَانَ الْمَاءُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمَيِّتِ وَالْحَيِّ يُقَدَّمُ الْحَيُّ وَلَوْ لَمْ يَخَفْ عَطَشًا لِتَرْجِيحِ جَانِبِهِ بِالشَّرِكَةِ وَيَضْمَنُ قِيمَةَ نَصِيبِ الْمَيِّتِ. وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ اجْتَمَعَ مَيِّتٌ وَجُنُبٌ وَحَائِضٌ انْقَطَعَ دَمُهَا وَهُنَاكَ مَا يَكْفِي أَحَدَهُمَا فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا كَانَ صَاحِبُ الْمَاءِ أَحَقَّ بِهِ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ لِنَفْسِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَذْلُهُ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ بَذَلَهُ لِلْآخَرِ وَتَيَمَّمَ لَمْ يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ.
وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ مُبَاحًا لَهُمَا كَانَا فِيهِ سَوَاءً.
وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ مُبَاحًا أَوْ لِغَيْرِهِمَا وَأَرَادَ أَنْ يَجُودَ بِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا فَالْمَيِّتُ أَوْلَى لِأَنَّهُ خَاتِمَةُ طَهَارَتِهِ، وَالْجُنُبُ وَالْحَائِضُ يَرْجِعَانِ إِلَى الْمَاءِ وَيَغْتَسِلَانِ.
وَإِذَا اجْتَمَعَ مَيِّتٌ وَحَيٌّ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ وَالْمَاءُ يَكْفِي أَحَدَهُمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ صَاحِبَ النَّجَاسَةِ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَيْسَ لِطَهَارَتِهِ بَدَلٌ وَلِطَهَارَةِ الْمَيِّتِ بَدَلٌ وَهُوَ التَّيَمُّمُ فَكَانَ صَاحِبُ النَّجَاسَةِ أَحَقَّ بِالْمَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْلَى لِأَنَّهُ خَاتِمَةُ طَهَارَتِهِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا اجْتَمَعَ جُنُبٌ وَمَيِّتٌ وَمَنْ عَلَيْهَا غُسْلُ حَيْضٍ وَمَعَهُمْ مَاءٌ لَا يَكْفِي إِلاَّ أَحَدَهُمْ، فَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِأَحَدِهِمْ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَذْلُهُ لِغَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَالِكَهُ الْمَيِّتُ أَوْ أَحَدُ الْحَيَّيْنِ. وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ لِغَيْرِهِ وَأَرَادَ أَنْ يَجُودَ بِهِ عَلَى أَحَدِهِمْ فَعَنْ أَحْمَدَ- رحمه الله- رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: الْمَيِّتُ أَحَقُّ بِهِ لِأَنَّ غُسْلَهُ خَاتِمَةُ طَهَارَتِهِ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ طَهَارَتُهُ كَامِلَةً، وَالْحَيُّ يَرْجِعُ إِلَى الْمَاءِ فَيَغْتَسِلُ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ بِغُسْلِ الْمَيِّتِ تَنْظِيفُهُ وَلَا يَحْصُلُ بِالتَّيَمُّمِ، وَالْحَيُّ يَقْصِدُ بِغُسْلِهِ إِبَاحَةَ الصَّلَاةِ وَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِالتُّرَابِ.
وَالثَّانِيَةُ: الْحَيُّ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُتَعَبِّدٌ بِالْغُسْلِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ، وَالْمَيِّتُ قَدْ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ.وَاخْتَارَ هَذَا الْخَلاَّلُ.
وَإِنْ وَجَدُوا الْمَاءَ فِي مَكَانٍ فَهُوَ لِلْأَحْيَاءِ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَجِدُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ فَفَضَلَتْ مِنْهُ فَضْلَةٌ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ حَاضِرٌ فَلِلْحَيِّ أَخْذُهُ بِقِيمَتِهِ لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ إِتْلَافَهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ لِأَنَّ
مَالِكَهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ إِلاَّ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَيْهِ لِلْعَطَشِ فَيَأْخُذَهُ بِشَرْطِ الضَّمَانِ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
31-موسوعة الفقه الكويتية (نكاح 1)
نِكَاحٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- النِّكَاحُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ نَكَحَ، يُقَالُ: نَكَحَ يَنْكِحُ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ نِكَاحًا: مِنْ بَابِ ضَرَبَ، قَالَ ابْنُ فَارِسٍ وَغَيْرُهُ: يُطْلَقُ عَلَى الْوَطْءِ، وَعَلَى الْعَقْدِ دُونَ الْوَطْءِ، وَيُقَالُ: نُكِحَتِ الْمَرْأَةُ: تَزَوَّجَتْ، وَنَكَحَ فُلَانٌ امْرَأَةً: تَزَوَّجَهَا، قَالَ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وَنَكَحَ الْمَرْأَةَ: بَاضَعَهَا.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ النِّكَاحِ:
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: النِّكَاحُ عَقْدٌ يُفِيدُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ بِالْأُنْثَى قَصْدًا، أَيْ يُفِيدُ حِلَّ اسْتِمْتَاعِ الرَّجُلِ مِنَ امْرَأَةٍ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ نِكَاحِهَا مَانِعٌ شَرْعِيٌّ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: النِّكَاحُ عَقْدٌ لِحِلِّ تَمَتُّعٍ بِأُنْثَى غَيْرِ مَحْرَمٍ وَمَجُوسِيَّةٍ وَأَمَةٍ كِتَابِيَّةٍ بِصِيغَةٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: النِّكَاحُ عَقْدٌ يَتَضَمَّنُ إِبَاحَةَ وَطْءٍ بِلَفْظِ إِنْكَاحٍ أَوْ تَزْوِيجٍ أَوْ تَرْجَمَتِهِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: النِّكَاحُ عَقْدُ التَّزْوِيجِ، أَيْ عَقْدٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ لَفْظُ نِكَاحٍ أَوْ تَزْوِيجٍ أَوْ تَرْجَمَتُهُ.
حَقِيقَةُ النِّكَاحِ:
2- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِيقَةِ النِّكَاحِ إِلَى ثَلَاثَةِ آرَاءٍ:
الرَّأْيُ الْأَوَّلُ: أَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ الْقَاضِي مِنْهُمْ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ مُجَرَّدًا عَنِ الْقَرَائِنِ- أَيْ مُحْتَمِلًا لِلْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ بِلَا مُرَجِّحٍ خَارِجٍ- يُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ خَلَفٌ عَنِ الْحَقِيقَةِ، فَتَتَرَجَّحُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهَا، كَمَا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} بِخِلَافِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} لِإِسْنَادِهِ إِلَيْهَا، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا الْعَقْدُ لَا الْوَطْءُ إِلاَّ مَجَازًا.
الرَّأْيُ الثَّانِي:
أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ مَجَازٌ فِي الْوَطْءِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْعَقْدِ مَا لَمْ يَصْرِفْهُ دَلِيلٌ لِأَنَّهُ الْمَشْهُورُ فِي الْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ اللَّذَيْنِ يَنْعَقِدُ بِهِمَا عَقْدُ النِّكَاحِ، فَكَانَ حَقِيقَةً فِيهِ كَاللَّفْظِ الْآخَرِ، وَقَدْ قِيلَ: لَيْسَ فِي الْكِتَابِ لَفْظُ النِّكَاحِ بِمَعْنَى الْوَطْءِ إِلاَّ قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} لِخَبَرِ: «حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ» وَلِصِحَّةِ نَفْيِهِ عَنِ الْوَطْءِ، وَلِأَنَّهُ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَلَا يَتَبَادَرُ الذِّهْنُ إِلاَّ إِلَيْهِ فَهُوَ مَا نَقَلَهُ الْعُرْفُ.
الرَّأْيُ الثَّالِثُ:
أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي كُلٍّ مِنَ الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ، وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ لَفْظِيٌّ فِيهِمَا أَوْ مُشْتَرَكٌ مَعْنَوِيٌّ فِيهِمَا.
وَقَالَ بَهْرَامُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَيُسْتَعْمَلُ لَفْظُ النِّكَاحِ- فِي الشَّرْعِ- فِي الْوَجْهَيْنِ، لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ فِيهِمَا جَمِيعًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا بِالِاشْتِرَاكِ كَالْعَيْنِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ: هُوَ مُشْتَرَكٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ، قَالَ الْمَرْدَاوِيُّ: وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا مَعًا، فَلَا يُقَالُ: هُوَ حَقِيقَةٌ عَلَى أَحَدِهِمَا بِانْفِرَادِهِ، بَلْ عَلَى مَجْمُوعِهِمَا، فَهُوَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَوَاطِئَةِ، قَالَ ابْنُ رَزِينٍ: هُوَ الْأَشْبَهُ، قَالَ الْمَرْدَاوِيُّ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ وَالتَّوَاطُؤِ: أَنَّ الِاشْتِرَاكَ يُقَالُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ حَقِيقَةً بِخِلَافِ الْمُتَوَاطِئِ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ حَقِيقَةً إِلاَّ عَلَيْهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ.
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي حَقِيقَةِ النِّكَاحِ:
3- يَتَرَتَّبُ عَلَى اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي حَقِيقَةِ النِّكَاحِ اخْتِلَافُ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ.
فَمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَى أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الزِّنَا لَا يُثْبِتُ الْمُصَاهَرَةَ، فَلِمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِفُرُوعِهَا وَأُصُولِهَا، وَلِأَبِيهِ وَابْنِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، قَالَ الشَّبْرَامَلِّسِيُّ: بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ لَا يُسَمَّى نِكَاحًا وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّحْرِيمُ بِالْمُصَاهَرَةِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ حَيْثُ أُطْلِقَ حُمِلَ عَلَى الْعَقْدِ إِلاَّ بِقَرِينَةٍ، فَنَحْوُ قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} مَعْنَاهُ: لَا تَنْكِحُوا مَنْ عَقَدَ عَلَيْهَا آبَاؤُكُمْ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ مَنْ زَنَى بِهَا أَبُوهُ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ الزِّنَا لَا حُكْمَ لَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} وَلَيْسَتِ الَّتِي زَنَى بِهَا مِنْ أُمَّهَاتِ نِسَائِهِ وَلَا ابْنَتُهَا مِنْ رَبَائِبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ارْتَفَعَ الصَّدَاقُ فِي الزِّنَا وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ وَالْمِيرَاثِ وَلُحُوقِ الْوَلَدِ وَوَجَبَ الْحَدُّ ارْتَفَعَ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِحُكْمِ النِّكَاحِ الْجَائِزِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ رَجُلٍ زَنَى بِامْرَأَةٍ، فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا أَوِ ابْنَتَهَا فَقَالَ: لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ، إِنَّمَا يُحَرِّمُ مَا كَانَ بِنِكَاحٍ».
وَمِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي حَقِيقَةِ النِّكَاحِ: أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَنْكِحُ، وَمَنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى النِّكَاحِ فَإِنَّ الْحِنْثَ وَوُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالْوَطْءِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إِنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَبِالْعَقْدِ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِيهِ.
وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ نَكَحْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ تَعَلَّقَ بِالْوَطْءِ، وَكَذَا لَوْ أَبَانَهَا قَبْلَ الْوَطْءِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا تَطْلُقُ بِهِ لَا بِالْعَقْدِ، بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيَّةِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ وَطْئَهَا لَمَّا حَرُمَ عَلَيْهِ شَرْعًا كَانَتِ الْحَقِيقَةُ مَهْجُورَةً فَتَعَيَّنَ الْمَجَازُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ حَلَفَ لَا يَنْكِحُ حَنِثَ بِالْعَقْدِ لَا بِالْوَطْءِ، إِلاَّ إِذَا نَوَاهُ، وَكَذَا لَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى النِّكَاحِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْخِطْبَةُ:
4- الْخِطْبَةُ- بِكَسْرِ الْخَاءِ- فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ خَطَبَ، يُقَالُ: خَطَبَ الْمَرْأَةَ خَطْبًا وَخِطْبَةً: طَلَبُهَا لِلزَّوَاجِ، وَخَطَبَهَا إِلَى أَهْلِهَا: طَلَبَهَا مِنْهُمْ لِلزَّوَاجِ، وَاخْتَطَبَ الْقَوْمُ فُلَانًا: إِذَا دَعَوْهُ إِلَى تَزْوِيجِ صَاحِبَتِهِمْ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْخِطْبَةُ مُقَدِّمَةٌ لِلنِّكَاحِ.
