نتائج البحث عن (وَيَسْقُطْ)

1-العربية المعاصرة (ندي)

ندِيَ يَندَى، انْدَ، ندًى ونَداوَةً ونُدُوَّةً، فهو ندٍ وندِيّ ونَدْيانُ/نَدْيانٌ.

* ندِي الشّخصُ:

1 - ابتلَّ (ندِي الثّوبُ بالمطر- ندِي جبينُه خجلًا: عرِق) (*) رَمَيْتُ بصري فلم يندَ له شيءٌ: لم يتحرّك له شيء- كلامٌ يَنْدَى له الجبين: مُخْجِلٌ.

2 - جادَ وكرُم وسخا (فلانٌ من ذوي الندى- إذا سُئِل الكريم نَدِيَ) (*) لا تَنْدى صفاته: بخيل- ما نديتُ بشيء من فلان: ما نلت منه ندى، أي: خير.

* ندِيتِ الأرضُ: أصابها ندًى.

* ندِي صوتُ المؤذِّن: ارتفع وامتدّ في حُسْن.

أندى يُندِي، أَنْدِ، إنداءً، فهو مُندٍ، والمفعول مُنْدًى (للمتعدِّي).

* أندى فلانٌ:

1 - كثُر عطاؤهُ وفضلُه.

2 - حسُن صوتُه.

* أندى الشَّيءَ: جعله مُبتلاًّ (أندى شَعْرَه- أندى الترابَ قبل أن يزرع الشتلة).

تندَّى يتندَّى، تَندَّ، تندّيًا، فهو مُتندٍّ.

* تندَّى المكانُ: مُطاوع ندَّى: أصابه النَّدى (تندّى وجهُه بالخجل).

ندَّى يندِّي، نَدِّ، تَنْدِيَةً، فهو مُندٍّ، والمفعول مُندًّى.

* ندَّى الشّيءَ: أنداه، بلّله، رطَّبه (ندّى المطرُ الأرضَ- ندّى وجهَه بالدموع/ثيابَه بالعرق- شعر/عشب مُندّى) (*) لا تُنَدِّي إحدى يديه الأخرى: بخيلٌ.

إنْداء [مفرد]: مصدر أندى.

تندية [مفرد]: مصدر ندَّى.

مُنْدِية [مفرد]: كلمةٌ أو فَعلةٌ يَنْدى لها الجبينُ حياءً (*) جاء بالمُنْدِيات: المُخزيات لأنّها إذا ذُكرت ندي جبينُ صاحبها حياءً.

نَدٍ [مفرد]: مؤنثه: نَدِيَة: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من ندِيَ.

نَداوة [مفرد]: مصدر ندِيَ.

نُدُوَّة [مفرد]: مصدر ندِيَ.

نَدًى [مفرد]: جمعه أنداء (لغير المصدر) وأندية (لغير المصدر):

1 - مصدر ندِيَ.

2 - [في الجغرافيا] بخار الماء المتكاثف في طبقات الجوِّ الباردة أثناء الليل، ويسقط على الأرض قطراتٍ صغيرة، يُرى في الصباح على النبات (مسح الزجاجَ المغطَّى بالنّدى- أصابه ندًى من طلّ).

3 - كرمٌ، جُودٌ، سخاءٌ (إنّ نداه علينا لوفير).

نَدْيانُ/نَدْيانٌ [مفرد]: جمعه ندايا/نديانون، والمؤنث نَدْيا/نديانة، والجمع المؤنث ندايا/نديانات: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من ندِيَ.

ندِيّ [مفرد]:

1 - صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من ندِيَ (*) مُغنٍّ ندِيُّ الصَّوت: حسنه وبعيده- هو ندِيّ الكفِّ: كريم.

2 - [في الموسيقى] أعلى صَوْت غنائيّ للنِّساء والأولاد.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


2-العربية المعاصرة (هلك)

هلَكَ يهلَك ويهلِك، هَلاكًا وهُلوكًا ومَهْلَكًا ومَهْلِكًا وتَهْلُكَةً وهُلْكًا، فهو هالِك، والمفعول مهلوك (للمتعدِّي).

* هلَك فلانٌ:

1 - مات (ما هلَك امرؤٌ عرَف قدرَه- {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} [قرآن] - {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} [قرآن] - {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [قرآن]) (*) شفا الهَلاك- هلَك على الشَّيء: حرِص عليه- وقَف على شفير الهلاك.

2 - كفر {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} [قرآن].

* هلَك الشَّيءُ: ذهب وزال {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [قرآن].

* هلَكَه في العمل: أفناه، أبلاه.

أهلكَ يُهلك، إهلاكًا، فهو مُهلِك، والمفعول مُهلَك (للمتعدِّي).

* أهلك فلانٌ: ارتكب أمرًا عظيمًا.

* أهلَك اللهُ الظَّالمين:

1 - جعلهم يهلكون أو يموتون، أبادهم ولم يترك لهم أثرًا (كثيرًا ما نمنح أعداءنا وسائل إهلاكنا- {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلاَّ الدَّهْرُ} [قرآن]) (*) أهلك الحرث والنَّسل: أفنى كلَّ شيء.

2 - عذَّبهم {قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ} [قرآن].

* أهلَك الشَّيءَ: أفسده وخرّبه (أهلك ماله: فرّط فيه وأتلفه- {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} [قرآن]).

استهلكَ يستهلك، استهلاكًا، فهو مُستهلِك، والمفعول مُستهلَك.

* استهلك مالَه: أهلكه، أنفقه (استهلك كلَّ ما عنده من موادّ غذائيّة).

* استهلك الطَّعامَ: تناوله (يستهلك المواطنون البيضَ بكثرة).

* استهلكتِ السَّيَّارةُ البنزينَ: استنفدته (*) استهلك المعنى/استهلك اللفظَ: استنفده وأفرغه.

* استهلك فلانٌ فلانًا: أهلَكهُ.

انهلكَ/انهلكَ في ينهلِك، انهلاكًا، فهو مُنهلِك، والمفعول مُنهلَك فيه.

* انهلك الرَّجلُ: رَمى نفسَه في المهالك.

* انهلك في الأمر: واصله بجدّ وحِرْص (انهلك في عمله الجديد).

تهالكَ على/تهالكَ في/تهالكَ من يتهالك، تهالُكًا، فهو مُتهالِك، والمفعول مُتهالَك عليه.

* تهالك على التَّدخين: أقبل عليه في حرص شديد (تهالَكَ على الملذّات/المال).

* تهالك المرءُ على فراشه: تساقطَ عليه.

* تهالكَ العُمَّالُ في إنجاز المشروع: جدّوا واستعجلوا إنجازه (تهالك في التفوق على منافسه).

* تهالكتِ المرأةُ في مشيتها: تأوّدت وتكسَّرت وتمايلت.

* تهالكَ فلانٌ من الإعياء: سقَطَ.

تهلَّكَ في يتهلَّك، تهلُّكًا، فهو مُتهلِّك، والمفعول مُتهلَّك فيه.

* تهلَّكَ في المفاوز: دارَ فيها شبه المتحيِّر.

* تهلَّكَت المرأةُ في مشيتها: تهالكتْ، تفيّأت وتكسَّرت.

هلَّكَ يُهلِّك، تهليكًا، فهو مُهلِّك، والمفعول مُهلَّك (للمتعدِّي).

* هلَّك فلانٌ: أهلك؛ ارتكبَ أمرًا عظيمًا.

* هلَّك فلانٌ فلانًا: أهلكه؛ جعلَه يموت.

استهلاك [مفرد]:

1 - مصدر استهلكَ (*) استهلاك دَيْن: تسديده على أقساط.

2 - [في الاقتصاد] استخدام سلعة أو خدمة في تحقيق منفعة بصورة مباشرة بدون استعمالها في إنتاج سلعة أو خدمة أخرى.

* الاستهلاك الجماعيّ: [في الاقتصاد] العمليات الاستهلاكيّة التي لا يمكن تنظيمها وإدارتها إلا بصورة جماعيَّة؛ نظرًا لطبيعة المشكلة وحجمها.

* الاستهلاك الذَّاتيّ: [في الاقتصاد] جزء من الإنتاج يستهلكه المُنتج وعائلته عوضًا عن تصريفه وطرحه في السُّوق.

* عارية استهلاك: [في القانون] عقد بين مُعير ومستعير يتّفق بموجبه الأول على أن يُسلِّم للثاني أشياء منقولة قابلة للاستهلاك، ويوافق الثاني على أن يردّ في المستقبل ما يماثل تلك الأشياء من حيث النوع والصِّنف والكميَّة.

استهلاكيّ [مفرد]: اسم منسوب إلى استهلاك: (تمَّ طرح كمِّيَّات كبيرة من السلع الاستهلاكيّة في الأسواق).

* مجتمع استهلاكيّ: [في الاقتصاد] الذي يتجاوز استهلاكه إنتاجه (*) سلع استهلاكيَّة: سلع كالطَّعام أو الملابس التي تفي بحاجات الإنسان من خلال الاستهلاك أو الاستعمال المباشر لها.

* السُّوق الاستهلاكيَّة: [في الاقتصاد] سوق تهتم بتحقيق المنفعة الشخصيّة من السّلع أكثر من اهتمامها بإنتاج هذه السلع.

* ثقافة استهلاكيَّة: ثقافة غير متأصِّلة قوامها استعراض المعلومات.

* العقليَّة الاستهلاكيَّة: عقلية تافهة قاصرة عن التفكير والابتكار، تتبنّى آراء الآخرين دون تمحيص.

* أسئلة استهلاكيَّة: أسئلة شخصيّة متكررة تهتم بالاستفسار عن أمور خاصّة لا تخدم المجتمع ولا تفيد جديدًا، هدفها محاولة التغطية على موضوع حيويّ مهم، أو تضييع الوقت (كلّ الأسئلة التي طرحت في المؤتمر كانت أسئلة استهلاكيّة).

* المقدِّمة الاستهلاكيَّة للحكاية الشَّعبيَّة: عبارات تقليديّة تبدأ بها كل حكاية شعبيّة، مثل: كان يا ما كان.

تَهْلُكة [مفرد]:

1 - مصدر هلَكَ.

2 - كل ما عاقبته الهلاك {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [قرآن].

مُستهلَك [مفرد]:

1 - اسم مفعول من استهلكَ.

2 - مستعمل كثيرًا (آلات/طاقة مستهلكة) (*) طريق مستهلك الوِرْد: يُجهد مَنْ سلكه.

مُستهلِك [مفرد]:

1 - اسم فاعل من استهلكَ.

2 - مستعمِل (مستهلِك الآلات).

3 - خلاف المنتج (مستهلكو الخُضَر في المدينة).

مَهْلَك [مفرد]: مصدر هلَكَ.

مَهْلِك [مفرد]:

1 - مصدر هلَكَ.

2 - اسم زمان من هلَكَ: {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [قرآن] - {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} [قرآن]: وتحتمل هنا للزمان والمكان).

مَهْلَكة [مفرد]: جمعه مَهالِكُ:

1 - اسم مكان من هلَكَ: مكان الهلاك.

2 - مفازة، صحراء لا ماء فيها.

3 - حرْب (الحروب مهالك).

4 - سبب في الهلاك.

هالك [مفرد]: جمعه هالكون وهَلْكى وهُلَّك وهُلاّك وهوالكُ، والمؤنث هالكة، والجمع المؤنث هالكات وهُلَّك وهوالكُ: اسم فاعل من هلَكَ.

هالوك [جمع]: [في النبات] نبات زهريّ متطفِّل يضعف الزّرع، من الفصيلة المركبة، منه أنواع تتطفَّل على الفول، والعدس والطماطم والباذنجان وغيرها، ولا تنبت بذوره إلا بجوار بذور عائلها.

هلاك [مفرد]: مصدر هلَكَ (*) خلَص من الهلاك: نجا وسلم.

هَلَك [مفرد].

* الهَلَكُ:

1 - ما بين أعلى الجبل وأسفله.

2 - الشَّيء الذي يهوي ويسقط.

3 - هواء ما بين كلّ شيئين.

4 - بقايا الشَّيء الهالك كالجيفة.

هُلْك [مفرد]: مصدر هلَكَ.

هَلَكَة [مفرد]: جمعه هَلَكات وهَلَك: سَنة جدبة.

هَلوك [مفرد]: جمعه هُلُك.

* الهَلُوك: الساقطة، المرأة الفاجرة البغيّ.

هُلوك [مفرد]: مصدر هلَكَ.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


3-المعجم الوسيط (النَّدَى)

[النَّدَى]: بخار الماء يتكاثف في طبقات الجوّ الباردة في أثناء الليل ويسقطُ على الأرض قطرات صغيرة.

و- المطر.

و- الجُود والسخاءُ والخير.

(والجمع): أنداء، وأنديةَ.

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


4-معجم متن اللغة (الغرب)

الغرب: شجر تسوى منه الأقداح البيض: القدح: الذهب: الفضة أو جام منها: الماء يقطر من الدلو بين الحوض والبئر؛ أو هو ما حولهما من الماء والطين: داء يصيب الشاء فيتمعط خرطومها ويسقط منه شعر العين: الزرق في عين الفرس مع ابيضاضها: الخمر: الخدر في العين، وهو السلاق.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


5-معجم متن اللغة (الهلك)

الهلك: النون الجدبة (ز) واحدتها هلكة ج هلكات.

و-: ما بين كل أرض إلى التي تحتها إلي الأرض السابعة: ما بين أعلى الجبل وأسفله.

ويستعار لهواء ما بين الشيئين (ز).

والمهواة بين الجبلين.

و-: الشئ الذي يهوي ويسقط: الجرف: جيفة الشئ الهالك.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


6-معجم متن اللغة (الهيار)

الهيار: الذي ينهار ويسقط.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


7-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (جحي الخنابشة)

جحي الخنابشة

وهو قرية للخنابشة الآتي ذرو من أخبارهم في آخر قيدون؛ منهم الآن: الشّيخ عبد الله بن سعيد بن سالم الخنبشيّ، مضياف، وله مروءة.

وفيها ناس من السّادة آل مقيبل، منهم: السّيّد الغريب الحال، الطّاهر البال: عبد الله بن أبي بكر الملقّب بالنوّام، لكثرة نومه، حتّى أنّه لينام على حماره ويسقط ولا يشعر.

وله أحوال شريفة؛ منها: أنّه تذوكر إشراق النّور عند تلاوة القرآن والصّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.. فقال: هل ينكر ذلك أحد؟! فقال الحاضرون: هل تقدر أن ترينا ذلك؟ قال: نعم، فتوضّأ وصلّى ركعتين، ثمّ أمرهم بإطفاء السّرج ـ وكان الوقت ليلا مظلما ـ وشرع يقرأ: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) فأشرق المنزل بمثل ضياء الشّمس، فبهت الحاضرون، ولمّا انتهى الخبر إلى العلّامة السّيّد عبد الله بن هادون بن أحمد المحضار.. قال لآل مقيبل: لا تلوموا صاحبكم على شرب الدّخان؛ وإلّا.. أوشك أن يطير عنكم.

وله مراء صادقة؛ منها: أنّه انتبه مرّة منزعجا يقول: قتلوه، قتلوه.. فجاء الخبر بمقتل سليم بن عيبان بالقوينص السّابق ذكر خبره في الكسر في تلك السّاعة.

ومن آل مقيبل بالجحي الآن: السّيّد حسين بن علويّ مقيبل.

ومنها: الشّيخ سعيد باحفظ الله السّابق ذكره في الرّشيد، وكان يحبّ الخير، وهو الّذي بنى جامع الجحي، وله في القراءات إتقان بديع، ومعرفة جيّدة، وهو صاحب التّاريخ الّذي أخذه باصرّة ولم يردّه، توفّي بعد الثّلاث مئة وألف.

ومنها: صاحبنا الفاضل، الشّيخ عبد الله بن سعيد باجنيد، طلب العلم بمكّة، وولي قضاء دوعن والمكلّا عدّة مرّات، ودرّس مدّة طويلة بمسيلة آل شيخ، وكان في سنة (1325 ه‍) بحوطة آل أحمد بن زين الحبشيّ يدرّس بها، وله باع في الفقه، وبضاعته مزجاة في النّحو، ومع ذلك فقد درّس فيه بالحوطة، وكان ليّن العريكة، سهل الجانب، عذب الرّوح، دمث الأخلاق، واسع الصّدر، توفّي بالجحي سنة (1359 ه‍)، وله ولد اسمه محمّد، تولّى القضاء بالمكلّا، وكان طلب العلم بمصر، ثمّ فصل عن قضاء المكلّا وجعل من أعضاء الاستئناف بها.

وآل باجنيد منتشرون في رحاب وهدون والجحي والمكلّا وعدن والحجاز، ومثراهم بالخريبة، حتّى لقد روي عن الحبيب حامد بن أحمد المحضار أنّه قال: دخلت الخريبة.. فإذا عالمها: باجنيد، وقاضيها: باجنيد، وتاجرها: باجنيد، ودلّالها: باجنيد، وقصّابها: باجنيد، ونجّارها: باجنيد، وسائر أعمالها بأيدي آل باجنيد.

وكانت الخريبة أولى بأخبارهم، ولكنّها تدحرجت علينا إلى هنا، ومنهم اليوم بعدن الشّابّ الغيور عبد الله بن سعيد بن بو بكر بن عبد الباسط، له دين متين، واهتمام بأمر المسلمين، وأخوه المكرّم محمّد، وابن عمّهم الشّيخ عبد القادر، والشّيخ جنيد بن محمّد، وكلّهم طيّبون مشكورون.

ومنهم: العلّامة الجليل الشّيخ عمر بن أبي بكر باجنيد، الغني باسمه عن كلّ تعريف وهو أحد أكابر علماء مكّة المشرّفة، بل إليه انتهت رئاسة الشّافعيّة بها بعد شيخه العلّامة الشّيخ محمّد سعيد بابصيل ـ وقد أخذنا عن الاثنين ـ توفّي الشّيخ عمر بمكّة المكرّمة سنة (1354 ه‍)، وقد سبق في الخريبة عن الحبيب أحمد بن محمّد المحضار ما يصرّح برجوع نسبهم إلى مضر.

ومن النّوادر: أنّ الشّيخ سعيد بن بو بكر باجنيد عمل للفاضل السّيّد حسين بن حامد المحضار ضيافة بداره في الخريبة سنة (1337 ه‍)، وما كاد يستقرّ به المجلس

حتّى قال له: خبّرونا عن نسبكم إلى من يرجع يا آل باجنيد، إلى الحبوش أو السّواحليّة؟ فلم يزد الشّيخ سعيد على أن قال له: هذا جزاؤنا لمّا زوّجناك وضيّفناك.

هكذا أخبرني الشّيخ عمر بن أحمد باسودان ـ وكان حاضرا ـ ولو أنّ الشّيخ سعيد بن أبي بكر حفظ شعر الحبيب أحمد المحضار السّابق في الخريبة.. لرماه بحجره.

ثمّ يأتي من قرى الوادي الأيسر عرض باقار. ثمّ عرض باهيثم. ثمّ الجديدة. ثمّ جريف، وهي قرى صغيرة كما يعرف من الإحصاء الآتي.

ومن جريف: السّيّد محمّد بن شيخ وولده علويّ، فاضلان جليلان.

ثمّ صبيخ، وهي قرية واسعة ـ كما يعرف من الكشف ـ وفيها السّيّد الجليل جعفر بن محمّد العطّاس، أحد تلاميذ العلّامة السّيّد عليّ بن حسن العطّاس وزوج إحدى بناته، وقد سبق ذكر ولده محمّد بن جعفر بغيل باوزير.

وكانت صبيخ مهد علم ومغرس معارف حتّى لقد اجتمع فيها أربعون عذراء يحفظن «إرشاد ابن المقري».

وأكثر سكّانها من آل العموديّ، ومنهم الشّيخ الوقور محمّد بن أحمد المخشّب، له مساع مشكورة في إصلاح ذات البين، وقد تزعّم حركة الإصلاح في وادي الأيسر لمّا اشتدّ عليهم الجور من أيّام الوزارة المحضاريّة، وكان الشّيخ سالم عبود بلّعمش يساعده، وهو لسانه وقلمه، وصلا معا إلى سيئون وأقاما بها نحوا من (18) يوما للمفاوضة مع المستشار.

وكانت صبيخ تحت سلطة ابن خالد العموديّ، وكان مضرب المثل في الجور والظّلم حسبما في «الأصل»، وفي ذلك يقول شاعرهم:

«يا نوب زنحي عامد الحيد البرق *** عامد في الغرفه وهي محميّه »

«لا شي عسل منّه ولا هو ذي فرق *** يرعى علوب الناس بالغصبيّه »

فأجابه بادحدح بقوله:

«الدّبر والعثّة يجيبه بالمدى *** والطير لخضر بايجيبه بالدوام »

«لا عذر ما تمسي جبوحه خاليه *** البطل ما له تاليه هو والحرام »

و (الدبر): معروف. و (العثّة) و (الطير الأخضر): آفات النّوب.

ثمّ قرى صغيرة.

ثمّ تولبة، وهي قرية متوسّطة، بينها وبين ضريح الشّيخ عمر نحو ساعة.

وفي رأس الوادي قرية على قلّة جبل مقطوع الرّأس من الجهات كلّها، لا طريق له إلّا من الجهة الغربيّة في غاية الوعورة، تتراءى ديارها الغبراء القليلة كما تتراءى طيور القطا، يقال لها: حيد الجزيل، مشهورة بزيادة حسن عسلها وهي على مقربة من ضريح الشّيخ عمر مولى خضمّ ابن الشّيخ محمّد بن سعيد العموديّ، الّذي ينسب إليه وادي الأيسر كلّه، فيقال: وادي عمر، يعنونه.

وأوّل ما يكون على يسار الدّاخل إلى وادي الأيسر: حصن الخنابشة.

ثمّ الدّوفة، وفيها السّادة آل مقيبل، يرأسهم الآن: السّيّد محمّد بن بو بكر وأخوه عبد الله.

وفيها آل العموديّ، ومنهم: الشّيخ عبد الله بن عثمان، كان الحبيب عبد الله بن علويّ الحدّاد كثير الثّناء عليه، ويقول: ما نحن مستأمنين بأهل الوديان إلّا على السّيّد حسين بن عمر العطّاس، والشّيخ عبد الله بن عثمان صاحب الدّوفة. وهو من مشايخ السّيّد عليّ بن حسن العطّاس صاحب المشهد.

ومنهم: العلّامة الشّيخ أحمد بن عبد الرّحيم العموديّ.

وفي حدود سنة (1362 ه‍) كان النّزاع قائما بين آل العموديّ آل باظفاريّ والخنابشة على جريب من الأرض، ملكه لآل باظفاريّ، ونشره للخنابشة، فخرج آل العموديّ لحرثه فمنعهم أحد الخنابشة، فلم يبالوا به، فأقبل ثلاثة نفر من الخنابشة.. لاقاهم اثنان من آل العموديّ، فاجتلدوا بالعصيّ ساعة، ثمّ لم يشعر النّاس إلّا بواحد يمكّن خنجره من خاصرة عبود بن محمّد بن العسكر العموديّ، فكانت القاضية.

واختلفت الرّواية، فقيل: إنّ عبودا هذا من المشتركين في المخاصمة على الجريب. وقيل: إنّما كان من النّظارة فقط.

وقد طلّ دمه؛ إذ لم يتعيّن القاتل بالحجّة الشّرعيّة، والتّهمة تحوم حول الخنابشة واللّوث الشّرعيّ ظاهر، ولكنّهم إمّا لا يعرفون القسامة، وإمّا لأنّهم لا يرون الأخذ بها تشفيا، وإمّا لأنّهم لا يرون لها منفذا.

ثمّ انحطّت التّهمة على سعيد بن سالم الخضر.. فأودع السّجن ثلاثة أعوام، ثمّ أطلق سراحه، ولكن! بعدما تغيّر مزاجه، وانحرفت صحّته، فلم يعش بعد تخلية سبيله إلّا مدّة يسيرة.

وكما اختلفت الرّواية في مقتل عبود.. اختلفت في مبدئه، فقيل: إنّه كمثل أخيه عثمان، على رأي الإرشاديّين، وإنّ لذلك مدخلا في قتله.

وقيل: إنّه إنّما كان يجامل أخاه بالتّظاهر بالإرشاد؛ لأنّه وليّ نعمته، وليس بالجادّ فيه.

ثمّ خيله، وهي حصون قليلة لآل بقشان، ومنهم: أحمد وعبد الله ابني سعيد بن سليمان بقشان، من الحالكة، لهم أشغال مهمّة بالحجاز، واتّصال أكيد بحكومة الملك الجليل ابن السّعود، وعليهم يعتمد في كثير من الأمور ـ وهم عرضة ذلك أمانة وكفاية ـ وهم لا يقصّرون في حمل الكلّ وإعانة المنقطع، ومساعدة المحتاج.

ثمّ حصن باخطيب.

ثمّ ضري ـ زنة (جري)، وهو مصدر (جرى) ـ وهي من أكبر بلاد الوادي الأيسر، وفيها آل علويّ بن ناصر، سادة من آل شيخان.

وفيها ناس من آل باوزير وآل بالبيد وآل باسلم، وناس من السّوقة.

وقد بتنا بها ليلة في سنة (1360 ه‍) بمنزل المكرّم الشّهم محمّد بن عوض اليافعيّ، في دار جميلة، مؤثّثة بالأثاث الطّيّب، في دار قوراء، جديدة العمارة على أحسن طراز.

ثمّ حوفة، فيها جماعة من ذرّيّة السّيّد عبد الله بن عبد الرّحمن الجفريّ.

قال شيخنا المشهور في «شمس الظّهيرة» [2 / 428]: (ومنهم الآن ـ يعني سنة (1307 ه‍) ـ: أحمد بن محمّد بن أحمد، شريف متواضع)، وهو جدّ السّيّد أحمد بن محمّد الجفريّ الّذي يعمل الآن في بير امبارك بسيئون للمكرّم سالم باحبيشيّ، وهو سيّد لطيف نشيط متواضع، مطرب الحداء، جميل الصّوت، يحفظ كثيرا من القصائد النّبويّة والصّوفيّة.

ومنهم: السّيّد صافي بن عبد الرّحمن بن صالح بن أحمد بن محمّد بن صالح بن عبد الله بن عبد الرّحمن مولى العرشة، ذكره في «شمس الظّهيرة» وقال: (إنّه ذو جاه وحشمة وثروة) اه

وقد نجع من حوفة إلى المدينة المشرّفة، ولم يكن له عمل إلّا الإنشاد على ضرب الطّار، حتّى ضمّه حفل مع شيخ السّادة بها، وهو السّيّد الجليل عبد الرّحيم بن سالم ـ الآتي ذكره في اللّسك ـ فلم يرقه أن يكون علويّ قوّالا، فأخذه إلى بيته وعاتبه.. فاعتذر بالحاجة، فقال له: الزم بيتي وأنا أكفيك المؤنة، ففعل وخدم بنشاط، فأحبّه وزوّجه من بنته آمنة، ولم يزل معه في حال طيّب حتّى جاء الأمر من السّلطان عبد المجيد باستقدام شيخ السّادة هذا، أو السّيّد المجمع على صلاحه وولايته: عمر بن عبد الله الجفريّ، للتبرّك بأحدهما والصّلاة خلفه، فلم يرغب في ذلك، ولم يكن بدّ من إجابة الطّلب.. فبعث شيخ السّادة بختنه السّيّد صافي، فكان له هناك جاه واسع حتّى إنّ السّلطان أطلق يده في تحف القصر، فكان في جملة ما أخذ: ستّة صحون من الذّهب مرصّعة بالجواهر، قوّمت في تركته باثني عشر ألف جنيه.

وبإثر رجوعه إلى المدينة.. أمر السلطان عبد المجيد بزيادته المعروفة في الحرم الشّريف، فكانت النّفقة على يد السّيّد صافي، فابتنى له عدّة قصور شاهقة، وتأثّل أموالا طائلة كان بها أغنى أهل المدينة، إلّا أنّ الأيّام تذكّره بما كان فيه أوّلا، فلم تنبسط يده في معروف، ثمّ لم يحمد المآل بينه وبين وليّ نعمته السّيّد عبد الرّحيم، فأبعده السّلطان عبد المجيد عن المدينة، ثمّ لم يقدر على الرّجوع إلّا بعد انحلال دولة السّلطان عبد المجيد بعد أن خرّف وذهب أكثر شعوره، وبها مات عن مئة وعشرين عاما.

وفيها جماعة من أعقاب السّيّد عقيل ابن سيّدنا عبد الرّحمن السّقّاف، منهم: عقيل بن أبي بكر.

ومن حوفة: آل باحبيشي، نجعوا إلى أسمرة، ومن ذرّيّتهم بها الآن أحمد وعمر وسعيد وسالم بنو عبيد باحبيشي، لهم تجارة واسعة، وثروة طائلة، ومآثر كريمة، منها: مكتبة بنوها إلى جانب جامع أسمرة، جمعوا لها نفائس الكتب وأعزّ دواوين الإسلام، ومن محاسنهم إجراء عين ماء إلى حوفة... إلى غير ذلك من مكارم الأخلاق وجلائل الأعمال، ولكبيرهم أحمد شجاعة وصرامة وشهامة، وبعد عن الذّلّ واحتمال الضّيم، ولسالم تعلّق بالصّحف والأخبار إلى تواضع عند الجميع.

وفي حوفة جماعة من آل باضريس، يتّفقون بالنّسب مع أهل الغرفة؛ منهم الشّيخ أحمد بن عمر بن عبد الله بن عليّ باضريس، كريم الخيم، نقيّ الأديم، طاهر السّيرة، أبيض السّريرة، نجع إلى مكّة المشرّفة من نحو سبع وأربعين عاما، يحترف بالتّجارة، ومع ذلك.. فقلّما فاتته فريضة في المسجد الحرام، وعليه كان نزولي في سنة (1354 ه‍)، فبالغ في راحتي، وسهر على خدمتي حتّى كأنّني في أهلي، فأسأل الله العظيم ربّ العرش الكريم أن يجازيه عنّي بأفضل الجزاء وأن يتقبّل ذلك منه بفضله وجوده.

وفي حوفة كثير من آل باعيسى العموديّين، وهي مقرّ آل بلّحمر، ومنهم: المقدّم الحاليّ سعيد بن عمر بلّحمر، صاحب الرّئاسة العامّة على جميع سيبان، وقد فصّلنا

أخباره في «الأصل» ويأتي شيء منها في قيدون.

وقد سبق في دوعن أن أحلنا على ما هنا في تسمية دوعن بهذا الاسم، قال الطّيّب بامخرمة: (ودوعان مركّب؛ ف (دو) بكلام فارس: عدد اثنين، و (عان) المعدّ المرتفع من الأودية، وهذان العانان أحدهما يمنة والآخر يسرة، فالأيمن مدينة الخريبة ـ وقد تقدّم ذكرها في حرف الخاء ـ والأيسر مدينة الدّوفة، وسيأتي ذكرها في هذا الحرف) اه

وأهل وادي ليسر ينبزون مع مأثور شجاعتهم بشيء من اللّيونة في الكلام كآل دمّون الواقعة بأسفل حضرموت، قال أحد شعراء الأيسر:

«يا الله على روس ليسر من قنيف انبطح *** تسمع رعوده كما ضفع البقر طح طح »

وقد أغفلنا كثيرا من القرى الصّغيرة في الواديين؛ لقلّة الأهميّة، ولكنّني كلّفت الولد الفاضل محمّد بن سالم بن حفيظ بن عبد الله ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم مع زيارته الأخيرة إلى دوعن أن يسأل أهل الخبرة ويكتب لي ما يتلقّاه منهم، ففعل كما تراه في الكشف الّذي يلي:

اسم البلد /عدد السّكان بالتّقريب /القبائل السّاكنة من سادة ومشايخ وغيرهم

كوكه /30/قبائل من الحالكة، يقال لهم: البلاغيث

خديش /500/سادة آل بروم، وآل العموديّ، وقبائل من الحالكة، وسوقة وغيرهم.

بلاد الماء /700/آل بروم، وآل خرد، وآل العموديّ، والحالكة، والسّوقة

بضه /3000/آل العطّاس، وآل خرد، وآل الجفريّ، وآل العموديّ، والسّوقة

حصن باعبد الصّمد /150/آل خرد، وآل العموديّ، وسوقة

الجبيل وقرن باجندوح /500/آل الشّيخ بو بكر، وآل باقيس، وقثم، ونوّح، وسوقة

مطروح /600/آل باجمّال، وقثم، ونوّح

عرض باسويد /100/نوّح

ظاهر /200/نوّح

حزم آل خالد /20/آل العموديّ

حويبة /20/أخدام آل المحضار

حلبون /500/آل باقيس، وآل باجبع، وسوقة، وعبيد

القويرة /900/آل المحضار، وآل باحسين، وآل باجبع، وسوقة

الرّشيد /1000/آل الحبشيّ، وآل باناجة، وآل بازرعة، والخامعة

باشعيب /15/الخامعة

حصن باعوم /7/آل باعوم

ذي بحور /100/مشايخ يقال لهم: آل محسن

الخريبة /3800/آل البار، وآل العطّاس، وآل الجفريّ، وآل باهارون، وآل العيدروس، وآل الجيلانيّ، وآل باسودان، وآل باراس، وآل حنشل، وآل باحويرث، وآل باجنيد، وسوقة

عرض آل منصّر /60/آل العموديّ، وسوقة

حصن خشامر /1/ليس فيه إلّا امرأة واحدة من آل العموديّ

قرن باحكيم /800/آل باحكيم، وآل باحشوان، ودار من آل العطّاس، وسوقة.

الحسوسة /40/آل باشحبل، وآل بامعلّم، وسوقة

حصن تنسبه /0/فارغ

قرحة آل باحميش /200/آل باحميش، وسوقة

غيل باحكوم /60/آل باحكوم

قرن ماجد /170/آل العموديّ، وسوقة

غيل بلخير /200/آل بلخير، وآل باطرفيّ

قارة الخزب /50/آل بافنع

خسوفر /170/آل بغلف، وسوقة

حصن الجبوب /30/قثم

هدون /600/آل باشيخ، وآل باخشوين من سيبان، وسوقة

رحاب /1100/آل الجفريّ، وآل الحبشيّ، وآل باعبد الله، وآل شماخ، وسوقة

القرين /1700/آل البار، وآل بلفقيه، وآل بامشموس، وسوقة

عورة /600/آل باصرّة، وآل باشنفر، وسوقة

الشّقّ الشّرقيّ /70/الخامعة من سيبان

باجاس /5/من سيبان

شويطة /50/من سيبان

شرق وحصن باقعر /350/آل باسودان وذيابنة، وآل بامقر، وآل بن زيد

حصن باحكيم /0/فارغ

حصن المكعمة /1/جنديّ واحد فقط

حصن باصمّ /200/آل باصم من نوّح

منوه /40/سوقة

رباط باعشن /2500/آل العطّاس، وآل الحامد، وآل الصّافي، وآل باعشن، وآل باسندوة، وسوقة

ليسر العرسمة /700/آل باشميل، والحالكة، وسوقة

جحي الخنابشة /450/آل مقيبل سادة، وآل باجنيد، والخنابشة من سيبان

عرض باقار /60/آل باقار من قبائل بني حسن

عرض باهيثم /100/آل باهيثم

الجديدة /220/الخنابشة

جريف /... /سادة من آل باصرّة، وآل باهبريّ، وسوقة

صبيخ /1000/آل العطّاس، وآل العموديّ، والحالكة، والخنابشة، وسوقة

حصن بقشان /70/آل بقشان من الحالكة

المشقعة /150/آل باوزير

حصن بعسر /40/آل بعسر من سيبان

حصن ابن العمر /50/آل باسعد من الحالكة

تولبة /500/آل باعقيل، وآل العموديّ، وسوقة

حيد الجزيل /150/آل العموديّ

حصن الخنابشة /60/الخنابشة من سيبان

الدّوفة /900/آل مقيبل، وآل جمل اللّيل، وآل العموديّ، والخنابشة، وحالكة، وسوقة

خيله /150/الحالكة من سيبان

ضري /700/آل علويّ بن ناصر، وآل باوزير، وغيرهم

حوفة وعرض الحمران /1500/آل الجفريّ، وآل السّقّاف، وآل المحضار، وآل باصرّة، وآل العطّاس، وآل العموديّ، وحالكة من سيبان، وسوقة

خليف آل باعبود /50/آل العموديّ

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


8-العباب الزاخر (حسف)

حسف

حسفت التمر أحسفه حسفًا- مثال نسفته أنسفه نسفًا-: أي نقيته، ومنه حديث عمر -رضي الله عنه-: أن أسلم مولاه كان يأتيه بالصاع من التمر فيقول: يا أسلم حت عنه قشره، قال: فأحسفه؛ فيأكله.

والحسافة -بالضم-: ما تناثر من التمر الفاسد.

والحسافة -أيضًا-: الغيظ والعداوة، يقال: في صدره علي حسافة وحسيفة.

وقال شمر: الحسافة والحشافة: الماء القليل، قال كثير:

«إذا النَّبْل في نَحْرِ الكُمَيْتِ كأنَّها *** شَوَارِعُ دَبْرٍ في حُسَافَةِ مثدْهُنِ»

والحسافة -أيضًا-: بقية الطعام.

وحسافة الفضة: سالحتها.

والحسف: الشوك.

والحسف: جري السحاب.

والحسفة: سحابة رقيقة.

وبئر حسيف -كالسخيف-: أي التي تحفر في حجارة فلا ينقطع ماؤها كثرة.

وقال أبو زيد: يقال: رجع فلان بحسفية نفسه: إذا رجع ولم يقض حاجة نفسه، وأنشد:

«إذا سُئُلوا المَعْرُوْفَ لم يَبْخَلُوا به *** ولم يَرْجِعوا طُلاّبَه بالحَسَائفِ»

والحَسِيْف والحسف: جرس الحيات، قال:

«أباتُوني بِشَرِّ مَـبِـيْتِ ضَـيْفٍ *** بِهِ حَسْفُ الأفاعي والبُرُوْصِ»

وقال أبن عباد: الحسف والحساف: الحصد.

وحسفت الغنم: سقتها.

وحسفها في الجماع: وهو دون الفخذين.

وحسف قلبه وحسك: أي أحن.

وقال الفراء: حسف فلان -على ما لم يسم فاعله-: أي رذل وأسقط.

وقال أبن عباد: أحسفت التمر: خلطته بحسافته.

وحسف شاربه تحسيفًا: أي حلقه.

والمتحسف من الناس: الذي لا يدع شيئًا إلا أكله.

وتحسفت أوبار الإبل وتوسفت: إذا تمعطت وتطايرت، وفي حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: كان يصيبنا ظلف العيش بمكة؛ فلما أصابنا البلاء اعتزمنا لذلك؛ وكان مصعب -يعني أبن عمير رضي الله عنه- أنعم غلام بمكة؛ فجهد في الإسلام حتى لقد رأيت جلده يتحسف تحسف جلد الحية عنها.

وانحسف الشيء: إذا تفتت في يدك.

والتركيب يدل على شيء يتقشر عن شيء ويسقط.

العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م


9-القاموس المحيط (الهيرة)

الهَيْرَةُ: الأرضُ السَّهْلَةُ.

والهِيرُ من الليلِ بالكسر والفتح وكسَيِّدٍ: الهِتْرُ، وريحُ الشَّمالِ.

والهَيْرُونُ: تَمْرٌ م.

واليَهْيَرُّ: الحَجَرُ الصُّلْبُ، أو حِجارَةٌ أمْثالُ الأَكفِّ، والصَّمْغَةُ الكبيرةُ، والسَّرابُ.

ومنه: "أكْذِبُ من اليَهْيَرِّ"، واللَّجاجَةُ، والكَذِبُ، ودُوَيبَّةٌ أعْظَمُ من الجُرَذِ، والحَنْظَلُ، والسَّمُّ، وصَمْغُ الطَّلْحِ، وبهاءٍ من النُّوقِ: التي يَسيلُ لَبَنُها كثْرَةً.

واليَهْيَرَّى، مَقْصورًا مشدَّدًا: الماءُ الكثيرُ، والباطلُ، ونَباتٌ، أو شَجَرٌ، زِنَتُهُ يَفْعَلَّى أو فَعْيَلَّى أو فَعْلَلَّى.

وهِيرٌ، بالكسر: ع بالبادِيَةِ.

والهَيارُ، كسَحابٍ: الذي يَنْهارُ ويَسْقُطُ.

القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م


10-القاموس المحيط (هلك)

هَلَكَ، كضَرَبَ ومَنَعَ وعَلِمَ، هُلْكًا، بالضم، وهَلاكًا وتُهْلُوكًا وهُلوكًا، بضمهما، ومَهْلَكَةً وتَهْلَكَةً، مُثَلَّثَتَيِ اللامِ: ماتَ، وأهْلَكَهُ واسْتَهْلَكَهُ وهَلَّكَهُ، وهَلَكَهُ يَهْلِكُهُ، لازِمٌ مُتَعَدٍ. ورجُلٌ هالِكٌ مِن هَلْكَى وهُلَّكٍ وهُلاَّكٍ، وهَوالِكَ شاذٌّ.

والهَلَكَةُ، محرَّكةً،

والهَلْكاءُ: الهَلاكُ.

وهَلَكةٌ هَلْكاءُ: تَوْكيد.

ولأَذْهَبَنَّ فإمَّا هَلْكٌ، وإمَّا مَلْكٌ، بِفَتْحِهِما، وبِضَمِّهِما، أي: إمَّا أن أهْلِكَ، وإمَّا أَنْ أمْلِكَ.

واسْتَهْلَكَ المالَ: أنْفَقَه وأنْفَدَهُ.

وأهْلَكَهُ: باعَهُ.

والمَهْلَكَةُ، ويُثَلَّثُ: المَفازَةُ.

والهَلَكونُ، كحلَزونٍ، وتُكْسَرُ الهاءُ: الأرضُ الجَدْبَةُ وإن كانَ فيها ماءٌ،

ويقالُ: هذه أرضٌ هَلَكينٌ، وأرضٌ هَلَكونٌ: إذا لمْ تُمْطَرْ مُنْذُ دَهْرٍ.

والهَلَكُ، محرَّكةً: السِّنونَ الجَدْبَةُ، الواحِدَةُ: بهاءٍ،

كالهَلَكاتِ، وما بين كُلِّ أرضٍ إلى التي تَحْتَها إلى الأَرْضِ السابِعَةِ، وجيفَةُ الشيءِ الهالِكِ، وما بين أعْلَى الجَبَلِ وأسْفَلِهِ، وهوَاءُ ما بين كلِّ شَيْئَيْنِ، والشيءُ الذي يَهْوِي ويَسْقُطُ.

والهَلوكُ، كصَبورٍ: الفاجِرَةُ المُتَساقِطَةُ على الرِّجالِ، والحَسَنَةُ التَّبَعُّلِ لِزَوْجِها، ضِدٌّ، والرجُلُ السَّريعُ الإِنْزَالِ.

وافْعَلْ ذلك إمَّا هَلَكَتْ هُلُكُ، بالضَّمَّاتِ، مَمْنُوعَةً، وقد تُصْرَفُ، وقد قيلَ: هَلَكَتْ هُلُكُهُ، أي: على كلِّ حالٍ، وعَن الكِسائِيِّ: هَلَكَةُ هُلُكَ: جَعَلَهُ اسمًا، وأضافَ إليه. ووقَعَ في "مُسْنَدِ" أحمدَ، في حديثِ الدَّجَّالِ: "فإِمَّا هَلَكَ الهُلُكُ، فإِنَّ رَبَّكُمْ ليسَ بأعْوَرَ"، هكذا بأَلْ.

والتًّهْلُكَةُ: كلُّ ما عاقِبَتُه إلى الهَلاكِ.

ووادي تُهُلِّكَ، بضم التاء والهاء، وكسرِ اللامِ المُشَدَّدَةِ، مَمْنُوعًَا: الباطِلُ.

والاهْتِلاَكُ والانْهِلاكُ: رَمْيُكَ نَفْسَكَ في تَهْلُكَةٍ.

والمُهْتَلِكُ: مَنْ لا هَمَّ له إلاَّ أنْ يَتَضَيَّفَهُ الناس.

والهُلاَّكُ: الذينَ يَنْتَابُونَ الناسَ ابْتِغَاءَ مَعْرُوفِهِم، والمُنْتَجِعُونَ الذينَ ضَلُّوا الطَّريقَ،

كالمُهْتَلِكينَ.

والهالِكِيُّ: الحَدَّادُ، والصَّيْقَلُ، لأنَّ أوَّلَ مَنْ عَمِلَ الحَديدَ الهالِكُ بنُ أسَدٍ.

وتَهالَكَ على الفِراشِ: تَساقَطَ،

وـ المرأةُ في مِشْيَتِهَا: تَمايَلَتْ.

والهالِكَةُ: النَّفْسُ الشَّرِهَةُ، وقد هَلَكَ يَهْلِكُ هَلاكًا.

وفلانٌ هِلْكَةٌ، بالكسرِ،

من الهِلَكِ، كعِنَبٍ: ساقِطَةٌ مِنَ السَّواقِطِ.

والهَيْلَكُونُ: المِنْجَلُ لا أسْنانَ له.

(والهالوكُ: سَمُّ الفأرِ، ونَوْعٌ من الطَّراثيثِ).

القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م


11-القاموس المحيط (الفربيون)

الفَرْبَيُونُ: دواءٌ مُلَطِّفٌ نافِعٌ لِعِرْقِ النَّسا، وبَرْدِ الكُلا، والقُولَنْجِ، ولَسْعِ الهَوامِّ، وعَضَّةِ الكَلْبِ، ويُسْقِطُ الجَنينَ، ويُسَهِّلُ البَلْغَمَ اللَّزِجَ.

القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م


12-المعجم الاشتقاقي المؤصل (ذرو ذرى)

(ذرو- ذرى): {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45]

ذُِرْوة الرأس والسَنَام -كلمة ذِروة بالكسر والضم: أشرفُهما. وقد ذَرَّى الشاةَ والناقةَ -ض: وهو أن يَجُزَّ صوفَها ووَبَرها ويدع فوق ظهرها شيئًا تعرف به (أي يترك على ظهرها (ذِرْوة) مساحة صغيرة غير مجزوزة الصوف أو الوبر بشكل يعرّف بها) والذُرة -كثُبة: ضَرْبٌ من الحب معروف أصله ذُرَو، أو ذُرَى -كصُرَد. والمِذْرَوَان: أطراف الأليتين، وجانبا الرأس (وموضعَا الوتر من طَرَفَى القوس). والذَرَى -كلفتي: ما كَنَّك من الريح الباردة من حائط أو شجر.

° المعنى المحوري

نفاذ إلى أعلى أو إلى الظاهر بامتداد ما مع شيء من التجمع والدقة: كذِرْوة الرأس والسنام، وكالبقية من صوف أو وَبَر فوق ظهر الشاة والناقة، وكحَبّ (كوز) الذُرَة في محُيطِه أي أعلاه إلا في الجوف كالبُرّ)، وكما تنتأ أطرافُ الأَليتين وجوانبُ الرأس، وطرفا القوس وكل تلك أطراف جانبية ظاهرة وملتئمة في دقة ما أيضًا، والذَرَى فيه أكثر ذلك فهو مرتفع كالناتئ، ومحدود، ويحمي كأنه يضم ويجمع.

ومن الرفع الحِسّيّ وحده "ذَرَت الريح التراب وغيره تذرُوه وتَذْريه ذَرْوًا وذَرْيًا: أطارَتْه وسَفَتْه وأذهبَته/ حَمَلته فأثارته (رفعته في مستقره ودفعته بعيدًا بعيدًا) {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45]، ومن الرفع الحسي "ذَرَّيْت الحنطة -ض- بالمِذري والمِذْراة (وهي خشبة طويلة ذات كف أو أصابع يُذَرَّى بها الطعام (: البُرّ) بقذْفه إلى أعلى فيطير التبن ويسقط الحب متجمعًا). وكذا ذَرَّيْتُ تراب المعدنِ: إذا طلبت منه الذهب (بنحو هذا). ومن المعنوى "فلان يُذَرِّى فلانًا -ض: يرفع أمره ويمدحه ". وفي قوله تعالى {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} [الذاريات: 1] في [بحر 8/ 132] الذاريات: الرياح..

وذَرْوُها تفريقها للمطر أو للتراب ". وليس في القرآن من التركيب إلا (الذاريات) و (الذَرْو) بمعنييهما المذكورين.

وقالوا أيضًا "ذَرَا نابُه: انكسر حَدُّه (طار رأسه، ويلحظ أن الفعل قاصر، وكأنه محول من ذَرِىَ). "وضربه بالسيف فأَذْرَى رأسَه (: أطاره)، وطَعَنه فأذْراَه عَنْ فَرَسه: صَرَعَه وألقاه. (كل ذلك من إطارة الذِروة). وأَذْرَت العينُ الدمعَ: صَبَّته ".

وقد قيل إن (الذُرِّية) من هذا التركيب. وهو ضعيف، لأن النسل امتداد نزوليّ، وهذا صعودي، كما قيل إنها من (ذرأ) أو (ذرر) وقد جريت على أنها من (ذرأ) لأنه أقرب.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


13-المعجم المفصل في علم الصرف (الفعل المضارع)

الفعل المضارع

1 ـ تعريفه: هو، في الاصطلاح، ما دلّ على معنى مقترن بزمان صالح للحاضر والمستقبل، نحو: «يفرح الطالب بنجاحه».

ويسمّى أيضا: الحاضر، والمستقبل، وفعل المستقبل، والمضارع، وفعل الحال،

والفعل الحاضر، والآتي، ويفعل، وبناء الفعل، وبناء ما يكون، وبناء ما هو كائن.

2 ـ علاماته: راجع: علامات الفعل.

3 ـ صياغته: يصاغ الفعل المضارع من الماضي بزيادة أحد حروف المضارعة (أ، ن، ي، ت)، مضموما في الرباعيّ، مفتوحا في غيره، نحو: «يقدم» (من «أقدم»)، و «يستغفر» (من «استغفر»)، و «يدخل» (من «دخل»).

4 ـ أوزانه: يأتي على الأوزان التالية:

أ ـ من الثلاثي المجرّد:

ـ يفعل مضارع «فعل» نحو: «علم ـ يعلم»، و «فعل» الذي لا يدلّ على المغالبة، ولا معتلّ الفاء بالواو، ولا معتلّ العين أو اللام بالواو أو الياء، وليس مضعّفا، ولا لامه أو عينه حرف حلق، نحو: «سأل ـ يسأل»، و «قرع ـ يقرع».

ـ يفعل، مضارع «فعل»، نحو: «شرف ـ يشرف»، و «فعل» الذي يدلّ على المغالبة، غير معتلّ العين أو اللام بالياء، ولا معتلّ الفاء بالواو، نحو: يضرب »، و «فعل» الذي يدلّ على المغالبة، وهو معتلّ العين واللام بالواو نحو: «عزا ـ يعزو»، و «فعل» المضعّف المتعدّي، نحو: «ردّ ـ يردّ» و «فعل» الذي ليس للمغالبة، ولا معتلّ الفاء بالواو، ولا معتلّ العين أو اللام بالواو أو الياء، وليس مضعّفا، وليست لامه أو عينه حرفا حلقيّا، نحو: «قعد ـ يقعد».

ـ يفعل، مضارع «فعل» الذي يدل على المغالبة، وهو معتلّ العين أو اللام بالياء، أو معتلّ الفاء بالواو، نحو: «رمى ـ يرمي »، و «فعل» الذي ليس للمغالبة، وهو معتلّ الفاء بالواو، نحو: «وجد ـ يجد»، أو معتلّ اللام بالياء نحو: «رمى ـ يرمي» أو «شاب ـ يشيب»، و «فعل» المضعّف المتعدّي، نحو: «فرّ ـ يفرّ»، و «فعل» الذي ليس للمغالبة، ولا معتلّ الفاء بالواو، ولا العين أو اللام بالواو أو الياء، وليس مضعّفا، وليست لامه أو عينه حرف حلق، نحو: «جلس ـ يجلس».

ب ـ من الثلاثيّ المزيد بحرف:

ـ يفعل، نحو: «أقدم ـ يقدم».

ـ يفاعل، نحو: «شارك ـ يشارك».

ـ يفعّل، نحو: «عظّم ـ يعظّم».

ج ـ من الثلاثي المزيد بحرفين:

ـ يفتعل، نحو: «استمع ـ يستمع».

ـ يفعلّ، نحو: «احمرّ ـ يحمرّ».

ـ ينفعل، نحو: «انكسر ـ ينكسر».

ـ يتفاعل، نحو: «تخاصم ـ يتخاصم».

ـ يتفعّل، نحو: تحطّم ـ يتحطّم».

د ـ من الثلاثيّ المزيد بثلاثة أحرف:

ـ يستفعل، نحو: «استخرج ـ يستخرج».

ـ يفعالّ، نحو: «احمارّ ـ يحمارّ».

ـ يفعوعل، نحو: «اخضوضر ـ يخضوضر».

ـ يفعوّل، نحو: «اجلوّذ ـ يجلوّذ» (يسير بسرعة).

ه ـ من الرباعيّ المجرّد:

ـ يفعلل، نحو: «دحرج ـ يدحرج».

و ـ من الملحق بالرباعيّ:

ـ يتفعل، نحو: «ترجم ـ يترجم».

ـ يسفعل، نحو: «سنبس ـ يسنبس» (يسرع).

ـ يفأعل، نحو: «طأمن ـ يطأمن».

ـ يفتعل، نحو: «حترف ـ يحترف».

ـ يفعئل، نحو: «برأل ـ يبرئل» (ينفش ريشه).

ـ يفعفل، نحو: «زهزق ـ يزهزق» (يضحك ضحكا شديدا).

ـ يفعلي، نحو: «قلسى ـ يقلسي» (ألبسه القلنسوة).

ـ يفعلت، نحو: «عفرت ـ يعفرت».

ـ يفعلس، نحو: «خلبس ـ يخلبس» (يخدع)

ـ يفعلل، نحو: «جلبب ـ يجلبب».

ـ يفعلم، نحو: «غلصم ـ يغلصم» (يقطع غلصومه).

ـ يفعلن، نحو: «قطرن ـ يقطرن».

ـ يفعمل، نحو: «قصمل ـ يقصمل» (يقارب الخطى في مشيه).

ـ يفعنل، نحو: «قلنس ـ يقلنس» (ألبسه القلنسوة).

ـ يفعهل، نحو: «غلهص ـ يغلهص» (يقطع غلصومه).

ـ يفعول، نحو: «جهور ـ يجهور».

ـ يفعيل، نحو: «شريف ـ يشريف» (يقطع أوراقه).

ـ يفمعل، نحو: «حمظل ـ يحمظل».

ـ يفنعل، نحو: «جندل ـ يجندل».

ـ يفهعل، نحو: «دهبل ـ يدهبل» (يكبر اللقمة).

ـ يفوعل، نحو: «حوقل ـ يحوقل» (يقول: لا حول ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم).

ـ يفيعل، نحو: «سيطر ـ يسيطر».

ـ يمفعل، نحو: «مرحب ـ يمرحب».

ـ ينفعل، نحو: «نرجس ـ ينرجس».

ـ يهفعل، نحو: «هلقم ـ يهلقم» (يكبر اللقمة).

ـ ييفعل، نحو: «يرنأ ـ ييرنىء» (يصبغ الحناء).

ز ـ من الرباعيّ المزيد بحرف:

ـ يتفعلل، نحو: «تدحرج ـ يتدحرج».

ح ـ من الرباعيّ المزيد بحرفين:

ـ يفعللّ، نحو: «اطمأنّ ـ يطمئنّ».

ـ يفعنلل، نحو: «احرنجم ـ يحرنجم» (يزدحم).

ط ـ من الملحق بالرباعيّ المزيد بحرف:

ـ يتفتعل، نحو: «تحترف ـ يتحترف».

ـ يتفعأل، نحو: «تبرأل ـ يتبرأل».

ـ يتفعلى، نحو: «تقلسى ـ يتقلسى» (يلبس القلنسوة).

ـ يتفعلت، نحو: «تعفرت ـ يتعفرت».

ـ يتفعلل، نحو: «تجلبب ـ يتجلبب».

ـ يتفعنل، نحو: «تقلنس ـ يتقلنس».

ـ يتفعول، نحو: «ترهوك ـ يترهوك» (يموج في مشيه).

ـ يتفعيل، نحو: «تتريق ـ يتتريق».

ـ يتفوعل، نحو: «تجورب ـ يتجورب».

ـ يتفيعل، نحو: «تشيطن ـ يتشيطن».

ـ يتمفعل، نحو: «تمسكن ـ يتمسكن».

ي ـ من الملحق بالرباعيّ المزيد بحرفين:

ـ يفعئلّ، نحو: «احتأمّ ـ يحتئمّ».

ـ يفعللّ، نحو: «ابيضضّ ـ يبيضضّ»

ـ يفعهلّ، نحو: «إقمهدّ ـ يقمهدّ» (يرفع رأسه).

ـ يفعولّ، نحو: «اهروزّ ـ يهروزّ».

ـ يفلعلّ، نحو: «ازلعبّ ـ يزلعبّ».

ـ يفمعلّ، نحو: «اسمقرّ ـ يسمقرّ».

ـ يفوعلّ، نحو: «اكوهدّ ـ يكوهدّ» (يكوهدّ الفرخ: يرتعد).

ـ ينفعلّ، نحو: «انقهلّ ـ ينقهلّ» (يضعف ويسقط).

ـ يفتعئل، نحو: «استلأم ـ يستلئم».

ـ يفتعلي، نحو: «استلقى ـ يستلقي».

ـ يفعلّل، نحو: «اخرمّس ـ يخرمّس» (يسكت).

ـ يفعنلي، نحو: «احرنبى ـ يحرنبي» (نفش ريشه).

ـ يفعنلل، نحو: «اقعنسس ـ يقعنسس» (يرجع ويتأخر).

ـ يفعنمل أو يفعمّل، نحو: «اهرنمع أو اهرمّع ـ يهرنمع أو يهرمّع» (يسرع).

ـ يفعيّل، نحو: «اهبيّخ ـ يهبيّخ» (يتبختر).

ـ يفونعل، نحو: «احونصل ـ يحونصل».

المعجم المفصل في علم الصرف-راجي الأسمر-صدر:1414هـ/1993م


14-معجم البلدان (بخارى)

بُخَارى:

بالضم: من أعظم مدن ما وراء النهر وأجلّها، يعبر إليها من آمل الشّطّ، وبينها وبين جيحون يومان من هذا الوجه، وكانت قاعدة ملك السامانية، قال بطليموس في كتاب الملحمة: طولها سبع وثمانون درجة، وعرضها إحدى وأربعون درجة، وهي في الإقليم الخامس، طالعها الأسد تحت عشر درج منه، لها قلب الأسد كامل تحت إحدى وعشرين درجة من السرطان يقابلها مثلها من الجدي بيت ملكها مثلها من الحمل بيت العاقبة مثلها من الميزان، ولها شركة في العيّوق ثلاث درج، ولها في الدّب الأكبر سبع درج، وقال أبو عون في زيجه: عرضها ست وثلاثون درجة وخمسون دقيقة، وهي في الإقليم الرابع. وأما اشتقاقها وسبب تسميتها بهذا الاسم فإني تطلّبته فلم أظفر به، ولا شك أنها مدينة قديمة نزهة كثيرة البساتين واسعة الفواكه جيّدتها عهدي بفواكهها تحمل إلى مرو، وبينهما اثنتا عشرة مرحلة، وإلى خوارزم، وبينهما أكثر من خمسة عشر يوما، وبينها وبين سمرقند سبعة أيام أو سبعة وثلاثون فرسخا، بينهما بلاد الصغد، وقال صاحب كتاب الصّور: وأما نزهة بلاد ما وراء النهر فإني لم أر ولا بلغني في الإسلام بلدا أحسن خارجا من بخارى لأنك إذا علوت قهندزها لم يقع بصرك من جميع النواحي إلّا على خضرة متصلة خضرتها بخضرة السماء فكأنّ السماء بها مكبّة خضراء مكبوبة على بساط أخضر تلوح القصور فيما بينها كالنّواوير فيها، وأراضي ضياعهم منعوتة بالاستواء كالمرآة.

وليس بما وراء النهر وخراسان بلدة أهلها أحسن قياما بالعمارة على ضياعهم من أهل بخارى ولا أكثر عددا على قدرها في المساحة، وذلك مخصوص بهذه البلدة لأن متنزهات الدنيا صغد سمرقند ونهر الأبلّة، وسنصف الصغد في موضعه إن شاء الله تعالى. قال:

فأما بخارى واسمها بومجكث، فهي مدينة على أرض مستوية وبناؤها خشب مشبّك ويحيط بهذا البناء من القصور والبساتين والمحالّ والسكك المفترشة والقرى المتصلة سور يكون اثني عشر فرسخا في مثلها يجمع هذه القصور والأبنية والقرى والقصبة، فلا ترى في خلال ذلك قفارا ولا خرابا، ومن دون هذا السور على خاص القصبة وما يتصل بها من القصور والمساكن والمحالّ والبساتين التي تعدّ من القصبة، ويسكنها أهل القصبة شتاء وصيفا، سور آخر نحو فرسخ في مثله، ولها مدينة داخل هذا السور يحيط بها سور حصين، ولها قهندز خارج المدينة متصل بها ومقداره مدينة صغيرة، وفيه قلعة بها مسكن ولاة خراسان من آل سامان، ولها ربض ومسجد الجامع على باب القهندز، وليس بخراسان وما وراء النهر مدينة أشد اشتباكا من بخارى ولا أكثر أهلا على قدرها، ولهم في الربض نهر الصغد يشقّ الربض، وهو آخر نهر الصغد، فيفضي إلى طواحين وضياع ومزارع ويسقط الفاضل منه في مجمع ماء بحذاء بيكند إلى قرب فربر يعرف بسام خاس، ويتخلّلها أنهار أخر، وداخل هذا السور مدن وقرى كثيرة، منها الطواويس، وهي مدينة بومجكث وزندنة وغير ذلك.

أخبرنا الشريف أبو هشام عبد المطلب حدثنا الإمام

العدل أبو الفتح أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر الحكمي حدثنا أبو اليسر إملاء حدثنا أبو يعقوب يوسف بن منصور السياري الحافظ إملاء وذكر إسنادا رفعه إلى حذيفة بن اليمان، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ستفتح مدينة بخراسان خلف نهر يقال له جيحون تسمّى ب

لوددت أن أوافق ذلك الزمان فكان أحبّ إليّ من أن أوافق ليلة القدر في أحد المسجدين مسجد الرسول أو المسجد الحرام. وكانت معاملة أهل بخارى في أيام السامانية بالدراهم ولا يتعاملون بالدنانير فيما بينهم، فكان الذهب كالسّلع والعروض، وكان لهم دراهم يسمونها الغطريفية من حديد وصفر وآنك وغير ذلك من جواهر مختلفة، وقد ركبت فلا تجوز هذه الدراهم إلا في بخارى ونواحيها وحدها، وكانت سكتها تصاوير، وهي من ضرب الإسلام، وكانت لهم دراهم أخر تسمّى المسيّبية والمحمدية جميعها من ضرب الإسلام. ومع ما وصفنا من فضل هذه المدينة فقد ذمّها الشعراء ووصفوها بالقذارة وظهور النّجس في أزقتها لأنهم لا كنف لهم، فقال لهم أبو الطيّب طاهر بن محمد بن عبد الله بن طاهر الطاهري:

«بخارى من خرا لا شكّ فيه، *** يعزّ بربعها الشيء النظيف»

«فإن قلت الأمير بها مقيم، *** فذا من فخر مفتخر ضعيف»

«إذا كان الأمير خرا فقل لي! *** أليس الخرء موضعه الكنيف؟»

وقال آخر:

«أقمنا في بخارى كارهينا، *** ونخرج إن خرجنا طائعينا»

«فأخرجنا إله الناس منها، *** فإن عدنا فإنا ظالمونا»

وقال محمود بن داود البخاري وقد تلوّث بالسّرجين:

«باء بخارى، فاعلمن، زائده *** والألف الوسطى بلا فائده»

«فهي خرا محض، وسكانها *** كالطير في أقفاصها راكده»

وقال أيضا:

«ما بلدة مبنية من خرا، *** وأهلها في وسطها دود»

«تلك بخارى من بخار الخرا، *** يضيع فيها النّدّ والعود»

وقال أبو أحمد بن أبي بكر الكاتب:

«فقحة الدّنيا بخارى، *** ولنا فيها اقتحام»

«ليتها تفسو بنا الآ *** ن، فقد طال المقام»

وأما حديث فتحها: فإنه لما مات زياد ابن أبيه، في سنة ثلاث وخمسين، في أيام معاوية فوفد عبيد الله بن زياد على معاوية، فقال له معاوية: من استخلف أخي

على عمله؟ فقال: استخلف خالد بن أسيد على الكوفة وسمرة بن جندب على البصرة، فقال له معاوية:

لو استعملك أبوك لاستعملتك، فقال له: أنشدك الله أن لا يقولها أحد بعدك، لو ولّاك أبوك أو عمّك لولّيتك، فعهد إليه وولّاه ثغر خراسان، وقيل: إن الذي ولي خراسان بعد موت زياد من ولده عبد الرحمن، قال البلاذري:

لما مات زياد استعمل معاوية عبيد الله بن زياد على خراسان، وهو ابن خمس وعشرين سنة، فقطع النهر في أربعة وعشرين ألفا، وكان ملك بخارى قد أفضى يومئذ إلى امرأة يسمّونها خاتون، فأتى عبيد الله بيكند، وكانت خاتون بمدينة بخارى فأرسلت إلى التّرك تستمدّهم، فجاءها منهم دهم فلقيهم المسلمون فهزموهم وحووا عسكرهم، وأقبل المسلمون يخرّبون ويحرقون فبعثت إليهم خاتون تطلب منهم الصلح والأمان، فصالحها على ألف ألف ودخل المدينة وفتح زامين وبيكند، وبينهما فرسخان، وزامين تنسب إلى بيكند ويقال: إنه فتح الصغانيان وعاد إلى البصرة في ألفين من سبي بخارى كلّهم جيّد الرمي بالنّشّاب ففرض لهم العطاء، ثم استعمل معاوية على خراسان سعيد بن عثمان بن عفّان سنة 55، فقطع النهر، وقيل: إنه أول من قطعه بجنده، وكان معه رفيع أبو العالية الرياحي، وهو مولّى لامرأة من بني رياح، فقال رفيع وأبو العالية رفعة وعلوّ، فلما بلغ خاتون عبوره حملت إليه الصلح، وأقبل أهل الصغد والترك وأهل كشّ ونسف إلى سعيد في مائة ألف وعشرين ألف فالتقوا ببخارى فندمت خاتون على أدائها الإتاوة ونقضت العهد، فحضر عبد لبعض أهل تلك الجموع فانصرف بمن معه فانكسر الباقون، فلما رأت خاتون ذلك أعطته الرّهن وأعادت الصلح، ودخل سعيد مدينة بخارى ثم غزا سمرقند كما نذكره في سمرقند. ثم لم يبلغني من خبرها شيء إلى سنة 87 في ولاية قتيبة بن مسلم خراسان، فإنه عبر النهر إلى بخارى فحاصرها فاجتمعت الصغد وفرغانة والشاش وبخارى فأحدقوا به أربعة أشهر ثم هزمهم وقتلهم قتلا ذريعا وسبى منهم خمسين ألف رأس، وفتحها فأصاب بها قدورا يصعد إليها بالسلاليم، ثم مضى منها إلى سمرقند، وهي غزوته الأولى، وصفت بخارى للمسلمين، وينسب إلى بخارى خلق كثير من أئمة المسلمين في فنون شتّى، منهم: إمام أهل الحديث أبو عبد الله محمد بن إسماعيل ابن إبراهيم بن مغيرة بن بردزبه، وبردزبه مجوسيّ أسلم على يد يمان البخاري والي بخارى، ويمان هذا هو أبو جدّ عبد الله بن محمد المسندي الجعفي، ولذلك قيل للبخاري: الجعفي نسبة إلى ولائهم، صاحب الجامع الصحيح والتاريخ، رحل في طلب العلم إلى محدّثي الأمصار وكتب بخراسان والعراق والشام والحجاز ومصر، ومولده سنة 194، ومات ليلة عيد الفطر سنة 256، وامتحن وتعصّب عليه حتى أخرج من بخارى إلى خرتنك فمات بها، ومنهم: أبو زكرياء عبد الرحيم بن أحمد بن نصر بن إسحاق بن عمرو بن مزاحم بن غياث التميمي البخاري الحافظ، سمع بما وراء النهر والعراق والشام ومصر وإفريقية والأندلس، ثم سكن مصر وحدث عن عبد الغني بن سعيد الحافظ وتمام بن محمد الرازي وعمن يطول ذكرهم، وحكى عنه الفقيه أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي أنه قال: لي ببخارى أربعة عشر ألف جزء أريد أن أمضي وأجيء بها، وقال أبو عبد الله محمد بن أحمد الخطّاب: سمع أبو

زكرياء البخاري ببخارى محمد بن أحمد بن سليمان الغنجار البخاري وأبا الفضل أحمد بن علي بن عمرو السليماني البيكندي وذكر جماعة بعدّة بلاد وقال:

سمع عبد الغني بن سعيد بمصر ودخل الأندلس وبلاد المغرب وكتب بها عن شيوخها ولم يزل يكتب إلى أن مات، وكتب عمن هو دونه، وفي مشايخه كثرة، وكان من الحفاظ الأثبات، عندي عنه مشتبه النسبة لعبد الغني، وقال أبو الفضل بن طاهر المقدسي في كتابه تكملة الكامل في معرفة الضعفاء: قال عبد الرحيم أبو زكرياء البخاري: حدث عن عبد الغني بن سعيد بكتاب مشتبه النسبة قراءة عليه وأنا أسمع، قال ابن طاهر: وفي هذا نظر، فإني سمعت الإمام أبا القاسم سعد بن علي الزنجاني الحافظ يقول: لم يرو هذا الكتاب عن عبد الغني غير ابن ابنته أبي الحسن بن بقاء الخشّاب، قال الحافظ أبو القاسم الدمشقي:

وفي قول الزنجاني هذا نظر فإنه شهادة على نفي وقد وجدنا ما يبطلها، وهو أنه قد روى هذا الكتاب عن عبد الغني أيضا أبو الحسن رشاء بن نظيف المقري، وكان من الثقات، وأبو زكرياء عبد الرحيم ثقة ما سمعنا أن أحدا تكلم فيه، وذكر أبو محمد الأكفاني أن أبا زكرياء البخاري مات بالحوراء سنة 461، وقال غيره: سئل عن مولده فقال في شهر ربيع الأول سنة 382، ومنهم: أبو علي الحسين بن عبد الله ابن سينا الحكيم البخاري المشهور أمره المقدور قدره صاحب التصانيف، تقلبت به أحوال أقدمته إلى الجبال فولي الوزارة لشمس الدولة أبي طاهر بن فخر الدولة بن ركن الدولة بن بويه صاحب همذان، وجرت له أمور وتقلبت به نكبات حتى مات في يوم السبت سادس شعبان سنة 428 عن ثمان وخمسين سنة، وأما الفقيه أبو الفضل عبد الرحمن بن محمد بن حمدون بن بخار البخاري وأبوه أبو بكر من أهل نيسابور فمنسوبان إلى جدهما، وأما أبو المعالي أحمد بن محمد بن علي بن أحمد البغدادي البخاري فإنه كان يحرق البخور في جامع المنصور احتسابا، فجعل أهل بغداد البخوريّ بخاريّا وعرف بيته في بغداد ببيت ابن البخاري، قالهما أبو سعد.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


15-معجم البلدان (سقطرى)

سُقُطْرَى:

بضم أوّله وثانيه، وسكون طائه، وراء، وألف مقصورة، ورواه ابن القطاع سقطراء، بالمدّ، في كتاب الأبنية: اسم جزيرة عظيمة كبيرة فيها عدّة قرى ومدن تناوح عدن جنوبيها عنها، وهي إلى برّ العرب أقرب منها إلى برّ الهند، والسالك إلى بلاد الزّنج يمرّ عليها، وأكثر أهلها نصارى عرب، يجلب منها الصبر ودم الأخوين، وهو صمغ شجر لا يوجد إلّا في هذه الجزيرة ويسمونه القاطر، وهو صنفان: خالص يكون شبيها بالصمغ في الخلقة إلّا أن لونه كأحمر شيء خلقه الله تعالى، والصنف الآخر مصنوع من ذلك، وكان أرسطاطاليس كتب إلى الإسكندر حين سار إلى الشام في أمر هذه الجزيرة يوصيه بها وأرسل إليه جماعة من اليونانيين ليسكنهم بها لأجل الصبر القاطر الذي يقع في الايارجات، فسيّر الإسكندر إلى هذه الجزيرة جماعة من اليونانيين وأكثرهم من مدينة أرسطاطاليس، وهي مدينة اسطاغرا، في المراكب بأهاليهم وسيّرهم في بحر القلزم فلمّا حصلوا بها غلبوا على من كان بها من الهند وملكوا الجزيرة بأسرها، وكان للهند بها صنم عظيم فنقل ذلك الصنم إلى بلاد الهند في أخبار يطول شرحها، فلما مات الإسكندر وظهر المسيح بن مريم، عليه السلام، تنصّر من كان بها من اليونانيّين وبقوا على ذلك إلى هذا الوقت، فليس في الدنيا موضع، والله أعلم، فيه قوم من اليونانيّين يحفظون أنسابهم ولم يداخلهم فيها غيرهم غير أهل جزيرة سقطرى، وكان يأوي إليها بوارج الهند الذين يقطعون على المسافرين من التجار، فأمّا الآن فلا، وقال الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني اليمني: وممّا يجاور سواحل اليمن من الجزائر جزيرة سقطرى وإليها ينسب الصبر السقطري، وهي جزيرة بربر ممّا يقع بين عدن وبلد الزنج، فإذا خرج الخارج من عدن إلى بلد الزنج أخذ كأنّه يريد عمان وجزيرة سقطرى تماشيه عن يمينه حتى ينقطع ثم التوى بها من ناحية بحر الزنج، وطول هذه الجزيرة ثمانون فرسخا، وفيها من جميع قبائل مهرة، وبها نحو عشرة آلاف مقاتل، وهم نصارى، ويذكرون أن قوما من بلد الروم طرحهم بها كسرى ثمّ نزلت بهم قبائل من مهرة فساكنوهم وتنصر معهم بعضهم، وبها نخل كثير، ويسقط بها العنبر، وبها دم الأخوين وهو الأيدع والصّبر الكثير، قال: وأما أهل عدن فإنّهم يقولون لم يدخلها من الروم أحد ولكن كان لأهلها الرهبانية ثمّ فنوا، وسكنها مهرة وقوم من الشراة، وظهرت فيها دعوة الإسلام ثمّ كثر بها الشراة فعدوا على من بها من المسلمين وقتلوهم غير عشرة أناسية، وبها مسجد بموضع يقال له السوق.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


16-معجم البلدان (واسط)

واسِطٌ:

في عدة مواضع: نبدأ أولا بواسط الحجاج لأنه أعظمها وأشهرها ثم نتبعها الباقي، فأوّل ما نذكر لم سميت واسطا ولم صرفت: فأما تسميتها فلأنها متوسطة بين البصرة والكوفة لأن منها إلى كل واحدة منهما خمسين فرسخا، لا قول فيه غير ذلك إلا ما ذهب إليه بعض أهل اللغة حكاية عن الكلبي أنه كان قبل عمارة واسط هناك موضع يسمّى واسط قصب، فلما عمّر الحجاج مدينته سمّاها باسمها، والله أعلم، قال المنجمون: طول واسط إحدى وسبعون درجة وثلثان، وعرضها اثنتان وثلاثون درجة وثلث، وهي في الإقليم الثالث، قال أبو حاتم:

واسط التي بنجد والجزيرة يصرف ولا يصرف، وأما واسط البلد المعروف فمذكّر لأنهم أرادوا بلدا واسطا أو مكانا واسطا فهو منصرف على كل حال والدليل على ذلك قولهم واسطا بالتذكير ولو ذهب به إلى التأنيث لقالوا واسط، قالوا: وقد يذهب به مذهب البقعة والمدينة فيترك صرفه، وأنشد سيبويه في ترك الصرف:

«منهنّ أيام صدق قد عرفت بها *** أيام واسط والأيام من هجرا»

ولقائل أن يقول: إنه لم يرد واسط هذه، فيرجع إلى

ما قاله أبو حاتم، قال الأسود: وأخبرني أبو النّدى قال: إن للعرب سبعة أواسط: واسط نجد، وهو الذي ذكره خداش بن زهير حيث قال:

«عفا واسط كلّاؤه فمحاضره *** إلى حيث نهيا سيله فصدائره»

وواسط الحجاز، وهو الذي ذكره كثيّر فقال:

«أجدّوا فأما أهل عزّة غدوة *** فبانوا وأما واسط فمقيم»

وواسط الجزيرة، قال الأخطل:

«كذبتك عينك أم رأيت بواسط *** غلس الظلام من الرّباب خيالا؟»

وقال أيضا:

«عفا واسط من أهل رضوى فنبتل *** فمجتمع الحرّين فالصبر أجمل»

وواسط اليمامة، وهو الذي ذكره الأعشى، وواسط العراق، قال: وقد نسيت اثنين، وأول أعمال واسط من شرقي دجلة فم الصلح ومن الجانب الغربي زرفامية، وآخر أعمالها من ناحية الجنوب البطائح وعرضها الخيثمية المتصلة بأعمال باروسما وعرضها من ناحية الجانب الشرقي عند أعمال الطيب، وقال يحيى بن مهدي بن كلال: شرع الحجاج في عمارة واسط في سنة 84 وفرغ منها في سنة 86 فكان عمارتها في عامين في العام الذي مات فيه عبد الملك بن مروان، ولما فرغ منها كتب إلى عبد الملك: إني اتخذت مدينة في كرش من الأرض بين الجبل والمصرين وسمّيتها واسطا، فلذلك سمّي أهل واسط الكرشيّين، وقال الأصمعي: وجّه الحجاج الأطبّاء ليختاروا له موضعا حتى يبني فيه مدينة فذهبوا يطلبون ما بين عين التمر إلى البحر وجوّلوا العراق ورجعوا وقالوا: ما أصبنا مكانا أوفق من موضعك هذا في خفوف الريح وأنف البرّيّة، وكان الحجاج قبل اتخاذه واسطا أراد نزول الصين من كسكر وحفر بها نهر الصين وجمع له الفعلة ثم بدا له فعمّر واسطا ثم نزل واحتفر النيل والزاب وسمّاه زابا لأخذه من الزاب القديم وأحيا ما على هذين النهرين من الأرضين ومصر مدينة النيل، وقال قوم: إن الحجاج لما فرغ من حروبه استوطن الكوفة فآنس منهم الملال والبغض له، فقال لرجل ممن يثق بعقله:

امض وابتغ لي موضعا في كرش من الأرض أبني فيه مدينة وليكن على نهر جار، فأقبل ملتمسا ذلك حتى سار إلى قرية فوق واسط بيسير يقال لها واسط القصب فبات بها واستطاب ليلها واستعذب أنهارها واستمرأ طعامها وشرابها فقال: كم بين هذا الموضع والكوفة؟ فقيل له: أربعون فرسخا، قال: فإلى المدائن؟ قالوا: أربعون فرسخا، قال: فإلى الأهواز؟ قالوا: أربعون فرسخا، قال: فللبصرة؟

قالوا: أربعون فرسخا، قال: هذا موضع متوسط، فكتب إلى الحجاج بالخبر ومدح له الموضع، فكتب إليه: اشتر لي موضعا ابني فيه مدينة، وكان موضع واسط لرجل من الدهاقين يقال له داوردان فساومه بالموضع فقال له الدهقان: ما يصلح هذا الموضع للأمير، فقال: لم؟ فقال: أخبرك عنه بثلاث خصال تخبره بها ثم الأمر إليه، قال: وما هي؟ قال: هذه بلاد سبخة البناء لا يثبت فيها، وهي شديدة الحرّ والسموم وإن الطائر لا يطير في الجوّ إلا ويسقط لشدّة الحر ميتا، وهي بلاد أعمار أهلها قليلة، قال: فكتب بذلك إلى الحجاج، فقال: هذا رجل يكره مجاورتنا فأعلمه أنّا سنحفر بها الأنهار ونكثر من البناء والغرس فيها ومن الزرع حتى تعذو وتطيب، وأما

قوله إنها سبخة وإن البناء لا يثبت فيها فسنحكمه ثم نرحل عنه فيصير لغيرنا، وأما قلة أعمار أهلها فهذا شيء إلى الله تعالى لا إلينا، وأعلمه أننا نحسن مجاورتنا له ونقضي ذمامه بإحساننا إليه، قال: فابتاع الموضع من الدهقان وابتدأ في البناء في أول سنة 83 واستتمه

وحدّث عليّ بن حرب الموصلي عن أبي البختري وهب عن عمرو بن كعب بن الحارث الحارثي قال:

سمعت خالي يحيى بن الموفق يحدث عن مسعدة بن صدقة العبدي قال: أنبأنا عبد الله بن عبد الرحمن حدثنا سماك بن حرب قال: استعملني الحجاج بن يوسف على ناحية بادوريا، فبينما أنا يوما على شاطئ دجلة ومعي صاحب لي إذا أنا برجل على فرس من الجانب الآخر فصاح باسمي واسم أبي، فقلت: ما تشاء؟ فقال: الويل لأهل مدينة تبنى ههنا، ليقتلنّ فيها ظلما سبعون ألفا! كرّر ذلك ثلاث مرّات ثم أقحم فرسه في دجلة حتى غاب في الماء، فلما كان من قابل ساقني القضاء إلى ذلك الموضع فإذا أنا برجل على فرس فصاح بي كما صاح في المرّة الأولى وقال كما قال وزاد: سيقتل من حولها ما يستقلّ الحصى لعددهم، ثم أقحم فرسه في الماء حتى غاب، قال: وكانوا يرون أنها واسط وما قتل الحجاج فيها، وقيل إنه أحصي في محبس الحجاج ثلاثة وثلاثون ألف إنسان لم يحبسوا في دم ولا تبعة ولا دين وأحصي من قتله صبرا فبلغوا مائة وعشرين ألفا، ونقل الحجاج إلى قصره والمسجد الجامع أبوابا من الزند ورد والدّوقرة ودير ماسرجيس وسرابيط فضجّ أهل هذه المدن وقالوا:

قد غصبتنا على مدائننا وأموالنا، فلم يلتفت إلى قولهم، قالوا: وأنفق الحجاج على بناء قصره والجامع والخندقين والسور ثلاثة وأربعين ألف ألف درهم، فقال له كاتبه صالح بن عبد الرحمن: هذه نفقة كثيرة وإن احتسبها لك أمير المؤمنين وجد في نفسه، قال: فما نصنع؟

قال: الحروب لها أجمل، فاحتسب منها في الحروب بأربعة وثلاثين ألف ألف درهم واحتسب في البناء تسعة آلاف ألف درهم، قال: ولما فرغ منه وسكنه أعجبه إعجابا شديدا، فبينما هم ذات يوم في مجلسه إذ أتاه بعض خدمه فأخبره أن جارية من جواريه وقد كان مائلا إليها قد أصابها لمم فغمّه ذلك ووجّه إلى الكوفة في إشخاص عبد الله بن هلال الذي يقال له صديق إبليس، فلما قدم عليه أخبره بذلك فقال: أنا أحل السحر عنها، فقال له: افعل، فلما زال ما كان بها قال الحجاج: ويحك إني أخاف أن يكون هذا القصر محتضرا! فقال له: أنا أصنع فيه شيئا فلا ترى ما تكرهه، فلما كان بعد ثلاثة أيام جاء عبد الله بن هلال يخطر بين الصفين وفي يده قلّة مختومة فقال: أيها الأمير تأمر بالقصر أن يمسح ثم تدفن هذه القلة في وسطه فلا ترى فيه ما تكرهه أبدا، فقال الحجاج له: يا ابن هلال وما علامة ذلك؟ قال:

أن يأمر الأمير برجل من أصحابه بعد آخر من أشداء أصحابه حتى يأتي على عشرة منهم فليجهدوا أن يستقلوا بها من الأرض فإنهم لا يقدرون، فأمر الحجاج محضره بذلك فكان كما قال ابن هلال، وكان بين يدي الحجاج مخصرة فوضعها في عروة القلة ثم قال:

بسم الله الرّحمن الرّحيم، إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، ثم شال القلة فارتفعت على المخصرة فوضعها ثم فكّر منكّسا رأسه ساعة ثم التفت إلى عبد الله بن هلال فقال له: خذ قلتك والحق بأهلك، قال: ولم؟ قال:

إن هذا القصر سيخرب بعدي وينزله غيري ويختفر محتفر فيجد هذه القلة فيقول لعن الله الحجاج إنما كان

يبدأ أمره بالسحر، قال: فأخذها ولحق بأهله، قالوا: وكان ذرع قصره أربعمائة في مثلها وذرع مسجد الجامع مائتين في مائتين وصف الرحبة التي تلي صفّ الحدّادين ثلاثمائة في ثلاثمائة وذرع الرحبة التي تلي الجزّارين والحوض ثلاثمائة في مائة والرحبة التي تلي الإضمار ما

لبيك لبيك! وأنفق سبعة آلاف ألف درهم حتى افتتح الهند واستنقذ المرأة وأحسن إليها واتخذ المناظر بينه وبين قزوين، وكان إذا دخّن أهل قزوين دخّنت المناظر إن كان نهارا، وإن كان ليلا أشعلوا نيرانا فتجرّد الخيل إليهم فكانت المناظر متصلة بين قزوين وواسط فكانت قزوين ثغرا حينئذ. وأما قولهم تغافل واسطيّ قال المبرّد: سألت الثوري عنه فقال: إن الحجاج لما بناها قال: بنيت مدينة في كرش من الأرض، كما قدمنا، فسمي أهلها الكرشيّين، فكان إذا مر أحدهم بالبصرة نادوا يا كرشيّ فتغافل عن ذلك ويري أنه لا يسمع أو أن الخطاب ليس معه، ولقد جاءني بخوارزم أحد أعيان أدبائها وسألني عن هذا المثل وقال لي:

قد أطلت السؤال عنه والتفتيش عن معنى قولهم: تغافل واسطي، فلم أظفر به، ولم يكن لي في ذلك الوقت به علم حتى وجدته بعد ذلك فأخبرته ثم وضعته أنا ههنا، ورأيت أنا واسطا مرارا فوجدتها بلدة عظيمة ذات رساتيق وقرى كثيرة وبساتين ونخيل يفوت الحصر، وكان الرخص موجودا فيها من جميع الأشياء ما لا يوصف بحيث أني رأيت فيها كوز زبد بدرهمين واثنتي عشرة دجاجة بدرهم وأربعة وعشرين فروجا بدرهم والسمن اثنا عشر رطلا بدرهم والخبز أربعون رطلا بدرهم واللبن مائة وخمسون رطلا بدرهم والسمك مائة رطل بدرهم وجميع ما فيها بهذه النسبة، وممن ينسب إليها خلف بن محمد بن علي ابن حمدون أبو محمد الواسطي الحافظ صاحب كتاب أطراف أحاديث صحيحي البخاري ومسلم، حدث عن أحمد بن جعفر القطيعي والحسين بن أحمد المديني وأبي بكر الإسماعيلي وغيرهم، روى عنه الحاكم أبو عبد الله وأبو نعيم الأصبهاني وغيرهما، وأنشدني التنوخي للفضل الرقاشي يقول:

«تركت عيادتي ونسيت برّي، *** وقدما كنت بي برّا حفيّا»

«فما هذا التغافل يا ابن عيسى؟ *** أظنّك صرت بعدي واسطيّا»

وأنشدني أحمد بن عبد الرحمن الواسطي التاجر قال:

أنشدني أبو شجاع بن دوّاس القنا لنفسه:

«يا ربّ يوم مرّ بي في واسط *** جمع المسرة ليله ونهاره»

«مع أغيد خنث الدلال مهفهف *** قد كاد يقطع خصره زنّاره»

«وقميص دجلة بالنسيم مفرّك *** كسر تجرّ ذيوله أقطاره»

وأنشدني أيضا لأبي الفتح المانداني الواسطي:

«عرّج على غربيّ واسط إنني *** دائي الدويّ بها وفرط سقامي»

«وطني وما قضّيت فيه لبانتي، *** ورحلت عنه وما قضيت مرامي»

وقال بشار بن برد يهجو واسطا:

«على واسط من ربها ألف لعنة، *** وتسعة آلاف على أهل واسط»

«أيلتمس المعروف من أهل واسط *** وواسط مأوى كلّ علج وساقط؟»

«نبيط وأعلاج وخوز تجمّعوا *** شرار عباد الله من كل غائط»

«وإني لأرجو أن أنال بشتمهم *** من الله أجرا مثل أجر المرابط»

وقال غيره يهجوهم:

«يا واسطيين اعلموا أنني *** بذمّكم دون الورى مولع»

«ما فيكم كلكم واحد *** يعطي ولا واحدة تمنع»

وقال محمد بن الأجلّ هبة الله بن محمد بن الوزير أبي المعالي بن المطلب يلقب بالجرد يذكر واسطا:

«لله واسط ما أشهى المقام بها *** إلى فؤادي وأحلاه إذا ذكرا! »

«لا عيب فيها، ولله الكمال، سوى *** أنّ النسيم بها يفسو إذا خطر! »

وواسط أيضا: قرية متوسطة بين بطن مرّ ووادي نخلة ذات نخيل، قال لي صديقنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمود النجار: كنت ببطن مرّ فرأيت نخلا عن بعد فسألت عنه فقيل لي هذه قرية يقال لها واسط، وقال بعض شعراء الأعراب يذكر واسطا في بلادهم:

«ألا أيها الصّمد الذي كان مرّة *** تحلّل سقّيت الأهاضيب من صمد»

«ومن وطن لم تسكن النفس بعده *** إلى وطن في قرب عهد ولا بعد»

«ومنزلتي دلقاء من بطن واسط *** ومن ذي سليل كيف حالكما بعدي»

«تتابع أمطار الربيع عليكما، *** أما لكما بالمالكية من عهد؟»

وواسط أيضا: قرية مشهورة ببلخ، قال إبراهيم ابن أحمد السراج: حدثنا محمد بن إبراهيم المستملي بحديث ذكره محمد بن محمد بن إبراهيم الواسطي واسط بلخ، قال أبو إسحاق المستملي في تاريخ بلخ:

نور بن محمد بن علي الواسطي واسط بلخ وبشير بن ميمون أبو صيفي من واسط بلخ عن عبيد المكتب وغيره حدث عنه قتيبة، وقال أبو عبيدة في شرح قول الأعشى:

«في مجدل شيّد بنيانه *** يزلّ عنه ظفر الطائر»

مجدل: حصن لبني السّمين من بني حنيفة يقال له واسط.

واسط أيضا: قرية بحلب قرب بزاعة مشهورة عندهم وبالقرب منها قرية يقال لها الكوفة.

وواسط أيضا: قرية بالخابور قرب قرقيسيا، وإياها عنى الأخطل فيما أحسب لأن الجزيرة منازل تغلب:

عفا واسط من أهل رضوى فنبتل وواسط أيضا: بدجيل على ثلاثة فراسخ من بغداد، قال الحافظ أبو موسى: سمعت أبا عبد الله يحيى بن

أبي علي البنّاء ببغداد، حدثني القاضي أبو عبد الله محمد ابن أحمد بن شاده الأصبهاني ثم الواسطي، واسط دجيل على ثلاثة فراسخ من بغداد، ومحمد بن عمر بن علي العطار الحربي ثم الواسطي واسط دجيل، روى عن محمد بن ناصر السلامي، روى عنه جماعة، منهم:

محمد بن عبد الغني بن نقطة.

واسط الرّقّة: كان أول من استحدثها هشام بن عبد الملك لما حفر الهنيّ والمريّ، قال أبو الفضل قال أبو علي صاحب تاريخ الرقة: سعيد بن أبي سعيد الواسطي واسم أبيه مسلمة بن ثابت خراسانيّ سكن واسط الرقة وكان شيخا صالحا، حدث أبوه مسلمة عن شريك وغيره، قال أبو علي:

سمعت الميمون يقول ذكروا أن الزهري لما قدم واسط الرقة عبر إليه سبعة من أهل الرقة، وذكر قصة، وواسط هذه: قرية غربي الفرات مقابل الرقة، وقال أبو حاتم: واسط بالجزيرة فهي هذه أو التي بقرقيسيا أو غيرها، قال كثيّر عزة:

«سألت حكيما أين شطّت بها النوى، *** فخبّرني ما لا أحبّ حكيم»

«أجدّوا، فأما آل عزّة غدوة *** فبانوا وأما واسط فمقيم»

«فما للنوى؟ لا بارك الله في النوى! *** وعهد النوى عند الفراق ذميم»

«شهدت لئن كان الفؤاد من النوى *** معنّى سقيما إنني لسقيم»

«فإمّا تريني اليوم أبدي جلادة *** فإني لعمري تحت ذاك كليم»

«وما ظعنت طوعا ولكن أزالها *** زمان بنا بالصالحين غشوم»

«فوا حزني لمّا تفرّق واسط *** وأهل التي أهذي بها وأحوم! »

قال محمد بن حبيب: واسط هذه بناحية الرقة، قاله في شرح ديوان كثير، وأنا أرى أنه أراد واسط التي بالحجاز أو بنجد بلا شك ولكن علينا أن ننقل عن الأئمة ما يقولونه، والله أعلم، وقال ابن السكيت في قول كثير أيضا:

«فإذا غشيت لها ببرقة واسط *** فلوى لبينة منزلا أبكاني»

قال واسط بين العذيبة والصفراء.

وواسط أيضا: من منازل بني قشير لبني أسيدة وهم بنو مالك بن سلمة بن قشير وأسيدة وحيدة من بني سعد بن زيد مناة، وبنو أسيدة يقولون هي عربية.

وواسط أيضا: بمكة، وذكر محمد بن إسحاق الفاكهي في كتاب مكة قال: واسط قرن كان أسفل من جمرة العقبة بين المأزمين فضرب حتى ذهب، قال: ويقال له واسط لأنه بين الجبلين اللذين دون العقبة، قال:

وقال بعض المكيين بل تلك الناحية من بركة القسري إلى العقبة تسمى واسط المقيم، ووقف عبد المجيد بن أبي روّاد بأحمد بن ميسرة على واسط في طريق منى فقال له: هذا واسط الذي يقول فيه كثير عزّة:

... وأما واسط فمقيم وقد ذكر، وقال ابن إدريس قال الحميدي: واسط الجبل الذي يجلس عنده المساكين إذا ذهبت إلى منى، قاله في شرح قول عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي في قصيدته التي أولها:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

«ولم يتربّع واسطا وجنوبه *** إلى المنحنى من ذي الأراكة حاضر»

«وأبدلنا ربي بها دار غربة *** بها الجوع باد والعدوّ محاصر»

قال السهيلي في شرح السيرة قال الفاكهي: يقال إن أول من شهده وضرب فيه قبّة خالصة مولاة الخيزران.

وواسط أيضا: بالأندلس بليدة من أعمال قبرة، قال ابن بشكوال: أحمد بن ثابت بن أبي الجهم الواسطي ينسب إلى واسط قبرة، سكن قرطبة، يكنى أبا عمر، روى عن أبي محمد الأصيلي وكان يتولى القراءة عليه، حدث عنه أبو عبد الله بن ديباج ووصفه بالخير والصلاح، قال ابن حبّان: توفي الواسطي في جمادي الآخرة سنة 437 وكفّ بصره.

وواسط أيضا: قرية كانت قبل واسط في موضعها خرّبها الحجاج، وكانت واسط هذه تسمى واسط القصب، وقد ذكرتها مع واسط الحجاج، قال ابن الكلبي:

كان بالقرب من واسط موضع يسمى واسط القصب هي التي بناها الحجاج أولا قبل أن يبني واسط هذه التي تدعى اليوم واسطا ثم بنى هذه فسماها واسطا بها.

وواسط أيضا: قرية قرب مطيراباذ قرب حلّة بني مزيد يقال لها واسط مرزاباذ، قال أبو الفضل: أنشدنا أبو عبد الله أحمد الواسطي، واسط هذه القرية، قال:

أنشدنا أبو النجم عيسى بن فاتك الواسطي من هذه القرية لنفسه من قصيدة يمدح بعض العمّال:

«وما على قدره شكرت له، *** لكنّ شكري له على قدري»

«لأن شكري السّهى وأنعمه ال *** بدر، وأين السهى من البدر! »

وواسط أيضا قال العمراني: واسط مواضع في بلاد بني تميم، وهي التي أرادها ذو الرمة بقوله:

«غربيّ واسط نها *** ومجّت في الكثيب الأباطح »

وقال ابن دريد: واسط مواضع بنجد، ولعلها التي قبلها، والله أعلم.

وواسط أيضا: قرية في شرقي دجلة الموصل بينهما ميلان ذات بساتين كثيرة.

وواسط أيضا: قرية بالفرج من نواحي الموصل بين مرق وعين الرّصد أو بين مرق والمجاهدية، فإني نسيت هذا المقدار.

وواسط أيضا: باليمن بسواحل زبيد قرب العنبرة التي خرج منها علي بن مهدي المستولي على اليمن.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


17-معجم البلدان (همذان)

هَمَذَانُ:

بالتحريك، والذال معجمة، وآخره نون، في الإقليم الرّابع، وطولها من جهة المغرب ثلاث وسبعون درجة، وعرضها ست وثلاثون درجة، قال هشام بن الكلبي: همذان سميت بهمذان بن الفلّوج ابن سام بن نوح، عليه السّلام، وهمذان وأصبهان أخوان بنى كل واحد منهما بلدة، ووجد في بعض كتب السريانيين في أخبار الملوك والبلدان: إن الذي بنى همذان يقال له كرميس بن حليمون، وذكر بعض علماء الفرس أن اسم همذان إنما كان نادمه ومعناه المحبوبة، وروي عن شعبة أنه قال: الجبال عسكر وهمذان معمعتها وهي أعذبها ماء وأطيبها هواء، وقال ربيعة بن عثمان: كان فتح همذان في جمادى الأولى على رأس ستة أشهر من مقتل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وكان الذي فتحها المغيرة بن شعبة في سنة 24 من الهجرة، وفي آخر: وجّه المغيرة بن شعبة وهو عامل عمر بن الخطاب على الكوفة بعد عزل عمار بن ياسر عنها جرير بن عبد الله البجلي إلى همذان في سنة 23 فقاتله أهلها وأصيبت عينه بسهم فقال: أحتسبها عند الله الذي زين بها وجهي ونوّر لي ما شاء ثم سلبنيها في سبيله، وجرى أمر همذان على مثل ما جرى عليه أمر نهاوند وذلك في آخر سنة 23 وغلب على أرضها قسرا وضمّها المغيرة إلى كثير بن شهاب والي الدينور، وإليه ينسب قصر كثير في نواحي الدينور، وقال بعض علماء الفرس: كانت همذان أكبر مدينة بالجبال وكانت أربعة فراسخ في مثلها، طولها من الجبل إلى قرية يقال لها زينوآباذ، وكان صنف التجار بها وصنف الصيارف بسنجاباذ، وكان القصر الخراب الذي بسنجاباذ تكون فيه الخزائن والأموال، وكان صنف البزازين في قرية يقال لها برشيقان، فيقال إن بخت نصّر بعث إليها قائدا

يقال له صقلاب في خمسمائة ألف رجل فأناخ عليها وأقام يقاتل أهلها مدة وهو لا يقدر عليها، فلما أعيته الحيلة فيها وعزم على الانصراف استشار أهله فقالوا:

الرأي أن تكتب إلى بخت نصر وتعلمه أمرك وتستأذنه في الانصراف، فكتب إليه: أما بعد فإني وردت على مدينة حصينة كثيرة الأهل منيعة واسعة الأنهار ملتفة الأشجار كثيرة المقاتلة وقد رمت أهلها فلم أقدر عليها وضجر أصحابي المقام وضاقت عليهم الميرة والعلوفة فإن أذن لي الملك بالانصراف فقد انصرفت.

فلما وصل الكتاب إلى بخت نصر كتب إليه: أما بعد فقد فهمت كتابك ورأيت أن تصوّر لي المدينة بجبالها وعيونها وطرقها وقراها ومنبع مياهها وتنفذ إليّ بذلك حتى يأتيك أمري، ففعل صقلاب ذلك وصوّر المدينة وأنفذ الصورة إليه وهو ببابل، فلما وقف عليه جمع الحكماء وقال: أجيلوا الرأي في هذه الصورة وانظروا من أين تفتح هذه المدينة، فأجمعوا على أن مياه عيونها تحبس حولا ثم تفتح وترسل على المدينة فإنها تغرق، فكتب بخت نصر إلى صقلاب بذلك وأمره بما قاله الحكماء، ففتح ذلك الماء بعد حبسه وأرسله على المدينة فهدم سورها وحيطانها وغرق أكثر أهلها فدخلها صقلاب وقتل المقاتلة وسبى الذرّية وأقام بها فوقع في أصحابه الطاعون فمات عامتهم حتى لم يبق منهم إلا قليل ودفنوا في أحواض من خزف فقبورهم معروفة توجد في المحالّ والسكك إذا عمروا دورهم وخرّبوا، ولم تزل همذان بعد ذلك خرابا حتى كانت حرب دارا بن دارا والإسكندر فإن دارا استشار أصحابه في أمره لما أظله الإسكندر فأشاروا عليه بمحاربته بعد أن يحرز حرمه وأمواله وخزائنه بمكان حريز لا يوصل إليه ويتجرد هو للقتال، فقال:

انظروا موضعا حريزا حصينا لذلك، فقالوا له: إن من وراء أرض الماهين جبالا لا ترام وهي شبيهة بالسند وهناك مدينة منيعة عتيقة قد خربت وبارت وهلك أهلها وحولها جبال شامخة يقال لها همذان فالرأي للملك أن يأمر ببنائها وإحكامها وأن يجعل في وسطها حصنا يكون للحرم والخزائن والعيال والأموال ويبني حول الحصن دور القوّاد والخاصة والمرازبة ثم يوكل بالمدينة اثني عشر ألف رجل من خاصة الملك وثقاته يحمونها ويقاتلون عنها من رامها، قال: فأمر دارا ببناء همذان وبنى في وسطها قصرا عظيما مشرفا له ثلاثة أوجه وسماه ساروقا وجعل فيه ألف مخبإ لخزائنه وأمواله وأغلق عليه ثمانية أبواب حديد كل باب في ارتفاع اثني عشر ذراعا ثم أمر بأهله وولده وخزائنه فحوّلوا إليها وأسكنوها، وجعل في وسط القصر قصرا آخر صيّر فيه خواص حرمه وأحرز أمواله في تلك المخابىء، ووكل بالمدينة اثني عشر ألفا وجعلهم حراسا، وحكى بعض أهل همذان عنها مثل ما حكيناه أولا عن بخت نصر من حبس الماء وإطلاقه على البلد حتى خربه وفتحه، والله أعلم، ويقال إن أول من بنى همذان جم بن نوجهان بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، عليه السّلام، وسماها سارو، ويعرب فيقال ساروق، وحصّنها بهمن بن إسفنديار، وإن دارا وجد المدينة حصينة المكان دارسة البناء فأعاد بناءها ثم كثر الناس بها في الزمان القديم حتى كانت منازلها تقدر بثلاثة فراسخ، وكان صنف الصاغة بها بقرية سنجاباذ واليوم تلك القرية على فرسخين من البلد، قال شيرويه في أخبار الفرس بلسانهم:

سارو جم كرد دارا كمر بست بهمن إسفنديار بسر آورد، معناه بنى الساروق جم ونطّقه دارا أي سوّره وعمم عليه سورا واستتمه وأحسنه بهمن بن إسفنديار، وذكر أيضا بعض مشايخ همذان أنها

أعتق مدينة بالجبل، واستدلوا على ذلك من بقية بناء قديم باق إلى الآن وهو طاق جسيم شاهق لا يدرى من بناه وللعامة فيه أخبار عامية ألغينا ذكرها خوف التهمة، وقال محمد بن بشار يذكر همذان وأروند:

«ولقد أقول تيامني وتشاءمي *** وتواصلي ريما على همذان»

«بلد نبات الزعفران ترابه، *** وشرابه عسل بماء قنان»

«سقيا لأوجه من سقيت لذكرهم *** ماء الجوى بزجاجة الأحزان»

«كاد الفؤاد يطير مما شفّه *** شوقا بأجنحة من الخفقان»

«فكسا الربيع بلاد أهلك روضة *** تفترّ عن نفل وعن حوذان»

«حتى تعانق من خزاماك الذي *** بالجلهتين شقائق النعمان»

«وإذا تبجّست الثلوج تبجّست *** عن كوثر شبم وعن حيوان»

«متسلسلين على مذانب تلعة *** تثغو الجداء بها على الحملان»

قال المؤلف: ولا شك عند كل من شاهد همذان بأنها من أحسن البلاد وأنزهها وأطيبها وأرفهها وما زالت محلّا للملوك ومعدنا لأهل الدين والفضل إلا أن شتاءها مفرط البرد بحيث قد أفردت فيه كتب وذكر أمره بالشعر والخطب وسنذكر من ذلك مناظرة جرت بين رجل من أهل العراق يقال له عبد القاهر بن حمزة الواسطي ورجل من همذان يقال له الحسين بن أبي سرح في أمرها فيه كفاية، قالوا:

وكانا كثيرا ما يلتقيان فيتحادثان الأدب ويتذاكران العلم وكان عبد القاهر لا يزال يذمّ الجبل وهواءه وأهله وشتاءه لأنه كان رجلا من أهل العراق وكان ابن أبي سرح مخالفا له كثيرا يذم العراق وأهله، فالتقيا يوما عند محمد بن إسحاق الفقيه وكان يوما شاتيا صادق البرد كثير الثلج وكان البرد قد بلغ من عبد القاهر مبالغه، فلما دخل وسلم قال: لعن الله الجبل ولعن ساكنيه وخص الله همذان من اللعن بأوفره وأكثره! فما أكدر هواءها وأشد بردها وأذاها وأشد مؤونتها وأقلّ خيرها وأكثر شرها، فقد سلط الله عليها الزمهرير الذي يعذب به أهل جهنم معما يحتاج الإنسان فيها من الدثار والمؤن المجحفة فوجوهكم يا أهل همذان مائلة وأنوفكم سائلة وأطرافكم خصرة وثيابكم متسخة وروائحكم قذرة ولحاكم دخانية وسبلكم منقطعة والفقر عليكم ظاهر والمستور في بلدكم مهتوك لأن شتاءكم يهدم الحيطان ويبرز الحصان ويفسد الطرق ويشعث الآطام، فطرقكم وحلة تتهافت فيها الدواب وتتقذر فيها الثياب وتتحطم الإبل وتخسف فيها الآبار وتفيض المياه وتكف السطوح وتهيج الرياح العواصف وتكون فيها الزلازل والخسوف والرعود والبروق والثلوج والدّمق فتنقطع عند ذلك السبل ويكثر الموت وتضيق المعايش، فالناس في جبلكم هذا في جميع أيام الشتاء يتوقعون العذاب ويخافون السخط والعقاب ثم يسمونه العدو المحاصر والكلب الكلب، ولذلك كتب عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إلى بعض عماله: إنه قد أظلّكم الشتاء وهو العدو المحاصر فاستعدوا له الفراء واستنعلوا الحذاء، وقد قال الشاعر:

«إذا جاء الشتاء فأدفئوني، *** فإن الشيخ يهدمه الشتاء»

فالشتاء يهدم الحيطان فكيف الأبدان لا سيما شتاؤكم

الملعون، ثم فيكم أخلاق الفرس وجفاء العلوج وبخل أهل أصبهان ووقاحة أهل الريّ وفدامة أهل نهاوند وغلظ طبع أهل همذان على أن بلدكم هذا أشد البلدان بردا وأكثرها ثلجا وأضيقها طرقا وأوعرها مسلكا وأفقرها أهلا، وكان يقال أبرد البلدان ثلاثة: برذعة وقاليقلا وخوارزم

«أقول لها ونحن على صلاء: *** أما للنار عندك حرّ نار؟»

«لئن خيّرت في البلدان يوما *** فما همذان عندي بالخيار»

ثم التفت إلى ابن أبي سرح وقال: يا أبا عبد الله وهذا والدك يقول:

«النار في همذان يبرد حرّها، *** والبرد في همذان داء مسقم»

«والفقر يكتم في بلاد غيرها، *** والفقر في همذان ما لا يكتم»

«قد قال كسرى حين أبصر تلّكم: *** همذان لا! انصرفوا فتلك جهنم»

والدليل على هذا أن الأكاسرة ما كانت تدخل همذان لأن بناءهم متصل من المدائن إلى أزرميدخت من أسدآباذ ولم يجوزوا عقبة أسدآباذ، وبلغنا أن كسرى أبرويز همّ بدخول همذان فلما بلغ إلى موضع يقال له دوزخ دره، ومعناه بالعربية باب جهنم، قال لبعض وزرائه: ما يسمى هذا المكان؟ فعرّفه، فقال لأصحابه: انصرفوا فلا حاجة بنا إلى دخول مدينة فيها ذكر جهنم، وقد قال وهب بن شاذان الهمذاني شاعركم:

«أما آن من همذان الرحيل *** من البلدة الحزنة الجامدة»

«فما في البلاد ولا أهلها *** من الخير من خصلة واحده»

«يشيب الشباب ولم يهرموا *** بها من ضبابتها الراكدة»

«سألتهم: أين أقصى الشتاء *** ومستقبل السنة الواردة؟»

«فقالوا: إلى جمرة المنتهى، *** فقد سقطت جمرة خامدة»

وأيضا قد قال شاعركم:

«يوم من الزمهرير مقرور *** على صبيب الضباب مزرور»

«كأنما حشوه جزائره *** وأرضه وجهها قوارير»

«يرمي البصير الحديد نظرته *** منها لأجفانه سمادير»

«وشمسه حرّة مخدّرة *** تسلّبت حين حمّ مقدور»

«تخال بالوجه من ضبابتها *** إذا حذت جلده زنابير»

وقال كاتب بكر:

«همذان متلفة النفوس ببردها *** والزمهرير، وحرّها مأمون»

«غلب الشتاء مصيفها وربيعها، *** فكأنما تموزها كانون»

وسأل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، رجلا: من أين أنت؟ فقال: من همذان، فقال: أما إنها مدينة همّ وأذى تجمد قلوب أهلها كما يجمد ماؤها، وقد قال شاعركم أيضا وهو أحمد بن بشّار يذم بلدكم وشدة برده وغلظ طبع أهله وما تحتاجون إليه من المؤن المجحفة الغليظة لشتائكم،

فقال: أما نهارهم فرقّاص وأما ليلهم فحمّال، يعني أنهم بالنهار يرقصون لتدفأ أرجلهم وبالليل حمّالون لكثرة دثارهم، ووقع أعرابيّ إلى همذان في الربيع فاستطاب الزمان وأنس بالأشجار والأنهار، فلما جاء الشتاء ورد عليه ما لم يعهده من البرد والأذى فقال:

«بهمذان شقيت أموري *** عند انقضاء الصيف والحرور»

«جاءت بشرّ شرّ من عقور، *** ورمت الآفاق بالهرير»

«والثلج مقرون بزمهرير، *** لولا شعار العاقر النزور»

«أمّ الكبير وأبو الصغير *** لم يدف إنسان من الخصير»

ولقد سمعت شيخا من علمائكم وذوي المعرفة منكم أنه يقول: يربح أهل همذان إذا كان يوم في الشتاء صافيا له شمس حارّة مائة ألف درهم، وقيل لابنة الحسن: أيّما أشد الشتاء أم الصيف؟ فقالت: من يجعل الأذى كالزّمّانة! لأن أهل همذان إذا اتفق لهم في الشتاء يوم صاف فيه شمس حارّة يبقى في أكياسهم مائة ألف درهم لأنهم يربحون فيه حطب الوقود وقيمته في همذان ورساتيقها في كل يوم مائة ألف درهم، وقيل لأعرابي: ما غاية البرد عندكم؟ فقال: إذا كانت السماء نقيّة والأرض نديّة والريح شاميّة فلا تسأل عن أهل البريّة، وقد جاء في الخبر أن همذان تخرب لقلة الحطب، ودخل أعرابيّ همذان فلما رأى هواءها وسمع كلام أهلها ذكر بلاده فقال:

«وكيف أجيب داعيكم ودوني *** جبال الثلج مشرفة الرّعان»

«بلاد شكلها من غير شكلي، *** وألسنها مخالفة لساني»

«وأسماء النساء بها زنان، *** وأقرب بالزّنان من الزواني»

فلما بلغ عبد القاهر إلى هذا المكان التفت إليه ابن أبي سرح وقال له: قد أكثرت المقال وأسرفت في الذمّ وأطلت الثّلب وطوّلت الخطبة، ثم صمد للإجابة فلم يأت بطائل أكثر من ذكر المفاخرة بين الصيف والشتاء والحر والبرد، ووصف أن بلادهم كثيرة الزهر والرياحين في الربيع وأنها تنبت الزعفران، وأن عندهم أنواعا من الألوان لا تكون في بلاد غيرهم، وأن مصيف الجبال طيّب فلم أر الإطالة بالإتيان به على وجهه، قالوا: وأقبل عبيد الله بن سليمان بن وهب إلى همذان في سنة 284 بمائة ألف دينار وسبعين ألف دينار بالكفاية على أن لا مؤونة على السلطان، وهي أربعة وعشرون رستاقا: همذان، وفرواز، وقوهياباذ، واناموج، وسيسار، وشراة العليا، وشراة الميانج، والاسفيذجان، وبحر، واباجر، وارغين، والمغارة، واسفيذار، والعلم الأحمر، وارناد، وسمير، وسردروذ، والمهران، وكوردور، وروذه، وساوه، وكان منها بسا وسلفانروذ وخرّقان ثم نقلت إلى قزوين، وهي ستمائة وستون قرية، وعملها من باب الكرج إلى سيسر طولا،

وعرضا من عقبة أسدآباذ إلى ساوه، قالوا: ومن عجائب همذان صورة أسد من حجر على باب المدينة يقال إنه طلسم للبرد من عمل بليناس صاحب الطلسمات حين وجّهه قباذ ليطلسم آفات بلاده، ويقال إن الفارس كان يغرق بفرسه في الثلج بهمذان لكثرة ثلوجها وبردها، فلما عمل لها هذ

«ألا أيها الليث الطويل مقامه *** على نوب الأيام والحدثان»

«أقمت فما تنوي البراح بحيلة، *** كأنك بوّاب على همذان»

«أطالب ذحل أنت من عند أهلها؟ *** أبن لي بحقّ واقع ببيان»

«أراك على الأيام تزداد جدّة، *** كأنك منها آخذ بأمان»

«أقبلك كان الدهر أم كنت قبله *** فنعلم أم ربّيتما بلبان؟»

«وهل أنتما ضدّان كلّ تفرّدت *** به نسبة أم أنتما أخوان؟»

«بقيت فما تفنى وأفنيت عالما *** سطا بهم موت بكل مكان»

«فلو كنت ذا نطق جلست محدثا، *** وحدثتنا عن أهل كل زمان»

«ولو كنت ذا روح تطالب مأكلا *** لأفنيت أكلا سائر الحيوان»

«أجنّبت شر الموت أم أنت منظر *** وإبليس حتى يبعث الثقلان»

«فلا هرما تخشى ولا الموت تتّقى *** بمضرب سيف أو شباة سنان»

«وعمّا قريب سوف يلحق ما بقي، *** وجسمك أبقى من حرا وأبان»

قال: وكان المكتفي يهمّ بحمل الأسد من باب همذان إلى بغداد وذلك أنه نظر إليه فاستحسنه وكتب إلى عامل البلد يأمره بذلك، فاجتمع وجوه أهل الناحية وقالوا: هذا طلسم لبلدنا من آفات كثيرة ولا يجوز نقله فيهلك البلد، فكتب العامل بذلك وصعّب حمله في تلك العقاب والجبال والمدور، وكان قد أمر بحمل الفيلة لنقله على العجلة، فلما بلغه ذلك فترت نيته عن نقله فبقي مكانه إلى الآن، وقال شاعر أهل همذان وهو أحمد بن بشار يذم همذان وشدة برده وغلظ طبع أهله وما يحتاجون إليه من المؤن المجحفة الغليظة لشتائهم:

«قد آن من همذان السير فانطلق، *** وارحل على شعب شمل غير متّفق»

«بئس اعتياض الفتى أرض الجبال له *** من العراق وباب الرزق لم يضق»

«أما الملوك فقد أودت سراتهم *** والغابرون بها في شيمة السّوق»

«ولا مقام على عيش ترنّقه *** أيدي الخطوب، وشرّ العيش ذو الرّنق»

«قد كنت أذكر شيئا من محاسنها *** أيّام لي فنن كاس من الورق»

«أرض يعذّب أهلوها ثمانية *** من الشهور كما عذّبت بالرّهق»

«تبقى حياتك ما تبقى بنافعة *** إلّا كما انتفع المجروض بالدمق»

«فإن رضيت بثلث العمر فارض به *** على شرائط من يقنع بما يمق»

«إذا ذوى البقل هاجت في بلادهم *** من جربيائهم نشّافة العرق»

«تبشّر الناس بالبلوى وتنذرهم *** ما لا يداوى بلبس الدّرع والدّرق»

«تلفّهم في عجاج لا تقوم لها *** قوائم الفيل فيل الماقط الشّبق»

«لا يملك المرء فيها كور عمّته *** حتى تطيّرها من فرط مخترق»

«فإن تكلم لاقته بمسكنة *** ملء الخياشيم والأفواه والحدق»

«فعندها ذهبت ألوانهم جزعا، *** واستقبلوا الجمع واستولوا على العلق»

«حتى تفاجئهم شهباء معضلة *** تستوعب الناس في سربالها اليقق»

«خطب بها غير هين من خطوبهم *** كالخنق ما منه من ملجا لمختنق»

«أمّا الغنيّ فمحصور يكابدها *** طول الشتاء مع اليربوع في نفق»

«يقول أطبق وأسبل يا غلام وأر *** خ السّتر واعجل بردّ الباب واندفق»

«وأوقدوا بتنانير تذكرهم *** نار الجحيم بها من يصل يحترق»

«والمملقون بها سبحان ربهم *** ماذا يقاسون طول الليل من أرق! »

«صبغ الشتاء، إذا حلّ الشتاء بها، *** صبغ المآتم للحسّانة الفنق»

«والذئب ليس إذا أمسى بمحتشم *** من أن يخالط أهل الدار والنّسق»

«فويل من كان في حيطانه قصر *** ولم يخصّ رتاج الباب بالغلق»

«وصاحب النسك ما تهدا فرائصه، *** والمستغيث بشرب الخمر في عرق»

«أمّا الصلاة فودّعها سوى طلل *** أقوى وأقفر من سلمى بذي العمق»

«تمسي وتصبح كالشيطان في قرن *** مستمسكا من حبال الله بالرّمق»

«والماء كالثلج، والأنهار جامدة، *** والأرض أضراسها تلقاك بالدّبق»

«حتى كأنّ قرون الغفر ناتئة *** تحت المواطئ والأقدام في الطرق»

«فكلّ غاد بها أو رائح عجل *** يمشي إلى أهلها غضبان ذا حنق»

«قوم غذاؤهم الألبان مذ خلقوا، *** فما لهم غيرها من مطعم أنق»

«لا يعبق الطيب في أصداغ نسوتهم، *** ولا جلودهم تبتلّ من عرق»

«فهم غلاظ جفاة في طباعهم *** إلّا تعلّة منسوب إلى الحمق»

«أفنيت عمري بها حولين من قدر *** لم أقو منها على دفع ولم أطق»

قلت: وهذه القصيدة ليست من الشعر المختار وإنما كتبت للحكاية عن شرح حال همذان، وللشعراء أشعار كثيرة في برد همذان ووصف أروند، فأما أروند فقد ذكر في موضعه، وأما الأشعار التي قيلت في بردها ففي ما ذكرنا كفاية، وقال البديع الهمذاني فيها:

«همذان لي بلد أقول بفضله، *** لكنه من أقبح البلدان»

«صبيانه في القبح مثل شيوخه، *** وشيوخه في العقل كالصبيان»

وقال شيرويه: قال الأستاذ أبو العلاء محمد بن عليّ بن الحسن بن حستون الهمذاني الوزير من قصيدة:

«يا أيها الملك الذي وصل العلا *** بالجود والإنعام والإحسان»

«قد خفت من سفر أطلّ عليّ في *** كانون في رمضان من همذان»

«بلد إليه أنتمي بمناسبي، *** لكنه من أقذر البلدان»

«صبيانه في القبح مثل شيوخه، *** وشيوخه في العقل كالصبيان»

وقال شيرويه أيضا: إن سليمان بن داود، عليه السلام، اجتاز بموضع همذان فقال: ما بال هذا الموضع مع عظم مسيل مائه وسعة ساحته لا تبنى فيه مدينة! فقالوا: يا نبيّ الله لا يثبت أحد فيه لأن البرد ينصبّ فيه صبّا ويسقط الثلج قامة الرمح، فقال، عليه السّلام، لصخر الجني: هل من حيلة؟

قال: نعم، فاتخذ سبعا من حجر منقور ونصب طلسما للبرد وبنى المدينة، وقيل: أول من أسسها دارا الأكبر، قال كعب الأحبار: متى أراد الله أن يخرّب هذه المدينة سقط ذلك الطلسم فتخرب بإذن الله، قال شيرويه: والسبع هو الأسد المنحوت من الحجر الخورزني، وخورزن: جبل بباب همذان الموضوع على الكثيب الذي على ذنب الأسد، وهذا الأسد من عجائب همذان منحوت من صخرة واحدة وجوارحه غير منفصلة عن قوائمه كأنه ليث غابة ولم يزل في هذا الموضع منذ زمن سليمان، عليه السّلام، وقيل: من زمان قباذ الأكبر لأنه أمر بليناس الحكيم بعمله إلى سنة 319 فإن مرداويج دخل المدينة ونهب أهلها وسباهم فقيل له إن هذا السبع طلسم لهذه المدينة من الآفات وفيه منافع لأهله، فأراد حمله إلى الرّيّ فلم يقدر فكسرت يداه بالفطّيس.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


18-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (الاشتراك)

الاشتراك:

الشركة مخالطة الشريكين، يقال: اشتركنا بمعنى تشاركنا، وقد اشترك الرجلان وتشاركا وشارك أحدهما الآخر، والشريك المشارك، وطريق مشترك: يستوي فيه الناس، واسم مشترك تشترك فيه معان كثيرة.

والاشتراك أو المشاركة عدة أنواع: منها ما يكون في اللفظ، ومنها ما يكون في المعنى. فالذي يكون في اللفظ ثلاثة أشياء:

الأول: أن يكون اللفظان راجعين الى حدّ واحد ومأخوذين من حدّ واحد، وذلك اشتراك محمود وهو التجنيس.

الثاني: أن يكون اللفظ يحتمل تأويلين أحدهما يلائم المعنى والآخر لا يلائمه ولا دليل فيه على المراد كقول الفرزدق:

«وما مثله في الناس إلّا مملّكا***أبو أمه حيّ أبوه يقاربه »

فقوله: «حي» يحتمل القبيلة ويحتمل الواحد الحي، وهذا الاشتراك مذموم، والمليح الذي يحفظ لكثيّر في قوله يشبب:

«لعمري لقد حبّبت كلّ قصيرة***اليّ وما تدري بذاك القصائر»

«عنيت قصيرات الحجال ولم أرد***قصار الخطى شرّ النساء البحاتر »

فانه لما أحسّ بالاشتراك نفاه وأعرب عن معناه الذي نحا اليه.

الثالث: ليس من هذا في شيء، وهو سائر الألفاظ المبتذلة للتكلم بها، ولا يسمى تناولها سرقة ولا تداولها اتباعا؛ لأنّها مشتركة لا أحد من الناس أولى بها من الآخر فهي مباحة غير محظورة إلّا أن تدخلها استعارة أو تصحبها قرينة تحدث فيها معنى أو تفيد فائدة فهناك يتميز الناس ويسقط اسم الاشتراك الذي يقوم به العذر. قال الحاتمي عن الاشتراك في اللفظ: «وقد اعتبر قوم هذا سرقا، وليس بسرق وإنّما هي ألفاظ مشتركة محصورة يضطر الى المواردة فيها إذا اعتمد الشاعر القول في معناه. ومثال ذلك قول المنخّل بن سبيع العنبري:

«ألا قد أرى والله أن لست منكم ***وأن لستم مني وإن كنتم أهلي »

وقول الآخر:

«ألا قد أرى والله أنّي ميّت ***ونخل مقيم سدرها أو بسالها »

ومما يعتمده قوم سرقا وليس بسرق وأنما هو اشتراك في اللفظ قول عنترة:

«ألا قاتل الله النوى كيف أصبحت ***ألحّ عليها يابثين صريرها»

وقول جميل:

«ألا قاتل الله النوى كيف أصبحت ***ألحّ عليها يابثين صريرها »

والاشتراك في المعاني نوعان:

الأول: أن يشترك المعنيان وتختلف العبارة عنهما فيتباعد اللفظان وذلك هو الجيد المستحسن.

الثاني: وهو على ضربين:

أحدهما: ما يوجد في الطباع من تشبيه الجاهل وبالثور والحمار؛ والحسن بالشمس والقمر.

والاخر: ضرب كان مخترعا ثم كثر حتى استوى فيه الناس وتواطأ عليه الشعراء آخرا عن أول.

ولم يخرج البلاغيون عما تقدم مما ذكره ابن رشيق والحاتمي فقد قسمه المصري الى معنوي ولفظي، وفرّق بين الاشتراك اللفظي والإيضاح بقوله: «إنّ الاشتراك في الالفاظ والايضاح في المعاني».

وتبعهم الحلبي والنويري والسيوطي وسماه الحموي والمدني «المشاركة» ولخصا كلام السابقين.

معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م


19-موسوعة الفقه الكويتية (إحراق 2)

إِحْرَاقٌ -2

35- الْغَالُّ هُوَ الَّذِي يَكْتُمُ مَا يَأْخُذُهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَلَا يُطْلِعُ الْإِمَامَ عَلَيْهِ، وَلَا يَضُمُّهُ إِلَى الْغَنِيمَةِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْرِيقِ مَالِ الْغَالِّ لِلْغَنِيمَةِ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَاللَّيْثُ: لَا يُحْرَقُ مَالُهُ.وَاسْتَدَلُّوا بِفِعْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَعَدَمِ تَحْرِيقِهِ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ بِزِمَامٍ مِنْ شَعْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا فِيمَا كُنَّا أَصَبْنَا مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَقَالَ: سَمِعْتَ بِلَالًا نَادَى ثَلَاثًا؟ قَالَ: نَعَمْ.قَالَ: فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَجِيءَ بِهِ؟ فَاعْتَذَرَ.فَقَالَ؛ كُنْ أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَنْ أَقْبَلَهُ مِنْكَ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.وَلِأَنَّ إِحْرَاقَ الْمَتَاعِ إِضَاعَةٌ لَهُ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ وَقَالَ بِإِحْرَاقِ مَالِ الْغَالِّ الْحَنَابِلَةُ وَفُقَهَاءُ الشَّامِ، مِنْهُمْ مَكْحُولٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ.

وَقَدْ أُتِيَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِغَالٍّ فَجَمَعَ مَالَهُ وَأَحْرَقَهُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَاضِرُ ذَلِكَ فَلَمْ يَعِبْهُ قَالَ يَزِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ: السُّنَّةُ فِي الَّذِي يَغُلُّ أَنْ يُحْرَقَ رَحْلُهُ.رَوَاهُمَا سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ.

وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَائِدَةَ، قَالَ: «دَخَلْتُ مَعَ مَسْلَمَةَ أَرْضَ الرُّومِ، فَأُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ غَلَّ، فَسَأَلَ سَالِمًا عَنْهُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا وَجَدْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فَأَحْرِقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ.قَالَ: فَوَجَدْنَا فِي مَتَاعِهِ مُصْحَفًا.فَسَأَلَ سَالِمًا عَنْهُ، فَقَالَ: بِعْهُ وَتَصَدَّقْ بِثَمَنِهِ».وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَحْرَقُوا مَتَاعَ الْغَالِّ»

36- قَالَ أَحْمَدُ: إِنْ لَمْ يُحْرِقْ رَحْلَهُ حَتَّى اسْتَحْدَثَ مَتَاعًا آخَرَ وَكَذَلِكَ إِنْ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، أُحْرِقَ مَا كَانَ مَعَهُ حَالَ الْغُلُولِ.

37- وَيُشْتَرَطُ فِي الْغَالِّ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا حُرًّا، فَتُوقَعُ عُقُوبَةُ الْإِحْرَاقِ فِي مَتَاعِ الرَّجُلِ وَالْخُنْثَى وَالْمَرْأَةِ وَالذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ.وَإِنْ كَانَ الْغَالُّ صَبِيًّا لَمْ يُحْرَقْ مَتَاعُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْأَوْزَاعِيِّ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَاقَ عُقُوبَةٌ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ.

38- وَيَسْقُطُ إِحْرَاقُ مَتَاعِ الْغَالِّ إِذَا مَاتَ قَبْلَ إِحْرَاقِ رَحْلِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، كَالْحُدُودِ؛ وَلِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ انْتَقَلَ الْمَتَاعُ إِلَى وَرَثَتِهِ، فَإِحْرَاقُهُ يَكُونُ عُقُوبَةً لِغَيْرِ الْجَانِي.وَإِنِ انْتَقَلَ مِلْكُهُ إِلَى غَيْرِ الْغَالِّ بِالْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ احْتَمَلَ عَدَمُ تَحْرِيقِهِ، لِصَيْرُورَتِهِ لِغَيْرِهِ فَأَشْبَهَ انْتِقَالَهُ لِلْوَارِثِ بِالْمَوْتِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَنْقُضَ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ وَيُحْرَقَ، لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ سَابِقٌ عَلَى الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ كَالْقِصَاصِ فِي حَقِّ الْجَانِي.

39- وَمَا لَا يُحْرَقُ لِلْغَالِّ بِالِاتِّفَاقِ الْمُصْحَفُ، وَالْحَيَوَانُ أَمَّا الْمُصْحَفُ فَلَا يُحْرَقُ، لِحُرْمَتِهِ، وَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ سَالِمٍ فِيهِ.وَإِنْ كَانَ مَعَ الْغَالِّ شَيْءٌ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ أَوِ الْعِلْمِ فَيَنْبَغِي أَلاَّ تُحْرَقَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ نَفْعَ ذَلِكَ يَعُودُ إِلَى الدِّينِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْإِضْرَارَ بِهِ فِي دِينِهِ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ الْإِضْرَارُ بِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُنْيَاهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُبَاعَ الْمُصْحَفُ وَيُتَصَدَّقُ بِهِ لِقَوْلِ سَالِمٍ فِيهِ.

40- أَمَّا الْحَيَوَانُ فَلَا يُحْرَقُ وَلِنَهْيِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّهَا؛ وَلِحُرْمَةِ الْحَيَوَانِ فِي نَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْمَتَاعِ الْمَأْمُورِ بِإِحْرَاقِهِ.

41- وَلَا تُحْرَقُ ثِيَابُ الْغَالِّ الَّتِي عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ عُرْيَانًا، وَلَا سِلَاحُهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ لِلْقِتَالِ، وَلَا نَفَقَتُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْرَقُ عَادَةً وَلِلِاحْتِيَاجِ إِلَى الْإِنْفَاقِ.

42- وَلَا يُحْرَقُ الْمَالُ الْمَغْلُولُ؛ لِأَنَّ مَا غُلَّ مِنْ غَنِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْقَصْدُ الْإِضْرَارُ بِالْغَالِّ فِي مَالِهِ وَقِيلَ لِأَحْمَدَ: أَيُّ شَيْءٍ يُصْنَعُ بِالْمَالِ الَّذِي أَصَابَهُ فِي الْغُلُولِ؟ قَالَ: يُرْفَعُ إِلَى الْغُنْمِ.

43- وَاخْتُلِفَ فِي آلَةِ الدَّابَّةِ، فَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهَا لَا تُحْرَقُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا، وَلِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِمَا لَا يُحْرَقُ فَأَشْبَهَ جِلْدَ الْمُصْحَفِ وَكِيسَهُ؛ وَلِأَنَّهَا مَلْبُوسُ حَيَوَانٍ، فَلَا يُحْرَقُ، كَثِيَابِ الْغَالِّ.وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُحْرَقُ سَرْجُهُ وَإِكَافُهُ.

مِلْكِيَّةُ مَا لَمْ يُحْرَقْ:

44- جَمِيعُ مَا ذُكِرَ مِمَّا لَمْ يُحْرَقْ، وَكَذَلِكَ مَا بَقِيَ بَعْدَ الْإِحْرَاقِ.مِنْ حَدِيدٍ أَوْ غَيْرِهِ وَهُوَ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ كَانَ ثَابِتًا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُزِيلُهُ، وَإِنَّمَا عُوقِبَ الْغَالُّ بِإِحْرَاقِ مَتَاعِهِ، فَمَا لَمْ يُحْرَقْ يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


20-موسوعة الفقه الكويتية (إحياء الموات 1)

إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ -1

1- الْإِحْيَاءُ فِي اللُّغَةِ جَعْلُ الشَّيْءِ حَيًّا، وَالْمَوَاتُ: الْأَرْضُ الَّتِي خَلَتْ مِنَ الْعِمَارَةِ وَالسُّكَّانِ.وَهِيَ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ.وَقِيلَ: الْمَوَاتُ الْأَرْضُ الَّتِي لَا مَالِكَ لَهَا، وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا أَحَدٌ.

وَإِحْيَاءُ الْمَوَاتِ فِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ كَمَا قَالَ الْأَتْقَانِيُّ شَارِحُ الْهِدَايَةِ: التَّسَبُّبُ لِلْحَيَاةِ النَّامِيَةِ بِبِنَاءٍ أَوْ غَرْسٍ أَوْ كَرْبٍ (حِرَاثَةٍ) أَوْ سَقْيٍ.وَعَرَّفَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِأَنَّهُ لَقَبٌ لِتَعْمِيرِ دَاثِرِ الْأَرْضِ بِمَا يَقْتَضِي عَدَمَ انْصِرَافِ الْمُعَمِّرِ عَنِ انْتِفَاعِهِ بِهَا.وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ عِمَارَةُ الْأَرْضِ الْخَرِبَةِ الَّتِي لَا مَالِكَ لَهَا، وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا أَحَدٌ.وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ عِمَارَةٌ مَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ مِلْكٌ لِأَحَدٍ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ أَثَرُ عِمَارَةٍ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

2- مِنَ الْأَلْفَاظِ ذَاتِ الصِّلَةِ: التَّحْجِيرُ أَوِ الِاحْتِجَارُ، وَالْحَوْزُ، وَالِارْتِفَاقُ، وَالِاخْتِصَاصُ، وَالْإِقْطَاعُ، وَالْحِمَى.

أ- التَّحْجِيرُ:

3- التَّحْجِيرُ أَوِ الِاحْتِجَارُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا: مَنْعُ الْغَيْرِ مِنَ الْإِحْيَاءِ بِوَضْعِ عَلَامَةٍ، كَحَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِ، عَلَى الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ لَا التَّمْلِيكَ.

ب- الْحَوْزُ وَالْحِيَازَةُ:

4- الْحَوْزُ وَالْحِيَازَةُ لُغَةً الضَّمُّ وَالْجَمْعُ.وَكُلُّ مَنْ ضَمَّ إِلَى نَفْسِهِ شَيْئًا فَقَدْ حَازَهُ.وَالْمُرَادُ مِنَ الْحِيَازَةِ اصْطِلَاحًا وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ الْمَحُوزِ.وَهِيَ لَا تُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: «حِيَازَةٌ»

ج- الِارْتِفَاقُ:

5- الِارْتِفَاقُ بِالشَّيْءِ لُغَةً الِانْتِفَاعُ بِهِ.وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ لَا يَخْرُجُ- فِي الْجُمْلَةِ- عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، عَلَى خِلَافٍ فِيمَا يُرْتَفَقُ بِهِ.وَمَوْضِعُهُ مُصْطَلَحِ: (ارْتِفَاقٌ).

د- الِاخْتِصَاصُ:

6- الِاخْتِصَاصُ بِالشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ: كَوْنُهُ لِشَخْصٍ دُونَ غَيْرِهِ.وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ لَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ.

وَالِاخْتِصَاصُ أَحَدُ الطُّرُقِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ.

هـ- الْإِقْطَاعُ:

7- الْإِقْطَاعُ فِي اللُّغَةِ وَالِاصْطِلَاحِ: جَعْلُ الْإِمَامِ غَلَّةَ أَرْضٍ رِزْقًا لِلْجُنْدِ أَوْ غَيْرِهِمْ.وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ إِقْطَاعَ الْمَوَاتِ لِمَنْ يُحْيِيهِ، فَيَكُونُ أَحَقَّ بِهِ كَالْمُتَحَجِّرِ الشَّارِعِ فِي الْإِحْيَاءِ.وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الِاخْتِصَاصِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (إِقْطَاعٌ).

صِفَةُ الْإِحْيَاءِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):

8- حُكْمُهُ الْجَوَازُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ».عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَلَهُ فِيهَا أَجْرٌ».وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهِ أَنَّهُ سَبَبٌ لِزِيَادَةِ الْأَقْوَاتِ وَالْخِصْبِ لِلْأَحْيَاءِ.

أَثَرُ الْإِحْيَاءِ (حُكْمُهُ الْوَضْعِيُّ):

9- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُحْيِيَ يَمْلِكُ مَا أَحْيَاهُ إِذَا تَوَافَرَتِ الشُّرُوطُ، وَذَلِكَ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، كَالْفَقِيهِ أَبِي الْقَاسِمِ أَحْمَدَ الْبَلْخِيِّ، إِذْ قَالُوا: إِنَّهُ يَثْبُتُ مِلْكُ الِاسْتِغْلَالِ لَا مِلْكُ الرَّقَبَةِ، قِيَاسًا عَلَى السَّبْقِ لِلِانْتِفَاعِ بِالْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ، كَالْمَجَالِسِ، وَخِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَمْلِكُ الْإِحْيَاءَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، إِنَّمَا يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ.

أَقْسَامُ الْمَوَاتِ:

10- الْمَوَاتُ قِسْمَانِ: أَصْلِيٌّ وَهُوَ مَا لَمْ يُعَمَّرْ قَطُّ، وَطَارِئٌ: وَهُوَ مَا خَرِبَ بَعْدَ عِمَارَتِهِ.

الْأَرَاضِي الَّتِي كَانَتْ جَزَائِرَ وَأَنْهَارًا:

11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَنْهَارَ وَالْجَزَائِرَ وَنَحْوَهُمَا إِذَا انْحَسَرَ عَنْهَا الْمَاءُ فَصَارَتْ أَرْضًا يَابِسَةً تَرْجِعُ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ.فَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِأَحَدٍ أَوْ وَقْفًا أَوْ مَسْجِدًا عَادَتْ إِلَى الْمَالِكِ أَوِ الْوَقْفِ أَوِ الْمَسْجِدِ، وَلَا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهَا، لَكِنْ قَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ الْمَالِكُ مَلَكَ الْأَرْضَ بِالشِّرَاءِ، فَإِنْ كَانَ مَلَكَهَا بِالْإِحْيَاءِ جَازَ لِلْغَيْرِ إِحْيَاؤُهَا.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لِأَحَدٍ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ لِلْأَرْضِ مَالِكٌ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ النَّهْرَ إِذَا كَانَ بَعِيدًا، بِحَيْثُ لَا يَعُودُ إِلَيْهِ الْمَاءُ، تَكُونُ أَرْضُهُ مَوَاتًا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهَا.وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا كَانَ النَّهْرُ قَرِيبًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْمَوَاتَ اسْمٌ لِمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ، وَلَا حَقًّا خَاصًّا لَهُ، لَمْ يَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهِ، فَكَانَ مَوَاتًا، بَعِيدًا عَنِ الْبَلَدِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا.وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ- رحمه الله- (- وَهُوَ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ الَّذِي اعْتَمَدَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ- لَا يَكُونُ مَوَاتًا إِذَا كَانَ قَرِيبًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَكُونُ قَرِيبًا مِنَ الْقَرْيَةِ لَا يَنْقَطِعُ ارْتِفَاقُ أَهْلِهَا عَنْهُ، فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ.وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ الِانْتِفَاعِ، حَتَّى لَا يَجُوزَ إِحْيَاءُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَهْلُ الْقَرْيَةِ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا، وَيَجُوزُ إِحْيَاءُ مَا لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْعَامِرِ.

12- وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ.وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهِ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ عَلَى طَرَفِ عُمْرَانِ الْقَرْيَةِ، فَيُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ، فَأَيُّ مَوْضِعٍ يَنْتَهِي إِلَيْهِ صَوْتُهُ يَكُونُ مِنْ فِنَاءِ الْعُمْرَانِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ يَحْتَاجُونَ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِرَعْيِ الْمَوَاشِي أَوْ غَيْرِهِ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَكُونُ مِنَ الْمَوَاتِ.

وَرَأَى سَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُ كَمُطَرِّفٍ وَأَصْبَغَ مِثْلَ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُقَيَّدْ بِجَوَازِ عَوْدِ الْمِيَاهِ، لِأَنَّ الْأَنْهَارَ الَّتِي لَمْ يُنْشِئْهَا النَّاسُ لَيْسَتْ مِلْكًا لِأَحَدٍ، وَإِنَّمَا هِيَ طَرِيقٌ لِلْمُسْلِمِينَ لَا يَسْتَحِقُّهَا مَنْ كَانَ يَلِي النَّهْرَ مِنْ جِهَتَيْهِ.وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ أَنَّ بَاطِنَ النَّهْرِ إِذَا يَبِسَ يَكُونُ مِلْكًا لِصَاحِبَيِ الْأَرْضِ الَّتِي بِجَنْبِ النَّهْرِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يُجَاوِرُ أَرْضَهُ مُنَاصَفَةً.وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ إِذَا مَالَ النَّهْرُ عَنْ مَجْرَاهُ إِلَى الْأَرْضِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُ.

وَيُسْتَخْلَصُ مِنْ نُصُوصِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ النَّهْرِ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ مِنَ الْأَنْهَارِ وَالْجَزَائِرِ لَا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهُ بِرَغْمِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا مِنْ قَبْلُ.وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِلسُّلْطَانِ إِعْطَاؤُهُ لِأَحَدٍ.قَالُوا: «وَلَوْ رَكِبَ الْأَرْضَ مَاءٌ أَوْ رَمْلٌ أَوْ طِينٌ فَهِيَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ مِلْكٍ أَوْ وَقْفٍ.فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ مَالِكٌ لِلْأَرْضِ وَانْحَسَرَ مَاءُ النَّهْرِ عَنْ جَانِبٍ مِنْهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ، وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ إِقْطَاعُهُ- أَيْ إِعْطَاؤُهُ- لِأَحَدٍ، كَالنَّهْرِ وَحَرِيمِهِ.وَلَوْ زَرَعَهُ أَحَدٌ لَزِمَهُ أُجْرَتُهُ لِصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ قَدْرُ حِصَّتِهِ إِنْ كَانَتْ لَهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.نَعَمْ لِلْإِمَامِ دَفْعُهُ لِمَنْ يَرْتَفِقُ بِهِ بِمَا لَا يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ.وَمِثْلُهُ مَا يَنْحَسِرُ عَنْهُ الْمَاءُ مِنَ الْجَزَائِرِ فِي الْبَحْرِ.وَيَجُوزُ زَرْعُهُ وَنَحْوُهُ لِمَنْ لَمْ يَقْصِدْ إِحْيَاءَهُ.وَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْبِنَاءُ وَلَا الْغِرَاسُ وَلَا مَا يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ.وَكُلُّ هَذَا إِذَا رُجِيَ عَوْدُ مَالِكِ الْأَرْضِ، فَإِنْ لَمْ يُرْجَ عَوْدُهُ كَانَتْ لِبَيْتِ الْمَالِ فَلِلْإِمَامِ إِقْطَاعُهَا رَقَبَةً أَوْ مَنْفَعَةً إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تَصَرُّفِهِ جَوْرٌ، لَكِنَّ الْمُقْطَعَ يَسْتَحِقُّ الِانْتِفَاعَ بِهَا مُدَّةَ الْإِقْطَاعِ خَاصَّةً».

13- وَفِي الْمُغْنِي: وَمَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ مِنَ الْجَزَائِرِ لَمْ يُمْلَكْ بِالْإِحْيَاءِ.قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُوسَى: إِذَا نَضَبَ الْمَاءُ عَنْ جَزِيرَةٍ إِلَى فِنَاءِ رَجُلٍ لَمْ يَبْنِ فِيهَا، لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا، وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ يَرْجِعُ.يَعْنِي أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ.فَإِذَا وَجَدَهُ مَبْنِيًّا رَجَعَ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَأَضَرَّ بِأَهْلِهِ؛ وَلِأَنَّ الْجَزَائِرَ مَنْبَتُ الْكَلأَِ وَالْحَطَبِ فَجَرَتْ مَجْرَى الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ.وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا حِمَى فِي الْأَرَاكِ».وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: يُرْوَى عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَبَاحَ الْجَزَائِرَ.يَعْنِي أَبَاحَ مَا يَنْبُتُ فِي الْجَزَائِرِ مِنَ النَّبَاتِ.وَقَالَ: «إِذَا نَضَبَ الْفُرَاتُ عَنْ شَيْءٍ، ثُمَّ نَبَتَ عَنْ نَبَاتٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْهُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا إِنْ غَلَبَ الْمَاءُ عَلَى مِلْكِ إِنْسَانٍ ثُمَّ عَادَ فَنَضَبَ عَنْهُ فَلَهُ أَخْذُهُ، فَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ بِغَلَبَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ.وَإِنْ كَانَ مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدٌ فَعَمَرَهُ رَجُلٌ عِمَارَةً لَا تَرُدُّ الْمَاءَ، مِثْلُ أَنْ يَجْعَلَهُ مَزْرَعَةً، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَحَجِّرٌ لِمَا لَيْسَ لِمُسْلِمٍ فِيهِ حَقٌّ، فَأَشْبَهَ التَّحَجُّرَ فِي الْمَوَاتِ».

إِذْنُ الْإِمَامِ فِي الْإِحْيَاءِ:

14- فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ مُخْتَلِفُونَ فِي أَرْضِ الْمَوَاتِ هَلْ هِيَ مُبَاحَةٌ فَيَمْلِكُ كُلُّ مَنْ يَحِقُّ لَهُ الْإِحْيَاءُ أَنْ يُحْيِيَهَا بِلَا إِذْنٍ مِنَ الْإِمَامِ، أَمْ هِيَ مِلْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَحْتَاجُ إِحْيَاؤُهَا إِلَى إِذْنٍ؟

ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الْإِحْيَاءَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ إِذْنُ الْإِمَامِ، فَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا بِلَا إِذْنٍ مِنَ الْإِمَامِ مَلَكَهَا. وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يَشْتَرِطُ إِذْنَ الْإِمَامِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْأَرْضُ الْمَوَاتُ قَرِيبَةً مِنَ الْعُمْرَانِ أَمْ بَعِيدَةً.وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ إِذْنَ الْإِمَامِ فِي الْقَرِيبِ قَوْلًا وَاحِدًا.وَلَهُمْ فِي الْبَعِيدِ طَرِيقَانِ: طَرِيقُ اللَّخْمِيِّ وَابْنِ رُشْدٍ أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ لِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ أَنَّهُ يَحْتَاجُ لِلْإِذْنِ.وَالْمَفْهُومُ مِنْ نُصُوصِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا يَحْتَاجُهُ النَّاسُ وَمَا لَا يَحْتَاجُونَهُ، فَمَا احْتَاجُوهُ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْإِذْنِ، وَمَا لَا فَلَا.

احْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا فَهِيَ لَهُ»؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ عَيْنٌ مُبَاحَةٌ فَلَا يَفْتَقِرُ مِلْكُهَا إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ كَأَخْذِ الْحَشِيشِ، وَالْحَطَبِ.

وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ لِلْمَرْءِ إِلاَّ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِهِ»،، وَبِأَنَّ هَذِهِ الْأَرَاضِي كَانَتْ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ ثُمَّ صَارَتْ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، فَصَارَتْ فَيْئًا، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْفَيْءِ أَحَدٌ دُونَ رَأْيِ الْإِمَامِ، كَالْغَنَائِمِ؛ وَلِأَنَّ إِذْنَ الْإِمَامِ يَقْطَعُ الْمُشَاحَّةَ.وَالْخِلَافُ بَيْنَ الْإِمَامِ وَصَاحِبَيْهِ فِي حُكْمِ اسْتِئْذَانِ الْإِمَامِ فِي تَرْكِهِ مِنَ الْمُحْيِي الْمُسْلِمِ جَهْلًا.أَمَّا إِنْ تَرَكَهُ مُتَعَمِّدًا تَهَاوُنًا بِالْإِمَامِ، كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْأَرْضَ مِنْهُ زَجْرًا لَهُ.وَكُلُّ هَذَا فِي الْمُحْيِي الْمُسْلِمِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ.

15- أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِإِحْيَاءِ الذِّمِّيِّ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الذِّمِّيُّ كَالْمُسْلِمِ فِي الْإِحْيَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِإِذْنِ الْإِمَامِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الذِّمِّيُّ كَالْمُسْلِمِ فِيهِ إِلاَّ فِي الْإِحْيَاءِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْإِذْنِ.وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي إِحْيَاءِ الذِّمِّيِّ إِذْنَ الْإِمَامِ اتِّفَاقًا بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ حَسْبَمَا وَرَدَ فِي شَرْحِ الدُّرِّ.وَمَنَعُوا الْإِحْيَاءَ لِلْمُسْتَأْمَنِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ.وَلَمْ يُجَوِّزِ الشَّافِعِيَّةُ إِحْيَاءَ الذِّمِّيِّ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ مُطْلَقًا.

مَا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ:

16- أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مَمْلُوكًا لِأَحَدٍ أَوْ حَقًّا خَاصًّا لَهُ أَوْ مَا كَانَ دَاخِلَ الْبَلَدِ لَا يَكُونُ مَوَاتًا أَصْلًا فَلَا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهُ.وَمِثْلُهُ مَا كَانَ خَارِجَ الْبَلَدِ مِنْ مَرَافِقِهَا مُحْتَطَبًا لِأَهْلِهَا أَوْ مَرْعًى لِمَوَاشِيهِمْ، حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْإِمَامُ إِقْطَاعَهَا.وَكَذَلِكَ أَرْضُ الْمِلْحِ وَالْقَارِ وَنَحْوِهِمَا، مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي الْمُسْلِمُونَ عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ إِحْيَاءُ مَا يَضِيقُ عَلَى وَارِدٍ أَوْ يَضُرُّ بِمَاءِ بِئْرٍ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِحْيَاءٌ فِي عَرَفَةَ وَلَا الْمُزْدَلِفَةِ وَلَا مِنًى، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى بِالْمُسْلِمِينَ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّضْيِيقِ فِي أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ، وَاسْتِوَاءِ النَّاسِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الْمَحَالِّ.

وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَيَنْبَغِي إِلْحَاقُ الْمُحَصَّبِ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُسَنُّ لِلْحَجِيجِ الْمَبِيتُ بِهِ.وَقَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ: لَيْسَ الْمُحَصَّبُ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ.فَمَنْ أَحْيَا شَيْئًا مِنْهُ مَلَكَهُ.

17- وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ الْمُحَجَّرَةَ لَا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهَا؛ لِأَنَّ مَنْ حَجَّرَهَا أَوْلَى بِالِانْتِفَاعِ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ.

فَإِنْ أَهْمَلَهَا فَلِفُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ تَفْصِيلَاتٌ: فَالْحَنَفِيَّةُ وَضَعُوا مُدَّةً قُصْوَى لِلِاخْتِصَاصِ الْحَاصِلِ بِالتَّحْجِيرِ هِيَ ثَلَاثُ سَنَوَاتٍ، فَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِإِحْيَائِهَا أَخَذَهَا الْإِمَامُ وَدَفَعَهَا إِلَى غَيْرِهِ.وَالتَّقْدِيرُ بِذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لِمُتَحَجِّرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ حَقٌّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَهْمَلَ الْأَرْضَ الَّتِي حَجَّرَهَا بِأَنْ لَمْ يَعْمَلْ فِيهَا، مَعَ قُوَّتِهِ عَلَى الْعَمَلِ مِنْ ذَلِكَ الْحِينِ إِلَى ثَلَاثِ سَنَوَاتٍ، فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ، عَمَلًا بِالْأَثَرِ السَّابِقِ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا التَّحَجُّرَ إِحْيَاءً إِلاَّ إِذَا جَرَى الْعُرْفُ بِاعْتِبَارِهِ كَذَلِكَ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ التَّحْجِيرَ بِلَا عَمَلٍ لَا يُفِيدُ، وَأَنَّ الْحَقَّ لِمَنْ أَحْيَا تِلْكَ الْأَرْضَ؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ أَقْوَى مِنَ التَّحْجِيرِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَهْمَلَ الْمُتَحَجِّرُ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ مُدَّةً غَيْرَ طَوِيلَةٍ عُرْفًا، وَجَاءَ مَنْ يُحْيِيهَا، فَإِنَّ الْحَقَّ لِلْمُتَحَجِّرِ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً لَيْسَتْ لِأَحَدٍ»- وَقَوْلُهُ: «فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ فَهِيَ لَهُ» أَنَّهَا لَا تَكُونُ لَهُ إِذَا كَانَ فِيهَا حَقٌّ.وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ».وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- قَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ- يَعْنِي مَنْ تَحَجَّرَ أَرْضًا- فَعَطَّلَهَا ثَلَاثَ سِنِينَ، فَجَاءَ قَوْمٌ فَعَمَرُوهَا، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ عَمَّرَهَا قَبْلَ ثَلَاثِ سِنِينَ لَا يَمْلِكُهَا؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ أَحْيَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ، كَمَا لَوْ أَحْيَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُ مِلْكِ غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُتَحَجِّرِ أَسْبَقُ، فَكَانَ أَوْلَى، كَحَقِّ الشَّفِيعِ، يُقَدَّمُ عَلَى شِرَاءِ الْمُشْتَرِي.فَإِنْ مَضَتْ مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ عَلَى الْإِهْمَالِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ بِلَا عُذْرٍ أَنْذَرَهُ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّقَ عَلَى النَّاسِ فِي حَقٍّ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمْ، فَلَمْ يُمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ وَقَفَ فِي طَرِيقٍ ضَيِّقٍ أَوْ شِرْعَةِ مَاءٍ أَوْ مَعْدِنٍ، لَا يَنْتَفِعُ، وَلَا يَدَعُ غَيْرَهُ يَنْتَفِعُ.فَإِنِ اسْتُمْهِلَ بِعُذْرٍ أَمْهَلَهُ الْإِمَامُ وَالْإِمْهَالُ لِعُذْرٍ يَكُونُ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ وَنَحْوَ ذَلِكَ.فَإِنْ أَحْيَا غَيْرُهُ فِي مُدَّةِ الْمُهْلَةِ فَلِلْحَنَابِلَةِ فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ.وَإِنِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَلَمْ يَعْمُرْ فَلِغَيْرِهِ أَنْ يَعْمُرَهُ وَيَمْلِكَهُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ ضُرِبَتْ لَهُ لِيَنْقَطِعَ حَقُّهُ بِمُضِيِّهَا.

حَرِيمُ الْعَامِرِ وَالْآبَارُ وَالْأَنْهَارُ وَغَيْرُهَا:

18- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِحْيَاءُ حَرِيمِ الْمَعْمُورِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ.وَكَذَلِكَ حَرِيمُ الْبِئْرِ الْمَحْفُورَةِ فِي الْمَوَاتِ وَحَرِيمُ النَّهْرِ.وَالْمُرَادُ بِحَرِيمِ الْمَعْمُورِ مَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ لِتَمَامِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَهُوَ مِلْكٌ لِمَالِكِ الْمَعْمُورِ، بِمَعْنَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنْ إِحْيَائِهِ بِجَعْلِهِ دَارًا مَثَلًا، وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ الْمُرُورِ فِيهِ، وَلَا الْمَنْعُ مِنْ رَعْيِ كَلأٍَ فِيهِ، وَالِاسْتِقَاءُ مِنْ مَاءٍ فِيهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.وَالدَّارُ الْمَحْفُوفَةُ بِدُورٍ لَا حَرِيمَ لَهَا.وَحَرِيمُ الْبِئْرِ مَا لَوْ حَفَرَ فِيهِ نَقَصَ مَاؤُهَا، أَوْ خِيفَ انْهِيَارُهَا.وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِصَلَابَةِ الْأَرْضِ وَرَخَاوَتِهَا.

19- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ حَرِيمِ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ وَالنَّهْرِ وَالشَّجَرِ.

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ حَرِيمَ بِئْرِ الْعَطَنِ (وَهِيَ الَّتِي يُسْتَقَى مِنْهَا لِلْمَوَاشِي) أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا.قِيلَ: الْأَرْبَعُونَ مِنَ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَشَرَةٌ.وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.وَأَمَّا حَرِيمُ الْبِئْرِ النَّاضِحِ (وَهِيَ أَنْ يَحْمِلَ الْبَعِيرُ الْمَاءَ مِنْ نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ لِسَقْيِ الزَّرْعِ) فَهُوَ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَعْرِفُ إِلاَّ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا.وَبِهِ يُفْتَى.وَمَنْ أَحْيَا نَهْرًا فِي أَرْضِ مَوَاتٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَسْتَحِقُّ لَهُ حَرِيمًا، وَعِنْدَهُمَا يَسْتَحِقُّ.وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ لَهُ حَرِيمًا بِالْإِجْمَاعِ.

وَذَكَرَ فِي النَّوَازِلِ: وَحَرِيمُ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ نِصْفُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.وَقَالَ مُحَمَّدٌ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِمِقْدَارِ عَرْضِ النَّهْرِ.وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.وَمَنْ أَخْرَجَ قَنَاةً فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ اسْتَحَقَّ الْحَرِيمَ بِالْإِجْمَاعِ.وَحَرِيمُهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ حَرِيمُ الْبِئْرِ.إِلاَّ أَنَّ الْمَشَايِخَ زَادُوا عَلَى هَذَا فَقَالُوا: الْقَنَاةُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ الْمَاءُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَنْزِلَةُ الْعَيْنِ الْفَوَّارَةِ، حَرِيمُهَا خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ بِالْإِجْمَاعِ.أَمَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَقَعُ الْمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ فَحَرِيمُهَا مِثْلُ النَّهْرِ.وَقَالُوا: إِنَّ حَرِيمَ الشَّجَرَةِ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ.

الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْبِئْرَ لَيْسَ لَهَا حَرِيمٌ مُقَدَّرٌ، فَقَدْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: «أَمَّا الْبِئْرُ فَلَيْسَ لَهَا حَرِيمٌ مَحْدُودٌ لِاخْتِلَافِ الْأَرْضِ بِالرَّخَاوَةِ وَالصَّلَابَةِ، وَلَكِنْ حَرِيمُهَا مَا لَا ضَرَرَ مَعَهُ عَلَيْهَا.وَهُوَ مِقْدَارُ مَا لَا يَضُرُّ بِمَائِهَا، وَلَا يُضَيِّقُ مُنَاخَ إِبِلِهَا وَلَا مَرَابِضَ مَوَاشِيهَا عِنْدَ الْوُرُودِ.وَلِأَهْلِ الْبِئْرِ مَنْعُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي ذَلِكَ الْحَرِيمِ.وَقَالُوا: إِنَّ لِلنَّخْلَةِ حَرِيمًا، وَهُوَ قَدْرُ مَا يُرَى أَنَّ فِيهِ مَصْلَحَتَهَا، وَيَتْرُكَ مَا أَضَرَّ بِهَا، وَيُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ.وَقَدْ قَالُوا: مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ ذِرَاعًا مِنْ نَوَاحِيهَا كُلِّهَا إِلَى عَشَرَةِ أَذْرُعٍ، وَذَلِكَ حَسَنٌ.وَيُسْأَلُ عَنِ الْكَرَمِ أَيْضًا وَعَنْ كُلِّ شَجَرَةٍ أَهْلُ الْعِلْمِ بِهِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ شَجَرَةٍ بِقَدْرِ مَصْلَحَتِهَا».

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ حَرِيمَ الْبِئْرِ الْمَحْفُورَةِ فِي الْمَوَاتِ (هِيَ مَا كَانَتْ مَطْوِيَّةً، وَيَنْبُعُ الْمَاءُ مِنْهَا): مَوْقِفُ النَّازِحِ مِنْهَا، وَالْحَوْضُ الَّذِي يَصُبُّ فِيهِ النَّازِحُ الْمَاءَ، وَمَوْضِعُ الدُّولَابِ (وَهُوَ مَا يَسْتَقِي بِهِ النَّازِحُ، وَمَا يَسْتَقِي بِهِ بِالدَّابَّةِ) وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُجْتَمَعُ فِيهِ لِسَقْيِ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ مِنْ حَوْضٍ وَنَحْوِهِ، وَمُتَرَدَّدُ الدَّابَّةِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُطْرَحُ فِيهِ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَوْضِ وَنَحْوِهِ، كُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مُحَدَّدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ.

وَحَرِيمُ آبَارِ الْقَنَاةِ (وَهِيَ الْمَحْفُورَةُ مِنْ غَيْرِ طَيٍّ لِيَجْتَمِعَ الْمَاءُ فِيهَا وَيُؤْخَذُ لِنَحْوِ الْمَزَارِعِ): مَا لَوْ حَفَرَ فِيهِ نَقَصَ مَاؤُهَا، أَوْ خِيفَ سُقُوطُهَا.وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِصَلَابَةِ الْأَرْضِ وَرَخَاوَتِهَا.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ كَمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِحْيَاءُ حَرِيمِ الْبِئْرِ وَالنَّهْرِ وَالْعَيْنِ، غَيْرَ أَنَّهُمُ انْفَرَدُوا بِأَنَّهُ بِحَفْرِ بِئْرٍ يَمْلِكُ حَرِيمَهَا.أَمَّا تَقْدِيرُ الْحَنَابِلَةِ لِلْحَرِيمِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فِي بِئْرٍ قَدِيمَةٍ فَهُوَ خَمْسُونَ ذِرَاعًا وَفِي غَيْرِهَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ.وَحَرِيمُ عَيْنٍ وَقَنَاةٍ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَنَهْرٌ مِنْ جَانِبَيْهِ: مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِطَرْحِ كَرَايَتِهِ (أَيْ مَا يُلْقَى مِنَ النَّهْرِ طَلَبًا لِسُرْعَةِ جَرْيِهِ)، وَحَرِيمُ شَجَرَةٍ: قَدْرُ مَدِّ أَغْصَانِهَا، وَحَرِيمُ أَرْضٍ تُزْرَعُ: مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِسَقْيِهَا وَرَبْطِ دَوَابِّهَا وَطَرْحِ سَبَخِهَا وَنَحْوِهِ.

إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ الْمُقَطَّعِ:

20- يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: أَقْطَعَ الْإِمَامُ الْجُنْدَ الْبَلَدَ إِقْطَاعًا أَيْ جَعَلَ لَهُمْ غَلَّتَهَا رِزْقًا وَاصْطِلَاحًا إِعْطَاءُ مَوَاتِ الْأَرْضِ لِمَنْ يُحْيِيهَا، وَذَلِكَ جَائِزٌ لِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حَجَرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَقْطَعَهُ أَرْضًا، فَأَرْسَلَ مَعَهُ مُعَاوِيَةَ: أَنْ أَعْطِهَا إِيَّاهُ، أَوْ أَعْلِمْهَا إِيَّاهُ».وَلَا بُدَّ قَبْلَ بَيَانِ حُكْمِ هَذَا الْإِحْيَاءِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ الْإِقْطَاعِ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِصِيغَتِهِ إِقْطَاعَ تَمْلِيكٍ، أَوْ إِقْطَاعَ إِرْفَاقٍ (انْتِفَاعٌ).فَإِنْ كَانَ إِقْطَاعَ إِرْفَاقٍ فَالْكُلُّ مُجْمِعٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ بِذَاتِهِ تَمْلِيكًا لِلرَّقَبَةِ، إِنْ كَانَ إِقْطَاعَ تَمْلِيكٍ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ بِهِ إِقْدَامُ غَيْرِ الْمُقْطَعِ عَلَى إِحْيَائِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ رَقَبَتَهُ بِالْإِقْطَاعِ نَفْسِهِ، خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ، فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ إِقْطَاعَ الْمَوَاتِ مُطْلَقًا لَا يُفِيدُ تَمَلُّكًا، لَكِنَّهُ يَصِيرُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْإِقْطَاعُ مُطْلَقًا، أَوْ مَشْكُوكًا فِيهِ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى إِقْطَاعِ الْإِرْفَاقِ؛ لِأَنَّهُ الْمُحَقَّقُ.

الْحِمَى:

21- الْحِمَى لُغَةً: مَا مُنِعَ النَّاسُ عَنْهُ، وَاصْطِلَاحًا: أَنْ يَمْنَعَ الْإِمَامُ مَوْضِعًا لَا يَقَعُ فِيهِ التَّضْيِيقُ عَلَى النَّاسِ لِلْحَاجَةِ الْعَامَّةِ لِذَلِكَ، لِمَاشِيَةِ الصَّدَقَةِ، وَالْخَيْلِ الَّتِي يُحْمَلُ عَلَيْهَا.

وَقَدْ كَانَ لِلرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَحْمِيَ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، لِقَوْلِهِ فِي الْخَبَرِ: «لَا حِمَى إِلاَّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ»،، لَكِنَّهُ لَمْ يَحْمِ لِنَفْسِهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا حَمَى لِلْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: «حَمَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- النَّقِيعَ لِخَيْلِ الْمُسْلِمِينَ».

وَأَمَّا سَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحْمُوا لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا، وَلَكِنْ لَهُمْ أَنْ يَحْمُوا مَوَاضِعَ لِتَرْعَى فِيهَا خَيْلُ الْمُجَاهِدِينَ، وَنَعَمُ الْجِزْيَةِ، وَإِبِلُ الصَّدَقَةِ، وَضَوَالُّ النَّاسِ، عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ مَنْ سِوَاهُ مِنَ النَّاسِ.وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي صَحِيحِ قَوْلَيْهِ.

وَقَالَ فِي الْآخَرِ: لَيْسَ لِغَيْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَحْمِيَ، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «لَا حِمَى إِلاَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ».

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ حَمَيَا وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِمَا، فَكَانَ إِجْمَاعًا.

وَمَا حَمَاهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَلَيْسَ لِأَحَدٍ نَقْضُهُ وَلَا تَغْيِيرُهُ مَعَ بَقَاءِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَمَنْ أَحْيَا مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَمْلِكْهُ.وَإِنْ زَالَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، وَدَعَتْ حَاجَةٌ لِنَقْضِهِ، فَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ جَوَازُ نَقْضِهِ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ.وَاسْتَظْهَرَ الْحَطَّابُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازَ نَقْضِهِ إِنْ لَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى إِرَادَةِ الِاسْتِمْرَارِ.

وَمَا حَمَاهُ غَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ فَغَيْرُهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ جَازَ، وَإِنْ أَحْيَاهُ إِنْسَانٌ مَلَكَهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِلْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ حِمَى الْأَئِمَّةِ اجْتِهَادٌ، وَمِلْكُ الْأَرْضِ بِالْإِحْيَاءِ نَصٌّ، وَالنَّصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الِاجْتِهَادِ.وَالْوَجْهُ الْآخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ: لَا يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّ اجْتِهَادَ الْإِمَامِ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ، كَمَا لَا يَجُوزُ نَقْضُ حُكْمِهِ.وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، كَذَلِكَ. مَنْ يَحِقُّ لَهُ الْإِحْيَاءُ

أ- فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ:

22- وَالْمُرَادُ بِهَا كَمَا بَيَّنَ الْقَلْيُوبِيُّ: مَا بَنَاهُ الْمُسْلِمُونَ، كَبَغْدَادَ وَالْبَصْرَةِ، أَوْ أَسْلَمَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ، كَالْمَدِينَةِ وَالْيَمَنِ، أَوْ فُتِحَ عَنْوَةً، كَخَيْبَرَ وَمِصْرَ وَسَوَادِ الْعِرَاقِ، أَوْ صُلْحًا وَالْأَرْضُ لَنَا وَهُمْ يَدْفَعُونَ الْجِزْيَةَ.وَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ أَنَّ عِمَارَتَهَا فَيْءٌ، وَمَوَاتَهَا مُتَحَجِّرٌ لِأَهْلِ الْفَيْءِ.وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ الْبَالِغَ الْعَاقِلَ الْحُرَّ لَهُ الْحَقُّ فِي أَنْ يُحْيِيَ الْأَرْضَ الْمَوَاتَ الَّتِي فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ كَالْمُسْلِمِ فِي حَقِّ الْإِحْيَاءِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، لَكِنَّ مُطَرِّفًا وَابْنَ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَنَعَا مِنْ إِحْيَائِهِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ (مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْحِجَازِ كُلِّهِ وَالنُّجُودِ وَالْيَمَنِ).وَقَالَ غَيْرُهُمَا: لَوْ قِيلَ إِنَّ حُكْمَ الذِّمِّيِّينَ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَبْعُدْ، كَمَا كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ مِنَ الْعُمْرَانِ.وَجَاءَ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: «أَنَّ الذِّمِّيَّ يَمْلِكُ بِالْإِحْيَاءِ كَمَا يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ» مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا يَشْتَرِطَانِ إِذْنَ الْإِمَامِ لِلْمُسْلِمِ.وَعَلَّلَ الشَّارِحُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْإِحْيَاءَ سَبَبُ الْمِلْكِ، فَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ كَمَا فِي سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ.وَالِاسْتِوَاءُ فِي السَّبَبِ يُوجِبُ الِاسْتِوَاءَ فِي الْحُكْمِ لَكِنَّ الَّذِي فِي شَرْحِ الدُّرِّ كَمَا سَبَقَ أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَصَاحِبَيْهِ فِي اشْتِرَاطِ إِذْنِ الْإِمَامِ فِي الْإِحْيَاءِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلذِّمِّيِّ فَيُشْتَرَطُ الْإِذْنُ اتِّفَاقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ إِحْيَاءِ الذِّمِّيِّ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي لَمْ تُعَمَّرْ قَطُّ إِنْ كَانَتْ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ فَلِلْمُسْلِمِ تَمَلُّكُهَا بِالْإِحْيَاءِ، أَذِنَ فِيهِ الْإِمَامُ أَمْ لَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِذِمِّيٍّ وَإِنْ أَذِنَ الْإِمَامُ، فَغَيْرُ الذِّمِّيِّ مِنَ الْكُفَّارِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ، فَلَا عِبْرَةَ بِإِحْيَائِهِ، وَلِلْمُسْلِمِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ وَيَمْلِكَهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عَيْنٌ فِيهِ كَزَرْعٍ رَدَّهُ الْمُسْلِمُ إِلَيْهِ، فَإِنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَهُوَ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ مُدَّةَ إِحْيَائِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِلْكًا لِأَحَدٍ.

وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الصَّبِيَّ الْمُسْلِمَ، وَلَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ يَمْلِكُ مَا أَحْيَاهُ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يُحْيِيَ، لَكِنْ مَا يُحْيِيهِ يَمْلِكُهُ سَيِّدُهُ.وَلَمْ يَذْكُرُوا شَيْئًا عَنْ إِحْيَاءِ الْمَجْنُونِ.وَبَاقِي الْمَذَاهِبِ لَمْ يُسْتَدَلَّ عَلَى أَحْكَامِ إِحْيَاءِ الْمَذْكُورِينَ عِنْدَهُمْ، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ» يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ وَالْمَجْنُونَ يَمْلِكَانِ مَا يُحْيِيَانِهِ.

ب- فِي بِلَادِ الْكُفَّارِ:

23- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْبَاجِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَوَاتَ أَهْلِ الْحَرْبِ يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُونَ بِالْإِحْيَاءِ، سَوَاءٌ أَفُتِحَتْ بِلَادُهُمْ فِيمَا بَعْدُ عَنْوَةً (وَهِيَ الَّتِي غُلِبَ عَلَيْهَا قَهْرًا) أَمْ صُلْحًا.وَقَالَ سَحْنُونٌ: مَا كَانَ مِنْ أَرْضِ الْعَنْوَةِ مِنْ مَوَاتٍ لَمْ يُعْمَلْ فِيهَا وَلَا جَرَى فِيهَا مِلْكٌ لِأَحَدٍ فَهِيَ لِمَنْ أَحْيَاهَا.وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ وَلِلذِّمِّيِّ إِحْيَاءُ مَوَاتِ بِلَادِ الْكُفْرِ، لَكِنَّهُمْ قَيَّدُوا جَوَازَ إِحْيَاءِ الْمُسْلِمِ بِعَدَمِ مَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ مَنَعَهُ الْكُفَّارُ فَلَيْسَ لَهُ الْإِحْيَاءُ.

وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أَحْيَا مَوَاتًا فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ فَتْحِهَا عَنْوَةً تَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ.وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْإِحْيَاءُ قَبْلَ فَتْحِهَا صُلْحًا عَلَى أَنْ تَبْقَى الْأَرْضُ لَهُمْ، وَلِلْمُسْلِمِينَ الْخَرَاجُ، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُحْتَمَلُ عَدَمُ إِفَادَةِ الْإِحْيَاءِ الْمِلْكَ؛ لِأَنَّهَا بِهَذَا الصُّلْحِ حُرِّمَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَمْلِكَهَا مَنْ أَحْيَاهَا؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ؛ وَلِأَنَّهَا مِنْ مُبَاحَاتِ دَارِهِمْ، فَجَازَ أَنْ يَمْلِكَهَا مَنْ وُجِدَ مِنْهُ سَبَبُ تَمَلُّكِهَا.

مَا يَكُونُ بِهِ الْإِحْيَاءُ:

24- يَكَادُ يَتَّفِقُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِيمَا يَكُونُ بِهِ الْإِحْيَاءُ، فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْإِحْيَاءَ يَكُونُ بِالْبِنَاءِ عَلَى الْأَرْضِ الْمَوَاتِ، أَوِ الْغَرْسِ فِيهَا، أَوْ كَرْيِهَا (حَرْثِهَا)، أَوْ سَقْيِهَا.

وَنَصَّ مَالِكٌ عَلَى أَنَّ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ أَنْ يَحْفِرَ فِيهَا بِئْرًا أَوْ يُجْرِيَ عَيْنًا أَوْ يَغْرِسَ شَجَرًا أَوْ يَبْنِيَ أَوْ يَحْرُثَ، مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ إِحْيَاءٌ.وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ.وَقَالَ عِيَاضٌ: اتُّفِقَ عَلَى أَحَدِ سَبْعَةِ أُمُورٍ: تَفْجِيرِ الْمَاءِ، وَإِخْرَاجِهِ عَنْ غَامِرِهَا بِهِ، وَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَالْحَرْثِ، وَمِثْلُهُ تَحْرِيكُ الْأَرْضِ بِالْحَفْرِ، وَقَطْعِ شَجَرِهَا، وَسَابِعُهَا كَسْرُ حَجَرِهَا وَتَسْوِيَةُ حَفْرِهَا وَتَعْدِيلُ أَرْضِهَا.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ مَا يَكُونُ بِهِ الْإِحْيَاءُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ، فَإِنْ أَرَادَ مَسْكَنًا اشْتُرِطَ لِحُصُولِهِ تَحْوِيطُ الْبُقْعَةِ بِآجُرٍّ أَوْ لَبِنٍ أَوْ مَحْضِ الطِّينِ أَوْ أَلْوَاحِ الْخَشَبِ وَالْقَصَبِ بِحَسَبِ الْعَادَةِ، وَسَقْفِ بَعْضِهَا لِتَتَهَيَّأَ لِلسُّكْنَى، وَنَصْبِ بَابٍ لِأَنَّهُ الْمُعْتَادُ فِي ذَلِكَ.وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى تَتَحَقَّقُ بِدُونِهِ.وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ زَرِيبَةً لِلدَّوَابِّ فَيُشْتَرَطُ التَّحْوِيطُ، وَلَا يَكْفِي نَصْبُ سَعَفٍ أَوْ أَحْجَارٍ مِنْ غَيْرِ بِنَاءٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ السَّقْفُ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي الزَّرِيبَةِ عَدَمُهُ، وَالْخِلَافُ فِي الْبَابِ كَالْخِلَافِ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَسْكَنِ.وَالْإِحْيَاءُ فِي الْمَزْرَعَةِ يَكُونُ بِجَمْعِ التُّرَابِ حَوْلَهَا، لِيَنْفَصِلَ الْمُحْيَا عَنْ غَيْرِهِ.وَفِي مَعْنَى التُّرَابِ قَصَبٌ وَحَجَرٌ وَشَوْكٌ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَحْوِيطِ وَتَسْوِيَةِ الْأَرْضِ بِطَمِّ الْمُنْخَفِضِ وَكَسْحِ الْمُسْتَعْلِي.

فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ ذَلِكَ إِلاَّ بِمَا يُسَاقُ إِلَيْهَا فَلَا بُدَّ مِنْهُ لِتَتَهَيَّأَ لِلزِّرَاعَةِ.وَلَا تُشْتَرَطُ الزِّرَاعَةُ بِالْفِعْلِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهَا اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَةٍ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْإِحْيَاءِ.وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا بُدَّ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الدَّارَ لَا تَصِيرُ مُحْيَاةً إِلاَّ إِذَا حَصَلَ فِيهَا عَيْنُ مَالِ الْمُحْيِي، فَكَذَا الْأَرْضُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


21-موسوعة الفقه الكويتية (أداء 1)

أَدَاءٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْأَدَاءُ: الْإِيصَالُ يُقَالُ: أَدَّى الشَّيْءَ أَوْصَلَهُ، وَأَدَّى دَيْنَهُ تَأْدِيَةً أَيْ قَضَاهُ.وَالِاسْمُ: الْأَدَاءُ.كَذَلِكَ الْأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ يُطْلَقَانِ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْمُؤَقَّتَاتِ، كَأَدَاءِ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ وَقَضَائِهَا، وَبِغَيْرِ الْمُؤَقَّتَاتِ، كَأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالْأَمَانَةِ، وَقَضَاءِ الْحُقُوقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَفِي اصْطِلَاحِ الْجُمْهُورِ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ: الْأَدَاءُ فِعْلُ بَعْضِ (وَقِيلَ كُلِّ) مَا دَخَلَ وَقْتُهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ وَاجِبًا كَانَ أَوْ مَنْدُوبًا، أَمَّا مَا لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ زَمَانٌ فِي الشَّرْعِ، كَالنَّفْلِ وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ وَالزَّكَاةِ، فَلَا يُسَمَّى فِعْلُهُ أَدَاءً وَلَا قَضَاءً.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الْأَدَاءُ تَسْلِيمُ عَيْنِ مَا ثَبَتَ بِالْأَمْرِ.وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي التَّعْرِيفِ التَّقْيِيدُ بِالْوَقْتِ لِيَشْمَلَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ وَالْأَمَانَاتِ وَالْمَنْذُورَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ، كَمَا أَنَّهُ يَعُمُّ فِعْلَ الْوَاجِبِ وَالنَّفَلِ.وَقَدْ يُطْلَقُ كُلٌّ مِنَ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ عَلَى الْآخَرِ مَجَازًا شَرْعِيًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} أَيْ أَدَّيْتُمْ، وَكَقَوْلِكَ: نَوَيْتُ أَدَاءَ ظُهْرِ الْأَمْسِ.

2- وَالْأَدَاءُ إِمَّا مَحْضٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ كَامِلًا كَصَلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فِي جَمَاعَةٍ، أَمْ قَاصِرًا كَصَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ؛ وَإِمَّا غَيْرُ مَحْضٍ، وَهُوَ الشَّبِيهُ بِالْقَضَاءِ، كَفِعْلِ اللاَّحِقِ الَّذِي أَدْرَكَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ، وَفَاتَهُ الْبَاقِي فَأَتَمَّ صَلَاتَهُ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ، فَفِعْلُهُ أَدَاءٌ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ فِي الْوَقْتِ، قَضَاءٌ بِاعْتِبَارِ فَوَاتِ مَا الْتَزَمَهُ مِنَ الْأَدَاءِ مَعَ الْإِمَامِ، فَهُوَ يَقْضِي مَا انْعَقَدَ لَهُ إِحْرَامُ الْإِمَامِ، مِنَ الْمُتَابَعَةِ وَالْمُشَارَكَةِ مَعَهُ بِمِثْلِهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْقَضَاءُ:

3- الْقَضَاءُ لُغَةً: مَعْنَاهُ الْأَدَاءُ.وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ الْآتِي، خِلَافًا لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَدَاءِ.وَاصْطِلَاحًا: مَا فُعِلَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ أَدَائِهِ اسْتِدْرَاكًا لِمَا سَبَقَ لِفِعْلِهِ مُقْتَضٍ، أَوْ تَسْلِيمِ مِثْلِ مَا وَجَبَ بِالْأَمْرِ، كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ.فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَدَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مُرَاعَاةُ قَيْدِ الْوَقْتِ فِي الْأَدَاءِ دُونَ الْقَضَاءِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُرَاعَاةُ الْعَيْنِ فِي الْأَدَاءِ وَالْمِثْلِ فِي الْقَضَاءِ، إِذِ الْأَدَاءُ كَمَا سَبَقَ هُوَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي وَقْتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا لَهُ وَقْتٌ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ بِالنِّسْبَةِ لِمَا لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُحَدَّدٌ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

ب- الْإِعَادَةُ:

4- الْإِعَادَةُ لُغَةً: رَدُّ الشَّيْءِ ثَانِيًا، وَاصْطِلَاحًا: مَا فُعِلَ فِي وَقْتِ الْأَدَاءِ ثَانِيًا لِخَلَلٍ فِي الْأَوَّلِ وَقِيلَ لِعُذْرٍ.فَالصَّلَاةُ بِالْجَمَاعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ مُنْفَرِدًا تَكُونُ إِعَادَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّ طَلَبَ الْفَضِيلَةِ عُذْرٌ فَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَدَاءِ السَّبْقُ وَعَدَمُهُ.

الْأَدَاءُ فِي الْعِبَادَاتِ:

5- الْعِبَادَاتُ الَّتِي لَمْ تُحَدَّدْ بِوَقْتٍ لَا تُوصَفُ بِالْأَدَاءِ بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ، أَيِ الَّذِي يُقَابِلُ الْقَضَاءَ، وَذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ عَلَيْهَا لَفْظَ الْأَدَاءِ إِطْلَاقًا لُغَوِيًّا بِمَعْنَى الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ الْأَعَمِّ مِنَ الْأَدَاءِ الَّذِي يُقَابِلُ الْقَضَاءَ.وَلِذَلِكَ يَقُولُ الشَّبْرَامُلْسِيُّ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى أَدَاءِ الزَّكَاةِ- أَيْ دَفْعِهَا: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَدَاءِ الْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا وَقْتَ لَهَا مُحَدَّدًا حَتَّى تَصِيرَ قَضَاءً بِخُرُوجِهِ.أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَغَيْرُ الْوَقْتِ عِنْدَهُمْ يُسَمَّى أَدَاءً شَرْعًا وَعُرْفًا، وَالْقَضَاءُ يَخْتَصُّ بِالْوَاجِبِ الْمُوَقَّتِ.

أَقْسَامُ الْعِبَادَاتِ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ الْأَدَاءِ:

6- الْعِبَادَاتُ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ الْأَدَاءِ نَوْعَانِ: مُطْلَقَةٌ وَمُؤَقَّتَةٌ.

فَالْمُطْلَقَةُ: هِيَ الَّتِي لَمْ يُقَيَّدْ أَدَاؤُهَا بِوَقْتٍ مُحَدَّدٍ لَهُ طَرَفَانِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْعُمْرِ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْتِ فِيمَا هُوَ مُوَقَّتٌ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعِبَادَةُ وَاجِبَةً كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ، أَمْ مَنْدُوبَةً كَالنَّفْلِ الْمُطْلَقِ.

وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ الْمُوَقَّتَةُ: فَهِيَ مَا حَدَّدَ الشَّارِعُ وَقْتًا مُعَيَّنًا لِأَدَائِهَا، لَا يَجِبُ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ، وَيَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ وَاجِبًا، وَذَلِكَ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ.وَوَقْتُ الْأَدَاءِ إِمَّا مُوَسَّعٌ وَأَمَّا مُضَيَّقٌ.

فَالْمُضَيَّقُ: هُوَ مَا كَانَ الْوَقْتُ فِيهِ يَسَعُ الْفِعْلَ وَحْدَهُ، وَلَا يَسَعُ غَيْرَهُ مَعَهُ، وَذَلِكَ كَرَمَضَانَ فَإِنَّ وَقْتَهُ لَا يَتَّسِعُ لِأَدَاءِ صَوْمٍ آخَرَ فِيهِ، وَيُسَمَّى مِعْيَارًا أَوْ مُسَاوِيًا.

وَالْمُوَسَّعُ: هُوَ مَا كَانَ الْوَقْتُ فِيهِ يَفْضُلُ عَنْ أَدَائِهِ، أَيْ أَنَّهُ يَتَّسِعُ لِأَدَاءِ الْفِعْلِ وَأَدَاءِ غَيْرِهِ مِنْ جِنْسِهِ، وَذَلِكَ كَوَقْتِ الظُّهْرِ مَثَلًا، فَإِنَّهُ يَسَعُ أَدَاءَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَأَدَاءَ صَلَوَاتٍ أُخْرَى، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى ظَرْفًا.وَالْحَجُّ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُشْتَبَهُ وَقْتُ أَدَائِهِ بِالْمُوَسَّعِ وَالْمُضَيَّقِ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُؤَدِّيَ حَجَّتَيْنِ فِي عَامٍ وَاحِدٍ، فَهُوَ بِهَذَا يُشْبِهُ الْمُضَيَّقَ، وَلَكِنْ أَعْمَالُ الْحَجِّ لَا تَسْتَوْعِبُ وَقْتَهُ، فَهُوَ بِهَذَا يُشْبِهُ الْمُوَسَّعَ، هَذَا عَلَى اعْتِبَارِهِ مِنَ الْوَقْتِ، وَقِيلَ إِنَّهُ مِنَ الْمُطْلَقِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعُمْرَ وَقْتٌ لِلْأَدَاءِ كَالزَّكَاةِ.

صِفَةُ الْأَدَاءِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):

7- الْعِبَادَاتُ إِمَّا فَرْضٌ أَوْ مَنْدُوبٌ، فَإِنْ كَانَتْ فَرْضًا كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْأَهْلِ أَدَاؤُهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، إِذَا تَحَقَّقَ سَبَبُهَا، وَتَوَفَّرَتْ شُرُوطُهَا.فَإِنْ كَانَتِ الْعِبَادَةُ مُحَدَّدَةً بِوَقْتٍ لَهُ طَرَفَانِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَقْتُ مُوَسَّعًا، كَوَقْتِ الصَّلَاةِ، أَمْ كَانَ مُضَيَّقًا كَرَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ وَلَا أَنْ تَتَأَخَّرَ عَنْهُ إِلاَّ لِعُذْرٍ؛ لِأَنَّهَا تَفُوتُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ دُونَ أَدَاءٍ، وَتَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ إِلَى أَنْ تَقْتَضِيَ.وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْدِيدِ الْوَقْتِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْأَدَاءُ فِيمَا كَانَ وَقْتُهُ مُضَيَّقًا؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ كُلَّهُ مَشْغُولٌ بِالْعِبَادَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ زَمَنٌ فَارِغٌ مِنْهَا، إِلاَّ أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي تَعْيِينِ النِّيَّةِ لِصِحَّةِ الْأَدَاءِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَكْفِي مُطْلَقُ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَمَّا كَانَ مِعْيَارًا فَلَا يَصْلُحُ لِعَمَلٍ آخَرَ مِنْ جِنْسِهِ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا بُدَّ مِنَ التَّعْيِينِ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لَمْ يُجْزِهِ.

أَمَّا مَا كَانَ وَقْتُهُ مُوَسَّعًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ الْجُزْءِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ الْكُلُّ لَا جُزْءٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي إِيقَاعَ الْفِعْلِ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ» وَهُوَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ، وَلَيْسَ تَعْيِينُ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ بِأَوْلَى مِنْ تَعْيِينِ الْبَعْضِ الْآخَرِ، إِلاَّ أَنَّ الْأَدَاءَ يَجِبُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَقِيلَ يُسْتَحَبُّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ».وَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ جَوَازِ التَّأْخِيرِ فِيهِ ضِيقٌ عَلَى النَّاسِ، فَسُمِحَ لَهُمْ بِالتَّأْخِيرِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ التَّأْخِيرُ لَكِنْ مَعَ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ، فَإِنْ لَمْ يَعْزِمْ أَثِمَ.وَإِنْ ظَنَّ الْمُكَلَّفُ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، الْمُوَسَّعِ تَضَيَّقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ وَحَرُمَ عَلَيْهِ التَّأْخِيرُ اعْتِبَارًا بِظَنِّهِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ وَمَاتَ عَصَى اتِّفَاقًا، فَإِنْ لَمْ يَمُتْ بَلْ عَاشَ وَفَعَلَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَهُوَ قَضَاءٌ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيِّ أَدَاءٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِصِدْقِ تَعْرِيفِ الْأَدَاءِ عَلَيْهِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالظَّنِّ الْبَيِّنِ خَطَؤُهُ.

وَعِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَقْتُ الْأَدَاءِ هُوَ الْجُزْءُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْفِعْلُ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجِبُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنَ الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا التَّعْيِينُ إِلَى الْمُصَلِّي مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ حَتَّى إِنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ يَجِبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَذَا إِذَا شَرَعَ فِي وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ، وَمَتَى لَمْ يُعَيِّنْ حَتَّى بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي فِيهِ أَرْبَعًا- وَهُوَ مُقِيمٌ- يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْيِينُ ذَلِكَ الْوَقْتِ لِلْأَدَاءِ فِعْلًا وَيَأْثَمُ بِتَرْكِ التَّعْيِينِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ الْعِرَاقِيِّينَ: إِنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ، فَعَلَى هَذَا، فَإِنْ قَدَّمَهُ ثُمَّ زَالَتْ أَهْلِيَّتُهُ قَبْلَ آخِرِ الْوَقْتِ فَالْمُؤَدَّى نَفْلٌ.وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ فَإِنْ أَخَّرَهُ فَهُوَ قَضَاءٌ.وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ مِمَّنْ يُنْكِرُونَ التَّوَسُّعَ فِي الْوُجُوبِ.

بِمَ يَتَحَقَّقُ الْأَدَاءُ إِذَا تَضَيَّقَ الْوَقْتُ؟

8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُمْكِنُ بِهِ إِدْرَاكُ الْفَرْضِ إِذَا تَضَيَّقَ الْوَقْتُ، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يُمْكِنُ إِدْرَاكُهُ بِرَكْعَةٍ بِسَجْدَتَيْهَا فِي الْوَقْتِ، فَمَنْ صَلَّى رَكْعَةً فِي الْوَقْتِ ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِلْجَمِيعِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.

قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ» وَذَهَبَ أَشْهَبُ إِلَى أَنَّهَا تُدْرَكُ بِالرُّكُوعِ وَحْدَهُ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ يُمْكِنُ إِدْرَاكُ الصَّلَاةِ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ أَوَّلَ سَجْدَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ، وَإِذَا أَدْرَكَ أَوَّلَ سَجْدَةٍ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَقَدْ أَدْرَكَ»؛ وَلِأَنَّ الْإِدْرَاكَ إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ فِي الصَّلَاةِ اسْتَوَى فِيهِ الرَّكْعَةُ وَمَا دُونَهَا.وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِمَا صَلَّى فِي الْوَقْتِ قَاضِيًا لِمَا صَلَّى بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، اعْتِبَارًا لِكُلِّ جُزْءٍ بِزَمَانِهِ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ صَلَاةَ الصُّبْحِ وَحْدَهَا، فَإِنَّهَا لَا تُدْرَكُ إِلاَّ بِأَدَائِهَا كُلِّهَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِطُرُوءِ الْوَقْتِ النَّاقِصِ عَلَى الْوَقْتِ الْكَامِلِ، وَلِذَا عَدُّوا ذَلِكَ مِنْ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ وَأَمَّا مَا كَانَ وَقْتُهُ مُطْلَقًا كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْأَمْرِ بِهِ، هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي؟ وَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى مِثَالِ مَا قِيلَ فِيمَا كَانَ وَقْتُهُ مُوَسَّعًا فِي أَنَّهُ يَجِبُ تَعْجِيلُ الْأَدَاءِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ، وَيَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ بِدُونِ عَزْمٍ عَلَى الْفِعْلِ، أَوْ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي وَلَا يَجِبُ التَّعْجِيلُ وَلَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ، لَكِنَّ الْجَمِيعَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ يَتَضَيَّقُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ فِي زَمَانٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ الْأَدَاءِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِغَالِبِ ظَنِّهِ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُؤَدِّ حَتَّى مَاتَ أَثِمَ بِتَرْكِهِ.هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُوَقَّتَةً أَمْ مُطْلَقَةً.

9- أَمَّا الْمَنْدُوبُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الْمَنْدُوبَ حُكْمُهُ الثَّوَابُ عَلَى الْفِعْلِ وَعَدَمُ اللَّوْمِ عَلَى التَّرْكِ، لَكِنَّ فِعْلَهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ.وَمِنَ الْمَنْدُوبِ مَا هُوَ مُوَقَّتٌ كَالرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَهُ، وَمَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُسَبَّبٌ كَصَلَاةِ الْخُسُوفِ وَالْكُسُوفِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُطْلَقٌ كَالتَّهَجُّدِ.وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الصَّوْمِ أَيْضًا، فَمِنْهُ مَا هُوَ مُوَقَّتٌ، كَصِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ، وَصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَمِنْهُ مَا يَتَطَوَّعُ بِهِ الْإِنْسَانُ فِي أَيِّ يَوْمٍ.وَقَدْ وَرَدَتْ آثَارٌ كَثِيرَةٌ فِي فَضْلِ مَا زَادَ عَلَى الْفَرْضِ مِنَ الْعِبَادَاتِ مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَحَجٍّ وَزَكَاةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ».

وَقَوْلُهُ: «صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ».وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ ثَابَرَ عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ».وَهَذِهِ الْعِبَادَاتُ الْمَنْدُوبَةُ يُطْلَبُ أَدَاؤُهَا طَلَبًا لِلثَّوَابِ وَلَا يَجِبُ الْأَدَاءُ إِلاَّ مَا شُرِعَ فِيهِ، فَيَجِبُ إِتْمَامُهُ، وَإِذَا فَسَدَ قَضَاهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَيُسْتَحَبُّ الْإِتْمَامُ إِلاَّ فِي تَطَوُّعِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِيهِمَا فَيَجِبُ إِتْمَامُهُمَا بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ.

أَدَاءُ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ:

10- يُشْتَرَطُ لِأَدَاءِ الْعِبَادَةِ أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ مَعَ الْإِمْكَانِ وَالْقُدْرَةِ.وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْأَدَاءِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ عُذْرٌ فِي آخِرِهِ، كَمَنْ كَانَ أَهْلًا لِلصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى طَرَأَ عَلَيْهِ آخِرَ الْوَقْتِ عُذْرٌ يَمْنَعُ مِنَ الْأَدَاءِ، كَمَا إِذَا حَاضَتِ الطَّاهِرَةُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ أَوْ نَفِسَتْ أَوْ جُنَّ الْعَاقِلُ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، أَوِ ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ الْفَرْضَ.فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يَلْزَمُهُمُ الْفَرْضُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ وَالْأَهْلِيَّةَ ثَابِتَةٌ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَيَلْزَمُهُمُ الْقَضَاءُ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَلَا يَلْزَمُهُمُ الْفَرْضُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَيَّنُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ إِذَا لَمْ يُوجَدِ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ، فَيَسْتَدْعِي الْأَهْلِيَّةَ فِيهِ؛ لِاسْتِحَالَةِ الْإِيجَابِ عَلَى غَيْرِ الْأَهْلِ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَضَاءٌ.وَهُوَ أَيْضًا رَأْيُ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَابْنِ عَرَفَةَ، خِلَافًا لِبَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ حَيْثُ الْقَضَاءُ عِنْدَهُمْ أَحْوَطُ.

أَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، ثُمَّ زَالَ الْعُذْرُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، كَمَا إِذَا طَهُرَتِ الْحَائِضُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَأَقَامَ الْمُسَافِرُ أَوْ سَافَرَ الْمُقِيمُ فَلِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْفَرْضُ وَلَا يَتَغَيَّرُ الْأَدَاءُ إِلاَّ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُ فِيهِ أَدَاءُ الْفَرْضِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلْكَرْخِيِّ وَأَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ: أَنَّهُ يَجِبُ الْفَرْضُ وَيَتَغَيَّرُ الْأَدَاءُ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ التَّحْرِيمَةَ فَقَطْ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجِبُ الْفَرْضُ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ رَكْعَةٍ مَعَ زَمَنٍ يَسَعُ الطُّهْرَ، وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ إِذَا بَقِيَ مِقْدَارُ رَكْعَةٍ فَقَطْ.

هَذَا مِثَالٌ لِاعْتِبَارِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ.وَلِمَعْرِفَةِ التَّفَاصِيلِ (ر: أَهْلِيَّةٌ.حَجٌّ.صَلَاةٌ.صَوْمٌ).

11- أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الشَّرْعُ، فَفِي الصَّلَاةِ مَثَلًا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَدَاؤُهَا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَرَدَتْ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَذَلِكَ لِمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» فَمَنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوعَةِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالصِّفَةِ الَّتِي يَسْتَطِيعُ بِهَا أَدَاءَ الصَّلَاةِ، فَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ صَلَّى جَالِسًا، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ.وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» وَهَكَذَا وَكَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنِ الصَّوْمِ لِشَيْخُوخَةٍ أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ وَعَدَمِهَا، فَقِيلَ: تَجِبُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ، وَقِيلَ: لَا تَجِبُ.وَالْحَجُّ أَيْضًا لَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ إِلاَّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ بِالْمَالِ وَالْبَدَنِ وَالْمَحْرَمِ أَوِ الرُّفْقَةِ الْمَأْمُونَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ.فَمَنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}.

12- وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ فَنَظَرًا لِلْأَهْلِيَّةِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ، وَيُؤَدِّي عَنْهُمَا وَلِيُّهُمَا، وَتُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْوَلِيِّ فِي الْإِخْرَاجِ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِهَا.

وَكَذَلِكَ مَنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ وَقْتَ الْوُجُوبِ، ثُمَّ تَغَيَّرَ حَالُهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: الْعِبْرَةُ بِوَقْتِ الْأَدَاءِ لَا بِوَقْتِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَلَوْ كَانَ مُوسِرًا وَقْتَ الْوُجُوبِ جَازَ لَهُ الصَّوْمُ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِوَقْتِ الْوُجُوبِ لَا بِوَقْتِ الْأَدَاءِ.وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَغْلَظُ الْأَحْوَالِ مِنْ حِينِ الْوُجُوبِ إِلَى حِينِ التَّكْفِيرِ.

تَعْجِيلُ الْأَدَاءِ عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ أَوْ سَبَبِهِ:

13- الْعِبَادَاتُ الْمُوَقَّتَةُ بِوَقْتٍ، وَالَّتِي يُعْتَبَرُ الْوَقْتُ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَإِنَّ الْوَقْتَ فِيهِمَا سَبَبُ الْوُجُوبِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.هَذِهِ الْعِبَادَاتُ لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الْأَدَاءِ فِيهَا عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.أَمَّا الْعِبَادَاتُ الَّتِي لَا يُعْتَبَرُ الْوَقْتُ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا، وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فِيهَا، كَالزَّكَاةِ، أَوِ الْمُطْلَقَةِ الْوَقْتِ كَالْكَفَّارَاتِ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ تَعْجِيلِ الْأَدَاءِ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهَا أَوْ عَنْ أَسْبَابِهَا: فَفِي الزَّكَاةِ مَثَلًا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْحَوْلِ مَتَى تَمَّ النِّصَابُ، وَذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- تَسَلَّفَ مِنَ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَكَاةَ عَامَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ أُجِّلَ لِلرِّفْقِ، فَجَازَ تَعْجِيلُهُ قَبْلَ مَحِلِّهِ، كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ إِخْرَاجُ الْوَاجِبِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ إِلاَّ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ كَالشَّهْرِ.وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا عَنْ وَقْتِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا قَبْلَ وَقْتِهَا إِلاَّ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ، كَالْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ.

وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا قَبْلَ الْحِنْثِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، مَعَ تَخْصِيصِ الشَّافِعِيَّةِ التَّقْدِيمَ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ الصَّوْمِ، وَلَا يَجُوزُ التَّقْدِيمُ عَلَى الْحِنْثِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلَاتٌ كَثِيرَةٌ تُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا.

النِّيَابَةُ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ:

14- الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ الْمَحْضَةُ كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ تَجُوزُ فِيهَا النِّيَابَةُ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ قَادِرًا عَلَى الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا إِخْرَاجُ الْمَالِ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِفِعْلِ النَّائِبِ.

15- أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَلَا تَجُوزُ فِيهَا النِّيَابَةُ حَالَ الْحَيَاةِ بِاتِّفَاقٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}، وَقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ» أَيْ فِي حَقِّ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ، لَا فِي حَقِّ الثَّوَابِ.أَمَّا بَعْدَ الْمَمَاتِ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَنِ الْمَيِّتِ مَنْ يُصَلِّي عَنْهُ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الصَّلَاةِ.أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلصَّوْمِ فَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْ رَمَضَانَ، وَمَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، أَيْ لَا يُفْدَى عَنْهُ وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا تَمَكَّنَ مِنَ الْقَضَاءِ، وَلَمْ يَصُمْ حَتَّى مَاتَ، فَفِيهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الصَّوْمُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَلَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ وَلِيُّهُ عَنْهُ، بَلْ يُنْدَبُ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» وَهَذَا الرَّأْيُ هُوَ الْأَظْهَرُ.قَالَ السُّبْكِيُّ: وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُخْتَارُ وَالْمُفْتَى بِهِ، وَالْقَوْلَانِ يَجْرِيَانِ فِي الصِّيَامِ الْمَنْذُورِ إِذَا لَمْ يُؤَدَّ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الصَّلَاةِ أَوِ الصِّيَامِ الْوَاجِبِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ- أَيِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ- لِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ حَالَ الْحَيَاةِ، فَبَعْدَ الْمَوْتِ كَذَلِكَ.أَمَّا مَا أَوْجَبَهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ، مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ فِعْلِ الْمَنْذُورِ، كَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ مُعَيَّنٍ وَمَاتَ قَبْلَ حُلُولِهِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنَ الْأَدَاءِ وَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ سُنَّ لِوَلِيِّهِ فِعْلُ النَّذْرِ عَنْهُ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ».وَلِأَنَّ النِّيَابَةَ تَدْخُلُ فِي الْعِبَادَةِ بِحَسَبِ خِفَّتِهَا، وَالنَّذْرُ أَخَفُّ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِأَصْلِ الشَّرْعِ.وَيَجُوزُ لِغَيْرِ الْوَلِيِّ فِعْلُ مَا عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ نَذْرٍ بِإِذْنِهِ وَبِدُونِ إِذْنِهِ.

16- وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَجِّ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ جَانِبٍ مَالِيٍّ وَجَانِبٍ بَدَنِيٍّ.وَالْمَالِكِيَّةُ- فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ- هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِعَدَمِ جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي الْحَجِّ.أَمَّا بَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ فَتَصِحُّ عِنْدَهُمُ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ، لَكِنَّهُمْ يُقَيِّدُونَ ذَلِكَ بِالْعُذْرِ، وَهُوَ الْعَجْزُ عَنِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ؛ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ».

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ لِرَجُلٍ: «أَرَأَيْتُكَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ، فَقَضَيْتَهُ عَنْهُ قُبِلَ مِنْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: فَاللَّهُ أَرْحَمُ.حُجَّ عَنْ أَبِيكَ».

وَضَابِطُ الْعُذْرِ الَّذِي تَصِحُّ مَعَهُ النِّيَابَةُ هُوَ الْعَجْزُ الدَّائِمُ إِلَى الْمَوْتِ، وَذَلِكَ كَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ وَالْمَرِيضِ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ.فَهَؤُلَاءِ إِذَا وَجَدُوا مَالًا يَلْزَمُهُمُ الِاسْتِنَابَةُ فِي الْحَجِّ عَنْهُمْ.

وَمَنْ أَحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ لِلْعُذْرِ الدَّائِمِ، ثُمَّ زَالَ الْعُذْرُ قَبْلَ الْمَوْتِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَمْ يَجُزْ حَجُّ غَيْرِهِ عَنْهُ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، لِضَرُورَةِ الْعَجْزِ الَّذِي لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، فَيَتَقَيَّدُ الْجَوَازُ بِهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُجْزِئُ حَجُّ الْغَيْرِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ فَخَرَجَ مِنَ الْعُهْدَةِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَبْرَأْ.لَكِنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا عُوفِيَ بَعْدَ فَرَاغِ النَّائِبِ مِنَ الْحَجِّ، فَإِذَا عُوفِيَ قَبْلَ فَرَاغِ النَّائِبِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُجْزِئَهُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ تَمَامِ الْبَدَلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْزِئَهُ، وَإِنْ بَرَأَ قَبْلَ إِحْرَامِ النَّائِبِ لَمْ يُجْزِئْهُ بِحَالٍ.

وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ بِالْإِجْزَاءِ وَعَدَمِهِ وَالْمَرِيضُ الَّذِي يُرْجَى زَوَالُ مَرَضِهِ وَالْمَحْبُوسُ وَنَحْوُهُ إِذَا أَحَجَّ عَنْهُ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هَذَا الْحَجُّ مَوْقُوفٌ.إِنْ مَاتَ الْمَحْجُوجُ عَنْهُ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ مَحْبُوسٌ جَازَ الْحَجُّ، وَإِنْ زَالَ الْمَرَضُ أَوِ الْحَبْسُ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يَجُزْ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَلَا تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ كَالصَّحِيحِ، فَإِنْ خَالَفَ وَأَحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، لَمْ يُجْزِئْهُ وَلَوْ لَمْ يَبْرَأْ؛ لِأَنَّهُ يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ بِهِ الِاسْتِنَابَةُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ مَرَّةً أُخْرَى، وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ إِذَا مَاتَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مَأْيُوسًا مِنْهُ.

وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ مُطْلَقًا.وَقِيلَ تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ لِغَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: تَجُوزُ النِّيَابَةُ لِلْمَعْضُوبِ كَالزَّمِنِ وَالْهَرِمِ.

وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ آجَرَ صَحِيحٌ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ لَزِمَهُ لِلْخِلَافِ.وَسَوَاءٌ فِيمَا مَرَّ فِي الْمَذَاهِبِ حَجُّ الْفَرِيضَةِ وَحَجُّ النَّذْرِ.وَالْعُمْرَةُ فِي ذَلِكَ كَالْحَجِّ.

17- أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِحَجِّ التَّطَوُّعِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَجُوزُ فِيهِ الِاسْتِنَابَةُ بِعُذْرٍ وَبِدُونِ عُذْرٍ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ لِعُذْرٍ جَازَ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا حَجَّةٌ لَا تَلْزَمُهُ بِنَفْسِهِ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهَا كَالْمَعْضُوبِ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ كَالْفَرْضِ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ فِيمَا إِذَا كَانَ بِعُذْرٍ: أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَى الِاسْتِنَابَةِ فِيهِ، فَلَمْ تَجُزِ الِاسْتِنَابَةُ فِيهِ كَالصَّحِيحِ، وَالثَّانِي يَجُوزُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ جَازَتِ النِّيَابَةُ فِي فَرْضِهَا جَازَتِ النِّيَابَةُ فِي نَفْلِهَا.وَتُكْرَهُ الِاسْتِنَابَةُ فِي التَّطَوُّعِ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ.

18- وَمَا مَرَّ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيِّ.أَمَّا الْمَيِّتُ فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: مَنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ سَقَطَ فَرْضُهُ، وَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ عَنْهُ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَدَاءِ وَلَمْ يُؤَدِّ لَمْ يَسْقُطِ الْفَرْضُ، وَيَجِبُ الْقَضَاءُ مِنْ تَرِكَتِهِ، لِمَا رَوَى بُرَيْدَةُ قَالَ: «أَتَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَلَمْ تَحُجَّ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: حُجِّي عَنْ أُمِّكِ» وَلِأَنَّهُ حَقٌّ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ حَالَ الْحَيَاةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ، كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْحَجُّ الْمَنْذُورُ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.قَالَ: فَاقْضِ اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ».

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا يَجِبُ الْحَجُّ عَنْهُ، إِلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ، فَإِذَا أَوْصَى حُجَّ مِنْ تَرِكَتِهِ.وَإِذَا لَمْ يُوصِ بِالْحَجِّ عَنْهُ، فَتَبَرَّعَ الْوَارِثُ بِالْحَجِّ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِالْإِحْجَاجِ عَنْهُ رَجُلًا جَازَ، وَلَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. تَأْخِيرُ الْأَدَاءِ عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ:

19- تَأْخِيرُ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ دُونَ عُذْرٍ يُوجِبُ الْإِثْمَ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ بِوَقْتٍ مُحَدَّدٍ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَجَبَ قَضَاؤُهَا، وَكَذَلِكَ النَّذْرُ الْمُعَيَّنُ إِذَا لَمْ يُؤَدَّ.وَإِنْ كَانَتِ الْعِبَادَاتُ وَقْتُهَا الْعُمْرُ، كَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ فَإِنَّهُ مَتَى تَوَفَّرَتْ شُرُوطُ الْأَدَاءِ، كَحَوَلَانِ الْحَوْلِ وَكَمَالِ النِّصَابِ فِي الزَّكَاةِ مَعَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ، وَلَمْ يَتِمَّ الْأَدَاءُ تَرَتَّبَ الْمَالُ فِي الذِّمَّةِ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ إِذَا وُجِدَتِ الِاسْتِطَاعَةُ الْمَالِيَّةُ وَالْبَدَنِيَّةُ، وَلَمْ يُؤَدِّ الْحَجَّ فَهُوَ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ.

وَمِثْلُ ذَلِكَ الْوَاجِبَاتُ الْمُطْلَقَةُ كَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ مَعَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِيمَنْ مَاتَ، وَلَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ أَوِ الْحَجَّ أَوِ النَّذْرَ أَوِ الْكَفَّارَةَ، وَكُلُّ مَا كَانَ وَاجِبًا مَالِيًّا، وَأَمْكَنَ أَدَاؤُهُ، وَلَمْ يُؤَدَّ حَتَّى مَاتَ الْمُكَلَّفُ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لَا تُؤَدَّى مِنْ تَرِكَتِهِ، إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِهَا، فَإِذَا لَمْ يُوصِ فَقَدْ سَقَطَتْ بِالنِّسْبَةِ لِأَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ تُؤَدَّى مِنْ تَرِكَتِهِ وَإِنْ لَمْ يُوصِ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: قَضَاءٌ.حَجٌّ.زَكَاةٌ.نَذْرٌ).هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً أَوْ غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


22-موسوعة الفقه الكويتية (استئذان 1)

اسْتِئْذَانٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الِاسْتِئْذَانُ فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ الْإِذْنِ، وَالْإِذْنُ: مِنْ أَذِنَ بِالشَّيْءِ إِذْنًا بِمَعْنَى أَبَاحَهُ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الِاسْتِئْذَانَ هُوَ طَلَبُ الْإِبَاحَةِ.

وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الِاسْتِئْذَانَ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَيَقُولُونَ: «الِاسْتِئْذَانُ لِدُخُولِ الْبُيُوتِ» وَيَعْنُونَ بِهِ: طَلَبَ إِبَاحَةِ دُخُولِهَا لِلْمُسْتَأْذِنِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي سُورَةِ النُّورِ كَلِمَةَ «اسْتِئْنَاسٍ» فِي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} وَأَرَادَ بِهَا الِاسْتِئْذَانَ لِدُخُولِ الْبُيُوتِ وَنَحْوِهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ: الِاسْتِئْنَاسُ هُنَا الِاسْتِئْذَانُ مَعَ أَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ مَا هُوَ إِلاَّ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الِاسْتِئْذَانِ، قَالَ الْجَصَّاصُ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ الِاسْتِئْذَانُ اسْتِئْنَاسًا؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا اسْتَأْذَنُوا أَوْ سَلَّمُوا أَنِسَ أَهْلُ الْبُيُوتِ بِذَلِكَ، وَلَوْ دَخَلُوا عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ إِذْنٍ لَاسْتَوْحَشُوا وَشَقَّ عَلَيْهِمْ.

صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):

2- إِنَّ الْحُكْمَ التَّكْلِيفِيَّ لِلِاسْتِئْذَانِ مُرْتَبِطٌ ارْتِبَاطًا وَثِيقًا بِالْإِذْنِ، فَحَيْثُمَا تَوَقَّفَ حِلُّ التَّصَرُّفِ عَلَى الْإِذْنِ، كَانَ الِاسْتِئْذَانُ فِيهِ وَاجِبًا، كَاسْتِئْذَانِ الْأَجْنَبِيِّ لِدُخُولِ بَيْتٍ غَيْرِ بَيْتِهِ، وَاسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ الْمُتَزَوِّجَةِ زَوْجَهَا فِي خُرُوجِهَا مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ، وَاسْتِئْذَانِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ فِي الْعَزْلِ عَنْهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ.وَإِنَّمَا قُلْنَا: «حِلَّ التَّصَرُّفُ» وَلَمْ نُعَبِّرْ بِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ قَدْ يَقَعُ- إِذَا خَلَا مِنَ الْإِذْنِ صَحِيحًا مَعَ الْكَرَاهَةِ، كَمَا لَوْ صَامَتِ الزَّوْجَةُ نَافِلَةً بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا.

وَقَدْ يَقَعُ غَيْرَ صَحِيحٍ كَمَا لَوْ زَوَّجَ الْوَلِيُّ الْبَالِغَةَ الْعَاقِلَةَ بِغَيْرِ رِضَاهَا، أَوِ بَاعَ الصَّغِيرَ الْمُمَيِّزَ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

أَوَّلًا

الِاسْتِئْذَانُ لِدُخُولِ الْبُيُوتِ

أ- الْمَكَانُ الْمُرَادُ دُخُولُهُ:

3- إِنَّ مَنْ يُرِيدُ دُخُولَ بَيْتٍ مِنَ الْبُيُوتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْبَيْتَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْتَهُ أَوْ غَيْرَ بَيْتِهِ، فَإِنْ كَانَ بَيْتَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا، لَا سَاكِنَ فِيهِ غَيْرُهُ، أَوْ تَكُونَ فِيهِ زَوْجَتُهُ، وَلَيْسَ مَعَهَا غَيْرُهَا، أَوْ مَعَهَا بَعْضُ مَحَارِمِهِ، كَأُخْتِهِ وَبِنْتِهِ وَأُمِّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ بَيْتَهُ، وَلَا سَاكِنَ فِيهِ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُهُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانِ أَحَدٍ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَهُ، وَاسْتِئْذَانُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ ضَرْبٌ مِنَ الْعَبَثِ الَّذِي تَتَنَزَّهُ عَنْهُ الشَّرِيعَةُ.

4- أَمَّا إِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ زَوْجَتُهُ، وَلَيْسَ مَعَهَا غَيْرُهَا، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِئْذَانُ لِلدُّخُولِ؛ لِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى سَائِرِ جَسَدِهَا، وَلَكِنْ يَنْدُبُ لَهُ الْإِيذَانُ بِدُخُولِهِ بِنَحْوِ التَّنَحْنُحِ، وَطَرْقِ النَّعْلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا رُبَّمَا كَانَتْ عَلَى حَالَةٍ لَا تُرِيدُ أَنْ يَرَاهَا زَوْجُهَا عَلَيْهَا.

وَفِي وُجُوبِ اسْتِئْذَانِ الرَّجُلِ عَلَى مُطَلَّقَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّهُ: هَلْ يَلْزَمُ مِنَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ تَحْرِيمُهَا عَلَى مُطَلِّقِهَا أَمْ لَا؟ فَمَنْ قَالَ إِنَّهَا لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً، كَالْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، قَالَ: لَا يَجِبُ الِاسْتِئْذَانُ بَلْ يُنْدَبُ، وَيَكُونُ دُخُولُهُ عَلَيْهَا كَدُخُولِهِ عَلَى زَوْجَتِهِ غَيْرِ الْمُطَلَّقَةِ.

وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، وَأَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ وَقَعَ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ، كَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، قَالَ بِوُجُوبِ الِاسْتِئْذَانِ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَيْهَا.

5- وَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ أَحَدُ مَحَارِمِهِ، كَأُمِّهِ أَوْ أُخْتِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّنْ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَرَاهُ عُرْيَانًا، مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَيَكُونُ الِاسْتِئْذَانُ عِنْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَاجِبًا لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، بَلْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ جَحَدَ وُجُوبَ الِاسْتِئْذَانِ يَكْفُرُ، لِأَنَّهُ مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.

وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِئْذَانِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ وَمَبَادِئُ الشَّرِيعَةِ.

أَمَّا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا}...

وَأَمَّا السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ فَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: إِنَّهَا مَعِي فِي الْبَيْتِ.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا.فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي خَادِمُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا، أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا».

وَأَمَّا آثَارُ الصَّحَابَةِ فَهِيَ كَثِيرَةٌ، نَذْكُرُ مِنْهَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-: «عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْتَأْذِنُوا عَلَى أُمَّهَاتِكُمْ وَأَخَوَاتِكُمْ»

وَمَا رَوَاهُ الْجَصَّاصُ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: إِنَّهَا مَعِي فِي الْبَيْتِ وَأَنَا أُنْفِقُ عَلَيْهَا، قَالَ: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا

وَمَا ذَكَرَهُ الْكَاسَانِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي؟ فَقَالَ: إِنْ لَمْ تَسْتَأْذِنْ رَأَيْتَ مَا يَسُوءُكَ

وَأَمَّا مَبَادِئُ الشَّرِيعَةِ: فَإِنَّهُ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، فَرُبَّمَا كَانَتْ مَكْشُوفَةَ الْعَوْرَةِ، فَيَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنْهَا، وَلِذَلِكَ وَجَبَ الِاسْتِئْذَانُ، سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ.

6- وَيَتَّفِقُ الْمُحَرِّمُونَ لِلدُّخُولِ- عَلَى الْمَحَارِمِ وَنَحْوِهِمْ- إِلاَّ بِاسْتِئْذَانٍ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ الدُّخُولِ عَلَى ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَعَلَى الرِّجَالِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ أَيْسَرُ مِنْ تَرْكِ الِاسْتِئْذَانِ عَلَى الْأَجْنَبِيَّاتِ؛ لِجَوَازِ نَظَرِهِ إِلَى الشَّعْرِ وَالصَّدْرِ وَالسَّاقِ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ دُونَ الْأَجْنَبِيَّاتِ.

وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى مَحَارِمِهِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ مَعَهُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يُشْعِرَهُمْ بِدُخُولِهِ بِنَحْوِ تَنَحْنُحٍ، وَطَرْقِ نَعْلٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِيَسْتَتِرَ الْعُرْيَانُ.

7- وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ غَيْرَ بَيْتِهِ، وَأَرَادَ الدُّخُولَ إِلَيْهِ، فَعَلَيْهِ الِاسْتِئْذَانُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الدُّخُولُ قَبْلَ الْإِذْنِ بِالِاتِّفَاقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بَابُ الْبَيْتِ مَفْتُوحًا أَوْ مُغْلَقًا.وَسَوَاءٌ أَكَانَ فِيهِ سَاكِنٌ أَمْ لَمْ يَكُنْ، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا}.وَلِأَنَّ لِلْبُيُوتِ حُرْمَتَهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُنْتَهَكَ هَذِهِ الْحُرْمَةُ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِئْذَانَ لَيْسَ لِلسُّكَّانِ أَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً، بَلْ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِأَمْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا يَتَّخِذُ الْبَيْتَ سِتْرًا لِنَفْسِهِ، يَتَّخِذُهُ سِتْرًا لِأَمْوَالِهِ، وَكَمَا يَكْرَهُ اطِّلَاعَ الْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ، يَكْرَهُ اطِّلَاعَهُ عَلَى أَمْوَالِهِ.

وَيُفَرِّقُ الشَّافِعِيَّةُ، فِي حَالَةِ كَوْنِ بَيْتِ ذَلِكَ الْغَيْرِ هُوَ بَيْتُ أَحَدِ مَحَارِمِهِ، بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا أَوْ مَفْتُوحًا، فَيَقُولُونَ:

إِنْ كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ إِلاَّ بَعْدَ اسْتِئْذَانٍ وَإِذْنٍ، أَمَّا إِنْ كَانَ مَفْتُوحًا فَوَجْهَانِ، وَالْأَوْجَهُ الِاسْتِئْذَانُ.وَيُسْتَثْنَى مِنْ وُجُوبِ الِاسْتِئْذَانِ لِدُخُولِ الْبُيُوتِ عُمُومًا:

8- أَوَّلًا: دُخُولُ الْبُيُوتِ غَيْرِ الْمَسْكُونَةِ الَّتِي فِيهَا مَتَاعٌ- أَيْ مَنْفَعَةٌ- لِلنَّاسِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، بِنَاءً عَلَى الْإِذْنِ الْعَامِّ بِدُخُولِهَا، وَقَدْ اخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِ هَذِهِ الْبُيُوتِ.

فَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهَا الْبُيُوتُ الَّتِي تُبْنَى عَلَى الطُّرُقَاتِ، يَأْوِي إِلَيْهَا الْمُسَافِرُونَ، وَمِثْلُهَا الْخَانَاتُ.

وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَعَلِيٌّ الشَّعْبِيُّ: إِنَّهَا الدَّكَاكِينُ الَّتِي فِي الْأَسْوَاقِ، وَقَدِ اسْتَظَلَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي خَيْمَةِ فَارِسِيٍّ بِالسُّوقِ مِنَ الْمَطَرِ دُونَ إِذْنٍ مِنْهُ.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَأْذِنُ فِي دُخُولِ حَوَانِيتِ السُّوقِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعِكْرِمَةَ فَقَالَ: وَمَنْ يُطِيقُ مَا كَانَ يُطِيقُهُ ابْنُ عُمَرَ؟ قَالَ الْجَصَّاصُ: وَلَيْسَ فِي فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ رَأَى دُخُولَهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ مَحْظُورًا، وَلَكِنَّهُ احْتَاطَ لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ مُبَاحٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ.

وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ الْبُيُوتُ الْخَرِبَةُ الَّتِي يَدْخُلُهَا النَّاسُ لِلْبَوْلِ وَالْغَائِطِ.وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا بُيُوتُ مَكَّةَ.وَقَدْ بَيَّنَ الْإِمَامُ مَالِكٌ- رحمه الله- (- الْأَصْلَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ هَذَا فَقَالَ: وَتَجْوِيزُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ دُخُولَ بُيُوتِ مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ بُيُوتَ مَكَّةَ غَيْرُ مُتَمَلَّكَةٍ، وَأَنَّ النَّاسَ فِيهَا شُرَكَاءُ.وَأَدْخَلَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ فِي ذَلِكَ كُلَّ مَكَانٍ فِيهِ انْتِفَاعٌ، وَلَهُ فِيهِ حَاجَةٌ.

وَبَنَى الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ عَلَى الْعُرْفِ، فَقَالُوا: يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ كُلَّ مَحَلٍّ مَطْرُوقٍ، كَالْمَسْجِدِ، وَالْحَمَّامِ، وَالْفُنْدُقِ، وَبَيْتِ الْعَالِمِ، وَالْقَاضِي، وَالطَّبِيبِ- وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَسْتَقْبِلُ فِيهِ النَّاسَ- لِوُجُودِ الْإِذْنِ الْعَامِّ بِدُخُولِهِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ الْبُيُوتَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا سَاكِنٌ، وَلِلْمَرْءِ فِيهَا مَنْفَعَةٌ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، كَالْخَانَاتِ وَالرِّبَاطَاتِ الَّتِي تَكُونُ لِلْمَارَّةِ، وَالْخَرَابَاتِ الَّتِي تُقْضَى فِيهَا حَاجَةُ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، لقوله تعالى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} أَيْ مَنْفَعَةٌ.

9- ثَانِيًا: وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا إِذَا كَانَ فِي تَرْكِ الِاسْتِئْذَانِ لِدُخُولِ بَيْتٍ إِحْيَاءٌ لِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ، حَتَّى لَوِ اسْتَأْذَنَ وَانْتَظَرَ الْإِذْنَ تَلِفَتِ النَّفْسُ وَضَاعَ الْمَالُ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَنَفِيَّةُ عَدَدًا مِنَ الْفُرُوعِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ.وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى لَا تَأْبَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، إِلاَّ الْحَنَابِلَةَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُجِيزُوا دُخُولَ الْبَيْتِ إِذَا خِيفَ ضَيَاعُ الْمَالِ إِلاَّ بِاسْتِئْذَانٍ، فَإِذْنٍ.وَمِنْ هَذِهِ الْفُرُوعِ:

الْأَوَّلُ: إِذَا كَانَ الْبَيْتُ مُشْرِفًا عَلَى الْعَدُوِّ، يُقَاتِلُ مِنْهُ الْعَدُوُّ، وَيُوقِعُ بِهِ النِّكَايَةَ، يَجُوزُ دُخُولُهُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ؛ لِمَا فِي دَفْعِ الْعَدُوِّ مِنْ إِحْيَاءِ نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ.

الثَّانِي: إِذَا سَقَطَ ثَوْبُهُ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ، وَخَافَ لَوْ أَعْلَمَهُ أَخَذَهُ، جَازَ لَهُ الدُّخُولُ لِأَخْذِهِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَيِنَبْغِي أَنْ يَعْلَمَ الصُّلَحَاءُ أَنَّهُ إِنَّمَا دَخَلَ لِذَلِكَ.

الثَّالِثُ: لَوْ نَهَبَ مِنْهُ ثَوْبًا وَدَخَلَ النَّاهِبُ دَارَهُ لَا بَأْسَ بِدُخُولِهَا لِيَأْخُذَ حَقَّهُ.

الرَّابِعُ: لَوْ كَانَ لَهُ مَجْرَى فِي دَارِ رَجُلٍ، أَرَادَ إِصْلَاحَهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَمُرَّ فِي بَطْنِهِ، يُقَالُ لِرَبِّ الدَّارِ: إِمَّا أَنْ تَدَعَهُ يُصْلِحُهُ وَإِمَّا أَنْ تُصْلِحَهُ.

الْخَامِسُ: آجَرَهُ دَارًا وَسَلَّمَهَا لَهُ، لَهُ دُخُولُهَا لِيَنْظُرَ حَالَهَا فَيَرْمِهَا، وَلَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، إِلاَّ إِذَا رَضِيَ الْمُسْتَأْجِرُ.

10- ثَالِثًا: وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ دُخُولَ الْبَيْتِ الَّذِي يُتَعَاطَى فِيهِ الْمُنْكَرُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، بِقَصْدِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ، كَمَا إِذَا سَمِعَ فِي دَارٍ صَوْتَ الْمَزَامِيرِ وَالْمَعَازِفِ، فَلَهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ؛ وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِعِلَّتَيْنِ.الْأُولَى: أَنَّ الدَّارَ لَمَّا اُتُّخِذَتْ لِتَعَاطِي الْمُنْكَرِ فَقَدْ سَقَطَتْ حُرْمَتُهَا، وَإِذَا سَقَطَتْ حُرْمَتُهَا جَازَ دُخُولُهَا بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ.وَالثَّانِيَةِ: أَنَّ تَغْيِيرَ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ، فَلَوْ شُرِطَ الْإِذْنُ لَتَعَذَّرَ التَّغْيِيرُ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ، فَقَدْ كَانُوا أَكْثَرَ تَفْصِيلًا لِلْأَمْرِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ الْمُنْكَرَ إِنْ كَانَ مِمَّا يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ، جَازَ لَهُ دُخُولُهُ لِمَنْعِ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، كَمَا إِذَا أَخْبَرَهُ مَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ: أَنَّ رَجُلًا خَلَا بِرَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ، أَوْ خَلَا بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا، فَيَجُوزُ لَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَتَجَسَّسَ، وَيُقْدِمَ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ مَا لَا يُسْتَدْرَكُ، مِنْ إِزْهَاقِ رَوْحِ مَعْصُومٍ، وَانْتِهَاكِ عَرْضِ الْمَحَارِمِ، وَارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ.

أَمَّا إِذَا لَمْ يَفُتِ اسْتِدْرَاكُهُ، كَمَا إِذَا دَخَلَ مَعَهَا الْبَيْتَ لِيُسَاوِمَهَا عَلَى أُجْرَةِ الزِّنَا، ثُمَّ يَخْرُجَانِ لِيَزْنِيَا فِي بَيْتٍ آخَرَ، أَوْ إِذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ إِنْكَارُهُ وَرَفْعُهُ بِغَيْرِ دُخُولٍ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ الدُّخُولُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، كَمَا إِذَا سَمِعَ الْمُحْتَسِبُ أَصْوَاتَ تَلَاهٍ مُنْكَرَةً مِنْ دَارٍ تَظَاهَرَ أَهْلُهَا بِأَصْوَاتِهِمْ، أَنْكَرَهَا خَارِجَ الدَّارِ، وَلَمْ يَهْجُمْ عَلَيْهَا بِالدُّخُولِ؛ لِأَنَّ الْمُنْكَرَ ظَاهِرٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَكْشِفَ عَمَّا سِوَاهُ.

ب- الشَّخْصُ الْمُسْتَأْذِنُ:

11- إِنَّ مَنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا غَيْرَ مُمَيِّزٍ، أَوْ صَغِيرًا مُمَيِّزًا، أَوْ كَبِيرًا، وَالْمُرَادُ بِالتَّمْيِيزِ هُنَا: الْقُدْرَةُ عَلَى وَصْفِ الْعَوْرَاتِ.

أَمَّا الْكَبِيرُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ الدُّخُولُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَإِذْنٍ.

12- وَأَمَّا الصَّغِيرُ الْمُمَيِّزُ فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَطَاوُسُ بْنُ كَيْسَانَ، وَالْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ) إِلَى وُجُوبِ أَمْرِهِ بِالِاسْتِئْذَانِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ كَشْفِ الْعَوْرَاتِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِتَخَفُّفِ النَّاسِ فِيهَا مِنَ الثِّيَابِ.

وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الِاسْتِئْذَانِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَرَجِ فِي الِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ كُلِّ خُرُوجٍ وَدُخُولٍ.وَالصَّغِيرُ مِمَّنْ يَكْثُرُ دُخُولُهُ وَخُرُوجُهُ فَهُوَ مِنَ الطَّوَّافِينَ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}

وَذَهَبَ أَبُو قِلَابَةَ إِلَى أَنَّ اسْتِئْذَانَ هَؤُلَاءِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ مَنْدُوبٌ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَكَانَ يَقُولُ: «إِنَّمَا أُمِرُوا بِهَذَا نَظَرًا لَهُمْ».

ج- صِيغَةُ الِاسْتِئْذَانِ:

13- يَكُونُ الِاسْتِئْذَانُ- فِي الْأَصْلِ- بِاللَّفْظِ، وَقَدْ يَنُوبُ عَنْهُ غَيْرُهُ، وَالصِّيغَةُ الْمُثْلَى لِلِاسْتِئْذَانِ أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَأْذِنُ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟» مُقَدِّمًا السَّلَامَ؛ لِمَا رَوَاهُ رِبْعِيُّ بْنُ خِرَاشٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ فَاسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ فِي بَيْتٍ فَقَالَ: أَأَلِجُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِخَادِمِهِ: اخْرُجْ إِلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الِاسْتِئْذَانَ.فَقُلْ لَهُ: قُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟ فَسَمِعَ الرَّجُلَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟ فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ، فَدَخَلَ».

وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَمِنْهُمُ ابْنُ رُشْدٍ: يَبْدَأُ بِالِاسْتِئْذَانِ لَا بِالسَّلَامِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ.

14- وَيَقُومُ قَرْعُ الْبَابِ مَقَامَ الِاسْتِئْذَانِ بِاللَّفْظِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا أَمْ مَفْتُوحًا.فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي أَمْرِ دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي، فَدَقَقْتُ الْبَابَ فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا، أَنَا.كَأَنَّهُ كَرِهَهُ».

كَمَا يَقُومُ مَقَامَ التَّنَحْنُحِ.

وَيَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ الْمَأْثُورِ كُلُّ مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ مِنْ أَلْفَاظِ الِاسْتِئْذَانِ، فَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ مُسْنَدًا عَنْ أَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ، مَوْلَى أُمِّ مِسْكِينِ بِنْتِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: أَرْسَلَتْنِي مَوْلَاتِي إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَجَاءَ مَعِي، فَلَمَّا قَامَ بِالْبَابِ قَالَ: أَنْدَرُ؟ قَالَتْ: أَنْدَرُونَ.

غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَى كَرَاهَةِ الِاسْتِئْذَانِ بِالذِّكْرِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ جَعْلِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى آلَةً، قَالَ فِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: «وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي الِاسْتِئْذَانِ بِنَحْوِ «سُبْحَانَ اللَّهِ» وَ «لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» فَهُوَ بِدْعَةٌ مَذْمُومَةٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِسَاءَةِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي اسْتِعْمَالِ اسْمِهِ فِي الِاسْتِئْذَانِ».

د- آدَابُ الِاسْتِئْذَانِ:

15- إِذَا اسْتَأْذَنَ عَلَى إِنْسَانٍ، فَتَحَقَّقَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعِ الِاسْتِئْذَانَ، فَلَهُ أَنْ يُكَرِّرَ الِاسْتِئْذَانَ حَتَّى يَسْمَعَهُ.

أَمَّا إِذَا اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ، فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ السُّنَّةَ أَلاَّ يُكَرِّرَ الِاسْتِئْذَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ.

وَقَالَ مَالِكٌ: لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّلَاثِ، حَتَّى يَتَحَقَّقَ سَمَاعَهُ.

وَحَكَى النَّوَوِيُّ قَوْلًا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ بِلَفْظِ السَّلَامِ الْمَشْرُوعِ لَمْ يُعِدْهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِ أَعَادَهُ.

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ، مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَغَيْرِهِ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ، إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ فَقَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، فَرَجَعْتُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ؟ قُلْتُ: اسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ» فَقَالَ- أَيْ عُمَرُ-: وَاَللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بَيِّنَةً، قَالَ أَبُو مُوسَى: أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ أُبَيٌّ بْنُ كَعْبٍ: فَوَاَللَّهِ لَا يَقُومُ مَعَكَ إِلاَّ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ، فَقُمْتُ مَعَهُ، فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ ذَلِكَ.

16- وَقَدْ فَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ دُونَ غَيْرِهِمْ فِي مُدَّةِ الِانْتِظَارِ بَيْنَ كُلِّ اسْتِئْذَانَيْنِ فَقَالُوا: يَمْكُثُ بَعْدَ كُلِّ مَرَّةٍ مِقْدَارَ مَا يَفْرُغُ الْآكِلُ، وَالْمُتَوَضِّئُ، وَالْمُصَلِّي بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ.

حَتَّى إِذَا كَانَ أَحَدٌ عَلَى عَمَلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ فَرَغَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَمَلٍ مِنْهَا كَانَتْ عِنْدَهُ فُرْصَةٌ يَأْخُذُ فِيهَا حَذَرَهُ، وَيُصْلِحُ شَأْنَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الدَّاخِلُ.

وَرَوَى الْجَصَّاصُ بِسَنَدِهِ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَوْلَهُ: «الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ، فَالْأُولَى يَسْتَنْصِتُونَ، وَالثَّانِيَةُ يَسْتَصْلِحُونَ، وَالثَّالِثَةُ يَأْذَنُونَ أَوْ يَرُدُّونَ».

وَإِذَا كَانَ الِاسْتِئْذَانُ بِاللَّفْظِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الصَّوْتُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْمُسْتَأْذَنُ عَلَيْهِ، دُونَ صِيَاحٍ.وَإِنْ كَانَ بِدَقِّ الْبَابِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الدَّقُّ خَفِيفًا بِحَيْثُ يَسْمَعُ أَيْضًا بِلَا عُنْفٍ.فَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ «كَانَتْ أَبْوَابُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- تُقْرَعُ بِالْأَظَافِرِ» 17- وَلَا يَقِفُ الْمُسْتَأْذِنُ قُبَالَةَ الْبَابِ إِنْ كَانَ الْبَابُ مَفْتُوحًا، وَلَكِنَّهُ يَنْحَرِفُ ذَاتَ الْيَمِينِ أَوْ ذَاتَ الشِّمَالِ.فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَرَسُولُ اللَّهِ قُدْوَةٌ.فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ أَوِ الْأَيْسَرِ، وَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمُ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» ذَلِكَ أَنَّ الدُّورَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ سُتُورٌ

وَهُوَ أَيْضًا مِنْ تَوْجِيهَاتِهِ- عليه الصلاة والسلام-، فَعَنْ هُذَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَأْذِنُ، فَقَامَ عَلَى الْبَابِ- وَفِي رِوَايَةٍ: مُسْتَقْبِلَ الْبَابِ- فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: هَكَذَا عَنْكَ أَوْ هَكَذَا، فَإِنَّمَا الِاسْتِئْذَانُ مِنَ النَّظَرِ».

أَمَّا إِنْ كَانَ الْبَابُ مَرْدُودًا فَلَهُ أَنْ يَقِفَ حَيْثُ شَاءَ وَيَسْتَأْذِنَ، وَإِنْ شَاءَ دَقَّ الْبَابَ.

18- وَلَا يَحِلُّ لِلْمُسْتَأْذِنِ النَّظَرُ فِي دَاخِلِ الْبَيْتِ لِأَنَّ لِلْبُيُوتِ حُرْمَتَهَا، وَحَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ السَّابِقُ «إِنَّمَا الِاسْتِئْذَانُ مِنَ النَّظَرِ» يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ

وَرُوِيَ أَنَّ جَارًا لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَقَفَ، وَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى مَا فِي الْبَيْتِ وَهُوَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَمَّا بِعَيْنِكَ فَقَدْ دَخَلْتَ، وَأَمَّا بِإِسْتِكَ فَلَمْ تَدْخُلْ.

فَإِنْ نَظَرَ الْمُسْتَأْذِنُ إِلَى دَاخِلِ الْبَيْتِ فَجَنَى صَاحِبُ الْبَيْتِ عَلَى عَيْنِهِ فَهَلْ يَضْمَنُ؟ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ تَجِدُهُ فِي مُصْطَلَحِ (جِنَايَة).

وَإِذَا اسْتَأْذَنَ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ: مَنْ بِالْبَابِ؟ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَهُ فَيَقُولَ: فُلَانٌ، أَوْ يَقُولَ: أَيَدْخُلُ فُلَانٌ؟ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَلَا يَقُولُ «أَنَا» لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ بِقَوْلِهِ: «أَنَا» فَائِدَةٌ وَلَا زِيَادَةُ إِيضَاحٍ، بَلِ الْإِيهَامُ بَاقٍ.لِحَدِيثِ جَابِرٍ الْمُتَقَدِّمِ.

وَمَنِ اسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ دَخَلَ، وَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَنْصَرِفْ، وَلَا يُلِحُّ بِالِاسْتِئْذَانِ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِقَبِيحِ الْكَلَامِ، وَلَا يَقْعُدُ عَلَى الْبَابِ لِيَنْتَظِرَ، لِأَنَّ لِلنَّاسِ حَاجَاتٍ وَأَشْغَالًا فِي الْمَنَازِلِ، فَلَوْ قَعَدَ عَلَى الْبَابِ وَانْتَظَرَ، لَضَاقَ ذَرْعُهُمْ وَشَغَلَ قَلْبَهُمْ، وَلَعَلَّهُ لَا تَلْتَئِمُ حَاجَاتُهُمْ، فَكَانَ الرُّجُوعُ خَيْرًا لَهُ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}.

ثَانِيًا

الِاسْتِئْذَانُ لِلتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ أَوْ حَقِّهِ

19- الْأَصْلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، أَوْ فِي حَقٍّ لِلْغَيْرِ إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنَ الشَّارِعِ، أَوْ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَعِنْدَئِذٍ لَا يَكُونُ اعْتِدَاءً، فَلَا يَجُوزُ أَكْلُ طَعَامِ الْغَيْرِ إِلاَّ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، أَوْ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ، وَلَا يَجُوزُ سُكْنَى دَارِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ: «لَا يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ غَيْرِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ»، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ أَخْذِ مَالِ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَالْأَكْلِ مِنْهُ، وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ اللَّبَنِ وَغَيْرِهِ.

وَقَدْ يَبْذُلُ ذَلِكَ الْغَيْرُ الْإِذْنَ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ، أَوْ فِي حَقِّهِ بَادِئَ ذِي بَدْءٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، كَأَنْ يَقُولَ لِأَجِيرِهِ: أَذِنْتُ لَكَ أَنْ تَأْكُلَ مِمَّا تَصْنَعُهُ مِنْ مَأْكُولَاتٍ دُونَ أَنْ تَحْمِلَ مِنْهُ شَيْئًا، وَعِنْدَئِذٍ فَلَا حَاجَةَ لِلِاسْتِئْذَانِ لِحُصُولِ مَقْصُودِهِ، وَهُوَ الْإِذْنُ.

وَقَدْ لَا يَبْذُلُ الْإِذْنَ.وَعِنْدَئِذٍ، يَجِبُ عَلَى مَنْ أَرَادَ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ اسْتِئْذَانُهُ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ (ر: إِذْن).

وَمِنْ صُوَرِ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ أَوْ حَقِّهِ مَا يَأْتِي:

أ- الِاسْتِئْذَانُ لِدُخُولِ الْأَمْلَاكِ الْمَمْنُوعَةِ:

20- لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ مِلْكَ غَيْرِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ بَيْتًا، أَمْ بُسْتَانًا مَحُوطًا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِذْنِهِ.، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ مُفَصَّلًا عَنِ الِاسْتِئْذَانِ لِدُخُولِ الْبُيُوتِ.

ب- اسْتِئْذَانُ الْمَرْأَةِ لِإِدْخَالِ الْغَيْرِ إِلَى بَيْتِ زَوْجِهَا:

21- يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ اسْتِئْذَانُ زَوْجِهَا إِنْ أَرَادَتْ أَنْ تُدْخِلَ إِلَيْهِ مَنْ تَعْلَمُ أَنَّ زَوْجَهَا يَكْرَهُ دُخُولَهُ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «وَلَا تَأْذَنْ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ»،، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ حَالَاتُ الضَّرُورَةِ.

قَالَ الْعَيْنِيُّ- شَارِحُ الْبُخَارِيِّ- أَمَّا عِنْدَ الدَّاعِي لِلدُّخُولِ عَلَيْهَا لِلضَّرُورَةِ، كَالْإِذْنِ لِشَخْصٍ فِي دُخُولِ مَوْضِعٍ مِنْ حُقُوقِ الدَّارِ الَّتِي هِيَ فِيهَا، أَوْ إِلَى دَارٍ مُنْفَرِدَةٍ عَنْ مَسْكَنِهَا، أَوِ الْإِذْنِ لِدُخُولِ مَوْضِعٍ مُعَدٍّ لِلضِّيفَانِ، فَلَا حَرَجَ فِي الْإِذْنِ بِذَلِكَ لِأَنَّ الضَّرُورَاتِ مُسْتَثْنَاةٌ فِي الشَّرْعِ.

ج- الِاسْتِئْذَانُ لِلْأَكْلِ مِنْ ثَمَرِ الْبُسْتَانِ وَشُرْبِ لَبَنِ الْمَاشِيَةِ:

22- لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْلُبَ مَاشِيَةَ أَحَدٍ وَلَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثَمَرِ بُسْتَانِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ- عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لَا يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرَبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ فَيَنْتَقِلَ طَعَامُهُ، فَإِنَّمَا تُخَزِّنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَاتِهِمْ، فَلَا يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ».

وَذَهَبَ الْبَعْضُ وَمِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ إِلَى جَوَازِ الْأَكْلِ مِنْ ثَمَرِ الْبُسْتَانِ، وَحَلْبِ الْمَاشِيَةِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَالَ صَاحِبِهِ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ عَلَى مَاشِيَةٍ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا صَاحِبُهَا فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فَلْيَحْلُبْ وَلْيَشْرَبْ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَلْيُصَوِّتْ ثَلَاثًا، فَإِنْ أَجَابَ فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، وَإِلاَّ فَلْيَتَحَلَّبْ وَلْيَشْرَبْ وَلَا يَحْمِلْ».

د- اسْتِئْذَانُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي التَّبَرُّعِ مِنْ مَالِهِ:

23- لَا تَسْتَأْذِنُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا فِيمَا تَتَنَاوَلُهُ مِنْ حَقٍّ ثَابِتٍ لَهَا فِي مِلْكِ الزَّوْجِ، كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ الْمَعْرُوفِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ مَعْلُومٌ، لِحَدِيثِ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ حِينَ «قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ».

كَمَا أَنَّهَا لَا تَسْتَأْذِنُهُ فِي التَّبَرُّعِ بِالشَّيْءِ التَّافِهِ الَّذِي تَتَسَامَحُ بِهِ النُّفُوسُ، كَالدِّرْهَمِ وَالرَّغِيفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، إِنْ لَمْ يَمْنَعْهَا مِنْ ذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ «أَنَّهَا جَاءَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي إِلاَّ مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أَرْضَخَ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيَّ، فَقَالَ: ارْضَخِي وَلَا تُوعِي فَيُوعَى عَلَيْكِ»، وَعَنْ عَائِشَة قَالَتْ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: مَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا، غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا وَلَهُ مِثْلُهُ، وَلَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ».

وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ التَّبَرُّعُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا إِلاَّ بِإِذْنِهِ لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: لَا تُنْفِقُ الْمَرْأَةُ شَيْئًا مِنْ بَيْتِهَا إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الطَّعَامَ؟ قَالَ: ذَلِكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَا».

وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ حَدِيثَيْ عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ خَاصَّانِ صَحِيحَانِ، وَحَدِيثَ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ»..عَامٌّ، وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ.

أَمَّا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ فَهُوَ ضَعِيفٌ.وَتَجِدُ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي (صَدَقَة وَهِبَة).

هـ- اسْتِئْذَانُ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ صَاحَبَ الْحَقَّ:

24- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ اسْتِئْذَانِ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ لَازِمٌ حَالٌّ صَاحَبَ الْحَقَّ، كَالْمَدِينِ مَعَ الدَّائِنِ.وَيَسْقُطُ هَذَا الْوُجُوبُ إِذَا كَانَ الْمَدِينُ خَارِجًا لِأَدَاءِ فَرْضٍ عَيْنِيٍّ، كَالْغَزْوِ عِنْدَ النَّفِيرِ الْعَامِّ.

فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَلَا يَجِبُ الِاسْتِئْذَانُ؛ لِعَدَمِ تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ قَبْلَ حُلُولِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ مَوْضِعُهُ: (الْجِهَادُ، وَالدَّيْنُ).وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الِاسْتِئْذَانِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ حَالًّا أَمْ مُؤَجَّلًا.

و- اسْتِئْذَانُ الطَّبِيبِ فِي التَّطْبِيبِ:

25- يُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْمَرِيضِ الْمُشْرِفِ عَلَى الْمَوْتِ- كَالْجَرِيحِ مَثَلًا- وَيُمْكِنُ اسْتِحْيَاؤُهُ بِالتَّطْبِيبِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَجِبُ عَلَى الطَّبِيبِ أَنْ يُبَاشِرَ التَّطْبِيبَ إِنْقَاذًا لِهَذَا الْجَرِيحِ مِنَ الْمَوْتِ دُونَ اسْتِئْذَانٍ؛ لِأَنَّ اسْتِنْقَاذَهُ أَصْبَحَ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِ مَا دَامَ قَادِرًا عَلَيْهِ، حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ لَكَانَ آثِمًا، وَفِي ضَمَانِهِ لَهُ- إِنْ مَاتَ لِعَدَمِ اسْتِحْيَائِهِ- اخْتِلَافٌ.

وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَرِيضُ كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لِلطَّبِيبِ مُبَاشَرَةُ تَطْبِيبِهِ، إِلاَّ بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ، فَإِنْ طَبَّبَهُ بِإِذْنٍ، فَأَصَابَهُ تَلَفٌ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الطَّبِيبِ.وَإِنْ طَبَّبَهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَعَطِبَ فَعَلَى الطَّبِيبِ الضَّمَانُ. (ر: تَطْبِيب، جِنَايَة، دِيَة).ز- إِذْنُ السُّلْطَانِ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ:

26- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ إِذْنُ الْإِمَامِ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ.وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه-، عِنْدَمَا حُوصِرَ عُثْمَانُ- رضي الله عنه-، أَقَامَ الْجُمُعَةَ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ وَلَا اسْتِئْذَانٍ مِنْ عُثْمَانَ- رضي الله عنه-، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، لَا يَتَوَقَّفُ إِقَامَتُهَا عَلَى إِذْنٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ إِذْنَ الْإِمَامِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنِ الْأَئِمَّةِ، وَالْمُتَوَارَثُ عَنْهُمْ، وَلِأَنَّ فِي هَذَا دَفْعًا لِلْفِتْنَةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


23-موسوعة الفقه الكويتية (استحياء)

اسْتِحْيَاءٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الِاسْتِحْيَاءُ يَأْتِي فِي اللُّغَةِ بِمَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا:

أ- بِمَعْنَى الْحَيَاءِ، وَهُوَ: الِانْزِوَاءُ وَالِانْقِبَاضُ وَقَيَّدَ بَعْضُهُمْ هَذَا الِانْقِبَاضَ لِيَكُونَ اسْتِحْيَاءً بِأَنْ يَكُونَ انْقِبَاضًا عَنِ الْقَبَائِحِ.وَقَدْ وَرَدَ الِاسْتِحْيَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي عَدَدٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، مِنْهَا قَوْلُهُ جَلَّ شَأْنُهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوَك لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} وَقَوْلُهُ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ {وَاَللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ}

وَالِاسْتِحْيَاءُ- بِهَذَا الْمَعْنَى- مُرَغَّبٌ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (حَيَاء).

ب- بِمَعْنَى الْإِبْقَاءِ عَلَى الْحَيَاةِ، فَيُقَالُ: اسْتَحْيَيْتُ فُلَانًا إِذَا تَرَكْتُهُ حَيًّا وَلَمْ أَقْتُلْهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قوله تعالى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} أَيْ يُبْقِيهِمْ أَحْيَاءً.

وَاسْتَعْمَلَ الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ اسْتِحْيَاءٍ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، فَقَالُوا فِي الْبِكْرِ: تُسْتَأْذَنُ فِي النِّكَاحِ، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا، لِأَنَّهَا تَسْتَحْيِي مِنَ النُّطْقِ.

وَقَالُوا فِي الْأَسْرَى يَقَعُونَ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ: إِنْ شَاءَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ اسْتَحْيَاهُمْ، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ.

وَكَثِيرًا مَا يُعَبِّرُونَ عَنِ الِاسْتِحْيَاءِ بِلَفْظِ الْإِبْقَاءِ عَلَى الْحَيَاةِ، فَيَقُولُونَ فِي الصَّغِيرِ يَأْبَى الرَّضَاعَ مِنْ غَيْرِ أُمِّهِ: تُجْبَرُ أُمُّهُ عَلَى إِرْضَاعِهِ إِبْقَاءً عَلَى حَيَاتِهِ الِاسْتِحْيَاءُ بِمَعْنَى إِدَامَةِ الْحَيَاةِ:

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

إِحْيَاءٌ:

2- كَلِمَةُ «إِحْيَاءٌ» تُسْتَعْمَلُ فِي إِيجَادِ الْحَيَاةِ فِيمَا لَا حَيَاةَ فِيهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ}.

أَمَّا كَلِمَةُ «اسْتِحْيَاءٌ» فَإِنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي إِدَامَةِ الْحَيَاةِ الْمَوْجُودَةِ، وَعَدَمِ إِعْدَامِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَمْثِلَةِ السَّابِقَةِ.فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْإِحْيَاءَ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ، بِخِلَافِ الِاسْتِحْيَاءِ.

صِفَتُهُ (الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ):

3- لَا يُمْكِنُ اطِّرَادُ الِاسْتِحْيَاءِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ، نَظَرًا لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الِاسْتِحْيَاءِ، بَلْ تَتَعَاقَبُهُ أَكْثَرُ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ.

فَأَحْيَانًا يَكُونُ الِاسْتِحْيَاءُ وَاجِبًا، كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي اسْتِحْيَاءِ مَنْ بَذَلْنَا لَهُ الْأَمَانَ (ر: أَمَان)، وَاسْتِحْيَاءِ الصَّغِيرِ بِالْإِجْبَارِ عَلَى الرَّضَاعَةِ (ر: رَضَاع)، وَاسْتِحْيَاءِ الْإِنْسَانِ الْعَاجِزِ عَنِ الْكَسْبِ، وَالْحَيَوَانِ الْمَحْبُوسِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ (ر: نَفَقَة)، وَاسْتِحْيَاءِ الذَّرَارِيِّ وَالنِّسَاءِ مِنَ السَّبْيِ (ر: سَبْي)، وَاسْتِحْيَاءِ الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ (ر: إِجْهَاض).

وَأَحْيَانًا يَكُونُ الِاسْتِحْيَاءُ مَكْرُوهًا، كَاسْتِحْيَاءِ الْحَيَوَانِ الْمُؤْذِي بِطَبْعِهِ.وَأَحْيَانًا يَكُونُ الِاسْتِحْيَاءُ مُحَرَّمًا، كَاسْتِحْيَاءِ مَنْ وَجَبَ قَتْلُهُ فِي حَدٍّ (ر: حَدّ)، وَاسْتِحْيَاءِ مَا يَسْتَفِيدُ مِنْهُ جُنُودُ الْعَدُوِّ قَطْعًا فِي حَرْبِهِمْ لَنَا، كَالْحَيَوَانَاتِ الَّتِي عَجَزْنَا عَنْ حَمْلِهَا إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ (ر: جِهَاد).

وَأَحْيَانًا يَكُونُ الِاسْتِحْيَاءُ مُبَاحًا، كَتَخْيِيرِ الْإِمَامِ فِي أَسْرَى الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ الْقَتْلِ أَوِ الْمَنِّ أَوِ الْفِدَاءِ أَوِ الِاسْتِرْقَاقِ.

الْمُسْتَحْيِي:

الْمُسْتَحْيِي: إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ نَفْسَ الْمُسْتَحْيَا (كَاسْتِحْيَاءِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ) أَوْ غَيْرَهُ.

اسْتِحْيَاءُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ:

4- يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى اسْتِحْيَاءِ نَفْسِهِ مَا اسْتَطَاعَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ:

أَوَّلُهُمَا: بِدَفْعِ التَّلَفِ عَنْهَا بِإِزَالَةِ سَبَبِهِ، كَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَإِطْفَاءِ الْحَرِيقِ أَوِ الْهَرَبِ مِنْهُ، كَمَا إِذَا احْتَرَقَتْ سَفِينَةٌ وَلَمْ يُمْكِنْ إِطْفَاؤُهَا، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ رِكَابَهَا لَوْ أَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَاءِ نَجَوْا، وَجَبَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ.

وَلَيْسَ مِنْ هَذَا تَنَاوُلُ الدَّوَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ غَيْرُ مُفْضٍ إِلَى الْمَوْتِ حَتْمًا؛ وَلِأَنَّ الشِّفَاءَ بِتَنَاوُلِ الدَّوَاءِ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ لَكِنِ التَّدَاوِي مَطْلُوبٌ شَرْعًا؛ لِحَدِيثِ «تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ».

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي دَفْعِ التَّلَفِ عَنْ نَفْسِهِ إِتْلَافٌ لِلْغَيْرِ، أَوْ لِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، أَوْ كَانَ فِيهِ إِتْلَافٌ لِنَفْسٍ غَيْرِ مُحْتَرَمَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِحْيَاءُ نَفْسِهِ، كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي طَلَبِ الزَّادِ مِمَّنْ هُوَ مَعَهُ وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ، أَوْ فِي دَفْعِ الصَّائِلِ عَلَى النَّفْسِ.

وَإِنْ كَانَ فِي إِحْيَاءِ نَفْسِهِ إِتْلَافٌ لِنَفْسٍ مُحْتَرَمَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى هَذَا الْإِتْلَافِ إِحْيَاءً لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ لَا يُزَالُ بِضَرَرٍ مِثْلِهِ.

ثَانِيهُمَا: عَدَمُ الْإِقْدَامِ عَلَى إِمَاتَةِ نَفْسِهِ بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ أَوْ غَيْرِ مُبَاشِرٍ، أَمَّا إِمَاتَةُ نَفْسِهِ بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ كَمَا إِذَا بَعَجَ بَطْنَهُ بِحَدِيدَةٍ، أَوْ أَلْقَى نَفْسَهُ مِنْ شَاهِقٍ لِيَمُوتَ، فَمَاتَ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، يَتَرَدَّى خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَسُمُّهُ بِيَدِهِ، يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ وَجَأَ بَطْنَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ، يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، أَوْ كِتَابِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، عِنْدَ كَلَامِهِمْ عَلَى الِانْتِحَارِ (ر: انْتِحَار).

وَأَمَّا إِمَاتَةُ نَفْسِهِ بِشَكْلٍ غَيْرِ مُبَاشِرٍ، كَمَا إِذَا اقْتَحَمَ عَدُوًّا، أَوْ مَجْمُوعَةً مِنَ اللُّصُوصِ، وَهُوَ مُوقِنٌ أَنَّهُ مَقْتُولٌ لَا مَحَالَةَ، دُونَ أَنْ يَقْتُلَ مِنْهُمْ أَحَدًا، أَوْ يُوقِعَ فِيهِمْ نِكَايَةً، أَوْ يُؤَثِّرَ فِيهِمْ أَثَرًا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ؛ لِأَنَّ هَذَا إِلْقَاءٌ لِلنَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وَمَحَلُّ تَفْصِيلِ ذَلِكَ كِتَابُ الْجِهَادِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ (ر: جِهَاد).

5- وَاسْتِحْيَاءُ نَفْسِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى اسْتِحْيَاءِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ نَفْسِهِ عَلَيْهِ فَوْقَ حُرْمَةِ نَفْسٍ أُخْرَى وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ كَانَ إِثْمُهُ أَكْثَرَ مِمَّنْ قَتَلَ غَيْرَهُ وَمِنْ هُنَا قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْمَرْءَ يُكَلَّفُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي النَّفَقَاتِ (ر: نَفَقَة)، وَكَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى طَعَامِ غَيْرِهِ اسْتِحْيَاءً لِنَفْسِهِ، وَصَاحِبُ الطَّعَامِ مُضْطَرٌّ لِطَعَامِهِ اسْتِحْيَاءً لِنَفْسِهِ أَيْضًا، فَصَاحِبُ الطَّعَامِ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ.

اسْتِحْيَاءُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ:

6- يُشْتَرَطُ فِي الْمُسْتَحْيِي لِغَيْرِهِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الِاسْتِحْيَاءُ مَا يَلِي:

1- أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحْيِي مُكَلَّفًا عَالِمًا بِحَاجَةِ الْمُسْتَحْيَا إِلَى الِاسْتِحْيَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ عَلَى غَيْرِ الْمُكَلَّفِ.

2- أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الِاسْتِحْيَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُكَلَّفُ بِهِ، لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} قَالَ فِي الْمُغْنِي: «كُلُّ مَنْ رَأَى إِنْسَانًا فِي مُهْلِكَةٍ فَلَمْ يُنَجِّهِ مِنْهَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ وَقَدْ أَسَاءَ» وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَضْمَنُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُنَجِّهِ مِنَ الْهَلَاكِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ مَنَعَهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَالْخِلَافُ وَاقِعٌ فِي الضَّمَانِ، لَا فِي الِاسْتِحْيَاءِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْجِنَايَاتِ (ر: جِنَايَة).

فَإِذَا تَحَقَّقَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ فِي مَجْمُوعَةٍ مِنَ النَّاسِ وَجَبَ الِاسْتِحْيَاءُ عَلَى الْأَقْرَبِ مِنْهُمْ إِلَى الْمُسْتَحْيَا فَالْأَقْرَبِ، عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِهِمْ فِي النَّفَقَةِ (ر: نَفَقَة).

فَإِذَا امْتَنَعَ أَحَدُهُمْ عَنْ الِاسْتِحْيَاءِ انْتَقَلَ الْوُجُوبُ إِلَى مَنْ يَلِيهِ، إِنْ كَانَ الْوَقْتُ لَا يَتَّسِعُ إِلَى إِجْبَارِهِ عَلَى الِاسْتِحْيَاءِ، وَكَذَا إِنِ اخْتَلَّ فِيهِ شَرْطٌ مِنَ الشُّرُوطِ السَّابِقَةِ، إِلَى أَنْ يَصِلَ الْوُجُوبُ إِلَى مَنْ عَلِمَ مِنَ النَّاسِ.

الْمُسْتَحْيَا:

7- يُشْتَرَطُ فِي الْمُسْتَحْيَا حَتَّى يَجِبَ اسْتِحْيَاؤُهُ أَنْ يَكُونَ ذَا حَيَاةٍ مُحْتَرَمَةٍ- سَوَاءٌ أَكَانَ إِنْسَانًا أَمْ حَيَوَانًا- وَتَبْدَأُ الْحَيَاةُ الْمُحْتَرَمَةُ بِنَفْخِ الرُّوحِ فِي الْجَنِينِ بِلَا خِلَافٍ.وَفِي ابْتِدَائِهَا قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ خِلَافٌ. (ر: إِجْهَاض).

وَتُهْدَرُ هَذِهِ الْحُرْمَةُ لِلْحَيَاةِ وَيَسْقُطُ وُجُوبُ الِاسْتِحْيَاءِ بِمَا يَلِي:

أ- بِإِهْدَارِ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا أَصْلًا، كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي إِهْدَارِ حُرْمَةِ حَيَاةِ الْخِنْزِيرِ.

ب- أَوْ بِتَصَرُّفِهِ تَصَرُّفًا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ مُوجِبًا لِإِهْدَارِ دَمِهِ، كَقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ (ر: بَغْي) (وَجِهَاد) وَالْقَتْلِ (ر: جِنَايَة) وَالرِّدَّةِ (ر: رِدَّة) وَزِنَى الْمُحْصَنِ (ر: إِحْصَان) وَالسِّحْرِ عِنْدَ الْبَعْضِ (رَ: سِحْرٍ). ج- أَوْ بِالضَّرَرِ، بِأَصْلِ خِلْقَتِهِ، كَالْحَيَوَانَاتِ الْمُؤْذِيَةِ بِأَصْلِ خِلْقَتِهَا، كَالْخَمْسِ الْفَوَاسِقِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِقَوْلِهِ: «خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ: الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ «السَّبُعُ الْعَادِي» (الْمُتَعَدِّي) وَنَحْوَ ذَلِكَ.

د- أَوْ بِالضَّرَرِ وُقُوعًا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ ضَرَرِهِ إِلاَّ بِقَتْلِهِ، كَالصَّائِلِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ.

وَسَائِلُ الِاسْتِحْيَاءِ:

8- لَا تَخْرُجُ وَسَائِلُ الِاسْتِحْيَاءِ عَنْ كَوْنِهَا عَمَلًا، أَوِ امْتِنَاعًا عَنْ عَمَلٍ:

أ- أَمَّا الْعَمَلُ، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ تَعْتَبِرُ كُلَّ عَمَلٍ مَشْرُوعًا- عَدَا قَتْلِ الْبَرِيءِ- إِذَا تَعَيَّنَ لِاسْتِحْيَاءِ نَفْسٍ مُشْرِفَةٍ عَلَى الْهَلَاكِ، سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْعَمَلُ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ كَإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ، أَوْ بَذْلِ الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ لِلْمُضْطَرِّ إِلَيْهِ.أَوْ تَمْدِيدِ إِجَارَةِ السَّفِينَةِ الَّتِي انْتَهَتْ مُدَّةُ إِجَارَتِهَا وَهِيَ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ (ر: إِجَارَة)، وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَمْ كَانَ مُحَرَّمًا بِأَصْلِهِ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ مِنْ مَخْمَصَةٍ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ لِدَفْعِ غُصَّةٍ، وَالْكَذِبِ لِدَفْعِ ظَالِمٍ عَنْ بَرِيءٍ يُرِيدُ قَتْلَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

ب- أَمَّا الِامْتِنَاعُ عَنْ عَمَلٍ، كَالِامْتِنَاعِ عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ، وَالِامْتِنَاعِ عَنْ قَتْلِ الْغَيْرِ فَهُوَ وَاجِبٌ. الْإِجْبَارُ عَلَى الِاسْتِحْيَاءِ:

9- إِذَا تَعَيَّنَ وُجُوبُ الِاسْتِحْيَاءِ أُجْبِرَ عَلَيْهِ عِنْدَ تَوَفُّرِ الشُّرُوطِ السَّابِقَةِ وَتَعَيَّنَ لِذَلِكَ، كَمَا إِذَا رَفَضَ الصَّغِيرُ الرَّضَاعَ مِنْ ثَدْيٍ غَيْرِ ثَدْيِ أُمِّهِ، فَإِنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى إِرْضَاعِهِ اسْتِحْيَاءً لَهُ. (ر: رَضَاع).

وُجُوبُ الِاسْتِحْيَاءِ فِي الزَّمَنِ الَّذِي يَتَّسِعُ لَهُ:

10- يَجِبُ الِاسْتِحْيَاءُ فِي الزَّمَنِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِهِ الِاسْتِحْيَاءُ، وَأَوَّلُهُ وَقْتُ الْحَاجَةِ إِلَى الِاسْتِحْيَاءِ، وَآخِرُهُ هُوَ الْفَرَاغُ مِنَ الِاسْتِحْيَاءِ، فَإِنْقَاذُ الْغَرِيقِ حَدَّدَ لَهُ الشَّرْعُ الزَّمَانَ، فَأَوَّلُهُ: مَا يَلِي زَمَنَ السُّقُوطِ، وَآخِرُهُ الْفَرَاغُ مِنْ إِنْقَاذِهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


24-موسوعة الفقه الكويتية (استدراك)

اسْتِدْرَاكٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الِاسْتِدْرَاكُ لُغَةً: اسْتِفْعَالٌ مِنْ (دَرَكَ).وَالدَّرْكُ الدَّرَكُ: اللَّحَاقُ وَالْبُلُوغُ.يُقَالُ: أَدْرَكَ الشَّيْءُ إِذَا بَلَغَ وَقْتُهُ وَانْتَهَى، وَعِشْتُ حَتَّى أَدْرَكْتُ زَمَانَهُ.

وَلِلِاسْتِدْرَاكِ فِي اللُّغَةِ اسْتِعْمَالَانِ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يَسْتَدْرِكَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ، إِذَا حَاوَلَ اللَّحَاقَ بِهِ، يُقَالُ: اسْتَدْرَكَ النَّجَاةَ بِالْفِرَارِ.

وَالثَّانِي: فِي مِثْلِ قَوْلِهِمْ: اسْتَدْرَكَ الرَّأْيَ وَالْأَمْرَ، إِذَا تَلَافَى مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنَ الْخَطَأِ أَوِ النَّقْصِ.

وَلِلِاسْتِدْرَاكِ فِي الِاصْطِلَاحِ مَعْنَيَانِ:

الْأَوَّلُ.وَهُوَ لِلْأُصُولِيِّينَ وَالنَّحْوِيِّينَ: رَفْعُ مَا يُتَوَهَّمُ ثُبُوتُهُ مِنْ كَلَامٍ سَابِقٍ.أَوْ إِثْبَاتُ مَا يُتَوَهَّمُ نَفْيُهُ.وَزَادَ بَعْضُهُمْ: (بِاسْتِعْمَالِ أَدَاةِ الِاسْتِدْرَاكِ وَهِيَ لَكِنَّ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ أَدَوَاتِ الِاسْتِثْنَاءِ).

الثَّانِي: وَهُوَ مَا يَرِدُ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ كَثِيرًا وَهُوَ: إِصْلَاحُ مَا حَصَلَ فِي الْقَوْلِ أَوِ الْعَمَلِ مِنْ خَلَلٍ أَوْ قُصُورٍ أَوْ فَوَاتٍ.وَمِنْهُ عِنْدَهُمْ: اسْتِدْرَاكُ نَقْصِ الصَّلَاةِ بِسُجُودِ السَّهْوِ، وَاسْتِدْرَاكُ الصَّلَاةِ إِذَا بَطَلَتْ بِإِعَادَتِهَا، وَاسْتِدْرَاكُ الصَّلَاةِ الْمَنْسِيَّةِ بِقَضَائِهَا، وَالِاسْتِدْرَاكُ بِإِبْطَالِ خَطَأِ الْقَوْلِ وَإِثْبَاتِ صَوَابِهِ.

وَيُخَصُّ الِاسْتِدْرَاكُ الَّذِي بِمَعْنَى فِعْلِ الشَّيْءِ الْمَتْرُوكِ بَعْدَ مَحِلِّهِ بِعِنْوَانِ «التَّدَارُكُ» سَوَاءٌ تُرِكَ سَهْوًا أَوْ تُرِكَ عَمْدًا.كَقَوْلِ الرَّمْلِيِّ: «إِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ تَدَارَكَ الْمَسْبُوقُ بَاقِيَ التَّكْبِيرَاتِ بِأَذْكَارِهَا» وَقَوْلُهُ: «لَوْ نَسِيَ تَكْبِيرَاتِ صَلَاةِ الْعِيدِ فَتَذَّكَّرَهَا- وَقَدْ شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ- فَاتَتْ فَلَا يَتَدَارَكُهَا».

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْإِضْرَابُ:

2- وَهُوَ لُغَةً: الْإِعْرَاضُ عَنِ الشَّيْءِ وَالْكَفُّ عَنْهُ، بَعْدَ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ.

وَفِي اصْطِلَاحِ النَّحْوِيِّينَ قَدْ يَلْتَبِسُ بِالِاسْتِدْرَاكِ «بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ» فَالْإِضْرَابُ: إِبْطَالُ الْحُكْمِ السَّابِقِ بِبَلْ، أَوْ نَحْوِهَا مِنَ الْأَدَوَاتِ الْمَوْضُوعَةِ لِذَلِكَ، أَوْ بِبَدَلِ الْإِضْرَابِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِدْرَاكِ، أَنَّكَ فِي الِاسْتِدْرَاكِ لَا تُبْطِلُ الْحُكْمَ السَّابِقَ، كَمَا فِي قَوْلِكَ: جَاءَ زَيْدٌ لَكِنَّ أَخَاهُ لَمْ يَأْتِ، فَإِثْبَاتُ الْمَجِيءِ لِزَيْدٍ لَمْ يُلْغَ، بَلْ نَفْيُ الْمَجِيءِ عَنْ أَخِيهِ، وَفِي الْإِضْرَابِ تُبْطِلُ الْحُكْمَ السَّابِقَ، فَإِذَا قُلْتَ: جَاءَ زَيْدٌ، ثُمَّ ظَهَرَ لَكَ أَنَّكَ غَلِطْتَ فِيهِ فَقُلْتَ: بَلْ عَمْرٌو أَبْطَلْتَ حُكْمَكَ الْأَوَّلَ بِإِثْبَاتِ الْمَجِيءِ لِزَيْدٍ، وَجَعَلْتَهُ فِي حُكْمِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ.

الِاسْتِثْنَاءُ:

3- حَقِيقَةُ الِاسْتِثْنَاءِ: إِخْرَاجُ بَعْضِ مَا دَخَلَ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ بِإِلاَّ، أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا.وَمِنْ هُنَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِعْيَارَ الْعُمُومِ.أَمَّا الِاسْتِدْرَاكُ فَهُوَ إِثْبَاتُ نَقِيضِ الْحُكْمِ السَّابِقِ لِمَا يُتَوَهَّمُ انْطِبَاقُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ.فَالْفَرْقُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لِلدَّاخِلِ فِي الْأَوَّلِ، وَأَنَّ الِاسْتِدْرَاكَ لِمَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ تُوُهِّمَ دُخُولُهُ، أَوْ سَرَيَانُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ.

وَلِأَجْلِ هَذَا التَّقَارُبِ تُسْتَعْمَلُ أَدَوَاتُ الِاسْتِثْنَاءِ مَجَازًا فِي الِاسْتِدْرَاكِ.وَهُوَ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ النُّحَاةِ: الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ، وَحَقِيقَتُهُ الِاسْتِدْرَاكُ (ر: اسْتِثْنَاء) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} كَمَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ لَكِنْ- مِثْلَ غَيْرِهَا مِمَّا يُؤَدِّي مُؤَدَّاهَا- فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَعْنَى، إِذْ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَعْنَى لَيْسَ لَهُ صِيغَةٌ مُحَدَّدَةٌ، كَقَوْلِكَ: مَا جَاءَ الْقَوْمُ لَكِنْ جَاءَ بَعْضُهُمْ.

الْقَضَاءُ:

4- الْمُرَادُ بِهِ هُنَا: فِعْلُ الْعِبَادَةِ إِذَا خَرَجَ وَقْتُهَا الْمُقَدَّرُ لَهَا شَرْعًا قَبْلَ فِعْلِهَا صَحِيحَةً، سَوَاءٌ أَتُرِكَتْ عَمْدًا أَمْ سَهْوًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمُكَلَّفُ قَدْ تَمَكَّنَ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْوَقْتِ، كَالْمُسَافِرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّوْمِ.أَمْ لَمْ يَتَمَكَّنْ كَالنَّائِمِ وَالنَّاسِي بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلَاةِ.أَمَّا الِاسْتِدْرَاكُ فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْقَضَاءِ، إِذْ أَنَّهُ يَشْمَلُ تَلَافِيَ النَّقْصِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ مَشْرُوعَةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ صَاحِبِ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ وَشَارِحِهِ: «الْقَضَاءُ فِعْلُ الْوَاجِبِ بَعْدَ وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ شَرْعًا اسْتِدْرَاكًا لِمَا فَاتَ» فَجَعَلَ الْقَضَاءَ اسْتِدْرَاكًا.

الْإِعَادَةُ:

5- هِيَ: فِعْلُ الْعِبَادَةِ ثَانِيًا فِي الْوَقْتِ لِخَلَلٍ وَاقِعٍ فِي الْفِعْلِ الْأَوَّلِ

وَالِاسْتِدْرَاكُ أَعَمُّ مِنَ الْإِعَادَةِ كَذَلِكَ.

التَّدَارُكُ:

6- لَمْ نَجِدْ أَحَدًا مِنَ الْفُقَهَاءِ عَرَّفَ التَّدَارُكَ، وَلَكِنَّهُ دَائِرٌ فِي كَلَامِهِمْ كَثِيرًا، وَيَعْنُونَ بِهِ فِي الْأَفْعَالِ: فِعْلَ الْعِبَادَةِ أَوْ فِعْلَ جُزْئِهَا إِذَا تَرَكَ الْمُكَلَّفُ فِعْلَ ذَلِكَ فِي مَحَلِّهِ الْمُقَرَّرِ شَرْعًا مَا لَمْ يَفُتْ.كَمَا فِي قَوْلِ صَاحِبِ كَشَّافِ الْقِنَاعِ «لَوْ دُفِنَ الْمَيِّتُ قَبْلَ الْغُسْلِ وَقَدْ أَمْكَنَ غُسْلُهُ لَزِمَ نَبْشُهُ، وَأَنْ يُخْرَجَ وَيُغَسَّلَ تَدَارُكًا لِوَاجِبِ غُسْلِهِ».

وَقَدْ يَقَعُ الْغَلَطُ فِي الْأَقْوَالِ فَيَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَى تَدَارُكِهِ، بِأَنْ يُبْطِلَهُ وَيُثْبِتَ الصَّوَابَ، وَلِذَلِكَ طُرُقٌ مِنْهَا: بَدَلُ الْغَلَطِ، وَمِنْهَا «بَلْ» فِي الْإِيجَابِ وَالْأَمْرِ.وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ التَّدَارُكَ بِبَلْ بِكَوْنِ الْإِخْبَارِ الْأَوَّلِ أَوْلَى مِنْهُ الْإِخْبَارُ الثَّانِي، فَيَعْرِضُ عَنِ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّانِي، لَا أَنَّهُ إِبْطَالُ الْأَوَّلِ وَإِثْبَاتُ الثَّانِي.

الْإِصْلَاحُ:

7- وَهُوَ اصْطِلَاحٌ لِلْمَالِكِيَّةِ ذَكَرُوهُ فِي بَابِ سُجُودِ السَّهْوِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا: قَوْلُ الدَّرْدِيرِ «مَنْ كَثُرَ مِنْهُ الشَّكُّ فَلَا إِصْلَاحَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَصْلَحَ بِأَنْ أَتَى بِمَا شَكَّ فِيهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ» (فَهُوَ بِمَعْنَى التَّدَارُكِ).

الِاسْتِئْنَافُ:

8- اسْتِئْنَافُ الْعَمَلِ: ابْتِدَاؤُهُ، أَيْ فِعْلُهُ مُرَّةً أُخْرَى إِذَا نُقِضَ الْفِعْلُ الْأَوَّلُ قَبْلَ تَمَامِهِ.فَاسْتِئْنَافُ الصَّلَاةِ تَجْدِيدُ التَّحْرِيمَةِ بَعْدَ إِبْطَالِ التَّحْرِيمَةِ الْأُولَى، وَبِهَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ فِي قَوْلِهِمْ: «الْمُصَلِّي إِذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ يَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ، أَوْ يَسْتَأْنِفُ، وَالِاسْتِئْنَافُ أَوْلَى»

وَكَاسْتِئْنَافِ الْأَذَانِ إِذَا قَطَعَهُ بِفَاصِلٍ طَوِيلٍ، وَاسْتِئْنَافِ الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ إِذَا انْقَطَعَ التَّتَابُعُ.

فَالِاسْتِئْنَافُ عَلَى هَذَا طَرِيقَةٌ مِنْ طُرُقِ الِاسْتِدْرَاكِ، وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِئْنَاف).

هَذَا وَبِسَبَبِ اسْتِعْمَالِ هَذَا الْمُصْطَلَحِ «الِاسْتِدْرَاكُ» بِمَعْنَيَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: الِاسْتِدْرَاكُ الْقَوْلِيُّ بِأَدَاةِ الِاسْتِدْرَاكِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهَا، وَالْآخَرُ: الِاسْتِدْرَاكُ بِإِصْلَاحِ الْخَلَلِ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، يَنْقَسِمُ الْبَحْثُ قِسْمَيْنِ تَبَعًا لِذَلِكَ.

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ

الِاسْتِدْرَاكُ الْقَوْلِيُّ بِ «لَكِنَّ» وَأَخَوَاتِهَا

صِيَغُ الِاسْتِدْرَاكِ:

هِيَ: لَكِنَّ (مُشَدَّدَةٌ) وَلَكِنْ (مُخَفَّفَةٌ) وَبَلْ وَعَلَى، وَأَدَوَاتُ الِاسْتِثْنَاءِ.

9- أ- لَكِنَّ: وَهِيَ أُمُّ الْبَابِ.وَهِيَ الْمَوْضُوعَةُ لَهُ.

وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي اسْتِعْمَالِ «لَكِنَّ» وَمَا فِي مَعْنَاهَا لِلِاسْتِدْرَاكِ: الِاخْتِلَافُ بَيْنَ مَا قَبْلَ (لَكِنَّ) وَمَا بَعْدَهَا بِالْإِيجَابِ وَالسَّلْبِ لَفْظًا، نَحْوُ مَا جَاءَ زَيْدٌ لَكِنَّ أَخَاهُ جَاءَ.

وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ مَعْنَوِيًّا جَازَ أَيْضًا.كَقَوْلِ الْقَائِلِ: عَلِيٌّ حَاضِرٌ لَكِنَّ أَخَاهُ مُسَافِرٌ، أَيْ لَيْسَ بِحَاضِرٍ.

ب- لَكِنْ:

«بِسُكُونِ النُّونِ» فَهِيَ فِي الْأَصْلِ مُخَفَّفَةٌ مِنْ «لَكِنَّ»، وَتَكُونُ عَلَى حَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَغْلَبُ أَنْ تَكُونَ ابْتِدَائِيَّةً فَتَلِيهَا جُمْلَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}

وَالْحَالُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً، وَيُشْتَرَطُ لِذَلِكَ: أَنْ يَسْبِقَهَا نَفْيٌ أَوْ نَهْيٌ، وَأَنْ يَلِيَهَا مُفْرَدٌ، وَأَلاَّ تَدْخُلَ عَلَيْهَا الْوَاوُ مِثْلُ: مَا جَاءَ زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو.

وَلَا تَخْلُو فِي كِلَا الْحَالَيْنِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ، فَتُقَرِّرُ حُكْمَ مَا قَبْلَهَا، وَتُثْبِتُ نَقِيضَهُ لِمَا بَعْدَهَا.

ج- بَلْ:

إِذَا سَبَقَهَا نَفْيٌ أَوْ نَهْيٌ تَكُونُ حَرْفَ اسْتِدْرَاكٍ مِثْلَ (لَكِنْ) تُقَرِّرُ حُكْمَ مَا قَبْلَهَا، وَتُثْبِتُ نَقِيضَهُ لِمَا بَعْدَهَا.

فَإِنْ وَقَعَتْ بَعْدَ إِيجَابٍ أَوْ أَمْرٍ لَمْ تُفِدْ ذَلِكَ، بَلْ تُفِيدُ الْإِضْرَابَ عَنِ الْأَوَّلِ، حَتَّى كَأَنَّهُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَتَنْقُلُ حُكْمَهُ لِمَا بَعْدَهَا، كَقَوْلِكَ: جَاءَ زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو، وَهَذَا مَا يُسَمَّى بِالْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ.قَالَ السَّعْدُ: «أَيْ إِنَّ الْإِخْبَارَ عَنْهُ مَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ.وَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ» لَا «صَارَ نَصًّا فِي نَفْيِ الْأَوَّلِ».

وَلِذَا لَا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ، إِلاَّ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ.

وَقَدْ تَكُونُ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ، أَيْ مِنْ غَرَضٍ إِلَى آخَرَ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}.

د- عَلَى:

تُسْتَعْمَلُ لِلِاسْتِدْرَاكِ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

بِكُلٍّ تَدَاوَيْنَا فَلَمْ يَشْفِ مَا بِنَا

عَلَى أَنَّ قُرْبَ الدَّارِ خَيْرٌ مِنَ الْبُعْدِ

عَلَى أَنَّ قُرْبَ الدَّارِ لَيْسَ بِنَافِعٍ

إِذَا كَانَ مَنْ تَهْوَاهُ لَيْسَ بِذِي وُدِّ

هـ- أَدَوَاتُ الِاسْتِثْنَاءِ:

قَدْ تُسْتَخْدَمُ أَدَوَاتُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الِاسْتِدْرَاكِ، فَيَقُولُونَ: زَيْدٌ غَنِيٌّ غَيْرَ أَنَّهُ بَخِيلٌ، وَمِنْهُ قوله تعالى {قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ} وَهَذَا مَا يُسَمَّى الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ (ر: اسْتِثْنَاء)، فَيُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ (إِلاَّ وَغَيْرُ)، وَيُسْتَعْمَلُ فِيهِ أَيْضًا (سِوَى) عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ.

شُرُوطُ الِاسْتِدْرَاكِ:

10- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاسْتِدْرَاكِ شُرُوطٌ، وَهِيَ:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ:

اتِّصَالُهُ بِمَا قَبْلَهُ وَلَوْ حُكْمًا.فَلَا يَضُرُّ انْفِصَالُهُ بِمَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ، أَوْ بِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، كَتَنَفُّسٍ وَسُعَالٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.فَإِنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ سُكُوتٌ يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ فِيهِ، أَوْ كَلَامٌ أَجْنَبِيٌّ عَنِ الْمَوْضُوعِ، اسْتَقَرَّ حُكْمُ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَبَطَلَ الِاسْتِدْرَاكُ.

فَلَوْ أَقَرَّ لِزَيْدٍ بِثَوْبٍ، فَقَالَ زَيْدٌ: مَا كَانَ لِي قَطُّ، لَكِنْ لِعَمْرٍو، فَإِنْ وَصَلَ فَلِعَمْرٍو، وَإِنْ فَصَلَ فَلِلْمُقِرِّ، لِأَنَّ النَّفْيَ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَكْذِيبًا لِلْمُقِرِّ وَرَدًّا لِإِقْرَارِهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْكَلَامِ، فَيَكُونُ النَّفْيُ رَدًّا إِلَى الْمُقِرِّ.وَيَحْتَمِلُ أَلاَّ يَكُونَ تَكْذِيبًا، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ مَعْرُوفًا بِكَوْنِهِ لِزَيْدٍ، ثُمَّ وَقَعَ فِي يَدِ الْمُقِرِّ فَأَقَرَّ بِهِ لِزَيْدٍ، فَقَالَ زَيْدٌ: الثَّوْبُ مَعْرُوفٌ بِكَوْنِهِ لِي، لَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لِعَمْرٍو، فَقَوْلُهُ: «لَكِنَّهُ لِعَمْرٍو» بَيَانُ تَغْيِيرٍ لِذَلِكَ النَّفْيِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الِاتِّصَالِ؛ لِأَنَّ بَيَانَ التَّغْيِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَصِحُّ إِلاَّ مَوْصُولًا، وَلَا يَصِحُّ مُتَرَاخِيًا، فَإِنْ وَصَلَ يَثْبُتُ النَّفْيُ عَنْ زَيْدٍ وَالْإِثْبَاتُ لِعَمْرٍو مَعًا، إِذْ صَدْرُ الْكَلَامِ مَوْقُوفٌ عَلَى آخِرِهِ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُمَا مَعًا.

وَلَوْ فَصَلَ يَصِيرُ النَّفْيُ رَدًّا لِلْإِقْرَارِ.ثُمَّ لَا تَثْبُتُ الْمِلْكِيَّةُ لِعَمْرٍو بِمُجَرَّدِ إِخْبَارِهِ بِذَلِكَ.

الشَّرْطُ الثَّانِي:

اتِّسَاقُ الْكَلَامِ أَيِ انْتِظَامُهُ وَارْتِبَاطُهُ.وَالْمُرَادُ أَنْ يَصْلُحَ لِلِاسْتِدْرَاكِ، بِأَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ السَّابِقُ لِلْأَدَاةِ بِحَيْثُ يَفْهَمُ مِنْهُ الْمُخَاطَبُ عَكْسَ الْكَلَامِ اللاَّحِقِ لَهَا، أَوْ يَكُونُ فِيمَا بَعْدَ الْأَدَاةِ تَدَارُكٌ لِمَا فَاتَ مِنْ مَضْمُونِ الْكَلَامِ.نَحْوُ: مَا قَامَ زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو، بِخِلَافِ نَحْوِ: مَا جَاءَ زَيْدٌ لَكِنْ رَكِبَ الْأَمِيرُ، وَفَسَّرَ صَاحِبُ الْمَنَارِ الِاتِّسَاقَ: بِكَوْنِ مَحَلِّ النَّفْيِ غَيْرَ مَحَلِّ الْإِثْبَاتِ لِيُمْكِنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَلَا يُنَاقِضُ آخِرُ الْكَلَامِ أَوَّلَهُ، ثُمَّ إِنِ اتَّسَقَ الْكَلَامُ فَهُوَ اسْتِدْرَاكٌ، وَإِلاَّ فَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ.وَمَثَّلَ فِي التَّوْضِيحِ لِلْمُتَّسَقِ مِنْ الِاسْتِدْرَاكِ بِمَا لَوْ قَالَ الْمُقِرُّ: لَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ قَرْضٌ، فَقَالَ لَهُ الْمُقَرُّ لَهُ: لَا، لَكِنْ غَصْبٌ.الْكَلَامُ مُتَّسِقٌ فَصَحَّ الْوَصْلُ عَلَى أَنَّهُ نَفْيٌ لِسَبَبِ الْحَقِّ، وَهُوَ كَوْنُ الْمُقَرِّ بِهِ عَنْ قَرْضٍ، لَا نَفْيٍ لِلْوَاجِبِ وَهُوَ الْأَلْفُ.فَإِنَّ قَوْلَهُ: «لَا» لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى نَفْيِ الْوَاجِبِ لَا يَسْتَقِيمُ مَعَ قَوْلِهِ: «لَكِنْ غَصْبٌ» وَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ مُتَّسِقًا مُرْتَبِطًا.فَلَمَّا نَفَى كَوْنَهُ قَرْضًا تَدَارَكَ بِكَوْنِهِ غَصْبًا، فَصَارَ الْكَلَامُ مُرْتَبِطًا، وَلَا يَكُونُ رَدًّا لِإِقْرَارِهِ بَلْ يَكُونُ لِمُجَرَّدِ نَفْيِ السَّبَبِ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: مَا إِذَا تَزَوَّجَتِ الصَّغِيرَةُ الْمُمَيِّزَةُ مِنْ كُفْءٍ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا بِمِائَةٍ، فَقَالَ الْوَلِيُّ: لَا أُجِيزُ النِّكَاحَ لَكِنْ أُجِيزُهُ بِمِائَتَيْنِ.قَالُوا: يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ، وَيَجْعَلُ «لَكِنْ» وَمَا بَعْدَهَا كَلَامًا مُبْتَدَأً؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: «لَا أُجِيزُ النِّكَاحَ» انْفَسَخَ النِّكَاحُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّ النَّفْيَ انْصَرَفَ إِلَى أَصْلِ النِّكَاحِ، فَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ ذَلِكَ النِّكَاحِ بَعْدَ ذَلِكَ بِمِائَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ نَفْيُ النِّكَاحِ وَإِثْبَاتُهُ بِعَيْنِهِ، فَيَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرَ مُتَّسِقٍ، فَيُحْمَلُ «لَكِنْ بِمِائَتَيْنِ» عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، فَيَكُونُ إِجَازَةً لِنِكَاحٍ آخَرَ، الْمَهْرُ فِيهِ مِائَتَانِ.وَإِنَّمَا يَكُونُ كَلَامُهُ مُتَّسِقًا لَوْ قَالَ بَدَلَ ذَلِكَ: لَا أُجِيزُ هَذَا النِّكَاحَ بِمِائَةٍ لَكِنْ أُجِيزُهُ بِمِائَتَيْنِ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ يَنْصَرِفُ إِلَى الْقَيْدِ وَهُوَ كَوْنُهُ بِمِائَةٍ، لَا إِلَى أَصْلِ النِّكَاحِ، فَيَكُونُ الِاسْتِدْرَاكُ فِي الْمَهْرِ لَا فِي أَصْلِ النِّكَاحِ.وَبِذَلِكَ لَا يَكُونُ قَوْلُهُ إِبْطَالًا لِلنِّكَاحِ، فَلَا يَنْفَسِخُ بِهِ.وَفِي عَدَمِ الِاتِّسَاقِ فِي هَذَا الْمِثَالِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ:

أَنْ يَكُونَ الِاسْتِدْرَاكُ بِلَفْظٍ مَسْمُوعٍ إِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ.وَأَدْنَاهُ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ وَمَنْ بِقُرْبِهِ.قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: يَجْرِي ذَلِكَ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِنُطْقٍ كَتَسْمِيَتِهِ عَلَى ذَبِيحَةٍ، وَطَلَاقٍ، وَاسْتِثْنَاءٍ وَغَيْرِهَا.

فَلَوْ طَلَّقَ أَوِ اسْتَثْنَى وَلَمْ يُسْمِعْ نَفْسَهُ، لَمْ يَصِحَّ فِي الْأَصَحِّ.وَقِيلَ فِي نَحْوِ الْبَيْعِ: يُشْتَرَطُ سَمَاعُ الْمُشْتَرِي.

الْقِسْمُ الثَّانِي

11- الِاسْتِدْرَاكُ بِمَعْنَى تَلَافِي النَّقْصِ وَالْقُصُورِ.

الِاسْتِدْرَاكُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَا فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ نَاقِصًا عَنِ الْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ الْمُقَرَّرِ لِلْعِبَادَةِ، كَمَنْ تَرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ أَوْ سُجُودًا فِيهَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ خَطَؤُهُ، أَوْ فِيمَا فَعَلَهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ التَّصَرُّفَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْوَضْعِ أَتَمَّ وَأَوْلَى، كَمَنْ بَاعَ شَيْئًا وَلَمْ يَشْتَرِطْ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ.يَشْتَرِطَ شَرْطًا لِمَصْلَحَتِهِ.

فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْقِسْمِ يَرْجِعُ إِلَى مَبْحَثَيْنِ:

الْأَوَّلُ: الِاسْتِدْرَاكُ بِمَعْنَى تَلَافِي الْقُصُورِ عَنِ الْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ.

وَالثَّانِي: تَلَافِي الْقُصُورِ عَنِ الْحَقِيقَةِ، حَقِيقَةً أَوِ ادِّعَاءً فِي بَابِ الْإِخْبَارِ، أَوْ عَمَّا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ لِلْمُكَلَّفِ بِحَسَبِ تَصَوُّرِهِ، فِي بَابِ الْإِنْشَاءِ.

أَوَّلًا:

الِاسْتِدْرَاكُ بِمَعْنَى تَلَافِي النَّقْصِ

عَنِ الْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ:

12- هَذَا النَّقْصُ يَقَعُ فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَهَا أَوْضَاعٌ شَرْعِيَّةٌ مُقَرَّرَةٌ، كَالْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ، فَإِنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَرْكَانًا وَسُنَنًا وَهَيْئَاتٍ، تُفْعَلُ بِتَرْتِيبَاتٍ مُعَيَّنَةٍ.ثُمَّ قَدْ يَتْرُكُ الْمُكَلَّفُ فِعْلَ شَيْءٍ مِنْهَا فِي مَحَلِّهِ لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْخَارِجَةِ عَنْ إِرَادَتِهِ، كَالْمَسْبُوقِ فِي الصَّلَاةِ أَوِ النَّاسِي أَوِ الْمُكْرَهِ، وَقَدْ يَتْرُكُ ذَلِكَ عَمْدًا، وَقَدْ يَفْعَلُ الْمُكَلَّفُ الْفِعْلَ عَمْدًا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا، أَوْ يَقَعُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِرَادَتِهِ مَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعِبَادَةِ أَوْ صِحَّةَ جُزْءٍ مِنْهَا.

وَالشَّرِيعَةُ قَدْ أَتَاحَتِ الْفُرْصَةَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الصُّوَرِ لِاسْتِدْرَاكِ النَّقْصِ الْحَاصِلِ فِي الْعَمَلِ.

وَسَائِلُ اسْتِدْرَاكِ النَّقْصِ فِي الْعِبَادَةِ:

13- لِاسْتِدْرَاكِ النَّقْصِ فِي الْعِبَادَةِ طُرُقٌ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ أَحْوَالِ ذَلِكَ النَّقْصِ.وَمِنْ تِلْكَ الْوَسَائِلِ:

(1) الْقَضَاءُ: وَيَكُونُ الِاسْتِدْرَاكُ بِالْقَضَاءِ فِي الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ أَوِ الْمَسْنُونَةِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا الْمُقَدَّرِ لَهَا شَرْعًا، سَوَاءٌ فَاتَتْ عَمْدًا، أَوْ سَهْوًا كَمَا تَقَدَّمَ.وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُكَلَّفُ لَمْ يَفْعَلِ الْعِبَادَةَ أَصْلًا، أَوْ فَعَلَهَا عَلَى فَسَادٍ؛ لِتَرْكِ رُكْنٍ، أَوْ لِفَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ، أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ.

وَفِي اسْتِدْرَاكِ الْعِبَادَةِ الْمَسْنُونَةِ بِالْقَضَاءِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (قَضَاءِ الْفَوَائِتِ).

(2) الْإِعَادَةُ: وَهِيَ فِعْلُ الْعِبَادَةِ مَرَّةً أُخْرَى فِي وَقْتِهَا لِمَا وَقَعَ فِي فِعْلِهَا أَوَّلًا مِنَ الْخَلَلِ.وَلِمَعْرِفَةِ مَوَاقِعِ الِاسْتِدْرَاكِ بِالْإِعَادَةِ وَأَحْكَامِ الْإِعَادَةِ (ر: إِعَادَة)

(3) الِاسْتِئْنَافُ: فِعْلُ الْعِبَادَةِ مِنْ أَوَّلِهَا مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ قَطْعِهَا وَالتَّوَقُّفِ فِيهَا لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَلِمَعْرِفَةِ مَوَاقِعِ الِاسْتِدْرَاكِ بِالِاسْتِئْنَافِ (ر: اسْتِئْنَاف).

(4) الْفِدْيَةُ: كَاسْتِدْرَاكِ فَائِتِ الصَّوْمِ بِفِدْيَةِ طَعَامِ مِسْكِينٍ لِكُلِّ يَوْمٍ مِمَّنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الصَّوْمَ؛ لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ مُزْمِنٍ.وَكَاسْتِدْرَاكِ النَّقْصِ الْحَاصِلِ فِي الْإِحْرَامِ مِمَّنْ قَصَّ شَعْرَهُ، أَوْ لَبِسَ ثِيَابًا بِفِدْيَةٍ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ (ر: إِحْرَام) وَشَبِيهٌ بِذَلِكَ هَدْيُ الْجُبْرَانِ فِي الْحَجِّ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (الْحَجّ).

(5) الْكَفَّارَةُ: كَاسْتِدْرَاكِ الْمُكَلَّفِ مَا أَفْسَدَهُ مِنَ الصَّوْمِ بِالْجِمَاعِ بِالْكَفَّارَةِ (ر: كَفَّارَة).

(6) سُجُودُ السَّهْوِ: يُسْتَدْرَكُ بِهِ النَّقْصُ الْحَاصِلُ فِي الصَّلَاةِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. (ر: سُجُودُ السَّهْوِ).

(7) التَّدَارُكُ: هُوَ الْإِتْيَانُ بِجُزْءِ الْعِبَادَةِ بَعْدَ مَوْضِعِهِ الْمُقَرَّرِ شَرْعًا.

ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الِاسْتِدْرَاكُ بِوَاحِدٍ مِمَّا ذَكَرَ، وَقَدْ يَكُونُ بِأَكْثَرَ، كَمَا فِي تَرْكِ شَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ يَتَدَارَكُهُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَكَمَا فِي الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ إِذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا لَوْ صَامَتَا، فَإِنَّ لَهُمَا الْإِفْطَارَ، وَيَلْزَمُهُمَا الْقَضَاءُ وَالْفِدْيَةُ عَلَى قَوْلِ الْحَنَابِلَةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ.

ثَانِيًا:

14- تَلَافِي الْقُصُورِ فِي الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ.

مَنْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ خَبَرِيٍّ أَوْ إِنْشَائِيٍّ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنَّهُ غَلِطَ فِي كَلَامِهِ، أَوْ نَقَصَ مِنَ الْحَقِيقَةِ، أَوْ زَادَ عَلَيْهَا، أَوْ بَدَا لَهُ أَنْ يُنْشِئَ كَلَامًا مُخَالِفًا لِمَا كَانَ قَدْ قَالَهُ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، بَلْ قَدْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَخَاصَّةً فِي الْكَلَامِ الْخَبَرِيِّ، إِذْ أَنَّهُ بِذَلِكَ يَتَدَارَكُ مَا وَقَعَ فِي كَلَامِهِ مِنَ الْكَذِبِ وَالْإِخْبَارِ بِخِلَافِ الْحَقِّ، وَلَكِنْ إِنْ ثَبَتَ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ حَقٌّ، كَمَنْ حَلَفَ يَمِينًا، أَوْ قَذَفَ غَيْرَهُ، أَوْ أَقَرَّ لَهُ، فَفِي حُكْمِ الْكَلَامِ الْمُخَالِفِ التَّالِي لَهُ تَفْصِيلٌ، فَإِنَّ لَهُ صُورَتَيْنِ.

الصُّورَةَ الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْأَوَّلِ.فَلَهُ حَالَتَانِ.

الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَرْتَبِطَ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ التَّخْصِيصِ، فَيَثْبُتُ حُكْمُهُمَا تَبَعًا حَيْثُ أَمْكَنَ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ عَنْهُ كَالْوَصَايَا، أَمْ كَانَ مِمَّا لَا رُجُوعَ فِيهِ كَالْإِقْرَارِ، فَلَوْ كَانَ الثَّانِي اسْتِثْنَاءً ثَبَتَ حُكْمُ الْمُسْتَثْنَى، وَخَرَجَ مِنْ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، كَمَنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ ثَلَاثَةً، أَوْ قَالَ: أَعْطِهِ عَشَرَةً إِلاَّ ثَلَاثَةً، كَانَ الْبَاقِي سَبْعَةً فِي كُلٍّ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ.

وَهَكَذَا فِي كُلِّ مَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْحُكْمُ فِي الْمُتَكَلَّمِ بِهِ، كَالشَّرْطِ وَالصِّفَةِ وَالْغَايَةِ وَسَائِرِ الْمُخَصِّصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ.

فَالشَّرْطُ كَمَا لَوْ قَالَ: وَهَبْتُكَ مِائَةَ دِينَارٍ إِنْ نَجَحْتَ.

وَالصِّفَةُ كَمَا لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُكَ مِنْ ثَمَنِ الْإِبِلِ الَّتِي هَلَكَتْ عِنْدَكَ.

وَالْغَايَةُ كَمَا لَوْ قَالَ لِلْوَصِيِّ: أَعْطِهِ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا إِلَى شَهْرٍ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ هَذِهِ الْمُخَصِّصَاتِ تَغَيَّرَ بِهِ الْحُكْمُ كُلًّا أَوْ بَعْضًا.

قَالَ الْقَرَافِيُّ: الْقَاعِدَةُ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ إِذَا اتَّصَلَ بِكَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ صَيَّرَهُ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ الصِّفَةُ وَالِاسْتِثْنَاءُ وَالشَّرْطُ وَالْغَايَةُ وَنَحْوُهَا.وَجُعِلَ مِنْهُ مَا لَوْ قَالَ الْمُقِرُّ: «لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ» فَقَالَ فِيهَا: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَتَقْيِيدُ حُكْمِ هَذِهِ الْحَالَةِ بِأَنَّهُ «حَيْثُ أَمْكَنَ» لِيَخْرُجَ نَحْوُ قَوْلِ الْمُقِرِّ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ تِسْعَةً، إِذْ تَلْزَمُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْعَشَرَةُ وَيَسْقُطُ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمُ اسْتِثْنَاءُ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ.

وَمِثْلُهَا عِنْدَهُمْ لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ.وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ فِي الْمُخَصِّصَاتِ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَغَيَّرَ الْحُكْمُ بِكَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ، وَمِثَالُهُ مَا لَوْ قَالَ الْمُقِرُّ: لَهُ الدَّارُ وَهَذَا الْبَيْتُ مِنْهَا لِي، فَيُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ، وَيُعْمَلُ بِالْقَيْدِ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ بِالْوَاوِ مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، خِلَافًا لِاخْتِيَارِ ابْنِ عَقِيلٍ بِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ الْقَيْدُ قَضَاءً؛ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ بِالْوَاوِ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا يُفِيدُ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ كَمَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ.

لَكِنْ لَوْ عَطَفَ فِي الْإِثْبَاتِ أَوِ الْأَمْرِ بِ «بَلْ».قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ «إِنَّ (بَلْ) لِلْإِعْرَاضِ عَمَّا قَبْلَهُ وَإِثْبَاتِ مَا بَعْدَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّدَارُكِ» فَإِنْ كَانَ فِيمَا يُقْبَلُ الرُّجُوعُ فِيهِ كَالْوَصِيَّةِ أَوِ التَّوْلِيَةِ أَوِ الْخَبَرِ الْمُجَرَّدِ، لَغَا الْأَوَّلُ وَثَبَتَ الثَّانِي، كَمَا لَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لِزَيْدٍ بِأَلْفٍ بَلْ بِأَلْفَيْنِ، يَثْبُتُ أَلْفَانِ فَقَطْ.أَوْ قَوْلِ الْإِمَامِ: وَلَّيْتُ فُلَانًا قَضَاءَ كَذَا بَلْ فُلَانًا، أَوْ قَوْلِ الْقَائِلِ: ذَهَبْتُ إِلَى زَيْدٍ بَلْ إِلَى عَمْرٍو.

وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا رُجُوعَ فِيهِ كَالْإِقْرَارِ وَالطَّلَاقِ ثَبَتَ حُكْمُ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُمْكِنْ إِبْطَالُهُ، فَلَوْ قَالَ الْمُقِرُّ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، بَلْ أَلْفُ ثَوْبٍ، يَلْزَمُهُ الْجَمِيعُ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسَيْنِ.وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، بَلْ أَلْفَانِ يَثْبُتُ الْأَلْفَانِ، قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: «لِأَنَّ التَّدَارُكَ فِي الْأَعْدَادِ يُرَادُ بِهِ نَفْيُ انْفِرَادِ مَا أَقَرَّ بِهِ أَوَّلًا، لَا نَفْيُ أَصْلِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، ثُمَّ تَدَارَكَ ذَلِكَ الِانْفِرَادَ وَأَبْطَلَهُ» وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافُ زُفَرَ إِذْ قَالَ: «بَلْ يَثْبُتُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ».

وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَلْ طَلْقَتَيْنِ أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ- فِي الْمَدْخُولِ بِهَا- ثَلَاثُ طَلْقَاتٍ.وَوَجَّهَ صَاحِبُ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ وَشَارِحِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ مَسْأَلَتَيِ الْإِقْرَارِ وَالطَّلَاقِ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ إِخْبَارٌ عَلَى الْأَصَحِّ فَلَا يَثْبُتُ شَيْئًا، فَلَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنْ خَبَرٍ كَانَ أَخْبَرَ بِهِ، وَيُخْبِرَ بَدَلَهُ بِخَبَرٍ آخَرَ، بِخِلَافِ الْإِنْشَاءِ إِذْ بِهِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ، وَلَيْسَ فِي يَدِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: فَلَا يَقَعُ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ الْمَذْكُورَةِ إِلاَّ طَلْقَتَانِ، كَمَا لَا يَلْزَمُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ إِلاَّ أَلْفَانِ.

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ:

أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الثَّانِي مُتَرَاخِيًا عَنِ الْأَوَّلِ مُنْفَصِلًا عَنْهُ.فَلَهُ حَالَتَانِ:

الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامٍ لَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ، كَالْأَقَارِيرِ وَالْعُقُودِ، فَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ الثَّانِي وَلَا الْعَقْدُ الثَّانِي رُجُوعًا عَنِ الْأَوَّلِ.فَلَوْ أَقَرَّ لَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ سَكَتَ سُكُوتًا يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ «زَائِفَةٌ» أَوْ «إِلَى شَهْرٍ» لَزِمَهُ مِائَةٌ جَيِّدَةٌ حَالَّةٌ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ رُجُوعُهُ مُمْكِنًا، كَالْوَصِيَّةِ وَعَزْلِ الْإِمَامِ أَحَدًا مِمَّنْ يُمْكِنُهُ عَزْلُهُمْ وَتَوْلِيَتُهُمْ، فَإِنْ صَرَّحَ بِرُجُوعِهِ عَنِ الْأَوَّلِ، أَوْ بِإِلْحَاقِهِ شَرْطًا، أَوْ تَقْيِيدِهِ بِحَالٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَحِقَ- وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ قَصَدَ الرُّجُوعَ- فَهَذَا يُشْبِهُ التَّعَارُضَ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَهُوَ تَبْدِيلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُطْلَقًا.وَلَوْ كَانَ خَاصًّا بَعْدَ عَامٍّ أَوْ عَكْسَهُ فَالْعَمَلُ بِالثَّانِي بِكُلِّ حَالٍ.وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ قَدْ يَجْرِي فِيهِ تَقْدِيمُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ سَوَاءٌ أَكَانَ الْخَاصُّ سَابِقًا أَمْ مُتَأَخِّرًا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


25-موسوعة الفقه الكويتية (استرداد 1)

اسْتِرْدَادٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الِاسْتِرْدَادُ فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ الرَّدِّ، يُقَالُ: اسْتَرَدَّ الشَّيْءَ وَارْتَدَّهُ: طَلَبَ رَدَّهُ عَلَيْهِ وَيُقَالُ: وَهَبَ هِبَةً ثُمَّ ارْتَدَّهَا أَيْ: اسْتَرَدَّهَا، وَاسْتَرَدَّهُ الشَّيْءَ: سَأَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ.

وَلَمْ يَخْرُجِ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- رَدٌّ:

2- الرَّدُّ: هُوَ صَرْفُ الشَّيْءِ وَرَجْعُهُ.فَالرَّدُّ قَدْ يَكُونُ أَثَرًا لِلِاسْتِرْدَادِ، وَقَدْ يَحْصُلُ الرَّدُّ بِلَا اسْتِرْدَادٍ.

ب- ارْتِجَاعٌ- اسْتِرْجَاعٌ:

3- يُقَالُ رَجَعَ فِي هِبَتِهِ: إِذَا أَعَادَهَا إِلَى مِلْكِهِ، وَارْتَجَعَهَا وَاسْتَرْجَعَهَا كَذَلِكَ، وَاسْتَرْجَعْتُ مِنْهُ الشَّيْءَ: إِذَا أَخَذْتَ مِنْهُ مَا دَفَعْتَهُ إِلَيْهِ.

وَيَتَبَيَّنُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِرْدَادَ وَالِارْتِجَاعَ وَالِاسْتِرْجَاعَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا.

صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):

4- الِاسْتِرْدَادُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْجَائِزَةِ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْوُجُوبُ، كَمَا فِي الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ، حَيْثُ يَجِبُ الْفَسْخُ، فَإِنْ كَانَتِ السِّلْعَةُ قَائِمَةً رُدَّتْ بِعَيْنِهَا، وَإِنْ كَانَتْ فَائِتَةً رُدَّتْ قِيمَتُهَا عَلَى الْبَائِعِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَرُدَّ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، عَلَى خِلَافٍ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (فَسَاد- وَبُطْلَان) لِأَنَّ الْفَسْخَ حَقُّ الشَّرْعِ.

وَقَدْ يَحْرُمُ الِاسْتِرْدَادُ، كَمَنْ أَخْرَجَ صَدَقَةً، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِرْدَادُهَا؛ لِقَوْلِ عُمَرَ: مَنْ وَهَبَ هِبَةً عَلَى وَجْهِ صَدَقَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهَا وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الثَّوَابُ وَقَدْ حَصَلَ.

أَسْبَابُ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ:

لِلِاسْتِرْدَادِ أَسْبَابٌ مُتَنَوِّعَةٌ مِنْهَا: الِاسْتِحْقَاقُ، وَالتَّصَرُّفَاتُ الَّتِي لَا تَلْزَمُ، وَفَسَادُ الْعَقْدِ.إِلَخْ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

أَوَّلًا: الِاسْتِحْقَاقُ:

5- الِاسْتِحْقَاقُ- بِمَعْنَاهُ الْأَعَمِّ- ظُهُورُ كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا وَاجِبًا لِلْغَيْرِ.وَهَذَا التَّعْرِيفُ يَشْمَلُ الْغَصْبَ وَالسَّرِقَةَ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَالْمَسْرُوقُ مِنْهُ يَثْبُتُ لَهُمَا حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ، وَيَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ رَدُّ الْمَغْصُوبِ وَالْمَسْرُوقِ لِرَبِّهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ».

وَيَشْمَلُ اسْتِحْقَاقَ الْمَبِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي، أَوِ الْمَوْهُوبِ عَلَى الْمُتَّهَبِ، فَيُوجِبُ الْفَسْخَ وَالِاسْتِرْدَادَ، لِفَسَادِ الْعَقْدِ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيَتَوَقَّفُ الْعَقْدُ عَلَى إِجَازَةِ رَبِّهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.وَالْقَوْلُ بِالتَّوَقُّفِ هُوَ أَيْضًا مُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَإِذَا فُسِخَ الْبَيْعُ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي فِي الْجُمْلَةِ حَقُّ اسْتِرْدَادِ الثَّمَنِ، عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ ثُبُوتُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْبَيِّنَةِ، أَوْ بِالْإِقْرَارِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (اسْتِحْقَاق).

ثَانِيًا: التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي لَا تَلْزَمُ:

التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي لَا تَلْزَمُ مُتَنَوِّعَةٌ، مِنْهَا:

6- أ- الْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ: وَهِيَ الَّتِي تَقْبَلُ بِطَبِيعَتِهَا أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ كَالْوَدِيعَةِ، وَالْعَارِيَّةِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالشَّرِكَةِ، وَالْوَكَالَةِ.فَهَذِهِ الْعُقُودُ غَيْرُ لَازِمَةٍ، وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَيَثْبُتُ عِنْدَ فَسْخِهَا حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِلْمَالِكِ، وَيَجِبُ الرَّدُّ عِنْدَ الطَّلَبِ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَاتٌ يَجِبُ رَدُّهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وَلِذَلِكَ لَوْ حَبَسَهَا بَعْدَ الطَّلَبِ فَضَاعَتْ ضَمِنَ، وَلَوْ هَلَكَتْ بِلَا تَعَدٍّ أَوْ تَفْرِيطٍ لَمْ يَضْمَنْ.

وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا فِي الْجُمْلَةِ، إِذَا تَوَافَرَتِ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا، كَنِضْوِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ، أَيْ تَحَوُّلُ السِّلَعِ إِلَى نُقُودٍ.

وَلَوْ كَانَ فِي الِاسْتِرْدَادِ ضَرَرٌ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ حَتَّى يَزُولَ الضَّرَرُ، كَالْأَرْضِ إِذَا اسْتُعِيرَتْ لِلزِّرَاعَةِ، وَأَرَادَ الْمُعِيرُ الرُّجُوعَ، فَيَتَوَقَّفُ الِاسْتِرْدَادُ حَتَّى يُحْصَدَ الزَّرْعُ.

وَالْعَارِيَّةُ الْمُقَيَّدَةُ بِعَمَلٍ أَوْ أَجَلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا تُسْتَرَدُّ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْأَجَلُ أَوِ الْعَمَلُ.

هَذَا حُكْمُ الِاسْتِرْدَادِ فِي الْجُمْلَةِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، وَفِي ذَلِكَ تَفَاصِيلُ كَثِيرَةٌ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَوْضُوعَاتِهَا.

7- ب- الْعُقُودُ الَّتِي يَدْخُلُهَا الْخِيَارُ: كَخِيَارِ الشَّرْطِ، وَخِيَارِ الْعَيْبِ وَنَحْوِهِمَا كَثِيرَةٌ مِنْ أَهَمِّهَا: الْبَيْعُ، وَالْإِجَارَةُ.

فَفِي الْبَيْعِ: بِكَوْنِ الْعَقْدِ فِي مُدَّةِ خِيَارِ الشَّرْطِ غَيْرِ لَازِمٍ، وَلِمَنْ لَهُ الْخِيَارُ حَقُّ الْفَسْخِ وَالرَّدِّ.جَاءَ فِي بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ: الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ بَيْعٌ غَيْرُ لَازِمٍ، لِأَنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ لُزُومَ الصَّفْقَةِ، قَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ- رضي الله عنه-: الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ وَلِأَنَّ الْخِيَارَ هُوَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ، وَهَذَا يَمْنَعُ اللُّزُومَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ مَعَ التَّفَاصِيلِ.

كَذَلِكَ خِيَارُ الْعَيْبِ يَجْعَلُ الْعَقْدَ غَيْرَ لَازِمٍ وَقَابِلًا لِلْفَسْخِ، فَإِذَا نَقَضَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ بِخِيَارِ الْعَيْبِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ، وَرَدَّ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ مَعِيبًا إِلَى الْبَائِعِ وَاسْتَرَدَّ الثَّمَنَ.

وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي فِي إِمْسَاكِ الْمَبِيعِ مَعِيبًا، وَالرُّجُوعِ عَلَى الْبَائِعِ بِأَرْشِ الْعَيْبِ فِي الْمَعِيبِ، فَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لَا يُعْطُونَهُ هَذَا الْحَقَّ، وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يَرُدَّ السِّلْعَةَ وَيَسْتَرِدَّ الثَّمَنَ، أَوْ يَمْسِكَ الْمَعِيبَ وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِنُقْصَانٍ؛ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ فِي مُجَرَّدِ الْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِزَوَالِهِ عَنْ مِلْكِهِ بِأَقَلَّ مِنَ الْمُسَمَّى، فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ الْمُشْتَرِي مُمْكِنٌ بِالرَّدِّ بِدُونِ تَضَرُّرِهِ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَهُمُ الْخِيَارُ بَيْنَ الرَّدِّ وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ، وَبَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَالرُّجُوعِ بِأَرْشِ الْعَيْبِ.وَيُفَصِّلُ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الْعَيْبِ الْيَسِيرِ غَيْرِ الْمُؤَثِّرِ، فَلَا شَيْءَ فِيهِ وَلَا رَدَّ بِهِ، وَبَيْنَ الْعَيْبِ الْمُؤَثِّرِ الَّذِي لَهُ قِيمَةٌ فَيَرْجِعُ بِأَرْشِهِ، وَبَيْنَ الْعَيْبِ الْفَاحِشِ فَيَجِبُ هُنَا الرَّدُّ، حَتَّى إِذَا أَمْسَكَهُ لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ، وَفِي خِيَارِ الْعَيْبِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِهِ.

هَذِهِ أَمْثِلَةٌ لِبَعْضِ الْخِيَارَاتِ الَّتِي تَجْعَلُ الْعَقْدَ غَيْرَ لَازِمٍ، وَيَثْبُتُ بِهَا حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ وَهُنَاكَ خِيَارَاتٌ أُخْرَى تَسِيرُ عَلَى هَذَا النَّمَطِ، كَخِيَارِ التَّعْيِينِ، وَخِيَارِ الْغَبْنِ، وَخِيَارِ التَّدْلِيسِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (خِيَار).

8- وَيَدْخُلُ الْخِيَارُ كَذَلِكَ عَقْدَ الْإِجَارَةِ، فَيَثْبُتُ بِهِ حَقُّ الْفَسْخِ وَالرَّدِّ، فَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا حَادِثًا يَضُرُّ بِالسُّكْنَى، فَلَهُ الْفَسْخُ وَالرَّدُّ.

ثَالِثًا: الْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ:

9- وَمِنْ أَشْهَرِ أَمْثِلَتِهِ: بَيْعُ الْفُضُولِيِّ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفُذُ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ، لَكِنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، فَإِنْ أَمْضَاهُ مَضَى، وَإِنْ رَدَّهُ رُدَّ.وَإِذَا أَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَ صَارَ الْفُضُولِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ، وَيَنْتَقِلُ مِلْكُ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَيَكُونُ الثَّمَنُ لِلْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ.

وَبَيْعُ الْفُضُولِيِّ قَابِلٌ لِلْفَسْخِ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي وَجِهَةِ الْفُضُولِيِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَوْ فَسَخَهُ الْفُضُولِيُّ قَبْلَ الْإِجَازَةِ انْفَسَخَ، وَاسْتَرَدَّ الْمَبِيعَ إِنْ كَانَ قَدْ سَلَّمَ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ إِنْ كَانَ قَدْ نَقَدَهُ، وَكَذَا إِذَا فَسَخَهُ الْمُشْتَرِي يَنْفَسِخُ.

أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: فَهُوَ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الْفُضُولِيِّ وَمِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي، مُنْحَلٌّ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ.

أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ: فَبَيْعُ الْفُضُولِيِّ بَاطِلٌ فِي الْأَصَحِّ وَيَجِبُ رَدُّهُ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ.وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ (ر: فُضُولِيّ- بَيْع).

رَابِعًا: فَسَادُ الْعَقْدِ:

10- يُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْعَقْدِ الْبَاطِلِ وَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، فَالْعَقْدُ الْبَاطِلُ عِنْدَهُمْ: هُوَ مَا لَمْ يُشْرَعْ بِأَصْلِهِ وَلَا وَصْفِهِ، وَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ: هُوَ مَا شُرِعَ بِأَصْلِهِ دُونَ وَصْفِهِ.أَمَّا حُكْمُ الِاسْتِرْدَادِ بِالنِّسْبَةِ لِكُلٍّ مِنَ الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ فَيَظْهَرُ فِيمَا يَأْتِي:

الْعَقْدُ الْبَاطِلُ لَا وُجُودَ لَهُ شَرْعًا، وَلَا يُفِيدُ الْمِلْكَ؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ، وَلَا يَمْلِكُ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ أَنْ يُجْبِرَ الْآخَرَ عَلَى تَنْفِيذِهِ.

فَفِي الْبَيْعِ يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: لَا حُكْمَ لِهَذَا الْبَيْعِ (الْبَاطِلِ) أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْمَوْجُودِ، وَلَا وُجُودَ لِهَذَا الْبَيْعِ إِلاَّ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الشَّرْعِيَّ لَا وُجُودَ لَهُ بِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ شَرْعًا، كَمَا لَا وُجُودَ لِلتَّصَرُّفِ الْحَقِيقِيِّ إِلاَّ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ حَقِيقَةً، وَذَلِكَ نَحْوُ بَيْعِ الْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ.

وَمَا دَامَ الْعَقْدُ الْبَاطِلُ لَا وُجُودَ لَهُ شَرْعًا، وَلَا يُنْتِجُ أَيَّ أَثَرٍ، فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ سَلَّمَ الْمَبِيعَ بِاخْتِيَارِهِ لِلْمُشْتَرِي، أَوْ دَفَعَ الْمُشْتَرِي بِاخْتِيَارِهِ الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ، كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَرِدَّ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْبَاطِلَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ وَلَوْ بِالْقَبْضِ، وَلِذَلِكَ لَوْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِيهِ بِبَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ عِتْقٍ، فَإِنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لَا يَمْنَعُ الْبَائِعَ مِنِ اسْتِرْدَادِ الْمَبِيعِ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، ذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ الْبَاطِلَ لَمْ يَنْقُلِ الْمِلْكِيَّةَ لِلْمُشْتَرِي، فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي قَدْ بَاعَ مَالًا غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَهُ.

11- أَمَّا الْعَقْدُ الْفَاسِدُ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِوَصْفِهِ، فَلِذَلِكَ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ فِي الْجُمْلَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ، بَلْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ الْفَسْخَ، حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِمَا فِي الْفَسْخِ مِنْ رَفْعِ الْفَسَادِ، وَرَفْعُ الْفَسَادِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْفَسْخُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ يَسْتَلْزِمُ رَدَّ الْمَبِيعِ عَلَى بَائِعِهِ، وَرَدَّ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي، هَذَا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي.

أَمَّا إِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ، فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُهُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ، فَتَنْفُذُ فِيهِ تَصَرُّفَاتُهُ كُلُّهَا، وَيَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ، وَالِاسْتِرْدَادُ حَقُّ الشَّرْعِ، وَمَا اجْتَمَعَ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ إِلاَّ غَلَبَ حَقُّ الْعَبْدِ لِحَاجَتِهِ.وَسَوَاءٌ أَكَانَ التَّصَرُّفُ يَقْبَلُ الْفَسْخَ، أَوْ لَا يَقْبَلُهُ، إِلاَّ الْإِجَارَةَ فَإِنَّهَا لَا تَقْطَعُ حَقَّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ ضَعِيفٌ يُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ، وَفَسَادُ الشِّرَاءِ عُذْرٌ، هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.

12- أَمَّا الْجُمْهُورُ: فَإِنَّهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَالْعَقْدِ الْبَاطِلِ.فَالْفَاسِدُ وَالْبَاطِلُ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْمِلْكُ، سَوَاءٌ اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ، أَمْ لَمْ يَتَّصِلْ، وَيَلْزَمُ رَدُّ الْمَبِيعِ عَلَى بَائِعِهِ، وَالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي هَذَا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي.

أَمَّا إِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ الْمُشْتَرِي بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ.فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ، وَيَكُونُ مِنْ حَقِّ الْبَائِعِ اسْتِرْدَادُ الْمَبِيعِ، وَمِنْ حَقِّ الْمُشْتَرِي اسْتِرْدَادُ الثَّمَنِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنَّهُ يَجِبُ عِنْدَهُمْ رَدُّ الْمَبِيعِ الْفَاسِدِ لِرَبِّهِ إِنْ لَمْ يَفُتْ، كَأَنْ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ يَدِهِ بِبَيْعٍ، أَوْ بُنْيَانٍ، أَوْ غَرْسٍ، فَإِنْ فَاتَ بِيَدِ الْمُشْتَرِي مَضَى الْمُخْتَلَفُ فِيهِ- وَلَوْ خَارِجَ الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ- بِالثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخْتَلَفًا فِيهِ بَلْ مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ، ضَمِنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ إِنْ كَانَ مُقَوَّمًا حِينَ الْقَبْضِ، وَضَمِنَ مِثْلَ الْمِثْلِيِّ إِذَا بِيعَ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا، وَعَلِمَ كَيْلَهُ أَوْ وَزْنَهُ، وَلَمْ يَتَعَذَّرْ وُجُودُهُ، وَإِلاَّ ضَمِنَ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ.

خَامِسًا: انْتِهَاءُ مُدَّةِ الْعَقْدِ:

13- انْتِهَاءُ مُدَّةِ الْعَقْدِ فِي الْعُقُودِ الْمُقَيَّدَةِ بِمُدَّةٍ يَثْبُتُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ، فَفِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ يَكُونُ لِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يَسْتَرِدَّ مَا آجَرَهُ إِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ، فَمَنِ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلْبِنَاءِ، وَغَرْسِ الْأَشْجَارِ، وَمَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ، لَزِمَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يُقْلِعَ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ وَيُسَلِّمَهَا إِلَى رَبِّهَا فَارِغَةً، لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهَا إِلَى صَاحِبِهَا غَيْرَ مَشْغُولَةٍ بِبِنَائِهِ وَغَرْسِهِ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ لَيْسَ لَهُمَا حَالَةٌ مُنْتَظَرَةٌ يَنْتَهِيَانِ إِلَيْهَا.وَفِي تَرْكِهِمَا عَلَى الدَّوَامِ بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ يَتَضَرَّرُ صَاحِبُ الْأَرْضِ، فَيَتَعَيَّنُ الْقَلْعُ فِي الْحَالِ، إِلاَّ أَنْ يَخْتَارَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ يَغْرَمَ لَهُ قِيمَةَ ذَلِكَ مَقْلُوعًا، وَيَتَمَلَّكَهُ، (وَذَلِكَ بِرِضَى صَاحِبِ الْغَرْسِ وَالشَّجَرِ، إِلاَّ أَنْ تَنْقُصَ الْأَرْضُ بِقَلْعِهِمَا، فَحِينَئِذٍ يَتَمَلَّكُهُمَا بِغَيْرِ رِضَاهُ) أَوْ يَرْضَى بِتَرْكِهِ عَلَى حَالِهِ، فَيَكُونُ الْبِنَاءُ لِهَذَا، وَالْأَرْضُ لِهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ، فَلَهُ أَلاَّ يَسْتَوْفِيَهُ.هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ تَمَلُّكِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ بِقِيمَتِهِ، أَوْ تَرْكِهِ بِأُجْرَتِهِ، أَوْ قَلْعِهِ وَضَمَانِ نَقْصِهِ، مَا لَمْ يُقْلِعْهُ مَالِكُهُ.وَمِثْلُ ذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ صَاحِبُ الْأَرْضِ شَرَطَ الْقَلْعَ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، فَإِنَّهُ يُعْمَلُ بِشَرْطِهِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يُجْبَرُ صَاحِبُ الْغَرْسِ عَلَى الْقَلْعِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، وَيَجُوزُ لِرَبِّ الْأَرْضِ كِرَاؤُهَا لَهُ مُدَّةً مُسْتَقْبَلَةً وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ.

أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلزِّرَاعَةِ إِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَالزَّرْعُ لَمْ يُدْرَكْ، فَلَيْسَ لِلْمُؤَجِّرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَسْتَرِدَّ أَرْضَهُ، وَإِنَّمَا يَتْرُكُ الزَّرْعَ عَلَى حَالِهِ إِلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ، وَيَكُونُ لِلْمَالِكِ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ لِلزَّرْعِ نِهَايَةً مَعْلُومَةً، فَأَمْكَنَ رِعَايَةُ الْجَانِبَيْنِ.

وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.غَيْرَ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يُقَيِّدُونَ ذَلِكَ بِعَدَمِ التَّفْرِيطِ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنْ كَانَ بِتَفْرِيطٍ أُجْبِرَ عَلَى الْقَلْعِ.وَهَذَا هُوَ رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الزَّرْعِ الْمُطْلَقِ، أَيِ الَّذِي لَمْ يُحَدَّدْ نَوْعُهُ، فَيَكُونُ لِلْمَالِكِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ بِنَقْلِهِ.وَأَمَّا فِي الزَّرْعِ الْمُعَيَّنِ إِنْ كَانَ هُنَاكَ شَرْطٌ بِالْقَلْعِ، فَلَهُ جَبْرُ صَاحِبِ الزَّرْعِ عَلَى قَلْعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَرْطٌ فَقَوْلَانِ: بِالْجَبْرِ وَعَدَمِهِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَلْزَمُهُ الْبَقَاءُ إِلَى الْحَصَادِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (إِجَارَة).

سَادِسًا: الْإِقَالَةُ:

14- الْإِقَالَةُ- سَوَاءٌ اعْتُبِرَتْ فَسْخًا أَمْ بَيْعًا- يَثْبُتُ بِهَا حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ، لِأَنَّهَا مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْجَائِزَةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

وَالْقَصْدُ مِنَ الْإِقَالَةِ هُوَ: رَدُّ كُلِّ حَقٍّ إِلَى صَاحِبِهِ.فَفِي الْبَيْعِ يَعُودُ بِمُقْتَضَاهَا الْمَبِيعُ إِلَى الْبَائِعِ، وَالثَّمَنُ إِلَى الْمُشْتَرِي.

وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ رَدُّ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، أَوْ مِثْلِهِ، وَلَا يَجُوزُ رَدُّ زِيَادَةٍ عَلَى الثَّمَنِ، أَوْ نَقْصِهِ، أَوْ رَدُّ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْإِقَالَةِ رَدُّ الْأَمْرِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَرُجُوعُ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى مَا كَانَ لَهُ.

وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ فِي الْجُمْلَةِ.وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: الْإِقَالَةُ جَائِزَةٌ بِمَا سَمَّيَا كَالْبَيْعِ الْجَدِيدِ.

سَابِعًا: الْإِفْلَاسُ:

15- حَقُّ الْغُرَمَاءِ يَتَعَلَّقُ بِمَالِ الْمُفْلِسِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا حُجِرَ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ قَبْلَ أَدَاءِ الثَّمَنِ الْحَالِّ- وَالْمَبِيعُ بِيَدِ الْبَائِعِ- فَإِنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَهُ عَنِ الْمُشْتَرِي، وَيَكُونُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَ الْمَبِيعَ، وَلَمْ يَدْفَعِ الثَّمَنَ، ثُمَّ حُجِرَ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ، وَوَجَدَ الْبَائِعُ عَيْنَ مَالِهِ الَّذِي بَاعَهُ لِلْمُفْلِسِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ أَحَقَّ بِالْمَبِيعِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، وَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي لِلْمَبِيعِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ عِنْدَ إِنْسَانٍ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ»، وَبِهِ قَالَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- خَالَفَهُمَا.فَإِنْ شَاءَ الْبَائِعُ اسْتَرَدَّهُ مِنَ الْمُشْتَرِي وَفَسَخَ الْبَيْعَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَحَاصَّ بَاقِيَ الْغُرَمَاءِ بِثَمَنِهِ.وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.هَذَا مَعَ مُرَاعَاةِ الشُّرُوطِ الَّتِي وُضِعَتْ لِاسْتِرْدَادِ عَيْنِ الْمَبِيعِ، كَكَوْنِهِ بَاقِيًا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ..إِلَخْ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ يَسْقُطُ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي لَهُ بِإِذْنِهِ، وَيَصِيرُ أُسْوَةً بِالْغُرَمَاءِ، فَيُبَاعُ وَيُقْسَمُ ثَمَنُهُ بِالْحِصَصِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ قَدْ زَالَ عَنِ الْمَبِيعِ، وَخَرَجَ مِنْ ضَمَانِهِ إِلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَضَمَانِهِ، فَسَاوَى بَاقِيَ الْغُرَمَاءِ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْبَائِعِ كَانَ لَهُ اسْتِرْدَادُهُ.

وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَبَضَ بَعْضَ الثَّمَنِ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ شَاءَ رَدَّ مَا قَبَضَ وَأَخَذَ السِّلْعَةَ كُلَّهَا، وَإِنْ شَاءَ حَاصَّ الْغُرَمَاءَ فِيمَا بَقِيَ.وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَأْخُذُ مِنْ سِلْعَتِهِ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثَّمَنِ.وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ: هُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ.

وَلَوْ بَذَلَ الْغُرَمَاءُ لِلْبَائِعِ الثَّمَنَ فَيَلْزَمُهُ أَخْذُ الثَّمَنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَا كَلَامَ لَهُ فِيهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَهُ الْفَسْخُ؛ لِمَا فِي التَّقْدِيمِ مِنَ الْمِنَّةِ، وَخَوْفِ ظُهُورِ غَرِيمٍ آخَرَ، وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا يَلْزَمُهُ الْقَبُولُ مِنَ الْغُرَمَاءِ، إِلاَّ إِذَا بَذَلَهُ الْغَرِيمُ لِلْمُفْلِسِ، ثُمَّ بَذَلَهُ الْمُفْلِسُ لِرَبِّ السِّلْعَةِ.وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلَاتٌ كَثِيرَةٌ تُنْظَرُ فِي (حَجْر- إِفْلَاس).

ثَامِنًا: الْمَوْتُ:

16- مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ تَعَلَّقَتِ الدُّيُونُ بِمَالِهِ، وَإِذَا مَاتَ مُفْلِسًا قَبْلَ تَأْدِيَةِ ثَمَنِ مَا اشْتَرَاهُ وَقَبَضَهُ، وَوَجَدَ الْبَائِعُ عَيْنَ مَالِهِ فِي التَّرِكَةِ، فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَكُونُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ، بَيْنَ أَنْ يَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِالثَّمَنِ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ، وَيَرْجِعَ فِي عَيْنِ مَالِهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ «أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ أَفْلَسَ: هَذَا الَّذِي قَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ» فَإِنْ كَانَتِ التَّرِكَةُ تَفِي بِالدَّيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ: لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَيْنِ مَالِهِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَيْنِ مَالِهِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَفِي بِالدَّيْنِ، فَلَمْ يَجُزِ الرُّجُوعُ فِي الْمَبِيعِ، كَالْحَيِّ الْمَلِيءِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ: لَيْسَ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِي عَيْنِ مَالِهِ، بَلْ يَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعَهُ فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ، وَلَمْ يَقْبِضِ الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا، فَوَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ مَاتَ الْمُشْتَرِي فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ».

وَلِأَنَّ الْمِلْكَ انْتَقَلَ عَنِ الْمُفْلِسِ إِلَى الْوَرَثَةِ فَأَشْبَهَ.مَا لَوْ بَاعَهُ.

تَاسِعًا: الرُّشْدُ:

17- يَجِبُ دَفْعُ الْمَالِ إِلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إِذَا بَلَغَ وَرَشَدَ، لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} حَتَّى لَوْ مَنَعَهُ الْوَلِيُّ، أَوِ الْوَصِيُّ مِنْهُ حِينَ طَلَبِهِ مَالَهُ يَكُونُ ضَامِنًا.وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ (ر: رُشْد- حَجْر).

صِيغَةُ الِاسْتِرْدَادِ:

18- فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ (وَهُوَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْفَسْخُ وَالرَّدُّ) يَكُونُ الْفَسْخُ بِالْقَوْلِ، كَفَسَخْتُ الْعَقْدَ أَوْ نَقَضْتُ أَوْ رَدَدْتُ، فَيَنْفَسِخُ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى قَضَاءِ الْقَاضِي، وَلَا إِلَى رِضَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ اسْتَحَقَّ الْفَسْخَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى.وَيَكُونُ الرَّدُّ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ أَنْ يَرُدَّ الْمَبِيعَ عَلَى بَائِعِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ رَدَّهُ.

وَالرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ- وَهُوَ اسْتِرْدَادٌ- يَكُونُ بِقَوْلِ الْوَاهِبِ: رَجَعْتُ فِي هِبَتِي، أَوِ ارْتَجَعْتُهَا، أَوْ رَدَدْتُهَا، أَوْ عُدْتُ فِيهَا.أَوْ يَكُونُ بِالْأَخْذِ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ أَوْ الْإِشْهَادِ أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي كَمَا هُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

كَيْفِيَّةُ الِاسْتِرْدَادِ:

إِذَا ثَبَتَ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِإِنْسَانٍ فِي شَيْءٍ مَا، بِأَيِّ سَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ السَّابِقِ ذِكْرُهَا، فَإِنَّ الِاسْتِرْدَادَ يَتَحَقَّقُ بِعِدَّةِ أُمُورٍ:

الْأَوَّلُ: اسْتِرْدَادُ عَيْنِ الشَّيْءِ:

19- إِذَا كَانَ مَا يَسْتَحِقُّ اسْتِرْدَادَهُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يُرَدُّ بِعَيْنِهِ، فَالْمَغْصُوبُ، وَالْمَسْرُوقُ، وَالْمَبِيعُ بَيْعًا فَاسِدًا، وَالْمَفْسُوخُ لِخِيَارٍ، أَوْ لِانْقِطَاعِ مُسْلَمٍ فِيهِ، أَوْ لِإِقَالَةٍ، كُلُّ هَذَا يُسْتَرَدُّ بِعَيْنِهِ مَا دَامَ قَائِمًا.وَكَذَلِكَ الْأَمَانَاتُ، كَالْوَدَائِعِ وَالْعَوَارِيِّ تُرَدُّ بِعَيْنِهَا مَا دَامَتْ قَائِمَةً، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا انْتَهَتْ مُدَّتُهُ فِي الْعَقْدِ كَالْإِجَارَةِ، وَالْعَارِيَّةِ الْمُقَيَّدَةِ بِأَجَلٍ، وَمَا وُجِدَ بِعَيْنِهِ عِنْدَ الْمُفْلِسِ وَثَبَتَ اسْتِحْقَاقُهُ، وَمَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ كَالْهِبَةِ.

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ».وَقَوْلُهُ: «مَنْ وَجَدَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ».

وَرَدُّ الْعَيْنِ هُوَ الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ (إِلاَّ مَا جَاءَ فِي الْقَرْضِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ رَدُّ الْعَيْنِ، وَلَوْ كَانَتْ قَائِمَةً، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا) عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ.

هَذَا إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا دُونَ حُدُوثِ تَغْيِيرٍ فِيهَا، لَكِنَّهَا قَدْ تَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةٍ، أَوْ نَقْصٍ، أَوْ تَغْيِيرِ صُورَةٍ، فَهَلْ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ عَلَى اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ؟

أَوْرَدَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ صُوَرًا كَثِيرَةً، وَفُرُوعًا مُتَعَدِّدَةً، وَأَهَمُّ مَا وَرَدَ فِيهِ ذَلِكَ: الْبَيْعُ الْفَاسِدُ، وَالْغَصْبُ وَالْهِبَةُ.وَنُورِدُ فِيمَا يَلِي بَعْضَ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي يَنْدَرِجُ تَحْتَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْفُرُوعِ وَالْمَسَائِلِ.

أَوَّلًا: بِالنِّسْبَةِ لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْغَصْبِ:

20- يَتَشَابَهُ الْحُكْمُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْغَصْبِ، حَيْثُ إِنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يَجِبُ فِيهِ الْفَسْخُ وَالرَّدُّ حَقًّا لِلشَّرْعِ، وَكَذَلِكَ الْمَغْصُوبُ يَجِبُ رَدُّهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي: أ- التَّغْيِيرُ بِالزِّيَادَةِ:

21- إِذَا تَغَيَّرَ الْمَبِيعُ بَيْعًا فَاسِدًا أَوِ الْمَغْصُوبُ بِالزِّيَادَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً مِنَ الْأَصْلِ، كَالسِّمَنِ وَالْجَمَالِ، أَوْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُتَوَلِّدَةً مِنَ الْأَصْلِ، كَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ وَالثَّمَرَةِ، أَمْ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنَ الْأَصْلِ، كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْكَسْبِ، فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ، وَلِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْأَصْلَ مَعَ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ نَمَاءُ مِلْكِهِ، وَتَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ مَضْمُونُ الرَّدِّ، فَكَذَلِكَ التَّبَعُ.وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فِي الْغَصْبِ، وَعِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا.أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا يَفُوتُ بِالزِّيَادَةِ، وَلَا يَجِبُ رَدُّ عَيْنِهِ.

وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنَ الْأَصْلِ، كَمَنْ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ، أَوْ سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ.فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَمْتَنِعُ الرَّدُّ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ؛ لِتَعَذُّرِ الْفَصْلِ، أَمَّا فِي الْغَصْبِ فَإِنَّ الْمَالِكَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ دُونَ صَبْغٍ، وَمِثْلُهُ السَّوِيقُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا وَغَرِمَ مَا زَادَ الصَّبْغُ وَالسَّمْنُ فِيهِمَا، وَذَلِكَ رِعَايَةٌ لِلْجَانِبَيْنِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.لَا رَدَّ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَفِي الْغَصْبِ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ فِي الثَّوْبِ فَقَطْ، أَمَّا السَّوِيقُ فَلَا يُسْتَرَدُّ؛ لِأَنَّهُ تَفَاضُلُ طَعَامَيْنِ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: يُرَدُّ لِصَاحِبِهِ، وَيَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ فِي الزِّيَادَةِ إِنْ زَادَ بِذَلِكَ، وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ أَمْكَنَ قَلْعُ الصَّبْغِ أُجْبِرَ عَلَيْهِ.

ب- التَّغْيِيرُ بِالنَّقْصِ:

22- إِذَا كَانَ التَّغْيِيرُ بِالنَّقْصِ، كَمَا إِذَا نَقَصَ الْعَقَارُ بِسُكْنَاهُ وَزِرَاعَتِهِ، وَكَتَخَرُّقِ الثَّوْبِ، فَإِنَّهُ يُرَدُّ مَعَ أَرْشِ النُّقْصَانِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَمْ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْغَصْبِ، وَعِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ التَّغْيِيرُ بِالنَّقْصِ مَانِعًا لِلرَّدِّ وَفَوْتًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَالزِّيَادَةِ.

ج- التَّغْيِيرُ بِالصُّورَةِ وَالشَّكْلِ:

23- وَإِذَا تَغَيَّرَتْ صُورَةُ الْمُسْتَحَقِّ، بِأَنْ كَانَ شَاةً فَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا، أَوْ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا، أَوْ غَزْلًا فَنَسَجَهُ، أَوْ قُطْنًا فَغَزَلَهُ، أَوْ ثَوْبًا فَخَاطَهُ قَمِيصًا، أَوْ طِينًا جَعَلَهُ لَبِنًا أَوْ فَخَّارًا، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ صَاحِبِهِ فِي الِاسْتِرْدَادِ، وَيَجِبُ رَدُّهُ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ، وَلَهُ مَعَ ذَلِكَ أَرْشُ نَقْصِهِ إِنْ نَقَصَ بِذَلِكَ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: يَنْقَطِعُ حَقُّ صَاحِبِهِ فِي اسْتِرْدَادِ عَيْنِهِ، لِأَنَّ اسْمَهُ قَدْ تَبَدَّلَ.

د- التَّغْيِيرُ بِالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ فِي الْأَرْضِ:

24- وَالْغَرْسُ وَالْبِنَاءُ فِي الْأَرْضِ لَا يَمْنَعُ الِاسْتِرْدَادَ، وَيُؤْمَرُ صَاحِبُ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ بِقَلْعِ غَرْسِهِ، وَنَقْضِ بِنَائِهِ، وَرَدِّ الْأَرْضِ لِصَاحِبِهَا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْحُكْمُ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الْغَصْبِ دُونَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ.فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يُعْتَبَرُ فَوْتًا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ حَصَلَا بِتَسْلِيطٍ مِنَ الْبَائِعِ، فَيَنْقَطِعُ حَقُّهُ فِي الِاسْتِرْدَادِ.

وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ فِي اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ إِلاَّ بِالْهَلَاكِ الْكُلِّيِّ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ فِي الْمُسْتَحَقِّ إِلاَّ إِذَا تَغَيَّرَتْ صُورَتُهُ وَتَبَدَّلَ اسْمُهُ.

وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْغَصْبِ، أَمَّا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَالتَّغْيِيرَ يُعْتَبَرُ فَوْتًا، وَلَا يُرَدُّ بِهِ الْمَبِيعُ.

وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفَاصِيلُ كَثِيرَةٌ وَمَسَائِلُ مُتَعَدِّدَةٌ. (ر: غَصْب- بَيْع- فَسَاد- فَسْخ).

ثَانِيًا: بِالنِّسْبَةِ لِلْهِبَةِ:

25- مَنْ وَهَبَ لِمَنْ يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ- عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، تَفْصِيلُهُ فِي الْهِبَةِ- فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ، وَيَسْتَرِدَّهَا مَا دَامَتْ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا.

فَإِنْ زَادَتِ الْهِبَةُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً أَوْ مُنْفَصِلَةً، فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً- كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ- فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَا تَمْنَعُ الِاسْتِرْدَادَ، لَكِنَّهُ يَسْتَرِدُّ الْأَصْلَ فَقَطْ، دُونَ الزِّيَادَةِ.وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ.

وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً، فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَيَرْجِعُ بِالزِّيَادَةِ.أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ: فَإِنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ.وَإِذَا نَقَصَتِ الْهِبَةُ فِي يَدِ الْوَاهِبِ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا مِنْ غَيْرِ أَرْشِ مَا نَقَصَ.

وَالْهِبَةُ بِشَرْطِ ثَوَابٍ مَعْلُومٍ تَصِحُّ، فَإِنْ كَانَ الثَّوَابُ مَجْهُولًا لَمْ تَصِحَّ، كَمَا يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَصَارَتْ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَحُكْمُهَا حُكْمُهُ، وَتُرَدُّ بِزَوَائِدِهَا الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ؛ لِأَنَّهَا نَمَاءُ مِلْكِ الْوَاهِبِ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ يُجِيزُ لِلْأَبِ، وَلِمَنْ وَهَبَ هِبَةً لِثَوَابٍ الرُّجُوعَ فِيهَا، إِذَا كَانَتْ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا، فَإِنْ حَدَثَ فِيهَا تَغْيِيرٌ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ فَلَا تُسْتَرَدُّ، أَوْ كَانَ الْوَلَدُ الْمَوْهُوبُ لَهُ تَزَوَّجَ لِأَجْلِ الْهِبَةِ، فَذَلِكَ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِيهَا.

الثَّانِي: الْإِتْلَافُ بِوَاسِطَةِ الْمُسْتَحَقِّ:

26- يُعْتَبَرُ إِتْلَافُ الْمَالِكِ مَا يَسْتَحِقُّهُ عِنْدَ وَاضِعِ الْيَدِ عَلَيْهِ اسْتِرْدَادًا لَهُ، فَالطَّعَامُ الْمَغْصُوبُ إِذَا أَطْعَمَهُ الْغَاصِبُ لِمَالِكِهِ، فَأَكَلَهُ عَالِمًا أَنَّهُ طَعَامُهُ بَرِئَ الْغَاصِبُ مِنَ الضَّمَانِ، وَاعْتُبِرَ الْمَالِكُ مُسْتَرِدًّا لِطَعَامِهِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالَهُ عَالِمًا مِنْ غَيْرِ تَغْرِيرٍ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْمَالِكُ أَنَّهُ طَعَامُهُ، فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَغَيْرِ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَبْرَأُ الْغَاصِبُ مِنَ الضَّمَانِ.

وَإِذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ، وَثَبَتَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ فِيهِ لِأَيِّ سَبَبٍ، فَأَتْلَفَهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، صَارَ مُسْتَرِدًّا لِلْمَبِيعِ بِالِاسْتِهْلَاكِ.وَإِذَا هَلَكَ الْبَاقِي مِنْ سِرَايَةِ جِنَايَةِ الْبَائِعِ يَصِيرُ مُسْتَرِدًّا لِلْجَمِيعِ، وَيَسْقُطُ عَنِ الْمُشْتَرِي جَمِيعُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ تَلَفَ الْبَاقِي حَصَلَ مُضَافًا إِلَى فِعْلِهِ فَصَارَ مُسْتَرِدًّا لِلْكُلِّ.وَلَوْ قَتَلَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ يُعْتَبَرُ مُسْتَرِدًّا بِالْقَتْلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَفَرَ الْبَائِعُ بِئْرًا فَوَقَعَ فِيهِ وَمَاتَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْقَتْلِ فَيَصِيرُ مُسْتَرِدًّا.

مَنْ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ:

27- يَثْبُتُ لِلْمَالِكِ- إِنْ كَانَ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ- اسْتِرْدَادُ مَا يَسْتَحِقُّ لَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ.وَكَمَا يَثْبُتُ هَذَا الْحَقُّ لِلْمَالِكِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَالْوَلِيُّ أَوِ الْوَصِيُّ يَقُومُ مَقَامَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي تَخْلِيصِ حَقِّهِ مِنْ رَدِّ وَدِيعَةٍ، وَمَغْصُوبٍ، وَمَسْرُوقٍ، وَمَا يُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا، وَجَمْعِ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ بِالرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الِاسْتِرْدَادُ.

وَإِذَا تَبَرَّعَ الصَّبِيُّ لَا تَنْفُذُ تَبَرُّعَاتُهُ، وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْوَلِيِّ رَدُّهَا.

وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ يَقُومُ مَقَامَ مُوَكِّلِهِ فِيمَا وُكِّلَ فِيهِ، وَالرَّدُّ عَلَى الْوَكِيلِ حِينَئِذٍ يَكُونُ كَالرَّدِّ عَلَى الْمُوَكِّلِ، حَيْثُ إِنَّ الْوَكَالَةَ تَجُوزُ فِي الْفُسُوخِ، وَفِي قَبْضِ الْحُقُوقِ.

وَمِثْلُ ذَلِكَ نَاظِرُ الْوَقْفِ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ رَدَّ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَضُرُّ بِالْوَقْفِ.

وَالْحَاكِمُ أَوِ الْقَاضِي لَهُ النَّظَرُ فِي مَالِ الْغَائِبِ، وَيَأْخُذُ لَهُ الْمَالَ مِنَ الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ وَيَحْفَظُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَاظِرٌ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


26-موسوعة الفقه الكويتية (استقبال 2)

اسْتِقْبَال -2

تَرْكُ التَّحَرِّي:

32- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ بِالْأَدِلَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرَعَ فِي الصَّلَاةِ دُونَ أَنْ يَتَحَرَّى وَإِنْ أَصَابَ، لِتَرْكِهِ فَرْضَ التَّحَرِّي، إلاَّ أَنَّهُ لَا يُعِيدُ إنْ عَلِمَ إصَابَتَهُ بَعْدَ فَرَاغِهِ اتِّفَاقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، بِخِلَافِ إِذَا عَلِمَ الْإِصَابَةَ قَبْلَ التَّمَامِ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ لِأَنَّهُ بَنَى قَوِيًّا عَلَى ضَعِيفٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ الَّذِي تَخْفَى عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الْقِبْلَةِ يَتَخَيَّرُ جِهَةً مِنَ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ، وَيُصَلِّي إلَيْهَا وَيَسْقُطُ عَنْهُ الطَّلَبُ لِعَجْزِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُعِيدُ مَنْ صَلَّى بِلَا تَحَرٍّ أَوْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ التَّحَرِّي، سَوَاءٌ ظَهَرَ لَهُ الصَّوَابُ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ أَوْ بَعْدَهَا.

ظُهُورُ الصَّوَابِ لِلْمُتَحَرِّي:

33- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُتَحَرِّيَ إنْ ظَهَرَ صَوَابُهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَفْسُدُ، وَعِنْدَ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ لَا خِلَافَ فِي صِحَّتِهَا.

وَعِبَارَةُ الْبَحْرِ الرَّائِقِ: وَالصَّحِيحُ كَمَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْخَانِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ صَلَاتَهُ كَانَتْ جَائِزَةً مَا لَمْ يَظْهَرِ الْخَطَأُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ لَا يَتَغَيَّرُ حَالُهُ.وَقِيلَ: تَفْسُدُ، لِأَنَّ افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ كَانَ ضَعِيفًا، وَقَدْ قَوِيَ حَالُهُ بِظُهُورِ الصَّوَابِ، وَلَا يُبْنَى الْقَوِيُّ عَلَى الضَّعِيفِ.

التَّقْلِيدُ فِي الْقِبْلَةِ:

34- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لَا يُقَلِّدُ الْمُجْتَهِدُ مُجْتَهِدًا غَيْرَهُ، لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الِاجْتِهَادِ تَمْنَعُ مِنَ التَّقْلِيدِ.

وَمَنْ عَلِمَ أَدِلَّةَ الْقِبْلَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ مُطْلَقًا، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُقَلِّدَ الْمُجْتَهِدَ، لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.

وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ أَكْثَرُ مِنْ مُجْتَهِدٍ فَالْمُقَلِّدُ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَحَدَهُمْ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَخْتَارَ مَنْ يَثِقُ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ.

تَرْكُ التَّقْلِيدِ:

35- لَيْسَ لِمَنْ فَرْضُهُ التَّقْلِيدُ وَوَجَدَ مَنْ يُقَلِّدُهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِمُجَرَّدِ مَيْلِ نَفْسِهِ إلَى جِهَةٍ، فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ: أَنَّهُ إنْ تَرَكَ التَّقْلِيدَ وَاخْتَارَ لَهُ جِهَةً تَرْكَنُ لَهَا نَفْسُهُ وَصَلَّى لَهَا كَانَتْ صَلَاتُهُ صَحِيحَةً إنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ خَطَؤُهُ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنْ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ فِي الصَّلَاةِ قَطَعَهَا حَيْثُ كَانَ كَثِيرًا، وَإِنْ تَبَيَّنَ بَعْدَهَا فَقَوْلَانِ بِالْإِعَادَةِ أَبَدًا أَوْ فِي الْوَقْتِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي «تَبَيُّنِ الْخَطَأِ فِي الصَّلَاةِ».

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ مُطْلَقًا وَإِنْ صَادَفَ الْقِبْلَةَ.

اسْتِقْبَالُ الْأَعْمَى وَمَنْ فِي ظُلْمَةٍ لِلْقِبْلَةِ:

36- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْأَعْمَى عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْقِبْلَةِ، لِأَنَّ مُعْظَمَ الْأَدِلَّةِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُشَاهَدَةِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْهَا تَحَرَّى، وَكَذَا لَوْ سَأَلَهُ عَنْهَا فَلَمْ يُخْبِرْهُ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ أَخْبَرَهُ بَعْدَمَا صَلَّى لَا يُعِيدُ.

وَلَوْ لَمْ يَسْأَلْهُ وَتَحَرَّى: إنْ أَصَابَ جَازَ وَإِلاَّ لَا.

وَلَوْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَسَوَّاهُ رَجُلٌ إلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ وَجَدَ الْأَعْمَى وَقْتَ الشُّرُوعِ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْهَا فَلَمْ يَسْأَلْهُ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ، وَإِلاَّ بَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا، وَلَا يَجُوزُ لِهَذَا الرَّجُلِ الِاقْتِدَاءُ بِهِ.

وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْأَدِلَّةِ عَدْلًا فِي الرِّوَايَةِ لِيَهْتَدِيَ بِهَا إلَى الْقِبْلَةِ.

تَبَيُّنُ الْخَطَأِ فِي الْقِبْلَةِ:

37- أَطْلَقَ الْحَنَفِيَّةُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْمُصَلِّيَ الَّذِي لَمْ يَشُكَّ فِي الْقِبْلَةِ وَلَمْ يَتَحَرَّ إِذَا ظَهَرَ لَهُ خَطَؤُهُ فِي الْقِبْلَةِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، بِخِلَافِ مَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَشَكَّ فِيهَا وَتَحَرَّى، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ خَطَؤُهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ اسْتَدَارَ إلَى الْجِهَةِ الَّتِي انْتَهَى إلَيْهَا تَحَرِّيهِ، أَمَّا إِذَا ظَهَرَ لَهُ خَطَؤُهُ بَعْدَ انْتِهَاءِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ صَحِيحَةٌ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ وَالْمُقَلِّدِ إِذَا كَانَتْ عَلَامَاتُ الْقِبْلَةِ ظَاهِرَةً ثُمَّ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ فِيهَا، لِأَنَّهُ لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي الْجَهْلِ بِالْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ.أَمَّا دَقَائِقُ عِلْمِ الْهَيْئَةِ وَصُوَرُ النُّجُومِ الثَّوَابِتِ فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي الْجَهْلِ بِهَا فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ.وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ الْأَدِلَّةُ ظَاهِرَةً فَاشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ أَوْ خَفِيَتْ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَتْ أَدِلَّةٌ خَفِيَّةٌ، لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ فِي الْحَالَيْنِ وَعَجَزَ عَنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَاسْتَوَيَا فِي عَدَمِ الْإِعَادَةِ.أَمَّا فِي الْقَوْلِ الْأَظْهَرِ لِلشَّافِعِيَّةِ فَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِأَنَّهُ أَخْطَأَ فِي شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ.

الْعَجْزُ عَنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ.

38- ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ إلَى أَنَّ مَنْ بِهِ عُذْرٌ حِسِّيٌّ يَمْنَعُهُ مِنْ الِاسْتِقْبَالِ كَالْمَرِيضِ، وَالْمَرْبُوطِ يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، وَلَوْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، لِأَنَّ الِاسْتِقْبَالَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ وَقَدْ عَجَزَ عَنْهُ فَأَشْبَهَ الْقِيَامَ.

وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالصَّاحِبَانِ مِنِ الْحَنَفِيَّةِ لِسُقُوطِ الْقِبْلَةِ عَنْهُ أَنْ يَعْجِزَ أَيْضًا عَمَّنْ يُوَجِّهُهُ وَلَوْ بِأَجْرِ الْمِثْلِ، كَمَا اسْتَظْهَرَهُ.الشَّيْخُ إسْمَاعِيلُ النَّابُلُسِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ.وَبِالنِّسْبَةِ لِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ خِلَافًا تَفْصِيلُهُ فِي مَبَاحِثِ الصَّلَاةِ.

وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْقَادِرَ بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ عَاجِزٌ.وَبِقَوْلِهِمَا جَزَمَ فِي الْمُنْيَةِ وَالْمِنَحِ وَالدُّرِّ وَالْفَتْحِ بِلَا حِكَايَةِ خِلَافٍ.

وَلَوْ وَجَدَ أَجِيرًا بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهُ اسْتِئْجَارُهُ إِذَا كَانَتِ الْأُجْرَةُ دُونَ نِصْفِ دِرْهَمٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ كَمَا فَسَّرُوهُ فِي التَّيَمُّمِ.

أَمَّا مَنْ بِهِ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ يَمْنَعُهُ مِنَ الِاسْتِقْبَالِ فَقَدْ تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِلصُّوَرِ الْآتِيَةِ مِنْهُ وَهِيَ:

الْخَوْفُ عَلَى النَّفْسِ، وَذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَذَلِكَ كَالْخَوْفِ مِنْ سَبُعٍ وَعَدُوٍّ، فَلَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى جِهَةٍ قَدَرَ عَلَيْهَا، وَمِثْلُهُ الْهَارِبُ مِنَ الْعَدُوِّ رَاكِبًا يُصَلِّي عَلَى دَابَّتِهِ.

وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ صُوَرِ الْعُذْرِ: الْخَوْفَ مِنْ الِانْقِطَاعِ عَنْ رُفْقَتِهِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ: الِاسْتِيحَاشَ وَإِنْ لَمْ يَتَضَرَّرْ بِانْقِطَاعِهِ عَنْ رُفْقَتِهِ.

وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مِنَ الْأَعْذَارِ: الْخَوْفَ مِنْ أَنْ تَتَلَوَّثَ ثِيَابُهُ بِالطِّينِ وَنَحْوِهِ لَوْ نَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ.

وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ عَجْزَهُ عَنِ النُّزُولِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ نَزَلَ وَصَلَّى وَاقِفًا بِالْإِيمَاءِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْقُعُودِ دُونَ السُّجُودِ أَوْمَأَ قَاعِدًا.

وَعَدَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ مِنَ الْأَعْذَارِ: مَا لَوْ خَافَ عَلَى مَالِهِ- مِلْكًا أَوْ أَمَانَةً- لَوْ نَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ.

وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ مِنَ الْأَعْذَارِ: الْعَجْزَ عَنِ الرُّكُوبِ فِيمَنْ احْتَاجَ فِي رُكُوبِهِ بَعْدَ نُزُولِهِ لِلصَّلَاةِ إلَى مُعِينٍ وَلَا يَجِدُهُ، كَأَنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ جَمُوحًا، أَوْ كَانَ هُوَ ضَعِيفًا فَلَهُ أَلاَّ يَنْزِلَ.

وَمِنَ الْأَعْذَارِ: الْخَوْفُ وَقْتَ الْتِحَامِ الْقِتَالِ، فَقَدِ اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنْ يَسْقُطَ شَرْطُ الِاسْتِقْبَالِ فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ وَقْتَ الْتِحَامِ الصُّفُوفِ فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ إِذَا عَجَزَ الْمُصَلِّي عَنْهُ.وَلِمَعْرِفَةِ مَاهِيَّةِ هَذَا الْقِتَالِ، وَمَا يَلْحَقُ بِهِ، وَوَقْتُ صَلَاتِهِ، وَإِعَادَتُهَا حِينَ الْأَمْنِ، وَبَقِيَّةُ أَحْكَامِهَا (ر: صَلَاةُ الْخَوْفِ).

اسْتِقْبَالُ الْمُتَنَفِّلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ:

39- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّنَفُّلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ لِجِهَةِ سَفَرِهِ وَلَوْ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ وَلَوْ بِلَا عُذْرٍ، لِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم-: «كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ» وَفُسِّرَ قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} بِالتَّوَجُّهِ فِي نَفْلِ السَّفَرِ.

وَفِي الشُّرُوطِ الْمُجَوِّزَةِ لِذَلِكَ خِلَافٌ فَصَّلَهُ الْفُقَهَاءُ فِي مَبْحَثِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ.

اسْتِقْبَالُ الْمُتَنَفِّلِ مَاشِيًا فِي السَّفَرِ:

40- مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لِلْمُسَافِرِ الْمَاشِي الصَّلَاةُ فِي حَالِ مَشْيِهِ، لِأَنَّ النَّصَّ إنَّمَا وَرَدَ فِي الرَّاكِبِ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْمَاشِي عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى عَمَلٍ كَثِيرٍ، وَمَشْيٌ مُتَتَابِعٌ يُنَافِي الصَّلَاةَ فَلَمْ يَصِحَّ الْإِلْحَاقُ.

وَمَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ ثَانِيَةُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مَاشِيًا قِيَاسًا عَلَى الرَّاكِبِ، لِأَنَّ الْمَشْيَ إحْدَى حَالَتَيْ سَيْرِ الْمُسَافِرِ، وَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ فَكَذَا فِي النَّافِلَةِ.وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النَّاسَ مُحْتَاجُونَ إلَى الْأَسْفَارِ، فَلَوْ شَرَطَا فِيهَا الِاسْتِقْبَالَ لِلتَّنَفُّلِ لأَدَّى إلَى تَرْكِ أَوْرَادِهِمْ أَوْ مَصَالِحِ مَعَايِشِهِمْ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ يَنْحَرِفُ إلَى جِهَةِ سَيْرِهِ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ فِي السَّلَامِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ.

اسْتِقْبَالُ الْمُفْتَرِضِ عَلَى السَّفِينَةِ وَنَحْوِهَا:

41- اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى وُجُوبِ اسْتِقْبَالِ الْمُفْتَرِضِ عَلَى السَّفِينَةِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ صَلَاتِهِ، وَذَلِكَ لِتَيَسُّرِ الِاسْتِقْبَالِ عَلَيْهِ.وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يَدُورُ مَعَهَا إِذَا دَارَتْ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (الصَّلَاةُ فِي السَّفِينَةِ).

اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ:

42- قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ جِهَةَ الْقِبْلَةِ هِيَ أَشْرَفُ الْجِهَاتِ، وَلِذَا يُسْتَحَبُّ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا حِينَ الْجُلُوسِ، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ سَيِّدَ الْمَجَالِسِ مَا اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ».

قَالَ صَاحِبُ الْفُرُوعِ: وَيُتَّجَهُ فِي كُلِّ طَاعَةٍ إلاَّ لِدَلِيلٍ.

وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ التَّوَجُّهِ إلَيْهَا تَغْلِيطُ الْأَمْرِ وَإِلْقَاءُ الرَّهْبَةِ فِي قَلْبِ مَنْ طُلِبَ مِنْهُ التَّوَجُّهُ إلَيْهَا، كَمَا فِي تَغْلِيظِ الْقَاضِي الْيَمِينَ عَلَى حَالِفِهَا بِذَلِكَ (ر: إثْبَاتٌ ف 26).

عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ أَحْوَالٌ تَرْفَعُ هَذَا الِاسْتِحْبَابَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ اسْتِقْبَالُهَا حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا (ر: قَضَاءُ الْحَاجَةِ.اسْتِنْجَاء).

وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ زَائِرَ قَبْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- يَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ وَيَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ الشَّرِيفَ.

اسْتِقْبَالُ غَيْرِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ:

43- الْأَصْلُ فِي اسْتِقْبَالِ الْمُصَلِّي لِلْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ، مَا دَامَ مُتَوَجِّهًا إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، لَكِنْ هُنَاكَ أَشْيَاءُ مُعَيَّنَةٌ نُهِيَ الْمُصَلِّي عَنْ أَنْ يَجْعَلَهَا أَمَامَهُ لِاعْتِبَارَاتٍ خَاصَّةٍ فِيهَا، كَأَنْ يَكُونَ فِي وُجُودِهَا أَمَامَهُ تَشَبُّهٌ بِالْمُشْرِكِينَ، كَمَا فِي الصَّنَمِ وَالنَّارِ وَالْقَبْرِ، أَوْ لِكَوْنِهَا قَذِرَةً أَوْ نَجِسَةً يُصَانُ وَجْهُ الْمُصَلِّي وَنَظَرُهُ عَنْهَا، كَمَا فِي الصَّلَاةِ إلَى الْحَشِّ وَالْمَجْزَرَةِ، أَوْ قَدْ يَكُونُ أَمَامَهُ مَا يُشَوِّشُ عَلَيْهِ فِكْرَهُ كَمَا فِي الصَّلَاةِ إلَى الطَّرِيقِ.وَقَدْ تَنَاوَلَهَا الْفُقَهَاءُ بِالْبَحْثِ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَكْرُوهَاتِ الصَّلَاةِ.

وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي أَمَامَ الْمُصَلِّي أَمْرًا مَرْغُوبًا فِيهِ، لِكَوْنِهِ عَلَامَةً عَلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ لِمَنْعِ الْمَارِّينَ مِنَ الْمُرُورِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، كَمَا فِي الصَّلَاةِ إلَى السُّتْرَةِ.وَقَدْ بَحَثَهَا الْفُقَهَاءُ ضِمْنَ سُنَنِ الصَّلَاةِ.

اسْتِقْبَالُ غَيْرِ الْقِبْلَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ:

44- الْأَصْلُ فِي تَوَجُّهِ الْإِنْسَانِ إلَى الْأَشْيَاءِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ الْإِبَاحَةُ أَيْضًا، وَلَكِنْ قَدْ يُطْلَبُ التَّوَجُّهُ إلَى الْمَوَاطِنِ الشَّرِيفَةِ فِي الْأَحْوَالِ الشَّرِيفَةِ طَلَبًا لِخَيْرِهَا وَفَضْلِهَا، كَاسْتِقْبَالِ السَّمَاءِ بِالْبَصَرِ وَبِبُطُونِ الْكَفَّيْنِ فِي الدُّعَاءِ.

كَمَا يُطْلَبُ عَدَمُ التَّوَجُّهِ إلَيْهَا فِي الْأَحْوَالِ الْخَسِيسَةِ، كَاسْتِقْبَالِ قَاضِي الْحَاجَةِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَوِ الْمُصْحَفَ الشَّرِيفَ (ر: قَضَاءُ الْحَاجَةِ).

وَقَدْ يُطْلَبُ تَجَنُّبُ اسْتِقْبَالِهَا صِيَانَةً لَهُ عَنْهَا لِنَجَاسَتِهَا أَوْ حِفْظًا لِبَصَرِهِ عَنِ النَّظَرِ إلَيْهَا، كَاسْتِقْبَالِ قَاضِي الْحَاجَةِ مَهَبَّ الرِّيحِ، وَاسْتِقْبَالِ الْمُسْتَأْذِنِ لِلدُّخُولِ بَابَ الْمَكَانِ الَّذِي يُرِيدُ الدُّخُولَ إلَيْهِ.

وَقَدْ يُطْلَبُ الِاسْتِقْبَالُ حِفَاظًا عَلَى الْآدَابِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَتَوْفِيرًا لِحُسْنِ الْإِصْغَاءِ، كَمَا فِي اسْتِقْبَالِ الْخَطِيبِ لِلْقَوْمِ وَاسْتِقْبَالِهِمْ لَهُ، وَاسْتِقْبَالِ الْإِمَامِ النَّاسَ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ.

وَكَمَا فِي اسْتِقْبَالِ الضُّيُوفِ وَالْمُسَافِرِينَ إبْقَاءً عَلَى الرَّوَابِطِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مَتِينَةً.

وَمِنْ هَذِهِ الطَّاعَاتِ: الْوُضُوءُ، وَالتَّيَمُّمُ، وَالْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ، وَمِنْهُ الدُّعَاءُ بَعْدَ الْوُضُوءِ، وَالدُّعَاءُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَالذِّكْرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْحَجُّ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ، تُعْلَمُ بِتَتَبُّعِ كِتَابِ الْحَجِّ كَالْإِهْلَالِ، وَشُرْبِ مَاءِ زَمْزَمَ، وَتَوْجِيهِ الْهَدْيِ حِينَ الذَّبْحِ لِلْقِبْلَةِ، وَقَضَاءِ الْقَاضِي بَيْنَ الْخُصُومِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوَاضِعِهَا.

كَمَا يُسْتَحَبُّ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي مَوَاطِنَ خَاصَّةٍ طَلَبًا لِبَرَكَتِهَا وَكَمَالِ الْعَمَلِ بِاسْتِقْبَالِهَا، كَمَا فِي تَوْجِيهِ الْمُحْتَضَرِ إلَيْهَا، وَكَذَا الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ عِنْدَ الدَّفْنِ (ر: كِتَابُ الْجَنَائِزِ)، وَمِثْلُهُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنَامَ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَذْبَحَ ذَبِيحَةً فَيُسَنُّ لَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِهَا الْقِبْلَةَ (ر: كِتَابُ الذَّبَائِحِ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


27-موسوعة الفقه الكويتية (إسقاط 3)

إِسْقَاطٌ -3

حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ:

53- حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ الَّتِي يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا- وَهِيَ فِيمَا يَهَبُهُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفِيمَا يَهَبُهُ الْإِنْسَانُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَانِعٌ مِنْ مَوَانِعِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- حَقٌّ ثَابِتٌ شَرْعًا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً، فَيَرْجِعَ فِيهَا، إِلاَّ الْوَالِدَ بِمَا يُعْطِي وَلَدَهُ».وَهَذَا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْجُمْهُورُ.وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا» أَيْ مَا لَمْ يُعَوَّضْ.قَالُوا: وَالْعِوَضُ فِيمَا وُهِبَ لِذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ هُوَ: صِلَةُ الرَّحِمِ، وَقَدْ حَصَلَ.

وَمَا دَامَ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ- فِيمَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ- ثَابِتًا شَرْعًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهُ، وَلَا يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ.وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ.وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّ الرُّجُوعَ حَقُّهُ، وَهُوَ يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ، إِلاَّ إِذَا أَشْهَدَ عَلَيْهَا، أَوْ شَرَطَ عَدَمَ الِاعْتِصَارِ (أَيِ الرُّجُوعِ)، فَلَا رُجُوعَ لَهُ حِينَئِذٍ عَلَى الْمَشْهُورِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (هِبَة).

مَا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ:

سَبَقَ أَنَّ كُلَّ جَائِزِ التَّصَرُّفِ لَا يُمْنَعُ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّهِ مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ بَعْضِ مَا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنَ الْحُقُوقِ اتِّفَاقًا أَوْ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، إِمَّا لِفَقْدِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْمَحَلِّ، أَوْ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْإِسْقَاطِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ:

54- الْإِسْقَاطُ إِذَا كَانَ مَسَّ حَقًّا لِغَيْرِ مَنْ يُبَاشِرُهُ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ، إِذَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْغَيْرِ كَحَقِّ الصَّغِيرِ، أَوْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ مَنْ يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ كَالْوَارِثِ وَالْمُرْتَهِنِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا يَأْتِي: حَقُّ الْحَضَانَةِ:

55- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَيْضًا قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ خِلَافُ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ- أَنَّ لِلْحَاضِنِ أَنْ يَسْقُطَ حَقُّهُ بِإِسْقَاطِهِ، وَيَنْتَقِلَ الْحَقُّ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْحَضَانَةِ إِلاَّ إِذَا تَعَيَّنَ وَلَمْ يُوجَدْ حَاضِنٌ غَيْرُهُ، ثُمَّ إِنْ عَادَ الْحَاضِنُ فَطَلَبَ الْحَضَانَةَ عَادَ الْحَقُّ إِلَيْهِ.

وَخَالَفَ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا: إِنَّ الْحَاضِنَةَ إِذَا أَسْقَطَتْ حَقَّهَا مِنَ الْحَضَانَةِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، بَعْدَ وُجُوبِهَا لَهَا، ثُمَّ أَرَادَتِ الْعَوْدَ فَلَا تَعُودُ.وَلِلتَّفْصِيلِ ر: (حَضَانَة).

نَسَبُ الصَّغِيرِ:

56- النَّسَبُ حَقُّ الصَّغِيرِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْحَقُّ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ لَحِقَ بِهِ إِسْقَاطُ هَذَا الْحَقِّ، فَمَنْ أَقَرَّ بِابْنٍ، أَوْ هُنِّئَ بِهِ فَسَكَتَ، أَوْ أَمَّنَ عَلَى الدُّعَاءِ، أَوْ أَخَّرَ نَفْيَهُ مَعَ إِمْكَانِ النَّفْيِ فَقَدِ الْتَحَقَ بِهِ، وَلَا يَصِحُّ لَهُ إِسْقَاطُ نَسَبِهِ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ادَّعَتْ عَلَيْهِ صَبِيًّا فِي يَدِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْهَا، وَجَحَدَ الرَّجُلُ فَصَالَحَتْ عَنِ النَّسَبِ عَلَى شَيْءٍ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ النَّسَبَ حَقُّ الصَّبِيِّ لَا حَقُّهَا.

عَزْلُ الْوَكِيلِ:

57- الْأَصْلُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ يَجُوزُ لَهُ عَزْلُ الْوَكِيلِ مَتَى شَاءَ، لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ حَقِّهِ، لَكِنْ لَوْ تَعَلَّقَ بِالْوَكَالَةِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ بِغَيْرِ رِضَى صَاحِبِ الْحَقِّ، لِأَنَّ فِي الْعَزْلِ إِبْطَالُ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَذَلِكَ كَالْوَكِيلِ فِي الْخُصُومَةِ لَا يَجُوزُ عَزْلُهُ مَا دَامَتِ الْخُصُومَةُ مُسْتَمِرَّةً.وَكَالْعَدْلِ الْمُتَسَلِّطِ عَلَى بَيْعِ الْمَرْهُونِ.وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، مَعَ تَفْصِيلٍ كَثِيرٍ فِي شُرُوطِ الْعَزْلِ وَشُرُوطِ الْوَكَالَةِ فِي الْخُصُومَةِ، وَتُنْظَرُ فِي: (وَكَالَة، رَهْن).

تَصَرُّفُ الْمُفْلِسِ:

58- الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِلْفَلَسِ، يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِهِ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ تَصَرُّفًا مُسْتَأْنَفًا، كَوَقْفٍ، وَعِتْقٍ، وَإِبْرَاءٍ، وَعَفْوٍ مَجَّانًا فِيمَا لَا قِصَاصَ فِيهِ، وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِهِ، فَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِيهِ، أَشْبَهَ الرَّاهِنَ يَتَصَرَّفُ فِي الرَّهْنِ.ر: (حَجْر، فَلَس).

إِسْقَاطُ الْحَقِّ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَبَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ:

59- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْإِسْقَاطِ قَبْلَ وُجُوبِ الْحَقِّ، وَقَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، لِأَنَّ الْحَقَّ قَبْلَ ذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ بِالْفِعْلِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ وُرُودُ الْإِسْقَاطِ عَلَيْهِ، فَإِسْقَاطُ مَا لَمْ يَجِبْ، وَلَا جَرَى سَبَبُ وُجُوبِهِ لَا يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا، وَإِنَّمَا مُجَرَّدُ وَعْدٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْإِسْقَاطُ مُسْتَقْبَلًا، كَإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَإِسْقَاطِ الْحَاضِنَةِ حَقَّهَا فِي الْحَضَانَةِ قَبْلَ وُجُوبِهَا، فَكُلُّ هَذَا لَا يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا، وَإِنَّمَا هُوَ امْتِنَاعٌ عَنِ الْحَقِّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ وَالْعَوْدُ إِلَى الْمُطَالَبَةِ بِالْحَقِّ.

60- أَمَّا إِذَا لَمْ يَجِبِ الْحَقُّ، وَلَكِنْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ، فَفِي صِحَّةِ الْإِسْقَاطِ حِينَئِذٍ اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ:

فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِسْقَاطُ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ وَقَبْلَ الْوُجُوبِ.

فَقَدْ جَاءَ فِي بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ الْإِبْرَاءُ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْوُجُوبِ جَائِزٌ، كَالْإِبْرَاءِ عَنِ الْأُجْرَةِ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ.وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ الْإِبْرَاءُ عَنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ جَائِزٌ.

وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ، وَمِثْلُهُ فِي الْمُغْنِي: إِنْ عَفَا مَجْرُوحٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً عَنْ قَوَدِ نَفْسِهِ أَوْ دِيَتِهَا صَحَّ عَفْوُهُ، لِإِسْقَاطِهِ حَقَّهُ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِهِ.

وَفِي فَتْحِ الْعَلِيِّ الْمَالِكِ وَرَدَتْ عِدَّةُ مَسَائِلَ: كَإِبْرَاءِ الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا مِنَ الصَّدَاقِ فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَقَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ لَهَا، وَإِسْقَاطِ الْمَرْأَةِ عَنْ زَوْجِهَا نَفَقَةَ الْمُسْتَقْبَلِ، وَكَعَفْوِ الْمَجْرُوحِ عَمَّا يَئُولُ إِلَيْهِ الْجُرْحُ.ثُمَّ قَالَ نَقْلًا عَنِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ: وَبَعْضُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ، فَهَلْ يَلْزَمُ الْإِسْقَاطُ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ قَدْ وُجِدَ أَوْ لَا يَلْزَمُ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ؟ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ رُشْدٍ

وَفِي الدُّسُوقِيِّ ذَكَرَ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ هُوَ لُزُومُ الْإِسْقَاطِ لِجَرَيَانِ السَّبَبِ.وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ يَصِحُّ إِسْقَاطُ الْحَقِّ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَإِنْ جَرَى سَبَبُ وُجُوبِهِ.

جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: لَوْ أَبْرَأَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ عَنِ الضَّمَانِ لَمْ يُبَرَّأْ فِي الْأَظْهَرِ، إِذْ هُوَ إِبْرَاءٌ عَمَّا لَمْ يَجِبْ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنْ وُجِدَ سَبَبُهُ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُبَرَّأُ لِوُجُودِ سَبَبِ الضَّمَانِ.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ صُورَةً يَصِحُّ فِيهَا الْإِسْقَاطُ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَهِيَ: مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِلَا إِذْنٍ، وَأَبْرَأَهُ الْمَالِكُ، وَرَضِيَ بِبَقَائِهَا، فَإِنَّهُ يُبَرَّأُ مِمَّا وَقَعَ فِيهَا.

إِسْقَاطُ الْمَجْهُولِ:

61- إِسْقَاطُ الْحَقِّ الْمَعْلُومِ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَالْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَجْهُولِ، كَالدَّيْنِ، وَالْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ، وَحِصَّةٍ فِي تَرِكَةٍ، وَمَا مَاثَلَ ذَلِكَ.فَهَذَا النَّوْعُ مَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ إِسْقَاطِهِ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ، هَلْ هُوَ تَمْلِيكٌ أَوْ إِسْقَاطٌ؟

فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْقَدِيمُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ مِنَ الْمَجْهُولِ، «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِمَنِ اخْتَصَمَا فِي مَوَارِيثَ قَدْ دَرَسَتْ: اسْتَهِمَا، وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ، وَلِيُحْلِلْ كُلٌّ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ».وَلِأَنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ لَا تَسْلِيمَ فِيهِ، فَصَحَّ فِي الْمَجْهُولِ، لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ لَا تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ.وَمِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: صِحَّةُ الصُّلْحِ عَمَّا تَعَذَّرَ عِلْمُهُ مِنَ الدَّيْنِ، لِئَلاَّ يُفْضِيَ إِلَى ضَيَاعِ الْمَالِ.

وَفِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنَ الْمَجْهُولِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكُ مَا فِي ذِمَّتِهِ، فَيُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِهِ.

وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ بَيْنَ مَجْهُولِ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ.

وَيَسْتَثْنِي الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الْإِبْرَاءِ مِنَ الْمَجْهُولِ صُورَتَيْنِ: الْأُولَى: الْإِبْرَاءُ مِنْ إِبِلِ الدِّيَةِ، فَيَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنْهَا مَعَ الْجَهْلِ بِصِفَتِهَا، لِاغْتِفَارِهِمْ ذَلِكَ فِي إِثْبَاتِهَا فِي ذِمَّةِ الْجَانِي.وَكَذَا الْأَرْشُ وَالْحُكُومَةُ يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنْهُمَا مَعَ الْجَهْلِ بِصِفَتِهِمَا.

الثَّانِيَةُ: إِذَا ذَكَرَ قَدْرًا يَتَحَقَّقُ أَنَّ حَقَّهُ أَقَلُّ مِنْهُ.

وَأُضِيفَ إِلَى هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ مَا لَوْ أَبْرَأَهُ عَمَّا عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ، لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ.

كَذَلِكَ الْجَهْلُ الْيَسِيرُ الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْإِسْقَاطِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كَالْإِبْرَاءِ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ مُوَرِّثِهِ فِي التَّرِكَةِ، إِنْ عَلِمَ قَدْرَ التَّرِكَةِ، وَجَهِلَ قَدْرَ حِصَّتِهِ.

وَإِنْ أَجَازَ الْوَارِثُ وَصِيَّةَ مُوَرِّثِهِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَجَزْتُ لِأَنِّي ظَنَنْتُ الْمَالَ قَلِيلًا، وَأَنَّ الثُّلُثَ قَلِيلٌ، وَقَدْ بَانَ أَنَّهُ كَثِيرٌ، قُبِلَ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ بِمَا زَادَ عَلَى ظَنِّهِ، مَا لَمْ يَكُنِ الْمَالُ ظَاهِرًا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُجِيزِ، أَوْ تَقُومُ بَيِّنَةٌ بِعِلْمِهِ وَبِقَدْرِهِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.

62- أَمَّا الْإِبْرَاءُ مِنَ الْعُيُوبِ فِي الْبَيْعِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ كَالْحُكْمِ فِي الدَّيْنِ، مَعَ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْحَادِثِ وَالْقَائِمِ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الْأَشْهَرُ فِيهِ عَدَمُ صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ.وَالرَّأْيُ الثَّانِي: يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ فِيهِ.وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَفِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ بِصِحَّةِ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَقَوْلٌ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَا يُبَرَّأُ إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْعَيْبُ الْبَاطِنُ فِي الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ بِهِ الْبَائِعُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ- رحمه الله-: لِأَنَّ الْحَيَوَانَ يُفَارِقُ مَا سِوَاهُ، وَقَلَّمَا يُبَرَّأُ مِنْ عَيْبٍ يَظْهَرُ أَوْ يَخْفَى، فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّبَرِّي مِنَ الْعَيْبِ الْبَاطِنِ فِيهِ.

هَذِهِ أَمْثِلَةٌ لِمَا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ بِالِاتِّفَاقِ، أَوْ مَعَ الِاخْتِلَافِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْمَحَلِّ أَوْ شُرُوطِ الْإِسْقَاطِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ.

63- وَهُنَاكَ كَثِيرٌ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ لِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَمِنَ الْعَسِيرِ حَصْرُ هَذِهِ الْحُقُوقِ لِتَشَعُّبِهَا فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ الْمُخْتَلِفَةِ.وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: حَقُّ الزَّوْجِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ.

وَهُنَاكَ مَا لَا يَسْقُطُ لِقَاعِدَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهِيَ: أَنَّ صِفَاتِ الْحُقُوقِ لَا تُفْرَدُ بِالْإِسْقَاطِ كَالْأَجَلِ وَالْجَوْدَةِ، بَيْنَمَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهُمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خُرُوجًا عَنْ قَاعِدَةِ «التَّابِعُ تَابِعٌ».

كَذَلِكَ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الشَّرْطَ إِذَا كَانَ فِي عَقْدٍ لَازِمٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ وَلَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ، فَلَوْ قَالَ رَبُّ السَّلَمِ: أَسْقَطْتُ حَقِّي فِي التَّسْلِيمِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوِ الْبَلَدِ لَمْ يَسْقُطْ.وَكَمَنْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِيمَا شَرَطَ لَهُ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ لَا لِأَحَدٍ، لِأَنَّ الِاشْتِرَاطَ لَهُ صَارَ لَازِمًا كَلُزُومِ الْوَقْفِ.وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَيُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهِ.

تَجَزُّؤُ الْإِسْقَاطِ:

64- مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِسْقَاطَ يَرِدُ عَلَى مَحَلٍّ، وَالْمَحَلُّ هُوَ الْأَسَاسُ فِي بَيَانِ حُكْمِ التَّجَزُّؤِ، فَإِذَا كَانَ الْمَحَلُّ يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ فِي بَعْضِهِ دُونَ الْبَعْضِ الْآخَرِ، قِيلَ: إِنَّ الْإِسْقَاطَ يَتَجَزَّأُ.وَإِنْ كَانَ الْمَحَلُّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ بِالْإِسْقَاطِ فِي بَعْضِهِ، بَلْ يَثْبُتُ فِي الْكُلِّ، قِيلَ: إِنَّ الْإِسْقَاطَ لَا يَتَجَزَّأُ.

وَمِنَ الْقَوَاعِدِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ وَالْأَتَاسِيُّ شَارِحُ الْمَجَلَّةِ: «ذِكْرُ بَعْضِ مَا لَا يَتَجَزَّأُ كَذِكْرِ كُلِّهِ».فَإِذَا طَلَّقَ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ، أَوْ طَلَّقَ نِصْفَ الْمَرْأَةِ طُلِّقَتْ، وَمِنْهَا الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ: إِذَا عَفَا عَنْ بَعْضِ الْقَاتِلِ كَانَ عَفْوًا عَنْ كُلِّهِ، وَكَذَا إِذَا عَفَا بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ سَقَطَ الْقِصَاصُ كُلُّهُ وَانْقَلَبَ نَصِيبُ الْبَاقِينَ مَالًا.وَخَرَجَ عَنِ الْقَاعِدَةِ الْعِتْقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ إِذَا أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ لَمْ يَعْتِقْ كُلُّهُ.وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ لَا يَتَجَزَّأُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ فَعَلَيْهِ عِتْقُهُ كُلُّهُ».وَأَدْخَلَ شَارِحُ الْمَجَلَّةِ تَحْتَ الْقَاعِدَةِ أَيْضًا: الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ، وَالشُّفْعَةَ، وَوِصَايَةَ الْأَبِ، وَالْوِلَايَةَ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ بِتَوْضِيحٍ أَكْثَر فَقَالُوا: مَا لَا يَقْبَلُ التَّبْعِيضَ يَكُونُ اخْتِيَارُ بَعْضِهِ كَاخْتِيَارِ كُلِّهِ، وَإِسْقَاطُ بَعْضِهِ كَإِسْقَاطِ كُلِّهِ.وَذَكَرُوا تَحْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْمَسَائِلَ الَّتِي سَبَقَ إِيرَادُهَا عَنِ ابْنِ نُجَيْمٍ، وَهِيَ: الطَّلَاقُ وَالْقِصَاصُ وَالْعِتْقُ وَالشُّفْعَةُ.فَإِذَا عَفَا الشَّفِيعُ عَنْ بَعْضِ حَقِّهِ سَقَطَ الْكُلُّ.وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الْقَاعِدَةِ حَدَّ الْقَذْفِ، فَالْعَفْوُ عَنْ بَعْضِهِ لَا يُسْقِطُ شَيْئًا مِنْهُ.قَالَهُ الرَّافِعِيُّ.وَزَادَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: التَّعْزِيرَ، فَلَوْ عَفَا عَنْ بَعْضِهِ لَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ شَيْءٌ.

وَالْمَسَائِلُ الْمَشْهُورَةُ الَّتِي وَرَدَتْ مِنْ طَلَاقٍ وَعِتْقٍ وَقِصَاصٍ هِيَ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فِي أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُبَعَّضَ أَوِ الْمُضَافَ إِلَى جُزْءٍ مِنَ الزَّوْجَةِ، أَوِ الْعِتْقَ الْمُضَافَ إِلَى جُزْءٍ مِنَ الْعَبْدِ، أَوْ عَفْوَ أَحَدِ الْمُسْتَحِقِّينَ عَنِ الْقِصَاصِ، كُلُّ هَذَا يَسْرِي عَلَى الْكُلِّ، وَلَا يَتَبَعَّضُ الْمَحَلُّ، فَتُطَلَّقُ الْمَرْأَةُ، وَيَعْتِقُ الْعَبْدُ، وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ فِي الْأَصْلِ الْعَامِّ، إِلاَّ مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْعِتْقِ كَمَا سَبَقَ.

وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي فُرُوعِ كُلِّ مَسْأَلَةٍ.فَمَثَلًا إِضَافَةُ الطَّلَاقِ أَوِ الْعِتْقِ إِلَى الظُّفُرِ وَالسِّنِّ وَالشَّعَرِ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَزُولُ وَيَخْرُجُ غَيْرُهَا فَكَانَتْ فِي حُكْمِ الْمُنْفَصِلِ.

وَفِي الْإِضَافَةِ إِلَى الشَّعَرِ قَوْلَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَيَقَعُ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَالشُّفْعَةُ أَيْضًا الْأَصْلُ الْعَامُّ فِيهَا أَنَّهَا لَا تَتَبَعَّضُ، حَتَّى لَا يَقَعَ ضَرَرٌ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.فَالشَّفِيعُ إِمَّا أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ أَوْ يَتْرُكَ، وَإِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْبَعْضِ سَقَطَ الْكُلُّ.لَكِنْ وَقَعَ خِلَافٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِذْ قِيلَ: إِنَّ إِسْقَاطَ بَعْضِ الشُّفْعَةِ لَا يُسْقِطُ شَيْئًا مِنْهَا.

وَلَيْسَ مِنْ تَبْعِيضِ الشُّفْعَةِ مَا إِذَا كَانَ الْبَائِعُ أَوِ الْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَإِذَا تَعَدَّدَ الشُّفَعَاءُ فَالشُّفْعَةُ عَلَى قَدْرِ الْأَنْصِبَاءِ.

وَالدَّيْنُ مِمَّا يَقْبَلُ التَّبْعِيضَ، فَلِلدَّائِنِ أَخْذُ بَعْضِهِ وَإِسْقَاطُ بَعْضِهِ.

السَّاقِطُ لَا يَعُودُ

65- مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ السَّاقِطَ يَنْتَهِي وَيَتَلَاشَى، وَيُصْبِحُ كَالْمَعْدُومِ لَا سَبِيلَ إِلَى إِعَادَتِهِ إِلاَّ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ يَصِيرُ مِثْلَهُ لَا عَيْنَهُ، فَإِذَا أَبْرَأَ الدَّائِنُ الْمَدِينَ فَقَدْ سَقَطَ الدَّيْنُ، فَلَا يَكُونُ هُنَاكَ دَيْنٌ، إِلاَّ إِذَا وُجِدَ سَبَبٌ جَدِيدٌ، وَكَالْقِصَاصِ لَوْ عُفِيَ عَنْهُ فَقَدْ سَقَطَ وَسَلِمَتْ نَفْسُ الْقَاتِلِ، وَلَا تُسْتَبَاحُ إِلاَّ بِجِنَايَةٍ أُخْرَى، وَهَكَذَا.وَكَمَنْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الشُّفْعَةِ، ثُمَّ رَجَعَتِ الدَّارُ إِلَى صَاحِبِهَا بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ، أَوْ بِخِيَارِ شَرْطٍ لِلْمُشْتَرِي، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ، لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ بَطَلَ، فَلَا يَعُودُ إِلاَّ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ.

وَالْإِسْقَاطُ يَقَعُ عَلَى الْكَائِنِ الْمُسْتَحِقِّ، وَهُوَ الَّذِي إِذَا سَقَطَ لَا يَعُودُ، أَمَّا الْحَقُّ الَّذِي يَثْبُتُ شَيْئًا فَشَيْئًا، أَيْ يَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ سَبَبِهِ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْإِسْقَاطُ، لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ يُؤَثِّرُ فِي الْحَالِ دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ.وَمِثَالُ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي خَبَايَا الزَّوَايَا: لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَبَقَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَرَضِيَ الْمُشْتَرِي بِتَرْكِ الْفَسْخِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ، يُمَكَّنُ مِنَ الْفَسْخِ، لِأَنَّ التَّسْلِيمَ مُسْتَحَقٌّ لَهُ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا، وَالْإِسْقَاطُ يُؤَثِّرُ فِي الْحَالِ دُونَ مَا يُسْتَحَقُّ مِنْ بَعْدُ.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ أَسْقَطَتِ الزَّوْجَةُ نَوْبَتَهَا لِضَرَّتِهَا فَلَهَا الرُّجُوعُ، لِأَنَّهَا أَسْقَطَتِ الْكَائِنَ، وَحَقُّهَا يَثْبُتُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَلَا يَسْقُطُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَا يَرِدُ أَنَّ السَّاقِطَ لَا يَعُودُ، لِأَنَّ الْعَائِدَ غَيْرُ السَّاقِطِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا.وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ قَاعِدَةً فِي ذَلِكَ فَقَالَ: الْأَصْلُ أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلْحُكْمِ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا وَالْحُكْمُ مَعْدُومٌ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمَانِعِ، وَإِنْ عُدِمَ الْمُقْتَضِي فَهُوَ مِنْ بَابِ السَّاقِطِ.

فَهُنَاكَ فَرْقٌ إِذَنْ بَيْنَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ، ثُمَّ سَقَطَ الْحُكْمُ لِمَانِعٍ، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي عَادَ الْحُكْمُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا عُدِمَ الْمُقْتَضِي فَلَا يَعُودُ الْحُكْمُ.

وَمِنْ ذَلِكَ حَقُّ الْحَضَانَةِ.جَاءَ فِي مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ لَا حَضَانَةَ لِفَاسِقٍ، وَلَا لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ، وَلَا تَزْوِيجَ بِأَجْنَبِيٍّ مِنْ مَحْضُونٍ.وَبِمُجَرَّدِ زَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ فِسْقٍ أَوْ كُفْرٍ، أَوْ تَزَوُّجٍ بِأَجْنَبِيٍّ، وَبِمُجَرَّدِ رُجُوعِ مُمْتَنِعٍ مِنْ حَضَانَةٍ يَعُودُ الْحَقُّ لَهُ فِي الْحَضَانَةِ، لِقِيَامِ سَبَبِهَا مَعَ زَوَالِ الْمَانِعِ.

هَذَا مَعَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، هَلِ الْحَضَانَةُ حَقُّ الْحَاضِنِ أَوْ حَقُّ الْمَحْضُونِ.وَفِي الدُّسُوقِيِّ: إِذَا انْتَقَلَتِ الْحَضَانَةُ لِشَخْصٍ لِمَانِعٍ، ثُمَّ زَالَ الْمَانِعُ فَإِنَّهَا تَعُودُ لِلْأَوَّلِ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتِ الْأُمُّ وَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ، وَأَخَذَتِ الْجَدَّةُ الْوَلَدَ، ثُمَّ فَارَقَ الزَّوْجُ الْأُمَّ، وَقَدْ مَاتَتِ الْجَدَّةُ، أَوْ تَزَوَّجَتْ، وَالْأُمُّ خَالِيَةٌ مِنَ الْمَوَانِعِ، فَهِيَ أَحَقُّ مِمَّنْ بَعْدَ الْجَدَّةِ، وَهِيَ الْخَالَةُ وَمَنْ بَعْدَهَا.كَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ (الدَّرْدِيرُ)، وَهُوَ ضَعِيفٌ.وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْجَدَّةَ إِذَا مَاتَتِ انْتَقَلَتِ الْحَضَانَةُ لِمَنْ بَعْدَهَا كَالْخَالَةِ، وَلَا تَعُودُ لِلْأُمِّ وَلَوْ كَانَتْ مُتَأَيِّمَةً (لَا زَوْجَ لَهَا).

وَفِي الْجُمَلِ عَلَى شَرْحِ الْمَنْهَجِ: لَوْ أَسْقَطَتِ الْحَاضِنَةُ حَقَّهَا انْتَقَلَتْ لِمَنْ يَلِيهَا، فَإِذَا رَجَعَتْ عَادَ حَقُّهَا.وَمِثْلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا فِي الْبَدَائِعِ.

وَقَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: وَفَرَّعْتُ عَلَى «وَقَوْلُهُمْ: السَّاقِطُ لَا يَعُودُ» قَوْلَهُمْ إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِرَدِّ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ، مَعَ وُجُودِ الْأَهْلِيَّةِ، لِفِسْقٍ أَوْ لِتُهْمَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ.

وَمِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ نُجَيْمٍ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا هُوَ مُسْقِطٌ وَمَا هُوَ مَانِعٌ قَوْلُهُ: لَا يَعُودُ التَّرْتِيبُ بَعْدَ سُقُوطِهِ بِقِلَّةِ الْفَوَائِتِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا سَقَطَ بِالنِّسْيَانِ فَإِنَّهُ يَعُودُ بِالتَّذَكُّرِ، لِأَنَّ النِّسْيَانَ كَانَ مَانِعًا لَا مُسْقِطًا، فَهُوَ مِنْ بَابِ زَوَالِ الْمَانِعِ.وَلَا تَصِحُّ إِقَالَةُ الْإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ، لِأَنَّهُ دَيْنٌ سَاقِطٌ فَلَا يَعُودُ.أَمَّا عَوْدُ النَّفَقَةِ- بَعْدَ سُقُوطِهَا بِالنُّشُوزِ- بِالرُّجُوعِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ زَوَالِ الْمَانِعِ، لَا مِنْ بَابِ عَوْدِ السَّاقِطِ.وَتُنْظَرُ الْفُرُوعُ فِي أَبْوَابِهَا.

أَثَرُ الْإِسْقَاطِ:

66- يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِسْقَاطِ آثَارٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ.وَمِنْ ذَلِكَ:

(1) إِسْقَاطُ رَجُلٍ الِانْتِقَاعَ بِالْبُضْعِ بِالطَّلَاقِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارٌ مُتَعَدِّدَةٌ، كَالْعِدَّةِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَجَوَازِ الرَّجْعَةِ، إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَعَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ إِنْ كَانَ بَائِنًا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ.ر: (طَلَاق).

(2) الْإِعْتَاقُ وَهُوَ: إِزَالَةُ الرِّقِّ عَنِ الْمَمْلُوكِ وَإِثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ لَهُ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِلْكُهُ لِمَالِهِ وَكَسْبِهِ، وَإِطْلَاقُ يَدِهِ فِي التَّصَرُّفَاتِ، وَإِثْبَاتُ حَقِّ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتَقِ، وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ.ر: (عِتْق).

(3) قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِسْقَاطِ إِثْبَاتُ حُقُوقٍ تَتَعَلَّقُ بِالْمَحَلِّ، كَإِسْقَاطِ حَقِّ الشُّفْعَةِ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ اسْتِقْرَارُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي، وَإِسْقَاطُ حَقِّ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ لُزُومُ الْبَيْعِ، لِأَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بِالْبَيْعِ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ.وَإِجَازَةُ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا لُزُومُ الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (بَيْع- خِيَار- شُفْعَة- فُضُولِيّ).

(4) وَمِنَ الْآثَارِ مَا يَرِدُ تَحْتَ قَاعِدَةِ: الْفَرْعُ يَسْقُطُ بِسُقُوطِ الْأَصْلِ، كَمَا إِذَا أُبْرِئَ الْمَضْمُونُ أَوِ الْمَكْفُولُ عَنِ الدَّيْنِ بُرِّئَ الضَّامِنُ وَالْكَفِيلُ، لِأَنَّ الضَّامِنَ وَالْكَفِيلَ فَرْعٌ، فَإِذَا سَقَطَ الْأَصْلُ سَقَطَ الْفَرْعُ وَلَا عَكْسَ، فَلَوْ أُبْرِئَ الضَّامِنُ لَمْ يُبَرَّأِ الْأَصِيلُ، لِأَنَّهُ إِسْقَاطُ وَثِيقَةٍ فَلَا يَسْقُطُ بِهَا الدَّيْنُ.ر: (كَفَالَة- ضَمَان).

(5) وَقَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِسْقَاطِ الْحُصُولُ عَلَى حَقٍّ كَانَ صَاحِبُهُ مَمْنُوعًا مِنْهُ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ، وَذَلِكَ مِثْلُ صِحَّةِ تَصَرُّفِ الرَّاهِنِ فِي الْمَرْهُونِ، بِنَحْوِ وَقْفٍ أَوْ هِبَةٍ، إِذَا أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ، لِأَنَّ مَنْعَهُ كَانَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ، وَقَدْ أَسْقَطَهُ بِإِذْنِهِ.

(6) الْغَرِيمُ إِذَا وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ عِنْدَ الْمُفْلِسِ كَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِيهِ بِشُرُوطٍ مِنْهَا: أَلاَّ يَتَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ كَشُفْعَةٍ وَرَهْنٍ.فَإِذَا أَسْقَطَ أَصْحَابُ الْحُقُوقِ حُقُوقَهُمْ، بِأَنْ أَسْقَطَ الشَّفِيعُ شُفْعَتَهُ، أَوْ أَسْقَطَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ فِي الرَّهْنِ فَلِرَبِّ الْعَيْنِ أَخْذُهَا.

(7) إِذَا أَجَّلَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ بَعْدَ الْعَقْدِ سَقَطَ حَقُّ الْحَبْسِ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْبَدَائِعِ، لِأَنَّهُ أَخَّرَ حَقَّ نَفْسِهِ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ، فَلَا يَتَأَخَّرُ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي قَبْضِ الْمَبِيعِ، وَكَذَا لَوْ أَبْرَأَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِي مِنَ الثَّمَنِ بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ.

(8) لَوْ أَجَّلَتِ الزَّوْجَةُ الْمَهْرَ لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ بِالتَّأْجِيلِ رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ حَقِّ نَفْسِهَا، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الزَّوْجِ.وَهَذَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا، لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الْمَهْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَ تَسْلِيمُهُ عَلَى تَسْلِيمِ النَّفْسِ، فَلَمَّا قَبِلَ الزَّوْجُ التَّأْجِيلَ كَانَ ذَلِكَ رِضًا بِتَأْخِيرِ حَقِّ نَفْسِهَا فِي الْقَبْضِ، بِخِلَافِ الْبَائِعِ.وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الْوَصِيَّةُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ كُلِّ ذَلِكَ فِي: (إِفْلَاسٌ- بَيْعٌ- حَبْس- رَهْن).

(9) إِسْقَاطُ الشَّارِعِ الْعِبَادَاتِ بِسَبَبِ الْأَعْذَارِ قَدْ يَسْقُطُ الطَّلَبُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا يُطَالَبُ بِالْقَضَاءِ، كَالصَّوْمِ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ.وَقَدْ يُطَالَبُ بِالْقَضَاءِ، كَالصَّوْمِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَائِضِ وَالْمُسَافِرِ.

(10) الْإِبْرَاءُ مِنَ الدَّيْنِ أَوْ مِنَ الْحَقِّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْمُبَرَّأِ مَتَى اسْتَوْفَى الْإِبْرَاءُ شُرُوطَهُ.وَسَوَاءٌ أَكَانَ عَنْ حَقٍّ خَاصٍّ أَمْ حَقٍّ عَامٍّ، بِحَسَبِ مَا يَرِدُ فِي صِيغَةِ الْمُبَرِّئِ.

وَيَتَرَتَّبُ كَذَلِكَ سُقُوطُ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ، فَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى فِيمَا تَنَاوَلَهُ الْإِبْرَاءُ إِلَى حِينِ وُقُوعِهِ، دُونَ مَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ.وَلَا تُقْبَلُ الدَّعْوَى بَعْدَ ذَلِكَ بِحُجَّةِ الْجَهْلِ أَوِ النِّسْيَانِ.

إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِبْرَاءُ مَعَ الصُّلْحِ.فَإِذَا كَانَ الْإِبْرَاءُ مَعَ الصُّلْحِ، أَوْ وَقَعَ بَعْدَ الصُّلْحِ إِبْرَاءٌ عَامٌّ، ثُمَّ ظَهَرَ خِلَافُهُ فَلَهُ نَقْضُهُ، لِأَنَّهُ إِبْرَاءٌ عَلَى دَوَامِ صِفَةِ الصُّلْحِ لَا إِبْرَاءٌ مُطْلَقٌ، إِلاَّ إِذَا الْتَزَمَ فِي الصُّلْحِ عَدَمَ الْقِيَامِ عَلَيْهِ وَلَوْ بِبَيِّنَةٍ فَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى.هَذَا، مَعَ اسْتِثْنَاءِ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ الْإِبْرَاءِ بَعْضَ الْمَسَائِلِ، كَضَمَانِ الدَّرَكِ (اسْتِحْقَاقُ الْمَبِيعِ)، وَكَدَعْوَى الْوَكَالَةِ وَالْوِصَايَةِ، وَكَادِّعَاءِ الْوَارِثِ دَيْنًا لِلْمَيِّتِ عَلَى رَجُلٍ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ يُنْظَرُ فِي (إِبْرَاءٌ- دَعْوَى).

(11) الْإِبْرَاءُ الْعَامُّ يَمْنَعُ الدَّعْوَى بِالْحَقِّ قَضَاءً لَا دِيَانَةً، إِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ عَلِمَ بِمَالِهِ مِنَ الْحَقِّ لَمْ يُبَرِّئْهُ، كَمَا فِي الْفَتَاوَى الْوَلْوَالَجِيَّةِ.لَكِنْ فِي خِزَانَةِ الْفَتَاوَى: الْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ يُبَرَّأُ قَضَاءً وَدِيَانَةً وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ أَبْرَأَهُ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ بُرِّئَ فِيهِمَا، لِأَنَّ أَحْكَامَ الْآخِرَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، ذَكَرَهُمَا الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ.

بُطْلَانُ الْإِسْقَاطِ

67- لِلْإِسْقَاطِ أَرْكَانٌ، وَلِكُلِّ رُكْنٍ شُرُوطُهُ الْخَاصَّةُ، فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ شَرْطٌ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي سَبَقَ بَيَانُهَا بَطَلَ الْإِسْقَاطُ، أَيْ بَطَلَ حُكْمُهُ، فَلَا يَنْفُذُ.وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُسْقِطِ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا، فَإِذَا كَانَ الْمُتَصَرِّفُ بِالْإِسْقَاطِ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَلَا يَصِحُّ الْإِسْقَاطُ وَلَا يَنْفُذُ.

وَلَوْ كَانَ التَّصَرُّفُ بِالْإِسْقَاطِ مُنَافِيًا لِلْمَشْرُوعِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ تَصَرُّفًا بَاطِلًا وَلَا يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ، كَإِسْقَاطِ الْوِلَايَةِ، أَوْ إِسْقَاطِ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ.

وَكَذَلِكَ الْإِسْقَاطُ لَا يَرِدُ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَيُعْتَبَرُ إِسْقَاطُهَا بَاطِلًا.وَلِذَلِكَ خَرَّجَهُ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِسْقَاطِ الضَّمَانِ.

وَقَدْ يَقَعُ الْإِسْقَاطُ صَحِيحًا، لَكِنْ يَبْطُلُ إِذَا رَدَّهُ الْمُسْقَطُ عَنْهُ، عِنْدَ مَنْ يَقُولُ أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ كَالْحَنَفِيَّةِ. فِي قَاعِدَةٍ ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ هِيَ: أَنَّهُ إِذَا بَطَلَ الشَّيْءُ بَطَلَ مَا فِي ضِمْنِهِ، فَلْو أَبْرَأَهُ ضِمْنَ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَسَدَ الْإِبْرَاءُ.

وَأَغْلَبُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَرَدَتْ فِيمَا سَبَقَ فِي الْبَحْثِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


28-موسوعة الفقه الكويتية (إشارة)

إِشَارَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْإِشَارَةُ لُغَةً: التَّلْوِيحُ بِشَيْءٍ يُفْهَمُ مِنْهُ مَا يُفْهَمُ مِنَ النُّطْقِ، فَهِيَ الْإِيمَاءُ إِلَى الشَّيْءِ بِالْكَفِّ وَالْعَيْنِ وَالْحَاجِبِ وَغَيْرِهَا.وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِكَذَا: أَبْدَى لَهُ رَأْيَهُ، وَالِاسْمُ الشُّورَى.

وَهِيَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ حَقِيقَةٌ فِي الْحِسِّيَّةِ، وَتُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي الذِّهْنِيَّةِ، كَالْإِشَارَةِ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ عُدِّيَ «إِلَى» تَكُونُ بِمَعْنَى الْإِيمَاءِ بِالْيَدِ، وَنَحْوِهَا، وَإِنْ عُدِّيَ بِـ «عَلَى» تَكُونُ بِمَعْنَى الرَّأْيِ.

وَالْإِشَارَةُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ مِثْلُهَا فِي اللُّغَةِ، وَيَسْتَعْمِلُهَا الْأُصُولِيُّونَ فِي مَبْحَثِ الدَّلَالَاتِ، وَيُعَرِّفُونَ دَلَالَةَ الْإِشَارَةِ بِأَنَّهَا: دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى مَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ، وَلَكِنَّهُ لَازِمٌ لَهُ.كَدَلَالَةِ قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ بِدُونِ ذِكْرِ الْمَهْرِ، لِأَنَّ صِحَّةَ الطَّلَاقِ فَرْعُ صِحَّةِ النِّكَاحِ.

أَمَّا عِبَارَةُ النَّصِّ فَهِيَ الْمَعْنَى الَّذِي يَتَبَادَرُ فَهْمُهُ مِنْ صِيغَتِهِ، وَيَكُونُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ سِيَاقِهِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ مَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الدَّلَالَةُ:

2- الدَّلَالَةُ: كَوْنُ الشَّيْءِ بِحَيْثُ يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ آخَرُ، كَدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى، وَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الْإِشَارَةِ.

ب- الْإِيمَاءُ:

3- الْإِيمَاءُ: مُرَادِفٌ لِلْإِشَارَةِ لُغَةً، وَعِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ عَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ: إِلْقَاءُ الْمَعْنَى فِي النَّفْسِ بِخَفَاءٍ.

صِفَتُهَا (الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ):

4- الْإِشَارَةُ تَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ فِي أَغْلَبِ الْأُمُورِ، لِأَنَّهَا تُبَيِّنُ الْمُرَادَ كَالنُّطْقِ، وَلَكِنَّ الشَّارِعَ يُقَيِّدُ النَّاطِقِينَ بِالْعِبَارَةِ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ كَالنِّكَاحِ، فَإِذَا عَجَزَ إِنْسَانٌ عَنْهَا، أَقَامَ الشَّارِعُ إِشَارَتَهُ مَقَامَ نُطْقِهِ فِي الْجُمْلَةِ.

إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ:

5- إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا، وَتَقُومُ مَقَامَ عِبَارَةِ النَّاطِقِ فِيمَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْعِبَارَةِ، إِذَا كَانَتْ مَعْهُودَةً فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ كَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالرَّهْنِ، وَالنِّكَاحِ، وَالْحُلُولِ: كَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَالْإِبْرَاءِ.وَغَيْرِ ذَلِكَ كَالْأَقَارِيرِ- مَا عَدَا الْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ، فَفِيهِ خِلَافٌ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا- وَالدَّعَاوَى وَالْإِسْلَامُ.وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِيمَا نَعْلَمُ، وَفِي اللِّعَانِ وَالْقَذْفِ خِلَافٌ.فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ الْإِشَارَةَ لَا تَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ فِيهِمَا، لِأَنَّ فِي الْإِشَارَةِ شُبْهَةً يُدْرَأُ بِهَا الْحَدُّ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ كَنُطْقِهِ فِيهِمَا.

وَلَا فَرْقَ فِي اعْتِبَارِ إِشَارَةِ الْأَخْرَسِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْكِتَابَةِ، أَوْ عَاجِزًا عَنْهَا، وَلَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخَرَسُ أَصَالَةً أَوْ طَارِئًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَنُقِلَ عَنِ الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّمَا تُعْتَبَرُ إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنِ الْكِتَابَةِ، لِأَنَّهَا أَضْبَطُ.وَلَمْ يُفَرِّقِ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ إِشَارَةِ الْأَخْرَسِ وَكِتَابَتِهِ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِقَبُولِ إِشَارَتِهِ الْعَجْزُ عَنِ الْكِتَابَةِ.

وَيَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ لِقَبُولِ إِشَارَتِهِ مَا يَلِي:

أ- أَنْ يَكُونَ قَدْ وُلِدَ أَخْرَسَ، أَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْخَرَسُ وَدَامَ حَتَّى الْمَوْتِ.وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْحَاكِمِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي هَذَا مِنَ الْحَرَجِ مَا فِيهِ، وَقَدَّرَ التُّمُرْتَاشِيُّ الِامْتِدَادَ لِسَنَةٍ.وَفِي التَّتَارَخَانِيَّةِ: أَنَّهُ إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الْخَرَسُ وَدَامَ حَتَّى صَارَتْ إِشَارَتُهُ مَفْهُومَةً اُعْتُبِرَتْ إِشَارَتُهُ كَعِبَارَتِهِ وَإِلاَّ لَمْ تُعْتَبَرْ.

ب- أَلاَّ يَقْدِرَ عَلَى الْكِتَابَةِ.جَاءَ فِي تَكْمِلَةِ حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: قَالَ الْكَمَالُ: قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ بِالْإِشَارَةِ، لِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ بِمَا هُوَ أَدَلُّ عَلَى الْمُرَادِ مِنَ الْإِشَارَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: بَلْ هَذَا الْقَوْلُ تَصْرِيحٌ بِمَا هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَفِي كَافِي الْحَاكِمِ الشَّهِيدِ مَا نَصُّهُ: فَإِنْ كَانَ الْأَخْرَسُ لَا يَكْتُبُ، وَكَانَ لَهُ إِشَارَةٌ تُعْرَفُ فِي طَلَاقِهِ، وَنِكَاحِهِ، وَشِرَائِهِ، وَبَيْعِهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ مِنْهُ أَوْ شُكَّ فِيهِ فَهُوَ بَاطِلٌ.ثُمَّ قَالَ: فَيُفِيدُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ لَا تَجُوزُ إِشَارَتُهُ

وَفِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ: أَنَّ الْمُعْتَمَدَ أَنَّ عَدَمَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكِتَابَةِ لَيْسَ شَرْطًا لِلْعَمَلِ بِالْإِشَارَةِ.

وَقَالَ السُّيُوطِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي إِقَامَةِ إِشَارَةِ الْأَخْرَسِ مَقَامَ نُطْقِهِ مَسَائِلُ لَا تَقُومُ فِيهَا إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ مَقَامَ النُّطْقِ، مِنْهَا:

(1) إِذَا خَاطَبَ بِالْإِشَارَةِ فِي الصَّلَاةِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ فِي الْأَصَحِّ.

(2) إِذَا نَذَرَ بِالْإِشَارَةِ لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ.

(3) إِذَا شَهِدَ بِالْإِشَارَةِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي الْأَصَحِّ، لِأَنَّ إِقَامَتَهَا مَقَامَ النُّطْقِ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي شَهَادَتِهِ لِإِمْكَانِ شَهَادَةِ النَّاطِقِ.

((4 إِذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا فَكَلَّمَهُ بِالْإِشَارَةِ لَا يَحْنَثُ.

(5) إِذَا حَلَفَ بِالْإِشَارَةِ لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ إِلاَّ فِي اللِّعَانِ.

إِقْرَارُ الْأَخْرَسِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ:

6- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ إِقْرَارِ الْأَخْرَسِ بِالزِّنَى وَغَيْرِهِ مِنَ الْحُدُودِ.فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُحَدُّ إِنْ أَقَرَّ بِالزِّنَى بِإِشَارَتِهِ، قَالُوا: لِأَنَّ مَنْ صَحَّ إِقْرَارُهُ بِغَيْرِ الزِّنَى صَحَّ إِقْرَارُهُ بِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُحَدُّ بِإِقْرَارِهِ بِالزِّنَى، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ تَحْتَمِلُ مَا فُهِمَ مِنْهَا وَغَيْرُهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (حُدُود، وَإِقْرَار).

إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ بِالْإِقْرَارِ بِمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ:

7- إِشَارَتُهُ فِي ذَلِكَ مَقْبُولَةٌ فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ فِي الْقِصَاصِ، لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ.

تَقْسِيمُ إِشَارَةِ الْأَخْرَسِ:

8- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَتْ إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ بِحَيْثُ يَفْهَمُهَا كُلُّ مَنْ وَقَفَ عَلَيْهَا فَهِيَ صَرِيحَةٌ.وَإِنْ كَانَ يَخْتَصُّ بِفَهْمِهَا ذَوُو الْفَطِنَةِ وَالذَّكَاءِ، فَهِيَ كِنَايَةٌ وَإِنِ انْضَمَّ إِلَيْهَا قَرَائِنُ.

وَتُعْرَفُ نِيَّةُ الْأَخْرَسِ فِيمَا إِذَا كَانَتْ إِشَارَتُهُ كِنَايَةً بِإِشَارَةٍ أُخْرَى أَوْ كِتَابَةٍ.أَمَّا إِذَا لَمْ يَفْهَمْ إِشَارَتَهُ أَحَدٌ فَهِيَ لَغْوٌ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا تَكُونُ إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ كِنَايَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُفْهِمَةً فَهِيَ صَرِيحَةٌ وَإِلاَّ فَلَغْوٌ.

وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى قِسْمَةِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ إِلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ، وَتَفْصِيلُ مَا يَخُصُّ الْإِشَارَةَ فِي الطَّلَاقِ يَأْتِي فِي بَابِهِ.

إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:

9- لِلْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ اتِّجَاهَانِ:

الْأَوَّلُ: يَجِبُ تَحْرِيكُ الْأَخْرَسِ لِسَانَهُ فِي تَكْبِيرِ الصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ الصَّحِيحَ يَلْزَمُهُ النُّطْقُ بِتَحْرِيكِ لِسَانِهِ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا لَزِمَهُ الْآخَرُ.وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلُ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ.

وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَخَرَجَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ التَّحْرِيكِ، تَحْرِيمُ تَحْرِيكِ الْأَخْرَسِ لِسَانَهُ بِالْقِرَاءَةِ وَهُوَ جُنُبٌ.

الشَّهَادَةُ بِالْإِشَارَةِ:

10- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ بِحَالٍ، وَإِنْ فَهِمَ إِشَارَتَهُ كُلُّ أَحَدٍ.لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الشَّهَادَةِ الْيَقِينُ، وَالْإِشَارَةُ لَا تَخْلُو عَنِ احْتِمَالٍ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا تُقْبَلُ إِذَا كَانَتْ مُفْهِمَةً.

مُعْتَقَلُ اللِّسَانِ:

11- مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ صَوَّبَهُ صَاحِبُ الْإِنْصَافِ أَنَّ مُعْتَقَلَ اللِّسَانِ- وَهُوَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ النَّاطِقِ وَالْأَخْرَسِ- إِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنِ النُّطْقِ فَهُوَ كَالْأَخْرَسِ، وَتَقُومُ إِشَارَتُهُ الْمُفْهِمَةُ مَقَامَ الْعِبَارَةِ، فَإِنْ أَوْصَى بِالْإِشَارَةِ، أَوْ قُرِئَتْ عَلَيْهِ الْوَصِيَّةُ، وَأَشَارَ أَنْ «نَعَمْ» صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُعْتَقَلَ اللِّسَانِ لَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ.

إِشَارَةُ النَّاطِقِ:

12- مَنْ كَانَ مُسْتَطِيعًا لِلنُّطْقِ فَفِي إِقَامَةِ إِشَارَتِهِ مَقَامَ النُّطْقِ اتَّجَهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا لَغْوٌ فِي الْجُمْلَةِ.وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ فِي مَسَائِلَ مَعْدُودَةٍ نَصَّ عَلَيْهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَقَامُوا فِيهَا الْإِشَارَةَ مَقَامَ النُّطْقِ.وَإِنَّمَا قَالُوا بِإِلْغَائِهَا، لِأَنَّهَا مَهْمَا قَوِيَتْ دَلَالَتُهَا فَإِنَّهَا لَا تُفِيدُ الْيَقِينَ الَّذِي تُفِيدُهُ الْعِبَارَةُ، وَمِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي اسْتَثْنَوْهَا:

أ- إِشَارَةُ الْمُفْتِي بِالْجَوَابِ.

ب- أَمَانُ الْكُفَّارِ، يَنْعَقِدُ بِالْإِشَارَةِ تَغْلِيبًا لِحَقْنِ الدَّمِ، فَلَوْ أَشَارَ الْمُسْلِمُ إِلَى الْكَافِرِ بِالْأَمَانِ، فَانْحَازَ إِلَى صَفِّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَحِلَّ قَتْلُهُ.

ج- إِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ فَرَدَّ بِالْإِشَارَةِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ.

د- الْإِشَارَةُ بِالْعَدَدِ فِي الطَّلَاقِ.

هـ- لَوْ أَشَارَ الْمُحْرِمُ إِلَى الصَّيْدِ فَصِيدَ، حَرُمَ عَلَيْهِ الْأَكْلُ مِنْهُ.وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ الْإِشَارَةُ بِالْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ لِتَشَوُّفِ الشَّرْعِ إِلَى إِثْبَاتِهِ، وَبِالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ.

الثَّانِي: أَنَّ إِشَارَةَ النَّاطِقِ مُعْتَبَرَةٌ كَنُطْقِهِ، مَا دَامَتْ مَفْهُومَةً بَيْنَ النَّاسِ وَمُتَعَارَفًا بَيْنَهُمْ عَلَى مَدْلُولِهَا.وَقَالُوا: إِنَّ التَّعَاقُدَ بِالْإِشَارَةِ أَوْلَى مِنَ التَّعَاقُدِ بِالْأَفْعَالِ (التَّعَاطِي)، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا كَلَامٌ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا} وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ خَاصَّةً، دُونَ تَعْيِينِ الْمَنْكُوحَةِ أَوِ النَّاكِحِ.

تَعَارُضُ عِبَارَةِ النَّصِّ مَعَ إِشَارَتِهِ:

13- سَبَقَ بَيَانُ الْمُرَادِ بِعِبَارَةِ النَّصِّ وَبِإِشَارَتِهِ (ر: ف 1)، فَإِذَا تَعَارَضَتْ عِبَارَةُ نَصٍّ وَإِشَارَةِ آخَرَ يُرَجَّحُ مَفْهُومُ الْعِبَارَةِ فِي الْجُمْلَةِ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

رَدُّ السَّلَامِ فِي الصَّلَاةِ:

14- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ رَدِّ السَّلَامِ فِي الصَّلَاةِ، فَرَخَّصَتْ طَائِفَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي الرَّدِّ بِالْقَوْلِ كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ.وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سُلِّمَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ رَدَّهُ حَتَّى يَسْمَعَ.وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَرُدُّ بَعْدَ الِانْصِرَافِ مِنَ الصَّلَاةِ.وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ رَدَّ السَّلَامِ بِالْقَوْلِ.فِي الصَّلَاةِ مُبْطِلٌ لَهَا.عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ التَّفْصِيلِ.

فَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الرَّدَّ بِالْإِشَارَةِ وَاجِبٌ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الرَّدُّ بِالْإِشَارَةِ.وَذَهَبَ الْأَحْنَافُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ رَدُّهُ بِالْإِشَارَةِ بِالْيَدِ، وَلَا تَفْسُدُ بِهِ الصَّلَاةُ، جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: رَدُّ السَّلَامِ بِيَدِهِ لَا يُفْسِدُهَا، خِلَافًا لِمَنْ عَزَا إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُفْسِدٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ نَقْلُهُ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُرَدُّ بِالْإِشَارَةِ.وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالرَّدِّ بَعْدَ الِانْصِرَافِ مِنَ الصَّلَاةِ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا وَقَالَ: إِنَّ فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا».

وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالرَّدِّ بِالْإِشَارَةِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- بَعَثَنِي لِحَاجَةٍ، ثُمَّ أَدْرَكْتُهُ وَهُوَ يَسِيرُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَأَشَارَ إِلَيَّ، فَلَمَّا فَرَغَ دَعَانِي فَقَالَ: إِنَّكَ سَلَّمْتَ عَلَيَّ آنِفًا وَأَنَا أُصَلِّي» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ إِلاَّ أَنِّي كُنْتُ أُصَلِّي».

وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّهُ قَالَ: «مَرَرْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يُصَلِّي، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ إِلَيَّ إِشَارَةً».

الْإِشَارَةُ فِي التَّشَهُّدِ:

15- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي فِي التَّشَهُّدِ الْإِشَارَةُ بِسَبَّابَتِهِ، وَتُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ «الْمُسَبِّحَةَ» وَهِيَ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ، وَيَرْفَعُهَا عِنْدَ التَّوْحِيدِ وَلَا يُحَرِّكُهَا لِحَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ «أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إِذَا دَعَا، وَلَا يُحَرِّكُهَا» وَقِيلَ يُحَرِّكُهَا، لِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ «أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم-: رَفَعَ أُصْبُعَهُ فَرَأَيْتُهُ يُحَرِّكُهَا» وَتَفْصِيلُ كَيْفِيَّةِ الْإِشَارَةِ مِنْ حَيْثُ عَقْدُ الْأَصَابِعِ أَوْ بَسْطُهَا، وَالتَّحْرِيكُ وَعَدَمُهُ يَأْتِي فِي (الصَّلَاةِ).

إِشَارَةُ الْمُحْرِمِ إِلَى الصَّيْدِ:

16- إِذَا أَشَارَ الْمُحْرِمُ إِلَى صَيْدٍ، أَوْ دَلَّ حَلَالًا عَلَيْهِ فَصَادَهُ حَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ أَكْلُهُ.وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، «لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ فِي قِصَّةِ اصْطِيَادِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم-: مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟ قَالُوا: لَا قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا».وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْهُ إِعَانَةٌ عَلَى قَتْلِهِ بِشَيْءٍ حَلَّ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُشِيرِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الصَّيْدِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ بِدَلِيلِ تَحْرِيمِ الْأَكْلِ مِنْهُ، فَتَكُونُ جِنَايَةً عَلَى الصَّيْدِ بِتَفْوِيتِ الْأَمْنِ عَلَى وَجْهٍ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَتْلُهُ، فَصَارَتْ كَالْقَتْلِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لَا جَزَاءَ عَلَى الْمُشِيرِ، لِأَنَّ النَّصَّ عَلَّقَ الْجَزَاءَ بِالْقَتْلِ.وَلَيْسَتِ الْإِشَارَةُ قَتْلًا.

الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ:

17- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ بِالْيَدِ أَوْ غَيْرِهَا عِنْدَ الطَّوَافِ، لِحَدِيثِ «ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما- قَالَ: مَا تَرَكْتُ اسْتِلَامَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ فِي شِدَّةٍ وَلَا رَخَاءٍ مُنْذُ رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- يَسْتَلِمُهُمَا».كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى اسْتِحْبَابِ الْإِشَارَةِ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الِاسْتِلَامِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما- قَالَ: «طَافَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ».

وَاخْتَلَفُوا فِي الْإِشَارَةِ إِلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ عِنْدَ تَعَذُّرِ الِاسْتِلَامِ.فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشِيرُ إِلَيْهِ إِنْ عَجَزَ عَنِ اسْتِلَامِهِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ قِيَاسًا عَلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ.

التَّسْلِيمُ بِالْإِشَارَةِ:

18- لَا تَحْصُلُ سُنَّةُ ابْتِدَاءِ السَّلَامِ بِالْإِشَارَةِ بِالْيَدِ أَوِ الرَّأْسِ لِلنَّاطِقِ، وَلَا يَسْقُطُ فَرْضُ الرَّدِّ عَنْهُ بِهَا.لِأَنَّ السَّلَامَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي جَعَلَ لَهَا الشَّارِعُ صِيَغًا مَخْصُوصَةً، لَا يَقُومُ مَقَامَهَا غَيْرُهَا، إِلاَّ عِنْدَ تَعَذُّرِ صِيغَتِهَا الشَّرْعِيَّةِ.وَتَكَادُ تَتَّفِقُ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْقَوْلِ: بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِسْمَاعِ، وَلَا يَكُونُ الْإِسْمَاعُ إِلاَّ بِقَوْلٍ.

وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «لَا تُسَلِّمُوا تَسْلِيمَ الْيَهُودِ، فَإِنَّ تَسْلِيمَهُمْ بِالْأَكُفِّ وَالرُّءُوسِ وَالْإِشَارَةِ».وَرَوَى عَلْقَمَةُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: «كَانُوا يَكْرَهُونَ التَّسْلِيمَ بِالْيَدِ».يَعْنِي الصَّحَابَةَ ((.

أَمَّا الْأَصَمُّ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ، وَغَيْرُ الْمَقْدُورِ عَلَى إِسْمَاعِهِ كَالْبَعِيدِ، فَالْإِشَارَةُ مَشْرُوعَةٌ فِي حَقِّهِ، وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِذَا سَلَّمَ عَلَى أَصَمَّ لَا يَسْمَعُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالسَّلَامِ، لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَيُشِيرُ بِالْيَدِ.وَيَسْقُطُ فَرْضُ الرَّدِّ مِنَ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ، لِأَنَّهُ مَقْدُورُهُ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ بِالْإِشَارَةِ وَالتَّلَفُّظِ مَعًا.وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (سَلَام).

الْإِشَارَةُ فِي أَصْلِ الْيَمِينِ:

19- لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُ النَّاطِقِ بِالْإِشَارَةِ، لِأَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إِلاَّ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ.أَمَّا الْأَخْرَسُ فَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ يَمِينَهُ لَا تَنْعَقِدُ.وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ لَهُ إِشَارَةٌ مُفْهِمَةٌ حَلَفَ، وَتَصِحُّ يَمِينُهُ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُفْهِمَةٍ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ يَمِينُهُ، وَقَفَ حَتَّى تُفْهَمَ إِشَارَتُهُ.وَنَسَبَ الزَّرْكَشِيُّ هَذَا لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ.وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (أَيْمَانٌ).

إِشَارَةُ الْقَاضِي إِلَى أَحَدِ الْخُصُومِ:

20- لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَعْمَلَ أَعْمَالًا تُسَبِّبُ التُّهْمَةَ وَسُوءَ الظَّنِّ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، مِمَّا يُوهِمُ أَنَّهُ يُفَضِّلُهُ عَلَى خَصْمِهِ، كَالْإِشَارَةِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ بِالْيَدِ، أَوْ بِالْعَيْنِ أَوْ بِالرَّأْسِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَبِّبُ انْكِسَارًا لِقَلْبِ الْخَصْمِ الْآخَرِ، وَقَدْ يَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِ الدَّعْوَى وَالْيَأْسِ مِنَ الْعَدَالَةِ، مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ضَيَاعُ حَقِّهِ.

وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

وَقَدْ رَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ قُضَاةِ الْبَصْرَةِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلْيَعْدِلْ بَيْنَهُمْ فِي لَحْظِهِ وَإِشَارَتِهِ وَمَقْعَدِهِ، وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَا لَا يَرْفَعُ عَلَى الْآخَرِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمْ فِي النَّظَرِ وَالْإِشَارَةِ وَالْمَجْلِسِ».

إِشَارَةُ الْمُحْتَضَرِ إِلَى الْجَانِي عَلَيْهِ:

21- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ الْمُحْتَضَرِ: قَتَلَنِي فُلَانٌ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لَوْثًا، لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ دَعْوَاهُ عَلَى الْغَيْرِ بِالْمَالِ، فَلَا يُقْبَلُ ادِّعَاؤُهُ عَلَيْهِ بِالدَّمِ، وَلِأَنَّهُ مُدَّعٍ فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ.لِحَدِيثِ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ» فَإِذَا لَمْ تُعْتَبَرْ أَقْوَالُهُ فَلَا تُقْبَلُ إِشَارَتُهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى.وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَالَ الْمُحْتَضَرُ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ: قَتَلَنِي فُلَانٌ عَمْدًا، ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَوْثًا، فَيَثْبُتُ الْقِصَاصُ بَعْدَ حَلِفِ أَوْلِيَاءِ الدَّمِ يَمِينَ الْقَسَامَةِ.

أَمَّا إِذَا قَالَ: قَتَلَنِي خَطَأً، فَفِي ذَلِكَ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ إِغْنَاءَ وَرَثَتِهِ.

وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ يُقْبَلُ، وَتَكُونُ مَعَهُ الْقَسَامَةُ، وَلَا يُتَّهَمُ، لِأَنَّهُ فِي حَالٍ يُصَدَّقُ فِيهِ الْكَاذِبُ، وَيَتُوبُ فِيهِ الْفَاجِرُ، فَمَنْ تَحَقَّقَ مَصِيرُهُ إِلَى الْآخِرَةِ وَأَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ فَلَا يُتَّهَمُ فِي إِرَاقَةِ دَمِ مُسْلِمٍ ظُلْمًا، وَغَلَبَةُ الظَّنِّ فِي هَذَا يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ غَلَبَةِ الظَّنِّ فِي صِدْقِ الشَّاهِدِ، وَالْغَالِبُ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ عِنْدَ الْمَوْتِ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَالنَّدَمُ عَلَى التَّفْرِيطِ.وَتَزَوُّدُهُ مِنْ دُنْيَاهُ قَتْلُ نَفْسٍ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَغَيْرُ الْمُعْتَادِ.

إِشَارَةُ الْمُحْتَضَرِ إِلَى تَصَرُّفَاتٍ مَالِيَّةٍ:

22- إِذَا كَانَ الْمُحْتَضَرُ قَادِرًا عَلَى النُّطْقِ فَلَا تُقْبَلُ إِشَارَتُهُ، أَمَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى النُّطْقِ فَإِشَارَتُهُ تَقُومُ مَقَامَ عِبَارَتِهِ.وَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَقَلَ اللِّسَانِ لَمْ تُعْتَبَرُ إِشَارَتُهُ إِلاَّ فِي أَرْبَعٍ: الْكُفْرِ، وَالْإِسْلَامِ، وَالنَّسَبِ، وَالْإِفْتَاءِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْإِشَارَةَ الْمُفْهِمَةَ كَالنُّطْقِ مُطْلَقًا.وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ إِشَارَةَ الْمُحْتَضَرِ إِلَى تَصَرُّفٍ مَالِيٍّ كَعِبَارَتِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَادِرًا عَلَى النُّطْقِ أَمْ لَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


29-موسوعة الفقه الكويتية (أضحية 2)

أُضْحِيَّةٌ -2

27- هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ ذُكِرَتْ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ.وَهُنَاكَ أَمْثِلَةٌ أُخْرَى لِلْأَنْعَامِ الَّتِي لَا تُجْزِئُ التَّضْحِيَةُ بِهَا ذُكِرَتْ فِي كُتُبِ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى.

(مِنْهَا) مَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ حَيْثُ قَالُوا: لَا تُجْزِئُ (الْبَكْمَاءُ) وَهِيَ فَاقِدَةُ الصَّوْتِ وَلَا (الْبَخْرَاءُ) وَهِيَ مُنْتِنَةُ رَائِحَةِ الْفَمِ، وَلَمْ يُقَيِّدُوا ذَلِكَ بِكَوْنِهَا جَلاَّلَةً وَلَا بَيِّنَةَ الْبَشَمِ، وَهُوَ التُّخَمَةُ.وَلَا (الصَّمَّاءُ) وَهِيَ الَّتِي لَا تَسْمَعُ.

(وَمِنْهَا) مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ أَنَّ (الْهَيْمَاءَ) لَا تُجْزِئُ، وَهِيَ الْمُصَابَةُ بِالْهُيَامِ وَهُوَ عَطَشٌ شَدِيدٌ لَا تَرْتَوِي مَعَهُ بِالْمَاءِ، فَتَهِيمُ فِي الْأَرْضِ وَلَا تَرْعَى.

وَكَذَا (الْحَامِلُ) عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ الْحَمْلَ يُفْسِدُ الْجَوْفَ وَيَصِيرُ اللَّحْمُ رَدِيئًا.

(وَمِنْهَا) مَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ مِنْ عَدَمِ إِجْزَاءِ (الْعَصْمَاءِ) وَهِيَ الَّتِي انْكَسَرَ غِلَافُ قَرْنِهَا (وَالْخَصِيُّ الْمَجْبُوبُ)، وَهُوَ مَا ذَهَبَ أُنْثَيَاهُ وَذَكَرُهُ مَعًا، بِخِلَافِ ذَاهِبِ أَحَدِهِمَا.

وَالْأَصْلُ الَّذِي دَلَّ عَلَى اشْتِرَاطِ السَّلَامَةِ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ كُلِّهَا مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُجْزِئُ مِنَ الضَّحَايَا أَرْبَعٌ: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي».وَمَا صَحَّ عَنْهُ- عليه الصلاة والسلام- أَنَّهُ قَالَ: «اسْتَشْرِفُوا الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ» أَيْ تَأَمَّلُوا سَلَامَتَهَا عَنِ الْآفَاتِ، وَمَا صَحَّ عَنْهُ- عليه الصلاة والسلام- «أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُضَحَّى بِعَضْبَاءِ الْأُذُنِ».

وَأَلْحَقَ الْفُقَهَاءُ بِمَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كُلَّ مَا فِيهِ عَيْبٌ فَاحِشٌ.

28- أَمَّا الْأَنْعَامُ الَّتِي تُجْزِئُ التَّضْحِيَةُ بِهَا لِأَنَّ عَيْبَهَا لَيْسَ بِفَاحِشٍ فَهِيَ كَالْآتِي:

(1) الْجَمَّاءُ: وَتُسَمَّى الْجَلْحَاءُ، وَهِيَ الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا خِلْقَةً، وَمِثْلُهَا مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ إِنْ لَمْ يَظْهَرْ عَظْمُ دِمَاغِهَا، لِمَا صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ مَكْسُورَةِ الْقَرْنِ: لَا بَأْسَ، أُمِرْنَا أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ.

وَقَدِ اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى إِجْزَاءِ الْجَمَّاءِ، وَاخْتَلَفَتْ فِي مَكْسُورَةِ الْقَرْنِ، فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تُجْزِئُ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْضِعُ الْكَسْرِ دَامِيًا، وَفَسَّرُوا الدَّامِيَ بِمَا لَمْ يَحْصُلِ الشِّفَاءُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ دَمٌ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تُجْزِئُ وَإِنْ أَدْمَى مَوْضِعُ الْكَسْرِ، مَا لَمْ يُؤَثِّرْ أَلَمُ الِانْكِسَارِ فِي اللَّحْمِ، فَيَكُونُ مَرَضًا مَانِعًا مِنَ الْإِجْزَاءِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا تُجْزِئُ إِنْ كَانَ الذَّاهِبُ مِنَ الْقَرْنِ أَكْثَرُ مِنَ النِّصْفِ، وَتُسَمَّى عَضْبَاءَ الْقَرْنِ.

(2) الْحَوْلَاءُ، وَهِيَ الَّتِي فِي عَيْنِهَا حَوَلٌ لَمْ يَمْنَعِ الْبَصَرَ.

(3) الصَّمْعَاءُ، وَهِيَ الصَّغِيرَةُ إِحْدَى الْأُذُنَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا.

وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: لَا يُجْزِئُ الصَّمْعَاءُ، وَفَسَّرُوهَا بِالصَّغِيرَةِ الْأُذُنَيْنِ جِدًّا، كَأَنَّهَا خُلِقَتْ بِدُونِهِمَا.

(4) الشَّرْقَاءُ وَهِيَ مَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ، وَإِنْ زَادَ الشَّقُّ عَلَى الثُّلُثِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا تُجْزِئُ إِلاَّ إِنْ كَانَ الشَّقُّ ثُلُثًا فَأَقَلَّ.

(5) الْخَرْقَاءُ وَهِيَ مَثْقُوبَةُ الْأُذُنِ، وَيُشْتَرَطُ فِي إِجْزَائِهَا أَلاَّ يَذْهَبَ بِسَبَبِ الْخَرْقِ مِقْدَارٌ كَثِيرٌ.

(6) الْمُدَابَرَةُ وَهِيَ الَّتِي قُطِعَ مِنْ مُؤَخَّرِ أُذُنِهَا شَيْءٌ وَلَمْ يُفَصَّلْ، بَلْ تُرِكَ مُعَلَّقًا، فَإِنْ فُصِّلَ فَهِيَ مَقْطُوعَةُ بَعْضِ الْأُذُنِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ حُكْمِهَا.

(7) الْهَتْمَاءُ وَهِيَ الَّتِي لَا أَسْنَانَ لَهَا، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي إِجْزَائِهَا أَلاَّ يَمْنَعَهَا الْهُتْمُ عَنِ الرَّعْيِ وَالِاعْتِلَافِ، فَإِنْ مَنَعَهَا عَنْهُمَا لَمْ تُجْزِئْ.وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا تُجْزِئُ مَكْسُورُ سِنَّيْنِ فَأَكْثَرُ أَوْ مَقْلُوعَتُهُمَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِإِثْغَارٍ أَوْ كِبَرٍ، أَمَّا لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَتُجْزِئُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تُجْزِئُ ذَاهِبَةُ بَعْضِ الْأَسْنَانِ إِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ نَقْصًا فِي الِاعْتِلَافِ، وَلَا ذَاهِبَةُ جَمِيعِهَا وَلَا مَكْسُورَةُ جَمِيعِهَا، وَتُجْزِئُ الْمَخْلُوقَةُ بِلَا أَسْنَانٍ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا تُجْزِئُ مَا ذَهَبَ ثَنَايَاهَا مِنْ أَصْلِهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَقِيَ مِنَ الثَّنَايَا بَقِيَّةٌ.

(8) الثَّوْلَاءُ وَهِيَ الْمَجْنُونَةُ، وَيُشْتَرَطُ فِي إِجْزَائِهَا أَلاَّ يَمْنَعَهَا الثَّوْلُ عَنِ الِاعْتِلَافِ، فَإِنْ مَنَعَهَا مِنْهُ لَمْ تُجْزِئْ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى هَلَاكِهَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: لَا تُجْزِئُ الثَّوْلَاءُ، وَفَسَّرَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا الدَّائِمَةُ الْجُنُونُ الَّتِي فَقَدَتِ التَّمْيِيزَ بِحَيْثُ لَا تَهْتَدِي لِمَا يَنْفَعُهَا وَلَا تُجَانِبُ مَا يَضُرُّهَا، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ جُنُونُهَا غَيْرَ دَائِمٍ لَمْ يَضُرَّ.

وَفَسَّرَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا الَّتِي تَسْتَدِيرُ فِي الْمَرْعَى، وَلَا تَرَى إِلاَّ قَلِيلًا، فَتَهْزَلُ.

(9) الْجَرْبَاءُ السَّمِينَةُ، بِخِلَافِ الْمَهْزُولَةِ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا تُجْزِئُ الْجَرْبَاءُ مُطْلَقًا.

(10) الْمَكْوِيَّةُ وَهِيَ الَّتِي كُوِيَتْ أُذُنُهَا أَوْ غَيْرُهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ.

(11) الْمَوْسُومَةُ وَهِيَ: الَّتِي فِي أُذُنِهَا سِمَةٌ.

(12) الْعَاجِزَةُ عَنِ الْوِلَادَةِ لِكِبَرِ سِنِّهَا.

(13) الْخَصِيُّ وَإِنَّمَا أَجْزَأَ، لِأَنَّ مَا ذَهَبَ بِخِصَائِهِ يُعَوَّضُ بِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ لَحْمِهِ وَشَحْمِهِ، وَقَدْ صَحَّ «وَأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ» أَيْ مَرْضُوضَيِ الْخُصْيَتَيْنِ، وَيُلْحَقُ بِالْمَرَضِ الْخِصَاءُ، لِأَنَّ أَثَرَهُمَا وَاحِدٌ.

وَقَدِ اتَّفَقَتْ عَلَى إِجْزَائِهِ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ.

وَحَكَى صَاحِبُ «الْمُغْنِي» الْإِجْزَاءَ عَنِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.

وَكَالْخَصِيِّ الْمَوْجُوءُ وَهُوَ الْمَرْضُوضُ الْخُصْيَةُ.

وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ.

(14) الْمَجْبُوبُ وَهُوَ مَا قُطِعَ ذَكَرُهُ وَسَبَقَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمَجْبُوبَ الْخَصِيُّ- وَهُوَ: مَا ذَهَبَ أُنْثَيَاهُ وَذَكَرُهُ مَعًا- لَا يُجْزِئُ، بِخِلَافِ ذَاهِبِ أَحَدِهِمَا فَقَطْ (ف: 26).

(15) الْمَجْزُوزَةُ وَهِيَ الَّتِي جُزَّ صُوفُهَا.

(16) السَّاعِلَةُ وَهِيَ الَّتِي تَسْعُلُ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- وَيَجِبُ تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِمَا لَمْ يَصْحَبْهُ مَرَضٌ بَيِّنٌ.

29- هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَجَاءَ فِي كُتُبِ غَيْرِهِمْ أَمْثِلَةٌ أُخْرَى لِمَا يُجْزِئُ.

(وَمِنْهَا) مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ أَنَّ الْمُقْعَدَةَ- وَهِيَ الْعَاجِزَةُ عَنِ الْقِيَامِ لِكَثْرَةِ الشَّحْمِ عَلَيْهَا- تُجْزِئُ.

(مِنْهَا) مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ أَنَّ الْعَشْوَاءَ تُجْزِئُ، وَهِيَ الَّتِي تُبْصِرُ بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ، وَكَذَا الْعَمْشَاءُ وَضَعِيفَةُ الْبَصَرِ.

وَكَذَا الَّتِي قُطِعَ مِنْهَا قِطْعَةٌ صَغِيرَةٌ مِنْ عُضْوٍ كَبِيرٍ، كَاَلَّتِي أَخَذَ الذِّئْبُ مِقْدَارًا قَلِيلًا مِنْ فَخِذِهَا، بِخِلَافِ الْمِقْدَارِ الْبَيِّنِ الَّذِي يُعَدُّ كَثِيرًا بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ الْفَخِذِ.

طُرُوءُ الْعَيْبِ الْمُخِلِّ بَعْدَ تَعْيِينِ الْأُضْحِيَّةِ:

30- لَوِ اشْتَرَى رَجُلٌ شَاةً بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ فَعَجَفَتْ عِنْدَهُ عَجَفًا بَيِّنًا لَمْ تُجْزِئْهُ، إِنْ كَانَ عِنْدَ الشِّرَاءِ مُوسِرًا مُقِيمًا، وَكَانَ شِرَاؤُهُ إِيَّاهَا فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ، لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ شِرَاءَهُ لِلْأُضْحِيَّةِ لَا يُوجِبُهَا، لِأَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ أُضْحِيَّةٌ فِي ذِمَّتِهِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا أَقَامَ مَا اشْتَرَاهُ مَقَامَ مَا فِي الذِّمَّةِ، فَإِذَا نَقَصَ لَمْ يَصْلُحْ لِهَذِهِ الْإِقَامَةِ فَيَبْقَى مَا فِي ذِمَّتِهِ بِحَالِهِ.

فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الشِّرَاءِ فَقِيرًا، أَوْ غَنِيًّا مُسَافِرًا، أَوْ غَنِيًّا مُقِيمًا، وَاشْتَرَاهَا قَبْلَ وَقْتِ النَّحْرِ، أَجْزَأَتْهُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا، لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ فِي ذِمَّتِهِ أُضْحِيَّةٌ وَاجِبَةٌ وَقْتَ الشِّرَاءِ، فَكَانَ الشِّرَاءُ بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ إِيجَابًا لَهَا بِمَنْزِلَةِ نَذْرِ الْأُضْحِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ، فَكَانَ نُقْصَانُهَا كَهَلَاكِهَا يَسْقُطُ بِهِ إِيجَابُهَا.

وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْفَقِيرَ أَوِ الْغَنِيَّ لَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ أُضْحِيَّةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، ثُمَّ اشْتَرَى شَاةً بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ، فَتَعَيَّبَتْ، لَمْ تُجْزِئْ، لِأَنَّ الشِّرَاءَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَ إِيجَابًا، وَإِنَّمَا هُوَ إِقَامَةٌ لِمَا يَشْتَرِيهِ مَقَامَ الْوَاجِبِ.وَمِنْ شَرْطِ الْإِقَامَةِ السَّلَامَةُ، فَإِذَا لَمْ تُجْزِئْ إِقَامَتُهَا مَقَامَ الْوَاجِبِ بَقِيَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا كَانَ.

وَكَالشَّاةِ الَّتِي عَجَفَتْ بَعْدَ الشِّرَاءِ، كُلُّ النَّعَمِ الَّتِي يَحْدُثُ لَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ عَيْبٌ مُخِلٌّ، أَوْ تَمُوتُ، أَوْ تُسْرَقُ، فَفِيهَا التَّفْصِيلُ السَّابِقُ.

31- وَلَوْ قَدَّمَ الْمُضَحِّي أُضْحِيَّةً لِيَذْبَحَهَا، فَاضْطَرَبَتْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَذْبَحُهَا فِيهِ، فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهَا، أَوِ انْقَلَبَتْ فَأَصَابَتْهَا الشَّفْرَةُ فِي عَيْنِهَا فَاعْوَرَّتْ أَجْزَأَتْهُ، لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، لِأَنَّ الشَّاةَ تَضْطَرِبُ عَادَةً، فَتَلْحَقُهَا الْعُيُوبُ مِنَ اضْطِرَابِهَا.

هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ الْمُعَيَّنَةَ بِالنَّذْرِ أَوْ بِغَيْرِهِ إِذَا حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ مُخِلٌّ لَمْ تُجْزِئْ، وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ التَّضْحِيَةُ بِأُخْرَى إِنْ كَانَتْ مَنْذُورَةً، وَيُسَنُّ لَهُ التَّضْحِيَةُ بِأُخْرَى إِنْ لَمْ تَكُنْ مَنْذُورَةً.

هَذَا إِنْ تَعَيَّبَتْ قَبْلَ الْإِضْجَاعِ لِلذَّبْحِ، أَمَّا لَوْ تَعَيَّبَتْ بَعْدَ الْإِضْجَاعِ لَهُ فَيُجْزِئُ ذَبْحُهَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ أَوْجَبَ أُضْحِيَّةً مُعَيَّنَةً بِالنَّذْرِ أَوِ الْجُعْلِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا- عَيْبٌ يَمْنَعُ إِجْزَاءَهَا قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ الَّذِي تُجْزِئُ فِيهِ التَّضْحِيَةُ، أَوْ بَعْدَ دُخُولِهِ وَقَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِنَ الذَّبْحِ، وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ وَلَا اعْتِدَاءٌ- لَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلُهَا، لِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهَا مِنْ حِينِ الْإِيجَابِ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَذْبَحَهَا فِي الْوَقْتِ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا كَالْأُضْحِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أُضْحِيَّةً.

وَإِذَا طَرَأَ الْعَيْبُ بِاعْتِدَائِهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ أَوْ تَأَخُّرِهِ عَنِ الذَّبْحِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ بِلَا عُذْرٍ لَزِمَهُ ذَبْحُهَا فِي الْوَقْتِ وَالتَّصَدُّقِ بِهَا، وَلَزِمَهُ أَيْضًا أَنْ يُضَحِّيَ بِأُخْرَى لِتَبْرَأَ ذِمَّتَهُ.

وَلَوِ اشْتَرَى شَاةً وَأَوْجَبَهَا بِالنَّذْرِ أَوِ الْجُعْلِ، ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا قَدِيمًا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ، لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهَا بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُبْقِيَهَا، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَرْشُ النَّقْصِ مِنَ الْبَائِعِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ، لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهَا فِي الْوَقْتِ، وَيَتَصَدَّقَ بِهَا كُلِّهَا لِشَبَهِهَا Bبِالْأُضْحِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أُضْحِيَّةً، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْوُجُوبُ بِهَذَا الذَّبْحِ، وَيُسَنُّ لَهُ أَنْ يُرْدِفَهَا بِسَلِيمَةٍ، لِتَحْصُلَ لَهُ سُنَّةُ التَّضْحِيَةِ.

وَلَوْ زَالَ عَيْبُهَا قَبْلَ الذَّبْحِ لَمْ تَصِرْ أُضْحِيَّةً إِذِ السَّلَامَةُ لَمْ تُوجَدْ إِلاَّ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهَا.

وَمَنْ عَيَّنَ شَاةً لِيُضَحِّيَ بِهَا مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ بِنَذْرٍ وَلَا جُعْلٍ، فَطَرَأَ عَلَيْهَا عَيْبٌ مُخِلٌّ بِالْإِجْزَاءِ لَمْ تُجْزِئِ التَّضْحِيَةُ بِهَا، وَلَا فَرْقَ فِي طُرُوءِ الْعَيْبِ بَيْنَ كَوْنِهِ عِنْدَ الذَّبْحِ أَوْ قَبْلَهُ، فَلَوْ أَضْجَعَ شَاةً لِيُضَحِّيَ بِهَا وَهِيَ، سَلِيمَةٌ فَاضْطَرَبَتْ، وَانْكَسَرَتْ رِجْلُهَا، أَوْ عَرَجَتْ تَحْتَ السِّكِّينِ لَمْ تُجْزِئْهُ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْوَاجِبَةَ لَا يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِهَا بَلْ بِبَعْضِهَا، كَمَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِإِجْزَاءِ التَّضْحِيَةِ إِذَا عَيَّنَ شَاةً صَحِيحَةً لِلتَّضْحِيَةِ، ثُمَّ حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ.

32- (الشَّرْطُ الرَّابِعُ): أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لِلذَّابِحِ، أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فِيهَا صَرَاحَةً أَوْ دَلَالَةً، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ تُجْزِئِ التَّضْحِيَةُ بِهَا عَنِ الذَّابِحِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَالِكًا لَهَا وَلَا نَائِبًا عَنْ مَالِكِهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي ذَبْحِهَا عَنْهُ، وَالْأَصْلُ فِيمَا يَعْمَلُهُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَقَعَ لِلْعَامِلِ، وَلَا يَقَعَ لِغَيْرِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ.

فَلَوْ غَصَبَ إِنْسَانٌ شَاةً، فَضَحَّى بِهَا عَنْ مَالِكِهَا- مِنْ غَيْرِ إِجَازَتِهِ- لَمْ تَقَعْ أُضْحِيَّةً عَنْهُ، لِعَدَمِ الْإِذْنِ مِنْهُ، وَلَوْ ضَحَّى بِهَا عَنْ نَفْسِهِ لَمْ تُجْزِئْ عَنْهُ، لِعَدَمِ الْمِلْكِ، ثُمَّ إِنْ أَخَذَهَا صَاحِبُهَا مَذْبُوحَةً، وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ، فَكَذَلِكَ لَا تُجْزِئُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا صَاحِبُهَا، وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا حَيَّةً، أَجْزَأَتْ عَنِ الذَّابِحِ، لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالضَّمَانِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ، فَصَارَ ذَابِحًا لِشَاةٍ هِيَ مِلْكُهُ، لَكِنَّهُ آثِمٌ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ فِعْلِهِ وَقَعَ مَحْظُورًا، فَتَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ.

وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ وَقَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ.

وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَحَدُ رِوَايَتَيِ الْحَنَابِلَةِ، لَا تُجْزِئُ عَنْهُ، لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ عِنْدَهُمْ.ر: (غَصْبٌ).

33- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى إِنْسَانٌ شَاةً فَأَضْجَعَهَا، وَشَدَّ قَوَائِمَهَا لِلتَّضْحِيَةِ بِهَا، فَجَاءَ إِنْسَانٌ آخَرُ فَذَبَحَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ صَحَّتْ أُضْحِيَّةً لِمَالِكِهَا، لِوُجُودِ الْإِذْنِ مِنْهُ دَلَالَةً.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا عَيَّنَ الْأُضْحِيَّةَ فَذَبَحَهَا غَيْرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَجْزَأَتْ عَنْ صَاحِبِهَا، وَلَا ضَمَانَ عَلَى ذَابِحِهَا.

وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِإِجْزَائِهَا وُجُودَ الْإِذْنِ صَرَاحَةً أَوِ اعْتِيَادِهِ ذَلِكَ.

وَلَوِ اشْتَرَى إِنْسَانٌ شَاةً لِيُضَحِّيَ بِهَا، فَلَمَّا ذَبَحَهَا تَبَيَّنَ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ- أَيْ أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكَ إِنْسَانٍ غَيْرِ الْبَائِعِ- فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمَغْصُوبَةِ، وَشِرَاؤُهُ إِيَّاهَا بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

34- وَلَوْ أَوْدَعَ رَجُلٌ رَجُلًا شَاةً، فَضَحَّى بِهَا عَنْ نَفْسِهِ، فَاخْتَارَ صَاحِبُهَا الْقِيمَةَ فَأَخَذَهَا، فَإِنَّ الشَّاةَ لَا تَكُونُ أُضْحِيَّةً عَنِ الذَّابِحِ، بِخِلَافِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْمُسْتَحَقَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْوَدِيعَةِ هُوَ الذَّبْحُ، فَلَا يُعْتَبَرُ الذَّابِحُ مَالِكًا إِلاَّ بَعْدَ الذَّبْحِ، فَحِينَ الذَّبْحِ لَمْ يَذْبَحْ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ أُضْحِيَّةً، وَسَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْغَصْبِ وَالِاسْتِحْقَاقِ هُوَ الْأَخْذُ السَّابِقُ عَلَى الذَّبْحِ، وَالضَّمَانُ يُوجِبُ الْمِلْكِيَّةَ كَمَا سَبَقَ، فَيَكُونُ الذَّابِحُ فِي حَالَتَيِ الْغَصْبِ وَالِاسْتِحْقَاقِ ذَابِحًا مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ فَيُجْزِئُ عَنْهُ.

وَمَا قِيلَ فِي الْوَدِيعَةِ يُقَالُ فِي الْعَارِيَّةِ وَالْمُسْتَأْجَرَةِ.

النَّوْعُ الثَّانِي: شَرَائِطُ تَرْجِعُ إِلَى الْمُضَحِّي

يُشْتَرَطُ فِي الْمُضَحِّي لِصِحَّةِ التَّضْحِيَةِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ:

35- (الشَّرْطُ الْأَوَّلُ): نِيَّةُ التَّضْحِيَةِ: لِأَنَّ الذَّبْحَ قَدْ يَكُونُ لِلَّحْمِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْقُرْبَةِ، وَالْفِعْلُ لَا يَقَعُ قُرْبَةً إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».

وَالْمُرَادُ بِالْأَعْمَالِ الْقُرُبَاتُ، ثُمَّ إِنَّ الْقُرُبَاتِ مِنَ الذَّبَائِحِ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ، كَهَدْيِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَالْإِحْصَارِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَكَفَّارَةِ الْحَلِفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَلَا تَتَعَيَّنُ الْأُضْحِيَّةُ مِنْ بَيْنِ هَذِهِ الْقُرُبَاتِ إِلاَّ بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ، وَتَكْفِي النِّيَّةُ بِالْقَلْبِ دُونَ التَّلَفُّظِ بِهَا كَمَا فِي الصَّلَاةِ، لِأَنَّ النِّيَّةَ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَالذِّكْرُ بِاللِّسَانِ دَلِيلٌ عَلَى مَا فِيهِ.

وَقَدِ اتَّفَقَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِاسْتِثْنَاءِ الْمُعَيَّنَةِ بِالنَّذْرِ، كَأَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ- مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ بِقَلْبِهِ- لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَذِهِ الشَّاةِ، فَإِنَّ نَذْرَهُ يَنْعَقِدُ بِاللَّفْظِ وَلَوْ بِلَا نِيَّةٍ، وَلَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ عِنْدَ ذَبْحِهَا، بِخِلَافِ الْمَجْعُولَةِ، بِأَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ: جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ أُضْحِيَّةً، فَإِنَّ إِيجَابَهُ يَنْعَقِدُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ عِنْدَ النُّطْقِ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ عِنْدَ ذَبْحِهَا إِنْ لَمْ يَنْوِ عِنْدَ النُّطْقِ.

وَقَالُوا: لَوْ وَكَّلَ فِي الذَّبْحِ كَفَتْ نِيَّتُهُ وَلَا حَاجَةَ لِنِيَّةِ الْوَكِيلِ، بَلْ لَا حَاجَةَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهَا أُضْحِيَّةٌ.

وَقَالُوا أَيْضًا: يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْأُضْحِيَّةِ أَنْ يُفَوِّضَ فِي نِيَّةِ التَّضْحِيَةِ مُسْلِمًا مُمَيِّزًا يَنْوِي عِنْدَ الذَّبْحِ أَوِ التَّعْيِينِ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ وَغَيْرِ الْمُمَيِّزِ بِجُنُونٍ أَوْ نَحْوِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْأُضْحِيَّةَ الْمُعَيَّنَةَ لَا تَجِبُ فِيهَا النِّيَّةُ عِنْدَ الذَّبْحِ، لَكِنْ لَوْ ذَبَحَهَا غَيْرُ مَالِكِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَنَوَاهَا عَنْ نَفْسِهِ عَالِمًا بِأَنَّهَا مِلْكُ غَيْرِهِ لَمْ تُجْزِئْ عَنْهُمَا، أَمَّا مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ فَتُجْزِئُ عَنِ الْمَالِكِ وَلَا أَثَرَ لِنِيَّةِ الْفُضُولِيِّ.

36- (الشَّرْطُ الثَّانِي): أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلذَّبْحِ أَوْ مُقَارِنَةً لِلتَّعْيِينِ السَّابِقِ عَلَى الذَّبْحِ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا التَّعْيِينُ بِشِرَاءِ الشَّاةِ أَمْ بِإِفْرَازِهَا مِمَّا يَمْلِكُهُ، Bوَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ لِلتَّطَوُّعِ أَمْ لِنَذْرٍ فِي الذِّمَّةِ، وَمِثْلُهُ الْجُعْلُ كَأَنْ يَقُولَ: جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ أُضْحِيَّةً، فَالنِّيَّةُ فِي هَذَا كُلِّهِ تَكْفِي عَنِ النِّيَّةِ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَأَمَّا الْمَنْذُورَةُ الْمُعَيَّنَةُ فَلَا تَحْتَاجُ لِنِيَّةٍ كَمَا سَبَقَ.هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَتَكْفِي عِنْدَهُمُ النِّيَّةُ السَّابِقَةُ عِنْدَ الشِّرَاءِ أَوِ التَّعْيِينِ.

37- (الشَّرْطُ الثَّالِثُ): أَلاَّ يُشَارِكَ الْمُضَحِّي فِيمَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ مَنْ لَا يُرِيدُ الْقُرْبَةَ رَأْسًا، فَإِنْ شَارَكَ لَمْ يَصِحَّ عَنِ الْأُضْحِيَّةِ.

وَإِيضَاحُ هَذَا، أَنَّ الْبَدَنَةَ وَالْبَقَرَةَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا مَرَّ.

فَإِذَا اشْتَرَكَ فِيهَا سَبْعَةٌ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُرِيدًا لِلْقُرْبَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ نَوْعُهَا.فَلَوِ اشْتَرَى سَبْعَةٌ أَوْ أَقَلُّ بَدَنَةً، أَوِ اشْتَرَاهَا وَاحِدٌ بِنِيَّةِ التَّشْرِيكِ فِيهَا، ثُمَّ شَرِكَ فِيهَا سِتَّةً أَوْ أَقَلَّ، وَأَرَادَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ التَّضْحِيَةَ، وَآخَرُ هَدْيَ الْمُتْعَةِ، وَثَالِثٌ هَدْيَ الْقِرَانِ، وَرَابِعٌ كَفَّارَةَ الْحَلِفِ، وَخَامِسٌ كَفَّارَةَ الدَّمِ عَنْ تَرْكِ الْمِيقَاتِ، وَسَادِسٌ هَدْيَ التَّطَوُّعِ، وَسَابِعٌ الْعَقِيقَةَ عَنْ وَلَدِهِ أَجْزَأَتْهُمُ الْبَدَنَةُ.بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ يُرِيدُ سُبْعَهَا لِيَأْكُلَهُ، أَوْ لِيُطْعِمَ أَهْلَهُ، أَوْ لِيَبِيعَهُ، فَلَا تُجْزِئُ عَنِ الْآخَرِينَ الَّذِينَ أَرَادُوا الْقُرْبَةَ. هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.

وَذَلِكَ، لِأَنَّ الْقُرْبَةَ الَّتِي فِي الْأُضْحِيَّةِ، وَفِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا إِنَّمَا هِيَ فِي إِرَاقَةِ الدَّمِ، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ فِي الْبَدَنَةِ الْوَاحِدَةِ لَا تَتَجَزَّأُ، لِأَنَّهَا ذَبْحٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْإِرَاقَةُ قُرْبَةً مِنْ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ تَكُنْ قُرْبَةً مِنَ الْبَاقِينَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْإِرَاقَةُ قُرْبَةً مِنَ الْجَمِيعِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَتُهَا، أَوْ كَانَ بَعْضُهَا وَاجِبًا وَبَعْضُهَا تَطَوُّعًا.

وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُجْزِئُ الذَّبْحُ عَنِ الْأُضْحِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْقُرَبِ عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِكُونَ مُتَّفِقِينَ فِي جِهَةِ الْقُرْبَةِ، كَأَنْ يَشْتَرِكَ سَبْعَةٌ كُلُّهُمْ يُرِيدُ الْأُضْحِيَّةَ، أَوْ سَبْعَةٌ كُلُّهُمْ يُرِيدُ جَزَاءَ الصَّيْدِ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْجِهَةِ لَمْ يَصِحَّ الذَّبْحُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى الِاشْتِرَاكَ، إِذِ الذَّبْحُ فِعْلُ وَاحِدٍ لَا يَتَجَزَّأُ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقَعَ بَعْضُهُ عَنْ جِهَةٍ، وَبَعْضُهُ عَنْ جِهَةٍ أُخْرَى، لَكِنْ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِهَةِ يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ كَقُرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ، فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيهِ مَرْدُودًا إِلَى الْقِيَاسِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَرِهَ الِاشْتِرَاكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِهَةِ، وَقَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ، وَهَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ.

38- وَلَوِ اشْتَرَى رَجُلٌ بَقَرَةً يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا، ثُمَّ أَشْرَكَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا حِينَ اشْتَرَاهَا فَقَدْ أَوْجَبَهَا عَلَى نَفْسِهِ كَمَا سَبَقَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْرِكَ فِيهَا غَيْرَهُ.وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا مُقِيمًا، وَقَدِ اشْتَرَاهَا قَبْلَ وَقْتِ الْوُجُوبِ، أَوْ غَنِيًّا مُسَافِرًا فَكَذَلِكَ.وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا مُقِيمًا، وَاشْتَرَاهَا بَعْدَ وَقْتِ Bالْوُجُوبِ فَإِنَّ شِرَاءَهَا لَا يُوجِبُهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُشْرِكَ فِيهَا مَعَهُ سِتَّةً أَوْ أَقَلَّ يُرِيدُونَ الْقُرْبَةَ، لَكِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَاهَا بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ وَعْدًا أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا كُلَّهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَإِخْلَافُ الْوَعْدِ مَكْرُوهٌ، وَيَنْبَغِي فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ مِمَّنْ أَشْرَكَهُمْ مَعَهُ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دَفَعَ إِلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ- رضي الله عنه- دِينَارًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً، فَاشْتَرَى شَاةً وَبَاعَهَا بِدِينَارَيْنِ، وَاشْتَرَى بِأَحَدِهِمَا شَاةً وَجَاءَ النَّبِيَّ- عليه الصلاة والسلام- بِشَاةٍ وَدِينَارٍ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا صَنَعَ، فَأَمَرَهُ- عليه الصلاة والسلام- أَنْ يُضَحِّيَ بِالشَّاةِ، وَيَتَصَدَّقَ بِالدِّينَارِ» هَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَخَالَفَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَأَجَازُوا أَنْ يَشْتَرِكَ مُرِيدُ التَّضْحِيَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْقُرُبَاتِ مَعَ مُرِيدِ اللَّحْمِ، حَتَّى لَوْ كَانَ لِمُرِيدِ التَّضْحِيَةِ سُبْعُ الْبَدَنَةِ، وَلِمُرِيدِ الْهَدْيِ سُبْعُهَا، وَلِمُرِيدِ الْعَقِيقَةِ سُبْعُهَا، وَلِمُرِيدِ اللَّحْمِ بَاقِيهَا، فَذُبِحَتْ بِهَذِهِ النِّيَّاتِ جَازَ، لِأَنَّ الْفِعْلَ إِنَّمَا يَصِيرُ قُرْبَةً مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ بِنِيَّتِهِ لَا بِنِيَّةِ شَرِيكِهِ، فَعَدَمُ النِّيَّةِ مِنْ أَحَدِهِمْ لَا يَقْدَحُ فِي قُرْبَةِ الْبَاقِينَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَجُوزُ الِاشْتِرَاكُ فِي الثَّمَنِ أَوِ اللَّحْمِ، فَإِنِ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي الثَّمَنِ، بِأَنْ دَفَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جُزْءًا مِنْهُ، أَوِ اشْتَرَكُوا فِي اللَّحْمِ، بِأَنْ كَانَتِ الشَّاةُ أَوِ الْبَدَنَةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمْ لَمْ تُجْزِئْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، بِخِلَافِ إِشْرَاكِهِمْ فِي الثَّوَابِ مِمَّنْ ضَحَّى بِهَا قَبْلَ الذَّبْحِ كَمَا مَرَّ.

وَقْتُ التَّضْحِيَةِ مَبْدَأٌ وَنِهَايَةٌ

مَبْدَأُ الْوَقْتِ:

39- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَدْخُلُ وَقْتُ التَّضْحِيَةِ عِنْدَ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ يَوْمُ الْعِيدِ، وَهَذَا الْوَقْتُ لَا يَخْتَلِفُ فِي ذَاتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يُضَحِّي فِي الْمِصْرِ أَوْ غَيْرِهِ.لَكِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا فِي صِحَّتِهَا لِمَنْ يُضَحِّي فِي الْمِصْرِ أَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَلَوْ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْأَفْضَلَ تَأْخِيرُهُ إِلَى مَا بَعْدَ الْخُطْبَةِ، وَإِذَا صُلِّيَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمِصْرِ كَفَى فِي صِحَّةِ التَّضْحِيَةِ الْفَرَاغُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي أَحَدِ الْمَوَاضِعِ.

وَإِذَا عُطِّلَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ يُنْتَظَرُ حَتَّى يَمْضِيَ وَقْتُ الصَّلَاةِ بِأَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ، ثُمَّ يَذْبَحَ بَعْدَ ذَلِكَ.وَأَمَّا مَنْ يُضَحِّي فِي غَيْرِ الْمِصْرِ فَإِنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ لَهُ هَذِهِ الشَّرِيطَةُ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَذْبَحَ بَعْدَ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، لِأَنَّ أَهْلَ غَيْرِ الْمِصْرِ لَيْسَ عَلَيْهِمْ صَلَاةُ الْعِيدِ.

وَإِذَا كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ مُقِيمًا فِي الْمِصْرِ، وَوَكَّلَ مَنْ يُضَحِّي عَنْهُ فِي غَيْرِهِ أَوْ بِالْعَكْسِ، فَالْعِبْرَةُ بِمَكَانِ الذَّبْحِ لَا بِمَكَانِ الْمُوَكِّلِ الْمُضَحِّي، لِأَنَّ الذَّبْحَ هُوَ الْقُرْبَةُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ التَّضْحِيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْإِمَامِ هُوَ وَقْتُ الْفَرَاغِ مِنْ ذَبْحِ أُضْحِيَّةِ الْإِمَامِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَتَيْنِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَبِالنِّسْبَةِ لِلْإِمَامِ هُوَ وَقْتُ الْفَرَاغِ مِنْ صَلَاتِهِ وَخُطْبَتِهِ، فَلَوْ ذَبَحَ الْإِمَامُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ خُطْبَتَيْهِ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَلَوْ ذَبَحَ النَّاسُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ ذَبْحِ أُضْحِيَّةِ الْإِمَامِ لَمْ يُجْزِئْهُمْ، إِلاَّ إِذَا بَدَءُوا بَعْدَ بَدْئِهِ، وَانْتَهَوْا بَعْدَ انْتِهَائِهِ أَوْ مَعَهُ.

وَإِذَا لَمْ يَذْبَحِ الْإِمَامُ أَوْ تَوَانَى فِي الذَّبْحِ بَعْدَ فَرَاغِ خُطْبَتَيْهِ بِلَا عُذْرٍ أَوْ بِعُذْرٍ تَحَرَّى النَّاسُ الْقَدْرَ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ الذَّبْحُ، ثُمَّ ذَبَحُوا أَضَاحِيَّهُمْ، فَتُجْزِئُهُمْ وَإِنْ سَبَقُوهُ لَكِنْ عِنْدَ التَّوَانِي بِعُذْرٍ، كَقِتَالِ عَدُوٍّ أَوْ إِغْمَاءٍ أَوْ جُنُونٍ يُنْدَبُ انْتِظَارُهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ تَضْحِيَتِهِ، إِلاَّ إِذَا قَرُبَ زَوَالُ الشَّمْسِ فَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ حِينَئِذٍ أَنْ يُضَحُّوا وَلَوْ قَبْلَ الْإِمَامِ.ثُمَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إِلاَّ نَائِبُ الْإِمَامِ الْحَاكِمِ أَوْ إِمَامُ الصَّلَاةِ فَالْمُعْتَبَرُ نَائِبُ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا هَذَا وَذَاكَ، وَأَخْرَجَ نَائِبُ الْإِمَامِ أُضْحِيَّتَهُ إِلَى الْمُصَلَّى فَهُوَ الْمُعْتَبَرُ، وَإِلاَّ فَالْمُعْتَبَرُ إِمَامُ الصَّلَاةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا وَلَا ذَاكَ تَحَرَّوْا تَضْحِيَةَ إِمَامِ أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِمْ إِنْ كَانَ وَاحِدًا، فَإِنْ تَعَدَّدَ تَحَرَّوْا تَضْحِيَةَ أَقْرَبِ الْأَئِمَّةِ لِبَلَدِهِمْ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالٍ لِلْحَنَابِلَةِ: يَدْخُلُ وَقْتُ التَّضْحِيَةِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَوْمَ عِيدِ النَّحْرِ بِمِقْدَارِ مَا يَسَعُ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ وَخُطْبَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِالْخِفَّةِ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا يُجْزِئُ فِي الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَتَيْنِ.

قَالُوا: وَإِنَّمَا لَمْ تَتَوَقَّفْ صِحَّةُ التَّضْحِيَةِ عَلَى الْفَرَاغِ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَخُطْبَتَيْهِ بِالْفِعْلِ لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ يَخْتَلِفُونَ تَطْوِيلًا وَتَقْصِيرًا، فَاعْتُبِرَ الزَّمَانُ لِيَكُونَ أَشْبَهَ بِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَأَضْبَطُ لِلنَّاسِ فِي الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى وَالْبَوَادِي، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، «وَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي صَلَاةَ عِيدِ الْأَضْحَى عَقِبَ طُلُوعِ الشَّمْسِ».

وَالْأَفْضَلُ تَأْخِيرُ التَّضْحِيَةِ عَنِ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ قَدْرَ رُمْحٍ بِالْمِقْدَارِ السَّابِقِ الذِّكْرِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لَهُمْ وَهُوَ الْأَرْجَحُ، إِلَى أَنَّ وَقْتَهَا يَبْتَدِئُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَلَوْ قَبْلَ الْخُطْبَةِ لَكِنَّ الْأَفْضَلَ انْتِظَارُ الْخُطْبَتَيْنِ.

وَلَا يَلْزَمُ انْتِظَارُ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ فِي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ إِنْ تَعَدَّدَتْ، بَلْ يَكْفِي الْفَرَاغُ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَإِذَا كَانَ مُرِيدُ التَّضْحِيَةِ فِي جِهَةٍ لَا يُصَلَّى فِيهَا الْعِيدُ- كَالْبَادِيَةِ وَأَهْلِ الْخِيَامِ مِمَّنْ لَا عِيدَ عَلَيْهِمْ- فَالْوَقْتُ يَبْتَدِئُ بَعْدَ مُضِيِّ قَدْرِ صَلَاةِ الْعِيدِ مِنْ Bارْتِفَاعِ الشَّمْسِ قَدْرَ رُمْحٍ.

وَإِذَا فَاتَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ بِالزَّوَالِ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي تُصَلَّى فِيهَا ضَحَّوْا مِنْ حِينِ الْفَوَاتِ.

نِهَايَةُ وَقْتِ التَّضْحِيَةِ:

40- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَيَّامَ التَّضْحِيَةِ ثَلَاثَةٌ، وَهِيَ يَوْمُ الْعِيدِ، وَالْيَوْمَانِ الْأَوَّلَانِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَيَنْتَهِي وَقْتُ التَّضْحِيَةِ بِغُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الْأَخِيرِ مِنَ الْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ ثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.

وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَأَنَسًا وَابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهم- أَخْبَرُوا أَنَّ أَيَّامَ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقَادِيرَ لَا يُهْتَدَى إِلَيْهَا بِالرَّأْيِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ سَمَاعًا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ- وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ- أَيَّامُ التَّضْحِيَةِ أَرْبَعَةٌ، تَنْتَهِي بِغُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم- أَيْضًا، وَمَرْوِيٌّ كَذَلِكَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ- رضي الله عنه-، وَعَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى الْأَسَدِيِّ وَمَكْحُولٍ.

وَحُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِهَذَا قَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام-: « كُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ».

التَّضْحِيَةُ فِي لَيَالِي أَيَّامِ النَّحْرِ:

41- أَمَّا لَيْلَةُ عِيدِ الْأَضْحَى فَلَيْسَتْ وَقْتًا لِلتَّضْحِيَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَلِكَ اللَّيْلَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي اللَّيْلَتَيْنِ أَوِ اللَّيَالِي الْمُتَوَسِّطَةِ بَيْنَ أَيَّامِ النَّحْرِ.

فَالْمَالِكِيَّةُ يَقُولُونَ: لَا تُجْزِئُ التَّضْحِيَةُ الَّتِي تَقَعُ فِي اللَّيْلَتَيْنِ الْمُتَوَسِّطَتَيْنِ، وَهُمَا لَيْلَتَا يَوْمَيِ التَّشْرِيقِ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ.

وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَابِلَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِنَّ التَّضْحِيَةَ فِي اللَّيَالِيِ الْمُتَوَسِّطَةِ تُجْزِئُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، لِأَنَّ الذَّابِحَ قَدْ يُخْطِئُ الْمَذْبَحَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْجُمْهُورُ.وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ كَرَاهِيَةِ التَّضْحِيَةِ لَيْلًا مَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ لِحَاجَةٍ، كَاشْتِغَالِهِ نَهَارًا بِمَا يَمْنَعُهُ مِنَ التَّضْحِيَةِ، أَوْ مَصْلَحَةٍ كَتَيَسُّرِ الْفُقَرَاءِ لَيْلًا، أَوْ سُهُولَةِ حُضُورِهِمْ.

مَا يَجِبُ بِفَوَاتِ وَقْتِ التَّضْحِيَةِ:

42- وَلَمَّا كَانَتِ الْقُرْبَةُ فِي الْأُضْحِيَّةِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ، Bوَكَانَتْ هَذِهِ الْإِرَاقَةُ لَا يُعْقَلُ السِّرُّ فِي التَّقَرُّبِ بِهَا، وَجَبَ الِاقْتِصَارُ فِي التَّقَرُّبِ بِهَا عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي خَصَّهَا الشَّارِعُ بِهِ.فَلَا تُقْضَى بِعَيْنِهَا بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهَا، بَلْ يَنْتَقِلُ التَّغَرُّبُ إِلَى التَّصَدُّقِ بِعَيْنِ الشَّاةِ حَيَّةً، أَوْ بِقِيمَتِهَا أَوْ بِقِيمَةِ أُضْحِيَّةٍ مُجْزِئَةٍ، فَمَنْ عَيَّنَ أُضْحِيَّةً شَاةً أَوْ غَيْرَهَا بِالنَّذْرِ أَوْ بِالشِّرَاءِ بِالنِّيَّةِ فَلَمْ يُضَحِّ بِهَا حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا حَيَّةً، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَمْوَالِ التَّقَرُّبُ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا لَا بِالْإِتْلَافِ وَهُوَ الْإِرَاقَةُ.إِلاَّ أَنَّ الشَّارِعَ نَقَلَهُ إِلَى إِرَاقَةِ دَمِهَا مُقَيَّدَةً بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ حَتَّى أَنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُ لَحْمِهَا لِلْمَالِكِ وَالْأَجْنَبِيِّ وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، لِأَنَّ النَّاسَ أَضْيَافُ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْوَقْتِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


30-موسوعة الفقه الكويتية (إفساد)

إِفْسَادٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْإِفْسَادُ لُغَةً: ضِدُّ الْإِصْلَاحِ، وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ فَاسِدًا خَارِجًا عَمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ.

وَشَرْعًا: جَعْلُ الشَّيْءِ فَاسِدًا، سَوَاءٌ وُجِدَ صَحِيحًا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْفَسَادُ- كَمَا لَوِ انْعَقَدَ الْحَجُّ صَحِيحًا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ مَا يُفْسِدُهُ- أَوْ وُجِدَ الْفَسَادُ مَعَ الْعَقْدِ، كَبَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ.

وَقَدْ فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْإِفْسَادِ وَالْإِبْطَالِ تَبَعًا لِتَفْرِيقِهِمْ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ، فَقَالُوا: الْفَاسِدُ مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ لَا بِوَصْفِهِ، وَالْبَاطِلُ مَا لَيْسَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَلَا بِوَصْفِهِ.أَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَالْإِفْسَادُ وَالْإِبْطَالُ عِنْدَهُمْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَدْ وَافَقَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْعِبَادَاتِ.وَلِبَعْضِ الْمَذَاهِبِ تَفْرِقَةٌ بَيْنَ الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ فِي بَعْضِ الْأَبْوَابِ: كَالْحَجِّ، وَالْخُلْعِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْإِتْلَافُ:

2- الْإِتْلَافُ فِي اللُّغَةِ: بِمَعْنَى الْإِهْلَاكِ يُقَالُ: أَتْلَفَ الشَّيْءَ إِذَا أَفْنَاهُ وَأَهْلَكَهُ، وَهُوَ فِي الشَّرْعِ بِهَذَا الْمَعْنَى، يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: إِتْلَافُ الشَّيْءِ إِخْرَاجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ مَنْفَعَةً مَطْلُوبَةً مِنْهُ عَادَةً.

فَالْإِفْسَادُ أَعَمُّ مِنَ الْإِتْلَافِ، فَإِنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِي الْأُمُورِ الْحِسِّيَّةِ، وَيَنْفَرِدُ الْإِفْسَادُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ.

ب- الْإِلْغَاءُ:

3- الْإِلْغَاءُ مِنْ مَعَانِيهِ: إِبْطَالُ الْعَمَلِ بِالْحُكْمِ، وَإِسْقَاطُهُ، وَقَدْ أَلْغَى ابْنُ عَبَّاسٍ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ، أَيْ أَبْطَلَهُ وَأَسْقَطَهُ.وَيَسْتَعْمِلُ الْأُصُولِيُّونَ الْإِلْغَاءَ فِي تَقْسِيمِ الْعِلَّةِ بِمَعْنَى عَدَمِ تَأْثِيرِ الْوَصْفِ فِي الْحُكْمِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ الْمُلْغَى عِنْدَهُمْ، كَمَا يَسْتَعْمِلُونَ الْإِلْغَاءَ فِي إِهْدَارِ أَثَرِ التَّصَرُّفِ مِنْ فَاقِدِ الْأَهْلِيَّةِ.

ج- التَّوَقُّفُ:

4- الْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ ضِدُّ النَّافِذِ، وَهُوَ مَا تَوَقَّفَ نَفَاذُهُ عَلَى الْإِجَازَةِ مِنْ مَالِكِهَا، كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ.فَإِنَّهُ يَكُونُ بِهَذَا الْمَعْنَى جَائِزًا فِي الْجُمْلَةِ، بِخِلَافِ الْفَاسِدِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

5- الْمُقَرَّرُ شَرْعًا أَنَّ الْعِبَادَةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا صَحِيحَةٌ، لَا يَلْحَقُهَا الْإِفْسَادُ ضَرُورَةَ أَنَّ الْوَاقِعَ يَسْتَحِيلُ رَفْعُهُ، إِلاَّ بِأَسْبَابٍ يُصَارُ إِلَيْهَا بِالدَّلِيلِ كَالرِّدَّةِ، فَإِنَّهَا تُفْسِدُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَالْعِبَادَاتِ، كَمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ وَالْهِجْرَةُ تَهْدِمُ مَا قَبْلَهَا، وَكَذَلِكَ التَّوْبَةُ وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ.أَمَّا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعِبَادَةِ وَقَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، فَيَحْرُمُ إِفْسَادُ الْفَرْضِ بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِهِ دُونَ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ، وَكَذَلِكَ النَّفَلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، لقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَلِهَذَا يَجِبُ إِعَادَتُهُ.أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَيُكْرَهُ عِنْدَهُمْ إِفْسَادُ النَّافِلَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا وَلَا إِعَادَةَ إِنْ أَفْسَدَ النَّافِلَةَ الْمُطْلَقَةَ، عَدَا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَيَحْرُمُ إِفْسَادُهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُمَا كَسَائِرِ التَّطَوُّعَاتِ.

أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ اللاَّزِمَةُ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهَا الْإِفْسَادُ بَعْدَ نَفَاذِهَا.إِلاَّ أَنَّهُ يَجُوزُ الْفَسْخُ بِرِضَا الْعَاقِدَيْنِ كَمَا فِي الْإِقَالَةِ، وَفِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ يَصِحُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِفْسَادُهَا مَتَى شَاءَ، أَمَّا اللاَّزِمَةُ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، فَلَا يَجُوزُ إِفْسَادُهَا مِمَّنْ هِيَ لَازِمَةٌ فِي حَقِّهِ وَيَجُوزُ لِلْآخَرِ.

وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ.

أَثَرُ الْإِفْسَادِ فِي الْعِبَادَاتِ:

6- مَنْ شَرَعَ فِي عِبَادَةٍ مَفْرُوضَةٍ فَرْضًا عَيْنِيًّا أَوْ كِفَائِيًّا، كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ بِاسْتِيفَاءِ أَرْكَانِهَا وَشَرَائِطِهَا حَتَّى تَبْرَأَ الذِّمَّةُ، فَإِذَا أَفْسَدَهَا فَعَلَيْهِ أَدَاؤُهَا فِي الْوَقْتِ، أَمَّا بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ فِعْلُهَا تَامَّةٌ، كَمَا لَوْ صَلَّى مُسَافِرٌ خَلْفَ مُقِيمٍ ثُمَّ أَفْسَدَ صَلَاتَهُ لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا تَامَّةً، لِأَنَّهَا لَا تُبْرِئُ الذِّمَّةَ بَعْدَ الْفَسَادِ بِلَا خِلَافٍ.

كَمَا لَا يَجِبُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهَا أَوْ بَاطِلِهَا فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ فَاسِدَ الْعِبَادَاتِ لَا يُلْحَقُ بِصَحِيحِهَا إِلاَّ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُ يَمْضِي فِي فَاسِدِهِمَا وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ.وَهَذَا مُخَالِفٌ لِسَائِرِ الْعِبَادَاتِ حَيْثُ إِنَّ الْعِبَادَةَ الْفَاسِدَةَ يَنْقَطِعُ حُكْمُهَا وَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ عَهْدِهَا.

أَمَّا مَا شَرَعَ فِيهِ مِنَ التَّطَوُّعِ فَإِنَّهُ يَجِبُ إِتْمَامُهُ، وَإِذَا أَفْسَدَهُ يَقْضِيهِ وُجُوبًا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَدْ قَالُوا: يُسْتَحَبُّ إِتْمَامُ النَّفْلِ الَّذِي شَرَعَ فِيهِ، كَمَا يُسْتَحَبُّ قَضَاءُ مَا أَفْسَدَهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ مِنَ النَّوَافِلِ، وَهَذَا فِي غَيْرِ التَّطَوُّعِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، حَيْثُ يَجِبُ إِتْمَامُهُمَا إِذَا شَرَعَ فِيهِمَا.

وَلَوْ وَقَعَ مِنْهُ مُفْسِدٌ لَهُمَا، يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُمَا حِينَئِذٍ مَعَ الْجَزَاءِ اللاَّزِمِ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى مَا سَبَقَ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (الْإِحْرَامِ، وَالْحَجِّ)

إِفْسَادُ الصَّوْمِ:

7- أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ جَامَعَ أَوِ اسْتَمْنَى أَوْ طَعِمَ أَوْ شَرِبَ عَنْ قَصْدٍ، مَعَ ذِكْرِ الصَّوْمِ فِي نَهَارِهِ فَقَدْ أَفْسَدَ صَوْمَهُ، لقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}

وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مُفْسِدَاتٍ أُخْرَى لِلصَّوْمِ، مِنْهَا مَا يَرِدُ إِلَى الْجَوْفِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَذِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مِثْلُ الْحُقْنَةِ، وَمِنْهَا مَا يَرِدُ إِلَى بَاطِنِ الْأَعْضَاءِ وَلَا يَرِدُ الْجَوْفَ، مِثْلُ أَنْ يَرِدَ الدِّمَاغَ وَلَا يَرِدَ الْمَعِدَةَ.وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذِهِ هُوَ قِيَاسُ الْمُغَذِّي عَلَى غَيْرِ الْمُغَذِّي.فَمَنْ رَأَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالصَّوْمِ مَعْنًى مَعْقُولٌ لَمْ يُلْحِقِ الْمُغَذِّيَ بِغَيْرِ الْمُغَذِّي، وَمَنْ رَأَى أَنَّهَا عِبَادَةٌ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ الْإِمْسَاكُ فَقَطْ عَمَّا يَرِدُ الْجَوْفَ، سَوَّى بَيْنَ الْمُغَذِّي وَغَيْرِهِ.ر: (احْتِقَانٌ) (وَصَوْمٌ).

8- وَاخْتَلَفُوا فِي الْحِجَامَةِ وَالْقَيْءِ.فَأَمَّا الْحِجَامَةُ فَقَدْ رَأَى أَحْمَدُ وَدَاوُدُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ أَنَّهَا تُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِالْكَرَاهَةِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ بِعَدَمِ الْإِفْسَادِ.

وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ هُوَ تَعَارُضُ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ.وَأَمَّا الْقَيْءُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَيْسَ بِمُفْطِرٍ، وَأَنَّ مَنِ اسْتِقَاءَ فَقَاءَ فَإِنَّهُ يُفْسِدُ صَوْمَهُ.وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ: (صَوْمٌ) (وَقَيْءٌ).

نِيَّةُ إِفْسَادِ الْعِبَادَةِ:

9- نِيَّةُ الْإِفْسَادِ يَخْتَلِفُ أَثَرُهَا صِحَّةً وَبُطْلَانًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِاخْتِلَافِ الْعِبَادَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَحْوَالِ.

فَإِذَا نَوَى إِفْسَادَ الْإِيمَانِ أَوْ قَطْعَهُ، صَارَ مُرْتَدًّا فِي الْحَالِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، وَإِنْ نَوَى إِفْسَادَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا لَمْ تَبْطُلْ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ، وَإِنْ نَوَى قَطْعَ الصَّلَاةِ فِي أَثْنَائِهَا بَطَلَتْ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهَا شَبِيهَةٌ بِالْإِيمَانِ، وَلَوْ نَوَى قَطْعَ السَّفَرِ بِالْإِقَامَةِ صَارَ مُقِيمًا.أَمَّا إِذَا نَوَى قَطْعَ الصِّيَامِ بِالْأَكْلِ أَوِ الْجِمَاعِ فِي نَهَارِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ حَتَّى يَأْكُلَ أَوْ يُجَامِعَ.

وَلَوْ نَوَى قَطْعَ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ لَمْ يَبْطُلَا بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا بِالْإِفْسَادِ، فَلَا يَخْرُجُ بِالْأَوْلَى بِنِيَّةِ الْإِفْسَادِ أَوِ الْإِبْطَالِ.وَلِتَفْصِيلِ ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ: (نِيَّةٌ) وَإِلَى مَوَاطِنِ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ.

أَثَرُ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي إِفْسَادِ الْعَقْدِ:

10- إِفْسَادُ الْعَقْدِ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ يَرْجِعُ إِلَى مَا يُسَبِّبُهُ مِنْ غَرَرٍ أَوْ رِبًا أَوْ نَقْصٍ فِي الْمِلْكِ، أَوْ اشْتِرَاطِ أَمْرٍ مَحْظُورٍ أَوْ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ.

وَالْعُقُودُ عِنْدَ اقْتِرَانِهَا بِهَذِهِ الشُّرُوطِ: نَوْعَانِ:

(الْأَوَّلُ): عُقُودٌ تَفْسُدُ عِنْدَ اقْتِرَانِهَا بِهَا،

(وَالثَّانِي): عُقُودٌ تَصِحُّ، وَيَسْقُطُ الشَّرْطُ، وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ.

وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْمَذَاهِبُ فِي الْأَثَرِ النَّاشِئِ عَنِ الشُّرُوطِ:

فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، كُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهُ مُبَادَلَةَ مَالٍ بِمَالٍ، لَا يَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ يَعْتَرِيهِ الْفَسَادُ.

فَاَلَّذِي يَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ مِثْلُ: الْبَيْعِ، وَالْقِسْمَةِ، وَالْإِجَارَةِ، وَاَلَّذِي لَا يَفْسُدُ مِثْلُ: النِّكَاحِ وَالْقَرْضِ، وَالْهِبَةِ، وَالْوَقْفِ، وَالْوَصِيَّةِ.

وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، إِذْ يَفْسُدُ الْعَقْدُ عِنْدَهُمْ بِالشَّرْطِ فِي الْجُمْلَةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ اشْتِرَاطُ أَمْرٍ مَحْظُورٍ، أَوْ أَمْرٍ يُؤَدِّي إِلَى غَرَرٍ فَاحِشٍ، يُؤَدِّي إِلَى فَسَادِ الْعَمْدِ، فَالْأَمْرُ الْمَحْظُورُ مِثْلُ: مَا إِذَا اشْتَرَى دَارًا وَاشْتَرَطَ اتِّخَاذَهَا مَجْمَعًا لِلْفَسَادِ.فَالشَّرْطُ حَرَامٌ وَالْبَيْعُ فَاسِدٌ.وَالْغَرَرُ الْفَاحِشُ مِثْلُ: مَا إِذَا بَاعَ دَارًا وَاشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهَا يَكْفِيهِ لِلنَّفَقَةِ طُولَ حَيَاتِهِ، فَإِنَّهُ لَا تُدْرَى نَفَقَتُهُ وَلَا كَمْ يَعِيشُ.

وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: هَذِهِ الشُّرُوطُ الْمُحَرَّمَةُ أَوْ تِلْكَ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى غَرَرٍ فَاحِشٍ، لَا تُؤَدِّي إِلَى إِفْسَادِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا تُلْغَى، وَيَصِحُّ الْعَقْدُ.أَمَّا الشُّرُوطُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى إِفْسَادِ الْعَقْدِ فَهِيَ، اشْتِرَاطُ عَقْدٍ فِي عَقْدٍ، أَوْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يُنَافِي مَقْصُودَ الْعَقْدِ.مِثْلُ: مَا إِذَا اشْتَرَطَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَلَى الْآخَرِ عَقْدًا آخَرَ كَشَرْطٍ لِلْبَيْعِ، كَأَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي هَذِهِ الْفَرَسَ.فَهَذَا اشْتِرَاطُ عَقْدٍ فِي عَقْدٍ، وَمِثْلُ: مَا إِذَا اشْتَرَطَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَلَا يَبِيعَ الْمَبِيعَ، وَكَذَلِكَ إِنْ شَرَطَ أَنَّ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ لَا تَحْمِلُ، أَوْ تَضَعُ الْوَلَدَ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ.فَهَذَا اشْتِرَاطٌ يُنَافِي مَقْصُودَ الْعَقْدِ.

إِفْسَادُ النِّكَاحِ:

11- إِفْسَادُ النِّكَاحِ بَعْدَ وُجُودِهِ صَحِيحًا لَا يُسْقِطُ حَقَّ الْمَرْأَةِ فِي الصَّدَاقِ إِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ اتِّفَاقًا، أَمَّا قَبْلَ الدُّخُولِ فَإِنَّهُ لَا يُسْقِطُ حَقَّهَا فِي نِصْفِ الْمَهْرِ، إِذَا وَقَعَ الْإِفْسَادُ مِنْ جِهَتِهِ، كَرِدَّتِهِ.

أَمَّا لَوْ وَقَعَ إِفْسَادُ النِّكَاحِ مِنْ جِهَتِهَا، فَلَا مَهْرَ لَهَا وَلَا نَفَقَةَ، لِتَسَبُّبِهَا فِي إِفْسَادِ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ مُوجِبٌ لِلْمَهْرِ.وَلِتَفْصِيلِ ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (نِكَاحٌ) (وَرَضَاعٌ).

أَثَرُ الْإِفْسَادِ فِي التَّوَارُثِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ:

12- إِذَا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِإِفْسَادِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ انْتَفَى التَّوَارُثُ عِنْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا، أَمَّا مَا كَانَتِ الْفُرْقَةُ فِيهِ بِطَلَاقٍ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِيهِ التَّوَارُثُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فَارًّا مِنْ تَوْرِيثِهَا.

إِفْسَادُ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا:

13- يَحْرُمُ إِفْسَادُ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ خَبَّبَ زَوْجَةَ امْرِئٍ أَوْ مَمْلُوكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا»

فَمَنْ أَفْسَدَ زَوْجَةَ امْرِئٍ أَيْ: أَغْرَاهَا بِطَلَبِ الطَّلَاقِ أَوِ التَّسَبُّبِ فِيهِ فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ.وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِ وَزَجْرِهِ، حَتَّى قَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِتَأْبِيدِ تَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ الْمُخَبَّبَةِ عَلَى مَنْ أَفْسَدَهَا عَلَى زَوْجِهَا مُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَلِئَلاَّ يَتَّخِذَ النَّاسُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى إِفْسَادِ الزَّوْجَاتِ.ر- (تَخْبِيبٌ).

الْإِفْسَادُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ:

14- تَحْرُمُ الْوَقِيعَةُ وَإِفْسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، لِأَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: الْإِبْقَاءُ عَلَى وَحْدَةِ الْمُسْلِمِينَ.

الثَّانِي: رِعَايَةُ حُرْمَتِهِمْ، لقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ نَظَرَ يَوْمًا إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ: مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتِكِ، وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ وَلِهَذَا كَانَ إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ، وَإِفْسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: إِصْلَاحُ ذَاتِ بَيْنٍ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ» وَلِهَذَا نَهَى الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم- عَنْ تَتَبُّعِ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَنِ الْغِيبَةِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَسُوءِ الظَّنِّ، وَالتَّبَاغُضِ، وَالتَّحَاسُدِ، وَكُلِّ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْوَقِيعَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ: فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ»

أَمَّا الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَسَلْبِ الْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَإِتْلَافِ النُّفُوسِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَعُقُوبَتُهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}.وَتَفْصِيلُهُ فِي حِرَابَةٌ.

كَمَا نَهَى الشَّارِعُ عَنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْإِفْسَادِ، بِفِعْلِ الْمَعَاصِي، وَإِشَاعَةِ الْفَوَاحِشِ، وَفِعْلِ كُلِّ مَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


31-موسوعة الفقه الكويتية (إقرار 3)

إِقْرَارٌ -3

و- تَعْقِيبُ الْإِقْرَارِ بِمَا يَرْفَعُهُ:

48- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ عَقَّبَ الْإِقْرَارَ بِمَا يَرْفَعُهُ بِأَنْ قَالَ: لَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، إِلاَّ أَنْ يَقُولَ الطَّالِبُ (الْمُقَرُّ لَهُ): هِيَ ثَمَنُ بُرٍّ أَوْ مَا يُشْبِهُهُ فَيَلْزَمُهُ مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ.وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ كَذَا ثُمَّ قَالَ: لَمْ أَقْبِضِ الْمَبِيعَ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَسَحْنُونٌ وَغَيْرُهُمَا: يَلْزَمُهُ الثَّمَنُ وَلَا يُصَدَّقُ فِي عَدَمِ الْقَبْضِ.وَقِيلَ: الْقَوْلُ قَوْلُهُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا وَصَلَ بِإِقْرَارِهِ مَا يُغَيِّرُهُ أَوْ يُسْقِطُهُ، كَأَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوِ اسْتَوْفَاهُ الدَّائِنُ أَوْ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ فَاسِدٍ لَمْ أَقْبِضْهُ لَزِمَهُ الْأَلْفُ، لِأَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالْأَلْفِ يُعْتَبَرُ رَفْعًا لَهُ فَلَا يُقْبَلُ، كَاسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ.

وَفِي قَوْلِهِ لَهُ: عَلَيَّ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَلْفٌ- لَا يَجِبُ.وَلَوْ قَالَ: كَانَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَقَضَيْتُهُ إِيَّاهُ، أَوْ أَبْرَأَنِي مِنْهُ، أَوْ قَضَيْتُ مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ، فَهُوَ مُنْكِرٌ، لِأَنَّهُ قَوْلٌ يُمْكِنُ صِدْقُهُ وَلَا تَنَاقُضَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، فَوَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِ بِيَمِينِهِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ.وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ كَاسْتِثْنَاءِ الْبَعْضِ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلاً، بِخِلَافِ اسْتِثْنَاءِ الْبَعْضِ الْمُنْفَصِلِ، لِأَنَّ الْحَقَّ قَدِ اسْتَقَرَّ بِسُكُوتِهِ فَلَا يَرْفَعُهُ اسْتِثْنَاءٌ وَلَا غَيْرُهُ.وَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ مَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ، وَيَصِحُّ فِي النِّصْفِ- عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ- فَمَا دُونَهُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ لِأَنَّهُ لُغَةُ الْعَرَبِ.

ز- تَقْيِيدُ الْإِقْرَارِ بِالْأَجَلِ:

49- إِذَا أَقَرَّ شَخْصٌ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ لآِخَرَ وَقَالَ: إِنَّهُ مُؤَجَّلٌ، وَادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ حُلُولَهُ وَلُزُومَهُ، أَيْ صِدْقَهُ فِي الدَّيْنِ وَكَذِبَهُ فِي التَّأْجِيلِ، فَإِنَّ الدَّيْنَ يَلْزَمُهُ حَالًّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَالٍ، وَادَّعَى حَقًّا لِنَفْسِهِ أَنْكَرَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، فَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ بِيَمِينِهِ.

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمُقِرَّ يَحْلِفُ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي التَّنْجِيمِ وَالتَّأْجِيلِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي يَمِينِ الْمُقِرِّ، وَهَذَا أَحْوَطُ، وَبِهِ كَانَ يَقْضِي مُتَقَدِّمُو قُضَاةِ مِصْرَ وَهُوَ مَذْهَبُ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

ح- الِاسْتِدْرَاكُ فِي الْإِقْرَارِ:

50- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ الِاسْتِدْرَاكُ فِي الْقَدْرِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْجِنْسِ كَأَنْ يَقُولَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ أَلْفَانِ، فَعَلَيْهِ أَلْفَانِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.وَقِيلَ: يَكُونُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَالْأَوَّلُ اسْتِحْسَانٌ.وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِقْرَارَ إِخْبَارٌ، وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ مَا يَجْرِي الْغَلَطُ فِي قَدْرِهِ أَوْ وَصْفِهِ عَادَةً، فَقُبِلَ الِاسْتِدْرَاكُ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا فِيهِ.بِخِلَافِ الِاسْتِدْرَاكِ فِي خِلَافِ الْجِنْسِ لِأَنَّ الْغَلَطَ لَا يَقَعُ فِيهِ عَادَةً.وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ قَوْلَهُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِقْرَارٌ بِأَلْفٍ وَهَذَا لَا رُجُوعَ فِيهِ، وَالِاسْتِدْرَاكُ صَحِيحٌ، فَأَشْبَهَ الِاسْتِدْرَاكَ فِي خِلَافِ الْجِنْسِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَلْ ثِنْتَيْنِ، إِذْ يَقَعُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ.

وَإِنْ كَانَ الِاسْتِدْرَاكُ فِي صِفَةِ الْمُقَرِّ بِهِ، فَعَلَيْهِ أَرْفَعُ الصِّفَتَيْنِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي ذَلِكَ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِأَنْقَصِهِمَا فَهُوَ مُتَّهَمٌ، فَكَانَ مُسْتَدْرِكًا فِي الزِّيَادَةِ رَاجِعًا فِي النُّقْصَانِ، فَيَصِحُّ اسْتِدْرَاكُهُ وَلَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ، وَإِنْ أَرْجَعَ الِاسْتِدْرَاكَ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ، بِأَنْ قَالَ: هَذِهِ الْأَلْفُ لِفُلَانٍ بَلْ لِفُلَانٍ، وَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَتْ لِمَنْ أَقَرَّ لَهُ أَوَّلاً، لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ لَهُ بِهَا صَحَّ إِقْرَارُهُ لَهُ، فَصَارَ وَاجِبَ الدَّفْعِ إِلَيْهِ، فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ رُجُوعٌ عَنِ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِ، وَصَحَّ إِقْرَارُهُ بِهَا لِلثَّانِي فِي حَقِّهِ- أَيِ الثَّانِي- لَكِنْ إِنْ دَفَعَهُ لِلْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ ضَمِنَ لِلثَّانِي، لِإِتْلَافِهَا عَلَيْهِ بِدَفْعِهَا لِلْأَوَّلِ.

هَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: غَصَبْتُ هَذَا الشَّيْءَ مِنْ فُلَانٍ لَا بَلْ مِنْ فُلَانٍ، فَإِنَّهُ يَدْفَعُهُ لِلْأَوَّلِ وَيَضْمَنُ لِلثَّانِي، سَوَاءٌ دَفَعَهُ لِلْأَوَّلِ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، لِأَنَّ الْغَصْبَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِهِ إِقْرَارًا بِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَهُوَ رَدُّ الْقِيمَةِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَقِيمَتِهَا عِنْدَ الْعَجْزِ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ رَدِّهَا إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ الثَّانِي، فَيَلْزَمُهُ رَدُّ قِيمَتِهَا.

عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ فِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ:

51- الْإِقْرَارُ لَيْسَ بِعَقْدٍ حَتَّى تَتَكَوَّنَ صِيغَتُهُ مِنْ إِيجَابٍ وَقَبُولٍ.وَإِنَّمَا هُوَ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ وَالْتِزَامٌ مِنْ جَانِبِ الْمُقِرِّ وَحْدَهُ، فَلَيْسَ الْقَبُولُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ، لَكِنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِلَا تَصْدِيقٍ وَقَبُولٍ، وَلَكِنْ يَبْطُلُ بِرَدِّهِ، فَالْإِقْرَارُ لِلْحَاضِرِ يَلْزَمُ مِنْ جَانِبِ الْمُقِرِّ حَتَّى لَا يَصِحَّ إِقْرَارُهُ لِغَيْرِهِ بِهِ قَبْلَ رَدِّهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَانِبِ الْمُقَرِّ لَهُ فَيَصِحُّ رَدُّهُ.أَمَّا الْإِقْرَارُ لِلْغَائِبِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ لُزُومُهُ عَلَى عَدَمِ الرَّدِّ، وَلِعَدَمِ لُزُومِهِ لِلْمُقِرِّ صَحَّ إِقْرَارُهُ لِغَيْرِهِ، كَمَا لَا يَلْزَمُ الْمُقَرَّ لَهُ فَيَصِحُّ لَهُ رَدُّهُ.وَكُلُّ مَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِمِلْكٍ فَكَذَّبَهُ بِهِ بَطَلَ إِقْرَارُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْإِنْسَانِ مِلْكٌ لَا يَعْتَرِفُ بِهِ، وَالْإِقْرَارُ بِمَا فِي الذِّمَّةِ لَيْسَ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ، وَفِي الْمَالِ وَجْهَانِ: يُتْرَكُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ لِأَنَّهُ كَانَ مَحْكُومًا لَهُ بِهِ فَإِذَا بَطَلَ إِقْرَارُهُ بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.وَقِيلَ: يُؤْخَذُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ مَالِكٌ.وَقِيلَ: يُؤْخَذُ فَيُحْفَظُ حَتَّى يَظْهَرَ مَالِكُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ.فَإِنْ عَادَ أَحَدُهُمَا فَكَذَّبَ نَفْسَهُ دُفِعَ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَدَّعِيهِ وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ.

الصُّورِيَّةُ فِي الْإِقْرَارِ:

52- لَمَّا كَانَ الْإِقْرَارُ إِخْبَارًا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ جَازَ تَخَلُّفُ مَدْلُولِهِ الْوَضْعِيِّ، بِمَعْنَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ كَاذِبًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ لُزُومًا.فَإِذَا ادَّعَى أَنَّ مُورَثَهُ أَقَرَّ تَلْجِئَةً، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَهُ تَحْلِيفُ الْمُقَرِّ لَهُ، وَلَوِ ادَّعَى أَنَّهُ أَقَرَّ كَاذِبًا لَا يُقْبَلُ.وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ فِي التَّلْجِئَةِ يَدَّعِي الْوَارِثُ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ فِعْلاً لَهُ، وَهُوَ تَوَاطُؤُهُ مَعَ الْمُقِرِّ فِي السِّرِّ، فَلِذَا يَحْلِفُ بِخِلَافِ دَعْوَى الْإِقْرَارِ كَاذِبًا كَمَا لَا يَخْفَى.

وَنَقَلَ الْمَوَّاقُ عَنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ وَابْنِ نَافِعٍ لَوْ سَأَلَ شَخْصٌ ابْنَ عَمِّهِ أَنْ يُسْكِنَهُ مَنْزِلاً فَقَالَ: هُوَ لِزَوْجَتِي، ثُمَّ قَالَ لِثَانٍ وَلِثَالِثٍ كَذَلِكَ، ثُمَّ طَلَبَتْ امْرَأَتُهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّمَا قُلْتُهُ اعْتِذَارًا لِنَمْنَعَهُ، فَلَا شَيْءَ لَهَا بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ.أَيْ لَا يُعْتَبَرُ كَلَامُهُ إِقْرَارًا.

وَيَقُولُ الشَّيْخُ مَنْصُورُ الْبُهُوتِيُّ الْحَنْبَلِيُّ: إِذَا خَافَ شَخْصٌ أَنْ يَأْخُذَ آخَرُ مَالَهُ ظُلْمًا جَازَ لَهُ الْإِقْرَارُ- صُورَةً- بِمَا يَدْفَعُ هَذَا الظُّلْمَ، وَيَحْفَظُ الْمَالَ لِصَاحِبِهِ، مِثْلَ أَنْ يُقِرَّ بِحَاضِرٍ أَنَّهُ ابْنُهُ أَوْ أَخُوهُ أَوْ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ كَذَا دَيْنًا، وَيَتَأَوَّلَ فِي إِقْرَارِهِ، بِأَنْ يَعْنِيَ بِكَوْنِهِ ابْنَهُ صِغَرَهُ، أَوْ بِقَوْلِهِ أَخِي أُخُوَّةَ الْإِسْلَامِ.وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ أَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ تَلْجِئَةٌ، تَفْسِيرُهُ كَذَا وَكَذَا.وَعَلَى هَذَا فَالْإِقْرَارُ لَا يُعْتَبَرُ مَا دَامَ قَدْ ثَبَتَتْ صُورِيَّتُهُ، وَقَوَاعِدُ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَأْبَى ذَلِكَ.

التَّوْكِيلُ فِي الْإِقْرَارِ:

53- الْأَصْلُ أَنَّ التَّوْكِيلَ يَجُوزُ فِي كُلِّ مَا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ، وَمِنْ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِذِ الْإِخْبَارُ مِنَ الْمُوَكِّلِ حَقِيقَةً، وَمِنَ الْوَكِيلِ حُكْمًا، لِأَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ كَفِعْلِ الْمُوَكِّلِ، فَكَأَنَّ الْإِقْرَارَ صَدَرَ مِمَّنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ.وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ إِقْرَارَ الْوَكِيلِ

بِالتَّصَرُّفِ إِذَا أَنْكَرَهُ الْمُوَكِّلُ لَا يَنْفُذُ، كَمَا صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ إِقْرَارَ الْوَكِيلِ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ إِنْ كَانَ مُفَوَّضًا أَوْ جَعَلَ لَهُ الْإِقْرَارَ.وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ التَّوْكِيلَ فِي الْإِقْرَارِ لَا يَجُوزُ.نَعَمْ يَكُونُ بِالتَّوْكِيلِ بِالْإِقْرَارِ مُقِرًّا لِثُبُوتِ الْحَقِّ عَلَيْهِ.وَبِالنِّسْبَةِ لِإِقْرَارِ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ إِلاَّ إِذَا كَانَ قَدْ فَوَّضَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مَعْنًى يَقْطَعُ الْخُصُومَةَ وَيُنَافِيهَا فَلَا يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ، وَلِأَنَّ الْإِذْنَ فِي الْخُصُومَةِ لَا يَقْتَضِي الْإِقْرَارَ، فَإِنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَيَكُونُ الْوَكِيلُ كَشَاهِدٍ.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ أَحَدُ جَوَابَيِ الدَّعْوَى، فَصَحَّ مِنَ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ كَمَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِنْكَارُ، لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ إِذَا نَصَّ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ لَيْسَ لَهُ الْإِقْرَارُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْإِقْرَارِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَلَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي لَا يَصِحُّ، وَخَرَجَ بِهِ عَنِ الْوَكَالَةِ، كَمَا نَصُّوا عَلَى أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْإِقْرَارِ يَصِحُّ، وَلَا يَصِيرُ الْمُوَكِّلُ بِمُجَرَّدِ التَّوْكِيلِ مُقِرًّا خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الطَّوَاوِيسِيِّ: مَعْنَاهُ أَنْ يُوَكَّلَ بِالْخُصُومَةِ وَيَقُولَ: خَاصِمْ، فَإِذَا رَأَيْتَ لُحُوقَ مَئُونَةٍ أَوْ خَوْفَ عَارٍ عَلَيَّ فَأَقِرَّ بِالْمُدَّعَى يَصِحُّ إِقْرَارُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ.وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَظْهَرُ مِنْهُ وَجْهُ عَدَمِ كَوْنِهِ إِقْرَارًا أَيْ بِمُجَرَّدِ الْوَكِيلِ.

أَثَرُ الشُّبْهَةِ فِي الْإِقْرَارِ:

54- الشُّبْهَةُ لُغَةً: الِالْتِبَاسُ، وَشَبَّهَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ: خَلَّطَ حَتَّى اشْتَبَهَ لِغَيْرِهِ وَعَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا: مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ فَهِيَ بِهَذَا تُؤَثِّرُ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَمِنْهُ الْإِقْرَارُ.فَلَوِ احْتَمَلَ الْإِقْرَارُ اللَّبْسَ أَوِ التَّأْوِيلَ أَوْ شَابَهُ شَيْءٌ مِنَ الْغُمُوضِ وَالْخَفَاءِ اعْتُبِرَ ذَلِكَ شُبْهَةً، وَالشَّيْءُ الْمُقَرُّ بِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ حَقًّا لِلْعِبَادِ.وَحُقُوقُ الْعِبَادِ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، بِخِلَافِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ مِنْهَا مَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ.عَلَى تَفْصِيلٍ يُبَيَّنُ فِي مَوْضِعِهِ، وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حَقّ، وَشُبْهَة).

55- وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِإِقْرَارِ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ غَيْرِ الْمُفْهِمَةِ، لِمَا فِيهَا مِنَ الشُّبْهَةِ.

يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَمَّا الْأَخْرَسُ فَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ إِشَارَتُهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ إِقْرَارٌ.وَإِنْ فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ، فَقَالَ الْقَاضِي: عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ.لِأَنَّ مَنْ صَحَّ إِقْرَارُهُ بِغَيْرِ الزِّنَا صَحَّ إِقْرَارُهُ بِهِ كَالنَّاطِقِ.وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يُحَدُّ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ تَحْتَمِلُ مَا فُهِمَ مِنْهَا وَغَيْرَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ، وَهُوَ احْتِمَالُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ.

56- وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَنْ إِقْرَارِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمُكْرَهِ وَأَثَرِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْإِقْرَارِ.كَمَا أَنَّ تَكْذِيبَ الْمُقَرِّ لَهُ لِلْمُقِرِّ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ، أَوْ ظُهُورَ كَذِبِ الْمُقِرِّ- كَمِنْ يُقِرُّ بِالزِّنَا فَظَهَرَ مَجْبُوبًا- مَانِعٌ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ، لِتَيَقُّنِ كَذِبِ الْإِقْرَارِ.

وَلَوْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ وَكَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، وَكَانَ أَهْلاً لِلتَّكْذِيبِ، فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ، وَالْقَوْلُ لَهُ، كَإِقْرَارِهِ بِدَيْنٍ بِسَبَبِ كَفَالَةٍ.وَيَقُولُ الشِّيرَازِيُّ: لَوْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِمَالٍ فِي يَدِهِ فَكَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ بَطَلَ الْإِقْرَارُ، لِأَنَّهُ رَدَّهُ، وَفِي الْمَالِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُحْفَظُ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ، وَالْمُقَرُّ لَهُ لَا يَدَّعِيهِ، فَوَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ حِفْظُهُ كَالْمَالِ الضَّائِعِ.

وَالثَّانِي: لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ لَهُ بِمِلْكِهِ، فَإِذَا رَدَّهُ الْمُقَرُّ لَهُ بَقِيَ فِي مِلْكِهِ.

وَفِي الْمُغْنِي: لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَكَذَّبَتْهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّهَا لَا يُبْطِلُ إِقْرَارَهُ، كَمَا لَوْ سَكَتَتْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّا صَدَّقْنَاهَا فِي إِنْكَارِهَا فَصَارَ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ.

وَيَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ لِإِبْطَالِ الْإِقْرَارِ بِتَكْذِيبِ الْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يَسْتَمِرَّ التَّكْذِيبُ، بِحَيْثُ إِذَا رَجَعَ الْمُقَرُّ لَهُ إِلَى تَصْدِيقِهِ صَحَّ الْإِقْرَارُ وَلَزِمَ، مَا لَمْ يَرْجِعِ الْمُقِرُّ.

كُلُّ هَذَا مِمَّا يُوجِدُ شُبْهَةً فِي الْإِقْرَارِ.فَوُجُودُ الشُّبْهَةِ فِيهِ أَوْ وُجُودُ مَا يُعَارِضُهُ أَوْلَى بِالِاعْتِدَادِ بِهِ مِنَ الْإِقْرَارِ نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَلَا يُعْدَلُ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ إِلاَّ بِدَلِيلٍ ثَابِتٍ يَقِينِيٍّ لَا يُوجَدُ مَا يُعَارِضُهُ أَوْ يُوهِنُ مِنْهُ.

الشُّبْهَةُ بِتَقَادُمِ الْإِقْرَارِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ:

57- جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ وَالْفَتْحِ: التَّقَادُمُ لَا يُبْطِلُ الْإِقْرَارَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا الَّذِي لَا يُبْطِلُ التَّقَادُمُ الْإِقْرَارَ بِهِ اتِّفَاقًا.وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَنَا أُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَإِنْ جَاءَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ عَامًا.وَعِنْدَهُمَا لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الشَّارِبِ إِلاَّ إِذَا أَقَرَّ بِهِ عِنْدَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ.فَالتَّقَادُمُ يُؤَثِّرُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالشُّرْبِ عِنْدَهُمَا فَيَسْقُطُ الْحَدُّ.

وَفِي الْهِدَايَةِ وَالْفَتْحِ وَالْبَحْرِ: التَّقَادُمُ يُؤَثِّرُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ عَدَا حَدَّ الْقَذْفِ، لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ، لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ، فَإِنَّ التَّقَادُمَ لَا يُؤَثِّرُ عَلَيْهِ، وَيُحَدُّ بِإِقْرَارِهِ مَعَ التَّقَادُمِ إِلاَّ فِي حَدِّ الشُّرْبِ فَقَطْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّ التَّقَادُمَ فِيهِ يُبْطِلُ الْإِقْرَارَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ.

58- أَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فَإِنَّ التَّقَادُمَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا، لَا فِي الْإِقْرَارِ بِهَا وَلَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا.وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ أَقَرَّ بِزِنًا قَدِيمٍ وَجَبَ الْحَدُّ، وَبِهَذَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ عَلَى الْفَوْرِ فَيَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَقْبَلُ بَيِّنَةً عَلَى زِنًا قَدِيمٍ وَأَحُدُّهُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ، وَأَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ، وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ.

الرُّجُوعُ عَنِ الْإِقْرَارِ:

59- الرُّجُوعُ قَدْ يَكُونُ صَرِيحًا كَأَنْ يَقُولَ: رَجَعْتُ عَنْ إِقْرَارِي، أَوْ كَذَبْتُ فِيهِ، أَوْ دَلَالَةً كَأَنْ يَهْرُبَ عِنْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، إِذِ الْهَرَبُ دَلِيلُ الرُّجُوعِ، فَإِنْ كَانَ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ كَالزِّنَا، فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةَ وَالْمَشْهُورَ عِنْدِ الْمَالِكِيَّةِ وَمَذْهَبَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ الرُّجُوعَ يُعْتَبَرُ، وَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي الرُّجُوعِ وَهُوَ الْإِنْكَارُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي الْإِنْكَارِ يَكُونُ كَاذِبًا فِي الْإِقْرَارِ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ يَكُونُ صَادِقًا فِي الْإِقْرَارِ، فَيُورِثُ شُبْهَةً فِي ظُهُورِ الْحَدِّ، وَالْحُدُودُ لَا تُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا أَقَرَّ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- بِالزِّنَا لَقَّنَهُ الرُّجُوعَ.فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلاً لِلسُّقُوطِ بِالرُّجُوعِ مَا كَانَ لِلتَّلْقِينِ مَعْنًى، سَوَاءٌ أَرَجَعَ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَمْ بَعْدَهُ، قَبْلَ الْإِمْضَاءِ أَمْ بَعْدَهُ.وَيَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ بِأَنْ يَهْرُبَ عِنْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَإِنْكَارُ الْإِقْرَارِ رُجُوعٌ، فَلَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِالزِّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَأَمَرَ الْقَاضِي بِرَجْمِهِ فَقَالَ: مَا أَقْرَرْتُ بِشَيْءٍ- يُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ.وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ إِقَامِةِ الْحَدِّ بِالْإِقْرَارِ الْبَقَاءَ عَلَيْهِ إِلَى تَمَامِ الْحَدِّ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ أَوْ هَرَبَ كَفَّ عَنْهُ، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَالزُّهْرِيُّ وَحَمَّادٌ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ.وَقَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَا يُتْرَكُ، لِأَنَّ مَاعِزًا هَرَبَ فَقَتَلُوهُ وَلَمْ يَتْرُكُوهُ، وَلَوْ قُبِلَ رُجُوعُهُ لَلَزِمَتْهُمُ الدِّيَةُ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ بِإِقْرَارِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.وَحُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ إِنْ رَجَعَ حُدَّ لِلْفِرْيَةِ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ رَجَعَ عَنِ السَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ ضُرِبَ دُونَ الْحَدِّ.

وَنَقَلَ الشِّيرَازِيُّ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ، لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالرُّجُوعِ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ.

وَاسْتَدَلَّ ابْنُ قُدَامَةَ لِلْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِاعْتِبَارِ الرُّجُوعِ بِأَنَّ « مَاعِزًا هَرَبَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: هَلاَّ تَرَكْتُمُوهُ يَتُوبُ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ »؟ فَفِي هَذَا أَوْضَحُ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ رُجُوعُهُ.

وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ إِحْدَى بَيِّنَتَيِ الْحَدِّ، فَيَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ كَالشُّهُودِ إِذَا رَجَعُوا قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ.وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ ضَمَانُ مَاعِزٍ عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوهُ بَعْدَ هَرَبِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الرُّجُوعِ.أَمَّا إِنْ رَجَعَ صَرَاحَةً بِأَنْ قَالَ: كَذَبْتُ فِي إِقْرَارِي أَوْ رَجَعْتُ عَنْهُ أَوْ لَمْ أَفْعَلْ مَا أَقْرَرْتُ بِهِ وَجَبَ تَرْكُهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَبَ ضَمَانُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ زَالَ إِقْرَارُهُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ فَصَارَ كَمَنْ لَمْ يُقِرَّ، وَلَا قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِلِ لِلِاخْتِلَافِ فِي صِحَّةِ الرُّجُوعِ فَكَانَ شُبْهَةً.

وَقَيَّدَ الْإِمَامُ مَالِكٌ فِي الرِّوَايَةِ غَيْرِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ قَبُولَ رُجُوعِ الْمُقِرِّ فِي حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ بِأَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ لِوُجُودِ شُبْهَةٍ، أَمَّا لَوْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ فَلَا يُعْتَدُّ بِرُجُوعِهِ، فَقَدْ نَصَّ أَشْهَبُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْذَرُ إِلاَّ إِذَا رَجَعَ بِشُبْهَةٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ.

وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ إِلاَّ الرُّجُوعَ الصَّرِيحَ.وَلَا يَرَوْنَ مِثْلَ الْهُرُوبِ عِنْدَ تَنْفِيذِ الْحَدِّ رُجُوعًا، فَلَوْ قَالَ الْمُقِرُّ: اتْرُكُونِي أَوْ لَا تَحُدُّونِي، أَوْ هَرَبَ قَبْلَ حَدِّهِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ لَا يَكُونُ رُجُوعًا فِي الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ يَجِبُ تَخْلِيَتُهُ حَالاً، فَإِنْ صَرَّحَ فَذَاكَ وَإِلاَّ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ لَمْ يُخَلَّ لَمْ يُضْمَنْ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِمْ شَيْئًا فِي خَبَرِ مَاعِزٍ.

60- أَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ أَوْ بِحَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ- كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَكَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ- ثُمَّ رَجَعَ فِي إِقْرَارِهِ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَمْلِكْ إِسْقَاطَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ بَعْدَ مَا ثَبَتَ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالرُّجُوعِ، وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُشَاحَّةِ، وَمَا دَامَ قَدْ ثَبَتَ لَهُ فَلَا يُمْكِنُ إِسْقَاطُهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ.

وَقَدْ وَضَّحَ الْقَرَافِيُّ الْإِقْرَارَ الَّذِي يُقْبَلُ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَاَلَّذِي لَا يُقْبَلُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، فَقَالَ: الْأَصْلُ فِي الْإِقْرَارِ اللُّزُومُ مِنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الطَّبْعِ.وَضَابِطُ مَا لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، هُوَ مَا لَيْسَ لَهُ فِيهِ عُذْرٌ عَادِيٌّ، وَضَابِطُ مَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ- أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الرُّجُوعِ عَنْهُ عُذْرٌ عَادِيٌّ، فَإِذَا أَقَرَّ الْوَارِثُ لِلْوَرَثَةِ أَنَّ مَا تَرَكَهُ أَبُوهُ مِيرَاثٌ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا عُهِدَ فِي الشَّرِيعَةِ، ثُمَّ جَاءَ شُهُودٌ أَخْبَرُوهُ أَنَّ أَبَاهُ أَشْهَدَهُمْ أَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ بِهَذِهِ الدَّارِ وَحَازَهَا لَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ مُعْتَذِرًا بِإِخْبَارِ الْبَيِّنَةِ لَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَعُذْرُهُ، وَيُقِيمُ بَيِّنَتَهُ، وَلَا يَكُونُ إِقْرَارُهُ السَّابِقُ مُكَذِّبًا لِلْبَيِّنَةِ وَقَادِحًا فِيهَا، فَيُقْبَلُ الرُّجُوعُ فِي الْإِقْرَارِ.

وَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إِنْ حَلَفَ- أَوْ مَعَ يَمِينِهِ- فَحَلَفَ الْمُقَرُّ لَهُ، فَرَجَعَ الْمُقِرُّ وَقَالَ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّهُ يَحْلِفُ، لَا يَلْزَمُ الْمُقِرَّ شَيْءٌ، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِأَنَّ هَذَا الِاشْتِرَاطَ يَقْضِي عَدَمَ اعْتِقَادِ لُزُومِ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَالْعَادَةُ جَرَتْ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِقْرَارٍ.وَيَقُولُ ابْنُ جُزَيٍّ: مَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ لِمَخْلُوقٍ لَمْ يَنْفَعْهُ الرُّجُوعُ، وَإِنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنْ رَجَعَ إِلَى شُبْهَةٍ قُبِلَ مِنْهُ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى غَيْرِ شُبْهَةٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ: قَوْلٌ يُقْبَلُ مِنْهُ وِفَاقًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ.وَقِيلَ: لَا يُقْبَلُ مِنْهُ وِفَاقًا لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.

هَلِ الْإِقْرَارُ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ؟

61- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ: عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِمَالٍ، وَالْمُقَرُّ لَهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي إِقْرَارِهِ، لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ عَنْ كَرْهٍ مِنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِلاَّ أَنْ يُسَلِّمَهُ بِطِيبٍ مِنْ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً عَلَى سَبِيلِ الْهِبَةِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ ابْنِ الْفَضْلِ: أَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلتَّمْلِيكِ، وَفِي الْهِدَايَةِ وَشُرُوحِهَا: وَالْمُقَرُّ لَهُ إِذَا صَدَّقَهُ ثُمَّ رَدَّهُ لَا يَصِحُّ رَدُّهُ.

وَحُكْمُهُ لُزُومُ مَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى الْمُقِرِّ، وَعَمَلُهُ إِظْهَارُ الْمُخْبَرِ بِهِ لِغَيْرِهِ لَا التَّمْلِيكُ بِهِ ابْتِدَاءً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَسَائِلُ:

أ- أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَقَرَّ بِعَيْنٍ لَا يَمْلِكُهَا يَصِحُّ إِقْرَارُهُ، حَتَّى لَوْ مَلَكَهَا الْمُقِرُّ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهَا إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ، وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَمْلِيكُ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِمُوَافَقَةِ الْحَنَفِيَّةِ فِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ، لَكِنْ لَمْ نَجِدْ فِي كَلَامِهِمْ أَنَّ الْمُقِرَّ إِذَا مَلَكَ الْعَيْنَ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهَا لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَمْ نَجِدْ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ذِكْرًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

ب- الْإِقْرَارُ بِالْخَمْرِ لِلْمُسْلِمِ يَصِحُّ حَتَّى يُؤْمَرَ بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمْ يَصِحَّ، لَكِنْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالْخَمْرِ، وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْخَمْرِ إِذَا كَانَ مُحْتَرَمًا أَوْ غَيْرَ مُحْتَرَمٍ، وَصَحَّحُوا الْإِقْرَارَ بِالْخَمْرِ الْمُحْتَرَمِ.

ج- الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ إِذَا أَقَرَّ بِجَمِيعِ مَالِهِ لِأَجْنَبِيٍّ صَحَّ إِقْرَارُهُ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمْ يَنْفُذْ إِلاَّ بِقَدْرِ الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ إِجَازَتِهِمْ، وَبِقَوْلِهِمْ مَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَوْلَانِ آخَرَانِ، قِيلَ: لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ إِلاَّ فِي الثُّلُثِ.

د- الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إِذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ صَحَّ إِقْرَارُهُ، وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ ابْتِدَاءً كَانَ تَبَرُّعًا مِنَ الْعَبْدِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ فِي الْكَثِيرِ.وَمِثْلُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلاَّ أَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. الْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ:

62- إِذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْوَرَثَةِ بِوَارِثٍ ثَالِثٍ مُشَارِكٍ لَهُمَا فِي الْمِيرَاثِ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَتَبَعَّضُ فَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ دُونَ الْمُنْكِرِ، وَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ فِي حَقِّهِمَا، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مُنْكِرٌ وَلَمْ تُوجَدْ شَهَادَةٌ يَثْبُتُ بِهَا النَّسَبُ.وَلَكِنَّهُ يُشَارِكُ الْمُقِرَّ فِي الْمِيرَاثِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ مَالٍ لَمْ يَحْكُمْ بِبُطْلَانِهِ فَلَزِمَهُ الْمَالُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِبَيْعٍ أَوْ بِدَيْنٍ فَأَنْكَرَ الْآخَرُ.وَيَجِبُ لَهُ فَضْلُ مَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ مِنْ مِيرَاثِهِ، وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَشَرِيكٌ، وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ.وَتُقْسَمُ حِصَّةُ الْمُقِرِّ أَثْلَاثًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُقَرُّ لَهُ مِمَّا فِي يَدِ الْمُقِرِّ إِلاَّ الثُّلُثَ (وَهُوَ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ) كَمَا لَوْ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِبَيِّنَةٍ، لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ بِحَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِحِصَّتِهِ وَحِصَّةِ أَخِيهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِمَّا يَخُصُّهُ، كَالْإِقْرَارِ بِالْوَصِيَّةِ، وَإِقْرَارِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى مَالِ الشَّرِكَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا كَانَ اثْنَانِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ لَزِمَهُ دَفْعُ نِصْفِ مَا فِي يَدِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِأُخْتٍ لَزِمَهُ ثُلُثُ مَا فِي يَدِهِ، لِأَنَّهُ أَخَذَ مَا لَا يَسْتَحِقُّ مِنَ التَّرِكَةِ، فَصَارَ كَالْغَاصِبِ، فَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ التَّرِكَةِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِهَا، فَإِذَا مَلَكَ بَعْضَهَا أَوْ غَصَبَ تَعَلَّقَ الْحَقُّ بِبَاقِيهَا، وَاَلَّذِي فِي يَدِ الْمُنْكِرِ كَالْمَغْصُوبِ فَيَقْتَسِمَانِ الْبَاقِيَ بِالسَّوِيَّةِ، كَمَا لَوْ غَصَبَهُ أَجْنَبِيٌّ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُشَارِكُ الْمُقِرُّ فِي الْمِيرَاثِ (قَضَاءً)، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يُقِرُّوا جَمِيعًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ فَلَا يَرِثُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِنَسَبِ مَعْرُوفِ النَّسَبِ.وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُقِرُّ صَادِقًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.هَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ نَصِيبَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ (دِيَانَةً) وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ أَوْ ثُلُثَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.

وَإِنْ أَقَرَّ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ بِنَسَبِ مَنْ يُشَارِكُهُمْ فِي الْمِيرَاثِ ثَبَتَ نَسَبُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَرَثَةُ وَاحِدًا أَمْ جَمَاعَةً، ذُكُورًا أَمْ إِنَاثًا، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مُقَامَ الْمَيِّتِ فِي مِيرَاثِهِ وَدُيُونِهِ...وَكَذَلِكَ فِي النَّسَبِ، وَقَدْ رَوَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ - رضي الله عنها- أَنَّ « سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه- اخْتَصَمَ هُوَ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِي ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ:

أَوْصَانِي أَخِي عُتْبَةُ إِذَا قَدِمْتُ مَكَّةَ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ وَأَقْبِضَهُ فَإِنَّهُ ابْنُهُ، فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ:

هُوَ أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- : هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ » وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْعَدَدُ، وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَالَةُ فَلَمْ يُعْتَبَرِ الْعَدَدُ فِيهِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِإِقْرَارِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِإِقْرَارِ اثْنَيْنِ، لِأَنَّهُ يَحْمِلُ النَّسَبَ عَلَى غَيْرِهِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْعَدَدُ كَالشَّهَادَةِ.

شُرُوطُ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ:

63- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ عَلَى الْمُقِرِّ نَفْسِهِ:

(1) أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مَجْهُولَ النَّسَبِ.

(2) أَلاَّ يُنَازِعَهُ فِيهِ مُنَازِعٌ، لِأَنَّهُ إِنْ نَازَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ تَعَارَضَا، فَلَمْ يَكُنْ إِلْحَاقُهُ بِأَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ.

(3) وَأَنْ يُمْكِنَ صِدْقُهُ بِأَنْ يُحْتَمَلَ أَنْ يُولَدَ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ.

(4) أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا قَوْلَ لَهُ كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ، أَوْ يُصَدِّقَ الْمُقِرَّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّصْدِيقِ.فَإِنْ كَبِرَ الصَّغِيرُ وَعَقَلَ الْمَجْنُونُ فَأَنْكَرَ لَمْ يُسْمَعْ إِنْكَارُهُ، لِأَنَّ نَسَبَهُ قَدْ ثَبَتَ فَلَا يَسْقُطُ، وَلِأَنَّ الْأَبَ لَوْ عَادَ فَجَحَدَ النَّسَبَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ.

64- وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ كَإِقْرَارٍ بِأَخٍ اعْتُبِرَ فِيهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ السَّابِقَةُ، وَشَرْطٌ خَامِسٌ، وَهُوَ كَوْنُ الْمُقِرِّ جَمِيعَ الْوَرَثَةِ.فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ بِنْتًا أَوْ أُخْتًا أَوْ أُمًّا أَوْ ذَا فَرْضٍ يَرِثُ جَمِيعَ الْمَالِ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ، ثَبَتَ النَّسَبُ بِقَوْلِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْقَائِلِينَ بِالرَّدِّ، وَعِنْدَ مَنْ لَا يَرَى الرَّدَّ كَالشَّافِعِيِّ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ النَّسَبُ، لِأَنَّهُ لَا يَرَى الرَّدَّ وَيُجْعَلُ الْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ، وَلَهُمْ فِيمَا إِذَا وَافَقَهُ الْإِمَامُ فِي الْإِقْرَارِ وَجْهَانِ، يَقُولُ الشِّيرَازِيُّ: وَإِنْ مَاتَ وَخَلَّفَ بِنْتًا فَأَقَرَّتْ بِنَسَبِ أَخٍ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ، لِأَنَّهَا لَا تَرِثُ جَمِيعَ الْمَالِ.فَإِنْ أَقَرَّ مَعَهَا الْإِمَامُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَثْبُتَ، لِأَنَّ الْإِمَامَ نَافِذُ الْإِقْرَارِ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمَالَ بِالْإِرْثِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ لَا يَتَبَيَّنُونَ، فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ.وَيَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِأَخٍ وَعَمٍّ لَمْ يَرِثْهُ إِنْ وُجِدَ وَارِثٌ، وَإِلاَّ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ أَصْلاً أَوْ وَارِثٌ غَيْرُ حَائِزٍ فَخِلَافٌ، وَالرَّاجِحُ: إِرْثُ الْمُقَرِّ بِهِ مِنَ الْمُقِرِّ جَمِيعُ الْمَالِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْإِقْرَارُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ أَمْ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ، وَفِي قَوْلٍ: يَحْلِفُ الْمُقِرُّ بِهِ أَنَّ الْإِقْرَارَ حَقٌّ.

65- وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْوَارِثِينَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَأَقَرَّ الْمُكَلَّفُ بِأَخٍ ثَالِثٍ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَحُوزُ الْمِيرَاثَ كُلَّهُ، فَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فَأَقَرَّا بِهِ أَيْضًا ثَبَتَ نَسَبُهُ لِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَا مُكَلَّفَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقِرِّ بِهِ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْإِقْرَارُ مِنْ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ، فَإِنَّ الْمُقِرَّ صَارَ جَمِيعَ الْوَرَثَةِ، هَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُقِرُّ يَحُوزُ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ بَعْدَ مَنْ مَاتَ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ سِوَاهُ أَوْ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ، وَيَقُومُ وَارِثُ الْمَيِّتِ مَقَامَهُ، فَإِذَا وَافَقَ الْمُقِرَّ فِي إِقْرَارِهِ ثَبَتَ النَّسَبُ، وَإِنْ خَالَفَهُ لَمْ يَثْبُتْ.وَإِذَا أَقَرَّ الْوَارِثُ بِمَنْ يَحْجُبُهُ كَأَخٍ أَقَرَّ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ وَوَرِثَ وَسَقَطَ الْمُقِرُّ...وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَقَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ.لِأَنَّهُ ابْنٌ ثَابِتُ النَّسَبِ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ أَحَدُ مَوَانِعِ الْإِرْثِ فَيَرِثُهُ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِبَيِّنَةٍ، وَلِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ سَبَبٌ لِلْمِيرَاثِ فَلَا يَجُوزُ قَطْعُ حُكْمِهِ عَنْهُ، وَلَا يُورَثُ مَحْجُوبٌ بِهِ مَعَ وُجُودِهِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ الْمَوَانِعِ.

وَقَالَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ: يَثْبُتُ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ وَلَا يَرِثُ، لِأَنَّ تَوْرِيثَهُ يُفْضِي إِلَى إِسْقَاطِ تَوْرِيثِ الْمُقِرِّ، فَيُبْطِلُ إِقْرَارُهُ، فَأَثْبَتْنَا النَّسَبَ دُونَ الْإِقْرَارِ.يَقُولُ الشِّيرَازِيُّ: إِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ يَحْجُبُ الْمُقِرَّ، مِثْلَ أَنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ وَيُخَلِّفَ أَخًا فَيُقِرَّ الْأَخُ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ يَثْبُتُ لَهُ النَّسَبُ وَلَا يَرِثُ، لِأَنَّا لَوْ أَثْبَتْنَا لَهُ الْإِرْثَ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى إِسْقَاطِ إِرْثِهِ، لِأَنَّ تَوْرِيثَهُ يُخْرِجُ الْمُقِرَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا فَيَبْطُلُ إِقْرَارُهُ، لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ مِنْ غَيْرِ وَارِثٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


32-موسوعة الفقه الكويتية (إكراه 2)

إِكْرَاهٌ -2

21- وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ مُلْجِئًا- وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ بِالْقَتْلِ أَوْ تَفْوِيتِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ أَوِ الْعَمَلِ الْمُهِينِ لِذِي الْجَاهِ- فَالْأَفْعَالُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:

أ- أَفْعَالٌ أَبَاحَهَا الشَّارِعُ أَصَالَةً دُونَ إِكْرَاهٍ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَإِنَّهُ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى ارْتِكَابِهَا وَجَبَ عَلَى الْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) أَنْ يَرْتَكِبَ أَخَفَّ الضَّرَرَيْنِ.

ب- أَفْعَالٌ أَبَاحَ الشَّارِعُ إِتْيَانَهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ لَحْمِ الْمَيْتَةِ أَوِ الْخِنْزِيرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا حُرِّمَ لِحَقِّ اللَّهِ لَا لِحَقِّ الْآدَمِيِّ، فَالْعَقْلُ مَعَ الشَّرْعِ يُوجِبَانِ ارْتِكَابَ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ.

فَهَذِهِ يُبَاحُ لِلْمُكْرَهِ فِعْلُهَا، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِهَا، إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى امْتِنَاعِهِ قَتْلُ نَفْسِهِ أَوْ تَلَفُ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِكْرَاهَ الْمُلْجِئَ مِنَ الضَّرُورَةِ الَّتِي رَفَعَ اللَّهُ الْإِثْمَ فِيهَا.فَيُبَاحُ الْفِعْلُ عِنْدَ تَحَقُّقِهَا.وَتَنَاوُلُ الْمُبَاحِ دَفْعًا لِلْهَلَاكِ عَنِ النَّفْسِ أَوْ بَعْضِ أَجْزَائِهَا- وَاجِبٌ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، وَلَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ مُكْرَهًا لَمْ يُحَدَّ، لِأَنَّهُ لَا جِنَايَةَ حِينَئِذٍ، وَالْحَدُّ إِنَّمَا شُرِعَ زَجْرًا عَنِ الْجِنَايَاتِ.

ج- أَفْعَالٌ رَخَّصَ الشَّارِعُ فِي فِعْلِهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَوْ صَبَرَ الْمُكْرَهُ عَلَى تَحَمُّلِ الْأَذَى، وَلَمْ يَفْعَلْهَا حَتَّى مَاتَ، كَانَ مُثَابًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ كَالْكُفْرِ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوِ الِاسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ، فَإِذَا أُكْرِهَ الْإِنْسَانُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ جَازَ لَهُ الْفِعْلُ مَتَى كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ، لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}.

وَمِنَ السُّنَّةِ مَا جَاءَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَالْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِيهِ « أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، فَلَمَّا أَتَى النَّبِيَّ- عليه الصلاة والسلام- قَالَ: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: شَرٌّ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ، وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: فَكَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟ قَالَ: مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ، قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ ».

وَقَدْ أَلْحَقَ عُلَمَاءُ الْمَذْهَبِ بِهَذَا النَّوْعِ الْإِكْرَاهَ عَلَى إِفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ، أَوْ تَرْكِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، أَوْ إِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ، فَإِنَّ الْمُكْرَهَ لَوْ صَبَرَ وَتَحَمَّلَ الْأَذَى، وَلَمْ يَفْعَلْ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ كَانَ مُثَابًا، وَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْهَا فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَكَانَ الضَّمَانُ فِي صُورَةِ الْإِتْلَافِ عَلَى الْحَامِلِ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْفَاعِلِ، لِأَنَّ فِعْلَ الْإِتْلَافِ يُمْكِنُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْحَامِلِ بِجَعْلِ الْفَاعِلِ آلَةً لَهُ، فَيَثْبُتُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ.

د- أَفْعَالٌ لَا يَحِلُّ لِلْمُكْرَهِ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، كَقَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا، أَوِ الضَّرْبِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلَاكِ، فَهَذِهِ الْأَفْعَالُ لَا يَجُوزُ لِلْمُكْرَهِ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ فِي امْتِنَاعِهِ عَنْهَا ضَيَاعُ نَفْسِهِ، لِأَنَّ نَفْسَ الْغَيْرِ مَعْصُومَةٌ كَنَفْسِ الْمُكْرَهِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِإِيقَاعِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ آثِمًا، وَوَجَبَ عِقَابُ الْحَامِلِ لَهُ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمَذْهَبِ، وَالْخِلَافُ بَيْنَهُمْ إِنَّمَا هُوَ فِي نَوْعِ هَذَا الْعِقَابِ.

فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ: إِنَّهُ الْقِصَاصُ، لِأَنَّ الْقَتْلَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْحَامِلِ بِجَعْلِ الْفَاعِلِ آلَةً لَهُ، وَالْقِصَاصُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْقَاتِلِ لَا عَلَى آلَةِ الْقَتْلِ.

وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: إِنَّهُ الدِّيَةُ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِالْجِنَايَةِ الْكَامِلَةِ، وَلَمْ تُوجَدِ الْجِنَايَةُ الْكَامِلَةُ بِالنِّسْبَةِ لِكُلٍّ مِنَ الْحَامِلِ وَالْمُكْرَهِ.

وَهَذَا الْقَتْلُ يَقُومُ مَانِعًا مِنَ الْإِرْثِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ) إِذَا كَانَ الْمُكْرَهُ (بِالْفَتْحِ) مُكَلَّفًا.أَمَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ كَالصَّبِيِّ أَوِ الْمَجْنُونِ فَلَا يَكُونُ مَانِعًا.وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَلَا يَحْرُمُ وَلَوْ كَانَ الْمُكْرَهُ مُكَلَّفًا.

أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) فَلَا يَحْرُمُ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ.

وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى الْمُكْرَهِ إِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ شَخْصًا ثَالِثًا غَيْرَ الْمُكْرَهِ وَلَا الْمُكْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ هُوَ الْمُكْرَهَ كَأَنْ قَالَ لِلَّذِي قَتَلَهُ: اقْتُلْنِي وَإِلاَّ قَتَلْتُكَ، فَقَتَلَهُ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِلِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ تَثْبُتُ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً لَا مِيرَاثًا عَنِ الْمَقْتُولِ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ هُوَ الْمُكْرَهَ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ ثَمَّ إِكْرَاهٌ، لِأَنَّ الْمُهَدَّدَ بِهِ لَا يَزِيدُ عَلَى الْقَتْلِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ وَلَا شَيْءَ مِنْ آثَارِهِ، فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ فِي هَذَا الْقَتْلِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ التَّهْدِيدُ بِقَتْلٍ أَشْنَعَ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: لَتُلْقِيَنَّ نَفْسَكَ فِي النَّارِ أَوْ لأَقْتُلَنَّكَ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَخْتَارُ مَا هُوَ الْأَهْوَنُ فِي ظَنِّهِ، وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ: يَصْبِرُ وَلَا يَقْتُلُ نَفْسَهُ، لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْفِعْلِ سَعْيٌ فِي إِهْلَاكِ نَفْسِهِ فَيَصْبِرُ تَحَامِيًا عَنْهُ.ثُمَّ إِذَا أَلْقَى نَفْسَهُ فِي النَّارِ فَاحْتَرَقَ فَعَلَى الْمُكْرِهِ الْقِصَاصُ بِاتِّفَاقِهِمْ، كَمَا فِي الزَّيْلَعِيِّ.

وَنَقَلَ صَاحِبُ مَجْمَعِ الْأَنْهُرِ أَنَّ الْقِصَاصَ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِلصَّاحِبَيْنِ.

وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ أَيْضًا: الزِّنَا، فَإِنَّهُ لَا يُرَخَّصُ فِيهِ مَعَ الْإِكْرَاهِ، كَمَا لَا يُرَخَّصُ فِيهِ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الزِّنَا لَا تَرْتَفِعُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَإِذَا فَعَلَهُ إِنْسَانٌ تَحْتَ تَأْثِيرِ الْإِكْرَاهِ كَانَ آثِمًا، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يُعْتَبَرُ شُبْهَةً، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.

وَقَدْ أَوْرَدَ الْبَابَرْتِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ ضَابِطًا لِأَثَرِ الْإِكْرَاهِ، نَصُّهُ:

الْإِكْرَاهُ الْمُلْجِئُ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا، سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى الْقَوْلِ أَمِ الْفِعْلِ.وَالْإِكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ إِنْ كَانَ عَلَى فِعْلٍ فَلَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ، وَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْمُكْرَهَ فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ بِغَيْرِ إِكْرَاهٍ.وَإِنْ كَانَ عَلَى قَوْلٍ، فَإِنْ كَانَ قَوْلًا يَسْتَوِي فِيهِ الْجِدُّ وَالْهَزْلُ فَكَذَلِكَ، وَإِلاَّ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ.

أَثَرُ الْإِكْرَاهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:

22- يَخْتَلِفُ أَثَرُ الْإِكْرَاهِ عِنْدَهُمْ بِاخْتِلَافِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ:

أ- فَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ عَقْدًا أَوْ حِلًّا أَوْ إِقْرَارًا أَوْ يَمِينًا لَمْ يَلْزَمِ الْمُكْرَهَ شَيْءٌ، وَيَكُونُ الْإِكْرَاهُ فِي ذَلِكَ بِالتَّخْوِيفِ بِقَتْلٍ أَوْ ضَرْبٍ مُؤْلِمٍ أَوْ سَجْنٍ أَوْ قَيْدٍ أَوْ صَفْعٍ لِذِي مُرُوءَةٍ عَلَى مَلأٍَ مِنَ النَّاسِ.وَإِنْ أَجَازَ الْمُكْرَهُ (بِالْفَتْحِ) شَيْئًا مِمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ- غَيْرَ النِّكَاحِ- طَائِعًا بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ لَزِمَ عَلَى الْأَحْسَنِ، وَأَمَّا النِّكَاحُ فَلَا تَصِحُّ إِجَازَتُهُ.

ب- وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ بِأَيِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِهِ، أَوْ قَذْفِ الْمُسْلِمَ بِالزِّنَا، أَوِ الزِّنَا بِامْرَأَةٍ طَائِعَةٍ خَلِيَّةٍ (غَيْرِ مُتَزَوِّجَةٍ)، فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِلاَّ فِي حَالَةِ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ، لَا فِيمَا دُونَهُ مِنْ قَطْعٍ أَوْ سَجْنٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ اعْتُبِرَ مُرْتَدًّا، وَيُحَدُّ فِي قَذْفِ الْمُسْلِمِ، وَفِي الزِّنَا.

ج- وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ، أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْهُ، أَوْ عَلَى زِنًا بِمُكْرَهَةٍ، أَوْ بِامْرَأَةٍ لَهَا زَوْجٌ، فَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ أُكْرِهَ بِالْقَتْلِ.فَإِنْ قَتَلَ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَيُعْتَبَرُ الْقَتْلُ هُنَا مَانِعًا لِلْقَاتِلِ مِنْ مِيرَاثِ الْمَقْتُولِ، لِأَنَّهُ شَرِيكٌ فِي الْفِعْلِ، وَكَذَلِكَ الْمُكْرِهُ (بِالْكَسْرِ) يُقْتَصُّ مِنْهُ أَيْضًا وَيُمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ.وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالْمُكْرِهِ، إِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ شَخْصًا ثَالِثًا غَيْرَهُمَا.

فَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ هُوَ الْمُكْرِهَ (بِالْكَسْرِ) كَمَا لَوْ قَالَ لِلَّذِي قَتَلَهُ: اقْتُلْنِي وَإِلاَّ قَتَلْتُكَ فَقَتَلَهُ، فَلَا قِصَاصَ عِنْدَهُمْ وَتَجِبُ الدِّيَةُ، لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ مِنْ نَاحِيَةٍ، وَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ تَثْبُتُ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً لَا مِيرَاثًا.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ هُوَ الْمُكْرَهَ (بِالْفَتْحِ)، فَالْأَصْلُ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَا قِصَاصَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ، إِلاَّ إِذَا كَانَ التَّهْدِيدُ بِقَتْلٍ أَشْنَعَ، كَالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ وَبَتْرِ الْأَعْضَاءِ حَتَّى الْمَوْتِ، فَإِنَّ الْمُكْرَهَ (بِالْفَتْحِ) يَخْتَارُ أَهْوَنَ الْمِيتَتَيْنِ، جَزَمَ بِهِ اللَّقَانِيُّ.وَإِنْ زَنَى يُحَدُّ. د- وَأَمَّا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى فِعْلِ مَعْصِيَةٍ- غَيْرِ الْكُفْرِ- لَا حَقَّ فِيهَا لِمَخْلُوقٍ كَشُرْبِ خَمْرٍ وَأَكْلِهِ مَيْتَةً، أَوْ إِبْطَالِ عِبَادَةٍ كَصَلَاةٍ وَصَوْمٍ، أَوْ عَلَى تَرْكِهَا فَيَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ بِأَيَّةِ وَسِيلَةٍ مِنْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ.وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فِي الصَّوْمِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ.وَفِي الصَّلَاةِ يَكُونُ الْإِكْرَاهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرَضِ الْمُسْقِطِ لِبَعْضِ أَرْكَانِهَا، وَلَا يَسْقُطُ وُجُوبُهَا.وَفِي شُرْبِ الْخَمْرِ لَا يُقَامُ الْحَدُّ.

وَأَلْحَقَ سَحْنُونٌ بِهَذَا النَّوْعِ الزِّنَا بِامْرَأَةٍ طَائِعَةٍ لَا زَوْجَ لَهَا، خِلَافًا لِلْمَذْهَبِ.

وَيُضِيفُ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ يَسْقُطُ بِالْإِكْرَاهِ مُطْلَقًا، وَلَوْ كَانَ بِضَرْبٍ أَوْ سَجْنٍ لِأَنَّهُ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ.

أَثَرُ الْإِكْرَاهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:

23- يَخْتَلِفُ أَثَرُ الْإِكْرَاهِ عِنْدَهُمْ بِاخْتِلَافِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ.

أ- الْإِكْرَاهُ بِالْقَوْلِ:

إِذَا كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ عَقْدًا أَوْ حَلًّا أَوْ أَيَّ تَصَرُّفٍ قَوْلِيٍّ أَوْ فِعْلِيٍّ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عَمَلًا بِعُمُومِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: « رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ » إِذِ الْمَقْصُودُ لَيْسَ رَفْعَ مَا وَقَعَ لِمَكَانِ الِاسْتِحَالَةِ، وَإِنَّمَا رَفْعُ حُكْمِهِ، مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَيُخَصَّصُ هَذَا الْعُمُومُ فِي مَوْضِعِ دَلَالَتِهِ.وَبِمُقْتَضَى أَدِلَّةِ التَّخْصِيصِ يُقَرِّرُ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِقَوْلِ الْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) إِلاَّ فِي الصَّلَاةِ فَتَبْطُلُ بِهِ وَعَلَى هَذَا فَيُبَاحُ لِلْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَلَا يَجِبُ، بَلِ الْأَفْضَلُ الِامْتِنَاعُ مُصَابَرَةً عَلَى الدِّينِ وَاقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ.

وَفِي طَلَاقِ زَوْجَةِ الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ) أَوْ بَيْعِ مَالِهِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ كُلِّ مَا يُعْتَبَرُ الْإِكْرَاهُ فِيهِ إِذْنًا- أَبْلَغُ.

وَالْإِكْرَاهُ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ الَّتِي تُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ أَوِ الزِّنَا، وَفِي الْإِكْرَاهِ بِالْحُكْمِ الْبَاطِلِ الَّذِي يُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ أَوِ الزِّنَا، فَلَا يَرْتَفِعُ الْإِثْمُ عَنْ شَاهِدِ الزُّورِ، وَلَا عَنِ الْحَاكِمِ الْبَاطِلِ، وَحُكْمُهُمَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ حَيْثُ الضَّمَانُ حُكْمُ الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ)

ب- الْإِكْرَاهُ بِالْفِعْلِ:

لَا أَثَرَ لِلْإِكْرَاهِ بِالْفِعْلِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلاَّ فِيمَا يَأْتِي:

(1) الْفِعْلُ الْمُضَمِّنُ كَالْقَتْلِ أَوْ إِتْلَافِ الْمَالِ أَوِ الْغَصْبِ، فَعَلَى الْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) الْقِصَاصُ أَوِ الضَّمَانُ، وَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ)، وَإِنْ قِيلَ: لَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ) بِمَا غَرِمَ فِي إِتْلَافِ الْمَالِ، لِأَنَّهُ افْتَدَى بِالْإِتْلَافِ نَفْسَهُ عَنِ الضَّرَرِ.قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ: فَيُقْتَلُ هُوَ- الْمُكْرَهُ- (بِالْفَتْحِ) وَمَنْ أَكْرَهَهُ.

(2) الزِّنَا وَمَا إِلَيْهِ: يَأْثَمُ الْمُكْرَهُ (بِالْفَتْحِ) بِالزِّنَا، وَيَسْقُطُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى وَطْءِ الشُّبْهَةِ حُكْمُهُ.

(3) الرَّضَاعُ: فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ فِي الْمُنَاكَحَاتِ وَمَا أُلْحِقَ بِهَا.

(4) كُلُّ فِعْلٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بُطْلَانُ الصَّلَاةِ، كَالتَّحَوُّلِ عَنِ الْقِبْلَةِ، وَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ، وَتَرْكِ قِيَامِ الْقَادِرِ فِي الْفَرِيضَةِ، وَالْحَدَثِ، فَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِمَا تَقَدَّمَ بِرَغْمِ الْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ.

(5) ذَبْحُ الْحَيَوَانِ: تَحِلُّ ذَبِيحَةُ الْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) الَّذِي تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ، كَالْمُسْلِمِ وَالْكِتَابِيِّ وَلَوْ كَانَ الْمُكْرِهُ (بِالْكَسْرِ) مَجُوسِيًّا، أَوْ مُحْرِمًا وَالْمَذْبُوحُ صَيْدٌ.

قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَقَدْ رَأَيْتُ الْإِكْرَاهَ يُسَاوِي النِّسْيَانَ، فَإِنَّ الْمَوَاضِعَ الْمَذْكُورَةَ، إِمَّا مِنْ بَابِ تَرْكِ الْمَأْمُورِ، فَلَا يَسْقُطُ تَدَارُكُهُ، وَلَا يَحْصُلُ الثَّوَابُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَإِمَّا مِنْ بَابِ الْإِتْلَافِ، فَيَسْقُطُ الْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَتَسْقُطُ الْعُقُوبَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ، إِلاَّ الْقَتْلَ عَلَى الْأَظْهَرِ.

أَثَرُ الْإِكْرَاهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:

24- يَخْتَلِفُ أَثَرُ الْإِكْرَاهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِاخْتِلَافِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ:

أ- فَالتَّصَرُّفَاتُ الْقَوْلِيَّةُ تَقَعُ بَاطِلَةً مَعَ الْإِكْرَاهِ إِلاَّ النِّكَاحَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ صَحِيحًا مَعَ الْإِكْرَاهِ، قِيَاسًا لِلْمُكْرَهِ عَلَى الْهَازِلِ.وَإِنَّمَا لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ مَعَ الْإِكْرَاهُ لِلْحَدِيثِ الشَّرِيفِ « لَا طَلَاقَ فِي إِغْلَاقٍ »، وَالْإِكْرَاهُ مِنَ الْإِغْلَاقِ.

ب- وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ لَا يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا، وَمَتَى زَالَ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ أُمِرَ بِإِظْهَارِ إِسْلَامِهِ، وَالْأَفْضَلُ لِمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ أَنْ يَصْبِرَ وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يَجُوزُ إِكْرَاهُهُ كَالذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ، فَأَسْلَمَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ، حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى إِسْلَامِهِ طَوْعًا.

أَمَّا مَنْ يَجُوزُ إِكْرَاهُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ كَالْمُرْتَدِّ، فَإِنَّهُ إِذَا أُكْرِهَ فَأَسْلَمَ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ظَاهِرًا.

ج- وَالْإِكْرَاهُ يُسْقِطُ الْحُدُودَ عَنِ الْمُكْرَهِ، لِأَنَّهُ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ

د- وَإِذَا أَكْرَهَ رَجُلٌ آخَرَ عَلَى قَتْلِ شَخْصٍ فَقَتَلَهُ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالْمُكْرِهِ جَمِيعًا، وَإِنْ صَارَ الْأَمْرُ إِلَى الدِّيَةِ وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ أَحَبَّ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ قَتْلَ أَحَدِهِمَا، وَأَخْذَ نِصْفِ الدِّيَةِ مِنَ الْآخَرِ أَوِ الْعَفْوَ فَلَهُ ذَلِكَ.وَيُعْتَبَرُ الْقَتْلُ هُنَا مَانِعًا مِنَ الْمِيرَاثِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُكْرَهِ وَالْمُكْرِهِ.

وَالْقِصَاصُ عِنْدَهُمْ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالْمُكْرِهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ شَخْصًا ثَالِثًا غَيْرَهُمَا.

فَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ هُوَ الْمُكْرِهَ (بِالْكَسْرِ) فَإِنَّهُ يَكُونُ هَدَرًا، وَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ فِي الْمُخْتَارِ عِنْدَهُمْ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ هُوَ الْمُكْرَهَ (بِالْفَتْحِ)، فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَا دِيَةَ وَلَا قِصَاصَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ.إِلاَّ إِذَا كَانَ التَّهْدِيدُ بِقَتْلٍ أَشْنَعَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ أَهْوَنَ الْمِيتَتَيْنِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.

أَثَرُ إِكْرَاهِ الصَّبِيِّ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ:

25- إِذَا كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ صَبِيًّا، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ آلَةً فِي يَدِ الْمُكْرِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ، وَإِنَّمَا الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ).

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ) وَنِصْفِ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَغَيْرِ الْمُمَيِّزِ.

فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ، اعْتُبِرَ آلَةً عِنْدَهُمْ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ.

وَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا، فَيَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ).

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الصَّبِيَّ غَيْرَ الْمُمَيِّزِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ).وَفِي قَوْلٍ: لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ، لَا عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ أَكْرَهَهُ، لِأَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ خَطَأٌ، وَالْمُكْرِهُ (بِالْكَسْرِ) شَرِيكُ الْمُخْطِئِ، وَلَا قِصَاصَ عَلَى شَرِيكِ مُخْطِئٍ.أَمَّا إِذَا كَانَ الصَّبِيُّ مُمَيِّزًا فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ) وَلَا يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


33-موسوعة الفقه الكويتية (التزام 3)

الْتِزَامٌ -3

الْأَوْصَافُ الْمُغَيِّرَةُ لآِثَارِ الِالْتِزَامِ:

إِذَا تَمَّتِ التَّصَرُّفَاتُ الْمُلْزِمَةُ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الِالْتِزَامِ مُسْتَوْفِيَةً أَرْكَانَهَا وَشَرَائِطَهَا تَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا آثَارُهَا وَوَجَبَ تَنْفِيذُ الِالْتِزَامِ.

لَكِنْ قَدْ يَتَّصِلُ بِالتَّصَرُّفِ بَعْضُ الْأَوْصَافِ الَّتِي تُغَيِّرُ مِنْ آثَارِ الِالْتِزَامِ، فَتُوقِفُهُ أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهِ الْتِزَامًا آخَرَ أَوْ تُبْطِلُهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

أَوَّلًا: الْخِيَارَاتُ:

47- مِنَ الْخِيَارَاتِ مَا يَتَّصِلُ بِالتَّصَرُّفِ، فَيَتَوَقَّفُ لُزُومُهُ وَيَتَأَخَّرُ تَنْفِيذُ الِالْتِزَامِ إِلَى أَنْ يُبَتَّ فِيهَا، فَيَتَبَيَّنَ مَا يَنْفُذُ وَمَا لَا يَنْفُذُ.وَالْخِيَارَاتُ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنَّا نَكْتَفِي بِالْخِيَارَاتِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.وَهِيَ خِيَارُ الشَّرْطِ وَالتَّعْيِينِ وَالرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ.

يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: مِنَ الْخِيَارَاتِ مَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ، وَهُمَا خِيَارُ الشَّرْطِ وَالتَّعْيِينِ، وَمِنْهُ مَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْحُكْمِ كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَمِنْهُ مَا يَمْنَعُ لُزُومَهُ كَخِيَارِ الْعَيْبِ.

وَيَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: شَرَائِطُ لُزُومِ الْبَيْعِ بَعْدَ انْعِقَادِهِ وَنَفَاذِهِ وَصِحَّتِهِ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا مِنْ خِيَارَاتٍ أَرْبَعَةٍ: خِيَارِ الشَّرْطِ، وَالتَّعْيِينِ وَالرُّؤْيَةِ، وَالْعَيْبِ.فَلَا يَلْزَمُ مَعَ هَذِهِ الْخِيَارَاتِ، إِذْ لَا بُدَّ لِلُّزُومِ مِنَ الرِّضَا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}.

وَفِي الْمَوْضُوعُ تَفْصِيلَاتٌ كَثِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَدْخُلُهَا الْخِيَارَاتُ وَالتَّصَرُّفَاتُ الَّتِي لَا تَدْخُلُهَا، وَبِالنِّسْبَةِ لِمَا هُوَ عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى، فَخِيَارُ التَّعْيِينِ مَثَلًا لَا يَأْخُذُ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْقِيَاسِ.وَكَذَلِكَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَلِغَيْرِهِمْ تَفْصِيلٌ فِيهِ. (ر: خِيَار)

ثَانِيًا: الشُّرُوطُ:

48- الشَّرْطُ قَدْ يَكُونُ تَعْلِيقِيًّا، وَقَدْ يَكُونُ تَقْيِيدِيًّا: فَالشَّرْطُ التَّعْلِيقِيُّ: هُوَ رَبْطُ وُجُودِ الشَّيْءِ بِوُجُودِ غَيْرِهِ، أَيْ أَنَّ الْمُلْتَزِمَ يُعَلِّقُ تَنْفِيذَ الْتِزَامِهِ عَلَى وُجُودِ مَا شَرَطَهُ.وَبِذَلِكَ يَكُونُ أَثَرُ الشَّرْطِ التَّعْلِيقِيِّ فِي الِالْتِزَامِ هُوَ تَوَقُّفَ تَنْفِيذِ الِالْتِزَامِ حَتَّى يَحْصُلَ الشَّرْطُ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَثَلًا إِذَا قَالَ لِشَخْصٍ: إِنْ بَنَيْتَ بَيْتَكَ، أَوْ إِنْ تَزَوَّجْتَ فَلَكَ كَذَا فَهُوَ لَازِمٌ، إِذَا وَقَعَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ.

وَهَذَا طَبْعًا فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ، كَالْإِسْقَاطَاتِ وَالْإِطْلَاقَاتِ وَالِالْتِزَامِ بِالْقُرَبِ بِالنَّذْرِ.أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي لَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، فَإِنَّ التَّعْلِيقَ يَمْنَعُ الِانْعِقَادَ لِعَدَمِ صِحَّةِ التَّصَرُّفَاتِ حِينَئِذٍ. (ر: شَرْط- تَعْلِيق).

وَأَمَّا الشَّرْطُ التَّقْيِيدِيُّ فَهُوَ مَا جَزَمَ فِيهِ بِالْأَصْلِ وَشَرَطَ فِيهِ أَمْرًا آخَرَ.

وَأَمَّا أَثَرُهُ فِي الِالْتِزَامِ، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا، فَمَا كَانَ مِنْهُ مُلَائِمًا لِلتَّصَرُّفِ، كَمَنْ يَبِيعُ وَيَشْتَرِطُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يُعْطِيَهُ بِالثَّمَنِ رَهْنًا أَوْ كَفِيلًا...أَوْ كَانَ جَرَى بِهِ التَّعَامُلُ بَيْنَ النَّاسِ كَمَنْ يَشْتَرِي جِرَابًا عَلَى أَنْ يَخْرِزَهُ لَهُ الْبَائِعُ...فَإِنَّهُ يُنْشِئُ الْتِزَامًا زَائِدًا عَلَى الِالْتِزَامِ الْأَصْلِيِّ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ مِنَ الْأَمْثِلَةِ وَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ.

أَمَّا إِنْ كَانَ مُؤَكِّدًا لِمُقْتَضَى التَّصَرُّفِ، كَاشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ فِي الْبَيْعِ مَثَلًا، فَلَا أَثَرَ لَهُ فِي الِالْتِزَامِ، إِذِ الشَّرْطُ هُنَا تَأْكِيدٌ وَبَيَانٌ لِمُقْتَضَى الِالْتِزَامِ.

وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ فَاسِدًا، فَإِنْ كَانَ لَا يَقْتَضِيهِ التَّصَرُّفُ وَلَيْسَ مُلَائِمًا لَهُ وَلَا جَرَى بِهِ التَّعَامُلُ بَيْنَ النَّاسِ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهَا صَاحِبٌ يُطَالِبُ بِهَا، كَمَنْ يَبِيعُ الدَّارَ عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا الْبَائِعُ شَهْرًا، أَوِ الثَّوْبَ عَلَى أَنْ يَلْبَسَهُ أُسْبُوعًا، فَإِنَّ هَذَا الشَّرْطَ فَاسِدٌ وَيَفْسُدُ مَعَهُ التَّصَرُّفُ، وَبِالتَّالِي يَفْسُدُ الِالْتِزَامُ الْأَصْلِيُّ لِلتَّصَرُّفِ حَيْثُ قَدْ فَسَدَ مَصْدَرُهُ.

وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ يَجْرِي فِي عُقُودِ الْمُبَادَلَاتِ الْمَالِيَّةِ فَقَطْ، خِلَافًا لِلتَّبَرُّعَاتِ كَالْهِبَةِ حَيْثُ يَفْسُدُ الشَّرْطُ وَيَبْقَى التَّصَرُّفُ فِي الِالْتِزَامِ بِهِ كَمَا هُوَ، وَيُصْبِحُ الشَّرْطُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الِالْتِزَامِ.

وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّرْطِ يَفْسُدُ، وَيَفْسُدُ مَعَهُ التَّصَرُّفُ، وَيُجْرُونَ هَذَا فِي كُلِّ التَّصَرُّفَاتِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، فَإِنَّ الشَّرْطَ الَّذِي يُفْسِدُ التَّصَرُّفَ عِنْدَهُمْ، فَهُوَ مَا كَانَ مُنَافِيًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، أَوْ كَانَ مُخِلًّا بِالثَّمَنِ.وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ.إِذْ هُوَ عِنْدَهُمْ: مَا كَانَ مُنَافِيًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، أَوْ كَانَ الْعَقْدُ يَشْتَمِلُ عَلَى شَرْطِهِ.

أَمَّا مَا كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدٍ، فَإِنَّهُ غَيْرُ فَاسِدٍ عِنْدَهُمْ إِذَا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً.فَمَنْ يَبِيعُ الدَّارَ وَيَشْتَرِطُ سُكْنَاهَا شَهْرًا مَثَلًا فَشَرْطُهُ صَحِيحٌ وَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ.وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ « بَاعَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- جَمَلًا، وَاشْتَرَطَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ أَيْ رُكُوبَهُ »، وَفِي لَفْظٍ قَالَ: « بِعْتُهُ وَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلَانَهُ إِلَى أَهْلِي ».

عَلَى أَنَّ الْجُمْهُورَ وَمَعَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَاشْتَرَطَ أَنْ يُعْتِقَهُ الْمُشْتَرِي فَهُوَ شَرْطٌ صَحِيحٌ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ لِلْحُرِّيَّةِ، بَلْ إِنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ: يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى ذَلِكَ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ الشَّرْطُ بِغَيْرِ مَا ذُكِرَ، فَإِنَّهُ يَفْسُدُ هُوَ وَيَبْقَى التَّصَرُّفُ صَحِيحًا فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ.

وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلَاتٌ كَثِيرَةٌ (ر: اشْتِرَاط، شَرْط).

ثَالِثًا: الْأَجَلُ:

49- الْأَجَلُ هُوَ الْمُدَّةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا الْمُسْتَقْبَلَةُ الْمُحَقَّقَةُ الْوُقُوعِ.وَالِالْتِزَامُ قَدْ يَكُونُ مُؤَجَّلًا إِذَا كَانَ الْأَجَلُ أَجَلَ تَوْقِيتٍ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ تَنْفِيذَ الِالْتِزَامِ مُسْتَمِرًّا طِوَالَ الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ، فَمَنْ أَجَّرَ دَارًا لِمُدَّةِ شَهْرٍ أَصْبَحَ مِنْ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ الِانْتِفَاعُ بِالدَّارِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَلَا يَجُوزُ لِلْمُلْتَزِمِ- وَهُوَ الْمُؤَجِّرُ- أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَسْلِيمِ الدَّارِ قَبْلَ انْتِهَاءِ الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ.

وَإِذَا كَانَ أَجَلَ إِضَافَةٍ، فَإِنَّ تَنْفِيذَ الِالْتِزَامِ لَا يَبْدَأُ إِلاَّ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ، فَالدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ إِلَى رَمَضَانَ يَمْنَعُ الدَّائِنَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ.فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ وَجَبَ عَلَى الْمُلْتَزِمِ بِالدَّيْنِ الْوَفَاءُ، وَصَارَ مِنْ حَقِّ الدَّائِنِ الْمُطَالَبَةُ بِدَيْنِهِ.

وَالتَّصَرُّفَاتُ تَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَجَلِ تَوْقِيتًا أَوْ إِضَافَةً، فَمِنْهَا مَا هُوَ مُؤَقَّتٌ أَوْ مُضَافٌ بِطَبِيعَتِهِ، كَالْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُنْجَزٌ وَلَا يَقْبَلُ التَّأْقِيتَ بِحَالٍ كَالصَّرْفِ وَالنِّكَاحِ، وَإِذَا دَخَلَهُمَا التَّأْقِيتُ بَطَلَا، وَيَكُونُ أَثَرُ التَّأْقِيتِ هُنَا بُطْلَانَ الْأَجَلِ.

وَأَمَّا الْعَقْدُ فَيَبْطُلُ فِي الصَّرْفِ إِجْمَاعًا.وَفِي النِّكَاحِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ.

وَمِنْهَا مَا يَكُونُ الْأَصْلُ فِيهِ التَّنْجِيزَ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ لَكِنْ يَجُوزُ تَأْجِيلُهُ إِرْفَاقًا فَيَتَغَيَّرُ أَثَرُ الِالْتِزَامِ مِنَ التَّسْلِيمِ الْفَوْرِيِّ إِلَى تَأْخِيرِهِ إِلَى الْأَجَلِ الْمُحَدَّدِ.

عَلَى أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَقْبَلُ التَّأْجِيلَ يُشْتَرَطُ فِيهَا فِي الْجُمْلَةِ: أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا، إِذْ فِي الْجَهَالَةِ غَرَرٌ يُؤَدِّي إِلَى النِّزَاعِ، وَأَلاَّ يُعْتَاضَ عَنِ الْأَجَلِ، إِذِ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ يُؤَدِّي إِلَى الرِّبَا.

وَيَكُونُ الْأَثَرُ حِينَئِذٍ بُطْلَانَ الشَّرْطِ.

وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، إِذْ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا يَكُونُ الْأَجَلُ فِيهِ مَجْهُولًا بِطَبِيعَتِهِ، كَالْجِعَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَيَلْحَقُ بِهِمَا الْوَكَالَةُ وَالْقِرَاضُ وَالْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ إِذَا لَمْ يُحَدِّدْ لِلْعَمَلِ مُدَّةً.كَذَلِكَ التَّبَرُّعَاتُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَجُوزُ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ.

وَفِي كُلِّ ذَلِكَ تَفْصِيلَاتٌ مُطَوَّلَةٌ تُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا وَفِي (بَحْثِ: أَجَل).

تَوْثِيقُ الِالْتِزَامِ:

50- تَوْثِيقُ الِالْتِزَامِ- أَيْ إِحْكَامُهُ وَإِثْبَاتُهُ- أَمْرٌ مَشْرُوعٌ لِاحْتِيَاجِ النَّاسِ إِلَى مُعَامَلَةِ مَنْ لَا يَعْرِفُونَهُ، خَشْيَةَ جَحْدِ الْحُقُوقِ أَوْ ضَيَاعِهَا.

وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلنَّاسِ مَا يَضْمَنُ لَهُمْ حُقُوقَهُمْ بِتَوْثِيقِهَا، وَجَعَلَ لِذَلِكَ طُرُقًا مُتَعَدِّدَةً وَهِيَ:

(1) الْكِتَابَةُ وَالْإِشْهَادُ:

51- شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْكِتَابَةَ وَالْإِشْهَادَ صِيَانَةً لِلْحُقُوقِ، وَذَلِكَ فِي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}.. {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}.. {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} وَقَدْ أَوْجَبَ الشَّرْعُ تَوْثِيقَ بَعْضِ الِالْتِزَامَاتِ لِخَطَرِهِ كَالنِّكَاحِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ طَلَبُ الشُّفْعَةِ فَلَا تَثْبُتُ عِنْدَ الْإِنْكَارِ إِلاَّ بِالْبَيِّنَةِ، وَمِثْلُهُ الْإِشْهَادُ عِنْدَ دَفْعِ مَالِ الْيَتِيمِ إِلَيْهِ عِنْدَ الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ.

وَمِنَ الِالْتِزَامَاتِ مَا اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ فِيهِ أَوِ اسْتِحْبَابِهِ، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالسَّلَمِ وَالْقَرْضِ وَالرَّجْعَةِ.وَالشَّهَادَةُ تُعْتَبَرُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا الْحَقُّ.وَلِبَيَانِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْإِشْهَادُ وَمَا لَا يَجِبُ، وَبَيَانِ شُرُوطِ الشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ مِنْ حَيْثُ التَّحَمُّلُ وَالْأَدَاءُ وَالْعَدَدُ وَصِفَةُ الشَّاهِدِ وَالْمَشْهُودِ بِهِ يُنْظَرُ: (إِثْبَات، إِشْهَاد- شَهَادَة- أَدَاء- تَحَمُّل).

(2) الرَّهْنُ:

52- الرَّهْنُ شُرِعَ كَذَلِكَ لِتَوْثِيقِ الِالْتِزَامَاتِ، لِأَنَّهُ احْتِبَاسُ الْعَيْنِ لِيَسْتَوْفِيَ الْحَقَّ مِنْ ثَمَنِهَا، أَوْ مِنْ ثَمَنِ مَنَافِعِهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ أَخْذِهِ مِنَ الْغَرِيمِ.

وَالْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}.وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- « اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ ».

وَالرَّهْنُ مَشْرُوعٌ بِطَرِيقِ النَّدْبِ لَا بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} وَلِأَنَّهُ أَمَرَ بِهِ عِنْدَ عَدَمِ تَيَسُّرِ الْكِتَابَةِ، وَالْكِتَابَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَكَذَلِكَ بَدَلُهَا.

هَذَا وَلِلرَّهْنِ شُرُوطٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مَقْبُوضًا وَكَوْنُهُ بِدَيْنٍ لَازِمٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ (ر: رَهْن).

(3) الضَّمَانُ وَالْكَفَالَةُ:

53- الضَّمَانُ وَالْكَفَالَةُ قَدْ يُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الضَّمَانُ لِلدَّيْنِ، وَالْكَفَالَةُ لِلنَّفْسِ.وَهُمَا مَشْرُوعَانِ أَيْضًا لِيَتَوَثَّقَ بِهِمَا الِالْتِزَامُ.وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يُوسُفَ: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}.

وَفِي كُلِّ ذَلِكَ تَفْصِيلَاتٌ وَاخْتِلَافَاتٌ لِلْفُقَهَاءِ تُنْظَرُ فِي مَوْضِعِهَا (ر: كَفَالَة).

أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَدْخُلُهَا التَّوْثِيقُ وَاَلَّتِي لَا يَدْخُلُهَا، فَقَدْ قَالَ السُّيُوطِيُّ: الْوَثَائِقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْأَعْيَانِ ثَلَاثَةٌ: الرَّهْنُ وَالْكَفَالَةُ وَالشَّهَادَةُ، ثُمَّ قَالَ: مِنَ الْعُقُودِ مَا تَدْخُلُهُ الثَّلَاثَةُ كَالْبَيْعِ وَالسَّلَمِ وَالْقَرْضِ، وَمِنْهَا مَا تَدْخُلُهُ الشَّهَادَةُ دُونَهُمَا وَهُوَ الْمُسَاقَاةُ- جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ- وَنُجُومُ الْكِتَابَةِ.

وَمِنْهَا مَا تَدْخُلُهُ الشَّهَادَةُ وَالْكَفَالَةُ دُونَ الرَّهْنِ وَهُوَ الْجِعَالَةُ.

وَمِنْهَا مَا تَدْخُلُهُ الْكَفَالَةُ دُونَهُمَا وَهُوَ ضَمَانُ الدَّرْكِ.

ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ لَنَا عَقْدٌ يَجِبُ فِيهِ الْإِشْهَادُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ إِلاَّ النِّكَاحَ قَطْعًا، وَالرَّجْعَةَ عَلَى قَوْلٍ، وَعَقْدَ الْخِلَافَةِ عَلَى وَجْهٍ، وَمِمَّا قِيلَ بِوُجُوبِ الْإِشْهَادِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْعُقُودِ: اللُّقَطَةُ عَلَى وَجْهٍ، وَاللَّقِيطُ عَلَى الْأَصَحِّ لِخَوْفِ إِرْقَاقِهِ.

وَقَدْ زَادَ الزَّرْكَشِيُّ أُرُوشَ الْجِنَايَاتِ الْمُسْتَقِرَّةَ فِيمَا يَدْخُلُهُ الثَّلَاثَةُ.

وَقَدِ اعْتَبَرَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ التَّوْثِيقَ لَا يَنْحَصِرُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ (الشَّهَادَةِ وَالرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ) وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ مِنْهَا: الْحَبْسَ عَلَى الْحُقُوقِ إِلَى الْوَفَاءِ، وَمِنْهَا حَبْسُ الْمَبِيعِ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ، وَكَذَلِكَ مَنْعُ الْمَرْأَةِ تَسْلِيمَ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَ مُعَجَّلَ الْمَهْرِ..

انْتِقَالُ الِالْتِزَامِ:

54- يَجُوزُ انْتِقَالُ الِالْتِزَامِ بِالدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى، إِذْ هُوَ نَوْعٌ مِنَ التَّوْثِيقِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْحَوَالَةِ، وَهِيَ مُعَامَلَةٌ صَحِيحَةٌ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ فَجَازَتْ لِلْحَاجَةِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: « مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُحِيلَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ ».وَلِلتَّفْصِيلِ وَمَعْرِفَةِ الْخِلَافِ (ر: حَوَالَة).

إِثْبَاتُ الِالْتِزَامِ:

55- إِثْبَاتُ الِالْتِزَامِ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ إِنْكَارِ الْمُلْتَزِمِ.وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ عَلَى الْمُلْتَزَمِ لَهُ (صَاحِبِ الْحَقِّ) إِثْبَاتُ حَقِّهِ، عَمَلًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: « الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ».وَلِلْقَاضِي- إِنْ لَمْ يُظْهِرْ صَاحِبُ الْحَقِّ بَيِّنَتَهُ- أَنْ يَسْأَلَهُ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ « جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ، وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ، إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لِأَبِي، فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِلْحَضْرَمِيِّ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَلَكَ يَمِينُهُ ».

وَلِلْإِثْبَاتِ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ كَالْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ وَالنُّكُولِ وَالْقَسَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (ر: إِثْبَات). انْقِضَاءُ الِالْتِزَامِ:

56- الْأَصْلُ أَنَّ الِالْتِزَامَ يَنْقَضِي بِوَفَاءِ الْمُلْتَزِمِ وَتَنْفِيذِهِ مَا الْتَزَمَ بِهِ مِنْ تَسْلِيمِ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ، كَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، وَالثَّمَنِ لِلْبَائِعِ، وَالْمَأْجُورِ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَالْأُجْرَةِ لِلْمُؤَجِّرِ وَالْمَوْهُوبِ لِلْمُتَّهِبِ وَبَدَلِ الْقَرْضِ لِلْمُقْرِضِ وَهَكَذَا.

وَيَنْقَضِي الِالْتِزَامُ أَيْضًا بِالْقِيَامِ بِالْعَمَلِ الْمُلْتَزَمِ بِهِ فِي إِجَارَةٍ أَوِ اسْتِصْنَاعٍ أَوْ مُسَاقَاةٍ أَوْ وَكَالَةٍ أَوْ مُضَارَبَةٍ، وَبِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فِي التَّصَرُّفِ الْمُقَيَّدِ بِالزَّمَنِ كَالْإِجَارَةِ الْمُحَدَّدَةِ.

57- وَقَدْ يَنْقَضِي الِالْتِزَامُ بِغَيْرِ هَذَا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:

(1) إِبْرَاءُ الدَّائِنِ لِلْمَدِينِ.

2- الْفَسْخُ أَوِ الْعَزْلُ فِي الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْقِرَاضِ وَالْوَدِيعَةِ، إِلاَّ إِذَا اقْتَضَى فَسْخُهَا ضَرَرًا عَلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ.

يَقُولُ السُّيُوطِيُّ: الشَّرِكَةُ وَالْوَكَالَةُ وَالْعَارِيَّةُ وَالْوَدِيعَةُ وَالْقِرَاضُ كُلُّهَا تَنْفَسِخُ بِالْعَزْلِ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا.

وَفِي الْمَنْثُورِ لِلزَّرْكَشِيِّ: الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ إِذَا اقْتَضَى فَسْخُهَا ضَرَرًا عَلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ امْتَنَعَ وَصَارَتْ لَازِمَةً.وَلِهَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: لِلْوَصِيِّ عَزْلُ نَفْسِهِ إِلاَّ أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ تَلَفُ الْمَالِ بِاسْتِيلَاءِ ظَالِمٍ.

وَيَجْرِي مِثْلُهُ فِي الشَّرِيكِ وَالْمُقَارِضِ، وَقَدْ قَالُوا فِي الْعَامِلِ إِذَا فَسَخَ الْقِرَاضَ: عَلَيْهِ التَّقَاضِي وَالِاسْتِيفَاءُ، لِأَنَّ الدَّيْنَ مِلْكٌ نَاقِصٌ، وَقَدْ أَخَذَهُ مِنْهُ كَامِلًا، فَلْيَرُدَّهُ كَمَا أَخَذَهُ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ حَتَّى يَنِضَّ الْمَالُ.

(3) الرُّجُوعُ فِي التَّبَرُّعَاتِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ، وَبَعْدَ الْقَبْضِ فِي الْعَارِيَّةِ وَالْقَرْضِ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ.

(4) الْمُقَاصَّةُ فِي الدُّيُونِ.

(5) انْعِدَامُ الْأَهْلِيَّةِ فِي الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ كَالْجُنُونِ وَالْمَوْتِ.

(6) الْفَلَسُ أَوْ مَرَضُ الْمَوْتِ فِي التَّبَرُّعَاتِ قَبْلَ الْقَبْضِ.

(7) عَدَمُ إِمْكَانِ التَّنْفِيذِ، كَهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ.

يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: هَلَاكُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، إِنْ هَلَكَ كُلُّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ انْفَسَخَ الْبَيْعُ، لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ أَوْجَبَ مُطَالَبَةَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، وَإِذَا طَالَبَهُ بِالثَّمَنِ فَهُوَ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ التَّسْلِيمِ فَتَمْتَنِعُ الْمُطَالَبَةُ أَصْلًا، فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْبَيْعِ فَائِدَةٌ فَيَنْفَسِخُ، وَكَذَلِكَ إِذَا هَلَكَ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ بِأَنْ كَانَ حَيَوَانًا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، وَكَذَا إِذَا هَلَكَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي عِنْدَنَا.

وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ، لِأَنَّهُ بِالْإِتْلَافِ صَارَ قَابِضًا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


34-موسوعة الفقه الكويتية (انفساخ 1)

انْفِسَاخٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الِانْفِسَاخُ: مَصْدَرُ انْفَسَخَ، وَهُوَ مُطَاوِعُ فَسَخَ، وَمِنْ مَعْنَاهُ: النَّقْضُ وَالزَّوَالُ.يُقَالُ: فَسَخْتُ الشَّيْءَ فَانْفَسَخَ أَيْ: نَقَضْتُهُ فَانْتَقَضَ، وَفَسَخْتُ الْعَقْدَ أَيْ: رَفَعْتُهُ.

وَالِانْفِسَاخُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ انْحِلَالُ الْعَقْدِ إِمَّا بِنَفْسِهِ، وَإِمَّا بِإِرَادَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، أَوْ بِإِرَادَةِ أَحَدِهِمَا.

وَقَدْ يَكُونُ الِانْفِسَاخُ أَثَرًا لِلْفَسْخِ، فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُطَاوِعٌ لِلْفَسْخِ وَنَتِيجَةٌ لَهُ، كَمَا سَيَأْتِي فِي أَسْبَابِ الِانْفِسَاخِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْإِقَالَةُ:

2- الْإِقَالَةُ فِي اللُّغَةِ، عِبَارَةٌ عَنِ الرَّفْعِ، وَفِي الشَّرْعِ: رَفْعُ الْعَقْدِ وَإِزَالَتُهُ بِرِضَا الطَّرَفَيْنِ، وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي اعْتِبَارِهَا فَسْخًا أَوْ عَقْدًا جَدِيدًا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِقَالَةٌ).

ب- الِانْتِهَاءُ:

3- انْتِهَاءُ الشَّيْءِ: بُلُوغُهُ أَقْصَى مَدَاهُ، وَانْتَهَى الْأَمْرُ: بَلَغَ النِّهَايَةَ.وَانْتِهَاءُ الْعَقْدِ: مَعْنَاهُ بُلُوغُهُ نِهَايَتَهُ، وَهَذَا يَكُونُ بِتَمَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالِاسْتِئْجَارِ لِأَدَاءِ عَمَلٍ فَأَتَمَّهُ الْأَجِيرُ، أَوِ الْقَضَاءُ مُدَّةَ الْعَقْدِ كَاسْتِئْجَارِ مَسْكَنٍ أَوْ أَرْضٍ لِمُدَّةٍ مَحْدُودَةٍ.وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعُقُودِ الْمُسْتَمِرَّةِ كَانْتِهَاءِ عَقْدِ الزَّوَاجِ بِالْمَوْتِ أَوِ الطَّلَاقِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَالْفَرْقُ بَيْنَ الِانْفِسَاخِ وَالِانْتِهَاءِ، أَنَّ الِانْفِسَاخَ يُسْتَعْمَلُ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ، وَيَكُونُ فِي عُقُودِ الْمُدَّةِ قَبْلَ نِهَايَتِهَا أَيْضًا، بِخِلَافِ الِانْتِهَاءِ، وَبَعْضُهُمْ يَسْتَعْمِلُ الِانْفِسَاخَ مَكَانَ الِانْتِهَاءِ وَبِالْعَكْسِ.

ج- الْبُطْلَانُ:

4- الْبُطْلَانُ لُغَةً: فَسَادُ الشَّيْءِ وَزَوَالُهُ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى: النَّقْضِ وَالسُّقُوطِ.وَالْبُطْلَانُ يَطْرَأُ عَلَى الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ إِذَا وُجِدَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِهِ، وَيُرَادِفُ الْفَسَادَ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي الْعِبَادَاتِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ إِلاَّ فِي الْحَجِّ.

أَمَّا فِي الْعُقُودِ فَالْبَاطِلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، هُوَ مَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا لَا بِأَصْلِهِ وَلَا بِوَصْفِهِ، بِأَنْ فَقَدَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِهِ، أَوْ وَرَدَ الْعَقْدُ عَلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ مِنْ نَقْلِ الْمِلْكِيَّةِ أَوِ الضَّمَانِ أَوْ غَيْرِهِمَا.

وَعَلَى هَذَا يَخْتَلِفُ الِانْفِسَاخُ عَن الْبُطْلَانِ، بِأَنَّ الِانْفِسَاخَ يَرِدُ عَلَى الْمُعَامَلَاتِ دُونَ الْعِبَادَاتِ، وَيُعْتَبَرُ الْعَقْدُ قَبْلَ الِانْفِسَاخِ عَقْدًا مَوْجُودًا ذَا أَثَرٍ شَرْعِيٍّ، بِخِلَافِ الْبُطْلَانِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْبَاطِلَ فِي اصْطِلَاحِ الْحَنَفِيَّةِ لَا وُجُودَ لَهُ أَصْلًا، وَكَذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَاسِدِ.

د- الْفَسَادُ:

5- الْفَسَادُ نَقِيضُ الصَّلَاحِ، وَفَسَادُ الْعِبَادَةِ بُطْلَانُهَا إِلاَّ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الْحَجِّ كَمَا سَبَقَ، وَالْفَاسِدُ مِنَ الْعُقُودِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ: مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ دُونَ وَصْفِهِ، وَأَمَّا عِنْدَ غَيْرِهِمْ فَيُطْلَقُ الْفَاسِدُ وَالْبَاطِلُ عَلَى كُلِّ تَصَرُّفٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، وَالْفَاسِدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَدْ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَحْكَامِ، فَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ عِنْدَهُمْ إِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ أَفَادَ الْمِلْكَ، وَلَكِنَّهُ مِلْكٌ خَبِيثٌ، يَجِبُ فَسْخُ الْعَقْدِ مَا دَامَتِ الْعَيْنُ قَائِمَةً، لِحَقِّ الشَّارِعِ.

وَيُعْتَبَرُ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ عَقْدًا مَوْجُودًا ذَا أَثَرٍ، لَكِنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ، يَجِبُ شَرْعًا فَسْخُهُ رَفْعًا لِلْفَسَادِ.

هـ- الْفَسْخُ:

6- الْفَسْخُ: هُوَ حَلُّ ارْتِبَاطِ الْعَقْدِ، وَهَذَا يَكُونُ بِإِرَادَةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، أَوْ بِحُكْمِ الْقَاضِي، فَهُوَ عَمَلُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ غَالِبًا، أَوْ فِعْلُ الْحَاكِمِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ.

أَمَّا الِانْفِسَاخُ: فَهُوَ انْحِلَالُ ارْتِبَاطِ الْعَقْدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ أَثَرًا لِلْفَسْخِ، أَوْ نَتِيجَةً لِعَوَامِلَ غَيْرِ اخْتِيَارِيَّةٍ.فَإِذَا كَانَ الِانْحِلَالُ أَثَرًا لِلْفَسْخِ كَانَتِ الْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالِانْفِسَاخِ عَلَاقَةَ السَّبَبِ بِالْمُسَبَّبِ، كَمَا إِذَا فَسَخَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ عَقْدَ الْبَيْعِ بِسَبَبِ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ مَثَلًا، فَالِانْفِسَاخُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ نَتِيجَةُ الْفَسْخِ الَّذِي مَارَسَهُ الْعَاقِدُ اخْتِيَارًا.يَقُولُ الْقَرَافِيُّ: الْفَسْخُ قَلْبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعِوَضَيْنِ لِصَاحِبِهِ، وَالِانْفِسَاخُ انْقِلَابُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعِوَضَيْنِ لِصَاحِبِهِ، فَالْأَوَّلُ فِعْلُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إِذَا ظَفِرُوا بِالْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ، وَالثَّانِي صِفَةُ الْعِوَضَيْنِ، فَالْأَوَّلُ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ، وَالثَّانِي حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَهَذَانِ فَرْعَانِ: فَالْأَوَّلُ مِنْ جِهَةِ الْمَوْضُوعَاتِ، وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ.

وَمِثْلُهُ مَا جَاءَ فِي الْمَنْثُورِ لِلزَّرْكَشِيِّ، إِلاَّ أَنَّهُ أَطْلَقَ وَلَمْ يُقَيِّدِ الْفَسْخَ بِالْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ الْمُحَرَّمَةِ، وَذَلِكَ بِإِرَادَةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا كَمَا هُوَ الْحَالُ غَالِبًا.

أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الِانْفِسَاخُ أَثَرًا لِلْفَسْخِ، بَلْ نَتِيجَةً لِعَوَامِلَ خَارِجَةٍ عَنْ إِرَادَةِ الْعَاقِدَيْنِ، كَمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ مَثَلًا، فَلَا يُوجَدُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالِانْفِسَاخِ عَلَاقَةُ السَّبَبِيَّةِ الَّتِي قَرَّرَهَا الْقَرَافِيُّ.

7- وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا انْفِسَاخَ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ مَا يَأْتِي:

أ- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ، كَمَا إِذَا تَلِفَتِ الدَّابَّةُ الْمُعَيَّنَةُ، أَوِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ الْمُسْتَأْجَرَةُ.

ب- لَوْ غُصِبَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ مِنْ يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ سَقَطَ الْأَجْرُ لِزَوَالِ التَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ، وَتَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ قَالُوا: لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِنَفْسِهِ، بَلْ يَثْبُتُ خِيَارُ الْفَسْخِ لِلْمُسْتَأْجِرِ.

ج- إِذَا مَاتَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَاهُمَا فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ، كَالْعَارِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ.

د- يَنْفَسِخُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ، وَكَذَلِكَ تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِالْأَعْذَارِ عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي أَسْبَابِ الِانْفِسَاخِ.

وَسَوْفَ يَقْتَصِرُ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَحْثِ عَلَى الِانْفِسَاخِ الَّذِي لَا يَكُونُ أَثَرًا لِلْفَسْخِ.أَمَّا الِانْفِسَاخُ الَّذِي هُوَ أَثَرٌ لِلْفَسْخِ فَيُرْجَعُ إِلَيْهِ تَحْتَ عُنْوَانِ (فَسْخٌ).

مَا يَرِدُ عَلَيْهِ الِانْفِسَاخُ:

8- مَحَلُّ الِانْفِسَاخِ الْعَقْدُ لَا غَيْرُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ سَبَبُهُ الْفَسْخَ أَمْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُمْ عَرَّفُوا الِانْفِسَاخَ بِانْحِلَالِ ارْتِبَاطِ الْعَقْدِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُتَصَوَّرُ إِلاَّ إِذَا كَانَ هُنَاكَ ارْتِبَاطٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ بِوَاسِطَةِ الْعَقْدِ.

أَمَّا إِذَا أُرِيدَ مِنَ الِانْفِسَاخِ الْبُطْلَانُ وَالنَّقْضُ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَرِدَ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَنْشَأُ عَنْ إِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَلِكَ الْعُهُودُ وَالْوُعُودُ، كَمَا يُسْتَعْمَلُ أَحْيَانًا فِي الْعِبَادَاتِ وَيَرِدُ عَلَى النِّيَّاتِ، كَانْفِسَاخِ نِيَّةِ صَلَاةِ الْفَرْضِ إِلَى النَّفْلِ، وَكَذَلِكَ انْفِسَاخُ الْحَجِّ بِالْعُمْرَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَصَرَفَهُ إِلَى الْعُمْرَةِ يَنْفَسِخُ الْحَجُّ إِلَى الْعُمْرَةِ.

وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْسَخَ نِيَّةَ الْحَجِّ بَعْدَمَا أَحْرَمَ، وَيَقْطَعَ أَفْعَالَهُ، وَيَجْعَلَ إِحْرَامَهُ وَأَفْعَالَهُ لِلْعُمْرَةِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٌ).

أَسْبَابُ الِانْفِسَاخِ:

9- الِانْفِسَاخُ لَهُ أَسْبَابٌ مُخْتَلِفَةٌ: مِنْهَا مَا هُوَ اخْتِيَارِيٌّ، وَهُوَ مَا يَأْتِي بِإِرَادَةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ بِإِرَادَةِ كِلَيْهِمَا أَوْ بِحُكْمِ الْقَاضِي، وَمِنْهَا مَا هُوَ سَمَاوِيٌّ وَهُوَ مَا يَأْتِي بِدُونِ إِرَادَةِ الْعَاقِدَيْنِ أَوِ الْقَاضِي، بَلْ بِعَوَامِلَ خَارِجَةٍ عَنِ الْإِرَادَةِ لَا يُمْكِنُ اسْتِمْرَارُ الْعَقْدِ مَعَهَا.

يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: مَا يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ نَوْعَانِ: اخْتِيَارِيٌّ وَضَرُورِيٌّ، فَالِاخْتِيَارِيُّ هُوَ أَنْ يَقُولَ: فَسَخْتُ الْعَقْدَ أَوْ نَقَضْتُهُ وَنَحْوُهُ، وَالضَّرُورِيُّ: أَنْ يَهْلِكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ مَثَلًا.

الْأَسْبَابُ الِاخْتِيَارِيَّةُ:

أَوَّلًا: الْفَسْخُ:

10- الْمُرَادُ بِالْفَسْخِ هُنَا مَا يَرْفَعُ بِهِ حُكْمَ الْعَقْدِ بِإِرَادَةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، وَهَذَا يَكُونُ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ بِطَبِيعَتِهَا، كَعَقْدَيِ الْعَارِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ مَثَلًا، أَوْ مَا يَكُونُ فِيهِ أَحَدُ الْخِيَارَاتِ، أَوْ بِسَبَبِ الْأَعْذَارِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ بِهَا اسْتِمْرَارُ الْعَقْدِ، أَوْ بِسَبَبِ الْفَسَادِ.

وَيُنْظَرُ حُكْمُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مُصْطَلَحَيْ: (إِقَالَةٌ وَفَسْخٌ).

ثَانِيًا: الْإِقَالَةُ:

11- الْإِقَالَةُ رَفْعُ الْعَقْدِ وَإِزَالَتُهُ بِرِضَى الطَّرَفَيْنِ وَهِيَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الِانْفِسَاخِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَتَرِدُ عَلَى الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ.أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَقْدُ غَيْرَ لَازِمٍ كَالْعَارِيَّةِ، أَوْ لَازِمًا بِطَبِيعَتِهِ وَلَكِنْ فِيهِ أَحَدُ الْخِيَارَاتِ فَلَا حَاجَةَ فِيهِ لِلْإِقَالَةِ؛ لِجَوَازِ فَسْخِهِ بِطَرِيقٍ أُخْرَى، كَمَا تَقَدَّمَ.

وَيُنْظَرُ الْكَلَامُ فِيهِ تَحْتَ عُنْوَانِ: (إِقَالَةٌ).

أَسْبَابُ الِانْفِسَاخِ غَيْرُ الِاخْتِيَارِيَّةِ:

أَوَّلًا: تَلَفُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ:

تَلَفُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَهُ أَثَرٌ فِي انْفِسَاخِ بَعْضِ الْعُقُودِ، وَالْعُقُودُ نَوْعَانِ:

12- الْأَوَّلُ: الْعُقُودُ الْفَوْرِيَّةُ: وَهِيَ الَّتِي لَا يَحْتَاجُ تَنْفِيذُهَا إِلَى زَمَنٍ مُمْتَدٍّ يَشْغَلُهُ بِاسْتِمْرَارٍ، بَلْ يَتِمُّ تَنْفِيذُهَا فَوْرًا دَفْعَةً وَاحِدَةً فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَخْتَارُهُ الْعَاقِدَانِ، كَالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ وَالصُّلْحِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهَا.

وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعُقُودِ لَا يَنْفَسِخُ بِتَلَفِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إِذَا تَمَّ قَبْضُهُ.فَعَقْدُ الْبَيْعِ مَثَلًا يَتِمُّ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَإِذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ وَهَلَكَ بِيَدِهِ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْهَالِكَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي، وَالْمَالِكُ هُوَ الَّذِي يَتَحَمَّلُ تَبِعَةَ الْهَالِكِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

أَمَّا إِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ بَعْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَبَيَانٌ: فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ- وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْحَنَابِلَةِ- أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ لِمُشْتَرِيهِ، وَهُوَ الْمَالُ الْمِثْلِيُّ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ مَعْدُودٍ، يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالتَّلَفِ وَالضَّمَانِ عَلَى الْبَائِعِ.أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مُعَيَّنًا وَكَانَ عَقَارًا، أَوْ مِنَ الْأَمْوَالِ الْقِيَمِيَّةِ الَّتِي لَيْسَ لِمُشْتَرِيهَا حَقُّ تَوْفِيَةٍ فَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالتَّلَفِ، وَيَنْتَقِلُ الضَّمَانُ إِلَى الْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ اللاَّزِمِ.

وَأَطْلَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الْقَوْلَ بِانْفِسَاخِ الْبَيْعِ إِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ قَبْضِهِ.قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ: وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَالْهَلَاكُ يَكُونُ عَلَى الْبَائِعِ، يَعْنِي يَسْقُطُ الثَّمَنُ وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ.وَمِثْلُهُ مَا جَاءَ فِي الْقَلْيُوبِيِّ: الْمَبِيعُ قَبْلَ قَبْضِهِ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، فَإِنْ تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَسَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي.

13- وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ، أَمَّا إِذَا تَلِفَ الثَّمَنُ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ غَيْرَهُمَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَبِيعِ، لَوْ تَلِفَ انْفَسَخَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا هَلَكَ الثَّمَنُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَسْلِيمُ مِثْلِهِ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ وَلِلنَّاسِ أَغْرَاضٌ فِي الْأَعْيَانِ.أَمَّا إِنْ هَلَكَ الثَّمَنُ وَلَيْسَ لَهُ مِثْلٌ فِي الْحَالِ فَفِيهِ خِلَافٌ.وَلَا أَثَرَ لِتَلَفِ الثَّمَنِ فِي الِانْفِسَاخِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَيْنًا بِأَنْ كَانَ نَقْدًا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعَقْدِ.

هَذَا، وَأَمَّا إِتْلَافُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ إِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْبَائِعِ يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ بِلَا خِلَافٍ.وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي يُعْتَبَرُ قَبْضًا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ.

14- الثَّانِي: الْعُقُودُ الْمُسْتَمِرَّةُ: وَهِيَ الَّتِي يَسْتَغْرِقُ تَنْفِيذُهَا مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ وَتَمْتَدُّ بِامْتِدَادِ الزَّمَنِ حَسَبَ الشُّرُوطِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَالَّتِي تَقْتَضِيهَا طَبِيعَةُ هَذِهِ الْعُقُودِ، كَالْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْوَكَالَةِ وَأَمْثَالِهَا.

وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعُقُودِ يَنْفَسِخُ بِتَلَفِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَمْ بَعْدَهُ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ.

فَعَقْدُ الْإِجَارَةِ مَثَلًا يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ.فَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ عَقِيبَ الْقَبْضِ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ مِنْ أَصْلِهِ وَيَسْقُطُ الْأَجْرُ.وَإِنْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ بَعْدَ مُضِيِّ شَيْءٍ مِنَ الْمُدَّةِ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ، دُونَ مَا مَضَى، وَيَكُونُ لِلْمُؤَجِّرِ مِنَ الْأَجْرِ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى مِنَ الْمَنْفَعَةِ أَوْ بِقَدْرِ مَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ.

وَفِي إِجَارَةِ الدَّوَابِّ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ: أَنَّهُ إِذَا وَقَعَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى دَوَابَّ بِعَيْنِهَا لِحَمْلِ الْمَتَاعِ، فَمَاتَتِ انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا وَقَعَتْ عَلَى دَوَابَّ لَا بِعَيْنِهَا وَسَلَّمَ الْأَجْرَ إِلَيْهِ فَمَاتَتْ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، وَعَلَى الْمُؤَجِّرِ أَنْ يَأْتِيَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لِلْمُسْتَأْجِرِ.

وَكَذَلِكَ إِذَا وَقَعَ عَلَى الْعَيْنِ مَا يَمْنَعُ نَفْعَهَا بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا لَوْ أَصْبَحَتِ الدَّارُ الْمُسْتَأْجَرَةُ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلسُّكْنَى عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) وَذَلِكَ لِزَوَالِ الِاسْمِ بِفَوَاتِ السُّكْنَى؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا تَلِفَتْ فَانْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ، كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا فَزَمِنَتْ (أَيْ مَرِضَتْ مَرَضًا مُزْمِنًا) بِحَيْثُ لَا تَصْلُحُ إِلاَّ لِتَدُورَ فِي الرَّحَى.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ لَكِنْ لَهُ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَفُوتُ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْعَرْصَةِ (وَهِيَ أَرْضُ الْمَبْنَى) مُمْكِنٌ بِدُونِ الْبِنَاءِ، إِلاَّ أَنَّهُ نَاقِصٌ، فَصَارَ كَالْعَيْبِ

وَمِنَ الْعُقُودِ الْمُسْتَمِرَّةِ الَّتِي تَنْفَسِخُ بِتَلَفِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَقْدُ الشَّرِكَةِ وَعَقْدُ الْمُضَارَبَةِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِمَا.وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْعَارِيَّةِ بِتَلَفِ الْمُعَارِ، وَتَنْتَهِي الْوَكَالَةُ الْخَاصَّةُ بِفَوَاتِ مَحَلِّ الْوَكَالَةِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحَيْ (إِعَارَةٌ، وَوَكَالَةٌ).

أَمَّا إِذَا غُصِبَ الْمَحَلُّ وَحِيلَ بَيْنَ الشَّخْصِ الْمُنْتَفِعِ وَالْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا فَلَا يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ) بَلْ لِلْمُسْتَأْجِرِ حَقُّ الْفَسْخِ.وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْغَصْبَ أَيْضًا مُوجِبٌ لِلِانْفِسَاخِ؛ لِزَوَالِ التَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ، كَمَا سَيَأْتِي.

ثَانِيًا: مَوْتُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا:

15- لَا يُؤَثِّرُ الْمَوْتُ فِي انْفِسَاخِ جَمِيعِ الْعُقُودِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، فَبَعْضُ الْعُقُودِ يَتِمُّ الْغَرَضُ مِنْهَا بَعْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَوْرًا، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْعَاقِدَيْنِ وَأَهْلِيَّتِهِمَا بَعْدَ انْعِقَادِهَا، كَالْبَيْعِ الَّذِي يُفِيدُ تَمَلُّكَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ، وَتَمَلُّكَ الْبَائِعَ الثَّمَنَ فَوْرَ إِنْشَائِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْرُونًا بِالْخِيَارِ فَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَاهُمَا بَعْدَ إِتْمَامِ الْعَقْدِ وَانْتِقَالِ مِلْكِيَّةِ الْبَدَلَيْنِ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَعَلَى عَكْسِ ذَلِكَ يَنْتَهِي عَقْدُ النِّكَاحِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ دَوَامُ الْعِشْرَةِ وَقَدْ زَالَ بِالْمَوْتِ.

وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَيْهِ.

وَهُنَاكَ عُقُودٌ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْفِسَاخِهَا بِالْمَوْتِ، كَعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَعُقُودٌ أُخْرَى اتَّفَقُوا عَلَى انْفِسَاخِهَا بِالْمَوْتِ فِي الْجُمْلَةِ وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَكْيِيفِ انْفِسَاخِهَا وَتَعْلِيلِهِ، كَعُقُودِ الْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

أ- انْفِسَاخُ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ:

16- الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ هِيَ مَا لَا يَسْتَبِدُّ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ بِفَسْخِهَا، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالصُّلْحِ وَنَحْوِهَا.

وَبَعْضُ هَذِهِ الْعُقُودِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى امْتِدَادِ الزَّمَنِ، فَلَا أَثَرَ لِلْمَوْتِ فِي انْفِسَاخِهَا بَعْدَ تَمَامِهَا، كَعَقْدِ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ بِوَفَاةِ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ مَا تَمَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا، وَيَقُومُ الْوَرَثَةُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فِيمَا نَشَأَ مِنْ آثَارِ الْعَقْدِ.

وَهُنَاكَ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ يَتَوَقَّفُ آثَارُهَا عَلَى مُرُورِ الزَّمَنِ، كَعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَفِي انْفِسَاخِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:

فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) عَلَى أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، بَلْ تَبْقَى إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ، فَلَا يَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ، كَعَقْدِ الْبَيْعِ.وَيَخْلُفُ الْمُسْتَأْجَرَ وَارِثُهُ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ.

وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ مَعَ خِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ سَيَأْتِي ذِكْرُهُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ إِنْ عَقَدَهَا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَتَنْعَقِدُ الْإِجَارَةُ بِحُدُوثِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، فَلَا تَبْقَى بِدُونِ الْعَاقِدِ.وَإِنْ عَقَدَهَا لِغَيْرِهِ لَمْ تَنْفَسِخْ كَالْوَصِيِّ وَالْوَلِيِّ وَقَيِّمِ الْوَقْفِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمُؤَجِّرَ فَالْعَقْدُ يَقْتَضِي اسْتِيفَاءَ الْمَنَافِعِ مِنْ مِلْكِهِ، وَلَوْ بَقِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ لَاسْتُوفِيَتِ الْمَنَافِعُ مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ، وَهَذَا خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُسْتَأْجِرَ فَالْعَقْدُ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَ الْأُجْرَةِ مِنْ مَالِهِ، وَلَوْ بَقِيَ الْعَقْدُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَاسْتَحَقَّتِ الْأُجْرَةَ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ، وَهَذَا خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ.بِخِلَافِ مَا إِذَا مَاتَ مَنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ الْعَقْدُ كَالْوَكِيلِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَ الْمَنَافِعِ وَلَا اسْتِحْقَاقَ الْأُجْرَةِ مِنْ مِلْكِهِ، فَإِبْقَاءُ الْعَقْدِ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يُوجِبُ تَغْيِيرَ مُوجِبِ الْعَقْدِ.

وَأَصْلُ الْخِلَافِ 4 يَرْجِعُ إِلَى تَكْيِيفِ الْإِجَارَةِ فِي نَقْلِ الْمَنَافِعِ.فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ إِذَا تَمَّتْ وَكَانَتْ عَلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مَلَكَ الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنَافِعَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا إِلَى الْمُدَّةِ، وَيَكُونُ حُدُوثُهَا عَلَى مِلْكِهِ.وَكَذَلِكَ الْمُؤَجِّرُ يَمْلِكُ الْأُجْرَةَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا التَّأْجِيلُ، كَمَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ الثَّمَنَ بِالْبَيْعِ.فَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ وَقَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ يَقُومُ الْوَرَثَةُ مَقَامَ الْمُتَوَفَّى وَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ الْمَنْفَعَةُ، وَالْأُجْرَةُ تُسْتَحَقُّ بِاسْتِيفَائِهَا أَوْ بِاشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ.وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ لَدَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَهِيَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَتَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فَلَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، فَإِذَا اسْتَوْفَى الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ اسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ عَمَلًا بِالْمُسَاوَاةِ.

وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ بِعَدَمِ انْفِسَاخِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَعْنِي أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ فِي الِانْفِسَاخِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ.فَقَدْ صَرَّحُوا: أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْأَجِيرِ الْمُعَيَّنِ، وَبِمَوْتِ الْمُرْضِعَةِ، وَمَوْتِ الصَّبِيِّ الْمُسْتَأْجِرِ لِتَعْلِيمِهِ وَعَلَى رَضَاعِهِ.وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ فِي مَوْتِ الصَّبِيِّ الْمُتَعَلِّمِ أَوِ الْمُرْتَضِعِ قَوْلٌ آخَرُ بِعَدَمِ الِانْفِسَاخِ.

ب- الِانْفِسَاخُ بِالْمَوْتِ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ:

17- الْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ (الْجَائِزَةُ) هِيَ مَا يَسْتَبِدُّ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ بِفَسْخِهَا كَالْعَارِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ الْوَدِيعَةِ وَنَحْوِهَا.

وَهَذِهِ الْعُقُودُ تَنْفَسِخُ بِوَفَاةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهَا عُقُودٌ جَائِزَةٌ يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ فَسْخُهَا فِي حَيَاتِهِ، فَإِذَا مَا تُوُفِّيَ فَقَدْ ذَهَبَتْ إِرَادَتُهُ، وَانْتَهَتْ رَغْبَتُهُ، فَبَطَلَتْ آثَارُ هَذِهِ الْعُقُودِ الَّتِي كَانَتْ تَسْتَمِرُّ بِاسْتِمْرَارِ إِرَادَةِ الْعَاقِدَيْنِ، وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ.

فَعَقْدُ الْإِعَارَةِ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُعِيرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ)؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَهِيَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَيَتَجَدَّدُ الْعَقْدُ حَسَبَ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، كَمَا عَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ؛ وَلِأَنَّ الْعَارِيَّةَ إِبَاحَةُ الْمَنَافِعِ، وَهِيَ تَحْتَاجُ إِلَى الْإِذْنِ، وَقَدْ بَطَلَ بِالْمَوْتِ، فَانْفَسَخَتِ الْإِعَارَةُ، كَمَا عَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالْعَارِيَّةُ عِنْدَهُمْ عَقْدٌ لَازِمٌ، إِذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِأَجَلٍ أَوْ عَمَلٍ، فَلَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُعِيرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ، وَتَدُومُ إِلَى أَنْ تَتِمَّ الْمُدَّةُ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْعَارِيَّةُ مُطْلَقَةً فَفِي انْفِسَاخِهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ رِوَايَتَانِ ظَاهِرُهُمَا عَدَمُ الِانْفِسَاخِ إِلَى الْعَمَلِ أَوِ الزَّمَنِ الْمُعْتَادِ.

وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْوَكَالَةِ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْوَكِيلِ أَوِ الْمُوَكِّلِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ يَنْفَسِخُ Bبِالْعَزْلِ، وَالْمَوْتُ فِي حُكْمِ عَزْلِ الْوَكِيلِ.وَإِذَا مَاتَ الْوَكِيلُ زَالَتْ أَهْلِيَّتُهُ لِلتَّصَرُّفِ، وَإِذَا مَاتَ الْمُوَكِّلُ زَالَتْ صَلَاحِيَّتُهُ بِتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَى الْوَكِيلِ فَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ.

هَذَا وَلَا يَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي انْفِسَاخِ الْوَكَالَةِ عِلْمَ الْوَكِيلِ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ.وَاشْتَرَطَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ (وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) عِلْمَ الْوَكِيلِ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ فِي انْفِسَاخِ الْوَكَالَةِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ.

وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ كَعَقْدِ الشَّرِكَةِ، الْوَدِيعَةِ وَغَيْرِهِمَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَوَاضِعِهَا.

هَذَا، وَهُنَاكَ عُقُودٌ أُخْرَى تُعْتَبَرُ لَازِمَةً مِنْ جَانِبِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، جَائِزَةً مِنْ جَانِبِ الْعَاقِدِ الْآخَرِ، كَعَقْدِ الْكَفَالَةِ، فَهِيَ لَازِمَةٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْكَفِيلِ الَّذِي لَا يَسْتَبِدُّ بِفَسْخِهَا، دُونَ إِذْنِ الْمَكْفُولِ لَهُ، لَكِنَّهَا جَائِزَةٌ مِنْ جَانِبِ الْمَكْفُولِ لَهُ يَسْتَبِدُّ بِفَسْخِهَا.وَكَعَقْدِ الرَّهْنِ، فَهُوَ لَازِمٌ مِنْ قِبَلِ الرَّاهِنِ، جَائِزٌ مِنْ قِبَلِ الْمُرْتَهِنِ الَّذِي يَسْتَطِيعُ فَسْخَهُ بِدُونِ إِذْنِ الرَّاهِنِ.

وَفِيمَا يَلِي أَثَرُ الْمَوْتِ فِي انْفِسَاخِ هَذَيْنِ الْعَقْدَيْنِ:

أَثَرُ الْمَوْتِ فِي انْفِسَاخِ عَقْدِ الْكَفَالَةِ:

18- مَوْتُ الْكَفِيلِ أَوِ الْمَكْفُولِ لَا تَنْفَسِخُ بِهِ الْكَفَالَةُ، وَلَا يَمْنَعُ مُطَالَبَةَ الْمَكْفُولِ لَهُ بِالدَّيْنِ، فَإِذَا مَاتَ الْكَفِيلُ أَوِ الْمَكْفُولُ يَحِلُّ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ عَلَى الْمَيِّتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، تُحَصِّلُ الدَّيْنَ مِنْ تَرِكَةِ الْمُتَوَفَّى، وَلَوْ مَاتَا خُيِّرَ الطَّالِبُ فِي أَخْذِهِ مِنْ أَيِّ التَّرِكَتَيْنِ.وَلَوْ مَاتَ الْمَكْفُولُ لَهُ يَحِلُّ الْوَرَثَةُ مَحَلَّهُ فِي الْمُطَالَبَةِ.

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا يَحِلُّ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ بِمَوْتِ الْكَفِيلِ أَوِ الْمَكْفُولِ، وَيَبْقَى مُؤَجَّلًا كَمَا هُوَ..

أَثَرُ الْمَوْتِ فِي انْفِسَاخِ عَقْدِ الرَّهْنِ:

19- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ بَعْدَ قَبْضِ الْمَرْهُونِ، فَإِذَا مَاتَ الرَّاهِنُ أَوِ الْمُرْهِنُ يَقُومُ الْوَرَثَةُ مَقَامَ الْمُتَوَفَّى، وَتَبْقَى الْعَيْنُ الْمَرْهُونَةُ تَحْتَ يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ وَرَثَتِهِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى خَلَاصِ الرَّهْنِ إِلاَّ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ أَوْ إِبْرَاءِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ.وَالْمُرْتَهِنُ أَحَقُّ بِالرَّهْنِ وَبِثَمَنِهِ إِنْ بِيعَ فِي حَيَاةِ الرَّاهِنِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ.

وَعَقْدُ الرَّهْنِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَرْهُونِ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَكَانَ الْمَفْرُوضُ أَنْ يَنْفَسِخَ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي انْفِسَاخِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ:

فَقَالَ الْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ.فَإِنْ مَاتَ الْمُرْتَهِنُ قَامَ Bوَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْقَبْضِ، لَكِنْ إِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ لَمْ يَلْزَمْ وَرَثَتَهُ الْإِقْبَاضُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- إِنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ.أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَصَرَّحُوا بِأَنَّ الرَّهْنَ يَلْزَمُ بِالْعَقْدِ، وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى التَّسْلِيمِ، إِلاَّ أَنْ يَتَرَاخَى الْمُرْتَهِنُ عَنِ الْمُطَالَبَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يَنْفَسِخُ بِوَفَاةِ الْمُرْتَهِنِ، وَيَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَ مُوَرِّثِهِمْ فِي مُطَالَبَةِ الْمَدِينِ وَقَبْضِ الْمَرْهُونِ، لَكِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ وَفَلْسِهِ قَبْلَ حَوْزِهِ وَلَوْ جَدَّ فِيهِ.

أَثَرُ تَغَيُّرِ الْأَهْلِيَّةِ فِي انْفِسَاخِ الْعُقُودِ:

20- الْأَهْلِيَّةُ: صَلَاحِيَّةُ الْإِنْسَانِ لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَلِصُدُورِ الْفِعْلِ مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا.وَتَعْرِضُ لِلْأَهْلِيَّةِ أُمُورٌ تُغَيِّرُهَا وَتُحَدِّدُهَا فَتَتَغَيَّرُ بِهَا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

وَتَغَيُّرُ الْأَهْلِيَّةِ بِمَا يَعْرِضُ مِنْ بَعْضِ الْعَوَارِضِ، كَالْجُنُونِ أَوِ الْإِغْمَاءِ أَوِ الِارْتِدَادِ وَنَحْوِهَا، لَهُ أَثَرٌ فِي انْفِسَاخِ بَعْضِ الْعُقُودِ، فَقَدْ صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) أَنَّ الْعُقُودَ الْجَائِزَةَ: مِثْلُ الْمُضَارَبَةِ، وَالشَّرِكَةِ، وَالْوَكَالَةِ، الْوَدِيعَةِ، وَالْعَارِيَّةِ، تَنْفَسِخُ بِجُنُونِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعَقْدُ الْمُضَارَبَةِ عِنْدَهُمْ عَقْدٌ لَازِمٌ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ وَلِهَذَا يُورَثُ، وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْعَارِيَّةِ إِذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِأَجَلٍ أَوْ عَمَلٍ، فَلَا يَنْفَسِخَانِ بِالْجُنُونِ.

أَمَّا فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ جُنُونَ الْوَكِيلِ لَا يُوجِبُ عَزْلَهُ إِنْ بَرِأَ، وَكَذَا جُنُونُ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ، فَإِنْ طَالَ نَظَرَ السُّلْطَانُ فِي أَمْرِهِ.

وَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ حُكْمُ الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ يُعْتَبَرُ وَكِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا عَنْهُ، وَكِلَاهُمَا مِنَ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ (الْجَائِزَةِ).

أَمَّا الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، فَلَا تَنْفَسِخُ بِالْجُنُونِ بَعْدَ تَمَامِهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ.حَتَّى إِنَّ الْحَنَفِيَّةَ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِانْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ- وَهِيَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا- صَرَّحُوا بِعَدَمِ انْفِسَاخِهَا بِالْجُنُونِ، فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: الْإِجَارَةُ لَا تَنْفَسِخُ بِجُنُونِ الْآجِرِ أَوِ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَا بِارْتِدَادِهِمَا، وَإِذَا ارْتَدَّ الْآجِرُ أَوِ الْمُسْتَأْجِرُ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ عَادَ مُسْلِمًا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ عَادَتِ الْإِجَارَةُ.

وَلَعَلَّ دَلِيلَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ انْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ بِالْمَوْتِ وَعَدَمِ انْفِسَاخِهَا بِالْجُنُونِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ أَنَّ الْمَوْتَ سَبَبُ نَقْلِ الْمِلْكِيَّةِ، فَلَوْ أَبْقَيْنَا الْعَقْدَ لَاسْتُوفِيَتِ Bالْمَنَافِعُ أَوِ الْأُجْرَةُ مِنْ مِلْكِ الْغَيْرِ (الْوَرَثَةُ) وَهَذَا خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، بِخِلَافِ الْجُنُونِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ سَبَبًا لِانْتِقَالِ الْمِلْكِيَّةِ، فَبَقَاءُ الْإِجَارَةِ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَنَافِعِ وَالْأُجْرَةِ مِنْ مِلْكِ الْعَاقِدَيْنِ.

21- وَمِنَ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ الَّتِي لَا تَنْفَسِخُ تِلْقَائِيًّا بِالْجُنُونِ عَقْدُ النِّكَاحِ، لَكِنَّهُ يُعْتَبَرُ عَيْبًا يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) ر (نِكَاحٌ.فَسْخٌ).

22- وَرِدَّةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ مُوجِبَةٌ لِانْفِسَاخِ عَقْدِ النِّكَاحِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ.بِدَلِيلِ قوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}.

فَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ فِي الْحَالِ وَلَمْ يَرِثْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- حِيلَ بَيْنَهُمَا إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَالْعِصْمَةُ بَاقِيَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الْإِسْلَامِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ بِلَا طَلَاقٍ.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ ارْتِدَادَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَسْخٌ عَاجِلٌ بِلَا قَضَاءٍ فَلَا يُنْقِصُ عَدَدَ الطَّلَاقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَمْ بَعْدَهُ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ بِطَلَاقٍ بَائِنٍ.

أَمَّا إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَتَخَلَّفَ الْآخَرُ- مَا لَمْ يَكُنِ الْمُتَخَلِّفُ زَوْجَةً كِتَابِيَّةً- حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّةُ الْمَرْأَةِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، سَوَاءٌ أَكَانَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَمْ بِدَارِ الْحَرْبِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُتَخَلِّفُ عَنِ الْإِسْلَامِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ، أَمَّا إِنْ كَانَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلاَّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا.

وَهَلْ يُعْتَبَرُ هَذَا الِانْفِسَاخُ طَلَاقًا أَمْ لَا؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ- إِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنِ الْإِسْلَامِ يُعْتَبَرُ هَذَا التَّفْرِيقُ طَلَاقًا يُنْقِصُ الْعَدَدَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا امْتَنَعَتِ الْمَرْأَةُ عَنِ الْإِسْلَامِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ التَّفْرِيقُ فَسْخًا؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ.

وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ فَسْخٌ لَا طَلَاقٌ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


35-موسوعة الفقه الكويتية (أنوثة 2)

أُنُوثَةٌ -2

هـ- حَقُّ الْعَمَلِ:

14- الْأَصْلُ أَنَّ وَظِيفَةَ الْمَرْأَةِ الْأُولَى هِيَ إِدَارَةُ بَيْتِهَا وَرِعَايَةُ أُسْرَتِهَا وَتَرْبِيَةُ أَبْنَائِهَا وَحُسْنُ تَبَعُّلِهَا، يَقُولُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا».وَهِيَ غَيْرُ مُطَالَبَةٍ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهَا، فَنَفَقَتُهَا وَاجِبَةٌ عَلَى أَبِيهَا أَوْ زَوْجِهَا؛ لِذَلِكَ كَانَ مَجَالُ عَمَلِهَا هُوَ الْبَيْتُ، وَعَمَلُهَا فِي الْبَيْتِ يُسَاوِي عَمَلَ الْمُجَاهِدِينَ.

وَمَعَ ذَلِكَ فَالْإِسْلَامُ لَا يَمْنَعُ الْمَرْأَةَ مِنَ الْعَمَلِ فَلَهَا أَنْ تَبِيعَ وَتَشْتَرِيَ، وَأَنْ تُوَكِّلَ غَيْرَهَا، وَيُوَكِّلَهَا غَيْرُهَا، وَأَنْ تُتَاجِرَ بِمَالِهَا، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ مَا دَامَتْ مُرَاعِيَةً أَحْكَامَ الشَّرْعِ وَآدَابَهُ، وَلِذَلِكَ أُبِيحَ لَهَا كَشْفُ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا، قَالَ الْفُقَهَاءُ: لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى إِبْرَازِ الْوَجْهِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَإِلَى إِبْرَازِ الْكَفِّ لِلْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ.

وَفِي الِاخْتِيَارِ: لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى الْحُرَّةِ الْأَجْنَبِيَّةِ إِلاَّ إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ...لِأَنَّ فِي ذَلِكَ ضَرُورَةً لِلْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ وَمَعْرِفَةُ وَجْهِهَا عِنْدَ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْأَجَانِبِ؛ لِإِقَامَةِ مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا لِعَدَمِ مَنْ يَقُومُ بِأَسْبَابِ مَعَاشِهَا.

وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى جَوَازِ عَمَلِ الْمَرْأَةِ كَثِيرَةٌ، وَالَّذِي يُمْكِنُ اسْتِخْلَاصُهُ مِنْهَا، أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الْحَقَّ فِي الْعَمَلِ بِشَرْطِ إِذْنِ الزَّوْجِ لِلْخُرُوجِ، إِنِ اسْتَدْعَى عَمَلُهَا الْخُرُوجَ وَكَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ، وَيَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الْإِذْنِ إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا.

جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: إِذَا أَعْسَر الزَّوْجُ بِالنَّفَقَةِ وَتَحَقَّقَ الْإِعْسَارُ فَالْأَظْهَرُ إِمْهَالُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَهَا الْفَسْخُ صَبِيحَةَ الرَّابِعِ، وَلِلزَّوْجَةِ- وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً- الْخُرُوجُ زَمَنَ الْمُهْلَةِ نَهَارًا لِتَحْصِيلِ النَّفَقَةِ بِنَحْوِ كَسْبٍ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا لِأَنَّ الْمَنْعَ فِي مُقَابِلِ النَّفَقَةِ.

وَفِي مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: إِذَا أَعْسَرَ الزَّوْجُ بِالنَّفَقَةِ خُيِّرَتِ الزَّوْجَةُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَبَيْنَ الْمُقَامِ مَعَهُ مَعَ مَنْعِ نَفْسِهَا، فَإِنْ لَمْ تَمْنَعْ نَفْسَهَا مِنْهُ وَمَكَّنَتْهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَلَا يَمْنَعُهَا تَكَسُّبًا، وَلَا يَحْبِسُهَا مَعَ عُسْرَتِهِ إِذَا لَمْ تَفْسَخْ لِأَنَّهُ إِضْرَارٌ بِهَا وَسَوَاءٌ كَانَتْ غَنِيَّةً أَوْ فَقِيرَةً؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَمْلِكُ حَبْسَهَا إِذَا كَفَاهَا الْمَئُونَةَ وَأَغْنَاهَا عَمَّا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ.

وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْعَمَلُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ.جَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ قَابِلَةً، أَوْ كَانَ لَهَا حَقٌّ عَلَى آخَرَ، أَوْ لآِخَرَ عَلَيْهَا حَقٌّ تَخْرُجُ بِالْإِذْنِ وَبِغَيْرِ الْإِذْنِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي حَاشِيَةِ سَعْدِي جَلَبِي عَنْ مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ.إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَابِدِينَ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ مَا فِي الْفَتْحِ قَالَ: وَفِي الْبَحْرِ عَنِ الْخَانِيَّةِ تَقْيِيدُ خُرُوجِهَا بِالْإِذْنِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ.

هَذَا، وَإِذَا كَانَ لَهَا مَالٌ فَلَهَا أَنْ تُتَاجِرَ بِهِ مَعَ غَيْرِهَا، كَأَنْ تُشَارِكَهُ أَوْ تَدْفَعَهُ مُضَارَبَةً دُونَ إِذْنٍ مِنْ أَحَدٍ.جَاءَ فِي جَوَاهِرِ الْإِكْلِيلِ: قِرَاضُ الزَّوْجَةِ أَيْ دَفْعُهَا مَالًا لِمَنْ يَتَّجِرُ فِيهِ بِبَعْضِ رِبْحِهِ، فَلَا يَحْجُرُ عَلَيْهَا فِيهِ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ مِنَ التِّجَارَةِ.

15- ثُمَّ إِنَّهَا لَوْ عَمِلَتْ مَعَ الزَّوْجِ كَانَ كَسْبُهَا لَهَا.جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْبَزَّازِيَّةِ: أَفْتَى الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي زَوْجَيْنِ سَعَيَا وَحَصَّلَا أَمْوَالًا أَنَّهَا لَهُ؛ لِأَنَّهَا مُعِينَةٌ لَهُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ لَهَا كَسْبٌ عَلَى حِدَةٍ فَلَهَا ذَلِكَ.وَفِي الْفَتَاوَى: امْرَأَةٌ مُعَلَّمَةٌ، يُعِينُهَا الزَّوْجُ أَحْيَانًا فَالْحَاصِلُ لَهَا، وَفِي الْتِقَاطِ السُّنْبُلَةِ إِذَا الْتَقَطَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا أَنْصَافًا.

كَمَا أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يُوَجِّهَ ابْنَتَهُ لِلْعَمَلِ: جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: لِلْأَبِ أَنْ يَدْفَعَ ابْنَتَهُ لِامْرَأَةٍ تُعَلِّمُهَا حِرْفَةً كَتَطْرِيزٍ وَخِيَاطَةٍ.

وَإِذَا عَمِلَتِ الْمَرْأَةُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي حُدُودٍ لَا تَتَنَافَى مَعَ مَا يَجِبُ مِنْ صِيَانَةِ الْعِرْضِ وَالْعَفَافِ وَالشَّرَفِ.وَيُمْكِنُ تَحْدِيدُ ذَلِكَ بِمَا يَأْتِي:

(1) أَلاَّ يَكُونَ الْعَمَلُ مَعْصِيَةً كَالْغِنَاءِ وَاللَّهْوِ، وَأَلاَّ يَكُونَ مَعِيبًا مُزْرِيًا تُعَيَّرُ بِهِ أُسْرَتُهَا.جَاءَ فِي الْبَدَائِعِ وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: إِذَا آجَرَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِمَا يُعَابُ بِهِ كَانَ لِأَهْلِهَا أَنْ يُخْرِجُوهَا مِنْ تِلْكَ الْإِجَارَةِ، وَفِي الْمَثَلِ السَّائِرِ: تَجُوعُ الْحُرَّةُ وَلَا تَأْكُلْ بِثَدْيَيْهَا، وَعَنْ مُحَمَّدٍ- رحمه الله- (فِي امْرَأَةٍ نَائِحَةٍ أَوْ صَاحِبِ طَبْلٍ أَوْ مِزْمَارٍ اكْتَسَبَ مَالًا فَهُوَ مَعْصِيَةٌ.

(2) أَلاَّ يَكُونَ عَمَلُهَا مِمَّا يَكُونُ فِيهِ خَلْوَةٌ بِأَجْنَبِيٍّ.جَاءَ فِي الْبَدَائِعِ: كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ اسْتِخْدَامَ الْمَرْأَةِ وَالِاخْتِلَاءَ بِهَا؛ لِمَا قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْفِتْنَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، أَمَّا الْخَلْوَةُ؛ فَلِأَنَّ الْخَلْوَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ مَعْصِيَةٌ، وَأَمَّا الِاسْتِخْدَامُ؛ فَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهَا وَالْوُقُوعُ فِي الْمَعْصِيَةِ.

وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ الشَّيْطَانُ ثَالِثَهُمَا» وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مَعَ الْخَلْوَةِ مُوَاقَعَةُ الْمَحْظُورِ.

(3) أَلاَّ تَخْرُجَ لِعَمَلِهَا مُتَبَرِّجَةً مُتَزَيِّنَةً بِمَا يُثِيرُ الْفِتْنَةَ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَحَيْثُ أَبَحْنَا لَهَا الْخُرُوجَ فَإِنَّمَا يُبَاحُ بِشَرْطِ عَدَمِ الزِّينَةِ وَتَغْيِيرِ الْهَيْئَةِ إِلَى مَا يَكُونُ دَاعِيَةً لِنَظَرِ الرِّجَالِ وَالِاسْتِمَالَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} وَفِي الْحَدِيثِ: «الرَّافِلَةُ فِي الزِّينَةِ فِي غَيْرِ أَهْلِهَا كَمَثَلِ ظُلْمَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا نُورَ لَهَا».

ثَالِثًا: الْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأُنْثَى:

لِلْأُنْثَى أَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ مُتَنَوِّعَةٌ فَمِنْهَا مَا يَخْتَصُّ بِالْعَوْرَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا، وَمِنْهَا الْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى ارْتِبَاطِهَا بِزَوْجٍ، وَمِنْهَا الْأَحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِالْعِبَادَاتِ أَوِ الْوِلَايَاتِ أَوِ الْجِنَايَاتِ..وَهَكَذَا.

وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

بَوْلُ الْأُنْثَى الرَّضِيعَةِ الَّتِي لَمْ تَأْكُلِ الطَّعَامَ:

16- يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي إِزَالَةِ نَجَاسَةِ بَوْلِ الْأُنْثَى الرَّضِيعَةِ الَّتِي لَمْ تَأْكُلِ الطَّعَامَ عَنْ بَوْلِ الذَّكَرِ الرَّضِيعِ الَّذِي لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ، وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.فَيُجْزِئُ عِنْدَهُمْ فِي التَّطْهِيرِ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ نَضْحُهُ بِالْمَاءِ (أَيْ أَنْ يَرُشَّهُ بِالْمَاءِ) وَلَا يَكْفِي ذَلِكَ فِي إِزَالَةِ بَوْلِ الْأُنْثَى، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ «أُمِّ قَيْسِ بْنِ مُحْصَنٍ أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ».مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْأُنْثَى، وَيُنْضَحُ مِنْ بَوْلِ الذَّكَرِ».

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا فَيُغْسَلُ مَا أَصَابَهُ بَوْلُ كُلٍّ مِنَ الصَّبِيِّ أَوِ الصَّيِّبَةِ لِنَجَاسَتِهِ؛ لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ».

الْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَّصِلُ بِمَا تَخْتَصُّ بِهِ مِنْ حَيْضٍ وَحَمْلٍ:

17- مِنَ الْفِطْرَةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْإِنْسَانَ عَلَيْهَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ يَمِيلُ إِلَى الْآخَرِ، وَجَعَلَ الِاتِّصَالَ الشَّرْعِيَّ بَيْنَهُمَا وَسِيلَةً لِامْتِدَادِ الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ بِالتَّنَاسُلِ وَالتَّوَالُدِ.

وَاخْتَصَّ الْأُنْثَى مِنْ ذَلِكَ بِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَحِيضُ وَتَحْمِلُ وَتَلِدُ وَتُرْضِعُ.

وَهَذِهِ الْأُمُورُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا بَعْضُ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ نُوجِزُهَا فِيمَا يَلِي:

(1) يُعْتَبَرُ الْحَيْضُ وَالْحَمْلُ مِنْ عَلَامَاتِ بُلُوغِ الْأُنْثَى.

(2) التَّخْفِيفُ عَنْهَا فِي الْعِبَادَةِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَتَسْقُطُ عَنْهَا الصَّلَاةُ أَثْنَاءَ الْحَيْضِ دُونَ قَضَاءٍ، وَيَجِبُ عَلَيْهَا الْإِفْطَارُ مَعَ الْقَضَاءِ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ، وَجَوَازُ الْإِفْطَارِ أَثْنَاءَ الْحَمْلِ أَوِ الرَّضَاعَةِ، إِنْ كَانَ الصِّيَامُ يَضُرُّ بِهَا أَوْ بِوَلَدِهَا.

(3) وَالِاعْتِبَارُ بِالْحَيْضِ وَبِالْحَمْلِ فِي احْتِسَابِ الْعِدَّةِ.

(4) وَالِامْتِنَاعُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَعَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَعَنْ تَمْكِينِ زَوْجِهَا مِنْهَا أَثْنَاءَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ.

(5) وَوُجُوبُ الْغُسْلِ عِنْدَ انْقِطَاعِ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ.

وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (حَيْضٍ، حَمْلٍ، نِفَاسٍ، رَضَاعٍ). لَبَنُ الْأُنْثَى:

18- لَا يَخْتَلِفُ لَبَنُ الْأُنْثَى بِالنِّسْبَةِ لِطَهَارَتِهِ عَنْ لَبَنِ الذَّكَرِ- لَوْ كَانَ لَهُ لَبَنٌ- فَلَبَنُ الْأُنْثَى طَاهِرٌ بِاتِّفَاقٍ.وَلَكِنَّهُ يَخْتَلِفُ عَنْهُ فِي أَنَّ لَبَنَ الْأُنْثَى يَتَعَلَّقُ بِهِ مَحْرَمِيَّةُ الرَّضَاعِ.

أَمَّا الرَّجُلُ فَلَوْ كَانَ لَهُ لَبَنٌ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ.وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ (الرَّضَاعُ، وَالنِّكَاحُ).

خِصَالُ الْفِطْرَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأُنْثَى:

19- تَخْتَصُّ الْمَرْأَةُ مِنْ خِصَالِ الْفِطْرَةِ بِأَنَّهُ يُسَنُّ لَهَا إِزَالَةُ لِحْيَتِهَا لَوْ نَبَتَتْ.وَالسُّنَّةُ فِي عَانَتِهَا النَّتْفُ.وَلَا يَجِبُ خِتَانُهَا فِي وَجْهٍ وَإِنَّمَا هُوَ مَكْرُمَةٌ.وَتُمْنَعُ مِنْ حَلْقِ رَأْسِهَا.

عَوْرَةُ الْأُنْثَى:

20- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ بَدَنَ الْأُنْثَى الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ كُلَّهُ عَوْرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلَاةِ عَدَا الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْوَجْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِلْكَفَّيْنِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى هُمَا عَوْرَةٌ.

وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الْكَفَّيْنِ، فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هُمَا عَوْرَةٌ، وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: الْأَصَحُّ أَنَّهُمَا لَيْسَا بِعَوْرَةٍ، وَاعْتَمَدَهُ الشُّرُنْبُلَالِيُّ.

وَأَمَّا الْقَدَمَانِ فَهُمَا عَوْرَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ غَيْرَ الْمُزَنِيِّ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رَأْيُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ.

وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمَا لَيْسَتَا بِعَوْرَةٍ، وَهُوَ رَأْيُ الْمُزَنِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَةٍ).

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ بَدَنَ الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ» وَقَوْلُهُ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ» وَالْمُرَادُ بِالْحَائِضِ الْبَالِغَةُ.

انْتِقَاضُ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ الْأُنْثَى:

21- يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ الرَّجُلِ لِلْأُنْثَى الْمُشْتَهَاةِ.

فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْوُضُوءَ لَا يُنْتَقَضُ بِاللَّمْسِ؛ لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَمَسْرُوقٍ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِاللَّمْسِ إِنْ قَصَدَ اللَّذَّةَ أَوْ وَجَدَهَا حِينَ اللَّمْسِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ- رحمه الله-، وَهُوَ أَنَّ لَمْسَ النِّسَاءِ لِشَهْوَةٍ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَلَا يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ إِنْ كَانَ اللَّمْسُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ.وَهُوَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَالشَّعْبِيِّ.

وَالْقُبْلَةُ بِالْفَمِ تَنْقُضُ مُطْلَقًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، أَيْ دُونَ تَقْيِيدٍ بِقَصْدِ اللَّذَّةِ أَوْ وُجْدَانِهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ لِوَدَاعٍ أَوْ رَحْمَةٍ فَلَا تَنْقُضُ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّ اللَّمْسَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِعُمُومِ قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}.

وَلَا يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِلَمْسِ الْأُنْثَى الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا تُشْتَهَى، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِيهِ الْأَقْوَالُ السَّابِقَةُ.وَلَا يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ كَذَلِكَ بِلَمْسِ الْمَحْرَمِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ عَلَى الرِّوَايَاتِ السَّابِقَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.يُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (وُضُوءٍ).

حُكْمُ دُخُولِ الْمَرْأَةِ الْحَمَّامَاتِ الْعَامَّةِ.

22- يَنْبَنِي حُكْمُ دُخُولِ النِّسَاءِ الْحَمَّامَاتِ الْعَامَّةِ عَلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَسِتْرِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْعَوْرَةُ مَسْتُورَةً، وَلَا تَرَى وَاحِدَةٌ عَوْرَةَ الْأُخْرَى فَالدُّخُولُ جَائِزٌ، وَإِلاَّ كَانَ الدُّخُولُ مَكْرُوهًا تَحْرِيمًا، كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ، وَغَيْرُ جَائِزٍ كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ.وَلَمْ يَسْتَحْسِنْهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ مُطْلَقًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قِيلَ: يُكْرَهُ.وَقِيلَ: يَحْرُمُ وَلَمْ يُجَوِّزْهُ الْحَنَابِلَةُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ، وَسَتَجِدُونَ فِيهَا حَمَّامَاتٍ، فَامْنَعُوا نِسَاءَكُمْ إِلاَّ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ».وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهَا دُخُولُ الْحَمَّامِ لِعُذْرٍ مِنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ مَرَضٍ.

الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَظَاهِرِ الْأُنُوثَةِ:

23- يَعْتَنِي الْإِسْلَامُ بِجَعْلِ الْأُنْثَى تُحَافِظُ عَلَى مَظَاهِرِ أُنُوثَتِهَا، فَحَرَّمَ عَلَيْهَا التَّشَبُّهَ بِالرِّجَالِ فِي أَيِّ مَظْهَرٍ مِنْ لِبَاسٍ أَوْ حَدِيثٍ أَوْ أَيِّ تَصَرُّفٍ.وَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ.وَفِي الطَّبَرَانِيِّ «أَنَّ امْرَأَةً مَرَّتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مُتَقَلِّدَةً قَوْسًا، فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ، وَالْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ».

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ مِنَ الْكَبَائِرِ: تَرَجُّلَ الْمَرْأَةِ وَتَخَنُّثَ الرَّجُلِ.

وَقَدْ أَبَاحَ لَهَا الْإِسْلَامُ أَنْ تَتَّخِذَ مِنْ وَسَائِلِ الزِّينَةِ مَا يَكْفُلُ لَهَا الْمُحَافَظَةَ عَلَى أُنُوثَتِهَا، فَيَحِلُّ ثَقْبُ أُذُنِهَا لِتَعْلِيقِ الْقُرْطِ فِيهِ.يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: لَا بَأْسَ بِثَقْبِ آذَانِ النِّسْوَانِ، وَلَا بَأْسَ بِثَقْبِ آذَانِ الْأَطْفَالِ مِنَ الْبَنَاتِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: الْأُنْثَى مُحْتَاجَةٌ لِلْحِلْيَةِ فَثَقْبُ الْأُذُنِ مَصْلَحَةٌ فِي حَقِّهَا.

وَيُبَاحُ لَهَا التَّزَيُّنُ بِلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ دُونَ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ زِينَةِ النِّسَاءِ، فَقَدْ رَوَى أَبُو مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «حَرَامٌ لِبَاسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، وَأُحِلّ لِإِنَاثِهِمْ» قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: أُبِيحَ التَّحَلِّي فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ لِحَاجَتِهَا إِلَى التَّزَيُّنِ لِلزَّوْجِ وَالتَّجَمُّلِ عِنْدَهُ.كَذَلِكَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْضِبَ يَدَيْهَا، وَأَنْ تُعَلِّقَ الْخَرَزَ فِي شَعْرِهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ الزِّينَةِ.

وُجُوبُ التَّسَتُّرِ وَعَدَمُ الِاخْتِلَاطِ بِالرِّجَالِ الْأَجَانِبِ:

24- إِذَا خَرَجَتِ الْمَرْأَةُ لِحَاجَتِهَا لَا تَخْرُجُ إِلاَّ مُتَسَتِّرَةً.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَحَيْثُ أَبَحْنَا لَهَا الْخُرُوجَ فَإِنَّمَا يُبَاحُ بِشَرْطِ عَدَمِ الزِّينَةِ، وَعَدَمِ تَغْيِيرِ الْهَيْئَةِ إِلَى مَا يَكُونُ دَاعِيَةً لِنَظَرِ الرِّجَالِ وَالِاسْتِمَالَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}.

قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَخْرُجُ تَمْشِي بَيْنَ يَدَيِ الرِّجَالِ، فَذَلِكَ تَبَرُّجُ الْجَاهِلِيَّةِ.وَقَالَ قَتَادَةَ: كَانَتْ لَهُنَّ مِشْيَةُ تَكَسُّرٍ وَتَغَنُّجٍ، فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ.

وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الثِّيَابُ الَّتِي تَظْهَرُ بِهَا أَمَامَ النَّاسِ مِمَّا يَظْهَرُ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ جَسَدِهَا الْوَاجِبِ سِتْرُهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ يَشِفُّ عَمَّا تَحْتَهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَبَانَ جَسَدُهَا كَانَتْ كَاسِيَةً عَارِيَّةً حَقِيقَةً.وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ: «سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ، عَلَى رُءُوسِهِنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ، الْعَنُوهُنَّ فَإِنَّهُنَّ مَلْعُونَاتٌ».

وَفِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: لَا يَلْبَسُ النِّسَاءُ مِنَ الرَّقِيقِ مَا يَصِفُهُنَّ إِذَا خَرَجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، وَالْخُرُوجُ لَيْسَ بِقَيْدٍ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ لُبْسُ مَا يُرَى مِنْهُ جَسَدُهَا بِحَضْرَةِ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ.

وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَأْتِيَ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا يُلْفِتُ النَّظَرَ إِلَيْهَا وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الِافْتِتَانُ بِهَا، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَتْ تَمْشِي فِي الطَّرِيقِ، وَفِي رِجْلِهَا خَلْخَالٌ صَامِتٌ لَا يُعْلَمُ صَوْتُهُ، ضَرَبَتْ بِرِجْلِهَا الْأَرْضَ فَيَسْمَعُ الرِّجَالُ طَنِينَهُ، فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُؤْمِنَاتِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ زِينَتِهَا مَسْتُورًا، فَتَحَرَّكَتْ بِحَرَكَةٍ لِتُظْهِرَ مَا هُوَ خَفِيٌّ دَخَلَ فِي هَذَا النَّهْيِ لقوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ}.

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا تُنْهَى عَنِ التَّعَطُّرِ وَالتَّطَيُّبِ عِنْدَ خُرُوجِهَا مِنْ بَيْتِهَا فَيَشُمُّ الرِّجَالُ طِيبَهَا، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- «كُلُّ عَيْنٍ زَانِيَةٌ، وَالْمَرْأَةُ إِذَا اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ بِالْمَجْلِسِ فَهِيَ كَذَا وَكَذَا» يَعْنِي زَانِيَةً.

وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهُنَّ يُنْهَيْنَ عَنِ الْمَشْيِ فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ؛ لِمَا رَوَى حَمْزَةُ بْنُ أَبِي أُسَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ «سَمِعَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَقَدِ اخْتَلَطَ النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَالِ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِلنِّسَاءِ: اسْتَأْخِرْنَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ، عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ».

وَلَا تَجُوزُ خَلْوَةُ الْمَرْأَةِ بِالْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ فِي عَمَلٍ، وَالْمُرَادُ بِالْخَلْوَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مَعَ الرَّجُلِ فِي مَكَانٍ يَأْمَنَانِ فِيهِ مِنْ دُخُولِ ثَالِثٍ. (ر: خَلْوَةٌ).

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَكْرَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُلُ امْرَأَةً حُرَّةً يَسْتَخْدِمُهَا وَيَخْلُو بِهَا؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ بِالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ مَعْصِيَةٌ.وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ الشَّيْطَانُ ثَالِثَهُمَا».وَيُمْنَعُ الِاخْتِلَاطُ الْمُرِيبُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى مَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (اخْتِلَاطٌ).

الْأَحْكَامُ الَّتِي تَخُصُّ النِّسَاءَ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَةِ:

25- الْأَصْلُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي أَهْلِيَّةِ الْعِبَادَةِ.

إِلاَّ أَنَّهُ نَظَرًا لِكَوْنِهَا مَأْمُورَةً بِالتَّسَتُّرِ وَعَدَمِ الِاخْتِلَاطِ الْمُرِيبِ بِالرِّجَالِ الْأَجَانِبِ فَإِنَّهَا تَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ فِي عِبَادَاتِهَا.وَمِنْ ذَلِكَ:

(1) الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ: فَالْأَصْلُ أَنَّهَا لَا تُؤَذِّنُ وَلَا تُقِيمُ (ر: أَذَانٌ.إِقَامَةٌ).

(2) وَلَا تَؤُمُّ الرِّجَالَ، بَلْ يُكْرَهُ لَهَا عِنْدَ بَعْضِ الْمَذَاهِبِ أَنْ تَؤُمَّ النِّسَاءَ. (ر: إِمَامَةٌ).

(3) وَمِنْهَا صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ بِإِمَامَةِ إِحْدَاهُنَّ، فَالْأَصْلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ لَهُنَّ فِي تِلْكَ الْحَالِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْقَائِلِينَ بِنَدْبِهَا لَهُنَّ، وَلَوْ لَمْ يَؤُمَّهُنَّ رِجَالٌ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي (صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ).

(4) وَمِنْهَا حُضُورُ الْمَرْأَةِ الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ وَصَلَاةَ الْجَمَاعَةِ مَعَ الرِّجَالِ: فَيَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ حُضُورُ الْمَرْأَةِ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَذَا حُضُورُهَا الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ.وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيلِ (صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ.صَلَاةَ الْجُمُعَةِ.صَلَاةَ الْعِيدَيْنِ).

هـ- هَيْئَتُهَا فِي الصَّلَاةِ:

26- الْأَصْلُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي عَمَلِ الْعِبَادَاتِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْهَيْئَاتِ فِي الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ كَمَا يَأْتِي:

يُسْتَحَبُّ أَنْ تَجْمَعَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فِي الرُّكُوعِ، فَتَضُمَّ مِرْفَقَيْهَا إِلَى الْجَنْبَيْنِ وَلَا تُجَافِيهِمَا، وَتَنْحَنِيَ قَلِيلًا فِي رُكُوعِهَا، وَلَا تَعْتَمِدَ، وَلَا تُفَرِّجَ بَيْنَ أَصَابِعِهَا، بَلْ تَضُمُّهَا، وَتَضَعُ يَدَيْهَا عَلَى رُكْبَتَيْهَا، وَتَحْنِي رُكْبَتَهَا، وَتُلْصِقُ مِرْفَقَيْهَا بِرُكْبَتَيْهَا.

وَفِي سُجُودِهَا تَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْهَا، وَتَنْضَمُّ وَتَلْزَقُ بَطْنَهَا بِفَخِذَيْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتُرُ لَهَا، فَلَا يُسَنُّ لَهَا التَّجَافِي كَالرِّجَالِ؛ لِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- مَرَّ عَلَى امْرَأَتَيْنِ تُصَلِّيَانِ، فَقَالَ: إِذَا سَجَدْتُمَا فَضُمَّا بَعْضَ اللَّحْمِ إِلَى بَعْضٍ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَتْ فِي ذَلِكَ كَالرَّجُلِ».

وَلِأَنَّهَا عَوْرَةٌ فَالْأَلْيَقُ بِهَا الِانْضِمَامُ.كَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُكَثِّفَ جِلْبَابَهَا وَتُجَافِيَهُ رَاكِعَةً وَسَاجِدَةً، لِئَلاَّ تَصِفَهَا ثِيَابُهَا، وَأَنْ تَخْفِضَ صَوْتَهَا، وَتَجْلِسَ مُتَرَبِّعَةً؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَأْمُرُ النِّسَاءَ أَنْ يَتَرَبَّعْنَ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ تَسْدُلَ رِجْلَيْهَا عَنْ يَمِينِهَا، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ التَّرَبُّعِ؛ لِأَنَّهُ غَالِبُ فِعْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- وَأَشْبَهُ بِجِلْسَةِ الرَّجُلِ، وَهُوَ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ.

كَمَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ عَقِبَ الصَّلَاةِ قَبْلَ الرِّجَالِ، حَتَّى لَا يَخْتَلِطْنَ بِالرِّجَالِ.

فَقَدْ رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ، وَهُوَ يَمْكُثُ فِي مَكَانِهِ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ.قَالَتْ: نَرَى- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِكَيْ يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ الرِّجَالُ».

و- الْحَجُّ:

27- مَا يَتَّصِلُ بِفَرْضِ الْحَجِّ عَلَى الْمَرْأَةِ أَمْرَانِ:

الْأَوَّلُ: بِالنِّسْبَةِ لِلْوُجُوبِ.وَبَيَانُ ذَلِكَ كَمَا يَأْتِي:

مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ- بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَغَيْرِهِمَا- مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْحَجِّ مُطْلَقًا، وَيُزَادُ عَلَى ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ: أَنْ يَكُونَ مَعَهَا زَوْجٌ أَوْ مَحْرَمٌ؛ لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ. لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْمَرْأَةِ دُونَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ.فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ؛ لِأَنَّهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا زَوْجٌ وَلَا مَحْرَمٌ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا، إِذِ النِّسَاءُ لَحْمٌ عَلَى وَضَمٍ، إِلاَّ مَا ذُبَّ عَنْهُ.وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (حَجٌّ).

وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِحَجِّ الْفَرِيضَةِ، أَمَّا النَّفَلُ فَلَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ لَهُ دُونَ الزَّوْجِ أَوِ الْمَحْرَمِ.

الثَّانِي: بِالنِّسْبَةِ لِبَعْضِ الْأَعْمَالِ فَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي أَرْكَانِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، إِلاَّ أَنَّهَا تَخْتَلِفُ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ وَمِنْ ذَلِكَ:

- أَنَّهَا تَلْبَسُ الْمَخِيطَ كَالْقَمِيصِ وَالْقَبَاءِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالْخُفَّيْنِ وَمَا هُوَ أَسْتَرُ لَهَا؛ لِأَنَّ بَدَنَهَا عَوْرَةٌ، وَلَا تَنْتَقِبُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ.وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ (ر: إِحْرَامٌ).

- وَلَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ رَمَلٌ فِي طَوَافِهَا، وَلَا إِسْرَاعٌ بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ فِي السَّعْيِ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا اضْطِبَاعٌ أَيْضًا.

وَالْمَشْرُوعُ لِلْمَرْأَةِ التَّقْصِيرُ دُونَ الْحَلْقِ. (ر: حَجٌّ).

- وَلَا تَرْفَعُ الْمَرْأَةُ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ إِلاَّ بِمِقْدَارِ مَا تُسْمِعُ رَفِيقَتَهَا. (ر: حَجٌّ.تَلْبِيَةٌ).

ز- الْخُرُوجُ مِنَ الْمَنْزِلِ:

28- إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُتَزَوِّجَةً فَإِنَّهَا تَرْتَبِطُ فِي خُرُوجِهَا مِنَ الْمَنْزِلِ بِإِذْنِ زَوْجِهَا.وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: «رَأَيْتُ امْرَأَةً أَتَتْ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ؟ قَالَ: حَقُّهُ عَلَيْهَا أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا إِلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ فَعَلَتْ لَعَنَهَا اللَّهُ وَمَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْغَضَبِ حَتَّى تَتُوبَ أَوْ تَرْجِعَ»؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ وَاجِبٌ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ.

وَخُرُوجُ الزَّوْجَةِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا يَجْعَلُهَا نَاشِزًا، وَيُسْقِطُ حَقَّهَا فِي النَّفَقَةِ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَتَهُ مِنْ زِيَارَةِ أَبَوَيْهَا وَعِيَادَتِهِمَا؛ لِأَنَّ عَدَمَ الزِّيَارَةِ نَوْعٌ مِنَ الْعُقُوقِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ.

كَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ وَحُضُورِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَدُرُوسِ الْوَعْظِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «إِذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمُ امْرَأَتُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعْهَا». لَكِنْ هَذَا مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا أَمِنَ عَلَيْهَا، وَكَانَ لَا يَخْشَى الْفِتْنَةَ مِنْ خُرُوجِهَا، فَإِنْ كَانَ يَخْشَى الْفِتْنَةَ فَلَهُ مَنْعُهَا.وَكَرِهَ مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ خُرُوجَهَا وَلَوْ عَجُوزًا لِفَسَادِ الزَّمَانِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

ح- التَّطَوُّعُ بِالْعِبَادَاتِ:

29- الزَّوْجَةُ مُرْتَبِطَةٌ كَذَلِكَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ فِي التَّطَوُّعِ بِالْعِبَادَاتِ، فَلَا يَجُوزُ لَهَا إِذَا كَانَ زَوْجُهَا حَاضِرًا أَنْ تَتَطَوَّعَ بِصَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ حَجٍّ أَوِ اعْتِكَافٍ بِدُونِ إِذْنِهِ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ يَشْغَلُهَا عَنْ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فَرْضٌ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِنَفْلٍ؛ وَلِأَنَّ لَهُ حَقَّ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ أَثْنَاءَ الصَّوْمِ أَوِ الْحَجِّ أَوِ الِاعْتِكَافِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ أَيْ حَاضِرٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ».رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

فَإِنْ تَطَوَّعَتْ بِصَوْمٍ أَوْ حَجٍّ أَوِ اعْتِكَافٍ دُونَ إِذْنِهِ فَلَهُ أَنْ يُفْطِرَهَا فِي الصَّوْمِ، وَيُحَلِّلَهَا مِنَ الْحَجِّ، وَيُخْرِجَهَا مِنَ الِاعْتِكَافِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ حَقِّ غَيْرِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَكَانَ لِرَبِّ الْحَقِّ الْمَنْعُ.

وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ الصَّوْمَ الرَّاتِبَ كَعَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ، فَلَا يَمْنَعْهَا مِنْهُ لِتَأَكُّدِهِ، وَكَذَلِكَ صَلَاةُ النَّفْلِ الْمُطْلَقِ لِقِصَرِ زَمَنِهِ.

وَإِنْ أَذِنَ الزَّوْجُ لَهَا أَنْ تَتَطَوَّعَ بِصَوْمٍ أَوِ اعْتِكَافٍ أَوْ حَجٍّ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الصَّوْمِ أَوِ الِاعْتِكَافِ وَلَوْ كَانَتْ شُرِعَتْ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَذِنَ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ (فِي الِاعْتِكَافِ، ثُمَّ مَنَعَهُنَّ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ دَخَلْنَ فِيهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ فَأَذِنَ لَهَا، وَسَأَلَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَسْتَأْذِنَ لَهَا فَفَعَلَتْ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ أَمَرَتْ بِبِنَاءٍ فَبُنِيَ لَهَا.قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا صَلَّى انْصَرَفَ إِلَى بِنَائِهِ، فَأَبْصَرَ الْأَبْنِيَةَ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: بِنَاءُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: آلْبِرَّ أَرَدْنَ بِهَذَا؟ مَا أَنَا بِمُعْتَكِفٍ».

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهَا فَقَدْ مَلَّكَهَا مَنَافِعَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْ ذَلِكَ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مَا لَمْ تَشْرَعْ فِي الْعِبَادَةِ، فَإِنْ شَرَعَتْ فَلَا يَمْنَعْهَا.

وَمَا أَوْجَبَتْهُ الْمَرْأَةُ عَلَى نَفْسِهَا بِنَذْرٍ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.

وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ.

وَإِنْ كَانَ فِي زَمَانٍ مُبْهَمٍ، فَلَهُ الْمَنْعُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ إِذَا دَخَلَتْ فِيهِ، وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


36-موسوعة الفقه الكويتية (أوقاص)

أَوْقَاصٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْأَوْقَاصُ: جَمْعُ وَقَصٍ بِفَتْحَتَيْنِ، وَقَدْ تَسْكُنُ الْقَافُ، وَالْوَقَصُ مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: قِصَرُ الْعُنُقِ، كَأَنَّمَا رَدٌّ فِي جَوْفِ الصَّدْرِ.وَالْكَسْرُ: يُقَالُ: وُقِصَتْ عُنُقُهُ أَيْ: كُسِرَتْ وَدَقَّتْ.

وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي الشَّرْعِ: لِمَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ فِي أَنْصِبَةِ زَكَاةِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، أَوْ هُوَ: مَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ فِي الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ، أَوْ فِي الْبَقَرِ خَاصَّةً، وَهُوَ وَاحِدُ الْأَوْقَاصِ.

فَمَثَلًا إِذَا بَلَغَتِ الْغَنَمُ أَرْبَعِينَ، فَفِيهَا شَاةٌ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ مِائَةً وَعِشْرِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَفِيهَا شَاتَانِ.فَالثَّمَانُونَ الَّتِي بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ وَبَيْنَ الْمِائَةِ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ وَقَصٌ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْأَشْنَاقُ:

2- الْأَشْنَاقُ: جَمَعَ شَنَقٍ، هَذَا وَجَاءَ فِي الْمِصْبَاحِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ الشَّنَقَ بِفَتْحَتَيْنِ: مَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ الْوَقَصُ، وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَخُصُّ الشَّنَقَ بِالْإِبِلِ، وَالْوَقَصَ بِالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ.

وَفَسَّرَ مَالِكٌ الشَّنَقَ بِمَا يُزَكَّى مِنَ الْإِبِلِ بِالْغَنَمِ.كَالْخَمْسِ مِنَ الْإِبِلِ فَفِيهَا شَاةٌ، وَالْعَشْرِ فِيهَا شَاتَانِ، وَالْخَمْسَ عَشْرَةَ فِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَالْعِشْرِينَ فِيهَا أَرْبَعٌ.

ب- الْعَفْوُ:

3- يُقَالُ لِمَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ أَيْضًا: الْعَفْوُ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ عَفَا، وَمِنْ مَعَانِيهِ: الْمَحْوُ وَالْإِسْقَاطُ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُ كَالْوَقَصِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنَ الْوَاجِبَيْنِ فِي زَكَاةِ النَّعَمِ، أَوْ فِي كُلِّ الْأَمْوَالِ، وَسُمِّيَ عَفْوًا لِأَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، أَيْ لَا زَكَاةَ فِيهِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:

أَوْقَاصُ الْإِبِلِ:

4- يُبْحَثُ عَنِ الْأَحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِالْأَوْقَاصِ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةٍ) أَيْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ مِنْهَا بِزَكَاةِ النَّعَمِ، وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، إِذِ الْأَوْقَاصُ كَمَا سَبَقَ: مَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ مِنْ كُلِّ الْأَنْعَامِ، وَالْمُرَادُ بِالْفَرِيضَتَيْنِ النِّصَابَانِ.فَمَا بَيْنَ كُلِّ نِصَابَيْنِ يُعْتَبَرُ وَقْصًا.هَذَا.وَالْأَوْقَاصُ فِي الْإِبِلِ عَلَى خَمْسِ مَرَاتِبَ:

الْأُولَى: الْأَرْبَعَةُ الَّتِي تَفْصِلُ بَيْنَ مَا تَجِبُ فِيهِ الشَّاةُ وَهِيَ الْخَمْسُ مِنَ الْإِبِلِ، وَالشَّاتَانِ وَهِيَ الْعَشْرُ، وَالثَّلَاثُ شِيَاهٍ وَهِيَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ، وَالْأَرْبَعُ شِيَاهٍ وَهِيَ الْعِشْرُونَ، وَبِنْتُ الْمَخَاضِ وَهِيَ الْخَمْسُ وَالْعِشْرُونَ.

الثَّانِيَةُ: الْعَشَرَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَفْصِلُ بَيْنَ مَا تَجِبُ فِيهِ بِنْتُ الْمَخَاضِ، وَهِيَ الْخَمْسُ وَالْعِشْرُونَ، وَمَا تَجِبُ فِيهِ بِنْتُ اللَّبُونِ وَهِيَ السِّتُّ وَالثَّلَاثُونَ.

الثَّالِثَةُ: التِّسْعَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَفْصِلُ بَيْنَ مَا تَجِبُ فِيهِ بِنْتَ اللَّبُونِ وَهِيَ السِّتُّ وَالثَّلَاثُونَ، وَمَا تَجِبُ فِيهِ الْحِقَّةُ، وَهِيَ السِّتُّ وَالْأَرْبَعُونَ.

الرَّابِعَةُ: الْأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَهِيَ الَّتِي تَفْصِلُ بَيْنَ مَا تَجِبُ فِيهِ الْحِقَّةُ وَهِيَ السِّتُّ وَالْأَرْبَعُونَ، وَمَا تَجِبُ فِيهِ الْجَذَعَةُ وَهِيَ الْإِحْدَى وَالسِّتُّونَ.وَهِيَ الَّتِي تَفْصِلُ أَيْضًا بَيْنَ مَا تَجِبُ فِيهِ الْجَذَعَةُ وَهِيَ الْإِحْدَى وَالسِّتُّونَ، وَمَا تَجِبُ فِيهِ بِنْتَا اللَّبُونِ وَهِيَ السِّتُّ وَالسَّبْعُونَ، وَالَّتِي تَفْصِلُ أَيْضًا بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ مَا تَجِبُ فِيهِ الْحِقَّتَانِ وَهِيَ الْإِحْدَى وَالتِّسْعُونَ.

الْخَامِسَةُ: التِّسْعُ وَالْعِشْرُونَ، وَهِيَ الَّتِي تَفْصِلُ بَيْنَ مَا تَجِبُ فِيهِ الْحِقَّتَانِ وَهِيَ الْإِحْدَى وَالتِّسْعُونَ، وَمَا تَجِبُ فِيهِ ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ وَهِيَ الْإِحْدَى وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِذْ زِيَادَةُ الْوَاحِدَةِ عَلَى الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ تُؤَثِّرُ عِنْدَهُمْ فِي تَغْيِيرِ الْوَاجِبِ.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ زِيَادَةَ الْوَاحِدَةِ عَلَى الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ لَا تُؤَثِّرُ فِي تَغْيِيرِ الْوَاجِبِ، وَإِنَّمَا يَتَغَيَّرُ الْوَاجِبُ عِنْدَهُمْ بِزِيَادَةِ خَمْسٍ، فَيَسْتَمِرُّ أَخْذُ الْحِقَّتَيْنِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ بَعْدَ الْمِائَةِ.

فَالْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ مِنْ مَرَاتِبِ الْوَقَصِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ.

وَالَّذِي ارْتَضَاهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ أَنَّ الْوَاجِبَ بَعْدَ الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ يَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةِ عَشْرَةٍ، فَإِنْ كَانَ الزَّائِدُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ السَّاعِيَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَخْذِ الْحِقَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثِ بَنَاتِ لَبُونٍ.وَالتَّفْصِيلُ مَعَ الْأَدِلَّةِ وَمَا قِيلَ فِيهَا مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (زَكَاةٍ).

أَوْقَاصُ الْبَقَرِ:

5- الْأَوْقَاصُ فِي الْبَقَرِ لَا تَخْرُجُ عَنْ عَدَدَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: التِّسْعَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَفْصِلُ بَيْنَ مَا يَجِبُ فِيهِ التَّبِيعُ أَوِ التَّبِيعَةُ، وَهُوَ الثَّلَاثُونَ، وَمَا يَجِبُ فِيهِ الْمُسِنَّةُ أَوِ الْمُسِنُّ وَهُوَ الْأَرْبَعُونَ، وَهُوَ الَّتِي تَقَعُ أَيْضًا بَعْدَ الْعَدَدِ الَّذِي يَتَغَيَّرُ فِيهِ الْوَاجِبُ بِزِيَادَةِ عَشْرَةٍ اتِّفَاقًا وَهُوَ السِّتُّونَ، وَمَا فَوْقَهَا كَالتِّسْعَةِ الَّتِي بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ.وَالسَّبْعِينَ وَالثَّمَانِينَ.وَهَكَذَا.

الثَّانِي: التِّسْعَةَ عَشَرَ، وَهِيَ الَّتِي تَفْصِلُ بَيْنَ الْعَدَدِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الْمُسِنَّةُ أَوِ الْمُسِنُّ عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الْأَرْبَعُونَ، وَالْعَدَدُ الَّذِي يَتَغَيَّرُ بَعْدَهُ الْوَاجِبُ بِزِيَادَةِ عَشْرَةٍ وَهُوَ السِّتُّونَ، فَإِنَّهَا وَقَصٌ لَا زَكَاةَ فِيهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

هَذَا وَتَذْكُرُ كُتُبُ الْحَنَفِيَّةِ ثَلَاثَ رِوَايَاتٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْبَقَرِ إِذَا زَادَ عَدَدُهَا عَلَى الْأَرْبَعِينَ.سَيَأْتِي ذِكْرُهَا.

أَوْقَاصُ الْغَنَمِ:

6- الْأَوْقَاصُ فِي الْغَنَمِ تَكُونُ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أَوَّلًا: الثَّمَانُونَ، وَهِيَ الَّتِي تَفْصِلُ بَيْنَ مَا تَجِبُ فِيهِ الشَّاةُ الْوَاحِدَةُ وَهِيَ الْأَرْبَعُونَ، وَمَا تَجِبُ فِيهِ الشَّاتَانِ وَهِيَ الْإِحْدَى وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ.ثَانِيًا: التِّسْعُ وَالسَّبْعُونَ، وَهِيَ الَّتِي تَفْصِلُ بَيْنَ مَا تَجِبُ فِيهِ الشَّاتَانِ وَهِيَ الْإِحْدَى وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ، وَمَا تَجِبُ فِيهِ الثَّلَاثُ الشِّيَاهِ وَهِيَ الْوَاحِدَةُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ.

ثَالِثًا: التِّسْعُ وَالتِّسْعُونَ، وَهِيَ الَّتِي تَقَعُ بَعْدَ الْعَدَدِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الثَّلَاثُ الشِّيَاهِ وَهُوَ الْوَاحِدُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ وَقَبْلَ الْعَدَدِ الَّذِي يَتَغَيَّرُ بَعْدَهُ الْوَاجِبُ بِزِيَادَةِ مِائَةٍ وَهُوَ الثَّلَاثُمِائَةِ، فَيَسْتَمِرُّ بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقَصُ عَلَى تِسْعٍ وَتِسْعِينَ.

زَكَاةُ أَوْقَاصِ الْإِبِلِ:

7- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي زَكَاةِ أَوْقَاصِ الْإِبِلِ قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا زَكَاةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالنِّصَابِ فَقَطْ؛ وَلِأَنَّ الْوَقَصَ عَفْوٌ بَعْدَ النِّصَابِ كَمَا هُوَ عَفْوٌ أَيْضًا قَبْلَ النِّصَابِ، فَالْأَرْبَعَةُ الْوَاقِعَةُ بَعْدَ الْخَمْسَةِ وَقَبْلَ الْعَشَرَةِ عَفْوٌ، إِذْ هِيَ كَالْأَرْبَعَةِ الْوَاقِعَةِ قَبْلَ الْخَمْسِ.وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَيْضًا أَحَدُ قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ.

الثَّانِي: أَنَّهَا تُزَكَّى، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَيْضًا الْقَوْلُ الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ مَالِكٌ، وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي رِوَايَةِ الْبُوَيْطِيِّ، وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ حَدِيثُ أَنَسٍ: «فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا مِنَ الْغَنَمِ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى»، فَجَعَلَ الْفَرْضَ فِي النِّصَابِ وَمَا زَادَ.وَلِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى نِصَابٍ فَلَمْ يَكُنْ عَفْوًا، كَالزِّيَادَةِ عَلَى نِصَابِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ.

وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلَافِ- كَمَا جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ- فِيمَنْ مَلَكَ تِسْعًا مِنَ الْإِبِلِ، فَهَلَكَ بَعْدَ الْحَوْلِ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ عَلَى الْأَوَّلِ، وَيَسْقُطُ عَلَى الثَّانِي أَرْبَعَةُ أَتْسَاعِ شَاةٍ.

هَذَا وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْأَوْقَاصَ لَا زَكَاةَ فِيهَا قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالنِّصَابِ فَقَطْ، فَلَوْ كَانَ لَهُ تِسْعُ إِبِلٍ مَغْصُوبَةٍ حَوْلًا، فَخَلَصَ مِنْهَا بَعِيرًا، لَزِمَهُ خُمُسِ شَاةٍ.

زَكَاةُ أَوْقَاصِ الْبَقَرِ:

8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَكَاةِ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ إِلَى السِّتِّينَ مِنَ الْبَقَرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَقْصٌ لَا زَكَاةَ فِيهَا، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ مِنَ الْبَقَرِ تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنًّا أَوْ مُسِنَّةً، فَقَالُوا: الْأَوْقَاصَ، فَقَالَ: مَا أَمَرَنِي فِيهَا بِشَيْءٍ، وَسَأَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- سَأَلَهُ عَنِ الْأَوْقَاصِ فَقَالَ: لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ».

وَفَسَّرُوهَا بِمَا بَيْنَ أَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الزَّكَاةِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ كُلِّ وَاجِبَيْنِ وَقْصٌ، لِأَنَّ تَوَالِيَ الْوَاجِبَاتِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِيهَا، لَا سِيَّمَا فِيمَا يُؤَدِّي إِلَى التَّشْقِيصِ فِي الْمَوَاشِي.

الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ عَنْهُ- وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ- أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ يَجِبُ فِيهِ بِحِسَابِهِ إِلَى السِّتِّينَ، فَفِي الْوَاحِدَةِ الزَّائِدَةِ رُبُعُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ، أَوْ ثُلُثُ عُشْرِ التَّبِيعِ، وَفِي الثِّنْتَيْنِ نِصْفُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ أَوْ ثُلُثَا عُشْرِ تَبِيعٍ وَهَكَذَا.

وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّ الْمَالَ سَبَبُ الْوُجُوبِ، وَنَصْبُ النِّصَابِ بِالرَّأْيِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا إِخْلَاؤُهُ عَنِ الْوَاجِبِ بَعْدَ تَحَقُّقِ سَبَبِهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ مُعَاذٍ فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ مَا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ فِي الصَّحِيحِ.الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ- وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ- أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَرُبُعُ مُسِنَّةٍ أَوْ ثُلُثُ تَبِيعٍ.

وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّ الْأَوْقَاصَ مِنَ الْبَقَرِ تِسْعٌ تِسْعٌ، كَمَا قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ وَبَعْدَ السِّتِّينَ، فَكَذَا هُنَا.

زَكَاةُ أَوْقَاصِ الْغَنَمِ:

9- وَلَا زَكَاةَ فِي أَوْقَاصِ الْغَنَمِ بِالِاتِّفَاقِ

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


37-موسوعة الفقه الكويتية (بغاة 1)

بُغَاةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: بَغَى عَلَى النَّاسِ بَغْيًا: أَيْ ظَلَمَ وَاعْتَدَى، فَهُوَ بَاغٍ وَالْجَمْعُ بُغَاةٌ، وَبَغَى: سَعَى بِالْفَسَادِ، وَمِنْهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.

وَالْفُقَهَاءُ لَا يَخْرُجُونَ فِي الْجُمْلَةِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى إِلاَّ بِوَضْعِ بَعْضِ قُيُودٍ فِي التَّعْرِيفِ فَقَدْ عَرَّفُوا الْبُغَاةَ بِأَنَّهُمُ: الْخَارِجُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْحَقِّ بِتَأْوِيلٍ، وَلَهُمْ شَوْكَةٌ.

وَيُعْتَبَرُ بِمَنْزِلَةِ الْخُرُوجِ: الِامْتِنَاعُ مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ الَّذِي يَطْلُبُهُ الْإِمَامُ، كَالزَّكَاةِ.

وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ سِوَى الْبُغَاةِ اسْمُ (أَهْلِ الْعَدْلِ) وَهُمُ الثَّابِتُونَ عَلَى مُوَالَاةِ الْإِمَامِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْخَوَارِجُ:

2- يَقُولُ الْجُرْجَانِيُّ: هُمُ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الْعُشْرَ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ السُّلْطَانِ.وَهُمْ فِي الْأَصْلِ كَانُوا فِي صَفِّ الْإِمَامِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- فِي الْقِتَالِ، وَخَرَجُوا عَلَيْهِ لَمَّا قَبِلَ التَّحْكِيمَ.قَالُوا: لِمَ تُحَكِّمْ وَأَنْتَ عَلَى حَقٍّ.

وَيَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّهُمْ يَرَوْنَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- عَلَى بَاطِلٍ بِقَبُولِهِ التَّحْكِيمَ، وَيُوجِبُونَ قِتَالَهُ، وَيَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَيَسْبُونَ نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي نَظَرِهِمْ كُفَّارٌ.

وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ بُغَاةٌ، وَلَا يَرَوْنَ تَكْفِيرَهُمْ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّهُمْ كُفَّارٌ مُرْتَدُّونَ.وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ أَهْلَ الْحَدِيثِ عَلَى تَكْفِيرِهِمْ، وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبِرِّ أَنَّ الْإِمَامَ عَلِيًّا- رضي الله عنه- سُئِلَ عَنْهُمْ: أَكُفَّارٌ هُمْ؟ قَالَ: مِنَ الْكُفْرِ فَرُّوا.قِيلَ: فَمُنَافِقُونَ؟ قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلًا.قِيلَ فَمَا هُمْ؟ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ أَصَابَتْهُمْ فِتْنَةٌ، فَعَمُوا وَصَمُّوا، وَبَغَوْا عَلَيْنَا، وَقَاتَلُوا فَقَاتَلْنَاهُمْ.وَقَالَ لَهُمْ: لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ: لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ، وَلَا نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ، وَلَا نَمْنَعُكُمُ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَنَا.

وَيَقُولُ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنْ تَظَاهَرَ الْخَوَارِجُ بِاعْتِقَادِهِمْ، وَهُمْ عَلَى اخْتِلَاطٍ بِأَهْلِ الْعَدْلِ، جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَزِّرَهُمْ.

وَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِي مُصْطَلَحِ (فِرَق).

ب- الْمُحَارِبُونَ:

3- الْمُحَارِبُونَ: لَفْظٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحِرَابَةِ مَصْدَرُ حَرَبَ، وَحَرَبَهُ يَحْرُبُهُ: إِذَا أَخَذَ مَالَهُ، وَالْحَارِبُ: الْغَاصِبُ النَّاهِبُ.

وَعَبَّرَ عَنْهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: بِقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ الْخُرُوجُ عَلَى الْمَارَّةِ لِأَخْذِ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ، عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ الْمَارَّةَ مِنَ الْمُرُورِ، فَيَنْقَطِعُ الطَّرِيقُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْقَطْعُ مِنْ جَمَاعَةٍ أَمْ وَاحِدٍ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ لَهُ قُوَّةُ الْقَطْعِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْقَطْعُ بِسِلَاحٍ أَمْ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعَصَا وَالْحَجَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.وَتُسَمَّى الْحِرَابَةُ بِالسَّرِقَةِ الْكُبْرَى.

أَمَّا كَوْنُهَا سَرِقَةً؛ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ يَأْخُذُ الْمَالَ خُفْيَةً عَنْ عَيْنِ الْإِمَامِ الَّذِي عَلَيْهِ حِفْظُ الْأَمْنِ.وَأَمَّا كَوْنُهَا كُبْرَى؛ فَلِأَنَّ ضَرَرَهُ يَعُمُّ، حَيْثُ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى الْجَمَاعَةِ بِزَوَالِ الْأَمْنِ.

فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحِرَابَةِ وَالْبَغْيِ هُوَ أَنَّ الْبَغْيَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ تَأْوِيلٍ، أَمَّا الْحِرَابَةُ فَالْغَرَضُ مِنْهَا الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْبَغْيِ:

4- الْبَغْيُ حَرَامٌ، وَالْبُغَاةُ آثِمُونَ، وَلَكِنْ لَيْسَ الْبَغْيُ خُرُوجًا عَنِ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سَمَّى الْبُغَاةَ مُؤْمِنِينَ فِي قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} إِلَى أَنْ قَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}، وَيَحِلُّ قِتَالُهُمْ، وَيَجِبُ عَلَى النَّاسِ مَعُونَةُ الْإِمَامِ فِي قِتَالِهِمْ.وَمَنْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ أَثْنَاءَ قِتَالِهِمْ فَهُوَ شَهِيدٌ.وَيَسْقُطُ قِتَالُهُمْ إِذَا فَاءُوا إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، وَيَقُولُ الصَّنْعَانِيُّ: إِذَا فَارَقَ أَحَدٌ الْجَمَاعَةَ وَلَمْ يَخْرُجْ عَلَيْهِمْ وَلَا قَاتَلَهُمْ يُخَلَّى وَشَأْنَهُ؛ إِذْ مُجَرَّدُ الْخِلَافِ عَلَى الْإِمَامِ لَا يُوجِبُ قِتَالَ الْمُخَالِفِ.

وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ قَالَ النَّبِيُّ- عليه الصلاة والسلام- لِابْنِ مَسْعُودٍ: «يَا ابْنَ مَسْعُودٍ: أَتَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ بَغَى مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.قَالَ: حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ أَلاَّ يُتْبَعَ مُدْبِرُهُمْ، وَلَا يُقْتَلَ أَسِيرُهُمْ، وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ».

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْبَغْيَ لَيْسَ اسْمَ ذَمٍّ؛ لِأَنَّ الْبُغَاةَ خَالَفُوا بِتَأْوِيلٍ جَائِزٍ فِي اعْتِقَادِهِمْ، لَكِنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِيهِ، فَلَهُمْ نَوْعُ عُذْرٍ؛ لِمَا فِيهِمْ مِنْ أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ.

وَقَالُوا: إِنَّ مَا وَرَدَ فِي ذَمِّهِمْ، وَمَا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْ وَصْفِهِمْ بِالْعِصْيَانِ أَوِ الْفِسْقِ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَا أَهْلِيَّةَ فِيهِ لِلِاجْتِهَادِ، أَوْ لَا تَأْوِيلَ لَهُ.وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ قَطْعِيَّ الْبُطْلَانِ.

5- وَقَدْ بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ أَنْوَاعَ الْبُغَاةِ مِنْ حَيْثُ جَوَازُ فِعْلِهِمْ، أَوْ كَوْنُهُ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً كَمَا يَلِي:

أ- الْبُغَاةُ إِذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ لَيْسُوا بِفَاسِقِينَ، وَإِنَّمَا هُمْ مُخْطِئُونَ فِي تَأْوِيلِهِمْ، كَالْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ.وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.وَكَذَا إِنْ تَكَلَّمُوا بِالْخُرُوجِ لَكِنْ لَمْ يَعْزِمُوا عَلَى الْخُرُوجِ بَعْدُ، فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْجِنَايَةِ لَمْ يُوجَدْ.وَمِثَالُ ذَلِكَ: مَا وَقَعَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ، مِمَّنْ عَصَى الْإِمَامَ لَا عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ، مِنْ أَنَّهُ مَكَثَ أَشْهُرًا لَمْ يُبَايِعِ الْخَلِيفَةَ ثُمَّ بَايَعَهُ.يَقُولُ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ لَعْنَ الْبُغَاةِ وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وَتَفْسِيقَهُمْ.

ب- إِنْ خَالَطَ الْبُغَاةَ أَهْلُ الْعَدْلِ، وَتَظَاهَرُوا بِاعْتِقَادِهِمْ، دُونَ مُقَاتَلَتِهِمْ جَازَ لِلْإِمَامِ تَعْزِيرُهُمْ؛ إِذِ التَّظَاهُرُ بِاعْتِقَادِهِمْ، وَنَشْرُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْعَدْلِ دُونَ قِتَالٍ يُعْتَبَرُ مِنَ الصَّغَائِرِ.

ج- إِذَا اجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِمَامٍ، وَصَارُوا آمَنِينَ بِهِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِظُلْمٍ ظَلَمَهُمْ إِيَّاهُ، وَلَكِنْ لِدَعْوَى الْحَقِّ وَالْوِلَايَةِ.فَقَالُوا: الْحَقُّ مَعَنَا، وَيَدَّعُونَ الْوِلَايَةَ، وَلَهُمْ تَأْوِيلٌ وَمَنَعَةٌ، فَهُمْ أَهْلُ بَغْيٍ، فَعَلَى كُلِّ مَنْ يَقْوَى عَلَى الْقِتَالِ مُنَاصَرَةُ الْإِمَامِ عَلَيْهِمْ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَمِنَ الْبُغَاةِ الْخَوَارِجُ.

وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا خَرَجُوا عَلَى الْإِمَامِ فَهُمْ فُسَّاقٌ.

شُرُوطُ تَحَقُّقِ الْبَغْيِ:

6- يَتَحَقَّقُ الْبَغْيُ بِمَا يَلِي:

أ- أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُونَ عَلَى الْإِمَامِ جَمَاعَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ شَوْكَةٌ، وَخَرَجُوا عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ لِإِرَادَةِ خَلْعِهِ بِتَأْوِيلٍ فَاسِدٍ.فَلَوْ خَرَجَ عَلَيْهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ لَكَانُوا حَرْبِيِّينَ لَا بُغَاةً.وَلَوْ خَرَجَتْ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلَا طَلَبِ إِمْرَةٍ لَكَانُوا قُطَّاعَ طَرِيقٍ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قُوَّةٌ وَمَنَعَةٌ، وَلَا يُخْشَى قِتَالُهُمْ، وَلَوْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ.وَلَوْ خَرَجُوا عَلَى الْإِمَامِ بِحَقٍّ- كَدَفْعِ ظُلْمٍ- فَلَيْسُوا بِبُغَاةٍ، وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتْرُكَ الظُّلْمَ وَيُنْصِفَهُمْ، وَلَا يَنْبَغِي لِلنَّاسِ مَعُونَةُ الْإِمَامِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِعَانَةً عَلَى الظُّلْمِ، وَلَا أَنْ يُعِينُوا تِلْكَ الطَّائِفَةَ الْخَارِجَةَ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِعَانَةً عَلَى خُرُوجِهِمْ، وَاتِّسَاعِ الْفِتْنَةِ، وَقَدْ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَيْقَظَ الْفِتْنَةَ.

وَأَمَّا مَنْ خَرَجُوا عَلَى الْإِمَامِ بِمَنَعَةٍ، بِتَأْوِيلٍ يُقْطَعُ بِفَسَادِهِ، مُسْتَحِلِّينَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ، مِمَّا كَانَ قَطْعِيَّ التَّحْرِيمِ، كَتَأْوِيلِ الْمُرْتَدِّينَ، فَلَيْسُوا بِبُغَاةٍ؛ لِأَنَّ الْبَاغِيَ تَأْوِيلُهُ مُحْتَمِلٌ لِلصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، وَلَكِنَّ فَسَادَهُ هُوَ الْأَظْهَرُ، وَهُوَ مُتَّبِعٌ لِلشَّرْعِ فِي زَعْمِهِ، وَالْفَاسِدُ مِنْهُ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ، إِذَا ضُمَّتْ إِلَيْهِ الْمَنَعَةُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ.

ب- أَنْ يَكُونَ النَّاسُ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى إِمَامٍ وَصَارُوا بِهِ آمَنِينَ، وَالطُّرُقَاتُ بِهِ آمِنَةٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ يَكُونُ عَاجِزًا، أَوْ جَائِرًا ظَالِمًا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ وَعَزْلُهُ، إِنْ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ فِتْنَةٌ، وَإِلاَّ فَالصَّبْرُ أَوْلَى مِنَ التَّعَرُّضِ لِإِفْسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ.

ج- أَنْ يَكُونَ الْخُرُوجُ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ، أَيْ بِإِظْهَارِ الْقَهْرِ.وَقِيلَ: بِالْمُقَاتَلَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَعْصِي الْإِمَامَ لَا عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ لَا يَكُونُ مِنَ الْبُغَاةِ، فَمَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ إِظْهَارِ الْقَهْرِ لَا يَكُونُ بَاغِيًا.

د- وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ لِلْخَارِجِينَ مُطَاعٌ فِيهِمْ، يَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِمَامًا مَنْصُوبًا؛ إِذْ لَا شَوْكَةَ لِمَنْ لَا مُطَاعَ لَهُمْ.

وَقِيلَ: بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ إِمَامٌ مَنْصُوبٌ مِنْهُمْ،

هَذَا وَلَا يُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِ الْبَغْيِ انْفِرَادُهُمْ بِنَحْوِ بَلَدٍ وَلَكِنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ لِمُقَاتَلَتِهِمْ.

الْإِمَامُ الَّذِي يُعْتَبَرُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ بَغْيًا:

7- مَنِ اتَّفَقَ، الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِمَامَتِهِ وَبَيْعَتِهِ، وَثَبَتَتْ إِمَامَتُهُ، وَجَبَتْ طَاعَتُهُ وَمَعُونَتُهُ، وَمِثْلُهُ مَنْ تَثْبُتُ إِمَامَتُهُ بِعَهْدِ إِمَامٍ قَبْلَهُ إِلَيْهِ؛ إِذِ الْإِمَامُ يَصِيرُ إِمَامًا بِالْمُبَايَعَةِ أَوْ بِالِاسْتِخْلَافِ مِمَّنْ قَبْلَهُ.وَلَوْ خَرَجَ رَجُلٌ عَلَى الْإِمَامِ فَقَهَرَهُ، وَغَلَبَ النَّاسَ بِسَيْفِهِ، حَتَّى أَذْعَنُوا لَهُ وَتَابَعُوهُ، صَارَ إِمَامًا يَحْرُمُ قِتَالُهُ وَالْخُرُوجُ عَلَيْهِ.وَيُنْظَرُ لِلتَّفْصِيلِ بَحْثُ (الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى).

أَمَارَاتُ الْبَغْيِ:

8- إِذَا تَكَلَّمَ جَمَاعَةٌ فِي الْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَامِ وَمُخَالَفَةِ أَوَامِرِهِ، وَأَظْهَرُوا الِامْتِنَاعَ، وَكَانُوا مُتَحَيِّزِينَ مُتَهَيِّئِينَ لِقَصْدِ الْقِتَالِ، لِخَلْعِ الْإِمَامِ وَطَلَبِ الْإِمْرَةِ لَهُمْ، وَكَانَ لَهُمْ تَأْوِيلٌ يُبَرِّرُ فِي نَظَرِهِمْ مَسْلَكَهُمْ دُونَ الْمُقَاتَلَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَمَارَةَ بَغْيِهِمْ.

وَيَنْبَغِي إِذَا مَا بَلَغَ الْإِمَامَ أَمْرُهُمْ، وَأَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ السِّلَاحَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَالِ، أَنْ يَأْخُذَهُمْ وَيَحْبِسَهُمْ حَتَّى يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ، وَيُحْدِثُوا تَوْبَةً؛ دَفْعًا لِلشَّرِّ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ؛ لِأَنَّهُ لَوِ انْتَظَرَ أَنْ يَبْدَءُوهُ بِالْقِتَالِ، فَرُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ، لِتَقَوِّي شَوْكَتِهِمْ وَتَكَثُّرِ جَمْعِهِمْ، خُصُوصًا وَالْفِتْنَةُ يُسْرِعُ إِلَيْهَا أَهْلُ الْفَسَادِ.وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي بَدْئِهِمْ بِالْقِتَالِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

وَكَذَلِكَ فَإِنَّ مُخَالَفَتَهُمْ لِلْإِمَامِ لِمَنْعِ حَقِّ اللَّهِ، أَوْ لآِدَمِيٍّ كَزَكَاةٍ، وَكَأَدَاءِ مَا عَلَيْهِمْ مِمَّا جَبَوْهُ لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ كَخَرَاجِ الْأَرْضِ، مَعَ التَّحَيُّزِ وَالتَّهَيُّؤِ لِلْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَامِ عَلَى وَجْهِ الْمُغَالَبَةِ، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَمَارَةَ بَغْيِهِمْ.

أَمَّا لَوْ أَظْهَرُوا رَأْيَ الْخَوَارِجِ، كَتَكْفِيرِ فَاعِلِ الْكَبِيرَةِ وَتَرْكِ الْجَمَاعَاتِ وَاسْتِبَاحَةِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ، وَلَكِنْ لَمْ يَرْتَكِبُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يَقْصِدُوا الْقِتَالَ، وَلَمْ يَخْرُجُوا عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ أَمَارَةَ الْبَغْيِ، حَتَّى لَوِ امْتَازُوا بِمَوْضِعٍ يَتَجَمَّعُونَ فِيهِ، لَكِنْ إِنْ حَصَلَ مِنْهُمْ ضَرَرٌ تَعَرَّضْنَا لَهُمْ إِلَى زَوَالِ الضَّرَرِ.

بَيْعُ السِّلَاحِ لِأَهْلِ الْفِتْنَةِ

9- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ السِّلَاحِ لِلْبُغَاةِ وَأَهْلِ الْفِتْنَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا سَدٌّ لِذَرِيعَةِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَكَذَا مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ إِجَارَةٍ أَوْ مُعَاوَضَةٍ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ».

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ بَيْعِ السِّلَاحِ لَهُمْ كَرَاهَةً تَحْرِيمِيَّةً؛ لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}؛ وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ أَخْذُ سِلَاحِهِمْ بِمَا أَمْكَنَ، حَتَّى لَا يَسْتَعْمِلُوهُ فِي الْفِتْنَةِ، فَمَنْعُ بَيْعِهِ لَهُمْ أَوْلَى.

وَالَّذِي يُكْرَهُ هُوَ بَيْعُ السِّلَاحِ نَفْسِهِ الْمُعَدِّ لِلِاسْتِعْمَالِ.وَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَنَّ طَالِبَ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ لَا يُكْرَهُ الْبَيْعُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ، وَالْأَحْكَامُ تُبْنَى عَلَى الْغَالِبِ.

وَأَمَّا مَا لَا يُقَاتَلُ بِهِ إِلاَّ بِصَنْعَةٍ كَالْحَدِيدِ، فَلَا يُكْرَهُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَقَعُ بِعَيْنِ السِّلَاحِ، بِخِلَافِ الْحَدِيدِ، وَقَاسُوهُ عَلَى الْخَشَبِ الَّذِي يُتَّخَذُ مِنْهُ الْمَعَازِفُ، فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ عَيْنَهُ لَيْسَ مُنْكَرًا، وَإِنَّمَا الْمُنْكَرُ فِي اسْتِعْمَالِهِ الْمَحْظُورِ.

وَالْحَدِيدُ وَإِنْ كَانَ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا بَيْعُهُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَهْلِ الْبَغْيِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَفَرَّغُونَ لِاسْتِعْمَالِ الْحَدِيدِ سِلَاحًا؛ لِأَنَّ فَسَادَهُمْ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ بِالتَّوْبَةِ، أَوْ بِتَفْرِيقِ جَمْعِهِمْ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ.

وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ الْكَرَاهَةَ تَنْزِيهِيَّةٌ، وَقَالَ: وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذَا.

وَاجِبُ الْإِمَامِ نَحْوَ الْبُغَاةِ:

أ- قَبْلَ الْقِتَالِ:

10- يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَدْعُوَ الْبُغَاةِ الْخَارِجِينَ عَلَيْهِ إِلَى الْعَوْدَةِ إِلَى الْجَمَاعَةِ، وَالدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِ رَجَاءَ الْإِجَابَةِ، وَقَبُولِ الدَّعْوَةِ، لَعَلَّ الشَّرَّ يَنْدَفِعُ بِالتَّذْكِرَةِ؛ لِأَنَّهُ تُرْجَى تَوْبَتُهُمْ، وَيَسْأَلُهُمْ عَنْ سَبَبِ خُرُوجِهِمْ، فَإِنْ كَانَ لِظُلْمٍ مِنْهُ أَزَالَهُ، وَإِنْ ذَكَرُوا عِلَّةً يُمْكِنُ إِزَالَتُهَا أَزَالَهَا، وَإِنْ ذَكَرُوا شُبْهَةً كَشَفَهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَدَأَ الْأَمْرَ بِالْإِصْلَاحِ قَبْلَ الْقِتَالِ فَقَالَ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}.وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ كَفُّهُمْ وَدَفْعُ شَرِّهِمْ، لَا قَتْلُهُمْ.فَإِذَا أَمْكَنَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ كَانَ أَوْلَى مِنَ الْقِتَالِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ بِالْفَرِيقَيْنِ.وَلَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يُخَافَ شَرُّهُمْ.وَإِنْ طَلَبُوا الْإِنْظَارَ- وَكَانَ الظَّاهِرُ مِنْ قَصْدِهِمُ الرُّجُوعَ إِلَى الطَّاعَةِ- أَمْهَلَهُمْ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: يُنْظِرُهُمْ إِلَى مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ كَيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ.

وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى بَغْيِهِمْ، بَعْدَ أَنْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ أَمِينًا نَاصِحًا لِدَعْوَتِهِمْ، نَصَحَهُمْ نَدْبًا بِوَعْظٍ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا، وَحَسَّنَ لَهُمُ اتِّحَادَ كَلِمَةِ الدِّينِ وَعَدَمَ شَمَاتَةِ الْكَافِرِينَ، فَإِنْ أَصَرُّوا آذَنَهُمْ بِالْقِتَالِ.

وَإِنْ قَاتَلَهُمْ بِلَا دَعْوَةٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجِبُ إِنْذَارُهُمْ وَدَعْوَتُهُمْ مَا لَمْ يُعَاجِلُوهُ.

وَكَوْنُ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ عَارِفًا فَطِنًا وَاجِبٌ، إِنْ بُعِثَ لِلْمُنَاظَرَةِ وَكَشْفِ الشُّبْهَةِ، وَإِلاَّ فَمُسْتَحَبٌّ.

وَفَصَّلَ الْكَاسَانِيُّ فَقَالَ: إِنْ عَلِمَ الْإِمَامُ أَنَّهُمْ يُجَهِّزُونَ السِّلَاحَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَالِ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ، وَيَحْبِسَهُمْ حَتَّى يَتُوبُوا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ حَتَّى تَعَسْكَرُوا وَتَأَهَّبُوا لِلْقِتَالِ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى رَأْيِ الْجَمَاعَةِ أَوَّلًا، فَإِنَّ الْإِمَامَ عَلِيًّا- رضي الله عنه- لَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِ أَهْلُ حَرُورَاءَ، نَدَبَ إِلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- لِيَدْعُوَهُمْ إِلَى الْعَدْلِ، فَإِنْ أَجَابُوا كَفَّ عَنْهُمْ وَإِنْ أَبَوْا قَاتَلَهُمْ...وَإِنْ قَاتَلَهُمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْهُمْ، فَهُمْ مُسْلِمُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.

وَقَدْ أَسْنَدَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَتِ الْحَرُورِيَّةُ اعْتَزَلُوا فِي دَارٍ، وَكَانُوا سِتَّةَ آلَافٍ، فَقُلْتُ لِعَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ: لَعَلِّي أُكَلِّمُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ.قَالَ إِنِّي أَخَافُهُمْ عَلَيْكَ.قُلْتُ: كَلاَّ.فَلَبِسْتُ ثِيَابِي، وَمَضَيْتُ إِلَيْهِمْ، حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ.

وَقُلْتُ: أَتَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ عِنْدِ ابْنِ عَمِّ النَّبِيِّ وَصِهْرِهِ وَعَلَيْهِمْ نَزَلَ الْقُرْآنُ، وَهُمْ أَعْرَفُ بِتَأْوِيلِهِ مِنْكُمْ.وَلَيْسَ فِيكُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ.وَقُلْتُ: هَاتُوا مَا نَقَمْتُمْ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ وَخَتَنِهِ.قَالُوا: ثَلَاثٌ.أَنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} وَأَنَّهُ قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، فَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا فَقَدْ حَلَّتْ لَنَا نِسَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ.وَأَنَّهُ مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَمِيرَ الْكَافِرِينَ.قُلْتُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَرَأْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَحَدَّثْتُكُمْ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَا يَرُدُّ قَوْلَكُمْ هَذَا، تَرْجِعُونَ؟ قَالُوا: نَعَمْ.قُلْتُ: أَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ، فَأَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ أَنْ قَدْ صَيَّرَ اللَّهُ حُكْمَهُ إِلَى الرِّجَالِ فِي أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا رُبُعُ دِرْهَمٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} إِلَى قَوْلِهِ {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَحُكْمُ الرِّجَالِ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ أَحَقُّ، أَمْ فِي أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا رُبُعُ دِرْهَمٍ؟.وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، أَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ، فَتَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا تَسْتَحِلُّونَ مِنْ غَيْرِهَا، وَهِيَ أُمُّكُمْ؟ لَئِنْ فَعَلْتُمْ لَقَدْ كَفَرْتُمْ.فَإِنْ قُلْتُمْ: لَيْسَتْ أُمَّنَا فَقَدْ كَفَرْتُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}.وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.فَإِنَّ «رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دَعَا قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا، فَقَالَ لِكَاتِبِهِ: اكْتُبْ: هَذَا مَا قَضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلَا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي.يَا عَلِيُّ اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ»، فَرَسُولُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ، وَقَدْ مَحَا نَفْسَهُ وَلَمْ يَكُنْ مَحْوُ ذَلِكَ مَحْوًا مِنَ النُّبُوَّةِ.فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ وَبَقِيَ سَائِرُهُمْ، فَقُوتِلُوا.

وَيُصَرِّحُ الْأَلُوسِيُّ أَنَّهُ يَجِبُ قَبْلَ الْقِتَالِ إِزَالَةُ الشُّبْهَةِ بِالْحُجَجِ النَّيِّرَةِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ، وَدَعْوَةِ الْبُغَاةِ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْجَمَاعَةِ وَالدُّخُولِ فِي طَاعَةِ الْإِمَامِ.

ب- قِتَالُ الْبُغَاةِ:

11- إِذَا مَا دَعَا الْإِمَامُ الْبُغَاةَ إِلَى الدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِ، وَكَشَفَ شُبْهَتَهُمْ، فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا وَتَحَيَّزُوا مُجْتَمِعِينَ، وَكَانُوا مُتَهَيِّئِينَ لِلْقِتَالِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ قِتَالُهُمْ.وَلَكِنْ هَلْ نَبْدَؤُهُمْ بِالْقِتَالِ، أَمْ لَا نُقَاتِلُهُمْ إِلاَّ إِذَا أَظْهَرُوا الْمُغَالَبَةَ؟ هُنَاكَ اتِّجَاهَانِ:

الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: جَوَازُ الْبَدْءِ بِالْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُ لَوِ انْتَظَرْنَا قِتَالَهُمْ رُبَّمَا لَا يُمْكِنُ الدَّفْعُ، وَهُوَ مَا نَقَلَهُ خُوَاهَرْ زَادَهْ، قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ جَاءَ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِالْبُدَاءَةِ مِنْهُمْ فِي قوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} وَقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، حِدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»؛ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى عَلَامَتِهِ، وَهِيَ هُنَا التَّحَيُّزُ وَالتَّهَيُّؤُ، فَلَوِ انْتَظَرْنَا حَقِيقَةَ قِتَالِهِمْ لَصَارَ ذَرِيعَةً لِتَقْوِيَتِهِمْ.فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى الْإِمَارَةِ ضَرُورَةَ دَفْعِ شَرِّهِمْ؛ وَلِأَنَّهُمْ بِالْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَامِ صَارُوا عُصَاةً فَجَازَ قِتَالُهُمْ، إِلَى أَنْ يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ.وَمَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- مِنْ قَوْلِهِ فِي الْخَوَارِجِ لَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تُقَاتِلُونَا مَعْنَاهُ: حَتَّى تَعْزِمُوا عَلَى قِتَالِنَا.وَلَوْ أَمْكَنَ دَفْعُ شَرِّهِمْ بِالْحَبْسِ بَعْدَمَا تَأَهَّبُوا فَعَلَ ذَلِكَ، وَلَا نُقَاتِلُهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ دَفْعُ شَرِّهِمْ بِأَهْوَنَ مِنْهُ.

وَإِلَى الْقَوْلِ بِحِلِّ بَدْئِهِمْ بِالْقِتَالِ اتَّجَهَ فُقَهَاءُ الْحَنَابِلَةِ، جَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: إِنْ أَبَوُا الرُّجُوعَ وَعَظَهُمْ وَخَوَّفَهُمْ بِالْقِتَالِ، فَإِنْ رَجَعُوا إِلَى الطَّاعَةِ تَرَكَهُمْ، وَإِلاَّ لَزِمَهُ قِتَالُهُمْ إِنْ كَانَ قَادِرًا؛ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ.

الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: نَقَلَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ لَا يَبْدَؤُهُمْ بِالْقِتَالِ حَتَّى يَبْدَءُوهُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْكَاسَانِيُّ وَالْكَمَالُ.قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لِأَنَّ قِتَالَهُمْ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ، لَا لِشَرِّ شِرْكِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، فَمَا لَمْ يَتَوَجَّهِ الشَّرُّ مِنْهُمْ لَا يُقَاتِلُهُمُ الْإِمَامُ؛ إِذْ لَا يَجُوزُ قِتَالُ الْمُسْلِمِ إِلاَّ دَفْعًا، بِخِلَافِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْكُفْرِ قَبِيحٌ.وَهُوَ مَا اسْتَظْهَرَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَلاَّ يَبْدَءُوا مَنْ خَرَجُوا عَلَيْهِ بِالْقِتَالِ، وَإِنْ أَمْكَنَ دَفْعُهُمْ دُونَ الْقَتْلِ لَمْ يَجُزِ الْقَتْلُ.وَلَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يُخَافَ شَرُّهُمْ كَالصَّائِلِ.وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: «الْأَفْضَلُ تَرْكُهُ حَتَّى يَبْدَءُوهُ» أَيِ الْقِتَالَ.

الْمُعَاوَنَةُ فِي مُقَاتَلَةِ الْبُغَاةِ:

12- مَنْ دَعَاهُ الْإِمَامُ إِلَى مُقَاتَلَةِ الْبُغَاةِ افْتُرِضَ عَلَيْهِ إِجَابَتُهُ؛ لِأَنَّ طَاعَةَ الْإِمَامِ فِيمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ فَرْضٌ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَطَاقَ الدَّفْعَ أَنْ يُقَاتِلَ مَعَ الْإِمَامِ، إِلاَّ إِنْ كَانَ سَبَبُ الْخُرُوجِ ظُلْمَ الْإِمَامِ بِمَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ؛ إِذْ يَجِبُ مَعُونَتُهُمْ لِإِنْصَافِهِمْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا.وَمَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا لَزِمَ بَيْتَهُ.وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَعَدُوا فِي الْفِتْنَةِ، وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ فِي تَرَدُّدٍ مِنْ حِلِّ الْقِتَالِ.

وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ قَوْلِهِ: «إِذَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَزِلَ الْفِتْنَةَ، وَيَقْعُدَ فِي بَيْتِهِ» فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ إِمَامٌ.أَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اقْتِتَالِهِمَا حَمِيَّةً وَعَصَبِيَّةً، أَوْ لِأَجْلِ الدُّنْيَا وَالْمُلْكِ.وَلَوْ كَانَ السُّلْطَانُ ظَالِمًا، وَبَغَتْ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ لِرَفْعِ الظُّلْمِ، وَطُلِبَ مِنْهُ ذَلِكَ فَلَمْ يَسْتَجِبْ، فَلَا يَنْبَغِي لِلنَّاسِ مُعَاوَنَةُ السُّلْطَانِ وَلَا مُعَاوَنَةُ الْبُغَاةِ؛ إِذْ غَيْرُ الْعَدْلِ لَا تَجِبُ مُعَاوَنَتُهُ.قَالَ مَالِكٌ: دَعْهُ وَمَا يُرَادُ مِنْهُ، يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنَ الظَّالِمِ بِظَالِمٍ، ثُمَّ يَنْتَقِمُ مِنْ كِلَيْهِمَا.وَيَنُصُّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى مَنْ خَرَجُوا عَلَى الْإِمَامِ- وَلَوْ جَائِرًا- يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِعَانَتُهُ مِمَّنْ قَرُبَ مِنْهُمْ، حَتَّى تَبْطُلَ شَوْكَتُهُمْ.

وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مَعُونَةِ الْإِمَامِ لِدَفْعِ الْبُغَاةِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو- رضي الله عنهما- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَنْ أَعْطَى إِمَامًا صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ» وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ ثَبَتَتْ إِمَامَتُهُ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ؛ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ «يَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ...».

شُرُوطُ قِتَالِ الْبُغَاةِ وَمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ:

13- إِذَا لَمْ يُجْدِ مَعَ الْبُغَاةِ النُّصْحُ، وَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلرُّجُوعِ إِلَى طَاعَةِ الْإِمَامِ وَالدُّخُولِ فِي الْجَمَاعَةِ، أَوْ لَمْ يَقْبَلُوا الِاسْتِتَابَةَ- إِنْ كَانُوا فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ- وَرَأَوْا مُقَاتَلَتَنَا وَجَبَ قِتَالُهُمْ.بِشَرْطِ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِحُرُمَاتِ أَهْلِ الْعَدْلِ، أَوْ يَتَعَطَّلَ جِهَادُ الْمُشْرِكِينَ بِهِمْ، أَوْ يَأْخُذُوا مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ مَا لَيْسَ لَهُمْ، أَوْ يَمْتَنِعُوا مِنْ دَفْعِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ، أَوْ يَتَظَاهَرُوا عَلَى خَلْعِ الْإِمَامِ الَّذِي انْعَقَدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ.عَلَى مَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.وَقَالَ الرَّمْلِيُّ: الْأَوْجَهُ وُجُوبُ قِتَالِهِمْ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ بِبَقَائِهِمْ- وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَا ذُكِرَ- تَتَوَلَّدُ مَفَاسِدُ، قَدْ لَا تُتَدَارَكُ مَا دَامُوا قَدْ خَرَجُوا عَنْ قَبْضَةِ الْإِمَامِ وَتَهَيَّئُوا لِلْقِتَالِ.

وَلَوِ انْدَفَعَ شَرُّهُمْ بِمَا هُوَ أَهْوَنُ وَجَبَ بِقَدْرِ مَا يَنْدَفِعُ؛ إِذْ يُشْتَرَطُ لِمُقَاتَلَتِهِمْ أَنْ يَتَعَيَّنَ الْقِتَالُ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ، وَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ كَانَ أَوْلَى مِنَ الْقِتَالِ.

كَيْفِيَّةُ قِتَالِ الْبُغَاةِ:

14- الْأَصْلُ أَنَّ قِتَالَهُمْ إِنَّمَا يَكُونُ دَرْءًا لِتَفْرِيقِ الْكَلِمَةِ، مَعَ عَدَمِ التَّأْثِيمِ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَأَوِّلُونَ، وَلِذَا فَإِنَّ قِتَالَهُمْ يَفْتَرِقُ عَنْ قِتَالِ الْكُفَّارِ بِأَحَدَ عَشَرَ وَجْهًا: أَنْ يَقْصِدَ بِالْقِتَالِ رَدْعَهُمْ لَا قَتْلَهُمْ، وَأَنْ يَكُفَّ عَنْ مُدْبِرِهِمْ، وَلَا يُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَا تُقْتَلُ أَسْرَاهُمْ، وَلَا تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ، وَلَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ، وَلَا يُسْتَعَانُ عَلَيْهِمْ بِمُشْرِكٍ، وَلَا يُوَادِعُهُمْ عَلَى مَالٍ، وَلَا تُنْصَبُ عَلَيْهِمُ الْعَرَّادَاتُ (الْمَجَانِيقُ وَنَحْوُهَا)، وَلَا تُحَرَّقُ مَسَاكِنُهُمْ، وَلَا يُقْطَعُ شَجَرُهُمْ.

وَإِذَا تَحَيَّزَ الْبُغَاةُ إِلَى جِهَةٍ مُجْتَمَعِينَ، أَوْ إِلَى جَمَاعَةٍ وَلَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ شَرِّهِمْ إِلاَّ بِالْقِتَالِ، حَلَّ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَتَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ، وَلَوْ أَمْكَنَ دَفْعُ شَرِّهِمْ بِالْحَبْسِ بَعْدَمَا تَأَهَّبُوا فَعَلَ ذَلِكَ؛ إِذِ الْجِهَادُ مَعَهُمْ وَاجِبٌ بِقَدْرِ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ شَرُّهُمْ عَلَى مَا سَبَقَ.وَقَدْ قَاتَلَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- أَهْلَ حَرُورَاءَ بِالنَّهْرَوَانِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام- لَهُ «أَنَا أُقَاتِلُ عَلَى تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ، وَعَلِيٌّ يُقَاتِلُ عَلَى تَأْوِيلِهِ» وَالْقِتَالُ مَعَ التَّأْوِيلِ هُوَ الْقِتَالُ مَعَ الْبُغَاةِ، وَذَلِكَ كَقِتَالِ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه- مَانِعِي الزَّكَاةِ.

وَإِذَا قَاتَلَهُمْ الْإِمَامُ فَهَزَمَهُمْ، وَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَأُمِنَ جَانِبُهُمْ، أَوْ تَرَكُوا الْقِتَالَ بِإِلْقَاءِ السِّلَاحِ أَوْ بِالْهَزِيمَةِ أَوْ بِالْعَجْزِ، لِجِرَاحٍ أَوْ أَسِيرٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ، وَلَا يُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَلَا يَقْتُلُوا أَسِيرَهُمْ؛ لِوُقُوعِ الْأَمْنِ عَنْ شَرِّهِمْ، وَلَا تُسْبَى لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ، وَلَا يُقْسَمُ لَهُ مَالٌ، لِقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- لَا يُقْتَلُ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ مُقْبِلٌ وَلَا مُدْبِرٌ، وَلَا يُفْتَحُ بَابٌ، وَلَا يُسْتَحَلُّ فَرْجٌ وَلَا مَالٌ بَلْ قَالَ لَهُمْ: مَنِ اعْتَرَفَ شَيْئًا فَلْيَأْخُذْهُ، أَيْ مَنْ عَرَفَ مِنَ الْبُغَاةِ مَتَاعَهُ اسْتَرَدَّهُ، وَقَالَ يَوْمَ الْجَمَلِ: لَا تَتَّبِعُوا مُدْبِرًا، وَلَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا تَقْتُلُوا أَسِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَالنِّسَاءَ؛ وَلِأَنَّ قِتَالَهُمْ لِلدَّفْعِ وَالرَّدِّ إِلَى الطَّاعَةِ دُونَ الْقَتْلِ.وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: أَمَّا غَنِيمَةُ أَمْوَالِهِمْ وَسَبْيُ ذُرِّيَّتِهِمْ فَلَا نَعْلَمُ فِي تَحْرِيمِهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ مَا حَصَلَ مِنْ ضَرُورَةِ دَفْعِهِمْ وَقِتَالِهِمْ، وَمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ بَعِيدَةٌ يَنْحَازُونَ إِلَيْهَا، وَلَا يُتَوَقَّعُ فِي الْعَادَةِ مَجِيئُهَا إِلَيْهِمْ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ عَدَمُ وُصُولِهَا لَهُمْ، فَإِنَّهُ لَا يُقَاتَلُ مُدْبِرُهُمْ، وَلَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ؛ لِأَمْنِ غَائِلَتِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ قَرِيبَةٌ تُسْعِفُهُمْ عَادَةً، وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ اتِّبَاعُهُمْ وَالْإِجْهَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ.أَوْ كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ بَعِيدَةٌ يُتَوَقَّعُ فِي الْعَادَةِ مَجِيئُهَا إِلَيْهِمْ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ ذَلِكَ فَالْمُتَّجَهُ أَنْ يُقَاتَلَ.

وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ إِذَا أُمِنَ جَانِبُهُمْ بِالظُّهُورِ عَلَيْهِمْ، لَمْ يُتْبَعْ مُنْهَزِمُهُمْ، وَلَمْ يُذَفَّفْ عَلَى جَرِيحِهِمْ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَنُصُّونَ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ إِذَا تَرَكُوا الْقِتَالَ، بِالرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ، أَوْ بِإِلْقَاءِ السِّلَاحِ، أَوْ بِالْهَزِيمَةِ إِلَى فِئَةٍ، أَوْ إِلَى غَيْرِ فِئَةٍ، أَوْ بِالْعَجْزِ لِجِرَاحٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ أَسْرٍ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ قَتْلُهُمْ وَاتِّبَاعُ مُدْبِرِهِمْ.وَسَاقَ ابْنُ قُدَامَةَ الْآثَارَ الْوَارِدَةَ فِي النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْمُدْبِرِ وَالْإِجْهَازِ عَلَى الْجَرِيحِ وَقَتْلِ الْأَسِيرِ، وَهِيَ عَامَّةٌ.ثُمَّ قَالَ: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ كَفُّهُمْ وَقَدْ حَصَلَ، فَلَمْ يَجُزْ قَتْلُهُمْ كَالصَّائِلِ، وَلَا يُقْتَلُونَ لِمَا يُخَافُ فِي التَّالِي- إِنْ كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ- كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ يَنْحَازُونَ إِلَيْهَا- مُطْلَقًا- فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَقْتُلُوا مُدْبِرَهُمْ، وَيُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحِهِمْ؛ لِئَلاَّ يَنْحَازُوا إِلَى الْفِئَةِ، فَيَمْتَنِعُوا بِهَا، فَيَكُرُّوا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ.وَالْمُعْتَبَرُ فِي جَوَازِ الْقَتْلِ أَمَارَةُ قِتَالِهِمْ لَا حَقِيقَتُهُ؛ وَلِأَنَّ قَتْلَهُمْ إِذَا كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ، لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ دَفْعًا؛ لِأَنَّهُ يَتَحَيَّزُ إِلَى الْفِئَةِ وَيَعُودُ شَرُّهُ كَمَا كَانَ.وَقَالُوا: إِنَّ مَا قَالَهُ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- عَلَى تَأْوِيلِ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


38-موسوعة الفقه الكويتية (بيت المال 2)

بَيْتُ الْمَالِ -2

أَوْلَوِيَّاتُ الصَّرْفِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ:

14- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُنْدَبُ الْبَدْءُ بِالصَّرْفِ لآِلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- الَّذِينَ تَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ، اقْتِدَاءً بِفِعْلِ عُمَرَ- رضي الله عنه-، إِذْ قَدَّمَ آلَ بَيْتِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي دِيوَانِ الْعَطَاءِ.ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَجِبُ الْبَدْءُ بِمَصَالِحِ أَهْلِ الْبَلَدِ الَّذِينَ جُمِعَ مِنْهُمُ الْمَالُ، كَبِنَاءِ مَسَاجِدِهِمْ وَعِمَارَةِ ثُغُورِهِمْ وَأَرْزَاقِ قُضَاتِهِمْ وَمُؤَذِّنِيهِمْ وَقَضَاءِ دُيُونِهِمْ وَدِيَاتِ جِنَايَاتِهِمْ، وَيُعْطَوْنَ كِفَايَةَ سَنَتِهِمْ.

وَإِنْ كَانَ غَيْرُ فُقَرَاءِ الْبَلَدِ الَّتِي جُبِيَ فِيهَا الْمَالُ أَكْثَرَ احْتِيَاجًا مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَصْرِفُ الْقَلِيلَ لِأَهْلِ الْبَلَدِ الَّتِي جُبِيَ فِيهَا الْمَالُ، ثُمَّ يَنْقُلُ الْأَكْثَرَ لِغَيْرِهِمْ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ حَقَّانِ، ضَاقَ عَنْهُمَا وَاتَّسَعَ لِأَحَدِهِمَا، صُرِفَ فِيمَا يَصِيرُ مِنْهُمَا دَيْنًا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ لَوْ لَمْ يُؤَدَّ فِي وَقْتِهِ، كَأَرْزَاقِ الْجُنْدِ وَأَثْمَانِ الْمُعِدَّاتِ وَالسِّلَاحِ وَنَحْوِهِمَا، دُونَ مَا يَجِبُ عَلَى وَجْهِ الْإِرْفَاقِ وَالْمَصْلَحَةِ، كَالطُّرُقِ وَنَحْوِهَا.

الْفَائِضُ فِي بَيْتِ الْمَالِ:

15- لِعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا يَفِيضُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، بَعْدَ أَدَاءِ الْحُقُوقِ الَّتِي عَلَيْهِ، ثَلَاثَةُ اتِّجَاهَاتٍ:

الْأَوَّلُ- وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَجِبُ تَفْرِيقُ الْفَائِضِ وَتَوْزِيعُهُ عَلَى مَنْ يَعُمُّ بِهِ صَلَاحُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُدَّخَرُ؛ لِأَنَّ مَا يَنُوبُ الْمُسْلِمِينَ يَتَعَيَّنُ فَرْضُهُ عَلَيْهِمْ إِذَا حَدَثَ.وَفِي الْمِنْهَاجِ وَشَرْحِهِ مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: يُوَزَّعُ الْفَائِضُ عَلَى الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ مِمَّنْ لَهُمْ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ، لَا عَلَى غَيْرِهِمْ وَلَا ذَرَارِيِّهِمْ.قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: وَالْغَرَضُ أَنْ لَا يَبْقَى فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ.

وَالثَّانِي- وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهَا تُدَّخَرُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِمَا يَنُوبُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَادِثٍ.

وَالثَّالِثُ- التَّفْوِيضُ لِرَأْيِ الْإِمَامِ، قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: لِلْإِمَامِ الِادِّخَارُ.

وَنَقَلَ صَاحِبُ جَوَاهِرِ الْإِكْلِيلِ عَنِ الْمُدَوَّنَةِ: يُبْدَأُ فِي الْفَيْءِ بِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَا بَقِيَ يُقَسَّمُ بَيْنَ النَّاسِ بِالسَّوِيَّةِ، إِلاَّ أَنْ يَرَى الْإِمَامُ حَبْسَهُ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ.

إِذَا عَجَزَ بَيْتُ الْمَالِ عَنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ:

16- بَيَّنَ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى حَالَةَ عَجْزِ بَيْتِ الْمَالِ عَنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ فَقَالَا مَا حَاصِلُهُ: إِنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ضَرْبَانِ:

الْأَوَّلُ: مَا كَانَ بَيْتُ الْمَالِ لَهُ مُجَرَّدَ حِرْزٍ، كَالْأَخْمَاسِ وَالزَّكَاةِ، فَاسْتِحْقَاقُهُ مُعْتَبَرٌ بِالْوُجُودِ، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ مَوْجُودًا فِيهِ كَانَ مَصْرِفُهُ مُسْتَحَقًّا، وَعَدَمُهُ مُسْقِطٌ لِاسْتِحْقَاقِهِ.

الثَّانِي: مَا كَانَ بَيْتُ الْمَالِ لَهُ مُسْتَحِقًّا، وَهُوَ مَالُ الْفَيْءِ وَنَحْوِهِ، وَمَصَارِفُهُ نَوْعَانِ:

أَوَّلُهُمَا: مَا كَانَ مَصْرِفُهُ مُسْتَحَقًّا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ، كَرَوَاتِبِ الْجُنُودِ، وَأَثْمَانِ مَا اشْتُرِيَ مِنَ السِّلَاحِ وَالْمُعِدَّاتِ، فَاسْتِحْقَاقُهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالْوُجُودِ، بَلْ هُوَ مِنَ الْحُقُوقِ اللاَّزِمَةِ لِبَيْتِ الْمَالِ مَعَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ.فَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا يُعَجَّلُ دَفْعُهُ، كَالدَّيْنِ عَلَى الْمُوسِرِ، وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا وَجَبَ فِيهِ، وَلَزِمَ إِنْظَارُهُ، كَالدَّيْنِ عَلَى الْمُعْسِرِ.

ثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ مَصْرِفُهُ مُسْتَحَقًّا عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ وَالْإِرْفَاقِ دُونَ الْبَدَلِ، فَاسْتِحْقَاقُهُ مُعْتَبَرٌ بِالْوُجُودِ دُونَ الْعَدَمِ.فَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا وَجَبَ فِيهِ، إِنْ كَانَ مَعْدُومًا سَقَطَ وُجُوبُهُ عَنْ بَيْتِ الْمَالِ.ثُمَّ يَكُونُ- إِنْ عَمَّ ضَرَرُهُ- مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى يَقُومَ بِهِ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ كَالْجِهَادِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَعُمُّ ضَرَرُهُ كَوُعُورَةِ طَرِيقٍ قَرِيبٍ يَجِدُ النَّاسُ غَيْرَهُ طَرِيقًا بَعِيدًا، أَوِ انْقِطَاعِ شِرْبٍ يَجِدُ النَّاسُ غَيْرَهُ شِرْبًا.فَإِذَا سَقَطَ وُجُوبُهُ عَنْ بَيْتِ الْمَالِ بِالْعَدَمِ سَقَطَ وُجُوبُهُ عَنِ الْكَافَّةِ؛ لِوُجُودِ الْبَدَلِ.

وَيُلَاحَظُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْعَجْزُ فِي بَيْتِ الْمَالِ الْفَرْعِيِّ، أَيْ فِي أَحَدِ الْأَقَالِيمِ التَّابِعَةِ لِلْإِمَامِ.فَإِذَا قَلَّدَ الْخَلِيفَةُ أَمِيرًا عَلَى إِقْلِيمٍ، فَإِذَا نَقَصَ مَالُ الْخَرَاجِ عَنْ أَرْزَاقِ جَيْشِهِ، فَإِنَّهُ يُطَالِبُ الْخَلِيفَةَ بِتَمَامِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.أَمَّا إِنْ نَقَصَ مَالُ الصَّدَقَاتِ عَنْ كِفَايَةِ مَصَارِفِهَا فِي عَمَلِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ مُطَالَبَةُ الْخَلِيفَةِ بِتَمَامِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَرْزَاقَ الْجَيْشِ مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ، وَحُقُوقُ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْوُجُودِ.

تَصَرُّفَاتُ الْإِمَامِ فِي الدُّيُونِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ:

17- إِذَا ثَبَتَتِ الدُّيُونُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ وَفَاءٌ لَهَا، فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْ أَحَدِ بُيُوتِ الْمَالِ لِلْبَيْتِ الْآخَرِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ.وَقَالُوا: وَإِذَا حَصَلَ لِلْخِزَانَةِ الَّتِي اسْتُقْرِضَ لَهَا مَالٌ يُرَدُّ إِلَى الْمُسْتَقْرَضِ مِنْهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمَصْرُوفُ مِنَ الصَّدَقَاتِ أَوْ خُمُسِ الْغَنَائِمِ عَلَى أَهْلِ الْخَرَاجِ، وَهُمْ فُقَرَاءُ، فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؛ لِاسْتِحْقَاقِهِمُ الصَّدَقَاتِ بِالْفَقْرِ.وَكَذَا غَيْرُهُ إِذَا صُرِفَ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ.

وَلِلْإِمَامِ أَيْضًا أَنْ يَسْتَعِيرَ أَوْ يَقْتَرِضَ لِبَيْتِ الْمَالِ مِنَ الرَّعِيَّةِ.«وَقَدِ اسْتَعَارَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- دُرُوعًا لِلْجِهَادِ مِنْ صَفْوَانِ بْنِ أُمَيَّةَ» «وَاسْتَسْلَفَ- عليه الصلاة والسلام- بَعِيرًا وَرَدَّ مِثْلَهُ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ»، وَذَلِكَ اقْتِرَاضٌ عَلَى خِزَانَةِ الصَّدَقَاتِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.

تَنْمِيَةُ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَالتَّصَرُّفُ فِيهَا:

18- بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَلَاحِيَاتِ الْإِنْفَاقِ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنَّ لِلْإِمَامِ التَّصَرُّفَ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ.وَالْقَاعِدَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَنْزِلَةَ الْإِمَامِ مِنْ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ مَنْزِلَةُ الْوَلِيِّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-: إِنِّي أَنْزَلْتُ نَفْسِي مِنْ هَذَا الْمَالِ مَنْزِلَةَ وَلِيِّ الْيَتِيمِ.فَلَهُ فِيهِ مِنَ التَّصَرُّفِ مَا لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ.

وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ عَلَى إِطْلَاقِهَا، فَلَا يَلْزَمُ التَّشْبِيهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِدَلِيلِ أَنَّ لِلْإِمَامِ التَّمْلِيكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَالْإِقْطَاعَ مِنْهُ.

وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي تَعَرَّضَ لَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مَا يَلِي:

أ- الْبَيْعُ: يَجُوزُ لِلْإِمَامِ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ، إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ.أَمَّا شِرَاؤُهُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْهَا فَقَدْ جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْإِمَامِ وَلَا شِرَاؤُهُ مِنْ وَكِيلِ بَيْتِ الْمَالِ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ كَوَكِيلِ الْيَتِيمِ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْهُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ.زَادَ فِي الْبَحْرِ: أَوْ رَغِبَ فِي الْعَقَارِ بِضِعْفِ قِيمَتِهِ، عَلَى قَوْلِ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُفْتَى بِهِ.

ب- الْإِجَارَةُ: أَرْضُ بَيْتِ الْمَالِ تَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْوُقُوفِ الْمُؤَبَّدَةِ.فَتُؤَجَّرُ كَمَا يُؤَجَّرُ الْوَقْفُ.

ج- الْمُسَاقَاةُ: تَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ مِنَ الْإِمَامِ عَلَى بَسَاتِينِ بَيْتِ الْمَالِ، كَمَا تَصِحُّ مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ لِصَبِيٍّ تَحْتَ وِلَايَتِهِ.

د- الْإِعَارَةُ: اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ فِي إِعَارَةِ الْإِمَامِ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ، فَأَفْتَى الْإِسْنَوِيُّ بِجَوَازِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إِذَا جَازَ لَهُ التَّمْلِيكُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَالْإِعَارَةُ أَوْلَى.وَقَالَ الرَّمْلِيُّ: لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ مُطْلَقًا إِعَارَةُ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ، كَالْوَلِيِّ فِي مَالِ مُوَلِّيهِ.وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: ثُمَّ إِنْ أَخَذَ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَارِيَّةً فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، إِنْ كَانَ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ حَقٌّ، وَتَسْمِيَتُهُ عَارِيَّةً مَجَازٌ.

هـ- الْإِقْرَاضُ: ذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَقْرَضَ هِنْدًا بِنْتَ عُتْبَةَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ تَتَّجِرُ فِيهَا وَتَضْمَنُهَا.

وَمِمَّا يَجْرِي مَجْرَى الْإِقْرَاضِ الْإِنْفَاقُ بِقَصْدِ الرُّجُوعِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْبَهِيمَةِ الضَّائِعَةِ وَنَحْوِهَا، حِفْظًا لَهَا مِنَ التَّلَفِ.ثُمَّ يَرْجِعُ بَيْتُ الْمَالِ بِالنَّفَقَةِ عَلَى صَاحِبِ الْبَهِيمَةِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ بِيعَتْ، وَأُخِذَ مِنْ ثَمَنِهَا حَقُّ بَيْتِ الْمَالِ.

إِقْطَاعُ التَّمْلِيكِ:

19- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقْطِعَ مِنَ الْأَرَاضِي الَّتِي لَمْ تَكُنْ لِأَحَدٍ وَلَا فِي يَدِ وَارِثٍ؛ لِمَنْ فِيهِ غَنَاءٌ وَنَفْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى سَبِيلِ النَّظَرِ فِي الْمَصْلَحَةِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْمُحَابَاةِ وَالْأَثَرَةِ، كَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ الْأُخْرَى؛ إِذِ الْأَرْضُ وَالْمَالُ شَيْءٌ وَاحِدٌ.كَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَصْفَى أَمْوَالَ كِسْرَى وَأَهْلَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَمَالَ كُلِّ رَجُلٍ قُتِلَ فِي الْحَرْبِ أَوْ لَحِقَ بِأَرْضِ الْحَرْبِ أَوْ مَغِيضِ مَاءٍ أَوْ أَجَمَةٍ.وَكَانَ خَرَاجُ ذَلِكَ سَبْعَةَ آلَافِ أَلْفٍ، فَكَانَ يُقْطِعُ مِنْ هَذِهِ لِمَنْ أَقْطَعَ.قَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ، وَلَا فِي يَدِ وَارِثٍ، فَلِلْإِمَامِ الْعَادِلِ أَنْ يُجِيزَ مِنْهُ وَيُعْطِيَ مَنْ كَانَ لَهُ غَنَاءٌ فِي الْإِسْلَامِ.وَنَقَلَ هَذَا ابْنُ عَابِدِينَ، وَقَالَ: هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقَطَائِعَ قَدْ تَكُونُ مِنَ الْمَوَاتِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِمَنْ هُوَ مِنْ مَصَارِفِهِ، كَمَا يُعْطِي الْمَالَ حَيْثُ رَأَى الْمَصْلَحَةَ، وَأَنَّ الْمُقْطِعَ يَمْلِكُ رَقَبَةَ الْأَرْضِ؛ وَلِذَا يُؤْخَذُ مِنْهَا الْعُشْرُ، لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الصَّدَقَةِ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- عَلَى مَا فَصَّلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى- أَنَّ أَرَاضِيَ بَيْتِ الْمَالِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:

أ- مَا اصْطَفَاهُ الْإِمَامُ لِبَيْتِ الْمَالِ بِحَقِّ الْخُمُسِ أَوْ بِاسْتِطَابَةِ نُفُوسِ الْغَانِمِينَ، كَمَا اصْطَفَى عُمَرُ أَرَاضِيَ كِسْرَى وَأَهْلِهِ، وَلَمْ يُقْطِعْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا.فَلَمَّا جَاءَ عُثْمَانُ أَقْطَعَ مِنْهُ وَأَخَذَ مِنْهُ حَقَّ الْفَيْءِ.قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَكَانَ ذَلِكَ إِقْطَاعَ إِجَارَةٍ لَا إِقْطَاعَ تَمْلِيكٍ.وَلَا يَجُوزُ إِقْطَاعُ رَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِاصْطِفَائِهِ لِبَيْتِ الْمَالِ مِلْكًا لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَجَرَى عَلَى رَقَبَتِهِ حُكْمُ الْوَقْفِ الْمُؤَبَّدِ.

ب- أَرْضُ الْخَرَاجِ، فَلَا يَجُوزُ تَمْلِيكُ رَقَبَتِهَا؛ لِأَنَّ أَرْضَ الْخَرَاجِ بَعْضُهَا مَوْقُوفٌ، وَخَرَاجُهَا أُجْرَةٌ، وَبَعْضُهَا مَمْلُوكٌ لِأَهْلِهَا، وَخَرَاجُهَا جِزْيَةٌ.

ج- مَا مَاتَ عَنْهُ أَرْبَابُهُ وَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ وَارِثٌ بِفَرْضٍ أَوْ تَعْصِيبٍ.وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا النَّوْعِ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَصِيرُ وَقْفًا، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا إِقْطَاعُهَا.

وَثَانِيهِمَا: أَنَّهَا لَا تَصِيرُ وَقْفًا حَتَّى يَقِفَهَا الْإِمَامُ.فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لَهُ إِقْطَاعُهَا تَمْلِيكًا، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُهَا.

وَنَقَلَ قَوْلًا آخَرَ: أَنَّ إِقْطَاعَهَا لَا يَجُوزُ، وَإِنْ جَازَ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُعَاوَضَةٌ، وَهَذَا الْإِقْطَاعُ صِلَةٌ، وَالْأَثْمَانُ إِذَا صَارَتْ نَاضَّةً لَهَا حُكْمٌ يُخَالِفُ فِي الْعَطَايَا حُكْمَ الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ، فَافْتَرَقَا، وَإِنْ كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ضَعِيفًا.

وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي أَرْضِ الْعَنْوَةِ الْعَامِرَةِ فَإِنَّهَا لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إِقْطَاعُهَا تَمْلِيكًا، بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ وَقْفًا بِنَفْسِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا.وَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ تَعَرُّضًا لِلْأَرْضِ الَّتِي تَئُولُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ بِهَلَاكِ أَرْبَابِهَا.هَلْ يَجُوزُ إِقْطَاعُ التَّمْلِيكِ مِنْهَا أَمْ لَا؟.

إِقْطَاعُ الِانْتِفَاعِ وَالْإِرْفَاقِ وَالِاسْتِغْلَالِ:

20- يَجُوزُ لِلْإِمَامِ- إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ- أَنْ يُقْطِعَ مِنْ أَرَاضِي بَيْتِ الْمَالِ أَوْ عَقَارِهِ- بَعْضَ النَّاسِ إِرْفَاقًا أَوْ لِيَأْخُذَ الْغَلَّةَ.قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: ثُمَّ مَا اقْتَطَعَهُ الْإِمَامُ مِنَ الْعَنْوَةِ، إِنْ كَانَ لِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ انْحَلَّ بِمَوْتِ الْمُنْتَفِعِ.وَإِنْ كَانَ لِشَخْصٍ وَذُرِّيَّتِهِ وَعَقِبِهِ اسْتَحَقَّتْهُ الذُّرِّيَّةُ بَعْدَهُ، لِلْأُنْثَى مِثْلُ الذَّكَرِ.

وَانْظُرْ (إِرْفَاق.إِرْصَاد.أَرْضُ الْحَوْزِ) وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ مِثْلَ هَذَا وَقْفًا.

وَقْفُ عَقَارِ بَيْتِ الْمَالِ:

21- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ وَقْفِ الْإِمَامِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ قَالُوا: إِنْ كَانَ السُّلْطَانُ اشْتَرَى الْأَرَاضِيَ وَالْمَزَارِعَ مِنْ وَكِيلِ بَيْتِ الْمَالِ يَجِبُ مُرَاعَاةُ شَرَائِطِهِ، وَإِنْ وَقَفَهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لَا تَجِبُ مُرَاعَاتُهَا.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ، كَمَا نَقَلَ عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ:

وَقْفَ الْإِمَامِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.قَالُوا: لِأَنَّ لَهُ التَّمْلِيكَ مِنْهُ، وَكَمَا فَعَلَ عُمَرُ- رضي الله عنه- فِي أَرْضِ سَوَادِ الْعِرَاقِ، إِذْ وَقَفَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ.وَانْظُرْ (ر: إِرْصَاد).

تَمْلِيكُ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ قَبْلَ تَوْرِيدِهَا إِلَيْهِ:

22- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتْرُكَ الْخَرَاجَ لِلْمَالِكِ لَا الْعُشْرَ، ثُمَّ يَحِلُّ ذَلِكَ لِلْمَالِكِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، إِنْ كَانَ الْمَالِكُ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِلاَّ تَصَدَّقَ بِهِ.

وَلَوْ تَرَكَ الْإِمَامُ الْعُشْرَ وَنَحْوَهُ مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ فَلَمْ يَأْخُذْهُ لَا يَجُوزُ إِجْمَاعًا، وَيُخْرِجُهُ الْمَالِكُ بِنَفْسِهِ لِلْفُقَرَاءِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ.

الدُّيُونُ الَّتِي لِبَيْتِ الْمَالِ:

23- تَثْبُتُ لِبَيْتِ الْمَالِ الدُّيُونُ فِي ذِمَمِ الْأَفْرَادِ.فَلَوْ ضَرَبَ الْإِمَامُ أَمْوَالًا عَلَى الرَّعِيَّةِ عَامَّةً، أَوْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ أَوْ أَهْلِ بَلَدٍ، لِمَصْلَحَتِهِمْ، كَتَجْهِيزِ الْجُيُوشِ أَوْ فِدَاءِ الْأَسْرَى، وَكَأُجْرَةِ الْحِرَاسَةِ وَكَرْيِ الْأَنْهَارِ، فَمَنْ لَمْ يُؤَدِّ مِنْ ذَلِكَ مَا ضُرِبَ عَلَيْهِ بَقِيَ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنًا وَاجِبًا لِبَيْتِ الْمَالِ، لَا يَجُوزُ لَهُمُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ.

انْتِظَامُ بَيْتِ الْمَالِ وَفَسَادُهُ:

24- يَكُونُ بَيْتُ الْمَالِ مُنْتَظِمًا إِذَا كَانَ الْإِمَامُ عَدْلًا يَأْخُذُ الْمَالَ مِنْ حَقِّهِ، وَيَضَعُهُ فِي مُسْتَحِقِّهِ.وَيَكُونُ فَاسِدًا إِذَا كَانَ الْإِمَامُ غَيْرَ عَدْلٍ، فَيَأْخُذُ الْمَالَ مِنْ أَصْحَابِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ.أَوْ يَأْخُذُهُ بِحَقٍّ، وَلَكِنْ يُنْفِقُ مِنْهُ فِي غَيْرِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ، كَمَا لَوْ أَنْفَقَهُ فِي مَصَالِحِهِ الْخَاصَّةِ، أَوْ يَخُصُّ أَقَارِبَهُ أَوْ مَنْ يَهْوَى بِمَا لَا يَسْتَحِقُّونَهُ، وَيَمْنَعُ أَهْلَ الِاسْتِحْقَاقِ.

وَمِنَ الْفَسَادِ أَيْضًا أَنْ يُفَوِّضَ الْإِمَامُ أَمْرَ بَيْتِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِ عَدْلٍ، وَلَا يَسْتَقْصِي عَلَيْهِ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ مِنْ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَيَظْهَرُ مِنْهُ التَّضْيِيعُ وَسُوءُ التَّصَرُّفِ.

وَمِنْ أَوْجُهِ فَسَادِ بَيْتِ الْمَالِ أَيْضًا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَابِدِينَ: أَنْ يَخْلِطَ الْإِمَامُ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ الْأَرْبَعَةِ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، فَلَا تَكُونُ مُفْرَزَةً.

25- وَإِذَا فَسَدَ بَيْتُ الْمَالِ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

أ- أَنَّ لِمَنْ عَلَيْهِ حَقًّا لِبَيْتِ الْمَالِ- إِذَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ- أَنْ يُمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ الْحَقِّ بِقَدْرِ حَقِّهِ هُوَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، إِنْ كَانَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ لَمْ يُعْطَهْ.وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ مُبَاشَرَةً فِي مَصَارِفِ بَيْتِ الْمَالِ، كَبِنَاءِ مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ.ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِخُصُوصِ لُقَطَةٍ حَصَلَ الْيَأْسُ مِنْ مَعْرِفَةِ صَاحِبِهَا، أَوْ نَحْوِ ثَوْبٍ أَلْقَتْهُ الرِّيحُ إِلَى دَارِهِ وَلَمْ يُعْلَمْ صَاحِبُهُ وَأَيِسَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا أَيْضًا: مَا انْحَسَرَ عَنْهُ مَاءُ النَّهْرِ لَوْ زَرَعَهُ أَحَدٌ لَزِمَتْهُ أُجْرَتُهُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ قَدْرُ حِصَّتِهِ، إِنْ كَانَ لَهُ حِصَّةٌ فِي مَالِ الْمَصَالِحِ.وَاسْتُدِلَّ لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهَا: أَصَبْتُ كَنْزًا فَرَفَعْتُهُ إِلَى السُّلْطَانِ.فَقَالَتْ لَهُ: بِفِيكَ الْكَثْكَثُ.وَالْكَثْكَثُ: التُّرَابُ.

ب- وَمِنْهَا: لَوْ مَنَعَ السُّلْطَانُ حَقَّ الْمُسْتَ حِقِّينَ، فَظَفِرَ أَحَدُهُمْ بِمَالٍ لِبَيْتِ الْمَالِ، فَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَأْخُذَ الْمُسْتَحِقُّ قَدْرَ مَا كَانَ يُعْطِيهِ الْإِمَامُ.وَهَذَا أَحَدُ أَقْوَالٍ أَرْبَعَةٍ ذَكَرَهَا الْغَزَالِيُّ.

ثَانِيهَا: أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ يَوْمٍ قَدْرَ قُوتِهِ.

وَثَالِثُهَا: يَأْخُذُ كِفَايَةَ سَنَتِهِ.

وَرَابِعُهَا: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ.وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ السَّرِقَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، سَوَاءٌ انْتَظَمَ أَمْ لَمْ يَنْتَظِمْ، وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَ الْقَوْلَ الرَّابِعَ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي نَقَلَهَا الْغَزَالِيُّ.

وَمُفَادٌ مَا يَذْكُرُهُ الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَنْ يَأْخُذَ قَدْرَ حَقِّهِ دِيَانَةً، إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ مِنْ غَيْرِ بَيْتِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ هُوَ مِنْهُ إِلاَّ لِلضَّرُورَةِ كَمَا فِي زَمَانِنَا؛ إِذْ لَوْ لَمْ يَجُزْ أَخْذُهُ إِلاَّ مِنْ بَيْتِهِ لَزِمَ أَنْ لَا يَبْقَى حَقٌّ لِأَحَدٍ فِي زَمَانِنَا؛ لِعَدَمِ إِفْرَازِ كُلِّ بَيْتٍ عَلَى حِدَةٍ، بَلْ يَخْلِطُونَ الْمَالَ كُلَّهُ.وَلَوْ لَمْ يَأْخُذْ مَا ظَفِرَ بِهِ لَمْ يُمْكِنْهُ الْوُصُولُ إِلَى شَيْءٍ، كَمَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ عَابِدِينَ.

ج- وَمِنْهَا مَا أَفْتَى بِهِ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ- وَهُمْ مِنْ بَعْدِ سَنَةِ 400 هـ- مُوَافَقَةً لِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَقَالَ بِهِ مُتَأَخِّرُو الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَنْتَظِمْ بَيْتُ الْمَالِ يُرَدُّ عَلَى أَهْلِ الْفَرْضِ غَيْرِ الزَّوْجَيْنِ مَا فَضَلَ عَنْ إِرْثِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذُو فَرْضٍ يُرَدُّ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ.

وَالْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، فِي حَالِ انْتِظَامِ بَيْتِ الْمَالِ، عَدَمُ الرَّدِّ وَعَدَمُ تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، بَلْ تَكُونُ التَّرِكَةُ كُلُّهَا أَوْ فَاضِلُهَا عَنْ ذَوِي الْفُرُوضِ لِبَيْتِ الْمَالِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةٌ.

الِاعْتِدَاءُ عَلَى أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ:

26- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَانَ ضَامِنًا لِمَا أَتْلَفَهُ، وَأَنَّ مَنْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقٍّ لَزِمَهُ رَدُّهُ، أَوْ رَدُّ مِثْلِهِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَقِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا.وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اتِّجَاهَانِ:

أَحَدُهُمَا- وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّ السَّارِقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لَا تُقْطَعُ يَدُهُ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ عَبْدًا مِنْ رَقِيقِ الْخُمُسِ سَرَقَ مِنَ الْخُمُسِ، فَرُفِعَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يَقْطَعْهُ، وَقَالَ: مَالُ اللَّهِ سَرَقَ بَعْضُهُ بَعْضًا».

وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ سَأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ رَجُلٍ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَرْسِلْهُ، فَمَا مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ.

وَثَانِيهِمَا- وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ السَّارِقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ تُقْطَعُ يَدُهُ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فَإِنَّهُ عَامٌّ يَشْمَلُ السَّارِقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَالسَّارِقَ مِنْ غَيْرِهِ، وَبِأَنَّ السَّارِقَ قَدْ أَخَذَ مَالًا مُحَرَّزًا، وَلَيْسَتْ لَهُ فِيهِ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ كَمَا لَوْ أَخَذَ غَيْرُهُ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهُ فِيهَا شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ.

الْخُصُومَةُ فِي شَأْنِ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ:

27- إِذَا ادُّعِيَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ بِحَقٍّ، أَوْ كَانَ لِبَيْتِ الْمَالِ حَقٌّ قِبَلَ الْغَيْرِ، وَرُفِعَتِ الدَّعْوَى بِذَلِكَ أَمَامَ الْقَضَاءِ، كَانَ لِلْقَاضِي الَّذِي رُفِعَتِ الدَّعْوَى إِلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ فِيهَا، وَلَوْ أَنَّهُ أَحَدُ الْمُسْتَحِقِّينَ.وَإِذَا كَانَ الْقَاضِي نَفْسُهُ هُوَ الْمُدَّعِيَ أَوِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلَا تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ دَعْوَى أَصْلًا، وَلَا عَلَى نَائِبِهِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُنَصِّبَ مَنْ يَدَّعِي وَمَنْ يُدَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَهُ، أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ.

وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يُمْكِنُ الِادِّعَاءُ بِهِ: إِيرَادَاتُ بَيْتِ الْمَالِ إِذَا قَبَضَهَا الْعَامِلُ، وَأَنْكَرَ صَاحِبُ بَيْتِ الْمَالِ أَنَّهُ قَبَضَهَا مِنَ الْعَامِلِ.فَيُطَالَبُ الْعَامِلُ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى صَاحِبِ بَيْتِ الْمَالِ بِالْقَبْضِ، فَإِنْ عَدِمَهَا أُحْلِفَ صَاحِبُ بَيْتِ الْمَالِ، وَأُخِذَ الْعَامِلُ بِالْغُرْمِ.

الِاسْتِقْصَاءُ عَلَى الْوُلَاةِ وَمُحَاسَبَةُ الْجُبَاةِ:

28- عَلَى الْإِمَامِ وَوُلَاتِهِ أَنْ يُرَاقِبُوا مَنْ يُوَكَّلُ إِلَيْهِمْ جَمْعُ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَجِبُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَأَنْ يَسْتَقْصُوا عَلَيْهِمْ فِيمَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ مِنْ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَيُحَاسِبُوهُمْ فِي ذَلِكَ مُحَاسِبَةً دَقِيقَةً. فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: «اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- رَجُلًا مِنَ الْأَزْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ».

وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إِيرَادِ الصَّدَقَاتِ وُجُوبُ رَفْعِ الْحِسَابِ عَنْهَا إِلَى كَاتِبِ الدِّيوَانِ، وَيَجِبُ عَلَى كَاتِبِ الدِّيوَانِ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَى صِحَّةِ مَا رَفَعُوهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَصْرِفَ الْعُشْرِ وَمَصْرِفَ الْخَرَاجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَاحِدٌ.

وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْعُمَّالِ رَفْعُ الْحِسَابِ عَنِ الْعُشُورِ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ صَدَقَةٌ، لَا يَقِفُ مَصْرِفُهَا عَلَى اجْتِهَادِ الْوُلَاةِ.

وَأَمَّا عُمَّالُ الْخَرَاجِ فَيَلْزَمُهُمْ رَفْعُ الْحِسَابِ بِاتِّفَاقِ الْمَذْهَبَيْنِ.وَيَجِبُ عَلَى كَاتِبِ الدِّيوَانِ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَى صِحَّةِ مَا رَفَعُوهُ.

ثُمَّ مَنْ وَجَبَتْ مُحَاسَبَتُهُ مِنَ الْعُمَّالِ لَا يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ:

الْأُولَى: إِنْ لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَاتِبِ الدِّيوَانِ اخْتِلَافٌ فِي الْحِسَابِ كَانَ كَاتِبُ الدِّيوَانِ مُصَدَّقًا فِي الْحِسَابِ.وَإِنِ اسْتَرَابَ فِيهِ وَلِيُّ الْأَمْرِ كَلَّفَهُ إِحْضَارَ شَوَاهِدِهِ، فَإِنْ زَالَتِ الرِّيبَةُ عَنْهُ فَلَا يَحْلِفُ، وَإِنْ لَمْ تَزُلِ الرِّيبَةُ- وَأَرَادَ وَلِيُّ الْأَمْرِ تَحْلِيفَهُ عَلَيْهِ- حَلَفَ الْعَامِلُ دُونَ كَاتِبِ الدِّيوَانِ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ مُتَوَجِّهَةٌ عَلَى الْعَامِلِ دُونَ كَاتِبِ الدِّيوَانِ.

الثَّانِيَةُ: إِنْ وَقَعَ بَيْنَ الْعَامِلِ وَكَاتِبِ الدِّيوَانِ اخْتِلَافٌ فِي الْحِسَابِ:

فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الدَّخْلِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ.وَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْخَرْجِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَاتِبِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ.

وَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي تَقْدِيرِ الْخَرَاجِ، كَمَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي مِسَاحَةٍ يُمْكِنُ إِعَادَتُهَا أُعِيدَتْ وَيُعْمَلُ فِيهَا بِمَا يَتَبَيَّنُ.وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إِعَادَتُهَا يَحْلِفُ رَبُّ الْمَالِ دُونَ الْمَاسِحِ.

29- وَقَدْ فَصَّلَ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى صِفَةَ الْمُحَاسَبَةِ فِي ذَلِكَ، وَاسْتَعْرَضَا مَا يُعْتَبَرُ حُجَّةً فِي قَبْضِ، الْوُلَاةِ مِنَ الْجُبَاةِ، وَأَنَّهُ يُعْمَلُ فِي ذَلِكَ بِالْإِقْرَارِ بِالْقَبْضِ، أَمَّا الْخَطُّ إِذَا أَنْكَرَهُ، أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ فَعُرْفُ الدَّوَاوِينِ أَنْ يُكْتَفَى بِهِ، وَيَكُونُ حُجَّةً.وَالَّذِي عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَعْتَرِفِ الْوَالِي أَنَّهُ خَطُّهُ أَوْ أَنْكَرَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَلَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِي الْقَبْضِ.وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ بِخَطِّهِ فِي الْإِلْزَامِ إِجْبَارًا، وَإِنَّمَا يُقَاسُ بِخَطِّهِ إِرْهَابًا لِيَعْتَرِفَ بِهِ طَوْعًا.

وَقَدْ يَعْتَرِفُ الْوَالِي بِالْخَطِّ وَيُنْكِرُ الْقَبْضَ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْحُقُوقِ السُّلْطَانِيَّةِ خَاصَّةً حُجَّةً لِلْعَامِلِينَ بِالدَّفْعِ، وَحُجَّةً عَلَى الْوُلَاةِ بِالْقَبْضِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ.وَأَوْرَدَ الْمَاوَرْدِيُّ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ.وَلَا لِلْعَامِلِينَ، حَتَّى يُقِرَّ بِهِ لَفْظًا كَالدُّيُونِ الْخَاصَّةِ.قَالَ: وَفِيمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مُقْنِعٌ.

وَيُلَاحَظُ أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ إِلَى عُمَّالِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ خَرَجَ مِنْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْمَالِ الْعَامِّ، فَحُكْمُ بَيْتِ الْمَالِ جَارٍ عَلَيْهِ فِي دَخْلِهِ إِلَيْهِ وَخَرْجِهِ عَنْهُ؛ وَلِذَلِكَ تُجْرَى الْمُحَاسَبَةُ عَلَيْهِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


39-موسوعة الفقه الكويتية (البيع 3)

البَيْعٌ -3

ثَانِيًا: مَا يَصْلُحُ ثَمَنًا وَمَا لَا يَصْلُحُ:

50- كُلُّ مَا صَلَحَ أَنْ يَكُونَ مَبِيعًا صَلَحَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا، وَالْعَكْسُ صَحِيحٌ أَيْضًا، هَذَا مَا يُفْهَمُ مِنَ اتِّجَاهِ الْجُمْهُورِ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا عَكْسَ، فَمَا صَلَحَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا قَدْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَبِيعًا.

وَالثَّمَنُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَذَلِكَ كَالنُّقُودِ وَالْمِثْلِيَّاتِ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ مَذْرُوعٍ أَوْ عَدَدِيٍّ مُتَقَارَبٍ.وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَعْيَانِ الْقِيَمِيَّةِ كَمَا فِي بَيْعِ السَّلَمِ، إِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ، وَكَمَا فِي بَيْعِ الْمُقَايَضَةِ.

وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ أَثْمَانٌ بِالْخِلْقَةِ، سَوَاءٌ كَانَا مَضْرُوبَيْنِ نُقُودًا أَوْ غَيْرَ مَضْرُوبَيْنِ.وَكَذَلِكَ الْفُلُوسُ أَثْمَانٌ، وَالْأَثْمَانُ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ الصَّرْفَ وَالْكِرَاءَ) فَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ السِّلْعَةَ بِهَذَا الدِّينَارِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَدْفَعَ سِوَاهُ؛ لِأَنَّ النُّقُودَ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ، وَهِيَ تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَالَّذِي يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ يَحْصُلُ الْوَفَاءُ بِهِ بِأَيِّ فَرْدٍ مُمَاثِلٍ وَلَا يَقْبَلُ التَّعْيِينَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ قِيَمِيًّا فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ؛ لِأَنَّ الْقِيَمِيَّاتِ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَلَا يَحُلُّ فَرْدٌ مِنْهَا مَحَلَّ آخَرَ إِلاَّ بِالتَّرَاضِي.

ثَالِثًا: تَعْيِينُ الثَّمَنِ وَتَمْيِيزُهُ عَنِ الْمَبِيعِ

51- لِتَمْيِيزِ الثَّمَنِ عَنِ الْمَبِيعِ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِالضَّابِطِ التَّالِي، وَهُوَ مُتَّفَقٌ مَعَ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ:

أ- إِذَا كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ نُقُودًا اعْتُبِرَتْ هِيَ الثَّمَنَ، وَمَا عَدَاهَا هُوَ الْمَبِيعَ مَهْمَا كَانَ نَوْعُهُ.وَلَا يُنْظَرُ إِلَى الصِّيغَةِ، حَتَّى لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ دِينَارًا بِهَذِهِ السِّلْعَةِ، فَإِنَّ الدِّينَارَ هُوَ الثَّمَنُ رَغْمَ دُخُولِ الْبَاءِ عَلَى (السِّلْعَةِ) وَهِيَ تَدْخُلُ عَادَةً عَلَى الثَّمَنِ.

ب- إِذَا كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ أَعْيَانًا قِيَمِيَّةً، وَالْآخَرُ أَمْوَالاً مِثْلِيَّةً مُعَيَّنَةً أَيْ مُشَارًا إِلَيْهَا، فَالْقِيَمِيُّ هُوَ الْمَبِيعُ، وَالْمِثْلِيُّ هُوَ الثَّمَنُ، وَلَا عِبْرَةَ أَيْضًا بِمَا إِذَا كَانَتِ الصِّيغَةُ تَقْتَضِي غَيْرَ هَذَا.

أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْأَمْوَالُ الْمِثْلِيَّةُ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ (أَيْ مُلْتَزَمَةٍ فِي الذِّمَّةِ) فَالثَّمَنُ هُوَ الْعِوَضُ الْمُقْتَرِنُ بِالْبَاءِ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِرِطْلٍ مِنَ الْأُرْزِ، فَالْأُرْزُ هُوَ الثَّمَنُ لِدُخُولِ الْبَاءِ عَلَيْهِ.وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ رِطْلاً مِنَ الْأُرْزِ بِهَذِهِ السِّلْعَةِ، فَالسِّلْعَةُ هِيَ الثَّمَنُ، وَهُوَ مِنْ بَيْعِ السَّلَمِ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلٍ بِثَمَنٍ مُعَجَّلٍ.

ج- إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْعِوَضَيْنِ مَالاً مِثْلِيًّا، فَالثَّمَنُ هُوَ مَا اقْتَرَنَ بِالْبَاءِ كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ أُرْزًا بِقَمْحٍ، فَالْقَمْحُ هُوَ الثَّمَنُ.

د- إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْعِوَضَيْنِ مِنَ الْأَعْيَانِ الْقِيَمِيَّةِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ وَمَبِيعٌ مِنْ وَجْهٍ.

وَهَذَا التَّفْصِيلُ لِلْحَنَفِيَّةِ.

أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَإِنَّ الثَّمَنَ: هُوَ، مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِ النُّقُودِ مَبِيعَةً؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْعِوَضَيْنِ مَبِيعٌ بِالْآخَرِ، وَفِي الْبَهْجَةِ: كُلٌّ مِنَ الْعِوَضَيْنِ ثَمَنٌ لِلْآخِرِ.

وَمِنْ أَحْكَامِ الثَّمَنِ عَدَا مَا سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ: أ- إِذَا تَنَازَعَ الْمُتَعَاقِدَانِ فِيمَنْ يُسَلِّمُ أَوَّلاً، فَإِنَّهُ يَجِبُ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ أَوَّلاً قَبْلَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ.

ب- كُلْفَةُ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَكُلْفَةُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ عَلَى الْبَائِعِ.

ج- اشْتِرَاطُ الْقَبْضِ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الْعِوَضِ خَاصٌّ بِالْمَبِيعِ لَا بِالثَّمَنِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُعْرَفُ فِي (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، بَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ)

د- تَأْجِيلُ الثَّمَنِ (رَأْسُ الْمَالِ) فِي بَيْعِ السَّلَمِ لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ فَهُوَ مُؤَجَّلٌ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (ثَمَن).

رَابِعًا: إِبْهَامُ الثَّمَنِ

52- إِذَا بَيَّنَ ثَمَنًا وَأَطْلَقَ، فَلَمْ يُبَيِّنْ نَوْعَهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِكَذَا دِينَارًا، وَفِي بَلَدِ الْعَقْدِ أَنْوَاعٌ مِنَ الدَّنَانِيرِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْقِيمَةِ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الرَّوَاجِ، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ.أَمَّا إِذَا كَانَ بَعْضُهَا أَرْوَجُ، فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَيَنْصَرِفُ إِلَى الْأَرْوَجِ، كَمَا لَوْ قَالَ فِي الْكُوَيْتِ: بِعْتُكَ بِدِينَارٍ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَالثَّمَنُ دَنَانِيرُ كُوَيْتِيَّةٌ، لِأَنَّهَا أَرْوَجُ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الدَّنَانِيرِ الْمَوْجُودَةِ فِي مَحَلِّ الْعَقْدِ.

هَذَا وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِ الثَّمَنِ تُنْظَرُ فِي (ثَمَنٍ).

خَامِسًا: تَحْدِيدُ الثَّمَنِ بِالنَّظَرِ إِلَى رَأْسِ الْمَالِ:

53- تَحْدِيدُ الثَّمَنِ إِمَّا أَنْ يُعْلَمَ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْإِشَارَةِ، وَهِيَ أَبْلَغُ طُرُقِ التَّعْرِيفِ، سَوَاءٌ بَيَّنَ الْمِقْدَارَ أَمْ لَمْ يُبَيِّنْ.كَمَا لَوْ بَاعَ سِلْعَةً بِصُرَّةٍ مِنَ الدَّنَانِيرِ، وَأَشَارَ إِلَيْهَا.

وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ غَائِبًا عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ نَوْعِهِ وَوَصْفِهِ وَقَدْرِهِ.

ثُمَّ إِنَّ الثَّمَنَ إِمَّا أَنْ لَا يُبْنَى عَلَى ثَمَنِ الشِّرَاءِ (رَأْسُ مَالِ الْبَائِعِ) أَوْ يُبْنَى عَلَى ذَلِكَ بِلَا رِبْحٍ وَلَا خَسَارَةٍ، أَوْ بِرِبْحٍ مَعْلُومٍ، أَوْ بِخَسَارَةٍ مَعْلُومَةٍ.

فَالْأَوَّلُ، وَهُوَ مَا لَا يُنْظَرُ فِيهِ إِلَى ثَمَنِ الشِّرَاءِ، هُوَ: بَيْعُ الْمُسَاوَمَةِ، وَهُوَ الْأَغْلَبُ فِي الْبُيُوعِ.

أَمَّا النَّوْعُ الْآخَرُ فَهُوَ بَيْعُ الْأَمَانَةِ.وَيَنْقَسِمُ إِلَى: تَوْلِيَةٍ، وَهُوَ الْبَيْعُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ.وَإِذَا كَانَ لِبَعْضِ الْمَبِيعِ بِنِسْبَتِهِ مِنَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَهُوَ إِشْرَاكٌ.وَإِنْ كَانَ بِرِبْحٍ فَهُوَ مُرَابَحَةٌ.أَوْ بِخَسَارَةٍ فَهُوَ وَضِيعَةٌ.وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْبُيُوعِ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.

أَحْكَامٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ

أَوَّلاً: الزِّيَادَةُ فِي الْمَبَيْعِ أَوِ الثَّمَنِ.

54- يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَزِيدَ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَزِيدَ فِي الْمَبِيعِ.عَلَى أَنْ يَقْتَرِنَ ذَلِكَ بِقَبُولِ الطَّرَفِ الْآخَرِ فِي مَجْلِسِ الزِّيَادَةِ.

وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ قَائِمًا، إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ هَالِكًا قُوبِلَتِ الزِّيَادَةُ بِمَعْدُومٍ، وَإِذَا كَانَ فِي حُكْمِ الْهَالِكِ- وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ- قُوبِلَتِ الزِّيَادَةُ بِمَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ.

وَلَا فَرْقَ فِيمَا لَوْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ بَعْدَ التَّقَابُضِ أَوْ قَبْلَهُ، أَوْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ.

وَحُكْمُ الزِّيَادَةِ أَنَّهَا تَعْدِيلٌ لِلْعَقْدِ السَّابِقِ وَلَيْسَتْ هِبَةً، وَلِذَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى الْقَبْضِ الْمَشْرُوطِ لِتَمَامِ الْهِبَةِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.

أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ بَعْدَ لُزُومِ الْبَيْعِ بِانْقِضَاءِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ لَا تُلْحَقُ، بَلْ هِيَ فِي حُكْمِ الْهِبَةِ.وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ.

ثَانِيًا: الْحَطُّ مِنَ الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ

55- يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي الْحَطُّ مِنَ الْمَبِيعِ، وَيَجُوزُ لِلْبَائِعِ الْحَطُّ مِنَ الثَّمَنِ، إِذَا قَبِلَ الطَّرَفُ الْآخَرُ فِي مَجْلِسِ الْحَطِّ، وَيَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ الْحَطُّ بَعْدَ التَّقَابُضِ أَوْ قَبْلَهُ، فَلَوْ حَطَّ الْمُشْتَرِي أَوِ الْبَائِعُ بَعْدَ الْقَبْضِ كَانَ لِلْآخَرِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِلْمَحْطُوطِ.

وَلَا يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ حَطِّ الْبَائِعِ مِنَ الثَّمَنِ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ قَائِمًا؛ لِأَنَّ الْحَطَّ إِسْقَاطٌ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ.

أَمَّا فِي حَطِّ الْمُشْتَرِي بَعْضَ الْمَبِيعِ عَنِ الْبَائِعِ، فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ دَيْنًا ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ لِيَقْبَلَ الْحَطَّ.أَمَّا لَوْ كَانَ عَيْنًا مُعَيَّنَةً فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ الْحَطُّ مِنَ الْمَبِيعِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ (ر: إِبْرَاءٌ، وَإِسْقَاطٌ).

ثَالِثًا: آثَارُ الزِّيَادَةِ أَوِ الْحَطِّ.

56- مِنَ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الزِّيَادَةَ وَالْحَطَّ يَلْتَحِقَانِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ السَّابِقِ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ، مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ.بِمَعْنَى أَنَّهُ تَثْبُتُ لِلزِّيَادَةِ فِي الْمَبِيعِ حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ، كَمَا لَوْ كَانَ الثَّمَنُ مُقَسَّمًا عَلَى الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ، وَكَذَلِكَ عَكْسُهُ إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ.

وَمِنْ آثَارِ ذَلِكَ:

أ- إِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَقِيَتِ الزِّيَادَةُ، أَوْ هَلَكَتِ الزِّيَادَةُ وَبَقِيَ الْمَبِيعُ، سَقَطَتْ حِصَّةُ الْهَالِكِ مِنَ الثَّمَنِ.وَهَذَا بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ النَّاشِئَةِ مِنَ الْمَبِيعِ نَفْسِهِ.

ب- لِلْبَائِعِ حَبْسُ جَمِيعِ الْمَبِيعِ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ الْأَصْلِيَّ وَالزِّيَادَةَ عَلَيْهِ.

ج- إِمْكَانُ الْبَيْعِ بِالْأَمَانَةِ مِنْ مُرَابَحَةٍ أَوْ تَوْلِيَةٍ أَوْ وَضِيعَةٍ، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِالثَّمَنِ بَعْدَ الزِّيَادَةِ أَوِ الْحَطِّ.

د- إِذَا اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ، وَقُضِيَ بِهِ لِلْمُسْتَحِقِّ؟، رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ مِنْ أَصْلٍ وَزِيَادَةٍ.وَكَذَلِكَ فِي الرُّجُوعِ بِالْعَيْبِ.

هـ- فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الْعَقَارَ بِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الثَّمَنُ بَعْدَ الْحَطِّ.وَلَوْ زَادَ الْبَائِعُ شَيْئًا فِي الْمَبِيعِ يَأْخُذُ الشَّفِيعُ أَصْلَ الْعَقَارِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ لَا بِالثَّمَنِ كُلِّهِ.وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ يُلْحَقَانِ بِالْبَيْعِ، سَوَاءٌ أَحَدَثَ ذَلِكَ عِنْدَ التَّقَابُضِ أَمْ بَعْدَهُ.

وَالزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ تَكُونُ فِي حُكْمِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَتُرَدُّ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَعِنْدَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَيَجُوزُ حَطُّ كُلِّ الثَّمَنِ عَنِ الْمُشْتَرِي، أَيْ هِبَتُهُ لَهُ، وَلِلْحَطِّ أَثَرُهُ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ وَفِي الشُّفْعَةِ.

فَفِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، يَقُولُ الدَّرْدِيرُ وَالدُّسُوقِيُّ: يَجِبُ بَيَانُ هِبَةٍ لِبَعْضِ الثَّمَنِ إِنْ كَانَتْ مُعْتَادَةً بَيْنَ النَّاسِ، بِأَنْ تُشْبِهَ عَطِيَّةَ النَّاسِ، فَإِنْ لَمْ تُعْتَدْ (أَيْ لَمْ تَجْرِ بِهَا عَادَةٌ) أَوْ وَهَبَ لَهُ جَمِيعَ الثَّمَنِ قَبْلَ النَّقْدِ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يَجِبِ الْبَيَانُ.

وَفِي الشُّفْعَةِ، يَقُولُ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: مَنِ اشْتَرَى شِقْصًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ وَضَعَ عَنْهُ الْبَائِعُ تِسْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ بَعْدَ أَخْذِ الشَّفِيعِ أَوْ قَبْلَهُ، فَإِنْ أَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُ الشِّقْصِ بَيْنَ النَّاسِ مِائَةَ دِرْهَمٍ إِذَا تَغَابَنُوا بَيْنَهُمْ، أَوِ اشْتَرَوْا بِغَيْرِ تَغَابُنٍ، وُضِعَ ذَلِكَ عَنِ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ مَا أَظْهَرَا مِنَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ إِنَّمَا كَانَ سَبَبًا لِقَلْعِ الشُّفْعَةِ.

وَإِنْ لَمْ يُشْبِهْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهُ مِائَةً، قَالَ ابْنُ يُونُسَ: أَرَادَ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهُ ثَلَاثَمِائَةٍ أَوْ أَرْبَعَمِائَةٍ، لَمْ يَحُطَّ لِلشَّفِيعِ شَيْئًا، وَكَانَتِ الْوَضِيعَةُ هِبَةً لِلْمُبْتَاعِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنْ حَطَّ عَنِ الْمُبْتَاعِ مَا يُشْبِهُ أَنْ يُحَطَّ فِي الْبُيُوعِ وُضِعَ ذَلِكَ عَنِ الشَّفِيعِ وَإِنْ كَانَ لَا يُحَطُّ مِثْلُهُ فَهِيَ هِبَةٌ، وَلَا يَحُطُّ عَنِ الشَّفِيعِ شَيْئًا.

وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الزِّيَادَةَ أَوِ الْحَطَّ فِي الثَّمَنِ أَوِ الْمُثَمَّنِ، إِنْ كَانَتْ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ بِانْقِضَاءِ الْخِيَارِ فَلَا تُلْحَقُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ اسْتَقَرَّ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَالزِّيَادَةَ أَوِ الْحَطَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ، وَلَا تُلْحَقُ بِالْعَقْدِ.وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ لُزُومِ الْعَقْدِ فِي مُدَّةِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ أَوْ خِيَارِ الشَّرْطِ، فَالصَّحِيحُ عِنْدَ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ، وَبِهِ قَطَعَ أَكْثَرُ الْعِرَاقِيِّينَ: أَنَّهُ يُلْحَقُ بِالْعَقْدِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارَيْنِ جَمِيعًا، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ أَوِ الْحَطَّ فِي مُدَّةِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ تُلْتَحَقُ بِالْعَقْدِ، وَقِيسَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ خِيَارُ الشَّرْطِ بِجَامِعِ عَدَمِ الِاسْتِقْرَارِ.وَهَذَا أَحَدُ الْأَوْجُهِ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّوَوِيُّ.

وَفِي وَجْهٍ آخَرَ: لَا يُلْحَقُ ذَلِكَ، وَصَحَّحَهُ الْمُتَوَلِّي.

وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ: يُلْحَقُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ دُونَ خِيَارِ الشَّرْطِ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ وَالْقَفَّالُ.

أَمَّا أَثَرُ ذَلِكَ فِي الْعُقُودِ.فَفِي الشُّفْعَةِ تَلْحَقُ الزِّيَادَةُ الشَّفِيعَ كَمَا تَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ، وَلَوْ حُطَّ مِنَ الثَّمَنِ شَيْءٌ فَحُكْمُهُ كَذَلِكَ.وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي (شفعة).

وَفِي التَّوْلِيَةِ وَالْإِشْرَاكِ وَالْمُرَابَحَةِ.جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: لَوْ حُطَّ عَنِ الْمُوَلِّي- بِكَسْرِ اللاَّمِ الْمُشَدَّدَةِ- مِنَ الْبَائِعِ بَعْضُ الثَّمَنِ بَعْدَ التَّوْلِيَةِ أَوْ قَبْلَهَا، وَلَوْ بَعْدَ اللُّزُومِ، انْحَطَّ عَنِ الْمَوْلَى- بِفَتْحِ اللاَّمِ- إِذْ خَاصَّةُ التَّوْلِيَةِ- وَإِنْ كَانَتْ بَيْعًا جَدِيدًا- التَّنْزِيلُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ حُطَّ جَمِيعُهُ انْحَطَّ أَيْضًا مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ لُزُومِ التَّوْلِيَةِ، وَإِلاَّ- بِأَنْ كَانَ قَبْلَ التَّوْلِيَةِ أَوْ بَعْدَهَا وَقَبْلَ لُزُومِهَا- بَطَلَتْ لِأَنَّهَا حَيْثُ بِيعَ مِنْ غَيْرِ ثَمَنٍ، وَمِنْ ثَمَّ لَوْ تَقَايَلَا بَعْدَ حَطِّهِ بَعْدَ اللُّزُومِ، لَمْ يَرْجِعِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِشَيْءٍ.

وَالْإِشْرَاكُ وَالْمُرَابَحَةُ كَالتَّوْلِيَةِ فِي ذَلِكَ.وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي (مرابحة، تولية، إِشراك).

وَفِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: لَوْ أَبْرَأَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ مِنْ بَعْضِ الثَّمَنِ أَوْ كُلِّهِ، ثُمَّ رَدَّ الْمَبِيعَ بِعَيْبٍ، فَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِي الْإِبْرَاءِ مِنْ جَمِيعِ الثَّمَنِ بِشَيْءٍ، وَفِي الْإِبْرَاءِ مِنْ بَعْضِهِ إِلاَّ بِالْبَاقِي.

وَلَوْ وَهَبَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي الثَّمَنَ، فَقِيلَ: يَمْتَنِعُ الرَّدُّ، وَقِيلَ: يَرُدُّ، وَيُطَالِبُ بِبَدَلِ الثَّمَنِ، وَهُوَ الْأَوْجَهُ.

وَالْحَنَابِلَةُ كَالشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ جَاءَ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: مَا يُزَادُ فِي ثَمَنٍ أَوْ مُثَمَّنٍ زَمَنَ الْخِيَارَيْنِ (خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ) يُلْحَقُ بِالْعَقْدِ، فَيُخْبِرُ بِهِ فِي الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالْإِشْرَاكِ كَأَصْلِهِ.

وَمَا يُوضَعُ مِنْ ثَمَنٍ أَوْ مُثَمَّنٍ زَمَنَ الْخِيَارَيْنِ يُلْحَقُ بِالْعَقْدِ، فَيَجِبُ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ كَأَصْلِهِ، تَنْزِيلاً لِحَالِ الْخِيَارِ مَنْزِلَةَ حَالِ الْعَقْدِ.

وَإِنْ حُطَّ الثَّمَنُ كُلُّهُ فَهِبَةٌ.

وَلَا يُلْحَقُ بِالْعَقْدِ مَا زِيدَ أَوْ حُطَّ بَعْدَ لُزُومِهِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ.

وَفِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ جَاءَ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: يَأْخُذُ مُشْتَرٍ رَدَّ الْمَبِيعَ مَا دَفَعَهُ مِنْ ثَمَنٍ، أَوْ بَدَلِ مَا أَبْرَأَهُ الْبَائِعُ مِنْهُ، أَوْ بَدَلَ مَا وَهَبَ لَهُ الْبَائِعُ مِنْ ثَمَنِهِ، كُلًّا كَانَ أَوْ بَعْضًا، لِاسْتِحْقَاقِ الْمُشْتَرِي بِالْفَسْخِ اسْتِرْجَاعَ جَمِيعِ الثَّمَنِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الشُّفْعَةِ: يَسْتَحِقُّ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ بِالثَّمَنِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، فَلَوْ تَبَايَعَا بِقَدْرٍ، ثُمَّ غَيَّرَاهُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ، ثَبَتَ ذَلِكَ التَّغْيِيرُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ إِنَّمَا يَثْبُتُ إِذَا تَمَّ الْعَقْدُ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالثَّمَنِ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ حَالَ اسْتِحْقَاقِهِ، وَلِأَنَّ زَمَنَ الْخِيَارِ بِمَنْزِلَةِ حَالَةِ الْعَقْدِ، وَالتَّغْيِيرُ يُلْحَقُ بِالْعَقْدِ فِيهِ، لِأَنَّهُمَا عَلَى اخْتِيَارِهِمَا فِيهِ كَمَا لَوْ كَانَ التَّغْيِيرُ فِي حَالِ الْعَقْدِ.فَأَمَّا إِذَا انْقَضَى الْخِيَارُ وَانْبَرَمَ الْعَقْدُ، فَزَادَا أَوْ نَقَصَا لَمْ يُلْحَقْ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بَعْدَهُ هِبَةٌ.

رَابِعًا: مَوَانِعُ الْتِحَاقِ الزِّيَادَةِ أَوِ الْحَطِّ فِي حَقِّ الْغَيْرِ

57- يَمْتَنِعُ الْتِحَاقُ الزِّيَادَةِ بِالثَّمَنِ، أَوِ الْتِحَاقِ الْحَطِّ بِهِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا- إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى الْتِحَاقِ الزِّيَادَةِ أَوِ الْحَطِّ بِالثَّمَنِ انْتِقَاصٌ مِنْ حَقِّ الْغَيْرِ ثَابِتٌ بِالْعَقْدِ، فَيُقْتَصَرُ حُكْمُ الِالْتِحَاقِ عَلَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ دُونَ الْغَيْرِ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْإِضْرَارِ بِهِ.

وَمِنْ آثَارِ هَذَا الْمَانِعِ: أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا زَادَ فِي الثَّمَنِ، وَكَانَ الْمَبِيعُ عَقَارًا، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنِ الْأَصْلِيِّ دُونَ الزِّيَادَةِ، سَدًّا لِبَابِ التَّوَاطُؤِ لِتَضْيِيعِ حَقِّ الشُّفْعَةِ.

أَمَّا الْحَطُّ مِنَ الثَّمَنِ فَيُلْتَحَقُ لِعَدَمِ إِضْرَارِهِ بِالشَّفِيعِ، وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ.

الثَّانِي: إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى الِالْتِحَاقِ بُطْلَانُ الْبَيْعِ، كَمَا لَوْ شَمِلَ الْحَطُّ جَمِيعَ الثَّمَنِ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ الْمُنْفَصِلِ عَنِ الْعَقْدِ، وَبِذَلِكَ يَخْلُو عَقْدُ الْبَيْعِ مِنَ الثَّمَنِ، فَيَبْطُلُ.

وَمِنْ آثَارِ هَذَا الْمَانِعِ: أَنَّهُ لَوْ حَطَّ الْبَائِعُ كُلَّ الثَّمَنِ فِي الْعَقَارِ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الْأَصْلِيِّ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ إِذَا اعْتُبِرَ إِبْرَاءً مُنْفَصِلاً تَرَتَّبَ عَلَيْهِ خُلُوُّ الْبَيْعِ عَنِ الثَّمَنِ، ثُمَّ بُطْلَانُهُ، وَبِذَلِكَ يَبْطُلُ حَقُّ الشَّفِيعِ، وَلِذَا يَبْقَى الْمَبِيعُ مُقَابَلاً بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فِي حَقِّهِ، وَلَكِنْ يَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي بِالْحَطِّ، ضَرُورَةَ صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ فِي ذَاتِهِ، وَهَذَا إِنْ حَطَّ الثَّمَنَ بَعْدَ الْقَبْضِ، أَمَّا إِنْ حَطَّ قَبْلَهُ فَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِالْقِيمَةِ.

خَامِسًا: مَئُونَةُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ

58- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أُجْرَةَ الْكَيَّالِ لِلْمَبِيعِ، أَوِ الْوَزَّانِ أَوِ الذَّرَاعِ أَوِ الْعَدَّادِ تَكُونُ عَلَى الْبَائِعِ وَكَذَلِكَ مَئُونَةُ إِحْضَارِهِ إِلَى مَحَلِّ الْعَقْدِ إِذَا كَانَ غَائِبًا.إِذْ لَا تَحْصُلُ التَّوْفِيَةُ إِلاَّ بِذَلِكَ.

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أُجْرَةَ كَيْلِ الثَّمَنِ أَوْ وَزْنِهِ أَوْ عَدِّهِ، وَكَذَلِكَ مَئُونَةُ إِحْضَارِ الثَّمَنِ الْغَائِبِ تَكُونُ عَلَى الْمُشْتَرِي، إِلاَّ فِي الْإِقَالَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالشَّرِكَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أُجْرَةِ نَقَّادِ الثَّمَنِ

فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ رِوَايَتَانِ عَنْ مُحَمَّدٍ - رحمه الله- .

فَفِي رِوَايَةِ رُسْتُمَ عَنْهُ: تَكُونُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ النَّقْدَ يَكُونُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، وَلِأَنَّ الْبَائِعَ هُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ، لِيُمَيِّزَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ لِيَعْرِفَ الْمَعِيبَ لِيَرُدَّهُ.وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ.

وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ مُحَمَّدٍ، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ سَمَاعَةَ عَنْهُ: أَنَّهَا تَكُونُ عَلَى الْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَسْلِيمِ الْجَيِّدِ الْمُقَدَّرِ، وَالْجُودَةُ تُعْرَفُ بِالنَّقْدِ، كَمَا يُعْرَفُ الْقَدْرُ بِالْوَزْنِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ.

وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ أُجْرَةَ النَّقَّادِ عَلَى الْبَاذِلِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَائِعَ أَمِ الْمُشْتَرِيَ.

قَالَ الشِّرْبِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَأُجْرَةُ نَقَّادِ الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ، ثُمَّ قَالَ: وَقِيَاسُهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَبِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي، لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ إِظْهَارُ عَيْبٍ إِنْ كَانَ لِيَرُدَّ بِهِ.

سَادِسًا: هَلَاكُ الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا قَبْلَ التَّسْلِيمِ:

59- مِنْ آثَارِ وُجُوبِ الْبَيْعِ: أَنَّ الْبَائِعَ يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ هَذَا الْحَقُّ إِلاَّ بِالْأَدَاءِ، وَيَظَلُّ الْبَائِعُ مَسْئُولاً فِي حَالَةِ هَلَاكِ الْمَبِيعِ، وَتَكُونُ تَبِعَةُ الْهَلَاكِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْهَلَاكُ بِفِعْلِ فَاعِلٍ أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ.

وَهَذَا يَنْطَبِقُ عَلَى الثَّمَنِ إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا، وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ مُلْتَزَمًا فِي الذِّمَّةِ، لِأَنَّ عَيْنَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَقْصُودَةٌ فِي الْعَقْدِ كَالْمَبِيعِ.

أَمَّا الثَّمَنُ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ الْبَائِعَ أَخْذُ بَدَلِهِ.

وَالْهَلَاكُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا:

فَإِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ كُلُّهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَإِنَّهُ يَهْلِكُ عَلَى ضَمَانِ الْبَائِعِ، لِحَدِيثِ: «نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ».

وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ، وَذَلِكَ لِاسْتِحَالَةِ تَنْفِيذِ الْعَقْدِ.وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ تَلِفَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ.وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ: الْمَذْهَبُ أَنَّهُ: يَنْفَسِخُ كَالتَّلَفِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْفَسْخِ وَاسْتِرْدَادِ الثَّمَنِ، وَبَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَأَخْذِ قِيمَةِ الْمَبِيعِ.

وَفَائِدَةُ انْفِسَاخِ الْبَيْعِ هُنَا أَنَّهُ يَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي إِنْ لَمْ يَكُنْ دَفَعَهُ، وَلَهُ اسْتِرْدَادُهُ إِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَهُ، وَلَوْ لَمْ يَنْفَسِخْ لَالْتَزَمَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، وَالْتَزَمَ الْبَائِعُ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ.

وَاعْتَبَرَ الْحَنَابِلَةُ الْهَلَاكَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ كَالْهَلَاكِ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.

وَإِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْبَيْعَ يَسْتَقِرُّ، وَيَلْتَزِمُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، وَيُعْتَبَرُ إِتْلَافُ الْمُشْتَرِي لِلْمَبِيعِ بِمَنْزِلَةِ قَبْضٍ لَهُ، وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ.

وَإِذَا كَانَ الْهَلَاكُ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ (وَمِثْلُهُ هَلَاكُهُ بِفِعْلِ الْبَائِعِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ مُخَيَّرٌ، فَإِمَّا أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ لِتَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ، وَيَسْقُطَ عَنْهُ الثَّمَنُ حِينَئِذٍ، (وَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ عَلَى مِنْ أَتْلَفَ الْمَبِيعَ) وَإِمَّا أَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْبَيْعِ، وَيَرْجِعَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ، وَعَلَيْهِ أَدَاءُ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ، وَرُجُوعُهُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِالْمِثْلِ إِنْ كَانَ الْهَالِكُ مِثْلِيًّا، وَبِالْقِيمَةِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ: انْفِسَاخُ الْبَيْعِ كَالتَّلَفِ بِآفَةٍ.

وَإِذَا هَلَكَ بَعْضُ الْمَبِيعِ، فَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ أَيْضًا تَبَعًا لِمَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْإِتْلَافُ.

فَإِنْ هَلَكَ بَعْضُ الْمَبِيعِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَتَرَتَّبَ عَلَى الْهَلَاكِ نُقْصَانُ الْمِقْدَارِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ مِنَ الثَّمَنِ بِحَسَبِ الْقَدْرِ التَّالِفِ، وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ أَخْذِ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، أَوْ فَسْخِ الْبَيْعِ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ (يُنْظَرُ خِيَارُ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ) هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

ثُمَّ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ مَا نَشَأَ عَنِ الْهَلَاكِ الْجُزْئِيِّ لَيْسَ نَقْصًا فِي الْمِقْدَارِ، بَلْ فِي الْوَصْفِ- وَهُوَ مَا يَدْخُلُ فِي الْمَبِيعِ تَبَعًا بِلَا ذِكْرٍ- لَمْ يَسْقُطْ مِنَ الثَّمَنِ شَيْءٌ، بَلْ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ أَوْ إِمْضَائِهِ؛ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ إِلاَّ بِالْعُدْوَانِ، أَوْ بِتَفْصِيلِ الثَّمَنِ، وَتَخْصِيصُ جُزْءٍ لِلْوَصْفِ أَوِ التَّابِعِ.

- وَإِذَا هَلَكَ الْبَعْضُ بِفِعْلِ الْبَائِعِ سَقَطَ مَا يُقَابِلُهُ مِنَ الثَّمَنِ مُطْلَقًا، مَعَ تَخْيِيرِ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْأَخْذِ وَالْفَسْخِ، لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ.

وَإِذَا هَلَكَ الْبَعْضُ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ، كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَبَيْنَ التَّمَسُّكِ بِالْعَقْدِ وَالرُّجُوعُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِضَمَانِ الْجُزْءِ التَّالِفِ.

أَمَّا إِنْ هَلَكَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ عَلَى ضَمَانِهِ، وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ قَبْضًا.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدِ اعْتَبَرُوا هَلَاكَ الْمَبِيعِ بِفِعْلِ الْبَائِعِ أَوْ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ يُوجِبُ عِوَضَ الْمُتْلَفِ عَلَى الْبَائِعِ أَوِ الْأَجْنَبِيِّ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، سَوَاءٌ أَكَانَ الْهَلَاكُ كُلِّيًّا أَمْ جُزْئِيًّا.

أَمَّا هَلَاكُهُ أَوْ تَعَيُّبُهُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، كُلَّمَا كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا لَازِمًا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَنْتَقِلُ بِالْعَقْدِ وَلَوْ لَمْ يَقْبِضِ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ.وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ سِتَّ صُوَرٍ هِيَ:

أ- مَا لَوْ كَانَ فِي الْمَبِيعِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ لِمُشْتَرِيهِ، وَهُوَ الْمِثْلِيُّ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ مَعْدُودٍ حَتَّى يُفْرَغَ فِي أَوَانِي الْمُشْتَرِي، فَإِذَا هَلَكَ بِيَدِ الْبَائِعِ عِنْدَ تَفْرِيغِهِ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ.

ب- السِّلْعَةُ الْمَحْبُوسَةُ عِنْدَ بَائِعِهَا لِأَجْلِ قَبْضِ الثَّمَنِ.

ج- الْمَبِيعُ الْغَائِبُ عَلَى الصِّفَةِ أَوْ عَلَى رُؤْيَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ، فَلَا يَدْخُلُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي إِلاَّ بِالْقَبْضِ.

د- الْمَبِيعُ بَيْعًا فَاسِدًا.

هـ- الثِّمَارُ الْمَبِيعَةُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، فَلَا تَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي إِلاَّ بَعْدَ أَمْنِ الْجَائِحَةِ.

و- الرَّقِيقُ حَتَّى تَنْتَهِيَ عُهْدَةُ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ عَقِبَ الْبَيْعِ.

لَكِنَّهُمْ فَصَّلُوا فِي الْهَلَاكِ الْجُزْئِيِّ، فِيمَا إِذَا كَانَ الْبَاقِي أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ، أَوْ كَانَ الْمَبِيعُ مُتَّحِدًا، فَحِينَئِذٍ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ.أَمَّا إِذَا كَانَ الْفَائِتُ هُوَ النِّصْفَ فَأَكْثَرَ، وَتَعَدَّدَ الْمَبِيعُ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ.

الْآثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْبَيْعِ

أَوَّلاً: انْتِقَالُ الْمِلْكِ.

60- يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ، وَيَمْلِكُ الْبَائِعُ الثَّمَنَ، وَيَكُونُ مِلْكُ الْمُشْتَرِي لِلْمَبِيعِ بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّقَابُضِ، وَإِنْ كَانَ لِلتَّقَابُضِ أَثَرُهُ فِي الضَّمَانِ.أَمَّا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَلَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ إِلاَّ بِالْقَبْضِ وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (الْبَيْعُ الْفَاسِدُ).

وَيَتَرَتَّبُ عَلَى انْتِقَالِ الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ مَا يَلِي:

أ- أَنْ يَثْبُتَ لِلْمُشْتَرِي مِلْكُ مَا يَحْصُلُ فِي الْمَبِيعِ مِنْ زِيَادَةٍ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَقْبِضِ الْمَبِيعَ.وَلَا يَمْنَعُ مِنَ انْتِقَالِ مِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي كَوْنُ الثَّمَنِ مُؤَجَّلاً.

ب- أَنْ تَنْفُذَ تَصَرُّفَاتُ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ، وَتَصَرُّفَاتُ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ، كَمَا لَوْ أَحَالَ شَخْصًا بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي.هَذَا بَعْدَ الْقَبْضِ، أَمَّا تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّهُ فَاسِدٌ أَوْ بَاطِلٌ عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ).

ج- إِذَا قَبَضَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ، وَلَمْ يَقْبِضِ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ، حَتَّى لَوْ مَاتَ الْبَائِعُ مُفْلِسًا، فَإِنَّ لِلْمُشْتَرِي حَقَّ التَّقَدُّمِ فِي الْمَبِيعِ عَلَى سَائِرِ الْغُرَمَاءِ.وَيَكُونُ الْمَبِيعُ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي التَّرِكَةِ.

د- لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ بَقَاءِ الْبَائِعِ مُحْتَفِظًا بِمِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ إِلَى حِينِ أَدَاءِ الثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ، أَوْ إِلَى أَجَلٍ آخَرَ مُعَيَّنٍ.

هَذَا، وَلَا يَمْنَعُ مِنَ انْتِقَالِ الْمِلْكِ فِي الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ كَوْنُهُمَا دُيُونًا ثَابِتَةً فِي الذِّمَّةِ إِذَا لَمْ يَكُونَا مِنَ الْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُمْلَكُ فِي الذِّمَمِ وَلَوْ لَمْ تَتَعَيَّنْ، فَإِنَّ التَّعْيِينَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَنْ أَصْلِ الْمِلْكِ، فَقَدْ يَحْصُلُ مُقَارِنًا لَهُ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ إِلَى أَنْ يَتِمَّ التَّسْلِيمُ كَمَا لَوِ اشْتَرَى مِقْدَارًا مَعْلُومًا مِنْ كَمِّيَّةٍ مُعِينَةٍ مِنَ الْأُرْزِ، فَإِنَّ حِصَّتَهُ مِنْ تِلْكَ الْكَمِّيَّةِ لَا تَتَعَيَّنُ إِلاَّ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، وَكَذَلِكَ الثَّمَنُ إِذَا كَانَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ.

ثَانِيًا: أَدَاءُ الثَّمَنِ الْحَالِّ:

61- الْأَصْلُ فِي الثَّمَنِ الْحُلُولُ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الثَّمَنُ أَبَدًا حَالٌّ، إِلاَّ أَنْ يَذْكُرَ الْمُتَبَايِعَانِ لَهُ أَجَلاً فَيَكُونُ إِلَى أَجَلِهِ.

وَنَقَلَ الْأَتَاسِيُّ فِي شَرْحِ الْمَجَلَّةِ عَنِ السِّرَاجِ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ قَوْلَهُ: لِأَنَّ الْحُلُولَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَمُوجِبُهُ.

وَفِي مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ يَنْعَقِدُ مُعَجَّلاً.ثُمَّ اسْتَثْنَتِ الْمَجَلَّةُ مَا لَوْ جَرَى الْعُرْفُ فِي مَحَلٍّ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ مُؤَجَّلاً أَوْ مُقَسَّطًا.كَمَا صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّقْدُ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ، لَا فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، وَلَا فِي زَمَنِ عُهْدَةِ الثَّلَاثِ فِي بَيْعِ الرَّقِيقِ، وَيَفْسُدُ الْبَيْعُ بِاشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ نَقْدُ الثَّمَنِ فِي بَيْعِ الْغَائِبِ عَلَى اللُّزُومِ، وَيَجُوزُ تَطَوُّعًا.

وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الثَّمَنَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَجَّلاً، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلاً.وَالثَّمَنُ الْمُؤَجَّلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِلَى مَوْعِدٍ مُعَيَّنٍ لِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُنَجَّمًا (مُقَسَّطًا) عَلَى مَوَاعِيدَ مَعْلُومَةٍ.

وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: فَإِنَّ الثَّمَنَ إِمَّا عَيْنٌ مُعَيَّنَةٌ، وَإِمَّا دَيْنٌ مُلْتَزَمٌ فِي الذِّمَّةِ.

فَفِي الثَّمَنِ: إِذَا كَانَ دَيْنًا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي أَدَائِهِ بِحَسَبِ كَوْنِهِ مُعَجَّلاً أَوْ مُؤَجَّلاً أَوْ مُنَجَّمًا، فَإِذَا كَانَ مُؤَجَّلاً أَوْ مُنَجَّمًا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي بَحْثِ (أَجَل).

وَلَوْ دَفَعَ الْمُشْتَرِي بَعْضَ الثَّمَنِ لَمْ يَحِقَّ لَهُ تَسَلُّمُ الْمَبِيعِ، وَلَا تَسَلُّمُ مَا يُعَادِلُ الْجُزْءَ الْمَدْفُوعَ مِنَ الثَّمَنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ شَيْئًا وَاحِدًا أَوْ أَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةً، وَسَوَاءٌ فَصَّلَ.الثَّمَنَ عَلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، أَمْ وَقَعَ عَلَيْهَا جُمْلَةً، مَا دَامَ الْبَيْعُ قَدْ تَمَّ بِصَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ.

هَذَا مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَرْطٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.

الْبَدْءُ بِتَسْلِيمِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ:

62- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يُسَلِّمُ أَوَّلاً: الْبَائِعُ أَمِ الْمُشْتَرِي حَسَبَ نَوْعَيِ الْبَدَلَيْنِ، وَيَنْقَسِمُ ذَلِكَ إِلَى أَحْوَالٍ:

الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَكُونَا مُعَيَّنَيْنِ (الْمُقَايَضَةُ) أَوْ ثَمَنَيْنِ (الصَّرْفُ):

63- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يُسَلِّمَانِ مَعًا تَسْوِيَةً بِدَيْنِهِمَا فِي الْعَيْنِيَّةِ وَالدَّيْنِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمَا يَتْرُكَانِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، فَإِنْ كَانَ بِحَضْرَةِ حَاكِمٍ وَكُلُّ مَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ لَهُمَا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ: يُجْبَرَانِ عَلَى التَّسْلِيمِ لِاسْتِوَاءِ الْجَانِبَيْنِ، لِأَنَّ الثَّمَنَ الْمُعَيَّنَ كَالْمَبِيعِ فِي تَعَلُّقِ الْحَقِّ بِالْعَيْنِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَنْصِبُ الْحَاكِمُ عَدْلاً بَيْنَهُمَا، يَقْبِضُ مِنْهُمَا، ثُمَّ يُسَلِّمُهُ إِلَيْهِمَا قَطْعًا لِلنِّزَاعِ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي تَعَلُّقِ حَقِّهِمَا بِعَيْنِ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ، فَيُسَلِّمُ الْعَدْلُ الْمَبِيعَ أَوَّلاً، لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُعَيَّنًا وَالْآخَرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ:

64- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ: إِلَى أَنَّهُ يُطَالَبُ الْمُشْتَرِي بِالتَّسْلِيمِ أَوَّلاً، قَالَ الصَّاوِيُّ: لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي يَدِ بَائِعِهِ كَالرَّهْنِ عَلَى الثَّمَنِ.وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ أَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي تَعَيَّنَ فِي الْمَبِيعِ، فَيَدْفَعُ الثَّمَنَ لِيَتَعَيَّنَ حَقُّ الْبَائِعِ بِالْقَبْضِ، تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى التَّسْلِيمِ أَوَّلاً؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْمَبِيعِ مِنْ تَتِمَّاتِ الْبَيْعِ، وَاسْتِحْقَاقُ الثَّمَنِ مُرَتَّبٌ عَلَى تَمَامِ الْبَيْعِ، وَلِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ.

أَمَّا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إِخْلَالِ الْمُشْتَرِي بِأَدَاءِ الثَّمَنِ الْحَالِّ، وَكَذَلِكَ الثَّمَنُ الْمُؤَجَّلُ إِذَا حَلَّ أَجَلُهُ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ: إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي مُوسِرًا، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى أَدَاءِ الثَّمَنِ الْحَالِّ، كَمَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ لِلْبَائِعِ حَقَّ الْفَسْخِ إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي مُفْلِسًا، أَوْ كَانَ الثَّمَنُ غَائِبًا عَنِ الْبَلَدِ مَسَافَةَ الْقَصْرِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الْفَسْخِ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّقَاضِي لِلْحُصُولِ عَلَى حَقِّهِ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ دَائِنٌ، كَغَيْرِهِ مِنَ الدَّائِنِينَ.وَهَذَا عِنْدَهُمْ مَا لَمْ يَشْتَرِطْ لِنَفْسِهِ خِيَارَ النَّقْدِ، بِأَنْ يَقُولَ مَثَلاً: إِنْ لَمْ تَدْفَعِ الثَّمَنَ فِي مَوْعِدِ كَذَا فَلَا بَيْعَ بَيْنَنَا.وَاخْتُلِفَ فِي مُقْتَضَى هَذَا الشَّرْطِ، هَلْ هُوَ انْفِسَاخُ الْبَيْعِ، أَوِ اسْتِحْقَاقُهُ الْفَسْخَ بِاعْتِبَارِهِ فَاسِدًا؟ وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ يَفْسُدُ وَلَا يَنْفَسِخُ وَتَفْصِيلُهُ فِي (خِيَارُ النَّقْدِ)

وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَفْصِيلٌ- فِي حَالِ إِخْلَالِ الْمُشْتَرِي بِأَدَاءِ الثَّمَنِ الْحَالِّ، لَا لِلْفَلْسِ، بَلْ لِغِيَابِ مَالِهِ غَيْبَةً قَرِيبَةً فِي بَلَدِهِ، أَوْ فِي أَقَلَّ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ- خُلَاصَتُهُ: الْحَجْرُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ وَسَائِرِ أَمْوَالِهِ حَتَّى يُسَلِّمَ الثَّمَنَ، خَوْفًا مِنْ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِهِ تَصَرُّفًا يَضُرُّ بِالْبَائِعِ.أَمَّا إِنْ كَانَ الْمَالُ غَائِبًا مَسَافَةَ الْقَصْرِ فَأَكْثَرَ، فَإِنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الْبَائِعُ الصَّبْرَ إِلَى إِحْضَارِهِ، بَلْ يُحْجَرُ عَلَى الْمَبِيعِ وَمَالِ الْمُشْتَرِي كَمَا سَبَقَ.وَيَمْلِكُ الْبَائِعُ الْفَسْخَ فِي الْأَصَحِّ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلْحَنَابِلَةِ، وَهَذَا فَضْلاً عَنْ حَقِّهِ فِي حَبْسِ مَبِيعِهِ حَتَّى يَقْبِضَ ثَمَنَهُ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَجْهٌ بِأَنَّهُ: لَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ فِي الْفَسْخِ فِيمَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَاضِرِ.وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ، بَلْ يُبَاعُ

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


40-موسوعة الفقه الكويتية (بيع الوفاء)

بَيْعُ الْوَفَاءِ

التَّعْرِيفُ:

1- الْبَيْعُ هُوَ: مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ.

وَالْوَفَاءُ لُغَةً: ضِدُّ الْغَدْرِ، يُقَالُ: وَفَّى بِعَهْدِهِ وَأَوْفَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْوَفَاءُ: الْخُلُقُ الشَّرِيفُ الْعَالِي الرَّفِيعُ، وَأَوْفَى الرَّجُلَ حَقَّهُ وَوَفَّاهُ إِيَّاهُ بِمَعْنَى: أَكْمَلَهُ لَهُ وَأَعْطَاهُ وَافِيًا.

وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، بَيْعُ الْوَفَاءِ هُوَ: الْبَيْعُ بِشَرْطِ أَنَّ الْبَائِعَ مَتَى رَدَّ الثَّمَنَ يَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ (بَيْعَ الْوَفَاءِ) لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ.

هَذَا، وَيُسَمِّيهِ الْمَالِكِيَّةُ «بَيْعَ الثُّنْيَا» وَالشَّافِعِيَّةُ «بَيْعَ الْعُهْدَةِ» وَالْحَنَابِلَةُ «بَيْعَ الْأَمَانَةِ» وَيُسَمَّى أَيْضًا «بَيْعَ الطَّاعَةِ» «وَبَيْعَ الْجَائِزِ» وَسُمِّيَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ «بَيْعَ الْمُعَامَلَةِ».

حُكْمُ بَيْعِ الْوَفَاءِ:

2- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِبَيْعِ الْوَفَاءِ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى: أَنَّ بَيْعَ الْوَفَاءِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْبَائِعِ أَخْذَ الْمَبِيعِ إِذَا رَدَّ الثَّمَنَ إِلَى الْمُشْتَرِي يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْبَيْعِ وَحُكْمَهُ، وَهُوَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي لِلْمَبِيعِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ وَالدَّوَامِ.وَفِي هَذَا الشَّرْطِ مَنْفَعَةٌ لِلْبَائِعِ، وَلَمْ يَرِدْ دَلِيلٌ مُعَيَّنٌ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ، فَيَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا يَفْسُدُ الْبَيْعُ بِاشْتِرَاطِهِ فِيهِ.

وَلِأَنَّ الْبَيْعَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُقْصَدُ مِنْهُ حَقِيقَةُ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْوَفَاءِ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ مِنْ وَرَائِهِ الْوُصُولُ إِلَى الرِّبَا الْمُحَرَّمِ، وَهُوَ إِعْطَاءُ الْمَالِ إِلَى أَجَلٍ، وَمَنْفَعَةُ الْمَبِيعِ هِيَ الرِّبْحُ، وَالرِّبَا بَاطِلٌ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ بَيْعَ الْوَفَاءِ جَائِزٌ مُفِيدٌ لِبَعْضِ أَحْكَامِهِ، وَهُوَ انْتِفَاعُ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ- دُونَ بَعْضِهَا- وَهُوَ الْبَيْعُ مِنْ آخَرَ.

وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْبَيْعَ بِهَذَا الشَّرْطِ تَعَارَفَهُ النَّاسُ وَتَعَامَلُوا بِهِ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، فِرَارًا مِنَ الرِّبَا، فَيَكُونُ صَحِيحًا لَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ بِاشْتِرَاطِهِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْقَوَاعِدِ، لِأَنَّ الْقَوَاعِدَ تُتْرَكُ بِالتَّعَامُلِ، كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ.

3- وَذَهَبَ أَبُو شُجَاعٍ وَعَلِيٌّ السُّغْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ الْمَاتُرِيدِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى: أَنَّ بَيْعَ الْوَفَاءِ رَهْنٌ وَلَيْسَ بِبَيْعٍ، فَيَثْبُتُ لَهُ جَمِيعُ أَحْكَامِ الرَّهْنِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ لَمْ تَلْزَمْهُ أُجْرَتُهُ، كَالرَّاهِنِ إِذَا اسْتَأْجَرَ الْمَرْهُونَ مِنَ الْمُرْتَهِنِ، وَيَسْقُطُ الدَّيْنُ بِهَلَاكِهِ وَلَا يَضْمَنُ مَا زَادَ عَلَيْهِ، وَإِذَا مَاتَ الرَّاهِنُ كَانَ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ.

وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي، لَا لِلْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي.وَلِهَذَا كَانَتِ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ بَيْعًا، وَكَانَتِ الْكَفَالَةُ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ حَوَالَةً، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْفِقْهِ.

وَهَذَا الْبَيْعُ لَمَّا شُرِطَ فِيهِ أَخْذُ الْمَبِيعِ عِنْدَ رَدِّ الثَّمَنِ كَانَ رَهْنًا، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُؤْخَذُ عِنْدَ أَدَاءِ الدَّيْنِ.

4- قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ قَوْلَانِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ مُفِيدٌ لِبَعْضِ أَحْكَامِهِ مِنْ حِلِّ الِانْتِفَاعِ بِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي بَيْعَهُ، قَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي الْإِكْرَاهِ: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.

الثَّانِي: الْقَوْلُ الْجَامِعُ لِبَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ: أَنَّهُ فَاسِدٌ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ حَتَّى مَلَكَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْفَسْخَ، صَحِيحٌ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ كَحِلِّ الْإِنْزَالِ وَمَنَافِعِ الْمَبِيعِ، وَرَهْنٌ فِي حَقِّ الْبَعْضِ حَتَّى لَمْ يَمْلِكِ الْمُشْتَرِي بَيْعَهُ مِنْ آخَرَ وَلَا رَهْنَهُ وَسَقَطَ الدَّيْنُ بِهَلَاكِهِ.فَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنَ الْعُقُودِ الثَّلَاثَةِ، كَالزَّرَافَةِ فِيهَا صِفَةُ الْبَعِيرِ وَالْبَقَرَةِ وَالنَّمِرِ، جُوِّزَ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْبَدَلَيْنِ لِصَاحِبِهِمَا، قَالَ فِي الْبَحْرِ: وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْدَلَ فِي الْإِفْتَاءِ عَنِ الْقَوْلِ الْجَامِعِ.وَفِي النَّهْرِ: وَالْعَمَلُ فِي دِيَارِنَا عَلَى مَا رَجَّحَهُ الزَّيْلَعِيُّ.

5- وَقَالَ صَاحِبُ بُغْيَةِ الْمُسْتَرْشِدِينَ مِنْ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ: بَيْعُ الْعُهْدَةِ صَحِيحٌ جَائِزٌ وَتَثْبُتُ بِهِ الْحُجَّةُ شَرْعًا وَعُرْفًا عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِهِ، وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِكَرَاهَتِهِ، وَقَدْ جَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي غَالِبِ جِهَاتِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ زَمَنٍ قَدِيمٍ وَحَكَمَتْ بِمُقْتَضَاهُ الْحُكَّامُ، وَأَقَرَّهُ مَنْ يَقُولُ بِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَإِنَّمَا اخْتَارَهُ مَنِ اخْتَارَهُ وَلَفَّقَهُ مِنْ مَذَاهِبَ، لِلضَّرُورَةِ الْمَاسَّةِ إِلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالِاخْتِلَافُ فِي صِحَّتِهِ مِنْ أَصْلِهِ وَفِي التَّفْرِيعِ عَلَيْهِ، لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِالْفِقْهِ.

شَرْطُ بَيْعِ الْوَفَاءِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُهُ:

6- لِتَطْبِيقِ أَحْكَامِ بَيْعِ الْوَفَاءِ شَرْطَانِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُهُ لَا بُدَّ مِنْ تَوَافُرِهِمَا وَهُمَا:

أ- أَنْ يَنُصَّ فِي الْعَقْدِ عَلَى أَنَّهُ مَتَى رَدَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ رَدَّ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ.

ب- سَلَامَةُ الْبَدَلَيْنِ، فَإِنْ تَلِفَ الْمَبِيعُ وَفَاءً وَكَانَتْ قِيمَتُهُ مُسَاوِيَةً لِلدَّيْنِ (أَيِ الثَّمَنِ) سَقَطَ مِنَ الدَّيْنِ فِي مُقَابَلَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً عَلَى مِقْدَارِ الدَّيْنِ، وَهَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، سَقَطَ مِنْ قِيمَتِهِ قَدْرُ مَا يُقَابِلُ الدَّيْنَ، وَهُوَ فِي هَذَا كَالرَّهْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

الْآثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى بَيْعِ الْوَفَاءِ:

هُنَاكَ آثَارٌ تَتَرَتَّبُ عَلَى بَيْعِ الْوَفَاءِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُهُ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مُجْمَلُهَا فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا- عَدَمُ نَقْلِهِ لِلْمِلْكِيَّةِ:

7- أَنَّ بَيْعَ الْوَفَاءِ لَا يُسَوِّغُ لِلْمُشْتَرِي التَّصَرُّفَ النَّاقِلَ لِلْمِلْكِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُهُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ عِدَّةُ مَسَائِلَ:

أ- عَدَمُ نَفَاذِ بَيْعِ الْمَبِيعِ وَفَاءً مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَالرَّهْنِ، وَالرَّهْنُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ.

ب- لَا يَحِقُّ لِلْمُشْتَرِي فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ الشُّفْعَةُ، وَتَبْقَى الشُّفْعَةُ لِلْبَائِعِ، فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ نَقْلًا عَنْ فَتَاوَى أَبِي الْفَضْلِ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ كَرْمٍ بِيَدِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، بَاعَتِ الْمَرْأَةُ نَصِيبَهَا مِنَ الرَّجُلِ، وَاشْتَرَطَتْ أَنَّهَا مَتَى جَاءَتْ بِالثَّمَنِ رَدَّ عَلَيْهَا نَصِيبَهَا، ثُمَّ بَاعَ الرَّجُلُ نَصِيبَهُ، هَلْ لِلْمَرْأَةِ فِيهِ شُفْعَةٌ؟

قَالَ (أَبُو الْفَضْلِ): إِنْ كَانَ الْبَيْعُ بَيْعَ مُعَامَلَةٍ فَفِيهِ الشُّفْعَةُ لِلْمَرْأَةِ، سَوَاءٌ كَانَ نَصِيبُهَا مِنَ الْكَرْمِ فِي يَدِهَا أَوْ فِي يَدِ الرَّجُلِ.

وَبَيْعُ الْوَفَاءِ وَبَيْعُ الْمُعَامَلَةِ وَاحِدٌ، كَذَا فِي التَّتَارْخَانِيَّةِ.

ج- الْخَرَاجُ فِي الْأَرْضِ الْمَبِيعَةِ بَيْعَ وَفَاءٍ عَلَى الْبَائِعِ.

د- لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ.

هـ- مَنَافِعُ الْمَبِيعِ بَيْعَ وَفَاءٍ لِلْبَائِعِ كَالْإِجَارَةِ وَثَمَرَةِ الْأَشْجَارِ وَنَحْوِهَا، فَلَوْ بَاعَ دَارَهُ مِنْ آخَرَ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ بَيْعَ وَفَاءٍ، وَتَقَابَضَا، ثُمَّ اسْتَأْجَرَهَا مِنَ الْمُشْتَرِي مَعَ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْإِجَارَةِ وَقَبَضَهَا وَمَضَتِ الْمُدَّةُ، هَلْ يَلْزَمُهُ الْأَجْرُ؟ قَالَ: لَا، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَنْتَقِلْ لِلْمُشْتَرِي، إِذْ لَوِ انْتَقَلَ لَوَجَبَتِ الْأُجْرَةُ، وَكَذَلِكَ ثَمَرُ الشَّجَرِ لِلْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ أَخَذَ مِنْ ثَمَرِ الْأَشْجَارِ شَيْئًا، فَإِنْ أَخَذَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ، وَإِنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَرِضَاهُ ضَمِنَهَا.

و- انْتِقَالُ الْمَبِيعِ وَفَاءً بِالْإِرْثِ إِلَى وَرَثَةِ الْبَائِعِ، فَلَوْ بَاعَ رَجُلٌ بُسْتَانَهُ مِنْ آخَرَ بَيْعَ وَفَاءٍ، وَتَقَابَضَا، ثُمَّ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ آخَرَ بَيْعًا بَاتًّا وَسَلَّمَ وَغَابَ، فَلِلْبَائِعِ أَوْ وَرَثَتِهِ أَنْ يُخَاصِمُوا الْمُشْتَرِيَ الثَّانِيَ، وَيَسْتَرِدُّوا مِنْهُ الْبُسْتَانَ.

وَكَذَا إِذَا مَاتَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِيَانِ، وَلِكُلٍّ وَرَثَةٌ، فَلِوَرَثَةِ الْمَالِكِ أَنْ يَسْتَخْلِصُوهُ مِنْ أَيْدِي وَرَثَةِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، وَلِوَرَثَةِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي أَنْ يَرْجِعُوا بِمَا أَدَّى مِنَ الثَّمَنِ إِلَى بَائِعِهِ فِي تَرِكَتِهِ الَّتِي فِي أَيْدِي وَرَثَتِهِ، وَلِوَرَثَةِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَسْتَرِدُّوهُ، وَيَحْبِسُوهُ بِدَيْنِ مُورَثِهِمْ إِلَى أَنْ يَقْضُوا الدَّيْنَ.

ثَانِيًا: حَقُّ الْبَائِعِ فِي اسْتِرْدَادِ الْمَبِيعِ:

8- يَحِقُّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ مَبِيعَهُ إِذَا دَفَعَ الثَّمَنَ لِلْمُشْتَرِي فِي حَالَتَيِ التَّوْقِيتِ وَعَدَمِهِ.

ثَالِثًا: أَثَرُ مَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ:

9- سَبَقَ قَرِيبًا أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي أَوِ الْبَائِعُ بَيْعَ وَفَاءٍ فَإِنَّ وَرَثَتَهُ يَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي أَحْكَامِ الْوَفَاءِ، نَظَرًا لِجَانِبِ الرَّهْنِ.

رَابِعًا: اخْتِلَافُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ:

10- مِنْ أَهَمِّ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِاخْتِلَافِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ مَا يَلِي:

أ- إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَعَاقِدَانِ فِي أَصْلِ بَيْعِ الْوَفَاءِ، كَأَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: كَانَ الْبَيْعُ بَاتًّا أَوْ وَفَاءً، فَالْقَوْلُ لِمُدَّعِي الْجَدِّ وَالْبَتَاتِ إِلاَّ بِقَرِينَةِ الْوَفَاءِ، وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْقَوْلَ لِمُدَّعِي الْوَفَاءِ اسْتِحْسَانًا.

ب- إِذَا أَقَامَ كُلٌّ مِنَ الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعِ الْبَيِّنَةَ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْوَفَاءِ، لِأَنَّهَا خِلَافُ الظَّاهِرِ.

ج- إِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الْبَتَاتِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: فَتَحَصَّلَ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ فِي الِاخْتِلَافِ فِي الْبَيِّنَةِ تَرْجِيحُ بَيِّنَةِ الْوَفَاءِ، وَفِي الِاخْتِلَافِ فِي الْقَوْلِ تَرْجِيحُ قَوْلِ مُدَّعِي الْبَتَاتِ. وَمِنَ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوَفَاءِ نُقْصَانُ الثَّمَنِ كَثِيرًا، وَهُوَ مَا لَا يَتَغَابَنُ فِيهِ النَّاسُ عَادَةً إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ صَاحِبُهُ تَغَيُّرَ السِّعْرِ.

- رحمهم الله-

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


41-موسوعة الفقه الكويتية (تأخير)

تَأْخِيرٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّأْخِيرُ لُغَةً: ضِدُّ التَّقْدِيمِ، وَمُؤَخَّرُ كُلِّ شَيْءٍ: خِلَافُ مُقَدَّمِهِ.

وَاصْطِلَاحًا: هُوَ فِعْلُ الشَّيْءِ فِي آخِرِ وَقْتِهِ الْمُحَدَّدِ لَهُ شَرْعًا، كَتَأْخِيرِ السُّحُورِ وَالصَّلَاةِ، أَوْ خَارِجَ الْوَقْتِ (سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَقْتُ مُحَدَّدًا شَرْعًا أَوْ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ) كَتَأْخِيرِ الزَّكَاةِ وَالدَّيْنِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّرَاخِي:

2- التَّرَاخِي فِي اللُّغَةِ: الِامْتِدَادُ فِي الزَّمَانِ.يُقَالُ: تَرَاخَى الْأَمْرُ تَرَاخِيًا: امْتَدَّ زَمَانُهُ، وَفِي الْأَمْرِ تَرَاخٍ أَيْ فُسْحَةٌ.وَمَعْنَى التَّرَاخِي عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: هُوَ مَشْرُوعِيَّةُ فِعْلِ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا الْمُمْتَدِّ، وَهُوَ ضِدُّ الْفَوْرِ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، وَعَلَى هَذَا فَيَتَّفِقُ التَّأْخِيرُ مَعَ التَّرَاخِي فِي فِعْلِ الْعِبَادَةِ فِي آخِرِ وَقْتِهَا، وَيَخْتَلِفَانِ فِي حَالِ إِيقَاعِ الْعِبَادَةِ خَارِجَ الْوَقْتِ، فَيُسَمَّى ذَلِكَ تَأْخِيرًا لَا تَرَاخِيًا.

ب- الْفَوْرُ:

3- الْفَوْرُ فِي اللُّغَةِ: كَوْنُ الشَّيْءِ عَلَى الْوَقْتِ الْحَاضِرِ الَّذِي لَا تَأْخِيرَ فِيهِ.

يُقَالُ: فَارَتِ الْقِدْرُ فَوْرًا وَفَوَرَانًا: غَلَتْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمُ: الشُّفْعَةُ عَلَى الْفَوْرِ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ مَشْرُوعِيَّةُ الْأَدَاءِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ بِحَيْثُ يَلْحَقُهُ الذَّمُّ بِالتَّأْخِيرِ عَنْهُ.

وَيَتَبَيَّنُ مِنْ هَذَا أَنَّ بَيْنَ الْفَوْرِ وَالتَّأْخِيرِ تَبَايُنًا.

ج- التَّأْجِيلُ:

4- التَّأْجِيلُ فِي اللُّغَةِ: أَنْ تَضْرِبَ لِلشَّيْءِ أَجَلًا.يُقَالُ: أَجَّلْتُهُ تَأْجِيلًا أَيْ جَعَلْتَ لَهُ أَجَلًا.

وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.

وَعَلَى هَذَا فَالتَّأْخِيرُ أَعَمُّ مِنَ التَّأْجِيلِ، إِذْ يَكُونُ التَّأْخِيرُ بِأَجَلٍ وَبِغَيْرِ أَجَلٍ.

هـ- التَّعْجِيلُ:

5- التَّعْجِيلُ: الْإِسْرَاعُ بِالشَّيْءِ.يُقَالُ: عَجَّلْتُ إِلَيْهِ الْمَالَ: أَسْرَعْتَ إِلَيْهِ بِحُضُورِهِ فَتَعَجَّلَهُ أَيْ أَخَذَهُ بِسُرْعَةٍ.

وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: الْإِتْيَانُ بِالْفِعْلِ قَبْلَ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لَهُ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ، أَوْ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ كَتَعْجِيلِ الْفِطْرِ قَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ، وَأَخَّرُوا السُّحُورَ».فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ بَيْنَ التَّأْخِيرِ وَالتَّعْجِيلِ تَبَايُنًا.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ (لِلتَّأْخِيرِ):

6- الْأَصْلُ فِي الشَّرْعِ عَدَمُ تَأْخِيرِ الْفِعْلِ إِلَى آخِرِ وَقْتِهِ أَوْ خَارِجَ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لَهُ شَرْعًا، كَتَأْخِيرِ الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ مِثْلِ الصَّلَاةِ، أَوْ عَنِ الْوَقْتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَأَدَاءِ مَا فِي الذِّمَّةِ، إِلاَّ إِذَا وُجِدَ نَصٌّ يُجِيزُ التَّأْخِيرَ، أَوْ قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ أَوْ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ خَارِجٌ عَنْ مَقْدُورِ الْعَبْدِ.

وَقَدْ يَعْرِضُ مَا يُخْرِجُ التَّأْخِيرَ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ إِلَى الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ أَوِ الْكَرَاهَةِ أَوِ الْإِبَاحَةِ.

فَيَجِبُ التَّأْخِيرُ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْحَامِلِ حَتَّى تَلِدَ، وَيَسْتَغْنِيَ عَنْهَا وَلِيدُهَا.

أَمَّا الْمَرِيضُ، فَإِنْ كَانَ يُرْجَى بُرْؤُهُ يُؤَخَّرُ عَنْهُ الْحَدُّ حَتَّى يَبْرَأَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَا يُؤَخَّرُ.وَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْقِصَاصِ بِالنَّفْسِ.

وَيُنْدَبُ: كَتَأْخِيرِ السُّحُورِ إِلَى آخِرِ اللَّيْلِ، وَتَأْخِيرِ الْوِتْرِ إِلَى وَقْتِ السَّحَرِ لِمَنْ وَثِقَ بِصَلَاتِهِ فِيهِ، وَكَتَأْخِيرِ أَدَاءِ الدَّيْنِ عَنْ وَقْتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعْسِرِ لِوُجُودِ عُذْرِ الْإِعْسَارِ.قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وَيُكْرَهُ: كَتَأْخِيرِ الْإِفْطَارِ لِلصَّائِمِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، إِذِ السُّنَّةُ فِي الْإِفْطَارِ التَّعْجِيلُ.

وَيُبَاحُ: كَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي وَقْتِ الْكَرَاهَةِ.

تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ:

7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ لِتُصَلَّى جَمْعًا مَعَ الْعِشَاءِ، وَذَلِكَ لِلْحَاجِّ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ.وَأَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ جَمْعِ صَلَاتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا، وَكَذَا فِي جَمْعِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِهِ فِي أَعْذَارٍ مُعَيَّنَةٍ، وَمَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَيُنْظَرُ الْخِلَافُ وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (جَمْعُ الصَّلَاةِ).

تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لِفَاقِدِ الْمَاءِ:

8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى سُنِّيَّةِ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ إِذَا تُيُقِّنَ وُجُودُ الْمَاءِ فِي آخِرِهِ، وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِأَلاَّ يَدْخُلَ وَقْتُ الْكَرَاهَةِ.

أَمَّا إِذَا ظَنَّ وُجُودَ الْمَاءِ، أَوْ رَجَاهُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ بِشَرْطِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُتَرَدِّدَ يَتَيَمَّمُ فِي وَسَطِ الْوَقْتِ نَدْبًا، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّعْجِيلَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَفْضَلُ.

تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ بِلَا عُذْرٍ:

9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا بِلَا عُذْرٍ شَرْعِيٍّ.

أَمَّا مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ كَسَلًا وَهُوَ مُوقِنٌ بِوُجُوبِهَا، وَكَانَ تَرْكُهُ لَهَا بِلَا عُذْرٍ وَلَا تَأَوُّلٍ وَلَا جَهْلٍ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُحْبَسُ حَتَّى يُصَلِّيَ.قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: لِأَنَّهُ يُحْبَسُ لِحَقِّ الْعَبْدِ، فَحَقُّ (الْحَقِّ) أَحَقُّ.

وَقِيلَ: يُضْرَبُ حَتَّى يَسِيلَ مِنْهُ الدَّمُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَخَّرَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا دُعِيَ إِلَى فِعْلِهَا، فَإِنْ تَضَيَّقَ وَقْتُ الَّتِي تَلِيهَا وَأَبَى الصَّلَاةَ يُقْتَلُ حَدًّا.وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُقْتَلُ لِكُفْرِهِ.

قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ.

أَمَّا تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا فَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَوَسَطُهُ رَحْمَةُ اللَّهِ، وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ» وَيُكْرَهُ التَّأْخِيرُ إِلَى أَحَدِ أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ.وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ).

تَأْخِيرُ دَفْعِ الزَّكَاةِ:

10- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَهُمْ، إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ دَفْعِ الزَّكَاةِ عَنْ وَقْتِ اسْتِحْقَاقِهَا وَأَنَّهَا يَجِبُ إِخْرَاجُهَا عَلَى الْفَوْرِ، لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَهَذَا فِي زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَيُلْحَقُ بِهَا غَيْرُهَا.

وَالَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ، وَصَحَّحَهُ الْبَاقِلاَّنِيُّ وَالْجَصَّاصُ: أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى التَّرَاخِي، فَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ، وَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى آخِرِ عُمْرِهِ يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ، حَتَّى لَوْ لَمْ يُؤَدِّ إِلَى أَنْ مَاتَ يَأْثَمُ.

وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَخَّرَ الزَّكَاةَ بَعْدَ الْحَوْلِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْإِخْرَاجِ فَتَلِفَ بَعْضُ الْمَالِ أَوْ كُلُّهُ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ لَهَا، وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا أَخَّرَهَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ يُقَصِّرَ فِي حِفْظِهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ الزَّكَاةِ بِهَلَاكِ الْمَالِ بَعْدَ الْحَوْلِ، سَوَاءٌ تَمَكَّنَ مِنَ الْأَدَاءِ أَمْ لَمْ يَتَمَكَّنْ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةٌ).

تَأْخِيرُ قَضَاءِ الصَّوْمِ:

11- الْأَصْلُ الْمُبَادَرَةُ إِلَى قَضَاءِ مَا فَاتَ مِنْ صِيَامِ رَمَضَانَ، وَيَجُوزُ تَأْخِيرُ الْقَضَاءِ مَا لَمْ يَتَضَيَّقِ الْوَقْتُ، بِأَلاَّ يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَمَضَانَ الْقَادِمِ إِلاَّ مَا يَسَعُ أَدَاءَ مَا عَلَيْهِ.فَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْوَقْتُ لِلْقَضَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

فَإِنْ لَمْ يَقْضِ فِيهِ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى تَأْثِيمِهِ بِالتَّأْخِيرِ إِذَا فَاتَ وَقْتُ الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلاَّ فِي شَعْبَانَ لِمَكَانِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالُوا: وَلَوْ أَمْكَنَهَا لأَخَّرَتْهُ، وَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ الْأُولَى عَنِ الثَّانِيَةِ كَالصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْقَضَاءِ مُطْلَقًا وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ هَلَّ عَلَيْهِ رَمَضَانُ آخَرُ.لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ عِنْدَهُمُ الْمُتَابَعَةُ مُسَارَعَةً إِلَى إِسْقَاطِ الْوَاجِبِ.

12- هَذَا، وَإِذَا أَخَّرَ الْقَضَاءَ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ Cآخَرُ فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُفَرِّطًا فَإِنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ مَعَ الْفِدْيَةِ، وَهِيَ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي رَجُلٍ مَرِضَ فِي رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ، ثُمَّ صَحَّ فَلَمْ يَصُمْ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ: يَصُومُ الَّذِي أَدْرَكَهُ، ثُمَّ يَصُومُ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ وَيُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا» وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَطْعِمْ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَلَمْ يَرِدْ خِلَافٌ فِي ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ.

ثُمَّ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْفِدْيَةَ تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ السِّنِينَ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ الْمَالِيَّةَ لَا تَتَدَاخَلُ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ: لَا تَتَكَرَّرُ كَالْحُدُودِ.وَمَحَلُّ الْخِلَافِ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَخْرَجَ الْفِدْيَةَ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا ثُمَّ لَمْ يَقْضِ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ وَجَبَتْ ثَانِيًا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ حَتَّى هَلَّ عَلَيْهِ رَمَضَانُ آخَرُ، فَإِنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَلَا فِدْيَةَ، وَاسْتَدَلُّوا بِإِطْلَاقِ قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ.وَقَالُوا: إِنَّ إِطْلَاقَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى التَّرَاخِي، فَلَا يَلْزَمُهُ بِالتَّأْخِيرِ شَيْءٌ، غَيْرَ أَنَّهُ تَارِكٌ لِلْأَوْلَى مِنَ الْمُسَارَعَةِ.

تَأْخِيرُ الْحَجِّ:

13- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ، أَيِ الْإِتْيَانُ بِهِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الِاسْتِطَاعَةِ.لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَالْأَمْرُ لِلْفَوْرِ، وَلِخَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- مَرْفُوعًا قَالَ: «تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ».

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ يَجِبُ عَلَى التَّرَاخِي، لَكِنَّ جَوَازَ التَّأْخِيرِ عِنْدَهُمْ مَشْرُوطٌ بِأَمْرَيْنِ: الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ فِي Cالْمُسْتَقْبَلِ، وَأَنْ يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ السَّلَامَةُ إِلَى وَقْتِ فِعْلِهِ.

وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ نَزَلَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ سَنَةَ سِتٍّ، وَفَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَانْصَرَفَ عَنْهَا فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَتِهِ.

وَحَجَّ النَّاسُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَرَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مُقِيمٌ بِالْمَدِينَةِ هُوَ وَأَزْوَاجُهُ وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ فِي سَنَةِ تِسْعٍ بَعَثَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَبَا بَكْرٍ لِلْحَجِّ، وَالنَّبِيُّ مَعَ عَامَّةِ أَصْحَابِهِ فِي الْمَدِينَةِ، وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْحَجِّ غَيْرُ مُشْتَغِلِينَ بِقِتَالٍ وَلَا غَيْرِهِ.

ثُمَّ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ.

تَأْخِيرُ رَمْيِ الْجِمَارِ:

14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخَّرَ الرَّمْيَ حَتَّى غُرُوبِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، عَلَيْهِ دَمٌ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ أَخَّرَهُ حَتَّى غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي غَيْرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْهَا.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ الرَّمْيَ فِيمَا قَبْلَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَرْمِي فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي تَلِي ذَلِكَ الْيَوْمَ الَّذِي أَخَّرَ رَمْيَهُ وَيَقَعُ أَدَاءً؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لَهُ وَكُرِهَ لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ، وَإِنْ أَخَّرَهُ إِلَى الْيَوْمِ التَّالِي كَانَ قَضَاءً، وَلَزِمَهُ الْجَزَاءُ.

وَكَذَا لَوْ أَخَّرَ الْكُلَّ إِلَى الثَّالِثِ مَا لَمْ تَغْرُبْ شَمْسُهُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ الرَّمْيَ إِلَى اللَّيْلِ وَقَعَ قَضَاءً وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ رَمْيَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ تَدَارَكَهُ فِي بَاقِي الْأَيَّامِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَمَى لَيْلًا لَمْ يُجْزِئْهُ الرَّمْيُ وَيُعِيدُ.

تَأْخِيرُ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:

15- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا آخِرَ لِلْوَقْتِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ آخِرَ وَقْتِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ آخِرُ ذِي الْحِجَّةِ.

ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ أَخَّرَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا تَأْخِيرُهُ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ وَلَيَالِيِهَا (وَهِيَ يَوْمُ الْعِيدِ وَيَوْمَانِ Cبَعْدَهُ) وَيَلْزَمُهُ دَمٌ لِتَرْكِ الْوَاجِبِ، وَهُوَ إيقَاعُ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فِي وَقْتِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَخَّرَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ حَتَّى خَرَجَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ- وَهِيَ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ التَّالِيَةُ لِيَوْمِ الْعِيدِ- فَإِنَّ عَلَيْهِ دَمًا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ عَنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَتَأْخِيرُهُ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَشَدُّ كَرَاهَةً، وَعَنْ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ أَشَدُّ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَخَّرَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ عَنْ أَيَّامِ مِنًى (أَيَّامِ التَّشْرِيقِ) جَازَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ وَقْتَهُ غَيْرُ مَحْدُودٍ.وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهِ بَعْدَ نِصْفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَالْأَفْضَلُ فِعْلُهُ يَوْمَ النَّحْرِ، لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: «أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ النَّحْرِ».

تَأْخِيرُ الْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ:

16- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ تَأْخِيرُ النَّحْرِ- وَهُوَ فِي التَّرْتِيبِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْحَلْقِ- فَتَأْخِيرُ الْحَلْقِ أَوْلَى، فَإِنْ أَخَّرَ الْحَلْقَ حَتَّى خَرَجَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ لَزِمَهُ دَمٌ بِالتَّأْخِيرِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَخَّرَ الْحَلْقَ حَتَّى خَرَجَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّأْقِيتِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَوَّلَ وَقْتِهِ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}.وَلَمْ يُبَيِّنْ آخِرَهُ، فَمَتَى أَتَى بِهِ أَجْزَأَهُ، كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ وَالسَّعْيِ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى كَرَاهِيَةِ تَأْخِيرِهِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي (الْحَجِّ).

تَأْخِيرُ دَفْنِ الْمَيِّتِ:

17- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ تَأْخِيرِ دَفْنِ الْمَيِّتِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَنْ مَاتَ فَجْأَةً أَوْ بِهَدْمٍ أَوْ غَرَقٍ، فَيَجِبُ التَّأْخِيرُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْمَوْتُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَحْرُمُ تَأْخِيرُ الدَّفْنِ، وَقِيلَ: يُكْرَهُ، وَاسْتَثْنَوْا تَأْخِيرَ الدَّفْنِ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ بِقُرْبِ مَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، نَصَّ عَلَيْهِ Cالشَّافِعِيُّ، فَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ هُنَا لِدَفْنِهِ فِي تِلْكَ الْأَمْكِنَةِ.

قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقُرْبِ مَسَافَةٌ لَا يَتَغَيَّرُ فِيهَا الْمَيِّتُ قَبْلَ وُصُولِهِ.

تَأْخِيرُ الْكَفَّارَاتِ:

مِنْ تَأْخِيرِ الْكَفَّارَاتِ مَا يَلِي:

أ- تَأْخِيرُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ:

18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَأَنَّهَا تَجِبُ بِالْحِنْثِ عَلَى الْفَوْرِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ تَجِبُ عَلَى التَّرَاخِي. (وَانْظُرْ: أَيْمَانٌ ف 138).

ب- تَأْخِيرُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ:

19- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ وَاجِبَةٌ عَلَى التَّرَاخِي، فَلَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ.

وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهَا تَتَضَيَّقُ عِنْدَ آخِرِ عُمْرِهِ، فَيَأْثَمُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ أَدَائِهَا، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ بِلَا وَصِيَّةٍ مِنَ الثُّلُثِ، وَلَوْ تَبَرَّعَ الْوَرَثَةُ بِهَا جَازَ، وَقِيلَ: يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ، وَيُجْبَرُ عَنِ التَّكْفِيرِ لِلظِّهَارِ.وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (ظِهَارٌ).

وَيُنْظَرُ أَحْكَامُ تَأْخِيرِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فِي مُصْطَلَحِ (جِنَايَةٌ)، وَأَحْكَامُ تَأْخِيرِ كَفَّارَةِ الْوِقَاعِ فِي رَمَضَانَ فِي مُصْطَلَحِ (صَوْمٌ).

تَأْخِيرُ زَكَاةِ الْفِطْرِ:

20- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِلْمَالِكِيَّةِ إِلَى: أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ تَجِبُ عِنْدَ غُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ أَيَّامِ رَمَضَانَ.وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ: تَجِبُ بِطُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ الْعِيدِ.

وَيَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِخْرَاجُهَا إِلَى غُرُوبِ شَمْسِ يَوْمِ الْعِيدِ، وَيُسَنُّ عِنْدَهُمْ أَلاَّ تَتَأَخَّرَ عَنْ صَلَاةِ الْعِيدِ.

وَيَحْرُمُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا تَأْخِيرُهَا عَنْ يَوْمِ الْعِيدِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَلَا تَسْقُطُ بِهَذَا التَّأْخِيرِ بَلْ يَجِبُ قَضَاؤُهَا، وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ هَذَا الْقَوْلَ؛ لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام- فِي الْفُقَرَاءِ: «أَغْنُوهُمْ عَنْ طَوَافِ هَذَا الْيَوْمِ».

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ وُجُوبَ زَكَاةِ الْفِطْرِ هُوَ وُجُوبٌ مُوَسَّعٌ فِي الْعُمْرِ كُلِّهِ، فَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا، غَيْرَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ إِخْرَاجُهَا قَبْلَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى، وَلَوْ مَاتَ فَأَدَّاهَا وَارِثُهُ جَازَ.

لَكِنْ ذَهَبَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ تَسْقُطُ بِتَأْخِيرِهَا عَنْ يَوْمِ الْفِطْرِ كَالْأُضْحِيَّةِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ ثَالِثٌ خَارِجٌ عَنِ الْمَذْهَبِ.

تَأْخِيرُ نِيَّةِ الصَّوْمِ:

21- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ نِيَّةِ الصَّوْمِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُعَيَّنِ وَالنَّفَلِ إِلَى الضَّحْوَةِ الْكُبْرَى، أَمَّا فِي غَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَمَنَعُوا تَأْخِيرَ النِّيَّةِ فِيهَا.وَقَالُوا بِوُجُوبِ تَبْيِيتِهَا أَوْ قِرَانِهَا مَعَ الْفَجْرِ، كَقَضَاءِ رَمَضَانَ، وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ، وَقَضَاءِ النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ، وَالنَّفَلِ بَعْدَ إِفْسَادِهِ، وَالْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِهَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّوْمَ لَا يُجْزِئُ إِلاَّ إِذَا تَقَدَّمَتِ النِّيَّةُ عَلَى سَائِرِ أَجْزَائِهِ، فَإِنْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَلَمْ يَنْوِهِ لَمْ يُجْزِهِ فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ الصِّيَامِ، إِلاَّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ كَغَيْرِهِ.

وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ، فَاشْتَرَطُوا لِلْفَرْضِ التَّبْيِيتَ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ لَمْ يُجَمِّعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ» وَأَمَّا النَّفَلُ فَاتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ صَوْمِهِ بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِعَائِشَةَ يَوْمًا: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: لَا.قَالَ: فَإِنِّي إِذَنْ أَصُومُ» وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ النَّفَلَ يَصِحُّ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الزَّوَالِ أَيْضًا لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ وُجِدَتْ فِي جُزْءِ النَّهَارِ فَأَشْبَهَ وُجُودَهَا قَبْلَ الزَّوَالِ بِلَحْظَةٍ.

تَأْخِيرُ قَضَاءِ الصَّلَاةِ:

22- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ عَلَى الْفَوْرِ وَيَحْرُمُ تَأْخِيرُهَا.لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ Cنَسِيَ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» فَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ عِنْدَ الذِّكْرِ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَقَدْ أَلْحَقَ الْجُمْهُورُ مُطْلَقَ التَّرْكِ بِالنَّوْمِ وَالنِّسْيَانِ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ تَأْخِيرُ الْفَائِتَةِ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ، وَقَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَتَحْصِيلِ مَا يَحْتَاجُ لَهُ فِي مَعَاشِهِ.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ لِعُذْرٍ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَهَا عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنْ أَخَّرَهَا جَازَ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «فَاتَتْهُ صَلَاةُ الصُّبْحِ فَلَمْ يُصَلِّهَا حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْوَادِي».قَالُوا: وَلَوْ كَانَتْ عَلَى الْفَوْرِ لَمَا أَخَّرَهَا.

تَأْخِيرُ الْوِتْرِ:

23- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِ الْوِتْرِ إِلَى وَقْتِ السَّحَرِ، وَهَذَا الِاسْتِحْبَابُ لِمَنْ وَثِقَ بِأَنَّهُ يُصَلِّيهِ آخِرَ اللَّيْلِ، فَإِنْ لَمْ يَثِقْ بِذَلِكَ أَوْتَرَ قَبْلَ أَنْ يَرْقُدَ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: أَيُّكُمْ خَافَ أَلاَّ يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ ثُمَّ لْيَرْقُدْ، وَمَنْ وَثِقَ بِقِيَامِهِ مِنَ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ مِنْ آخِرِهِ، فَإِنَّ قِرَاءَةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَحْضُورَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ»..

تَأْخِيرُ السُّحُورِ:

24- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ السُّحُورِ وَتَقْدِيمَ الْفِطْرِ مِنَ السُّنَّةِ، لِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: «تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ.قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالسُّحُورِ؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً».

وَلِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ وَأَخَّرُوا السُّحُورَ».

وَمَوْطِنُ السُّنِّيَّةِ فِيمَا إِذَا تَحَقَّقَ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ الشَّكُّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَإِنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ، كَأَنْ تَرَدَّدَ فِي بَقَاءِ اللَّيْلِ لَمْ يُسَنَّ التَّأْخِيرُ بَلِ الْأَفْضَلُ تَرْكُهُ.

تَأْخِيرُ أَدَاءِ الدَّيْنِ:

25- إِذَا حَلَّ أَجَلُ الدَّيْنِ وَلَمْ يُؤَدِّهِ الْمَدِينُ، فَإِنْ Cكَانَ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ وَأَخَّرَهُ بِلَا عُذْرٍ مَنَعَهُ الْقَاضِي مِنَ السَّفَرِ وَحَبَسَهُ إِلَى أَنْ يُوفِيَ دَيْنَهُ، قَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ».

فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ، وَكَانَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ، بَاعَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، وَإِذَا كَانَ تَأْخِيرُ سَدَادِ الدَّيْنِ لِعُذْرٍ كَالْإِعْسَارِ أُمْهِلَ إِلَى أَنْ يُوسِرَ، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}.

أَمَّا إِذَا كَانَ لِلْمَدِينِ مَالٌ، وَلَكِنَّهُ لَا يَفِي بِالدُّيُونِ، وَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لَزِمَ الْقَاضِيَ إِجَابَتُهُمْ (.عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِي الْمَذَاهِبِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (أَدَاءٌ) وَبَابَيِ (الْحَجْرُ وَالتَّفْلِيسُ).

تَأْخِيرُ الْمَهْرِ:

26- يَجِبُ الْمَهْرُ بِنَفْسِ عَقْدِ الزَّوَاجِ، وَيَجُوزُ تَأْخِيرُ الصَّدَاقِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ عَنِ الدُّخُولِ

عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (النِّكَاحُ).

تَأْخِيرُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ:

27- يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْإِنْفَاقُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَمَنْ يَعُولُ، وَيَجُوزُ لَهُ وَلِزَوْجَتِهِ الِاتِّفَاقُ عَلَى تَعْجِيلِ أَوْ تَأْخِيرِ النَّفَقَةِ، وَيُعْتَبَرُ كُلُّ زَوْجٍ بِحَسَبِ حَالِ مَوْرِدِهِ، فَإِنْ أَخَّرَ النَّفَقَةَ عَنْ زَوْجَتِهِ بِعُذْرِ الْإِعْسَارِ جَازَ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ طَلَبُ التَّطْلِيقِ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ أَوِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا.

ثُمَّ إِنْ أَخَّرَ النَّفَقَةَ وَتَرَاكَمَتْ عَلَيْهِ هَلْ تَسْقُطُ بِالتَّقَادُمِ أَمْ تَبْقَى دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ؟ فِي كُلِّ ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي بَابِ (النَّفَقَةُ).

تَأْخِيرُ تَسْلِيمِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ:

28- يُشْتَرَطُ لِبَيْعِ الرِّبَوِيِّ بِالرِّبَوِيِّ الْحُلُولُ- لَا التَّأْخِيرُ- وَالتَّقَابُضُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ جِنْسًا وَاحِدًا أَمْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَيُزَادُ شَرْطُ التَّمَاثُلِ إِذَا كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: C {الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَجْنَاسُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ» فَيَحْرُمُ التَّأْخِيرُ فِي تَسْلِيمِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ.وَلِلتَّفْصِيلِ ر: (الرِّبَا، وَالْبَيْعُ).

التَّأْخِيرُ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ:

29- الْحَدُّ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا تُقَامُ عَلَى مُرْتَكِبِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ زَجْرًا لَهُ وَتَأْدِيبًا لِغَيْرِهِ؛ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْجَانِيَ يُحَدُّ فَوْرًا بَعْدَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ دُونَ تَأْخِيرٍ، لَكِنْ قَدْ يَطْرَأُ مَا يُوجِبُ التَّأْخِيرَ أَوْ يُسْتَحَبُّ مَعَهُ التَّأْخِيرُ:

أ- فَيَجِبُ تَأْخِيرُ الْحَدِّ بِالْجَلْدِ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ؛ لِمَا فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ فِيهِمَا مِنْ خَوْفِ الْهَلَاكِ خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ.وَلَا يُقَامُ عَلَى مَرِيضٍ يُرْجَى بُرْؤُهُ حَتَّى يَبْرَأَ؛ لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ وَجَعُ الْمَرَضِ وَأَلَمُ الضَّرْبِ فَيُخَافُ الْهَلَاكُ، خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ.وَلَا يُقَامُ عَلَى النُّفَسَاءِ حَتَّى يَنْقَضِيَ النِّفَاسُ؛ لِأَنَّ النِّفَاسَ نَوْعُ مَرَضٍ، وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْحَائِضِ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ لَيْسَ بِمَرَضٍ.وَلَا يُقَامُ عَلَى الْحَامِلِ حَتَّى تَضَعَ وَتَطْهُرَ مِنَ النِّفَاسِ- لِأَنَّ فِيهِ هَلَاكَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدَةِ- وَحَتَّى يَسْتَغْنِيَ وَلَدُهَا عَنْهَا بِمَنْ تُرْضِعُهُ؛ حِفَاظًا عَلَى حَيَاةِ وَلَدِهَا.

وَلِلتَّفْصِيلِ اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (حَدٌّ).

ب- أَمَّا فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الرَّجْمِ فَلَا تَأْخِيرَ إلاَّ لِلْحَامِلِ بِالْقَيْدِ السَّابِقِ، هَذَا إِذَا كَانَ الْأَوْلِيَاءُ فِي الْقِصَاصِ مَوْجُودِينَ، أَمَّا إِذَا كَانُوا صِغَارًا أَوْ غَائِبِينَ فَيُؤَخَّرُ الْقِصَاصُ حَتَّى يَكْبُرَ الصِّغَارُ وَيَقْدَمَ الْغَائِبُ.عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (قِصَاصٌ).

ج- وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ يُؤَخَّرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وُجُوبًا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَنَدْبًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَيُحْبَسُ فِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ وَلَا يُخَلَّى سَبِيلُهُ بِقَصْدِ اسْتِتَابَتِهِ وَإِزَالَةِ الشُّبَهِ الَّتِي عَلِقَتْ بِهِ، فَإِنْ تَابَ خُلِّيَ سَبِيلُهُ، وَإِلاَّ قُتِلَ حَدًّا لِكُفْرِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ.

د- وَيُؤَخَّرُ حَدُّ السَّكْرَانِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ السُّكْرُ تَحْصِيلًا لِلْمَقْصُودِ- وَهُوَ Cالِانْزِجَارُ- بِوِجْدَانِ الْأَلَمِ، وَالسَّكْرَانُ زَائِلُ الْعَقْلِ كَالْمَجْنُونِ.فَلَوْ حُدَّ قَبْلَ الْإِفَاقَةِ فَإِنَّ الْحَدَّ يُعَادُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ مُصَحَّحَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، نَسَبَهُ الْمِرْدَاوِيُّ إِلَى ابْنِ نَصْرِ اللَّهِ فِي حَوَاشِي الْفُرُوعِ، وَقَالَ: الصَّوَابُ إِنْ حَصَلَ بِهِ أَلَمٌ يُوجِبُ الزَّجْرَ سَقَطَ، وَإِلاَّ فَلَا، وَمِثْلُهُ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ.

تَأْخِيرُ إِقَامَةِ الدَّعْوَى:

30- إِذَا تَأَخَّرَ الْمُدَّعِي فِي إِقَامَةِ دَعْوَاهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً سَقَطَتْ دَعْوَاهُ بِالتَّقَادُمِ، وَمِنْ ثَمَّ فَلَا تُسْمَعُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لِنَهْيِ السُّلْطَانِ عَنْ سَمَاعِهَا بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ إِلاَّ فِي الْوَقْفِ وَالْإِرْثِ وَعِنْدَ وُجُودِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ، وَسَبَبُ هَذَا النَّهْيِ قَطْعُ الْحِيَلِ وَالتَّزْوِيرِ فِي الدَّعَاوَى.ثُمَّ قَالَ: وَنُقِلَ فِي الْحَامِدِيَّةِ فَتَاوَى مِنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ بِعَدَمِ سَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ نَهْيِ السُّلْطَانِ.

وَأَفْتَى فِي الْخَيْرِيَّةِ بِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ السُّلْطَانُ لَا بُدَّ مِنْ تَجْدِيدِ النَّهْيِ، وَلَا يَسْتَمِرُّ النَّهْيُ بَعْدَهُ.

تَأْخِيرُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ:

31- تَأْخِيرُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ بِلَا عُذْرٍ- كَمَرَضٍ أَوْ بُعْدِ مَسَافَةٍ أَوْ خَوْفٍ- يُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ قَبُولِهَا لِتُهْمَةِ الشَّاهِدِ إِلاَّ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، فَإِنَّ التَّقَادُمَ فِيهِ لَا يُؤَثِّرُ عَلَى قَبُولِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ، وَكَذَلِكَ يَضْمَنُ السَّارِقُ الْمَالَ الْمَسْرُوقَ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَلَا يَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ.

وَيَسْقُطُ حَدُّ الْخَمْرِ لِتَأْخِيرِ الشَّهَادَةِ شَهْرًا عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَتَأْخِيرُ الشَّهَادَةِ فِي الْقِصَاصِ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَالضَّابِطُ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: أَنَّ التَّقَادُمَ مَانِعٌ فِي حُقُوقِ اللَّهِ، غَيْرُ مَانِعٍ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ يُنْظَرُ فِي بَابِ (الشَّهَادَةُ) وَمُصْطَلَحِ (تَقَادُمٌ).

تَأْخِيرُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ:

32- مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَقِفَ الرِّجَالُ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَيَقِفَ بَعْدَ الرِّجَالِ الصِّبْيَانُ، وَيُنْدَبُ تَأَخُّرُ النِّسَاءِ خَلْفَ الْجَمِيعِ.لِقَوْلِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ: «إِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى وَأَقَامَ الرِّجَالَ يَلُونَهُ، وَأَقَامَ الصِّبْيَانَ خَلْفَ ذَلِكَ، وَأَقَامَ النِّسَاءَ خَلْفَ ذَلِكَ».

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


42-موسوعة الفقه الكويتية (ترتيب)

تَرْتِيبٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّرْتِيبُ فِي اللُّغَةِ: جَعْلُ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَرْتَبَتِهِ.

وَاصْطِلَاحًا: هُوَ جَعْلُ الْأَشْيَاءِ الْكَثِيرَةِ بِحَيْثُ يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْوَاحِدِ، وَيَكُونُ لِبَعْضِ أَجْزَائِهِ نِسْبَةٌ إِلَى الْبَعْضِ بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

التَّتَابُعُ وَالْمُوَالَاةُ:

2- التَّتَابُعُ: مَصْدَرُ تَتَابَعَ، يُقَالُ: تَتَابَعَتِ الْأَشْيَاءُ وَالْأَمْطَارُ وَالْأُمُورُ، إِذَا جَاءَ وَاحِدٌ مِنْهَا خَلْفَ وَاحِدٍ عَلَى أَثَرِهِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْقَطْعِ وَفَسَّرَ الْفُقَهَاءُ التَّتَابُعَ فِي الصِّيَامِ: بِأَنْ لَا يُفْطِرَ الْمَرْءُ فِي أَيَّامِ الصِّيَامِ.

وَعَلَى ذَلِكَ، فَالتَّتَابُعُ وَالْمُوَالَاةُ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى، إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَسْتَعْمِلُونَ التَّتَابُعَ غَالِبًا فِي الِاعْتِكَافِ وَكَفَّارَةِ الصِّيَامِ وَنَحْوِهِمَا، وَيَسْتَعْمِلُونَ الْمُوَالَاةَ غَالِبًا فِي الطَّهَارَةِ مِنَ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ وَالْغُسْلِ.

وَيَخْتَلِفُ التَّرْتِيبُ عَنِ التَّتَابُعِ وَالْمُوَالَاةِ فِي أَنَّ التَّرْتِيبَ يَكُونُ لِبَعْضِ الْأَجْزَاءِ نِسْبَةٌ إِلَى الْبَعْضِ بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ، بِخِلَافِ التَّتَابُعِ وَالْمُوَالَاةِ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ التَّتَابُعَ وَالْمُوَالَاةَ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا عَدَمُ الْقَطْعِ وَالتَّفْرِيقِ، فَيَضُرُّهُمَا التَّرَاخِي، بِخِلَافِ التَّرْتِيبِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

3- التَّرْتِيبُ إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ كَالْأَعْضَاءِ فِي الْوُضُوءِ، وَالْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ، فَإِنِ اتَّحَدَ الْمَحَلُّ وَلَمْ يَتَعَدَّدْ فَلَا مَعْنَى لِلتَّرْتِيبِ كَمَا يَقُولُ الزَّرْكَشِيُّ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَجِبِ التَّرْتِيبُ فِي الْغُسْلِ؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ، تَسْتَوِي فِيهِ الْأَعْضَاءُ كُلُّهَا.وَكَذَلِكَ الرُّكُوعُ الْوَاحِدُ وَالسُّجُودُ الْوَاحِدُ لَا يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ التَّرْتِيبِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ ظَهَرَ أَثَرُهُ.

هَذَا، وَقَدْ بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ حُكْمَ وَأَهَمِّيَّةَ التَّرْتِيبِ فِي مَبَاحِثِ الْعِبَادَاتِ مِنَ: الطَّهَارَةِ، وَأَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَنُسُكِ الْحَجِّ، وَالْكَفَّارَاتِ فِي النُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ وَنَحْوِهَا.وَاتَّفَقُوا عَلَى فَرْضِيَّةِ التَّرْتِيبِ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ، كَالتَّرْتِيبِ فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ مِنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا، نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:

أ- التَّرْتِيبُ فِي الْوُضُوءِ:

4- التَّرْتِيبُ فِي أَعْمَالِ الْوُضُوءِ فَرْضٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهَا وَرَدَتْ فِي الْآيَةِ مُرَتَّبَةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} لِأَنَّ إِدْخَالَ الْمَمْسُوحِ (أَيِ الرَّأْسِ) بَيْنَ الْمَغْسُولَاتِ (أَيِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ) قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ التَّرْتِيبُ، فَالْعَرَبُ لَا تَقْطَعُ النَّظِيرَ عَنِ النَّظِيرِ إِلاَّ لِفَائِدَةٍ، وَالْفَائِدَةُ هَاهُنَا التَّرْتِيبُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ، بَلْ هُوَ سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ، وَعَطَفَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بِوَاوِ الْجَمْعِ، وَهِيَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: مَا أُبَالِي بِأَيِّ أَعْضَائِي بَدَأْتُ.

وَالتَّرْتِيبُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي عُضْوَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَإِنْ كَانَا فِي حُكْمِ الْعُضْوِ الْوَاحِدِ لَمْ يَجِبْ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى فِي الْوُضُوءِ اتِّفَاقًا.وَلَكِنْ يُسَنُّ، لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ».

ب- التَّرْتِيبُ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ:

5- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَالُوا بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ الْفَائِتَةِ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ الْوَقْتِيَّةِ إِذَا اتَّسَعَ الْوَقْتُ.فَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ أَوْ صَلَوَاتٌ وَهُوَ فِي وَقْتِ أُخْرَى، فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِقَضَاءِ الْفَوَائِتِ مُرَتَّبَةً، ثُمَّ يُؤَدِّيَ الصَّلَاةَ الْوَقْتِيَّةَ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْوَقْتُ ضَيِّقًا لَا يَتَّسِعُ لِأَكْثَرَ مِنَ الْحَاضِرَةِ فَيُقَدِّمُهَا، ثُمَّ يَقْضِي الْفَوَائِتَ عَلَى التَّرْتِيبِ.

عَلَى أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي قَضَاءِ يَسِيرِ الْفَوَائِتِ مَعَ صَلَاةٍ حَاضِرَةٍ، وَإِنْ خَرَجَ وَقْتُهَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ، بَلْ يُسَنُّ تَرْتِيبُ الْفَوَائِتِ، كَأَنْ يَقْضِيَ الصُّبْحَ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَالظُّهْرَ قَبْلَ الْعَصْرِ.وَكَذَلِكَ يُسَنُّ تَقْدِيمُ الْفَوَائِتِ عَلَى الْحَاضِرَةِ مُحَاكَاةً لِلْأَدَاءِ، فَإِنْ خَافَ فَوْتَ الْحَاضِرَةِ بَدَأَ بِهَا وُجُوبًا لِئَلاَّ تَصِيرَ فَائِتَةً.

هَذَا، وَيَسْقُطُ التَّرْتِيبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِالنِّسْيَانِ، وَخَوْفِ فَوْتِ الْوَقْتِيَّةِ، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ مُسْقِطًا آخَرَ هُوَ زِيَادَةُ الْفَوَائِتِ عَلَى خَمْسٍ.وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (قَضَاءُ الْفَوَائِتِ).

ج- التَّرْتِيبُ فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ:

6- صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ: لَوِ اجْتَمَعَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَأَرَادُوا أَنْ يَصْطَفُّوا لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، يَقُومُ الرِّجَالُ صَفًّا مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، ثُمَّ الصِّبْيَانُ بَعْدَهُمْ ثُمَّ الْإِنَاثُ.وَإِذَا تَقَدَّمَتِ النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ فَسَدَتْ صَلَاةُ مَنْ وَرَاءَهُنَّ مِنْ صُفُوفِ الرِّجَالِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ حَيْثُ صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ الصَّلَاةِ حِينَئِذٍ دُونَ الْفَسَادِ، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي مُصْطَلَحِ: (اقْتِدَاءٌ، صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ).

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:

يَرِدُ ذِكْرُ التَّرْتِيبِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ- إِضَافَةً إِلَى مَا سَبَقَ- فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ مِنْهَا:

أ- التَّرْتِيبُ فِي الْجَنَائِزِ:

7- إِذَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ جَنَائِزُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ حِينَ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ يَصُفُّ الرِّجَالَ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، ثُمَّ صَفَّ الصِّبْيَانِ، ثُمَّ صَفَّ النِّسَاءِ، وَكَذَلِكَ التَّرْتِيبُ فِي وَضْعِ الْأَمْوَاتِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، وَيُفَصِّلُ الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي أَبْوَابِ الْجَنَائِزِ.

ب- التَّرْتِيبُ فِي الْحَجِّ:

8- التَّرْتِيبُ فِي أَعْمَالِ الْحَجِّ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِخْلَالِ بِهِ، فَصَّلَهُ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ. (ر: إِحْرَامٌ).

ج- الدُّيُونُ:

9- التَّرْتِيبُ فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ، وَمَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ مِنْهَا عَلَى غَيْرِهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ، فَصَّلَهُ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الرَّهْنِ وَالنَّفَقَةِ وَالْكَفَّارَةِ وَغَيْرِهَا (ر: دَيْنٌ).

د- أَدِلَّةُ الْإِثْبَاتِ:

10- التَّرْتِيبُ فِي أَدِلَّةِ الْإِثْبَاتِ مِنَ الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ وَالْقَرَائِنِ وَنَحْوِهَا يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى.

هـ- النِّكَاحُ:

11- تَرْتِيبُ الْأَوْلِيَاءِ فِي النِّكَاحِ وَحَقِّ الْقِصَاصِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ كَالْإِرْثِ وَالْحَضَانَةِ وَغَيْرِهِمَا مَذْكُورٌ فِي أَبْوَابِهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.

و- الْكَفَّارَاتُ:

12- التَّرْتِيبُ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْكَفَّارَاتِ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِهَا أَوْرَدَهُ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الْكَفَّارَةِ.

وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


43-موسوعة الفقه الكويتية (تصوير 4)

تَصْوِيرٌ -4

رَابِعًا: أَحْكَامُ الصُّوَرِ:

أ- الصُّوَرُ وَعُقُودُ التَّعَامُلِ:

70- الصُّوَرُ الَّتِي صِنَاعَتُهَا حَلَالٌ- كَالصُّوَرِ الْمُسَطَّحَةِ مُطْلَقًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالصُّوَرِ الْمَقْطُوعَةِ، وَلُعَبِ الْأَطْفَالِ، وَالصُّوَرِ مِنَ الْحَلْوَى، وَمَا يَسْرُعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ- عَلَى التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ الَّذِي تَقَدَّمَ- يَصِحُّ شِرَاؤُهَا وَبَيْعُهَا وَالْأَمْرُ بِعَمَلِهَا وَالْإِجَارَةُ عَلَى صُنْعِهَا.وَثَمَنُهَا حَلَالٌ وَالْأُجْرَةُ الْمَأْخُوذَةُ عَلَى صِنَاعَتِهَا حَلَالٌ.وَكَذَلِكَ سَائِرُ عُقُودِ التَّعَامُلِ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا.وَيَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَشْتَرِيَ لِمَحْجُورَتِهِ اللُّعَبَ مِنْ مَالِهَا، لِمَا فِيهَا مِنْ مَصْلَحَةِ التَّمْرِينِ كَمَا تَقَدَّمَ.

أَمَّا الصُّوَرُ الْمُحَرَّمَةُ صِنَاعَتُهَا، فَإِنَّهَا عَلَى الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ لَا تَحِلُّ الْإِجَارَةُ عَلَى صُنْعِهَا، وَلَا تَحِلُّ الْأُجْرَةُ وَلَا الْأَمْرُ بِعَمَلِهَا، وَلَا الْإِعَانَةُ عَلَى ذَلِكَ.قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: وَيُسْقِطُ الْمُرُوءَةَ حِرْفَةٌ مُحَرَّمَةٌ كَالْمُصَوِّرِ.وَشَذَّ الْمَاوَرْدِيُّ فَجَعَلَ لِلْمُصَوِّرِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ كَمَا فِي تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ.

71- وَأَمَّا مَا يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ، فَلَا يَصِحُّ شِرَاؤُهُ وَلَا بَيْعُهُ وَلَا هِبَتُهُ وَلَا إِيدَاعُهُ وَلَا رَهْنُهُ، وَلَا الْإِجَارَةُ عَلَى حِفْظِهِ، وَلَا وَقْفُهُ، وَلَا الْوَصِيَّةُ بِهِ كَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ.وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ».وَمَنْ أَخَذَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنًا أَوْ أُجْرَةً فَهُوَ كَسْبٌ خَبِيثٌ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ.قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَلَا يُعَادُ إِلَى صَاحِبِهِ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى الْعِوَضَ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مِثْلِ حَامِلِ الْخَمْرِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُمْ.

72- وَهَذَا إِنْ كَانَتِ الصُّوَرُ الْمُحَرَّمَةُ فِيمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ إِلاَّ مَا فِيهِ مِنَ الصُّورَةِ الْمُحَرَّمَةِ، أَمَّا لَوْ كَانَتْ تَصْلُحُ لِمَنْفَعَةٍ بَعْدَ شَيْءٍ مِنَ التَّغْيِيرِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ مَنْعُهُ.

وَقَالَ الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ: مُقْتَضَى كَلَامِ الْإِمَامِ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ صِحَّةُ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ خِلَافٌ.وَيُؤَيِّدُهُ مَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنِ الْمُتَوَلِّي- وَلَمْ يُخَالِفْهُ- فِي جَوَازِ بَيْعِ النَّرْدِ إِذَا صَلُحَ لِبَيَادِقِ الشِّطْرَنْجِ، وَإِلاَّ فَلَا.وَمِثْلُهُ مَا فِي الدُّرِّ وَحَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: اشْتَرَى ثَوْرًا أَوْ فَرَسًا مِنْ خَزَفٍ لِأَجْلِ اسْتِئْنَاسِ الصَّبِيِّ، لَا يَصِحُّ، وَلَا قِيمَةَ لَهُ.وَقِيلَ بِخِلَافِهِ يَصِحُّ وَيَضْمَنُ مُتْلِفُهُ، فَلَوْ كَانَتْ مِنْ خَشَبٍ أَوْ صُفْرٍ جَازَ اتِّفَاقًا فِيمَا يَظْهَرُ، لِإِمْكَانِ الِانْتِفَاعِ بِهِ.وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ بَيْعُ اللُّعْبَةِ، وَأَنْ يَلْعَبَ بِهَا الصِّبْيَانُ.

الضَّمَانُ فِي إِتْلَافِ الصُّوَرِ وَآلَاتِ التَّصْوِيرِ:

73- الَّذِينَ قَالُوا بِتَحْرِيمِ نَوْعٍ مِنَ الصُّوَرِ مُسْتَعْمَلَةً عَلَى وَضْعٍ مُعَيَّنٍ، قَالُوا: يَنْبَغِي إِخْرَاجُ الصُّورَةِ إِلَى وَضْعٍ لَا تَكُونُ فِيهِ مُحَرَّمَةً.وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ لِنَقْضِ الصُّوَرِ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا حَدِيثًا يَنُصُّ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ ذَكَرَ حَدِيثًا آخَرَ هُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لَا يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَالِيبُ إِلاَّ نَقَضَهُ».وَفِي رِوَايَةٍ: «إِلاَّ قَضَبَهُ» وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ قِيَاسَ نَقْضِ الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى نَقْضِ الصُّلْبَانِ؛ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَنَّهُمَا عُبِدَا مِنْ دُونِ اللَّهِ.لَكِنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- «قَالَ لِعَائِشَةَ- رضي الله عنها- فِي شَأْنِ السِّتْرِ الَّذِي عَلَيْهِ التَّصَاوِيرُ أَخِّرِيهِ عَنِّي» وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّهُ هَتَكَهُ»، أَيْ نَزَعَهُ مِنْ مَكَانِهِ حَتَّى لَمْ يَعُدْ مَنْصُوبًا، وَفِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ أَنَّهُ «أَمَرَ بِصُنْعِ وِسَادَتَيْنِ مِنَ السِّتْرِ» وَهَذَا يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُتْلِفُ مَا فِيهِ الصُّورَةُ إِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ مُبَاحٍ.

لَكِنْ إِنْ كَانَتَ الصُّورَةُ الْمُحَرَّمَةُ لَا تَزُولُ إِلاَّ بِالْإِتْلَافِ وَجَبَ الْإِتْلَافُ، وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلاَّ نَادِرًا، كَالتِّمْثَالِ الْمُجَسَّمِ الْمُثَبَّتِ فِي جِدَارٍ أَوْ نَحْوِهِ الَّذِي إِذَا أُزِيلَ مِنْ مَكَانِهِ أَوْ خُرِقَ صَدْرُهُ أَوْ بَطْنُهُ أَوْ قُطِعَ رَأْسُهُ يَتْلَفُ.وَهَذَا النَّوْعُ لَا يَضْمَنُ مُتْلِفُهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَزُولُ إِلاَّ بِإِتْلَافِهِ.

أَمَّا مَنْ أَتْلَفَ الصُّورَةَ الَّتِي يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا عَلَى وَضْعٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ مَا أَتْلَفَهُ خَالِيًا عَنْ تِلْكَ الصَّنْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى الْأَصْلِ فِي ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ.

وَهَذَا مُقْتَضَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ.

وَقِيَاسُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِتْلَافُ وَلَا ضَمَانَ، لِسُقُوطِ حُرْمَةِ الشَّيْءِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الْمُحَرَّمِ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَضْمَنُ.

الْقَطْعُ فِي سَرِقَةِ الصُّوَرِ:

74- لَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الصُّوَرِ الَّتِي لَيْسَ لِمَكْسُورِهَا قِيمَةٌ، أَوْ لَهُ قِيمَةٌ لَا تَبْلُغُ نِصَابًا.

أَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ، فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَيْهِ الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ آلَةِ اللَّهْوِ؛ لِأَنَّ صَلَاحِيَّتَهُ لِلَّهْوِ صَارَتْ شُبْهَةً مِنْ أَنَّ السَّارِقَ قَدْ يَقْصِدُ الْإِنْكَارَ، وَأَنَّ سَرِقَتَهُ لِلشَّيْءِ لِتَأْوِيلِ الْكَسْرِ، فَمَنَعَ ذَلِكَ الْقَطْعَ.فَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ عِنْدَهُمْ فِي الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ، وَلَوْ كَانَ مَكْسُورُهَا يَبْلُغُ نِصَابًا.قَالَ صَاحِبُ الْمُقْنِعِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ سَرَقَ آنِيَةً فِيهَا الْخَمْرُ أَوْ صَلِيبًا أَوْ صَنَمَ ذَهَبٍ لَمْ يُقْطَعْ.قَالَ صَاحِبُ الْإِنْصَافِ: هَذَا الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ.أَيْ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ الْمُحَرَّمَةَ أُهْدِرَتْ بِسَبَبِهَا حُرْمَةُ الشَّيْءِ فَلَمْ يَعُدْ لِمَكْسُورِهِ حُرْمَةٌ تَسْتَحِقُّ أَنْ يَثْبُتَ بِسَبَبِهَا الْقَطْعُ.وَسَوَاءٌ قَصَدَ بِالسَّرِقَةِ الْإِنْكَارَ أَمْ لَمْ يَقْصِدْهُ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وُجُوبُ الْقَطْعِ فِيمَا لَوْ كَانَ الْمَكْسُورُ يَبْلُغُ نِصَابًا.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى

الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَسْرُوقَةِ صُوَرٌ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ وُجُوبَ الْقَطْعِ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لِأَنَّ النُّقُودَ إِنَّمَا تُعَدُّ لِلتَّمَوُّلِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهَا تَأْوِيلٌ.لَكِنْ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ إِنْكَارًا فَلَا يُقْطَعُ، وَيُقْطَعُ إِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ.وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

- رحمهم الله-

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


44-موسوعة الفقه الكويتية (تعجيز)

تَعْجِيزٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّعْجِيزُ لُغَةً: مَصْدَرُ عَجَّزَ.يُقَالُ: عَجَّزْتُهُ تَعْجِيزًا: إِذَا جَعَلْتَهُ عَاجِزًا، وَعَجَّزَ فُلَانٌ رَأْيَ فُلَانٍ: إِذَا نَسَبَهُ إِلَى خِلَافِ الْحَزْمِ، كَأَنَّهُ نَسَبَهُ إِلَى الْعَجْزِ وَهُوَ لَا يَخْرُجُ فِي الِاصْطِلَاحِ الْفِقْهِيِّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ: نِسْبَةُ الشَّخْصِ إِلَى الْعَجْزِ.

وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا هَذَا اللَّفْظَ إِلاَّ فِي حَالَتَيْنِ:

الْأُولَى: تَعْجِيزُ الْمُكَاتَبِ.

وَالْأُخْرَى: تَعْجِيزُ الْقَاضِي أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ عَنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ.

وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ إِجْمَالًا:

أَوَّلًا: تَعْجِيزُ الْمُكَاتَبِ:

2- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ مِنْ جَانِبِ السَّيِّدِ، وَهُوَ: أَنْ يَتَعَاقَدَ السَّيِّدُ مَعَ عَبْدِهِ.أَوْ أَمَتِهِ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَيْهِ كَذَا مِنَ الْمَالِ مُنَجَّزًا، أَوْ مُؤَجَّلًا، وَيَكُونُ حُرًّا.فَلَا يَمْلِكُ فَسْخَهَا، وَلَا يَجُوزُ تَعْجِيزُ الْمُكَاتَبِ قَبْلَ عَجْزِ الْمُكَاتَبِ عَنْ أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ.

أَمَّا إِنْ حَلَّ النَّجْمُ (الْقِسْطُ) فَلِلسَّيِّدِ مُطَالَبَتُهُ بِمَا حَلَّ مِنْ نُجُومِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ.

فَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَنْهَا، فَهَلْ يَحِقُّ لِلسَّيِّدِ فَسْخُ الْكِتَابَةِ وَتَعْجِيزُ الْمُكَاتَبِ أَمْ لَا؟.

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَفْسَخَ الْكِتَابَةَ بِنَفْسِهِ، دُونَ الرُّجُوعِ إِلَى الْحَاكِمِ أَوِ السُّلْطَانِ، إِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَنْ أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ بَعْدَ حُلُولِ النَّجْمِ، لِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- ذَلِكَ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، إِلاَّ عَنْ طَرِيقِ الْحَاكِمِ أَوِ السُّلْطَانِ.

3- وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ كَذَلِكَ- وَهُمْ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُعَجِّزَ نَفْسَهُ.كَأَنْ يَقُولَ: أَنَا عَاجِزٌ عَنْ كِتَابَتِي، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ الصَّبْرُ أَوِ الْفَسْخُ، إِمَّا عَنْ طَرِيقِ الْحَاكِمِ أَوْ بِنَفْسِهِ.كَمَا أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُعَجِّزَهُ إِذَا طَلَبَ ذَلِكَ السَّيِّدُ أَوْ وَرَثَتُهُ، بَعْدَ حُلُولِ النَّجْمِ وَعَدَمِ الْوَفَاءِ بِمَا كُوتِبَ عَلَيْهِ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُعَجِّزَ نَفْسَهُ إِذَا كَانَ مُقْتَدِرًا؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ عِنْدَهُمْ لَازِمٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.

وَالتَّفَاصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (كِتَابَةٌ).

ثَانِيًا: عَجْزُ الْمُدَّعِي أَوِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:

4- أَكْثَرُ مَنِ اسْتَعْمَلَ مِنَ الْفُقَهَاءِ لَفْظَ التَّعْجِيزِ هُمُ الْمَالِكِيَّةُ، حَيْثُ ذَهَبُوا: إِلَى أَنَّهُ إِذَا انْقَضَتِ الْآجَالُ الَّتِي ضَرَبَهَا الْقَاضِي لِلْمُدَّعِي لِإِحْضَارِ بَيِّنَتِهِ، وَفَتْرَةُ التَّلَوُّمِ، وَلَمْ يَأْتِ الشَّخْصُ الْمُؤَجَّلُ بِشَيْءٍ يُوجِبُ لَهُ نَظِرَةً، عَجَّزَهُ الْقَاضِي، وَأَنْفَذَ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ، وَسَجَّلَ، وَقَطَعَ بِذَلِكَ تَبِعَتَهُ عَنْ خَصْمِهِ، ثُمَّ لَا يُسْمَعُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ حُجَّةً، وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُ بَيِّنَةٌ إِنْ أَتَى بِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ مُدَّعِيًا أَمْ مُدَّعًى عَلَيْهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ يُمْهَلُ إِذَا طَلَبَ مُهْلَةً لِإِحْضَارِ الْبَيِّنَةِ، وَيُتْرَكُ مَا تُرِكَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الطَّالِبُ لِلْحَقِّ.

أَمَّا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا يُمْهَلُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ يُحْكَمُ بِتَعْجِيزِهِ، وَيَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الْحَلِفِ، ثُمَّ يَحْلِفُ الْمُدَّعِي فَيُحْكَمُ لَهُ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَرَوْنَ: أَنَّ الْقَاضِيَ يَحْكُمُ لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِنَفْسِ النُّكُولِ، بَعْدَ أَنْ يُكَرِّرَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ».

وَالتَّفَاصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (دَعْوَى).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


45-موسوعة الفقه الكويتية (تعزير 3)

تَعْزِيرٌ -3

الْقَذْفُ الَّذِي لَا حَدَّ فِيهِ وَالسَّبُّ:

37- حَدُّ الْقَذْفِ لَا يُقَامُ عَلَى الْقَاذِفِ إِلاَّ بِشَرَائِطِهِ، فَإِذَا انْعَدَمَ وَاحِدٌ مِنْهَا أَوِ اخْتَلَّ فَإِنَّ الْجَانِيَ لَا يُحَدُّ.وَيُعَزَّرُ عِنْدَ طَلَبِ الْمَقْذُوفِ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً لَا حَدَّ فِيهَا.

وَمِنْ شُرُوطِ الْقَذْفِ الَّذِي فِيهِ الْحَدُّ: كَوْنُ الْمَقْذُوفِ مُحْصَنًا.فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا يُحَدُّ الْقَاذِفُ، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ.وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقْذِفَ مَجْنُونًا بِالزِّنَى.أَوْ صَغِيرًا بِالزِّنَى.أَوْ مُسْلِمَةً قَدْ زَنَتْ.أَوْ مُسْلِمًا قَدْ زَنَى، أَوْ مَنْ مَعَهَا أَوْلَادٌ لَا يُعْرَفُ لَهُمْ أَبٌ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْعِفَّةِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ.

وَمِنْهَا كَوْنُ الْمَقْذُوفِ مَعْلُومًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا حَدَّ، بَلِ التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مَعْصِيَةٌ لَا حَدَّ فِيهَا.وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ يُعَزَّرُ- وَلَا يُحَدُّ- مَنْ قَذَفَ بِالزِّنَى جَدَّ آخَرَ دُونَ بَيَانِ الْجَدِّ.أَوْ أَخَاهُ كَذَلِكَ، وَكَانَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَخٍ.

وَلَا حَدَّ فِي الْقَذْفِ بِغَيْرِ الصَّرِيحِ، وَمِنْ ذَلِكَ: الْقَذْفُ بِالْكِنَايَةِ، أَوِ التَّعْرِيضِ، فَلَيْسَ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ حَدٌّ، بَلِ التَّعْزِيرُ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَيَرَى مَالِكٌ: الْحَدَّ فِي الْقَذْفِ بِالتَّعْرِيضِ أَوِ الْكِنَايَةِ.

وَالَّذِينَ مَنَعُوا الْحَدَّ قَالُوا بِالتَّعْزِيرِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَكُونُ جَرِيمَةً لَا حَدَّ فِيهَا.

وَلَا حَدَّ إِذَا رَمَاهُ بِأَلْفَاظٍ لَا تُفِيدُ الزِّنَى صَرَاحَةً.كَقَوْلِهِ: يَا فَاجِرُ، بَلْ يُعَزَّرُ.

وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ إِذَا رَمَاهُ بِمَا لَا يُعْتَبَرُ زِنًى، كَمَنْ رَمَى آخَرَ بِالتَّخَنُّثِ.

وَيُعَزَّرُ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَنْ يَرْمِي آخَرَ بِأَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَا يُوجِبُ حَدَّ الزِّنَى عِنْدَهُ.

أَمَّا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْحَدِّ، وَمِنْ ثَمَّ فَلَا تَعْزِيرَ فِي ذَلِكَ، بَلْ فِيهِ حَدُّ الْقَذْفِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ.

وَمَرَدُّ الْخِلَافِ: هُوَ فِي أَنَّ اللِّوَاطَ هَلْ هُوَ زِنًى أَمْ لَا؟.

فَمَنْ قَالُوا: بِأَنَّهُ زِنًى، جَعَلُوا فِي الْقَذْفِ بِهِ حَدَّ الْقَذْفِ.وَمَنْ قَالُوا: بِغَيْرِ ذَلِكَ، جَعَلُوا فِي الْقَذْفِ بِهِ التَّعْزِيرَ.

وَمَنْ قَذَفَ آخَرَ قَذْفًا مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ أَوْ أَجَلٍ يُعَزَّرُ وَلَا يُحَدُّ.

وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْقَوْلُ قَذْفًا، بَلْ مُجَرَّدُ سَبٍّ أَوْ شَتْمٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَعْصِيَةً لَا حَدَّ فِيهَا، فَفِيهَا التَّعْزِيرُ.وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: يَا نَصْرَانِيُّ، أَوْ يَا زِنْدِيقُ، أَوْ يَا كَافِرُ، فِي حِينِ أَنَّهُ مُسْلِمٌ.وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ لآِخَرَ: يَا مُخَنَّثُ، أَوْ يَا مُنَافِقُ، مَا دَامَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ غَيْرَ مُتَّصِفٍ بِذَلِكَ.وَيُعَزَّرُ كَذَلِكَ فِي مِثْلِ: يَا آكِلَ الرِّبَا، أَوْ يَا شَارِبَ الْخَمْرِ، أَوْ يَا خَائِنُ، أَوْ يَا سَارِقُ، وَكُلُّهُ بِشَرْطِ كَوْنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِمَا نُسِبَ إِلَيْهِ.وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ لآِخَرَ: يَا بَلِيدُ، أَوْ يَا قَذِرُ، أَوْ يَا سَفِيهُ، أَوْ يَا ظَالِمُ، أَوْ يَا أَعْوَرُ، وَهُوَ صَحِيحٌ، أَوْ يَا مُقْعَدُ، وَهُوَ صَحِيحٌ كَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الشَّتْمِ.

وَعَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ يُعَزَّرُ مَنْ شَتَمَ آخَرَ، مَهْمَا كَانَ الشَّتْمُ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ.

وَيُرْجَعُ فِي تَحْدِيدِ الْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلتَّعْزِيرِ إِلَى الْعُرْفِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْفِعْلُ الْمَنْسُوبُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِمَّا يَلْحَقُ بِهِ فِي الْعُرْفِ الْعَارَ وَالْأَذَى وَالشَّيْنَ، فَلَا عِقَابَ عَلَى الْجَانِي، إِذْ لَا يَكُونُ ثَمَّةَ جَرِيمَةٌ.

السَّرِقَةُ الَّتِي لَا حَدَّ فِيهَا:

38- السَّرِقَةُ مِنْ جَرَائِمِ الْحُدُودِ مَا دَامَتْ قَدِ اسْتَوْفَتْ شُرُوطَهَا الشَّرْعِيَّةَ، وَأَهَمُّهَا: الْخُفْيَةُ.وَكَوْنُ مَوْضُوعِ السَّرِقَةِ مَالًا، مَمْلُوكًا لِغَيْرِ السَّارِقِ، مُحَرَّزًا، نِصَابًا.فَإِذَا تَخَلَّفَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْحَدِّ فَلَا يُقَامُ، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ الْفَاعِلُ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (سَرِقَةٌ).

قَطْعُ الطَّرِيقِ الَّذِي لَا حَدَّ فِيهِ:

39- قَطْعُ الطَّرِيقِ كَغَيْرِهِ مِنْ جَرَائِمِ الْحُدُودِ، يَجِبُ لِكَيْ يَكُونَ فِيهِ الْحَدُّ أَنْ تَتَوَافَرَ شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ، وَإِلاَّ فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ، وَيُعَزَّرُ الْجَانِي مَا دَامَ قَدِ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً لَا حَدَّ فِيهَا.

وَمِنَ الشُّرُوطِ: أَنْ يَكُونَ الْجَانِي بَالِغًا، ذَكَرًا، وَأَنْ يَكُونَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا، وَأَنْ تَكُونَ يَدُهُ عَلَى الْمَالِ صَحِيحَةً، وَأَنْ لَا يَكُونَ فِي الْقُطَّاعِ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ لِأَحَدِ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَقْطُوعُ فِيهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا مَعْصُومًا مَمْلُوكًا، لَا مِلْكَ فِيهِ لِلْقَاطِعِ، وَلَا شُبْهَةَ مِلْكٍ، مُحَرَّزًا، نِصَابًا، وَأَنْ يَكُونَ قَطْعُ الطَّرِيقِ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (حِرَابَةٌ).

الْجَرَائِمُ الَّتِي مُوجِبُهَا الْأَصْلِيُّ التَّعْزِيرُ:

بَعْضُ الْجَرَائِمِ الَّتِي تَقَعُ عَلَى آحَادِ النَّاسِ:

شَهَادَةُ الزُّورِ:

40- حُرِّمَ قَوْلُ الزُّورِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}

وَفِي السُّنَّةِ بِمَا وَرَدَ: «أَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- عَدَّ قَوْلَ الزُّورِ وَشَهَادَةَ الزُّورِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ» وَمَا دَامَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ، فَفِيهَا التَّعْزِيرُ.

الشَّكْوَى بِغَيْرِ حَقٍّ:

41- ذَكَرَ صَاحِبُ (تَبْصِرَةُ الْحُكَّامِ) أَنَّ مَنْ قَامَ بِشَكْوَى بِغَيْرِ حَقٍّ يُؤَدَّبُ.وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: إِنَّهُ إِذَا ظَهَرَ كَذِبُ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ بِمَا يُؤْذِي بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ لِكَذِبِهِ وَإِيذَائِهِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ.

قَتْلُ حَيَوَانٍ غَيْرِ مُؤْذٍ أَوِ الْإِضْرَارِ بِهِ:

42- نَهَى الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ فِي قَوْلِهِ: «إِنَّ امْرَأَةً دَخَلَتِ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا، فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ» فَهَذَا الْفِعْلُ مَعْصِيَةٌ، فَيُعَزَّرُ الْفَاعِلُ مَا دَامَ الْفِعْلُ لَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ.

وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ عَلَى الْجَرَائِمِ فِي هَذَا الْمَجَالِ: قَطْعُ ذَنَبِ حَيَوَانٍ، فَقَدْ ذَكَرَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ: مِمَّا يُوجِبُ التَّعْزِيرَ مَا ذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ فِيمَنْ قَطَعَ ذَنَبَ بِرْذَوْنٍ.

انْتِهَاكُ حُرْمَةِ مِلْكِ الْغَيْرِ:

43- دُخُولُ بُيُوتِ الْغَيْرِ بِدُونِ إِذْنٍ مَمْنُوعٌ شَرْعًا لقوله تعالى: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}

وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ قِيلَ بِتَعْزِيرِ مَنْ يُوجَدُ فِي مَنْزِلِ آخَرَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَوْ عِلْمِهِ، وَدُونَ أَنْ يَتَّضِحَ سَبَبٌ مَشْرُوعٌ لِهَذَا الدُّخُولِ.

جَرَائِمُ مُضِرَّةٌ بِالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ:

44- تُوجَدُ جَرَائِمُ مُضِرَّةٌ بِالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لَيْسَتْ فِيهَا عُقُوبَاتٌ مُقَدَّرَةٌ، وَفِيهَا التَّعْزِيرُ.

مِنْ هَذِهِ الْجَرَائِمِ: التَّجَسُّسُ لِلْعَدُوِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لقوله تعالى {وَلَا تَجَسَّسُوا} وَقَوْلُهُ {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}.

وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْجَرِيمَةُ لَيْسَتْ لَهَا عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ فَفِيهَا التَّعْزِيرُ.وَتَفْصِيلُهُ فِي (تَجَسُّسٌ).

الرِّشْوَةُ:

45- هِيَ جَرِيمَةٌ مُحَرَّمَةٌ بِالْقُرْآنِ لقوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} وَهِيَ فِي الْيَهُودِ وَكَانُوا يَأْكُلُونَ السُّحْتَ مِنَ الرِّشْوَةِ.وَهِيَ كَذَلِكَ مُحَرَّمَةٌ بِالسُّنَّةِ لِحَدِيثِ: «لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ».وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْجَرِيمَةُ لَيْسَتْ فِيهَا عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ فَفِيهَا التَّعْزِيرُ.

تَجَاوُزُ الْمُوَظَّفِينَ حُدُودَهُمْ، وَتَقْصِيرُهُمْ:

هَذِهِ مَعْصِيَةٌ لَيْسَتْ فِيهَا عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ، وَلَهَا صُوَرٌ مِنْهَا:

أ- جَوْرُ الْقَاضِي:

46- إِذَا جَارَ الْقَاضِي فِي الْحُكْمِ عَمْدًا يُعَزَّرُ، وَيُعْزَلُ، وَيَضْمَنُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا جَارَ لَيْسَ بِقَاضٍ، وَلَكِنَّهُ إِتْلَافٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَيَكُونُ فِيهِ كَغَيْرِهِ فِي إِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ.إِذَا جَارَ مُخْطِئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غُرْمُ قَضَائِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعْصُومًا عَنِ الْخَطَأِ لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ}

ب- تَرْكُ الْعَمَلِ أَوِ الِامْتِنَاعُ عَمْدًا عَنْ تَأْدِيَةِ الْوَاجِبِ:

47- كُلُّ عَمَلٍ مِنْ شَأْنِهِ تَعْطِيلُ الْوَظَائِفِ الْعَامَّةِ أَوْ عَدَمُ انْتِظَامِهَا هُوَ جَرِيمَةٌ تَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ ضَمَانُ حُسْنِ سَيْرِ الْعَمَلِ، حَتَّى تَقُومَ السُّلْطَةُ بِوَاجِبَاتِهَا عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ.وَعَلَى ذَلِكَ: فَيُعَزَّرُ كُلُّ مَنْ تَرَكَ عَمَلَهُ، أَوِ امْتَنَعَ عَنْ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْوَظِيفَةِ قَاصِدًا عَرْقَلَةَ سَيْرِ الْعَمَلِ، أَوِ الْإِخْلَالَ بِانْتِظَامِهِ، وَيُعَزَّرُ عُمُومًا كُلُّ مَنْ يَتَمَرَّدُ فِي وَظِيفَتِهِ، أَوْ يَسْتَعْمِلُ الْقُوَّةَ، أَوِ الْعُنْفَ مَعَ رُؤَسَائِهِ، وَيَتْرُكُ عَمَلَهُ.وَمِنْ ذَلِكَ تَعَدِّي أَحَدِ الْمُوَظَّفِينَ الْمَدَنِيِّينَ أَوِ الْعَسْكَرِيِّينَ عَلَى غَيْرِهِ اسْتِغْلَالًا لِوَظِيفَتِهِ.

مُقَاوَمَةُ رِجَالِ السُّلْطَةِ وَالِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِمُ:

48- التَّعَدِّي عَلَى الْمُوَظَّفِينَ الْعُمُومِيِّينَ وَالْمُكَلَّفِينَ بِخِدْمَةٍ عَامَّةٍ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ.وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الْمَجَالِ: إِهَانَةُ الْعُلَمَاءِ أَوْ رِجَالِ الدَّوْلَةِ بِمَا لَا يَلِيقُ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِالْإِشَارَةِ، أَوِ الْقَوْلِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ.

وَالتَّعَدِّي عَلَى أَحَدِ الْجُنُودِ بِالْيَدِ، أَوْ تَمْزِيقِ ثِيَابِهِ، أَوْ سَبِّهِ، فَفِيهِ التَّعْزِيرُ، وَالتَّضْمِينُ عَنِ التَّلَفِ.وَمِنْ ذَلِكَ: إِهَانَةُ مَحْكَمَةٍ قَضَائِيَّةٍ، وَكَذَلِكَ جَرَائِمُ الْجِلْسَةِ، فَالْقَاضِي لَهُ فِيهَا التَّعْزِيرُ، وَإِنْ عَفَا فَحَسَنٌ.

هَرَبُ الْمَحْبُوسِينَ وَإِخْفَاءُ الْجُنَاةِ:

49- مِنْ ذَلِكَ مَنْ يُؤْوِي مُحَارِبًا، أَوْ سَارِقًا، أَوْ نَحْوَهُمَا، مِمَّنْ عَلَيْهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لآِدَمِيٍّ، وَيُمْنَعُ مِنْ أَنْ يُسْتَوْفَى هَذَا الْحَقُّ.فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ شَرِيكٌ فِي جُرْمِهِ وَيُعَزَّرُ، وَيُطْلَبُ إِحْضَارُهُ، أَوِ الْإِعْلَامُ عَنْ مَكَانِهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ يُحْبَسُ، وَيُضْرَبُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، حَتَّى يَسْتَجِيبَ.

تَقْلِيدُ الْمَسْكُوكَاتِ الزُّيُوفِ وَالْمُزَوَّرَةِ:

50- تَقْلِيدُ الْمَسْكُوكَاتِ الَّتِي فِي التَّدَاوُلِ وَالْإِعَانَةِ عَلَى صَرْفِ الْعُمْلَةِ الْفَاسِدَةِ وَنَشْرُهَا جَرِيمَةٌ فِيهَا التَّعْزِيرُ.فَفِي (عِدَّةُ أَرْبَابِ الْفَتْوَى) فِي رَجُلٍ يَعْمَلُ السِّكَّةَ الْمَصْنُوعَةَ رِيَالًا وَذَهَبًا وَرُوبِيَّةً، وَفِي رَجُلٍ يَنْشُرُ هَذِهِ الْمَسْكُوكَاتِ الزَّائِفَةَ وَيُرَوِّجُهَا: أَنَّهُمَا يُعَزَّرَانِ.

التَّزْوِيرُ:

51- فِي هَذِهِ الْجَرِيمَةِ التَّعْزِيرُ، فَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ مَعْنَ بْنَ زِيَادٍ عَمِلَ خَاتَمًا عَلَى نَقْشِ خَاتَمِ بَيْتِ الْمَالِ فَأَخَذَ مَالًا، فَضَرَبَهُ عُمَرُ- رضي الله عنه- مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَحَبَسَهُ، ثُمَّ ضَرَبَهُ مِائَةً أُخْرَى، ثُمَّ ثَالِثَةً، ثُمَّ نَفَاهُ.وَمِنْ مُوجِبَاتِ التَّعْزِيرِ: كِتَابَةُ الْخُطُوطِ وَالصُّكُوكِ بِالتَّزْوِيرِ.

الْبَيْعُ بِأَكْثَرَ مِنَ السِّعْرِ الْجَبْرِيِّ:

52- قَدْ تَدْعُو الْحَالُ لِتَسْعِيرِ الْحَاجِيَّاتِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ: فَالْبَيْعُ بِأَكْثَرَ مِنَ السِّعْرِ الْمُحَدَّدِ فِيهِ التَّعْزِيرُ.وَمِنْ ذَلِكَ: الِامْتِنَاعُ عَنِ الْبَيْعِ، فَفِيهِ الْأَمْرُ بِالْوَاجِبِ وَالْعِقَابِ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ.وَمِنْ ذَلِكَ: احْتِكَارُ الْحَاجَاتِ لِلتَّحَكُّمِ فِي السِّعْرِ لِحَدِيثِ: «لَا يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ».

الْغِشُّ فِي الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ:

53- يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ}.وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: فَالْغِشُّ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ مَعْصِيَةٌ، وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ، فَفِيهَا التَّعْزِيرُ.

الْمُشْتَبَهُ فِيهِمْ:

54- قَدْ يَكُونُ التَّعْزِيرُ لَا لِارْتِكَابِ فِعْلٍ مُعَيَّنٍ، وَلَكِنْ لِحَالَةِ الْجَانِي الْخَطِرَةِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِتَعْزِيرِ مَنْ يُتَّهَمُ بِالسَّرِقَةِ، وَلَوْ لَمْ يَرْتَكِبْ سَرِقَةً جَدِيدَةً، وَمَنْ يُعْرَفُ أَوْ يُتَّهَمُ بِارْتِكَابِ جَرَائِمَ ضِدِّ النَّفْسِ، كَالْقَتْلِ وَالضَّرْبِ وَالْجَرْحِ.

سُقُوطُ التَّعْزِيرِ:

55- تَسْقُطُ الْعُقُوبَةُ التَّعْزِيرِيَّةُ بِأَسْبَابٍ، مِنْهَا: مَوْتُ الْجَانِي، وَالْعَفْوُ عَنْهُ، وَتَوْبَتُهُ.

أ- سُقُوطُ التَّعْزِيرِ بِالْمَوْتِ:

56- إِذَا كَانَتِ الْعُقُوبَةُ بَدَنِيَّةً أَوْ مُقَيِّدَةً لِلْحُرِّيَّةِ فَإِنَّ مَوْتَ الْجَانِي مُسْقِطٌ لَهَا بَدَاهَةً؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِشَخْصِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ: الْهَجْرُ، وَالتَّوْبِيخُ، وَالْحَبْسُ، وَالضَّرْبُ.

أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْعُقُوبَةُ مُتَعَلِّقَةً بِشَخْصِ الْجَانِي بَلْ كَانَتْ مُنَصَّبَةً عَلَى مَالِهِ، كَالْغَرَامَةِ وَالْمُصَادَرَةِ، فَمَوْتُ الْجَانِي بَعْدَ الْحُكْمِ لَا يُسْقِطُهَا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ التَّنْفِيذُ بِهَا عَلَى الْمَالِ، وَهِيَ تَصِيرُ بِالْحُكْمِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَتَتَعَلَّقُ تَبَعًا لِذَلِكَ بِتَرِكَةِ الْجَانِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ.

ب- سُقُوطُ التَّعْزِيرِ بِالْعَفْوِ:

57- الْعَفْوُ جَائِزٌ فِي التَّعْزِيرِ إِذَا كَانَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «تَجَافُوا عَنْ عُقُوبَةِ ذَوِي الْمُرُوءَةِ إِلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» وَقَوْلُهُ: «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ» وَقَوْلُهُ فِي الْأَنْصَارِ: «اقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ»، «وَقَوْلُهُ لِرَجُلٍ- قَالَ لَهُ: إِنِّي لَقِيتُ امْرَأَةً فَأَصَبْتُ مِنْهَا دُونَ أَنْ أَطَأَهَا-: أَصَلَّيْتَ مَعَنَا؟ فَرَدَّ عَلَيْهِ بِنَعَمْ، فَتَلَا قوله تعالى {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} » فَالْإِمَامُ لَهُ الْعَفْوُ.

وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ إِذَا تَعَلَّقَ التَّعْزِيرُ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي تَارِكِ الصَّلَاةِ.وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ فِي رِسَالَتِهِ: وَمَنْ طَعَنَ عَلَى أَحَدِ الصَّحَابَةِ، وَجَبَ عَلَى السُّلْطَانِ تَأْدِيبُهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ.وَقَالَ الْبَعْضُ: إِنَّ مَا كَانَ مِنَ التَّعْزِيرِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ كَوَطْءِ جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ، أَوْ جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ، يَجِبُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ فِيهِ، فَهُنَا لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عِنْدَهُمْ، بَلْ يَجِبُ التَّعْزِيرُ، لِامْتِنَاعِ تَطْبِيقِ الْحَدِّ.

وَقَالَ الْبَعْضُ: إِنَّ الْعَفْوَ يَكُونُ لِمَنْ كَانَتْ مِنْهُ الْفَلْتَةُ وَالزَّلَّةُ، وَفِي أَهْلِ الشَّرَفِ وَالْعَفَافِ، وَعَلَى ذَلِكَ: فَشَخْصُ الْجَانِي لَهُ اعْتِبَارٌ فِي الْعَفْوِ.

وَإِذَا كَانَ التَّعْزِيرُ لِحَقِّ آدَمِيٍّ فَقَدْ قِيلَ كَذَلِكَ: إِنَّ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ تَرْكَهُ، وَالْعَفْوَ عَنْهُ، حَتَّى وَلَوْ طَلَبَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ فِيهِ، شَأْنُهُ فِي ذَلِكَ شَأْنُ التَّعْزِيرِ الَّذِي هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى.وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ عِنْدَ طَلَبِهِ، مِثْلُ الْقِصَاصِ، فَلَيْسَ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ هُنَا تَرْكُهُ بِعَفْوٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ أَغْلَبُ الْفُقَهَاءِ.

وَإِذَا عَفَا وَلِيُّ الْأَمْرِ عَنِ التَّعْزِيرِ فِيمَا يَمَسُّ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ، وَكَانَ قَدْ تَعَلَّقَ بِالتَّعْزِيرِ حَقُّ آدَمِيٍّ كَالشَّتْمِ، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْآدَمِيِّ، فَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ الِاسْتِيفَاءُ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ لَهُ- عَلَى الرَّاجِحِ- الْعَفْوُ عَنْ حَقِّ الْفَرْدِ.

وَإِذَا عَفَا الْآدَمِيُّ عَنْ حَقِّهِ فَإِنَّ عَفْوَهُ يَجُوزُ، وَلَكِنْ لَا يَمَسُّ هَذَا حَقَّ السُّلْطَةِ.وَقَدْ فَرَّقَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي هَذَا الْمَجَالِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ:

أ- إِذَا حَصَلَ عَفْوُ الْآدَمِيِّ قَبْلَ التَّرَافُعِ، فَلِوَلِيِّ الْأَمْرِ الْخِيَارُ بَيْنَ التَّعْزِيرِ أَوِ الْعَفْوِ.

ب- وَإِذَا حَصَلَ بَعْدَ التَّرَافُعِ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْعِقَابِ عَنْ حَقِّ السُّلْطَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: فِي قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ، وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُعَزِّرَ فِيهِ، لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ أَغْلَظُ وَيَسْقُطُ حُكْمُهُ بِالْعَفْوِ، فَكَانَ حُكْمُ التَّعْزِيرِ لِحَقِّ السُّلْطَةِ أَوْلَى بِالسُّقُوطِ.

وَالثَّانِي- وَهُوَ الْأَظْهَرُ- أَنَّ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُعَزِّرَ فِيهِ مَعَ الْعَفْوِ قَبْلَ التَّرَافُعِ إِلَيْهِ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ التَّرَافُعِ مُخَالَفَةً لِلْعَفْوِ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ لِأَنَّ التَّقْوِيمَ مِنَ الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ.

سُقُوطُ التَّعْزِيرِ بِالتَّوْبَةِ:

58- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ التَّوْبَةِ فِي التَّعْزِيرِ:

فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا تَسْقُطُ الْعُقُوبَةُ بِالتَّوْبَةِ؛ لِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ عَنِ الْمَعْصِيَةِ.وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ: عُمُومُ أَدِلَّةِ الْعُقُوبَةِ بِلَا تَفْرِقَةٍ بَيْنَ تَائِبٍ وَغَيْرِهِ عَدَا الْمُحَارِبَةَ.وَفَضْلًا عَنْ ذَلِكَ فَجَعْلُ التَّوْبَةِ ذَاتَ أَثَرٍ فِي إِسْقَاطِ الْعُقُوبَةِ يَجْعَلُ لِكُلٍّ ادِّعَاءَهَا، لِلْإِفْلَاتِ مِنَ الْعِقَابِ.

وَعِنْدَ فَرِيقٍ آخَرَ، مِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّ التَّوْبَةَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ تُسْقِطُ الْعُقُوبَةَ قِيَاسًا عَلَى حَدِّ الْمُحَارَبَةِ، اسْتِنَادًا إِلَى مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ- رضي الله عنه-: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ.فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الصَّلَاةَ قَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ، فَأَعَادَ قَوْلَهُ، فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْت مَعَنَا؟ قَالَ نَعَمْ.قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ».وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَانِيَ غُفِرَ لَهُ لَمَّا تَابَ.وَفَضْلًا عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ إِذَا جَازَتِ التَّوْبَةُ فِي الْمُحَارَبَةِ مَعَ شِدَّةِ ضَرَرِهَا وَتَعَدِّيهِ، فَأَوْلَى التَّوْبَةُ فِيمَا دُونَهَا.

وَهَؤُلَاءِ يَقْصُرُونَ السُّقُوطَ بِالتَّوْبَةِ عَلَى مَا فِيهِ اعْتِدَاءٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ، بِخِلَافِ مَا يَمَسُّ الْأَفْرَادَ.

وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ التَّوْبَةَ تَدْفَعُ الْعُقُوبَةَ فِي التَّعْزِيرِ وَغَيْرِهِ، كَمَا تَدْفَعُهَا فِي الْمُحَارَبَةِ، بَلْ إِنَّ ذَلِكَ أَوْلَى مِنَ الْمُحَارَبَةِ، لِشِدَّةِ ضَرَرِهَا، وَهَذَا يُعْتَبَرُ مَسْلَكًا وَسَطًا بَيْنَ مَنْ يَقُولُ: بِعَدَمِ جَوَازِ إِقَامَةِ الْعُقُوبَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَلْبَتَّةَ.وَبَيْنَ مَسْلَكِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا أَثَرَ لِلتَّوْبَةِ فِي إِسْقَاطِ الْعُقُوبَةِ أَلْبَتَّةَ.وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ: أَنَّ التَّعْزِيرَ الْوَاجِبَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، إِلاَّ إِذَا اخْتَارَ الْجَانِي الْعُقُوبَةَ لِيُطَهِّرَ بِهَا نَفْسَهُ، فَالتَّوْبَةُ تُسْقِطُ التَّعْزِيرَ، عَلَى شَرِيطَةِ أَلاَّ يَطْلُبَ الْجَانِي إِقَامَتَهُ، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِحُقُوقِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ.

وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ تَوْبَةَ الْكُفَّارِ سَبَبًا لِغُفْرَانِ مَا سَلَفَ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وَأَنَّ السُّنَّةَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ، فَفِي الْحَدِيثِ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ».

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


46-موسوعة الفقه الكويتية (تفرق)

تَفَرُّقٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّفَرُّقُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ: تَفَرَّقَ ضِدُّ تَجَمَّعَ، يُقَالُ: تَفَرَّقَ الْقَوْمُ تَفَرُّقًا، وَمِثْلُهُ افْتَرَقَ الْقَوْمُ افْتِرَاقًا وَالتَّفْرِيقُ: خِلَافُ التَّجْمِيعِ، يُقَالُ: فَرَّقَ الشَّيْءَ تَفْرِيقًا وَتَفْرِقَةً: بَدَّدَهُ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ، أَمَّا التَّفَرُّقُ فَلَازِمٌ.وَالتَّفْرِيقُ أَبْلَغُ مِنَ الْفَرْقِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّكْثِيرِ.وَالتَّفَرُّقُ فِي الِاصْطِلَاحِ لَا يَخْرُجُ مَعْنَاهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

(الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ):

التَّجَزُّؤُ:

2- التَّجَزُّؤُ: مِنْ تَجَزَّأَ الشَّيْءُ تَجَزُّؤًا، وَجَزَّأَ الشَّيْءَ تَجْزِئَةً: حَمَلَهُ أَجْزَاءً.وَالتَّفَرُّقُ يَكُونُ بَيْنَ الْأَبْدَانِ، وَالتَّجَزُّؤُ فِي الْأُمُورِ.

حُكْمُهُ:

3- تَخْتَلِفُ أَحْكَامُ التَّفَرُّقِ بِاخْتِلَافِ مَوْضُوعِهِ: فَيَسْقُطُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِتَفَرُّقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ خِيَارَ الْمَجْلِسِ مِنَ الْفُقَهَاءِ.

وَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِالتَّفَرُّقِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهِ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ.كَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ، وَبَيْعِ الرِّبَوِيِّ بِمِثْلِهِ، أَوْ بِمُتَّحِدٍّ مَعَهُ فِي الْعِلَّةِ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ التَّفَاصِيلِ.

التَّفَرُّقُ الْمُؤَثِّرُ وَحُكْمُهُ:

4- التَّفَرُّقُ الْمُؤَثِّرُ هُوَ: أَنْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْمَرْجِعُ فِيهِ عُرْفُ النَّاسِ، وَعَادَتُهُمْ فِيمَا يَعُدُّونَهُ تَفَرُّقًا، لِأَنَّ الشَّارِعَ نَاطَ عَلَيْهِ حُكْمًا وَلَمْ يُبَيِّنْهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ، كَكُلِّ مَا أَطْلَقَهُ الشَّارِعُ فِي الْمُعَامَلَاتِ كَالْقَبْضِ، وَالْإِحْرَازِ.

هَذَا وَيَسْقُطُ بِالتَّفَرُّقِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، وَيَلْزَمُ الْعَقْدُ فِي غَيْرِ الصَّرْفِ وَالرِّبَوِيِّ، وَيَبْطُلُ بِالتَّفَرُّقِ بَيْعُ الرِّبَوِيِّ قَبْلَ الْقَبْضِ.

أَمَّا هَلْ يَقُومُ التَّخَايُرُ مَقَامَ التَّفَرُّقِ فِي إِسْقَاطِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ؟ وَهَلْ يَجُوزُ التَّخَايُرُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي بَيْعِ الرِّبَوِيِّ، وَآرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ؟ فَيُرْجَعُ فِيهَا إِلَى مُصْطَلَحِ (خِيَارُ الْمَجْلِسِ).

تَفَرُّقُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْبَيْعِ:

5- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّفَرُّقَ بَعْدَ انْعِقَادِ الْبَيْعِ يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ لِخَبَرِ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا».

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَأَقَامَا مُدَّةً طَوِيلَةً، فَالْخِيَارُ بِحَالِهِ، وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ لِعَدَمِ التَّفَرُّقِ.لِمَا رَوَى أَبُو الْوَضِيءِ- عَبَّادُ بْنُ نُسَيْبٍ-: «غَزَوْنَا غَزْوَةً، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَبَاعَ صَاحِبٌ لَنَا فَرَسًا بِغُلَامٍ، ثُمَّ أَقَامَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا، فَلَمَّا أَصْبَحَا مِنَ الْغَدِ حَضَرَ الرَّحِيلُ، فَقَامَ إِلَى فَرَسِهِ يُسَرِّجُهُ فَنَدِمَ، فَأَتَى الرَّجُلُ وَأَخَذَهُ بِالْبَيْعِ، فَأَبَى الرَّجُلُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَبُو بَرْزَةَ صَاحِبُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَتَيَا أَبَا بَرْزَةَ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ فَقَالَا لَهُ هَذِهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ: أَتَرْضَيَانِ أَنْ أَحْكُمَ بَيْنَكُمَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَمَا أَرَاكُمَا افْتَرَقْتُمَا».

الْإِكْرَاهُ عَلَى التَّفَرُّقِ:

6- إِنْ أُكْرِهَ الشَّخْصُ عَلَى التَّفَرُّقِ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ- وَهُمَا رِوَايَتَانِ لِلْحَنَابِلَةِ-

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَبْطُلُ الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ الْفَسْخُ بِالتَّخَايُرِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ، فَحَيْثُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ رَضِيَ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ.

الثَّانِي: لَا يَبْطُلُ الْخِيَارُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنَ السُّكُوتِ، وَالسُّكُوتُ لَا يُسْقِطُ الْخِيَارَ.وَلَمْ يَأْخُذْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ أَصْلًا.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (خِيَارُ الْمَجْلِسِ).

التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي بَيْعِ الرِّبَوِيِّ:

7- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا بِيعَ أَحَدُ النَّقْدَيْنِ بِمِثْلِهِ، أَوْ بِالْآخَرِ يَجِبُ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ.

وَإِلاَّ يَبْطُلِ الْعَقْدُ لِخَبَرِ: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إِلاَّ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشْفُوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلاَّ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشْفُوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ».

أَمَّا غَيْرُ النَّقْدَيْنِ مِنَ الرِّبَوِيَّاتِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُرْمَةِ التَّفَرُّقِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ وَيَحْرُمُ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ، إِنِ اتَّحَدَ الْجِنْسُ، أَوِ اتَّحَدَتْ عِلَّةُ الرِّبَا فِيهِمَا، وَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِالتَّفَرُّقِ قَبْلَ الْقَبْضِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ فِي الْمَوْزُونِ وَالْمَكِيلِ الْمُعَيَّنِ، وَيَجُوزُ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِهِ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي (رِبًا، قَبْضٌ).

التَّفَرُّقُ قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ:

8- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ السَّلَمِ قَبْضُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ.وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُشْتَرَطُ قَبْضُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَا يَبْطُلُ بِالتَّفَرُّقِ، فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ تَأْخِيرُ الْقَبْضِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِخِفَّةِ الْأَمْرِ وَلِأَنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ.

التَّفَرُّقُ قَبْلَ التَّقَابُضِ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا:

9- الْعَرَايَا: جَمْعُ عَرِيَّةٍ، وَهِيَ بَيْعُ مَا عَلَى النَّخْلَةِ مِنْ رُطَبٍ بِتَمْرٍ عَلَى الْأَرْضِ، أَوِ الْعِنَبِ فِي الشَّجَرِ بِزَبِيبٍ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ.

وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ بَيْعِ الْعَرَايَا عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ التَّقَابُضُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ.وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا.

تَفَرُّقُ الْمُتَنَاضِلَيْنِ قَبْلَ انْتِهَاءِ الْمَشْرُوطِ:

10- لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْتَرِقَ الْمُتَنَاضِلَانِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَا الْمِقْدَارَ الْمَشْرُوطَ التَّنَاضُلُ بِهِ فِي الزَّمَنِ الْمُحَدَّدِ إِلاَّ لِعُذْرٍ كَمَرَضٍ، أَوْ رِيحٍ عَاصِفَةٍ أَوْ بِالتَّرَاضِي.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُنَاضَلَةٍ.

تَفَرُّقُ الصَّفْقَةِ:

11- تَتَفَرَّقُ الصَّفْقَةُ بِتَفْصِيلِ الثَّمَنِ كَأَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذَا بِكَذَا، وَهَذَا بِكَذَا، فَيَقْبَلُ الْآخَرُ، وَبِتَعَدُّدِ الْمُشْتَرِي، أَوِ الْبَائِعِ، وَبِالْجَمْعِ فِي صَفْقَةٍ بَيْنَ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَخَلٍّ، وَخَمْرٍ.وَمَعْنَى تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ تَفْرِيقُهَا فِي الْحُكْمِ.فَفِي حَالَةِ تَفْصِيلِ الثَّمَنِ مَثَلًا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي قَبُولُ أَحَدِ الْمَبِيعَيْنِ وَرَدُّ الْآخَرِ، وَفِي حَالَةِ تَعَدُّدِ الْعَاقِدَيْنِ، لَهُ رَدُّ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِالْعَيْبِ وَإِبْقَاءُ الْآخَرِ، وَفِي حَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فِي صَفْقَةٍ، يَصِحُّ الْعَقْدُ فِي الْحَلَالِ، وَيَبْطُلُ فِي الْحَرَامِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ.

تَفَرُّقُ الْمُجْتَمِعِينَ فِي أَثْنَاءِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ:

12- إِذَا تَفَرَّقَ الْمُجْتَمِعُونَ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ، أَوْ نَقَصَ عَدَدُهُمْ لَمْ يُحْسَبِ الْجُزْءُ الْمُؤَدَّى مِنْ أَرْكَانِ الْخُطْبَةِ فِي غَيْبَتِهِمْ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ.

تَفَرُّقُ الْعُرَاةِ عِنْدَ الصَّلَاةِ:

13- إِذَا اجْتَمَعَ عُرَاةٌ لِلصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي ظَلَامٍ صَلَّوْا جَمَاعَةً، وَإِلاَّ تَفَرَّقُوا وُجُوبًا، وَصَلَّوْا أَفْذَاذًا وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَةٌ).

تَفَرُّقُ جَمْعٍ وَظُهُورُ قَتِيلٍ:

14- إِذَا تَفَرَّقَ جَمْعٌ وَظَهَرَ فِي الْمَكَانِ قَتِيلٌ، يَكُونُ ذَلِكَ قَرِينَةً عَلَى أَنَّهُمُ الْجُنَاةُ، وَيَثْبُتُ لِوَلِيِّ الدَّمِ أَنْ يُحَلِّفَهُمْ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ.وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي: (الْقَسَامَةِ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


47-موسوعة الفقه الكويتية (تلف 1)

تَلَفٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- التَّلَفُ لُغَةً: الْهَلَاكُ وَالْعَطَبُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالْإِتْلَافُ: إِحْدَاثُ التَّلَفِ، وَيُنْظَرُ لِتَفْصِيلِهِ مُصْطَلَحُ: (إِتْلَافٌ) وَالتَّلَفُ فِي بَابِ الْمُضَارَبَةِ مَخْصُوصٌ بِالنَّقْصِ الْحَاصِلِ لَا عَنْ تَحْرِيكٍ، بِخِلَافِ الْخُسْرِ فَهُوَ مَا نَشَأَ عَنْ تَحْرِيكٍ

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

2- التَّلَفُ يَتَعَلَّقُ بِهِ خِطَابُ الْوَضْعِ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارٌ أَهَمُّهَا الضَّمَانُ.وَالتَّلَفُ لَا يُوصَفُ بِحِلٍّ أَوْ حُرْمَةٍ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ فِيمَنْ يَضْمَنُ التَّلَفَ.

أَمَّا الْإِتْلَافُ، فَهُوَ إِحْدَاثُ التَّلَفِ، وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِهِ فِي مُصْطَلَحِ: (إِتْلَافٌ)

أَسْبَابُ التَّلَفِ:

3- التَّلَفُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِعَارِضٍ سَمَاوِيٍّ، وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ أَوْ بِالْجَائِحَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِفِعْلٍ مِنَ الْمَخْلُوقِ، وَهَذَا يُقَسِّمُهُ الْفُقَهَاءُ إِلَى نَوْعَيْنِ: تَلَفٌ حِسِّيٌّ، وَتَلَفٌ شَرْعِيٌّ، وَيُسَمِّيهِ الْمَالِكِيَّةُ التَّلَفَ الْحُكْمِيَّ.

فَالتَّلَفُ الْحِسِّيُّ: هُوَ هَلَاكُ الْعَيْنِ نَفْسِهَا، سَوَاءٌ أَتَى عَلَيْهَا كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا.

وَالتَّلَفُ الشَّرْعِيُّ (الْحُكْمِيُّ): هُوَ مَنْعُ الشَّارِعِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ مَعَ بَقَائِهَا بِسَبَبٍ مِنَ الْمُتْلِفِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَنْعُ عَامًّا يَدْخُلُ فِيهِ التَّلَفُ وَغَيْرُهُ، كَمَا فِي الْعَيْنِ، أَمْ مُبَاحًا لِلْمُتْلِفِ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا فِي وَطْءِ الْأَمَةِ، أَمْ كَانَ مُبَاحًا لِغَيْرِ الْمُتْلِفِ كَمَا فِي الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لَهُ صُوَرًا مِنْهَا، مَا لَوِ اشْتَرَى أَمَةً فَأَعْتَقَهَا أَبُوهُ قَبْلَ قَبْضِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ عِتْقَ أَبِيهِ كَعِتْقِهِ، حَيْثُ رَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمَهُ، وَمِثْلُهُ الْكِتَابَةُ، وَالتَّدْبِيرُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالْهِبَةُ.

وَهَذَا التَّقْسِيمُ بِاعْتِبَارِ الْمُتْلِفِ، أَمَّا بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ، فَهُوَ إِمَّا أَنْ يَرِدَ عَلَى النَّفْسِ وَالْأَعْضَاءِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (جِنَايَةٌ، وَدِيَةٌ، وَقِصَاصٌ)

وَإِمَّا أَنْ يَرِدَ عَلَى الْأَمْوَالِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا.

أَوَّلًا: أَثَرُ التَّلَفِ فِي الْعِبَادَاتِ:

أ- تَلَفُ زَكَاةِ الْمَالِ:

4- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَالِ بَعْدَ الْحَوْلِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُزَكِّي الضَّمَانُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَالٌ وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِتَلَفِ النِّصَابِ، كَالدَّيْنِ، فَضَمِنَهَا بِتَلَفِهَا فِي يَدِهِ.فَلَا يُعْتَبَرُ بَقَاءُ الْمَالِ.

وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ هَذَا الْحُكْمَ بِقَيْدَيْنِ: التَّمَكُّنُ مِنَ الْأَدَاءِ، وَالتَّفْرِيطُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ.فَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَدَاءِ أَوْ بِتَفْرِيطٍ مِنْ رَبِّ الْمَالِ فَلَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَنْهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ.

وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْحَنَابِلَةُ هَذَيْنِ الْقَيْدَيْنِ وَأَوْجَبُوا الضَّمَانَ مُطْلَقًا وَاعْتَبَرُوا إِمْكَانَ الْأَدَاءِ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْإِخْرَاجِ لَا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ.لِمَفْهُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ بَعْدَ الْحَوْلِ مُطْلَقًا.

وَلِأَنَّهَا حَقُّ الْفَقِيرِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا إِمْكَانُ الْأَدَاءِ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ، وَلِأَنَّهُ لَوِ اشْتُرِطَ لَمْ يَنْعَقِدِ الْحَوْلُ الثَّانِي، حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنَ الْأَدَاءِ.وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَنْعَقِدُ عَقِبَ الْأَوَّلِ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ فَلَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهَا إِمْكَانُ الْأَدَاءِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ.وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَدَاءِ مُطْلَقًا أَيْ وَلَوْ بِلَا تَفْرِيطٍ، وَاخْتَارَهَا ابْنُ قُدَامَةَ.

وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الزَّرْعَ وَالثَّمَرَ إِذَا تَلِفَ بِجَائِحَةٍ قَبْلَ الْقَطْعِ، فَإِنَّ زَكَاتَهُمَا تَسْقُطُ، فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ الْجَائِحَةِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ زَكَّاهُ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْخَارِصَ إِذَا خَرَصَ الثَّمَرَ ثُمَّ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ قَبْلَ الْجُذَاذِ، وَلِأَنَّهُ قَبْلَ الْجُذَاذِ فِي حُكْمِ مَا لَا تَثْبُتُ الْيَدُ عَلَيْهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى ثَمَرَهُ فَتَلِفَتْ بِجَائِحَةٍ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْبَائِعِ.

وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ فِي تَلَفِ الْمَوَاشِي قَيْدًا ثَالِثًا وَهُوَ مَجِيءُ السَّاعِي، فَإِذَا تَلِفَتْ أَوْ ضَاعَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ مَجِيءِ السَّاعِي فَلَا يُحْسَبُ مَا تَلِفَ أَوْ ضَاعَ، وَإِنَّمَا يُزَكَّى الْبَاقِي إِنْ كَانَ فِيهِ زَكَاةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ مَجِيءَ السَّاعِي شَرْطَ وُجُوبٍ، وَكَذَلِكَ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عِنْدَهُمْ عَنْهَا لَوْ تَلِفَتْ بَعْدَ مَجِيءِ السَّاعِي وَالْعَدِّ وَقَبْلَ أَخْذِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَجِيئَهُ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا إِلَى الْأَخْذِ، كَدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَقَدْ يَطْرَأُ أَثْنَاءَ الْوَقْتِ مَا يُسْقِطُهَا كَالْحَيْضِ، كَذَلِكَ التَّلَفُ بَعْدَ الْمَجِيءِ وَالْعَدِّ، وَأَمَّا لَوْ ذَبَحَ مِنْهَا شَيْئًا بِغَيْرِ قَصْدِ الْفِرَارِ، أَوْ بَاعَ شَيْئًا كَذَلِكَ بَعْدَ مَجِيءِ السَّاعِي وَقَبْلَ الْأَخْذِ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَيُحْسَبُ عِلْمُ الْمُعْتَمَدِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ بِقَصْدِ الْفِرَارِ فَتَجِبُ زَكَاتُهُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْحَوْلِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَالِ بَعْدَ الْحَوْلِ سَوَاءٌ أَتَمَكَّنَ مِنَ الْأَدَاءِ أَمْ لَا.

وَإِنْ هَلَكَ بَعْضُ النِّصَابِ سَقَطَ مِنَ الْوَاجِبِ فِيهِ بِقَدْرِ مَا هَلَكَ مِنْهُ لِتَعَلُّقِهَا بِالْعَيْنِ لَا بِالذِّمَّةِ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ وُجُوبَهَا بِقُدْرَةٍ مُيَسَّرَةٍ، وَالْمُعَلَّقُ بِقُدْرَةٍ مُيَسَّرَةٍ لَا يَبْقَى دُونَهَا، وَيَقْصِدُونَ بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسَّرَةِ هُنَا وَصْفُ النَّمَاءِ أَيْ إِمْكَانُ الِاسْتِثْمَارِ، لَا مُجَرَّدُ وُجُودِ النِّصَابِ.

وَأَمَّا إِذَا تَلِفَ الْمَالُ بَعْدَ الْحَوْلِ بِفِعْلِ الْمُزَكِّي نَفْسِهِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ، وَإِنِ انْتَفَتِ الْقُدْرَةُ الْمُيَسَّرَةُ لِبَقَائِهَا تَقْدِيرًا، زَجْرًا لَهُ عَنِ التَّعَدِّي وَنَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ.

هَذِهِ الْأَحْكَامُ فِيمَا إِذَا كَانَ التَّلَفُ بَعْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ التَّلَفُ قَبْلَ حُلُولِ الْحَوْلِ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ عَنْهُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ عَنْهُ إِنْ أَتْلَفَ رَبُّ الْمَالِ قَبْلَ الْحَوْلِ إِنْ لَمْ يَقْصِدِ الْفِرَارَ مِنْهَا، فَإِنْ قَصَدَ بِالْإِتْلَافِ الْفِرَارَ مِنَ الزَّكَاةِ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) إِلَى سُقُوطِ الزَّكَاةِ عَنْهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ سُقُوطِ الزَّكَاةِ عَنْهُ.

ب- تَلَفُ الْمَالِ بَعْدَ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ:

5- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ- وَمِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ- إِلَى أَنَّ تَلَفَ الْمَالِ بَعْدَ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ وَبَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَدَائِهَا لَا يُسْقِطُهَا، بَلْ تَسْتَقِرُّ فِي ذِمَّتِهِ اتِّفَاقًا، وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَكَاةِ الْمَالِ بِأَنَّ وُجُوبَ زَكَاةِ الْفِطْرِ مُتَعَلِّقٌ بِالْقُدْرَةِ الْمُمْكِنَةِ، وَهِيَ أَدْنَى مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ غَالِبًا، أَمَّا زَكَاةُ الْمَالِ فَيَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسَّرَةِ، وَهِيَ مَا يُوجِبُ يُسْرَ الْأَدَاءِ عَلَى الْمُكَلَّفِ بَعْدَمَا ثَبَتَ الْإِمْكَانُ بِالْقُدْرَةِ الْمُمْكِنَةِ، وَدَوَامُهَا شَرْطٌ لِدَوَامِ الْوَاجِبِ الشَّاقِّ عَلَى النَّفْسِ كَأَكْثَرِ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ، حَتَّى سَقَطَتِ الزَّكَاةُ وَالْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ بِهَلَاكِ الْمَالِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ الْمُيَسَّرَةَ وَهِيَ وَصْفُ النَّمَاءِ قَدْ فَاتَتْ بِالْهَلَاكِ، فَيَفُوتُ دَوَامُ الْوُجُوبِ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ، بِخِلَافِ الْقُدْرَةِ الْمُمْكِنَةِ فَلَيْسَ بَقَاؤُهَا شَرْطًا لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ تَلَفُ الْمَالِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَدَاءِ فَفِي سُقُوطِ زَكَاةِ الْفِطْرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا تَسْقُطُ كَزَكَاةِ الْمَالِ، وَالثَّانِي: لَا تَسْقُطُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ زَكَاةِ الْفِطْرِ بِالتَّلَفِ، إِلاَّ أَنْ يُخْرِجَهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا فَتَضِيعُ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا حِينَئِذٍ.

ج- تَلَفُ الْأُضْحِيَّةِ:

6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ الْمُعَيَّنَةَ إِذَا تَلِفَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَى صَاحِبِهَا وَلَا يَلْزَمُهُ بَدَلُهَا- فِي الْجُمْلَةِ- وَيُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ.وَخَصُّوا الْقَوْلَ بِعَدَمِ الضَّمَانِ بِالْمُعْسِرِ، قَالُوا: لِأَنَّ شِرَاءَ الْفَقِيرِ لِلْأُضْحِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ.فَإِذَا هَلَكَتْ فَقَدْ هَلَكَ مَحَلُّ إِقَامَةِ الْوَاجِبِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً، لِفَقْدِ شَرْطِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْيَسَارُ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ مُوسِرًا، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ شَاةً أُخْرَى، لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي جُمْلَةِ الْوَقْتِ، وَالْأُضْحِيَّةُ الْمُشْتَرَاةُ لَمْ تَتَعَيَّنْ لِلْوُجُوبِ، وَالْوَقْتُ بَاقٍ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ فَيَجِبُ.وَخَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْقَوْلَ بِعَدَمِ الضَّمَانِ بِمَا إِذَا تَلِفَتْ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَبْحِهَا، أَوْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ، وَأَمَّا إِذَا تَلِفَتْ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَبْحِهَا أَوْ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ الضَّمَانَ.

وَإِنْ تَعَدَّى أَجْنَبِيٌّ عَلَيْهَا فَأَتْلَفَهَا، فَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ الْقِيمَةُ بِلَا نِزَاعٍ، يَأْخُذُهَا الْمُضَحِّي وَيَشْتَرِي بِهَا مِثْلَ الْأُولَى، وَإِنْ أَتْلَفَهَا الْمُضَحِّي نَفْسُهُ لَزِمَهُ أَكْثَرُ الْقَدْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا وَثَمَنِ مِثْلِهَا عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَضْمَنُهَا بِالْقِيمَةِ يَوْمَ التَّلَفِ.

د- تَلَفُ الْهَدْيِ:

7- مَنْ سَاقَ هَدْيًا وَاجِبًا فَعَطِبَ أَوْ تَعَيَّبَ بِمَا يَمْنَعُ الْأُضْحِيَّةَ، أَقَامَ غَيْرَهُ مَقَامَهُ، وَصَنَعَ بِالْمَعِيبِ مَا شَاءَ، فَإِنْ كَانَ الْمَعِيبُ تَطَوُّعًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَيَنْحَرُهُ وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ وَيَضْرِبُ صَفْحَةَ سَنَامِهِ، لِيُعْلَمَ أَنَّهُ هَدْيٌ لِلْفُقَرَاءِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ سُرِقَ الْهَدْيُ الْوَاجِبُ، أَوْ تَلِفَ بَعْدَ ذَبْحِهِ أَوْ نَحْرِهِ أَجْزَأَ، لِأَنَّهُ بَلَغَ مَحِلَّهُ.

أَمَّا إِنْ سُرِقَ أَوْ تَلِفَ قَبْلَ ذَبْحِهِ أَوْ نَحْرِهِ، فَلَا يُجْزِئُ وَيَلْزَمُهُ الْبَدَلُ.

وَأَمَّا الْهَدْيُ الْمُتَطَوِّعُ بِهِ فَلَا بَدَلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ سُرِقَ قَبْلَ ذَبْحِهِ أَوْ نَحْرِهِ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ هَدْيَ التَّطَوُّعِ لَا يُضْمَنُ بِالتَّلَفِ وَلَا بِالْإِتْلَافِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ تَطَوَّعَ بِهِ مَالِكُهُ فَإِنَّ مِلْكِيَّتَهُ لَهُ لَا تَزُولُ عَنْهُ بِالتَّطَوُّعِ، فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِذَبْحِهِ وَأَكْلِهِ وَبَيْعِهِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، لِأَنَّ مِلْكَهُ ثَابِتٌ وَلَمْ يُنْذِرْهُ، وَإِنَّمَا وُجِدَ مِنْهُ مُجَرَّدُ نِيَّةِ ذَبْحِهِ، وَهَذَا لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ، كَمَا لَوْ نَوَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ، أَوْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ، أَوْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ، أَوْ يَقِفَ دَارَهُ، وَفِي قَوْلٍ شَاذٍّ لِلشَّافِعِيَّةِ، إِنَّهُ إِذَا قَلَّدَ الْهَدْيَ صَارَ كَالْمَنْذُورِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.

فَإِذَا عَطِبَ وَذَبَحَهُ، قَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ وَغَيْرُهُ: لَا يَصِيرُ مُبَاحًا لِلْفُقَرَاءِ إِلاَّ بِلَفْظِهِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَبَحْتُهُ لِلْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَسَاكِينِ، قَالَ: وَيَجُوزُ لِمَنْ سَمِعَهُ الْأَكْلُ، وَفِي غَيْرِهِ قَوْلَانِ: قَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: لَا يَحِلُّ حَتَّى يُعْلَمَ الْإِذْنُ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ وَالْأُمِّ: يَحِلُّ وَهُوَ الْأَظْهَرُ.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْهَدْيِ الْوَاجِبِ أَنَّهُ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ لَا بِالتَّلَفِ، فَإِنْ تَلِفَ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ لَمْ يَضْمَنْهُ، لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ، فَإِذَا هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ لَمْ تُضْمَنْ كَالْوَدِيعَةِ، وَإِنْ أَصَابَهُ عَيْبٌ وَذَبَحَهُ أَجْزَأَهُ، لِأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ أُتِيَ فِي هَدَايَاهُ بِنَاقَةٍ عَوْرَاءَ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ أَصَابَهَا بَعْدَمَا اشْتَرَيْتُمُوهَا فَأَمْضُوهَا، وَإِنْ كَانَ أَصَابَهَا قَبْلَ أَنْ تَشْتَرُوهَا فَأَبْدِلُوهَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ جَمِيعُهُ لَمْ يَضْمَنْهُ، فَإِذَا نَقَصَ بَعْضُهُ لَمْ يَضْمَنْهُ كَالْوَدِيعَةِ.

وَإِنْ تَلِفَ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ بِأَنْ أَخَّرَ ذَبْحَهُ بَعْدَمَا عَطِبَ فِي الطَّرِيقِ حَتَّى هَلَكَ ضَمِنَهُ، أَوْ خَالَفَ فَبَاعَ الْهَدْيَ فَتَلِفَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي أَوْ أَتْلَفَهُ لَزِمَهُ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ إِلَى حِينِ التَّلَفِ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ، وَيَشْتَرِي النَّاذِرُ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ مِثْلَ التَّالِفِ جِنْسًا وَنَوْعًا وَسِنًّا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِالْقِيمَةِ الْمِثْلَ لِغَلَاءٍ حَدَثَ لَزِمَهُ أَنْ يَضُمَّ مِنْ مَالِهِ إِلَيْهَا تَمَامَ الثَّمَنِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْأَصْحَابِ يَضْمَنُ مَا بَاعَهُ بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِثْلِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ تَلِفَتِ الْمُعَيَّنَةُ هَدْيًا أَوْ ضَلَّتْ أَوْ سُرِقَتْ وَلَوْ قَبْلَ الذَّبْحِ فَلَا بَدَلَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يُفَرِّطْ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ.

وَإِنْ عَيَّنَ عَنْ وَاجِبٍ فِي الذِّمَّةِ مَا يُجْزِئُ فِيهِ، كَالْمُتَمَتِّعِ يُعَيِّنُ دَمَ التَّمَتُّعِ شَاةً أَوْ بَقَرَةً أَوْ بَدَنَةً، أَوْ عَيَّنَ هَدْيًا بِنَذْرِهِ فِي ذِمَّتِهِ، وَتَعَيَّبَ أَوْ تَلِفَ أَوْ ضَلَّ أَوْ سُرِقَ أَوْ عَطِبَ وَنَحْوُهُ لَمْ يُجْزِئْهُ، لِأَنَّ الذِّمَّةَ لَمْ تَبْرَأْ مِنَ الْوَاجِبِ بِمُجَرَّدِ التَّعْيِينِ عَنْهُ، وَلَزِمَهُ بَدَلُهُ.

ثَانِيًا: التَّلَفُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ:

أ- تَلَفُ الْمَبِيعِ:

8- تَلَفُ الْمَبِيعِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا، قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، وَلِكُلِّ قِسْمٍ أَحْكَامٌ.وَالتَّلَفُ قَدْ يَكُونُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَقَدْ يَكُونُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي، أَوِ الْبَائِعِ، أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ.

تَلَفُ كُلِّ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ:

9- إِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ كُلُّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ- بِأَنْ كَانَ حَيَوَانًا فَقَتَلَ نَفْسَهُ- انْفَسَخَ الْبَيْعُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَسَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلَا رِبْحٌ مَا لَمْ يُضْمَنْ» وَالْمُرَادُ بِهِ رِبْحُ مَا بِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْمَبِيعُ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي لَهُ هُوَ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ أَوْجَبَ مُطَالَبَةَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، وَإِذَا طَالَبَهُ بِالثَّمَنِ فَهُوَ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ التَّسْلِيمِ، فَتَمْتَنِعُ الْمُطَالَبَةُ أَصْلًا.فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْبَيْعِ فَائِدَةٌ فَيَنْفَسِخُ، وَإِذَا انْفَسَخَ الْبَيْعُ سَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ ارْتِفَاعُهُ مِنَ الْأَصْلِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ إِلَى مِثْلِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَفِي غَيْرِهِمَا يَهْلَكُ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى حِسَابِ الْمُشْتَرِي، وَمِثْلُ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مَا بِيعَ بِرُؤْيَةٍ أَوْ صِفَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ.وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ».

وَأَمَّا إِذَا كَانَ التَّلَفُ بِفِعْلِ الْبَائِعِ فَإِنَّ حُكْمَهُ كَالتَّلَفِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَبِيعِ إِذَا كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَوْ نَحْوَهُمَا إِلَى تَخْيِيرِ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْفَسْخِ وَأَخْذِ الثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَهُ إِنْ كَانَ، وَبَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ، وَيُطَالِبُ الْمُشْتَرِي مُتْلِفَهُ الْبَائِعَ بِمِثْلِهِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَإِلاَّ فَبِقِيمَتِهِ، لِأَنَّ الْإِتْلَافَ كَالْعَيْبِ وَقَدْ حَصَلَ فِي مَوْضِعٍ يَلْزَمُ الْبَائِعَ ضَمَانُهُ، فَكَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ كَالْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ.

أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَبِيعُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَوْ نَحْوَهُمَا لَمْ يَنْفَسِخِ الْبَيْعُ عِنْدَهُمْ، وَيُطَالِبُ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِالْقِيمَةِ.وَهَذَا قَوْلٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ

وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ عَلَى الْبَتِّ أَوْ عَلَى الْخِيَارِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّلَفُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، فَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ عَلَى الْبَتِّ فَإِتْلَافُ الْبَائِعِ يُوجِبُ الْغُرْمَ لِلْمُشْتَرِي، كَانَ الضَّمَانُ مِنْهُ أَوْ مِنَ الْبَائِعِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْإِتْلَافُ عَمْدًا أَمْ خَطَأً.

10- وَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ عَلَى الْخِيَارِ، فَالْخِيَارُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي، فَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ سَوَاءٌ أَكَانَ الْإِتْلَافُ عَمْدًا أَمْ خَطَأً.

وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَكَانَ إِتْلَافُ الْبَائِعِ لِلْمَبِيعِ عَمْدًا ضَمِنَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي الْأَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ أَوِ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَخْتَارَ الرَّدَّ إِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ أَوِ الْإِمْضَاءَ إِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ إِتْلَافُ الْبَائِعِ لِلْمَبِيعِ خَطَأً فَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ.

11- وَإِذَا تَلِفَ كُلُّ الْمَبِيعِ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ، لِأَنَّهُ بِالْإِتْلَافِ صَارَ قَابِضًا كُلَّ الْمَبِيعِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إِتْلَافُهُ إِلاَّ بَعْدَ إِثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَعْنَى الْقَبْضِ فَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَيْعُ بَاتًّا أَمْ بِالْخِيَارِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَقَصَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ الْحُكْمَ السَّابِقَ عَلَى الْبَيْعِ الْبَاتِّ، أَوْ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي، لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ زَوَالَ الْبَيْعِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ بِلَا خِلَافٍ، فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ، فَلَا يَمْنَعُ تَقَرُّرَ الثَّمَنِ.

فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ عَلَيْهِ ضَمَانَ مِثْلِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ وَقِيمَتِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ، لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ السِّلْعَةِ عَنْ مِلْكِهِ بِلَا خِلَافٍ، فَكَانَ الْمَبِيعُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَمِلْكُهُ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ أَوِ الْقِيمَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَضْمَنُ الْأَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ وَالْقِيمَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ لِمَا لَهُ فِيهِ مِنَ الْخِيَارِ، وَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرُدَّ الْبَيْعَ لِمَا لَهُ فِيهِ مِنَ الْخِيَارِ وَيَأْخُذُ الْقِيمَةَ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّلَفُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، إِلاَّ أَنْ يَحْلِفَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ ضَاعَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ أَوْ تَلِفَ بِغَيْرِ سَبَبِهِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الثَّمَنَ دُونَ الْتِفَاتٍ إِلَى الْقِيمَةِ.وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ مِنَ الْقِيمَةِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهَا؛ ضَمِنَ الثَّمَنَ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ.

12- وَإِذَا كَانَ التَّلَفُ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ- سَوَاءٌ أَكَانَ الْإِتْلَافُ عَمْدًا أَمْ خَطَأً عِنْدَ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْفُقَهَاءِ- لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَلَا يَدَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْمِثْلِ أَوِ الْقِيمَةِ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ فَيَعُودُ الْمَبِيعُ إِلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَيَتْبَعُ الْجَانِيَ فَيُضَمِّنُهُ، وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْبَيْعَ فَأَتْبَعَ الْجَانِيَ بِالضَّمَانِ وَأَتْبَعَهُ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى مِثْلِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَوْ نَحْوَهُمَا.فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ هَلَكَ عَلَى حِسَابِ الْمُشْتَرِي وَيَتْبَعُ الْمُتْلِفَ بِالضَّمَانِ.

تَلَفُ بَعْضِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ:

13- إِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ، وَبَيْنَ قَبُولِهِ نَاقِصًا وَلَا شَيْءَ لَهُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْفَسْخِ.هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مَكِيلًا أَوْ نَحْوَهُ.أَمَّا غَيْرُ الْمَكِيلِ وَنَحْوِهِ فَتَلَفُ بَعْضِهِ وَتَعَيُّبِهِ يَكُونُ عَلَى حِسَابِ الْمُشْتَرِي وَلَا فَسْخَ. وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ التَّلَفِ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْهُ نُقْصَانُ قَدْرٍ، وَالتَّلَفُ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْهُ نُقْصَانُ وَصْفٍ.وَنُقْصَانُ الْوَصْفِ وَهُوَ كُلُّ مَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ، كَالشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ فِي الْأَرْضِ وَأَطْرَافِ الْحَيَوَانِ وَالْجَوْدَةِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، فَخَصُّوا الْحُكْمَ السَّابِقَ بِنُقْصَانِ الْوَصْفِ دُونَ نُقْصَانِ الْقَدْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا حِصَّةَ لَهَا مِنَ الثَّمَنِ إِلاَّ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهَا الْقَبْضُ أَوِ الْجِنَايَةُ، لِأَنَّهَا تَصِيرُ مَقْصُودَةً بِالْقَبْضِ أَوِ الْجِنَايَةِ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ التَّلَفُ قَدْ نَشَأَ عَنْهُ نُقْصَانُ قَدْرٍ- بِأَنْ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَوْ مَعْدُودًا- فَالْعَقْدُ يَنْفَسِخُ بِقَدْرِ الْهَالِكِ وَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنَ الثَّمَنِ، لِأَنَّ كُلَّ قَدْرٍ مِنَ الْمُقَدَّرَاتِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ، فَيُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، وَهَلَاكُ كُلِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ فِي الْكُلِّ وَسُقُوطَ الثَّمَنِ.

فَهَلَاكُ بَعْضِهِ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ وَسُقُوطَ الثَّمَنِ بِقَدْرِهِ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي الْبَاقِي، إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ قَدْ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ التَّلَفِ النِّصْفُ فَأَكْثَرُ لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَيَرْجِعُ بِحِصَّةِ مَا تَلِفَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَقَاءَ النِّصْفِ كَبَقَاءِ الْجُلِّ (الْأَكْثَرِ) فَيَلْزَمُهُ، وَهَذَا فِي الْمَبِيعِ الْمُتَعَدِّدِ.

فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مُتَّحِدًا كَفَرَسٍ مَثَلًا وَبَقِيَ بَعْدَ التَّلَفِ النِّصْفُ فَأَكْثَرُ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ رَدِّ الْمَبِيعِ وَأَخْذِ ثَمَنِهِ، وَبَيْنَ التَّمَسُّكِ بِالْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ.

وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ التَّلَفِ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ حَرُمَ التَّمَسُّكُ بِالْبَاقِي وَوَجَبَ رَدُّ الْمَبِيعِ وَأَخْذُ جَمِيعِ ثَمَنِهِ لِاخْتِلَالِ الْبَيْعِ بِتَلَفِ جُلِّ الْمَبِيعِ، فَتَمَسَّكَ الْمُشْتَرِي بِبَاقِيهِ كَإِنْشَاءِ عَقْدٍ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ، إِذْ لَا يُعْلَمُ مَا يَخُصُّ الْبَاقِيَ إِلاَّ بَعْدَ تَقْوِيمِ الْجَمِيعِ، ثُمَّ النَّظَرُ فِيمَا يَخُصُّ كُلَّ جُزْءٍ عَلَى انْفِرَادِهِ إِلاَّ الْمِثْلِيُّ فَلَا يَحْرُمُ التَّمَسُّكُ بِالْأَقَلِّ، بَلِ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ وَبَيْنَ التَّمَسُّكِ بِالْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمِثْلِيَّ مَنَابُهُ (مُقَابِلُهُ) مِنَ الثَّمَنِ مَعْلُومٌ، فَلَيْسَ التَّمَسُّكُ بِالْبَاقِي الْقَلِيلِ، كَإِنْشَاءِ عَقْدٍ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ، وَإِنَّمَا يَأْتِي هَذَا فِي الْمُقَوَّمِ.

تَلَفُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِفِعْلِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ:

14- أَمَّا إِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِفِعْلِ الْبَائِعِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى بُطْلَانِ الْبَيْعِ بِقَدْرِهِ وَيَسْقُطُ عَنِ الْمُشْتَرِي حِصَّةُ الْمَالِكِ مِنَ الثَّمَنِ سَوَاءٌ أَكَانَ النُّقْصَانُ نُقْصَانَ قِيمَةٍ أَمْ نُقْصَانَ وَصْفٍ- لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَهَا حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ عِنْدَ وُرُودِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا تَصِيرُ أَصْلًا بِالْفِعْلِ فَتُقَابَلُ بِالثَّمَنِ- وَالْمُشْتَرِي بِالْخَيْلِ فِي الْبَاقِي، إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: قِيَاسُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ، وَبَيْنَ أَخْذِهِ وَالرُّجُوعِ عَلَى الْبَائِعِ بِعِوَضِ مَا أَتْلَفَ أَوْ عَيَّبَ.

وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَبِيعُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا فَلَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِعِوَضِ مَا أَتْلَفَ.

وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّلَفُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي.

فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَإِتْلَافُهُ لِلْمَبِيعِ عَمْدًا.

كَانَ فِعْلُهُ رَدًّا لِلْبَيْعِ قَبْلَ جِنَايَتِهِ، لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ الْإِنْسَانُ إِلاَّ فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ إِتْلَافُهُ لَهُ خَطَأً، فَلِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْعَيْبِ، إِنْ شَاءَ تَمَسَّكَ وَلَا شَيْءَ لَهُ، أَوْ رَدَّ وَأَخَذَ الثَّمَنَ بَعْدَ إِجَازَةِ الْبَائِعِ بِمَا لَهُ فِيهِ مِنَ الْخِيَارِ.وَإِنَّمَا لَمْ تَكُنْ جِنَايَتُهُ خَطَأً رَدًّا كَجِنَايَتِهِ عَمْدًا لِأَنَّ الْخَطَأَ مُنَافٍ لِقَصْدِ الْفَسْخِ، إِذِ الْخَطَأُ لَا يُجَامِعُ الْقَصْدَ.

وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَكَانَ إِتْلَافُ الْبَائِعِ لِلْمَبِيعِ عَمْدًا، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الرَّدِّ أَوْ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَأَخْذِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ كَانَ إِتْلَافُهُ لَهُ خَطَأً فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ رَدِّهِ لِلْبَائِعِ أَوْ أَخْذِهِ نَاقِصًا وَلَا شَيْءَ لَهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى تَخْيِيرِ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ وَبَيْنَ إِجَازَةِ الْعَقْدِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَلَا يَغْرَمُ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي شَيْئًا عَلَى الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ.

تَلَفُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي:

15- إِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَلَا خِيَارَ لَهُ لِحُصُولِهِ بِفِعْلِهِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لِلْكُلِّ بِإِتْلَافِ الْبَعْضِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِتْلَافِ الْبَعْضِ إِلاَّ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى الْكُلِّ، وَصَارَ قَابِضًا قَدْرَ الْمُتْلَفِ بِالْإِتْلَافِ وَالْبَاقِي بِالتَّعْيِيبِ فَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ كُلُّ الثَّمَنِ.

هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ).

وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي، وَبَيْنَ التَّلَفِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَكَانَ إِتْلَافُهُ لِلْمَبِيعِ عَمْدًا فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ رِضًا مِنْهُ بِالْبَيْعِ وَلَا رُجُوعَ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَلِلْمُشْتَرِي رَدُّهُ وَمَا نَقَصَ، وَلَهُ التَّمَسُّكُ بِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ، فَإِنْ رَدَّ وَكَانَ عَيْبًا مُفْسِدًا ضَمِنَ الثَّمَنَ كُلَّهُ.وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ رَدِّ الْبَيْعِ وَأَخْذِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، أَوِ الْإِمْضَاءِ وَأَخْذِ الثَّمَنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ التَّلَفُ عَمْدًا أَمْ خَطَأً.وَعَنِ ابْنِ عَرَفَةَ أَنَّ الْخِيَارَ الْمَذْكُورَ لِلْبَائِعِ حَيْثُ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا، فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً خُيِّرَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ أَخْذِ الْمَبِيعِ وَدَفْعِ الثَّمَنِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَبَيْنَ تَرْكِ الْمَبِيعِ لِلْبَائِعِ وَدَفْعِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، فَأَرْشُ الْجِنَايَةِ يَدْفَعُهُ فِي كُلٍّ مِنْ حَالَتَيْ تَخْيِيرِهِ عِنْدَهُ، وَاعْتَمَدَ بَعْضُهُمْ هَذَا.

تَلَفُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ:

16- إِنْ تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَأَتْبَعَ الْبَائِعُ الْجَانِيَ بِضَمَانِ مَا أَتْلَفَهُ، وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْبَيْعَ وَأَتْبَعَ (أَيِ الْمُشْتَرِي) الْجَانِيَ بِالضَّمَانِ وَعَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ- وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَبِيعِ إِذَا كَانَ مَكِيلًا وَنَحْوَهُ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: لَا يَغْرَمُ الْأَجْنَبِيُّ الْأَرْشَ إِلاَّ بَعْدَ قَبْضِ الْمَبِيعِ لِجَوَازِ تَلَفِهِ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ.

أَمَّا مَا عَدَا الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ، وَإِنَّمَا يَتْبَعُ الْمُتْلِفَ بِالضَّمَانِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَرْشَ مَا جَنَى الْأَجْنَبِيُّ لِلْبَائِعِ وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِغَيْرِهِ، وَإِذَا أَخَذَ الْبَائِعُ أَرْشَ الْجِنَايَةِ فَالْمُشْتَرِي حِينَئِذٍ بِالْخِيَارِ، إِمَّا أَنْ يَأْخُذَ الْمَبِيعَ مَعِيبًا مَجَّانًا، وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

17- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَلَفَ كُلِّ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ لَا يُفْسَخُ بِهِ الْبَيْعُ، وَالْهَلَاكُ يَكُونُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ، لِأَنَّ الْبَيْعَ تَقَرَّرَ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ فَتَقَرَّرَ الثَّمَنُ- هَذَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ- سَوَاءٌ أَكَانَ التَّلَفُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَمْ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أَمْ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي، وَإِذَا كَانَ التَّلَفُ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِضَمَانِهِ.

وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: إِذَا تَلِفَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ فَيُنْظَرُ إِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.فَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ بِإِذْنِهِ فَاسْتِهْلَاكُهُ وَاسْتِهْلَاكُ الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ.وَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْبَائِعِ صَارَ الْبَائِعُ بِالِاسْتِهْلَاكِ مُسْتَرِدًّا لِلْمَبِيعِ، فَحَصَلَ الِاسْتِهْلَاكُ فِي ضَمَانِهِ، فَيُوجِبُ بُطْلَانَ الْبَيْعِ وَسُقُوطَ الثَّمَنِ، كَمَا لَوِ اسْتُهْلِكَ وَهُوَ فِي يَدِهِ.وَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَ الْمَبِيعَ عَلَى الْخِيَارِ لَهُ أَوْ لِلْبَائِعِ أَوْ لَهُمَا، فَفِي الْمَذَاهِبِ تَفْصِيلٌ فِي ضَمَانِ التَّلَفِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي بَحْثِ: (الْخِيَارِ)

تَلَفُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ:

18- إِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَإِنَّ التَّلَفَ يَكُونُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْبَائِعِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، لِأَنَّ الْمَبِيعَ خَرَجَ عَنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي فَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ.وَكَذَا إِذَا هَلَكَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَالْهَلَاكُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَيُرْجَعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ.

وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ التَّلَفَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ مَا لَوْ كَانَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ أَمْ لَا.فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ فَإِتْلَافُهُ وَالْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الْمُتْلَفِ، وَيَسْقُطُ عَنِ الْمُشْتَرِي حِصَّتُهُ مِنَ الثَّمَنِ، لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَرِدًّا لِذَلِكَ الْقَدْرِ بِالْإِتْلَافِ، فَتَلَفُ ذَلِكَ الْقَدْرِ فِي ضَمَانِهِ، فَيَسْقُطُ قَدْرُهُ مِنَ الثَّمَنِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


48-موسوعة الفقه الكويتية (تلف 2)

تَلَفٌ -2

ب- تَلَفُ زَوَائِدِ الْمَبِيعِ:

19- زَوَائِدُ الْمَبِيعِ الْحَادِثَةِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، كَثَمَرَةٍ وَلَبَنٍ وَبَيْضٍ، أَمَانَةً فِي يَدِ الْبَائِعِ، لَا يَضْمَنُهَا إِذَا تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ضَمَانَ الْأَصْلِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ لَمْ يَشْمَلْهَا، وَلَمْ تَمْتَدَّ يَدُهُ عَلَيْهَا لِتَمَلُّكِهَا، كَالْمُسْتَامِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَعَدٍّ كَالْغَاصِبِ حَتَّى يَضْمَنَ.

ج- التَّلَفُ فِي الْإِجَارَةِ:

20- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنْ تَلِفَتْ أَوْ ضَاعَتْ بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ وَلَا تَفْرِيطٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا تَعَدَّى أَوْ فَرَّطَ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لِمَا يَلْحَقُ الْعَيْنَ مِنْ تَلَفٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا تَجَاوَزَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا حَقُّهُ فِيهِ فَتَلِفَتْ عِنْدَ ذَلِكَ.

وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَجِيرَ الْخَاصَّ أَمِينٌ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالٍ أَوْ مَا تَلِفَ بِعَمَلِهِ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّفْرِيطِ.لِأَنَّهُ نَائِبُ الْمَالِكِ فِي صَرْفِ مَنَافِعِهِ إِلَى مَا أَمَرَ بِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْ كَالْوَكِيلِ، وَلِأَنَّ عَمَلَهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ كَسِرَايَةِ الْقِصَاصِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ صُنْعٌ يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ.

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ إِذَا تَلِفَ عِنْدَهُ الْمَتَاعُ بِتَعَدٍّ أَوْ تَفْرِيطٍ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ.وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا تَلِفَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ أَوْ تَفْرِيطٍ.

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ إِلَى أَنَّ يَدَهُ يَدُ أَمَانَةٍ فَلَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَجِبَ الضَّمَانُ إِلاَّ عَلَى الْمُتَعَدِّي، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَلَا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} وَلَمْ يُوجَدِ التَّعَدِّي مِنَ الْأَجِيرِ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الْقَبْضِ، وَالْهَلَاكُ لَيْسَ مِنْ صُنْعِهِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُودَعِ.قَالَ الرَّبِيعُ: اعْتِقَادُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْأَجِيرِ، وَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِعِلْمِهِ، وَكَانَ لَا يَبُوحُ بِهِ خَشْيَةَ قُضَاةِ السُّوءِ وَأُجَرَاءِ السُّوءِ.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالتَّلَفِ، إِلاَّ فِي حَرْقٍ غَالِبٍ، أَوْ غَرَقٍ غَالِبٍ، أَوْ لُصُوصٍ مُكَابِرِينَ، فَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَوِ احْتَرَقَ مَحَلُّ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكُ بِسِرَاجٍ يَضْمَنُ الْأَجِيرُ، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِحَرِيقٍ غَالِبٍ، وَهُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى اسْتِدْرَاكِهِ لَوْ عَلِمَ بِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِهِ لأَطْفَأَهُ فَلَمْ يَكُنْ مَوْضِعَ الْعُذْرِ.

وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ».وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ كَانَ يُضَمِّنُ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ احْتِيَاطًا لِأَمْوَالِ النَّاسِ، وَهُوَ الْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأُجَرَاءَ الَّذِينَ يُسَلَّمُ الْمَالُ إِلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ شُهُودٍ تُخَافُ الْخِيَانَةُ مِنْهُمْ، فَلَوْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ لَهَلَكَتْ أَمْوَالُ النَّاسِ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْجِزُونَ عَنْ دَعْوَى الْهَلَاكِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْحَرِيقِ الْغَالِبِ، وَالْغَرَقِ الْغَالِبِ، وَالسَّرَقِ الْغَالِبِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِفِعْلِهِ وَلَوْ بِخَطَئِهِ، كَتَخْرِيقِ الْقَصَّارِ الثَّوْبَ، وَغَلَطِهِ كَأَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى غَيْرِ رَبِّهِ، وَأَمَّا مَا تَلِفَ مِنْ حِرْزِهِ بِنَحْوِ سَرِقَةٍ أَوْ تَلَفٍ بِغَيْرِ فِعْلِهِ إِذَا لَمْ يُفَرِّطْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْعَيْنَ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ، أَشْبَهَ بِالْمُودَعِ.

وَشَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِتَضْمِينِهِ شَرْطَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَغِيبَ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ عَلَى السِّلْعَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَصْنَعَهَا بِغَيْرِ حُضُورِ رَبِّهَا وَبِغَيْرِ بَيْتِهِ، وَأَمَّا إِنْ صَنَعَهَا بِبَيْتِهِ وَلَوْ بِغَيْرِ حُضُورِ رَبِّهَا، أَوْ صَنَعَهَا بِحُضُورِهِ لَمْ يَضْمَنْ مَا نَشَأَ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ كَسَرِقَةٍ، أَوْ تَلِفَ بِنَارٍ مَثَلًا بِلَا تَفْرِيطٍ.

وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَصْنُوعُ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ كَثَوْبٍ وَنَحْوِهِ.

ثَالِثًا: التَّلَفُ فِي عُقُودِ الْأَمَانَاتِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا:

21- الْأَصْلُ فِي عُقُودِ الْأَمَانَاتِ كَالْوَدِيعَةِ أَنَّ مَا تَلِفَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ يَكُونُ تَلَفُهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَيْسَ عَلَى مَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ إِنْ لَمْ يَتَعَدَّ أَوْ يُفَرِّطْ فِيهَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ، وَلَا عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ» وَلِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ أُودِعَ وَدِيعَةً فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ» وَلِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَى تِلْكَ الْعُقُودِ وَفِي إِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ تَنْفِيرٌ عَنْهَا.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مِنْ تِلْكَ الْعُقُودِ الْعَارِيَّةَ، فَقَالُوا بِضَمَانِهَا مُطْلَقًا إِنْ تَلِفَتْ عِنْدَ الْمُسْتَعِيرِ فَرَّطَ أَمْ لَمْ يُفَرِّطْ، لِحَدِيثِ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ».«وَعَنْ صَفْوَانَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- اسْتَعَارَ مِنْهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَدْرُعًا وَلَمْ يَكُنْ قَدْ أَسْلَمَ بَعْدُ فَقَالَ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: بَلْ عَارِيَّةً مَضْمُونَةٌ» وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَجِبُ رَدُّهُ لِمَالِكِهِ فَيَضْمَنُ عِنْدَ تَلَفِهِ كَالْمُسْتَامِ.

وَأَشَارَ أَحْمَدُ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَارِيَّةِ وَالْوَدِيعَةِ وَهُوَ أَنَّ الْعَارِيَّةَ أَخَذْتَهَا بِالْيَدِ، وَالْوَدِيعَةَ دُفِعَتْ إِلَيْكَ.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ مِنْ ضَمَانِ الْعَارِيَّةِ التَّلَفَ الْمُنْمَحِقَ- أَيْ مَا يَتْلَفُ بِالْكُلِّيَّةِ عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ- وَالْمُنْسَحِقُ- أَيْ مَا يَتْلَفُ بَعْضُهُ عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ- إِذَا تَلِفَ بِاسْتِعْمَالٍ مَأْذُونٍ فِيهِ لِحُدُوثِهِ عَنْ سَبَبٍ مَأْذُونٍ فِيهِ، فَأَشْبَهَ قَوْلَهُ: كُلْ طَعَامِي.وَعِنْدَهُمْ قَوْلٌ بِضَمَانِ الْمُنْمَحِقِ دُونَ الْمُنْسَحِقِ، لِأَنَّ مُقْتَضَى الْإِعَارَةِ الرَّدُّ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْمُنْمَحِقِ، فَيَضْمَنُهُ بِخِلَافِ الْمُنْسَحِقِ

وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ الضَّمَانَ بِتَلَفِ الْعَارِيَّةِ الْمُغَيَّبِ عَلَيْهَا- أَيْ مَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ- كَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ بِخِلَافِ مَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِتَلَفِهِ، كَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ، إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ الْمُسْتَعِيرُ بِبَيِّنَةٍ تُثْبِتُ تَلَفَهُ أَوْ ضَيَاعَهُ بِلَا سَبَبِهِ، فَلَا يَضْمَنُهُ خِلَافًا لِأَشْهَبَ الْقَائِلِ بِالضَّمَانِ مُطْلَقًا.

22- وَهُنَاكَ عُقُودٌ فِيهَا مَعْنَى الْأَمَانَةِ كَالْمُضَارَبَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ، فَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي أَصْلِهَا عَقْدُ أَمَانَةٍ إِلاَّ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُضَارِبِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ أَمِينٌ عَلَى مَا فِي يَدِهِ.

فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَا تَلِفَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ يَكُونُ تَلَفُهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَلَا يَضْمَنُهُ الْمُضَارِبُ، فَهُوَ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ، لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ وَالْوَثِيقَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْمُضَارِبَ يَصِيرُ ضَامِنًا لِرَأْسِ الْمَالِ إِذَا تَلِفَ بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ شَرْطِ رَبِّ الْمَالِ، كَأَنْ شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ أَلاَّ يُسَافِرَ بِهِ فِي الْبَحْرِ فَسَافَرَ فَغَرِقَ الْمَالُ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ حِينَئِذٍ ضَامِنٌ لَهُ لِمُخَالَفَتِهِ شَرْطَ رَبِّ الْمَالِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ.

وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء فِي أَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ يَدُ أَمَانَةٍ، فَمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّفْرِيطِ، أَمَّا إِذَا تَعَدَّى أَوْ فَرَّطَ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لِمَا يَلْحَقُ الْعَيْنَ مِنْ تَلَفٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا تَجَاوَزَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا حَقَّهُ فِيهِ فَتَلِفَتْ عِنْدَ ذَلِكَ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الرَّهْنِ إِذَا تَلِفَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، هَلْ يَضْمَنُهُ الْمُرْتَهِنُ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْهُونَ إِذَا تَلِفَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنَ الدَّيْنِ، وَإِنْ سَاوَتْ قِيمَتُهُ الدَّيْنَ صَارَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ، وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ ضَمَانَ الْمَرْهُونِ بِمَا إِذَا كَانَ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ، كَحُلِيٍّ وَثِيَابٍ وَسِلَاحٍ وَكُتُبٍ مِنْ كُلِّ مَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ وَكَتْمُهُ، بِخِلَافِ مَا لَا يُمْكِنُ كَتْمُهُ كَحَيَوَانٍ وَعَقَارٍ، وَهَذَا إِنْ لَمْ تَشْهَدْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَإِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِتَلَفِهِ أَوْ هَلَاكِهِ بِغَيْرِ سَبَبِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الضَّمَانَ هُنَا ضَمَانُ تُهْمَةٍ، وَهِيَ تَنْتَفِي بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْهُونَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَلَا يَسْقُطُ بِتَلَفِهِ شَيْءٌ مِنَ الدَّيْنِ بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنَ الْمُرْتَهِنِ أَوْ تَفْرِيطٍ، لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ».وَلِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ فِعْلِهِ خَوْفًا مِنَ الضَّمَانِ، وَذَلِكَ وَسِيلَةٌ إِلَى تَعْطِيلِ الْمُدَايَنَاتِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ.

رَابِعًا: التَّلَفُ فِي الْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ:

23- الْمُزَارَعَةُ وَالْمُسَاقَاةُ صُورَتَانِ مِنْ صُوَرِ عُقُودِ الْعَمَلِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُسَاقَاةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْمُزَارَعَةِ.

وَقَدِ اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ الْعَامِلَ فِي عَقْدَيِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ أَمِينًا عَلَى مَا فِي يَدِهِ، فَمَا تَلِفَ مِنْهُ بِلَا تَعَدٍّ وَلَا تَفْرِيطٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَأَمَّا إِذَا فَرَّطَ الْعَامِلُ، كَأَنْ تَرَكَ السَّقْيَ حَتَّى فَسَدَ الزَّرْعُ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ، لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ وَعَلَيْهِ حِفْظُهُ.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (مُزَارَعَةٌ، وَمُسَاقَاةٌ).

خَامِسًا: تَلَفُ الْمَغْصُوبِ:

24- تَلَفُ الْمَغْصُوبِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حِسِّيًّا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَوِيًّا، فَالتَّلَفُ الْحِسِّيُّ: هُوَ تَفْوِيتُ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ عَنْ رَبِّهِ، وَالتَّلَفُ الْمَعْنَوِيُّ: هُوَ تَفْوِيتُ مَعْنًى فِي الْمَغْصُوبِ.وَفِي كِلَيْهِمَا الضَّمَانُ

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ تَلِفَ الْمَغْصُوبُ الْمَنْقُولُ عِنْدَ الْغَاصِبِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ الضَّمَانَ، سَوَاءٌ تَلِفَ عِنْدَهُ بِآفَةٍ أَوْ بِإِتْلَافٍ، وَيَكُونُ الضَّمَانُ بِالْمِثْلِ إِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِثْلِيًّا، وَبِالْقِيمَةِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا، وَإِنْ تَلِفَ بَعْضُهُ فَعَلَيْهِ أَرْشُ النُّقْصَانِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي غَاصِبِ الْعَقَارِ، إِذَا تَلِفَ الْعَقَارُ عِنْدَهُ بِسَيْلٍ أَوْ حَرِيقٍ أَوْ شِبْهِ ذَلِكَ هَلْ عَلَيْهِ الضَّمَانُ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) إِلَى تَضْمِينِهِ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ تَضْمِينِهِ إِلاَّ فِي ثَلَاثٍ: الْمَوْقُوفِ، وَمَالِ الْيَتِيمِ، وَالْمُعَدِّ لِلِاسْتِغْلَالِ.هَذَا فِي التَّلَفِ الْحِسِّيِّ.

أَمَّا التَّلَفُ الْمَعْنَوِيُّ، فَمِنْ صُوَرِهِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ، مَا لَوْ غَصَبَ عَبْدًا ذَا حِرْفَةٍ فَنَسِيَ الْمَغْصُوبُ الْحِرْفَةَ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَرْشَ النَّقْصِ، إِلاَّ أَنْ يَتَذَكَّرَهَا سَوَاءٌ عِنْدَ الْغَاصِبِ أَوِ الْمَالِكِ، أَوْ يَتَعَلَّمُهَا عِنْدَ الْغَاصِبِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، أَمَّا لَوْ تَعَلَّمَهَا عِنْدَ الْمَالِكِ فَالْأَرْشُ بَاقٍ عَلَى الْغَاصِبِ.

وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ مَا إِذَا كَانَ شَابًّا فَشَاخَ عِنْدَ الْغَاصِبِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ أَيْضًا.

سَادِسًا: تَلَفُ اللُّقَطَةِ:

25- لِتَلَفِ اللُّقَطَةِ حَالَانِ، فَهِيَ فِي حَالِ أَمَانَةٍ لَا شَيْءَ عَلَى الْمُلْتَقِطِ إِذَا تَلِفَتْ عِنْدَهُ أَوْ ضَاعَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ وَلَا تَعَدٍّ.وَفِي حَالٍ مَضْمُونَةٌ بِالتَّلَفِ أَوِ الضَّيَاعِ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ اللُّقَطَةَ أَمَانَةٌ عِنْدَ الْمُلْتَقِطِ إِذَا أَخَذَهَا لِيَحْفَظَهَا لِصَاحِبِهَا، فَإِنْ تَلِفَتْ عِنْدَهُ أَوْ ضَاعَتْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَخَذَهَا عَلَى سَبِيلِ الْأَمَانَةِ فَكَانَتْ يَدُهُ يَدَ أَمَانَةٍ كَيَدِ الْمُودَعِ.

وَإِنْ أَخَذَهَا بِقَصْدِ الْخِيَانَةِ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ لَهَا إِنْ تَلِفَتْ عَمَلًا بِقَصْدِهِ الْمُقَارِنِ لِفِعْلِهِ وَيُعْتَبَرُ كَالْغَاصِبِ.

سَابِعًا: تَلَفُ الْمَهْرِ:

26- فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَلَفِ الصَّدَاقِ الْمُعَيَّنِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّلَفُ فَاحِشًا أَوْ غَيْرَ فَاحِشٍ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الزَّوْجِ أَوْ فِي يَدِ الزَّوْجَةِ، وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي كُلٍّ بِاخْتِلَافِ مُتْلِفِهِ.

أ- الصَّدَاقُ بِيَدِ الزَّوْجِ وَالنُّقْصَانُ فَاحِشٌ:

إِنْ كَانَ نُقْصَانُ الصَّدَاقِ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ وَكَانَ فَاحِشًا، فَالْمَرْأَةُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ الْمَهْرِ نَاقِصًا مَعَ الْأَرْشِ، وَبَيْنَ تَرْكِ الصَّدَاقِ وَأَخْذِ قِيمَتِهِ مِنَ الزَّوْجِ يَوْمَ الْعَقْدِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِضَمَانِ النُّقْصَانِ.

وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَالزَّوْجَةُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْهُ نَاقِصًا وَلَا شَيْءَ لَهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَتْ تَرَكَتْهُ وَأَخَذَتْ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْعَقْدِ.

وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الزَّوْجِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِهِ نَاقِصًا مَعَ أَرْشِ النُّقْصَانِ مِنَ الزَّوْجِ، وَبَيْنَ أَخْذِ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْعَقْدِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا جَنَى عَلَى الْمَهْرِ فَالزَّوْجَةُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْهُ نَاقِصًا وَلَا شَيْءَ لَهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَتْ أَخَذَتِ الْقِيمَةَ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الزَّوْجَةِ نَفْسِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَى الزَّوْجِ، وَصَارَتْ قَابِضَةً بِالْجِنَايَةِ، فَجُعِلَ كَأَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ فِي يَدِهَا.

وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الْمَهْرِ، بِأَنْ جَنَى الْمَهْرُ عَلَى نَفْسِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنَّ حُكْمَهُ كَمَا لَوْ تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَالثَّانِيَةُ: كَمَا لَوْ تَلِفَ بِفِعْلِ الزَّوْجِ.

ب- الصَّدَاقُ بِيَدِ الزَّوْجِ وَالنُّقْصَانُ غَيْرُ فَاحِشٍ:

إِذَا كَانَ نُقْصَانُ الصَّدَاقِ يَسِيرًا غَيْرَ فَاحِشٍ، فَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجَةِ، كَمَا إِذَا كَانَ هَذَا الْعَيْبُ بِهِ يَوْمَ الْعَقْدِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِهَا أَوْ بِفِعْلِ الْمَهْرِ فَلَا شَيْءَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ أَوْ بِفِعْلِ الزَّوْجِ أَخَذَتْهُ مَعَ أَرْشِ النُّقْصَانِ.

ج- الصَّدَاقُ بِيَدِ الزَّوْجَةِ وَالنُّقْصَانُ فَاحِشٌ:

إِذَا كَانَ نُقْصَانُ الصَّدَاقِ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ، وَكَانَ فَاحِشًا قَبْلَ الطَّلَاقِ فَالْأَرْشُ لَهَا، فَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ فَلَهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ يَوْمَ قَبَضَتْ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ جِنَايَةُ الْأَجْنَبِيِّ عَلَيْهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَلِلزَّوْجَةِ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي الْأَرْشِ بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهِ مِنَ الْمَرْأَةِ مَعَ اعْتِبَارِ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْقَبْضِ، وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهِ مِنَ الْجَانِي.

وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الزَّوْجِ فَجِنَايَتُهُ كَجِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ، لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ وَلَا يَدَ لَهُ فِيهِ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَسَبَقَ حُكْمُ إِتْلَافِ الْأَجْنَبِيِّ.

وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهِ نَاقِصًا وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ أَيْضًا بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهِ وَنِصْفِ الْأَرْشِ، وَبَيْنَ أَخْذِ قِيمَتِهِ يَوْمَ قَبَضَتْ.

وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الْمَرْأَةِ فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ، وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ قِيمَتِهِ.

وَقَالَ زُفَرُ: لِلزَّوْجِ أَنْ يُضَمِّنَهَا الْأَرْشَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَعَلَيْهَا نِصْفُ الْأَرْشِ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الْمَهْرِ نَفْسِهِ فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهِ نَاقِصًا وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ قِيمَتِهِ. د- الصَّدَاقُ بِيَدِ الْمَرْأَةِ وَالنُّقْصَانُ غَيْرُ فَاحِشٍ:

إِنْ كَانَ النُّقْصَانُ غَيْرَ فَاحِشٍ وَهُوَ بِيَدِ الْمَرْأَةِ وَكَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ أَوِ الزَّوْجِ، فَإِنَّ الْمَهْرَ لَا يَتَنَصَّفُ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ يَمْنَعُ التَّنْصِيفَ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِهَا أَوْ بِفِعْلِ الْمَهْرِ أَخَذَ النِّصْفَ وَلَا خِيَارَ لَهُ.

27- وَيُفَرِّقُ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الصَّدَاقُ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ أَوْ مِمَّا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ:

فَإِذَا تَلِفَ الصَّدَاقُ وَكَانَ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَثْبُتْ هَلَاكُهُ بِبَيِّنَةٍ، فَضَمَانُهُ مِمَّنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِيَدِ الزَّوْجِ أَمِ الزَّوْجَةِ، فَإِذَا كَانَ بِيَدِ الزَّوْجِ وَادَّعَى ضَيَاعَهُ وَكَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا ضَمِنَ لَهَا قِيمَتَهُ أَوْ مِثْلَهُ، وَإِنْ كَانَ بِيَدِهَا ضَاعَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَزِمَ لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ إِنْ ضَاعَ بِيَدِهِ، وَإِنْ كَانَ بِيَدِهَا غَرِمَتْ لَهُ نِصْفَ الْقِيمَةِ أَوْ نِصْفَ الْمِثْلِ.

وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ مِمَّا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ، وَقَامَتْ عَلَى هَلَاكِهِ بَيِّنَةٌ، فَضَمَانُهُ مِنْهُمَا سَوَاءٌ كَانَ بِيَدِ الزَّوْجِ أَوْ بِيَدِ الزَّوْجَةِ، فَكُلُّ مَنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ لَا يَغْرَمُ لِلْآخَرِ حِصَّتَهُ.وَهَذَا فِيمَا إِذَا حَصَلَ طَلَاقٌ قَبْلَ الدُّخُولِ.

وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ طَلَاقٌ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَكَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا، فَإِنَّ ضَمَانَ الصَّدَاقِ عَلَى الزَّوْجَةِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَلَوْ كَانَ بِيَدِ الزَّوْجِ، وَالْمُرَادُ بِضَمَانِهَا لَهُ أَنَّهُ يَضِيعُ عَلَيْهَا.

وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا فَإِنَّهَا لَا تَضْمَنُ الصَّدَاقَ إِلاَّ بِقَبْضِهِ.

28- وَقَسَّمَ الشَّافِعِيَّةُ تَلَفَ الْمَهْرِ إِذَا كَانَ عَيْنًا إِلَى تَلَفٍ كُلِّيٍّ وَتَلَفٍ جُزْئِيٍّ، وَفَرَّقُوا فِي الْحُكْمِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّلَفُ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ، أَوْ بِفِعْلِ الزَّوْجِ، أَوِ الزَّوْجَةِ، أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ.

أ- التَّلَفُ الْكُلِّيُّ: فَإِذَا تَلِفَ الْمَهْرُ فِي يَدِ الزَّوْجِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ بَدَلُهُ مِنْ مِثْلٍ أَوْ قِيمَةٍ.

وَإِنْ تَلِفَ بِفِعْلِ الزَّوْجَةِ فَيُعْتَبَرُ إِتْلَافُهَا قَبْضًا لَهُ إِذَا كَانَتْ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الزَّوْجِ لِأَنَّهَا قَبَضَتْ حَقَّهَا وَأَتْلَفَتْهُ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ رَشِيدَةٍ، فَلَا يُعْتَبَرُ إِتْلَافُهَا قَبْضًا، لِأَنَّ قَبْضَهَا غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ، وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الضَّمَانُ.

وَإِنْ تَلِفَ بِفِعْلِ الزَّوْجِ فَحُكْمُهُ كَمَا لَوْ تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ بَدَلُهُ مِنْ مِثْلٍ أَوْ قِيمَةٍ.

وَإِنْ تَلِفَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ، فَالزَّوْجَةُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الصَّدَاقِ وَإِبْقَائِهِ، فَإِنْ فَسَخَتِ الصَّدَاقَ أَخَذَتْ مِنَ الزَّوْجِ مَهْرَ الْمِثْلِ.وَيَأْخُذُ الزَّوْجُ الْغُرْمَ مِنَ الْمُتْلِفِ، وَإِنْ أَبْقَتْهُ غَرِمَ الْمُتْلِفُ لَهَا الْمِثْلَ أَوِ الْقِيمَةَ، وَلَيْسَ لَهَا مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ

ب- التَّلَفُ الْجُزْئِيُّ: إِنْ تَلِفَ بَعْضُ الصَّدَاقِ قَبْلَ قَبْضِهِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الزَّوْجِ.انْفَسَخَ عَقْدُ الصَّدَاقِ فِي التَّالِفِ دُونَ الْبَاقِي، وَلَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ لِعَدَمِ سَلَامَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَإِنْ فَسَخَتِ الصَّدَاقَ فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ.وَإِنْ أَجَازَتْ فَلَهَا حِصَّةُ التَّالِفِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ مَعَ الْبَاقِي مِنَ الْمَهْرِ بَعْدَ التَّلَفِ.

وَإِنْ تَلِفَ بَعْضُهُ بِفِعْلِ الزَّوْجَةِ فَهِيَ قَابِضَةٌ لِقِسْطِهِ الَّذِي تَلِفَ بِفِعْلِهَا، وَلَا شَيْءَ عَلَى الزَّوْجِ وَلَهَا الْبَاقِي مِنَ الْمَهْرِ بَعْدَ التَّلَفِ.

وَإِنْ أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ فَهِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ، فَإِنْ فَسَخَتْ طَالَبَتِ الزَّوْجَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ أَجَازَتْ طَالَبَتِ الْأَجْنَبِيَّ بِالْبَدَلِ.عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الْمَذْهَبِ يُنْظَرُ فِي (صَدَاقٌ).

29- وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ ضَمَانَ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجَةِ سَوَاءٌ أَقَبَضَتْهُ أَمْ لَمْ تَقْبِضْهُ لِدُخُولِهِ فِي مِلْكِهَا بِالْعَقْدِ، إِلاَّ أَنْ يَمْنَعَهَا الزَّوْجُ قَبْضَهُ فَيَكُونُ ضَمَانُهُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ.إِلاَّ أَنْ يَتْلَفَ الصَّدَاقُ بِفِعْلِهَا، فَيَكُونُ إِتْلَافُهَا قَبْضًا مِنْهَا وَيَسْقُطُ عَنْهُ ضَمَانُهُ، هَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ الصَّدَاقُ مُعَيَّنًا.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ الصَّدَاقُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهَا إِلاَّ بِقَبْضِهِ.وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا دَخَلَ بِهَا.

وَأَمَّا إِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَتَلِفَ بَعْضُ الصَّدَاقِ وَهُوَ بِيَدِهَا، فَإِنْ كَانَ التَّلَفُ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ عَلَيْهِ كَأَنْ نَقَصَ بِمَرَضٍ، أَوْ نِسْيَانِ صَنْعَةٍ، فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ عَيْنِهِ نَاقِصًا وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ، وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ قِيمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ نُقْصَانُ الصَّدَاقِ بِجِنَايَةِ جَانٍ عَلَيْهِ فَلِلزَّوْجِ أَخْذُ نِصْفِ الصَّدَاقِ الْبَاقِي مَعَ نِصْفِ الْأَرْشِ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَا فَاتَ مِنْهُ

مَا يُتْلِفُهُ الْبُغَاةُ:

الْبُغَاةُ وَهُمْ مُخَالِفُو الْإِمَامِ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِ وَتَرْكِ الِانْقِيَادِ لَهُ، أَوْ مَنْعِ حَقٍّ تَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ، بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ شَوْكَةٌ وَتَأْوِيلٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِفَسَادِهِ وَمُطَاعٌ يَصْدُرُونَ عَنْ أَمْرِهِ 30- وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يُتْلِفُهُ الْبُغَاةُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ عَلَى الْإِمَامِ الْعَادِلِ لَا ضَمَانَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ مَا يُتْلِفُهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ.لِقَوْلِ الزُّهْرِيِّ: هَاجَتِ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ مُتَوَاتِرُونَ، فَأَجْمَعُوا أَنْ لَا يُقَادَ أَحَدٌ، وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ عَلَى تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ إِلاَّ مَا وُجِدَ بِعَيْنِهِ.فَقَدْ جَرَتِ الْوَقَائِعُ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ ( (، كَوَقْعَةِ الْجَمَلِ، وَصِفِّينَ، وَلَمْ يُطَالِبْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِضَمَانِ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ، وَلِأَجْلِ التَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَةِ لِئَلاَّ يَنْفِرُوا عَنْهَا وَيَتَمَادَوْا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ، وَلِهَذَا سَقَطَتِ التَّبِعَةُ عَنِ الْحَرْبِيِّ إِذَا أَسْلَمَ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَأْمُورٌ بِالْقِتَالِ فَلَا يَضْمَنُ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ، وَهُمْ إِنَّمَا أَتْلَفُوا بِتَأْوِيلٍ. وَيُشْتَرَطُ لِنَفْيِ الضَّمَانِ أَنْ يَكُونَ الْإِتْلَافُ فِي حَالِ الْقِتَالِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ حَالِ الْقِتَالِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِمْ.وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الْحُكْمَ وَخَصُّوهُ بِمَا أُتْلِفَ فِي الْقِتَالِ لِضَرُورَتِهِ، فَإِنْ أُتْلِفَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ عِنْدَهُمْ.وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا قَصَدَ أَهْلُ الْعَدْلِ بِإِتْلَافِ الْمَالِ إِضْعَافَهُمْ وَهَزِيمَتَهُمْ، فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَصَدُوا التَّشَفِّيَ وَالِانْتِقَامَ.

وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرُوا التَّحَيُّزَ وَعَدَمَهُ، وَقَالُوا: مَا فَعَلُوهُ قَبْلَ التَّحَيُّزِ وَالْخُرُوجِ وَبَعْدَ تَفَرُّقِ جَمْعِهِمْ يُؤَاخَذُونَ بِهِ، وَأَمَّا مَا فَعَلُوهُ بَعْدَ التَّحَيُّزِ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ.وَعِنْدَهُمْ كَذَلِكَ يَضْمَنُ الْإِمَامُ مَا أَتْلَفَهُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ تَحَيُّزِهِمْ وَخُرُوجِهِمْ، أَوْ بَعْدَ كَسْرِهِمْ وَتَفَرُّقِ جَمْعِهِمْ.

مَا تُتْلِفُهُ الدَّوَابُّ:

31- قَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِتْلَافٌ)

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


49-موسوعة الفقه الكويتية (توبة 1)

تَوْبَةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- التَّوْبَةُ فِي اللُّغَةِ الْعَوْدُ وَالرُّجُوعُ، يُقَالُ: تَابَ إِذَا رَجَعَ عَنْ ذَنْبِهِ وَأَقْلَعَ عَنْهُ.وَإِذَا أُسْنِدَ فِعْلُهَا إِلَى الْعَبْدِ يُرَادُ بِهِ رُجُوعُهُ مِنَ الزَّلَّةِ إِلَى النَّدَمِ، يُقَالُ: تَابَ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً وَمَتَابًا: أَنَابَ وَرَجَعَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَإِذَا أُسْنِدَ فِعْلُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يُسْتَعْمَلُ مَعَ صِلَةِ (عَلَى) يُرَادُ بِهِ رُجُوعُ لُطْفِهِ وَنِعْمَتِهِ عَلَى الْعَبْدِ وَالْمَغْفِرَةِ لَهُ، يُقَالُ: تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ: غَفَرَ لَهُ وَأَنْقَذَهُ مِنَ الْمَعَاصِي.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ التَّوْبَةُ هِيَ: النَّدَمُ وَالْإِقْلَاعُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعْصِيَةٌ لَا؛ لِأَنَّ فِيهَا ضَرَرًا لِبَدَنِهِ وَمَالِهِ، وَالْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَيْهَا إِذَا قَدَرَ.

وَعَرَّفَهَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا الرُّجُوعُ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُعْوَجِّ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ.

وَعَرَّفَهَا الْغَزَالِيُّ بِأَنَّهَا: الْعِلْمُ بِعَظَمَةِ الذُّنُوبِ، وَالنَّدَمُ وَالْعَزْمُ عَلَى التَّرْكِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَالتَّلَافِي لِلْمَاضِي، وَهَذِهِ التَّعْرِيفَاتُ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ لَفْظًا هِيَ مُتَّحِدَةٌ مَعْنًى.وَقَدْ تُطْلَقُ التَّوْبَةُ عَلَى النَّدَمِ وَحْدَهُ إِذْ لَا يَخْلُو عَنْ عِلْمٍ أَوْجَبَهُ وَأَثْمَرَهُ وَعَنْ عَزْمٍ يَتْبَعُهُ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» وَالنَّدَمُ تَوَجُّعُ الْقَلْبِ وَتَحَزُّنُهُ لِمَا فَعَلَ وَتَمَنِّي كَوْنَهُ لَمْ يَفْعَلْ.

قَالَ ابْنُ قَيِّمٍ الْجَوْزِيَّةَ: التَّوْبَةُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا تَتَضَمَّنُ الْإِقْلَاعَ عَنِ الذَّنْبِ فِي الْحَالِ وَالنَّدَمَ عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي وَالْعَزْمَ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، تَتَضَمَّنُ أَيْضًا الْعَزْمَ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَالْتِزَامِهِ، فَحَقِيقَةُ التَّوْبَةِ: الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ بِالْتِزَامِ فِعْلِ مَا يَجِبُ وَتَرْكِ مَا يَكْرَهُ؛ وَلِهَذَا عَلَّقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْفَلَاحَ الْمُطْلَقَ عَلَى التَّوْبَةِ حَيْثُ قَالَ: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الِاعْتِذَارُ:

2- الِاعْتِذَارُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ اعْتَذَرَ أَصْلُهُ مِنَ الْعُذْرِ، وَأَصْلُ الْعُذْرِ إِزَالَةُ الشَّيْءِ عَنْ جِهَتِهِ يُقَالُ: اعْتَذَرَ عَنْ فِعْلِهِ أَيْ أَظْهَرَ عُذْرَهُ، وَاعْتَذَرَ إِلَيَّ أَيْ طَلَبَ قَبُولَ مَعْذِرَتِهِ، وَاعْتَذَرَ إِلَى فُلَانٍ فَعَذَرَهُ أَيْ: أَزَالَ مَا كَانَ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ فِي الظَّاهِرِ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الِاعْتِذَارُ إِظْهَارُ نَدَمٍ عَلَى ذَنْبٍ تُقِرُّ بِأَنَّ لَك فِي إِتْيَانِهِ عُذْرًا، وَالتَّوْبَةُ هِيَ النَّدَمُ عَلَى ذَنْبٍ تُقِرُّ بِأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَك فِي إِتْيَانِهِ فَكُلُّ تَوْبَةٍ نَدَمٌ وَلَا عَكْسَ.وَقَدْ يَكُونُ الْمُعْتَذِرُ مُحِقًّا فِيمَا فَعَلَهُ، بِخِلَافِ التَّائِبِ مِنَ الذَّنْبِ.

ب- الِاسْتِغْفَارُ:

3- الِاسْتِغْفَارُ فِي اللُّغَةِ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ، وَأَصْلُ الْغَفْرِ التَّغْطِيَةُ وَالسَّتْرُ، يُقَالُ: غَفَرَ اللَّهُ ذُنُوبَهُ أَيْ سَتَرَهَا.وَفِي الِاصْطِلَاحِ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّوْبَةِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنَ الطَّاعَةِ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الِاسْتِغْفَارُ إِذَا ذُكِرَ مُفْرَدًا يُرَادُ بِهِ التَّوْبَةُ مَعَ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ مَحْوُ الذَّنْبِ وَإِزَالَةُ أَثَرِهِ وَوِقَايَةُ شَرِّهِ، وَالسَّتْرُ لَازِمٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، كَمَا فِي قوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْإِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} فَالِاسْتِغْفَارُ بِهَذَا الْمَعْنَى يَتَضَمَّنُ التَّوْبَةَ.

أَمَّا عِنْدَ اقْتِرَانِ إِحْدَى اللَّفْظَتَيْنِ بِالْأُخْرَى فَالِاسْتِغْفَارُ طَلَبُ وِقَايَةِ شَرِّ مَا مَضَى، وَالتَّوْبَةُ الرُّجُوعُ وَطَلَبُ وِقَايَةِ شَرِّ مَا يَخَافُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِ كَمَا فِي قوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}.

أَرْكَانُ وَشُرُوطُ التَّوْبَةِ:

4- ذَكَرَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ أَنَّ لِلتَّوْبَةِ أَرْبَعَةَ شُرُوطٍ: الْإِقْلَاعَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ حَالًا، وَالنَّدَمَ عَلَى فِعْلِهَا فِي الْمَاضِي، وَالْعَزْمَ عَزْمًا جَازِمًا أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى مِثْلِهَا أَبَدًا.وَإِنْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ تَتَعَلَّقُ بِحَقِّ آدَمِيٍّ، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا رَدُّ الْمَظَالِمِ إِلَى أَهْلِهَا أَوْ تَحْصِيلُ الْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ.

وَصَرَّحُوا كَذَلِكَ بِأَنَّ النَّدَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ؛ وَلِقُبْحِهَا شَرْعًا.وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: النَّدَامَةُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لِكَوْنِهَا مَعْصِيَةً «؛ لِأَنَّ النَّدَامَةَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لِإِضْرَارِهَا بِبَدَنِهِ، وَإِخْلَالِهَا بِعِرْضِهِ أَوْ مَالِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَا تَكُونُ تَوْبَةً، فَلَوْ نَدِمَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا لِلصُّدَاعِ، وَخِفَّةِ الْعَقْلِ، وَزَوَالِ الْمَالِ، وَخَدْشِ الْعِرْضِ لَا يَكُونُ تَائِبًا.

وَالنَّدَمُ لِخَوْفِ النَّارِ أَوْ طَمَعِ الْجَنَّةِ يُعْتَبَرُ تَوْبَةٌ.

وَاعْتَبَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ هَذِهِ الشُّرُوطَ أَوْ أَكْثَرَهَا مِنْ أَرْكَانِ التَّوْبَةِ فَقَالُوا: التَّوْبَةُ النَّدَمُ مَعَ الْإِقْلَاعِ وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ، وَرَدِّ الْمَظَالِمِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: النَّدَمُ رُكْنٌ مِنَ التَّوْبَةِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْإِقْلَاعَ عَنِ الذَّنْبِ وَالْعَزْمَ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدَةِ، وَأَمَّا رَدُّ الْمَظَالِمِ لِأَهْلِهَا فَوَاجِبٌ مُسْتَقِلٌّ لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ.وَيُؤَيِّدُ هَذَا الرَّأْيَ مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ».

وَعَلَى جَمِيعِ الِاعْتِبَارَاتِ لَا بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْإِقْلَاعَ عَنِ الذَّنْبِ لَا يَتِمُّ إِلاَّ بِرَدِّ الْحُقُوقِ إِلَى أَهْلِهَا، أَوْ بِاسْتِحْلَالِهِمْ مِنْهَا فِي حَالَةِ الْقُدْرَةِ، وَهَذَا كَمَا يَلْزَمُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ يَلْزَمُ كَذَلِكَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، كَدَفْعِ الزَّكَوَاتِ، وَالْكَفَّارَاتِ إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا.

وَرَدُّ الْحُقُوقِ يَكُونُ حَسَبَ إِمْكَانِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ أَوِ الْمَغْصُوبُ مَوْجُودًا رَدَّهُ بِعَيْنِهِ، وَإِلاَّ يَرُدُّ الْمِثْلَ إِنْ كَانَا مِثْلِيَّيْنِ وَالْقِيمَةَ إِنْ كَانَا قِيَمِيَّيْنِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ نَوَى رَدَّهُ مَتَى قَدَرَ عَلَيْهِ، وَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِنِيَّةِ الضَّمَانِ لَهُ إِنْ وَجَدَهُ.فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فِيهَا حَقٌّ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا لآِدَمِيٍّ كَالْقِصَاصِ اشْتَرَطَ فِي التَّوْبَةِ التَّمْكِينَ مِنْ نَفْسِهِ وَبَذْلَهَا لِلْمُسْتَحِقِّ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَتَوْبَتُهُ بِالنَّدَمِ وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي آثَارِ التَّوْبَةِ.

إِعْلَانُ التَّوْبَةِ:

5- قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: التَّوْبَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ بَاطِنَةٍ وَحُكْمِيَّةٍ، فَأَمَّا الْبَاطِنَةُ: فَهِيَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ لَا تُوجِبُ حَقًّا عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ كَقُبْلَةِ أَجْنَبِيَّةٍ أَوِ الْخَلْوَةِ بِهَا، وَشُرْبِ مُسْكِرٍ، أَوْ كَذِبٍ، فَالتَّوْبَةُ مِنْهُ النَّدَمُ وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ:

«النَّدَمُ تَوْبَةٌ» وَقِيلَ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ تَجْمَعُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، النَّدَمَ بِالْقَلْبِ، وَالِاسْتِغْفَارَ بِاللِّسَانِ، وَإِضْمَارَ أَنْ لَا يَعُودَ، وَمُجَانَبَةَ خُلَطَاءِ السُّوءِ، وَإِنْ كَانَتْ تُوجِبُ عَلَيْهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لآِدَمِيٍّ كَمَنْعِ الزَّكَاةِ وَالْغَصْبِ، فَالتَّوْبَةُ مِنْهُ بِمَا ذَكَرْنَا، وَتَرْكُ الْمَظْلِمَةِ حَسَبَ إِمْكَانِهِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ وَيَرُدَّ الْمَغْصُوبَ أَوْ مِثْلَهُ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَإِلاَّ قِيمَتَهُ.وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ نَوَى رَدَّهُ مَتَى قَدَرَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فِيهَا حَقٌّ فِي الْبَدَنِ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا لآِدَمِيٍّ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ اشْتَرَطَ فِي التَّوْبَةِ التَّمْكِينَ مِنْ نَفْسِهِ وَبَذْلَهَا لِلْمُسْتَحِقِّ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَى، وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَتَوْبَتُهُ أَيْضًا بِالنَّدَمِ، وَالْعَزْمِ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِقْرَارُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَشْتَهِرْ عَنْهُ فَالْأَوْلَى لَهُ سَتْرُ نَفْسِهِ، وَالتَّوْبَةُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ» فَإِنَّ الْغَامِدِيَّةَ حِينَ أَقَرَّتْ بِالزِّنَى لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ مَعْصِيَةً مَشْهُورَةً فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الْأَوْلَى الْإِقْرَارُ بِهِ لِيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَشْهُورًا فَلَا فَائِدَةَ فِي تَرْكِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ تَرْكَ الْإِقْرَارِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَرَّضَ لِلْمُقِرِّ عِنْدَهُ بِالرُّجُوعِ عَنِ الْإِقْرَارِ فَعَرَّضَ لِمَاعِزٍ وَلِلْمُقِرِّ عِنْدَهُ بِالسَّرِقَةِ بِالرُّجُوعِ مَعَ اشْتِهَارِهِ عَنْهُ بِإِقْرَارِهِ، وَكَرِهَ الْإِقْرَارَ حَتَّى إِنَّهُ قِيلَ لَمَّا قُطِعَ السَّارِقُ كَأَنَّمَا أَسِفَ وَجْهُهُ رَمَادًا، وَلَمْ يَرِدِ الْأَمْرُ بِالْإِقْرَارِ وَلَا الْحَثُّ عَلَيْهِ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا يَصِحُّ لَهُ قِيَاسٌ.إِنَّمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِالسَّتْرِ وَالِاسْتِتَارِ وَالتَّعْرِيضِ لِلْمُقِرِّ بِالرُّجُوعِ عَنِ الْإِقْرَارِ، «وَقَالَ لِهُزَالٍ وَكَانَ هُوَ الَّذِي أَمَرَ مَاعِزًا بِالْإِقْرَارِ يَا هُزَالُ لَوْ سَتَرْته بِثَوْبِك كَانَ خَيْرًا لَك».

وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: تَوْبَةُ هَذَا إِقْرَارُهُ لِيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا ذَكَرْنَا؛ وَلِأَنَّ التَّوْبَةَ تُوجَدُ حَقِيقَتُهَا بِدُونِ الْإِقْرَارِ وَهِيَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا، كَمَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ مَعَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ فِي مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَتَرْكِ الْإِصْرَارِ.وَأَمَّا الْبِدْعَةُ فَالتَّوْبَةُ مِنْهَا بِالِاعْتِرَافِ بِهَا، وَالرُّجُوعِ عَنْهَا، وَاعْتِقَادِ ضِدِّ مَا كَانَ يَعْتَقِدُ مِنْهَا.

عَدَمُ الْعَوْدِ:

6- لَا يُشْتَرَطُ فِي التَّوْبَةِ عَدَمُ الْعَوْدِ إِلَى الذَّنْبِ الَّذِي تَابَ مِنْهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنَّمَا تَتَوَقَّفُ التَّوْبَةُ عَلَى الْإِقْلَاعِ عَنِ الذَّنْبِ وَالنَّدَمِ عَلَيْهِ وَالْعَزْمِ الْجَازِمِ عَلَى تَرْكِ مُعَاوَدَتِهِ، فَإِنْ عَاوَدَهُ مَعَ عَزْمِهِ حَالَ التَّوْبَةِ عَلَى أَنْ لَا يُعَاوِدَهُ صَارَ كَمَنْ ابْتَدَأَ الْمَعْصِيَةَ، وَلَمْ تَبْطُلْ تَوْبَتُهُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَلَا يَعُودُ إِلَيْهِ إِثْمُ الذَّنْبِ الَّذِي ارْتَفَعَ بِالتَّوْبَةِ، وَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَذَلِكَ بِنَصِّ الْحَدِيثِ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ».

وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَعُودُ إِلَيْهِ إِثْمُ الذَّنْبِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الذَّنْبِ بِمَنْزِلَةِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْكَافِرُ إِذَا أَسْلَمَ هَدَمَ إِسْلَامُهُ مَا قَبْلَهُ مِنْ إِثْمِ الْكُفْرِ وَتَوَابِعِهِ، فَإِذَا ارْتَدَّ عَادَ إِلَيْهِ الْإِثْمُ الْأَوَّلُ مَعَ الرِّدَّةِ.

وَالْحَقُّ أَنَّ عَدَمَ مُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ وَاسْتِمْرَارَ التَّوْبَةِ شَرْطٌ فِي كَمَالِ التَّوْبَةِ وَنَفْعِهَا الْكَامِلِ لَا فِي صِحَّةِ مَا مَضَى مِنْهَا.

هَذَا وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ فِي ثُبُوتِ بَعْضِ أَحْكَامِ التَّوْبَةِ إِصْلَاحَ الْعَمَلِ، فَلَا تَكْفِي التَّوْبَةُ حَتَّى تَمْضِيَ عَلَيْهِ مُدَّةٌ تَظْهَرُ فِيهَا آثَارُ التَّوْبَةِ وَيَتَبَيَّنُ فِيهَا صَلَاحُهُ عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي فِي آثَارِ التَّوْبَةِ.

التَّوْبَةُ مِنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ:

7- تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى غَيْرِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، فَالتَّوْبَةُ تَتَبَعَّضُ كَالْمَعْصِيَةِ وَتَتَفَاضَلُ فِي كَمِّيَّتِهَا كَمَا تَتَفَاضَلُ فِي كَيْفِيَّتِهَا، فَكُلُّ ذَنْبٍ لَهُ تَوْبَةٌ تَخُصُّهُ، وَلَا تَتَوَقَّفُ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْ بَقِيَّةِ الذُّنُوبِ، كَمَا لَا يَتَعَلَّقُ أَحَدُ الذَّنْبَيْنِ بِالْآخَرِ، وَكَمَا يَصِحُّ إِيمَانُ الْكَافِرِ مَعَ إِدَامَتِهِ شُرْبَ الْخَمْرِ وَالزِّنَى تَصِحُّ التَّوْبَةُ عَنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى آخَرَ.

وَنَقَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ قَوْلًا بِعَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِي عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَصِحُّ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ نَوْعِهِ، وَأَمَّا التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ مُبَاشَرَةِ ذَنْبٍ آخَرَ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ وَلَا هُوَ مِنْ نَوْعِهِ فَتَصِحُّ، كَمَا إِذَا تَابَ مِنَ الرِّبَا، وَلَمْ يَتُبْ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ مَثَلًا فَإِنَّ تَوْبَتَهُ مِنَ الرِّبَا صَحِيحَةٌ، وَأَمَّا إِذَا تَابَ مِنْ رِبَا الْفَضْلِ وَلَمْ يَتُبْ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ تَابَ مِنْ تَنَاوُلِ الْحَشِيشَةِ وَأَصَرَّ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ بِالْعَكْسِ فَهَذَا لَا تَصِحُّ تَوْبَتُهُ، كَمَنْ يَتُوبُ عَنْ زِنَى بِامْرَأَةٍ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الزِّنَى بِغَيْرِهَا.

أَقْسَامُ التَّوْبَةِ:

8- صَرَّحَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ التَّوْبَةَ نَوْعَانِ: تَوْبَةٌ فِي الْبَاطِنِ، وَتَوْبَةٌ فِي الظَّاهِرِ.

فَأَمَّا التَّوْبَةُ فِي الْبَاطِنِ: فَهِيَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيُنْظَرُ فِي الْمَعْصِيَةِ فَإِنْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهَا مَظْلَمَةٌ لآِدَمِيٍّ، وَلَا حَدٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، كَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، فَالتَّوْبَةُ مِنْهَا أَنْ يُقْلِعَ عَنْهَا وَيَنْدَمَ عَلَى فِعْلِ مَا فَعَلَ، وَيَعْزِمَ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى مِثْلِهَا.وَالدَّلِيلُ عَلَى، ذَلِكَ قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} الْآيَةَ.

وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ آدَمِيٍّ، فَالتَّوْبَةُ مِنْهَا أَنْ يُقْلِعَ عَنْهَا، وَيَنْدَمَ عَلَى مَا فَعَلَ، وَيَعْزِمَ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى مِثْلِهَا، وَأَنْ يَبْرَأَ مِنْ حَقِّ الْآدَمِيِّ، إِمَّا بِأَنْ يُؤَدِّيَهُ أَوْ يَسْأَلَهُ حَتَّى يُبْرِئَهُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ نَوَى أَنَّهُ إِنْ قَدَرَ أَوْفَاهُ حَقَّهُ.

وَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْمَعْصِيَةِ حَدٌّ لِلَّهِ، كَحَدِّ الزِّنَى وَالشُّرْبِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَسْتُرَهُ عَلَى نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ».

وَأَمَّا التَّوْبَةُ فِي الظَّاهِرِ- وَهِيَ الَّتِي تَعُودُ بِهَا الْعَدَالَةُ وَالْوِلَايَةُ وَقَبُولُ الشَّهَادَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ فِعْلًا كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّةِ التَّوْبَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حَتَّى يَصْلُحَ عَمَلُهُ، وَقَدَّرُوهَا بِسَنَةٍ أَوْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، أَوْ حَتَّى ظُهُورِ عَلَامَاتِ الصَّلَاحِ عَلَى اخْتِلَافِ أَقْوَالِهِمْ خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا إِصْلَاحَ الْعَمَلِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ قَذْفًا أَوْ شَهَادَةَ زُورٍ فَلَا بُدَّ مِنْ إِكْذَابِ نَفْسِهِ كَمَا سَيَأْتِي.

التَّوْبَةُ النَّصُوحُ:

9- أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ لِيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}.

وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، وَأَشْهَرُهَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ- رضي الله عنهم-، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا أَنَّ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ هِيَ الَّتِي لَا عَوْدَةَ بَعْدَهَا كَمَا لَا يَعُودُ اللَّبَنُ إِلَى الضَّرْعِ.وَقِيلَ: هِيَ النَّدَمُ بِالْقَلْبِ، وَالِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ، وَالْإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ، وَالِاطْمِئْنَانُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعُودُ.

حُكْمُ التَّوْبَةِ:

10- التَّوْبَةُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبَةٌ شَرْعًا عَلَى الْفَوْرِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ الْمُهِمَّةِ وَقَوَاعِدِ الدِّينِ، وَأَوَّلِ مَنَازِلِ السَّالِكِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

وَقْتُ التَّوْبَةِ:

11- إِذَا أَخَّرَ الْمُذْنِبُ التَّوْبَةَ إِلَى آخِرِ حَيَاتِهِ، فَإِنْ ظَلَّ آمِلًا فِي الْحَيَاةِ غَيْرَ يَائِسٍ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْمَوْتَ يُدْرِكُهُ لَا مَحَالَةَ فَتَوْبَتُهُ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْمَوْتِ لقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} وَلِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ».

وَإِنْ قَطَعَ الْأَمَلَ مِنَ الْحَيَاةِ وَكَانَ فِي حَالَةِ الْيَأْسِ (مُشَاهَدَةُ دَلَائِلِ الْمَوْتِ) فَاخْتَلَفُوا فِيهِ:

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ- وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَرَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَنُسِبَ إِلَى مَذْهَبِ الْأَشَاعِرَةِ: إِنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْيَائِسِ الَّذِي يُشَاهِدُ دَلَائِلَ الْمَوْتِ، بِدَلِيلِ قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} الْآيَةَ.

قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَرْتَكِبُونَ الذُّنُوبَ وَيُؤَخِّرُونَ التَّوْبَةَ إِلَى وَقْتِ الْغَرْغَرَةِ، بِدَلِيلِ قوله تعالى بَعْدَهُ: {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} لِأَنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ بَيْنَ مَنْ أَخَّرَ التَّوْبَةَ إِلَى حُضُورِ الْمَوْتِ مِنَ الْفَسَقَةِ وَبَيْنَ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ كَافِرٌ، فَلَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْيَائِسِ كَمَا لَا يُقْبَلُ إِيمَانُهُ.وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطْ لِصِحَّةِ التَّوْبَةِ صُدُورُهَا قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ، وَهِيَ حَالَةُ الْيَأْسِ وَبُلُوغُ الرُّوحِ الْحُلْقُومَ.

وَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ- وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ إِلَى مَذْهَبِ الْمَاتُرِيدِيَّةِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْعَاصِيَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَلَوْ فِي حَالَةِ الْغَرْغَرَةِ، بِخِلَافِ إِيمَانِ الْيَائِسِ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْكَافِرَ غَيْرُ عَارِفٍ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَيَبْدَأُ إِيمَانًا وَعِرْفَانًا، وَالْفَاسِقُ عَارِفٌ وَحَالُهُ حَالُ الْبَقَاءِ، وَالْبَقَاءُ أَسْهَلُ مِنَ الِابْتِدَاءِ وَلِإِطْلَاقِ قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}.

وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي عَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ الْكَافِرِ بِإِسْلَامِهِ فِي حَالَةِ الْيَأْسِ بِدَلِيلِ ( (حِكَايَةً عَنْ حَالِ فِرْعَوْنَ: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}.

مَنْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ وَمَنْ لَا تُقْبَلُ:

12- تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ الْعَاصِي بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ كَمَا وَعَدَ فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ حَيْثُ قَالَ: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} لَكِنْ هُنَاكَ بَعْضُ الْحَالَاتِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ فِيهَا نَظَرًا لِلْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِهَا وَمِنْ هَذِهِ الْحَالَاتِ:

أ- تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ:

13- الزِّنْدِيقُ هُوَ الَّذِي لَا يَتَمَسَّكُ بِشَرِيعَةٍ وَلَا يَتَدَيَّنُ بِدِينٍ.

وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، (الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَرَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) عَلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} الْآيَةَ.

وَالزِّنْدِيقُ لَا يَظْهَرُ مِنْهُ بِالتَّوْبَةِ خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ مُسِرًّا بِالْكُفْرِ؛ وَلِأَنَّ التَّوْبَةَ عِنْدَ الْخَوْفِ عَيْنُ الزَّنْدَقَةِ.لَكِنِ الْمَالِكِيَّةُ صَرَّحُوا بِقَبُولِ التَّوْبَةِ مِنَ الزِّنْدِيقِ إِذَا أَظْهَرَهَا قَبْلَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الزِّنْدِيقَ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ فَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ بِشُرُوطِهَا؛ لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}.

وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيَّةُ بِالزَّنَادِقَةِ الْبَاطِنِيَّةَ بِمُخْتَلَفِ فِرَقِهِمْ كَمَا أَلْحَقَ بِهِمِ الْحَنَابِلَةُ الْحُلُولِيَّةَ وَالْإِبَاحِيَّةَ وَسَائِرَ الطَّوَائِفِ الْمَارِقِينَ مِنَ الدِّينِ.

ب- تَوْبَةُ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ:

14- صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَنُسِبَ إِلَى مَالِكٍ بِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}.وَلِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} وَالِازْدِيَادُ يَقْتَضِي كُفْرًا جَدِيدًا لَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِ إِيمَانٍ عَلَيْهِ.

وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أُتِيَ بِرَجُلٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ أُتِيَ بِك مَرَّةً فَزَعَمْتَ أَنَّك تُبْتَ وَأَرَاكَ قَدْ عُدْتَ فَقَتَلَهُ.وَلِأَنَّ تَكْرَارَ الرِّدَّةِ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ عَقِيدَتِهِ وَقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ بِالدِّينِ فَيُقْتَلُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: إِنَّهُ تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ وَلَوْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ؛ لِإِطْلَاقِ قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وَلِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ».لَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمُرْتَدَّ الْمُتَكَرِّرَةُ مِنْهُ الرِّدَّةُ إِذَا تَابَ ثَانِيًا عُزِّرَ بِالضَّرْبِ أَوْ بِالْحَبْسِ وَلَا يُقْتَلُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا ارْتَدَّ ثَانِيًا ثُمَّ تَابَ ضَرَبَهُ الْإِمَامُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَإِنِ ارْتَدَّ ثَالِثًا ثُمَّ تَابَ ضَرَبَهُ ضَرْبًا وَجِيعًا وَحَبَسَهُ حَتَّى تَظْهَرَ عَلَيْهِ آثَارُ التَّوْبَةِ وَيَرَى أَنَّهُ مُخْلِصٌ ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ، فَإِنْ عَادَ فَعَلَ بِهِ هَكَذَا أَبَدًا مَا دَامَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ،

وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ هَذَا عَنِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.

ج- تَوْبَةُ السَّاحِرِ:

15- السِّحْرُ عِلْمٌ يُسْتَفَادُ مِنْهُ حُصُولُ مَلَكَةٍ نَفْسَانِيَّةٍ يَقْتَدِرُ بِهَا عَلَى أَفْعَالٍ غَرِيبَةٍ بِأَسْبَابٍ خَفِيَّةٍ.

وَعَرَّفَهُ ابْنُ خَلْدُونٍ بِأَنَّهُ عِلْمٌ بِكَيْفِيَّةِ اسْتِعْدَادَاتٍ تَقْتَدِرُ النُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ بِهَا عَلَى التَّأْثِيرَاتِ فِي عَالَمِ الْعَنَاصِرِ بِغَيْرِ مُعَيَّنٍ.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَعْلِيمَهُ وَتَعَلُّمَهُ حَرَامٌ لقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} فَذَمَّهُمْ عَلَى تَعْلِيمِهِ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَدَّهُ مِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ السَّاحِرِ فَيَجِبُ قَتْلُهُ وَلَا يُسْتَتَابُ، وَذَلِكَ لِسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ كُفْرِهِ مُطْلَقًا عَدَمُ قَتْلِهِ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ بِسَبَبِ سَعْيِهِ بِالْفَسَادِ، فَإِذَا ثَبَتَ ضَرَرُهُ وَلَوْ بِغَيْرِ مُكَفِّرٍ يُقْتَلُ دَفْعًا لِشَرِّهِ كَالْخَنَّاقِ وَقَطَّاعِ الطَّرِيقِ.وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ.

وَحَدُّ السَّاحِرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْقَتْلُ وَيَكْفُرُ بِتَعَلُّمِهِ وَفِعْلِهِ سَوَاءٌ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ أَوْ إِبَاحَتَهُ.

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا حُكِمَ بِكُفْرِهِ فَإِنْ كَانَ مُجَاهِرًا بِهِ يُقْتَلُ إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ فَتُقْبَلَ تَوْبَتُهُ، وَإِنْ كَانَ يُخْفِيهِ فَهُوَ كَالزِّنْدِيقِ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ.

16- وَالدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ السَّاحِرِ حَدِيثُ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ» فَسَمَّاهُ حَدًّا وَالْحَدُّ بَعْدَ ثُبُوتِ سَبَبِهِ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ.وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: إِنَّ السَّاحِرَةَ سَأَلَتْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ- هَلْ لَهَا مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَمَا أَفْتَاهَا أَحَدٌ وَلِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَنَا إِلَى إِخْلَاصِهِ فِي تَوْبَتِهِ لِأَنَّهُ يُضْمِرُ السِّحْرَ وَلَا يَجْهَرُ بِهِ، فَيَكُونُ إِظْهَارُ الْإِسْلَامِ وَالتَّوْبَةِ خَوْفًا مِنَ الْقَتْلِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ عَلَّمَ أَوْ تَعَلَّمَ السِّحْرَ وَاعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ لَمْ يَكْفُرْ، وَإِنِ اعْتَقَدَ إِبَاحَتَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِهِ كَفَرَ؛ لِأَنَّهُ كَذَّبَ اللَّهَ تَعَالَى فِي خَبَرِهِ وَيُقْتَلُ كَمَا يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ.

فَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ تُقْبَلُ تَوْبَةُ السَّاحِرِ كَمَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ.وَهَذَا مَا قَرَّرَهُ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَهُمْ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ السَّاحِرَ إِنْ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَعْظَمَ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْمُشْرِكُ يُسْتَتَابُ وَمَعْرِفَةُ السِّحْرِ لَا تَمْنَعُ قَبُولَ تَوْبَتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَبِلَ تَوْبَةَ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ.

وَفِي الْجُمْلَةِ، فَالْخِلَافُ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ، إِنَّمَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا مِنْ تَرْكِ قَتْلِهِمْ وَثُبُوتِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِمْ، وَأَمَّا قَبُولُ اللَّهِ لَهَا فِي الْبَاطِنِ وَغُفْرَانُهُ لِمَنْ تَابَ وَأَقْلَعَ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا فَلَا خِلَافَ فِيهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَسُدَّ بَابَ التَّوْبَةِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ وَقَدْ قَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاَللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}

وَتَفْصِيلُ مَا يَتَّصِلُ بِالسِّحْرِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (سِحْرٌ).

آثَارُ التَّوْبَةِ:

أَوَّلًا: فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ:

17- التَّوْبَةُ بِمَعْنَى النَّدَمِ عَلَى مَا مَضَى وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ لِمِثْلِهِ لَا تَكْفِي لِإِسْقَاطِ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ.فَمَنْ سَرَقَ مَالَ أَحَدٍ أَوْ غَصَبَهُ أَوْ أَسَاءَ إِلَيْهِ بِطَرِيقَةٍ أُخْرَى لَا يَتَخَلَّصُ مِنَ الْمُسَائِلَةِ بِمُجَرَّدِ النَّدَمِ وَالْإِقْلَاعِ عَنِ الذَّنْبِ وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ رَدِّ الْمَظَالِمِ، وَهَذَا الْأَصْلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ قَدْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقٌّ مَالِيٌّ كَمَنْعِ الزَّكَاةِ وَالْغَصْبِ وَالْجِنَايَاتِ، فِي أَمْوَالِ النَّاسِ وَجَبَ مَعَ ذَلِكَ تَبْرِئَةُ الذِّمَّةِ عَنْهُ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ، وَيَرُدَّ أَمْوَالَ النَّاسِ إِنْ بَقِيَتْ، وَيَغْرَمَ بَدَلَهَا إِنْ لَمْ تَبْقَ، أَوْ يَسْتَحِلَّ الْمُسْتَحِقَّ فَيُبَرِّئَهُ، وَيَجِبُ أَنْ يُعْلِمَ الْمُسْتَحِقُّ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْحَقِّ وَأَنْ يُوَصِّلَهُ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ غَائِبًا إِنْ كَانَ غَصَبَهُ هُنَاكَ.فَإِنْ مَاتَ سَلَّمَهُ إِلَى وَارِثِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ رَفَعَهُ إِلَى قَاضٍ تُرْضَى سِيرَتُهُ وَدِيَانَتُهُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِنِيَّةِ الضَّمَانِ لَهُ إِنْ وَجَدَهُ.

وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا نَوَى الضَّمَانَ إِذَا قَدَرَ.فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ فَالْمَرْجُوُّ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَغْفِرَةُ،

وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلْعِبَادِ لَيْسَ بِمَالِيٍّ كَالْقِصَاصِ وَحَقِّ الْقَذْفِ فَيَأْتِي الْمُسْتَحِقَّ وَيُمَكِّنُهُ مِنَ الِاسْتِيفَاءِ، فَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَإِنْ شَاءَ عَفَا.

وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَعَ تَفْصِيلٍ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ حَسَبَ نَوْعِيَّةِ الْمَعْصِيَةِ وَتَنَاسُبِ التَّوْبَةِ مَعَهَا كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوَاضِعِهَا.

ثَانِيًا: فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى:

18- حُقُوقُ اللَّهِ الْمَالِيَّةُ كَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، بَلْ يَجِبُ مَعَ التَّوْبَةِ تَبْرِئَةُ الذِّمَّةِ بِأَدَائِهَا كَمَا تَقَدَّمَ.

أَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ الْمَالِيَّةِ كَالْحُدُودِ مَثَلًا فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ جَرِيمَةَ قَطْعِ الطَّرِيقِ (الْحِرَابَةُ) تَسْقُطُ بِتَوْبَةِ الْقَاطِعِ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ؛ لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ إِذَا تَابَ قَبْلَ أَنْ يُظْفَرَ بِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَالْمُرَادُ بِمَا قَبْلَ الْقُدْرَةِ فِي الْآيَةِ أَنْ لَا تَمْتَدَّ إِلَيْهِمْ يَدُ الْإِمَامِ بِهَرَبٍ أَوِ اسْتِخْفَاءٍ أَوِ امْتِنَاعٍ.

وَتَوْبَتُهُ بِرَدِّ الْمَالِ إِلَى صَاحِبِهِ إِذَا كَانَ قَدْ أَخَذَ الْمَالَ لَا غَيْرُ، مَعَ الْعَزْمِ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ لِمِثْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ أَصْلًا، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَتْلُ حَدًّا، وَكَذَلِكَ إِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ حَدًّا، وَلَكِنْ يَدْفَعَهُ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ يَقْتُلُونَهُ قِصَاصًا إِذَا تَحَقَّقَتْ شُرُوطُهُ.وَإِنْ لَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ فَتَوْبَتُهُ النَّدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ وَالْعَزْمُ عَلَى التَّرْكِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

وَلَا يَسْقُطُ عَنِ الْمُحَارِبِ حَدُّ الزِّنَى وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ إِذَا ارْتَكَبَهَا حَالَ الْحِرَابَةِ ثُمَّ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ، وَهُوَ احْتِمَالٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَمَفْهُومُ إِطْلَاقِ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحُدُودِ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ خِلَافُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا تَسْقُطُ عَنِ الْمُحَارِبِ إِذَا تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِعُمُومِ الْآيَةِ.

أَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْجِرَاحِ فَلَا تَسْقُطُ عَنِ الْمُحَارِبِ كَغَيْرِ الْمُحَارِبِ إِلاَّ أَنْ يُعْفَى لَهُ عَنْهَا.

19- أَمَّا فِي غَيْرِ الْمُحَارَبَةِ فَإِنَّ الْحُدُودَ الْمُخْتَصَّةَ بِاَللَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَلَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَهَذَا عَامٌّ فِي التَّائِبِينَ وَغَيْرِهِمْ؛ وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ، وَقَطَعَ الَّذِي أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ، وَقَدْ جَاءُوا تَائِبِينَ يَطْلُبُونَ التَّطْهِيرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَقَدْ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِعْلَهُمْ تَوْبَةً فَقَالَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ: لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ عَلَى سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ»

وَالرَّأْيُ الثَّانِي وَهُوَ خِلَافُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَرَأْيٌ لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ تَابَ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ مِنْ غَيْرِ الْمُحَارِبِينَ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ لقوله تعالى:

{وَاَللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} وَذَكَرَ حَدَّ السَّارِقِ ثُمَّ قَالَ:

{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ}.

عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ فَرَّقُوا بَيْنَ التَّوْبَةِ مِنْ هَذِهِ الْجَرَائِمِ قَبْلَ الرَّفْعِ لِلْإِمَامِ وَبَعْدَهُ فَيَقُولُونَ بِإِسْقَاطِ التَّوْبَةِ لَهَا قَبْلَ الرَّفْعِ لَا بَعْدَهُ.كَمَا فُصِّلَ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا،

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عُقُوبَةَ الرِّدَّةِ تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الرَّفْعِ وَبَعْدَهُ. (ر: رِدَّةٌ).

ثَالِثًا: فِي التَّعْزِيرَاتِ:

20- يَسْقُطُ التَّعْزِيرُ بِالتَّوْبَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، كَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ مَثَلًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّعْزِيرِ التَّأْدِيبُ وَالْإِصْلَاحُ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّوْبَةِ، بِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَالضَّرْبِ وَالشَّتْمِ؛ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُشَاحَّةِ كَمَا مَرَّ.

وَلِلتَّفْصِيلِ اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ: (تَعْزِيرٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


50-موسوعة الفقه الكويتية (ثواب)

ثَوَابٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الثَّوَابُ: الْعِوَضُ: وَاللَّهُ يَأْجُرُ عَبْدَهُ، أَيْ يُثِيبُهُ، وَأَصْلُهُ مِنْ ثَابَ أَيْ رَجَعَ، كَأَنَّ الْمُثِيبَ يُعَوِّضُ الْمُثَابَ مِثْلَ مَا أَسْدَى إِلَيْهِ

وَالثَّوَابُ: الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ يَعُودُ إِلَى الْمَجْزِيِّ، وَهُوَ اسْمٌ مِنَ الْإِثَابَةِ أَوِ التَّثْوِيبِ، مِنْهُ قَوْلُهُ فِي الْهِبَةِ: مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا، أَيْ مَا لَمْ يُعَوَّضْ.

وَالثَّوَابُ: جَزَاءُ الطَّاعَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَثُوبَةُ، قَالَ تَعَالَى: {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} وَأَعْطَاهُ ثَوَابَهُ وَمَثُوبَتَهُ، أَيْ جَزَاءَ مَا عَمِلَهُ.

وَفِي تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ: الثَّوَابُ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الرَّحْمَةَ وَالْمَغْفِرَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالشَّفَاعَةَ مِنَ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-.

وَقِيلَ: الثَّوَابُ هُوَ إِعْطَاءُ مَا يُلَائِمُ الطَّبْعَ.

وَفِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: الثَّوَابُ مِقْدَارٌ مِنَ الْجَزَاءِ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى يُعْطِيهِ لِعِبَادِهِ فِي نَظِيرِ أَعْمَالِهِمْ الْحَسَنَةِ الْمَقْبُولَةِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْحَسَنَةُ:

2- الْحَسَنَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَدْحُ فِي الْعَاجِلِ وَالثَّوَابُ فِي الْآجِلِ.وَهِيَ بِذَلِكَ تَكُونُ سَبَبًا لِلثَّوَابِ.

ب- الطَّاعَةُ:

3- الطَّاعَةُ: الِانْقِيَادُ فَإِذَا كَانَتْ فِي الْخَيْرِ كَانَتْ سَبَبًا لِلثَّوَابِ، وَإِذَا كَانَتْ فِي الْمَعْصِيَةِ كَانَتْ سَبَبًا فِي الْعِقَابِ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّوَابِ مِنْ أَحْكَامٍ.

لِلثَّوَابِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ إِطْلَاقَانِ:

أ- الثَّوَابُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ جَزَاءَ طَاعَتِهِ.

ب- الثَّوَابُ فِي الْهِبَةِ (أَيْ الْعِوَضِ الْمَالِيِّ).

وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا:

الثَّوَابُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى:

4- الْأَصْلُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ، بَلِ الثَّوَابُ فَضْلُهُ وَالْعِقَابُ عَدْلُهُ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} وَالتَّكَالِيفُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ عِبَادَةِ الْكُلِّ، لَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ الطَّائِعِينَ، وَلَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ الْعَاصِينَ.، وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحْكَامَهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَسْبَابٍ رَبَطَهَا بِهَا، لِيَعْرِفَ الْعِبَادُ بِالْأَسْبَابِ أَحْكَامَهَا، فَيُسَارِعُوا بِذَلِكَ إِلَى طَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، إِذَا وَقَفُوا عَلَى الْأَسْبَابِ، فَأَمَرَ الْمُكَلَّفِينَ كُلَّهُمْ وَنَهَاهُمْ، وَقَدْ وَعَدَ مَنْ أَطَاعَهُ بِالثَّوَابِ، وَتَوَعَّدَ مَنْ عَصَاهُ بِالْعِقَابِ.

مَنْ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ:

5- لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُكَلَّفَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُثَابُ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَيُعَاقَبُ عَلَى الْمَعَاصِي إِلاَّ أَنْ يَشْمَلَهُ اللَّهُ بِعَفْوِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ أَوَامِرَ وَنَوَاهٍ وَهِيَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ.

6- أَمَّا غَيْرُ الْمُكَلَّفِينَ كَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ فَالْأَصْلُ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ أَهْلٌ لِلثَّوَابِ لِمَا لَهُ مِنْ قُدْرَةٍ قَاصِرَةٍ، وَتَصِحُّ عِبَادَتُهُ مِنْ صَلَاةٍ، وَصَوْمٍ، وَاعْتِكَافٍ، وَحَجٍّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيُكْتَبُ لَهُ ثَوَابُ مَا يَعْمَلُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ عِبَادَتِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ» وَحَدِيثُ صَلَاةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ فَجِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ» وَحَدِيثُ تَصْوِيمِ الصَّحَابَةِ الصِّبْيَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ.فَعَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: «أَرْسَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ: مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيَصُمْ.قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ.فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ» وَقَدْ رَجَّحَ الْمَالِكِيَّةُ تَعَلُّقَ النَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ بِالصَّبِيِّ دُونَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ فَيُشْتَرَطُ لَهَا الْبُلُوغُ، وَذَلِكَ لِأَمْرِهِ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ مِنَ الشَّارِعِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَمْرِ أَمْرٌ بِالشَّيْءِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ أَهْلٌ لِلثَّوَابِ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى مُسْلِمًا بَعْدَ الْجُنُونِ وَالْمُسْلِمُ يُثَابُ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ: (صَبِيٌّ، جُنُونٌ، أَهْلِيَّةٌ).

7- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَفْعَلُهُ الْكَافِرُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ ثُمَّ يُسْلِمُ، هَلْ يَنْفَعُهُ عَمَلُهُ السَّابِقُ أَوْ لَا يَنْفَعُهُ؟ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ «حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ وَمِنْ صِلَةِ رَحِمٍ فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ».

قَالَ الْحَرْبِيُّ: مَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ لَكَ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي عَمِلْتَهُ هُوَ لَكَ.وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْخَيْرَ الَّذِي أَسْلَفَهُ، كُتِبَ لَهُ، لَكِنَّ ابْنَ حَجَرٍ نَقَلَ عَنِ الْمَازِرِيِّ رِوَايَةً أُخْرَى فِي مَكَانٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّقَرُّبُ، فَلَا يُثَابُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ الصَّادِرِ مِنْهُ فِي شِرْكِهِ...وَتَابَعَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَلَى ذَلِكَ.

وَاسْتَضْعَفَ النَّوَوِيُّ رَأْيَ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الثَّوَابِ وَقَالَ: الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ بَلْ نَقَلَ بَعْضُهُمْ فِيهِ الْإِجْمَاعَ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا فَعَلَ أَفْعَالًا جَمِيلَةً كَالصَّدَقَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنَّ ثَوَابَ ذَلِكَ يُكْتَبُ لَهُ، وَقَدْ جَزَمَ بِمَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْقُدَمَاءِ، وَالْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ الْمُنِيرِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ.

أَمَّا مَا فَعَلَهُ الْكَافِرُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ ثُمَّ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ، فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَا قَالَ النَّوَوِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا ثَوَابَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا يُطْعَمُ فِي الدُّنْيَا بِمَا عَمِلَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا».

مَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَشُرُوطُهُ:

8- مِنَ الْمُقَرَّرِ شَرْعًا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُثَابُ- بِفَضْلِ اللَّهِ- عَلَى مَا يُؤَدِّي مِنْ طَاعَاتٍ، وَاجِبَةً كَانَتْ أَوْ مَنْدُوبَةً، وَعَلَى مَا يَتْرُكُ مِنْ مُحَرَّمَاتٍ وَمَكْرُوهَاتٍ.يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} وَيَقُولُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ» لَكِنَّ فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ وَتَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ لَيْسَ سَبَبًا فِي حَدِّ ذَاتِهِ- لِلثَّوَابِ- مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ مُجْزِئًا وَمُبْرِئًا لِلذِّمَّةِ وَالتَّرْكُ كَافِيًا لِلْخُرُوجِ مِنَ الْعُهْدَةِ؛ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِحُصُولِ الثَّوَابِ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ نِيَّةُ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.بَلْ إِنَّ الْمُبَاحَاتِ رَغْمَ أَنَّهَا لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، لَكِنْ إِنْ أُرِيدَ بِهَا الثَّوَابُ بِجَعْلِهَا وَسِيلَةً لِلْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَةِ افْتَقَرَتْ إِلَى نِيَّةٍ.

قَالَ الشَّاطِبِيُّ: الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَالْمَقَاصِدُ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا تَنْحَصِرُ، مِنْهَا قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ: لَا ثَوَابَ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: قَرَّرَ الْمَشَايِخُ فِي حَدِيثِ.«إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُقْتَضَى، إِذْ لَا يَصِحُّ بِدُونِ تَقْدِيرٍ لِكَثْرَةِ وُجُودِ الْأَعْمَالِ بِدُونِهَا فَقَدَّرُوا مُضَافًا أَيْ حُكْمَ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أُخْرَوِيٌّ، وَهُوَ الثَّوَابُ وَاسْتِحْقَاقُ الْعِقَابِ، وَدُنْيَوِيٌّ وَهُوَ الصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ، وَقَدْ أُرِيدَ الْأُخْرَوِيُّ بِالْإِجْمَاعِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَسَاقَ ابْنُ نُجَيْمٍ الْأَمْثِلَةَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا تُشْتَرَطُ لِلثَّوَابِ صِحَّةُ الْعِبَادَةِ، بَلْ يُثَابُ عَلَى نِيَّتِهِ وَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً بِغَيْرِ تَعَمُّدِهِ، كَمَا لَوْ صَلَّى مُحْدِثًا عَلَى ظَنِّ طَهَارَتِهِ.

9- بَلْ إِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُثَابُ عَلَى مَا لَمْ يَعْمَلْ، وَيَكُونُ الثَّوَابُ عَلَى النِّيَّةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً» وَقَوْلِهِ: «مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّيَ فِي اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ»

وَيُثَابُ كَذَلِكَ عَلَى الْعَمَلِ وَإِنْ لَمْ يَقَعِ الْمَوْقِعَ الْمُنَاسِبَ، فَفِي الْبُخَارِيِّ حَدِيثُ الْمُتَصَدِّقِ الَّذِي وَقَعَتْ صَدَقَتُهُ فِي يَدِ زَانِيَةٍ وَغَنِيٍّ وَسَارِقٍ.وَحَدِيثُ «مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الْأَخْنَسِ الَّذِي أَخَذَ صَدَقَةَ أَبِيهِ مِنَ الرَّجُلِ الَّذِي وُضِعَتْ عِنْدَهُ وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ» قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الْمُتَصَدِّقِ إِذَا كَانَتْ صَالِحَةً قُبِلَتْ صَدَقَتُهُ وَإِنْ لَمْ تَقَعِ الْمَوْقِعَ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْقُرُبَاتِ الَّتِي لَا لُبْسَ فِيهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ كَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (نِيَّةٌ).

مَا يُثَابُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِمَّا لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ:

لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الثَّوَابَ يَتَعَلَّقُ بِمَا هُوَ مِنْ كَسْبِ الْإِنْسَانِ وَاكْتِسَابِهِ، أَمَّا ثَوَابُ مَا لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ.وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ:

أَوَّلًا- فِيمَا يَهَبُهُ الْإِنْسَانُ لِغَيْرِهِ مِنَ الثَّوَابِ:

10- يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يَجْعَلَ الْإِنْسَانُ ثَوَابَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ عِبَادَةٍ لِغَيْرِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعِبَادَةُ صَلَاةً، أَمْ صَوْمًا، أَمْ حَجًّا، أَمْ صَدَقَةً، أَمْ قِرَاءَةً وَذِكْرًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ لِظَاهِرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهَا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وَقَدْ «ضَحَّى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْهُ وَالْآخَرُ عَنْ أُمَّتِهِ» وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ أَبِيهِ: لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَأَعْتَقْتُمْ عَنْهُ، أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ، أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ بَلَغَهُ ذَلِكَ». وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَأَمَّا قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} فَمَعْنَاهُ لَا يَجِبُ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ فِيمَا عَدَا الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيمَا عَدَا الصَّلَاةَ، وَفِي الصِّيَامِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ خِلَافٌ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ.

11- وَاخْتُلِفَ فِي إِهْدَاءِ الثَّوَابِ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ وَمَنَعَهُ الْآخَرُونَ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي بَعْضِ فَتَاوِيهِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الثَّوَابِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الشَّارِعِ، لَكِنَّ الْحَطَّابَ قَالَ: التَّصَرُّفُ الْمَمْنُوعُ مَا يَكُونُ بِصِيغَةِ جَعَلْتُهُ لَهُ، أَوْ أَهْدَيْتُهُ لَهُ، أَمَّا الدُّعَاءُ بِجَعْلِ ثَوَابِهِ لَهُ فَلَيْسَ تَصَرُّفًا بَلْ سُؤَالٌ لِنَقْلِ الثَّوَابِ إِلَيْهِ وَلَا مَانِعَ مِنْهُ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ أَدَاءٌ (ف 14).

(الْمَوْسُوعَةُ 2 334).

ثَانِيًا- ثَوَابُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ لِمَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ:

12- مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، لَكِنْ هَلْ يَحْصُلُ ثَوَابُ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَفْعَلْ؟

قَالَ الْفُقَهَاءُ: الثَّوَابُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ يَحْصُلُ لِفَاعِلِهِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ ثَوَابُ الْفِعْلِ نَفْسِهِ، وَهُوَ لِفَاعِلِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْفَاعِلِ فَيَسْتَوِي مَعَ الْفَاعِلِ فِي سُقُوطِ التَّكْلِيفِ، لَا فِي الثَّوَابِ وَعَدَمِهِ، نَعَمْ إِنْ كَانَ نَوَى الْفِعْلَ فَلَهُ الثَّوَابُ عَلَى نِيَّتِهِ، قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الرِّسَالَةِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَحْصُلُ الثَّوَابُ بِغَيْرِ مَنْ رَدَّ السَّلَامَ- أَيْ بَعْدَ رَدِّ غَيْرِهِ- إِذَا نَوَى الرَّدَّ وَتَرَكَهُ لِأَجْلِ رَدِّ الْغَيْرِ، وَإِلاَّ فَلَا.وَنُقِلَ عَنِ الْأَبِيِّ أَنَّ الثَّوَابَ يَحْصُلُ مُطْلَقًا قَالَ الزُّرْقَانِيُّ: وَفِيهِ تَعَسُّفٌ.

ثَالِثًا- الْمَصَائِبُ الَّتِي تَنْزِلُ بِالْإِنْسَانِ هَلْ يُثَابُ عَلَيْهَا أَمْ لَا

13- الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلَا وَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ، وَلَا حُزْنٍ، وَلَا أَذًى، وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ».

قَالَ الشَّاطِبِيُّ: إِنْ كَانَتِ الْمَصَائِبُ مِنْ فِعْلِ الْغَيْرِ، كَفَّرَ بِهَا مِنْ سَيِّئَاتِهِ، وَأَخَذَ بِهَا مِنْ أَجْرِ غَيْرِهِ، وَحَمَلَ غَيْرُهُ وِزْرَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- فِي الْمُفْلِسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَصَائِبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى: فَهِيَ كَفَّارَاتٌ فَقَطْ، أَوْ كَفَّارَاتٌ وَأُجُورٌ.

وَقَالَ الْقَرَافِيُّ وَالْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الْمَصَائِبُ كَفَّارَاتٌ لِلذُّنُوبِ قَطْعًا، سَوَاءٌ أَسَخِطَ، أَمْ رَضِيَ، غَيْرَ أَنَّهُ إِنْ صَبَرَ وَرَضِيَ اجْتَمَعَ مَعَ التَّكْفِيرِ الثَّوَابُ، فَالْمَصَائِبُ لَا ثَوَابَ فِيهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مُصِيبَةٌ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ، وَالتَّكْفِيرُ بِالْمُصِيبَةِ يَقَعُ بِالْمُكْتَسَبِ وَغَيْرِ الْمُكْتَسَبِ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُصِيبَةَ كَفَّارَةٌ لِذَنْبٍ يُوَازِيهَا، وَبِالرِّضَا يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُصَابِ ذَنْبٌ عُوِّضَ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الثَّوَابِ بِمَا يُوَازِيهِ.

وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: مَا وَرَدَ بِهِ السَّمْعُ مِنْ وَعْدِ الرِّزْقِ، وَوَعْدِ الثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَعَلَى أَلَمِ الْمُؤْمِنِ، وَأَلَمِ طِفْلِهِ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا مَحْضُ فَضْلٍ وَتَطَوُّلٍ مِنْهُ تَعَالَى لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ لِوَعْدِهِ الصَّادِقِ.

تَفَاوُتُ الثَّوَابِ:

يَتَفَاوَتُ الثَّوَابُ قِلَّةً وَكَثْرَةً بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَلِي:

أ- مِنْ حَيْثُ الْمَشَقَّةُ:

14- الْأَصْلُ أَنَّ الْمَشَقَّةَ مِنْ حَيْثُ هِيَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ، فَإِنَّ الْحَرَجَ مَرْفُوعٌ عَنِ الْمُكَلَّفِ، وَلَكِنَّ الْمَشَقَّةَ فِي الْجُمْلَةِ مُثَابٌ عَلَيْهَا إِذَا لَحِقَتْ فِي أَثْنَاءِ التَّكْلِيفِ، وَيَخْتَلِفُ أَجْرُ تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ بِشِدَّةِ الْمَشَاقِّ وَخِفَّتِهَا، وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَيْنِ إِذَا اتَّحَدَا فِي الشَّرَفِ، وَالشَّرَائِطِ، وَالسُّنَنِ، وَالْأَرْكَانِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا شَاقًّا فَقَدِ اسْتَوَيَا فِي أَجْرِهِمَا لِتَسَاوِيهِمَا فِي جَمِيعِ الْوَظَائِفِ، وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ لِأَجْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَأُثِيبَ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ لَا عَلَى عَيْنِ الْمَشَاقِّ، وَذَلِكَ كَالِاغْتِسَالِ فِي الصَّيْفِ وَالرَّبِيعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاغْتِسَالِ فِي شِدَّةِ بَرْدِ الشِّتَاءِ، فَيَزِيدُ أَجْرُ الِاغْتِسَالِ فِي الشِّتَاءِ لِأَجْلِ تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ الْبَرْدِ، وَكَذَلِكَ مَشَاقُّ الْوَسَائِلِ فِي مَنْ يَقْصِدُ الْمَسَاجِدَ، وَالْحَجَّ، وَالْغَزْوَ، مِنْ مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ، وَمَنْ يَقْصِدُ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، فَإِنَّ ثَوَابَهَا يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْوَسِيلَةِ، وَيَتَسَاوَى مِنْ جِهَةِ الْقِيَامِ بِسُنَنِ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ وَشَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا، فَإِنَّ الشَّرْعَ يُثِيبُ عَلَى الْوَسَائِلِ إِلَى الطَّاعَاتِ، كَمَا يُثِيبُ عَلَى الْمَقَاصِدِ مَعَ تَفَاوُتِ أُجُورِ الْوَسَائِلِ وَالْمَقَاصِدِ، وَكَذَلِكَ جَعَلَ لِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا الْمُصَلِّي إِلَى إِقَامَةِ الْجَمَاعَةِ رَفْعَ دَرَجَةٍ وَحَطَّ خَطِيئَةٍ، وَجَعَلَ أَبْعَدَهُمْ مَمْشًى إِلَى الصَّلَاةِ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ أَقْرَبِهِمْ مَمْشًى إِلَيْهَا، وَجَعَلَ لِلْمُسَافِرِينَ إِلَى الْجِهَادِ بِمَا يَلْقَوْنَهُ مِنَ الظَّمَأِ، وَالنَّصَبِ، وَالْمَخْمَصَةِ، وَالنَّفَقَةِ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ، وَقَطْعِ الْأَوْدِيَةِ، وَبِمَا يَنَالُونَهُ مِنَ الْأَعْدَاءِ أَجْرَ عَمَلٍ صَالِحٍ، وَعَلَى ذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْمَشَقَّاتُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَشَقَّاتٌ مُثَابًا عَلَيْهَا زِيَادَةً عَلَى مُعْتَادِ التَّكْلِيفِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ لَهُ، وَإِلاَّ فَلَوْ لَمْ يَقْصِدْهَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا ثَوَابٌ.

ب- تَفَاوُتُ الثَّوَابِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ:

15- مِنْ ذَلِكَ تَفْضِيلُ شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ، وَتَفْضِيلُ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَعَرَفَةَ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَيَّامِ، وَتَفْضِيلُ الْعَمَلِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ اللَّيَالِيِ مَعَ مُسَاوَاتِهَا لِقِيَامِ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَتَفْضِيلُ الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَزْمِنَةِ.وَغَيْرُ ذَلِكَ.وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ الْكَثِيرُ مِنَ الْأَدِلَّةِ.

مِنْهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}.

ج- تَفَاوُتُ الثَّوَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانُ:

16- تَفَضَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِتَضْعِيفِ الْأُجُورِ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ، فَجَعَلَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَفْضَلَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَالصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَفْضَلَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِهِ، وَكَتَفْضِيلِ عَرَفَةَ، وَالْمَطَافِ وَالْمَسْعَى وَمُزْدَلِفَةَ، وَمِنًى، وَمَرْمَى الْجِمَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْبِقَاعِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَفْضِيلِهَا عَلَى غَيْرِهَا.يَقُولُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ». د- تَفَاوُتُ الثَّوَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَصْلَحَةُ فِي الْفِعْلِ:

17- مِنْ ذَلِكَ الْإِيمَانُ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ بِكَثْرَةِ ثَوَابِهِ، فَإِنَّ ثَوَابَهُ الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ وَالْخُلُوصُ مِنَ النَّارِ.

وَصَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً.

بُطْلَانُ الثَّوَابِ:

18- لَا تَلَازُمَ بَيْنَ صِحَّةِ الْعِبَادَةِ وَإِجْزَائِهَا وَبَيْنَ بُطْلَانِ ثَوَابِهَا، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ قَدْ تَكُونُ صَحِيحَةً مُجْزِئَةً لِاسْتِكْمَالِ أَرْكَانِهَا وَشَرَائِطِهَا، وَلَكِنْ لَا يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهَا الثَّوَابَ، لِمَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنَ الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ الَّتِي تُبْطِلُ ثَمَرَتَهَا فِي الْآخِرَةِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».

وَمِنْ ذَلِكَ الرِّيَاءُ فَإِنَّهُ يُبْطِلُ ثَوَابَ الْعِبَادَةِ فِي الْجُمْلَةِ.

19- وَقَدْ يَصِحُّ الْعَمَلُ وَيَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الثَّوَابَ وَلَكِنْ يُتْبِعُهُ بِمَا يُبْطِلُ هَذَا الثَّوَابَ، فَالْمَنُّ وَالْأَذَى يُبْطِلُ أَجْرَ الصَّدَقَةِ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: فَمَثَلُ صَاحِبِهَا وَبُطْلَانِ عَمَلِهِ {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا} وَمِنَ الْمَعَاصِي مَا يُبْطِلُ ثَوَابَ الْعِبَادَةِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً».

قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا ثَوَابَ لَهُ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مُجْزِئَةً فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ عَنْهُ.

20- وَالْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ يُبْطِلُ صِحَّةَ الْعَمَلِ وَثَوَابَهُ لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكَتْ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}.

وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (رِدَّةٌ).

ثَانِيًا:

الثَّوَابُ فِي الْهِبَةِ:

21- الْمَقْصُودُ بِالثَّوَابِ فِي الْهِبَةِ الْعِوَضُ الْمَالِيُّ، وَالْأَصْلُ فِي الْهِبَةِ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا عِوَضٌ مَادِّيٌّ، لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ وَلَيْسَتْ مُعَاوَضَةً، إِلاَّ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْوِيضُ فِيهَا وَتُسَمَّى هِبَةَ الثَّوَابِ، وَهِيَ الْهِبَةُ الَّتِي يَتِمُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا، وَالْعِوَضُ فِي الْهِبَةِ إِمَّا أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْعَقْدِ أَوْ لَا:

فَإِنِ اشْتُرِطَ فِي الْعَقْدِ وَكَانَ مَعْلُومًا صَحَّ الْعَقْدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ نَظَرًا لِلْمَعْنَى عِنْدَهُمْ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ لِتَنَاقُضِهِ، فَإِنَّ لَفْظَ الْهِبَةِ يَقْتَضِي التَّبَرُّعَ.

وَإِذَا صَحَّ الْعَقْدُ اعْتُبِرَ بَيْعًا أَوْ كَالْبَيْعِ فِي الْجُمْلَةِ.وَيَكُونُ لَهُ أَحْكَامُ الْبَيْعِ فَيَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ الْخِيَارِ، وَحَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَحَقُّ الشُّفْعَةِ، وَيَسْقُطُ حَقُّ الرُّجُوعِ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اشْتَرَطُوا لِإِسْقَاطِ حَقِّ الرُّجُوعِ التَّقَابُضَ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَقْتَضِي أَنْ يُغَلَّبَ فِيهَا حُكْمُ الْهِبَةِ فَلَا تَثْبُتُ فِيهَا أَحْكَامُ الْبَيْعِ.

22- وَإِذَا اشْتُرِطَ الْعِوَضُ وَكَانَ مَجْهُولًا صَحَّ الْعَقْدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَمُقَابِلُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.إِلاَّ أَنَّ الْعَقْدَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُعْتَبَرُ هِبَةً ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، فَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا عَلَى أَصْلِ مَذْهَبِهِمُ الَّذِي يُجِيزُ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لِلْمَوْهُوبِ لَهُ دَفْعُ الْقِيمَةِ أَوْ رَدُّ الْهِبَةِ، فَإِذَا دَفَعَ الْقِيمَةَ أُلْزِمَ الْوَاهِبُ قَبُولَهَا، وَإِذَا لَمْ يَدْفَعْ كَانَ لِلْوَاهِبِ الرَّدُّ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بُطْلَانُ الْعَقْدِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ.

23- وَإِنْ وَهَبَ مُطْلَقًا دُونَ تَقْيِيدٍ بِثَوَابٍ أَوْ عَدَمِهِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا ثَوَابَ إِنْ وَهَبَ الشَّخْصُ لِمَنْ هُوَ دُونَهُ، وَكَذَا الْأَعْلَى مِنْهُ فِي الْأَظْهَرِ وَلِنَظِيرِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُصَدَّقُ الْوَاهِبُ فِي قَصْدِهِ مَا لَمْ يَشْهَدِ الْعُرْفُ بِضِدِّهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَا تَقْتَضِي ثَوَابًا، أَيْ عِوَضًا، وَالْعِوَضُ فِي الْهِبَةِ الْمُطْلَقَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ هُوَ قِيمَةُ الْمَوْهُوبِ أَوْ مَا يُعْتَبَرُ ثَوَابًا لِمِثْلِهِ عَادَةً.

24- وَمِنْ أَحْكَامِ هِبَةِ الثَّوَابِ- غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ، وَالْخِيَارِ، وَإِسْقَاطِ الرُّجُوعِ- أَنَّ وَلِيَّ الصَّغِيرِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَهَبَ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ هِبَةَ ثَوَابٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهَا هِبَةٌ ابْتِدَاءً يَتَوَقَّفُ الْمِلْكُ فِيهَا عَلَى الْقَبْضِ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُعَاوَضَةً انْتِهَاءً، وَالْوَلِيُّ لَا يَمْلِكُ الْهِبَةَ فَلَمْ يَنْعَقِدْ هِبَةً، فَلَا يُتَصَوَّرُ صَيْرُورَتُهَا مُعَاوَضَةً يَمْلِكُهَا الْوَلِيُّ كَالْبَيْعِ، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْأَبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَبِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَهَبَ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ هِبَةَ ثَوَابٍ؛ لِثُبُوتِ الْعِوَضِ فِيهَا فَكَانَتْ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ فَيَجُوزُ لِلْوَلِيِّ، كَالْبَيْعِ.

وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (هِبَةٌ- شُفْعَةٌ- خِيَارٌ).

- رحمهم الله-

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


51-موسوعة الفقه الكويتية (جراح)

جِرَاحٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْجِرَاحُ لُغَةً، جَمْعُ جُرْحٍ وَهُوَ مِنَ الْجَرْحِ- بِفَتْحِ الْجِيمِ- وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ نَفَعَ.يُقَالُ: جَرَحَهُ يَجْرَحُهُ جَرْحًا إِذَا أَثَّرَ فِيهِ بِالسِّلَاحِ

وَالْجُرْحُ- بِضَمِّ الْجِيمِ- الِاسْمُ، وَالْجَمْعُ جُرُوحٌ، وَجِرَاحٌ، وَجَاءَ جَمْعُهُ عَلَى أَجْرَاحٍ، وَالْجِرَاحَةُ اسْمُ الضَّرْبَةِ أَوِ الطَّعْنَةِ.وَيُقَالُ امْرَأَةٌ جَرِيحٌ وَرَجُلٌ جَرِيحٌ، وَالِاسْتِجْرَاحُ: النُّقْصَانُ وَالْعَيْبُ وَالْفَسَادُ.يُقَالُ اسْتَجْرَحَتِ الْأَحَادِيثُ أَيْ فَسَدَتْ وَجُرِّحَ رُوَاتُهَا، وَيُقَالُ جَرَحَهُ بِلِسَانٍ جَرْحًا عَابَهُ وَتَنَقَّصَهُ، وَمِنْهُ جَرَحَ الشَّاهِدَ إِذَا طَعَنَ فِيهِ وَرَدَّ قَوْلَهُ وَأَظْهَرَ فِيهِ مَا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ.

وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِلْجِرَاحِ عَنْ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ.

وَيُطْلِقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لَفْظَ الْجِرَاحِ عَلَى أَبْوَابِ الْجِنَايَاتِ تَغْلِيبًا لِأَنَّهَا أَكْثَرُ طُرُقِ الزُّهُوقِ، وَاسْتَعْمَلَ بَعْضُهُمْ لَفْظَ «الْجِنَايَاتِ» لِأَنَّهَا أَعَمُّ مِنَ الْجِرَاحِ، فَهِيَ تَشْمَلُ الْقَتْلَ بِالسَّمِّ، أَوْ بِالْمُثَقَّلِ، أَوْ بِالْخَنْقِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ الْقَتْلِ غَيْرِ الْجِرَاحِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الشِّجَاجُ:

2- الشِّجَاجُ جَمْعُ شَجَّةٍ، وَهِيَ الْجُرْحُ يَكُونُ فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ فِي الْأَصْلِ، وَلَا يَكُونُ فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْجِسْمِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ.

وَاصْطِلَاحًا: يَسْتَعْمِلُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لَفْظَ «الشِّجَاجَ» فِي جِرَاحِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ، وَأُطْلِقَ لَفْظُ «جِرَاحٍ» عَلَى مَا كَانَ فِي غَيْرِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ.

وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَعْمَلَ الشِّجَاجَ وَالْجِرَاحَ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا، فِي الْجِرَاحِ فِي جَمِيعِ الْجِسْمِ.

وَمَنْ فَرَّقَ فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ اعْتَمَدَ عَلَى اللُّغَةِ لِمَا ثَبَتَ مِنْ مُغَايَرَةِ الْعَرَبِ فِي الِاسْتِعْمَالِ بَيْنَهُمَا، كَمَا اعْتَمَدَ عَلَى الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْأَثَرَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى شِجَاجِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ يَخْتَلِفُ عَنْ أَثَرِ الْجِرَاحِ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ.

وَذَلِكَ لِبَقَاءِ أَثَرِ الشِّجَاجِ غَالِبًا فَيَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ الشَّيْنُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْبَدَنِ؛ لِأَنَّ الشَّيْنَ لَا يَلْحَقُ غَالِبًا إِلاَّ فِيمَا يَظْهَرُ كَالْوَجْهِ وَالرَّأْسِ، أَمَّا سَائِرُ الْبَدَنِ فَالْغَالِبُ فِيهِ أَنْ يُغَطَّى فَلَا يَظْهَرُ فِيهِ الشَّيْنُ.

وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ- مِنَ الْمَالِكِيَّةِ- فِي بَيَانِ مُتَعَلَّقِ الْجِنَايَةِ فِي غَيْرِ النَّفْسِ: «إِنْ أَفَاتَتْ بَعْضَ الْجِسْمِ فَقَطْعٌ، وَإِلاَّ فَإِنْ أَزَالَتْ اتِّصَالَ عَظْمٍ لَمْ يَبِنْ فَكَسْرٌ، وَإِلاَّ فَإِنْ أَثَّرَتْ فِي الْجِسْمِ فَجَرْحٌ، وَإِلاَّ فَإِتْلَافُ مَنْفَعَةٍ».

ب- الْفَصْدُ:

3- الْفَصْدُ شَقُّ الْعِرْقِ وَقَطْعُهُ، يُقَالُ فَصَدَهُ يَفْصِدُهُ فَصْدًا وَفِصَادًا فَهُوَ مَفْصُودٌ وَفَصِيدٌ.وَفَصْدُ النَّاقَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ شَقُّ عِرْقِهَا لِيَسْتَخْرِجَ دَمَ الْعِرْقِ فَيَشْرَبَهُ، وَسُمِّيَ «الْفَصِيدَ»

وَالْفَصْدُ أَخَصُّ مِنَ الْجِرَاحِ؛ لِأَنَّ الْفَصْدَ يَكُونُ فِي الْعِرْقِ فَقَطْ، أَمَّا الْجِرَاحُ فَتَكُونُ فِي الْعِرْقِ وَغَيْرِهِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

4- يَحْرُمُ إِحْدَاثُ جَرْحٍ فِي مَعْصُومِ الدَّمِ أَوْ مَالِهِ، وَصَيْدِ الْحَرَمِ وَصَيْدِ الْبَرِّ عُمُومًا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْرِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَالدِّفَاعِ عَنِ النَّفْسِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْجِرَاحِ أَحْكَامٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَوَاضِعِهَا.

تَطَهُّرُ الْجُرْحِ:

5- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي حَقِّ الْجَرِيحِ الَّذِي يَتَضَرَّرُ مِنْ غَسْلِ جِرَاحَتِهِ، أَنْ يَمْسَحَ عَلَى عَيْنِ الْجِرَاحَةِ إِذَا كَانَ الْمَسْحُ عَلَيْهَا لَا يَضُرُّهُ، وَإِلاَّ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْجَبِيرَةِ.وَخَوْفُ الضَّرَرِ الْمُجِيزُ لِلْمَسْحِ هُوَ الْخَوْفُ الْمُجِيزُ لِلتَّيَمُّمِ.عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي: (جَبِيرَةٌ).

وَفِي الطَّهَارَةِ مِنَ الْجَنَابَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَوْ كَانَ أَكْثَرُ الْبَدَنِ أَوْ نِصْفُهُ جَرِيحًا فَالْوَاجِبُ فِي حَقِّهِ التَّيَمُّمُ، وَالْكَثْرَةُ تُعْتَبَرُ بِعَدَدِ الْأَعْضَاءِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ صَحِيحًا غَسَلَ الصَّحِيحَ وَمَسَحَ الْجَرِيحَ، وَإِنْ ضَرَّهُ الْمَسْحُ تَرَكَهُ.وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالتَّيَمُّمِ إِذْ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ.

وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي حَالِ الْجُرْحِ، فَلَهُ عِنْدَهُمْ حَالَتَانِ:

الْأُولَى: أَنْ لَا يَتَضَرَّرُ مِنْ غَسْلِ الْجُزْءِ الصَّحِيحِ الْمُحِيطِ بِالْجُرْحِ، فَالْوَاجِبُ فِي حَقِّهِ مَسْحُ الْجُرْحِ وُجُوبًا إِذَا خَافَ الْهَلَاكَ أَوْ شِدَّةَ الضَّرَرِ، وَجَوَازًا إِنْ خَافَ شِدَّةَ الْأَلَمِ.

وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَضَرَّرَ مِنْ غَسْلِ الصَّحِيحِ الْمُحِيطِ بِالْجُرْحِ، فَفَرْضُهُ التَّيَمُّمُ سَوَاءٌ أَكَانَ الصَّحِيحُ هُوَ الْأَكْثَرَ أَوِ الْأَقَلَّ.كَمَا لَوْ عَمَّتِ الْجِرَاحَةُ جَمِيعَ جَسَدِهِ وَتَعَذَّرَ الْغَسْلُ فَفَرْضُهُ التَّيَمُّمُ.

وَإِنْ تَكَلَّفَ الْجَرِيحُ وَغَسَلَ الْجُرْحَ أَوْ غَسَلَهُ مَعَ الصَّحِيحِ الضَّارِّ غَسْلُهُ أَجْزَأَ؛ لِإِتْيَانِهِ بِالْأَصْلِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ وَشَقَّ مَسُّ الْجُرْحِ بِالْمَاءِ، وَالْجِرَاحَةُ وَاقِعَةٌ فِي أَعْضَاءِ تَيَمُّمِهِ تَرَكَهَا بِلَا غَسْلٍ وَلَا مَسْحٍ؛ لِتَعَذُّرِ مَسِّهَا وَتَوَضَّأَ وُضُوءًا نَاقِصًا، بِأَنْ يَغْسِلَ أَوْ يَمْسَحَ مَا عَدَاهَا مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَإِنْ كَانَتِ الْجِرَاحُ فِي غَيْرِ أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ فَفِي الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:

أَوَّلُهَا: يَتَيَمَّمُ لِيَأْتِيَ بِطَهَارَةٍ تُرَابِيَّةٍ كَامِلَةٍ.بِخِلَافِ مَا لَوْ تَوَضَّأَ كَانَتْ طَهَارَتُهُ نَاقِصَةً لِعَدَمِ إِمْكَانِهِ غَسْلَ الْجُرْحِ.

ثَانِيهَا: يَغْسِلُ مَا صَحَّ وَيَسْقُطُ مَحَلُّ الْجِرَاحِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ أَوْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ.

ثَالِثُهَا: يَتَيَمَّمُ إِنْ كَانَتِ الْجِرَاحَةُ أَكْثَرَ مِنَ الصَّحِيحِ لِأَنَّ الْأَقَلَّ تَابِعٌ لِلْأَكْثَرِ.

رَابِعُهَا: يَجْمَعُ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالتَّيَمُّمِ فَيَغْسِلُ الصَّحِيحَ وَيَتَيَمَّمُ لِلْجَرِيحِ، وَيُقَدِّمُ الْغَسْلَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ الْجَرِيحَ الْمُحْدِثَ إِذَا أَرَادَ الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْلَ، وَخَافَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْخَوْفَ الْمُجَوِّزَ لِلتَّيَمُّمِ، بِأَنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ مِنْ غَسْلِ الْجِرَاحَةِ أَوْ مَسْحِهَا، لَزِمَهُ غَسْلُ الصَّحِيحِ وَالتَّيَمُّمُ عَنِ الْجَرِيحِ.وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ، فَإِنْ شَاءَ غَسَلَ الصَّحِيحَ ثُمَّ تَيَمَّمَ عَنِ الْجَرِيحِ، وَإِنْ شَاءَ تَيَمَّمَ ثُمَّ غَسَلَ إِذْ لَا تَرْتِيبَ فِي طَهَارَتِهِ.

أَمَّا فِي الْوُضُوءِ فَالتَّرْتِيبُ وَاجِبٌ، فَلَا يَنْتَقِلُ مِنْ عُضْوٍ إِلَى آخَرَ حَتَّى يُكْمِلَ طَهَارَتَهُ، فَإِذَا كَانَتِ الْجِرَاحَةُ فِي الْوَجْهِ مَثَلًا، وَجَبَ تَكْمِيلُ طَهَارَةِ الْوَجْهِ أَوَّلًا، فَإِنْ شَاءَ غَسَلَ صَحِيحَهُ ثُمَّ تَيَمَّمَ عَنْ جَرِيحِهِ، وَإِنْ شَاءَ تَيَمَّمَ ثُمَّ غَسَلَ، فَيُخَيَّرُ بِلَا أَوْلَوِيَّةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِأَنَّهُ عُضْوٌ وَاحِدٌ لَا يُرَاعَى فِيهِ التَّرْتِيبُ.وَالْأَوْلَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَقْدِيمُ التَّيَمُّمِ.

أَمَّا لَوْ غَسَلَ صَحِيحَ وَجْهِهِ ثُمَّ تَيَمَّمَ لِجَرِيحِهِ وَجَرِيحِ يَدَيْهِ تَيَمُّمًا وَاحِدًا لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى سُقُوطِ الْفَرْضِ عَنْ جُزْءٍ مِنَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَفُوتُ التَّرْتِيبُ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَهُ الْمَسْحُ بِالْمَاءِ عَلَى الْجُرْحِ وَجَبَ مَسْحُهُ لِأَنَّ الْغَسْلَ مَأْمُورٌ بِهِ وَالْمَسْحُ بَعْضُهُ، فَوَجَبَ كَمَنْ عَجَزَ عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَقَدَرَ عَلَى الْإِيمَاءِ.فَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ نَجِسًا تَيَمَّمَ وَلَمْ يَمْسَحْ، فَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَعْفُوًّا عَنْهَا أُلْغِيَتْ وَكَفَتْ نِيَّةُ رَفْعِ الْحَدَثِ، وَإِلاَّ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ وَالنَّجَاسَةِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (طَهَارَةٌ، وَتَيَمُّمٌ، وَجَبِيرَةٌ، وَوُضُوءٌ).

غَسْلُ الْمَيِّتِ الْجَرِيحِ:

6- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ الْمَجْرُوحَ، وَالْمَجْدُورَ، وَذَا الْقُرُوحِ، وَمَنْ تَهَشَّمَ تَحْتَ الْهَدْمِ وَشِبْهَهُمْ، إِنْ أَمْكَنَ تَغْسِيلُهُ غُسِّلَ، وَإِلاَّ صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ.فَإِنْ زَادَ أَمْرُهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ خُشِيَ مِنْ صَبِّ الْمَاءِ تَزَلُّعُهُ أَوْ تَقَطُّعُهُ فَإِنَّهُ يُيَمَّمُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْتَقَلُ إِلَى التَّيَمُّمِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْغُسْلِ لِخَوْفِ تَهَرِّيهِ؛ لِأَنَّ التَّطْهِيرَ لَا يَتَعَلَّقُ بِإِزَالَةِ نَجَاسَةٍ فَوَجَبَ الِانْتِقَالُ فِيهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَاءِ إِلَى التَّيَمُّمِ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ.