ب- السِّفَاحُ:
5- السِّفَاحُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ سَافَحَ، يُقَالُ: سَافَحَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ سِفَاحًا وَمُسَافَحَةً، وَهُوَ الْمُزَانَاةُ وَالْفُجُورُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يُصَبُّ ضَائِعًا، وَفِي النِّكَاحِ غُنْيَةٌ عَنِ السِّفَاحِ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالسِّفَاحُ ضِدُّ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي السِّفَاحِ حَرَامٌ، وَفِي النِّكَاحِ حَلَالٌ.
ج- الطَّلَاقُ:
6- الطَّلَاقُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ طَلَقَ- بِفَتْحِ اللاَّمِ وَضَمِّهَا- يُقَالُ: طَلَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا طَلَاقًا: بَانَتْ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الطَّلَاقُ حَلُّ عَقْدِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ، أَوْ كَمَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ: حَلُّ قَيْدِ النِّكَاحِ أَوْ بَعْضِهِ- أَيْ بَعْضِ قَيْدِ النِّكَاحِ- إِذَا طَلَّقَهَا طَلْقَةً رَجْعِيَّةً وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الطَّلَاقَ حَلٌّ لِقَيْدِ النِّكَاحِ.
مَشْرُوعِيَّةُ النِّكَاحِ وَحِكْمَتُهُ:
7- ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ النِّكَاحِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ:
فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ}.
وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ».
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ مَشْرُوعٌ، وَنَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ شُرِعَ مِنْ عَهْدِ آدَمَ- عليه السلام-، وَاسْتَمَرَّتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ، بَلْ هُوَ مُسْتَمِرٌّ فِي الْجَنَّةِ.
وَأَمَّا حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ النِّكَاحِ فَهِيَ مُتَعَدِّدَةُ الْجَوَانِبِ، مِنْهَا: حِفْظُ النَّسْلِ، وَإِخْرَاجُ الْمَاءِ الَّذِي يَضُرُّ احْتِبَاسُهُ بِالْبَدَنِ، وَنَيْلُ اللَّذَّةِ، وَهَذِهِ الْأَخِيرَةُ هِيَ الَّتِي فِي الْجَنَّةِ؛ إِذْ لَا تَنَاسُلَ هُنَاكَ وَلَا احْتِبَاسَ.
وَقَالَ الْبَابَرْتِيُّ: مَا اتُّفِقَ فِي حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مِثْلَ مَا اتُّفِقَ فِي النِّكَاحِ مِنَ اجْتِمَاعِ دَوَاعِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَالطَّبْعِ، فَأَمَّا دَوَاعِي الشَّرْعِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا دَوَاعِي الْعَقْلِ: فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يُحِبُّ أَنْ يَبْقَى اسْمُهُ وَلَا يَنْمَحِيَ رَسْمُهُ، وَمَا ذَلِكَ غَالِبًا إِلاَّ بِبَقَاءِ النَّسْلِ، وَأَمَّا دَوَاعِي الطَّبْعِ: فَإِنَّ الطَّبْعَ الْبَهِيمِيَّ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى يَدْعُو إِلَى تَحْقِيقِ مَا أُعِدَّ مِنَ الْمُبَاضَعَاتِ الشَّهْوَانِيَّةِ وَالْمُضَاجَعَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَلَا مَزْجَرَةَ فِيهَا إِذَا كَانَتْ بِأَمْرِ الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَتْ بِدَوَاعِي الطَّبْعِ بَلْ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْعَقْدِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، مِنْ ذَلِكَ حِفْظُ النِّسَاءِ وَالْقِيَامُ عَلَيْهِنَّ وَالْإِنْفَاقُ، وَصِيَانَةُ النَّفْسِ عَنِ الزِّنَا، وَتَكْثِيرُ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم-، وَتَحْقِيقُ مُبَاهَاةِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- كَمَا قَالَ: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنِّي لأَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ وَمَا لِي فِيهَا حَاجَةٌ، وَأَطَؤُهَا وَمَا أَشْتَهِيهَا، قِيلَ لَهُ: وَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: حُبِّي أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنِّي مَنْ يُكَاثِرُ بِهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- النَّبِيِّينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَأَضَافَ السَّرَخْسِيُّ قَوْلَهُ: وَسَبَبُهُ تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمَقْدُورِ بِهِ إِلَى وَقْتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِبَقَاءِ الْعَالَمِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَبِالتَّنَاسُلِ يَكُونُ هَذَا الْبَقَاءُ، وَهَذَا التَّنَاسُلُ يَحْصُلُ عَادَةً بِالْوَطْءِ، فَجَعَلَ الشَّرْعُ طَرِيقَ ذَلِكَ الْوَطْءِ النِّكَاحَ؛ لِأَنَّ فِي التَّغَالُبِ فَسَادًا، وَفِي الْإِقْدَامِ بِغَيْرِ مِلْكٍ اشْتِبَاهَ الْأَنْسَابِ وَهُوَ سَبَبٌ لِضَيَاعِ النَّسْلِ، وَهَذَا الْمِلْكُ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَصْلُ الْآدَمِيِّ مِنَ الْحُرِّيَّةِ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِطَرِيقِ النِّكَاحِ، فَهَذَا مَعْنَى أَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ الْبَقَاءُ الْمَقْدُورُ إِلَى وَقْتِهِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ تَجْرِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ، فَيَكُونُ وَاجِبًا- أَوْ فَرْضًا- أَوْ مُسْتَحَبًّا أَوْ مُبَاحًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ حَرَامًا، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
أَوَّلًا: الْوُجُوبُ:
8- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: النِّكَاحُ يَكُونُ وَاجِبًا عِنْدَ التَّوَقَانِ، أَيْ شِدَّةِ الِاشْتِيَاقِ بِحَيْثُ يَخَافُ الْوُقُوعَ فِي الزِّنَا لَوْ لَمْ يَتَزَوَّجْ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنَ الِاشْتِيَاقِ إِلَى الْجِمَاعِ الْخَوْفُ الْمَذْكُورُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَكَذَا فِيمَا يَظْهَرُ لَوْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ مَنْعُ نَفْسِهِ عَنِ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ أَوْ عَنِ الِاسْتِمْنَاءِ بِالْكَفِّ، فَيَجِبُ التَّزَوُّجُ وَإِنْ لَمْ يَخَفِ الْوُقُوعَ فِي الزِّنَا.
وَيَكُونُ النِّكَاحُ فَرْضًا إِنْ تَيَقَّنَ الزِّنَا إِلاَّ بِهِ، بِأَنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنِ الزِّنَا إِلاَّ بِهِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى تَرْكِ الْحَرَامِ إِلاَّ بِهِ يَكُونُ فَرْضًا.
وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ النِّكَاحِ أَوْ فَرْضِهِ أَنْ يَمْلِكَ مَنْ قَامَتْ بِهِ حَالَةُ الْوُجُوبِ أَوِ الْفَرْضِ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَزَادَ فِي الْبَحْرِ شَرْطًا آخَرَ فِيهِمَا وَهُوَ: عَدَمُ الْجَوْرِ أَيِ الظُّلْمِ، فَإِنْ وُجِدَتِ الشُّرُوطُ كَانَ الْحُكْمُ، وَإِلاَّ فَلَا إِثْمَ بِتَرْكِ النِّكَاحِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ النِّكَاحُ عَلَى الرَّاغِبِ إِنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الزِّنَا إِذَا لَمْ يَتَزَوَّجْ، وَإِنْ أَدَّى إِلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا مِنْ حَرَامٍ، أَوْ أَدَّى إِلَى عَدَمِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا مَعَ وُجُوبِ إِعْلَامِهَا بِذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ النِّكَاحُ لَوْ خَافَ الْعَنَتَ وَتَعَيَّنَ طَرِيقًا لِدَفْعِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ، وَحَكَى ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ هَذَا الْحُكْمَ وَجْهًا فَقَالَ: وَوَجْهٌ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ خَافَ زِنًا، قِيلَ: مُطْلَقًا لِأَنَّ الْإِحْصَانَ لَا يُوجَدُ إِلاَّ بِهِ، وَقِيلَ: إِنْ لَمْ يُرِدِ التَّسَرِّيَ، وَتَلْحَقُ الْمَرْأَةُ بِالرَّجُلِ فِي هَذَا الْحُكْمِ فَيَجِبُ النِّكَاحُ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا يَنْدَفِعُ عَنْهَا الْفَجَرَةُ إِلاَّ بِالنِّكَاحِ.
وَقَالُوا: يَجِبُ النِّكَاحُ بِالنَّذْرِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُ، قَالَ الشَّرْوَانِيُّ: خِلَافًا لِنِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ وَالشِّهَابِ الرَّمْلِيِّ.
وَقَالَ الشَّمْسُ الرَّمْلِيُّ: لَا يُلْزَمُ بِالنَّذْرِ مُطْلَقًا وَإِنِ اسْتَحَبَّ كَمَا أَفْتَى بِهِ الْوَالِدُ- رحمه الله- (، قَالَ الشَّبْرَامَلِّسِيُّ: سَوَاءٌ احْتَاجَ إِلَيْهِ أَمْ لَا، تَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَيْهِ أَمْ لَا.
وَقِيلَ: النِّكَاحُ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الْأُمَّةِ لَا يَسُوغُ لِجَمَاعَتِهِمِ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ لِبَقَاءِ النَّسْلِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ النِّكَاحُ عَلَى مَنْ يَخَافُ الزِّنَا بِتَرْكِ النِّكَاحِ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، سَوَاءً كَانَ خَوْفُهُ ذَلِكَ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا، لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِعْفَافُ نَفْسِهِ وَصَرْفُهَا عَنِ الْحَرَامِ، وَطَرِيقُهُ النِّكَاحُ، وَيُقَدَّمُ حِينَئِذٍ عَلَى حَجٍّ وَاجِبٍ نَصًّا لِخَشْيَةِ الْمَحْظُورِ بِتَأْخِيرِهِ بِخِلَافِ الْحَجِّ.
وَفَصَّلَ الْبُهُوتِيُّ بَعْضَ الْمَسَائِلِ فَقَالَ: وَلَا يَكْتَفِي فِي الْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ الْوُجُوبِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ يَكُونُ التَّزْوِيجُ فِي مَجْمُوعِ الْعُمُرِ لِتَنْدَفِعَ خَشْيَةُ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ.
وَلَا يَكْتَفِي فِي الِامْتِثَالِ بِالْعَقْدِ فَقَطْ، بَلْ يَجِبُ الِاسْتِمْتَاعُ لِأَنَّ خَشْيَةَ الْمَحْظُورِ لَا يَنْدَفِعُ إِلاَّ بِهِ.
وَيُجْزِئُ تَسَرٍّ عَنْهُ لقوله تعالى: {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}.
وَمَنْ أَمَرَهُ بِالنِّكَاحِ وَالِدَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا قَالَ أَحْمَدُ: أَمَرْتُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ لِوُجُوبِ بِرِّ وَالِدَيْهِ، قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَالَّذِي يَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ لَا يَتَزَوَّجُ أَبَدًا إِنْ أَمَرَهُ بِهِ أَبُوهُ تَزَوَّجَ، قَالَ الشَّيْخُ: وَلَيْسَ- لِأَبَوَيْهِ- إِلْزَامُهُ بِنِكَاحِ مَنْ لَا يُرِيدُ نِكَاحَهَا لِعَدَمِ حُصُولِ الْغَرَضِ بِهَا.
وَيَجِبُ النِّكَاحُ بِالنَّذْرِ مِنْ ذِي الشَّهْوَةِ، لِحَدِيثِ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ» وَأَمَّا نَحْوُ الْعِنِّينِ فَيُخَيَّرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ إِذَا نَذَرَهَا.
ثَانِيًا: النَّدْبُ:
9- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: النِّكَاحُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فِي الْأَصَحِّ- وَهُوَ مَحْمَلُ الْقَوْلِ بِالِاسْتِحْبَابِ- فَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ، لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ مُؤْثِمٌ، وَيُثَابُ إِنْ نَوَى وَلَدًا وَتَحْصِينًا، أَيْ مَنْعَ نَفْسِهِ وَنَفْسِهَا عَنِ الْحَرَامِ، وَكَذَا لَوْ نَوَى مُجَرَّدَ الِاتِّبَاعِ وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَى مُجَرَّدَ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَاللَّذَّةِ، وَهَذَا الْحُكْمُ فِي حَالِ الِاعْتِدَالِ، أَيِ الْقُدْرَةِ عَلَى وَطْءٍ وَمَهْرٍ وَنَفَقَةٍ، وَأَمَّا حَالُ الِاعْتِدَالِ فِي التَّوَقَانِ فَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَكُونَ بِالْمَعْنَى الْمَارِّ فِي الْوَاجِبِ وَالْفَرْضِ وَهُوَ شِدَّةُ الِاشْتِيَاقِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ فِي غَايَةِ الْفُتُورِ كَالْعِنِّينِ، بَلْ يَكُونُ بَيْنَ الْفُتُورِ وَالشَّوْقِ، وَأَمَّا الْقُدْرَةُ عَلَى الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ فَلِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْهُمَا يُسْقِطُ الْفَرْضَ فَيُسْقِطُ السُّنِّيَّةَ بِالْأَوْلَى.
وَمَنْ قَالَ: إِنَّ النِّكَاحَ مَنْدُوبٌ وَمُسْتَحَبٌّ فَإِنَّهُ يُرَجِّحُهُ عَلَى النَّوَافِلِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُنَّةٌ، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «النِّكَاحُ مِنْ سُنَّتِي» وَالسُّنَنُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى النَّوَافِلِ، وَلِأَنَّهُ أَوْعَدَ عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وَلَا وَعِيدَ عَلَى تَرْكِ النَّوَافِلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَوَاظَبَ عَلَيْهِ، أَيْ دَاوَمَ وَثَبَتَ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ لَمْ يُخِلَّ عَنْهُ، بَلْ كَانَ يَزِيدُ عَلَيْهِ حَتَّى تَزَوَّجَ عَدَدًا مِمَّا أُبِيحَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ، وَلَوْ كَانَ التَّخَلِّي أَفْضَلَ لَمَا فَعَلَ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَتْرُكُونَ الْأَفْضَلَ فِيمَا لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ، لِأَنَّ تَرْكَ الْأَفْضَلِ فِيمَا لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ يُعَدُّ زَلَّةً مِنْهُمْ، وَإِذَا ثَبَتَ أَفْضَلِيَّةُ النِّكَاحِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- ثَبَتَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرَائِعِ هُوَ الْعُمُومُ، وَالْخُصُوصُ بِدَلِيلٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَقْصُودٍ هُوَ مُفَضَّلٌ عَلَى النَّوَافِلِ، لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِصِيَانَةِ النَّفْسِ عَنِ الْفَاحِشَةِ، وَسَبَبٌ لِصِيَانَةِ نَفْسِهَا- أَيِ الزَّوْجَةِ- عَنِ الْهَلَاكِ بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَاللِّبَاسِ لِعَجْزِهَا عَنِ الْكَسْبِ، وَسَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ الْمُوَحِّدِ، وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ مُفَضَّلٌ عَلَى النَّوَافِلِ، فَكَذَا السَّبَبُ الْمُوَصِّلُ إِلَيْهِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الشَّخْصُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي النِّكَاحِ رَغْبَةٌ أَوْ لَا: فَالرَّاغِبُ إِنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الزِّنَا إِذَا لَمْ يَتَزَوَّجْ وَجَبَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَدَّى إِلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا مِنْ حَرَامٍ أَوْ أَدَّى إِلَى عَدَمِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، أَوْ مَعَ وُجُودِ مُقْتَضَى تَحْرِيمِ غَيْرِ ذَلِكَ.وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ إِعْلَامِهَا بِذَلِكَ.
وَإِنْ لَمْ يَخْشَ عَلَى نَفْسِهِ الزِّنَا نُدِبَ لَهُ النِّكَاحُ إِلاَّ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى حَرَامٍ فَيُحَرَّمُ.وَغَيْرُ الرَّاغِبِ إِنْ أَدَّاهُ إِلَى قَطْعٍ مَنْدُوبٍ كُرِهَ وَإِلاَّ أُبِيحَ إِلاَّ أَنْ يَرْجُوَ نَسْلًا أَوْ يَنْوِيَ خَيْرًا مِنْ نَفَقَةٍ عَلَى فَقِيرَةٍ أَوْ صَوْنٍ لَهَا فَيُنْدَبُ مَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى مُحَرَّمٍ وَإِلاَّ حُرِّمَ.وَالْأَصْلُ فِي النِّكَاحِ النَّدْبُ.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ النَّدْبَ بِأَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا ذَا أُهْبَةٍ، وَزَادَ الْحَطَّابُ بِأَنْ لَا يَخْشَى الْعَنَتَ.
وَنَقَلَ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ أَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنَ الْكَسْبِ الْحَرَامِ لَا يَجُوزُ مَعَهُ النِّكَاحُ وَإِنْ عَلِمَتِ الْمَرْأَةُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: النِّكَاحُ مُسْتَحَبٌّ لِمُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، أَيْ تَائِقٍ لَهُ، بِأَنْ تَتُوقَ نَفْسُهُ إِلَى الْوَطْءِ، وَلَوْ خَصِيًّا كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْإِحْيَاءِ، يَجِدُ أُهْبَتَهُ مِنْ مَهْرٍ، وَكُسْوَةِ فَصْلِ التَّمْكِينِ، وَنَفَقَةِ يَوْمِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَبِّدًا، تَحْصِينًا لِدِينِهِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ بَقَاءِ النَّسْلِ وَحِفْظِ النَّسَبِ، وَلِلِاسْتِعَانَةِ عَلَى الْمَصَالِحِ، وَلِخَبَرِ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ لقوله تعالى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} إِذِ الْوَاجِبُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِطَابَةِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} وَلَا يَجِبُ الْعَدَدُ بِالْإِجْمَاعِ وَلِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ لَهُ شَهْوَةٌ وَلَا يَخَافُ الزِّنَا يُسَنُّ لَهُ النِّكَاحُ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ»، عَلَّلَ أَمْرَهُ بِأَنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَخَاطَبَ الشَّبَابَ لِأَنَّهُمْ أَغْلَبُ شَهْوَةً، وَذَكَرَهُ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى لِلْأَمْنِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مَحْظُورِ النَّظَرِ وَالزِّنَا، وَيُسَنُّ لَهُ وَلَوْ كَانَ فَقِيرًا عَاجِزًا عَنِ الْإِنْفَاقِ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصْبِحُ وَمَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ، وَيُمْسِي وَمَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ، وَلِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- «زَوَّجَ رَجُلًا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى خَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَلَا وَجَدَ إِلاَّ إِزَارَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رِدَاءٌ» وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رَجُلٍ قَلِيلِ الْكَسْبِ يَضْعُفُ قَلْبُهُ عَنِ التَّزَوُّجِ: اللَّهُ يَرْزُقُهُمُ، التَّزَوُّجُ أَحْصَنُ لَهُ.
هَذَا فِي حَقِّ مَنْ يُمْكِنُهُ التَّزَوُّجُ، فَأَمَّا مَنْ لَا يُمْكِنُهُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وَنَقَلَ صَالِحٌ: يَقْتَرِضُ وَيَتَزَوَّجُ، وَاشْتِغَالُ ذِي الشَّهْوَةِ بِالنِّكَاحِ أَفْضَلُ مِنْ نَوَافِلِ الْعِبَادَةِ وَمِنَ التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَةِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-: لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَجْلِي إِلاَّ عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَأَعْلَمُ أَنِّي أَمُوتُ فِي آخِرِهَا يَوْمًا وَلِي طَوْلُ النِّكَاحِ فِيهِنَّ لَتَزَوَّجْتُ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ، قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَتِ الْعُزُوبَةُ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ، وَلِأَنَّ مَصَالِحَ النِّكَاحِ أَكْثَرُ مِنْ مَصَالِحِ التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَةِ، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى تَحْصِينِ فَرْجِ نَفْسِهِ وَزَوْجَتِهِ، وَحِفْظِهَا، وَالْقِيَامِ بِهَا، وَإِيجَادِ النَّسْلِ، وَتَكْثِيرِ الْأُمَّةِ، وَتَحْقِيقِ مُبَاهَاةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الرَّاجِحِ أَحَدُهَا عَلَى نَفْلِ الْعِبَادَةِ.
ثَالِثًا: الْكَرَاهَةُ:
10- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَكُونُ النِّكَاحُ مَكْرُوهًا- أَيْ تَحْرِيمًا- لِخَوْفِ الْجَوْرِ، فَإِنْ تَعَارَضَ خَوْفُ الْوُقُوعِ فِي الزِّنَا لَوْ لَمْ يَتَزَوَّجْ وَخَوْفَ الْجَوْرِ لَوْ تَزَوَّجَ قُدِّمَ الثَّانِي، فَلَا افْتِرَاضَ بَلْ يُكْرَهُ، لِأَنَّ الْجَوْرَ مَعْصِيَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْعِبَادِ، وَالْمَنْعُ مِنَ الزِّنَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عِنْدَ التَّعَارُضِ لِاحْتِيَاجِهِ وَغِنَى الْمَوْلَى تَعَالَى.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ النِّكَاحُ لِمَنْ لَا يَشْتَهِيهِ وَيَقْطَعُهُ عَنْ عِبَادَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ لَمْ يَحْتَجْ لِلنِّكَاحِ بِأَنْ لَمْ تَتُقْ نَفْسُهُ لَهُ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، أَوْ لِعَارِضٍ كَمَرَضٍ أَوْ عَجْزٍ..كُرِهَ لَهُ إِنْ فَقَدَ الْأُهْبَةَ، لِمَا فِيهِ مِنِ الْتِزَامٍ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَحُكْمُ الِاحْتِيَاجِ لِلتَّزْوِيجِ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ غَيْرِ النِّكَاحِ كَخِدْمَةٍ وَتَأَنُّسٍ كَالِاحْتِيَاجِ لِلنِّكَاحِ كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ، وَفِي الْإِحْيَاءِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَنُقِلَ عَنِ الْبَلْقِينِيِّ أَنَّ مَحَلَّ الْكَرَاهَةِ فِيمَنْ يَصِحُّ نِكَاحُهُ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ، أَمَّا مَنْ لَا يَصِحُّ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ كَالسَّفِيهِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ النِّكَاحُ حِينَئِذٍ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي رَأْيٍ عِنْدَهُمْ حُكِيَ بِقِيلَ يُكْرَهُ النِّكَاحُ لِمَنْ لَا شَهْوَةَ لَهُ، قَالَ الْمَرْدَاوِيُّ فِي الْإِنْصَافِ: وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ عَنْ هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ لِمَنْعِ مَنْ يَتَزَوَّجُهَا مِنَ التَّحْصِينِ بِغَيْرِهِ، وَيَضُرُّهَا بِحَبْسِهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَيُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِوَاجِبَاتٍ وَحُقُوقٍ لَعَلَّهُ لَا يَقُومُ بِهَا، وَيَشْتَغِلُ عَنِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ.
رَابِعًا: الْحُرْمَةُ:
11- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَكُونُ النِّكَاحُ حَرَامًا إِنْ تَيَقَّنَ الْجَوْرَ، لِأَنَّ النِّكَاحَ إِنَّمَا شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ تَحْصِينِ النَّفْسِ وَتَحْصِيلِ الثَّوَابِ بِالْوَلَدِ الَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُوَحِّدُهُ، وَبِالْجَوْرِ يَأْثَمُ وَيَرْتَكِبُ الْمُحَرَّمَاتِ، فَتَنْعَدِمُ الْمَصَالِحُ لِرُجْحَانِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَحْرُمُ عَلَيْهِ النِّكَاحُ إِذَا لَمْ يَخْشَ الزِّنَا، وَكَانَ نِكَاحُهُ يَضُرُّ بِالْمَرْأَةِ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْوَطْءِ أَوْ لِعَدَمِ النَّفَقَةِ، أَوِ التَّكَسُّبِ مِنْ حَرَامٍ أَوْ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنْ أَوْقَاتِهَا لِاشْتِغَالِهِ بِتَحْصِيلِ نَفَقَتِهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ لَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ كَالسَّفِيهِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ.
وَقَالُوا: مَنْ لَا تَحْتَاجُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَى النِّكَاحِ وَعَلِمَتْ مِنْ نَفْسِهَا عَدَمَ الْقِيَامِ بِحَاجَةِ الزَّوْجِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّكَاحِ حَرُمَ عَلَيْهَا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَيْسَ لِمُسْلِمٍ دَخَلَ دَارَ كُفَّارٍ بِأَمَانٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، وَلَا يَتَسَرَّى إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، وَلَا يَطَأُ زَوْجَتَهُ إِنْ كَانَتْ مَعَهُ وَلَا أَمَتَهُ وَلَا أَمَةً اشْتَرَاهَا مِنْهُمْ بِدَارِ الْحَرْبِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ وَلَوْ مَسْلِمَةً، وَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- زَوَّجَ أَبَا بَكْرٍ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ وَهُمْ تَحْتَ الرَّايَاتِ».وَلِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَدَ لَهُمْ عَلَيْهِ أَشْبَهَ مَنْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْأَسِيرُ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ: لَا يَحِلُّ لَهُ التَّزَوُّجُ مَا دَامَ أَسِيرًا، لِأَنَّهُ مَنَعَهُ مِنْ وَطْءِ امْرَأَتِهِ إِذَا أُسِرَتْ مَعَهُ مَعَ صِحَّةِ نِكَاحِهِمَا، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: فَظَاهِرُهُ وَلَوْ لِضَرُورَةٍ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْمُنْتَهَى.