أَمَّا لَوْ كَانَ بِهِ قُرُوحٌ وَخِيفَ مِنْ غَسْلِهِ إِسْرَاعُ الْبِلَى إِلَيْهِ بَعْدَ الدَّفْنِ وَجَبَ غُسْلُهُ لِأَنَّ الْجَمِيعَ صَائِرُونَ إِلَى الْبِلَى.

وَلَمْ يُوقَفْ عَلَى قَوْلٍ لِلْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (غُسْلٌ، وَمَوْتٌ). حُكْمُ جَرِيحِ الْمَعْرَكَةِ:

7- الْأَصْلُ أَنَّ الشَّهِيدَ- وَهُوَ مَنْ مَاتَ فِي الْمَعْرَكَةِ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ- لَا يُغَسَّلُ، أَمَّا إِذَا جُرِحَ فِي الْمَعْرَكَةِ وَرُفِعَ مِنَ الْمُعْتَرَكِ حَيًّا، فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ نَامَ أَوْ تَكَلَّمَ أَوْ طَالَ بَقَاؤُهُ عُرْفًا أَوْ تَدَاوَى، أَوْ ارْتَفَقَ بِمَرَافِقِ الْحَيَاةِ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الشَّهَادَةُ بَلْ هُوَ شَهِيدٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.وَدَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ «تَغْسِيلُهُ - صلى الله عليه وسلم- سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ» وَلِأَنَّ الِارْتِفَاقَ لَا يَكُونُ إِلاَّ مِنْ ذِي حَيَاةٍ مُسْتَقِرَّةٍ، وَالْأَصْلُ وُجُوبُ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّ بِالِارْتِفَاقِ خَفَّ أَثَرُ الظُّلْمِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ الَّذِي يَمُوتُ فِي أَرْضِهَا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ بِجِرَاحَةٍ يُقْطَعُ بِمَوْتِهِ مِنْهَا، وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَغَيْرُ شَهِيدٍ فِي الْأَظْهَرِ وَلَهُمْ فِي غَيْرِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ شَهِيدٍ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (شَهِيدٌ، جَنَائِزُ، غُسْلٌ، ارْتِثَاثٌ).

حُكْمُ الْجُرُوحِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَسَائِرِ الْبَدَنِ:

8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِرَاحِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَعَلَى خِلَافٍ فِي التَّفْصِيلِ.

وَالْأَصْلُ فِيهِ قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ «أَنَسٍ فِي قِصَّةِ عَمَّتِهِ الرُّبَيِّعِ لَمَّا كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ وَطَلَبُوا الْعَفْوَ فَأَبَوْا، وَعَرَضُوا الْأَرْشَ فَأَبَوْا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم-: كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ».

وَقَسَّمَ الْفُقَهَاءُ أَنْوَاعَ الْجُرُوحِ حَسَبَ مَوْقِعِهَا وَدَرَجَتِهَا وَأَثَرِهَا إِلَى أَقْسَامٍ، فَالَّذِي يَقَعُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ فَيُسَمَّى شِجَاجًا وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (شِجَاجٌ).

9- وَأَمَّا الْجِرَاحُ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ، فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهَا إِذَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا، بِأَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى حَدٍّ كَأَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى عَظْمٍ بِشَرْطِ أَلَا تَكْسِرَهُ، أَوْ تَنْتَهِيَ إِلَى مَفْصِلٍ كَالْكُوعِ وَالْمِرْفَقِ وَالْكَعْبِ.

وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَا لَا قِصَاصَ فِيهِ مِنَ الْجِرَاحِ إِذَا كَانَ عَلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ لَا قِصَاصَ فِيهِ إِذَا كَانَ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي جِرَاحِ سَائِرِ الْبَدَنِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ.بَلْ تَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ بِشَرْطِ أَنْ تَبْرَأَ وَيَبْقَى لَهَا أَثَرٌ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ فَلَا شَيْءَ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رضي الله عنه-.

10- فَإِذَا صَارَ الْأَمْرُ إِلَى الدِّيَةِ لِعَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ، أَوْ لِلْعَفْوِ إِلَى الدِّيَةِ، وَكَانَتِ الْجُرُوحُ مِمَّا فِيهِ أَرْشٌ، مُقَدَّرٌ شَرْعًا، فَدِيَةُ الْمُوضِحَةِ خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ، وَالْهَاشِمَةِ عَشَرَةُ، وَالْمُنَقِّلَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ. جَرْحُ حَيَوَانٍ تَعَذَّرَ ذَبْحُهُ:

11- إِذَا جَرَحَ الصَّائِدُ حَيَوَانًا مَأْكُولًا، تَعَذَّرَ ذَبْحُهُ بِآلَةٍ مُحَدَّدَةٍ، أَوْ بِإِرْسَالِ جَارِحَةٍ، كَالْكَلْبِ، وَنَحْوِهِ، فَمَاتَ فِي الْحَالِ، قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَبْحِهِ حَلَّ أَكْلُهُ، لِخَبَرِ: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، لَيْسَ الظُّفْرَ، وَالسِّنَّ» وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْدٌ) أَوْ مُصْطَلَحِ: (جَارِحَةٌ).

جَرْحُ الصَّيْدِ:

12- لَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لِصَيْدِ الْحَرَمِ الْبَرِّيِّ لِمُحْرِمٍ، وَلَا حَلَالٍ، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ» كَمَا لَا يَجُوزُ لِمُحْرِمٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِصَيْدٍ بَرِّيٍّ وَحْشِيٍّ مُطْلَقًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فَإِذَا جُرِحَ صَيْدُ الْحَرَمِ، أَوْ جَرَحَ مُحْرِمٌ صَيْدًا بَرِّيًّا، فَإِنْ أَزْمَنَهُ لَزِمَهُ جَمِيعُ قِيمَتِهِ، لِأَنَّ الْإِزْمَانَ كَالْإِتْلَافِ.وَإِلاَّ لَزِمَهُ قِيمَةُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ مِثْلِهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْدٌ، وَإِحْرَامٌ).

تَمَلُّكُ الصَّيْدِ بِالْجَرْحِ:

13- يُمْلَكُ الصَّيْدُ بِالْجَرْحِ إِذَا أَبْطَلَ بِهِ عَدْوَهُ وَطَيَرَانَهُ إِنْ كَانَ الصَّيْدُ مِمَّا يَمْتَنِعُ بِهِمَا، وَيَكْفِي فِي الْجَرْحِ إِبْطَالُ شِدَّةِ عَدْوِهِ بِحَيْثُ يَسْهُلُ لَحَاقُهُ.

وَإِنْ جَرَحَهُ اثْنَانِ فَإِنْ تَعَاقَبَ جَرْحُهُمَا فَهُوَ لِمَنْ أَزْمَنَهُ أَوْ ذَفَّفَهُ (أَجْهَزَ عَلَيْهِ) وَإِنْ أَثْخَنَهُ الْأَوَّلُ، وَقَتَلَهُ الثَّانِي فَهُوَ لِلْأَوَّلِ، وَيَضْمَنُ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ بِالرَّمْيِ أَتْلَفَ صَيْدًا مَمْلُوكًا.

وَإِنْ جَرَحَا مَعًا فَقَتَلَاهُ كَانَ الصَّيْدُ حَلَالًا، وَمَلَكَاهُ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْدٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


52-موسوعة الفقه الكويتية (جنائز 3)

جَنَائِزُ -3

مَا يَفْعَلُ الْمَسْبُوقُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ:

32- إِذَا جَاءَ رَجُلٌ وَقَدْ كَبَّرَ الْإِمَامُ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى وَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا انْتَظَرَهُ حَتَّى إِذَا كَبَّرَ الثَّانِيَةَ كَبَّرَ مَعَهُ، فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ كَبَّرَ الْمَسْبُوقُ التَّكْبِيرَةَ الَّتِي فَاتَتْهُ قَبْلَ أَنْ تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رضي الله عنهما- (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُكَبِّرُ حِينَ يَحْضُرُ) وَكَذَا إِنْ جَاءَ وَقَدْ كَبَّرَ الْإِمَامُ تَكْبِيرَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَإِنْ لَمْ يَنْتَظِرِ الْمَسْبُوقُ وَكَبَّرَ قَبْلَ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ الثَّانِيَةَ أَوِ الثَّالِثَةَ أَوِ الرَّابِعَةَ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، وَلَكِنْ لَا يُعْتَدُّ بِتَكْبِيرَتِهِ هَذِهِ، وَإِنْ جَاءَ وَقَدْ كَبَّرَ الْإِمَامُ أَرْبَعًا وَلَمْ يُسَلِّمْ لَا يَدْخُلُ مَعَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَدْخُلُ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، ثُمَّ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ مُتَتَابِعًا لَا دُعَاءَ فِيهَا (وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ) وَلَوْ رُفِعَتْ بِالْأَيْدِي وَلَمْ تُوضَعْ عَلَى الْأَكْتَافِ ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِالتَّكْبِيرِ.وَعَنْ مُحَمَّدٍ إِنْ كَانَتْ إِلَى الْأَرْضِ أَقْرَبُ يُكَبِّرُ وَإِلاَّ فَلَا، وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ كَمَا فِي الشُّرُنْبُلَالِيَّةِ.

هَذَا إِذَا كَانَ غَائِبًا ثُمَّ حَضَرَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ حَاضِرًا مَعَ الْإِمَامِ فَتَغَافَلَ وَلَمْ يُكَبِّرْ مَعَ الْإِمَامِ أَوْ تَشَاغَلَ بِالنِّيَّةِ فَأَخَّرَ التَّكْبِيرَ، فَإِنَّهُ يُكَبِّرُ وَلَا يَنْتَظِرُ تَكْبِيرَةَ الْإِمَامِ الثَّانِيَةَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُسْتَعِدًّا جُعِلَ كَالْمُشَارِكِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا جَاءَ وَالْإِمَامُ مُشْتَغِلٌ بِالدُّعَاءِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُكَبِّرَ حَتَّى إِذَا كَبَّرَ الْإِمَامُ كَبَّرَ مَعَهُ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَظِرْ وَكَبَّرَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَلَكِنْ لَا تُحْتَسَبُ تَكْبِيرَتُهُ هَذِهِ، سَوَاءٌ انْتَظَرَ أَوْ لَمْ يَنْتَظِرْ، وَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَضَى الْمَأْمُومُ مَا فَاتَهُ مِنَ التَّكْبِيرِ سَوَاءٌ رُفِعَتِ الْجِنَازَةُ فَوْرًا أَوْ بَقِيَتْ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا بَقِيَتِ الْجِنَازَةُ دَعَا عَقِبَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ يَقْضِيهَا، وَإِنْ رُفِعَتْ فَوْرًا وَالَى التَّكْبِيرَ وَلَا يَدْعُو لِئَلاَّ يَكُونَ مُصَلِّيًا عَلَى غَائِبٍ، وَالصَّلَاةُ عَلَى الْغَائِبِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ عِنْدَهُمْ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْإِمَامُ وَمَنْ مَعَهُ قَدْ فَرَغُوا مِنَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ فَلَا يَدْخُلُ الْمَسْبُوقُ مَعَهُ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ التَّشَهُّدِ، فَلَوْ دَخَلَ مَعَهُ يَكُونُ مُكَرِّرًا الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ وَتَكْرَارُهَا مَكْرُوهٌ عِنْدَهُمْ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا جَاءَ الْمَأْمُومُ وَقَدْ فَرَغَ الْإِمَامُ مِنَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى أَوْ غَيْرِهَا، وَاشْتَغَلَ بِمَا بَعْدَهَا مِنْ قِرَاءَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ مَعَهُ وَلَا يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ حَتَّى يُكَبِّرَ التَّكْبِيرَةَ التَّالِيَةَ، إِلاَّ أَنَّهُ يَسِيرُ فِي صَلَاتِهِ عَلَى نَظْمِ الصَّلَاةِ لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا، فَبَعْدَ أَنْ يُكَبِّرَ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى يَقْرَأُ مِنَ الْفَاتِحَةِ مَا يُمْكِنُهُ قِرَاءَتُهُ قَبْلَ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْبَاقِي، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ الثَّانِيَةِ وَهَكَذَا، فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ أَتَمَّ الْمَأْمُومُ صَلَاتَهُ عَلَى النَّظْمِ الْمَذْكُورِ، وَيَأْتِي بِالْأَذْكَارِ فِي مَوَاضِعِهَا، سَوَاءٌ بَقِيَتِ الْجِنَازَةُ أَوْ رُفِعَتْ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ قِرَاءَةُ شَيْءٍ مِنَ الْفَاتِحَةِ إِنْ كَبَّرَ إِمَامُهُ عَقِبَ تَكْبِيرِ الْمَسْبُوقِ لِلْإِحْرَامِ كَبَّرَ مَعَهُ وَتَحَمَّلَ الْإِمَامُ عَنْهُ كُلَّ الْفَاتِحَةِ.

وَفِي التَّنْبِيهِ: مَنْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِبَعْضِ التَّكْبِيرَاتِ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَأَتَى بِمَا أَدْرَكَ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ كَبَّرَ مَا بَقِيَ مُتَوَالِيًا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ سُبِقَ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ كَبَّرَ وَدَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ حَيْثُ أَدْرَكَهُ وَلَوْ بَيْنَ تَكْبِيرَتَيْنِ نَدْبًا كَالصَّلَاةِ، أَوْ كَانَ إِدْرَاكُهُ لَهُ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ قَبْلَ السَّلَامِ، فَيُكَبِّرُ لِلْإِحْرَامِ مَعَهُ وَيَقْضِي ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ اسْتِحْبَابًا، وَيَقْضِي مَسْبُوقٌ مَا فَاتَهُ قَبْلَ دُخُولِهِ مَعَ الْإِمَامِ عَلَى صِفَتِهِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَحْكِي الْأَدَاءَ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَيَكُونُ قَضَاؤُهُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ كَالْمَسْبُوقِ فِي الصَّلَاةِ.

قَالَ الْبُهُوتِيُّ: قُلْتْ: لَكِنْ إِنْ حَصَلَ لَهُ عُذْرٌ يُبِيحُ تَرْكَ جُمُعَةٍ وَجَمَاعَةٍ صَحَّ أَنْ يَنْفَرِدَ وَيُتِمَّ لِنَفْسِهِ قَبْلَ سَلَامِهِ، فَإِنْ أَدْرَكَهُ الْمَسْبُوقُ فِي الدُّعَاءِ تَابَعَهُ فِيهِ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ كَبَّرَ وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ بَعْدَ التَّعَوُّذِ وَالْبَسْمَلَةِ، ثُمَّ كَبَّرَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ كَبَّرَ وَسَلَّمَ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَقْضِيَّ أَوَّلُ صَلَاتِهِ، فَيَأْتِي فِيهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا»

وَإِنَّمَا يَظْهَرُ إِذَا كَانَ الدُّعَاءُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ أَوْ بَعْدَ الثَّالِثَةِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهَا لِنَوْمٍ أَوْ سَهْوٍ وَنَحْوِهِ.وَإِلاَّ لَزِمَ عَلَيْهِ الزِّيَادَةُ عَلَى أَرْبَعٍ، وَتَرْكُهَا أَفْضَلُ.فَإِنْ كَانَ أَدْرَكَهُ فِي الدُّعَاءِ وَكَبَّرَ الْأَخِيرَةَ مَعَهُ فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ كَبَّرَ وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَصَلَّى عَلَيْهِ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ سَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَكْبِيرٍ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعَ تَمَّتْ.

وَإِنْ كَبَّرَ مَعَ الْإِمَامِ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى وَلَمْ يُكَبِّرِ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ يُكَبِّرُهُمَا، ثُمَّ يُكَبِّرُ مَعَ الْإِمَامِ الرَّابِعَةَ.

تَرْكُ بَعْضِ التَّكْبِيرَاتِ:

33- وَلَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ نَاسِيًا كَبَّرَ الرَّابِعَةَ وَيُسَلِّمُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ تَرَكَ غَيْرُ مَسْبُوقٍ تَكْبِيرَةً عَمْدًا بَطَلَتْ، وَإِنْ تَرَكَ سَهْوًا فَإِنْ كَانَ مَأْمُومًا كَبَّرَهَا مَا لَمْ يَطُلِ الْفَصْلُ (أَيْ بَعْدَ السَّلَامِ)، وَإِنْ كَانَ إِمَامًا نَبَّهَهُ الْمَأْمُومُونَ فَيُكَبِّرُهَا مَا لَمْ يَطُلِ الْفَصْلُ، وَصَحَّتْ صَلَاةُ الْجَمِيعِ، فَإِنْ طَالَ أَوْ وُجِدَ مُنَافٍ اسْتَأْنَفَ، وَصَحَّتْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ إِنْ نَوَوُا الْمُفَارَقَةَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تَبْطُلُ صَلَاةُ الْجَمِيعِ إِنْ كَانَ النَّقْصُ قَصْدًا مِنَ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ سَهْوًا تَدَارَكَهُ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ كَالصَّلَاةِ، وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ هُنَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ النَّقْصُ مِنَ الْإِمَامِ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاةُ الْجَمِيعِ، وَإِنْ سَهْوًا سَبَّحَ لَهُ الْمَأْمُومُونَ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ قُرْبٍ وَكَمَّلَ التَّكْبِيرَ كَمَّلُوهُ مَعَهُ وَصَحَّتْ صَلَاةُ الْجَمِيعِ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ أَوْ لَمْ يَتَنَبَّهْ إِلاَّ بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ كَمَّلُوا هُمْ، وَصَحَّتْ صَلَاتُهُمْ وَبَطَلَتْ صَلَاتُهُ.

الصَّلَاةُ عَلَى جَنَائِزَ مُجْتَمِعَةٍ:

34- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَتْ جَنَائِزُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ مُجْتَمِعِينَ أَوْ فُرَادَى ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: فَالْإِمَامُ إِنْ شَاءَ صَلَّى عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ عَلَى حِدَةٍ، وَإِنْ شَاءَ صَلَّى عَلَى الْكُلِّ دَفْعَةً وَاحِدَةً بِالنِّيَّةِ عَلَى الْجَمِيعِ، كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَالْبَدَائِعِ، وَفِي الدُّرِّ: إِفْرَادُ الصَّلَاةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ أَوْلَى مِنَ الْجَمْعِ (لِأَنَّ الْجَمْعَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ) فَإِذَا أَفْرَدَ يُصَلِّي عَلَى أَفْضَلِهِمْ أَوَّلاً، ثُمَّ عَلَى الَّذِي يَلِيهِ فِي الْفَضْلِ إِنْ لَمْ يَسْبِقْهُ غَيْرُهُ، وَإِلاَّ يُصَلِّي عَلَى الْأَسْبَقِ أَوَّلاً وَلَوْ كَانَ مَفْضُولاً.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهُ أَكْثَرُ عَمَلاً وَأَرْجَى لِلْقَبُولِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلُ صَاحِبِ التَّنْبِيهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا اجْتَمَعَتْ جَنَائِزُ فَجَمْعُهُمْ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُنْفَرِدًا، وَذَلِكَ لِأَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْإِسْرَاعِ وَالتَّخْفِيفِ.

ثُمَّ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ إِنْ صَلَّى عَلَيْهِمْ دَفْعَةً فَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُمْ صَفًّا وَاحِدًا عَرْضًا، وَإِنْ شَاءَ وَضَعَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ لِيَقُومَ بِحِذَاءِ الْكُلِّ، هَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ الثَّانِيَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ قِيَامُ الْإِمَامِ بِحِذَاءِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ يَحْصُلُ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، فَإِذَا صَفَّهُمْ صَفًّا وَاحِدًا عَرْضًا قَامَ عِنْدَ أَفْضَلِهِمْ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الْفَضْلِ، وَإِنْ تَسَاوَوْا قَامَ عِنْدَ أَسَنِّهِمْ، (أَكْبَرِهِمْ سِنًّا).

وَقَالَ مَالِكٌ: أَرَى ذَلِكَ وَاسِعًا إِنْ جُعِلَ بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ، أَوْ جُعِلُوا صَفًّا وَاحِدًا، وَيَقُومُ الْإِمَامُ وَسْطَ ذَلِكَ وَيُصَلِّي عَلَيْهِمْ.وَإِنْ كَانُوا غِلْمَانًا ذُكُورًا أَوْ نِسَاءً جُعِلَ الْغِلْمَانُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَالنِّسَاءُ مِنْ خَلْفِهِمْ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ، وَإِنْ كُنَّ نِسَاءً صُنِعَ بِهِنَّ كَمَا يُصْنَعُ بِالرِّجَالِ كُلُّ ذَلِكَ وَاسِعٌ بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ صَفًّا وَاحِدًا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ- فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ- وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْجَنَائِزَ تُوضَعُ أَمَامَ الْإِمَامِ بَعْضَهَا خَلْفَ بَعْضٍ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهَا تُوضَعُ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ صَفًّا وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ فَيَقِفُ هُوَ فِي مُحَاذَاةِ الْآخِرِ مِنْهُمْ، فَإِنْ كَانُوا رِجَالاً وَنِسَاءً يَتَعَيَّنُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ.

وَإِنْ وُضِعُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَفْضَلُهُمْ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُوضَعُ أَفْضَلُهُمْ وَأَسَنُّهُمْ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْفَضْلِ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ.

ثُمَّ إِنْ وُضِعَ رَأْسُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحِذَاءِ رَأْسِ صَاحِبِهِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ وُضِعَ شِبْهَ الدَّرَجِ كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الثَّانِي عِنْدَ مَنْكِبِ الْأَوَّلِ فَحَسَنٌ أَيْضًا، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُوضَعُ بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ لِيُحَاذِيَ الْإِمَامُ الْجَمْعَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحِذَاءِ رَأْسِ صَاحِبِهِ إِنْ كَانُوا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ نَوْعٍ سَوَّى بَيْنَ رُءُوسِ كُلِّ نَوْعٍ وَيَجْعَلُ وَسَطَ الْمَرْأَةِ حِذَاءَ صَدْرِ الرَّجُلِ.

وَتَرْتِيبُهُمْ فِي الْوَضْعِ عِنْدَ اخْتِلَافِ النَّوْعِ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فَتُوضَعُ الرِّجَالُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، ثُمَّ الصِّبْيَانُ، ثُمَّ الْخَنَاثَى، ثُمَّ النِّسَاءُ، ثُمَّ الْمُرَاهِقَاتُ.وَلَوْ كَانَ الْكُلُّ رِجَالاً يُوضَعُ أَفْضَلُهُمْ وَأَسَنُّهُمْ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ.

وَهَذَا إِنْ جِيءَ بِهِمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَإِنْ جِيءَ بِهِمْ مُتَعَاقِبِينَ وَكَانُوا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ يُقَدَّمُ الْأَسْبَقُ.

وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إِنِ افْتَتَحَ الْمُصَلِّي الصَّلَاةَ عَلَى جِنَازَةٍ فَكَبَّرَ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، ثُمَّ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ أُخْرَى وُضِعَتْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهَا؛ لِأَنَّهُ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ يَنْوِي بِهَا غَيْرَ هَذِهِ الْجِنَازَةِ الْمُؤَخَّرَةِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ الْمُؤَخَّرَةِ.

وَإِذَا كَبَّرَ الْإِمَامُ عَلَى جِنَازَةٍ فَجِيءَ بِأُخْرَى مَضَى عَلَى صَلَاتِهِ عَلَى الْأُولَى، فَإِذَا فَرَغَ اسْتَأْنَفَ عَلَى الثَّانِيَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمَّا وَضَعُوا الثَّانِيَةَ كَبَّرَ الْأُخْرَى يَنْوِيهِمَا فَهِيَ لِلْأُولَى أَيْضًا، وَلَا يَكُونُ لِلثَّانِيَةِ، وَإِنْ كَبَّرَ الثَّانِيَةَ يَنْوِي الثَّانِيَةَ وَحْدَهَا فَهِيَ لِلثَّانِيَةِ وَقَدْ خَرَجَ مِنَ الْأُولَى، فَإِذَا فَرَغَ أَعَادَ الصَّلَاةَ عَلَى الْأُولَى وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ كَبَّرَ فَجِيءَ بِأُخْرَى كَبَّرَ ثَانِيَةً وَنَوَاهُمَا، فَإِنْ جِيءَ بِثَالِثَةٍ كَبَّرَ ثَالِثَةً وَنَوَى الْجَنَائِزَ الثَّلَاثَ، فَإِنْ جِيءَ بِرَابِعَةٍ كَبَّرَ رَابِعَةً وَنَوَى الْكُلَّ، فَيَصِيرُ مُكَبِّرًا عَلَى الْأُولَى أَرْبَعًا وَعَلَى الثَّانِيَةِ ثَلَاثًا، وَعَلَى الثَّالِثَةِ اثْنَتَيْنِ، وَعَلَى الرَّابِعَةِ وَاحِدَةً، فَيَأْتِي بِثَلَاثِ تَكْبِيرَاتٍ أُخَرَ، فَيُتِمُّ التَّكْبِيرَاتِ سَبْعًا، يَقْرَأُ فِي خَامِسَةٍ وَيُصَلِّي (عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِسَادِسَةٍ، وَيَدْعُو بِسَابِعَةٍ، فَيَصِيرُ مُكَبِّرًا عَلَى الْأُولَى سَبْعًا، وَعَلَى الثَّانِيَةِ سِتًّا، وَعَلَى الثَّالِثَةِ خَمْسًا، وَعَلَى الرَّابِعَةِ أَرْبَعًا.

فَإِنْ جِيءَ بِخَامِسَةٍ لَمْ يَنْوِهَا بَلْ يُصَلِّي عَلَيْهَا بَعْدَ سَلَامِهِ، وَكَذَا لَوْ جِيءَ بِثَانِيَةٍ عَقِبَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنَ السَّبْعِ أَرْبَعٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى سَبْعِ تَكْبِيرَاتٍ.

35- وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لَوْ صَلَّى النِّسَاءُ جَمَاعَةً عَلَى جِنَازَةٍ قَامَتِ الَّتِي تَؤُمُّ وَسْطَهُنَّ كَمَا فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ الْمَعْهُودَةِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا تُصَلِّي النِّسَاءُ جَمَاعَةً، بَلْ يُصَلِّينَ فُرَادَى فِي آنٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُنَّ لَوْ صَلَّيْنَ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ لَزِمَ تَكْرَارُ الصَّلَاةِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُمْ.

الْحَدَثُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ:

36- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْإِمَامُ عَلَى غَيْرِ الطَّهَارَةِ تُعَادُ الصَّلَاةُ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ عَلَى طَهَارَةٍ وَالْقَوْمُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ صَحَّتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَلَا تُعَادُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ.وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ صَلَّى الْإِمَامُ غَيْرَ مُتَوَضِّئٍ وَمَنْ خَلْفَهُ مُتَوَضِّئُونَ أَجْزَأَتْ صَلَاتُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ غَيْرَ مُتَوَضِّئِينَ أَعَادُوا، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا مُتَوَضِّئُونَ أَجْزَأَتْ.

وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا أَحْدَثَ إِمَامُ الْجِنَازَةِ يَأْخُذُ بِيَدِ رَجُلٍ فَيُقَدِّمُهُ فَيُكَبِّرُ مَا بَقِيَ عَلَى هَذَا الَّذِي قَدَّمَهُ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَصَلَّى مَا أَدْرَكَ وَقَضَى مَا فَاتَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ذَلِكَ.

وَلَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَقَدَّمَ غَيْرَهُ جَازَ وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِذَا عَادَ بَعْدَ التَّوَضُّؤِ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ انْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ وَكَبَّرَ مَنْ خَلْفَهُ مَا بَقِيَ مِنَ التَّكْبِيرِ فُرَادَى لَا يَؤُمُّهُمْ أَحَدٌ.

الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ:

37- لَوْ دُفِنَ الْمَيِّتُ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَوْ قَبْلَ الْغُسْلِ فَإِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ تَمَزَّقَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ كَمَا فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ، وَفِي مُقَدِّمَاتِ ابْنِ رُشْدٍ إِنْ دُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ أُخْرِجَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفُتْ، فَإِنْ فَاتَ صُلِّيَ عَلَيْهِ فِي قَبْرِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ إِنْ فَاتَ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ لِئَلاَّ يَكُونَ ذَرِيعَةً لِلصَّلَاةِ عَلَى الْقُبُورِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَشْهَبَ وَسَحْنُونٍ. وَاخْتُلِفَ بِمَ يَكُونُ الْفَوْتُ؟ فَقِيلَ: يَفُوتُ بِأَنْ يُهَالَ عَلَيْهِ التُّرَابُ بَعْدَ نَصْبِ اللَّبِنِ، وَإِنْ لَمْ يُفْرَغْ مِنْ دَفْنِهِ وَمَا لَمْ يُهَلْ عَلَيْهِ التُّرَابُ، وَإِنْ نُصِبَ اللَّبِنُ فَإِنَّهُ يُخْرَجُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ.وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يَفُوتُ إِلاَّ بِالْفَرَاغِ مِنَ الدَّفْنِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ.

وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يَفُوتُ وَإِنْ فَرَغَ مِنْ دَفْنِهِ وَيُخْرَجُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ مَا لَمْ يُخْشَ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ وَهُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ وَعِيسَى بْنِ دِينَارٍ وَرِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَإِنَّمَا يُصَلَّى عَلَيْهِ فِي الْقَبْرِ مَا لَمْ يَطُلْ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ قَدْ فَنِيَ بِالْبِلَى أَوْ غَيْرِهِ.وَأَمَّا إِذَا صُلِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ مَرَّةً فَلَا تُعَادُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ دُفِنَ أَوْ لَمْ يُدْفَنْ.

وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ فِيهِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى عَلَيْهَا وَهِيَ فِي قَبْرِهَا».قَدْ جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَقْبُورِ لِكُلِّ مَنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ قَبْلَ دَفْنِهِ، وَقِيلَ: يُصَلِّي عَلَيْهِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَوْتِ أَبَدًا، وَقِيلَ: إِلَى شَهْرٍ، وَقِيلَ: مَا لَمْ يَبْلُ جَسَدُهُ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمُ الْجَوَازُ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَقْتَ الْمَوْتِ.

وَعِنْدَ أَحْمَدَ يَجُوزُ لِمَنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى قَبْرِهِ إِلَى شَهْرٍ مِنْ دَفْنِهِ وَزِيَادَةٍ يَسِيرَةٍ كَيَوْمَيْنِ وَيَحْرُمُ بَعْدَهَا، وَحُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ تَجْوِيزُهُ الصَّلَاةَ عَلَى الْقَبْرِ وَلَمْ يُحْكَ عَنْهُ التَّحْدِيدُ.

وَحُكِيَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: يُصَلِّي الْغَائِبُ إِلَى شَهْرٍ، وَالْحَاضِرُ إِلَى ثَلَاثٍ.وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ صُلِّيَ عَلَى الْقَبْرِ.

الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْمَسْجِدِ:

38- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْجَبَّانَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالدُّورِ وَهِيَ فِيهَا سَوَاءٌ، وَيُكْرَهُ فِي الشَّارِعِ وَأَرَاضِي النَّاسِ، وَكَذَا تُكْرَهُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ سَوَاءٌ كَانَ الْمَيِّتُ وَالْقَوْمُ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ كَانَ الْمَيِّتُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَالْقَوْمُ فِي الْمَسْجِدِ، أَوِ الْمَيِّتُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْإِمَامُ وَالْقَوْمُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.

وَمُحَصَّلُ كَلَامِ ابْنِ عَابِدِينَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْمَسْجِدِ، أَنَّ الْبِلَادَ الَّتِي جَرَتْ فِيهَا الْعَادَةُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا فِي الْمَسْجِدِ لِتَعَذُّرِ غَيْرِهِ أَوْ لِتَعَسُّرِهِ، بِسَبَبِ انْدِرَاسِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي كَانَتْ يُصَلَّى فِيهَا عَلَيْهَا، يَنْبَغِي الْإِفْتَاءُ بِالْقَوْلِ بِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَلَا يُكْرَهُ لِعُذْرِ الْمَطَرِ وَنَحْوِهِ، كَاعْتِكَافِ الْوَلِيِّ، وَمَنْ لَهُ حَقُّ التَّقَدُّمِ وَيُصَلِّي فِيهِ غَيْرُهُ تَبَعًا لَهُ، وَأَمَّا الْمَسْجِدُ الَّذِي خُصِّصَ لِأَجْلِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَلَا يُكْرَهُ فِيهِ.

وَقَالَ مَالِكٌ: أَكْرَهُ أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنْ وُضِعَتْ قُرْبَ الْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ عَلَيْهَا بِصَلَاةِ الْإِمَامِ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهَا إِذَا ضَاقَ خَارِجُ الْمَسْجِدِ بِأَهْلِهِ، وَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ كُرِهَ إِدْخَالُهَا الْمَسْجِدَ وَلَوْ بِغَيْرِ صَلَاةٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تُنْدَبُ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ إِذَا أُمِنَ تَلْوِيثُهُ، أَمَّا إِذَا خِيفَ تَلْوِيثُ الْمَسْجِدِ فَلَا يَجُوزُ إِدْخَالُهُ، وَحُجَّةُ جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ «- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى فِيهِ عَلَى سَهْلٍ وَسُهَيْلٍ ابْنَيْ بَيْضَاءَ» كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ.فَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ لِذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ الْمَسْجِدَ أَشْرَفُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: تُبَاحُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَمْنِ تَلْوِيثٍ، فَإِنْ لَمْ يُؤْمَنْ لَمْ يَجُزْ.

الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْمَقْبَرَةِ:

39- فِيهَا لِلْفُقَهَاءِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: لَا بَأْسَ بِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى عَلَى قَبْرٍ وَهُوَ فِي الْمَقْبَرَةِ».وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ذَكَرَ نَافِعٌ أَنَّهُ صُلِّيَ عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَسْطَ قُبُورِ الْبَقِيعِ، صَلَّى عَلَى عَائِشَةَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَحَضَرَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، وَفَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُكْرَهُ ذَلِكَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- : «وَالْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلاَّ الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ» وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِلصَّلَاةِ غَيْرَ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَكُرِهَتْ فِيهِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ كَالْحَمَّامِ. مَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَمَنْ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ:

40- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مَاتَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، إِلاَّ الْبُغَاةَ وَقُطَّاعَ الطَّرِيقِ وَمَنْ بِمِثْلِ حَالِهِمْ.

وَكَرِهَ مَالِكٌ لِأَهْلِ الْفَضْلِ الصَّلَاةَ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ.قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَكُرِهَ صَلَاةُ فَاضِلٍ عَلَى بِدْعِيٍّ لَمْ يَكْفُرْ بِبِدْعَتِهِ.وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ: إِذَا قُتِلَ الْخَوَارِجُ فَذَلِكَ أَحْرَى عِنْدِي أَنْ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: حَرُمَ أَنْ يَعُودَ أَوْ يُغَسِّلَ مُسْلِمٌ صَاحِبَ بِدْعَةٍ مُكَفِّرَةٍ، أَوْ يُكَفِّنَهُ، أَوْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، أَوْ يَتْبَعَ جِنَازَتَهُ، وَقَالَ أَحْمَدُ: أَهْلُ الْبِدَعِ إِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تُصَلُّوا عَلَيْهِمْ.وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ وَلَوْ عَمْدًا يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، بِهِ يُفْتَى وَإِنْ كَانَ أَعْظَمَ وِزْرًا مِنْ قَاتِلِ غَيْرِهِ.وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَالْقَتْلُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِسَيْفٍ أَوْ إِلْقَاءٍ فِي بَحْرٍ أَوْ نَارٍ.

وَقَالَ مَالِكٌ: يُصَلَّى عَلَى الَّذِينَ كَابَرُوا (أَيِ الْبُغَاةِ) وَلَا يُصَلِّي عَلَيْهِمُ الْإِمَامُ وَقَالَ: يُصَلَّى عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ وَيُصْنَعُ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِمَوْتَى الْمُسْلِمِينَ وَإِثْمُهُ عَلَى نَفْسِهِ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يُسَنُّ لِلْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَإِمَامِ كُلِّ قَرْيَةٍ وَهُوَ وَالِيهَا فِي الْقَضَاءِ، الصَّلَاةُ عَلَى غَالٍّ وَقَاتِلِ نَفْسِهِ عَمْدًا، وَإِنْ صَلَّى عَلَيْهِمَا فَلَا بَأْسَ بِهِ.

وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى الْفَاسِقِ، وَقَالُوا: إِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- إِنَّمَا لَمْ يُصَلِّ عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ زَجْرًا لِلنَّاسِ، وَصَلَّتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مَنْ قَتَلَ أَحَدَ أَبَوَيْهِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إِهَانَةً، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُصَلَّى عَلَى كُلِّ مَنْ يُقْتَلُ عَلَى مَتَاعٍ يَأْخُذُهُ، وَمَنْ قُتِلَ بِحَقٍّ بِسِلَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا فِي الْقَوَدِ وَالرَّجْمِ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُصْنَعُ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِالْمَوْتَى، وَالَّذِي صَلَبَهُ الْإِمَامُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَوَى أَبُو سُلَيْمَانَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: كُلُّ مَنْ قَتَلَهُ الْإِمَامُ عَلَى قِصَاصٍ، أَوْ فِي حَدٍّ مِنَ الْحُدُودِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَكَذَا الْمَرْجُومُ.

وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ بَعْدَ الْوِلَادَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَإِذَا اخْتَلَطَ مَوْتَانَا بِكُفَّارٍ صُلِّيَ عَلَيْهِمْ مُطْلَقًا فِي أَوْجَهِ الْأَقْوَالِ.أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَمْ يَسْتَثْنُوا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ إِلاَّ الْكَافِرَ وَالْمُرْتَدَّ.

مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ:

41- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ السُّلْطَانُ إِنْ حَضَرَ ثُمَّ نَائِبُهُ وَهُوَ أَمِيرُ الْمِصْرِ، ثُمَّ الْقَاضِي، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَصَاحِبُ الشُّرَطِ ثُمَّ خَلِيفَةُ الْوَالِي، ثُمَّ خَلِيفَةُ الْقَاضِي، ثُمَّ إِمَامُ الْحَيِّ.

قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: فِيهِ إِيهَامٌ، وَذَلِكَ أَنَّ تَقْدِيمَ الْوُلَاةِ وَاجِبٌ وَتَقْدِيمَ إِمَامِ الْحَيِّ مَنْدُوبٌ فَقَطْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ الْوَلِيِّ، وَإِلاَّ فَالْوَلِيُّ أَوْلَى، وَبِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ سَاخِطًا عَلَيْهِ حَالَ حَيَاتِهِ لِوَجْهٍ صَحِيحٍ.

وَالْمُرَادُ بِإِمَامِ الْحَيِّ إِمَامُ الْمَسْجِدِ الْخَاصِّ بِالْمَحَلَّةِ، وَإِمَامُ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ (وَعَبَّرَ عَنْهُ فِي كِتَابِ الْمُنْيَةِ بِإِمَامِ الْجُمُعَةِ) أَوْلَى مِنْ إِمَامِ الْحَيِّ، وَأَمَّا إِمَامُ مُصَلَّى الْجِنَازَةِ فَاسْتَظْهَرَ الْمَقْدِسِيُّ أَنَّهُ كَالْأَجْنَبِيِّ فَالْوَلِيُّ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ.

ثُمَّ الْوَلِيُّ بِتَرْتِيبِ عُصُوبَةِ الْإِنْكَاحِ إِلاَّ الْأَبَ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الِابْنِ اتِّفَاقًا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الِابْنُ عَالِمًا وَالْأَبُ جَاهِلاً فَالِابْنُ أَوْلَى، فَلَا وِلَايَةَ لِلنِّسَاءِ وَلَا لِلزَّوْجِ إِلاَّ أَنَّهُ أَحَقُّ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْعُصُوبَةِ لِإِخْرَاجِ النِّسَاءِ فَقَطْ، فَذَوُو الْأَرْحَامِ وَهُمْ دَاخِلُونَ فِي الْوِلَايَةِ وَهُمْ أَوْلَى مِنَ الْأَجْنَبِيِّ.

وَالْمُرَادُ بِالْوَلِيِّ الذَّكَرُ الْمُكَلَّفُ فَلَا حَقَّ لِلصَّغِيرِ وَلَا لِلْمَعْتُوهِ.

42- وَتَفْصِيلُ الْإِجْمَالِ أَنَّهُ يُقَدَّمُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ أَبُوهُ، ثُمَّ ابْنُهُ، ثُمَّ ابْنُ ابْنِهِ وَإِنْ سَفَلَ، ثُمَّ الْجَدُّ وَإِنْ عَلَا، ثُمَّ الْأَخُ الشَّقِيقُ، ثُمَّ الْأَخُ لِأَبٍ، ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ الشَّقِيقِ، وَهَكَذَا الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ كَتَرْتِيبِهِمْ فِي النِّكَاحِ.

وَمَنْ لَهُ وِلَايَةُ التَّقَدُّمِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ مِمَّنْ أَوْصَى لَهُ الْمَيِّتُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ رُسْتُمَ الْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ وَمَعَ ذَلِكَ يُقَدَّمُ مَنْ لَهُ حَقُّ التَّقَدُّمِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْقَرِيبُ أَوْلَى مِنَ السُّلْطَانِ.

وَلَا وِلَايَةَ لِلزَّوْجِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِانْقِطَاعِ الصِّلَةِ بِالْمَوْتِ لَكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجَةِ الْمَيِّتَةِ وَلِيٌّ فَالزَّوْجُ أَوْلَى، ثُمَّ الْجِيرَانُ أَوْلَى مِنَ الْأَجْنَبِيِّ.

وَلَوْ مَاتَتِ امْرَأَةٌ وَلَهَا زَوْجٌ وَابْنٌ عَاقِلٌ بَالِغٌ مِنْهُ، فَالْوِلَايَةُ لِلِابْنِ دُونَ الزَّوْجِ، لَكِنْ يُكْرَهُ لِلِابْنِ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَبَاهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَهُ، فَإِنْ كَانَ لَهَا ابْنٌ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ، وَتَعْظِيمُ زَوْجِ أُمِّهِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْأَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَصِيُّ الْمَيِّتِ إِنْ كَانَ أَوْصَى إِلَيْهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهِ وَإِلاَّ فَلَا، ثُمَّ الْخَلِيفَةُ وَهُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَأَمَّا نَائِبُهُ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي التَّقَدُّمِ إِلاَّ إِذَا كَانَ نَائِبَهُ فِي الْحُكْمِ وَالْخُطْبَةِ، ثُمَّ أَقْرَبُ الْعَصَبَةِ فَيُقَدَّمُ الِابْنُ، ثُمَّ ابْنُهُ ثُمَّ الْأَبُ، ثُمَّ الْأَخُ، ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ، ثُمَّ الْجَدُّ، ثُمَّ الْعَمُّ، ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ وَهَكَذَا.

وَلَا حَقَّ لِزَوْجِ الْمَيِّتَةِ فِي التَّقَدُّمِ وَيَكُونُ بَعْدَ الْعَصَبَةِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ عَصَبَةٌ فَالْأَجَانِبُ سَوَاءٌ، إِلاَّ أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَفْضَلُ مِنْهُمْ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْأَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ أَبُو الْمَيِّتِ وَإِنْ عَلَا، ثُمَّ ابْنُهُ وَإِنْ سَفَلَ، ثُمَّ الْأَخُ الشَّقِيقُ، ثُمَّ الْأَخُ لِأَبٍ، ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ الشَّقِيقِ، ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ لِأَبٍ، ثُمَّ بَقِيَّةُ الْعَصَبَةِ عَلَى تَرْتِيبِ الْمِيرَاثِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، أَوْ نَائِبُهُ عِنْدَ انْتِظَامِ بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ ذَوُو الْأَرْحَامِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ.

وَإِذَا أَوْصَى بِالصَّلَاةِ لِغَيْرِ مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّقَدُّمَ مِمَّنْ ذُكِرَ فَلَا تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ.وَلَا حَقَّ لِلزَّوْجِ حَيْثُ وُجِدَ مَعَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْأَجَانِبِ، وَلَا حَقَّ لِلزَّوْجَةِ حَيْثُ وُجِدَ مَعَهَا ذَكَرٌ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَالزَّوْجُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَجَانِبِ.وَالْمَرْأَةُ تُصَلِّي وَتُقَدَّمُ بِتَرْتِيبِ الذُّكُورِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْأَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ إِمَامًا وَصِيُّهُ الْعَدْلُ، ثُمَّ السُّلْطَانُ، ثُمَّ نَائِبُهُ، ثُمَّ أَبُو الْمَيِّتِ وَإِنْ عَلَا، ثُمَّ ابْنُهُ وَإِنْ نَزَلَ، ثُمَّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ عَلَى تَرْتِيبِ الْمِيرَاثِ، ثُمَّ ذَوُو الْأَرْحَامِ، ثُمَّ الزَّوْجُ، وَنَائِبُ الْوَلِيِّ بِمَنْزِلَتِهِ بِخِلَافِ نَائِبِ الْوَصِيِّ فَلَا يَكُونُ بِمَنْزِلَتِهِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ كَانَ الْوَلِيَّانِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَكْبَرُهُمَا سِنًّا أَوْلَى، وَلَهُمَا أَنْ يُقَدِّمَا غَيْرَهُمَا فَلَوْ قَدَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلاً عَلَى حِدَةٍ فَالَّذِي قَدَّمَهُ الْأَكْبَرُ أَوْلَى.وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُقَدِّمَ إِنْسَانًا إِلاَّ بِإِذْنِ الْآخَرِ، إِلاَّ إِنْ قَدَّمَا الْأَسَنَّ لِسِنِّهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- : «الْكُبْرَ الْكُبْرَ» وَلِغَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ.

وَإِذَا أَرَادَ أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ دَرَجَةً أَنْ يَسْتَخْلِفَ غَيْرَهُ كَانَ الْآخَرُ أَوْلَى بِأَنْ يَسْتَخْلِفَهُ.

فَإِنْ تَشَاجَرَ الْوَلِيَّانِ فَتَقَدَّمَ أَجْنَبِيٌّ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا فَصَلَّى، يُنْظَرُ إِنْ صَلَّى الْأَوْلِيَاءُ مَعَهُ جَازَتِ الصَّلَاةُ وَلَا تُعَادُ، وَإِنْ لَمْ يُصَلُّوا مَعَهُ فَلَهُمْ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ لِعَدَمِ سُقُوطِ حَقِّهِمْ وَإِنْ تَأَدَّى الْفَرْضُ، وَلَا يُعِيدُ مَعَ الْأَوْلِيَاءِ مَنْ صَلَّى مَعَ غَيْرِهِمْ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ تَعَدَّدَتِ الْعَصَبَةُ الْمُتَسَاوُونَ فِي الْقُرْبِ مِنَ الْمَيِّتِ، قُدِّمَ الْأَفْضَلُ مِنْهُمْ لِزِيَادَةِ فِقْهٍ أَوْ حَدِيثٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَكَذَا الْأَجَانِبُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُمْ يُقَدَّمُ الْأَفْضَلُ مِنْهُمْ كَمَا فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: بِتَقْدِيمِ الْأَسَنِّ إِذَا اسْتَوَى الْوُلَاةُ وَتَشَاحُّوا، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ حَالَةُ الْأَسَنِّ غَيْرَ مَحْمُودَةٍ، فَكَانَ أَفْضَلُهُمْ وَأَفْقَهُهُمْ أَحَبَّ، فَإِنْ تَقَارَبُوا فَأَسَنُّهُمْ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ هُنَا الدُّعَاءُ وَدُعَاءُ الْأَسَنِّ أَقْرَبُ لِلْإِجَابَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- : «إِنَّ اللَّهَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَرُدَّ دَعْوَةَ ذِي الشَّيْبَةِ فِي الْإِسْلَامِ» وَإِنْ اسْتَوَوْا وَقَلَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فَلَمْ يَصْطَلِحُوا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا تَسَاوَى الْأَوْلِيَاءُ قُدِّمَ مَنْ كَانَ أَوْلَاهُمْ بِالْإِمَامَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَإِنِ اسْتَوَوْا فِيهِ أَيْضًا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، وَتُكْرَهُ إِمَامَةُ غَيْرِ الْأَوْلَى بِلَا إِذْنِهِ مَعَ حُضُورِهِ، لَكِنْ يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ، فَإِنْ صَلَّى الْأَوْلَى خَلْفَهُ صَارَ إِذْنًا، وَإِلاَّ فَلَهُ أَنْ يُعِيدَهَا؛ لِأَنَّهَا حَقُّهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعِيدَهَا مَنْ صَلاَّهَا تَبَعًا لِلْأَوْلَى.

43- وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: تُسَنُّ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ لِكُلِّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ أَوَّلاً، سَوَاءٌ أَكَانَ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ أَمْ لَمْ يَكُنْ.

وَقَالَ فِي الْأُمِّ: إِنْ سَبَقَ الْأَوْلِيَاءُ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ ثُمَّ جَاءَ وَلِيٌّ آخَرُ أَحْبَبْتُ أَنْ لَا تُوضَعَ لِلصَّلَاةِ ثَانِيَةً، وَإِنْ فَعَلَ فَلَا بَأْسَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا تُعَادُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ مَرَّةً أُخْرَى. مَا يُفْسِدُ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ وَمَا يُكْرَهُ فِيهَا:

44- تَفْسُدُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِمَا تَفْسُدُ بِهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ مِنَ الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْكَلَامِ، وَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ وَغَيْرِهَا مِنْ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ، إِلاَّ الْمُحَاذَاةَ فَإِنَّهَا غَيْرُ مُفْسِدَةٍ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِالْمُحَاذَاةِ عُرِفَ بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الصَّلَاةِ الْمُطْلَقَةِ فَلَا يَلْحَقُ بِهَا غَيْرُهَا، وَلِهَذَا لَمْ يَلْحَقْ بِهَا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ حَتَّى لَمْ تَكُنِ الْمُحَاذَاةُ فِيهَا مُفْسِدَةً، وَكَذَا الْقَهْقَهَةُ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ لَا تَنْقُضُ الطَّهَارَةَ؛ لِأَنَّ الْقَهْقَهَةَ مُبْطِلَةٌ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ، فَلَا يُجْعَلُ وَارِدًا فِي غَيْرِهَا.

وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا، وَعِنْدَ انْتِصَافِ النَّهَارِ، لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: «ثَلَاثُ سَاعَاتٍ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ نُصَلِّيَ فِيهَا وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهَا مَوْتَانَا».وَالْمُرَادُ بِقَبْرِ الْمَوْتَى الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ دُونَ الدَّفْنِ.

وَإِنَّمَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا حَضَرَتْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، كَمَا فِي مَرَاقِي الْفَلَاحِ، وَلَكِنْ فِي تُحْفَةِ الْفُقَهَاءِ الْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى جِنَازَةٍ حَضَرَتْ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ وَلَا يُؤَخِّرَهَا، بَلْ قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: إِنَّ التَّأْخِيرَ مَكْرُوهٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَلِيٍّ- رضي الله عنه- : «ثَلَاثٌ لَا تُؤَخِّرْهَا، الصَّلَاةُ إِذَا آنَتْ، وَالْجِنَازَةُ إِذَا حَضَرَتْ، وَالْأَيِّمُ إِذَا وَجَدْتَ لَهَا كُفْئًا».

أَمَّا إِذَا حَضَرَتْ قَبْلَ الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ فَأَخَّرَهَا حَتَّى صَلَّى فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ وَتَجِبُ إِعَادَتُهَا.وَلَا يُكْرَهُ أَنْ يُصَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، أَوْ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَكَذَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَبَعْدَ الْغُرُوبِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، لَكِنْ يُبْدَأُ بَعْدَ الْغُرُوبِ بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ أَوَّلاً، ثُمَّ بِالْجِنَازَةِ ثُمَّ بِالسُّنَّةِ.

قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: وَلَعَلَّهُ لِبَيَانِ الْأَفْضَلِيَّةِ، وَفِي الْحِلْيَةِ: الْفَتْوَى عَلَى تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عَنْ سُنَّةِ الْجُمُعَةِ، فَعَلَى هَذَا تُؤَخَّرُ عَنْ سُنَّةِ الْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّهَا آكَدُ.

وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ «أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهَا مَوْتَانَا» يَعْنِي الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ، وَكَرِهَهَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا، وَإِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ (كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ) وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا وَقَعَ الدَّفْنُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِلَا تَعَمُّدٍ فَلَا يُكْرَهُ.

وَالنَّهْيُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى الصَّلَوَاتِ ا

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


53-موسوعة الفقه الكويتية (حج 2)

حَجٌّ -2

الْمَحْرَمُ الْمَشْرُوطُ لِلسَّفَرِ

27- الْمَحْرَمُ الْأَمِينُ الْمَشْرُوطُ فِي اسْتِطَاعَةِ الْمَرْأَةِ لِلْحَجِّ هُوَ كُلُّ رَجُلٍ مَأْمُونٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ يَحْرُمُ عَلَيْهِ بِالتَّأْبِيدِ التَّزَوُّجُ مِنْهَا سَوَاءٌ كَانَ التَّحْرِيمُ بِالْقَرَابَةِ أَوِ الرَّضَاعَةِ أَوِ الصِّهْرِيَّةِ...وَنَحْوِ ذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي الزَّوْجِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِزِيَادَةِ شَرْطِ الْإِسْلَامِ فِي الْمَحْرَمِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِذَلِكَ فِي حَقِيقَةِ الْمَحْرَمِ لَكِنْ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَحْرَمِ الْبُلُوغُ بَلِ التَّمْيِيزُ وَالْكِفَايَةُ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَكْفِي الْمَحْرَمُ الذَّكَرُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثِقَةً فِيمَا يَظْهَرُ، لِأَنَّ الْوَازِعَ الطَّبِيعِيَّ أَقْوَى مِنَ الشَّرْعِيِّ، إِذَا كَانَ لَهُ غَيْرَةٌ تَمْنَعُهُ أَنْ يَرْضَى بِالزِّنَى.

فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْأَلَةِ:

28- أ- يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَكُونَ قَادِرَةً عَلَى نَفَقَةِ نَفْسِهَا وَنَفَقَةِ الْمَحْرَمِ إِنْ طَلَبَ مِنْهَا النَّفَقَةَ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهَا عَلَيْهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَكَذَلِكَ عَبَّرَ بِالنَّفَقَةِ ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.وَعَبَّرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ مُفْلِحٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِالْأُجْرَةِ.وَالْمُرَادُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ.

وَلَوْ امْتَنَعَ الْمَحْرَمُ عَنِ الْخُرُوجِ إِلاَّ بِأُجْرَةٍ لَزِمَتْهَا إِنْ قَدَرَتْ عَلَيْهَا، وَحَرُمَ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ مَعَ الرُّفْقَةِ الْمَأْمُونَةِ وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَهِيَ مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ فِي صُحْبَةِ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ أَوْ رُفْقَةٍ مَأْمُونَةٍ.

ب- الزَّوْجُ إِذَا حَجَّ مَعَ امْرَأَتِهِ فَلَهَا عَلَيْهِ النَّفَقَةُ، نَفَقَةُ الْحَضَرِ لَا السَّفَرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَجْرًا مُقَابِلَ الْخُرُوجِ مَعَهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهُمْ خَصُّوا الْمَحْرَمَ بِأَخْذِ الْأُجْرَةِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ إِذَا كَانَتْ أُجْرَةَ الْمِثْلِ.

ج- إِذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنَ الذَّهَابِ مَعَهُ لِحَجِّ الْفَرْضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ النَّفْلِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ الْحَجُّ إِلاَّ بِإِذْنِ الزَّوْجِ فَرْضًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ «لِأَنَّ فِي ذَهَابِهَا تَفْوِيتَ حَقِّ الزَّوْجِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ، لِأَنَّهُ فَرْضٌ بِغَيْرِ وَقْتٍ إِلاَّ فِي الْعُمُرِ كُلِّهِ، » فَإِنْ خَافَتِ الْعَجْزَ الْبَدَنِيَّ بِقَوْلِ طَبِيبَيْنِ عَدْلَيْنِ لَمْ يُشْتَرَطْ إِذْنُ الزَّوْجِ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ لَا يُقَدَّمُ عَلَى فَرَائِضِ الْعَيْنِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ، فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُ زَوْجَتِهِ مِنْهُ، لِأَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَيْهَا.

ثَانِيًا- عَدَمُ الْعِدَّةِ:

29- يُشْتَرَطُ أَلَا تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ مُدَّةَ إِمْكَانِ السَّيْرِ لِلْحَجِّ، وَهُوَ شَرْطٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَفَاصِيلَ فِيهِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى الْمُعْتَدَّاتِ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْ بُيُوتِهِنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} وَالْحَجُّ يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ، فَلَا تُلْزَمُ بِأَدَائِهِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ.

وَقَدْ عَمَّمَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ لِكُلِّ مُعْتَدَّةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ عِدَّتُهَا مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ رَجْعِيٍّ، أَوْ وَفَاةٍ، أَوْ فَسْخِ نِكَاحٍ.وَنَحْوِ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَفَصَّلَ الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: لَا تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ إِلَى الْحَجِّ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْمَبْتُوتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ لُزُومَ الْبَيْتِ فِيهِ وَاجِبٌ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَقُدِّمَ عَلَى الْحَجِّ لِأَنَّهُ يَفُوتُ، وَالطَّلَاقُ الْمَبْتُوتُ لَا يَجِبُ فِيهِ ذَلِكَ.وَأَمَّا عِدَّةُ الرَّجْعِيَّةِ فَالْمَرْأَةُ فِيهِ بِمَنْزِلَتِهَا فِي طَلَبِ النِّكَاحِ، لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ.

وَنَحْوُ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ لِلْعِدَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَحِقُّ لِلزَّوْجِ عِنْدَهُمْ مَنْعُهَا عَنْ حَجَّةِ الْفَرْضِ فِي مَذْهَبِهِمْ.

30- ثُمَّ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي عَدَمِ الْعِدَّةِ: هَلْ هُوَ شَرْطُ وُجُوبٍ أَوْ شَرْطُ أَدَاءٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ شَرْطٌ لِلُزُومِ الْأَدَاءِ بِالنَّفْسِ.أَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَهُوَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ.

فُرُوعٌ:

31- لَوْ خَالَفَتِ الْمَرْأَةُ وَخَرَجَتْ لِلْحَجِّ فِي الْعِدَّةِ صَحَّ حَجُّهَا، وَكَانَتْ آثِمَةً.

ب- إِنْ خَرَجَتْ مِنْ بَلَدِهَا لِلْحَجِّ وَطَرَأَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا تَبِعَتْ زَوْجَهَا، رَجَعَ

أَوْ مَضَى، لَمْ تُفَارِقْهُ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُرَاجِعَهَا.وَإِنْ كَانَ بَائِنًا أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَإِنْ كَانَ إِلَى مَنْزِلِهَا أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ وَإِلَى مَكَّةَ مُدَّةُ سَفَرٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَعُودَ إِلَى مَنْزِلِهَا، وَإِنْ كَانَتْ إِلَى مَكَّةَ أَقَلَّ مَضَتْ إِلَى مَكَّةَ، وَإِنْ كَانَتْ إِلَى الْجَانِبَيْنِ أَقَلَّ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ فَهِيَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَتْ مَضَتْ، وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ إِلَى مَنْزِلِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْمِصْرِ أَوْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ أَوْ لَا، إِلاَّ أَنَّ الرُّجُوعَ أَوْلَى.وَإِنْ كَانَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مُدَّةُ سَفَرٍ فَإِنْ كَانَتْ فِي الْمِصْرِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَفَازَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ لَا تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا فَلَهَا أَنْ تَمْضِيَ إِلَى مَوْضِعِ الْأَمْنِ ثُمَّ لَا تَخْرُجَ مِنْهُ حَتَّى تَمْضِيَ عِدَّتُهَا.

وَنَحْوُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَإِذَا خَرَجَتْ لِلْحَجِّ فَتُوُفِّيَ زَوْجُهَا وَهِيَ قَرِيبَةٌ رَجَعَتْ لِتَعْتَدَّ فِي مَنْزِلِهَا، وَإِنْ تَبَاعَدَتْ مَضَتْ فِي سَفَرِهَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا خَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا لِحَجِّ الْفَرِيضَةِ فَمَاتَ أَوْ طَلَّقَهَا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ نَحْوِهَا أَنَّهَا تَرْجِعُ إِذَا وَجَدَتْ ثِقَةً ذَا مَحْرَمٍ، أَوْ نَاسًا لَا بَأْسَ بِهِمْ.وَإِنْ بَعُدَتْ أَوْ كَانَتْ أَحْرَمَتْ أَوْ أَحْرَمَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَوِ الْمَوْتِ، وَسَوَاءٌ أَحْرَمَتْ بِفَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ أَوْ لَمْ تَجِدْ رُفْقَةً تَرْجِعُ مَعَهُمْ فَإِنَّهَا تَمْضِي....

وَفِي حَجِّ التَّطَوُّعِ: تَرْجِعُ لِتُتِمَّ عِدَّتَهَا فِي بَيْتِهَا إِنْ عَلِمَتْ أَنَّهَا تَصِلُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، إِنْ وَجَدَتْ ذَا مَحْرَمٍ أَوْ رُفْقَةً مَأْمُونَةً.وَإِلاَّ تَمَادَتْ مَعَ رُفْقَتِهَا...

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ كَقَوْلِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ إِذْنِ الزَّوْجِ فِي خُرُوجِ الزَّوْجَةِ لِلْحَجِّ حَتَّى لَوْ طَرَأَتِ الْعِدَّةُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ:

إِذَا خَرَجَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَهُ مَنْعُهَا وَتَحْلِيلُهَا، وَإِنْ خَرَجَتْ بِإِذْنِهِ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا وَلَا تَحْلِيلُهَا (*).

شُرُوطُ صِحَّةِ الْحَجِّ:

شُرُوطُ صِحَّةِ الْحَجِّ أُمُورٌ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا صِحَّةُ الْحَجِّ وَلَيْسَتْ دَاخِلَةً فِيهِ.فَلَوِ اخْتَلَّ شَيْءٌ مِنْهَا كَانَ الْحَجُّ بَاطِلًا، وَهِيَ:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: الْإِسْلَامُ:

32- يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ أَهْلًا لِلْعِبَادَةِ وَلَا تَصِحُّ مِنْهُ، فَلَا يَصِحُّ حَجُّ الْكَافِرِ أَصَالَةً وَلَا نِيَابَةً، فَإِنْ حَجَّ أَوْ حُجَّ عَنْهُ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: الْعَقْلُ:

33- يُشْتَرَطُ الْعَقْلُ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَيْسَ أَهْلًا لِلْعِبَادَةِ أَيْضًا وَلَا تَصِحُّ مِنْهُ.فَلَوْ حَجَّ الْمَجْنُونُ فَحَجُّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِذَا أَفَاقَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ.لَكِنْ يَصِحُّ أَنْ يَحُجَّ عَنِ الْمَجْنُونِ وَلِيُّهُ وَيَقَعُ نَفْلًا.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْمِيقَاتُ الزَّمَانِيُّ:

34- ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْحَجِّ زَمَانًا لَا يُؤَدَّى فِي غَيْرِهِ، فِي قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}.

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَجَمَاهِيرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ: هِيَ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.

وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي نَهَارِ يَوْمِ النَّحْرِ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: هُوَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: آخِرُ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَيْلَةُ النَّحْرِ، وَلَيْسَ نَهَارُ يَوْمِ النَّحْرِ مِنْهَا.

وَوَسَّعَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: آخِرُ أَشْهُرِ الْحَجِّ نِهَايَةُ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ.

وَامْتِدَادُ الْوَقْتِ بَعْدَ لَيْلَةِ النَّحْرِ إِلَى آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى جَوَازِ التَّحَلُّلِ مِنَ الْإِحْرَامِ وَكَرَاهَةِ الْعُمْرَةِ فَقَطْ.

فَلَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ خَارِجَ وَقْتِ الْحَجِّ لَا يُجْزِيهِ، فَلَوْ صَامَ الْمُتَمَتِّعُ أَوِ الْقَارِنُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَقِبَ طَوَافِ الْقُدُومِ لَا يَقَعُ عَنْ سَعْيِ الْحَجِّ إِلاَّ فِيهَا.

نَعَمْ أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ قَبْلَهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَهُمْ. (انْظُرْ مُصْطَلَحَيْ إِحْرَامٌ فِقْرَةُ 34، وَأَشْهُرُ الْحَجِّ).

وَلَا يَصِحُّ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ وَقْتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِهِ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ انْعَقَدَ عُمْرَةً عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْمِيقَاتُ الْمَكَانِيُّ:

35- هُنَاكَ أَمَاكِنُ وَقَّتَهَا الشَّارِعُ أَيْ حَدَّدَهَا لِأَدَاءِ أَرْكَانِ الْحَجِّ، لَا تَصِحُّ فِي غَيْرِهَا.فَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، مَكَانُهُ أَرْضُ عَرَفَةَ.وَالطَّوَافُ بِالْكَعْبَةِ، مَكَانُهُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ.

وَالسَّعْيُ، مَكَانُهُ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.

وَنُفَصِّلُ تَوْقِيتَ الْمَكَانِ لِكُلِّ مَنْسَكٍ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

شُرُوطُ إِجْزَاءِ الْحَجِّ عَنِ الْفَرْضِ:

36- شُرُوطُ إِجْزَاءِ الْحَجِّ عَنِ الْفَرْضِ ثَمَانِيَةٌ وَهِيَ:

أ- الْإِسْلَامُ: وَهُوَ شَرْطٌ لِوُقُوعِهِ عَنِ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ، بَلْ لِصِحَّتِهِ مِنْ أَسَاسِهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.

ب- بَقَاؤُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ إِلَى الْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ ارْتِدَادٍ عِيَاذًا بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْحَجِّ ثُمَّ تَابَ عَنْ رِدَّتِهِ وَأَسْلَمَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ جَدِيدٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ مُجَدَّدًا بَعْدَ التَّوْبَةِ عَنِ الرِّدَّةِ.

اسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} فَقَدْ جَعَلَتِ الْآيَةُ الرِّدَّةَ نَفْسَهَا مُحْبِطَةً لِلْعَمَلِ.

وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.

فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ إِحْبَاطَ الرِّدَّةِ لِلْعَمَلِ مَشْرُوطٌ بِالْمَوْتِ كَافِرًا.

ج- الْعَقْلُ: فَإِنَّ الْمَجْنُونَ وَإِنْ صَحَّ إِحْرَامُ وَلِيِّهِ عَنْهُ وَمُبَاشَرَتُهُ أَعْمَالَ الْحَجِّ عَنْهُ، فَإِنَّهُ يَقَعُ نَفْلًا لَا فَرْضًا.

نَعَمْ، لَوْ كَانَ حَالَ الْإِحْرَامِ مُفِيقًا يَعْقِلُ النِّيَّةَ وَالتَّلْبِيَةَ وَأَتَى بِهِمَا، ثُمَّ أَوْقَفَهُ وَلِيُّهُ، وَبَاشَرَ عَنْهُ سَائِرَ أُمُورِهِ صَحَّ حَجُّهُ فَرْضًا، إِلاَّ أَنَّهُ يَبْقَى عَلَيْهِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ حَتَّى يُفِيقَ فَيُؤَدِّيَهُ بِنَفْسِهِ.

د- الْحُرِّيَّةُ: فَإِذَا حَجَّ الْعَبْدُ ثُمَّ عَتَقَ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ.وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهَا. (فِقْرَةُ 12).

هـ- الْبُلُوغُ: فَإِذَا حَجَّ الصَّبِيُّ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ.وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ (فِقْرَةُ 11 وَ 12). و- الْأَدَاءُ بِنَفْسِهِ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ: بِأَنْ يَكُونَ صَحِيحًا مُسْتَكْمِلًا شُرُوطَ وُجُوبِ أَدَاءِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ إِذَا أَحَجَّ عَنْهُ غَيْرَهُ صَحَّ الْحَجُّ وَوَقَعَ نَفْلًا، وَبَقِيَ الْفَرْضُ فِي ذِمَّتِهِ.

أَمَّا إِذَا اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ فَأَحَجَّ عَنْهُ غَيْرَهُ صَحَّ وَسَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ، بِشَرْطِ اسْتِمْرَارِ الْعُذْرِ إِلَى الْمَوْتِ.

ز- عَدَمُ نِيَّةِ النَّفْلِ: فَيَقَعُ الْحَجُّ عَنِ الْفَرْضِ بِنِيَّةِ الْفَرْضِ فِي الْإِحْرَامِ، وَبِمُطْلَقِ نِيَّةِ الْحَجِّ.

أَمَّا إِذَا نَوَى الْحَجَّ نَفْلًا وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْفَرْضِ أَوْ نَذْرٌ، فَإِنَّهُ يَقَعُ نَفْلًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.وَيَقَعُ عَنِ الْفَرْضِ أَوِ النَّذْرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

يَدُلُّ لِلْأَوَّلَيْنِ حَدِيثُ «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».وَهَذَا نَوَى النَّفَلَ فَلَا يَقَعُ عَنِ الْفَرْضِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ مَا نَوَاهُ.

وَاسْتَدَلَّ لِلْآخَرَيْنِ بِأَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ.وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ غَيْرُ الْحَجِّ.

ح- عَدَمُ النِّيَّةِ عَنِ الْغَيْرِ: وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ إِذَا كَانَ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنْ نَوَى عَنْ غَيْرِهِ وَقَعَ عَنْ غَيْرِهِ اتِّفَاقًا.

أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَنَوَى عَنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَنِ الْغَيْرِ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَيَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَيَأْتِي مَزِيدُ تَفْصِيلٍ لِذَلِكَ فِي بَحْثِ الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ.

كَيْفِيَّاتُ الْحَجِّ:

37- يُؤَدَّى الْحَجُّ عَلَى ثَلَاثِ كَيْفِيَّاتٍ، وَهِيَ:

أ- الْإِفْرَادُ: وَهُوَ أَنْ يُهِلَّ الْحَاجُّ أَيْ يَنْوِيَ الْحَجَّ فَقَطْ عِنْدَ إِحْرَامِهِ ثُمَّ يَأْتِي بِأَعْمَالِ الْحَجِّ وَحْدَهُ.

ب- الْقِرَانُ: وَهُوَ أَنْ يُهِلَّ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ جَمِيعًا، فَيَأْتِيَ بِهِمَا فِي نُسُكٍ وَاحِدٍ.

وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهُمَا يَتَدَاخَلَانِ، فَيَطُوفُ طَوَافًا وَاحِدًا وَيَسْعَى سَعْيًا وَاحِدًا وَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ عَنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَطُوفُ الْقَارِنُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ، طَوَافٌ وَسَعْيٌ لِلْعُمْرَةِ، ثُمَّ طَوَافُ الزِّيَارَةِ وَالسَّعْيُ لِلْحَجِّ.وَيَجِبُ عَلَى الْقَارِنِ أَنْ يَنْحَرَ هَدْيًا بِالْإِجْمَاعِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قِرَانٌ). ج- التَّمَتُّعُ: وَهُوَ أَنْ يُهِلَّ بِالْعُمْرَةِ فَقَطْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَيَأْتِيَ مَكَّةَ فَيُؤَدِّيَ مَنَاسِكَ الْعُمْرَةِ، وَيَتَحَلَّلَ.وَيَمْكُثَ بِمَكَّةَ حَلَالًا، ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَيَأْتِيَ بِأَعْمَالِهِ.وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَ هَدْيًا بِالْإِجْمَاعِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَمَتُّعٌ).

مَشْرُوعِيَّةُ كَيْفِيَّاتِ الْحَجِّ:

38- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ كُلِّ كَيْفِيَّاتِ الْحَجِّ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.

وَيُسْتَدَلُّ لِذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ:

أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} وقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَقَوْلُهُ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}.

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ - رضي الله عنها- قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ.وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- بِالْحَجِّ.فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ».

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَقَدْ تَوَاتَرَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَوْجُهِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْأَئِمَّةُ، وَمِنْ ذَلِكَ:

1- تَصْرِيحُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ الَّذِي نَقَلْنَاهُ سَابِقًا، وَقَوْلُهُ «ثُمَّ مَا لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا»

2- قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَكُلُّهَا جَائِزَةٌ بِالْإِجْمَاعِ

3- قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بَعْدَ هَذَا- أَيْ بَعْدَ الْخِلَافِ الَّذِي نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ- عَلَى جَوَازِ الْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ

4- قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَمْ تَخْتَلِفِ الْأُمَّةُ فِي أَنَّ الْإِفْرَادَ وَالْقِرَانَ، وَالتَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ كُلُّهَا جَائِزَةٌ.

هَدْيُ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ:

38- يَجِبُ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَذْبَحَ هَدْيًا لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}.وَتَفْصِيلُهُ فِي (هَدْيٌ، وَتَمَتُّعٌ، وَقِرَانٌ).

الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ كَيْفِيَّاتِ أَدَاءِ الْحَجِّ:

39- فَضَّلَ كُلَّ كَيْفِيَّةٍ مِنْ كَيْفِيَّاتِ الْحَجِّ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي حَجِّهِ - صلى الله عليه وسلم- وَلِاسْتِنْبَاطَاتِ قُوَّةِ ذَلِكَ التَّفْضِيلِ عِنْدَ كُلِّ جَمَاعَةٍ:

أ- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْإِفْرَادَ بِالْحَجِّ أَفْضَلُ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ.

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ:

1- حَدِيثُ عَائِشَةَ السَّابِقُ، وَفِيهِ قَوْلُهَا: «وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- بِالْحَجِّ».وَغَيْرُهُ مِنْ أَحَادِيثَ تُفِيدُ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم- كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ.

2- أَنَّهُ أَشَقُّ عَمَلًا مِنَ الْقِرَانِ، وَلَيْسَ فِيهِ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ كَمَا فِي التَّمَتُّعِ، فَيَكُونُ أَكْثَرَ ثَوَابًا.

إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ فَضَّلُوا الْإِفْرَادَ، ثُمَّ الْقِرَانَ، ثُمَّ التَّمَتُّعَ، وَقَدَّمَ الشَّافِعِيَّةُ التَّمَتُّعَ عَلَى الْقِرَانِ.

وَشَرْطُ تَفْضِيلِ الْإِفْرَادِ عَلَى غَيْرِهِ- عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ- «أَنْ يَحُجَّ ثُمَّ يَعْتَمِرَ فِي سَنَتِهِ، فَإِنْ أَخَّرَ الْعُمْرَةَ عَنْ سَنَةِ الْحَجِّ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ أَفْضَلُ مِنْهُ، بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْعُمْرَةِ عَنْ سَنَةِ الْحَجِّ مَكْرُوهٌ».

ب- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَفْضَلَهَا الْقِرَانُ، ثُمَّ التَّمَتُّعُ، ثُمَّ الْإِفْرَادُ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْمُزَنِيِّ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ.وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ:

1- حَدِيثُ عُمَرَ - رضي الله عنه- «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- بِوَادِي الْعَقِيقِ يَقُولُ: أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي، فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ».

فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِإِدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُفْرِدًا، وَلَا يَأْمُرُهُ إِلاَّ بِالْأَفْضَلِ.وَهَذَا يَجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي حَجِّهِ - صلى الله عليه وسلم- فَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ مُتَعَيَّنٌ. 2- أَنَّهُ أَشَقُّ لِكَوْنِهِ أَدْوَمُ إِحْرَامًا، وَأَسْرَعُ إِلَى الْعِبَادَةِ، وَلِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فَيَكُونُ أَفْضَلَ.

ج- ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ، فَالْإِفْرَادُ، فَالْقِرَانُ.

«وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ اخْتِيَارُ التَّمَتُّعِ: ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَائِشَةُ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْقَاسِمُ، وَسَالِمٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ».

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ:

1- قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ جَابِرٍ -: «لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ، وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً».

فَقَدْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّمَتُّعِ، وَتَمَنَّاهُ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَأْمُرُ وَلَا يَتَمَنَّى إِلاَّ الْأَفْضَلَ.

2- أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ، يَجْتَمِعُ لَهُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، مَعَ كَمَالِهِمَا، وَكَمَالِ أَفْعَالِهِمَا، عَلَى وَجْهِ الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ، مَعَ زِيَادَةِ نُسُكٍ، لَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى.

صِفَةُ أَدَاءِ الْحَجِّ بِكَيْفِيَّاتِهِ كُلِّهَا:

وَنَقْسِمُ أَعْمَالَ الْحَجِّ لِتَسْهِيلِ فَهْمِ أَدَائِهَا إِلَى قِسْمَيْنِ:

أ- أَعْمَالُ الْحَجِّ حَتَّى قُدُومِ مَكَّةَ.

ب- أَعْمَالُ الْحَجِّ بَعْدَ قُدُومِ مَكَّةَ.

أَعْمَالُ الْحَجِّ حَتَّى قُدُومِ مَكَّةَ:

40- مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَإِنَّهُ يَشْرَعُ بِالِاسْتِعْدَادِ لِلْإِحْرَامِ (انْظُرْ مُصْطَلَحَ إِحْرَامٌ، وَخُصُوصًا ف 117)، وَيَنْوِي فِي إِحْرَامِهِ الْكَيْفِيَّةَ الَّتِي يُرِيدُ أَدَاءَ الْحَجِّ عَلَيْهَا، فَإِنْ أَرَادَ الْإِفْرَادَ نَوَى الْحَجَّ، وَإِنْ أَرَادَ الْقِرَانَ نَوَى الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَإِنْ أَرَادَ التَّمَتُّعَ نَوَى الْعُمْرَةَ فَقَطْ.

فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ بَادَرَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَتَوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ بِغَايَةِ الْخُشُوعِ وَالْإِجْلَالِ، وَيَبْدَأُ بِالطَّوَافِ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، فَيَطُوفُ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، وَهَذَا الطَّوَافُ هُوَ طَوَافُ الْقُدُومِ لِلْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ، وَهُوَ طَوَافُ الْعُمْرَةِ لِمَنْ أَحْرَمَ مُتَمَتِّعًا (انْظُرْ تَمَتُّعٌ).أَمَّا إِنْ كَانَ قَارِنًا فَيَقَعُ عَنِ الْقُدُومِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَنِ الْعُمْرَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ طَوَافًا آخَرَ لِلْقُدُومِ عِنْدَهُمْ (انْظُرْ مُصْطَلَحَ قِرَانٌ).

وَيَقْطَعُ الْمُتَمَتِّعُ التَّلْبِيَةَ بِشُرُوعِهِ بِالطَّوَافِ، وَلَا يَقْطَعُهَا الْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ حَتَّى يَشْرَعَ فِي الرَّمْيِ يَوْمَ النَّحْرِ (انْظُرْ تَلْبِيَةٌ).

وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ فِي ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ وَيُقَبِّلُهُ، وَكُلَّمَا مَرَّ بِهِ، إِنْ تَيَسَّرَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِيذَاءٍ لِأَحَدٍ، وَإِلاَّ لَمَسَهُ بِيَدِهِ أَوْ بِشَيْءٍ يُمْسِكُهُ بِهَا وَقَبَّلَهُ، وَإِلاَّ أَشَارَ بِيَدَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ السَّعْيَ بَعْدَهُ فَيُسَنُّ لَهُ أَنْ يَضْطَبِعَ فِي أَشْوَاطِ طَوَافِهِ هَذَا كُلِّهَا، وَيَرْمُلَ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُولَى.وَلْيُكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فِي طَوَافِهِ كُلِّهِ، وَلَا سِيَّمَا الْمَأْثُورُ (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: طَوَافٌ).

وَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ عِنْدَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمِ إِنْ أَمْكَنَ، ثُمَّ إِنْ أَرَادَ السَّعْيَ يَذْهَبُ إِلَى الصَّفَا وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، مُرَاعِيًا أَحْكَامَ السَّعْيِ وَآدَابِهِ.

(انْظُرْ: سَعْيٌ).وَهَذَا السَّعْيُ يَقَعُ عَنِ الْحَجِّ لِلْمُفْرِدِ، وَعَنِ الْعُمْرَةِ لِلْمُتَمَتِّعِ، وَعَنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِلْقَارِنِ، عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ فِي الْقِرَانِ، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَعَنِ الْعُمْرَةِ فَقَطْ لِلْقَارِنِ، وَعَلَيْهِ سَعْيٌ آخَرُ لِلْحَجِّ عِنْدَهُمْ (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: قِرَانٌ).

وَهُنَا يَحْلِقُ الْمُتَمَتِّعُ رَأْسَهُ بَعْدَ السَّعْيِ أَوْ يُقَصِّرُهُ (انْظُرْ حَلْقٌ)، وَقَدْ حَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ. (انْظُرْ: إِحْرَامٌ: ف 126).أَمَّا الْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ فَهُمَا عَلَى إِحْرَامِهِمَا إِلَى أَنْ يَتَحَلَّلَا بِأَعْمَالِ يَوْمِ النَّحْرِ.

أَعْمَالُ الْحَجِّ بَعْدَ قُدُومِ مَكَّةَ:

41- يَمْكُثُ الْحَاجُّ فِي مَكَّةَ بَعْدَ الْقُدُومِ وَمَا ذَكَرْنَا فِيهِ- إِلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ لِيُؤَدِّيَ سَائِرَ الْمَنَاسِكِ وَيُؤَدِّي أَعْمَالَ الْحَجِّ هَذِهِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ كَمَا يَلِي: يَوْمُ التَّرْوِيَةِ:

42- وَهُوَ يَوْمُ الثَّامِنِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَنْطَلِقُ فِيهِ الْحُجَّاجُ إِلَى مِنًى، وَيُحْرِمُ الْمُتَمَتِّعُ بِالْحَجِّ، أَمَّا الْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ فَهُمَا عَلَى إِحْرَامِهِمَا، وَيَبِيتُونَ بِمِنًى اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ، وَيُصَلُّونَ فِيهَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ: الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ.وَهَذَا فَجْرُ يَوْمِ عَرَفَةَ.

يَوْمُ عَرَفَةَ:

43- وَهُوَ يَوْمٌ عَظِيمٌ يُؤَدِّي فِيهِ الْحُجَّاجُ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ رُكْنَ الْحَجِّ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَى فَوَاتِهِ بُطْلَانُ الْحَجِّ، ثُمَّ الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ.

أ- الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ: وَفِيهِ يُسَنُّ أَنْ يَخْرُجَ الْحَاجُّ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلاَّ بَطْنَ عُرَنَةَ، وَيُسَنُّ أَلَا يَدْخُلَ عَرَفَةَ إِلاَّ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَبَعْدَ أَنْ يَجْمَعَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ تَقْدِيمًا، فَيَقِفَ بِعَرَفَةَ مُرَاعِيًا أَحْكَامَهُ وَسُنَنَهُ وَآدَابَهُ، وَيَسْتَمِرَّ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَلَا يُجَاوِزَ عَرَفَةَ قَبْلَهُ، وَيَتَوَجَّهَ إِلَى اللَّهِ فِي وُقُوفِهِ خَاشِعًا ضَارِعًا بِالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالْقُرْآنِ وَالتَّلْبِيَةِ...حَتَّى يَدْفَعَ مِنْ عَرَفَةَ.

ب- الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ: إِذَا غَرَبَتْ شَمْسُ يَوْمِ عَرَفَةَ يَسِيرُ الْحَاجُّ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، وَيَجْمَعُ بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ تَأْخِيرًا، وَيَبِيتُ فِيهَا، وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، ثُمَّ يُصَلِّي الْفَجْرَ وَيَقِفُ لِلدُّعَاءِ، وَالْوُقُوفُ بَعْدَ الْفَجْرِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّهُ إِذَا نَفَرَ لِعُذْرٍ كَزَحْمَةٍ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

وَيَسْتَمِرُّ وَاقِفًا يَدْعُو وَيُهَلِّلُ وَيُلَبِّي حَتَّى يُسْفِرَ جِدًّا، لِيَنْطَلِقَ إِلَى مِنًى.

وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَلْقُطَ الْجِمَارَ (الْحَصَيَاتِ الصِّغَارَ) مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ، لِيَرْمِيَ بِهَا، وَعَدَدُهَا سَبْعُونَ، لِلرَّمْيِ كُلِّهِ، وَإِلاَّ فَسَبْعَةٌ يَرْمِي بِهَا يَوْمَ النَّحْرِ.

يَوْمُ النَّحْرِ:

44- يُسَنُّ أَنْ يَدْفَعَ الْحَاجُّ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، لِيُؤَدِّيَ أَعْمَالَ النَّحْرِ، وَهُوَ أَكْثَرُ أَيَّامِ الْحَجِّ عَمَلًا، وَيُكْثِرُ فِي تَحَرُّكِهِ مِنَ الذِّكْرِ وَالتَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ.

وَأَعْمَالُ هَذَا الْيَوْمِ هِيَ:

أ- رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ: فَيَجِبُ عَلَى الْحَاجِّ فِي هَذَا الْيَوْمِ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَحْدَهَا، وَتُسَمَّى الْجَمْرَةَ الْكُبْرَى.يَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ ابْتِدَاءِ الرَّمْيِ.

ب- نَحْرُ الْهَدْيِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ، سُنَّةٌ لِغَيْرِهِمَا.

ج- الْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ: وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ لِلرِّجَالِ، مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً شَدِيدَةً لِلنِّسَاءِ.

د- طَوَافُ الزِّيَارَةِ: وَيَأْتِي تَرْتِيبُهُ بَعْدَ الْأَعْمَالِ السَّابِقَةِ، فَيُفِيضُ الْحَاجُّ أَيْ يَرْحَلُ إِلَى مَكَّةَ لِيَطُوفَ الزِّيَارَةَ، وَهُوَ طَوَافُ الرُّكْنِ فِي الْحَجِّ.

وَإِنْ كَانَ قَدَّمَ السَّعْيَ فَلَا يَضْطَبِعُ وَلَا يَرْمُلُ فِي هَذَا الطَّوَافِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ سَعْيٌ بَعْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يُقَدِّمِ السَّعْيَ فَلْيَسْعَ بَعْدَ الطَّوَافِ، وَيَضْطَبِعْ وَيَرْمُلْ فِي طَوَافِهِ، كَمَا هِيَ السُّنَّةُ فِي كُلِّ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ.

هـ- السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ: لِمَنْ لَمْ يُقَدِّمِ السَّعْيَ مِنْ قَبْلُ.

و- التَّحَلُّلُ: وَيَحْصُلُ بِأَدَاءِ الْأَعْمَالِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَهُوَ قِسْمَانِ:

التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ: أَوِ الْأَصْغَرُ: تَحِلُّ بِهِ مَحْظُورَاتُ الْإِحْرَامِ عَدَا النِّسَاءَ.

وَيَحْصُلُ بِالْحَلْقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِالرَّمْيِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَبِفِعْلِ ثَلَاثَةٍ مِنْ أَعْمَالِ يَوْمِ النَّحْرِ (اسْتُثْنِيَ مِنْهَا الذَّبْحُ حَيْثُ لَا دَخْلَ لَهُ فِي التَّحَلُّلِ) عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

التَّحَلُّلُ الثَّانِي: أَوِ الْأَكْبَرُ: تَحِلُّ بِهِ كُلُّ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ حَتَّى النِّسَاءُ.

وَيَحْصُلُ بِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ فَقَطْ بِشَرْطِ الْحَلْقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِالْإِفَاضَةِ مَعَ السَّعْيِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَبِاسْتِكْمَالِ الْأَعْمَالِ الْأَرْبَعَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

أَوَّلُ وَثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:

45- هُمَا ثَانِي وَثَالِثُ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَفِيهِمَا مَا يَلِي: أ- الْمَبِيتُ بِمِنًى لَيْلَتَيْ هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ: وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

ب- رَمْيُ الْجِمَارِ الثَّلَاثِ: يَرْمِيهَا عَلَى التَّرْتِيبِ: الْجَمْرَةُ الْأُولَى أَوِ الصُّغْرَى وَهِيَ أَقْرَبُ الْجَمَرَاتِ إِلَى مَسْجِدِ الْخَيْفِ بِمِنًى، ثُمَّ الْجَمْرَةُ الثَّانِيَةُ أَوِ الْوُسْطَى، ثُمَّ الثَّالِثَةُ الْكُبْرَى جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ.يَرْمِي كُلَّ وَاحِدَةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَيَدْعُو بَيْنَ كُلِّ جَمْرَتَيْنِ.

ج- النَّفْرُ الْأَوَّلُ: يَحِلُّ لِلْحَاجِّ إِذَا رَمَى جِمَارَ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يَرْحَلَ إِلَى مَكَّةَ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ رَمْيُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، إِذَا جَاوَزَ حُدُودَ مِنًى قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَبْلَ فَجْرِ ثَالِثِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

د- التَّحْصِيبُ: وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَيَنْزِلُ الْحَاجُّ بِالْمُحَصَّبِ عِنْدَ وُصُولِهِ مَكَّةَ إِنْ تَيَسَّرَ لَهُ لِيَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ وَيُصَلِّيَ.

ثَالِثُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:

46- هُوَ رَابِعُ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَفِيهِ:

أ- الرَّمْيُ: يَجِبُ رَمْيُ الْجِمَارِ الثَّلَاثِ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَلَى مَنْ تَأَخَّرَ، فَلَمْ يَنْفِرِ النَّفْرَ الْأَوَّلَ، وَيَنْتَهِي وَقْتُهُ وَوَقْتُ الرَّمْيِ كُلِّهِ أَيْضًا قَضَاءً وَأَدَاءً بِغُرُوبِ شَمْسِ هَذَا الْيَوْمِ اتِّفَاقًا.وَتَنْتَهِي بِغُرُوبِهِ مَنَاسِكُ مِنًى.

ب- النَّفْرُ الثَّانِي: يَنْفِرُ أَيْ يَرْحَلُ سَائِرُ الْحُجَّاجِ فِي هَذَا الْيَوْمِ إِلَى مَكَّةَ بَعْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ، وَلَا يُشْرَعُ الْمُكْثُ بِمِنًى بَعْدَ ذَلِكَ.

ج- التَّحْصِيبُ: عِنْدَ وُصُولِ مَكَّةَ، كَمَا مَرَّ ذِكْرُهُ، فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ.

د- الْمُكْثُ بِمَكَّةَ: تَنْتَهِي الْمَنَاسِكُ بِنِهَايَةِ أَعْمَالِ مِنًى- عَدَا طَوَافَ الْوَدَاعِ- وَيَمْكُثُ الْحَاجُّ بِمَكَّةَ إِلَى وَقْتِ سَفَرِهِ فِي عِبَادَةٍ، وَذِكْرٍ، وَطَوَافٍ، وَعَمَلِ خَيْرٍ.وَيَأْتِي الْمُفْرِدُ بِالْعُمْرَةِ، فَإِنَّ وَقْتَهَا كُلُّ أَيَّامِ السَّنَةِ عَدَا يَوْمَ عَرَفَةَ وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ بَعْدَهُ فَتُكْرَهُ فِيهَا كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: إِحْرَامٌ: ف 38) (وَعُمْرَةٌ).

طَوَافُ الْوَدَاعِ:

46 م- إِذَا أَرَادَ الْحَاجُّ السَّفَرَ مِنْ مَكَّةَ يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الْوَدَاعِ، وَالْمَعْنَى الْمُلَاحَظُ فِي هَذَا الطَّوَافِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ الْعَهْدِ بِالْبَيْتِ، وَلَا رَمْلَ فِي هَذَا الطَّوَافِ وَلَا اضْطِبَاعَ، وَبَعْدَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، يَأْتِي زَمْزَمَ وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا مُسْتَقْبِلَ الْبَيْتِ، وَيَتَشَبَّثُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَيَسْتَلِمَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ إِنْ تَيَسَّرَ لَهُ مِنْ غَيْرِ إِيذَاءِ أَحَدٍ، ثُمَّ يَسِيرُ إِلَى بَابِ الْحَرَمِ وَوَجْهُهُ تِلْقَاءَ الْبَابِ، دَاعِيًا بِالْقَبُولِ، وَالْغُفْرَانِ، وَبِالْعَوْدِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَأَلاَّ يَكُونَ ذَلِكَ آخِرَ الْعَهْدِ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ الْعَتِيقِ. أَرْكَانُ الْحَجِّ:

47- أَرْكَانُ الْحَجِّ فِيمَا اتَّجَهَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَرْبَعَةٌ:

الْإِحْرَامُ.وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ.وَالطَّوَافُ وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ.وَالسَّعْيُ.وَأَرْكَانُ الْحَجِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ رُكْنَانِ: الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ سِتٌّ: الْأَرْبَعُ الْمَذْكُورَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَالْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ، وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَ مُعْظَمِ الْأَرْكَانِ.

الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: الْإِحْرَامُ:

48- الْإِحْرَامُ فِي اللُّغَةِ: الدُّخُولُ فِي الْحُرْمَةِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ: نِيَّةُ الْحَجِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.وَالنِّيَّةُ مَعَ التَّلْبِيَةِ وَهِيَ قَوْلُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَالْإِحْرَامُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَشَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.وَهُوَ عِنْدَهُمْ شَرْطٌ مِنْ وَجْهٍ رُكْنٌ مِنْ وَجْهٍ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٌ).

الرُّكْنُ الثَّانِي: الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ:

49- الْمُرَادُ مِنْ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ: وُجُودُ الْحَاجِّ فِي أَرْضِ (عَرَفَةَ)، بِالشُّرُوطِ وَالْأَحْكَامِ الْمُقَرَّرَةِ.

وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ رُكْنٌ أَسَاسِيٌّ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، يَخْتَصُّ بِأَنَّهُ مَنْ فَاتَهُ فَقَدَ فَاتَهُ الْحَجُّ.

وَقَدْ ثَبَتَتْ رُكْنِيَّةُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ بِالْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ: أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}.فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا نَزَلَتْ تَأْمُرُ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَعِدَّةُ أَحَادِيثَ، أَشْهُرُهَا حَدِيثُ: «الْحَجُّ عَرَفَةَ».

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَقَدْ صَرَّحَ بِهِ عَدَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَأَنَّهُ مَنْ فَاتَهُ فَعَلَيْهِ حَجٌّ قَابِلٌ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


54-موسوعة الفقه الكويتية (حج 4)

حَجٌّ -4

سُنَنُ الْحَجِّ وَمُسْتَحَبَّاتُهُ وَمَمْنُوعَاتُهُ وَمُبَاحَاتُهُ

الْأَوَّلُ: سُنَنُ الْحَجِّ:

87- السُّنَنُ فِي الْحَجِّ يُطْلَبُ فِعْلُهَا، وَيُثَابُ عَلَيْهَا، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ بِتَرْكِهَا الْفِدَاءُ مِنْ دَمٍ أَوْ صَدَقَةٍ.

أَوَّلًا: طَوَافُ الْقُدُومِ:

88- وَيُسَمَّى طَوَافُ الْقَادِمِ، طَوَافَ الْوُرُودِ، وَطَوَافَ الْوَارِدِ، وَطَوَافَ التَّحِيَّةِ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِلْقَادِمِ وَالْوَارِدِ مِنْ غَيْرِ مَكَّةَ لِتَحِيَّةِ الْبَيْتِ.وَيُسَمَّى أَيْضًا طَوَافَ اللِّقَاءِ، وَأَوَّلَ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ، وَطَوَافُ الْقُدُومِ سُنَّةٌ لِلْآفَاقِيِّ الْقَادِمِ مِنْ خَارِجِ مَكَّةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، تَحِيَّةً لِلْبَيْتِ الْعَتِيقِ، لِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ الْبَدْءُ بِهِ دُونَ تَأْخِيرٍ، وَسَوَّى الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ دَاخِلِي مَكَّةَ الْمُحْرِمِ مِنْهُمْ وَغَيْرِ الْمُحْرِمِ فِي سُنِّيَّةِ طَوَافِ الْقُدُومِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ، مَنْ تَرَكَهُ لَزِمَهُ الدَّمُ.

وَوُجُوبُ طَوَافِ الْقُدُومِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى كُلِّ مَنْ أَحْرَمَ مِنَ الْحِلِّ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ إِحْرَامُهُ مِنَ الْحِلِّ وَاجِبًا كَالْآفَاقِيِّ الْقَادِمِ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ، أَمْ نَدْبًا كَالْمُقِيمِ بِمَكَّةَ الَّذِي مَعَهُ نَفَسٌ (مُتَّسَعٌ مِنَ الْوَقْتِ) وَخَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ فَأَحْرَمَ مِنَ الْحِلِّ، وَسَوَاءٌ كَانَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا أَمْ قَارِنًا، وَكَذَا الْمُحْرِمُ مِنَ الْحَرَمِ إِنْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنَ الْحِلِّ، بِأَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَلَالًا مُخَالِفًا لِلنَّهْيِ.

وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى هَؤُلَاءِ مَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمْ مُرَاهِقًا، وَهُوَ مَنْ ضَاقَ وَقْتُهُ حَتَّى خَشِيَ فَوَاتَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ.

وَالْأَصْلُ فِيهِ فِعْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- كَمَا ثَبَتَ فِي أَوَّلِ حَدِيثِ جَابِرٍ قَوْلُهُ: «حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا».

وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مَكَّةَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ...» الْحَدِيثَ.

فَاسْتَدَلَّ الْمَالِكِيَّةُ بِذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ».وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ الْقَرِينَةَ قَامَتْ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ التَّحِيَّةُ، فَأَشْبَهَ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، فَيَكُونُ سُنَّةً.

مَتَى يَسْقُطُ طَوَافُ الْقُدُومِ:

89- يَسْقُطُ طَوَافُ الْقُدُومِ عَمَّنْ يَلِي:

أ- الْمَكِّيُّ.وَمَنْ فِي حُكْمِهِ، وَهُوَ الْآفَاقِيُّ إِذَا أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ، وَشَرَطَ فِيهِ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ لَا يَكُونَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنَ الْحِلِّ، كَمَا سَبَقَ، وَوَسَّعَ الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: يَسْقُطُ عَمَّنْ كَانَ مَنْزِلُهُ فِي مِنْطَقَةِ الْمَوَاقِيتِ لِأَنَّ لَهَا حُكْمَ مَكَّةَ.

وَعِلَّةُ سُقُوطِ طَوَافِ الْقُدُومِ عَنْ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ شُرِعَ لِلْقُدُومِ، وَالْقُدُومُ فِي حَقِّهِمْ غَيْرُ مَوْجُودٍ.

ب- الْمُعْتَمِرُ وَالْمُتَمَتِّعُ وَلَوْ آفَاقِيًّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِدُخُولِ طَوَافِ الْفَرْضِ عَلَيْهِ، وَهُوَ طَوَافُ الْعُمْرَةِ، فَطَوَافُ الْقُدُومِ عِنْدَهُمْ خَاصٌّ بِمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا، أَوْ قَارِنًا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَتَفَرَّدَ الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: يَطُوفُ الْمُتَمَتِّعُ لِلْقُدُومِ قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، ثُمَّ يَطُوفُ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ.

ج- مَنْ قَصَدَ عَرَفَةَ رَأْسًا لِلْوُقُوفِ يَسْقُطُ عَنْهُ طَوَافُ الْقُدُومِ، «لِأَنَّ مَحَلَّهُ الْمَسْنُونَ قَبْلَ وُقُوفِهِ»، وَقَرَّرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنَ الْحَرَمِ أَوْ أَحْرَمَ بِهِ مِنَ الْحِلِّ وَلَكِنَّهُ مُرَاهِقٌ أَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْحِلِّ ثُمَّ أَرْدَفَ بِالْحَجِّ عَلَيْهَا فِي الْحَرَمِ فَإِنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِطَوَافِ الْقُدُومِ وَإِذَا لَمْ يُطَالَبْ بِطَوَافِ الْقُدُومِ فَإِنَّهُ يُؤَخِّرُ السَّعْيَ إِلَى طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، لِأَنَّهُ سَيَأْتِي أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ السَّعْيُ عَقِبَ أَحَدِ طَوَافَيِ الْحَجِّ فَلَمَّا سَقَطَ طَوَافُ الْقُدُومِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ عَقِبَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ.

فُرُوعٌ:

89 م- الْأَوَّلُ: قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَمَتَى يَكُونُ الْحَاجُّ مُرَاهِقًا إِنْ قَدِمَ يَوْمَ عَرَفَةَ أَحْبَبْتُ تَأْخِيرَ طَوَافِهِ، وَإِنْ قَدِمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَحْبَبْتُ تَعْجِيلَهُ وَلَهُ فِي التَّأْخِيرِ سَعَةٌ وَفِي الْمُخْتَصَرِ عَنْ مَالِكٍ، إِنْ قَدِمَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَلْيُؤَخِّرْهُ إِنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ طَافَ وَسَعَى، وَإِنْ قَدِمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَمَعَهُ أَهْلٌ فَلْيُؤَخِّرْ إِنْ شَاءَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَهْلٌ فَلْيَطُفْ وَلْيَسْعَ.وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الِاشْتِغَالَ يَوْمَ عَرَفَةَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى عَرَفَةَ أَوْلَى، وَأَمَّا يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَمَنْ كَانَ مَعَهُ أَهْلٌ كَانَ فِي شُغْلٍ مِمَّا لَا بُدَّ لِلْمُسَافِرِ بِالْأَهْلِ مِنْهُ.انْتَهَى.وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: لِأَنَّهُ بِأَهْلِهِ فِي شُغُلٍ، وَحَالُ الْمُنْفَرِدِ أَخَفُّ، وَقَالَ قَبْلَهُ: وَالْمُرَاهِقُ هُوَ الَّذِي يَضِيقُ وَقْتُهُ عَنْ إِيقَاعِهِ طَوَافَ الْقُدُومِ وَالسَّعْيِ وَمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَحْوَالِهِ وَيَخْشَى فَوَاتَ الْحَجِّ إِنْ تَشَاغَلَ بِذَلِكَ فَلَهُ تَأْخِيرُ الطَّوَافِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا قَالَهُ أَشْهَبُ وَنَقَلَهُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُخْتَصَرِ انْتَهَى مِنْ مَنَاسِكِهِ.

الثَّانِي: حُكْمُ مَنْ أَحْرَمَ بِالْقِرَانِ مِنَ الْحِلِّ حُكْمُ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنَ الْحِلِّ فِي وُجُوبِ طَوَافِ الْقُدُومِ عَلَيْهِ وَتَعْجِيلِ السَّعْيِ بَعْدَهُ، فَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ وَهُوَ غَيْرُ مُرَاهِقٍ فَعَلَيْهِ الدَّمُ، وَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا فَلَا دَمَ عَلَيْهِ قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ.

الثَّالِثُ: إِذَا أَرْدَفَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ فِي الْحِلِّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ أَحْرَمَ بِالْقِرَانِ مِنَ الْحِلِّ فِي وُجُوبِ طَوَافِ الْقُدُومِ وَالسَّعْيِ بَعْدَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُرَاهِقًا وَهُوَ ظَاهِرٌ.

الرَّابِعُ: إِذَا أَحْرَمَ بِالْقِرَانِ مِنْ مَكَّةَ أَوْ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مَكَّةَ ثُمَّ أَرْدَفَ عَلَيْهَا حَجَّةً وَصَارَ قَارِنًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ لِلْحِلِّ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَإِذَا دَخَلَ مِنَ الْحِلِّ لَا يَطُوفُ وَلَا يَسْعَى لِأَنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ.قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَنَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلَهَا وَلِلْقِرَانِ الْحِلُّ.

الْخَامِسُ: مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوْ بِالْقِرَانِ مِنَ الْحِلِّ وَمَضَى إِلَى عَرَفَاتٍ وَلَمْ يَدْخُلْ مَكَّةَ وَلَيْسَ بِمُرَاهِقٍ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَرَكَ طَوَافَ الْقُدُومِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ.قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِي مَنَاسِكِهِ يُوهِمُ سُقُوطَ الدَّمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَسْقُطُ طَوَافُ الْقُدُومِ عَمَّنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ إِلَى الْوُقُوفِ، فَإِذَا قَدِمَ مَكَّةَ يَبْدَأُ طَوَافَ الْقُدُومِ قَبْلَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ.

د- قَرَّرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَسْقُطُ طَوَافُ الْقُدُومِ عَنِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّاسِي، إِلاَّ أَنْ يَزُولَ الْمَانِعُ وَيَتَّسِعَ الزَّمَنُ لِطَوَافِ الْقُدُومِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَجِبُ.

وَقْتُ طَوَافِ الْقُدُومِ:

90- يَبْدَأُ وَقْتُ طَوَافِ الْقُدُومِ حِينَ دُخُولِ مَكَّةَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُبَادِرَ بِهِ قَبْلَ اسْتِئْجَارِ الْمَنْزِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَحِيَّةُ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَآخِرُ وَقْتِهِ وُقُوفُهُ بِعَرَفَةَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْوُقُوفِ مُطَالَبٌ بِطَوَافِ الْفَرْضِ، وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ.

كَيْفِيَّةُ طَوَافِ الْقُدُومِ:

91- كَيْفِيَّةُ طَوَافِ الْقُدُومِ كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَا اضْطِبَاعَ فِيهِ وَلَا رَمَلَ، وَلَا سَعْيَ لِأَجْلِهِ، إِلاَّ إِذَا أَرَادَ تَقْدِيمَ سَعْيِ الْحَجِّ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُسَنُّ لَهُ عِنْدَئِذٍ الِاضْطِبَاعُ وَالرَّمَلُ فِي الطَّوَافِ، لِأَنَّ الرَّمَلَ وَالِاضْطِبَاعَ سُنَّةٌ فِي كُلِّ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ.

ثَانِيًا: خُطَبُ الْإِمَامِ:

92- وَهِيَ سُنَّةٌ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَأَرْبَعَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَتُؤَدَّى الْخُطَبُ كُلُّ وَاحِدَةٍ خُطْبَةً وَاحِدَةً بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، إِلاَّ خُطْبَةَ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَإِنَّهَا خُطْبَتَانِ بَعْدَ الزَّوَالِ قَبْلَ الصَّلَاةِ.

وَيَفْتَتِحُ الْخُطْبَةَ بِالتَّلْبِيَةِ إِنْ كَانَ مُحْرِمًا، وَبِالتَّكْبِيرِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا.

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

93- تُسَنُّ هَذِهِ الْخُطْبَةُ فِي مَكَّةَ يَوْمَ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهَا أَنْ يُعَلِّمَهُمُ الْمَنَاسِكَ.عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَانَ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ خَطَبَ النَّاسَ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَنَاسِكِهِمْ».

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

94- وَتُسَنُّ هَذِهِ الْخُطْبَةُ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ، قَبْلَ الصَّلَاةِ اتِّفَاقًا، كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ.

وَهَذِهِ الْخُطْبَةُ خُطْبَتَانِ يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا بِجَلْسَةٍ كَمَا فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، يُبَيِّنُ لَهُمْ فِي أُولَاهُمَا مَا أَمَامَهُمْ مِنَ الْمَنَاسِكِ وَيُحَرِّضُهُمْ عَلَى إِكْثَارِ الدُّعَاءِ وَالِابْتِهَالِ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مَا يُهِمُّهُمْ مِنَ الْأُمُورِ الضَّرُورِيَّةِ لِشُؤُونِ دِينِهِمْ، وَاسْتِقَامَةِ أَحْوَالِهِمْ.

الْخُطْبَةُ الثَّالِثَةُ:

95- الْخُطْبَةُ الثَّالِثَةُ تَكُونُ بِمِنًى فِي الْيَوْمِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا تَكُونُ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ.

اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ خَطَبَ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى».

وَأَجَابَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْخُطْبَةِ التَّعْلِيمُ وَإِجَابَةٌ عَنْ أَسْئِلَةٍ وُجِّهَتْ إِلَيْهِ- صلى الله عليه وسلم- وَيَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ اشْتِغَالٍ بِأَعْمَالٍ كَثِيرَةٍ وَهِيَ الرَّمْيُ وَالذَّبْحُ وَالْحَلْقُ وَالطَّوَافُ. الْخُطْبَةُ الرَّابِعَةُ:

96- زَادَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ خُطْبَةً رَابِعَةً: هِيَ بِمِنًى ثَانِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، يُعَلِّمُهُمْ فِيهَا جَوَازَ النَّفْرِ فِيهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَيُوَدِّعُهُمْ.

ثَالِثًا: الْمَبِيتُ بِمِنًى لَيْلَةَ يَوْمِ عَرَفَةَ:

97- يُسَنُّ لِلْحَاجِّ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَيُصَلِّيَ بِمِنًى خَمْسَ صَلَوَاتٍ هِيَ: الظُّهْرُ، وَالْعَصْرُ، وَالْمَغْرِبُ، وَالْعِشَاءُ، وَالْفَجْرُ، وَذَلِكَ سُنَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: «فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى بِهِمُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ».

رَابِعًا: السَّيْرُ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ:

98- السَّيْرُ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ صَبَاحًا بَعْدَ طُلُوعِ شَمْسِ يَوْمِ عَرَفَةَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَالْأَصْلُ فِيهِ فِعْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: «ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-...فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ..»

خَامِسًا: الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ لَيْلَةَ النَّحْرِ:

99- يُسَنُّ لِلْحَاجِّ أَنْ يَبِيتَ بِالْمُزْدَلِفَةِ لَيْلَةَ عِيدِ النَّحْرِ، وَيَمْكُثَ بِهَا حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ، ثُمَّ يَقِفَ لِلدُّعَاءِ وَيَمْكُثَ فِيهَا حَتَّى يُسْفِرَ جِدًّا، ثُمَّ يَدْفَعَ إِلَى مِنًى فَهَذَا سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، مَنْدُوبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. إِنَّمَا الْوَاجِبُ الْوُقُوفُ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ وَذَلِكَ لِفِعْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: قَالَ جَابِرٌ: «حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ وَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ...»

مُسْتَحَبَّاتُ الْحَجِّ:

100- مُسْتَحَبَّاتُ الْحَجِّ يَحْصُلُ بِهَا الْأَجْرُ لَكِنْ دُونَ أَجْرِ السُّنَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ تَارِكَهَا الْإِسَاءَةُ بِخِلَافِ السُّنَّةِ.

وَمُسْتَحَبَّاتُ الْحَجِّ كَثِيرَةٌ نَذْكُرُ طَائِفَةً هَامَةً مِنْهَا فِيمَا يَلِي

أَوَّلًا: الْعَجُّ:

101- وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ بِاعْتِدَالٍ، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ لِلرِّجَالِ، عَمَلًا بِحَدِيثِ السَّائِلِ: «أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ؟ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: الْعَجُّ، وَالثَّجُّ».

ثَانِيًا: الثَّجُّ:

102- وَهُوَ ذَبْحُ الْهَدْيِ تَطَوُّعًا، لِمَا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَكْثَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ جِدًّا، حَتَّى بَلَغَ مَجْمُوعُ هَدْيِهِ فِي حَجَّتِهِ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ.

قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَصَدَ مَكَّةَ بِحَجٍّ أَوْ عَمْرَةٍ أَنْ يُهْدِيَ هَدْيًا مِنَ الْأَنْعَامِ، وَنَحْرُهُ هُنَاكَ، وَيُفَرِّقُهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ الْمَوْجُودِينَ فِي الْحَرَمِ

ثَالِثًا: الْغُسْلُ لِدُخُولِ مَكَّةَ لِلْآفَاقِيِّ:

103- وَذَلِكَ عِنْدَ ذِي طُوًى، كَمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مَدَاخِلِ مَكَّةَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم-: كَانَ يَغْتَسِلُ لِدُخُولِ مَكَّةَ.

رَابِعًا: الْغُسْلُ لِلْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ:

104- صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، حَتَّى جَعَلَ الشَّافِعِيَّةُ التَّيَمُّمَ بَدِيلًا عَنْهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَاءِ

قَالَ النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ بِالْمُزْدَلِفَةِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، لِلْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَلِلْعِيدِ، وَلِمَا فِيهَا مِنَ الِاجْتِمَاعِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْمَاءِ تَيَمَّمَ كَمَا سَبَقَ.

خَامِسًا: التَّعْجِيلُ بِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ:

105- وَذَلِكَ بِأَدَائِهِ يَوْمَ عِيدِ النَّحْرِ، اتِّبَاعًا لِفِعْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ

سَادِسًا: الْإِكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ وَالتَّلْبِيَةِ وَالْأَذْكَارِ الْمُتَكَرِّرَةِ فِي الْأَحْوَالِ:

106- كَالْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ فِي الْمَنَاسِكِ، وَلَا سِيَّمَا وُقُوفُ عَرَفَةَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَهَذَا بِهِ رَوْحُ شَعَائِرِ الْحَجِّ.كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّمَا جُعِلَ رَمْيُ الْجِمَارِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ».

سَابِعًا: التَّحْصِيبُ:

107- وَهُوَ النُّزُولُ بِوَادِي الْمُحَصَّبِ، أَوِ الْأَبْطُحِ فِي النَّفْرِ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمَنَاسِكِ، وَيَقَعُ الْمُحَصَّبُ عِنْدَ مَدْخَلِ مَكَّةَ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، إِلَى الْمَقْبَرَةِ الْمُسَمَّاةِ بِالْحَجُونِ.وَقَدِ اتَّصَلَ بِنَاءُ مَكَّةَ بِهِ فِي زَمَنِنَا بَلْ تَجَاوَزَهُ لِمَا وَرَاءَهُ.

وَالتَّحْصِيبُ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، بِأَنْ يَنْزِلَ الْحَاجُّ فِيهِ فِي نَفْرِهِ مِنْ مِنًى وَيُصَلِّي فِيهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ.اسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «إِنَّمَا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْمُحَصَّبَ لِيَكُونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ، وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ فَمَنْ شَاءَ نَزَلَهُ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَنْزِلْهُ»

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى السُّنِّيَّةِ بِحَدِيثِ «أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا فِي حَجَّتِهِ.قَالَ: وَهَلْ تَرَكَ عَقِيلٌ لَنَا مِنْ دَارٍ ثُمَّ قَالَ: نَحْنُ نَازِلُونَ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ، حَيْثُ قَاسَمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْكُفْرِ»

وَحَيْثُ أَصْبَحَ الْمُحَصَّبُ الْآنَ ضِمْنَ الْبُنْيَانِ فَيَمْكُثُ الْحَاجُّ فِيهِ مَا تَيَسَّرَ تَحْصِيلًا لِلسُّنَةِ قَدْرَ الْإِمْكَانَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي يُثِيرُ تِلْكَ الذِّكْرَى مِنْ جِهَادِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.

مَمْنُوعَاتُ الْحَجِّ:

108- مَمْنُوعَاتُ الْحَجِّ أَقْسَامٌ: مَكْرُوهَاتٌ، وَمُحَرَّمَاتٌ، وَمُفْسِدَاتٌ.

أَمَّا الْمَكْرُوهَاتُ: فَهِيَ تَرْكُ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.وَيَلْزَمُ فِيهِ الْإِسَاءَةُ، وَلَا يَجِبُ فِدَاءٌ.

وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ: فَيَدْخُلُ فِيهَا تَرْكُ الْوَاجِبَاتِ، وَيُسَمِّيهِ الْحَنَفِيَّةُ: مَكْرُوهًا كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ.وَحُكْمُهُ إِثْمُ مَنِ ارْتَكَبَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَلُزُومُ الْفِدَاءِ فِيهِ اتِّفَاقًا عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي:

أَمَّا الْمُفْسِدَاتُ وَسَائِرُ مُحَرَّمَاتِ الْحَجِّ فَإِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِحْرَامِ لَا تَخْتَصُّ بِالْحَجِّ. (انْظُرْ فِي الْمُصْطَلَحِ: إِحْرَامٌ ف 55 وَمَا بَعْدُ وَ 171- 173).

مُبَاحَاتُ الْحَجِّ:

109- لَيْسَ لِلْحَجِّ مُبَاحَاتٌ خَاصَّةٌ بِهِ، سِوَى الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا تُخِلُّ بِمَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ (فَانْظُرْ فِي الْمُصْطَلَحِ: إِحْرَامٌ: ف 99- 107).

أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بِالْحَجِّ:

110- تَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ الْمَوْضُوعَاتِ التَّالِيَةَ:

حَجُّ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ.

حَجُّ الصَّبِيِّ.

حَجُّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ.

الْحَجُّ عَنِ الْغَيْرِ.

الْأَوَّلُ- حَجُّ الْمَرْأَةِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ:

111- تَخْتَصُّ الْمَرْأَةُ دُونَ الرَّجُلِ بِعِدَّةِ أَحْكَامٍ فِي الْحَجِّ، بَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِحْرَامِ، فَيُنْظَرُ فِيهِ، وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِمَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَسَبَقَتْ فِي مَوَاضِعِهَا.

وَنُبَيِّنُ هُنَا أَحْكَامًا أُخْرَى هَامَةً، هِيَ أَحْكَامُ حَجِّ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، وَلَهُ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ نُبَيِّنُ حُكْمَهَا فِيمَا يَلِي:

أ- أَنْ تُحْرِمَ الْمَرْأَةُ بِالْحَجِّ مُفْرِدَةً أَوْ قَارِنَةً، ثُمَّ يَمْنَعَهَا الْحَيْضُ أَوِ النِّفَاسُ مِنْ أَدَاءِ الطَّوَافِ، فَإِنَّهَا تَمْكُثُ حَتَّى تَقِفَ بِعَرَفَةَ وَتَأْتِيَ بِكَافَّةِ أَعْمَالِ الْحَجِّ فِيمَا عَدَا الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ، فَإِذَا طَهُرَتْ تَطُوفُ طَوَافًا وَاحِدًا وَتَسْعَى سَعْيًا وَاحِدًا إِنْ كَانَتْ مُفْرِدَةً.وَتَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَتَسْعَى سَعْيًا لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِنْ كَانَتْ قَارِنَةً، حَسْبَمَا يَجِبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَطَوَافًا وَسَعْيًا وَاحِدًا لِلْقِرَانِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهَا طَوَافُ الْوَدَاعِ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ اتِّفَاقًا.

وَيَسْقُطُ عَنْهَا طَوَافُ الْقُدُومِ، أَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَلِأَنَّهُ سُنَّةٌ فَاتَ وَقْتُهَا، وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَلِكَوْنِهِ عُذْرًا يَسْقُطُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا، إِلاَّ أَنْ يَزُولَ الْمَانِعُ وَيَتَّسِعَ الزَّمَنُ لِطَوَافِ الْقُدُومِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهَا.

ب- أَنْ تُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ تَحِيضَ أَوْ تُنْفَسَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَلَا يَتَّسِعُ الْوَقْتُ كَيْ تَطْهُرَ وَتَعْتَمِرَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ:

قَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: أَنَّ الْمَرْأَةَ تُحْرِمُ بِالْحَجِّ أَيْ تَنْوِيهِ وَتُلَبِّي، وَتُؤَدِّي أَعْمَالَ الْحَجِّ كَمَا ذَكَرْنَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُفْرِدَةِ، وَتُصْبِحُ بِهَذَا رَافِضَةً لِلْعُمْرَةِ، أَيْ مُلْغِيَةً لَهَا، وَتُحْتَسَبُ لَهَا حَجَّةً فَقَطْ، فَإِذَا أَرَادَتِ الْعُمْرَةَ تُهِلُّ بِهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَلَيْسَ لَهَا إِرْدَافُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ عِنْدَهُمْ.

أَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالُوا: لَا تُلْغِي الْعُمْرَةَ، بَلْ تُحْرِمُ بِالْحَجِّ، وَتُصْبِحُ قَارِنَةً، فَتُحْتَسَبُ لَهَا الْعُمْرَةُ، وَقَدْ كَفَى عَنْهَا طَوَافُ الْحَجِّ وَسَعْيُهُ تَبَعًا لِمَذْهَبِهِمْ فِي طَوَافِ الْقَارِنِ وَسَعْيِهِ أَنَّهُمَا يُجْزِئَانِ عَنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ (انْظُرْ مُصْطَلَحَ قِرَانٍ).

وَعَلَيْهَا هَدْيُ الْقِرَانِ عِنْدَهُمْ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهَا طَوَافُ الْوَدَاعِ اتِّفَاقًا.

ج- لَوْ حَاضَتْ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ بَعْدَ أَنْ مَضَتْ عَلَيْهَا فَتْرَةٌ تَصْلُحُ لِلطَّوَافِ فَأَخَّرَتْ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ عَنْ وَقْتِهِ بِسَبَبِ الْحَيْضِ وَجَبَ عَلَيْهَا دَمٌ بِهَذَا التَّأْخِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.أَمَّا إِذَا حَاضَتْ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ بَعْدَهُ بِوَقْتٍ يَسِيرٍ لَا يَكْفِي لِلْإِفَاضَةِ فَتَأَخَّرَ طَوَافُهَا عَنْ وَقْتِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهَا وَلَا إِثْمَ.

وَلَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ذَلِكَ، لِأَنَّ وَقْتَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ الْوَاجِبَ يَمْتَدُّ عِنْدَهُمْ لآِخِرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَلَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِأَنَّهُ لَا وَقْتَ يَلْزَمُ الْجَزَاءُ بِتَأْخِيرِهِ عَنْهُ عِنْدَهُمْ.

د- إِنْ حَاضَتْ بَعْدَ الْوُقُوفِ وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ فَإِنَّهَا تُتِمُّ أَعْمَالَ الْحَجِّ، ثُمَّ تَنْصَرِفُ، وَيَسْقُطُ عَنْهَا طَوَافُ الْوَدَاعِ، إِنْ فَارَقَتْ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ تَطْهُرَ اتِّفَاقًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْفِدَاءُ بِتَرْكِهِ.

حَجُّ الصَّبِيِّ:

112- لَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الصَّبِيِّ قَبْلَ الْبُلُوغِ إِجْمَاعًا، لَكِنْ إِذَا فَعَلَهُ صَحَّ مِنْهُ، وَكَانَ نَفْلًا، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى إِذَا بَلَغَ إِجْمَاعًا.

وَتَتَفَاوَتُ كَيْفِيَّةُ إِحْرَامِ الصَّبِيِّ وَأَدَائِهِ الْمَنَاسِكَ بِتَفَاوُتِ سِنِّهِ هَلْ هُوَ مُمَيِّزٌ أَوْ لَا.

وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي مُصْطَلَحِ إِحْرَامٍ فَانْظُرْهُ (ف 131- 136) وَيُلْحَقُ بِالصَّبِيِّ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ الْمَجْنُونُ جُنُونًا مُطْبِقًا بِاتِّفَاقِهِمْ.

حَجُّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمِ الْمَرِيضِ:

113- إِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ أَحْرَمَ عَنْهُ رُفْقَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ مَعَ بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْأَعْمَالِ فِي مُصْطَلَحِ إِحْرَامٍ (ف 138- 142)، وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَهَذَا حَمْلُهُ مُتَعَيَّنٌ عَلَى رُفَقَائِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:

1- الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ: عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ بِالنِّسْبَةِ لِرُكْنِ الْوُقُوفِ، وَلَا سِيَّمَا فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَمِثْلُهُ النَّائِمُ الْمَرِيضُ الَّذِي لَمْ يُفِقْ مُدَّةَ مُكْثِهِ حَتَّى دَفَعَ مَعَ النَّاسِ.

2- يَحْمِلُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ رِفَاقُهُ فِي الطَّوَافِ وَيَطُوفُونَ بِهِ، وَيُجْزِئُ الطَّوَافُ الْوَاحِدُ عَنِ الْحَامِلِ وَالْمَحْمُولِ، إِنْ نَوَاهُ الْحَامِلُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنِ الْمَحْمُولِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ.

أَمَّا الْمَرِيضُ النَّائِمُ فَإِنْ كَانَ الطَّوَافُ بِأَمْرِهِ وَحَمَلُوهُ مِنْ فَوْرِهِ، أَيْ مِنْ سَاعَتِهِ عُرْفًا وَعَادَةً يَجُوزُ، إِلاَّ بِأَنْ طَافُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَ بِالطَّوَافِ بِهِ، أَوْ فَعَلُوهُ لَكِنْ لَا مِنْ فَوْرِهِ فَلَا يُجْزِيهِ الطَّوَافُ.

هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ غَيْرِهِمْ فَيُنْتَظَرُ بِهِ حَتَّى يُفِيقَ، وَيَسْتَوْفِيَ شُرُوطَ الطَّوَافِ، الَّتِي مِنْهَا الطَّهَارَتَانِ (انْظُرْ طَوَافٌ).

3- وَيُمْكِنُ أَنْ يَسْعَى بِهِ بِاتِّفَاقِهِمْ، لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ وَالطَّهَارَتَيْنِ فِي السَّعْيِ.

4- وَيَحْلِقُ لَهُ رِفَاقُهُ، لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهِ.

5- وَيَرْمِي عَنْهُ رِفَاقُهُ، عَلَى التَّفْصِيلِ فِيهِ (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: رَمْيٌ)

6- وَيَسْقُطُ عَنْهُ طَوَافُ الْوَدَاعِ إِذَا سَافَرَ بِهِ رُفْقَتُهُ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ.

الْحَجُّ عَنِ الْغَيْرِ:

مَشْرُوعِيَّةُ الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ:

114- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ

وَقَابِلِيَّتِهِ لِلنِّيَابَةِ، وَذَهَبَ مَالِكٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي مَذْهَبِهِ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ لَا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ لَا عَنِ الْحَيِّ وَلَا عَنِ الْمَيِّتِ، مَعْذُورًا أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ.وَقَالُوا: إِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَتَطَوَّعَ عَنْهُ وَلِيُّهُ بِغَيْرِ الْحَجِّ، كَأَنْ يُهْدِيَ أَوْ يَتَصَدَّقَ عَنْهُ، أَوْ يَدْعُوَ لَهُ، أَوْ يُعْتِقَ.

اسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَجِّ الْإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَبِالْعَقْلِ.

أَمَّا السُّنَّةُ: فَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ».

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟..اقْضُوا اللَّهَ، فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ».

وَأَمَّا الْعَقْلُ، فَقَالَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: وَكَانَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنْ لَا تَجْرِيَ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ، لِتَضَمُّنِهِ الْمَشَقَّتَيْنِ الْبَدَنِيَّةَ وَالْمَالِيَّةَ، وَالْأُولَى لَمْ تَقُمْ بِالْآمِرِ، لَكِنَّهُ تَعَالَى رَخَّصَ فِي إِسْقَاطِهِ بِتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ الْأُخْرَى، أَعْنِي إِخْرَاجَ الْمَالِ عِنْدَ الْعَجْزِ الْمُسْتَمِرِّ إِلَى الْمَوْتِ، رَحْمَةً وَفَضْلًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَدْفَعَ نَفَقَةَ الْحَجِّ إِلَى مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، بِخِلَافِ حَالِ الْقُدْرَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْذُرْهُ لِأَنَّ تَرْكَهُ لَيْسَ إِلاَّ لِمُجَرَّدِ إِيثَارِ رَاحَةِ نَفْسِهِ عَلَى أَمْرِ رَبِّهِ، وَهُوَ بِهَذَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ، لَا التَّخْفِيفَ فِي طَرِيقِ الْإِسْقَاطِ، وَإِنَّمَا شَرَطَ دَوَامَهُ (أَيِ الْعُذْرِ) إِلَى الْمَوْتِ لِأَنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمُرِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: هَذِهِ عِبَادَةٌ تَجِبُ بِإِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ، فَجَازَ أَنْ يَقُومَ غَيْرُ فِعْلِهِ فِيهَا مَقَامَ فِعْلِهِ، كَالصَّوْمِ إِذَا عَجَزَ عَنْهُ افْتَدَى بِخِلَافِ الصَّلَاةِ. وَأَخَذَ الْمَالِكِيَّةُ بِالْأَصْلِ، وَهُوَ عَدَمُ جَرَيَانِ النِّيَابَةِ فِي الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ، كَالصَّوْمِ.

شُرُوطُ الْحَجِّ الْفَرْضِ عَنِ الْغَيْرِ:

أَوَّلًا- شُرُوطُ وُجُوبِ الْإِحْجَاجِ:

115- يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ شُرُوطَ الْأَصِيلِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ لِحَجَّةِ الْفَرْضِ.

يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْإِحْجَاجِ عَنِ الْمُكَلَّفِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ- خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ-: الْعَجْزُ عَنْ أَدَاءِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ.

وَيَشْمَلُ ذَلِكَ مَا يَلِي:

أ- كُلُّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ وَحَضَرَهُ الْمَوْتُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَصِيَّةُ بِالْإِحْجَاجِ عَنْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.سَوَاءٌ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، أَوِ النَّذْرِ، أَوِ الْقَضَاءِ.

وَلَمْ يُوقِفِ الشَّافِعِيَّةُ وُجُوبَ الْإِحْجَاجِ عَنْهُ عَلَى الْوَصِيَّةِ إِجْرَاءً لِلْحَجِّ مَجْرَى الدُّيُونِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَلَا يُوجِبُونَ عَلَيْهِ الْوَصِيَّةَ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ بِأَدَاءِ الْغَيْرِ عَنْهُ- كَمَا هُوَ أَصْلُ مَذْهَبِهِمُ الَّذِي عَرَفْنَاهُ- لَكِنْ إِذَا أَوْصَى نَفَذَتْ وَصِيَّتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ لَمْ يُرْسَلْ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ.

ب- مَنْ تَوَفَّرَتْ فِيهِ سَائِرُ شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ وَاخْتَلَّ شَيْءٌ مِنْ شُرُوطِ الْأَدَاءِ بِالنَّفْسِ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ يُوصِيَ بِالْإِحْجَاجِ عَنْهُ إِذَا لَمْ يُرْسِلْ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ.

ج- مَنْ تَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطُ وُجُوبِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَحُجَّ حَتَّى عَجَزَ عَنِ الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، أَوْ يُوصِيَ بِالْإِحْجَاجِ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.

وَيَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ بِالْمَوْتِ، أَوْ بِالْحَبْسِ، وَالْمَنْعِ، وَالْمَرَضِ الَّذِي لَا يُرْجَى زَوَالُهُ كَالزَّمَانَةِ وَالْفَالِجِ، وَالْعَمَى وَالْعَرَجِ، وَالْهَرَمِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ صَاحِبُهُ عَلَى الِاسْتِمْسَاكِ، وَعَدَمِ أَمْنِ الطَّرِيقِ، وَعَدَمِ الْمَحْرَمِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ، إِذَا اسْتَمَرَّتْ هَذِهِ الْآفَاتُ إِلَى الْمَوْتِ.

ثَانِيًا: شُرُوطُ النَّائِبِ عَنْ غَيْرِهِ فِي الْحَجِّ:

116- اشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِإِجْزَاءِ الْحَجِّ الْفَرْضِ عَنِ الْأَصِيلِ أَنْ يَكُونَ النَّائِبُ قَدْ حَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلًا، وَإِلاَّ كَانَتِ الْحَجَّةُ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمْ تُجْزِئْ عَنِ الْأَصِيلِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهُوَيْهِ.

وَاكْتَفَى الْحَنَفِيَّةُ بِأَهْلِيَّةِ الْمَأْمُورِ لِصِحَّةِ الْحَجِّ، بِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا عَاقِلًا، فَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ (وَهُوَ الْمُسَمَّى صَرُورَةً)، وَأَجَازُوا حَجَّ الْعَبْدِ، وَالْمُرَاهِقِ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَتَصِحُّ هَذِهِ الْحَجَّةُ الْبَدَلِيَّةُ وَتَبْرَأُ ذِمَّةُ الْأَصِيلِ، مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْآمِرِ، وَالْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَأْمُورِ إِنْ كَانَ تَحَقَّقَ وُجُوبُ الْحَجِّ عَلَيْهِ.وَنَحْوُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْحَجِّ عَنِ الْمَيِّتِ يَصِحُّ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى التَّرَاخِي عِنْدَهُمْ، أَمَّا عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى الْفَوْرِ فَيَحْرُمُ الْحَجُّ عَنْهُ.

اسْتَدَلَّ الْأَوَّلُونَ: بِمَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ.قَالَ: مَنْ شُبْرُمَةُ؟ قَالَ: أَخٌ لِي، أَوْ قَرِيبٌ لِي.قَالَ: حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ: لَا.قَالَ: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ».

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِإِطْلَاقِ حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ السَّابِقِ، فَإِنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهَا: «حُجِّي عَنْ أَبِيكِ» مِنْ غَيْرِ اسْتِخْبَارِهَا عَنْ حَجِّهَا لِنَفْسِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَتَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ عُمُومِ الْمَقَالِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


55-موسوعة الفقه الكويتية (حدود 1)

حُدُودٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْحُدُودُ جَمْعُ حَدٍّ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ كُلٌّ مِنَ الْبَوَّابِ وَالسَّجَّانِ حَدَّادًا، لِمَنْعِ الْأَوَّلِ مِنَ الدُّخُولِ، وَالثَّانِي مِنَ الْخُرُوجِ.وَسُمِّيَ الْمُعَرِّفُ لِلْمَاهِيَّةِ حَدًّا، لِمَنْعِهِ مِنَ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ.وَحُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى مَحَارِمُهُ، لقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}.

وَالْحَدُّ فِي الِاصْطِلَاحِ: عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلَى ذَنْبٍ وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي الزِّنَى، أَوِ اجْتَمَعَ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ كَالْقَذْفِ فَلَيْسَ مِنْهُ التَّعْزِيرُ لِعَدَمِ تَقْدِيرِهِ، وَلَا الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ حَقٌّ خَالِصٌ لآِدَمِيٍّ.وَعِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِتَقْدِيرِ الشَّارِعِ، فَيَدْخُلُ الْقِصَاصُ.

وَيُطْلَقُ لَفْظُ الْحَدِّ عَلَى جَرَائِمِ الْحُدُودِ مَجَازًا، فَيُقَالُ: ارْتَكَبَ الْجَانِي حَدًّا، وَيُقْصَدُ أَنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً ذَاتَ عُقُوبَةٍ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْقِصَاصُ:

2- الْقِصَاصُ لُغَةً الْمُمَاثَلَةُ، وَاصْطِلَاحًا: أَنْ يُوقَعَ عَلَى الْجَانِي مِثْلُ مَا جَنَى كَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ وَالْجُرْحِ بِالْجُرْحِ.وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} وقوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ}.فَالْقِصَاصُ غَيْرُ الْحَدِّ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَجَبَتْ حَقًّا لِلْعِبَادِ.

ب- التَّعْزِيرُ:

3- أَصْلُهُ مِنَ الْعَزْرِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الرَّدِّ وَالْمَنْعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ مُعَاوَدَةِ الْقَبِيحِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ، وَمِنْهُ

قوله تعالى {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} فَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ.

وَشَرْعًا: تَأْدِيبٌ دُونَ الْحَدِّ، فَالتَّعْزِيرُ فِي بَعْضِ إِطْلَاقَاتِهِ اللُّغَوِيَّةِ حَدٌّ.وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَلَيْسَ بِحَدٍّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ.

ج- الْعُقُوبَةُ:

4- الْعُقُوبَةُ مِنْ عَاقَبْتُ اللِّصَّ مُعَاقَبَةً وَعِقَابًا، وَالِاسْمُ الْعُقُوبَةُ، وَهِيَ الْأَلَمُ الَّذِي يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ مُسْتَحِقًّا عَلَى الْجِنَايَةِ، وَيَكُونُ بِالضَّرْبِ، أَوِ الْقَطْعِ، أَوِ الرَّجْمِ، أَوِ الْقَتْلِ، سُمِّيَ بِهَا لِأَنَّهَا تَتْلُو الذَّنْبَ مِنْ تَعَقَّبَهُ إِذَا تَبِعَهُ، فَالْعُقُوبَةُ أَعَمُّ مِنَ الْحُدُودِ.

د- الْجِنَايَةُ:

5- الْجِنَايَةُ لُغَةً: اسْمٌ لِمَا يُكْتَسَبُ مِنَ الشَّرِّ، وَشَرْعًا: اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ وَقَعَ عَلَى مَالٍ أَوْ نَفْسٍ.فَبَيْنَ الْجِنَايَةِ وَالْحَدِّ عَلَى الْإِطْلَاقِ الْمَجَازِيِّ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ إِذْ كُلُّ حَدٍّ جِنَايَةٌ وَلَيْسَ كُلُّ جِنَايَةٍ حَدًّا، وَأَمَّا عَلَى الْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ فَبَيْنَهُمَا تَبَايُنٌ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

6- إِقَامَةُ الْحُدُودِ فَرْضٌ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَدَلِيلُ ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، وَالْمَعْقُولُ.

أَمَّا الْكِتَابُ فَمِنْهُ قوله تعالى فِي الزِّنَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}.

وَفِي السَّرِقَةِ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} الْآيَةَ وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدً} وَفِي قَطْعِ الطَّرِيقِ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} الْآيَةَ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَحَدِيثُ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ، وَالْعَسِيفِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ.

وَقَدْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ إِقَامَةِ الْحُدُودِ.

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ الطِّبَاعَ الْبَشَرِيَّةَ، وَالشَّهْوَةَ النَّفْسَانِيَّةَ مَائِلَةٌ إِلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَاقْتِنَاصِ الْمَلَاذِ، وَتَحْصِيلِ مَقْصُودِهَا وَمَحْبُوبِهَا مِنَ الشُّرْبِ وَالزِّنَى وَالتَّشَفِّي بِالْقَتْلِ وَأَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ، وَالِاسْتِطَالَةِ عَلَى الْغَيْرِ بِالشَّتْمِ وَالضَّرْبِ، فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ شَرْعَ هَذِهِ الْحُدُودِ حَسْمًا لِهَذَا الْفَسَادِ، وَزَجْرًا عَنِ ارْتِكَابِهِ، لِيَبْقَى الْعَالَمُ عَلَى نَظْمِ الِاسْتِقَامَةِ، فَإِنَّ إِخْلَاءَ الْعَالَمِ عَنْ إِقَامَةِ الزَّاجِرِ يُؤَدِّي إِلَى انْحِرَافِهِ، وَفِيهِ مِنَ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى.

وَلِذَا قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَالْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ مِنْ شَرْعِهِ الِانْزِجَارُ عَمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْعِبَادُ.

أَنْوَاعُ الْحُدُودِ:

7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يُطَبَّقُ عَلَى جَرِيمَةِ كُلٍّ مِنَ الزِّنَى وَالْقَذْفِ، وَالسُّكْرِ، وَالسَّرِقَةِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ يُعْتَبَرُ حَدًّا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا سِتَّةٌ، وَذَلِكَ بِإِضَافَةِ حَدِّ الشُّرْبِ لِلْخَمْرِ خَاصَّةً.وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْحُدُودَ سَبْعَةٌ، فَيُضِيفُونَ إِلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الرِّدَّةَ وَالْبَغْيَ، فِي حِينِ يَعْتَبِرُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الْقِصَاصَ أَيْضًا مِنَ الْحُدُودِ، حَيْثُ قَالُوا: الْحُدُودُ ثَمَانِيَةٌ وَعَدُّوهُ بَيْنَهَا.وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ قَتْلَ تَارِكِ الصَّلَاةِ عَمْدًا مِنَ الْحُدُودِ

أَوْجُهُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ:

8- أ- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُودِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ.

ب- لَا تُورَثُ الْحُدُودُ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا الْقِصَاصُ فَيُورَثُ.وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ خِلَافٌ يُنْظَرُ فِي (الْقَذْفُ).

ج- لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ فِي الْحُدُودِ فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ.

د- التَّقَادُمُ لَا يَمْنَعُ مِنَ الشَّهَادَةِ بِالْقَتْلِ فِي الْقِصَاصِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، سِوَى حَدِّ الْقَذْفِ.

هـ- يَثْبُتُ الْقِصَاصُ بِالْإِشَارَةِ وَالْكِتَابَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ.

و- لَا تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ فِي الْحُدُودِ، وَتَجُوزُ فِي الْقِصَاصِ.

ز- لَا تَتَوَقَّفُ الْحُدُودُ- مَا عَدَا حَدَّ الْقَذْفِ- عَلَى الدَّعْوَى بِخِلَافِ الْقِصَاصِ.

ح- يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنِ الْإِقْرَارِ فِي الْحُدُودِ وَلَا تَجُوزُ فِي الْقِصَاصِ.

وَمَرَدُّ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الْحُدُودَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ حَقٌّ لِلْعَبْدِ،

وَالتَّفْصِيلُ فِي أَبْوَابِ الْحُدُودِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَ (ر: قِصَاصٌ).

أَوْجُهُ الْخِلَافِ بَيْنَ التَّعْزِيرِ وَالْحُدُودِ:

9- يَخْتَلِفُ التَّعْزِيرُ عَنِ الْحُدُودِ فِي أُمُورٍ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ: (تَعْزِيرٌ).

تَدَاخُلُ الْحُدُودِ:

10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ مِنَ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ، وَالْقَذْفِ (إِذَا وَقَعَ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ) وَشُرْبِ الْخَمْرِ إِذَا تَكَرَّرَ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، أَجْزَأَ حَدٌّ وَاحِدٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

أَمَّا إِذَا وَقَعَ الْقَذْفُ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ وَاحِدٍ فَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَذْفٌ).وَالْأَصْلُ قَاعِدَةُ: إِذَا اجْتَمَعَ أَمْرَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ مَقْصُودُهُمَا، دَخَلَ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ غَالِبًا، وَعَلَى هَذَا فَيُكْتَفَى بِحَدٍّ وَاحِدٍ لِجِنَايَاتٍ اتَّحَدَ جِنْسُهَا بِخِلَافِ مَا اخْتَلَفَ جِنْسُهَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ هُوَ الزَّجْرُ وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِحَدٍّ وَاحِدٍ.

وَإِنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، ثُمَّ حَدَثَتْ مِنْهُ جِنَايَةٌ أُخْرَى فَفِيهَا حَدُّهَا، لِعُمُومِ النُّصُوصِ وَلِوُجُودِ الْمُوجِبِ، وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ الْأَمَةِ تَزْنِي قَبْلَ أَنْ تُحْصَنَ قَالَ: إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا».

وَلِأَنَّ تَدَاخُلَ الْحُدُودِ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ اجْتِمَاعِهَا، وَهَذَا الْحَدُّ الثَّانِي وَجَبَ بَعْدَ سُقُوطِ الْأَوَّلِ بِاسْتِيفَائِهِ.

وَفِي حَالَةِ اجْتِمَاعِ الْحُدُودِ الْمُخْتَلِفَةِ كَمَا لَوْ زَنَى، وَسَرَقَ وَشَرِبَ الْخَمْرَ، أَوِ اجْتِمَاعِهَا مَعَ الْقِصَاصِ وَالتَّعْزِيرِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (تَدَاخُلٌ) (وَتَعْزِيرٌ).

عَدَمُ جَوَازِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ:

11- لَا خِلَافَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ فِي الْحُدُودِ بَعْدَ وُصُولِهَا لِلْحَاكِمِ، وَالثُّبُوتِ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ طَلَبُ تَرْكِ الْوَاجِبِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «أَنْكَرَ عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ حِينَ شَفَعَ فِي الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى».وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي خَلْقِهِ.

وَأَمَّا قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَ الرَّافِعِ لَهُ إِلَى الْحَاكِمِ لِيُطْلِقَهُ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ.فَالْوُجُوبُ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ.

وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ عُرِفَ بِشَرٍّ وَفَسَادٍ فَلَا أُحِبُّ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ أَحَدٌ، وَلَكِنْ يُتْرَكُ لِيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

أَثَرُ التَّوْبَةِ عَلَى الْحُدُودِ:

12- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ حَدَّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالرِّدَّةِ يَسْقُطَانِ بِالتَّوْبَةِ إِذَا تَحَقَّقَتْ تَوْبَةُ الْقَاطِعِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ حَدُّ تَرْكِ الصَّلَاةِ عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَهُ حَدًّا، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ بَقِيَّةَ الْحُدُودِ بَعْدَ رَفْعِهَا إِلَى الْحَاكِمِ لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ وَلَوْ كَانَ قَبْلَ الرَّفْعِ إِلَى الْإِمَامِ.لِئَلاَّ يُتَّخَذَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى إِسْقَاطِ الْحُدُودِ وَالزَّوَاجِرِ.

سُقُوطُ الْحُدُودِ بِالشُّبْهَةِ:

13- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.وَالشُّبْهَةُ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْفَاعِلِ: كَمَنْ وَطِئَ امْرَأَةً ظَنَّهَا حَلِيلَتَهُ.أَوْ فِي الْمَحَلِّ: بِأَنْ يَكُونَ لِلْوَاطِئِ فِيهَا مِلْكٌ أَوْ شُبْهَةُ مِلْكٍ كَالْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ.أَوْ فِي الطَّرِيقِ: بِأَنْ يَكُونَ حَرَامًا عِنْدَ قَوْمٍ، حَلَالًا عِنْدَ آخَرَ.وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَى «شُبْهَةٌ».

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ».وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَتَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ.

سُقُوطُ الْحُدُودِ بِالرُّجُوعِ عَنِ الْإِقْرَارِ:

14- إِذَا ثَبَتَتِ الْحُدُودُ بِالْإِقْرَارِ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهَا تَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ، إِذَا كَانَ الْحَدُّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى.

وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا أَقَرَّ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالزِّنَى، لَقَّنَهُ الرُّجُوعَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلسُّقُوطِ بِالرُّجُوعِ مَا كَانَ لِلتَّلْقِينِ فَائِدَةٌ.وَلِأَنَّهُ يُورِثُ الشُّبْهَةَ، وَالرُّجُوعُ عَنِ الْإِقْرَارِ قَدْ يَكُونُ نَصًّا، وَقَدْ يَكُونُ دَلَالَةً، بِأَنْ يَأْخُذَ النَّاسُ فِي رَجْمِهِ، فَيَهْرُبَ وَلَا يَرْجِعُ، أَوْ يَأْخُذَ الْجَلاَّدُ فِي الْجَلْدِ فَيَهْرُبَ، وَلَا يَرْجِعُ، فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ، لِأَنَّ الْهَرَبَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ دَلَالَةُ الرُّجُوعِ.

وَاسْتَثْنَوْا حَدَّ الْقَذْفِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ، لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ، وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالرُّجُوعِ بَعْدَمَا ثَبَتَ كَالْقِصَاصِ.

وَإِذَا ثَبَتَ الْحَدُّ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الْحَمْلِ فِي الزِّنَى- عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ- لَمْ يَسْقُطْ بِالرُّجُوعِ.

وَيَسْقُطُ الْحَدُّ بِرُجُوعِ الشُّهُودِ كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ إِذَا كَانَ الْبَاقِي أَقَلُّ مِنَ النِّصَابِ بَعْدَ الْقَضَاءِ، قَبْلَ الْإِمْضَاءِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي «كِتَابُ الشَّهَادَاتِ» مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.

سُقُوطُ الْحُدُودِ بِمَوْتِ الشُّهُودِ:

15- يَسْقُطُ حَدُّ الرَّجْمِ خَاصَّةً بِمَوْتِ الشُّهُودِ- عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُونَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ الْبِدَايَةَ بِالشُّهُودِ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ- لِأَنَّ بِالْمَوْتِ قَدْ فَاتَتِ الْبِدَايَةُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ، فَسَقَطَ الْحَدُّ ضَرُورَةً.

سُقُوطُ الْحُدُودِ بِالتَّكْذِيبِ وَغَيْرِهِ:

16- تَكْذِيبُ الْمَزْنِيِّ بِهَا لِلْمُقِرِّ بِالزِّنَى قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَتَكْذِيبُ الْمَقْذُوفِ شُهُودَهُ عَلَى الْقَذْفِ، وَهِيَ الْبَيِّنَةُ بِأَنْ يَقُولَ: شُهُودِي زُورٌ، وَادِّعَاءُ النِّكَاحِ وَالْمَهْرِ قَبْلَ إِقَامَةِ حَدِّ الزِّنَى تُعْتَبَرُ مِنْ مُسْقِطَاتِ الْحُدُودِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ فُصِّلَتْ فِي أَبْوَابِهَا.وَ (ر: زِنًى، قَذْفٌ).

عَدَمُ إِرْثِ الْحُدُودِ:

17- لَا خِلَافَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحُدُودَ لَا تُورَثُ، وَكَذَا لَا يُؤْخَذُ عَنْهَا عِوَضٌ، وَلَا صُلْحَ فِيهَا وَلَا عَفْوَ، لِأَنَّهَا حَقُّ الشَّرْعِ.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ حَدَّ الْقَذْفِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ عِنْدَهُمْ حَقُّ الْعَبْدِ فَيُورَثُ وَيَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ.

وَالْحَنَابِلَةُ مَعَ الشَّافِعِيَّةِ فِي جَوَازِ الْعَفْوِ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ.

وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ: فَقَالَ فِي رِوَايَةٍ: لَهُ الْعَفْوُ مَا لَمْ يَبْلُغِ الْإِمَامَ، فَإِنْ بَلَغَهُ فَلَا عَفْوَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: قَالَ: لَهُ الْعَفْوُ مُطْلَقًا، بَلَغَ ذَلِكَ الْإِمَامَ أَوْ لَمْ يَبْلُغْ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (قَذْفٌ).

التَّلَفُ بِسَبَبِ الْحَدِّ:

18- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحُدُودَ إِذَا أُتِيَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ أَنَّهُ لَا يُضْمَنُ مَنْ تَلِفَ بِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فَعَلَهَا بِأَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ، وَلِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَأْمُورٌ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ.وَإِنْ زَادَ عَلَى الْحَدِّ فَتَلِفَ وَجَبَ الضَّمَانُ بِغَيْرِ خِلَافٍ.

الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِلذُّنُوبِ:

19- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْحَدَّ الْمُقَدَّرَ فِي ذَنْبٍ كَفَّارَةٌ لِذَلِكَ الذَّنْبِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، الْحَدُّ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، بَلِ الْمُطَهِّرُ التَّوْبَةُ، فَإِذَا حُدَّ وَلَمْ يَتُبْ يَبْقَى عَلَيْهِ إِثْمُ الْمَعْصِيَةِ عِنْدَهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَدِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

الْإِثْبَاتُ فِي الْحُدُودِ:

20- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحُدُودَ تَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الْإِقْرَارِ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِمَا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ كَعِلْمِ الْإِمَامِ وَقَرِينَةِ الْحَبَلِ وَغَيْرِهِمَا:

أَوَّلًا- الْبَيِّنَةُ وَشُرُوطُهَا فِي الْحُدُودِ:

تَنْقَسِمُ شُرُوطُ الْبَيِّنَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ:

1- مَا يَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا:

21- وَهِيَ الذُّكُورَةُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ.وَالْأَصَالَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَذْهَبُ لَدَى الْحَنَابِلَةِ، فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلَا كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي، لِتَمَكُّنِ زِيَادَةِ شُبْهَةٍ فِيهَا، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ عَدَمَ اشْتِرَاطِ الْأَصَالَةِ، وَهَذَا إِذَا تَعَذَّرَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ مِنَ الشَّاهِدِ الْأَوَّلِ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْبَةٍ أَوْ مَوْتٍ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَةٌ). مَا تَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُ الْحُدُودِ:

أ- عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ:

22- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ لَا يَقِلَّ عَدَدُ الشُّهُودِ عَنْ أَرْبَعَةٍ لقوله تعالى: {وَاَللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}.

«وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟، قَالَ: نَعَمْ».

ب- اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ:

23- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ مُجْتَمِعِينَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَإِنْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ يَشْهَدُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَيُحَدُّونَ وَإِنْ كَثُرُوا.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ لقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَجَالِسَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَتِّيُّ.

ج- عَدَمُ التَّقَادُمِ:

24- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّ الشُّهُودَ لَوْ شَهِدُوا بِزِنًى قَدِيمٍ، وَجَبَ الْحَدُّ، لِعُمُومِ الْآيَةِ.وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْبَةٍ، وَالْحَدُّ لَا يَسْقُطُ بِمُطْلَقِ الِاحْتِمَالِ، فَإِنَّهُ لَوْ سَقَطَ بِكُلِّ احْتِمَالٍ لَمْ يَجِبْ حَدٌّ أَصْلًا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ عَدَمَ التَّقَادُمِ فِي الْبَيِّنَةِ شَرْطٌ، وَذَلِكَ فِي حَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ مَذْهَبٌ لِأَحْمَد.

وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الشَّاهِدَ إِذَا عَايَنَ الْجَرِيمَةَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} وَبَيْنَ السَّتْرِ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَلَمَّا لَمْ يَشْهَدْ عَلَى فَوْرِ الْمُعَايَنَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِيَارِ جِهَةِ السَّتْرِ، فَإِذَا شَهِدَ بَعْدَ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الضَّغِينَةَ حَمَلَتْهُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: أَيُّمَا قَوْمٍ شَهِدُوا عَلَى حَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا عِنْدَ حَضْرَتِهِ، فَإِنَّمَا شَهِدُوا عَنْ ضِغْنٍ، وَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا.وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ يُورِثُ تُهْمَةً، وَلَا شَهَادَةَ لِلْمُتَّهَمِ.

وَهُنَاكَ تَفْصِيلَاتٌ وَشُرُوطٌ فِيهَا خِلَافٌ يُنْظَرُ فِي (شَهَادَةٌ) (وَزِنًى).

ثَانِيًا- الْإِقْرَارُ:

25- شُرُوطُ الْإِقْرَارِ فِي الْحُدُودِ قِسْمَانِ:

شُرُوطٌ تَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا: وَهِيَ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالنُّطْقُ، فَلَا يَصِحُّ إِقْرَارُ الصَّبِيِّ، لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْحَدِّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جِنَايَةً، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ جِنَايَةً.

وَكَذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ بِالْخِطَابِ وَالْعِبَارَةِ دُونَ الْكِتَابِ وَالْإِشَارَةِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالْبَيَانِ الْمُتَنَاهِي، وَلِذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالزِّنَى.

وَيُقْبَلُ إِقْرَارُ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَلَا تُقْبَلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ احْتِمَالٌ لِلْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَتَفْصِيلُهُ فِي: (إِقْرَارٌ).

شُرُوطٌ تَخُصُّ بَعْضَ الْحُدُودِ مِنْهَا:

أ- تَكْرَارُ الْإِقْرَارِ:

26- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يُقِرَّ الزَّانِي أَوِ الزَّانِيَةُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَبِهَذَا قَالَ الْحَكَمُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقُ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ تَكْرَارَ الْإِقْرَارِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيُكْتَفَى بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَحَمَّادُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالطَّبَرِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَجَمَاعَةٌ.لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إِنَّمَا صَارَ حُجَّةً فِي الشَّرْعِ لِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ، وَهَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ التَّكْرَارِ وَالتَّوْحِيدِ سَوَاءٌ، وَلِأَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «اغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» فَعَلَّقَ الرَّجْمَ عَلَى مُجَرَّدِ الِاعْتِرَافِ. وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ مَاعِزًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَقَرَّ بِالزِّنَى، فَأَعْرَض عَنْهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ إِلَى الْأَرْبَعِ» فَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ مَرَّةً مُوجِبًا لِلْحَدِّ لَمَا أَخَّرَهُ إِلَى الْأَرْبَعِ.

ب- اشْتِرَاطُ عَدَدِ الْمَجَالِسِ:

27- اخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِ عَدَدِ مَجَالِسِ الْإِقْرَارِ عِنْدَ مَنِ اشْتَرَطَ تَكْرَارَهُ، وَكَوْنِ الْإِقْرَارِ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ، وَكَوْنِ الزَّانِي وَالْمَزْنِيِّ بِهَا مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى دَعْوَى الشُّبْهَةِ، وَكَوْنِ الزَّانِي مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ وُجُودُ الزِّنَى، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ ذُكِرَ فِي كُلِّ حَدٍّ مِنَ الْحُدُودِ وَفِي مُصْطَلَحِ: (إِقْرَارٌ).

أَثَرُ عِلْمِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ فِي الْحُدُودِ:

28- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ: إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ إِقَامَةُ الْحَدِّ بِعِلْمِهِ، لقوله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وَقَالَ أَيْضًا: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ- رضي الله عنه-.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ: لَهُ إِقَامَتُهُ

بِعِلْمِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ.لِأَنَّهُ إِذَا جَازَتْ لَهُ إِقَامَتُهُ بِالْبَيِّنَةِ وَالِاعْتِرَافِ الَّذِي لَا يُفِيدُ إِلاَّ الظَّنَّ، فَمَا يُفِيدُ الْعِلْمُ هُوَ أَوْلَى.

مَدَى ثُبُوتِ الْحُدُودِ بِالْقَرَائِنِ:

29- تَخْتَلِفُ الْقَرَائِنُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْحُدُودِ- عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهَا- مِنْ حَدٍّ لآِخَرَ.

فَالْقَرِينَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الزِّنَى: هِيَ ظُهُورُ الْحَمْلِ فِي امْرَأَةٍ غَيْرِ مُتَزَوِّجَةٍ أَوْ لَا يُعْرَفُ لَهَا زَوْجٌ.

وَالْقَرِينَةُ فِي الشُّرْبِ: الرَّائِحَةُ، وَالْقَيْءُ، وَالسُّكْرُ، وَوُجُودُ الْخَمْرِ عِنْدَ الْمُتَّهَمِ، وَفِي السَّرِقَةِ وُجُودُ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ عِنْدَ الْمُتَّهَمِ، وَوُجُودُ أَثَرٍ لِلْمُتَّهَمِ فِي مَوْضِعِ السَّرِقَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَفِي كُلٍّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَقْوَالٍ فُصِّلَتْ فِي مَوَاطِنِهَا وَتُنْظَرُ فِي كُلِّ حَدٍّ مِنَ الْحُدُودِ وَفِي مُصْطَلَحِ: (قَرِينَةٌ). أَنْوَاعُ الْحُدُودِ:

الْحُدُودُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ:

أ- الرَّجْمُ:

30- الرَّجْمُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّانِي إِذَا كَانَ مُحْصَنًا وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (زِنًى وَرَجْمٌ).

ب- الْجَلْدُ:

31- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ الزَّانِي الْبِكْرِ مِائَةُ جَلْدَةٍ، لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ فِي عُقُوبَةِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْجَلْدَ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الرَّجْمِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ وَغَيْرَهُمَا، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّهُ جَلَدَ وَاحِدًا مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا وُضِعَ لِلزَّجْرِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلزَّجْرِ بِالضَّرْبِ مَعَ الرَّجْمِ، وَاخْتَارَ هَذَا مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ الْجَلْدَ يَجْتَمِعُ مَعَ الرَّجْمِ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِسْحَاقُ، فَيُجْلَدُ الزَّانِي الْمُحْصَنُ أَوَّلًا، ثُمَّ يُرْجَمُ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عُبَادَةَ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ».وَبِفِعْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-، وَهُوَ أَنَّهُ جَلَدَ شُرَاحَةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثُمَّ رَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَالَ جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْجَلْدَ عُقُوبَةُ الْقَذْفِ وَالشُّرْبِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ فِي الشُّرْبِ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي أَبْوَابِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَ (ر: قَذْفٌ) وَ (شُرْبٌ).

ج- التَّغْرِيبُ:

32- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجْتَمِعُ مَعَ الْجَلْدِ تَغْرِيبُ الزَّانِي الْبِكْرِ، فَالتَّغْرِيبُ عِنْدَهُمْ يُعْتَبَرُ حَدًّا كَالْجَلْدِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْبِكْرُ

بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ» وَرُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ.

إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَيَقُولُونَ بِتَغْرِيبِ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مُحْتَاجَةٌ إِلَى حِفْظٍ وَصِيَانَةٍ، فَلَا يَجُوزُ تَغْرِيبُهَا إِلاَّ بِمَحْرَمٍ، وَهُوَ يُفْضِي إِلَى تَغْرِيبِ مَنْ لَيْسَ بِزَانٍ، وَنَفْيِ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَلِأَنَّهَا عَوْرَةٌ، وَفِي نَفْيِهَا تَضْيِيعٌ لَهَا وَتَعْرِيضُهَا لِلْفِتْنَةِ، وَلِهَذَا نُهِيَتْ عَنِ السَّفَرِ مَعَ غَيْرِ مَحْرَمٍ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ التَّغْرِيبَ لَيْسَ وَاجِبًا، وَلَيْسَ حَدًّا كَالْجَلْدِ، وَإِنَّمَا هِيَ عُقُوبَةٌ تَعْزِيرِيَّةٌ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَلْدِ إِنْ رَأَى فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً، لِأَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- قَالَ: حَسْبُهُمَا مِنَ الْفِتْنَةِ أَنْ يُنْفَيَا.

وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- غَرَّبَ رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ فِي الْخَمْرِ إِلَى خَيْبَرَ، فَلَحِقَ بِهِرَقْلَ فَتَنَصَّرَ، فَقَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه- لَا أُغَرِّبُ مُسْلِمًا بَعْدَ هَذَا أَبَدًا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْجَلْدِ دُونَ التَّغْرِيبِ، فَإِيجَابُ التَّغْرِيبِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ.وَيُرْجَعُ لِتَفْصِيلِ ذَلِكَ إِلَى مَوْطِنِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.وَ (ر: زِنًى) و (تَغْرِيبٌ).

د- الْقَطْعُ:

33- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ السَّرِقَةَ مُوجِبَةٌ لِلْقَطْعِ بِالنَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ.

أَمَّا النَّصُّ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ}.

وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا».

وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ قَطْعِ السَّارِقِ فِي الْجُمْلَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّ الْقَطْعِ وَمَوْضِعِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالتَّفْصِيلُ فِي «سَرِقَةٌ».

وَكَذَلِكَ يُقْطَعُ الْمُحَارِبُ مِنْ خِلَافٍ إِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِي عِقَابِهِ بِأَيَّةِ عُقُوبَةٍ جَاءَتْ بِهَا آيَةُ الْمُحَارَبَةِ مَا عَدَا النَّفْيَ، فَلَا تَخْيِيرَ فِيهِ وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي (حِرَابَةٌ).

هـ- الْقَتْلُ وَالصُّلْبُ:

34- إِذَا قَتَلَ الْمُحَارِبُ وَأَخَذَ الْمَالَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ وَيُصْلَبُ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ، وَبِهِ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى الزُّهْرِيُّ.

وَإِذَا قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ وَلَا يُصْلَبُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ يُصْلَبُ، لِأَنَّهُ مُحَارِبٌ يَجِبُ قَتْلُهُ، فَيُصْلَبُ كَاَلَّذِي أَخَذَ الْمَالَ.وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي (تَصْلِيبٌ).

وَالْقَتْلُ كَذَلِكَ عُقُوبَةٌ حَدِّيَّةٌ لِلرِّدَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُلِ.وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهما-، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَحَمَّادٌ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُقْتَلُ بِالرِّدَّةِ، بَلْ تُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى عَنْ قَتْلِ الْمَرْأَةِ الْكَافِرَةِ».

وَلِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ بِالْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ، فَلَا تُقْتَلُ بِالطَّارِئِ كَالصَّبِيِّ.

وَفِي قَتْلِ الْبُغَاةِ، وَهُمُ الْمُحَارِبُونَ عَلَى التَّأْوِيلِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَغْيٌ).

شُرُوطُ وُجُوبِ الْحَدِّ:

35- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إِلاَّ عَلَى مُكَلَّفٍ، وَهُوَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ، لِأَنَّهُ إِذَا سَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنْ غَيْرِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ فِي الْعِبَادَاتِ، وَسَقَطَ الْإِثْمُ عَنْهُ فِي الْمَعَاصِي، فَالْحَدُّ الْمَبْنِيُّ عَلَى الدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ أَوْلَى.

وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحُدُودَ تُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّينَ وَلَا تُقَامُ عَلَى مُسْتَأْمَنٍ، إِلاَّ حَدُّ الْقَذْفِ فَيُقَامُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ.وَلَا يُقَامُ عَلَى الْكَافِرِ حَدُّ الشُّرْبِ عِنْدَهُمْ.

وَفِي حَدِّ الزِّنَى تَفْصِيلٌ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ (الْمُسْتَأْمَنُ) بِذِمِّيَّةٍ تُحَدُّ الذِّمِّيَّةُ وَلَا يُحَدُّ الْحَرْبِيُّ.وَإِذَا زَنَى ذِمِّيٌّ بِمُسْتَأْمَنَةٍ يُحَدُّ الذِّمِّيُّ وَلَا تُحَدُّ الْمُسْتَأْمَنَةُ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ كِلَاهُمَا يُحَدَّانِ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى: لَا تُحَدُّ الذِّمِّيَّةُ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَابِعَةٌ لِلرَّجُلِ فَامْتِنَاعُ الْحَدِّ فِي حَقِّ الْأَصْلِ يُوجِبُ امْتِنَاعَهُ فِي حَقِّ الْفَرْعِ.

وَتَفْصِيلُ كُلِّ حَدٍّ فِي مُصْطَلَحِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِإِسْلَامِهِ.

أَمَّا حَدُّ الزِّنَى فَإِنَّهُ يُؤَدَّبُ فِيهِ فَقَطْ وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِلاَّ إِذَا اغْتَصَبَ امْرَأَةً مُسْلِمَةً فَإِنَّهُ يُقْتَلُ لِنَقْضِهِ الْعَهْدَ.وَكَذَلِكَ لَوِ ارْتَكَبَ جَرِيمَةَ اللِّوَاطِ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ.وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَوْفَى مِنَ الذِّمِّيِّ مَا ثَبَتَ وَلَوْ حَدَّ زِنًى أَوْ قَطْعَ سَرِقَةٍ، وَلَا يُحَدُّ بِشُرْبِ خَمْرٍ لِقُوَّةِ أَدِلَّةِ حِلِّهِ فِي عَقِيدَتِهِمْ.وَلَا يُشْتَرَطُ فِي إِحْصَانِ الرَّجْمِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا.

وَلَا يُقَامُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَيُحَدُّ الْكَافِرُ حَدَّ الْقَذْفِ ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ مُعَاهَدًا.

وَتَفْصِيلُ كُلِّ حَدٍّ فِي مُصْطَلَحِهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا رُفِعَ إِلَى الْحَاكِمِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا يُوجِبُ عُقُوبَةً مِمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ وَالْقَتْلِ فَعَلَيْهِ إِقَامَةُ حَدِّهِ عَلَيْهِ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِيَهُودِيَّيْنِ فَجَرَا بَعْدَ إِحْصَانِهِمَا فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا».

وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ إِبَاحَتَهُ كَشُرْبِ خَمْرٍ لَمْ يُحَدَّ، وَإِنْ تَحَاكَمَ مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ وَجَبَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ بِغَيْرِ خِلَافٍ.وَيُقْطَعُ الذِّمِّيُّ بِالسَّرِقَةِ.وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ.وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا يُقْطَعُ الْمُسْتَأْمَنُ.

وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ.

وَدَلِيلُ وُجُوبِ الْقَطْعِ أَنَّهُ حَدٌّ يُطَالَبُ بِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ كَحَدِّ الْقَذْفِ.

وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ إِلاَّ عَلَى مَنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ، وَبِهَذَا قَالَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِقَوْلِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهم-: لَا حَدَّ إِلاَّ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ.فَإِنِ ادَّعَى الزَّانِي الْجَهْلَ بِالتَّحْرِيمِ وَكَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَجْهَلَهُ كَحَدِيثِ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ، قُبِلَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ كَالْمُسْلِمِ النَّاشِئِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الزِّنَى لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ هُوَ كَذَلِكَ (كَمَا أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مُكْرَهَةٍ).وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ لقوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».

وَعَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ امْرَأَةً اسْتُكْرِهَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ».

وَفِي حَدِّ الْمُكْرَهِ عَلَى الزِّنَى خِلَافٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (إِكْرَاهٌ) وَ (ر: زِنًى) وَهُنَاكَ شُرُوطٌ أُخْرَى لِوُجُوبِ كُلِّ حَدٍّ فُصِّلَ، الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي أَبْوَابِهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


56-موسوعة الفقه الكويتية (حسبة 3)

حِسْبَةٌ -3

أَقْسَامُ الْمَعْرُوفِ:

23- يَنْقَسِمُ الْمَعْرُوفُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهُمَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى.وَالثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.وَالثَّالِثُ: مَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا.

وَمَعْنَى حَقِّ اللَّهِ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ، وَحَقِّ الْعَبْدِ مَصَالِحُهُ.لِأَنَّ التَّكَالِيفَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ كَالْإِيمَانِ وَتَحْرِيمِ الْكُفْرِ، وَقِسْمٌ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ فَقَطْ كَالدُّيُونِ وَالْأَثْمَانِ، وَقِسْمٌ اخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ يَغْلِبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ أَوْ حَقُّ الْعَبْدِ كَحَدِّ الْقَذْفِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا كَانَ حَقًّا مَحْضًا لِلْعَبْدِ وَبَيْنَ حَقِّ اللَّهِ أَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ الْمَحْضَ لَوْ أَسْقَطَهُ لَسَقَطَ، وَإِلاَّ فَمَا مِنْ حَقٍّ لِلْعَبْدِ إِلاَّ وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَمْرُهُ بِإِيصَالِ ذَلِكَ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ فَيُوجَدُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ حَقِّ الْعَبْدِ، وَلَا يُوجَدُ حَقُّ الْعَبْدِ إِلاَّ وَفِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِصِحَّةِ الْإِسْقَاطِ، فَكُلُّ مَا لِلْعَبْدِ إِسْقَاطُهُ فَهُوَ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ إِسْقَاطُهُ فَهُوَ الَّذِي يُقْصَدُ بِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى.وَأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ خُصُومٌ فِي إِثْبَاتِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى نِيَابَةً عَنْهُ تَعَالَى لِكَوْنِهِمْ عَبِيدَهُ، أَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فَلَا يَنْتَصِبُ أَحَدٌ خَصْمًا عَنْ أَحَدٍ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُ انْتِصَابَهُ خَصْمًا.

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْمُتَعَلِّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ ضَرْبَانِ:

24- أَحَدُهُمَا: مَا يَلْزَمُ الْأَمْرُ بِهِ فِي الْجَمَاعَةِ دُونَ الِانْفِرَادِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ:

الْمِثَالُ الْأَوَّلُ: صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَتَلْزَمُ فِي وَطَنٍ مَسْكُونٍ، فَإِنْ كَانُوا عَدَدًا قَدِ اتُّفِقَ عَلَى انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِهِمْ كَالْأَرْبَعِينَ فَمَا زَادَ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَأْخُذَهُمُ الْمُحْتَسِبُ بِإِقَامَتِهَا، وَيَأْمُرَهُمْ بِفِعْلِهَا وَيُؤَدِّبَ عَلَى الْإِخْلَالِ بِهَا، وَإِنْ كَانُوا عَدَدًا قَدِ اخْتُلِفَ فِي انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِهِمْ فَلَهُ فِيهِمْ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:

إِحْدَاهَا: أَنْ يَتَّفِقَ رَأْيُ الْمُحْتَسِبِ وَرَأْيِ الْقَوْمِ عَلَى انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِذَلِكَ الْعَدَدِ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُسَارِعُوا إِلَى أَمْرِهِ بِهَا، وَيَكُونُ فِي تَأْدِيبِهِمْ عَلَى تَرْكِهَا أَلْيَنَ مِنْهُ فِي تَأْدِيبِهِمْ عَلَى تَرْكِ مَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَّفِقَ رَأْيُهُ وَرَأْيُ الْقَوْمِ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا وَهُوَ بِالنَّهْيِ عَنْهَا لَوْ أُقِيمَتْ أَحَقُّ.

الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَرَى الْقَوْمُ انْعِقَادَ الْجُمُعَةِ بِهِمْ وَلَا يَرَاهُ الْمُحْتَسِبُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعَارِضَهُمْ فِيهَا، وَلَا يَأْمُرَ بِإِقَامَتِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْهَا وَيَمْنَعَهُمْ مِمَّا يَرَوْنَهُ فَرْضًا عَلَيْهِمْ.

الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَرَى الْمُحْتَسِبُ انْعِقَادَ الْجُمُعَةِ بِهِمْ وَلَا يَرَاهُ الْقَوْمُ، فَهَذَا مِمَّا فِي اسْتِمْرَارِ تَرْكِهِ تَعْطِيلُ الْجُمُعَةِ مَعَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَبُعْدِهِ وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَزِيَادَتِهِ، فَهَلْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا اعْتِبَارًا بِهَذَا الْمَعْنَى أَمْ لَا؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا اعْتِبَارًا بِالْمَصْلَحَةِ لِئَلاَّ يَنْشَأَ الصَّغِيرُ عَلَى تَرْكِهَا، فَيَظُنَّ أَنَّهَا تَسْقُطُ مَعَ زِيَادَةِ الْعَدَدِ كَمَا تَسْقُطُ بِنُقْصَانِهِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لِأَمْرِهِمْ بِهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَمْلُ النَّاسِ عَلَى اعْتِقَادِهِ، وَلَا يَقُودُهُمْ إِلَى مَذْهَبِهِ، وَلَا أَنْ يَأْخُذَهُمْ فِي الدِّينِ بِرَأْيِهِ مَعَ تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ يَمْنَعُ مِنْ إِجْزَاءِ الْجُمُعَةِ.

الْمِثَالُ الثَّانِي: صَلَاةُ الْعِيدِ وَهَلْ يَكُونُ الْأَمْرُ بِهَا مِنَ الْحُقُوقِ اللاَّزِمَةِ، أَوْ مِنَ الْحُقُوقِ الْجَائِزَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: مَنْ قَالَ إِنَّهَا مَسْنُونَةٌ قَالَ: يُنْدَبُ الْأَمْرُ بِهَا، وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ قَالَ: الْأَمْرُ بِهَا يَكُونُ حَتْمًا.

الْمِثَالُ الثَّالِثُ: صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ:

صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسَاجِدِ وَإِقَامَةُ الْأَذَانِ فِيهَا لِلصَّلَوَاتِ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَعَلَامَاتِ مُتَعَبَّدَاتِهِ الَّتِي فَرَّقَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الشِّرْكِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ مَحَلَّةٍ أَوْ بَلَدٍ عَلَى تَعْطِيلِ الْجَمَاعَاتِ فِي مَسَاجِدِهِمْ، وَتَرْكِ الْأَذَانِ فِي أَوْقَاتِ صَلَوَاتِهِمْ، كَانَ الْمُحْتَسِبُ مَنْدُوبًا إِلَى أَمْرِهِمْ بِالْأَذَانِ وَالْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَوَاتِ، وَهَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ لَهُ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ، عَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي اتِّفَاقِ أَهْلِ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِ الْأَذَانِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهَلْ يَلْزَمُ السُّلْطَانَ مُحَارَبَتُهُمْ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟

فَأَمَّا مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ مِنْ آحَادِ النَّاسِ أَوْ تَرَكَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ لِصَلَاتِهِ، فَلَا اعْتِرَاضَ لِلْمُحْتَسِبِ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَجْعَلْهُ عَادَةً وَإِلْفًا، لِأَنَّهَا مِنَ النَّدْبِ الَّذِي يَسْقُطُ بِالْأَعْذَارِ، إِلاَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ اسْتِرَابَةٌ، أَوْ يَجْعَلَهُ إِلْفًا وَعَادَةً وَيَخَافُ تَعَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ، فَيُرَاعِي حُكْمَ الْمَصْلَحَةِ بِهِ فِي زَجْرِهِ عَمَّا اسْتَهَانَ بِهِ مِنْ سُنَنِ عِبَادَتِهِ، وَيَكُونُ وَعِيدُهُ عَلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ مُعْتَبَرًا بِشَوَاهِدِ حَالِهِ، كَاَلَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ فِتْيَانِي أَنْ يَسْتَعِدُّوا إِلَيَّ بِحُزَمٍ مِنْ حَطَبٍ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ تُحَرَّقُ بُيُوتٌ عَلَى مَنْ فِيهَا».

الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَأْمُرُ بِهِ آحَادَ النَّاسِ وَأَفْرَادَهُمْ كَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا، فَيُذَكِّرُ بِهَا وَيَأْمُرُ بِفِعْلِهَا، وَيُرَاعِي جَوَابَهُ عَنْهَا، فَإِنْ قَالَ: تَرَكْتُهَا لِنِسْيَانٍ، حَثَّهُ عَلَى فِعْلِهَا بَعْدَ ذِكْرِهِ وَلَمْ يُؤَدِّبْهُ، وَإِنْ تَرَكَهَا لِتَوَانٍ أَدَّبَهُ زَجْرًا وَأَخَذَهُ بِفِعْلِهَا جَبْرًا، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى مَنْ أَخَّرَهَا وَالْوَقْتُ بَاقٍ لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي فَضْلِ التَّأْخِيرِ بِالنِّسْبَةِ لِبَعْضِ الصَّلَوَاتِ، وَلَكِنْ لَوْ اتَّفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ أَوْ مَحَلَّةٍ عَلَى تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْجَمَاعَاتِ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا، وَالْمُحْتَسِبُ يَرَى فَضْلَ تَعْجِيلِهَا فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالتَّعْجِيلِ أَوْ لَا؟

مَنْ رَأَى أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ رَاعَى أَنَّ اعْتِيَادَ تَأْخِيرِهَا وَإِطْبَاقَ جَمِيعِ النَّاسِ عَلَيْهِ مُفْضٍ إِلَى أَنَّ الصَّغِيرَ يَنْشَأُ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْوَقْتُ دُونَ مَا قَبْلَهُ، وَلَوْ عَجَّلَهَا بَعْضُهُمْ تَرَكَ الْمُحْتَسِبُ مَنْ أَخَّرَهَا مِنْهُمْ وَمَا يَرَاهُ مِنَ التَّأْخِيرِ.

فَأَمَّا الْأَذَانُ وَالْقُنُوتُ فِي الصَّلَوَاتِ إِذَا خَالَفَ فِيهِ رَأْيَ الْمُحْتَسِبِ، فَلَا اعْتِرَاضَ لَهُ فِيهِ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ، وَإِنْ كَانَ يَرَى خِلَافَهُ، إِذَا كَانَ مَا يُفْعَلُ مُسَوَّغًا فِي الِاجْتِهَادِ، وَكَذَلِكَ الطَّهَارَةُ إِذَا فَعَلَهَا عَلَى وَجْهٍ سَائِغٍ يُخَالِفُ فِيهِ رَأْيَ الْمُحْتَسِبِ مِنْ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْمَائِعَاتِ، وَالْوُضُوءِ بِمَاءٍ تَغَيَّرَ بِالْمَذْرُورَاتِ الطَّاهِرَاتِ، أَوِ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَسْحِ أَقَلِّ الرَّأْسِ، وَالْعَفْوِ عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَلَا اعْتِرَاضَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ.

الْقِسْمُ الثَّانِي مَا تَعَلَّقَ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ:

25- الْمَعْرُوفُ الْمُتَعَلِّقُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ضَرْبَانِ: عَامٌّ وَخَاصٌّ.

فَأَمَّا الْعَامُّ فَكَالْبَلَدِ إِذَا تَعَطَّلَ شِرْبُهُ، أَوِ اسْتُهْدِمَ سُورُهُ، أَوْ كَانَ يَطْرُقُهُ بَنُو السَّبِيلِ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ فَكَفُّوا عَنْ مَعُونَتِهِمْ، نَظَرَ الْمُحْتَسِبُ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَجِبُ، لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ مَصْرُوفٌ إِلَى سَهْمِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِمْ فِيهِ ضَرَرٌ أَمَرَ بِإِصْلَاحِ شِرْبِهِمْ، وَبِنَاءِ سُورِهِمْ وَبِمَعُونَةِ بَنِي السَّبِيلِ فِي الِاجْتِيَازِ بِهِمْ، لِأَنَّهَا حُقُوقٌ تَلْزَمُ بَيْتَ الْمَالِ دُونَهُمْ، وَكَذَلِكَ لَوِ اسْتُهْدِمَتْ مَسَاجِدُهُمْ وَجَوَامِعُهُمْ، فَأَمَّا إِذَا أُعْوِزَ بَيْتُ الْمَالِ كَانَ الْأَمْرُ بِبِنَاءِ سُورِهِمْ، وَإِصْلَاحِ شِرْبِهِمْ، وَعِمَارَةِ مَسَاجِدِهِمْ وَجَوَامِعِهِمْ، وَمُرَاعَاةِ بَنِي السَّبِيلِ فِيهِمْ مُتَوَجِّهًا إِلَى كَافَّةِ ذَوِي الْمُكْنَةِ مِنْهُمْ، وَلَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمْ فِي الْأَمْرِ بِهِ، فَإِنْ شَرَعَ ذَوُو الْمُكْنَةِ فِي عَمَلِهِمْ وَفِي مُرَاعَاةِ بَنِي السَّبِيلِ، وَبَاشَرُوا الْقِيَامَ بِهِ، سَقَطَ عَنِ الْمُحْتَسِبِ حَقُّ الْأَمْرِ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُمُ الِاسْتِئْذَانُ فِي مُرَاعَاةِ بَنِي السَّبِيلِ، وَلَا فِي بِنَاءِ مَا كَانَ مَهْدُومًا، وَلَكِنْ لَوْ أَرَادُوا هَدْمَ مَا يُرِيدُونَ بِنَاءَهُ مِنَ الْمُسْتَرَمِّ وَالْمُسْتَهْدَمِ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الْإِقْدَامُ عَلَى هَدْمِهِ إِلاَّ بِاسْتِئْذَانِ وَلِيِّ الْأَمْرِ دُونَ الْمُحْتَسِبِ، لِيَأْذَنَ لَهُمْ فِي هَدْمِهِ بَعْدَ تَضْمِينِهِمُ الْقِيَامَ بِعِمَارَتِهِ، هَذَا فِي السُّورِ وَالْجَوَامِعِ، وَأَمَّا الْمَسَاجِدُ الْمُخْتَصَرَةُ فَلَا يَسْتَأْذِنُونَ فِيهَا.

وَعَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِبِنَاءِ مَا هَدَمُوهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِإِتْمَامِ مَا اسْتَأْنَفُوهُ.فَأَمَّا إِذَا كَفَّ ذَوُو الْمُكْنَةِ عَنْ بِنَاءِ مَا اسْتُهْدِمَ وَعِمَارَةِ مَا اسْتَرَمَّ، فَإِنْ كَانَ الْمُقَامُ فِي الْبَلَدِ مُمْكِنًا وَكَانَ الشِّرْبُ، وَإِنْ فَسَدَ أَوْ قَلَّ مُقْنِعًا تَرَكَهُمْ وَإِيَّاهُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ الْمُقَامُ فِيهِ لِتَعَطُّلِ شِرْبِهِ وَانْدِحَاضِ سُورِهِ نَظَرَ، فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ ثَغْرًا يَضُرُّ بِدَارِ الْإِسْلَامِ تَعْطِيلُهُ لَمْ يَجُزْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُفْسِحَ فِي الِانْتِقَالِ عَنْهُ، وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ النَّوَازِلِ إِذَا حَدَثَتْ فِي قِيَامِ كَافَّةِ ذَوِي الْمُكْنَةِ بِهِ، وَكَانَ تَأْثِيرُ الْمُحْتَسِبِ فِي مِثْلِ هَذَا إِعْلَامُ السُّلْطَانِ وَتَرْغِيبُ أَهْلِ الْمُكْنَةِ فِي عَمَلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْبَلَدُ ثَغْرًا مُضِرًّا بِدَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ أَمْرُهُ أَيْسَر وَحُكْمُهُ أَخَفَّ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْخُذَ أَهْلَهُ جَبْرًا بِعِمَارَتِهِ، لِأَنَّ السُّلْطَانَ أَحَقُّ أَنْ يَقُومَ بِعِمَارَتِهِ، وَإِنْ أَعْوَزَهُ الْمَالُ فَيَقُولُ لَهُمُ الْمُحْتَسِبُ مَا دَامَ عَجَزَ السُّلْطَانُ عَنْهُ: أَنْتُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ الِانْتِقَالِ عَنْهُ أَوِ الْتِزَامِ مَا يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِهِ الَّتِي يُمْكِنُ مَعَهَا دَوَامُ اسْتِيطَانِهِ.فَإِنْ أَجَابُوا إِلَى الْتِزَامِ ذَلِكَ كَلَّفَ جَمَاعَتَهُمْ مَا تَسْمَحُ بِهِ نُفُوسُهُمْ مِنْ غَيْرِ إِجْبَارٍ وَيَقُولُ: لِيُخْرِجْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ وَتَطِيبُ بِهِ نَفْسُهُ، وَمَنْ أَعْوَزَهُ الْمَالُ أَعَانَ بِالْعَمَلِ حَتَّى إِذَا اجْتَمَعَتْ كِفَايَةُ الْمَصْلَحَةِ أَوْ تَعَيَّنَ اجْتِمَاعُهَا بِضَمَانِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمُكْنَةِ قَدْرًا طَابَ بِهِ نَفْسًا، شَرَعَ الْمُحْتَسِبُ حِينَئِذٍ فِي عَمَلِ الْمَصْلَحَةِ، وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ بِمَا الْتَزَمَ بِهِ، وَإِنْ عَمَّتْ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَقَدَّمَ بِالْقِيَامِ بِهَا حَتَّى يَسْتَأْذِنَ السُّلْطَانَ فِيهَا، لِئَلاَّ يَصِيرَ بِالتَّفَرُّدِ مُفْتَاتًا عَلَيْهِ، إِذْ لَيْسَتْ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ مِنْ مَعْهُودِ حِسْبَتِهِ، وَإِنْ قَلَّتْ وَشَقَّ اسْتِئْذَانُ السُّلْطَانِ فِيهَا أَوْ خِيفَ زِيَادَةُ الضَّرَرِ لِبُعْدِ اسْتِئْذَانِهِ جَازَ شُرُوعُهُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ.

وَأَمَّا الْخَاصُّ فَكَالْحُقُوقِ إِذَا مُطِلَتْ، وَالدُّيُونِ إِذَا أُخِّرَتْ، فَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا مَعَ الْمُكْنَةِ إِذَا اسْتَعْدَاهُ أَصْحَابُ الْحُقُوقِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْحُبْسَ حُكْمٌ وَلَهُ أَنْ يُلَازِمَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يُلَازِمَ وَلَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ بِنَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ لِافْتِقَارِ ذَلِكَ إِلَى اجْتِهَادٍ شَرْعِيٍّ فِيمَنْ يَجِبُ لَهُ وَعَلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ قَدْ فَرَضَهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ بِأَدَائِهَا، وَكَذَلِكَ كَفَالَةُ مَنْ تَجِبُ كَفَالَتُهُ مِنَ الصِّغَارِ لَا اعْتِرَاضَ لَهُ فِيهَا حَتَّى يَحْكُمَ بِهَا الْحَاكِمُ، وَيَجُوزُ حِينَئِذٍ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْقِيَامِ بِهَا عَلَى الشُّرُوطِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِيهَا.فَأَمَّا قَبُولُ الْوَصَايَا وَالْوَدَائِعِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِهَا أَعْيَانَ النَّاسِ وَآحَادَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِهَا عَلَى الْعُمُومِ حَثًّا عَلَى التَّعَاوُنِ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ تَكُونُ أَوَامِرُهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. 26- الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَأَخْذِ الْأَوْلِيَاءِ بِإِنْكَاحِ الْأَيَامَى مِنْ أَكْفَائِهِنَّ إِذَا طَلَبْنَ، وَإِلْزَامِ النِّسَاءِ أَحْكَامَ الْعِدَدِ إِذَا فُورِقْنَ، وَلَهُ تَأْدِيبُ مَنْ خَالَفَ فِي الْعِدَّةِ مِنَ النِّسَاءِ، وَلَيْسَ لَهُ تَأْدِيبُ مَنِ امْتَنَعَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَمَنْ نَفَى وَلَدًا قَدْ ثَبَتَ فِرَاشُ أُمِّهِ وَلُحُوقُ نَسَبِهِ أَخَذَهُ بِأَحْكَامِ الْآبَاءِ أَوْ عَزَّرَهُ عَلَى النَّفْيِ أَدَبًا، وَيَأْخُذُ أَرْبَابَ الْبَهَائِمِ بِعَلَفِهَا إِذَا قَصَّرُوا فِيهَا، وَأَلاَّ يَسْتَعْمِلُوهَا فِيمَا لَا تُطِيقُ، وَمَنْ أَخَذَ لَقِيطًا فَقَصَّرَ فِي كَفَالَتِهِ أَمَرَهُ أَنْ يَقُومَ بِحُقُوقِ الْتِقَاطِهِ مِنَ الْتِزَامِ كَفَالَتِهِ أَوْ تَسْلِيمِهِ إِلَى مَنْ يَلْتَزِمُهَا وَيَقُومُ بِهَا، وَكَذَلِكَ وَاجِدُ الضَّوَالِّ إِذَا قَصَّرَ فِيهَا أَخَذَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنَ الْقِيَامِ بِهَا أَوْ تَسْلِيمِهَا إِلَى مَنْ يَقُومُ بِهَا، وَيَكُونُ ضَامِنًا لِلضَّالَّةِ بِالتَّقْصِيرِ وَلَا يَكُونُ بِهِ ضَامِنًا لِلَّقِيطِ، وَإِذَا سَلَّمَ الضَّالَّةَ إِلَى غَيْرِهِ ضَمِنَهَا وَلَا يَضْمَنُ اللَّقِيطَ بِالتَّسْلِيمِ إِلَى غَيْرِهِ، ثُمَّ عَلَى نَظَائِرِ هَذَا الْمِثَالِ يَكُونُ أَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ.

مَعْنَى الْمُنْكَرِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ

27- الْمُنْكَرُ ضِدُّ الْمَعْرُوفِ وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْعُلَمَاءِ فِي تَحْدِيدِ مَعْنَاهُ عُمُومًا وَخُصُوصًا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَصَرَهُ عَلَى الْكُفْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ شَامِلًا لِمُحَرَّمَاتِ الشَّرْعِ وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَعْمَلَهُ فِي كُلِّ مَا نَهَى عَنْهُ الشَّرْعُ.وَاسْتَعْمَلَهُ آخَرُونَ فِي كُلِّ مَا عُرِفَ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ قُبْحُهُ وَقَالَ غَيْرُهُمْ هُوَ أَشْمَلُ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، هُوَ مَا تُنْكِرُهُ النُّفُوسُ السَّلِيمَةُ وَتَتَأَذَّى بِهِ مِمَّا حَرَّمَهُ الشَّرْعُ وَنَافَرَهُ الطَّبْعُ وَتَعَاظَمَ اسْتِكْبَارُهُ وَقَبُحَ غَايَةَ الْقُبْحِ اسْتِظْهَارُهُ فِي مَحَلِّ الْمَلأَِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ».

وَالْمُنْكَرُ مِنْهُ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَحْظُورٌ وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَكْرُوهِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِمْ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ يُسَاوِي الْمُحَرَّمَ، وَيُسَمَّى أَيْضًا مَعْصِيَةً وَذَنْبًا وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَكْرُوهِ وَالْمَحْظُورِ، أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْمُنْكَرِ الْمَكْرُوهِ مُسْتَحَبٌّ، وَالسُّكُوتُ عَلَيْهِ مَكْرُوهٌ، وَلَيْسَ بِحَرَامٍ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْفَاعِلُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَجَبَ ذِكْرُهُ لَهُ، فَإِنَّ لِلْكَرَاهَةِ حُكْمًا فِي الشَّرْعِ يَجِبُ تَبْلِيغُهُ إِلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُ.أَمَّا الْمَحْظُورُ فَالنَّهْيُ عَنْهُ وَاجِبٌ وَالسُّكُوتُ عَلَيْهِ مَحْظُورٌ إِذَا تَحَقَّقَ شَرْطُهُ، وَبِهَذَا اشْتَرَطَ صَاحِبُ الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهِ، أَوْ يَكُونَ مُدْرَكُ عَدَمِ التَّحْرِيمِ فِيهِ ضَعِيفًا.

شُرُوطُ الْمُنْكَرِ:

28- يُشْتَرَطُ فِي الْمُنْكَرِ الْمَطْلُوبِ تَغْيِيرُهُ مَا يَلِي: الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مُنْكَرًا بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا فِي الشَّرْعِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْمُنْكَرُ أَعَمُّ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، إِذْ مَنْ رَأَى صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا يَشْرَبُ الْخَمْرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرِيقَ خَمْرَهُ وَيَمْنَعَهُ، وَكَذَا إِنْ رَأَى مَجْنُونًا يَزْنِي بِمَجْنُونَةٍ أَوْ بَهِيمَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ، وَهَذَا لَا يُسَمَّى مَعْصِيَةً فِي حَقِّ الْمَجْنُونِ، إِذْ مَعْصِيَةٌ لَا عَاصِيَ بِهَا مُحَالٌ، وَلِهَذَا قَالَ صَاحِبَا الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ عَاصِيَيْنِ، بَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُلَابِسًا لِمَفْسَدَةٍ وَاجِبَةِ الدَّفْعِ وَالْآخَرُ تَارِكًا لِمَصْلَحَةٍ وَاجِبَةِ التَّحْصِيلِ، وَسَاقَا جُمْلَةَ أَمْثِلَةٍ لِلْمُنْكَرِ الَّذِي يَجِبُ تَغْيِيرُهُ مِمَّنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ.

أَحَدُهَا: أَمْرُ الْجَاهِلِ بِمَعْرُوفٍ لَا يَعْرِفُ وُجُوبَهُ، وَنَهْيُهُ عَنْ مُنْكَرٍ لَا يَعْرِفُ تَحْرِيمَهُ كَنَهْيِ الْأَنْبِيَاءِ- عليهم السلام- أُمَمَهُمْ أَوَّلَ بَعْثِهِمْ.

الثَّانِي: قِتَالُ الْبُغَاةِ مَعَ أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِمْ فِي بَغْيِهِمْ لِتَأَوُّلِهِمْ.

الثَّالِثُ: ضَرْبُ الصِّبْيَانِ عَلَى مُلَابَسَةِ الْفَوَاحِشِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ.

الرَّابِعُ: قَتْلُ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ إِذَا صَالُوا عَلَى الدِّمَاءِ وَالْأَبْضَاعِ وَلَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهُمْ إِلاَّ بِقَتْلِهِمْ.

الْخَامِسُ: إِذَا وَكَّلَ وَكِيلًا فِي الْقِصَاصِ ثُمَّ عَفَا وَلَمْ يَعْلَمِ الْوَكِيلُ أَوْ أَخْبَرَهُ فَاسِقٌ بِالْعَفْوِ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ وَأَرَادَ الِاقْتِصَاصَ، فَلِلْفَاسِقِ أَنْ يَدْفَعَهُ بِالْقَتْلِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهُ إِلاَّ بِهِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ.

السَّادِسُ: ضَرْبُ الْبَهَائِمِ فِي التَّعْلِيمِ وَالرِّيَاضَةِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الشِّرَاسِ وَالْجِمَاحِ، وَكَذَلِكَ ضَرْبُهَا حَمْلًا عَلَى الْإِسْرَاعِ لِمَسِّ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ عَلَى الْكَرِّ وَالْفَرِّ وَالْقِتَالِ. وَلَا يَقْتَصِرُ الْإِنْكَارُ عَلَى الْكَبِيرَةِ، بَلْ يَجِبُ النَّهْيُ عَنِ الصَّغَائِرِ أَيْضًا.

الشَّرْطُ الثَّانِي

29- أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ بِأَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ مُسْتَمِرًّا عَلَى فِعْلِ الْمُنْكَرِ، فَإِنْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ تَرْكُ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْفِعْلِ لَمْ يَجُزْ إِنْكَارُ مَا وَقَعَ عَلَى الْفِعْلِ، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنِ الْحِسْبَةِ عَلَى مَنْ فَرَغَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَاحْتِرَازٌ عَمَّا سَيُوجَدُ، كَمَنْ يَعْلَمُ بِقَرِينَةِ الْحَالِ أَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى الشُّرْبِ فِي لَيْلَةٍ فَلَا حِسْبَةَ عَلَيْهِ إِلاَّ بِالْوَعْظِ، وَإِنْ أَنْكَرَ عَزْمَهُ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ وَعْظُهُ أَيْضًا، فَإِنَّ فِيهِ إِسَاءَةَ ظَنٍّ بِالْمُسْلِمِ، وَرُبَّمَا صُدِّقَ فِي قَوْلِهِ، وَرُبَّمَا لَا يُقْدِمُ عَلَى مَا عَزَمَ عَلَيْهِ لِعَائِقٍ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ حَالَتَانِ

الْحَالَةُ الْأُولَى: الْإِصْرَارُ عَلَى فِعْلِ الْحَرَامِ مِنْ غَيْرِ إِحْدَاثِ تَوْبَةٍ فَهَذَا يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَفِي رَفْعِهِ إِلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ السَّتْرِ وَاسْتِحْبَابِهِ وَعَلَى سُقُوطِ الذَّنْبِ بِالتَّوْبَةِ وَعَدَمِهِ، أَمَّا عَنْ وُجُوبِ السَّتْرِ وَاسْتِحْبَابِهِ فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ أَقَاوِيلَ نُوجِزُهَا فِي الْآتِي:

ذَهَبَ الْأَحْنَافُ إِلَى أَنَّ الشَّاهِدَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ (أَسْبَابُ الْحُدُودِ) مُخَيَّرٌ بَيْنَ حِسْبَتَيْنِ: بَيْنَ أَنْ يَشْهَدَ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ أَنْ يَسْتُرَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ.قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ}

وَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» وَقَدْ نَدَبَهُ الشَّرْعُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنْ شَاءَ اخْتَارَ جِهَةَ الْحِسْبَةِ فَأَقَامَهَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ جِهَةَ السَّتْرِ فَيَسْتُرُ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَالسَّتْرُ أَوْلَى.

وَأَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِ الْحُدُودِ نَحْوُ طَلَاقٍ وَإِعْتَاقٍ وَظِهَارٍ وَإِيلَاءٍ وَنَحْوِهَا مِنْ أَسْبَابِ الْحُرُمَاتِ تَلْزَمُهُ إِقَامَةُ الشَّهَادَةِ حِسْبَةً لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى إِقَامَتِهَا مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَجِبُ الْمُبَادَرَةُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ فِي حَقِّ اللَّهِ إِنِ اسْتَدَامَ فِيهِ التَّحْرِيمُ كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّضَاعِ وَالْوَقْفِ، وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيمُ يَنْقَضِي بِالْفَرَاغِ مِنْ مُتَعَلَّقِهِ كَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الرَّفْعِ وَعَدَمِهِ، وَالتَّرْكُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى السَّتْرِ الْمَطْلُوبِ فِي غَيْرِ الْمُجَاهِرِ بِالْفِسْقِ.وَفِي الْمَوَّاقِ أَنَّ سَتْرَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ وَاجِبٌ حِينَئِذٍ فَيَكُونُ تَرْكُ الرَّفْعِ وَاجِبًا.

وَذَكَرَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ تَفْصِيلًا خُلَاصَتُهُ أَنَّ الزَّوَاجِرَ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ زَاجِرٌ عَنِ الْإِصْرَارِ عَلَى ذَنْبٍ حَاضِرٍ، أَوْ مَفْسَدَةٍ مُلَابِسَةٍ لَا إِثْمَ عَلَى فَاعِلِهَا وَهُوَ مَا قُصِدَ بِهِ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ الْمَوْجُودَةِ وَيَسْقُطُ بِانْدِفَاعِهَا.

30- النَّوْعُ الثَّانِي: مَا يَقَعُ زَاجِرًا عَنْ مِثْلِ ذَنْبٍ مَاضٍ مُنْصَرِمٍ أَوْ عَنْ مِثْلِ مَفْسَدَةٍ مَاضِيَةٍ مُنْصَرِمَةٍ وَلَا يَسْقُطُ إِلاَّ بِالِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ ضَرْبَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا يَجِبُ إِعْلَامُ مُسْتَحِقِّهِ لِيَبْرَأَ مِنْهُ أَوْ يَسْتَوْفِيَهُ، وَذَلِكَ كَالْقِصَاصِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ وَكَحَدِّ الْقَذْفِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مُسْتَحِقَّهُ لِيَسْتَوْفِيَهُ أَوْ يَعْفُوَ عَنْهُ.

الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا الْأَوْلَى بِالْمُتَسَبِّبِ إِلَيْهِ سَتْرُهُ كَحَدِّ الزِّنَى وَالْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ.ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الشُّهُودُ عَلَى هَذِهِ الْجَرَائِمِ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا حُقُوقُ الْعِبَادِ لَزِمَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا بِهَا وَأَنْ يُعَرِّفُوا بِهَا أَرْبَابَهَا وَإِنْ كَانَتْ زَوَاجِرُهَا حَقًّا مَحْضًا لِلَّهِ فَإِنْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ بِهَا، فَيَشْهَدُوا بِهَا مِثْلَ أَنْ يَطَّلِعُوا مِنْ إِنْسَانٍ عَلَى تَكَرُّرِ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالْإِدْمَانِ عَلَى شُرْبِ الْخُمُورِ وَإِتْيَانِ الذُّكُورِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ دَفْعًا لِهَذِهِ الْمَفَاسِدِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي السَّتْرِ عَلَيْهِ مِثْلَ زَلَّةٍ مِنْ هَذِهِ الزَّلاَّتِ تَقَعُ نُدْرَةً مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ ثُمَّ يُقْلِعُ عَنْهَا وَيَتُوبُ مِنْهَا فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَشْهَدُوا «لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِهَزَّالٍ: يَا هَزَّالُ لَوْ سَتَرْتَهُ بِرِدَائِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ»

وَحَدِيثِ: «وَأَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ» وَحَدِيثِ: «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»

وَقَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: عَدَمُ الْإِنْكَارِ وَالتَّبْلِيغُ عَلَى الذَّنْبِ الْمَاضِي مَبْنِيٌّ عَلَى سُقُوطِ الذَّنْبِ بِالتَّوْبَةِ، فَإِنِ اعْتَقَدَ الشَّاهِدُ سُقُوطَهُ لَمْ يَرْفَعْهُ وَإِلاَّ رَفَعَهُ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ مُصِرًّا عَلَى الْمُحَرَّمِ لَمْ يَتُبْ، فَهَذَا يَجِبُ إِنْكَارُ فِعْلِهِ الْمَاضِي وَإِنْكَارُ إِصْرَارِهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


57-موسوعة الفقه الكويتية (حوالة 4)

حَوَالَةٌ -4

خَامِسًا: كَوْنُ الْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ أَوْ عَلَيْهِ مَعْلُومًا:

أ- الْمَالُ الْمُحَالُ بِهِ:

78- اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الْمَعْلُومِيَّةَ وَذَلِكَ لِمَا فِي الْجَهَالَةِ مِنَ الْغَرَرِ الْمُفْسِدِ لِكُلِّ مُعَاوَضَةٍ، وَالْحَوَالَةُ لَا تَخْلُو مِنْ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، كَمَا سَلَفَ، فَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِمَجْهُولٍ، كَالْحَوَالَةِ بِمَا سَيَثْبُتُ عَلَى فُلَانٍ.

وَلَا نِزَاعَ فِي هَذِهِ الشَّرِيطَةِ، سَوَاءٌ أَقُلْنَا: إِنَّ الْحَوَالَةَ اعْتِيَاضٌ، أَمْ قُلْنَا إِنَّهَا اسْتِيفَاءٌ، لِأَنَّ الْمَجْهُولَ يَمْتَنِعُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ، كَمَا يَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاؤُهُ وَإِيفَاؤُهُ لِمَا يُثِيرُهُ مِنْ نِزَاعٍ مُشْكِلٍ يَحْتَجُّ فِيهِ كُلٌّ مِنَ الْخَصْمَيْنِ بِالْجَهَالَةِ احْتِجَاجًا مُتَعَادِلاً حَتَّى لَوْ كَانَتْ عَلَى شَخْصٍ مَا دُيُونٌ كَثِيرَةٌ لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَهَا، فَقَالَ لِدَائِنِهِ: أَحَلْتُكَ عَلَى فُلَانٍ بِكُلِّ مَا لَكَ عَلَيَّ، لَمْ تَصِحَّ الْحَوَالَةُ.

79- وَكَثِيرُونَ يُحَدِّدُونَ بِوُضُوحٍ كَيْفَ يَكُونُ الْمَالُ مَعْلُومًا هُنَا.وَمِنْ هَؤُلَاءِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِذْ يَقُولُونَ: (كُلُّ مَا لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ لَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِهِ): فَهُمْ إِذَنْ يَشْرِطُونَ مَعْلُومِيَّةَ قَدْرِهِ كَمِائَةِ ثَوْبٍ، وَمَعْلُومِيَّةَ جِنْسِهِ، كَقُطْنٍ أَوْ صُوفٍ، وَمَعْلُومِيَّةَ صِفَاتِهِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهَا الْأَغْرَاضُ اخْتِلَافًا بَيِّنًا، أَيْ صِفَاتُهُ الضَّابِطَةُ، أَوْ كَمَا قَالُوا: (صِفَاتُهُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي السَّلَمِ) كَالطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَالرِّقَّةِ، وَالصَّفَاقَةِ، وَالنُّعُومَةِ وَالْخُشُونَةِ، وَاللَّوْنِ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ.

وَذَلِكَ يَعْنِي عَدَمَ صِحَّةِ الْحَوَالَةِ بِإِبِلِ الدِّيَةِ، لِأَنَّهَا لَا تُعْلَمُ إِلاَّ بِالسِّنِّ وَالْعَدَدِ وَهَذَا لَا يَكْفِي لِضَبْطِهَا الْمُعْتَبَرِ فِي السَّلَمِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ فِيهَا الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَإِنْ كَانَ هُنَالِكَ مَنْ يَقُولُ بِصِحَّةِ الْحَوَالَةِ بِهَا وَعَلَيْهَا، كَمَا لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ، وَعَلَيْهِ، خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ أَرْشُ مُوضِحَةٍ فَيُحِيلُ بِهَذِهِ عَلَى تِلْكَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ نَفْسِهِ، اكْتِفَاءً بِالْعِلْمِ بِسِنِّهَا وَعَدَدِهَا، فَلَيْسَ الضَّبْطُ بِالصِّفَاتِ الْمَطْلُوبَةِ فِي السَّلَمِ إِذَنْ بِحَتْمٍ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الْعِلْمِ بِالْمُحَالِ بِهِ، وَلِحَسْمِ مَا عَسَاهُ يَنْشَأُ مِنْ نِزَاعٍ يُعْتَبَرُ أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ فِي السِّنِّ وَالْقِيمَةِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ، كَمَا قَرَّرَهُ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ (وَإِنْ كَانَ قِيَاسُ كَلَامِ الشَّافِعِيَّةِ فِي الضَّمَانِ أَنْ يُرَاعَى فِيمَا وَرَاءَ السِّنِّ وَالْعَدَدِ حَالُ غَالِبِ إِبِلِ الْبَلَدِ).

ب- الْمَالُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ:

80- يُصَرِّحُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِاشْتِرَاطِ مَعْلُومِيَّةِ الدَّيْنَيْنِ (الْمُحَالِ بِهِ، وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ) لَدَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْمُحِيلِ وَالْمُحَالِ.

وَلَمْ نَجِدْ فِي كَلَامِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ تَصْرِيحًا بِاشْتِرَاطِ مَعْلُومِيَّةِ الْمَالِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فِي الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ، كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ، وَلَكِنْ يُسْتَنْتَجُ مِنْ قَوَاعِدِ الْحَنَفِيَّةِ هَذَا الِاشْتِرَاطُ.

سَادِسًا: كَوْنُ الْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ أَوْ عَلَيْهِ ثَابِتًا قَبْلَ الْحَوَالَةِ:

أ- الْمَالُ الْمُحَالُ بِهِ:

81- صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ ثُبُوتِ الْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ فِي الذِّمَّةِ قَبْلَ الْحَوَالَةِ.وَفَرَّعُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُسْلِفَ (يُقْرِضَ) شَخْصٌ آخَرَ نُقُودًا أَوْ طَعَامًا مَثَلاً، عَلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمُسْلِفُ مِمَّنْ هُوَ مَدِينٌ لِلْمُسْتَلِفِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، إِذْ مِنَ الْوَاضِحِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّ الدَّيْنَ الْمُحَالَ بِهِ لَمْ يَثْبُتْ إِلاَّ مَعَ الْحَوَالَةِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.

وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ يُصَرِّحُونَ، بِأَنْ لَا بَأْسَ أَنْ تَكْتَرِيَ مِنْ رَجُلٍ دَارَهُ بِدَيْنٍ لَكَ حَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ، وَتُحِيلَهُ عَلَيْهِ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُحِيلَ إِذَا أَحَالَ شَخْصًا غَيْرَ مَدِينٍ لَهُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِلْمُحِيلِ فَهِيَ وَكَالَةٌ جَرَتْ بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ.

ب- الْمَالُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ:

82- اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، ثُبُوتَ الْمَالِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْحَوَالَةِ، وَفَرَّعَ الْبَاجِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ أَنَّ الْمَدِينَ لَوْ أَحَالَ عَلَى غَيْرِ مَدِينِهِ ثُمَّ أَعْطَى الْمُحَالَ عَلَيْهِ مَا يَقْضِي بِهِ دَيْنَ الْحَوَالَةِ، فَأَفْلَسَ هَذَا أَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الدَّيْنَ يَكُونُ لِلْمُحَالِ الْحَقُّ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْمُحِيلِ بِدَيْنِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ هَذَا بِدَوْرِهِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِمَا كَانَ أَعْطَاهُ، لَكِنْ هَذَا هُوَ حُكْمُ الْحَمَالَةِ عِنْدَهُمْ، وَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ هِيَ مِنَ الْحَمَالَةِ وَإِعْطَاؤُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَقْضِي بِهِ لَا تَتَحَوَّلُ بِهِ هَذِهِ الْحَمَالَةُ إِلَى حَوَالَةٍ.

وَلَكِنْ الشَّافِعِيَّةُ يَنُصُّونَ عَلَى خِلَافِ هَذَا.

فَقَدْ قَالَ الْخَطِيبُ: (فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ صِحَّةَ الْحَوَالَةِ- أَيْ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي- زَمَنَ الْخِيَارِ مُشْكِلٌ، إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَوْ لَهُمَا يَعْنِي الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ)، لِأَنَّ الثَّمَنَ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي، أُجِيبَ بِأَنَّ الْبَائِعَ إِذَا أَحَالَ فَقَدْ أَجَازَ، فَوَقَعَتِ الْحَوَالَةُ مُقَارِنَةً لِلْمِلْكِ وَذَلِكَ كَافٍ.

سَابِعًا: كَوْنُ الْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ أَوْ عَلَيْهِ حَالًّا:

أ- الْمَالُ الْمُحَالُ بِهِ:

83- لَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِدَيْنٍ لَمْ يَحِلَّ أَجَلُهُ بَعْدُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ قَدْ حَلَّ، إِذْ لَوْ لَمْ يَحِلَّ هُوَ أَيْضًا فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَلْزَمَ بَيْعُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، وَيَنْضَافُ إِلَيْهِ مَحْذُورٌ آخَرُ هُوَ رِبَا النَّسَاءِ، إِنْ جَمَعَتِ الدَّيْنَيْنِ عِلَّةٌ رِبَوِيَّةٌ وَاحِدَةٌ.

هَكَذَا قَرَّرَ الْمَالِكِيَّةُ هَذِهِ الشَّرِيطَةَ بِإِطْلَاقِهَا هَذَا، عَلَى طَرِيقَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ.

وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَسْتَمِرَّ حُلُولُ الْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ إِنْ كَانَ حَالًّا، فِي الْحَوَالَةِ بِمَالِ الْقَاصِرِ وَمَا شَاكَلَهَا مِنْ كُلِّ مَنْ تَجِبُ فِيهِ رِعَايَةُ الْأَصْلَحِ لِصَاحِبِهِ، لِأَنَّ الْحَوَالَةَ بِهِ إِلَى أَجَلٍ إِبْرَاءٌ مُؤَقَّتٌ فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالْإِبْرَاءِ الْمُؤَبَّدِ الَّذِي لَا يَمْلِكُهُ الْوَلِيُّ فِي مَالِ الْقَاصِرِ، وَقَدْ أَطْلَقَ أَبُو يُوسُفَ هُنَا، وَلَمْ يُفَصِّلْ تَفْصِيلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بَيْنَ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ بِعَقْدِ الْأَبِ أَوِ الْوَصِيِّ، فَيَجُوزُ تَأْجِيلُهُ، وَالدَّيْنُ الْوَاجِبُ بِغَيْرِ عَقْدِهِمَا- كَالْإِرْثِ وَالْإِتْلَافِ- فَلَا يَجُوزُ.

(نَقَلَهُ فِي الْبَحْرِ عَنِ الْمُحِيطِ) ثُمَّ قَالَ: وَكَذَا قَبُولُ الْحَوَالَةِ مِنَ الْمُتَوَلِّي أَيْ (نَاظِرِ الْوَقْفِ) فَهِيَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ.

وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ لَيْسَتْ إِلاَّ تَطْبِيقًا جُزْئِيًّا لِلْأَصْلِ الْعَامِّ، الَّذِي لَا يُخْتَلَفُ عَلَيْهِ، فِي تَصَرُّفَاتِ الْوَلِيِّ مِنْ أَنَّهَا مَنُوطَةٌ بِالْمَصْلَحَةِ (ر: ف 96).

ب- الْمَالُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ:

84- اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ حُلُولَ الْمَالِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الدَّيْنُ الْمُحَالُ بِهِ حَالًّا.

ثَامِنًا: كَوْنُ الْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ أَوْ عَلَيْهِ مِثْلِيًّا:

85- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ بِالدَّيْنِ أَوِ الْحَوَالَةِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ الْمَالُ مِثْلِيًّا، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- إِلَى صِحَّةِ الْحَوَالَةِ بِالدَّيْنِ الْقِيَمِيِّ أَوِ الْحَوَالَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَا لَهُ صِفَاتٌ ضَابِطَةٌ فَفِي ضَبْطِهِ بِهَا بَلَاغٌ، كَمَا لَا يُجَادِلُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ فِي بَابِ السَّلَمِ، فَيُقَاسُ الْقِيَمِيُّ الْمُنْضَبِطُ عَلَى الْمِثْلِيِّ مَا دَامَ كِلَاهُمَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ لَهُ صِفَاتٌ تَضْبِطُهُ تُضَافُ إِلَى مَعْرِفَةِ النَّوْعِ وَالْقَدْرِ: كَالثِّيَابِ، وَالدَّوَابِّ- عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ- وَالصُّوفِ، وَالْقُطْنِ، وَالشَّعْرِ، وَالْأَخْشَابِ، وَالْأَحْجَارِ، وَالْحَدِيدِ، وَالرَّصَاصِ، وَالْبَلُّورِ، وَالزُّجَاجِ، وَالْفَخَّارِ وَالْوَرِقِ، وَالْكُتُبِ وَالْآلَاتِ مَا دَامَتْ ذَاتَ صِفَاتٍ ضَابِطَةٍ كَإِنْتَاجِ مَصْنَعٍ بِعَيْنِهِ.بَلْ لِمُجْتَهِدٍ أَنْ يَعْتَبِرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْأَخِيرَةَ حِينَئِذٍ مِنْ قَبِيلِ الْمِثْلِيِّ الَّذِي لَا تَفَاوُتَ فِيهِ يُذْكَرُ.

وَذَهَبَ قِلَّةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ أَوْ عَلَيْهِ مِثْلِيًّا، بَلْ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَشْتَرِطُ خُصُوصَ الثَّمَنِيَّةِ وَلَا يَكْتَفِي بِمُطْلَقِ الْمِثْلِيَّةِ، فَلَا حَوَالَةَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِلاَّ بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُمَا فِي التَّعَامُلِ النَّقْدِيِّ.

وَالْمُرَادُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا بِالْمِثْلِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مِنْ جِنْسِ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ وَيَضْبِطُهُ الْوَصْفُ، كَالنُّقُودِ وَالْحُبُوبِ وَالْأَدْهَانِ، فَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِالْقِيَمِيِّ، وَهُوَ مَا خَرَجَ عَنْ هَذَا النَّمَطِ كَالثِّيَابِ الْمُتَفَاوِتَةِ، وَالْحَيَوَانِ، فَقَدْ يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ الْمِثْلِيِّ فِي الذِّمَّةِ، كَمَا لَوْ بِيعَ بِوَصْفٍ، أَوِ الْتَزَمَ صَدَاقًا، أَوْ بَدَلَ خُلْعٍ، وَلَكِنْ لَا يُحَالُ بِهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَوَالَةِ الْوُصُولُ إِلَى الْحَقِّ دُونَ تَفَاوُتٍ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلاَّ فِي الْمِثْلِيَّاتِ.

تَاسِعًا: كَوْنُ الْمَالَيْنِ الْمُحَالِ بِهِ أَوْ عَلَيْهِ مُتَسَاوِيَيْنِ جِنْسًا وَقَدْرًا وَصِفَةً:

86- لَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَفِيَّةُ التَّسَاوِيَ بَيْنَ الْمَالَيْنِ الْمُحَالِ بِهِ وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ فِي الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ جِنْسًا أَوْ قَدْرًا أَوْ صِفَةً، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي اشْتِرَاطِ ذَلِكَ يَجْرِي عَلَى غَيْرِ مَذْهَبِهِمْ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ- الْمَالُ الْمُحَالُ بِهِ:

87- الْمُرَادُ بِالصِّفَةِ مَا يَشْمَلُ الْجُودَةَ وَالرَّدَاءَةَ، وَالْحُلُولَ وَالتَّأْجِيلَ، وَقَدْرَ الْأَجَلِ، لَا صِفَةَ التَّوَثُّقِ بِرَهْنٍ أَوْ ضَمَانٍ، بَلْ هَذِهِ تَسْقُطُ عَنْ كِلَا الدَّيْنَيْنِ بِمُجَرَّدِ الْحَوَالَةِ، لِأَنَّهَا بِمَثَابَةِ الْقَبْضِ، فَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِنُقُودٍ فِضِّيَّةٍ عَلَى ذَهَبِيَّةٍ، أَوْ ذَهَبِيَّةٍ عَلَى فِضِّيَّةٍ، وَلَا بِقَمْحٍ عَلَى شَعِيرٍ، وَلَا بِضَأْنٍ عَلَى مَعْزٍ، وَلَا عَكْسِهِ، وَلَا بِخَمْسَةِ أَثْوَابٍ، مَثَلاً عَلَى عَشَرَةٍ، وَلَا بِعَشَرَةٍ عَلَى خَمْسَةٍ (نَعَمْ إِذَا كَانَ لَهُ عَشَرَةٌ عَلَى آخَرَ، فَأَحَالَ عَلَى خَمْسَةٍ مِنْهَا بِخَمْسَةٍ صَحَّتِ الْحَوَالَةُ لِتَحَقُّقِ الشَّرِيطَةِ)، وَلَا بِالْمَغْشُوشِ عَلَى الْخَالِصِ وَلَا بِالْخَالِصِ عَلَى الْمَغْشُوشِ، وَلَا بِحَالٍّ عَلَى مُؤَجَّلٍ، وَلَا بِمُؤَجَّلٍ عَلَى حَالٍّ، وَلَا بِمُؤَجَّلٍ إِلَى شَهْرٍ عَلَى مُؤَجَّلٍ إِلَى شَهْرَيْنِ وَلَا عَكْسِهِ.

وَلَكِنَّهَا تَصِحُّ بِمِائَةِ دِينَارٍ ذَهَبِيَّةٍ مِنْ نُقُودِ بَلَدٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ مِائَةِ إِرْدَبٍّ مِنَ الْقَمْحِ الْهِنْدِيِّ، أَوْ مِائَةِ شَاةٍ مِنَ الضَّأْنِ التُّرْكِيِّ مَضْبُوطَةِ الْوَصْفِ سِنًّا وَلَوْنًا- وَمَا إِلَيْهَا- عَلَى مِائَةٍ مِثْلِهَا، وَالدَّيْنَانِ حَالاَّنِ، أَوْ مُؤَجَّلَانِ إِلَى أَجَلٍ وَاحِدٍ كَسَنَةٍ مَثَلاً.

وَالْحِكْمَةُ فِي اشْتِرَاطِ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ، أَنَّ الْحَوَالَةَ- سَوَاءٌ جَرَيْنَا عَلَى أَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ أَوْ لَيْسَتْ بِمُعَاوَضَةٍ- عَقْدُ إِرْفَاقٍ يُقْصَدُ بِهِ الْإِيفَاءُ وَالِاسْتِيفَاءُ، لَا الِاسْتِرْبَاحُ وَالِاسْتِكْثَارُ، فَلَوْ أَذِنَ بِالتَّفَاوُتِ فِيهَا لَتَبَارَى الْمُتَعَامِلُونَ بِهَا، كُلٌّ يُرِيدُ أَنْ يَغْبِنَ الْآخَرَ، وَيُصِيبَ مِنْهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَتْرُكُ لَهُ، وَهَذَا خِلَافُ مَوْضُوعِهَا.ثُمَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ لَا يَشْتَرِطُونَ رِضَا الْمُحَالِ، كَيْفَ يُعْقَلُ إِجْبَارُهُ مَعَ اخْتِلَافِ الدَّيْنَيْنِ؟

وَمُبَالَغَةً فِي اتِّقَاءِ التَّفَاوُتِ مَنَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ صِحَّةَ الْحَوَالَةِ بِأَلْفٍ عَلَى شَخْصَيْنِ، كُلٌّ مِنْهُمَا مَدِينٌ لِلْمُحِيلِ بِأَلْفٍ عَلَى التَّضَامُنِ، عَلَى أَنْ يُطَالِبَ الْمُحَالُ أَيَّهُمَا شَاءَ، وَعُلِّلَ الْمَنْعُ بِأَنَّ الْمُحَالَ يَسْتَفِيدُ زِيَادَةً فِي الْمُطَالَبَةِ، إِذْ كَانَ قَبْلَ الْحَوَالَةِ يُطَالِبُ وَاحِدًا، فَصَارَ بَعْدَهَا يُطَالِبُ اثْنَيْنِ.وَإِنْ كَانَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا يُخَالِفُهُ، وَيُصَحِّحُ هَذِهِ الْحَوَالَةَ، لِأَنَّ الْمُحَالَ، مَهْمَا اسْتَفَادَ مِنْ زِيَادَةِ مُطَالَبَةٍ، فَلَنْ يَأْخُذَ إِلاَّ قَدْرَ حَقِّهِ، وَمَا يَزَالُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مُتَأَرْجِحِينَ بَيْنَ هَذَيْنِ الرَّأْيَيْنِ: فَبَيْنَا يُصَحِّحُ الْبُلْقِينِيُّ وَالسُّبْكِيُّ الْأَوَّلَ، يَأْخُذُ الرَّمْلِيُّ الْكَبِيرُ بِالثَّانِي.

هَكَذَا قَرَّرَ الشَّافِعِيَّةُ هَذِهِ الشَّرِيطَةَ، وَفْقَ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْمَذْهَبُ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يُنَازِعُ فِي شَرِيطَةِ التَّسَاوِي فِي الصِّفَةِ إِذَا كَانَ التَّفَاوُتُ لِمَصْلَحَةِ الْمُحَالِ، لِأَنَّ الْمُحِيلَ إِذَنْ مُتَبَرِّعٌ بِالزِّيَادَةِ عَلَى سَبِيلِ إِحْسَانِ الْقَضَاءِ.

88- وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ يُقَرِّرُهَا أَيْضًا الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، (ر: ف 83)، بِاسْتِثْنَاءِ مَا تَفَرَّدَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ أَنَّ مَحَلَّ الْمَنْعِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ بِالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ، أَوِ الْقِلَّةِ، وَالْكَثْرَةِ إِذَا لَمْ يَقْبِضَ الْمُحَالُ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ قَبْلَ تُفَرِّقْهُمَا.

وَهَؤُلَاءِ جَمِيعًا يُحَاذُونَ الشَّافِعِيَّةَ فِي تَقْرِيرَاتِهِمُ الْآنِفَةِ الذِّكْرِ، حَتَّى إِنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إِذَا كَانَ التَّفَاوُتُ لِمَصْلَحَةِ الْمُحَالِ يَنُصُّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى بَقَائِهِ كَمَا هُوَ، وَإِنْ كَانَ الْمَالِكِيَّةُ يَعْكِسُونَ الْمَوْقِفَ: فَيَمْنَعُونَ التَّحَوُّلَ عَلَى الْأَعْلَى صِفَةً أَوِ الْأَكْثَرِ قَدْرًا، قَوْلاً وَاحِدًا، وَيَتَرَدَّدُونَ وَيَخْتَلِفُونَ فِي التَّحَوُّلِ عَلَى الْأَدْنَى أَوِ الْأَقَلِّ.

وَيَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنْ لَا خِلَافَ فِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ مَعَ التَّفَاوُتِ فِي الْقَدْرِ، إِذَا وَقَعَتْ بِلَفْظِ الْإِبْرَاءِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالْحَوَالَةِ بِالْبَاقِي، كَمَا لَوْ قَالَ الدَّائِنُ بِأَلْفٍ: أَبْرَأْتُكَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَحِلْنِي عَلَى مَدِينِكَ فُلَانٍ بِالْبَاقِي، فَيَقُولُ: أَحَلْتُكَ وَهَذَا وَاضِحٌ جِدًّا.

الِاسْتِعَاضَةُ فِي الْحَوَالَةِ:

89- الْمُرَادُ بِالِاسْتِعَاضَةِ أَنْ يَتَرَاضَى الْمُحَالُ وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ بَعْدَ صِحَّةِ الْحَوَالَةِ بِدَفْعِ عِوَضٍ عَنِ الْمُحَالِ بِهِ.

وَالِاسْتِعَاضَةُ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.وَلَا نَصَّ فِيهَا عَنِ الشَّافِعِيِّ وَلَا عَنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ.وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ.

وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْجَوَازَ بِأَنْ لَا يَكُونَ الْعِوَضَانِ رِبَوِيَّيْنِ، فَإِنْ كَانَا كَذَلِكَ وَجَبَ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ.

ب- الْمَالُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ:

90- سَلَفَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الشَّرِيطَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلدَّيْنِ الْمُحَالِ بِهِ، وَهُوَ بِعَيْنِهِ الْكَلَامُ هُنَا فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِعَادَتِهِ، بَيْدَ أَنَّهُ يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ هُنَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيطَةَ تُفَسَّرُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْوَاقِعِ، وَفِي اعْتِبَارِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ (الْمُحِيلِ وَالْمُحَالِ)- أَيْ فِي رَأْيِهِمَا وَمَبْلَغِ عِلْمِهِمَا- وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَسَاوَى الدَّيْنَانِ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّهُمَا جَهِلَا هَذَا التَّسَاوِيَ أَوْ جَهِلَهُ أَحَدُهُمَا فَالْحَوَالَةُ بَاطِلَةٌ، وَكَذَلِكَ تَكُونُ الْحَوَالَةُ بَاطِلَةً إِذَا اعْتُقِدَ التَّسَاوِي، وَلَا تَسَاوِيَ، فِي الْحَقِيقَةِ. عَاشِرًا: قَبْضُ الْمَالِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ (إِنْ كَانَ رَأْسُ مَالِ سَلَمٍ أَوْ رِبَوِيًّا يُوَافِقُ الْمُحَالَ بِهِ فِي عِلَّةِ الرِّبَا).

91- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ قَبْضِ الْمَالِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ رَأْسَ مَالِ سَلَمٍ أَوْ رِبَوِيًّا يُوَافِقُ الْمُحَالَ بِهِ فِي عِلَّةِ الرِّبَا، وَنَصُّ عِبَارَةِ السَّرَخْسِيِّ فِي مَبْسُوطِهِ: (وَلِأَنَّهُ- أَيْ دَيْنَ الْحَوَالَةِ- يَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، حَتَّى لَوْ كَانَ بَدَلَ صَرْفٍ أَوْ سَلَمٍ لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ مَعَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ) كَمَا لَا يَجُوزُ مَعَ الْمُحِيلِ، وَيَبْطُلُ عَقْدُ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ بِافْتِرَاقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ.وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَالِكِيَّةُ الْقَبْضَ هُنَا فِي حَوَالَةِ الطَّعَامِ عَلَى الطَّعَامِ، لَكِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى ضَرُورَتِهِ فِي حَالَةِ الصَّرْفِ خَاصَّةً وَعِبَارَتُهُمْ فِي عَقْدِ حَوَالَتِهِ: (لَا بُدَّ مِنَ الْقَبْضِ قَبْلَ افْتِرَاقِ كَلَامِهِمْ، وَقَبْلَ طُولِ مَجْلِسِهِمْ، وَإِلاَّ فَسَدَ).

وَلَمْ يَتَرَدَّدِ الشَّافِعِيَّةُ فِي رَفْضِ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ وَلَوْ فِي الرِّبَوِيَّاتِ، لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ فِي الْحَوَالَةِ- بَعْدَ الْقَوْلِ بِهَا- لَيْسَ عَلَى سُنَنِ سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ.وَنَصُّ عِبَارَةِ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا يَلِي: (هِيَ- أَيِ الْحَوَالَةُ- بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ جُوِّزَ لِلْحَاجَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرِ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنَانِ رِبَوِيَّيْنِ)

أَمَّا فِي رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ، فَيَقُولُ الْبُجَيْرِمِيُّ فِيمَا كَتَبَهُ عَلَى شَرْحِ الْمِنْهَاجِ مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ الْمُعْتَمَدَةِ: (لَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِمَا لَا يُعْتَاضُ عَنْهُ، وَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ عَلَيْهِ، كَدَيْنِ السَّلَمِ)، أَيْ مُسْلَمًا فِيهِ وَرَأْسُ مَالِ (أَيَّهُمَا كَانَ).

مَا لَا يُشْتَرَطُ فِي الْحَوَالَةِ:

92- لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ الدَّيْنَيْنِ فِي الْحَوَالَةِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، بِأَنْ يَكُونَ كِلَاهُمَا مِنْ قَرْضٍ، أَوْ بَيْعٍ، أَوْ ضَمَانٍ مَثَلاً، فَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ دَيْنَيِ الْحَوَالَةِ مِنْ عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، وَالْآخَرُ دَيْنَ إِتْلَافٍ مَثَلاً.أَوْ أَحَدُهُمَا صَدَاقًا، وَالْآخَرُ بَدَلَ خُلْعٍ، أَوْ بَدَلَ قَرْضٍ، أَوْ أُجْرَةٍ.

كَمَا لَا يُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الْمُحَالُ بِهِ ثَابِتًا عَلَى الْمُحِيلِ ثُبُوتًا أَصْلِيًّا.فَالدَّيْنُ الَّذِي يَكُونُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ الْأَصِيلِ، كَمَا لَوْ كَانَ مِنْ حَوَالَةٍ أَوْ كَفَالَةٍ، تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِهِ، بِأَنْ يُحِيلَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ أَوِ الْكَفِيلُ عَلَى مَدِينٍ لَهُ هُوَ.بَلْ يَجُوزُ أَيْضًا لِلْمُحَالِ أَنْ يُحِيلَ دَائِنَهُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَلِلْمَكْفُولِ لَهُ أَنْ يُحِيلَ دَائِنَهُ عَلَى الْكَفِيلِ.

وَهَذَا فِي الْأَصْلِ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ، مَعَ زِيَادَةِ تَعَدُّدِ الْمُحَالِينَ مَعَ بَقَاءِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَاحِدًا.وَنَصُّ عِبَارَةِ الرَّافِعِيِّ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ هَكَذَا: (إِذَا أَحَلْتَ زَيْدًا عَلَى عَمْرٍو، ثُمَّ أَحَالَ عَمْرٌو زَيْدًا عَلَى بَكْرٍ، ثُمَّ أَحَالَ بَكْرٌ عَلَى آخَرَ، جَازَ.وَقَدْ تَعَدَّدَ الْمُحَالُ عَلَيْهِمْ وَزَيْدٌ الْمُحَالُ وَاحِدٌ.وَلَوْ أَحَلْتَ زَيْدًا عَلَى عَمْرٍو، ثُمَّ أَحَالَ زَيْدٌ بَكْرًا عَلَى عَمْرٍو، ثُمَّ أَحَالَ بَكْرٌ آخَرَ عَلَى عَمْرٍو جَازَ، وَالتَّعَدُّدُ هَاهُنَا فِي الْمُحْتَالِينَ، وَعَمْرٌو الْمُحَالُ عَلَيْهِ وَاحِدٌ.وَلَوْ أَحَلْتَ زَيْدًا عَلَى عَمْرٍو، ثُمَّ ثَبَتَ لِعَمْرٍو عَلَيْكَ مِثْلُ ذَلِكَ الدَّيْنِ فَأَحَالَ زَيْدًا عَلَيْكَ جَازَ).

الْجَزَاءُ عَلَى تَخَلُّفِ إِحْدَى شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ (بُطْلَانُ الْحَوَالَةِ):

93- إِذَا عَدِمَتْ شَرَائِطُ انْعِقَادِ الْحَوَالَةِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا فَالنَّتِيجَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِقْهًا هِيَ بُطْلَانُهَا، أَيْ عَدَمُ انْعِقَادِهَا، جَزَاءً لِمُخَالَفَةِ تِلْكَ الشَّرَائِطِ.

وَهَذَا مَبْدَأٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ فُقَهَاءِ الشَّرِيعَةِ وَلَا مَجَالَ لِلْخِلَافِ فِيهِ، وَإِلاَّ لَمْ يَبْقَ أَيَّةُ ثَمَرَةٍ لِشَرَائِطِ الِانْعِقَادِ (وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ لِلتَّعَاقُدِ مِمَّا يُسَمَّى الْيَوْمَ: نَظَرِيَّةَ الْعَقْدِ).

وَلَكِنْ قَدْ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ بَعْضِ الشَّرَائِطِ لِانْعِقَادِ الْحَوَالَةِ، فَمَنْ يَشْتَرِطُ لِانْعِقَادِ شَرِيطَةٍ مَا، يَحْكُمُ بِبُطْلَانِ الْحَوَالَةِ عِنْدَ فَقْدِ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ، وَيُخَالِفُهُ فِي ذَلِكَ مَنْ لَا يَشْتَرِطُهَا.

وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِي الْقَوَاعِدِ أَنَّهُ يَسْتَوِي فِي النَّتِيجَةِ تَخَلُّفُ جَمِيعِ الْمُقَوِّمَاتِ وَشَرَائِطِ الِانْعِقَادِ وَتَخَلُّفُ بَعْضِهَا فَقَطْ، فَإِنَّ تَخَلُّفَ بَعْضِ الْعَنَاصِرِ الْأَسَاسِيَّةِ، كَتَخَلُّفِ الْكُلِّ مِنْ حَيْثُ النَّتِيجَةُ وَهِيَ الْبُطْلَانُ.

وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّهُ حَيْثُمَا يَتَقَرَّرُ بُطْلَانُ الْحَوَالَةِ فَإِنَّ هَذَا الْبُطْلَانَ يَسْتَتْبِعُ آثَارًا، إِذْ يَجِبُ فِيهِ عِنْدَئِذٍ نَقْضُ مَا قَدْ تَمَّ تَنْفِيذُهُ مِنَ الْعَقْدِ قَبْلَ تَقْرِيرِ بُطْلَانِهِ، ثُمَّ رَدُّ مَا يَسْتَلْزِمُ هَذَا النَّقْضُ رَدَّهُ مِمَّا قُبِضَ دُونَ حَقٍّ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ فِي التَّعَاقُدِ.

وَسَيَأْتِي فِي آثَارِ الْحَوَالَةِ وَالْأَحْكَامِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا أَنَّ الْحَوَالَةَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي نَفَذَتْ بِدَفْعِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ إِلَى الْمُحَالِ دَيْنَ الْحَوَالَةِ يَتَرَتَّبُ فِيهَا لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُحِيلِ.

غَيْرَ أَنَّهُمْ فِي الْحَوَالَةِ الْبَاطِلَةِ أَوِ الْفَاسِدَةِ قَدْ أَعْطَوُا الْمُحَالَ عَلَيْهِ الْخِيَارَ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْمُحِيلِ أَوْ عَلَى الْمُحَالِ الْقَابِضِ، لِأَنَّهُ قَبَضَ مَا لَيْسَ لَهُ بِحَقٍّ نَظَرًا لِبُطْلَانِ الْحَوَالَةِ.

شَرَائِطُ النَّفَاذِ:

أَوَّلاً: بُلُوغُ الْمُحِيلِ وَالْمُحَالِ، وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ:

94- أ- يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ لِنَفَاذِ الْحَوَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُحِيلُ بَالِغًا، لِأَنَّ فِي الْحَوَالَةِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، وَمُعَاوَضَاتُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ لَا تَنْفُذُ إِلاَّ بِإِجَازَةِ وَلِيِّهِ.فَحَوَالَتُهُ مُنْعَقِدَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْإِجَازَةِ.

وَالْبُلُوغُ شَرْطُ صِحَّةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

فَإِذَا كَانَ الْمُحِيلُ مُمَيِّزًا غَيْرَ بَالِغٍ فَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَصَرُّفَاتِ الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ إِذَا بَاشَرَهَا بِنَفْسِهِ: أَتَكُونُ بَاطِلَةً، أَمْ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ وَلِيِّهِ، إِنْ رَآهَا وَفْقَ مَصْلَحَتِهِ؟ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَهْلِيَّةٌ) وَ (صِغَرٌ).

ب- وَيَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ لِنَفَاذِ الْحَوَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُحَالُ بَالِغًا، لِمَا قُلْنَاهُ فِي الْمُحِيلِ، وَلِذَا يَنْعَقِدُ احْتِيَالُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَنْفُذُ إِلاَّ بِإِجَازَةِ وَلِيِّهِ، وَهَذِهِ الْإِجَازَةُ مَشْرُوطَةٌ بِأَنْ يَكُونَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ أَمْلأَ مِنَ الْمُحِيلِ.

وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ يُوَافِقُ عَلَيْهَا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَيُخَالِفُ فِيهَا الْحَنَابِلَةُ، لِأَنَّهُمْ لَا يَشْتَرِطُونَ رِضَا الْمُحَالِ، إِلاَّ عَلَى احْتِمَالٍ ضَعِيفٍ لِلْحَنَابِلَةِ.

ج- أَمَّا شَرِيطَةُ بُلُوغِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَسَبَقَ بَحْثُهَا كَشَرِيطَةِ انْعِقَادٍ أَثْنَاءَ بَحْثِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَشَرَائِطِهِ (ر: ف 62).

ثَانِيًا: وِلَايَةُ الْمُحَالِ عَلَى الْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ:

95- يُشْتَرَطُ لِنَفَاذِ الْحَوَالَةِ أَنْ تَكُونَ لِلْمُحَالِ عَلَى الْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ وِلَايَةٌ.فَالْفُضُولِيُّ لَا يَكُونُ مُحَالاً إِلاَّ بِإِجَازَةِ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ، أَمَّا الْوَكِيلُ فَإِنْ كَانَ وَكِيلاً بِالْقَبْضِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْتَالَ أَصْلاً، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ وَكَالَتِهِ الِاسْتِيفَاءُ لَا الْإِبْرَاءُ، وَإِنْ كَانَ وَكِيلاً فِي الْعَقْدِ فَفِي قَبُولِهِ حَوَالَةُ الثَّمَنِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ: جَوَّزَهَا مِنْهُ الطَّرَفَانِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ، عَلَى الْأَمْلأَِ وَالْأَفْلَسِ مُطْلَقًا- وَيَضْمَنُ لِلْمُوَكِّلِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إِبْرَاءٌ مُؤَقَّتٌ فَتُعْتَبَرُ بِالْمُطْلَقِ- وَمَنَعَهَا أَبُو يُوسُفَ.وَقَدْ أَجْرَى الْخِلَافَ فِي الْبَدَائِعِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ مُجَوِّزًا، وَالصَّاحِبَيْنِ مَانِعَيْنِ.

وَاسْتَدَلَّ لَهُمَا: بِأَنَّ هَذِهِ الْحَوَالَةَ هِيَ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْمُوَكِّلِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ، فَلَا يَنْفُذُ عَلَيْهِ كَتَصَرُّفِ الْأَجْنَبِيِّ.

وَاسْتَدَلَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ: بِأَنَّ الْوَكِيلَ بِقَبُولِهِ الْحَوَالَةَ إِنَّمَا تَصَرَّفَ بِالْإِبْرَاءِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ (وَهُوَ قَبْضُ الثَّمَنِ) بِمُقْتَضَى عَقْدِ الْوَكَالَةِ لِأَنَّ قَبْضَ الثَّمَنِ مِنْ حُقُوقِ الْعَبْدِ الَّتِي تَعُودُ لِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ، فَإِبْرَاؤُهُ الْمُشْتَرِيَ عَنِ الثَّمَنِ أَوْ قَبُولُهُ الْحَوَالَةَ بِهِ إِسْقَاطٌ لِحَقِّ نَفْسِهِ وَهُوَ الْقَبْضُ فَيَنْفُذُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْحَوَالَةَ كَالْإِبْرَاءِ تَمْنَعُ مُطَالَبَةَ الْمُحِيلِ، وَيَسْقُطُ بِذَلِكَ الثَّمَنُ مِنْ ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي تَبَعًا لِسُقُوطِ حَقِّ الْقَبْضِ، وَلَكِنْ لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمُوَكِّلِ فِي الثَّمَنِ الَّذِي هُوَ عِوَضُ مِلْكِهِ.وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الثَّمَنُ مِنْ ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي تَبَعًا، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْقُطْ مَعَ سُقُوطِ حَقِّ الْوَكِيلِ فِي قَبْضِهِ لَبَقِيَ دَيْنًا غَيْرَ قَابِلٍ لِلْقَبْضِ، وَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ، كَمَا أَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ.فَلِذَا يَسْقُطُ الثَّمَنُ مِنْ ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي تَبَعًا لِسُقُوطِ حَقِّ الْوَكِيلِ فِي قَبْضِهِ، وَلَكِنْ يَضْمَنُهُ الْوَكِيلُ لِلْبَائِعِ الْمُوَكِّلِ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِتَصَرُّفِهِ هَذَا قَدْ تَجَاوَزَ إِلَى حَقِّ غَيْرِهِ وَهُوَ الثَّمَنُ نَفْسُهُ حَيْثُ أَتْلَفَهُ عَلَى صَاحِبِهِ بِالْإِبْرَاءِ أَوْ قَبُولِ الْحَوَالَةِ بِهِ.

وَقَدْ لَخَصَّهُ فِي مَجْمَعِ الْأَنْهُرِ بِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لِلْعَاقِدِ، وَالْحَوَالَةُ مِنْ هَذِهِ الْحُقُوقِ.وَاحْتِيَالُ الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ، بِثَمَنِ الْمَبِيعِ بِالصُّورَةِ الْمَشْرُوحَةِ لَمْ نَجِدْ حُكْمَهُ مَنْصُوصًا عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ.

أَمَّا النَّائِبُ الشَّرْعِيُّ عَنِ الصَّغِيرِ، وَلِيًّا كَانَ كَالْأَبِ أَوْ وَصِيًّا، فَلَا يَمْلِكُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ حَقَّ الِاحْتِيَالِ بِمَالِ هَذَا الصَّغِيرِ عَلَى مَا قَرَّرَهُ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ بِإِطْلَاقِهِ، عَلَى خِلَافِ عَامَّةِ الْكُتُبِ.وَنَصُّ عِبَارَتِهِ: لَوِ احْتَالَ بِمَالِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ، أَوِ الْيَتِيمِ الَّذِي تَحْتَ وِصَايَتِهِ، لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إِبْرَاءُ الْأَصِيلِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُهُ فِي مَالِ الْقَاصِرِينَ.

96- وَأَمَّا احْتِيَالُ وَلِيِّ الْقَاصِرِ، كَأَبِيهِ أَوْ وَصِيِّهِ بِدَيْنِهِ، فَلَمْ نَرَ فِي الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى إِطْلَاقَ عَدَمِ جَوَازِهِ، كَمَا فَعَلَ السَّرَخْسِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

بَلْ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ- كَمَا هُوَ مُقْتَضَى إِطْلَاقِ حَدِيثِ الْحَوَالَةِ- التَّصْرِيحُ بِصِحَّتِهَا بِشَرِيطَةٍ وَاحِدَةٍ: أَنْ تَقْتَضِيَهَا مَصْلَحَةُ الْقَاصِرِ نَفْسِهِ- أَخْذًا مِنْ نَصِّ التَّنْزِيلِ الْحَكِيمِ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ}- دُونَ تَقَيُّدٍ بِأَيِّ قَيْدٍ آخَرَ.وَلِذَا أَبْطَلُوا احْتِيَالَهُ عَلَى مُفْلِسٍ سَوَاءٌ أَعُلِمَ إِفْلَاسُهُ أَمْ جُهِلَ، وَكَذَا احْتِيَالُهُ بِدَيْنٍ مُوَثَّقٍ عَلَيْهِ بِرَهْنٍ أَوْ ضَمَانٍ، لِمَا فِي انْفِكَاكِ الْوَثِيقَةِ مِنَ الضَّرَرِ الْبَيِّنِ بِالْقَاصِرِ.

وَقَدْ سُئِلَ السُّيُوطِيُّ عَنْ رَجُلٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ، فَمَاتَ الدَّائِنُ وَلَهُ وَرَثَةٌ فَأَخَذَ الْأَوْصِيَاءُ مِنَ الْمَدِينِ بَعْضَ الدَّيْنِ، وَأَحَالَهُمْ عَلَى آخَرَ بِالْبَاقِي فَقَبِلُوا الْحَوَالَةَ وَضَمِنَهَا لَهُمْ آخَرُ، فَمَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ، فَهَلْ لَهُمُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ أَمْ لَا

فَأَجَابَ: يُطَالِبُونَ الضَّامِنَ وَتَرِكَةُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَبَيَّنَ إِفْلَاسُهُمَا فَقَدْ بَانَ فَسَادُ الْحَوَالَةِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَقَعْ عَلَى وَفْقِ الْمَصْلَحَةِ لِلْأَيْتَامِ، فَيَرْجِعُونَ عَلَى الْمُحِيلِ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمَصْلَحَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُحِيلُ بِمَالِ الْيَتِيمِ فَقِيرًا أَوْ مُمَاطِلاً، أَوْ مَخُوفَ الِامْتِنَاعِ بِسَطْوَةٍ أَوْ هَرَبٍ، أَوْ سَيِّئَ الْقَضَاءِ عَلَى أَيَّةِ صُورَةٍ، وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ بِعَكْسِ ذَلِكَ كُلِّهِ فَتَصِحُّ الْحَوَالَةُ حِينَئِذٍ، لِأَنَّهَا أَصْلَحُ لِلْقَاصِرِ.

97- وَكَوْنُ احْتِيَالِ الْفُضُولِيِّ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى دَيْنِ الْحَوَالَةِ، هُوَ اتِّجَاهٌ فِقْهِيٌّ يُوجَدُ أَيْضًا عِنْدَ كَثِيرِينَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، كَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ.وَلَكِنِ الَّذِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ حَوَالَةَ الْفُضُولِيِّ كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ بَاطِلَةٌ مِنْ أَصْلِهَا، فَلَا تَعُودُ بِالْإِجَازَةِ صَحِيحَةً.وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ، أُخِذَتْ مِنْ حَدِيثٍ ثَابِتٍ فِي بِيَاعَاتِ الْفُضُولِيِّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ (الَّذِي اعْتَبَرَهُ حَسَنًا) وَنَصُّهُ: «لَا بَيْعَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ».وَطَرَدُوا هَذَا فِيمَا عَدَا الْبَيْعَ فَأَصْبَحَ قَاعِدَةً.وَمِثْلُهُ حَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ «أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ»..

ثَالِثًا: قَبُولُ الْمُحَالِ وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ:

98- (أ) قَبُولُ الْمُحَالِ- إِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ الْمُنْشِئَيْنِ لِلْعَقْدِ- لَيْسَ شَرِيطَةَ انْعِقَادٍ إِلاَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.

أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَيَكْتَفِي بِرِضَا الْمُحَالِ، وَلَوْ خَارِجَ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ إِذْنَ شَرِيطَةِ نَفَاذٍ.وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَخَذَتْ بِهِ مَجَلَّةُ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ فِي الْمَادَّةِ 683

(ب) وَرِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ- وَلَوْ خَارِجَ مَجْلِسِ الْعَقْدِ- شَرِيطَةَ نَفَاذٍ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ الثَّلَاثَةِ.

هَذَا، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ بِالتَّفْصِيلِ عَلَى فِقْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالْخِلَافِ الِاجْتِهَادِيِّ فِيهَا بَيْنَ الْمَذَاهِبِ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ.

أَحْكَامُ الْحَوَالَةِ:

99- إِذَا تَمَّتِ الْحَوَالَةُ بِأَرْكَانِهَا وَشَرَائِطِهَا تَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا آثَارُهَا الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا شُرِعَتْ، وَاعْتَرَتْهَا عَلَى الْجُمْلَةِ أَحْكَامٌ عِدَّةٌ وَهِيَ:

أ- لُزُومُ الْحَوَالَةِ:

100- الْحَوَالَةُ عَقْدٌ لَازِمٌ دُونَ خِلَافٍ، وَلَكِنْ قَبُولُهَا لِلْخِيَارَاتِ مَحَلُّ اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، فَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يُقِرُّونَ أَنَّهَا لَا تَقْبَلُ الْخِيَارَاتِ إِلاَّ أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبَيْنِ مَنْ أَجَازَ فِيهَا خِيَارَ الْمَجْلِسِ- وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: (لَا يَجُوزُ خِيَارُ الشَّرْطِ فِيهِ- أَيْ عَقْدِ الْحَوَالَةِ)- لِأَنَّهُ لَمْ يُبْنَ عَلَى الْمُغَابَنَةِ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ.وَفِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَثْبُتُ، لِأَنَّهُ بَيْعٌ، فَيَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ كَالصُّلْحِ.

الثَّانِي: (وَهُوَ الْأَصَحُّ) لَا يَثْبُتُ، لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْإِبْرَاءِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ فَهُوَ جَازِمٌ- كَمَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ- بِعَدَمِ قَبُولِ الْحَوَالَةِ خِيَارَ الشَّرْطِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَالْمَالِكِيَّةُ يَشْتَرِطُونَ لِلُزُومِ الْحَوَالَةِ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ عَنْ عِوَضٍ مَالِيٍّ، فَإِذَا اخْتَلَّتِ الشَّرِيطَةُ لَمْ تَكُنِ الْحَوَالَةُ لَازِمَةً، وَعَنْهُمْ فِي بَعْضِ تَفْسِيرَاتِ الْمَذْهَبِ، أَنَّ يَسَارَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ مِنْ شَرَائِطِ لُزُومِ الْعَقْدِ.

101- وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْحَوَالَةَ مِنَ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ فَسْخُهَا أَوْ إِبْطَالُهَا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ مَا لَمْ يُشْرَطْ لَهُ الْخِيَارُ.وَمُدَّةُ خِيَارِ الشَّرْطِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَيَّةُ مُدَّةٍ تُعْلَمُ نِهَايَتُهَا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ.

وَقَدْ صَرَّحُوا بِجَوَازِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِمَنْ يَجِبُ رِضَاهُ فِي الْحَوَالَةِ، وَهُوَ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُحَالُ وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ فَحَسْبُ، كَمَا يَتَبَادَرُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ.

ثُمَّ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا شَرَطَ الْخِيَارَ لِلْمُحَالِ أَوِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَوْ كِلَيْهِمَا، فَبَدَا لِهَذَا أَوْ ذَاكَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الْعَقْدِ فَذَلِكَ لَهُ، لِأَنَّ أَحَدَ الشَّخْصَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا قَدْ يَجْهَلُ صَاحِبُهُ بَعْضَ جَهَالَةٍ، ثُمَّ بَعْدَ تَقَصِّي أَحْوَالِهِ يَبْدُو لَهُ أَنَّ هَذِهِ الْحَوَالَةَ لَيْسَتْ فِي مَصْلَحَتِهِ فَيُرَاجِعُ نَفْسَهُ قَبْلَ فَوَاتِ الْأَوَانِ.

وَقَدْ لَا يَجْهَلُ، وَلَكِنْ تَتَغَيَّرُ حَتَّى فِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ الْقَصِيرَةِ، ظُرُوفُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ إِلَى أَسْوَأَ، أَوِ الْمُحِيلِ إِلَى أَفْضَلَ، أَوْ يَقَعُ التَّغَيُّرَانِ كِلَاهُمَا، فَيُؤْثِرُ الْمُحَالُ أَنْ يَعُودَ مِنْ حَيْثُ بَدَأَ.

أَمَّا الْمُحِيلُ فَشَرْطُ الْخِيَارِ لَهُ أَصَالَةً بَيِّنٌ جِدًّا، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ طَرَفٌ فِي الْعَقْدِ، فَقَدْ يَأْنَفُ بَعْدَ شَيْءٍ مِنَ الرَّوِيَّةِ- أَنْ يَتَحَمَّلَ عَنْهُ فُلَانٌ دَيْنَهُ، وَقَدْ يَكُونُ ذَا صِلَةٍ خَاصَّةٍ بِالْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ ضَعْفًا، وَأَنَّ مَكَانَ الْمُحَالِ سَيَثْقُلُ عَلَيْهِ فَتَأْخُذُهُ بِهِ رَأْفَةٌ، وَيُعِيدُ الدَّيْنَ إِلَى نَفْسِهِ كَرَّةً أُخْرَى، ثِقَةً بِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى مُعَالَجَةِ صَاحِبِهِ.

وَانْفِسَاخُ الْحَوَالَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِأَمْرٍ عَارِضٍ كَالتَّوَى وَمَوْتِ الْمُحِيلِ فِي الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ أَوْ مُطْلَقًا- عَلَى الْخِلَافِ عِنْدَهُمْ- لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْحُكْمِ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ (ر: ف 138، 141).

102- وَقَدْ أَفَادَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الْبَحْرِ نَقْلاً عَنِ الْخُلَاصَةِ وَالْبَزَّازِيَّةِ أَنَّ الْحَوَالَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: لَازِمَةٍ وَجَائِزَةٍ وَفَاسِدَةٍ.

فَاللاَّزِمَةُ: أَنْ يُحِيلَ الْمَدِينُ دَائِنَهُ عَلَى آخَرَ وَيَقْبَلَ الْحَوَالَةَ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُقَيَّدَةً أَمْ مُطْلَقَةً.

وَالْجَائِزَةُ: أَنْ يُقَيِّدَهَا بِأَنْ يُعْطِيَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ الْحَوَالَةَ مِنْ ثَمَنِ دَارِ نَفْسِهِ، فَلَا يُجْبَرُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ عَلَى الْبَيْعِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَبِلَ الْحَوَالَةَ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ عِنْدَ الْحَصَادِ، فَإِنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى أَدَاءِ الْمَالِ قَبْلَ الْأَجَلِ.

وَالْفَاسِدَةُ: أَنْ يُقَيِّدَ فِيهَا الْمُحَالُ عَلَيْهِ بِالْأَدَاءِ مِنْ ثَمَنِ دَارِ الْمُحِيلِ، لِأَنَّهَا حَوَالَةٌ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ، وَهُوَ بَيْعُ دَارِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ الْحَوَالَةَ بِهَذَا الشَّرْطِ لَا تَكُونُ تَوْكِيلاً بِبَيْعِ دَارِ الْمُحِيلِ.(أَيْ لِكَيْ يَكُونَ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


58-موسوعة الفقه الكويتية (خراج 2)

خَرَاجٌ -2

إِحْيَاءُ الْأَرْضِ الْمَوَاتِ:

24- إِذَا كَانَ الْمُحْيِي لِلْأَرْضِ الْمَوَاتِ ذِمِّيًّا، فَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ ذَلِكَ- بِإِذْنِ الْإِمَامِ- سَوَاءٌ أَكَانَتْ هَذِهِ الْأَرْضُ ضِمْنَ دَارِ الْإِسْلَامِ، أَمْ دَارِ الْعَهْدِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ فِي ذَلِكَ إِلاَّ فِي وَظِيفَةِ الْأَرْضِ، فَالْمُسْلِمُ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ الْعُشْرُ، أَمَّا الذِّمِّيُّ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ سِوَى الْخَرَاجِ لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِحَالِهِ.

وَيَرَى آخَرُونَ عَدَمَ جَوَازِ إِحْيَاءِ الذِّمِّيِّ أَرْضَ الْمَوَاتِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ.وَيَرَى بَعْضُهُمْ عَدَمَ جَوَازِ إِحْيَاءِ الذِّمِّيِّ أَرْضَ الْمَوَاتِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.

انْظُرْ: (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ) ف 22 وَ 23

مِقْدَارُ الْخَرَاجِ:

25- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي كُلِّ جَرِيبٍ يَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ قَفِيزٌ وَدِرْهَمٌ، وَفِي جَرِيبِ الرَّطْبَةِ (الْفَصْفَصَةِ) خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَفِي جَرِيبِ الْكَرْمِ (الْعِنَبِ) عَشَرَةُ دَرَاهِمَ.وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَصْنَافِ كَالزَّعْفَرَانِ، وَالْقُطْنِ وَغَيْرِهَا، يُوضَعُ عَلَيْهَا بِحَسَبِ الطَّاقَةِ.

وَنِهَايَةُ الطَّاقَةِ أَنْ يَبْلُغَ الْوَاجِبُ نِصْفَ الْخَارِجِ، وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّنْصِيفَ عَيْنُ الْإِنْصَافِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِرِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: وَضَعَ عُمَرُ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ عَامِرٍ أَوْ غَامِرٍ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا، وَعَلَى جَرِيبِ الْحِنْطَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَخَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ، وَعَلَى جَرِيبِ الشَّجَرَةِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَعَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ، وَعَلَى جَرِيبِ الْكَرْمِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَعَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ- قَالَ وَلَمْ يَذْكُرِ النَّخْلَ- وَعَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَاثْنَيْ عَشَرَ.

26- وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى عَدَمِ التَّقَيُّدِ بِتَقْدِيرِ إِمَامٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ السَّابِقِينَ، فَلَمْ يَأْخُذْ بِأَيِّ رِوَايَةٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ السَّابِقَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: الْمَرْجِعُ فِيهِ إِلَى قَدْرِ مَا تَحْتَمِلُهُ الْأَرْضُ مِنْ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِهَا فِي حَوَاصِلِهَا، وَيَجْتَهِدُ الْإِمَامُ فِي تَقْدِيرِ ذَلِكَ مُسْتَعِينًا عَلَيْهِ بِأَهْلِ الْخِبْرَةِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِرِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عُمَرَ بَعَثَ ابْنَ حُنَيْفٍ إِلَى السَّوَادِ فَطَرَّزَ الْخَرَاجَ فَوَضَعَ عَلَى جَرِيبِ الْقَصَبِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ النَّخْلِ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الْكَرْمِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الزَّيْتُونِ اثْنَيْ عَشَرَ.وَوَضَعَ عَلَى الرَّجُلِ الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ فِي الشَّهْرِ.

27- وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ قَدْرَ الْخَرَاجِ فِي كُلِّ سَنَةٍ، مَا فَرَضَهُ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ لَمَّا بَعَثَهُ عُمَرُ مَاسِحًا وَهُوَ عَلَى كُلِّ جَرِيبِ شَعِيرٍ دِرْهَمَانِ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبِ حِنْطَةٍ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ.وَعَلَى كُلِّ جَرِيبِ شَجَرٍ، وَقَصَبِ سُكَّرٍ سِتَّةُ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبِ نَخْلٍ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبِ كَرْمٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبِ زَيْتُونٍ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا.

28- وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي كُلِّ جَرِيبٍ دِرْهَمٌ وَقَفِيزٌ، وَعَلَى جَرِيبِ النَّخْلِ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الرَّطْبَةِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ.

وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ حَيْثُ قَالَ: شَهِدْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- وَأَتَاهُ ابْنُ حُنَيْفٍ- فَجَعَلَ يُكَلِّمُهُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَضَعْتُ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنَ الْأَرْضِ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا مِنْ طَعَامٍ لَا يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَلَا يُجْهِدُهُمْ.

الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ عَلَى مَا وَظَّفَهُ عُمَرُ- رضي الله عنه-:

29- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ أَخَذُوا بِتَقْدِيرَاتِ عُمَرَ- رضي الله عنه- لِلْخَرَاجِ فِي جَوَازِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ عَلَى مَا وَظَّفَهُ عُمَرُ.

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ إِلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ مَبْنِيٌّ عَلَى طَاقَةِ الْأَرْضِ وَقُدْرَتِهَا عَلَى التَّحَمُّلِ.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- حَيْثُ قَالَ لِعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: (لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ) فَإِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ تُطِيقُ الزِّيَادَةَ يُزَادُ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ، كَمَا إِذَا كَانَتْ لَا تُطِيقُ تِلْكَ الْوَظِيفَةَ لِقِلَّةِ رِيعِهَا فَتَنْقُصُ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ إِلَى جَوَازِ النُّقْصَانِ دُونَ الزِّيَادَةِ، لِقَوْلِ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، وَحُذَيْفَةَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: (وَلَوْ زِدْنَا لأَطَاقَتْ) فَلَمْ يَزِدْ عُمَرُ مَعَ أَنَّهُ أُخْبِرَ بِأَنَّ الْأَرْضَ تُطِيقُ الزِّيَادَةَ.

وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ إِلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ دُونَ النُّقْصَانِ، لِقَوْلِ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ لِعُمَرَ: وَاللَّهِ لَوْ زِدْتُ عَلَيْهِمْ لأَجْهَدْتُهُمْ فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ الزِّيَادَةِ مَا لَمْ يُجْهِدْهُمْ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ نَاظِرٌ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَافَّةً، فَجَازَ لَهُ الزِّيَادَةُ فِيهِ دُونَ النُّقْصَانِ وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ، إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ لِأَنَّ اجْتِهَادَ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، إِذْ هُوَ كَالْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ إِنْكَارِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ.

مَا يُرَاعَى عِنْدَ تَقْدِيرِ الْخَرَاجِ:

30- يَنْبَغِي لِوَاضِعِ الْخَرَاجِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى تُرْبَةِ الْأَرْضِ، وَمَدَى إِنْتَاجِيَّتِهَا وَخُصُوبَتِهَا، فَمَا يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ الْجَيِّدَةِ يَخْتَلِفُ عَمَّا يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ الرَّدِيئَةِ.

وَمَا يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي تُزْرَعُ فِي كُلِّ عَامٍ، يَخْتَلِفُ عَمَّا يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي تُزْرَعُ فِي عَامٍ، وَتُرَاحُ فِي عَامٍ.فَيُرَاعَى عِنْدَ ابْتِدَاءِ وَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي لَا تُزْرَعُ فِي كُلِّ عَامٍ حَالُهَا، وَاعْتَبَرَ الْعُلَمَاءُ أَصْلَحَ الْأُمُورِ لِأَرْبَابِ هَذِهِ الْأَرْضِ، وَأَهْلُ الْفَيْءِ يَكُونُ فِي خَصْلَةٍ مِنْ ثَلَاثٍ.

أ- إِمَّا أَنْ يُجْعَلَ خَرَاجُهَا عَلَى الشَّطْرِ مِنْ خَرَاجِ مَا يُزْرَعُ.

ب- وَإِمَّا أَنْ يَمْسَحَ كُلَّ جَرِيبَيْنِ مِنْهَا بِجَرِيبٍ لِيَكُونَ أَحَدُهُمَا لِلْمَزْرُوعِ وَالْآخَرُ لِلْمَتْرُوكِ.

ج- وَإِمَّا أَنْ يَضَعَهُ بِكَمَالِهِ عَلَى مِسَاحَةِ الْمَزْرُوعِ وَالْمَتْرُوكِ، وَيَسْتَوْفِي مِنْ أَرْبَابِهِ الشَّطْرَ مِنْ مِسَاحَةِ أَرْضِهِمْ.

خِفَّةُ مَئُونَةِ السَّقْيِ وَكَثْرَتُهَا:

31- مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُرَاعَى أَيْضًا عِنْدَ تَحْدِيدِ وَظِيفَةِ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ خِفَّةُ مَئُونَةِ السَّقْيِ وَكَثْرَتُهَا.فَقَدْ أَوْجَبَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْعُشْرَ فِي الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ الَّتِي تُسْقَى بِمَاءِ السَّمَاءِ وَالْأَنْهَارِ، وَأَوْجَبَ نِصْفَ الْعُشْرِ فِي الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ الَّتِي تُسْقَى بِمَاءِ الْآبَارِ الَّذِي يُحْتَاجُ فِي إِخْرَاجِهِ إِلَى مَئُونَةٍ.

وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ، فَمَا يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي تُسْقَى بِمَاءِ الْأَمْطَارِ، أَوِ الْعُيُونِ، أَوِ الْأَنْهَارِ يَزِيدُ عَمَّا يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ الَّتِي تُسْقَى بِمَاءِ الْآبَارِ.

نَوْعِيَّةُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ الْمَزْرُوعَةِ فِي الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ:

32- الْخَرَاجُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي تُزْرَعُ بِالْقَمْحِ، أَوِ الشَّعِيرِ، يَخْتَلِفُ عَمَّا يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي تُزْرَعُ بِالْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ كَالْعِنَبِ، وَالنَّخِيلِ، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ قِيمَةِ كُلِّ نَوْعٍ عَنِ الْآخَرِ.

33- قُرْبُ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ مِنَ الْمُدُنِ وَالْأَسْوَاقِ وَبُعْدُهَا عَنْهَا:

فَمَا يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْمُدُنِ وَالْأَسْوَاقِ يَخْتَلِفُ عَمَّا يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ الْبَعِيدَةِ عَنِ الْمُدُنِ وَالْأَسْوَاقِ لِأَنَّ بُعْدَهَا عَنِ الْمُدُنِ وَالْأَسْوَاقِ يَزِيدُ مِنَ الْمَئُونَةِ وَالْكُلْفَةِ.

مَا يَنْزِلُ بِأَرْبَابِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ مِنْ نَوَائِبَ

وَمُلِمَّاتٍ.

34- يَنْبَغِي لِوَاضِعِ الْخَرَاجِ أَنْ يَحْسِبَ حِسَابَ النَّوَائِبِ، وَالْمُلِمَّاتِ الَّتِي قَدْ تَنْزِلُ بِأَرْبَابِ الْأَرْضِ فَيَتْرُكَ لَهُمْ مِنْ غَايَةِ مَا تَحْتَمِلُهُ الْأَرْضُ نِسْبَةً مُعَيَّنَةً لِمُوَاجَهَةِ تِلْكَ النَّوَائِبِ، وَالْمُلِمَّاتِ.

كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي خَرْصِ الثِّمَارِ الْمُزَكَّاةِ حَيْثُ قَالَ: « إِذَا خَرَصْتُمْ فَجُذُّوا وَدَعُوا الثُّلُثَ فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا أَوْ تَجُذُّوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ » وَقَدْ عَلَّلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: « فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْعَرِيَّةَ وَالْوَطِيَّةَ » وَقَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: خَفِّفُوا عَلَى النَّاسِ فِي الْخَرْصِ فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْعَرِيَّةَ وَالْأَكَلَةَ.

وَقَدْ رَاعَى عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ ذَلِكَ التَّخْفِيفَ عِنْدَمَا وَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَى أَرْضِ السَّوَادِ فَقَالَ: حَمَّلْنَاهَا أَمْرًا هِيَ مُطِيقَةٌ لَهُ، مَا فِيهَا كَثِيرُ فَضْلٍ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا فَقَدْ تَرَكَهُ لَهُمْ.وَقَالَ أَيْضًا: (وَلَوْ زِدْنَا لأَطَاقَتْ.

وَقَدْ نَبَّهَ الْمَاوَرْدِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلَا يَسْتَقْصِي فِي وَضْعِ الْخَرَاجِ غَايَةَ مَا يَحْتَمِلُهُ، وَلْيَجْعَلْ مِنْهُ لِأَرْبَابِ الْأَرْضِ بَقِيَّةً يُجْبِرُونَ بِهَا النَّوَائِبَ وَالْحَوَائِجَ، حُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي أَخْذِ الْفَضْلِ مِنْ أَمْوَالِ السَّوَادِ، فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ لَا تَكُنْ عَلَى دِرْهَمِكَ الْمَأْخُوذِ أَحْرَصَ مِنْكَ عَلَى دِرْهَمِكَ الْمَتْرُوكِ، وَأَبْقِ لَهُمْ لُحُومًا يَعْقِدُونَ بِهَا شُحُومًا).

اسْتِيفَاءُ الْخَرَاجِ:

إِذَا وُضِعَ الْخَرَاجُ عَلَى أَرْضٍ خَرَاجِيَّةٍ فَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِيفَائِهِ بَعْدَ حُلُولِ وَقْتِ الْوُجُوبِ لِيُصْرَفَ فِيْ مَصَارِفَهُ الشَّرْعِيَّةَ مِنْ سَدِّ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ.

وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ:

35- لِمَعْرِفَةِ وَقْتِ اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ وَقْتِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ- غَالِبًا- مَا يَكُونُ بَعْدَ حُلُولِ وَقْتِ الْوُجُوبِ.

أ- وَقْتُ وُجُوبِ الْخَرَاجِ

35 م- وَقْتُ وُجُوبِ الْخَرَاجِ يَخْتَلِفُ تَبَعًا لِنَوْعِ الْخَرَاجِ الْمَفْرُوضِ عَلَى رَقَبَةِ الْأَرْضِ.

فَإِذَا كَانَ الْمَفْرُوضُ خَرَاجَ مُقَاسَمَةٍ، يَكُونُ وَقْتُ الْوُجُوبِ عِنْدَ كَمَالِ الزَّرْعِ وَتَصْفِيَتِهِ، وَيَتَكَرَّرُ الْوَاجِبُ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَفْرُوضُ خَرَاجَ وَظِيفَةٍ، فَلَا يُؤْخَذُ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ، وَلَا يَتَكَرَّرُ، وَلَوِ اسْتَغَلَّهَا صَاحِبُهَا فِي السَّنَةِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- لَمْ يَأْخُذِ الْخَرَاجَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ؛ وَلِأَنَّ رِيعَ عَامَّةِ الْأَرَاضِي يَكُونُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا يُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى الْعَامِّ الْغَالِبِ.

وَالْوَظِيفَةُ الْمَفْرُوضَةُ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى مِسَاحَةِ الْأَرْضِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى مِسَاحَةِ الزَّرْعِ.

فَإِذَا كَانَتْ عَلَى مِسَاحَةِ الْأَرْضِ، فَيَجِبُ الْخَرَاجُ عِنْدَ نِهَايَةِ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا السَّنَةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا.

وَإِذَا كَانَتْ عَلَى مِسَاحَةِ الزَّرْعِ فَيَجِبُ الْخَرَاجُ عِنْدَ نِهَايَةِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا السَّنَةُ الَّتِي تَكُونُ عَلَيْهَا الْأَمْطَارُ وَيُزْرَعُ الزَّرْعُ.

وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ خَرَاجَ الْوَظِيفَةِ يَجِبُ عِنْدَ نِهَايَةِ السَّنَةِ، الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ فِي يَدِهِ سَنَةً، إِمَّا حَقِيقَةً، وَإِمَّا تَقْدِيرًا، وَيَأْخُذُهُ الْإِمَامُ عِنْدَ بُلُوغِ الْغَلَّةِ.

ب- تَعْجِيلُ الْخَرَاجِ:

36- الْمَقْصُودُ بِتَعْجِيلِ الْخَرَاجِ اسْتِيفَاؤُهُ مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَبْلَ حُلُولِ وَقْتِ وُجُوبِهِ.فَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ مُطَالَبَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْخَرَاجِ قَبْلَ حُلُولِ وَقْتِهِ؟

أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ تَعْجِيلَ الْخَرَاجِ لِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ، وَهُوَ بِمَثَابَةِ الْأُجْرَةِ عَلَى الْأَرْضِ؛ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ مَالِيٌّ عُجِّلَ رِفْقًا فَجَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَجَلِهِ كَالدَّيْنِ.

وَمُقْتَضَى قِيَاسِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ جَوَازُ تَعْجِيلِهِ لِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ عِنْدَهُمْ أُجْرَةٌ، وَالْأُجْرَةُ يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ.

وَلَوْ تَعَجَّلَ الْإِمَامُ الْخَرَاجَ قَبْلَ وُجُوبِهِ ثُمَّ انْقَطَعَ وُجُوبُهُ فَهَلْ يَرُدُّ الْإِمَامُ مَا أَخَذَهُ إِلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ؟

فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ قَدْ صُرِفَ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ بَاقِيًا.فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا رَدَّهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ.

وَإِنْ كَانَ قَدْ صُرِفَ فَلَا شَيْءَ لَهُ، كَالزَّكَاةِ الْمُعَجَّلَةِ لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ فِي الْخَرَاجِ أَنَّهُ صِلَةٌ وَاجِبَةٌ بِاعْتِبَارِ الْأَرْضِ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى رَدِّهِ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ مُطْلَقًا- أَيْ سَوَاءٌ كَانَ الْمَأْخُوذُ بَاقِيًا أَوْ قَدْ صُرِفَ- لِأَنَّهُ أُجْرَةٌ مَحْضَةٌ، وَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ لِيَقَعَ نَفْلاً.

أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ الرَّدَّ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ مُطْلَقًا، لِأَنَّ الْخَرَاجَ عِنْدَهُمْ أُجْرَةٌ.وَلَمْ نَجِدْ نَصًّا لَهُمْ بِذَلِكَ.

ج- تَأْخِيرُ الْخَرَاجِ:

37- إِذَا تَأَخَّرَ صَاحِبُ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ عَنْ أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا.

فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا وَمَطَلَ حُبِسَ بِهِ، إِلاَّ أَنْ يُوجَدَ لَهُ مَالٌ فَيُبَاعُ فِي خَرَاجِهِ كَالْمَدْيُونِ.وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ غَيْرُ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَيُتْرَكُ الْأَمْرُ لِلْإِمَامِ، إِمَّا أَنْ يَبِيعَ مِنْهَا بِقَدْرِ الْخَرَاجِ، وَإِمَّا أَنْ يُؤَجِّرَهَا عَلَيْهِ، وَيَسْتَوْفِيَ الْخَرَاجَ مِنْ أُجْرَتِهَا وَيَرُدَّ الْبَاقِيَ إِلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ.وَإِنْ نَقَصَتِ الْأُجْرَةُ عَنِ الْخَرَاجِ كَانَ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ نُقْصَانُهَا.

وَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مُعْسِرًا وَجَبَ إِنْظَارُهُ وَيَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْخَرَاجُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَالصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ أُجْرَةٌ لِلْأَرْضِ، وَالْأُجْرَةُ لَا تَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ كَأُجْرَةِ الدَّارِ وَالْحَوَانِيتِ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْخَرَاجَ يَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ كَمَا تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ، لِأَنَّهُ صِلَةٌ وَاجِبَةٌ بِاعْتِبَارِ الْأَرْضِ- أَيْ لَيْسَ بَدَلاً عَنْ شَيْءٍ- وَبِالنِّسْبَةِ لِلْمَالِكِيَّةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ رَأْيَهُمْ مُوَافِقٌ لِرَأْيِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي أَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ أُجْرَةٌ، وَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ نَصًّا فِي ذَلِكَ.

الشَّخْصُ الَّذِي يُسْتَوْفَى مِنْهُ الْخَرَاجُ:

38- الْمُطَالَبُ بِالْخَرَاجِ هُوَ مَنْ بِيَدِهِ الْأَرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِيَدِهِ ابْتِدَاءً أَمِ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ.

وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِمُطَالَبَةِ الْمُشْتَرِي بِالْخَرَاجِ، أَنْ تَبْقَى الْأَرْضُ فِي يَدِهِ مُدَّةً يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالزِّرَاعَةِ أَوْ غَيْرِهَا.وَقَدَّرُوا هَذِهِ الْمُدَّةَ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ.وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِذَا بَاعَ رَجُلٌ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً مِنْ غَيْرِهِ، فَبَاعَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ بَعْدَ شَهْرٍ، ثُمَّ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي الثَّانِي مِنْ غَيْرِهِ كَذَلِكَ حَتَّى مَضَتِ السَّنَةُ، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأَرْضُ فِي مِلْكِ أَحَدِهِمْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، لَا خَرَاجَ عَلَى أَحَدٍ.

وَإِذَا آجَرَ مَنْ بِيَدِهِ الْأَرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ أَرْضَهُ، أَوْ أَعَارَهَا، أَوْ أَعْطَاهَا مُزَارَعَةً، فَخَرَاجُهَا عَلَى الْمُؤَجِّرِ أَوِ الْمُعِيرِ، لَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، لِأَنَّ الْخَرَاجَ يَتَعَلَّقُ بِنَمَاءِ الْأَرْضِ وَهُوَ لِلْمَالِكِ، وَمَا يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ أَوِ الْمُؤَجِّرُ مِنَ الْأُجْرَةِ عِوَضٌ عَنْ ذَلِكَ النَّمَاءِ، أَوِ الْمَنْفَعَةِ الْحَاصِلَةِ مِنَ الْأَرْضِ.فَلَا يَكُونُ النَّفْعُ لَهُ وَالْخَرَاجُ عَلَى غَيْرِهِ.وَكَذَلِكَ الْمُسْتَعِيرُ إِنَّمَا دَخَلَ عَلَى أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْأَرْضِ مَجَّانًا فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخَرَاجُ.

وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ إِلَى أَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ قِيَاسًا عَلَى الْعُشْرِ؛ وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ مِنْ تَمَامِ تُرْبَةِ الْأَرْضِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّقْيِ وَالْحَرْثِ، وَتَهْيِئَتِهَا لِلزِّرَاعَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِالْأَرْضِ حَقِيقَةً.

وَإِذَا غَصَبَ الْأَرْضَ الْخَرَاجِيَّةَ غَاصِبٌ، فَإِمَّا أَنْ يُعَطِّلَهَا عَنِ الزِّرَاعَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَزْرَعَهَا وَيَسْتَغِلَّهَا.فَإِذَا عَطَّلَهَا عَنِ الزِّرَاعَةِ فَلَا خَرَاجَ عَلَى أَحَدٍ، وَإِذَا زَرَعَهَا الْغَاصِبُ وَاسْتَغَلَّهَا، فَإِمَّا أَنْ تُنْقِصَهَا الزِّرَاعَةُ، وَإِمَّا أَنْ لَا تُنْقِصَهَا، فَإِذَا لَمْ تُنْقِصْهَا الزِّرَاعَةُ فَيَجِبَ خَرَاجُهَا عَلَى الْغَاصِبِ.

وَإِذَا نَقَصَتْهَا الزِّرَاعَةُ، يَكُونُ الْخَرَاجُ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ ضَامِنٌ لِلنَّقْصِ، وَلَمَّا كَانَ ضَامِنًا لِلنَّقْصِ صَارَ كَالْمُسْتَأْجِرِ.

هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ: يُنْظَرُ إِلَى ضَمَانِ نُقْصَانِ الْأَرْضِ وَإِلَى الْخَرَاجِ.فَإِنْ كَانَ ضَمَانُ النُّقْصَانِ أَكْثَرَ مِنَ الْخَرَاجِ، فَالْخَرَاجُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ.فَيَأْخُذُ مِنَ الْغَاصِبِ غَرَامَةَ النُّقْصَانِ وَيُؤَدِّي الْخَرَاجَ مِنْهُ.وَإِنْ كَانَ ضَمَانُ النُّقْصَانِ أَقَلَّ مِنَ الْخَرَاجِ، فَالْخَرَاجُ عَلَى الْغَاصِبِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ.

وَيُؤْخَذُ مِنْ نُصُوصِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي تَضْمِينِ الْغَاصِبِ أُجْرَةَ الْأَرْضِ الْمُؤَجَّرَةِ، وَمِنْ قَوَاعِدِهِمْ فِي ضَمَانِ الْمَنَافِعِ، أَنَّ غَاصِبَ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ يَضْمَنُ الْخَرَاجَ، لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِمَنْزِلَةِ الْأُجْرَةِ.

مَنْ لَهُ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ:

39- قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْخَارِجَ مِنَ الْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَتَوَلَّى أَمْرَهَا الْأَئِمَّةُ وَالسَّلَاطِينُ.فَالْإِمَامُ هُوَ الَّذِي يُقَدِّرُ الْخَرَاجَ ابْتِدَاءً، وَيُطَالِبُ بِهِ، وَيُقَرِّرُ صَرْفَهُ وَفْقَ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِمَامَ وَكِيلٌ عَنِ الْأُمَّةِ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهَا مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ، وَفِي تَدْبِيرِ شُؤُونِهَا.قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَمْوَالُ الَّتِي لِلْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ فِيهَا مَدْخَلٌ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: مَا أُخِذَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى طَرِيقِ التَّطْهِيرِ لَهُمْ كَالصَّدَقَاتِ وَالزَّكَوَاتِ.

وَالثَّانِي: الْغَنَائِمُ وَمَا يَحْصُلُ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْكَافِرِينَ بِالْحَرْبِ، وَالْقَهْرِ، وَالْغَلَبَةِ.

وَالثَّالِثُ: الْفَيْءُ وَهُوَ مَا رَجَعَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ عَفْوًا صَفْوًا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَلَا إِيجَافٍ، كَالصُّلْحِ، وَالْجِزْيَةِ، وَالْخَرَاجِ، وَالْعُشُورِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ تُجَّارِ الْكُفَّارِ.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَالْمُطَالِبُ بِالْخَرَاجِ هُوَ الْإِمَامُ، وَيَجِبُ عَلَى أَرْبَابِ الْأَرْضِ الدَّفْعُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ مَصْرِفَ الْخَرَاجِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَيَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ.

دَفْعُ الْخَرَاجِ إِلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ:

40- الْإِمَامُ الْعَادِلُ: هُوَ الَّذِي اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِمَامَتِهِ وَبَيْعَتِهِ، وَقَامَ بِتَدْبِيرِ شُؤُونِ الْأُمَّةِ وَفْقَ شَرْعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِذَا طَلَبَ مِنْ ذَوِي الْأَمْوَالِ مَالاً لَا يَطْلُبُهُ إِلاَّ بِحَقٍّ، وَإِذَا قَسَمَ أَمْوَالاً عَامَّةً قَسَمَهَا وَفْقَ شَرْعِ اللَّهِ، وَحَسَبَ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: « مَا أُعْطِيكُمْ وَلَا أَمْنَعُكُمْ إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ ».

وَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-: إِنِّي أَنْزَلْتُ نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ وَالِي الْيَتِيمِ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}

فَإِذَا طَلَبَ الْإِمَامُ الْعَادِلُ الْخَرَاجَ مِنْ أَرْبَابِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ، وَجَبَ عَلَيْهِمُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَوْزِيعُ خَرَاجِ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَإِذَا أَدَّى شَخْصٌ الْخَرَاجَ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ بِنَفْسِهِ فَلِلْإِمَامِ أَخْذُهُ مِنْهُ ثَانِيًا، لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهُ. أَمَّا إِذَا تَعَذَّرَ الدَّفْعُ إِلَيْهِ فَعَلَى الشَّخْصِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ.

دَفْعُ الْخَرَاجِ إِلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ:

41- الْإِمَامُ الْجَائِرُ: هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِتَدْبِيرِ شُؤُونِ الْأُمَّةِ وَفْقَ هَوَاهُ، فَيَقَعُ مِنْهُ الْجَوْرُ وَالظُّلْمُ عَلَى النَّاسِ.

فَإِذَا طَلَبَ الْإِمَامُ الْجَائِرُ الْخَرَاجَ مِنْ أَرْبَابِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ، وَجَبَ عَلَيْهِمْ دَفْعُهُ إِلَيْهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ، وَإِذَا أَدَّوْا إِلَيْهِ الْخَرَاجَ سَقَطَ عَنْهُمْ وَلَا يُطَالَبُونَ بِهِ مِنْ قِبَلِ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا سَلَاطِينُ زَمَانِنَا الَّذِينَ أَخَذُوا الصَّدَقَاتِ، وَالْعُشُورَ، وَالْخَرَاجَ، لَا يَضَعُونَهَا مَوَاضِعَهَا فَهَلْ تَسْقُطُ هَذِهِ الْحُقُوقُ عَنْ أَرْبَابِهَا؟.

اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ: أَنَّهُ يَسْقُطُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَإِنْ كَانُوا لَا يَضَعُونَهَا فِي أَهْلِهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهُمْ فَيَسْقُطُ عَنْهُمْ بِأَخْذِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمْ يَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا فَالْوَبَالُ عَلَيْهِمْ.

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَعِيدٍ: إِنَّ الْخَرَاجَ يَسْقُطُ، وَلَا تَسْقُطُ الصَّدَقَاتُ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يُصْرَفُ إِلَى الْمُقَاتِلَةِ، وَهُمْ يَصْرِفُونَ إِلَى الْمُقَاتِلَةِ وَيُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ الْعَدُوُّ، فَإِنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ وَيَذُبُّونَ عَنْ حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا الزَّكَوَاتُ وَالصَّدَقَاتُ فَإِنَّهُمْ لَا يَضَعُونَهَا فِي أَهْلِهَا وَاسْتَدَلُّوا لِوُجُوبِ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْجَائِرِ، فِيمَا يَجُوزُ مِنْ أَمْرِهِ كَطَلَبِ الْخَرَاجِ، بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: « كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي.وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَقَالَ: أَوْفُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ ».

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ- فِي بَيَانِ مَعْنَى « ثُمَّ أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ »:- أَيِ ادْفَعُوا إِلَى الْأُمَرَاءِ حَقَّهُمُ الَّذِي لَهُمُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَقَبْضُهُ، سَوَاءٌ كَانَ يَخْتَصُّ بِهِمْ أَمْ يَعُمُّ، وَذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ، كَالزَّكَاةِ، وَفِي الْأَنْفُسِ كَالْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ.

وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟ قَالَ: تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ ».

دَفْعُ الْخَرَاجِ إِلَى الْبُغَاةِ:

42- الْبُغَاةُ: هُمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الْإِمَامَ مُتَأَوِّلِينَ كَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ، وَالَّذِينَ يَخْرُجُونَ عَلَى الْإِمَامِ، أَوْ يَمْتَنِعُونَ عَنِ الدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِ، أَوْ يَمْنَعُونَ حَقًّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ كَالزَّكَاةِ وَشَبَهِهَا فَيَدْعُونَ إِلَى الرُّجُوعِ لِلْحَقِّ.

فَإِذَا غَلَبَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى بَلَدٍ، وَنَصَّبُوا إِمَامًا فَجَبَى الْخَرَاجَ مِنْ أَرْبَابِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ، فَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مَوْقِعَهُ، وَسَقَطَ عَنْهُمْ وَلَمْ يُطَالِبْهُمْ بِهِ إِمَامُ أَهْلِ الْعَدْلِ مَرَّةً ثَانِيَةً، عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ، مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- لَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ لَمْ يُطَالِبْهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا جُبِيَ مِنْهُمْ.وَلِأَنَّ فِي تَرْكِ احْتِسَابِهِ ضَرَرًا عَظِيمًا، وَمَشَقَّةً كَبِيرَةً فَإِنَّ الْبُغَاةَ قَدْ يَغْلِبُونَ عَلَى الْبِلَادِ السِّنِينَ الْكَثِيرَةَ فَلَوْ لَمْ يُحْتَسَبْ ذَلِكَ لأَدَّى إِلَى ثَنْيِ الْوَاجِبِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الْإِمَامِ فِي الْجِبَايَةِ مَرْهُونٌ بِالْحِمَايَةِ، وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ عِنْدَ تَغَلُّبِ الْبُغَاةِ عَلَى بَلَدٍ مُعَيَّنٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى مَنْ أَخَذُوا مِنْهُ الْخَرَاجَ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ إِلَى مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ صَحِيحَةٌ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَهَا آحَادُ الرَّعِيَّةِ غَصْبًا.

دَفْعُ الْخَرَاجِ إِلَى الْمُحَارِبِينَ « قُطَّاعِ الطَّرِيقِ »:

43- الْمُحَارِبُونَ: هُمُ الَّذِينَ يَعْرِضُونَ لِلنَّاسِ بِالسِّلَاحِ، فَيَغْصِبُونَ الْمَالَ مُجَاهَرَةً، أَوْ يَقْتُلُونَ، أَوْ يُخِيفُونَ الطَّرِيقَ.

فَإِذَا أَخَذَ الْمُحَارِبُونَ الْخَرَاجَ مِنْ أَهْلِهِ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ مَوْقِعَهُ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمُ الْخَرَاجُ بِأَدَائِهِ إِلَى الْمُحَارِبِينَ، لِأَنَّهُ كَالْمَأْخُوذِ غَصْبًا.

طُرُقُ اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ:

الطَّرِيقَةُ الْأُولَى- الْعِمَالَةُ عَلَى الْخَرَاجِ:

44- تَعْيِينُ عَامِلِ الْخَرَاجِ مِنَ اخْتِصَاصَاتِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، وَيَكُونُ هَذَا الْعَامِلُ بِهَذَا التَّعْيِينِ وَكِيلاً عَنِ الْإِمَامِ فِي اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ وَقَبْضِهِ، فَتَكُونُ جِبَايَتُهُ لِلْخَرَاجِ مُحَدَّدَةً بِمَا رَسَمَهُ لَهُ الْإِمَامُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَقْسِيمُ مَا جَبَاهُ مِنْ أَمْوَالِ الْخَرَاجِ إِلاَّ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ لَا تُصْرَفُ إِلاَّ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ.

وَعَامِلُ الْخَرَاجِ- بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَكِيلٌ- أَمِينٌ إِذَا أَدَّى الْأَمَانَةَ فَلَا يَضْمَنُ النُّقْصَانَ وَلَا يَمْلِكُ الزِّيَادَةَ.

شُرُوطُ تَعْيِينِ عَامِلِ الْخَرَاجِ:

يُشْتَرَطُ فِي عَامِلِ الْخَرَاجِ: الْإِسْلَامُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْأَمَانَةُ، وَالْكِفَايَةُ، وَالْعِلْمُ وَالْفِقْهُ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

1- الْإِسْلَامُ:

45- عَامِلُ الْخَرَاجِ قَدْ يَكُونُ مُخْتَصًّا بِتَقْدِيرِ الْخَرَاجِ وَوَضْعِهِ، وَقَدْ يَكُونُ مُخْتَصًّا بِجِبَايَتِهِ وَنَقْلِهِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ.

فَإِذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِوَضْعِ الْخَرَاجِ وَتَقْدِيرِهِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِسْلَامُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَيَحْتَاجُ إِلَى الْأَمَانَةِ.

وَلِذَا فَلَا يُوَلَّى الذِّمِّيُّ تَقْدِيرَ الْخَرَاجِ، وَوَضْعِهِ، عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

قَالَ أَبُو طَالِبٍ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ- يُسْتَعْمَلُ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ فِي أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلِ الْخَرَاجِ؟ قَالَ: لَا يُسْتَعَانُ بِهِمْ فِي شَيْءٍ.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنَ الْكُفَّارِ، وَالْيَهُودِ، وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ دُخَلَاءَ، وَوُلَجَاءَ، يُفَاوِضُونَهُمْ فِي الْآرَاءِ، وَيَسْنُدُونَ إِلَيْهِمْ أُمُورَهُمْ.

وَقَالَ إِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ: فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ.

وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-: إِنَّ هَاهُنَا غُلَامًا مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ نَصْرَانِيًّا كَاتِبًا، فَلَوِ اتَّخَذْتُهُ كَاتِبًا، فَقَالَ: قَدِ اتَّخَذْتُ إِذًا بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. عَقَّبَ ابْنُ كَثِيرٍ عَلَى هَذَا الْأَثَرِ بِقَوْلِهِ: فَفِي هَذَا الْأَثَرِ مَعَ هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُمْ فِي الْكِتَابَةِ الَّتِي فِيهَا اسْتِطَالَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاطِّلَاعٌ عَلَى دَوَاخِلِ أُمُورِهِمُ الَّتِي يُخْشَى أَنْ يُفْشُوهَا إِلَى الْأَعْدَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً}.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ » أَيْ لَا تَسْتَنْصِحُوهُمْ، وَلَا تَسْتَضِيئُوا بِرَأْيِهِمْ.

وَرُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ- رضي الله عنه- خِطَابًا جَاءَ فِيهِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ فِي عَمَلِي كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا لَا يَتِمُّ أَمْرُ الْخَرَاجِ إِلاَّ بِهِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُقَلِّدَهُ دُونَ أَمْرِكَ.فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَافَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ، قَرَأْتُ كِتَابَكَ فِي أَمْرِ النَّصْرَانِيِّ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ النَّصْرَانِيَّ قَدْ مَاتَ وَالسَّلَامُ.

وَقَدْ سَارَ الْخُلَفَاءُ الَّذِينَ لَهُمْ ثَنَاءٌ حَسَنٌ فِي الْأُمَّةِ عَلَى نَهْجِ عُمَرَ- رضي الله عنه- فِي اسْتِبْعَادِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنِ الْوَظَائِفِ الَّتِي فِيهَا اطِّلَاعٌ عَلَى دَوَاخِلِ الْمُسْلِمِينَ.

فَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى أَحَدِ عُمَّالِهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ فِي عَمَلِكَ كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا يَتَصَرَّفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَادْعُ حَسَّانًا- يَعْنِي ذَلِكَ الْكَاتِبَ- إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَسْلَمَ فَهُوَ مِنَّا، وَنَحْنُ مِنْهُ، وَإِنْ أَبَى فَلَا تَسْتَعِنْ بِهِ، وَلَا تَتَّخِذْ أَحَدًا عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.فَأَسْلَمَ حَسَّانٌ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ.

وَلِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ مُتَوَلِّي هَذَا الْعَمَلِ الْأَمَانَةَ وَالنُّصْحَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْحِرْص عَلَى مَصَالِحِهِمْ.

وَهَذِهِ الشُّرُوطُ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صِفَاتِهِمْ فَهُمْ لَا يُحِبُّونَ الْخَيْرَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَغُشُّونَ، وَلَا يَنْصَحُونَ، قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ}

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}.

وَلِهَذَا وَلِغَيْرِهِ مَنَعَ الْفُقَهَاءُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ الذِّمِّيُّ فِي عَمَلٍ يَخْتَصُّ بِوَضْعِ الْخَرَاجِ وَتَقْدِيرِهِ.أَمَّا إِذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِجِبَايَتِهِ وَنَقْلِهِ، فَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ.

فَإِذَا كَانَ يَجْبِيهِ مِنَ الذِّمِّيِّينَ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا، وَإِنْ كَانَتْ مُعَامَلَتُهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِأَيْدِيهِمُ الْأَرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ فَفِي جَوَازِ ذَلِكَ وَجْهَانِ.

وَالْأَصَحُّ عَدَمُ الْجَوَازِ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ.

2- الْحُرِّيَّةُ:

46- تُشْتَرَطُ فِي عَامِلِ الْخَرَاجِ الْمُخْتَصِّ بِتَقْدِيرِ الْخَرَاجِ وَوَضْعِهِ الْحُرِّيَّةُ.وَلِذَا فَلَا يُوَلَّى الْعَبْدُ تَقْدِيرَ الْخَرَاجِ وَوَضْعَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ.أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَامِلُ جَابِيًا فَتُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ إِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ فِي هَذَا الْعَمَلِ إِلاَّ عَنِ اسْتِنَابَةٍ، وَلَا تُشْتَرَطُ إِنِ اسْتَغْنَى عَنِ الِاسْتِنَابَةِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالرَّسُولِ لِلْمَأْمُورِ.

3- الْأَمَانَةُ:

47- تُشْتَرَطُ فِي عَامِلِ الْخَرَاجِ الْأَمَانَةُ.وَلِذَا فَلَا يُوَلَّى الْخَائِنُ وَغَيْرُ الثِّقَةِ، لِئَلاَّ يَخُونَ فِيمَا ائْتُمِنَ عَلَيْهِ، وَلَا يَغُشُّ فِيمَا قَدِ اسْتُنْصِحَ فِيهِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}.

قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ الَّذِي وَجَّهَهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونَ الرَّشِيدِ: وَرَأَيْتُ أَنْ تَتَّخِذَ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ، وَالدِّينِ، وَالْأَمَانَةِ فَتُوَلِّيهِمُ الْخَرَاجَ.

4- الْكِفَايَةُ:

48- تُشْتَرَطُ فِي عَامِلِ الْخَرَاجِ الْكِفَايَةُ بِحَيْثُ يَكُونُ مُضْطَلِعًا بِالْحِسَابِ، وَالْمِسَاحَةِ، وَكَيْفِيَّةِ خَرْصِ الثِّمَارِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- قَالَ: فَمَنْ رَجُلٌ لَهُ جَزَالَةٌ وَعَقْلٌ يَضَعُ الْأَرْضَ مَوَاضِعَهَا، وَيَضَعُ عَلَى الْعُلُوجِ مَا يَحْتَمِلُونَ.فَأُخْبِرَ بِعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ فَعَيَّنَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ ذَا بَصَرٍ وَعَقْلٍ، وَتَجْرِبَةٍ.

قَالَ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ- فِي بَيَانِ مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ كِفَايَةُ عَامِلِ الْخَرَاجِ-:

يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خَبِيرًا بِحَفْرِ الْأَنْهَارِ، وَمَجَارِي

الْمِيَاهِ، وَأَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْمِسَاحَاتِ، وَتَخْمِينِ الْغَلاَّتِ، وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِفُصُولِ السَّنَةِ، وَمَجَارِي الشَّمْسِ، وَأَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِالْحِسَابِ وَكُسُورِهِ وَتَرْتِيبِهِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ دُرْبَةٌ بِعَقْدِ الْجُسُورِ، وَالْقَنَاطِرِ وَالْمَصَالِحِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ خِبْرَةٌ بِمَا يُدْفَعُ عَنِ الزَّرْعِ فِي الْأَرَاضِي، وَأَنْ يَكُونَ خَبِيرًا بِأَوْقَاتِ الزَّرْعِ وَأَحْوَالِ الْأَسْعَارِ، وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِحُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ وَمَا يَجِبُ لَهُ.

هَذَا إِنْ تَوَلَّى وَضْعَ الْخَرَاجِ وَتَقْدِيرَهُ، أَمَّا إِنِ اقْتَصَرَتْ مُهِمَّتُهُ عَلَى طَلَبِ جِبَايَتِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ.

5- الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ:

49- إِنْ تَوَلَّى وَضْعَ الْخَرَاجِ اعْتُبِرَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ وُلِّيَ جِبَايَةَ الْخَرَاجِ صَحَّتْ وِلَايَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا مُجْتَهِدًا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


59-موسوعة الفقه الكويتية (خراج 3)

خَرَاجٌ -3

آدَابُ عَامِلِ الْخَرَاجِ:

1- الرِّفْقُ بِأَهْلِ الْخَرَاجِ:

50- يَنْبَغِي لِعَامِلِ الْخَرَاجِ أَنْ يَكُونَ رَفِيقًا بِأَهْلِ الْخَرَاجِ.وَمِنْ مَظَاهِرِ الرِّفْقِ فِي اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ أَيْضًا أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِالْخَرَاجِ كُلَّمَا خَرَجَتْ غَلَّةٌ، فَيَأْخُذَهُمْ بِقَدْرِ ذَلِكَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ تَمَامَ الْخَرَاجِ فِي آخِرِ الْغَلَّةِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يُوَزِّعَ الْخَرَاجَ عَلَى قَدْرِ الْغَلَّةِ، حَتَّى إِنَّ الْأَرْضَ إِذَا كَانَتْ تُزْرَعُ فِي الرَّبِيعِ وَالْخَرِيفِ قَسَمَ الْخَرَاجَ نِصْفَيْنِ، فَيَأْخُذُ نِصْفَ الْخَرَاجِ مِنْ غَلَّةِ الرَّبِيعِ، وَيُؤَخِّرُ النِّصْفَ الثَّانِيَ إِلَى غَلَّةِ الْخَرِيفِ.

2- الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ:

51- يَجِبُ عَلَى عَامِلِ الْخَرَاجِ أَنْ يَكُونَ عَادِلًا فِي وَضْعِ الْخَرَاجِ، وَتَقْدِيرِهِ، فَيُسَاوِي بَيْنَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ، وَلَا يُحَابِي الْقَرِيبَ عَلَى الْبَعِيدِ، وَلَا الشَّرِيفَ عَلَى الْوَضِيعِ، وَيَأْخُذُ مِنْهُمُ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ.

3- الْعِفَّةُ:

52- يَجِبُ عَلَى عَامِلِ الْخَرَاجِ أَنْ يَكُونَ عَفِيفَ النَّفْسِ، فَلَا يَطْلُبُ رِشْوَةً مِنْ أَحَدٍ، وَلَا يَقْبَلُ هَدِيَّةً مِنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: « لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ ».

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الرَّاشِي الْمُعْطِي، وَالْمُرْتَشِي الْآخِذُ.وَإِنَّمَا يَلْحَقُهُمَا الْعُقُوبَةُ مَعًا إِذَا اسْتَوَيَا فِي الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ.فَرِشَا الْمُعْطِي لِيَنَالَ بِهِ بَاطِلًا وَيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى ظُلْمٍ.فَأَمَّا إِذَا أَعْطَى لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى حَقٍّ أَوْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ ظُلْمًا، فَإِنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي هَذَا الْوَعِيدِ.وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَخَذَ فِي شَيْءٍ وَهُوَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَأَعْطَى دِينَارَيْنِ حَتَّى خُلِّيَ سَبِيلُهُ.

وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَطَاءٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا بَأْسَ أَنْ يُصَانِعَ الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ، وَمَالِهِ، إِذَا خَافَ الظُّلْمَ.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: « اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- رَجُلًا مِنَ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي.فَقَالَ: فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ.ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبِطَيْهِ.

اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ.اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ.ثَلَاثًا ».

فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَدَايَا الَّتِي يُقَدِّمُهَا أَهْلُ الْخَرَاجِ إِلَى الْعُمَّالِ حَرَامٌ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ هَدَايَا الْعُمَّالِ سُحْتٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ سَبِيلُهَا سَبِيلَ سَائِرِ الْهَدَايَا الْمُبَاحَاتِ، وَإِنَّمَا يُهْدَى إِلَيْهِ لِلْمُحَابَاةِ، وَلِيُخَفِّفَ عَنِ الْمُهْدِي، وَيُسَوِّغَ لَهُ بَعْضَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَهُوَ خِيَانَةٌ مِنْهُ، وَبَخْسٌ لِلْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ اسْتِيفَاؤُهُ لِأَهْلِهِ.

وَاجِبُ الْإِمَامِ تُجَاهَ عُمَّالِ الْخَرَاجِ:

1- الرِّقَابَةُ الْفَعَّالَةُ عَلَى عُمَّالِ الْخَرَاجِ:

53- لِضَمَانِ تَحْقِيقِ الْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ رِقَابَةٌ فَعَّالَةٌ عَلَى عُمَّالِ الْخَرَاجِ.وَقَدْ نَصَحَ أَبُو يُوسُفَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونَ الرَّشِيدَ بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: وَأَنَا أَرَى أَنْ تَبْعَثَ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْعَفَافِ مِمَّنْ يُوثَقُ بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ يَسْأَلُونَ عَنْ سِيرَةِ الْعُمَّالِ وَمَا عَمِلُوا بِهِ فِي الْبِلَادِ وَكَيْفَ جَبَوْا الْخَرَاجَ عَلَى مَا أُمِرُوا بِهِ، وَعَلَى مَا وُظِّفَ عَلَى أَهْلِ الْخَرَاجِ وَاسْتَقَرَّ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَكَ وَصَحَّ، أُخِذُوا بِمَا اسْتَفْضَلُوا مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْأَخْذِ حَتَّى يُؤَدُّوهُ بَعْدَ الْعُقُوبَةِ الْمُوجِعَةِ وَالنَّكَالِ حَتَّى لَا يَتَعَدَّوْا مَا أُمِرُوا بِهِ وَمَا عُهِدَ إِلَيْهِمْ فِيهِ.فَإِنَّ كُلَّ مَا عَمِلَ بِهِ وَالِي الْخَرَاجِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْعَسْفِ فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَمَرَ بِهِ، وَقَدْ أَمَرَ بِغَيْرِهِ، وَإِنْ أَحْلَلْتَ بِوَاحِدٍ

مِنْهُمُ الْعُقُوبَةَ الْمُوجِعَةَ انْتَهَى غَيْرُهُ وَاتَّقَى وَخَافَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ هَذَا بِهِمْ تَعَدَّوْا عَلَى أَهْلِ الْخَرَاجِ وَاجْتَرَءُوا عَلَى ظُلْمِهِمْ وَتَعَسُّفِهِمْ وَأَخْذِهِمْ بِمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ.وَإِذَا صَحَّ عِنْدَكَ مِنَ الْعَامِلِ وَالْوَالِي تَعَدٍّ بِظُلْمٍ وَعَسْفٍ وَخِيَانَةٍ لَكَ فِي رَعِيَّتِكَ وَاحْتِجَازِ شَيْءٍ مِنَ الْفَيْءِ، أَوْ خَبَثِ طُعْمَتِهِ، أَوْ سُوءِ سِيرَتِهِ فَحَرَامٌ عَلَيْكَ اسْتِعْمَالُهُ، وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ، وَأَنْ تُقَلِّدَهُ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ رَعِيَّتِكَ، أَوْ تُشْرِكَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِكَ.بَلْ عَاقِبْهُ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَرْدَعُ غَيْرَهُ مِنْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِمِثْلِ مَا تَعَرَّضَ لَهُ، وَإِيَّاكَ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا دَعْوَةٌ مُجَابَةٌ.

2- ضَرُورَةُ مَنْحِ عُمَّالِ الْخَرَاجِ رَوَاتِبَ تَكْفِيهِمْ:

54- لِاجْتِنَابِ وُقُوعِ عُمَّالِ الْخَرَاجِ فِي الرِّشْوَةِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، لَا بُدَّ أَنْ تُصْرَفَ لَهُمْ أُجُورٌ « رَوَاتِبُ » مُجْزِيَةٌ تَفِي بِحَاجَاتِهِمْ وَتَكْفِي نَفَقَاتِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ: أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنهما-: دَنَّسْتَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا أَبَا عُبَيْدَةَ إِذَا لَمْ أَسْتَعِنْ بِأَهْلِ الدِّينِ عَلَى سَلَامَةِ دِينِي فَبِمَنْ أَسْتَعِينُ؟ قَالَ: أَمَا إِنْ فَعَلْتَ فَأَغْنِهِمْ بِالْعِمَالَةِ عَنِ الْخِيَانَةِ.

يَقُولُ: إِذَا اسْتَعْمَلْتَهُمْ عَلَى شَيْءٍ فَأَجْزِلْ لَهُمْ فِي الْعَطَاءِ وَالرِّزْقِ، لَا يَحْتَاجُونَ.

الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: نِظَامُ التَّقْبِيلِ « التَّضْمِينِ »:

55- نَشَأَ عَنْ تَطْبِيقِ الْخَرَاجِ بَعْضُ الظَّوَاهِرِ الِاقْتِصَادِيَّةِ، كَنِظَامِ التَّقْبِيلِ « التَّضْمِينِ » حَيْثُ بَدَأَ وُجُودُ هَذَا النِّظَامِ فِي الْعَصْرِ الْأُمَوِيِّ، وَانْتَشَرَ فِي الْعَصْرِ الْعَبَّاسِيِّ.وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ عَلَى تَطْبِيقِ هَذَا النِّظَامِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْمَنْصُورَ كَتَبَ إِلَى نَوْفَلِ بْنِ الْفُرَاتِ- عَامِلِ خَرَاجِ مِصْرَ- سَنَةَ 141 هـ أَنِ اعْرِضْ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ ضَمَانَ خَرَاجِ مِصْرَ.فَإِنْ ضَمِنَهُ فَأَشْهِدْ عَلَيْهِ، وَاشْخُصْ إِلَيَّ (أَيْ عُدْ أَنْتَ إِلَيَّ) وَإِنْ أَبَى فَاعْمَلْ عَلَى الْخَرَاجِ.فَعَرَضَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَأَبَى.

وَالتَّقْبِيلُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ قَبَّلَ أَيْ كَفَلَ، يُقَالُ قَبَلَ (بِالْفَتْحِ) إِذَا كَفَلَ أَوْ قَبُلَ (بِالضَّمِّ) إِذَا صَارَ قَبِيلًا أَيْ كَفِيلًا.

وَالتَّقْبِيلُ فِي الِاصْطِلَاحِ: أَنْ يَتَكَفَّلَ شَخْصٌ بِتَحْصِيلِ الْخَرَاجِ، وَأَخْذِهِ لِنَفْسِهِ مُقَابِلَ قَدْرٍ مُحَدَّدٍ يَدْفَعُهُ.وَهُوَ مَا يُعْرَفُ بِاسْمِ نِظَامِ الِالْتِزَامِ.وَقَدْ عَرَّفَهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِقَوْلِهِ: أَنْ يَتَقَبَّلَ الرَّجُلُ النَّخْلَ وَالشَّجَرَ، وَالزَّرْعَ النَّابِتَ، قَبْلَ أَنْ يُسْتَحْصَدَ وَيُدْرَكَ.

حُكْمُ التَّقْبِيلِ « التَّضْمِينِ »:

56- لَمْ يَرْتَضِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ هَذَا النِّظَامَ وَاعْتَبَرُوهُ بَاطِلًا غَيْرَ مَشْرُوعٍ.وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ.قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَأَمَّا تَضْمِينُ الْعُمَّالِ لِأَمْوَالِ الْعُشْرِ، وَالْخَرَاجِ، فَبَاطِلٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي الشَّرْعِ حُكْمٌ.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ- بِسَنَدِهِ- إِلَى جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنه- يَقُولُ: الْقَبَالَاتُ رِبًا وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: الْقَبَالَاتُ حَرَامٌ قَالَ أَحْمَدُ: هُوَ أَنْ يَتَقَبَّلَ بِالْقَرْيَةِ وَفِيهَا الْعُلُوجُ وَالنَّخْلُ، وَمَعْنَاهُ حُكْمُهُ حُكْمُ الرِّبَا وَقَالُوا: يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا النِّظَامِ الظُّلْمُ وَالْعَسْفُ، وَخَرَابُ الدِّيَارِ.وَقَدْ كَتَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ يُحَذِّرُهُ مِنْ تَطْبِيقِ هَذَا النِّظَامِ مَا نَصُّهُ: وَرَأَيْتُ أَنْ لَا تَقْبَلَ شَيْئًا مِنَ السَّوَادِ وَلَا غَيْرِ السَّوَادِ مِنَ الْبِلَادِ، فَإِنَّ الْمُتَقَبِّلَ إِذَا كَانَ فِي قَبَالَتِهِ فَضْلٌ عَنِ الْخَرَاجِ، عَسَفَ بِأَهْلِ الْخَرَاجِ وَحَمَّلَ عَلَيْهِمْ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، وَظَلَمَهُمْ، وَأَخَذَهُمْ بِمَا يُجْحِفُ بِهِمْ لِيَسْلَمَ مِمَّا دَخَلَ فِيهِ، وَفِي ذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ خَرَابُ الْبِلَادِ وَهَلَاكُ الرَّعِيَّةِ.

وَالْمُتَقَبِّلُ لَا يُبَالِي بِهَلَاكِهِمْ بِصَلَاحِ أَمْرِهِ فِي قَبَالَتِهِ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَفْضِلَ بَعْدَ أَنْ يَتَقَبَّلَ بِهِ فَضْلًا كَثِيرًا، وَلَيْسَ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِشِدَّةٍ مِنْهُ عَلَى الرَّعِيَّةِ وَضَرْبٍ لَهُمْ شَدِيدٍ، وَإِقَامَتِهِ لَهُمْ فِي الشَّمْسِ وَتَعْلِيقِ الْحِجَارَةِ فِي الْأَعْنَاقِ، وَعَذَابٍ عَظِيمٍ يَنَالُ أَهْلَ الْخَرَاجِ مِمَّا لَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا أَكْرَهُ الْقَبَالَةَ، لِأَنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَحْمِلَ هَذَا الْمُتَقَبِّلُ عَلَى أَهْلِ الْخَرَاجِ مَا لَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَيُعَامِلَهُمْ بِمَا وَصَفْتُ لَكَ فَيَضُرَّ ذَلِكَ بِهِمْ فَيُخَرِّبُوا مَا عَمَّرُوا، وَيَدَعُوهُ فَيَنْكَسِرَ الْخَرَاجُ.

وَالْأَصْلُ فِي كَرَاهَتِهِ هَذَا أَنَّهُ بَيْعُ ثَمَرٍ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ، وَلَمْ يُخْلَقْ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ، فَأَمَّا الْمُعَامَلَةُ عَلَى الثُّلُثِ، وَالرُّبُعِ، وَكِرَاءُ الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ، فَلَيْسَتَا مِنَ الْقَبَالَاتِ وَلَا يَدْخُلَانِ فِيهِمَا، وَقَدْ رُخِّصَ فِي هَذَيْنِ، وَلَا نَعْلَمُ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفُوا فِي كَرَاهَةِ الْقَبَالَةِ.

فَإِذَا أَمِنَ الْإِمَامُ عَدَمَ الظُّلْمِ، وَالْجَوْرِ، وَالْعَسْفِ وَرَضِيَ أَهْلُ الْخَرَاجِ بِهَذَا النِّظَامِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ جَاءَ أَهْلُ طَسُّوجٍ- نَاحِيَةٍ- أَوْ مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ وَمَعَهُمْ رَجُلٌ مِنَ الْبَلَدِ الْمَعْرُوفِ مُوسِرٌ، فَقَالُوا: هَذَا أَخَفُّ عَلَيْنَا، نُظِرَ فِي ذَلِكَ: فَإِنْ كَانَ صَلَاحًا لِأَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ وَالطَّسُّوجِ، قُبِلَ وَضُمِنَ وَأُشْهِدَ عَلَيْهِ وَصِيرَ مَعَهُ أَمِيرٌ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ يُوثَقُ بِدِينِهِ، وَأَمَانَتِهِ، وَيَجْرِي عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ أَرَادَ ظُلْمَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ، أَوِ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ أَوْ تَحْمِيلَهُ شَيْئًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، مَنَعَهُ الْأَمِيرُ مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْمَنْعِ.

وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَى عَيْنًا بِمَا رَأَى مِنْ ذَلِكَ، وَمَا رَأَى أَنَّهُ أَصْلَحُ لِأَهْلِ الْخَرَاجِ، وَأَوْفَرُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ عَمِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْقَبَالَةِ، وَالْوِلَايَةِ بَعْدَ الْإِعْذَارِ وَالتَّقَدُّمِ إِلَى الْمُتَقَبِّلِ، وَالْوَالِي يَرْفَعُ الظُّلْمَ عَنِ الرَّعِيَّةِ، وَالْوَعِيدُ لَهُ إِنْ حَمَّلَهُمْ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، أَوْ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ فَعَلَ فَفُوا لَهُ بِمَا أَوْعَدَ بِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ زَاجِرًا وَنَاهِيًا لِغَيْرِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

(وَسَيَأْتِي التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: قَبَالَةٌ).

مُسْقِطَاتُ الْخَرَاجِ:

أَوَّلًا: انْعِدَامُ صَلَاحِيَّةِ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ:

57- الْمَقْصُودُ بِانْعِدَامِ صَلَاحِيَّةِ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ هُوَ أَنْ يَطْرَأَ عَلَى الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ طَارِئٌ خَارِجٌ عَنْ فِعْلِ الْإِنْسَانِ، يَمْنَعُ صَاحِبَهَا مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا كَانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهَا، أَوْ غَلَبَتِهِ عَلَيْهَا بِحَيْثُ تُصْبِحُ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلزِّرَاعَةِ.

فَإِذَا تَعَرَّضَتِ الْأَرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ لِذَلِكَ سَقَطَ عَنْهَا الْخَرَاجُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخَرَاجُ الْوَاجِبُ مُقَاسَمَةً، أَمْ وَظِيفَةً، فَيَسْقُطُ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِالْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ حَقِيقَةً وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ.وَيَسْقُطُ خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ.

هَذَا فِي حَالَةِ عَدَمِ إِمْكَانِيَّةِ إِصْلَاحِهَا وَإِعْمَارِهَا، أَمَّا إِذَا أَمْكَنَ إِصْلَاحُهَا وَإِعْمَارُهَا فَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَعْمُرَ الْأَرْضَ وَيُصْلِحَهَا مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ، وَلَا يَجُوزُ إِلْزَامُ أَهْلِهَا بِعِمَارَتِهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ.

فَإِنْ سَأَلَهُمْ أَنْ يُعَمِّرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَيَعْتَدُّ لَهُمْ بِمَا أَنْفَقُوا عَلَيْهَا مِنْ خَرَاجِهَا فَرَضُوا بِذَلِكَ جَازَ.

وَإِذَا كَانَ سَهْمُ الْمَصَالِحِ عَاجِزًا عَنْ سَدِّ نَفَقَاتِ إِصْلَاحِ هَذِهِ الْأَرْضِ أُجْبِرَ أَهْلُهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً لَهُمْ وَلِأَصْحَابِ الْفَيْءِ، وَإِنْ أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِتِلْكَ الْأَرْضِ بَعْدَ أَنْ بَارَتْ فِي غَيْرِ الزِّرَاعَةِ كَالرَّعْيِ وَالصَّيْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، يُوضَعُ عَلَيْهَا خَرَاجٌ جَدِيدٌ بِحَسَبِ مَا تَحْتَمِلُهُ.

وَهَذِهِ الْأَرْضُ تَخْتَلِفُ عَنْ أَرْضِ الْمَوَاتِ، فَإِنَّ أَرْضَ الْمَوَاتِ مُبَاحَةٌ.

ثَانِيًا: تَعْطِيلُ الْأَرْضِ عَنِ الزِّرَاعَةِ:

58- إِنْ كَانَ التَّعْطِيلُ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ صَاحِبِ الْأَرْضِ، كَأَنْ يَدْهَمَ الْبِلَادَ عَدُوٌّ يَمْنَعُ أَهْلَ الْأَرْضِ مِنْ زِرَاعَتِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا، أَوْ يَلْحَقَهُمْ جَوْرٌ مِنَ الْوُلَاةِ لَمْ تُمْكِنْهُمُ الْإِقَامَةُ عَلَيْهِ.فَهَذَا يُسْقِطُ الْخَرَاجَ عَنْهُمْ حَتَّى تَعُودَ الْأَرْضُ كَمَا كَانَتْ وَيَتَمَكَّنُوا مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا.

وَإِنْ كَانَ التَّعْطِيلُ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ، أَوْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ.

فَإِذَا عَطَّلَهَا بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ كَأَنْ يَتْرُكَهَا بِلَا زِرَاعَةٍ وَاسْتِغْلَالٍ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَقَادِرٌ عَلَى زِرَاعَتِهَا سَقَطَ عَنْهُ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ اتِّفَاقًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ خَرَاجَ الْمُقَاسَمَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ حَقِيقَةً وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ.

وَلَا يُقِرُّ الْمُفَرِّطُ عَلَى عَدَمِ اسْتِغْلَالِهِ لِلْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ، بَلْ يُؤْمَرُ بِزِرَاعَتِهَا وَاسْتِغْلَالِهَا لِئَلاَّ يَتَضَرَّرَ أَصْحَابُ الْفَيْءِ.

وَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَلَا يَسْقُطُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ وَهُوَ مَوْجُودٌ، وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ فَإِذَا عَطَّلَ الْمُسْتَأْجِرُ الِانْتِفَاعَ بِالْمُؤَجَّرِ لَمْ تَسْقُطِ الْأُجْرَةُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ خَرَاجِ الْوَظِيفَةِ بِتَعْطِيلِ الْأَرْضِ عَنِ الزِّرَاعَةِ، سَوَاءٌ عَطَّلَهَا مُخْتَارًا أَمْ مَعْذُورًا، لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ.

وَإِذَا عَطَّلَهَا بِلَا تَفْرِيطٍ مِنْهُ كَأَنْ تَرَكَ زِرَاعَتَهَا لِعَدَمِ قُوَّتِهَا وَقُدْرَتِهِ الْجِسْمِيَّةِ، أَوْ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى تَحَمُّلِ تَكَالِيفِ الزِّرَاعَةِ وَنَفَقَاتِهَا يَسْقُطُ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ حَقِيقَةً.

وَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَيَسْقُطُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى عَدَمِ سُقُوطِ الْخَرَاجِ.

وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْأَرْضِ تَصَرُّفًا يُحَقِّقُ الْمَصْلَحَةَ لِأَهْلِ الْفَيْءِ، وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ.

وَمِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ: مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: مِنْ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْمُرَ صَاحِبَ الْأَرْضِ بِتَأْجِيرِهَا لِمَنْ يَقُومُ بِزِرَاعَتِهَا وَإِلاَّ رَفَعَ يَدَهُ عَنْهَا، وَلَا تُتْرَكُ بِيَدِهِ خَرَابًا وَإِنْ دَفَعَ خَرَاجَهَا، لِئَلاَّ تَصِيرَ بِالْخَرَابِ مَوَاتًا، فَيَتَضَرَّرَ أَهْلُ الْفَيْءِ بِتَعْطِيلِهَا.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ دَفَعَ الْأَرْضَ لِغَيْرِ صَاحِبِهَا مُزَارَعَةً، وَيَأْخُذُ الْخَرَاجَ مِنْ نَصِيبِهِ وَيُمْسِكُ الْبَاقِيَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ آجَرَهَا وَأَخَذَ الْخَرَاجَ مِنَ الْأُجْرَةِ، وَإِنْ شَاءَ زَرَعَهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَإِذَا حَصَلَتِ الْغَلَّةُ أَخَذَ قَدْرَ الْخَرَاجِ وَمَا أَنْفَقَ، وَيَحْفَظُ الْبَاقِيَ لِمُسْتَغِلِّ الْأَرْضِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لِلْإِمَامِ أَنْ يَدْفَعَ لِلْعَاجِزِ كِفَايَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قَرْضًا لِيَعْمَلَ وَيَسْتَغِلَّ أَرْضَهُ.

فَإِذَا لَمْ يَجِدِ الْإِمَامُ مَنْ يَعْمَلُ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ مُزَارَعَةً أَوْ بِالْأُجْرَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَيَرَى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بَيْعَهَا وَأَخْذَ الْخَرَاجِ مِنْ ثَمَنِهَا، وَيُحْفَظُ الْبَاقِي لِمُسْتَغِلِّ الْأَرْضِ.

وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ عَدَمَ جَوَازِ بَيْعِهَا، وَإِنَّمَا يَحْجُرُهَا لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَرَى جَوَازَ الْحَجْرِ عَلَى الْكَبِيرِ إِلاَّ أَنَّ هَذَا الْحَجْرَ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْعَامَّةِ.

ثَالِثًا: هَلَاكُ الزَّرْعِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ:

59- إِذَا زَرَعَ صَاحِبُ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ أَرْضَهُ بِزَرْعٍ مَا، فَأَصَابَتْهُ آفَةٌ سَمَاوِيَّةٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا، كَغَرَقٍ، أَوْ حَرْقٍ، أَوْ شِدَّةِ بَرْدٍ، أَوْ جَرَادٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْهَلَاكُ قَبْلَ الْحَصَادِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ.

أ- فَإِذَا هَلَكَ الزَّرْعُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ قَبْلَ الْحَصَادِ يَسْقُطُ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ إِذَا أَدَّتْ تِلْكَ الْآفَةُ إِلَى هَلَاكِ جَمِيعِ الزَّرْعِ؛ لِأَنَّ خَرَاجَ الْمُقَاسَمَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ حَقِيقَةً.

وَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَيَسْقُطُ عَنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُصَابٌ وَيَسْتَحِقُّ الْمَعُونَةَ؛ وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ صِلَةٌ وَاجِبَةٌ بِاعْتِبَارِ الْأَرَاضِي، فَلَا يُمْكِنُ إِيجَابُهَا بَعْدَ هَلَاكِ الزَّرْعِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ اسْتِغْلَالِ الْأَرْضِ.

وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِسُقُوطِ الْخَرَاجِ بِهَذَا السَّبَبِ شَرْطَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنْ لَا تَبْقَى مِنَ السَّنَةِ مُدَّةٌ يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ زِرَاعَةِ الْأَرْضِ مَرَّةً أُخْرَى، فَإِنْ بَقِيَتْ مِنَ السَّنَةِ مُدَّةٌ يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ أَنْ يَزْرَعَ الْأَرْضَ ثَانِيَةً لَمْ يَسْقُطِ الْخَرَاجُ لِتَحَقُّقِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ، وَقَدَّرُوا الْمُدَّةَ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ.

وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَبْقَى مِنَ الزَّرْعِ ضِعْفُ الْخَرَاجِ الْمُوَظَّفِ عَلَى الْأَرْضِ، فَإِنْ بَقِيَ مِنَ الزَّرْعِ ضِعْفُ الْخَرَاجِ الْمُوَظَّفِ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَسْقُطِ الْخَرَاجُ وَيُؤْخَذُ مِنَ الزَّارِعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى النِّصْفِ.وَإِنْ بَقِيَ أَقَلُّ مِنْ ضِعْفِ الْخَرَاجِ الْمُوَظَّفِ عَلَى الْأَرْضِ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخَرَاجُ الْمُوَظَّفُ، وَيُكْتَفَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِأَخْذِ نِصْفِ الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَ خَصْمِ نَفَقَاتِ الزِّرَاعَةِ.

هَذَا مَا جَاءَ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ نَصًّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

ب- إِذَا هَلَكَ الْخَارِجُ مِنَ الْأَرْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا، كَغَرَقٍ، وَحَرْقٍ يَسْقُطُ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ، لِتَعَلُّقِهِ بِالْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ حَقِيقَةً.

جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: وَلَوْ هَلَكَ الْخَارِجُ فِي خَرَاجِ الْمُقَاسَمَةِ قَبْلَ الْحَصَادِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْخَارِجِ حَقِيقَةً، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الشَّرِيكِ شَرِكَةَ الْمِلْكِ فَلَا يَضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي.

وَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَلَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْخَارِجِ بَعْدَ الْحَصَادِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ خَرَاجَ الْوَظِيفَةِ يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ، وَيَتَعَلَّقُ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ وَزِرَاعَتِهَا، وَبِالْحَصَادِ قَدْ تَحَقَّقَ الِانْتِفَاعُ بِالْأَرْضِ، وَحَصَلَتِ الزِّرَاعَةُ بِالْفِعْلِ فَلَا يَسْقُطُ الْخَرَاجُ الْمُوَظَّفُ بِهَلَاكِ الْخَارِجِ بَعْدَ الْحَصَادِ.

جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ هَلَاكَ الْخَارِجِ قَبْلَ الْحَصَادِ يُسْقِطُ الْخَرَاجَ، وَهَلَاكُهُ بَعْدَ الْحَصَادِ لَا يُسْقِطُهُ.وَبِالنِّسْبَةِ لِلْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى كَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَلَمْ نَقِفْ لَهُمْ عَلَى نُصُوصٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

رَابِعًا: إِسْقَاطُ الْإِمَامِ لِلْخَرَاجِ عَمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ

60- إِذَا رَأَى الْإِمَامُ إِسْقَاطَ الْخَرَاجِ عَمَّنْ بِيَدِهِ أَرْضٌ خَرَاجِيَّةٌ لِمَصْلَحَةٍ، أَوْ لِكَوْنِ مَنْ بِيَدِهِ تِلْكَ الْأَرْضُ يَقُومُ بِعَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَحْتَاجُهَا الْمُسْلِمُونَ، كَالْقَضَاءِ، أَوِ التَّدْرِيسِ، أَوْ حِمَايَةِ الثُّغُورِ الْإِسْلَامِيَّةِ، أَوِ التَّجَسُّسِ عَلَى الْأَعْدَاءِ لِمَعْرِفَةِ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ وَسَائِلِ الْقُوَّةِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

فَهَلْ يَجُوزُ هَذَا التَّصَرُّفُ مِنَ الْإِمَامِ أَوْ لَا؟ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَهُ حَقُّ النَّظَرِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِعْلُ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَهُمْ، وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي قَرَّرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ أَنَّ: (تَصَرُّفَ الْإِمَامِ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ) وَقَالُوا: لَوْ صَارَ الْخَرَاجُ فِي يَدِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَخُصَّ بِهِ شَخْصًا إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ فَجَازَ لَهُ تَرْكُهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ وَلِأَنَّ صَاحِبَ الْخَرَاجِ لَهُ حَقٌّ فِي الْخَرَاجِ فَصَحَّ تَرْكُهُ عَلَيْهِ.

وَقَدْ قَيَّدَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الَّذِي يَنْوِي الْإِمَامُ إِسْقَاطَ الْخَرَاجِ عَنْهُ، مِمَّنْ يَسْتَحِقُّونَ الْخَرَاجَ كَالْفَقِيهِ وَالْجُنْدِيِّ، وَالْقَاضِي، وَالْمُؤَذِّنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إِسْقَاطُ الْخَرَاجِ عَمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إِسْقَاطُهُ كَالْعُشْرِ.وَبِالنِّسْبَةِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَلَمْ نَقِفْ لَهُمْ عَلَى نُصُوصٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

خَامِسًا: الْبِنَاءُ عَلَى الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ:

61- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِمْرَارِ وَظِيفَةِ الْخَرَاجِ عَلَى الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ بَعْدَ أَنْ يُبْنَى عَلَيْهَا أَبْنِيَةٌ وَحَوَانِيتُ.

1- فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى اسْتِمْرَارِ وُجُوبِ الْخَرَاجِ وَعَدَمِ سُقُوطِهِ عَنْ تِلْكَ الْأَرْضِ، لِأَنَّ الْخَرَاجَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الزَّرْعِ وَالْغَرْسِ.رَوَى يَعْقُوبُ بْنُ بُخْتَانَ أَنَّهُ سَأَلَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، تَرَى أَنْ يُخْرِجَ الرَّجُلُ عَمَّا فِي يَدِهِ مِنْ دَارٍ، أَوْ ضَيْعَةٍ عَلَى مَا وَظَّفَ عُمَرُ- رضي الله عنه- عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ فَيَتَصَدَّقَ بِهِ؟ فَقَالَ مَا أَجْوَدُ هَذَا.فَقَالَ يَعْقُوبُ: بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ تُعْطِي مِنْ دَارِكَ الْخَرَاجَ فَتَتَصَدَّقُ بِهِ.فَقَالَ: نَعَمْ.وَقَدْ عَلَّلَ عُلَمَاءُ الْحَنَابِلَةِ فِعْلَ أَحْمَدَ بِقَوْلِهِمْ: (إِنَّمَا كَانَ أَحْمَدُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَنَّ بَغْدَادَ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ الَّتِي وَضَعَ عَلَيْهَا عُمَرُ الْخَرَاجَ، فَلَمَّا بُنِيَتْ مَسَاكِنُ، رَاعَى أَحْمَدُ حَالَهَا الْأُولَى الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا فِي عَهْدِ عُمَرَ- رضي الله عنه-.

2- وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ الْخَرَاجِ عَنِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ بَعْدَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهَا مَنْ هِيَ بِيَدِهِ أَبْنِيَةً وَحَوَانِيتَ، وَلَا يَجِبُ الْخَرَاجُ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ إِذَا جَعَلَهَا بُسْتَانًا، أَوْ مَزْرَعَةً؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يَتَعَلَّقُ بِنَمَاءِ الْأَرْضِ وَغَلَّتِهَا.

3- وَيَرَى الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الْخَرَاجَ يَسْقُطُ عَنِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا مَنْ هِيَ بِيَدِهِ أَبْنِيَةً ضَرُورِيَّةً لَا غِنًى لَهُ عَنْهَا.كَأَنْ يَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا يَسْكُنُهُ.وَأَمَّا الْأَبْنِيَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ فَلَا تَكُونُ سَبَبًا فِي سُقُوطِ الْخَرَاجِ عَنِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ كَأَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهَا أَبْنِيَةً لِلِاسْتِغْلَالِ وَالنَّمَاءِ.

سَادِسًا: إِسْلَامُ مَالِكِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ أَوِ

انْتِقَالُهَا إِلَى مُسْلِمٍ:

62- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَرَاجَ الْعَنْوِيَّ لَا يَسْقُطُ عَنِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ بِإِسْلَامِ صَاحِبِهَا وَلَا بِانْتِقَالِهَا إِلَى مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ الْمَفْتُوحَةَ عَنْوَةً مَوْقُوفَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْخَرَاجُ الْمَضْرُوبُ عَلَيْهَا بِمَثَابَةِ الْأُجْرَةِ فَلَا يَسْقُطُ بِإِسْلَامِ مَنْ بِيَدِهِ هَذِهِ الْأَرْضُ وَلَا بِانْتِقَالِهَا إِلَى مُسْلِمٍ.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَرَاجِ الصُّلْحِيِّ (الْمَضْرُوبِ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي صَالَحَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَهَا عَلَى أَنَّ لَهُمُ الْأَرْضَ وَلِلْمُسْلِمِينَ الْخَرَاجَ) هَلْ يَسْقُطُ بَعْدَ إِسْلَامِ صَاحِبِهَا، أَوِ انْتِقَالِهَا إِلَى مُسْلِمٍ:

1- فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى سُقُوطِ الْخَرَاجِ الصُّلْحِيِّ إِذَا أَسْلَمَ صَاحِبُ الْأَرْضِ، أَوِ انْتَقَلَتْ إِلَى مُسْلِمٍ، لِمَا رَوَى « الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْبَحْرَيْنِ، أَوْ إِلَى هَجَرَ، فَكُنْتُ آتِي الْحَائِطَ يَكُونُ بَيْنَ الْإِخْوَةِ يُسْلِمُ أَحَدُهُمْ، فَآخُذُ مِنَ الْمُسْلِمِ الْعُشْرَ، وَمِنَ الْمُشْرِكِ الْخَرَاجَ ».وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ الصُّلْحِيَّ بِمَثَابَةِ الْجِزْيَةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْكُفْرِ، فَإِذَا زَالَ الْكُفْرُ سَقَطَ الْخَرَاجُ كَمَا تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ.

2- وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ سُقُوطِ الْخَرَاجِ الصُّلْحِيِّ قِيَاسًا عَلَى الْخَرَاجِ الْعَنْوِيِّ؛ وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ، وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنَّهَا لَا تَتَغَيَّرُ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، فَإِذَا أَسْلَمَ صَاحِبُ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ أَوْ بَاعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ فَلَا ضَرُورَةَ لِتَغَيُّرِ الْمُؤْنَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْخَرَاجِ- أَيْ فِي الْجُمْلَةِ-

اجْتِمَاعُ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ:

63- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي يَمْلِكُ الْأَرْضَ الْخَرَاجِيَّةَ يُطَالَبُ بِالزَّكَاةِ « الْعُشْرِ » وَالْخَرَاجِ مَعًا إِذَا زَرَعَهَا أَوِ انْتَفَعَ بِهَا.

وَاسْتَدَلُّوا لِاجْتِمَاعِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}.فَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ أَرْضٍ يُنْتَفَعُ بِهَا وَتُزْرَعُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ خَرَاجِيَّةً، أَوْ عُشْرِيَّةً، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ: « فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ ».وَلِأَنَّ الْعُشْرَ وَالْخَرَاجَ حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ ذَاتًا، وَسَبَبًا، وَمَصْرِفًا، وَدَلِيلًا: أَمَّا اخْتِلَافُهُمَا ذَاتًا فَلِأَنَّ الْعُشْرَ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَالْخَرَاجُ فِيهِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ.وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا سَبَبًا فَلِأَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْخَرَاجَ يَجِبُ فِي الْأَرْضِ النَّامِيَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ النَّمَاءُ حَقِيقِيًّا أَمْ تَقْدِيرِيًّا بِأَنْ يُتَمَكَّنَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ.

وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا مَصْرِفًا، فَلِأَنَّ مَصْرِفَ الْعُشْرِ: الْأَصْنَافُ الثَّمَانِيَةُ، الْمُحَدَّدُ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ، وَمَصْرِفَ الْخَرَاجِ: الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ.

وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا دَلِيلًا، فَلِأَنَّ دَلِيلَ الْعُشْرِ: النَّصُّ، وَدَلِيلَ الْخَرَاجِ الِاجْتِهَادُ الْمَبْنِيُّ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ.

وَإِذَا ثَبَتَ اخْتِلَافُهُمَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَلَا مَانِعَ مِنَ اجْتِمَاعِهِمَا، وَوُجُوبُ أَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْآخَرِ، كَاجْتِمَاعِ الْجَزَاءِ وَالْقِيمَةِ عِنْدَ قَتْلِ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اجْتِمَاعِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ فِي الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ الَّتِي يَمْلِكُهَا مُسْلِمٌ، وَلَا يَجِبُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ سِوَى الْخَرَاجِ.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: « لَا يَجْتَمِعُ عَلَى الْمُسْلِمِ خَرَاجٌ وَعُشْرٌ ».

وَبِمَا رَوَى طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ قَالَ كَتَبَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي دِهْقَانَةَ نَهْرِ الْمَلِكِ- كُورَةٌ وَاسِعَةٌ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي بُنِيَتْ بِهَا بَغْدَادُ- أَسْلَمَتْ فَكَتَبَ: أَنِ ادْفَعُوا إِلَيْهَا أَرْضَهَا تُؤَدِّي عَنْهَا الْخَرَاجَ.

فَأَمَرَ عُمَرُ- رضي الله عنه- بِأَخْذِ الْخَرَاجِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِأَخْذِ الْعُشْرِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لأَمَرَ بِهِ.

وَلِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ، وَوُلَاةِ الْجَوْرِ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ عُشْرًا؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ، فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَا يَجْتَمِعُ زَكَاتَانِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ كَزَكَاةِ السَّائِمَةِ وَالتِّجَارَةِ فِي الْحَيَوَانَاتِ.

مَصَارِفُ الْخَرَاجِ:

64- لَمْ يُفَرِّقِ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْخَرَاجِ وَالْفَيْءِ فِي الصَّرْفِ، كَمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الْفَيْءِ وَالزَّكَاةِ مِنْ جِهَةٍ، وَمِنْ جِهَةٍ ثَانِيَةٍ بَيْنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ.

فَالْفَيْءُ يَتَوَقَّفُ صَرْفُهُ عَلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِي تَقْدِيرِ الْمَصَالِحِ، وَتَقْدِيمِ الْأَهَمِّ عَلَى الْمُهِمِّ، وَالزَّكَاةُ تُصْرَفُ فِي الْمَصَارِفِ الثَّمَانِيَةِ الَّتِي حَدَّدَتْهَا آيَةُ الصَّدَقَاتِ.وَالْغَنِيمَةُ تُخَمَّسُ، وَتُقْسَمُ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَمَا حَدَّدَتْ آيَةُ الْغَنَائِمِ.

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: يُصْرَفُ خَرَاجُهَا- أَيْ خَرَاجُ الْأَرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً- فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَرْزَاقِ الْمُقَاتِلَةِ وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ، وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سُبُلِ الْخَيْرِ.

(وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَمَصْرِفُ الْخَرَاجِ كَفَيْءٍ لِأَنَّهُ مِنْهُ).

وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا مَصْرِفُ النَّوْعِ الثَّالِثِ مِنَ الْخَرَاجِ وَأَخَوَاتِهِ فَعِمَارَةُ الدِّينِ، وَإِصْلَاحُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ رِزْقُ الْوُلَاةِ، وَالْقُضَاةِ وَأَهْلِ الْفَتْوَى مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْمُقَاتِلَةِ، وَرَصْفُ الطُّرُقِ وَعِمَارَةُ الْمَسَاجِدِ، وَالرِّبَاطَاتِ، وَالْقَنَاطِرِ، وَالْجُسُورِ، وَسَدُّ الثُّغُورِ، وَإِصْلَاحُ الْأَنْهَارِ الَّتِي لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا.

(وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: مَا يُؤْخَذُ مِنْ خَرَاجِ هَذِهِ الْأَرْضِ يَصْرِفُهُ الْإِمَامُ فِي مَصَالِحِ

الْمُسْلِمِينَ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، وَيَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَغَيْرِهِمْ).

هَذَا مَا قَرَّرَهُ الْفُقَهَاءُ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ مِنْ جُمْلَةِ الْفَيْءِ الْمَصْرُوفِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.

وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَ: بَيْتُ الْمَالِ، وَفَيْءٌ).

حُكْمُ تَخْمِيسِ الْخَرَاجِ:

65- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْفَيْءَ لَا يُخَمَّسُ، بَلْ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ الْإِمَامَ يُعْطِي مِنْهُ لِلْمُقَاتِلِينَ، وَالْوُلَاةِ، وَالْقُضَاةِ، وَالْعُمَّالِ، وَالْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ، وَالْفُقَهَاءِ، وَكُلِّ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَيُصْرَفُ عَلَى بِنَاءِ الْقَنَاطِرِ، وَالْمَسَاجِدِ، وَشَقِّ الطُّرُقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَبْدَأُ الْإِمَامُ بِالْأَهَمِّ فَالْمُهِمِّ، فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُ شَيْءٌ قَسَمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَارِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: طَلَبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُخَمِّسَ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ لَمَّا أُجْلُوا عَنْهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تُبَيِّنُ أَنَّهَا فَيْءٌ لَمْ تَحْصُلْ لَهُمْ بِمُحَارَبَتِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ بِتَسْلِيطِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً يَفْعَلُ مِنْهُ مَا يَشَاءُ.وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- خَاصَّةً، يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً لِلْمُسْلِمِينَ.هَذَا مَا كَانَ يُفْعَلُ بِالْفَيْءِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَقَدْ أَصْبَحَ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ خَاصَّةً، يَصْرِفُهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُقَدِّمُ الْأَهَمَّ عَلَى الْمُهِمِّ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ الْإِمَامَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُمَا كَانَا يَجْعَلَانِهِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً.

وَلِذَا لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخْتَصَّ بِالْفَيْءِ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْإِمَامَ يُنْصَرُ بِسَبَبِ قَوْمِهِ لَا بِسَبَبِهِ خَاصَّةً فَكَانَتْ أَمْوَالُ الْفَيْءِ لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفَيْءَ يُخَمَّسُ لقوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}.

فَذِكْرُ الْأَصْنَافِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ بَابِ التَّعْدِيدِ لِلْأَصْنَافِ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ هَذَا الْمَالَ وَمِنْ ثَمَّ فَلَا يَتَعَدَّى بِهِ هَؤُلَاءِ.

(انْظُرْ: خُمُسٌ، وَفَيْءٌ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


60-موسوعة الفقه الكويتية (خطأ 3)

خَطَأٌ -3

رَابِعًا: الْخَطَأُ فِي الْوَقْتِ:

41- لَوْ أَكَلَ الصَّائِمُ أَوْ جَامَعَ بِاجْتِهَادٍ يَظُنُّ أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْوَقْتَ لَيْلٌ فَبَانَ خِلَافُ ذَلِكَ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي غَيْرِ الْجِمَاعِ عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي إِلَى أَنَّهُ لَوْ تَسَحَّرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَإِذَا هُوَ طَالِعٌ، أَوْ أَفْطَرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَإِذَا هِيَ لَمْ تَغْرُبْ، وَكَذَا لَوْ جَامَعَ ظَانًّا بَقَاءَ اللَّيْلِ فَبَانَ خِلَافُ ظَنِّهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفْطِرْ مُتَعَمِّدًا بَلْ مُخْطِئًا، وَوَجَّهُوا قَوْلَهُمْ بِأَنَّ الْقَضَاءَ يَثْبُتُ بِمُطْلَقِ الْإِفْسَادِ سَوَاءٌ كَانَ صُورَةً وَمَعْنًى، أَوْ صُورَةً لَا مَعْنًى، أَوْ مَعْنًى لَا صُورَةً، وَسَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَسَوَاءٌ كَانَ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ فَيَسْتَدْعِي فَوَاتَ الصَّوْمِ لَا غَيْرُ، وَالْفَوَاتُ يَحْصُلُ بِمُطْلَقِ الْإِفْسَادِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إِلَى الْجَبْرِ بِالْقَضَاءِ لِيَقُومَ مَقَامَ الْفَائِتِ فَيَنْجَبِرُ مَعْنًى، وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَيَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِإِفْسَادٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْإِفْطَارُ الْكَامِلُ بِوُجُودِ الْأَكْلِ أَوِ الشُّرْبِ أَوِ الْجِمَاعِ صُورَةً وَمَعْنًى مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مُبِيحٍ وَلَا مُرَخِّصٍ وَلَا شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ.

أَمَّا الْجِمَاعُ بِلَا عُذْرٍ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَقَدْ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ عَامِدًا كَانَ أَوْ سَاهِيًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ مُخْطِئًا، مُخْتَارًا أَوْ مُكْرَهًا، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ « أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ: قَالَ مَا لَكَ: قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ ».

قَالَ الْبَعْلِيُّ: وَحَكَى صَاحِبُ الرِّعَايَةِ رِوَايَةً: لَا قَضَاءَ عَلَى مَنْ جَامَعَ يَعْتَقِدُهُ لَيْلًا فَبَانَ نَهَارًا وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ.

هـ- الْحَجُّ:

أَوَّلًا- الْخَطَأُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ:

42- إِذَا أَخْطَأَ النَّاسُ فَوَقَفُوا فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَجْزَأَ وَتَمَّ حَجُّهُمْ وَلَا قَضَاءَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَقَالُوا: إِنَّ وُقُوفَهُمْ صَحِيحٌ وَحَجَّتَهُمْ تَامَّةٌ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ.وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُمْ وَقَفُوا فِي غَيْرِ وَقْتِ الْوُقُوفِ فَلَا يَجُوزُ، كَمَا لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ وَقَفُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا أَخْطَأَ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ جَمَاعَةُ الْمَوْقِفِ لَا أَكْثَرُهُمْ فَوَقَفُوا بِعَاشِرٍ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ الْيَوْمُ التَّاسِعُ وَأَنَّ اللَّيْلَةَ عَقِبَهُ لَيْلَةُ الْعَاشِرِ بِأَنْ غُمَّ عَلَيْهِمْ لَيْلَةُ الثَّلَاثِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ فَأَكْمَلُوا الْعِدَّةَ فَإِذَا هُوَ الْعَاشِرُ، وَاللَّيْلَةُ عَقِبَهُ لَيْلَةُ الْحَادِيَ عَشَرَ فَيُجْزِئُهُمْ، وَعَلَيْهِمْ دَمٌ، وَاحْتُرِزَ عَنْ خَطَأِ بَعْضِهِمْ وَلَوْ أَكْثَرَهُمْ فَوَقَفَ الْعَاشِرَ ظَنًّا أَنَّهُ التَّاسِعُ مُخَالِفًا لِظَنِّ غَيْرِهِ فَلَا يُجْزِئُهُ.وَنَقَلَ اللَّخْمِيُّ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَدَمَ الْإِجْزَاءِ إِذَا وَقَفُوا فِي الْعَاشِرِ.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُمْ إِنْ غَلِطُوا بِيَوْمٍ وَاحِدٍ فَوَقَفُوا فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَجْزَأَهُمْ وَتَمَّ حَجُّهُمْ وَلَا قَضَاءَ، هَذَا إِذَا كَانَ الْحَجِيجُ عَلَى الْعَادَةِ، فَإِنْ قَلُّوا أَوْ جَاءَتْ طَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ فَظَنَّتْ أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَنَّ النَّاسَ قَدْ أَفَاضُوا فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ حَكَاهُمَا الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ، وَآخَرُونَ أَصَحُّهُمَا لَا يُجْزِئُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مُفْرِطُونَ؛ وَلِأَنَّهُ نَادِرٌ يُؤْمَنُ مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ، وَالثَّانِي يُجْزِئُهُمْ كَالْجَمْعِ الْكَثِيرِ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُجْزِئُ أَيْضًا.

وَاسْتَدَلُّوا جَمِيعًا بِحَدِيثِ: « يَوْمُ عَرَفَةَ الْيَوْمُ الَّذِي يُعْرَفُ النَّاسُ فِيهِ »، وَحَدِيثِ: « الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ ».

أَمَّا لَوْ وَقَفُوا فِي الثَّامِنِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ التَّاسِعُ فَإِنَّ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْأَصَحُّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُمْ.قَالُوا: وَالْفَرْقُ بَيْنَ عَدَمِ إِجْزَاءِ الْوُقُوفِ فِيهِ وَبَيْنَ إِجْزَائِهِ بِالْعَاشِرِ، أَنَّ الَّذِينَ وَقَفُوا فِيهِ فَعَلُوا مَا تَعَبَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ- عليه الصلاة والسلام-، لِأَمْرِهِ بِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ حَيْثُ حَصَلَ الْغَيْمُ دُونَ اجْتِهَادٍ بِخِلَافِهِ بِالثَّامِنِ فَإِنَّهُ اجْتِهَادُهُمْ، أَوْ شَهَادَةُ مَنْ شَهِدَ بِالْبَاطِلِ.

وَلِأَنَّهُ نَادِرٌ غَايَةَ النُّدْرَةِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ؛ وَلِأَنَّهُ خَطَأٌ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى دَلِيلٍ فَلَمْ يُعْذَرُوا فِيهِ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُمْ لِحَدِيثِ « يَوْمُ عَرَفَةَ الْيَوْمُ الَّذِي يُعْرَفُ النَّاسُ فِيهِ » قَالُوا: وَهُوَ نَصٌّ فِي الْإِجْزَاءِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَا خَطَأٌ وَصَوَابٌ لَاسْتُحِبَّ الْوُقُوفُ مَرَّتَيْنِ وَهُوَ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهُ السَّلَفُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا خَطَأَ.

وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ قَوْلٌ لِابْنِ الْقَاسِمِ بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ فِي الصُّورَتَيْنِ، قَالَ الْحَطَّابُ: يَعْنِي إِذَا أَخْطَأَ جَمَاعَةُ أَهْلِ الْمَوْسِمِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْحَجِّ، فَوَقَفُوا فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ، فَإِنَّ وُقُوفَهُمْ يُجْزِئُهُمْ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ فَقَطْ مِمَّا إِذَا أَخْطَئُوا وَوَقَفُوا فِي الثَّامِنِ، فَإِنَّ وُقُوفَهُمْ لَا يُجْزِئُهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنَ الْمَذْهَبِ وَقِيلَ: يُجْزِئُهُمْ فِي الصُّورَتَيْنِ وَقِيلَ: لَا يُجْزِئُ فِي الصُّورَتَيْنِ.

ثَانِيًا: خَطَأُ الْحَجِيجِ فِي الْمَوْقِفِ:

43- إِذَا أَخْطَأَ الْحَجِيجُ فِي الْمَوْقِفِ فَوَقَفُوا فِي غَيْرِ عَرَفَةَ فَيَلْزَمُ الْقَضَاءُ، سَوَاءٌ كَانُوا جَمْعًا كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي الْمَوْقِفِ يُؤْمَنُ مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ.

ثَالِثًا: الْخَطَأُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ:

44- لَوِ اجْتَهَدَ الْحَجِيجُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَحْرَمُوا ثُمَّ بَانَ الْخَطَأُ عَامًّا فَهَلْ يَنْعَقِدُ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْأَوَّلُ: يَصِحُّ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُ وَلَا يَنْعَقِدُ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (إِحْرَامٌ، حَجٌّ).

رَابِعًا: قَتْلُ صَيْدِ الْحَرَمِ خَطَأً:

45- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ أَوْ مِنَ الْمُحْرِمِينَ حَرَامٌ يَجِبُ فِيهِ الْجَزَاءُ، يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْعَمْدُ، وَالْخَطَأُ، وَالسَّهْوُ، وَالنِّسْيَانُ وَالْجَهْلُ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.وَيُنْظَرُ: (إِحْرَامٌ، حَرَمٌ).

خَامِسًا- الْخَطَأُ فِي مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ:

46- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ جَمِيعَهَا يَسْتَوِي فِيهَا الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ كَقَتْلِ الصَّيْدِ.

وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بَيْنَ مَا كَانَ إِتْلَافًا كَحَلْقِ الشَّعْرِ وَقَتْلِ الصَّيْدِ، وَبَيْنَ مَا كَانَ تَمَتُّعًا كَلُبْسٍ وَتَطَيُّبٍ.وَفِي الْوَطْءِ خِلَافٌ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي: (إِحْرَامٌ، حَجٌّ).

- و- الْأَضَاحِيُّ:

الْخَطَأُ فِي ذَبْحِ الْأُضْحِيَّةِ:

47- إِذَا غَلِطَ رَجُلَانِ فَذَبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُضْحِيَّةَ الْآخَرِ أَجْزَأَ عَنْهُمَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ مَنْ ذَبَحَ أُضْحِيَّةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا.وَلَا يُجْزِئُهُ عَنِ الْأُضْحِيَّةِ فِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ.وَفِي الِاسْتِحْسَانِ، يَجُوزُ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الذَّابِحِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهَا تَعَيَّنَتْ لِلذَّبْحِ لِتَعَيُّنِهَا لِلْأُضْحِيَّةِ، حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا بِعَيْنِهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُبَدِّلَ بِهَا غَيْرَهَا، فَصَارَ الْمَالِكُ مُسْتَعِينًا بِكُلِّ مَنْ يَكُونُ أَهْلًا لِلذَّبْحِ آذِنًا لَهُ دَلَالَةً؛ لِأَنَّهَا تَفُوتُ بِمُضِيِّ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَعَسَاهُ يَعْجِزُ عَنْ إِقَامَتِهَا بِعَوَارِضَ، فَصَارَ كَمَا إِذَا ذَبَحَ شَاةً شَدَّ الْقَصَّابُ رِجْلَهَا.وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَيَضْمَنُ، كَمَا إِذَا ذَبَحَ شَاةً اشْتَرَاهَا الْقَصَّابُ.

وَذَكَرَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا تُجْزِئُ وَلَا ضَمَانَ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ ضَمَانُهَا.

وَنَقَلَ الْأَثْرَمُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُمَا يَتَرَادَّانِ اللَّحْمَ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا وَيُجْزِئُ، وَلَوْ فَرَّقَ كُلٌّ مِنْهُمَا لَحْمَ مَا ذَبَحَهُ أَجْزَأَ لِإِذْنِ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَا نَقَلُوهُ عَنْ مَالِكٍ إِلَى عَدَمِ الْإِجْزَاءِ، وَيَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ الْقِيمَةَ، فَإِذَا غَرِمَ الْقِيمَةَ وَلَمْ يَأْخُذْهَا مَذْبُوحَةً فَالْأَصَحُّ فِي Cقَوْلِ أَشْهَبَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمَوَّازِ أَنَّهَا تُجْزِئُ أُضْحِيَّةً لِذَابِحِهَا.

وَرَوَى عِيسَى عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ ذَبَحَ كُلٌّ مِنْ رَجُلَيْنِ أُضْحِيَّةَ الْآخَرِ ضَمِنَ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ أَيْ قِيمَتَهَا حَيَّةً وَقِيمَتَهَا مَذْبُوحَةً؛ لِأَنَّ إِرَاقَةَ الدَّمِ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ وَقَدْ فَوَّتَهَا، وَأَجْزَأَ كُلٌّ مِنْهَا عَنِ الْأُضْحِيَّةِ لَكِنْ بِقَيْدِ كَوْنِهَا وَاجِبَةً بِنَذْرٍ فَيُفَرِّقُهَا صَاحِبُهَا؛ لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةُ الصَّرْفِ لِجِهَةِ التَّضْحِيَةِ؛ وَلِأَنَّ ذَبْحَهَا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، أَمَّا الْمُتَطَوَّعُ بِهَا وَالْوَاجِبَةُ بِالْجُعْلِ فَلَا يُجْزِئُ ذَبْحُهَا عَنِ الْأَصْلِيَّةِ لِافْتِقَارِهِ إِلَى نِيَّةٍ.

ز- الْبُيُوعُ:

أَوَّلًا- بَيْعُ الْمُخْطِئِ:

48- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: بَيْعُ الْمُخْطِئِ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا، وَصُورَتُهُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ- بِعْتُ هَذَا مِنْكَ بِأَلْفٍ، وَقَبِلَ الْآخَرُ- وَصَدَّقَهُ فِي أَنَّ الْبَيْعَ خَطَأٌ.أَمَّا وَجْهُ انْعِقَادِهِ فَلِاخْتِيَارِهِ فِي الْأَصْلِ، وَوَجْهُ فَسَادِهِ لِعَدَمِ الرِّضَا كَبَيْعِ الْمُكْرَهِ، فَيَمْلِكُ الْبَدَلَ بِالْقَبْضِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ؛ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي أَسْبَابِ انْتِقَالِ الْمِلْكِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا الْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ وَالْقَصْدُ، فَمَنْ بَاعَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ أَوْ هَذَا التَّصَرُّفَ يُوجِبُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ لَا يَلْزَمُهُ بَيْعٌ وَلَا نَحْوُهُ.

ثَانِيًا- الْغَلَطُ فِي الْمَبِيعِ:

49- إِذَا وَقَعَ الْغَلَطُ فِي جِنْسِ الْمَبِيعِ بِأَنِ اعْتَقَدَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسٍ مُعَيَّنٍ فَإِذَا بِهِ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ، مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ يَاقُوتًا أَوْ مَاسًا فَإِذَا هُوَ زُجَاجٌ، أَوْ يَبِيعُ حِنْطَةً فَإِذَا هِيَ شَعِيرٌ.