خَامِسًا: الْإِبَاحَةُ:
12- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَكُونُ النِّكَاحُ مُبَاحًا إِنْ خَافَ الْعَجْزَ عَنِ الْإِيفَاءِ بِمَوَاجِبِهِ خَوْفًا غَيْرَ رَاجِحٍ، لِأَنَّ عَدَمَ الْجَوْرِ مِنْ وَاجِبِهِ، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْصِدْ إِقَامَةَ السُّنَّةِ، بَلْ قَصَدَ مُجَرَّدَ التَّوَصُّلِ إِلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَلَمْ يَخَفْ شَيْئًا لَمْ يُثَبْ عَلَيْهِ، إِذْ لَا ثَوَابَ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، فَيَكُونُ مُبَاحًا.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُبَاحُ النِّكَاحُ لِمَنْ لَا يُولَدُ لَهُ وَلَا يَرْغَبُ فِي النِّسَاءِ، قَالَ اللَّخْمِيُّ: إِذَا كَانَ لَا إِرْبَ لَهُ فِي النِّسَاءِ وَلَا يَرْجُو نَسْلًا- لِأَنَّهُ حَصُورٌ أَوْ خَصِيٌّ أَوْ مَجْبُوبٌ أَوْ شَيْخٌ فَانٍ أَوْ عَقِيمٌ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ- كَانَ مُبَاحًا، وَيُقَيَّدُ هَذَا بِمَا إِذَا لَمْ يَقْطَعْهُ عَنْ عِبَادَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمِ الْمَرْأَةُ مِنْهُ كَوْنَهُ حَصُورًا أَوْ خَصِيًّا أَوْ مَجْبُوبًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ وَجَدَ الْأُهْبَةَ مَعَ عَدَمِ حَاجَتِهِ إِلَى النِّكَاحِ وَلَا عِلَّةَ بِهِ فَلَا يُكْرَهُ لَهُ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ.
وَمَقَاصِدُ النِّكَاحِ لَا تَنْحَصِرُ فِي الْجِمَاعِ، لَكِنَّ التَّخَلِّيَ لِلْعِبَادَةِ مِنَ الْمُتَعَبِّدِ أَفْضَلُ لَهُ مِنَ النِّكَاحِ إِذَا كَانَ يَقْطَعُهُ عَنْهَا، وَفِي مَعْنَى التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ التَّخَلِّي لِلِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ بَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِيهَا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُبَاحُ النِّكَاحُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ لِمَنْ لَا شَهْوَةَ لَهُ كَالْعِنِّينِ وَالْمَرِيضِ وَالْكَبِيرِ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي لَهَا يَجِبُ النِّكَاحُ أَوْ يُسْتَحَبُّ، وَهِيَ خَوْفُ الزِّنَا أَوْ وُجُودُ الشَّهْوَةِ مَفْقُودَةٌ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ النِّكَاحِ الْوَلَدُ وَهُوَ فِيمَنْ لَا شَهْوَةَ لَهُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ، فَلَا يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ الْخِطَابُ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا فِي حَقِّهِ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ لِعَدَمِ مَنْعِ الشَّرْعِ مِنْهُ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمَرْأَةَ مُسَاوِيَةٌ لِلرَّجُلِ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَسَرَّى.
النِّكَاحُ وَالْعِبَادَةُ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ النِّكَاحِ عِبَادَةً، وَفِي كَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنَ النَّوَافِلِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
أ- كَوْنُ النِّكَاحِ عِبَادَةً:
13- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: النِّكَاحُ أَقْرَبُ إِلَى الْعِبَادَاتِ.
وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ فِي النِّكَاحِ هَلْ هُوَ عِبَادَةٌ أَمْ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ: فَصَرَّحَ جَمْعٌ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ بِدَلِيلِ صِحَّتِهِ مِنَ الْكَافِرِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ أَنَّ هَذَا الْفَهْمَ مَرْدُودٌ وَأَنَّهُ عِبَادَةٌ، بِدَلِيلِ أَمْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِهِ وَالْعِبَادَةُ تُتَلَقَّى مِنَ الشَّرْعِ، وَصِحَّةُ النِّكَاحِ مِنَ الْكَافِرِ- مَعَ أَنَّهُ عِبَادَةٌ، وَعِبَادَةُ الْكَافِرِ لَا تَصِحُّ- لِمَا فِيهِ مِنْ عِمَارَةِ الدُّنْيَا كَعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ وَالْعِتْقِ، فَإِنَّ هَذِهِ تَصِحُّ مِنَ الْمُسْلِمِ وَهِيَ مِنْهُ عِبَادَةٌ، وَتَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ عِبَادَةٌ، وَأَفْتَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالنَّوَوِيُّ بِأَنَّ مَنْ قَصَدَ بِالنِّكَاحِ طَاعَةً مِنْ وَلَدٍ صَالِحٍ أَوْ إِعْفَافٍ كَانَ مِنْ عَمَلِ الْآخِرَةِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ كَانَ مُبَاحًا.
وَمَحَلُّ اخْتِلَافِهِمْ فِي غَيْرِ نِكَاحِهِ- صلى الله عليه وسلم-، أَمَّا هُوَ فَقُرْبَةٌ وَعِبَادَةٌ قَطْعًا وَمُطْلَقًا، لِأَنَّ فِيهِ نَشْرَ الشَّرِيعَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَحَاسِنِهِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلاَّ النِّسَاءُ، وَمِنْ ثَمَّ وَسَّعَ لَهُ فِي عَدَدِ الزَّوْجَاتِ مَا لَمْ يُوَسِّعْ لِغَيْرِهِ، لِيَحْفَظَ كُلَّ مَا لَمْ يَحْفَظْهُ غَيْرُهُ، لِتَعَذُّرِ إِحَاطَةِ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ بِهَا لِكَثْرَتِهَا بَلْ لِخُرُوجِهَا عَنِ الْحَصْرِ.
ب- الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالنَّوَافِلِ:
14- قَالَ الْكَاسَانِيُّ: مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِنَّ النِّكَاحَ فَرْضٌ أَوْ وَاجِبٌ، قَالَ إِنَّ الِاشْتِغَالَ بِهِ مَعَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ أَوْلَى مِنَ التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ مَعَ تَرْكِ النِّكَاحِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ، لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ كَيْفَ مَا كَانَ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالتَّطَوُّعِ.
وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: إِنَّهُ مَنْدُوبٌ وَمُسْتَحَبٌّ، فَإِنَّهُ يُرَجِّحُهُ عَلَى النَّوَافِلِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُنَّةٌ، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «النِّكَاحُ مِنْ سُنَّتِي» وَالسُّنَنُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى النَّوَافِلِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّهُ أَوْعَدَ عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وَلَا وَعِيدَ عَلَى تَرْكِ النَّوَافِلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَوَاظَبَ عَلَيْهِ أَيْ دَاوَمَ وَثَبَتَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَمْ يَخْلُ عَنْهُ، بَلْ كَانَ يَزِيدُ عَلَيْهِ، حَتَّى تَزَوَّجَ عَدَدًا مِمَّا أُبِيحَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ، وَلَوْ كَانَ التَّخَلِّي لِلنَّوَافِلِ أَفْضَلَ لَمَا فَعَلَ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَتْرُكُونَ الْأَفْضَلَ فِيمَا لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ، لِأَنَّ تَرْكَ الْأَفْضَلِ فِيمَا لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ عُدَّ زَلَّةً مِنْهُمْ، وَإِذَا ثَبَتَ أَفْضَلِيَّةُ النِّكَاحِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى لِلَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرَائِعِ هُوَ الْعُمُومُ، وَالْخُصُوصُ بِدَلِيلٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَقْصُودٍ هُوَ مُفَضَّلٌ عَلَى النَّوَافِلِ، لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِصِيَانَةِ النَّفْسِ عَنِ الْفَاحِشَةِ، وَسَبَبٌ لِصِيَانَةِ نَفْسِهَا عَنِ الْهَلَاكِ بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَاللِّبَاسِ لِعَجْزِهَا عَنِ الْكَسْبِ، وَسَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ الْمُوَحِّدِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ مُفَضَّلٌ عَلَى النَّوَافِلِ، فَكَذَا السَّبَبُ الْمُوصِلُ إِلَيْهِ كَالْجِهَادِ وَالْقَضَاءِ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الرَّاغِبَ فِي النِّكَاحِ إِنْ لَمْ يَخْشَ الْعَنَتَ نُدِبَ لَهُ النِّكَاحُ رَجَا النَّسْلَ أَوْ لَا وَلَوْ قَطَعَهُ عَنْ عِبَادَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ مِنَ الْمُتَعَبِّدِ أَفْضَلُ لَهُ مِنَ النِّكَاحِ إِذَا كَانَ يَقْطَعُهُ عَنْهَا، وَفِي مَعْنَى التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ التَّخَلِّي لِلِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، بَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِيهَا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ النِّكَاحَ أَفْضَلُ مِنْ نَوَافِلِ الْعِبَادَةِ وَمِنَ التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَةِ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الصَّغِيرُ: لَا يَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ التَّخَلِّي إِلاَّ إِذَا قَصَدَ بِهِ الْمَصَالِحَ الْمَعْلُومَةَ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَقْصِدْهَا فَلَا يَكُونُ أَفْضَلَ.
وَعَنْ أَحْمَدَ: التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَةِ أَفْضَلُ كَمَا لَوْ كَانَ مَعْدُومَ الشَّهْوَةِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
32-موسوعة الفقه الكويتية (هدنة 1)
هُدْنَة -1التَّعْرِيف:
1- الْهُدْنَةُ فِي اللُّغَةِ: السُّكُونُ: مَأْخُوذٌ مِنْ هَدَنَ الْأَمْرُ، أَوِ الشَّخْصُ يَهْدِنُ هُدُونًا.سَكَنَ بَعْدَ الْهَيْجِ، وَيُقَالُ: هَادَنَهُ مُهَادَنَةً: صَالَحَهُ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِتَعَارِيفَ مُتَقَارِبَةٍ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: هِيَ الصُّلْحُ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مُدَّةً بِمَالٍ أَوْ بِغَيْرِ مَالٍ إِذَا رَأَى الْإِمَامُ مَصْلَحَةً فِي ذَلِكَ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: هِيَ عَقْدُ الْمُسْلِمِ مَعَ الْحَرْبِيِّ عَلَى الْمُسَالَمَةِ مُدَّةً لَيْسَ هُوَ فِيهَا تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهَا مُصَالَحَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً بَعِوَضٍ أَوْ غَيْرِ عِوَضٍ، سَوَاءٌ مَنْ يُقَرُّ بِدِينِهِ وَمَنْ لَا يُقَرُّ بِهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ هِيَ: عَقْدُ إِمَامٍ أَوْ نَائِبِهِ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مُدَّةً مَعْلُومَةً بِقَدْرِ الْحَاجَّةِ.
وَتُسَمَّى الْهُدْنَةُ مُوَادَعَةً، وَمُعَاهَدَةً، وَمُسَالَمَةً وَمُصَالَحَةً.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْأَمَانُ:
2- الْأَمَانُ فِي اللُّغَةِ: عَدَمُ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ فِي الزَّمَنِ الْآتِي.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: رَفْعُ اسْتِبَاحَةِ دَمِ الْحَرْبِيِّ وَرِقِّهِ وَمَالِهِ حِينَ قِتَالِهِ، أَوِ الْعَزْمُ عَلَيْهِ مَعَ اسْتِقْرَارِهِ تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ مُدَّةً مَا.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهُدْنَةِ وَالْأَمَانِ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَأْمِينَ الْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَعِرْضِهِ.
ب- عَقْدُ الذِّمَّةِ:
3- عَقْدُ الذِّمَّةِ هُوَ الْتِزَامُنَا لِلْكُفَّارِ صِيَانَةَ أَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ بِشُرُوطٍ نَشْتَرِطُهَا عَلَيْهِمْ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهُدْنَةِ وَعَقْدِ الذِّمَّةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُفِيدُ الْأَمَانَ إِلاَّ أَنَّ الْهُدْنَةَ أَمَانٌ مُؤَقَّتٌ، وَعَقْدَ الذِّمَّةِ أَمَانٌ مُؤَبَّدٌ.
مَشْرُوعِيَّةُ الْهُدْنَةِ:
4- لَا خِلَافَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْهُدْنَةِ فِي الْجُمْلَةِ وَدَلِيلُ مَشْرُوعِيَّتِهَا: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ، وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ.
فَمِنَ الْكِتَابِ قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}.
وَمِنَ السُّنَّةِ: مُهَادَنَتُهُ- صلى الله عليه وسلم- قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَشْرَ سِنِينَ.
أَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَقَدَ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُوَادَعَةِ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجُمْلَةِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ لَا وَاجِبَةٌ، وَقَدْ تَجِبُ لِضَرُورَةٍ كَأَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى تَرْكِهَا إِلْحَاقُ ضَرَرٍ بِالْمُسْلِمِينَ لَا يُتَدَارَكُ.
شُرُوطُ عَقْدِ الْهُدْنَةِ:
يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْهُدْنَةِ شُرُوطٌ وَهِيَ:
الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ:
5- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ لَهُ وِلَايَةُ عَقْدِ الْهُدْنَةِ عَلَى رَأْيَيْنِ:
الرَّأْيُ الْأَوَّلُ: يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدُ لِلْهُدْنَةِ هُوَ الْإِمَامَ أَوْ نَائِبَهُ.فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَعْقِدَهَا غَيْرُ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَطَرِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- هَادَنَ بَنِي قُرَيْظَةَ بِنَفْسِهِ وَهَادَنَ قُرَيْشًا بِالْحُدَيْبِيَةِ بِنَفْسِهِ وَأَمَّنَ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ عَامَ الْفَتْحِ بِنَفْسِهِ.
وَلِأَنَّ الْإِمَامَ لِإِشْرَافِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ أَعْرَفُ بِمَصَالِحِهَا مِنْ أَشْتَاتِ النَّاسِ، وَلِأَنَّ تَجْوِيزَهُ لِغَيْرِهِ يَتَضَمَّنُ تَعْطِيلَ الْجِهَادِ، وَفِيهِ افْتِيَاتٌ عَلَى الْإِمَامِ.
وَلِأَنَّ عَقْدَ الْهُدْنَةِ مِنْ تَصَرُّفَاتِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِصِفَةِ الْإِمَامَةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ- صلى الله عليه وسلم- كَالتَّبْلِيغِ، وَالْفَتْوَى وَالْقَضَاءِ، وَكُلُّ مَا تَصَرَّفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِصِفَةِ الْإِمَامَةِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ إِلاَّ بِإِذْنِ الْإِمَامِ اقْتِدَاءً بِهِ- صلى الله عليه وسلم-؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ تَصَرُّفِهِ فِيهِ بِوَصْفِ الْإِمَامَةِ يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَمْرُ الْإِمَامِ بِالْوِلَايَةِ أَنْفَذَ، وَهُوَ عَلَى التَّدْبِيرِ وَالْحِرَاسَةِ أَقْدَرُ، فَإِنِ اسْتَنَابَ فِي عَقْدِهَا مِنْ أَمْرِهِ صَحَّ لِأَنَّهَا صَدَرَتْ عَنْ رَأْيِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُبَاشِرَهَا بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ عَامُّ النَّظَرِ، فَلَمْ يَفْرُغْ لِمُبَاشَرَةِ كُلِّ عَمَلٍ، فَإِنِ اسْتَنَابَ فِيهَا مَنْ فَوَّضَ عَقْدَهَا إِلَى رَأْيِهِ جَازَ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ، وَكَانَ عَقْدُهَا مَنْسُوبًا إِلَى الْمُسْتَنَابِ الْمُبَاشِرِ، وَمِنْ قَبْلِهِ مَنْسُوبًا إِلَى الْمُسْتَنِيبِ الْآمِرِ، وَهُمَا فِي اللُّزُومِ سَوَاءٌ، وَلِخَبَرِ: «إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ» وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْإِمَامَ هُوَ الَّذِي يَعْقِدُ الْعَهْدَ وَالْهُدْنَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَإِنْ رَأَى ذَلِكَ صَلَاحًا وَهَادَنَهُمْ فَقَدْ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُجِيزُوا أَمَانَهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: أَمَّا وُلَاةُ الثُّغُورِ فَإِنْ كَانَ تَقْلِيدُهُمْ يَتَضَمَّنُ الْجِهَادَ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَعْقِدَ هُدْنَةً إِلاَّ قَدْرَ الِاسْتِرَاحَةِ فِي السَّنَةِ: وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ سَنَةً؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُجَاهِدَ فِي كُلِّ سَنَةٍ.
وَفِيمَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَسَنَةٍ قَوْلَانِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَقْعُدَ عَنِ الْجِهَادِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ هُدْنَةٍ فَكَانَ مَعَ الْهُدْنَةِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ.
وَإِنْ تَضَمَّنْ تَقْلِيدُ وَالِي الثُّغُورِ الْعَمَلَ بِرَأْيِهِ فِي الْجِهَادِ وَالْمُوَادَعَةِ جَازَ أَنْ يَعْقِدَ الْهُدْنَةَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا لِدُخُولِهَا فِي وِلَايَتِهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَسْتَأْذِنَ الْإِمَامَ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنِ انْعَقَدَتْ.
هَذَا فِي مُهَادَنَةِ الْكُفَّارِ مُطْلَقًا أَوْ أَهْلِ إِقْلِيمٍ كَبِيرٍ، وَيَجُوزُ لِوَالِي الْإِقْلِيمِ الْمُهَادَنَةُ مَعَ أَهْلِ بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ فِي إِقْلِيمِهِ لِلْمَصْلَحَةِ، وَكَأَنَّهُ مَأْذُونٌ.
فِيهِ بِتَفْوِيضِ مَصْلَحَةِ الْإِقْلِيمِ إِلَيْهِ.
الرَّأْيُ الثَّانِي- لِلْحَنَفِيَّةِ-: وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ إِذْنُ الْإِمَامِ لِلْمُوَادَعَةِ، فَيَجُوزُ عَقْدُ الْمُوَادَعَةِ لِفَرِيقٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ وَنَائِبِهِ وَلَوْ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ وُجُودُ الْمَصْلَحَةِ فِي عَقْدِهَا؛ فَحَيْثُ وُجِدَتْ جَازَتْ، وَلِأَنَّ مُوَادَعَةَ الْمُسْلِمِينَ أَهْلَ الْحَرْبِ جَائِزَةٌ بِالِاتِّفَاقِ كَإِعْطَاءِ الْأَمَانِ مَثَلًا وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْمُوَادَعَةِ.
وَفَرَّعُوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بَعْضَ الْأَحْكَامِ وَقَالُوا: لَوْ أَنَّ مُسْلِمًا وَادَعَ أَهْلَ حَرْبٍ سَنَةً عَلَى أَلْفِ دِينَارٍ جَازَتْ مُوَادَعَتُهُ وَلَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوهُمْ، وَإِنْ قَتَلُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ غَرِمُوا دِيَتَهُ لِأَنَّ مُوَادَعَةَ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ مُوَادِعَتِهِمْ جَمِيعًا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْإِمَامُ حَتَّى مَضَتْ سَنَةٌ أَمْضَى مُوَادَعَتَهُ وَأَخَذَ الْمَالَ فَجَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْمُسْلِمِينَ مُتَعَيِّنَةٌ فِي إِمْضَاءِ الْمُوَادَعَةِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ؛ وَلِأَنَّهُ أَخَذَ الْمَالَ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ خَوْفَ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ لَا وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لِهَذَا يَأْخُذُ الْإِمَامُ الْمَالَ مِنَ الْعَاقِدِ فَيَجْعَلُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ.
وَإِنْ عَلِمَ الْإِمَامُ مُوَادَعَتَهُ قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي إِمْضَاءِ تِلْكَ الْمُوَادَعَةِ أَمْضَاهَا وَأَخَذَ الْمَالَ فَجَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُنْشِئَ الْمُوَادَعَةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِيهَا؛ فَلأَنْ يُمْضِيَهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ أَوْلَى.فَإِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي إِبْطَالِهَا رَدَّ الْمَالَ إِلَيْهِمْ ثُمَّ نَبَذَ إِلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَقَاتَلَهُمْ؛ لِأَنَّ أَمَانَ الْمُسْلِمِ كَانَ صَحِيحًا وَالتَّحَرُّزَ عَنِ الْغَدْرِ وَاجِبٌ.فَإِنْ كَانَ قَدْ مَضَى نِصْفُ السَّنَةِ فَفِي الْقِيَاسِ: يَرُدُّ نِصْفَ الْمَالِ وَيُمْسِكُ النِّصْفَ الْآخَرَ لِلْمُسْلِمِينَ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، وَقِيَاسًا بِالْمُوَادَعَةِ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ، وَقِيَاسًا عَلَى الْإِجَارَةِ.فَهُنَاكَ إِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ سَقَطَ مِنَ الْأُجْرَةِ مَا بَقَّى وَيَتَقَرَّرُ بِحِسَابِ مَا مَضَى.وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَرُدُّ الْمَالَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوا الْمَالَ إِلاَّ بِشَرْطِ أَنْ تُسَلَّمَ الْمُوَادَعَةُ لَهُمْ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، وَالْجَزَاءُ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ الشَّرْطِ جُمْلَةً وَلَا يَتَوَزَّعُ عَلَى أَجْزَائِهِ، وَكَلِمَةُ «عَلَى» لِلشَّرْطِ حَقِيقَةً، وَالْمُوَادَعَةُ فِي الْأَصْلِ لَيْسَتْ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، قَالُوا: فَجَعَلْنَا هَذِهِ الْكَلِمَةَ فِيهَا عَامِلَةً بِحَقِيقَتِهَا.فَإِذَا لَمْ تُسَلَّمْ لَهُمُ الْمُوَادَعَةُ سَنَةً كَامِلَةً وَجَبَ رَدُّ الْمَالِ كُلِّهِ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا يَكُونُ خَوْفُهُمْ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ دُونَ بَعْضٍ، قَدْ يَأْمَنُونَ مَثَلًا الشِّتَاءَ أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَدُوُّ دُونَ الصَّيْفِ وَيَخَافُونَ ذَلِكَ فِي الصَّيْفِ، فَإِذَا نَبَذَ الْعَهْدَ إِلَيْهِمْ فِي وَقْتِ خَوْفِهِمْ وَمَنَعَ مِنْهُمْ بَعْضَ الْمَالِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ مَقْصُودِهِمْ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْغُرُورِ فَيَرُدُّ الْمَالَ كُلَّهُ إِنْ نَبَذَ إِلَيْهِمُ الْعَهْدَ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ.
وَإِنْ كَانُوا وَادَعُوهُ ثَلَاثَ سِنِينَ كُلَّ سَنَةٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَقُبِضَ الْمَالُ كُلُّهُ، ثُمَّ أَرَادَ الْإِمَامُ نَقْضَ الْمُوَادَعَةِ بَعْدَ مُضِيِّ سَنَةٍ فَإِنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِمُ الثُّلُثَيْنِ لِأَنَّ الْمُوَادَعَةَ كَانَتْ هُنَا بِحَرْفِ «الْبَاءِ» وَهُوَ يَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ فَيَكُونُ الْمَالُ عِوَضًا فَيَنْقَسِمُ عَلَى الْمُعَوَّضِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: الْمَصْلَحَةُ:
6- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْهُدْنَةِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَكْفِي انْتِفَاءُ الْمَفْسَدَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَادَعَتِهِمْ بِلَا مَصْلَحَةٍ وَلَا حَاجَةَ، لقوله تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}.