وَكَذَا إِذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ وَلَكِنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَمَا أَرَادَهُ الْعَاقِدُ كَانَ تَفَاوُتًا فَاحِشًا فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ عَدَا الْكَرْخِيِّ قَالُوا: إِنَّ الْغَلَطَ يَكُونُ مَانِعًا يَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ، فَيَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا لِأَنَّ الْبَيْعَ مَعْدُومٌ، وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: هُوَ فَاسِدٌ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا وَقَعَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِي الْغَلَطِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لِلْعَاقِدِ الْآخَرِ فَلَمْ يَعْلَمْ بِهَذَا الْغَلَطِ فَلَا يُعْتَدُّ بِالْغَلَطِ.جَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيلِ: سُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ بَاعَ مُصَلًّى فَقَالَ Cالْمُشْتَرِي: أَتَدْرِي مَا هَذَا الْمُصَلَّى؟ هِيَ وَاللَّهِ خَزٌّ فَقَالَ الْبَائِعُ: مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ خَزٌّ وَلَوْ عَلِمْتُهُ مَا بِعْتُهُ بِهَذَا الثَّمَنِ، قَالَ مَالِكٌ: هُوَ لِلْمُشْتَرِي وَلَا شَيْءَ لِلْبَائِعِ.

وَكَذَا مَنْ بَاعَ حَجَرًا بِثَمَنٍ يَسِيرٍ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ يَاقُوتَةٌ أَوْ زَبَرْجَدَةٌ تَبْلُغُ مَالًا كَثِيرًا.أَمَّا إِذَا سَمَّى أَحَدُهُمَا الشَّيْءَ بِغَيْرِ اسْمِهِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ أَبِيعُكَ هَذِهِ الْيَاقُوتَةَ فَيَجِدُهَا غَيْرَ يَاقُوتَةٍ، أَوْ يَقُولُ الْمُشْتَرِي: بِعْ مِنِّي هَذِهِ الزُّجَاجَةَ ثُمَّ يَعْلَمُ الْبَائِعُ أَنَّهَا يَاقُوتَةٌ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ هَذَا الشِّرَاءَ لَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ، وَالْبَيْعُ لَا يَلْزَمُ الْبَائِعَ.

وَكَذَلِكَ إِذَا سَمَّى الْعَاقِدُ الشَّيْءَ بِاسْمٍ يَصْلُحُ لَهُ كَقَوْلِ الْبَائِعِ: أَبِيعُكَ هَذَا الْحَجَرَ فَإِذَا هُوَ يَاقُوتَةٌ فَيَلْزَمُ الْبَائِعَ الْبَيْعُ، وَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا يَاقُوتَةٌ، وَأَمَّا إِذَا سَمَّى أَحَدُهُمَا الشَّيْءَ بِغَيْرِ اسْمِهِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ: أَبِيعُكَ هَذِهِ الْيَاقُوتَةَ فَيَجِدُهَا غَيْرَ يَاقُوتَةٍ، أَوْ يَقُولُ الْمُشْتَرِي: بِعْ مِنِّي هَذِهِ الزُّجَاجَةَ ثُمَّ يَعْلَمُ الْبَائِعُ أَنَّهَا يَاقُوتَةٌ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ، وَالْبَيْعُ لَا يَلْزَمُ الْبَائِعَ.

وَإِذَا أَبْهَمَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي التَّسْمِيَةِ وَلَمْ يُصَرِّحْ، فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: إِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الرَّدَّ كَالتَّصْرِيحِ. وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالصِّحَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْبُطْلَانِ.

قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: لَوِ اشْتَرَى زُجَاجَةً يَظُنُّهَا جَوْهَرَةً فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ إِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِلَفْظِ الْجَوْهَرَةِ وَإِلاَّ فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ، وَحَكَى عَنْ شَيْخِهِ صِحَّةَ الْعَقْدِ وَثُبُوتَ الْخِيَارِ قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ قَالَ: الْبَائِعُ بِعْتُكَ هَذَا الْبَغْلَ بِكَذَا، فَقَالَ اشْتَرَيْتُهُ، فَبَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فَرَسًا أَوْ حِمَارًا لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ، وَمِثْلُهُ بِعْتُكَ هَذَا الْجَمَلَ فَبَانَ نَاقَةً وَنَحْوَهُ، فَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ لِلْجَهْلِ بِالْمَبِيعِ.

ثَالِثًا- الْجِنَايَةُ عَلَى الْمَبِيعِ خَطَأً:

50- الْجِنَايَةُ خَطَأً عَلَى الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، قَدْ تَكُونُ مِنَ الْبَائِعِ، أَوِ الْمُشْتَرِي، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَفِي لُزُومِ الْبَيْعِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ وَسُقُوطِ الْخِيَارِ، وَفِي الضَّمَانِ، خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (خِيَارٌ، ضَمَانٌ).

ح- الْإِجَارَةُ:

أَوَّلًا: خَطَأُ النَّقَّادِ وَالْقَبَّانِ وَنَحْوِهِمَا:

51- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ النَّقَّادَ إِنْ أَخْطَأَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ أَخْطَأَ Cفِي اجْتِهَادِهِ، وَلَا أُجْرَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ مَا أُمِرَ بِهِ.

وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ عَدَمَ الضَّمَانِ بِكَوْنِ النَّقَّادِ حَاذِقًا أَمِينًا وَإِلاَّ ضَمِنَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَخْطَأَ الْقَبَّانِيُّ فِي الْوَزْنِ ضَمِنَ، كَمَا لَوْ غَلِطَ فِي النَّقْشِ الَّذِي عَلَى الْقَبَّانِ.

ثَانِيًا: خَطَأُ الْأُجَرَاءِ وَالصُّنَّاعِ:

52- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَفَرِيقٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْأَجِيرَ الْخَاصَّ لَا يَضْمَنُ مَا هَلَكَ فِي يَدِهِ بِلَا صُنْعِهِ، أَوْ هَلَكَ مِنْ عَمَلِهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ إِذَا لَمْ يَتَعَمَّدِ الْفَسَادَ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْأَجِيرَ الْخَاصَّ كَالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فِي الضَّمَانِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ: وَالْأُجَرَاءُ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ.وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ إِذَا تَلِفَ عِنْدَهُ الْمَتَاعُ بِتَعَدٍّ، أَوْ تَفْرِيطٍ جَسِيمٍ يَضْمَنُ.أَمَّا إِذَا تَلِفَ بِغَيْرِ هَذَيْنِ، فَفِيهِ تَفْصِيلٌ فِي الْمَذَاهِبِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَارَةٌ).

ثَالِثًا- خَطَأُ الْكَاتِبِ:

53- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: فِيمَنْ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ وَرَقًا لِيَكْتُبَ لَهُ مُصْحَفًا وَيَنْقُطُهُ، وَيَعْجُمُهُ، وَيَعْشِرُهُ بِكَذَا مِنَ الْأُجْرَةِ فَأَخْطَأَ فِي بَعْضِ النُّقَطِ وَالْعَوَاشِرِ.قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي كُلِّ وَرَقَةٍ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سَمَّى، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ عَلَيْهِ وَاسْتَرَدَّ مِنْهُ مَا أَعْطَاهُ، أَيْ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْوَرَقِ، وَإِنْ وَافَقَهُ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ أَعْطَاهُ حِصَّةَ مَا وَافَقَ مِنَ الْمُسَمَّى وَبِمَا خَالَفَ أَعْطَاهُ أَجْرَ الْمِثْلِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: بِصِحَّةِ الِاسْتِئْجَارِ لِلنِّسَاخَةِ وَيُبَيِّنُ كَيْفِيَّةَ الْخَطِّ، وَرِقَّتَهُ، وَغِلَظَهُ، وَعَدَدَ الْأَوْرَاقِ وَسُطُورَ كُلِّ صَفْحَةٍ كَذَا، وَقَدْرَ الْقَطْعِ إِنْ قَدَرْنَا بِالْمَحَلِّ.وَإِذَا غَلِطَ النَّاسِخُ غَلَطًا فَاحِشًا فَعَلَيْهِ أَرْشُ الْوَرَقِ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ، وَإِلاَّ فَلَهُ الْأُجْرَةُ وَلَا أَرْشَ عَلَيْهِ وَيَلْزَمُهُ الْإِصْلَاحُ.

رَابِعًا: خَطَأُ الطَّبِيبِ وَالْخَاتِنِ وَنَحْوِهِمَا:

54- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الطَّبِيبِ وَالْخَاتِنِ وَالْحَجَّامِ إِذَا فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ بِشَرْطَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا ذَوِي حِذْقٍ فِي صِنَاعَتِهِمْ وَلَهُمْ بِهَا بِصَارَةٌ وَمَعْرِفَةٌ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ مُبَاشَرَةُ الْقَطْعِ، وَإِذَا قُطِعَ مَعَ هَذَا كَانَ فِعْلًا مُحَرَّمًا فَيَضْمَنُ سِرَايَتَهُ كَالْقَطْعِ ابْتِدَاءً.

الثَّانِي: أَنْ لَا تَجْنِيَ أَيْدِيهِمْ فَيَتَجَاوَزُوا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ.

فَإِذَا وُجِدَ هَذَانِ الشَّرْطَانِ لَمْ يَضْمَنُوا، لِأَنَّهُمْ قَطَعُوا قَطْعًا مَأْذُونًا فِيهِ فَلَمْ يَضْمَنُوا سِرَايَتَهُ، كَقَطْعِ الْإِمَامِ يَدَ السَّارِقِ، أَوْ فَعَلُوا فِعْلًا مُبَاحًا مَأْذُونًا فِي فِعْلِهِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ حَاذِقًا وَخَبَتْ يَدُهُ مِثْلُ أَنْ يَتَجَاوَزَ قَطْعُ الْخِتَانِ إِلَى الْحَشَفَةِ، أَوْ إِلَى بَعْضِهَا، أَوْ قَطَعَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْقَطْعِ، أَوْ يَقْطَعُ السِّلْعَةَ مِنْ إِنْسَانٍ فَيَتَجَاوَزُهَا، أَوْ يَقْطَعُ بِآلَةٍ كَآلَةٍ يَكْثُرُ أَلَمُهَا، أَوْ فِي وَقْتٍ لَا يَصْلُحُ الْقَطْعُ فِيهِ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ ضَمِنَ فِيهِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ لَا يَخْتَلِفُ ضَمَانُهُ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فَأَشْبَهَ إِتْلَافَ الْمَالِ. ط- الْخَطَأُ فِي وَصْفِ اللُّقَطَةِ:

55- إِذَا ادَّعَى شَخْصٌ مِلْكِيَّةَ لُقَطَةٍ فَإِنَّ الْمُلْتَقِطَ لَا يُسَلِّمُهَا إِلَيْهِ إِلاَّ إِذَا وَصَفَهَا وَصْفًا يُشْعِرُ بِأَنَّهَا لَهُ.وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا أَخْطَأَ مُدَّعِي مِلْكِيَّةِ اللُّقَطَةِ فِي وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِهَا.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْإِصَابَةَ فِي بَعْضِ عَلَامَاتِ اللُّقَطَةِ لَا تَكْفِي لِدَفْعِهَا إِلَيْهِ، وَإِنَّ الْإِصَابَةَ فِي الْعَلَامَاتِ كُلِّهَا شَرْطٌ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا وَصَفَ وَاحِدًا مِنَ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ وَوَقَعَ الْجَهْلُ فِي الْآخَرِ أَوِ الْغَلَطُ فَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ:

قِيلَ: لَا شَيْءَ لَهُ فِيهِمَا، وَقِيلَ: يَسْتَأْنِي فِيهِمَا، وَقِيلَ: يُعْطَى بَعْدَ الِاسْتِينَاءِ مَعَ الْجَهْلِ وَلَا شَيْءَ لَهُ مَعَ الْغَلَطِ.

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ، وَقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْغَلَطِ تَصَوُّرُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ لَا الْمُتَعَلِّقُ بِاللِّسَانِ.

وَقَالَ الْخَرَشِيُّ: إِذَا غَلِطَ فَإِنْ قَالَ: الْوِكَاءُ مَثَلًا كَذَا، فَإِذَا هُوَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي وَلَا تُدْفَعُ لَهُ.

وَإِذَا وَصَفَ الْعِفَاصَ وَالْوِكَاءَ أَوْ أَحَدَهُمَا وَأَصَابَ فِي ذَلِكَ وَأَخْطَأَ فِي صِفَةِ الدَّنَانِيرِ، بِأَنْ قَالَ مُحَمَّدِيَّةٌ فَإِذَا هِيَ يَزِيدِيَّةٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ بِلَا خِلَافٍ.

وَقَالُوا: إِذَا عَرَّفَ الْعِفَاصَ وَالْوِكَاءَ وَغَلِطَ فِي قَدْرِ الدَّرَاهِمِ بِزِيَادَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ بِأَنْ قَالَ: هِيَ عَشَرَةٌ فَإِذَا هِيَ خَمْسَةٌ، أَمَّا غَلَطُهُ بِالنَّقْصِ بِأَنْ قَالَ: هِيَ عِشْرُونَ فَإِذَا هِيَ ثَلَاثُونَ فَفِيهِ قَوْلَانِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (لُقَطَةٌ).

ي- الْغَلَطُ فِي الشُّفْعَةِ:

56- مِنْ صُوَرِ الْخَطَأِ أَوِ الْغَلَطِ فِي الشُّفْعَةِ أَنْ يَغْلَطَ الشَّفِيعُ فِي شَخْصِ الْمُشْتَرِي، أَوْ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَرْكَانِ كَالْغَلَطِ فِي الثَّمَنِ.وَفِيمَا يَأْتِي بَيَانُ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ بِمِائَةٍ فَعَفَا الشَّفِيعُ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ اشْتَرَى بِخَمْسِينَ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّهُ عَفَا عَنِ الشُّفْعَةِ لِقَدْرٍ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَرْضَاهُ بِمِائَةٍ أَوْ لَيْسَ مَعَهُ مِائَةٌ.

وَإِنْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ نِصْفَهُ بِمِائَةٍ فَعَفَا ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ قَدِ اشْتَرَى جَمِيعَهُ بِمِائَةٍ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِتَرْكِ الْجَمِيعِ.

وَإِنْ قَالَ إِنَّهُ اشْتَرَى بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ فَعَفَا ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ قَدِ اشْتَرَاهُ بِالنَّقْدِ الْآخَرِ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَفَا لِإِعْوَازِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ عِنْدَهُ، أَوْ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ.

وَإِنْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ الشِّقْصَ فَعَفَا، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ وَكِيلًا فِيهِ وَإِنَّمَا الْمُشْتَرِي غَيْرُهُ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْضَى مُشَارَكَةَ الْوَكِيلِ وَلَا يَرْضَى مُشَارَكَةَ الْمُوَكِّلِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أَخْبَرَ الشَّفِيعُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ فُلَانٌ فَقَالَ: قَدْ سَلَّمْتُ لَهُ، فَإِذَا الْمُشْتَرِي غَيْرُهُ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْمُجَاوَرَةِ، فَرِضَاهُ بِمُجَاوَرَةِ إِنْسَانٍ لَا يَكُونُ رِضًا مِنْهُ بِمُجَاوَرَةِ غَيْرِهِ، وَهَذَا التَّقْيِيدُ مِنْهُ مُفِيدٌ، كَأَنَّهُ قَالَ إِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي فُلَانًا فَقَدْ سَلَّمْتُ الشُّفْعَةَ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ غَيْرُهُ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ.وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ فُلَانٌ وَآخَرُ مَعَهُ، صَحَّ تَسْلِيمُهُ فِي نَصِيبِ فُلَانٍ وَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِمُجَاوَرَةِ أَحَدِهِمَا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ رِضًا بِمُجَاوَرَةِ الْآخَرِ.وَلَوْ أَخْبَرَ أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ فَتَسْلِيمُهُ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَسْقَطَ حَقَّهُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ بَنَى تَسْلِيمَهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَالْخِطَابُ السَّابِقُ كَالْمُعَادِ فِيمَا بَنَى عَلَيْهِ مِنَ الْجَوَابِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ سَلَّمْتُ إِنْ كَانَ الثَّمَنُ Cأَلْفًا، وَإِنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى هَذَا التَّسْلِيمِ لِغَلَاءِ الثَّمَنِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَحْصِيلِ الْأَلْفِ وَلَا يَزُولُ هَذَا الْمَعْنَى إِذَا كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ مِنَ الْأَلْفِ بَلْ يَزْدَادُ.فَأَمَّا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ أَقَلَّ مِنَ الْأَلْفِ فَقَدِ انْعَدَمَ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ لِأَجْلِهِ رَضِيَ بِالتَّسْلِيمِ فَيَكُونُ عَلَى حَقِّهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ شِرَاءٌ، وَقَدْ يَرْغَبُ الْمَرْءُ فِي شِرَاءِ شَيْءٍ عِنْدَ قِلَّةِ الثَّمَنِ وَلَا يَرْغَبُ فِيهِ عِنْدَ كَثْرَةِ الثَّمَنِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الشَّفِيعُ إِذَا عَلِمَ بِالْبَيْعِ فَلَمَّا أُخْبِرَ بِالثَّمَنِ أَسْقَطَ شُفْعَتَهُ لِكَثْرَتِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الثَّمَنَ أَقَلُّ مِمَّا أُخْبِرَ بِهِ فَلَهُ شُفْعَتُهُ وَلَوْ طَالَ الزَّمَانُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَيَحْلِفُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَسْقَطَ لِأَجْلِ الْكَذِبِ فِي الثَّمَنِ.

وَكَذَلِكَ لَا تَسْقُطُ شُفْعَتُهُ إِذَا أَسْقَطَهَا لِأَجْلِ الْكَذِبِ فِي الشِّقْصِ الْمُشْتَرَى، بِأَنْ قِيلَ لَهُ فُلَانٌ اشْتَرَى نِصْفَ نَصِيبِ شَرِيكِكَ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ اشْتَرَى جَمِيعَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَلَهُ الْقِيَامُ بِالشُّفْعَةِ حِينَئِذٍ، لِأَنَّهُ يَقُولُ لَمْ يَكُنْ لِي غَرَضٌ فِي أَخْذِ النِّصْفِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ بَعْدُ قَائِمَةٌ، فَلَمَّا عَلِمْتُ أَنَّهُ ابْتَاعَ الْكُلَّ أَخَذْتُ لِارْتِفَاعِ الشَّرِكَةِ وَزَوَالِ الضَّرَرِ، أَوْ لِأَجْلِ الْكَذِبِ فِي الْمُشْتَرِي- بِكَسْرِ الرَّاءِ- قِيلَ لَهُ فُلَانٌ اشْتَرَى نَصِيبَ شَرِيكِكَ فَأَسْقَطَ لِذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ غَيْرُ الَّذِي سُمِّيَ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ شُفْعَتَهُ كَائِنًا مَا كَانَ الشَّخْصُ.

وَكَذَلِكَ لَا تَسْقُطُ شُفْعَتُهُ إِذَا قِيلَ لَهُ إِنَّ فُلَانًا اشْتَرَى حِصَّةَ شَرِيكِكَ فِي الشِّقْصِ فَرَضِيَ بِهِ وَسَلَّمَ شُفْعَتَهُ لِأَجْلِ حُسْنِ سِيرَةِ هَذَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الشِّقْصَ اشْتَرَاهُ هُوَ وَشَخْصٌ آخَرُ فَلَهُ الْقِيَامُ بِشُفْعَتِهِ، لِأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّمَا رَضِيتُ بِشَرِكَةِ فُلَانٍ وَحْدَهُ لَا بِشَرِكَتِهِ مَعَ غَيْرِهِ.

ك- النِّكَاحُ:

أَوَّلًا- الْخَطَأُ فِي الصِّيغَةِ:

57- يَرَى فَرِيقٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ بِأَلْفَاظٍ مُصَحَّفَةٍ، وَالتَّصْحِيفُ أَنْ يَقْرَأَ الشَّيْءَ عَلَى خِلَافِ مَا أَرَادَهُ كَاتِبُهُ، أَوْ عَلَى غَيْرِ مَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ، كَتَجَوَّزْتُ بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ عَلَى الزَّاي؛ لِأَنَّهُ صَادِرٌ لَا عَنْ قَصْدٍ صَحِيحٍ، بَلْ عَنْ تَحْرِيفٍ وَتَصْحِيفٍ فَلَا يَكُونُ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا لِعَدَمِ الْعَلَاقَةِ، بَلْ غَلَطًا فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ أَصْلًا بِخِلَافِ مَا لَوِ اتَّفَقَ قَوْمٌ عَلَى النُّطْقِ بِهَذِهِ الْغَلْطَةِ وَصَدَرَتْ عَنْ قَصْدٍ صَحَّ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَضْعٌ جَدِيدٌ وَبِهِ أَفْتَى أَبُو السُّعُودِ.

وَالرَّأْيُ الْآخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَرَأْيِ تَقِيِّ الدِّينِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: الْعَقْدُ بِلَفْظِ Cجَوَّزْتُ وَزَوَّزْتُ إِذَا نَطَقَ بِهِ الْعَامِّيُّ قَاصِدًا بِهِ مَعْنَى النِّكَاحِ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ لَفْظَ جَوَّزْتُ وَزَوَّزْتُ لَا يَفْهَمُ مِنْهُ الْعَاقِدَانِ وَالشُّهُودُ إِلاَّ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّزْوِيجِ وَلَا يُقْصَدُ مِنْهُ إِلاَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِحَسَبِ الْعُرْفِ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ يُحْمَلُ كَلَامُ كُلِّ عَاقِدٍ وَحَالِفٍ وَوَاقِفٍ عَلَى عَرَفَةَ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْخَطَأُ فِي الصِّيغَةِ إِذَا لَمْ يُخِلَّ بِالْمَعْنَى يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَالْخَطَأِ فِي الْإِعْرَابِ وَالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (نِكَاحٌ).

ثَانِيًا- الْغَلَطُ فِي اسْمِ الزَّوْجَةِ:

58- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْغَلَطُ فِي اسْمِ الزَّوْجَةِ يَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِ النِّكَاحِ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ حَاضِرَةً فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ وَأَشَارَ إِلَيْهَا، فَلَا يَضُرُّ؛ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْإِشَارَةِ الْحِسِّيَّةِ أَقْوَى مِنَ التَّسْمِيَةِ، لِمَا فِي التَّسْمِيَةِ مِنَ الِاشْتِرَاكِ لِعَارِضٍ فَتَلْغُو التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْإِشَارَةِ، كَمَا لَوْ قَالَ: اقْتَدَيْتُ بِزَيْدٍ هَذَا فَإِذَا هُوَ عَمْرٌو فَإِنَّهُ يَصِحُّ.وَلَوْ كَانَ لَهُ بِنْتَانِ وَأَرَادَ تَزْوِيجَ الْكُبْرَى فَغَلِطَ فَسَمَّاهَا بِاسْمِ الصُّغْرَى صَحَّ لِلصُّغْرَى بِأَنْ كَانَ اسْمُ الْكُبْرَى عَائِشَةَ وَالصُّغْرَى فَاطِمَةَ، فَقَالَ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي فَاطِمَةَ وَهُوَ يُرِيدُ عَائِشَةَ فَقَبِلَ، انْعَقَدَ عَلَى فَاطِمَةَ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَصِفْهَا بِالْكُبْرَى، فَلَوْ قَالَ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي الْكُبْرَى فَاطِمَةَ قَالُوا: يَجِبُ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ الْعَقْدُ عَلَى إِحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ابْنَةٌ كُبْرَى بِهَذَا الِاسْمِ، وَلَا تَنْفَعُ النِّيَّةُ هُنَا وَلَا مَعْرِفَةُ الشُّهُودِ بَعْدَ صَرْفِ اللَّفْظِ عَنِ الْمُرَادِ.

وَقَالَ شَمْسُ الدِّينِ الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ قَالَ أَبُو بَنَاتٍ: زَوَّجْتُكَ إِحْدَاهُنَّ أَوْ بِنْتِي أَوْ فَاطِمَةَ وَنَوَيَا مُعَيَّنَةً وَلَوْ غَيْرَ الْمُسَمَّاةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ، قَالَ الشَّبْرَامَلِّسِيُّ: لَوْ زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ اخْتَلَفَتُ الزَّوْجَةُ مَعَ الزَّوْجِ فَقَالَتْ: لَسْتُ الْمُسَمَّاةَ فِي الْعَقْدِ، وَقَالَ الشُّهُودُ: بَلْ أَنْتِ الْمَقْصُودَةُ بِالتَّسْمِيَةِ، وَإِنَّمَا الْوَلِيُّ سَمَّى غَيْرَكَ فِي الْعَقْدِ غَلَطًا وَوَافَقَهُمَا الزَّوْجُ عَلَى ذَلِكَ، فَهَلِ الْعِبْرَةُ بِقَوْلِهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النِّكَاحِ، أَوِ الْعِبْرَةُ بِقَوْلِ الشُّهُودِ؟ فِيهِ نَظَرٌ وَالْأَقْرَبُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْغَلَطِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ سَمَّاهَا الْوَلِيُّ بِغَيْرِ اسْمِهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهَا صَحَّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ عَدَمَ التَّعْيِينِ إِنَّمَا جَاءَ مِنَ التَّعَدُّدِ وَلَا تَعَدُّدَ هُنَا، وَكَذَا لَوْ سَمَّاهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا وَأَشَارَ إِلَيْهَا، بِأَنْ قَالَ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي فَاطِمَةُ هَذِهِ، وَأَشَارَ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَى خَدِيجَةَ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ أَقْوَى، وَلَوْ سَمَّاهَا Cبِغَيْرِ اسْمِهَا وَلَمْ يَقُلْ بِنْتِي لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ.وَلَوْ كَانَ لَهُ بِنْتَانِ فَاطِمَةُ وَعَائِشَةُ فَقَالَ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَائِشَةُ فَقَبِلَ الزَّوْجُ، وَنَوَيَا فِي الْبَاطِنِ فَاطِمَةَ فَلَا يَصِحُّ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ تُذْكَرْ بِمَا تَتَعَيَّنُ بِهِ، فَإِنَّ اسْمَ أُخْتِهَا لَا يُمَيِّزُهَا بَلْ يَصْرِفُ الْعَقْدَ عَنْهَا، وَلِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَلَفَّظَا بِمَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ عَائِشَةُ فَقَطْ، أَوْ مَا لَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي وَلَمْ يُسَمِّهَا، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ فِيمَا إِذَا لَمْ يُسَمِّهَا فَفِي مَا سَمَّاهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا أَوْلَى.

ثَالِثًا- الْغَلَطُ فِي الزَّوْجَةِ:

59- إِذَا زُفَّتِ امْرَأَةٌ إِلَى غَيْرِ زَوْجِهَا وَلَمْ يَكُنْ رَآهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَوَطِئَهَا، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَاطِئِ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ.وَيَنْتَشِرُ التَّحْرِيمُ بِهَذَا الْوَطْءِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ وَطِئَهَا غَلَطًا وَهِيَ فِي عِدَّةِ غَيْرِهِ تَأَبَّدَ تَحْرِيمُهَا.

وَمِنْ صُوَرِ الْغَلَطِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ لَوْ عَقَدَ أَبٌ عَلَى امْرَأَةٍ وَابْنُهُ عَلَى ابْنَتِهَا وَزُفَّتْ كُلٌّ لِغَيْرِ زَوْجِهَا وَوَطِئَهَا غَلَطًا:

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: انْفَسَخَ النِّكَاحَانِ وَلَزِمَ كُلًّا لِمَوْطُوءَتِهِ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَعَلَى السَّابِقِ مِنْهُمَا بِالْوَطْءِ لِزَوْجَتِهِ نِصْفُ الْمُسَمَّى، وَفِيمَا يَلْزَمُ الثَّانِي مِنْهُمَا وُجُوهٌ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ: إِنَّ وَطْءَ الْأَوَّلِ يُوجِبُ عَلَيْهِ مَهْرَ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ وَطْءُ شُبْهَةٍ وَيُفْسَخُ نِكَاحُهَا مِنْ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِالْوَطْءِ حَلِيلَةَ ابْنِهِ أَوْ أَبِيهِ، وَيَسْقُطُ بِهِ مَهْرُ الْمَوْطُوءَةِ عَنْ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا بِتَمْكِينِهَا مِنْ وَطْئِهَا وَمُطَاوَعَتِهَا عَلَيْهِ، وَلَا شَيْءَ لِزَوْجِهَا عَلَى الْوَاطِئِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ يَرْجِعُ بِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ مُشَارِكَةٌ فِي إِفْسَادِ نِكَاحِهَا بِالْمُطَاوَعَةِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَى زَوْجِهَا شَيْءٌ لَوِ انْفَرَدَتْ بِهِ.

رَابِعًا- طَلَاقُ الْمُخْطِئِ:

60- مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ اسْقِينِي فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ أَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِعَدَمِ الْقَصْدِ وَلَا اعْتِبَارَ لِلْكَلَامِ بِدُونِ الْقَصْدِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ Cمُخْتَارًا لِحُكْمِهِ لِكَوْنِهِ مُخْتَارًا فِي التَّكَلُّمِ، وَلِأَنَّ الْغَفْلَةَ عَنْ مَعْنَى اللَّفْظِ أَمْرٌ خَفِيٌّ وَفِي الْوُقُوفِ عَلَى قَصْدِهِ حَرَجٌ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْمُرَادُ مِنَ الْقَصْدِ قَصْدُ النُّطْقِ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَيْهِ فِي الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ مَدْلُولَهُ وَهُوَ حَلُّ الْعِصْمَةِ.

وَقَالُوا إِنْ سَبَقَ لِسَانُهُ بِأَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِ الطَّلَاقِ، فَالْتَوَى لِسَانُهُ فَتَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ ثَبَتَ سَبْقُ لِسَانِهِ فِي الْفَتْوَى وَالْقَضَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْفَتْوَى وَيَلْزَمُهُ فِي الْقَضَاءِ.

ل- الْخَطَأُ فِي الْجِنَايَاتِ:

أَوَّلًا- الْقَتْلُ الْخَطَأُ:

61- الْوَاجِبُ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ وَالْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ، وَالْحِرْمَانُ مِنَ الْمِيرَاثِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.وَيُرْجَعُ فِي تَعْرِيفِ الْقَتْلِ الْخَطَأِ وَصُوَرِهِ وَأَنْوَاعِهِ وَأَحْكَامِهِ وَآرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ إِلَى مُصْطَلَحَاتِ (قَتْلٌ، دِيَةٌ، كَفَّارَةٌ، إِرْثٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


61-موسوعة الفقه الكويتية (خطر)

خَطَرٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْخَطَرُ بِفَتْحَتَيْنِ فِي اللُّغَةِ، الْإِشْرَافُ عَلَى الْهَلَاكِ وَخَوْفُ التَّلَفِ.وَيُقَالُ: هَذَا أَمْرٌ خَطَرٌ أَيْ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يُوجَدَ، وَأَنْ لَا يُوجَدَ، وَيُطْلَقُ عَلَى السَّبَقِ الَّذِي يُتَرَاهَنُ عَلَيْهِ.وَالْمُخَاطَرَةُ، الْمُرَاهَنَةُ، وَخَاطَرْتُهُ عَلَى مَالٍ رَاهَنْتَهُ عَلَيْهِ وَزْنًا وَمَعْنًى.وَخَطَرُ الرَّجُلِ: قَدْرُهُ، وَمَنْزِلَتُهُ، فَيُقَالُ: رَجُلٌ خَطِيرٌ أَيْ ذُو شَأْنٍ.وَالْخَاطِرُ: هُوَ اسْمٌ لِمَا يَتَحَرَّكُ فِي الْقَلْبِ مِنْ رَأْيٍ أَوْ مَعْنًى، يُقَالُ: خَطَرَ بِبَالِي كَذَا، أَيْ وَقَعَ فِيهِ.

وَلَا يَخْرُجُ الْخَطَرُ فِي الِاصْطِلَاحِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

2- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ تَعْرِيضَ النَّفْسِ لِخَطَرِ الْهَلَاكِ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ حِفْظَهَا مِنْ أَهَمِّ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.

قَالَ الْخَازِنُ: كُلُّ شَيْءٍ فِي عَاقِبَتِهِ هَلَاكٌ، فَهُوَ تَهْلُكَةٌ.وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}

وَعَنْ « عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- رضي الله عنه- قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلَكَ، فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا عَمْرُو، صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ الصُّبْحَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الِاغْتِسَالِ، وَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ».

وَيَتَعَلَّقُ بِالْخَطَرِ الرُّخَصُ الشَّرْعِيَّةُ، فَيُبَاحُ بِالْخَطَرِ أَكْلُ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَأَكْلُ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ وَالْخَبَائِثِ اضْطِرَارًا، وَإِسَاغَةُ الْغُصَّةِ بِالْخَمْرِ لِدَفْعِ الْخَطَرِ عَنِ النَّفْسِ، وَيَجِبُ قَطْعُ الْعُضْوِ الْمُتَآكِلِ إِذَا كَانَ فِي تَرْكِهِ خَطَرٌ عَلَى النَّفْسِ (ر: ضَرَرٌ، مَشَقَّةٌ).

الْخَطَرُ الْمُؤَثِّرُ فِي إِسْقَاطِ الْعِبَادَاتِ أَوْ تَخْفِيفِهَا:

3- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَشَقَّةَ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ عُمُومًا، وَأَنَّ الْمَشَقَّةَ إِذَا بَلَغَتْ حَدَّ الْخَطَرِ عَلَى النَّفْسِ وَالْأَطْرَافِ وَمَنَافِعُهَا تُوجِبُ التَّرْخِيصَ، وَالتَّخْفِيفَ.وَقَالُوا: إِنَّ حِفْظَ الْمُهَجِ وَالْأَطْرَافِ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِ الدِّينِ أَوْلَى مِنْ تَعْرِيضِهَا لِلْفَوَاتِ فِي عِبَادَةٍ أَوْ عِبَادَاتٍ، يَفُوتُ بِهَا أَمْثَالُهَا.

فَيَجِبُ التَّيَمُّمُ إِذَا كَانَ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي الْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ مِنَ الْجَنَابَةِ خَطَرٌ عَلَى نَفْسٍ، أَوْ عُضْوٍ أَوْ مَنْفَعَتِهِ، أَوْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ عَدُوٌّ، أَوْ سَبُعٌ؛ لِأَنَّ إِلْقَاءَ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ حَرَامٌ. (ر: تَيَمُّمٌ، مَرَضٌ).

وَيَسْقُطُ وُجُوبُ الْحَجِّ إِذَا كَانَ فِي السَّفَرِ خَطَرٌ عَلَى نَفْسٍ، أَوْ عُضْوٍ، أَوْ عِرْضٍ، أَوْ مَالٍ، كَمَا يَحْرُمُ رُكُوبُ الْبَحْرِ لِأَدَاءِ الْحَجِّ إِنْ غَلَبَ الْهَلَاكُ فِيهِ، أَوْ تَسَاوَى الْهَلَاكُ وَالسَّلَامَةُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَطَرِ (ر: حَجٌّ) وَيَسْقُطُ الصَّوْمُ عَنِ الْمُرْضِعِ وَالْحَامِلِ، وَالْمَرِيضِ، إِذَا كَانَ فِي الصَّوْمِ خَطَرٌ عَلَى الْمُرْضِعِ وَالْحَامِلِ، أَوْ عَلَى الرَّضِيعِ وَالْجَنِينِ، أَوْ خَافَ الْمَرِيضُ الْمَوْتَ، أَوْ زِيَادَةَ الْمَرَضِ (ر: صَوْمٌ).

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قوله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وَفِي تَعْرِيضِ النَّفْسِ وَالْأَعْضَاءِ لِلْخَطَرِ، حَرَجٌ أَيُّ حَرَجٍ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: فِي قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} قَالَ: إِذَا كَانَ بِالرَّجُلِ الْجِرَاحَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْقُرُوحُ، فَيَخَافُ أَنْ يَمُوتَ إِنِ اغْتَسَلَ تَيَمَّمَ.

وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: « خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ.فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ.فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؟ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ.إِنَّمَا يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَيَعْصِبَ » فَاعْتَبَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- ذَلِكَ قَتْلًا، وَاللَّهُ يَقُولُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}.

4- وَيُسْتَثْنَى مِنْ قَوَاعِدِ دَرْءِ الْخَطَرِ، الْجِهَادُ، فَيَجُوزُ الْمُخَاطَرَةُ بِالنَّفْسِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قُرِّرَ مَعَ الْمَشَقَّةِ.وَمَا الْجِهَادُ إِلاَّ بَذْلُ الْوُسْعِ، وَالطَّاقَةِ بِالْقِتَالِ أَوِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْقِتَالِ، لِهَذَا حَرُمَ انْهِزَامُ مِائَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مِائَتَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ فِي قوله تعالى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} وَجَاءَ فِي الْأَثَرِ « عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ رَجُلٍ غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَانْهَزَمَ- يَعْنِي أَصْحَابَهُ- فَعَلِمَ مَا عَلَيْهِ، فَرَجَعَ حَتَّى أُهْرِيقَ دَمُهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَلَائِكَتِهِ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي رَجَعَ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي، وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي، حَتَّى أُهْرِيقَ دَمُهُ ». (ر: جِهَادٌ).وَيُسْتَثْنَى أَيْضًا دَفْعُ الصَّائِلِ عَلَى النَّفْسِ أَوِ الْمَالِ أَوِ الْعِرْضِ (ر: صِيَالٌ).

التَّعَرُّضُ لِلْخَطَرِ بِإِزَالَةِ غُدَّةٍ، أَوْ عُضْوٍ مُتَآكِلٍ:

5- يَحْرُمُ عَلَى الشَّخْصِ قَطْعُ غُدَّةٍ أَوْ عُضْوٍ مُتَآكِلٍ، إِذَا كَانَ فِي الْقَطْعِ خَطَرٌ عَلَى النَّفْسِ، وَلَيْسَ فِي بَقَائِهِمَا خَطَرٌ أَوْ زَادَ خَطَرُ الْقَطْعِ، وَإِنْ كَانَتْ تَشِينُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى هَلَاكِ نَفْسِهِ.أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي إِزَالَتِهَا خَطَرٌ فَلَهُ إِزَالَتُهَا، لِإِزَالَةِ الشَّيْنِ.وَإِنْ تَسَاوَى الْخَطَرَانِ، أَوْ زَادَ خَطَرُ التَّرْكِ فَلَهُ قَطْعُهَا

وَإِنْ قَطَعَهُمَا أَجْنَبِيٌّ بِلَا إِذْنٍ، فَمَاتَ الْمَقْطُوعُ مِنْهُ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَكَذَا السُّلْطَانُ لِتَعَدِّي كُلٍّ مِنْهُمَا بِذَلِكَ.

وَلِلْأَبِ وَالْجَدِّ قَطْعُ الْغُدَّةِ وَالْعُضْوِ الْمُتَآكِلِ، مِنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ مَعَ الْخَطَرِ فِي الْقَطْعِ إِنْ زَادَ خَطَرُ التَّرْكِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا يَلِيَانِ صَوْنَ مَالِهِمَا عَنِ الضَّيَاعِ فَبَدَنُهُمَا أَوْلَى.

فَإِنْ تَسَاوَى الْخَطَرُ وَالسَّلَامَةُ، أَوْ زَادَ خَطَرُ الْقَطْعِ، ضَمِنَا لِعَدَمِ جَوَازِ الْقَطْعِ.

ر: (ضَمَانٌ، وَإِتْلَافٌ).

عُقُودُ الْمُخَاطَرَةِ:

6- عُقُودُ الْمُخَاطَرَةِ هِيَ مَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَحُصُولِ الرِّبْحِ أَوْ عَدَمِهِ عَنْ طَرِيقِ ظُهُورِ رَقْمٍ مُعَيَّنٍ مَثَلًا، كَالرِّهَانِ وَالْقِمَارِ.وَنَحْوُهُمَا السَّبْقُ لَكِنَّهُ مَشْرُوعٌ بِشُرُوطٍ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


62-موسوعة الفقه الكويتية (خلع 2)

خَلْعٌ -2

ب- مَرَضُ الزَّوْجِ:

19- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ خُلْعَ الزَّوْجِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ جَائِزٌ وَنَافِذٌ بِالْمُسَمَّى، سَوَاءٌ أَكَانَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَمْ أَقَلَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَصَحَّ، فَلأَنْ يَصِحَّ بِعِوَضٍ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْوَرَثَةَ لَا يَفُوتُهُمْ بِخَلْعِهِ شَيْءٌ، وَمِثْلُ الْمَرِيضِ فِي هَذَا الْحُكْمِ مَنْ حَضَرَ صَفَّ الْقِتَالِ، وَالْمَحْبُوسُ لِقَتْلٍ أَوْ قَطْعٍ كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ، وَذَكَرُوا أَيْضًا أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِخْرَاجِ وَارِثٍ وَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ أَمَاتَ فِي الْعِدَّةِ أَمْ بَعْدَهَا خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ زَوْجَتَهُ الْمُطَلَّقَةَ فِي الْمَرَضِ تَرِثُهُ إِنْ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ الْمَخُوفِ الَّذِي خَالَعَهَا فِيهِ، وَلَوْ خَرَجَتْ مِنَ الْعِدَّةِ وَتَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ وَلَوْ أَزْوَاجًا، أَمَّا هُوَ فَلَا يَرِثُهَا إِنْ مَاتَتْ فِي مَرَضِهِ الْمَخُوفِ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ وَلَوْ كَانَتْ هِيَ مَرِيضَةً أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ الَّذِي أَسْقَطَ مَا كَانَ بِيَدِهِ، وَتَرِثُهُ أَيْضًا إِذَا تَبَرَّعَ أَجْنَبِيٌّ بِخُلْعِهَا مِنْهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ مِنْهُ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَرْضَ بِهَذَا الطَّلَاقِ فَيُعْتَبَرَ الزَّوْجُ فَارًّا، فَلَوْ أَوْصَى الزَّوْجُ لَهَا بِمِثْلِ مِيرَاثِهَا أَوْ أَقَلَّ صَحَّ كَمَا ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي أَنَّهُ أَبَانَهَا لِيُعْطِيَهَا ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْنِهَا لأَخَذَتْهُ بِمِيرَاثِهَا، وَإِنْ أَوْصَى لَهَا بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ فَلِلْوَرَثَةِ مَنْعُهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اتُّهِمَ فِي أَنَّهُ قَصَدَ إِيصَالَ ذَلِكَ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى إِيصَالِهِ إِلَيْهَا وَهِيَ فِي عِصْمَتِهِ، فَطَلَّقَهَا لِيُوصِلَ ذَلِكَ إِلَيْهَا فَمُنِعَ مِنْهُ كَمَا لَوْ أَوْصَى لِوَارِثٍ.

خُلْعُ الْوَلِيِّ:

20- يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِوَلِيِّ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ مِنْ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهُمَا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَلِيُّ أَبًا لِلزَّوْجِ أَمْ وَصِيًّا أَمْ حَاكِمًا أَمْ مُقَامًا مِنْ جِهَتِهِ، إِذَا كَانَ الْخُلْعُ مِنْهُ لِمَصْلَحَةٍ، وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ عِنْدَ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِمَا بِلَا عِوَضٍ، وَنَقَلَ ابْنُ عَرَفَةَ عَنِ اللَّخْمِيِّ جَوَازَهُ لِمَصْلَحَةٍ، إِذْ قَدْ يَكُونُ فِي بَقَاءِ الْعِصْمَةِ فَسَادٌ لِأَمْرٍ ظَهَرَ أَوْ حَدَثَ.

وَأَمَّا وَلِيُّ السَّفِيهِ فَلَا يُخَالِعُ عَنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِ الزَّوْجِ الْمُكَلَّفِ وَلَوْ سَفِيهًا أَوْ عَبْدًا لَا بِيَدِ الْأَبِ، فَأَوْلَى غَيْرُهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ كَالْوَصِيِّ وَالْحَاكِمِ.

وَالْخُلْعُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَصِحُّ مِمَّنْ يَصِحُّ طَلَاقُهُ بِالْمِلْكِ، أَوِ الْوَكَالَةِ، أَوِ الْوِلَايَةِ كَالْحَاكِمِ فِي الشِّقَاقِ.

وَلَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يَخْلَعَ زَوْجَةَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ أَوْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأَشْهَرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ ».

وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أَيَّدَهَا الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ وَرَجَّحَهَا صَاحِبُ الْمُبْدِعِ إِلَى أَنَّ الْأَبَ يَمْلِكُ ذَلِكَ، لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- طَلَّقَ عَلَى ابْنٍ لَهُ مَعْتُوهٍ؛ وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُزَوِّجَهُ، فَصَحَّ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا شَأْنُهُ كَالْحَاكِمِ يَفْسَخُ لِلْإِعْسَارِ وَيُزَوِّجُ الصَّغِيرَ.

وَأَمَّا خُلْعُ الْأَبِ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ مَنْ خَلَعَ ابْنَتَهُ وَهِيَ صَغِيرَةٌ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهَا لَمْ يَجُزْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا نَظَرَ لَهَا فِيهِ، كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، إِذِ الْبُضْعُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ، وَالْبَدَلُ مُتَقَوِّمٌ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ الدُّخُولِ، وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ خُلْعُ الْمَرِيضَةِ مِنَ الثُّلُثِ، وَنِكَاحُ الْمَرِيضِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ.

وَلِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَسْقُطُ حَقُّهَا مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ وَلَا يَسْتَحِقُّ مَالَهَا وَلِلزَّوْجِ مُرَاجَعَتُهَا إِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الدُّخُولِ كَمَا فِي الْمُهَذَّبِ، وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ رِوَايَتَيْنِ مَنْشَؤُهُمَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي الْكِتَابِ لَمْ يَجُزْ، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى الطَّلَاقِ وَأَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى لُزُومِ الْمَالِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ، وَعَدَمُ الْجَوَازِ مُنْصَرِفٌ إِلَى الْمَالِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُنْتَقَى لِأَنَّ لِسَانَ الْأَبِ كَلِسَانِهَا.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ جَوَّزُوا خُلْعَ الْمُجْبِرِ كَأَبٍ عَنِ الْمُجْبَرَةِ مِنْ مَالِهَا وَلَوْ بِجَمِيعِ مَهْرِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُجْبِرِ كَوَصِيٍّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَالِعَ عَمَّنْ تَحْتَ إِيصَائِهِ مِنْ مَالِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا، وَكَذَا بِإِذْنِهَا عَلَى الْأَرْجَحِ.

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُبْدِعِ بِلَفْظِ قِيلَ: إِنَّهُ لَهُ ذَلِكَ إِذَا رَأَى الْحَظَّ فِيهِ كَتَخْلِيصِهَا مِمَّنْ يُتْلِفُ مَالَهَا وَيُخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهَا وَعَقْلِهَا، وَالْأَبُ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ إِذَا خَالَعُوا فِي حَقِّ الْمَجْنُونَةِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ صِغَرٍ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إِذَا خَالَعَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ، صَرَّحَ بِهِ فِي الشَّرْحِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ، فَمِنَ الْوَلِيِّ أَوْلَى.

خُلْعُ الْفُضُولِيِّ:

21- لِلْفُقَهَاءِ فِي خُلْعِ الْفُضُولِيِّ اتِّجَاهَانِ:

الْأَوَّلُ: جَوَازُهُ وَصِحَّتُهُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ لَكِنْ بِقَيْدٍ وَهُوَ أَنْ يُضِيفَ الْبَدَلَ إِلَى نَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ يُفِيدُ ضَمَانَهُ لَهُ أَوْ مِلْكَهُ إِيَّاهُ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: اخْلَعْهَا بِأَلْفٍ عَلَيَّ أَوْ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ أَوْ عَلَى أَلْفَيْ هَذِهِ، فَإِنْ أَرْسَلَ الْخُلْعَ بِأَنْ قَالَ عَلَى أَلْفٍ أَوْ عَلَى هَذَا الْجَمَلِ، فَإِنْ قَبِلَتْ لَزِمَهَا تَسْلِيمُهُ، أَوْ قِيمَتُهُ إِنْ عَجَزَتْ، وَإِنْ أَضَافَهُ إِلَى غَيْرِهِ كَجَمَلِ فُلَانٍ اعْتُبِرَ قَبُولُ فُلَانٍ.

وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سَوَاءٌ قَصَدَ الْفُضُولِيُّ بِذَلِكَ جَلْبَ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءَ مَفْسَدَةِ أَوْ إِسْقَاطَ نَفَقَتِهَا عَنِ الزَّوْجِ كَمَا فِي ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَيَّدَ صِحَّتَهُ بِعَدَمِ قَصْدِ الْفُضُولِيِّ إِسْقَاطَ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ عَنِ الزَّوْجِ فَإِنْ قَصَدَ إِسْقَاطَهَا عَنْهُ فَقَدْ حُكِيَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

أ- يُرَدُّ الْعِوَضُ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَتَسْقُطُ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْبُرْزُلِيُّ.

ب- يُرَدُّ الْعِوَضُ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا وَلَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَابْنُ عَرَفَةَ.

ج- يَقَعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَلَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ وَيَجْرِي مِثْلُ هَذَا فِيمَنْ قَصَدَ دَفْعَ الْعِوَضِ لِيَتَزَوَّجَهَا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا إِلَى جَوَازِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِلَفْظِ طَلَاقٍ أَمْ خُلْعٍ، فَخُلْعُ الْفُضُولِيِّ عِنْدَهُمْ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَاخْتِلَاعِ الزَّوْجَةِ لَفْظًا وَحُكْمًا، وَذَكَرُوا أَنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ ابْتِدَاءُ مُعَاوَضَةٍ فِيهَا شَوْبُ تَعْلِيقٍ، وَمِنْ جَانِبِ الْأَجْنَبِيِّ ابْتِدَاءُ مُعَاوَضَةٍ فِيهَا شَوْبُ جَعَالَةٍ، فَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ لِلْفُضُولِيِّ طَلَّقْتُ امْرَأَتِي عَلَى أَلْفٍ فِي ذِمَّتِكَ فَقَبِلَ، أَوْ قَالَ الْفُضُولِيُّ لِلزَّوْجِ: طَلِّقِ امْرَأَتَكَ عَلَى أَلْفٍ فِي ذِمَّتِي فَأَجَابَ، وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا بِالْمُسَمَّى، وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ قَبُولِ الْفُضُولِيِّ نَظَرًا لِشَوْبِ التَّعْلِيقِ، وَلِلْفُضُولِيِّ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ إِجَابَةِ الزَّوْجِ نَظَرًا لِشَوْبِ الْجَعَالَةِ.

وَخُلْعُ الْفُضُولِيِّ جَائِزٌ أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْحَنَابِلَةِ وَلَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى قَبُولِ الْمَرْأَةِ فَيَكُونَ الْتِزَامُهُ لِلْمَالِ فِدَاءً لَهَا، كَالْتِزَامِ الْمَالِ لِعِتْقِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ فِي ذَلِكَ غَرَضٌ صَحِيحٌ، كَتَخْلِيصِهَا مِمَّنْ يُسِيءُ عِشْرَتَهَا وَيَمْنَعُهَا حُقُوقَهَا.

الثَّانِي: عَدَمُ الصِّحَّةِ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ أَبُو ثَوْرٍ وَمَنْ قَالَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ، وَاسْتَدَلَّ أَبُو ثَوْرٍ بِأَنَّهُ يَبْذُلُ عِوَضًا فِي مُقَابَلَةِ مَا لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْفَسْخَ بِلَا سَبَبٍ لَا يَنْفَرِدُ بِهِ الزَّوْجُ فَلَا يَصِحُّ طَلَبُهُ مِنْهُ.

التَّوْكِيلُ فِي الْخُلْعِ:

22- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ التَّوْكِيلَ فِي الْخُلْعِ جَائِزٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ وَمِنْ أَحَدِهِمَا مُنْفَرِدًا، وَالضَّابِطُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَصِحُّ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِالْخُلْعِ لِنَفْسِهِ جَازَ تَوْكِيلُهُ وَوَكَالَتُهُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ رَشِيدًا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ الْخُلْعَ، فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا وَمُوَكِّلًا فِيهِ.وَجَاءَ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ تَوْكِيلَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ عَنِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ بِالْخُلْعِ صَحِيحٌ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ وَكِيلَ الْمَرْأَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَفِيهًا حَتَّى وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ إِلاَّ إِذَا أَضَافَ الْمَالَ إِلَيْهَا فَتَبِينُ وَيَلْزَمُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ.

وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا تَوْكِيلُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ فِي قَبْضِ الْعِوَضِ فِي الْخُلْعِ فَإِنْ وَكَّلَهُ وَقَبَضَ، فَفِي التَّتِمَّةِ أَنَّ الْمُخْتَلِعَ يَبْرَأُ وَالْمُوَكِّلُ مُضَيِّعٌ لِمَالِهِ وَأَقَرَّهُ الشَّيْخَانِ.

وَالْأَصَحُّ: عِنْدَهُمْ أَيْضًا صِحَّةُ تَوْكِيلِهِ امْرَأَةً لِخُلْعِ زَوْجَتِهِ أَوْ طَلَاقِهَا لِأَنَّ لِلْمَرْأَةِ تَطْلِيقَ نَفْسِهَا بِقَوْلِهِ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ، وَذَلِكَ تَمْلِيكٌ لِلطَّلَاقِ أَوْ تَوْكِيلٌ بِهِ.

وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَقِلُّ بِالطَّلَاقِ، وَلَوْ وَكَّلَتِ الزَّوْجَةُ امْرَأَةً بِاخْتِلَاعِهَا جَازَ بِلَا خِلَافٍ لِاسْتِقْلَالِ الْمَرْأَةِ بِالِاخْتِلَاعِ.

وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ سِوَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي الْخُلْعِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْوَكِيلَ فِي الْخُلْعِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ يَتَوَلَّى طَرَفًا مِنْهُ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ وَكِيلِهِ، وَلَا يَتَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ:

إِنَّهُ يَتَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ قِيَاسًا عَلَى النِّكَاحِ؛ وَلِأَنَّ الْخُلْعَ يَكْفِي فِيهِ اللَّفْظُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَعْطَتْهُ ذَلِكَ، يَقَعُ الطَّلَاقُ خُلْعًا.

وَالْوَكِيلُ فِي الْخُلْعِ لَا يَنْعَزِلُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

هَذَا وَيَكُونُ تَوْكِيلُ الْمَرْأَةِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: اسْتِدْعَاءُ الْخُلْعِ- أَوِ الطَّلَاقِ- وَتَقْدِيرُ الْعِوَضِ وَتَسْلِيمُهُ.

وَيَكُونُ تَوْكِيلُ الرَّجُلِ أَيْضًا فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: شَرْطُ الْعِوَضِ- وَقَبْضُهُ- وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ أَوِ الْخُلْعِ.

وَالتَّوْكِيلُ جَائِزٌ مَعَ تَقْدِيرِ الْعِوَضِ وَمِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَصَحَّ ذَلِكَ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ إِلاَّ أَنَّ التَّقْدِيرَ مُسْتَحَبٌّ لِأَنَّهُ أَسْلَمُ مِنَ الْغَرَرِ، وَأَسْهَلُ عَلَى الْوَكِيلِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنِ الِاجْتِهَادِ.

وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ تَوْكِيلَ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ لَا يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَدِّرَا الْعِوَضَ كَمِائَةٍ مَثَلًا.

وَالثَّانِي أَنْ يُطْلِقَا الْوَكَالَةَ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، كَأَنْ يُوَكِّلَاهُ فِي الْخُلْعِ فَقَطْ، وَيَنْبَغِي لِوَكِيلِ الزَّوْجِ أَوْ وَكِيلِ الزَّوْجَةِ أَنْ يَفْعَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعُودَ بِالنَّفْعِ عَلَى مُوَكِّلِهِ، فَلَا يُنْقِصُ وَكِيلُ الزَّوْجِ عَمَّا قَدَّرَهُ لَهُ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ فَلْيَفْعَلْ وَكَذَا وَكِيلُ الزَّوْجَةِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَزِيدَ عَمَّا قَدَّرَتْهُ لَهُ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَخْلَعَهَا بِأَقَلَّ مِنْهُ فَلْيَفْعَلْ.وَيَنْبَغِي لِوَكِيلِ الزَّوْجِ فِي حَالَةِ الْإِطْلَاقِ أَنْ لَا يُخَالِعَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ بَلْ بِأَكْثَرَ، وَيَنْبَغِي لِوَكِيلِ الزَّوْجَةِ أَيْضًا أَنْ لَا يَخْلَعَهَا بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي حَالَةِ الْإِطْلَاقِ.

عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ:

23- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ) إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمُخْتَلِعَةِ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ.

وَفِي قَوْلٍ عَنْ أَحْمَدَ: إِنَّ عِدَّتَهَا حَيْضَةٌ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ.

وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ عِدَّتَهَا حَيْضَةٌ بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- « أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عِدَّتَهَا حَيْضَةً ».

وَبِأَنَّ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- قَضَى بِهِ.

وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ عِدَّتَهَا عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}.وَلِأَنَّ الْخُلْعَ فُرْقَةٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْحَيَاةِ بَعْدَ الدُّخُولِ فَكَانَتِ الْعِدَّةُ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ كَغَيْرِ الْخُلْعِ.

الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمُعَوَّضُ وَهُوَ الْبُضْعُ:

24- يُشْتَرَطُ فِيهِ كَمَا جَاءَ فِي الرَّوْضَةِ مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلزَّوْجِ، فَأَمَّا الْبَائِنُ بِخُلْعٍ وَغَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ خُلْعُهَا، وَيُشْتَرَطُ فِي الْخُلْعِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا أَنْ يُصَادِفَ مَحَلًّا، فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ بَائِنًا وَقْتَ الْخُلْعِ، فَإِنَّ الْخُلْعَ لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا، وَتَسْتَرِدُّ الزَّوْجَةُ الْمَالَ الَّذِي دَفَعَتْهُ لِلزَّوْجِ، وَيَسْقُطُ عَنْهَا مَا الْتَزَمَتْهُ مِنْ رَضَاعِ وَلَدِهَا، أَوْ نَفَقَةِ حَمْلٍ، أَوْ إِسْقَاطِ حَضَانَتِهَا.

وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَصِحُّ إِلاَّ مَعَ الزَّوْجَةِ الَّتِي فِي عِصْمَةِ زَوْجِهَا، حَقِيقَةً، وَهِيَ الَّتِي لَمْ تُفَارِقْ زَوْجَهَا بِطَلَاقٍ بَائِنٍ وَنَحْوِهِ، كَاللِّعَانِ مَثَلًا، أَوْ حُكْمًا، وَهِيَ الَّتِي طَلَّقَهَا زَوْجُهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا وَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا، فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ زَوْجَةٌ وَالنِّكَاحُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا قَائِمٌ، وَتَسْرِي عَلَيْهَا كَافَّةُ الْأَحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِالزَّوْجَاتِ، وَلَوْ مَاتَ زَوْجُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَإِنَّهَا تَرِثُ مِنْهُ، وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ تَدْخُلُ هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ فِيهِ كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَيَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ، إِلاَّ أَنَّ الْخِرَقِيَّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ ذَكَرَ أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُحَرَّمَةٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْمُغْنِي عَنْهُ (وَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَوَاحِدَةٌ طَلَّقَ أَمْ ثَلَاثًا؟ فَهُوَ مُتَيَقِّنٌ لِلتَّحْرِيمِ شَاكٌّ فِي التَّحْلِيلِ) وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ كَمَا قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهَا مُبَاحَةٌ.

وَأَمَّا مُخَالَعَةُ الزَّوْجِ لَهَا أَيِ الرَّجْعِيَّةِ فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ فَتَصِحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَا تَسْتَرِدُّ الْمَالَ الَّذِي دَفَعَتْهُ لِلزَّوْجِ وَلَزِمَ الزَّوْجَ أَنْ يُوقِعَ عَلَيْهَا طَلْقَةً أُخْرَى بَائِنَةً، وَتَصِحُّ أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ أَيْضًا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ سِوَى الْخِرَقِيِّ، لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ صَحَّ طَلَاقُهَا فَصَحَّ خُلْعُهَا كَمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ: إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ مُخَالَعَتِهَا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى الِافْتِدَاءِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ بِلَفْظِ، قِيلَ: إِلَى أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ يَصِحُّ خُلْعُهَا بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ دُونَ الثَّانِيَةِ لِتَحْصُلَ الْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى، هَذَا وَيَلْزَمُ مِمَّا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الرَّجْعِيَّةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا صِحَّةُ مُخَالَعَتِهَا لِأَنَّ الْخُلْعَ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَهُمْ طَلَاقٌ.

الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْعِوَضُ:

25- الْعِوَضُ مَا يَأْخُذُهُ الزَّوْجُ مِنْ زَوْجَتِهِ فِي مُقَابِلِ خُلْعِهِ لَهَا، وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ أَنْ يَصْلُحَ جَعْلُهُ صَدَاقًا، فَإِنَّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا جَازَ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ خُلْعٍ.

وَالْعِوَضُ فِي الْخُلْعِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَالًا مُعَيَّنًا أَوْ مَوْصُوفًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا لِلْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ تَفْتَدِي بِهِ نَفْسَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْفَعَةً وَذَلِكَ أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى إِرْضَاعِ وَلَدِهِ مِنْهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً مُعَيَّنَةً، كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، أَوْ مُطَلَّقَةً كَمَا ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ، فَإِنْ مَاتَتِ الْمُرْضِعَةُ، أَوِ الصَّبِيُّ، أَوْ جَفَّ لَبَنُهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَعَلَيْهَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ مُعَيَّنٌ تَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ فَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ، أَوْ مِثْلُهُ، كَمَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى قَفِيزٍ فَهَلَكَ قَبْلَ قَبْضِهِ.

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ فِي الْخُلْعِ إِخْرَاجُ الْمَرْأَةِ مِنْ مَسْكَنِهَا الَّذِي طَلُقَتْ فِيهِ لِأَنَّ سُكْنَاهَا فِيهِ إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَقٌّ لِلَّهِ، لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ إِسْقَاطُهُ لَا بِعِوَضٍ وَلَا بِغَيْرِهِ، وَبَانَتْ مِنْهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا لِلزَّوْجِ كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَتَحَمَّلَ هِيَ أُجْرَةَ الْمَسْكَنِ مِنْ مَالِهَا زَمَنَ الْعِدَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ.وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ السُّكْنَى وَلِلزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْلِ.

26- وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا أَنَّ الْعِوَضَ فِي الْخُلْعِ إِنْ كَانَ مَعْلُومًا وَمُتَمَوَّلًا وَمَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ فَإِنَّ الْخُلْعَ يُعْتَبَرُ صَحِيحًا.

أَمَّا إِذَا فَسَدَ الْعِوَضُ بِاخْتِلَالِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ، كَاخْتِلَالِ شَرْطِ الْعِلْمِ، أَوِ الْمَالِيَّةِ، أَوِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ، فَإِنَّ الْخُلْعَ يُعْتَبَرُ فَاسِدًا، وَفِيهِ خِلَافٌ، سَبَبُهُ تَرَدُّدُ الْعِوَضِ هَاهُنَا بَيْنَ الْعِوَضِ فِي الْبُيُوعِ، أَوِ الْأَشْيَاءِ الْمَوْهُوبَةِ، أَوِ الْمُوصَى بِهَا فَمَنْ شَبَّهَهُ بِالْبُيُوعِ اشْتَرَطَ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْبُيُوعِ وَفِي أَعْوَاضِ الْبُيُوعِ.وَمَنْ شَبَّهَهُ بِالْهِبَاتِ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ ذَلِكَ.

وَتَتَلَخَّصُ أَحْكَامُهُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ:

الْأُولَى: الْخُلْعُ بِالْمَجْهُولِ وَبِالْمَعْدُومِ وَبِالْغَرَرِ أَوْ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ.

الْخُلْعُ بِالْمَجْهُولِ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ عِنْدَهُمْ إِسْقَاطٌ يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ وَخُلُوُّهُ مِنَ الْعِوَضِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُحُ، فَيَجُوزُ بِالْمَجْهُولِ إِلَى الْأَجَلِ الْمَجْهُولِ الْمُسْتَدْرَكِ الْجَهَالَةِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَجُوزُ اخْتِلَاعُهَا عَلَى زِرَاعَةِ أَرْضِهَا، وَرُكُوبِ دَابَّتِهَا، وَخِدْمَتِهَا لَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْزَمُ خَلْوَتُهُ بِهَا، أَوْ خِدْمَةُ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ تَجُوزُ مَهْرًا.

وَيَجُوزُ الْخُلْعُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا بِالْمَجْهُولِ وَالْغَرَرِ، فَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَهُمْ أَنْ تُخَالِعَ زَوْجَهَا بِمَا فِي بَطْنِ نَاقَتِهَا، وَمِثْلُهُ الْآبِقُ، وَالشَّارِدُ، وَالثَّمَرَةُ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا، وَبِحَيَوَانٍ، وَعَرْضٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ، أَوْ بِأَجَلٍ مَجْهُولٍ، وَلِلزَّوْجِ عَلَيْهَا الْوَسَطُ مِنْ جِنْسِ مَا وَقَعَتِ الْمُخَالَعَةُ بِهِ، لَا مِنْ وَسَطِ مَا يُخَالَعُ بِهِ النَّاسُ وَلَا يُرَاعَى فِي ذَلِكَ حَالُ الْمَرْأَةِ، وَإِذَا انْفَشَّ الْحَمْلُ الَّذِي وَقَعَ الْخُلْعُ عَلَيْهِ فَلَا شَيْءَ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ مُجَوِّزٌ لِذَلِكَ وَالطَّلَاقُ بَائِنٌ.

وَيَصِحُّ الْخُلْعُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا بِالْمَجْهُولِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَبِالْمَعْدُومِ الَّذِي يُنْتَظَرُ وُجُودُهُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مَعْنًى يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ الْعِوَضَ الْمَجْهُولَ كَالْوَصِيَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْخُلْعَ إِسْقَاطٌ لِحَقِّهِ مِنَ الْبُضْعِ وَلَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ شَيْءٍ، وَالْإِسْقَاطُ تَدْخُلُهُ الْمُسَامَحَةُ وَلِذَلِكَ جَازَ بِغَيْرِ عِوَضٍ عَلَى رِوَايَةٍ.

وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْخُلْعُ عَلَى مَا فِيهِ غَرَرٌ كَالْمَجْهُولِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْخُلْعِ بِالْمَجْهُولِ وَبِالْمَعْدُومِ الَّذِي يُنْتَظَرُ وُجُودُهُ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ، وَجَزَمَ بِهِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْزِيُّ، وَمِثْلُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْخُلْعُ عَلَى مُحَرَّمٍ، أَوْ عَلَى مَا لَمْ يَتِمَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَا يَجُوزُ عَلَى مَا ذُكِرَ، كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، فَلَوْ خَالَعَ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ بَانَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ الْمُرَادُ عِنْدَ فَسَادِ الْعِوَضِ.

الرُّكْنُ الْخَامِسُ: الصِّيغَةُ:

27- صِيغَةُ الْخُلْعِ هِيَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ.

أَمَّا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَهُمَا رُكْنَا الْخُلْعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَ بِعِوَضٍ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِمَا كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ إِنْ بَدَأَ الزَّوْجُ بِصِيغَةِ مُعَاوَضَةٍ، كَقَوْلِهِ خَالَعْتُكِ عَلَى كَذَا الْقَبُولُ لَفْظًا مِمَّنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ النُّطْقُ، وَبِالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ وَبِالْكِتَابَةِ مِنْهُمَا، وَأَنْ لَا يَتَخَلَّلَ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ كَلَامٌ أَجْنَبِيٌّ كَثِيرٌ مِمَّنْ يُطْلَبُ مِنْهُ الْجَوَابُ لِإِشْعَارِهِ بِالْإِعْرَاضِ بِخِلَافِ الْيَسِيرِ مُطْلَقًا، وَالْكَثِيرِ مِمَّنْ لَمْ يُطْلَبْ مِنْهُ الْجَوَابُ، وَأَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ عَلَى وَفْقِ الْإِيجَابِ، فَلَوِ اخْتَلَفَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ كَطَلَّقْتُكِ بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ بِأَلْفَيْنِ، وَعَكْسُهُ كَطَلَّقْتُكِ بِأَلْفَيْنِ فَقَبِلَتْ بِأَلْفٍ، أَوْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ وَاحِدَةً بِثُلُثِ أَلْفٍ، فَلَغْوٌ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ لِلْمُخَالَفَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ.

وَأَمَّا إِذَا ابْتَدَأَ الزَّوْجُ بِصِيغَةِ تَعْلِيقٍ فِي الْإِثْبَاتِ، كَمَتَى أَوْ مَتَى مَا، أَوْ أَيْ حِينٍ، أَوْ زَمَانٍ، أَوْ وَقْتٍ أَعْطَيْتنِي كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبُولُ لَفْظًا؛ لِأَنَّ الصِّيغَةَ لَا تَقْتَضِيهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِعْطَاءُ فَوْرًا فِي الْمَجْلِسِ أَيْ مَجْلِسِ التَّوَاجُبِ.بِخِلَافِ مَا لَوِ ابْتَدَأَ (بِصِيغَةِ تَعْلِيقٍ فِي النَّفْيِ، كَقَوْلِهِ مَتَى لَمْ تُعْطِنِي كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ) وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا لَوْ قَالَتْ لَهُ: مَتَى طَلَّقْتَنِي فَلَكَ

عَلَيَّ أَلْفٌ، فَإِنَّ الْجَوَابَ يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ التَّوَاجُبِ.

تَعْلِيقُ الْخُلْعِ بِالشَّرْطِ:

28- الْخُلْعُ إِنْ كَانَ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجَةِ بِأَنْ كَانَتْ هِيَ الْبَادِئَةُ بِسُؤَالِ الطَّلَاقِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةِ إِلَى الْوَقْتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، لِأَنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِهَا مُعَاوَضَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةِ إِلَى الْوَقْتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِهِ يَمِينٌ، وَمِثْلُهُ الطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَمْ يُجَوِّزُوا تَعْلِيقَ الْخُلْعِ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ.

شَرْطُ الْخِيَارِ فِي الْخُلْعِ:

29- يَصِحُّ لِلزَّوْجَةِ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي الْخُلْعِ لَا لِلزَّوْجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَصِحُّ لَهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ إِيجَابَ الزَّوْجِ يَمِينٌ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ وَصَحَّتْ إِضَافَتُهُ وَتَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ لِكَوْنِ الْمَوْجُودِ مِنْ جَانِبِهِ طَلَاقًا وَقَبُولُهَا شَرْطُ الْيَمِينِ فَلَا يَصِحُّ خِيَارُ الشَّرْطِ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ لِلْفَسْخِ بَعْدَ الِانْعِقَادِ لَا لِلْمَنْعِ مِنَ الِانْعِقَادِ، وَالْيَمِينُ وَشَرْطُهَا لَا يَحْتَمِلَانِ الْفَسْخَ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِهَا مُعَاوَضَةٌ لِكَوْنِ الْمَوْجُودِ مِنْ جِهَتِهَا مَالًا، وَلِهَذَا يَصِحُّ رُجُوعُهَا قَبْلَ الْقَبُولِ، وَلَا تَصِحُّ إِضَافَتُهُ وَتَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ فَصَارَ كَالْبَيْعِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لِلْفَسْخِ بَعْدَ الِانْعِقَادِ، بَلْ هُوَ مَانِعٌ مِنَ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَكَوْنُهُ شَرْطًا لِيَمِينِ الزَّوْجِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُعَاوَضَةً فِي نَفْسِهِ.

أَلْفَاظُ الْخُلْعِ:

30- أَلْفَاظُ الْخُلْعِ سَبْعَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهِيَ: خَالَعْتُكِ- بَايَنْتُكِ- بَارَأْتُكِ- فَارَقْتُكِ- طَلِّقِي نَفْسَكِ عَلَى أَلْفٍ- وَالْبَيْعُ كَبِعْتُ نَفْسَكِ- وَالشِّرَاءُ كَاشْتَرِي نَفْسَكِ.

وَلَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ وَهِيَ: الْخُلْعُ وَالْفِدْيَةُ، وَالصُّلْحُ، وَالْمُبَارَأَةُ وَكُلُّهَا تَئُولُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ بَذْلُ الْمَرْأَةِ الْعِوَضَ عَلَى طَلَاقِهَا.

وَأَلْفَاظُ الْخُلْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَنْقَسِمُ إِلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ: فَالصَّرِيحُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ لَفْظَانِ: لَفْظُ خُلْعٍ وَمَا يَشْتَقُّ مِنْهُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ الْعُرْفُ.وَلَفْظُ الْمُفَادَاةِ وَمَا يَشْتَقُّ مِنْهُ لِوُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ لَفْظَ فَسْخٍ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ.وَهُوَ مِنْ كِنَايَاتِ الْخُلْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمِنْ كِنَايَاتِهِ عِنْدَهُمْ أَيْضًا بَيْعٌ.

وَلَفْظُ بَارَأْتُكِ، وَأَبْرَأْتُكِ، وَأَبَنْتُكِ، وَصَرِيحُ خُلْعٍ وَكِنَايَتُهُ، كَصَرِيحِ طَلَاقٍ وَكِنَايَتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَإِذَا طَلَبَتِ الْخُلْعَ وَبَذَلَتِ الْعِوَضَ فَأَجَابَهَا بِصَرِيحِ الْخُلْعِ وَكِنَايَتِهِ، صَحَّ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ مِنْ سُؤَالِ الْخُلْعِ، وَبَذْلَ الْعِوَضِ صَارِفَةٌ إِلَيْهِ فَأَغْنَى عَنِ النِّيَّةِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَلَالَةَ حَالٍ فَأَتَى بِصَرِيحِ الْخُلْعِ وَقَعَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، سَوَاءٌ قُلْنَا هُوَ فَسْخٌ أَوْ طَلَاقٌ، وَلَا يَقَعُ بِالْكِنَايَةِ إِلاَّ بِنِيَّةٍ مِمَّنْ تَلَفَّظَ بِهِ مِنْهُمَا، كَكِنَايَاتِ الطَّلَاقِ مَعَ صَرِيحِهِ.

اخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ فِي الْخُلْعِ أَوْ فِي عِوَضِهِ:

31- إِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ الْخُلْعَ، وَالزَّوْجَةُ تُنْكِرُهُ بَانَتْ بِإِقْرَارِهِ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا دَعْوَى الْمَالِ فَتَبْقَى بِحَالِهَا كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا فِيهَا؛ لِأَنَّهَا تُنْكِرُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا بِيَمِينِهَا فِي نَفْيِ الْعِوَضِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

أَمَّا إِذَا ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ الْخُلْعَ، وَالزَّوْجُ يُنْكِرُهُ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ كَيْفَمَا كَانَ، كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، وَيُصَدَّقُ الزَّوْجُ بِيَمِينِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَكِنْ يُفْهَمُ مِمَّا ذَكَرُوهُ فِيمَا لَوْ قَالَتِ الزَّوْجَةُ: طَلَّقْتَنِي ثَلَاثًا بِعَشَرَةٍ فَقَالَ الزَّوْجُ: بَلْ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ بِعَشَرَةٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ بِلَا يَمِينٍ، وَوَقَعَتِ الْبَيْنُونَةُ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى مَا قَالَهُ الزَّوْجُ هِيَ مُدَّعِيَةٌ لَهُ، وَكُلُّ دَعْوَى لَا تَثْبُتُ إِلاَّ بِعَدْلَيْنِ فَلَا يَمِينَ بِمُجَرَّدِهَا، وَالْمَنْقُولُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ نَكَلَ حُبِسَ، وَلَا يُقَالُ تَحْلِفُ وَيَثْبُتُ مَا تَدَّعِيهِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَثْبُتُ بِالنُّكُولِ مَعَ الْحَلِفِ وَتَبِينُ مِنْهُ فِي اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْخُلْعِ، وَتَكُونُ رَجْعِيَّةً فِي غَيْرِهِ.

أَمَّا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى الْخُلْعِ، وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْعِوَضِ، أَوْ جِنْسِهِ، أَوْ حُلُولِهِ، أَوْ تَأْجِيلِهِ، أَوْ صِفَتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا أَبُو بَكْرٍ نَصًّا عَنْ أَحْمَدَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا أَيْضًا بِيَمِينِهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا فِي أَصْلِهِ فَكَذَا فِي صِفَتِهِ؛ وَلِأَنَّهَا مُنْكِرَةٌ لِلزِّيَادَةِ فِي الْقَدْرِ، أَوِ الصِّفَةِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ » وَعَلَى الْقَوْلِ: إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ لَا يُقَالُ يَتَحَالَفَانِ كَالْمُتَبَايِعِينَ؛ لِأَنَّ التَّحَالُفَ فِي الْبَيْعِ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِفَسْخِ الْعَقْدِ، وَالْخُلْعُ فِي نَفْسِهِ فَسْخٌ فَلَا يُفْسَخُ.

وَذَكَرَ الْقَاضِي رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ يَخْرُجُ مِنْ مِلْكِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي عِوَضِهِ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، أَوْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ وَتَعَارَضَتَا تَحَالَفَا كَالْمُتَبَايِعِينَ فِي كَيْفِيَّةِ الْحَلِفِ وَمَنْ يَبْدَأُ بِهِ.وَيَجِبُ بِبَيْنُونَتِهَا بِفَوَاتِ الْعِوَضِ مَهْرُ الْمِثْلِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَاهُ، لِأَنَّهُ الْمَرَدُّ، فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ عُمِلَ بِهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


63-موسوعة الفقه الكويتية (خنزير)

خِنْزِيرٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْخِنْزِيرُ حَيَوَانٌ خَبِيثٌ.قَالَ الدَّمِيرِيُّ.الْخِنْزِيرُ يَشْتَرِكُ بَيْنَ الْبَهِيمِيَّةِ وَالسَّبُعِيَّةِ، فَالَّذِي فِيهِ مِنَ السَّبُعِ النَّابُ وَأَكْلُ الْجِيَفِ، وَالَّذِي فِيهِ مِنَ الْبَهِيمِيَّةِ الظِّلْفُ وَأَكْلُ الْعُشْبِ وَالْعَلَفِ.

أَحْكَامُ الْخِنْزِيرِ:

2- تَدُورُ أَحْكَامُ الْخِنْزِيرِ عَلَى اعْتِبَارَاتٍ:

الْأَوَّلُ: تَحْرِيمُ لَحْمِهِ وَسَائِرِ أَجْزَائِهِ.

الثَّانِي: اعْتِبَارُ نَجَاسَةِ عَيْنِهِ.

وَالثَّالِثُ: اعْتِبَارُ مَالِيَّتِهِ.وَتَرَتَّبَ عَلَى كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ أَوْ عَلَى جَمِيعِهَا جُمْلَةٌ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

3- أَمَّا الِاعْتِبَارُ الْأَوَّلُ فَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى حُرْمَةِ أَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ.لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى تَقْدِيمِ أَكْلِ الْكَلْبِ عَلَى الْخِنْزِيرِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ بِعَدَمِ تَحْرِيمِ أَكْلِ الْكَلْبِ.

كَمَا يُقَدَّمُ شَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَكُلْيَتُهُ وَكَبِدُهُ عَلَى لَحْمِهِ، لِأَنَّ اللَّحْمَ يَحْرُمُ تَنَاوُلُهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، فَلَا خِلَافَ فِيهِ.وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ مَيْتَةِ غَيْرِ الْخِنْزِيرِ عَلَى الْخِنْزِيرِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا، لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ حَرَامٌ لِذَاتِهِ، وَحُرْمَةَ الْمَيْتَةِ عَارِضَةٌ.

4- وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ الثَّانِي: وَهُوَ اعْتِبَارُ نَجَاسَةِ عَيْنِهِ:

فَقَدِ اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى نَجَاسَةِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ، وَكَذَلِكَ نَجَاسَةُ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَمَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ كَعَرَقِهِ وَلُعَابِهِ وَمَنِيِّهِ وَذَلِكَ لقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.وَالضَّمِيرُ فِي قوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} رَاجِعٌ إِلَى الْخِنْزِيرِ فَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ وَجَمِيعِ أَجْزَائِهِ.

وَذَلِكَ لِأَنَّ الضَّمِيرَ إِذَا صَلَحَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمُضَافِ وَهُوَ «اللَّحْمُ» وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ «الْخِنْزِيرُ» جَازَ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِمَا.

وَعَوْدُهُ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَوْلَى فِي هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّهُ مَقَامُ تَحْرِيمٍ، لِأَنَّهُ لَوْ عَادَ إِلَى الْمُضَافِ وَهُوَ اللَّحْمُ لَمْ يَحْرُمْ غَيْرُهُ، وَإِنْ عَادَ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ حَرُمَ اللَّحْمُ وَجَمِيعُ أَجْزَاءُ الْخِنْزِيرِ.

فَغَيْرُ اللَّحْمِ دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ يَحْرُمَ وَأَنْ لَا يَحْرُمَ فَيَحْرُمُ احْتِيَاطًا وَذَلِكَ بِإِرْجَاعِ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ طَالَمَا أَنَّهُ صَالِحٌ لِذَلِكَ، وَيُقَوِّي إِرْجَاعَ الضَّمِيرِ إِلَى «الْخِنْزِيرِ» أَنَّ تَحْرِيمَ لَحْمِهِ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ لَيْسَ مَحَلًّا لِلتَّذْكِيَةِ فَيَنْجَسُ لَحْمُهُ بِالْمَوْتِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ حَالَ الْحَيَاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ حَيٍّ الطَّهَارَةُ، وَالنَّجَاسَةُ عَارِضَةٌ، فَطَهَارَةُ عَيْنِهِ بِسَبَبِ الْحَيَاةِ، وَكَذَلِكَ طَهَارَةُ عَرَقِهِ وَلُعَابِهِ وَدَمْعِهِ وَمُخَاطِهِ.

وَمِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحُكْمِ بِنَجَاسَةِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ: أَوَّلًا: دِبَاغُ جِلْدِ الْخِنْزِيرِ:

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ جِلْدُ الْخِنْزِيرِ بِالدِّبَاغِ وَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ، وَالدِّبَاغُ كَالْحَيَاةِ، فَكَمَا أَنَّ الْحَيَاةَ لَا تَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْهُ، فَكَذَا الدِّبَاغُ.وَوَجَّهَ الْمَالِكِيَّةُ قَوْلَهُمْ بِعَدَمِ طَهَارَةِ جِلْدِ الْخِنْزِيرِ بِالدِّبَاغِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلتَّذْكِيَةِ إِجْمَاعًا فَلَا تَعْمَلُ فِيهِ فَكَانَ مَيْتَةً فَلَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ وَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ.

وَيَتَّفِقُ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ مِنْ أَيِّ حَيَوَانٍ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، وَلَكِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ الِانْتِفَاعَ بِهِ بَعْدَ الدِّبَاغِ فِي غَيْرِ الْمَائِعَاتِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي الْمَائِعَاتِ كَذَلِكَ مَعَ الْيَابِسَاتِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ الْخِنْزِيرَ فَلَا تَتَنَاوَلُهُ الرُّخْصَةُ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ.

وَيُقَابِلُ الرِّوَايَةَ الْمَشْهُورَةَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا شَهَرَهُ عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ الْفَرَسِ مِنْ أَنَّ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ كَجِلْدِ غَيْرِهِ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْيَابِسَاتِ وَالْمَاءِ إِذَا دُبِغَ سَوَاءٌ ذُكِّيَ أَمْ لَا.

ثَانِيًا: سُؤْرُ الْخِنْزِيرِ:

6- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى نَجَاسَةِ سُؤْرِ الْخِنْزِيرِ لِكَوْنِهِ نَجِسَ الْعَيْنِ، وَكَذَا لُعَابُهُ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ عَنْهُ.

وَيَكُونُ تَطْهِيرُ الْإِنَاءِ إِذَا وَلَغَ فِيهِ بِأَنْ يُغْسَلَ سَبْعًا إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ- عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: «إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَلْيُرِقْهُ ثُمَّ لْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» وَفِي أُخْرَى: «طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ».

قَالُوا: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْكَلْبِ فَالْخِنْزِيرُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْكَلْبِ وَتَحْرِيمُهُ أَشَدُّ، لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ لَا يُقْتَنَى بِحَالٍ، وَلِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَى قَتْلِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، وَلِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ فِي قوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} فَثَبَتَ وُجُوبُ غَسْلِ مَا وَلَغَ فِيهِ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَكُونُ تَطْهِيرُ الْإِنَاءِ إِذَا وَلَغَ فِيهِ خِنْزِيرٌ بِأَنْ يُغْسَلَ ثَلَاثًا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ نَجَاسَةِ سُؤْرِ الْخِنْزِيرِ وَذَلِكَ لِطَهَارَةِ لُعَابِهِ عِنْدَهُمْ، وَقَدْ ثَبَتَ غَسْلُ الْإِنَاءِ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ تَعَبُّدًا فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْخِنْزِيرُ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلْمَالِكِيَّةِ: يُنْدَبُ الْغَسْلُ.

ثَالِثًا: حُكْمُ شَعْرِهِ:

7- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى نَجَاسَةِ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لِلْعَيْنِ النَّجِسَةِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَوْ خُرِزَ خُفٌّ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ لَمْ يَطْهُرْ مَحَلُّ الْخَرْزِ بِالْغَسْلِ أَوْ بِالتُّرَابِ لَكِنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، فَيُصَلَّى فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالنَّوَافِلُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجِبُ غَسْلُ مَا خُرِزَ بِهِ رَطْبًا وَيُبَاحُ اسْتِعْمَالُ مُنْخُلٍ مِنَ الشَّعْرِ النَّجِسِ فِي يَابِسٍ لِعَدَمِ تَعَدِّي نَجَاسَتِهِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الرَّطْبِ لِانْتِقَالِ النَّجَاسَةِ بِالرُّطُوبَةِ.

وَأَبَاحَ الْحَنَفِيَّةُ اسْتِعْمَالَ شَعْرِهِ لِلْخَرَّازِينَ لِلضَّرُورَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ فَإِذَا قُصَّ بِمِقَصٍّ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ وَإِنْ وَقَعَ الْقَصُّ بَعْدَ الْمَوْتِ، لِأَنَّ الشَّعْرَ مِمَّا لَا تَحِلُّهُ الْحَيَاةُ، وَمَا لَا تَحِلُّهُ الْحَيَاةُ لَا يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ غَسْلُهُ لِلشَّكِّ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ.أَمَّا إِذَا نُتِفَ فَلَا يَكُونُ طَاهِرًا.

رَابِعًا: حُكْمُ التَّدَاوِي بِأَجْزَائِهِ:

8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّدَاوِي بِالنَّجِسِ وَالْمُحَرَّمِ (فِي الْجُمْلَةِ) وَهُوَ شَامِلٌ لِلْخِنْزِيرِ.

وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ «تَدَاوِي».

خَامِسًا: تَحَوُّلُ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ:

9- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ يَطْهُرُ بِاسْتِحَالَتِهِ إِلَى عَيْنٍ أُخْرَى، فَإِذَا اسْتَحَالَتْ عَيْنُ الْخِنْزِيرِ إِلَى مِلْحٍ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ لَا يَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الْخَمْرَ وَجِلْدَ الْمَيْتَةِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَحَوُّلٌ ف 3- 5).

الِاعْتِبَارُ الثَّالِثُ: اعْتِبَارُ مَالِيَّةِ الْخِنْزِيرِ:

10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْخِنْزِيرِ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ.وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَالَ هُوَ مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا فِي غَيْرِ الضَّرُورَاتِ، وَالْخِنْزِيرُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ وَلِنَهْيِ الشَّارِعِ عَنْ بَيْعِهِ كَمَا يَأْتِي.

وَيَظْهَرُ أَثَرُ عَدَمِ اعْتِبَارِ الْخِنْزِيرِ مَالًا فِي الْآتِي:

أَوَّلًا: عَدَمُ صِحَّةِ بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ:

أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ بَيْعِ الْخِنْزِيرِ وَشِرَائِهِ، وَلِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ، فَقَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ ذَلِكَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ» وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ- سَوَاءٌ أَكَانَ ثَمَنًا أَمْ مُثَمَّنًا- أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا وَأَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ شَرْعًا.

وَالْأَصْلُ فِي حِلِّ مَا يُبَاعُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ لِأَنَّ بَيْعَ غَيْرِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ شَرْعًا لَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الرِّضَا، فَيَكُونُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}.

وَالْخِنْزِيرُ إِنْ كَانَ فِيهِ بَعْضُ الْمَنَافِعِ إِلاَّ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ شَرْعًا، وَالْمَعْدُومُ شَرْعًا كَالْمَعْدُومِ حِسًّا.

وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فِي حُكْمِ بَيْعِ الْخِنْزِيرِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ بَاطِلٌ إِذَا بِيعَ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَفَاسِدٌ إِذَا بِيعَ بِعَيْنٍ، عَلَى قَوْلِهِمْ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْبُطْلَانِ وَالْفَسَادِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ بَيْعِهِ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَبَيْنَ بَيْعِهِ بِعَيْنٍ، أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِإِهَانَةِ الْخِنْزِيرِ وَتَرْكِ إِعْزَازِهِ وَفِي شِرَائِهِ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ إِعْزَازٌ لَهُ، لِأَنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ فِي الْعَقْدِ لِكَوْنِهَا وَسِيلَةً لِلتَّمَلُّكِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْخِنْزِيرُ، وَلِذَا كَانَ بَيْعُهُ بِهِمَا بَاطِلًا وَيَسْقُطُ التَّقَوُّمُ.

أَمَّا إِذَا بِيعَ بِعَيْنٍ كَالثِّيَابِ، فَقَدْ وُجِدَتْ حَقِيقَةُ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، وَالْخِنْزِيرُ يُعْتَبَرُ مَالًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَمَا هُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، إِلاَّ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُعْتَبَرُ كُلٌّ مِنْهُمَا ثَمَنًا وَمَبِيعًا.وَرُجِّحَ اعْتِبَارُ الثَّوْبِ مَبِيعًا تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِ الْعُقَلَاءِ الَّذِي يَقْضِي بِأَنْ يَكُونَ الْإِعْزَازُ لِلثَّوْبِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ لَا الْخِنْزِيرُ.فَتَكُونُ تَسْمِيَةُ الْخِنْزِيرِ فِي الْعَقْدِ مُعْتَبَرَةً فِي تَمَلُّكِ الثَّوْبِ لَا فِي نَفْسِ الْخِنْزِيرِ، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ لِفَسَادِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى وَتَجِبُ قِيمَةُ الثَّوْبِ دُونَ الْخِنْزِيرِ.

إِقْرَارُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى اقْتِنَاءِ الْخِنْزِيرِ:

11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يُقَرُّونَ عَلَى مَا عِنْدَهُمْ مِنْ خَنَازِيرَ إِلاَّ أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ إِظْهَارِهَا، وَيُمْنَعُونَ مِنْ إِطْعَامِهَا مُسْلِمًا، فَإِذَا أَظْهَرُوهَا أُتْلِفَتْ وَلَا ضَمَانَ.

وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ تَمْكِينِهِمْ مِنْ إِظْهَارِهَا بِأَنْ يَكُونُوا بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا انْفَرَدُوا بِمَحَلَّةٍ مِنَ الْبَلَدِ، أَمَّا إِذَا انْفَرَدُوا بِبَلَدٍ بِأَنْ لَمْ يُخَالِطْهُمْ مُسْلِمٌ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُمْ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى إِجْبَارِ الزَّوْجَةِ الْكِتَابِيَّةِ عَلَى تَرْكِ أَكْلِ الْخِنْزِيرِ، لِأَنَّهُ مُنَفِّرٌ مِنْ كَمَالِ التَّمَتُّعِ، وَخَالَفَهُمْ فِي هَذَا الْمَالِكِيَّةُ فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ عِنْدَهُمْ مَنْعُهَا مِنْهُ.

سَرِقَةُ الْخِنْزِيرِ أَوْ إِتْلَافُهُ:

12- (أ) اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ وَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ سَرَقَ أَوْ أَتْلَفَ خِنْزِيرَ الْمُسْلِمِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُحْتَرَمٍ، وَلَا مُتَقَوِّمٍ، لِعَدَمِ جَوَازِ تَمَلُّكِهِ وَبَيْعِهِ وَاقْتِنَائِهِ.

(ب) وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ خِنْزِيرَ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ وَيَلْزَمُهُ رَدُّهُ إِذَا سَرَقَهُ.

وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «اتْرُكُوهُمْ وَمَا يَدِينُونَ» وَهُمْ يَدِينُونَ بِمَالِيَّةِ الْخِنْزِيرِ وَهُوَ مِنْ أَنْفَسِ الْأَمْوَالِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُ كَالشَّاةِ عِنْدَنَا.وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا قَبِلُوهَا» يَعْنِي الْجِزْيَةَ «أَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» وَلِلْمُسْلِمِينَ التَّضْمِينُ بِإِتْلَافِ مَا يَعْتَقِدُونَهُ مَالًا فَكَذَا يَكُونُ الذِّمِّيُّ، بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَالًا فِي حَقِّهِ أَصْلًا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا غَصَبَ مُسْلِمٌ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ خِنْزِيرًا رُدَّ إِلَيْهِمْ لِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» فَإِذَا أَتْلَفَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ فَلَيْسَ لَهُ عِوَضٌ شَرْعِيٌّ، سَوَاءٌ أَظْهَرُوهُ أَوْ لَمْ يُظْهِرُوهُ.إِلاَّ أَنَّهُ يَأْثَمُ إِذَا أَتْلَفَهُ فِي حَالِ عَدَمِ إِظْهَارِهِمْ لَهُ.

13- الْخِنْزِيرُ الْبَحْرِيُّ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْهُ فَقَالَ أَنْتُمْ تُسَمُّونَهُ خِنْزِيرًا يَعْنِي أَنَّ الْعَرَبَ لَا تُسَمِّيهِ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا لَا تَعْرِفُ فِي الْبَحْرِ خِنْزِيرًا وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ الدُّلْفِينُ.قَالَ الرَّبِيعُ سُئِلَ الشَّافِعِيُّ- رضي الله عنه- عَنْ خِنْزِيرِ الْمَاءِ فَقَالَ: يُؤْكَلُ وَرَوَى أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الْعِرَاقَ قَالَ فِيهِ حَرَّمَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحَلَّهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَرَوَى هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنهما- وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ، وَامْتَنَعَ مَالِكٌ أَنْ يَقُولَ فِيهِ شَيْئًا وَأَبْقَاهُ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى جِهَةِ الْوَرَعِ وَحَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ ابْنِ خَيْرَانَ أَنَّ أَكَّارًا صَادَ لَهُ خِنْزِيرَ مَاءٍ وَحَمَلَهُ إِلَيْهِ فَأَكَلَهُ، وَقَالَ كَانَ طَعْمُهُ مُوَافِقًا لِطَعْمِ الْحُوتِ سَوَاءً، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ سَأَلْتُ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ عَنْهُ فَقَالَ إِنْ سَمَّاهُ النَّاسُ خِنْزِيرًا لَمْ يُؤْكَلْ لِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخِنْزِيرَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


64-موسوعة الفقه الكويتية (خيار العيب 3)

خِيَارُ الْعَيْبِ -3

الْإِمْسَاكُ مَعَ الْأَرْشِ (أَوِ الرُّجُوعُ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ)

42- هُنَاكَ أُمُورٌ تَطْرَأُ عَلَى الْمَبِيعِ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ أَوْ تَصَرُّفٍ تَمْنَعُ رَدَّ الْمَبِيعِ، وَحِينَئِذٍ يَنْتَقِلُ حَقُّ الْمُشْتَرِي مِنَ الرَّدِّ إِلَى الرُّجُوعِ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ، عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ فِي هَذَا الْمُوجِبِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمُوجِبُ بَدِيلًا عَنِ الْخِيَارِ بَيْنَ الرَّدِّ وَالْإِمْسَاكِ (الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ) أَمْكَنَ تَسْمِيَتُهُ (الْمُوجِبَ الْخَلَفِيَّ) وَكَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ لَا يَجْتَمِعُ الْخَلَفُ وَالْأَصْلُ بَلْ يَتَعَاقَبَانِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ الْأَصْلُ يُصَارُ إِلَى مَا هُوَ خَلَفٌ لَهُ.

هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.وَقَدْ عَرَّفَ غَيْرُهُمْ هَذَا الْمُوجِبَ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَجَالِ، فَالْمَالِكِيَّةُ حِينَ جَعَلُوا الْعُيُوبَ أَنْوَاعًا ثَلَاثَةً: الْعَيْبُ الْيَسِيرُ (لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ)، وَعَيْبُ الرَّدِّ (وَهُوَ الْفَاحِشُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ الرَّدِّ وَالْإِمْسَاكِ بِلَا أَرْشٍ)، وَعَيْبُ الْقِيمَةِ، أَرَادُوا بِهَذَا الْأَخِيرِ الْعَيْبَ الْمُتَوَسِّطَ الَّذِي يُنْقِصُ مِنَ الثَّمَنِ، وَمُوجِبُ عَيْبِ الْقِيمَةِ أَنْ يَحُطَّ عَنِ الْمُشْتَرِي مِنَ الثَّمَنِ بِقَدْرِ نَقْصِ الْعَيْبِ، فَمِثْلُ هَذَا النَّوْعِ نُقْصَانُ الثَّمَنِ هُوَ مُوجِبُهُ الْأَصْلِيُّ.

كَمَا أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يُثْبِتُونَ الْخِيَرَةَ لِلْمُشْتَرِي بَيْنَ الْإِمْسَاكِ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ أَوِ الرَّدِّ وَلَوْ لَمْ يَتَعَذَّرَ الرَّدُّ.فَهَذَا هُوَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ لِلْخِيَارِ عِنْدَهُمْ، أَمَّا الْمُوجِبُ الْخَلَفِيُّ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ بِسَبَبِ عَيْبٍ حَادِثٍ فَهُوَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الرَّدِّ وَإِعْطَاءِ أَرْشِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ وَبَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَأَخْذِ أَرْشِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ.وَهُوَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا.

طَرِيقَةُ مَعْرِفَةِ الْأَرْشِ:

43- هِيَ أَنْ يُقَوَّمَ الْمَبِيعُ بِلَا عَيْبٍ، ثُمَّ يُقَوَّمُ مَعَ الْعَيْبِ وَيُنْظَرُ إِلَى التَّفَاوُتِ وَتُؤْخَذُ نِسْبَتُهُ إِلَى الْقِيمَةِ هَلْ هُوَ عُشْرٌ أَوْ ثُمُنٌ أَوْ رُبْعٌ..إِلَخْ.فَإِنْ كَانَ التَّفَاوُتُ عُشْرَ الْقِيمَةِ رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِعُشْرِ الثَّمَنِ.وَهَكَذَا.

قَالَ صَاحِبُ الْأَشْبَاهِ: وَلَمْ يَذْكُرْ قَاضِيخَانْ وَلَا الزَّيْلَعِيُّ وَلَا ابْنُ الْهُمَامِ هَلِ الْقِيمَةُ (الَّتِي يُنْسَبُ إِلَيْهَا النُّقْصَانُ) يَوْمَ الْعَقْدِ أَوِ الْقَبْضِ؟ وَيَنْبَغِي اعْتِبَارُهَا يَوْمَ الْعَقْدِ.

وَفِي الْمُغْنِي أَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ قَالَ: يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ فِي الثَّمَنِ يَوْمَ اشْتَرَاهُ قَالَ أَحْمَدُ: هَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ.وَقَالَ فِي شَرْحِ الرَّوْضِ «هُوَ أَقَلُّ قِيمَتَيْ وَقْتِ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ».

مَوَانِعُ الرَّدِّ:

44- تَنْقَسِمُ مَوَانِعِ الرَّدِّ إِلَى مَانِعٍ طَبِيعِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ أَوْ عَقْدِيٍّ.

أَوَّلًا- الْمَانِعُ الطَّبِيعِيُّ:

45- ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّ هَلَاكَ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ يَمْنَعُ الرَّدَّ، لِفَوَاتِ مَحَلِّ الرَّدِّ، وَلَا يَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِشَيْءٍ مِنَ الثَّمَنِ، لِأَنَّهُ يَحْمِلُ تَبِعَةَ الْهَلَاكِ قَبْل"

الْقَبْضِ.أَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَقَدْ أَفَادَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ أَنَّ مَوْتَ مَحَلِّ الرَّدِّ بِيَدِ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ الرَّدَّ وَيَجْعَلُ مُوجِبَ الْخِيَارِ الرُّجُوعُ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ هَلَاكَ الْمَبِيعِ بِسَبَبٍ سَمَاوِيٍّ يَمْتَنِعُ مَعَهُ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ الَّذِي هُوَ الرَّدُّ لِيَحِلَّ مَحَلَّهُ الْمُوجِبُ الْخَلَفِيُّ (نُقْصَانُ الثَّمَنِ).

وَيَسْتَوِي فِي الْهَلَاكِ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبٍ سَمَاوِيٍّ أَوْ بِاسْتِهْلَاكِ الْمُشْتَرِي لَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْمَالِ وَالِانْتِفَاعِ الْمَشْرُوعِ، لَا الْإِتْلَافِ، وَذَلِكَ بِأَكْلِ الطَّعَامِ أَوْ لُبْسِ الثَّوْبِ حَتَّى يَتَخَرَّقَ، وَفِي هَذَا النَّوْعِ خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَاعْتِبَارُهُ فِي مَوَانِعِ الرَّدِّ دُونَ الْأَرْشِ هُوَ مَذْهَبُ الصَّاحِبَيْنِ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَنَعَ بِالْمَبِيعِ مَا يُقْصَدُ بِشِرَائِهِ وَيُعْتَادُ فِعْلُهُ فِيهِ مِنَ الْأَكْلِ وَاللُّبْسِ حَتَّى انْتَهَى الْمِلْكُ بِهِ.وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِفِعْلٍ مَضْمُونٍ مِنْهُ لَوْ وُجِدَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، وَقَدِ انْتَفَى الضَّمَانُ لِمِلْكِهِ فَكَانَ كَالْمُسْتَفِيدِ بِهِ عِوَضًا.وَإِنِ اقْتَصَرَ الِاسْتِهْلَاكُ عَلَى بَعْضِهِ، فَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ فِي الْأَكْلِ وَفِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ يَرُدُّ مَا بَقِيَ وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ مَا أَكَلَ.

وَمِثْلُ الْهَلَاكِ فِي امْتِنَاعِ الرَّدِّ: انْتِهَاءُ الْمِلْكِ عَنِ الشَّيْءِ بِالْمَوْتِ، لِأَنَّهُ يَنْتَهِي بِهِ الْمِلْكُ لَا بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي، فَيَمْتَنِعُ الرَّدُّ حُكْمًا وَيَبْقَى لَهُ الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ.

وَقَدْ سَوَّى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ هَلَاكِ الْمَعِيبِ بِالْعَيْبِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَهُمَا، فَوَافَقُوهُمْ فِي الرُّجُوعِ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ فِي الْهَلَاكِ بِغَيْرِ الْعَيْبِ الْمُدَلَّسِ، أَمَّا فِيهِ فَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ.أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَالتَّفْرِقَةُ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ بِحَسَبِ الْهَلَاكِ بِالْعَيْبِ أَوْ غَيْرِهِ بَلْ بِحَسَبِ وُقُوعِ التَّدْلِيسِ وَعَدَمِهِ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ سَيِّئَ النِّيَّةِ وَدَلَّسَ الْعَيْبَ ثُمَّ هَلَكَ الْمَبِيعُ بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ فَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ.أَمَّا إِذَا لَمْ يُدَلِّسَ الْبَائِعُ فَرُجُوعُهُ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ فَقَطْ.وَيَرْبِطُ الْمَالِكِيَّةُ مِقْدَارَ الْجَزَاءِ بِأَثَرِ الْعَمَلِ، فَلَا يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْعَيْبُ الْمُدَلَّسُ هُوَ الَّذِي أَوْدَى بِالْمَبِيعِ.وَيُسَمِّي الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِالْفَوْتِ وَيُقَسِّمُونَهُ إِلَى فَوْتٍ حِسِّيٍّ، وَفَوْتٍ حُكْمِيٍّ.

ثَانِيًا- الْمَانِعُ الشَّرْعِيُّ:

46- هَذَا الْمَانِعُ عِبَارَةٌ عَنْ حُصُولِ زِيَادَةٍ فِي الْمَبِيعِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنْ تَكُونَ زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً (بَعْدَ الْقَبْضِ) أَوْ مُتَّصِلَةً غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ (مُطْلَقًا، قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ) فَظُهُورُ الزِّيَادَةِ بَعْدَمَا ظَهَرَ عَيْبٌ فِي الْمَبِيعِ يَمْتَنِعُ بِهِ الرَّدُّ وَلَوْ قَبِلَ الْبَائِعُ، لِأَنَّ الْمَنْعَ لِحَقِّ الشَّرْعِ.وَفِيمَا يَأْتِي تَفْصِيلُ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ الْمَانِعَتَيْنِ مِنَ الرَّدِّ وَالنَّاقِلَتَيْنِ الْمُوجِبَ إِلَى الْأَرْشِ.

أَوَّلًا- الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ (مُطْلَقًا: قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ) كَالصَّبْغِ وَالْخِيَاطَةِ فِي الثَّوْبِ، وَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ فِي الْأَرْضِ، لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ تَابِعَةً، بَلْ هِيَ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا فَتَعَذَّرَ مَعَهَا رَدُّ الْمَبِيعِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ بِدُونِ الزِّيَادَةِ لِتَعَذُّرِ الْفَصْلِ، وَلَا يُمْكِنُ رَدُّهُ مَعَ الزِّيَادَةِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ تَابِعَةً فِي الْعَقْدِ فَلَا تَكُونُ تَابِعَةً فِي الْفَسْخِ (إِلاَّ إِنْ تَرَاضَيَا عَلَى الْفَسْخِ فَهُوَ إِقَالَةٌ وَكَبَيْعٍ جَدِيدٍ) وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ: أَنَا أَقْبَلُهُ كَذَلِكَ، وَرَضِيَ الْمُشْتَرِي لَا يَجُوزُ أَيْضًا، لِأَنَّ الْمَنْعَ لِحَقِّ الشَّرْعِ لِاسْتِلْزَامِهِ الرِّبَا.

ثَانِيًا- الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ، بَعْدَ الْقَبْضِ خَاصَّةً، كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ.وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ أَيْضًا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مَبِيعَةٌ تَبَعًا لِثُبُوتِ حُكْمِ الْأَصْلِ وَحَصَلَتْ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ رَدَّهَا مَعَ الْأَصْلِ كَانَتْ لِلْبَائِعِ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَإِنِ اسْتَبْقَاهَا وَرَدَّ الْأَصْلَ فَإِنَّهَا تَبْقَى فِي يَدِهِ بِلَا ثَمَنٍ، وَهَذَا مِنْ صُوَرِ الرِّبَا.

وَخَالَفَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَعَدَّهَا كَالْكَسْبِ، لِإِمْكَانِ الْفَصْلِ عَنِ الْأَصْلِ بِدُونِهَا، وَالزِّيَادَةُ لِلْمُشْتَرِي، فَهِيَ لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ.

47- أَمَّا صُوَرُ الزِّيَادَةِ الْأُخْرَى فَلَا تَمْنَعُ الرَّدَّ، وَلِذَا لَا رُجُوعَ مَعَهَا بِالْأَرْشِ، وَهِيَ:

1- الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ، كَالْكِبَرِ وَالسِّمَنِ، وَمِنْهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْجَنِينُ قَبْلَ الْوَضْعِ وَالثَّمَرَةُ قَبْلَ التَّأْبِيرِ.وَهِيَ لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِرَدِّهَا مَعَ الْأَصْلِ وَإِنْ أَبَى الْمُشْتَرِي الرَّدَّ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِالْأَرْشِ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ.

وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَمَحَّضَتْ تَابِعَةً لِلْأَصْلِ بِتَوَلُّدِهَا مِنْهُ مَعَ عَدَمِ انْفِصَالِهَا فَكَأَنَّ الْفَسْخَ لَمْ يَرِدْ عَلَى زِيَادَةٍ أَصْلًا- كَمَا قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ- أَوْ كَمَا قَالَ الْكَاسَانِيُّ: كَانَتِ الزِّيَادَةُ مَبِيعَةً تَبَعًا، وَمَا كَانَ تَبَعًا فِي الْعَقْدِ يَكُونُ تَبَعًا فِي الْفَسْخِ.وَلَا فَرْقَ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ بَيْنَ أَنْ تَحْدُثَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ. 2- الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ: قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ وَالثَّمَرِ فِي بَيْعِ الشَّجَرِ وَهِيَ لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ، لَكِنْ لَا يُرَدُّ الْأَصْلُ وَحْدَهُ، بَلْ إِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي رَدَّهُمَا جَمِيعًا وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُرَدُّ الْأَصْلُ دُونَ الزِّيَادَةِ، فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي.

3- الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ، كَالْغَلَّةِ وَالْكَسْبِ، وَهِيَ لَا تَمْنَعُ مِنَ الرَّدِّ وَهُوَ الْحُكْمُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَيُفْسَخُ الْعَقْدُ فِي الْأَصْلِ دُونَ الزِّيَادَةِ وَيُسَلَّمُ الْكَسْبُ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي ضَمَانِهِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ قَوْلُ الْبَائِعِ: إِنَّهُ اسْتَغَلَّ غُلَامَهُ فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم- «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» وَلِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ وَإِنَّمَا هِيَ مَمْلُوكَةٌ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، فَبِالرَّدِّ يُفْسَخُ الْعَقْدُ فِي الْأَصْلِ وَتَبْقَى الزِّيَادَةُ مَمْلُوكَةً لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ ثَمَنٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (لَكِنَّهَا لَا تَطِيبُ لَهُ، لِأَنَّهَا وَإِنْ حَدَثَتْ عَلَى مِلْكِهِ هِيَ رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ، وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ: الزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ وَلَا تَطِيبُ لَهُ) هَذَا إِذَا اخْتَارَ الرَّدَّ، أَمَّا إِنْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ وَاخْتَارَ الْبَيْعَ فَالزِّيَادَةُ لَا تَطِيبُ لَهُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهَا رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فِي الْعَقْدِ وَهُوَ رِبًا، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْكَسْبُ لِلْمُشْتَرِي بِمُقَابَلَةِ ضَمَانِهِ، دُونَ فَرْقٍ بَيْنَ مَا يَقْبَلُ الْقَبْضَ أَوْ بَعْدَهُ. 48- هَذَا إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ قَائِمَةً فَإِنْ هَلَكَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَمْ يَتَغَيَّرَ الْحُكْمُ، وَإِنْ هَلَكَتْ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْقَبُولِ وَرَدِّ جَمِيعِ الثَّمَنِ وَبَيْنَ الرَّفْضِ وَرَدِّ النُّقْصَانِ، وَإِنْ هَلَكَتْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ امْتَنَعَ الرَّدُّ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ قَالَ الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ إِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ:

1- زِيَادَةٌ لِحَوَالَةِ الْأَسْوَاقِ.

2- وَزِيَادَةٌ فِي حَالَةِ الْبَيْعِ وَكِلَاهُمَا لَا يُعْتَبَرُ وَلَا يُوجِبُ لِلْمُبْتَاعِ خِيَارًا.صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْعُيُوبِ مِنَ الْمُدَوَّنَةِ فَقَالَ فِي أَوَّلِهِ وَلَا يُفِيتُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ حَوَالَةَ الْأَسْوَاقِ.

3- وَزِيَادَةٌ فِي عَيْنِ الْمَبِيعِ بِنَمَاءٍ حَادِثٍ فِيهِ كَالدَّابَّةِ تَسْمَنُ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ مُضَافٍ إِلَيْهِ كَالْوَلَدِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ.

4- وَزِيَادَةٌ مُضَافَةٌ لِلْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ النَّخْلَ وَلَا ثَمَرَ فِيهِ فَتُثْمِرَ عِنْدَهُ ثُمَّ يَجِدَ عَيْبًا، فَهَذَا لَا اخْتِلَافَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ لَهُ خِيَارًا، وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ النَّخْلَ وَثَمَرَتَهَا مَا لَمْ يَطِبْ وَيَرْجِعَ بِالْعِلَاجِ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَوْ يُمْسِكَ وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَقَوْلُهُ مَا لَمْ يَطِبْ أَيْ مَا لَمْ تُزْهُ.

5- وَزِيَادَةٌ أَحْدَثَهَا الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ مِنْ صَنْعَةٍ مُضَافَةٍ إِلَيْهِ كَالصَّبْغِ وَالْخِيَاطَةِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِمَّا لَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ إِلاَّ بِفَسَادٍ، فَلَا اخْتِلَافَ أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ لَهُ الْخِيَارَ بَيْنَ أَنْ يَتَمَسَّكَ وَيَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ أَوْ يَرُدَّ وَيَكُونَ شَرِيكًا لَهُ، وَنَحْوُهُ لِلْبَاجِيِّ.فِي الْمُنْتَقَى وَذَكَرَ الْبَاجِيُّ خَمْسَةَ الْأَوْجُهِ.

49- قَالَ الْحَطَّابُ: وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّقْوِيمِ فَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ غَازِيٍّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إِذَا حَدَثَتْ زِيَادَةٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَحْدُثْ عِنْدَهُ عَيْبٌ فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ، فَإِنِ اخْتَارَ الْإِمْسَاكَ فَيُقَوَّمُ الْمَبِيعُ تَقْوِيمَيْنِ، يُقَوَّمُ سَالِمًا، ثُمَّ مَعِيبًا، وَيَأْخُذُ مِنَ الثَّمَنِ بِنِسْبَةِ ذَلِكَ، وَإِنِ اخْتَارَ الرَّدَّ قُوِّمَ تَقْوِيمَيْنِ أَيْضًا فَيُقَوَّمُ بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ غَيْرَ مَصْبُوغٍ ثُمَّ يُقَوَّمُ مَصْبُوغًا، فَمَا زَادَتْ قِيمَتُهُ مَصْبُوغًا عَلَى قِيمَتِهِ غَيْرَ مَصْبُوغٍ نُسِبَ إِلَى قِيمَتِهِ مَصْبُوغًا وَكَانَ الْمُشْتَرِي شَرِيكًا فِي الثَّوْبِ بِنِسْبَتِهِ، كَمَا إِذَا قُوِّمَ غَيْرَ مَصْبُوغٍ بِثَمَانِينَ، وَقُوِّمَ مَصْبُوغًا بِتِسْعِينَ، فَيَنْسِبُ الْعَشَرَةَ الزَّائِدَةَ إِلَى تِسْعِينَ فَتَكُونُ تِسْعًا فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي شَرِيكًا فِي الثَّوْبِ بِالتِّسْعِ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ مَصْبُوغًا وَغَيْرَ مَصْبُوغٍ يَوْمَ الْبَيْعِ عِنْدَ ابْنِ يُونُسَ، وَيَوْمَ الْحُكْمِ عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ، وَأَمَّا إِذَا حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَيْبٌ وَزِيَادَةٌ فَإِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الْإِمْسَاكَ قُوِّمَ الْمَبِيعُ تَقْوِيمَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنِ اخْتَارَ الرَّدَّ فَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: لَا بُدَّ مِنْ أَرْبَعِ تَقْوِيمَاتٍ، يُقَوَّمُ سَالِمًا ثُمَّ بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ، ثُمَّ بِالْحَادِثِ، ثُمَّ بِالزِّيَادَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: لَا حَاجَةَ إِلَى تَقْوِيمِهِ سَالِمًا وَلَا إِلَى تَقْوِيمِهِ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ وَإِنَّمَا يُقَوَّمُ بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ ثُمَّ بِالزِّيَادَةِ فَيُشَارِكُ فِي الْمَبِيعِ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ.

ثَالِثًا- الْمَانِعُ الْعَقَدِيُّ: (الْعَيْبُ الْحَادِثُ)

50- الْعَقْدُ الْمُبْرَمُ بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ يَقُومُ عَلَى الِالْتِزَامِ بِمَا أَلْزَمَ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا نَفْسَهُ مِنْ مَبِيعٍ وَثَمَنٍ، بِمُوجَبِ الْعَقْدِ، وَلِذَا كَانَ حَقُّ الرَّدِّ لِلْمَعِيبِ مُقَيَّدًا بِأَنْ لَا يَقَعَ مَا يُخِلُّ بِالِالْتِزَامَاتِ الْمُوَزَّعَةِ فِي الْعَقْدِ، فَإِذَا تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ حَادِثٍ، سَوَاءٌ كَانَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ ذَا حَيَاةٍ، فَإِنَّ الرَّدَّ لِلْمَعِيبِ- وَهُوَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ- يَمْتَنِعُ، وَيَنْتَقِلُ إِلَى الْمُوجِبِ الْخَلَفِيِّ وَهُوَ الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّ شَرْطَ الرَّدِّ أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ عِنْدَ الرَّدِّ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا عِنْدَ الْقَبْضِ وَلَمْ يُوجَدْ لِخُرُوجِهِ مَعِيبًا بِعَيْبٍ وَاحِدٍ فَقَطْ، وَلِأَنَّ فِي الرَّدِّ إِضْرَارًا بِالْبَائِعِ وَهُوَ إِخْلَالٌ بِطَبِيعَةِ الْعَقْدِ، لِأَنَّ الْمَبِيعَ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ سَالِمًا مِنَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ فَلَوْ أُلْزِمَ بِهِ مَعِيبًا تَضَرَّرَ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يَضْمَنُ الْعَيْبَ الْقَدِيمَ لَا يَضْمَنُ الْحَادِثَ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَالْمَبِيعُ بِيَدِ الْمُشْتَرِي فَانْعَدَمَ شَرْطُ الرَّدِّ، وَبِمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمُشْتَرِي لِمُقَابَلَةِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ الَّذِي صَارَ مُسْتَحِقًّا لَهُ بِالْعَقْدِ فَقَدْ تَعَيَّنَ الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ وَرَدِّ حِصَّةِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ بِالثَّمَنِ

وَلَمْ يَجْعَلِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ لِلْمُشْتَرِي حَقَّ الرَّدِّ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُوَ السَّبَبُ بِالْعَجْزِ عَنِ الرَّدِّ بِمَا بَاشَرَهُ فِي الْبَيْعِ- أَوْ بِمَا حَصَلَ فِيهِ عَلَى ضَمَانِهِ- وَفِي إِلْزَامِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ إِضْرَارٌ بِالْبَائِعِ لَا لِفِعْلٍ بَاشَرَهُ (وَتَقْصِيرُهُ بِعَدَمِ بَيَانِ الْعَيْبِ لَا يَمْنَعُ عِصْمَةَ مَالِهِ) فَكَانَ الْأَنْظَرُ لِلطَّرَفَيْنِ هُوَ دَفْعَ الْأَرْشِ لِلْعَيْبِ الْقَدِيمِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ- وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لِلْحَنَابِلَةِ- يُخَيَّرُ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَأَخْذِ أَرْشِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ وَبَيْنَ الرَّدِّ مَعَ أَرْشِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ مَا لَمْ يَقْبَلْهُ الْبَائِعُ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَيْبٌ سَقَطَ الرَّدُّ قَهْرًا ثُمَّ إِنْ رَضِيَ بِهِ الْبَائِعُ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي أَوْ قَنَعَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْبَائِعُ مَعِيبًا ضَمَّ الْمُشْتَرِي أَرْشَ الْحَادِثِ إِلَى الْمَبِيعِ وَرَدَّ، أَوْ غَرِمَ أَرْشَ الْقَدِيمِ وَلَا يَرُدُّ.فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَذَاكَ وَإِلاَّ فَالْأَصَحُّ إِجَابَةُ مَنْ طَلَبَ الْإِمْسَاكَ.وَيَجِبُ أَنْ يُعْلِمَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ عَلَى الْفَوْرِ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ لِيَخْتَارَ، فَإِنْ أَخَّرَ إِعْلَامَهُ بِلَا عُذْرٍ فَلَا رَدَّ وَلَا أَرْشَ.

أَمَّا الثَّانِيَةُ فَهِيَ أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الرَّدِّ مَعَ أَرْشِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ وَبَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَأَخْذِ أَرْشِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ.

سُقُوطُ الْخِيَارِ وَانْتِهَاؤُهُ:

51- خِيَارُ الْعَيْبِ يَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْعَقْدِ أَيْ فَسْخِهِ، فَيَكُونُ الْخِيَارُ مُنْتَهِيًا تَبَعًا لَهُ، لَكِنَّ ذَلِكَ يَسْتَتْبِعُ آثَارَهُ أَحْيَانًا فِيمَا إِذَا عَادَ الْمَبِيعُ الْمَعِيبُ إِلَى الْبَائِعِ وَفِيهِ عَيْبٌ حَادِثٌ لَدَى الْمُشْتَرِي.كَمَا يَنْتَهِي خِيَارُ الْعَيْبِ بِاخْتِيَارِ إِمْسَاكِ الْبَيْعِ الْمَعِيبِ وَأَخْذِ أَرْشِ الْعَيْبِ، وَهَذَا الِاخْتِيَارُ إِمَّا أَنْ يَقَعَ صَرَاحَةً بِالْقَوْلِ الْمُعَبِّرِ عَنِ الرِّضَا، وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ بِالتَّصَرُّفِ الدَّالِّ عَلَى الرِّضَا، (أَمَّا غَيْرُ الدَّالُّ عَلَى الرِّضَا فَيُسْقِطُ الرَّدَّ دُونَ الْأَرْشِ).

وَقَدْ يَنْتَهِي الْخِيَارُ بِزَوَالِ الْعَيْبِ قُبَيْلَ اسْتِعْمَالِ حَقِّ الرَّدِّ، وَفِي بَعْضِ صُوَرِ الْوِلَايَةِ عَنِ الصَّغِيرِ وَغَيْرِهِ، أَوِ الْوَكَالَةِ، يَتَعَيَّنُ التَّنَازُلُ عَنِ الْخِيَارِ لِكَوْنِ الْإِمْسَاكِ لِلْعَقْدِ أَكْثَرَ حَظْوَةً وَفَائِدَةً، وَنَظَرُ الْوِلَايَةِ وَالنِّيَابَةِ عَنِ الْغَيْرِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلَحِ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الْمُسْقِطَةِ إِرَادِيٌّ يَصْدُرُ مِنَ الْعَاقِدِ، وَبَعْضُهَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَرْعًا أَوْ يَقَعُ دُونَ إِرَادَتِهِ، وَلِهَذَا تَفَرَّقَتِ الْمُسْقِطَاتُ، لِاجْتِذَابِ هَذِهِ الْعَوَامِلِ لَهَا إِلَى:

1- زَوَالِ الْعَيْبِ قَبْلَ الرَّدِّ. 2- إِسْقَاطُ الْخِيَارِ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ وَالْإِبْرَاءِ عَنْهُ، أَوِ التَّنَازُلِ بِمُقَابِلٍ.

3- وُجُوبُ تَرْكِ الرَّدِّ رِعَايَةً لِلْمَصْلَحَةِ، بِحُكْمِ الشَّرْعِ.

4- الرِّضَا بِالْعَيْبِ صَرَاحَةً.

5- التَّصَرُّفَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الرِّضَا.

أَوَّلًا: زَوَالُ الْعَيْبِ قَبْلَ الرَّدِّ.

52- يَسْقُطُ خِيَارُ الْعَيْبِ- الرَّدُّ وَالْأَرْشُ- إِذَا زَالَ الْعَيْبُ قَبْلَ الرَّدِّ، لِأَنَّ الشَّرِيطَةَ الْأُولَى لِقِيَامِ الْخِيَارِ قَدْ تَخَلَّفَتْ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ أَنْ يَزُولَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِإِزَالَةِ الْبَائِعِ، عَلَى أَنْ يَتِمَّ ذَلِكَ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ وَمِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ بِالْمُشْتَرِي..وَلِهَذَا الزَّوَالِ بَعْضُ الصُّوَرِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي تَعَرَّضَ لَهَا ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتَاوَاهُ، مِنْهَا:

تَدَارُكُ الْعَيْبِ بِزَمَنٍ يَسِيرٍ يَمْنَعُ الْخِيَارَ، وَذَلِكَ فِيمَا لَوْ بِيعَتْ أَرْضٌ وَفِي الْمَبِيعِ بَذْرٌ تَعَهَّدَ الْبَائِعُ بِتَرْكِهِ أَوْ بِالْفَرَاغِ مِنْهُ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ، لَا يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي، كَمَا لَوِ اشْتَرَى دَارًا ثُمَّ رَأَى خَلَلًا بِسَقْفِهَا أَوْ بَالُوعَةً..يَلْزَمُ الْقَبُولُ، وَلَا نَظَرَ لِلْمِنَّةِ اللاَّحِقَةِ بِهِ.وَنَحْوُهُ شِرَاءُ أَرْضٍ فِيهَا دَفِينٌ مِنْ حَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ..لَا تُدْخَلُ، وَتَرْكُهَا غَيْرُ مُضِرٍّ وَقَلْعُهَا مُضِرٌّ يُسْقِطُ الْخِيَارَ، لِكَوْنِ النَّقْلِ يُنْقِصُ قِيمَتَهَا أَوْ يَحْتَاجُ لِمُدَّةٍ لَهَا أُجْرَةٌ (وَلَا نَظَرَ لِمَا فِي التَّرْكِ مِنَ الْمِنَّةِ لِأَنَّهُ ضِمْنَ عَقْدٍ) وَهَذَا التَّرْكُ إِعْرَاضٌ لَا تَمْلِيكٌ، فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِيهِ، فَإِذَا رَجَعَ عَادَ خِيَارُ الْمُشْتَرِي، فَلَوْ وَهَبَهَا لَهُ بِشُرُوطِهِ لَزِمَهُ الْقَبُولُ وَسَقَطَ خِيَارُهُ وَلَا رُجُوعَ لِلْبَائِعِ.

زَوَالُ الْعَيْبِ بِالتَّرْكِ مِنْ غَيْرِ لُحُوقِ مِنَّةٍ: فِيمَا لَوْ أَنْعَلَ الْمُشْتَرِي الدَّابَّةَ ثُمَّ بَانَ عَيْبُهَا، فَلَوْ نَزَعَ النَّعْلَ تَعَيَّبَتْ وَامْتَنَعَ الرَّدُّ، وَإِنْ تَرَكَهُ فَلَهُ الرَّدُّ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ الِامْتِنَاعُ عَنِ الْقَبُولِ.

وَجْهُ عَدَمِ الْمِنَّةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَا يَقَعُ فِي ضِمْنِ عَقْدٍ يَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ تَوْفِيرِ غَرَضٍ لِبَاذِلِهِ فَلَمْ تُوجَدْ فِيهِ حَقِيقَةُ الْمِنَّةِ، لَا سِيَّمَا وَقَدِ انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ إِجْبَارُ الشَّرْعِ لَهُ عَلَى الْقَبُولِ فَهُوَ كَارِهٌ لَهُ، وَالْكَارِهُ لِلشَّيْءِ لَا يُتَوَهَّمُ لُحُوقُ مِنَّةٍ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.

ثَانِيًا- وُجُوبُ تَرْكِ الرَّدِّ رِعَايَةً لِلْمَصْلَحَةِ:

53- وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ فِي إِمْسَاكِ الْمَعِيبِ وَالْعَاقِدُ مُقَيَّدُ التَّصَرُّفِ: وَذَلِكَ مَا إِذَا كَانَ فِي الْعَقْدِ غِبْطَةٌ، أَيْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ، وَلِهَذَا صُوَرٌ:

أ- لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُفْلِسًا، لِأَنَّ فِي الرَّدِّ وَالْحَالَةُ هَذِهِ تَفْوِيتَ الْفَرْقِ عَلَى الْغُرَمَاءِ.

ب- لَوْ كَانَ وَلِيًّا يَشْتَرِي لِمُوَلِّيهِ فِي حَالٍ يَصِحُّ فِيهَا شِرَاؤُهُ لَهُ، كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُ سَلِيمًا ثُمَّ تَعَيَّبَ قَبْلَ الْقَبْضِ.لِأَنَّ الرَّدَّ تَصَرُّفٌ ضَارٌّ بِحَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فَلَا يَصِحُّ. ج- أَوْ كَانَ عَامِلَ قِرَاضٍ وَلَمْ يُصَرِّحَ الْمَالِكُ بِطَلَبِ الرَّدِّ، لِلْعِلَّةِ نَفْسِهَا.

ثَالِثًا- إِسْقَاطُ الْخِيَارِ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ، وَالْإِبْرَاءِ عَنْهُ

54- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ إِسْقَاطَ الْمُشْتَرِي خِيَارَ الْعَيْبِ إِسْقَاطٌ سَائِغٌ، لِأَنَّ الْخِيَارَ حَقٌّ خَالِصٌ لِلْمُشْتَرِي فَلَهُ النُّزُولُ عَنْهُ.وَهُوَ فِي هَذَا يُخَالِفُ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ الَّذِي لَا يَصِحُّ إِنْهَاؤُهُ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ لِأَنَّهُ خِيَارٌ حُكْمِيٌّ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ بَلْ يَسْقُطُ تَبَعًا وَضِمْنًا.

هَذَا عَنْ إِسْقَاطِ خِيَارِ الرَّدِّ، وَأَمَّا حَقُّ الرُّجُوعِ بِالْأَرْشِ (نُقْصَانِ الثَّمَنِ) فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ صَرِيحُ الْإِبْطَالِ، لِأَنَّهُ حَقُّهُ كَخِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ لِثُبُوتِهِ بِالشَّرْطِ (وَهِيَ السَّلَامَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي الْعَقْدِ دَلَالَةً) وَالْإِنْسَانُ بِسَبِيلٍ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّهِ مَقْصُودًا اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا.

وَمِثْلُ الْإِسْقَاطِ فِي الْحُكْمِ الْإِبْرَاءُ، بِأَنْ يُبَرِّئَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ مِنَ الْعَيْبِ، لِأَنَّ (الْإِبْرَاءَ) فِي حَقِيقَتِهِ إِسْقَاطٌ، وَلِلْمُشْتَرِي هُنَا وِلَايَةُ الْإِسْقَاطِ لِأَنَّ الْخِيَارَ حَقُّهُ وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ.

هَذَا وَلَا يَسْقُطُ الْخِيَارُ بِعِوَضٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَدْ سُئِلَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ عَنْ بَذْلِ عِوَضٍ لِتَرْكِ رَدِّ الْعَيْبِ، هَلْ يَجُوزُ كَعِوَضِ الْخُلْعِ؟ فَأَجَابَ: «لَا يَجُوزُ بَذْلُ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَةِ تَرْكِ خِيَارِ الْعَيْبِ، لَا مِنَ الْأَجْنَبِيِّ وَلَا مِنَ الْبَائِعِ، لِأَنَّهُ خِيَارُ فَسْخٍ فَأَشْبَهَ خِيَارَ التَّرَوِّي فِي كَوْنِهِ غَيْرَ مُتَقَوِّمٍ».وَهَذَا غَيْرُ الْأَرْشِ لِأَنَّهُ لَيْسَ عِوَضًا لِتَرْكِ الْخِيَارِ أَصْلًا، بَلْ هُوَ تَقْوِيمٌ لِنُقْصَانِ الثَّمَنِ اعْتِرَافًا بِالْخِيَارِ وَعَمَلًا بِمَضْمُونِهِ.

رَابِعًا- الرِّضَا بِالْعَيْبِ صَرَاحَةً:

55- رِضَا الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ إِذَا عَبَّرَ عَنْهُ بِصُورَةٍ صَرِيحَةٍ، كَلَفْظِ: رَضِيتُ بِالْعَيْبِ، أَسْقَطْتُ خِيَارَ الْعَيْبِ، أَجَزْتُ الْعَقْدَ، أَمْضَيْتُهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ الْمُفِيدَةِ لِلرِّضَا، فَإِنَّ الْخِيَارَ يَسْقُطُ أَصْلًا أَيْ يَنْتَهِي حَقُّ الرَّدِّ وَالْأَرْشِ مَعًا.

ذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ إِنَّمَا هُوَ لِفَوَاتِ السَّلَامَةِ الْمَشْرُوطَةِ دَلَالَةً فِي الْعَقْدِ، وَإِذَا رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ فَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ نَزَلَ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْهُ ابْتِدَاءً وَأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطِ السَّلَامَةَ دَلَالَةً، وَقَدْ ثَبَتَ الْخِيَارُ نَظَرًا لَهُ فَإِذَا لَمْ يَنْظُرْ لِنَفْسِهِ وَرَضِيَ بِالضَّرَرِ فَذَاكَ لَهُ.

وَكَذَلِكَ الْحَالُ إِذَا تَنَاوَلَ الرِّضَا بِالْعَيْبِ حَقَّ الرُّجُوعِ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ، كَمَا لَوِ انْتَقَصَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَامْتَنَعَ الرَّدُّ بِسَبَبِ النُّقْصَانِ وَوَجَبَ الْأَرْشُ، لَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ حِينَئِذٍ أَظْهَرَ رِضَاهُ بِالْعَيْبِ فَإِنَّ الْخِيَارَ يَسْقُطُ جُمْلَةً.

خَامِسًا: التَّصَرُّفَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الرِّضَا:

56- الرِّضَا بِالْعَيْبِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالدَّلَالَةِ وَمَجَالُهَا الْأَفْعَالُ (أَوِ التَّصَرُّفَاتُ) وَذَلِكَ بِأَنْ يُوجَدَ مِنَ الْمُشْتَرِي (بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ) تَصَرُّفٌ فِي الْمَبِيعِ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِالْعَيْبِ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: «كُلُّ تَصَرُّفٍ يُوجَدُ مِنَ الْمُشْتَرِي فِي الْمُشْتَرَى بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِالْعَيْبِ يُسْقِطُ الْخِيَارَ»

وَالتَّصَرُّفَاتُ بِالنِّسْبَةِ لِهَذَا الْمُسْقِطِ يُمْكِنُ تَصْنِيفُهَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ:

1- تَصَرُّفَاتِ اسْتِعْمَالٍ لِلْمَبِيعِ وَاسْتِغْلَالٍ لَهُ وَانْتِفَاعٍ مِنْهُ:

57- وَذَلِكَ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ دُونَ انْتِقَاصٍ لِعَيْنِهِ أَوْ إِتْلَافٍ لَهُ، كَلُبْسِ الثَّوْبِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ (لِغَيْرِ الرَّدِّ، أَوِ السَّقْيِ، أَوْ شِرَاءِ الْعَلَفِ) وَسَقْيِ الْأَرْضِ أَوْ زَرْعِهَا أَوْ حَصَادِهَا، أَوْ عَرْضِ الْمَبِيعِ عَلَى الْبَيْعِ أَوِ الْإِجَارَةِ، أَوْ مُدَاوَاتِهِ وَاسْتِخْدَامِهِ وَلَوْ مَرَّةً.فَإِذَا تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ فَهُوَ دَلَالَةٌ عَلَى الرِّضَا، وَهُوَ دَلِيلٌ قَصْدُهُ الِاسْتِبْقَاءُ.وَدَلِيلُ الشَّيْءِ فِي الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ- كَالرِّضَا- يَقُومُ مَقَامَهَا.

2- تَصَرُّفَاتُ إِتْلَافٍ لِلْمَبِيعِ:

58- وَالْمُرَادُ مَا كَانَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الِاسْتِعْمَالِ، كَالتَّمْزِيقِ لِلثَّوْبِ، وَقَتْلِ الدَّابَّةِ، فَمِثْلُ هَذَا التَّصَرُّفِ لِغَيْرِ مَصْلَحَتِهِ، وَيَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ.

3- تَصَرُّفَاتُ إِخْرَاجٍ عَنْ مِلْكِهِ:

59- إِذَا أَخْرَجَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ عَنْ مِلْكِهِ بِأَنْ عَقَدَ عَلَيْهِ عَقْدًا مِنْ عُقُودِ التَّمْلِيكِ كَالْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ (مَعَ التَّسْلِيمِ) أَوِ الصُّلْحِ، ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ قَدِيمٍ فِيهِ، سَقَطَ خِيَارُهُ لِتَعَذُّرِ رَدِّ الْمَبِيعِ إِلَى الْبَائِعِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالِ لَا سَبِيلَ إِلَى فَسْخِ الْبَيْعِ بَيْنَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ وَبَيْنَ بَائِعِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِالْمَبِيعِ، لِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ صَارَ حَابِسًا لَهُ فَكَانَ مُفَوِّتًا لِلرَّدِّ، وَلَمَّا كَانَ امْتِنَاعُ الرَّدِّ هُنَا بِسَبَبِ الْمُشْتَرِي فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِالنُّقْصَانِ أَيْضًا لِأَنَّ مِنْ شَرَائِطِهِ أَنْ لَا يَكُونَ امْتِنَاعُ الرَّدِّ بِسَبَبِ الْمُشْتَرِي.وَالْإِقْدَامُ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ دَلِيلُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ وَسُقُوطِ الْخِيَارِ مِنْ أَسَاسِهِ. وَلَكِنْ لَوْ فُسِخَ التَّصَرُّفُ وَرُدَّ إِلَيْهِ الْبَيْعُ بِخِيَارِ شَرْطٍ أَوْ رُؤْيَةٍ (مَثَلًا) فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ سَوَاءٌ كَانَ الرَّدُّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِالتَّرَاضِي (بِالْإِجْمَاعِ) وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَإِنْ كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ (بِلَا خِلَافٍ)، وَإِنْ كَانَ قَبُولُ الْبَائِعِ لَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ.

60- هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ- الَّذِي عَلَيْهِ التَّبْوِيبُ وَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْحَنَابِلَةُ- وَقَدِ اخْتَلَفَتْ آرَاءُ غَيْرِهِمْ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ إِنْ كَانَتْ بِعِوَضٍ فَهِيَ مُسْقِطَةٌ لِلْخِيَارِ: لِلرَّدِّ وَالْأَرْشِ مَعًا، وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَهُ نُقْصَانُ الثَّمَنِ.وَمُسْتَنَدُهُمْ فِكْرَةُ اسْتِفَادَةِ عِوَضٍ يُسْتَدْرَكُ بِهِ الْعَيْبُ الْفَائِتُ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ تَصَرُّفٍ يَحْصُلُ بِهِ الْيَأْسُ مِنْ عَوْدِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، كَالْوَقْفِ، فَهُوَ مَانِعٌ لِلرَّدِّ، وَبَيْنَ تَصَرُّفٍ يُرْجَى مَعَهُ الْعَوْدُ لِمِلْكِهِ، كَالْبَيْعِ فَهُوَ مُسْقِطٌ لِلْخِيَارِ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى إِطْلَاقِ الْحُكْمِ فِي التَّصَرُّفَاتِ كُلِّهَا- إِذَا تَصَرَّفَ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْعَيْبِ- فَإِنَّهُ مَانِعٌ لِلرَّدِّ وَنَاقِلٌ إِلَى الْمُوجَبِ الْخَلَفِيِّ (نُقْصَانِ الثَّمَنِ) لِتَصَرُّفِهِ فِي مِلْكِهِ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْعَيْبِ فَلَمْ يَكُنْ فِي تَصَرُّفِهِ دَلَالَةٌ عَلَى الرِّضَا بِالْعَيْبِ، فَيَقْتَصِرُ أَثَرُهُ عَلَى مَنْعِ الرَّدِّ.

إِثْبَاتُ خِيَارِ الْعَيْبِ:

61- ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّهُ إِذَا اتَّفَقَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي عَلَى حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ خِيَارِ الْعَيْبِ وَجَبَ الْحُكْمُ الْخَاصُّ بِتِلْكَ الْحَالِ.فَإِنْ أَنْكَرَ الْبَائِعُ دَعْوَى الْعَيْبِ الْمَوْجُودِ فَإِمَّا أَنْ يُنْكِرَ وُجُودَ الْعَيْبِ، أَوْ يُنْكِرَ قِدَمَهُ.

فَفِي إِنْكَارِ الْعَيْبِ إِمَّا أَنْ يَسْتَوِيَ فِي إِدْرَاكِهِ جَمِيعُ النَّاسِ وَحِينَئِذٍ يَكْفِي شَاهِدَانِ عَدْلَانِ مِنْ أَيِّ النَّاسِ كَانُوا، وَإِمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِعِلْمِهِ أَهْلُ صِنَاعَةٍ مَا، فَلَا بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ أَهْلِ تِلْكَ الصِّنَاعَةِ، وَفِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ خِلَافٌ فِيمَا يَكْفِي مِنْ ذَلِكَ:

قِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ عَدْلَيْنِ.وَقِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ الْعَدَالَةُ وَلَا الْعَدَدُ وَلَا الْإِسْلَامُ.

وَكَذَلِكَ الْحَالُ إِنِ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ مُؤَثِّرًا فِي الْقِيمَةِ، وَفِي قِدَمِهِ أَوْ حُدُوثِهِ، ثُمَّ لَمْ يَتَحَدَّثْ عَنْ أَجْوِبَةِ ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِانْصِيَاعِ أَحْوَالِهَا لأُِصُولِ الْإِثْبَاتِ الْمَعْرُوفَةِ. إِثْبَاتُ الْعَيْبِ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ:

62- الدَّعْوَى فِي الْعَيْبِ وَالْخُصُومَةِ فِيهِ إِمَّا أَنْ تَحْتَاجَ إِلَى الْبَرْهَنَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَعْتَوِرَهَا النِّزَاعُ مِنَ الْخَصْمِ، وَيَقَعُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ فِي مَسَائِلِ الْعَيْبِ بِأَنْوَاعِهَا مِنْ قِدَمٍ وَحُدُوثٍ، وَهَلِ الرَّدُّ لِعَيْنِ الْمَرْدُودِ أَوْ غَيْرِهِ..إِلَخْ.

وَفِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلَاتٌ فِي تَنَازُعِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي الْعَيْبِ أَوْ فِي سَبَبِ الرَّدِّ بِهِ مُعْظَمُهَا تَخْضَعُ لِطَرَائِقِ الْإِثْبَاتِ الْعَامَّةِ بَعْدَ شَيْءٍ مِنَ التَّصَوُّرِ لِلْمُدَّعِي الْمُنْكِرِ.

كَمَا تَعَرَّضَ الْحَنَابِلَةُ لِلِاخْتِلَافِ فِي قِدَمِ الْعَيْبِ وَحُدُوثِهِ، بِمَا لَا يَخْرُجُ عَنْ طُرُقِ الْإِثْبَاتِ الْعَامَّةِ، لَكِنَّهُمْ ذَكَرُوا مَا يَخْتَصُّ بِمَوْضُوعِنَا أَنَّهُ فِي الْعَيْبِ الَّذِي لَا يُحْتَمَلُ فِيهِ إِلاَّ قَوْلُ أَحَدِهِمَا، وَادَّعَى الْمُشْتَرِي كَوْنَهُ قَدِيمًا، كَالْجُرْحِ الطَّرِيِّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي ذَلِكَ بِغَيْرِ يَمِينٍ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (قَضَاءٌ، وَدَعْوَى).

انْتِقَالُ خِيَارِ الْعَيْبِ:

63- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِ مُسْتَحِقِّ الْخِيَارِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


65-موسوعة الفقه الكويتية (دين 3)

دَيْنٌ -3

59- (وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الدُّيُونِ) مَا لَا يَكُونُ الْمِلْكُ عَلَيْهِ مُسْتَقِرًّا: كَالْمُسْلَمِ فِيهِ وَالْأُجْرَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ مُضِيِّ زَمَانِهَا، وَالْمَهْرُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ مُضِيِّ زَمَانِهَا وَالْمَهْرُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الدُّيُونِ يَجُوزُ تَمْلِيكُهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا لِلدَّيْنِ عَنِ الْمَدِينِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى مَنْعِهِ.

أَمَّا تَمْلِيكُهُ بِعِوَضٍ، فَقَدْ فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ دَيْنِ السَّلَمِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الدُّيُونِ غَيْرِ الْمُسْتَقِرَّةِ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ- دَيْنُ السَّلَمِ

60- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ بَيْعِ الْمُسْلِمِ الدَّيْنَ الْمُسْلَمَ فِيهِ لِلْمَدِينِ، أَوِ الِاعْتِيَاضِ عَنْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ بِسَبَبِ انْقِطَاعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَامْتِنَاعِ الِاعْتِيَاضِ عَنْهُ، فَكَانَ كَالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ فِي غَيْرِهِ».قَالُوا: وَهَذَا يَقْتَضِي أَلاَّ يَبِيعَ الْمُسْلِمُ دَيْنَ السَّلَمِ لَا مِنْ صَاحِبِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ.

وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَصَحَّحَهُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمُ، وَهُوَ جَوَازُ بَيْعِ الْعَرَضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ دُونِهِ، لَا أَكْثَرَ مِنْهُ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ مِنَ الْمَدِينِ وَالِاعْتِيَاضِ عَنْهُ إِذَا كَانَ بِسِعْرِ الْمِثْلِ أَوْ دُونَهُ بِعَدَمِ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ، إِذِ الْحَدِيثُ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الْمَانِعُونَ «مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ إِلَى غَيْرِهِ» ضَعِيفٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ، وَحَتَّى لَوْ صَحَّ، فَإِنَّ مَعْنَى «فَلَا يَصْرِفْهُ إِلَى غَيْرِهِ» أَنْ لَا يَصْرِفَهُ إِلَى سَلَمٍ آخَرَ، أَوْ لَا يَبِيعَهُ بِمُعَيَّنٍ مُؤَجَّلٍ، وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ.قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: «فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا نَصَّ فِي التَّحْرِيمِ وَلَا إِجْمَاعَ وَلَا قِيَاسَ، وَأَنَّ النَّصَّ وَالْقِيَاسَ يَقْتَضِيَانِ الْإِبَاحَةَ».

أَمَّا عَدَمُ جَوَازِ الِاعْتِيَاضِ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، فَلِأَنَّ دَيْنَ السَّلَمِ مَضْمُونٌ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، فَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ بِزِيَادَةٍ، فَقَدْ رَبِحَ رَبُّ السَّلَمِ فِيمَا لَمْ يَضْمَنْ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ «نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ».

61- (ب) الدُّيُونُ الَّتِي لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُ الدَّائِنِ عَلَيْهَا لِعَدَمِ قَبْضِ الْمَدِينِ الشَّيْءَ الْمُقَابِلَ لَهَا، كَالْأُجْرَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ مُضِيِّ زَمَانِهَا، وَكَالْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَهَذِهِ الدُّيُونُ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ تَمْلِيكِهَا مِمَّنْ هِيَ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ عَلَى قَوْلَيْنِ:

(أَحَدُهُمَا) لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا مِمَّنْ هِيَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ عَلَيْهَا غَيْرُ تَامٍّ.

وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ جَوَازُ بَيْعِهَا مِمَّنْ هِيَ عَلَيْهِ، كَالدُّيُونِ الَّتِي اسْتَقَرَّ مِلْكُ الدَّائِنِ عَلَيْهَا، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: (تَمْلِيكُ الدُّيُونِ لِغَيْرِ الْمَدِينِ):

62- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَمْلِيكِ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ.

وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ: وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِعِوَضٍ أَمْ بِغَيْرِ عِوَضٍ.

كَأَنْ يَقُولَ شَخْصٌ لآِخَرَ: وَهَبْتُكَ مَا لِي مِنْ دَيْنٍ عَلَى فُلَانٍ فَيَقْبَلُ.أَوْ يَقُولَ لَهُ: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ

كَذَا بِمَا لِيَ مِنْ دَيْنٍ عَلَى فُلَانٍ، فَيَقْبَلُ أَوْ يَقُولَ لَهُ: اسْتَأْجَرْتُ مِنْكَ كَذَا بِالدَّيْنِ الثَّابِتِ لِي فِي ذِمَّةِ فُلَانٍ، فَيَقْبَلُ.فَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّ الْوَاهِبَ أَوِ الْمُشْتَرِيَ أَوِ الْمُسْتَأْجِرَ يَهَبُ أَوْ يَبِيعُ مَا لَيْسَ فِي يَدِهِ، وَلَا لَهُ مِنَ السُّلْطَةِ شَرْعًا مَا يُمَكِّنُهُ مِنْ قَبْضِهِ مِنْهُ، فَكَانَ بَيْعًا لِشَيْءٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، إِذْ رُبَّمَا مَنَعَهُ الْمَدِينُ أَوْ جَحَدَهُ، وَذَلِكَ غَرَرٌ فَلَا يَجُوزُ.

وَقَدِ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ قَاعِدَةِ عَدَمِ جَوَازِ تَمْلِيكِ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ حَالَاتٍ

الْأُولَى: إِذَا وَكَّلَ الدَّائِنُ الشَّخْصَ الَّذِي مَلَّكَهُ الدَّائِنُ فِي قَبْضِ ذَلِكَ الدَّيْنِ مِنْ مَدِينِهِ، فَيَصِحُّ ذَلِكَ، وَيَقْبِضُ الدَّيْنَ مِنَ الْمَدِينِ بِاعْتِبَارِهِ وَكِيلًا عَنِ الدَّائِنِ، وَبِمُجَرَّدِ الْقَبْضِ يَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ، وَتَنْتَقِلُ مِلْكِيَّةُ الدَّيْنِ إِلَيْهِ.

وَالثَّانِيَةُ: إِذَا أَحَالَ الدَّائِنُ الشَّخْصَ الَّذِي مَلَّكَهُ الدَّيْنَ عَلَى مَدِينِهِ، فَيَصِحُّ ذَلِكَ، وَيَقْبِضُ الدَّيْنَ مِنَ الْمَدِينِ بِاعْتِبَارِهِ مُحَالًا مِنَ الدَّائِنِ عَلَيْهِ، وَبِمُجَرَّدِ الْقَبْضِ تَنْتَقِلُ مِلْكِيَّةُ الدَّيْنِ إِلَيْهِ.

وَالثَّالِثَةُ: الْوَصِيَّةُ، فَإِنَّهَا تَصِحُّ بِالدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِيهِ كَمَا يَنْتَقِلُ بِالْإِرْثِ.

وَالثَّالِثُ: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ- صَحَّحَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ كَالشِّيرَازِيِّ فِي الْمُهَذَّبِ وَالنَّوَوِيِّ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ، وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ وَأَفْتَى بِهِ زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ وَغَيْرُهُ- وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ سَائِرِ الدُّيُونِ- عَدَا دَيْنِ السَّلَمِ- لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُهَا لِلْمَدِينِ وَلَا فَرْقَ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا وَالْمَدِينُ مُقِرًّا مَلِيئًا أَوْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ لَا كُلْفَةَ فِي إِقَامَتِهَا.وَذَلِكَ لِانْتِفَاءِ الْغَرَرِ النَّاشِئِ عَنْ عَدَمِ قُدْرَةِ الدَّائِنِ عَلَى تَسْلِيمِ الدَّيْنِ إِلَيْهِ.

وَكَمَا اشْتُرِطَ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ إِذَا كَانَ بِمَا لَا يُبَاعُ بِهِ نَسِيئَةً- كَالرِّبَوِيَّاتِ بِبَعْضِهَا- فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ كَذَلِكَ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ.

وَالرَّابِعُ لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ الْمَدِينِ بِشُرُوطٍ تُبَاعِدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَرَرِ، وَتَنْفِي عَنْهُ سَائِرَ الْمَحْظُورَاتِ الْأُخْرَى، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ ثَمَانِيَةٌ

1- أَنْ يُعَجِّلَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُعَجِّلْ فِي الْحِينِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ.

2- أَنْ يَكُونَ الْمَدِينُ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ؛ لِيَعْلَمَ مِنْ فَقْرٍ أَوْ غِنًى؛ لِأَنَّ عِوَضَ الدَّيْنِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَدِينِ، وَالْمَبِيعُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا.

3- أَنْ يَكُونَ الْمَدِينُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لَهُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ دَيْنِهِ وَلَوْ كَانَ ثَابِتًا بِالْبَيِّنَةِ حَسْمًا لِلْمُنَازَعَاتِ.

4- أَنْ يُبَاعَ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، أَوْ بِجِنْسِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهُ.

5- أَلاَّ يَكُونَ ذَهَبًا بِفِضَّةٍ وَلَا عَكْسَهُ، لِاشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ فِي صِحَّةِ بَيْعِهَا.

6- أَلاَّ يَكُونَ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَالْمَدِينِ عَدَاوَةٌ.

7- أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، احْتِرَازًا مِمَّا لَوْ كَانَ طَعَامًا، إِذْ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ.

8- أَلاَّ يَقْصِدَ الْمُشْتَرِي إِعْنَاتَ الْمَدِينِ وَالْإِضْرَارَ بِهِ.

تَصَرُّفُ الْمَدِينِ:

63- يَنْحَصِرُ تَصَرُّفُ الْمَدِينِ فِي الدَّيْنِ الثَّابِتِ فِي ذِمَّتِهِ فِي أَمْرَيْنِ: الْحَوَالَةِ، وَالسَّفْتَجَةِ.

الْحَالَةُ الْأُولَى: الْحَوَالَةُ. (ر: حَوَالَة).

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: السَّفْتَجَةُ. (ر: سَفْتَجَة).

الدَّيْنُ فِي ظِلِّ تَغَيُّرَاتِ النُّقُودِ:

64- يُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ فِي أَحْكَامِ الدَّيْنِ مِنَ النُّقُودِ عِنْدَ طُرُوءِ التَّغَيُّرَاتِ عَلَى النَّقْدِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ نَقْدًا بِالْخِلْقَةِ (أَيْ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ) وَمَا إِذَا كَانَ ثَابِتًا بِالِاصْطِلَاحِ (بِأَنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ وَجَرَى الِاصْطِلَاحُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ اسْتِعْمَالَ النَّقْدَيْنِ) كَالْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْعُمُلَاتِ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

تَغَيُّرُ النُّقُودِ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ نَقْدًا بِالْخِلْقَةِ:

65- إِنَّ الدَّيْنَ الثَّابِتَ فِي الذِّمَّةِ إِذَا كَانَ عُمْلَةً ذَهَبِيَّةً أَوْ فِضِّيَّةً مُحَدَّدَةً مُسَمَّاةً فَغَلَتْ أَوْ رَخُصَتْ عِنْدَ حُلُولِ وَقْتِ الْأَدَاءِ، فَلَا يَلْزَمُ الْمَدِينَ أَنْ Bيُؤَدِّيَ غَيْرَهَا؛ لِأَنَّهَا نَقْدٌ بِالْخِلْقَةِ، وَهَذَا التَّغَيُّرُ فِي قِيمَتِهَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ عَلَى الدَّيْنِ أَلْبَتَّةَ.وَقَدْ جَاءَ فِي (م 805) مِنْ مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ.«وَإِنِ اسْتَقْرَضَ شَيْئًا مِنَ الْمَكِيلَاتِ أَوِ الْمَوْزُونَاتِ أَوِ الْمَسْكُوكَاتِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَرَخُصَتْ أَسْعَارُهَا أَوْ غَلَتْ، فَعَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهَا، وَلَا عِبْرَةَ بِرُخْصِهَا وَغُلُوِّهَا».

وَحَتَّى لَوْ زَادَتِ الْجِهَةُ الْمُصْدِرَةُ لِهَذِهِ الْعُمْلَةِ سِعْرَهَا أَوْ نَقَصَتْهُ، فَلَا يَلْزَمُ الْمَدِينَ إِلاَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْعَقْدُ.

يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: «ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَدَّدَ فِي زَمَانِنَا وُرُودُ الْأَمْرِ السُّلْطَانِيِّ بِتَغْيِيرِ سِعْرِ بَعْضٍ مِنَ النُّقُودِ الرَّائِجَةِ بِالنَّقْصِ، وَاخْتَلَفَ الْإِفْتَاءُ فِيهِ.وَالَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْحَالُ الْآنَ دَفْعُ النَّوْعِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ لَوْ كَانَ مُعَيَّنًا، كَمَا إِذَا اشْتَرَى سِلْعَةً بِمِائَةِ رِيَالٍ إِفْرِنْجِيٍّ أَوْ مِائَةِ ذَهَبٍ عَتِيقٍ».

وَلَوْ أَبْطَلَتِ السُّلْطَةُ الْمُصْدِرَةُ لِهَذِهِ الْعُمْلَةِ التَّعَامُلَ بِهَا، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمَدِينَ سِوَاهَا وَفَاءً بِالْعَقْدِ، إِذْ هِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا، وَهِيَ الثَّابِتَةُ فِي الذِّمَّةِ دُونَ غَيْرِهَا.وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي «الْأُمِّ» وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ.قَالَ الشَّافِعِيُّ: «وَمَنْ سَلَّفَ فُلُوسًا أَوْ دَرَاهِمَ أَوْ بَاعَ بِهَا، ثُمَّ أَبْطَلَهَا السُّلْطَانُ، فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ مِثْلُ فُلُوسِهِ أَوْ دَرَاهِمِهِ الَّتِي سَلَّفَ أَوْ بَاعَ بِهَا».وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا أُبْطِلَتْ هَذِهِ الْعُمْلَةُ وَاسْتُبْدِلَ بِهَا غَيْرُهَا، فَيُرْجَعُ إِلَى قِيمَةِ الْعُمْلَةِ الْمُلْغَاةِ مِنَ الذَّهَبِ، وَيَأْخُذُ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْقِيمَةَ ذَهَبًا.

أَمَّا إِذَا عُدِمَتْ تِلْكَ الْعُمْلَةُ أَوِ انْقَطَعَتْ أَوْ فُقِدَتْ فِي بَلَدِ الْمُتَدَايِنَيْنِ، فَتَجِبُ عِنْدَئِذٍ قِيمَتُهَا مِمَّا تَجَدَّدَ وَتَوَفَّرَ التَّعَامُلُ بِهِ مِنَ الْعُمُلَاتِ.

وَلَوْ قَلَّتْ أَوْ عَزَّ وُجُودُهَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ غَيْرُهَا لِإِمْكَانِ تَحْصِيلِهَا مَعَ الْعِزَّةِ، بِخِلَافِ انْقِطَاعِهَا وَانْعِدَامِهَا وَفَقْدِهَا.قَالَ الْهَيْثَمِيُّ: «وَلَوْ بَاعَ بِنَقْدٍ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَعَيَّنَ شَيْئًا مَوْجُودًا، اتُّبِعَ وَإِنْ عَزَّ».

وَتَجْدُرُ الْإِشَارَةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِلَى أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَيَّدُوا الْقَوْلَ بِإِلْزَامِ الدَّائِنِ بِقَبُولِ مِثْلِ النَّقْدِ الَّذِي ثَبَتَ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ، وَإِلْزَامِ الْمَدِينِ بِأَدَائِهِ إِذَا كَانَ Bمُتَوَفِّرًا- فِي حَالَتَيِ الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ- بِأَنْ يَكُونَ التَّعَامُلُ بِهَذَا النَّقْدِ مَسْمُوحًا بِهِ مِنْ قِبَلِ الدَّوْلَةِ.

أَمَّا إِذَا مَنَعَتِ الدَّوْلَةُ النَّاسَ مِنَ التَّعَامُلِ بِهِ، فَلَا يُجْبَرُ الدَّائِنُ عَلَى قَبُولِهِ، وَيَكُونُ لَهُ الْقِيمَةُ وَقْتَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ مِنَ النُّقُودِ إِنْ تَرَتَّبَ عَلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ مِنْ جِنْسِهِ رِبَا الْفَضْلِ، سَوَاءٌ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِ التَّعَامُلِ بِهَذَا النَّقْدِ أَمْ لَمْ يَتَّفِقُوا، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى أَدَاءِ الْقِيمَةِ مِنْ جِنْسِهِ رِبَا الْفَضْلِ، فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْوَفَاءُ بِقِيمَتِهِ مِنْ جِنْسِهِ.

تَغَيُّرُ النُّقُودِ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ نَقْدًا بِالِاصْطِلَاحِ:

إِذَا كَانَ الدَّيْنُ الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ نَقْدًا بِالِاصْطِلَاحِ لَا بِالْخِلْقَةِ كَسَائِرِ الْعُمُلَاتِ الْأُخْرَى غَيْرِ الذَّهَبِيَّةِ وَالْفِضِّيَّةِ، فَطَرَأَ عَلَيْهِ تَغَيُّرٌ عِنْدَ حُلُولِهِ، فَعِنْدَئِذٍ يُفَرَّقُ بَيْنَ خَمْسِ حَالَاتٍ:

الْحَالَةُ الْأُولَى: (الْكَسَادُ الْعَامُّ لِلنَّقْدِ):

66- وَذَلِكَ بِأَنْ تُوقِفَ الْجِهَةُ الْمُصْدِرَةُ لِلنَّقْدِ التَّعَامُلَ بِهِ، فَتُتْرَكُ الْمُعَامَلَةُ بِهِ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ بِـ «كَسَادِ النَّقْدِ».

فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ: لَوِ اشْتَرَى شَخْصٌ سِلْعَةً بِنَقْدٍ مُحَدَّدٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ كَسَدَ ذَلِكَ النَّقْدُ قَبْلَ الْوَفَاءِ، أَوِ اسْتَدَانَ نَقْدًا مَعْلُومًا ثُمَّ كَسَدَ قَبْلَ الْأَدَاءِ، أَوْ وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ الْمَهْرُ الْمُؤَجَّلُ نَقْدًا مُحَدَّدًا، ثُمَّ كَسَدَ قَبْلَ حُلُولِهِ.فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَنَّ النَّقْدَ الَّذِي كَسَدَ إِذَا كَانَ ثَمَنًا فِي بَيْعٍ، فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَيَجِبُ الْفَسْخُ مَا دَامَ مُمْكِنًا؛ لِأَنَّهُ بِالْكَسَادِ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ ثَمَنًا، حَيْثُ إِنَّ ثَمَنِيَّتَهُ ثَبَتَتْ بِالِاصْطِلَاحِ، فَإِذَا تَرَكَ النَّاسُ التَّعَامُلَ بِهِ، فَإِنَّهَا تَزُولُ عَنْهُ صِفَةُ الثَّمَنِيَّةِ، فَيَبْقَى الْمَبِيعُ بِلَا ثَمَنٍ، فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ.أَمَّا إِذَا كَانَ دَيْنًا فِي قَرْضٍ أَوْ مَهْرًا مُؤَجَّلًا، فَيَجِبُ رَدُّ مِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ كَاسِدًا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ لَا غَيْرُهُ.حَيْثُ «إِنَّ الْقَرْضَ إِعَارَةٌ، وَمُوجِبُهَا رَدُّ الْعَيْنِ مَعْنًى، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِرَدِّ مِثْلِهِ Bوَلَوْ كَانَ كَاسِدًا- لِأَنَّ الثَّمَنِيَّةَ زِيَادَةٌ فِيهِ، حَيْثُ إِنَّ صِحَّةَ الْقَرْضِ لَا تَعْتَمِدُ الثَّمَنِيَّةَ، بَلْ تَعْتَمِدُ الْمِثْلِيَّةَ، وَبِالْكَسَادِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِثْلًا، وَلِهَذَا صَحَّ اسْتِقْرَاضُهُ بَعْدَ الْكَسَادِ، وَصَحَّ اسْتِقْرَاضُ مَا لَيْسَ بِثَمَنٍ كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَنًا، وَلَوْلَا أَنَّهُ إِعَارَةٌ فِي الْمَعْنَى لَمَا صَحَّ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُبَادَلَةَ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ نَسِيئَةً وَأَنَّهُ حَرَامٌ، فَصَارَ الْمَرْدُودُ عَيْنَ الْمَقْبُوضِ حُكْمًا، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الرَّوَاجُ كَرَدِّ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالْقَرْضُ كَالْغَصْبِ إِذْ هُوَ مَضْمُونٌ بِمِثْلِهِ».

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لِأَبِي يُوسُفَ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي غَيْرِ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ رَدُّ الْمِثْلِ بَعْدَمَا كَسَدَ، وَيَجِبُ عَلَى الْمَدِينِ رَدُّ قِيمَةِ النَّقْدِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ- يَوْمَ التَّعَامُلِ- مِنْ نَقْدٍ آخَرَ.وَبِهَذَا أَخَذَتِ الْمَادَّةُ: «805» مِنْ مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ حَيْثُ جَاءَ فِيهَا: «إِذَا اسْتَقْرَضَ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا مِنَ الْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ وَالنُّقُودِ غَالِبَةِ الْغِشِّ فَكَسَدَتْ وَبَطَلَ التَّعَامُلُ بِهَا فَعَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهَا يَوْمَ قَبْضِهَا لَا يَوْمَ رَدِّهَا».

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ:

أَوَّلًا: بِأَنَّ إِيقَافَ التَّعَامُلِ بِهَا مِنْ قِبَلِ الْجِهَةِ الْمُصْدِرَةِ لَهَا مَنْعٌ لِنَفَاقِهَا وَإِبْطَالٌ لِمَالِيَّتِهَا، إِذْ هِيَ أَثْمَانٌ بِالِاصْطِلَاحِ لَا بِالْخِلْقَةِ، فَصَارَ ذَلِكَ إِتْلَافًا لَهَا، فَيَجِبُ بَدَلُهَا وَهُوَ الْقِيمَةُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ الْجَوَابِرِ.ثَانِيًا: وَلِأَنَّ الدَّائِنَ قَدْ دَفَعَ شَيْئًا مُنْتَفَعًا بِهِ لِأَخْذِ عِوَضٍ مُنْتَفَعٍ بِهِ، فَلَا يُظْلَمُ بِإِعْطَائِهِ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ.

قَالُوا: وَإِنَّمَا اعْتُبِرَتِ الْقِيمَةُ يَوْمَ التَّعَامُلِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَدِينِ رَدُّ قِيمَةِ النَّقْدِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ التَّعَامُلُ مِنَ النَّقْدِ الْآخَرِ وَقْتَ الْكَسَادِ، أَيْ فِي آخِرِ نَفَاقِهَا، وَهُوَ آخِرُ مَا تَعَامَلَ النَّاسُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ الِانْتِقَالِ إِلَى الْقِيمَةِ، إِذْ كَانَ يَلْزَمُهُ رَدُّ مِثْلِهَا مَا دَامَتْ نَافِقَةً، فَإِذَا كَسَدَتِ انْتَقَلَ إِلَى قِيمَتِهَا حِينَئِذٍ.

وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ أَنَّ النَّقْدَ إِذَا كَسَدَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ وَقَبْلَ أَدَائِهِ، فَلَيْسَ لِلدَّائِنِ سِوَاهُ.وَيُعْتَبَرُ هَذَا الْكَسَادُ كَجَائِحَةٍ نَزَلَتْ بِالدَّائِنِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ قَرْضًا أَوْ ثَمَنَ مَبِيعٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: (الْكَسَادُ الْمَحَلِّيُّ لِلنَّقْدِ):

67- وَذَلِكَ بِأَنْ يَبْطُلَ التَّعَامُلُ بِالنَّقْدِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ لَا فِي جَمِيعِهَا.وَمِثْلُهُ فِي عَصْرِنَا الْحَاضِرِ الْعُمُلَاتُ الَّتِي تُصْدِرُهَا بَعْضُ الدُّوَلِ وَتَمْنَعُ تَدَاوُلَهَا فِي خَارِجِ أَرَاضِيهَا.فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ: إِذَا اشْتَرَى شَخْصٌ بِنَقْدٍ نَافِقٍ ثُمَّ كَسَدَ فِي الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْبَيْعُ قَبْلَ الْأَدَاءِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ لَا يَفْسُدُ، وَيَكُونُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالنَّقْدِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ، وَبَيْنَ أَخْذِ قِيمَةِ ذَلِكَ النَّقْدِ مِنْ عُمْلَةٍ رَائِجَةٍ.وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمُعْتَمَدُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ.

وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إِذَا كَسَدَ النَّقْدُ فِي بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ، فَيَجْرِي عَلَيْهِ فِيهَا حُكْمُ الْكَسَادِ الْعَامِّ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ اعْتِبَارًا لِاصْطِلَاحِ أَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ.

الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: (انْقِطَاعُ النَّقْدِ):

68- وَذَلِكَ بِأَنْ يُفْقَدَ النَّقْدُ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ، وَلَا يَتَوَفَّرَ فِي الْأَسْوَاقِ لِمَنْ يُرِيدُهُ.

فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ: لَوِ اشْتَرَى شَخْصٌ سِلْعَةً Bبِنَقْدٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ انْقَطَعَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لِلْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ عَلَى الْمُشْتَرِي أَدَاءَ مَا يُسَاوِيهِ فِي الْقِيمَةِ فِي آخِرِ يَوْمٍ قَبْلَ الِانْقِطَاعِ؛ لِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِ مِثْلِ النَّقْدِ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ، فَيُصَارُ إِلَى بَدَلِهِ وَهُوَ الْقِيمَةُ.

وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي دَيْنِ الْقَرْضِ وَغَيْرِهِ.وَإِنَّمَا اعْتُبِرَتِ الْقِيمَةُ قُبَيْلَ الِانْقِطَاعِ؛ لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يَنْتَقِلُ الْوُجُوبُ فِيهِ مِنَ الْمِثْلِ إِلَى الْقِيمَةِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لِأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَدِينِ أَدَاءُ مَا يُسَاوِيهِ فِي الْقِيمَةِ يَوْمَ التَّعَامُلِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَنَّ الِانْقِطَاعَ كَالْكَسَادِ يُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ.

وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ الْحُصُولُ عَلَى ذَلِكَ النَّقْدِ مَعَ فَقْدِهِ وَانْقِطَاعِهِ، فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِلاَّ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ دَيْنَ قَرْضٍ أَوْ ثَمَنَ مَبِيعٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ.لَكِنْ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ عِنْدَمَا يُصَارُ إِلَيْهَا: فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تَجِبُ فِي وَقْتِ الْمُطَالَبَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ تَجِبُ فِي أَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ مِنَ الِاسْتِحْقَاقِ- وَهُوَ حُلُولُ الْأَجَلِ- وَالْعَدَمِ الَّذِي هُوَ الِانْقِطَاعُ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْقِيمَةَ إِنَّمَا تُقَدَّرُ وَقْتَ الْحُكْمِ.

الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: (غَلَاءُ النَّقْدِ وَرُخْصُهُ).

69- وَذَلِكَ بِأَنْ تَزِيدَ قِيمَةُ النَّقْدِ أَوْ تَنْقُصَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، اللَّذَيْنِ يُعْتَبَرَانِ Bالْمِقْيَاسَ الَّذِي تُقَدَّرُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ أَثْمَانُ الْأَشْيَاءِ وَقِيَمُهَا، وَيُعَدَّانِ ثَمَنًا.وَهَذَا هُوَ مُرَادُ الْفُقَهَاءِ بِـ «الْغَلَاءِ» «وَالرُّخْصِ» فِي هَذَا الْمَقَامِ.

فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ: إِذَا تَغَيَّرَتْ قِيمَةُ النَّقْدِ غَلَاءً أَوْ رُخْصًا بَعْدَمَا ثَبَتَ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ بَدَلًا فِي قَرْضٍ أَوْ دَيْنِ مَهْرٍ أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَقَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَا يَلْزَمُ الْمَدِينَ أَدَاؤُهُ.عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمَدِينِ أَدَاؤُهُ هُوَ نَفْسُ النَّقْدِ الْمُحَدَّدِ فِي الْعَقْدِ وَالثَّابِتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، دُونَ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَلَيْسَ لِلدَّائِنِ سِوَاهُ.وَقَدْ كَانَ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ يَذْهَبُ إِلَى هَذَا الرَّأْيِ أَوَّلًا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لِأَبِي يُوسُفَ- وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَدِينِ أَنْ يُؤَدِّيَ قِيمَةَ النَّقْدِ الَّذِي طَرَأَ عَلَيْهِ الْغَلَاءُ أَوِ الرُّخْصُ يَوْمَ ثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ مِنْ نَقْدٍ رَائِجٍ.فَفِي الْبَيْعِ تَجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْعَقْدِ، وَفِي الْقَرْضِ يَوْمَ الْقَبْضِ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَجْهٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ التَّغَيُّرَ إِذَا كَانَ فَاحِشًا، فَيَجِبُ أَدَاءُ قِيمَةِ النَّقْدِ الَّذِي طَرَأَ عَلَيْهِ الْغَلَاءُ أَوِ الرُّخْصُ.أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا فَالْمِثْلُ.قَالَ الرَّهُونِيُّ- مُعَلِّقًا عَلَى قَوْلِ الْمَالِكِيَّةِ الْمَشْهُورِ بِلُزُومِ الْمِثْلِ وَلَوْ تَغَيَّرَ النَّقْدُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ-: قُلْتُ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكْثُرْ ذَلِكَ جِدًّا، حَتَّى يَصِيرَ الْقَابِضُ لَهَا كَالْقَابِضِ لِمَا لَا كَبِيرَ مَنْفَعَةٍ فِيهِ؛ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الَّتِي عَلَّلَ بِهَا الْمُخَالِفُ فِي الْكَسَادِ.

انْقِضَاءُ الدَّيْنِ:

إِذَا ثَبَتَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ فَإِنَّهَا تَبْقَى مَشْغُولَةً بِالدَّيْنِ، وَلَا تَبْرَأُ إِلاَّ بِحُصُولِ أَحَدِ أَسْبَابِ انْقِضَاءِ الدَّيْنِ التَّالِيَةِ:

أَوَّلًا: الْأَدَاءُ:

70- إِذَا أَدَّى الْمَدِينُ أَوْ نَائِبُهُ أَوْ كَفِيلُهُ أَوْ غَيْرُهُمُ Bالدَّيْنَ إِلَى الدَّائِنِ أَوْ نَائِبِهِ الَّذِي لَهُ وِلَايَةُ قَبْضِ دُيُونِهِ، فَإِنَّ ذِمَّةَ الْمَدِينِ تَبْرَأُ بِالْأَدَاءِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الدَّيْنُ.أَمَّا إِذَا دَفَعَ الدَّيْنَ إِلَى مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى قَبْضِ دُيُونِ الدَّائِنِ، فَلَا يَنْقَضِي الدَّيْنُ، وَلَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمَدِينِ. (ر: أَدَاء).

وَوِلَايَةُ قَبْضِ الدُّيُونِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ تَثْبُتُ بِأَمْرَيْنِ: إِمَّا بِتَوْلِيَةِ الدَّائِنِ، وَإِمَّا بِتَوْلِيَةِ الشَّارِعِ: - أَمَّا الَّتِي تَثْبُتُ بِتَوْلِيَةِ الدَّائِنِ: فَهِيَ وِلَايَةُ الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ التَّصَرُّفَ فِي شَيْءٍ أَصَالَةً مَلَكَ التَّوْكِيلَ فِيهِ، وَنَفْسُ الْقَبْضِ وَالِاسْتِيفَاءِ مِمَّا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ، فَكَانَ قَبْضُ الْوَكِيلِ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْمُوَكِّلِ وَلَا فَرْقَ.وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ أَهْلًا لِلْقَبْضِ.

(ر: قَبْض).- وَأَمَّا الَّتِي تَثْبُتُ بِتَوْلِيَةِ الشَّارِعِ: فَهِيَ وِلَايَةُ مَنْ يَلِي مَالَ الْمَحْجُورِ وَيَتَوَلَّى قَبْضَ حُقُوقِهِ.وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ لَيْسَتْ بِتَوْلِيَةِ الدَّائِنِ؛ لِانْتِفَاءِ أَهْلِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ بِتَوْلِيَةِ الشَّارِعِ. (ر: وِلَايَة).

وَيُشْتَرَطُ لِنَفَاذِ وَفَاءِ الدَّيْنِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مَالِكًا لِمَا دَفَعَهُ، فَإِنِ اسْتَحَقَّ بِالْبَيِّنَةِ وَأَخَذَهُ صَاحِبُهُ فَلِلدَّائِنِ الرُّجُوعُ بِدَيْنِهِ عَلَى غَرِيمِهِ.

ثَانِيًا: الْإِبْرَاءُ:

71- وَذَلِكَ كَمَا إِذَا كَانَ لِزَيْدٍ فِي ذِمَّةِ بَكْرٍ مِائَةُ دِينَارٍ ثَمَنُ مَبِيعٍ أَوْ بَدَلُ قَرْضٍ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَأَبْرَأَهُ مِنَ الدَّيْنِ كُلِّهِ، فَيَنْتَهِي بِذَلِكَ الْتِزَامُ الْمَدِينِ لِفَرَاغِ ذِمَّتِهِ بِالْإِبْرَاءِ، وَيَنْقَضِي الدَّيْنُ.كَمَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْكَفِيلِ بِالدَّيْنِ تَبَعًا لِبَرَاءَةِ ذِمَّةِ الْأَصِيلِ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ مَضْمُونًا.وَلَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ بَعْضِ الدَّيْنِ لَمْ يَبْقَ لَهُ إِلاَّ مُطَالَبَتُهُ بِالْبَاقِي.وَالْإِبْرَاءُ يَتِمُّ بِإِيجَابٍ مِنَ الدَّائِنِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى قَبُولٍ مِنَ الْمَدِينِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنِ الدَّيْنِ إِسْقَاطٌ مِنْ وَجْهٍ وَتَمْلِيكٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.فَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ إِسْقَاطًا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ، وَبِاعْتِبَارِهِ تَمْلِيكًا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يُجْبَرُ عَلَى إِدْخَالِ شَيْءٍ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ.إِلاَّ فِي الْإِرْثِ. (ر: إِبْرَاء).

ثَالِثًا: الْمُقَاصَّةُ:

72- وَهِيَ إِسْقَاطُ دَيْنٍ مَطْلُوبٍ لِشَخْصٍ مِنْ غَرِيمِهِ فِي مُقَابَلَةِ دَيْنٍ مَطْلُوبٍ مِنْ ذَلِكَ الشَّخْصِ لِغَرِيمِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تُشْغَلَ ذِمَّةُ الدَّائِنِ بِمِثْلِ مَا لَهُ عَلَى الْمَدِينِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَوَقْتِ الْأَدَاءِ، فَعِنْدَئِذٍ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ وَيَسْقُطُ الدَّيْنَانِ إِذَا كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْمِقْدَارِ، فَإِنْ تَفَاوَتَا فِي الْقَدْرِ سَقَطَ مِنَ الْأَكْثَرِ بِقَدْرِ الْأَقَلِّ وَبَقِيَتْ الزِّيَادَةُ، فَتَكُونُ Bالْمُقَاصَّةُ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَيَبْقَى أَحَدُهُمَا مَدِينًا لِلْآخَرِ بِمَا زَادَ. (ر: مُقَاصَّة).

رَابِعًا: اتِّحَادُ الذِّمَّةِ:

73- وَذَلِكَ كَمَا إِذَا كَانَ زَيْدٌ مَدِينًا لِأَخِيهِ الشَّقِيقِ بَكْرٍ بِمَبْلَغِ أَلْفِ دِينَارٍ مَثَلًا، ثُمَّ مَاتَ بَكْرٌ الدَّائِنُ، وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ إِلاَّ أَخُوهُ زَيْدٌ، فَيَرِثُ زَيْدٌ مِنْ ضِمْنِ مَا يَرِثُهُ عَنْ بَكْرٍ هَذَا الدَّيْنَ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ زَيْدٌ مَدِينًا وَدَائِنًا لِحُلُولِهِ مَحَلَّ الدَّائِنِ الْمُورَثِ، فَإِذَا طَالَبَ بِالدَّيْنِ، فَهُوَ إِنَّمَا يُطَالِبُ نَفْسَهُ لِيَأْخُذَهُ لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ لِاتِّحَادِ الذِّمَّةِ، فَيَسْقُطُ الدَّيْنُ وَيَنْقَضِي لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الْمُطَالَبَةِ. (ر: إِرْث).

خَامِسًا: التَّقَادُمُ:

74- لَا يُعْتَبَرُ التَّقَادُمُ مِنْ أَسْبَابِ انْقِضَاءِ الدَّيْنِ شَرْعًا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ لَاصِقٌ بِذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لِمَنْ هُوَ لَهُ، لَا يُسْقِطُهُ تَقَادُمُ الزَّمَنِ مَهْمَا طَالَ.وَلَكِنْ تَقَادُمُ الزَّمَنِ يُؤَثِّرُ فِي مَنْعِ سَمَاعِ الدَّعْوَى إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُنْكِرًا، وَالْمُدَّعِي لَا عُذْرَ لَهُ فِي تَرْكِ الْمُطَالَبَةِ، عَلَى مَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ بَيَانًا مُفَصَّلًا. (ر: تَقَادُم).

سَادِسًا: انْفِسَاخُ سَبَبِ الْوُجُوبِ:

75- وَذَلِكَ كَمَا إِذَا فُسِخَ عَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ الْوَارِدِ عَلَى الْأَعْيَانِ الْمَالِيَّةِ بِخِيَارٍ مِنَ الْخِيَارَاتِ، أَوْ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِفَسْخِهِ، فَإِنَّهُ يَنْقَضِي الدَّيْنُ الَّذِي كَانَ مُتَرَتِّبًا عَلَيْهِ، وَتَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمَدِينِ مِنَ الْبَدَلِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ.وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ هَلَاكُ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا، وَفَوَاتُ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهَا فِي إِجَارَةِ الْأَعْيَانِ، حَيْثُ تَسْقُطُ الْأُجْرَةُ عَنِ الْمُدَّةِ الْمُتَبَقِّيَةِ وَتَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَجَّلَ شَيْئًا مِنْهَا، فَلَهُ اسْتِرْدَادُ مَا عَجَّلَهُ زَائِدًا عَلَى أُجْرَةِ الْمُدَّةِ السَّابِقَةِ عَلَى هَلَاكِ الْعَيْنِ. (ر: فَسْخ، إِجَارَة، بَيْع، خِيَار).

سَابِعًا: تَجْدِيدُ الدَّيْنِ:

76- وَذَلِكَ بِاسْتِبْدَالِ دَيْنٍ جَدِيدٍ بِالدَّيْنِ الْأَصْلِيِّ، حَيْثُ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ فَسْخِ عَقْدِ الْمُدَايَنَةِ الْأُولَى وَتَجْدِيدِهَا فِي عَقْدٍ آخَرَ بِتَرَاضِي الْمُتَدَايِنَيْنِ، كَمَا إِذَا كَانَ زَيْدٌ مَدِينًا لِبَكْرٍ بِمَبْلَغِ عِشْرِينَ دِينَارًا أُجْرَةِ مَنْزِلٍ مَمْلُوكٍ لِبَكْرٍ اسْتَأْجَرَهُ زَيْدٌ مِنْهُ، فَيَتَّفِقُ مَعَهُ عَلَى أَنْ يَبْقَى ذَلِكَ الدَّيْنُ بِذِمَّتِهِ عَلَى سَبِيلِ الْقَرْضِ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إِذَا فُسِخَ عَقْدُ الْمُدَايَنَةِ الْأُولَى وَصَارَ تَجْدِيدُهُ بِعَقْدٍ آخَرَ، سَقَطَ الدَّيْنُ الْوَاجِبُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَتَرَتَّبَ عَلَى الْمَدِينِ دَيْنٌ جَدِيدٌ Bبِالْعَقْدِ الثَّانِي.وَمِنْ آثَارِ انْقِضَاءِ الدَّيْنِ وَسُقُوطِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ الْأَوَّلُ مَكْفُولًا، وَفُسِخَ عَقْدُهُ، وَصَارَ تَجْدِيدُهُ بِعَقْدٍ آخَرَ، بَطَلَتِ الْكَفَالَةُ وَبَرِئَ الْكَفِيلُ، فَلَا يُطَالَبُ بِالدَّيْنِ الْحَاصِلِ بِالْعَقْدِ الْجَدِيدِ إِلاَّ إِذَا جُدِّدَتِ الْكَفَالَةُ.

ثَامِنًا: الْحَوَالَةُ:

77- وَذَلِكَ أَنَّ الْمُحَالَ إِذَا قَبِلَ الْحَوَالَةَ وَرَضِيَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ بِهَا بَرِئَ الْمُحِيلُ وَكَفِيلُهُ- إِنْ كَانَ لَهُ كَفِيلٌ- مِنَ الدَّيْنِ وَمِنَ الْمُطَالَبَةِ مَعًا؛ لِانْقِضَاءِ الدَّيْنِ بِالْحَوَالَةِ، وَيَثْبُتُ لِلْمُحَالِ حَقُّ مُطَالَبَةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ وَكَفِيلِهِ الْمُشَارَ إِلَيْهَا مُقَيَّدَةٌ بِسَلَامَةِ حَقِّ الْمُحَالِ لَدَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (ر: حَوَالَة).

تَاسِعًا: مَوْتُ الْمَدِينِ مُفْلِسًا:

78- وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الذَّاهِبِينَ إِلَى سُقُوطِ الدَّيْنِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا عَنِ الْمَدِينِ إِذَا مَاتَ مُفْلِسًا، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ كَفِيلٌ بِالدَّيْنِ، أَوْ رَهْنٌ قَبْلَ الْمَوْتِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: «إِنَّ الدَّيْنَ يَسْقُطُ عَنِ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ بِهِ كَفِيلٌ حَالَ حَيَاتِهِ أَوْ رَهْنٌ».وَمِنْ هُنَا لَمْ تَصِحَّ عِنْدَهُمْ كَفَالَةُ دَيْنِ مَيِّتٍ مُفْلِسٍ بَعْدَ وَفَاتِهِ.وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ لِلْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى بَقَاءِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. (ر: إِفْلَاس، كَفَالَة، تَرِكَة).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


66-موسوعة الفقه الكويتية (دين الله)

دَيْنُ اللَّهِ

التَّعْرِيفُ:

1- فِي اللُّغَةِ: دَانَ يَدِينُ دَيْنًا، وَدَايَنَهُ مُدَايَنَةً وَدِيَانًا، عَامَلَهُ بِالدَّيْنِ فَأَعْطَاهُ دَيْنًا وَأَخَذَ بِدَيْنٍ، وَادَّانَ: اقْتَرَضَ فَصَارَ دَيْنًا.وَالدَّيْنُ: الْقَرْضُ وَثَمَنُ الْمَبِيعِ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ حَاضِرًا.

وَالدَّيْنُ اصْطِلَاحًا: عُرِّفَ بِتَعْرِيفَاتٍ كَثِيرَةٍ وَأَوْلَى هَذِهِ التَّعْرِيفَاتِ هُوَ «لُزُومُ حَقٍّ فِي الذِّمَّةِ».وَهَذَا التَّعْرِيفُ يَشْمَلُ كُلَّ مَا يَشْغَلُ ذِمَّةَ الْإِنْسَانِ سَوَاءٌ أَكَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ أَمْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

وَدَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ حُقُوقُهُ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ وَلَا مُطَالِبَ لَهَا مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ، كَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْحَجِّ، وَالصَّوْمِ الَّذِي لَمْ يُؤَدَّ، وَالصَّلَاةِ الَّتِي خَرَجَ وَقْتُهَا وَلَمْ تُؤَدَّ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ إِذْ أَنَّ الزَّكَاةَ مِنْ حَقِّ الْإِمَامِ الْمُطَالَبَةُ بِهَا وَكَذَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ كَالْكَفَّارَةِ وَالْهَدْيِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى:

2- الْحَقُّ ضِدُّ الْبَاطِلِ، وَحَقَّ الْأَمْرُ: أَيْ ثَبَتَ وَوَجَبَ.وَحَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ لِلْعَالَمِ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدٌ، وَيُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا.

قَالَ الْقَرَافِيُّ: حَقُّ اللَّهِ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ.وَفِي الْحَدِيثِ: «حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا».

وَقَدْ قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى عِبَادَاتٍ وَعُقُوبَاتٍ وَكَفَّارَاتٍ.إِلَخْ فَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَعَمُّ مِنْ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَشْمَلُ كُلَّ مَا وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ أَكَانَ دَيْنًا تَرَتَّبَ فِي الذِّمَّةِ أَمْ لَا.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

3- دَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي يَتَرَتَّبُ فِي ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الدَّيْنُ عِبَادَاتٍ بَدَنِيَّةً أَمْ مَالِيَّةً أَمْ كَانَ كَفَّارَاتٍ أَمْ نُذُورًا يَجِبُ قَضَاؤُهُ، لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ».قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُلْتَحَقُ بِالْحَجِّ كُلُّ حَقٍّ ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ كَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ زَكَاةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ كَذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى».

وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا، لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلاَّ ذَلِكَ».

وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ مَا ذُكِرَ عَنِ ابْنِ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَا يَقْضِي لِمَفْهُومِ قَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا».وَحِكْمَتُهُ التَّغْلِيظُ عَلَيْهِ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ.

هَذَا مَعَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي وَفِيمَا يُقْضَى عَنِ الْمَيِّتِ أَوْ لَا يُقْضَى.

أَسْبَابُ صَيْرُورَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ:

يَصِيرُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ لِأَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا: أ- خُرُوجُ الْوَقْتِ قَبْلَ الْأَدَاءِ:

4- الْعِبَادَةُ الْبَدَنِيَّةُ الَّتِي لَهَا وَقْتٌ مُحَدَّدٌ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ إِذَا فَاتَ الْوَقْتُ الْمُحَدَّدُ لَهَا قَبْلَ الْأَدَاءِ اسْتَقَرَّتْ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ وَوَجَبَ الْقَضَاءُ، يَقُولُ الْقَرَافِيُّ: الصَّلَاةُ لَا يَنْتَقِلُ الْأَدَاءُ فِيهَا إِلَى الذِّمَّةِ إِلاَّ إِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ؛ لِأَنَّهَا مُعَيَّنَةٌ بِوَقْتِهَا، وَالْقَضَاءُ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ يَتَعَيَّنُ حَدُّهُ بِخُرُوجِهِ فَهُوَ فِي الذِّمَّةِ، فَالصَّلَاةُ إِنْ تَعَذَّرَ فِيهَا الْأَدَاءُ بِخُرُوجِ وَقْتَيْهَا (أَيِ الِاخْتِيَارِيِّ وَالضَّرُورِيِّ) لِعُذْرٍ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ، وَإِنْ خَرَجَ لِغَيْرِ عُذْرٍ تَرَتَّبَتْ فِي الذِّمَّةِ وَوَجَبَ الْقَضَاءُ.وَبِمِثْلِ ذَلِكَ قَالَ الْكَاسَانِيُّ.

وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ مِنْ عِبَادَاتٍ بَدَنِيَّةٍ مُقَيَّدَةٍ بِوَقْتٍ كَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرِ رَجَبٍ مَثَلًا وَمَضَى شَهْرُ رَجَبٍ دُونَ أَنْ يَصُومَهُ فَإِنَّهُ يُصْبِحُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.

وَلِذَلِكَ يُقَسِّمُ الْحَنَفِيَّةُ صَوْمَ الْفَرْضِ إِلَى قِسْمَيْنِ: عَيْنٍ وَدَيْنٍ.فَالْعَيْنُ مَا لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ إِمَّا بِتَعْيِينِ اللَّهِ تَعَالَى كَصَوْمِ رَمَضَانَ وَإِمَّا بِتَعْيِينِ الْعَبْدِ كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، وَأَمَّا صَوْمُ الدَّيْنِ فَمَا لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ كَصَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ.إِلَخْ يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: فَمَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ رَجَبٍ فَأَفْطَرَ فِيهِ قَضَى فِي شَهْرٍ آخَرَ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْوَاجِبَ عَنْ وَقْتِهِ فَصَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.

وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى أَنَّ كَوْنَ الصَّلَاةِ أَوِ الصِّيَامِ تُصْبِحُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ لَا يُنَاقِضُ التَّعَلُّقَ بِالذِّمَّةِ فِي وَقْتِ الْأَدَاءِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ أَصْلِ الْوُجُوبِ وَوُجُوبِ الْأَدَاءِ، وَبَيْنَ الْوَاجِبِ بِالْأَمْرِ وَالْوَاجِبِ بِالسَّبَبِ وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

ب- إِتْلَافُ الْمُعَيَّنِ مِنَ الْأَمْوَالِ أَوْ تَلَفُهُ:

5- مَعَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِالْعَيْنِ أَوْ بِالذِّمَّةِ إِلاَّ أَنَّهُمْ جَمِيعًا يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اسْتِهْلَاكَ مَالِ الزَّكَاةِ أَوِ التَّصَرُّفَ فِيهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ يَجْعَلُهَا دَيْنًا ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ.يَقُولُ الْقَرَافِيُّ: إِنَّ الزَّكَاةَ مَا دَامَتْ مُعَيَّنَةً بِوُجُودِ نِصَابِهَا لَا تَكُونُ فِي الذِّمَّةِ فَإِذَا تَلِفَ النِّصَابُ بِعُذْرٍ لَا يَضْمَنُ نَصِيبَ الْفُقَرَاءِ وَلَا يَنْتَقِلُ الْوَاجِبُ إِلَى الذِّمَّةِ، وَيَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: مَنْ أَتْلَفَ الثِّمَارَ أَوِ الزَّرْعَ أَوْ أَكَلَهَا بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا ضَمِنَهَا وَكَانَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَ الزَّكَاةِ بَعْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (زَكَاة).

وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ مُعَيَّنًا مِنْ نَذْرٍ أَوْ هَدْيٍ وَاجِبٍ.فَمَنْ عَيَّنَ هَدْيًا فَعَطِبَ أَوْ سُرِقَ أَوْ ضَلَّ عَادَ الْوُجُوبُ إِلَى ذِمَّتِهِ.

ج- الْعَجْزُ عَنِ الْأَدَاءِ حِينَ الْوُجُوبِ:

6- قَالَ النَّوَوِيُّ وَالسُّيُوطِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ: الْحُقُوقُ الْمَالِيَّةُ الْوَاجِبَةُ لِلَّهِ تَعَالَى ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ:

1- ضَرْبٌ يَجِبُ لَا بِسَبَبِ مُبَاشَرَةٍ مِنَ الْعَبْدِ كَزَكَاةِ الْفِطْرِ فَإِذَا عَجَزَ عَنْهُ وَقْتَ الْوُجُوبِ لَمْ يَثْبُتْ فِي ذِمَّتِهِ فَلَوْ أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ.

2- وَضَرْبٌ يَجِبُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَفِدْيَةِ الْحَلْقِ وَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ فِي الْحَجِّ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْهُ وَقْتَ وُجُوبِهِ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ تَغْلِيبًا لِمَعْنَى الْغَرَامَةِ لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ مَحْضٌ.

3- وَضَرْبٌ يَجِبُ بِسَبَبِهِ لَا عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ كَكَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ وَالْقَتْلِ، فَفِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ عِنْدَ الْعَجْزِ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْعَجْزِ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (صَوْم، وَكَفَّارَة، وَقَتْل، وَظِهَار).

د- النُّذُورُ الْمُطْلَقَةُ:

7- وَهِيَ الَّتِي لَمْ تُعَلَّقْ عَلَى شَرْطٍ أَوْ تُقَيَّدْ بِوَقْتٍ بَلْ كَانَتْ مُضَافَةً إِلَى وَقْتٍ مُبْهَمٍ كَمَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا، فَهِيَ فِي الذِّمَّةِ إِلَى أَنْ تُؤَدَّى، وَجَمِيعُ الْعُمْرِ وَقْتٌ لَهَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ عَلَى التَّرَاخِي.وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْحَجُّ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي كَالْحَنَفِيَّةِ.

وَيَقُولُ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ نَذْرِ الْقُرْبَةِ الْمَالِيَّةِ كَالصَّدَقَةِ وَالْأُضْحِيَّةِ الِالْتِزَامُ لَهَا فِي الذِّمَّةِ أَوِ الْإِضَافَةِ إِلَى مُعَيَّنٍ يَمْلِكُهُ.

وَيَقُولُ الْقَرَافِيُّ: جَمِيعُ الْعُمْرِ ظَرْفٌ لِوُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِإِيقَاعِ النُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ لِوُجُودِ التَّكْلِيفِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ.

النِّيَابَةُ عَنِ الْغَيْرِ فِي أَدَاءِ دَيْنِ اللَّهِ:

8- دَيْنُ اللَّهِ الْمَالِيُّ الْمَحْضُ كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ عَنِ الْغَيْرِ سَوَاءٌ أَكَانَ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا إِخْرَاجُ الْمَالِ وَهُوَ يَحْصُلُ بِفِعْلِ النَّائِبِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْأَدَاءُ عَنِ الْحَيِّ أَمْ عَنِ الْمَيِّتِ، إِلاَّ أَنَّ الْأَدَاءَ عَنِ الْحَيِّ لَا يَجُوزُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ بِاتِّفَاقٍ وَذَلِكَ لِلِافْتِقَارِ فِي الْأَدَاءِ إِلَى النِّيَّةِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ فَلَا تَسْقُطُ عَنِ الْمُكَلَّفِ بِدُونِ إِذْنِهِ.أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَيِّتِ فَلَا يُشْتَرَطُ الْإِذْنُ إِذْ يَجُوزُ التَّبَرُّعُ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ عَنِ الْمَيِّتِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.

وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَلَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا حَالَ الْحَيَاةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} وَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: أَيْ فِي حَقِّ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ لَا فِي حَقِّ الثَّوَابِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ بَعْدَ الْمَمَاتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.

وَهَذَا الْحُكْمُ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِقَضَاءِ الْعِبَادَةِ نَفْسِهَا عَنِ الْمَيِّتِ.أَمَّا فِدْيَةُ الصِّيَامِ وَكَفَّارَةُ الْإِفْطَارِ فَيَجُوزُ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَتَبَرَّعُوا بِهَا عَنِ الْمَيِّتِ إِذَا لَمْ يُوصِ.أَمَّا إِذَا أَوْصَى فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فَتُؤَدَّى مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ.وَلِغَيْرِهِمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَصِيَّة).

أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَنِ الْمَيِّتِ عَمَّا تَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ صَلَاةٍ فَاتَتْهُ وَمَاتَ دُونَ قَضَائِهَا.وَأَمَّا الصَّوْمُ فَمَا تَرَتَّبَ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ مِنْهُ فَفِي الْجَدِيدِ لَا يَصِحُّ الصَّوْمُ عَنْهُ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا يُكَفَّرُ عَنْهُ بِإِخْرَاجِ مُدٍّ مِنْ طَعَامٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ فَاتَهُ، وَفِي الْقَدِيمِ يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ وَلِيُّهُ عَنْهُ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، قَالَ السُّبْكِيُّ وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُخْتَارَ وَالْمُفْتَى بِهِ، وَالْقَوْلَانِ يَجْرِيَانِ فِي الصِّيَامِ الْمَنْذُورِ إِذَا لَمْ يُؤَدَّ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ فَصَلُوا بَيْنَ الْوَاجِبِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَبَيْنَ مَا أَوْجَبَهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ نَذْرِ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ.فَقَالُوا: مَنْ مَاتَ وَفِي ذِمَّتِهِ صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ لَمْ تُؤَدَّ، أَوْ صِيَامُ رَمَضَانَ لَمْ يُؤَدَّ، فَلَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ حَالَ الْحَيَاةِ فَبَعْدَ الْمَوْتِ كَذَلِكَ.أَمَّا مَا أَوْجَبَهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَتَمَكَّنَ مِنَ الْأَدَاءِ وَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ سُنَّ لِوَلِيِّهِ فِعْلُ النَّذْرِ عَنْهُ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَصَوْمِي عَنْ أُمِّكِ» لِأَنَّ النَّذْرَ أَخَفُّ حُكْمًا مِنَ الْوَاجِبِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ.

وَيَجُوزُ لِغَيْرِ الْوَلِيِّ فِعْلُ مَا عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ نَذْرٍ بِإِذْنِهِ وَبِدُونِ إِذْنِهِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَجِّ لِمَا فِيهِ مِنْ جَانِبٍ مَالِيٍّ وَجَانِبٍ بَدَنِيٍّ، فَمَنْ كَانَ عَاجِزًا بِنَفْسِهِ عَنْ أَدَاءِ الْحَجِّ وَأَمْكَنَهُ الْأَدَاءُ بِمَالِهِ بِإِنَابَةِ غَيْرِهِ مَنَابَ نَفْسِهِ لَزِمَهُ الْإِنَابَةُ فِي الْحَجِّ عَنْهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي الْحَجِّ.وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيِّ فِي الْجُمْلَةِ.

أَمَّا مَنْ مَاتَ وَكَانَ مُسْتَطِيعًا وَلَمْ يَحُجَّ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَجِبُ الْقَضَاءُ مِنْ رَأْسِ مَالِ تَرِكَتِهِ؛ لِمَا رَوَى بُرَيْدَةُ قَالَ: «أَتَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: حُجِّي عَنْ أُمِّكِ».وَلِأَنَّهُ حَقٌّ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ حَالَ الْحَيَاةِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حَجُّ الْفَرِيضَةِ وَالنَّذْرِ، فَإِنْ حَجَّ عَنْهُ الْوَارِثُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِاسْتِئْجَارٍ سَقَطَ الْحَجُّ عَنِ الْمَيِّتِ.وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ حَجَّ عَنِ الْمَيِّتِ أَجْنَبِيٌّ جَازَ وَلَوْ بِلَا إِذْنٍ كَمَا إِنَّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ بِلَا إِذْنٍ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ تَبَرُّعُ الْوَارِثِ بِالْحَجِّ بِنَفْسِهِ عَنِ الْمَيِّتِ أَوْ بِالْإِحْجَاجِ عَنْهُ رَجُلًا آخَرَ وَلَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

أَثَرُ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ

8 م- مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ أَلاَّ يَكُونَ هُنَاكَ دَيْنٌ لآِدَمِيٍّ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّ لَهُ مُطَالِبًا مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ، وَكَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِدَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى كَالْكَفَّارَةِ وَالنَّذْرِ وَالْهَدْيِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلُ خَلِيلٍ وَابْنِ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ أَثَرَ هَذَا الدَّيْنِ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَهُوَ الثَّوَابُ بِالْأَدَاءِ وَالْإِثْمُ بِالتَّرْكِ، وَلِإِطْلَاقِ الْأَدِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلزَّكَاةِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَعِنْدَ ابْنِ عَتَّابٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ هَذَا الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْأَمْوَالِ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ: هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلِيُؤَدِّهِ حَتَّى تُخْرِجُوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ.وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى».

وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّ هَذَا الدَّيْنَ يَمْنَعُ زَكَاةَ الْمَالِ الْبَاطِنِ وَهُوَ النَّقْدُ وَالْعَرْضُ وَلَا يَمْنَعُ زَكَاةَ الْمَالِ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْمَاشِيَةُ وَالزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ وَالْمَعَادِنُ.

وَهَذَا الْحُكْمُ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ لِدُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا فِي ذَلِكَ دَيْنُ الزَّكَاةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ دَيْنِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهِ مِنَ الدُّيُونِ.فَالْحُكْمُ السَّابِقُ عِنْدَهُمْ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ دَيْنِ الزَّكَاةِ.

أَمَّا مَنْ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ زَكَاةُ سَنَوَاتٍ مَضَتْ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ لِلزَّكَاةِ الْحَاضِرَةِ.

فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ دَيْنُ الزَّكَاةِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ الْحَاضِرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: دَيْنُ الزَّكَاةِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ الْحَاضِرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ.

وَحُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِالْمَنْعِ أَنَّ دَيْنَ الزَّكَاةِ لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ وَهُوَ الْإِمَامُ فَأَشْبَهَ دَيْنَ الْآدَمِيِّ وَهُوَ تَعْلِيلُ زُفَرَ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ بِخِلَافِ الْبَاطِنَةِ.وَيُلَاحَظُ أَنَّ الْأَحْكَامَ السَّابِقَةَ جَمِيعُهَا إِنَّمَا هِيَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِزَكَاةِ الْعَيْنِ (النَّقْدَيْنِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ) فَهِيَ الَّتِي يُؤَثِّرُ فِيهَا الدَّيْنُ، أَمَّا زَكَاةُ الْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ فَلَا يُؤَثِّرُ الدَّيْنُ فِي وُجُوبِ إِخْرَاجِهَا.وَلِتَفْصِيلِ ذَلِكَ يُنْظَرُ: (زَكَاة).

حُكْمُ الْإِيصَاءِ بِدَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى:

9- دُيُونُ اللَّهِ تَعَالَى الْمَالِيَّةُ الَّتِي اسْتَقَرَّتْ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ مِنْ زَكَاةٍ أَوْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ أَوْ إِفْطَارٍ فِي رَمَضَانَ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ فِدْيَةِ أَذًى فِي الْحَجِّ، أَوْ جَزَاءِ صَيْدٍ، أَوْ هَدْيٍ لِتَمَتُّعٍ أَوْ قِرَانٍ إِذَا أَدْرَكَتْهُ الْوَفَاةُ وَلَمْ يُؤَدِّهَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِيصَاءُ بِهَا.وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْحَجِّ، أَوْ كَانَ عَاجِزًا بِنَفْسِهِ وَأَمْكَنَهُ الْأَدَاءُ بِمَالِهِ بِإِنَابَةِ غَيْرِهِ مَنَابَ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْحَجِّ عَنْهُ.

أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الَّتِي تَرَتَّبَتْ فِي ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ كَالصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ فَإِنَّ الصِّيَامَ الَّذِي فَرَّطَ الْإِنْسَانُ فِيهِ كَقَضَاءِ رَمَضَانَ أَوْ صِيَامِ كَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٍ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ عِنْدَ وَفَاتِهِ بِالْفِدْيَةِ، وَهِيَ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الصِّيَامِ الَّتِي فَاتَتْهُ.

وَالْحُكْمُ فِي جَمِيعِ مَا سَبَقَ هُوَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ لَمْ يَقْضِهَا.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: مَنْ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ وَكَانَ يَقْدِرُ عَلَى الصَّلَاةِ وَلَوْ بِالْإِيمَاءِ وَلَمْ يُصَلِّ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِيصَاءُ بِالْكَفَّارَةِ بِأَنْ يُعْطِيَ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَاتَتْهُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ كَالْفِطْرَةِ قَالَ: وَكَذَا حُكْمُ الْوِتْرِ.وَنَقَلَ الْبُوَيْطِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يُطْعَمَ لِكُلِّ صَلَاةٍ مُدٌّ.

تَعَلُّقُ دَيْنِ اللَّهِ بِتَرِكَةِ الْمَيِّتِ:

10- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُتَرَتِّبَ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ يَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ، وَيَجِبُ أَدَاؤُهُ مِنْهَا سَوَاءٌ أَوْصَى الْمَيِّتُ بِذَلِكَ أَمْ لَمْ يُوصِ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ إِلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِهِ الْمَيِّتُ فَإِذَا أَوْصَى بِهِ أَخْرَجَهُ الْوَرَثَةُ مِنَ التَّرِكَةِ.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ دَيْنُ اللَّهِ بِالتَّرِكَةِ إِلاَّ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ هِيَ:

أ- أَنْ يُوصِيَ الْمَيِّتُ بِذَلِكَ فَتَخْرُجُ مِنَ التَّرِكَةِ.

ب- أَنْ يُشْهِدَ فِي صِحَّتِهِ بِأَنَّ هَذَا الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَخْرُجُ مِنَ التَّرِكَةِ وَلَوْ لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ.

ج- أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْوَاجِبُ إِخْرَاجُهَا قَائِمَةً كَزَكَاةِ الْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.

وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ مِنَ الثُّلُثِ، وَمَا يُقَدَّمُ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ؟ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَرِكَة).

سُقُوطُ دَيْنِ اللَّهِ

11- الْأَصْلُ أَنَّ دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَسْقُطُ وَلَا تَبْرَأُ مِنْهُ الذِّمَّةُ إِلاَّ بِالْقَضَاءِ، لَكِنْ هُنَاكَ بَعْضُ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَسْقُطُ بِهَا الْقَضَاءُ وَمِنْ ذَلِكَ: 1- الْحَرَجُ:

12- أ- فَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُمَا قَضَاءُ الصَّوْمِ وَيَسْقُطُ عَنْهُمَا قَضَاءُ الصَّلَاةِ لِلْحَرَجِ يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ قَضَاءُ الصَّوْمِ لِفَوَاتِ صَوْمِ رَمَضَانَ عَلَيْهِمَا وَلِقُدْرَتِهِمَا عَلَى الْقَضَاءِ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَرَجِ لِأَنَّ وُجُوبَهَا يَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ.

ب- الْمُغْمَى عَلَيْهِ، إِنْ أُغْمِيَ عَلَى شَخْصٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ أَقَلَّ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الصَّلَاةِ لِانْعِدَامِ الْحَرَجِ، وَإِنْ زَادَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُحْرَجُ فِي الْقَضَاءِ لِدُخُولِ الْعِبَادَةِ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ.وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يُفِيقَ فِي جُزْءٍ مِنْ وَقْتِهَا.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَقْضِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي فَاتَتْهُ حَالَ إِغْمَائِهِ.وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِغْمَاء).

ج- يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: الْمَرِيضُ الْعَاجِزُ عَنِ الْإِيمَاءِ فِي الصَّلَاةِ إِذَا فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ ثُمَّ بَرِئَ، فَإِنْ كَانَ مَا فَاتَهُ يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ قَضَاهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَرَجِ، وَذَلِكَ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِمِثْلِ ذَلِكَ رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ أَيْضًا مِنِ اخْتِيَارَاتِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ.

2- الْعَجْزُ عَنِ الْقَضَاءِ:

13- أ- مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ لِعُذْرٍ مِنْ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ ثُمَّ مَاتَ سَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَجَبَ بِالشَّرْعِ، وَقَدْ مَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ فِعْلِهِ فَسَقَطَ إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ كَالْحَجِّ.

ب- مَنْ عَجَزَ عَنْ كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ الَّتِي وَجَبَتْ بِجِمَاعٍ أَوْ بِغَيْرِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الْمَذَاهِبِ سَقَطَتْ عَنْهُ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ الْأَعْرَابِيَّ أَنْ يُطْعِمَ أَهْلَهُ» وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِكَفَّارَةٍ أُخْرَى وَلَا بَيَّنَ لَهُ بَقَاءَهَا فِي ذِمَّتِهِ.

وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ.وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: تَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ.

3- هَلَاكُ مَالِ الزَّكَاةِ:

14- هَلَاكُ نِصَابِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا بِحَوَلَانِ الْحَوْلِ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْهَلَاكُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَدَاءِ أَمْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ يَسْتَدْعِي تَفْوِيتَ مِلْكٍ أَوْ يَدٍ، وَتَأْخِيرَ الزَّكَاةِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ لَمْ يُفَوِّتْ عَلَى الْفَقِيرِ مِلْكًا وَلَا يَدًا فَلَا يَضْمَنُ.

وَيَقُولُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ فَعَزَلَهَا وَأَخْرَجَهَا فَتَلِفَتْ مِنْهُ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ إِلاَّ إِنْ تَلِفَ الْمَالُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَدَاءِ بِلَا تَقْصِيرٍ، أَمَّا بَعْدَ التَّمَكُّنِ فَتَلَفُ الْمَالِ يُوجِبُ الضَّمَانَ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: الزَّكَاةُ لَا تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَالِ فَرَّطَ أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ، هَذَا الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَحَكَى عَنْهُ الْمَيْمُونِيُّ أَنَّهُ إِذَا تَلِفَ النِّصَابُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَدَاءِ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ عَنْهُ، وَإِنْ تَلِفَ بَعْدَهُ لَمْ تَسْقُطْ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَالصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ الزَّكَاةَ تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَالِ إِذَا لَمْ يُفَرِّطْ فِي الْأَدَاءِ لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ فَلَا تَجِبُ عَلَى وَجْهٍ يَجِبُ أَدَاؤُهَا مَعَ عَدَمِ الْمَالِ وَفَقْرِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (زَكَاة).

4- الرِّدَّةُ

15- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرِّدَّةَ تُسْقِطُ دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ أَكَانَ بَدَنِيًّا أَمْ مَالِيًّا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ».وَعَلَى هَذَا فَمَنْ كَانَ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ- وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ- ثُمَّ أَسْلَمَ فَمَا كَانَ مِنْ دُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذِمَّتِهِ فَقَدْ بَطَلَ تَعَلُّقُهُ بِهَا وَسَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُسْقِطُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى مَالِيًّا أَوْ بَدَنِيًّا.

وَقَدْ فَصَّلَ ابْنُ قُدَامَةَ الْقَوْلَ بِالنِّسْبَةِ لِمَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ فَقَالَ فِي الزَّكَاةِ: مَنِ ارْتَدَّ قَبْلَ مُضِيِّ الْحَوْلِ وَحَالَ الْحَوْلُ وَهُوَ مُرْتَدٌّ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فَعَدَمُهُ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ كَالْمِلْكِ وَالنِّصَابِ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ مُضِيِّ الْحَوْلِ اسْتَأْنَفَ حَوْلًا، أَمَّا إِنِ ارْتَدَّ بَعْدَ الْحَوْلِ لَمْ تَسْقُطِ الزَّكَاةُ عَنْهُ.

وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا تَسْقُطُ أَيْضًا لَكِنْ لَا يُطَالَبُ بِفِعْلِهَا لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ مِنْهُ وَلَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ، فَإِذَا عَادَ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا، وَالزَّكَاةُ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ وَلَا تَسْقُطُ بِالرِّدَّةِ كَالدَّيْنِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (رِدَّة، زَكَاة).

5- الْمَوْتُ:

16- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دُيُونَ اللَّهِ لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ بَلْ تَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ فَيَخْرُجُ مِنْهَا مَا عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ دُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى كَدُيُونِ الْآدَمِيِّ.وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْحَجُّ فَيُحَجُّ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ.أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَسْقُطُ عَنْهُ عِنْدَهُمَا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قَالَهُ الْبُوَيْطِيُّ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْإِطْعَامِ عَنْهُ لِكُلِّ صَلَاةٍ مُدٌّ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قِيلَ فِي الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ.وَأَمَّا الصِّيَامُ فَيُفْدَى عَنْهُ، وَفِي الْقَدِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُصَامُ عَنْهُ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ وَالْقَدِيمُ أَظْهَرُ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ نَذْرُ الْعِبَادَةِ يُفْعَلُ عَنِ الْمَيِّتِ مِنْ تَرِكَتِهِ، أَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ وَالْكَفَّارَةُ فَيُطْعَمُ عَنْهُ.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِعَدَمِ سُقُوطِ دَيْنِ اللَّهِ بِالْمَوْتِ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَالَتِ امْرَأَةٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا قَالَ: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ.قَالَ: فَصَوْمِي عَنْ أُمِّكِ».

وَمَا رَوَى النَّسَائِيُّ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ» كَمَا اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِصِيَامِ الْوَلِيِّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ».

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمَوْتَ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا لَمْ يُوصِ بِهِ، فَمَنْ مَاتَ وَفِي ذِمَّتِهِ صَلَاةٌ أَوْ صَوْمٌ أَوْ زَكَاةٌ أَوْ حَجٌّ أَوْ كَفَّارَةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى سَقَطَتْ عَنْهُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَلِذَلِكَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَلَا يُؤْمَرُ الْوَصِيُّ أَوِ الْوَارِثُ بِالْأَدَاءِ مِنَ التَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ اللَّهِ عِبَادَةٌ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِنِيَّةِ الْمُكَلَّفِ وَفِعْلِهِ، فَإِذَا لَمْ يُوصِ فَقَدْ فَاتَ الشَّرْطُ بِمَوْتِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الْوَاجِبِ فَيَسْقُطُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِلتَّعَذُّرِ.

لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْعُشْرِ إِذَا كَانَ قَائِمًا، فَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ الْعُشْرُ، فَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ قَائِمًا فَلَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَسْقُطُ، أَمَّا لَوْ كَانَ الْخَارِجُ مُسْتَهْلَكًا فَإِنَّهُ يَسْقُطُ.

وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمَوْتَ يُسْقِطُ مَا عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ دُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ فِي أَحْوَالٍ ثَلَاثَةٍ وَهِيَ:

أ- إِذَا أَوْصَى بِهَا.

ب- إِذَا أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ وَلَوْ لَمْ يُوصِ بِهَا.

ج- إِذَا تَعَلَّقَ بِعَيْنٍ قَائِمَةٍ كَزَكَاةِ الْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (حَجّ، وَصَوْم).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


67-موسوعة الفقه الكويتية (ديوان)

دِيوَانٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الدِّيوَانُ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَيُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مُجْتَمَعِ الصُّحُفِ، وَعَلَى الْكِتَابِ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ أَهْلُ الْجَيْشِ وَأَهْلُ الْعَطِيَّةِ وَعَلَى جَرِيدَةِ الْحِسَابِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْحِسَابِ، ثُمَّ عَلَى مَوْضِعِ الْحِسَابِ، وَفِي تَاجِ الْعَرُوسِ: مَعَانِي الدِّيوَانِ خَمْسَةٌ: الْكَتَبَةُ وَمَحَلُّهُمْ، وَالدَّفْتَرُ، وَكُلُّ كِتَابٍ، وَمَجْمُوعُ الشِّعْرِ.

وَالدِّيوَانُ فِي الِاصْطِلَاحِ: الدَّفْتَرُ الَّذِي تُثْبَتُ فِيهِ الْأَسْمَاءُ أَوَالْوَثَائِقُ، وَمَا وُضِعَ لِحِفْظِ مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ السَّلْطَنَةِ «الدَّوْلَةِ» مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَمْوَالِ وَمَنْ يَقُومُ بِهَا مِنَ الْجُيُوشِ وَالْعُمَّالِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- السِّجِلُّ:

2- السِّجِلُّ لُغَةً: الْكِتَابُ الْكَبِيرُ، وَفِي حَدِيثِ الْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: «فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كِفَّةٍ»

وَقِيلَ: السِّجِلُّ حَجَرٌ كَانَ يُكْتَبُ فِيهِ، ثُمَّ سُمِّيَ كُلُّ مَا يُكْتَبُ فِيهِ سِجِلًّا.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: السِّجِلُّ: الصَّكُّ، وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ السِّجَالَةِ وَهِيَ الْكِتَابَةُ.

وَاصْطِلَاحًا: مَا يُكْتَبُ مُتَضَمَّنًا حُكْمَ الْقَاضِي، أَيْ مَا يُكْتَبُ مِنِ ادِّعَاءٍ، وَإِجَابَةٍ، وَبَيِّنَةٍ، وَحُكْمِ الْقَاضِي.

وَالدِّيوَانُ قَدْ يَتَضَمَّنُ السِّجِلَّ وَغَيْرَهُ مِنَ الْمُحَاضِرِ وَالْحُجَجِ وَالْوَثَائِقِ وَلَا عَكْسَ.

ب- الْمَحْضَرُ:

3- الْمَحْضَرُ لُغَةً: السِّجِلُّ، وَاصْطِلَاحًا: مَا يُكْتَبُ مِنْ وَقَائِعِ الدَّعْوَى دُونَ حُكْمٍ.

وَالدِّيوَانُ يَتَضَمَّنُ- عَادَةً- الْمَحْضَرَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَوْرَاقِ وَالْوَثَائِقِ.

أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الدِّيوَانَ فِي الْإِسْلَامِ:

4- أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الدِّيوَانَ فِي الْإِسْلَامِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ أَهْلِ الدِّيوَانِ (الْمَوْسُوعَةُ ج 7 118).

مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّيوَانِ مِنْ أَحْكَامٍ:

اتِّخَاذُ الدِّيوَانِ:

5- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ دِيوَانًا أَيْ: دَفْتَرًا يَجْمَعُ فِيهِ أَسْمَاءَ الْجُنْدِ وَعَطَاءَهُمْ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ- فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ-: إِنَّ وَضْعَ دِيوَانِ الْجُنْدِ مُسْتَحَبٌّ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الشَّيْخَيْنِ (النَّوَوِيِّ وَالرَّافِعِيِّ)، وَكَلَامُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ صَرِيحٌ فِيهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ فِي الْمُحَرَّرِ، قَالَ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَضَعَ الْإِمَامُ دَفْتَرًا، وَإِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّ الظَّاهِرَ الْوُجُوبُ، لِئَلاَّ تُشْتَبَهَ الْأَحْوَالُ وَيَقَعَ الْخَبْطُ وَالْغَلَطُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَضَعَ دِيوَانًا فِيهِ أَسْمَاءُ الْمُقَاتِلَةِ، وَقَدْرُ أَرْزَاقِهِمْ ضَبْطًا لَهُمْ، وَلِمَا قُدِّرَ لَهُمْ.

دِيوَانُ الدَّوْلَةِ وَأَقْسَامُهُ:

6- دِيوَانُ الدَّوْلَةِ- وَنَحْوِهَا كَالسَّلْطَنَةِ أَوِ الْإِمَارَةِ أَوِ الْمَمْلَكَةِ- وُضِعَ لِحِفْظِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَمْوَالِ، وَمَنْ يَقُومُ بِهَا مِنَ الْجُيُوشِ وَالْعُمَّالِ.وَقُسِّمَ- فِي أَصْلِ وَضْعِهِ- أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: -

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا يَخْتَصُّ بِالْجَيْشِ مِنْ إِثْبَاتٍ وَعَطَاءٍ:

7- ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى أَنَّ الْإِثْبَاتَ فِي الدِّيوَانِ مُعْتَبَرٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (أَهْلُ الدِّيوَانِ)، وَمُصْطَلَحِ: (عَطَاء).

الْإِخْرَاجُ أَوَالْخُرُوجُ مِنْ دِيوَانِ الْجَيْشِ:

8- إِذَا أَرَادَ وَلِيُّ الْأَمْرِ إِسْقَاطَ بَعْضِ الْجَيْشِ مِنَ الدِّيوَانِ لِسَبَبٍ أَوْجَبَهُ، أَوَلِعُذْرٍ اقْتَضَاهُ جَازَ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ سَبَبٍ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُمْ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ.

وَإِذَا أَرَادَ بَعْضُ الْجَيْشِ إِخْرَاجَ نَفْسِهِ مِنَ الدِّيوَانِ جَازَ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، وَلَمْ يَجُزْ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا.

وَإِذَا جَرَّدَ الْجَيْشَ لِقِتَالٍ فَامْتَنَعُوا- وَهُمْ أَكْفَاءُ مَنْ حَارَبَهُمْ- سَقَطَتْ أَرْزَاقُهُمْ، وَإِنْ ضَعُفُوا عَنْهُمْ لَمْ تَسْقُطْ.وَإِذَا مَرِضَ بَعْضُهُمْ أَوْ جُنَّ وَرُجِيَ زَوَالُ الْمَرَضِ أَوِ الْجُنُونِ وَلَوْ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ أُعْطِيَ وَبَقِيَ اسْمُهُ فِي الدِّيوَانِ لِئَلاَّ يَرْغَبَ النَّاسُ عَنِ الْجِهَادِ وَيَشْتَغِلُوا بِالْكَسْبِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَأْمَنُونَ هَذِهِ الْعَوَارِضَ بِاتِّفَاقِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَإِنْ لَمْ يُرْجَ زَوَالُ الْمَرَضِ أَوِ الْجُنُونِ، فَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَخْرُجُ مِنَ الدِّيوَانِ وَسَقَطَ سَهْمُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابِلِ عَمَلٍ قَدْ عُدِمَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَيُعْطَى الْكِفَايَةَ اللاَّئِقَةَ بِهِ، وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُعْطَى لِعَدَمِ رَجَاءِ نَفْعِهِ، أَيْ: لَا يُعْطَى مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ الْمُعَدَّةِ لِلْمُقَاتِلَةِ، وَلَكِنْ يُعْطَى مِنْ غَيْرِهَا إِنْ كَانَ مُحْتَاجًا.

الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَخْتَصُّ بِالْأَعْمَالِ مِنْ رُسُومٍ وَحُقُوقٍ:

9- وَبَيَانُهُ مِنْ جَوَانِبَ:

الْأَوَّلُ: تَحْدِيدُ الْعَمَلِ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَتَفْصِيلُ نَوَاحِيهِ الَّتِي تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا، فَيُجْعَلُ لِكُلِّ بَلَدٍ حَدًّا لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَيُفَصَّلُ نَوَاحِي كُلِّ بَلَدٍ إِذَا اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُهَا.الثَّانِي: بَيَانُ حَالِ الْبَلَدِ هَلْ فُتِحَ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُ أَرْضِهِ مِنْ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ، فَإِنْ كَانَ جَمِيعُهُ أَرْضَ عُشْرٍ لَمْ يَلْزَمْ إِثْبَاتُ مِسَاحَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ عَلَى الزَّرْعِ دُونَ الْمِسَاحَةِ، وَيَكُونُ مَا اسْتُؤْنِفَ زَرْعُهُ مَرْفُوعًا إِلَى دِيوَانِ الْعُشْرِ لَا مُسْتَخْرَجًا مِنْهُ، وَيَلْزَمُ تَسْمِيَةُ أَرْبَابِهِ عِنْدَ رَفْعِهِ إِلَى الدِّيوَانِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعُشْرِ فِيهِ مُعْتَبَرٌ بِأَرْبَابِهِ دُونَ رِقَابِ الْأَرْضِينَ، وَإِذَا رُفِعَ الزَّرْعُ بِأَسْمَاءِ أَرْبَابِهِ ذُكِرَ مَبْلَغُ كَيْلِهِ وَحَالُ سَقْيِهِ بِسَيْحٍ (مَاءٍ جَارٍ) أَوْ عَمَلٍ؛ لِاخْتِلَافِ حُكْمِهِ لِيُسْتَوْفَى عَلَى مُوجِبِهِ.

وَإِنْ كَانَ جَمِيعُهُ أَرْضَ خَرَاجٍ لَزِمَ إِثْبَاتُ مِسَاحَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ عَلَى الْمِسَاحَةِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْخَرَاجُ فِي حُكْمِ الْأُجْرَةِ لَمْ يَلْزَمْ تَسْمِيَةُ أَرْبَابِ الْأَرْضِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِإِسْلَامٍ وَلَا بِكُفْرٍ، وَإِنْ كَانَ الْخَرَاجُ فِي حُكْمِ الْجِزْيَةِ لَزِمَ تَسْمِيَةُ أَرْبَابِهِمْ وَوَصْفُهُمْ بِإِسْلَامٍ أَوْ كُفْرٍ؛ لِاخْتِلَافِ حُكْمِهِ بِاخْتِلَافِ أَهْلِهِ.

وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ عُشْرًا وَبَعْضُهُ خَرَاجًا فُصِّلَ فِي دِيوَانِ الْعُشْرِ مَا كَانَ مِنْهُ عُشْرًا، وَفِي دِيوَانِ الْخَرَاجِ مَا كَانَ مِنْهُ خَرَاجًا؛ لِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ فِيهِمَا، وَأُجْرِيَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَخْتَصُّ بِحُكْمِهِ.

الثَّالِثُ: بَيَانُ أَحْكَامِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا مِنْ مُقَاسَمَةٍ عَلَى الزَّرْعِ أَوْ وَرِقٍ (فِضَّةٍ) مُقَدَّرٍ عَلَى الْخَرَاجِ.

الرَّابِعُ: ذِكْرُ مَنْ فِي كُلِّ بَلَدٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ سُمُّوا فِي الدِّيوَانِ مَعَ ذِكْرِ عَدَدِهِمْ، لِيُخْتَبَرَ حَالُ يَسَارِهِمْ وَإِعْسَارِهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ عَدَدِهِمْ وَوَجَبَ مُرَاعَاتُهُمْ فِي كُلِّ عَامٍ لِيُثْبَتَ مَنْ بَلَغَ وَيُسْقَطَ مَنْ مَاتَ أَوْ أَسْلَمَ، لِيَنْحَصِرَ بِذَلِكَ مَا يُسْتَحَقُّ مِنْ جِزْيَتِهِمْ.

الْخَامِسُ: ذِكْرُ أَجْنَاسِ الْمَعَادِنِ فِي الْبَلَدِ- إِنْ كَانَ مِنْ بُلْدَانِ الْمَعَادِنِ- وَعَدَدِ كُلِّ جِنْسٍ، لِيُسْتَوْفَى حَقُّ الْمَعْدِنِ مِنْهَا.

السَّادِسُ: إِنْ كَانَ الْبَلَدُ ثَغْرًا يُتَاخِمُ دَارَ الْحَرْبِ وَكَانَتْ أَمْوَالُ الْكُفَّارِ قَدْ دَخَلَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ مَعْشُورَةً عَنْ صُلْحٍ اسْتَقَرَّ مَعَهُمْ وَأُثْبِتَ فِي دِيوَانِ عَقْدِ صُلْحِهِمْ وَقُدِّرَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ مِنْ عُشْرٍ أَوْ خُمُسٍ أَوْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فَإِنْ كَانَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْتِعَةِ وَالْأَمْوَالِ فُصِّلَتْ فِيهِ، وَكَانَ الدِّيوَانُ مَوْضُوعًا لِإِخْرَاجِ رُسُومِهِ وَلِاسْتِيفَاءِ مَا يُرْفَعُ إِلَيْهِ مِنْ مَقَادِيرِ الْأَمْتِعَةِ الْمَحْمُولَةِ إِلَيْهِ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَخْتَصُّ بِالْعُمَّالِ مِنْ تَقْلِيدٍ وَعَزْلٍ:

10- وَبَيَانُهُ فِيمَا يَلِي:

الْأَوَّلُ: ذِكْرُ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ تَقْلِيدُ الْعُمَّالِ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِنُفُوذِ الْأَمْرِ وَجَوَازِ النَّظَرِ، وَهَذَا يَكُونُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةٍ: السُّلْطَانِ الْمُسْتَوْلِي عَلَى كُلِّ الْأُمُورِ، أَوْ وَزِيرِ التَّفْوِيضِ، أَوْ عَامِلِ عَامِّ الْوِلَايَةِ كَعَامِلِ إِقْلِيمٍ أَوْ مِصْرٍ عَظِيمٍ يُقَلَّدُ فِي خُصُوصِ الْأَعْمَالِ عَامِلًا.

أَمَّا وَزِيرُ التَّنْفِيذِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ تَقْلِيدُ عَامِلٍ إِلاَّ بَعْدَ الْمُطَالَعَةِ وَالِاسْتِئْمَارِ.

الثَّانِي: ذِكْرُ مَنْ يَصِحُّ أَنْ يَتَقَلَّدَ الْعِمَالَةَ، وَهُوَ مَنِ اسْتَقَلَّ بِكِفَايَتِهِ وَوُثِقَ بِأَمَانَتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ عِمَالَةُ تَفْوِيضٍ تَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ رُوعِيَ فِيهَا الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ، وَإِنْ كَانَتْ عِمَالَةُ تَنْفِيذٍ لَا اجْتِهَادَ لِلْعَامِلِ فِيهَا، لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ.

الثَّالِثُ: ذِكْرُ الْعَمَلِ الَّذِي يَتَقَلَّدُهُ، وَهَذَا يُعْتَبَرُ فِيهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ:

أ- تَحْدِيدُ النَّاحِيَةِ بِمَا تَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهَا.

ب- تَعْيِينُ الْعَمَلِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِنَظَرِهِ فِيهَا مِنْ جِبَايَةٍ أَوْ خَرَاجٍ أَوْ عُشْرٍ.

ج- الْعِلْمُ بِرُسُومِ الْعَمَلِ وَحُقُوقِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ يَنْفِي عَنْهُ الْجَهَالَةَ.فَإِذَا اسْتُكْمِلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ فِي عَمَلٍ عَلِمَ بِهِ الْمُوَلِّي وَالْمُوَلَّى صَحَّ التَّقْلِيدُ وَنَفَذَ.

الرَّابِعُ: بَيَانُ زَمَانِ النَّظَرِ، وَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:

أ- أَنْ يُقَدَّرَ بِمُدَّةٍ مَحْصُورَةٍ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ مُجَوِّزًا لِلنَّظَرِ فِيهَا وَمَانِعًا مِنَ النَّظَرِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا، وَلَا يَكُونُ النَّظَرُ فِي الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لَازِمًا مِنْ جِهَةِ الْمُوَلِّي، وَلَهُ صَرْفُهُ وَالِاسْتِبْدَالُ بِهِ إِنْ رَأَى ذَلِكَ صَلَاحًا.

ب- أَنْ يُقَدَّرَ بِالْعَمَلِ، فَيَقُولَ الْمُوَلِّي: قَلَّدْتُكَ خَرَاجَ نَاحِيَةِ كَذَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، أَوْ قَلَّدْتُكَ صَدَقَاتِ بَلَدِ كَذَا فِي هَذَا الْعَامِ، فَتَكُونُ مُدَّةُ نَظَرِهِ مُقَدَّرَةً بِفَرَاغِهِ عَنْ عَمَلِهِ، فَإِذَا فَرَغَ انْعَزَلَ عَنْهُ، وَهُوَ قَبْلَ فَرَاغِهِ يَجُوزُ أَنْ يَعْزِلَهُ الْمُوَلِّي، وَعَزْلُهُ لِنَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ بِصِحَّةِ جَارِيهِ وَفَسَادِهِ.

ج- أَنْ يَكُونَ التَّقْلِيدُ مُطْلَقًا فَلَا يُقَدَّرُ بِمُدَّةٍ وَلَا عَمَلٍ، فَيَقُولُ الْمُوَلِّي مَثَلًا: قَلَّدْتُكَ خَرَاجَ الْكُوفَةِ، أَوْ أَعْشَارَ الْبَصْرَةِ، أَوْ حِمَايَةَ بَغْدَادَ، وَهُوَ تَقْلِيدٌ صَحِيحٌ وَإِنْ جُهِلَتْ مُدَّتُهُ.

الْخَامِسُ: فِي جَارِي (مُقَابِلِ) الْعَامِلِ عَلَى عَمَلِهِ، وَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:

أ- أَنْ يُسَمِّيَ مَعْلُومًا فَيَسْتَحِقَّ الْمُسَمَّى إِذَا وَفَّى الْعِمَالَةَ حَقَّهَا، فَإِنْ قَصَّرَ فِيهَا رُوعِيَ تَقْصِيرُهُ، وَإِنْ زَادَ فِي الْعَمَلِ رُوعِيَتْ الزِّيَادَةُ.

ب- أَنْ يُسَمِّيَ مَجْهُولًا فَيَسْتَحِقَّ جَارِيَ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ، فَإِنْ كَانَ جَارِي الْعَمَلِ مُقَدَّرًا فِي الدِّيوَانِ، وَعَمِلَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُمَّالِ، صَارَ ذَلِكَ الْقَدْرُ هُوَ جَارِيَ الْمِثْلِ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ إِلاَّ وَاحِدًا لَمْ يَصِرْ ذَلِكَ مَأْلُوفًا فِي جَارِي الْمِثْلِ.

ج- أَنْ لَا يُسَمَّى بِمَجْهُولٍ وَلَا بِمَعْلُومٍ، وَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ خِلَافٌ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ الْجَارِي مِثْلُهُ عَلَى عَمَلِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ قَالَهَا الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ.

فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا جَارِيَ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ وَيَكُونُ مُتَطَوِّعًا بِهِ حَتَّى يُسَمِّيَ جَارِيًا مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا لِخُلُوِّ عَمَلِهِ مِنْ عِوَضٍ.

وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَهُ جَارِي مِثْلِهِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ، لِاسْتِيفَاءِ عَمَلِهِ عَنْ إِذْنِهِ.

وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: إِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِأَخْذِ الْجَارِي عَلَى عَمَلِهِ فَلَهُ جَارِي مِثْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يُشْهَرْ بِأَخْذِ الْجَارِي عَلَيْهِ فَلَا جَارِيَ لَهُ.

وَقَالَ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إِنْ دُعِيَ إِلَى الْعَمَلِ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْ أُمِرَ بِهِ، فَلَهُ جَارِي مِثْلِهِ، فَإِنِ ابْتَدَأَ بِالطَّلَبِ فَأُذِنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ فَلَا جَارِيَ لَهُ.

وَلَخَّصَ أَبُو يَعْلَى رَأْيَ الْحَنَابِلَةِ فَقَالَ: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِأَخْذِ الْجَارِي عَلَى عَمَلِهِ فَلَهُ جَارِي مِثْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بِأَخْذِ الْجَارِي عَلَيْهِ فَلَا جَارِيَ لَهُ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى: إِذَا كَانَ فِي عَمَلِهِ مَالٌ يُجْتَبَى فَجَارِيهِ يُسْتَحَقُّ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَجَارِيهِ فِي بَيْتِ الْمَالِ مُسْتَحَقٌّ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ.

السَّادِسُ: فِيمَا يَصِحُّ بِهِ التَّقْلِيدُ، فَإِنْ كَانَ نُطْقًا تَلَفَّظَ بِهِ الْمُوَلِّي صَحَّ بِهِ التَّقْلِيدُ كَمَا تَصِحُّ بِهِ سَائِرُ الْعُقُودِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ تَوْقِيعِ الْمُوَلِّي بِتَقْلِيدِهِ خَطَأً لَا لَفْظًا صَحَّ التَّقْلِيدُ، وَانْعَقَدَتْ بِهِ الْوِلَايَاتُ السُّلْطَانِيَّةُ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِهِ شَوَاهِدُ الْحَالِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْجَارِي فِيهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ التَّقْلِيدُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ لَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى اسْتِنَابَةِ غَيْرِهِ فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ إِنْ كَانَ عَامًّا مُتَعَدِّيًا.

كَاتِبُ الدِّيوَانِ:

11- كَاتِبُ الدِّيوَانِ هُوَ صَاحِبُ ذِمَامِهِ.وَالْمُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ وِلَايَتِهِ شَرْطَانِ: الْعَدَالَةُ وَالْكِفَايَةُ.أَمَّا الْعَدَالَةُ: فَلِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى حَقِّ بَيْتِ الْمَالِ وَالرَّعِيَّةِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فِي الْعَدَالَةِ وَالْأَمَانَةِ عَلَى صِفَةِ الْمُؤْتَمَنِينَ.وَأَمَّا الْكِفَايَةُ: فَلِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ لِعَمَلٍ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي الْقِيَامِ بِهِ مُسْتَقِلًّا بِكِفَايَةِ الْمُبَاشِرِينَ.

فَإِذَا صَحَّ تَقْلِيدُ الْكَاتِبِ فَالَّذِي نُدِبَ لَهُ سِتَّةُ أَشْيَاءَ:

1- حِفْظُ الْقَوَانِينِ عَلَى الرُّسُومِ الْعَادِلَةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ تَتَحَيَّفُ بِهَا الرَّعِيَّةُ أَوْ نُقْصَانٍ يَنْثَلِمُ بِهِ حَقُّ بَيْتِ الْمَالِ.

2- اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَامِلِينَ، وَمِنَ الْقَابِضِينَ لَهَا مِنَ الْعُمَّالِ. 3- إِثْبَاتُ الرُّفُوعِ وَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ.

أ- رُفُوعُ الْمِسَاحَةِ وَالْعَمَلِ.فَإِنْ كَانَتْ أُصُولُهَا مُقَدَّرَةً فِي الدِّيوَانِ اعْتُبِرَ صِحَّةُ الرَّفْعِ بِمُقَابَلَةِ الْأَصْلِ، وَأُثْبِتَ فِي الدِّيوَانِ إِنْ وَافَقَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الدِّيوَانِ أُصُولٌ عَمِلَ فِي إِثْبَاتِهَا عَلَى قَوْلِ رَافِعِهَا.

ب- رُفُوعُ قَبْضٍ وَاسْتِيفَاءٍ.فَيَعْمَلُ فِي إِثْبَاتِهَا عَلَى قَوْلِ رَافِعِهَا؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ لَا لَهَا.

ج- رُفُوعُ الْخَرَاجِ وَالنَّفَقَةِ.فَرَافِعُهَا مُدَّعٍ لَهَا فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ إِلاَّ بِالْحُجَجِ الْبَالِغَةِ.

4- مُحَاسَبَةُ الْعُمَّالِ.وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهَا بِاخْتِلَافِ مَا تَقَلَّدُوهُ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ عُمَّالِ الْخَرَاجِ لَزِمَهُمْ رَفْعُ الْحِسَابِ، وَوَجَبَ عَلَى كَاتِبِ الدِّيوَانِ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَى صِحَّةِ مَا رَفَعُوهُ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ عُمَّالِ الْعُشْرِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَفْعُ الْحِسَابِ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَى كَاتِبِ الدِّيوَانِ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ عِنْدَهُ صَدَقَةٌ لَا يَقِفُ مَصْرِفُهَا عَلَى اجْتِهَادِ الْوُلَاةِ، وَلَوْ تَفَرَّدَ أَهْلُهَا بِمَصْرِفِهَا أَجْزَأَتْ، وَيَلْزَمُهُمْ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَفْعُ الْحِسَابِ، وَيَجِبُ عَلَى كَاتِبِ الدِّيوَانِ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَصْرِفَ الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ عِنْدَهُ مُشْتَرَكٌ.

5- إِخْرَاجُ الْأَمْوَالِ.وَلَا يُخْرِجُ مِنْهَا إِلاَّ مَا عَلِمَ صِحَّتَهُ، وَلَا يَبْتَدِئُ بِذَلِكَ حَتَّى يُسْتَدْعَى مِنْهُ.

6- تَصَفُّحُ الظُّلَامَاتِ.وَهُوَ مُخْتَلَفٌ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمُتَظَلِّمِ: فَإِنْ كَانَ الْمُتَظَلِّمُ مِنَ الرَّعِيَّةِ تَظَلَّمَ مِنْ عَامِلٍ تَحَيَّفَهُ فِي مُعَامَلَةٍ، كَانَ صَاحِبُ الدِّيوَانِ فِيهَا حَاكِمًا بَيْنَهُمَا، وَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَصَفَّحَ الظُّلَامَةَ وَيُزِيلَ التَّحَيُّفَ؛ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ لِحِفْظِ الْقَوَانِينِ وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ، فَصَارَ بِعَقْدِ الْوِلَايَةِ مُسْتَحِقًّا لِتَصَفُّحِ الظُّلَامَاتِ.وَإِنْ كَانَ الْمُتَظَلِّمُ عَامِلًا جُوزِفَ فِي حِسَابِهِ أَوْ غُولِطَ فِي مُعَامَلَتِهِ، صَارَ صَاحِبُ الدِّيوَانِ خَصْمًا فِي الظُّلَامَةِ، وَكَانَ الْمُتَصَفِّحُ لَهَا وَلِيَّ الْأَمْرِ.

أَهْلُ الدِّيوَانِ:

12- أَهْلُ الدِّيوَانِ هُمُ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ مِنَ الدِّيوَانِ عَطَاءً وَيَأْخُذُونَ مِنْهُ رِزْقًا.وَفِي بَيَانِ أَصْنَافِهِمْ وَشُرُوطِ إِثْبَاتِهِمْ فِي الدِّيوَانِ وَالضَّابِطِ لِلْمَصَارِفِ.تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَهْلُ الدِّيوَانِ).

عَقْلُ الدِّيوَانِ عَنْ أَهْلِهِ:

13- يَتَحَمَّلُ الدِّيوَانُ الدِّيَةَ الَّتِي تَجِبُ بِذَاتِ الْقَتْلِ إِذَا كَانَ الْقَاتِلُ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ.عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلَافٍ يُنْظَرُ فِي: (أَهْل الدِّيوَانِ، وَدِيَة، وَعَاقِلَة). دِيوَانُ الْقَاضِي:

14- هُوَ مَا فِيهِ وَثَائِقُ النَّاسِ مِنَ الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلاَّتِ وَغَيْرِهَا.

وَأَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ الْقَاضِي إِذَا تَقَلَّدَ أَنْ يَطْلُبَ دِيوَانَ الْقَاضِي قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الدِّيوَانَ وُضِعَ لِيَكُونَ حُجَّةً عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَيُجْعَلُ فِي يَدِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ؛ وَلِأَنَّهُ الْأَسَاسُ الَّذِي يَبْنِي عَلَيْهِ الْقَاضِي حُكْمَهُ، وَيَلْزَمُ الْقَاضِيَ السَّابِقَ تَسْلِيمُهُ إِلَى الْقَاضِي الَّذِي خَلَفَهُ، لِأَنَّ الدِّيوَانَ كَانَ فِي يَدِهِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ، وَقَدْ صَارَتْ إِلَى الْقَاضِي الْجَدِيدِ.وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيلِ يُنْظَرُ: (قَضَاء).

دِيوَانُ الرَّسَائِلِ:

15- اسْتُحْدِثَ هَذَا الدِّيوَانُ عِنْدَمَا ضَعُفَتِ اللُّغَةُ، وَفَسَدَتِ الْأَلْسُنُ، فَاحْتَاجَ أُولُو الْأَمْرِ إِلَى مَنْ يَكْتُبُ الْكُتُبَ عَنْهُمْ بِأَلْفَاظٍ بَلِيغَةٍ مُؤَثِّرَةٍ تَفِي بِالْمُرَادِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


68-موسوعة الفقه الكويتية (رضاع 2)

رَضَاعٌ -2

الْإِقْرَارُ بِالرَّضَاعِ:

29- إِذَا تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً ثُمَّ قَالَ: هِيَ أُخْتِي أَوِ ابْنَتِي مِنَ الرَّضَاعِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ.

فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فَلَا مَهْرَ لَهَا، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ فَلَهَا نِصْفُهُ.

وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي قَالَتْ: هُوَ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ فَأَكْذَبَهَا وَلَمْ تَأْتِ بِالْبَيِّنَةِ، فَهِيَ زَوْجَتُهُ فِي الْحُكْمِ.

وَهَذَا إِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ مُمْكِنًا.فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا، بِأَنْ يَقُولَ: فُلَانَةُ بِنْتِي مِنَ الرَّضَاعَةِ وَهِيَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا فَهُوَ لَغْوٌ.

الرُّجُوعُ عَنِ الْإِقْرَارِ:

30- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا صَحَّ الْإِقْرَارُ، فَرَجَعَ عَنْهُ الْمُقِرُّ أَوْ رَجَعَا لَمْ يُقْبَلْ قَضَاءً، وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَيَنْبَنِي ذَلِكَ عَلَى عِلْمِهِ بِصِدْقِهِ.فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ وَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ عَلِمَ كَذِبَ نَفْسِهِ فَالنِّكَاحُ بَاقٍ بِحَالِهِ، وَقَوْلُهُ كَذِبٌ لَا يُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُحَرِّمَ حَقِيقَةً الرَّضَاعُ لَا الْقَوْلُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ ثَبَتَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَنْ قَالَ: هُوَ حَقٌّ، فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ قَالَ: أَخْطَأْتُ أَوْ وَهِمْتُ، لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَقُبِلَ رُجُوعُهُ.

وَإِنِ اتَّفَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى أَنَّ بَيْنَهُمَا رَضَاعًا مُحَرِّمًا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَيَسْقُطُ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ فَاسِدٌ مِنْ أَصْلِهِ، فَفَسَدَ الْمُسَمَّى وَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ إِنْ كَانَتْ جَاهِلَةً بِالتَّحْرِيمِ وَدَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّهَا كَالْمَوْطُوءَةِ بِالشُّبْهَةِ.وَإِنْ كَانَتْ عَالِمَةً بِالتَّحْرِيمِ وَمَكَّنَتْهُ مِنَ الْوَطْءِ فَلَا شَيْءَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا بَغِيٌّ مُطَاوِعَةٌ، وَكَذَا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا؛ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى فَسَادِ النِّكَاحِ مِنْ أَصْلِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَلَا مُوجِبَ لِلْمَهْرِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَهَا رُبُعُ دِينَارٍ ذَهَبًا فَقَطْ.وَإِنْ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِالرَّضَاعِ وَأَنْكَرَتْ هِيَ، حُكِمَ بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَزِمَهُ الْمُسَمَّى إِنْ كَانَ صَحِيحًا أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ إِنْ كَانَ فَاسِدًا إِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، وَنِصْفُ الْمُسَمَّى أَوْ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ إِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَيْهَا فِي إِسْقَاطِ حُقُوقِهَا، فَلَزِمَهُ بِإِقْرَارِهِ فِيمَا هُوَ حَقٌّ لَهُ وَهُوَ تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ، وَفُسِخَ نِكَاحُهُ، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيمَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَهْرِ.

هَذَا إِذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، وَلَهُ تَحْلِيفُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَكَذَا بَعْدَهُ إِنْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَقَلَّ مِنَ الْمُسَمَّى، فَإِنْ نَكَلَتِ الزَّوْجَةُ عَنِ الْيَمِينِ حَلَفَ الزَّوْجُ، وَلَا شَيْءَ لَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَا يَجِبُ لَهَا أَكْثَرُ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ بَعْدَ الدُّخُولِ.

إِقْرَارُ الزَّوْجَةِ بِالرَّضَاعِ:

31- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ إِنِ ادَّعَتِ الرَّضَاعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ فَأَنْكَرَ الزَّوْجُ وَلَا بَيِّنَةَ لَمْ يَنْفَسِخِ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا تُقِرُّ بِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّهُ.

فَإِنْ كَانَتْ قَدْ قَبَضَتْهُ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ أَخْذُهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ بِأَنَّهُ حَقٌّ لَهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَأَقَرَّتْ بِأَنَّهَا كَانَتْ عَالِمَةً بِأَنَّهَا أُخْتُهُ، وَبِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ وَمُطَاوِعَةً لَهُ فِي الْوَطْءِ فَلَا مَهْرَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِأَنَّهَا زَانِيَةٌ مُطَاوِعَةٌ، وَإِنْ أَنْكَرَتْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَهَا الْمَهْرُ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ بِشُبْهَةٍ، وَهِيَ زَوْجَتُهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا عَلَيْهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ أَقَرَّتِ الزَّوْجَةُ بِالرَّضَاعِ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ إِنْ زُوِّجَتْ مِنْهُ بِرِضَاهَا، بِأَنْ عَيَّنَتْهُ فِي إِذْنِهَا لِتَضَمُّنِهِ إِقْرَارَهَا بِحِلِّهَا لَهُ، فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا نَقِيضُهُ، وَتَسْتَمِرُّ الزَّوْجِيَّةُ ظَاهِرًا بَعْدَ حَلِفِ الزَّوْجِ عَلَى نَفْيِ الرَّضَاعِ.وَإِنْ لَمْ تُزَوَّجْ بِرِضَاهَا بَلْ زُوِّجَتْ إِجْبَارًا، أَوْ أَذِنَتْ بِغَيْرِ تَعْيِينِ الزَّوْجِ، فَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ تَصْدِيقُهَا بِيَمِينِهَا مَا لَمْ تُمَكِّنْهُ مِنْ وَطْئِهَا مُخْتَارَةً لِاحْتِمَالِ صِحَّةِ مَا تَدَّعِيهِ، وَلَمْ يَسْبِقْ مِنْهَا مَا يُنَافِيهِ، فَأَشْبَهَ إِقْرَارَهَا قَبْلَ النِّكَاحِ، وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إِنْ وَطِئَ وَلَمْ تَكُنْ عَالِمَةً بِالْحُكْمِ مُخْتَارَةً فِي التَّمْكِينِ، لَا الْمُسَمَّى لِإِقْرَارِهَا بِنَفْيِ اسْتِحْقَاقِهَا.فَإِنْ قَبَضَتْهُ لَمْ يُسْتَرَدَّ مِنْهَا لِزَعْمِهِ أَنَّهُ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا أَوْ كَانَتْ عَالِمَةً بِالتَّحْرِيمِ مُخْتَارَةً فِي التَّمْكِينِ فَلَا شَيْءَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا بَغِيٌّ مُطَاوِعَةٌ.وَالْمُنْكِرُ لِلرَّضَاعِ يَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ يَنْفِي فِعْلَ الْغَيْرِ، وَمُدَّعِيهِ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتِّ.

نِصَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الرَّضَاعِ:

32- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نِصَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى الرَّضَاعِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْعُدُولِ، رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَا يُقْبَلُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ بِانْفِرَادِهِنَّ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ عُمَرَ- رضي الله عنه-: «لَا يُقْبَلُ عَلَى الرَّضَاعِ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَظْهَرِ النَّكِيرُ مِنْ أَحَدٍ، فَصَارَ إِجْمَاعًا.

وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فِي الْجُمْلَةِ، فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ عَلَى الِانْفِرَادِ؛ لِأَنَّ قَبُولَ شَهَادَتِهِنَّ بِانْفِرَادِهِنَّ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ لِلضَّرُورَةِ، وَهِيَ ضَرُورَةُ عَدَمِ اطِّلَاعِ الرِّجَالِ عَلَى الْمَشْهُودِ بِهِ، فَإِذَا جَازَ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ لَمْ تَتَحَقَّقِ الضَّرُورَةُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَثْبُتُ الرَّضَاعُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ مُطْلَقًا قَبْلَ الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ.وَيُعْمَلُ قَبْلَ الْعَقْدِ فِي غَيْرِ الرَّشِيدِ بِإِقْرَارِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ، وَلَوْ أُمًّا، وَأَوْلَى بِإِقْرَارِهِمَا مَعًا، فَيُفْسَخُ إِذَا وَقَعَ، وَلَا يُعْتَبَرُ إِقْرَارُهُمَا بَعْدَهُ.وَأَمَّا بَعْدَ الْعَقْدِ فَيُقْبَلُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، أَوْ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ إِنْ فَشَا ذَلِكَ قَبْلَ الْعَقْدِ، وَلَا يُقْبَلُ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ فَشَا ذَلِكَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَثْبُتُ الرَّضَاعُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، وَبِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَبِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ الرِّجَالُ عَلَيْهِ إِلاَّ نَادِرًا، وَلَا يَثْبُتُ بِدُونِ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَثْبُتُ الرَّضَاعُ بِشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْمَرْضِيَّةِ.وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ «عُقْبَةَ قَالَ: تَزَوَّجْتُ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ، فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: كَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْكُمَا».وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ.

أَمَّا الْإِقْرَارُ بِالرَّضَاعِ فَلَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِ إِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي: بَابُ الشَّهَادَةِ».

قَبُولُ شَهَادَةِ أُمَّيِ الزَّوْجَيْنِ بِالرَّضَاعِ:

33- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ أُمَّيِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الرَّضَاعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَقْبُولَةٌ كَالْأَجْنَبِيَّتَيْنِ لِضَعْفِ التُّهْمَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَانَ فِيمَنْ يَشْهَدُ بِالرَّضَاعِ أُمُّ الْمَرْأَةِ أَوْ بِنْتُهَا، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مُدَّعِيًا، وَالْمَرْأَةُ مُنْكِرَةٌ قُبِلَتْ شَهَادَتُهَا.

وَكَذَا لَوْ شَهِدَتْ الْأُمُّ أَوِ الْبِنْتُ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ دَعْوَى عَلَى سَبِيلِ الْحِسْبَةِ، وَإِنِ احْتَمَلَ كَوْنَ الزَّوْجَةِ مُدَّعِيَةً؛ لِأَنَّ الرَّضَاعَ تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ.

وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُدَّعِيَةً فَلَا تُقْبَلُ لِلتُّهْمَةِ لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ عَدَمُ قَبُولِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ لِفَرْعِهِ، وَتُقْبَلُ عَلَيْهِ.

شَهَادَةُ الْمُرْضِعَةِ:

34- تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُرْضِعَةِ وَحْدَهَا عَلَى فِعْلِ نَفْسِهَا لِحَدِيثِ عُقْبَةَ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ لَا يَحْصُلُ بِهِ لَهَا نَفْعٌ مَقْصُودٌ، وَلَا تَدْفَعُ بِهِ ضَرَرًا، فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهَا فِيهِ كَفِعْلِ غَيْرِهَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: تُقْبَلُ مَعَ غَيْرِهَا، وَلَا تُقْبَلُ وَحْدَهَا، وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ لِقَبُولِ شَهَادَتِهَا فِيمَنْ يَشْهَدُ أَنْ لَا تَطْلُبَ أُجْرَةً، فَإِنْ طَلَبَتْ أُجْرَةَ الرَّضَاعِ فَلَا تُقْبَلُ لِلتُّهْمَةِ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الرَّضَاعِ إِلاَّ مُفَصَّلَةً، فَلَا يَكْفِي قَوْلُ الشَّاهِدِ: «بَيْنَهُمَا رَضَاعٌ» بَلْ يَجِبُ ذِكْرُ وَقْتِ الْإِرْضَاعِ وَعَدَدِ الرَّضَعَاتِ، كَأَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا ارْتَضَعَ مِنْ هَذِهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ خَلَصَ اللَّبَنُ فِيهِنَّ إِلَى جَوْفِهِ فِي الْحَوْلَيْنِ أَوْ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ.

رَضَاعُ الْكُفَّارِ:

35- إِنِ ارْتَضَعَ مُسْلِمٌ مِنْ ذِمِّيَّةٍ رَضَاعًا مُحَرِّمًا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بَنَاتُهَا وَفُرُوعُهَا كُلُّهُنَّ وَأُصُولُهَا كَالْمُسْلِمَةِ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ مُسْلِمَةٍ وَكَافِرَةٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَلَا تَأْبَى ذَلِكَ قَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى.

الِارْتِضَاعُ بِلَبَنِ الْفُجُورِ:

36- قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يُكْرَهُ الِارْتِضَاعُ بِلَبَنِ الْفُجُورِ وَلَبَنِ الْمُشْرِكَاتِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَفْضَى إِلَى شَبَهِ الْمُرْضِعَةِ فِي الْفُجُورِ، وَيَجْعَلُهَا أُمًّا لِوَلَدِهِ فَيَتَعَيَّرُ بِهَا، وَيَتَضَرَّرُ طَبْعًا وَتَعَيُّرًا، وَالِارْتِضَاعُ مِنَ الْمُشْرِكَةِ يَجْعَلُهَا أُمًّا لَهَا حُرْمَةُ الْأُمِّ مَعَ شِرْكِهَا، وَرُبَّمَا مَالَ إِلَيْهَا الْمُرْتَضِعُ وَأَحَبَّ دِينَهَا.وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُمَا قَالَا: اللَّبَنُ يَشْتَبِهُ، فَلَا تَسْتَقِ مِنْ يَهُودِيَّةٍ، وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ وَلَا زَانِيَةٍ، وَيُكْرَهُ بِلَبَنِ الْحَمْقَاءِ كَيْ لَا يُشْبِهَهَا الطِّفْلُ فِي الْحُمْقِ.

صِلَةُ الْمُرْضِعَةِ وَذَوِيهَا:

37- لِلْمُرْضِعَةِ حَقٌّ عَلَى مَنْ أَرْضَعَتْهُ وَلَوْ كَانَ الْإِرْضَاعُ بِأَجْرٍ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ «حَجَّاجٍ الْأَسْلَمِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُذْهِبُ عَنِّي مَذَمَّةَ الرَّضَاعَةِ؟ قَالَ: الْغُرَّةُ الْعَبْدُ أَوِ الْأَمَةُ».

قَالَ الْقَاضِي: وَالْمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ يُسْقِطُ عَنِّي حَقَّ الرَّضَاعِ حَتَّى أَكُونَ بِأَدَائِهِ مُؤَدِّيًا حَقَّ الْمُرْضِعَةِ بِكَمَالِهِ؟ وَكَانَتِ الْعَرَبُ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَرْضَخُوا لِلظِّئْرِ بِشَيْءٍ سِوَى الْأُجْرَةِ عِنْدَ الْفِصَالِ، وَهُوَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ.

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ: يَقُولُ: إِنَّهَا قَدْ خَدَمَتْكَ وَأَنْتَ طِفْلٌ، وَحَضَنَتْكَ وَأَنْتَ صَغِيرٌ، فَكَافِئْهَا بِخَادِمٍ يَخْدُمُهَا وَيَكْفِيهَا الْمِهْنَةَ، قَضَاءً لِذِمَامِهَا (أَيْ لِحَقِّهَا) وَجَزَاءً لَهَا عَلَى إِحْسَانِهَا.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْعَطِيَّةِ لِلْمُرْضِعَةِ عِنْدَ الْفِطَامِ، وَأَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَغْلَى الْأَمْوَالِ وَلِذَا سُمِّيَتْ (غُرَّةً).

كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فِعْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَدْ رَوَى أَبُو الطُّفَيْلِ قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَقْسِمُ لَحْمًا بِالْجِعْرَانَةِ.قَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ: وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ أَحْمِلُ عَظْمَ الْجَزُورِ إِذْ أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ حَتَّى دَنَتْ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: مَنْ هِيَ؟ فَقَالُوا: هَذِهِ أُمُّهُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ».

وَرَوَى عُمَرُ بْنُ السَّائِبِ أَنَّهُ بَلَغَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ جَالِسًا يَوْمًا فَأَقْبَلَ أَبُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَوَضَعَ لَهُ بَعْضَ ثَوْبِهِ فَقَعَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ أُمُّهُ فَوَضَعَ لَهَا شِقَّ ثَوْبِهِ مِنْ جَانِبِهِ الْآخَرِ فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ أَخُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَقَامَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ»

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


69-موسوعة الفقه الكويتية (رمي 2)

رَمْي -2

صِفَةُ الرَّمْيِ الْمُسْتَحَبَّةُ:

14- يَسْتَعِدُّ الْحَاجُّ لِرَمْيِ الْجَمَرَاتِ فَيَرْفَعُ الْحَصَى قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى الْجَمْرَةِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ سَبْعَ حَصَيَاتٍ مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ، فَوْقَ الْحِمَّصَةِ وَدُونَ الْبُنْدُقَةِ لِيَرْمِيَ بِهَا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَيَّامِ الرَّمْيِ، وَهُوَ يَوْمُ عِيدِ النَّحْرِ، وَإِنْ رَفَعَ سَبْعِينَ حَصَاةً مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ أَوْ مِنْ طَرِيقِ مُزْدَلِفَةَ فَهُوَ جَائِزٌ، وَقِيلَ: مُسْتَحَبٌّ، وَهَذَا هُوَ عَدَدُ الْحَصَى الَّذِي يُرْمَى فِي كُلِّ أَيَّامِ الرَّمْيِ، وَيَجُوزُ أَخْذُ الْحَصَيَاتِ مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ بِلَا كَرَاهَةٍ، إِلاَّ مِنْ عِنْدِ الْجَمْرَةِ، فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَيُكْرَهُ أَخْذُهَا مِنْ مَسْجِدِ الْخَيْفِ، لِأَنَّ حَصَى الْمَسْجِدِ تَابِعٌ لَهُ فَيَصِيرُ مُحْتَرَمًا، وَيُنْدَبُ غَسْلُ الْحَصَى مُطْلَقًا، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ نَجِسَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

ثُمَّ يَأْتِي الْحَاجُّ مِنًى يَوْمَ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ، وَعَلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَرْبَعَةُ أَعْمَالٍ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ: رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ ذَبْحُ الْهَدْيِ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ، ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ، ثُمَّ يَطُوفُ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدَّمَ السَّعْيَ عِنْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ فَإِنَّهُ يَسْعَى بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَيَتَوَجَّهُ الْحَاجُّ فَوْرَ وُصُولِهِ مِنًى إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَتَقَعُ آخِرَ مِنًى تُجَاهَ مَكَّةَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِشَيْءٍ آخَرَ قَبْلَ رَمْيِهَا، فَيَرْمِيهَا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ يَرْمِيهَا وَاحِدَةً فَوَاحِدَةً يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَيَدْعُو، وَكَيْفَمَا أَمْسَكَ الْحَصَاةَ وَرَمَاهَا صَحَّ، دُونَ تَقْيِيدٍ بِهَيْئَةٍ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ وَضْعُ الْحَصَاةِ فِي الْمَرْمَى وَضْعًا، وَيُسَنُّ أَنْ يَرْمِيَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَيَمْتَدُّ وَقْتُ السُّنَّةِ إِلَى الزَّوَالِ، وَيُبَاحُ بَعْدَهُ إِلَى الْمَغْرِبِ.

15- أَمَّا كَيْفِيَّةُ الرَّمْيِ فَهِيَ أَنْ يَبْعُدَ عَنِ الْجَمْرَةِ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا الْحَصَى قَدْرَ خَمْسَةِ أَذْرُعٍ فَأَكْثَرَ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَيُمْسِكَ بِالْحَصَاةِ بِطَرَفَيْ إِبْهَامِ وَمُسَبِّحَةِ يَدِهِ الْيُمْنَى، وَيَرْفَعَ يَدَهُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبِطَيْهِ، وَيَقْذِفَهَا وَيُكَبِّرَ.وَقِيلَ: يَضَعُ الْحَصَاةَ عَلَى ظَهْرِ إِبْهَامِهِ الْيُمْنَى وَيَسْتَعِينُ بِالْمُسَبِّحَةِ، وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَضَعَ الْحَصَاةَ بَيْنَ سَبَّابَتَيْ يَدَيْهِ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى وَيَرْمِيَ بِهَا.

16- أَمَّا صِيغَةُ التَّكْبِيرِ فَقَدْ جَاءَتْ فِي الْحَدِيثِ مُطْلَقَةً يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ.فَيَجُوزُ بِأَيِّ صِيغَةٍ مِنْ صِيَغِ التَّكْبِيرِ.

وَاخْتَارَ الْعُلَمَاءُ نَحْوَ هَذِهِ الصِّيغَةِ: «بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، رَغْمًا لِلشَّيْطَانِ وَرِضًا لِلرَّحْمَنِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا وَسَعْيًا مَشْكُورًا، وَذَنْبًا مَغْفُورًا» وَالْمُسْتَنَدُ فِي ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ الْآثَارِ الْكَثِيرَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ.

وَلَوْ رَمَى وَتَرَكَ الذِّكْرَ فَلَمْ يُكَبِّرْ وَلَمْ يَأْتِ بِأَيِّ ذِكْرٍ جَازَ، وَقَدْ أَسَاءَ لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ.

وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ أَوَّلِ حَصَاةٍ يَرْمِيهَا وَيَشْتَغِلُ بِالتَّكْبِيرِ.

وَيَنْصَرِفُ مِنَ الرَّمْيِ وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا، وَسَعْيًا مَشْكُورًا وَذَنْبًا مَغْفُورًا».

وَوَقْتُ الرَّمْيِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَيُنْدَبُ تَقْدِيمُ الرَّمْيِ قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُقَدِّمُ صَلَاةَ الظُّهْرِ عَلَى الرَّمْيِ.

17- وَقَدْ بَحَثُوا فِي أَفْضَلِيَّةِ الرُّكُوبِ أَوِ الْمَشْيِ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ وَكَانُوا يَرْكَبُونَ الدَّوَابَّ فَكَانَ الرَّمْيُ لِلرَّاكِبِ مُمْكِنًا.

فَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ رَاكِبًا وَغَيْرَهَا مَاشِيًا فِي جَمِيعِ أَيَّامِ الرَّمْيِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: الرَّمْيُ كُلُّهُ رَاكِبًا أَفْضَلُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ كَيْفَمَا كَانَ وَغَيْرَهَا مَاشِيًا.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ رَاكِبًا، وَكَذَلِكَ يَرْمِيهَا يَوْمَ النَّفْرِ رَاكِبًا، وَيَمْشِي فِي الْيَوْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةَ الْحَنَفِيُّ اسْتِحْبَابَ الْمَشْيِ إِلَى الْجِمَارِ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْأَكْثَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

عَنِ «ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي الْجِمَارَ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ مَاشِيًا ذَاهِبًا وَرَاجِعًا، وَيُخْبِرُ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ».

ثُمَّ إِذَا فَرَغَ مِنَ الرَّمْيِ ثَانِيَ أَيَّامِ الْعِيدِ وَهُوَ أَوَّلُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ فِي مِنًى، وَيَبِيتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِيهَا، فَإِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ وَهُوَ ثَانِيَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ، وَثَالِثُ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ عَلَى كَيْفِيَّةِ رَمْيِ الْيَوْمِ السَّابِقِ.

ثُمَّ إِذَا رَمَى فِي هَذَا الْيَوْمِ فَلَهُ أَنْ يَنْفِرَ أَيْ يَرْحَلَ، بِلَا كَرَاهَةٍ لقوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}.

وَيَسْقُطُ عَنْهُ رَمْيُ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، لِذَلِكَ يُسَمَّى هَذَا الْيَوْمُ يَوْمَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ.

18- وَإِنْ لَمْ يَنْفِرْ لَزِمَهُ رَمْيُ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَهُوَ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، ثَالِثُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، يَرْمِي فِيهِ الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثَ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ السَّابِقَةِ فِي ثَانِي يَوْمٍ أَيْضًا، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِحُّ الرَّمْيُ فِي هَذَا الْيَوْمِ مِنَ الْفَجْرِ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ، وَيَنْتَهِي وَقْتُ الرَّمْيِ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ أَدَاءً وَقَضَاءً، فَإِنْ لَمْ يَرْمِ حَتَّى غَرَبَتْ شَمْسُ الْيَوْمِ فَاتَ الرَّمْيُ وَتَعَيَّنَ الدَّمُ فِدَاءً عَنِ الْوَاجِبِ الَّذِي تَرَكَهُ، وَيَرْحَلُ بَعْدَ الرَّمْيِ، وَلَا يُسَنُّ الْمُكْثُ فِي مِنًى بَعْدَهُ، وَيُسَمَّى هَذَا النَّفْرَ الثَّانِيَ، وَهَذَا الْيَوْمُ يَوْمَ النَّفْرِ الثَّانِي.

وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتَأَخَّرَ بِمِنًى وَيَرْمِيَ الْيَوْمَ الرَّابِعَ، لقوله تعالى: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} وَاتِّبَاعًا لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- تَكْمِيلًا لِلْعِبَادَةِ.

أَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ رُكُوبِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الرَّمْيِ فَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ «مَحْمُولٌ عَلَى رَمْيٍ لَا رَمْيَ بَعْدَهُ، أَوْ عَلَى التَّعْلِيمِ لِيَرَاهُ النَّاسُ فَيَتَعَلَّمُوا مِنْهُ مَنَاسِكَ الْحَجِّ» وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَوْلَى وَأَقْوَى، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ رَاكِبٌ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ».

آثَارُ الرَّمْيِ:

يَتَرَتَّبُ عَلَى رَمْيِ الْجِمَارِ أَحْكَامٌ هَامَّةٌ فِي الْحَجِّ، سِوَى بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْ وُجُوبِهِ، وَهَذِهِ الْآثَارُ هِيَ:

أ- أَثَرُ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ:

19- يَتَرَتَّبُ عَلَى رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ مِنْ إِحْرَامِ الْحَجِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ التَّحَلُّلَ الْأَوَّلَ يَكُونُ بِالْحَلْقِ، وَعَلَى تَفْصِيلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (ر: مُصْطَلَحَ إحْرَام ف 122- 125).

ب- أَثَرُ رَمْيِ الْجِمَارِ يَوْمَيِ التَّشْرِيقِ: النَّفْرُ الْأَوَّلِ:

20- إِذَا رَمَى الْحَاجُّ الْجِمَارَ أَوَّلَ وَثَانِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ، أَيْ يَرْحَلَ إِنْ أَحَبَّ التَّعَجُّلَ فِي الِانْصِرَافِ مِنْ مِنًى، هَذَا هُوَ النَّفْرُ الْأَوَّلُ، وَبِهَذَا النَّفْرِ يَسْقُطُ رَمْيُ الْيَوْمِ الْأَخِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، لقوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى}.

وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ الدِّيلِيِّ الصَّحِيحِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ».

ج- أَثَرُ الرَّمْيِ ثَالِثَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: النَّفْرُ الثَّانِي:

21- إِذَا رَمَى الْحَاجُّ الْجِمَارَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ انْصَرَفَ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ، وَلَا يُقِيمُ بِمِنًى بَعْدَ رَمْيِهِ هَذَا الْيَوْمَ، وَيُسَمَّى هَذَا النَّفْرُ النَّفْرَ الثَّانِيَ، وَالْيَوْمُ يَوْمَ النَّفْرِ الثَّانِي، وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَبِهِ يَنْتَهِي وَقْتُ رَمْيِ الْجِمَارِ، وَيَفُوتُ عَلَى مَنْ لَا يَتَدَارَكُهُ قَبْلَ غُرُوبِ شَمْسِ هَذَا الْيَوْمِ، وَبِهِ تَنْتَهِي مَنَاسِكُ مِنًى.

حُكْمُ تَرْكِ الرَّمْيِ:

22- يَلْزَمُ مَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ بِغَيْرِ عُذْرٍ الْإِثْمُ وَوُجُوبُ الدَّمِ، وَإِنْ تَرَكَهُ بِعُذْرٍ لَا يَأْثَمُ، لَكِنْ لَا يَسْقُطُ الدَّمُ عَنْهُ، وَلَوْ تَرَكَ حَصَاةً وَاحِدَةً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَيُجْزِئُهُ شَاةٌ عَنْ تَرْكِ الرَّمْيِ كُلِّهِ، أَوْ عَنْ تَرْكِ رَمْيِ يَوْمٍ.

وَتَسَامَحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي حَصَاةٍ وَحَصَاتَيْنِ فَجَعَلُوا فِي ذَلِكَ صَدَقَةً، وَأَنْزَلَ الْحَنَفِيَّةُ الْأَكْثَرَ مَنْزِلَةَ الْكُلِّ مَعَ وُجُوبِ جَزَاءٍ عَنِ النَّاقِصِ.

(انْظُرْ تَفْصِيلَ أَحْوَالِ تَرْكِ الرَّمْيِ فِي مُصْطَلَحِ: حَجّ ف 273).

النِّيَابَةُ فِي الرَّمْيِ:

23- وَهِيَ رُخْصَةٌ خَاصَّةٌ بِالْمَعْذُورِ، تَفْصِيلُ حُكْمِهَا فِيمَا يَلِي:

أ- الْمَعْذُورُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الرَّمْيَ بِنَفْسِهِ، كَالْمَرِيضِ، يَجِبُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَرْمِيَ عَنْهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النَّائِبُ قَدْ رَمَى عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَمَى عَنْ نَفْسِهِ فَلْيَرْمِ عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلًا الرَّمْيَ كُلَّهُ، ثُمَّ يَرْمِي عَمَّنِ اسْتَنَابَهُ، وَيُجْزِئُ هَذَا الرَّمْيُ عَنِ الْأَصِيلِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: لَوْ رَمَى حَصَاةً عَنْ نَفْسِهِ وَأُخْرَى عَنِ الْآخَرِ جَازَ وَيُكْرَهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْإِنَابَةَ خَاصَّةٌ بِمَنْ بِهِ عِلَّةٌ لَا يُرْجَى زَوَالُهَا قَبْلَ انْتِهَاءِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ كَمَرِيضٍ أَوْ مَحْبُوسٍ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ: أَنَّهُ يَرْمِي حَصَيَاتِ كُلِّ جَمْرَةٍ عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَرْمِيهَا عَنِ الْمَرِيضِ الَّذِي أَنَابَهُ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ مِنَ الرَّمْيِ، وَهُوَ مَخْلَصٌ حَسَنٌ لِمَنْ خَشِيَ خَطَرَ الزِّحَامِ.

ب- مَنْ عَجَزَ عَنِ الِاسْتِنَابَةِ كَالصَّبِيِّ الصَّغِيرِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَيَرْمِي عَنِ الصَّبِيِّ وَلِيُّهُ اتِّفَاقًا، وَعَنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ رِفَاقُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَرْمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: فَائِدَةُ الِاسْتِنَابَةِ أَنْ يَسْقُطَ الْإِثْمُ عَنْهُ إِنِ اسْتَنَابَ وَقْتَ الْأَدَاءِ «وَإِلاَّ فَالدَّمُ عَلَيْهِ، اسْتَنَابَ، أَمْ لَا، إِلاَّ الصَّغِيرَ وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ دُونَ الصَّغِيرِ وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُخَاطَبُ بِسَائِرِ الْأَرْكَانِ».

(ثَانِيًا) الرَّمْيُ فِي الصَّيْدِ الصَّيْدُ بِالرَّمْيِ بِالْمُحَدَّدِ:

24- يَجُوزُ الصَّيْدُ بِالرَّمْيِ بِالسِّهَامِ الْمُحَدَّدَةِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ رَمَى الصَّيْدَ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلتَّذْكِيَةِ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كِتَابِيٍّ فَقَتَلَهُ بِحَدِّ مَا رَمَاهُ بِهِ كَالسَّهْمِ الَّذِي لَهُ نَصْلٌ مُحَدَّدٌ، وَالسَّيْفِ، وَالسِّكِّينِ، وَالسِّنَانِ، وَالْحَجَرِ الْمُحَدَّدِ وَالْخَشَبَةِ الْمُحَدَّدَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَدَّدَاتِ حَلَّ أَكْلُهُ بِشُرُوطٍ ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ لِحِلِّ مَا يُصَادُ بِالرَّمْيِ.

الصَّيْدُ بِالرَّمْيِ بِالْمُثَقَّلِ:

25- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ مَا صِيدَ بِالْمُثَقَّلِ وَيُعْتَبَرُ وَقِيذًا.فَلَا يَحِلُّ مَا أَصَابَهُ الرَّامِي بِمَا لَا حَدَّ لَهُ فَقَتَلَهُ كَالْحَجَرِ، وَخَشَبَةٍ لَا حَدَّ لَهَا، أَوْ رَمَاهُ بِمُحَدِّدٍ فَقَتَلَهُ بِعُرْضِهِ لَا بِحَدِّهِ لِمَا رَوَى عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ قَالَ: إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، فَإِذَا أَصَابَ بِعُرْضِهِ فَقَتَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ».وَلِمَا وَرَدَ أَنَّهُ ( («نَهَى عَنِ الْخَذْفِ وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ وَلَا يُنْكَأُ بِهِ عَدُوٌّ، وَلَكِنَّهَا قَدْ تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ».وَالْخَذْفُ: الرَّمْيُ بِحَصًى صِغَارٍ بِطَرِيقَةٍ مَخْصُوصَةٍ بَيْنَ الْأَصَابِعِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي بَحْثِ (خَذْف).

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا أَصَابَ الصَّيْدَ بِمَا لَا حَدَّ لَهُ لَا يَحِلُّ وَإِنْ جَرَحَهُ.

وَذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَكْحُولٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ عُلَمَاءِ الشَّامِ إِلَى أَنَّهُ يَحِلُّ صَيْدُ الْمِعْرَاضِ مُطْلَقًا فَيُبَاحُ مَا قَتَلَهُ بِحَدِّهِ وَعُرْضِهِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ إِذَا كَانَ الرَّمْيُ بِالْبَنَادِقِ وَبِالْخَذْفِ (بِالْمُثَقَّلِ) إِنَّمَا هُوَ لِتَحْصِيلِ الصَّيْدِ، وَكَانَ الْغَالِبُ فِيهِ عَدَمَ قَتْلِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ إِذَا أَدْرَكَهُ الصَّائِدُ وَذَكَّاهُ، كَرَمْيِ الطُّيُورِ الْكِبَارِ بِالْبَنَادِقِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: صَيْد) وَالْمُرَادُ بِالْبُنْدُقِ فِي كَلَامِ النَّوَوِيِّ وَمَنْ عَهِدَهُ: كُرَاتٌ مِنَ الطِّينِ بِحَجْمِ حَبَّةِ الْبُنْدُقَةِ.

اتِّخَاذُ الْحَيَوَانِ هَدَفًا يُرْمَى إِلَيْهِ:

26- يَحْرُمُ اتِّخَاذُ شَيْءٍ فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا.فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا».أَيْ لَا تَتَّخِذُوا الْحَيَوَانَ الْحَيَّ غَرَضًا تَرْمُونَ إِلَيْهِ كَالْغَرَضِ مِنَ الْجُلُودِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ أَصْلُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ «ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ مَرَّ بِنَفَرٍ قَدْ نَصَبُوا دَجَاجَةً يَتَرَامَوْنَهَا، فَلَمَّا رَأَوُا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا عَنْهَا.فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَعَنَ مَنْ فَعَلَ هَذَا»

وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ جَدِّي أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ دَارَ الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ فَإِذَا قَوْمٌ قَدْ نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا.قَالَ: فَقَالَ أَنَسٌ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ».

قَالَ الْعُلَمَاءُ: صَبْرُ الْبَهَائِمِ أَنْ تُحْبَسَ وَهِيَ حَيَّةٌ لِتُقْتَلَ بِالرَّمْيِ وَنَحْوِهِ. قَالَ الصَّنْعَانِيُّ وَغَيْرُهُ فِي وَجْهِ حِكْمَةِ النَّهْيِ: إِنَّ فِيهِ إِيلَامًا لِلْحَيَوَانِ، وَتَضْيِيعًا لِمَالِيَّتِهِ، وَتَفْوِيتًا لِذَكَاتِهِ إِنْ كَانَ مِمَّا يُذَكَّى، وَلِمَنْفَعَتِهِ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُذَكًّى.

وَيُنْظَرُ بَحْثُ: (تَعْذِيب).

(ثَالِثًا)

الرَّمْيُ فِي الْجِهَادِ

تَعَلُّمُ الرَّمْيِ:

27- حَثَّ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَصْحَابَهُ عَلَى الرَّمْيِ وَحَضَّهُمْ عَلَى مُوَاصَلَةِ التَّدَرُّبِ عَلَيْهِ، وَحَذَّرَ مَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ فَتَرَكَهُ، رَوَى سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-.مَرَّ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، ارْمُوا، وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ.قَالَ: فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: مَا لَكُمْ لَا تَرْمُونَ؟ قَالُوا: كَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهُمْ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: ارْمُوا فَأَنَا مَعَكُمْ كُلُّكُمْ».

وَفَسَّرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْقُوَّةَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا فِي ( ( {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} بِالرَّمْيِ، كَمَا فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ».

وَعَنْ «خَالِدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كُنْتُ رَامِيًا أُرَامِي عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ، فَمَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ يَا خَالِدُ: اخْرُجْ بِنَا نَرْمِي، فَأَبْطَأْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا خَالِدُ: تَعَالَ أُحَدِّثُكَ مَا حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ: صَانِعَهُ الَّذِي احْتَسَبَ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، وَمُنَبِّلَهُ، وَالرَّامِيَ بِهِ، ارْمُوا وَارْكَبُوا، وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا، وَلَيْسَ مِنَ اللَّهْوِ إِلاَّ ثَلَاثٌ: تَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتُهُ زَوْجَتَهُ، وَرَمْيُهُ بِنَبْلِهِ عَنْ قَوْسِهِ، وَمَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَهِيَ نِعْمَةٌ كَفَرَهَا».

وَهُنَاكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى تَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الرَّمْيِ وَالتَّحْرِيضِ عَلَيْهِ مِنْهَا مَا رَوَى أَبُو نَجِيحٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ لَهُ عَدْلُ مُحَرَّرٍ».

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ فِي فَضْلِ الرَّمْيِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَضِيلَةُ الرَّمْيِ وَالْمُنَاضَلَةِ، وَالِاعْتِنَاءُ بِذَلِكَ بِنِيَّةِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ الْمُشَاجَعَةُ، وَسَائِرُ أَنْوَاعِ اسْتِعْمَالِ السِّلَاحِ، وَكَذَا الْمُسَابَقَةُ بِالْخَيْلِ وَغَيْرِهَا، وَالْمُرَادُ بِهَذَا كُلِّهِ التَّمَرُّنُ عَلَى الْقِتَالِ، وَالتَّدَرُّبُ، وَالتَّحَذُّقُ فِيهِ، وَرِيَاضَةُ الْأَعْضَاءِ بِذَلِكَ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَضْلُ الرَّمْيِ عَظِيمٌ، وَمَنْفَعَتُهُ عَظِيمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَنِكَايَتُهُ شَدِيدَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ، قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «يَا بَنِي إِسْمَاعِيلَ ارْمُوا فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا» وَتَعَلُّمُ الْفُرُوسِيَّةِ وَاسْتِعْمَالُ الْأَسْلِحَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَقَدْ يَتَعَيَّنُ.

الْمُنَاضَلَةُ:

28- الْمُنَاضَلَةُ هِيَ الْمُسَابِقَةُ فِي الرَّمْيِ بِالسِّهَامِ، وَالْمُنَاضَلَةُ مَصْدَرُ نَاضَلْتُهُ نِضَالًا وَمُنَاضَلَةً، وَسُمِّيَ الرَّمْيُ نِضَالًا لِأَنَّ السَّهْمَ التَّامَّ يُسَمَّى نَضْلًا، فَالرَّمْيُ بِهِ عَمَلٌ بِالنَّضْلِ فَسُمِّيَ نِضَالًا وَمُنَاضَلَةً.

وَتَصِحُّ الْمُنَاضَلَةُ عَلَى الرَّمْيِ بِالسِّهَامِ بِالِاتِّفَاقِ.وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ الْمُنَاضَلَةَ- بِجَانِبِ مَا تَقَدَّمَ- عَلَى رِمَاحٍ، وَعَلَى رَمْيٍ بِأَحْجَارٍ بِمِقْلَاعٍ، أَوْ بِيَدٍ، وَرَمْيٍ بِمَنْجَنِيقٍ، وَكُلِّ نَافِعٍ فِي الْحَرْبِ بِمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ كَالرَّمْيِ بِالْمِسَلاَّتِ، وَالْإِبَرِ، وَالتَّرَدُّدِ بِالسُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ.

وَقَدْ تَجِبُ الْمُنَاضَلَةُ إِذَا تَعَيَّنَتْ طَرِيقًا لِقِتَالِ الْكُفَّارِ، وَقَدْ يُكْرَهُ أَوْ يَحْرُمُ- حَسَبَ اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ- إِذَا كَانَ سَبَبًا فِي قِتَالِ قَرِيبٍ كَافِرٍ لَمْ يَسُبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَبِذَلِكَ تَعْتَرِي الْمُنَاضَلَةَ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْخَمْسَةُ.

(رَابِعًا)

الرَّمْيُ فِي الْقَذْفِ

الرَّمْيُ بِالزِّنَا:

29- الرَّمْيُ بِالزِّنَا لَا فِي مَعْرِضِ الشَّهَادَةِ يُوجِبُ حَدَّ الْقَذْفِ لقوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْيَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وَالْمُرَادُ: الرَّمْيُ بِالزِّنَا بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ.

وَأَمَّا الرَّمْيُ فِي مَعْرِضِ الشَّهَادَةِ فَيُنْظَرُ: إِنْ تَمَّ عَدَدُ الشُّهُودِ أَرْبَعَةً وَثَبَتُوا عَلَى شَهَادَتِهِمْ أُقِيمَ حَدُّ الزِّنَا عَلَى الْمَرْمِيِّ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ الْعَدَدُ، بِأَنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فَعَلَيْهِمْ حَدُّ الْقَذْفِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الْمُقَابِلِ لِلْأَظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: أَنَّ الشُّهُودَ- عِنْدَ عَدَمِ تَمَامِ الْعَدَدِ- لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ شُهُودٌ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ كَمَا لَوْ كَانُوا أَرْبَعَةً أَحَدُهُمْ فَاسِقٌ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: قَذْف).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


70-موسوعة الفقه الكويتية (رهن 1)

رَهْن -1

.التَّعْرِيفُ:

1- الرَّهْنُ فِي اللُّغَةِ: الثُّبُوتُ وَالدَّوَامُ، يُقَالُ: مَاءٌ رَاهِنٌ أَيْ: رَاكِدٌ وَدَائِمٌ، وَنِعْمَةٌ رَاهِنَةٌ أَيْ: ثَابِتَةٌ دَائِمَةٌ.

وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْحَبْسِ.وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى: قوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} وَحَدِيثُ: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مَرْهُونَةٌ- أَيْ مَحْبُوسَةٌ- بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ».

وَشَرْعًا: جَعْلُ عَيْنٍ مَالِيَّةٍ وَثِيقَةً بِدَيْنٍ يُسْتَوْفَى مِنْهَا أَوْ مِنْ ثَمَنِهَا إِذَا تَعَذَّرَ الْوَفَاءُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الضَّمَانُ:

2- وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الِالْتِزَامُ.

وَشَرْعًا هُوَ الْتِزَامٌ بِحَقٍّ ثَابِتٍ فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ، أَوْ بِإِحْضَارِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَيُسَمَّى الْمُلْتَزِمُ ضَامِنًا، وَكَفِيلًا، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِاسْتِعْمَالِ لَفْظِ الضَّمَانِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْكَفَالَةِ فِي النُّفُوسِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ كُلًّا مِنَ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ عَقْدُ وَثِيقَةٍ لِلدَّيْنِ، لَكِنَّ الضَّمَانَ يَكُونُ ضَمُّ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ، أَمَّا الرَّهْنُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ عَيْنٍ مَالِيَّةٍ يُسْتَوْفَى مِنْهَا الدَّيْنُ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْوَفَاءِ.

مَشْرُوعِيَّةُ الرَّهْنِ:

3- الْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الرَّهْنِ قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وَالْمَعْنَى: فَارْهَنُوا، وَاقْبِضُوا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}.

وَخَبَرُ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ».

وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الرَّهْنِ، وَتَعَامَلَتْ بِهِ مِنْ لَدُنْ عَهْدِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

4- الرَّهْنُ جَائِزٌ وَلَيْسَ وَاجِبًا.وَقَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ بِدَيْنٍ، فَلَمْ يَجِبْ كَالضَّمَانِ، وَالْكَفَالَةِ.وَالْأَمْرُ الْوَارِدُ بِهِ أَمْرُ إِرْشَادٍ، لَا أَمْرُ إِيجَابٍ، بِدَلِيلِ قوله تعالى: {فَإِنْأَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ بَعْدَ تَعَذُّرِ الْكِتَابَةِ، وَالْكِتَابَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَكَذَلِكَ بَدَلُهَا.

جَوَازُ الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ:

5- الرَّهْنُ فِي الْحَضَرِ جَائِزٌ جَوَازُهُ فِي السَّفَرِ، وَنَقَلَ صَاحِبُ الْمُغْنِي عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ قَالَ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ ذَلِكَ إِلاَّ مُجَاهِدًا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَخَالَفَ فِيهِ الضَّحَّاكُ أَيْضًا.

وَاسْتَدَلُّوا بِخَبَرِ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: تُوُفِّيَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» وَلِأَنَّهَا وَثِيقَةٌ تَجُوزُ فِي السَّفَرِ، فَجَازَتْ فِي الْحَضَرِ كَالضَّمَانِ، وَقَدْ تَتَرَتَّبُ الْأَعْذَارُ فِي الْحَضَرِ أَيْضًا فَيُقَاسُ عَلَى السَّفَرِ.

وَالتَّقْيِيدُ بِالسَّفَرِ فِي الْآيَةِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، لِدَلَالَةِ الْأَحَادِيثِ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ فِي الْحَضَرِ، وَأَيْضًا السَّفَرُ مَظِنَّةُ فَقْدِ الْكَاتِبِ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى الرَّهْنِ غَالِبًا إِلاَّ فِيهِ.

أَرْكَانُ الرَّهْنِ:

أ- مَا يَنْعَقِدُ بِهِ الرَّهْنُ:

6- يَنْعَقِدُ الرَّهْنُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِهِ بِالْمُعَاطَاةِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَنْعَقِدُ إِلاَّ بِإِيجَابِ وَقَبُولِ قَوْلِيَّيْنِ كَالْبَيْعِ.وَقَالُوا: لِأَنَّهُ عَقْدٌ مَالِيٌّ فَافْتَقَرَ إِلَيْهِمَا.

وَلِأَنَّ الرِّضَا أَمْرٌ خَفِيٌّ لَا اطِّلَاعَ لَنَا عَلَيْهِ فَجُعِلَتِ الصِّيغَةُ دَلِيلًا عَلَى الرِّضَا، فَلَا يَنْعَقِدُ بِالْمُعَاطَاةِ، وَنَحْوِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الرَّهْنَ يَنْعَقِدُ بِكُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا عُرْفًا فَيَصِحُّ بِالْمُعَاطَاةِ، وَالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ، وَالْكِتَابَةِ، لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ اسْتِعْمَالُ إِيجَابٍ وَقَبُولٍ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ، وَلَوِ اسْتَعْمَلُوا ذَلِكَ لَنُقِلَ إِلَيْنَا شَائِعًا، وَلَمْ يَزَلِ الْمُسْلِمُونَ يَتَعَامَلُونَ فِي عُقُودِهِمْ بِالْمُعَاطَاةِ.

وَيُشْتَرَطُ فِي الصِّيغَةِ مَا يُشْتَرَطُ فِي صِيغَةِ الْبَيْعِ. (ر: بَيْع).

ب- الْعَاقِدُ:

7- شُرِطَ فِي كُلٍّ مِنَ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ بِأَنْ يَكُونَ عَاقِلًا بَالِغًا رَشِيدًا، غَيْرَ مَحْجُورٍ مِنَ التَّصَرُّفِ، فَأَمَّا الصَّبِيُّ، وَالْمَجْنُونُ، وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ الْمَالِيِّ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الرَّهْنُ، وَلَا الِارْتِهَانُ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الْمَالِ فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُمْ.

وَالرَّهْنُ نَوْعُ تَبَرُّعٍ؛ لِأَنَّهُ حَبْسُ مَالٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَمْ يَصِحَّ إِلاَّ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، فَيَصِحُّ رَهْنُ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ الرَّشِيدِ مَالَهُ، أَوْ مَالَ مُوَلِّيهِ بِشَرْطِ وُقُوعِهِ عَلَى وَجْهِ الْغِبْطَةِ الظَّاهِرَةِ، فَيَكُونُ بِهَا مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ مُوَلِّيهِ، بِأَنْ تَكُونَ فِي رَهْنِهِ إِيَّاهُ غِبْطَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ ضَرُورَةٌ.

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الصَّبِيَّ الْمَأْذُونَ يَجُوزُ لَهُ الرَّهْنُ وَالِارْتِهَانُ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ فَيَمْلِكُهُ مَنْ يَمْلِكُ التِّجَارَةَ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ وَالسَّفِيهَ يَصِحُّ رَهْنُهُمَا وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ.

ج- الْمَرْهُونُ بِهِ:

8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِكُلِّ حَقٍّ لَازِمٍ فِي الذِّمَّةِ، أَوْ آيِلٍ إِلَى اللُّزُومِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفَاصِيلِ.

فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِيمَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ:

1- أَنْ يَكُونُ دَيْنًا، فَلَا يَصِحُّ أَخْذُ الرَّهْنِ بِالْأَعْيَانِ مَضْمُونَةً كَانَتْ أَوْ أَمَانَةً، وَسَوَاءٌ كَانَ ضَمَانُ الْعَيْنِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ أَوْ بِحُكْمِ الْيَدِ، كَالْمُسْتَعَارِ، وَالْمَأْخُوذِ بِالسَّوْمِ، وَالْمَغْصُوبِ، وَالْأَمَانَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْوَدِيعَةِ وَنَحْوِهَا، وَقَالُوا: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الرَّهْنَ فِي الْمُدَايَنَةِ فَلَا يَثْبُتُ فِي غَيْرِهَا؛ وَلِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تُسْتَوْفَى مِنْ ثَمَنِ الْمَرْهُونِ، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِقَرْضِ الرَّهْنِ عِنْدَ بَيْعِهِ.

2- أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ ثَابِتًا، فَلَا يَصِحُّ أَخْذُ الرَّهْنِ بِمَا لَيْسَ بِثَابِتٍ، وَإِنْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ، فَلَا يَصِحُّ بِمَا سَيُقْرِضُهُ غَدًا، أَوْ نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ غَدًا؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةُ حَقٍّ فَلَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَابِلَةِ.

3- أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ لَازِمًا أَوْ آيِلًا إِلَى اللُّزُومِ، فَلَا يَصِحُّ بِجَعْلِ الْجِعَالَةِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْوَثِيقَةِ مَعَ تَمَكُّنِ الْمَدْيُونِ مِنْ إِسْقَاطِهَا.

فَيَصِحُّ عِنْدَهُمْ أَخْذُ الرَّهْنِ بِكُلِّ حَقٍّ لَازِمٍ فِي الذِّمَّةِ ثَابِتٍ غَيْرِ مُعَرَّضٍ لِلْإِسْقَاطِ مِنَ الرَّاهِنِ، كَدَيْنِ السَّلَمِ، وَعِوَضِ الْقَرْضِ، وَثَمَنِ الْمَبِيعَاتِ، وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَالْمَهْرِ، وَعِوَضِ الْخُلْعِ غَيْرِ الْمُعَيَّنَيْنِ، وَالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ بَعْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ، وَالْأُجْرَةِ فِي إِجَارَةِ الْعَيْنِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِجَمِيعِ الْأَثْمَانِ الْوَاقِعَةِ فِي جَمِيعِ الْبُيُوعَاتِ، إِلاَّ الصَّرْفَ، وَرَأْسَ مَالِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَيَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِدَيْنِ السَّلَمِ وَالْقَرْضِ، وَالْمَغْصُوبِ، وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَأَرْشِ الْجِنَايَاتِ فِي الْأَمْوَالِ، وَجِرَاحِ الْعَمْدِ الَّذِي لَا قَوَدَ فِيهِ كَالْمَأْمُومَةِ، وَالْجَائِفَةِ، وَارْتِهَانٌ قَبْلَ الدَّيْنِ مِنْ قَرْضٍ أَوْ بَيْعٍ، وَمَا يَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ مِنَ الْأُجْرَةِ بِسَبَبِ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ الْأَجِيرُ لَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ دَابَّتِهِ، وَمَا يَلْزَمُ بِسَبَبِ جِعَالَةِ مَا يَلْزَمُ بِالْعَارِيَّةِ الْمَضْمُونَةِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِعِوَضِ الْقَرْضِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ ثُبُوتِهِ، بِأَنْ يَرْهَنَهُ لِيُقْرِضَهُ مَبْلَغًا مِنَ النُّقُودِ فِي الشَّهْرِ الْقَادِمِ، فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ كَانَ مَضْمُونًا بِمَا وَعَدَ مِنَ الدَّيْنِ، وَبِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ، وَثَمَنِ الصَّرْفِ، وَالْمُسَلَّمِ فِيهِ، فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي الْمَجْلِسِ تَمَّ الصَّرْفُ وَالسَّلَمُ، وَصَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ حُكْمًا، وَإِنِ افْتَرَقَا قَبْلَ نَقْدٍ (قَبْضٍ) أَوْ هَلَاكٍ بَطَلَا.

وَيَجُوزُ الرَّهْنُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِعَيْنِهَا كَالْمَغْصُوبَةِ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ، وَالصَّدَاقِ، وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ مُتَقَرِّرٌ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ قَائِمًا وَجَبَ تَسْلِيمُهُ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا تَجِبُ قِيمَتُهُ، فَكَانَ رَهْنًا بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ.

أَمَّا الْأَعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ بِغَيْرِهَا كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَالْأَمَانَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْوَدَائِعِ، وَالْعَوَارِيِّ، وَالْمُضَارَبَاتِ، وَمَالِ الشَّرِكَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ الرَّهْنُ بِكُلِّ دَيْنٍ وَاجِبٍ أَوْ مَآلُهُ إِلَى الْوُجُوبِ، كَقَرْضٍ، وَقِيمَةِ مُتْلَفٍ، وَثَمَنٍ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَعَلَى الْعَيْنِ الْمَضْمُونَةِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْعَوَارِيِّ، وَالْمَقْبُوضِ عَلَى وَجْهِ السَّوْمِ، وَالْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ.

لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الرَّهْنِ الْوَثِيقَةُ بِالْحَقِّ، وَهُوَ حَاصِلٌ، فَإِنَّ الرَّهْنَ بِهَذِهِ الْأَعْيَانِ يَحْمِلُ الرَّاهِنَ عَلَى أَدَائِهَا، فَإِنْ تَعَذَّرَ أَدَاؤُهَا اسْتَوْفَى بَدَلَهَا مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ، فَأَشْبَهَتْ مَا فِي الذِّمَّةِ.

وَيَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ عَلَى مَنْفَعَةٍ إِجَارَةً فِي الذِّمَّةِ، كَمَنِ اسْتُؤْجِرَ لِبِنَاءِ دَارٍ، وَحَمْلِ شَيْءٍ مَعْلُومٍ إِلَى مَحَلٍّ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ لَمْ يَعْمَلِ الْأَجِيرُ الْعَمَلَ بِيعَ الرَّهْنُ، وَاسْتُؤْجِرَ مِنْهُ مَنْ يَعْمَلُهُ.وَيَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِدِيَةٍ عَلَى عَاقِلَةٍ بَعْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ لِوُجُوبِهَا، أَمَّا قَبْلَ حُلُولِ الْحَوْلِ فَلَا يَصِحُّ لِعَدَمِ وُجُوبِهَا.وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ عَلَى جُعْلِ الْجِعَالَةِ قَبْلَ الْعَمَلِ، وَلَا عَلَى عِوَضِ مُسَابَقَةٍ قَبْلَ الْعَمَلِ لِعَدَمِ وُجُوبِ ذَلِكَ، وَلَا يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ يَئُولُ إِلَى الْوُجُوبِ.وَبَعْدَ الْعَمَلِ جَازَ فِيهِمَا.

وَلَا يَصِحُّ أَخْذُ الرَّهْنِ بِعِوَضٍ غَيْرِ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ كَالثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ كَقِطْعَةٍ مِنَ الذَّهَبِ جُعِلَتْ بِعَيْنِهَا ثَمَنًا، وَالْأُجْرَةِ الْمُعَيَّنَةِ فِي الْإِجَارَةِ، وَالْمَنْفَعَةِ الْمُعَيَّنَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا فِي الْإِجَارَةِ، كَدَارٍ مُعَيَّنَةٍ، وَدَابَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، لِحَمْلِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ إِلَى مَكَانٍ مَعْلُومٍ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا فِي هَذِهِ الصُّوَرِ حَقٌّ وَاجِبٌ، وَلَا يَئُولُ إِلَى الْوُجُوبِ؛ وَلِأَنَّ الْحَقَّ يَتَعَلَّقُ بِأَعْيَانِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.

د- الْمَرْهُونُ:

9- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ رَهْنُ كُلِّ مُتَمَوَّلٍ يُمْكِنُ أَخْذُ الدَّيْنِ مِنْهُ، أَوْ مِنْ ثَمَنِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ وَفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةِ الرَّاهِنِ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفَاصِيلِ.فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ كُلَّ عَيْنٍ جَازَ بَيْعُهَا جَازَ رَهْنُهَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الرَّهْنِ أَنْ يُبَاعَ وَيُسْتَوْفَى الْحَقُّ مِنْهُ إِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ ذِمَّةِ الرَّاهِنِ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ عَيْنٍ جَازَ بَيْعُهَا، وَلِأَنَّ مَا كَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَانَ مَحَلًّا لِحِكْمَةِ الرَّهْنِ، فَيَصِحُّ عِنْدَهُمْ بَيْعُ الْمَشَاعِ سَوَاءٌ رَهَنَ عِنْدَ شَرِيكِهِ أَمْ عِنْدَ غَيْرِهِ قَبِلَ الْقِسْمَةَ أَمْ لَمْ يَقْبَلْهَا، وَمَا لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ لَا يَصِحُّ رَهْنُهُ، فَلَا يَصِحُّ رَهْنُ الْمُسْلِمِ، أَوِ ارْتِهَانُهُ كَلْبًا، أَوْ خِنْزِيرًا، أَوْ خَمْرًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ رَهْنُ مَا فِيهِ غَرَرٌ يَسِيرٌ، كَبَعِيرٍ شَارِدٍ، وَثَمَرٍ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ، لِأَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ دَفْعُ مَالِهِ بِغَيْرِ وَثِيقَةٍ، فَسَاغَ أَخْذُهُ بِمَا فِيهِ غَرَرٌ، لِأَنَّهُ شَيْءٌ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ لَا شَيْءٍ، بِخِلَافِ مَا فِيهِ غَرَرٌ شَدِيدٌ كَالْجَنِينِ، وَزَرْعٍ لَمْ يُخْلَقْ.

وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَرْهُونِ مَا يَلِي:

1- أَنْ يَكُونَ مَحُوزًا أَيْ مَقْسُومًا، فَلَا يَجُوزُ رَهْنُ الْمَشَاعِ.

2- وَأَنْ يَكُونَ مُفْرَغًا عَنْ مِلْكِ الرَّاهِنِ، فَلَا يَجُوزُ رَهْنٌ مَشْغُولٌ بِحَقِّ الرَّاهِنِ، كَدَارٍ فِيهَا مَتَاعُهُ.

3- وَأَنْ يَكُونَ مُمَيَّزًا، فَلَا يَجُوزُ رَهْنُ الْمُتَّصِلِ بِغَيْرِهِ اتِّصَالَ خِلْقَةٍ كَالثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ بِدُونِ الشَّجَرِ، لِأَنَّ الْمَرْهُونَ مُتَّصِلٌ بِغَيْرِ الْمَرْهُونِ خِلْقَةً فَصَارَ كَالشَّائِعِ.

رَهْنُ الْمُسْتَعَارِ:

10- لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْهُونُ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ، فَيَصِحُّ رَهْنُ الْمُسْتَعَارِ بِإِذْنِ الْمُعِيرِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

وَنَقَلَ صَاحِبُ الْمُغْنِي عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِعَارَةِ لِلرَّهْنِ، لِأَنَّهُ تَوَثُّقٌ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِمَا لَا يَمْلِكُهُ الرَّاهِنُ بِدَلِيلِ صِحَّةِ الْإِشْهَادِ وَالْكَفَالَةِ، وَلِأَنَّ لِلْمُعِيرِ أَنْ يُلْزِمَ ذِمَّتَهُ دَيْنَ غَيْرِهِ، فَيَمْلِكُ أَنْ يُلْزِمَ عَيْنَ مَالِهِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَحَلُّ حَقِّهِ، وَتَصَرُّفِهِ.

شُرُوطُ صِحَّةِ رَهْنِ الْمُسْتَعَارِ لِلرَّهْنِ:

11- يُشْتَرَطُ فِي عَقْدِ الْعَارِيَّةِ لِلرَّهْنِ: ذِكْرُ قَدْرِ الدَّيْنِ، وَجِنْسِهِ وَصِفَتِهِ، وَحُلُولِهِ وَتَأْجِيلِهِ، وَالشَّخْصِ الْمَرْهُونِ عِنْدَهُ، وَمُدَّةِ الرَّهْنِ لِأَنَّ الْغَرَرَ يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ فَاحْتِيجَ إِلَيْهِ.وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يَجِبُ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ، فَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يُقَيِّدْ بِشَيْءٍ صَحَّ الْعَقْدُ، وَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْهَنَ بِمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ وَاجِبُ الِاعْتِبَارِ خُصُوصًا فِي الْإِعَارَةِ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي فِيهَا إِلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُسَامَحَةِ، وَالْمَالِكُ قَدْ رَضِيَ بِتَعَلُّقِ دَيْنِ الْمُسْتَعِيرِ بِمَالِهِ، وَهُوَ يَمْلِكُ ذَلِكَ كَمَا يَمْلِكُ تَعَلُّقَهُ بِذِمَّتِهِ بِالْكَفَالَةِ.

وَإِنْ شَرَطَ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ فَخَالَفَ الْمُسْتَعِيرَ لَمْ يَصِحَّ الرَّهْنُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي هَذَا الرَّهْنِ، فَأَشْبَهَ مَنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي أَصْلِ الرَّهْنِ.

إِلاَّ أَنْ يُخَالِفَ إِلَى خَيْرٍ مِنْهُ، كَأَنْ يُؤْذَنَ لَهُ بِقَدْرٍ، وَيَرْهَنَ بِأَقَلَّ مِنْهُ فَيَصِحُّ؛ لِأَنَّ مَنْ رَضِيَ بِقَدْرٍ فَقَدْ رَضِيَ بِمَا دُونَهُ.

ضَمَانُ الْمُسْتَعَارِ:

12- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِ الْعَيْنِ الْمُسْتَعَارَةِ لِلرَّهْنِ، وَفِيمَنْ يَضْمَنُهَا.

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَيْنِ الْمُسْتَعَارَةِ لِلرَّهْنِ الضَّمَانُ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا هَلَكَتْ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ قَبْلَ أَنْ يَرْهَنَهَا ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعِيرٌ، وَالْعَارِيَّةُ مَضْمُونَةٌ.وَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ بِلَا تَعَدٍّ وَلَا تَفْرِيطٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا، وَلَا يَسْقُطُ الْحَقُّ عَنْ ذِمَّةِ الرَّاهِنِ.لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ أَمِينٌ؛ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ عَقْدُ ضَمَانٍ أَيْ ضَمَانِ الدَّيْنِ عَلَى رَقَبَةِ الْمَرْهُونِ، فَتَكُونُ يَدُ الْمُرْتَهِنِ يَدَ أَمَانَةٍ بَعْدَ الرَّهْنِ، فَلَا ضَمَانَ بِالتَّعَدِّي.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الِاسْتِعَارَةَ لِلرَّهْنِ عَقْدُ ضَمَانٍ، فَيَضْمَنُ الرَّاهِنُ الْمَرْهُونَ إِنْ هَلَكَتْ، بِتَفْرِيطٍ أَوْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ عَقْدَ عَارِيَّةٍ وَالْعَارِيَّةُ مَضْمُونَةٌ، فَيَضْمَنُ الْمُسْتَعِيرُ وَهُوَ الرَّاهِنُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ يَدَ الْمُسْتَعِيرِ لِلرَّهْنِ يَدُ أَمَانَةٍ، فَلَا يَضْمَنُ الْعَيْنَ الْمُسْتَعَارَةَ لِلرَّهْنِ إِنْ هَلَكَتْ قَبْلَ رَهْنِهِ أَوْ بَعْدَ فَكِّهِ، وَإِنِ اسْتَخْدَمَهُ أَوْ رَكِبَهُ مِنْ قَبْلُ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْوِفَاقِ، أَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَيَدُهُ يَدُ ضَمَانٍ، فَإِذَا هَلَكَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَعَارَةُ لِلرَّهْنِ فِي يَدِهِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ وَوَجَبَ لِلْمُعِيرِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ الرَّاهِنِ مِثْلُ الدَّيْنِ.

لُزُومُ الرَّهْنِ:

13- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَلْزَمُ بِهِ الرَّهْنُ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَا يَلْزَمُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ وَالْإِقْبَاضِ مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ، وَلِلرَّاهِنِ الرُّجُوعُ عَنْهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}.

فَلَوْ لَزِمَ عَقْدُ الرَّهْنِ بِدُونِ قَبْضٍ لَمَا كَانَ لِلتَّقْيِيدِ بِهِ فَائِدَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ إِرْفَاقٍ يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ فَافْتَقَرَ إِلَى الْقَبْضِ.

وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ: إِنْ كَانَ الْمَرْهُونُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا لَا يَلْزَمُ رَهْنُهُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، وَفِيمَا عَدَاهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ إِحْدَاهُمَا: لَا يَلْزَمُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، وَالْأُخْرَى: يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ كَالْبَيْعِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَلْزَمُ عَقْدُ الرَّهْنِ بِالْعَقْدِ، ثُمَّ يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى التَّسْلِيمِ لِلْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَلْزَمُ بِالْقَبْضِ، فَيَلْزَمُ بِالْعَقْدِ قَبْلَهُ كَالْبَيْعِ.

هَذَا، وَإِذَا شُرِطَ الرَّهْنُ أَوِ الْكَفِيلُ فِي عَقْدٍ مَا ثُمَّ لَمْ يَفِ الْمُلْتَزِمُ بِالشَّرْطِ فَلِلْآخَرِ الْفَسْخُ.

رَهْنُ الْعَيْنِ عِنْدَ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ:

14- إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ الْمَرْهُونَةُ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ عَارِيَّةً أَوْ وَدِيعَةً، أَوْ مَغْصُوبَةً، فَرَهَنَهَا مِنْهُ صَحَّ الرَّهْنُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهُ مَالُهُ، لَهُ أَخْذُهُ فَصَحَّ رَهْنُهُ كَمَا لَوْ كَانَ بِيَدِهِ.

وَيَلْزَمُ الرَّهْنُ فِي الصُّوَرِ السَّابِقَةِ بِالْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى أَمْرٍ زَائِدٍ؛ لِأَنَّ الْيَدَ ثَابِتَةٌ، وَالْقَبْضَ حَاصِلٌ، فَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى إِقْبَاضٍ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِقْبَاضُ، أَوِ الْإِذْنُ بِهِ إِنْ كَانَ الْمَرْهُونُ حَاضِرًا، وَإِنْ كَانَ الْمَرْهُونُ غَائِبًا عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ يُشْتَرَطُ مَعَ إِذْنِ الْقَبْضِ مُضِيُّ مُدَّةِ إِمْكَانِ الْقَبْضِ، وَقَالُوا: لِأَنَّ الْيَدَ كَانَتْ عَنْ غَيْرِ جِهَةِ الرَّهْنِ، فَلَمْ يَحْصُلِ الْقَبْضُ بِهَا.

ثُمَّ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ بِعَدَمِ الْحَاجَةِ لِتَجْدِيدِ الْقَبْضِ يَزُولُ الضَّمَانُ بِالرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي إِمْسَاكِهِ رَهْنًا، وَلَمْ يَتَجَدَّدْ مِنْهُ عُدْوَانٌ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ الرَّاهِنُ مِنْهُ، ثُمَّ أَقْبَضَهُ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ ضَمَانِهِ؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ: الْغَصْبُ، وَالْإِعَارَةُ، وَلَمْ يُعَدَّ الْمُرْتَهِنُ غَاصِبًا أَوْ مُسْتَعِيرًا.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يَبْرَأُ الْغَاصِبُ الْمُرْتَهِنُ، وَلَا الْمُسْتَعِيرُ عَنِ الضَّمَانِ وَإِنْ لَزِمَ الْعَقْدُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ عَقْدَ أَمَانَةٍ: الْغَرَضُ مِنْهُ التَّوَثُّقُ- وَهُوَ لَا يُنَافِي الضَّمَانَ- فَإِنَّ الْمُرْتَهِنَ لَوْ تَعَدَّى فِي الْمَرْهُونِ ضَمِنَهُ مَعَ بَقَاءِ الرَّهْنِ، فَإِذَا كَانَ لَا يَرْفَعُ الضَّمَانَ فَلأَنْ لَا يَدْفَعَهُ ابْتِدَاءً أَوْلَى، وَلِلْغَاصِبِ إِجْبَارُ الرَّاهِنِ عَلَى إِيقَاعِ يَدِهِ عَلَى الْمَرْهُونِ (أَيْ وَضْعِ يَدِهِ عَلَيْهِ) لِيَبْرَأَ مِنَ الضَّمَانِ، ثُمَّ يَسْتَعِيدُهُ مِنْهُ بِحُكْمِ الرَّهْنِ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ رُفِعَ إِلَى الْحَاكِمِ لِيَأْمُرَهُ بِالْقَبْضِ، فَإِنِ امْتَنَعَ قَبَضَهُ الْحَاكِمُ أَوْ مَأْذُونُهُ، وَيَرُدُّهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ.

زَوَائِدُ الْمَرْهُونِ، وَنَمَاؤُهُ:

15- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ زِيَادَةَ الْمَرْهُونِ الْمُتَّصِلَةَ كَالسِّمَنِ وَكِبَرِ الشَّجَرِ تَتْبَعُ الْأَصْلَ.أَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهَا.

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُنْفَصِلَةَ بِأَنْوَاعِهَا لَا يَسْرِي عَلَيْهَا الرَّهْنُ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ فَلَمْ يَسْرِ عَلَيْهَا كَالْإِجَارَةِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ نَمَاءَ الْمَرْهُونِ كَالْوَلَدِ، وَالثَّمَرِ، وَاللَّبَنِ، وَالصُّوفِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ رَهْنٌ مَعَ الْأَصْلِ، بِخِلَافِ مَا هُوَ بَدَلٌ عَنِ الْمَنْفَعَةِ كَالْأُجْرَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْهِبَةِ، فَلَا تَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ، وَهِيَ لِلرَّاهِنِ.

وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ مَا تَنَاسَلَ مِنَ الرَّهْنِ، أَوْ نَتَجَ مِنْهُ كَالْوَلَدِ يَسْرِي إِلَيْهِ الرَّهْنُ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الزَّوَائِدِ كَالصُّوفِ وَاللَّبَنِ، وَثِمَارِ الْأَشْجَارِ وَسَائِرِ الْغَلاَّتِ فَلَا يَسْرِي عَلَيْهَا الرَّهْنُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ زَوَائِدَ الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ الْمُنْفَصِلَةِ رَهْنٌ كَالْأَصْلِ، لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا تَنَاسَلَ مِنْهَا أَوْ نَتَجَ مِنْهَا كَالْوَلَدِ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَالْأُجْرَةِ، وَالثَّمَرِ، وَاللَّبَنِ، وَالصُّوفِ، وَقَالُوا: لِأَنَّهُ حُكْمٌ ثَبَتَ فِي الْعَيْنِ بِعَقْدِ الْمَالِكِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ النَّمَاءُ وَالْمَنَافِعُ بِأَنْوَاعِهَا، كَالْمِلْكِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ النَّمَاءَ حَادِثٌ مِنْ عَيْنِ الرَّهْنِ فَيَدْخُلُ فِيهَا كَالْمُتَّصِلِ.وَقَالُوا فِي سِرَايَةِ الرَّهْنِ عَلَى الْوَلَدِ: إِنَّهُ حُكْمٌ مُسْتَقِرٌّ فِي الْأُمِّ ثَبَتَ بِرِضَا الْمَالِكِ فَيَسْرِي إِلَى الْوَلَدِ كَالتَّدْبِيرِ، وَالِاسْتِيلَادِ.

الِانْتِفَاعُ بِالْمَرْهُونِ:

16- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَرْهُونِ، وَفِيمَنْ لَهُ ذَلِكَ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّاهِنِ وَلَا لِلْمُرْتَهِنِ الِانْتِفَاعُ بِالْمَرْهُونِ مُطْلَقًا، لَا بِالسُّكْنَى وَلَا بِالرُّكُوبِ، وَلَا غَيْرِهِمَا، إِلاَّ بِإِذْنِ الْآخَرِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ لِلْمُرْتَهِنِ وَلَوْ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ رِبًا، وَفِي قَوْلٍ: إِنْ شَرَطَهُ فِي الْعَقْدِ كَانَ رِبًا، وَإِلاَّ جَازَ انْتِفَاعُهُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: غَلاَّتُ الْمَرْهُونِ لِلرَّاهِنِ، وَيَنُوبُ فِي تَحْصِيلِهَا الْمُرْتَهِنُ، حَتَّى لَا تَجُولَ يَدُ الرَّاهِنِ فِي الْمَرْهُونِ، وَيَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ الِانْتِفَاعُ بِالْمَرْهُونِ بِشُرُوطٍ هِيَ:

1- أَنْ يُشْتَرَطَ ذَلِكَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ.

2- وَأَنْ تَكُونُ الْمُدَّةُ مُعَيَّنَةً.

3- أَلاَّ يَكُونَ الْمَرْهُونُ بِهِ دَيْنُ قَرْضٍ.

فَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ فِي الْعَقْدِ وَأَبَاحَ لَهُ الرَّاهِنُ الِانْتِفَاعَ بِهِ مَجَّانًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ هَدِيَّةُ مِدْيَانٍ، وَهِيَ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَكَذَا إِنْ شَرَطَ مُطْلَقًا وَلَمْ يُعَيِّنْ مُدَّةً لِلْجَهَالَةِ، أَوْ كَانَ الْمَرْهُونُ بِهِ دَيْنُ قَرْضٍ، لِأَنَّهُ سَلَفٌ جَرَّ نَفْعًا.

وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ الْمَرْهُونِ الْمَرْكُوبِ أَوِ الْمَحْلُوبِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْمَرْهُونُ غَيْرَ مَرْكُوبٍ أَوْ مَحْلُوبٍ، فَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ وَلَا لِلرَّاهِنِ الِانْتِفَاعُ بِهِ إِلاَّ بِإِذْنِ الْآخَرِ.

أَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَلِأَنَّ الْمَرْهُونَ وَنَمَاءَهُ وَمَنَافِعَهُ مِلْكٌ لِلرَّاهِنِ، فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَخْذُهَا بِدُونِ إِذْنِهِ، وَأَمَّا الرَّاهِنُ فَلِأَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ بِالْحَقِّ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الِانْتِفَاعُ إِلاَّ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ.

فَإِنْ أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمَرْهُونِ جَازَ، وَكَذَا إِنْ أَذِنَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ بِشَرْطِ:

1- أَنْ لَا يَكُونَ الْمَرْهُونُ بِهِ دَيْنُ قَرْضٍ.

2- وَأَنْ لَا يَأْذَنَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَإِنْ أَذِنَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ بِالِانْتِفَاعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَكَانَ الْمَرْهُونُ بِهِ دَيْنُ قَرْضٍ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ نَفْعًا، وَهُوَ حَرَامٌ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْمَرْهُونُ بِثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ أُجْرَةِ دَارٍ، أَوْ دَيْنِ غَيْرِ الْقَرْضِ جَازَ لِلْمُرْتَهِنِ الِانْتِفَاعُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ الِانْتِفَاعُ بِعِوَضٍ، كَأَنْ يَسْتَأْجِرَ الدَّارَ الْمَرْهُونَةَ مِنَ الرَّاهِنِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهَا فِي غَيْرِ مُحَابَاةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالْقَرْضِ بَلْ بِالْإِجَارَةِ، وَإِنْ شَرَطَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا الْمُرْتَهِنُ فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ.

أَمَّا الْمَرْكُوبُ، وَالْمَحْلُوبُ، فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ، وَيَرْكَبَ، وَيَحْلُبَ بِقَدْرِ نَفَقَتِهِ مُتَحَرِّيًا الْعَدْلَ- مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ مِنَ الرَّاهِنِ بِالْإِنْفَاقِ، أَوْ الِانْتِفَاعِ- سَوَاءٌ تَعَذَّرَ إِنْفَاقُ الرَّاهِنِ أَمْ لَمْ يَتَعَذَّرْ.وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ «الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ».

وَقَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ- صلى الله عليه وسلم-: «بِنَفَقَتِهِ» يُشِيرُ إِلَى الِانْتِفَاعِ بِعِوَضِ النَّفَقَةِ، وَيَكُونُ هَذَا فِي حَقِّ الْمُرْتَهِن، أَمَّا الرَّاهِنُ فَإِنْفَاقُهُ وَانْتِفَاعُهُ لَيْسَا بِسَبَبِ الرُّكُوبِ وَشُرْبِ الدَّرِّ، بَلْ بِسَبَبِ الْمِلْكِ.فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى الِانْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ فِي غَيْرِهِمَا لَمْ يَجُزْ الِانْتِفَاعُ بِهَا، فَإِنْ كَانَ دَارًا أُغْلِقَتْ، وَإِنْ كَانَتْ حَيَوَانًا تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُ حَتَّى يُفَكَّ الرَّهْنُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْمَرْهُونِ إِلاَّ حَقُّ الِاسْتِيثَاقِ فَيُمْنَعُ مِنْ كُلِّ تَصَرُّفٍ أَوِ انْتِفَاعٍ بِالْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ، أَمَّا الرَّاهِنُ فَلَهُ عَلَيْهَا كُلُّ انْتِفَاعٍ لَا يُنْقِصُ الْقِيمَةَ كَالرُّكُوبِ وَدَرِّ اللَّبُونِ، وَالسُّكْنَى وَالِاسْتِخْدَامِ، لِحَدِيثِ: «الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا»، وَحَدِيثِ: «الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ».

وَقِيسَ عَلَى ذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ مِنْ الِانْتِفَاعَاتِ.

أَمَّا مَا يُنْقِصُ الْقِيمَةَ كَالْبِنَاءِ عَلَى الْأَرْضِ الْمَرْهُونَةِ وَالْغَرْسِ فِيهَا فَلَا يَجُوزُ لَهُ إِلاَّ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الرَّغْبَةَ تَقِلُّ بِذَلِكَ عِنْدَ الْبَيْعِ.

تَصَرُّفُ الرَّاهِنِ فِي الْمَرْهُونِ:

17- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّاهِنِ التَّصَرُّفُ فِي الْمَرْهُونِ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ بِمَا يُزِيلُ الْمِلْكَ كَالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ وَالْوَقْفِ، أَوْ يَزْحَمُ الْمُرْتَهِنَ فِي مَقْصُودِ الرَّهْنِ، كَالرَّهْنِ عِنْدَ آخَرَ، أَوْ يُقَلِّلُ الرَّغْبَةَ فِي الْمَرْهُونِ، إِلاَّ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ.

فَإِنْ تَصَرَّفَ بِمَا ذُكِرَ فَتَصَرُّفُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ يُبْطِلُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْوَثِيقَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ صَحَّ التَّصَرُّفُ، وَبَطَلَ الرَّهْنُ إِنْ كَانَ التَّصَرُّفُ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ لِلْمَرْهُونِ بَدَلٌ كَالْوَقْفِ، وَالْهِبَةِ، وَيَسْقُطُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فِي حَبْسِ الْمَرْهُونِ.لِأَنَّ الْمَنْعَ كَانَ لِحَقِّهِ وَقَدْ زَالَ بِإِذْنِهِ.

وَإِنْ كَانَ لِلْمَرْهُونِ بَدَلٌ كَالْبَيْعِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ: فَإِنْ كَانَ الْإِذْنُ مُطْلَقًا، وَالدَّيْنُ مُؤَجَّلًا صَحَّ الْبَيْعُ وَبَطَلَ الرَّهْنُ لِخُرُوجِ الْمَرْهُونِ مِنْ مِلْكِ الرَّاهِنِ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَلَا يَحِلُّ ثَمَنُ الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ مَحَلَّهَا لِعَدَمِ حُلُولِ الدَّيْنِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ حَالًّا عِنْدَ الْإِذْنِ قَضَى حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ ثَمَنِ الْمَرْهُونِ، وَحُمِلَ إِذْنُهُ عَلَى الْبَيْعِ مِنْ غَرَضِهِ لِمَجِيءِ وَقْتِهِ؛ وَلِأَنَّ مُقْتَضَى الرَّهْنِ بَيْعُهُ وَالِاسْتِيفَاءُ مِنْهُ، وَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ، فَيَكُونُ الرَّاهِنُ مَحْجُورًا فِي ثَمَنِ الْمَرْهُونِ إِلَى وَفَاءِ الدَّيْنِ.وَإِنْ شَرَطَ فِي الْإِذْنِ أَنْ يُقْضَى الدَّيْنُ مِنْ ثَمَنِ الْمَرْهُونِ صَحَّ الْبَيْعُ لِلْإِذْنِ، وَلَغَا الشَّرْطُ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ أَخَذَ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَيَكُونُ الثَّمَنُ رَهْنًا مَكَانَ الْمَرْهُونِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَمْ يَأْذَنْ فِي الْبَيْعِ إِلاَّ طَامِعًا فِي وَفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنْهُ مُطْلَقًا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ شَرَطَ فِي إِذْنِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ رَهْنًا لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ حَالًّا أَمْ مُؤَجَّلًا لِفَسَادِ الْإِذْنِ بِفَسَادِ الشَّرْطِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا بَاعَ الرَّاهِنُ وَأَجَازَ الْمُرْتَهِنُ الْبَيْعَ جَازَ؛ لِأَنَّ تَوْقِيفَ الْبَيْعِ لِحَقِّهِ، وَقَدْ رَضِيَ بِسُقُوطِهِ، وَإِنْ نَفَذَ الْبَيْعُ بِإِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ يَنْتَقِلُ حَقُّهُ إِلَى بَدَلِهِ لِأَنَّ حَقَّهُ بِالْمَالِيَّةِ، وَلِلْبَدَلِ حُكْمُ الْبَدَلِ، وَإِنْ لَمْ يُجِزِ الْمُرْتَهِنُ الْبَيْعَ يَبْقَى مَوْقُوفًا فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَفُكَّ الرَّاهِنُ الْمَرْهُونَ، وَبَيْنَ أَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إِلَى الْحَاكِمِ فَيَفْسَخَ الْبَيْعَ لِفَوَاتِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَفِي رِوَايَةٍ: لِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْحَقَّ الثَّابِتَ لِلْمُرْتَهِنِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ فَصَارَ كَالْمَالِكِ، لَهُ أَنْ يَفْسَخَ أَوْ يُجِيزَ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِنْ شَرَطَ الْمُرْتَهِنُ فِي الْإِجَازَةِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ رَهْنًا فَهُوَ رَهْنٌ، لِأَنَّهُ إِذَا أَجَازَ بِهَذَا الشَّرْطِ لَمْ يَرْضَ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ عَنِ الْعَيْنِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالْبَدَلِ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَ حَقُّهُ عَنِ الْمَرْهُونِ، وَالثَّمَنُ لَيْسَ بِمَرْهُونٍ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ بِالْبَيْعِ بَطَلَ الرَّهْنُ عَنِ الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ، وَحَلَّ مَكَانَهَا الثَّمَنُ رَهْنًا إِنْ لَمْ يَأْتِ الرَّاهِنُ بِرَهْنٍ كَالْأَوَّلِ.

الْيَدُ عَلَى الْمَرْهُونِ:

18- الْيَدُ عَلَى الْمَرْهُونِ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ لِلْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ الرُّكْنُ الْأَعْظَمُ لِلتَّوْثِيقِ، وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ اسْتِرْدَادُهُ إِلاَّ بِرِضَا الْمُرْتَهِنِ أَوْ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَجْعَلَاهُ فِي يَدِ ثَالِثٍ جَازَ، وَكَانَ وَكِيلًا لِلْمُرْتَهِنِ فِي قَبْضِهِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ لَا يَثِقُ بِصَاحِبِهِ، وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ عَلَى الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ يَدُ أَمَانَةٍ، فَلَا يَضْمَنُ إِنْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ لِحَدِيثِ: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ لِصَاحِبِهِ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ».لِأَنَّنَا لَوْ ضَمَّنَّاهُ لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ فِعْلِهِ خَوْفًا مِنَ الضَّمَانِ، وَلَتَعَطَّلَتِ الْمُدَايَنَاتُ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ، وَلِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ فَلَا يُضْمَنُ كَالزِّيَادَةِ عَلَى الدَّيْنِ، إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّفْرِيطِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهَا يَدُ ضَمَانٍ، فَيَضْمَنُ الْمُرْتَهِنُ إِنْ هَلَكَ بِيَدِهِ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنَ الدَّيْنِ، فَإِنْ تَسَاوَيَا كَانَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ، وَإِنْ زَادَتْ قِيمَةُ الْمَرْهُونِ كَانَتِ الزِّيَادَةُ أَمَانَةً بِيَدِهِ، وَإِنْ نَقَصَتْ عَنْهَا سَقَطَ بِقَدْرِهِ مِنَ الدَّيْنِ، وَرَجَعَ الْمُرْتَهِنُ بِالْفَضْلِ عَلَى الرَّاهِنِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ حَدَّثَ «أَنَّ رَجُلًا رَهَنَ فَرَسًا، فَنَفَقَ فِي يَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِلْمُرْتَهِنِ: ذَهَبَ حَقُّكَ».

وَقَالُوا أَيْضًا: أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ- رضي الله عنهم- عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّتِهِ.

وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَرْهُونُ مَالًا ظَاهِرًا كَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَالًا بَاطِنًا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ كَالْحُلِيِّ وَالْعُرُوضِ، وَبَيْنَ أَنْ يُقِيمَ شَهَادَةً بِهَلَاكِهَا بِلَا تَفْرِيطٍ، وَبَيْنَ أَلاَّ يُقِيمَ عَلَى ذَلِكَ شَهَادَةً.

أَمَّا إِنْ هَلَكَ الْمَرْهُونُ بِتَعَدٍّ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ ضَمَانَ الْغَصْبِ.

وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ كَالْحُلِيِّ وَالْعُرُوضِ، وَبَيْنَ مَا لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ كَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ، فَيَضْمَنُ الْأَوَّلَ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَرْهُونُ عِنْدَ أَمِينٍ، أَوْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً عَلَى هَلَاكِهِ بِلَا تَفْرِيطٍ مِنْهُ، وَلَا يَضْمَنُ الثَّانِيَ إِلاَّ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ.

مُؤْنَةُ الْمَرْهُونِ:

19- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مُؤْنَةَ الْمَرْهُونِ عَلَى الرَّاهِنِ كَعَلَفِ الْحَيَوَانِ، وَسَقْيِ الْأَشْجَارِ، وَجُذَاذِ الثِّمَارِ وَتَجْفِيفِهَا، وَأُجْرَةِ مَكَانِ الْحِفْظِ، وَالْحَارِسِ، وَرَعِي الْمَاشِيَةِ وَأُجْرَةِ الرَّاعِي وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، عَلَيْهِ غُرْمُهُ، وَلَهُ غُنْمُهُ».

وَلِأَنَّهُ مِلْكُهُ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ مَا يَحْتَاجُ لِبَقَاءِ الرَّهْنِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ الرَّهْنِ بِنَفْسِهِ أَوْ تَبَعِيَّتِهِ كَعَلَفِ الدَّابَّةِ، وَأُجْرَةِ الرَّاعِي، وَسَقْيِ الْبُسْتَانِ فَعَلَى الرَّاهِنِ، وَمَا يُحْتَاجُ لِحِفْظِ الْمَرْهُونِ كَمَأْوَى الْمَاشِيَةِ، وَأُجْرَةِ الْحِفْظِ فَعَلَى الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّ حَبْسَ الْمَرْهُونِ لَهُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


71-موسوعة الفقه الكويتية (زنى 1)

زِنَى -1

التَّعْرِيفُ:

1- الزِّنَى: الْفُجُورُ.

وَهَذِهِ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَبَنُو تَمِيمٍ يَقُولُونَ: زَنَى زِنَاءً: وَيُقَالُ: زَانَى مُزَانَاةً، وَزِنَاءً بِمَعْنَاهُ.

وَشَرْعًا: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِتَعْرِيفَيْنِ: أَعَمُّ، وَأَخَصُّ.فَالْأَعَمُّ: يَشْمَلُ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَمَا لَا يُوجِبُهُ، وَهُوَ وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ.

قَالَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ تَعْرِيفٌ لِلزِّنَى فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ.

فَإِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَخُصَّ اسْمَ الزِّنَى بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ مِنْهُ بَلْ هُوَ أَعَمُّ.وَالْمُوجِبُ لِلْحَدِّ مِنْهُ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ.وَلِذَا قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ...» الْحَدِيثُ.وَلَوْ وَطِئَ رَجُلٌ جَارِيَةَ ابْنِهِ لَا يُحَدُّ لِلزِّنَا، وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ بِالزِّنَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ زِنًا وَإِنْ كَانَ لَا يُحَدُّ بِهِ.

وَالْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ الْأَخَصُّ لِلزِّنَى: هُوَ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَهُوَ «وَطْءُ مُكَلَّفٍ طَائِعٍ مُشْتَهَاةً حَالًا أَوْ مَاضِيًا فِي قُبُلٍ خَالٍ مِنْ مِلْكِهِ وَشُبْهَتِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ تَمْكِينُهُ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ تَمْكِينُهَا».وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّهُ وَطْءُ مُكَلَّفٍ مُسْلِمٍ فَرْجَ آدَمِيٍّ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ بِلَا شُبْهَةٍ تَعَمُّدًا.

وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِيلَاجُ حَشَفَةٍ أَوْ قَدْرِهَا فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ لِعَيْنِهِ مُشْتَهًى طَبْعًا بِلَا شُبْهَةٍ.

وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهُ فِعْلُ الْفَاحِشَةِ فِي قُبُلٍ أَوْ فِي دُبُرٍ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْوَطْءُ، وَالْجِمَاعُ:

2- أَصْلُ الْوَطْءِ فِي اللُّغَةِ: الدَّوْسُ بِالْقَدَمِ، وَمِنْ مَعَانِيهِ النِّكَاحُ، يُقَالُ: وَطِئَ الْمَرْأَةَ يَطَؤُهَا أَيْ نَكَحَهَا وَجَامَعَهَا.وَمَعْنَاهُ اصْطِلَاحًا: الْجِمَاعُ.

فَكُلٌّ مِنَ الْوَطْءِ وَالْجِمَاعِ أَعَمُّ مِنَ الزِّنَى، إِذْ قَدْ يَكُونُ مَعَ امْرَأَتِهِ فَيَكُونُ نِكَاحًا حَلَالًا، وَمَعَ أَجْنَبِيَّةٍ فَيَكُونُ زِنًى حَرَامًا.

ب- اللِّوَاطُ:

3- اللِّوَاطُ لُغَةً: إِتْيَانُ الذُّكُورِ فِي الدُّبُرِ، وَهُوَ عَمَلُ قَوْمِ نَبِيِّ اللَّهِ لُوطٍ- عليه السلام-.يُقَالُ: لَاطَ الرَّجُلُ لِوَاطًا وَلَاوَطَ، أَيْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ.

وَاصْطِلَاحًا: إِدْخَالُ الْحَشَفَةِ فِي دُبُرِ ذَكَرٍ.وَحُكْمُهُ حُكْمُ الزِّنَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.

ج- السِّحَاقُ:

4- السِّحَاقُ وَالْمُسَاحَقَةُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا: فِعْلُ النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ بِبَعْضٍ، وَكَذَلِكَ فِعْلُ الْمَجْبُوبِ بِالْمَرْأَةِ يُسَمَّى سِحَاقًا.

فَالْفَرْقُ بَيْنَ الزِّنَى وَالسِّحَاقِ، أَنَّ السِّحَاقَ لَا إِيلَاجَ فِيهِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

5- الزِّنَى حَرَامٌ.وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ وَالْقَتْلِ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَوَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}.وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى} أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يَقُولَ: وَلَا تَزْنُوا.فَإِنَّ مَعْنَاهُ لَا تَدْنُوا مِنَ الزِّنَى.

وَرَوَى «عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَكْبَرُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ.قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ.قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ».

وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْمِلَلِ عَلَى تَحْرِيمِهِ.فَلَمْ يَحِلَّ فِي مِلَّةٍ قَطُّ.وَلِذَا كَانَ حَدُّهُ أَشَدَّ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الْأَعْرَاضِ وَالْأَنْسَابِ.وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ، وَهِيَ حِفْظُ النَّفْسِ وَالدِّينِ وَالنَّسَبِ وَالْعَقْلِ وَالْمَالِ.

تَفَاوُتُ إِثْمِ الزِّنَى:

6- يَتَفَاوَتُ إِثْمُ الزِّنَى وَيَعْظُمُ جُرْمُهُ بِحَسَبِ مَوَارِدِهِ.فَالزِّنَى بِذَاتِ الْمَحْرَمِ أَوْ بِذَاتِ الزَّوْجِ أَعْظَمُ مِنَ الزِّنَى بِأَجْنَبِيَّةٍ أَوْ مَنْ لَا زَوْجَ لَهَا، إِذْ فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ الزَّوْجِ، وَإِفْسَادُ فِرَاشِهِ، وَتَعْلِيقُ نَسَبٍ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ أَذَاهُ.فَهُوَ أَعْظَمُ إِثْمًا وَجُرْمًا مِنَ الزِّنَى بِغَيْرِ ذَاتِ الْبَعْلِ وَالْأَجْنَبِيَّةِ.فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا جَارًا انْضَمَّ لَهُ سُوءُ الْجِوَارِ.وَإِيذَاءُ الْجَارِ بِأَعْلَى أَنْوَاعِ الْأَذَى، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْبَوَائِقِ، فَلَوْ كَانَ الْجَارُ أَخًا أَوْ قَرِيبًا مِنْ أَقَارِبِهِ انْضَمَّ لَهُ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ فَيَتَضَاعَفُ الْإِثْمُ.وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَدْخُلِ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنْ جَارُهُ بَوَائِقَهُ».وَلَا بَائِقَةَ أَعْظَمُ مِنَ الزِّنَى بِامْرَأَةِ الْجَارِ.فَإِنْ كَانَ الْجَارُ غَائِبًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ كَالْعِبَادَةِ، وَطَلَبِ الْعِلْمِ، وَالْجِهَادِ، تَضَاعَفَ الْإِثْمُ حَتَّى إِنَّ الزَّانِيَ بِامْرَأَةِ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوقَفُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَأْخُذُ مِنْ عَمَلِهِ مَا شَاءَ.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْقَاعِدِينَ يَخْلُفُ رَجُلًا مِنَ الْمُجَاهِدِينَ فِي أَهْلِهِ فَيَخُونُهُ فِيهِمْ، إِلاَّ وَقَفَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ مِنْ عَمَلِهِ مَا شَاءَ فَمَا ظَنُّكُمْ؟» أَيْ مَا ظَنُّكُمْ أَنْ يَتْرُكَ لَهُ مِنْ حَسَنَاتِهِ؟ قَدْ حَكَمَ فِي أَنَّهُ يَأْخُذُ مَا شَاءَ عَلَى شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى حَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ رَحِمًا لَهُ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ قَطِيعَةُ رَحِمِهَا، فَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ يَكُونَ الزَّانِي مُحْصَنًا كَانَ الْإِثْمُ أَعْظَمَ، فَإِنْ كَانَ شَيْخًا كَانَ أَعْظَمَ إِثْمًا وَعُقُوبَةً، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، أَوْ بَلَدٍ حَرَامٍ، أَوْ وَقْتٍ مُعَظَّمٍ عِنْدَ اللَّهِ كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَأَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ تَضَاعَفَ الْإِثْمُ.

أَرْكَانُ الزِّنَى:

7- صَرَّحَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ رُكْنَ الزِّنَى الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ هُوَ الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ.فَقَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَرُكْنُهُ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ وَمُوَارَاةُ الْحَشَفَةِ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ الْإِيلَاجُ وَالْوَطْءُ.وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى، حَيْثُ إِنَّهُمْ يُعَلِّقُونَ حَدَّ الزِّنَى عَلَى تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرِهَا عِنْدَ عَدَمِهَا، حَتَّى إِذَا لَمْ يَكُنْ تَغْيِيبٌ انْتَفَى الْحَدُّ.وَالْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ هُوَ الَّذِي يَحْدُثُ فِي غَيْرِ مِلْكِ الْوَاطِئِ- مِلْكِ يَمِينِهِ وَمِلْكِ نِكَاحِهِ- فَكُلُّ وَطْءٍ حَدَثَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَهُوَ زِنًى يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ.أَمَّا إِذَا حَدَثَ الْوَطْءُ فِي مِلْكِ الْوَاطِئِ فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ زِنًى وَلَوْ كَانَ الْوَطْءُ مُحَرَّمًا، حَيْثُ إِنَّ التَّحْرِيمَ هُنَا لَيْسَ لِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا هُوَ لِعَارِضٍ.كَوَطْءِ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ الْحَائِضَ أَوِ النُّفَسَاءَ.

وَيُشْتَرَطُ تَعَمُّدُ الْوَطْءِ، وَهُوَ أَنْ يَرْتَكِبَ الزَّانِي الْفِعْلَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَطَأُ امْرَأَةً مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، أَوْ أَنْ تُمَكِّنَ الزَّانِيَةُ مِنْ نَفْسِهَا وَهِيَ تَعْلَمُ أَنَّ مَنْ يَطَؤُهَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهَا.وَمِنْ ثَمَّ فَلَا حَدَّ عَلَى الْغَالِطِ وَالْجَاهِلِ وَالنَّاسِي.

حَدُّ الزِّنَى:

8- كَانَ الْحَبْسُ وَالْإِمْسَاكُ فِي الْبُيُوتِ أَوَّلَ عُقُوبَاتِ الزِّنَى فِي الْإِسْلَامِ لقوله تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}.

ثُمَّ إِنَّ الْإِجْمَاعَ قَدِ انْعَقَدَ عَلَى أَنَّ الْحَبْسَ مَنْسُوخٌ.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَذَى هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، فَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا} كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَنَسَخَتْهُمَا الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ.وَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ فَالْأَذَى وَالتَّعْبِيرُ بَاقٍ مَعَ الْجَلْدِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَعَارَضَانِ بَلْ يُحْمَلَانِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ.وَالْوَاجِبُ أَنْ يُؤَدَّبَا بِالتَّوْبِيخِ فَيُقَالُ لَهُمَا: فَجَرْتُمَا وَفَسَقْتُمَا، وَخَالَفْتُمَا أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

وَالنَّاسِخُ هُوَ قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَاطَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.وَبِمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا.الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ».

9- وَمِنْ ثَمَّ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَدَّ الزَّانِي الْمُحْصَنِ الرَّجْمُ حَتَّى الْمَوْتِ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.

قَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَجَمَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ فِي أَخْبَارٍ تُشْبِهُ التَّوَاتُرَ.وَقَدْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، ثُمَّ نُسِخَ رَسْمُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم- بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ.فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: وَاللَّهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أَحْصَنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوِ الِاعْتِرَافُ.وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: زَادَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُهَا: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يُجْلَدُ وَيُرْجَمُ.لِمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- » أَنَّهُ جَلَدَ شُرَاحَةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ: أَجْلِدُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأَرْجُمُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَرِوَايَةُ الرَّجْمِ فَقَطْ هِيَ الْمَذْهَبُ.

10- كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَدَّ الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً مِائَةُ جَلْدَةٍ إِنْ كَانَ حُرًّا.وَأَمَّا الْعَبْدُ أَوِ الْأَمَةُ فَحَدُّهُمَا خَمْسُونَ جَلْدَةً سَوَاءٌ كَانَا بِكْرَيْنِ أَوْ ثَيِّبَيْنِ لقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}.

وَزَادَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) التَّغْرِيبَ عَامًا لِلْبِكْرِ الْحُرِّ الذَّكَرِ.

وَعَدَّى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ التَّغْرِيبَ لِلْمَرْأَةِ أَيْضًا.كَمَا زَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمُ التَّغْرِيبَ نِصْفَ عَامٍ لِلْعَبْدِ.

وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى تَعْرِيفِ الْإِحْصَانِ وَشُرُوطِهِ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْصَانٍ 2/ 200).

كَمَا سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى التَّغْرِيبِ وَأَحْكَامِهِ فِي مُصْطَلَحِ: (تَغْرِيبٍ 13).

شُرُوطُ حَدِّ الزِّنَى:

أَوَّلًا: الشُّرُوطُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا:

1- إِدْخَالُ الْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرِهَا مِنْ مَقْطُوعِهَا:

11- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حَدِّ الزِّنَى إِدْخَالُ الْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرِهَا مِنْ مَقْطُوعِهَا فِي الْفَرَجِ.فَلَوْ لَمْ يُدْخِلْهَا أَصْلًا أَوْ أَدْخَلَ بَعْضَهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ وَطْئًا.وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِنْزَالُ وَلَا الِانْتِشَارُ عِنْدَ الْإِدْخَالِ.فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ سَوَاءٌ أَنْزَلَ أَمْ لَا.انْتَشَرَ ذَكَرُهُ أَمْ لَا. 2- أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُكَلَّفًا:

(11 م) - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُكَلَّفًا أَيْ عَاقِلًا بَالِغًا.فَالْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا إِذَا زَنَيَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ».

وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى النَّائِمِ وَالنَّائِمَةِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى حَدِّ السَّكْرَانِ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ إِذَا زَنَى.

12- وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ مَسْأَلَةٌ مَا لَوْ وَطِئَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ- الْمُكَلَّفُ- مَجْنُونَةً أَوْ صَغِيرَةً يُوطَأُ مِثْلُهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّ الْوَاطِئَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْحَدِّ؛ وَلِأَنَّ وُجُودَ الْعُذْرِ مِنْ جَانِبِهَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَدِّ مِنْ جَانِبِهِ.وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الصَّغِيرَةَ الَّتِي لَا يُوطَأُ مِثْلُهَا لَا حَدَّ عَلَى وَاطِئَهَا.

3- أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ:

13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّحْرِيمِ شَرْطٌ فِي حَدِّ الزِّنَى.فَإِنْ كَانَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ غَيْرَ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِ الزِّنَى لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بُعْدِهِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا لَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ.وَلِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَجُلًا زَنَى بِالْيَمَنِ، فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ- رضي الله عنه- إِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الزِّنَى فَاجْلِدُوهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ فَعَلِّمُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا أَنَّهُ عَذَرَ رَجُلًا زَنَى بِالشَّامِ وَادَّعَى الْجَهْلَ بِتَحْرِيمِ الزِّنَى.وَكَذَا رُوِيَ عَنْهُ وَعَنْ عُثْمَانَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُمَا عَذَرَا جَارِيَةً زَنَتْ وَهِيَ أَعْجَمِيَّةً وَادَّعَتْ أَنَّهَا لَا تَعْلَمُ التَّحْرِيمَ.وَلِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بَعْدَ الْعِلْمِ.

وَقَدْ أَوْضَحَ ابْنُ عَابِدِينَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْجَهْلِ بِالتَّحْرِيمِ إِلاَّ مِمَّنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ أَمَارَةُ ذَلِكَ، بِأَنْ نَشَأَ وَحْدَهُ فِي شَاهِقٍ، أَوْ بَيْنَ قَوْمٍ جُهَّالٍ مِثْلِهِ لَا يَعْلَمُونَ تَحْرِيمَهُ، أَوْ يَعْتَقِدُونَ إِبَاحَتَهُ، إِذْ لَا يُنْكَرُ وُجُودُ ذَلِكَ.فَمَنْ زَنَى وَهُوَ كَذَلِكَ فِي فَوْرِ دُخُولِهِ دَارَنَا لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَا يُحَدُّ، إِذِ التَّكْلِيفُ بِالْأَحْكَامِ فَرْعُ الْعِلْمِ بِهَا، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ مَنِ اشْتَرَطَ الْعِلْمَ بِالتَّحْرِيمِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ نَقْلِ الْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ مَنْ نَشَأَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ فِي دَارِ أَهْلِ الْحَرْبِ الْمُعْتَقِدِينَ حُرْمَتَهُ، ثُمَّ دَخَلَ دَارَنَا فَإِنَّهُ إِذَا زَنَى يُحَدُّ وَلَا يُقْبَلُ اعْتِذَارُهُ بِالْجَهْلِ.

وَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِجَهْلِ الْعُقُوبَةِ إِذَا عُلِمَ التَّحْرِيمُ، لِحَدِيثِ «مَاعِزٍ فَإِنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِرَجْمِهِ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ فِي أَثْنَاءِ رَجْمِهِ رُدُّونِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَإِنَّ قَوْمِي قَتَلُونِي غَرُّونِي مِنْ نَفْسِي وَأَخْبَرُونِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- غَيْرُ قَاتِلِي».

انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ:

14- مِنَ الشُّرُوطِ الْمُوجِبَةِ لِحَدِّ الزِّنَى وَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ».

وَقَدْ نَازَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالْإِرْسَالِ تَارَةً وَبِالْوَقْفِ تَارَةً أُخْرَى.قَالَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْإِرْسَالَ لَا يَقْدَحُ، وَإِنَّ الْمَوْقُوفَ فِي هَذَا لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ؛ لِأَنَّ إِسْقَاطَ الْوَاجِبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِشُبْهَةٍ خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَقْلِ، بَلْ مُقْتَضَاهُ أَنَّ بَعْدَ تَحَقُّقِ الثُّبُوتِ لَا يَرْتَفِعُ بِشُبْهَةٍ فَحَيْثُ ذَكَرَهُ صَحَابِيٌّ حُمِلَ عَلَى الرَّفْعِ.وَأَيْضًا فِي إِجْمَاعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ كِفَايَةٌ.وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: هَذَا الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ.وَأَيْضًا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ.وَفِي تَتَبُّعِ الْمَرْوِيِّ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَالصَّحَابَةِ مَا يَقْطَعُ فِي الْمَسْأَلَةِ.فَقَدْ عَلِمْنَا «أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- قَالَ لِمَاعِزٍ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ».كُلُّ ذَلِكَ يُلَقِّنُهُ أَنْ يَقُولَ: نَعَمْ بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِالزِّنَى، وَلَيْسَ لِذَلِكَ فَائِدَةٌ إِلاَّ كَوْنَهُ إِذَا قَالَهَا تُرِكَ، وَإِلاَّ فَلَا فَائِدَةَ.وَلَمْ يَقُلْ لِمَنِ اعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِدَيْنٍ، لَعَلَّهُ كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَكَ فَضَاعَتْ، وَنَحْوِهِ.

وَكَذَا قَالَ لِلْغَامِدِيَّةِ نَحْوَ ذَلِكَ.وَكَذَا قَالَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- لِشُرَاحَةَ: لَعَلَّهُ وَقَعَ عَلَيْكِ وَأَنْتِ نَائِمَةٌ، لَعَلَّهُ اسْتَكْرَهَكِ، لَعَلَّ مَوْلَاكِ زَوَّجَكِ مِنْهُ وَأَنْتِ تَكْتُمِينَهُ.

فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ كَوْنُ الْحَدِّ يُحْتَالُ فِي دَرْئِهِ بِلَا شَكٍّ.وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِفْسَارَاتِ الْمُفِيدَةَ لِقَصْدِ الِاحْتِيَالِ لِلدَّرْءِ كُلَّهَا كَانَتْ بَعْدَ الثُّبُوتِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بَعْدَ صَرِيحِ الْإِقْرَارِ وَبِهِ الثُّبُوتُ.وَهَذَا هُوَ الْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ وَمِنْ قَوْلِهِ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ».فَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَقْطُوعًا بِثُبُوتِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، فَكَانَ الشَّكُّ فِيهِ شَكًّا فِي ضَرُورِيٍّ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَائِلِهِ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الِاخْتِلَافُ أَحْيَانًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ الشُّبُهَاتِ أَهِيَ شُبْهَةٌ صَالِحَةٌ لِلدَّرْءِ بِهَا أَمْ لَا.

وَعَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ الشُّبْهَةَ بِأَنَّهَا مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ.

وَقَدْ قَسَّمَ كُلٌّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ الشُّبْهَةَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ.تَفْصِيلُهَا فِيمَا يَلِي:

أ- أَنْوَاعُ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:

15- الشُّبْهَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: شُبْهَةٌ فِي الْفِعْلِ، وَشُبْهَةٌ فِي الْمَحَلِّ، وَشُبْهَةُ الْعَقْدِ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّالِثِ.

1- الشُّبْهَةُ فِي الْفِعْلِ:

16- وَتُسَمَّى أَيْضًا: شُبْهَةُ الْمُشَابَهَةِ، وَشُبْهَةُ الِاشْتِبَاهِ.

وَهِيَ: أَنْ يُظَنَّ غَيْرُ الدَّلِيلِ دَلِيلًا.فَتَتَحَقَّقَ فِي حَقِّ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ فَقَطْ، أَيْ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ، وَلَا دَلِيلَ فِي السَّمْعِ يُفِيدُ الْحِلَّ بَلْ ظَنُّ غَيْرِ الدَّلِيلِ دَلِيلًا، فَلَا بُدَّ مِنَ الظَّنِّ، وَإِلاَّ فَلَا شُبْهَةَ أَصْلًا، لِفَرْضِ أَنْ لَا دَلِيلَ أَصْلًا لِتَثْبُتَ الشُّبْهَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ظَنُّهُ ثَابِتًا لَمْ تَكُنْ شُبْهَةٌ أَصْلًا، وَلَيْسَتْ بِشُبْهَةٍ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ قَالَ: إِنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ حُدَّ.

ثُمَّ إِنَّ شُبْهَةَ الْفِعْلِ تَكُونُ فِي ثَمَانِيَةِ مَوَاضِعَ: ثَلَاثَةٍ مِنْهَا فِي الزَّوْجَاتِ، وَخَمْسَةٍ فِي الْجَوَارِي.

فَمَوَاضِعُ الزَّوْجَاتِ: مَا لَوْ وَطِئَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا فِي الْعِدَّةِ، أَوْ وَطِئَ مُطَلَّقَتَهُ الْبَائِنَ فِي الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، أَوِ الْمُخْتَلِعَةَ.

وَمَوَاضِعُ الْجَوَارِي: هِيَ وَطْءُ جَارِيَةِ الْأَبِ أَوِ الْأُمِّ أَوِ الْجَدِّ أَوِ الْجَدَّةِ وَإِنْ عَلَوْا، وَوَطْءُ جَارِيَةِ الزَّوْجَةِ، وَوَطْءُ أُمِّ وَلَدِهِ الَّتِي أَعْتَقَهَا وَهِيَ فِي الِاسْتِبْرَاءِ، وَالْعَبْدُ يَطَأُ جَارِيَةَ مَوْلَاهُ، وَالْمُرْتَهِنُ يَطَأُ الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ عِنْدَهُ، وَكَذَا الْمُسْتَعِيرُ لِلرَّهْنِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَهِنِ.

فَالْوَاطِئُ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ إِذَا ظَنَّ الْحِلَّ يُعْذَرُ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَطِئَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً وَقَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ لِي، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى دَعْوَاهُ وَيُحَدُّ.وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ فِي شُبْهَةِ الْفِعْلِ وَإِنِ ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ تَمَحَّضَ زِنًى لِفَرْضِ أَنْ لَا شُبْهَةَ مِلْكٍ هُنَا، إِلاَّ أَنَّ الْحَدَّ سَقَطَ لِظَنِّهِ الْمَحَلَّ، فَضْلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَمْرٌ رَاجِعٌ إِلَى الْوَاطِئِ لَا إِلَى الْمَحَلِّ، فَكَأَنَّ الْمَحَلَّ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ حِلٍّ، فَلَا يَثْبُتُ نَسَبٌ بِهَذَا الْوَطْءِ، وَكَذَا لَا تَثْبُتُ بِهِ عِدَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ مِنَ الزَّانِي.

وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا غَيْرُ مُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ، فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي شُبْهَةِ الْعَقْدِ، فَيَكْفِي ذَلِكَ لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ.وَأُلْحِقَتْ بِهَا الْمُطَلَّقَةُ بِعِوَضٍ، وَالْمُخْتَلِعَةُ.

وَثُبُوتُ النَّسَبِ هُنَا لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْوَطْءِ فِي الْعِدَّةِ، بَلْ بِاعْتِبَارِ الْعُلُوقِ السَّابِقِ عَلَى الطَّلَاقِ.وَلِذَا ذَكَرُوا أَنَّ نَسَبَ وَلَدِهَا يَثْبُتُ إِلَى أَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ، وَلَا يَثْبُتُ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ.وَيَجِبُ فِي شُبْهَةِ الْفِعْلِ مَهْرُ الْمِثْلِ.

2- الشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ: وَتُسَمَّى أَيْضًا الشُّبْهَةُ الْحُكْمِيَّةُ وَشُبْهَةُ الْمِلْكِ:

17- وَتَنْشَأُ عَنْ دَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْحِلِّ فِي الْمَحَلِّ، فَتُصْبِحُ الْحُرْمَةُ الْقَائِمَةُ فِيهَا شُبْهَةً أَنَّهَا لَيْسَتْ ثَابِتَةً، نَظَرًا إِلَى دَلِيلِ الْحِلِّ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ».فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ لِأَجْلِ شُبْهَةٍ وُجِدَتْ فِي الْمَحَلِّ وَإِنْ عَلِمَ حُرْمَتَهُ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ إِذَا كَانَتْ فِي الْمَوْطُوءَةِ يَثْبُتُ فِيهَا الْمِلْكُ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ اسْمُ الزِّنَى فَامْتَنَعَ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْمُثْبِتَ لِلْحِلِّ قَائِمٌ، وَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْ إِثْبَاتِهِ لِمَانِعٍ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً.

وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ تَكُونُ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ: وَاحِدٌ مِنْهَا فِي الزَّوْجَاتِ، وَالْبَاقِي فِي الْجَوَارِي.

فَمَوْضِعُ الزَّوْجَاتِ: وَطْءُ الْمُعْتَدَّةِ بِالطَّلَاقِ الْبَائِنِ بِالْكِنَايَاتِ، فَلَا يُحَدُّ، لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- فِي كَوْنِهَا رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنَةً.

وَمَوَاضِعُ الْجَوَارِي: هِيَ وَطْءُ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ، وَوَطْءُ الْبَائِعِ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ قَبْلَ تَسْلِيمِهَا لِلْمُشْتَرِي، وَوَطْءُ الزَّوْجِ الْجَارِيَةَ الْمَجْعُولَةَ مَهْرًا قَبْلَ تَسْلِيمِهَا لِلزَّوْجَةِ حَيْثُ إِنَّ الْمِلْكَ فِيهِمَا لَمْ يَسْتَقِرَّ لِلْمُشْتَرِي وَالزَّوْجَةِ، وَوَطْءُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَغَيْرِهِ، وَوَطْءُ الْمُرْتَهِنِ لِلْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ فِي رِوَايَةٍ لَيْسَتْ بِالْمُخْتَارَةِ.وَزَادَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: وَطْءَ جَارِيَةِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ، وَوَطْءَ جَارِيَةِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ، وَوَطْءَ جَارِيَةِ عَبْدِهِ الْمُكَاتَبِ، وَوَطْءَ الْبَائِعِ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالَّتِي فِيهَا الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي.وَكَذَا وَطْءُ جَارِيَتِهِ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنَ الرَّضَاعِ، وَجَارِيَتُهُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَوَطْءُ الزَّوْجَةِ الَّتِي حُرِّمَتْ بِرِدَّتِهَا، أَوْ بِمُطَاوَعَتِهَا لِابْنِهِ أَوْ جِمَاعِهِ أُمَّهَا ثُمَّ جَامَعَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا عَلَيْهِ حَرَامٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ لَمْ يُحَرِّمْ بِهِ، فَاسْتُحْسِنَ أَنْ يَدْرَأَ بِذَلِكَ الْحَدِّ.قَالَ: وَالِاسْتِقْرَاءُ يُفِيدُ غَيْرَ ذَلِكَ أَيْضًا، فَالِاقْتِصَارُ عَلَى السِّتَّةِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ.فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ وَإِنْ قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهَا حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الشُّبْهَةُ، وَهِيَ هَاهُنَا قَائِمَةٌ فِي نَفْسِ الْحُكْمِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَعْرِفَتِهِ بِالْحُرْمَةِ وَعَدَمِهَا.وَيَثْبُتُ النَّسَبُ فِي شُبْهَةِ الْمَحَلِّ إِذَا ادَّعَى الْوَلَدَ.

3- شُبْهَةُ الْعَقْدِ:

18- قَالَ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَزُفَرُ.

وَهِيَ عِنْدَهُ تَثْبُتُ بِالْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ النَّسَبِيَّةِ، أَوْ بِالرَّضَاعِ، أَوْ بِالْمُصَاهَرَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ بِهِمَا، فَإِذَا وَطِئَ الشَّخْصُ إِحْدَى مَحَارِمِهِ بَعْدَ أَنْ عَقَدَ عَلَيْهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَكِنْ يَجِبُ الْمَهْرُ وَيُعَاقَبُ عُقُوبَةً هِيَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ التَّعْزِيرِ سِيَاسَةً لَا حَدًّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا تَعْزِيرَ.فَوُجُودُ الْعَقْدِ يَنْفِي الْحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَلَالًا كَانَ الْعَقْدُ أَوْ حَرَامًا، مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ، عَلِمَ الْوَاطِئُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ.

وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ بِأَنَّ الْأُنْثَى مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ مَحَلٌّ لِهَذَا الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْعَقْدِ مَا يَكُونُ قَابِلًا لِمَقْصُودِهِ الْأَصْلِيِّ، وَكُلُّ أُنْثَى مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ قَابِلَةٌ لِمَقْصُودِ النِّكَاحِ وَهُوَ التَّوَالُدُ وَالتَّنَاسُلُ.وَإِذَا كَانَتْ قَابِلَةً لِمَقْصُودِهِ كَانَتْ قَابِلَةً لِحُكْمِهِ، إِذِ الْحُكْمُ يَثْبُتُ ذَرِيعَةً إِلَى الْمَقْصُودِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، إِلاَّ أَنَّهُ تَقَاعَدَ عَنْ إِفَادَةِ الْحِلِّ حَقِيقَةً لِمَكَانِ الْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ فِيهِنَّ بِالنَّصِّ فَيُورِثُ شُبْهَةً، إِذِ الشُّبْهَةُ مَا يُشْبِهُ الْحَقِيقَةَ لَا الْحَقِيقَةَ نَفْسَهَا.

وَالْأُنْثَى مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ مَحَلٌّ لِلْعَقْدِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ أَوْلَى بِإِيرَاثِ الشُّبْهَةِ، وَكَوْنُهَا مُحَرَّمَةً عَلَى التَّأْبِيدِ لَا يُنَافِي الشُّبْهَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَطِئَ أَمَتَهُ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنَ الرَّضَاعِ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.وَالنِّكَاحُ فِي إِفَادَةِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ أَقْوَى مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ، لِأَنَّهُ شَرَعَ لَهُ بِخِلَافِ مِلْكِ الْيَمِينِ، فَكَانَ أَوْلَى فِي إِفَادَةِ الشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تُشْبِهُ الْحَقِيقَةَ فَمَا كَانَ أَقْوَى فِي إِثْبَاتِ الْحَقِيقَةِ كَانَ أَقْوَى فِي إِثْبَاتِ الشُّبْهَةِ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّا لِذَلِكَ بِأَنَّ حُرْمَتَهُنَّ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَإِضَافَةُ الْعَقْدِ إِلَيْهِنَّ كَإِضَافَتِهِ إِلَى الذُّكُورِ، لِكَوْنِهِ صَادَفَ غَيْرَ الْمَحَلِّ فَيَلْغُو؛ لِأَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ مَا يَكُونُ مَحَلًّا لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْحِلُّ هُنَا، وَهِيَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ فَيَكُونُ وَطْؤُهَا زِنًى حَقِيقَةً لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَالْحَقِّ فِيهَا.وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَآبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} وَالْفَاحِشَةُ هِيَ الزِّنَى لقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} وَمُجَرَّدُ إِضَافَةِ الْعَقْدِ إِلَى غَيْرِ الْمَحَلِّ لَا عِبْرَةَ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ الْوَارِدَ عَلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا حَتَّى لَا يُفِيدَ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الْبَيْعِ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا يُعْذَرُ بِالِاشْتِبَاهِ.وَمَحَلُّ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ فِي النِّكَاحِ الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى التَّأْبِيدِ.أَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، كَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَبِلَا شُهُودٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْكُلِّ.فَالشُّبْهَةُ إِنَّمَا تَنْتَفِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إِذَا كَانَ النِّكَاحُ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى التَّأْبِيدِ.وَالْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


72-موسوعة الفقه الكويتية (زنى 3)

زِنَى -3

شَهَادَةُ الزَّوْجِ عَلَى الزِّنَى:

36- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ بِالزِّنَى لِلتُّهْمَةِ، إِذْ أَنَّهُ بِشَهَادَتِهِ عَلَيْهَا مُقِرٌّ بِعَدَاوَتِهِ؛ وَلِأَنَّهَا دَعْوَى خِيَانَتِهَا فِرَاشَهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ مَا تُوجِبُ جَرَّ نَفْعٍ، وَالزَّوْجُ مُدْخِلٌ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ لُحُوقَ الْعَارِ وَخُلُوَّ الْفِرَاشِ، خُصُوصًا إِذَا كَانَ لَهُ مِنْهَا أَوْلَادٌ صِغَارٌ.

وَانْظُرِ الشَّهَادَةَ بِالزِّنَى الْقَدِيمِ، فِي مُصْطَلَحِ (حُدُودٍ ف 24) الْمَوْسُوعَةُ 17/ 137.

وَأَمَّا بَقِيَّةُ مَسَائِلِ الشَّهَادَةِ كَرُجُوعِ الشُّهُودِ، وَظُهُورِ عَدَمِ أَهْلِيَّةِ الشُّهُودِ، وَاخْتِلَافِ الشُّهُودِ فِي الشَّهَادَةِ، وَتَعَارُضِ الشَّهَادَاتِ، وَأَثَرِ تَعَهُّدِ النَّظَرِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ، فَتَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَةٍ).

ب- الْإِقْرَارُ:

37- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ الزِّنَى بِالْإِقْرَارِ، لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ بِإِقْرَارَيْهِمَا».وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَا يُكْتَفَى بِالْإِقْرَارِ مُرَّةً وَاحِدَةً، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ اشْتِرَاطَ كَوْنِهَا فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ مِنْ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ دُونَ مَجْلِسِ الْقَاضِي، وَذَلِكَ بِأَنْ يَرُدَّهُ الْقَاضِي كُلَّمَا أَقَرَّ فَيَذْهَبَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ ثُمَّ يَجِيءَ فَيُقِرَّ، وَيَسْتَوِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ تَكُونَ الْأَقَارِيرُ الْأَرْبَعَةُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، أَوْ مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- اكْتَفَى مِنَ الْغَامِدِيَّةِ بِإِقْرَارِهَا مُرَّةً وَاحِدَةً.

وَيُشْتَرَطُ فِي الْإِقْرَارِ أَنْ يَكُونَ مُفَصِّلًا مُبَيِّنًا لِحَقِيقَةِ الْوَطْءِ لِتَزُولَ التُّهْمَةُ وَالشُّبْهَةُ.«وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِمَاعِزٍ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ؟ قَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَنِكْتَهَا؟» لَا يُكَنِّي فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ.وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: «حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْكَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ.قَالَ: فَهَلْ تَدْرِي مَا الزِّنَى؟ قَالَ: نَعَمْ أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنَ امْرَأَتِهِ حَلَالًا».

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (حُدُودٍ) ف 26 الْمَوْسُوعَةُ 17/ 138، وَمُصْطَلَحَ: (إِقْرَارٍ) ف 12 وَمَا بَعْدَهَا، 6/ 49، وَانْظُرْ أَيْضًا الشُّبْهَةَ بِتَقَادُمِ الْإِقْرَارِ، وَالرُّجُوعَ فِي الْإِقْرَارِ فِي مُصْطَلَحِ: (إِقْرَارٍ) ف 57 وَمَا بَعْدَهَا الْمَوْسُوعَةُ 6/ 71

الْبَيِّنَةُ عَلَى الْإِقْرَارِ:

38- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِالْبَيِّنَةِ- الشَّهَادَةِ- عَلَى الْإِقْرَارِ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى إِقْرَارِهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَلَا يُحَدُّ، مِثْلُ الرُّجُوعِ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالزِّنَى أَرْبَعًا، يَثْبُتُ الزِّنَى لِوُجُودِ الْإِقْرَارِ بِهِ أَرْبَعًا، وَلَا يَثْبُتُ الْإِقْرَارُ بِالزِّنَى بِدُونِ أَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ مِنَ الرِّجَالِ.فَإِنْ أَنْكَرَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الْإِقْرَارَ، أَوْ صَدَّقَهُمْ دُونَ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ إِنْكَارَهُ وَتَصْدِيقَهُ دُونَ أَرْبَعٍ رُجُوعٌ عَنْ إِقْرَارِهِ، وَهُوَ مَقْبُولٌ مِنْهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِالشَّهَادَةِ عَلَى إِقْرَارِهِ.قَالُوا: لَوْ شَهِدُوا عَلَى إِقْرَارِهِ بِالزِّنَى فَقَالَ: مَا أَقْرَرْتُ، أَوْ قَالَ بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِإِقْرَارِهِ: مَا أَقْرَرْتُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ تَكْذِيبٌ لِلشُّهُودِ وَالْقَاضِي.

ج- الْقَرَائِنُ:

39- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِعِلْمِ الْإِمَامِ وَالْقَاضِي، فَلَا يُقِيمَانِهِ بِعِلْمِهِمَا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ مَرْجُوحٍ وَأَبُو ثَوْرٍ: إِلَى ثُبُوتِهِ بِعِلْمِهِ.وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُودٍ) ف 28 الْمَوْسُوعَةُ 17/ 139

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِظُهُورِ الْحَمْلِ وَاللِّعَانِ وَتَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي:

1- ظُهُورُ الْحَمْلِ:

40- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِظُهُورِ الْحَمْلِ فِي امْرَأَةٍ لَا زَوْجَ لَهَا وَأَنْكَرَتِ الزِّنَى؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ إِكْرَاهٍ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ أَنَّ امْرَأَةً رَفَعَتْ إِلَى عُمَرَ لَيْسَ لَهَا زَوْجٌ وَقَدْ حَمَلَتْ، وَسَأَلَهَا عُمَرُ، فَقَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةُ الرَّأْسِ وَقَعَ عَلَيَّ رَجُلٌ وَأَنَا نَائِمَةٌ، فَمَا اسْتَيْقَظْتُ حَتَّى نَزَعَ فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا: إِذَا كَانَ فِي الْحَدِّ «لَعَلَّ» «وَعَسَى» فَهُوَ مُعَطَّلٌ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا تُسْأَلُ، وَلَا يَجِبُ سُؤَالُهَا.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِظُهُورِ حَمْلِ امْرَأَةٍ لَا زَوْجَ لَهَا، فَتُحَدُّ وَلَا يُقْبَلُ دَعْوَاهَا الْغَصْبَ عَلَى ذَلِكَ بِلَا قَرِينَةٍ تَشْهَدُ لَهَا بِذَلِكَ، أَمَّا مَعَ قَرِينَةٍ تُصَدِّقُهَا فَتُقْبَلُ دَعْوَاهَا وَلَا تُحَدُّ، كَأَنْ تَأْتِيَ مُسْتَغِيثَةً مِنْهُ، أَوْ تَأْتِيَ الْبِكْرُ تَدَّعِي عَقِبَ الْوَطْءِ، وَكَذَا لَا تُقْبَلُ دَعْوَاهَا أَنَّ هَذَا الْحَمْلَ مِنْ مَنِيٍّ شَرِبَهُ فَرْجُهَا فِي الْحَمَّامِ، وَلَا مِنْ وَطْءِ جِنِّيٍّ إِلاَّ لِقَرِينَةٍ مِثْلُ كَوْنِهَا عَذْرَاءَ وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْعِفَّةِ.وَالْمُرَادُ بِالزَّوْجِ زَوْجٌ يُلْحَقُ بِهِ الْحَمْلُ فَيَخْرُجُ الْمَجْبُوبُ وَالصَّغِيرُ، أَوْ أَتَتْ بِهِ كَامِلًا لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ الْعَقْدِ فَتُحَدُّ.وَمِثْلُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا الْأَمَةُ الَّتِي أَنْكَرَ سَيِّدُهَا وَطْأَهَا فَتُحَدُّ.

2- اللِّعَانُ:

41- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِاللِّعَانِ إِذَا لَاعَنَ الزَّوْجُ وَامْتَنَعَتِ الْمَرْأَةُ عَنْهُ، فَيَثْبُتُ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَى حِينَئِذٍ وَتُحَدُّ، أَمَّا إِذَا لَاعَنَتْ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا امْتَنَعَتْ عَنِ اللِّعَانِ لَا حَدَّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ زِنَاهَا لَمْ يَثْبُتْ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، وَيَحْبِسُهَا الْحَاكِمُ حَتَّى تُلَاعِنَ أَوْ تُصَدِّقَهُ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (لِعَانٍ).

إِقَامَةُ حَدِّ الزِّنَى:

1- مَنْ يُقِيمُ حَدَّ الزِّنَى:

42- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقِيمُ حَدَّ الزِّنَى عَلَى الْحُرِّ إِلاَّ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُودٍ) ف 36 الْمَوْسُوعَةُ 17/ 144

2- عَلَانِيَةُ الْحَدِّ:

43- اسْتَحَبَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنْ يُسْتَوْفَى حَدُّ الزِّنَى بِحُضُورِ جَمَاعَةٍ.قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: أَقَلُّهُمْ أَرْبَعَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْحُدُودِ الزَّجْرُ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلاَّ بِالْحُضُورِ.

وَأَوْجَبَ الْحَنَابِلَةُ حُضُورَ طَائِفَةٍ لِيَشْهَدُوا حَدَّ الزِّنَى.لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.

3- كَيْفِيَّةُ إِقَامِهِ الْحَدِّ:

44- سَبَقَ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْجَلْدِ وَالْأَعْضَاءِ الَّتِي لَا تُجْلَدُ، وَبَيَانُ إِذَا كَانَ الْمَحْدُودُ مَرِيضًا لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ أَوْ ضَعِيفًا لَا يَحْتَمِلُ الْجَلْدَ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (جَلْدٍ) ف 12 الْمَوْسُوعَةُ الْفِقْهِيَّةُ 15/ 247

كَمَا أَنَّ تَفْصِيلَ كَيْفِيَّةِ الرَّجْمِ فِي مُصْطَلَحِ: (رَجْمٍ) ثُمَّ إِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدْ صَرَّحُوا بِأَنْ تَكُونَ الْحِجَارَةُ فِي الرَّجْمِ مُتَوَسِّطَةً كَالْكَفِّ- تَمْلأُ الْكَفَّ- فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْجَمَ بِصَخَرَاتٍ تُذَفِّفُهُ (أَيْ تُجْهِزُ عَلَيْهِ فَوْرًا) فَيَفُوتُ التَّنْكِيلُ الْمَقْصُودُ، وَلَا بِحَصَيَاتٍ خَفِيفَةٍ لِئَلاَّ يَطُولَ تَعْذِيبُهُ، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَيَخُصُّ بِالرَّجْمِ الْمَوَاضِعَ الَّتِي هِيَ مَقَاتِلُ مِنَ الظَّهْرِ وَغَيْرِهِ مِنَ السُّرَّةِ إِلَى مَا فَوْقُ، وَيُتَّقَى الْوَجْهُ وَالْفَرْجُ.

وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنْ يَتَّقِيَ الرَّاجِمُ الْوَجْهَ لِشَرَفِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِكَيْفِيَّةِ وُقُوفِ الرَّاجِمِينَ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يُصَفُّوا عِنْدَ الرَّجْمِ كَصُفُوفِ الصَّلَاةِ، كُلَّمَا رَجَمَ قَوْمٌ تَأَخَّرُوا وَتَقَدَّمَ غَيْرُهُمْ فَرَجَمُوا.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُسَنُّ أَنْ يَدُورَ النَّاسُ حَوْلَ الْمَرْجُومِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَالدَّائِرَةِ إِنْ كَانَ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى تَمْكِينِهِ مِنَ الْهَرَبِ، وَلَا يُسَنُّ ذَلِكَ إِنْ كَانَ زِنَاهُ ثَبَتَ بِإِقْرَارٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَهْرُبَ فَيُتْرَكَ وَلَا يُتَمَّمُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُحِيطُ النَّاسُ بِهِ.

مُسْقِطَاتُ حَدِّ الزِّنَى:

45- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي سُقُوطِ حَدِّ الزِّنَى بِالشُّبْهَةِ، إِذِ الْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ».وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى الشُّبْهَةِ ف 14 كَمَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي سُقُوطِ حَدِّ الزِّنَى بِالرُّجُوعِ عَنِ الْإِقْرَارِ إِذَا كَانَ ثُبُوتُهُ بِالْإِقْرَارِ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُودٍ ف 14) الْمَوْسُوعَةُ 17/ 134

كَمَا يَسْقُطُ حَدُّ الزِّنَى بِرُجُوعِ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَةٍ).

46- وَيَسْقُطُ حَدُّ الزِّنَى أَيْضًا بِتَكْذِيبِ أَحَدِ الزَّانِيَيْنِ لِلْآخَرِ لِلْمُقِرِّ بِالزِّنَى مِنْهُمَا، فَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَنِ الْمُكَذِّبِ فَقَطْ دُونَ الْمُقِرِّ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ مُؤَاخَذَةً بِإِقْرَارِهِ.

وَلَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَى بِامْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَكَذَّبَتْهُ لَمْ يَسْقُطِ الْحَدُّ عَنِ الْمُقِرِّ مُؤَاخَذَةً لَهُ بِإِقْرَارِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا الْحَدُّ أَيْضًا لَوْ سَكَتَتْ، أَوْ لَمْ تُسْأَلْ عَنْ ذَلِكَ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ الْحَدِّ عَنِ الْمُقِرِّ أَيْضًا، لِانْتِفَاءِ الْحَدِّ عَنِ الْمُنْكِرِ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلنَّفْيِ عَنْهُ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، لِأَنَّ الزِّنَى فِعْلٌ وَاحِدٌ يَتِمُّ بِهِمَا.فَإِذَا تَمَكَّنَتْ فِيهِ شُبْهَةٌ تَعَدَّتْ إِلَى طَرَفَيْهِ لِأَنَّهُ مَا أُطْلِقَ، بَلْ أَقَرَّ بِالزِّنَى بِمَنْ دَرَأَ الشَّرْعُ الْحَدَّ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَطْلَقَ وَقَالَ: زَنَيْتُ، فَإِنَّهُ لَا مُوجِبَ شَرْعًا يَدْفَعُهُ. وَبَقَاءُ الْبَكَارَةِ مُسْقِطٌ لِحَدِّ الزِّنَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، فَإِذَا شَهِدُوا عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَى فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا عَذْرَاءُ لَمْ تُحَدَّ بِشُبْهَةِ بَقَاءِ الْبَكَارَةِ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، حَيْثُ إِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهَا أَنَّهَا لَمْ تُوطَأْ، وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ تَكْفِي شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ بِعُذْرَتِهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ أَوْ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ.

47- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا لَوِ ادَّعَى أَحَدُ الزَّانِيَيْنِ الزَّوْجِيَّةَ، كَأَنْ يُقِرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ حَتَّى كَانَ إِقْرَارُهُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، وَقَالَتْ هِيَ: بَلْ تَزَوَّجَنِي، أَوْ أَقَرَّتْ هِيَ كَذَلِكَ بِالزِّنَى مَعَ فُلَانٍ، وَقَالَ الرَّجُلُ: بَلْ تَزَوَّجْتُهَا.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ دَعْوَى النِّكَاحِ تَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَهُوَ يَقُومُ بِالطَّرَفَيْنِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً.ثُمَّ إِنَّهُ إِذَا سَقَطَ الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ تَعْظِيمًا لِخَطَرِ الْبُضْعِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْبَيِّنَةِ حِينَئِذٍ عَلَى النِّكَاحِ.فَلَوْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ: زَنَيْتُ مَعَ هَذَا الرَّجُلِ، فَأَقَرَّ بِوَطْئِهَا وَادَّعَى أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَكَذَّبَتْهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ فَإِنَّهُمَا يُحَدَّانِ، أَمَّا حَدُّهَا فَظَاهِرٌ لِإِقْرَارِهَا بِالزِّنَى، وَأَمَّا حَدُّهُ فَإِنَّهَا لَمْ تُوَافِقْهُ عَلَى النِّكَاحِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ السَّبَبِ الْمُبِيحِ.قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَا طَارِئَيْنِ وَلَوْ حَصَلَ فُشُوٌّ، وَمِثْلُهُ فِيمَا لَوِ ادَّعَى الرَّجُلُ وَطْءَ امْرَأَةٍ وَأَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ وَوَلِيُّهَا عَلَى الزَّوْجِيَّةِ، وَلَمَّا طُلِبَتْ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةُ قَالَا: عَقَدْنَا النِّكَاحَ وَلَمْ نُشْهِدْ وَنَحْنُ نُشْهِدُ الْآنَ- وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فُشُوٌّ يَقُومُ مَقَامَ الْإِشْهَادِ- فَإِنَّ الزَّوْجَيْنِ يُحَدَّانِ لِدُخُولِهِمَا بِلَا إِشْهَادٍ.

وَكَذَا لَوْ وُجِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فِي بَيْتٍ أَوْ طَرِيقٍ- وَالْحَالُ أَنَّهُمَا غَيْرُ طَارِئَيْنِ- وَأَقَرَّا بِالْوَطْءِ وَادَّعَيَا النِّكَاحَ وَالْإِشْهَادَ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَا بَيِّنَةَ لَهُمَا بِذَلِكَ وَلَا فُشُوَّ يَقُومُ مَقَامَهَا، فَإِنَّهُمَا يُحَدَّانِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ السَّبَبِ الْمُبِيحِ لِلْوَطْءِ، فَإِنْ حَصَلَ فُشُوٌّ أَوْ كَانَا طَارِئَيْنِ، قُبِلَ قَوْلُهُمَا وَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَدَّعِيَا شَيْئًا مُخَالِفًا لِلْعُرْفِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَى عَلَى الْمُقِرِّ فَقَطْ دُونَ مَنِ ادَّعَى الزَّوْجِيَّةَ فَلَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ ذَلِكَ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنْهُ؛ وَلِاحْتِمَالِ صِدْقِهِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- مَرْفُوعًا «ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ» فَإِذَا أَقَرَّتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ زَنَى بِهَا مُطَاوَعَةً عَالِمَةً بِتَحْرِيمِهِ حُدَّتْ وَحْدَهَا، وَلَا مَهْرَ لَهَا مُؤَاخَذَةً لَهَا بِإِقْرَارِهَا.

وَأَوْجَبَ الشَّافِعِيَّةُ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى الْمُقِرِّ أَيْضًا.فَلَوْ قَالَ: زَنَيْتُ بِفُلَانَةَ، فَقَالَتْ: كَانَ تَزَوَّجَنِي، صَارَ مُقِرًّا بِالزِّنَى وَقَاذِفًا لَهَا، فَيَلْزَمُهُ حَدُّ الزِّنَى وَحَدُّ الْقَذْفِ.

وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ اعْتِرَاضَ مِلْكِ النِّكَاحِ أَوْ مِلْكِ الْيَمِينِ مُسْقِطٌ لِحَدِّ الزِّنَى، بِأَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَوْ بِجَارِيَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا- وَهِيَ إِحْدَى ثَلَاثِ رِوَايَاتٍ عَنْهُ- وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ بُضْعَ الْمَرْأَةِ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ فِي حَقِّ الِاسْتِمَاعِ، فَحَصَلَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ فَيَصِيرُ شُبْهَةً، كَالسَّارِقِ إِذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهِيَ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَهِيَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَطْءَ حَصَلَ زِنًى مَحْضًا لِمُصَادَفَتِهِ مَحَلًّا غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَهُ فَحَصَلَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، وَالْعَارِضُ وَهُوَ الْمِلْكُ لَا يَصْلُحُ مُسْقِطًا لِاقْتِصَارِهِ عَلَى حَالَةِ ثُبُوتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ وَالشِّرَاءِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُجِدَ لِلْحَالِ، فَلَا يَسْتَنِدُ الْمِلْكُ الثَّابِتُ بِهِ إِلَى وَقْتِ وُجُودِ الْوَطْءِ، فَبَقِيَ الْوَطْءُ خَالِيًا عَنِ الْمِلْكِ فَبَقِيَ زِنًى مَحْضًا لِلْحَدِّ، بِخِلَافِ السَّارِقِ إِذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ لِأَنَّ هُنَاكَ وُجِدَ الْمُسْقِطُ وَهُوَ بُطْلَانُ وِلَايَةِ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ هُنَاكَ شَرْطٌ، وَقَدْ خَرَجَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا بِمِلْكِ الْمَسْرُوقِ، لِذَلِكَ افْتَرَقَا.

وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهِيَ أَنَّ اعْتِرَاضَ الشِّرَاءِ يُسْقِطُ وَاعْتِرَاضَ النِّكَاحِ لَا يُسْقِطُ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْبُضْعَ لَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا إِذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْعُقْرُ لَهَا، وَالْعُقْرُ بَدَلُ الْبُضْعِ، وَالْبَدَلُ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ كَانَ لَهُ الْمُبْدَلُ فَلَمْ يَحْصُلِ اسْتِيفَاءُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ مِنْ مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ فَلَا يُورِثُ شُبْهَةً، وَبُضْعُ الْأَمَةِ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى بِالشِّرَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْعُقْرُ لِلْمَوْلَى فَحَصَلَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ فَيُورِثُ شُبْهَةً، فَصَارَ كَالسَّارِقِ إِذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ.

48- كَمَا يَسْقُطُ حَدُّ الزِّنَى فِي الرَّجْمِ خَاصَّةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَطْ بِمَوْتِ الشُّهُودِ أَوْ غَيْبَتِهِمْ أَوْ مَرَضِهِمْ بَعْدَ الشَّهَادَةِ أَوْ قَطْعِ أَيْدِيهِمْ؛ لِأَنَّ الْبِدَايَةَ بِالشُّهُودِ شَرْطُ جَوَازِ الْإِقَامَةِ وَقَدْ فَاتَ بِالْمَوْتِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ، فَسَقَطَ الْحَدُّ ضَرُورَةً.وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُودٍ ف 38) الْمَوْسُوعَةِ الْفِقْهِيَّةِ 17/ 145.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


73-موسوعة الفقه الكويتية (زوجة)

زَوْجَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الزَّوْجَةُ فِي اللُّغَةِ: امْرَأَةُ الرَّجُلِ، وَجَمْعُهَا زَوْجَاتٌ، وَيُقَالُ لَهَا: زَوْجٌ، فَالرَّجُلُ زَوْجُ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةُ زَوْجُهُ.هَذِهِ هِيَ اللُّغَةُ الْعَالِيَةُ وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ نَحْوُ قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} وَالْجَمْعُ فِيهَا أَزْوَاجٌ قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ.وَأَهْلُ نَجْدٍ يَقُولُونَ فِي الْمَرْأَةِ: زَوْجَةٌ بِالْهَاءِ، وَأَهْلُ الْحَرَمِ يَتَكَلَّمُونَ بِهَا.وَعَكَسَ ابْنُ السِّكِّيتِ فَقَالَ: وَأَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ لِلْمَرْأَةِ زَوْجٌ بِغَيْرِ هَاءٍ، وَسَائِرُ الْعَرَبِ زَوْجَةٌ بِالْهَاءِ وَجَمْعُهَا زَوْجَاتٌ، وَالْفُقَهَاءُ يَقْتَصِرُونَ فِي الِاسْتِعْمَالِ عَلَيْهَا لِلْإِيضَاحِ وَخَوْفِ لَبْسِ الذَّكَرِ بِالْأُنْثَى.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالزَّوْجَةِ:

اتِّخَاذُ الزَّوْجَةِ:

2- ذَهَبَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الزَّوَاجَ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ، إِلاَّ إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي مَحْظُورٍ فَيَلْزَمُهُ إِعْفَافُ نَفْسِهِ، وَلَا يَزِيدُ عَنْ زَوْجَةٍ وَاحِدَةٍ إِنْ خَافَ الْجَوْرَ لقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْخِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} وَقَدْ تَعْتَرِيهِ أَحْكَامٌ أُخْرَى.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (نِكَاحٍ).

اخْتِيَارُ الزَّوْجَةِ:

3- الْمَرْأَةُ سَكَنٌ لِلزَّوْجِ وَحَرْثٌ لَهُ، وَأَمِينَتُهُ فِي مَالِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَوْضِعُ سِرِّهِ، وَعَنْهَا يَرِثُ أَوْلَادُهَا كَثِيرًا مِنَ الصِّفَاتِ، وَيَكْتَسِبُونَ بَعْضَ عَادَاتِهِمْ مِنْهَا، لِهَذَا حَضَّتِ الشَّرِيعَةُ عَلَى حُسْنِ اخْتِيَارِ الزَّوْجَةِ، وَحَدَّدَتْ صِفَاتِ الزَّوْجَةِ الصَّالِحَةِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

4- يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ ذَاتَ دِينٍ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك» أَيْ أَنَّ الَّذِي يُرَغِّبُ فِي الزَّوَاجِ، وَيَدْعُو الرِّجَالَ إِلَيْهِ أَحَدُ هَذِهِ الْخِصَالِ الْأَرْبَعِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَلاَّ يَعْدِلُوا عَنْ ذَاتِ الدِّينِ إِلَى غَيْرِهَا.

5- أَنْ تَكُونَ وَلُودًا، لِحَدِيثِ: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ، الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

وَيُعْرَفُ كَوْنُ الْبِكْرِ وَلُودًا بِكَوْنِهَا مِنْ أُسْرَةٍ يُعْرَفُ نِسَاؤُهَا بِكَثْرَةِ الْأَوْلَادِ.

6- أَنْ تَكُونَ بِكْرًا، لِخَبَرِ: «فَهَلاَّ بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ».

7- أَنْ تَكُونَ حَسِيبَةً نَسِيبَةً أَيْ طَيِّبَةَ الْأَصْلِ بِانْتِسَابِهَا إِلَى الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِكَرَاهَةِ الزَّوَاجِ بِبِنْتِ الزِّنَى، وَاللَّقِيطَةِ، وَبِنْتِ الْفَاسِقِ لِخَبَرِ: «تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ وَانْكِحُوا الْأَكْفَاءَ وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ».

8- وَأَنْ لَا تَكُونَ ذَاتَ قَرَابَةٍ قَرِيبَةٍ، لِحَدِيثِ: «لَا تَنْكِحُوا الْقَرَابَةَ الْقَرِيبَةَ فَإِنَّ الْوَلَدَ يُخْلَقُ ضَاوِيًا».

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِاسْتِحْبَابِ اخْتِيَارِ الْأَجْنَبِيَّةِ فَإِنَّ وَلَدَهَا أَنْجَبُ.

9- أَنْ تَكُونَ جَمِيلَةً لِأَنَّهَا أَسْكَنُ لِنَفْسِهِ وَأَغَضُّ لِبَصَرِهِ، وَأَكْمَلُ لِمَوَدَّتِهِ، وَلِذَلِكَ شُرِعَ النَّظَرُ قَبْلَ الْعَقْدِ، وَلِحَدِيثِ: «مَا اسْتَفَادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا أَسَرَّتْهُ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ».

10- أَنْ تَكُونَ ذَاتَ عَقْلٍ، وَيَجْتَنِبَ الْحَمْقَاءَ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُرَادُ لِلْعِشْرَةِ الدَّائِمَةِ، وَلَا تَصْلُحُ الْعِشْرَةُ مَعَ الْحَمْقَاءِ وَلَا يَطِيبُ الْعَيْشُ مَعَهَا، وَرُبَّمَا تَعَدَّى إِلَى وَلَدِهَا.

حَقُّ الْمَرْأَةِ فِي اخْتِيَارِ زَوْجِهَا:

11- لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْتَارَ زَوْجَهَا، جَاءَ فِي الْأَثَرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: أَنْ تَسْكُتَ».وَعَنْ «عَائِشَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحْيِي، قَالَ: رِضَاهَا صَمْتُهَا».وَلَا يَنْبَغِي لِلْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجَ مُولِيَتَهُ إِلاَّ التَّقِيَّ الصَّالِحَ، جَاءَ فِي الْأَثَرِ: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ».وَرُوِيَ: «مَنْ زَوَّجَ كَرِيمَتَهُ مِنْ فَاسِقٍ فَقَدْ قَطَعَ رَحِمَهَا» وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَأْمِرَ الْبِكْرَ قَبْلَ النِّكَاحِ وَيَذْكُرَ لَهَا الزَّوْجَ فَيَقُولَ: إِنَّ فُلَانًا يَخْطُبُكِ أَوْ يَذْكُرُكِ، وَإِنْ زَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْمَارٍ فَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ لِخَبَرِ: «شَاوِرُوا النِّسَاءَ فِي أَبْضَاعِهِنَّ» وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ إِلاَّ بِرِضَاهَا، وَلَا يَنْعَقِدُ الزَّوَاجُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ إِذَا زَوَّجَ الْقَاصِرَةَ أَوِ الْبِكْرَ بِغَيْرِ كُفْءٍ، وَلَهَا فَسْخُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (وِلَايَةٍ).

وَلَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُ الثَّيِّبِ إِلاَّ بِإِذْنِهَا لِخَبَرِ: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَعْضُلَهَا، وَيَسْقُطُ بِالْعَضْلِ حَقُّهُ فِي تَزْوِيجِهَا إِنْ رَغِبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَ كُفْئًا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاحٍ، وَلِيٍّ).

حُقُوقُ الزَّوْجَةِ:

12- إِذَا وَقَعَ الْعَقْدُ صَحِيحًا نَافِذًا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ آثَارُهُ، وَتَنْشَأُ بِهِ حُقُوقٌ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:

1- حُقُوقٌ وَاجِبَةٌ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا.

2- حُقُوقٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا.

3- وَحُقُوقٌ وَاجِبَةٌ لِلزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ، وَتُرَاجَعُ فِي مُصْطَلَحِ: (زَوْجٍ).

الْحُقُوقُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ هِيَ:

13- 1- حِلُّ الْعِشْرَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَاسْتِمْتَاعُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ فَيَحِلُّ لِلزَّوْجَةِ مِنْ زَوْجِهَا مَا يَحِلُّ لَهُ مِنْهَا، وَتَفْصِيلُ هَذَا الْحَقِّ وَحُدُودُهُ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عِشْرَةٍ).

2- حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ، فَالزَّوْجَةُ تَحْرُمُ عَلَى آبَاءِ الزَّوْجِ وَأَجْدَادِهِ وَأَبْنَائِهِ، وَفُرُوعِ أَبْنَائِهِ وَبَنَاتِهِ، وَيَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجِ أُمَّهَاتُ الزَّوْجَةِ وَجَدَّاتُهَا وَبَنَاتُهَا، وَبَنَاتِ آبَائِهَا وَبَنَاتِهَا، وَأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أُخْتِهَا أَوْ عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا وَانْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاحٍ، وَمُحَرَّمَاتٍ).

3- ثُبُوتُ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمَا بِمُجَرَّدِ إِتْمَامِ الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِالزَّوْجَةِ، وَالتَّفْصِيلُ فِي: (إِرْثٍ).

4- ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْ صَاحِبِ الْفِرَاشِ.

5- حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ، فَيَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُعَاشِرَ زَوْجَتَهُ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِثْلُ ذَلِكَ لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَالتَّفْصِيلُ فِي (نِكَاحٍ).

حُقُوقُ الزَّوْجَةِ الْخَاصَّةُ بِهَا:

14- لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا حُقُوقٌ مَالِيَّةٌ وَهِيَ: الْمَهْرُ، وَالنَّفَقَةُ، وَالسُّكْنَى، وَحُقُوقٌ غَيْرُ مَالِيَّةٍ: كَالْعَدْلِ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، وَعَدَمِ الْإِضْرَارِ بِالزَّوْجَةِ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (عِشْرَةٍ).

أ- الْمَهْرُ:

15- الْمَهْرُ هُوَ الْمَالُ الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجَةُ عَلَى زَوْجِهَا بِالْعَقْدِ عَلَيْهَا أَوْ بِالدُّخُولِ بِهَا.وَهُوَ حَقٌّ وَاجِبٌ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الرَّجُلِ عَطِيَّةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مُبْتَدَأَةً، أَوْ هَدِيَّةً أَوْجَبَهَا عَلَى الرَّجُلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} إِظْهَارًا لِخَطَرِ هَذَا الْعَقْدِ وَمَكَانَتِهِ، وَإِعْزَازًا لِلْمَرْأَةِ وَإِكْرَامًا لَهَا.

وَالْمَهْرُ لَيْسَ شَرْطًا فِي عَقْدِ الزَّوَاجِ وَلَا رُكْنًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِهِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهِ، فَإِذَا تَمَّ الْعَقْدُ بِدُونِ ذِكْرِ مَهْرٍ صَحَّ بِاتِّفَاقِ الْجُمْهُورِ لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} فَإِبَاحَةُ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَقَبْلَ فَرْضِ صَدَاقٍ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ عَدَمِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ فِي الْعَقْدِ.وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَعْرَى النِّكَاحُ عَنْ تَسْمِيَةِ الصَّدَاقِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُزَوِّجُ بَنَاتِهِ وَغَيْرَهُنَّ، وَيَتَزَوَّجُ وَلَمْ يَكُنْ يُخَلِّي النِّكَاحَ مِنْ صَدَاقٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَفْسُدُ النِّكَاحُ إِنْ نَقَصَ صَدَاقُهُ عَنْ رُبُعِ دِينَارٍ شَرْعِيٍّ أَوْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَيُتِمُّ النَّاقِصَ عَمَّا ذُكِرَ وُجُوبًا إِنْ دَخَلَ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يُتِمَّ فَلَا فَسْخَ، فَإِنْ لَمْ يُتِمَّهُ فُسِخَ بِطَلَاقٍ وَوَجَبَ فِيهِ نِصْفُ الْمُسَمَّى

وَالتَّفْصِيلُ فِي (صَدَاقٍ).

ب- النَّفَقَةُ:

16- مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا: النَّفَقَةُ، وَقَدْ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ بِشُرُوطٍ يَذْكُرُونَهَا فِي بَابِ النَّفَقَةِ.وَالْحِكْمَةُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا أَنَّ الْمَرْأَةَ مَحْبُوسَةٌ عَلَى الزَّوْجِ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الزَّوَاجِ، مَمْنُوعَةٌ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنْهُ لِلِاكْتِسَابِ، فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا، وَعَلَيْهِ كِفَايَتُهَا، فَالنَّفَقَةُ مُقَابِلُ الِاحْتِبَاسِ، فَمَنِ احْتَبَسَ لِمَنْفَعَةِ غَيْرِهِ كَالْقَاضِي وَغَيْرِهِ مِنَ الْعَامِلِينَ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ.

وَالْمَقْصُودُ بِالنَّفَقَةِ تَوْفِيرُ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الزَّوْجَةُ مِنْ طَعَامٍ، وَمَسْكَنٍ، وَخِدْمَةٍ، فَتَجِبُ لَهَا هَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً، لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّاآتَاهُ اللَّهُ}.

وَفِي الْأَثَرِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلاَّ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ».

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَفَقَةٍ، سُكْنَى).

الْعَدْلُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ:

17- مِنْ حَقِّ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا الْعَدْلُ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنْ زَوْجَاتِهِ، إِنْ كَانَ لَهُ زَوْجَاتٌ، فِي الْمَبِيتِ وَالنَّفَقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ الْمُعَامَلَةِ الْمَادِّيَّةِ، وَذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} وَجَاءَ فِي الْخَبَرِ: «إِذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ امْرَأَتَانِ فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ سَاقِطٌ».

وَقَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذِهِ قِسْمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ».ر: (قَسْمٌ).

حُسْنُ الْعِشْرَةِ:

18- يُسْتَحَبُّ لِلزَّوْجِ تَحْسِينُ خُلُقِهِ مَعَ زَوْجَتِهِ وَالرِّفْقُ بِهَا، وَتَقْدِيمُ مَا يُمْكِنُ تَقْدِيمُهُ إِلَيْهَا مِمَّا يُؤَلِّفُ قَلْبَهَا، لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَقَوْلِهِ: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَفِي الْخَبَرِ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ».وَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «خِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا».

وَمِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ فِي مُعَامَلَةِ الزَّوْجَةِ التَّلَطُّفُ بِهَا وَمُدَاعَبَتُهَا.فَقَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ: «كُلُّ مَا يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ بَاطِلٌ إِلاَّ رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتَهُ أَهْلَهُ، فَإِنَّهُنَّ مِنَ الْحَقِّ».

وَالتَّفْصِيلُ فِي: (عِشْرَةٍ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


74-موسوعة الفقه الكويتية (سقوط)

سُقُوطٌ

التَّعْرِيفُ:

1- السُّقُوطُ مَصْدَرُ سَقَطَ، يُقَالُ: سَقَطَ الشَّيْءُ؛ أَيْ وَقَعَ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ، وَأَسْقَطَهُ إِسْقَاطًا فَسَقَطَ، فَالسُّقُوطُ أَثَرُ الْإِسْقَاطِ، وَالسَّقَطُ- بِفَتْحَتَيْنِ- رَدِيءُ الْمَتَاعِ، وَالْخَطَأُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ.

يُقَالُ: لِكُلِّ سَاقِطَةٍ لَاقِطَةٌ؛ أَيْ: لِكُلِّ نَادَّةٍ مِنَ الْكَلَامِ مَنْ يَحْمِلُهَا وَيُذِيعُهَا، وَيُضْرَبُ مَثَلًا لِنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ: سَقَطَ الْفَرْضُ: مَعْنَاهُ سَقَطَ طَلَبُهُ وَالْأَمْرُ بِهِ.

وَالسِّقْطُ (بِتَثْلِيثِ السِّينِ): الْجَنِينُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، يَسْقُطُ قَبْلَ تَمَامِهِ، وَهُوَ مُسْتَبِينُ الْخَلْقِ.وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَى السُّقُوطِ الِاصْطِلَاحِيِّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

مَا يَقْبَلُ السُّقُوطَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ:

سُقُوطُ الصَّلَاةِ عَنْ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ:

2- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَسْقُطُ عَنْ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ، وَهُوَ مَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً يَتَطَهَّرُ بِهِ وَلَا تُرَابًا يَتَيَمَّمُ بِهِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ بِلَا طَهُورٍ.وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ، وَتَجِبُ الْإِعَادَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ إِعَادَتَهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ الصَّلَاةِ عَنْهُ أَدَاءً وَقَضَاءً.

وَلِلتَّفْصِيلِ ر: مُصْطَلَحَ (تَيَمُّم ف 41، وَصَلَاة).

سُقُوطُ الْجَبِيرَةِ:

3- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُوجِبُهُ سُقُوطُ الْجَبِيرَةِ عَنْ بُرْءٍ، وَفِيمَا يُوجِبُهُ سُقُوطُهَا لَا عَنْ بُرْءٍ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (جَبِيرَة ف 7).

سُقُوطُ الصَّلَاةِ عَنِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ:

4- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تَسْقُطُ عَنِ الْمَرْأَةِ أَثْنَاءَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ.وَلَا تُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ بَعْدَ ذَلِكَ.وَلِلتَّفْصِيلِ ر: مُصْطَلَحَ (صَلَاة، وَحَيْض، وَنِفَاس).

سُقُوطُ الصَّلَاةِ عَنِ الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ:

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَجْنُونَ لَا يَقْضِي الصَّلَاةَ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ مِنَ الْجُنُونِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ».وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِسُقُوطِ الصَّلَاةِ عَنْهُ أَنْ يَمْضِيَ عَلَى جُنُونِهِ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ فَيَقْضِي مَا كَانَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ أَوْ أَقَلَّ.

وَأَمَّا الْمُغْمَى عَلَيْهِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) إِلَى أَنَّهُ لَا يَقْضِي مَا فَاتَهُ أَثْنَاءَ إغْمَائِهِ.إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اشْتَرَطُوا مُضِيَّ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ- كَمَا تَقَدَّمَ- وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ يَقْضِي جَمِيعَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي كَانَتْ فِي حَالِ إِغْمَائِهِ.

وَكَذَا تَسْقُطُ الصَّلَاةُ عَنِ الْمُبَرْسَمِ وَالْمَعْتُوهِ وَالسَّكْرَانِ بِلَا تَعَدٍّ، عَلَى خِلَافٍ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاة).

إِسْقَاطُ الصَّلَاةِ بِالْإِطْعَامِ:

6- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَسْقُطُ عَنِ الْمَيِّتِ بِالْإِطْعَامِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمَرِيضُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِالْإِيمَاءِ بِرَأْسِهِ لَا يَلْزَمُهُ الْإِيصَاءُ بِهَا.

أَمَّا إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الصَّلَاةِ وَلَوْ بِالْإِيمَاءِ وَفَاتَتْهُ الصَّلَاةُ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَزِمَهُ الْإِيصَاءُ بِالْكَفَّارَةِ عَنْهَا، فَيُخْرِجُ عَنْهُ وَلِيُّهُ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ لِكُلِّ صَلَاةِ مَفْرُوضَةٍ، وَكَذَا الْوِتْرُ لِأَنَّهُ فَرْضٌ عَمَلِيٌّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ فِي الصِّيَامِ، وَهُوَ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «وَلَكِنْ يُطْعِمُ عَنْهُ» وَالصَّلَاةُ كَالصِّيَامِ بِاسْتِحْسَانِ الْمَشَايِخِ لِكَوْنِهَا أَهَمَّ.

وَالصَّحِيحُ: اعْتِبَارُ كُلِّ صَلَاةٍ بِصَوْمِ يَوْمٍ، فَيَكُونُ عَلَى كُلِّ صَلَاةٍ فِدْيَةٌ، وَهِيَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ دَقِيقِهِ أَوْ سَوِيقِهِ، أَوْ صَاعُ تَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ قِيمَتُهُ، وَهِيَ أَفْضَلُ لِتَنَوُّعِ حَاجَاتِ الْفَقِيرِ.

وَإِنْ لَمْ يُوصِ وَتَبَرَّعَ عَنْهُ وَلِيُّهُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ جَازَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ قَالَ فِي تَبَرُّعِ الْوَارِثِ بِالْإِطْعَامِ فِي الصَّوْمِ يَجْزِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ.وَفِي إِيصَائِهِ بِهِ جَزَمَ الْحَنَفِيَّةُ بِالْإِجْزَاءِ.وَلِلتَّفْصِيلِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (صَلَاة وَصَوْم).

سُقُوطُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ:

7- مِمَّا تَسْقُطُ بِهِ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ الْحَبْسُ وَالْمَرَضُ الَّذِي يَشُقُّ مَعَهُ الْحُضُورُ، وَإِذَا خَافَ ضَرَرًا فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ عِرْضِهِ، وَالْمَطَرُ وَالْوَحْلُ وَالْبَرْدُ الشَّدِيدُ وَالْحَرُّ الشَّدِيدُ ظُهْرًا وَالرِّيحُ الشَّدِيدَةُ فِي اللَّيْلِ، وَمُدَافَعَةُ الْأَخْبَثَيْنِ، وَأَكْلُ نَتِنٍ نِيءٍ إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إِزَالَتُهُ.

وَتَفْصِيلُ هَذَا فِي (صَلَاة الْجَمَاعَةِ، وَصَلَاة الْجُمُعَةِ).

سُقُوطُ تَرْتِيبِ الْفَوَائِتِ:

8- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الْفَوَائِتِ وَالْحَاضِرَةِ يَسْقُطُ إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْهُمَا جَمِيعًا، فَيُقَدِّمُ عِنْدَئِذٍ الْحَاضِرَةَ ثُمَّ يَقْضِي الْفَوَائِتَ عَلَى التَّرْتِيبِ.

وَانْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي مُصْطَلَحِ (تَرْتِيب)

سُقُوطُ الصِّيَامِ:

9- يَسْقُطُ الصِّيَامُ عَنِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَقْوَى عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (صِيَام).

وَأَمَّا مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ مِنْ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ إِمْكَانِ الصِّيَامِ، إِمَّا لِضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ عَجْزٍ عَنِ الصَّوْمِ، فَهَذَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، (وَيَسْقُطُ عَنْهُ الصِّيَامُ) وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَقَتَادَةَ يَجِبُ الْإِطْعَامُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ سَقَطَ بِالْعَجْزِ عَنْهُ فَوَجَبَ الْإِطْعَامُ عَنْهُ، كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ إِذَا تَرَكَ الصِّيَامَ لِعَجْزِهِ عَنْهُ.

الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، رُوِي ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَأَبِي عُبَيْدٍ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُمْ.

وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرٍ فَلْيُطْعَمْ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا».

وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ: يُصَامُ عَنْهُ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: قُلْتُ: الْقَدِيمُ هُنَا أَظْهَرُ وَذَلِكَ لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ كَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ».

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (صَوْم).

سُقُوطُ الزَّكَاةِ:

10- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ، وَتُخْرَجُ مِنْ مَالِهِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةَ وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا يَجِبُ إِخْرَاجُهَا مِنَ التَّرِكَةِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ، فَإِنْ أَوْصَى بِالْأَدَاءِ وَجَبَ إِخْرَاجُهَا مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ.

وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ وَالْمُثَنَّى وَالثَّوْرِيُّ.

وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ: تُؤْخَذُ مِنَ الثُّلُثِ مُقَدَّمَةً عَلَى الْوَصَايَا وَلَا يُجَاوِزُ الثُّلُثَ.

وَتَسْقُطُ الزَّكَاةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا بِهَلَاكِ النِّصَابِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَدَاءِ بَعْدَهُ، وَبِالرِّدَّةِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَرِكَة ف 26).

سُقُوطُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ:

11- يَسْقُطُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ وَلَوْ بِظَنِّ الْفِعْلِ.

ر: مُصْطَلَحَ (إِسْقَاط وَفَرْض).

سُقُوطُ التَّحْرِيمِ لِلضَّرُورَةِ:

12- يَسْقُطُ التَّحْرِيمُ لِلضَّرُورَةِ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ وَإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ بِالْخَمْرِ، وَإِبَاحَةِ نَظَرِ الْعَوْرَةِ لِلطَّبِيبِ.

ر: مُصْطَلَحَ (إِسْقَاط) وَتُنْظَرُ أَيْضًا فِي مُصْطَلَحِ (اضْطِرَار، خَمْر، عَوْرَة).

حُقُوقُ الْعِبَادِ:

13- الْأَصْلُ أَنَّ مَنْ لَهُ حَقٌّ إِذَا أَسْقَطَهُ- وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ، سَقَطَ هَذَا الْحَقُّ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِسْقَاط).

وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ مَا هُوَ مَحَلٌّ لِلسُّقُوطِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ:

سُقُوطُ الْمَهْرِ:

14- أ- يَسْقُطُ الْمَهْرُ كُلُّهُ عَنِ الزَّوْجِ بِعِدَّةِ أَسْبَابٍ:

(1) الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالْمَرْأَةِ إِذَا كَانَتْ بِطَلَبٍ مِنَ الزَّوْجَةِ أَوْ بِسَبَبِهَا.

(2) الْإِبْرَاءُ عَنْ كُلِّ الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ إِذَا كَانَ الْمَهْرُ دَيْنًا؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ وَالْإِسْقَاطُ مِمَّنْ هُوَ أَهْلُ الْإِسْقَاطِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلسُّقُوطِ يُوجِبُ السُّقُوطَ.

(3) الْخُلْعُ عَلَى الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ.

(4) هِبَةُ كُلِّ الْمَهْرِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا وَبَعْدَهُ إِذَا كَانَ عَيْنًا.

15- ب- مَا يَسْقُطُ بِهِ نِصْفُ الْمَهْرِ.

يَسْقُطُ نِصْفُ الْمَهْرِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ، وَالْمَهْرُ دَيْنٌ لَمْ يُقْبَضْ بَعْدُ.

وَفِيمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (مَهْر، خُلْع، هِبَة، مُتْعَة، طَلَاق).

سُقُوطُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ:

16- تَسْقُطُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ بِالنُّشُوزِ (الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ الزَّوْجِ) وَبِالْإِبْرَاءِ مِنَ النَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (نُشُوز، نَفَقَة).

سُقُوطُ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ:

17- تَسْقُطُ نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ.

عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَة).

سُقُوطُ الْحَضَانَةِ:

18- إِذَا اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْحَضَانَةِ، أَوْ وُجِدَ مَانِعٌ سَقَطَتْ، وَكَذَا لَوْ سَافَرَ الْوَلِيُّ أَوِ الْحَاضِنُ لِلنُّقْلَةِ وَالِانْقِطَاعِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (حَضَانَة) ف 18 (ج 17 310).

سُقُوطُ الْخَرَاجِ:

19- يَسْقُطُ الْخَرَاجُ بِانْعِدَامِ صَلَاحِيَّةِ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ وَتَعْطِيلِهَا عَنِ الزِّرَاعَةِ، وَبِهَلَاكِ الزَّرْعِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَبِإِسْقَاطِ الْإِمَامِ لِلْخَرَاجِ عَمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (خَرَاج ف 57 وَمَا بَعْدَهَا).

سُقُوطُ الْحُدُودِ:

20- تَسْقُطُ الْحُدُودُ بِمَا يَلِي: أ- بِالشُّبُهَاتِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ».

ب- بِالرُّجُوعِ عَنِ الْإِقْرَارِ، وَاسْتَثْنَوْا حَدَّ الْقَذْفِ.

ج- بِمَوْتِ الشُّهُودِ.

د- بِالتَّكْذِيبِ، كَتَكْذِيبِ الْمَزْنِيِّ بِهَا لِلْمُقِرِّ بِالزِّنَى قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ.

ر: مُصْطَلَحَ (حُدُود ف 13، 14، 15، 16 وَزِنًى، وَقَذْف).

هـ- بِالتَّوْبَةِ: وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعُقُوبَةَ تَسْقُطُ عَنْ قَاطِعِ الطَّرِيقِ (الْمُحَارِبِ) بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هَذَا فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ حَقًّا لِلَّهِ، أَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَلَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (حِرَابَة ف 24).

وَإِنْ تَابَ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ مِنْ غَيْرِ الْمُحَارِبِينَ وَأَصْلَحَ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وَهَذَا عَامٌّ فِي التَّائِبِينَ وَغَيْرِهِمْ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ وَقَطَعَ الَّذِي أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ، وَقَدْ جَاءُوا تَائِبِينَ يَطْلُبُونَ التَّطْهِيرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ.وَقَدْ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِعْلَهُمْ تَوْبَةً، فَقَالَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ: لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ عَلَى سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ» «وَجَاءَ عَمْرُو بْنُ سَمُرَةَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي سَرَقْتُ جَمَلًا لِبَنِي فُلَانٍ فَطَهِّرْنِي وَقَدْ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْحَدَّ عَلَى هَؤُلَاءِ» وَلِأَنَّ الْحَدَّ كَفَّارَةٌ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالتَّوْبَةِ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالْقَتْلِ، وَلِأَنَّهُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ بِالتَّوْبَةِ كَالْمُحَارِبِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: يَسْقُطُ الْحَدُّ بِالتَّوْبَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاَللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَاوَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} وَذَكَرَ حَدَّ السَّارِقِ فَقَالَ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِوَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» وَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، «وَقَالَ فِي مَاعِزٍ لَمَّا أُخْبِرَ بِهَرَبِهِ: هَلاَّ تَرَكْتُمُوهُ يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ كَحَدِّ الْمُحَارِبِ.

وَهَلْ يَتَقَيَّدُ سُقُوطُ التَّوْبَةِ، وَبِكَوْنِهِ قَبْلَ الرَّفْعِ إِلَى الْحَاكِمِ أَمْ لَا؟ وَبِكَوْنِهِ حَقًّا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا؟.

يُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (حُدُود ف 12) وَتَوْبَة (18 وَ 19).

سُقُوطُ الْجِزْيَةِ:

21- تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِتَدَاخُلِ الْجِزَى أَوْ بِطُرُوءِ الْإِعْسَارِ أَوِ التَّرَهُّبِ وَالِانْعِزَالِ عَنِ النَّاسِ، أَوْ بِالْجُنُونِ، أَوْ بِالْعَمَى، وَالزَّمَانَةِ، وَالشَّيْخُوخَةِ، أَوْ عَجْزِ الدَّوْلَةِ عَنْ حِمَايَتِهِمْ أَوْ بِاشْتِرَاكِ الذِّمِّيِّينَ فِي الْقِتَالِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بِالْمَوْتِ.

وَفِي بَعْضِ تِلْكَ الْأُمُورِ خِلَافٌ يُرْجَعُ تَفْصِيلُهُ إِلَى مُصْطَلَحِ (جِزْيَة ف 69- 79).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


75-موسوعة الفقه الكويتية (سلام 1)

سَلَام -1

التَّعْرِيفُ:

1- السَّلَامُ- بِفَتْحِ السِّينِ- اسْمُ مَصْدَرِ سَلَّمَ؛ أَيْ: أَلْقَى السَّلَامَ، وَمِنْ مَعَانِي السَّلَامِ السَّلَامَةُ وَالْأَمْنُ وَالتَّحِيَّةُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْجَنَّةِ: دَارُ السَّلَامِ لِأَنَّهَا دَارُ السَّلَامَةِ مِنَ الْآفَاتِ كَالْهَرَمِ وَالْأَسْقَامِ وَالْمَوْتِ.قَالَ تَعَالَى: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ}.

وَالسَّلَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى.

2- وَالسَّلَامُ يُطْلَقُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أُمُورٍ:

مِنْهَا: التَّحِيَّةُ الَّتِي يُحَيِّي بِهَا الْمُسْلِمُونَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا، وَاَلَّتِي أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَا فِي كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (({فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِمُبَارَكَةً طَيْبَةً} ذَلِكَ أَنَّ لِلْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ تَحِيَّاتٍ خَاصَّةً بِهِمْ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ دَعَا الْمُؤْمِنِينَ إِلَى التَّحِيَّةِ الْخَاصَّةِ، وَهِيَ قَوْلُ: (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ)، وَقَصَرَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُمْ بِإِفْشَائِهِ.

وَالسَّلَامُ أَيْضًا تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ.قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَّرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}.

وَقَدِ اخْتِيرَ هَذَا اللَّفْظُ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الدُّعَاءُ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْآفَاتِ فِي الدِّينِ وَالنَّفْسِ؛ وَلِأَنَّ فِي تَحِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِهَذَا اللَّفْظِ عَهْدًا بَيْنَهُمْ عَلَى صِيَانَةِ دِمَائِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّحِيَّةُ:

3- التَّحِيَّةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ حَيَّاهُ يُحَيِّيهِ تَحِيَّةً، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ بِالْحَيَاةِ، وَمِنْهُ (التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ).أَيْ: الْبَقَاءُ، وَقِيلَ: الْمُلْكُ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اسْتُعْمِلَ فِي مَا يُحَيَّا بِهِ مِنْ سَلَامٍ وَنَحْوِهِ.فَهِيَ أَعَمُّ مِنَ السَّلَامِ فَتَشْمَلُ السَّلَامَ وَالتَّقْبِيلَ وَالْمُصَافَحَةَ وَالْمُعَانَقَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ عَلَى مَا سَيَأْتِي.

ب- التَّقْبِيلُ:

4- التَّقْبِيلُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ قَبَّلَ، وَالِاسْمُ مِنْهُ الْقُبْلَةُ، وَالْجَمْعُ الْقُبَلُ.وَالتَّقْبِيلُ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ التَّحِيَّةِ.

ج- الْمُصَافَحَةُ:

5- الْمُصَافَحَةُ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ: الْإِفْضَاءُ بِالْيَدِ إِلَى الْيَدِ، وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ الْمُصَافَحَةَ إِلْصَاقُ صَفْحَةِ الْكَفِّ بِالْكَفِّ، وَإِقْبَالُ الْوَجْهِ بِالْوَجْهِ.فَأَخْذُ الْأَصَابِعِ لَيْسَ بِمُصَافَحَةٍ، خِلَافًا لِلرَّوَافِضِ.وَالسُّنَّةُ أَنْ تَكُونَ بِكِلْتَا يَدَيْهِ بِغَيْرِ حَائِلٍ، مِنْ ثَوْبٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَعِنْدَ اللِّقَاءِ وَبَعْدَ السَّلَامِ، وَأَنْ يَأْخُذَ الْإِبْهَامَ، فَإِنَّ فِيهِ عِرْقًا يُنْبِتُ الْمَحَبَّةَ، وَقَدْ تَحْرُمُ كَمُصَافَحَةِ الْأَمْرَدِ.وَقَدْ تُكْرَهُ كَمُصَافَحَةِ ذِي عَاهَةٍ، مِنْ بَرَصٍ وَجُذَامٍ، وَتُسَنُّ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ خُصُوصًا لِنَحْوِ قُدُومِ سَفَرٍ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مُصَافَحَة).

د- الْمُعَانَقَةُ:

6- الْمُعَانَقَةُ فِي اللُّغَةِ: الضَّمُّ وَالِالْتِزَامُ وَاعْتَنَقْتُ الْأَمْرَ: أَخَذْتُهُ بِجَدٍّ.وَذَكَرَ صَاحِبُ الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي أَنَّ الْمُعَانَقَةَ هِيَ جَعْلُ الرَّجُلِ عُنُقَهُ عَلَى عُنُقِ صَاحِبِهِ.

وَقَدْ كَرِهَهَا مَالِكٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ لِأَنَّهَا مِنْ فِعْلِ الْأَعَاجِمِ.

قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ: كَرِهَ مَالِكٌ الْمُعَانَقَةَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ فَعَلَهَا إِلاَّ مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا رَجَعَ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَلَمْ يَصْحَبْهَا الْعَمَلُ مِنَ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ.

وَأَمَّا غَيْرُ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ، كَالْحَنَابِلَةِ فَقَالُوا بِجَوَازِهَا، فَفِي الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ لِابْنِ مُفْلِحٍ إِبَاحَةُ الْمُعَانَقَةِ.وَمِثْلُهَا تَقْبِيلُ الْيَدِ وَالرَّأْسِ تَدَيُّنًا وَإِكْرَامًا وَاحْتِرَامًا مَعَ أَمْنِ الشَّهْوَةِ؛ لِحَدِيثِ «أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَانَقَهُ».قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الرَّجُلِ يَلْقَى الرَّجُلَ، يُعَانِقُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ فَعَلَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ.

وَمُعَانَقَةُ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالْأَمْرَدِ حَرَامٌ، كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَمُعَانَقَةُ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ مَكْرُوهَةٌ فِي الصَّوْمِ، وَكَذَا مُعَانَقَةُ ذَوِي الْعَاهَاتِ مِنْ بَرَصٍ وَجُذَامٍ؛ أَيْ: مَكْرُوهَةٌ.وَأَمَّا الْمُعَانَقَةُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ، كَمُعَانَقَةِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ فَهِيَ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ خَاصَّةً عِنْدَ الْقُدُومِ مِنَ السَّفَرِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحِ (مُعَانَقَة).

صِيغَةُ السَّلَامِ وَصِيغَةُ الرَّدِّ:

7- صِيغَةُ السَّلَامِ وَصِفَتُهُ الْكَامِلَةُ أَنْ يَقُولَ الْمُسْلِمُ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» بِالتَّعْرِيفِ وَبِالْجَمْعِ.سَوَاءٌ كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ مَعَهُ الْحَفَظَةُ كَالْجَمْعِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ وَهَذِهِ الصِّيغَةُ هِيَ الْمَرْوِيَّةُ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَعَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ.وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، بِالتَّنْكِيرِ، إِلاَّ أَنَّ التَّعْرِيفَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ تَحِيَّةُ أَهْلِ الدُّنْيَا.فَأَمَّا «سَلَامٌ» بِالتَّنْكِيرِ فَتَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ.كَمَا فِي قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}.

8- وَالْأَكْمَلُ أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، بِتَأْخِيرِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، فَلَوْ قَالَ: عَلَيْكُمُ السَّلَامُ، أَوْ: عَلَيْكَ السَّلَامُ، كَانَ مُخَالِفًا لِلْأَكْمَلِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ «جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: لَا تَقُلْ عَلَيْكَ السَّلَامُ، فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ وَلَكِنْ قُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكَ» قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَمَّا جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ بِتَقْدِيمِ اسْمِ الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ فِي الشَّرِّ كَقَوْلِهِمْ (عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَغَضَبُ اللَّهِ) نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، لَا أَنَّ ذَاكَ هُوَ اللَّفْظُ الْمَشْرُوعُ فِي حَقِّ الْمَوْتَى؛ لِأَنَّهُ- عليه السلام- ثَبَتَ عَنْهُ «أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى الْمَوْتَى، كَمَا سَلَّمَ عَلَى الْأَحْيَاءِ فَقَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ».

وَهَذَا لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيمِ، بَلْ هُوَ خِلَافُ الْأَكْمَلِ أَوْ مَكْرُوهٌ كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ.وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَيَجِبُ رَدُّ السَّلَامِ.

ثُمَّ إِنَّ أَكْثَرَ مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْبَرَكَةِ فَتَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَجُلًا سَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ عُرْوَةُ: مَا تَرَكَ لَنَا فَضْلًا، إِنَّ السَّلَامَ قَدِ انْتَهَى إِلَى: وَبَرَكَاتُهُ.وَذَلِكَ كَمَا فِي رُوحُ الْمَعَانِي؛ لِانْتِظَامِ تِلْكَ التَّحِيَّةِ لِجَمِيعِ فُنُونِ الْمَطَالِبِ الَّتِي هِيَ السَّلَامَةُ عَنِ الْمَضَارِّ، وَنَيْلُ الْمَنَافِعِ وَدَوَامُهَا وَنَمَاؤُهَا.

وَقِيلَ: يَزِيدُ الْمُحَيَّى إِذَا جَمَعَ الْمُحَيِّي الثَّلَاثَةَ لَهُ وَهِيَ السَّلَامُ وَالرَّحْمَةُ وَالْبَرَكَةُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ سَالِمٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهم- جَمِيعًا قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَدَّ زَادَ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ أَتَيْتُهُ مَرَّةً أُخْرَى فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَبَرَكَاتُهُ وَطَيِّبُ صَلَوَاتِهِ.وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا ذُكِرَ لِلزِّيَادَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ زِيَادَةُ: وَمَغْفِرَتُهُ.

صِيغَةُ رَدِّ السَّلَامِ:

9- صِيغَةُ الرَّدِّ أَنْ يَقُولَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ (وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ) بِتَقْدِيمِ الْخَبَرِ وَبِالْوَاوِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ.بِتَنْكِيرِ السَّلَامِ وَتَقْدِيمِهِ، وَبِدُونِ وَاوٍ، لَكِنِ الْأَفْضَلُ بِالْوَاوِ لِصَيْرُورَةِ الْكَلَامِ بِهَا جُمْلَتَيْنِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: عَلَيَّ السَّلَامُ وَعَلَيْكُمْ، فَيَصِيرُ الرَّادُّ مُسَلِّمًا عَلَى نَفْسِهِ مَرَّتَيْنِ: الْأُولَى مِنَ الْمُبْتَدِئِ وَالثَّانِيَةُ مِنْ نَفْسِ الرَّادِّ، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَرَكَ الْوَاوَ، فَإِنَّ الْكَلَامَ حِينَئِذٍ يَصِيرُ جُمْلَةً وَاحِدَةً تَخُصُّ الْمُسَلِّمَ وَحْدَهُ.

وَالْأَصْلُ فِي صِيغَةِ الرَّدِّ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى الْبَرَكَةِ فَتَقُولُ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَإِذَا قَالَ الْمُسَلِّمُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ تَكُونُ وَاجِبَةً، فَلَوِ اقْتَصَرَ الْمُسَلِّمُ عَلَى لَفْظِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُسْتَحَبَّةً لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}.

السَّلَامُ أَوْ رَدُّهُ بِالْإِشَارَةِ:

10- يُكْرَهُ السَّلَامُ أَوْ رَدُّهُ بِالْإِشَارَةِ بِالرَّدِّ بِالْيَدِ أَوْ بِالرَّأْسِ بِغَيْرِ نُطْقٍ بِالسَّلَامِ مَعَ الْقُدْرَةِ وَقُرْبِ الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ أَهْلِ الْكِتَابِ: الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا، لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَلَا بِالنَّصَارَى، فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْيَهُودِ الْإِشَارَةُ بِالْأَصَابِعِ، وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الْإِشَارَةُ بِالْأَكُفِّ».فَإِنْ كَانَتِ الْإِشَارَةُ مَقْرُونَةً بِالنُّطْقِ، بِحَيْثُ وَقَعَ التَّسْلِيمُ أَوِ الرَّدُّ بِاللِّسَانِ مَعَ الْإِشَارَةِ، أَوْ كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ بَعِيدًا عَنِ الْمُسَلِّمِ، بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ فَيُشِيرُ إِلَيْهِ بِالسَّلَامِ بِيَدِهِ أَوْ رَأْسِهِ لِيُعْلِمَهُ أَنَّهُ يُسَلِّمُ، فَلَا كَرَاهَةَ. وَتَكْفِي الْإِشَارَةُ فِي السَّلَامِ عَلَى أَصَمَّ أَوْ أَخْرَسَ، أَوِ الرَّدِّ عَلَى سَلَامِهِ، خِلَافًا لِمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ عَنِ الْمُتَوَلِّي حَيْثُ قَالَ: إِذَا سَلَّمَ عَلَى أَصَمَّ لَا يَسْمَعُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَلَفَّظَ بِلَفْظِ السَّلَامِ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَيُشِيرُ بِالْيَدِ حَتَّى يَحْصُلَ الْإِفْهَامُ وَيَسْتَحِقَّ الْجَوَابَ، فَلَوْ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا لَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ قَالَ: وَكَذَا لَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَصَمُّ وَأَرَادَ الرَّدَّ فَيَتَلَفَّظُ بِاللِّسَانِ وَيُشِيرُ بِالْجَوَابِ لِيَحْصُلَ بِهِ الْإِفْهَامُ وَيَسْقُطَ عَنْهُ فَرْضُ الْجَوَابِ.قَالَ: وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى أَخْرَسَ فَأَشَارَ الْأَخْرَسُ بِالْيَدِ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ؛ لِأَنَّ إِشَارَتَهُ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْعِبَارَةِ.وَكَذَا لَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَخْرَسُ بِالْإِشَارَةِ يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ مَعَ الْعِبَارَةِ.

السَّلَامُ بِوَسَاطَةِ الرَّسُولِ أَوِ الْكِتَابِ:

11- السَّلَامُ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ أَوِ الْكِتَابِ كَالسَّلَامِ مُشَافَهَةً، فَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي كِتَابِهِ الْأَذْكَارِ عَنْ أَبِي سَعْدٍ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرِهِ فِيمَا إِذَا نَادَى إِنْسَانٌ إِنْسَانًا مِنْ خَلْفِ سِتْرٍ أَوْ حَائِطٍ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا فُلَانُ، أَوْ كَتَبَ كِتَابًا فِيهِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا فُلَانُ، أَوِ: السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ، أَوْ: أَرْسَلَ رَسُولًا وَقَالَ: سَلِّمْ عَلَى فُلَانٍ، فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ أَوِ الرَّسُولُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ السَّلَامَ.صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَذَا الرَّدُّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ، وَكَذَا لَوْ بَلَغَهُ سَلَامٌ فِي وَرَقَةٍ مِنْ غَائِبٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ السَّلَامَ بِاللَّفْظِ عَلَى الْفَوْرِ إِذَا قَرَأَهُ.

وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلَامَ، قَالَتْ: قُلْتُ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ».وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الْمُبَلِّغِ أَيْضًا بِأَنْ يَقُولَ: وَعَلَيْكَ وَعَلَيْهِ السَّلَامُ.

السَّلَامُ وَرَدُّهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ:

12- السَّلَامُ وَرَدُّهُ بِالْعَجَمِيَّةِ كَالسَّلَامِ وَرَدِّهِ بِالْعَرَبِيَّةِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ السَّلَامِ التَّأْمِينُ وَالدُّعَاءُ بِالسَّلَامَةِ وَالتَّحِيَّةُ، فَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، كَمَا يَحْصُلُ بِهَا.وَهَذَا فِي السَّلَامِ خَارِجَ الصَّلَاةِ، إِذِ السَّلَامُ فِي الصَّلَاةِ لَا يُجْزِئُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى قَوْلٍ.وَلَا يَكْفِيهِ الْخُرُوجُ مِنْهَا بِالنِّيَّةِ.فَإِنْ أَتَى بِالسَّلَامِ بِالْعَجَمِيَّةِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَبْطُلُ عَلَى قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَاسْتَظْهَرَ بَعْضُ أَشْيَاخِهِمُ الصِّحَّةَ قِيَاسًا عَلَى الدُّعَاءِ بِالْعَجَمِيَّةِ لِلْقَادِرِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ.هَذَا وَجَمِيعُ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ تَصِحُّ بِالْعَجَمِيَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُطْلَقًا خِلَافًا لِلصَّاحِبَيْنِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُذْكَرُ فِي (صَلَاة).

حُكْمُ الْبَدْءِ بِالسَّلَامِ وَحُكْمُ الرَّدِّ:

13- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السَّلَامَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهُوَ سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إِنْ كَانَ الْمُسَلِّمُونَ جَمَاعَةً بِحَيْثُ يَكْفِي سَلَامُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَوْ سَلَّمُوا كُلُّهُمْ كَانَ أَفْضَلَ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلٌ مُقَابِلٌ لِلْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ- إِلَى أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالسَّلَامِ وَاجِبٌ.لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ، قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ».

14- وَأَمَّا رَدُّ السَّلَامِ فَإِنْ كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الرَّدُّ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً كَانَ رَدُّ السَّلَامِ فَرْضَ كِفَايَةٍ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ رَدَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنْ تَرَكُوهُ كُلُّهُمْ أَثِمُوا كُلُّهُمْ، وَإِنْ رَدُّوا كُلُّهُمْ فَهُوَ النِّهَايَةُ فِي الْكَمَالِ وَالْفَضِيلَةِ، فَلَوْ رَدَّ غَيْرُهُمْ لَمْ يَسْقُطِ الرَّدُّ عَنْهُمْ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرُدُّوا، فَإِنِ اقْتَصَرُوا عَلَى رَدِّ ذَلِكَ الْأَجْنَبِيِّ أَثِمُوا.

هَذَا وَالْأَمْرُ بِالسَّلَامِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِفِعْلِ الصَّحَابَةِ، فَمِنَ الْكِتَابِ قوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِمُبَارَكَةً طَيِّبَةً} وقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}.

وَمِنَ السُّنَّةِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- رضي الله عنهما- «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: تُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَعَلَى مَنْ لَمْ تَعْرِفْ».

وَمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ- نَفَرٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ جُلُوسٍ- فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللَّهِ».

وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عِمَارَةَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِسَبْعٍ: بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَنَصْرِ الضَّعِيفِ، وَعَوْنِ الْمَظْلُومِ، وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ».وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «يُجْزِئُ عَنِ الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ، وَيُجْزِئُ عَنِ الْجُلُوسِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ».

وَمِنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ مَا رُوِيَ عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَيَغْدُو مَعَهُ إِلَى السُّوقِ قَالَ: فَإِذَا غَدَوْنَا إِلَى السُّوقِ لَمْ يَمُرَّ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى سِقَاطٍ، وَلَا صَاحِبِ بَيْعَةٍ، وَلَا مِسْكِينٍ، وَلَا أَحَدٍ، إِلاَّ سَلَّمَ عَلَيْهِ، قَالَ الطُّفَيْلُ: فَجِئْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَوْمًا فَاسْتَتْبَعَنِي إِلَى السُّوقِ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا تَصْنَعُ بِالسُّوقِ وَأَنْتَ لَا تَقِفُ عَلَى الْبَيْعِ، وَلَا تَسْأَلُ عَنِ السِّلَعِ، وَلَا تَسُومُ بِهَا، وَلَا تَجْلِسُ فِي مَجَالِسِ السُّوقِ؟ وَأَقُولُ: اجْلِسْ بِنَا هَاهُنَا نَتَحَدَّثُ، فَقَالَ: يَا أَبْطَنُ- وَكَانَ الطُّفَيْلُ ذَا بَطْنٍ- إِنَّمَا نَغْدُو مِنْ أَجَلِ السَّلَامِ، نُسَلِّمُ عَلَى مَنْ لَقِينَاهُ.

وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمِ السَّلَامِ وَالرَّدِّ خَاصٌّ بِالْمُسَلِّمِ الَّذِي لَمْ يَنْشَغِلْ بِالْأَذَانِ أَوِ الصَّلَاةِ أَوْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوْ بِتَلْبِيَةِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ بِالْأَكْلِ أَوْ بِالشُّرْبِ، أَوْ قَضَاءِ حَاجَةٍ وَغَيْرِهَا، إِذِ السَّلَامُ عَلَى الْمُنْشَغِلِ بِمَا ذُكِرَ لَيْسَ كَالسَّلَامِ عَلَى غَيْرِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَا يَلِي:

أ- السَّلَامُ عَلَى مَنْ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ:

15- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ حُكْمَ رَدِّ السَّلَامِ مِنَ الْمُؤَذِّنِ الْكَرَاهَةُ؛ لِأَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ جُمَلِ الْأَذَانِ عِنْدَهُمْ مَكْرُوهَةٌ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْفَصْلُ بِإِشَارَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ، فَلَهُ الرَّدُّ بِالْإِشَارَةِ، وَيُكْرَهُ السَّلَامُ أَيْضًا عِنْدَهُمْ عَلَى الْمُلَبِّي بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ لِنَفْسِ الْعِلَّةِ.

وَيُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ السَّلَامُ عَلَى الْمُؤَذِّنِ وَالْمُقِيمِ لِانْشِغَالِهِمْ بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُسَنُّ السَّلَامُ عَلَى مَنْ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ، بَلْ يَجُوزُ بِالْكَلَامِ وَلَا يُبْطِلُ الْأَذَانَ أَوِ الْإِقَامَةَ.

ب- السَّلَامُ عَلَى الْمُصَلِّي وَرَدُّهُ السَّلَامَ:

16- السَّلَامُ عَلَى الْمُصَلِّي سُنَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنِ الرَّجُلِ يَدْخُلُ عَلَى الْقَوْمِ وَهُمْ يُصَلُّونَ أَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ.وَأَمَّا رَدُّ السَّلَامِ مِنَ الْمُصَلِّي فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ- كَمَا فِي الْهِدَايَةِ- أَنْ لَا يَرُدَّ السَّلَامَ بِلِسَانِهِ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ، وَلَا بِيَدِهِ؛ لِأَنَّهُ سَلَامٌ مَعْنًى، حَتَّى لَوْ صَافَحَ بِنِيَّةِ التَّسْلِيمِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ.

وَذَكَرَ صَاحِبُ فَتْحِ الْقَدِيرِ أَنَّ رَدَّ الْمُصَلِّي السَّلَامَ بِالْإِشَارَةِ مَكْرُوهٌ وَبِالْمُصَافَحَةِ مُفْسِدٌ.ثُمَّ إِنَّ الْمُصَلِّيَ لَا يَلْزَمُهُ رَدُّ السَّلَامِ لَفْظًا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، بَلْ يَرُدُّ فِي نَفْسِهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّهُ يَرُدُّ بَعْدَ الْفَرَاغِ، إِلاَّ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ قَالَ: تَأْوِيلُهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ.

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَرُدُّ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَرُدُّ، لَا قَبْلَ الْفَرَاغِ وَلَا بَعْدَهُ فِي نَفْسِهِ.

وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَا يَرُدُّ السَّلَامَ بِاللَّفْظِ، فَإِنْ رَدَّ عَمْدًا أَوْ جَهْلًا بَطَلَ.وَرَدُّهُ بِاللَّفْظِ سَهْوًا يَقْتَضِي سُجُودَ السَّهْوِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ السَّلَامَ بِالْإِشَارَةِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ وُجُوبِ الرَّدِّ عَلَيْهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ رَدَّ الْمُصَلِّي السَّلَامَ بِالْكَلَامِ عَمْدًا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ.

وَرَدُّ الْمُصَلِّي السَّلَامَ بِالْإِشَارَةِ مَشْرُوعٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَأَمَّا ابْتِدَاءُ الْمُصَلِّي السَّلَامَ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ بِالْإِشَارَةِ بِيَدٍ أَوْ رَأْسٍ فَيَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَطْ، وَلَا يَلْزَمُهُ السُّجُودُ لِذَلِكَ.

ج- السَّلَامُ عَلَى الْمُنْشَغِلِ بِالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالتَّلْبِيَةِ وَالْأَكْلِ، وَعَلَى قَاضِي الْحَاجَةِ وَعَلَى مَنْ فِي الْحَمَّامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

17- الْأَوْلَى تَرْكُ السَّلَامِ عَلَى الْمُنْشَغِلِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَإِنْ سَلَّمَ كَفَاهُ الرَّدُّ بِالْإِشَارَةِ، وَإِنْ رَدَّ بِاللَّفْظِ اسْتَأْنَفَ الِاسْتِعَاذَةَ ثُمَّ يَقْرَأُ، وَاخْتَارَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ لَفْظًا.

وَأَمَّا السَّلَامُ عَلَى الْمُنْشَغِلِ بِالذِّكْرِ مِنْ دُعَاءٍ وَتَدَبُّرٍ فَهُوَ كَالسَّلَامِ عَلَى الْمُنْشَغِلِ بِالْقِرَاءَةِ، وَالْأَظْهَرُ كَمَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُسْتَغْرِقًا بِالدُّعَاءِ مُجْمِعَ الْقَلْبِ عَلَيْهِ فَالسَّلَامُ عَلَيْهِ مَكْرُوهٌ، لِلْمَشَقَّةِ الَّتِي تَلْحَقُهُ مِنَ الرَّدِّ، وَاَلَّتِي تَقْطَعُهُ عَنِ الِاسْتِغْرَاقِ بِالدُّعَاءِ، وَهِيَ أَكْثَرُ مِنَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي تَلْحَقُ الْآكِلَ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ وَرَدَّ فِي حَالِ أَكْلِهِ، وَأَمَّا الْمُلَبِّي فِي الْإِحْرَامِ فَيُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَيْهِ، وَلَوْ سَلَّمَ رَدَّ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ.

وَأَمَّا السَّلَامُ فِي حَالِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ فَيُكْرَهُ الِابْتِدَاءُ بِهِ لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالْإِنْصَاتِ لِلْخُطْبَةِ، فَإِنْ سَلَّمَ لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ لِتَقْصِيرِهِ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْإِنْصَاتُ وَاجِبًا لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ سُنَّةً رَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ.

وَلَا يُسَلِّمُ عَلَى مَنْ كَانَ مُنْشَغِلًا بِالْأَكْلِ وَاللُّقْمَةُ فِي فَمِهِ، فَإِنْ سَلَّمَ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْجَوَابَ، أَمَّا إِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبَلْعِ أَوْ قَبْلَ وَضْعِ اللُّقْمَةِ فِي فَمِهِ فَلَا يَتَوَجَّهُ الْمَنْعُ وَيَجِبُ الْجَوَابُ، وَيُسَلِّمُ فِي حَالِ الْبَيْعِ وَسَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ وَيَجِبُ الْجَوَابُ.

وَأَمَّا السَّلَامُ عَلَى قَاضِي الْحَاجَةِ وَنَحْوِهِ كَالْمُجَامِعِ وَعَلَى مَنْ فِي الْحَمَّامِ وَالنَّائِمِ وَالْغَائِبِ خَلْفَ جِدَارٍ، فَحُكْمُهُ الْكَرَاهَةُ.وَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْجَوَابَ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-.«أَنَّ رَجُلًا مَرَّ وَرَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَبُولُ، فَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ».

وَمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ رَجُلًا مَرَّ وَرَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَبُولُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا رَأَيْتَنِي عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ فَلَا تُسَلِّمْ عَلَيَّ.فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَمْ أَرُدَّ عَلَيْكَ».

وَأَمَّا حُكْمُ الرَّدِّ مِنْهُمْ فَهُوَ الْكَرَاهَةُ مِنْ قَاضِي الْحَاجَةِ وَالْمُجَامِعِ، وَأَمَّا مَنْ فِي الْحَمَّامِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ الرَّدُّ، كَمَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ.

أَحْكَامٌ أُخْرَى لِلسَّلَامِ:

السَّلَامُ عَلَى الصَّبِيِّ:

18- السَّلَامُ عَلَى الصَّبِيِّ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مَشْرُوعٌ، وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَذَكَرَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهُ جَائِزٌ لِتَأْدِيبِهِمْ، وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَصَاحِبُ عُيُونِ الْمَسَائِلِ وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ، لِمَا وَرَدَ عَنْ «أَنَسٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَفْعَلُهُ».

وَأَمَّا جَوَابُ السَّلَامِ مِنَ الصَّبِيِّ فَغَيْرُ وَاجِبٍ؛ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ، كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَيَسْقُطُ رَدُّ السَّلَامِ بِرَدِّهِ عَنِ الْبَاقِينَ إِنْ كَانَ عَاقِلًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفَرْضِ فِي الْجُمْلَةِ، بِدَلِيلِ حِلِّ ذَبِيحَتِهِ مَعَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ فِيهَا فَرْضٌ عِنْدَهُمْ.

وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا الأَُجْهُورِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّاشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، قِيَاسًا عَلَى أَذَانِهِ لِلرِّجَالِ.وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ سُقُوطِ فَرْضِ رَدِّ السَّلَامِ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِرَدِّ الصَّبِيِّ، وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي وَالْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَدْ تَوَقَّفَ فِي الِاكْتِفَاءِ بِرَدِّ الصَّبِيِّ عَنِ الْجَمَاعَةِ صَاحِبُ الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، حَيْثُ قَالَ: وَلَنَا فِيهِ وَقْفَةٌ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ فَرْضٌ عَلَى الْبَالِغِينَ، وَرَدُّ الصَّبِيِّ غَيْرُ فَرْضٍ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَكْفِي عَنِ الْفَرْضِ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ؟ فَلَعَلَّ الْأَظْهَرَ عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ بِرَدِّهِ عَنِ الْبَالِغِينَ.

ثُمَّ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَجْهَيْنِ فِي رَدِّ السَّلَامِ مِنَ الْبَالِغِ عَلَى سَلَامِ الصَّبِيِّ، بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ إِسْلَامِهِ- أَيْ الصَّبِيِّ- وَصَحَّحَ النَّوَوِيُّ وُجُوبَ الرَّدِّ.

السَّلَامُ عَلَى النِّسَاءِ:

19- سَلَامُ الْمَرْأَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ يُسَنُّ كَسَلَامِ الرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ، وَرَدُّ السَّلَامِ مِنَ الْمَرْأَةِ عَلَى مِثْلِهَا كَالرَّدِّ مِنَ الرَّجُلِ عَلَى سَلَامِ الرَّجُلِ.

وَأَمَّا سَلَامُ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ؛ فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ زَوْجَةً أَوْ أَمَةً أَوْ مِنَ الْمَحَارِمِ فَسَلَامُهُ عَلَيْهَا سُنَّةٌ، وَرَدُّ السَّلَامِ مِنْهَا عَلَيْهِ وَاجِبٌ، بَلْ يُسَنُّ أَنْ يُسَلِّمَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَمَحَارِمِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ أَجْنَبِيَّةً فَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا أَوِ امْرَأَةً لَا تُشْتَهَى فَالسَّلَامُ عَلَيْهَا سُنَّةٌ، وَرَدُّ السَّلَامِ مِنْهَا عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهَا لَفْظًا وَاجِبٌ.وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ شَابَّةً يُخْشَى الِافْتِتَانُ بِهَا، أَوْ يُخْشَى افْتِتَانُهَا هِيَ أَيْضًا بِمَنْ سَلَّمَ عَلَيْهَا فَالسَّلَامُ عَلَيْهَا وَجَوَابُ السَّلَامِ مِنْهَا حُكْمُهُ الْكَرَاهَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الرَّجُلَ يَرُدُّ عَلَى سَلَامِ الْمَرْأَةِ فِي نَفْسِهِ إِنْ سَلَّمَتْ هِيَ عَلَيْهِ، وَتَرُدُّ هِيَ أَيْضًا فِي نَفْسِهَا إِنْ سَلَّمَ هُوَ عَلَيْهَا، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِحُرْمَةِ رَدِّهَا عَلَيْهِ.

وَأَمَّا سَلَامُ الرَّجُلِ عَلَى جَمَاعَةِ النِّسَاءِ فَجَائِزٌ، وَكَذَا سَلَامُ الرِّجَالِ عَلَى الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ.وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ سَلَامِ الرَّجُلِ عَلَى جَمَاعَةِ النِّسَاءِ مَا رُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «مَرَّ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي نِسْوَةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا».

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ السَّلَامِ عَلَى الْمَرْأَةِ الْعَجُوزِ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ- رضي الله عنه- قَالَ: كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تُرْسِلُ إِلَيَّ بِضَاعَةَ نَخْلٍ بِالْمَدِينَةِ فَتَأْخُذُ مِنْ أُصُولِ السَّلْقِ فَتَطْرَحُهُ فِي قِدْرٍ، وَتُكَرْكِرُ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ، فَإِذَا صَلَّيْنَا الْجُمُعَةَ انْصَرَفْنَا وَنُسَلِّمُ عَلَيْهَا فَتُقَدِّمُهُ إِلَيْنَا وَمَعْنَى تُكَرْكِرُ؛ أَيْ: تَطْحَنُ.

السَّلَامُ عَلَى الْفُسَّاقِ وَأَرْبَابِ الْمَعَاصِي:

20- ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ السَّلَامَ عَلَى الْفَاسِقِ الْمُجَاهِرِ بِفِسْقِهِ مَكْرُوهٌ وَإِلاَّ فَلَا، وَمِثْلُ الْفَاسِقِ فِي هَذَا لَاعِبُ الْقِمَارِ وَشَارِبُ الْخَمْرِ وَمُطَيِّرُ الْحَمَامِ وَالْمُغَنِّي وَالْمُغْتَابُ حَالَ تَلَبُّسِهِمْ بِذَلِكَ، نُقِلَ عَنْ فُصُولِ الْعَلاَّمِيِّ أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ، وَيُسَلِّمُ عَلَى قَوْمٍ فِي مَعْصِيَةٍ وَعَلَى مَنْ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ نَاوِيًا أَنْ يُشْغِلَهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكُرِهَ عِنْدَهُمَا تَحْقِيرًا لَهُمَا.

وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مَكْرُوهٌ، كَابْتِدَائِهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.

وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ وَجْهَيْنِ فِي اسْتِحْبَابِ السَّلَامِ عَلَى الْفُسَّاقِ وَفِي وُجُوبِ الرَّدِّ عَلَى الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ إِذَا سَلَّمَا.وَذَكَرَ فِي الْأَذْكَارِ أَنَّ الْمُبْتَدِعَ وَمَنِ اقْتَرَفَ ذَنْبًا عَظِيمًا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَلَا يُرَدَّ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.

مُحْتَجًّا بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ قِصَّةِ «كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ- رضي الله عنه- حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ هُوَ وَرَفِيقَانِ لَهُ فَقَالَ: وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ كَلَامِنَا.قَالَ: وَكُنْتُ آتِي رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَأَقُولُ: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ أَمْ لَا؟» وَبِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: (لَا تُسَلِّمُوا عَلَى شُرَّابِ الْخَمْرِ).

قَالَ النَّوَوِيُّ: فَإِنِ اضْطُرَّ إِلَى السَّلَامِ عَلَى الظَّلَمَةِ، بِأَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ وَخَافَ تَرَتُّبَ مَفْسَدَةٍ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ أَوْ غَيْرِهِمَا إِنْ لَمْ يُسَلِّمْ، سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَذَكَرَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ يُسَلِّمُ وَيَنْوِي أَنَّ السَّلَامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ الْمَعْنَى اللَّهُ عَلَيْكُمْ رَقِيبٌ.

وَذَكَرَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى مَنْ يَلْعَبُ النَّرْدَ أَوِ الشِّطْرَنْجَ، وَكَذَا مُجَالَسَتُهُ لِإِظْهَارِهِ الْمَعْصِيَةَ، وَقَالَ أَحْمَدُ فِيمَنْ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ: مَا هُوَ أَهْلٌ أَنْ يُسَلَّمَ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يُسَلَّمُ عَلَى الْمُتَلَبِّسِينَ بِالْمَعَاصِي، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ إِنْ سَلَّمُوا إِلاَّ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ انْزِجَارُهُمْ بِتَرْكِ الرَّدِّ.

قَالَ أَبُو دَاوُدَ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: أَمُرُّ بِالْقَوْمِ يَتَقَاذَفُونَ، أُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ سُفَهَاءُ، وَالسَّلَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، قُلْتُ لِأَحْمَدَ: أُسَلِّمُ عَلَى الْمُخَنَّثِ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، السَّلَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ جَلَّ.

وَأَمَّا رَدُّ السَّلَامِ عَلَى الْفَاسِقِ أَوِ الْمُبْتَدِعِ فَلَا يَجِبُ زَجْرًا لَهُمَا كَمَا فِي رُوحِ الْمَعَانِي.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


76-موسوعة الفقه الكويتية (سن)

سِنّ

التَّعْرِيفُ:

1- السِّنُّ لُغَةً: وَاحِدَةُ الْأَسْنَانِ، وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَظْمِ تَنْبُتُ فِي الْفَكِّ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، يُقَالُ: هَذِهِ سِنٌّ، وَجَمْعُهَا: أَسْنَانٌ.

وَلِلْإِنْسَانِ اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ سِنًّا أَرْبَعُ ثَنَايَا، وَأَرْبَعُ رَبَاعِيَاتٍ، وَأَرْبَعَةُ أَنْيَابٍ، وَأَرْبَعَةُ نَوَاجِذَ، وَسِتَّةَ عَشَرَ ضِرْسًا.

وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: أَرْبَعُ ثَنَايَا، وَأَرْبَعُ رَبَاعِيَاتٍ، وَأَرْبَعُ أَنْيَابٍ، وَأَرْبَعَةُ نَوَاجِذَ، وَأَرْبَعُ ضَوَاحِكَ وَاثْنَتَا عَشْرَةَ رَحًى.

وَبَعْضُهُمْ يُقَسِّمُ الْأَسْنَانَ إِلَى قَوَاطِعَ وَضَوَاحِكَ وَطَوَاحِنَ.

وَالسِّنُّ مِنَ الشَّيْءِ: كُلُّ جُزْءٍ مُسَنَّنٌ مُحَدَّدٌ عَلَى هَيْئَتِهَا مِثْلُ سِنِّ الْمُشْطِ، أَوِ الْمِنْجَلِ، أَوِ الْمِنْشَارِ، أَوِ الْمِفْتَاحِ، أَوِ الْقَلَمِ، وَأَسَنَّ فُلَانٌ: إِذَا نَبَتَ سِنُّهُ أَوْ كَبِرَتْ سِنُّهُ؛ أَيْ عُمْرُهُ، وَسَنَّنَ الرَّجُلَ؛ أَيْ قَدَّرَ لَهُ عُمْرًا بِالتَّخْمِينِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ سِنُّ فُلَانٍ: إِذَا كَانَ مِثْلَهُ فِي السِّنِّ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسِّنِّ:

أ- الْقِصَاصُ فِي قَلْعِ السِّنِّ:

2- أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ إِذَا كَانَ مُتَعَمَّدًا لقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} الْآيَةَ، وَلِحَدِيثِ أَنَسٍ- رضي الله عنه-: إِنَّ عَمَّتَهُ «الرُّبَيِّعَ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَضَى نَبِيُّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ لَا وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا.قَالَ: وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ سَأَلُوا أَهْلَهَا الْعَفْوَ وَالْأَرْشَ، فَلَمَّا حَلَفَ أَخُوهَا وَهُوَ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ الْقَوْمُ بِالْعَفْوِ فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ».

وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَ فِي السِّنِّ اسْتِيفَاءُ الْمُمَاثَلَةِ، لِكَوْنِهَا مَحْدُودَةً فِي نَفْسِهَا، فَوَجَبَ فِيهَا الْقِصَاصُ.

فَتُؤْخَذُ السِّنُّ الصَّحِيحَةُ بِالسِّنِّ الصَّحِيحَةِ، وَالْمَكْسُورَةُ أَوِ السَّوْدَاءُ أَوِ الصَّفْرَاءُ أَوِ الْحَمْرَاءُ أَوِ الْخَضْرَاءُ بِالصَّحِيحَةِ، إِنْ شَاءَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَيْبُ فِي سِنِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَلَا قِصَاصَ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ، وَيَنْتَقِلُ إِلَى الْأَرْشِ كَمَا يَأْتِي.

وَتُؤْخَذُ الْعُلْيَا بِالْعُلْيَا وَالسُّفْلَى بِالسُّفْلَى وَالثَّنِيَّةُ بِالثَّنِيَّةِ وَالنَّابُ بِالنَّابِ وَالضَّاحِكُ بِالضَّاحِكِ، وَالضِّرْسُ بِالضِّرْسِ؛ لِتَحَقُّقِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْمَكَانِ، وَلَا يُؤْخَذُ الْأَعْلَى بِالْأَسْفَلِ، وَلَا الْأَسْفَلُ بِالْأَعْلَى؛ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْمَكَانِ.

وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يَرَى قَلْعَ سِنِّ الْجَانِي الَّذِي قَلَعَ سِنَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِإِمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ بِلَا حَيْفٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْلَعُ سِنُّ الْجَانِي، وَإِنَّمَا تُبْرَدُ إِلَى اللَّحْمِ، وَيُكْسَرُ مَا ظَهَرَ مِنَ السِّنِّ وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنِ الْجُزْءِ الدَّاخِلِ فِي اللِّثَةِ؛ لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ إِذْ رُبَّمَا تَفْسُدُ اللِّثَةُ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ فِيهِ أَنْ يَفْعَلَ الْمَقْلُوعُ أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلَ الْقَالِعُ.

وَنُقِلَ عَنِ الْمَقْدِسِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلُهُ: يَنْبَغِي اخْتِيَارُ الْبَرْدِ خُصُوصًا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْقَلْعِ كَمَا لَوْ كَانَتْ أَسْنَانُهُ غَيْرَ مُفَلَّجَةٍ، بِحَيْثُ يَخَافُ مِنْ قَلْعِ وَاحِدٍ أَنْ يَتْبَعَهُ غَيْرُهُ، أَوْ أَنْ تَفْسُدَ اللِّثَةُ.وَقَالَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ هَذَا الرَّأْيَ هُوَ الْمُفْتَى بِهِ.

وَمِثْلُ الْقَلْعِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِذَا اضْطَرَبَتِ السِّنُّ اضْطِرَابًا شَدِيدًا جِدًّا، حَتَّى وَإِنْ ثَبَتَتْ أَوْ نَبَتَتْ مِنْ مَكَانِهَا أُخْرَى أَوْ رَدَّ الْمَقْلُوعَةَ فَنَبَتَتْ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ يَوْمُ الْجِنَايَةِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقِصَاصِ إيلَامُ الْجَانِي لِرَدْعِهِ وَرَدْعِ أَمْثَالِهِ.

ب- الْقِصَاصُ بِكَسْرِ السِّنِّ:

3- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِ وَتُسْتَوْفَى بِالتَّبْرِيدِ فَيُؤْخَذُ النِّصْفُ بِالنِّصْفِ، وَالثُّلُثُ بِالثُّلُثِ، وَكُلُّ جُزْءٍ بِمِثْلِهِ.وَلَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ بِالْمِسَاحَةِ كَيْ لَا يُفْضِيَ إِلَى أَخْذِ جَمِيعِ سِنِّ الْجَانِي بِبَعْضِ سِنِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ.وَيَكُونُ الْقِصَاصُ بِالْمِبْرَدِ لِيُؤْمَنَ أَخْذُ الزِّيَادَةِ، وَلَا يُقْتَصُّ حَتَّى يَقُولَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: إِنَّهُ تُؤْمَنُ انْقِلَاعُهَا أَوِ السَّوَادُ فِيهَا؛ لِأَنَّ تَوَهُّمَ الزِّيَادَةِ يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، وَدَلِيلُهُمْ حَدِيثُ «الرُّبَيِّعِ فَإِنَّهَا كَسَرَتْ سِنَّ جَارِيَةٍ فَأَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِالْقِصَاصِ»؛ وَلِأَنَّ مَا جَرَى الْقِصَاصُ فِي جُمْلَتِهِ جَرَى فِي بَعْضِهِ إِذَا أَمْكَنَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي كَسْرِ السِّنِّ؛ لِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِالْمُمَاثَلَةِ؛ لِأَنَّ الْكَسْرَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الضَّبْطِ، فَإِنْ أَمْكَنَ دُخُولُهُ تَحْتَ الضَّبْطِ وَجَبَ الْقِصَاصُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ- رحمه الله- (-: وَإِذَا كَسَرَ رَجُلٌ سِنَّ رَجُلٍ مِنْ نِصْفِهَا سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَإِنْ قَالُوا: نَقْدِرُ عَلَى كَسْرِهَا مِنْ نِصْفِهَا بِلَا إِتْلَافٍ لِبَقِيَّتِهَا وَلَا صَدْعٍ، أَقْرَرْتُهُ، وَإِنْ قَالُوا: لَا نَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، لَمْ نُقِرُّهُ لِتَفَتُّتِهَا.

ج- قَلْعُ سِنِّ مَنْ لَمْ يُثْغِرْ:

4- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ إِلاَّ مِنْ سِنِّ مَنْ أَثْغَرَ؛ أَيْ: سَقَطَتْ رَوَاضِعُهُ ثُمَّ نَبَتَتْ.

أَمَّا إِذَا قَلَعَ سِنَّ مَنْ لَمْ يُثْغِرْ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْجَانِي فِي الْحَالِ بِقِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ إِتْلَافُهَا حَيْثُ إِنَّهَا قَدْ تَعُودُ غَالِبًا بِحُكْمِ الْعَادَةِ.

فَإِنْ جَاءَ وَقْتُ نَبَاتِهَا ثُمَّ نَبَتَتْ سَلِيمَةً فِي مَحَلِّهَا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْجَانِي؛ أَيْ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ كَمَا لَوْ قَلَعَ شَعْرَةً ثُمَّ نَبَتَتْ.إِلاَّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَرَى وُجُوبَ حُكُومَةٍ لِلْأَلَمِ وَأُجْرَةِ الطَّبِيبِ وَإِنْ عَادَتْ بَدَلُ السِّنِّ نَاقِصَةً ضَمِنَ مَا نَقَصَ مِنْهَا بِالْحِسَابِ، فَفِي ثُلُثِهَا ثُلُثُ دِيَتِهَا، وَفِي رُبُعِهَا رُبُعُ دِيَتِهَا، وَفِي نِصْفِهَا نِصْفُ دِيَتِهَا وَهَكَذَا.فَإِنْ نَبَتَتْ سَوْدَاءَ أَوْ حَمْرَاءَ، أَوْ صَفْرَاءَ، أَوْ خَضْرَاءَ، أَوْ مَائِلَةً عَنْ مَحَلِّهَا، أَوْ مُعْوَجَّةً، أَوْ بَقِيَ شَيْءٌ مَعَهَا بَعْدَ النَّبَاتِ، أَوْ نَبَتَتْ أَطْوَلَ مِمَّا كَانَتْ، أَوْ نَبَتَتْ مَعَهَا سِنٌّ شَاغِبَةٌ، وَهِيَ الزَّائِدَةُ الْمُخَالِفَةُ لِنَبْتَةِ غَيْرِهَا مِنَ الْأَسْنَانِ وَجَبَتْ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّهُ نَقْصٌ حَصَلَ بِفِعْلِهِ، وَكَذَا إِنْ عَادَتْ وَالدَّمُ يَسِيلُ لِأَنَّهُ نَقْصٌ حَصَلَ بِفِعْلِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ، وَإِنْ جَاءَ وَقْتُ نَبَاتِهَا وَلَمْ تَنْبُتْ بِأَنْ سَقَطَتِ الْبَوَاقِي وَنَبَتْنَ دُونَ الْمَقْلُوعَةِ سُئِلَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ وَالطِّبِّ، فَإِنْ قَالُوا: قَدْ يُئِسَ مِنْ عَوْدِهَا لِفَسَادِ مَنْبَتِهَا، فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْقِصَاصِ، أَوْ دِيَةِ السِّنِّ، وَإِنْ قَالُوا: يُتَوَقَّعُ نَبَاتُهَا إِلَى وَقْتِ كَذَا، انْتُظِرَ، فَإِنْ مَضَى الْوَقْتُ وَلَمْ تَنْبُتْ وَجَبَ الْقِصَاصُ أَيْضًا، وَلَا يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ لِلصَّغِيرِ فِي صِغَرِهِ بَلْ يُنْتَظَرُ بُلُوغُهُ لِيَسْتَوْفِيَ هُوَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لِلتَّشَفِّي.

فَإِنْ مَاتَ الصَّبِيُّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ قَبْلَ حُصُولِ الْيَأْسِ وَقَبْلَ تَبَيُّنِ الْحَالِ فَلَا قِصَاصَ لِوَارِثِهِ وَكَذَا لَا دِيَةَ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْبَرَاءَةُ وَنَبَاتُ السِّنِّ لَوْ عَاشَ.فَعَلَى هَذَا: تَجِبُ الْحُكُومَةُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ لِوَرَثَةِ الصَّبِيِّ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ لِأَنَّ الْقَلْعَ مَوْجُودٌ وَالْعَوْدَ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَلَا يَتَأَتَّى النَّبَاتُ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَمَّا إِذَا مَاتَ بَعْدَ الْيَأْسِ فَيَقْتَصُّ وَارِثُهُ فِي الْحَالِ أَوْ يَأْخُذُ الْأَرْشَ.

وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي قَلْعِ السِّنِّ:

5- إِنْ قَلَعَ سِنَّ مَنْ قَدْ أَثْغَرَ فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْحَالِ، دُونَ انْتِظَارِ نَبَاتِهَا مِنْ جَدِيدٍ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ عَوْدِهَا.وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُنْظَرُ وَيُسْأَلُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ فَإِنْ قَالُوا: لَا تَعُودُ، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْحَالِ.وَإِنْ قَالُوا: يُرْجَى عَوْدُهَا إِلَى وَقْتٍ يَذْكُرُونَهُ، لَمْ يُقْتَصَّ حَتَّى يَأْتِيَ ذَلِكَ الْوَقْتُ.فَإِنْ لَمْ تَنْبُتْ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ عَادَتْ لَمْ يَجِبْ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ لِأَنَّ مَا عَادَ قَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ النَّابِتَ لَا يَكُونُ عِوَضًا عَنِ الْفَائِتِ بَلْ هُوَ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الضَّمَانُ إِذَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ، كَمَنْ أَتْلَفَ مَالَ إِنْسَانٍ.ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَزَقَ الْمُتْلَفَ عَلَيْهِ مِثْلَ الْمُتْلَفِ، وَكَالْتِحَامِ الْجَائِفَةِ أَوِ انْدِمَالِ الْمُوضِحَةِ أَوْ نَبْتِ اللِّسَانِ.

فَإِنْ قَلَعَ رَجُلٌ سِنَّ رَجُلٍ فَرَدَّهَا صَاحِبُهَا إِلَى مَكَانِهَا فَاشْتَدَّتْ وَالْتَحَمَتْ، فَعَلَى الْجَانِي الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَتَأَلَّمَ بِمِثْلِ مَا فَعَلَ وَعَلَيْهِ دِيَةُ السِّنِّ فِي الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ الْمُعَادَةَ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا كَمَا كَانَتْ لِانْقِطَاعِ الْعُرُوقِ، بَلْ تَبْطُلُ بِأَدْنَى شَيْءٍ، فَكَانَتْ إِعَادَتُهَا وَعَدَمُ إِعَادَتِهَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا رَأْيُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ) إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَابِدِينَ حَكَى عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ قَوْلَهُ: إِنْ عَادَتِ السِّنُّ إِلَى حَالَتِهَا الْأُولَى فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْجَمَالِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

الْحُكْمُ إِنْ نَبَتَتِ السِّنُّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ:

6- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ نَبَتَتِ السِّنُّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ أَوْ أَخْذِ الْأَرْشِ فَلَيْسَ لِلْجَانِي قَلْعُهَا ثَانِيَةً وَلَا اسْتِرْدَادُ الْأَرْشِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ لِلْجَانِي أَنْ يَسْتَرِدَّ الْأَرْشَ الَّذِي دَفَعَهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِذَا كَانَ لَمْ يَدْفَعْ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ لَهُ قَلْعُ السِّنِّ مَرَّةً أُخْرَى إِذَا كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ قَدِ اسْتُوْفِيَ الْقِصَاصُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِفِعْلِهِ الْعُدْوَانَ.

وَمَجْرَى الْخِلَافِ الْمُتَعَلِّقِ بِاسْتِرْدَادِ الْأَرْشِ أَوْ عَدَمِهِ فِي السِّنِّ النَّابِتَةِ لِمَنْ قَدْ أَثْغَرَ، إِلاَّ أَنَّ رَأْيَ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِثْلُ رَأْيِ الْحَنَابِلَةِ وَمَنْ مَعَهُمْ فِي وُجُوبِ اسْتِرْدَادِ الْأَرْشِ لِلْجَانِي بَعْدَ أَخْذِهِ مِنْهُ وَعَدَمِ لُزُومِهِ عَلَيْهِ قَبْلَ دَفْعِهِ، وَيَرَوْنَ كَذَلِكَ وُجُوبَ الْأَرْشِ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الَّذِي اقْتُصَّ مِنَ الْجَانِي ثُمَّ نَبَتَتْ سِنُّهُ لِتَبَنِّي الْخَطَأِ فِي الْقِصَاصِ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لَهُ فَسَادُ الْمَنْبَتِ وَلَمْ يَفْسُدْ حَيْثُ نَبَتَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى فَانْعَدَمَتِ الْجِنَايَةُ.

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ إِذَا كَانَ مِمَّنْ أَثْغَرَ وَأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْجَانِي أَوْ يَأْخُذَ الْأَرْشَ.

وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ:

7- اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي وَقْتِ الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى وُجُوبِ تَأْجِيلِهِ لِمُدَّةِ حَوْلٍ كَامِلٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَقْلُوعَةً أَوْ مُتَحَرِّكَةً أَوْ مَكْسُورَةً، وَسَوَاءٌ كَانَتْ سِنَّ كَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ، وَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ نَبَاتِهَا فِي حَالَةِ الْقَلْعِ وَسُقُوطِ أَوْ ثُبُوتِ الْمُتَحَرِّكَةِ وَلِتَغَيُّرِ الْمَكْسُورَةِ أَوْ عَدَمِ تَغَيُّرِهَا، وَأَصْلُ هَذَا الرَّأْيِ مَنْسُوبٌ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ.

وَقِيلَ: يُفَرَّقُ بَيْنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، فَلَا يَنْتَظِرُ الْبَالِغُ لِأَنَّ نَبَاتَ سِنِّ الْكَبِيرِ نَادِرٌ، وَيَنْتَظِرُ الصَّبِيُّ لِأَنَّ سِنَّهُ تَنْبُتُ غَالِبًا، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.وَقِيلَ: يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَقْلُوعَةِ، وَالْمُتَحَرِّكَةِ، وَالْمَكْسُورَةِ، فَلَا يُنْتَظَرُ نَبَاتُ الْمَقْلُوعَةِ بَلْ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَأْخُذَ الْأَرْشَ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ السِّنَّ إِذَا سَقَطَتْ فَلَا تَنْبُتُ غَالِبًا مِنْ جَدِيدٍ.وَيُنْتَظَرُ إِذَا تَحَرَّكَتْ مِنَ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَسْقُطُ أَوْ تَثْبُتُ، وَكَذَا الْمَكْسُورَةُ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَتَغَيَّرُ بِاسْوِدَادٍ أَوِ احْمِرَارٍ أَوِ اصْفِرَارٍ أَوِ اخْضِرَارٍ، أَوْ لَا تَتَغَيَّرُ فَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ، وَأَصْلُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَنْسُوبَةٌ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ.

عَوْدُ سِنِّ الْجَانِي بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ:

8- إِنْ عَادَتْ سِنُّ الْجَانِي بَعْدَ أَنِ اقْتُصَّ مِنْهُ دُونَ سِنِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْلَعَهَا ثَانِيَةً وَثَالِثَةً؛ لِأَنَّ الْجَانِيَ أَفْسَدَ مَنْبَتَهُ فَيُكَرَّرُ عَلَيْهِ الْقَلْعُ حَتَّى يَفْسُدَ مَنْبَتُهُ.

وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْلَعَهُ لِأَنَّهُ قَابَلَ قَلْعًا بِقَلْعٍ فَلَا تُثَنَّى عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ؛ وَلِئَلاَّ يَأْخُذَ سِنِينَ بِسِنٍّ وَاحِدَةٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} لَكِنْ لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْأَرْشُ لِخُرُوجِ الْقَلْعِ الْأَوَّلِ عَلَى كَوْنِهِ قِصَاصًا، وَكَأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ بِسَبَبٍ.

وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا شَيْءَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَوْدَةَ السِّنِّ لِلْجَانِي هِبَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ بِمَا سَبَقَ.

الْقِصَاصُ فِي قَطْعِ غَيْرِ الْمَثْغُورِ سِنَّ مَثْغُورٍ:

9- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَلَعَ غَيْرُ مَثْغُورٍ سِنَّ مَثْغُورٍ، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ إِنْ كَانَ بَالِغًا، أَوْ يَأْخُذَ الْأَرْشَ.

وَإِذَا اقْتَصَّ فَلَيْسَ لَهُ مَعَ الْقِصَاصِ شَيْءٌ آخَرُ.

أَمَّا إِنْ كَانَ الْجَانِي غَيْرَ بَالِغٍ فَلَا قِصَاصَ، وَإِنْ قَلَعَ سِنًّا زَائِدَةً قَلَعَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ لَهُ سِنًّا مِثْلَهَا.إِنْ كَانَتْ لِلْمُسَاوَاةِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ سِنٌّ زَائِدَةٌ فَعَلَى الْجَانِي حُكُومَةٌ لِتَعَذُّرِ الْقِصَاصِ بِسَبَبِ فِقْدَانِ الْمُمَاثَلَةِ.

وَإِنْ قَلَعَ غَيْرُ مَثْغُورٍ سِنَّ غَيْرِ مَثْغُورٍ آخَرَ فَلَا قِصَاصَ فِي الْحَالِ، فَإِنْ نَبَتَتْ فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ، وَإِنْ لَمْ تَنْبُتْ وَقَدْ دَخَلَ وَقْتُهُ فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ.

الدِّيَةُ:

10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ دِيَةَ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَسْنَانِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمُقَدَّمُ وَالْمُؤَخَّرُ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ».

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «فِي الْأَسْنَانِ خَمْسٌ خَمْسٌ».وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَة).

حُكْمُ السِّنِّ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:

11- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَّخِذَ سِنًّا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ، وَيَجُوزُ لَهُ كَذَلِكَ أَنْ يَشُدَّ سِنَّهُ الْمُتَحَرِّكَةَ بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ كُلَّمَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى ذَلِكَ.

وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّافِعِيَّةُ قَيْدَ الضَّرُورَةِ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الذَّهَبِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالْفِضَّةِ لِمَا رَوَاهُ الْأَثْرَمُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشُدُّونَ أَسْنَانَهُمْ بِالذَّهَبِ.أَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ مِنْ بَابِ أَوْلَى وَلَكِنْ يَحْرُمُ عَلَيْهَا تَخْلِيلُ أَسْنَانِهَا بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ لِلزِّينَةِ. حُكْمُ تَفْلِيجِ الْأَسْنَانِ:

12- قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَحْرُمُ التَّفَلُّجُ: وَهُوَ بَرْدُ مَا بَيْنَ الثَّنَايَا وَالرَّبَاعِيَاتِ مِنَ الْأَسْنَانِ، لِيَتَبَاعَدَ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ لِلْحُسْنِ وَالزِّينَةِ.

وَيُسَمَّى الْوَشْرَ، وَهُوَ تَحْدِيدُ الْأَسْنَانِ وَتَفْرِيجُ مَا بَيْنَهَا إِيهَامًا لِلْفَلَجِ الْمَحْمُودِ وَهُوَ مِمَّا قَدْ تَفْعَلُهُ الْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ، لِتُوهِمَ النَّاظِرَ أَنَّهَا شَابَّةٌ صَغِيرَةٌ.

وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْوَاشِرَةِ وَالْمُسْتَوْشِرَةِ؛ لِأَنَّهُ تَبْدِيلٌ لِلْهَيْئَةِ وَتَغْيِيرٌ لِخَلْقِ اللَّهِ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّشَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَلأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلأَُضِلَّنَّهُمْ وَلأُِمَنِّيَنَّهُمْ وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} الْآيَةَ.

وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّدْلِيسِ وَالْغِشِّ، وَلِهَذَا لَعَنَ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- مَنْ يَفْعَلْنَهُ وَوَصَفَهُنَّ بِالْمُغَيِّرَاتِ لِخَلْقِ اللَّهِ، فِيمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- » وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَاآتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}.

وَمَحَلُّ هَذَا إِنْ فَعَلَتْهُ لِلْحُسْنِ وَالزِّينَةِ، أَمَّا لَوِ احْتَاجَتْ إِلَيْهِ لِعِلَاجٍ أَوْ عَيْبٍ أَوْ نَحْوِهِمَا فَلَا بَأْسَ بِهِ.أَمَّا تَنْظِيفُ الْأَسْنَانِ فَرَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (سِوَاك، وَسُنَن الْفِطْرَةِ، وَسُنَن الْوُضُوءِ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


77-موسوعة الفقه الكويتية (صلاة 2)

صَلَاةٌ-2

أَرْكَانُ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ هِيَ:

أ- النِّيَّةُ:

16- النِّيَّةُ وَهِيَ الْعَزْمُ عَلَى فِعْلِ الْعِبَادَةِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِهَا بِحَالٍ، وَالْأَصْلُ فِيهَا قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى اعْتِبَارِهَا فِي الصَّلَاةِ.وَلَا بُدَّ فِي النِّيَّةِ مِنْ تَعْيِينِ الْفَرْضِيَّةِ وَنَوْعِيَّةِ الصَّلَاةِ، هَلْ هِيَ ظُهْرٌ أَمْ عَصْرٌ؟

وَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ عَنِ النِّيَّةِ فِي مُصْطَلَحِ (نِيَّةٌ).

ب- تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ:

17- وَدَلِيلُ فَرْضِيَّتِهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ» وَحَدِيثُ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ» وَحَدِيثُ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- يَرْفَعُهُ قَالَ: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ الْكَلَامِ عَلَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فِي مُصْطَلَحِ (تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ 13217).

ج- الْقِيَامُ لِلْقَادِرِ فِي الْفَرْضِ:

18- لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وَلِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ الْقِيَامُ فِي فَرْضِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ وَلَوْ بِمُعِينٍ بِأُجْرَةٍ فَاضِلَةٍ عَنْ مُؤْنَتِهِ وَمُؤْنَةِ مَنْ يَعُولُهُ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ.

وَيُقَسِّمُ الْمَالِكِيَّةُ رُكْنَ الْقِيَامِ إِلَى رُكْنَيْنِ: الْقِيَامِ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَالْقِيَامِ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ.قَالُوا: وَالْمُرَادُ بِالْقِيَامِ الْقِيَامُ اسْتِقْلَالاً، فَلَا يُجْزِئُ إِيقَاعُ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فِي الْفَرْضِ لِلْقَادِرِ عَلَى الْقِيَامِ جَالِسًا أَوْ مُنْحَنِيًا، وَلَا قَائِمًا مُسْتَنِدًا لِعِمَادٍ، بِحَيْثُ لَوْ أُزِيلَ الْعِمَادُ لَسَقَطَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: شَرْطُهُ نَصْبُ فَقَارِهِ لِلْقَادِرِ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ وَقَفَ مُنْحَنِيًا أَوْ مَائِلاً بِحَيْثُ لَا يُسَمَّى قَائِمًا لَمْ يَصِحَّ، وَالِانْحِنَاءُ السَّالِبُ لِلِاسْمِ: أَنْ يَصِيرَ إِلَى الرُّكُوعِ أَقْرَب.

قَالُوا: لَوِ اسْتَنَدَ إِلَى شَيْءٍ كَجِدَارٍ أَجْزَأَهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ.وَكَذَا لَوْ تَحَامَلَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَوْ رُفِعَ مَا اسْتَنَدَ إِلَيْهِ لَسَقَطَ؛ لِوُجُودِ اسْمِ الْقِيَامِ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَرْفَعُ قَدَمَيْهِ إِنْ شَاءَ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى قَائِمًا بَلْ مُعَلِّقًا نَفْسَهُ.وَلَوْ أَمْكَنَهُ الْقِيَامُ مُتَّكِئًا عَلَى شَيْءٍ أَوِ الْقِيَامُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَيْسُورُهُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: حَدُّ الْقِيَامِ مَا لَمْ يَصِرْ رَاكِعًا، وَرُكْنُهُ الِانْتِصَابُ بِقَدْرِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَفِيمَا بَعْدَهَا بِقَدْرِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فَقَطْ.

وَرُكْنُ الْقِيَامِ خَاصٌّ بِالْفَرْضِ مِنَ الصَّلَوَاتِ دُونَ النَّوَافِلِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ» وَقَدْ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ تَطَوُّعٌ ف 16 (12 157) وَأَمَّا بَقِيَّةُ تَفْصِيلَاتِ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ فَتَأْتِي فِي مُصْطَلَحِ (قِيَامٌ).

د- قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ:

19- وَهِيَ رُكْنٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ فَرْضًا أَوْ نَفْلاً جَهْرِيَّةً كَانَتْ أَوْ سِرِّيَّةً.لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَفِي رِوَايَةٍ «لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَلِفِعْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي».

وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فَرْضٌ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ وَالْفَذِّ دُونَ الْمَأْمُومِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ بِفَرْضِيَّتِهَا فِي الْجَمِيعِ.

تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قِرَاءَةٌ).

هـ- الرُّكُوعُ:

20- وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى رُكْنِيَّتِهِ، وَسَنَدُهُ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا}.

وَحَدِيثُ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَرَدَّ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَيْهِ السَّلَام ثُمَّ قَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ.فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا.ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ فَمَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي.فَقَالَ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ.ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا».فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمُسَمَّاةَ فِي الْحَدِيثِ لَا تَسْقُطُ بِحَالٍ، فَإِنَّهَا لَوْ سَقَطَتْ لَسَقَطَتْ عَنِ الْأَعْرَابِيِّ لِجَهْلِهِ بِهَا

وَتَفْصِيلُ مَبَاحِثِ الرُّكُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (رُكُوعٌ).

و- الِاعْتِدَالُ:

21- هُوَ الْقِيَامُ مَعَ الطُّمَأْنِينَةِ بَعْدَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ، وَهُوَ رُكْنٌ فِي الْفَرْضِ وَالنَّافِلَةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ «ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا»، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- دَاوَمَ عَلَيْهِ.لِقَوْلِ أَبِي حُمَيْدٍ فِي «صِفَةِ صَلَاةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ» وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي».

وَيَدْخُلُ فِي رُكْنِ الِاعْتِدَالِ الرَّفْعُ مِنْهُ لِاسْتِلْزَامِهِ لَهُ، وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَهُمَا فَعَدُّوا كُلًّا مِنْهُمَا رُكْنًا.قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَعَمُّدِ تَرْكِ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ، وَأَمَّا إِنْ تَرَكَهُ سَهْوًا فَيَرْجِعُ مُحْدَوْدِبًا حَتَّى يَصِلَ لِحَالَةِ الرُّكُوعِ ثُمَّ يَرْفَعُ، وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ إِلاَّ الْمَأْمُومَ فَلَا يَسْجُدُ لِحَمْلِ الْإِمَامِ لِسَهْوِهِ، فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ مُحْدَوْدِبًا وَرَجَعَ قَائِمًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ مُرَاعَاةً لِقَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ: إِنَّ تَارِكَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ سَهْوًا يَرْجِعُ قَائِمًا لَا مُحْدَوْدِبًا كَتَارِكِ الرُّكُوعِ.

ثُمَّ إِنَّ أَكْثَرَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى نَفْيِ رُكْنِيَّةِ الِاعْتِدَالِ، وَأَنَّهُ سُنَّةٌ.قَالُوا: فَيَسْجُدُ لِتَرْكِهِ سَهْوًا، وَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ عَمْدًا قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ شُهِرَتْ فَرْضِيَّتُهَا.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْعَدَوِيُّ- هَذَا هُوَ الرَّاجِحُ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ الْحَطَّابِ، وَحَدُّ الِاعْتِدَالِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنْ لَا يَكُونَ مُنْحَنِيًا، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: مَا لَمْ يَصِرْ رَاكِعًا، قَالُوا: وَالْكَمَالُ مِنْهُ الِاسْتِقَامَةُ حَتَّى يَعُودَ كُلُّ عُضْوٍ إِلَى مَحَلِّهِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَضُرُّ بَقَاؤُهُ مُنْحَنِيًا يَسِيرًا حَالَ اعْتِدَالِهِ وَاطْمِئْنَانِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْهَيْئَةَ لَا تُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ قَائِمًا، وَسَبَقَ حَدُّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي رُكْنِ الْقِيَامِ.وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الِاعْتِدَالِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الطُّمَأْنِينَةُ فِي الِاعْتِدَالِ: أَنْ تَسْتَقِرَّ أَعْضَاؤُهُ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ رُكُوعِهِ، بِحَيْثُ يَنْفَصِلُ ارْتِفَاعُهُ عَنْ عَوْدِهِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَقْصِدَ غَيْرَ الِاعْتِدَالِ، فَلَوْ رَفَعَ فَزِعًا مِنْ شَيْءٍ كَحَيَّةٍ لَمْ يُحْسَبْ رَفْعُهُ اعْتِدَالاً لِوُجُودِ الصَّارِفِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِرَفْعِهِ شَيْئًا آخَرَ.

ز- السُّجُودُ:

22- مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ السُّجُودُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مَرَّتَيْنِ.وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ لقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} وَلِحَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ «ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا» وَحَدَّ الْمَالِكِيَّةُ السُّجُودَ بِأَنَّهُ مَسُّ الْأَرْضِ، أَوْ مَا اتَّصَلَ بِهَا مِنْ ثَابِتٍ بِالْجَبْهَةِ، فَلَا يُجْزِئُ السُّجُودُ عَلَى نَحْوِ السَّرِيرِ الْمُعَلَّقِ، وَيَتَحَقَّقُ السُّجُودُ عِنْدَهُمْ بِوَضْعِ أَيْسَرِ جُزْءٍ مِنَ الْجَبْهَةِ بِالْأَرْضِ أَوْ مَا اتَّصَلَ بِهَا، وَيُشْتَرَطُ اسْتِقْرَارُهَا عَلَى مَا يَسْجُدُ عَلَيْهِ، فَلَا يَصِحُّ عَلَى تِبْنٍ أَوْ قُطْنٍ.وَأَمَّا وَضْعُ الْأَنْفِ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ، لَكِنْ تُعَادُ الصَّلَاةُ لِتَرْكِهِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا فِي الظُّهْرَيْنِ لِلِاصْفِرَارِ، وَفِي غَيْرِهِمَا لِلطُّلُوعِ مُرَاعَاةً لِلْقَوْلِ بِوُجُوبِهِ.وَوَضْعُ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ- الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ- فَهُوَ سُنَّةٌ.قَالَ الدُّسُوقِيُّ.قَالَ فِي التَّوْضِيحِ:

وَكَوْنُ السُّجُودِ عَلَيْهَا سُنَّةً لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الْمَذْهَبِ.غَايَتُهُ أَنَّ ابْنَ الْقَصَّارِ قَالَ: الَّذِي يَقْوَى فِي نَفْسِي أَنَّهُ سُنَّةٌ فِي الْمَذْهَبِ.وَقِيلَ:

إِنَّ السُّجُودَ عَلَيْهَا وَاجِبٌ، وَصَرَّحُوا بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ ارْتِفَاعِ الْعَجِيزَةِ عَنِ الرَّأْسِ بَلْ يُنْدَبُ ذَلِكَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ أَقَلَّ السُّجُودِ يَتَحَقَّقُ بِمُبَاشَرَةِ بَعْضِ جَبْهَتِهِ مَكْشُوفَةَ مُصَلاَّهُ؛ لِحَدِيثِ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: «شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- شِدَّةَ الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِنَا وَأَكُفِّنَا فَلَمْ يُشْكِنَا» أَيْ لَمْ يُزِلْ شَكْوَانَا.

وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْحَدِيثِ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ كَشْفُ الْجَبْهَةِ لأَرْشَدَهُمْ إِلَى سَتْرِهَا، وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ كَشْفُهَا دُونَ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ لِسُهُولَتِهِ فِيهَا دُونَ الْبَقِيَّةِ؛ وَلِحُصُولِ مَقْصُودِ السُّجُودِ وَهُوَ غَايَةُ التَّوَاضُعِ بِكَشْفِهَا.وَيَجِبُ- أَيْضًا- وَضْعُ جُزْءٍ مِنَ الرُّكْبَتَيْنِ، وَمِنْ بَاطِنِ الْكَفَّيْنِ، وَمِنْ بَاطِنِ الْقَدَمَيْنِ عَلَى مُصَلاَّهُ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى الْجَبْهَةِ- وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَنْفِهِ- وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ» وَلَا يَجِبُ كَشْفُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، بَلْ يُكْرَهُ كَشْفُ الرُّكْبَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ.وَقِيلَ: يَجِبُ كَشْفُ بَاطِنِ الْكَفَّيْنِ.

ثُمَّ إِنَّ مَحَلَّ وُجُوبِ الْوَضْعِ إِذَا لَمْ يَتَعَذَّرْ وَضْعُ شَيْءٍ مِنْهَا، وَإِلاَّ فَيَسْقُطُ الْفَرْضُ، فَلَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ مِنَ الزَّنْدِ لَمْ يَجِبْ وَضْعُهُ؛ لِفَوْتِ مَحَلِّ الْفَرْضِ.

وَيَجِبُ- أَيْضًا- أَنْ يَنَالَ مَحَلُّ سُجُودِهِ ثِقَلَ رَأْسِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا سَجَدْتَ فَأَمْكِنْ جَبْهَتَكَ» قَالُوا: وَمَعْنَى الثِّقَلِ أَنْ يَتَحَامَلَ بِحَيْثُ لَوْ فُرِضَ تَحْتَهُ قُطْنٌ أَوْ حَشِيشٌ لَانْكَبَسَ وَظَهَرَ أَثَرُهُ فِي يَدِهِ لَوْ فُرِضَتْ تَحْتَ ذَلِكَ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّحَامُلُ فِي غَيْرِ الْجَبْهَةِ مِنَ الْأَعْضَاءِ.

وَيَجِبُ كَذَلِكَ أَنْ لَا يَهْوِيَ لِغَيْرِ السُّجُودِ، فَلَوْ سَقَطَ لِوَجْهِهِ مِنَ الِاعْتِدَالِ وَجَبَ الْعَوْدُ إِلَى الِاعْتِدَالِ لِيُهْوِيَ مِنْهُ؛ لِانْتِفَاءِ الْهُوِيِّ فِي السُّقُوطِ.وَإِنْ سَقَطَ مِنَ الْهَوِيِّ لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَوْدُ بَلْ يُحْسَبُ ذَلِكَ سُجُودًا.

وَيَجِبُ أَيْضًا أَنْ تَرْتَفِعَ أَسَافِلُهُ- عَجِيزَتُهُ وَمَا حَوْلَهَا- عَلَى أَعَالِيهِ لِخَبَرِ «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» فَلَا يَكْتَفِي بِرَفْعِ أَعَالِيهِ عَلَى أَسَافِلِهِ وَلَا بِتَسَاوِيهِمَا، لِعَدَمِ اسْمِ السُّجُودِ كَمَا لَوْ أَكَبَّ وَمَدَّ رِجْلَيْهِ، إِلاَّ إِنْ كَانَ بِهِ عِلَّةٌ لَا يُمْكِنُهُ السُّجُودُ إِلاَّ كَذَلِكَ فَيَصِحُّ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ السُّجُودُ عَلَى وِسَادَةٍ بِتَنْكِيسٍ لَزِمَهُ؛ لِحُصُولِ هَيْئَةِ السُّجُودِ بِذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُهُ بِلَا تَنْكِيسٍ.

وَإِذَا صَلَّى فِي سَفِينَةٍ مَثَلاً وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ ارْتِفَاعِ ذَلِكَ لِمَيَلَانِهَا صَلَّى عَلَى حَالِهِ وَلَزِمَهُ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا عُذْرٌ نَادِرٌ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السُّجُودَ عَلَى الْأَعْضَاءِ السَّبْعَةِ: الْجَبْهَةِ مَعَ الْأَنْفِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالْقَدَمَيْنِ، رُكْنٌ مَعَ الْقُدْرَةِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ عَلَى الْجَبْهَةِ- وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَنْفِهِ- وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ» وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ مَعَهُ سَبْعَةُ آرَابٍ: وَجْهُهُ، وَكَفَّاهُ، وَرُكْبَتَاهُ، وَقَدَمَاهُ».

ثُمَّ إِنَّهُ يُجْزِئُ بَعْضُ كُلِّ عُضْوٍ فِي السُّجُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْ فِي الْحَدِيثِ الْكُلَّ، وَلَوْ كَانَ سُجُودُهُ عَلَى ظَهْرِ كَفٍّ، وَظَهْرِ قَدَمٍ، وَأَطْرَافِ أَصَابِعِ يَدَيْنِ، وَلَا يُجْزِئُهُ إِنْ كَانَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ كَوَضْعِ جَبْهَتِهِ عَلَى يَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى تَدَاخُلِ أَعْضَاءِ السُّجُودِ.

وَمَتَى عَجَزَ الْمُصَلِّي عَنِ السُّجُودِ بِجَبْهَتِهِ سَقَطَ عَنْهُ لُزُومُ بَاقِي الْأَعْضَاءِ؛ لِأَنَّ الْجَبْهَةَ هِيَ الْأَصْلُ فِي السُّجُودِ، وَغَيْرُهَا تَبَعٌ لَهَا، فَإِذَا سَقَطَ الْأَصْلُ سَقَطَ التَّبَعُ، وَدَلِيلُ التَّبَعِيَّةِ، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ الْيَدَيْنِ تَسْجُدَانِ كَمَا يَسْجُدُ الْوَجْهُ، فَإِذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ فَلْيَضَعْ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَهُ فَلْيَرْفَعْهُمَا» وَبَاقِي الْأَعْضَاءِ مِثْلُهُمَا فِي ذَلِكَ لِعَدَمِ الْفَارِقِ، وَأَمَّا إِنْ قَدَرَ عَلَى السُّجُودِ بِالْجَبْهَةِ فَإِنَّهُ يَتْبَعُهَا الْبَاقِي مِنَ الْأَعْضَاءِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ السُّجُودُ مَعَ عَدَمِ اسْتِعْلَاءِ الْأَسَافِلِ إِنْ خَرَجَ عَنْ صِفَةِ السُّجُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ سَاجِدًا، وَأَمَّا الِاسْتِعْلَاءُ الْيَسِيرُ فَلَا بَأْسَ بِهِ- بِأَنْ عَلَا مَوْضِعُ رَأْسِهِ عَلَى مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ بِلَا حَاجَةٍ يَسِيرًا- وَيُكْرَهُ الْكَثِيرُ.

ح- الْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ:

23- مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ الْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ أَمِ النَّفْلِ؛ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ: ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا» وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ جَالِسًا».

وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ قَبْلَ هَذَا الرُّكْنِ رُكْنًا آخَرَ وَهُوَ الرَّفْعُ مِنَ السُّجُودِ.وَمَا سَبَقَ مِنْ نَفْيِ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ الِاعْتِدَالَ مِنَ الرُّكُوعِ يَجْرِي- أَيْضًا- فِي الِاعْتِدَالِ مِنَ السُّجُودِ.

وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِصِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ عَنِ الْأَرْضِ حَالَ الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِرَفْعِهِ غَيْرَ الْجُلُوسِ، كَمَا فِي الرُّكُوعِ.فَلَوْ رَفَعَ فَزَعًا مِنْ شَيْءٍ لَمْ يَكْفِ، وَيَجِبُ أَنْ يَعُودَ إِلَى السُّجُودِ.

وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا، قَالُوا: وَيُشْتَرَطُ فِي نَحْوِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَرَفْعٍ مِنْهُمَا: أَنْ لَا يَقْصِدَ غَيْرَهُ، فَلَوْ رَكَعَ أَوْ سَجَدَ، أَوْ رَفَعَ خَوْفًا مِنْ شَيْءٍ لَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقْصِدَهُ؛ اكْتِفَاءً بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ الْمُسْتَصْحِبِ حُكْمَهَا.

قَالَ الشَّيْخُ الرَّحِيبَانِيُّ: بَلْ لَا بُدَّ مِنْ قَصْدِ ذَلِكَ وُجُوبًا.

ط- الْجُلُوسُ لِلتَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ:

24- وَهُوَ رُكْنٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِمُدَاوَمَةِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَيْهِ، وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَلِأَنَّ التَّشَهُّدَ فَرْضٌ وَالْجُلُوسُ لَهُ مَحَلُّهُ فَيَتْبَعُهُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الرُّكْنَ هُوَ الْجُلُوسُ لِلسَّلَامِ فَقَطْ.فَالْجُزْءُ الْأَخِيرُ مِنَ الْجُلُوسِ الَّذِي يُوقِعُ فِيهِ السَّلَامَ فَرْضٌ، وَمَا قَبْلَهُ سُنَّةٌ، وَعَلَيْهِ فَلَوْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ وَاعْتَدَلَ جَالِسًا وَسَلَّمَ كَانَ ذَلِكَ الْجُلُوسُ هُوَ الْوَاجِبَ، وَفَاتَتْهُ السُّنَّةُ، وَلَوْ جَلَسَ ثُمَّ تَشَهَّدَ، ثُمَّ سَلَّمَ كَانَ آتِيًا بِالْفَرْضِ وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ جَلَسَ وَتَشَهَّدَ ثُمَّ اسْتَقَلَّ قَائِمًا وَسَلَّمَ كَانَ آتِيًا بِالسُّنَّةِ تَارِكًا لِلْفَرْضِ.

ى- التَّشَهُّدُ الْأَخِيرُ:

25- وَيَقُولُ بِرُكْنِيَّتِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ.»

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ:

«كُنَّا نَقُولُ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ التَّشَهُّدُ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-:

لَا تَقُولُوا هَذَا.فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ، وَلَكِنْ قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ.» الْحَدِيثَ، وَقَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه- لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ إِلاَّ بِتَشَهُّدٍ.

وَأَقَلُّ التَّشَهُّدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ.سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.وَهُوَ أَقَلُّهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- أَيْضًا- بِدُونِ لَفْظِ: «وَبَرَكَاتُهُ».مَعَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ «وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» «وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» لِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عَلَى ذَلِكَ.

وَالتَّشَهُّدُ الْأَخِيرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ.

ك- الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ:

26- هِيَ رُكْنٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وَلِحَدِيثِ: «قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ».

وَقَدْ «صَلَّى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى نَفْسِهِ فِي الْوِتْرِ.وَقَالَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي».

وَأَقَلُّ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ) قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَنَحْوُهُ كَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ أَوْ عَلَى رَسُولِهِ أَوْ عَلَى النَّبِيِّ أَوْ عَلَيْهِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ بَعْدَ التَّشَهُّدِ، فَلَوْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ التَّشَهُّدِ لَمْ تُجْزِئْهُ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ يَعُدُّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- رُكْنًا مُسْتَقِلًّا، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُهَا مِنْ جُمْلَةِ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ.

ل- السَّلَامُ:

27- اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى رُكْنِيَّتِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» وَقَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَخْتِمُ الصَّلَاةَ بِالتَّسْلِيمِ».

وَلَفْظُهُ الْمُجْزِئُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ».

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: فَلَا يُجْزِئُ سَلَامُ اللَّهِ، أَوْ سَلَامِي، أَوْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَلَا بُدَّ- أَيْضًا- مِنْ تَأَخُّرِ «عَلَيْكُمْ» وَأَنْ يَكُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ.

وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ تَقَدُّمَ «عَلَيْكُمْ» فَيُجْزِئُ عِنْدَهُمْ «عَلَيْكُمُ السَّلَامُ» مَعَ الْكَرَاهَةِ.قَالُوا: وَلَا يُجْزِئُ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ، وَلَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ لِلْغَائِبِ، وَلَا عَلَيْكَ وَلَا عَلَيْكُمَا، وَلَا سَلَامِي عَلَيْكُمْ، وَلَا سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.فَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِالتَّحْرِيمِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَلَا تُجْزِئُ- أَيْضًا- سَلَامٌ عَلَيْكُمْ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ صِيغَتَهُ الْمُجْزِئَةَ:

السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَقُلْ «وَرَحْمَةُ اللَّهِ» فِي غَيْرِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُهُ.وَقَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَهُوَ سَلَامٌ فِي صَلَاةِ وَرَدَ مَقْرُونًا بِالرَّحْمَةِ فَلَمْ يُجْزِئْهُ بِدُونِهَا كَالسَّلَامِ فِي التَّشَهُّدِ.فَإِنْ نَكَّرَ السَّلَامَ، كَقَوْلِهِ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، أَوْ عَرَّفَهُ بِغَيْرِ اللاَّمِ، كَسَلَامِي، أَوْ سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، أَوْ نَكَّسَهُ فَقَالَ عَلَيْكُمْ سَلَامٌ أَوْ عَلَيْكُمُ السَّلَامُ، أَوْ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ لَمْ يُجْزِئْهُ لِمُخَالَفَتِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَمَنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ يُغَيِّرُ السَّلَامَ الْوَارِدَ، وَيُخِلُّ بِحَرْفٍ يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ.

وَالْوَاجِبُ تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: بِوُجُوبِ التَّسْلِيمَتَيْنِ.وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنْ يَنْوِيَ بِالسَّلَامِ الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ، فَلَا تَجِبُ نِيَّةُ الْخُرُوجِ مِنَ الصَّلَاةِ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ؛ وَلِأَنَّ النِّيَّةَ السَّابِقَةَ مُنْسَحِبَةٌ عَلَى جَمِيعِ الصَّلَاةِ.

وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْخُرُوجِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْأَوَّلِ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يُجَدِّدَ نِيَّةَ الْخُرُوجِ مِنَ الصَّلَاةِ بِالسَّلَامِ لِأَجْلِ أَنْ يَتَمَيَّزَ عَنْ جِنْسِهِ كَافْتِقَارِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ إِلَيْهَا لِتَمَيُّزِهَا عَنْ غَيْرِهَا، فَلَوْ سَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ نِيَّةٍ لَمْ يُجْزِهِ، قَالَ سَنَدٌ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ.

الثَّانِي: لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُنْدَبُ فَقَطْ؛ لِانْسِحَابِ النِّيَّةِ الْأُولَى.قَالَ ابْنُ الْفَاكِهَانِيِّ: هُوَ الْمَشْهُورُ، وَكَلَامُ ابْنِ عَرَفَةَ يُفِيدُ أَنَّهُ الْمُعْتَمَدُ.

م- الطُّمَأْنِينَةُ:

28- هِيَ: اسْتِقْرَارُ الْأَعْضَاءِ زَمَنًا مَا.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: أَقَلُّهَا أَنْ تَسْتَقِرَّ الْأَعْضَاءُ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: حُصُولُ السُّكُونِ وَإِنْ قَلَّ.وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ.

وَالثَّانِي: بِقَدْرِ الذِّكْرِ الْوَاجِبِ.وَفَائِدَةُ الْوَجْهَيْنِ: إِذَا نَسِيَ التَّسْبِيحَ فِي رُكُوعِهِ أَوْ سُجُودِهِ، أَوِ التَّحْمِيدَ فِي اعْتِدَالِهِ، أَوْ سُؤَالَ الْمَغْفِرَةِ فِي جُلُوسِهِ، أَوْ عَجَزَ عَنْهُ لِعُجْمَةٍ أَوْ خَرَسٍ، أَوْ تَعَمَّدَ تَرْكَهُ وَقُلْنَا هُوَ سُنَّةٌ وَاطْمَأَنَّ قَدْرًا لَا يَتَّسِعُ لَهُ، فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَلَا تَصِحُّ عَلَى الثَّانِي.

وَهِيَ رُكْنٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَصَحَّحَ ابْنُ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فَرْضِيَّتَهَا.

وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَلِذَا قَالَ زَرُّوقٌ: مَنْ تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ عَلَى الْمَشْهُورِ.وَقِيلَ: إِنَّهَا فَضِيلَةٌ.

وَدَلِيلُ رُكْنِيَّةِ الطُّمَأْنِينَةِ حَدِيثُ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ الْمُتَقَدِّمُ.وَحَدِيثُ «حُذَيْفَةَ: أَنَّهُ رَأَى رَجُلاً لَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَلَا السُّجُودَ فَقَالَ لَهُ:

مَا صَلَّيْتَ، وَلَوْ مِتَّ مِتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم- » وَهِيَ رُكْنٌ فِي جَمِيعِ الْأَرْكَانِ.

ن- تَرْتِيبُ الْأَرْكَانِ:

29- لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّيهَا مُرَتَّبَةً، مَعَ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَعَلَّمَهَا لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ مُرَتَّبَةً «بِثُمَّ» وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَبْطُلُ بِالْحَدَثِ كَانَ التَّرْتِيبُ فِيهَا رُكْنًا كَغَيْرِهِ.وَالتَّرْتِيبُ وَاجِبٌ فِي الْفَرَائِضِ فِي أَنْفُسِهَا فَقَطْ.وَأَمَّا تَرْتِيبُ السُّنَنِ فِي أَنْفُسِهَا، أَوْ مَعَ الْفَرَائِضِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.

أَرْكَانُ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:

أَرْكَانُ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سِتَّةٌ:

أ- الْقِيَامُ:

30- وَهُوَ رُكْنٌ فِي فَرْضٍ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ، وَيَشْمَلُ التَّامَّ مِنْهُ وَهُوَ: الِانْتِصَابُ مَعَ الِاعْتِدَالِ، وَغَيْرَ التَّامِّ وَهُوَ: الِانْحِنَاءُ الْقَلِيلُ بِحَيْثُ لَا تَنَالُ يَدَاهُ رُكْبَتَيْهِ، وَيَسْقُطُ عَنَ الْعَاجِزِ عَنْهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، وَالْعَجْزُ الْحُكْمِيُّ هُوَ: كَمَا لَوْ حَصَلَ لَهُ بِهِ أَلَمٌ شَدِيدٌ، أَوْ خَافَ زِيَادَةَ الْمَرَضِ.وَمِنَ الْعَجْزِ الْحُكْمِيِّ أَيْضًا كَمَنْ يَسِيلُ جُرْحُهُ إِذَا قَامَ، أَوْ يَسْلُسُ بَوْلُهُ، أَوْ يَبْدُو رُبُعُ عَوْرَتِهِ، أَوْ يَضْعُفُ عَنِ الْقِرَاءَةِ أَصْلاً- أَمَّا لَوْ قَدَرَ عَلَى بَعْضِ الْقِرَاءَةِ إِذَا قَامَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْرَأَ مِقْدَارَ قُدْرَتِهِ، وَالْبَاقِي قَاعِدًا، أَوْ عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ، فَيَتَحَتَّمُ الْقُعُودُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ لِعَجْزِهِ عَنِ الْقِيَامِ حُكْمًا إِذْ لَوْ قَامَ لَزِمَ فَوْتُ الطَّهَارَةِ أَوِ السَّتْرِ أَوِ الْقِرَاءَةِ أَوِ الصَّوْمِ بِلَا خُلْفٍ.

ب- الْقِرَاءَةُ:

31- وَيَتَحَقَّقُ رُكْنُ الْقِرَاءَةِ بِقِرَاءَةِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمَحَلُّهَا رَكْعَتَانِ فِي الْفَرْضِ وَجَمِيعِ رَكَعَاتِ النَّفْلِ وَالْوِتْرِ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَدْرِ الْقِرَاءَةِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ.فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَدَّرَ أَدْنَى الْمَفْرُوضِ بِالْآيَةِ التَّامَّةِ طَوِيلَةً كَانَتْ أَوْ قَصِيرَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُدْهَامَّتَانِ} وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ نَظَرَ} وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ}.

وَفِي رِوَايَةٍ: الْفَرْضُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، بَلْ هُوَ عَلَى أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ سَوَاءٌ كَانَتْ آيَةً أَوْ مَا دُونَهَا بَعْدَ أَنْ قَرَأَهَا عَلَى قَصْدِ الْقِرَاءَةِ.

وَفِي رِوَايَةٍ: قَدْرُ الْفَرْضِ بِآيَةٍ طَوِيلَةٍ كَآيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الدَّيْنِ، أَوْ ثَلَاثِ آيَاتٍ قِصَارٍ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ.

وَأَصْلُهُ قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} فَهُمَا يَعْتَبِرَانِ الْعُرْفَ، وَيَقُولَانِ: مُطْلَقُ الْكَلَامِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُتَعَارَفِ، وَأَدْنَى مَا يُسَمَّى الْمَرْءُ بِهِ قَارِئًا فِي الْعُرْفِ أَنْ يَقْرَأَ آيَةً طَوِيلَةً، أَوْ ثَلَاثَ آيَاتٍ قِصَارٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَحْتَجُّ بِالْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ أَمَرَ بِمُطْلَقِ الْقِرَاءَةِ، وَقِرَاءَةُ آيَةٍ قَصِيرَةٍ قِرَاءَةٌ.وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِقِرَاءَةِ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَعَسَى أَنْ لَا يَتَيَسَّرَ إِلاَّ هَذَا الْقَدْرُ.

وَقَدْ أَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَ يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ لَا يُحْسِنُ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِنْ كَانَ يُحْسِنُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ يَجُوزُ، وَإِلَى قَوْلِهِمَا رَجَعَ أَبُو حَنِيفَةَ كَمَا جَاءَ فِي ابْنِ عَابِدِينَ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فَسَيَأْتِي أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ.

ج- الرُّكُوعُ:

32- وَأَقَلُّهُ طَأْطَأَةُ الرَّأْسِ مَعَ انْحِنَاءِ الظَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ مَوْضُوعِ اللُّغَةِ فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ قوله تعالى: {ارْكَعُوا}، وَفِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ: هُوَ بِحَيْثُ لَوْ مَدَّ يَدَيْهِ نَالَ رُكْبَتَيْهِ.

د- السُّجُودُ:

33- وَيَتَحَقَّقُ بِوَضْعِ جُزْءٍ مِنْ جَبْهَتِهِ وَإِنْ قَلَّ، وَوَضْعُ أَكْثَرِهَا وَاجِبٌ لِلْمُوَاظَبَةِ، كَمَا يَجِبُ وَضْعُ الْأَنْفِ مَعَ الْجَبْهَةِ، وَفِي وَضْعِ الْقَدَمَيْنِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ:

الْأُولَى: فَرْضِيَّةُ وَضْعِهِمَا.

وَالثَّانِيَةُ: فَرْضِيَّةُ إِحْدَاهُمَا.وَالثَّالِثَةُ: عَدَمُ الْفَرْضِيَّةِ: أَيْ أَنَّهُ سُنَّةٌ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْمَشْهُورَ فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ اعْتِمَادُ الْفَرْضِيَّةِ، وَالْأَرْجَحُ مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلُ وَالْقَوَاعِدُ عَدَمُ الْفَرْضِيَّةِ، وَلِذَا قَالَ فِي الْعِنَايَةِ وَالدُّرَرِ: إِنَّهُ الْحَقُّ، ثُمَّ الْأَوْجَهُ حَمْلُ عَدَمِ الْفَرْضِيَّةِ عَلَى الْوُجُوبِ.

هـ- الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ:

34- وَهِيَ مَحَلُّ خِلَافٍ عِنْدَهُمْ.فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ رُكْنٌ أَصْلِيٌّ.وَقَالَ بَعْضُهُمْ:

إِنَّهَا وَاجِبَةٌ لَا فَرْضٌ، لَكِنِ الْوَاجِبُ- هُنَا- فِي قُوَّةِ الْفَرْضِ فِي الْعَمَلِ كَالْوِتْرِ.وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ: إِنَّهَا فَرْضٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ أَصْلِيٍّ بَلْ هِيَ شَرْطٌ لِلتَّحْلِيلِ.

و- الْخُرُوجُ بِصُنْعِهِ:

35- أَيْ بِصُنْعِ الْمُصَلِّي- فِعْلُهُ الِاخْتِيَارِيُّ- بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَالْوَاجِبُ الْخُرُوجُ بِلَفْظِ السَّلَامِ وَيُكْرَهُ تَحْرِيمًا الْخُرُوجُ بِغَيْرِهِ كَأَنْ يَضْحَكَ قَهْقَهَةً، أَوْ يُحْدِثَ عَمْدًا، أَوْ يَتَكَلَّمَ، أَوْ يَذْهَبَ، وَاحْتُرِزَ (بِصُنْعِهِ) عَمَّا لَوْ كَانَ سَمَاوِيًّا كَأَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ.

36- قَالَ الْحَصْكَفِيُّ شَارِحُ تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ: وَبَقِيَ مِنَ الْفُرُوضِ: تَمْيِيزُ الْمَفْرُوضِ، وَتَرْتِيبُ الْقِيَامِ عَلَى الرُّكُوعِ، وَالرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ، وَالْقُعُودِ الْأَخِيرِ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَإِتْمَامُ الصَّلَاةِ، وَالِانْتِقَالُ مِنْ رُكْنٍ إِلَى آخَرَ، وَمُتَابَعَتُهُ لِإِمَامِهِ فِي الْفُرُوضِ، وَصِحَّةُ صَلَاةِ إِمَامِهِ فِي رَأْيِهِ، وَعَدَمُ تَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ، وَعَدَمُ مُخَالَفَتِهِ فِي الْجِهَةِ، وَعَدَمُ تَذَكُّرِ فَائِتَةٍ، وَعَدَمُ مُحَاذَاةِ امْرَأَةٍ بِشَرْطِهِمَا، وَتَعْدِيلُ الْأَرْكَانِ عِنْدَ الثَّانِي (وَهُوَ أَبُو يُوسُفَ).

وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ تَمْيِيزِ الْمَفْرُوضِ، فَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ: بِأَنْ يُمَيِّزَ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ عَنِ الْأُولَى، بِأَنْ يَرْفَعَ وَلَوْ قَلِيلاً أَوْ يَكُونَ إِلَى الْقُعُودِ أَقْرَب، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّمْيِيزِ تَمْيِيزُ مَا فُرِضَ عَلَيْهِ مِنَ الصَّلَوَاتِ عَمَّا لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَعْلَمْ فَرْضِيَّةَ الْخَمْسِ، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا لَا يُجْزِيهِ.

وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ الْبَعْضَ فَرْضٌ وَالْبَعْضَ سُنَّةٌ وَنَوَى الْفَرْضَ فِي الْكُلِّ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَنَوَى صَلَاةَ الْإِمَامِ عِنْدَ اقْتِدَائِهِ فِي الْفَرْضِ جَازَ، وَلَوْ عَلِمَ الْفَرْضَ دُونَ مَا فِيهِ مِنْ فَرَائِض وَسُنَنٍ جَازَتْ صَلَاتُهُ أَيْضًا؛ فَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَفْرُوضَ مِنْ أَجْزَاءِ كُلِّ صَلَاةٍ، أَيْ كَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِيهَا فَرْضٌ وَأَنَّ التَّسْبِيحَ سُنَّةٌ وَهَكَذَا.وَالْمُرَادُ بِتَرْتِيبِ الْقِيَامِ عَلَى الرُّكُوعِ، وَالرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ، وَالْقُعُودِ الْأَخِيرِ عَلَى مَا قَبْلَهُ، تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ رَكَعَ ثُمَّ قَامَ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ الرُّكُوعُ، فَإِنْ رَكَعَ ثَانِيًا صَحَّتْ صَلَاتُهُ؛ لِوُجُودِ التَّرْتِيبِ الْمَفْرُوضِ، وَلَزِمَهُ سُجُودُ السَّهْوِ لِتَقْدِيمِهِ الرُّكُوعَ الْمَفْرُوضَ، وَكَذَا تَقْدِيمُ الرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ، وَأَمَّا الْقُعُودُ الْأَخِيرُ فَيُفْتَرَضُ إِيقَاعُهُ بَعْدَ جَمِيعِ الْأَرْكَانِ، حَتَّى لَوْ تَذَكَّرَ بَعْدَهُ سَجْدَةً صُلْبِيَّةً سَجَدَهَا وَأَعَادَ الْقُعُودَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَلَوْ تَذَكَّرَ رُكُوعًا قَضَاهُ مَعَ مَا بَعْدَهُ مِنَ السُّجُودِ، أَوْ قِيَامًا أَوْ قِرَاءَةً صَلَّى رَكْعَةً.

37- وَمِنَ الْفَرَائِضِ- أَيْضًا- إِتْمَامُ الصَّلَاةِ، وَالِانْتِقَالُ مِنْ رُكْنٍ إِلَى رُكْنٍ؛ لِأَنَّ النَّصَّ الْمُوجِبَ لِلصَّلَاةِ يُوجِبُ ذَلِكَ، إِذْ لَا وُجُودَ لِلصَّلَاةِ بِدُونِ إِتْمَامِهَا وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي الْأَمْرَيْنِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِتْمَامِ عَدَمُ الْقَطْعِ.وَبِالِانْتِقَالِ الِانْتِقَالُ عَنَ الرُّكْنِ لِلْإِتْيَانِ بِرُكْنٍ بَعْدَهُ إِذْ لَا يَتَحَقَّقُ مَا بَعْدَهُ إِلاَّ بِذَلِكَ، وَأَمَّا الِانْتِقَالُ مِنْ رُكْنٍ إِلَى آخَرَ بِلَا فَاصِلٍ بَيْنَهُمَا فَوَاجِبٌ حَتَّى لَوْ رَكَعَ ثُمَّ رَكَعَ يَجِبُ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ مِنَ الْفَرْضِ وَهُوَ الرُّكُوعُ إِلَى السُّجُودِ، بَلْ أَدْخَلَ بَيْنَهُمَا أَجْنَبِيًّا، وَهُوَ الرُّكُوعُ الثَّانِي.

وَالنِّيَّةُ عِنْدَهُمْ شَرْطٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (نِيَّة).

وَكَذَا تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ، فَهِيَ عِنْدَهُمْ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ عُمُومًا غَيْرَ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، أَمَّا فِي الْجِنَازَةِ فَهِيَ رُكْنٌ اتِّفَاقًا.تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ) ف 3 (13 218).

وَاجِبَاتُ الصَّلَاةِ:

قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِوَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ سِوَى الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ، وَوَاجِبَاتُ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَخْتَلِفُ عَنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

أ- وَاجِبَاتُ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:

38- قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ.وَهِيَ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ لِثُبُوتِهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الزَّائِدِ عَلَى قوله تعالى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} وَالزِّيَادَةُ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَجُوزُ لَكِنْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا.

وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالُوا بِوُجُوبِهَا.وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» وَلَوْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ رُكْنًا لَعَلَّمَهُ إِيَّاهَا لِجَهْلِهِ بِالْأَحْكَامِ وَحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْفَضِيلَةِ.

ثُمَّ إِنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنْهَا وَاجِبَةٌ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ بِتَرْكِهَا.وَهَذَا عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ الْقَائِلِ إِنَّهَا وَاجِبَةٌ بِتَمَامِهَا، وَأَمَّا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ: فَالْوَاجِبُ أَكْثَرُهَا، فَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ بِتَرْكِ أَكْثَرِهَا لَا أَقَلِّهَا.قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: وَهُوَ- أَيْ قَوْلُ الْإِمَامِ- أَوْلَى، وَعَلَيْهِ فَكُلُّ آيَةٍ وَاجِبَةٌ.

39- ضَمُّ أَقْصَرِ سُورَةٍ إِلَى الْفَاتِحَةِ- كَسُورَةِ الْكَوْثَرِ- أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ ثَلَاثِ آيَاتٍ قِصَارٍ نَحْوَ قوله تعالى: {ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} أَوْ آيَةٍ طَوِيلَةٍ تَعْدِلُ ثَلَاثَ آيَاتٍ قِصَارٍ، وَقَدَّرُوهَا بِثَلَاثِينَ حَرْفًا.

وَمَحَلُّ هَذَا الضَّمِّ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنَ الْفَرْضِ، وَجَمِيعِ رَكَعَاتِ النَّفْلِ وَالْوِتْرِ.

40- وَيَجِبُ تَعْيِينُ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ عَيْنً

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


78-موسوعة الفقه الكويتية (صلاة 4)

صَلَاةٌ-4

42- رِعَايَةُ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَفِيمَا يَتَكَرَّرُ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ وَاجِبًا: أَنَّهُ لَوْ رَكَعَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ صَحَّ رُكُوعُ هَذِهِ الرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الرُّكُوعِ أَنْ يَكُونَ مُتَرَتِّبًا عَلَى قِرَاءَةٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، بِخِلَافِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَثَلًا فَإِنَّهُ فَرْضٌ حَتَّى لَوْ سَجَدَ قَبْلَ الرُّكُوعِ لَمْ يَصِحَّ سُجُودُ هَذِهِ الرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ السُّجُودِ يُشْتَرَطُ تَرَتُّبُهُ عَلَى الرُّكُوعِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ كَتَرَتُّبِ الرُّكُوعِ عَلَى الْقِيَامِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَمْ تُفْرَضْ فِي جَمِيعِ رَكَعَاتِ الْفَرْضِ بَلْ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْهُ بِلَا تَعْيِينٍ.أَمَّا الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فَإِنَّهَا مُعَيَّنَةٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ.

وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِيمَا يَتَكَرَّرُ: السَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ وَعَدَدُ الرَّكَعَاتِ.أَمَّا السَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ: فَالتَّرْتِيبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا بَعْدَهَا وَاجِبٌ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ رَكْعَةٍ ثُمَّ تَذَكَّرَهَا فِيمَا بَعْدَهَا مِنْ قِيَامٍ أَوْ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ فَإِنَّهُ يَقْضِيهَا، وَلَا يَقْضِي مَا فَعَلَهُ قَبْلَ قَضَائِهَا مِمَّا هُوَ بَعْدَ رَكْعَتِهَا مِنْ قِيَامٍ أَوْ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ، بَلْ يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ فَقَطْ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي لُزُومِ قَضَاءِ مَا إِذَا تَذَكَّرَهَا فَقَضَاهَا فِيهِ، كَمَا لَوْ تَذَكَّرَ وَهُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ أَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ فِي الرَّكْعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَإِنَّهُ يَسْجُدُهَا، وَهَلْ يُعِيدُ الرُّكُوعَ أَوِ السُّجُودَ الْمُتَذَكَّرَ فِيهِ؟.

فَفِي الْهِدَايَةِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ إِعَادَتُهُ بَلْ تُسْتَحَبُّ مُعَلِّلًا بِأَنَّ التَّرْتِيبَ لَيْسَ بِفَرْضٍ بَيْنَ مَا يَتَكَرَّرُ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَفِي الْخَانِيَّةِ أَنَّهُ يُعِيدُهُ وَإِلاَّ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ مُعَلِّلًا بِأَنَّهُ ارْتُفِضَ بِالْعَوْدِ إِلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْأَرْكَانِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ الرَّفْعِ مِنْهُ يَقْبَلُ الرَّفْضَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَذَكَّرَ السَّجْدَةَ بَعْدَمَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا تَمَّ بِالرَّفْعِ لَا يَقْبَلُ الرَّفْضَ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْمُعْتَمَدُ مَا فِي الْهِدَايَةِ، وَلَوْ نَسِيَ سَجْدَةً مِنَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى قَضَاهَا وَلَوْ بَعْدَ السَّلَامِ قَبْلَ إِتْيَانِهِ بِمُفْسِدٍ، لَكِنَّهُ يَتَشَهَّدُ، ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ؛ لِبُطْلَانِ التَّشَهُّدِ وَالْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ بِالْعَوْدِ إِلَى السَّجْدَةِ؛ لِاشْتِرَاطِهَا التَّرْتِيبَ، وَالتَّقْيِيدُ بِالتَّرْتِيبِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا بَعْدَهَا لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا قَبْلَهَا مِنْ رَكْعَتِهَا، فَإِنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مِنْ رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ شَرْطٌ.

وَأَمَّا الرَّكَعَاتُ فَإِنَّ التَّرْتِيبَ فِيهَا وَاجِبٌ إِلاَّ لِضَرُورَةِ الِاقْتِدَاءِ حَيْثُ يَسْقُطُ بِهِ التَّرْتِيبُ، فَإِنَّ الْمَسْبُوقَ يُصَلِّي آخِرَ الرَّكَعَاتِ قَبْلَ أَوَّلِهَا.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: فَإِنْ قُلْتَ وُجُوبُ الشَّيْءِ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا أَمْكَنَ ضِدُّهُ، وَعَدَمُ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الرَّكَعَاتِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ كُلَّ رَكْعَةٍ أَتَى بِهَا أَوَّلًا فَهِيَ الْأُولَى، وَثَانِيًا فَهِيَ الثَّانِيَةُ وَهَكَذَا.فَإِنَّهُ يُمْكِنُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الِاعْتِبَارِيَّةِ الَّتِي يُبْتَنَى عَلَيْهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ إِذَا وُجِدَ مَعَهَا مَا يَقْتَضِيهَا، فَإِذَا صَلَّى مِنَ الْفَرْضِ الرُّبَاعِيِّ رَكْعَتَيْنِ، وَقَصَدَ أَنْ يَجْعَلَهُمَا الْأَخِيرَتَيْنِ فَهُوَ لَغْوٌ، إِلاَّ إِذَا حَقَّقَ قَصْدَهُ بِأَنْ تَرَكَ فِيهِمَا الْقِرَاءَةَ، وَقَرَأَ فِيمَا بَعْدَهُمَا فَحِينَئِذٍ يُبْتَنَى عَلَيْهِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ وَهِيَ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ وَالْإِثْمِ؛ لِوُجُودِ مَا يَقْتَضِي تِلْكَ الْأَحْكَامَ وَلِهَذَا اعْتَبَرَ الشَّارِعُ صَلَاةَ الْمَسْبُوقِ غَيْرَ مُرَتَّبَةٍ مِنْ حَيْثُ الْأَقْوَالُ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ عَكْسَ التَّرْتِيبِ بِأَنْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَفْعَلَ مَا يُبْتَنَى عَلَى ذَلِكَ مِنْ قِرَاءَةٍ وَجَهْرٍ.

كَذَلِكَ أَمَرَ غَيْرَهُ بِالتَّرْتِيبِ بِأَنْ يَفْعَلَ مَا يَقْتَضِيَهُ بِأَنْ يَقْرَأَ أَوَّلًا وَيَجْهَرَ أَوْ يُسِرَّ، وَإِذَا خَالَفَ يَكُونُ قَدْ عَكَسَ التَّرْتِيبَ حُكْمًا.

تَعْدِيلُ الْأَرْكَانِ:

43- وَهُوَ: تَسْكِينُ الْجَوَارِحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، وَأَدْنَاهُ قَدْرُ تَسْبِيحَةٍ، وَهُوَ وَاجِبٌ فِي تَخْرِيجِ الْكَرْخِيِّ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ شُرِعَ لِتَكْمِيلِ رُكْنٍ فَيَكُونُ وَاجِبًا كَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ.وَفِي تَخْرِيجِ الْجُرْجَانِيِّ أَنَّهُ سُنَّةٌ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِتَكْمِيلِ الْأَرْكَانِ وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ لِذَاتِهِ.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ فَرْضٌ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِمَنْ أَخَفَّ الصَّلَاةَ: صَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ: «إِنَّهَا لَا تَتِمُّ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يُكَبِّرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيَحْمَدَهُ، ثُمَّ يَقْرَأَ مِنَ الْقُرْآنِ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ وَتَيَسَّرَ، ثُمَّ يَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ يَرْكَعَ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ ثُمَّ يَقُولَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا ثُمَّ يَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ.قَالَ:

ثُمَّ يُكَبِّرَ فَيَسْجُدَ فَيُمَكِّنَ وَجْهَهُ- أَوْ جَبْهَتَهُ- مِنَ الْأَرْضِ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ وَتَسْتَرْخِيَ، ثُمَّ يُكَبِّرَ فَيَسْتَوِيَ قَاعِدًا عَلَى مَقْعَدِهِ، وَيُقِيمَ صُلْبَهُ» فَوَصْفُ الصَّلَاةِ هَكَذَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ حَتَّى تَفْرُغَ «لَا تَتِمُّ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ».

وَاسْتَدَلَّ عَلَى الْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَ: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} حَيْثُ أَمَرَ بِالرُّكُوعِ، وَهُوَ: الِانْحِنَاءُ لُغَةً، وَبِالسُّجُودِ، وَهُوَ: الِانْخِفَاضُ لُغَةً، فَتَتَعَلَّقُ الرُّكْنِيَّةُ بِالْأَدْنَى مِنْهُمَا.

وَفِي آخِرِ الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- سَمَّاهُ صَلَاةً.فَقَالَ لَهُ: «إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ، وَإِنِ انْتَقَصْتَ مِنْهُ شَيْئًا انْتَقَصْتَ مِنْ صَلَاتِكَ» وَلَا حُجَّةَ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي- أَيْضًا- لِأَنَّ فِيهِ وَضْعَ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ وَالثَّنَاءَ وَالتَّسْمِيعَ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فَرْضًا بِالْإِجْمَاعِ.

وَكَذَا تَجِبُ الطُّمَأْنِينَةُ فِي الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَكَذَا نَفْسُ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُحَقِّقِ ابْنِ الْهُمَامِ وَتِلْمِيذِهِ ابْنِ أَمِيرِ حَاجٍّ حَتَّى قَالَ: إِنَّهُ الصَّوَابُ؛ لِلْمُوَاظَبَةِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلِلْأَمْرِ فِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ، وَلِمَا ذَكَرَهُ قَاضِيخَانْ مِنْ لُزُومِ سُجُودِ السَّهْوِ بِتَرْكِ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ سَاهِيًا.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَصَحَّ رِوَايَةً وَدِرَايَةً وُجُوبُ تَعْدِيلِ الْأَرْكَانِ، وَأَمَّا الْقَوْمَةُ وَالْجِلْسَةُ وَتَعْدِيلُهَا فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ السُّنِّيَّةُ، وَرُوِيَ وُجُوبُهَا، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْأَدِلَّةِ وَعَلَيْهِ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ.وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ بِفَرْضِيَّةِ الْكُلِّ، وَاخْتَارَهُ فِي الْمَجْمَعِ وَالْعَيْنِيُّ وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ.وَقَالَ فِي الْفَيْضِ: إِنَّهُ الْأَحْوَطُ.

44- الْقُعُودُ الْأَوَّلُ: يَجِبُ الْقُعُودُ الْأَوَّلُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَالثَّلَاثِ، وَلَوْ فِي النَّفْلِ فِي الْأَصَحِّ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فِي افْتِرَاضِهِ قَعْدَةَ كُلِّ شَفْعٍ نَفْلًا، وَلِلطَّحَاوِيِّ وَالْكَرْخِيِّ أَنَّهَا فِي غَيْرِ النَّفْلِ سُنَّةٌ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: قَالَ فِي الْبَدَائِعِ:

وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ اسْمَ السُّنَّةِ، إِمَّا لِأَنَّ وُجُوبَهُ عُرِفَ بِهَا، أَوْ لِأَنَّ الْمُؤَكَّدَةَ فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ، وَهَذَا يَقْتَضِي رَفْعَ الْخِلَافِ.

45- التَّشَهُّدَانِ: أَيْ تَشَهُّدُ الْقَعْدَةِ الْأُولَى وَتَشَهُّدُ الْأَخِيرَةِ، وَيَجِبُ سُجُودُ السَّهْوِ بِتَرْكِ بَعْضِهِ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ وَاحِدٌ مَنْظُومٌ فَتَرْكُ بَعْضِهِ كَتَرْكِ كُلِّهِ، وَأَفْضَلُ صِيَغِ التَّشَهُّدِ هِيَ الْمَرْوِيَّةُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَتَأْتِي فِي سُنَنِ الصَّلَاةِ.

46- السَّلَامُ: وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِهِ وَعَدَمِ فَرْضِيَّتِهِ بِحَدِيثِ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- قَالَ لَهُ حِينَ عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ: إِذَا قُلْتَ هَذَا أَوْ قَضَيْتَ هَذَا فَقَدْ قَضَيْتَ صَلَاتَكَ». وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَحْدَث الرَّجُلُ وَقَدْ جَلَسَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَقَدْ جَازَتْ صَلَاتُهُ».

وَعَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنهما-: «إِذَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ أَحْدَث فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ» وَأَمَّا قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِير، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» فَإِنَّهُ إِنْ صَحَّ لَا يُفِيدُ الْفَرْضِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ الْوُجُوبَ.ثُمَّ إِنَّهُ يَجِبُ مَرَّتَيْنِ، وَالْوَاجِبُ مِنْهُ لَفْظُ «السَّلَامُ» فَقَطْ دُونَ «عَلَيْكُمْ».

47- إِتْيَانُ كُلِّ فَرْضٍ أَوْ وَاجِبٍ فِي مَحَلِّهِ، فَلَوْ أَخَّرَهُ عَنْ مَحَلِّهِ سَهْوًا سَجَدَ لِلسَّهْوِ.وَمِثَالُ تَأْخِيرِ الْفَرْضِ: مَا لَوْ أَتَمَّ الْفَاتِحَةَ ثُمَّ مَكَثَ مُتَفَكِّرًا سَهْوًا ثُمَّ رَكَعَ.

وَمِثَالُ تَأْخِيرِ الْوَاجِبِ: مَا لَوْ تَذَكَّرَ السُّورَةَ وَهُوَ رَاكِعٌ فَضَمَّهَا قَائِمًا وَأَعَادَ الرُّكُوعَ سَجَدَ لِلسَّهْوِ.وَكَذَا يَجِبُ تَرْكُ تَكْرِيرِ الرُّكُوعِ وَتَثْلِيثِ السُّجُودِ- لِأَنَّ فِي زِيَادَةِ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ تَغْيِيرَ الْمَشْرُوعِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعٌ وَاحِدٌ وَسَجْدَتَانِ فَقَطْ، فَإِذَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَيْضًا تَرْكُ وَاجِبٍ آخَرَ، وَهُوَ إِتْيَانُ الْفَرْضِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ تَكْرِيرَ الرُّكُوعِ فِيهِ تَأْخِيرُ السُّجُودِ عَنْ مَحَلِّهِ وَتَثْلِيثُ السُّجُودِ فِيهِ تَأْخِيرُ الْقِيَامِ أَوِ الْقَعْدَةِ، وَكَذَا الْقَعْدَةُ فِي آخِرِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَوِ الثَّالِثَةِ فَيَجِبُ تَرْكُهَا، وَيَلْزَمُ مِنْ فِعْلِهَا- أَيْضًا- تَأْخِيرُ الْقِيَامِ إِلَى الثَّانِيَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ عَنْ مَحَلِّهِ.

وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الْقَعْدَةُ طَوِيلَةً، أَمَّا الْجِلْسَةُ الْخَفِيفَةُ الَّتِي اسْتَحَبَّهَا الشَّافِعِيَّةُ فَتَرْكُهَا غَيْرُ وَاجِبٍ، بَلْ هُوَ الْأَفْضَلُ.

وَهَكَذَا كُلُّ زِيَادَةٍ بَيْنَ فَرْضَيْنِ أَوْ بَيْنَ فَرْضٍ وَوَاجِبٍ يَكُونُ فِيهَا تَرْكُ وَاجِبٍ بِسَبَبِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْهَا تَرْكُ وَاجِبٍ آخَرَ، وَهُوَ تَأْخِيرُ الْفَرْضِ الثَّانِي عَنْ مَحَلِّهِ.وَيَدْخُلُ فِي الزِّيَادَةِ السُّكُوتُ، حَتَّى لَوْ شَكَّ فَتَفَكَّرَ سَجَدَ لِلسَّهْوِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ تَرْكَ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ إِتْيَانُ كُلِّ وَاجِبٍ أَوْ فَرْضٍ فِي مَحَلِّهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْوَاجِبَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِتَرْكِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ، فَكَانَ تَرْكُهَا وَاجِبًا لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْإِخْلَالِ بِهَذَا الْوَاجِبِ الْإِخْلَالُ بِذَاكَ الْوَاجِبِ فَهُوَ نَظِيرُ عَدِّهِمْ مِنَ الْفَرَائِضِ الِانْتِقَالَ مِنْ رُكْنٍ إِلَى رُكْنٍ فَإِنَّهُ فَرْضٌ لِغَيْرِهِ.

وَبَقِيَ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ: قِرَاءَةُ قُنُوتِ الْوِتْرِ، وَتَكْبِيرَاتُ الْعِيدَيْنِ، وَالْجَهْرُ وَالْإِسْرَارُ فِيمَا يُجْهَرُ فِيهِ وَيُسَرُّ.

وَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.

ب- وَاجِبَاتُ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:

48- تَكْبِيرَاتُ الِانْتِقَالِ فِي مَحَلِّهَا: وَمَحَلُّهَا مَا بَيْنَ بَدْءِ الِانْتِقَالِ وَانْتِهَائِهِ لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: «فَإِذَا كَبَّرَ يَعْنِي الْإِمَامَ وَرَكَعَ، فَكَبِّرُوا وَارْكَعُوا.، وَإِذَا كَبَّرَ وَسَجَدَ، فَكَبِّرُوا وَاسْجُدُوا» وَهَذَا أَمْرٌ، وَهُوَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلَوْ شَرَعَ الْمُصَلِّي فِي التَّكْبِيرِ قَبْلَ انْتِقَالِهِ كَأَنْ يُكَبِّرَ لِلرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ قَبْلَ هُوِيِّهِ إِلَيْهِ، أَوْ كَمَّلَهُ بَعْدَ انْتِهَائِهِ بِأَنْ كَبَّرَ وَهُوَ رَاكِعٌ أَوْ وَهُوَ سَاجِدٌ بَعْدَ انْتِهَاءِ هُوِيِّهِ، فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ التَّكْبِيرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ فِي مَحَلِّهِ.

وَإِنْ شَرَعَ فِيهِ قَبْلَهُ أَوْ كَمَّلَهُ بَعْدَهُ فَوَقَعَ بَعْضُهُ خَارِجًا مِنْهُ فَهُوَ كَتَرْكِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُكْمِلْهُ فِي مَحَلِّهِ فَأَشْبَهَ مَنْ تَعَمَّدَ قِرَاءَتَهُ رَاكِعًا أَوْ أَخَذَ فِي التَّشَهُّدِ قَبْلَ قُعُودِهِ.

قَالَ الْبُهُوتِيُّ: هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُعْفَى عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ يَعْسُرُ، وَالسَّهْوُ بِهِ يَكْثُرُ فَفِي الْإِبْطَالِ بِهِ وَالسُّجُودِ لَهُ مَشَقَّةٌ.

وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ تَكْبِيرَةُ رُكُوعِ مَسْبُوقٍ أَدْرَكَ إِمَامَهُ رَاكِعًا، فَكَبَّرَ لِلْإِحْرَامِ ثُمَّ رَكَعَ مَعَهُ فَإِنَّ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ رُكْنٌ، وَتَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ هُنَا سُنَّةٌ لِلِاجْتِزَاءِ عَنْهَا بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ.قَالُوا: وَإِنْ نَوَى تَكْبِيرَةَ الرُّكُوعِ مَعَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ لَمْ تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ.

49- التَّسْمِيعُ: وَهُوَ قَوْلُ: (سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ)، وَهُوَ وَاجِبٌ لِلْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ دُونَ الْمَأْمُومِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ.

«وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِبُرَيْدَةَ يَا بُرَيْدَةُ، إِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ فَقُلْ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ» وَيَجِبُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا مُرَتَّبَةً، فَلَوْ قَالَ: مَنْ حَمِدَ اللَّهَ سَمِعَ لَهُ، لَمْ يُجْزِئْهُ.

وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَإِنَّهُ يَحْمَدُ فَقَطْ فِي حَالِ رَفْعِهِ مِنَ الرُّكُوعِ وَلَا يُسْمِعْ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا قَالَ يَعْنِي الْإِمَامَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ».

50- التَّحْمِيدُ: وَهُوَ قَوْلُ: «رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ» وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ.لِحَدِيثِ أَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ، وَيُجْزِئُهُ أَنْ يَقُولَ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ بِلَا وَاوٍ.وَبِالْوَاوِ أَفْضَلُ، كَمَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَقُولَ: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ» بِلَا وَاوٍ.وَأَفْضَلُ مِنْهُ مَعَ الْوَاوِ، فَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ».

51- التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ: وَهُوَ قَوْلُ: «سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ» وَالْوَاجِبُ مِنْهُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ، لِمَا رَوَى حُذَيْفَةُ «أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَكَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ.وَفِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى». وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ.فَلَمَّا نَزَلَتْ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قَالَ: اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ».

52- التَّسْبِيحُ فِي السُّجُودِ: وَهُوَ قَوْلُ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى»، وَالْوَاجِبُ مِنْهُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ لِحَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْمُتَقَدِّمَيْنِ.

53- قَوْلُ: «رَبِّ اغْفِرْ لِي» فِي الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: وَهُوَ وَاجِبٌ مَرَّةً وَاحِدَةً عَلَى الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ؛ لِمَا رَوَى حُذَيْفَةُ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي» قَالُوا: وَإِنْ قَالَ: «رَبِّ اغْفِرْ لَنَا» أَوِ «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا» فَلَا بَأْسَ. 54- التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ: لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَعَلَهُ وَدَاوَمَ عَلَى فِعْلِهِ وَأَمَرَ بِهِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ حِينَ نَسِيَهُ.قَالُوا: وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ، لِسُقُوطِهَا بِالسَّهْوِ وَانْجِبَارِهَا بِالسُّجُودِ، وَالْمُجْزِئُ مِنَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ (التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَوْ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) فَمَنْ تَرَكَ حَرْفًا مِنْ ذَلِكَ عَمْدًا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، لِلِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ الْأَحَادِيثِ.

55- الْجُلُوسُ لِلتَّشَهُّدِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى غَيْرِ مَنْ قَامَ إِمَامُهُ سَهْوًا وَلَمْ يُنَبَّهْ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ حِينَئِذٍ التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ، وَيُتَابِعُ إِمَامَهُ وُجُوبًا.

أَنْوَاعُ السُّنَنِ فِي الصَّلَاةِ:

56- قَسَّمَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- سُنَنَ الصَّلَاةِ بِاعْتِبَارِ تَأَكُّدِهَا وَعَدَمِهِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِهَا إِلَى نَوْعَيْنِ:

فَقَسَّمَهَا الْحَنَفِيَّةُ إِلَى: سُنَنٍ وَآدَابٍ، وَالْمَقْصُودُ بِالسُّنَنِ: هِيَ السُّنَنُ الْمُؤَكَّدَةُ الَّتِي وَاظَبَ عَلَيْهَا الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- أَوِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ، وَتَرْكُهَا يُوجِبُ الْإِسَاءَةَ، وَالْإِثْمَ إِذَا أَصَرَّ عَلَى التَّرْكِ.

وَالْآدَابُ: وَهِيَ السُّنَنُ غَيْرُ الْمُؤَكَّدَةِ، وَتَرْكُهَا لَا يُوجِبُ إِسَاءَةً وَلَا عِتَابًا لَكِنْ فِعْلُهَا أَفْضَلُ.

كَمَا قَسَّمَهَا الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: سُنَنٍ وَمَنْدُوبَاتٍ.

فَالسُّنَنُ: هِيَ السُّنَنُ الْمُؤَكَّدَةُ.

وَالْمَنْدُوبَاتُ: هِيَ السُّنَنُ غَيْرُ الْمُؤَكَّدَةِ وَيُسَمُّونَهَا- أَيْضًا- نَوَافِلَ وَفَضَائِلَ وَمُسْتَحَبَّاتٍ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَنْقَسِمُ إِلَى: أَبْعَاضٍ، وَهَيْئَاتٍ.

فَالْأَبْعَاضُ: هِيَ السُّنَنُ الْمَجْبُورَةُ بِسُجُودِ السَّهْوِ، سَوَاءٌ تَرَكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، وَسُمِّيَتْ أَبْعَاضًا لِتَأَكُّدِ شَأْنِهَا بِالْجَبْرِ تَشْبِيهًا بِالْبَعْضِ حَقِيقَةً، وَالْهَيْئَاتُ: هِيَ السُّنَنُ الَّتِي لَا تُجْبَرُ.

وَلَمْ يُقَسِّمْهَا الْحَنَابِلَةُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَإِنَّمَا قَسَّمُوهَا بِاعْتِبَارِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَهِيَ تَنْقَسِمُ عِنْدَهُمْ إِلَى: سُنَنِ أَقْوَالٍ، وَسُنَنِ أَفْعَالٍ وَهَيْئَاتٍ. سُنَنُ الصَّلَاةِ:

(أ) رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ:

57- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ».

وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الرَّفْعِ.

58- فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِإِبْهَامَيْهِ شَحْمَتَيْ أُذُنَيْهِ، وَبِرُءُوسِ الْأَصَابِعِ فُرُوعَ أُذُنَيْهِ، وَيَسْتَقْبِلَ بِبُطُونِ كَفَّيْهِ الْقِبْلَةَ، وَيَنْشُرَ أَصَابِعَهُ وَيَرْفَعَهُمَا، فَإِذَا اسْتَقَرَّتَا فِي مَوْضِعِ مُحَاذَاةِ الْإِبْهَامَيْنِ شَحْمَتَيِ الْأُذُنَيْنِ يُكَبِّرُ؛ فَالرَّفْعُ يَكُونُ قَبْلَ التَّكْبِيرِ.

وَهَذَا فِي الرَّجُلِ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تَرْفَعُ يَدَيْهَا حِذَاءَ الْمَنْكِبَيْنِ، قَالُوا: وَلَا يُطَأْطِئُ الْمُصَلِّي رَأْسَهُ عِنْدَ التَّكْبِيرِ؛ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ.

وَلَوْ رَفَعَ الْمُصَلِّي يَدَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَضُمُّ أَصَابِعَهُ كُلَّ الضَّمِّ، وَلَا يُفَرِّجُ كُلَّ التَّفْرِيجِ بَلْ يَتْرُكُهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ بَيْنَ الضَّمِّ وَالتَّفْرِيجِ.

وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ كَبَّرَ وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ حَتَّى فَرَغَ مِنَ التَّكْبِيرِ لَمْ يَأْتِ بِهِ، وَإِنْ ذَكَرَهُ فِي أَثْنَاءِ التَّكْبِيرِ رَفَعَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الرَّفْعُ إِلَى الْمَوْضِعِ الْمَسْنُونِ رَفَعَهُمَا قَدْرَ مَا يُمْكِنُ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ رَفْعُ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى رَفَعَهَا وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الرَّفْعُ إِلاَّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الْمَسْنُونِ رَفَعَهُمَا.

كَمَا صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوِ اعْتَادَ الْمُصَلِّي تَرْكَ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فَإِنَّهُ يَأْثَمُ، وَإِثْمُهُ لَا لِنَفْسِ التَّرْكِ، بَلْ؛ لِأَنَّهُ اسْتِخْفَافٌ وَعَدَمُ مُبَالَاةٍ بِسُنَّةٍ وَاظَبَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مُدَّةَ عُمُرِهِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الِاسْتِخْفَافُ بِمَعْنَى التَّهَاوُنِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ، لَا بِمَعْنَى الِاسْتِهَانَةِ وَالِاحْتِقَارِ، وَإِلاَّ كَانَ كُفْرًا.

59- وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ شُرُوعِهِ فِي الْإِحْرَامِ، فَيُكْرَهُ رَفْعُهُمَا قَبْلَ التَّكْبِيرِ أَوْ بَعْدَهُ، وَالرَّفْعُ يَكُونُ بِحَيْثُ تَكُونُ ظُهُورُ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ وَبُطُونُهُمَا إِلَى الْأَرْضِ وَبِحَيْثُ يَنْتَهِي رَفْعُهُمَا إِلَى حَذْوِ الْمَنْكِبَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: انْتِهَاؤُهَا إِلَى الصَّدْرِ، وَقِيلَ: يَرْفَعُهُمَا حَذْوَ الْأُذُنَيْنِ، وَهُمَا مُقَابِلَانِ لِلْمَشْهُورِ.

وَتُسَمَّى صِفَةُ هَذَا الرَّفْعِ عِنْدَهُمْ صِفَةَ الرَّاهِبِ- وَهِيَ الْمَذْهَبُ- وَمُقَابِلُهُ صِفَتَانِ: صِفَةُ الرَّاغِبِ: وَهِيَ بِأَنْ يَجْعَلَ بُطُونَ يَدَيْهِ لِلسَّمَاءِ، وَصِفَةُ النَّابِذِ: وَهِيَ أَنْ يُحَاذِيَ بِكَفَّيْهِ مَنْكِبَيْهِ قَائِمَتَيْنِ وَرُءُوسَ أَصَابِعِهِمَا مِمَّا يَلِيَ السَّمَاءَ عَلَى صُورَةِ النَّابِذِ لِلشَّيْءِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْيَدَيْنِ تَكُونُ حَذْوَ الْمَنْكِبَيْنِ فِي الرَّفْعِ مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: مِنْ أَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ».

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ حَذْوَ الصَّدْرِ مَا فِي حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إِلَى صُدُورِهِمْ فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهَا حَذْوَ الْأُذُنَيْنِ حَدِيثُ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى حَاذَى بِهِمَا أُذُنَيْهِ» وَهَذَا فِي رَفْعِ الرَّجُلِ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَدُونَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا عِنْدَهُمْ، قَالُوا: وَيُسْتَحَبُّ كَشْفُهُمَا عِنْدَ الْإِحْرَامِ وَإِرْسَالُهُمَا بِوَقَارٍ فَلَا يَدْفَعُ بِهِمَا أَمَامَهُ.

وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ الْفَضَائِلِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَلَيْسَ مِنَ السُّنَنِ.

60- وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَكُونُ الرَّفْعُ حَذْوَ الْمَنْكِبَيْنِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ» قَالُوا: وَمَعْنَى حَذْوِ مَنْكِبَيْهِ: أَنْ تُحَاذِيَ أَطْرَافُ أَصَابِعِهِ أَعْلَى أُذُنَيْهِ، وَإِبْهَامَاهُ شَحْمَتَيْ أُذُنَيْهِ، وَرَاحَتَاهُ مَنْكِبَيْهِ، وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ: بَلْ مَعْنَاهُ كَوْنُ رُءُوسِ أَصَابِعِهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الرَّفْعُ إِلاَّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الْمَشْرُوعِ أَوْ نَقْصٍ مِنْهُ أَتَى بِالْمُمْكِنِ مِنْهُمَا، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْإِتْيَانُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا فَالزِّيَادَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَأْمُورِ وَزِيَادَةٍ.

فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ رَفْعُ إِحْدَى يَدَيْهِ رَفَعَ الْأُخْرَى، وَأَقْطَعُ الْكَفَّيْنِ يَرْفَعُ سَاعِدَيْهِ، وَأَقْطَعُ الْمِرْفَقَيْنِ يَرْفَعُ عَضُدَيْهِ تَشْبِيهًا بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ، وَزَمَنُ الرَّفْعِ يَكُونُ مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ فِي الْأَصَحِّ لِلِاتِّبَاعِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، سَوَاءٌ انْتَهَى التَّكْبِيرُ مَعَ الْحَطِّ أَوْ لَا.

وَفِي وَجْهٍ: يَرْفَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ التَّكْبِيرِ وَيُكَبِّرُ مَعَ ابْتِدَاءِ الْإِرْسَالِ وَيُنْهِيهِ مَعَ انْتِهَائِهِ، وَقِيلَ: يَرْفَعُ غَيْرَ مُكَبِّرٍ، ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَدَاهُ مُرْتَفِعَتَانِ، فَإِذَا فَرَغَ أَرْسَلَهُمَا مِنْ غَيْرِ تَكْبِيرٍ.

وَإِنْ تَرَكَ الرَّفْعَ حَتَّى شَرَعَ فِي التَّكْبِيرِ أَتَى بِهِ فِي أَثْنَائِهِ لَا بَعْدَهُ لِزَوَالِ سَبَبِهِ.

61- وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: يَرْفَعُ الْمُصَلِّي يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ بِرُءُوسِهِمَا، وَيَسْتَقْبِلُ بِبُطُونِهِمَا الْقِبْلَةَ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُصَلِّي عُذْرٌ يَمْنَعُهُ مِنْ رَفْعِهِمَا، أَوْ رَفَعَ إِحْدَاهُمَا إِلَى حَذْوِ الْمَنْكِبَيْنِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ يُكَبِّرُ» وَتَكُونُ الْيَدَانِ حَالَ الرَّفْعِ مَمْدُودَتَيِ الْأَصَابِعِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَدًّا» مَضْمُومَةً؛ لِأَنَّ الْأَصَابِعَ إِذَا ضُمَّتْ تَمْتَدُّ، وَيَكُونُ ابْتِدَاءُ الرَّفْعِ مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ وَانْتِهَاؤُهُ مَعَ انْتِهَائِهِ؛ لِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ أَنَّهُ: «رَأَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ التَّكْبِيرِ» وَلِأَنَّ الرَّفْعَ لِلتَّكْبِيرِ فَكَانَ مَعَهُ، وَإِذَا عَجَزَ عَنْ رَفْعِ إِحْدَاهُمَا رَفَعَ الْيَدَ الْأُخْرَى.وَلِلْمُصَلِّي أَنْ يَرْفَعَهُمَا أَقَلَّ مِنْ حَذْوِ الْمَنْكِبَيْنِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ لِعُذْرٍ يَمْنَعُهُ لِحَدِيثِ: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ». وَيَسْقُطُ نَدْبُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ مَعَ فَرَاغِ التَّكْبِيرِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ فَاتَ مَحَلُّهَا، وَإِنْ نَسِيَهُ فِي ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ ثُمَّ ذَكَرَهُ فِي أَثْنَائِهِ أَتَى بِهِ فِيمَا بَقِيَ لِبَقَاءِ مَحَلِّ الِاسْتِحْبَابِ.وَالْأَفْضَلُ أَنْ تَكُونَ يَدَاهُ مَكْشُوفَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كَشْفَهُمَا أَدَلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَأَظْهَرُ فِي الْخُضُوعِ.

(ب) الْقَبْضُ (وَضْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى):

62- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّ مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ الْقَبْضَ، وَهُوَ: وَضْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى.

وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: يُنْدَبُ الْإِرْسَالُ وَكَرَاهَةُ الْقَبْضِ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ.وَجَوَّزُوهُ فِي النَّفْلِ وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِرْسَال) ف 4 (3 94).

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَبْضِ، وَمَكَانِ وَضْعِ الْيَدَيْنِ.

كَيْفِيَّةُ الْقَبْضِ:

63- فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَبْضِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الرَّجُلَ يَأْخُذُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى رُسْغَ الْيُسْرَى بِحَيْثُ يُحَلِّقُ الْخِنْصَرُ وَالْإِبْهَامُ عَلَى الرُّسْغِ وَيَبْسُطُ الْأَصَابِعَ الثَّلَاثَ.

وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: يُحَلِّقُ إِبْهَامَهُ وَخِنْصَرَهُ وَبِنَصْرِهِ وَيَضَعُ الْوُسْطَى وَالْمُسَبِّحَةَ عَلَى مِعْصَمِهِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تَضَعُ الْكَفَّ عَلَى الْكَفِّ

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَقْبِضُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى كُوعِ الْيُسْرَى، لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَضَعَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى»

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَقْبِضُ بِكَفِّهِ الْيُمْنَى عَلَى كُوعِ الْيُسْرَى وَالرُّسْغِ وَبَعْضِ السَّاعِدِ، وَيَبْسُطُ أَصَابِعَهَا فِي عَرْضِ الْمَفْصِلِ أَوْ يَنْشُرُهَا صَوْبَ السَّاعِدِ؛ لِمَا رَوَى «وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ قَالَ: قُلْتُ لأَنْظُرَنَّ إِلَى صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَيْفَ يُصَلِّي فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى وَالرُّسْغِ وَالسَّاعِدِ».

مَكَانُ الْوَضْعِ:

64- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَكَانَ وَضْعِ الْيَدَيْنِ تَحْتَ السُّرَّةِ، فَيُسَنُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَضَعَهُمَا تَحْتَ سُرَّتِهِ، لِقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: «مِنَ السُّنَّةِ وَضْعُ الْكَفِّ عَلَى الْكَفِّ تَحْتَ السُّرَّةِ».

قَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَمَعْنَى وَضْعِ كَفِّهِ الْأَيْمَنِ عَلَى كُوعِهِ الْأَيْسَرِ وَجَعْلُهَا تَحْتَ سُرَّتِهِ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ ذُو ذُلٍّ بَيْنَ يَدَيْ ذِي عِزٍّ، وَنَقَلُوا نَصَّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَلَى كَرَاهَةِ جَعْلِ يَدَيْهِ عَلَى صَدْرِهِ.لَكِنِ الْحَنَفِيَّةُ خَصُّوا هَذَا بِالرَّجُلِ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَضَعُ يَدَهَا عَلَى صَدْرِهَا عِنْدَهُمْ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ وَضْعُ الْيَدَيْنِ تَحْتَ الصَّدْرِ وَفَوْقَ السُّرَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْقَبْضِ فِي النَّفْلِ، لِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى صَدْرِهِ» قَالُوا: أَيْ آخِرُهُ فَتَكُونُ الْيَدُ تَحْتَهُ بِقَرِينَةِ رِوَايَةِ (تَحْتَ صَدْرِهِ)، وَالْحِكْمَةُ فِي جَعْلِهِمَا تَحْتَ صَدْرِهِ: أَنْ يَكُونَ فَوْقَ أَشْرَفِ الْأَعْضَاءِ وَهُوَ الْقَلْبُ، فَإِنَّهُ تَحْتَ الصَّدْرِ.

قَالَ الْإِمَامُ: وَالْقَصْدُ مِنَ الْقَبْضِ الْمَذْكُورِ تَسْكِينُ الْجَوَارِحِ، فَإِنْ أَرْسَلَهُمَا وَلَمْ يَعْبَثْ بِهِمَا فَلَا بَأْسَ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


79-موسوعة الفقه الكويتية (صوم 6)

صَوْمٌ -6

أَوَّلًا: الْقَضَاءُ:

86- مَنْ أَفْطَرَ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ- كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ- قَضَى بِعِدَّةِ مَا فَاتَهُ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِعِدَّةِ مَا فَاتَهُ، لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.

وَمَنْ فَاتَهُ صَوْمُ رَمَضَانَ كُلُّهُ، قَضَى الشَّهْرَ كُلَّهُ، سَوَاءٌ ابْتَدَأَهُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ أَوْ مِنْ أَثْنَائِهِ، كَأَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ الْفَائِتَةِ.قَالَ الْأَبِيُّ: الْقَضَاءُ لِمَا فَاتَ مِنْ رَمَضَانَ بِالْعَدَدِ: فَمَنْ أَفْطَرَ رَمَضَانَ كُلَّهُ، وَكَانَ ثَلَاثِينَ، وَقَضَاهُ فِي شَهْرٍ بِالْهِلَالِ، وَكَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، صَامَ يَوْمًا آخَرَ.وَإِنْ فَاتَهُ صَوْمُ رَمَضَانَ وَهُوَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَقَضَاهُ فِي شَهْرٍ- وَكَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا- فَلَا يَلْزَمُهُ صَوْمُ الْيَوْمِ الْأَخِيرِ، لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.

وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: إِنْ صَامَ بِالْهِلَالِ، كَفَاهُ مَا صَامَهُ، وَلَوْ كَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَرَمَضَانُ ثَلَاثِينَ.

وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ قَضَى شَهْرًا هِلَالِيًّا أَجْزَأَهُ، سَوَاءٌ كَانَ تَامًّا أَوْ نَاقِصًا وَإِنْ لَمْ يَقْضِ شَهْرًا، صَامَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا.وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ.

قَالَ الْمَجْدُ: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَقَالَ: هُوَ أَشْهَرُ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ يَوْمَ شِتَاءٍ عَنْ يَوْمِ صَيْفٍ، وَيَجُوزُ عَكْسُهُ، بِأَنْ يَقْضِيَ يَوْمَ صَيْفٍ عَنْ يَوْمِ شِتَاءٍ، وَهَذَا لِعُمُومِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَإِطْلَاقِهَا.

وَقَضَاءُ رَمَضَانَ يَكُونُ عَلَى التَّرَاخِي.

لَكِنَّ الْجُمْهُورَ قَيَّدُوهُ بِمَا إِذَا لَمْ يَفُتْ وَقْتُ قَضَائِهِ، بِأَنْ يُهِلَّ رَمَضَانُ آخَرُ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلاَّ فِي شَعْبَانَ، لِمَكَانِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- كَمَا لَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ الْأُولَى إِلَى الثَّانِيَةِ.

وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ تَأْخِيرُ قَضَاءِ رَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ آخَرَ، مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ يَأْثَمُ بِهِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا فَإِنْ أَخَّرَ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ: إِطْعَامُ مِسْكِينٍ لِكُلِّ يَوْمٍ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنهم- قَالُوا فِيمَنْ عَلَيْهِ صَوْمٌ فَلَمْ يَصُمْهُ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَإِطْعَامُ مِسْكِينٍ لِكُلِّ يَوْمٍ، وَهَذِهِ الْفِدْيَةُ لِلتَّأْخِيرِ، أَمَّا فِدْيَةُ الْمُرْضِعِ وَنَحْوِهَا فَلِفَضِيلَةِ الْوَقْتِ، وَفِدْيَةُ الْهَرَمِ لِأَصْلِ الصَّوْمِ، وَيَجُوزُ الْإِطْعَامُ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَمَعَهُ وَبَعْدَهُ

وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ مُحْتَمَلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِطْلَاقُ التَّرَاخِي بِلَا قَيْدٍ، فَلَوْ جَاءَ رَمَضَانُ آخَرُ، وَلَمْ يَقْضِ الْفَائِتُ، قَدَّمَ صَوْمَ الْأَدَاءِ عَلَى الْقَضَاءِ، حَتَّى لَوْ نَوَى الصَّوْمَ عَنِ الْقَضَاءِ لَمْ يَقَعْ إِلاَّ عَنِ الْأَدَاءِ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ بِالتَّأْخِيرِ إِلَيْهِ، لِإِطْلَاقِ النَّصِّ، وَظَاهِرِ قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.

وَعِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ يَحْرُمُ التَّطَوُّعُ بِالصَّوْمِ قَبْلَ قَضَاءِ رَمَضَانَ، وَلَا يَصِحُّ تَطَوُّعُهُ بِالصَّوْمِ قَبْلَ قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنْ رَمَضَانَ، بَلْ يَبْدَأُ بِالْفَرْضِ حَتَّى يَقْضِيَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ نَذْرٌ صَامَهُ بَعْدَ الْفَرْضِ، لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ الْأُولَى عَنِ الثَّانِيَةِ، كَالصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ

مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِالْقَضَاءِ:

الْأُولَى:

87- إِنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ- وَكَذَا النَّذْرَ وَالْكَفَّارَةَ- لِعُذْرٍ، بِأَنِ اسْتَمَرَّ مَرَضُهُ أَوْ سَفَرُهُ الْمُبَاحُ إِلَى مَوْتِهِ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْقَضَاءِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَا تَدَارُكَ لِلْغَائِبِ بِالْفِدْيَةِ وَلَا بِالْقَضَاءِ، لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِ، وَلَا إِثْمَ بِهِ، لِأَنَّهُ فَرْضٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ إِلَى الْمَوْتِ، فَسَقَطَ حُكْمُهُ، كَالْحَجِّ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ رَمَضَانَ بِهَذَا الْعُذْرِ أَدَاءً، فَتَأْخِيرُ الْقَضَاءِ أَوْلَى- كَمَا يَقُولُ النَّوَوِيُّ.

وَسَوَاءٌ اسْتَمَرَّ الْعُذْرُ إِلَى الْمَوْتِ، أَمْ حَصَلَ الْمَوْتُ فِي رَمَضَانَ، وَلَوْ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ كَمَا قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ.

وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَجِبَ الصَّوْمُ عَنْهُ أَوِ التَّكْفِيرُ

الثَّانِيَةُ:

88- لَوْ أَفْطَرَ بِعُذْرٍ وَاتَّصَلَ الْعُذْرُ بِالْمَوْتِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَامُ عَنْهُ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ فَرْضٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ فِعْلِهِ إِلَى الْمَوْتِ فَسَقَطَ حُكْمُهُ، كَالْحَجِّ.

أَمَّا إِذَا زَالَ الْعُذْرُ وَتَمَكَّنَ مِنَ الْقَضَاءِ، وَلَمْ يَقْضِ حَتَّى مَاتَ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ:

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ وَالْجَدِيدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ لَا يُصَامُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ بِأَصْلِ الشَّرْعِ لَا يُقْضَى عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ فِي الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَمَاتِ كَالصَّلَاةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ النَّوَوِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ، زَادَ الشَّافِعِيَّةُ: وَيَصِحُّ ذَلِكَ، وَيُجْزِئُهُ عَنِ الْإِطْعَامِ، وَتَبْرَأُ بِهِ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ وَلَا يَلْزَمُ الْوَلِيَّ الصَّوْمُ بَلْ هُوَ إِلَى خِيرَتِهِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ».

أَمَّا فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ رَمَضَانَ آخَرَ أَوْ بَعْدَهُ، وَلَمْ يَقْضِ لَزِمَهُ الْإِيصَاءُ بِكَفَّارَةِ مَا أَفْطَرَهُ بِقَدْرِ الْإِقَامَةِ مِنَ السَّفَرِ وَالصِّحَّةِ مِنَ الْمَرَضِ وَزَوَالِ الْعُذْرِ، وَلَا يَجِبُ الْإِيصَاءُ بِكَفَّارَةِ مَا أَفْطَرَهُ عَلَى مَنْ مَاتَ قَبْلَ زَوَالِ الْعُذْرِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- فِي الْجَدِيدِ- إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي تَرِكَتِهِ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى الْإِطْعَامِ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا.

وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ: وُجُوبُ مُدٍّ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ أَفْطَرَهُ إِذَا فَرَّطَ، بِأَنْ كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا خَالِيًا مِنَ الْأَعْذَارِ.

ثَانِيًا: الْكَفَّارَةُ الْكُبْرَى:

89- ثَبَتَتِ الْكَفَّارَةُ الْكُبْرَى بِالنَّصِّ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي وَاقَعَ زَوْجَتَهُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ.

وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِهَا بِإِفْسَادِ الصَّوْمِ بِالْوِقَاعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي وُجُوبِهَا بِإِفْسَادِهِ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَتَجِبُ- فِي الْجُمْلَةِ أَيْضًا- بِإِفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ خَاصَّةً، طَائِعًا مُتَعَمِّدًا غَيْرَ مُضْطَرٍّ، قَاصِدًا انْتِهَاكَ حُرْمَةِ الصَّوْمِ، مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مُبِيحٍ لِلْفِطْرِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّمَا يُكَفِّرُ إِذَا نَوَى الصِّيَامَ لَيْلًا، وَلَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا، وَلَمْ يَطْرَأْ مُسْقِطٌ، كَمَرَضٍ وَحَيْضٍ.

فَلَا كَفَّارَةَ فِي الْإِفْطَارِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ- عِنْدَ الْجُمْهُورِ- وَلَا عَلَى النُّفَسَاءِ وَالْحَائِضِ وَالْمَجْنُونِ، وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَلَا عَلَى الْمُرْهَقِ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَلَا عَلَى الْحَامِلِ، لِعُذْرِهِمْ، وَلَا عَلَى الْمُرْتَدِّ، لِأَنَّهُ هَتَكَ حُرْمَةَ الْإِسْلَامِ، لَا حُرْمَةَ الصِّيَامِ خُصُوصًا.

فَتَجِبُ بِالْجِمَاعِ عَمْدًا، لَا نَاسِيًا- خِلَافًا لِأَحْمَدَ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ- وَتَجِبُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَمْدًا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَتَقَدَّمَتْ مُوجِبَاتٌ أُخْرَى مُخْتَلَفٌ فِيهَا، كَالْإِصْبَاحِ بِنِيَّةِ الْفِطْرِ، وَرَفْضِ النِّيَّةِ نَهَارًا، وَالِاسْتِقَاءِ الْعَامِدِ، وَابْتِلَاعِ مَا لَا يُغَذِّي عَمْدًا.

أَمَّا خِصَالُ الْكَفَّارَةِ فَهِيَ: الْعِتْقُ وَالصِّيَامُ وَالْإِطْعَامُ، وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكْتُ، قَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَمَكَثَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، أُتِيَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ، قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ فَقَالَ: أَنَا، قَالَ: خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا- يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ- أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ».

قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ الْجَدُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى التَّرْتِيبِ.

قَالُوا: فَكَفَّارَتُهُ كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، لَكِنَّهَا ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ، وَأَمَّا هَذِهِ فَبِالسُّنَّةِ.

وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ بِالْخِصَالِ الثَّلَاثِ عَلَى التَّرْتِيبِ.قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَقَلَهُ مِنْ أَمْرٍ بَعْدَ عَدَمِهِ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ، وَلَيْسَ هَذَا شَأْنَ التَّخْيِيرِ.

وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: إِنَّ تَرْتِيبَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، وَالثَّالِثِ عَلَى الثَّانِي، بِالْفَاءِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّخْيِيرِ، مَعَ كَوْنِهَا فِي مَعْرِضِ الْبَيَانِ وَجَوَابِ السُّؤَالِ، فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ.وَإِلَى الْقَوْلِ بِالتَّرْتِيبِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ.وَأَنَّهَا كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، فَيَعْتِقُ أَوَّلًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، لِهَذَا الْحَدِيثِ.

ثَالِثًا: الْكَفَّارَةُ الصُّغْرَى:

90- الْكَفَّارَةُ الصُّغْرَى: هِيَ الْفِدْيَةُ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ لِمِسْكِينٍ إِذَا كَانَ مِنَ الْبُرِّ، أَوْ نِصْفُ صَاعٍ إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ، وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَالْفِطْرَةِ قَدْرًا، وَتَكْفِي فِيهَا الْإِبَاحَةُ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّمْلِيكُ هُنَا، بِخِلَافِ الْفِطْرَةِ.

وَتَجِبُ عَلَى مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ، وَعَلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ وَالشَّيْخِ الْهَرَمِ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (فِدْيَة).

رَابِعًا: الْإِمْسَاكُ لِحُرْمَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ:

91- مِنْ لَوَازِمِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ: الْإِمْسَاكُ لِحُرْمَةِ الشَّهْرِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ رَمَضَانَ، كَالْكَفَّارَةِ، فَلَا إِمْسَاكَ عَلَى مُتَعَدٍّ بِالْفِطْرِ، وَفِي نَذْرٍ أَوْ قَضَاءٍ وَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ وَتَفْرِيعٌ فِي الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ:

فَالْحَنَفِيَّةُ وَضَعُوا أَصْلَيْنِ لِهَذَا الْإِمْسَاكِ: أَوَّلُهُمَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ صَارَ فِي آخِرِ النَّهَارِ بِصِفَةٍ، لَوْ كَانَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ عَلَيْهَا لَلَزِمَهُ الصَّوْمُ، فَعَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ.

ثَانِيهِمَا: كُلُّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَالْأَهْلِيَّةِ، ثُمَّ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ، بِأَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا، أَوْ أَصْبَحَ يَوْمَ الشَّكِّ مُفْطِرًا، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، أَوْ تَسَحَّرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ، ثُمَّ تَبَيَّنَ طُلُوعُهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ تَشَبُّهًا عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ قَبِيحٌ، وَتَرْكُ الْقَبِيحِ وَاجِبٌ شَرْعًا، وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ.

وَأَجْمَعَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ هَذَا الْإِمْسَاكُ.

وَأَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ عَمْدًا، أَوْ خَطَأً، أَوْ أَفْطَرَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، وَكَذَا عَلَى مُسَافِرٍ أَقَامَ، وَحَائِضٍ وَنُفَسَاءَ طَهُرَتَا، وَمَجْنُونٍ أَفَاقَ، وَمَرِيضٍ صَحَّ، وَمُفْطِرٍ وَلَوْ مُكْرَهًا أَوْ خَطَأً، وَصَبِيٍّ بَلَغَ، وَكَافِرٍ أَسْلَمَ.

وَقَالَ ابْنُ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَأَمَّا إِمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ، فَيُؤْمَرُ بِهِ مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ خَاصَّةً، عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا، لَا مَنْ أَفْطَرَ لِعُذْرٍ مُبِيحٍ ثُمَّ زَالَ الْعُذْرُ مَعَ الْعِلْمِ بِرَمَضَانَ، فَإِنَّهُ لَا يُنْدَبُ لَهُ الْإِمْسَاكُ، كَمَنِ اضْطُرَّ لِلْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ، مِنْ شِدَّةِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ فَأَفْطَرَ، وَكَحَائِضٍ وَنُفَسَاءَ طَهُرَتَا نَهَارًا، وَمَرِيضٍ صَحَّ نَهَارًا، وَمُرْضِعٍ مَاتَ وَلَدُهَا، وَمُسَافِرٍ قَدِمَ، وَمَجْنُونٍ أَفَاقَ، وَصَبِيٍّ بَلَغَ نَهَارًا، فَلَا يُنْدَبُ الْإِمْسَاكُ مِنْهُمْ.

وَقُيِّدَ الْعِلْمُ بِرَمَضَانَ، احْتِرَازٌ عَمَّنْ أَفْطَرَ نَاسِيًا، وَعَمَّنْ أَفْطَرَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ، كَصَبِيٍّ بَيَّتَ الصَّوْمَ، وَاسْتَمَرَّ صَائِمًا حَتَّى بَلَغَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ، لِانْعِقَادِ صَوْمِهِ لَهُ نَافِلَةً، أَوْ أَفْطَرَ نَاسِيًا قَبْلَ بُلُوغِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبِ الْقَضَاءُ عَلَى الصَّبِيِّ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ.

وَنَصُّوا كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْفِطْرِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ، بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ قَالُوا: لِأَنَّ فِعْلَهُ قَبْلَ زَوَالِ الْعُذْرِ، لَا يَتَّصِفُ بِإِبَاحَةٍ وَلَا غَيْرِهَا.

وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ إِمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ لِمَنْ أَسْلَمَ، لِتَظْهَرَ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ بِسُرْعَةٍ، وَلَمْ يَجِبْ، تَأْلِيفًا لَهُ لِلْإِسْلَامِ، كَمَا نُدِبَ قَضَاؤُهُ، وَلَمْ يَجِبْ لِذَلِكَ.

وَالشَّافِعِيَّةُ بَعْدَ أَنْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْإِمْسَاكَ تَشَبُّهًا مِنْ خَوَاصِّ رَمَضَانَ، كَالْكَفَّارَةِ، وَأَنَّ مَنْ أَمْسَكَ تَشَبُّهًا لَيْسَ فِي صَوْمٍ وَضَعُوا هَذِهِ الْقَاعِدَةَ، وَهِيَ: أَنَّ الْإِمْسَاكَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُتَعَدٍّ بِالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ، سَوَاءٌ أَكَلَ أَوِ ارْتَدَّ أَوْ نَوَى الْخُرُوجَ مِنَ الصَّوْمِ- وَقُلْنَا إِنَّهُ يَخْرُجُ بِذَلِكَ- كَمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ نَسِيَ النِّيَّةَ مِنَ اللَّيْلِ، وَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى مَنْ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ إِبَاحَةً حَقِيقِيَّةً، كَالْمُسَافِرِ إِذَا قَدِمَ، وَالْمَرِيضِ إِذَا بَرِئَ بَقِيَّةَ النَّهَارِ.

وَنَظَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ:

الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ، اللَّذَانِ يُبَاحُ لَهُمَا الْفِطْرُ، لَهُمَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:

الْأُولَى: أَنْ يُصْبِحَا صَائِمَيْنِ، وَيَدُومَا كَذَلِكَ إِلَى زَوَالِ الْعُذْرِ، فَالْمَذْهَبُ لُزُومُ إِتْمَامِ الصَّوْمِ.

الثَّانِيَةُ: أَنْ يَزُولَ الْعُذْرُ بَعْدَ مَا أَفْطَرَ، فَلَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ- كَمَا يَقُولُ الْمَحَلِّيُّ- فَإِنْ أَكَلَا أَخْفَيَاهُ، لِئَلاَّ يَتَعَرَّضَا لِلتُّهْمَةِ وَعُقُوبَةِ السُّلْطَانِ، وَلَهُمَا الْجِمَاعُ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ، إِذَا لَمْ تَكُنِ الْمَرْأَةُ صَائِمَةً، بِأَنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، أَوْ طَهُرَتْ مِنَ الْحَيْضِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يُصْبِحَا غَيْرَ نَاوِيَيْنِ، وَيَزُولَ الْعُذْرُ قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَا، فَفِي الْمَذْهَبِ قَوْلَانِ: لَا يَلْزَمُهُمَا الْإِمْسَاكُ فِي الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ مَنْ أَصْبَحَ تَارِكًا لِلنِّيَّةِ فَقَدْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، فَكَانَ كَمَا لَوْ أَكَلَ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُمَا الْإِمْسَاكُ حُرْمَةً لِلْيَوْمِ.وَإِذَا أَصْبَحَ يَوْمَ الشَّكِّ مُفْطِرًا غَيْرَ صَائِمٍ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَضَاؤُهُ وَاجِبٌ، وَيَجِبُ إِمْسَاكُهُ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ؛ لِعُذْرِهِ.

أَمَّا لَوْ بَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ الْأَكْلِ، فَقَدْ حَكَى الْمُتَوَلِّي فِي لُزُومِ الْإِمْسَاكِ الْقَوْلَيْنِ، وَجَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَجَمَاعَةٌ بِلُزُومِهِ.قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.

وَإِذَا بَلَغَ صَبِيٌّ مُفْطِرًا أَوْ أَفَاقَ مَجْنُونٌ، أَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ أَثْنَاءَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فَفِيهِ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمْ إِمْسَاكُ بَقِيَّةِ النَّهَارِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ قَضَاؤُهُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ، بِنَاءً عَلَى لُزُومِ الْقَضَاءِ.وَالثَّالِثُ: يَلْزَمُ الْكَافِرَ دُونَهُمَا، لِتَقْصِيرِهِ.

وَالرَّابِعُ: يَلْزَمَ الْكَافِرَ وَالصَّبِيَّ لِتَقْصِيرِهِمَا، أَوْ لِأَنَّهُمَا مَأْمُورَانِ عَلَى الْجُمْلَةِ- كَمَا يَقُولُ الْغَزَالِيُّ- دُونَ الْمَجْنُونِ.

قَالَ الْمَحَلِّيُّ: لَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ بِالنَّهَارِ صَائِمًا، بِأَنْ نَوَى لَيْلًا، وَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُهُ بِلَا قَضَاءٍ، وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ إِتْمَامُهُ، وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْفَرْضَ.

وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ إِذَا طَهُرَتَا فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمَا الْإِمْسَاكُ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ.

وَفِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ بِفُرُوعِهَا:

مَنْ صَارَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ لَزِمَهُ إِمْسَاكُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَقَضَاؤُهُ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ، وَلِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ فِيهِ بِالرُّؤْيَةِ، وَلِإِدْرَاكِهِ جُزْءًا مِنْ وَقْتِهِ كَالصَّلَاةِ.

وَكَذَا كُلُّ مَنْ أَفْطَرَ، وَالصَّوْمُ يَجِبُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ وَالْقَضَاءُ، كَالْفِطْرِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَمَنْ أَفْطَرَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ وَكَانَ قَدْ طَلَعَ، أَوْ يَظُنُّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ وَلَمْ تَغِبْ، أَوِ النَّاسِي لِلنِّيَّةِ، فَكُلُّهُمْ يَلْزَمُهُمُ الْإِمْسَاكُ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِيهِ اخْتِلَافًا.أَوْ تَعَمَّدَتْ مُكَلَّفَةٌ الْفِطْرَ، ثُمَّ حَاضَتْ أَوْ نَفِسَتْ، أَوْ تَعَمَّدَ الْفِطْرَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ، فَكُلُّهُمْ يَلْزَمُهُمُ الْإِمْسَاكُ وَالْقَضَاءُ؛ لِمَا سَبَقَ.

فَأَمَّا مَنْ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا كَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمُسَافِرِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْكَافِرِ وَالْمَرِيضِ إِذَا زَالَتْ أَعْذَارُهُمْ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، فَطَهُرَتِ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ، وَأَقَامَ الْمُسَافِرُ، وَبَلَغَ الصَّبِيُّ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَصَحَّ الْمَرِيضُ، فَفِيهِمْ رِوَايَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: يَلْزَمُهُمُ الْإِمْسَاكُ بَقِيَّةَ الْيَوْمِ، لِأَنَّهُ مَعْنَى لَوْ وُجِدَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْجَبَ الصِّيَامَ، فَإِذَا طَرَأَ بَعْدَ الْفَجْرِ أَوْجَبَ الْإِمْسَاكَ، كَقِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِالرُّؤْيَةِ.

وَاقْتَصَرَ عَلَى مُوجِبِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْبُهُوتِيُّ، فِي كَشَّافِهِ وَرَوْضِهِ.

وَالْأُخْرَى: لَا يَلْزَمُهُمُ الْإِمْسَاكُ، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ أَكَلَ أَوَّلَ النَّهَارِ، فَلْيَأْكُلْ آخِرَهُ)، وَلِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ أَوَّلَ النَّهَارِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَإِذَا أَفْطَرَ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَدِيمَهُ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، كَمَا لَوْ دَامَ الْعُذْرُ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِذَا جَامَعَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ، بَعْدَ زَوَالِ عُذْرِهِ، انْبَنَى عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، فِي وُجُوبِ الْإِمْسَاكِ:

1- فَإِنْ قُلْنَا: يَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِالرُّؤْيَةِ فِي حَقِّهِ إِذَا جَامَعَ.

2- وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ: أَنَّهُ قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ قَدْ طَهُرَتْ مِنْ حَيْضٍ، فَأَصَابَهَا.

خَامِسًا: الْعُقُوبَةُ:

92- يُرَادُ بِالْعُقُوبَةِ هُنَا: الْجَزَاءُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ عَمْدًا فِي رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَهِيَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِفْطَارِ وَمُوجِبَاتِهِ.

وَفِي عُقُوبَةِ الْمُفْطِرِ الْعَامِدِ، مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ.

فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ تَارِكَ الصَّوْمِ كَتَارِكِ الصَّلَاةِ، إِذَا كَانَ عَمْدًا كَسَلًا، فَإِنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَصُومَ، وَقِيلَ: يُضْرَبُ فِي حَبْسِهِ، وَلَا يُقْتَلُ إِلاَّ إِذَا جَحَدَ الصَّوْمَ أَوِ الصَّلَاةَ، أَوِ اسْتَخَفَّ بِأَحَدِهِمَا.

وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الشَّرَنْبَلَالِيِّ، أَنَّهُ لَوْ تَعَمَّدَ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ الْأَكْلَ جِهَارًا يُقْتَلُ، لِأَنَّهُ مُسْتَهْزِئٌ بِالدِّينِ، أَوْ مُنْكِرٌ لِمَا ثَبَتَ مِنْهُ بِالضَّرُورَةِ، وَلَا خِلَافَ فِي حِلِّ قَتْلِهِ، وَالْأَمْرِ بِهِ.

وَأَطْلَقَ ابْنُ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْعُقُوبَةِ قَوْلَهُ: هِيَ لِلْمُنْتَهِكِ لِصَوْمِ رَمَضَانَ.

وَقَالَ خَلِيلٌ: أُدِّبَ الْمُفْطِرُ عَمْدًا.

وَكَتَبَ عَلَيْهِ الشُّرَّاحُ: أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي أَدَاءِ رَمَضَانَ عَمْدًا اخْتِيَارًا بِلَا تَأْوِيلٍ قَرِيبٍ، يُؤَدَّبُ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ: مِنْ ضَرْبٍ أَوْ سَجْنٍ أَوْ بِهِمَا مَعًا، ثُمَّ إِنْ كَانَ فِطْرُهُ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ، كَزِنًا وَشُرْبِ خَمْرٍ، حُدَّ مَعَ الْأَدَبِ، وَقُدِّمَ الْأَدَبُ.

وَإِنْ كَانَ فِطْرُهُ يُوجِبُ رَجْمًا، قُدِّمَ الْأَدَبُ، وَاسْتَظْهَرَ الْمِسْنَاوِيُّ سُقُوطَ الْأَدَبِ بِالرَّجْمِ، لِإِتْيَانِ الْقَتْلِ عَلَى الْجَمِيعِ.

وَمَفْهُومُهُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْأَدَبِ- كَمَا قَالَ الدُّسُوقِيُّ- فَإِنْ جَاءَ الْمُفْطِرُ عَمْدًا، قَبْلَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، حَالَ كَوْنِهِ تَائِبًا، قَبْلَ الظُّهُورِ عَلَيْهِ، فَلَا يُؤَدَّبُ.

وَالشَّافِعِيَّةُ نَصُّوا- بِتَفْصِيلٍ- عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ صَوْمَ رَمَضَانَ، غَيْرَ جَاحِدٍ، مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَمَرَضٍ وَسَفَرٍ، كَأَنْ قَالَ: الصَّوْمُ وَاجِبٌ عَلَيَّ، وَلَكِنْ لَا أَصُومُ حُبِسَ، وَمُنِعَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ نَهَارًا، لِيَحْصُلَ لَهُ صُورَةُ الصَّوْمِ بِذَلِكَ.

قَالُوا: وَأَمَّا مَنْ جَحَدَ وُجُوبَهُ فَهُوَ كَافِرٌ، لِأَنَّ وُجُوبَ صَوْمِ رَمَضَانَ مَعْلُومٌ مِنْ أَدِلَّةِ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، أَيْ عِلْمًا صَارَ كَالضَّرُورِيِّ فِي عَدَمِ خَفَائِهِ عَلَى أَحَدٍ، وَكَوْنُهُ ظَاهِرًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.

سَادِسًا: قَطْعُ التَّتَابُعِ:

93- التَّتَابُعُ هُوَ: الْمُوَالَاةُ بَيْنَ أَيَّامِ الصِّيَامِ، بِحَيْثُ لَا يُفْطِرُ فِيهَا وَلَا يَصُومُ عَنْ غَيْرِ الْكَفَّارَةِ.

تَتَأَثَّرُ مُدَّةُ الصَّوْمِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّتَابُعُ نَصًّا، بِالْفِطْرِ الْمُتَعَمَّدِ، وَهِيَ- بِعَدِّ الْكَاسَانِيِّ-: صَوْمُ رَمَضَانَ، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَالْإِفْطَارُ الْعَامِدُ فِي رَمَضَانَ، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

صَوْمُ الْمَحْبُوسِ إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ:

94- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الشُّهُورُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ صَوْمُ رَمَضَانَ، بَلْ يَجِبُ لِبَقَاءِ التَّكْلِيفِ وَتَوَجُّهِ الْخِطَابِ.

فَإِذَا أَخْبَرَهُ الثِّقَاتُ بِدُخُولِ شَهْرِ الصَّوْمِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ عِلْمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِخَبَرِهِمْ، وَإِنْ أَخْبَرُوهُ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنْهُمْ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِذَلِكَ، بَلْ يَجْتَهِدُ بِنَفْسِهِ فِي مَعْرِفَةِ الشَّهْرِ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ، وَيَصُومُ مَعَ النِّيَّةِ وَلَا يُقَلِّدُ مُجْتَهِدًا مِثْلَهُ.

فَإِنْ صَامَ الْمَحْبُوسُ الْمُشْتَبَهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ تَحَرٍّ وَلَا اجْتِهَادٍ وَوَافَقَ الْوَقْتَ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَتَلْزَمُهُ إِعَادَةُ الصَّوْمِ لِتَقْصِيرِهِ وَتَرْكِهِ الِاجْتِهَادَ الْوَاجِبَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنِ اجْتَهَدَ وَصَامَ فَلَا يَخْلُو الْأَمْرُ مِنْ خَمْسَةِ أَحْوَالٍ: الْحَالُ الْأُولَى: اسْتِمْرَارُ الْإِشْكَالِ وَعَدَمُ انْكِشَافِهِ لَهُ، بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ صَوْمَهُ صَادَفَ رَمَضَانَ أَوْ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ، فَهَذَا يُجْزِئُهُ صَوْمُهُ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لِأَنَّهُ بَذَلَ وُسْعَهُ وَلَا يُكَلَّفُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ صَلَّى فِي يَوْمِ الْغَيْمِ بِالِاجْتِهَادِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يُجْزِيهِ الصَّوْمُ؛ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهِ قَبْلَ وَقْتِ رَمَضَانَ.

الْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُوَافِقَ صَوْمُ الْمَحْبُوسِ شَهْرَ رَمَضَانَ فَيُجْزِيهِ ذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، قِيَاسًا عَلَى مَنِ اجْتَهَدَ فِي الْقِبْلَةِ، وَوَافَقَهَا، وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يُجْزِيهِ لِقِيَامِهِ عَلَى الشَّكِّ، لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ الْأَوَّلُ.

الْحَالُ الثَّالِثَةُ: إِذَا وَافَقَ صَوْمُ الْمَحْبُوسِ مَا بَعْدَ رَمَضَانَ فَيَجْزِيهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْإِجْزَاءِ: هَلْ يَكُونُ صَوْمُهُ أَدَاءً أَوْ قَضَاءً؟ وَجْهَانِ، وَقَالُوا: إِنْ وَافَقَ بَعْضُ صَوْمِهِ أَيَّامًا يَحْرُمُ صَوْمُهَا كَالْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقِ يَقْضِيهَا.

الْحَالُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ وَجْهَانِ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: إِذَا وَافَقَ صَوْمُهُ مَا قَبْلَ رَمَضَانَ وَتَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ وَلَمَّا يَأْتِ رَمَضَانُ لَزِمَهُ صَوْمُهُ إِذَا جَاءَ بِلَا خِلَافٍ، لِتَمَكُّنِهِ مِنْهُ فِي وَقْتِهِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: إِذَا وَافَقَ صَوْمُهُ مَا قَبْلَ رَمَضَانَ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ ذَلِكَ إِلاَّ بَعْدَ انْقِضَائِهِ فَفِي إجْزَائِهِ قَوْلَانِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لَا يُجْزِيهِ عَنْ رَمَضَانَ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: يُجْزِئُهُ عَنْ رَمَضَانَ، كَمَا لَوِ اشْتَبَهَ عَلَى الْحُجَّاجِ يَوْمُ عَرَفَةَ فَوَقَفُوا قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.

الْحَالُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يُوَافِقَ صَوْمُ الْمَحْبُوسِ بَعْضَ رَمَضَانَ دُونَ بَعْضٍ، فَمَا وَافَقَ رَمَضَانَ أَوْ بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ، وَمَا وَافَقَ قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَيُرَاعَى فِي ذَلِكَ أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ الْمُتَقَدِّمَةُ.

وَالْمَحْبُوسُ إِذَا صَامَ تَطَوُّعًا أَوْ نَذْرًا فَوَافَقَ رَمَضَانَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ صَوْمُهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، لِانْعِدَامِ نِيَّةِ صَوْمِ الْفَرِيضَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ ذَلِكَ يُجْزِيهِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ الصَّوْمُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، لِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ ظَرْفٌ لَا يَسَعُ غَيْرَ صَوْمِ فَرِيضَةِ رَمَضَانَ، فَلَا يُزَاحِمُهَا التَّطَوُّعُ وَالنَّذْرُ.

صَوْمُ الْمَحْبُوسِ إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ نَهَارُ رَمَضَانَ بِلَيْلِهِ:

95- إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْأَسِيرُ أَوِ الْمَحْبُوسُ فِي رَمَضَانَ النَّهَارَ مِنَ اللَّيْلِ، وَاسْتَمَرَّتْ عَلَيْهِ الظُّلْمَةُ، فَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ قَلَّ مَنْ ذَكَرَهَا، وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِلصَّوَابِ:

أَحَدُهَا: يَصُومُ وَيَقْضِي لِأَنَّهُ عُذْرٌ نَادِرٌ.

الثَّانِي: لَا يَصُومُ، لِأَنَّ الْجَزْمَ بِالنِّيَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ جَهَالَةِ الْوَقْتِ.

الثَّالِثُ: يَتَحَرَّى وَيَصُومُ وَلَا يَقْضِي إِذَا لَمْ يَظْهَرْ خَطَؤُهُ فِيمَا بَعْدُ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ.

وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَحْبُوسِ الصَّائِمِ بِالِاجْتِهَادِ إِذَا صَادَفَ صَوْمُهُ اللَّيْلَ ثُمَّ عَرَفَ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَ خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ وَقْتًا لِلصَّوْمِ كَيَوْمِ الْعِيدِ.

- رحمهم الله-

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


80-موسوعة الفقه الكويتية (ضمان 3)

ضَمَانٌ -3

الضَّمَانُ فِي الشَّرِكَةِ:

51- الشَّرِكَةُ قِسْمَانِ- كَمَا يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ- شَرِكَةُ أَمْلَاكٍ وَشَرِكَةُ عَقْدٍ.

فَالْأُولَى يُعْتَبَرُ فِيهَا كُلٌّ مِنَ الشُّرَكَاءِ، كَأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ.

وَالثَّانِيَةُ شَرِكَةُ أَمْوَالٍ، وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ يَدَ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ، يَدُ أَمَانَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ، لَا عَلَى وَجْهِ الْمُبَادَلَةِ، كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَلَا عَلَى وَجْهِ الْوَثِيقَةِ كَالرَّهْنِ.

فَإِنْ قَصَّرَ فِي شَيْءٍ أَوْ تَعَدَّى، فَهُوَ ضَامِنٌ.

وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ إِتْلَافًا لِلْمَالِ، أَوْ كَانَ تَمْلِيكًا لِلْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، لِأَنَّ الشَّرِكَةَ- كَمَا يَقُولُ الْحَصْكَفِيُّ- وُضِعَتْ لِلِاسْتِرْبَاحِ وَتَوَابِعِهِ، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ لَا يَنْتَظِمُهُ عَقْدُهَا، فَيَكُونُ مَضْمُونًا.

وَكَذَا إِذَا مَاتَ مُجْهِلًا نَصِيبَ صَاحِبِهِ، إِذَا كَانَ مَالُ الشَّرِكَةِ دُيُونًا عَلَى النَّاسِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ، كَمَا يَضْمَنُ لَوْ مَاتَ مُجْهِلًا عَيْنَ مَالِ الشَّرِكَةِ الَّذِي فِي يَدِهِ، وَكَذَا بَقِيَّةُ الْأَمَانَاتِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ وَارِثَهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ، فَلَا يَضْمَنُ.

وَلَوْ هَلَكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِ الشَّرِكَةِ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ وَلَا تَفْرِيطٍ، لَا يَضْمَنُهُ لِأَنَّهُ أَمِينٌ.

أَمَّا لَوْ هَلَكَ مَالُ الشَّرِيكَيْنِ، أَوْ مَالُ أَحَدِهِمَا قَبْلَ التَّصَرُّفِ فَتَبْطُلُ الشَّرِكَةُ، لِأَنَّ الْمَالَ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِيهَا.

الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ:

52- يُعْتَبَرُ الْمُضَارِبُ أَمِينًا فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَأَعْيَانِهَا، لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ بِإِذْنِ مَالِكِهِ، عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْتَصُّ بِنَفْعِهِ، فَكَانَ أَمِينًا، كَالْوَكِيلِ، وَفَارَقَ الْمُسْتَعِيرَ، لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِنَفْعِ الْعَارِيَّةِ.

وَهَذَا مَا لَمْ يُخَالِفْ مَا قَيَّدَهُ بِهِ رَبُّ الْمَالِ، فَيُصْبِحُ عِنْدَئِذٍ غَاصِبًا.

وَمَعَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ تَقْيِيدِ الْمُضَارِبِ بِبَعْضِ الْقُيُودِ، لِأَنَّهُ مُفِيدٌ، كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ، وَفِي عَدَمِ الْجَوَازِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّحْجِيرِ الْخَارِجِ عَنْ سُنَّةِ الْقِرَاضِ كَمَا يَقُولُ الدَّرْدِيرُ، كَالِاتِّجَارِ بِالدَّيْنِ، وَالْإِيدَاعِ، لَكِنْ هُنَاكَ قُيُودًا، لَا تَجُوزُ لَهُ مُخَالَفَتُهَا، مِنْهَا: أ- السَّفَرُ إِذَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ رَبُّ الْمَالِ، وَهَذَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَطَرِ، وَالتَّعْرِيضِ لِلتَّلَفِ، فَلَوْ سَافَرَ بِالْمَالِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، ضَمِنَهُ.

ب- إِذَا قَيَّدَهُ بِأَنْ لَا يُسَافِرَ بِبَحْرٍ، أَوْ يَبْتَاعَ سِلْعَةً عَيَّنَهَا لَهُ، فَخَالَفَهُ، ضَمِنَ.

ج- وَإِذَا دَفَعَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ قِرَاضًا (أَيْ ضَارَبَ فِيهِ) بِغَيْرِ إِذْنٍ، ضَمِنَ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَضَمَّنُ مِثْلَهُ إِلاَّ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، أَوِ التَّفْوِيضِ إِلَيْهِ.

ضَمَانُ الْمُضَارِبِ فِي غَيْرِ الْمُخَالَفَاتِ الْعَقَدِيَّةِ:

53- الْمُضَارِبُ وَإِنْ كَانَ أَمِينًا، لَكِنَّهُ يَضْمَنُ- فِي غَيْرِ الْمُخَالَفَاتِ الْعَقَدِيَّةِ- فِيمَا يَلِي:

أ- إِذَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، أَوِ اشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِنْهُ، مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ فِيهِ النَّاسُ ضَمِنَ.

ب- إِذَا تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ، أَوْ أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فِي الْحَضَرِ، عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى مَنْ يُمَوِّلُهُ، ضَمِنَ، لِأَنَّ النَّفَقَةَ جَزَاءُ الِاحْتِبَاسِ، فَإِذَا كَانَ فِي مِصْرِهِ لَا يَكُونُ مُحْتَبِسًا.أَمَّا لَوْ أَنْفَقَ فِي السَّفَرِ، فَفِيهِ خِلَافٌ وَأَوْجُهٌ وَشُرُوطٌ فِي انْتِفَاءِ ضَمَانِهِ.تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (مُضَارَبَة).

ج- إِذَا هَلَكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ فِي يَدِهِ، بِسَبَبِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَقْصِيرِهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ، وَإِلاَّ فَالْخُسْرَانُ وَالضَّيَاعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، دُونَ الْعَامِلِ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ، كَالْوَدِيعِ.وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، لَا يَضْمَنُهُ، لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ بِإِذْنِ مَالِكِهِ، عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْتَصُّ بِنَفْعِهِ.

د- إِذَا أَتْلَفَ الْعَامِلُ مَالَ الْقِرَاضِ (الْمُضَارَبَةِ) ضَمِنَهُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ بَدَلُهُ، لَكِنْ يَرْتَفِعُ الْقِرَاضُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ بَدَلُهُ، لَكِنْ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمَالِكِ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ الْقِرَاضِ.

الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ:

54- الْوَكِيلُ أَمِينٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنِ الْمُوَكِّلِ، فِي الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ، فَكَانَتْ يَدُهُ كَيَدِهِ، وَالْهَلَاكُ فِي يَدِهِ كَالْهَلَاكِ فِي يَدِ الْمَالِكِ، كَالْوَدِيعِ.

وَلِأَنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدُ إِنْفَاقٍ وَمَعُونَةٍ، وَالضَّمَانُ مُنَافٍ لِذَلِكَ.

وَعَلَى هَذَا لَا يَضْمَنُ الْوَكِيلُ مَا تَلِفَ فِي يَدِهِ بِلَا تَعَدٍّ، وَإِنْ تَعَدَّى ضَمِنَ، وَكُلُّ مَا يَتَعَدَّى فِيهِ الْوَكِيلُ مَضْمُونٌ، عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ تَعَدَّى- كَمَا يَذْكُرُ ابْنُ رُشْدٍ-.

55- الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ يَتَقَيَّدُ شِرَاؤُهُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ وَغَبْنٍ يَسِيرٍ- وَهُوَ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ- إِذَا لَمْ يَكُنْ سِعْرُهُ مَعْرُوفًا، فَإِنْ كَانَ سِعْرُهُ مَعْرُوفًا، لَا يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَإِنْ قَلَّتِ الزِّيَادَةُ، (فَيَضْمَنُهَا الْوَكِيلُ) وَهَذَا لِأَنَّ التُّهْمَةَ فِي الْأَكْثَرِ مُتَحَقِّقَةٌ، فَلَعَلَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ فَإِذَا لَمْ يُوَافِقْهُ أَلْحَقَهُ بِغَيْرِهِ.

وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ، إِذَا كَانَتِ الْوَكَالَةُ مُطْلَقَةً، لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، إِلاَّ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِنُقْصَانٍ لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، وَلَا بِأَقَلَّ مِمَّا قَدَّرَهُ لَهُ الْمُوَكِّلُ، فَلَوْ بَاعَ كَذَلِكَ كَانَ ضَامِنًا، وَيَتَقَيَّدُ مُطْلَقُ الْوَكَالَةِ بِالْمُتَعَارَفِ.

وَمِمَّا يَضْمَنُهُ الْوَكِيلُ قَبْضُ الدَّيْنِ، وَهُوَ وَكِيلٌ بِالْخُصُومَةِ.

وَالْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ لَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ، لِأَنَّ الْخُصُومَةَ غَيْرُ الْقَبْضِ حَقِيقَةً، وَهِيَ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ.

وَيُعْتَبَرُ قَبْضُ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ لِلدَّيْنِ تَعَدِّيًا، فَيَضْمَنُهُ إِنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا يَعْتَدِي فِيهِ الْوَكِيلُ، يَضْمَنُهُ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ تَعَدَّى، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

56- وَهُنَاكَ أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِالضَّمَانِ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ مِنْهَا:

1- إِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ شَيْئًا، وَأَخَّرَ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَهَلَكَ فِي يَدِهِ، فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ، لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ فِي إِمْسَاكِهِ.

2- إِذَا قَبَضَ ثَمَنَ الْمَبِيعِ، فَهُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، فَإِنْ طَلَبَهُ الْمُوَكِّلُ، فَأَخَّرَ رَدَّهُ مَعَ إِمْكَانِهِ فَتَلِفَ، ضَمِنَهُ.

3- إِذَا دَفَعَ الْوَكِيلُ دَيْنًا عَنِ الْمُوَكِّلِ، وَلَمْ يُشْهِدْ، فَأَنْكَرَ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ الْقَبْضَ، ضَمِنَ الْوَكِيلُ لِتَفْرِيطِهِ بِعَدَمِ الْإِشْهَادِ وَقَيَّدَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ قَالَ لَهُ: لَا تَدْفَعْ إِلاَّ بِشُهُودٍ، فَدَفَعَ بِغَيْرِ شُهُودٍ.

4- إِذَا سَلَّمَ الْوَكِيلُ الْمَبِيعَ قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِهِ، ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْمُوَكِّلِ.

وَكَذَا إِذَا وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ، أَوْ قَبْضِ مَبِيعٍ، فَإِنَّهُ لَا يُسَلِّمُ الثَّمَنَ حَتَّى يَتَسَلَّمَ الْمَبِيعَ.فَلَوْ سَلَّمَ الثَّمَنَ قَبْلَ تَسَلُّمِ الْمَبِيعِ، وَهَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ تَسَلُّمِهِ ضَمِنَهُ لِلْمُوَكِّلِ، إِلاَّ بِعُذْرٍ.

57- لِلْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ نَسِيئَةً أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ثُمَّ:

أ- إِنْ هَلَكَ قَبْلَ الْحَبْسِ، يَهْلَكُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَا يَضْمَنُ الْوَكِيلُ.

ب- وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الْحَبْسِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ:

1- يَهْلِكُ بِالثَّمَنِ، هَلَاكَ الْمَبِيعِ، وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنِ الْمُوَكِّلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.

2- وَيَهْلِكُ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنَ الثَّمَنِ، عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، حَتَّى لَوْ كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ رَجَعَ الْوَكِيلُ بِذَلِكَ الْفَضْلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ.

3- وَقَالَ: زُفَرُ يَهْلِكُ عَلَى الْوَكِيلِ هَلَاكَ الْمَغْصُوبِ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ عِنْدَهُ لَا يَمْلِكُ الْحَبْسَ مِنْ الْمُوَكِّلِ، فَيَصِيرُ غَاصِبًا بِالْحَبْسِ.

وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْوَكِيلِ إِذَا بَاعَ إِلَى أَجَلٍ، أَنْ يُشْهِدَ، وَإِلاَّ ضَمِنَ.وَتَرَدَّدَتِ النُّقُولُ، فِي أَنَّ عَدَمَ الْإِشْهَادِ، شَرْطُ صِحَّةٍ أَوْ شَرْطٌ لِلضَّمَانِ.

وَنَقَلَ الْجَمَلُ أَنَّهُ إِنْ سَكَتَ الْمُوَكِّلُ عَنِ الْإِشْهَادِ، أَوْ قَالَ: بِعْ وَأَشْهِدْ، فَفِي الصُّورَتَيْنِ يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَى الْوَكِيلِ الضَّمَانُ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ (وَكَالَة).

ضَمَانُ الْوَصِيِّ فِي عَقْدِ الْوِصَايَةِ (أَوِ الْإِيصَاءِ):

58- الْإِيصَاءُ: تَفْوِيضُ الشَّخْصِ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ، وَمَصَالِحِ أَطْفَالِهِ، إِلَى غَيْرِهِ، بَعْدَ مَوْتِهِ.

وَيُعْتَبَرُ الْوَصِيُّ نَائِبًا عَنِ الْمُوصِي، وَتَصَرُّفَاتُهُ نَافِذَةٌ، وَيَدُهُ عَلَى مَالِ الْمُتَوَفَّى يَدُ أَمَانَةٍ، فَلَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ مِنَ الْمَالِ بِدُونِ تَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ، وَيَضْمَنُ فِي الْأَحْوَالِ التَّالِيَةِ:

أ- إِذَا بَاعَ أَوِ اشْتَرَى بِغَبْنٍ فَاحِشٍ، وَهُوَ: الَّذِي لَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُتَقَوِّمِينَ، لِأَنَّ وِلَايَتَهُ لِلنَّظَرِ، وَلَا نَظَرَ فِي الْغَبْنِ الْفَاحِشِ.

ب- كَمَا يَضْمَنُ الْوَصِيُّ إِذَا دَفَعَ الْمَالَ إِلَى الْيَتِيمِ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ، قَبْلَ ظُهُورِ رُشْدِهِ، لِأَنَّهُ دَفَعَهُ إِلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ دَفْعُهُ إِلَيْهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الصَّاحِبَيْنِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ: بِعَدَمِ الضَّمَانِ، إِذَا دَفَعَهُ إِلَيْهِ بَعْدَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الدَّفْعِ إِلَيْهِ حِينَئِذٍ.

ج- لَيْسَ لِلْوَلِيِّ الِاتِّجَارُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ فَعَلَ:

فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يَضْمَنُ رَأْسَ الْمَالِ، وَيَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُسَلِّمُ لَهُ الرِّبْحَ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ.

الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الْهِبَةِ:

59- لَمَّا كَانَتِ الْهِبَةُ عَقْدَ تَبَرُّعٍ، فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ هُوَ قَبْضُ أَمَانَةٍ، فَإِذَا هَلَكَتْ أَوِ اسْتُهْلِكَتْ لَمْ تُضْمَنْ، لِأَنَّهُ- كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ- لَا سَبِيلَ إِلَى الرُّجُوعِ فِي الْهَالِكِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الرُّجُوعِ فِي قِيمَتِهِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوْهُوبَةٍ لِانْعِدَامِ وُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا.

وَتُضْمَنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَيْنِ فَقَطْ:

أ- حَالِ مَا إِذَا طَلَبَ الْوَاهِبُ رَدَّهَا- لِأَمْرٍ مَا- وَحَكَمَ الْقَاضِي بِوُجُوبِ الرَّدِّ، وَامْتَنَعَ الْمَوْهُوبُ لَهُ مِنَ الرَّدِّ، ثُمَّ هَلَكَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا حِينَئِذٍ، لِأَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ قَبْضُ أَمَانَةٍ، وَالْأَمَانَةُ تُضْمَنُ بِالْمَنْعِ وَالْجَحْدِ بِالطَّلَبِ، لِوُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُ.

ب- حَالِ مَا إِذَا وَهَبَهُ مُشَاعًا قَابِلًا لِلْقِسْمَةِ كَالْأَرْضِ الْكَبِيرَةِ، وَالدَّارِ الْكَبِيرَةِ، فَإِنَّهَا هِبَةٌ صَحِيحَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّهَا عَقْدُ تَمْلِيكٍ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لَهُ، فَأَشْبَهَتِ الْبَيْعَ لَكِنَّهَا فَاسِدَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي الْهِبَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي الْمُشَاعِ، وَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِيهَا، وَتَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ، وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْوَاهِبِ فِيهَا.

رَابِعًا: الْعُقُودُ الْمُزْدَوَجَةُ الْأَثَرِ:

ضَمَانُ الْإِجَارَةِ:

60- إِذَا كَانَتِ الْإِجَارَةُ: تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ، فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ ضَرْبَانِ:

أ- فَقَدْ تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ بِمُجَرَّدِهَا هِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا، وَتَتَحَدَّدُ بِالْمُدَّةِ، كَإِجَارَةِ الدُّورِ لِلسُّكْنَى، وَالْحَوَانِيتِ لِلتِّجَارَةِ، وَالسَّيَّارَاتِ لِلنَّقْلِ، وَالْأَوَانِي لِلِاسْتِعْمَالِ.

ب- وَقَدْ تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا عَمَلًا مَعْلُومًا يُؤَدِّيهِ الْعَامِلُ، كَبِنَاءِ الدَّارِ، وَخِيَاطَةِ الثَّوْبِ، وَإِصْلَاحِ الْأَجْهِزَةِ الْآلِيَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

ج- فَإِذَا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا، وَهِيَ مُجَرَّدُ السُّكْنَى أَوِ الرُّكُوبِ، أَوْ نَحْوِهِمَا، يُفَرَّقُ فِي الضَّمَانِ، بَيْنَ الْعَيْنِ الْمَأْجُورَةِ، وَبَيْنَ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا:

أ- فَتُعْتَبَرُ الدَّارُ الْمَأْجُورَةُ، وَالسَّيَّارَةُ الْمُسْتَأْجَرَةُ- مَثَلًا- أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، حَتَّى لَوْ خَرِبَتِ الدَّارُ، أَوْ عَطِبَتِ السَّيَّارَةُ، وَهِيَ فِي يَدِهِ، بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلَا تَقْصِيرٍ، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ قَبْضَ الْإِجَارَةِ- كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ- قَبْضٌ مَأْذُونٌ فِيهِ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا، كَقَبْضِ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْإِجَارَةُ صَحِيحَةً أَمْ فَاسِدَةً.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى الْعَيْنِ الْمَأْجُورَةِ يَدُ أَمَانَةٍ كَذَلِكَ، بَعْدَ انْتِهَاءِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ، إِذَا لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا، فِي الْأَصَحِّ، اسْتِصْحَابًا لِمَا كَانَ، كَالْمُودَعِ، وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ: يَدُ ضَمَانٍ.

قَالَ السُّبْكِيُّ: فَإِنْ تَلِفَتْ عَقِبَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ، أَوْ إِعْلَامِهِ، فَلَا ضَمَانَ جَزْمًا، أَمَّا إِذَا اسْتَعْمَلَهَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا قَطْعًا.

فَلَوْ شَرَطَ الْمُؤَجِّرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ضَمَانَ الْعَيْنِ الْمَأْجُورَةِ، فَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَفِي فَسَادِ الْإِجَارَةِ فِيهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ الضَّمَانِ عَلَى الْأَمِينِ بَاطِلٌ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: «مَا لَا يَجِبُ ضَمَانُهُ، لَا يُصَيِّرُهُ الشَّرْطُ مَضْمُونًا، وَمَا يَجِبُ ضَمَانُهُ، لَا يَنْتَفِي ضَمَانُهُ بِشَرْطِ نَفْيِهِ».

وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الضَّمَانِ بِشَرْطِهِ، وَوُجُوبِهِ بِشَرْطِهِ اسْتَدَلاَّ بِحَدِيثِ: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ».

ب- أَمَّا الْمَنْفَعَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا، وَهِيَ: السُّكْنَى أَوِ الرُّكُوبُ، فَهِيَ مَضْمُونَةٌ، بِضَمَانِ بَدَلِهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، بِمُجَرَّدِ تَمَكُّنِهِ مِنِ اسْتِيفَائِهَا، إِذَا كَانَتِ الْإِجَارَةُ صَحِيحَةً، بِلَا خِلَافٍ، سَوَاءٌ انْتَفَعَ بِهَا الْمُسْتَأْجِرُ أَمْ لَمْ يَنْتَفِعْ، وَهَذَا مَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْمَادَّةُ (470) مِنَ الْمَجَلَّةِ، وَفِيهَا: تَلْزَمُ الْأُجْرَةُ فِي الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ- أَيْضًا- بِالِاقْتِدَارِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، مَثَلًا: لَوِ اسْتَأْجَرَ أَحَدٌ دَارًا بِإِجَارَةٍ صَحِيحَةٍ، فَبَعْدَ قَبْضِهَا يَلْزَمُهُ إِعْطَاءُ الْأُجْرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَسْكُنْهَا.

أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الضَّمَانِ الْوَاجِبِ فِيهَا:

فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ- أَشَارَ إِلَيْهَا ابْنُ رَجَبٍ- أَنَّهَا كَالصَّحِيحَةِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ فِي الضَّمَانِ أَجْرُ الْمِثْلِ، بَالِغًا مَا بَلَغَ، لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مُتَقَوَّمَةٌ، فَتَجِبُ الْقِيمَةُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَالْإِجَارَةُ بَيْعُ الْمَنَافِعِ، فَتُعْتَبَرُ بِبَيْعِ الْأَعْيَانِ، وَفِي بَيْعِ الْأَعْيَانِ إِذَا فَسَدَ الْبَيْعُ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ، بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، فَكَذَا بَيْعُ الْمَنَافِعِ.

وَالْحَنَفِيَّةُ عَدَا زُفَرَ، وَهُوَ الرَّاوِيَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، يَرَوْنَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ: فَفِي الصَّحِيحَةِ: يَضْمَنُ الْأُجْرَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا، مَهْمَا بَلَغَتْ.

أَمَّا فِي الْفَاسِدَةِ، فَضَمَانُ الْأُجْرَةِ مَنُوطٌ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَلَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ إِلاَّ بِالِانْتِفَاعِ، وَيَقُولُ ابْنُ رَجَبٍ فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: وَلَعَلَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُضْمَنُ فِي الْغَصْبِ وَنَحْوِهِ، إِلاَّ بِالِانْتِفَاعِ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ.

61- أَمَّا إِذَا كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا هِيَ إِنْجَازُ عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، كَالْبِنَاءِ وَالْخِيَاطَةِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّ الضَّمَانَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ صِفَةِ الْعَامِلِ، وَهُوَ الْأَجِيرُ فِي اصْطِلَاحِهِمْ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَجِيرًا خَاصًّا، أَوْ مُشْتَرَكًا أَيْ عَامًّا.

وَالْأَجِيرُ الْخَاصُّ هُوَ الَّذِي يَتَقَبَّلُ الْعَمَلَ مِنْ وَاحِدٍ، أَوْ يَعْمَلُ لِوَاحِدٍ مُدَّةً مَعْلُومَةً، وَيَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِالْوَقْتِ دُونَ الْعَمَلِ.

وَالْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ، هُوَ الَّذِي يَتَقَبَّلُ الْعَمَلَ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ حَتَّى يَعْمَلَ، وَالضَّابِطُ: أَنَّ: كُلَّ مَنْ يَنْتَهِي عَمَلُهُ بِانْتِهَاءِ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ فَهُوَ أَجِيرٌ وَاحِدٌ (أَيْ خَاصٌّ) وَكُلُّ مَنْ لَا يَنْتَهِي عَمَلُهُ بِانْتِهَاءِ مُدَّةٍ مُقَدَّرَةٍ، فَهُوَ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ.

وَفِي ضَمَانِ كُلٍّ مِنْهُمَا تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَارَة)..

ضَمَانُ الرَّهْنِ:

62- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِ الرَّهْنِ، إِذَا هَلَكَتِ الْعَيْنُ الْمَرْهُونَةُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ، بَعْدَ قَبْضِهَا وَبَعْدَ تَحَقُّقِ شُرُوطِ الرَّهْنِ:

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الرَّهْنَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ، إِلاَّ إِذَا تَعَدَّى فِيهِ، أَوِ امْتَنَعَ مِنْ رَدِّهِ بَعْدَ طَلَبِهِ مِنْهُ أَوْ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ مِنَ الدَّيْنِ، وَلَا يَسْقُطُ بِشَيْءٍ مِنَ الدَّيْنِ بِهَلَاكِهِ (أَيِ الرَّهْنِ) مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ وَذَلِكَ:

لِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ».

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرَّهْنَ إِذَا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ، كَانَتْ مَالِيَّتُهُ مَضْمُونَةً، أَمَّا عَيْنُهُ فَأَمَانَةٌ، وَذَلِكَ: لِمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ حَدَّثَ: «أَنَّ رَجُلًا رَهَنَ فَرَسًا، فَنَفَقَ فِي يَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- لِلْمُرْتَهِنِ: ذَهَبَ حَقُّكَ».

وَلِحَدِيثِ عَطَاءٍ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ» (وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ الَّذِي وُضِعَ فِي مُقَابِلِهِ).

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى ضَمَانِ الرَّهْنِ بِشُرُوطٍ:

أ- أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، لَا فِي يَدِ غَيْرِهِ، كَالْعَدْلِ.

ب- أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ، أَيْ يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ، كَالْحُلِيِّ وَالسِّلَاحِ وَالْكُتُبِ وَالثِّيَابِ.

ج- أَنْ لَا تَقُومَ بَيِّنَةٌ عَلَى هَلَاكِهِ أَوْ تَلَفِهِ بِغَيْرِ سَبَبِهِ، كَالْحَرِيقِ الْغَالِبِ، وَغَارَاتِ الْأَعْدَاءِ، وَمُصَادَرَةِ الْبُغَاةِ، فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ، ضَمِنَ الْمُرْتَهِنُ، وَلَوْ شَرَطَ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ الْبَرَاءَةَ وَعَدَمَ ضَمَانِهِ، لِأَنَّ هَذَا إِسْقَاطٌ لِلشَّيْءِ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَالتُّهْمَةُ مَوْجُودَةٌ، خِلَافًا لِأَشْهَبَ، الْقَائِلِ بِعَدَمِ الضَّمَانِ عِنْدَ الشَّرْطِ.

63- وَفِي اعْتِبَارِ قِيمَةِ الرَّهْنِ الْمَضْمُونِ، بَعْضُ الْخِلَافِ وَالتَّفْصِيلِ:

فَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ، عَلَى أَنَّ قِيمَةَ الْمَرْهُونِ إِذَا هَلَكَ، تُعْتَبَرُ يَوْمَ الْقَبْضِ، لِأَنَّهُ يَوْمئِذٍ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ، وَفِيهِ يَثْبُتُ الِاسْتِيفَاءُ يَدًا، ثُمَّ يَتَقَرَّرُ بِالْهَلَاكِ.

أَمَّا إِذَا اسْتَهْلَكَهُ الْمُرْتَهِنُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الِاسْتِهْلَاكِ، لِوُرُودِهِ عَلَى الْعَيْنِ الْمُودَعَةِ، وَتَكُونُ الْقِيمَةُ رَهْنًا عِنْدَهُ.

وَلِلْمَالِكِيَّةِ- فِي اعْتِبَارِ قِيمَةِ الرَّهْنِ التَّالِفِ- ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، كُلُّهَا مَرْوِيَّةٌ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ:

الْأَوَّلُ: يَوْمُ التَّلَفِ، لِأَنَّ عَيْنَ الرَّهْنِ كَانَتْ قَائِمَةً، فَلَمَّا تَلِفَتْ قَامَتْ قِيمَتُهَا مَقَامَهَا.

الثَّانِي: يَوْمُ الْقَبْضِ، لِأَنَّهُ كَشَاهِدٍ، وَضَعَ خَطَّهُ وَمَاتَ، فَيُعْتَبَرُ خَطُّهُ، وَتُعْتَبَرُ عَدَالَتُهُ يَوْمَ كَتْبِهِ.

الثَّالِثُ: يَوْمُ عَقْدِ الرَّهْنِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَهُوَ أَقْرَبُ، لِأَنَّ النَّاسَ إِنَّمَا يَرْهَنُونَ مَا يُسَاوِي الدَّيْنَ الْمَرْهُونَ فِيهِ غَالِبًا.

ضَمَانُ الرَّهْنِ الْمَوْضُوعِ عَلَى يَدِ الْعَدْلِ:

64- يَصِحُّ وَضْعُ الرَّهْنِ عِنْدَ عَدْلٍ ثَالِثٍ، غَيْرِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ، وَيَتِمُّ وَيَلْزَمُ بِقَبْضِ الْعَدْلِ، لِأَنَّ يَدَهُ كَيَدِ الْمُرْتَهِنِ.

وَلَا يَأْخُذُهُ أَحَدُهُمَا مِنْهُ، لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّ الرَّاهِنِ فِي الْحِفْظِ بِيَدِهِ، وَتَعَلَّقَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ اسْتِيفَاءً، فَلَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا إِبْطَالَ حَقِّ الْآخَرِ.

وَلَوْ دَفَعَ الرَّهْنَ إِلَى أَحَدِهِمَا ضَمِنَ، لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمَا بِهِ، لِأَنَّهُ مُودَعُ الرَّاهِنِ فِي حَقِّ الْعَيْنِ، وَمُودَعُ الْمُرْتَهِنِ فِي حَقِّ الْمَالِيَّةِ، وَكِلَاهُمَا أَجْنَبِيٌّ عَنْ صَاحِبِهِ، وَالْمُودَعُ يُضْمَنُ بِالدَّفْعِ إِلَى الْأَجْنَبِيِّ.

وَلَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْعَدْلِ: فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَهْلَكُ مِنْ ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّ يَدَهُ فِي حَقِّ الْمَالِيَّةِ يَدُ الْمُرْتَهِنِ، وَهِيَ الْمَضْمُونَةُ، فَإِذَا هَلَكَ، هَلَكَ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ.

وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّهُ إِذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْأَمِينِ، هَلَكَ مِنْ ضَمَانِ الرَّاهِنِ.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ: عَلَى أَنَّ الْأَمِينَ إِذَا دَفَعَ الرَّهْنَ إِلَى الرَّاهِنِ أَوِ الْمُرْتَهِنِ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَتَلِفَ:

فَإِنْ سَلَّمَهُ إِلَى الرَّاهِنِ، ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْمُرْتَهِنِ، أَوْ ضَمِنَ لَهُ الدَّيْنَ الْمَرْهُونَ هُوَ فِيهِ، فَيَضْمَنُ أَقَلَّهُمَا.

وَإِنْ سَلَّمَهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ، ضَمِنَ قِيمَةَ الرَّهْنِ لِلرَّاهِنِ.

الضَّمَانُ فِي الصُّلْحِ عَنْ مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ:

65- إِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْ مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ، كَسُكْنَى دَارٍ، وَرُكُوبِ سَيَّارَةٍ، مُدَّةً مَعْلُومَةً، اعْتُبِرَ هَذَا الصُّلْحُ بِمَثَابَةِ عَقْدِ إِجَارَةٍ، وَعِبَارَةِ التَّنْوِيرِ: وَكَإِجَارَةٍ إِنْ وَقَعَ عَنْ مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ.

كَمَا لَوْ كَانَ لِشَخْصٍ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِينَارٍ، فَصَالَحَهُ الْمَدِينُ عَلَى سُكْنَى دَارِهِ، أَوْ عَلَى زِرَاعَةِ أَرْضِهِ، أَوْ رُكُوبِ سَيَّارَتِهِ، مُدَّةً مَعْلُومَةً، جَازَ هَذَا الصُّلْحُ.

وَتَثْبُتُ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الصُّلْحِ شُرُوطُ الْإِجَارَةِ، مِنْهَا التَّوْقِيتُ- إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِ- وَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُهَا- كَمَا يَقُولُ النَّوَوِيُّ- وَمِنْ أَهَمُّهَا: اعْتِبَارُ الْعَيْنِ الْمُتَصَالَحِ عَلَى مَنْفَعَتِهَا، كَالدَّارِ وَالسَّيَّارَةِ، أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُصَالِحِ، أَمَّا الْمَنْفَعَةُ ذَاتُهَا فَإِنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُصَالِحِ، بِمُجَرَّدِ تَسَلُّمِ الْعَيْنِ، فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الصُّلْحِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا، اعْتُبِرَ الْمُصَالِحُ مُسْتَوْفِيًا لِبَدَلِ الصُّلْحِ حُكْمًا، سَوَاءٌ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ فِعْلًا أَوْ عَطَّلَهَا، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْإِجَارَةِ.

يَدُ الْأَمَانَةِ وَيَدُ الضَّمَانِ:

66- الْمَشْهُورُ تَقْسِيمُ الْيَدِ إِلَى قِسْمَيْنِ: يَدِ أَمَانَةٍ، وَيَدِ ضَمَانٍ.

وَيَدُ الْأَمَانَةِ، حِيَازَةُ الشَّيْءِ أَوِ الْمَالِ، نِيَابَةً لَا تَمَلُّكًا، كَيَدِ الْوَدِيعِ، وَالْمُسْتَعِيرِ، وَالْمُسْتَأْجِرِ، وَالشَّرِيكِ، وَالْمُضَارِبِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ، وَالْوَصِيِّ.

وَيَدُ الضَّمَانِ، حِيَازَةُ الْمَالِ لِلتَّمَلُّكِ أَوْ لِمَصْلَحَةِ الْحَائِزِ، كَيَدِ الْمُشْتَرِي وَالْقَابِضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَالْمُرْتَهِنِ، وَالْغَاصِبِ وَالْمَالِكِ، وَالْمُقْتَرِضِ.

وَحُكْمُ يَدِ الْأَمَانَةِ، أَنَّ وَاضِعَ الْيَدِ أَمَانَةً، لَا يَضْمَنُ مَا هُوَ تَحْتَ يَدِهِ، إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّقْصِيرِ، كَالْوَدِيعِ فَإِنَّهُ إِذَا أَوْدَعَ الْوَدِيعَةَ عِنْدَ مَنْ لَا يُودَعُ مِثْلُهَا عِنْدَ مِثْلِهِ يَضْمَنُهَا.

وَحُكْمُ يَدِ الضَّمَانِ، أَنَّ وَاضِعَ الْيَدِ عَلَى الْمَالِ، عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ أَوِ الِانْتِفَاعِ بِهِ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، يَضْمَنُهُ فِي كُلِّ حَالٍ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ عَجَزَ عَنْ رَدِّهِ إِلَى صَاحِبِهِ، كَمَا يَضْمَنُهُ بِالتَّلَفِ وَالْإِتْلَافِ.

فَالْمَالِكُ ضَامِنٌ لِمَا يَمْلِكُهُ وَهُوَ تَحْتَ يَدِهِ، فَإِذَا انْتَقَلَتِ الْيَدُ إِلَى غَيْرِهِ بِعَقْدِ الْبَيْعِ، أَوْ بِإِذْنِهِ، كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَالْمَغْصُوبِ، فَالضَّمَانُ فِي ذَلِكَ عَلَى ذِي الْيَدِ.

وَلَوِ انْتَقَلَتِ الْيَدُ إِلَى غَيْرِهِ، بِعَقْدِ وَدِيعَةٍ أَوْ عَارِيَّةً، فَالضَّمَانُ- أَيْضًا- عَلَى الْمَالِكِ.

أَهَمُّ الْأَحْكَامِ وَالْفَوَارِقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ:

أ- تَأْثِيرُ السَّبَبِ السَّمَاوِيِّ:

67- إِذَا هَلَكَ الشَّيْءُ بِسَبَبٍ لَا دَخْلَ لِلْحَائِزِ فِيهِ وَلَا لِغَيْرِهِ، انْتَفَى الضَّمَانُ فِي يَدِ الْأَمَانَةِ، لَا فِي يَدِ الضَّمَانِ، فَلَوْ هَلَكَتِ الْعَارِيَّةُ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ بِسَبَبِ الْحَرِّ أَوِ الْبَرْدِ، لَا يَضْمَنُ الْمُسْتَعِيرُ، لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ أَمَانَةٍ.

بِخِلَافِ يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، فَإِنَّهُ لَا يَنْتَفِي الضَّمَانُ بِهَلَاكِهِ بِذَلِكَ، بَلْ يُفْسَخُ الْعَقْدُ، وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ، لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ مِنْ بَقَائِهِ، لِعَجْزِ الْبَائِعِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ كُلَّمَا طَالَبَ بِالثَّمَنِ، فَامْتَنَعَتِ الْمُطَالَبَةُ، وَارْتَفَعَ الْعَقْدُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ مَالِكٍ، انْتِقَالُ الضَّمَانِ إِلَى الْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ.

ب- تَغَيُّرُ صِفَةِ وَضْعِ الْيَدِ:

68- تَتَغَيَّرُ صِفَةُ يَدِ الْأَمِينِ وَتُصْبِحُ يَدَ ضَمَانٍ بِالتَّعَدِّي، فَإِذَا تَلِفَ الشَّيْءُ بَعْدَ ذَلِكَ ضَمِنَهُ، مَهْمَا كَانَ سَبَبُ التَّلَفِ، وَلَوْ سَمَاوِيًّا.

أ- فَفِي الْإِجَارَةِ، يُعْتَبَرُ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ أَمِينًا- عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- وَالْمَتَاعُ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ، لَا يُضْمَنُ إِنْ هَلَكَ بِغَيْرِ عَمَلِهِ، إِلاَّ إِنْ قَصَّرَ فِي حِفْظِهِ، كَالْوَدِيعِ إِذَا قَصَّرَ فِي حِفْظِ الْوَدِيعَةِ أَوْ تَعَمَّدَ الْإِتْلَافَ، أَوْ تَلِفَ الْمَتَاعُ بِفِعْلِهِ، كَتَمَزُّقِ الثَّوْبِ مِنْ دَقِّهِ.

ب- وَفِي الْوَدِيعَةِ، يَضْمَنُ إِذَا تَرَكَ الْحِفْظَ الْمُلْتَزَمَ، كَأَنْ رَأَى إِنْسَانًا يَسْرِقُ الْوَدِيعَةَ، فَتَرَكَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْمَنْعِ، أَوْ خَالَفَ فِي كَيْفِيَّةِ الْحِفْظِ، أَوْ أَوْدَعَهَا مَنْ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ، أَوْ عِنْدَ مَنْ لَا تُودَعُ عِنْدَ مِثْلِهِ، أَوْ سَافَرَ بِهَا، أَوْ جَحَدَهَا كَمَا تَقَدَّمَ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (وَدِيعَة).

ج- وَفِي الْعَارِيَّةِ، وَهِيَ أَمَانَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، مَا عَدَا الْحَنَابِلَةَ، لَا تُضْمَنُ إِنْ هَلَكَتْ بِالِانْتِفَاعِ الْمُعْتَادِ، وَتُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي، كَأَنْ يَدُلَّ عَلَيْهَا سَارِقًا أَوْ يُتْلِفَهَا أَوْ يَمْنَعَهَا مِنَ الْمُعِيرِ بَعْدَ الطَّلَبِ، عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ مَا يُغَابُ وَمَا لَا يُغَابُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

ج- الْمَوْتُ عَنْ تَجْهِيلٍ:

69- مَعْنَى التَّجْهِيلِ: أَنْ لَا يُبَيِّنَ حَالَ الْأَمَانَةِ الَّتِي عِنْدَهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ وَارِثَهُ لَا يَعْلَمُ حَالَهَا، كَذَلِكَ فَسَّرَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ فَالْوَدِيعُ إِذَا مَاتَ مُجْهِلًا حَالَ الْوَدِيعَةِ الَّتِي عِنْدَهُ، وَوَارِثَهُ لَا يَعْلَمُ حَالَهَا، يَضْمَنُهَا بِذَلِكَ.

وَمَعْنَى ضَمَانِهَا- كَمَا يَقُولُ ابْنُ نُجَيْمٍ- صَيْرُورَتُهَا دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ.

وَكَذَلِكَ نَاظِرُ الْوَقْفِ، إِذَا مَاتَ مُجْهِلًا لِحَالِ بَدَلِ الْوَقْفِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ.

وَكَذَا كُلُّ شَيْءٍ أَصْلُهُ أَمَانَةٌ يَصِيرُ دَيْنًا فِي التَّرِكَةِ بِالْمَوْتِ عَنْ تَجْهِيلٍ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْإِيصَاءِ فِي الْوَدِيعَةِ يَسْتَوْجِبُ الضَّمَانَ، وَقَالُوا: إِذَا مَرِضَ الْمُودَعُ مَرَضًا مَخُوفًا، أَوْ حُبِسَ لِيُقْتَلَ لَزِمَهُ أَنْ يُوصِيَ، فَإِنْ سَكَتَ عَنْ ذَلِكَ لَزِمَهُ الضَّمَانُ، لِأَنَّهُ عَرَّضَهَا لِلْفَوَاتِ، لِأَنَّ الْوَارِثَ يَعْتَمِدُ ظَاهِرَ الْعَيْنِ، وَلَا بُدَّ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ بَيَانِ الْوَدِيعَةِ، حَتَّى لَوْ قَالَ: عِنْدِي لِفُلَانٍ ثَوْبٌ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي تَرِكَتِهِ، ضَمِنَ لِعَدَمِ بَيَانِهِ. (ر: تَجْهِيل).

د- الشَّرْطُ:

70- لَا أَثَرَ لِلشَّرْطِ فِي صِفَةِ الْيَدِ الْمُؤْتَمَنَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ.

قَالَ الْبَغْدَادِيُّ: اشْتِرَاطُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ بَاطِلٌ، وَقِيلَ: تَصِيرُ مَضْمُونَةً.

وَقَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ: وَاشْتِرَاطُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَمِينِ بَاطِلٌ، بِهِ يُفْتَى فَلَوْ شَرَطَ الْمُؤَجِّرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ضَمَانَ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ، فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ.

وَلَوْ شَرَطَ الْمُودَعُ عَلَى الْوَدِيعِ ضَمَانَ الْوَدِيعَةِ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَلَا ضَمَانَ لَوْ تَلِفَتْ وَكَذَا الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْأَمَانَاتِ.

وَعَلَّلَهُ الْمَالِكِيَّةُ، بِأَنَّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِخْرَاجِهَا عَنْ حَقِيقَتِهَا الشَّرْعِيَّةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَلَوْ قَالَ الْوَدِيعُ: أَنَا ضَامِنٌ لَهَا لَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ، لِأَنَّ ضَمَانَ الْأَمَانَاتِ غَيْرُ صَحِيحٍ.

وَنَصَّ الْقَلْيُوبِيُّ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْأَمَانَةِ فِي الْعَارِيَّةِ- وَهِيَ مَضْمُونَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا هَلَكَتْ بِغَيْرِ الِاسْتِعْمَالِ- هُوَ شَرْطٌ مُفْسِدٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَشَرْطُ أَنْ لَا ضَمَانَ فِيهَا فَاسِدٌ لَا مُفْسِدٌ.

وَجَاءَ فِي نُصُوصِ الْحَنَابِلَةِ: كُلُّ مَا كَانَ أَمَانَةً لَا يَصِيرُ مَضْمُونًا بِشَرْطِهِ، لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ كَوْنُهُ أَمَانَةً، فَإِذَا شَرَطَ ضَمَانَهُ، فَقَدِ الْتَزَمَ ضَمَانَ مَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ ضَمَانِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ، كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ ضَمَانَ الْوَدِيعَةِ، أَوْ ضَمَانَ مَالٍ فِي يَدِ مَالِكِهِ.وَمَا كَانَ مَضْمُونًا لَا يَنْتَفِي ضَمَانُهُ بِشَرْطِهِ، لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الضَّمَانُ، فَإِذَا شَرَطَ نَفْيَ ضَمَانِهِ لَا يَنْتَفِي مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ نَفْيَ ضَمَانِ مَا يَتَعَدَّى فِيهِ.

وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: «الْمُؤْمِنُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ»، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الضَّمَانِ بِشَرْطِهِ، وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ.

الْقَوَاعِدُ الْفِقْهِيَّةُ فِي الضَّمَانِ:

الْقَوَاعِدُ فِي الضَّمَانِ كَثِيرَةٌ، نُشِيرُ إِلَى أَهَمِّهَا، بِاخْتِصَارٍ فِي التَّعْرِيفِ بِهَا، وَالتَّمْثِيلِ لَهَا، كُلَّمَا دَعَتِ الْحَاجَةُ، مُرَتَّبَةً بِحَسَبِ أَوَائِلِ حُرُوفِهَا:

الْقَاعِدَةُ الْأُولَى: «الْأَجْرُ وَالضَّمَانُ لَا يَجْتَمِعَانِ»:

71- الْأَجْرُ هُوَ: بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ.وَالضَّمَانُ- هُنَا- هُوَ: الِالْتِزَامُ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا، هَلَكَتْ أَوْ لَمْ تَهْلَكْ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مِنْ قَوَاعِدِ الْحَنَفِيَّةِ، الْمُتَّصِلَةِ بِرَأْيِهِمْ فِي عَدَمِ ضَمَانِ مَنَافِعِ الْمَغْصُوبِ، خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ.

فَلَوِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً أَوْ سَيَّارَةً، لِحَمْلِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، فَحَمَّلَهَا شَيْئًا آخَرَ أَوْ أَثْقَلَ مِنْهُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ، كَأَنْ حَمَلَ مَكَانَ الْقُطْنِ حَدِيدًا فَتَلِفَتْ، ضَمِنَ قِيمَتَهَا، وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا هَلَكَتْ بِغَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ.

وَكَذَا لَوِ اسْتَأْجَرَهَا، لِيَرْكَبَهَا إِلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ، فَذَهَبَ بِهَا إِلَى مَكَانٍ آخَرَ فَهَلَكَتْ، ضَمِنَ قِيمَتَهَا، وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَجْرَ وَالضَّمَانَ لَا يَجْتَمِعَانِ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

لَكِنِ الْقَاعِدَةُ مَشْرُوطَةٌ عِنْدَهُمْ، بِعَدَمِ اسْتِقْرَارِ الْأَجْرِ فِي ذِمَّةِ الضَّامِنِ، كَمَا لَوِ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ الدَّابَّةِ- مَثَلًا- فِعْلًا، ثُمَّ تَجَاوَزَ فَصَارَ غَاصِبًا، وَضَمِنَ، يَلْزَمُهُ أَجْرُ مَا سَمَّى عِنْدَهُمْ، إِذَا سَلِمَتِ الدَّابَّةُ وَلَمْ تَهْلَكْ.

وَالْجُمْهُورُ يُوجِبُونَ الْأَجْرَ كُلَّمَا كَانَ لِلْمَغْصُوبِ أَجْرٌ، لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مُتَقَوِّمَةٌ كَالْأَعْيَانِ، فَإِذَا تَلِفَتْ أَوْ أَتْلَفَهَا فَقَدْ أَتْلَفَ مُتَقَوِّمًا، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ كَالْأَعْيَانِ وَإِذَا ذَهَبَ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْمَغْصُوبِ فِي مُدَّةِ الْغَصْبِ، وَجَبَ مَعَ الْأُجْرَةِ أَرْشُ نَقْصِهِ لِانْفِرَادِ كُلٍّ بِإِيجَابٍ.

وَلِلْمَالِكِيَّةِ أَقْوَالٌ: وَافَقُوا فِي بَعْضِهَا الْحَنَفِيَّةَ، وَفِي بَعْضِهَا الْجُمْهُورَ وَانْفَرَدُوا بِتَفْصِيلٍ فِي بَعْضِهَا.

الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا اجْتَمَعَ الْمُبَاشِرُ وَالْمُتَسَبِّبُ يُضَافُ الْحُكْمُ إِلَى الْمُبَاشِرِ.

72- الْمُبَاشِرُ لِلْفِعْلِ: هُوَ الْفَاعِلُ لَهُ بِالذَّاتِ، وَالْمُتَسَبِّبُ هُوَ الْمُفْضِي وَالْمُوَصِّلُ إِلَى وُقُوعِهِ، وَيَتَخَلَّلُ بَيْنَ فِعْلِهِ وَبَيْنَ الْأَثَرِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَالْمُبَاشِرُ يَحْصُلُ الْأَثَرُ بِفِعْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ فِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ.

وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْمُبَاشِرُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَيْهِ مِنَ الْمُتَسَبِّبِ، قَالَ خَلِيلٌ: وَقُدِّمَ عَلَيْهِ الْمُرْدِي فَلَوْ حَفَرَ رَجُلٌ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ، بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْ وَلِيِّ الْأَمْرِ، فَأَلْقَى شَخْصٌ حَيَوَانَ غَيْرِهِ فِي تِلْكَ الْبِئْرِ، ضَمِنَ الَّذِي أَلْقَى الْحَيَوَانَ، لِأَنَّهُ الْعِلَّةُ الْمُؤَثِّرَةُ، دُونَ حَافِرِ الْبِئْرِ، لِأَنَّ التَّلَفَ لَمْ يَحْصُلْ بِفِعْلِهِ.

وَلَوْ وَقَعَ الْحَيَوَانُ فِيهِ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ، ضَمِنَ الْحَافِرُ، لِتَسَبُّبِهِ بِتَعَدِّيهِ بِالْحَفْرِ بِغَيْرِ إِذْنٍ.

وَكَذَلِكَ لَوْ دَلَّ سَارِقًا عَلَى مَتَاعٍ، فَسَرَقَهُ الْمَدْلُولُ، ضَمِنَ السَّارِقُ لَا الدَّالُّ.

وَلِذَا لَوْ دَفَعَ إِلَى صَبِيٍّ سِكِّينًا، فَوَجَأَ بِهِ نَفْسَهُ، لَا يَضْمَنُ الدَّافِعُ، لِتَخَلُّلِ فِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ.وَلَوْ وَقَعَ السِّكِّينُ عَلَى رِجْلِ الصَّبِيِّ فَجَرَحَهَا ضَمِنَ الدَّافِعُ.

الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ: «الِاضْطِرَارُ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْغَيْرِ».

73- تَطَّرِدُ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ سَوَاءٌ أَكَانَ الِاضْطِرَارُ فِطْرِيًّا كَالْجُوعِ، أَمْ غَيْرَ فِطْرِيٍّ كَالْإِكْرَاهِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْإِثْمُ، وَعُقُوبَةُ التَّجَاوُزِ، أَمَّا حَقُّ الْآخَرِينَ فَلَا يَتَأَثَّرُ بِالِاضْطِرَارِ، وَيَبْقَى الْمَالُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَالْقِيمَةِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا.فَلَوِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ إِلَى أَكْلِ طَعَامِ غَيْرِهِ، جَازَ لَهُ أَكْلُهُ، وَضَمِنَ قِيمَتَهُ، لِعَدَمِ إِذْنِ الْمَالِكِ، وَإِنَّمَا الَّذِي وُجِدَ هُوَ إِذْنُ الشَّرْعِ الَّذِي أَسْقَطَ الْعُقُوبَةَ فَقَطْ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


81-موسوعة الفقه الكويتية (ضمان 4)

ضَمَانٌ -4

الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ: «الْأَمْرُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بَاطِلٌ».

74- الْأَمْرُ: هُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ جَزْمًا، فَإِذَا أَمَرَ شَخْصٌ غَيْرَهُ بِأَخْذِ مَالِ شَخْصٍ آخَرَ أَوْ بِإِتْلَافِهِ عَلَيْهِ فَلَا عِبْرَةَ بِهَذَا الْأَمْرِ، وَيَضْمَنُ الْفَاعِلُ.

وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُقَيَّدَةٌ:

بِأَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ عَاقِلًا بَالِغًا، فَإِذَا كَانَ صَغِيرًا، كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ.وَأَنْ لَا يَكُونَ الْآمِرُ ذَا وِلَايَةٍ وَسُلْطَانٍ عَلَى الْمَأْمُورِ.

فَلَوْ كَانَ الْآمِرُ هُوَ السُّلْطَانَ أَوِ الْوَالِدَ، كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا.

الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ: «جِنَايَةُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ».

75- هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُقْتَبَسَةٌ مِنْ حَدِيثٍ شَرِيفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ» وَالْعَجْمَاءُ: الْبَهِيمَةُ، لِأَنَّهَا لَا تُفْصِحُ، وَمَعْنَى جُبَارٌ: أَنَّهُ هَدَرٌ وَبَاطِلٌ.

وَالْمُرَادُ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مُسَيَّبَةً حَيْثُ تُسَيَّبُ الْحَيَوَانَاتُ، وَلَا يَدَ عَلَيْهَا، أَمَّا لَوْ كَانَ مَعَهَا رَاكِبٌ فَيَضْمَنُ، فَلَوِ اصْطَادَتْ هِرَّتُهُ طَائِرًا لِغَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنْ.

وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يَأْتِي فِي ضَمَانِ جِنَايَةِ الْحَيَوَانِ.

الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ: «الْجَوَازُ الشَّرْعِيُّ يُنَافِي الضَّمَانَ».

76- يَعْنِي إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى الْفِعْلِ الْجَائِزِ الْمُبَاحِ شَرْعًا، ضَرَرٌ لِلْآخَرِينَ، لَا يُضْمَنُ الضَّرَرُ.فَلَوْ حَفَرَ حُفْرَةً فِي مِلْكِهِ، أَوْ فِي الطَّرِيقِ، بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، فَتَرَدَّى فِيهَا حَيَوَانٌ أَوْ إِنْسَانٌ، لَا يَضْمَنُ الْحَافِرُ شَيْئًا.وَهَذَا مُقَيَّدٌ بِشَرْطَيْنِ:

1- أَنْ لَا يَكُونَ الْمُبَاحُ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، فَيَضْمَنُ- مَثَلًا- رَاكِبُ السَّيَّارَةِ وَقَائِدُ الدَّابَّةِ أَوْ رَاكِبُهَا فِي الطَّرِيقِ.

2- أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمُبَاحِ إِتْلَافُ الْآخَرِينَ وَإِلاَّ كَانَ مَضْمُونًا.

فَيَضْمَنُ مَا يُتْلِفُهُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ لِلْمَخْمَصَةِ، مَعَ أَنَّ أَكْلَهُ لِأَجْلِهَا جَائِزٌ، بَلْ وَاجِبٌ.

الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ»

77- الْخَرَاجُ: هُوَ غَلَّةُ الشَّيْءِ وَمَنْفَعَتُهُ، إِذَا كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنْهُ، غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ.كَسُكْنَى الدَّارِ، وَأُجْرَةِ الدَّابَّةِ.

وَالضَّمَانُ: هُوَ التَّعْوِيضُ الْمَالِيُّ عَنِ الضَّرَرِ الْمَادِّيِّ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنَافِعَ الشَّيْءِ يَسْتَحِقُّهَا مَنْ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ لَوْ هَلَكَ، فَتَكُونُ الْمَنْفَعَةُ فِي مُقَابِلِ تَحَمُّلِ خَسَارَةِ هَلَاكِهِ، فَمَا لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ لَا يَسْتَحِقُّ مَنَافِعَهُ وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ».

الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ: «الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ».

78- هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَعْنَاهَا أَنَّ التَّكَلُّفَاتِ وَالْغَرَامَاتِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الشَّيْءِ، تَجِبُ عَلَى مَنِ اسْتَفَادَ مِنْهُ وَانْتَفَعَ بِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ: 1- نَفَقَةُ رَدِّ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي انْتَفَعَ بِهَا.

2- وَنَفَقَةُ رَدِّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمُودِعِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَفَادَ مِنْ حِفْظِهَا.

3- وَأُجْرَةِ كِتَابَةِ عَقْدِ الْمِلْكِيَّةِ عَلَى الْمُشْتَرِي، لِأَنَّهَا تَوْثِيقٌ لِانْتِقَالِ الْمِلْكِيَّةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْمُسْتَفِيدُ مِنْ ذَلِكَ.

الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ: «لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَخْذُ مَالِ أَحَدٍ بِلَا سَبَبٍ شَرْعِيٍّ».

79- هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ حَدِيثِ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ».

فَيَحْرُمُ أَخْذُ أَمْوَالِ الْآخَرِينَ بِالْبَاطِلِ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِهِمَا.

أَحْكَامُ الضَّمَانِ:

أَحْكَامُ الضَّمَانِ- بِوَجْهٍ عَامٍّ- تُقَسَّمُ إِلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ.

1- ضَمَانُ الدِّمَاءِ (الْأَنْفُسِ وَالْجِرَاحِ).

2- ضَمَانُ الْعُقُودِ.

3- ضَمَانُ الْأَفْعَالِ الضَّارَّةِ بِالْأَمْوَالِ، كَالْإِتْلَافَاتِ، وَالْغُصُوبِ.

وَحَيْثُ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ضَمَانِ الْعُقُودِ فِي أَنْوَاعِ الضَّمَانِ وَمَحَلِّهِ، فَنَقْصِرُ الْقَوْلَ عَلَى ضَمَانِ الدِّمَاءِ، وَضَمَانِ الْأَفْعَالِ الضَّارَّةِ بِالْأَمْوَالِ.

ضَمَانُ الدِّمَاءِ (الْأَنْفُسِ وَالْجِرَاحِ)

80- ضَمَانُ الدِّمَاءِ أَوِ الْأَنْفُسِ هُوَ: الْجَزَاءُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الضَّرَرِ الْوَاقِعِ عَلَى النَّفْسِ فَمَا دُونَهَا.

وَيَشْمَلُ الْقِصَاصَ وَالْحُدُودَ، وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ، كَمَا يَشْمَلُ التَّعْزِيرُ حُكُومَةَ الْعَدْلِ وَهِيَ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ.

وَيُقَسَّمُ الضَّمَانُ- بِحَسَبِ الْجِنَايَةِ- إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

1- ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ.

2- ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، مِنَ الْأَطْرَافِ وَالْجِرَاحِ.

3- ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ، وَهِيَ: الْإِجْهَاضُ.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا: ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ:

يَتَمَثَّلُ فِيمَا يَلِي، بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهَا:

الْقَتْلُ الْعَمْدُ:

81- الْقَتْلُ الْعَمْدُ، إِذَا تَحَقَّقَتْ شُرُوطُهُ، فَضَمَانُهُ بِالْقِصَاصِ.

(ر: مُصْطَلَح: قَتْل، قِصَاص).

وَأَوْجَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَآخَرُونَ الْكَفَّارَةَ فِيهِ أَيْضًا.

فَإِنِ امْتَنَعَ الْقِصَاصُ، أَوْ تَعَذَّرَ أَوْ صَالَحَ عَنْهُ، كَانَ الضَّمَانُ بِالدِّيَةِ أَوْ بِمَا صُولِحَ عَنْهُ (ر: مُصْطَلَح: دِيَات).

وَيُوجِبُ الْمَالِكِيَّةُ حِينَئِذٍ التَّعْزِيرَ، كَمَا يُوجِبُونَ فِي الْقَتْلِ غِيلَةً- الْقَتْلِ عَلَى وَجْهِ الْمُخَادِعَةِ وَالْحِيلَةِ- قَتْلَ الْقَاتِلِ تَعْزِيرًا، إِنْ عَفَا عَنْهُ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ.

كَمَا يُحْرَمُ الْقَاتِلُ مِنْ مِيرَاثِ الْمَقْتُولِ وَوَصِيَّتِهِ.

الْقَتْلُ الشَّبِيهُ بِالْعَمْدِ:

82- هُوَ: الْقَتْلُ بِمَا لَا يَقْتُلُ فِي الْغَالِبِ- عِنْدَ الْجُمْهُورِ- وَبِالْمُثْقَلَاتِ كَذَلِكَ- عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، مِنْ غَيْرِ الْحَدِيدِ وَالْمَعْدِنِ- وَإِنْ كَانَ الْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَ هَذَا مِنَ الْعَمْدِ.

وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ فِي الْحَدِيثِ: «أَلَا وَإِنَّ قَتِيلَ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ، مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا، مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا».

الْقَتْلُ الْخَطَأُ:

83- وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ اتِّفَاقًا بِالنَّصِّ الْكَرِيمِ، وَفِيهِ كَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ وَالْحِرْمَانُ مِنَ الْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ وَهَذَا لِعُمُومِ النَّصِّ.

وَالضَّمَانُ كَذَلِكَ فِي الْقَتْلِ الشَّبِيهِ بِالْخَطَأِ فِي اصْطِلَاحِ الْحَنَفِيَّةِ، وَيَتَمَثَّلُ بِانْقِلَابِ النَّائِمِ عَلَى شَخْصٍ فَيَقْتُلُهُ، أَوِ انْقِلَابِ الْأُمِّ عَلَى رَضِيعِهَا فَيَمُوتُ بِذَلِكَ.

الْقَتْلُ بِسَبَبٍ:

84- قَالَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَيَتَمَثَّلُ بِمَا لَوْ حَفَرَ حُفْرَةً فِي الطَّرِيقِ، فَتَرَدَّى فِيهَا إِنْسَانٌ فَمَاتَ.

وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ فَقَطْ، عِنْدَهُمْ، فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَلَا حِرْمَانَ، لِانْعِدَامِ الْقَتْلِ فِيهِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا أَوْجَبُوا الدِّيَةَ صَوْنًا لِلدِّمَاءِ عَنِ الْهَدَرِ.

وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ، يُلْحِقُونَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْقَتْلِ بِالْخَطَأِ فِي أَحْكَامِهِ، دِيَةً، وَكَفَّارَةً، وَحِرْمَانًا، لِأَنَّ الشَّارِعَ أَنْزَلَهُ مَنْزِلَةَ الْقَاتِلِ.

(وَلِلتَّفْصِيلِ ر: مُصْطَلَح: قَتْل وَدِيَات وَجِنَايَة).

ثَانِيًا: ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ:

وَتَتَحَقَّقُ فِي الْأَطْرَافِ، وَالْجِرَاحِ فِي غَيْرِ الرَّأْسِ، وَفِي الشِّجَاجِ.

85- أ- أَمَّا الْأَطْرَافُ:

فَحُدِّدَتْ عُقُوبَتُهَا بِالْقِصَاصِ بِالنَّصِّ، فِي قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ}.

وَزَادَ مَالِكٌ عَلَى ذَلِكَ التَّعْزِيرَ بِالتَّأْدِيبِ، لِيَتَنَاهَى النَّاسُ.

فَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ، بِسَبَبِ الْعَفْوِ أَوِ الصُّلْحِ أَوْ لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ، كَانَ الضَّمَانُ بِالدِّيَةِ وَالْأَرْشِ، وَهُوَ: اسْمٌ لِلْوَاجِبِ مِنَ الْمَالِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ.

(ر: جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ).

86- ب- وَأَمَّا الْجِرَاحُ

فَخَاصَّةٌ بِمَا كَانَ فِي غَيْرِ الرَّأْسِ، فَإِذَا كَانَتْ جَائِفَةً، أَيْ بَالِغَةَ الْجَوْفِ، فَلَا قِصَاصَ فِيهَا اتِّفَاقًا، خَشْيَةَ الْمَوْتِ.

وَإِذَا كَانَتْ غَيْرَ جَائِفَةٍ، فَفِيهَا الْقِصَاصُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ مَنَعُوا الْقِصَاصَ فِيهَا مُطْلَقًا لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ.

فَإِنِ امْتَنَعَ الْقِصَاصُ فِي الْجِرَاحِ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ:

فَفِي الْجَائِفَةِ يَجِبُ ثُلُثُ الدِّيَةِ، لِحَدِيثِ: «فِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الْعَقْلِ».

وَفِي غَيْرِ الْجَائِفَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَفُسِّرَتْ بِأَنَّهَا أُجْرَةُ الطَّبِيبِ وَثَمَنُ الْأَدْوِيَةِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (جِرَاح، وَحُكُومَةُ عَدْلٍ).

87- ج- وَأَمَّا الشِّجَاجُ، وَهِيَ مَا يَكُونُ مِنَ الْجِرَاحِ فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ فَإِنْ تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ فِيهَا: فَفِيهِ الْأَرْشُ مُقَدَّرًا، كَمَا فِي الْمُوضِحَةِ، لِحَدِيثِ «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمُوضِحَةِ، خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ».

وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُقَدَّرٍ، فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ.وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ، لَيْسَ فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَقْضِ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ بِشَيْءٍ».فَتَجِبُ فِيهِ الْحُكُومَةُ.

وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ أَنَّهُ وَرَدَ التَّقْدِيرُ فِي أَرْشِ الْمُوضِحَةِ، وَفِيمَا دُونَهَا، كَمَا وَرَدَ فِيمَا فَوْقَهَا فَيُعْمَلُ بِهِ.

لِلتَّفْصِيلِ: (ر: مُصْطَلَحَ: شِجَاج، دِيَات، حُكُومَةُ عَدْلٍ).

ثَالِثًا: ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ:

88- وَهِيَ الْإِجْهَاضُ، فَإِذَا سَقَطَ الْجَنِينُ مَيِّتًا بِشُرُوطِهِ، فَضَمَانُهُ بِالْغُرَّةِ اتِّفَاقًا، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي لِحْيَانَ، بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ».

وَتَجِبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي مَالِ الْعَاقِلَةِ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الَّذِينَ أَوْجَبُوهَا فِي مَالِ الْجَانِي.

وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِنَّمَا تُنْدَبُ، وَأَوْجَبَهَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِأَنَّ الْجَنِينَ آدَمِيٌّ مَعْصُومٌ، وَإِذَا لَمْ تُوجَدِ الرَّقَبَةُ، انْتَقَلَتِ الْعُقُوبَةُ إِلَى بَدَلِهَا مَالًا، وَهُوَ: نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَعُشْرُ دِيَةِ الْمَرْأَةِ.

(ر: جَنِين، غُرَّة).

ضَمَانُ الْأَفْعَالِ الضَّارَّةِ بِالْأَمْوَالِ:

89- تَتَمَثَّلُ الْأَفْعَالُ الضَّارَّةُ بِالْأَمْوَالِ فِي الْإِتْلَافَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَالْغُصُوبِ، وَنَحْوِهَا.

وَلِضَمَانِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْأَفْعَالِ الضَّارَّةِ، أَحْكَامٌ عَامَّةٌ، وَأَحْكَامٌ خَاصَّةٌ: أَوَّلًا: الْأَحْكَامُ الْعَامَّةُ فِي ضَمَانِ الْأَفْعَالِ الضَّارَّةِ بِالْأَمْوَالِ:

90- تَقُومُ فِكْرَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الضَّمَانِ- خِلَافًا لِمَا تَقَدَّمَ فِي ضَمَانِ الْأَفْعَالِ الضَّارَّةِ بِالْأَنْفُسِ- عَلَى مَبْدَأِ جَبْرِ الضَّرَرِ الْمَادِّيِّ الْحَائِقِ بِالْآخَرِينَ، أَمَّا فِي تِلْكَ فَهُوَ قَائِمٌ عَلَى مَبْدَأِ زَجْرِ الْجُنَاةِ، وَرَدْعِ غَيْرِهِمْ.

وَالتَّعْبِيرُ بِالضَّمَانِ عَنْ جَبْرِ الضَّرَرِ وَإِزَالَتِهِ، هُوَ التَّعْبِيرُ الشَّائِعُ فِي الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ، وَعَبَّرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ بِالتَّعْوِيضِ، كَمَا فَعَلَ ابْنُ عَابِدِينَ.

وَتَوَسَّعَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا النَّوْعِ فِي أَنْوَاعِ الضَّمَانِ وَتَفْصِيلِ أَحْكَامِهِ، حَتَّى أَفْرَدَهُ الْبَغْدَادِيُّ بِالتَّصْنِيفِ فِي كِتَابِهِ: (مَجْمَعِ الضَّمَانَاتِ).

وَمِنْ أَهَمِّ قَوَاعِدِ الضَّمَانِ قَاعِدَةُ: «الضَّرَرُ يُزَالُ».وَإِزَالَةُ الضَّرَرِ الْوَاقِعِ عَلَى الْأَمْوَالِ يَتَحَقَّقُ بِالتَّعْوِيضِ الَّذِي يُجْبَرُ فِيهِ الضَّرَرُ.

وَقَدْ عَرَّفَ الْفُقَهَاءُ الضَّمَانَ بِهَذَا الْمَعْنَى، بِأَنَّهُ: رَدُّ مِثْلِ الْهَالِكِ أَوْ قِيمَتِهِ.

وَعَرَّفَهُ الشَّوْكَانِيُّ بِأَنَّهُ: عِبَارَةٌ عَنْ غَرَامَةِ التَّالِفِ.

وَكِلَا التَّعْرِيفَيْنِ يَسْتَهْدِفُ إِزَالَةَ الضَّرَرِ، وَإِصْلَاحَ الْخَلَلِ الَّذِي طَرَأَ عَلَى الْمَضْرُورِ، وَإِعَادَةَ حَالَتِهِ الْمَالِيَّةِ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ وُقُوعِ الضَّرَرِ.

طَرِيقَةُ التَّضْمِينِ:

91- الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ فِي تَضْمِينِ الْمَالِيَّاتِ، هِيَ: مُرَاعَاةُ الْمِثْلِيَّةِ التَّامَّةِ بَيْنَ الضَّرَرِ، وَبَيْنَ الْعِوَضِ، كُلَّمَا أَمْكَنَ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ: «ضَمَانُ الْعُدْوَانِ مُقَدَّرٌ بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ» يُشِيرُ إِلَى قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}.

وَالْمِثْلُ وَإِنْ كَانَ بِهِ يَتَحَقَّقُ الْعَدْلُ، لَكِنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَرُدَّ الشَّيْءَ الْمَالِيَّ الْمُعْتَدَى فِيهِ نَفْسَهُ، كُلَّمَا أَمْكَنَ، مَا دَامَ قَائِمًا مَوْجُودًا، لَمْ يَدْخُلْهُ عَيْبٌ يُنْقِصُ مِنْ مَنْفَعَتِهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الْحَسَنُ، عَنْ سَمُرَةَ- رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ».

بَلْ هَذَا هُوَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ فِي الْغَصْبِ، الَّذِي هُوَ أَوَّلُ صُوَرِ الضَّرَرِ وَأَهَمُّهَا.

فَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ، لِهَلَاكِهِ أَوِ اسْتِهْلَاكِهِ أَوْ فَقْدِهِ، وَجَبَ حِينَئِذٍ رَدُّ مِثْلِهِ، إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيمِيًّا.

وَالْمِثْلِيُّ هُوَ: مَا لَهُ مِثْلٌ فِي الْأَسْوَاقِ، أَوْ نَظِيرٌ، بِغَيْرِ تَفَاوُتٍ يُعْتَدُّ بِهِ، كَالْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ، وَالْمَذْرُوعَاتِ، وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ.

وَالْقِيمِيُّ هُوَ: مَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ فِي الْأَسْوَاقِ، أَوْ هُوَ مَا تَتَفَاوَتُ أَفْرَادُهُ، كَالْكُتُبِ الْمَخْطُوطَةِ، وَالثِّيَابِ الْمُفَصَّلَةِ الْمَخِيطَةِ لِأَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ.

وَالْمِثْلُ أَعْدَلُ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ، لِمَا فِيهِ مِنِ اجْتِمَاعِ الْجِنْسِ وَالْمَالِيَّةِ.

وَالْقِيمَةُ تَقُومُ مَقَامَ الْمِثْلِ، فِي الْمَعْنَى وَالِاعْتِبَارِ الْمَالِيِّ.

وَقْتُ تَقْدِيرِ التَّضْمِينِ:

92- تَنَاوَلَ الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، فِي الْمَغْصُوبِ- عَلَى التَّخْصِيصِ- إِذَا كَانَ مِثْلِيًّا، وَفُقِدَ مِنَ السُّوقِ، وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَنْظَارُهُمْ فِيهَا عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:

ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ: إِلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْغَصْبِ، لِأَنَّهُ لَمَّا انْقَطَعَ مِنَ السُّوقِ الْتَحَقَ بِمَا لَا مِثْلَ لَهُ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ انْعِقَادِ السَّبَبِ، وَهُوَ الْغَصْبُ، كَمَا أَنَّ الْقِيمِيَّ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ كَذَلِكَ يَوْمَ الْغَصْبِ.

وَذَهَبَ مُحَمَّدٌ: إِلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمِثْلُ فِي الذِّمَّةِ وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْقِيمَةِ بِالِانْقِطَاعِ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ.

وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْقَضَاءِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمِثْلُ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْقِيمَةِ بِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ، لِأَنَّ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَنْتَظِرَ حَتَّى يُوجَدَ الْمِثْلُ، بَلْ إِنَّمَا يَنْتَقِلُ بِالْقَضَاءِ، فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْقَضَاءِ.

أَمَّا الْقِيمِيُّ إِذَا تَلِفَ، فَتَجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْغَصْبِ اتِّفَاقًا.

أَمَّا فِي الِاسْتِهْلَاكِ: فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْإِمَامِ وَعِنْدَهُمَا يَوْمَ الِاسْتِهْلَاكِ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ ضَمَانَ الْقِيمَةِ يُعْتَبَرُ يَوْمَ الْغَصْبِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمَغْصُوبِ سَوَاءٌ أَكَانَ عَقَارًا، أَمْ غَيْرَهُ، لَا يَوْمَ حُصُولِ الْمُفَوِّتِ، وَلَا يَوْمَ الرَّدِّ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ التَّلَفُ بِسَمَاوِيٍّ أَمْ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ.

وَفِي الْإِتْلَافِ وَالِاسْتِهْلَاكِ- فِي غَيْرِ الْمِثْلِيَّاتِ- كَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ، تُعْتَبَرُ يَوْمَ الِاسْتِهْلَاكِ وَالْإِتْلَافِ.

وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْمِثْلِيَّ إِذَا تَعَذَّرَ وُجُودُهُ، فِي بَلَدِهِ وَحَوَالَيْهِ تُعْتَبَرُ أَقْصَى قِيمَةٍ، مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى تَعَذُّرِ الْمِثْلِ، وَفِي قَوْلٍ إِلَى التَّلَفِ، وَفِي قَوْلٍ إِلَى الْمُطَالَبَةِ.

وَإِذَا كَانَ الْمِثْلُ مَفْقُودًا عِنْدَ التَّلَفِ، فَالْأَصَحُّ وُجُوبُ أَكْثَرِ الْقِيَمِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى التَّلَفِ، لَا إِلَى وَقْتِ الْفَقْدِ.وَأَمَّا الْمُتَقَوِّمُ فَيُضْمَنُ فِي الْغَصْبِ بِأَقْصَى قِيمَةٍ مِنَ الْغَصْبِ إِلَى التَّلَفِ.

وَأَمَّا الْإِتْلَافُ بِلَا غَصْبٍ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ التَّلَفِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَتُعْتَبَرُ فِي مَوْضِعِ الْإِتْلَافِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَكَانُ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ كَالْمَفَازَةِ، فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَجِبُ رَدُّ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا، يَوْمَ تَلَفِهِ فِي بَلَدِ غَصْبِهِ مِنْ نَقْدِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ زَمَنُ الضَّمَانِ وَمَوْضِعُ الضَّمَانِ وَمُنْصَرَفُ اللَّفْظِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ (كَالدِّينَارِ) كَمَا يَقُولُ الْبُهُوتِيُّ إِنْ لَمْ تَخْتَلِفْ قِيمَةُ التَّالِفِ، مِنْ حِينِ الْغَصْبِ إِلَى حِينِ الرَّدِّ.

فَإِنِ اخْتَلَفَتْ لِمَعْنًى فِي التَّالِفِ مِنْ كِبَرٍ وَصِغَرٍ وَسِمَنٍ وَهُزَالٍ- وَنَحْوِهَا- مِمَّا يَزِيدُ فِي الْقِيمَةِ وَيَنْقُصُ مِنْهَا، فَالْوَاجِبُ رَدُّ أَكْثَرِ مَا تَكُونُ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ مِنْ حِينِ الْغَصْبِ إِلَى حِينِ الرَّدِّ، لِأَنَّهَا مَغْصُوبَةٌ فِي الْحَالِ الَّتِي زَادَتْ فِيهَا، وَالزِّيَادَةُ مَضْمُونَةٌ لِمَالِكِهَا.

وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِثْلِيًّا يَجِبُ رَدُّ مِثْلِهِ، فَإِنْ فُقِدَ الْمِثْلُ، فَتَجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ انْقِطَاعِ الْمِثْلِ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ حِينَ انْقِطَاعِ الْمِثْلِ، فَاعْتُبِرَتِ الْقِيمَةُ حِينَئِذٍ، كَتَلَفِ الْمُتَقَوِّمِ.

وَقَالَ الْقَاضِي: تَجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ قَبْضِ الْبَدَلِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمِثْلُ، إِلَى حِينِ قَبْضِ الْبَدَلِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ الْمِثْلُ بَعْدَ فَقْدِهِ، لَكَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْمِثْلُ دُونَ الْقِيمَةِ، لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، قَدَرَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَدَاءِ الْبَدَلِ، فَأَشْبَهَ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَاءِ بَعْدَ التَّيَمُّمِ.

تَقَادُمُ الْحَقِّ فِي التَّضْمِينِ:

93- التَّقَادُمُ- أَوْ مُرُورُ الزَّمَانِ- هُوَ: مُضِيُّ زَمَنٍ طَوِيلٍ، عَلَى حَقٍّ أَوْ عَيْنٍ فِي ذِمَّةِ إِنْسَانٍ، لِغَيْرِهِ دُونَ مُطَالَبَةٍ بِهِمَا، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا.

وَالشَّرِيعَةُ- بِوَجْهٍ عَامٍّ- اعْتَبَرَتِ التَّقَادُمَ مَانِعًا مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى، فِي الْمِلْكِ وَفِي الْحَقِّ، مَعَ بَقَائِهِمَا عَلَى حَالِهِمَا السَّابِقَةِ، وَلَمْ تَعْتَبِرْهُ مَكْسَبًا لِمِلْكِيَّةٍ أَوْ قَاطِعًا لِحَقٍّ.

فَيَقُولُ الْحَصْكَفِيُّ: الْقَضَاءُ مُظْهِرٌ لَا مُثْبِتٌ، وَيَتَخَصَّصُ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ وَخُصُومَةٍ حَتَّى لَوْ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِعَدَمِ سَمَاعِ الدَّعْوَى، بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَسَمِعَهَا الْقَاضِي، لَمْ يَنْفُذْ.

وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْأَشْبَاهِ وَغَيْرِهَا، أَنَّ الْحَقَّ لَا يَسْقُطُ بِتَقَادُمِ الزَّمَانِ.

فَبِنَاءً عَلَى هَذَا يُقَالُ: إِذَا لَمْ يَرْفَعْ الشَّخْصُ الْمَضْرُورُ دَعْوَى، يُطَالِبُ فِيهَا بِالضَّمَانِ أَوِ التَّعْوِيضِ عَنِ الضَّرَرِ، مِمَّنْ أَلْحَقَهُ بِهِ، مُدَّةَ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا، سَقَطَ حَقُّهُ، قَضَاءً فَقَطْ لَا دِيَانَةً، فِي إِقَامَةِ الدَّعْوَى مِنْ جَدِيدٍ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَضْرُورُ غَائِبًا، أَوْ كَانَ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا وَلَيْسَ لَهُ وَلِيٌّ، أَوْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَاكِمًا جَائِرًا، أَوْ كَانَ ثَابِتَ الْإِعْسَارِ خِلَالَ هَذِهِ الْمُدَّةِ، ثُمَّ أَيْسَر بَعْدَهَا، فَإِنَّهُ يَبْقَى حَقُّهُ فِي إِقَامَةِ الدَّعْوَى قَائِمًا، مَهْمَا طَالَ الزَّمَنُ بِسَبَبِ الْعُذْرِ، الَّذِي يَنْفِي شُبْهَةَ التَّزْوِيرِ.

وَكَذَلِكَ إِذَا أَمَرَ السُّلْطَانُ الْعَادِلُ نَفْسَهُ بِسَمَاعِ هَذِهِ الدَّعْوَى، بَعْدَ مُضِيِّ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا أَوْ سَمِعَهَا بِنَفْسِهِ- كَمَا يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ- حِفْظًا لِحَقِّ الْمَضْرُورِ، إِذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّزْوِيرِ.

وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ الْخَصْمُ بِحَقِّ الْمَضْرُورِ فِي الضَّمَانِ، وَالتَّعْوِيضِ عَنِ الضَّرَرِ، بَعْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ، فَإِنَّهُ يَتَلَاشَى بِذَلِكَ مُضِيُّ الزَّمَنِ وَيَسْقُطُ لِظُهُورِ الْحَقِّ بِإِقْرَارِهِ وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ.

ثَانِيًا: الْأَحْكَامُ الْخَاصَّةُ فِي ضَمَانِ الْأَفْعَالِ الضَّارَّةِ بِالْأَمْوَالِ:

94- قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَاعِدَةَ فِي الضَّمَانِ، هِيَ رَدُّ الْعَيْنِ أَصْلًا، وَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ، وَجَبَ الضَّمَانُ بِرَدِّ الْمِثْلِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ، وَدَفْعِ الْقِيمَةِ فِي الْقِيمِيَّاتِ.

وَنَذْكُرُ- هُنَا- التَّضْمِينَ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ مُسْتَثْنَاةٍ مِنَ الْأَصْلِ، إِذْ يُحْكَمُ فِيهَا بِالتَّعْوِيضِ الْمَالِيِّ أَحْيَانًا، وَبِالتَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ضَمَانِ الْمِثْلِ فِي أَحْيَانٍ أُخْرَى، وَهِيَ: قَطْعُ الشَّجَرِ، وَهَدْمُ الْمَبَانِي، وَالْبِنَاءُ عَلَى الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، أَوِ الْغَرْسُ فِيهَا، وَقَلْعُ عَيْنِ الْحَيَوَانِ، وَتَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِيهَا كَمَا يَلِي: أ- قَطْعُ الشَّجَرِ:

95- لَوْ قَطَعَ شَخْصٌ لآِخَرَ، شَجَرَ حَدِيقَتِهِ، ضَمِنَ قِيمَةَ الشَّجَرِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ.

وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ: أَنْ تُقَوَّمُ الْحَدِيقَةُ مَعَ الشَّجَرِ الْقَائِمِ، وَتُقَوَّمَ بِدُونِهِ فَالْفَضْلُ هُوَ قِيمَتُهُ، فَالْمَالِكُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ تِلْكَ الْقِيمَةَ، وَيَدْفَعَ لَهُ الْأَشْجَارَ الْمَقْطُوعَةَ، وَبَيْنَ أَنْ يُمْسِكَهَا، وَيُضَمِّنَهُ نُقْصَانَ تِلْكَ الْقِيمَةِ.

وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأَشْجَارِ مَقْطُوعَةً وَغَيْرَ مَقْطُوعَةٍ سَوَاءً، بَرِئَ.

وَلَوْ أَتْلَفَ شَجَرَةً مِنْ ضَيْعَةٍ، وَلَمْ يَتْلَفْ بِهِ شَيْءٌ، قِيلَ: تَجِبُ قِيمَةُ الشَّجَرَةِ الْمَقْطُوعَةِ، وَقِيلَ تَجِبُ قِيمَتُهَا نَابِتَةً وَلَوْ أَتْلَفَ شَجَرَةً، قُوِّمَتْ مَغْرُوسَةً وَقُوِّمَتْ مَقْطُوعَةً، وَيَغْرَمُ مَا بَيْنَهُمَا.

وَلَوْ أَتْلَفَ ثِمَارَهَا، أَوْ نَفَضَهَا لَمَّا نَوَّرَتْ، حَتَّى تَنَاثَرَ نَوْرُهَا، قُوِّمَتِ الشَّجَرَةُ مَعَ ذَلِكَ، وَقُوِّمَتْ بِدُونِهَا فَيَغْرَمُ مَا بَيْنَهُمَا، وَكَذَا الزَّرْعُ.

ب- هَدْمُ الْمَبَانِي:

96- إِذَا هَدَمَ إِنْسَانٌ بِنَاءً أَوْ جِدَارًا لِغَيْرِهِ، يَجِبُ عَلَيْهِ بِنَاءُ مِثْلِهِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، فَإِنْ تَعَذَّرَتِ الْمُمَاثَلَةُ رَجَعَ إِلَى الْقِيمَةِ لِحَدِيثِ: أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «كَانَ رَجُلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ: جُرَيْجٌ، يُصَلِّي، فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ، فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهَا، فَقَالَ: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي؟ ثُمَّ أَتَتْهُ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ، وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: لأَفْتِنَنَّ جُرَيْجًا، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَكَلَّمَتْهُ، فَأَبَى.فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا.فَوَلَدَتْ غُلَامًا، فَقَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ.فَأَتَوْهُ كَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى الْغُلَامَ فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ؟ قَالَ: الرَّاعِي.قَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: لَا، إِلاَّ مِنْ طِينٍ».

وَالْأَصْلُ: أَنَّ الْحَائِطَ وَالْبِنَاءَ مِنَ الْقِيمِيَّاتِ، فَتُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ.

وَقَدْ نَقَلَ الرَّمْلِيُّ الْحَنَفِيُّ أَنَّهُ لَوْ هَدَمَ جِدَارَ غَيْرِهِ، تُقَوَّمُ دَارُهُ مَعَ جُدْرَانِهَا، وَتُقَوَّمُ بِدُونِ هَذَا الْجِدَارِ فَيَضْمَنُ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا.

وَفِي الْقُنْيَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ: إِذَا هَدَمَ حَائِطًا مُتَّخَذًا مِنْ خَشَبٍ أَوْ عَتِيقًا مُتَّخَذًا مِنْ رَهْصٍ (طِينٍ) يَضْمَنُ قِيمَتَهُ، وَإِنْ كَانَ حَدِيثًا يُؤْمَرُ بِإِعَادَتِهِ كَمَا كَانَ.

وَقَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: مَنْ هَدَمَ حَائِطَ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ نُقْصَانَهَا (أَيْ قِيمَتَهَا مَبْنِيَّةً) وَلَا يُؤْمَرُ بِعِمَارَتِهَا، إِلاَّ فِي حَائِطِ الْمَسْجِدِ، كَمَا فِي كَرَاهَةِ الْخَانِيَّةِ.

لَكِنَّ الْمَذْهَبَ، مَا قَالَهُ الْعَلاَّمَةُ قَاسِمٌ فِي شَرْحِهِ لِلنُّقَايَةِ: وَإِذَا هَدَمَ الرَّجُلُ حَائِطَ جَارِهِ فَلِلْجَارِ الْخِيَارُ: إِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْحَائِطِ، وَالنَّقْضُ لِلضَّامِنِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ النَّقْضَ، وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ، لِأَنَّ الْحَائِطَ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهَالِكٌ مِنْ وَجْهٍ، فَإِنْ شَاءَ مَالَ إِلَى جِهَةِ الْقِيَامِ، وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إِلَى جِهَةِ الْهَلَاكِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْحَائِطِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى الْبِنَاءِ، كَمَا كَانَ، لِأَنَّ الْحَائِطَ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ.

وَطَرِيقُ تَقْوِيمِ النُّقْصَانِ: أَنْ تُقَوَّمَ الدَّارُ مَعَ حِيطَانِهَا، وَتُقَوَّمَ بِدُونِ هَذَا الْحَائِطِ فَيَضْمَنُ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا.

وَالضَّمَانُ فِي هَذِهِ الْحَالِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْهَدْمُ لِلضَّرُورَةِ، كَمَنْعِ سَرَيَانِ الْحَرِيقِ، بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، ضَمِنَ الْهَادِمُ قِيمَتَهَا مُعَرَّضَةً لِلْحَرِيقِ.

ج- الْبِنَاءُ عَلَى الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ أَوِ الْغَرْسُ فِيهَا:

97- إِذَا غَرَسَ شَخْصٌ شَجَرًا، أَوْ أَقَامَ بِنَاءً عَلَى أَرْضٍ غَصَبَهَا، فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِقَلْعِ الشَّجَرِ، وَهَدْمِ الْبِنَاءِ، وَتَفْرِيغِ الْأَرْضِ مِنْ كُلِّ مَا أَنْشَأَ فِيهَا، وَإِعَادَتِهَا كَمَا كَانَتْ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا وَذَلِكَ: لِحَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لِعِرَقِ ظَالِمٍ حَقٌّ»، قَالَ: فَلَقَدْ أَخْبَرَنِي الَّذِي حَدَّثَنِي هَذَا الْحَدِيثَ، «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- غَرَسَ أَحَدُهُمَا نَخْلًا فِي أَرْضِ الْآخَرِ، فَقَضَى لِصَاحِبِ الْأَرْضِ بِأَرْضِهِ وَأَمَرَ صَاحِبَ النَّخْلِ أَنْ يُخْرِجَ نَخْلَهُ مِنْهَا، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا، وَإِنَّهَا لَتُضْرَبُ أُصُولُهَا بِالْفُؤُوسِ، وَإِنَّهَا لَنَخْلٌ عَمٌّ» أَيْ طَوِيلَةٌ.

وَلِأَنَّهُ شَغَلَ مِلْكَ غَيْرِهِ، فَيُؤْمَرُ بِتَفْرِيغِهِ، دَفْعًا لِلظُّلْمِ، وَرَدًّا لِلْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: عَلَيْهِ أَرْشُ نَقْصِهَا إِنْ كَانَ، وَتَسْوِيَتُهَا، لِأَنَّهُ ضَرَرٌ حَصَلَ بِفِعْلِهِ، مَعَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ إِلَى وَقْتِ التَّسْلِيمِ.

وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: وَلِلْغَاصِبِ قَلْعُهُمَا قَهْرًا عَلَى الْمَالِكِ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِجَابَةُ الْمَالِكِ لَوْ طَلَبَ الْإِبْقَاءَ بِالْأَجْرِ، أَوِ التَّمَلُّكَ بِالْقِيمَةِ، وَلِلْمَالِكِ قَلْعُهُمَا جَبْرًا عَلَى الْغَاصِبِ، بِلَا أَرْشٍ لِعَدَمِ احْتِرَامِهِمَا عَلَيْهِ.

وَالْمَالِكِيَّةُ خَيَّرُوا الْمَالِكَ بَيْنَ قَلْعِ الشَّجَرِ وَهَدْمِ الْبِنَاءِ، وَبَيْنَ تَرْكِهِمَا، عَلَى أَنْ يُعْطَى الْمَالِكُ الْغَاصِبُ، قِيمَةَ أَنْقَاضِ الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ، مَقْلُوعًا، بَعْدَ طَرْحِ أُجْرَةِ النَّقْضِ وَالْقَلْعِ، لَكِنَّهُمْ قَيَّدُوا قَلْعَ الزَّرْعِ بِمَا إِذَا لَمْ يَفُتْ، أَيْ لَمْ يَمْضِ وَقْتٌ مَا تُرَادُ الْأَرْضُ لَهُ فَلَهُ عِنْدَئِذٍ أَخْذُهُ بِقِيمَتِهِ مَقْلُوعًا مَطْرُوحًا مِنْهُ أُجْرَةُ الْقَلْعِ.فَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ، بَقِيَ الزَّرْعُ لِلزَّارِعِ، وَلَزِمَهُ الْكِرَاءُ إِلَى انْتِهَائِهِ.

وَنَصَّ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْحَنَفِيَّةُ.

(ر: غَرْس- غَصْب).

د- قَلْعُ عَيْنِ الْحَيَوَانِ:

98- الْحَيَوَانُ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُطَبَّقَ فِي إِتْلَافِهِ- كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا- الْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ، إِلاَّ أَنَّهُ وَرَدَ فِي السَّمْعِ تَضْمِينُ رُبُعِ قِيمَتِهِ، بِقَلْعِ عَيْنِهِ:

فَفِي الْحَدِيثِ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي عَيْنِ الدَّابَّةِ رُبُعَ ثَمَنِهَا»

وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَشُرَيْحٍ- رضي الله عنهما- وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى شُرَيْحٍ، لَمَّا كَتَبَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ عَيْنِ الدَّابَّةِ: إِنَّا كُنَّا نُنْزِلُهَا مَنْزِلَةَ الْآدَمِيِّ، إِلاَّ أَنَّهُ أَجْمَعَ رَأْيُنَا أَنَّ قِيمَتَهَا رُبُعُ الثَّمَنِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: هَذَا إِجْمَاعٌ يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ.

وَهَذَا مِمَّا جَعَلَ الْحَنَفِيَّةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَنْ أَحْمَدَ- يَعْدِلُونَ عَنِ الْقِيَاسِ، بِالنَّظَرِ إِلَى ضَمَانِ الْعَيْنِ فَقَطْ.

فَعَمِلُوا بِالْحَدِيثِ، وَتَرَكُوا فِيهِ الْقِيَاسَ، لَكِنَّهُمْ خَصُّوهُ بِالْحَيَوَانِ الَّذِي يُقْصَدُ لِلَّحْمِ، كَمَا يُقْصَدُ لِلرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ وَالزِّينَةِ أَيْضًا، كَمَا فِي عَيْنِ الْفَرَسِ وَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ، وَكَذَا فِي عَيْنِ الْبَقَرَةِ وَالْجَزُورِ.

أَمَّا غَيْرُهُ، كَشَاةِ الْقَصَّابِ الْمُعَدَّةِ لِلذَّبْحِ، مِمَّا يُقْصَدُ مِنْهُ اللَّحْمُ فَقَطْ، فَيُعْتَبَرُ مَا نَقَصَتْ قِيمَتُهُ.

وَطَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْقِيَاسَ، فَضَمَّنُوا مَا يَتْلَفُ مِنْ سَائِرِ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ، بِمَا يَنْقُصُ مِنْ قِيمَتِهِ، بِفَقْدِ عَيْنِهِ وَغَيْرِهَا، بَالِغًا مَا بَلَغَ النَّقْصُ بِلَا تَفْرِقَةٍ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ.

قَالَ الْمَحَلِّيُّ: وَيَضْمَنُ مَا تَلِفَ أَوْ أَتْلَفَ مِنْ أَجْزَائِهِ بِمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَا يَجِبُ فِي عَيْنِ الْبَقَرَةِ وَالْفَرَسِ إِلاَّ أَرْشُ النَّقْصِ.

وَعَلَّلَ ذَلِكَ ابْنُ قُدَامَةَ، بِأَنَّهُ ضَمَانُ مَالٍ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ، فَكَانَ الْوَاجِبُ مَا نَقَصَ، كَالثَّوْبِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ فَاتَ الْجَمِيعُ لَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ، فَإِذَا فَاتَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَجَبَ قَدْرُهُ مِنَ الْقِيمَةِ، كَغَيْرِ الْحَيَوَانِ.

ضَمَانُ الشَّخْصِ الضَّرَرَ النَّاشِئَ عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِ وَمَا يَلْتَحِقُ بِهِ:

99- الْأَصْلُ أَنَّ الشَّخْصَ مَسْئُولٌ عَنْ ضَمَانِ الضَّرَرِ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْ فِعْلِهِ لَا عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِ لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا الْأَصْلِ ضَمَانَ أَفْعَالِ الْقُصَّرِ الْخَاضِعِينَ لِرَقَابَتِهِ، وَضَمَانَ أَفْعَالِ تَابِعِيهِ: كَالْخَدَمِ وَالْعُمَّالِ وَكَالْمُوَظِّفِينَ، وَضَمَانَ مَا يُفْسِدُهُ الْحَيَوَانُ، وَضَمَانَ الضَّرَرِ الْحَادِثِ بِسَبَبِ سُقُوطِ الْأَبْنِيَةِ، وَضَمَانَ التَّلَفِ الْحَادِثِ بِالْأَشْيَاءِ الْأُخْرَى، وَتَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا: ضَمَانُ الْإِنْسَانِ لِأَفْعَالِ الْأَشْخَاصِ الْخَاضِعِينَ لِرَقَابَتِهِ:

100- وَيَتَمَثَّلُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الضَّمَانِ، فِي الْأَفْعَالِ الضَّارَّةِ، الصَّادِرَةِ مِنَ الصِّغَارِ الْقُصَّرِ، الَّذِينَ هُمْ فِي وِلَايَةِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ، وَالتَّلَامِيذِ حِينَمَا يَكُونُونَ فِي الْمَدْرَسَةِ، تَحْتَ رَقَابَةِ النَّاظِرِ وَالْمُعَلِّمِ، أَوْ فِي رِعَايَةِ أَيِّ رَقِيبٍ عَلَيْهِمْ وَهُمْ صِغَارٌ، وَمِثْلُهُمْ الْمَجَانِينُ وَالْمَعَاتِيهُ.

وَلَمَّا كَانَ الْأَصْلُ الْمُقَرَّرُ فِي الشَّرِيعَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، هُوَ ضَمَانُ الْإِنْسَانِ لِأَفْعَالِهِ كُلِّهَا، دُونَ تَحَمُّلِ غَيْرِهِ عَنْهُ لِشَيْءٍ مِنْ تَبَعَاتِهَا، مَهْمَا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ.

فَقَدْ طَرَدَ الْفُقَهَاءُ قَاعِدَةَ تَضْمِينِ الصِّغَارِ، وَأَوْجَبُوا عَلَيْهِمُ الضَّمَانَ فِي مَالِهِمْ، وَلَمْ يُوجِبُوا عَلَى أَوْلِيَائِهِمْ وَالْأَوْصِيَاءِ عَلَيْهِمْ ضَمَانَ مَا أَتْلَفُوهُ، إِلاَّ فِي أَحْوَالٍ مُسْتَثْنَاةٍ، مِنْهَا:

أ- إِذَا كَانَ إِتْلَافُ الصِّغَارِ لِلْمَالِ، نَاشِئًا مِنْ تَقْصِيرِ الْأَوْلِيَاءِ وَنَحْوِهِمْ، فِي حِفْظِهِمْ، كَمَا لَوْ دَفَعَ إِلَى صَبِيٍّ سِكِّينًا لِيُمْسِكَهُ لَهُ، فَوَقَعَ السِّكِّينُ مِنْ يَدِهِ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى شَخْصٍ آخَرَ، أَوْ عَثَرَ بِهِ، فَإِنَّ الدَّافِعَ يَضْمَنُ.

ب- إِذَا كَانَ بِسَبَبِ إِغْرَاءِ الْآبَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ الصِّغَارِ بِإِتْلَافِ الْمَالِ، كَمَا لَوْ أَمَرَ الْأَبُ ابْنَهُ بِإِتْلَافِ مَالٍ أَوْ إِيقَادِ نَارٍ، فَأَوْقَدَهَا، وَتَعَدَّتْ النَّارُ إِلَى أَرْضِ جَارِهِ، فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا، يَضْمَنُ الْأَبُ، لِأَنَّ الْأَمْرَ صَحَّ، فَانْتَقَلَ الْفِعْلُ إِلَيْهِ، كَمَا لَوْ بَاشَرَهُ الْأَبُ.

فَلَوْ أَمَرَ أَجْنَبِيٌّ صَبِيًّا بِإِتْلَافِ مَالِ آخَرَ، ضَمِنَ الصَّبِيُّ، ثُمَّ رَجَعَ عَلَى آمِرِهِ.

ج- إِذَا كَانَ بِسَبَبِ تَسْلِيطِهِمْ عَلَى الْمَالِ، كَمَا لَوْ أَوْدَعَ صَبِيًّا وَدِيعَةً بِلَا إِذْنِ وَلِيِّهِ فَأَتْلَفَهَا، لَمْ يَضْمَنِ الصَّبِيُّ، وَكَذَا إِذَا أَتْلَفَ مَا أُعِيرَ لَهُ، وَمَا اقْتَرَضَهُ وَمَا بِيعَ مِنْهُ بِلَا إِذْنٍ، لِلتَّسْلِيطِ مِنْ مَالِكِهَا.

ثَانِيًا: ضَمَانُ الشَّخْصِ لِأَفْعَالِ التَّابِعِينَ لَهُ:

101- وَيَتَمَثَّلُ هَذَا فِي الْخَادِمِ فِي الْمَنْزِلِ، وَالطَّاهِي فِي الْمَطْعَمِ، وَالْمُسْتَخْدَمِ فِي الْمَحَلِّ، وَالْعَامِلِ فِي الْمَصْنَعِ، وَالْمُوَظَّفِ فِي الْحُكُومَةِ، وَفِي سَائِقِ السَّيَّارَةِ لِمَالِكِهَا كُلٌّ فِي دَائِرَةِ عَمَلِهِ.

وَالْعَلَاقَةُ هُنَا عَقَدِيَّةٌ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الرَّقَابَةِ عَلَى عَدِيمِي التَّمْيِيزِ: هِيَ: دِينِيَّةٌ أَوْ أَدَبِيَّةٌ.

وَالْفُقَهَاءُ بَحَثُوا هَذَا فِي بَابِ الْإِجَارَةِ، فِي أَحْكَامِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ، وَفِي تِلْمِيذِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ لِوَاحِدٍ عَمَلًا مُؤَقَّتًا بِالتَّخْصِيصِ، وَيَسْتَحِقُّ أَجْرَهُ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ.

وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ مَنْفَعَتُهُ، وَلَا يَضْمَنُ مَا هَلَكَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، لِأَنَّ الْعَيْنَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، لِأَنَّهُ قَبَضَ بِإِذْنِهِ، وَلَا يَضْمَنُ مَا هَلَكَ مِنْ عَمَلِهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَتَى صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُسْتَأْجِرِ، فَإِذَا أَمَرَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ، صَحَّ، وَيَصِيرُ نَائِبًا مَنَابَهُ، فَيَصِيرُ فِعْلُهُ مَنْقُولًا إِلَيْهِ، كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ، فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُهُ وَإِنَّمَا الضَّمَانُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَخْدُومِهِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (إِجَارَة).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


82-موسوعة الفقه الكويتية (ظلم)

ظُلْمٌ

التَّعْرِيفُ:

1- أَصْلُ الظُّلْمِ فِي اللُّغَةِ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَالْجَوْرُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَالْمَيْلُ عَنِ الْقَصْدِ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ حَتَّى سُمِّيَ كُلُّ عَسْفٍ ظُلْمًا.

وَلَا يَخْرُجُ فِي الِاصْطِلَاحِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْبَغْيُ:

2- مِنْ مَعَانِي الْبَغْيِ فِي اللُّغَةِ: الظُّلْمُ وَالْفَسَادُ وَالِاسْتِطَالَةُ عَلَى النَّاسِ..وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ فِي الْجُمْلَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

ب- الْإِكْرَاهُ:

3- الْإِكْرَاهُ لُغَةً: مِنَ الْكُرْهِ- بِالضَّمِّ- بِمَعْنَى الْقَهْرِ، أَوْ مِنَ الْكَرْهِ- بِالْفَتْحِ- بِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ، وَأَكْرَهْتُهُ عَلَى الْأَمْرِ إِكْرَاهًا: حَمَلْتُهُ عَلَيْهِ قَهْرًا.

وَعَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ: بِأَنَّهُ فِعْلٌ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِكْرَاه ف 98).

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الظُّلْمِ وَالْإِكْرَاهِ: أَنَّ الْإِكْرَاهَ يَكُونُ صُورَةً مِنْ صُوَرِ الظُّلْمِ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

4- الظُّلْمُ مُحَرَّمٌ، دَلَّ عَلَى حُرْمَتِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ.

أَمَّا الْكِتَابُ فَمِنْهُ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}.

وقوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءٍ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْهَا: حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رُوِيَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا..» الْحَدِيثَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أَخَذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحَمَلَ عَلَيْهِ»

.وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ الظُّلْمِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الظُّلْمُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْصِيَتَيْنِ: أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمُبَارَزَةُ الرَّبِّ بِالْمُخَالَفَةِ، وَالْمَعْصِيَةُ فِيهِ أَشَدُّ مِنْ غَيْرِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ غَالِبًا إِلاَّ بِالضَّعِيفِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الِانْتِصَارِ، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ الظُّلْمُ عَنْ ظُلْمَةِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ لَوِ اسْتَنَارَ بِنُورِ الْهُدَى لَاعْتَبَرَ، فَإِذَا سَعَى الْمُتَّقُونَ بِنُورِهِمُ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ بِسَبَبِ التَّقْوَى اكْتَنَفَتْ ظُلُمَاتُ الظُّلْمِ الظَّالِمَ، حَيْثُ لَا يُغْنِي عَنْهُ ظُلْمُهُ شَيْئًا.

أَثَرُ الظُّلْمِ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ:

5- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى اعْتِبَارِ الْخَوْفِ مِنَ الظَّالِمِ عُذْرًا مِنَ الْأَعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِتَرْكِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ الْأَمْنَ مِنَ الظَّالِمِ شَرْطٌ فِيهِمَا، فَكُلُّ مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عِرْضِهِ أَوْ مَالِهِ، أَوْ مَالِ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَلْزَمُهُ الذَّبُّ عَنْهُ، أَوْ خَافَ عَلَى دِينِهِ كَخَوْفِهِ إِلْزَامَ قَتْلِ رَجُلٍ أَوْ ضَرْبِهِ، أَوْ أَنْ يُحْبَسَ بِحَقٍّ لَا وَفَاءَ لَهُ عِنْدَهُ- لِأَنَّ حَبْسَ الْمُعْسِرِ ظُلْمٌ- فَكُلُّ مَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ يُعْذَرُ فِي تَخَلُّفِهِ عَنِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ.

وَلَا عُذْرَ لِمَنْ يُطَالَبُ بِحَقٍّ هُوَ ظَالِمٌ فِي مَنْعِهِ، بَلْ عَلَيْهِ الْحُضُورُ لِلْجُمُعَةِ، وَعَلَيْهِ تَوْفِيَةُ ذَلِكَ الْحَقِّ، وَلَا عُذْرَ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ لِجِنَايَةٍ ارْتَكَبَهَا.

أَخْذُ الْمَالِ ظُلْمًا مِنَ الْحَاجِّ:

6- اعْتَبَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَمْنَ الطَّرِيقِ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ، وَاعْتَبَرَهُ آخَرُونَ شَرْطًا لِلْأَدَاءِ، لَا شَرْطًا لِنَفْسِ الْوُجُوبِ.

انْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَمْن ف9، وَمُصْطَلَحِ حَجّ ف 21).

وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ دَفْعِ الرَّصَدِيِّ بِالْمَالِ، وَأَثَرُ ذَلِكَ فِي تَحَقُّقِ شَرْطِ وُجُوبِ الْحَجِّ وَهُوَ «أَمْنُ الطَّرِيقِ»، عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ تَرَصُّدَ الْحَاجِّ لِأَخْذِ مَالِهِ أَوِ التَّعَدِّي عَلَى نَفْسِهِ وَحَمْلِهِ عَلَى دَفْعِ رِشْوَةٍ أَوْ مَكْسٍ أَوْ خِفَارَةٍ مِنَ الظُّلْمِ الْمَانِعِ مِنْ تَحَقُّقِ هَذَا الشَّرْطِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَجْهِ الْمُعْتَمَدِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي مُقَابِلِ الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ: إِلَى عَدَمِ سُقُوطِ الْوُجُوبِ إِذَا انْدَفَعَ شَرُّ الرَّصَدِيِّ بِدَفْعِ الرِّشْوَةِ أَوِ الْمَكْسِ أَوِ الْخِفَارَةِ، وَهَذَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ تَفْصِيلٌ فِي مَذْهَبِهِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ وُجُوبُ أَدَاءِ الْحَجِّ إِذَا انْدَفَعَ الشَّرُّ بِدَفْعِ الرِّشْوَةِ، فَيَتَحَقَّقُ بِذَلِكَ شَرْطُ الْأَمْنِ، وَالْإِثْمُ عَلَى الْآخِذِ لَا عَلَى الْمُعْطِي، لِأَنَّ الْمُعْطِيَ مُضْطَرٌّ لِلدَّفْعِ ضَرُورَةَ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، كَمَا أَنَّهُ مُضْطَرٌّ لِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْ نَفْسِهِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يُسْتَثْنَى مِنْ شَرْطِ أَمْنِ الطَّرِيقِ الظَّالِمُ الَّذِي يَأْخُذُ الْمُكُوسَ عَلَى الْحُجَّاجِ، فَإِنَّ الْحَجَّ لَا يَسْقُطُ وُجُوبُهُ بِأَخْذِ الْمَكْسِ بِشَرْطَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَنْكُثَ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَكْسُ قَلِيلًا لَا يُجْحِفُ.

وَوَجْهُ جَوَازِ الدَّفْعِ لِلْمَكَّاسِ: أَنَّ الرَّجُلَ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ عِرْضَهُ مِمَّنْ يَهْتِكُهُ بِمَالِهِ، وَقَالُوا: كُلُّ مَا وَقَى بِهِ الْمَرْءُ عِرْضَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِيَ دَيْنَهُ مِمَّنْ يَمْنَعُهُ إِيَّاهُ وَلَوْ كَانَ ظَالِمًا، كَمَا لَوْ قَالَ الرَّجُلُ لآِخَرَ: لَا أُمَكِّنُكَ مِنَ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ إِلاَّ بِجُعْلٍ لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهُ.

وَحَاصِلُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ يَسْقُطُ بِأَخْذِ الظَّالِمِ مَالًا مِنَ الْحَاجِّ فِي صُورَتَيْنِ: الْأُولَى أَنْ يَأْخُذَ قَلِيلًا غَيْرَ مُجْحِفٍ، وَكَانَ يَنْكُثُ.

وَالثَّانِيَةُ.أَنْ يَأْخُذَ كَثِيرًا مُجْحِفًا، نَكَثَ أَمْ لَمْ يَنْكُثْ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ لَا يَسْقُطُ إِذَا كَانَ مَنْ يَدْفَعُ الْمَالَ لِلرَّصَدِيِّ هُوَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ، وَذَلِكَ لِلْمِنَّةِ.كَمَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ إِذَا تَعَيَّنَ عَلَى الْحَاجِّ أَنْ يُعْطِيَ مَالًا لِلرَّصَدِيِّ وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ سِوَى طَرِيقِ الرَّصَدِيِّ، وَيُكْرَهُ لَهُ إِعْطَاءُ الْمَالِ لِلرَّصَدِيِّ، لِأَنَّهُ يُحَرِّضُهُ عَلَى التَّعَرُّضِ لِلنَّاسِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا.

وَمَحَلُّ الْكَرَاهَةِ إِذَا كَانَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، إِذْ لَا حَاجَةَ لِارْتِكَابِ الذُّلِّ حِينَئِذٍ، أَمَّا بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَلَا يُكْرَهُ، لِأَنَّهُ أَسْهَلُ مِنَ الْقِتَالِ أَوِ التَّحَلُّلِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْحَاجَّ يَلْزَمُهُ السَّعْيُ لِلْحَجِّ وَإِنْ كَانَ مُضْطَرًّا لِدَفْعِ الظَّالِمِ عَنْ نَفْسِهِ بِالرِّشْوَةِ أَوِ الْمَكْسِ أَوِ الْخِفَارَةِ، بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ يَسِيرَةً لَا تُجْحِفُ بِمَالِهِ؛ لِأَنَّهَا غَرَامَةٌ يَقِفُ إِمْكَانُ الْحَجِّ عَلَى بَذْلِهَا، فَلَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَ الْحَجِّ مَعَ إِمْكَانِ بَذْلِهَا، كَثَمَنِ الْمَاءِ وَعَلَفِ الْبَهَائِمِ، وَبِشَرْطِ أَنْ يَأْمَنَ غَدْرَ الْمَبْذُولِ لَهُ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ مُتَّفِقٌ مَعَ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ فِي اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْإِجْحَافِ وَعَدَمِ النَّكْثِ وَالْغَدْرِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِعْطَاءُ الرَّصَدِيِّ الظَّالِمِ مَالًا، وَيَسْقُطُ وُجُوبُ الْحَجِّ وَالسَّعْيِ إِلَيْهِ إِذَا اضْطُرَّ الْحَاجُّ لِدَفْعِ الرِّشْوَةِ لِمَنْعِ الظُّلْمِ عَنْ مَالِهِ وَنَفْسِهِ، وَذَلِكَ لِفَقْدِهِ شَرْطَ الْأَمْنِ، وَحَتَّى لَا تَكُونَ الطَّاعَةُ سَبَبًا لِلْمَعْصِيَةِ، وَيَأْثَمُ بِالدَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَلْزَمَ نَفْسَهُ بِالْإِعْطَاءِ، وَلِأَنَّ مَا يُعْطِيهِ خُسْرَانٌ لِدَفْعِ الظُّلْمِ، فَمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا زَادَ عَنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَأُجْرَتِهِ.

وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ كَثِيرُ الرِّشْوَةِ وَيَسِيرُهَا.

الظُّلْمُ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ:

7- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ الْعَدْلِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الْمَبِيتِ.وَاخْتَلَفُوا فِي لُزُومِ الْقَضَاءِ إِذَا جَارَ الزَّوْجُ فَلَمْ يَقْسِمْ لِإِحْدَى زَوْجَاتِهِ، أَوْ قَسَمَ إِحْدَاهُنَّ أَكْثَرَ مِنَ الْأُخْرَى.

وَفِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (قَسْمٌ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ).

أَخْذُ الظَّالِمِ الْوَدِيعَةَ قَهْرًا:

8- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الظَّالِمَ إِذَا أَخَذَ الْوَدِيعَةَ قَهْرًا مِنَ الْمُودَعِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ.

وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (ضَمَان، غَصْب، وَدِيعَة).

الِامْتِنَاعُ عَنْ دَفْعِ مَالٍ فُرِضَ ظُلْمًا:

9- لَمْ نَجِدْ لِلْحَنَفِيَّةِ نَصًّا صَرِيحًا فِي الْمَسْأَلَةِ، لَكِنْ يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا فَرَضَ عَلَى النَّاسِ مَالًا ظُلْمًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمُ الدَّفْعُ.

قَالَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَطَاقَ أَنْ يُقَاتِلَ مَعَ الْإِمَامِ، إِلاَّ إِنْ أَبْدَى مَنْ يُقَاتِلُهُمُ الْإِمَامُ مَا يُجَوِّزُ لَهُمُ الْقِتَالَ، كَأَنْ ظَلَمَهُمْ أَوْ ظَلَمَ غَيْرَهُمْ ظُلْمًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُعِينُوهُمْ حَتَّى يُنْصِفَهُمْ وَيَرْجِعَ عَنْ جَوْرِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْحَالُ مُشْتَبَهًا أَنَّهُ ظُلْمٌ، مِثْلُ تَحْمِيلِ بَعْضِ الْجِبَايَاتِ الَّتِي لِلْإِمَامِ أَخْذُهَا وَإِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهَا لِدَفْعِ ضَرَرٍ أَعَمَّ مِنْهُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا كَلَّفَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ النَّاسَ بِمَالٍ ظُلْمًا فَامْتَنَعُوا عَنْ إِعْطَائِهِ، فَاسْتَظْهَرَ الْبُنَانِيِّ مِنْهُمْ أَنَّ تَعْرِيفَ ابْنِ عَرَفَةَ لِلْبَغْيِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ بُغَاةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِمَعْصِيَةٍ، وَإِنْ حَرُمَ عَلَيْهِ قِتَالُهُمْ لِأَنَّهُ جَائِرٌ.

أَمَّا تَعْرِيفُ خَلِيلٍ لِلْبُغَاةِ فَيَقْتَضِي أَنَّهُمْ غَيْرُ بُغَاةٍ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْنَعُوا حَقًّا وَلَا أَرَادُوا خَلْعَهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا كَلَّفَهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ ظُلْمًا لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِمْ، فَلَا يُعْتَبَرُ امْتِنَاعُهُمْ عَنْ دَفْعِهِ بَغْيًا، لَكِنْ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمْ وُجُوبُ دَفْعِهِ فِيمَا إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى عَدَمِهِ ضَرَرٌ أَعْظَمُ مِمَّا طَلَبَهُ، فَإِنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَكْرَهَ أَحَدًا مِنَ الرَّعِيَّةِ عَلَى حَرَامٍ أَوْ مَكْرُوهٍ- مُجْمَعٍ عَلَيْهِ، أَوْ عِنْدَ الْمَأْمُورِ فَقَطْ- فَلَا لَوْمَ عَلَى فَاعِلِهِ، وَإِنْ كَانَتْ مَفْسَدَةُ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَقَلَّ امْتَنَعَتِ الْمُخَالَفَةُ.وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الدَّفْعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ: «سَيَأْتِيكُمْ رَكِيبٌ مُبْغِضُونَ، فَإِنْ جَاءُوكُمْ فَرَحِّبُوا بِهِمْ وَخَلُّوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَبْتَغُونَ، فَإِنْ عَدَلُوا فَلِأَنْفُسِهِمْ، وَإِنْ ظَلَمُوا فَعَلَيْهَا، وَأَرْضُوهُمْ فَإِنَّ تَمَامَ زَكَاتِكُمْ رِضَاهُمْ، وَلِيَدْعُوا لَكُمْ» فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الدَّفْعِ، وَعَدَمِ مُنَازَعَتِهِمْ، وَكَفِّ أَلْسِنَتِنَا عَنْهُمْ.

عَزْلُ الْحَاكِمِ بِسَبَبِ ظُلْمِهِ:

10- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يُعْزَلُ بِالْجَوْرِ وَالظُّلْمِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى) ف 12، 23 وَمُصْطَلَحِ: (عَزْل).

أَثَرُ الْقَتْلِ ظُلْمًا فِي شَهَادَةِ الْمَقْتُولِ:

11- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لِلظُّلْمِ أَثَرًا فِي الْحُكْمِ عَلَى الْمَقْتُولِ بِأَنَّهُ شَهِيدٌ، وَيُقْصَدُ بِهِ غَيْرُ شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ مَعَ الْكُفَّارِ، وَمِنْ صُوَرِ الْقَتْلِ ظُلْمًا: قَتِيلُ اللُّصُوصِ وَالْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطُّرُقِ، أَوْ مَنْ قُتِلَ مُدَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ دَمِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، أَوْ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَةٍ، أَوْ مَاتَ فِي السِّجْنِ وَقَدْ حُبِسَ ظُلْمًا. وَاخْتَلَفُوا فِي اعْتِبَارِهِ شَهِيدَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَوْ شَهِيدَ الْآخِرَةِ فَقَطْ؟

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّ مَنْ قُتِلَ ظُلْمًا يُعْتَبَرُ شَهِيدَ الْآخِرَةِ فَقَطْ، لَهُ حُكْمُ شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ مَعَ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الثَّوَابِ، وَلَيْسَ لَهُ حُكْمُهُ فِي الدُّنْيَا، فَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ: إِلَى أَنَّ مَنْ قُتِلَ ظُلْمًا فَهُوَ شَهِيدٌ يُلْحَقُ بِشَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ فِي أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، لِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ- رضي الله عنه-: سَمِعْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: يَقُولُ «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»

وَلِأَنَّهُمْ مَقْتُولُونَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَأَشْبَهُوا مَنْ قَتَلَهُمُ الْكُفَّارُ.

أَثَرُ الْقَتْلِ ظُلْمًا فِي إِيجَابِ الْقِصَاصِ:

12- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَتْلَ الْمُؤْمِنِ ظُلْمًا مِنَ الْكَبَائِرِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ ظُلْمًا عُدْوَانًا مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ، وَخَرَجَ بِقَيْدِ الظُّلْمِ: الْقَتْلُ بِحَقٍّ أَوْ بِشُبْهَةٍ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ.

وَاشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ الْقِصَاصِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مَعْصُومًا مَحْقُونَ الدَّمِ لِيَتَحَقَّقَ الظُّلْمُ، لقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} أَيْ بِغَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ الْقَتْلَ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ إِنَّمَا شُرِعَ حِفْظًا لِلدِّمَاءِ الْمَعْصُومَةِ وَزَجْرًا عَنْ إِتْلَافِ الْبُنْيَةِ الْمَطْلُوبِ بَقَاؤُهَا، فَلَا يَجِبُ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ بِقَتْلِ حَرْبِيٍّ، وَلَا مُرْتَدٍّ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَلَا بِقَتْلِ زَانٍ مُحْصَنٍ، وَلَا مُحَارِبٍ قَاطِعِ طَرِيقٍ تَحَتَّمَ قَتْلُهُ وَلَا تَارِكِ الصَّلَاةِ بَعْدَ أَمْرِ الْإِمَامِ لَهُ بِهَا.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (قِصَاص).

نِسْبَةُ الظُّلْمِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَأَثَرُهَا فِي الرِّدَّةِ:

13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نِسْبَةَ الظُّلْمِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ مُوجِبَاتِ الْحُكْمِ بِالرِّدَّةِ فَلَوْ قَالَ شَخْصٌ لِغَيْرِهِ: لَا تَتْرُكِ الصَّلَاةَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُؤَاخِذُكَ فَقَالَ: لَوْ آخَذَنِي اللَّهُ بِهَا مَعَ مَا بِي مِنَ الْمَرَضِ وَالشِّدَّةِ ظَلَمَنِي، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُرْتَدًّا.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّة ف 14).

الْغِيبَةُ لِلشَّكْوَى مِنَ الظُّلْمِ:

14- لَا تُبَاحُ الْغِيبَةُ إِلاَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَمِنْ بَيْنِهَا التَّظَلُّمُ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَالْقَاضِي وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةٌ أَوْ قُدْرَةٌ عَلَى إِنْصَافِهِ مِمَّنْ ظَلَمَهُ، فَيَقُولُ: ظَلَمَنِي فُلَانٌ، أَوْ فَعَلَ بِي كَذَا.

وَذَلِكَ لقوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ}.