وَالْمَصْلَحَةُ الْمُبِيحَةُ عَقْدَ الْمُوَادَعَةِ هِيَ كُلُّ مَا يُحَقِّقُ لِلْمُسْلِمِينَ غَرَضًا مَقْصُودًا شَرْعًا، بِأَنْ يَكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ مِنْ قِلَّةِ عَدَدٍ أَوْ عُدَّةٍ أَوْ مَالٍ، وَالْعَدُوُّ قَوِيٌّ، أَوْ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ وَفِي الْمُوَادَعَةِ مَصْلَحَةٌ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ: بِأَنْ يُرْجَى إِسْلَامُهُمْ بِالْمُوَادَعَةِ بِاخْتِلَاطِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ، أَوْ يُطْمَعَ فِي قَبُولِهِمْ بَذْلَ الْجِزْيَةِ، أَوْ يَكُفُّوا عَنْ مَعُونَةِ عَدُوٍّ ذِي شَوْكَةٍ، أَوْ يُعِينُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى قِتَالِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ، فَإِنْ لَمْ تَدْعُ إِلَى عَقْدِهَا حَاجَةٌ فَلَا يَجُوزُ عَقْدُهَا بِالِاتِّفَاقِ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: تَعْيِينُ مُدَّةِ الْهُدْنَةِ:
7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ تَحْدِيدِ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لِصِحَّةِ الْهُدْنَةِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ مُطْلَقَةً؛ لِأَنَّ إِطْلَاقَهَا بِلَا تَحْدِيدِ مُدَّتِهَا يُؤَدِّي إِلَى تَرْكِ الْجِهَادِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ: فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ لَا حَدَّ وَاجِبٌ لِمُدَّةِ الْهُدْنَةِ بَلْ هِيَ عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَرَأْيِهِ؛ إِذْ شَرْطُهَا أَنْ تَكُونَ فِي مُدَّةٍ بِعَيْنِهَا لَا عَلَى التَّأْبِيدِ وَلَا عَلَى الْإِبْهَامِ، ثُمَّ تِلْكَ الْمُدَّةُ لَا حَدَّ لَهَا بَلْ يُعَيِّنُهَا الْإِمَامُ بِاجْتِهَادِهِ.
لَكِنْ يُنْدَبُ أَنْ لَا تَزِيدَ الْمُدَّةُ عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِاحْتِمَالِ حُصُولِ قُوَّةٍ أَوْ نَحْوِهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا إِذَا اسْتَوَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَغَيْرِهَا وَإِلاَّ تَعَيَّنَ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ، فَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ إِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ بِقُوَّةٍ وَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي عَقْدِهَا رَجَاءَ إِسْلَامِهِمْ أَوْ بَذْلِهِمُ الْجِزْيَةَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ، غَيْرَ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ.
وَهِيَ عَشْرُ سِنِينَ وَمَا دُونَهَا إِنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- هَادَنَ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ عَامَ الْفَتْحِ رَجَاءَ إِسْلَامِهِ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي قُوَّةٍ، وَهَادَنَ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَشْرَ سِنِينَ وَكَانَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ.
وَقَالُوا: إِنْ زَادَ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَعَلَى الْعَشْرِ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِأَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ عَنْ حَظْرٍ فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مُدَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّخْصِيصِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ مُدَّةُ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَمُدَّةُ الْعَشْرِ سِنِينَ، لِمُصَالَحَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَقُرَيْشًا عَشْرَ سِنِينَ، وَفِيمَا زَادَ يَبْقَى عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ.فَعَلَيْهِ إِنْ زَادَ الْإِمَامُ الْمُدَّةَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى، وَعَلَى الْعَشْرِ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الزَّائِدِ، وَفِي بُطْلَانِهَا عَلَى الْجَائِزِ قَوْلًا: تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فِي عَقْدِهَا؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ بَيْنَ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، أَظْهَرُهُمَا الْمَنْصُوصُ: يَبْطُلُ بِالزَّائِدِ فَقَطْ، تَفْرِيقًا لِلصَّفْقَةِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: يَبْطُلُ الْعَقْدُ كُلُّهُ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ مَتَى رَأَى الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ الْمَصْلَحَةَ فِي عَقْدِهَا لِضَعْفٍ فِي الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْقِتَالِ، أَوْ لِمَشَقَّةِ الْغَزْوِ أَوْ لِطَمَعِهِ فِي إِسْلَامِهِمْ، أَوْ فِي أَدَائِهِمُ الْجِزْيَةَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ جَازَ لَهُ عَقْدُهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ تَقْدِيرُهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا كَخِيَارِ الشَّرْطِ وَلَوْ فَوْقَ عَشْرِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهَا تَجُوزُ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشْرٍ، فَجَازَتْ فِي أَكْثَرَ مِنْهَا كَمُدَّةِ الْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا جَازَ عَقْدُهَا لِلْمَصْلَحَةِ فَحَيْثُ وُجِدَتْ جَازَتْ تَحْصِيلًا لِلْمَصْلَحَةِ.وَإِنْ هَادَنَهُمْ مُطْلَقًا بِأَنْ لَمْ يُقَيِّدْ بِمُدَّةٍ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يَقْتَضِي التَّأْيِيدَ وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى تَرْكِ الْجِهَادِ بِالْكُلِّيَّةِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ عَقْدَ الْمُوَادَعَةِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا عَنِ الْمُدَّةِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُؤَقَّتًا بِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يُصَالِحَ أَهْلَ الْحَرْبِ أَوْ فَرِيقًا مِنْهُمْ وَكَانَ فِي ذَلِكَ الصُّلْحِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} وَالْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً لَكِنْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَقْيِيدِهَا بِرُؤْيَةِ مَصْلَحَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ بِآيَةٍ أُخْرَى هِيَ قوله تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} وَوَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَضَعَ الْحَرْبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ، وَلَا يَقْتَصِرَ جَوَازُ الْمُوَادَعَةِ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ لِتَعَدِّي الْمَعْنَى- وَهُوَ حَاجَةُ الْمُسْلِمِينَ- أَوْ ثُبُوتِ مَصْلَحَتِهِمْ وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنْهُمْ إِلَى مَا زَادَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْمُوَادَعَةِ تَدُورُ مَعَ الْمَصْلَحَةِ، وَهِيَ قَدْ تَزِيدُ وَتَنْقُصُ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: خُلُوُّ عَقْدِ الْهُدْنَةِ عَنْ شَرْطٍ فَاسِدٍ:
8- لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْقِدَ الْهُدْنَةَ عَلَى شُرُوطٍ مَحْظُورَةٍ قَدْ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهَا: كَأَنْ يُهَادِنَهُمْ عَلَى خَرَاجٍ يَضْرِبُونَهُ عَلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ عَلَى مَالٍ يَحْمِلُهُ الْإِمَامُ إِلَيْهِمْ أَوْ عَلَى رَدِّ مَا غَنِمَ مِنْ سَبِّيِ ذَرَارِيهِمْ؛ لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ مَغْنُومَةٌ، أَوْ عَلَى دُخُولِ الْحَرَمِ أَوِ اسْتِيطَانِ الْحِجَازِ، أَوْ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ أَبَدًا.أَوْ عَلَى أَلاَّ يَسْتَنْقِذَ أَسْرَانَا مِنْهُمْ، فَهَذِهِ وَمَا شَاكَلَهَا شُرُوطٌ مَحْظُورَةٌ قَدْ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهَا فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهَا فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ، فَإِنْ شَرَطَ بَطَلَتِ الشُّرُوطُ وَعَلَى الْإِمَامِ نَقْضُهَا لقوله تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} وَلِقَوْلِ عُمَرَ- رضي الله عنه-: تُرَدُّ النَّاسُ مِنَ الْجَهَالَاتِ إِلَى السُّنَّةِ.
9- مِنْ أَمْثِلَةِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ اشْتِرَاطُ رَدِّ مَنْ جَاءَنَا مُسْلِمًا مِنَ الْكُفَّارِ.
فَإِنْ شَرَطَ عَدَمَ الرَّدِّ أَوْ أَطْلَقَ فَلَمْ يَذْكُرْ فِي عِقْدِ الْهُدْنَةِ رَدًّا وَلَا عَدَمَهُ أَوْ خَصَّ بِالنِّسَاءِ فَلَا رَدَّ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنْ خَصَّ الرَّدَّ بِالرِّجَالِ، أَوْ ذَكَرَ الرَّدَّ وَلَمْ يُخَصَّصْ بِنَوْعٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الرَّدِّ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ شَرَطَ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ رَدَّ مَنْ جَاءَ مُسْلِمًا مِنْهُمْ عَلَيْهِمْ بَطَلَ الشَّرْطُ وَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَقَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} هُوَ دَلِيلُ النَّسْخِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ أَيْضًا، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي ذَلِكَ، بَلْ مَفْسَدَةُ رَدِّ الْمُسْلِمِ إِلَيْهِمْ أَكْبَرُ، وَلَا يَغْرَمُ لِأَزْوَاجِ الْمُسْلِمَاتِ مَا أَنْفَقُوا مِنْ مُهُورِهِنَّ، وَحِينَ شَرَعَ الرَّدَّ كَانَ فِي قَوْمٍ لَا يُبَالِغُونَ فِي تَعْذِيبِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ قَبِيلَةٍ لَا تَتَعَرَّضُ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلَةٍ أُخْرَى؛ وَإِنَّمَا تَتَوَلَّى رَدْعَهُ عَشِيرَتُهُ وَهُمْ لَا يَبْلُغُونَ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنَ الْقَيْدِ وَالسَّبِّ وَالْإِهَانَةِ.
وَكَانَ بِمَكَّةَ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- جَمَاعَةٌ أَسْلَمُوا مِثْلُ أَبِي جَنْدَلٍ وَأَبِي بَصِيرٍ إِلَى سَبْعِينَ رَجُلًا وَلَمْ يَبْلُغْ فِيهِمُ الْمُشْرِكُونَ النِّكَايَةَ لِعَشِيرَتِهِمْ، وَالْأَمْرُ الْآنَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لَهُ عَشِيرَةٌ تَطْلُبُهُ- إِلَى أَنَّهُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُوفِيَ لَهُمْ بِالشَّرْطِ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَالِ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَالَحَ قُرَيْشًا بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ مَنْ جَاءَهُ مِنْهُمْ مُسْلِمًا عَلَيْهِمْ، فَجَاءَهُ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ، فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَنْ أُقَاضِيكَ أَنْ تَرُدَّهُ عَلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِأَبِي جَنْدَلٍ: يَا أَبَا جَنْدَلٍ، اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّا لَا نَغْدِرُ، وَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا».ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَرَدَّهُ.ثُمَّ جَاءَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ فَجَاءَ أَخَوَاهَا فِي طَلَبِهَا: عُمَارَةُ وَوَلِيدٌ ابْنَا عُقْبَةَ وَجَاءَتْ سَعِيدَةُ زَوْجَةُ الصَّيْفِيِّ الرَّاهِبِ الْمُشْرِكِ مَسْلَمَةً فَجَاءَ فِي طَلَبِهَا زَوْجُهَا، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ قَدْ شَرَطْتَ لَنَا رَدَّ النِّسَاءِ وَطِينُ الْكِتَابِ لَمْ يَجِفَّ بَعْدُ فَارْدُدْ عَلَيْنَا نِسَاءَنَا فَتَوَقَّفَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ رَدِّهِنَّ تَوَقُّعًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِنَّ حَتَّى نَزَلَ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
فَامْتَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَئِذٍ مِنْ رَدِّهِنَّ، وَمِنْ رَدِّ النِّسَاءِ كُلِّهِنَّ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ مَنَعَ الصُّلْحَ بِالنِّسَاءِ».
وَتُفَارِقُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ فِي ثَلَاثِ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَا تَأْمَنُ أَنْ تَتَزَوَّجَ كَافِرًا يَسْتَحِلُّهَا، أَوْ يُكْرِهُهَا مَنْ يَنَالُ مِنْهَا.
الثَّانِي: إِنَّهَا رُبَّمَا فُتِنَتْ عَنْ دِينِهَا؛ لِأَنَّهَا أَضْعَفُ قَلْبًا وَأَقَلُّ مَعْرِفَةً مِنَ الرَّجُلِ.
الثَّالِثُ: إِنَّ الْمَرْأَةَ لَا يُمْكِنُهَا عَادَةً الْهَرَبُ وَالتَّخَلُّصُ، وَإِنَّ النِّسَاءَ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ يُحَرَّمْنَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ بِالْإِسْلَامِ وَلَا يَقْدِرْنَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُمْ، فَلِهَذَا وَقَعَ الْفَرْقُ فِي الرَّدِّ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.فَإِنْ شَرَطَ رَدَّ النِّسَاءِ فِي الْعَقْدِ فَسَدَ الشَّرْطُ قَطْعًا سَوَاءٌ كَانَ لَهَا عَشِيرَةٌ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ أَحَلَّ حَرَامًا.وَكَذَا الْعَقْدُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَجْهٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَصِحُّ الْعَقْدُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ جَوَازَ اشْتِرَاطِ رَدِّ مَنْ جَاءَ مِنَ الرِّجَالِ مُسْلِمًا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ بَلْ يُعْتَبَرُ بِأَحْوَالِهِمْ عِنْدَ قَوْمِهِمْ وَفِي عَشَائِرِهِمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ أَوْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى قَهْرِ طَالِبِيهِمْ وَالْهَرَبِ مِنْهُمْ، فَإِنْ كَانُوا مُسْتَذَلِّينَ فِيهِمْ لَيْسَ لَهُمْ عَشِيرَةٌ تَكُفُّ عَنْهُمُ الْأَذَى وَطَلَبُوهُمْ لِيُعَذِّبُوهُمْ وَيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، لَمْ يَجُزْ رَدُّهُمْ إِلَيْهِمْ.وَكَانَ الشَّرْطُ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ بِرَدِّهِمْ بَاطِلًا كَمَا بَطَلَ فِي رَدِّ النِّسَاءِ، حَقْنًا لِلدِّمَاءِ وَكَفًّا عَنْ تَعْذِيبِهِمْ وَاسْتِذْلَالِهِمْ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ» وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ فَكُّ الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ عَوْنًا عَلَى أَسْرِ مُسْلِمٍ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ فِي عِزٍّ مِنْ قَوْمِهِ وَمَنَعَةٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ قَدْ أَمِنَ أَنْ يُفْتَنَ عَنْ دِينِهِ أَوْ يَسْتَذِلَّهُ مُسْتَطِيلٌ عَلَيْهِ فَجَازَ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ وَصَحَّتِ الْهُدْنَةُ بِاشْتِرَاطِ رَدِّهِ، فَقَدْ رَدَّ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ أَبَا جَنْدَلِ بْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو عَلَى أَبِيهِ، وَرَدَّ أَبَا بَصِيرٍ عَلَى أَبِيهِ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَ ذَوِي عَشِيرَةٍ، وَطَلَبَهُمَا أَهْلُوهُمَا إِشْفَاقًا عَلَيْهِمَا فِي زَعْمِهِمْ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الصِّبْيَانَ وَالْمَجَانِينَ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ بِشَرْطِ رَدِّهِمْ وَلَا يُرَدُّونَ لِضَعْفِهِمْ وَلَا غُرْمَ فِي تَرْكِ رَدِّهِمْ، فَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ فَإِنْ وَصَفَا الْإِسْلَامَ رُدَّا إِنْ كَانَا مُمْتَنِعَيْنِ بِعَشِيرَةٍ وَأَهْلٍ، وَإِنْ كَانَا مُسْتَضْعَفَيْنِ لَمْ يُرَدَّا، وَإِنْ وَصَفَا كُفْرًا لَا يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ فَإِمَّا أَنْ يُسْلِمَا وَإِمَّا أَنْ يُرَدَّا إِلَى مَأْمَنِهِمَا، وَإِنْ وَصَفَا كُفْرًا يُقَرُّ أَهْلُهُ فَإِمَّا أَنْ يُسْلِمَا وَإِمَّا أَنْ يَقْبَلَا الْجِزْيَةَ، وَإِمَّا أَنْ يُرَدَّا إِلَى مَأْمَنِهِمَا.
وَبِهَذَا يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ فِي صَبِيٍّ مُمَيِّزٍ أَسْلَمَ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ يَضْعُفُ عَنِ التَّخَلُّصِ مِنَ الْكُفَّارِ؛ أَمَّا شَرْطُ رَدِّ الطِّفْلِ مِنْهُمْ لَا يَصِحُّ إِسْلَامُهُ كَكَوْنِهِ دُونَ التَّمْيِيزِ فَيَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ شَرْعًا وَلَا يَصْحُّ مِنْهُ الْإِسْلَامُ لَوْ أَتَى بِهِ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْعِبَادَةِ مِنْهُ.
دَفْعُ مَهْرِ مَنْ جِئْنَ مِنَ الْمُسْلِمَاتِ لِأَزْوَاجِهِنَّ:
10- إِذَا شَرَطَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ رَدَّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا مِنْهُمْ، أَوْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَذْكُرْ رَدًّا وَلَا عَدَمَهُ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ لَمْ يَجِبْ دَفْعُ مَهْرٍ لِزَوْجِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ- الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةِ- قَالُوا: لِأَنَّ الْبُضْعَ لَيْسَ بِمَالٍ حَتَّى يَشْمَلَهُ الْأَمَانُ وَلِارْتِفَاعِ نِكَاحِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ بِالْإِسْلَامِ، أَمَّا غُرْمُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- الْمَهْرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِيعِ فَإِنَّهُ كَانَ قَبْلَ مَنْعِ رَدِّهِنَّ وَدُخُولِهِنَّ فِي عُمُومِ: «مَنْ جَاءَنَا مُسْلِمًا مِنْكُمْ رَدَدْنَاهُ».
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ قَدْ شَرَطَ لَهُمْ رَدَّ مَنْ جَاءَتْهُ مُسْلِمَةً ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} فَغَرِمَ حِينَئِذٍ لِامْتِنَاعِ رَدِّهَا بَعْدَ الشَّرْطِ بِهِ نَصًّا، أَوْ دُخُولَهُنَّ فِي عُمُوم «مَنْ جَاءَنَا مُسْلِمًا».
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَظْهَرِ: إِذَا أُمْسِكَتِ الْمُسْلِمَةُ وَلَمْ يَرُدَّهَا رَدَّ عَلَى زَوْجِهَا مَا أَنْفَقَهُ؛ لقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَهْرُ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَقَالُوا: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا أُمْسِكَتِ الزَّوْجَةُ الْمُسْلِمَةُ أَنْ يُرَدَّ عَلَى زَوْجِهَا مَا أَنْفَقَ وَفَاءً بِالْعَهْدِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا مُنِعَ مِنْ أَهْلِهِ بِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ أُمِرَ بِرَدِّ الْمَالِ إِلَيْهِ؛ حَتَّى لَا يَقَعَ عَلَيْهِ خُسْرَانٌ فِي الْوَجْهَيْنِ: الزَّوْجَةِ وَالْمَالِ؛ وَلِأَنَّ الْعَهْدَ قَدْ أَوْجَبَ الْأَمَانَ عَلَى الْأَمْوَالِ، وَبُضْعُ الزَّوْجَةِ فِي حُكْمِ الْمَالِ لِصِحَّةِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهِ نِكَاحًا وَخُلْعًا؛ فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ بِالْمَنْعِ مِنْهُ الرُّجُوعُ بِبَدَلِهِ وَهُوَ الْمَهْرُ.
شَرْطُ رَدِّ مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِمْ مُرْتَدًّا:
11- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرُدُّوا مَنْ أَتَى إِلَيْهِمْ مُرْتَدًّا لَزِمَهُمُ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ، عَبْدًا كَانَ أَمْ حُرًّا، ذَكَرًا كَانَ أَمْ أُنْثَى، عَمَلًا بِالْتِزَامِهِمْ فَإِنْ أَبَوْا فَقَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ لِمُخَالَفَتِهِمُ الشَّرْطَ.
وَيَجُوزُ شَرْطُ أَنْ لَا يَرُدُّوا مَنْ جَاءَهُمْ مُرْتَدًّا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ اشْتَرَطُوا عَلَيْهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ: «أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا، فَقَالَ الصَّحَابَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَكْتُبُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا» وَحِينَئِذٍ فَلَا يَلْزَمُهُمُ الرَّدُّ، وَكَذَا إِنْ أَطْلَقَ الْعَقْدَ فَلَا يَلْزَمُهُمُ الرَّدُّ، وَلَكِنْ يُغَرَّمُونَ مَهْرَ الْمُرْتَدَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ فَوَّتُوا عَلَيْنَا الِاسْتِتَابَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْنَا؛ وَكَذَلِكَ يُغَرَّمُونَ قِيمَةَ الرَّقِيقِ الْمُرْتَدِّ.
عَقْدُ الْهُدْنَةِ بِشَرْطٍ مَحْظُورٍ لِلضَّرُورَةِ:
12- يَجُوزُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ عَقْدُ الْهُدْنَةِ بِشَرْطٍ مَحْظُورٍ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ اشْتِرَاطُ بَذْلِ الْمَالِ لِلْكُفَّارِ.
فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ عَقْدِ الْهُدْنَةِ عَلَى مَالٍ يَبْذُلُهُ الْمُسْلِمُونَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ مَا لَمْ تَدْعُ إِلَى ذَلِكَ ضَرُورَةٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ وَأَظْهَرَهُ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا وَجَعَلَ لَهُمُ الْجَنَّةَ قَاتِلِينَ وَمَقْتُولِينَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} فَلَمْ يَجُزْ مَعَ ثَوَابِ الشَّهَادَةِ وَعِزِّ الْإِسْلَامِ أَنْ يَدْخُلُوا فِي ذُلِّ الْبَذْلِ وَصَغَارِ الدَّفْعِ، أَمَّا إِذَا دَعَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ فَيَجُوزُ.
وَمِنْ صُوَرِ الضَّرُورَةِ:
أ- أَنْ يُحَاطَ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي قِتَالٍ أَوْ وَطْءٍ يَخَافُونَ مَعَهُ الِاصْطِلَامَ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبْذُلُوا فِي الدَّفْعِ عَنِ اصْطِلَامِهِمْ مَالًا يَحْقِنُونَ بِهِ دِمَاءَهُمْ، فَقَدَ هَمَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَامَ الْخَنْدَقِ أَنْ يُصَالِحَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ وَشَاوَرَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فَقَالَا: إِنْ كُنْتَ أُمِرْتَ بِشَيْءٍ فَامْضِ لِأَمْرِ اللَّهِ، بِأَمْرِ اللَّهِ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ نَقْبَلْهُ.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ «أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو الْغَطَفَانِيَّ رَئِيسَ غَطَفَانَ قَالَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: يَا مُحَمَّدُ، شَاطِرْنَا تَمْرَ الْمَدِينَةِ.فَقَالَ: حَتَّى أَسْتَأْمِرَ السُّعُودَ، فَبَعَثَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَسَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ وَسَعْدِ بْنِ خَيْثَمٍ وَسَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ.فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّ الْحَارِثَ سَأَلَكُمْ تُشَاطِرُوهُ تَمْرَ الْمَدِينَةِ، فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَدْفَعُوهُ عَامَكُمْ هَذَا فِي أَمْرِكُمْ بَعْدُ.فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَحْيٌ مِنَ السَّمَاءِ فَالتَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ، أَوْ عَنْ رَأْيِكَ وَهَوَاكَ فَرَأَيْنَا نَتَّبِعُ هَوَاكَ وَرَأْيَكَ، فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تُرِيدُ الْإِبْقَاءَ عَلَيْنَا فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتَنَا وَإِيَّاهُمْ عَلَى سَوَاءٍ، مَا يَنَالُونَ مِنَّا تَمْرَةً إِلاَّ شِرَاءً أَوْ قِرًى.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: هُوَ ذَا تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُونَ» هُوَ- وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِمْ- فَقَدْ نَبَّهَ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْأَنْصَارِ عَلَى جَوَازِ إِعْطَائِهِمْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَلِأَنَّ مَا يَنَالُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ نِكَايَةِ الِاصْطِلَامِ أَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْ ذِلَّةِ الْبَذْلِ، فَافْتَدَى بِهِ أَعْظَمَ الضَّرَرَيْنِ.
ب- افْتِدَاءُ مَنْ فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَسْرَى إِذَا خِيفَ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَكَانُوا يَسْتَذِلُّونَهُمْ بِعَذَابٍ أَوِ امْتِهَانٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَبْذُلَ لَهُمُ الْإِمَامُ فِي افْتِكَاكِهِمْ مَالًا لِيَسْتَنْقِذَهُمْ بِهِ مِنَ الذُّلِّ، وَإِنِ افْتَدَاهُمْ بِأَسْرَى كَانَ أَوْلَى.
وَرَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَادَى رَجُلًا بِرَجُلَيْنِ».
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
33-موسوعة الفقه الكويتية (وضوء 6)
وُضُوءٌ-6ب- الْإِغْمَاءُ:
148- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِغْمَاءَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَمِنْهُ الْغَشْيُ.
(ر: إِغْمَاءٌ، ف6).
ج- الْجُنُونُ:
149- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجُنُونَ- قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا- يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.
(ر: جُنُونٌ، ف10).
د- السُّكْرُ:
150- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السُّكْرَ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ.
(ر: حَدَثٌ ف11).
رَابِعًا: مَسُّ فَرْجِ الْآدَمِيِّ:
151- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ فَرْجِ الْآدَمِيِّ ذَكَرًا كَانَ أَمْ أُنْثَى أَمْ خُنْثَى، وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (حَدَثٌ ف14، فَرْجٌ ف5، 4، مَسٌّ ف18، خُنْثَى ف9).
خَامِسًا: الْتِقَاءُ بَشَرَتَيِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ:
152- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ بَشَرَةِ الرَّجُلِ بَشَرَةَ الْأُنْثَى، وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (حَدَثٌ ف13، أُنُوثَةٌ ف21).
سَادِسًا: الرِّدَّةُ:
153- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ الِارْتِدَادِ عَنِ الْإِسْلَامِ- وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى- نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الرِّدَّةَ بِذَاتِهَا لَيْسَتْ مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مُحْبِطَةً لِلْعَمَلِ فِي حَالِ اتِّصَالِهَا بِالْمَوْتِ، وَعَلَيْهِ فَمَنِ ارْتَدَّ وَهُوَ مُتَوَضِّئٌ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ بِرِدَّتِهِ ذَاتِهَا إِنْ لَمْ يَكُنِ انْتَقَضَ لِسَبَبٍ آخَرَ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الرِّدَّةَ إِنِ اتَّصَلَتْ بِالْمَوْتِ فَهِيَ مُحْبِطَةٌ لِلْعَمَلِ وَالثَّوَابِ وَإِنْ لَمْ تَتَّصِلْ بِهِ فَهِيَ مُحْبِطَةٌ لِلثَّوَابِ دُونَ الْعَمَلِ، بِمَعْنَى أَنَّ مَنِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ لَا يُثَابُ عَلَى عَمَلِهِ السَّابِقِ وَلَا يُطَالَبُ بِإِعَادَتِهِ، وَمَنِ اتَّصَلَتْ رِدَّتُهُ بِالْمَوْتِ لَمْ يُثَبْ أَيْضًا.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ: إِنَّ الرِّدَّةَ عَنِ الْإِسْلَامِ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فَمَنْ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ وَارْتَدَّ انْتَقَضَ هَذَا الْوُضُوءُ بِالرِّدَّةِ ذَاتِهَا وَبِمُجَرَّدِ حُدُوثِهَا؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ عَمَلٌ فَيُحْبَطُ بِنَصِّ الْآيَةِ، وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ يُفْسِدُهَا الْحَدَثُ فَأَفْسَدَهَا الشِّرْكُ كَالصَّلَاةِ وَالتَّيَمُّمِ، وَقَالُوا: الْآيَةُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَحِيلُ مِنْهُ الرِّدَّةُ شَرْعًا، فَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ- تَعَالَى- أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- لَا يُشْرِكُ وَلَا يَقَعُ مِنْهُ إِشْرَاكٌ.
وَرَوَى مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ نَدْبَ الْوُضُوءِ مِنَ الرِّدَّةِ.
وَقَالَ الصَّاوِيُّ: مَعْنَى إِحْبَاطِ الْعَمَلِ مِنْ حَيْثُ الثَّوَابِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ ثَوَابِهِ إِعَادَتُهُ؛ فَلِهَذَا لَا يُطَالَبُ بَعْدَهَا بِقَضَاءِ مَا قَدَّمَهُ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْوُضُوءُ عَلَى الْقَوْلِ الْمُعْتَمَدِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بَعْدَ تَوْبَتِهِ- أَيْ عَوْدَتِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ- بِمَنْزِلَةِ مَنْ بَلَغَ حِينَئِذٍ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ لِمُوجِبِهِ، وَهُوَ إِرَادَةُ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ.
سَابِعًا: الْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلَاةِ:
154- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِالْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الْقَهْقَهَةَ فِي الصَّلَاةِ لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَتُفْسِدُ الصَّلَاةَ.
وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيَّةُ الْوُضُوءَ مِنَ الضَّحِكِ فِي الصَّلَاةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ- إِلَى أَنَّ الْقَهْقَهَةَ فِي صَلَاةٍ كَامِلَةً- وَهِيَ مَا لَهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ- تَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَتُفْسِدُ الصَّلَاةَ.
(ر: حَدَثٌ ف15- 16، قَهْقَهَةٌ ف4- 5).
ثَامِنًا: أَكْلُ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ:
155- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِأَكْلِ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ بِأَكْلِ شَيْءٍ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي طَلْحَةَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ- رضي الله عنهم- وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ التَّابِعِينَ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ وَلَيْسَ مِمَّا يَدْخُلُ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: يَعْنِي الْخَارِجَ النَّجِسَ وَلَمْ يُوجَدْ، وَبِمَا رَوَى جَابِرٌ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا غَيَّرَتِ النَّارُ».
وَالثَّانِي: يَجِبُ الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنِ وَالزُّهْرِيُّ وَأَبِي قِلَابَةَ وَأَبِي مِجْلَزٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي طَلْحَةَ وَأَبِي مُوسَى وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ- رضي الله عنهم-، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ- رضي الله عنهم- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ».
تَاسِعًا: الْوُضُوءُ مِنْ أَكْلِ لَحْمِ الْجَزُورِ:
156- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِأَكْلِ لَحْمِ الْجَزُورِ وَالْإِبِلِ، عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ الصَّحِيحِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ) وَهُوَ مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي طَلْحَةَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ- رضي الله عنهم- أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ كَأَكْلِ سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ.
وَلِحَدِيثِ: «الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ وَلَيْسَ مِمَّا يَدْخُلُ».
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه-: الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ، يَعْنِي الْخَارِجَ مِنَ النَّجِسِ وَلَمْ يُوجَدْ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَالْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْحَدَثَ هُوَ خُرُوجُ النَّجِسِ حَقِيقَةً أَوْ مَا هُوَ سَبَبُ الْخُرُوجِ، وَلَمْ يُوجَدْ.
الثَّانِي: يَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ أَكْلِ لَحْمِ الْجَزُورِ خَاصَّةً: لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَكَوْنُهُ نَيْئًا أَوْ غَيْرَ نَيْئٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي مُوسَى وَأَبِي طَلْحَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَابِرٍ الصَّحَابِيِّ- رضي الله عنه-، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي خَيْثَمَةَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ- رضي الله عنه-: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَوَضَّأَ، قَالَ: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ».
وَعَنِ الْبَرَاءِ- رضي الله عنه-: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ فَقَالَ: تَوَضَّئُوا مِنْهَا».
وَلِلْحَنَابِلَةِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِأَكْلِ لُحُومِ الْإِبِلِ تَفْصِيلٌ:
فَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْوُضُوءَ يَنْتَقِضُ بِأَكْلِ لُحُومِ الْجَزُورِ، سَوَاءٌ عَلِمَهُ أَوْ جَهِلَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ نَيْئًا أَوْ مَطْبُوخًا، وَسَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِالْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ أَوْ لَا.
وَعَنْ أَحْمَدَ: يَنْقُضُ نَيْئُهُ دُونَ مَطْبُوخِهِ، وَعَنْهُ: لَا يَنْقُضُ مُطْلَقًا، اخْتَارَهُ يُوسُفُ الْجَوْزِيُّ وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ.
وَعَنْهُ: إِنْ عَلِمَ النَّهْيَ نَقَضَ وَإِلاَّ فَلَا، اخْتَارَهُ الْخَلاَّلُ وَغَيْرُهُ.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ كَذَلِكَ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِبَقِيَّةِ أَجْزَاءِ الْإِبِلِ كَأَكْلِ سَنَامِهَا وَدُهْنِهَا وَقَلْبِهَا وَكَبِدِهَا وَطِحَالِهَا وَكَرِشِهَا وَمُصْرَانِهَا.
فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَا يَتَنَاوَلُهُ، وَالثَّانِي يَنْقُضُ.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَنْتَقِضُ بِشُرْبِ لَبَنِ الْإِبِلِ وَشُرْبِ مَرَقِ لَحْمِهَا؛ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي اللَّحْمِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَا وَرَدَ النَّصُّ فِيهِ، وَعَنْ أَحْمَدَ: يَنْقُضُ شُرْبُ لَبَنِهَا.
(ر: حَدَثٌ ف17). عَاشِرًا- أَكْلُ الْأَطْعِمَةِ الْمُحَرَّمَةِ:
157- اخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِأَكْلِ الطَّعَامِ الْمُحَرَّمِ:
فَقَدْ وَرَدَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: يَنْقُضُ الْوُضُوءَ الطَّعَامُ الْمُحَرَّمُ، وَعَنْهُ: يَنْقُضُ اللَّحْمُ الْمُحَرَّمُ مُطْلَقًا، وَعَنْهُ يَنْقُضُ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ فَقَطْ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَبَقِيَّةُ النَّجَاسَاتِ تُخَرَّجُ عَلَيْهِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا نَقْضَ بِأَكْلِ مَا سِوَى لَحْمِ الْإِبِلِ مِنَ اللُّحُومِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُبَاحَةً أَوْ مُحَرَّمَةً كَلُحُومِ السِّبَاعِ، لِكَوْنِ النَّقْضِ بِلَحْمِ الْإِبِلِ تَعَبُّدِيًّا؛ فَلَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ.
قَالَ الْمَرْدَاوِيُّ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ أَكْلَ الْأَطْعِمَةِ الْمُحَرَّمَةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَهُوَ صَحِيحٌ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ.
حَادِي عَشَرَ: غَسْلُ الْمَيِّتِ:
158- لَمْ يَذْكُرْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ غَسْلَ الْمَيِّتِ ضِمْنَ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ بَعْدَ غَسْلِ الْمَيِّتِ.
وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.
وَلِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ احْتِمَالُ بَعْضِ النَّقْضِ إِذَا غَسَلَهُ الْغَاسِلُ فِي قَمِيصٍ.
(ر: حَدَث ف18).
ثَانِي عَشَرَ: الشَّكُّ فِي الْوُضُوءِ أَوْ عَدَمُهُ:
159- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِالشَّكِّ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ الشَّكَّ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ لَا تَبْرَأُ مِمَّا طُلِبَ مِنْهَا إِلاَّ بِيَقِينٍ، وَلَا تَعَيُّنَ عِنْدَ الشَّاكِّ، وَالْمُرَادُ بِالْيَقِينِ مَا يَشْمَلُ الظَّنَّ.
وَلِلشَّكِّ الْمُوجِبِ لِلْوُضُوءِ عِنْدَهُمْ ثَلَاثُ صُوَرٍ:
الْأُولَى: أَنْ يَشُكَّ بَعْدَ عِلْمِهِ بِتَقَدُّمِ طُهْرِهِ، هَلْ حَصَلَ مِنْهُ نَاقِضٌ مِنْ حَدَثٍ أَوْ سَبَبٍ أَمْ لَا؟
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَشُكَّ بَعْدَ عِلْمِ حَدَثِهِ، هَلْ حَصَلَ مِنْهُ وُضُوءٌ أَمْ لَا؟ وَالثَّالِثَةُ: عَلِمَ كُلًّا مِنَ الطُّهْرِ وَالْحَدَثِ، وَشَكَّ فِي السَّابِقِ مِنْهُمَا.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الشَّكَّ فِي بَقَاءِ الْوُضُوءِ أَوْ عَدَمِهِ لَيْسَ مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ، فَمَنْ أَيْقَنَ أَنَّهُ كَانَ مُتَوَضِّئًا، وَشَكَّ فِي حُدُوثِ نَاقِضٍ لِلْوُضُوءِ، وَعَكْسِهِ: وَهُوَ مَنْ أَيْقَنَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا وَشَكَّ فِي طُرُوءِ الْوُضُوءِ.عَمِلَ بِيَقِينِهِ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ وَهُوَ السَّابِقُ مِنْهُمَا، قَالَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ كَمَا نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِلاَّ إِنْ تَأَيَّدَ اللاَّحِقُ؛ لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ، فَمَنْ ظَنَّ الضِّدَّ- أَيْ ضِدَّ الْيَقِينِ- لَا يَعْمَلُ بِظَنِّهِ؛ لِأَنَّ اسْتِصْحَابَ الْيَقِينِ أَقْوَى مِنْهُ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَقِينِ اسْتِصْحَابُهُ، وَإِلاَّ فَالْيَقِينُ لَا يُجَامِعُهُ شَكٌّ، وَلِخَبَرِ مُسْلِمٍ: «إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا؟ فَلَا يُخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا».
ثَالِثَ عَشَرَ- الْغِيبَةُ وَالْكَلَامُ الْقَبِيحُ:
160- حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةُ أَنَّ الْوُضُوءَ يَنْتَقِضُ بِالْغِيبَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ الشَّرْعِيِّ مِنَ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ كَالْغِيبَةِ
(وَالنَّمِيمَةِ وَالْكَذِبِ وَالْقَذْفِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَالْفُحْشِ وَأَشْبَاهِهَا.
وَوَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: يَتَوَضَّأُ أَحَدُكُمْ مِنَ الطَّعَامِ الطَّيِّبِ وَلَا يَتَوَضَّأُ مِنَ الْكَلِمَةِ الْعَوْرَاءِ يَقُولُهَا.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م