وَمِنْ بَيْنِ الضَّرُورَاتِ الْمُبِيحَةِ لِلْغِيبَةِ الِاسْتِفْتَاءُ، بِأَنْ يَقُولَ لِلْمُفْتِي: ظَلَمَنِي فُلَانٌ بِكَذَا وَكَذَا فَمَا طَرِيقُ الْخَلَاصِ؟ وَالْأَسْلَمُ أَنْ يَقُولَ: مَا قَوْلُكَ فِي رَجُلٍ ظَلَمَهُ أَبُوهُ أَوِ ابْنُهُ أَوْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنَّ التَّصْرِيحَ مُبَاحٌ بِهَذَا الْقَدْرِ؛ لِأَنَّ الْمُفْتِيَ قَدْ يُدْرِكُ مَعَ تَعْيِينِهِ مَا لَا يُدْرِكُ مَعَ إِبْهَامِهِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، «أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ؛ فَقَالَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ».

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (غِيبَة).

الدُّعَاءُ عَلَى الظَّالِمِ:

15- لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى ظَالِمِهِ بِقَدْرِ مَا يُوجِبُهُ أَلَمُ ظُلْمِهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الدُّعَاءُ عَلَى مَنْ شَتَمَهُ أَوْ أَخَذَ مَالَهُ بِالْكُفْرِ لِأَنَّهُ فَوْقَ مَا يُوجِبُهُ أَلَمُ الظُّلْمِ، وَلَوْ كَذَبَ ظَالِمٌ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَيْهِ، بَلْ يَدْعُو اللَّهَ فِيمَنْ يَفْتَرِي عَلَيْهِ نَظِيرُ افْتِرَائِهِ عَلَيْهِ، وَكَذَا إِنْ أَفْسَدَ عَلَيْهِ دِينَهُ فَلَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ دِينُهُ، بَلْ يَدْعُو اللَّهَ عَلَيْهِ فِيمَنْ يُفْسِدُ عَلَيْهِ دِينَهُ، هَذَا مُقْتَضَى التَّشْبِيهِ، وَالتَّوَرُّعُ عَنْهُ أَفْضَلُ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: الدُّعَاءُ قِصَاصٌ وَمَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَمَا صَبَرَ يُرِيدُ أَنَّهُ انْتَصَرَ لِنَفْسِهِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَقَدِ انْتَصَرَ».

وَذَهَبَ الْعَلاَّمَةُ ابْنُ قَاسِمٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ عَلَى الظَّالِمِ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (دُعَاء 18).

وِلَايَةُ الْمَظَالِمِ:

16- وِلَايَةُ الْمَظَالِمِ هِيَ إِحْدَى وَظَائِفِ الدَّوْلَةِ، وَتَخْتَصُّ بِالنَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ وَرَدِّهَا إِلَى أَصْحَابِهَا.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَنَظَرُ الْمَظَالِمِ هُوَ قَوَدُ الْمُتَظَالِمِينَ إِلَى التَّنَاصُفِ بِالرَّهْبَةِ، وَزَجْرُ الْمُتَنَازِعِينَ عَنِ التَّجَاحُدِ بِالْهَيْبَةِ.

فَمَدَارُ الْأَمْرِ فِي الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْوِلَايَةِ قَائِمٌ عَلَى قُوَّةِ السُّلْطَانِ وَمَنْعَتُهُ، وَلِذَا يُشْتَرَطُ فِي النَّاظِرِ فِي الْمَظَالِمِ: أَنْ يَكُونَ جَلِيلَ الْقَدْرِ مُهَابًا، نَافِذَ الْأَمْرِ، ظَاهِرَ الْعِفَّةِ، قَلِيلَ الطَّمَعِ، كَثِيرَ الْوَرَعِ، لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي نَظَرِهِ إِلَى سَطْوَةِ الْحُمَاةِ وَثَبْتِ الْقُضَاةِ، وَإِذَا كَانَ النَّاظِرُ فِي الْمَظَالِمِ مِمَّنْ يَمْلِكُ الْأُمُورَ الْعَامَّةَ كَالْوُزَرَاءِ وَالْأُمَرَاءِ لَمْ يَحْتَجِ النَّظَرُ فِيهَا إِلَى تَقْلِيدٍ وَتَوْلِيَةٍ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يُفَوَّضْ إِلَيْهِ النَّظَرُ الْعَامُّ احْتَاجَ إِلَى تَقْلِيدٍ وَتَوْلِيَةٍ.

يَقُولُ ابْنُ خَلْدُونٍ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْوَظِيفَةِ: النَّظَرُ فِي الْمَظَالِمِ وَظِيفَةٌ مُمْتَزِجَةٌ مِنْ سَطْوَةِ السَّلْطَنَةِ وَنَصَفَةِ الْقَضَاءِ، وَتَحْتَاجُ إِلَى عُلُوِّ يَدٍ وَعَظِيمِ رَهْبَةٍ تَقْمَعُ الظَّالِمَ مِنَ الْخَصْمَيْنِ وَتَزْجُرُ الْمُعْتَدِيَ، وَكَأَنَّهُ يُمْضِي مَا عَجَزَ الْقُضَاةُ أَوْ غَيْرُهُمْ عَنْ إِمْضَائِهِ.

وَقَدْ «تَوَلَّى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- النَّظَرَ فِي الْمَظَالِمِ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ فِي الشِّرْبِ الَّذِي تَنَازَعَ فِيهِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ- رضي الله عنه- وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ: يَا زُبَيْرُ اسْقِ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ».

وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ هَذَا أَدَبًا لَهُ لِجُرْأَتِهِ عَلَيْهِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (وِلَايَةُ الْمَظَالِمِ).

تَكْرِيمُ الظَّالِمِ وَإِعَانَتُهُ:

17- يُقْصَدُ بِذَلِكَ التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى تَكْرِيمِ الظَّالِمِ وَإِعَانَتِهِ عَلَى ظُلْمِهِ، كَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ، وَتَقْبِيلِ يَدِهِ، وَدَفْعِ رِشْوَةٍ لَهُ، وَإِعَانَتِهِ عَلَى ظُلْمِهِ، فَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحَاتِهَا: (دَعْوَة ف 27، تَقْبِيل ف 8، رِشْوَة ف 7 إِعَانَة ف 11، رِدْء ف 4- 7).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


83-موسوعة الفقه الكويتية (عجز)

عَجْزٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْعَجْزُ لُغَةً: مَصْدَرُ الْفِعْلِ عَجْزٌ، يُقَالُ: عَجَزَ عَنِ الْأَمْرِ يَعْجِزُ عَجْزًا، وَعَجَّزَ فُلَانٌ رَأْيَ فُلَانٍ: إِذَا نَسَبَهُ إِلَى خِلَافِ الْحَزْمِ، كَأَنَّهُ نَسَبَهُ إِلَى الْعَجْزِ.

وَالْعَجْزُ: الضَّعْفُ، وَالتَّعْجِيزُ: التَّثْبِيطُ.وَفِي الْمِصْبَاحِ: أَعْجَزَهُ الشَّيْءُ: فَاتَهُ.وَفِي مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ: الْعَجْزُ: أَصْلُهُ التَّأَخُّرُ عَنِ الشَّيْءِ، وَصَارَ فِي التَّعَارُفِ اسْمًا لِلْقُصُورِ عَنْ فِعْلِ الشَّيْءِ، وَهُوَ ضِدُّ الْقُدْرَةِ.

وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ الرَّافِعِيُّ: لَا نَعْنِي بِالْعَجْزِ عَدَمَ الْإِمْكَانِ فَقَطْ، بَلْ فِي مَعْنَاهُ خَوْفُ الْهَلَاكِ...وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ الْإِمَامُ فِي ضَبْطِ الْعَجْزِ أَنْ تَلْحَقَهُ مَشَقَّةٌ تُذْهِبُ خُشُوعَهُ

وَيَقُولُ الْأُصُولِيُّونَ: جَوَازُ التَّكْلِيفِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقُدْرَةِ الَّتِي يُوجَدُ بِهَا الْفِعْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ، وَهَذَا شَرْطٌ فِي أَدَاءِ حُكْمِ كُلِّ أَمْرٍ، حَتَّى أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ لَا تَجِبُ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْهَا بِبَدَنِهِ، بِأَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ حَقِيقَةً، وَلَا عَلَى مَنْ عَجَزَ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ إِلاَّ بِنُقْصَانٍ يَحِلُّ بِهِ، أَوْ مَرَضٍ يُزَادُ بِهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الرُّخْصَةُ:

2- الرُّخْصَةُ لُغَةً: التَّسْهِيلُ فِي الْأَمْرِ وَالتَّيْسِيرُ، يُقَالُ: رَخَّصَ الشَّرْعُ لَنَا فِي كَذَا: إِذَا يَسَّرَهُ وَسَهَّلَهُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: اسْمٌ لِمَا بُنِيَ عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ، وَهُوَ مَا يُسْتَبَاحُ بِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ، وَذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ: أَنَّ الرُّخْصَةَ اسْمٌ لِمَا تَغَيَّرَ عَنِ الْأَمْرِ الْأَصْلِيِّ إِلَى تَخْفِيفٍ وَيُسْرٍ، تَرْفِيهًا وَتَوْسِعَةً عَلَى أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَالْعَجْزُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الرُّخْصَةِ.

ب- التَّيْسِيرُ:

3- التَّيْسِيرُ لُغَةً: مَصْدَرُ يَسَّرَ، يُقَالُ: يَسَّرَ الْأَمْرَ إِذَا سَهَّلَهُ وَلَمْ يُعَسِّرْ، وَلَمْ يَشُقَّ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ نَفْسِهِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ يُوَافِقُ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ.

وَالْعَجْزُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّيْسِيرِ.

ج- الْقُدْرَةُ:

4- الْقُدْرَةُ لُغَةً: الْقُوَّةُ عَلَى الشَّيْءِ وَالتَّمَكُّنُ مِنْهُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هِيَ الصِّفَةُ الَّتِي تُمَكِّنُ الْحَيَّ مِنَ الْفِعْلِ وَتَرْكِهِ بِالْإِرَادَةِ.وَالْقُدْرَةُ ضِدُّ الْعَجْزِ، فَهُمَا ضِدَّانِ.

أَسْبَابُ الْعَجْزِ:

5- لِلْعَجْزِ أَسْبَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ، إِذْ هِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَا هُوَ مَطْلُوبٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَطْلُوبُ مِنَ الْعِبَادَاتِ أَمْ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ أَمْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ لَهُ وَسَائِلُ لِتَحْصِيلِهِ، وَفِقْدَانُ هَذِهِ الْوَسَائِلِ يُعْتَبَرُ سَبَبًا لِلْعَجْزِ عَنْ تَحْصِيلِ الْمَطْلُوبِ.

فَعَدَمُ وُجُودِ الْمَاءِ مَثَلًا سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ عَنِ الطَّهَارَةِ الْمَائِيَّةِ (الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ).

وَفِقْدَانُ الْقُدْرَةِ الْبَدَنِيَّةِ- مَثَلًا- سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ وَسَبَبٌ أَيْضًا مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ.

وَفِقْدَانُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الْحَجِّ.

وَالْإِعْسَارُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ عَنِ الْإِنْفَاقِ.

وَعَدَمُ وُجُودِ مَا يُثْبِتُ حَقَّ الْمُدَّعِي سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ عَنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ...وَهَكَذَا.

وَفِقْدَانُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ يُسَمَّى عُذْرًا، فَالْأَعْذَارُ فِي الْجُمْلَةِ أَسْبَابٌ لِلْعَجْزِ.

وَيَذْكُرُ الْأُصُولِيُّونَ جُمْلَةً مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى عَوَارِضِ الْأَهْلِيَّةِ كَالصِّبَا وَالْجُنُونِ وَالْعَتَهِ...إِلَخْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَهْلِيَّةَ يُبْنَى عَلَيْهَا التَّكْلِيفُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَمَا يَعْرِضُ لِلْأَهْلِيَّةِ يَكُونُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ مَا كُلِّفَ بِهِ الْإِنْسَانُ.

كَمَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الْكَثِيرَ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ فِي الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ كَقَاعِدَةِ: الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ.

وَذَكَرَ الْأُصُولِيُّونَ بَعْضَ أَسْبَابِ الْعَجْزِ أَثْنَاءَ الْكَلَامِ عَلَى الْحُكْمِ، وَحُكْمُ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَذَكَرُوا أَنَّ الْقُدْرَةَ شَرْطُ التَّكْلِيفِ، أَوْ هِيَ شَرْطُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ، أَخْذًا مِنْ قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} وَيَقْسِمُونَ الْقُدْرَةَ إِلَى قُدْرَةٍ مُمَكِّنَةٍ وَقُدْرَةٍ مُيَسِّرَةٍ.

وَمَعَ ذَلِكَ فَمِنَ الْعَسِيرِ اسْتِقْصَاءُ أَسْبَابِ الْعَجْزِ؛ لِأَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ لَهُ وَسَائِلُهُ الْخَاصَّةُ الَّتِي تُحَقِّقُهُ، وَاَلَّتِي يُعْتَبَرُ فِقْدَانُهَا سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ عَنْ تَحْصِيلِهِ وَيُرْجَعُ لِكُلِّ تَصَرُّفٍ فِي بَابِهِ.

أَنْوَاعُ الْعَجْزِ:

6- الْعَجْزُ نَوْعَانِ: حَقِيقِيٌّ وَحُكْمِيٌّ.

جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: مَنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ لِمَرَضٍ حَقِيقِيٍّ، وَحَدُّهُ: أَنْ يَلْحَقَهُ بِالْقِيَامِ ضَرَرٌ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَرَضُ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَوْ فِيهَا، أَوْ حُكْمِيٌّ: بِأَنْ خَافَ زِيَادَةَ الْمَرَضِ أَوْ بُطْءَ بُرْءٍ بِقِيَامِهِ.

وَقَدْ عَلَّقَ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى قَوْلِ الدُّرِّ (لِمَرَضٍ حَقِيقِيٍّ) بِقَوْلِهِ: الْحَقِيقِيُّ وَالْحُكْمِيُّ وَصْفَانِ لِلتَّعَذُّرِ، وَلَيْسَ لِلْمَرَضِ.

وَفِي الْهِدَايَةِ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ جَاءَ: خَائِفُ السَّبُعِ وَالْعَدُوِّ وَالْعَطَشِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ دَابَّتِهِ عَاجِزٌ حُكْمًا، فَيُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ.

وَفِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ، قَالَ الدَّرْدِيرُ: يَتَيَمَّمُ ذُو مَرَضٍ، وَلَوْ حُكْمًا، كَصَحِيحٍ خَافَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ حُدُوثَهُ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ (قَوْلُهُ: أَوْ حُكْمًا) وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي خَافَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ حُدُوثَ مَرَضٍ، فَهُوَ بِسَبَبِ خَوْفِهِ الْمَذْكُورِ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْقَادِرِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ.

وَقَالَ الْبَزْدَوِيُّ: جَوَازُ التَّكْلِيفِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقُدْرَةِ الَّتِي يُوجَدُ بِهَا الْفِعْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ، حَتَّى أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ لَا تَجِبُ عَلَى الْعَاجِزِ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ حَقِيقَةً لِعَجْزِهِ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ بِبَدَنِهِ، أَوْ حُكْمًا بِأَنْ كَانَ يَحِلُّ بِاسْتِعْمَالِهِ نَقْصٌ بِبَدَنِهِ أَوْ مَرَضٌ يَزْدَادُ بِهِ.

أَثَرُ الْعَجْزِ:

7- الْعَجْزُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّخْفِيفِ وَالتَّيْسِيرِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْحُدُودِ وَالْقَضَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَكُلُّ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْإِنْسَانُ يَسَّرَتْهُ لَهُ الشَّرِيعَةُ، تَفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَرَحْمَةً بِعِبَادِهِ، وَرَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ عَنْهُمْ.

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} قَالَ الْجَصَّاصُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَصٌّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ أَحَدًا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا يُطِيقُهُ، وَلَوْ كَلَّفَ أَحَدًا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا يَسْتَطِيعُهُ لَكَانَ مُكَلِّفًا لَهُ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ.

وَقَدْ وَضَعَ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ مِنَ الْقَوَاعِدِ مَا يَجْمَعُ الْكَثِيرَ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ وَوَضَّحُوا التَّخْفِيفَاتِ الَّتِي تَنْبَنِي عَلَى كُلِّ سَبَبٍ، وَمِنْ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ:

الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ:

8- قَالَ الْفُقَهَاءُ: الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.

وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}

وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ رُخَصُ الشَّارِعِ وَتَخْفِيفَاتُهُ، وَأَسْبَابُ التَّخْفِيفِ هِيَ: السَّفَرُ وَالْمَرَضُ وَالْإِكْرَاهُ وَالنِّسْيَانُ وَالْجَهْلُ وَالْعُسْرُ وَعُمُومُ الْبَلْوَى وَالنَّقْصُ..إِلَخْ.

وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ الْأَسْبَابِ مِنْ آثَارِ.

وَمِنْهَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرَضِ: التَّيَمُّمُ عِنْدَ مَشَقَّةِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَالْقُعُودُ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ، وَالتَّخَلُّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ مَعَ حُصُولِ الْفَضِيلَةِ، وَالْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ، وَتَرْكُ الصَّوْمِ لِلشَّيْخِ الْهَرَمِ مَعَ الْفِدْيَةِ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا ذَكَرُوهُ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّقْصِ: عَدَمُ تَكْلِيفِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ.

وَمَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ يُوَضِّحُ أَثَرَ الْعَجْزِ فِي الْعِبَادَاتِ.

أَمَّا فِي الْمُعَامَلَاتِ فَأَثَرُ الْعَجْزِ يَخْتَلِفُ مِنْ تَصَرُّفٍ إِلَى تَصَرُّفٍ، وَمِنْ ذَلِكَ:

1- إِذَا عَجَزَ الزَّوْجُ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ، وَطَلَبَتِ الزَّوْجَةُ التَّفْرِيقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ بَلْ تَسْتَدِينُ عَلَيْهِ، وَيُؤْمَرُ بِالْأَدَاءِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا لَوْلَا الزَّوْجُ. (ر: نَفَقَة).

2- ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ مَوَانِعَ عَقْدِ الْإِمَامَةِ وَمَوَانِعَ اسْتِدَامَتِهَا، فَقَالَ: مَا يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ وَمِنِ اسْتِدَامَتِهَا هُوَ مَا يَمْنَعُ مِنَ الْعَمَلِ كَذَهَابِ الْيَدَيْنِ، أَوْ مِنَ النُّهُوضِ كَذَهَابِ الرِّجْلَيْنِ، فَلَا تَصِحُّ مَعَهُ الْإِمَامَةُ فِي عَقْدٍ، وَلَا اسْتِدَامَةَ، لِعَجْزِهِ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ الْأُمَّةِ.

أَمَّا مَا يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي مَنْعِهِ مِنِ اسْتِدَامَتِهَا، فَهُوَ مَا ذَهَبَ بِهِ بَعْضُ الْعَمَلِ أَوْ فُقِدَ بِهِ بَعْضُ النُّهُوضِ، كَذَهَابِ إِحْدَى الْيَدَيْنِ أَوْ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ، فَلَا يَصِحُّ مَعَهُ عَقْدُ الْإِمَامَةِ لِعَجْزِهِ عَنْ كَمَالِ التَّصَرُّفِ- فَإِنْ طَرَأَ بَعْدَ عَقْدِ الْإِمَامَةِ، فَفِي خُرُوجِهِ مِنْهَا مَذْهَبَانِ:

أَحَدُهُمَا: يَخْرُجُ مِنَ الْإِمَامَةِ؛ لِأَنَّهُ عَجْزٌ يَمْنَعُ مِنِ ابْتِدَائِهَا فَمَنَعَ مِنِ اسْتِدَامَتِهَا.

وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الْإِمَامَةِ وَإِنْ مَنَعَ مِنْ عَقْدِهَا.ر: (الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى).

3- الدَّعْوَى إِذَا صَحَّتْ، سَأَلَ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْهَا لِيَنْكَشِفَ لَهُ وَجْهُ الْحُكْمِ، فَإِنِ اعْتَرَفَ قَضَى عَلَيْهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ سَأَلَ الْمُدَّعِيَ الْبَيِّنَةَ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: فَلَكَ يَمِينُهُ» فَإِنْ أَحْضَرَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ قَضَى بِهَا وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ وَطَلَبَ يَمِينَ خَصْمِهِ اسْتَحْلَفَهُ عَلَيْهَا.

وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِحَقٍّ: لِي بَيِّنَةٌ بِأَنِّي قَضَيْتُهُ، أَوْ: لِي بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ أَبْرَأَنِي، وَطَلَبَ الْإِنْظَارَ لَزِمَ إِنْظَارُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي تَشْهَدُ لَهُ بِالْقَضَاءِ أَوِ الْإِبْرَاءِ حَلَفَ الْمُدَّعِي عَلَى نَفْيِ مَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ قَضَاءٍ أَوْ إِبْرَاءٍ، وَاسْتَحَقَّ مَا ادَّعَى بِهِ.

ر: (دَعْوَى ف 68- وَقَضَاء).

4- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ بِالْأَعْذَارِ عِنْدَنَا، لِأَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ وَهِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا فَصَارَ الْعُذْرُ فِي الْإِجَارَةِ كَالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ، فَتُفْسَخُ بِهِ، إِذِ الْمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا، وَهُوَ عَجْزُ الْعَاقِدِ عَنِ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِهِ إِلاَّ بِتَحَمُّلِ ضَرَرٍ زَائِدٍ لَمْ يُسْتَحَقَّ بِهِ.وَكَذَا مَنِ اسْتَأْجَرَ دُكَّانًا فِي السُّوقِ لِيَتَّجِر فِيهِ، فَذَهَبَ مَالُهُ، أَوْ أَجَّرَ دُكَّانًا أَوْ دَارًا ثُمَّ أَفْلَسَ وَلَزِمَتْهُ دُيُونٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهَا، فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ وَبَاعَهَا فِي الدُّيُونِ، لِأَنَّ فِي الْجَرْيِ عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ إِلْزَامَ ضَرَرٍ زَائِدٍ لَمْ يُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ. (ر: إِجَارَة).

أَنْوَاعُ التَّخْفِيفِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَجْزِ:

تَخْتَلِفُ أَنْوَاعُ التَّخْفِيفِ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْعَجْزِ وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي:

أَوَّلًا: سُقُوطُ الْمَطْلُوبِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَدَلٌ:

9- إِذَا عَجَزَ الْإِنْسَانُ عَنْ أَدَاءِ الْمَطْلُوبِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَدَلٌ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ تَخْفِيفَ إِسْقَاطٍ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ إِسْقَاطُ الْحَجِّ عَنِ الْفَقِيرِ.

ثَانِيًا: الِانْتِقَالُ إِلَى بَدَلِ الْمَطْلُوبِ:

10- إِذَا عَجَزَ الْإِنْسَانُ عَنْ فِعْلِ الْمَطْلُوبِ وَكَانَ لَهُ بَدَلٌ فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى الْبَدَلِ، كَالْعَاجِزِ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى التَّيَمُّمِ، وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ بِذَلِكَ فِي قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}.وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ انْتَقَلَ إِلَى الْقُعُودِ، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقُعُودِ انْتَقَلَ إِلَى الِاضْطِجَاعِ، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ انْتَقَلَ إِلَى الْإِيمَاءِ، وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ».

وَمَنْ عَجَزَ عَنِ الصِّيَامِ انْتَقَلَ إِلَى الْإِطْعَامِ.

وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْمَطْلُوبَ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُؤَقَّتٍ بِوَقْتٍ وَلَمْ يَجِدْهُ- لَا يَتْرُكُهُ بِالْعَجْزِ عَنْهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ثَمَنِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ مُؤَقَّتًا بِوَقْتٍ، فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى الْبَدَلِ، كَالْمُتَمَتِّعِ إِذَا كَانَ مَعَهُ مَالٌ إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا يَشْتَرِيهِ، فَعَلَيْهِ الِانْتِقَالُ إِلَى الصَّوْمِ، لِأَنَّهُ مُؤَقَّتٌ، فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ الثَّلَاثَةَ فِي الْحَجِّ، وَكَمَا لَوْ عَدِمَ الْمَاءَ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ وَلَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ، وَكَذَا لَوْ وَجَدَهُ وَكَانَ مَالُهُ غَائِبًا، بِخِلَافِ جَزَاءِ الصَّيْدِ إِذَا كَانَ مَالُهُ غَائِبًا فَإِنَّهُ يُؤَخِّرُ، لِأَنَّهُ يَقْبَلُ التَّأْخِيرَ.

وَقَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي الْقَوَاعِدِ: الْأَبْدَالُ إِنَّمَا تَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلَاتِ فِي وُجُوبِ الْإِتْيَانِ بِهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ مُبْدَلَاتِهَا فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا لَيْسَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ، فَإِنَّ الْأَجْرَ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ، وَلَيْسَ الصَّوْمُ فِي الْكَفَّارَةِ كَالْإِعْتَاقِ، وَلَا الْإِطْعَامُ كَالصِّيَامِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ التَّيَمُّمُ كَالْوُضُوءِ، إِذْ لَوْ تَسَاوَتِ الْأَبْدَالُ وَالْمُبْدَلَاتُ لَمَا شُرِطَ فِي الِانْتِقَالِ إِلَى الْبَدَلِ فَقْدُ الْمُبْدَلِ.

وُجُودُ الْأَصْلِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْبَدَلِ:

11- مَنْ تَلَبَّسَ بِالْبَدَلِ فِي الْعِبَادَةِ لِعَجْزِهِ عَنِ الْأَصْلِ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ فِي أَثْنَاءِ أَدَاءِ الْبَدَلِ فَقَدْ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: إِنْ كَانَ الْبَدَلُ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ، لَيْسَ يُرَادُ لِغَيْرِهِ، اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ، كَمَا لَوْ قَدَرَ الْمُتَمَتِّعُ عَلَى الْهَدْيِ بَعْدَ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَرُجُوعِهِ، فَإِنَّهُ يَتَمَادَى فِي إِتْمَامِ الْعَشَرَةِ، وَلَا أَثَرَ لِوُجُودِ الْهَدْيِ بَعْدُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْبَدَلُ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ بَلْ يُرَادُ لِغَيْرِهِ، لَمْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُهُ، كَمَا إِذَا قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ فِي أَثْنَاءِ التَّيَمُّمِ أَوْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ وَقَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ يُرَادُ لِغَيْرِهِ، فَلَا يَسْتَقِرُّ إِلاَّ بِالشُّرُوعِ فِي الْمَقْصُودِ.

12- وَإِذَا شُرِعَ فِي الْبَدَلِ، ثُمَّ وُجِدَ الْأَصْلُ بَعْدَ الِانْتِهَاءِ مِنَ الْبَدَلِ، فَقَدْ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: إِذَا فَرَغَ مِنْهُ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ مُضَيَّقًا فَقَدْ مَضَى الْأَمْرُ كَمَا لَوْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا وَتَيَمَّمَ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ وَصَلَّى، ثُمَّ رَجَعَ الْمَالُ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَكَذَا الْمُتَمَتِّعُ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ وَصَامَ، ثُمَّ عَادَ الْمَالُ، لِأَنَّ وَقْتَهُ مُضَيَّقٌ كَالصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ مُوَسَّعًا فَقَوْلَانِ، كَمَا لَوْ عَادَ مَالُهُ بَعْدَ الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ.

الْعَجْزُ عَنْ بَعْضِ الْمَطْلُوبِ:

13- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ كُلِّفَ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ فَقَدَرَ عَلَى بَعْضِهِ وَعَجَزَ عَنْ بَعْضِهِ، فَإِنَّهُ يَأْتِي بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ».

وَفَصَّلَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ كَالزَّرْكَشِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ رَجَبٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فَقَالُوا: إِذَا كَانَتِ الْعِبَادَةُ مَشْرُوعَةً فِي نَفْسِهَا وَعَجَزَ عَنْ بَعْضِهَا، فَإِنَّهُ يَأْتِي بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ: مَنْ قَدَرَ عَلَى بَعْضِ الْفَاتِحَةِ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنَ الْفَاتِحَةِ تَجِبُ قِرَاءَتُهَا بِنَفْسِهَا كَمَنِ انْتَهَى فِي الْكَفَّارَةِ إِلَى الْإِطْعَامِ، فَقَدَرَ عَلَى إِطْعَامِ ثَلَاثِينَ، فَيَتَعَيَّنُ إِطْعَامُهُمْ.وَكَذَا لَوْ وُجِدَ بَعْضُ الصَّاعِ مِنَ الْفِطْرَةِ لَزِمَهُ إِخْرَاجُهُ فِي الْأَصَحِّ.

وَإِنْ كَانَ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ لَيْسَ مَقْصُودًا فِي الْعِبَادَةِ، بَلْ هُوَ وَسِيلَةٌ مَحْضَةٌ إِلَيْهَا، كَتَحْرِيكِ اللِّسَانِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَإِمْرَارِ الْمُوسَى فِي الْحَلْقِ وَالْخِتَانِ، فَهَذَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَجَبَ ضَرُورَةَ الْقِرَاءَةِ وَالْحَلْقِ وَالْقَطْعِ، وَقَدْ سَقَطَ الْأَصْلُ فَسَقَطَ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَتِهِ، لَكِنْ فِي تَحْرِيكِ اللِّسَانِ مِنَ الْأَخْرَسِ خِلَافًا.ر: (خَرَس ف 30).

قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَذَكَرَ الْإِمَامُ ضَابِطًا لِبَعْضِ هَذِهِ الصُّوَرِ، فَقَالَ: كُلُّ أَصْلٍ ذِي بَدَلٍ فَالْقُدْرَةُ عَلَى بَعْضِ الْأَصْلِ لَا حُكْمَ لَهَا، وَسَبِيلُ الْقَادِرِ عَلَى الْبَعْضِ كَسَبِيلِ الْعَاجِزِ عَنِ الْكُلِّ، إِلاَّ فِي الْقَادِرِ عَلَى بَعْضِ الْمَاءِ، أَوِ الْقَادِرِ عَلَى إِطْعَامِ بَعْضِ الْمَسَاكِينِ إِذَا انْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى الْإِطْعَامِ.

وَإِنْ كَانَ لَا بَدَلَ لَهُ كَالْفِطْرَةِ لَزِمَهُ الْمَيْسُورُ مِنْهُمَا، وَكَسَتْرِ الْعَوْرَةِ إِذَا وُجِدَ بَعْضُ السَّاتِرِ يَجِبُ الْمَقْدُورُ مِنْهُ، وَكَمَا لَوْ قُطِعَ بَعْضُ يَدِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ الْبَاقِي.

وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ ضَابِطًا آخَرَ فَقَالَ: الْعَجْزُ عَنْ بَعْضِ الْأَصْلِ إِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْمُسْتَعْمِلِ سَقَطَ حُكْمُ الْمَوْجُودِ مِنْهُ، كَوِجْدَانِ بَعْضِ الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ كَانَ الْعَجْزُ فِي نَفْسِ الْمُكَلَّفِ لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ الْمَقْدُورِ مِنْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ بَعْضُ أَعْضَائِهِ جَرِيحًا، وَكَمَا يُكَفِّرُ الْمُبَعَّضُ بِالْمَالِ.

وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ مَسَائِلَ الْعَجْزِ عَنْ بَعْضِ الْمَطْلُوبِ تَحْتَ قَاعِدَةِ: الْمَيْسُورُ لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ، قَالَ ابْنُ السُّبْكِيِّ: هِيَ مِنْ أَشْهَرِ الْقَوَاعِدِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ».

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


84-موسوعة الفقه الكويتية (عذر)

عُذْر

التَّعْرِيفُ:

1- الْعُذْرُ لُغَةً: - هُوَ الْحُجَّةُ الَّتِي يُعْتَذَرُ بِهَا، وَالْجَمْعُ أَعْذَارٌ، يُقَالُ: لِي فِي هَذَا الْأَمْرِ عُذْرٌ، أَيْ: خُرُوجٌ مِنَ الذَّنْبِ، وَفِي الْمِصْبَاحِ: عَذَرْتُهُ عُذْرًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ: رَفَعْتُ عَنْهُ اللَّوْمَ، فَهُوَ مَعْذُورٌ أَيْ: غَيْرُ مَلُومٍ

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الرُّخْصَةُ:

2- الرُّخْصَةُ فِي اللُّغَةِ هِيَ: اسْمٌ مِنْ (رَخَّصَ) تَقُولُ: رَخَّصَ لَهُ الْأَمْرَ أَيْ: أَذِنَ لَهُ فِيهِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ، وَتَأْتِي بِمَعْنَى تَرْخِيصِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ فِي أَشْيَاءَ خَفَّفَهَا عَنْهُ فَهِيَ إِذْنٌ بِمَعْنَى: التَّيْسِيرِ وَالتَّخْفِيفِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هِيَ مَا شُرِعَ مِنَ الْأَحْكَامِ لِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ وَلَوْلَا الْعُذْرُ لَثَبَتَتِ الْحُرْمَةُ.

ب- الْعَفْوُ:

3- الْعَفْوُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ مَحْوُ الذُّنُوبِ، وَهُوَ- أَيْضًا-: التَّجَاوُزُ عَنِ الذَّنْبِ، وَتَرْكُ الْعِقَابِ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَيْضًا قَبُولُ الدِّيَةِ فِي الْعَمْدِ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الصَّفْحُ وَإِسْقَاطُ اللَّوْمِ وَالذَّنْبِ، وَفِي الْجِنَايَاتِ هُوَ: إِسْقَاطُ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ الْقَوَدَ عَنِ الْقَاتِلِ.

أَقْسَامُ الْعُذْرِ:

4- يَنْقَسِمُ الْعُذْرُ مِنْ حَيْثُ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ إِلَى قِسْمَيْنِ: عُذْرٍ خَاصٍّ، وَعُذْرٍ عَامٍّ

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ:

أَوَّلًا: الْعُذْرُ الْخَاصُّ بِأَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ:

وَيَكُونُ عَلَى نَوْعَيْنِ:

5- النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الْعُذْرُ الْمُلَازِمُ غَالِبًا لِفَرْدٍ مُعَيَّنٍ: وَمِنْهُ: الِاسْتِحَاضَةُ وَسَلَسُ الْبَوْلِ وَانْفِلَاتُ الرِّيحِ، وَانْطِلَاقُ الْبَطْنِ، وَالْجُرْحُ الَّذِي لَا يُرْقَأُ وَالرُّعَافُ الدَّائِمُ فَكُلُّ مُسْلِمٍ مُصَابٌ بِعُذْرٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْذَارِ يَكُونُ مَعْذُورًا، وَالْمَعْذُورُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ: هُوَ الَّذِي لَا يَمْضِي عَلَيْهِ وَقْتُ صَلَاةٍ إِلاَّ وَالْحَدَثُ الَّذِي ابْتُلِيَ بِهِ مَوْجُودٌ.

أَثَرُ هَذِهِ الْأَعْذَارِ فِي الْعِبَادَاتِ:

أ- فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ:

6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَحَاضَةِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا انْتَهَتِ الْأَيَّامُ الْمُعْتَبَرَةُ حَيْضًا وَجَبَ عَلَيْهَا الِاغْتِسَالُ مِنَ الْحَيْضِ، ثُمَّ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْغُسْلُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي كُلِّ يَوْمٍ، أَوْ لِكُلِّ صَلَاةٍ بِسَبَبِ خُرُوجِ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ إِلاَّ إِذَا عَرَضَ لَهَا مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ غَيْرُ الِاسْتِحَاضَةِ

7- وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ وُضُوئِهَا، وَوُضُوءِ مَنْ فِي حُكْمِهَا مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ، كَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ، وَانْفِلَاتُ الرِّيحِ، وَانْطِلَاقُ الْبَطْنِ، وَالْجُرْحُ الَّذِي لَا يُرْقَأُ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ يَتَوَضَّئُونَ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ، وَيُصَلُّونَ مَا شَاءُوا مِنَ الْفَرَائِضِ أَدَاءً أَوْ قَضَاءً، وَالْوَاجِبَاتُ كَالْوِتْرِ، وَكَذَا النَّوَافِلُ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ، مَا لَمْ يَعْرِضْ نَاقِضٌ مِنَ النَّوَاقِضِ الِاعْتِيَادِيَّةِ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ».

«وَقَالَ- عليه الصلاة والسلام- لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ- رضي الله عنها- حِينَ قَالَتْ لَهُ: إِنِّي أُسْتَحَاضُ، فَلَا أَطْهُرُ، تَوَضَّئِي لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ» وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام-: «الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ»؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِالصَّلَاةِ الْوَقْتُ، قَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَمَسَّحْتُ وَصَلَّيْتُ» وَيُقَالُ: آتِيكَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ أَيْ: لِوَقْتِهَا فَالْمُسْتَحَاضَةُ وَمَنْ فِي حُكْمِهَا تَكُونُ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ فِي حُكْمِ الطَّاهِرَاتِ مَا لَمْ يَطْرَأْ نَاقِضٌ آخَرُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَكْرَارَ الْوُضُوءِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَحَاضَةِ وَمَنْ فِي حُكْمِهَا مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ لَا يَجِبُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ، إِلاَّ إِذَا كَانَ انْقِطَاعُ الدَّمِ أَكْثَرَ مِنْ إِتْيَانِهِ فَيَجِبُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْحَدَثِ الْمُبْتَلَى بِهِ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي» وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالْوُضُوءِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَى الْوُضُوءِ مِنْهُ، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ هُوَ الْخَارِجُ الْمُعْتَادُ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُعْتَادٍ

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ وَمَنْ فِي حُكْمِهَا مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ يَجِبُ أَنْ يَتَوَضَّئُوا لِكُلِّ فَرْضٍ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهِ، وَيُصَلُّوا مَعَ هَذَا الْفَرْضِ مَا يَشَاءُونَ مِنَ النَّوَافِلِ، مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ «فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ» مَا لَمْ يَعْرِضْ لَهَا نَاقِضٌ اعْتِيَادِيٌّ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ وَمَنْ فِي حُكْمِهَا عَلَيْهِمِ الْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَبَعْدَ غَسْلِ مَحَلِّ الْحَدَثِ وَشَدِّهِ وَالتَّحَرُّزِ مِنْ خُرُوجِ الْحَدَثِ بِمَا يُمْكِنُ مُسْتَدِلِّينَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمُسْتَحَاضَةِ: «تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَتَصُومُ وَتُصَلِّي».

هَذِهِ أَحْكَامُ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ لِأَصْحَابِ الْأَعْذَارِ، وَوَسِيلَةُ التَّطَهُّرِ فِي كِلَيْهِمَا هِيَ الْمَاءُ، وَلَكِنَّ هَذَا مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ وَوُجُودِهِ.

وَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّيَمُّمِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَحَاضَةِ وَمَنْ فِي حُكْمِهَا مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ، فَقَدْ قَاسَ الْفُقَهَاءُ التَّيَمُّمَ عَلَى الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمَا، بِشَرْطِ فِقْدَانِ الْمَاءِ أَوِ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ مَعَ وُجُودِهِ، فَالتَّيَمُّمُ مَشْرُوعٌ عِنْدَ إِرَادَةِ الصَّلَاةِ وَفِقْدَانِ الْمَاءِ، وَهُوَ خَلَفٌ عَنِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَالْخَلَفُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ، بَلْ يَقُومُ مَقَامَهُ.

شَرْطُ ثُبُوتِ الْعُذْرِ وَزَوَالِهِ:

8- شَرْطُ ثُبُوتِ الْعُذْرِ: هُوَ اسْتِمْرَارُ الْحَدَثِ وَعَدَمُ التَّمَكُّنِ مِنْ حِفْظِ الطَّهَارَةِ، أَوِ اسْتِمْرَارُهُ أَكْثَرَ مِنَ انْقِطَاعِهِ، بِحَيْثُ لَا يَمْضِي وَقْتُ صَلَاةٍ إِلاَّ وَالْحَدَثُ الَّذِي ابْتُلِيَ بِهِ مَوْجُودٌ وَمُلَازِمٌ لَهُ غَالِبًا.

أَمَّا شَرْطُ زَوَالِهِ: فَهُوَ انْقِطَاعُ الْعُذْرِ كَالدَّمِ وَغَيْرِهِ، وَخُرُوجُ صَاحِبِهِ عَنْ كَوْنِهِ مَعْذُورًا، وَخُلُوُّ وَقْتٍ كَامِلٍ عَنْهُ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ طَهَارَةُ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ، فَتَتَقَيَّدُ بِالْوَقْتِ كَالتَّيَمُّمِ.

بُطْلَانُ طَهَارَةِ صَاحِبِ الْعُذْرِ:

9- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ بُطْلَانِ طَهَارَةِ صَاحِبِ الْعُذْرِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهَا تَبْطُلُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ مَا لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهَا فِي الْوَقْتِ نَاقِضٌ آخَرُ، وَلَوْ كَانَ مُمَاثِلًا لِلْعُذْرِ الْأَوَّلِ، كَمَا لَوْ سَالَ أَحَدُ مَنْخِرَيْهِ فَتَوَضَّأَ لَهُ، ثُمَّ سَالَ الْآخَرُ فِي الْوَقْتِ انْتَقَضَ الْوُضُوءُ بِالثَّانِي؛ لِأَنَّهُ حَدَثٌ جَدِيدٌ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْمُمَاثَلَةِ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَثَ مُبْطِلٌ لِلطَّهَارَةِ، وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ تَبْطُلُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ كَمَا تَبْطُلُ بِدُخُولِهِ وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ فَالْحَدَثُ الْآخَرُ وَخُرُوجُ الْوَقْتِ أَوْ دُخُولُهُ يُبْطِلَانِ طَهَارَةَ صَاحِبِ الْعُذْرِ.

طُرُوءُ الْعُذْرِ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ:

10- إِذَا تَحَقَّقَ فِي الْمُكَلَّفِ وُجُودُ الْعُذْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي، وَيَبْقَى طَاهِرًا فِيمَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ، فَيُصَلِّي وَإِنِ اسْتَمَرَّ الْعُذْرُ مَعَهُ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ، فَلَا تَبْطُلُ عِبَادَتُهُ؛ لِضَرُورَةِ الْمَرَضِ الَّذِي يُعَدُّ مِنَ الْحَدَثِ الْمُبْتَلَى بِهِ.

أَمَّا إِذَا دَخَلَ الصَّلَاةَ صَحِيحًا سَلِيمًا، ثُمَّ دَهَمَهُ الْعُذْرُ فِي أَثْنَائِهَا وَتَأَكَّدَ لَدَيْهِ اسْتِمْرَارُهُ، فَهَلْ يُنْقَضُ وُضُوءُهُ وَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَمْ لَا؟

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

11- أَوَّلًا: إِذَا خَرَجَ مَا يُعْذَرُ بِهِ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ، كَانَ الْخُرُوجُ حَدَثًا يُبْطِلُ الْوُضُوءَ كَمَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الَّذِينَ قَالُوا: بِوُجُوبِ الْوُضُوءِ عَلَى أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْعُذْرُ مُعْتَادًا، «لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِلْمُسْتَحَاضَةِ: تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَصَلِّي وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ»، وَلِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ «عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: اعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ، فَكَانَتْ تَرَى الدَّمَ وَالصُّفْرَةَ وَالطَّسْتُ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي»، أَمْ كَانَ غَيْرَ مُعْتَادٍ، لِمَا رَوَاهُ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي الْمَذْيِ: يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ» وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: فِي الْوَدْيِ الْوُضُوءُ وَالْمَذْيُ وَالْوَدْيُ غَيْرُ مُعْتَادَيْنِ، وَقَدْ وَجَبَ فِيهِمَا الْوُضُوءُ؛ وَلِأَنَّهُمَا خَارِجَانِ مِنَ السَّبِيلِ فَيَنْقُضَانِ كَالرِّيحِ وَالْغَائِطِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخَارِجَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِذَا كَانَ مُعْتَادًا يُبْطِلُ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ، أَمَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ مُعْتَادٍ كَسَلَسِ الْبَوْلِ، وَلَازَمَهُ نِصْفَ الزَّمَانِ فَأَكْثَرَ فَإِنَّهُ لَا يَنْقُضُ وُضُوءَهُ، وَلَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ إِلاَّ إِذَا كَانَ أَقَلَّ فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَيُبْطِلُ الصَّلَاةَ.

12- ثَانِيًا: إِذَا كَانَ مَا يُعْذَرُ بِهِ خَارِجًا مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ كَالدَّمِ وَالْقَيْحِ وَالرُّعَافِ، فَإِنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ قَلِيلًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.أَمَّا إِنْ كَانَ كَثِيرًا فَإِنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رُعَاف ف 2).

النَّوْعُ الثَّانِي: أَعْذَارٌ طَارِئَةٌ:

13- هُنَاكَ أَعْذَارٌ تَرْفَعُ عَنِ الْمُكَلَّفِ الْحَرَجَ، وَتَدْفَعُ عَنْهُ الضِّيقَ فِي عِبَادَاتِهِ وَتَكَالِيفِهِ فِي أَحْوَالِهِ كَافَّةً، مِنْهَا: مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ كَالْمَرَضِ مَثَلًا، وَمِنْهَا: مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ كَالْبَرْدِ وَالْمَطَرِ وَالْخَوْفِ.

فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَكُونُ شِدَّةُ الْوَحَلِ عُذْرًا لِتَرْكِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ، وَكَذَلِكَ شِدَّةُ الرِّيحِ بِاللَّيْلِ لَا بِالنَّهَارِ، كَمَا يَكُونُ الْخَوْفُ عَلَى مَالٍ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ لِصٍّ أَوْ نَارٍ، أَوِ الْخَوْفُ عَلَى الْعِرْضِ، أَوِ الدِّينِ، كَأَنْ يَخَافَ قَذْفَ أَحَدٍ مِنَ السُّفَهَاءِ لَهُ، أَوْ إِلْزَامَ قَتْلِ شَخْصٍ أَوْ ضَرْبِهِ ظُلْمًا، أَوْ إِلْزَامَ بَيْعَةِ ظَالِمٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ مِنَ الْحَرِّ أَوِ الْبَرْدِ الشَّدِيدَيْنِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُعْذَرُ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ، وَاللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ ذَاتِ الرِّيحِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ: الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُعْذَرُ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ الْخَائِفُ مِنْ ضَيَاعِ مَالِهِ، كَغَلَّةٍ فِي بَيَادِرِهَا، وَدَوَابَّ أَنْعَامٍ لَا حَافِظَ لَهَا، أَوْ تَلَفِهِ أَوْ فَوَاتِهِ، كَمَنْ ضَاعَ لَهُ كِيسُ نُقُودٍ وَهُوَ يَرْجُو وُجُودَهُ، أَوْ خَائِفٌ مِنْ ضَرَرٍ فِي مَالِهِ أَوْ فِي مَعِيشَةٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَكَذَلِكَ يُعْذَرُ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ مُتَأَذٍّ بِمَطَرٍ شَدِيدٍ أَوْ وَحَلٍ أَوْ ثَلْجٍ، أَوْ جَلِيدٍ، أَوْ رِيحٍ بَارِدَةٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-، «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ، أَوْ ذَاتَ مَطَرٍ فِي السَّفَرِ أَنْ يَقُولَ: أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ».

وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ عَلَى وَلَدِهِ وَأَهْلِهِ أَنْ يَضِيعُوا وَكَذَلِكَ يُعْذَرُ عِنْدَهُمْ عَنْ صَلَاةِ الْفَرْضِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَاقِفَةً أَوْ سَائِرَةً خَشْيَةَ الْأَذَى بِوَحَلٍ أَوْ مَطَرٍ وَنَحْوِهِ، وَالْجَمْعُ فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لِمَطَرٍ يَبُلُّ الثِّيَابَ أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَمْ يَعْتَبِرُوا وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ عُذْرًا يُبِيحُ لِلْمُكَلَّفِ التَّخَلُّفَ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: أَعْذَارٌ عَامَّةٌ تَتَّصِلُ بِأَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ:

14- لَقَدْ بَنَى الْإِسْلَامُ أَحْكَامَهُ عَلَى الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ، فَشَرَعَ أَلْوَانًا مِنَ الرُّخَصِ لِظُرُوفٍ تُوجِدُ لِلْمُكَلَّفِ نَوْعًا مِنَ الْمَشَقَّةِ تُثْقِلُ كَاهِلَهُ فِي الْقِيَامِ بِبَعْضِ الْعِبَادَاتِ..وَمِنْ أَسْبَابِ هَذِهِ الرُّخَصِ:

أ- السَّفَرُ:

وَهُوَ السَّفَرُ الَّذِي تُنَاطُ بِهِ الرُّخَصُ وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (سَفَر ف 6 وَمَا بَعْدَهَا) وَهِيَ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا يَلِي:

قَصْرُ الصَّلَاةِ وَجَمْعُهَا:

15- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ، وَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ السَّفَرَ مِنَ الْأَعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِجَمْعِ الصَّلَوَاتِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاةُ الْمُسَافِرِ).

جَوَازُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ:

16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ بِشُرُوطِهِ مِنَ الْأَعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِلْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْم).

امْتِدَادُ مُدَّةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ:

17- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ السَّفَرَ يُطِيلُ مُدَّةَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْحٌ عَلَى الْخُفَّيْنِ).

سُقُوطُ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ:

18- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِقَامَةَ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ السَّفَرُ بِشُرُوطِهِ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَنِ الْمُسَافِرِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاةُ الْجُمُعَةِ).

سُقُوطُ الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ:

19- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْعَدْلِ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الْمَبِيتِ، وَيَسْقُطُ هَذَا فِي السَّفَرِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَسْمٌ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ).

ب- الْمَرَضُ:

وَمِنَ الرُّخَصِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَرَضِ مَا يَأْتِي: التَّيَمُّمُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ شَرْعًا:

20- إِذَا خَافَ الْمَرِيضُ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ التَّلَفَ، أَوْ زِيَادَةَ الْمَرَضِ أَوْ تَأَخُّرَ الْبُرْءِ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَيَمُّم ف 21).

الْعَجْزُ عَنْ أَدَاءِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ:

21- إِذَا عَجَزَ الْمَرِيضُ عَنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِأَرْكَانِهَا أَوْ خَافَ زِيَادَةَ مَرَضِهِ بِذَلِكَ صَلَّى عَلَى قَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: صَلَاةُ الْمَرِيضِ.

الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ:

22- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ لِلْمَرِيضِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ الْجَمْعِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (جَمْعُ الصَّلَوَاتِ ف9).

التَّخَلُّفُ عَنِ الْجُمُعَةِ:

23- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ تَخَلُّفِ الْمَرِيضِ عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِلْعَجْزِ أَوِ الْمَشَقَّةِ عَلَى

تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاةُ الْجُمُعَةِ).

الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ:

24- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الْفِطْرِ لِلْمَرِيضِ فِي رَمَضَانَ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْم).

خُرُوجُ الْمُعْتَكِفِ مِنَ الْمَسْجِدِ:

25- يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ حَالَةَ الْمَرَضِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (اعْتِكَافٌ ف 36 وَمَا بَعْدَهَا).

الِاسْتِنَابَةُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَفِي رَمْيِ الْجَمَرَاتِ:

26- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْإِنَابَةِ فِي الْحَجِّ، وَفِي رَمْيِ الْجِمَارِ لِغَيْرِ الْقَادِرِ عَلَيْهِمَا عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجّ ف 66، 115).

اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ مَعَ الْفِدْيَةِ:

27- حَظَرَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ بَعْضَ الْمُبَاحَاتِ عَلَى الْمُحْرِمِ تَذْكِيرًا لَهُ بِمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ مِنْ نُسُكٍ، لَكِنَّ الشَّارِعَ رَاعَى الْأَعْذَارَ الَّتِي قَدْ تَقُومُ بِالْمُحْرِمِ، فَأَبَاحَ بَعْضَ الْمَحْظُورَاتِ، وَشَرَعَ الْفِدْيَةَ جَبْرًا لِمَا قَدْ يَكُونُ فِي إِحْرَامِ الْمُحْرِمِ مِنْ مُخَالَفَةٍ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَام ف 54 وَمَا بَعْدَهَا).

التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ:

28- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ وَالنَّجِسِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ» لَكِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ أَبَاحُوا التَّدَاوِيَ بِهِمَا لِعُذْرٍ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَدَاوِي ف 8 وَ 9).

إِبَاحَةُ النَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَةِ وَلَمْسِهَا:

29- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ نَظَرِ الْأَجْنَبِيِّ إِلَى الْعَوْرَةِ، وَلَمْسِهَا مِنَ الذَّكَرِ، أَوِ الْأُنْثَى، لَكِنَّهُمْ أَبَاحُوا ذَلِكَ لِلْعُذْرِ أَوِ الضَّرُورَةِ كَالْمَرَضِ وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَطْبِيب ف 4، وَعَوْرَة).

ج- الْإِكْرَاهُ: -

30- الْإِكْرَاهُ الَّذِي تَتَغَيَّرُ مَعَهُ بَعْضُ الْأَحْكَامِ هُوَ: حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ يَمْتَنِعُ عَنْهُ بِتَخْوِيفٍ يَقْدِرُ الْحَامِلُ عَلَى إِيقَاعِهِ وَيَصِيرُ الْغَيْرُ خَائِفًا بِهِ وَلِلْإِكْرَاهِ تَقْسِيمَاتٌ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ رَاعَاهَا الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ وَمِنْهَا: تَقْسِيمُ الْإِكْرَاهِ إِلَى إِكْرَاهٍ بِحَقٍّ، وَهُوَ: الْإِكْرَاهُ الْمَشْرُوعُ الَّذِي لَا ظُلْمَ فِيهِ وَلَا إِثْمَ، وَإِكْرَاهٌ بِغَيْرِ حَقٍّ وَهُوَ: الْإِكْرَاهُ ظُلْمًا أَوِ الْإِكْرَاهُ الْمُحَرَّمُ لِتَحْرِيمِ وَسِيلَتِهِ أَوْ لِتَحْرِيمِ الْمَطْلُوبِ بِهِ.

وَقَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْإِكْرَاهَ إِلَى: إِكْرَاهٍ مُلْجِئٍ: وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ بِالتَّهْدِيدِ، بِإِتْلَافِ النَّفْسِ أَوْ عُضْوٍ مِنْهَا، أَوْ بِإِتْلَافِ جَمِيعِ الْمَالِ، أَوِ التَّهْدِيدِ بِهَتْكِ الْعِرْضِ، أَوْ بِقَتْلِ مَنْ يَهُمُّ الْإِنْسَانَ أَمْرُهُ، وَإِكْرَاهٍ غَيْرِ مُلْجِئٍ وَهُوَ: الَّذِي يَكُونُ بِمَا لَا يُفَوِّتُ النَّفْسَ أَوْ بَعْضَ الْأَعْضَاءِ، كَالْحَبْسِ لِمُدَّةٍ قَصِيرَةٍ، وَالضَّرْبِ الَّذِي لَا يُخْشَى مِنْهُ الْقَتْلُ أَوْ إِتْلَافُ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ.

وَالْإِكْرَاهُ بِجَمِيعِ أَقْسَامِهِ مُفْسِدٌ لِلرِّضَا فِي الْجُمْلَةِ، وَبَعْضُهُ مُفْسِدٌ لِلِاخْتِيَارِ، عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ، وَفِي أَحْكَامِ الْإِكْرَاهِ بِأَقْسَامِهِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَفِي آثَارِ كُلِّ قِسْمٍ عَلَى الِاخْتِيَارِ وَالرِّضَا.وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِكْرَاه، ف 16 وَمَا بَعْدَهَا).

د- الْجَهْلُ وَالنِّسْيَانُ:

31- الْجَهْلُ هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَالنِّسْيَانُ مِنْ مَعَانِيهِ: تَرْكُ الشَّيْءِ عَنْ ذُهُولٍ وَغَفْلَةٍ وَالْجَهْلُ وَالنِّسْيَانُ يُعْتَبَرَانِ عُذْرَيْنِ مُسْقِطَيْنِ لِلْإِثْمِ فِي الْجُمْلَةِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (جَهْل ف 4 وَمَا بَعْدَهَا، وَنِسْيَان).

هـ- الْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ وَالنَّوْمُ:

32- الْجُنُونُ هُوَ: اخْتِلَالُ الْعَقْلِ يَمْنَعُ جَرَيَانَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ عَلَى نَهْجِ الْعَقْلِ إِلاَّ نَادِرًا

وَالْإِغْمَاءُ هُوَ: آفَةٌ فِي الْقَلْبِ أَوِ الدِّمَاغِ تُعَطِّلُ الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ عَنْ أَفْعَالِهَا مَعَ بَقَاءِ الْعَقْلِ مَغْلُوبًا وَالنَّوْمُ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ عُرِّفَ بِأَنَّهُ: فُتُورٌ يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مَعَ قِيَامِ الْعَقْلِ يُوجِبُ الْعَجْزَ عَنْ إِدْرَاكِ الْمَحْسُوسَاتِ وَالْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَاسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ.

33- وَالْجُنُونُ: عُذْرٌ وَعَارِضٌ مِنْ عَوَارِضِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ، وَهُوَ يُزِيلُهَا مِنْ أَصْلِهَا؛ لِأَنَّ أَسَاسَهَا الْعَقْلُ وَالتَّمْيِيزُ، وَالْمَجْنُونُ عَدِيمُ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ وَلَا يُؤَثِّرُ الْجُنُونُ فِي أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ أَسَاسَهَا الْإِنْسَانِيَّةُ، أَمَّا أَثَرُ الْجُنُونِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ وَالْجِنَايَاتِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (جُنُون ف9 وَمَا بَعْدَهَا وَأَهْلِيَّة ف 27).

34- وَكُلٌّ مِنَ الْإِغْمَاءِ وَالنَّوْمِ عُذْرٌ، وَهُمَا لَا يُنَافِيَانِ أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ؛ لِعَدَمِ إِخْلَالِهِمَا بِالذِّمَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمَا يُوجِبَانِ تَأْخِيرَ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ بِالْأَدَاءِ إِلَى حَالِ الْيَقَظَةِ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِغْمَاء ف 5 وَمَا بَعْدَهَا، وَأَهْلِيَّة ف 30- 31 وَنَوْم) و- الِاضْطِرَارُ:

35- الِاضْطِرَارُ: ظَرْفٌ قَاهِرٌ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا يَجُوزُ بِسَبَبِهِ ارْتِكَابُ الْمَحْظُورِ شَرْعًا لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى إِحْدَى الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ وَهِيَ: النَّفْسُ، وَالْمَالُ وَالْعِرْضُ، وَالْعَقْلُ، وَالدِّينُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ قَاطِبَةً وَفِي هَذَا الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَرُورَة).

ز- الْحَاجَةُ:

36- الْحَاجَةُ هِيَ: الَّتِي لَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا صِيَانَةُ الْأُصُولِ الْخَمْسَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَا حِمَايَتُهَا، وَلَكِنْ تَتَحَقَّقُ بِدُونِهَا مَعَ الضِّيقِ وَالْحَرَجِ، فَهِيَ إِذَنْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى عَدَمِ اسْتِجَابَةِ الْمُكَلَّفِ إِلَيْهَا عُسْرٌ وَصُعُوبَةٌ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَاجَة ف 2).

ح- الصِّغَرُ:

37- الصِّغَرُ عَارِضٌ مِنْ عَوَارِضِ الْأَهْلِيَّةِ؛ لِمَا فِي الصَّغِيرِ مِنَ النَّقْصِ فِي الْعَقْلِ وَالْقُدْرَةِ الْجِسْمِيَّةِ، وَالصَّبِيُّ قَبْلَ أَنْ يُمَيِّزَ كَالْمَجْنُونِ، أَمَّا بَعْدَ التَّمْيِيزِ فَيَحْدُثُ لَهُ ضَرْبٌ مِنْ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ.

أَعْذَارٌ لَهَا أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ:

أ- الْإِعْسَارُ بِالدَّيْنِ وَالنَّفَقَةِ:

38- إِذَا عَجَزَ الزَّوْجُ عَنِ الْإِنْفَاقِ عَلَى زَوْجَتِهِ لِإِعْسَارِهِ، وَطَلَبَتِ التَّفْرِيقَ بِنَاءً عَلَى عَجْزِهِ عَمَّا وَجَبَ لَهَا وَلَوْ بِمَا تَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ، فَهَلْ يُعْتَبَرُ الْإِعْسَارُ بِالدَّيْنِ وَالنَّفَقَةِ عُذْرًا لِعَدَمِ تَلْبِيَةِ طَلَبِهَا؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِإِعْسَارِ الزَّوْجِ وَعَجْزِهِ عَنِ النَّفَقَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْإِعْسَارَ بِالدَّيْنِ وَالنَّفَقَةِ لَيْسَ عُذْرًا، فَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي التَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا عَجَزَ الزَّوْجُ عَنِ النَّفَقَةِ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَابْنِ يَسَارٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَحَمَّادِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَالْمُزَنِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعُسْرَ عَرَضٌ لَا يَدُومُ، وَالْمَالُ غَادٍ وَرَائِحٌ؛ وَلِأَنَّ التَّفْرِيقَ ضَرَرٌ بِالزَّوْجِ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، أَمَّا عَدَمُ الْإِنْفَاقِ فَهُوَ ضَرَرٌ بِالزَّوْجَةِ يُمْكِنُ عِلَاجُهُ بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَى الزَّوْجِ، فَيُرْتَكَبُ أَخَفُّ الضَّرَرَيْنِ. ب- الْعُذْرُ فِي تَأْخِيرِ رَدِّ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ:

39- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ رَدَّ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ يَكُونُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ عَلَى التَّرَاخِي وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ رَدُّ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ عَلَى الْفَوْرِ، فَمَتَى عَلِمَ الْعَيْبَ فَأَخَّرَ الرَّدَّ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهُ، حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا عَلِمَ بِالْعَيْبِ فَسَكَتَ لِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ يَسْقُطُ خِيَارُهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُهُ مَهْمَا سَكَتَ عَنِ الْمُطَالَبَةِ بِالرَّدِّ، فَهُوَ مَعْذُورٌ مَهْمَا طَالَتِ الْمُدَّةُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إِلاَّ بِعُذْرٍ، وَمِنَ الْعُذْرِ عِنْدَهُمْ: انْشِغَالُهُ بِصَلَاةٍ دَخَلَ وَقْتُهَا، أَوْ بِأَكْلٍ وَنَحْوِهِ.

وَكَذَا لَوْ عَلِمَ بِالْعَيْبِ ثُمَّ تَرَاخَى لِمَرَضٍ أَوْ خَوْفِ لِصٍّ، أَوْ حَيَوَانٍ مُفْتَرِسٍ، أَوْ نَحْوِهِ فَلَهُ التَّأْخِيرُ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ عِنْدَهُمْ عَلَى الْفَوْرِ، إِذِ الْأَصْلُ فِي الْبَيْعِ اللُّزُومُ، وَالْجَوَازُ عَارِضٌ؛ وَلِأَنَّهُ خِيَارٌ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمَالِ، فَكَانَ فَوْرِيًّا كَالشُّفْعَةِ، فَيَبْطُلُ الرَّدُّ بِالتَّأْخِيرِ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَفِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَلْزَمُهُ الْإِشْهَادُ عَلَى الْفَسْخِ إِنْ أَمْكَنَهُ وَلَوْ فِي حَالِ عُذْرِهِ؛ لِأَنَّ التَّرْكَ يَحْتَمِلُ الْإِعْرَاضَ، وَأَصْلُ الْبَيْعِ اللُّزُومُ، فَتَعَيَّنَ الْإِشْهَادُ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ لَا يَلْزَمُهُ الْإِشْهَادُ.

ج- الْعُذْرُ فِي تَأْخِيرِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ:

40- اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ أَوِ الشِّرَاءِ يُعَدُّ عُذْرًا فِي تَأْخِيرِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي صُوَرِ هَذَا الْعُذْرِ بَعْدَ الْعِلْمِ عَلَى النَّحْوِ الْآتِي:

فَالْحَنَفِيَّةُ يُعِدُّونَ التَّأْخِيرَ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ جَائِزًا لِلْأَعْذَارِ الْآتِيَةِ:

السَّفَرِ، كَأَنْ سَمِعَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ فَحِينَئِذٍ يَطْلُبُ طَلَبَ الْمُوَاثَبَةِ، ثُمَّ يُشْهِدُ إِنْ قَدَرَ وَإِلاَّ وَكَّلَ، أَوْ كَتَبَ كِتَابًا، ثُمَّ يُرْسِلُهُ إِلَى الْبَائِعِ عَلَى أَسَاسِ أَنَّ طَلَبَ الشُّفْعَةِ فَوْرِيٌّ عِنْدَهُمْ.

وَمِنَ الْأَعْذَارِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: تَعَسُّرُ الْوُصُولِ إِلَى الْقَاضِي فَهُوَ عُذْرٌ فِي تَأْخِيرِ الشَّفِيعِ الْجَارِ، وَالصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ فَهِيَ عُذْرٌ فِي تَأْخِيرِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيُعِدُّونَ عَدَمَ طَلَبِ الْمُشْتَرِي مِنَ الشَّفِيعِ تَقْدِيمَ طَلَبِ الشُّفْعَةِ أَوْ إِسْقَاطَهَا، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالشِّرَاءِ، عُذْرًا فَيَقُولُونَ: عِنْدَ الشِّرَاءِ يَطْلُبُ الْمُشْتَرِي مِنَ الشَّفِيعِ طَلَبَ الشُّفْعَةِ أَوْ إِسْقَاطَهَا، فَإِذَا رَفَضَ إِصْدَارَ أَحَدِهِمَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِإِسْقَاطِهَا، وَلَا عُذْرَ لَهُ بِتَأْخِيرِ اخْتِيَارِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، إِلاَّ بِقَدْرِ مَا يَطَّلِعُ بِهِ عَلَى الشَّيْءِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ كَسَاعَةٍ مَثَلًا، وَبِنَاءً عَلَى هَذَا إِذَا لَمْ يَطْلُبْ مِنْهُ الْمُشْتَرِي الطَّلَبَ أَوِ الْإِسْقَاطَ- وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالشِّرَاءِ- يَكُونُ عُذْرًا لِلشَّفِيعِ.

وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: الْأَظْهَرُ أَنَّ الشُّفْعَةَ عَلَى الْفَوْرِ، فَإِذَا عَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ فَلْيُبَادِرْ عَلَى الْعَادَةِ، فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ غَائِبًا عَنْ بَلَدِ الْمُشْتَرِي أَوْ خَائِفًا مِنْ عَدُوٍّ فَلْيُوَكِّلْ إِنْ قَدَرَ، وَإِلاَّ فَلْيُشْهِدْ عَلَى الطَّلَبِ فَإِنْ تَرَكَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا بَطَلَ حَقُّهُ فِي الْأَظْهَرِ وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (شُفْعَةٌ ف 31).

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الرَّأْيِ الصَّحِيحِ: يَجُوزُ لِلشَّفِيعِ أَنْ يُؤَخِّرَ طَلَبَ الشُّفْعَةِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا لِعُذْرٍ، وَذَلِكَ كَأَنْ يَعْلَمَ لَيْلًا فَيُؤَخِّرَهُ إِلَى الصُّبْحِ، أَوْ لِشِدَّةِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ حَتَّى يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ، أَوْ لِطَهَارَةٍ أَوْ إِغْلَاقِ بَابٍ أَوْ لِيَخْرُجَ مِنَ الْحَمَّامِ، أَوْ لِيُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ وَيَأْتِيَ بِالصَّلَاةِ وَسُنَّتِهَا، أَوْ لِيَشْهَدَهَا فِي جَمَاعَةٍ يَخَافُ فَوْتَهَا..لِأَنَّ الْعَادَةَ تَقْدِيمُ هَذِهِ الْحَوَائِجِ عَلَى غَيْرِهَا، فَلَا يَكُونُ الِاشْتِغَالُ بِهَا رِضًى بِتَرْكِ الشُّفْعَةِ.

د- أَثَرُ الْعُذْرِ فِي الْعُقُودِ

41- الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} لَكِنْ قَدْ تَطْرَأُ أَعْذَارٌ لَا يُمْكِنُ مَعَهَا الْوَفَاءُ بِهَا، أَوْ يَتَعَسَّرُ مَعَهَا ذَلِكَ، وَعِنْدَئِذٍ يَنْحَلُّ الْإِلْزَامُ وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: كُلُّ عُذْرٍ لَا يُمْكِنُ مَعَهُ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إِلاَّ بِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ يُثْبِتُ لَهُ حَقَّ الْفَسْخِ. هـ- الْعُذْرُ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ:

42- الْجِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَفِيرٌ عَامٌّ، فَإِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ الْإِثْمُ عَنِ الْبَاقِينَ، أَمَّا إِذَا كَانَ النَّفِيرُ عَامًّا، فَالْجِهَادُ يُصْبِحُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ قَادِرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا الْحُكْمُ فِي فَرْضِيَّةِ الْجِهَادِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَلَكِنْ مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ فَلَا يُطَالَبُ بِالْجِهَادِ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ، وَقَدْ أَشَارَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ إِلَى أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ فَقَالَ: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}.وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي هَؤُلَاءِ حِينَ هَمُّوا بِالْخُرُوجِ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ أَيْضًا: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} فَظَاهِرُ الْآيَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَرَجَ مَرْفُوعٌ فِي كُلِّ مَا يَضْطَرُّهُمْ إِلَيْهِ الْعُذْرُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (جِهَاد).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


85-موسوعة الفقه الكويتية (عقار)

عَقَار

التَّعْرِيفُ:

1- الْعَقَارُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي اللُّغَةِ: كُلُّ مَا لَهُ أَصْلٌ وَقَرَارٌ ثَابِتٌ كَالْأَرْضِ وَالدَّارِ وَالضِّيَاعِ وَالنَّخْلِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رُبَّمَا أُطْلِقَ عَلَى مَتَاعِ الْبَيْتِ، يُقَالُ: مَا لَهُ دَارٌ وَلَا عَقَارٌ، أَيْ نَخْلٌ، وَفِي الْبَيْتِ عَقَارٌ حَسَنٌ، أَيْ مَتَاعٌ وَأَدَاةٌ، وَالْجَمْعُ عَقَارَاتٌ، وَالْعَقَارُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: خِيَارُهُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الثَّابِتُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ وَتَحْوِيلُهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ، مِثْلُ الْأَرْضِ وَالدَّارِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْمَنْقُولُ:

2- الْمَنْقُولُ: هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُمْكِنُ نَقْلُهُ مِنْ مَحَلٍّ إِلَى آخَرَ، فَيَشْمَلُ النُّقُودَ وَالْعُرُوضَ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْمَنْقُولُ هُوَ مَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ مَعَ بَقَاءِ هَيْئَتِهِ وَصُورَتِهِ الْأُولَى، أَيْ مَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ بِدُونِ أَنْ تَتَغَيَّرَ صُورَتُهُ، كَالْعُرُوضِ التِّجَارِيَّةِ مِنْ أَمْتِعَةٍ وَسِلَعٍ وَأَدَوَاتٍ وَكُتُبٍ وَسَيَّارَاتٍ وَثِيَابٍ وَنَحْوِهَا.

ب- الشَّجَرُ:

3- جَاءَ فِي الْقَامُوسِ: الشَّجَرُ مَا قَامَ عَلَى سَاقٍ أَوْ مَا سَمَا بِنَفْسِهِ دَقَّ أَوْ جَلَّ قَاوَمَ الشِّتَاءَ أَوْ عَجَزَ عَنْهُ.

وَفِي الْمِصْبَاحِ: الشَّجَرُ هُوَ مَا لَهُ سَاقٌ صُلْبٌ يَقُومُ بِهِ، كَالنَّخْلِ وَغَيْرِهِ، وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ فِيمَا لَهُ سَاقٌ وَلَا يُقْطَعُ أَصْلُهُ، وَعَرَّفَهُ الْأَبِيُّ فِي الْمُسَاقَاةِ بِمَا كَانَ ذَا أَصْلٍ ثَابِتٍ تُجْنَى ثَمَرَتُهُ وَتَبْقَى أُصُولُهُ

ج- الْبِنَاءُ:

4- الْبِنَاءُ: وَضْعُ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ عَلَى صِفَةٍ يُرَادُ بِهَا الثُّبُوتُ

ثَمَرَةُ قِسْمَةِ الْمَالِ إِلَى عَقَارٍ وَمَنْقُولٍ:

5- تَظْهَرُ فَائِدَةُ قِسْمَةِ الْمَالِ إِلَى عَقَارٍ وَمَنْقُولٍ فِيمَا يَأْتِي: أ- الشُّفْعَةُ: فَإِنَّهَا عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لَا تَثْبُتُ إِلاَّ فِي الْعَقَارِ الْمَبِيعِ، أَمَّا الْمَنْقُولُ فَلَا تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِذَا بِيعَ اسْتِقْلَالًا، وَتَثْبُتُ فِيهِ إِذَا بِيعَ تَبَعًا لِلْعَقَارِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (شُفْعَة ف 24- 25)

ب- الْوَقْفُ: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ وَقْفِ الْعَقَارِ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ وَقْفِ الْمَنْقُولِ، فَأَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَقْفَ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ عَلَى السَّوَاءِ وَلَمْ يُجِزْهُ الْحَنَفِيَّةُ إِلاَّ تَبَعًا لِلْعَقَارِ، أَوْ كَانَ مُتَعَارَفًا وَقْفَهُ كَالْكُتُبِ وَنَحْوِهَا، أَوْ وَرَدَ بِصِحَّةِ وَقْفِهِ أَثَرٌ عَنِ السَّلَفِ كَوَقْفِ الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (وَقْف)

ج- بَيْعُ عَقَارِ الْقَاصِرِ:

لَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ بَيْعُ عَقَارِ الْقَاصِرِ إِلاَّ بِمُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ يُجِيزُ لَهُ ذَلِكَ وَبِإِذْنِ الْقَاضِي، كَإِيفَاءِ دَيْنٍ أَوْ دَفْعِ حَاجَةٍ ضَرُورِيَّةٍ، أَوْ وُجُودِ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ عَيْنِ الْعَقَارِ فِيهِ حِفْظُ مَصْلَحَةِ الْقَاصِرِ أَكْثَرَ مِنْ حِفْظِ ثَمَنِهِ، وَلَكِنْ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَبِيعَ الْمَنْقُولَ إِذَا رَأَى مَصْلَحَةً فِي بَيْعِهِ.

د- مَالُ الْمَدِينِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ:

يُبْدَأُ أَوَّلًا بِبَيْعِ الْمَنْقُولِ لِوَفَاءِ دَيْنِ الْمَدِينِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ، ثُمَّ يُبَاعُ الْعَقَارُ إِذَا لَمْ يَفِ ثَمَنُ الْمَنْقُولِ بِالدَّيْنِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ رِعَايَةِ مَصْلَحَةِ الْمَدِينِ.

هـ- بَيْعُ الشَّيْءِ قَبْلَ قَبْضِهِ: يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ بَيْعُ الشَّيْءِ الْمُشْتَرَى مِنَ الْعَقَارَاتِ قَبْلَ قَبْضِهِ أَوْ تَسَلُّمِهِ مِنَ الْبَائِعِ، بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ لِتَعَرُّضِهِ لِلْهَلَاكِ كَثِيرًا، بِعَكْسِ الْعَقَارِ، وَلَمْ يُجِزْ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ التَّصَرُّفَ فِي الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ

و- حُقُوقُ الْجِوَارِ وَالِارْتِفَاقِ:

تَتَعَلَّقُ هَذِهِ الْحُقُوقُ بِالْعَقَارِ دُونَ الْمَنْقُولِ.

ر: (ارْتِفَاق ف 10، جِوَار ف 3).

ز- الْغَصْبُ:

لَا يُتَصَوَّرُ غَصْبُ الْعَقَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، إِذْ لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ وَتَحْوِيلُهُ، وَيَرَى مُحَمَّدٌ وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ إِمْكَانَ غَصْبِ الْعَقَارِ، أَمَّا الْمَنْقُولُ فَيُتَصَوَّرُ غَصْبُهُ اتِّفَاقًا تَحَوُّلُ الْعَقَارِ إِلَى مَنْقُولٍ وَبِالْعَكْسِ:

6- قَدْ يَتَحَوَّلُ الْعَقَارُ إِلَى مَنْقُولٍ، كَالْأَجْزَاءِ الَّتِي تَنْفَصِلُ عَنِ الْأَرْضِ أَوْ تُسْتَخْرَجُ مِنْهَا، كَالْمَعَادِنِ الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنَ الْمَنَاجِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَنْقَاضِ الْبِنَاءِ الْمَهْدُومِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ فَصْلِهِ عَنِ الْأَرْضِ تَزُولُ عَنْهُ صِفَةُ الْعَقَارِ وَأَحْكَامُهُ، وَيُصْبِحُ فِي عِدَادِ الْمَنْقُولَاتِ وَتُطَبَّقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُهَا.

وَقَدْ يَحْدُثُ الْعَكْسُ وَهُوَ تَحَوُّلُ الْمَنْقُولِ إِلَى عَقَارٍ، بِأَنْ صَارَ الْمَنْقُولُ تَبَعًا لِلْعَقَارِ، فَيَأْخُذُ حُكْمَهُ، جَاءَ فِي الْمَجَلَّةِ مَا يَأْتِي: (تَوَابِعُ الْمَبِيعِ الْمُتَّصِلَةُ الْمُسْتَقِرَّةُ تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا بِدُونِ ذِكْرٍ)، مَثَلًا إِذَا بِيعَتْ دَارٌ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ الْأَقْفَالُ الْمُسَمَّرَةُ وَالدَّوَالِيبُ- أَيِ الْخِزَنُ الْمُسْتَقِرَّةُ- وَالرُّفُوفُ الْمُسَمَّرَةُ الْمُعَدَّةُ لِوَضْعِ فُرُشٍ، وَالْبُسْتَانُ الَّذِي هُوَ دَاخِلُ حُدُودِ الدَّارِ، وَالطُّرُقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الطَّرِيقِ الْعَامِّ، أَوِ الدَّاخِلَةُ الَّتِي لَا تَنْفُذُ.وَفِي بَيْعِ الْعَرْصَةِ تَدْخُلُ الْأَشْجَارُ الْمَغْرُوسَةُ عَلَى أَنْ تَسْتَقِرَّ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَذْكُورَاتِ لَا تُفْصَلُ عَنِ الْمَبِيعِ، فَتَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بِدُونِ ذِكْرٍ وَلَا تَصْرِيحٍ.

أَحْكَامُ الْعَقَارِ:

لِلْعَقَارِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ الْمُخْتَلِفَةِ، أَهَمُّهَا:

الصَّلَاةُ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ:

7- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ اللُّبْثَ فِيهَا يَحْرُمُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَلأَنْ يَحْرُمَ فِي الصَّلَاةِ أَوْلَى

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَكَانِ الْمَغْصُوبِ عَلَى رَأْيَيْنِ:

فَقَالَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ): الصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لَا يَعُودُ إِلَى مَاهِيَّةِ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّتَهَا، كَمَا لَوْ صَلَّى وَهُوَ يَرَى غَرِيقًا يُمْكِنُهُ إِنْقَاذُهُ فَلَمْ يُنْقِذْهُ، أَوْ حَرِيقًا يَقْدِرُ عَلَى إِطْفَائِهِ فَلَمْ يُطْفِئْهُ، أَوْ مَطَلَ غَرِيمَهُ الَّذِي يُمْكِنُ إِيفَاؤُهُ وَصَلَّى، وَيَسْقُطُ بِهَا الْفَرْضُ مَعَ الْإِثْمِ، وَيَحْصُلُ بِهَا الثَّوَابُ، فَيَكُونُ مُثَابًا عَلَى فِعْلِهِ عَاصِيًا بِمُقَامِهِ، وَإِثْمُهُ لِلْمُكْثِ فِي مَكَانٍ مَغْصُوبٍ.

وَيَصِفُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ مِنَ الْجُمْهُورِ هَذِهِ الصَّلَاةَ بِأَنَّهَا فِعْلٌ لَهُ جِهَتَانِ: كَوْنُهُ صَلَاةً وَكَوْنُهُ غَصْبًا، لَكِنَّ الْجِهَتَيْنِ غَيْرُ مُتَلَازِمَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا وَإِنِ اجْتَمَعَتَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَإِنَّ انْفِرَادَهُمَا مُمْكِنٌ وَمُتَصَوَّرٌ، فَالْغَصْبُ يَنْفَرِدُ عَنِ الصَّلَاةِ بِأَنْ يَشْغَلَ الْمَكَانَ بِأَيِّ عَمَلٍ آخَرَ، وَالصَّلَاةُ تَنْفَرِدُ عَنِ الْغَصْبِ بِأَنْ تُؤَدَّى فِي مَكَانٍ آخَرَ، وَبِنَاءً عَلَيْهِ يَكُونُ اجْتِمَاعُ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ فِي هَذَا الْفِعْلِ جَائِزًا، فَهَذِهِ الصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا صَلَاةٌ، وَحَرَامٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا غَصْبٌ شَامِلٌ لِمِلْكِ الْغَيْرِ، وَلَا تَنَافِيَ لِعَدَمِ الِاتِّحَادِ بَيْنَ مُتَعَلِّقِ الْإِيجَابِ الَّذِي هُوَ الصَّلَاةُ وَمُتَعَلِّقِ التَّحْرِيمِ الَّذِي هُوَ الْغَصْبُ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ صَحِيحَةٌ وَيُثَابُ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارٍ، وَحَرَامٌ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارٍ آخَرَ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ، وَلَوْ كَانَ جُزْءًا مُشَاعًا؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ أَتَى بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَلَمْ تَصِحَّ كَصَلَاةِ الْحَائِضِ وَصَوْمِهَا، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْفِعْلِ وَاجْتِنَابَهُ وَالتَّأْثِيمَ بِفِعْلِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُطِيعًا بِمَا هُوَ عَاصٍ بِهِ، مُمْتَثِلًا بِمَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، مُتَقَرِّبًا بِمَا يَبْعُدُ بِهِ؟ فَإِنَّ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ مِنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْعَالٌ اخْتِيَارِيَّةٌ، وَهُوَ عَاصٍ بِهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَيَخْتَلِفُ الْأَمْرُ عَنْ إِنْقَاذِ الْغَرِيقِ وَإِطْفَاءِ الْحَرِيقِ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ فِي نَفْسِهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا.

وَلَكِنْ يَصِحُّ لَدَى الْحَنَابِلَةِ الْوُضُوءُ وَالْأَذَانُ وَإِخْرَاجُ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمُ وَالْعُقُودُ كَالْبَيْعِ وَالزَّوَاجِ وَغَيْرِهِمَا، وَالْفُسُوخُ كَالطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ فِي مَكَانٍ مَغْصُوبٍ؛ لِأَنَّ الْبُقْعَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهَا، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ.

وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ عِنْدَهُمْ فِي بُقْعَةٍ أَبْنِيَتُهَا غَصْبٌ، وَلَوِ اسْتَنَدَ إِلَى الْأَبْنِيَةِ لِإِبَاحَةِ الْبُقْعَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَتَصِحُّ صَلَاةُ مَنْ طُولِبَ بِرَدِّ وَدِيعَةٍ أَوْ رَدِّ غَصْبٍ قَبْلَ دَفْعِهَا إِلَى صَاحِبِهَا وَلَوْ بِلَا عُذْرٍ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ وَلَوْ صَلَّى عَلَى أَرْضِ غَيْرِهِ وَلَوْ كَانَتْ مَزْرُوعَةً بِلَا ضَرَرٍ وَلَا غَصْبٍ، أَوْ صَلَّى عَلَى مُصَلاَّهُ بِلَا غَصْبٍ وَلَا ضَرَرٍ، جَازَ وَصَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ صَلَّى فِي غَصْبٍ مِنْ بُقْعَةٍ أَوْ غَيْرِهَا جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا كَوْنَهُ غَصْبًا صَحَّتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ آثِمٍ، وَإِذَا حُبِسَ فِي مَكَانٍ غُصِبَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ؛ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ». وَيَرَى أُصُولِيُّو الْحَنَابِلَةِ وَالْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ الْجِهَتَيْنِ فِي هَذَا الْفِعْلِ (الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ) مُتَلَازِمَتَانِ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ مِنَ الْمُصَلِّي فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ أَفْعَالٌ اخْتِيَارِيَّةٌ بِهَا يَتَحَقَّقُ الْغَصْبُ فَتَكُونُ حَرَامًا، وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ بِعَيْنِهَا جُزْءٌ مِنْ حَقِيقَةِ الصَّلَاةِ، إِذْ هِيَ عِبَادَةٌ ذَاتُ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ، وَالصَّلَاةُ الَّتِي جُزْؤُهَا حَرَامٌ لَا تَكُونُ وَاجِبَةً، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً وَلَا يَسْقُطُ بِهَا الطَّلَبُ.

8- أَمَّا الصَّلَاةُ فِي الْأَرْضِ الْمَسْخُوطِ عَلَيْهَا: (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى) فَصَحِيحَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، كَأَرْضِ الْخَسْفِ، وَكُلِّ بُقْعَةٍ نَزَلَ فِيهَا عَذَابٌ، كَأَرْضِ بَابِلَ، وَأَرْضِ الْحِجْرِ وَمَسْجِدِ الضِّرَارِ لَكِنْ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّهَا مَسْخُوطٌ عَلَيْهَا «قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ مَرَّ بِالْحِجْرِ: لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ؛ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ».

زَكَاةُ الْعَقَارِ.

9- لَا زَكَاةَ عَلَى الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ مِنْ ثِيَابِ الْبَدَنِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْعَقَارِ مِنْ أَرَاضٍ وَدُورِ سُكْنَى وَحَوَانِيتَ، بَلْ وَلَوْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَيْهَا إِذَا لَمْ يَنْوِ بِهَا التِّجَارَةَ؛ لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ إِذْ لَا بُدَّ مِنْ دَارٍ يَسْكُنُهَا وَلَيْسَتْ بِنَامِيَةٍ أَصْلًا، فَلَا بُدَّ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ نَامِيًا، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ حَقِيقَةَ النَّمَاءِ، وَإِنَّمَا كَوْنُ الْمَالِ مُعَدًّا لِلِاسْتِنْمَاءِ إِمَّا خِلْقِيًّا كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، أَوْ بِالْإِعْدَادِ لِلتِّجَارَةِ، أَوْ بِالسَّوْمِ أَيِ الرَّعْيِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

10- وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَى الْمُسْتَغَلاَّتِ مِنْ عِمَارَاتٍ وَمَصَانِعَ وَمَبَانٍ وَدُورٍ وَأَرَاضٍ بِأَعْيَانِهَا وَلَا عَلَى غَلاَّتِهَا مَا لَمْ يَحُلْ عَلَيْهَا الْحَوْلُ.

لَكِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ- مِنْهُمُ ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ- يَرَوْنَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْمُسْتَغَلِّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ لِأَجْلِ الِاسْتِغْلَالِ، فَيَشْمَلُ الْعَقَارَ الْمُعَدَّ لِلْكِرَاءِ وَكُلَّ سِلْعَةٍ تُؤَجَّرُ وَتُعَدُّ لِلْإِجَارَةِ، بِأَنْ يُقَوَّمَ رَأْسُ الْمَالِ فِي كُلِّ عَامٍ وَيُزَكَّى زَكَاةَ التِّجَارَةِ.

وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ تُزَكَّى هَذِهِ الْمُسْتَغَلاَّتُ مِنْ غَلَّتِهَا وَإِيرَادِهَا إِذَا اسْتَفَادَهَا.

وَرَأَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ تَزْكِيَةَ فَوَائِدِ الْمُسْتَغَلاَّتِ عِنْدَ قَبْضِهَا.

بَيْعُ الْعَقَارِ:

11- يَجُوزُ لِلْمَالِكِ بَيْعُ عَقَارِهِ الَّذِي يَمْلِكُهُ مِلْكًا تَامًّا، كَمَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ فِي الْعَقَارِ مِنَ الشَّرِيكِ، وَمِنَ الْأَجْنَبِيِّ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ قَبِلَتِ الْعَيْنُ الْمُشْتَرَكَةُ الْقِسْمَةَ أَمْ لَا، إِلاَّ فِي حِصَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ بِسَبَبِ الْخَلْطِ فِي الْحُبُوبِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ مِنَ الشَّرِيكِ وَلَا يَجُوزُ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ.لَكِنْ يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ بَيْعِ الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ عَدَمُ الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ، فَلَا يَجُوزُ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَبِيعَ حِصَّتَهُ مِنَ الزَّرْعِ بِدُونِ الْأَرْضِ قَبْلَ أَوَانِ قَطْعِهِ، إِذْ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى ضَرَرِ الشَّرِيكِ الْآخَرِ بِتَعَرُّضِ زَرْعِهِ لِلْقَطْعِ فِي سَبِيلِ التَّسْلِيمِ إِلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَوَانِ قَطْعِهِ، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ جُزْءًا مُعَيَّنًا مِنْ مُشْتَرَكٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي أَرْضٍ أَوْ فِي بَيْتٍ مِنْ دَارٍ، بِخِلَافِ بَيْعِهِ جُزْءًا شَائِعًا مِنَ الْمُشْتَرَكِ.

وَهُنَاكَ بَعْضُ الْقُيُودِ الشَّرْعِيَّةِ الْأُخْرَى عَلَى أَنْوَاعٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ بَيْعِ الْعَقَارَاتِ، مِنْهَا:

أَوَّلًا- بَيْعُ الْوَفَاءِ فِي الْعَقَارِ:

12- بَيْعُ الْوَفَاءِ: هُوَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ أَنَّ الْبَائِعَ مَتَى رَدَّ الثَّمَنَ يَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ إِلَيْهِ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ هَذَا الْبَيْعِ أَوْ فَسَادِهِ، وَفِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ آثَارٍ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْوَفَاءِ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا)

ثَانِيًا- بَيْعُ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ.

13- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ:

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ مَنْقُولًا أَمْ عَقَارًا وَإِنْ أَذِنَ الْبَائِعُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ «حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَشْتَرِي بُيُوعًا، فَمَا يَحِلُّ لِي مِنْهَا وَمَا يَحْرُمُ عَلَيَّ؟ قَالَ: إِذَا اشْتَرَيْتَ بَيْعًا فَلَا تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ».

وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّيْخَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ- بَيْعَ الْعَقَارِ قَبْلَ قَبْضِهِ اسْتِحْسَانًا اسْتِدْلَالًا بِعُمُومَاتِ حِلِّ الْبَيْعِ بِدُونِ تَخْصِيصٍ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضُ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا).

ثَالِثًا- بَيْعُ الْأَرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً:

14- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْأَرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قِسْمَتِهَا وَبَيْنَ إِقْرَارِ أَهْلِهَا عَلَيْهَا وَوَضْعِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَرَاضِيِهِمُ الْخَرَاجَ، وَإِذَا بَقِيَتْ فِي أَيْدِي أَهْلِهَا فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: هِيَ مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ يَجُوزُ بَيْعُهُمْ لَهَا وَتَصَرُّفُهُمْ فِيهَا.

وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ تَكُونُ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ وَيُصْرَفُ خَرَاجُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ أَنْ يَرَى الْإِمَامُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِي الْقِسْمَةَ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَقْسِمَ الْأَرْضَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تُقْسَمُ الْأَرْضُ الْمَفْتُوحَةُ عَنْوَةً بَيْنَ الْغَانِمِينَ إِلاَّ أَنْ يَطِيبُوا نَفْسًا بِتَرْكِهَا فَتُوقَفُ عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّ سَوَادَ الْعِرَاقِ قُسِمَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ ثُمَّ بَذَلُوهُ لِعُمَرَ - رضي الله عنه- وَوُقِفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَصَارَ خَرَاجُهُ أُجْرَةً تُؤَدَّى كُلَّ سَنَةٍ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ السَّوَادِ الَّذِينَ أُقِرَّتِ الْأَرْضُ فِي أَيْدِيهِمْ بَيْعُهَا أَوْ رَهْنُهَا أَوْ هِبَتُهَا لِكَوْنِهَا صَارَتْ وَقْفًا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قِسْمَةِ هَذِهِ الْأَرْضِ عَلَى الْغَانِمِينَ فَتُمْلَكُ بِالْقِسْمَةِ وَلَا خَرَاجَ عَلَيْهَا وَبَيْنَ وَقْفِهَا لِلْمُسْلِمِينَ فَيَمْتَنِعُ بَيْعُهَا وَنَحْوُهُ، وَيَضْرِبُ الْإِمَامُ بَعْدَ وَقْفِهَا خَرَاجًا مُسْتَمِرًّا يُؤْخَذُ مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ مِنْ مُسْلِمٍ وَمُعَاهَدٍ يَكُونُ أُجْرَةً لَهَا.

بَيْعُ الْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ عَقَارَ الْقَاصِرِ:

15- لِلْفُقَهَاءِ اتِّجَاهَاتٌ مُتَقَارِبَةُ الرَّأْيِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ خُلَاصَتُهَا فِيمَا يَلِي:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُفْتَى بِهِ: يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ الْعَدْلِ (مَحْمُودِ السِّيرَةِ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ مَسْتُورِ الْحَالِ) أَنْ يَبِيعَ عَقَارَ الْقَاصِرِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ فَأَكْثَرَ لِتَوَافُرِ الشَّفَقَةِ الْكَامِلَةِ عِنْدَهُ عَلَى وَلَدِهِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْوَصِيِّ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ إِلاَّ لِلضَّرُورَةِ كَبَيْعِهِ لِتَسْدِيدِ دَيْنٍ لَا وَفَاءَ لَهُ إِلاَّ بِهَذَا الْمَبِيعِ، وَيَنْفُذُ بَيْعُ الْوَصِيِّ بِإِجَازَةِ الْقَاضِي، وَلَهُ رَدُّهُ إِذَا كَانَ خَيْرًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَتَصَرَّفُ الْوَلِيُّ فِي مَالِ الصَّغِيرِ بِالْمَصْلَحَةِ، فَلِلْأَبِ بَيْعُ مَالِ وَلَدِهِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا، عَقَارًا أَوْ مَنْقُولًا، وَلَا يُتَعَقَّبُ بِحَالٍ، وَلَا يُطْلَبُ مِنْهُ بَيَانُ سَبَبِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، أَمَّا الْوَصِيُّ فَلَا يَبِيعُ عَقَارَ مَحْجُورِهِ إِلاَّ لِسَبَبٍ يَقْتَضِي بَيْعَهُ- أَيْ لِحَاجَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ- وَبِبَيِّنَةٍ بِأَنْ يَشْهَدَ الْعُدُولُ أَنَّهُ إِنَّمَا بَاعَهُ لِكَذَا، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْحَاكِمِ كَالْوَصِيِّ مَالَ الْمَحْجُورِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَالنَّفَقَةِ وَوَفَاءِ الدَّيْنِ وَنَحْوِهِمَا، وَذَكَرُوا أَحَدَ عَشَرَ سَبَبًا لِجَوَازِ بَيْعِ عَقَارِ الْقَاصِرِ مِنْ وَصِيٍّ أَوْ حَاكِمٍ لِلضَّرُورَةِ، مِثْلَ الْحَاجَةِ لِلنَّفَقَةِ، أَوْ وَفَاءَ دَيْنٍ لَا قَضَاءَ لَهُ إِلاَّ مِنْ ثَمَنِهِ، وَالْخَوْفَ عَلَيْهِ مِنْ ظَالِمٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُ غَصْبًا أَوْ يَعْتَدِي عَلَى رَيْعِهِ وَلَمْ يَسْتَطِعْ رَدَّهُ، وَبَيْعَهُ بِزِيَادَةِ الثُّلُثِ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ فَأَكْثَرَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَتَصَرَّفُ الْوَلِيُّ لِلْقَاصِرِ بِالْمَصْلَحَةِ وُجُوبًا، وَلَا يَبِيعُ عَقَارَهُ إِلاَّ فِي مَوْضِعَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِحَاجَةٍ كَنَفَقَةٍ وَكِسْوَةٍ بِأَنْ لَمْ تَفِ غَلَّةُ الْعَقَارِ بِهِمَا، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُقْرِضُهُ أَوْ لَمْ يَرَ الْمَصْلَحَةَ فِي الِاقْتِرَاضِ أَوْ خَافَ خَرَابَهُ.

وَالثَّانِي: لِمَصْلَحَةٍ ظَاهِرَةٍ، كَأَنْ يَرْغَبَ فِيهِ شَرِيكٌ أَوْ جَارٌ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ، وَهُوَ يَجِدُ مِثْلَهُ بِبَعْضِهِ، أَوْ خَيْرًا مِنْهُ بِكُلِّهِ، أَوْ يَكُونُ ثَقِيلَ الْخَرَاجِ، أَيِ الْمَغَارِمِ وَالضَّرَائِبِ مَعَ قِلَّةِ رَيْعِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِهِمَا إِلاَّ عَلَى وَجْهِ الْحَظِّ (الْمَصْلَحَةِ) لَهُمَا لقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

قَبْضُ الْعَقَارِ:

16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَبْضَ الْعَقَارِ الْمَبِيعِ أَوِ الْمَرْهُونِ يَكُونُ بِالتَّسْلِيمِ الْفِعْلِيِّ أَوْ بِالتَّخْلِيَةِ، أَيْ: رَفْعِ الْمَانِعِ مِنَ الْقَبْضِ أَوِ التَّمَكُّنِ مِنْ إِثْبَاتِ الْيَدِ بِارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ، فَيُخَلَّى بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَالْمَبِيعِ أَوْ بَيْنَ الْمُرْتَهِنِ وَالْمَرْهُونِ، وَيُمَكَّنُ مِنْ قَبْضِهِ، أَوْ مِنْ إِثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِ، وَلِلْفُقَهَاءِ فِي مَوْضُوعِ التَّخْلِيَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَخْلِيَة ف 4، 5)

ضَمَانُ غَلَّةِ الْعَقَارِ الْمَبِيعِ الْمَرْدُودِ بِالْعَيْبِ:

17- إِذَا رُدَّ الْمَبِيعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِسَبَبِ عَيْبٍ مِنَ الْعُيُوبِ، فَهَلْ تَكُونُ غَلَّتُهُ الْحَادِثَةُ بَعْدَ الْبَيْعِ وَالْقَبْضِ إِلَى وَقْتِ الرَّدِّ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُشْتَرِي بِاعْتِبَارِهَا حَقًّا لِلْبَائِعِ، أَمْ أَنَّهَا لِلْمُشْتَرِي وَلَا يَضْمَنُهَا لِلْبَائِعِ؟.

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ أَوِ الْغَلَّةَ الْمُتَّصِلَةَ بِالشَّيْءِ وَقْتَ الرَّدِّ تَكُونُ لِلْبَائِعِ وَيَجِبُ رَدُّهَا، أَمَّا الْمَنَافِعُ الْمُنْفَصِلَةُ فَاخْتَلَفُوا فِيهَا.

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ حَدَثَتْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي؛ وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَضَى أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ».أَيْ أَنَّ الْغَلَّةَ أَوِ الْمَنَافِعَ فِي مُقَابِلِ تَحَمُّلِ الْمُشْتَرِي تَبِعَةَ ضَمَانِ الشَّيْءِ الْمَبِيعِ إِذَا هَلَكَ عِنْدَهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْمُشْتَرِي الْغَلَّةَ الْفَرْعِيَّةَ غَيْرَ الْمُتَوَلِّدَةِ الَّتِي تَحْصُلُ مِنَ الْمَبِيعِ كَمَنَافِعِ الشَّيْءِ وَأُجْرَةِ كِرَاءِ الدَّابَّةِ وَنَحْوِهَا، دُونَ الْأَصْلِيَّةِ الْمُتَوَلِّدَةِ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ وَاللَّبَنِ وَالصُّوفِ، فَإِنَّهَا تَكُونُ لِمَالِكِ أَصْلِهَا الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْهُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ غَلَّةَ الْمَبِيعِ الْمَرْدُودِ بِالْعَيْبِ الَّتِي لَا تُعْتَبَرُ كَجُزْءٍ مِنَ الْمَبِيعِ كَسُكْنَى الدَّارِ وَإِسْكَانِهَا وَرُكُوبِ السَّيَّارَةِ وَإِجَارَتِهَا وَأَلْبَانِ الْمَاشِيَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَكُونُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ قَبْضِهِ لِلْمَبِيعِ إِلَى يَوْمِ فَسْخِ الْبَيْعِ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا أَنْفَقَهُ عَلَى الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ غَلَّتَهُ لَهُ، وَالْغُنْمُ فِي نَظِيرِ الْغُرْمِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ غَلَّةُ الْمَبِيعِ الْمَرْدُودِ بِالْعَيْبِ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ كَانَ فِي ضَمَانِهِ وَالْغَلَّةُ فِي نَظِيرِ الضَّمَانِ.

الْغَرْسُ أَوِ الْبِنَاءُ فِي أَرْضٍ ظَهَرَ اسْتِحْقَاقُهَا لِلْغَيْرِ.

18- إِذَا اشْتَرَى شَخْصٌ مِنْ آخَرَ أَرْضًا، فَغَرَسَ أَوْ بَنَى فِيهَا، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ لِغَيْرِ بَائِعِهَا، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ لِلْمُسْتَحِقِّ قَلْعَ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِحْقَاق ف 15).

الْغَرْسُ أَوِ الْبِنَاءُ فِي الْأَرْضِ الْمُؤَجَّرَةِ:

19- لِلْفُقَهَاءِ آرَاءٌ مُتَقَارِبَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ:

فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْجَرَ شَخْصٌ أَرْضًا لِلْغِرَاسِ أَوِ الْبِنَاءِ مُدَّةً مَعْلُومَةً كَسَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، ثُمَّ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وَفِي الْأَرْضِ غِرَاسٌ أَوْ بِنَاءٌ، فَإِنْ شَرَطَ الْمُؤَجِّرُ الْهَدْمَ أَوِ الْقَلْعَ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْإِجَارَةِ، أُجْبِرَ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدِهِمَا.

وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْمُؤَجِّرُ الْهَدْمَ أَوِ الْقَلْعَ، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ (أَوِ الْمُكْتَرِي) إِزَالَةُ الْبِنَاءِ أَوْ قَلْعُ الشَّجَرِ، وَعَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ دَخَلَ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَهُ وَعَلَيْهِ ذَلِكَ أَيْضًا إِنْ قَلَعَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الْقَلْعَ قَبْلَ الْوَقْتِ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ الْمَالِكُ؛ وَلِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي الْأَرْضِ تَصَرُّفًا نَقَصَهَا، وَلَمْ يَقْتَضِهِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ.

فَإِنْ أَبَى الْمُسْتَأْجِرُ الْقَلْعَ أَوِ الْإِزَالَةَ، خُيِّرَ الْمُؤَجِّرُ بَيْنَ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: 1- تَرْكُهُ عَلَى ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ.

2- أَخْذُ الْمُؤَجِّرِ الْغِرَاسَ أَوِ الْبِنَاءَ بِالْقِيمَةِ، وَيَمْتَلِكُهُ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ يَزُولُ عَنْهُمَا.

3- إِزَالَةُ الْمُسْتَأْجِرِ الْبِنَاءَ أَوْ قَلْعُ الْغِرَاسِ مَعَ ضَمَانِهِ أَرْشَ مَا نَقَصَ بِالْقَلْعِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ بِالْقَلْعِ مَعَ دَفْعِ الْأَرْشِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْبِنَاءُ مَسْجِدًا أَوْ مُعَدًّا لِنَفْعٍ عَامٍّ فَلَا يُهْدَمُ، وَتَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ أُجْرَتُهُ مُدَّةَ بَقَائِهِ أَوْ إِلَى زَوَالِهِ لِأَنَّهُ الْعُرْفُ، إِذْ وَضْعُ هَذِهِ لِلدَّوَامِ، وَلَا يُعَادُ الْمَسْجِدُ وَنَحْوُهُ لَوِ انْهَدَمَ إِلاَّ بِإِذْنِ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِزَوَالِ حُكْمِ الْإِذْنِ بِزَوَالِ الْعَقْدِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَنَى الْمُسْتَأْجِرُ فِي الْأَرْضِ بِنَاءً أَوْ غَرَسَ غَرْسًا فِيهَا، وَلَوْ بِإِذْنِ الْمُؤَجِّرِ، كَانَ لِلْمُؤَجِّرِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْإِجَارَةِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا هَدْمُ الْبِنَاءِ وَقَلْعُ الْغَرْسِ، وَإِمَّا تَمَلُّكُ مَا اسْتَحْدَثَ بِقِيمَتِهِ مُسْتَحِقَّ الْقَلْعِ إِنْ أَضَرَّ الْهَدْمُ أَوِ الْإِزَالَةُ بِالْعَقَارِ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلطَّرَفَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَضُرَّ فَلَيْسَ لِلْمُؤَجِّرِ إِبْقَاؤُهُ بِغَيْرِ رِضَا الْمُسْتَأْجِرِ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَنْ بَنَى أَوْ غَرَسَ فِي أَرْضٍ مُسْتَأْجَرَةٍ فَلِلْمُؤَجِّرِ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَأْمُرَ الْبَانِيَ أَوِ الْغَارِسَ بِهَدْمِ بِنَائِهِ أَوْ قَلْعِ شَجَرِهِ أَوْ يَدْفَعَ لَهُ قِيمَتَهُ مَنْقُوضًا، أَوْ يُرْضِيَ الْمُسْتَأْجِرُ الْمُؤَجِّرَ فِي مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ الْمُدَّةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ لِأَجْلِ بَقَاءِ بِنَائِهِ أَوْ غَرْسِهِ.

رَهْنُ الْعَقَارِ:

20- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا صَحَّ بَيْعُهُ كَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ صَحَّ رَهْنُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الرَّهْنِ الِاسْتِيثَاقُ بِالدَّيْنِ لِيُتَوَصَّلَ إِلَى اسْتِيفَائِهِ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ مِنَ الرَّاهِنِ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ عَيْنٍ يَصِحُّ بَيْعُهَا.

وَاسْتَثْنَى أَبُو حَنِيفَةَ رَهْنَ الْمُشَاعِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ بَيْعُهُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رَهْن ف9)

غَصْبُ الْعَقَارِ:

21- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَحْكَامَ الْغَصْبِ تَجْرِي فِي الْعَقَارِ إِذْ يُمْكِنُ غَصْبُهُ، وَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ.

وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (غَصْب).

وَقْفُ الْعَقَارِ:

22- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ وَقْفِ الْعَقَارِ مِنْ أَرْضٍ وَدُورٍ وَحَوَانِيتَ وَبَسَاتِينَ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ - رضي الله عنهم- وَقَفُوهُ، مِثْلَ مَا فَعَلَ عُمَرُ - رضي الله عنه- فِي وَقْفِهِ أَرْضَهُ فِي خَيْبَرَ؛ وَلِأَنَّ الْعَقَارَ مُتَأَبِّدٌ يَبْقَى عَلَى الدَّوَامِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْف).

وَالْبِنَاءُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَنْقُولٌ، وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ الْمَنْقُولِ عِنْدَهُمْ إِلاَّ إِذَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ، وَبِمَا أَنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا وَقْفَ الْبِنَاءِ أَوِ الشَّجَرِ بِلَا أَرْضٍ فَيَجُوزُ الْوَقْفُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ وَقْفَ الْبِنَاءِ بِدُونِ الْأَرْضِ لَهُ صُوَرٌ ثَلَاثٌ.

ر: مُصْطَلَحَ: (وَقْف).

تَعَلُّقُ حَقِّ الِارْتِفَاقِ بِالْعَقَارِ الْمَبِيعِ.

23- تَتَعَلَّقُ حُقُوقُ الِارْتِفَاقِ بِالْعَقَارِ دُونَ الْمَنْقُولِ، فَيَكُونُ حَقُّ الِارْتِفَاقِ مُقَرَّرًا دَائِمًا عَلَى عَقَارٍ، وَيَصِحُّ بَيْعُ الْأَرْضِ دُونَ حَقِّ الِارْتِفَاقِ، وَلَا يَدْخُلُ حَقُّ الِارْتِفَاقِ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ إِلاَّ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ صَرَاحَةً، أَوْ بِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَأَنْ يَقُولَ: بِعْتُ الْأَرْضَ بِحُقُوقِهَا أَوْ بِمَرَافِقِهَا، أَوْ كُلَّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ حَوْلَهَا، أَمَّا فِي الْإِجَارَةِ فَتَدْخُلُ حُقُوقُ الِارْتِفَاقِ فِي الْعَقْدِ، وَلَوْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا، لِتَعَذُّرِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَأْجُورِ بِدُونِهَا، وَيُقَاسُ الْوَقْفُ اسْتِحْسَانًا عَلَى الْإِجَارَةِ لَا عَلَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْوَقْفِ هُوَ مُجَرَّدُ الِانْتِفَاعِ وَهُوَ لَا يُمْكِنُ إِلاَّ بِأَنْ يَدْخُلَ الشِّرْبُ وَالْمَسِيلُ وَالطَّرِيقُ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ دُونَ نَصٍّ عَلَيْهَا

تَعَلُّقُ حَقِّ الشُّفْعَةِ فِي الْعَقَارِ لَا الْمَنْقُولِ:

24- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ يَثْبُتُ فِي الْعَقَارِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ - رضي الله عنه- قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَرِكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ».

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شُفْعَة ف 24)

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


86-موسوعة الفقه الكويتية (عقد 4)

عَقْد -4

الشُّرُوطُ الْمُقْتَرِنَةُ بِالْعُقُودِ:

54- الْمُرَادُ بِالشُّرُوطِ الْمُقْتَرِنَةِ بِالْعُقُودِ: مَا يُذْكَرُ بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ، فَيُقَيِّدُ أَثَرَ الْعَقْدِ أَوْ يُعَلِّقُهُ بِأَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى أَصْلِ الْعَقْدِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

وَقَدْ قَسَّمَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الشَّرْطَ الْمُقْتَرِنَ بِالْعَقْدِ إِلَى نَوْعَيْنِ: شَرْطٍ صَحِيحٍ، وَشَرْطٍ غَيْرِ صَحِيحٍ.

وَقَسَّمَهُ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: الشَّرْطُ الصَّحِيحُ، وَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ، وَالشَّرْطُ الْبَاطِلُ.

وَضَابِطُ الشَّرْطِ الصَّحِيحِ: هُوَ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ الْقَائِمِ بِمَحَلِّ الْعَقْدِ وَقْتَ صُدُورِهِ، أَوْ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ أَوْ يُلَائِمُهُ- وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ- أَوْ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ بِجَوَازِهِ، أَوْ مَا يَجْرِي عَلَيْهِ التَّعَامُلُ، كَمَا أَضَافَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ: أَوْ مَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةً مَشْرُوعَةً لِلْعَاقِدِ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ

وَمِنْ أَمْثِلَةِ الشَّرْطِ الصَّحِيحِ: اشْتِرَاطُ الْقَبْضِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، أَوِ اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ أَوِ الْكَفَالَةِ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ مَثَلًا.فَهَذَا النَّوْعُ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الشُّرُوطِ الصَّحِيحَةِ يُمْكِنُ اشْتِرَاطُهُ فِي الْعَقْدِ، وَلَا يَضُرُّ فِي انْعِقَادِهِ وَلَا فِي صِحَّتِهِ.

أَمَّا الشَّرْطُ الْبَاطِلُ أَوِ الْفَاسِدُ فَهُوَ: مَا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَلَا يُلَائِمُ مُقْتَضَاهُ أَوْ مَا يُؤَدِّي إِلَى غَرَرٍ، أَوِ اشْتِرَاطِ أَمْرٍ لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ أَوْ نَحْوِهِ.

وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ مَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ، كَبَيْعِ حَيَوَانٍ عَلَى أَنَّهُ حَامِلٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ غَرَرٍ وَكَالْعَقْدِ الْمُتَضَمِّنِ عَلَى الرِّبَا؛ لِنَهْيِ الشَّارِعِ عَنْهُ.

وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ أَيْضًا: مَا يَصِحُّ مَعَهُ الْعَقْدُ وَيَلْغُو الشَّرْطُ نَفْسُهُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِي الْمُزَارَعَةِ: أَنْ لَا يَبِيعَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ، أَوْ يَهَبَهُ لِفُلَانٍ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ صَحِيحٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، فَيَلْغُو الشَّرْطُ فَقَطْ، كَمَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شَرْط ف 19- 27)

آثَارُ الْعَقْدِ:

55- آثَارُ الْعَقْدِ هِيَ: مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَقْدِ وَمَا يَهْدُفُ إِلَيْهِ الْعَاقِدَانِ، وَهِيَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ لِلْعَاقِدَيْنِ مِنِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا.

وَتَخْتَلِفُ هَذِهِ الْآثَارُ حَسْبَ اخْتِلَافِ الْعُقُودِ.

فَفِي عُقُودِ الْمِلْكِيَّةِ الَّتِي تَرِدُ عَلَى الْأَعْيَانِ- كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْقَرْضِ- أَثَّرَ الْعَقْدُ نَقْلَ الْمِلْكِيَّةِ مِنْ عَاقِدٍ إِلَى آخَرَ إِذَا اسْتَوْفَتْ أَرْكَانَهَا وَشُرُوطَهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ بِعِوَضٍ- كَمَا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَنْقُلُ مِلْكِيَّةَ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَمِلْكِيَّةَ الثَّمَنِ إِلَى الْبَائِعِ- أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَمَا فِي عَقْدِ الْهِبَةِ، وَكَمَا فِي عَقْدِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوصِي بِقَبُولِ الْمُوصَى لَهُ أَوْ بِمُجَرَّدِ الْوَفَاةِ، عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلَافٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.

وَفِي عُقُودِ الْمَنْفَعَةِ أَثَّرَ الْعَقْدُ نَقْلَ الْمَنْفَعَةِ أَوْ إِبَاحَةَ الِانْتِفَاعِ مِنَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ كَمَا فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ، أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَمَا فِي عَقْدَيِ الْإِعَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ.

وَفِي عُقُودِ التَّوْثِيقِ كَعَقْدِ الْكَفَالَةِ وَالرَّهْنِ أَثَّرَ الْعَقْدُ تَوْثِيقَ الدَّيْنِ بِاشْتِرَاكِ ذِمَّةٍ جَدِيدَةٍ مَعَ ذِمَّةِ الْمَدِينِ، أَوْ حَبْسَ الرَّهْنِ حَتَّى يُؤَدَّى الدَّيْنُ.وَفِي عَقْدِ الْحَوَالَةِ: بِنَقْلِ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةِ الْمَدِينِ إِلَى شَخْصٍ ثَالِثٍ.

وَفِي عُقُودِ الْعَمَلِ: حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِالْعَمَلِ فِيهِ، كَمَا فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ وَعُقُودِ الشَّرِكَةِ، وَكَمَا فِي عَقْدَيِ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَنَحْوِهِمَا.

وَفِي عَقْدِ الْإِيدَاعِ: حِفْظُ الْوَدِيعَةِ بِيَدِ الْوَدِيعِ.

وَفِي عَقْدِ النِّكَاحِ: حِلُّ اسْتِمْتَاعِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِالْآخَرِ.

وَهَكَذَا فِي كُلِّ عَقْدٍ يُعْقَدُ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ الْمَشْرُوعَةِ

انْتِهَاءُ الْعَقْدِ وَأَسْبَابُهُ:

56- انْتِهَاءُ الْعَقْدِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اخْتِيَارِيًّا أَوْ يَكُونَ ضَرُورِيًّا وَالْأَوَّلُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِرَادَةِ عَاقِدٍ وَاحِدٍ أَوْ بِإِرَادَةِ كِلَيْهِمَا، فَإِذَا كَانَ بِإِرَادَةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ يُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ فَسْخًا، وَإِذَا كَانَ بِرِضَا كِلَا الْعَاقِدَيْنِ يُسَمَّى إِقَالَةً وَالثَّانِي، أَيِ الِانْتِهَاءُ الضَّرُورِيُّ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْعُقُودِ الْمُؤَقَّتَةِ، كَالْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْوَكَالَةِ وَنَحْوِهَا، أَوْ يَكُونَ فِي الْعُقُودِ الْمُطْلَقَةِ، كَالرَّهْنِ وَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَنَحْوِهَا، وَيُسَمَّى الِانْتِهَاءُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ انْفِسَاخًا.

وَلِكُلِّ هَذِهِ الصُّوَرِ أَسْبَابٌ وَأَحْكَامٌ نُجْمِلُهَا فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا- الْأَسْبَابُ الِاخْتِيَارِيَّةُ لِانْتِهَاءِ الْعَقْدِ:

أ- الْفَسْخُ:

57- الْفَسْخُ حَلُّ ارْتِبَاطِ الْعَقْدِ وَرَفْعُ حُكْمِهِ بِالْإِرَادَةِ وَيَكُونُ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ بِطَبِيعَتِهَا، كَعَقْدِ الْوَكَالَةِ وَالْوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ وَنَحْوِهَا اتِّفَاقًا، وَكَذَا عَقْدُ الْإِعَارَةِ الْمُطْلَقَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، أَوْ بِشَرْطِ أَنْ لَا تَكُونَ مُقَيَّدَةً بِعَمَلٍ أَوْ أَجَلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَهَذِهِ الْعُقُودُ يُمْكِنُ إِنْهَاؤُهَا بِالْفَسْخِ بِإِرَادَةِ كُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ مَعَ مُرَاعَاةِ عَدَمِ الضَّرَرِ، وَكَذَا الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ كَعَقْدِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِهِمَا إِذَا كَانَ فِيهَا خِيَارٌ لِكُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَتُفْسَخُ بِإِرَادَةِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مُصْطَلَحِ: (فَسْخ).

ب- الْإِقَالَةُ.

58- الْإِقَالَةُ رَفْعُ الْعَقْدِ وَإِلْغَاءُ حُكْمِهِ وَآثَارِهِ بِتَرَاضِي الطَّرَفَيْنِ وَمَحَلُّ الْإِقَالَةِ الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مِمَّا يَقْبَلُ الْفَسْخَ بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَا يُمْكِنُ فَسْخُهَا إِلاَّ بِإِرَادَةِ الطَّرَفَيْنِ وَاتِّفَاقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْإِقَالَةَ تَصِحُّ فِي عُقُودِ الْبَيْعِ وَالْمُضَارَبَةِ، وَالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ (بِالنِّسْبَةِ لِلرَّاهِنِ) وَالسَّلَمِ وَالصُّلْحِ وَهِيَ عُقُودٌ لَازِمَةٌ.

وَلَا تَصِحُّ الْإِقَالَةُ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ كَالْإِعَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَالْجَعَالَةِ أَوِ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْفَسْخَ بِالْخِيَارِ كَالْوَقْفِ وَالنِّكَاحِ.

وَلِشُرُوطِ الْإِقَالَةِ وَأَثَرِهَا فِي إِنْهَاءِ الْعُقُودِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (إِقَالَة ف 7، 12).

ج- انْتِهَاءُ الْمُدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ أَوِ الْعَمَلِ الْمُعَيَّنِ:

59- تَنْتَهِي بَعْضُ الْعُقُودِ بِانْتِهَاءِ مُدَّتِهَا الْمُقَرَّرَةِ لَهَا بِاتِّفَاقِ الطَّرَفَيْنِ، أَوْ بِانْتِهَاءِ الْعَمَلِ الَّذِي عُقِدَ الْعَقْدُ لِأَجْلِهِ.

فَعَقْدُ الْإِجَارَةِ الْمُقَيَّدُ بِمُدَّةٍ يَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ كَالدَّارِ لِلسُّكْنَى أَوِ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ، إِلاَّ إِذَا وُجِدَ عُذْرٌ يَقْتَضِي امْتِدَادَ الْمُدَّةِ، كَأَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ زَرْعٌ لَمْ يُحْصَدْ، أَوْ كَانَتْ سَفِينَةٌ فِي الْبَحْرِ وَانْقَضَتِ الْمُدَّةُ قَبْلَ وُصُولِهَا إِلَى السَّاحِلِ.ر: (إِجَارَة ف 60)

كَمَا تَنْقَضِي الْإِجَارَةُ لِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ بِانْتِهَاءِ الْعَمَلِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي إِجَارَةِ الْأَشْخَاصِ، كَالْحَمَّالِ وَالْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ إِذَا أَنْهَوْا الْعَمَلَ.

وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْوَكَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ لِإِجْرَاءِ عَمَلٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّهَا تَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْعَمَلِ الْمُفَوَّضِ لِلْوَكِيلِ.ر: (وَكَالَة).

ثَانِيًا- أَسْبَابُ الْعَقْدِ الضَّرُورِيَّةُ:

أ- هَلَاكُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.

60- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَلَفَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ سَبَبٌ لِانْتِهَاءِ بَعْضِ الْعُقُودِ، وَذَلِكَ لِتَعَذُّرِ دَوَامِ الْعَقْدِ، فَإِذَا تَلِفَتِ الدَّابَّةُ الْمُسْتَأْجَرَةُ، أَوِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ الْمُسْتَأْجَرَةُ لِلسُّكْنَى انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ.وَكَذَلِكَ إِذَا تَلِفَتِ الْعَيْنُ الْمُعَارَةُ أَوِ الْمُودَعَةُ فِي عَقْدَيِ الْعَارِيَّةِ وَالْإِيدَاعِ، أَوْ تَلِفَ رَأْسُ الْمَالِ فِي عَقْدَيِ الشَّرِكَةِ (شَرِكَةِ الْأَمْوَالِ أَوِ الْمُضَارَبَةِ) كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ الْخَاصَّةِ بِكُلِّ عَقْدٍ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ.

وَهَذَا السَّبَبُ يُؤَثِّرُ فِي الْعُقُودِ الْمُسْتَمِرَّةِ الَّتِي تَدُومُ آثَارُهَا بِدَوَامِ الْمَحَلِّ، أَمَّا مَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فَوْرًا- كَعَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلًا- فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ هَلَاكُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ (الْمَبِيعِ) بَعْدَ قَبْضِ الْبَدَلَيْنِ.

أَمَّا قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ هَلَاكِ الْمَبِيعِ فِي انْفِسَاخِ الْبَيْعِ: فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِانْفِسَاخِهِ مَعَ تَفْصِيلٍ عِنْدَهُمْ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ فِي هَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ: إِنْ هَلَكَ كُلُّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ انْفَسَخَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ أَوْجَبَ مُطَالَبَةَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، وَإِذَا طَالَبَهُ بِالثَّمَنِ فَهُوَ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَإِنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ التَّسْلِيمِ، فَتَمْتَنِعُ الْمُطَالَبَةُ أَصْلًا، فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْبَيْعِ فَائِدَةٌ، فَيَنْفَسِخُ، وَكَذَلِكَ إِذَا هَلَكَ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ، بِأَنْ كَانَ حَيَوَانًا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، وَكَذَا إِذَا هَلَكَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ، وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي عِنْدَنَا، وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِتْلَافِ صَارَ قَابِضًا.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَبِيعُ قَبْلَ قَبْضِهِ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، فَإِنْ تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَسَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ لِمُشْتَرِيهِ- وَهُوَ الْمَالُ الْمِثْلِيُّ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ مَعْدُودٍ- يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالتَّلَفِ وَالضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مُعَيَّنًا وَعَقَارًا أَوْ مِنَ الْأَمْوَالِ الْقِيمِيَّةِ فَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالتَّلَفِ، وَيَنْتَقِلُ الضَّمَانُ إِلَى الْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ اللاَّزِمِ وَمِثْلُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

ب- وَفَاةُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا:

61- وَفَاةُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا لَا تُؤَثِّرُ فِي الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ فِي الْجُمْلَةِ، مَا عَدَا عَقْدَ الْإِجَارَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِوَفَاةِ الْمُؤَجِّرِ أَوِ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَيْسَتْ أَمْوَالًا مَوْجُودَةً حِينَ الْعَقْدِ، وَتَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَإِذَا أَبْقَيْنَا عَقْدَ الْإِجَارَةِ بَعْدَ الْوَفَاةِ فَالْمُسْتَأْجِرُ أَوْ وَرَثَتُهُ يَنْتَفِعَانِ مِنَ الْعَيْنِ الْمُنْتَقِلَةِ مِلْكِيَّتُهَا بِوَفَاةِ الْمُؤَجِّرِ إِلَى الْوَرَثَةِ، وَالْمَنَافِعُ الْمُسْتَحْدَثَةُ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً حِينَ الْوَفَاةِ حَتَّى تَنْتَقِلَ إِلَى وَرَثَةِ الْمُسْتَأْجِرِ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَوْتَ لَا يُؤَثِّرُ فِي انْتِهَاءِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ إِذَا كَانَتْ مُدَّتُهَا بَاقِيَةً؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ يُقَدَّرُ وُجُودُهَا حِينَ الْعَقْدِ، فَانْتَقَلَتْ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِالْعَقْدِ.

أَمَّا الْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ- كَالْوَكَالَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْوَدِيعَةِ وَنَحْوِهَا- فَتَنْفَسِخُ فِي الْجُمْلَةِ وَتَنْتَهِي بِوَفَاةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهَا عُقُودٌ تَنْفَسِخُ بِإِرَادَةِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فِي حَيَاتِهِمَا وَتَسْتَمِرُّ بِإِرَادَتِهِمَا، فَإِذَا تُوُفِّيَ الْعَاقِدُ فَقَدْ بَطَلَتْ إِرَادَتُهُ وَانْتَهَتْ رَغْبَتُهُ، فَبَطَلَتْ آثَارُ هَذِهِ الْعُقُودِ الَّتِي كَانَتْ تَسْتَمِرُّ بِاسْتِمْرَارِ إِرَادَةِ الْعَاقِدَيْنِ.

ج- غَصْبُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ:

62- غَصْبُ مَحَلِّ بَعْضِ الْعُقُودِ يُوجِبُ انْفِسَاخَهَا، فَفِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ غُصِبَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَأْخِيرَ حَقِّهِ، فَإِنْ فَسَخَ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ بِتَلَفِ الْعَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ حَتَّى انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِالْمُسَمَّى، وَبَيْنَ الْبَقَاءِ عَلَى الْعَقْدِ وَمُطَالَبَةِ الْغَاصِبِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ غُصِبَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ مِنْ يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ سَقَطَ الْأَجْرُ كُلُّهُ فِيمَا إِذَا غُصِبَتْ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ غُصِبَتْ فِي بَعْضِهَا سَقَطَ بِحِسَابِهَا، وَذَلِكَ لِزَوَالِ التَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، وَتَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِالْغَصْبِ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ.

وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ الْغَصْبَ بِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِنَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَحَكَمُوا بِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ بِهِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِتَعَذُّرِ مَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ الْمَنْفَعَةُ، وَالتَّعَذُّرُ أَعَمُّ مِنَ التَّلَفِ، فَيَشْمَلُ الضَّيَاعَ وَالْمَرَضَ وَالْغَصْبَ وَغَلْقَ الْحَوَانِيتِ قَهْرًا وَغَيْرَ ذَلِكَ.

د- أَسْبَابٌ أُخْرَى يُفْسَخُ بِهَا الْعَقْدُ أَوْ يَنْتَهِي.

63- ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَسْبَابِ فَسْخِ الْعَقْدِ أَوِ انْتِهَائِهِ الِاسْتِحْقَاقَ، فَقَدْ ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمَبِيعَ إِذَا اسْتُحِقَّ لِلْغَيْرِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ وَيَنْتَهِي حُكْمُهُ وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْحُكْمَ بِالِاسْتِحْقَاقِ لَا يُوجِبُ فَسْخَ الْعَقْدِ، بَلْ يُوجِبُ تَوَقُّفَهُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُسْتَحِقِّ، فَإِنْ أَجَازَ وَإِلاَّ يَنْفَسِخُ وَيَسْتَرِدُّ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ مِنَ الْبَائِعِ.كَمَا فُصِّلَ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِحْقَاق ف9 وَمَا بَعْدَهَا)

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


87-موسوعة الفقه الكويتية (عنة 1)

عُنَّةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْعُنَّةُ فِي اللُّغَةِ: عَجْزٌ يُصِيبُ الرَّجُلَ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ، يُقَالُ: عَنَّ عَنِ امْرَأَتِهِ: إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِذَلِكَ، أَوْ مُنِعَ عَنْهَا بِالسِّحْرِ.

وَالْعُنَّةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَعْنَى الِاعْتِرَاضِ، كَأَنَّ الْعِنِّينَ اعْتَرَضَهُ مَا يَحْبِسُهُ عَنِ النِّسَاءِ، وَسُمِّيَ عِنِّينًا لِأَنَّهُ يَعِنُّ ذَكَرُهُ لِقُبُلِ الْمَرْأَةِ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ فَلَا يَقْصِدُهُ.

وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: الْعُنَّةُ هِيَ الْعَجْزُ عَنِ الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ لِعَدَمِ انْتِشَارِ الْآلَةِ وَسُمِّيَ الْعِنِّينُ بِذَلِكَ لِلِينِ ذَكَرِهِ وَانْعِطَافِهِ، مَأْخُوذٌ مِنْ عَنَانِ الدَّابَّةِ.

وَيَشْمَلُ الْعِنِّينُ مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ فَعَنَّ عَنْ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، بَلْ لَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَوَطِئَ ثَلَاثًا مِنْهُنَّ ثُمَّ عَنَّ عَنِ الرَّابِعَةِ كَانَ عِنِّينًا بِالنِّسْبَةِ لَهَا، وَقَدْ تُوجَدُ هَذِهِ الْحَالَةُ لِانْحِبَاسِ الشَّهْوَةِ عَنِ امْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ بِسَبَبِ نَفْرَةٍ أَوْ حَيَاءٍ، وَيَقْدِرُ عَلَى غَيْرِهَا لِمَيْلٍ أَوْ أُنْسٍ، أَمَّا الْعَجْزُ خِلْقَةً وَجِبِلَّةً فَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النِّسْوَةِ وَيَشْمَلُ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْبِكْرِ وَقَدَرَ عَلَى الثَّيِّبِ، وَيَشْمَلُ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْقُبُلِ وَقَدَرَ عَلَى الدُّبُرِ، وَيَشْمَلُ الْخَصِيَّ مَقْطُوعَ الْأُنْثَيَيْنِ إِذَا وُجِدَتِ الْعُنَّةُ عِنْدَهُ.وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا خِيَارَ بِالْخِصَاءِ، أَوْ أَنَّهَا رَضِيَتْ بِهِ وَوَجَدَتْهُ مَعَ الْخِصَاءِ عِنِّينًا، وَيَشْمَلُ مَقْطُوعَ الذَّكَرِ إِذَا بَقِيَ قَدْرُ رَأْسِ الذَّكَرِ فَأَكْثَرُ وَعَجَزَ عَنِ الْجِمَاعِ بِهِ.

وَالْعِنِّينُ بِهَذَا الْمَعْنَى يُسَمَّى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الْمُعْتَرِضُ، وَالْمُعْتَرِضُ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْعِنِّينِ كَمَا سَبَقَ، أَمَّا لَفْظُ الْعِنِّينِ فَيُطْلَقُ عِنْدَهُمْ عَلَى مَنْ كَانَ ذَكَرُهُ صَغِيرًا جِدًّا كَالزِّرِّ لَا يُمْكِنُ الْجِمَاعُ بِهِ وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ عَنِ الْمُعْتَرِضِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْجَبُّ:

2- الْجَبُّ فِي اللُّغَةِ: الْقَطْعُ، وَمِنْهُ الْمَجْبُوبُ، وَهُوَ الَّذِي اُسْتُؤْصِلَ ذَكَرُهُ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: قَطْعُ الذَّكَرِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ مَا يَتَأَتَّى بِهِ الْوَطْءُ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ: أَنَّ عَدَمَ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي الْجَبِّ يَكُونُ لِقَطْعِ الذَّكَرِ، وَالْعَجْزُ عَنْ إِتْيَانِ الزَّوْجَةِ فِي الْعُنَّةِ لِعَدَمِ الِانْتِشَارِ.

ب- الْخِصَاءُ:

3- الْخِصَاءُ: فَقْدُ الْخُصْيَتَيْنِ خِلْقَةً أَوْ بِقَطْعٍ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعُنَّةِ وَالْخِصَاءِ: أَنَّ الْعُنَّةَ تَكُونُ بِعَدَمِ انْتِشَارِ الْآلَةِ، أَمَّا الْخِصَاءُ فَلَا يَمْنَعُ مِنَ انْتِشَارِ الْآلَةِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعُنَّةِ:

تَتَعَلَّقُ بِالْعُنَّةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

ثُبُوتُ الْخِيَارِ بِالْعُنَّةِ:

4- الْعُنَّةُ عَيْبٌ يَجْعَلُ لِلزَّوْجَةِ الْخِيَارَ فِي طَلَبِ الْفُرْقَةِ عَنْ زَوْجِهَا بَعْدَ إِمْهَالِ الزَّوْجِ سَنَةً عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَاخْتَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَالْمَجْدُ أَنَّ لَهَا الْفَسْخَ فِي الْحَالِ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَجَّلَ الْعِنِّينَ سَنَةً وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الزَّوْجَةِ أَنْ تَسْتَعِفَّ بِالزَّوَاجِ وَتَحْصُلَ بِهِ صِفَةُ الْإِحْصَانِ لِنَفْسِهَا، وَفَوَاتُ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ أَصْلًا يُثْبِتُ لِلْعَاقِدِ حَقَّ رَفْعِ الْعَقْدِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ بِالْعُيُوبِ لِفَوَاتِ مَالِيَّةٍ يَسِيرَةٍ، فَفَوَاتُ مَقْصُودِ النِّكَاحِ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْعُنَّةَ كَقَطْعِ الذَّكَرِ فِي الرَّجُلِ، وَانْسِدَادِ الْفَرَجِ فِي الْمَرْأَةِ.

ثُبُوتُ الْعُنَّةِ:

5- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا تَثْبُتُ بِهِ الْعُنَّةُ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعُنَّةَ تَثْبُتُ بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ بِعَدَمِ الْوُصُولِ إِلَيْهَا، وَلَوْ اخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهَا فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ اسْتِحْقَاقَ حَقِّ الْفُرْقَةِ، وَالْأَصْلُ السَّلَامَةُ فِي الْجِبِلَّةِ، فَإِنْ حَلَفَ بَطَلَ حَقُّهَا وَإِنْ نَكَلَ يُؤَجَّلُ سَنَةً، وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا نَظَرَ إِلَيْهَا النِّسَاءُ، فَإِنْ قُلْنَ: هِيَ بِكْرٌ أُجِّلَ سَنَةً لِظُهُورِ كَذِبِهِ، وَإِنْ قُلْنَ: هِيَ ثَيِّبٌ يَحْلِفُ الزَّوْجُ.فَإِنْ حَلَفَ لَا حَقَّ لَهَا.وَإِنْ نَكَلَ يُؤَجَّلُ سَنَةً.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ إِذَا ادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا عُنَّةً فَإِنْ أَقَرَّ بِهَا يُؤَجَّلُ سَنَةً وَإِنْ أَنْكَرَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ.وَصُدِّقَ فِي نَفْيِهَا سَوَاءٌ كَانَتِ الزَّوْجَةُ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ النِّسَاءَ يَنْظُرْنَ إِلَى الْبِكْرِ، وَيُدَيَّنَّ فِي الثَّيِّبِ، وَقِيلَ: لَا يُدَيَّنَّ فِيهَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تَثْبُتُ الْعُنَّةُ بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ بِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ كَغَيْرِهَا مِنَ الْحُقُوقِ، أَوْ بِبَيِّنَةٍ تُقَامُ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى إِقْرَارِهِ، وَكَذَا تَثْبُتُ الْعُنَّةُ بِيَمِينِهَا الْمَرْدُودَةِ بَعْدَ إِنْكَارِهِ الْعُنَّةَ وَنُكُولِهِ عَنِ الْيَمِينِ فِي الْأَصَحِّ، وَإِنَّمَا جَازَ لَهَا الْحَلِفُ لِأَنَّهَا تَعْرِفُ ذَلِكَ بِالْقَرَائِنِ وَالْمُمَارَسَةِ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ الْيَمِينَ عَلَيْهَا وَيَقْضِي بِنُكُولِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: تَثْبُتُ الْعُنَّةُ بِالْإِقْرَارِ بِهَا أَوْ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى إِقْرَارِهِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إِقْرَارٌ وَلَا بَيِّنَةٌ عَلَيْهِ وَادَّعَتِ الزَّوْجَةُ عَجْزَ زَوْجِهَا لِعُنَّةٍ فَأَنْكَرَ، وَالْمَرْأَةُ عَذَارٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا يُعْلَمُ إِلاَّ مِنْ جِهَتِهِ، وَالْأَصْلُ السَّلَامَةُ.

وَقَالَ الْقَاضِي: هَلْ يُسْتَحْلَفُ أَوْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.وَإِنْ أَقَرَّ بِالْعَجْزِ أَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ عَلَى إِقْرَارِهِ أَوْ أَنْكَرَ وَطَلَبَتْ يَمِينَهُ فَنَكَلَ ثَبَتَ عَجْزُهُ.

مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ثُبُوتِ الْعُنَّةِ:

6- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا ادَّعَتْ أَنَّ زَوْجَهَا عِنِّينٌ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا وَثَبَتَتْ عُنَّتُهُ أُجِّلَ سَنَةً، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يُؤَجَّلُ سَنَةً إِلاَّ إِذَا طَلَبَتِ الزَّوْجَةُ.فَإِنْ سَكَتَتْ لَمْ تُضْرَبِ الْمُدَّةُ، فَإِنْ كَانَ سُكُوتُهَا لِدَهْشَةٍ أَوْ غَفْلَةٍ أَوْ جَهْلٍ، فَلَا بَأْسَ بِتَنْبِيهِهَا.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِقَضَاءِ عُمَرَ- رضي الله عنه-، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَجْمَع الْمُسْلِمُونَ عَلَى اتِّبَاعِ عُمَرَ- رضي الله عنه- فِي قَاعِدَةِ الْبَابِ وَبِأَنَّ التَّأْجِيلَ لِإِبْلَاءِ الْعُذْرِ، وَتَأْجِيلُ السَّنَةِ عُذْرٌ كَافٍ وَبِأَنَّ الْعَجْزَ قَدْ يَكُونُ لِعُنَّةٍ وَقَدْ يَكُونُ لِمَرَضٍ، فَضُرِبَتِ السَّنَةُ لِيَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عُنَّةٌ لَا مَرَضٌ، فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا عُلِمَ أَنَّهُ لآِفَةٍ أَصْلِيَّةٍ فَقَدْ تَكُونُ عِلَّةُ الْعَجْزِ هِيَ الرُّطُوبَةُ فَيَسْتَطِيعُ فِي فَصْلِ الْحَرِّ، وَالْعَكْسُ، أَيْ إِنْ كَانَ الْمَرَضُ مِنْ بُرُودَةٍ أَزَالَهُ حَرُّ الصَّيْفِ، أَوْ مِنْ رُطُوبَةٍ أَزَالَهُ يُبْسُ الْخَرِيفِ، أَوْ مِنْ حَرَارَةٍ أَزَالَهُ بَرْدُ الشِّتَاءِ، أَوْ مِنْ يُبْسٍ أَزَالَتْهُ رُطُوبَةُ الرَّبِيعِ، عَلَى مَا عُلِمَ عَادَةً أَوْ رُبَّمَا أَثَّرَ الدَّوَاءُ فِي فَصْلٍ دُونَ فَصْلٍ وَيُعَالِجُ نَفْسَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.

وَعِلَّةُ تَبَيُّنِ الْعَجْزِ الْخُلُقِيِّ أَوِ اسْتِمْرَارُ الْعَجْزِ هِيَ عِلَّةٌ ظَنِّيَّةٌ، فَيُعْمَلُ بِهَا حَتَّى فِي حَالَةِ التَّخَلُّفِ أَحْيَانًا، كَحَالَةِ مَنْ أَتَى زَوْجَةً دُونَ أُخْرَى.

الَّذِي يَحْكُمُ بِالتَّأْجِيلِ:

7- يَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِالتَّأْجِيلِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَحْكُمُ بِالتَّأْجِيلِ قَاضِي مِصْرٍ أَوْ مَدِينَةٍ يَجُوزُ قَضَاؤُهُ، فَإِنْ أَجَّلَتْهُ الْمَرْأَةُ، أَوْ أَجَّلَهُ غَيْرُ الْقَاضِي لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ التَّأْجِيلُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ التَّأْجِيلُ مِنَ الْأَمِيرِ الَّذِي يُوَلِّي الْقَاضِيَ وَمِنْ صَاحِبِ الشُّرْطَةِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ قَاضٍ.

حُكْمُ التَّأْجِيلِ لِمَنْ بِهِ عَجْزٌ خِلْقِيٌّ:

8- ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ عَجْزَهُ عَنِ الْوَطْءِ لِعَارِضٍ مِنْ صِغَرٍ أَوْ مَرَضٍ يَرْجُو زَوَالَهُ لَمْ تُضْرَبْ لَهُ الْمُدَّةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَارِضٌ يَزُولُ، وَالْعُنَّةُ خِلْقَةٌ وَجِبِلَّةٌ لَا تَزُولُ، وَإِنْ كَانَ لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ ضُرِبَتْ لَهُ الْمُدَّةُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَنْ خُلِقَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لِجَبٍّ أَوْ شَلَلٍ ثَبَتَ الْخِيَارُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ مَيْئُوسٌ مِنْهُ وَلَا مَعْنَى لِانْتِظَارِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَقِيَ مِنَ الذَّكَرِ مَا يُمْكِنُ الْوَطْءُ بِهِ فَالْأَوْلَى ضَرْبُ الْمُدَّةِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْعِنِّينِ خِلْقَةً.

وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَوِ اُعْتُبِرَ عُلِمَ فَلَا يُؤَجَّلُ سَنَةً؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لَيْسَ إِلاَّ لِيُعْرَفَ أَنَّهُ عِنِّينٌ عَلَى مَا قَالُوا.وَإِلاَّ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ إِنْ أُجِّلَ مَعَ ذَلِكَ، لَكِنَّ التَّأْجِيلَ لَا بُدَّ مِنْهُ لِأَنَّهُ حُكْمُهُ، إِذِ التَّفْرِيقُ سَبَبُ إِبْلَاءِ الْعُذْرِ وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِالسَّنَةِ.

وَقَالَ الشَّبْرَامُلْسِيُّ: إِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ضَرْبِ السَّنَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَاطَ الْحُكْمَ بِهَا.

الْمُرَادُ بِالسَّنَةِ:

9- تَعَارَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَتِ الْأَشْهُرُ فَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا الْهِلَالِيَّةُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّنَةِ السَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ وَإِذَا أُطْلِقَ لَفْظُ السَّنَةِ انْصَرَفَ إِلَى ذَلِكَ مَا لَمْ يُصَرِّحُوا بِخِلَافِهِ وَقَالَ صَاحِبُ الْإِنْصَافِ: الْمُرَادُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا هِلَالِيَّةً.قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: هُوَ هَذَا، وَلَكِنْ تَعْلِيلُهُمْ بِالْفُصُولِ يُوهِمُ خِلَافَ ذَلِكَ.

وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: السَّنَةُ قَدْ فُسِّرَتْ بِالشَّمْسِيَّةِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ، فَرُبَّمَا تَزُولُ الْعِلَّةُ فِي الْأَيَّامِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْقَمَرِيَّةِ وَالشَّمْسِيَّةِ.وَقَدْ رَوَى هَذَا التَّفْسِيرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي النَّوَادِرِ وَتُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ وَتَزِيدُ عَلَى الْقَمَرِيَّةِ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا.

وَنَقَلَ ابْنُ رَجَبٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّنَةِ هُنَا هِيَ الشَّمْسِيَّةُ الرُّومِيَّةُ، وَأَنَّهَا هِيَ الْجَامِعَةُ لِلْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي تَخْتَلِفُ الطِّبَاعُ بِاخْتِلَافِهَا، بِخِلَافِ الْهِلَالِيَّةِ، قَالَ صَاحِبُ الْإِنْصَافِ: الْخَطْبُ فِي ذَلِكَ يَسِيرٌ وَالْمُدَّةُ مُتَقَارِبَةٌ، فَإِنَّ زِيَادَةَ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ عَلَى السَّنَةِ الْهِلَالِيَّةِ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا وَرُبُعَ يَوْمٍ أَوْ خُمُسَ يَوْمٍ.

بَدْءُ أَجَلِ الْعِنِّينِ:

10- يُعْتَبَرُ بَدْءُ السَّنَةِ مِنْ وَقْتِ ضَرْبِ الْقَاضِي الْأَجَلَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَضَرْبُ السَّنَةِ ثَبَتَ بِاجْتِهَادِ عُمَرَ- رضي الله عنه-، وَقَدِ ابْتَدَأَهَا هُوَ مِنْ وَقْتِ ضَرْبِهَا، وَأَجْمَعُوا عَلَى مَا فَعَلَهُ وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا لَمْ يَتَرَافَعَا وَتَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ فَمِنْ يَوْمِ التَّرَاضِي بِهَا فَإِنْ كَانَ بَدْءُ السَّنَةِ بَدْءَ شَهْرٍ اُحْتُسِبَتِ السَّنَةُ بِالْأَشْهُرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَدْءَ شَهْرٍ اُحْتُسِبَ مَا بَعْدَهُ بِالْأَشْهُرِ، وَأَكْمَلَ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى ثَلَاثِينَ يَوْمًا.

نَقْصُ السَّنَةِ:

11- قَدْ تُوجَدُ مَوَانِعُ مِنَ الْجِمَاعِ فِي السَّنَةِ غَيْرَ مَانِعِ الْعُنَّةِ، وَتَسْتَغْرِقُ هَذِهِ الْمَوَانِعُ أَوْقَاتًا فِي السَّنَةِ، فَهَلْ يُضَافُ إِلَى السَّنَةِ أَوْقَاتٌ تُقَابِلُهَا أَمْ لَا؟ فَمِنْ هَذِهِ الْمَوَانِعِ الْحَيْضُ وَالصَّوْمُ فِي رَمَضَانَ.

فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يُعْطَى الزَّوْجُ بَدَلًا عَنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ وَالصَّوْمِ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهم- قَدَّرُوا الْأَجَلَ بِسَنَةٍ، مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ السَّنَةَ لَا تَخْلُو مِنْ هَذِهِ عَادَةً.

أَمَّا الْمَرَضُ الَّذِي يُمْنَعُ الْجِمَاعُ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَهَا فَلَا يُحْتَسَبُ؛ لِأَنَّ السَّنَةَ قَدْ تَخْلُو عَنْهُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ الْبَابَرْتِيُّ: وَعَلَيْهِ فَتْوَى الْمَشَايِخِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: إِذَا كَانَ الْمَرَضُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الشَّهْرِ لَا تُحْسَبُ مُدَّةُ الْمَرَضِ عَلَى الزَّوْجِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَرَضُ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَهَا، وَيُعْطَى بَدَلًا مِنْهَا مِنَ الْعَامِ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الشَّهْرِ يُحْسَبُ عَلَى الزَّوْجِ قِيَاسًا عَلَى أَيَّامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ فِي النَّهَارِ يُمْتَنَعُ عَلَيْهِ غَشَيَانُهَا، وَمَعَ ذَلِكَ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ رَمَضَانُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ نِصْفَ الشَّهْرِ وَمَا دُونَهُ عَفْوٌ لَا يُعْطَى بَدَلًا مِنْهُ.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ الْمَرَضُ الْأَقَلُّ مِنَ السَّنَةِ وَإِنْ كَانَ يَوْمًا.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَقَلُّ مِنْ شَهْرٍ لَا يُعْطَى بَدَلُهُ، أَمَّا الشَّهْرُ فَيُعْطَى بَدَلُهُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَحْرَمَتِ الزَّوْجَةُ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ، يُعْطَى الزَّوْجُ مُدَّةً بَدَلًا مِنْ مُدَّةِ حَجِّهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ تَمَامِ حَجِّهَا.وَلِذَلِكَ فَإِنَّهَا إِذَا كَانَتْ مُحْرِمَةً عِنْدَ رَفْعِ أَمْرِهَا لِلْحَاكِمِ، فَإِنَّهُ لَا يَضْرِبُ لِلزَّوْجِ أَجَلًا حَتَّى تَفْرُغَ زَوْجَتُهُ مِنَ الْحَجِّ وَلَا يَكُونُ هُنَاكَ مَانِعٌ مِنْ جِمَاعِهِ لَهَا وَإِنْ حَجَّ الزَّوْجُ اُحْتُسِبَتْ عَلَيْهِ مُدَّةُ حَجِّهِ لِأَنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِهِ، وَيُمْكِنُهُ أَنْ يُخْرِجَهَا مَعَهُ أَوْ يُؤَخِّرَ الْحَجَّ

وَإِذَا رَفَعَتِ الزَّوْجَةُ خُصُومَتَهَا وَالزَّوْجُ مُظَاهِرٌ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ يَقْدِرُ عَلَى الْعِتْقِ ضُرِبَ لَهُ الْأَجَلُ لِيَبْدَأَ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعِتْقِ أُمْهِلَ لَهُ بَدْءُ الْأَجَلِ شَهْرَيْنِ، لِأَنَّ الزَّوْجَ مَمْنُوعٌ مِنْ جِمَاعِ زَوْجَتِهِ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا حَتَّى يُكَفِّرَ، وَالْعَاجِزُ عَنِ الْعِتْقِ كَفَّارَتُهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ، أَمَّا إِذَا ظَاهَرَ الزَّوْجُ مِنْ زَوْجَتِهِ أَثْنَاءَ الْأَجَلِ، وَكَفَّرَ بِصَوْمِ شَهْرَيْنِ لَا يُجَامِعُ فِيهِمَا بِمَنْعِ الشَّرْعِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْطَى بَدَلًا مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ كَانَ يَسْتَطِيعُ أَلاَّ يُظَاهِرَ مِنْهَا.

وَمِثْلُ الْحَجِّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا الْغِيَابُ وَالْهُرُوبُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا مَرِضَ الْمُعْتَرِضُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِالْأَجَلِ جَمِيعَ السَّنَةِ أَوْ بَعْضَهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ يَقْدِرُ فِي مَرَضِهِ هَذَا عَلَى عِلَاجٍ أَوْ لَا، فَلَا يُزَادُ عَلَى السَّنَةِ، بَلْ يُطَلِّقُ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ اعْتَزَلَتْ زَوْجَةُ الْعِنِّينِ زَوْجَهَا أَوْ مَرِضَتْ أَوْ حُبِسَتْ فِي الْمُدَّةِ جَمِيعِهَا لَمْ تُحْسَبِ الْمُدَّةُ وَتُسْتَأْنَفُ سَنَةٌ أُخْرَى، وَلَوْ سَافَرَتْ حُسِبَتْ عَلَى الْأَصَحِّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُدَّةَ تُحْسَبُ عَلَيْهِ، وَاعْتَمَدَ الْأَذْرَعِيُّ فِي حَبْسِهِ وَمَرَضِهِ وَسَفَرِهِ كُرْهًا عَدَمَ حُسْبَانِهِ لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِ، وَإِذَا عَرَضَ مَا يَمْنَعُ الِاحْتِسَابَ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ وَزَالَ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ السَّنَةَ أَوْ يَنْتَظِرَ مِثْلَ ذَلِكَ الْفَصْلِ فِي السَّنَةِ الْأُخْرَى.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ أُجِّلَ سَنَةً لِعُنَّتِهِ فَلَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ مِنْهَا مَا اعْتَزَلَتْهُ الْمَرْأَةُ لَهُ بِالنُّشُوزِ أَوْ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْهَا، وَلَوْ عَزَلَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ عَنْهَا أَوْ سَافَرَ لِحَاجَةٍ أَوْ غَيْرِهَا حُسِبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنَ الْمُدَّةِ.

الِاخْتِلَافُ فِي الْوَطْءِ أَثْنَاءَ السَّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا:

12- إِذَا أُجِّلَ الزَّوْجُ الَّذِي ثَبَتَتْ عُنَّتُهُ ثُمَّ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الْوَطْءِ:

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أُجِّلَ وَمَضَتِ السَّنَةُ فَاخْتَلَفَا إِنْ كَانَتْ بِكْرًا نَظَرَ النِّسَاءُ إِلَيْهَا فَإِنْ قُلْنَ: بِكْرٌ خُيِّرَتْ لِلْحَالِ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالْفُرْقَةِ.وَإِنْ قُلْنَ: ثَيِّبٌ حَلَفَ، فَإِنْ نَكَلَ خُيِّرَتْ وَإِنْ حَلَفَ اسْتَقَرَّ النِّكَاحُ.وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فِي الْأَصْلِ فَاخْتُلِفَ قَبْلَ التَّأْجِيلِ أَوْ بَعْدَهُ فَالْقَوْلُ لَهُ.فَإِنْ حَلَفَ اسْتَقَرَّ النِّكَاحُ وَلَوْ نَكَلَ أُجِّلَ وَخُيِّرَتْ بَعْدَهُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ أُجِّلَ الْمُعْتَرِضُ وَادَّعَى الْوَطْءَ وَأَنْكَرَتْهُ الزَّوْجَةُ، فَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي الْأَجَلِ، أَوْ بَعْدَ الْأَجَلِ: أَنَّهُ وَطِئَ فِي الْأَجَلِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ.فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَتْ وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا، فَإِنْ لَمْ تَحْلِفْ بَقِيَتْ زَوْجَةً.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا تَمَّتِ السَّنَةُ الْمَضْرُوبَةُ لِلزَّوْجِ فَإِنْ قَالَ: وَطِئْتُ حَلَفَ بَعْدَ طَلَبِهَا أَنَّهُ وَطِئَ كَمَا ذُكِرَ.وَإِنَّمَا صُدِّقَ بِيَمِينِهِ فِي ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوَطْءِ لِعُسْرِ بَيِّنَتِهِ عَلَى الْجِمَاعِ، وَالْأَصْلُ السَّلَامَةُ وَدَوَامُ النِّكَاحِ، هَذَا فِي الثَّيِّبِ أَمَّا الْبِكْرُ إِذَا شَهِدَ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ بِبَكَارَتِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا لِلظَّاهِرِ.فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَتْ أَنَّهُ لَمْ يَطَأْهَا، فَإِنْ حَلَفَتْ عَلَى ذَلِكَ أَوْ أَقَرَّ هُوَ بِذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ حَقُّ الْفَسْخِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا أُجِّلَ الْعِنِّينُ سَنَةً وَادَّعَى الْوَطْءَ فِي الْمُدَّةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا إِنْ كَانَتْ بِكْرًا وَشَهِدَتْ ثِقَةٌ بِبَقَاءِ بَكَارَتِهَا عَمَلًا بِالظَّاهِرِ.وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا وَادَّعَى وَطْأَهَا بَعْدَ ثُبُوتِ عُنَّتِهِ وَأَنْكَرَتْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوَطْءِ.

التَّفْرِيقُ بِالْعُنَّةِ:

13- قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ لَمْ يُجَامِعِ الزَّوْجُ فِي الْمُدَّةِ، وَاخْتَارَتِ الزَّوْجَةُ عَدَمَ اسْتِمْرَارِ الزَّوَاجِ، أَمَرَ الْقَاضِي الزَّوْجَ أَنْ يُطَلِّقَهَا.فَإِنْ أَبَى الزَّوْجُ، فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَقُولَ: فَرَّقْتُ بَيْنَكُمَا، وَلَا يَكْفِي فِي الْفُرْقَةِ اخْتِيَارُ الزَّوْجَةِ عَدَمَ الِاسْتِمْرَارِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ لَازِمٌ، وَمِلْكُ الزَّوْجِ فِيهِ مَعْصُومٌ، فَلَا يَزُولُ إِلاَّ بِإِزَالَتِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، لَكِنْ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ أَوِ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ، وَقَدْ عَجَزَ عَنِ الْأَوَّلِ بِالْعُنَّةِ.وَلَا يُمْكِنُ الْقَاضِي النِّيَابَةَ فِيهِ.فَوَجَبَ عَلَيْهِ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهُ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ، لِأَنَّهُ نُصِّبَ لِدَفْعِ الظُّلْمِ، فَلَا تَبِينُ بِدُونِ تَفْرِيقِ الْقَاضِي، وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ وَلِأَنَّ الْفَسْخَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ إِلاَّ بِحُكْمِ حَاكِمٍ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا إِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا اعْتِبَارًا بِالْمُخَيَّرَةِ بِتَخْيِيرِ الزَّوْجِ أَوْ بِتَخْيِيرِ الشَّرْعِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا ثَبَتَ اعْتِرَاضُ الزَّوْجِ بَعْدَ الْأَجَلِ فَلِلزَّوْجَةِ طَلَبُ الطَّلَاقِ، فَيَأْمُرُهُ الْحَاكِمُ بِالطَّلَاقِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا فَوَاضِحٌ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فَقِيلَ: يُطَلِّقُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ، وَقِيلَ: يَأْمُرُ الْحَاكِمُ الزَّوْجَةَ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ، فَتَقُولُ لِلزَّوْجِ: طَلَّقْتُ نَفْسِي مِنْكَ، فَيَكُونُ بَائِنًا، ثُمَّ يَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ لِيَرْفَعَ خِلَافَ مَنْ لَا يَرَى أَمْرَ الْقَاضِي لَهَا حُكْمًا، وَلِلزَّوْجَةِ الرِّضَا بِالْبَقَاءِ مَعَ زَوْجِهَا عَلَى حَالَتِهِ هَذِهِ، وَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَنْ ذَلِكَ الرِّضَا بَعْدَ ذَلِكَ وَتَطْلُبَ الطَّلَاقَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا تَمَّتِ السَّنَةُ الْمَضْرُوبَةُ لِلْعِنِّينِ وَرُفِعَ الْأَمْرُ إِلَى الْقَاضِي فَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ: وَطِئْتُ حَلَفَ، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَتْ، فَإِنْ حَلَفَتْ أَوْ أَقَرَّ اسْتَقَلَّتْ بِالْفَسْخِ كَمَا يَسْتَقِلُّ بِالْفَسْخِ مَنْ وَجَدَ بِالْبَيْعِ عَيْبًا، وَإِنَّمَا تُفْسَخُ بَعْدَ قَوْلِ الْقَاضِي لَهَا: ثَبَتَتِ الْعُنَّةُ أَوْ ثَبَتَ حَقُّ الْفَسْخِ فَاخْتَارِي، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقِيلَ: لَا تَسْتَقِلُّ بِالْفَسْخِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ الْقَاضِي لَهَا بِالْفَسْخِ أَوْ إِلَى فَسْخِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، فَيَتَعَاطَاهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِإِذْنٍ فِيهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا انْقَضَى الْأَجَلُ الْمُحَدَّدُ لِلْعِنِّينِ وَلَمْ يَطَأْ فِيهِ فَلِلزَّوْجَةِ الْخِيَارُ، فَإِنِ اخْتَارَتِ الْفَسْخَ لَمْ يَجُزْ إِلاَّ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَإِمَّا أَنْ يَفْسَخَ وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهُ إِلَيْهَا فَتَفْسَخَ هِيَ، وَلَا يَفْسَخُ حَتَّى تَخْتَارَ الْفَسْخَ وَتَطْلُبَهُ؛ لِأَنَّهُ لَحِقَهَا، فَلَا تُجْبَرُ عَلَى اسْتِيفَائِهِ.

الْفُرْقَةُ بِالْعُنَّةِ فَسْخٌ أَمْ طَلَاقٌ:

14- الْفُرْقَةُ بِالْعُنَّةِ طَلَاقٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْحَقَّ الَّذِي عَلَى الزَّوْجِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ: إِمَّا إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا- وَهُوَ الْإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ- تَعَيَّنَ الْآخَرُ وَهُوَ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ، فَإِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنْ هَذَا التَّسْرِيحِ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِيهِ، وَالتَّسْرِيحُ طَلَاقٌ، وَلِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- جَعَلَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً، وَالطَّلَاقُ بَائِنٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، إِذِ الْمَقْصُودُ إِزَالَةُ ظُلْمِ الزَّوْجَةِ، وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا لَرَاجَعَهَا قَهْرًا عَنْهَا وَاسْتَمَرَّ الظُّلْمُ؛ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ رَجْعِيًّا إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي عِدَّةٍ وَاجِبَةٍ بَعْدَ حَقِيقَةِ الدُّخُولِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا وَلِأَنَّ النِّكَاحَ الصَّحِيحَ التَّامَّ النَّافِذَ اللاَّزِمَ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ تَطْلِيقٌ؛ لِأَنَّهَا لَوْ شَاءَتْ أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ أَقَامَتْ وَكَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا، فَلَمَّا اخْتَارَتْ فِرَاقَهُ كَانَتْ تَطْلِيقَةً.وَهُمَا كَانَا يَتَوَارَثَانِ قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ فِرَاقَهُ فَيَأْمُرُ الْحَاكِمُ الزَّوْجَ أَنْ يُطَلِّقَ، فَإِنْ أَبَى الزَّوْجُ طَلَّقَ الْحَاكِمُ طَلْقَةً بَائِنَةً، أَوْ يَأْمُرُ الزَّوْجَةَ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ فَتُوقِعُهُ ثُمَّ يَحْكُمُ بِذَلِكَ، وَفَائِدَةُ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِمَا أَوْقَعَتْهُ الْمَرْأَةُ صَيْرُورَتُهُ بَائِنًا، وَقَالَ الْعَدَوِيُّ: فِيهِ نَظَرٌ بَلْ هُوَ بَائِنٌ لِكَوْنِهِ قَبْلَ الْبِنَاءِ، بَلِ الْحُكْمُ لِرَفْعِ خِلَافِ مَنْ لَا يَرَى أَمْرَ الْقَاضِي لَهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ بِالْعُنَّةِ تُعْتَبَرُ فَسْخًا لَا طَلَاقًا.

الْإِنْجَابُ قَبْلَ سَنَتَيْنِ:

15- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَ الزَّوْجِ الْعِنِّينِ وَزَوْجَتِهِ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّهُ جَامَعَهَا، ثُمَّ أَنْجَبَتِ الزَّوْجَةُ قَبْلَ أَنْ يَكْتَمِلَ مُرُورُ سَنَتَيْنِ عَلَى التَّ فْرِقَةِ، فَإِنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ، وَيَعْنِي هَذَا أَنَّهُ جَامَعَهَا وَأَنَّ التَّفْرِقَةَ الَّتِي حَكَمَ بِهَا بَاطِلَةٌ.

الشَّهَادَةُ عَلَى إِقْرَارِ الزَّوْجَةِ قَبْلَ التَّفْرِقَةِ:

16- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بَعْدَ التَّفْرِيقِ عَلَى إِقْرَارِ الزَّوْجَةِ قَبْلَ التَّفْرِيقِ بِأَنَّهُ جَامَعَهَا، بَطَلَ تَفْرِيقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، لَكِنْ إِذَا كَانَ إِقْرَارُهَا بَعْدَ التَّفْرِيقِ أَنَّهُ كَانَ جَامَعَهَا قَبْلَ التَّفْرِيقِ فَإِنَّ إِقْرَارَهَا لَا يُقْبَلُ؛ لِكَوْنِهَا مُتَّهَمَةً فِي ذَلِكَ.

اخْتِيَارُ الزَّوْجَةِ الِاسْتِمْرَارَ فِي النِّكَاحِ:

17- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا اخْتَارَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا بِحَالِهِ صَرَاحَةً لَمْ يَكُنْ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ خِيَارٌ، وَمِثْلُهُ الِاخْتِيَارُ بِالدَّلَالَةِ، وَهَذَا فِيمَا إِذَا قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا أَوْ أَقَامَهَا أَعْوَانُ الْقَاضِي أَوْ قَامَ الْقَاضِي قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا مُؤَقَّتٌ بِالْمَجْلِسِ، كَتَخْيِيرِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ رَضِيَتِ الزَّوْجَةُ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ الَّتِي ضُرِبَتْ لَهَا بِالْإِقَامَةِ مَعَ الزَّوْجِ مُدَّةً لِتَتَرَوَّى وَتَنْظُرَ فِي أَمْرِهَا أَوْ رَضِيَتْ رِضًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِمُدَّةٍ ثُمَّ رَجَعَتْ عَنْ ذَلِكَ الرِّضَا فَلَهَا ذَلِكَ وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى ضَرْبِ أَجَلٍ ثَانٍ، وَلَهَا الْفِرَاقُ بَعْدَ الرِّضَا بِإِقَامَتِهَا مَعَ الزَّوْجِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَوْ رَضِيَتْ بِالْمُقَامِ مَعَهُ أَبَدًا ثُمَّ أَرَادَتِ الْفِرَاقَ فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا اخْتَارَتِ الزَّوْجَةُ الْمُقَامَ مَعَ الزَّوْجِ بَعْدَ انْتِهَاءِ سَنَةِ التَّأْجِيلِ وَتَخْيِيرِ الْحَاكِمِ لَهَا تَسْتَمِرُّ زَوْجَةً لَهُ، وَيَسْقُطُ حَقُّهَا فِي الْخِيَارِ؛ لِأَنَّهَا تَرَكَتْ حَقَّهَا فِي فُرْقَتِهِ، أَمَّا إِذَا رَضِيَتْ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ أَوْ قَبْلَ ضَرْبِهَا، فَإِنَّ حَقَّهَا لَا يَبْطُلُ وَلَهَا الْفَسْخُ بَعْدَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ حَقِّهَا قَبْلَ ثُبُوتِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ، كَالْعَفْوِ عَنِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ قَالَتْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ: رَضِيتُ بِهِ عِنِّينًا لَمْ يَكُنْ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْفَسْخِ لِإِسْقَاطِهَا حَقَّهَا مِنْهُ.

وَقْتُ الِاخْتِيَارِ بَعْدَ الْمُدَّةِ:

18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخِيَارَ عَلَى التَّرَاخِي، أَيْ إِنَّ الرَّفْعَ إِلَى الْقَاضِي لَا يَجِبُ وُجُوبًا فَوْرِيًّا، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمَرْأَةِ بِتَرْكِ الْمُرَافَعَةِ زَمَانًا فَسُكُوتُهَا بَعْدَ الْعَقْدِ لَيْسَ دَلِيلًا عَلَى رِضَاهَا بِعُنَّتِهِ؛ لِأَنَّهَا قَبْلَ الرَّفْعِ إِلَى الْحَاكِمِ لَا تَمْلِكُ الْفَسْخَ وَلَا تَمْلِكُ الِامْتِنَاعَ مِنَ اسْتِمْتَاعِ الزَّوْجِ بِهَا وَحَقُّهَا عَلَى التَّرَاخِي حَتَّى إِنْ عَلِمَتْ أَنَّهُ عِنِّينٌ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَسَكَتَتْ عَنِ الْمُطَالَبَةِ ثُمَّ طَالَبَتْ بَعْدَهُ فَلَهَا ذَلِكَ كَمَا لَا يَسْقُطُ حَقُّهَا بِتَأْخِيرِ الْخُصُومَةِ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَجَلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ اخْتِبَارٌ مِنْهَا لَهُ لَا رِضًا مِنْهَا بِهِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْخُصُومَةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ خُصُوصًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ حَتَّى وَإِنْ طَاوَعَتْهُ فِي الْمُضَاجَعَةِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ وَالْخِيَارُ لَا يَثْبُتُ لِلزَّوْجَةِ إِلاَّ بَعْدَ رَفْعِ الْأَمْرِ لِلْحَاكِمِ وَثُبُوتِ عَجْزِ الزَّوْجِ، فَلَا يَضُرُّ سُكُوتُهَا قَبْلَهُ وَإِنْ رَضِيَتْ بِاسْتِمْرَارِ الزَّوَاجِ مُدَّةً بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ الَّتِي ضُرِبَتْ لَهَا، ثُمَّ رَجَعَتْ عَنْ ذَلِكَ الرِّضَا فَلَهَا ذَلِكَ، وَلَا تَحْتَاجُ لِضَرْبِ أَجَلٍ بَعْدُ وَيُوجَدُ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِالْفَوْرِ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْخِيَارَ فِي عَيْبِ التَّعَنُّنِ كَغَيْرِهِ مِنْ عُيُوبِ النِّكَاحِ عَلَى الْفَوْرِ، كَخِيَارِ الْعَيْبِ فِي الْبَيْعِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ، قَالَ الْقَفَّالُ: إِنَّ الْخِيَارَ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْفَوْرِ وَكَانَ مُمْتَدًّا لَمْ يَدْرِ الزَّوْجَانِ هَلْ تَسْتَمِرُّ الزَّوْجِيَّةُ؟ فَلَا تَدُومُ صُحْبَةٌ وَلَا تَقُومُ مُعَاشَرَةٌ، وَتَصِيرُ الْمَرْأَةُ فِي مَعْنَى غَيْرِ الْمَنْكُوحَةِ وَمَعْنَى كَوْنِ الْخِيَارِ عَلَى الْفَوْرِ الْمُبَادِرَةُ بِالرَّفْعِ إِلَى الْحَاكِمِ بِالْفَسْخِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْعُنَّةِ بَعْدَ الْمُدَّةِ.

أَثَرُ الْعِلْمِ بِالْعُنَّةِ قَبْلَ الْعَقْدِ:

19- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا إِذَا تَزَوَّجَتْهُ وَهِيَ تَعْلَمُ أَنَّهُ عِنِّينٌ لَا يَصِلُ إِلَى النِّسَاءِ لَا يَكُونُ لَهَا حَقُّ الْخُصُومَةِ وَلَا حَقُّ الْخِيَارِ، كَمَا لَوْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ وَقْتَ الْبَيْعِ، فَهِيَ صَارَتْ رَاضِيَةً بِهِ حِينَ أَقْدَمَتْ عَلَى الْعَقْدِ مَعَ عِلْمِهَا بِحَالِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ عَلِمَتِ الزَّوْجَةُ قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ الْعِنِّينَ، ثُمَّ رَضِيَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ حَقُّهَا فِي الْخِيَارِ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ حَقِّهَا قَبْلَ ثُبُوتِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


88-موسوعة الفقه الكويتية (عوض)

عِوَض

التَّعْرِيفُ:

1- الْعِوَضُ مَصْدَرُ عَاضَهُ عِوَضًا وَعِيَاضًا وَمَعْوَضَةً وَهُوَ الْبَدَلُ، تَقُولُ: عِضْتُ فُلَانًا وَأَعَضْتُهُ وَعَوَّضْتُهُ: إِذَا أَعْطَيْتَهُ بَدَلَ مَا ذَهَبَ مِنْهُ، وَتَعَوَّضَ مِنْهُ وَاعْتَاضَ: أَخَذَ الْعِوَضَ وَاعْتَاضَهُ مِنْهُ وَاسْتَعَاضَهُ وَتَعَوَّضَهُ: سَأَلَهُ الْعِوَضَ، وَالْجَمْعُ أَعْوَاضٌ.

وَالْعِوَضُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ مُطْلَقُ الْبَدَلِ، وَهُوَ مَا يُبْذَلُ فِي مُقَابَلَةِ غَيْرِهِ.وَمِنْ إِطْلَاقَاتِ الْعِوَضِ ثَوَابُ الْآخِرَةِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الثَّمَنُ:

2- الثَّمَنُ: مَا تَسْتَحِقُّ بِهِ الشَّيْءَ، وَثَمَنُ كُلِّ شَيْءٍ قِيمَتُهُ، وَالثَّمَنُ: الْعِوَضُ، وَالْجَمْعُ أَثْمَانٌ وَأَثْمُنٌ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ: الثَّمَنُ اسْمٌ لِمَا هُوَ عِوَضٌ مِنَ الْمَبِيعِ، فَالثَّمَنُ أَخَصُّ مِنَ الْعِوَضِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ

3- الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْعِوَضِ يَدُورُ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ، فَهُوَ وَاجِبٌ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ وَمُحَرَّمٌ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ.

فَيَجِبُ أَدَاءُ الْعِوَضِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ إِلاَّ أَنْ يَذْكُرَ الْمُتَبَايِعَانِ لَهُ أَجَلًا فَيَكُونُ إِلَى أَجَلِهِ. (ر: بَيْع ف 61)

وَهَذَا إِذَا كَانَ الْعِوَضُ مِنَ النَّقْدَيْنِ، فَإِنْ كَانَ عَيْنًا، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأَعْيَانِ إِلَى أَجَلٍ، وَمِنْ شَرْطِهَا تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُبْتَاعِ بِإِثْرِ عَقْدِ الصَّفْقَةِ.

وَيَجِبُ عَلَى الْمُؤَجَّرِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَتَمْكِينُهُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا.كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ دَفْعُ الْأُجْرَةِ لِلْمُؤَجِّرِ وَتَسْلِيمُهَا عِنْدَ تَسَلُّمِهِ لِلْعَيْنِ. (ر: إِجَارَة 45- 48)

وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَدَاءُ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى لِزَوْجَتِهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}

وَيَجِبُ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا الضَّمَانُ بِرَدِّ مِثْلِهِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَقِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا. (ر: ضَمَان ف 6)

وَيَجِبُ عَلَى مَنْ جَنَى عَلَى شَخْصٍ الدِّيَةُ إِذَا تَحَقَّقَ شُرُوطُ وُجُوبِهَا. (ر: دِيَات ف 12).

وَقَدْ يَكُونُ الْعِوَضُ مُحَرَّمًا وَذَلِكَ عِنْدَ فَقْدِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهِ، كَمَا فِي بَيْعِ الرِّبَوِيَّاتِ مِنَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ إِذَا حَصَلَ فِيهَا تَفَاضُلٌ عِنْدَ بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ نَقْدًا.أَوْ بَيْعِ صَاعِ قَمْحٍ بِصَاعَيْنِ مِنَ الْقَمْحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. (ر: رَبَاب ف 14).

وَقَدِ اعْتَبَرَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْأَعْوَاضَ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ أَرْكَانِ الْعَقْدِ. (ر: إِجَارَة ف 10، وَبَيْع ف 18).

أَنْوَاعُ الْعِوَضِ:

يَنْقَسِمُ الْعِوَضُ إِلَى عِدَّةِ أَنْوَاعٍ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ:

4- فَيَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إِلَى مَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا وَمَا لَا يَصِحُّ، فَمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا هُوَ: مَا كَانَ مُسْتَوْفِيًا لِشُرُوطِهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَا لَا يَصِحُّ هُوَ: مَا اخْتَلَّتْ فِيهِ شُرُوطُهُ الشَّرْعِيَّةُ أَوْ بَعْضُهَا.

فَمِنَ الْأَعْوَاضِ الَّتِي لَا تَصِحُّ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ الدَّمُ وَالْمَيْتَةُ، وَالْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَالْخَمْرُ وَالْمُتَنَجِّسُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: «نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ»، وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ».قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَقِيسَ بِهَا مَا فِي مَعْنَاهَا.

وَمِمَّا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ الْأَشْجَارُ لِتَجْفِيفِ الثِّيَابِ عَلَيْهَا وَالْمُصْحَفُ لِلنَّظَرِ فِيهِ وَالْقِرَاءَةِ مِنْهُ كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ، وَكَذَا الشَّجَرُ لِأَخْذِ ثَمَرَتِهِ وَالشَّاةُ لِأَخْذِ لَبَنِهَا كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ.

وَمِمَّا لَا يَصِحُّ عِوَضًا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ جَعْلُ الْبُضْعِ مَهْرًا، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِنِكَاحِ الشِّغَارِ، وَهُوَ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ وَلِيَّتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ وَلِيَّتَهُ عَلَى أَنَّ مَهْرَ كُلٍّ مِنْهُمَا بُضْعُ الْأُخْرَى. (ر: شِغَار ف 2 وَمَا بَعْدَهَا)

5- وَيَنْقَسِمُ الْعِوَضُ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ وَعَدَمِهَا إِلَى عِوَضٍ مَالِيٍّ وَعِوَضٍ غَيْرِ مَالِيٍّ.

وَقَدْ مَثَّلَ الْفُقَهَاءُ لِلْعِوَضِ غَيْرِ الْمَالِيِّ بِعِدَّةِ أَمْثِلَةٍ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ مُعَلِّقًا عَلَى مَسْأَلَةِ اسْتِبْدَالِ مَالِ التِّجَارَةِ بِغَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ فِي الزَّكَاةِ: شَمَلَ مَا لَوِ اسْتَبْدَلَهُ بِعِوَضٍ لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا بِأَنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهِ امْرَأَةً أَوْ صَالَحَ بِهِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ أَوِ اخْتَلَعَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ.

وَأَمَّا الْعِوَضُ الْمَالِيُّ فَهُوَ: الْعِوَضُ الْقَائِمُ بِالْمَالِ، وَالْمَالُ كَمَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ الطَّبْعُ وَيُمْكِنُ ادِّخَارُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ.

6- وَيَنْقَسِمُ الْعِوَضُ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ إِلَى عَيْنٍ وَدَيْنٍ وَمَنْفَعَةٍ وَحَقٍّ وَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.

شُرُوطُ الْعِوَضِ:

7- وَضَعَ الشَّارِعُ لِلْعِوَضِ شُرُوطًا مُعَيَّنَةً حَتَّى يَصِحَّ كَوْنُهُ عِوَضًا وَيَجْرِيَ عَلَيْهِ التَّعَاقُدُ وَالتَّبَادُلُ.

وَهَذِهِ الشُّرُوطُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ التَّصَرُّفَاتِ.

فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ هُنَاكَ شُرُوطٌ خَاصَّةٌ بِالْمَبِيعِ وَشُرُوطٌ خَاصَّةٌ بِالثَّمَنِ يَجِبُ مُرَاعَاتُهَا حَتَّى يَصِحَّ عَقْدُ الْبَيْعِ. (ر: بَيْع ف 28 وَمَا بَعْدَهَا- ف 50)

وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَعْوَاضُ تَجْرِي فِيهَا عِلَّةُ الرِّبَا فَهُنَاكَ شُرُوطٌ أُخْرَى يَجِبُ مُرَاعَاتُهَا لِيَصِحَّ الْعَقْدُ. (ر: رِبًا ف 26)

وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى شُرُوطٍ مُعَيَّنَةٍ لِلْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا وَالْأُجْرَةِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِيَصِحَّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا. (ر: إِجَارَة ف 27 وَمَا بَعْدَهَا)

وَلَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا لِلْمَرْأَةِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، فَهُنَاكَ شُرُوطٌ فِي الصَّدَاقِ لِيَصِحَّ كَوْنُهُ صَدَاقًا، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمَا صَحَّ مَبِيعًا صَحَّ صَدَاقًا، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: أَقَلُّهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ.

وَالدِّيَاتُ مُحَدَّدَةٌ وَمُقَدَّرَةٌ شَرْعًا مِنْ نَاحِيَةِ الْعَدَدِ وَالْمَالِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ.

(ر: دِيَات ف 29)

أَسْبَابُ ثُبُوتِ الْعِوَضِ:

أ- عُقُودُ الْمُعَاوَضَاتِ:

8- إِذَا تَمَّتْ عُقُودُ الْمُعَاوَضَاتِ مُسْتَوْفِيَةً لِشُرُوطِهَا الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ الْبَدَلَانِ اللَّذَانِ تَمَّ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِمَا.

فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلًا إِذَا انْعَقَدَ صَحِيحًا مُسْتَوْفِيًا لِشُرُوطِهِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ الْمَبِيعُ لِلْمُشْتَرِي وَالثَّمَنُ لِلْبَائِعِ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلْبَيْعِ هُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ وَلِلْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ لِلْحَالِ.

وَيَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: وَحُكْمُهُ- أَيِ الْبَيْعِ- ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَكَذَا إِذَا وَقَعَتِ الْإِجَارَةُ صَحِيحَةً تَرَتَّبَ عَلَيْهَا حُكْمُهَا وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَفِي الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ لِلْمُؤَجِّرِ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ مُعَلِّلًا ذَلِكَ: لِأَنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ إِذْ هِيَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ.وَالْبَيْعُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ.

وَيَقُولُ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: كَمَا يَمْلِكُ الْمُؤَجِّرُ الْأُجْرَةَ بِالْعَقْدِ يَمْلِكُ الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنْفَعَةَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا، وَتَحْدُثُ فِي مِلْكِهِ بِدَلِيلِ جَوَازِ تَصَرُّفِهِ فِيهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

وَكَذَلِكَ فِي عَقْدِ السَّلَمِ إِذَا قَبَضَ الْمُسَلَّمُ إِلَيْهِ رَأْسَ الْمَالِ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِكُلِّ التَّصَرُّفَاتِ السَّائِغَةِ شَرْعًا لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَتَحْتَ يَدِهِ.وَيَمْلِكُ رَبُّ السَّلَمِ الْمُسْلَمَ فِيهِ أَيْضًا بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ.وَفِي جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (سَلَم ف 29 وَمَا بَعْدَهَا).

ب- عَقْدُ النِّكَاحِ:

9- عَقْدُ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْمَهْرِ لِلزَّوْجَةِ، وَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا لِلزَّوْجِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا عِوَضٌ عَنِ الْآخَرِ.

يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: الْمَهْرُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ يَجِبُ بِالْعَقْدِ لِأَنَّهُ إِحْدَاثُ الْمِلْكِ، وَالْمَهْرُ يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ إِحْدَاثِ الْمِلْكِ؛ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَهُوَ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَهْرِ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ الْعِوَضِ كَالْبَيْعِ.وَيَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ: لَا يَحِلُّ اسْتِبَاحَةُ الْفَرْجِ إِلاَّ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَلَا يَكُونُ النِّكَاحُ إِلاَّ بِصَدَاقٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ مَنْفَعَةُ الِاسْتِمْتَاعِ لَا مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ، وَالصَّدَاقُ هُوَ الْعِوَضُ فِي النِّكَاحِ.

ج- الْجِنَايَاتُ.

10- الْجِنَايَةُ هِيَ كُلُّ فِعْلٍ مَحْظُورٍ يَتَضَمَّنُ ضَرَرًا عَلَى النَّفْسِ أَوْ غَيْرِهَا.

وَالْجِنَايَةُ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْعِوَضِ عَلَى الْجَانِي أَوْ عَاقِلَتِهِ، فَفِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ تَجِبُ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً عَلَى الْقَاتِلِ إِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِهِ كَالْعَفْوِ، وَفِي الْقَتْلِ شِبْهِ الْعَمْدِ تَجِبُ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي.وَفِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي مُؤَجَّلَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَمِثْلُهُ الْقَتْلُ بِالتَّسَبُّبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

(ر: دِيَات: ف 8، 12)

كَذَلِكَ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الِاعْتِدَاءِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، وَالِاعْتِدَاءُ قَدْ يَكُونُ بِإِبَانَةِ الْأَطْرَافِ أَوْ إِتْلَافِ الْمَعَانِي أَوِ الشِّجَاجِ وَالْجُرُوحِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَات: ف 34 وَمَا بَعْدَهَا)

وَالدِّيَةُ مَا هِيَ إِلاَّ عِوَضٌ لِمَا تَسَبَّبَ بِهِ الْجَانِي.

د- الْإِتْلَافَاتُ:

11- مِنْ أَسْبَابِ ثُبُوتِ الْعِوَضِ الْإِتْلَافَاتُ.حَيْثُ يَجِبُ عَلَى الْمُتْلِفِ عِوَضُ مَا أَتْلَفَهُ وَهُوَ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ الْفُقَهَاءُ بِالضَّمَانِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِكَوْنِ الْإِتْلَافِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ.

فَفِي الْفُرُوقِ لِلْقَرَافِيِّ: أَسْبَابُ الضَّمَانِ ثَلَاثَةٌ:

أَحَدُهَا: التَّفْوِيتُ مُبَاشَرَةً كَإِحْرَاقِ الثَّوْبِ وَقَتْلِ الْحَيَوَانِ وَأَكْلِ الطَّعَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَثَانِيهَا: التَّسَبُّبُ لِلْإِتْلَافِ كَحَفْرِ بِئْرٍ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ وَوَضْعِ السُّمُومِ فِي الْأَطْعِمَةِ وَوُقُودِ النَّارِ بِقُرْبِ الزَّرْعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا شَأْنُهُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يُفْضِيَ غَالِبًا لِلْإِتْلَافِ.

وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: أَسْبَابُ الضَّمَانِ أَرْبَعَةٌ...الثَّالِثُ: الْإِتْلَافُ نَفْسًا أَوْ مَالًا.

وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ: أَسْبَابُ الضَّمَانِ ثَلَاثَةٌ: عَقْدٌ وَيَدٌ وَإِتْلَافٌ، وَالْمُرَادُ بِالْإِتْلَافِ أَنْ يُبَاشِرَ الْإِتْلَافَ بِسَبَبٍ يَقْتَضِيهِ كَالْقَتْلِ وَالْإِحْرَاقِ، أَوْ يَنْصِبَ سَبَبًا عُدْوَانًا فَيَحْصُلُ بِهِ الْإِتْلَافُ بِأَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ أَوْ يُؤَجِّجَ نَارًا فِي يَوْمِ رِيحٍ عَاصِفٍ، فَيَتَعَدَّى إِلَى إِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ، أَوْ كَانَ الْمَاءُ مُحْتَبَسًا بِشَيْءٍ وَعَادَتُهُ الِانْطِلَاقُ فَيُزِيلُ احْتِبَاسَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ لَهُ اخْتِيَارٌ فِي انْطِلَاقِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ

وَالضَّمَانُ كَمَا فِي الْمَجَلَّةِ: هُوَ إِعْطَاءُ مِثْلِ الشَّيْءِ إِنْ كَانَ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ وَقِيمَتِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ.

هـ- تَفْوِيتُ الْبُضْعِ:

12- صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ إِذَا فَوَّتَ إِنْسَانٌ عَلَى امْرَأَةٍ مَنْفَعَةَ بُضْعِهَا بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَ عِوَضًا لِمَا فَوَّتَهُ.فَفِي مَتْنِ تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ: وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ.

وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: وَضَمِنَ الْغَاصِبُ مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ بِالتَّفْوِيتِ، فَعَلَيْهِ فِي وَطْءِ الْحُرَّةِ صَدَاقُ مِثْلِهَا وَلَوْ ثَيِّبًا.وَفِي وَطْءِ الْأَمَةِ مَا نَقَصَهَا.

وَيَقُولُ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَلَا تُضْمَنُ مَنْفَعَةُ الْبُضْعِ إِلاَّ بِتَفْوِيتٍ بِالْوَطْءِ فَيَضْمَنُهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ.

وَمِثْلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ لِلْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ كَمَنْ وَطِئَ امْرَأَةً لَيْسَتْ زَوْجَةً لَهُ وَلَا مَمْلُوكَةً يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ أَوْ مَمْلُوكَتَهُ.

و- عَقْدُ الْجِزْيَةِ:

13- الْجِزْيَةُ: اسْمٌ لِمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ سَوَاءٌ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَفَتْحِ الْبِلَادِ عَنْوَةً.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِيقَةِ الْجِزْيَةِ هَلْ هِيَ عُقُوبَةٌ أَمْ عِوَضٌ أَمْ صِلَةٌ؟

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ عِوَضًا عَنْ مُعَوَّضٍ، عَلَى خِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمُعَوَّضِ الَّذِي تَجِبُ الْجِزْيَةُ بَدَلًا عَنْهُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (جِزْيَة ف 19).

ز- تَلَفُ الزَّكَاةِ وَالْأُضْحِيَّةِ:

14- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُزَكِّي إِذَا تَلِفَ مَالُ الزَّكَاةِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَالِ بَعْدَ الْحَوْلِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُزَكِّي الضَّمَانُ أَيْ إِخْرَاجُ بَدَلِهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَالٌ وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِتَلَفِ النِّصَابِ كَالدَّيْنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ الزَّكَاةِ بِتَلَفِ الْمَالِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُزَكِّي.

وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَلَف ف 4).

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ تَلَفَ الْمَالِ بَعْدَ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ وَبَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَدَائِهَا لَا يُسْقِطُهَا بَلْ تَسْتَقِرُّ فِي ذِمَّتِهِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَقَالُوا بِسُقُوطِ زَكَاةِ الْفِطْرِ بِالتَّلَفِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَلَف ف 5)

كَمَا أَوْجَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْمُوسِرِ إِذَا تَلِفَتْ أُضْحِيَّتُهُ الْمُعَيَّنَةُ أَنْ يُضَحِّيَ بِشَاةٍ أُخْرَى.وَخَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْقَوْلَ بِالضَّمَانِ بِمَا إِذَا تَلِفَتْ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَبْحِهَا أَوْ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَلَف 6)

ح- ارْتِكَابُ الْمَحْظُورَاتِ:

15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ الضَّمَانُ بِالْمِثْلِ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ أَوِ الْقِيمَةِ فِيهِ، وَفِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ بِتَقْوِيمِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَام ف 16- 164 وَحَرَم ف 13)

وَأَوْجَبَ الشَّارِعُ فِي الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ كَفَّارَةً هِيَ: إِطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِين أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، وَعِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الثَّلَاثِ يَجِبُ عَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَيْمَان ف 138).

وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمُظَاهِرِ، وَهِيَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْآتِي: الْإِعْتَاقُ ثُمَّ الصِّيَامُ ثُمَّ الْإِطْعَامُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (ظِهَار ف 28)

ط- التَّفْرِيطُ وَالتَّعَدِّي:

16- مِنْ أَسْبَابِ ثُبُوتِ الْعِوَضِ التَّعَدِّي، وَهُوَ الظُّلْمُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَالتَّفْرِيطُ وَهُوَ التَّقْصِيرُ وَالتَّضْيِيعُ، وَهُمَا يُوجِبَانِ الضَّمَانَ فِي عُقُودِ الْأَمَانَاتِ كَالْوَدِيعَةِ، وَذَلِكَ كَإِهْمَالِ حِفْظِهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا أَوْ إِيدَاعِهَا عِنْدَ غَيْرِ أَمِينٍ، وَمِثْلُهَا الْعَارِيَّةُ وَالرَّهْنُ عِنْدَ مَنْ يَعُدُّهُمَا مِنَ الْأَمَانَاتِ.

وَالتَّفْرِيطُ يُوجِبُ الضَّمَانَ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ، ذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوَكِيلِ أَنَّهُ أَمِينٌ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ وَلَا تَعَدٍّ، فَإِذَا ثَبَتَ تَفْرِيطُهُ أَوْ تَعَدِّيهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ.

وَإِذَا فَرَّطَ الْأَجِيرُ فِيمَا وُكِّلَ إِلَيْهِ مِنْ عَمَلٍ فَتَلِفَ مَا فِي يَدِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَمِثْلُهُ الْوَصِيُّ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ إِذَا فَرَّطَ فِي مَالِ الْمُوصَى عَلَيْهِ.

وَانْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ بِالْقَوْلِ بِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى مَنْ فَرَّطَ فِي إِنْقَاذِ مَالِ غَيْرِهِ مِنَ الضَّيَاعِ أَوِ التَّلَفِ، وَعَلَى مَنْ فَرَّطَ فِي إِنْقَاذِ حَيَاةِ إِنْسَانٍ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَلَفٍ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا)

وَالتَّعَدِّي وَالتَّفْرِيطُ أَيْضًا سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْعِوَضِ عَلَى الْمُضَارِبِ، فَإِذَا هَلَكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ بِسَبَبِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَقْصِيرِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ، وَإِلاَّ فَالْخُسْرَانُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ دُونَ الْعَامِلِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ كَالْوَدِيعِ.

(ر: ضَمَان ف 53)

مَا لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ:

17- هُنَاكَ تَصَرُّفَاتٌ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا.نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:

(أ) لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنِ الْمَنَافِعِ الْمُحَرَّمَةِ كَالزِّنَا وَالنَّوْحِ وَالْغِنَاءِ وَالْمَلَاهِي الْمُحَرَّمَةِ.

(ر: إِجَارَة ف 108)

(ب) لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَى الطَّاعَاتِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ.

(ر: إِجَارَة ف 109)

قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِلْجِهَادِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا حَضَرَ الصَّفَّ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْجِهَادِ تَعُودُ إِلَيْهِ فَالْمَنْفَعَةُ حَاصِلَةٌ لَهُ.

وَلَوْ خَلَّصَ مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ بِالْوُقُوعِ فِي مَاءٍ أَوْ نَارٍ لَا تَثْبُتُ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ.

وَلَوْ كَانَ رَجُلَانِ فِي بَادِيَةٍ فَمَرِضَ أَحَدُهُمَا وَجَبَ عَلَى الْآخَرِ تَعَهُّدُهُ، زَادَ الْإِمَامُ: وَلَا أُجْرَةَ لَهُ، وَإِذَا وَجَبَ بَذْلُ الْمَاءِ الْفَاضِلِ عَنْهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ فِي الْأَصَحِّ.وَإِذَا تَحَمَّلَ شَهَادَةً وَطُلِبَ أَدَاؤُهَا مِنْهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ لِلنَّهْيِ.

(ج) لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ وَحَقِّ الْقَسْمِ لِلزَّوْجَةِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَقّ ف 26)

تَقْدِيرُ الْعِوَضِ

يَخْتَلِفُ حُكْمُ تَقْدِيرِ الْعِوَضِ بِاخْتِلَافِ التَّصَرُّفِ الْوَاقِعِ فِيهِ كَمَا يَلِي:

أ- التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ فِيهَا مُقَدَّرًا وَمَعْلُومًا:

18- اشْتَرَطَ الشَّارِعُ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ فِيهَا مُقَدَّرًا وَمَعْلُومًا لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ وَذَلِكَ كَعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ حَسْمًا لِمَادَّةِ النِّزَاعِ.

فَفِي الْبَيْعِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مَعْلُومًا وَالْمَبِيعُ مَعْلُومًا.

قَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ: وَشُرِطَ لِصِحَّتِهِ- أَيْ الْبَيْعِ- مَعْرِفَةُ قَدْرِ مَبِيعٍ وَثَمَنٍ.

وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ مَعْلُومَيْنِ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَإِلاَّ فَسَدَ الْبَيْعُ، وَجَهْلُ أَحَدِهِمَا كَجَهْلِهِمَا عَلَى الْمَذْهَبِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَلِلْمَبِيعِ شُرُوطٌ..الْخَامِسُ: الْعِلْمُ بِهِ..وَمَتَى كَانَ الْعِوَضُ مُعَيَّنًا كَفَتْ مُعَايَنَتُهُ.

وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ مَعْلُومَيْنِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ حَالَ الْعَقْدِ.

وَفِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّتِهَا أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَالْأُجْرَةِ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.

(ر: إِجَارَة ف 31- 40)

وَفِي عَقْدِ السَّلَمِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَالْمُسْلَمِ فِيهِ أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بَدَلٌ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ مَالِيَّةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مَعْلُومًا: كَسَائِرِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ.

(ر: سَلَم ف 15- 22).

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عِوَضِ الْخُلْعِ هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا مَعْلُومًا أَمْ لَا؟

فَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا مَعْلُومًا وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ حَيْثُ قَالُوا بِصِحَّةِ الْخُلْعِ بِالْمَجْهُولِ. (ر: خُلْع ف 26)

ب- التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي لَا يَجِبُ فِيهَا تَقْدِيرُ الْعِوَضِ:

19- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ وَلَوْ مَعَ عَدَمِ ذِكْرِ الْمَهْرِ وَتَقْدِيرِهِ، لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمِ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}، وَيُسَمَّى النِّكَاحُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ نِكَاحَ التَّفْوِيضِ.

بَلْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى صِحَّةِ عَقْدِ النِّكَاحِ مَعَ اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْمَهْرِ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْمَهْرِ وَمَعَ نَفْيِهِ لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمِ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}، رَفَعَ سُبْحَانَهُ الْجُنَاحَ عَمَّنْ طَلَّقَ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ، وَالطَّلَاقُ لَا يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ النِّكَاحِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ النِّكَاحِ بِلَا تَسْمِيَةٍ.

وَخَالَفَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْمَهْرِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَفْوِيض ف 5 وَمَا بَعْدَهَا)

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي عِوَضِ الْخُلْعِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَمُقَدَّرًا، وَنَصُّوا عَلَى صِحَّةِ الْخُلْعِ مَعَ جَهَالَةِ الْعِوَضِ وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (خُلْع ف 26)

الْأَعْوَاضُ الَّتِي قَدَّرَهَا الشَّارِعُ:

20- قَامَ الشَّارِعُ بِتَقْدِيرِ بَعْضِ الْأَعْوَاضِ، وَلَمْ يَتْرُكْ تَقْدِيرَهَا لِأَحَدٍ وَذَلِكَ حَسْمًا لِمَادَّةِ النِّزَاعِ، وَتَقْدِيرُ الشَّارِعِ لِلْعِوَضِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَحْدِيدِهِ، أَوْ بِوَضْعِ ضَابِطٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تَقْدِيرِ الْعِوَضِ.

وَمِنَ الْأَعْوَاضِ الَّتِي حَدَّدَهَا الشَّارِعُ الدِّيَةُ، فَقَدَّرَ الشَّارِعُ دِيَةَ الْخَطَأِ مَثَلًا مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ أَوْ أَلْفَ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنَ الْوَرِقِ.وَكَذَلِكَ دِيَةُ الْقَتْلِ شِبْهَ الْعَمْدِ، وَالْقَتْلُ الْعَمْدُ إِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ، لَكِنْ مَعَ التَّغْلِيظِ فِي الْحَالَيْنِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَات ف 12 وَمَا بَعْدَهَا)

وَأَيْضًا قَدَّرَ الشَّارِعُ دِيَةَ الْأَطْرَافِ وَإِتْلَافِ الْمَعَانِي وَالشِّجَاجِ وَالْجُرُوحِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَات ف 34 وَمَا بَعْدَهَا)

وَمِنَ الْأَعْوَاضِ الْمُقَدَّرَةِ مِنَ الشَّارِعِ فَدِيَةُ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ وَالشَّيْخِ الْهَرِمِ فِي صِيَامِ رَمَضَانَ، وَهِيَ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ لِمِسْكِينٍ إِذَا كَانَ مِنَ الْبُرِّ، أَوْ نِصْفُ صَاعٍ إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ وَذَلِكَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ حَصَلَ فِيهِ إِفْطَارٌ.

(ر: صَوْم ف 90)

وَفِي كَفَّارَاتِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ الْفِدْيَةُ، وَهِيَ أَنْ يَذْبَحَ هَدْيًا أَوْ يَتَصَدَّقَ بِإِطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِين أَوْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.

(ر: إِحْرَام ف 148)

وَمِنَ الْأَعْوَاضِ الَّتِي قَدَّرَهَا الشَّارِعُ بِوَضْعِ ضَابِطٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ تَقْدِيرِهَا الْعِوَضُ فِي الْإِتْلَافَاتِ، وَالضَّابِطُ فِيهِ: رَدُّ مِثْلِ الْهَالِكِ (الْمُتْلَفِ) إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَاءٌ مِثْلُ إِنَاءٍ وَطَعَامٌ مِثْلُ طَعَامٍ».

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا بَيَانُ مَاهِيَّةِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ بِإِتْلَافِ مَا سِوَى بَنِي آدَمَ، فَالْوَاجِبُ بِهِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ بِالْغَصْبِ، وَهُوَ ضَمَانُ الْمِثْلِ إِنْ كَانَ الْمُتْلَفُ مِثْلِيًّا، وَضَمَانُ الْقِيمَةِ إِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ ضَمَانُ اعْتِدَاءٍ، وَالِاعْتِدَاءُ لَمْ يُشْرَعْ إِلاَّ بِالْمِثْلِ، فَعِنْدَ الْإِمْكَانِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْمِثْلِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى، وَعِنْدَ التَّعَذُّرِ يَجِبُ الْمِثْلُ مَعْنًى وَهُوَ الْقِيمَةُ.

(ر: ضَمَان ف 6، 18، 91)

وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الصَّدَاقُ فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ، وَالضَّابِطُ فِيهِ: وُجُوبُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَيَتَقَرَّرُ هَذَا الْمَهْرُ بِالْمَوْتِ أَوِ الْوَطْءِ.

(ر: تَفْوِيض ف 8) وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا جَزَاءُ قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالضَّابِطُ فِيهِ بَيَّنَهُ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِين أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَام ف 161 وَمَا بَعْدَهَا)

تَجْزِئَةُ الْعِوَضِ:

21- يَثْبُتُ الْعِوَضُ كَامِلًا حَسَبَ مَا يُقَدِّرُهُ الْعَاقِدَانِ- كَمَا فِي الْعُقُودِ- أَوْ بِحَسَبِ مَا قَدَّرَهُ الشَّارِعُ- كَمَا فِي الْجِنَايَاتِ وَالْإِتْلَافَاتِ.

لَكِنْ هُنَاكَ حَالَاتٌ لَا يَثْبُتُ فِيهَا الْعِوَضُ كَامِلًا، مِنْهَا:

(أ) حَالَةُ مَا إِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ بِفِعْلِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بُطْلَانُ الْبَيْعِ بِقَدْرِهِ وَيَسْقُطُ عَنِ الْمُشْتَرِي حِصَّةُ التَّالِفِ مِنَ الثَّمَنِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَبِيعِ إِذَا كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: قِيَاسُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ.وَبَيْنَ أَخْذِهِ وَالرُّجُوعِ عَلَى الْبَائِعِ بِعِوَضِ مَا أَتْلَفَ أَوْ عَيَّبَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَلَف ف 14)

(ب) حَالَةُ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ إِذَا عَمِلَ لِغَيْرِ مُسْتَأْجِرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ بِقَدْرِ مَا عَمِلَ.فَلِرَبِّ الْعَمَلِ أَنْ يُسْقِطَ مِنْ أَجْرِهِ بِقَدْرِ قِيمَةِ مَا عَمِلَ لِغَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ عَمَلُهُ لِغَيْرِهِ مَجَّانًا.

(ر: إِجَارَة ف 106)

(ج) حَالَةُ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ عِنْدَ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ، فَإِنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يَجِبُ لِلْمُطَلَّقَةِ نِصْفُ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}

(د) فِي الْخُلْعِ إِذَا قَالَتْ طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَعَلَيْهَا ثُلُثُ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا طَلَبَتِ الثَّلَاثَ بِأَلْفٍ فَقَدْ طَلَبَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ بِثُلُثِ الْأَلْفِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ يَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ، وَالْعِوَضُ يَنْقَسِمُ عَلَى الْمُعَوَّضِ.

تَسْلِيمُ الْعِوَضِ:

22- إِذَا ثَبَتَ الْعِوَضُ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ نَتِيجَةَ مَا قَامَ بِهِ مِنْ تَصَرُّفٍ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْعِوَضِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ.

وَيَخْتَلِفُ وَقْتُ تَسْلِيمِ الْعِوَضِ بِاخْتِلَافِ التَّصَرُّفِ الْوَاقِعِ فِيهِ.

فَفِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ اشْتَرَطَ الشَّارِعُ تَسْلِيمَ الْعِوَضِ حَالًا وَفِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهَا أَعْوَاضٌ حَالَّةٌ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي بَيْعِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ عِنْدَ اتِّحَادِ الْعِلَّةِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ».

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (رِبًا ف 26 وَمَا بَعْدَهَا)

وَفِي عَقْدِ السَّلَمِ اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِصِحَّتِهِ تَسْلِيمَ رَأْسِ الْمَالِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، فَلَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَهُ بَطَلَ الْعَقْدُ، وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ تَأْخِيرَهُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ.

(ر: سَلَم ف 16)

وَفِي الشُّفْعَةِ يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُ الْمَشْفُوعِ فِيهِ حَالًا وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا عَلَى الْمُشْتَرِي، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بِيعَ الْعَقَارُ مُؤَجَّلًا أَخَذَهُ الشَّفِيعُ إِلَى أَجَلِهِ.

(ر: أَجَل ف 41)

وَفِي الْإِقَالَةِ يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الثَّمَنَ إِذَا كَانَ حَالًا فَأَجَّلَهُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْإِقَالَةِ.فَإِنَّ التَّأْجِيلَ يَبْطُلُ وَتَصِحُّ الْإِقَالَةُ.

ر: (أَجَل ف 39)

وَفِي دِيَةِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ حَالَّةً غَيْرَ مُؤَجَّلَةٍ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (أَجَل ف 43).

23- وَفِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ يَكُونُ الْعِوَضُ مُؤَجَّلًا بِحُكْمِ الشَّرْعِ.

وَمِنْ هَذِهِ الْأَعْوَاضِ الدِّيَةُ فِي الْقَتْلِ شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْقَتْلِ الْخَطَأِ، حَيْثُ تَكُونُ الدِّيَةُ فِيهِمَا مُؤَجَّلَةً لِمُدَّةِ ثَلَاثِ سَنَوَاتٍ.

(ر: أَجَل ف 44- 45)

وَمِنْهَا الْمُسْلَمُ فِيهِ، فَقَدِ اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِصِحَّةِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مُؤَجَّلًا إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ الْحَالُّ، وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ جَوَازَ السَّلَمِ فِي الْحَالِّ.

(ر: أَجَل ف 46).

وَمِنْهَا الْعِوَضُ الْمُكَاتَبُ بِهِ حَيْثُ يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَا تَكُونُ إِلاَّ بِمَالٍ مُؤَجَّلٍ مُنَجَّمٍ تَيْسِيرًا عَلَى الْمُكَاتَبِ، وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ الْكِتَابَةِ بِمَالٍ مُؤَجَّلٍ وَبِمَالٍ حَالٍّ.

(ر: أَجَل ف 47)

24- وَفِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ أَجَازَ الشَّارِعُ تَأْخِيرَ تَسْلِيمِ الْعِوَضِ بِحَسَبِ مَا يَتَّفِقُ عَلَيْهِ الْعَاقِدَانِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ تَأْجِيلِ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا بِنَسِيئَةٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا لَهُ مِنْ حَدِيدٍ».

وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّأْيِ الْمَرْجُوحِ تَأْجِيلَ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ إِلَى الْمُدَّةِ الَّتِي يُحَدِّدُهَا الْعَاقِدَانِ، كَمَا لَوْ بَاعَ دَارًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا الْبَائِعُ شَهْرًا ثُمَّ يُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّأْيِ الرَّاجِحِ.

(وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي أَجَل ف 33 وَمَا بَعْدَهَا)

مَوَانِعُ تَسْلِيمِ الْعِوَضِ:

25- أَجَازَ الْفُقَهَاءُ- فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ- حَبْسَ الْعِوَضِ لِاسْتِيفَاءِ بَدَلِهِ، فَيَجُوزُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي حَتَّى يَقْضِيَ الثَّمَنَ الْمُعَجَّلَ.

(ر: اسْتِيفَاء ف 20)

وَإِنْ كَانَتِ الْأُجْرَةُ مُعَجَّلَةً فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ كَانَ لِلْمُؤَجِّرِ حَبْسُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأُجْرَةَ.

(ر: إِجَارَة ف 56)

وَلِلزَّوْجَةِ أَنْ تَمْتَنِعَ عَنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا إِلَى أَنْ يَدْفَعَ لَهَا الزَّوْجُ صَدَاقَهَا الْمُعَجَّلَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ قَدْ تَعَيَّنَ فِي الْمُبْدَلِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَيَّنَ حَقُّهَا فِي الْبَدَلِ تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا.

وَمِنْ مَوَانِعِ تَسْلِيمِ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا الصِّغَرُ، فَلَا تُسَلَّمُ صَغِيرَةٌ لَا تَحْتَمِلُ الْوَطْءَ إِلَى زَوْجِهَا حَتَّى تَكْبُرَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْمِلُهُ فَرْطُ الشَّهْوَةِ عَلَى الْجِمَاعِ فَتَتَضَرَّرُ بِهِ.

وَمِنْ مَوَانِعِ تَسْلِيمِ الزَّوْجَةِ الْمَرَضُ الَّذِي يَمْنَعُ مِنَ الْجِمَاعِ، وَتُمْهَلُ الْمَرْأَةُ إِلَى حِينِ زَوَالِ مَرَضِهَا.

مُسْقِطَاتُ الْعِوَضِ:

هُنَاكَ أَسْبَابٌ تُؤَدِّي إِلَى سُقُوطِ الْعِوَضِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، مِنْهَا مَا يَلِي:

أ- هَلَاكُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ:

26- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ هَلَاكَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يُؤَدِّي إِلَى سُقُوطِ مَا يُقَابِلُهُ مِنَ الْعِوَضِ فِي الْجُمْلَةِ.

فَإِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَسَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي.

(ر: تَلَف ف9)

وَإِذَا هَلَكَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ بِحَيْثُ تَفُوتُ الْمَنَافِعُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهَا كُلِّيَّةً كَالدَّارِ إِذَا انْهَدَمَتْ وَصَارَتْ أَنْقَاضًا، وَالسَّفِينَةُ إِذَا نُقِضَتْ وَصَارَتْ أَلْوَاحًا انْفَسَخَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ وَسَقَطَتِ الْأُجْرَةُ.

ب- الْإِبْرَاءُ:

27- الْإِبْرَاءُ: هُوَ إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ.

فَالْإِبْرَاءُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْعِوَضِ عَنِ الذِّمَّةِ، وَالْحُكْمُ الْغَالِبُ لِلْإِبْرَاءِ هُوَ النَّدْبُ.

(ر: إِبْرَاء ف 12)

ج- الْعَفْوُ:

28- الْعَفْوُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْعِوَضِ، وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ وَالْجِنَايَاتِ، فَإِذَا ثَبَتَتِ الدِّيَةُ عَلَى الْجَانِي، كَانَ الْعَفْوُ مُسْقِطًا لَهَا، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ دِيَةَ النَّفْسِ تَسْقُطُ بِعَفْوِ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا، وَإِذَا عَفَا بَعْضُهُمْ دُونَ الْبَعْضِ يَسْقُطُ حَقُّ مَنْ عَفَا، وَتَبْقَى حِصَّةُ الْآخَرِينَ فِي مَالِ الْجَانِي إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا، وَعَلَى الْعَاقِلَةِ إِنْ كَانَتْ خَطَأً.

وَإِذَا عَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَنْ دِيَةِ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الْقَطْعِ وَإِتْلَافِ الْمَعَانِي تَسْقُطُ دِيَتُهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ الَّتِي تَسْقُطُ بِعَفْوِ مَنْ لَهُ حَقُّ الْعَفْوِ.

(ر: دِيَات ف 83)

د- الْإِسْلَامُ:

29- قَدْ يَكُونُ الْإِسْلَامُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْعِوَضِ، وَذَلِكَ فِي الْجِزْيَةِ.فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَمَّنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَلَا يُطَالَبُ بِهَا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ جِزْيَةٌ».

وَهُنَاكَ مُسْقِطَاتٌ أُخْرَى لِلْجِزْيَةِ سَبَقَ تَفْصِيلُهَا فِي (مُصْطَلَحِ جِزْيَة ف 69 وَمَا بَعْدَهَا).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


89-موسوعة الفقه الكويتية (غرس)

غَرْس

التَّعْرِيفُ:

1- الْغَرْسُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ غَرَسَ يَغْرِسُ، يُقَالُ: غَرَسَ الشَّجَرَ غَرْسًا إِذَا أَثْبَتَهُ فِي الْأَرْضِ، كَأَغْرِسُهُ، وَالْغِرَاسُ مَا يُغْرَسُ مِنَ الشَّجَرِ، وَوَقْتُ الْغَرْسِ، وَيُطْلَقُ الْغَرْسُ عَلَى نَفْسِ الشَّجَرَةِ وَالْفَسِيلَةِ أَوِ الْقَضِيبِ الَّذِي يُغْرَسُ.وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَى الْغَرْسِ فِي الِاصْطِلَاحِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الزَّرْعُ:

2- الزَّرْعُ طَرْحُ الْبَذْرِ، وَيُطْلَقُ الزَّرْعُ عَلَى الْمَزْرُوعِ أَيْضًا، أَيْ مَا اسْتُنِبْتَ بِالْبَذْرِ، تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ}.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُسَمَّى زَرْعًا إِلاَّ وَهُوَ غَضٌّ طَرِيٌّ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْغَرْسِ:

أَوَّلًا: فَضْلُ الْغَرْسِ:

3- وَرَدَ فِي فَضْلِ الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ أَحَادِيثُ مِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَنَسٌ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ، أَوْ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ».وَمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ أَجْرَ ذَلِكَ يَسْتَمِرُّ مَا دَامَ الزَّرْعُ وَالْغَرْسُ مَأْكُولًا مِنْهُ وَلَوْ مَاتَ زَارِعُهُ وَغَارِسُهُ، وَلَوِ انْتَقَلَ مِلْكُهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَجْرَ يَحْصُلُ لِلْغَارِسِ وَلَوْ كَانَ مِلْكُهُ لِغَيْرِهِ.

ثَانِيًا: عَقْدُ الْمُغَارَسَةِ:

4- الْمُغَارَسَةُ عَقْدٌ عَلَى غَرْسِ شَجَرٍ فِي أَرْضٍ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ، وَتُسَمَّى أَيْضًا: الْمُنَاصَبَةُ.وَجَعَلَهَا الْحَنَابِلَةُ قِسْمًا مِنَ الْمُسَاقَاةِ، حَيْثُ قَالُوا: الْمُسَاقَاةُ دَفْعُ أَرْضٍ وَشَجَرٍ لَهُ ثَمَرٌ مَأْكُولٌ لِمَنْ يَغْرِسُهُ، وَهِيَ الْمُنَاصَبَةُ، أَوْ شَجَرٌ مَغْرُوسٌ مَعْلُومٌ لِمَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهِ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى صِحَّةِ الْمُغَارَسَةِ فِي الْأَشْجَارِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجَارَةِ، كَأَنْ يَقُولَ لَهُ: اغْرِسْ لِي هَذِهِ الْأَرْضَ نَخْلًا أَوْ عِنَبًا أَوْ زَيْتُونًا وَلَكَ كَذَا، وَتَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْإِجَارَةِ.

أَمَّا الْمُغَارَسَةُ عَلَى سَبِيلِ الشَّرِكَةِ، بِأَنْ تُعْطَى الْأَرْضُ لِلْعَامِلِ لِغَرْسِ الْأَشْجَارِ، وَتَكُونَ الْأَرْضُ وَالْأَشْجَارُ بَيْنَهُمَا، أَوِ الْأَشْجَارُ وَحْدَهَا بَيْنَهُمَا، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ:

فَأَمَّا الْمُغَارَسَةُ عَلَى سَبِيلِ الشَّرِكَةِ فِي الْأَشْجَارِ وَحْدَهَا فَهِيَ كَمَا يَلِي:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ أَرْضًا مُدَّةً مَعْلُومَةً عَلَى أَنْ يَغْرِسَ فِيهَا غِرَاسًا عَلَى أَنَّ مَا تَحْصَّلَ مِنَ الْأَغْرَاسِ وَالثِّمَارِ بَيْنَهُمَا جَازَ.

وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ الْحَنَابِلَةُ، حَيْثُ صَرَّحُوا بِجَوَازِ دَفْعِ أَرْضٍ وَشَجَرٍ لَهُ ثَمَرٌ مَأْكُولٌ لِمَنْ يَغْرِسُهُ وَيَعْمَلُ عَلَيْهِ بِجُزْءٍ مُشَاعٍ مَعْلُومٍ مِنْ ثَمَرَتِهِ أَوْ مِنْهُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا تَصِحُّ الْمُغَارَسَةُ عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ فِي أَحَدِهِمَا، أَيِ الْأَرْضِ أَوِ الشَّجَرِ.

كَمَا صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِعَدَمِ جَوَازِ الْمُنَاصَبَةِ، بِأَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ أَرْضًا لِيَغْرِسَهَا مِنْ عِنْدِهِ، وَالشَّجَرَةُ بَيْنَهُمَا.

وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ: أَنَّ الْحَاصِلَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِلْعَامِلِ، وَلِمَالِكِ الْأَرْضِ أُجْرَةُ مِثْلِهَا عَلَيْهِ.

وَأَمَّا الْمُغَارَسَةُ عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْأَرْضِ وَالْأَشْجَارِ مَعًا فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَذَلِكَ لِاشْتِرَاطِ الشَّرِكَةِ فِيمَا هُوَ مَوْجُودٌ قَبْلَ الشَّرِكَةِ، لِأَنَّهُ نَظِيرُ مَنِ اسْتَأْجَرَ صَبَّاغًا يَصْبُغُ ثَوْبَهُ بِصَبْغِ نَفْسِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الْمَصْبُوغِ لِلصَّبَّاغِ، فَكَانَ كَقَفِيزِ الطَّحَّانِ، كَمَا عَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ.

وَإِذَا فَسَدَتِ الْمُغَارَسَةُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ، فَالثَّمَرُ وَالْغَرْسُ لِرَبِّ الْأَرْضِ تَبَعًا لِأَرْضِهِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ وَلِلْآخَرِ قِيمَةُ غَرْسِهِ يَوْمَ الْغَرْسِ، وَأَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَجُوزُ الْمُغَارَسَةُ بِشَرِكَةِ جُزْءٍ مَعْلُومٍ فِي الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ.

وَلِتَفْصِيلِ أَحْكَامِ الْمُغَارَسَةِ وَنَوْعِيَّةِ الْغِرَاسِ وَسَائِرِ شُرُوطِهَا، يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (مُسَاقَاة).

ثَالِثًا: الْغَرْسُ فِي الْأَرْضِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ:

أ- الْغَرْسُ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ:

5- مَنْ غَصَبَ أَرْضًا، فَغَرَسَ فِيهَا أَوْ بَنَى، كُلِّفَ بِقَلْعِ الْغَرْسِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «لَيْسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقٌّ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ- رضي الله عنه- قَالَ «إِنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، غَرَسَ أَحَدُهُمَا نَخْلًا فِي أَرْضِ الْآخَرِ، فَقَضَى لِصَاحِبِ الْأَرْضِ بِأَرْضِهِ، وَأَمَرَ صَاحِبَ النَّخْلِ أَنْ يُخْرِجَ نَخْلَهُ مِنْهَا» قَالَ عُرْوَةُ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا وَإِنَّهَا لَتُضْرَبُ أُصُولُهَا بِالْفُؤُوسِ، وَإِنَّهَا لَنَخْلٌ عُمٌّ وَلِأَنَّ مِلْكَ صَاحِبِ الْأَرْضِ بَاقٍ، فَإِنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَصِرْ مُسْتَهْلَكَةً، فَيُؤْمَرُ الشَّاغِلُ بِتَفْرِيغِهَا، كَمَا إِذَا شَغَلَ ظَرْفَ غَيْرِهِ بِطَعَامِهِ، وَتَكْلِيفِ الْغَاصِبِ بِقَلْعِ الْأَشْجَارِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، إِذَا أَرَادَ مَالِكُ الْأَرْضِ ذَلِكَ.

وَهَلْ لِمَالِكِ الْأَرْضِ أَنْ يَضْمَنَ لِلْغَاصِبِ قِيمَةَ الْغَرْسِ فَيَتَمَلَّكُهُ؟ فِيهِ تَفْصِيلٌ: إِنِ اتَّفَقَا- أَيْ مَالِكُ الْأَرْضِ وَمَالِكُ الْغِرَاسِ- عَلَى ذَلِكَ جَازَ، لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُوهُمَا.وَكَذَلِكَ إِنْ وَهَبَ الْغَاصِبُ الْغِرَاسَ لِمَالِكِ الْأَرْضِ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ تَكْلِفَةِ قَلْعِهِ.فَقَبِلَهُ الْمَالِكُ.

أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا:

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ تَنْقُصُ بِقَلْعِ ذَلِكَ، فَلِلْمَالِكِ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ قِيمَةَ الْغَرْسِ مَقْلُوعًا، وَيَكُونَ الْغَرْسُ لَهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لَهُمَا، وَدَفْعَ الضَّرَرِ عَنْهُمَا، فَتَقُومُ الْأَرْضُ بِدُونِ شَجَرٍ، ثُمَّ بِالشَّجَرِ مُسْتَحَقُّ الْقَلْعِ، فَيَضْمَنُ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا.

وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ الْمَالِكِيَّةُ، مِنْ أَنَّ مَالِكَ الْأَرْضِ لَهُ الْخِيَارُ: بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ مَعَ الْغَرْسِ مُقَابِلَ دَفْعِ قِيمَةِ نَقْضِهِ، وَبَيْنَ إِلْزَامِ الْغَاصِبِ قَلْعَهُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ لَمْ يُقَيِّدُوا أَخْذَ الْغَرْسِ مُقَابِلَ الْقِيمَةِ بِمَا إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ تَنْقُصُ بِقَلْعِ الْغَرْسِ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْمَالِكُ تَمَلُّكَ الْغِرَاسِ بِالْقِيمَةِ، أَوْ إِبْقَاءَهَا بِأُجْرَةٍ، لَمْ يَلْزَمْ إِجَابَتُهُ فِي الْأَصَحِّ.

وَنَظِيرُهُ مَا قَالَهُ الْحَنَابِلَةُ، حَيْثُ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ مَالِكُ الْأَرْضِ الْغِرَاسَ مِنَ الْغَاصِبِ مَجَّانًا أَوْ بِالْقِيمَةِ، وَأَبَى مَالِكُهُ، أَيِ الْغَاصِبِ، لَمْ يَكُنْ لِمَالِكِ الْأَرْضِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِ الْغَاصِبِ، كَمَا لَوْ وَضَعَ فِيهَا أَثَاثًا أَوْ نَحْوَهُ.

وَقَدْ صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ الْغَاصِبَ إِذَا كُلِّفَ بِقَلْعِ الْغِرَاسِ فَإِنَّ تَكْلِفَةَ الْقَلْعِ وَتَسْوِيَةَ الْأَرْضِ كَمَا كَانَتْ عَلَى نَفَقَةِ الْغَاصِبِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (غَصْب).

ب- الْغَرْسُ فِي الْأَرْضِ الْمُسْتَعَارَةِ:

6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ إِعَارَةِ الْأَرْضِ لِلْغَرْسِ لِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ مُطْلَقًا بِدُونِ ذِكْرِ مُدَّةٍ، وَلِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يَغْرِسَ فِيهَا مَا يَشَاءُ مِنَ الْغِرَاسِ فِي دَاخِلِ الْمُدَّةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْعَقْدِ أَوِ الْمُعْتَادَةِ إِذَا كَانَتِ الْعَارِيَّةُ مُطْلَقَةً، وَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ الْمَشْرُوطَةِ أَوِ الْمُعْتَادَةِ أَنْ يَغْرِسَ فِيهَا، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ غَرَسَ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّ مَنْ أَعَارَ أَرْضًا لِلْبِنَاءِ فَلِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يَغْرِسَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ مُتَشَابِهَانِ فِي قَصْدِ الدَّوَامِ وَالْإِضْرَارِ بِالْأَرْضِ.

وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ لَا يَغْرِسَ مُسْتَعِيرًا لِبِنَاءٍ، وَلَا يَبْنِيَ مُسْتَعِيرًا لِغِرَاسٍ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغِرَاسَ يَخْتَلِفَانِ فِي الضَّرَرِ، فَإِنَّ ضَرَرَ الْبِنَاءِ فِي ظَاهِرِ الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ بَاطِنِهَا، وَالْغِرَاسُ بِالْعَكْسِ؛ لِانْتِشَارِ عُرُوقِهِ.

ج- الْغَرْسُ فِي الْأَرْضِ الْمَرْهُونَةِ:

7 ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَغْرِسَ فِي الْأَرْضِ الْمَرْهُونَةِ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا؛ لِأَنَّ تَعْطِيلَ مَنْفَعَتِهَا إِلَى حُلُولِ الدَّيْنِ تَضْيِيعٌ لِلْمَالِ، وَقَدْ نَهَى عَنْهُ، بِخِلَافِ الْحَالِ.

فَإِذَا غَرَسَ الرَّاهِنُ فِي الْأَرْضِ الْمَرْهُونَةِ تَدْخُلُ الْغِرَاسُ فِي الرَّهْنِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا رَهَنَ أَرْضًا، وَأَذِنَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ فِي غِرَاسِهَا بَعْدَ شَهْرٍ، فَالْأَرْضُ قَبْلَ الشَّهْرِ أَمَانَةٌ بِحُكْمِ الرَّهْنِ، وَبَعْدَهُ عَارِيَّةً مَضْمُونَةٌ بِحُكْمِ الْعَارِيَّةِ.

كَمَا يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ غَرْسُهَا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ.

وَلِتَفْصِيلِ أَحْكَامِ الرَّهْنِ، وَهَلْ هُوَ أَمَانَةٌ، أَوْ مَضْمُونٌ؟ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (ضَمَان ف 62)

د- الْغَرْسُ فِي الْأَرْضِ الْمَشْفُوعِ فِيهَا:

8- إِذَا أَحْدَثَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَشْفُوعِ بِنَاءً أَوْ غِرَاسًا قَبْلَ قِيَامِ الشَّفِيعِ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ، ثُمَّ طَالَبَ الشَّفِيعُ بِشُفْعَتِهِ، فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ الْمُشْتَرِي وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ أَوِ الْغَرْسِ، وَإِنْ شَاءَ كَلَّفَ الْمُشْتَرِيَ بِقَلْعِهِ؛ لِأَنَّهُ غَرْسٌ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ مُتَأَكِّدٌ لِلْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ، فَيُنْقَضُ، كَالرَّاهِنِ إِذَا بَنَى أَوْ غَرَسَ فِي الرَّهْنِ.

وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ: أَنَّ لِلشَّفِيعِ الْخِيَارَ بَيْنَ أَخْذِ الْمَشْفُوعِ مَعَ الْغِرَاسِ مُقَابِلَ دَفْعِ قِيمَةِ الْغِرَاسِ، وَبَيْنَ الْقَلْعِ، لَكِنَّهُمْ أَضَافُوا: إِنْ أَحَبَّ الشَّفِيعُ قَلْعَ الْغِرَاسِ يَضْمَنُ نَقْصَهُ مِنَ الْقِيمَةِ بِالْقَلْعِ، وَهِيَ مَا بَيْنَ قِيمَةِ الْأَرْضِ مَغْرُوسَةً وَبَيْنَ قِيمَتِهَا خَالِيَةً.

وَقَالَ مَالِكٌ: لَا شُفْعَةَ إِلاَّ أَنْ يُعْطِيَ الْمُشْتَرِي قِيمَةَ مَا بَنَى وَمَا غَرَسَ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ بَنَى أَوْ غَرَسَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَشْفُوعِ وَلَمْ يَعْلَمِ الشَّفِيعُ بِهِمَا، ثُمَّ عَلِمَ، قَلَعَ ذَلِكَ مَجَّانًا؛ لِعُدْوَانِ الْمُشْتَرِي.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (شُفْعَة ف 48).

رَابِعًا: غَرْسُ الشَّجَرِ فِي الْمَسْجِدِ وَالْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ.

9- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ غَرْسِ الْأَشْجَارِ فِي الْمَسْجِدِ وَالْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ: فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا غَرَسَ شَجَرَةً فِي الْمَسْجِدِ فَهِيَ لِلْمِسْجَدَةِ أَوْ فِي أَرْضٍ مَوْقُوفَةٍ عَلَى رِبَاطٍ مَثَلًا فَهِيَ لِلْوَقْفِ إِنْ قَالَ لِلْقَيِّمِ: تَعَاهَدْهَا، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ فَهِيَ لَهُ يَرْفَعُهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ، وَلَا يَكُونُ غَارِسًا لِلْوَقْفِ.وَقَيَّدَ الْحَصْكَفِيُّ هَذَا الْجَوَازَ بِأَنْ يَكُونَ الْغَرْسُ لِنَفْعِ الْمَسْجِدِ، كَتَقْلِيلِ نَزٍّ، وَهُوَ مَا يَتَحَلَّبُ مِنَ الْأَرْضِ مِنَ الْمَاءِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ لِنَفْعِ النَّاسِ بِظِلِّهِ، وَلَا يُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ، وَلَا يُفَرِّقُ الصُّفُوفَ، لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لِنَفْعِ نَفْسِهِ بِوَرَقَةِ أَوْ ثَمَرِةِ، أَوْ يُفَرِّقُ الصُّفُوفَ، أَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ تَقَعُ بِهِ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الْبِيعَةِ وَالْمَسْجِدِ، يُكْرَهُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ بَنَى أَوْ غَرَسَ مُحْبِسٌ أَوْ أَجْنَبِيٌّ فِي أَرْضِ الْوَقْفِ، فَإِنْ بَيَّنَ أَنَّ مَا غَرَسَهُ وَقْفٌ كَانَ الْغَرْسُ وَالْبِنَاءُ وَقْفًا، وَكَذَلِكَ إِنْ لَمْ يُبَيِّنْ قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَنَّهُ وَقْفٌ، أَمَّا إِذَا بَيَّنَ أَنَّهُ مِلْكٌ لَهُ، كَانَ لَهُ أَوْ لِوَارِثِهِ، فَيُؤْمَرُ بِنَقْضِهِ، أَوْ يَأْخُذُ قِيمَتَهُ مَنْقُوضًا بَعْدَ إِسْقَاطِ كُلْفَةٍ لَمْ يَتَوَلَّهَا.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ لَا تُغْرَسَ الْأَشْجَارُ فِي الْمَسْجِدِ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ: يُكْرَهُ غَرْسُ الشَّجَرِ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنْ غَرَسَ قَطَعَهُ الْإِمَامُ.

وَفَصَّلَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَوْضُوعِ فَقَالَ: يُكْرَهُ غَرْسُ الشَّجَرِ وَالنَّخْلِ وَحَفْرُ الْآبَارِ فِي الْمَسَاجِدِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّضْيِيقِ عَلَى الْمُصَلِّينَ، وَالصَّحِيحُ تَحْرِيمُهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْجِيرِ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ، وَالضِّيقِ وَجَلْبِ النَّجَاسَاتِ مِنْ ذَرْقِ الطُّيُورِ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْغَرْسِ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: إِنْ كَانَتْ غُرِسَتِ النَّخْلَةُ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَسْجِدًا فَهَذِهِ غُرِسَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَا أُحِبُّ الْأَكْلَ مِنْهَا، وَلَوْ قَلَعَهَا الْإِمَامُ لَجَازَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَمْ يُبْنَ لِهَذَا، وَإِنَّمَا بُنِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؛ وَلِأَنَّ الشَّجَرَةَ تُؤْذِي الْمَسْجِدَ، وَتَمْنَعُ الْمُصَلِّينَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي مَوْضِعِهَا، وَيَسْقُطُ وَرَقُهَا فِي الْمَسْجِدِ وَثَمَرُهَا، وَتَسْقُطُ عَلَيْهَا الْعَصَافِيرُ وَالطُّيُورُ فَتَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، وَرُبَّمَا اجْتَمَعَ الصِّبْيَانُ فِي الْمَسْجِدِ لِأَجْلِهَا وَرَمَوْهَا بِالْحِجَارَةِ لِيَسْقُطَ ثَمَرُهَا.

خَامِسًا: الْغَرْسُ فِي الْأَرْضِ الْمَوَاتِ:

10- اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ غَرْسَ الشَّجَرَةِ فِي الْأَرْضِ الْمَوَاتِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ إِحْيَائِهَا.

وَتَفْصِيلُ مَسَائِلِ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ فِي مُصْطَلَحِهِ (ف 24).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


90-موسوعة الفقه الكويتية (غسل 1)

غُسْلٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْغُسْلُ لُغَةً: مَصْدَرُ غَسَلَهُ يَغْسِلُهُ وَيُضَمُّ، أَوْ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ وَبِالضَّمِّ اسْمٌ.

وَالْغِسْلُ بِالْكَسْرِ: مَا يُغْسَلُ بِهِ الرَّأْسُ مِنْ خَطْمِيٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَيَأْتِي الْغُسْلُ بِمَعْنَى التَّطْهِيرِ، يُقَالُ: غَسَلَ اللَّهُ حَوْبَتَكَ أَيْ خَطِيئَتَكَ.

وَالْغُسْلُ فِي الِاصْطِلَاحِ: اسْتِعْمَالُ مَاءٍ طَهُورٍ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ بِشُرُوطٍ وَأَرْكَانٍ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الطَّهَارَةُ:

2- الطَّهَارَةُ لُغَةً: النَّظَافَةُ وَالنَّزَاهَةُ عَنِ الْأَنْجَاسِ وَالْأَدْنَاسِ.

وَاصْطِلَاحًا عَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا: ارْتِفَاعُ الْحَدَثِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَزَوَالُ النَّجَسِ.

فَالطَّهَارَةُ أَعَمُّ مِنَ الْغُسْلِ.

ب- الْوُضُوءُ:

3- الْوَضُوءُ- بِالْفَتْحِ- فِي اللُّغَةِ الْمَاءُ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ، وَهُوَ أَيْضًا الْمَصْدَرُ مِنْ تَوَضَّأْتُ لِلصَّلَاةِ.

وَالْوُضُوءُ- بِالضَّمِّ- الْفِعْلُ.

وَاصْطِلَاحًا هُوَ: اسْتِعْمَالُ مَاءٍ طَهُورٍ فِي الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

4- الْغُسْلُ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وقوله تعالى {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أَيِ اغْتَسَلْنَ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ، وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ».

وَالْغُسْلُ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ وَالْحَائِضِ، وَقَدْ يَكُونُ سُنَّةً كَغُسْلِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ.

وَيُفْرِدُ الْفُقَهَاءُ لِلْأَغْسَالِ الْمَسْنُونَةِ فَصْلًا خَاصًّا، وَسَتَأْتِي فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.

مُوجِبَاتُ الْغُسْلِ:

أَسْبَابُ وُجُوبِ الْغُسْلِ هِيَ:

الْأَوَّلُ- خُرُوجُ الْمَنِيِّ:

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ خُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْ مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ، بَلْ نَقَلَ النَّوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي النَّوْمِ أَوِ الْيَقِظَةِ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» وَمَعْنَاهُ- كَمَا حَكَاهُ النَّوَوِيُّ- يَجِبُ الْغُسْلُ بِالْمَاءِ مِنْ إِنْزَالِ الْمَاءِ الدَّافِقِ وَهُوَ الْمَنِيُّ، وَعَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ- رضي الله عنها- أَنَّهَا سَأَلَتْ نَبِيَّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا رَأَتْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ فَلْتَغْتَسِلْ»، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ وَاسْتَحْيَيْتُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَتْ: وَهَلْ يَكُونُ هَذَا؟ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «نَعَمْ، فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ؟، إِنَّ مَاءَ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ، وَمَاءَ الْمَرْأَةِ رَقِيقٌ أَصْفَرُ، فَمِنْ أَيِّهِمَا عَلَا أَوْ سَبَقَ يَكُونُ مِنْهُ الشَّبَهُ»، وَفِي لَفْظٍ أَنَّهَا قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: نَعَمْ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ».

وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِإِيجَابِ الْغُسْلِ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ كَوْنَهُ عَنْ شَهْوَةٍ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَوِ انْفَصَلَ- أَيِ الْمَنِيُّ- بِضَرْبٍ أَوْ حَمْلٍ ثَقِيلٍ عَلَى ظَهْرِهِ فَلَا غُسْلَ عِنْدَنَا.

وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: وَإِنْ خَرَجَ بِلَا لَذَّةٍ بَلْ سَلَسًا أَوْ بِضَرْبَةٍ أَوْ طَرْبَةٍ أَوْ لَدْغَةِ عَقْرَبٍ فَلَا غُسْلَ.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ الْمَنِيُّ بِلَذَّةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْغُسْلُ، كَنُزُولِهِ بِمَاءٍ حَارٍّ فَأَحَسَّ بِمَبَادِئِ اللَّذَّةِ وَاسْتَدَامَ حَتَّى أَنْزَلَ، وَكَحَكَّةٍ لِجَرَبٍ بِذَكَرِهِ، أَوْ هَزَّ دَابَّةً لَهُ، فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يُحِسَّ بِمَبَادِئِ اللَّذَّةِ فَيَسْتَدِيمَ فِيهَا حَتَّى يُمْنِي فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ، أَمَّا لَوْ كَانَ الْجَرَبُ بِغَيْرِ ذَكَرِهِ فَالظَّاهِرُ عَدَمُ وُجُوبِ الْغُسْلِ.

وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ الشَّهْوَةَ، وَقَالُوا بِوُجُوبِ الْغُسْلِ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ مُطْلَقًا.

وَشَرَطَ أَبُو يُوسُفَ الدَّفْقَ أَيْضًا، وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ، وَأَثَرُ الْخِلَافِ يَظْهَرُ فِيمَا لَوِ احْتَلَمَ أَوْ نَظَرَ بِشَهْوَةٍ، فَأَمْسَكَ ذَكَرَهُ حَتَّى سَكَنَتْ شَهْوَتُهُ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ فَأَنْزَلَ، وَجَبَ الْغُسْلُ عِنْدَهُمَا لَا عِنْدَهُ، قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: وَبِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُفْتَى فِي ضَيْفٍ خَافَ رِيبَةً أَوِ اسْتَحْيَا، وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ قِيَاسٌ وَقَوْلُهُمَا اسْتِحْسَانٌ، وَإِنَّهُ الْأَحْوَطُ فَيَنْبَغِي الْإِفْتَاءُ بِقَوْلِهِ فِي مَوَاضِعِ الضَّرُورَةِ فَقَطْ.

كَمَا اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِإِيجَابِ الْغُسْلِ خُرُوجَ الْمَنِيِّ مِنَ الْعُضْوِ- ذَكَرِ الرَّجُلِ وَفَرْجِ الْمَرْأَةِ الدَّاخِلِ قَالَ النَّوَوِيُّ: لَوْ قَبَّلَ امْرَأَةً فَأَحَسَّ بِانْتِقَالِ الْمَنِيِّ وَنُزُولِهِ، فَأَمْسَكَ ذَكَرَهُ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ فِي الْحَالِ شَيْءٌ، وَلَا عَلِمَ خُرُوجَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً وَدَلِيلُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» وَلِأَنَّ الْعُلَمَاءَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحَسَّ بِالْحَدَثِ كَالْقَرْقَرَةِ وَالرِّيحِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ، فَكَذَا هُنَا.

وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَابِلَةُ الْخُرُوجَ، بَلْ أَوْجَبُوا الْغُسْلَ بِالْإِحْسَاسِ بِالِانْتِقَالِ، فَلَوْ أَحَسَّ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ بِانْتِقَالِ الْمَنِيِّ فَحَبَسَهُ فَلَمْ يَخْرُجْ، وَجَبَ الْغُسْلُ كَخُرُوجِهِ؛ لِأَنَّ الْجَنَابَةَ أَصْلُهَا الْبُعْدُ، لقوله تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} أَيِ الْبَعِيدِ، وَمَعَ الِانْتِقَالِ قَدْ بَاعَدَ الْمَاءُ مَحَلَّهُ، فَصَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْجُنُبِ، وَإِنَاطَةً لِلْحُكْمِ بِالشَّهْوَةِ، وَتَعْلِيقًا لَهُ عَلَى الْمَظِنَّةِ، إِذْ بَعْدَ انْتِقَالِهِ يَبْعُدُ عَدَمُ خُرُوجِهِ، وَأَنْكَرَ أَحْمَدُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ يَرْجِعُ.

وَهُنَاكَ مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْهَا: أ- رُؤْيَةُ الْمَنِيِّ مِنْ غَيْرِ تَذَكُّرِ الِاحْتِلَامِ:

6- لَوِ اسْتَيْقَظَ النَّائِمُ وَوَجَدَ الْمَنِيَّ، وَلَمْ يَذْكُرِ احْتِلَامًا فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ، وَمَنِ احْتَلَمَ وَلَمْ يَجِدْ مَنِيًّا فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَجِدُ الْبَلَلَ وَلَا يَذْكُرُ احْتِلَامًا؟ قَالَ: يَغْتَسِلُ، وَعَنِ الرَّجُلِ يَرَى أَنَّهُ قَدِ احْتَلَمَ وَلَمْ يَجِدْ بَلَلًا؟ قَالَ: لَا غُسْلَ عَلَيْهِ».

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (احْتِلَام ف 6- 9).

ب- خُرُوجُ الْمَنِيِّ بَعْدَ الْغُسْلِ:

7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِيجَابِ الْغُسْلِ فِي حَالَةِ خُرُوجِ الْمَنِيِّ بَعْدَ الِاغْتِسَالِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اغْتَسَلَ ثُمَّ خَرَجَ الْمَنِيُّ، فَإِنْ كَانَ خُرُوجُهُ بَعْدَ النَّوْمِ أَوِ الْبَوْلِ أَوِ الْمَشْيِ الْكَثِيرِ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ خَرَجَ الْمَنِيُّ بِلَا شَهْوَةٍ قَبْلَ النَّوْمِ أَوِ الْبَوْلِ أَوِ الْمَشْيِ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الْغُسْلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ اللَّذَّةُ نَاشِئَةً عَنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، بَلْ بِمُلَاعَبَةٍ، فَيَجِبُ إِعَادَةُ الْغُسْلِ عِنْدَ خُرُوجِ الْمَنِيِّ وَلَوْ اغْتَسَلَ قَبْلَ خُرُوجِهِ؛ لِأَنَّ غُسْلَهُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا، وَإِنْ كَانَتِ اللَّذَّةُ نَاشِئَةً عَنْ جِمَاعٍ، بِأَنْ غَيَّبَ الْحَشَفَةَ وَلَمْ يُنْزِلْ، ثُمَّ اغْتَسَلَ ثُمَّ أَمْنَى، فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْجَنَابَةَ لَا يَتَكَرَّرُ غُسْلُهَا، وَلَكِنْ يَتَوَضَّأُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا أَمْنَى وَاغْتَسَلَ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ مَنِيٌّ عَلَى الْقُرْبِ بَعْدَ غُسْلِهِ لَزِمَهُ الْغُسْلُ ثَانِيًا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَبُولَ بَعْدَ الْمَنِيِّ أَوْ بَعْدَ بَوْلِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» وَلَمْ يُفَرِّقْ؛ وَلِأَنَّهُ نَوْعُ حَدَثٍ فَنَقَضَ مُطْلَقًا، كَالْبَوْلِ وَالْجِمَاعِ وَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ الْمَنِيُّ بَعْدَ الْغُسْلِ فَلَا يَجِبُ الْغُسْلُ ثَانِيًا، لِمَا رَوَى سَعِيدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْجُنُبِ يَخْرُجُ مِنْهُ الشَّيْءُ بَعْدَ الْغُسْلِ؟ قَالَ: يَتَوَضَّأُ، وَكَذَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-؛ وَلِأَنَّهُ مَنِيٌّ وَاحِدٌ فَأَوْجَبَ غُسْلًا وَاحِدًا كَمَا لَوْ خَرَجَ دَفْقَةً وَاحِدَةً؛ وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ أَشْبَهَ الْخَارِجَ لِبَرْدٍ، وَبِهِ عَلَّلَ أَحْمَدُ، قَالَ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ مَاضِيَةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ حَدَثٌ أَرْجُو أَنْ يُجْزِيَهُ الْوُضُوءُ. ج- خُرُوجُ الْمَنِيِّ مِنْ غَيْرِ مَخْرَجِهِ الْمُعْتَادِ:

8- نَصَّ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّهُ لَوِ انْكَسَرَ صُلْبُ الرَّجُلِ فَخَرَجَ مِنْهُ الْمَنِيُّ، وَلَمْ يُنْزِلْ مِنَ الذَّكَرِ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ حُكْمَهُ كَالنَّجَاسَةِ الْمُعْتَادَةِ.

قَالَ الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا خَرَجَ الْمَنِيُّ مِنْ ثَقْبٍ فِي الذَّكَرِ غَيْرِ الْإِحْلِيلِ، أَوْ مِنْ ثَقْبٍ فِي الْأُنْثَيَيْنِ أَوِ الصُّلْبِ، فَحَيْثُ نَقَضْنَا الْوُضُوءَ بِالْخَارِجِ مِنْهُ أَوْجَبْنَا الْغُسْلَ، وَقَطَعَ الْبَغَوِيُّ بِوُجُوبِ الْغُسْلِ بِخُرُوجِهِ مِنْ غَيْرِ الذَّكَرِ، قَالَ النَّوَوِيُّ وَالصَّوَابُ تَفْصِيلُ الْمُتَوَلِّي.

وَصَرَّحَ ابْنُ عَابِدِينَ بِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ الْمَنِيُّ مِنْ جُرْحٍ فِي الْخُصْيَةِ، بَعْدَ انْفِصَالِهِ عَنْ مَقَرِّهِ بِشَهْوَةٍ، فَالظَّاهِرُ افْتِرَاضُ الْغُسْلِ.

الثَّانِي- الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ:

9- الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ مِنْ مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ بِالِاتِّفَاقِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ، ثُمَّ جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: «وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ» وَلِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ، وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» وَالْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ يَحْصُلُ بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرَجِ، ذَلِكَ أَنَّ خِتَانَ الرَّجُلِ هُوَ الْجِلْدُ الَّذِي يَبْقَى بَعْدَ الْخِتَانِ، وَخِتَانَ الْمَرْأَةِ جِلْدَةٌ كَعُرْفِ الدِّيكِ فَوْقَ الْفَرَجِ فَيُقْطَعُ مِنْهَا فِي الْخِتَانِ، فَإِذَا غَابَتِ الْحَشَفَةُ فِي الْفَرَجِ حَاذَى خِتَانُهُ خِتَانَهَا، وَإِذَا تَحَاذَيَا فَقَدِ الْتَقَيَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ الْتِصَاقَهُمَا وَضَمَّ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ، فَإِنَّهُ لَوْ وَضَعَ مَوْضِعَ خِتَانِهِ عَلَى مَوْضِعِ خِتَانِهَا وَلَمْ يُدْخِلْهُ فِي مَدْخَلِ الذَّكَرِ لَمْ يَجِبِ الْغُسْلُ، وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: الْحَشَفَةُ رَأْسُ الذَّكَرِ.

وَلَا بُدَّ لِإِيجَابِ الْغُسْلِ مِنْ تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ بِكَمَالِهَا فِي الْفَرْجِ، فَإِنْ غَيَّبَ بَعْضَهَا فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعَ الْحَشَفَةِ أَوْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ تُخْلَقْ لَهُ حَشَفَةٌ فَيُعْتَبَرُ قَدْرُهَا، قَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا قُطِعَ بَعْضُ الذَّكَرِ، فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دُونَ قَدْرِ الْحَشَفَةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَإِنْ كَانَ قَدْرَهَا فَقَطْ تَعَلَّقَتِ الْأَحْكَامُ بِتَغْيِيبِهِ كُلِّهِ دُونَ بَعْضِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الْحَشَفَةِ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِبَعْضِهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ إِلاَّ بِتَغْيِيبِ جَمِيعِ الْبَاقِي، وَهَذَا مَا رَجَّحَهُ الشَّاشِيُّ وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، ثَانِيهِمَا: تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِقَدْرِ الْحَشَفَةِ مِنْهُ، وَرَجَّحَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَقَطَعَ بِهِ الْفُورَانِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَنَقَلَ صَاحِبُ الدُّرِّ عَنْ الْأَشْبَاهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ قَدْرُ الْحَشَفَةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ.

10- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ الْفَرْجِ الَّذِي يَجِبُ الْغُسْلُ بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ فِيهِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْغُسْلُ بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ فِي مُطْلَقِ الْفَرْجِ، سَوَاءٌ كَانَ لِإِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ، قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ.

لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ شَرَطُوا إِطَاقَةَ ذِي الْفَرْجِ سَوَاءٌ كَانَ آدَمِيًّا أَوْ غَيْرَهُ، فَإِنْ لَمْ يُطِقْ فَلَا غُسْلَ عَلَى ذِي الْحَشَفَةِ الْمُغَيِّبِ مَا لَمْ يُنْزِلْ.

وَوَافَقَ الْحَنَفِيَّةُ الْجُمْهُورَ فِي ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا فَرْجَ الْبَهِيمَةِ وَالْمَيْتَةِ، وَالصَّغِيرَةِ غَيْرِ الْمُشْتَهَاةِ، وَالْعَذْرَاءِ إِنْ لَمْ يُزِلْ عُذْرَتَهَا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ إِنْزَالٌ، وَذَلِكَ لِقُصُورِ الشَّهْوَةِ فِي الْبَهِيمَةِ وَالْمَيْتَةِ وَالصَّغِيرَةِ غَيْرِ الْمُشْتَهَاةِ الَّتِي أُقِيمَتْ مَقَامَ الْإِنْزَالِ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ عِنْدَ الْإِيلَاجِ، وَعَلَامَةُ الصَّغِيرَةِ غَيْرِ الْمُشْتَهَاةِ: أَنْ تَصِيرَ مُفْضَاةً بِالْوَطْءِ.

11- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ التَّكْلِيفِ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى اشْتِرَاطِ التَّكْلِيفِ- الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ- فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُكَلَّفًا فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ فَقَطْ دُونَ الْآخَرِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْمُغَيِّبُ إِنْ كَانَ بَالِغًا وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهِ، وَكَذَا عَلَى الْمُغَيَّبِ فِيهِ إِنْ كَانَ بَالِغًا، وَإِلاَّ وَجَبَ عَلَى الْمُغَيِّبِ دُونَ الْمُغَيَّبِ فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْمُغَيِّبُ غَيْرَ بَالِغٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى مَنْ غَيَّبَ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ بَالِغًا أَمْ لَا مَا لَمْ يُنْزِلْ بِذَلِكَ الْمُغَيَّبُ فِيهِ، وَإِلاَّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ لِلْإِنْزَالِ. وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الصَّبِيُّ إِذَا أَوْلَجَ فِي امْرَأَةٍ أَوْ دُبُرِ رَجُلٍ، أَوْ أَوْلَجَ رَجُلٌ فِي دُبُرِهِ، يَجِبُ الْغُسْلُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ، وَكَذَا إِذَا اسْتَدْخَلَتِ امْرَأَةٌ ذَكَرَ صَبِيٍّ فَعَلَيْهَا الْغُسْلُ، وَيَصِيرُ الصَّبِيُّ فِي كُلِّ هَذِهِ الصُّوَرِ جُنُبًا، وَكَذَا الصَّبِيَّةُ إِذَا أَوْلَجَ فِيهَا رَجُلٌ أَوْ صَبِيٌّ، وَكَذَا لَوْ أَوْلَجَ صَبِيٌّ فِي صَبِيٍّ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ وَغَيْرُهُ، وَإِذَا صَارَ جُنُبًا لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ مَا لَمْ يَغْتَسِلْ، وَلَا يُقَالُ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ، كَمَا لَا يُقَالُ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، بَلْ يُقَالُ: صَارَ مُحْدِثًا، وَيَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْغُسْلِ إِنْ كَانَ مُمَيِّزًا.

وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَابِلَةُ التَّكْلِيفَ لِوُجُوبِ الْغُسْلِ، فَيَجِبُ الْغُسْلُ عَلَى الْمُجَامِعِ غَيْرِ الْبَالِغِ- إِنْ كَانَ يُجَامِعُ مِثْلَهُ كَابْنَةِ تِسْعٍ وَابْنِ عَشْرٍ- فَاعِلًا كَانَ أَوْ مَفْعُولًا بِهِ إِذَا أَرَادَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْغُسْلِ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَلَيْسَ مَعْنَى وُجُوبِ الْغُسْلِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ التَّأْثِيمَ بِتَرْكِهِ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ أَوِ الطَّوَافِ أَوْ إِبَاحَةِ مَسِّ الْمُصْحَفِ، كَمَا نَصُّوا عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى الْمَجْنُونِ وَالْمَجْنُونَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُوجِبَ الطَّهَارَةِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَصْدُ كَسَبْقِ الْحَدَثِ.

وَهُنَاكَ مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:

أ- الْإِيلَاجُ بِحَائِلٍ:

12- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنَ الْإِيلَاجِ بِحَائِلٍ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْغُسْلُ عَلَى مَنْ أَوْلَجَ حَشَفَتَهُ أَوْ قَدْرَهَا مَلْفُوفَةً بِخِرْقَةٍ كَثِيفَةٍ تَمْنَعُ اللَّذَّةَ، فَإِنْ كَانَتِ الْخِرْقَةُ رَقِيقَةً بِحَيْثُ يَجِدُ مَعَهَا اللَّذَّةَ وَحَرَارَةَ الْفَرْجِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ فِي الْخِرْقَةِ الْكَثِيفَةِ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى مُولِجًا، وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ، أَوْ مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: وَالْأَحْوَطُ الْوُجُوبُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اخْتِيَارٌ لِلْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْغُسْلُ عَلَى مَنْ أَوْلَجَ بِحَائِلٍ مُطْلَقًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنُصُّوا عَلَى كَوْنِ الْحَائِلِ رَقِيقًا أَوْ كَثِيفًا.

ب- الْإِيلَاجُ فِي فَرْجٍ غَيْرِ أَصْلِيٍّ:

13- اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْإِيلَاجِ فِي الْفَرْجِ: أَنْ يَكُونَ الْفَرْجُ أَصْلِيًّا، احْتِرَازًا مِنْ فَرْجِ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ، وَصَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ لَا غُسْلَ عَلَى الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ بِإِيلَاجِهِ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ؛ لِجَوَازِ كَوْنِهِ امْرَأَةً وَهَذَا الذَّكَرُ مِنْهُ زَائِدٌ، فَيَكُونُ كَالْإِصْبَعِ الزَّائِدِ، كَمَا أَنَّهُ لَا غُسْلَ عَلَى مَنْ جَامَعَهُ فِي قُبُلِهِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا، فَفَرْجُهُ كَالْجُرْحِ، فَلَا يَجِبُ بِالْإِيلَاجِ فِيهِ غُسْلٌ بِمُجَرَّدِهِ، أَمَّا لَوْ جَامَعَهُ رَجُلٌ فِي دُبُرِهِ وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهِمَا لِعَدَمِ الْإِشْكَالِ فِي الدُّبُرِ.

ج- وَطْءُ الْجِنِّ:

14- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ وَطْءِ الْجِنِّ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْغُسْلُ مِنْ إِتْيَانِ الْجِنِّ لِلْمَرْأَةِ، وَإِتْيَانِ الرَّجُلِ لِلْجِنِّيَّةِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ إِنْزَالٌ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْمُحِيطِ: لَوْ قَالَتْ: مَعِي جِنِّيٌّ يَأْتِينِي مِرَارًا وَأَجِدُ مَا أَجِدُ إِذَا جَامَعَنِي زَوْجِي لَا غُسْلَ عَلَيْهَا لِانْعِدَامِ سَبَبِهِ، وَهُوَ الْإِيلَاجُ أَوْ الِاحْتِلَامُ.

وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مَا إِذَا ظَهَرَ لَهَا فِي صُورَةِ الْآدَمِيِّ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْغُسْلُ، وَكَذَا إِذَا ظَهَرَ لِلرَّجُلِ جِنِّيَّةٌ فِي صُورَةٍ آدَمِيَّةٍ فَوَطِئَهَا، وَذَلِكَ لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ الصُّورِيَّةِ الْمُفِيدَةِ لِكَمَالِ السَّبَبِيَّةِ.

وَقَالَ السُّيُوطِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ وَطِئَ الْجِنِّيُّ الْإِنْسِيَّةَ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا الْغُسْلُ؟ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ أَصْحَابُنَا، وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا غُسْلَ عَلَيْهَا؛ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْإِيلَاجِ وَالْإِنْزَالِ فَهُوَ كَالْمَنَامِ بِغَيْرِ إِنْزَالٍ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَهُوَ الْجَارِي عَلَى قَوَاعِدِنَا.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى الْمَرْأَةِ لَوْ قَالَتْ: بِي جِنِّيٌّ يُجَامِعُنِي كَالرَّجُلِ، وَكَذَا الرَّجُلُ لَوْ قَالَ: بِي جِنِّيَّةٌ أُجَامِعُهَا كَالْمَرْأَةِ.

د- إِيلَاجُ ذَكَرِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ:

15- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ إِيلَاجِ ذَكَرِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ إِيلَاجِ ذَكَرِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ كَالْبَهِيمَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا غُسْلَ مِنْ إِيلَاجِ ذَكَرِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ.

هـ- وَطْءُ الْمَيِّتِ:

16- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى الْمُولِجِ فِي فَرْجِ الْمَيِّتِ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ، وَلَا يُعَادُ غُسْلُ الْمَيِّتِ الْمُغَيَّبِ فِيهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُعَادُ غُسْلُ الْمَيِّتَةِ الْمَوْطُوءَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا غُسْلَ فِي وَطْءِ الْمَيِّتَةِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى الْمَرْأَةِ فِيمَا لَوِ اسْتَدْخَلَتْ ذَكَرَ مَيِّتٍ فِي فَرْجِهَا:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْغُسْلُ عَلَى الْمَرْأَةِ لَوْ أَدْخَلَتْ ذَكَرَ مَيِّتٍ فِي فَرْجِهَا مَا لَمْ تُنْزِلْ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهَا.

و- وُصُولُ الْمَنِيِّ إِلَى الْفَرْجِ مِنْ غَيْرِ إِيلَاجٍ:

17- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا غُسْلَ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا وَصَلَ الْمَنِيُّ إِلَى فَرْجِهَا مَا لَمْ تُنْزِلْ؛ لِفَقْدِ الْإِيلَاجِ وَالْإِنْزَالِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنْ حَبِلَتْ مِنْهُ وَجَبَ الْغُسْلُ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِنْزَالِ، وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُ فِي إِعَادَةِ مَا صَلَّتْ بَعْدَ وُصُولِ الْمَنِيِّ إِلَى فَرْجِهَا إِلَى أَنِ اغْتَسَلَتْ بِسَبَبٍ آخَرَ، قَالَ صَاحِبُ الْقُنْيَةِ: وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهَا بِمُجَرَّدِ انْفِصَالِ مَنِيِّهَا إِلَى رَحِمِهَا وَهُوَ خِلَافُ الْأَصَحِّ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا حَمَلَتِ اغْتَسَلَتْ وَأَعَادَتِ الصَّلَاةَ مِنْ يَوْمِ وُصُولِهِ، لِأَنَّ حَمْلَهَا مِنْهُ بَعْدَ انْفِصَالِ مَنِيِّهَا مِنْ مَحَلِّهِ بِلَذَّةٍ مُعْتَادَةٍ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: هَذَا الْفَرْعُ مَشْهُورٌ مَبْنِيٌّ عَلَى ضَعِيفٍ.

وَهُنَاكَ مَسَائِلُ ذَكَرَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:

1- صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْغُسْلُ فِي السِّحَاقِ- إِتْيَانُ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ- إِذَا لَمْ يَحْصُلْ إِنْزَالٌ.

2- قَالَ صَاحِبُ الْقُنْيَةُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ بِإِدْخَالِ الْأُصْبُعِ فِي الْقُبُلِ أَوِ الدُّبُرِ خِلَافًا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُوجَبَ إِذَا كَانَ فِي الْقُبُلِ إِذَا قَصَدَ الِاسْتِمْتَاعَ لِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ؛ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ فِيهِنَّ غَالِبَةٌ، فَيُقَامُ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ، وَهُوَ الْإِنْزَالُ، دُونَ الدُّبُرِ لِعَدَمِهَا، وَمِثْلُ هَذَا مَا يُصْنَعُ مِنْ خَشَبٍ وَنَحْوِهِ عَلَى صُورَةِ الذَّكَرِ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُنْقَضُ وُضُوءُ الْمَرْأَةِ بِمَسِّهَا لِفَرْجِهَا وَلَوْ أَلْطَفَتْ، أَيْ أَدْخَلَتْ أُصْبُعًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أَصَابِعِهَا فِي فَرْجِهَا.

الثَّالِثُ- الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ:

18- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَآخَرُونَ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ.

وَدَلِيلُ وُجُوبِ الْغُسْلِ فِي الْحَيْضِ قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} أَيْ إِذَا اغْتَسَلْنَ، فَمَنَعَ الزَّوْجَ مِنْ وَطْئِهَا قَبْلَ غُسْلِهَا، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ عَلَيْهَا، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: «إِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي».

وَدَلِيلُ وُجُوبِهِ فِي النِّفَاسِ الْإِجْمَاعُ- حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَالْمرغينَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ- وَلِأَنَّهُ حَيْضٌ مُجْتَمِعٌ؛ وَلِأَنَّهُ يُحَرِّمُ الصَّوْمَ وَالْوَطْءَ وَيُسْقِطُ فَرْضَ الصَّلَاةِ، فَأَوْجَبَ الْغُسْلَ كَالْحَيْضِ.

19- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُوجِبِ لِلْغُسْلِ، هَلْ هُوَ وُجُودُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ أَوِ انْقِطَاعُهُ أَوْ شَيْءٌ آخَرُ؟

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْغُسْلِ وُجُودُ الْحَيْضِ لَا انْقِطَاعُهُ، وَالِانْقِطَاعُ إِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْغُسْلِ.

وَمِثْلُ الْمَالِكِيَّةِ الْحَنَابِلَةُ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: يَجِبُ بِالْخُرُوجِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ بِالْخُرُوجِ إِنَاطَةً لِلْحُكْمِ بِسَبَبِهِ، وَالِانْقِطَاعُ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ، وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ بِالِانْقِطَاعِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: الْحَيْضُ مُوجِبٌ بِشَرْطِ انْقِطَاعِهِ.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: سَبَبُ وُجُوبِ الْغُسْلِ إِرَادَةُ فِعْلِ مَا لَا يَحِلُّ إِلاَّ بِهِ عِنْدَ عَدَمِ ضِيقِ الْوَقْتِ، أَوْ عِنْدَ وُجُوبِ مَا لَا يَصِحُّ مَعَهُ، وَذَلِكَ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ.

وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الشَّافِعِيَّةِ، فَصَحَّحَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّ مُوجِبَهُ الِانْقِطَاعُ، وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: الْخُرُوجُ مُوجِبٌ وَالِانْقِطَاعُ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ، وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَيُعْتَبَرُ مَعَ خُرُوجِ كُلٍّ مِنْهُمَا- الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ- وَانْقِطَاعِهِ الْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ أَوْ نَحْوِهَا كَمَا فِي الرَّافِعِيِّ وَالتَّحْقِيقِ، وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ: وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخِلَافِ فَائِدَةٌ فِقْهِيَّةٌ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فَائِدَتُهُ أَنَّ الْحَائِضَ إِذَا أَجْنَبَتْ، وَقُلْنَا: لَا يَجِبُ غُسْلُ الْحَيْضِ إِلاَّ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ، وَقُلْنَا بِالْقَوْلِ الضَّعِيفِ إِنَّ الْحَائِضَ لَا تُمْنَعُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، فَلَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ عَنِ الْجَنَابَةِ لِاسْتِبَاحَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.

وَذَكَرَ صَاحِبُ الْبَحْرِ فَائِدَةً أُخْرَى، قَالَ: لَوِ اسْتُشْهِدَتِ الْحَائِضُ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ قَبْلَ انْقِطَاعِ حَيْضِهَا، فَإِنْ قُلْنَا يَجِبُ بِالِانْقِطَاعِ لَمْ تُغْسَلْ.وَإِنْ قُلْنَا بِالْخُرُوجِ فَهَلْ تُغْسَلُ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ فِي غُسْلِ الْجُنُبِ الشَّهِيدِ.

وَذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَيْضًا الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْإِقْنَاعِ.

وَذَكَرَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ فَائِدَةً ثَالِثَةً، وَهِيَ فِيمَا إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ وَجَبَ عَلَيْكِ غُسْلٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ.

الرَّابِعُ- الْمَوْتُ:

20- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْمَوْتَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ تُوُفِّيَتْ إِحْدَى بَنَاتِهِ: «اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ».

وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى سُنِّيَّةِ غُسْلِ الْمَيِّتِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وُجُوبُ غُسْلِ الْمَيِّتِ هُوَ قَوْلُ عَبْدِ الْوَهَّابِ وَابْنِ مُحْرِزٍ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَشَهَرَهُ ابْنُ رَاشِدٍ وَابْنُ فَرْحُونَ، وَأَمَّا سُنِّيَّتُهُ فَحَكَاهَا ابْنُ أَبِي زَيْدٍ وَابْنُ يُونُسَ وَابْنُ الْجَلاَّبِ وَشَهَرَهُ ابْنُ بَزِيزَةَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَغْسِيلُ الْمَيِّتِ ف 2)

الْخَامِسُ- إِسْلَامُ الْكَافِرِ:

21- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ إِسْلَامَ الْكَافِرِ مُوجِبٌ لِلْغُسْلِ، فَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَغْتَسِلَ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- «أَنَّ ثُمَامَةَ بْنَ أَثَالٍ- رضي الله عنه- أَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- اذْهَبُوا بِهِ إِلَى حَائِطِ بَنِي فُلَانٍ فَمُرُوهُ أَنْ يَغْتَسِلَ» وَعَنْ «قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّهُ أَسْلَمَ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَغْتَسِلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ»؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ غَالِبًا مِنْ جَنَابَةٍ، فَأُقِيمَتِ الْمَظِنَّةُ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ كَالنَّوْمِ وَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ وَالْمُرْتَدِّ، فَيَجِبُ الْغُسْلُ عَلَى الْمُرْتَدِّ أَيْضًا إِذَا أَسْلَمَ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِصِحَّةِ الْغُسْلِ قَبْلَ النُّطْقِ بِالشَّهَادَةِ إِذَا أَجْمَعَ بِقَلْبِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ إِسْلَامَهُ بِقَلْبِهِ إِسْلَامٌ حَقِيقِيٌّ مَتَى عَزَمَ عَلَى النُّطْقِ مِنْ غَيْرِ إِبَاءٍ، لِأَنَّ النُّطْقَ لَيْسَ رُكْنًا مِنَ الْإِيمَانِ وَلَا شَرْطَ صِحَّةٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَالُوا: لَوْ نَوَى بِغُسْلِهِ الْجَنَابَةَ أَوِ الطَّهَارَةَ أَوِ الْإِسْلَامَ كَفَاهُ؛ لِأَنَّ نِيَّتَهُ الطُّهْرُ مِنْ كُلِّ مَا كَانَ فِي حَالِ كُفْرِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَسَوَاءٌ وُجِدَ مِنْهُ فِي كُفْرِهِ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ مِنْ نَحْوِ جِمَاعٍ أَوْ إِنْزَالٍ أَوْ لَا، وَسَوَاءٌ اغْتَسَلَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ أَوْ لَا، فَيَكْفِيهِ غُسْلُ الْإِسْلَامِ، سَوَاءٌ نَوَى الْكُلَّ أَوْ نَوَى غُسْلَ الْإِسْلَامِ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ أَلاَّ يَرْتَفِعَ غَيْرُهُ.لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَسْتَفْصِلْ.وَلَوِ اخْتَلَفَ الْحَالُ لَوَجَبَ الِاسْتِفْصَالُ، وَوَقْتُ وُجُوبِ الْغُسْلِ إِذَا أَسْلَمَ، أَيْ بَعْدَ النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ. 22- وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ الْغُسْلِ لِلْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ وَهُوَ غَيْرُ جُنُبٍ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ «لَمَّا أَسْلَمَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ- رضي الله عنه- أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَغْتَسِلَ».وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَلَمْ يَأْمُرْهُمُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِالْغُسْلِ.

وَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَهُوَ جُنُبٌ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ.وَقَالَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: الْأَصَحُّ وُجُوبُ الْغُسْلِ عَلَيْهِ لِبَقَاءِ صِفَةِ الْجَنَابَةِ السَّابِقَةِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَلَا يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الْمَشْرُوطِ بِزَوَالِهَا إِلاَّ بِهِ، وَقِيلَ: لَا يَجِبُ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ، وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ جَنَابَةٌ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَاضَتِ الْكَافِرَةُ فَطَهُرَتْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهَا، وَلَوْ أَسْلَمَتْ حَائِضًا ثُمَّ طَهُرَتْ وَجَبَ عَلَيْهَا الْغُسْلُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُنُبِ أَنَّ صِفَةَ الْجَنَابَةِ بَاقِيَةٌ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَكَأَنَّهُ أَجْنَبَ بَعْدَهُ، وَالِانْقِطَاعُ فِي الْحَيْضِ هُوَ السَّبَبُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ بَعْدَهُ.قَالَ قَاضِيخَانْ: وَالْأَحْوَطُ وُجُوبُ الْغُسْلِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ فِيمَا لَوِ اغْتَسَلَ حَالَ كُفْرِهِ هَلْ يَجِبُ إِعَادَتُهُ؟ أَحَدُهُمَا: لَا تَجِبُ إِعَادَتُهُ لِأَنَّهُ غُسْلٌ صَحِيحٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ إِبَاحَةُ الْوَطْءِ فِي حَقِّ الْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ فَلَمْ تَجِبْ إِعَادَتُهُ كَغُسْلِ الْمُسْلِمَةِ.

وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ- تَجِبُ إِعَادَتُهُ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ فَلَمْ تَصِحَّ مِنَ الْكَافِرِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَقَطَعَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَآخَرُونَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْكَافِرِ الْمُغْتَسِلِ فِي الْكُفْرِ، وَالْكَافِرَةِ الْمُغْتَسِلَةِ لِحِلِّهَا لِزَوْجِهَا الْمُسْلِمِ، فَالْأَصَحُّ فِي الْجَمِيعِ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ.

فَرَائِضُ الْغُسْلِ:

الْأُولَى- النِّيَّةُ:

23- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ فَرْضٌ فِي الْغُسْلِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَيَكْفِي فِيهَا نِيَّةُ رَفْعِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ أَوِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ فِي الْغُسْلِ سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ. وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (نِيَّة)

الثَّانِيَةُ- تَعْمِيمُ الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةِ بِالْمَاءِ:

24- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَعْمِيمَ الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةِ بِالْمَاءِ مِنْ فُرُوضِ الْغُسْلِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي الْمَاءِ فَيُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ شَعْرِهِ، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ غُرَفٍ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ يُفِيضُ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ» وَعَنْ مَيْمُونَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ «تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ غَيْرَ رِجْلَيْهِ، وَغَسَلَ فَرْجَهُ وَمَا أَصَابَهُ مِنَ الْأَذَى، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، ثُمَّ نَحَّى رِجْلَيْهِ فَغَسَلَهُمَا، هَذِهِ غُسْلُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ» وَلِمَا رَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «تَذَاكَرْنَا غُسْلَ الْجَنَابَةِ عِنْدَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَمَّا أَنَا فَآخُذُ مِلْءَ كَفَّيَّ ثَلَاثًا فَأَصُبُّ عَلَى رَأْسِي، ثُمَّ أُفِيضُهُ بَعْدُ عَلَى سَائِرِ جَسَدِي».وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةً، فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَ».

قَالَ النَّوَوِيُّ: إِفَاضَةُ الْمَاءِ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ وَاجِبٌ بِلَا خِلَافٍ، وَمِنْ ثَمَّ يَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى كُلِّ ظَاهِرِ الْجَسَدِ وَمِنْهُ مَا تَحْتَ الشَّعْرَةِ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّعْرُ الَّذِي عَلَى الْبَشَرَةِ خَفِيفًا أَوْ كَثِيفًا، يَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِهِ وَجَمِيعِ الْبَشَرَةِ تَحْتَهُ بِلَا خِلَافٍ.

وَقَدْ نَبَّهَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَوَاضِعَ قَدْ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا الْمَاءُ كَعُمْقِ السُّرَّةِ، وَتَحْتِ ذَقَنِهِ، وَتَحْتِ جَنَاحَيْهِ، وَمَا بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ، وَمَا تَحْتَ رُكْبَتَيْهِ، وَأَسَافِلِ رِجْلَيْهِ.وَيُخَلِّلُ أَصَابِعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَيُخَلِّلُ شَعْرَ لِحْيَتِهِ وَشَعْرَ الْحَاجِبَيْنِ وَالْهُدْبَ وَالشَّارِبَ وَالْإِبِطَ وَالْعَانَةَ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَجِبُ غَسْلُ كُلِّ مَا يُمْكِنُ بِلَا حَرَجٍ، كَأُذُنٍ وَسُرَّةٍ وَشَارِبٍ وَحَاجِبٍ وَإِنْ كَثُفَ، وَلِحْيَةٍ وَشَعْرِ رَأْسٍ وَلَوْ مُتَلَبِّدًا، وَفَرْجٍ خَارِجٍ.وَأَمَّا الْفَرْجُ الدَّاخِلُ فَلَا يُغْسَلُ لِأَنَّهُ بَاطِنٌ، وَلَا تُدْخِلُ أُصْبُعَهَا فِي قُبُلِهَا.وَلَا يَجِبُ غَسْلُ مَا فِيهِ حَرَجٌ كَعَيْنٍ وَثَقْبٍ انْضَمَّ بَعْدَ نَزْعِ الْقُرْطِ وَصَارَ بِحَالٍ إِنْ أُمِرَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ يَدْخُلْهُ، وَإِنْ غُفِلَ لَا، فَلَا بُدَّ مِنْ إِمْرَارِهِ، وَلَا يَتَكَلَّفُ لِغَيْرِ الْإِمْرَارِ مِنْ إِدْخَالِ عُودٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ الْحَرَجَ مَرْفُوعٌ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


91-موسوعة الفقه الكويتية (فتح على الإمام)

فَتْح عَلَى الْإِمَامِ

التَّعْرِيفُ:

1- الْفَتْحُ فِي اللُّغَةِ نَقِيضُ الْإِغْلَاقِ، يُقَالُ: فَتَحَ الْبَابَ يَفْتَحُهُ فَتْحًا: أَزَالَ غَلْقَهُ.

وَالْإِمَامُ كُلُّ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ.

وَالْفَتْحُ عَلَى الْإِمَامِ فِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ: تَلْقِينُ الْمَأْمُومِ الْإِمَامَ الْآيَةَ عِنْدَ التَّوَقُّفِ فِيهَا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- اللَّبْسُ:

2- اللَّبْسُ: اخْتِلَاطُ الْأَمْرِ، مِنْ لَبَسَ الْأَمْرَ عَلَيْهِ يَلْبِسُ لَبْسًا فَالْتَبَسَ: إِذَا خَلَطَهُ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَعْرِفَ جِهَتَهُ وَفِي الْحَدِيثِ «جَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَلَبَسَ عَلَيْهِ».

وَالصِّلَةُ أَنَّ اللَّبْسَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلْفَتْحِ عَلَى الْإِمَامِ.

ب- الْحَصْرُ:

3- الْحَصْرُ: ضَرْبٌ مِنَ الْعِيِّ، مِنْ حَصِرَ الرَّجُلُ حَصْرًا: عَيِيَ، وَكُلُّ مَنِ امْتَنَعَ مِنْ شَيْءٍ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَقَدْ حَصِرَ عَنْهُ.

وَالْحَصْرُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلْفَتْحِ عَلَى الْإِمَامِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

4- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ فَتْحَ الْمُؤْتَمِّ عَلَى إِمَامِهِ إِذَا أُرْتِجَ عَلَيْهِ فِي الْقِرَاءَةِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ وَرَدَّهُ إِذَا غَلِطَ فِي الْقِرَاءَةِ إِلَى الصَّوَابِ مَشْرُوعٌ إِجْمَالًا، وَبِهِ قَالَ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهم-، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ وَابْنِ مَعْقِلٍ، وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى صَلَاةً فَقَرَأَ فِيهَا فَلَبَسَ عَلَيْهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لِأُبَيٍّ- رضي الله عنه-: أَصَلَّيْتَ مَعَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا مَنَعَكَ؟» وَبِحَدِيثِ الْمِسْوَرِ بْنِ يَزِيدَ الْمَالِكِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ، فَتَرَكَ شَيْئًا لَمْ يَقْرَأْهُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَرَكْتَ آيَةَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: هَلاَّ أَذْكَرْتَنِيهَا».

وَكَرِهَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- وَشُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ.

أَحْكَامُ الْفَتْحِ عَلَى الْإِمَامِ:

5- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ أَحْكَامِ الْفَتْحِ عَلَى الْإِمَامِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ إِجْمَالًا.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُؤْتَمَّ إِنْ فَتَحَ عَلَى إِمَامِهِ بَعْدَ تَوَقُّفِهِ فِي الْقِرَاءَةِ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا مُفْسِدًا لِلصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إِلَى إِصْلَاحِ صَلَاتِهِ، سَوَاءٌ أَقَرَأَ الْإِمَامُ مِقْدَارَ الْفَرْضِ فِي الْقِرَاءَةِ أَمْ لَمْ يَقْرَأْ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْتَحْ عَلَيْهِ رُبَّمَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ مَا يَكُونُ مُفْسِدًا لِلصَّلَاةِ، فَكَانَ فِي الْفَتْحِ عَلَيْهِ صَلَاحُ صَلَاتِهِ فِي الْحَالَيْنِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: إِذَا اسْتَطْعَمَكُمُ الْإِمَامُ فَأَطْعِمُوهُ.

وَاسْتِطْعَامُهُ سُكُوتُهُ، وَيَنْوِي الْفَاتِحُ الْفَتْحَ لَا التِّلَاوَةَ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ مُرَخَّصٌ فِيهِ، وَقِرَاءَتُهُ مَمْنُوعٌ عَنْهَا، وَلَوْ فَتَحَ عَلَيْهِ بَعْدَ انْتِقَالِهِ إِلَى آيَةٍ أُخْرَى لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ مَشَايِخِهِمْ، لِإِطْلَاقِ الْمُرَخِّصِ.

وَفِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ: وَفِي الْمُحِيطِ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ، فَإِنَّ فِيهِ: وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ إِذَا فَتَحَ عَلَى إِمَامِهِ يَجُوزُ مُطْلَقًا، لِأَنَّ الْفَتْحَ وَإِنْ كَانَ تَعْلِيمًا، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِعَمَلٍ كَثِيرٍ، وَأَنَّهُ تِلَاوَةٌ حَقِيقِيَّةٌ فَلَا يَكُونُ مُفْسِدًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ، وَصَحَّحَ فِي الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْفَاتِحِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَتَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ، إِذَا أَخَذَ مِنَ الْفَاتِحِ بَعْدَ أَنِ انْتَقَلَ إِلَى آيَةٍ أُخْرَى، وَفِي الْكَافِي: لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ أَيْضًا.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفَتْحَ عَلَى إِمَامِهِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ صَلَاةِ أَحَدٍ لَا الْفَاتِحِ، وَلَا الْآخِذِ فِي الصَّحِيحِ، وَيُكْرَهُ لِلْمُقْتَدِي أَنْ يَعْجَلَ بِالْفَتْحِ، وَيُكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُلْجِئَهُمْ إِلَيْهِ بِأَنْ يَسْكُتَ بَعْدَ الْحَصْرِ، أَوْ يُكَرِّرَ الْآيَةَ، بَلْ يَرْكَعُ إِذَا جَاءَ أَوَانُهُ، أَوْ يَنْتَقِلُ إِلَى آيَةٍ أُخْرَى لَيْسَ فِي وَصْلِهَا مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، أَوْ يَنْتَقِلُ إِلَى سُورَةٍ أُخْرَى.

وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي أَوَانِ الرُّكُوعِ، فَفِي بَعْضِهَا: اعْتُبِرَ أَوَانُهُ إِذَا قَرَأَ الْمُسْتَحَبَّ، وَفِي بَعْضِهَا: اعْتُبِرَ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ: أَيْ إِذَا قَرَأَ مِقْدَارَ مَا يَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ رَكَعَ.

وَإِنْ فَتَحَ الْمُصَلِّي عَلَى غَيْرِ إِمَامِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ تَعْلِيمٌ وَتَعَلُّمٌ، فَكَانَ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ النَّاسِ، إِلاَّ إِذَا نَوَى التِّلَاوَةَ، فَإِنْ نَوَى التِّلَاوَةَ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ عِنْدَ الْكُلِّ، وَتَفْسُدُ صَلَاةُ الْآخِذِ، إِلاَّ إِذَا تَذَكَّرَ قَبْلَ تَمَامِ الْفَتْحِ، وَأَخَذَ فِي التِّلَاوَةِ قَبْلَ تَمَامِ الْفَتْحِ فَلَا تَفْسُدُ، وَإِلاَّ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّ تَذَكُّرَهُ يُضَافُ إِلَى الْفَتْحِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنْ حَصَلَ التَّذَكُّرُ بِسَبَبِ الْفَتْحِ تَفْسُدُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَشَرَعَ فِي التِّلَاوَةِ قَبْلَ تَمَامِ الْفَتْحِ أَمْ بَعْدَهُ، لِوُجُودِ التَّعَلُّمِ، وَإِنْ حَصَلَ تَذَكُّرُهُ مِنْ نَفْسِهِ لَا بِسَبَبِ الْفَتْحِ لَا تَفْسُدُ مُطْلَقًا، وَكَوْنُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ حَصَلَ بِالْفَتْحِ لَا يُؤَثِّرُ بَعْدَ تَحَقُّقِ أَنَّهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَشْمَلُ هَذَا إِذَا كَانَ الْمَفْتُوحُ عَلَيْهِ مُصَلِّيًا أَوْ غَيْرَ مُصَلٍّ، وَإِنْ سَمِعَ الْمُؤْتَمُّ مِمَّنْ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ فَفَتَحَ بِهِ عَلَى إِمَامِهِ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْكُلِّ، لِأَنَّ التَّلْقِينَ مِنْ خَارِجٍ، وَفَتْحُ الْمُرَاهِقِ كَالْبَالِغِ فِيمَا ذُكِرَ.

هَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنَّ الْفَتْحَ عَلَى الْإِمَامِ لَا يَكُونُ مُفْسِدًا لِلصَّلَاةِ، فَلَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْفَاتِحِ مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ قِرَاءَةٌ فَلَا تَتَغَيَّرُ بِقَصْدِ الْقَارِئِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أُرْتِجَ عَلَى الْإِمَامِ فِي الْفَاتِحَةِ يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ يَفْتَحَ عَلَيْهِ عَلَى الْقَوْلِ: بِأَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ تَجِبُ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا أَوْ جُلِّهَا.

أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ: بِأَنَّ الْفَاتِحَةَ تَجِبُ فِي جُلِّ الصَّلَاةِ لَا فِي كُلِّهَا، وَحَصَلَ الرِّتَاجُ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي جُلِّ الصَّلَاةِ، كَأَنْ يَقِفَ فِي ثَالِثَةِ الثُّلَاثِيَّةِ، أَوْ رَابِعَةِ الرَّبَاعِيَةِ، فَالْفَتْحُ عَلَيْهِ سُنَّةٌ، أَمَّا صَلَاةُ الْإِمَامِ فَصَحِيحَةٌ مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ كَمَنْ طَرَأَ لَهُ الْعَجْزُ عَنْ رُكْنٍ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، أَمَّا فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ فَيُسَنُّ الْفَتْحُ عَلَيْهِ إِنْ وَقَفَ حَقِيقَةً: بِأَنِ اسْتَفْتَحَ وَلَمْ يَنْتَقِلْ لِغَيْرِ سُورَةٍ وَلَمْ يُكَرِّرْ آيَةً، أَوْ وَقَفَ حُكْمًا: بِأَنْ رَدَّدَ آيَةً، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّبَرُّكِ أَوِ التَّلَذُّذِ بِهَا، وَيُحْتَمَلُ لِلِاسْتِطْعَامِ، كَقَوْلِهِ: «وَاللَّهُ» وَيُكَرِّرُهَا أَوْ يَسْكُتُ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ بَعْدَهَا «غَفُورٌ رَحِيمٌ».

وَمِنَ الْحُكْمِيِّ أَيْضًا: خَلْطُ آيَةِ رَحْمَةٍ بِآيَةِ عَذَابٍ، أَوْ تَغْيِيرُهُ آيَةً تَغْيِيرًا يَقْتَضِي الْكُفْرَ، أَوْ وَقْفُهُ وَقْفًا قَبِيحًا فَيَفْتَحُ عَلَيْهِ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى الصَّوَابِ، وَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ لِلْفَتْحِ عَلَى إِمَامِهِ، وَأَمَّا إِنِ انْتَقَلَ إِلَى آيَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ، أَوْ لَمْ يَقِفْ فَيُكْرَهُ الْفَتْحُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ وَلَا تَبْطُلُ صَلَاةُ الْفَاتِحِ وَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفَتْحَ عَلَى الْإِمَامِ مُسْتَحَبٌّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا أُرْتِجَ عَلَى الْإِمَامِ وَوَقَفَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ اسْتُحِبَّ لِلْمَأْمُومِ تَلْقِينُهُ، وَكَذَا إِذَا كَانَ يَقْرَأُ فِي مَوْضِعٍ فَسَهَا وَانْتَقَلَ إِلَى غَيْرِهِ اسْتُحِبَّ تَلْقِينُهُ، وَإِذَا سَهَا عَنْ ذِكْرٍ فَأَهْمَلَهُ، أَوْ قَالَ غَيْرَهُ اسْتُحِبَّ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَقُولَهُ جَهْرًا لِيَسْمَعَهُ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه-: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُلَقِّنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الصَّلَاةِ.وَالْأَخْبَارِ السَّابِقَةِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْفَتْحِ عَلَى الْإِمَامِ.

وَلَا يَقْطَعُ الْفَتْحُ عَلَى الْإِمَامِ مُوَالَاةَ الْفَاتِحَةِ، لِأَنَّهُ فِي مَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ، فَلَا يَجِبُ اسْتِئْنَافُهَا، وَإِنْ كَانَ التَّوَقُّفُ فِي قِرَاءَةِ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ، لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ لِلْإِمَامِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَطْلُوبَةِ.

وَلَا بُدَّ فِي الْفَتْحِ عَلَيْهِ مِنْ قَصْدِ الْقِرَاءَةِ، وَلَوْ مَعَ الْفَتْحِ، وَإِلاَّ بَطَلَتْ صَلَاةُ الْفَاتِحِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ.

وَيَكُونُ الْفَتْحُ عَلَى الْإِمَامِ إِذَا تَوَقَّفَ عَنِ الْقِرَاءَةِ وَسَكَتَ، وَلَا يَفْتَحُ عَلَيْهِ مَا دَامَ يُرَدِّدُ.

فَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ الْقِرَاءَةَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ إِنْ كَانَ عَالِمًا، وَإِلاَّ فَلَا تَبْطُلُ، لِأَنَّهَا مِمَّا يَخْفَى عَلَى الْعَوَامِّ غَالِبًا، وَالْفَتْحُ مَنْدُوبٌ عِنْدَهُمْ وَلَوْ فِي الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ، وَفِي حَاشِيَةِ الْقَلْيُوبِيِّ: وَفِيهِ نَظَرٌ فِي الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنَ الْجُمُعَةِ، وَقِيَاسُ نَظَائِرِهِ الْوُجُوبُ فِي هَذِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْطَعُ مُوَالَاةَ الْفَاتِحَةِ وَإِنْ طَالَ، وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا أُرْتِجَ عَلَى الْإِمَامِ فِي الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ كَالْفَاتِحَةِ لَزِمَ مَنْ وَرَاءَهُ الْفَتْحُ عَلَيْهِ، وَكَذَا إِنْ غَلِطَ فِي الْفَاتِحَةِ، لِتَوَقُّفِ صِحَّةِ صَلَاتِهِ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَنْبِيهُهُ عِنْدَ نِسْيَانِ سَجْدَةٍ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَرْكَانِ الْفِعْلِيَّةِ.

وَإِنْ عَجَزَ الْمُصَلِّي عَنْ إِتْمَامِ الْفَاتِحَةِ بِالْإِرْتَاجِ عَلَيْهِ فَكَالْعَاجِزِ عَنِ الْقِيَامِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، يَأْتِي بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ، وَلَا يُعِيدُهَا كَالْأُمِّيِّ، فَإِنْ كَانَ إِمَامًا صَحَّتْ صَلَاةُ الْأُمِّيِّ خَلْفَهُ لِمُسَاوَاتِهِ لَهُ، وَالْقَارِئُ يُفَارِقُهُ لِلْعُذْرِ وَيُتِمُّ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ ائْتِمَامُ الْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ، وَقَالَ الْمُوَفَّقُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ.

وَلَا يَفْتَحُ الْمُصَلِّي عَلَى غَيْرِ إِمَامِهِ مُصَلِّيًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فَإِنْ فَعَلَ كُرِهَ وَلَمْ تَبْطُلِ الصَّلَاةُ بِهِ، لِأَنَّهُ قَوْلٌ مَشْرُوعٌ فِيهَا

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


92-موسوعة الفقه الكويتية (فتوى 2)

فَتْوَى -2

إِفْتَاءُ الْقَاضِي:

21- لَا خِلَافَ فِي أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ فِي الْعِبَادَاتِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا مَدْخَلَ فِيهِ لِلْقَضَاءِ كَالذَّبَائِحِ وَالْأَضَاحِيِّ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِفْتَائِهِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَدْخُلُهَا الْقَضَاءُ.

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ إِلَى أَنَّهُ يُفْتِي فِيهَا أَيْضًا بِلَا كَرَاهَةٍ.

وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تُهْمَةٍ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ إِنْ أَفْتَى فِيهَا تَكُونُ فُتْيَاهُ كَالْحُكْمِ عَلَى الْخَصْمِ، وَلَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ وَقْتَ الْمُحَاكَمَةِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَغَيَّرُ اجْتِهَادُهُ وَقْتَ الْحُكْمِ، أَوْ تَظْهَرُ لَهُ قَرَائِنُ لَمْ تَظْهَرْ لَهُ عِنْدَ الْإِفْتَاءِ، فَإِنْ حَكَمَ بِخِلَافِ مَا أَفْتَى بِهِ جَعَلَ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ سَبِيلًا لِلتَّشْنِيعِ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ شُرَيْحٌ: أَنَا أَقْضِي لَكُمْ وَلَا أُفْتِي، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يُكْرَهُ لِلْقَاضِي الْإِفْتَاءُ فِي مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا، مَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَفْتِي خُصُومَةٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُ خُصُومَةٌ فَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَهُ فِيهَا.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ فِيمَا شَأْنُهُ أَنْ يُخَاصَمَ فِيهِ، كَالْبَيْعِ وَالشُّفْعَةِ وَالْجِنَايَاتِ.

قَالَ الْبُرْزُلِيُّ: وَهَذَا إِذَا كَانَ فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَوْ جَاءَهُ السُّؤَالُ مِنْ خَارِجِ الْبَلَدِ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ فَلَا كَرَاهَةَ.

ثُمَّ إِنْ أَفْتَى الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُكْمًا، وَيَجُوزُ التَّرَافُعُ إِلَى غَيْرِهِ، فَلَوْ حَكَمَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ فِي النَّازِلَةِ بِعَيْنِهَا بِخِلَافِهِ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا لِحُكْمِهِ وَإِنْ رَدَّ شَهَادَةَ وَاحِدٍ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ بِعَدَالَتِهِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ حَكَمَ بِكَذِبِهِ أَوْ بِأَنَّهُ لَمْ يَرَ الْهِلَالَ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَدْخُلُ الْعِبَادَاتِ.

كَمَا تَقَدَّمَ (ف 2، 9).

مَا تَسْتَنِدُ إِلَيْهِ الْفَتْوَى:

22- الْمُجْتَهِدُ يُفْتِي بِمُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ بِالتَّرْتِيبِ الْمُعْتَبَرِ، فَيُفْتِي أَوَّلًا بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ بِمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا الْأَدِلَّةُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا كَالِاسْتِحْسَانِ وَشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، فَإِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا أَفْتَى بِهِ، وَإِذَا تَعَارَضَتْ عِنْدَهُ الْأَدِلَّةُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْتِيَ بِالرَّاجِحِ مِنْهَا.

وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِي السَّعَةِ بِمَذْهَبِ أَحَدِ الْمُجْتَهِدِينَ، مَا لَمْ يُؤَدِّهِ اجْتِهَادُهُ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا هُوَ الْمَرْجُوحُ فِي نَظَرِهِ، نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ قُدَامَةَ وَالْبَاجِيُّ وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ- حَيْثُ قُلْنَا: يَجُوزُ إِفْتَاؤُهُ- فَإِنَّهُ يُفْتِي بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنْ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ أَعْلَمِهِمْ وَأَفْضَلِهِمْ لِيَأْخُذَ بِقَوْلِهِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَرَجِ، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهم- كَانَ السَّائِلُ مِنْهُمْ يَسْأَلُ مَنْ تَيَسَّرَ لَهُ سُؤَالُهُ مِنَ الْمُفْتِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقِيلَ: عَلَيْهِ أَنْ يَبْحَثَ عَنِ الْأَفْضَلِ لِيَأْخُذَ بِقَوْلِهِ.

أَمَّا مَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ اجْتِهَادُ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ، وَلَيْسَ هُوَ بِالْخِيَارِ يَأْخُذُ مَا شَاءَ وَيَتْرُكُ مَا شَاءَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: لَيْسَ لِلْمُفْتِي وَالْعَامِلِ فِي مَسْأَلَةِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا بِغَيْرِ نَظَرٍ، بَلْ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِأَرْجَحِهِمَا وَإِنْ بَنَى الْمُفْتِي فُتْيَاهُ عَلَى حَدِيثٍ نَبَوِيٍّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِصِحَّتِهِ: إِمَّا بِتَصْحِيحِهِ هُوَ إِنْ كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ، أَوْ يَعْرِفَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الشَّأْنِ الْحُكْمَ بِصِحَّتِهِ.

وَإِنْ كَانَ بَنَى فُتْيَاهُ عَلَى قَوْلِ مُجْتَهِدٍ- حَيْثُ يَجُوزُ ذَلِكَ- فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ مِنْهُ مُشَافَهَةً وَجَبَ أَنْ يَتَوَثَّقَ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: طَرِيقَةُ نَقْلِهِ لِذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ سَنَدٌ إِلَى الْمُجْتَهِدِ، أَوْ يَأْخُذَهُ عَنْ كِتَابٍ مَعْرُوفٍ تَنَاقَلَتْهُ الْأَيْدِي، نَحْوِ كُتُبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَنَحْوِهَا مِنَ التَّصَانِيفِ الْمَشْهُورَةِ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ الْمَشْهُورِ، وَكَذَا لَوْ وَجَدَ الْعُلَمَاءَ يَنْقُلُونَ عَنِ الْكِتَابِ، وَرَأَى مَا نَقَلُوهُ عَنْهُ مَوْجُودًا فِيهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ، كَمَا لَوْ رَأَى عَلَى الْكِتَابِ خَطَّ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ.

وَلْيَحْذَرْ مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَى كُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ غَيْرِ الْمُحَرَّرَةِ.

الْإِفْتَاءُ بِالرَّأْيِ:

23- الرَّأْيُ هُوَ: مَا يَرَاهُ الْقَلْبُ بَعْدَ فِكْرٍ وَتَأَمُّلٍ وَطَلَبٍ لِمَعْرِفَةِ وَجْهِ الصَّوَابِ، مِمَّا تَتَعَارَضُ فِيهِ الْأَمَارَاتُ، وَلَا يُقَالُ لِمَا لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَمَارَاتُ: إِنَّهُ رَأْيٌ وَالرَّأْيُ يَشْمَلُ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ وَغَيْرَهُمَا.

وَلَا يَجُوزُ الْإِفْتَاءُ بِالرَّأْيِ الْمُخَالِفِ لِلنَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ، وَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَى الرَّأْيِ قَبْلَ الْعَمَلِ عَلَى تَحْصِيلِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ، أَوِ الْقَوْلُ بِالرَّأْيِ غَيْرِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بَلْ بِمُجَرَّدِ الْخَرْصِ وَالتَّخْمِينِ.

وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِمُعَاذٍ- رضي الله عنه-: كَيْفَ تَقْضِي؟ قَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ».

وَعَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ لِشُرَيْحٍ: مَا اسْتَبَانَ لَكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَبِنْ لَكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَمِنَ السُّنَّةِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فِي السُّنَّةِ فَاجْتَهِدْ رَأْيَكَ.

الْإِفْتَاءُ بِمَا سَبَقَ لِلْمُفْتِي أَنْ أَفْتَى بِهِ:

24- إِذَا اسْتُفْتِيَ فِي مِثْلِ مَا سَبَقَ لَهُ أَنْ أَفْتَى فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَحْضِرًا لِفُتْيَاهُ وَلِدَلِيلِهَا فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِعَادَةِ النَّظَرِ، لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ حَاصِلٍ، وَلِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ النَّظَرِ أَنْ تَكُونَ فُتْيَاهُ عَنْ عِلْمٍ بِمَا يُفْتِي بِهِ، مَا لَمْ يَظُنَّ أَنَّهُ لَوْ أَعَادَ النَّظَرَ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ.

وَإِنْ ذَكَرَ الْفَتْوَى الْأُولَى وَلَمْ يَذْكُرْ دَلِيلَهَا، وَلَا طَرَأَ مَا يَجِبُ رُجُوعُهُ، فَقِيلَ: لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِذَلِكَ، وَالْأَصَحُّ: وُجُوبُ تَجْدِيدِ النَّظَرِ.

التَّخَيُّرُ فِي الْفَتْوَى عِنْدَ التَّعَارُضِ:

25- إِذَا تَعَارَضَتِ الْأَدِلَّةُ فِي نَظَرِ الْمُفْتِي الْمُجْتَهِدِ، أَوْ تَعَارَضَتِ الْأَقْوَالُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي نَظَرِ الْمُقَلِّدِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ لَيْسَ مُخَيَّرًا يَأْخُذُ بِمَا شَاءَ وَيَتْرُكُ مَا شَاءَ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُرَجِّحَ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ.

وَفِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ يُنْظَرُ الْمُلْحَقُ الْأُصُولِيُّ.

تَتَبُّعُ الْمُفْتِي لِلرُّخَصِ:

26- ذَهَبَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ وَصَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي فَتَاوِيهِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُفْتِي تَتَبُّعُ رُخَصِ الْمَذَاهِبِ، بِأَنْ يَبْحَثَ عَنِ الْأَسْهَلِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَوِ الْوَجْهَيْنِ وَيُفْتِيَ بِهِ، وَخَاصَّةً إِنْ كَانَ يُفْتِي بِذَلِكَ مَنْ يُحِبُّهُ مِنْ صَدِيقٍ أَوْ قَرِيبٍ، وَيُفْتِي بِغَيْرِ ذَلِكَ مَنْ عَدَاهُمْ، وَقَدْ خَطَّأَ الْعُلَمَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، نَقَلَهُ الشَّاطِبِيُّ عَنِ الْبَاجِيِّ وَالْخَطَّابِيِّ، وَنَصَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَابْنُ الْقَيِّمِ عَلَى فِسْقِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الرَّاجِحَ فِي نَظَرِ الْمُفْتِي هُوَ فِي ظَنِّهِ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى، فَتَرْكُهُ وَالْأَخْذُ بِغَيْرِهِ لِمُجَرَّدِ الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ اسْتِهَانَةٌ بِالدِّينِ، شَبِيهٌ بِالِانْسِلَاخِ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِرَفْعِ التَّكْلِيفِ بِالْكُلِّيَّةِ، إِذِ الْأَصْلُ أَنَّ فِي التَّكْلِيفِ نَوْعًا مِنَ الْمَشَقَّةِ، فَإِنْ أَخَذَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ بِالْأَخَفِّ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ أَخَفَّ، فَإِنَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يُسْقِطَ تَكْلِيفًا- مِنْ غَيْرِ مَا فِيهِ إِجْمَاعٌ- إِلاَّ أَسْقَطَهُ، فَيُسْقِطُ فِي الزَّكَاةِ مَثَلًا زَكَاةَ مَالِ الصَّغِيرِ، وَزَكَاةَ مَالِ التِّجَارَةِ، وَزَكَاةَ الْفُلُوسِ وَمَا شَابَهَهَا، وَزَكَاةَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُعَشَّرَاتِ، وَيُسْقِطُ تَحْرِيمَ الْمُتْعَةِ، وَيُجِيزُ النَّبِيذَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، قَالَ أَحْمَدُ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَمِلَ بِكُلِّ رُخْصَةٍ: بِقَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي النَّبِيذِ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي السَّمَاعِ، وَأَهْلِ مَكَّةَ فِي الْمُتْعَةِ، كَانَ فَاسِقًا.ا هـ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: مَنْ أَخَذَ بِنَوَادِرِ الْعُلَمَاءِ خَرَجَ مِنَ الْإِسْلَامِ.

وَإِنْ أَفْتَى كُلُّ أَحَدٍ بِمَا يَشْتَهِي انْخَرَمَ قَانُونُ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ، الَّذِي يَقُومُ عَلَى الْعَدَالَةِ وَالتَّسْوِيَةِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى الْفَوْضَى وَالْمَظَالِمِ وَتَضْيِيعِ الْحُقُوقِ بَيْنَ النَّاسِ.

قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: سَمِعْتُ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِيَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْمُعْتَضِدِ، فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا نَظَرْتُ فِيهِ وَقَدْ جَمَعَ فِيهِ الرُّخَصَ مِنْ زَلَلِ الْعُلَمَاءِ، وَمَا احْتَجَّ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمْ، فَقُلْتُ: مُؤَلِّفُ هَذَا الْكِتَابِ زِنْدِيقٌ، فَقَالَ: لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ؟ قُلْتُ: الْأَحَادِيثُ عَلَى مَا رُوِيَتْ، وَلَكِنْ مَنْ أَبَاحَ الْمُسْكِرَ لَمْ يُبِحِ الْمُتْعَةَ، وَمَنْ أَبَاحَ الْمُتْعَةَ لَمْ يُبِحِ الْمُسْكِرَ، وَمَا مِنْ عَالِمٍ إِلاَّ وَلَهُ زَلَّةٌ، وَمَنْ جَمَعَ زَلَلَ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ أَخَذَ بِهَا ذَهَبَ دِينُهُ، فَأَمَرَ الْمُعْتَضِدُ بِإِحْرَاقِ هَذَا الْكِتَابِ.

عَلَى أَنَّ الذَّاهِبِينَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ لَمْ يَمْنَعُوا الْإِفْتَاءَ بِمَا فِيهِ تَرْخِيصٌ إِنْ كَانَ لَهُ مُسْتَنَدٌ صَحِيحٌ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَتَبُّعَ الْمُفْتِي الرُّخَصَ لِمَنْ أَرَادَ نَفْعَهُ: فَإِنْ حَسُنَ قَصْدُ الْمُفْتِي فِي حِيلَةٍ جَائِزَةٍ لَا شُبْهَةَ فِيهَا، وَلَا مَفْسَدَةَ لِتَخْلِيصِ الْمُسْتَفْتِي بِهَا مِنْ حَرَجٍ جَازَ ذَلِكَ، بَلِ اسْتُحِبَّ، وَقَدْ أَرْشَدَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَيُّوبَ- عليه السلام- إِلَى التَّخَلُّصِ مِنَ الْحِنْثِ: بِأَنْ يَأْخُذَ بِيَدِهِ ضِغْثًا فَيَضْرِبَ بِهِ الْمَرْأَةَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، قَالَ: فَأَحْسَنُ الْمَخَارِجِ مَا خَلَّصَ مِنَ الْمَآثِمِ، وَأَقْبَحُهَا مَا أَوْقَعَ فِي الْمَحَارِمِ.

إِحَالَةُ الْمُفْتِي عَلَى غَيْرِهِ:

27- لِلْمُفْتِي أَنْ يُحِيلَ الْمُسْتَفْتِيَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُفْتِينَ، إِمَّا بِقَصْدِ أَنْ يَبْرَأَ مِنْ عُهْدَةِ الْفَتْوَى، وَإِمَّا لِكَوْنِ الْآخَرِ أَعْلَمَ، وَإِمَّا لِظَرْفٍ يَسْتَدْعِي ذَلِكَ، وَلَا تَجُوزُ لَهُ الْإِحَالَةُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ أَهْلًا لِلْفُتْيَا، سَوَاءٌ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُوَافِقُهُ فِي الرَّأْيِ أَوْ يُخَالِفُهُ، فَإِنْ أَحَالَ عَلَى مَنْ لَيْسَ أَهْلًا فَإِنَّهُ يَكُونُ مُعِينًا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: الرَّجُلُ يَسْأَلُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَدُلُّهُ عَلَى إِنْسَانٍ؟ قَالَ: إِذَا كَانَ مُتَّبِعًا وَيُفْتِي بِالسُّنَّةِ، قُلْتُ: إِنَّهُ يُرِيدُ الِاتِّبَاعَ وَلَيْسَ كُلُّ قَوْلِهِ يُصِيبُ، قَالَ: وَمَنْ يُصِيبُ فِي كُلِّ شَيْءٍ؟.

لَكِنْ لَا يَحِلُّ أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَنْ يُخَالِفُهُ فِي الْقَوْلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةً، فَيَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّ اجْتِهَادَهُ لَيْسَ أَوْلَى مِنَ اجْتِهَادِ غَيْرِهِ.

أَمَّا إِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ صَحِيحٌ أَوْ إِجْمَاعٌ، أَوْ كَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مِمَّنْ يَتَسَاهَلُ فِي الْفَتْوَى فَلَا تَجُوزُ الْإِحَالَةُ.

تَشْدِيدُ الْمُفْتِي وَتَسَاهُلُهُ:

28- الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ شَرِيعَةٌ تَتَمَيَّزُ بِالْوَسَطِيَّةِ وَالْيُسْرِ، وَلِذَا فَالَّذِي يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي- وَهُوَ الْمُخْبِرُ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى- أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ الشَّاطِبِيُّ: الْمُفْتِي الْبَالِغُ ذُرْوَةَ الدَّرَجَةِ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى الْوَسَطِ الْمَعْهُودِ فِيمَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ، فَلَا يَذْهَبُ بِهِمْ مَذْهَبَ الشِّدَّةِ، وَلَا يَمِيلُ بِهِمْ إِلَى طَرَفِ الِانْحِلَالِ، وَهَذَا هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ، فَلَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ، وَمَا خَرَجَ عَنِ الْوَسَطِ مَذْمُومٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ، وَقَدْ رَدَّ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ- رضي الله عنه- التَّبَتُّلَ «وَقَالَ لِمُعَاذٍ- رضي الله عنه- لَمَّا أَطَالَ بِالنَّاسِ الصَّلَاةَ يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟»، وَنَهَاهُمْ عَنِ الْوِصَالِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا ذَهَبَ بِالْمُسْتَفْتِي مَذْهَبَ الْعَنَتِ وَالْحَرَجِ بَغَّضَ إِلَيْهِ الدِّينَ، وَإِذَا ذَهَبَ بِهِ مَذْهَبَ الِانْحِلَالِ كَانَ مَظِنَّةً لِلْمَشْيِ مَعَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ.

وَجَاءَ فِي الْمُنْتَهَى وَشَرْحِهِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ: يَحْرُمُ تَسَاهُلُ مُفْتٍ فِي الْإِفْتَاءِ، لِئَلاَّ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَيَحْرُمُ تَقْلِيدُ مُتَسَاهِلٍ فِي الْإِفْتَاءِ لِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِهِ، وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ النَّوَوِيُّ.

وَبَيَّنَ السَّمْعَانِيُّ وَالنَّوَوِيُّ أَنَّ التَّسَاهُلَ نَوْعَانِ:

الْأَوَّلُ: تَتَبُّعُ الرُّخَصِ وَالشُّبَهِ وَالْحِيَلِ الْمَكْرُوهَةِ وَالْمُحَرَّمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَتَسَاهَلَ فِي طَلَبِ الْأَدِلَّةِ وَطُرُقِ الْأَحْكَامِ وَيَأْخُذَ بِمَبَادِئِ النَّظَرِ وَأَوَائِلِ الْفِكْرِ، فَهَذَا مُقَصِّرٌ فِي حَقِّ الِاجْتِهَادِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ كَذَلِكَ مَا لَمْ تَتَقَدَّمْ مَعْرِفَتُهُ بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ.

لَكِنْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ لِلْمُفْتِي أَنْ يَتَشَدَّدَ فِي الْفَتْوَى عَلَى سَبِيلِ السِّيَاسَةِ لِمَنْ هُوَ مُقْدِمٌ عَلَى الْمَعَاصِي مُتَسَاهِلٌ فِيهَا، وَأَنْ يَبْحَثَ عَنِ التَّيْسِيرِ وَالتَّسْهِيلِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْأَدِلَّةُ لِمَنْ هُوَ مُشَدِّدٌ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، لِيَكُونَ مَآلُ الْفَتْوَى أَنْ يَعُودَ الْمُسْتَفْتِي إِلَى الطَّرِيقِ الْوَسَطِ.

آدَابُ الْمُفْتِي:

29- أ- يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يُحْسِنَ زِيَّهُ، مَعَ التَّقَيُّدِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي ذَلِكَ، فَيُرَاعِيَ الطَّهَارَةَ وَالنَّظَافَةَ، وَاجْتِنَابَ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَالثِّيَابِ الَّتِي فِيهَا شَيْءٌ مِنْ شِعَارَاتِ الْكُفَّارِ، وَلَوْ لَبِسَ مِنَ الثِّيَابِ الْعَالِيَةِ لَكَانَ أَدْعَى لِقَبُولِ قَوْلِهِ، لقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَلِأَنَّ تَأْثِيرَ الْمَظْهَرِ فِي عَامَّةِ النَّاسِ لَا يُنْكَرُ، وَهُوَ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَالْقَاضِي.

ب- وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْسِنَ سِيرَتَهُ، بِتَحَرِّي مُوَافَقَةِ الشَّرِيعَةِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، لِأَنَّهُ قُدْوَةٌ لِلنَّاسِ فِيمَا يَقُولُ وَيَفْعَلُ، فَيَحْصُلُ بِفِعْلِهِ قَدْرٌ عَظِيمٌ مِنَ الْبَيَانِ، لِأَنَّ الْأَنْظَارَ إِلَيْهِ مَصْرُوفَةٌ، وَالنُّفُوسَ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ مَوْقُوفَةٌ.

ج- وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُصْلِحَ سَرِيرَتَهُ وَيَسْتَحْضِرَ عِنْدَ الْإِفْتَاءِ النِّيَّةَ الصَّالِحَةَ مِنْ قَصْدِ الْخِلَافَةِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي بَيَانِ الشَّرْعِ، وَإِحْيَاءِ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِصْلَاحِ أَحْوَالِ النَّاسِ بِذَلِكَ، وَيَسْتَعِينَ بِاللَّهِ عَلَى ذَلِكَ، وَيَسْأَلَهُ التَّوْفِيقَ وَالتَّسْدِيدَ، وَعَلَيْهِ مُدَافَعَةُ النِّيَّاتِ الْخَبِيثَةِ مِنْ قَصْدِ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَالْإِعْجَابِ بِمَا يَقُولُ، وَخَاصَّةً حَيْثُ يُخْطِئُ غَيْرُهُ وَيُصِيبُ هُوَ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ سَحْنُونٍ: فِتْنَةُ الْجَوَابِ بِالصَّوَابِ أَعْظَمُ مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ.

د- وَعَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا بِمَا يُفْتِي بِهِ مِنَ الْخَيْرِ، مُنْتَهِيًا عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ، لِيَتَطَابَقَ قَوْلُهُ وَفِعْلُهُ، فَيَكُونُ فِعْلُهُ مُصَدِّقًا لِقَوْلِهِ مُؤَيِّدًا لَهُ، فَإِنْ كَانَ بِضِدِّ ذَلِكَ كَانَ فِعْلُهُ مُكَذِّبًا لِقَوْلِهِ، وَصَادًّا لِلْمُسْتَفْتِي عَنْ قَبُولِهِ وَالِامْتِثَالِ لَهُ، لِمَا فِي الطَّبَائِعِ الْبَشَرِيَّةِ مِنَ التَّأَثُّرِ بِالْأَفْعَالِ، وَلَا يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْإِفْتَاءُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، إِذْ مَا مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَلَهُ زَلَّةٌ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ مُؤْتَمِرًا مُنْتَهِيًا، وَهَذَا مَا لَمْ تَكُنْ مُخَالَفَتُهُ مُسْقِطَةً لِعَدَالَتِهِ، فَلَا تَصِحُّ فُتْيَاهُ حِينَئِذٍ.

هـ- أَنْ لَا يُفْتِيَ حَالَ انْشِغَالِ قَلْبِهِ بِشِدَّةِ غَضَبٍ أَوْ فَرَحٍ أَوْ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ أَوْ إِرْهَاقٍ أَوْ تَغَيُّرِ خُلُقٍ، أَوْ كَانَ فِي حَالِ نُعَاسٍ، أَوْ مَرَضٍ شَدِيدٍ، أَوْ حَرٍّ مُزْعِجٍ، أَوْ بَرْدٍ مُؤْلِمٍ، أَوْ مُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْحَاجَاتِ الَّتِي تَمْنَعُ صِحَّةَ الْفِكْرِ وَاسْتِقَامَةَ الْحُكْمِ.لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» فَإِنْ حَصَلَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَنِ الْإِفْتَاءِ حَتَّى يَزُولَ مَا بِهِ وَيَرْجِعَ إِلَى حَالِ الِاعْتِدَالِ.فَإِنْ أَفْتَى فِي حَالِ انْشِغَالِ الْقَلْبِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الصَّوَابِ صَحَّتْ فُتْيَاهُ وَإِنْ كَانَ مُخَاطِرًا لَكِنْ قَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِكَوْنِ ذَلِكَ لَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ أَصْلِ الْفِكْرِ.

فَإِنْ أَخْرَجَهُ الدَّهَشُ عَنْ أَصْلِ الْفِكْرِ لَمْ تَصِحَّ فُتْيَاهُ قَطْعًا وَإِنْ وَافَقَتِ الصَّوَابَ.

و- إِنْ كَانَ عِنْدَهُ مَنْ يَثِقُ بِعِلْمِهِ وَدِينِهِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُشَاوِرَهُ، وَلَا يَسْتَقِلَّ بِالْجَوَابِ تَسَامِيًا بِنَفْسِهِ عَنِ الْمُشَاوَرَةِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} وَعَلَى هَذَا كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَخَاصَّةً عُمَرُ- رضي الله عنه-، فَالْمَنْقُولُ مِنْ مُشَاوَرَتِهِ لِسَائِرِ الصَّحَابَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ، وَيُرْجَى بِالْمُشَاوَرَةِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ مَا قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ، وَهَذَا مَا لَمْ تَكُنِ الْمُشَاوَرَةُ مِنْ قَبِيلِ إِفْشَاءِ السِّرِّ.

ز- الْمُفْتِي كَالطَّبِيبِ يَطَّلِعُ مِنْ أَسْرَارِ النَّاسِ وَعَوْرَاتِهِمْ عَلَى مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَقَدْ يَضُرُّ بِهِمْ إِفْشَاؤُهَا أَوْ يُعَرِّضُهُمْ لِلْأَذَى، فَعَلَيْهِ كِتْمَانُ أَسْرَارِ الْمُسْتَفْتِينَ، وَلِئَلاَّ يَحُولَ إِفْشَاؤُهُ لَهَا بَيْنَ الْمُسْتَفْتِي وَبَيْنَ الْبَوْحِ بِصُوَرِهِ الْوَاقِعَةِ إِذَا عَرَفَ أَنَّ سِرَّهُ لَيْسَ فِي مَأْمَنٍ.

مُرَاعَاةُ حَالِ الْمُسْتَفْتِي:

30- يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي مُرَاعَاةُ أَحْوَالِ الْمُسْتَفْتِي، وَلِذَلِكَ وُجُوهٌ، مِنْهَا:

أ- إِذَا كَانَ الْمُسْتَفْتِي بَطِيءَ الْفَهْمِ، فَعَلَى الْمُفْتِي التَّرَفُّقُ بِهِ وَالصَّبْرُ عَلَى تَفَهُّمِ سُؤَالِهِ وَتَفْهِيمِ جَوَابِهِ.

ب- إِذَا كَانَ بِحَاجَةٍ إِلَى تَفْهِيمِهِ أُمُورًا شَرْعِيَّةً لَمْ يَتَطَرَّقْ إِلَيْهَا فِي سُؤَالِهِ، فَيَنْبَغِي لِلْمُفْتِي بَيَانُهَا لَهُ زِيَادَةً عَلَى جَوَابِ سُؤَالِهِ، نُصْحًا وَإِرْشَادًا، وَقَدْ أَخَذَ الْعُلَمَاءُ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أَنَّ «بَعْضَ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- سَأَلُوا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ، فَقَالَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَلِلْمُفْتِي أَنْ يَعْدِلَ عَنْ جَوَابِ السُّؤَالِ إِلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ، وَمِنْ ذَلِكَ قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} فَقَدْ سَأَلَ النَّاسُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْمُنْفَقِ فَأَجَابَهُمْ بِذِكْرِ الْمَصْرِفِ إِذْ هُوَ أَهَمُّ مِمَّا سَأَلُوا عَنْهُ.

ج- أَنْ يَسْأَلَهُ الْمُسْتَفْتِي عَمَّا هُوَ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ فَيُفْتِيَهِ بِالْمَنْعِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى مَا هُوَ عِوَضٌ مِنْهُ، كَالطَّبِيبِ الْحَاذِقِ إِذَا مَنَعَ الْمَرِيضَ مِنْ أَغْذِيَةٍ تَضُرُّهُ يَدُلُّهُ عَلَى أَغْذِيَةٍ تَنْفَعُهُ.

د- أَنْ يُسْأَلَ عَمَّا لَمْ يَقَعْ، وَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةً، فَيَتْرُكُ الْجَوَابَ إِشْعَارًا لِلْمُسْتَفْتِي بِأَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ السُّؤَالُ عَمَّا يَعْنِيهِ مِمَّا لَهُ فِيهِ نَفْعٌ وَوَرَاءَهُ عَمَلٌ، لِحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: مَا كَانُوا يَسْأَلُونَ إِلاَّ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعِكْرِمَةَ: مَنْ سَأَلَكَ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ فَلَا تُفْتِهِ.

هـ- أَنْ يَكُونَ عَقْلُ السَّائِلِ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَابَ، فَيَتْرُكُ إِجَابَتَهُ وُجُوبًا، لِقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُرِيدُونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً.

و- تَرْكُ الْجَوَابِ إِذَا خَافَ الْمُفْتِي غَائِلَةَ الْفُتْيَا أَيْ هَلَاكًا أَوْ فَسَادًا أَوْ فِتْنَةً يُدَبِّرُهَا الْمُسْتَفْتِي أَوْ غَيْرُهُ.

وَالْأَصْلُ وُجُوبُ الْبَيَانِ وَتَحْرِيمُ الْكِتْمَانِ إِنْ كَانَ الْحُكْمُ جَلِيًّا فَلَا يَتْرُكُ الْمُفْتِي بَيَانَهُ لِرَغْبَةٍ وَلَا رَهْبَةٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}.

لَكِنْ إِنْ خَافَ الْغَائِلَةَ فَلَهُ تَرْكُ الْجَوَابِ وَكَذَا لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْفُتْيَا إِنْ خَافَ أَنْ يَسْتَغِلَّهَا الظَّلَمَةُ أَوْ أَهْلُ الْفُجُورِ لِمَآرِبِهِمْ.

صِيغَةُ الْفَتْوَى:

31- يَنْبَغِي لِسَلَامَةِ الْفُتْيَا وَصِدْقِهَا وَصِحَّةِ الِانْتِفَاعِ بِهَا أَنْ يُرَاعِيَ الْمُفْتِي أُمُورًا مِنْهَا:

أ- تَحْرِيرُ أَلْفَاظِ الْفُتْيَا، لِئَلاَّ تُفْهَمَ عَلَى وَجْهٍ بَاطِلٍ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَحْرُمُ إِطْلَاقُ الْفُتْيَا فِي اسْمٍ مُشْتَرَكٍ إِجْمَاعًا، فَمَنْ سُئِلَ: أَيُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ فِي رَمَضَانَ بَعْدَ الْفَجْرِ؟ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: الْفَجْرُ الْأَوَّلُ أَوِ الثَّانِي؟ وَمِثْلُهُ مَنْ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ رِطْلِ تَمْرٍ بِرِطْلِ تَمْرٍ هَلْ يَصِحُّ؟ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُطْلِقَ الْجَوَابَ بِالْإِجَازَةِ أَوِ الْمَنْعِ، بَلْ يَقُولُ: إِنْ تَسَاوَيَا كَيْلًا جَازَ وَإِلاَّ فَلَا، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ التَّنْبِيهُ عَلَى احْتِمَالٍ بَعِيدٍ، كَمَنْ سُئِلَ عَنْ مِيرَاثِ بِنْتٍ وَعَمٍّ؟ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: لَهَا النِّصْفُ، وَلَهُ الْبَاقِي، وَلَا يَلْزَمُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ قَاتِلَةً لِأَبِيهَا فَلَا شَيْءَ لَهَا، وَكَذَا سَائِرُ مَوَانِعِ الْإِرْثِ.

عَلَى أَنَّ الَّذِي يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي إِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ: أَنْ يَسْتَفْصِلَ السَّائِلَ لِيَصِلَ إِلَى تَحْدِيدِ الْوَاقِعَةِ تَحْدِيدًا تَامًّا، فَيَكُونُ جَوَابُهُ عَنْ أَمْرٍ مُحَدَّدٍ، وَهَذَا أَوْلَى وَأَسْلَمُ، وَإِنْ عَلِمَ أَيَّ الْأَقْسَامِ هُوَ الْوَاقِعُ فَلَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى جَوَابِ ذَلِكَ الْقِسْمِ، ثُمَّ يَقُولَ: هَذَا إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَا، وَلَهُ أَنْ يُفَصِّلَ الْأَقْسَامَ فِي جَوَابِهِ وَيَذْكُرَ حُكْمَ كُلِّ قِسْمٍ، وَلَكِنْ لَا يَحْسُنُ هَذَا إِلاَّ إنْ كَانَ الْمُسْتَفْتِي غَائِبًا وَلَمْ يُمْكِنْ مَعْرِفَةُ صِفَةِ الْوَاقِعِ، فَيَجْتَهِدُ فِي بَيَانِ الْأَقْسَامِ وَحُكْمِ كُلِّ قِسْمٍ؛ لِئَلاَّ يُفْهَمَ جَوَابُهُ عَلَى غَيْرِ مَا يُرِيدُ.

ب- أَنْ لَا تَكُونَ الْفَتْوَى بِأَلْفَاظٍ مُجْمَلَةٍ، لِئَلاَّ يَقَعَ السَّائِلُ فِي حَيْرَةٍ، كَمَنْ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الْمَوَارِيثِ فَقَالَ: تُقْسَمُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ سُئِلَ عَنْ شِرَاءِ الْعَرَايَا بِالتَّمْرِ فَقَالَ: يَجُوزُ بِشُرُوطِهِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ لَا يَدْرِي مَا شُرُوطُهُ، لَكِنْ إِنْ كَانَ السَّائِلُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِثْلُ هَذَا، بَلْ يُرِيدُ أَنْ يَعْرِفَ قَوْلَ الْمُفْتِي جَازَ ذَلِكَ.

ج- يَحْسُنُ ذِكْرُ دَلِيلِ الْحُكْمِ فِي الْفُتْيَا سَوَاءٌ كَانَ آيَةً أَوْ حَدِيثًا حَيْثُ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ، وَيَذْكُرُ عِلَّتَهُ أَوْ حِكْمَتَهُ، وَلَا يُلْقِيهِ إِلَى الْمُسْتَفْتِي مُجَرَّدًا، فَإِنَّ الْأَوَّلَ أَدْعَى لِلْقَبُولِ بِانْشِرَاحِ صَدْرٍ وَفَهْمٍ لِمَبْنَى الْحُكْمِ، وَذَلِكَ أَدْعَى إِلَى الطَّاعَةِ وَالِامْتِثَالِ، وَفِي كَثِيرٍ مِنْ فَتَاوَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ الْحِكَمَ، كَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ تُزَوَّجَ الْمَرْأَةُ عَلَى الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَقَالَ: إِنَّكُنَّ إِذَا فَعَلْتُنَّ ذَلِكَ قَطَعْتُنَّ أَرْحَامَكُنَّ» وَقَوْلِهِ فِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ: أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟ وَقَالَ الصَّيْمَرِيُّ: لَا يَذْكُرُ الْحُجَّةَ إِنْ أَفْتَى عَامِّيًّا، وَيَذْكُرُهَا إِنْ أَفْتَى فَقِيهًا، وَإِنْ تَعَلَّقَتِ الْفَتْوَى بِقَضَاءِ قَاضٍ فَيُومِئُ فِيهَا إِلَى طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَيُلَوِّحُ بِالنُّكْتَةِ، وَكَذَا إِنْ أَفْتَى فِيمَا غَلِطَ فِيهِ غَيْرُهُ فَيُبَيِّنُ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ.

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَذْكُرُ الْحُجَّةَ لِئَلاَّ يَخْرُجَ مِنَ الْفَتْوَى إِلَى التَّصْنِيفِ.

د- لَا يَقُولُ فِي الْفُتْيَا: هَذَا حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلاَّ بِنَصٍّ قَاطِعٍ، أَمَّا الْأُمُورُ الِاجْتِهَادِيَّةُ فَيَتَجَنَّبُ فِيهَا ذَلِكَ لِحَدِيثِ: «وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا؟».

وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الصَّوَابَ فِي قَوْلِ أَحَدِ الْمُخْتَلِفِينَ، أَمَّا مَنْ يَقُولُ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: هَذَا حُكْمُ اللَّهِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ.

هـ- يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْفُتْيَا بِكَلَامٍ مُوجَزٍ وَاضِحٍ مُسْتَوْفٍ لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسْتَفْتِي مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِسُؤَالِهِ، وَيَتَجَنَّبُ الْإِطْنَابَ فِيمَا لَا أَثَرَ لَهُ، لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَحْدِيدٍ، لَا مَقَامُ وَعْظٍ أَوْ تَعْلِيمٍ أَوْ تَصْنِيفٍ.

قَالَ الْقَرَافِيُّ: إِلاَّ فِي نَازِلَةٍ عَظِيمَةٍ تَتَعَلَّقُ بِوُلَاةِ الْأُمُورِ، وَلَهَا صِلَةٌ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَيَحْسُنُ الْإِطْنَابُ بِالْحَثِّ وَالْإِيضَاحِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَبَيَانِ الْحِكَمِ وَالْعَوَاقِبِ، لِيَحْصُلَ الِامْتِثَالُ التَّامُّ.

وَإِنْ كَانَ لِكَلَامِهِ قَبُولٌ وَيَحْرِصُ النَّاسُ عَلَى الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، فَلَا بَأْسَ بِالْإِطَالَةِ وَاسْتِيفَاءِ جَوَانِبِ الْمَسْأَلَةِ.

الْإِفْتَاءُ بِالْإِشَارَةِ:

32- تَجُوزُ الْفُتْيَا بِالْإِشَارَةِ إِنْ كَانَتْ مُفْهِمَةً لِلْمُرَادِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ أَفْتَى بِالْإِشَارَةِ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ يَوْمَ النَّحْرِ عَنِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ؟ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ أَنْ لَا حَرَجَ» وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا- وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ- أَوْ يَرْحَمُ».

الْإِفْتَاءُ بِالْكِتَابَةِ:

33- تَجُوزُ الْفُتْيَا كِتَابَةً، وَلَكِنْ فِيهَا خُطُورَةٌ مِنْ حَيْثُ إِمْكَانُ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ فِيهَا وَنِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى الْمُفْتِي، وَلِذَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَحَرَّزَ فِي كِتَابَتِهَا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ فِيهَا الْإِضَافَةُ وَالتَّزْوِيرُ.

أَخْذُ الرِّزْقِ عَلَى الْفُتْيَا:

34- الْأَوْلَى لِلْمُفْتِي أَنْ يَكُونَ مُتَبَرِّعًا بِعَمَلِهِ وَلَا يَأْخُذَ عَلَيْهِ شَيْئًا.

وَإِنْ تَفَرَّغَ لِلْإِفْتَاءِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ رِزْقًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَاشْتَرَطَ الْفَرِيقَانِ لِجَوَازِ ذَلِكَ شَرْطَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ كِفَايَةٌ.

وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، بِأَنْ لَمْ يَكُنْ بِالْبَلَدِ عَالِمٌ يَقُومُ مَقَامَهُ، أَوْ كَانَ لَهُ كِفَايَةٌ لَمْ يَجُزْ وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا فَفِيهِ وَجْهَانِ، لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْقِيَاسِ عَلَى عَامِلِ الزَّكَاةِ أَوْ عَلَى الْعَامِلِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ.

وَأَلْحَقَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَالصَّيْمَرِيُّ بِذَلِكَ: أَنْ يَحْتَاجَ أَهْلُ بَلَدٍ إِلَى مَنْ يَتَفَرَّغُ لِفَتَاوِيهِمْ، وَيَجْعَلُوا لَهُ رِزْقًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَيَحُوزُ، وَلَا يَصْلُحُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ لَهُ رِزْقٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، قَالَ الْخَطِيبُ: وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَفْرِضَ لِمَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلْفَتْوَى فِي الْأَحْكَامِ مَا يُغْنِيهِ عَنْ الِاحْتِرَافِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَعْطَى كُلَّ رَجُلٍ مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ مِائَةَ دِينَارٍ فِي السَّنَةِ.

وَأَمَّا الْأُجْرَةُ، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُهَا مِنْ أَعْيَانِ الْمُسْتَفْتِينَ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، قَالَ الْحَنَابِلَةُ: لِأَنَّ الْفُتْيَا عَمَلٌ يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ، وَلِأَنَّهُ مَنْصِبُ تَبْلِيغٍ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: لَا أُعَلِّمُكَ الْإِسْلَامَ أَوِ الْوُضُوءَ أَوِ الصَّلَاةَ إِلاَّ بِأُجْرَةٍ، قَالُوا: فَهَذَا حَرَامٌ قَطْعًا، وَعَلَيْهِ رَدُّ الْعِوَضِ، وَلَا يَمْلِكُهُ، قَالُوا: وَيَلْزَمُهُ الْإِجَابَةُ مَجَّانًا لِلَّهِ بِلَفْظِهِ أَوْ خَطِّهِ إِنْ طَلَبَ الْمُسْتَفْتِي الْجَوَابَ كِتَابَةً، لَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ الْوَرَقُ وَالْحِبْرُ.

وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَخْذَ الْمُفْتِي الْأُجْرَةَ عَلَى الْكِتَابَةِ، لِأَنَّهُ كَالنَّسْخِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الْفَتْوَى إِنْ لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ.

أَخْذُ الْمُفْتِي الْهَدِيَّةَ:

35- الْأَصْلُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَخْذُ الْهَدِيَّةِ مِنَ النَّاسِ بِخِلَافِ الْقَاضِي، وَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا وَيُكَافِئَ عَلَيْهَا، اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَإِنَّهُ «كَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا» وَهَذَا إِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ سَبَبِ الْفُتْيَا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُهْدَى إِلَيْهِ لِعِلْمِهِ، بِخِلَافِ الْقَاضِي.

وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ الْفُتْيَا فَالْأَوْلَى عَدَمُ الْقَبُولِ، لِيَكُونَ إِفْتَاؤُهُ خَالِصًا لِلَّهِ، وَهَذَا إِنْ كَانَ إِفْتَاؤُهُ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ مَنْ يُهْدِيهِ وَمَنْ لَا يُهْدِيهِ، وَإِنْ كَانَ يُهْدِيهِ لِتَكُونَ سَبَبًا إِلَى أَنْ يُفْتِيَهُ بِمَا لَا يُفْتِي بِهِ غَيْرَهُ مِنَ الرُّخَصِ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: لَا يَجُوزُ لَهُ قَبُولُهَا، وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنْ كَانَتْ سَبَبًا لِيُرَخِّصَ لَهُ بِوَجْهٍ صَحِيحٍ فَأَخْذُهَا مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَإِنْ كَانَ بِوَجْهٍ بَاطِلٍ فَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ، يُبَدِّلُ أَحْكَامَ اللَّهِ، وَيَشْتَرِي بِهَا ثَمَنًا قَلِيلًا.

وَفِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ لِلْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ لِلْمُفْتِي قَبُولُ الْهَدِيَّةِ مِمَّنْ لَا يَرْجُو مِنْهُ جَاهًا وَلَا عَوْنًا عَلَى خَصْمٍ.

الْخَطَأُ فِي الْفُتْيَا:

36- إِذَا أَخْطَأَ الْمُفْتِي، فَإِنْ كَانَ خَطَؤُهُ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ، أَوْ كَانَ أَهْلًا لَكِنَّهُ لَمْ يَبْذُلْ جَهْدَهُ بَلْ تَعَجَّلَ، يَكُونُ آثِمًا، لِحَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صُدُورِ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُهُ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».

أَمَّا إِنْ كَانَ أَهْلًا وَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، بَلْ لَهُ أَجْرُ اجْتِهَادِهِ، قِيَاسًا عَلَى مَا وَرَدَ فِي خَطَأِ الْقَاضِي، وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ».

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


93-موسوعة الفقه الكويتية (فرض)

فَرْض

التَّعْرِيفُ:

1- الْفَرْضُ لُغَةً: مِنْ فَرَضْتُ الشَّيْءَ أَفْرِضُهُ فَرْضًا: أَوْجَبْتُهُ وَأَلْزَمْتُ بِهِ، وَيَأْتِي الْفَرْضُ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ، فَيُقَالُ: فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ فَرْضًا بِمَعْنَى: قَدَّرَهَا، وَالْفَرْضُ كُلُّ شَيْءٍ تَفْرِضُهُ، فَتُوجِبُهُ عَلَى إِنْسَانٍ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ، وَالِاسْمُ الْفَرِيضَةُ.

وَاصْطِلَاحًا: عَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ الْفَرْضَ بِأَنَّهُ مَا عُرِفَ وُجُوبُهُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَطْعًا، أَمَّا مَا عُرِفَ وُجُوبُهُ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ فَهُوَ الْوَاجِبُ عِنْدَهُمْ.

الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ:

2- الْفَرْضُ وَالْوَاجِبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ إِلاَّ فِي الْحَجِّ.

وَيَدُورُ اللَّفْظَانِ عِنْدَهُمْ عَلَى مَعْنَى الثُّبُوتِ وَالتَّقْدِيرِ مُطْلَقًا، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَثْبُتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ أَوْ ظَنِّيٍّ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ، فَمَدَارُ الْفَرْضِ عِنْدَهُمْ لُغَةً عَلَى الْقَطْعِ، وَشَرْعًا عَلَى مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ قَطْعًا مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَوِ الْإِجْمَاعِ، وَمَدَارُ الْوَاجِبِ عِنْدَهُمْ لُغَةً عَلَى السُّقُوطِ وَاللُّزُومِ، وَشَرْعًا عَلَى مَا يَكُونُ دَلِيلُهُ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ، فَيَثْبُتُ الْوَاجِبُ عِنْدَهُمْ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ.

وَيَظْهَرُ أَثَرُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ جَاحِدَ الْفَرْضِ كَافِرٌ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ فَرْضِيَّتِهِ قَطْعًا، وَلَا يَكْفُرُ جَاحِدُ الْوَاجِبِ، لِأَنَّ دَلِيلَهُ لَا يُوجِبُ الِاعْتِقَادَ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْعَمَلَ، وَلِذَا يُفَسَّقُ تَارِكُهُ، وَمِثَالُ الْأَوَّلِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، فَإِنَّهَا فَرْضٌ عِلْمِيٌّ وَعَمَلِيٌّ، وَمِثَالُ الثَّانِي صَلَاةُ الْوِتْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَهِيَ فَرْضٌ عَمَلِيٌّ، وَيُقَالُ لَهُ: فَرْضٌ عَمَلًا، وَاجِبٌ اعْتِقَادًا، وَسُنَّةٌ ثُبُوتًا.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرِ الْمُلْحَقَ الْأُصُولِيَّ

تَقْسِيمُ الْفَرْضِ بِحَسَبِ الْمُكَلَّفِ بِهِ:

3- يَنْقَسِمُ الْفَرْضُ بِاعْتِبَارِ الْمُكَلَّفِ بِهِ إِلَى: فَرْضِ كِفَايَةٍ، وَفَرْضِ عَيْنٍ.أَمَّا فَرْضُ الْكِفَايَةِ: فَهُوَ مَا يُقْصَدُ حُصُولُهُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ بِالذَّاتِ إِلَى فَاعِلِهِ، فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكُلِّ، وَيَسْقُطُ الْوُجُوبُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ، وَيَأْثَمُ الْكُلُّ بِتَرْكِهِ.

وَأَمَّا فَرْضُ الْعَيْنِ: فَهُوَ الْمَنْظُورُ بِالذَّاتِ إِلَى فَاعِلِهِ.

وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَمْثِلَةِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ الدِّينِيِّ: صَلَاةَ الْجِنَازَةِ، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِقَامَةَ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الصَّانِعِ، وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّاتِ، وَالِاشْتِغَالَ بِعُلُومِ الشَّرْعِ مِنْ تَفْسِيرٍ وَحَدِيثٍ وَفِقْهٍ، وَتَوَلِّيَ الْقَضَاءِ وَالْإِفْتَاءِ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ الدُّنْيَوِيِّ: الْحِرَفُ وَالصَّنَائِعُ، وَمَا بِهِ قِوَامُ الْعَيْشِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.

4- وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ جُمْلَةً مِنَ الْفُرُوقِ بَيْنَ فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَفَرْضِ الْعَيْنِ وَهِيَ:

أ- أَنَّ فُرُوضَ الْكِفَايَةِ أَمْرٌ كُلِّيٌّ تَتَعَلَّقُ بِهَا مَصَالِحُ دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ لَا يَنْتَظِمُ الْأَمْرُ إِلاَّ بِحُصُولِهَا، فَقَصَدَ الشَّارِعُ تَحْصِيلَهَا، وَلَا يَقْصِدُ تَكْلِيفَ الْآحَادِ وَامْتِحَانَهُمْ بِهَا، بِخِلَافِ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ فَإِنَّ الْكُلَّ مُكَلَّفُونَ بِهَا مُمْتَحَنُونَ بِتَحْصِيلِهَا.

ب- الْمَصْلَحَةُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهَا كَالصَّلَاةِ مَثَلًا، فَإِنَّ مَصْلَحَةَ الْخُضُوعِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالتَّذَلُّلِ تَتَكَرَّرُ كُلَّمَا تَكَرَّرَتِ الصَّلَاةُ، فَشُرِعَ هَذَا الْقِسْمُ عَلَى الْأَعْيَانِ تَكْثِيرًا لِلْمَصْلَحَةِ.

أَمَّا الْمَصْلَحَةُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ فَلَا تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهَا، كَإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ فَإِنَّ النَّازِلَ إِلَى الْبَحْرِ بَعْدَ إِنْقَاذِهِ لَا يُحَصِّلُ شَيْئًا مِنَ الْمَصْلَحَةِ، فَجَعَلَهُ الشَّارِعُ عَلَى الْكِفَايَةِ نَفْيًا لِلْعَبَثِ فِي الْأَفْعَالِ، كَكِسْوَةِ الْعُرْيَانِ وَإِطْعَامِ الْجَوْعَانِ.

ج- أَنَّ فَرْضَ الْعَيْنِ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ إِلاَّ لِعُذْرٍ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَكَذَلِكَ فَرْضُ الْكِفَايَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ، فَلَا يَلْزَمُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِالشُّرُوعِ إِلاَّ فِي الْجِهَادِ وَالْجِنَازَةِ وَالْحَجِّ تَطَوُّعًا عِنْدَهُمْ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ إِلاَّ فَرْضَ كِفَايَةٍ.

د- أَنَّ مَنْ تَرَكَ فَرْضَ عَيْنٍ أُجْبِرَ عَلَيْهِ، وَفِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ خِلَافٌ كَمَا فِي تَوَلِّي الْقَضَاءِ وَكَفَالَةِ اللَّقِيطِ وَغَيْرِهَا.

الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ:

5- ذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الإْسْفَرايِينِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ إِلَى أَنَّ لِلْقِيَامِ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ أَفْضَلِيَّةً عَلَى الْقِيَامِ بِفَرْضِ الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ فِي أَدَائِهِ إِسْقَاطًا لِلْحَرَجِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنِ الْمُسْلِمِينَ.

وَذَهَبَ ابْنُ عَابِدِينَ وَالْجَلَالُ الْمَحَلِّيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى جَمْعِ الْجَوَامِعِ إِلَى أَنَّ الْقِيَامَ بِفَرْضِ الْعَيْنِ أَفْضَلُ، لِشِدَّةِ اعْتِنَاءِ الشَّارِعِ بِهِ بِقَصْدِ حُصُولِهِ مِنْ كُلِّ مُكَلَّفٍ، وَلِأَنَّهُ مَفْرُوضٌ حَقًّا لِلنَّفْسِ فَهُوَ أَهَمُّ عِنْدَهَا وَأَكْثَرُ مَشَقَّةً، وَنَقَلَ الْعَطَّارُ فِي حَاشِيَتِهِ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ قَطْعَ الطَّوَافِ الْمَفْرُوضِ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ مَكْرُوهٌ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ تَرْكُ فَرْضِ الْعَيْنِ لِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، فَإِذَا ازْدَحَمَ فَرْضُ الْكِفَايَةِ وَفَرْضُ الْعَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَا يَسَعُ إِلاَّ أَحَدَهُمَا وَجَبَ تَقْدِيمُ فَرْضِ الْعَيْنِ إِلاَّ إِذَا كَانَ لَهُ بَدَلٌ، كَمَا فِي سُقُوطِ الْجُمُعَةِ مِمَّنْ لَهُ قَرِيبٌ يُمَرِّضُهُ، بَلْ قَالُوا: لَوِ اجْتَمَعَ جِنَازَةٌ وَجُمُعَةٌ وَضَاقَ الْوَقْتُ قُدِّمَتِ الْجُمُعَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقَدَّمَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجِنَازَةَ لِأَنَّ لِلْجُمُعَةِ بَدَلًا.

وَإِنْ كَانَ فِي الْوَقْتِ مُتَّسَعٌ فَيُقَدَّمُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ، كَمَا لَوِ اجْتَمَعَ كُسُوفٌ وَفَرْضٌ، وَلَمْ يُخَفْ فَوْتُ الْفَرْضِ، قُدِّمَ الْكُسُوفُ كَيْ لَا يَفُوتَ، وَكَذَلِكَ يُقَدَّمُ إِنْقَاذُ الْغَرِيقِ عَلَى إِتْمَامِ الصَّوْمِ فِي حَقِّ صَائِمٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِنْقَاذِهِ إِلاَّ بِالْإِفْطَارِ لِخَوْفِ الْفَوَاتِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


94-موسوعة الفقه الكويتية (فضائل)

فَضَائِل

التَّعْرِيفُ:

1- الْفَضَائِلُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ فَضِيلَةٍ، وَهِيَ الدَّرَجَةُ الرَّفِيعَةُ فِي الْفَضْلِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَفَضِيلَةُ الشَّيْءِ: مَرْتَبَتُهُ أَوْ وَظِيفَتُهُ الَّتِي قُصِدَتْ مِنْهُ، وَالْفَاضِلَةُ: النِّعْمَةُ الْعَظِيمَةُ، وَالْفَضْلُ وَالْفَضِيلَةُ: الْخَيْرُ وَالزِّيَادَةُ، وَهُوَ خِلَافُ النَّقِيصَةِ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْفَضَائِلِ:

أَوَّلًا- فَضَائِلُ الْقُرْآنِ:

2- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنَ الْأَذْكَارِ وَالْأَوْرَادِ الْأُخْرَى الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِزَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ مُعَيَّنٍ لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقُومُ} وَقَوْلُهُ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} وَقَوْلُهُ: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}.

وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُتَعْتِعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ»، وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ: الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ»، وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا».

3- إِلاَّ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ بَعْضَ سُوَرِ وَآيَاتِ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، مِنْهَا قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتِ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ؟ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً، شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ، وَهِيَ سُورَةُ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ»، وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيَّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، فَضَرَبَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ».

وَذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنْ شَيْءٍ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ كَلَامُ اللَّهِ، فَكَيْفَ يَفْضُلُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَكَيْفَ يَكُونُ بَعْضُهُ أَشْرَفَ مِنْ بَعْضٍ؟ وَلِئَلاَّ يُوهِمَ التَّفْضِيلُ نَقْصَ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ كَرِهَ الْإِمَامُ مَالِكٌ أَنْ تُعَادَ قِرَاءَةُ سُورَةٍ أَوْ تُرَدَّدَ دُونَ غَيْرِهَا.

ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالتَّفْضِيلِ فِي السَّبَبِ الَّذِي يُفَضَّلُ بِهِ بَعْضُ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْفَضْلُ رَاجِعٌ إِلَى عِظَمِ الْأَجْرِ وَمُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ، بِحَسَبِ انْتِقَالَاتِ النَّفْسِ وَخَشْيَتِهَا وَتَدَبُّرِهَا وَتَفَكُّرِهَا عِنْدَ وُرُودِ أَوْصَافِ الْعَلِيِّ الْحَكِيمِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ التَّفْضِيلَ يَرْجِعُ إِلَى أَمْرٍ تَعَبُّدِيٍّ لَا يَظْهَرُ لَنَا، فَتَكُونُ سُورَةٌ أَفْضَلَ مِنْ سُورَةٍ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ قِرَاءَتَهَا كَقِرَاءَةِ أَضْعَافِهَا مِمَّا سِوَاهَا، وَأَوْجَبَ بِهَا مِنَ الثَّوَابِ مَا لَمْ يُوجِبْ بِغَيْرِهَا، كَمَا جَعَلَ يَوْمًا أَفْضَلَ مِنْ يَوْمٍ وَشَهْرًا أَفْضَلَ مِنْ شَهْرٍ، بِمَعْنَى أَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهِ تَفْضُلُ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي غَيْرِهِ، وَالذَّنْبَ فِيهِ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ فِي غَيْرِهِ، وَكَمَا جَعَلَ الْحَرَمَ أَفْضَلَ مِنَ الْحِلِّ، لِأَنَّهُ يَتَأَدَّى فِيهِ مِنَ الْمَنَاسِكِ مَا لَا يَتَأَدَّى فِي غَيْرِهِ، وَالصَّلَاةُ فِيهِ يُضَاعَفُ أَجْرُهَا أَكْثَرَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِهِ.

وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الْفَضْلَ يَرْجِعُ لِذَاتِ اللَّفْظِ، فَإِنَّ مَا تَضَمَّنَهُ قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ، وَآخِرُ سُورَةِ الْحَشْرِ، وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ، مِنَ الدَّلَالَاتِ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ وَصِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لَيْسَ مَوْجُودًا مَثَلًا فِي: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} وَأَمْثَالِهَا، فَالتَّفْضِيلُ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَعَانِي الْعَجِيبَةِ وَكَثْرَتِهَا.

وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ: مَعْنَى التَّفْضِيلِ يَرْجِعُ إِلَى أَشْيَاءَ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ بِآيَةٍ أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ بِأُخْرَى وَأَعْوَدُ عَلَى النَّاسِ، وَعَلَى هَذَا يُقَالُ: آيَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، خَيْرٌ مِنْ آيَاتِ الْقَصَصِ، لِأَنَّهَا إِنَّمَا أُرِيدَ بِهَا تَأْكِيدُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِنْذَارُ وَالتَّبْشِيرُ، وَلَا غِنَى لِلنَّاسِ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَقَدْ يَسْتَغْنُونَ عَنِ الْقَصَصِ، فَكَانَ مَا هُوَ أَعْوَدُ عَلَيْهِمْ، وَأَنْفَعُ لَهُمْ، مِمَّا يَجْرِي مَجْرَى الْأُصُولِ، خَيْرًا لَهُمْ مِمَّا جُعِلَ تَبَعًا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ.

الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: الْآيَاتُ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى تَعْدِيدِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَبَيَانِ صِفَاتِهِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى عَظَمَتِهِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا.

الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ: سُورَةٌ خَيْرٌ مِنْ سُورَةٍ، أَوْ آيَةٌ خَيْرٌ مِنْ آيَةٍ بِمَعْنَى: أَنَّ الْقَارِئَ يَتَعَجَّلُ لَهُ بِقِرَاءَتِهَا فَائِدَةً سِوَى الثَّوَابِ الْآجِلِ، وَيَتَأَدَّى مِنْهُ بِتِلَاوَتِهَا عِبَادَةٌ، كَقِرَاءَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَالْإِخْلَاصِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، فَإِنَّ الْقَارِئَ يَتَعَجَّلُ بِقِرَاءَتِهَا الِاحْتِرَازَ مِمَّا يَخْشَى، وَالِاعْتِصَامَ بِاللَّهِ، وَيَتَأَدَّى بِتِلَاوَتِهَا عِبَادَةُ اللَّهِ، لِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالصِّفَاتِ الْعُلَى، عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِقَادِ لَهَا، وَسُكُونِ النَّفْسِ إِلَى فَضْلِ ذَلِكَ الذِّكْرِ وَبَرَكَتِهِ، فَأَمَّا آيَاتُ الْحُكْمِ فَلَا يَقَعُ بِنَفْسِ تِلَاوَتِهَا إِقَامَةُ حُكْمٍ، وَإِنَّمَا يَقَعُ بِهَا عِلْمُ الْحُكْمِ.

ثَانِيًا- فَضْلُ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ وَطَلَبِهِ:

4- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ وَفَضْلِ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، وَأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِطَلَبِهِ أَفْضَلُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِنَوَافِلِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالتَّسْبِيحِ وَغَيْرِهَا مِنْ نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، لِتَكَاثُرِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ، وَالْحَثِّ عَلَى تَحْصِيلِهِ وَالِاجْتِهَادِ فِي اقْتِبَاسِهِ.

وَمِنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ: قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} وقوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}

وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»، وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» قَالَ الشَّافِعِيُّ: طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ.

وَانْظُرْ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ مُصْطَلَحَ: (طَلَبُ الْعِلْمِ ف 6 وَمَا بَعْدَهَا).

ثَالِثًا: فَضْلُ الْفَرْضِ عَلَى النَّفْلِ:

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ- سَوَاءٌ كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ أَوْ فَرْضَ كِفَايَةٍ- أَفْضَلُ مِنَ التَّطَوُّعِ وَالتَّنَفُّلِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ...» الْحَدِيثَ.لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفَرْضِ جَازِمٌ فَيَتَضَمَّنُ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: الثَّوَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَالْآخَرُ: الْعِقَابُ عَلَى تَرْكِهِ، بِخِلَافِ النَّفْلِ، فَلَا عِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ، وَلِأَنَّ الْفَرْضَ كَالْأَسَاسِ، وَالنَّفَلَ كَالْبِنَاءِ عَلَى ذَلِكَ الْأَسَاسِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْفَرْضُ أَكْمَلَ وَأَحَبَّ إِلَى اللَّهِ وَأَشَدّ تَقَرُّبًا مِنَ النَّفْلِ، إِلاَّ فِي مَسَائِلَ مُسْتَثْنَاةٍ، النَّفَلُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنَ الْفَرْضِ، وَهِيَ:

أ- تَقْدِيمُ الْوُضُوءِ عَلَى الْوَقْتِ لِغَيْرِ الْمَعْذُورِ مَنْدُوبٌ، وَبَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَرْضٌ، الْمَنْدُوبُ- هُنَا- أَفْضَلُ مِنَ الْفَرْضِ، لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْوُضُوءِ فِيهِ انْتِظَارُ الصَّلَاةِ، وَمُنْتَظِرُ الصَّلَاةِ كَمَنْ هُوَ فِيهَا، وَلِأَنَّ فِيهِ قَطْعَ طَمَعِ الشَّيْطَانِ عَنْ تَثْبِيطِهِ عَنِ الصَّلَاةِ.

ب- إِبْرَاءُ الْمُعْسِرِ عَنِ الدَّيْنِ سُنَّةٌ، وَإِنْظَارُهُ حَتَّى الْمَيْسَرَةَ فَرْضٌ، لقوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وَلَكِنَّ الْإِبْرَاءَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِنْظَارِ.

ج- الِابْتِدَاءُ بِالسَّلَامِ سُنَّةٌ، وَرَدُّ السَّلَامِ فَرْضٌ، لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} وَابْتِدَاءُ السَّلَامِ أَفْضَلُ مِنْ رَدِّهِ لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- يَرْفَعُهُ: «إِذَا مَرَّ الرَّجُلُ بِالْقَوْمِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا عَلَيْهِ، كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ فَضْلٌ، لِأَنَّهُ ذَكَّرَهُمُ السَّلَامَ».

6- وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا: هَلِ الْفَرْضُ الْعَيْنِيُّ أَفْضَلُ أَمِ الْفَرْضُ الْكِفَائِيُّ؟ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ فَرْضَ الْعَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ، لِأَنَّ فَرْضَ الْعَيْنِ فُرِضَ حَقًّا لِلنَّفْسِ، فَهُوَ أَهَمُّ عِنْدَهَا وَأَكْثَرُ مَشَقَّةً، بِخِلَافِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ، فَإِنَّهُ مَفْرُوضٌ حَقًّا لِلْكَافَّةِ، وَالْأَمْرُ إِذَا عَمَّ خَفَّ وَإِذَا خُصَّ ثَقُلَ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ- مِنْهُمْ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ- إِلَى أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ أَفْضَلُ مِنْ فَرْضِ الْعَيْنِ، لِأَنَّ فَاعِلَهُ يَسُدُّ مَسَدَّ الْأُمَّةِ، وَيُسْقِطُ الْحَرَجَ عَنْهَا بِأَسْرِهَا، وَبِتَرْكِهِ يَأْثَمُ الْمُتَمَكِّنُونَ مِنْهُ كُلُّهُمْ، وَلَا شَكَّ فِي عِظَمِ وَقْعِ مَا هَذِهِ صِفَتُهُ.

رَابِعًا- فَضْلُ بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ عَلَى بَعْضٍ:

7- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَمَاكِنِ أَفْضَلُ مِنَ الْبَعْضِ الْآخَرِ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهَا مِنْ فَضْلِهِ، وَمَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ إِكْرَامِهِ لِعِبَادِهِ، لَا بِصِفَاتٍ قَائِمَةٍ فِيهَا، لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ فِي الْأَصْلِ مُتَمَاثِلَةٌ وَمُتَسَاوِيَةٌ.

وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةَ وَالْمَدِينَةَ الْمُنَوَّرَةَ هُمَا أَفْضَلُ بِقَاعِ الْأَرْضِ.ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَيِّهِمَا أَفْضَلُ؟ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِلَى أَنَّ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، لِوُجُوهٍ عَدَّدَهَا الْعُلَمَاءُ:

أَحَدُهَا: وُجُوبُ قَصْدِهَا لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَهَذَانِ وَاجِبَانِ لَا يَقَعُ مِثْلُهُمَا فِي الْمَدِينَةِ.

الثَّانِي: إِنْ فُضِّلَتِ الْمَدِينَةُ بِإِقَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِيهَا بَعْدَ النُّبُوَّةِ، كَانَتْ مَكَّةُ أَفْضَل مِنْهَا، لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- أَقَامَ فِيهَا بَعْدَ النُّبُوَّةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرًا.

الثَّالِثُ: إِنْ فُضِّلَتِ الْمَدِينَةُ بِكَثْرَةِ الطَّارِقِينَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَمَكَّةُ أَفْضَلُ مِنْهَا بِكَثْرَةِ مَنْ طَرَقَهَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَالصَّالِحِينَ.

الرَّابِعُ: إِنَّ التَّقْبِيلَ وَالِاسْتِلَامَ ضَرْبٌ مِنَ التَّقْدِيسِ وَالِاحْتِرَامِ، وَهُمَا مُخْتَصَّانِ بِالرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمَدِينَةِ.

الْخَامِسُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْنَا اسْتِقْبَالَهَا فِي الصَّلَاةِ حَيْثُمَا كُنَّا مِنَ الْبِلَادِ وَالْفَلَوَاتِ، وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْنَا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَدِينَةِ.

السَّادِسُ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْنَا اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ وَاسْتِدْبَارَهَا عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ.

السَّابِعُ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ مِنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ إِلاَّ لِنَبِيِّنَا- صلى الله عليه وسلم- وَعَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لَهُ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ.

الثَّامِنُ: إِنَّ اللَّهَ بَوَّأَهَا لِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَلِابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ ( (، وَجَعَلَهَا مَوْلِدًا لِسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ- عليه الصلاة والسلام-.

التَّاسِعُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: اغْتَسَلَ لِدُخُولِ مَكَّةَ وَهُوَ مَسْنُونٌ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ لِدُخُولِ الْمَدِينَةِ.

الْعَاشِرُ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَثْنَى عَلَى الْبَيْتِ فِي كِتَابِهِ بِمَا لَمْ يُثْنِ بِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةِ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}.

الْحَادِيَ عَشَرَ: مِنْ شَرَفِ مَكَّةَ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُكْرَهُ فِيهَا فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ، مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ».

الثَّانِيَ عَشَرَ: الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمَكَّةَ تَعْدِلُ مِائَةَ أَلْفِ صَلَاةٍ وَلَيْسَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَدِينَةِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ.قَالَ الْحَطَّابُ: وَهُوَ- أَيْ كَوْنُ الْمَدِينَةِ أَفْضَل مِنْ مَكَّةَ- قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.

8- وَهَذَا الْخِلَافُ يَجْرِي فِيمَا عَدَا مَا ضَمَّ الْأَعْضَاءَ الشَّرِيفَةَ عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ مِنْ أَرْضِ الْمَدِينَةِ.

أَمَّا الْمَوْضِعُ الَّذِي ضَمَّ أَعْضَاءَهُ الشَّرِيفَةَ مِنْ قَبْرِهِ الْكَرِيمِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّهُ أَفْضَلُ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَتَّى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَحَتَّى الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ، وَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ السَّمَاوَاتِ حَتَّى الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ.كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْكَعْبَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَدِينَةِ مَا عَدَا الضَّرِيحَ الشَّرِيفَ عَلَى صَاحِبِهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ.

9- وَبَعْدَ أَنِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَالْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَفْضَلُ مِنْ مَسْجِدِ الْقُدْسِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى أَفْضَلُ مِنْ بَقِيَّةِ الْمَسَاجِدِ، حَتَّى تِلْكَ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- كَمَسْجِدِ قُبَاءَ، وَمَسْجِدِ الْفَتْحِ، وَمَسْجِدِ الْعِيدِ، وَمَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ، مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي هَذَا».

وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ الْأَفْضَلَ بَعْدَ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ مَا كَانَ أَقْدَمَ أَوْ أَكْثَرَ جَمَاعَةً، فَإِنِ اسْتَوَى الْمَسْجِدَانِ فِي الْجَمَاعَةِ فَالْأَقْرَبُ مَسَافَةً لِحُرْمَةِ الْجِوَارِ، ثُمَّ مَا انْتَفَتْ فِيهِ الشُّبْهَةُ عَنْ مَالِ بَانِيهِ وَوَاقِفِهِ، ثُمَّ مَنْ سَمِعَ نِدَاءَهُ أَوَّلًا، لِأَنَّ مُؤَذِّنَهُ دَعَاهُ أَوَّلًا، ثُمَّ يَتَخَيَّرُ. خَامِسًا: فَضْلُ بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ عَلَى بَعْضٍ:

10- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَزْمِنَةِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهَا مِنْ فَضْلِهِ، وَمَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ إِكْرَامِهِ لِعِبَادِهِ، لَا بِصِفَاتٍ قَائِمَةٍ فِيهَا، لِأَنَّ الْأَزْمَانَ فِي الْأَصْلِ مُتَسَاوِيَةٌ وَمُتَمَاثِلَةٌ.

فَفَضَّلَ اللَّهُ شَهْرَ رَمَضَانَ عَلَى سَائِرِ الشُّهُورِ، وَجَعَلَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَجَعَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ خَيْرَ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَسَيِّدَ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ»، وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ».

وَفَضَّلَ قِيَامَ اللَّيْلِ عَلَى غَيْرِهِ، وَالثُّلُثَ الْأَخِيرَ مِنْهُ عَلَى سَائِرِهِ، وَفَضَّلَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأَيَّامِ.

قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَتَفْضِيلُ الْأَمَاكِنِ وَالْأَزْمَانِ ضَرْبَانِ:

أَحَدُهُمَا: دُنْيَوِيٌّ، كَتَفْضِيلِ الرَّبِيعِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَزْمَانِ، وَكَتَفْضِيلِ بَعْضِ الْبُلْدَانِ عَلَى بَعْضٍ بِمَا فِيهَا مِنَ الْأَنْهَارِ وَالثِّمَارِ وَطِيبِ الْهَوَاءِ وَمُوَافَقَةِ الْأَهْوَاءِ.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي: تَفْضِيلٌ دِينِيٌّ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ يَجُودُ عَلَى عِبَادِهِ فِيهَا بِتَفْضِيلِ أَجْرِ الْعَامِلِينَ، كَتَفْضِيلِ صَوْمِ رَمَضَانَ عَلَى صَوْمِ سَائِرِ الشُّهُورِ، وَكَذَلِكَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَعَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ وَشَعْبَانُ وَسِتَّةٌ مِنْ أَيَّامِ شَوَّالٍ، فَفَضْلُهَا رَاجِعٌ إِلَى جُودِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى عِبَادِهِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ فَضْلُ الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنْ كُلِّ لَيْلَةٍ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ يُعْطِي فِيهِ مِنْ إِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَإِعْطَاءِ السُّؤَالِ، وَنَيْلِ الْمَأْمُولِ، مَا لَا يُعْطِيهِ فِي الثُّلُثَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ.

سَادِسًا- فَضْلُ الْأَذَانِ عَلَى الْإِمَامَةِ أَوِ الْعَكْسُ:

11- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّهُ هَلِ الْأَذَانُ أَفْضَلُ أَمِ الْإِمَامَةُ؟

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ أَحْمَدَ، إِلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَذَانِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- تَوَلاَّهَا بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ، وَلَمْ يَتَوَلَّوُا الْأَذَانَ، وَهُمْ لَا يَخْتَارُونَ إِلاَّ الْأَفْضَلَ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَةَ يُخْتَارُ لَهَا مَنْ هُوَ أَكْمَلُ حَالًا وَأَفْضَلُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمَا، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْأَذَانَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِمَامَةِ، لقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} قَالَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: نَزَلَتْ فِي الْمُؤَذِّنِينَ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا» وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْإِمَامُ ضَامِنٌ وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ، اللَّهُمَّ أَرْشِدِ الْأَئِمَّةَ وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ».وَالْأَمَانَةُ أَعْلَى وَأَحْسَنُ مِنَ الضَّمَانِ، وَالْمَغْفِرَةُ أَعْلَى مِنَ الْإِرْشَادِ، قَالُوا: كَوْنُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَقُمْ بِمُهِمَّةِ الْأَذَانِ وَلَا خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ يَعُودُ السَّبَبُ فِيهِ لِضِيقِ وَقْتِهِمْ عَنْهُ، لِانْشِغَالِهِمْ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي لَا يَقُومُ بِهَا غَيْرُهُمْ، فَلَمْ يَتَفَرَّغُوا لِلْأَذَانِ، وَمُرَاعَاةِ أَوْقَاتِهِ، قَالَ الْمَوَّاقُ: إِنَّمَا تَرَكَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْأَذَانَ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَلَمْ يُعَجِّلُوا لَحِقَتْهُمُ الْعُقُوبَةُ، لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-: لَوْلَا الْخِلَافَةُ لأَذَّنْتُ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْفَضْلِ.

وَفِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْقِيَامَ بِحُقُوقِ الْإِمَامَةِ وَجَمِيعِ خِصَالِهَا، فَهِيَ أَفْضَلُ، وَإِلاَّ فَالْأَذَانُ أَفْضَلُ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ هَلِ الْأَذَانُ أَفْضَلُ أَمِ الْإِقَامَةُ؟.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْإِقَامَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَذَانِ، لِأَنَّ الْأَذَانَ يَسْقُطُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ دُونَ الْإِقَامَةِ، كَمَا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ، وَمَا بَعْدَ أُولَى الْفَوَائِتِ، وَثَانِيَةِ الصَّلَاتَيْنِ بِعَرَفَةَ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْأَذَانَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِقَامَةِ، لِزِيَادَتِهِ عَلَيْهَا.

سَابِعًا- فَضْلُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى غَيْرِهَا:

12- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً».

وَكَوْنُهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ ف 2).

ثَامِنًا- فَضْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ:

13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّفَّ الْأَوَّلَ مِنْ صُفُوفِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الصُّفُوفِ الْأُخْرَى، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا» وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ».

كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الصَّفَّ الثَّانِيَ أَفْضَلُ مِنَ الثَّالِثِ، وَأَنَّ الثَّالِثَ أَفْضَلُ مِنَ الرَّابِعِ، وَهَكَذَا، إِلاَّ النِّسَاءَ فَخَيْرُ صُفُوفِهِنَّ أَوَاخِرُهَا لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا».

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (صَفّ ف 4).

تَاسِعًا- فَضْلُ الْمُجَاهِدِ عَلَى الْقَاعِدِ:

14- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ إِلَى اللَّهِ، وَأَنَّ الْمُجَاهِدِينَ أَفْضَلُ مِنَ الْقَاعِدِينَ غَيْرِ الْمَعْذُورِينَ بِدَرَجَاتٍ كَثِيرَةٍ، لقوله تعالى {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْقَاعِدُونَ الْأَوَّلُ- فِي الْآيَةِ- هُمُ الْأَضِرَّاءُ، أَيْ هُمْ أُولُو الضَّرَرِ، فَإِنَّ الْمُجَاهِدِينَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ بِدَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ لَهُمْ نِيَّةً بِلَا عَمَلٍ، وَلِلْمُجَاهِدِينَ نِيَّةٌ وَعَمَلٌ، وَالْقَاعِدُونَ الثَّانِي: هُمْ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، فَإِنَّ بَيْنَ الْمُجَاهِدِينَ وَبَيْنَهُمْ دَرَجَاتٍ كَثِيرَةً.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»، وَعَنْهُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»، وَعَنْهُ- صلى الله عليه وسلم-: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا».

عَاشِرًا- فَضْلُ الْإِمَامِ وَالْقَاضِي عَلَى الْمُفْتِي وَغَيْرِهِ:

15- أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْوِلَايَاتِ مِنْ أَفْضَلِ الطَّاعَاتِ، وَأَنَّ الْوُلَاةَ الْمُقْسِطِينَ أَعْظَمُ أَجْرًا وَأَجَلُّ قَدْرًا مِنْ غَيْرِهِمْ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ»، وَلِكَثْرَةِ مَا يَجْرِي عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ، وَدَرْءِ الْبَاطِلِ، وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ فَيَدْفَعُ بِهَا مَظَالِمَ كَثِيرَةً، أَوْ يَجْلِبُ بِهَا مَصَالِحَ كَثِيرَةً، فَإِذَا أَمَرَ الْإِمَامُ بِجَلْبِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ الْعَامَّةِ، كَانَ لَهُ أَجْرٌ بِحَسَبِ مَا دَعَا إِلَيْهِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَمَا زَجَرَ عَنْهُ مِنَ الْمَفَاسِدِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لأَُجِرَ عَلَيْهَا بِعَدَدِ مُتَعَلِّقَاتِهَا، وَكَذَلِكَ أَجْرُ أَعْوَانِهِ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ.

وَمِنْ أَجْلِ هَذَا أَصْبَحَ الْقَاضِي أَفْضَل وَأَعْظَم أَجْرًا مِنَ الْمُفْتِي، لِأَنَّ الْقَاضِيَ يُفْتِي وَيُلْزِمُ، فَلَهُ أَجْرَانِ، أَحَدُهُمَا: عَلَى فُتْيَاهُ، وَالْآخَرُ: عَلَى إِلْزَامِهِ، وَهَذَا إِذَا اسْتَوَتِ الْوَاقِعَةُ الَّتِي فِيهَا الْفُتْيَا وَالْحُكْمُ، وَإِلاَّ فَتَخْتَلِفُ أُجُورُهُمَا بِاخْتِلَافِ مَا يَجْلِبَانِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَيَدْرَآنِهِ مِنَ الْمَفَاسِدِ، وَلَكِنَّ تَصَدِّي الْقَاضِي لِلْحُكْمِ أَفْضَلُ مِنْ تَصَدِّي الْمُفْتِي لِلْفُتْيَا. وَفِي الْمُقَابِلِ فَإِنَّ وُلَاةَ السُّوءِ وَقُضَاةَ الْجَوْرِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ وِزْرًا، وَأَحَطِّهِمْ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ، لِعُمُومِ مَا يَجْرِي عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ جَلْبِ الْمَفَاسِدِ الْعِظَامِ، وَدَرْءِ الْمَصَالِحِ الْجِسَامِ، وَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُولُ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ فَيَأْثَمُ بِهَا أَلْفَ إِثْمٍ وَأَكْثَرَ، عَلَى حَسَبِ عُمُومِ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ، وَعَلَى حَسَبِ مَا يَدْفَعُهُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، كَأَنْ يَأْمُرَ- مَثَلًا- بِقِتَالِ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ بِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ.

حَادِيَ عَشَرَ- الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ:

16- قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ بِشُرُوطٍ، مِنْهَا:

أ- أَنْ لَا يَكُونَ شَدِيدَ الضَّعْفِ، فَإِذَا كَانَ شَدِيدَ الضَّعْفِ كَكَوْنِ الرَّاوِي كَذَّابًا، أَوْ فَاحِشَ الْغَلَطِ، فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ.

ب- أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا بِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الْعَقِيدَةِ، وَلَا بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَنَحْوِهَا.

ج- أَنْ يَنْدَرِجَ تَحْتَ أَصْلٍ عَامٍّ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ.

د- أَنْ لَا يُعْتَقَدَ عِنْدَ الْعَمَلِ بِهِ ثُبُوتُهُ، بَلْ يُعْتَقَدُ الِاحْتِيَاطُ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


95-موسوعة الفقه الكويتية (فلاحة)

فِلَاحَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْفِلَاحَةُ فِي اللُّغَةِ: الْحِرَاثَةُ، يُقَالُ: فَلَحْتُ الْأَرْضَ فَلْحًا: شَقَقْتُهَا، وَالْفَلْحُ: الشَّقُّ وَالْقَطْعُ، يُقَالُ: فَلَحَ رَأْسَهُ، وَفَلَحَ الْحَدِيدَ: إذَا شَقَّهُ.

وَلَا يَخْرُجُ التَّعْرِيفُ الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الزِّرَاعَةُ:

2- الزِّرَاعَةُ مِنْ مَعَانِيهَا: طَرْحُ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ أَوِ الْإِنْبَاتُ.

وَالْعَلَاقَةُ أَنَّ الْفِلَاحَةَ مُقَدِّمَةٌ لِلزِّرَاعَةِ.

ب- الْغَرْسُ:

3- الْغَرْسُ: وَضْعُ صِغَارِ الشَّجَرِ فِي الْأَرْضِ لِلِاسْتِثْمَارِ.

وَالْعَلَاقَةُ أَنَّ الْفِلَاحَةَ مُقَدِّمَةٌ لِلْغَرْسِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْفِلَاحَةِ:

حُكْمُ الْفِلَاحَةِ:

4- الْفِلَاحَةُ فَرْضُ كِفَايَةٍ كَسَائِرِ الْحِرَفِ الَّتِي لَا يَسْتَقِيمُ نِظَامُ الْحَيَاةِ بِدُونِهَا، فَيَأْثَمُ الْمُسْلِمُونَ بِتَرْكِهَا جَمِيعًا، وَيَسْقُطُ عَنْهُمُ الْفَرْضُ إذَا قَامَ بَعْضُهُمْ بِمَا يَسُدُّ حَاجَةَ الْمُسْلِمِينَ.

وَنَصَّ ابْنُ الْحَاجِّ فِي مَدْخَلِهِ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ يَقُومُ بِهَذَا الْفَرْضِ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ فِيهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، بِنِيَّةِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ لِيَسْقُطَ عَنْهُمْ، فَيَدْخُلُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».

وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الدِّرَايَةِ بِالصَّنْعَةِ، مَعَ النُّصْحِ وَالْإِخْلَاصِ فِي النِّيَّةِ، فَحِينَئِذٍ تَحْصُلُ الْبَرَكَاتُ، وَتَأْتِي الْخَيْرَاتُ.

وَالْفِلَاحَةُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَكَاسِبِ، وَأَعْظَمِ أَسْبَابِ الرِّزْقِ، وَأَبْرَكِهَا، وَأَزْكَاهَا، وَأَكْثَرِهَا أَجْرًا إذَا كَانَتْ عَلَى وَجْهِهَا الشَّرْعِيِّ، لِأَنَّ خَيْرَهَا مُتَعَدٍّ لِلزَّارِعِ وَلِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَالطَّيْرِ، وَالْبَهَائِمِ، وَالْحَشَرَاتِ، جَاءَ فِي الْأَثَرِ الصَّحِيحِ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ».

إحْيَاءُ الْمَوَاتِ بِالْفِلَاحَةِ:

5- إذَا قَامَ رَجُلٌ بِفِلَاحَةِ أَرْضٍ مَوَاتٍ صَارَ مُحْيِيًا لَهَا.فَيَمْلِكُهَا بِالْإِحْيَاءِ أَوْ يَخْتَصُّ بِهَا، عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يُمْلَكُ بِهِ الْمَوَاتُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إحْيَاءُ الْمَوَاتِ ف9، 24).

سَقْيُ أَرْضِ الْفِلَاحَةِ بِمَاءٍ نَجِسٍ:

6- يَجُوزُ سَقْيُ أَرْضِ الْفِلَاحَةِ بِمَاءٍ نَجِسٍ، وَلَا يَحْرُمُ أَكْلُ مَا نَبَتَ بِالْمَاءِ الْمُتَنَجِّسِ، مِنْ حَبٍّ، وَثِمَارٍ، عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ طَاهِرٌ، إذْ لَا يَظْهَرُ فِي ذَلِكَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إلَى نَجَاسَتِهِ، وَحُرْمَةِ أَكْلِهِ، حَتَّى يُسْقَى بِمَاءٍ طَاهِرٍ يَسْتَهْلِكُ عَيْنَ النَّجَاسَةِ.

وَفِي قَوْلٍ آخَرَ هُوَ طَاهِرٌ كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ، وَجَزَمَ بِهِ فِي التَّبْصِرَةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (نَجَاسَةٌ، وَمَاءٌ، وَأَطْعِمَةٌ فِقْرَةُ 11).

اسْتِعْمَالُ الزِّبْلِ وَالسِّرْجِينِ فِي الْفِلَاحَةِ:

7- قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الزِّبْلِ وَالسِّرْجِينِ فِي الْفِلَاحَةِ لِتَنْمِيَةِ الزَّرْعِ، وَقَالُوا: وَلَا يَكُونُ النَّابِتُ نَجِسَ عَيْنٍ، وَلَكِنَّهُ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ، فَيَطْهُرُ بِالْغَسْلِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (زِبْلٌ ف 4)

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


96-موسوعة الفقه الكويتية (قبض 1)

قَبْضٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الْقَبْضِ لُغَةً: تَنَاوُلُ الشَّيْءِ بِجَمِيعِ الْكَفِّ، وَمِنْهُ قَبْضُ السَّيْفِ وَغَيْرِهِ، وَيُقَالُ: قَبَضَ الْمَالَ، أَيْ أَخَذَهُ، وَقَبَضَ الْيَدَ عَلَى الشَّيْءِ، أَيْ جَمَعَهَا بَعْدَ تَنَاوُلِهِ.وَمِنْ مَعَانِيهِ: الْإِمْسَاكُ عَنِ الشَّيْءِ، يُقَالُ: قَبَضَ يَدَهُ عَنِ الشَّيْءِ أَيْ جَمَعَهَا قَبْلَ تَنَاوُلِهِ، وَذَلِكَ إمْسَاكٌ عَنْهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِإِمْسَاكِ الْيَدِ عَنِ الْبَذْلِ وَالْعَطَاءِ: قَبْضٌ.

وَيُسْتَعَارُ الْقَبْضُ لِتَحْصِيلِ الشَّيْءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُرَاعَاةُ الْكَفِّ، نَحْوُ: قَبَضْتُ الدَّارَ وَالْأَرْضَ مِنْ فُلَانٍ: أَيْ حُزْتُهَا، وَيُقَالُ: هَذَا الشَّيْءُ فِي قَبْضَةِ فُلَانٍ، أَيْ فِي مِلْكِهِ وَتَصَرُّفِهِ، وَقَدْ يُكَنَّى بِالْقَبْضِ عَنِ الْمَوْتِ.فَيُقَالُ: قُبِضَ فُلَانٌ، أَيْ مَاتَ، فَهُوَ مَقْبُوضٌ.

قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَأَمَّا ((: {وَاَللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} فَإِنَّهُ تَجَوُّزٌ بِالْقَبْضِ عَنِ الْإِعْدَامِ، لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ مَكَانٍ يَخْلُو مِنْهُ مَحَلُّهُ كَمَا يَخْلُو الْمَحَلُّ عَنِ الشَّيْءِ إذَا عُدِمَ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ حِيَازَةُ الشَّيْءِ وَالتَّمَكُّنُ مِنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يُمْكِنُ تَنَاوُلُهُ بِالْيَدِ أَمْ لَمْ يُمْكِنْ قَالَ الْكَاسَانِيُّ: مَعْنَى الْقَبْضِ هُوَ التَّمْكِينُ وَالتَّخَلِّي وَارْتِفَاعُ الْمَوَانِعِ عُرْفًا وَعَادَةً حَقِيقَةً وَقَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: قَوْلُهُمْ قَبَضْتُ الدَّارَ وَالْأَرْضَ وَالْعَبْدَ وَالْبَعِيرَ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ الِاسْتِيلَاءَ وَالتَّمَكُّنَ مِنَ التَّصَرُّفِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- النَّقْدُ:

2- يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ (النَّقْدِ) بِمَعْنَى الْإِقْبَاضِ وَالتَّسْلِيمِ إذَا كَانَ الشَّيْءُ الْمُعْطَى نُقُودًا، فَفِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: نَقَدْتُ الرَّجُلَ الدَّرَاهِمَ، بِمَعْنَى أَعْطَيْتُهُ...فَانْتَقَدَهَا، أَيْ قَبَضَهَا.وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: النَّقْدُ خِلَافُ الدَّيْنِ وَالْقَرْضِ.

وَإِنَّمَا سُمِّيَ إقْبَاضُ الدَّرَاهِمِ نَقْدًا لِتَضَمُّنِهِ- فِي الْأَصْلِ- تَمْيِيزَهَا وَكَشْفَ حَالِهَا فِي الْجَوْدَةِ وَإِخْرَاجِ الزَّيْفِ مِنْهَا مِنْ قِبَلِ الْمُعْطِي وَالْآخِذِ.

أَمَّا (بَيْعُ النَّقْدِ) فَهُوَ- كَمَا قَالَ ابْنُ جُزَيٍّ- أَنْ يُعَجِّلَ الثَّمَنَ وَالْمَثْمُونَ.

فَكُلُّ نَقْدٍ قَبْضٌ وَلَا عَكْسَ.

ب- الْحِيَازَةُ:

3- يَقُولُ أَهْلُ اللُّغَةِ: كُلُّ مَنْ ضَمَّ إلَى نَفْسِهِ شَيْئًا فَقَدْ حَازَهُ حَوْزًا وَحِيَازَةً.

أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ، فَأَكْثَرُ مَا تُسْتَعْمَلُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِنَّهُمْ لَيَسْتَعْمِلُونَهُ ا فِي كُتُبِهِمْ بِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَعَمُّ مِنَ الْآخَرِ:

أ- أَمَّا بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ فَهِيَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ وَالتَّمَكُّنُ مِنْهُ، وَهُوَ نَفْسُ مَعْنَى الْقَبْضِ عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ.قَالَ الْقَيْرَوَانِيُّ: لَا تَتِمُّ هِبَةٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَا حَبْسٌ إلاَّ بِالْحِيَازَةِ أَيْ إلاَّ بِالْقَبْضِ، وَقَالَ التَّسَوُّلِيُّ: الْحَوْزُ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ الْمَحُوزِ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ رَحَّالٍ: الْحَوْزُ وَالْقَبْضُ شَيْءٌ وَاحِدٌ.

ب- أَمَّا الْحِيَازَةُ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَعَرَّفَهَا أَبُو الْحَسَنِ الْمَالِكِيُّ بِقَوْلِهِ: الْحِيَازَةُ هِيَ وَضْعُ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفُ فِي الشَّيْءِ الْمَحُوزِ كَتَصَرُّفِ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَالْهَدْمِ وَغَيْرِهِ مِنْ وُجُوهِ التَّصَرُّفِ وَقَالَ الْحَطَّابُ: الْحِيَازَةُ تَكُونُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، أَضْعَفُهَا: السُّكْنَى وَالِازْدِرَاعُ، وَيَلِيهَا: الْهَدْمُ وَالْبُنْيَانُ وَالْغَرْسُ وَالِاسْتِغْلَالُ.وَيَلِيهَا: التَّفْوِيتُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالنِّحْلَةِ وَالْعِتْقِ وَالْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْوَطْءِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ إلاَّ فِي مَالِهِ.

وَالْقَبْضُ مُرَادِفٌ لِلْحِيَازَةِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ.

ج- الْيَدُ:

4- يَسْتَعْمِلُ الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ (الْيَدِ) بِمَعْنَى حَوْزِ الشَّيْءِ وَالْمُكْنَةُ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، فَيَقُولُونَ: بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ فِي النِّتَاجِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ وَيُرِيدُونَ بِذِي الْيَدِ الْحَائِزَ الْمُنْتَفِعَ، جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قُلْت: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ سِلْعَةً فِي يَدَيَّ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهَا لَهُ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ، وَادَّعَيْتُ أَنَّهَا لِي، وَهِيَ فِي يَدَيَّ، وَأَقَمْتُ الْبَيِّنَةَ؟ قَالَ لِي مَالِكٌ: هِيَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ إذَا تَكَافَأَتِ الْبَيِّنَتَانِ.

وَالصِّلَةُ أَنَّ الْيَدَ تَدُلُّ عَلَى الْقَبْضِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقَبْضِ:

كَيْفِيَّةُ الْقَبْضِ:

5- تَخْتَلِفُ كَيْفِيَّةُ قَبْضِ الْأَشْيَاءِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهَا فِي نَفْسِهَا، وَهِيَ فِي الْجُمْلَةِ نَوْعَانِ: عَقَارٌ وَمَنْقُولٌ.

أ- كَيْفِيَّةُ قَبْضِ الْعَقَارِ:

6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَبْضَ الْعَقَارِ يَكُونُ بِالتَّخْلِيَةِ وَالتَّمْكِينِ مِنَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ.فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ بِأَنْ مَنَعَهُ شَخْصٌ آخَرُ مِنْ وَضْعِ يَدِهِ عَلَيْهِ، فَلَا تُعْتَبَرُ التَّخْلِيَةُ قَبْضًا.

وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ: ذَلِكَ بِمَا إذَا كَانَ الْعَقَارُ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فِيهِ تَقْدِيرٌ، أَمَّا إذَا كَانَ مُعْتَبَرًا فِيهِ- كَمَا إذَا اشْتَرَى أَرْضًا مُذَارَعَةً- فَلَا تَكْفِي التَّخْلِيَةُ وَالتَّمْكِينُ، بَلْ لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنَ الذَّرْعِ.

كَمَا اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْعَقَارُ قَرِيبًا، فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا فَلَا تُعْتَبَرُ التَّخْلِيَةُ قَبْضًا، وَهُوَ رَأْيُ الصَّاحِبَيْنِ وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرِ الْقُرْبَ وَالْبُعْدَ، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْبِ فِي الدَّارِ بِأَنْ تَكُونَ فِي الْبَلَدِ، ثُمَّ إنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْعَقَارَ إذَا كَانَ لَهُ قُفْلٌ، فَيَكْفِي فِي قَبْضِهِ تَسْلِيمُ الْمِفْتَاحِ مَعَ تَخْلِيَتِهِ، بِحَيْثُ يَتَهَيَّأُ لَهُ فَتْحُهُ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ.

وَقَدْ أَلْحَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الثَّمَرَ عَلَى الشَّجَرِ بِالْعَقَارِ فِي اعْتِبَارِ التَّخْلِيَةِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ قَبْضًا لَهُ، لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ وَتَعَارُفِهِمْ عَلَيْهِ.

ب- كَيْفِيَّةُ قَبْضِ الْمَنْقُولِ:

7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ قَبْضِ الْمَنْقُولِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَنْقُولَاتِ فِيمَا يُعْتَبَرُ قَبْضًا لَهَا، حَيْثُ إنَّ بَعْضَهَا يُتَنَاوَلُ بِالْيَدِ عَادَةً وَبَعْضَهَا الْآخَرَ لَا يُتَنَاوَلُ، وَمَا لَا يُتَنَاوَلُ بِالْيَدِ نَوْعَانِ،

أَحَدُهُمَا: لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ تَقْدِيرٌ فِي الْعَقْدِ،

وَالثَّانِي: يُعْتَبَرُ فِيهِ، فَتَحْصُلُ لَدَيْهِمْ فِي الْمَنْقُولِ ثَلَاثُ حَالَاتٍ:

الْحَالَةُ الْأُولَى:

8- أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُتَنَاوَلُ بِالْيَدِ عَادَةً، كَالنُّقُودِ وَالثِّيَابِ وَالْجَوَاهِرِ وَالْحُلِيِّ وَمَا إلَيْهَا، وَقَبْضُهُ يَكُونُ بِتَنَاوُلِهِ بِالْيَدِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ:

9- أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ تَقْدِيرٌ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ، إمَّا لِعَدَمِ إمْكَانِهِ وَإِمَّا مَعَ إمْكَانِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُرَاعَ فِيهِ، كَالْأَمْتِعَةِ وَالْعُرُوضِ وَالدَّوَابِّ وَالصُّبْرَةِ جُزَافًا، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ مَعَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي كَيْفِيَّةِ قَبْضِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي قَبْضِهِ إلَى الْعُرْفِ.

وَالثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّ قَبْضَهُ يَكُونُ بِنَقْلِهِ وَتَحْوِيلِهِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْمَنْقُولِ وَالْعُرْفِ، فَأَمَّا الْمَنْقُولُ فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا نَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ فَنَشْتَرِي مِنْهُمُ الطَّعَامَ جُزَافًا، فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى نَنْقُلَهُ مِنْ مَكَانِهِ»، وَقِيسَ عَلَى الطَّعَامِ غَيْرُهُ وَأَمَّا الْعُرْفُ، فَلِأَنَّ أَهْلَهُ لَا يَعُدُّونَ احْتِوَاءَ الْيَدِ عَلَيْهِ قَبْضًا مِنْ غَيْرِ تَحْوِيلٍ، إذِ الْبَرَاجِمُ لَا تَصْلُحُ قَرَارًا لَهُ.

الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ:

10- أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُعْتَبَرُ فِيهِ تَقْدِيرٌ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ، كَمَنِ اشْتَرَى صُبْرَةَ حِنْطَةٍ مُكَايَلَةً أَوْ مَتَاعًا مُوَازَنَةً أَوْ ثَوْبًا مُذَارَعَةً أَوْ مَعْدُودًا بِالْعَدَدِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ اتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ قَبْضَهُ يَكُونُ بِاسْتِيفَائِهِ بِمَا يُقَدَّرُ فِيهِ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ. وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ بِالْإِضَافَةِ إلَى ذَلِكَ نَقْلَهُ وَتَحْوِيلَهُ.

وَدَلِيلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ قَبْضَ الْمُقَدَّرَاتِ مِنَ الْمَنْقُولَاتِ إنَّمَا يَكُونُ بِتَوْفِيَتِهَا بِالْوَحْدَةِ الْقِيَاسِيَّةِ الْعُرْفِيَّةِ الْمُرَاعَاةِ فِيهَا مِنَ الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ أَوِ الذَّرْعِ أَوِ الْعَدِّ فَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ، صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي»، وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ»، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ فِيهِ الْقَبْضُ إلاَّ بِالْكَيْلِ، فَتَعَيَّنَ فِيمَا يُقَدَّرُ بِالْكَيْلِ الْكَيْلُ، وَقِيسَ عَلَيْهِ الْبَاقِي.

11- وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: قَبْضُ الْمَنْقُولِ يَكُونُ بِالتَّنَاوُلِ بِالْيَدِ أَوْ بِالتَّخْلِيَةِ عَلَى وَجْهِ التَّمْكِينِ.

جَاءَ فِي مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: «تَسْلِيمُ الْعُرُوضِ يَكُونُ بِإِعْطَائِهَا لِيَدِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِوَضْعِهَا عِنْدَهُ أَوْ بِإِعْطَاءِ الْإِذْنِ لَهُ بِالْقَبْضِ مَعَ إرَاءَتِهَا لَهُ».

وَجَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: رَجُلٌ بَاعَ مَكِيلًا فِي بَيْتٍ مُكَايَلَةً أَوْ مَوْزُونًا مُوَازَنَةً، وَقَالَ: خَلَّيْت بَيْنَك وَبَيْنَهُ، وَدَفَعَ إلَيْهِ الْمِفْتَاحَ، وَلَمْ يَكِلْهُ وَلَمْ يَزِنْهُ، صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا.

وَتَسْلِيمُ الْمَبِيعِ هُوَ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ الْمُشْتَرِي مِنْ قَبْضِهِ بِغَيْرِ حَائِلٍ، وَكَذَا التَّسْلِيمُ فِي جَانِبِ الثَّمَنِ.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى اعْتِبَارِ التَّخْلِيَةِ مَعَ التَّمْكِينِ فِي الْمَنْقُولَاتِ قَبْضًا بِأَنَّ تَسْلِيمَ الشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ جَعْلُهُ سَالِمًا خَالِصًا لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِالتَّخْلِيَةِ، وَبِأَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ سَبِيلٌ لِلْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَاَلَّذِي فِي وُسْعِهِ هُوَ التَّخْلِيَةُ وَرَفْعُ الْمَوَانِعِ، أَمَّا الْإِقْبَاضُ فَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ، لِأَنَّ الْقَبْضَ بِالْبَرَاجِمِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ لِلْقَابِضِ، فَلَوْ تَعَلَّقَ وُجُوبُ التَّسْلِيمِ بِهِ لَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِالْوَاجِبِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.

وَقَدْ وَافَقَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ الْحَنَفِيَّةَ عَلَى اعْتِبَارِ التَّخْلِيَةِ فِي الْمَنْقُولِ قَبْضًا، وَذَلِكَ لِحُصُولِ الِاسْتِيلَاءِ بِالتَّخْلِيَةِ، إذْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْقَبْضِ، وَقَدْ حَصَلَ بِهَا.

تَقْسِيمُ الْقَبْضِ مِنْ حَيْثُ الْمَشْرُوعِيَّةُ:

12- قَسَّمَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْقَرَافِيُّ الْقَبْضَ كَتَصَرُّفٍ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَيْثُ مَشْرُوعِيَّتُهُ وَالْإِذْنُ فِيهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ.

(الضَّرْبُ الْأَوَّلُ) قَبْضٌ بِمُجَرَّدِ إذْنِ الشَّرْعِ دُونَ إذْنِ الْمُسْتَحِقِّ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ:

مِنْهَا: قَبْضُ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَالْحُكَّامِ الْأَعْيَانَ الْمَغْصُوبَةَ مِنَ الْغَاصِبِ، وَقَبْضُهُمْ أَمْوَالَ الْمَصَالِحِ وَالزَّكَاةَ وَحُقُوقَ بَيْتِ الْمَالِ، وَقَبْضُهُمْ أَمْوَالَ الْغَائِبِينَ وَالْمَحْبُوسِينَ الَّذِينَ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، وَقَبْضُهُمْ أَمْوَالَ الْمَجَانِينِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ بِسَفَهٍ وَنَحْوِهِمْ.

وَمِنْهَا: قَبْضُ مَنْ طَيَّرَتِ الرِّيحُ ثَوْبًا، ثُمَّ أَلْقَتْهُ فِي حِجْرِهِ أَوْ دَارِهِ، وَمِنْهَا: قَبْضُ الْمُضْطَرِّ مِنْ طَعَامِ الْأَجَانِبِ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ لِمَا يَدْفَعُ بِهِ ضَرُورَتَهُ، وَمِنْهَا: قَبْضُ الْإِنْسَانِ حَقَّهُ إذَا ظَفِرَ بِهِ بِجِنْسِهِ.

(وَالضَّرْبُ الثَّانِي) قَبْضُ مَا يَتَوَقَّفُ جَوَازُ قَبْضِهِ عَلَى إذْنِ مُسْتَحِقِّهِ، كَقَبْضِ الْمَبِيعِ بِإِذْنِ الْبَائِعِ، وَقَبْضِ الْمُسْتَامِ، وَالْقَبْضِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَقَبْضِ الرُّهُونِ وَالْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْعَوَارِيِّ وَالْوَدَائِعِ، وَقَبْضِ جَمِيعِ الْأَمَانَاتِ.

(وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ) قَبْضٌ بِغَيْرِ إذْنٍ مِنَ الشَّرْعِ وَلَا مِنَ الْمُسْتَحِقِّ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ مَعَ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِهِ، كَقَبْضِ الْمَغْصُوبِ، فَيَأْثَمُ الْغَاصِبُ، وَيَضْمَنُ مَا قَبَضَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا إذْنٍ، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ عِلْمٍ، كَمَنْ قَبَضَ مَالًا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَالُهُ، فَإِذَا هُوَ لِغَيْرِهِ، قَالَ الْقَرَافِيُّ: فَلَا يُقَالُ إنَّ الشَّرْعَ أَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهِ، بَلْ عَفَا عَنْهُ بِإِسْقَاطِ الْإِثْمِ وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ، وَلَا إبَاحَةَ فِيهِ، وَهُوَ فِي ضَمَانِهِ.

الْقَبْضُ الْحُكْمِيُّ:

13- الْقَبْضُ الْحُكْمِيُّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ يُقَامُ مُقَامَ الْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَحَقِّقًا حِسًّا فِي الْوَاقِعِ، وَذَلِكَ لِضَرُورَاتٍ وَمُسَوِّغَاتٍ تَقْتَضِي اعْتِبَارَهُ تَقْدِيرًا وَحُكْمًا، وَتَرْتِيبَ أَحْكَامِ الْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي حَالَاتٍ ثَلَاثٍ:

الْحَالَةُ الْأُولَى: عِنْدَ إقْبَاضِ الْمَنْقُولَاتِ بِالتَّخْلِيَةِ مَعَ التَّمْكِينِ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَقْبِضْهَا الطَّرَفُ الْآخَرُ حَقِيقَةً، حَيْثُ إنَّهُمْ يَعُدُّونَ تَنَاوُلَهَا بِالْيَدِ قَبْضًا حَقِيقِيًّا، وَالْقَبْضَ بِالتَّخْلِيَةِ قَبْضًا حُكْمِيًّا، بِمَعْنَى أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَيْهِ كَأَحْكَامِ الْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا وَجَبَ الْإِقْبَاضُ وَاتَّحَدَتْ يَدُ الْقَابِضِ وَالْمُقْبِضِ وَقَعَ الْقَبْضُ بِالنِّيَّةِ قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَمِنَ الْإِقْبَاضِ أَنْ يَكُونَ لِلْمَدْيُونِ حَقٌّ فِي يَدِ رَبِّ الدَّيْنِ، فَيَأْمُرَهُ بِقَبْضِهِ مِنْ يَدِهِ لِنَفْسِهِ، فَهُوَ إقْبَاضٌ بِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ، وَيَصِيرُ قَبْضُهُ لَهُ بِالنِّيَّةِ، كَقَبْضِ الْأَبِ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ مَالَ وَلَدِهِ إذَا اشْتَرَاهُ مِنْهُ.

الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: اعْتِبَارُ الدَّائِنِ قَابِضًا حُكْمًا وَتَقْدِيرًا لِلدَّيْنِ إذَا كَانَتْ ذِمَّتُهُ مَشْغُولَةً بِمِثْلِهِ لِلْمَدِينِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَالَ الثَّابِتَ فِي الذِّمَّةِ إذَا اسْتَحَقَّ الْمَدِينُ قَبْضَ مِثْلِهِ مِنْ دَائِنِهِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ أَوْ بِأَحَدِ مُوجِبَاتِ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مَقْبُوضًا حُكْمًا مِنْ قِبَلِ ذَلِكَ الْمَدِينِ.وَشَوَاهِدُ ذَلِكَ مِنْ نُصُوصِ الْفُقَهَاءِ عَدِيدَةٌ، مِنْهَا:

أ- اقْتِضَاءُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ مِنَ الْآخَرِ:

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَيَجُوزُ اقْتِضَاءُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ مِنَ الْآخَرِ، وَيَكُونُ صَرْفًا بِعَيْنٍ وَذِمَّةٍ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالَ الْأُبِّيُّ الْمَالِكِيُّ: لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي الصَّرْفِ الْمُنَاجَزَةُ، وَصَرْفُ مَا فِي الذِّمَّةِ أَسْرَعُ مُنَاجَزَةً مِنْ صَرْفِ الْمُعَيَّنَاتِ، لِأَنَّ صَرْفَ مَا فِي الذِّمَّةِ يَنْقَضِي بِنَفْسِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَصَرْفُ الْمُعَيَّنَاتِ لَا يَنْقَضِي إلاَّ بِقَبْضِهِمَا مَعًا، فَهُوَ مُعَرَّضٌ لِلْعُدُولِ، فَصَرْفُ مَا فِي الذِّمَّةِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: «كُنْتُ أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، آخُذُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، وَأُعْطِي هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا مَا لَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ».

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِبْدَالِ عَنِ الثَّمَنِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ بِغَيْرِهِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُمَا غَيْرُ حَاضِرَيْنِ جَمِيعًا، بَلِ الْحَاضِرُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ غَيْرُ اللاَّزِمِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ كَالْحَاضِرِ.

ب- الْمُقَاصَّةُ:

إذَا انْشَغَلَتْ ذِمَّةُ الدَّائِنِ بِمِثْلِ مَا لَهُ عَلَى الْمَدِينِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَوَقْتِ الْأَدَاءِ، بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمَدِينِ مُقَابَلَةً بِالْمِثْلِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى تَقَابُضٍ بَيْنَهُمَا، وَيَسْقُطُ الدَّيْنَانِ إذَا كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْمِقْدَارِ، لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ يُعْتَبَرُ مَقْبُوضًا حُكْمًا، فَإِنْ تَفَاوَتَا فِي الْقَدْرِ، سَقَطَ مِنَ الْأَكْثَرِ بِقَدْرِ الْأَقَلِّ، وَبَقِيَتِ الزِّيَادَةُ، فَتَقَعُ الْمُقَاصَّةُ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَيَبْقَى أَحَدُهُمَا مَدِينًا لِلْآخَرِ بِمَا زَادَ. (ر: مُقَاصَّةٌ)

ج- تَطَارُحُ الدَّيْنَيْنِ صَرْفًا:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالسُّبْكِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ فِي ذِمَّةِ آخَرَ دَنَانِيرُ، وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ، فَاصْطَرَفَا بِمَا فِي ذِمَّتَيْهِمَا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ ذَلِكَ الصَّرْفُ، وَيَسْقُطُ الدَّيْنَانِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى التَّقَابُضِ الْحَقِيقِيِّ- مَعَ أَنَّ التَّقَابُضَ فِي الصَّرْفِ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ- وَذَلِكَ لِوُجُودِ التَّقَابُضِ الْحُكْمِيِّ الَّذِي يَقُومُ مَقَامَ التَّقَابُضِ الْحِسِّيِّ، قَالُوا: لِأَنَّ الذِّمَّةَ الْحَاضِرَةَ كَالْعَيْنِ الْحَاضِرَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الدَّيْنَانِ قَدْ حَلاَّ مَعًا، فَأَقَامُوا حُلُولَ الْأَجَلَيْنِ فِي ذَلِكَ مُقَامَ النَّاجِزِ بِالنَّاجِزِ، أَيِ الْيَدِ بِالْيَدِ.

قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا اشْتَرَى مَا فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ مَقْبُوضٌ لَهُ بِمَا فِي ذِمَّةِ الْآخَرِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عِنْدَ الْآخَرِ وَدِيعَةٌ فَاشْتَرَاهَا بِوَدِيعَتِهِ عِنْدَ الْآخَرِ.

وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَنَصُّوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ صَرْفِ مَا فِي الذِّمَّةِ إذَا لَمْ يُحْضِرْ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا النَّقْدَ الْوَارِدَ عَلَيْهِ عَقْدُ الصَّرْفِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. د- جَعْلُ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ:

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ جَعْلُ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ، لِأَنَّ ذَلِكَ افْتِرَاقٌ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.

وَذَهَبَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ إلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ لِرَجُلٍ فِي ذِمَّةِ آخَرَ دِينَارًا، فَجَعَلَهُ سَلَمًا فِي طَعَامٍ إلَى أَجَلٍ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ السَّلَمُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى قَبْضٍ حَقِيقِيٍّ لِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ- مَعَ اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى وُجُوبِ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ مُعَجَّلًا لِصِحَّةِ السَّلَمِ- وَذَلِكَ لِوُجُودِ الْقَبْضِ الْحُكْمِيِّ لِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ، وَهُوَ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ، فَكَأَنَّ الدَّائِنَ بَعْدَ عَقْدِ السَّلَمِ قَبَضَهُ مِنْهُ ثُمَّ رَدَّهُ إلَيْهِ، فَصَارَ مُعَجَّلًا حُكْمًا فَارْتَفَعَ الْمَانِعُ الشَّرْعِيُّ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: لَوْ أَسْلَمَ إلَيْهِ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِي ذِمَّتِهِ، فَقَدْ وَجَبَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَسَقَطَ لَهُ عَنْهُ دَيْنٌ غَيْرُهُ، وَقَدْ حُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَى امْتِنَاعِ هَذَا، وَلَا إجْمَاعَ فِيهِ، قَالَهُ شَيْخُنَا، وَاخْتَارَ جَوَازَهُ، وَهُوَ الصَّوَابُ.

شُرُوطُ صِحَّةِ الْقَبْضِ:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ أَهْلًا لِلْقَبْضِ:

14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ صُدُورُهُ مِنْ أَهْلٍ لَهُ، غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَكُونُ أَهْلًا لَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْقَبْضِ صُدُورُهُ مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ، وَهُوَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ غَيْرُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ أَهْلِيَّةَ الشَّخْصِ لِلْقَبْضِ هِيَ نَفْسُهَا أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْعُقُودِ، فَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ أَنْ يَكُونَ الْقَابِضُ عَاقِلًا، فَلَا يَصِحُّ قَبْضُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ أَمَّا الْبُلُوغُ، فَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ، وَتَصَرُّفَاتُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ غَيْرِ الْبَالِغِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: التَّصَرُّفَاتُ النَّافِعَةُ نَفْعًا مَحْضًا.كَمَا إذَا وُهِبَ الصَّبِيُّ، أَوْ تَصَدَّقَ أَحَدٌ عَلَيْهِ، أَوْ أَوْصَى لَهُ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ قَبْضِهِ بُلُوغُهُ إذَا كَانَ يَعْقِلُ اسْتِحْسَانًا.

النَّوْعُ الثَّانِي: التَّصَرُّفَاتُ الضَّارَّةُ ضَرَرًا مَحْضًا كَتَبَرُّعَاتِهِ وَكَفَالَتِهِ بِالنَّفْسِ أَوْ بِالْمَالِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا تَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنْ قُبُوضٍ لِاشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ فِي صِحَّتِهَا.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: التَّصَرُّفَاتُ الدَّائِرَةُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ، كَبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ وَإِجَارَتِهِ وَاسْتِئْجَارِهِ وَنِكَاحِهِ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ وَمَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنْ قُبُوضٍ يَتَوَقَّفُ نَفَاذُهَا عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّ الصَّغِيرِ، فَإِنْ أَجَازَهَا نَفَذَتْ، وَإِنْ رَدَّهَا بَطَلَتْ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ صُدُورُهُ مِمَّنْ يَتَمَتَّعُ بِأَهْلِيَّةِ الْمُعَامَلَةِ، بَلْ تَكْفِي الصِّفَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ مَنَاطًا لِاعْتِبَارِهِ أَهْلًا لِلْقَبْضِ، فَيَصِحُّ قَبْضُ الصَّغِيرِ وَالْمَحْجُورِ، وَيَكُونُ قَبْضًا تَامًّا.

الشَّرْطُ الثَّانِي: صُدُورُ الْقَبْضِ مِمَّنْ لَهُ وِلَايَتُهُ:

15- الْقَبْضُ نَوْعَانِ: قَبْضٌ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَقَبْضٌ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ.

أ- أَمَّا الْقَبْضُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ: فَهُوَ أَنْ يَقْبِضَ الشَّخْصُ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ وِلَايَةَ هَذَا الْقَبْضِ تَكُونُ لِمَنْ ثَبَتَتْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقَبْضِ.

ب- وَأَمَّا الْقَبْضُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ: فَوِلَايَتُهُ تَثْبُتُ إمَّا بِتَوْلِيَةِ الْمَالِكِ، وَإِمَّا بِتَوْلِيَةِ الشَّارِعِ.

الْحَالَةُ الْأُولَى: وِلَايَةُ النَّائِبِ فِي الْقَبْضِ بِتَوْلِيَةِ الْمَالِكِ:

16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ وِلَايَةِ الْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ، لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ التَّصَرُّفَ فِي شَيْءٍ أَصَالَةً مَلَكَ التَّوْكِيلَ فِيهِ، وَالْقَبْضُ مِمَّا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ، فَكَانَ قَبْضُ الْوَكِيلِ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْمُوَكِّلِ وَلَا فَرْقَ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ أَهْلًا لِلْقَبْضِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لِلْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ إنْ كَانَ مُوَكِّلُهُ قَدْ وَكَّلَهُ بِوَكَالَةٍ عَامَّةٍ، بِأَنْ قَالَ لَهُ وَقْتَ التَّوْكِيلِ بِالْقَبْضِ: اصْنَعْ مَا شِئْت، أَوْ مَا صَنَعْتَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيَّ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَمَّا إذَا كَانَتِ الْوَكَالَةُ خَاصَّةً، بِأَنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ عِنْدَ التَّوْكِيلِ بِالْقَبْضِ، فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِالْقَبْضِ، وَإِنْ فَعَلَ فَلَا تَكُونُ لِمَنْ وَكَّلَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ إنَّمَا يَتَصَرَّفُ بِحُدُودِ تَفْوِيضِ الْمُوَكِّلِ، فَيَمْلِكُ قَدْرَ مَا فَوَّضَ إلَيْهِ لَا أَكْثَر.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَصِحُّ الشِّرَاءُ وَالْقَبْضُ لِلْمُوَكِّلِ، وَلَا يَصِحُّ قَبْضُهُ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لِغَيْرِهِ فِي قَبْضِ حَقِّ نَفْسِهِ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْمَدِينَ بِطَعَامٍ إذَا دَفَعَ لِلدَّائِنِ دَرَاهِمَ وَقَالَ لَهُ: اشْتَرِ لِي بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ مِثْلَ الطَّعَامِ الَّذِي لَك عَلَيَّ، وَاقْبِضْهُ لِي، ثُمَّ اقْبِضْهُ لِنَفْسِك، فَفَعَلَ، صَحَّ الْقَبْضُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي الشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ، ثُمَّ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ وَدِيعَةٌ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ عِنْدَ الدَّائِنِ وَأَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهَا عَنْ دَيْنِهِ

وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِأَحْكَامِ ثَلَاثِ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وِلَايَةُ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ وَإِقْبَاضِ الْمَبِيعِ:

17- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وِلَايَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ فِي أَنْ يَقْبِضَ الثَّمَنَ مِنَ الْمُشْتَرِي وَيُسَلِّمَ الْمَبِيعَ إلَيْهِ، عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

(أَحَدُهَا) لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ لِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ أَنْ يَقْبِضَ الثَّمَنَ وَيُسَلِّمَ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي، لِأَنَّ فِي الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ إذْنًا بِالْقَبْضِ وَالْإِقْبَاضِ دَلَالَةً.

(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ لِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ أَنْ يَقْبِضَ الثَّمَنَ وَيُسَلِّمَ الْمَبِيعَ مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عُرْفٌ بِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ.

(وَالثَّالِثُ) لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ: وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْقَبْضُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ كَالصَّرْفِ وَالسَّلَمِ، فَلِلْوَكِيلِ عِنْدَئِذٍ وِلَايَةُ الْقَبْضِ وَالْإِقْبَاضِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا كَمَا فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ، فَيَمْلِكُ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ قَبْضَ الثَّمَنِ الْحَالِّ وَتَسْلِيمَ الْمَبِيعِ بَعْدَهُ إنْ لَمْ يَمْنَعْهُ الْمُوَكِّلُ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ وَمُقْتَضَيَاتِهِ، فَكَانَ الْإِذْنُ فِي الْبَيْعِ إذْنًا فِيهِ دَلَالَةً. فَإِنْ نَهَاهُ الْمُوَكِّلُ عَنْ قَبْضِ الثَّمَنِ أَوْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، أَوْ كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا، فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.

(وَالرَّابِعُ) لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّ لِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ، لِأَنَّ إطْلَاقَ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ يَقْتَضِي التَّسْلِيمَ، لِكَوْنِهِ مِنْ تَمَامِهِ، بِخِلَافِ قَبْضِ الثَّمَنِ، فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَقْبِضَهُ، لِأَنَّ الْبَائِعَ قَدْ يُوَكِّلُ بِالْبَيْعِ مَنْ لَا يَأْتَمِنُهُ عَلَى الثَّمَنِ.

وَاسْتَثْنَى ابْنُ الْقَيِّمِ مِنَ الْحُكْمِ بِسَلْبِ وِلَايَةِ قَبْضِ الثَّمَنِ مِنَ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ مَا إذَا كَانَتِ الْعَادَةُ الْجَارِيَةُ قَبْضَ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ أَثْمَانَ الْمَبِيعَاتِ، فَقَالَ: وَلَوْ وَكَّلَ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا فِي بَيْعِ شَيْءٍ، وَالْعُرْفُ قَبْضُ ثَمَنِهِ، مَلَكَ ذَلِكَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وِلَايَةُ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ فِي قَبْضِ الْحَقِّ.

18- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وِلَايَةِ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ وَإِثْبَاتِ الْحَقِّ فِي قَبْضِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ

(أَحَدُهُمَا) لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ وَهُوَ الْقَوْلُ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَبِهِ أَخَذَتْ مَجَلَّةُ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ لَا يَكُونُ وَكِيلًا بِالْقَبْضِ، وَلَا تَثْبُتُ لَهُ وِلَايَتُهُ، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ تَثْبِيتُ الْحَقَّ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يُرْتَضَى لِتَثْبِيتِ حَقٍّ يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ، فَقَدْ يُوثَقُ عَلَى الْخُصُومَةِ مَنْ لَا يُوثَقُ عَلَى الْمَالِ.وَأَيْضًا فَلِأَنَّ الْإِذْنَ فِي تَثْبِيتِ الْحَقِّ لَيْسَ إذْنًا فِي قَبْضِهِ مِنْ جِهَةِ النُّطْقِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ، إذِ الْإِثْبَاتُ لَا يَتَضَمَّنُ الْقَبْضَ، وَلَيْسَ الْقَبْضُ مِنْ لَوَازِمِهِ أَوْ مُتَعَلِّقَاتِهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ، فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ وَقَبْضَ الثَّمَنِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ وَمُقْتَضَيَاتِهِ، وَقَدْ أَقَامَهُ الْمُوَكِّلُ مُقَامَ نَفْسِهِ فِيهَا.

(وَالثَّانِي) لِأَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ: وَهُوَ أَنَّ لِلْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ أَنْ يَقْبِضَ الْحَقَّ بَعْدَ إثْبَاتِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِي مَالٍ، فَقَدِ ائْتَمَنَهُ عَلَى قَبْضِهِ، لِأَنَّ الْخُصُومَةَ فِيهِ لَا تَنْتَهِي إلاَّ بِالْقَبْضِ، فَكَانَ التَّوْكِيلُ بِهَا تَوْكِيلًا بِالْقَبْضِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وِلَايَةُ الْعَدْلِ فِي قَبْضِ الْمَرْهُونِ:

19- إذَا اتَّفَقَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عَلَى أَنْ يُجْعَلَ الْمَرْهُونُ فِي يَدِ عَدْلٍ فَهَلْ يَكُونُ لِلْعَدْلِ وِلَايَةُ قَبْضِهِ؟

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

(أَحَدُهُمَا) لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ أَنَّ لِلْعَدْلِ أَنْ يَقْبِضَ الْمَرْهُونَ، وَيَكُونُ قَبْضُهُ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ، وَلَا فَرْقَ، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ قَدْ لَا يَثِقُ بِصَاحِبِهِ، فَاحْتِيجَ إلَى الْعَدْلِ، وَكَمَا يَتَوَلَّى الْعَدْلُ الْحِفْظَ فَإِنَّهُ يَتَوَلَّى الْقَبْضَ، وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ.

وَلِأَنَّ الْعَدْلَ نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، فَكَانَ قَبْضُهُ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْوَكِيلِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ.

ثُمَّ إنَّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَدَ الْعَدْلِ كَيَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَأَنَّهُ وَكِيلُهُ بِالْقَبْضِ: أَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ مَتَى شَاءَ أَنْ يَفْسَخَ الرَّهْنَ وَيُبْطِلَ يَدَ الْعَدْلِ وَيَرُدَّهُ إلَى الرَّاهِنِ، وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ إبْطَالُ يَدِ الْعَدْلِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعَدْلَ وَكِيلٌ لِلْمُرْتَهِنِ.

(وَالثَّانِي) لِابْنِ شُبْرُمَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَقَتَادَةَ وَالْحَكَمِ وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ: وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَدْلِ أَنْ يَقْبِضَهُ، وَإِنْ قَبَضَهُ فَلَا يَكُونُ الْقَبْضُ مُعْتَبَرًا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَرَأَوْا ذَلِكَ تَعَبُّدًا.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: وِلَايَةُ النَّائِبِ فِي الْقَبْضِ بِتَوْلِيَةِ الشَّارِعِ:

20- وِلَايَةُ النَّائِبِ فِي الْقَبْضِ بِتَوْلِيَةِ الشَّارِعِ هِيَ وِلَايَةُ مَنْ يَلِي مَالَ الْمَحْجُورِ فِي قَبْضِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمَحْجُورُ، وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ لَيْسَتْ بِتَوْلِيَةِ الْمُسْتَحِقِّ، لِانْتِفَاءِ أَهْلِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ بِتَوْلِيَةِ الشَّارِعِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ يَرَى أَنَّ الْوَالِدَ يَحُوزُ لِوَلَدِهِ إذَا كَانُوا صِغَارًا.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَمِنْ ذَلِكَ وِلَايَةُ مَنْ يَعُولُ الصَّغِيرَ وَيَكْفُلُهُ فِي قَبْضِ مَا يُوهَبُ إلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَاهِبُ هُوَ أَوْ غَيْرَهُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ قَرِيبًا أَمْ غَيْرَ قَرِيبٍ.

وَقَالَ ابْنُ جُزَيٍّ: وَيَحُوزُ لِلْمَحْجُورِ وَصِيُّهُ، وَيَحُوزُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ الْحُرِّ الصَّغِيرِ مَا وَهَبَهُ لَهُ هُوَ مَا عَدَا الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ، وَمَا وَهَبَهُ لَهُ غَيْرُهُ مُطْلَقًا.

21- وَيَلْحَقُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ فِي الْحُكْمِ وِلَايَةُ الشَّخْصِ فِي قَبْضِ اللُّقَطَةِ، وَمَالُ اللَّقِيطِ، وَالثَّوْبُ الَّذِي أَلْقَتْهُ الرِّيحُ فِي دَارِهِ، وَحَقُّهُ إذَا ظَفِرَ بِهِ، وَوِلَايَةُ الْحَاكِمِ فِي قَبْضِ أَمْوَالِ الْغَائِبِينَ وَالْمَحْبُوسِينَ الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى حِفْظِهَا لِتُحْفَظَ لَهُمْ، وَوِلَايَتُهُ فِي قَبْضِ الْمَالِ الْمُودَعِ إذَا مَاتَ الْمُودِعُ وَالْمُودَعُ وَوَرَثَةُ الْمُودَعِ غَائِبُونَ، وَوِلَايَتُهُ فِي قَبْضِ أَمْوَالِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالزَّكَوَاتِ، وَكَذَا وِلَايَةُ الْمُضْطَرِّ أَنْ يَقْبِضَ مِنْ طَعَامِ الْأَجَانِبِ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ مَا يَدْفَعُ بِهِ ضَرُورَتَهُ.

وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِوِلَايَةِ الْقَبْضِ لِلْغَيْرِ مَا يَأْتِي:

وِلَايَةُ قَبْضِ الْمَهْرِ:

22- فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً فَوِلَايَةُ قَبْضِ مَهْرِهَا لِمَنْ يَنْظُرُ فِي مَالِهَا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا، وَمَتَى قَبَضَهُ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الزَّوْجِ مِنْهُ، فَلَيْسَ لِلزَّوْجَةِ مُطَالَبَتُهُ بِهِ ثَانِيَةً وَلَوْ بَعْدَ الْبُلُوغِ، بَلْ تَأْخُذُهُ مِمَّنْ قَبَضَهُ مِنْ زَوْجِهَا، لِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ دَفَعَهُ لِمَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ شَرْعًا فِي قَبْضِهِ، فَيَكُونُ هَذَا الدَّفْعُ صَحِيحًا مُعْتَبَرًا تَبْرَأُ بِهِ ذِمَّتُهُ، وَمَتَى بَرِئَتْ ذِمَّةُ شَخْصٍ مِنْ دَيْنٍ، فَلَا يَعُودُ مَدِينًا بِهِ، إذِ السَّاقِطُ لَا يَعُودُ.

أَمَّا إذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ بَالِغَةً رَشِيدَةً: فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ ثَيِّبًا وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِكْرًا، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لَهَا أَنْ تَقْبِضَ مَهْرَهَا بِنَفْسِهَا بِدُونِ مُعَارَضَةٍ لَهَا مِنْ أَحَدٍ، لِأَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَى أَمْوَالِهَا ثَابِتَةٌ لَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَإِنْ شَاءَتْ تَوَلَّتْ هِيَ قَبْضَ الْمَهْرِ بِنَفْسِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ وَكَّلَتْ مَنْ تَخْتَارُهُ فِي قَبْضِ مَهْرِهَا، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ قَبْضُهُ إلاَّ بِتَوْكِيلٍ صَرِيحٍ مِنْهَا.

أَمَّا إذَا كَانَتْ بِكْرًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

(أَحَدُهُمَا) لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْبِضَ مَهْرَهَا، بَلْ تَقْبِضُهُ هِيَ بِنَفْسِهَا، أَوْ تُوَكِّلُ مَنْ يَقْبِضُهُ لَهَا، لِأَنَّهَا رَشِيدَةٌ تَلِي مَالَهَا، فَلَيْسَ لِغَيْرِهَا أَنْ يَقْبِضَ صَدَاقَهَا أَوْ أَيَّ عِوَضٍ تَمْلِكُهُ بِغَيْرِ إذْنِهَا، كَثَمَنِ مَبِيعِهَا وَأُجْرَةِ دَارِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ.

(وَالثَّانِي) لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ لِوَلِيِّهَا أَنْ يَقْبِضَ مَهْرَهَا إذَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهَا نَهْيٌ صَرِيحٌ عَنْ قَبْضِهِ.فَإِنْ نَهَتْهُ فَلَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ، وَلَا يَبْرَأُ الزَّوْجُ إنْ سَلَّمَهُ لَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ أَنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحْيِي مِنْ قَبْضِ صَدَاقِهَا بِخِلَافِ الثَّيِّبِ، فَيَقُومُ وَلِيُّهَا مَقَامَهَا، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَ مَأْذُونًا بِالْقَبْضِ مِنْ جِهَتِهَا بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ- بِخِلَافِ الثَّيِّبِ- وَالْإِذْنُ الْعُرْفِيُّ كَالْإِذْنِ اللَّفْظِيِّ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


97-موسوعة الفقه الكويتية (قسامة 1)

قَسَامَةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الْقَسَامَةِ فِي اللُّغَةِ: الْأَيْمَانُ تُقْسَمُ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ إِذَا ادَّعَوُا الدَّمَ.

وَمِنْ مَعَانِيهَا الْهُدْنَةُ: تَكُونُ بَيْنَ الْعَدُوِّ وَالْمُسْلِمِينَ.

وَمِنْ مَعَانِيهَا: الْحُسْنُ.

وَالْقَسَامَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ أَنْ يَقُولَ خَمْسُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ إِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِيهَا: بِاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ- كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَرَفَةَ- إِنَّ الْقَسَامَةَ هِيَ حَلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا أَوْ جُزْءًا مِنْهَا عَلَى إِثْبَاتِ الدَّمِ.

وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: اسْمٌ لِلْأَيْمَانِ الَّتِي تُقْسَمُ عَلَى أَوْلِيَاءِ الدَّمِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: هِيَ الْأَيْمَانُ الْمُكَرَّرَةُ فِي دَعْوَى الْقَتِيلِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْيَمِينُ:

2- مِنْ مَعَانِي الْيَمِينِ لُغَةً: الْقُوَّةُ، وَالْقَسَمُ، وَالْبَرَكَةُ.

وَاصْطِلَاحًا: تَوْكِيدُ حُكْمٍ بِذِكْرِ مُعَظَّمٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْيَمِينِ وَبَيْنَ الْقَسَامَةِ: أَنَّ الْيَمِينَ أَعَمُّ.

ب- اللَّوْثُ:

3- اللَّوْثُ قَرِينَةٌ تُثِيرُ الظَّنَّ وَتُوقِعُ فِي الْقَلْبِ صِدْقَ الْمُدَّعِي.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ اللَّوْثِ وَبَيْنَ الْقَسَامَةِ أَنَّ اللَّوْثَ شَرْطٌ فِي الْقَسَامَةِ.

حُكْمُ الْقَسَامَةِ:

4- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقَسَامَةَ مَشْرُوعَةٌ وَأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَا الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ إِذَا لَمْ تَقْتَرِنِ الدَّعْوَى بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، وَوُجِدَ اللَّوْثُ.

وَدَلِيلُ مَشْرُوعِيَّتِهَا: «مَا رُوِيَ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ أَوْ فَقِيرٍ، فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِمُحَيِّصَةَ: كَبِّرْ كَبِّرْ- يُرِيدُ السِّنّ- فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ، فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبُوا إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودٌ؟ قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ، فَقَالَ سَهْلٌ: فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ».

وَبِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْأَنْصَارِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَقَرَّ الْقَسَامَةَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ نَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ عَلَى الْيَهُودِ».

وَذَهَبَ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عُلَيَّةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَمُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، إِلَى عَدَمِ الْأَخْذِ بِالْقَسَامَةِ، وَعَدَمِ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا؛ لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ الْمُجْمَعِ عَلَى صِحَّتِهَا.

وَمِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ: أَنْ لَا يَحْلِفَ أَحَدٌ إِلاَّ عَلَى مَا عَلِمَ قَطْعًا أَوْ شَاهَدَ حِسًّا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُقْسِمُ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ وَهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا الْقَاتِلَ، بَلْ قَدْ يَكُونُونَ فِي بَلَدٍ وَالْقَاتِلُ فِي بَلَدٍ آخَرَ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-، أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ».

حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْقَسَامَةِ:

5- شُرِعَتِ الْقَسَامَةُ لِصِيَانَةِ الدِّمَاءِ وَعَدَمِ إِهْدَارِهَا، حَتَّى لَا يُهْدَرَ دَمٌ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ يُطَلَّ، وَكَيْ لَا يَفْلِتَ مُجْرِمٌ مِنَ الْعِقَابِ، قَالَ عَلِيٌّ لِعُمَرَ- رضي الله عنهما- فِيمَنْ مَاتَ مِنْ زِحَامٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ فِي الطَّوَافِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُطَلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، إِنْ عَلِمْتَ قَاتِلَهُ، وَإِلاَّ فَأَعْطِهِ دِيَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.

فَالشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ تَحْرِصُ أَشَدَّ الْحِرْصِ عَلَى حِفْظِ الدِّمَاءِ وَصِيَانَتِهَا وَعَدَمِ إِهْدَارِهَا، وَلَمَّا كَانَ الْقَتْلُ يَكْثُرُ بَيْنَمَا تَقِلُّ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ يَتَحَرَّى بِالْقَتْلِ مَوَاضِعَ الْخَلَوَاتِ، جُعِلَتِ الْقَسَامَةُ حِفْظًا لِلدِّمَاءِ.

شُرُوطُ الْقَسَامَةِ:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ لَوْثٌ:

6- سَبَقَ تَعْرِيفُ اللَّوْثِ فِي الْأَلْفَاظِ ذَاتِ الصِّلَةِ، وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (لَوْث).

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُكَلَّفًا:

7- يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَّهَمُ بِالْقَتْلِ مُكَلَّفًا حَتَّى تَصِحَّ الدَّعْوَى بِالْقَسَامَةِ حَيْثُ لَا قَسَامَةَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

أَمَّا غَيْرُهُمْ فَعَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ، وَأَنَّ الْمُكَلَّفَ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ فِي الْقَسَامَةِ.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مُكَلَّفًا:

8- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مُكَلَّفًا، فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ، بَلْ يَدَّعِي لَهُمَا الْوَلِيُّ أَوْ يُوقَفُ إِلَى كَمَالِهِمَا، وَلَوْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا وَقْتَ الْقَتْلِ كَامِلًا مُكَلَّفًا عِنْدَ الدَّعْوَى سُمِعَتْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُعْلَمُ الْحَالُ بِالتَّسَامُعِ، وَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ إِذَا عَرَفَ مَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِ الْجَانِي، أَوْ بِسَمَاعٍ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُعَيَّنًا:

9- قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهُ لَوْ كَانَتِ الدَّعْوَى عَلَى أَهْلِ مَدِينَةٍ أَوْ مَحَلَّةٍ أَوْ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ أَوْ جَمَاعَةٍ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا لَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ فَإِنِ ادَّعَى الْقَتْلَ عَلَى شَخْصٍ أَوْ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ، فَهِيَ مَسْمُوعَةٌ، إِذَا ذَكَرَهُمْ لِلْقَاضِي وَطَلَبَ إِحْضَارَهُمْ أَجَابَهُ إِلَى طَلَبِهِ، وَإِنْ ذَكَرَ جَمَاعَةً لَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْقَتْلِ لَا يُبَالِي بِقَوْلِهِ، فَإِنَّهُ دَعْوَى مُحَالٍ.وَلَوْ قَالَ: قَتَلَ أَبِي أَحَدُ هَذَيْنِ، أَوْ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعَشَرَةِ، وَطَلَبَ مِنَ الْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُمْ، وَيُحَلِّفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَهَلْ يُجِيبُهُ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا لَا، وَلَوْ قَالَ فِي دَعْوَاهُ عَلَى حَاضِرِينَ قَتَلَهُ أَحَدُهُمْ، أَوْ قَتَلَهُ هَذَا أَوْ هَذَا، وَطَلَبَ تَحْلِيفَهُمْ لَمْ يُحَلِّفْهُمُ الْقَاضِي عَلَى الْأَصَحِّ، لِإِبْهَامِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلَا تُسْمَعُ هَذِهِ الدَّعْوَى وَذَلِكَ مِثْلُ لَوِ ادَّعَى وَدِيعَةً، أَوْ دَيْنًا عَلَى أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ أَوِ الرِّجَالِ، لَمْ يُسْمَعْ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ تَعْيِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يُشْرَطُ لِلْقَسَامَةِ، بَلْ إِنَّهُ إِذَا عَيَّنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا، فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: لَا تَسْقُطُ الْقَسَامَةُ، كَمَا لَوْ لَمْ يُعَيِّنْ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ ابْتِدَاءً عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، فَتَعْيِينُهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَا يُنَافِي مَا شَرَعَهُ الشَّارِعُ، فَتَثْبُتُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ: أَنَّ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ تَسْقُطُ عَنِ الْبَاقِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، وَيُكَلَّفُ الْوَلِيُّ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِلاَّ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَمِينًا وَاحِدًا.

الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَلاَّ تَتَنَاقَضَ دَعْوَى الْمُدَّعِي:

10- يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقَسَامَةِ أَلاَّ تَتَنَاقَضَ دَعْوَى الْمُدَّعِينَ، فَإِنْ قَالَ الْقَتِيلُ قَبْلَ مَوْتِهِ: قَتَلَنِي فُلَانٌ عَمْدًا، وَقَالُوا: بَلْ قَتَلَهُ خَطَأً أَوِ الْعَكْسَ، فَإِنَّهُ لَا قَسَامَةَ لَهُمْ وَبَطَلَ حَقُّهُمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى قَوْلِ الْمَيِّتِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يُجَابُونَ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا أَنْفُسَهُمْ.

وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى عَلَى شَخْصٍ انْفِرَادَهُ بِالْقَتْلِ، ثُمَّ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ شَرِيكُهُ، أَوْ أَنَّهُ الْقَاتِلُ مُنْفَرِدًا لَمْ تُسْمَعِ الدَّعْوَى الثَّانِيَةُ لِمُنَاقَضَتِهَا الدَّعْوَى الْأُولَى وَتَكْذِيبِهَا، وَلَوِ ادَّعَى عَمْدًا وَوَصَفَهُ بِغَيْرِهِ مِنْ خَطَأٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ أَوْ عَكْسُهُ بَطَلَ الْوَصْفُ، وَلَمْ يَبْطُلْ أَصْلُ دَعْوَى الْقَتْلِ فِي الْأَظْهَرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُظَنُّ مَا لَيْسَ بِعَمْدٍ عَمْدًا، أَوْ عَكْسُهُ فَيَعْتَمِدُ تَفْسِيرَهُ.

الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ ذُكُورًا مُكَلَّفِينَ:

11- عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى بِالْقَتْلِ عَمْدًا، فَيُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَحْلِفُ الْأَيْمَانَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا مُكَلَّفًا، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَلَا يَحْلِفْنَ فِي الْعَمْدِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى بِالْقَتْلِ خَطَأً، فَإِنَّ الَّذِي يَحْلِفُ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ هُوَ مَنْ يَرِثُ الْمَقْتُولَ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَوْ كَانَ لِلْقَتِيلِ وَرَثَةٌ وُزِّعَتِ الْأَيْمَانُ بِحَسَبِ الْإِرْثِ، وَجُبِرَ الْمُنْكَسِرُ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ ذُكُورًا مُكَلَّفِينَ، وَلَا يَقْدَحُ غَيْبَةُ بَعْضِهِمْ أَوْ نُكُولُهُ، فَلِلذَّكَرِ الْحَاضِرِ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَحْلِفَ بِقِسْطِهِ وَيَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَكَذَلِكَ لِمَنْ قَدِمَ مِنَ الْخَارِجِ، أَوْ كُلِّفَ أَنْ يَحْلِفَ بِقِسْطِ نَصِيبِهِ وَيَأْخُذَ قَدْرَ نَصِيبِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَدَلِيلُهُمْ فِي هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «يُقْسِمُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْكُمْ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ»؛ وَلِأَنَّهَا حُجَّةٌ يَثْبُتُ بِهَا قَتْلُ الْعَمْدِ، فَلَا تُسْمَعُ مِنَ النِّسَاءِ كَالشَّهَادَةِ؛ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ الْمُدَّعَاةَ الَّتِي تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهَا هِيَ الْقَتْلُ، وَلَا مَدْخَلَ لِلنِّسَاءِ فِي إِثْبَاتِهِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمَالُ ضِمْنًا، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى رَجُلٍ ادَّعَى زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ بَعْدَ مَوْتِهَا لِيَرِثَهَا، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَلَا بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهَا الْمَالَ.

الشَّرْطُ السَّابِعُ: وَصْفُ الْقَتْلِ فِي دَعْوَى الْقَسَامَةِ:

12- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ دَعْوَى الْقَسَامَةِ مُفَصَّلَةً.

الشَّرْطُ الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ بِالْقَتِيلِ أَثَرُ قَتْلٍ:

13- اشْتَرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ فِي الْقَتِيلِ أَثَرُ قَتْلٍ مِنْ جِرَاحَةٍ أَوْ أَثَرِ ضَرْبٍ أَوْ خَنْقٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَلَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ.

وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: فَإِذَا وُجِدَ وَالدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ أَوْ أَنْفِهِ أَوْ دُبُرِهِ أَوْ ذَكَرِهِ لَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الدَّمَ يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَادَةً بِدُونِ الضَّرْبِ، وَإِنَّمَا بِسَبَبِ الْقَيْءِ أَوِ الرُّعَافِ وَنَحْوِهِمَا، فَلَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ قَتِيلًا.

وَإِنْ كَانَ الدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ عَيْنِهِ، أَوْ أُذُنِهِ فَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَادَةً فَكَانَ خُرُوجُهُ بِسَبَبِ الْقَتْلِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ اللَّوْثَ، وَإِنَّمَا يَكْفِي أَنْ تُوجَدَ الْجُثَّةُ فِي مَحَلَّةٍ وَبِهَا أَثَرُ الْقَتْلِ، وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ وُجُودَ أَثَرِ الْقَتْلِ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ اللَّوْثِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ الْمَذْهَبُ- إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَسَامَةِ ظُهُورُ دَمٍ وَلَا جُرْحٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَسْأَلِ الْأَنْصَارَ هَلْ بِقَتِيلِهِمْ أَثَرٌ أَمْ لَا؟ وَلِأَنَّ الْقَتْلَ يَحْصُلُ بِالْخَنْقِ وَعَصْرِ الْبَيْضَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا ظَهَرَ أَثَرُهُ قَامَ مَقَامَ الدَّمِ، فَلَوْ لَمْ يُوجَدْ أَثَرٌ أَصْلًا فَلَا قَسَامَةَ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا، وَإِنْ قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ: إِنَّ الْمَذْهَبَ الْمَنْصُوصَ وَقَوْلَ الْجُمْهُورِ بِثُبُوتِ الْقَسَامَةِ.

الشَّرْطُ التَّاسِعُ: أَنْ يُوجَدَ الْقَتِيلُ فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ أَوْ فِي يَدِ أَحَدٍ:

14- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَسَامَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْقَتِيلُ مِلْكًا لِأَحَدٍ أَوْ فِي يَدِ أَحَدٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ وَلَا فِي يَدِ أَحَدٍ أَصْلًا فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ، وَإِنْ كَانَ التَّصَرُّفُ فِي الْمَكَانِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَا لِجَمَاعَةٍ يُحْصَوْنَ لَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ.

وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ إِنَّمَا تَجِبُ بِتَرْكِ الْحِفْظِ اللاَّزِمِ.

وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ لَيْسَ بِمِلْكٍ لِأَحَدٍ فَإِنَّهُ لَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ إِذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ الصَّوْتُ مِنَ الْأَمْصَارِ وَلَا مِنْ قَرْيَةٍ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُسْمَعُ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إِلَيْهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ وُجُودَ الْمَقْتُولِ فِي قَرْيَةِ قَوْمٍ أَوْ دَارِهِمْ إِذَا كَانَ يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ فِيهَا لَا يُعْتَبَرُ لَوْثًا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ قَرْيَتَهُمْ سِوَاهُمْ، وَوُجِدَ قَتِيلٌ مِنْ غَيْرِهِمْ فِيهَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَوْثًا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ، كَمَا فِي قَضِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ- رضي الله عنه-، فَإِنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- جَعَلَ فِيهِ الْقَسَامَةَ لِابْنَيْ عَمِّهِ حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَأَخِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لِأَنَّ خَيْبَرَ مَا كَانَ يُخَالِطُ الْيَهُودَ فِيهَا غَيْرُهُمْ.

وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ مِنْهَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مَعَ الْعَدَاوَةِ أَلاَّ يَكُونَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي بِهِ الْقَتِيلُ غَيْرُ الْعَدُوِّ.لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَسْأَلِ الْأَنْصَارَ هَلْ كَانَ فِي خَيْبَرَ غَيْرُ الْيَهُودِ أَمْ لَا؟ مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ وُجُودُ غَيْرِهِمْ فِيهَا.

الشَّرْطُ الْعَاشِرُ: إِنْكَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:

15- ذَهَبَ إِلَى هَذَا الشَّرْطِ الْحَنَفِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَظِيفَةُ الْمُنْكِرِ، قَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فَجَعَلَ جِنْسَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُنْكِرِ، فَيَنْفِي وُجُوبَهَا عَلَى غَيْرِ الْمُنْكِرِ.

الشَّرْطُ الْحَادِيَ عَشَرَ: الْإِسْلَامُ:

16- وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَقْتُولِ فَلَا تَصِحُّ الْقَسَامَةُ إِذَا كَانَ ذِمِّيًّا، فَإِذَا قُلْنَا بِعَدَمِ الْقَسَامَةِ فِي الْقَتِيلِ الْكَافِرِ، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُسْلِمَ قَتَلَهُ بِشَاهِدَيْنِ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ دِيَتَهُ فِي الْعَمْدِ مِنْ مَالِهِ، وَمَعَ الْعَاقِلَةِ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إِلاَّ شَاهِدٌ، فَإِنَّ وَلِيَّهُ يَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدَةً وَيَأْخُذُ دِيَتَهُ، وَيُضْرَبُ الْجَانِي مِائَةً فِي الْعَمْدِ وَيُحْبَسُ سَنَةً.

أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَقَدْ أَثْبَتُوا الْقَسَامَةَ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ إِذَا كَانَ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ مَا نُصَّ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ؛ وَلِأَنَّ دَمَ الذِّمِّيِّ مَصُونٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِذِمَّتِهِ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ آذَى ذِمِّيًّا فَأَنَا خَصْمُهُ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

كَيْفِيَّةُ الْقَسَامَةِ:

17- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَسَامَةِ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:

الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَرَبِيعَةُ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو الزِّنَادِ فَقَالُوا: إِنَّ الْأَيْمَانَ فِي الْقَسَامَةِ تُوَجَّهُ إِلَى الْمُدَّعِينَ، فَيُكَلَّفُونَ حَلِفَهَا لِيَثْبُتَ مُدَّعَاهُمْ وَيُحْكَمَ لَهُمْ بِهِ، فَإِنْ نَكَلُوا عَنْهَا وُجِّهَتِ الْأَيْمَانُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، فَيَحْلِفُ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَظْهِرَ الْحَالِفُ أَلْفَاظَ الْيَمِينِ حَتَّى تَكُونَ الْيَمِينُ مُؤَكَّدَةً فَيَقُولُ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ..

وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ بَاتَّةً قَاطِعَةً فِي ارْتِكَابِ الْمُتَّهَمِ الْجَرِيمَةَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالِاشْتِرَاكِ مَعَ غَيْرِهِ، وَأَنْ يُبَيِّنَ مَا إِذَا كَانَ الْجَانِي قَدْ تَعَمَّدَ الْقَتْلَ أَمْ لَا فَيَقُولُ: وَاللَّهِ إِنَّ فُلَانًا ابْنَ فُلَانٍ قَتَلَ فُلَانًا مُنْفَرِدًا بِقَتْلِهِ مَا شَرِكَهُ غَيْرُهُ.

وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ تَكُونَ الْأَيْمَانُ مُتَوَالِيَةً، فَلَا تُفَرَّقُ عَلَى أَيَّامٍ أَوْ أَوْقَاتٍ؛ لِأَنَّ لِلْمُوَالَاةِ أَثَرًا فِي الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ.

وَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةِ مُوَالَاتُهَا؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ مِنْ جِنْسِ الْحُجَجِ، وَالْحُجَجُ يَجُوزُ تَفْرِيقُهَا كَمَا لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ مُتَفَرِّقِينَ، فَإِنْ حَلَفُوا ثَبَتَ مُدَّعَاهُمْ، وَحُكِمَ لَهُمْ إِمَّا بِالْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي مُوجِبِ الْقَسَامَةِ، فَإِذَا لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعُونَ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا وَبَرِئَ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا قَتَلْتُهُ وَلَا شَارَكْتُ فِي قَتْلِهِ وَلَا تَسَبَّبْتُ فِي مَوْتِهِ.

فَإِنْ لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعُونَ، وَلَمْ يَرْضَوْا بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَرِئَ الْمُتَّهَمُونَ، وَكَانَتْ دِيَةُ الْقَتِيلِ فِي بَيْتِ الْمَالِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتِ الْأَيْمَانُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمُدَّعِينَ فَإِنْ حَلَفُوا عُوقِبَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفُوا لَا شَيْءَ لَهُمْ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَنْ نَكَلَ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يَمُوتَ فِي السِّجْنِ، وَقِيلَ: يُجْلَدُ مِائَةً وَيُحْبَسُ عَامًا، وَلَا يُحْبَسُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ لِمَذْهَبِهِمْ هَذَا بِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ «أَنَّهُ أَخْبَرَهُ رِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ: «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي فَقِيرٍ أَوْ عَيْنٍ، فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ- وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ- وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ أَخُو الْمَقْتُولِ فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ يَتَكَلَّمُ- وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِمُحَيِّصَةَ كَبِّرْ كَبِّرْ، يُرِيدُ السِّنَّ، فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبُوا إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا لَا، قَالَ: فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودٌ، قَالُوا لَيْسُوا مُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ عِنْدِهِ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِمِائَةِ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ قَالَ سَهْلٌ: لَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ».

فَقَدْ وَجَّهَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْيَمِينَ أَوَّلًا إِلَى الْمُدَّعِينَ حِينَمَا سَأَلَهُمْ قَائِلًا: أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْيَمِينُ مَشْرُوعَةً فِي حَقِّهِمُ ابْتِدَاءً مَا وَجَّهَهَا الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ.

الْمَذْهَبُ الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ، فَقَدْ قَالُوا بِتَوْجِيهِ تِلْكَ الْأَيْمَانِ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمُ ابْتِدَاءً، فَإِنْ حَلَفُوا لَزِمَ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ الدِّيَةُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ مِنْ قَضَاءِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-.

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ» عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ زَعَمَ «أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ انْطَلَقُوا إِلَى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا، فَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلًا وَقَالُوا لِلَّذِي وُجِدَ فِيهِمْ قَدْ قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا، قَالُوا مَا قَتَلْنَا وَلَا عَلِمْنَا قَاتِلًا، فَانْطَلَقُوا إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ انْطَلَقْنَا إِلَى خَيْبَرَ فَوَجَدْنَا أَحَدَنَا قَتِيلًا، فَقَالَ: الْكُبْرَ الْكُبْرَ، فَقَالَ لَهُمْ تَأْتُونِي بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ؟ قَالُوا مَا لَنَا بَيِّنَةٌ، قَالَ: فَيَحْلِفُونَ، قَالُوا لَا نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُطَلَّ دَمُهُ فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ».

دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَا يُطْلَبُ فِي دَعْوَى الْقَسَامَةِ كَغَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الدَّعَاوَى هُوَ الْبَيِّنَةُ مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ بَيِّنَةٌ لِلْمُدَّعِي وُجِّهَتِ الْأَيْمَانُ الْخَمْسُونَ الْخَاصَّةُ بِدَعْوَى الْقَسَامَةِ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، كَمَا نَصَّ الْحَدِيثُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ حَلَفُوا بَرِئُوا وَانْتَهَتِ الْخُصُومَةُ، وَلَكِنَّ الْأَنْصَارَ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ لَمْ يَقْبَلُوا أَنْ يَحْلِفَ لَهُمُ الْيَهُودُ لِكُفْرِهِمْ وَجُرْأَتِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ، فَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دِيَتَهُ لِأَهْلِهِ مِنْ عِنْدِهِ كَيْ لَا يُهْدَرَ دَمُ مُسْلِمٍ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا نَكَلَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ حُبِسَ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ، وَكَذَا إِنْ نَكَلَ جَمِيعُ الْمُحَلَّفِينَ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي الْقَسَامَةِ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا، وَلَيْسَتْ وَسِيلَةً لِتَحْصِيلِ غَيْرِهَا، بِمَعْنَى أَنَّ الْيَمِينَ فِي الْقَسَامَةِ يُجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدِّيَةِ، فَإِذَا حَلَفَ الْمُحَلَّفُونَ لَمْ تَسْقُطِ الدِّيَةُ عَنْهُمْ، بِخِلَافِ الْيَمِينِ فِي دَعْوَى الْأَمْوَالِ، فَإِذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دَعْوَى الْمَالِ بَرِئَ وَسَقَطَ الْمَالُ الَّذِي أَرَادَهُ الْمُدَّعِي، لِهَذَا فَإِنَّ مَنْ نَكَلَ حُبِسَ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ.

وَالْحَبْسُ عِنْدَ النُّكُولِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي دَعْوَى الْقَتْلِ الْعَمْدِ، أَمَّا فِي الْخَطَأِ فَيُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ وَلَا يُحْبَسُونَ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْقَتْلِ الْخَطَأِ الْمَالُ فَيُقْضَى بِهِ عِنْدَ النُّكُولِ.

وَدَلِيلُهُمْ فِي هَذَا مَا رُوِيَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْأَزْمَعِ أَنَّهُ قَالَ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ- رضي الله عنه-: أَنَبْذُلُ أَيْمَانَنَا وَأَمْوَالَنَا؟ فَقَالَ نَعَمْ.

مَنْ تُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الْقَسَامَةُ:

18- لَا خِلَافَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ تُوَجَّهُ إِلَى الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ الْعُقَلَاءِ مِنْ عَشِيرَةِ الْمَقْتُولِ الْوَارِثِينَ لَهُ، كَمَا لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي عَدَمِ تَوَجُّهِهَا إِلَى الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ.

وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي تَوْجِيهِهَا إِلَى النِّسَاءِ أَوْ غَيْرِ الْوَارِثِينَ مِنَ الْعَصَبَةِ.

وَقَدْ فَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ كَوْنِ الْقَتْلِ عَمْدًا، وَبَيْنَ كَوْنِهِ خَطَأً، وَاشْتَرَطُوا فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الذُّكُورَةَ وَالْعُصُوبَةَ وَالْعَدَدَ.

وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَحْلِفَ وَرَثَةُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِذَا طَلَبُوا الْقِصَاصَ أَوِ الدِّيَةَ، وَتُوَزَّعُ الْأَيْمَانُ عَلَى الْعَصَبَةِ، وَلَا يَحْلِفُ فِي الْعَمْدِ أَقَلُّ مِنْ رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ لَا يَحْلِفْنَ فِي الْعَمْدِ لِعَدَمِ شَهَادَتِهِنَّ فِيهِ فَإِنِ انْفَرَدْنَ عَنْ رَجُلَيْنِ صَارَ الْمَقْتُولُ كَمَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، فَتُرَدُّ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.

وَيَحْلِفُ النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَالِ إِذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً بِخِلَافِ الْعَمْدِ، لِانْفِرَادِ الرِّجَالِ بِهِ، وَتُوَزَّعُ الْأَيْمَانُ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْخَطَأِ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنَّهَا تُحَلَّفُ الْأَيْمَانَ كُلَّهَا وَتَأْخُذُ حَظَّهَا مِنَ الدِّيَةِ، وَيَسْقُطُ مَا عَلَى الْجَانِي مِنَ الدِّيَةِ لِتَعَذُّرِ الْحَلِفِ مِنْ جِهَةِ بَيْتِ الْمَالِ.

وَإِذَا كُسِرَتِ الْيَمِينُ يُكْمَلُ عَلَى ذِي الْأَكْثَرِ مِنَ الْكُسُورِ وَلَوْ أَقَلَّهُمْ نَصِيبًا مِنْ غَيْرِهِ، كَابْنٍ وَبِنْتٍ عَلَى الِابْنِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ يَمِينًا وَثُلُثٌ وَعَلَى الْبِنْتِ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ فَيُجْبَرُ كَسْرُ الْيَمِينِ عَلَى الْبِنْتِ لِأَنَّ كَسْرَ يَمِينِهَا أَكْثَرُ مِنْ كَسْرِ يَمِينِ الِابْنِ، وَإِنْ كَانَتِ الْبِنْتُ أَقَلَّ نَصِيبًا فَتَحْلِفُ سَبْعَةَ عَشَرَ يَمِينًا فَإِنْ تَسَاوَتِ الْكُسُورُ جَبَرَ كُلُّ وَاحِدٍ كَسْرَهُ، كَثَلَاثَةِ بَنِينَ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ فَتَكْمُلُ عَلَى كُلٍّ، فَيَحْلِفُ كُلٌّ مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ يَمِينًا.

جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قُلْتُ: وَإِنَّمَا يَحْلِفُ وُلَاةُ الدَّمِ فِي الْخَطَأِ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ مِنَ الْمَيِّتِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَهَلْ يُقْسِمُ النِّسَاءُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَهَلْ يُقْسِمُ النِّسَاءُ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ؟ قَالَ: نَعَمْ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَحْلِفُ كُلُّ وَارِثٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ، رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً فِي دَعْوَى الْقَسَامَةِ بِالْقَتْلِ، عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ؛ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ عِنْدَهُمْ يَمِينٌ فِي الدَّعْوَى، فَتُشْرَعُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ كَسَائِرِ الدَّعَاوَى.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِذَا كَانَ لِلْقَتِيلِ وَارِثَانِ فَامْتَنَعَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْقَسَامَةِ لَمْ يُمْنَعْ ذَلِكَ الْآخَرُ مِنْ أَنْ يُقْسِمَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَيَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ وَتُوَزَّعُ الْأَيْمَانُ عَلَى الْوَرَثَةِ بِقَدْرِ حِصَصِهِمْ مِنَ الدِّيَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى.

فَإِذَا كَانَ الْمَقْتُولُ بِلَا وَارِثٍ سَقَطَتِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ، إِلاَّ إِذَا ادَّعَى أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ الْقَتْلَ عَلَى مُعَيَّنٍ، فَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْصِبَهُ لِلْحَلِفِ فِي الْقَسَامَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَيَسْتَحِقَّ بَيْتُ الْمَالِ الدِّيَةَ، وَإِنْ نَكَلَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَجْهٌ يُسْقِطُ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ يُوجِبُ حَبْسَهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَ فِي الْأَوْلِيَاءِ نِسَاءٌ وَرِجَالٌ أَقْسَمَ الرِّجَالُ وَسَقَطَ حُكْمُ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صِبْيَانٌ وَرِجَالٌ بَالِغُونَ، أَوْ كَانَ فِيهِمْ حَاضِرُونَ وَغَائِبُونَ لَا تَثْبُتُ الْقَسَامَةُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ، وَكَذَا لَا تَثْبُتُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ كَامِلَةٍ، وَالْبَيِّنَةُ أَيْمَانُ الْأَوْلِيَاءِ كُلِّهِمْ، وَالْأَيْمَانُ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ.

وَذَهَبَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَتْلَ إِذَا كَانَ عَمْدًا لَا يَحْلِفُ الْكَبِيرُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّغِيرُ، وَلَا الْحَاضِرُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالْعَمْدِ هُوَ الْقِصَاصُ، وَمِنْ شَرْطِهِ عِنْدَهُمْ مُطَالَبَةُ جَمِيعِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ بِهِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْقَتْلُ غَيْرَ عَمْدٍ، فَأَجَازَ قَسَامَةَ الْكَبِيرِ الْحَاضِرِ دُونَ اشْتِرَاطِ بُلُوغِ الصَّغِيرِ، وَحُضُورِ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ بِقَسَامَتِهِمْ هُوَ الدِّيَةُ، فَيَسْتَحِقُّ كُلٌّ مِنْهُمْ قِسْطَهُ مِنْهَا.

وَعَلَى ذَلِكَ يَحْلِفُ أَوْلِيَاءُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ- وَهُمْ وَرَثَتُهُ- وَتُوَزَّعُ الْأَيْمَانُ كَسِهَامِ التَّرِكَةِ، وَيُبْدَأُ بِالذُّكُورِ، وَتُرَدُّ الْقَسَامَةُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُولِ إِلاَّ النِّسَاءُ، وَكَذَا إِذَا نَكَلَ الْمُدَّعِي فَيَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنَ الدِّيَةِ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعُونَ وَلَمْ يَرْضَوْا بِأَيْمَانِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، قِيَاسًا عَلَى مَنْ قُتِلَ فِي زِحَامٍ وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ كَقَتِيلٍ فِي الطَّوَافِ أَوْ فِي جُمُعَةٍ.

وَالْحَنَفِيَّةُ يُوجِبُونَ الْقَسَامَةَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ الْمُدَّعِي، وَبِنَاءً عَلَيْهِ يَخْتَارُ الْوَلِيُّ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنَ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيلُ وَيُحَلِّفُهُمْ، وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ الصَّالِحِينَ أَوِ الْفَسَقَةَ، كَمَا يَحِقُّ لَهُ اخْتِيَارُ الشُّبَّانِ وَالشُّيُوخِ، وَيَكُونُ الِاخْتِيَارُ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيلُ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ، أَيْ عَوَاقِلِ كُلِّ مَنْ فِي الْمَحَلَّةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


98-موسوعة الفقه الكويتية (قسم بين الزوجات 2)

قَسْمٌ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ -2

الْخُرُوجُ فِي نَوْبَةِ زَوْجَةٍ وَالدُّخُولُ عَلَى غَيْرِهَا:

20- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجَةٍ عَلَيْهِ أَنْ يُوفِيَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ قَسْمَهَا دُونَ نَقْصٍ أَوْ تَأْخِيرٍ، لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْعَدْلِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِي الْقَسْمِ بَيْنَهُنَّ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي خُرُوجِ الزَّوْجِ فِي نَوْبَةِ إِحْدَى زَوْجَاتِهِ- لَيْلًا أَوْ نَهَارًا- وَدُخُولِهِ عَلَى غَيْرِهَا كَذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ خَرَجَ الزَّوْجُ الَّذِي عِمَادُ قَسْمِهِ اللَّيْلُ مِنْ عِنْدِ بَعْضِ نِسَائِهِ فِي زَمَانِهَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي النَّهَارِ أَوْ أَوَّلِ اللَّيْلِ أَوْ آخِرِهِ مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ بِالِانْتِشَارِ فِيهِ وَالْخُرُوجِ إِلَى الصَّلَاةِ جَازَ، وَإِنْ خَرَجَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ اللَّيْلِ وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ عَادَ لَمْ يَقْضِ لِمَنْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا هَذَا الْوَقْتَ لِلْمُسَامَحَةِ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي قَضَائِهِ لِقِصَرِهِ، وَإِنْ طَالَ زَمَنُ خُرُوجِهِ قَضَاهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ لِعُذْرٍ أَمْ لِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لِأَنَّهُ مَعَ طُولِ الزَّمَنِ لَا يُسْمَحُ بِهِ عَادَةً، فَيَكُونُ حَقُّهَا قَدْ فَاتَ بِغَيْبَتِهِ عَنْهَا، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ لَا يَسْقُطُ وَلَوْ بِعُذْرٍ إِلاَّ بِإِسْقَاطِ صَاحِبِهِ..فَوَجَبَ الْقَضَاءُ.

وَلَيْسَ لِهَذَا الزَّوْجِ دُخُولٌ فِي نَوْبَةِ زَوْجَةٍ عَلَى غَيْرِهَا لَيْلًا، لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ حَقِّ صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ، إِلاَّ لِضَرُورَةٍ كَمَرَضِهَا الْمَخُوفِ وَشِدَّةِ الطَّلْقِ وَخَوْفِ النَّهْبِ وَالْحَرْقِ، وَحِينَئِذٍ إِنْ طَالَ مُكْثُهُ عُرْفًا قَضَى لِصَاحِبَةِ النَّوْبَةِ مِنْ نَوْبَةِ الْمَدْخُولِ عَلَيْهَا مِثْلَ مُكْثِهِ، وَإِنْ لَمْ يَطُلْ مُكْثُهُ فَلَا يَقْضِي، وَإِذَا تَعَدَّى بِالدُّخُولِ قَضَى إِنْ طَالَ مُكْثُهُ وَإِلاَّ فَلَا قَضَاءَ، وَأَثِمَ.

وَإِنْ دَخَلَ الزَّوْجُ فِي نَوْبَةِ إِحْدَى زَوْجَاتِهِ عَلَى غَيْرِهَا نَهَارًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِحَاجَةٍ؛ لِأَنَّهُ يُتَسَامَحُ فِيهِ مَا لَا يُتَسَامَحُ فِي اللَّيْلِ، فَيَدْخُلُ لِوَضْعِ مَتَاعٍ وَنَحْوِهِ كَتَسْلِيمِ نَفَقَةٍ وَتَعَرُّفِ خَبَرٍ وَعِيَادَةٍ.لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَلَّ يَوْمٌ إِلاَّ وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا، فَيَدْنُو مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ، حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا فَيَبِيتُ عِنْدَهَا» فَإِذَا دَخَلَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَطُلْ مُكْثُهُ عَنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ وَلَمْ يُجَامِعْ.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَطُولَ مُكْثُهُ، أَيْ يَجُوزُ لَهُ تَطْوِيلُ الْمُكْثِ لَكِنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى وُجُوبِ عَدَمِ تَطْوِيلِ الْمُكْثِ لِأَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْحَاجَةِ كَابْتِدَاءِ دُخُولٍ لِغَيْرِهَا وَهُوَ حَرَامٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَقْضِي إِذَا دَخَلَ لِحَاجَةٍ وَإِنْ طَالَ الزَّمَنُ؛ لِأَنَّ النَّهَارَ تَابِعٌ مَعَ وُجُودِ الْحَاجَةِ.

وَفِي مُقَابِلِ الصَّحِيحِ يَجِبُ قَضَاءُ الْمُدَّةِ- إِنْ طَالَتْ- دُونَ الْجِمَاعِ، وَوَفَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِحَمْلِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا إِذَا طَالَتْ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَالثَّانِي عَلَى مَا إِذَا طَالَتْ فَوْقَ الْحَاجَةِ.

وَالصَّحِيحُ- عِنْدَهُمْ- أَيْضًا أَنَّ لَهُ مَا سِوَى الْوَطْءِ مِنِ اسْتِمْتَاعٍ.لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ؛ وَلِأَنَّ النَّهَارَ تَابِعٌ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ، أَمَّا الْوَطْءُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ لَيْلًا أَمْ نَهَارًا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَطَالَ الْمَقَامَ عِنْدَ غَيْرِ صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ قَضَاهُ، وَإِنِ اسْتَمْتَعَ بِهَا بِمَا دُونَ الْفَرْجِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَجُوزُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-، وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهَا بِهِ السَّكَنُ، وَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهَا فَجَامَعَهَا فِي الزَّمَنِ الْيَسِيرِ- لَيْلًا أَوْ نَهَارًا- فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ، لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يُسْتَحَقُّ فِي الْقَسْمِ، وَالزَّمَنُ الْيَسِيرُ لَا يُقْضَى.وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْضِيَهُ وَهُوَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى الْمَظْلُومَةِ فِي لَيْلَةِ الْمُجَامَعَةِ فَيُجَامِعَهَا فَيَعْدِلَ بَيْنَهُمَا.وَلِأَنَّ الْيَسِيرَ مَعَ الْجِمَاعِ يَحْصُلُ بِهِ السَّكَنُ فَأَشْبَهَ الْكَثِيرَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَلْزَمُ الزَّوْجَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ فِي اللَّيْلِ، حَتَّى لَوْ جَاءَ لِلْأُولَى بَعْدَ الْغُرُوبِ وَلِلثَّانِيَةِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَقَدْ تَرَكَ الْقَسْمَ، وَلَا يُجَامِعُهَا فِي غَيْرِ نَوْبَتِهَا، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا إِلاَّ لِعِيَادَتِهَا، وَلَوِ اشْتَدَّ مَرَضُهَا- فَفِي الْجَوْهَرَةِ- لَا بَأْسَ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا حَتَّى تُشْفَى أَوْ تَمُوتَ، يَعْنِي إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا مَنْ يُؤْنِسُهَا.

وَالنَّوْبَةُ لَا تَمْنَعُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْأُخْرَى لِيَنْظُرَ فِي حَاجَتِهَا وَيُمَهِّدَ أُمُورَهَا، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُنَّ كُنَّ يَجْتَمِعْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي بَيْتِ الَّتِي يَأْتِيهَا وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ بِرِضَاءِ صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ إِذْ قَدْ تَتَضِيقُ لِذَلِكَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَدْخُلُ الزَّوْجُ فِي يَوْمِ إِحْدَى زَوْجَاتِهِ عَلَى ضَرَّتِهَا، أَيْ يُمْنَعُ، إِلاَّ لِحَاجَةٍ غَيْرِ الِاسْتِمْتَاعِ كَمُنَاوَلَةِ ثَوْبٍ وَنَحْوِهِ فَيَجُوزُ لَهُ وَلَوْ أَمْكَنَهُ الِاسْتِنَابَةُ فِيهَا عَلَى الْأَشْبَهِ بِالْمَذْهَبِ.وَلِمَالِكٍ لَا بُدَّ مِنْ عُسْرِ الِاسْتِنَابَةِ فِيهَا، وَعَمَّمَ ابْنُ نَاجِي دُخُولَهُ لِحَاجَةٍ فِي النَّهَارِ وَاللَّيْلِ مُخَالِفًا لِشَيْخِهِ فِي تَخْصِيصِ الْجَوَازِ بِالنَّهَارِ، وَلِلزَّوْجِ وَضْعُ ثِيَابِهِ عِنْدَ وَاحِدَةٍ دُونَ الْأُخْرَى لِغَيْرِ مَيْلٍ وَلَا إِضْرَارٍ، وَلَا يُقِيمُ عِنْدَ مَنْ دَخَلَ عِنْدَهَا إِلاَّ لِعُذْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَجَازَ فِي يَوْمِهَا وَطْءُ ضَرَّتِهَا بِإِذْنِهَا، وَيَجُوزُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ السَّلَامُ بِالْبَابِ مِنْ خَارِجِهِ فِي غَيْرِ يَوْمِهَا، وَتَفَقُّدُ شَأْنِهَا مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ إِلَيْهَا وَلَا جُلُوسٍ عِنْدَهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ مَا بَعَثَتْ إِلَيْهِ بِالْبَابِ لَا فِي بَيْتِ الْأُخْرَى لِمَا فِيهِ مِنْ أَذِيَّتِهَا.

ذَهَابُ الزَّوْجِ إِلَى زَوْجَاتِهِ وَدَعْوَتُهُنَّ إِلَيْهِ:

21- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ- فِي الْجُمْلَةِ- عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى فِي حَالَةِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُنَّ مَسْكَنٌ يَأْتِيهَا الزَّوْجُ فِيهِ اقْتِدَاءً بِفِعْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- حَيْثُ كَانَ يَقْسِمُ لِنِسَائِهِ فِي بُيُوتِهِنَّ؛ وَلِأَنَّهُ أَصْوَنُ وَأَسْتَرُ حَتَّى لَا تَخْرُجَ النِّسَاءُ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، وَيَجُوزُ لِلزَّوْجِ- إِنِ انْفَرَدَ بِمَسْكَنٍ- أَنْ يَدْعُوَ إِلَيْهِ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ زَوْجَاتِهِ فِي لَيْلَتِهَا لِيُوفِيَهَا حَقَّهَا مِنَ الْقَسْمِ.

لَكِنَّ لِلْفُقَهَاءِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ تَفْصِيلًا يَحْسُنُ عَرْضُهُ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ مَرِضَ الزَّوْجُ فِي بَيْتِهِ دَعَا كُلَّ وَاحِدَةٍ فِي نَوْبَتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا وَأَرَادَ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: جَازَ لِلزَّوْجِ بِرِضَاءِ زَوْجَاتِهِ طَلَبُهُ مِنْهُنَّ الْإِتْيَانَ لِلْبَيَاتِ مَعَهُ بِمَحَلِّهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ هَذَا إِذِ السُّنَّةُ دَوَرَانُهُ هُوَ عَلَيْهِنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ لِفِعْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَإِنْ رَضِيَ بَعْضُهُنَّ لَمْ يَلْزَمْ بَاقِيَهُنَّ، بَلْ نَصَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ يُقْضَى عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَدُورَ عَلَيْهِنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَأْتِينَهُ إِلاَّ أَنْ يَرْضَيْنَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ لَمْ يَنْفَرِدِ الزَّوْجُ بِمَسْكَنٍ وَأَرَادَ الْقَسْمَ دَارَ عَلَيْهِنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ تَوْفِيَةً لِحَقِّهِنَّ، وَإِنِ انْفَرَدَ بِمَسْكَنٍ فَالْأَفْضَلُ الْمُضِيُّ إِلَيْهِنَّ صَوْنًا لَهُنَّ، وَلَهُ دُعَاؤُهُنَّ بِمَسْكَنِهِ، وَعَلَيْهِنَّ الْإِجَابَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّهُ، فَمَنِ امْتَنَعَتْ وَقَدْ لَاقَ مَسْكَنُهُ بِهَا فِيمَا يَظْهَرُ فَهِيَ نَاشِزَةٌ إِلاَّ ذَاتُ خَفَرٍ- قَالَ الشَّبْرَامِلْسِيُّ: أَيْ شَرَفٍ- لَمْ تَعْتَدِ الْبُرُوزَ فَيَذْهَبُ لَهَا كَمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَاسْتَحْسَنَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَإِلاَّ نَحْوُ مَعْذُورَةٍ بِمَرَضٍ فَيَذْهَبُ أَوْ يُرْسِلُ لَهَا مَرْكَبًا إِنْ أَطَاقَتْ مَعَ مَا يَقِيهَا مِنْ نَحْوِ مَطَرٍ.

وَالْأَصَحُّ تَحْرِيمُ ذَهَابِهِ إِلَى بَعْضِهِنَّ وَدُعَاءُ غَيْرِهِنَّ إِلَى مَسْكَنِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيحَاشِ، وَلِمَا فِي تَفْضِيلِ بَعْضِهِنَّ عَلَى بَعْضٍ، مِنْ تَرْكِ الْعَدْلِ، إِلاَّ لِغَرَضٍ كَقُرْبِ مَسْكَنِ مَنْ مَضَى إِلَيْهَا، أَوْ خَوْفٍ عَلَيْهَا لِنَحْوِ شَبَابٍ دُونَ غَيْرِهَا فَلَا يَحْرُمُ.وَالضَّابِطُ أَنْ لَا يَظْهَرَ مِنْهُ التَّفْضِيلُ وَالتَّخْصِيصُ، وَيَحْرُمُ أَنْ يُقِيمَ بِمَسْكَنِ وَاحِدَةٍ وَيَدْعُوَ الْبَاقِيَاتِ إِلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاهُنَّ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ هِيَ فِيهِ حَالَ دُعَائِهِنَّ، فَإِنْ أَجَبْنَ فَلَهَا الْمَنْعُ، وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ مِلْكَ الزَّوْجِ لِأَنَّ حَقَّ السُّكْنَى فِيهِ لَهَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنِ اتَّخَذَ الزَّوْجُ لِنَفْسِهِ مَسْكَنًا غَيْرَ مَسَاكِنِ زَوْجَاتِهِ يَدْعُو إِلَيْهِ كُلَّ وَاحِدَةٍ فِي لَيْلَتِهَا وَيَوْمِهَا وَيُخْلِيهِ مِنْ ضَرَّتِهَا جَازَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ لَهُ نَقْلَ زَوْجَتِهِ حَيْثُ شَاءَ بِمَسْكَنٍ يَلِيقُ بِهَا، وَلَهُ دُعَاءُ بَعْضِ الزَّوْجَاتِ إِلَى مَسْكَنِهِ وَالذَّهَابُ إِلَى مَسْكَنِ غَيْرِهِنَّ مِنَ الزَّوْجَاتِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُسْكِنَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَيْثُ شَاءَ، وَإِنِ امْتَنَعَتْ مَنْ دَعَاهَا عَنْ إِجَابَتِهِ وَكَانَ مَا دَعَاهَا إِلَيْهِ مَسْكَنَ مِثْلِهَا سَقَطَ حَقُّهَا مِنَ الْقَسْمِ لِنُشُوزِهَا، وَإِنْ أَقَامَ عِنْدَ وَاحِدَةٍ وَدَعَا الْبَاقِيَاتِ إِلَى بَيْتِهَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِنَّ الْإِجَابَةُ لِمَا بَيْنَهُنَّ مِنْ غَيْرَةٍ وَالِاجْتِمَاعُ يُزِيدُهَا.

الْقُرْعَةُ لِلسَّفَرِ:

22- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الرَّجُلِ يُرِيدُ السَّفَرَ بِإِحْدَى زَوْجَاتِهِ هَلْ لَهُ ذَلِكَ، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ رِضَا سَائِرِ الزَّوْجَاتِ أَوِ الْقُرْعَةِ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ السَّفَرَ بِمَنْ شَاءَ مِنْ زَوْجَاتِهِ دُونَ قُرْعَةٍ أَوْ رِضَا سَائِرِ الزَّوْجَاتِ، لَكِنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمْ تَفْصِيلًا: فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا حَقَّ لِلزَّوْجَاتِ فِي الْقَسْمِ حَالَةَ السَّفَرِ، فَيُسَافِرُ الزَّوْجُ بِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ.

وَالْأَوْلَى أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ فَيُسَافِرَ بِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهَا، تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَثِقُ بِإِحْدَى الزَّوْجَاتِ فِي السَّفَرِ وَبِالْأُخْرَى فِي الْحَضَرِ وَالْقَرَارُ فِي الْمَنْزِلِ لِحِفْظِ الْأَمْتِعَةِ أَوْ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ، وَقَدْ يَمْنَعُ مِنْ سَفَرِ إِحْدَاهُنَّ كَثْرَةُ سِمَنِهَا مَثَلًا، فَتَعْيِينُ مَنْ يَخَافُ صُحْبَتَهَا فِي السَّفَرِ لِلسَّفَرِ لِخُرُوجِ قُرْعَتِهَا إِلْزَامٌ لِلضَّرَرِ الشَّدِيدِ وَهُوَ مُنْدَفِعٌ بِالنَّافِي لِلْحَرَجِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يُسَافِرَ بِإِحْدَى زَوْجَتَيْهِ أَوْ زَوْجَاتِهِ اخْتَارَ مَنْ تَصْلُحُ لِإِطَاقَتِهَا السَّفَرَ أَوْ لِخِفَّةِ جِسْمِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَا لِمَيْلِهِ إِلَيْهَا، إِلاَّ فِي سَفَرِ الْحَجِّ وَالْغَزْوِ فَيُقْرِعُ بَيْنَهُمَا أَوْ بَيْنَهُنَّ لِأَنَّ الْمُشَاحَّةَ تَعْظُمُ فِي سَفَرِ الْقُرُبَاتِ، وَشَرْطُ الْإِقْرَاعِ صَلَاحُ جَمِيعِهِنَّ لِلسَّفَرِ، وَمَنِ اخْتَارَ سَفَرَهَا أَوْ تَعَيَّنَ بِالْقُرْعَةِ أُجْبِرَتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهَا أَوْ يَكُونُ سَفَرُهَا مَعَرَّةً عَلَيْهَا، وَمَنْ أَبَتْ لِغَيْرِ عُذْرٍ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا.

وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِبَعْضِ زَوْجَاتِهِ- وَاحِدَةً أَوْ أَكْثَرَ- إِلاَّ بِرِضَاءِ سَائِرِهِنَّ أَوْ بِالْقُرْعَةِ، وَذَلِكَ فِي الْأَسْفَارِ الطَّوِيلَةِ الْمُبِيحَةِ لِقَصْرِ الصَّلَاةِ، وَكَذَا فِي الْأَسْفَارِ الْقَصِيرَةِ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَالُوا: لَا فَرْقَ بَيْنَ السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ لِعُمُومِ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ بَعْضَ زَوْجَاتِهِ بِالْقُرْعَةِ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ، وَلَيْسَ لِلْمُقِيمِ تَخْصِيصُ بَعْضِهِنَّ بِالْقُرْعَةِ، فَإِنْ فَعَلَ قَضَى لِلْبَوَاقِي.

وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى وُجُوبِ الْقُرْعَةِ لِتَعْيِينِ إِحْدَى الزَّوْجَاتِ لِلسَّفَرِ مَعَ الزَّوْجِ بِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، وَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ»، كَمَا اسْتَدَلُّوا عَلَى الْقُرْعَةِ لِتَعْيِينِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ لِلسَّفَرِ مَعَ الزَّوْجِ إِنْ أَرَادَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا خَرَجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَصَارَتِ الْقُرْعَةُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ» وَقَالُوا: إِنَّ الْمُسَافَرَةَ بِبَعْضِ الزَّوْجَاتِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ تَفْضِيلٌ لِمَنْ سَافَرَ بِهَا فَلَمْ يَجُزْ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ.

وَقَالُوا: إِذَا سَافَرَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ سَوَّى بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ فِي السَّفَرِ كَمَا يُسَوِّي بَيْنَهُنَّ فِي الْحَضَرِ.

وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِإِحْدَى الزَّوْجَاتِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الزَّوْجِ السَّفَرُ بِهَا، وَلَهُ تَرْكُهَا وَالسَّفَرُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ لَا تُوجِبُ وَإِنَّمَا تُعَيِّنُ مَنْ تَسْتَحِقُّ التَّقْدِيمَ، وَإِنْ أَرَادَ السَّفَرَ بِغَيْرِهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهَا تَعَيَّنَتْ بِالْقُرْعَةِ فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَإِنِ امْتَنَعَتْ مِنَ السَّفَرِ مَعَ الزَّوْجِ سَقَطَ حَقُّهَا إِذَا رَضِيَ الزَّوْجُ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الزَّوْجُ بِامْتِنَاعِهَا فَلَهُ إِكْرَاهُهَا عَلَى السَّفَرِ مَعَهُ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا إِجَابَتُهُ، فَإِنْ رَضِيَ بِامْتِنَاعِهَا اسْتَأْنَفَ الْقُرْعَةَ بَيْنَ الْبَوَاقِي لِتَعْيِينِ مَنْ تُسَافِرُ مَعَهُ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ خَرَجَتْ لَهَا الْقُرْعَةُ إِنْ وَهَبَتْ حَقَّهَا مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِهَا مِنَ الزَّوْجَاتِ جَازَ إِنْ رَضِيَ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا فَصَحَّتْ هِبَتُهَا لَهُ كَمَا لَوْ وَهَبَتْ لَيْلَتَهَا فِي الْحَضَرِ، وَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِ رِضَا الزَّوْجِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا لَا يَسْقُطُ إِلاَّ بِرِضَاهُ، وَإِنْ وَهَبَتْهُ لِلزَّوْجِ أَوْ لِسَائِرِ الزَّوْجَاتِ جَازَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ رَضِيَتِ الزَّوْجَاتُ كُلُّهُنَّ بِسَفَرِ وَاحِدَةٍ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُنَّ إِلاَّ أَنْ لَا يَرْضَى الزَّوْجُ بِهَا فَيُصَارُ إِلَى الْقُرْعَةِ، وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَاتِ إِنْ رَضِينَ بِوَاحِدَةٍ فَلَهُنَّ الرُّجُوعُ قَبْلَ سَفَرِهَا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَكَذَا بَعْدَهُ مَا لَمْ يُجَاوِزْ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، أَيْ يَصِلُ إِلَيْهَا.

وَقَالُوا: لَوْ أَقْرَعَ الزَّوْجُ بَيْنَ نِسَائِهِ عَلَى سَفَرٍ فَخَرَجَ سَهْمُ وَاحِدَةٍ فَخَرَجَ بِهَا، ثُمَّ أَرَادَ سَفَرًا آخَرَ قَبْلَ رُجُوعِهِ مِنْ ذَلِكَ السَّفَرِ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ كَالسَّفَرِ الْوَاحِدِ، مَا لَمْ يَرْجِعْ، فَإِذَا رَجَعَ فَأَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ.

وَقَالُوا: لَوْ سَافَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ أَوْ أَكْثَرَ بِقُرْعَةٍ أَوْ بِرِضَاهُنَّ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِلْحَاضِرَاتِ، سَوَاءٌ طَالَ سَفَرُهُ أَوْ قَصُرَ؛ لِأَنَّ الَّتِي سَافَرَ بِهَا يَلْحَقُهَا مِنْ مَشَقَّةِ السَّفَرِ بِإِزَاءِ مَا حَصَلَ لَهَا مِنَ السَّكَنِ، وَلَا يَحْصُلُ لَهَا مِنَ السَّكَنِ مِثْلُ مَا يَحْصُلُ لِمَنْ فِي الْحَضَرِ، أَيْ أَنَّ الْمُقِيمَةَ فِي الْحَضَرِ الَّتِي لَمْ تُسَافِرْ مَعَ زَوْجِهَا وَإِنْ فَاتَهَا حَظُّهَا مِنْ زَوْجِهَا أَثْنَاءَ سَفَرِهِ مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الزَّوْجَاتِ، فَقَدْ تَرَفَّهَتْ بِالدَّعَةِ وَالْإِقَامَةِ فَتَقَابَلَ الْأَمْرَانِ فَاسْتَوَيَا، وَلَوْ سَافَرَ الزَّوْجُ بِوَاحِدَةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ زَوْجَاتِهِ دُونَ رِضَاهُنَّ أَوِ الْقُرْعَةِ أَثِمَ، وَقَضَى لِلْأُخْرَيَاتِ مُدَّةَ السَّفَرِ.

وَقَالُوا: إِنْ خَرَجَ بِإِحْدَاهُنَّ بِقُرْعَةٍ ثُمَّ أَقَامَ قَضَى مُدَّةَ الْإِقَامَةِ لِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ السَّفَرِ، وَذَلِكَ إِذَا سَاكَنَ الْمَصْحُوبَةَ، أَمَّا إِذَا اعْتَزَلَهَا مُدَّةَ الْإِقَامَةِ فَلَا يَقْضِي.

وَقَالُوا: مَنْ سَافَرَ لِنُقْلَةٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ بَعْضَهُنَّ دُونَ بَعْضٍ وَلَوْ بِقُرْعَةٍ، بَلْ يَنْقُلَهُنَّ أَوْ يُطَلِّقَهُنَّ، وَإِنْ أَرَادَ الِانْتِقَالَ بِنِسَائِهِ فَأَمْكَنَهُ اسْتِصْحَابُهُنَّ كُلُّهُنَّ فِي سَفَرِهِ فَعَلَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِفْرَادُ إِحْدَاهُنَّ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا السَّفَرَ لَا يَخْتَصُّ بِوَاحِدَةٍ بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلِ جَمِيعِهِنَّ، فَإِنْ خَصَّ إِحْدَاهُنَّ بِالسَّفَرِ مَعَهُ قَضَى لِلْبَاقِيَاتِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ صُحْبَةُ جَمِيعِهِنَّ أَوْ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَبَعَثَ بِهِنَّ جَمِيعًا مَعَ غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ مَحْرَمٌ لَهُنَّ جَازَ، وَلَا يَقْضِي لِأَحَدٍ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى قُرْعَةٍ لِأَنَّهُ سَوَّى بَيْنَهُنَّ، وَإِنْ أَرَادَ إِفْرَادَ بَعْضِهِنَّ بِالسَّفَرِ مَعَهُ لَمْ يَجُزْ إِلاَّ بِقُرْعَةٍ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ فَأَقَامَتْ مَعَهُ فِيهِ قَضَى لِلْبَاقِيَاتِ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ هَذِهِ الْأَحْكَامُ هُوَ السَّفَرُ الْمُبَاحُ، أَمَّا غَيْرُهُ فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ فِيهِ بَعْضَهُنَّ بِقُرْعَةٍ وَلَا بِغَيْرِهَا، فَإِنْ فَعَلَ عَصَى وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ لِلزَّوْجَاتِ الْبَاقِيَاتِ.

قَضَاءُ مَا فَاتَ مِنَ الْقَسْمِ:

23- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَدْلَ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَاجِبٌ عَلَى الزَّوْجِ، فَإِنْ جَارَ الزَّوْجُ وَفَوَّتَ عَلَى إِحْدَاهُنَّ قَسْمَهَا فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي قَضَاءِ مَا فَاتَ مِنَ الْقَسْمِ: فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: لَا يَقْضِي الزَّوْجُ الْمَبِيتَ الَّذِي كَانَ مُسْتَحَقًّا لِإِحْدَى زَوْجَاتِهِ وَلَمْ يُوفِهِ لَهَا؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْمَبِيتِ دَفْعُ الضَّرَرِ وَتَحْصِينُ الْمَرْأَةِ وَإِذْهَابُ الْوَحْشَةِ، وَهَذَا يَفُوتُ بِفَوَاتِ زَمَنِهِ، فَلَا يُجْعَلُ لِمَنْ فَاتَتْ لَيْلَتُهَا لَيْلَةً عِوَضًا عَنْهَا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَظْلِمُ صَاحِبَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ الَّتِي جَعَلَهَا عِوَضًا؛ وَلِأَنَّ الْمَبِيتَ لَا يَزِيدُ عَلَى النَّفَقَةِ وَهِيَ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَقْضِيَ مَا فَاتَ مِنَ الْقَسْمِ لِلزَّوْجَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِسَبَبٍ مِنْ جَانِبِهَا كَنُشُوزِهَا أَوْ إِغْلَاقِهَا بَابَهَا دُونَهُ وَمَنْعِهَا إِيَّاهُ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهَا فِي نَوْبَتِهَا.

وَأَسْبَابُ فَوَاتِ الْقَسْمِ مُتَعَدِّدَةٌ: فَقَدْ يُسَافِرُ الزَّوْجُ بِإِحْدَى الزَّوْجَاتِ فَيَفُوتُ الْقَسْمُ لِسَائِرِهِنَّ.وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ حُكْمِ الْقَضَاءِ لَهُنَّ تَفْصِيلًا.

وَقَدْ يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ أَثْنَاءَ دَوْرَةِ الْقَسْمِ لِزَوْجَاتِهِ وَقَبْلَ أَنْ يُوفِيَ نَوْبَاتِ الْقَسْمِ الْمُسْتَحَقَّةِ لَهُنَّ، فَيَقْطَعَ الدَّوْرَةَ لِيَخْتَصَّ الزَّوْجَةَ الْجَدِيدَةَ بِقَسْمِ النِّكَاحِ، مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَوَاتُ نَوْبَةِ مَنْ لَمْ يَأْتِ دَوْرُهَا فَيَجِبُ الْقَضَاءُ لَهَا.وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ.

وَقَدْ يَفُوتُ قَسْمُ إِحْدَى الزَّوْجَاتِ بِسَفَرِهَا، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: قَالُوا: إِنْ سَافَرَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لِحَاجَتِهَا أَوْ حَاجَتِهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا قَسْمَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْقَسْمَ لِلْأُنْسِ وَقَدِ امْتَنَعَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا فَسَقَطَ، وَإِنْ سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ لِغَرَضِهِ أَوْ حَاجَتِهِ فَإِنَّهُ يَقْضِي لَهَا مَا فَاتَهَا بِحَسَبِ مَا أَقَامَ عِنْدَ ضَرَّتِهَا لِأَنَّهَا سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ وَلِغَرَضِهِ، فَهِيَ كَمَنْ عِنْدَهُ وَفِي قَبْضَتِهِ وَهُوَ الْمَانِعُ نَفْسَهُ بِإِرْسَالِهَا، وَإِنْ سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ لِغَرَضِهَا أَوْ حَاجَتِهَا لَا يَقْضِي لَهَا (عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) لِأَنَّهَا فَوَّتَتْ حَقَّهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا وَلَمْ تَكُنْ فِي قَبْضَتِهِ، وَإِذْنُهُ لَهَا بِالسَّفَرِ رَافِعٌ لِلْإِثْمِ خَاصَّةً.

وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ سَافَرَتْ لِحَاجَةِ ثَالِثٍ- غَيْرِهَا وَغَيْرِ الزَّوْجِ- قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: فَيَظْهَرُ أَنَّهُ كَحَاجَةِ نَفْسِهَا، وَهُوَ- كَمَا قَالَ غَيْرُهُ- ظَاهِرٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ خُرُوجُهَا بِسُؤَالِ الزَّوْجِ لَهَا فِيهِ، وَإِلاَّ فَيُلْحَقُ بِخُرُوجِهَا لِحَاجَتِهِ بِإِذْنِهِ، وَلَوْ سَافَرَتْ وَحْدَهَا بِإِذْنِهِ لِحَاجَتِهِمَا مَعًا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهَا كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّفَقَةِ وَمِثْلُهَا الْقَسْمُ، خِلَافًا لِمَا بَحَثَهُ ابْنُ الْعِمَادِ مِنَ السُّقُوطِ

وَقَدْ يَفُوتُ قَسْمُ إِحْدَى الزَّوْجَاتِ بِتَخَلُّفِ الزَّوْجِ عَنِ الْمَبِيتِ عِنْدَهَا فِي نَوْبَتِهَا أَوْ بِخُرُوجِهِ أَثْنَاءَ نَوْبَتِهَا، فَإِنْ كَانَ الْفَوَاتُ لِلنَّوْبَةِ بِكَامِلِهَا وَجَبَ قَضَاؤُهَا كَامِلَةً، وَإِنْ كَانَ الْفَوَاتُ لِبَعْضِ النَّوْبَةِ كَأَنْ خَرَجَ لَيْلًا- فِيمَنْ عِمَادُ قَسْمِهِ اللَّيْلُ- وَطَالَ زَمَنُ خُرُوجِهِ وَلَوْ لِغَيْرِ بَيْتِ الضَّرَّةِ.فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْخُرُوجِ.

تَنَازُلُ الزَّوْجَةِ عَنْ قَسْمِهَا:

24- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِإِحْدَى زَوْجَاتِ الرَّجُلِ أَنْ تَتَنَازَلَ عَنْ قَسْمِهَا، أَوْ تَهَبَ حَقَّهَا مِنَ الْقَسْمِ لِزَوْجِهَا أَوْ لِبَعْضِ ضَرَائِرِهَا أَوْ لَهُنَّ جَمِيعًا، وَذَلِكَ بِرِضَا الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا لَا يَسْقُطُ إِلاَّ بِرِضَاهُ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ إِسْقَاطَ حَقِّهِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَإِذَا رَضِيَتْ هِيَ وَالزَّوْجُ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ لَهُمَا لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا، فَإِنْ أَبَتِ الْمَوْهُوبَةُ قَبُولَ الْهِبَةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ ثَابِتٌ وَإِنَّمَا مَنَعَتْهُ الْمُزَاحَمَةُ بِحَقِّ صَاحِبَتِهَا، فَإِنْ زَالَتِ الْمُزَاحَمَةُ بِهِبَتِهَا ثَبَتَ حَقُّهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا وَإِنْ كَرِهَتْ كَمَا لَوْ كَانَتْ مُنْفَرِدَةً وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ- رضي الله عنها- وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ- رضي الله عنها-، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ بِيَوْمِهَا وَيَوْمِ سَوْدَةَ».

وَيُعَلِّقُ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى هَذِهِ الْهِبَةِ بِقَوْلِهِمْ: هَذِهِ الْهِبَةُ لَيْسَتْ عَلَى قَوَاعِدِ الْهِبَاتِ، وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ قَبُولُ الْمَوْهُوبِ لَهَا أَوْ رِضَاهَا، بَلْ يَكْفِي رِضَا الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوَاهِبَةِ وَبَيْنِهِ، إِذْ لَيْسَ لَنَا هِبَةٌ يُقْبَلُ فِيهَا غَيْرُ الْمَوْهُوبِ لَهُ مَعَ تَأَهُّلِهِ لِلْقَبُولِ إِلاَّ هَذِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ وَهَبَتْ لَيْلَتَهَا لِجَمِيعِ ضَرَائِرِهَا، وَوَافَقَ الزَّوْجُ، صَارَ الْقَسْمُ بَيْنَهُنَّ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ الْوَاهِبَةَ، وَإِنْ وَهَبَتْهَا لِلزَّوْجِ فَلَهُ جَعْلُهَا لِمَنْ شَاءَ: إِنْ أَرَادَ جَعْلَهَا لِلْجَمِيعِ، أَوْ خَصَّ بِهَا وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، أَوْ جَعَلَ لِبَعْضِهِنَّ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ.

وَقِيلَ- عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّيْلَةَ الْمَوْهُوبَةَ لَهُ حَيْثُ شَاءَ مِنْ بَقِيَّةِ الزَّوْجَاتِ، بَلْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُنَّ وَلَا يُخَصِّصُ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ يُورِثُ الْوَحْشَةَ وَالْحِقْدَ، فَتُجْعَلُ الْوَاهِبَةُ كَالْمَعْدُومَةِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَذَلِكَ أَنَّ إِحْدَى الزَّوْجَاتِ لَوْ وَهَبَتْ لَيْلَتَهَا لِلزَّوْجِ وَلِبَعْضِ الزَّوْجَاتِ، أَوْ لَهُ وَلِلْجَمِيعِ، فَإِنَّ حَقَّهَا يُقْسَمُ عَلَى الرُّءُوسِ، كَمَا لَوْ وَهَبَ شَخْصٌ عَيْنًا لِجَمَاعَةٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ وَهَبَتْ إِحْدَى الزَّوْجَاتِ لَيْلَتَهَا لِوَاحِدَةٍ جَازَ، ثُمَّ إِنْ كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ تَلِي لَيْلَةَ الْمَوْهُوبَةِ وَالَى بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَلِيهَا لَمْ يَجُزِ الْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِرِضَاءِ الْبَاقِيَاتِ، وَيَجْعَلُهَا لَهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ لِلْوَاهِبَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَةَ قَامَتْ مَقَامَ الْوَاهِبَةِ فِي لَيْلَتِهَا فَلَمْ يَجُزْ تَغْيِيرُهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً لِلْوَاهِبَةِ؛ وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَأْخِيرَ حَقِّ غَيْرِهَا وَتَغْيِيرًا لِلَيْلَتِهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا فَلَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا وَهَبَتْهَا لِلزَّوْجِ فَآثَرَ بِهَا امْرَأَةً مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَوَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُوَالِيَ بَيْنَ اللَّيْلَتَيْنِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي التَّفْرِيقِ.

وَلِلزَّوْجَةِ الْوَاهِبَةِ الرُّجُوعُ مَتَى شَاءَتْ فَإِذَا رَجَعَتِ انْصَرَفَ الرُّجُوعُ مِنْ حِينِهِ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّهَا هِبَةٌ لَمْ تُقْبَضْ فَلَهَا الرُّجُوعُ فِيهَا، وَلَيْسَ لَهَا الرُّجُوعُ فِيمَا مَضَى لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ، وَلَوْ رَجَعَتْ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ كَانَ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى أَتَمَّ اللَّيْلَةَ لَمْ يَقْضِ لَهَا شَيْئًا لِأَنَّ التَّفْرِيطَ مِنْهَا.

وَنَصَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا يُوَافِقُ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ فِي الْمَسَائِلِ السَّابِقَةِ.

الْعِوَضُ لِلتَّنَازُلِ عَنِ الْقَسْمِ:

25- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَخْذِ الزَّوْجَةِ الْمُتَنَازِلَةِ عَنْ قَسْمِهَا عِوَضًا عَلَى ذَلِكَ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ، لَا مِنَ الزَّوْجِ وَلَا مِنَ الضَّرَائِرِ، فَإِنْ أَخَذَتْ لَزِمَهَا رَدُّهُ وَاسْتَحَقَّتِ الْقَضَاءَ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ لَمْ يُسَلَّمْ لَهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْ قَسْمِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَيْنٍ وَلَا مَنْفَعَةٍ؛ وَلِأَنَّ مَقَامَ الزَّوْجِ عِنْدَهَا لَيْسَ بِمَنْفَعَةٍ مَلَكَتْهَا.

وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الْعِوَضُ غَيْرَ الْمَالِ مِثْلَ إِرْضَاءِ زَوْجِهَا وَغَيْرِهِ عَنْهَا جَازَ فَإِنَّ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَرْضَتْ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ صَفِيَّةَ- رضي الله عنها- وَأَخَذَتْ يَوْمَهَا، وَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يُنْكِرْهُ.

قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ أَخْذِ الْعِوَضِ عَنْ سَائِرِ حُقُوقِهَا مِنَ الْقَسْمِ وَغَيْرِهِ وَوَقَعَ فِي كَلَامِ الْقَاضِي مَا يَقْتَضِي جَوَازَهُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَخْذَ الْعِوَضِ عَلَى ذَلِكَ جَائِزٌ، فَقَالُوا: جَازَ لِلزَّوْجِ إِيثَارُ إِحْدَى الضَّرَّتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى بِرِضَاهَا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ تَأْخُذُهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ ضَرَّتِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا، أَوْ لَا، بَلْ رَضِيَتْ مَجَّانًا، وَجَازَ لِلزَّوْجِ أَوِ الضَّرَّةِ شِرَاءُ يَوْمِهَا مِنْهَا بِعِوَضٍ، وَتَخْتَصُّ الضَّرَّةُ بِمَا اشْتَرَتْ، وَيَخُصُّ الزَّوْجُ مَنْ شَاءَ بِمَا اشْتَرَى، وَعَقَّبَ الدُّسُوقِيُّ بِقَوْلِهِ: وَتَسْمِيَةُ هَذَا شِرَاءً مُسَامَحَةٌ، بَلْ هَذَا إِسْقَاطُ حَقٍّ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَمَوَّلًا.

مَا يَسْقُطُ بِهِ الْقَسْمُ:

26- يَسْقُطُ حَقُّ الزَّوْجَةِ فِي الْقَسْمِ بِإِسْقَاطِهَا وَيَسْقُطُ بِالنُّشُوزِ كَمَا تَسْقُطُ بِهِ النَّفَقَةُ.وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَمِنَ النُّشُوزِ أَنْ تَخْرُجَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَوْ تَمْنَعَهُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِهَا.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ بِنَحْوِ قُبْلَةٍ وَإِنْ مَكَّنَتْهُ مِنَ الْجِمَاعِ حَيْثُ لَا عُذْرَ فِي امْتِنَاعِهَا مِنْهُ، فَإِنْ عُذِرَتْ كَأَنْ كَانَ بِهِ صُنَانٌ مُسْتَحْكِمٌ- مَثَلًا- وَتَأَذَّتْ بِهِ تَأَذِّيًا لَا يُحْتَمَلُ عَادَةً لَمْ تُعَدَّ نَاشِزَةً، وَتُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إِنْ لَمْ تَدُلَّ قَرِينَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى كَذِبِهَا.وَسُقُوطُ حَقِّ النَّاشِزَةِ فِي الْقَسْمِ لِأَنَّهَا بِخُرُوجِهَا عَلَى طَاعَةِ زَوْجِهَا وَامْتِنَاعِهَا مِنْهُ رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ حَقِّهَا فِي الْقَسْمِ.

وَلَا تَسْتَحِقُّ الْقَسْمَ زَوْجَةٌ صَغِيرَةٌ لَا تُطِيقُ الْوَطْءَ، وَكَذَا الْمَجْنُونَةُ غَيْرُ الْمَأْمُونَةِ، وَالْمَحْبُوسَةُ؛ لِأَنَّ فِي إِلْزَامِ زَوْجِهَا بِالْقَسْمِ لَهَا إِضْرَارًا بِهِ حَيْثُ يَدْخُلُ الْحَبْسَ مَعَهَا لِيُوفِيَهَا قَسْمَهَا، وَالزَّوْجَةُ الْمُسَافِرَةُ لِحَاجَتِهَا وَحْدَهَا بِإِذْنِ زَوْجِهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


99-موسوعة الفقه الكويتية (قنوت)

قُنُوت

التَّعْرِيفُ:

1- يُطْلَقُ الْقُنُوتُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ عِدَّةٍ، مِنْهَا:

- الطَّاعَةُ: وَمِنْ ذَلِكَ قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}.

- وَالصَّلَاةُ: وَمِنْ ذَلِكَ قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}.

وَطُولُ الْقِيَامِ: وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ» أَيْ طُولُ الْقِيَامِ.

وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- عَنِ الْقُنُوتِ، فَقَالَ: مَا أَعْرِفُ الْقُنُوتَ إِلاَّ طُولَ الْقِيَامِ، ثُمَّ قَرَأَ قوله تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا}.

- وَالسُّكُوتُ: حَيْثُ وَرَدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ- رضي الله عنه- قَالَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ، يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ.

وَالدُّعَاءُ: وَهُوَ أَشْهَرُهَا، قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الْقُنُوتَ الدُّعَاءُ، وَأَنَّ الْقَانِتَ الدَّاعِي، وَحَكَى النَّوَوِيُّ أَنَّ الْقُنُوتَ يُطْلَقُ عَلَى الدُّعَاءِ بِخَيْرٍ وَشَرٍّ، يُقَالُ: قَنَتَ لَهُ وَقَنَتَ عَلَيْهِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: قَالَ ابْنُ عَلاَّنَ: الْقُنُوتُ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِلدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ مِنَ الْقِيَامِ.

الْقُنُوتُ فِي الصَّلَاةِ:

2- الْقُنُوتُ مُنْحَصِرٌ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَصَلَاةِ الْوِتْرِ، وَفِي النَّوَازِلِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي: أ- الْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ:

3- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْقُنُوتِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

(الْأَوَّلُ): لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالثَّوْرِيِّ: وَهُوَ أَنَّ الْقُنُوتَ فِي الصُّبْحِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، - رضي الله عنهم-، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْقُنُوتُ فِي الْفَجْرِ بِدْعَةٌ وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «قَنَتَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ شَهْرًا يَدْعُو فِي قُنُوتِهِ عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، ثُمَّ تَرَكَهُ»، قَالُوا: فَكَانَ مَنْسُوخًا، إِذِ التَّرْكُ دَلِيلُ النَّسْخِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي: يَا أَبَتِ، إِنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ هَاهُنَا بِالْكُوفَةِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِ سِنِينَ، أَكَانُوا يَقْنُتُونَ؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، مُحْدَثٌ.وَفِي لَفْظٍ: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا بِدْعَةٌ.قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ: وَهُوَ أَنَّ الْقُنُوتَ فِي الصُّبْحِ مُسْتَحَبٌّ وَفَضِيلَةٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «كَانَ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ» فِيمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَخَفَّافُ بْنُ إِيمَاءَ وَالْبَرَاءُ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ.قَالَ أَنَسٌ: «مَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا»، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ بِوُجُوبِ الْقُنُوتِ فِي الصُّبْحِ، فَمَنْ تَرَكَهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ.

وَيَجُوزُ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَنْدُوبَ الْأَفْضَلَ كَوْنُهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ عَقِبَ الْقِرَاءَةِ بِلَا تَكْبِيرَةٍ قَبْلَهُ وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّفْقِ بِالْمَسْبُوقِ، وَعَدَمِ الْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رُكْنَيِ الصَّلَاةِ وَلِأَنَّهُ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ عَمَلُ عُمَرَ- رضي الله عنه- بِحُضُورِ الصَّحَابَةِ، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْبَغْدَادِيُّ «وَرُوِيَ عَنْ أَبِي رَجَا الْعُطَارِدِيِّ قَالَ: كَانَ الْقُنُوتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَصَيَّرَهُ عُمَرُ قَبْلَهُ لِيُدْرِكَ الْمُدْرِكُ وَرُوِيَ أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ سَأَلُوهُ عُثْمَانَ، فَجَعَلَهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ فَائِدَةً لَا تُوجَدُ فِيمَا بَعْدَهُ، وَهِيَ أَنَّ الْقِيَامَ يَمْتَدُّ فَيَلْحَقُ الْمُفَاوِتُ، وَلِأَنَّ فِي الْقُنُوتِ ضَرْبًا مِنْ تَطْوِيلِ الْقِيَامِ، وَمَا قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْلَى بِذَلِكَ، لَا سِيَّمَا فِي الْفَجْرِ».

وَيُنْدَبُ كَوْنُهُ بِلَفْظِ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ، وَنَسْتَغْفِرُكَ، وَنُؤْمِنُ بِكَ، وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْكَ، وَنَخْضَعُ لَكَ، وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَكْفُرُكَ، اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ، وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، نَرْجُو رَحْمَتَكَ، وَنَخَافُ عَذَابَكَ، إِنَّ عَذَابَكَ الْجِدُّ بِالْكُفَّارِ مُلْحَقٌ.

وَمَنْ تَرَكَ الْقُنُوتَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ سَجَدَ لِتَرْكِهِ قَبْلَ السَّلَامِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.

وَلَيْسَ لِدُعَاءِ الْقُنُوتِ حَدٌّ مَحْدُودٌ.

وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ، كَمَا لَا يَرْفَعُ فِي التَّأْمِينِ، وَلَا فِي دُعَاءِ التَّشَهُّدِ.

وَالْإِسْرَارُ بِهِ هُوَ الْمُسْتَحَبُّ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ، لِأَنَّهُ دُعَاءٌ، فَيَنْبَغِي الْإِسْرَارُ بِهِ حَذَرًا مِنَ الرِّيَاءِ.

وَالْمَسْبُوقُ إِذَا أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ لَا يَقْنُتُ فِي الْقَضَاءِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقْضِي الرَّكْعَةَ الْأُولَى وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا قُنُوتٌ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إِنْ أَدْرَكَ قَبْلَ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ لَمْ يَقْنُتْ فِي قَضَائِهِ، سَوَاءٌ أَدْرَكَ قُنُوتَ الْإِمَامِ أَمْ لَا.

(الثَّالِثُ) لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ الْقُنُوتَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ سُنَّةٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْقُنُوتَ مَشْرُوعٌ عِنْدَنَا فِي الصُّبْحِ، وَهُوَ سُنَّةٌ مُتَأَكِّدَةٌ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ- رضي الله عنه-: «مَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا».

قَالُوا: وَلَوْ تَرَكَهُ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، لَكِنْ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، سَوَاءٌ تَرَكَهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا.

أَمَّا مَحَلُّهُ، فَبَعْدَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الصُّبْحِ، فَلَوْ قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ لَمْ يُحْسَبْ لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ ثُمَّ يَسْجُدَ لِلسَّهْوِ.

وَأَمَّا لَفْظُهُ، فَالِاخْتِيَارُ أَنْ يَقُولَ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ- رضي الله عنهما- قَالَ: «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْوِتْرِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَأَنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ»، وَزَادَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ: «وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ» قَبْلَ: «تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ» وَبَعْدَهُ: «فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا قَضَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ».

قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا بَأْسَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيُّ وَآخَرُونَ: مُسْتَحَبَّةٌ.

وَيُسَنُّ أَنْ يَقُولَ عَقِبَ هَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَسَلِّمْ.

وَذَلِكَ فِي الْوَجْهِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْقُنُوتَ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ دُعَاءٌ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمُخْتَارِ، فَأَيُّ دُعَاءٍ دَعَا بِهِ حَصَلَ الْقُنُوتُ، وَلَوْ قَنَتَ بِآيَةٍ أَوْ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الدُّعَاءِ حَصَلَ الْقُنُوتُ وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ.

وَلَوْ قَنَتَ بِالْمَنْقُولِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- كَانَ حَسَنًا، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَنَتَ فِي الصُّبْحِ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وَانْصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِمْ، اللَّهُمَّ الْعَنْ كَفَرَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَيُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيُقَاتِلُونَ أَوْلِيَاءَكَ، اللَّهُمَّ خَالِفْ بَيْنَ كَلِمَتِهِمْ، وَزَلْزِلْ أَقْدَامَهُمْ، وَأَنْزِلْ بِهِمْ بَأْسَكَ الَّذِي لَا تَرُدُّهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ، وَنُثْنِي عَلَيْكَ وَلَا نَكْفُرُكَ، وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُكَ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ، وَلَكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، وَنَخْشَى عَذَابَكَ الْجِدَّ، وَنَرْجُو رَحْمَتَكَ، إِنَّ عَذَابَكَ بِالْكَافِرِينَ مُلْحَقٌ.

ثُمَّ إِنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْجَمْعُ بَيْنَ قُنُوتِ عُمَرَ- رضي الله عنه- وَمَا سَبَقَ، فَإِنْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا، فَالْأَصَحُّ تَأْخِيرُ قُنُوتِ عُمَرَ، وَإِنِ اقْتَصَرَ فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إِذَا كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ إِمَامَ جَمَاعَةٍ مَحْصُورِينَ يَرْضَوْنَ بِالتَّطْوِيلِ.

وَيُسْتَحَبُّ إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي إِمَامًا أَلاَّ يَخُصَّ نَفْسَهُ بِالدُّعَاءِ، بَلْ يُعَمِّمَ، فَيَأْتِيَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ «اللَّهُمَّ اهْدِنَا..إِلَخْ»، لِمَا رُوِيَ عَنْ ثَوْبَانَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَؤُمُّ امْرُؤٌ قَوْمًا، فَيَخُصَّ نَفْسَهُ بِدَعْوَةٍ دُونَهُمْ، فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ خَانَهُمْ».

أَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي الْقُنُوتِ فَفِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، أَصَحُّهُمَا اسْتِحْبَابُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِيهِ.

وَأَمَّا مَسْحُ الْوَجْهِ بِالْيَدَيْنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الدُّعَاءِ- إِنْ قُلْنَا بِالرَّفْعِ- فَفِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عَدَمُ اسْتِحْبَابِ الْمَسْحِ.

وَأَمَّا الْجَهْرُ بِالْقُنُوتِ أَوِ الْإِسْرَارُ بِهِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي إِمَامًا، أَوْ مُنْفَرِدًا، أَوْ مَأْمُومًا.

فَإِنْ كَانَ إِمَامًا: فَيُسْتَحَبُّ لَهُ الْجَهْرُ بِالْقُنُوتِ فِي الْأَصَحِّ.

وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَيُسِرُّ بِهِ بِلَا خِلَافٍ.

وَإِنْ كَانَ مَأْمُومًا: فَإِنْ لَمْ يَجْهَرِ الْإِمَامُ قَنَتَ سِرًّا كَسَائِرِ الدَّعَوَاتِ، وَإِنْ جَهَرَ الْإِمَامُ بِالْقُنُوتِ، فَإِنْ كَانَ الْمَأْمُومُ يَسْمَعُهُ أَمَّنَ عَلَى دُعَائِهِ، وَشَارَكَهُ فِي الثَّنَاءِ عَلَى آخِرِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْمَعُهُ قَنَتَ سِرًّا.

ب- الْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ:

4- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْقُنُوتِ فِي صَلَاةِ الْوِتْرِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

(الْأَوَّلُ) لِأَبِي حَنِيفَةَ: وَهُوَ أَنَّ الْقُنُوتَ وَاجِبٌ فِي الْوِتْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، وَقَالَ الصَّاحِبَانِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: هُوَ سُنَّةٌ فِي كُلِّ السَّنَةِ قَبْلَ الرُّكُوعِ.

فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا فَرَغَ مُصَلِّي الْوِتْرِ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ كَبَّرَ رَافِعًا يَدَيْهِ، ثُمَّ يَقْرَأُ دُعَاءَ الْقُنُوتِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- «قَنَتَ فِي آخِرِ الْوِتْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ».

وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ مِقْدَارَ الْقِيَامِ فِي الْقُنُوتِ مِقْدَارُ سُورَةِ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْقُنُوتِ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ»..إِلَخْ «اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ..إِلَخْ» وَكِلَاهُمَا عَلَى مِقْدَارِ هَذِهِ السُّورَةِ.

وَلَيْسَ فِي الْقُنُوتِ دُعَاءٌ مُؤَقَّتٌ، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ أَدْعِيَةٌ فِي حَالِ الْقُنُوتِ، وَلِأَنَّ الْمُؤَقَّتَ مِنَ الدُّعَاءِ يَجْرِي عَلَى لِسَانِ الدَّاعِي مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجِهِ إِلَى إِحْضَارِ قَلْبِهِ وَصِدْقِ الرَّغْبَةِ مِنْهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَيَبْعُدُ عَنِ الْإِجَابَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا تَوْقِيتَ فِي الْقِرَاءَةِ لِشَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ، فَفِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ أَوْلَى، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: التَّوْقِيتُ فِي الدُّعَاءِ يُذْهِبُ رِقَّةَ الْقَلْبِ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَيْسَ فِي الْقُنُوتِ دُعَاءٌ مُؤَقَّتٌ مَا سِوَى قَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ.» لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَى هَذَا فِي الْقُنُوتِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَأَهُ، وَلَوْ قَرَأَ غَيْرَهُ جَازَ، وَلَوْ قَرَأَ مَعَهُ غَيْرَهُ كَانَ حَسَنًا، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَأَ بَعْدَهُ مَا عَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ- رضي الله عنهما- فِي قُنُوتِهِ «اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَا هَدَيْتَ.»، إِلَى آخِرِهِ.

وَمَنْ لَا يُحْسِنُ الْقُنُوتَ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ لَا يَحْفَظُهُ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مُخْتَارَةٍ، قِيلَ: يَقُولُ: «يَا رَبِّ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَرْكَعُ، وَقِيلَ: يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَقِيلَ: يَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ لَا فِي الْجَوَازِ، وَأَنَّ الْأَخِيرَ أَفْضَلُ لِشُمُولِهِ، وَأَنَّ التَّقْيِيدَ بِمَنْ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، بَلْ يَجُوزُ لِمَنْ يَعْرِفُ الدُّعَاءَ الْمَعْرُوفَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى وَاحِدٍ مِمَّا ذُكِرَ لَمَا عَلِمْتَ أَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ عَدَمُ تَوْقِيتِهِ.

وَأَمَّا صِفَةُ دُعَاءِ الْقُنُوتِ مِنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ غَيْرَهُ، وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَسَرَّ كَمَا فِي الْقِرَاءَةِ.

وَإِنْ كَانَ إِمَامًا يَجْهَرُ بِالْقُنُوتِ، لَكِنْ دُونَ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْقَوْمُ يُتَابِعُونَهُ هَكَذَا إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ عَذَابَكَ بِالْكُفَّارِ مُلْحَقٌ.

قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُسَنُّ أَنْ يَقْرَأَ الْمُقْتَدِي أَيْضًا وَهُوَ الْمُخْتَارُ، لِأَنَّهُ دُعَاءٌ كَسَائِرِ الْأَدْعِيَةِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَقْرَأُ بَلْ يُؤَمِّنُ لِأَنَّ لَهُ شُبْهَةَ الْقُرْآنِ احْتِيَاطًا.

وَقَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: اسْتَحْسَنُوا الْجَهْرَ فِي بِلَادِ الْعَجَمِ لِلْإِمَامِ لِيَتَعَلَّمُوا، كَمَا جَهَرَ عُمَرُ- رضي الله عنه- بِالثَّنَاءِ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ الْعِرَاقِ، وَنَصَّ فِي الْهِدَايَةِ عَلَى أَنَّ الْمُخْتَارَ الْمُخَافَتَةُ، وَفِي الْمُحِيطِ عَلَى أَنَّهُ الْأَصَحُّ.

وَفِي الْبَدَائِعِ: وَاخْتَارَ مَشَايِخُنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ الْإِخْفَاءَ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ جَمِيعًا لقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ».

أَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْقُنُوتِ.فَقَدْ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ: لَا يُفْعَلُ، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَهَا، وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: يَأْتِي بِهَا، لِأَنَّ الْقُنُوتَ دُعَاءٌ، فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَهُ فِي الْفَتَاوَى.

وَأَمَّا حُكْمُ الْقُنُوتِ إِذَا فَاتَ عَنْ مَحَلِّهِ، فَقَالُوا: إِذَا نَسِيَ الْقُنُوتَ حَتَّى رَكَعَ ثُمَّ تَذَكَّرَ بَعْدَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ لَا يَعُودُ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقُنُوتُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَإِنْ تَذَكَّرَهُ فِي الرُّكُوعِ، فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، كَمَا فِي الْبَدَائِعِ، وَصَحَّحَهُ فِي الْفَتَاوَى الْخَانِيَّةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْقُنُوتِ، لِأَنَّ لَهُ شَبَهًا بِالْقِرَاءَةِ فَيَعُودُ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ أَوِ السُّورَةَ فَتَذَكَّرَهَا فِي الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَعُودُ وَيُنْتَقَضُ رُكُوعُهُ، كَذَا هَاهُنَا.

(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ وَطَاوُسٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ الْقُنُوتُ فِي صَلَاةِ الْوِتْرِ مِنَ السَّنَةِ كُلِّهَا، فَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ بِدْعَةٌ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ لَا يَقْنُتُ فِي صَلَاةٍ بِحَالٍ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ كَرَاهَةُ الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَقْنُتُ فِي الْوِتْرِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ.

(وَالثَّالِثُ) لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ: وَهُوَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ خَاصَّةً، فَإِنْ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ قَنَتَ فِيهَا، وَإِنْ أَوْتَرَ بِأَكْثَرَ قَنَتَ فِي الْأَخِيرَةِ.

وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَقْنُتُ فِي جَمِيعِ رَمَضَانَ.

وَحَكَى الرُّويَانِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ يَجُوزُ الْقُنُوتُ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ لِتَرْكِهِ فِي غَيْرِ النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، قَالَ: وَهَذَا حَسَنٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ طَبَرِسْتَانَ.

قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ كَرَاهَةُ الْقُنُوتِ فِي غَيْرِ النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ.

أَمَّا مَحَلُّ الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ، فَهُوَ بَعْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ.

أَمَّا لَفْظُ الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ فَكَالصُّبْحِ.

وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَضُمَّ إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ دُعَاءِ الْقُنُوتِ قُنُوتَ عُمَرَ- رضي الله عنه-.

أَمَّا الْجَهْرُ بِالْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ وَمَسْحُ الْوَجْهِ فَحُكْمُهَا مَا سَبَقَ فِي قُنُوتِ الصُّبْحِ نَفْسِهِ.

(وَالرَّابِعُ) لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُسَنُّ الْقُنُوتُ جَمِيعَ السَّنَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الْوِتْرِ بَعْدَ الرُّكُوعِ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسٌ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ» قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي تَعْلِيلِ مَشْرُوعِيَّتِهِ كُلَّ السَّنَةِ: لِأَنَّهُ وِتْرٌ، فَيُشْرَعُ فِيهِ الْقُنُوتُ، كَالنِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ شُرِعَ فِي الْوِتْرِ، فَشُرِعَ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ.

وَلَوْ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، ثُمَّ قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ جَازَ لِمَا رَوَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَنَتَ فِي الْوِتْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ».

وَهَيْئَةُ الْقُنُوتِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ إِلَى صَدْرِهِ حَالَ قُنُوتِهِ وَيَبْسُطَهُمَا وَبُطُونَهُمَا نَحْوَ السَّمَاءِ وَلَوْ كَانَ مَأْمُومًا، وَيَقُولَ جَهْرًا- سَوَاءٌ أَكَانَ إِمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا-: «اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ، وَنَسْتَهْدِيكَ، وَنَسْتَغْفِرُكَ، وَنَتُوبُ إِلَيْكَ، وَنُؤْمِنُ بِكَ، وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْكَ، وَنُثْنِي عَلَيْكَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، نَشْكُرُكَ وَلَا نَكْفُرُكَ، اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ، وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، نَرْجُو رَحْمَتَكَ، وَنَخْشَى عَذَابَكَ، إِنَّ عَذَابَكَ الْجِدَّ بِالْكُفَّارِ مُلْحَقٌ، اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنَا فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنَا فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لَنَا فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنَا شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَبِكَ مِنْكَ، لَا نُحْصَى ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ».

وَلَهُ أَنْ يَزِيدَ مَا شَاءَ مِمَّا يَجُوزُ بِهِ الدُّعَاءُ فِي الصَّلَاةِ، قَالَ الْمَجْدُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: فَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ كَانَ يَقْنُتُ بِقَدْرِ مِائَةِ آيَةٍ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَيُفْرِدُ الْمُنْفَرِدُ الضَّمِيرَ، فَيَقُولُ اللَّهُمَّ اهْدِنِي.

اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعِيذُكَ..إِلَخْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ.وَعَلَيْهِ نَصَّ أَحْمَدُ، وَعِنْدَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، يَجْمَعُهُ، لِأَنَّهُ يَدْعُو لِنَفْسِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ.

وَالْمَأْمُومُ إِذَا سَمِعَ قُنُوتَ إِمَامِهِ أَمَّنَ عَلَيْهِ بِلَا قُنُوتٍ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ دَعَا، وَهَلْ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ إِذَا فَرَغَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ (أَشْهَرُهُمَا) أَنَّهُ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ، نَقَلَهُ أَحْمَدُ، وَاخْتَارَهُ الْأَكْثَرُ، لِمَا رَوَى السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا دَعَا فَرَفَعَ يَدَيْهِ، مَسَحَ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ»، وَكَخَارِجِ الصَّلَاةِ.

(وَالثَّانِيَةُ) لَا، نَقَلَهَا الْجَمَاعَةُ، وَاخْتَارَهَا الْآجُرِّيُّ لِضَعْفِ الْخَبَرِ، وَعَنْهُ: يُكْرَهُ، صَحَّحَهَا فِي الْوَسِيلَةِ، وَعَنْهُ: يُمِرُّهُمَا عَلَى صَدْرِهِ وَبَعْدَ ذَلِكَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا أَرَادَ السُّجُودَ، لِأَنَّ الْقُنُوتَ مَقْصُودٌ فِي الْقِيَامِ، فَهُوَ كَالْقِرَاءَةِ.

ج- الْقُنُوتُ عِنْدَ النَّازِلَةِ:

5- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْقُنُوتِ عِنْدَ النَّوَازِلِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

(الْأَوَّلُ) لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَقْنُتُ فِي غَيْرِ الْوِتْرِ إِلاَّ لِنَازِلَةٍ: كَفِتْنَةٍ وَبَلِيَّةٍ، فَيَقْنُتُ الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: إِنَّمَا لَا يَقْنُتُ عِنْدَنَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ دُونِ وُقُوعِ بَلِيَّةٍ، فَإِنْ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ أَوْ بَلِيَّةٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.

وَهَلِ الْقُنُوتُ لِلنَّازِلَةِ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ؟ احْتِمَالَانِ، اسْتَظْهَرَ الْحَمَوِيُّ فِي حَوَاشِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ كَوْنَهُ قَبْلَهُ، وَرَجَّحَ ابْنُ عَابِدِينَ مَا اسْتَظْهَرَهُ الشُّرُنْبُلَالِيُّ فِي مَرَاقِي الْفَلَاحِ أَنَّهُ بَعْدَهُ.

(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي غَيْرِ الْأَصَحِّ: وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَقْنُتُ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ مُطْلَقًا قَالَ الزَّرْقَانِيُّ: لَا بِوِتْرٍ وَلَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ خِلَافًا لِزَاعِمِيهِ، لَكِنْ لَوْ قَنَتَ فِي غَيْرِهَا لَمْ تَبْطُلْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَهُ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ الْكَرَاهَةُ وَدَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنهما- «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَنَتَ شَهْرًا ثُمَّ تَرَكَهُ».

(وَالثَّالِثُ) لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ، كَوَبَاءٍ، وَقَحْطٍ، أَوْ مَطَرٍ يَضُرُّ بِالْعُمْرَانِ أَوِ الزَّرْعِ، أَوْ خَوْفِ عَدُوٍّ، أَوْ أَسْرِ عَالِمٍ قَنَتُوا فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ الْكَلَامَ وَالْخِلَافَ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْجَوَازِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُشْعِرُ إِيرَادُهُ بِالِاسْتِحْبَابِ، قُلْتُ: الْأَصَحُّ اسْتِحْبَابُهُ، وَصَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْعُدَّةِ، وَنَقَلَهُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الْإِمْلَاءِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَازِلَةٌ فَلَا قُنُوتَ إِلاَّ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، قَالَ ابْنُ عَلاَّنَ: وَإِنْ لَمْ تَنْزِلْ فَلَا يَقْنُتُوا، أَيْ يُكْرَهُ ذَلِكَ لِعَدَمِ وُرُودِ الدَّلِيلِ لِغَيْرِ النَّازِلَةِ، وَفَارَقَتِ الصُّبْحُ غَيْرَهَا بِشَرَفِهَا مَعَ اخْتِصَاصِهَا بِالتَّأْذِينِ قَبْلَ الْوَقْتِ، وَبِالتَّثْوِيبِ، وَبِكَوْنِهَا أَقْصَرَهُنَّ، فَكَانَتْ بِالزِّيَادَةِ أَلْيَقَ، وَلِيَعُودَ عَلَى يَوْمِهِ بِالْبَرَكَةِ، لِمَا فِيهِ- أَيِ الْقُنُوتِ- مِنَ الذِّلَّةِ وَالْخُضُوعِ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: «قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- شَهْرًا مُتَتَابِعًا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ، يَدْعُو عَلَى رَعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ إِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ، وَيُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ» قَالَ ابْنُ عَلاَّنَ: «إِنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى قَاتِلِي أَصْحَابِهِ الْقُرَّاءِ بِبِئْرِ مَعُونَةَ، لِدَفْعِ تَمَرُّدِ الْقَاتِلِينَ، لَا لِتَدَارُكِ الْمَقْتُولِينَ لِتَعَذُّرِهِ.وَقِيسَ غَيْرُ خَوْفِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِ».

وَإِذَا قَنَتَ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ مِنَ الْفَرَائِضِ لِنَازِلَةٍ، فَهَلْ يَجْهَرُ بِالْقُنُوتِ أَمْ يُسِرُّ بِهِ؟ قَالَ النَّوَوِيُّ: الرَّاجِحُ أَنَّهَا كُلَّهَا كَالصُّبْحِ، سِرِّيَّةً كَانَتْ أَمْ جَهْرِيَّةً، وَمُقْتَضَى إِيرَادِهِ فِي الْوَسِيطِ أَنَّهُ يُسِرُّ فِي السِّرِّيَّةِ، وَفِي الْجَهْرِيَّةِ الْخِلَافُ.

(وَالرَّابِعُ) لِلْحَنَابِلَةِ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ: وَهُوَ أَنَّهُ يُكْرَهُ الْقُنُوتُ فِي غَيْرِ وِتْرٍ إِلاَّ أَنْ تَنْزِلَ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ- غَيْرُ الطَّاعُونِ- لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتِ الْقُنُوتُ فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ وَلَا فِي غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ شَهَادَةٌ لِلْأَخْيَارِ، فَلَا يُسْأَلُ رَفْعُهُ فَيُسَنُّ لِلْإِمَامِ الْأَعْظَمِ- وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ- الْقُنُوتُ فِيمَا عَدَا الْجُمُعَةِ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ- وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ- لِرَفْعِ تِلْكَ النَّازِلَةِ، ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، ثُمَّ تَرَكَهُ»، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَنَتَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا اسْتَنْصَرْنَا عَلَى عَدُوِّنَا هَذَا.

وَيَقُولُ الْإِمَامُ فِي قُنُوتِهِ نَحْوًا مِمَّا قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْقُنُوتِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وَانْصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِمْ، اللَّهُمَّ الْعَنْ كَفَرَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيُقَاتِلُونَ أَوْلِيَاءَكَ، اللَّهُمَّ خَالِفْ بَيْنَ كَلِمَتِهِمْ، وَزَلْزِلْ أَقْدَامَهُمْ، وَأَنْزِلْ بِهِمْ بَأْسَكَ الَّذِي لَا يُرَدُّ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ»..إِلَخْ

وَيَجْهَرُ بِالْقُنُوتِ لِلنَّازِلَةِ فِي صَلَاةٍ جَهْرِيَّةٍ، قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ مُطْلَقًا وَلَوْ قَنَتَ فِي النَّازِلَةِ كُلُّ إِمَامِ جَمَاعَةٍ أَوْ كُلُّ مُصَلٍّ، لَمْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ.لِأَنَّ الْقُنُوتَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ، كَمَا لَوْ قَالَ: آمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


100-موسوعة الفقه الكويتية (قيام)

قِيَامٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْقِيَامُ لُغَةً: مِنْ قَامَ يَقُومُ قَوْمًا وَقِيَامًا: انْتَصَبَ، وَهُوَ نَقِيضُ الْجُلُوسِ.

وَلَا يَخْرُجُ اصْطِلَاحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْقُعُودُ:

2- الْقُعُودُ فِي اللُّغَةِ: الْجُلُوسُ، أَوْ هُوَ مِنَ الْقِيَامِ، وَالْجُلُوسُ مِنَ الضَّجْعَةِ وَمِنَ السُّجُودِ.

وَلَا يَخْرُجُ اصْطِلَاحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ التَّضَادُّ.

الِاضْطِجَاعُ:

3- الِاضْطِجَاعُ: وَضْعُ الْجَنْبِ بِالْأَرْضِ، وَالِاضْطِجَاعُ فِي السُّجُودِ: أَنْ يَتَضَامَّ وَيُلْصِقَ صَدْرَهُ بِالْأَرْضِ.

وَلَا يَخْرُجُ اصْطِلَاحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالِاضْطِجَاعِ التَّضَادُّ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

4- يَتَرَدَّدُ حُكْمُ الْقِيَامِ فِي الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ حَرَامًا أَوْ سُنَّةً أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا، بِحَسَبِ نَوْعِ الْفِعْلِ الْمُرْتَبِطِ بِهِ، وَالدَّلِيلِ الْوَارِدِ فِيهِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ:

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهِ، وَكَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ، كَنَذْرٍ وَسُنَّةِ صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي الْأَصَحِّ لقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أَيْ: مُطِيعِينَ، وَمُقْتَضَى هَذَا الْأَمْرِ الِافْتِرَاضُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْرِضِ الْقِيَامَ خَارِجَ الصَّلَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الِافْتِرَاضُ الْوَاقِعُ فِي الصَّلَاةِ.إِعْمَالًا لِلنَّصِّ فِي حَقِيقَتِهِ حَيْثُ أَمْكَنَ.

وَأَكَّدَتِ السُّنَّةُ فَرْضِيَّةَ الْقِيَامِ فِيمَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلاَّ مُسْلِمًا، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ».

كَيْفِيَّةُ الْقِيَامِ:

6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ الْمَطْلُوبَ شَرْعًا فِي الصَّلَاةِ هُوَ الِانْتِصَابُ مُعْتَدِلًا، وَلَا يَضُرُّ الِانْحِنَاءُ الْقَلِيلُ الَّذِي لَا يَجْعَلُهُ أَقْرَبَ إِلَى أَقَلِّ الرُّكُوعِ بِحَيْثُ لَوْ مَدَّ يَدَيْهِ لَا يَنَالُ رُكْبَتَيْهِ.

مِقْدَارُ الْقِيَامِ:

7- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقِيَامَ الْمَفْرُوضَ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ يَكُونُ بِقَدْرِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ عِنْدَهُمْ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْقِرَاءَةِ وَبَدَلِهَا مِنَ الذِّكْرِ، وَقَفَ بِقَدْرِهَا، وَأَمَّا السُّورَةُ بَعْدَهَا فَهِيَ سُنَّةٌ.

فَإِنْ أَدْرَكَ الْمَأْمُومُ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ فَقَطْ، فَالرُّكْنُ مِنَ الْقِيَامِ بِقَدْرِ التَّحْرِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ يُدْرِكُ فَرْضَ الْقِيَامِ بِذَلِكَ، وَهَذَا رُخْصَةٌ فِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ خَاصَّةً، لِإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ فَرْضَ الْقِيَامِ وَوَاجِبَهُ وَمَسْنُونَهُ وَمَنْدُوبَهُ لِقَادِرٍ عَلَيْهِ وَعَلَى السُّجُودِ يَكُونُ بِقَدْرِ الْقِرَاءَةِ الْمَطْلُوبَةِ فِيهِ، وَهُوَ بِقَدْرِ آيَةٍ فَرْضٌ، وَبِقَدْرِ الْفَاتِحَةِ وَسُورَةٍ وَاجِبٌ، وَبِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ وَأَوْسَاطِهِ وَقِصَارِهِ فِي مَحَالِّهَا الْمَطْلُوبَةِ مَسْنُونٌ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فِي نَحْوِ تَهَجُّدٍ مَنْدُوبٌ، فَلَوْ قَدَرَ الْمُصَلِّي عَلَى الْقِيَامِ دُونَ السُّجُودِ، نُدِبَ إِيمَاؤُهُ قَاعِدًا، لِقُرْبِهِ مِنَ السُّجُودِ، وَجَازَ إِيمَاؤُهُ قَائِمًا.

سُقُوطُ الْقِيَامِ:

8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ يَسْقُطُ فِي الْفَرْضِ وَالنَّافِلَةِ لِعَاجِزٍ عَنْهُ، لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ، لِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ الْمُتَقَدِّمِ: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ».

فَإِنْ قَدَرَ الْمَرِيضُ عَلَى بَعْضِ الْقِرَاءَةِ وَلَوْ آيَةً قَائِمًا، لَزِمَهُ بِقَدْرِهَا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاةُ الْمَرِيضِ ف 5، 6).

وَيَسْقُطُ الْقِيَامُ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَنِ الْعَارِي، فَإِنَّهُ يُصَلِّي قَاعِدًا بِالْإِيمَاءِ إِذَا لَمْ يَجِدْ سَاتِرًا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي عِنْدَهُمْ قَائِمًا وُجُوبًا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عُرْيَانٌ ف 7).

وَيَسْقُطُ الْقِيَامُ كَذَلِكَ حَالَةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، فَيُصَلِّي قَاعِدًا أَوْ مُومِيًا، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاةُ الْخَوْفِ ف9).

الِاسْتِقْلَالُ فِي الْقِيَامِ:

9- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى اشْتِرَاطِ الِاسْتِقْلَالِ فِي الْقِيَامِ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ فِي الْفَرَائِضِ دُونَ النَّوَافِلِ، عَلَى تَفْصِيلٍ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنِ اتَّكَأَ عَلَى عَصَاهُ، أَوْ عَلَى حَائِطٍ وَنَحْوِهِ، بِحَيْثُ يَسْقُطُ لَوْ زَالَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ صَحَّتْ، أَمَّا فِي التَّطَوُّعِ أَوِ النَّافِلَةِ: فَلَا يُشْتَرَطُ الِاسْتِقْلَالُ بِالْقِيَامِ، سَوَاءٌ أَكَانَ لِعُذْرٍ أَمْ لَا، إِلاَّ أَنَّ صَلَاتَهُ تُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ إِسَاءَةُ أَدَبٍ، وَثَوَابُهُ يَنْقُصُ إِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ.

وَالْقِيَامُ فَرْضٌ بِقَدْرِ التَّحْرِيمَةِ وَالْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي فَرْضٍ، وَمُلْحَقٌ بِهِ كَنَذْرٍ وَسُنَّةِ فَجْرٍ فِي الْأَصَحِّ، لِقَادِرٍ عَلَيْهِ وَعَلَى السُّجُودِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى إِيجَابِ الْقِيَامِ مُسْتَقِلًّا فِي الْفَرَائِضِ لِلْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ حَالَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَالْهُوِيِّ لِلرُّكُوعِ، فَلَا يُجْزِئُ إِيقَاعُ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَالْفَاتِحَةِ فِي الْفَرْضِ لِلْقَادِرِ عَلَى الْقِيَامِ جَالِسًا أَوْ مُنْحَنِيًا، وَلَا قَائِمًا مُسْتَنِدًا لِعِمَادٍ بِحَيْثُ لَوْ أُزِيلَ الْعِمَادُ لَسَقَطَ، وَأَمَّا حَالَ قِرَاءَةِ السُّورَةِ فَالْقِيَامُ سُنَّةٌ، فَلَوِ اسْتَنَدَ إِلَى شَيْءٍ لَوْ أُزِيلَ لَسَقَطَ، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ قِرَاءَةِ السُّورَةِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْفَرْضِ الرُّكْنِيِّ، وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ قِرَاءَةِ السُّورَةِ لَمْ تَبْطُلْ، وَكُرِهَ اسْتِنَادُهُ، وَلَوْ جَلَسَ فِي حَالِ قِرَاءَةِ السُّورَةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِإِخْلَالِهِ بِهَيْئَةِ الصَّلَاةِ، أَمَّا الْمَأْمُومُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، فَلَوِ اسْتَنَدَ حَالَ قِرَاءَتِهَا لِعَمُودٍ بِحَيْثُ لَوْ أُزِيلَ لَسَقَطَ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ.

وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا الِاسْتِقْلَالَ فِي الْقِيَامِ، فَلَوِ اسْتَنَدَ الْمُصَلِّي إِلَى شَيْءٍ بِحَيْثُ لَوْ رُفِعَ السِّنَادُ لَسَقَطَ أَجْزَأَهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، لِوُجُودِ اسْمِ الْقِيَامِ، وَالثَّانِي يُشْتَرَطُ وَلَا تَصِحُّ مَعَ الِاسْتِنَادِ فِي حَالِ الْقُدْرَةِ بِحَالٍ، وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ يَجُوزُ الِاسْتِنَادُ إِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ رُفِعَ السِّنَادُ لَمْ يَسْقُطْ، وَإِلاَّ فَلَا.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوِ اسْتَنَدَ اسْتِنَادًا قَوِيًّا عَلَى شَيْءٍ بِلَا عُذْرٍ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَالْقِيَامُ فَرْضٌ بِقَدْرِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَفِيمَا بَعْدَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِقَدْرِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فَقَطْ.

صَلَاةُ الْقَاعِدِ خَلْفَ الْقَائِمِ وَبِالْعَكْسِ:

10- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ صَلَاةِ الْقَاعِدِ لِعُذْرٍ خَلْفَ الْقَائِمِ، لِمَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ مِنْ وَقَائِعَ، مِنْهَا: مَا وَرَدَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي مَرَضِهِ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ قَاعِدًا، فِي ثَوْبٍ، مُتَوَشِّحًا بِهِ» وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ قَاعِدًا».

وَأَمَّا صَلَاةُ الْقَائِمِ خَلْفَ الْجَالِسِ أَوِ الْقَاعِدِ: فَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- «صَلَّى آخِرَ صَلَاتِهِ قَاعِدًا وَالنَّاسُ قِيَامٌ، وَأَبُو بَكْرٍ يَأْتَمُّ بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَالنَّاسُ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ وَهِيَ صَلَاةُ الظُّهْرِ».

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى عَدَمِ الْجَوَازِ، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا»؛ وَلِأَنَّ حَالَ الْقَائِمِ أَقْوَى مِنْ حَالِ الْقَاعِدِ، وَلَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ اسْتَثْنَوْا مِنْ عَدَمِ الْجَوَازِ إِمَامَ الْحَيِّ الْمَرْجُوَّ زَوَالُ عِلَّتِهِ، وَهَذَا فِي غَيْرِ النَّفْلِ، أَمَّا فِي النَّفْلِ فَيَجُوزُ اتِّفَاقًا.

الْقِيَامُ فِي النَّوَافِلِ:

11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّنَفُّلِ قَاعِدًا لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ، أَمَّا الِاضْطِجَاعُ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْقَادِرِ عَلَى الْقِيَامِ أَوِ الْجُلُوسِ أَنْ يُصَلِّيَ النَّفَلَ مُضْطَجِعًا إِلاَّ لِعُذْرٍ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّنَفُّلِ مُضْطَجِعًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ فِي الْأَصَحِّ، لِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ صَلَاةِ الرَّجُلِ قَاعِدًا قَالَ: «مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ».

وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَإِنِ اضْطَجَعَ عَلَى الْأَيْسَرِ جَازَ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقْعُدَ لِلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ قِيلَ: يُومِئُ بِهِمَا أَيْضًا.

الْجَمْعُ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ:

12- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ لِلْمُصَلِّي تَطَوُّعًا الْقِيَامَ إِذَا ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ جَالِسًا، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «أَنَّهَا لَمْ تَرَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي صَلَاةَ اللَّيْلِ قَاعِدًا قَطُّ حَتَّى أَسَنَّ، فَكَانَ يَقْرَأُ قَاعِدًا حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً، ثُمَّ رَكَعَ».

وَيَجُوزُ لِلْمُصَلِّي أَيْضًا أَنْ يُصَلِّيَ بَعْضَ الرَّكْعَةِ قَائِمًا ثُمَّ يَجْلِسَ أَوِ الْعَكْسُ.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى كَرَاهَةِ الْقُعُودِ بَعْدَ الْقِيَامِ، وَمَنَعَ أَشْهَبُ الْجُلُوسَ بَعْدَ أَنْ نَوَى الْقِيَامَ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاةُ التَّطَوُّعِ فِقْرَةُ 20).

الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ فِي السَّفِينَةِ:

13- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْمَذْهَبِ، إِلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فَرْضًا فِي السَّفِينَةِ وَنَحْوِهَا كَالْمِحَفَّةِ وَالْهَوْدَجِ وَالطَّائِرَةِ وَالسَّيَّارَةِ قَاعِدًا إِلاَّ لِعُذْرٍ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ صَلَّى فِي الْفُلْكِ قَاعِدًا بِلَا عُذْرٍ صَحَّ لِغَلَبَةِ الْعَجْزِ وَأَسَاءَ، أَيْ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ لَا مُومِئًا، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لِغَلَبَةِ الْعَجْزِ أَيْ؛ لِأَنَّ دَوَرَانَ الرَّأْسِ فِيهَا غَالِبٌ وَالْغَالِبُ كَالْمُتَحَقِّقِ فَأُقِيمَ مَقَامَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَأَسَاءَ: أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْقِيَامَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ شُبْهَةِ الْخِلَافِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (سَفِينَةٌ ف 3).

الْقِيَامُ فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ:

14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْمُؤَذِّنِ وَالْمُقِيمِ أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ قَائِمًا، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْأَذَانِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: يَا بِلَالُ، قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ»؛ وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِعْلَامِ، وَتَرْكُ الْقِيَامِ مَكْرُوهٌ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَذَانٌ ف 37، وَإِقَامَةٌ ف 15).

بَقَاءُ الدَّاخِلِ إِلَى الْمَسْجِدِ قَائِمًا أَثْنَاءَ الْأَذَانِ:

15- إِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ الْمَسْجِدَ، وَالْمُؤَذِّنُ يُؤَذِّنُ، فَهَلْ يَظَلُّ قَائِمًا أَوْ يَجْلِسُ؟ لِلْفُقَهَاءِ اتِّجَاهَانِ:

ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا دَخَلَ الْمُصَلِّي الْمَسْجِدَ، وَالْمُؤَذِّنُ قَدْ شَرَعَ فِي الْأَذَانِ، لَمْ يَأْتِ بِتَحِيَّةٍ وَلَا بِغَيْرِهَا، بَلْ يُجِيبُ الْمُؤَذِّنَ وَاقِفًا، حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ أَذَانِهِ، لِيَجْمَعَ بَيْنَ أَجْرِ الْإِجَابَةِ وَالتَّحِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا دَخَلَ الْمُصَلِّي الْمَسْجِدَ، وَالْمُؤَذِّنُ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ قَعَدَ حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ أَذَانِهِ، فَيُصَلِّي التَّحِيَّةَ بَعْدَئِذٍ، لِيَجْمَعَ بَيْنَ أَجْرِ الْإِجَابَةِ وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ.

وَقْتُ الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ:

16- يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقُومَ الْمُصَلُّونَ لِلصَّلَاةِ عِنْدَ الْإِقَامَةِ حَتَّى يَقُومَ الْإِمَامُ أَوْ يُقْبِلَ، أَيْ عِنْدَ الْإِمَامِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي قَدْ خَرَجْتُ».

وَأَمَّا تَعْيِينُ وَقْتِ قِيَامِ الْمُصَلِّينَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ.

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ مَا عَدَا زُفَرَ إِلَى أَنَّ الْقِيَامَ لِلْإِمَامِ وَالْمُؤْتَمِّ حِينَ قَوْلِ الْمُقِيمِ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، أَيْ عِنْدَ الْحَيْعَلَةِ الثَّانِيَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ عِنْدَ قَوْلِهِ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، أَيْ عِنْدَ الْحَيْعَلَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِهِ فَيُجَابُ، هَذَا إِذَا كَانَ الْإِمَامُ حَاضِرًا بِقُرْبِ الْمِحْرَابِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا، يَقُومُ كُلُّ صَفٍّ حِينَ يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْإِمَامُ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَإِنْ دَخَلَ الْإِمَامُ مِنْ قُدَّامٍ، قَامُوا حِينَ يَقَعُ بَصَرُهُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَقَامَ الْإِمَامُ بِنَفْسِهِ فِي مَسْجِدٍ، فَلَا يَقِفُ الْمُؤْتَمُّونَ حَتَّى يُتِمَّ إِقَامَتَهُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُصَلِّي الْقِيَامُ حَالَ الْإِقَامَةِ أَوْ أَوَّلَهَا أَوْ بَعْدَهَا، فَلَا يُطْلَبُ لَهُ تَعْيِينُ حَالٍ، بَلْ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ لِلنَّاسِ، فَمِنْهُمُ الثَّقِيلُ وَالْخَفِيفُ، إِذْ لَيْسَ فِي هَذَا شَرْعٌ مَسْمُوعٌ إِلاَّ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- قَالَ: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي قَدْ خَرَجْتُ»، وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: فَإِنْ صَحَّ هَذَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِلاَّ فَالْمَسْأَلَةُ بَاقِيَةٌ عَلَى أَصْلِهَا الْمَعْفُوِّ عَنْهُ، أَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا شَرْعٌ، وَأَنَّهُ مَتَى قَامَ كُلُّ وَاحِدٍ، فَحَسَنٌ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ وَالْإِمَامِ أَنْ لَا يَقُومَا حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ مِنَ الْإِقَامَةِ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ شَيْخًا بَطِيءَ النَّهْضَةِ أَنْ يَقُومَ عِنْدَ قَوْلِهِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، وَلِسَرِيعِ النَّهْضَةِ أَنْ يَقُومَ بَعْدَ الْفَرَاغِ، لِيَسْتَوُوا قِيَامًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.

فَإِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ الْإِمَامُ مَعَ الْقَوْمِ بَلْ يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ فَإِنَّ الْمَأْمُومِينَ لَا يَقُومُونَ حَتَّى يَرَوُا الْإِمَامَ لِمَا رَوَاهُ أَبُو قَتَادَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي قَدْ خَرَجْتُ».

وَرَأْيُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُومَ الْمُصَلِّي عِنْدَ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ».

الْقِيَامُ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَنَحْوِهِمَا:

17- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ قِيَامِ الْخَطِيبِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْكُسُوفَيْنِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، إِلَى أَنَّ قِيَامَ الْخَطِيبِ فِي الْخُطْبَةِ سُنَّةٌ، لِفِعْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يَجِبْ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، فَلَمْ يَجِبْ لَهُ الْقِيَامُ، كَالْأَذَانِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ قِيَامَ الْخَطِيبِ حَالَ الْخُطْبَةِ شَرْطٌ، إِنْ قَدَرَ، وَذَهَبَ الدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ الْقِيَامَ وَاجِبٌ غَيْرُ شَرْطٍ، فَإِنْ جَلَسَ أَسَاءَ وَصَحَّتْ.

وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ خَطَبَ قَاعِدًا ثُمَّ مُضْطَجِعًا كَالصَّلَاةِ، وَيَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ.

وَاسْتَدَلُّوا لِلْقِيَامِ فِي الْخُطْبَةِ بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمًا، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ كَمَا يَفْعَلُونَ الْيَوْمَ».وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ حَالَ الْخُطْبَةِ مَشْرُوعٌ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ.

الْقِيَامُ فِي حَالِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالذِّكْرِ:

18- تَجُوزُ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَتَرْدَادُ الْأَذْكَارِ مِنْ تَهْلِيلٍ وَتَسْبِيحٍ وَتَحْمِيدٍ وَغَيْرِهَا فِي أَيِّ حَالٍ، قِيَامًا وَقُعُودًا، وَفِي حَالَةِ الْوُقُوفِ وَالْمَشْيِ، قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ- رحمه الله-: وَلَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ قَائِمًا، أَوْ رَاكِبًا، أَوْ جَالِسًا، أَوْ مُضْطَجِعًا، أَوْ فِي فِرَاشِهِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ، جَازَ، وَلَهُ أَجْرٌ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ}.

الْقِيَامُ لِلْجِنَازَةِ عِنْدَ مُرُورِهَا:

19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْقِيَامِ لِلْجِنَازَةِ عِنْدَ مُرُورِهَا:

فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ الْقِيَامُ لِلْجِنَازَةِ إِذَا مَرُّوا بِهَا عَلَى جَالِسٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ عَمَلُ السَّلَفِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الْمُخْتَارُ أَنْ لَا يَقُومَ لَهَا، وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: يُنْدَبُ الْقِيَامُ لِلْجِنَازَةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَأَنْ يَدْعُوَ لَهَا وَيُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا، إِنْ كَانَتْ أَهْلًا لَهُ.

الْقِيَامُ عِنْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ:

20- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ قَائِمًا تَنْزِيهًا، وَاسْتَثْنَوُا الشُّرْبَ مِنْ زَمْزَمَ وَالشُّرْبَ مِنْ مَاءِ الْوُضُوءِ بَعْدَهُ، حَيْثُ نَفَوُا الْكَرَاهَةَ عَنْهُمَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُبَاحُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ قَائِمًا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ شُرْبَ الشَّخْصِ قَائِمًا بِلَا عُذْرٍ خِلَافُ الْأَوْلَى.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ كَرَاهَةِ الشُّرْبِ قَائِمًا، أَمَّا الْأَكْلُ قَائِمًا فَقَدْ قَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ لَا يُكْرَهُ أَكْلُهُ قَائِمًا، وَيَتَوَجَّهُ كَشُرْبٍ.

وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يُكْرَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، قَائِمًا.

وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ أَنَّهُ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ مُتَعَارِضَةٌ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ قَائِمًا.

مِنْهَا: عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- زَجَرَ وَفِي رِوَايَةٍ: نَهَى عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا»، قَالَ قَتَادَةَ: فَقُلْنَا: فَالْأَكْلُ، فَقَالَ: «ذَاكَ شَرٌّ وَأَخْبَثُ»، وَيَدُلُّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى مَنْعِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ قَائِمًا.

وَهُنَاكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى تُجِيزُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَمَاشِيًا.

مِنْهَا: مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: «كُنَّا نَأْكُلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ نَمْشِي، وَنَشْرَبُ وَنَحْنُ قِيَامٌ».

وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: «شَرِبَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ زَمْزَمَ وَهُوَ قَائِمٌ».

الْقِيَامُ حَالَ التَّبَوُّلِ:

21- يُسْتَحَبُّ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَبُولَ الْإِنْسَانُ قَاعِدًا؛ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ وَأَبْعَدُ مِنْ مُمَاسَّةِ الْبَوْلِ؛ وَلِئَلاَّ يُصِيبَهُ الرَّشَاشُ، فَيَتَنَجَّسَ، وَيُكْرَهُ الْبَوْلُ قَائِمًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِلاَّ لِعُذْرٍ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءُ الْحَاجَةِ ف9).

الْقِيَامُ لِلْقَادِمِ وَالْوَالِدِ وَالْحَاكِمِ وَالْعَالِمِ وَأَشْرَافِ الْقَوْمِ:

22- وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْقِيَامِ لِلْقَادِمِ إِذَا كَانَ بِقَصْدِ الْمُبَاهَاةِ وَالسُّمْعَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» وَثَبَتَ جَوَازُ الْقِيَامِ لِلْقَادِمِ إِذَا كَانَ بِقَصْدِ إِكْرَامِ أَهْلِ الْفَضْلِ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: «أَنَّ أَهْلَ قُرَيْظَةَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ- سَيِّدِ الْأَوْسِ- فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى سَعْدٍ، فَأَتَاهُ عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْمَسْجِدِ، قَالَ لِلْأَنْصَارِ: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ أَوْ خَيْرِكُمْ».

قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ مُعَلِّقًا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: فِيهِ إِكْرَامُ أَهْلِ الْفَضْلِ، وَتَلَقِّيهِمْ بِالْقِيَامِ لَهُمْ، إِذَا أَقْبَلُوا، وَاحْتَجَّ بِهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ لِاسْتِحْبَابِ الْقِيَامِ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْقِيَامِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِيمَنْ يَقُومُونَ عَلَيْهِ، وَهُوَ جَالِسٌ، وَيَمْثُلُونَ قِيَامًا طِوَالَ جُلُوسِهِ، وَأَضَافَ النَّوَوِيُّ: قُلْتُ: الْقِيَامُ لِلْقَادِمِ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ مُسْتَحَبٌّ، وَقَدْ جَاءَ فِيهِ أَحَادِيثُ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي النَّهْيِ عَنْهُ شَيْءٌ صَرِيحٌ.

وَيُسْتَحَبُّ الْقِيَامُ لِأَهْلِ الْفَضْلِ كَالْوَالِدِ وَالْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ احْتِرَامَ هَؤُلَاءِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا وَأَدَبًا.

وَقَالَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ أَبُو الْمَعَالِي فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: وَإِكْرَامُ الْعُلَمَاءِ وَأَشْرَافِ الْقَوْمِ بِالْقِيَامِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ.

وَنَقَلَ ابْنُ الْحَاجِّ عَنِ ابْنِ رُشْدٍ- فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ- أَنَّ الْقِيَامَ يَكُونُ عَلَى أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلِ: يَكُونُ الْقِيَامُ مَحْظُورًا، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ إِكْبَارًا وَتَعْظِيمًا لِمَنْ يُحِبُّ أَنْ يُقَامَ إِلَيْهِ تَكَبُّرًا وَتَجَبُّرًا.

الثَّانِي: يَكُونُ مَكْرُوهًا، وَهُوَ قِيَامُهُ إِكْبَارًا وَتَعْظِيمًا وَإِجْلَالًا لِمَنْ لَا يُحِبُّ أَنْ يُقَامَ إِلَيْهِ، وَلَا يَتَكَبَّرُ عَلَى الْقَائِمِينَ إِلَيْهِ.

الثَّالِثِ: يَكُونُ جَائِزًا، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ تَجِلَّةً وَإِكْبَارًا لِمَنْ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ، وَلَا يُشْبِهُ حَالُهُ حَالَ الْجَبَابِرَةِ، وَيُؤْمَنُ أَنْ تَتَغَيَّرَ نَفْسُ الْمَقُومِ إِلَيْهِ.

الرَّابِعِ: يَكُونُ حَسَنًا، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ لِمَنْ أَتَى مِنْ سَفَرٍ فَرَحًا بِقُدُومِهِ، أَوْ لِلْقَادِمِ عَلَيْهِ سُرُورًا بِهِ لِتَهْنِئَتِهِ بِنِعْمَةٍ، أَوْ يَكُونَ قَادِمًا لِيُعَزِّيَهُ بِمُصَابٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ الْقِيَامُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْإِمَامِ الْعَادِلِ وَفُضَلَاءِ النَّاسِ، وَقَدْ صَارَ هَذَا كَالشِّعَارِ بَيْنَ الْأَفَاضِلِ.فَإِذَا تَرَكَهُ الْإِنْسَانُ فِي حَقِّ مَنْ يَصْلُحُ أَنْ يَفْعَلَ فِي حَقِّهِ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَنْسُبَهُ إِلَى الْإِهَانَةِ وَالتَّقْصِيرِ فِي حَقِّهِ، فَيُوجِبُ ذَلِكَ حِقْدًا، وَاسْتِحْبَابُ هَذَا فِي حَقِّ الْقَائِمِ لَا يَمْنَعُ الَّذِي يُقَامَ لَهُ أَنْ يَكْرَهَ ذَلِكَ، وَيَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ.

وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: وَيُسَنُّ الْقِيَامُ لِنَحْوِ عَالِمٍ وَمُصَالِحٍ وَصَدِيقٍ وَشَرِيفٍ لَا لِأَجْلِ غِنًى، وَبَحَثَ بَعْضُهُمْ وُجُوبَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ صَارَ قَطِيعَةً.

وَقَدْ وَرَدَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا دَخَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهِ قَامَ إِلَيْهَا فَقَبَّلَهَا وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا فَقَبَّلَتْهُ وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا».

وَوَرَدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا خَرَجَ قُمْنَا لَهُ حَتَّى يَدْخُلَ بَيْتَهُ».

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا، فَقُمْنَا لَهُ، فَقَالَ: لَا تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الْأَعَاجِمُ، يُعَظِّمُ بَعْضُهَا بَعْضًا».

وَوَرَدَ عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا، لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ.

الْقِيَامُ فِي الْعُقُوبَاتِ:

إِقَامَةُ الْحَدِّ جَلْدًا أَوْ رَجْمًا أَثْنَاءَ الْقِيَامِ أَوِ الْقُعُودِ:

23- إِذَا كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا فِي الزِّنَا وَالْقَذْفِ، فَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ قَائِمًا، وَلَمْ يُوثَقْ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُحْفَرْ لَهُ، سَوَاءٌ أَثَبَتَ الزِّنَا بِبَيِّنَةٍ أَمْ بِإِقْرَارٍ، وَتُضْرَبُ الْمَرْأَةُ قَاعِدَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ)؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لِلْمَرْأَةِ، وَلِقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: يُضْرَبُ الرِّجَالُ فِي الْحُدُودِ قِيَامًا وَالنِّسَاءُ قُعُودًا.

وَذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الرَّجُلَ يُضْرَبُ قَاعِدًا، وَكَذَا الْمَرْأَةُ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا، كَمَا فِي رَجْمِ الزُّنَاةِ الْمُحْصَنِينَ، فَتُرْجَمُ الْمَرْأَةُ بِالِاتِّفَاقِ قَاعِدَةً.

وَيُخَيَّرُ الْإِمَامُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْحَفْرِ لَهَا: إِنْ شَاءَ حَفَرَ لَهَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ الْحَفْرَ، أَمَّا الْحَفْرُ؛ فَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- حَفَرَ لِلْمَرْأَةِ الْغَامِدِيَّةِ إِلَى ثَنْدُوَتِهَا» (أَيْ ثَدْيِهَا)، وَأَمَّا تَرْكُ الْحَفْرِ فَلِأَنَّ الْحَفْرَ لِلسَّتْرِ، وَهِيَ مَسْتُورَةٌ بِثِيَابِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُجَرَّدُ عِنْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ.

وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا بِالْحَفْرِ لِلْمَرْأَةِ إِلَى الصَّدْرِ إِنْ ثَبَتَ زِنَاهَا بِالْبَيِّنَةِ، أَمَّا إِنْ ثَبَتَ زِنَاهَا بِالْإِقْرَارِ، فَلَمْ يُحْفَرْ لَهَا.

وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اسْتِحْبَابُ الْحَفْرِ لِلْمَرْأَةِ إِنْ ثَبَتَ زِنَاهَا بِالْبَيِّنَةِ لِئَلاَّ تَنْكَشِفَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا ثَبَتَ زِنَاهَا بِالْإِقْرَارِ، لِتَتَمَكَّنَ مِنَ الْهَرَبِ إِنْ رَجَعَتْ عَنْ إِقْرَارِهَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الرَّاجِحِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُحْفَرُ لِلْمَرْأَةِ وَلَا لِلرَّجُلِ، لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ عَلَى تَرْكِ الْحَفْرِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَحْفِرْ لِلْجُهَنِيَّةِ وَلَا لِمَاعِزٍ وَلَا لِلْيَهُودِيَّيْنِ.

وَأَمَّا الرَّجُلُ فَيُرْجَمُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ قَائِمًا، وَقَالَ مَالِكٌ: يُرْجَمُ قَاعِدًا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


101-موسوعة الفقه الكويتية (كفر 1)

كُفْر -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْكُفْرُ فِي اللُّغَةِ: السِّتْرُ، يُقَالُ: كَفَرَ النِّعْمَةَ، أَيْ: غَطَّاهَا، مُسْتَعَارٌ مِنْ كَفَرَ الشَّيْءَ: إِذَا غَطَّاهُ، وَهُوَ أَصْلُ الْبَابِ.

وَالْكُفْرُ نَقِيضُ الْإِيمَانِ، وَالْكُفْرُ: كُفْرُ النِّعْمَةِ، وَهُوَ نَقِيضُ الشُّكْرِ، وَكَفَرَ النِّعْمَةَ وَبِالنِّعْمَةِ: جَحَدَهَا، وَكَفَرَ بِكَذَا تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَفِي التَّنْزِيلِ: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي} وَيُقَالُ: كَفَرَ بِالصَّانِعِ: نَفَاهُ وَعَطَّلَ، وَهُوَ الدَّهْرِيُّ الْمُلْحِدُ، وَكَفَّرَهُ- بِالتَّشْدِيدِ: نَسَبَهُ إِلَى الْكُفْرِ، وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ: إِذَا فَعَلَ الْكَفَّارَةَ، وَأَكْفَرْتُهُ إِكْفَارًا: جَعَلْتُهُ كَافِرًا.

وَالْكُفْرُ شَرْعًا: هُوَ إِنْكَارُ مَا عُلِمَ ضَرُورَةً أَنَّهُ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم-، كَإِنْكَارِ وُجُودِ الصَّانِعِ، وَنُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسِّلَامُ، وَحُرْمَةِ الزِّنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الرِّدَّةُ:

2- الرِّدَّةُ لُغَةً: الرُّجُوعُ عَنِ الشَّيْءِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هِيَ كُفْرُ الْمُسْلِمِ بِقَوْلٍ صَرِيحٍ أَوْ لَفْظٍ يَقْتَضِيهِ أَوْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ.

وَالْكُفْرُ أَعَمُّ مِنَ الرِّدَّةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا أَصْلِيًّا بِخِلَافِ الرِّدَّةِ.

ب- الْإِشْرَاكُ:

3- الْإِشْرَاكُ مَصْدَرُ أَشْرَكَ، وَهُوَ: اتِّخَاذُ الشَّرِيكِ، يُقَالُ: أَشْرَكَ بِاللَّهِ، جَعَلَ لَهُ شَرِيكًا فِي مُلْكِهِ.وَالِاسْمُ: الشِّرْكُ.

وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الْإِشْرَاكَ بِمَعْنَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَبِمَعْنَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى.

وَالْإِشْرَاكُ أَعَمُّ مِنَ الْكُفْرِ، لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْإِشْرَاكَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَيَشْمَلُ الْكُفْرَ بِاللَّهِ تَعَالَى.

ج- الْإِلْحَادُ:

4- الْإِلْحَادُ فِي اللُّغَةِ: الْمَيْلُ وَالْعُدُولُ عَنِ الشَّيْءِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الْإِلْحَادُ فِي الدِّينِ: هُوَ الْمَيْلُ عَنِ الشَّرْعِ الْقَوِيمِ إِلَى جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْكُفْرِ.

وَمِنَ الْإِلْحَادِ: الطَّعْنُ فِي الدِّينِ مَعَ ادِّعَاءِ الْإِسْلَامِ، أَوِ التَّأْوِيلُ فِي ضَرُورَاتِ الدِّينِ لِإِجْرَاءِ الْأَهْوَاءِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ:

أَنَّ الْإِلْحَادَ قَدْ يَكُونُ نَوْعًا مِنَ الْكُفْرِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

5- الْكُفْرُ حَرَامٌ وَهُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ».

جَزَاءُ الْكَافِرِ فِي الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا:

6- جَزَاءُ الْكَافِرِ فِي الْآخِرَةِ الْخُلُودُ فِي النَّارِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.

وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيَخْتَلِفُ حُكْمُ الْكَافِرِ فِي حَالَةِ الْعَهْدِ عَنْهُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْعَهْدِ:

فَفِي غَيْرِ حَالَةِ الْعَهْدِ يَجُوزُ قَتْلُ الْمُقَاتِلِينَ مِنَ الْكُفَّارِ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يُقَاتِلُ يَجُوزُ قَتْلُهُ.

(ر: أَهْلُ الْحَرْبِ ف 11)

وَلَا يَجُوزُ قَتْلُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ قَتْلُ الشُّيُوخِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْفَلاَّحَ الَّذِي لَا يُقَاتِلُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَلَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: (اتَّقُوا اللَّهَ فِي الْفَلاَّحِينَ الَّذِينَ لَا يَنْصِبُونَ لَكُمُ الْحَرْبَ) وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُقْتَلُ الْحَرَّاثُ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ.

(ر: جِهَادٌ ف 29).

وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْعَهْدِ فَيُعْصَمُ دَمُ الْكَافِرِ وَمَالُهُ بِتَفْصِيلٍ فِي مُصْطَلِحَاتِ (أَهْلِ الذِّمَّةِ، مُسْتَأْمَنٌ، هُدْنَةٌ).

الْإِكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ:

7- مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يَصِرْ كَافِرًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

وَوَرَدَ «أَنَّ عَمَّارًا- رضي الله عنه- أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-، وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: إِنْ عَادُوا فَعُدْ» قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَرُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُعَذِّبُونَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ أَجَابَهُمْ إِلاَّ بَلَالًا فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»،، وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ.

وَهَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنَّ لِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلَاتٍ وَقُيُودًا تَخْتَلِفُ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى مَذْهَبٍ وَبَيَانُهَا كَمَا يَأْتِي:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْكُفْرِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ إِكْرَاهًا تَامًّا جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ وَشُرُوحِهَا:

إِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى- وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ- أَوْ سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِقَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِكْرَاهًا حَتَّى يُكْرَهَ بِأَمْرٍ يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، فَإِذَا خَافَ عَلَى ذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يُظْهِرَ مَا أُمِرَ بِهِ.

وَجَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ وَحَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ عَلَيْهِ: وَيُوَرِّي وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، ثُمَّ إِنْ وَرَّى لَا يَكْفُرُ كَمَا إِذَا أُكْرِهَ عَلَى السُّجُودِ لِلصَّلِيبِ، أَوْ سَبِّ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- فَفَعَلَ وَقَالَ: نَوَيْتُ بِهِ الصَّلَاةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمُحَمَّدًا آخَرَ غَيْرَ النَّبِيِّ، وَبَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ قَضَاءً لَا دِيَانَةً.

وَإِنْ خَطَرَ بِبَالِهِ التَّوْرِيَةُ وَلَمْ يُوَرِّ كَفَرَ وَبَانَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ دِيَانَةً وَقَضَاءً، لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ دَفْعُ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ عَنْ نَفْسِهِ وَوَجَدَ مَخْرَجًا عَمَّا ابْتُلِيَ بِهِ ثُمَّ لَمَّا تَرَكَ مَا خَطَرَ عَلَى بَالِهِ وَشَتَمَ مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم- كَانَ كَافِرًا، وَإِنْ وَافَقَ الْمُكْرِهَ فِيمَا أَكْرَهَهُ، لِأَنَّهُ وَافَقَهُ بَعْدَمَا وَجَدَ مَخْرَجًا عَمَّا ابْتُلِيَ بِهِ، فَكَانَ غَيْرَ مُضْطَرٍّ.

وَإِنْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ وَفَعَلَ مَا يَكْفُرُ بِهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَكْفُرْ وَلَمْ تَبِنْ زَوْجَتُهُ لَا قَضَاءً وَلَا دِيَانَةً، لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ إِذْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ غَيْرُهُ.

وَيَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْكُفْرَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ مَعَ ثُبُوتِ الرُّخْصَةِ بِهِ فَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي تَغَيُّرِ حُكْمِ الْفِعْلِ وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ، لَا فِي تَغَيُّرِ وَصْفِهِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ، لِأَنَّ كَلِمَةَ الْكُفْرِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ فَكَانَتِ الْحُرْمَةُ قَائِمَةً، إِلاَّ أَنَّهُ سَقَطَتِ الْمُؤَاخَذَةُ لِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَجُوزُ لِلْمُكْرَهِ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكُفْرِ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ بِالْقَتْلِ فَقَطْ، فَمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُقْتَلَ جَازَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكُفْرِ مَا دَامَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ.

أَمَّا الْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ الْقَتْلِ كَالضَّرْبِ وَقَتْلِ الْوَلَدِ وَنَهْبِ الْمَالِ وَقَطْعِ عُضْوٍ فَلَا يَجُوزُ مَعَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُرْتَدًّا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُبَاحُ بِالْإِكْرَاهِ التَّكَلُّمُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَا دَامَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}.

وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ يَظْهَرُ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَلَى بَعْضِ الْأَشْخَاصِ إِذَا كَانَ فِيهِ صِيَانَةٌ لِلْحُرُمِ وَالذُّرِّيَّةِ وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الصَّبْرَ يُؤَدِّي إِلَى اسْتِبَاحَتِهِمْ أَوِ اسْتِئْصَالِهِمْ، وَقِسْ عَلَى هَذَا مَا فِي مَعْنَاهُ أَوْ أَعْظَمَ مِنْهُ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يَصِرْ كَافِرًا لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}، ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ مَحْبُوسًا عِنْدَ الْكُفَّارِ وَمُقَيَّدًا عِنْدَهُمْ فِي حَالَةِ خَوْفٍ، وَقَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يُحْكَمْ بِرِدَّتِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي الْإِكْرَاهِ وَإِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ كَانَ آمِنًا حَالَ نُطْقِهِ حُكِمَ بِرِدَّتِهِ.

وَمَنْ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لِإِكْرَاهِ وَقَعَ عَلَيْهِ، ثُمَّ زَالَ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ أُمِرَ بِإِظْهَارِ إِسْلَامِهِ، فَإِنْ أَظْهَرَهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى إِسْلَامِهِ، وَإِنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ حُكِمَ أَنَّهُ كَفَرَ مِنْ حِينِ نَطَقَ بِهِ، لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ بِالْكُفْرِ مِنْ حِينِ نَطَقَ بِهِ مُخْتَارًا لَهُ.

8- وَيَتَّفِقُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ الصَّبْرَ وَالثَّبَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَلَوْ كَانَ بِالْقَتْلِ أَفَضْلُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى لَوْ قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا، لِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مِنْ دُونِ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ».

وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَوْجُهٌ:

أَحَدُهَا: الْأَفْضَلُ الْإِتْيَانُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ.

صِيَانَةً لِنَفْسِهِ.

وَالثَّانِي: إِنْ كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ فَالْأَفْضَلُ الثُّبُوتُ.

وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الْإِنْكَاءُ وَالْقِيَامُ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَنْطِقَ بِهَا لِمَصْلَحَةِ بَقَائِهِ، وَإِلاَّ فَالْأَفْضَلُ الثُّبُوتُ.

أَصْنَافُ الْكُفَّارِ:

9- ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّ الْكَفَرَةَ أَصْنَافٌ أَرْبَعَةٌ

صِنْفٌ مِنْهُمْ يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ أَصْلًا، وَهُمُ الدَّهْرِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ.

وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ، وَيُنْكِرُونَ تَوْحِيدَهُ، وَهُمُ الْوَثَنِيَّةُ وَالْمَجُوسُ.

وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ، وَيُنْكِرُونَ الرِّسَالَةَ رَأْسًا، وَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ.

وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ الصَّانِعَ وَتَوْحِيدَهُ وَالرِّسَالَةَ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ رِسَالَةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.

مَا اتُّفِقَ عَلَى اعْتِبَارِهِ كُفْرًا وَمَا اخْتُلِفَ فِيهِ

10- الْكُفْرُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَكُونُ بِأَحَدِ أُمُورٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا، وَقِسْمٌ يَكُونُ بِأُمُورٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا.

فَالْأَوَّلُ: نَحْوُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَجَحْدِ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، كَجَحْدِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا، وَالْكُفْرُ الْفِعْلِيُّ كَإِلْقَاءِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ، وَكَذَلِكَ جَحْدُ الْبَعْثِ أَوِ النُّبُوَّاتِ.

وَالْقِسْمُ الثَّانِي: فَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالِاعْتِقَادِ أَوْ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالتَّرْكِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (رِدَّةٌ ف 10- 21).

مُخَاطَبَةُ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ:

11- قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: حُصُولُ الشَّرْطِ الْعَقْلِيِّ مِنَ التَّمَكُّنِ وَالْفَهْمِ وَنَحْوِهِمَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ، أَمَّا حُصُولُ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ فَلَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالْمَشْرُوطِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَهِيَ (الْمَسْأَلَةُ) مَفْرُوضَةٌ فِي تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ وَإِنْ كَانَتْ أَعَمَّ مِنْهُ.

وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ عَقْلًا.

أَمَّا خِطَابُ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ شَرْعًا فَفِيهِ- كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ- مَذَاهِبُ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ مُطْلَقًا فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ بِالْمُرْسَلِ كَمَا يُخَاطَبُ الْمُحْدِثُ بِالصَّلَاةِ بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ عَذَّبَهُمْ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَحَذَّرَ الْمُسْلِمِينَ بِهِ، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.

فَالْآيَةُ نَصٌّ فِي مُضَاعَفَةِ عَذَابِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا، لَا كَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ.

وَكَذَلِكَ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى قَوْمَ شُعَيْبٍ بِالْكُفْرِ وَنَقْصِ الْمِكْيَالِ، وَذَمَّ قَوْمَ لُوطٍ بِالْكُفْرِ وَإِتْيَانِ الذُّكُورِ.

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَعْذِيبِ الْكَافِرِ عَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- كَمَا يُعَذَّبُ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى.

وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ مَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَشَايِخِ الْعِرَاقِيِّينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ الْبُخَارِيِّينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِهَذَا قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: إِنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: اخْتَارَهُ ابْنُ خُوَيْزِمِنْدَادَ الْمَالِكِيُّ.

قَالَ السَّرَخْسِيُّ: لَا خِلَافَ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخِرَةِ كَذَلِكَ. أَمَّا فِي حَقِّ الْأَدَاءِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ.

وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ مُخَاطَبَتِهِمْ بِالْفُرُوعِ بِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُتَصَوَّرُ مَعَ الْكُفْرِ، فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِهَا فَلَا مَعْنًى لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَقَضَاءِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَعَ اسْتِحَالَةِ فِعْلِهِ فِي الْكُفْرِ وَمَعَ انْتِفَاءِ وُجُوبِهِ لَوْ أَسْلَمَ، فَكَيْفَ يَجِبُ مَا لَا يُمْكِنُ امْتِثَالُهُ؟.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالنَّوَاهِي دُونَ الْأَوَامِرِ، لِأَنَّ الِانْتِهَاءَ مُمْكِنٌ فِي حَالَةِ الْكُفْرِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَرُّبُ فَجَازَ التَّكْلِيفُ بِهَا دُونَ الْأَوَامِرِ، فَإِنَّ شَرْطَ الْأَوَامِرِ الْعَزِيمَةُ، وَفِعْلُ التَّقْرِيبِ مَعَ الْجَهْلِ بِالْمُقَرَّبِ إِلَيْهِ مُحَالٌ فَامْتَنَعَ التَّكْلِيفُ بِهَا.

وَقَدْ حَكَى النَّوَوِيُّ فِي التَّحْقِيقِ أَوْجُهًا، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِالنَّوَاهِي وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَكْلِيفِهِمْ بِالْأَوَامِرِ.

وَنَقَلَ ذَلِكَ الْقَوْلَ صَاحِبُ اللُّبَابِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ.

وَقِيلَ: إِنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْأَوَامِرِ فَقَطْ.

وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرْتَدَّ مُكَلَّفٌ دُونَ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ.

وَقِيلَ: إِنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِمَا عَدَا الْجِهَادَ.

وَقِيلَ: بِالتَّوَقُّفِ.

وَاجِبُ الْمُسْلِمِينَ تُجَاهَ الْكُفَّارِ

12- يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دَعْوَةُ الْكُفَّارِ إِلَى الْإِسْلَامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وَلَا يُقَاتَلُونَ قَبْلَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ لِأَنَّ قِتَالَ الْكُفَّارِ لَمْ يُفْرَضْ لِعَيْنِ الْقِتَالِ بَلْ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ.

وَالدَّعْوَةُ دَعْوَتَانِ: دَعْوَةٌ بِالْبَنَانِ وَهِيَ الْقِتَالُ وَدَعْوَةٌ بِالْبَيَانِ وَهُوَ اللِّسَانُ، وَذَلِكَ بِالتَّبْلِيغِ، وَالدَّعْوَةُ بِالْبَيَانِ أَهْوَنُ مِنَ الدَّعْوَةِ بِالْقِتَالِ لِأَنَّ فِي الْقِتَالِ مُخَاطَرَةَ الرُّوحِ وَالنَّفْسِ وَالْمَالِ، وَلَيْسَ فِي دَعْوَةِ التَّبْلِيغِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا احْتُمِلَ حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِأَهْوَنِ الدَّعْوَتَيْنِ لَزِمَ الِافْتِتَاحُ بِهَا، وَقَدْ «رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَكُنْ يُقَاتِلُ الْكَفَرَةَ حَتَّى يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ».

ثُمَّ إِذَا دَعَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَسْلَمُوا كَفُّوا عَنْهُمُ الْقِتَالَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»،، فَإِنْ أَبَوُا الْإِجَابَةَ إِلَى الْإِسْلَامِ دَعَوْهُمْ إِلَى الذِّمَّةِ إِنْ كَانُوا مِمَّنْ تُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، فَإِنْ أَجَابُوا كَفُّوا عَنْهُمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ» وَإِنْ أَبَوُا اسْتَعَانُوا بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى قِتَالِهِمْ وَوَثِقُوا بِنَصْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُمْ بَعْدَ أَنْ بَذَلُوا جَهْدَهُمْ وَاسْتَفْرَغُوا وُسْعَهُمْ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (جِزْيَةٌ ف 25- 30، وَجِهَادٌ ف 24).

مَا يَلْزَمُ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ

13- قَالَ الْقَرَافِيُّ: أَحْوَالُ الْكَافِرِ مُخْتَلِفَةٌ إِذَا أَسْلَمَ، فَيَلْزَمُهُ ثَمَنُ الْبِيَاعَاتِ وَأَجْرُ الْإِجَارَاتِ وَدَفْعُ الدُّيُونِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ.

وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْقِصَاصُ وَلَا الْغَصْبُ وَلَا النَّهْبُ إِنْ كَانَ حَرْبِيًّا، وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْمَظَالِمِ وَرَدُّهَا لِأَنَّهُ عَقَدَ الذِّمَّةَ وَهُوَ رَاضٍ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ، وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ فَلَمْ يَرْضَ بِشَيْءٍ، فَلِذَلِكَ أَسْقَطْنَا عَنْهُ الْغُصُوبَ وَالنُّهُوبَ وَالْغَارَاتِ وَنَحْوَهَا.

وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَلْزَمُهُ- وَلَوْ كَانَ ذِمِّيًّا- مِمَّا تَقَدَّمَ فِي كُفْرِهِ لَا ظِهَارٌ وَلَا نَذْرٌ وَلَا يَمِينٌ مِنَ الْأَيْمَانِ وَلَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ وَلَا الزَّكَوَاتِ وَلَا شَيْءٌ فَرَّطَ فِيهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ».

وَحُقُوقُ الْعِبَادِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ مِنْهَا رَضِيَ بِهِ حَالَ كُفْرِهِ وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ، فَهَذَا لَا يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ، لِأَنَّ إِلْزَامَهُ إِيَّاهُ لَيْسَ مُنَفِّرًا لَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ لِرِضَاهُ.

أَمَّا مَا لَمْ يَرْضَ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إِنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا مُعْتَمِدًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُوَفِّيهَا أَهْلَهَا، فَهَذَا كُلُّهُ يَسْقُطُ، لِأَنَّ فِي إِلْزَامِهِ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ لُزُومَهُ تَنْفِيرًا لَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَقُدِّمَتْ مَصْلَحَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى مَصْلَحَةِ ذَوِي الْحُقُوقِ.

وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَتَسْقُطُ مُطْلَقًا رَضِيَ بِهَا أَمْ لَمْ يَرْضَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِسْلَامَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْعِبَادَاتُ وَنَحْوُهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى كَذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ الْحَقَّانِ لِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ نَاسَبَ أَنْ يُقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَيُسْقِطُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ لِحُصُولِ الْحَقِّ الثَّانِي لِجِهَةِ الْحَقِّ السَّاقِطِ.

وَأَمَّا حَقُّ الْآدَمِيِّينَ فَلِجِهَةِ الْآدَمِيِّينَ وَالْإِسْلَامُ لَيْسَ حَقًّا لَهُمْ، بَلْ لِجِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَنَاسَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ حَقُّهُمْ بِتَحْصِيلِ حَقِّ غَيْرِهِمْ.

وَثَانِيهِمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ جَوَادٌ تُنَاسِبُ رَحْمَتُهُ الْمُسَامَحَةَ، وَالْعَبْدُ بَخِيلٌ ضَعِيفٌ فَنَاسَبَ ذَلِكَ التَّمَسُّكَ بِحَقِّهِ، فَسَقَطَتْ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا وَإِنْ رَضِيَ بِهَا كَالنُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ، أَوْ لَمْ يَرْضَ بِهَا كَالصَّلَوَاتِ وَالصِّيَامِ، وَلَا يَسْقُطُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ مَا تَقَدَّمَ الرِّضَا بِهِ.

مُعَامَلَةُ الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ

14- أَمَرَ الْإِسْلَامُ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا سَوَاءً أَكَانَ الْوَالِدَانِ مُسْلِمَيْنِ أَمْ كَافِرَيْنِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ف 3).

نَجَاسَةُ الْكَافِرِ وَطَهَارَتُهُ:

15- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ الْحَيَّ طَاهِرٌ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ، وَالْآدَمِيُّ طَاهِرٌ سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} نَجَاسَةَ الْأَبْدَانِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَجَاسَةُ مَا يَعْتَقِدُونَهُ، وَقَدْ رَبَطَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْأَسِيرَ فِي الْمَسْجِدِ.

مَسُّ الْكَافِرِ الْمُصْحَفَ

16- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ مَسُّ الْمُصْحَفِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِهَانَةً لِلْمُصْحَفِ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا بَأْسَ أَنْ يَمَسَّ الْكَافِرُ الْمُصْحَفَ إِذَا اغْتَسَلَ، لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْحَدَثُ وَقَدْ زَالَ بِالْغُسْلِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ نَجَاسَةُ اعْتِقَادِهِ وَذَلِكَ فِي قَلْبِهِ لَا فِي يَدِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ أَنْ يَحْمِلَ حِرْزًا مِنْ قُرْآنٍ وَلَوْ بِسَاتِرٍ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى امْتِهَانِهِ. دُخُولُ الْكَافِرِ الْمَسْجِدَ:

17- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّة إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ دُخُولُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}.

وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ مُرَادٌ بِهِ الْحَرَمُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} إِنَّمَا أُسْرِيَ بِهِ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ مِنْ خَارِجِ الْمَسْجِدِ.

أَمَّا الْمَسَاجِدُ الْأُخْرَى غَيْرُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُمْ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا رَوَى عِيَاضٌ الْأَشْعَرِيُّ أَنَّ أَبَا مُوسَى- رضي الله عنه- وَفَدَ إِلَى عُمَرَ- رضي الله عنه- وَمَعَهُ نَصْرَانِيٌّ، فَأَعْجَبَ عُمَرَ خَطُّهُ فَقَالَ: قُلْ لِكَاتِبِكَ هَذَا: يَقْرَأُ لَنَا كِتَابًا، فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: لِمَ؟ أَجُنُبٌ هُوَ؟ قَالَ: لَا، هُوَ نَصْرَانِيٌّ، قَالَ: فَانْتَهَرَهُ عُمَرُ.

فَإِنْ دَخَلَ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ عُزِّرَ لِمَا رَوَتْ أُمُّ غُرَابٍ قَالَتْ: رَأَيْتُ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَبَصُرَ بِمَجُوسِيٍّ فَنَزَلَ فَضَرَبَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ بَابِ كِنْدَةَ.

وَإِنْ وَفَدَ قَوْمٌ مِنَ الْكُفَّارِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ مَوْضِعٌ يُنْزِلُهُمْ فِيهِ جَازَ أَنْ يُنْزِلَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْزَلَ سَبْيَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَرَبَطَ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ فِي الْمَسْجِدِ».

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي الدُّخُولِ، وَهَذَا مَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ لِدُخُولِهِ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ نَجَّارٌ أَوْ بَنَّاءٌ وَغَيْرُهُ وَالْمَسْجِدُ مُحْتَاجٌ إِلَى ذَلِكَ، أَوْ وُجِدَ مُسْلِمٌ لَكِنْ كَانَ الْكَافِرُ أَتْقَنَ لِلصَّنْعَةِ، فَلَوْ وُجِدَ مُسْلِمٌ مُمَاثِلٌ لَهُ فِي إِتْقَانِ الصَّنْعَةِ لَكِنْ كَانَتْ أُجْرَةُ الْمُسْلِمِ أَزْيَدَ مِنْ أُجْرَةِ الْكَافِرِ فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ يَسِيرَةً لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنَ الضَّرُورَةِ وَإِلاَّ كَانَ مِنْهَا عَلَى الظَّاهِرِ.

وَإِذَا دَخَلَ الْكَافِرُ الْمَسْجِدَ لِلْعَمَلِ فَيُنْدَبُ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ جِهَةِ عَمَلِهِ.

وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ هُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَيْسَ لَهُمْ دُخُولُهُ بِحَالٍ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ دُخُولُ الْمَسْجِدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَمْ غَيْرَهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي مَسْجِدِهِ وَهُمْ كُفَّارٌ»،، وَلِأَنَّ الْخُبْثَ فِي اعْتِقَادِهِمْ فَلَا يُؤَدِّي إِلَى تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} مَحْمُولٌ عَلَى الْحُضُورِ اسْتِيلَاءً وَاسْتِعْلَاءً، أَوْ طَائِفِينَ عُرَاةً كَمَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَيْسَ الْمَمْنُوعُ نَفْسَ الدُّخُولِ.

تَلْقِينُ الْكَافِرِ الْمُحْتَضِرِ:

18- قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: لَوْ كَانَ- أَيِ الْمُحْتَضِرُ- كَافِرًا لُقِّنَ الشَّهَادَتَيْنِ وَأُمِرَ بِهِمَا لِمَا رَوَى أَنَسٌ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: أَسْلِمْ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ».

وَتَلْقِينُ الْكَافِرِ الْمُحْتَضِرِ الشَّهَادَةَ يَكُونُ وُجُوبًا إِنْ رُجِيَ إِسْلَامُهُ، وَإِنْ لَمْ يُرْجَ إِسْلَامُهُ فَيُنْدَبُ ذَلِكَ.

قَالَ الْجَمَلُ: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يُلَقَّنُ إِنْ رُجِيَ إِسْلَامُهُ وَإِنْ بَلَغَ الْغَرْغَرَةَ وَلَا بُعْدَ فِيهِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عَقْلُهُ حَاضِرًا وَإِنْ ظَهَرَ لَنَا خِلَافُهُ وَإِنْ كُنَّا لَا نُرَتِّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ حِينَئِذٍ.

وِلَايَةُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَوِلَايَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ

19- لَا يُعْتَبَرُ الْكَافِرُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ وِلَايَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْكَافِرِ إِلاَّ بِالسَّبَبِ الْعَامِّ كَوِلَايَةِ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:

أ- لَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الْمُسْلِمَةَ، وَلَا لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الْكَافِرَةَ لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ مُنْقَطِعَةٌ بَيْنَهُمَا لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ( (: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}.

ب- الْقَضَاءُ مِنَ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، وَلَا يَجُوزُ تَوْلِيَةُ الْكَافِرِ الْقَضَاءَ لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ تَوْلِيَةُ الْكَافِرِ الْقَضَاءَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، أَمْ بَيْنَ أَهْلِ دِينِهِ.

وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَتَوَلَّى الْكَافِرُ الْقَضَاءَ بَيْنَ أَهْلِ دِينِهِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (قَضَاءٌ ف 22).

أَنْكِحَةُ الْكُفَّارِ:

20- أَنْكِحَةُ الْكُفَّارِ صَحِيحَةٌ وَيُقَرُّونَ عَلَيْهَا إِنْ أَسْلَمُوا، أَوْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا فِي الْحَالِ، وَلَا يُنْظَرُ صِفَةُ عَقْدِهِمْ وَكَيْفِيَّتُهُ، وَلَا يُعْتَبَرُ لَهُ شُرُوطُ أَنْكِحَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ وَصِيغَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إِذَا أَسْلَمَا فِي الْحَالِ مَعًا أَنَّ لَهُمَا الْمَقَامَ عَلَى نِكَاحِهِمَا مَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا نَسَبٌ وَلَا رَضَاعٌ، وَقَدْ أَسْلَمَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَأَقَرَّهُمْ عَلَى أَنْكِحَتِهِمْ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- عَنْ شُرُوطِ النِّكَاحِ وَلَا كَيْفِيَّتِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ عُرِفَ بِالتَّوَاتُرِ وَالضَّرُورَةِ فَكَانَ يَقِينًا، وَلَكِنْ يُنْظَرُ فِي الْحَالِ فَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى صِفَةٍ يَجُوزُ لَهُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا أُقِرَّ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا كَإِحْدَى الْمُحَرَّمَاتِ بِالنَّسَبِ أَوِ السَّبَبِ أَوِ الْمُعْتَدَّةِ وَالْمُرْتَدَّةِ وَالْوَثَنِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ وَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لَمْ يُقَرَّ.

وَإِنْ أَسْلَمَ الْحُرُّ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ لَزِمَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ وَيُفَارِقَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لِأَمْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِغَيْلَانَ لَمَّا أَسْلَمَ عَلَى تِسْعِ نِسْوَةٍ: «أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا».

وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ وَفِيمَا إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يُسْلِمِ الْآخَرُ أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَسْلَمَ الْآخَرُ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (نِكَاحٌ وَإِسْلَامٌ ف 5).

نِكَاحُ الْمُسْلِمِ كَافِرَةً وَنِكَاحُ الْكَافِرِ مُسْلِمَةً:

21- يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِمَّنْ لَا كِتَابَ لَهَا مِنَ الْكُفَّارِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} وَهَذَا بِاتِّفَاقِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَحْرِيمِ نِسَائِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ.

وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ- كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ ازْدِوَاجَ الْكَافِرَةِ وَالْمُخَالَطَةِ مَعَهَا مَعَ قِيَامِ الْعَدَاوَةِ الدِّينِيَّةِ لَا يَحْصُلُ السَّكَنُ وَالْمَوَدَّةُ الَّتِي هِيَ قِوَامُ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ.

22- وَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ زَوَاجُ الْحَرَائِرِ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهما- تَزَوَّجُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَتَزَوَّجَ عُثْمَانُ- رضي الله عنه- نَائِلَةَ بِنْتَ الْفَرَافِصَةِ الْكَلْبِيَّةِ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ وَأَسْلَمَتْ عِنْدَهُ، وَتَزَوَّجَ حُذَيْفَةُ- رضي الله عنه- بِيَهُودِيَّةٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدَائِنِ.وَإِنَّمَا جَازَ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ لِرَجَاءِ إِسْلَامِهَا، لِأَنَّهَا آمَنَتْ بِكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُل فِي الْجُمْلَةِ.

وَمَعَ الْحُكْمِ بِجَوَازِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ الزَّوَاجُ مِنْهَا، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَمِيلَ إِلَيْهَا فَتَفْتِنَهُ عَنِ الدِّينِ، أَوْ يَتَوَلَّى أَهْلَ دِينِهَا، فَإِنْ كَانَتْ حَرْبِيَّةً فَالْكَرَاهِيَةُ أَشَدُّ، لِأَنَّهُ لَا تُؤْمَنُ الْفِتْنَةُ أَيْضًا، وَلِأَنَّهُ يُكْثِرُ سَوَادَ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُسْبَى وَلَدُهُ مِنْهَا فَيُسْتَرَقُّ.

وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- لِلَّذِينَ تَزَوَّجُوا مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ: طَلِّقُوهُنَّ فَطَلَّقُوهُنَّ إِلاَّ حُذَيْفَةُ- رضي الله عنه-، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: طَلِّقْهَا قَالَ: تَشْهَدُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ قَالَ: هِيَ خَمْرَةٌ طَلِّقْهَا، قَالَ: تَشْهَدُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ قَالَ: هِيَ خَمْرَةٌ، قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهَا خَمْرَةٌ، وَلَكِنَّهَا لِي حَلَالٌ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ طَلَّقَهَا، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا طَلَّقْتَهَا حِينَ أَمَرَكَ عُمَرُ؟ قَالَ: كَرِهْتُ أَنْ يَرَى النَّاسُ أَنِّي رَكِبْتُ أَمْرًا لَا يَنْبَغِي لِي.

وَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ أَيْضًا مَالِكٌ لِأَنَّهَا تَتَغَذَّى بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَتُغَذِّي وَلَدَهُ بِهِمَا، وَهُوَ يُقَبِّلُهَا وَيُضَاجِعُهَا وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ التَّغَذِّي، وَلَوْ تَضَرَّرَ بِرَائِحَتِهِ، وَلَا مِنَ الذَّهَابِ لِلْكَنِيسَةِ، وَقَدْ تَمُوتُ وَهِيَ حَامِلٌ فَتُدْفَنُ فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ وَهِيَ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ.

23- وَلَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُسْلِمَةً لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} وَلِأَنَّ فِي نِكَاحِ الْمُؤْمِنَةِ الْكَافِرَ خَوْفُ وُقُوعِ الْمُؤْمِنَةِ فِي الْكُفْرِ، لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدْعُوهَا إِلَى دِينِهِ، وَالنِّسَاءُ فِي الْعَادَاتِ يَتْبَعْنَ الرِّجَالَ فِيمَا يُؤْثِرُونَ مِنَ الْأَفْعَالِ وَيُقَلِّدْنَهُمْ فِي الدِّينِ، وَقَدْ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي آخِرِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} لِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ الْمُؤْمِنَاتِ إِلَى الْكُفْرِ، وَالدُّعَاءُ إِلَى الْكُفْرِ دُعَاءٌ إِلَى النَّارِ، لِأَنَّ الْكُفْرَ يُوجِبُ النَّارَ، فَكَانَ نِكَاحُ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ سَبَبًا دَاعِيًا إِلَى الْحَرَامِ فَكَانَ حَرَامًا، وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي الْمُشْرِكِينَ لَكِنَّ الْعِلَّةَ وَهِيَ الدُّعَاءُ إِلَى النَّارِ تَعُمُّ الْكَفَرَةَ أَجْمَعَ، فَيَعُمُّ الْحُكْمُ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ.

24- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَوَاجِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْمَجُوسِيَّةِ بِاعْتِبَارِ شَبَهِهَا بِأَهْلِ الْكِتَابِ.

كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الزَّوَاجِ مِنَ السَّامِرَةِ وَالصَّابِئَةِ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيِّ الْكَافِرَةِ كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ وَثَنِيًّا.

وَكَذَلِكَ فِيمَا إِذَا تَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً فَانْتَقَلَتْ إِلَى دِينٍ آخَرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ،.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (نِكَاحٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


102-موسوعة الفقه الكويتية (لقطة 1)

لُقَطَةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- اللُّقَطَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ لَقَطَ أَيْ أَخَذَ الشَّيْءَ مِنَ الْأَرْضِ، وَكُلُّ نُثَارَةٍ مِنْ سُنْبُلٍ أَوْ تَمْرٍ لَقْطٌ.

وَاللُّقَطَةُ شَرْعًا هِيَ الْمَالُ الضَّائِعُ مِنْ رَبِّهِ يَلْتَقِطُهُ غَيْرُهُ، أَوِ الشَّيْءُ الَّذِي يَجِدُهُ الْمَرْءُ مُلْقًى فَيَأْخُذُهُ أَمَانَةً.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- اللَّقِيطُ:

2- سُمِّيَ لَقِيطًا وَمَلْقُوطًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُلْقَطُ، وَمَنْبُوذًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُنْبَذُ، وَيُسَمَّى أَيْضًا دَعِيًّا وَشَرْعًا اللَّقِيطُ: اسْمُ الْمَوْلُودِ طَرَحَهُ أَهْلُهُ خَوْفًا مِنَ الْعَيْلَةِ أَوْ فِرَارًا مِنْ تُهْمَةِ الزِّنَا، أَوْ هُوَ طِفْلٌ نَبِيذٌ بِنَحْوِ شَارِعٍ لَا يُعْرَفُ لَهُ مُدَّعٍ.قَالَ تَعَالَى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}

وَاللُّقَطَةُ أَعَمُّ مِنَ اللَّقِيطِ.

ب- الْكَنْزُ:

3- الْكَنْزُ هُوَ الْمَالُ الْمَدْفُونُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ دَافِنُهُ.

وَاللُّقَطَةُ وَالْكَنْزُ صَاحِبُهُمَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ.

حُكْمُ الِالْتِقَاطِ

4- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الِالْتِقَاطِ عَلَى مَا يَأْتِي:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ رَفْعُ اللُّقَطَةِ مِنْ عَلَى الْأَرْضِ إِنْ أَمِنَ الْمُلْتَقِطُ عَلَى نَفْسِهِ تَعْرِيفَهَا، وَإِلاَّ فَالتَّرْكُ أَوْلَى مِنَ الرَّفْعِ، وَإِنْ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ حَرُمَ، لِأَنَّهَا كَالْغَصْبِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.

وَيُفْرَضُ عَلَيْهِ أَخْذُهَا إِذَا خَافَ مِنَ الضَّيَاعِ، لِأَنَّ لِمَالِ الْمُسْلِمِ حُرْمَةً كَمَالِ نَفْسِهِ فَلَوْ تَرَكَهَا حَتَّى ضَاعَتْ كَانَ آثِمًا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الْخِيَانَةَ كَانَ الِالْتِقَاطُ حَرَامًا، وَإِنْ كَانَ يَخَافُ أَنْ يَسْتَفِزَّهُ الشَّيْطَانُ وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ مَكْرُوهًا، وَإِنْ كَانَ يَثِقُ بِأَمَانَةِ نَفْسِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ نَاسٍ لَا بَأْسَ بِهِمْ وَلَا يَخَافُ عَلَيْهَا الْخَوَنَةَ، وَإِمَّا أَنْ يَخَافَهُمْ فَإِنْ خَافَهُمْ وَجَبَ عَلَيْهِ الِالْتِقَاطُ، وَإِنْ لَمْ يَخَفْهُمْ فَلِمَالِكٍ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ:

الْأَوَّلُ: الِاسْتِحْبَابُ مُطْلَقًا.

الثَّانِي: الِاسْتِحْبَابُ فِيمَا لَهُ بَالٌ فَقَطْ.

الثَّالِثُ: الْكَرَاهَةُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا وَجَدَهَا بِمَضِيعَةِ وَأَمِنَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا فَالْأَفْضَلُ أَخْذُهَا، وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ ذَلِكَ وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهُ يَجِبُ أَخْذُهَا صِيَانَةً لِلْمَالِ عَنِ الضَّيَاعِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}.فَإِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ وَلِيًّا لِلْمُؤْمِنِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ حِفْظُ مَالِهِ فَلَا يَتْرُكُهُ عُرْضَةً لِلضَّيَاعِ.

وَمِمَّنْ رَأَى أَخْذَهَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَأَخَذَهَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فِعْلًا.

وَيَرَى أَحْمَدُ أَنَّ الْأَفْضَلَ تَرْكُ الِالْتِقَاطِ وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهم- وَبِهِ قَالَ جَابِرٌ وَابْنُ زَيْدٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ وَعَطَاءٌ، وَحُجَّتُهُمْ: حَدِيثُ الْجَارُودِ مَرْفُوعًا: «ضَالَّةُ الْمُسْلِمِ حَرْقُ النَّارِ».وَلِأَنَّهُ تَعْوِيضٌ لِنَفْسِهِ لِأَكْلِ الْحَرَامِ وَتَضْيِيعِ الْوَاجِبِ فِي تَعْرِيفِهَا وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيهَا فَكَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى وَأَسْلَمَ.

مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الِالْتِقَاطُ

5- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الِالْتِقَاطُ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اتِّجَاهَانِ:

الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الِالْتِقَاطُ مِنْ أَيِّ إِنْسَانٍ سَوَاءٌ كَانَ مُكَلَّفًا أَمْ غَيْرَ مُكَلَّفٍ، رَشِيدًا أَمْ لَا.

وَعَلَى ذَلِكَ يَصِحُّ الِالْتِقَاطُ مِنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ وَالسَّفِيهِ وَمِنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الْمَجْنُونَ فَلَا يَصِحُّ الْتِقَاطُهُ عِنْدَهُمْ وَكَذَلِكَ الْمَعْتُوهُ فِي قَوْلٍ، وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَلِي:

أ- عُمُومُ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي اللُّقَطَةِ، فَلَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ مُلْتَقِطٍ وَآخَرَ.

ب- أَنَّ الِالْتِقَاطَ تَكَسُّبٌ فَصَحَّ مِنْ هَؤُلَاءِ كَالِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِشَاشِ.

الِاتِّجَاهُ الثَّانِي:

ذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ هُوَ كُلُّ حُرٍّ مُسْلِمٍ، بَالِغٍ، وَعَلَى ذَلِكَ لَا يَصِحُّ الِالْتِقَاطُ عِنْدَهُ مِنَ الْعَبْدِ وَلَا مِنَ الذِّمِّيِّ وَلَا مِنَ الصَّبِيِّ، وَوَافَقَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي عَدَمِ جَوَازِ الِالْتِقَاطِ مِنَ الذِّمِّيِّ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَأْتِي:

أ- أَنَّ اللُّقَطَةَ وِلَايَةٌ وَلَا وِلَايَةَ لِلْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ وَالصَّغِيرِ.

ب- أَنَّ اللُّقَطَةَ أَمَانَةٌ وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ أَهْلًا لِلْأَمَانَاتِ.

وَإِنْ تَلِفَتِ اللُّقَطَةُ فِي يَدِ مَنْ يَجُوزُ لَهُ الِالْتِقَاطُ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ، لِأَنَّهُ أَخَذَ مَا لَهُ الْحَقُّ فِي أَخْذِهِ.

أَمَّا إِنْ كَانَ التَّلَفُ بِتَفْرِيطِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا مِنْ مَالِهِ هُوَ.

وَإِذَا عَلِمَ الْوَلِيُّ بِالْتِقَاطِ مَنْ عَلَيْهِ الْوِلَايَةُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَخْذُهَا مِنْهُ، لِأَنَّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْحِفْظِ وَالْأَمَانَةِ، فَإِنْ تَرَكَهَا الْوَلِيُّ فِي يَدِهِ كَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا، لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ حِفْظُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الصَّبِيِّ، وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّهُ، فَإِذَا تَرَكَهَا فِي يَدِهِ كَانَ مُضَيِّعًا لَهَا فَوَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا، وَإِذَا أَخَذَهَا الْوَلِيُّ عَرَّفَهَا هُوَ، لِأَنَّ وَاجِدَهَا لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّعْرِيفِ، فَإِذَا عَرَّفَهَا خِلَالَ مُدَّةِ التَّعْرِيفِ دَخَلَتْ فِي مِلْكِ وَاجِدِهَا وَلَيْسَ فِي مِلْكِ الْوَلِيِّ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ تَمَّ شَرْطُهُ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ.

الْإِشْهَادُ عَلَى اللُّقَطَةِ

6- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ الْإِشْهَادُ عَلَى اللُّقَطَةِ حِينَ يَجِدُهَا، لِأَنَّ فِي الْإِشْهَادِ صِيَانَةً لِنَفْسِهِ عَنِ الطَّمَعِ فِيهَا وَكَتْمِهَا وَحِفْظِهَا مِنْ وَرَثَتِهِ إِنْ مَاتَ، وَمِنْ غُرَمَائِهِ إِنْ أَفْلَسَ، وَيُشْهِدُ عَلَيْهَا سَوَاءٌ أَكَانَ الِالْتِقَاطُ لِلتَّمَلُّكِ أَمْ لِلْحِفْظِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الْإِشْهَادِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَا عَدْلٍ أَوْ ذَوِي عَدْلٍ وَلَا يَكْتُمْ وَلَا يُغَيِّبْ»،، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا تَحَقَّقَ أَوْ ظَنَّ ادِّعَاءَ مِلْكِيَّتِهَا.

وَيَكُونُ الْإِشْهَادُ بِقَوْلِهِ عَلَى مَسْمَعٍ مِنَ النَّاسِ: إِنِّي أَلْتَقِطُ لُقَطَةً، أَوْ عِنْدِي لُقَطَةٌ، فَأَيُّ النَّاسِ أَنْشَدَهَا فَدُلُّوهُ عَلَيَّ، فَإِذَا أَشْهَدَ عَلَيْهَا ثُمَّ هَلَكَتْ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُلْتَقِطِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.

وَيَذْكُرُ فِي الْإِشْهَادِ بَعْضَ صِفَاتِ اللُّقَطَةِ لِيَكُونَ فِي الْإِشْهَادِ فَائِدَةٌ وَلَا يَسْتَوْعِبُ صِفَاتِهَا لِئَلاَّ يَنْتَشِرَ ذَلِكَ فَيَدَّعِيهَا مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا مِمَّنْ يَذْكُرُ صِفَاتِهَا الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُلْتَقِطُ، وَلَكِنْ يَذْكُرُ لِلشُّهُودِ مَا يَذْكُرُهُ فِي التَّعْرِيفِ مِنَ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ، أَوْ عِفَاصِهَا أَوْ وِكَائِهَا.

تَعْرِيفُ اللُّقَطَةِ

7- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُلْتَقِطِ تَعْرِيفُ اللُّقَطَةِ سَوَاءٌ أَرَادَ تَمَلُّكَهَا أَوْ حِفْظَهَا لِصَاحِبِهَا لِمَا وَرَدَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: «أَصَبْتُ صُرَّةً فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا فَعَرَّفْتُهَا فَلَمْ أَجِدْ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ ثَلَاثًا فَقَالَ: احْفَظْ وِعَاءَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلاَّ فَاسْتَمْتِعْ بِهَا».

وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ أَرَادَ حِفْظَهَا وَمَنْ أَرَادَ تَمَلُّكَهَا، وَلِأَنَّ حِفْظَهَا لِصَاحِبِهَا إِنَّمَا يُقَيِّدُ بِاتِّصَالِهَا إِلَيْهِ وَطَرِيقَةِ التَّعْرِيفِ، أَمَّا بَقَاؤُهَا فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ مِنْ غَيْرِ وُصُولِهَا إِلَى صَاحِبِهَا وَهَلَاكِهَا سِيَّانِ، وَلِأَنَّ إِمْسَاكَهَا مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ تَضْيِيعٌ لَهَا عَنْ صَاحِبِهَا فَلَمْ يَجُزْ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبِ التَّعْرِيفُ لَمَا جَازَ الِالْتِقَاطُ، لِأَنَّ بَقَاءَهَا فِي مَكَانِهَا إِذًا أَقْرَبُ إِلَى وُصُولِهَا إِلَى صَاحِبِهَا، إِمَّا بِأَنْ يَطْلُبَهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي ضَاعَتْ فِيهِ فَيَجِدُهَا، وَإِمَّا بِأَنْ يَجِدَهَا مَنْ يَعْرِفُهَا، وَأَخْذُهَا يُفَوِّتُ الْأَمْرَيْنِ فَيَحْرُمُ، فَلَمَّا جَازَ الِالْتِقَاطُ وَجَبَ التَّعْرِيفُ كَيْ لَا يَحْصُلَ هَذَا الضَّرَرُ، وَلِأَنَّ التَّعْرِيفَ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ أَرَادَ تَمَلُّكَهُ، فَكَذَلِكَ عَلَى مَنْ أَرَادَ حِفْظَهَا.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَتَوَلَّى التَّعْرِيفَ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا ثِقَةً وَلَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ إِذَا كَانَ مَوْثُوقًا بِقَوْلِهِ، كَمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَشْهُورٍ بِالْخَلَاعَةِ وَالْمُجُونِ وَهُوَ عَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِمَا يَصْنَعُ.

مُدَّةُ التَّعْرِيفِ:

8- يَرَى مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ أَنَّ اللُّقَطَةَ تُعَرَّفُ سَنَةً مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَهَذَا رَأْيُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ- رضي الله عنه- أَنْ يُعَرِّفَ اللُّقَطَةَ سَنَةً مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَلِأَنَّ السُّنَّةَ لَا تَتَأَخَّرُ عَنْهَا الْقَوَافِلُ، وَيَمْضِي فِيهَا الزَّمَانُ الَّذِي تُقْصَدُ فِيهِ الْبِلَادُ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالِاعْتِدَالِ فَصَلَحَتْ قَدْرًا.

وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَبَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَرَّفَهَا أَيَّامًا عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى أَنَّهَا كَافِيَةٌ لِلْإِعْلَامِ، وَأَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ عَشَرَةً فَصَاعِدًا عَرَّفَهَا حَوْلًا، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْحَوْلِ وَرَدَ فِي لُقَطَةٍ كَانَتْ مِائَةَ دِينَارٍ تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ.

لِمَا وَرَدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: «اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلاَّ فَشَأْنُكَ بِهَا قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ قَالَ: فَضَالَّةُ الْإِبِلِ؟ قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا، مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا».

زَمَانُ التَّعْرِيفِ وَمَكَانُهُ:

9- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ يُعَرِّفُ اللُّقَطَةَ خِلَالَ مُدَّةِ التَّعْرِيفِ، فِي النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ لِأَنَّ النَّهَارَ مَجْمَعُ النَّاسِ وَمُلْتَقَاهُمْ دُونَ اللَّيْلِ، وَيَكُونُ التَّعْرِيفُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي وَجَدَهَا فِيهِ وَلأُِسْبُوعٍ بَعْدَهُ، لِأَنَّ الطَّلَبَ فِيهِ أَكْثَرُ فَيُعَرِّفُهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ.

وَيُعَرِّفُهَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي وَجَدَهَا فِيهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى صَاحِبِهَا، لِأَنَّهُ يَطْلُبُهَا غَالِبًا حَيْثُ افْتَقَدَهَا، كَمَا تُعَرَّفُ أَيْضًا عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَجْتَمِعُونَ فِيهِ كَأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ، وَلَا يَنْشُدُهَا دَاخِلَ الْمَسْجِدِ، لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا، وَلِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ كَمَا يُعَرِّفُهَا أَيْضًا فِي الْأَسْوَاقِ وَالْمَجَامِعِ وَالْمَحَافِلِ وَمَحَالِّ الرِّحَالِ وَمُنَاخِ الْأَسْفَارِ، وَإِنِ الْتَقَطَ فِي الصَّحْرَاءِ وَهُنَاكَ قَافِلَةٌ تَبِعَهَا وَعَرَّفَ فِيهَا.

مَرَّاتُ التَّعْرِيفِ وَمُؤْنَتُهُ:

10- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُلْتَقِطِ أَنْ يَسْتَغْرِقَ جَمِيعَ الْحَوْلِ بِالتَّعْرِيفِ كُلَّ يَوْمٍ، بَلْ يُعَرِّفُ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَرَّةً كُلَّ أُسْبُوعٍ، ثُمَّ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فِي كُلِّ شَهْرٍ، وَإِنَّمَا جُعِلَ التَّعْرِيفُ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ أَكْثَرَ، لِأَنَّ طَلَبَ الْمَالِكِ فِيهَا أَكْثَرُ، وَكُلَّمَا طَالَتِ الْمُدَّةُ عَلَى فَقْدِ اللُّقَطَةِ قَلَّ طَلَبُ الْمَالِكِ لَهَا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَخَذَهَا لِيَحْفَظَهَا لِمَالِكِهَا لَا تَلْزَمُهُ مُؤْنَةُ التَّعْرِيفِ إِنْ كَانَتْ لَهَا مُؤْنَةٌ بَلْ يُرَتِّبُهَا الْقَاضِي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ يَقْتَرِضُ عَلَى الْمَالِكِ، وَإِنْ أَخَذَهَا لِلتَّمَلُّكِ لَزِمَهُ مُؤْنَةُ التَّعْرِيفِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ لَوِ اسْتَنَابَ غَيْرَهُ لَتَعْرِيفِهَا فَالْأَجْرُ مِنَ اللُّقَطَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَتَوَلَّى التَّعْرِيفَ بِنَفْسِهِ وَلَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ غَيْرَهُ، فَإِنْ وَجَدَ مُتَبَرِّعًا بِذَلِكَ، وَإِلاَّ إِنِ احْتَاجَ إِلَى أَجْرٍ فَهُوَ عَلَى الْمُلْتَقِطِ.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَإِنْ أَرَادَ سَفَرًا اسْتَنَابَ مِنْ يَحْفَظُ اللُّقَطَةَ وَيُعَرِّفُهَا بِإِذْنِ الْحَاكِمِ وَلَا يُسَافِرُ بِهَا، أَمَّا إِذَا الْتَقَطَ اثْنَانِ لُقَطَةً عَرَّفَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ سَنَةٍ، أَوْ عَرَّفَهَا أَحَدُهُمَا سَنَةً كَامِلَةً نِيَابَةً عَنِ الْآخَرِ، وَيُعَرِّفُهَا كُلَّهَا لَا نِصْفَهَا لِيَكُونَ لِلتَّعْرِيفِ فَائِدَةٌ.

وَإِنْ أَرَادَ التَّخَلُّصَ مِنْ تَعَبِ التَّعْرِيفِ دَفَعَهَا إِلَى حَاكِمٍ أَمِينٍ، أَوْ إِلَى الْقَاضِي، وَيَلْزَمُهُمَا الْقَبُولُ حِفْظًا لَهَا عَلَى صَاحِبِهَا.

كَيْفِيَّةُ التَّعْرِيفِ

11- يَجِبُ أَنْ يَذْكُرَ مَنْ يَتَوَلَّى التَّعْرِيفَ جِنْسَ اللُّقَطَةِ وَنَوْعَهَا وَمَكَانَ وُجُودِهَا وَتَارِيخَ الْتِقَاطِهَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا تَأَخَّرَ فِي التَّعْرِيفِ، كَمَا لَهُ أَنْ يَذْكُرَ عِفَاصَهَا أَوْ وِكَاءَهَا، لِأَنَّ فِي ذِكْرِ الْجِنْسِ أَوِ النَّوْعِ أَوِ الْعِفَاصِ أَوِ الْوِكَاءِ مَا يُؤَدِّي إِلَى انْتِشَارِ ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ فَيُؤَدِّي إِلَى الظَّفَرِ بِالْمَالِكِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُعَرِّفِ أَنْ لَا يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ أَوْصَافِ اللُّقَطَةِ حَتَّى لَا يَعْتَمِدَهَا كَاذِبٌ فَيُفَوِّتُهَا عَلَى مَالِكِهَا.

تَضْمِينُ الْمُلْتَقِطِ

12- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ إِذَا أَشْهَدَ عَلَى اللُّقَطَةِ فَيَدُهُ عَلَيْهَا أَثَنَاءَ الْحَوْلِ يَدُ أَمَانَةٍ، إِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا أَخَذَهَا بِزِيَادَتِهَا الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ، لِأَنَّهَا نَمَاءُ مِلْكِهِ، وَإِنْ تَلِفَتْ عِنْدَ الْمُلْتَقِطِ أَثْنَاءَ الْحَوْلِ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ أَوْ نَقَصَتْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَالْوَدِيعَةِ، وَإِنْ أَقَرَّ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ وَبِدُونِ إِذْنِ الشِّرْعِ.

وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ أَنَّهُ إِذَا أَخَذَ اللُّقَطَةَ وَلَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهَا وَقَالَ أَخَذْتُهَا لِلْحِفْظِ وَكَذَّبَهُ الْمَالِكُ يَضْمَنُ، وَعِنْدَ الْبَقِيَّةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ لَا يَضْمَنُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُلْتَقِطِ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنَّمَا قِيلَ بِعَدِمِ الضَّمَانِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ لِاخْتِيَارِهِ الْحِسْبَةَ دُونَ الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ فِعْلَ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَحِلُّ لَهُ شَرْعًا، وَالَّذِي يَحِلُّ لَهُ هُوَ الْأَخَذُ لِلرِّدِّ لَا لِنَفْسِهِ، فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ فِعْلِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ قَائِمٌ.

مَقَامَ الْإِشْهَادِ مِنْهُ، وَأَمَّا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فَلِأَنَّ صَاحِبَهَا يَدِّعِي عَلَيْهِ سَبَبَ الضَّمَانِ وَوُجُوبَ الْقِيمَةِ فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ مُنْكَرٌ لِذَلِكَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ، كَمَا لَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ الْغَصْبَ.

وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَهُوَ أَخَذُ مَالِ الْغَيْرِ، وَادَّعَى مَا يُبَرِّئُهُ وَهُوَ الْأَخَذُ لِلْمَالِكِ، وَفِيهِ وَقَعَ الشَّكُّ فَلَا يَبْرَأُ.

وَإِنْ أَتْلَفَهَا الْمُلْتَقِطُ أَوْ تَلِفَتْ عِنْدَهُ بِتَفْرِيطِهِ ضَمِنَهَا بِمِثْلِهَا إِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَبِقِيمَتِهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِثْلٌ، وَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ مِثْلُهَا أَوْ قِيمَتُهَا بِكُلِّ حَالٍ، لِأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ وَتَلِفَتْ مِنْ مَالِهِ سَوَاءٌ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ، وَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا بَعْدَ الْحَوْلِ وَوَجَدَ الْعَيْنَ نَاقِصَةً أَخَذَ الْعَيْنَ وَأَرْشَ نَقْصِهَا، لِأَنَّ جَمِيعَهَا مَضْمُونٌ إِذَا تَلِفَتْ فَكَذَلِكَ إِذَا نَقَصَتْ، لِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ السَّابِقَيْنِ، وَإِنْ وَجَدَ الْعَيْنَ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ مِلْكِ الْمُلْتَقِطِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا، وَلَهُ أَخْذُ بَدَلِهَا لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمُلْتَقِطِ وَقَعَ صَحِيحًا لِكَوْنِهَا صَارَتْ فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ وَجَدَهَا رَجَعَتْ إِلَى الْمُلْتَقِطِ بِفَسْخٍ أَوْ شِرَاءٍ فَلَهُ أَخْذُهَا لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فِي يَدِ مُلْتَقِطِهِ فَكَانَ لَهُ أَخْذُهُ، وَقِيمَةُ اللُّقَطَةِ تُعْتَبَرُ يَوْمَ التَّمَلُّكِ، لِأَنَّهُ يَوْمُ دُخُولِ الْعَيْنِ فِي ضَمَانِهِ.

رِدُّ اللُّقَطَةِ إِلَى مَوْضِعِهَا

13- يَرَى أَبُو حَنِيفَةَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَمَالِكٌ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ إِذَا أَخَذَ اللُّقَطَةَ ثُمَّ رَدَّهَا إِلَى مَكَانِهَا الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَخَذَهَا مُحْتَسِبًا مُتَبَرِّعًا لِيَحْفَظَهَا عَلَى صَاحِبِهَا، فَإِذَا رَدَّهَا إِلَى مَكَانِهَا فَقَدْ فَسَخَ التَّبَرُّعَ مِنَ الْأَصْلِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهَا أَصْلًا، وَهَذَا الْحُكْمُ إِذَا أَخَذَهَا لِيَحْفَظَهَا لِصَاحِبِهَا وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهَا حِينَ الِالْتِقَاطِ، أَمَّا إِذَا أَخَذَهَا لِيَتَمَلَّكَهَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَضْمَنُ سَوَاءٌ أَشْهَدَ أَمْ لَا، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُلْتَقِطِ مَعَ يَمِينِهِ.وَيَرَى أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ إِذَا رَدَّ اللُّقَطَةَ بَعْدَ أَخْذِهَا فَضَاعَتْ أَوْ هَلَكَتْ ضَمِنَهَا، لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ حَصَلَتْ فِي يَدِهِ فَلَزِمَهُ حِفْظُهَا فَإِذَا ضَيَّعَهَا لَزِمَهُ ضَمَانُهَا كَمَا لَوْ ضَيَّعَ الْوَدِيعَةَ، أَمَّا إِذَا ضَاعَتِ اللُّقَطَةُ مِنْ مُلْتَقِطِهَا بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، فَإِنْ ضَاعَتْ مِنَ الْأَوَّلِ فَالْتَقَطَهَا آخِرُ فَعَرَفَ أَنَّهَا ضَاعَتْ مِنَ الْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ رَدُّهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ التَّمَوُّلِ، وَوِلَايَةُ التَّعْرِيفِ وَالْحِفْظِ، فَلَا يَزُولُ ذَلِكَ بِالضَّيَاعِ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ الثَّانِي مِمَّنْ ضَاعَتْ حَتَّى عَرَّفَهَا حَوْلًا مَلَكَهَا لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ وُجِدَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ عُدْوَانٍ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ بِهِ، وَلَا يَمْلِكُ الْأَوَّلُ انْتِزَاعَهَا مِنْهُ، لِأَنَّ الْمِلْكَ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ التَّمَلُّكِ، وَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا فَلَهُ أَخْذُهَا مِنَ الثَّانِي وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّطْ فِي الْحِفْظِ.

تَمَلُّكُ اللُّقَطَةِ

14- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ جِوَازَ تَمَلُّكِ الْمُلْتَقِطِ اللُّقَطَةَ إِذَا عَرَّفَهَا لِلتَّمَلُّكِ سَنَةً أَوْ دُونَهَا وَلَمْ تُعْرَفْ، وَصَارَتْ مِنْ مَالِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ غَنِيًّا أَمْ فَقِيرًا وَتَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ عِنْدَ تَمَامِ التَّعْرِيفِ، كَمَا أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَرَى أَنَّ اللُّقَطَةَ لَا تَدْخُلُ مِلْكَ الْمُلْتَقِطِ حَتَّى يَخْتَارَ التَّمَلُّكَ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ كَتَمَلَّكْتُ مَا الْتَقَطْتُهُ، أَمَّا الْأَخْرَسُ فَتَكْفِي إِشَارَتُهُ الْمُفْهِمَةُ كَسَائِرِ عُقُودِهِ.

وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَمَلُّكُ اللُّقَطَةِ وَالِانْتِفَاعُ بِهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمُلْتَقِطُ فَقِيرًا، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَحْقِيقِ النَّظَرِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، نَظَرُ الثَّوَابِ لِلْمَالِكِ، وَنَظَرُ الِانْتِفَاعِ لِلْمُلْتَقِطِ، وَلِهَذَا جَازَ الدَّفْعُ إِلَى فَقِيرٍ غَيْرِهِ، كَمَا يَجُوزُ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى أَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ وَإِنْ كَانَ هُوَ غَنِيًّا.

وَوَلَدُ اللُّقَطَةِ كَاللُّقَطَةِ إِنْ كَانَتْ حَامِلًا عِنْدَ الْتِقَاطِهَا وَانْفَصَلَ مِنْهَا قَبْلَ تَمَلُّكِهَا، وَإِلاَّ مَلَكَهُ تَبَعًا لأُِمِّهِ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْهَاشِمِيِّ وَغَيْرِهِ، وَلَا بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فِي جِوَازِ تَمَلُّكِ اللُّقَطَةِ، أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَمَلُّكُ اللُّقَطَةِ لِمَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ كَالْغَنِيِّ.

وَإِذَا الْتَقَطَهَا اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ مَلَكَاهَا جَمِيعًا، وَإِنْ رَآهَا أَحَدُهُمَا وَأَخَذَهَا الْآخَرُ مَلَكَهَا الْآخِذُ دُونَ مَنْ رَآهَا، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ اللُّقَطَةِ بِالْأَخَذِ لَا بِالرُّؤْيَةِ كَالِاصْطِيَادِ.

وَاللُّقَطَةُ تُمْلَكُ مِلْكًا مُرَاعًى يَزُولُ بِمَجِيءِ صَاحِبِهَا، وَيَضْمَنُ لَهُ بَدَلَهَا إِنْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ وُجُوبُ الْعِوَضِ بِمَجِيءِ صَاحِبِهَا.

وَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى جِوَازِ تَمَلُّكِ اللُّقَطَةِ بَعْدَ حَوْلِ التَّعْرِيفِ، بِالْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: «مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَا عَدْلٍ أَوْ ذَوِي عَدْلٍ وَلَا يَكْتُمْ وَلَا يُغَيِّبْ، فَإِنْ وَجَدَ صَاحِبَهَا فَلْيَرُدَّهَا عَلَيْهِ، وَإِلاَّ فَهُوَ مَالُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ».

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ جِوَازِ التَّمَلُّكِ الْحَالَاتِ الْآتِيَةَ:

أ- اللُّقَطَةُ الَّتِي دَفَعَهَا لِلْحَاكِمِ وَتَرَكَ التَّعْرِيفَ وَالتَّمَلُّكَ ثُمَّ نَدِمَ وَأَرَادَ أَنْ يُعَرِّفَ وَيَتَمَلَّكَ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ.

ب- أَخْذُ اللُّقَطَةِ لِلْخِيَانَةِ.

ج- لُقَطَةُ الْحَرَمِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِذَا مَاتَ الْمُلْتَقِطُ وَاللُّقَطَةُ مَوْجُودَةٌ عِنْدَهُ بِعَيْنِهَا قَامَ مُوَرَّثُهُ مَقَامَهُ بِإِتْمَامِ تَعْرِيفِهَا إِنْ مَاتَ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَيَمْلِكُهَا بَعْدَ إِتْمَامِ التَّعْرِيفِ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْحَوْلِ وَرِثَهَا الْوَارِثُ كَسَائِرِ أَمْوَالِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا أَخَذَهَا مِنَ الْوَارِثِ كَمَا يَأْخُذُهَا مِنَ الْمُوَرِّثِ، فَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةَ الْعَيْنِ فَصَاحِبُهَا غَرِيمٌ لِلْمَيِّتِ بِمِثْلِهَا إِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، أَوْ بِقِيمَتِهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ، فَيَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ تَرِكَتِهِ إِنِ اتَّسَعَتْ لِذَلِكَ، فَإِنْ ضَاقَتِ التَّرِكَةُ زَاحَمَ الْغُرَمَاءَ بِبَدَلِهَا، سَوَاءٌ تَلِفَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ بِفِعْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، لِأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ بِمُضِيِّ الْحَوْلِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا تَلِفَتْ قَبْلَ الْحَوْلِ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِهَا لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ فَلَمْ يَضْمَنْهَا كَالْوَدِيعَةِ، وَكَذَلِكَ إِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ قِيلَ يَمْلِكُهَا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ عَلَى رَأْيِ مَنْ رَأَى أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ حَتَّى يَتَمَلَّكَهَا وَذَلِكَ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

الِاتِّجَارُ فِي اللُّقَطَةِ

15- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ يَدَ الْمُلْتَقِطِ عَلَى اللُّقَطَةِ يَدُ أَمَانَةٍ وَحِفْظٍ خِلَالَ الْحَوْلِ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاتِّجَارُ فِيهَا خِلَالَ هَذِهِ الْمُدَّةِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَعْرِيضًا لِلْهَلَاكِ أَوِ الضَّيَاعِ أَوِ النَّقْصِ بِفِعْلٍ مِنَ الْمُلْتَقِطِ عَنْ قَصْدٍ، إِذِ التِّجَارَةُ تَحْتَمِلُ الرِّبْحَ وَالْخَسَارَةَ، وَالْمُلْتَقِطُ مَمْنُوعٌ مِنْ تَعْرِيضِ مَا الْتَقَطَهُ لِلْهَلَاكِ أَوِ الضَّيَاعِ أَوِ النُّقْصَانِ، وَإِذَا اتَّجَرَ فِيهَا خِلَالَ الْحَوْلِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا، أَوْ ضَامِنٌ لِأَرْشِ نَقْصِهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَإِذَا رَبِحَتْ خِلَالَ الْحَوْلِ وَجَاءَ صَاحِبُهَا فَيَجِبُ عَلَى الْمُلْتَقِطِ رَدُّهَا إِلَيْهِ مَعَ زِيَادَتِهَا الْمُتَّصِلَةِ أَوِ الْمُنْفَصِلَةِ.

النَّفَقَةُ عَلَى اللُّقَطَةِ

16- اللُّقَطَةُ خِلَالَ مُدَّةِ التَّعْرِيفِ إِمَّا أَنْ تَحْتَاجَ إِلَى نَفَقَةٍ لِلْإِبْقَاءِ عَلَيْهَا كَمَا هُوَ الْحَالُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَنْعَامِ مِثْلُ نَفَقَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَأُجْرَةِ الرَّاعِي، وَإِمَّا أَنْ لَا تَحْتَاجَ إِلَى نَفَقَةٍ كَمَا فِي النُّقُودِ، وَإِمَّا أَنْ تَحْتَاجَ إِلَى بَعْضِ النَّفَقَةِ كَمَا فِي أُجْرَةِ الْحَمْلِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَمْتِعَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مُلْتَقِطَ الْأَنْعَامِ إِذَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا بِإِذْنِ الْحَاكِمِ وَأَمْرِهِ كَانَ مَا أَنْفَقَهُ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهَا لِأَنَّ لِلْحَاكِمِ وَالْقَاضِي وِلَايَةً فِي مَالِ الْغَائِبِ نَظَرًا لَهُ، وَقَدْ يَكُونُ النَّظَرُ بِالْإِنْفَاقِ، وَكَذَلِكَ الْحَالُ إِذَا أَنْفَقَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ عَلَى رَأْيِ مَالِكٍ بَيْنَمَا يَرَى الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ أَنَّهُ إِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ أَوِ الْقَاضِي فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ بِمَا أَنْفَقَهُ لِقُصُورِ وِلَايَتِهِ فِي مَالِ الْغَائِبِ بِإِشْغَالِ ذِمَّتِهِ بِالدَّيْنِ بِدُونِ أَمْرِهِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ السَّابِقُ فِيمَا إِذَا الْتَقَطَ مَا يُمْكِنُ بَقَاؤُهُ بِلَا إِنْفَاقٍ عَلَيْهِ كَالرُّطَبِ الَّذِي يَتَتَمَّرُ وَالْعِنَبِ الَّذِي يَتَزَبَّبُ وَاللَّبَنِ الَّذِي يَتَحَوَّلُ إِلَى أَقِطٍ إِنْ كَانَ الْأَحَظَّ وَالْأَفْضَلَ لِصَاحِبِهِ الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِ وَالِاحْتِفَاظُ بِهِ، وَإِلاَّ أَمَرَهُ الْقَاضِي بِبَيْعِهِ وَالِاحْتِفَاظِ بِثَمَنِهِ.

وَإِذَا رَفَعَ الْمُلْتَقِطُ الْأَمْرَ إِلَى الْحَاكِمِ نَظَرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ لِلْبَهِيمَةِ مَنْفَعَةٌ وَثَمَّ مَنْ يَسْتَأْجِرُهَا أَجَّرَهَا وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنْ أُجْرَتِهَا، لِأَنَّ فِيهِ إِبْقَاءً لِلْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا مِنْ غَيْرِ إِلْزَامِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَنْفَعَةٌ وَخَافَ أَنْ تَسْتَغْرِقَ النَّفَقَةُ قِيمَتَهَا بَاعَهَا وَأَمَرَ بِحِفْظِ ثَمَنِهَا، إِبْقَاءً لَهُ مَعْنًى عِنْدَ تَعَذُّرِ إِبْقَائِهِ صُورَةً، لِأَنَّ الثَّمَنَ يَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ إِذْ يَصِلُ بِهِ إِلَى مِثْلِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا أَذِنَ فِي ذَلِكَ وَجَعَلَ النَّفَقَةَ دَيْنًا عَلَى مَالِكِهَا، لِأَنَّهُ نُصِبَ نَاظِرًا، وَفِي هَذَا نَظَرٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِالْإِنْفَاقِ مُدَّةَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ عَلَى قَدْرِ مَا يُرْجَى أَنْ يَظْهَرَ مَالِكُهَا، فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ يَأْمُرُ بِبَيْعِهَا لِأَنَّ دَوَامَ النَّفَقَةِ مُسْتَأْصِلَةٌ بِالْعَيْنِ مَعْنًى، بَلْ رُبَّمَا تَذْهَبُ بِالْعَيْنِ وَيَبْقَى الدَّيْنُ عَلَى مَالِكِهَا وَلَا نَظَرَ فِي ذَلِكَ أَصْلًا، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذَ ذَلِكَ مِنَ الْقَاضِي لَوْ أَمَرَ بِهِ لِلتَّيَقُّنِ بِعَدِمِ النَّظَرِ، وَإِذَا بَاعَهَا أُعْطِيَ الْمُلْتَقِطُ مِنْ ثَمَنِهَا مَا أَنْفَقَ فِي الْيَوْمَيْنِ أَوِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّ الثَّمَنَ مَالُ صَاحِبِهَا وَالنَّفَقَةَ دَيْنٌ عَلَيْهِ بِعِلْمِ الْقَاضِي، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ إِذَا ظَفِرَ بِجَنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، فَإِنْ بَاعَهَا الْمُلْتَقِطُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْقَاضِي لَا يَنْفُذُ الْبَيْعُ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِذْنِ الْمَالِكِ، فَإِنْ جَاءَ وَهِيَ قَائِمَةٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ شَاءَ أَجَازَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ أَبْطَلَهُ وَأَخَذَهَا مِنْ يَدِهِ، وَإِنْ جَاءَ وَهِيَ هَالِكَةٌ فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ قِيمَتَهَا، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْبَائِعَ، فَإِنْ ضَمِنَ الْبَائِعُ نَفَذَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ مَلَكَ اللُّقَطَةَ مِنْ حِينِ أَخْذِهَا، وَكَانَ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ وَيَتَصَدَّقُ بِمَا زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ.

وَإِذَا حَضَرَ الْمَالِكُ وَقَدْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا الْمُلْتَقِطُ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ حَتَّى يُحْضِرَ النَّفَقَةَ، لِأَنَّهَا حَيَّةٌ بِنَفَقَتِهِ، فَصَارَ الْمَالِكُ كَأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْمِلْكَ مِنْ جِهَةِ الْمُلْتَقِطِ فَأَشْبَهَ الْمَبِيعَ، ثُمَّ لَا يَسْقُطُ دَيْنُ النَّفَقَةِ بِهَلَاكِ اللُّقَطَةِ فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ قَبْلَ الْحَبْسِ، وَيَسْقُطُ إِذَا هَلَكَ بَعْدَ الْحَبْسِ لِأَنَّهَا تَصِيرُ بِالْحَبْسِ شَبِيهَةً بِالرَّهْنِ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ حَقِّهِ بِهَا.

أَمَّا إِنْ أَنْفَقَ الْمُلْتَقِطُ عَلَى اللُّقَطَةِ وَانْتَفَعَ بِهَا كَأَنْ تَكُونَ دَابَّةً فَرَكِبَهَا أَوْ مَاشِيَةً فَحَلَبَهَا وَشَرِبَ لَبَنَهَا فَلَا يَرْجِعُ عَلَى مَالِكِهَا بِالنَّفَقَةِ التَّصَدُّقُ بِاللُّقَطَةِ

17- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جِوَازِ التَّصَدُّقِ بِاللُّقَطَةِ إِذَا عَرَّفَهَا الْمُلْتَقِطُ وَلَمْ يَحْضُرْ صَاحِبُهَا مُدَّةَ التَّعْرِيفِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى إِذْنِ الْحَاكِمِ، وَيَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.

وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ صَاحِبَ اللُّقَطَةِ إِذَا جَاءَ بَعْدَمَا تَصَدَّقَ بِهَا الْمُلْتَقِطُ فَهُوَ بِأَحَدِ خِيَارَاتٍ ثَلَاثٍ:

أ- إِنْ شَاءَ أَمَضَى الصَّدَقَةَ، لِأَنَّ التَّصَدُّقَ وَإِنْ حَصَلَ بِإِذْنِ الشِّرْعِ لَمْ يَحْصُلْ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَتِهِ، وَحُصُولُ الثَّوَابِ لِلْإِنْسَانِ يَكُونُ بِفِعْلٍ مُخْتَارٍ لَهُ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ قَبْلَ لُحُوقِ الْإِذْنِ وَالرِّضَا، فَبِالْإِجَازَةِ وَالرِّضَا يَصِيرُ كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ لِرِضَاهُ بِذَلِكَ.

ب- وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُلْتَقِطُ، لِأَنَّهُ سَلَّمَ مَالَهُ إِلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ بِإِبَاحَةٍ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الضَّمَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ، كَمَا فِي تَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ، وَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ مَعَ ثُبُوتِ الضَّمَانِ.

ج- وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمِسْكِينُ إِذَا هَلَكَ

الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ فِي يَدِهِ، لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَأَيَّهَا ضَمِنَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ.

تَرْكُ الْمَتَاعِ

18- سَبَقَ الْقَوْلُ أَنَّ مِلْكَ الْمَالِكِ لَا يَزُولُ إِلاَّ بِسَبَبٍ مَشْرُوعٍ، وَقَدْ يَظْهَرُ مِنْ فِعْلِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَخَلِّيهِ عَنْ مِلْكِهِ لِعَدَمِ حَاجَتِهِ، أَوْ لِتَقْصِيرِهِ عَنِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ، أَوْ لِحَقَارَةِ مَا فَقَدَهُ أَوْ سَقَطَ مِنْهُ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْمَالِكَ قَدْ تَخَلَّى عَنْهُ لِمَا تَقَدَّمَ فَيَجُوزُ أَخْذُهُ وَتَمَلُّكُهُ، وَلَا يُعَرِّفُهُ الْآخِذُ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ أَجْلِ مَعْرِفَةِ صَاحِبِهِ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ لِرِدِّ مَا فَقَدَهُ، أَمَّا وَأَنَّ الْمَالِكَ قَدْ تَخَلَّى عَنْهُ فَلَا يُرَدُّ إِلَيْهِ، كَمَا فِي إِلْقَاءِ بَعْضِ الْأَثَاثِ فِي مَوَاضِعِ الْقُمَامَةِ أَوْ خَارِجَ الْبُيُوتِ لَيْلًا، وَكَمَا هُوَ الْحَالُ بِالنِّسْبَةِ لِلسَّنَابِلِ السَّاقِطَةِ أَثْنَاءَ الْحَصَادِ وَعَلَى الطُّرُقَاتِ وَكَسُقُوطِ السَّوْطِ وَالْعَصَا وَحَبَّاتٍ مِنَ التَّمْرِ فِي الطَّرِيقِ، فَمِثْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَجُوزُ أَخْذُهَا وَالِانْتِفَاعُ بِهَا وَلَا تُعَرَّفُ.

الْجُعْلُ عَلَى اللُّقَطَةِ

19- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ جِوَازَ أَخْذِ الْجُعْلِ، إِنْ جَعَلَ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ جُعْلًا مَعْلُومًا لِمَنْ وَجَدَهَا، فَلِلْمُلْتَقِطِ أَخْذُ الْجُعْلِ إِنْ كَانَ الْتَقَطَهَا بَعْدَ أَنْ بَلَغَهُ الْجُعْلُ، لِأَنَّ الْجَعَالَةَ فِي رَدِّ الضَّالَّةِ وَالْآبِقِ وَغَيْرِهِمَا جَائِزَةٌ بِدَلِيلِ قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}.

وَمِنَ الْحَدِيثِ مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ- رضي الله عنه- «أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَتَوْا حَيًّا مِنَ الْعَرَبِ فَلَمْ يَقْرُوهُمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ فَقَالُوا: هَلْ فِيكُمْ رَاقٍ؟ فَقَالُوا: لَمْ تَقْرُونَا فَلَا نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعَ شِيَاهٍ، فَجَعَلَ رَجُلٌ يَجْمَعُ بُزَاقَهُ وَيَتْفُلُ وَيَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، فَبَرَأَ الرَّجُلُ فَأَتَوْا بِالشَّاةِ فَقَالُوا: لَا نَأْخُذُهَا حَتَّى نَسْأَلَ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: وَمَا يَدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ، اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا».

وَالْحَاجَةُ تَدْعُو أَحْيَانًا كَثِيرَةً إِلَى جَعْلِ جُعْلٍ عَلَى رِدِّ اللُّقَطَةِ، طَلَبًا لِلسُّرْعَةِ فِي رَدِّهَا، وَلِأَنَّهُ قَدْ لَا يَجِدُ مَنْ يَتَبَرَّعُ بِهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الْجُعْلَ لِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ فَيَقُولُ: إِنْ رَدَدْتَ لُقَطَتِي فَلَكَ دِينَارٌ مَثَلًا، فَيَجْتَهِدُ هَذَا فِي الْبَحْثِ عَنْهَا وَرَدِّهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الْجُعْلَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَيَقُولُ: مَنْ رَدَّ عَلَيَّ ضَالَّتِي فَلَهُ كَذَا فَمَنْ رَدَّهَا عَلَيْهِ اسْتَحَقَّ الْجُعْلَ أَمَّا إِنْ رَدَّ اللُّقَطَةَ أَوِ الضَّالَّةَ عَلَى صَاحِبِهَا وَلَمْ يَجْعَلْ جُعْلًا عَلَيْهَا فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، لِأَنَّهُ عَمَلٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِوَضَ مَعَ الْمُعَاوَضَةِ فَلَا يَسْتَحِقُّ مَعَ عَدِمِهَا كَالْعَمَلِ فِي الْإِجَارَةِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ إِنِ الْتَقَطَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ الْجُعْلُ فَرَدَّهَا لِعِلَّةِ الْجُعْلِ، لِأَنَّهُ الْتَقَطَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَعَمِلَ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ جَعْلِ جُعْلٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، كَمَا لَوِ الْتَقَطَهَا وَلَمْ يَجْعَلْ رَبُّهَا فِيهَا شَيْئًا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


103-موسوعة الفقه الكويتية (مداعبة)

مُدَاعَبَةٌ

التَّعْرِيفُ:

ا- الْمُدَاعَبَةُ لُغَةً: الْمُمَازَحَةُ، وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِجَابِرٍ- رضي الله عنه- وَقَدْ تَزَوَّجَ: «أَبِكْرًا تَزَوَّجْتَ أَمْ ثَيِّبًا؟ فَقَالَ: بَلْ ثَيِّبًا، قَالَ: فَهَلاَّ بِكْرًا تُدَاعِبُهَا وَتُدَاعِبُكَ».

وَالْمُدَاعَبَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: هِيَ الْمُلَاطَفَةُ فِي الْقَوْلِ بِالْمِزَاحِ وَغَيْرِهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْمُلَاعَبَةُ:

2- الْمُلَاعَبَةُ مَصْدَرُ لَاعَبَ، يُقَالُ: لَاعَبَهُ مُلَاعَبَةً وَلِعَابًا: لَعِبَ مَعَهُ، وَمِنْ مَعَانِي اللَّعِبِ: اللَّهْوُ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} وَيُقَالُ: لَعِبَ بِالشَّيْءِ: اتَّخَذَهُ لِعْبَةً، وَيُقَالُ: لَعِبَ فِي الدِّينِ، اتَّخَذَهُ سُخْرِيَّةً، وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا}.

وَمِنْ مَعَانِيهِ: عَمِلَ عَمَلًا لَا يُجْدِي عَلَيْهِ نَفْعًا، ضِدُّ جَدَّ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُدَاعَبَةِ وَالْمُلَاعَبَةِ هِيَ أَنَّ الْمُلَاعَبَةَ أَعَمُّ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

3- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ- كَمَا قَالَ الزُّبَيْدِيُّ- فِي حُكْمِ الْمُدَاعَبَةِ وَالْمِزَاحِ

فَاسْتَبْعَدَ بَعْضُهُمْ وُقُوعَ الْمِزَاحِ مِنْهُ- صلى الله عليه وسلم- لِجَلِيلِ مَكَانَتِهِ وَعَظِيمِ مَرْتَبَتِهِ، فَكَأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ حِكْمَتِهِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «إِنِّي لَا أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا».

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَلِ الْمُدَاعَبَةُ مِنْ خَوَاصِّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَلَا يَتَأَسَّوْنَ بِهِ فِيهَا؟ فَبَيَّنَ- صلى الله عليه وسلم- لَهُمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ خَوَاصِّهِ.

وَالْمُدَاعَبَةُ لَا تُنَافِي الْكَمَالَ، بَلْ هِيَ مِنْ تَوَابِعِهِ وَمُتَمِّمَاتِهِ إِذَا كَانَتْ جَارِيَةً عَلَى الْقَانُونِ الشَّرْعِيِّ، بِأَنْ تَكُونَ عَلَى وَفْقِ الصِّدْقِ، وَبِقَصْدِ تَآلُفِ قُلُوبِ الضُّعَفَاءِ وَجَبْرِهِمْ وَإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ وَالرِّفْقِ بِهِمْ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُمَارِ أَخَاكَ وَلَا تُمَازِحْهُ» إِنَّمَا هُوَ الْإِفْرَاطُ فِيهَا وَالدَّوَامُ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ يُورِثُ آفَاتٍ كَثِيرَةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً مِنَ الْقَسْوَةِ وَالْغَفْلَةِ وَالْإِيذَاءِ وَالْحِقْدِ وَإِسْقَاطِ الْمَهَابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَمِزَاحُهُ- صلى الله عليه وسلم- سَالِمٌ مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ، يَقَعُ مِنْهُ عَلَى جِهَةِ النُّدْرَةِ لِمَصْلَحَةٍ تَامَّةٍ مِنْ مُؤَانَسَةِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَهُوَ بِهَذَا الْقَصْدِ سُنَّةٌ، إِذِ الْأَصْلُ مِنْ أَفْعَالِهِ- صلى الله عليه وسلم- وُجُوبُ التَّأَسِّي بِهِ فِيهَا أَوْ نَدْبُهُ، إِلاَّ لِدَلِيلٍ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا دَلِيلَ هُنَا يَمْنَعُ مِنْهُ، فَتَعَيَّنَ النَّدْبُ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ.

مُدَاعَبَةُ الْأَزْوَاجِ:

4- قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ: وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى احْتِمَالِ الْأَذَى مِنِ امْرَأَتِهِ بِالْمُدَاعَبَةِ وَالْمِزَاحِ وَالْمُلَاعَبَةِ، فَهِيَ الَّتِي تُطَيِّبُ قُلُوبَ النِّسَاءِ، وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ لَا يُوَافِقَهَا بِاتِّبَاعِ هَوَاهَا إِلَى حَدٍّ يُفْسِدُ خُلُقَهَا وَيُسْقِطُ بِالْكُلِّيَّةِ هَيْبَتَهُ عِنْدَهَا.

(ر: عِشْرَةٌ ف 8).

وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما-: «أَفَلَا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «وَتُدَاعِبُهَا وَتُدَاعِبُكَ» وَفِي رِوَايَةٍ: «وَتُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ».

مُدَاعَبَةُ الْأَطْفَالِ:

5- جَاءَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ- قَالَ: أَحْسَبُهُ فَطِيمًا- وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ».

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الْمُمَازَحَةِ وَتَكْرِيرُ الْمِزَاحِ، وَأَنَّهَا إِبَاحَةٌ سُنَّةٍ لَا رُخْصَةٍ، وَأَنَّ مُمَازَحَةَ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يُمَيِّزْ جَائِزَةٌ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


104-موسوعة الفقه الكويتية (مساقاة 3)

مُسَاقَاةٌ -3

انْفِسَاخُ الْمُسَاقَاةِ

تَنْفَسِخُ الْمُسَاقَاةِ بِالْمَوْتِ، وَمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَالِاسْتِحْقَاقِ، وَتَصَرُّفِ الْمَالِكِ، وَالْفَسْخِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

أ- الْمَوْتُ:

44- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي فَسْخِ الْمُسَاقَاةِ بِالْمَوْتِ.

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تَبْطُلُ الْمُسَاقَاةُ بِالْمَوْتِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ، فَلَوْ طَرَأَ الْمَوْتُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَلَا يُلْزَمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ لِلْآخَرِ.

وَلَوْ طَرَأَ الْمَوْتُ بَعْدَ نُضْجِ الثَّمَرِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَقُسِمَ الثَّمَرُ بَيْنَهُمَا عَلَى حَسَبِ الشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ.

وَلَوْ طَرَأَ الْمَوْتُ وَالثَّمَرُ فِجٌّ فَقَالُوا بِبَقَاءِ الْعَقْدِ حُكْمًا وَإِنْ بَطَلَ قِيَاسًا، وَفَرَّقُوا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:

الْحَالُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَمُوتَ رَبُّ الْأَرْضِ وَلَمَّا يَنْضَجِ الثَّمَرُ، بِأَنْ كَانَ بُسْرًا أَوْ فِجًّا، فَيَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَقُومَ بِهِ حَتَّى يَنْضَجَ وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ وَرَثَتُهُ لِأَنَّ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ إِضْرَارًا بِهِ وَإِبْطَالًا لِمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ وَهُوَ تَرْكُ الثِّمَارِ فِي الْأَشْجَارِ إِلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ، فَإِذَا انْتَقَضَ الْعَقْدُ، تَكَلَّفَ الْجُذَاذَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ وَإِذَا جَازَ نَقْضُ الْإِجَارَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَلِأَنْ يَجُوزَ بَقَاؤُهَا لِدَفْعِهِ أَوْلَى، وَلَا ضَرَرَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْوَرَثَةِ فَلَوْ أَرَادَ الْعَامِلُ تَحَمُّلَ الضَّرَرَ وَرَضِيَ بِقَطْعِ الثَّمَرِ فِجًّا أَوْ بُسْرًا، تَخَيَّرَ وَرَثَةُ الْمَالِكِ بَيْنَ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يَقْسِمُوا الْبُسْرَ عَلَى الشَّرْطِ.

الثَّانِي: أَنْ يُعْطُوهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ يَوْمَئِذٍ فِجًّا، وَيَبْقَى الثَّمَرُ لَهُمْ.

الثَّالِثُ: أَنْ يُنْفِقُوا عَلَيْهِ بِأَمْرِ الْقَاضِي ثُمَّ يَرْجِعُوا عَلَى الْعَامِلِ بِجَمِيعِ مَا أَنْفَقُوا، لِأَنَّ الْعَمَلَ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ بَدَلُهُ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِمْ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَامِلَ لَمَّا امْتَنَعَ عَنِ الْعَمَلِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إِبْقَاءَ الْعَقْدِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْبُطْلَانِ وَهُوَ الْمَوْتُ اسْتِحْسَانًا لِلنَّظَرِ لَهُ وَقَدْ تَرَكَ هُوَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ، فَيُخَيَّرُ الْوَرَثَةُ بَيْنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمْ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.

الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَمُوتَ الْعَامِلُ وَالثَّمَرُ كَذَلِكَ بُسْرٌ، فَيَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ، إِنْ شَاءَ يَسْتَمِرَّ عَلَى الْعَمَلِ حَتَّى نُضُوجِ الثَّمَرِ وَلَا يَحِقُّ لِصَاحِبِ الْأَشْجَارِ مَنْعُهُ؛ لِأَنَّهُ نَظَرَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْجَانِبَيْنِ، وَإِذَا امْتَنَعَ الْوَارِثُ عَنِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْعَمَلِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْعَمَلِ، وَلَكِنْ يَكُونُ صَاحِبُ الشَّجَرِ مُخَيَّرًا بِأَحَدِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ التَّالِيَةِ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: إِنْ شَاءَ اقْتَسَمَ الثَّمَرَ الْغَيْرَ النَّاضِجِ مَعَ الْوَارِثِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوطِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: وَإِنْ شَاءَ أَدَّى لِلْوَارِثِ حِصَّتَهُ مِنْ قِيمَةِ الثَّمَرِ الْغَيْرِ النَّاضِجِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَإِنْ شَاءَ يَصْرِفْ قَدْرًا مَعْرُوفًا بِإِذْنِ الْقَاضِي وَيَسْتَمِرُّ عَلَى الْعَمَلِ، وَيَأْخُذُ الْمَبْلَغَ الْمَصْرُوفَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْوَارِثِ، وَلَكِنْ لَا يَتَجَاوَزُ هَذَا الْمَبْلَغُ الْمَصْرُوفُ فِي أَيِّ حَالٍ حِصَّتَهُ مِنَ الثَّمَرِ.

الْحَالُ الثَّالِثُ: إِذَا تُوُفِّيَ كِلَاهُمَا فَيَكُونُ وَرَثَةُ الْعَامِلِ مُخَيَّرِينَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَ الْعَامِلِ، وَقَدْ كَانَ لَهُ فِي حَيَاتِهِ هَذَا الْخِيَارُ بَعْدَ مَوْتِ رَبِّ الْأَرْضِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالَ الدَّرْدِيرُ: وَإِذَا لَمْ تَنْفَسِخْ- أَيِ الْمُسَاقَاةُ- بِالْفَلَسِ الطَّارِئِ فَكَذَا بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ كَالْفَلَسِ، وَالْمُسَاقَاةَ كَالْكِرَاءِ لَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُتَكَارِيَيْنِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ وَفَرَّقُوا بَيْنَ مَوْتِ الْمَالِكِ وَمَوْتِ الْعَامِلِ:

فَإِنْ مَاتَ مَالِكُ الشَّجَرِ فِي أَثَنَاءِ الْمُدَّةِ لَمْ تَنْفَسِخِ الْمُسَاقَاةُ بَلْ يَسْتَمِرُّ الْعَامِلُ وَيَأْخُذُ نَصِيبَهُ.

وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ الْوَارِثُ، أَيْ إِذَا سَاقَى الْمُوَرِّثُ مَنْ يَرِثُهُ ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّ الْمُسَاقَاةَ تَنْفَسِخُ وَكَذَا لَوْ سَاقَى الْبَطْنُ الْأَوَّلُ الْبَطْنَ الثَّانِيَ ثُمَّ مَاتَ الْأَوَّلُ فِي أَثَنَاءِ الْمُدَّةِ وَكَانَ الْوَقْفُ وَقْفَ تَرْتِيبٍ فَيَنْبَغِي أَنْ تَنْفَسِخَ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ.

وَإِنْ مَاتَ الْعَامِلُ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْمُسَاقَاةُ عَلَى عَيْنِهِ أَوْ عَلَى ذِمَّتِهِ: فَإِنْ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ عَلَى عَيْنِهِ انْفَسَخَتِ الْمُسَاقَاةُ بِمَوْتِهِ كَمَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِ الْأَجِيرِ الْمُعَيَّنِ، وَقَيَّدَهُ السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ بِمَا إِذَا مَاتَ قَبْلَ تَمَامِ الْعَمَلِ وَإِلاَّ بِأَنْ لَمْ يَبْقَ إِلاَّ نَحْوُ التَّجْفِيفِ فَلَا تَنْفَسِخُ.

وَإِنْ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ عَلَى الذِّمَّةِ، فَوَجْهَانِ:

الْأَوَّلُ: تَنْفَسِخُ، لِأَنَّهُ لَا يَرْضَى بِيَدِ غَيْرِهِ، وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ التَّفْرِيعُ: لَا تَنْفَسِخُ كَالْإِجَارَةِ بَلْ يُنْظَرُ:

أ- إِنْ خَلَّفَ تَرِكَةً تَمَّمَ وَارِثُهُ الْعَمَلَ، بِأَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَعْمَلُ وَإِلاَّ، فَإِنْ أَتَمَّ الْعَمَلَ بِنَفْسِهِ أَوِ اسْتَأْجَرَ مِنْ مَالِهِ مَنْ يُتَمِّمُ، فَعَلَى الْمَالِكِ تَمْكِينُهُ إِنْ كَانَ مُهْتَدِيًا إِلَى أَعْمَالِ الْمُسَاقَاةِ وَيُسَلِّمُ لَهُ الْمَشْرُوطَ، وَإِنْ أَبَى لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ عَلَى الصَّحِيحِ.

ب- وَإِنْ لَمْ يُخَلِّفْ تَرِكَةً لَمْ يَقْتَرِضْ عَلَى الْمَيِّتِ وَلِلْوَارِثِ أَنْ يُتِمَّ الْعَمَلَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَالِهِ وَيُسَلِّمَ لَهُ الْمَشْرُوطَ.

قَالَ الْغَزَالِيُّ فَإِنْ أَبَى لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرِكَةٌ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ أُجْرَةَ الْعَمَلِ الْمَاضِي وَفُسِخَ الْعَقْدُ لِلْمُسْتَقْبَلِ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ، فَالْمُسَاقَاةُ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهَا كَمَا لَوْ فَسَخَهَا أَحَدُهُمَا.

وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِلُزُومِهَا- وَهُوَ غَيْرُ الظَّاهِرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- فَلَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَيَجْرِي الْحُكْمُ عَلَى نَحْوِ التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ فِي مَوْتِ الْعَامِلِ وَلَمْ يَتْرُكْ تَرِكَةً، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرِكَةٌ أَوْ تَعَذَّرَ الِاسْتِئْجَارُ مِنْهَا بِيعَ مِنْ نَصِيبِ الْعَامِلِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِتَكْمِيلِ الْعَمَلِ وَاسْتُؤْجِرَ مَنْ يَعْمَلُهُ وَإِنْ بَاعَهُ أَيْ نَصِيبَ الْعَامِلِ هُوَ أَوْ وَارِثُهُ لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ بِالْعَمَلِ جَازَ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ.

ب- مُضِيُّ الْمُدَّةِ:

45- الْغَالِبُ أَنْ تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْمُسَاقَاةِ وَقَدْ نَضِجَ الثَّمَرُ فَيَنْتَهِي الْعَقْدُ وَيُقْسَمُ الثَّمَرُ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ يَحْدُثُ أَنْ تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْمُسَاقَاةِ وَالثَّمَرُ فِجٌّ، وَالْقِيَاسُ يَقْضِي بِبُطْلَانِ الْعَقْدِ كَمَا يَقْضِي بِبُطْلَانِهِ لِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، لَكِنَّ الِاسْتِحْسَانَ يَقْضِي بِبَقَائِهِ حُكْمًا هُنَا كَمَا قَضَى بِبَقَائِهِ هُنَاكَ بِسَبَبِ الْمَوْتِ، وَذَلِكَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَفْقَ الْأَحْكَامِ التَّالِيَةِ:

أ- يَتَخَيَّرُ الْعَامِلُ بَيْنَ الْمُضِيِّ فِي الْعَمَلِ عَلَى الشَّرْطِ حَتَّى يُدْرِكَ وَبَيْنَ تَرْكِهِ.

ب- إِذَا اخْتَارَ الْمُضِيَّ فِي الْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَجْرُ حِصَّتِهِ حَتَّى يُدْرِكَ الثَّمَرُ، لِأَنَّ الشَّجَرَ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ، وَهُوَ بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ حَيْثُ يَجِبُ الْأَجْرُ عَلَيْهِ لِجَوَازِ اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ.

ج- الْعَمَلُ كُلُّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْعَامِلِ وَحْدَهُ هُنَا، لِعَدَمِ وُجُوبِ الْأَجْرِ عَلَيْهِ لِصَاحِبِ الشَّجَرِ بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ، فَإِنَّ الْعَمَلَ فِيهَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا بِنِسْبَةِ- حِصَصِهِمَا، لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَى الْعَامِلِ مِنْ أَجْرِ الْأَرْضِ بِنِسْبَةِ نَصِيبِهِ مِنَ الْخَارِجِ وَجَبَ عَلَى الْمَالِكِ عَمَلُ مِثْلِ نِسْبَةِ نَصِيبِهِ مِنَ الْخَارِجِ، لِأَنَّ بِانْتِهَاءِ الْعَقْدِ أَصْبَحَ الزَّرْعُ مَالًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا.

وَإِنِ اخْتَارَ الْعَامِلُ التَّرْكَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْعَمَلِ، لَكِنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ قَطْفِ الثَّمَرِ فِجًّا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْمَالِكِ وَيَتَخَيَّرُ هَذَا عِنْدَئِذٍ بَيْنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ سَابِقًا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى أَحْكَامِ انْفِسَاخِ الْمُسَاقَاةِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ:

فَإِنِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَلَمْ يَحْصُلِ الطَّلْعُ، فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ فِيمَا عَمِلَ وَيَضِيعُ تَعَبُهُ فِي الْمُدَّةِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا ثَمَرَةٌ، لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى ذَلِكَ.

وَإِنِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَعَلَى الشَّجَرِ الطَّلْعُ فَعِنْدَ الْبَغَوِيِّ وَالرَّافِعِيِّ يَكُونُ التَّعَهُّدُ إِلَى الْإِدْرَاكِ عَلَى الْمَالِكِ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي عَصْرُونَ عَلَيْهِمَا، وَلَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ لِتَبْقِيَتِهَا أُجْرَةً.

وَلِأَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ يَمْلِكُ حِصَّتَهُ مِنَ الثَّمَرِ بِظُهُورِهِ وَانْعِقَادِهِ بَعْدَ الظُّهُورِ.

وَإِنْ أَدْرَكَتِ الثِّمَارُ قَبْلَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ وَجَبَ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَعْمَلَ بَقِيَّتَهَا بِغَيْرِ أُجْرَةٍ.

ج- الِاسْتِحْقَاقُ:

46- إِذَا اسْتُحِقَّ الشَّجَرُ الْمُسَاقَى عَلَيْهِ وَفَسَخَ الْمُسْتَحِقُّ الْمُسَاقَاةَ تَنْفَسِخُ وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُنْظَرُ: فَإِذَا كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ حَصَلَ بَعْدَ ظُهُورِ الثَّمَرِ فَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ مِنْ صَاحِبِ الشَّجَرِ، وَإِذَا كَانَ قَبْلَ ظُهُورِ الثَّمَرِ فَلَا يَأْخُذُ الْعَامِلُ شَيْئًا.

وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَدْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ عَلَى تَفْصِيلٍ ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ الْأُخْرَى.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا اسْتَحَقَّ الْحَائِطَ بَعْدَ عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ فِيهِ خُيِّرَ الْمُسْتَحِقُّ بَيْنَ إِبْقَاءِ الْعَمَلِ وَفَسْخِ عَقْدِهِ، لِكَشْفِ الْغَيْبِ أَنَّ الْعَاقِدَ لَهُ غَيْرُ مَالِكٍ، وَحِينَئِذٍ فَيَدْفَعُ لَهُ أُجْرَةَ عَمَلِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ خَرَجَ الثَّمَرُ بَعْدَ الْعَمَلِ مُسْتَحَقًّا لِغَيْرِ الْمُسَاقِي كَأَنْ أَوْصَى بِثَمَنِ الشَّجَرِ الْمُسَاقَى عَلَيْهِ أَوْ خَرَجَ الشَّجَرُ مُسْتَحَقًّا فَلِلْعَامِلِ عَلَى الْمُسَاقِي أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِعَمَلِهِ، لِأَنَّهُ فَوَّتَ مَنَافِعَهُ بِعِوَضٍ فَاسِدٍ فَيَرْجِعُ بِبَدَلِهَا، هَذَا إِذَا عَمِلَ جَاهِلًا بِالْحَالِ، فَإِنْ عَلِمَ الْحَالَ فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَكَذَا إِذَا كَانَ الْخُرُوجُ قَبْلَ الْعَمَلِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ ظَهَرَ الشَّجَرُ مُسْتَحَقًّا بَعْدَ الْعَمَلِ أَخَذَ الشَّجَرَ رَبُّهُ وَأَخَذَ ثَمَرَتَهُ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ وَلَا حَقَّ لِلْعَامِلِ فِي ثَمَرَتِهِ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ عَلَى رَبِّ الشَّجَرِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الْعَمَلِ وَلِلْعَامِلِ عَلَى الْغَاصِبِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ لِأَنَّهُ غَرَّهُ وَاسْتَعْمَلَهُ.

وَقَالُوا أَيْضًا: وَإِنِ اسْتُحِقَّتِ الثَّمَرَةُ بَعْدَ أَنِ اقْتَسَمَهَا الْغَاصِبُ وَالْعَامِلُ وَأَكَلَاهَا فَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ فَلَهُ تَضْمِينُهُ الْكُلَّ وَلَهُ تَضْمِينُهُ قَدْرَ نَصِيبِهِ لِأَنَّ الْغَاصِبَ سَبَبُ يَدِ الْعَامِلِ فَلَزِمَهُ ضَمَانُ الْجَمِيعِ، وَلَهُ تَضْمِينُ الْعَامِلِ قَدْرَ نَصِيبِهِ لِتَلَفِهِ تَحْتَ يَدِهِ فَإِنْ ضَمَّنَ الْمَالِكُ الْغَاصِبَ الْكُلَّ رَجَعَ عَلَى الْعَامِلِ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ، وَيَرْجِعُ الْعَامِلُ عَلَى الْغَاصِبِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ لِأَنَّهُ غَرَّهُ.

د- تَصَرُّفُ الْمَالِكِ:

47- الْمُرَادُ بِتَصَرُّفِ الْمَالِكِ: بَيْعُ الْمَالِكِ الْحَدِيقَةَ الَّتِي سَاقَى عَلَيْهَا فِي الْمُدَّةِ أَوْ هِبَتُهَا؛ أَوْ رَهْنُهَا، أَوْ وَقْفُهَا.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: بَيْعُ الْحَدِيقَةِ الَّتِي سَاقَى عَلَيْهَا فِي الْمُدَّةِ يُشْبِهُ بَيْعَ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، لَكِنْ فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيُّ: أَنَّ الْمَالِكَ إِنْ بَاعَهَا قَبْلَ خُرُوجِ الثَّمَرَةِ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ لِلْعَامِلِ حَقًّا فِي ثِمَارِهَا، فَكَأَنَّهُ اسْتَثْنَى بَعْضَ الثَّمَرَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ خُرُوجِ الثَّمَرَةِ صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْأَشْجَارِ وَنَصِيبُ الْمَالِكِ مِنَ الثِّمَارِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى شَرْطِ الْقَطْعِ لِأَنَّهَا مَبِيعَةٌ مَعَ الْأُصُولِ، وَيَكُونُ الْعَامِلُ مَعَ الْمُشْتَرِي كَمَا كَانَ مَعَ الْبَائِعِ.

وَإِنْ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنَ الثَّمَرَةِ وَحْدَهَا، لَمْ يَصِحَّ لِلْحَاجَةِ إِلَى شَرْطِ الْقَطْعِ وَتَعَذُّرِهِ فِي الشَّائِعِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْبَغَوِيُّ حَسَنٌ.

قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ قَالَ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَبْتَاعُ الْأَرْضَ وَقَدْ سَاقَاهَا صَاحِبُهَا رَجُلًا قَبْلَ ذَلِكَ سِنِينَ، فَقَالَ الْمُسَاقِي: أَنَا أَحَقُّ بِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَنِي (فَقَالَ) لَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ سِقَائِهِ إِلاَّ أَنْ يَتَرَاضَيَا.

هـ- الْفَسْخُ بِالْإِقَالَةِ وَالْعُذْرِ

48- لَمَّا كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ عَقْدًا لَازِمًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ كَمَا سَبَقَ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِفَسْخِهَا، وَإِنَّمَا تُفْسَخُ بِمَا تَنْفَسِخُ بِهِ الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ وَذَلِكَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:

الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: الِاتِّفَاقُ الصَّرِيحُ عَلَى الْفَسْخِ وَالْإِقَالَةِ، وَلَا يُخَالِفُ فِي هَذَا أَحَدٌ.

وَالَّذِينَ يَرَوْنَ مِنَ الْفُقَهَاءِ- كَالْحَنَابِلَةِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِمْ- أَنَّ الْمُسَاقَاةَ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ، يَسْتَجِيزُونَ لِكِلَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْفَسْخَ، فَإِنْ وَقَعَ بَعْدَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ، فَالثَّمَرَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ وَعَلَى الْعَامِلِ إِتْمَامُ الْعَمَلِ، وَإِنْ وَقَعَ الْفَسْخُ قَبْلَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ: فَإِنْ كَانَ الَّذِي فَسَخَ هُوَ الْعَامِلَ فَلَا شَيْءَ لَهُ، لِأَنَّهُ رَضِيَ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَالِكَ فَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ لِلْعَامِلِ لِأَنَّهُ مَنَعَهُ إِتْمَامَ عَمَلِهِ.

الْأَمْرُ الثَّانِي: الْفَسْخُ بِالْعُذْرِ: وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:

الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ: جَوَازُ الْفَسْخِ لِحُدُوثِ عُذْرٍ بِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَ الْعَقْدُ حِينَ الْعُذْرِ لَلَزِمَ صَاحِبَ الْعُذْرِ ضَرَرٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُمُ الْمَالِكِيَّةُ فِي أَصْلِ جَوَازِ الْفَسْخِ بِالْعُذْرِ.

الْمَذْهَبُ الثَّانِي: عَدَمُ جَوَازِ الْفَسْخِ بِالْأَعْذَارِ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ لَازِمٌ وَهُوَ بِاتِّفَاقِهِمَا فَلَا يَنْفَسِخُ إِلاَّ بِاتِّفَاقِهِمَا.

(ر: إِجَارَةٌ ف 64- 65).

نَوْعَا الْفَسْخِ بِالْعُذْرِ

الْعُذْرُ لِجِهَةِ الْعَاقِدَيْنِ نَوْعَانِ: عُذْرُ الْمَالِكِ، وَأَعْذَارُ الْعَامِلِ.

الْأَوَّلُ: عُذْرُ الْمَالِكِ:

49- فَمِنْ عُذْرِ الْمَالِكِ أَنْ يَفْدَحَهُ دَيْنٌ لَا يَجِدُ لَهُ قَضَاءً إِلاَّ بِبَيْعِ الشَّجَرِ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ أَمْكَنَ الْفَسْخُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِالْعَامِلِ، كَأَنْ يَفْسَخَ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَامِلُ أَوْ بَعْدَ أَنْ عَمِلَ وَقَدْ أَدْرَكَ الثَّمَرُ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَبِيعُ الْأَرْضَ بِدَيْنِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَفْسَخُ الْعَقْدَ وَلَا تَنْفَسِخُ الْمُسَاقَاةُ بِمُجَرَّدِ طُرُوءِ الْعُذْرِ.

وَتَجْوِيزُ الْفَسْخِ فِي هَذِهِ الْحَالِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمَالِكِ إِذَا كَانَ لَا يُمْكِنُهُ الْمُضِيُّ فِي الْعَقْدِ إِلاَّ بِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ، فَلَا يَلْزَمُهُ الضَّرَرُ وَذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى فَسْخِ الْإِجَارَةِ بِهِ.

وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْفَسْخُ إِلاَّ بِضَرَرٍ، كَمَا لَوْ كَانَ بَعْدَ أَنْ عَمِلَ الْعَامِلُ وَقَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ الثَّمَرُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَلَا أَنْ يَبِيعَ الشَّجَرَ، بَلْ يَبْقَى حُكْمُ الْعَقْدِ حَتَّى يَبْلُغَ الثَّمَرُ، فَعِنْدَئِذٍ يَبِيعُ نَصِيبَهُ مِنَ الثَّمَرِ، وَيَبِيعُ الشَّجَرَ فِي دَيْنِهِ، وَيُفْسَخُ الْعَقْدُ فِيمَا بَقِيَ، لِأَنَّ الشَّرِكَةَ انْعَقَدَتْ بَيْنَهُمَا فِي الثَّمَرِ، وَلِإِدْرَاكِهِ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَفِي الِانْتِظَارِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَفِي نَقْضِ الْمُعَامَلَةِ إِضْرَارٌ بِالْعَامِلِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ فِيهِ إِبْطَالَ حَقِّهِ مِنْ نَصِيبِ الثَّمَرِ، فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ قُلْنَا: يُمْنَعُ الْمَالِكُ مِنْ بَيْعِ الشَّجَرِ، وَيَبْقَى الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا إِلَى أَنْ يُدْرِكَ مَا خَرَجَ مِنَ الثَّمَرِ.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمُسَاقَاةَ لَا تَنْفَسِخُ بِإِفْلَاسِ الْمَالِكِ إِذَا طَرَأَ الْفَلَسُ عَلَى الْعَقْدِ قَبْلَ الْعَمَلِ أَوْ بَعْدَهُ، بَلْ يُبَاعُ الشَّجَرُ عَلَى أَنَّهُ مُسَاقًى وَلَوْ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ سِنِينَ، كَمَا تُبَاعُ الدَّارُ عَلَى أَنَّهَا مُسْتَأْجَرَةٌ.

الثَّانِي: أَعْذَارُ الْعَامِلِ:

50- مِنْ أَهَمِّ أَعْذَارِ الْعَامِلِ:

أ- عَجْزُ الْعَامِلِ عَنِ الْعَمَلِ.

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا عَجَزَ الْعَامِلُ عَنِ الْعَمَلِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ أَوِ الشَّيْخُوخَةِ.

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا عَجَزَ الْعَامِلُ عَنِ الْعَمَلِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ الَّذِي يُضْعِفُهُ عَنِ الْعَمَلِ، أَوِ الشَّيْخُوخَةِ، جَازَ فَسْخُ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِلْزَامَهُ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ زِيَادَةُ ضَرَرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْعَقْدِ، كَمَا لَا يُؤْمَرُ بِاسْتِئْجَارِ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَهُ لِأَنَّ فِيهِ أَيْضًا إِلْحَاقَ ضَرَرٍ لَمْ يَلْتَزِمْهُ فِي الْعَقْدِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا عَجَزَ الْعَامِلُ وَقَدْ حَلَّ بَيْعُ الثَّمَرِ لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِكِ أَنْ يُسَاقِيَ غَيْرَهُ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَعْمَلُ أَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَعْمَلُ وَإِنْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ اسْتُؤْجِرَ مِنْ حَظِّهِ مِنَ الثَّمَرِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا ضَعُفَ الْعَامِلُ وَهُوَ أَمِينٌ، ضُمَّ إِلَيْهِ عَامِلٌ قَوِيٌّ أَمِينٌ وَلَا تُنْزَعُ يَدُهُ، لِأَنَّ الْعَمَلَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ وَلَا ضَرَرَ فِي بَقَاءِ يَدِهِ.

أَمَّا إِنْ عَجَزَ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّهُ يُقَامُ مَقَامَهُ مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهِ وَلَا يُفْسَخُ الْعَقْدُ، لِأَنَّ عَلَيْهِ تَوْفِيَةَ الْعَمَلِ وَهَذَا مِنْ تَوْفِيَتِهِ.

وَلِلشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي جَوَازِ الْفَسْخِ لِطُرُوءِ الْمَرَضِ عَلَى عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ وَكَذَا الْهَرَبُ أَوِ الْحَبْسُ أَوِ الِامْتِنَاعُ عَنِ الْعَمَلِ، سَوَاءٌ كَانَتْ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعَمَلِ أَوْ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهِ.

قَالُوا: إِنْ تَبَرَّعَ غَيْرُهُ بِعَمَلِهِ وَلَوْ كَانَ الْمُتَبَرِّعُ الْمَالِكَ، بَقِيَ حَقُّ الْعَامِلِ، لِأَنَّ مَا يُنْفِقُهُ أَحَدُهُمَا مِمَّا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ يُعْتَبَرُ مُتَبَرِّعًا فِيهِ.

لَكِنْ إِنْ كَانَ الْمُتَبَرِّعُ أَجْنَبِيًّا فَلِلْمَالِكِ فَسْخُ الْعَقْدِ، إِذْ قَدْ لَا يَرْضَى بِدُخُولِهِ مِلْكَهُ.

وَإِنْ لَمْ يَتَبَرَّعْ غَيْرُهُ رُفِعَ الْأَمْرُ إِلَى الْحَاكِمِ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ لِلْعَامِلِ مَالٌ وَالْمُسَاقَاةُ عَلَى ذِمَّتِهِ: اسْتَأْجَرَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مَنْ يُتِمُّ الْعَمَلَ، وَإِلاَّ بِأَنْ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ عَلَى عَيْنِ الْعَامِلِ لَا يَسْتَأْجِرُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمَالِكَ مُخَيَّرٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ بَيْنَ الْفَسْخِ وَبَيْنَ الْإِبْقَاءِ.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَامِلِ مَالٌ فَإِنْ ظَهَرَتِ الثَّمَرَةُ اسْتَأْجَرَ مِنْهَا، وَإِلاَّ فَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِئْجَارُ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِمُؤَجَّلٍ إِلَى ظُهُورِ الثَّمَرَةِ فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اقْتَرَضَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِكِ أَوْ غَيْرِهِ وَيُوَفَّى نَصِيبَهُ مِنَ الثَّمَرَةِ، أَوْ أَذِنَ الْمَالِكُ فِي الْإِنْفَاقِ، لَكِنْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا أَنْفَقَ.

أَمَّا إِنْ لَمْ يَقْدِرِ الْمَالِكُ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْحَاكِمِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَاكِمٌ، أَوْ رَفَضَ الْحَاكِمُ إِجَابَتَهُ، أَوْ عَجَزَ عَنْ إِثْبَاتِ دَعْوَاهُ مَرَضُ الْعَامِلِ أَوْ هَرَبُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْمَالِكِ الْإِشْهَادُ عَلَى مَا يُنْفِقُهُ أَوْ يَعْمَلُهُ إِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ بِمَا أَنْفَقَ أَوْ بِأُجْرَةِ مَا عَمِلَ، وَوَجَبَ أَيْضًا التَّصْرِيحُ بِالرُّجُوعِ فِي إِشْهَادِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِشْهَادُهُ كَذَلِكَ فَلَا رُجُوعَ لَهُ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْإِشْهَادُ أَيْضًا لَا رُجُوعَ لَهُ فِي الْأَصَحِّ لِأَنَّهُ عُذْرٌ نَادِرٌ، وَلَكِنْ لَهُ الْحَقُّ فِي الْفَسْخِ إِنْ شَاءَ.

ب- سَفَرُ الْعَامِلِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، لِمُطَالَبَةِ غَرِيمٍ لَهُ أَوِ الْحَجِّ.

ج- تَرْكُ حِرْفَتِهِ، لِأَنَّ مِنَ الْحِرَفِ مَا لَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ فَيَحْتَاجُ إِلَى الِانْتِقَالِ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُهُ مِنَ الْعَمَلِ.

وَمَعَ ذَلِكَ ذُكِرَتْ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- رِوَايَتَانِ فِي الْفَسْخِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ- الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ وَتَرْكِ الْحِرْفَةِ- وَفِي الْهِدَايَةِ وَالْعِنَايَةِ عَلَيْهَا أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ صَحَّحُوا التَّوْفِيقَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِمْ: إِنَّهَا عُذْرٌ يُبِيحُ الْفَسْخَ إِذَا شَرَطَ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ، كَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعُذْرٍ مُبِيحٍ لِلْفَسْخِ إِذَا أَطْلَقَ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَنِيبَ غَيْرَهُ فِي الْعَمَلِ مَنَابَهُ.

وَفِي كَيْفِيَّةِ الْفَسْخِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا رِوَايَتَانِ: فَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْفَسْخُ بِالْقَضَاءِ.

فَيَنْفَرِدُ ذُو الْعُذْرِ بِالْفَسْخِ، وَفِي رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ أَوِ التَّرَاضِي.

د- إِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَامِلَ لِصٌّ، يُخَافُ مِنْهُ عَلَى الشَّجَرِ أَوِ الثَّمَرِ فَلِلْمَالِكِ فَسْخُ الْعَقْدِ.وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَتْ خِيَانَةُ الْعَامِلِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ أَوْ يَمِينٍ مَرْدُودَةٍ مِنَ الْعَامِلِ عَلَى الْمَالِكِ ضُمَّ إِلَيْهِ مُشْرِفٌ إِلَى أَنْ يَتِمَّ الْعَمَلُ، وَعَلَى الْعَامِلِ أُجْرَةُ الْمُشْرِفِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ حِفْظُهُ بِالْمُشْرِفِ اسْتُؤْجِرَ مِنْ مَالِ الْعَامِلِ عَامِلٌ يُتِمُّ الْعَمَلَ، وَعَلَى الْعَامِلِ أُجْرَةُ الْمُشْرَفِ أَيْضًا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ ثَبَتَتْ خِيَانَةُ عَامِلٍ فِي الْمُسَاقَاةِ بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ أَوْ يَمِينٍ مَرْدُودَةٍ ضُمَّ إِلَيْهِ مُشْرِفٌ إِلَى أَنْ يُتِمَّ الْعَمَلَ وَلَا تُزَالُ يَدُهُ، لِأَنَّ الْعَمَلَ حَقٌّ عَلَيْهِ وَيُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، فَتَعَيَّنَ سُلُوكُهُ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ، وَأُجْرَةُ الْمُشْرِفِ عَلَيْهِ، نَعَمْ لَوْ لَمْ تَثْبُتِ الْخِيَانَةُ وَلَكِنِ ارْتَابَ الْمَالِكُ فِيهِ فَإِنَّهُ يُضَمُّ إِلَيْهِ مُشْرِفٌ وَأُجْرَتُهُ حِينَئِذٍ عَلَى الْمَالِكِ، فَإِنْ لَمْ يَتَحَفَّظْ بِالْمُشْرِفِ أُزِيلَتْ يَدُهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَاسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الْعَامِلِ مَنْ يُتِمُّ الْعَمَلَ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْعَمَلِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ مِنْهُ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، نَعَمْ إِنْ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ عَلَى عَيْنِهِ فَظَاهِرٌ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: أَنَّهُ لَا يَسْتَأْجِرُ عَنْهُ بَلْ يَثْبُتُ لِلْمَالِكِ الْخِيَارُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، وَلَا يُفْسَخُ الْعَقْدُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يُتَحَفَّظَ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ التَّحَفُّظُ سَاقَى الْحَاكِمُ عَلَيْهِ عَامِلًا آخَرَ.

ثُمَّ إِنْ كَانَ الْجُزْءُ الْمُتَّفَقُ عَلَى الْعَامِلِ الثَّانِي أَقَلَّ مِنَ الْأَوَّلِ أَوْ أَكْثَرَ فَالزِّيَادَةُ لَهُ وَالنَّقْصُ عَلَيْهِ.

أَحْكَامُ الْفَسْخِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ:

51- إِذَا حَدَثَتْ هَذِهِ الْعَوَارِضُ قَبْلَ أَنْ يُثْمِرَ الشَّجَرُ انْتَقَضَ الْعَقْدُ وَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ وَإِنْ كَانَ قَدْ سَقَى الشَّجَرَ وَقَامَ عَلَيْهِ وَحَفِظَهُ، لِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ شَرِكَةٌ فِي الْخَارِجِ، وَلَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ بِهِ تَتَحَقَّقُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَقِيلَ هَذَا الْحُكْمُ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ اسْتِرْضَاءُ الْعَامِلِ فِي الدِّيَانَةِ.

وَإِنْ حَدَثَتْ بَعْدَ أَنْ أَزْهَرَ الشَّجَرُ أَوْ أَثْمَرَ وَلَمَّا يَنْضَجْ بَعْدُ فَالْحُكْمُ مَا يَأْتِي:

أ- يَبْقَى الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا فِي الْعَقْدِ حَتَّى يَكْتَمِلَ نُضْجُهُ.

ب- الْعَمَلُ فِي الشَّجَرِ فِيمَا بَقِيَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّهُ عَمَلٌ فِي مَالٍ مُشْتَرَكٍ لَمْ يُشْتَرَطِ الْعَمَلُ فِيهِ عَلَى أَحَدِهِمَا فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا.

ج- عَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَدْفَعَ أَجْرَ مِثْلِ نِصْفِ الشَّجَرِ إِلَى الْمَالِكِ، لِانْتِهَاءِ الْعَقْدِ بِالْفَسْخِ، وَفِي قَطْفِ الثَّمَرِ فِي حَالِهِ الرَّاهِنَةِ إِضْرَارٌ بِهِ، وَفِي تَرْكِهِ بِلَا أَجْرٍ إِضْرَارٌ بِصَاحِبِ الْأَرْضِ فَكَانَ فِي التَّرْكِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ نَظَرٌ لِلطَّرَفَيْنِ.

د- وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الشَّجَرِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، رِعَايَةً لِحَقِّ الْعَامِلِ إِلاَّ أَنْ يُجِيزَهُ وَيُسْقِطَ حَقَّهُ.

وَالْمَالِكِيَّةُ يُجِيزُونَ بَيْعَ الشَّجَرِ وَهُوَ مُسَاقًى وَلَوْ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ إِلَى سِنِينَ كَمَا تُبَاعُ الدَّارُ عَلَى أَنَّهَا مُسْتَأْجَرَةٌ.

هـ- إِنِ اسْتُحِقَّتِ الْأَرْضُ أَوِ الشَّجَرُ كَانَ الثَّمَرُ لِلْمُسْتَحِقِّ لِتَبَعِيَّتِهِ لِلشَّجَرِ وَيَرْجِعُ الْعَامِلُ عَلَى الَّذِي دَفَعَ إِلَيْهِ الشَّجَرَ مُسَاقَاةً بِأَجْرِ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ، لِفَسَادِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ فِي الْمُسَاقَاةِ فَيَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الثَّمَرِ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ مُسْتَوْفًى بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَيَسْتَوْجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ.

وَإِنْ حَدَثَتْ هَذِهِ الْعَوَارِضُ بَعْدَ نُضْجِ الثَّمَرِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ.

حُكْمُ الْجَائِحَةِ وَغَيْرِهَا فِي الْمُسَاقَاةِ

52- إِذَا أُجِيحَ الْحَائِطُ كُلُّهُ انْفَسَخَتْ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ، وَهَذَا مُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ حَيْثُ ذَكَرَ أَنَّ الْبَغَوِيَّ قَالَ: إِنَّهُ إِذَا تَلِفَتِ الثِّمَارُ كُلُّهَا بِالْجَائِحَةِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: نَقَلَ الْمُتَوَلِّي: أَنَّهُ إِذَا لَمْ تُثْمِرِ الْأَشْجَارُ أَصْلًا أَوْ تَلِفَتِ الثِّمَارُ كُلُّهَا بِجَائِحَةٍ أَوْ غَصْبٍ، فَعَلَى الْعَامِلِ إِتْمَامُ الْعَمَلِ وَإِنْ تَضَرَّرَ بِهِ، كَمَا أَنَّ عَامِلَ الْقِرَاضِ يُكَلَّفُ التَّنْضِيضَ وَإِنْ ظَهَرَ خُسْرَانٌ وَلَمْ يَنَلْ إِلاَّ التَّعَبَ، وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ: أَنَّهُ إِذَا تَلِفَتِ الثِّمَارُ كُلُّهَا بِالْجَائِحَةِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ بَعْدَ تَمَامِ الْعَمَلِ وَتَكَامُلِ الثِّمَارِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا هَلَكَ بَعْضُهُ عَلَى تَفْصِيلٍ ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَإِذَا أُجِيحَ بَعْضُ الْحَائِطِ سَقَطَ عَنْهُ بَعْضُ مَا أُجِيحَ مِنْهُ، إِذَا كَانَ لَا يُرْجَى مِنْهُ ثَمَرَةٌ، وَمَا جُذَّ مِنَ النَّخْلِ لَمْ يَلْزَمْهُ سَقْيُهَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْقِيَ مَا لَمْ يَجُذَّ حَتَّى يَجُذَّ وَإِنْ جَذَّ غَيْرُهُ قَبْلَهُ.

وَإِنْ أُجِيحَ ثُلُثُهُ فَصَاعِدًا فَعَنْ مَالِكٍ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْعَامِلَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْمُسَاقَاةِ وَالْإِقَامَةِ عَلَيْهَا، وَالْأُخْرَى: أَنَّ الْمُسَاقَاةَ لَازِمَةٌ لَهُمَا، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْجَائِحَةُ أَتَتْ عَلَى قِطْعَةٍ مِنَ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ بِعَيْنِهَا، فَتَنْفَسِخُ الْمُسَاقَاةُ فِيهَا وَحْدَهَا دُونَ مَا سِوَاهَا.

وَإِنْ أَتْلَفَتِ الْجَائِحَةُ أَقَلَّ مِنْ ثُلُثِ الْحَائِطِ، فَالْمُسَاقَاةُ صَحِيحَةٌ لَازِمَةٌ.

وَلَوِ انْهَارَتِ الْبِئْرُ انْفَسَخَتِ الْمُسَاقَاةُ إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ الْعَامِلُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِهِ فِي صَلَاحِ الْبِئْرِ، وَيَكُونُ عَلَى مُسَاقَاتِهِ، وَيَرْتَهِنُ صَاحِبُ الْحَائِطِ مِنَ الثَّمَرَةِ بِمَا أَنْفَقَ، فَذَلِكَ لَهُ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهَا فَلِلْعَامِلِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَلَا شَيْءَ لَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يُجِيزَ وَيُتِمَّ الْعَمَلَ وَيَأْخُذَ نَصِيبَهُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


105-موسوعة الفقه الكويتية (مسبوق)

مَسْبُوقٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمَسْبُوقُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ مَفْعُولٍ، فِعْلُهُ سَبَقَ، يُقَالُ: سَبَقَهُ إِذَا تَقَدَّمَهُ

وَالْمَسْبُوقُ فِي الِاصْطِلَاحِ: مَنْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِبَعْضِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ أَوْ بِجَمِيعِهَا، أَوْ هُوَ الَّذِي أَدْرَكَ الْإِمَامَ بَعْدَ رَكْعَةٍ أَوْ أَكْثَرَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْمُدْرِكُ:

2- الْمُدْرِكُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ فَاعِلٍ فِعْلُهُ أَدْرَكَ، يُقَالُ: أَدْرَكَهُ إِذَا لَحِقَهُ وَتَدَارَكُوا: تَلَاحَقُوا، أَيْ لَحِقَ آخِرُهُمْ أَوَّلَهُمْ وَمِنْهُ قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا}.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الَّذِي يُدْرِكُ الْإِمَامَ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، أَيْ يُدْرِكُ جَمِيعَ رَكَعَاتِ الْإِمَامِ.

فَالْمُدْرِكُ مَنْ لَمْ يَفُتْهُ شَيْءٌ مِنْ رَكَعَاتِ صَلَاتِهِ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ.

ب- اللاَّحِقُ:

3- اللاَّحِقُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ لَحِقَ، يُقَالُ: لَحِقَهُ: أَدْرَكَهُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ اللاَّحِقُ: مَنْ فَاتَتْهُ الرَّكَعَاتُ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا بَعْدَ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ اللاَّحِقِ وَالْمَسْبُوقِ: أَنَّ الْمَسْبُوقَ تَفُوتُهُ رَكْعَةٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ أَوَّلِ الصَّلَاةِ، وَاللاَّحِقُ تَفُوتُهُ رَكْعَةٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ آخِرِ الصَّلَاةِ أَوْ وَسَطِهَا.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَسْبُوقِ

تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْبُوقِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

مُتَابَعَةُ الْمَسْبُوقِ إِمَامَهُ فِي الصَّلَاةِ

4- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَسْبُوقَ إِذَا تَخَلَّفَ فِي صَلَاتِهِ بِرَكْعَةٍ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّهُ يَتْبَعُ إِمَامَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ يَأْتِي بِمَا فَاتَهُ مِنْ صَلَاتِهِ.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ قَضَى الْمَسْبُوقُ مَا سُبِقَ بِهِ ثُمَّ تَابَعَ إِمَامَهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ مُصَحَّحَانِ، وَاسْتَظْهَرَ فِي الْبَحْرِ الْقَوْلَ بِالْفَسَادِ، لِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الِانْفِرَادَ فِي مَوْضِعِ الِاقْتِدَاءِ مُفْسِدٌ، وَنَقَلَ عَنِ الْبَزَّازِيَّةِ أَنَّ عَدَمَ الْفَسَادِ أَقْوَى لِسُقُوطِ التَّرْتِيبِ، وَعَنْ جَامِعِ الْفَتَاوَى: يَجُوزُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَقَالُوا: يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ خَالَفَ السُّنَّةَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا: الْمَسْبُوقُ إِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الَّتِي يَجْهَرُ فِيهَا لَا يَأْتِي بِالثَّنَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ بَعِيدًا أَوْ قَرِيبًا أَوْ لَا يَسْمَعُ لِصَمَمِهِ، فَإِذَا قَامَ إِلَى قَضَاءِ مَا سُبِقَ يَأْتِي بِالثَّنَاءِ وَيَتَعَوَّذُ لِلْقِرَاءَةِ، وَفِي صَلَاةِ الْمُخَافَتَةِ يَأْتِي بِهِ، وَيَسْكُتُ الْمُؤْتَمُّ عَنِ الثَّنَاءِ إِذَا جَهَرَ الْإِمَامُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَإِنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ يَتَحَرَّى إِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِهِ أَدْرَكَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ يَأْتِي بِهِ قَائِمًا، وَإِلاَّ يُتَابِعُ الْإِمَامَ وَلَا يَأْتِي بِهِ، وَإِذَا لَمْ يُدْرِكِ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ لَا يَأْتِي بِهِمَا، وَإِنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الْقَعْدَةِ لَا يَأْتِي بِالثَّنَاءِ بَلْ يُكَبِّرُ لِلِافْتِتَاحِ ثُمَّ لِلِانْحِطَاطِ ثُمَّ يَقْعُدُ.

وَقَالُوا: إِنَّ الْمَسْبُوقَ بِبَعْضِ الرَّكَعَاتِ يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، وَإِذَا أَتَمَّ التَّشَهُّدَ لَا يَشْتَغِلُ بِمَا بَعْدَهُ مِنَ الدَّعَوَاتِ، قَالَ ابْنُ الشُّجَاعِ: إِنَّهُ يُكَرِّرُ التَّشَهُّدَ إِلَى قَوْلِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَسْبُوقَ يَتَرَسَّلُ فِي التَّشَهُّدِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ التَّشَهُّدِ عِنْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ الْإِمَامَ فِي غَيْرِ الْقِيَامِ لَا يَأْتِي بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ، حَتَّى قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي التَّبْصِرَةِ: لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَافِعًا مِنَ الرُّكُوعِ حِينَ كَبَّرَ لِلْإِحْرَامِ لَمْ يَأْتِ بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ، بَلْ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ.إِلَى آخِرِهِ مُوَافَقَةً لِلْإِمَامِ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ فِي الْقِيَامِ وَعَلِمَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ دُعَاءُ الِاسْتِفْتَاحِ وَالتَّعَوُّذُ وَالْفَاتِحَةُ أَتَى بِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَقَالَهُ الْأَصْحَابُ، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي التَّبْصِرَةِ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعَجِّلَ فِي قِرَاءَتِهِ وَيَقْرَأَ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ يُنْصِتُ لِقِرَاءَةِ إِمَامِهِ.

وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ، أَوْ شَكَّ لَمْ يَأْتِ بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِ دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ مَعَ التَّعَوُّذِ وَالْفَاتِحَةِ وَلَا يُمْكِنُهُ كُلُّهُ، أَتَى بِالْمُمْكِنِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ.

وَقَالُوا: وَلَوْ أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، فَكَبَّرَ وَقَعَدَ، فَسَلَّمَ مَعَ أَوَّلِ قُعُودِهِ قَامَ، وَلَا يَأْتِي بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ لِفَوَاتِ مَحِلِّهِ، وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ قَبْلَ قُعُودِ الْمَسْبُوقِ لَا يَقْعُدُ وَيَأْتِي بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا حَضَرَ الْمَسْبُوقُ فَوَجَدَ الْإِمَامَ فِي الْقِرَاءَةِ، وَخَافَ رُكُوعَهُ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنَ الْفَاتِحَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْرَأَ دُعَاءَ الِاسْتِفْتَاحِ وَالتَّعَوُّذِ، بَلْ يُبَادِرُ إِلَى الْفَاتِحَةِ؛ لِأَنَّهَا فَرْضٌ فَلَا يَشْتَغِلُ عَنْهُ بِالنَّفْلِ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إِذَا قَالَ الدُّعَاءَ وَالتَّعَوُّذَ أَدْرَكَ تَمَامَ الْفَاتِحَةِ اسْتُحِبَّ الْإِتْيَانُ بِهِمَا.

وَلَوْ رَكَعَ الْإِمَامُ وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يُتِمُّ الْفَاتِحَةَ، وَالثَّانِي: يَرْكَعُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ قِرَاءَتُهَا؛ لِأَنَّ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ آكَدُ، وَلِهَذَا لَوْ أَدْرَكَهُ رَاكِعًا سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ، قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَالثَّالِثُ: هُوَ الْأَصَحُّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيُّ وَصَحَّحَهُ الْقَفَّالُ: أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا مِنْ دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ وَالتَّعَوُّذِ رَكَعَ وَسَقَطَ عَنْهُ بَقِيَّةُ الْفَاتِحَةِ، وَإِنْ قَالَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَزِمَهُ أَنْ يَقْرَأَ مِنَ الْفَاتِحَةِ بِقَدْرِهِ لِتَقْصِيرِهِ بِالتَّشَاغُلِ.

وَقَالَ: وَلَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ فَمَكَثَ الْمَسْبُوقُ بَعْدَ سَلَامِهِ جَالِسًا وَطَالَ جُلُوسُهُ، إِنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ تَشَهُّدِهِ الْأَوَّلِ جَازَ وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ جُلُوسٌ مَحْسُوبٌ مِنْ صَلَاتِهِ، وَلِأَنَّ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ يَجُوزُ تَطْوِيلُهُ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعَ تَشَهُّدِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْلِسَ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ، لِأَنَّ جُلُوسَهُ كَانَ لِلْمُتَابَعَةِ وَقَدْ زَالَتْ، فَإِنْ جَلَسَ مُتَعَمِّدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا لَمْ تَبْطُلْ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ.

وَلَوْ كَانَ الْمَأْمُومُ مَسْبُوقًا بِرَكْعَةٍ أَوْ شَاكًّا فِي تَرْكِ رُكْنٍ كَالْفَاتِحَةِ، فَقَامَ الْإِمَامُ إِلَى الْخَامِسَةِ لَمْ يَجُزْ لِلْمَأْمُومِ مُتَابَعَتُهُ فِيهَا.

وَقْتُ قِيَامِ الْمَسْبُوقِ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ

5- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يَقُومُ الْمَسْبُوقُ إِلَى الْقَضَاءِ بَعْدَ التَّسْلِيمَتَيْنِ أَوِ التَّسْلِيمَةِ، بَلْ يَنْتَظِرُ فَرَاغَ الْإِمَامِ، وَيَمْكُثُ حَتَّى يَقُومَ الْإِمَامُ إِلَى تَطَوُّعِهِ إِنْ كَانَ صَلَاةٌ بَعْدَهَا تَطَوُّعٌ، أَوْ يَسْتَدْبِرُ الْمِحْرَابَ إِنْ كَانَ لَا تَطَوُّعَ بَعْدَهَا، أَوْ يَنْتَقِلُ عَنْ مَوْضِعِهِ، أَوْ يَمْضِي مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ سَهْوٌ لَسَجَدَ.

وَلَا يَقُومُ الْمَسْبُوقُ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ بَعْدَ قَدْرِ التَّشَهُّدِ إِلاَّ فِي مَوَاضِعَ: إِذَا خَافَ الْمَسْبُوقُ الْمَاسِحُ زَوَالَ مُدَّتِهِ، أَوْ خَافَ صَاحِبُ الْعُذْرِ خُرُوجَ الْوَقْتِ، أَوْ خَافَ الْمَسْبُوقُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ دُخُولَ وَقْتِ الْعَصْرِ، أَوْ دُخُولَ الظُّهْرِ فِي الْعِيدَيْنِ، أَوْ فِي الْفَجْرِ طُلُوعَ الشَّمْسِ، أَوْ خَافَ أَنْ يَسْبِقَهُ الْحَدَثُ، فَلَهُ أَنْ لَا يَنْتَظِرَ فَرَاغَ الْإِمَامِ وَلَا سُجُودَ السَّهْوِ، وَكَذَلِكَ إِذَا خَافَ الْمَسْبُوقُ أَنْ يَمُرَّ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ لَوِ انْتَظَرَ الْإِمَامُ قَامَ إِلَى قَضَاءِ مَا سَبَقَ قَبْلَ فَرَاغِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَقُومُ الْمَسْبُوقُ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ بَعْدَ سَلَامِ إِمَامِهِ، فَإِنْ قَامَ لَهُ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ لِلْمَسْبُوقِ أَنْ لَا يَقُومَ لِيَأْتِيَ بِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ إِلاَّ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنَ التَّسْلِيمَتَيْنِ، فَإِنْ قَامَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ قَوْلِهِ:

السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فِي الْأُولَى جَازَ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ بِالْأُولَى، فَإِنْ قَامَ قَبْلَ شُرُوعِ الْإِمَامِ فِي التَّسْلِيمَتَيْنِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَلَوْ قَامَ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي السَّلَامِ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ قَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَامَ قَبْلَ شُرُوعِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَقُومُ الْمَسْبُوقُ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ بَعْدَ سَلَامِ إِمَامِهِ مِنَ الثَّانِيَةِ، فَإِنْ قَامَ قَبْلَ سَلَامِ إِمَامِهِ وَلَمْ يَرْجِعْ لِيَقُومَ بَعْدَ سَلَامِهَا انْقَلَبَتْ صَلَاتُهُ نَفْلًا.

تَدَارُكُ الْمَسْبُوقِ الرَّكْعَةَ:

6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَسْبُوقَ إِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ فَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ، لِقَوْلِه - صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ فَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ».

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: وَهَذَا إِذَا أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ إِمَامَهُ فِي جُزْءٍ مِنَ الرُّكُوعِ وَلَوْ دُونَ الطُّمَأْنِينَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: هَذَا إِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي طُمَأْنِينَةِ الرُّكُوعِ، أَوِ انْتَهَى إِلَى قَدْرِ الْإِجْزَاءِ مِنَ الرُّكُوعِ قَبْلَ أَنْ يَزُولَ الْإِمَامُ عَنْ قَدْرِ الْإِجْزَاءِ، فَهَذَا يُعْتَدُّ لَهُ بِالرَّكْعَةِ وَيَكُونُ مُدْرِكًا لَهَا، فَإِذَا أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ الْإِمَامَ بَعْدَ فَوَاتِ الْحَدِّ الْمُجْزِئِ مِنَ الرُّكُوعِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ، لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ فِيمَا أَدْرَكَ وَإِنْ لَمْ يُحْسَبْ لَهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا قَامَ الْإِمَامُ إِلَى خَامِسَةٍ جَاهِلًا، فَاقْتَدَى بِهِ مَسْبُوقٌ عَالِمًا بِأَنَّهَا خَامِسَةٌ، فَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ فِي مُعْظَمِ الطُّرُقِ: أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي رَكْعَةٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَغْوٌ.

7- وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ مَا أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ مِنَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ فَهُوَ آخِرُ صَلَاتِهِ، وَمَا يَقْضِيهِ أَوَّلُهَا.وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّ مَا يَقْضِيهِ الْمَسْبُوقُ أَوَّلُ صَلَاتِهِ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَوَّلُهَا فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ وَآخِرُهَا فِي حَقِّ التَّشَهُّدِ. وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: الْمَسْبُوقُ يَقْضِي أَوَّلَ صَلَاتِهِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ وَآخِرَهَا فِي التَّشَهُّدِ، حَتَّى لَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْمَغْرِبِ قَضَى رَكْعَتَيْنِ، وَيَفْصِلُ بِقَعْدَةٍ فَيَكُونُ بِثَلَاثِ قَعَدَاتٍ، وَقَرَأَ فِي كُلٍّ فَاتِحَةً وَسُورَةً، وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي إِحْدَاهُمَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا قَامَ الْمَسْبُوقُ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ قَضَى الْقَوْلَ وَالْمُرَادُ بِهِ خُصُوصُ الْقِرَاءَةِ وَصِفَتُهَا مِنْ سِرٍّ أَوْ جَهْرٍ، بِأَنْ يَجْعَلَ مَا فَاتَهُ قَبْلَ دُخُولِهِ مَعَ الْإِمَامِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَوَّلَ صَلَاتِهِ وَمَا أَدْرَكَهُ مَعَهُ آخِرَهَا، وَبَنَى الْفِعْلَ، وَالْمُرَادُ بِالْفِعْلِ مَا عَدَا الْقِرَاءَةِ بِصِفَتِهَا فَيَشْمَلُ التَّسْمِيعَ وَالتَّحْمِيدَ وَالْقُنُوتَ، بِأَنْ يَجْعَلَ مَا أَدْرَكَهُ مَعَهُ أَوَّلَ صَلَاتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَفْعَالِ، وَمَا فَاتَهُ آخِرَهَا، فَيَكُونُ فِيهِ كَالْمُصَلِّي وَحْدَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمُدْرِكُ ثَانِيَةِ الصُّبْحِ مَعَ الْإِمَامِ يَقْنُتُ فِي رَكْعَةِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهَا آخِرَتُهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْفِعْلِ الَّذِي مِنْهُ الْقُنُوتُ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ؛ لِأَنَّهَا آخِرَتُهُ وَهُوَ فِيهَا كَالْمُصَلِّي وَحْدَهُ.

فَمَنْ أَدْرَكَ أَخِيرَةَ الْمَغْرِبِ قَامَ بِلَا تَكْبِيرٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْلِسْ فِي ثَانِيَتِهِ، وَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ جَهْرًا؛ لِأَنَّهُ قَاضِي الْقَوْلِ، أَيْ يَجْعَلُ مَا فَاتَهُ أَوَّلَ صَلَاتِهِ، وَأَوَّلُهَا بِالْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ جَهْرًا، وَيَجْلِسُ لِلتَّشَهُّدِ؛ لِأَنَّهُ بَانِي الْفِعْلِ أَيْ جَعَلَ مَا أَدْرَكَهُ مَعَهُ أَوَّلَ صَلَاتِهِ وَهَذِهِ الَّتِي أَتَى بِهَا هِيَ الثَّانِيَةُ، وَالثَّانِيَةُ يَجْلِسُ بَعْدَهَا، ثُمَّ بِرَكْعَةٍ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ جَهْرًا؛ لِأَنَّهَا الثَّانِيَةُ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَوْلِ- أَيِ الْقِرَاءَةِ- وَيَجْمَعُ بَيْنَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَرَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ لِأَنَّهُ بَانٍ كَالْمُصَلِّي وَحْدَهُ فِي الْأَفْعَالِ.

وَمَنْ أَدْرَكَ أَخِيرَةَ الْعِشَاءِ أَتَى بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ بِرَكْعَةٍ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ جَهْرًا لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَوْلِ، فَيَقْضِي كَمَا فَاتَ وَيَجْلِسُ لِلتَّشَهُّدِ لِأَنَّهَا ثَانِيَتُهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَفْعَالِ، ثُمَّ بِرَكْعَةٍ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ جَهْرًا لِأَنَّهَا ثَانِيَتُهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَقْوَالِ، وَلَا يَجْلِسُ بَعْدَهَا لِأَنَّهَا ثَانِيَتُهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَقْوَالِ، وَلَا يَجْلِسُ بَعْدَهَا لِأَنَّهَا ثَالِثَتُهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَفْعَالِ، ثُمَّ بِرَكْعَةٍ بِالْفَاتِحَةِ فَقَطْ سِرًّا لِأَنَّهَا آخِرُ صَلَاتِهِ، وَمَنْ أَدْرَكَ الْأَخِيرَتَيْنِ مِنْهَا أَتَى بِرَكْعَتَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ جَهْرًا لِمَا تَقَدَّمَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَا أَدْرَكَهُ الْمَسْبُوقُ مَعَ الْإِمَامِ فَهُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ، وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْدَ سَلَامِ إِمَامِهِ آخِرُهَا، لِقَوْلِه - صلى الله عليه وسلم-: «فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا»،، وَإِتْمَامُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ أَوَّلِهِ، وَعَلَى هَذَا إِذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الصُّبْحِ وَقَنَتَ مَعَ الْإِمَامِ، فَإِنَّهُ يُعِيدُ الْقُنُوتَ، وَلَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْمَغْرِبِ مَعَ الْإِمَامِ تَشَهَّدَ فِي ثَانِيَتِهِ نَدْبًا، لِأَنَّهَا مَحِلُّ تَشَهُّدِهِ الْأَوَّلِ، وَتَشَهُّدُهُ مَعَ الْإِمَامِ لِلْمُتَابَعَةِ، وَذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ مَا يُدْرِكُهُ أَوَّلَ صَلَاتِهِ.

سُجُودُ الْمَسْبُوقِ لِلسَّهْوِ

8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَسْبُوقَ يَسْجُدُ مَعَ إِمَامِهِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ السَّهْوُ قَبْلَ الِاقْتِدَاءِ أَوْ بَعْدَهُ ثُمَّ يَقْضِي مَا فَاتَهُ وَلَوْ سَهَا فِيهِ سَجَدَ ثَانِيًا.

وَلَوْ قَامَ الْمَسْبُوقُ إِلَى قَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ، وَعَلَى الْإِمَامِ سَجْدَتَا سَهْوٍ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ فَقَالُوا: إِنَّ الْمَسْبُوقَ عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ فَيَسْجُدَ مَعَ الْإِمَامِ مَا لَمْ يُقَيِّدَ الرَّكْعَةَ بِسَجْدَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَعُدْ حَتَّى سَجَدَ يَمْضِي، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، بِخِلَافِ الْمُنْفَرِدِ لَا يَلْزَمُهُ السُّجُودُ لِسَهْوِ غَيْرِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: بَطَلَتِ الصَّلَاةُ بِسُجُودِ الْمَسْبُوقِ عَمْدًا مَعَ الْإِمَامِ سُجُودًا بَعْدِيًّا مُطْلَقًا أَوْ قَبْلِيًّا إِنْ لَمْ يَلْحَقْ مَعَهُ رَكْعَةً بِسَجْدَتَيْهَا، وَإِلاَّ بِأَنْ لَحِقَ رَكْعَةً سَجَدَ الْقَبْلِيَّ مَعَهُ قَبْلَ قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ إِنْ سَجَدَهُ الْإِمَامُ قَبْلَ السَّلَامِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا سَهَا الْمَأْمُومُ خَلْفَ الْإِمَامِ لَمْ يَسْجُدْ، وَيَتَحَمَّلُ الْإِمَامُ سَهْوَهُ وَلَوْ سَهَا بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، لَمْ يَتَحَمَّلْ لِانْقِطَاعِ الْقُدْوَةِ، وَكَذَا الْمُنْفَرِدُ إِذَا سَهَا فِي صَلَاتِهِ، ثُمَّ دَخَلَ فِي جَمَاعَةٍ، وَجَوَّزْنَا ذَلِكَ، فَلَا يَتَحَمَّلُ الْإِمَامُ سَهْوَهُ ذَلِكَ.

أَمَّا إِذَا ظَنَّ الْمَأْمُومُ أَنَّ الْإِمَامَ سَلَّمَ، فَسَلَّمَ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ، فَسَلَّمَ مَعَهُ، فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ سَهَا فِي حَالِ الْقُدْرَةِ.

وَلَوْ تَيَقَّنَ فِي التَّشَهُّدِ، أَنَّهُ تَرَكَ الرُّكُوعَ أَوِ الْفَاتِحَةَ مِنْ رَكْعَةٍ نَاسِيًا، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ، لَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِرَكْعَةٍ أُخْرَى، وَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ سَهَا فِي حَالِ الِاقْتِدَاءِ.

وَلَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ، فَسَلَّمَ الْمَسْبُوقُ سَهْوًا، ثُمَّ تَذَكَّرَ، بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ وَسَجَدَ؛ لِأَنَّ سَهْوَهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْقُدْوَةِ.

وَلَوْ ظَنَّ الْمَسْبُوقُ أَنَّ الْإِمَامَ سَلَّمَ، بِأَنْ سَمِعَ صَوْتًا ظَنَّهُ سَلَامَهُ، فَقَامَ لِيَتَدَارَكَ مَا عَلَيْهِ، وَكَانَ مَا عَلَيْهِ رَكْعَةً مَثَلًا، فَأَتَى بِهَا وَجَلَسَ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يُسَلِّمْ بَعْدُ، تَبَيَّنَ أَنَّ ظَنَّهُ كَانَ خَطَأً، فَهَذِهِ الرَّكْعَةُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهَا؛ لِأَنَّهَا مَفْعُولَةٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، فَإِنَّ وَقْتَ التَّدَارُكِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْقُدْوَةِ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ، قَامَ إِلَى التَّدَارُكِ، وَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، لِبَقَاءِ حُكْمِ الْقُدْوَةِ.

وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَسَلَّمَ الْإِمَامُ وَهُوَ قَائِمٌ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْضِيَ فِي صَلَاتِهِ أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْقُعُودِ، ثُمَّ يَقُومُ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي.

فَإِنْ جَوَّزْنَا الْمُضِيَّ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ الْقِرَاءَةِ، فَلَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ فِي قِيَامِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ حَتَّى أَتَمَّ الرَّكْعَةَ- إِنْ جَوَّزْنَا الْمُضِيَّ- فَرَكْعَتُهُ مَحْسُوبَةٌ، وَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَإِنْ قُلْنَا: عَلَيْهِ الْقُعُودُ، لَمْ يُحْسَبْ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ لِلزِّيَادَةِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ.

وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، وَعَلِمَ فِي الْقِيَامِ أَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يُسَلِّمْ بَعْدُ، فَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ رَجَعَ فَهُوَ الْوَجْهُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَادَى وَيَنْوِيَ الِانْفِرَادَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ، فَفِيهِ الْخِلَافُ فِي قَطْعِ الْقُدْوَةِ، فَإِنْ مَنَعْنَاهُ تَعَيَّنَ الرُّجُوعُ، وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّ نُهُوضَهُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ، فَيَرْجِعُ، ثُمَّ يَقْطَعُ الْقُدْوَةَ إِنْ شَاءَ، وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّ النُّهُوضَ لَيْسَ مَقْصُودًا لِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْقِيَامُ فَمَا بَعْدَهُ، هَذَا كَلَامُ الْإِمَامِ، فَلَوْ لَمْ يُرِدْ قَطْعَ الْقُدْوَةِ فَمُقْتَضَى كَلَامِ الْإِمَامِ: وُجُوبُ الرُّجُوعِ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: هُوَ مُخَيَّرٌ، إِنْ شَاءَ رَجَعَ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ قَائِمًا سَلَامَ الْإِمَامِ، وَجَوَازُ الِانْتِظَارِ قَائِمًا مُشْكِلٌ؛ لِلْمُخَالَفَةِ الظَّاهِرَةِ، فَإِنْ كَانَ قَرَأَ قَبْلَ تَبَيُّنِ الْحَالِ، لَمْ يُعْتَدَّ بِقِرَاءَتِهِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، بَلْ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافُهَا.

قَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّحِيحُ: وُجُوبُ الرُّجُوعِ فِي الْحَالَتَيْنِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ كَانَ الْمَأْمُومُ مَسْبُوقًا وَسَهَا الْإِمَامُ فِيمَا لَمْ يُدْرِكْهُ الْمَسْبُوقُ فِيهِ، بِأَنْ كَانَ الْإِمَامُ سَهَا فِي الْأُولَى وَأَدْرَكَهُ فِي الثَّانِيَةِ مَثَلًا، فَيَسْجُدُ مَعَهُ مُتَابَعَةً لَهُ، لِأَنَّ صَلَاتَهُ نَقَصَتْ حَيْثُ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ فِي صَلَاةٍ نَاقِصَةٍ وَكَذَا لَوْ أَدْرَكَهُ فِيمَا لَا يُعْتَدُّ لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْمُتَابَعَةِ فِي السُّجُودِ، كَمَا لَمْ يَمْنَعْهُ فِي بَقِيَّةِ الرَّكْعَةِ.

وَقَالُوا: لَوْ قَامَ الْمَسْبُوقُ بَعْدَ سَلَامِ إِمَامِهِ ظَانًّا عَدَمَ سَهْوِ إِمَامِهِ، فَسَجَدَ إِمَامُهُ رَجَعَ الْمَسْبُوقُ فَسَجَدَ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، أَشْبَهَ السُّجُودَ قَبْلَ السَّلَامِ، فَيَرْجِعُ وُجُوبًا قَبْلَ أَنْ يَسْتَتِمَّ، فَإِنِ اسْتَتَمَّ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَرْجِعَ كَمَنْ قَامَ عَنِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَرْجِعُ إِنْ شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّهُ تَلَبَّسَ بِرُكْنٍ مَقْصُودٍ فَلَا يَرْجِعُ إِلَى وَاجِبٍ.

وَإِنْ أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ إِمَامَهُ فِي آخِرِ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ سَجَدَ الْمَسْبُوقُ مَعَ الْإِمَامِ، فَإِنْ سَلَّمَ الْإِمَامُ أَتَى الْمَسْبُوقُ بِالسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ لِيُوَالِيَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ ثُمَّ قَضَى صَلَاتَهُ، وَإِنْ أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ إِمَامَهُ بَعْدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ وَقَبْلَ السَّلَامِ لَمْ يَسْجُدِ الْمَسْبُوقُ لِسَهْوِ إِمَامِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مَعَهُ بَعْضًا مِنْهُ فَيَقْضِي الْغَائِبَ، وَبَعْدَ السَّلَامِ لَا يَدْخُلُ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الصَّلَاةِ.

كَيْفِيَّةُ جُلُوسِ الْمَسْبُوقِ:

9- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا جَلَسَ الْمَسْبُوقُ مَعَ الْإِمَامِ فِي آخِرِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَفِيهِ أَقْوَالٌ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ فِي الْأُمِّ، وَبَهْ قَالَ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْغَزَالِيُّ: يَجْلِسُ الْمَسْبُوقُ مُفْتَرِشًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِآخِرِ صَلَاتِهِ.

وَالثَّانِي: الْمَسْبُوقُ يَجْلِسُ مُتَوَرِّكًا مُتَابَعَةً لِلْإِمَامِ، حَكَاهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالرَّافِعِيُّ.

وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ جُلُوسُهُ فِي مَحَلِّ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ لِلْمَسْبُوقِ افْتَرَشَ، وَإِلاَّ تَوَرَّكَ؛ لِأَنَّ جُلُوسَهُ حِينَئِذٍ لِمُجَرَّدِ الْمُتَابَعَةِ فَيُتَابِعُ فِي الْهَيْئَةِ، حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ.

وَإِذَا جَلَسَ مَنْ عَلَيْهِ سُجُودُ سَهْوٍ فِي آخِرِهِ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجْلِسُ مُتَوَرِّكًا لِأَنَّهُ آخِرُ صَلَاتِهِ، وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ يَفْتَرِشُ وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ الْعِدَّةِ وَنَقَلَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَوْفِزٌ لِيُتِمَّ صَلَاتَهُ، فَعَلَى هَذَا إِذَا سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ تَوَرَّكَ ثُمَّ يُسَلِّمُ.

اسْتِخْلَافُ الْمَسْبُوقِ

10- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى جِوَازِ اسْتِخْلَافِ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِلَى جِوَازِ اسْتِخْلَافِ الْمَسْبُوقِ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُبَيَّنِ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِخْلَافٌ ف 28 وَمَا بَعْدَهَا).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


106-موسوعة الفقه الكويتية (مفوضة)

مُفَوِّضَةٌ

التَّعْرِيفُ

1- الْمُفَوِّضَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ التَّفْوِيضِ، وَالتَّفْوِيضُ جَعْلُ الْأَمْرِ إِلَى غَيْرِهِ، يُقَالُ: فَوَّضَ الْأَمْرَ إِلَيْهِ أَيْ جَعَلَ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي نُكِحَتْ بِلَا ذِكْرِ مَهْرٍ، أَوْ عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا، وَسُمِّيَتْ مُفَوِّضَةً بِكَسْرِ الْوَاوِ، لِتَفْوِيضِهَا أَمْرَهَا إِلَى الزَّوْجِ أَوْ إِلَى الْوَلِيِّ بِلَا مَهْرٍ، أَوْ لِأَنَّهَا أَهْمَلَتِ الْمَهْرَ، وَتُسَمَّى مُفَوَّضَةً بِفَتْحِ الْوَاوِ، إِذَا فَوَّضَ وَلِيُّهَا أَمْرَهَا إِلَى الزَّوْجِ بِلَا مَهْرٍ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الشِّغَارُ:

2- الشِّغَارُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ شَغَرَ الْبَلَدُ شُغُورًا إِذَا خَلَا عَنْ حَافِظٍ يَمْنَعُهُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: أَنْ يُزَوِّجَ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ بِنْتَهُ عَلَى أَنَّ بُضْعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ صَدَاقُ الْأُخْرَى، وَلَا مَهْرَ سِوَى ذَلِكَ فَيَقْبَلُ ذَلِكَ.وَالْعِلَاقَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَجْعَلُ عَقْدَ النِّكَاحِ بِلَا مَهْرٍ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُفَوِّضَةِ:

حُكْمُ نِكَاحِ الْمُفَوِّضَةِ

3- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ لَيْسَ مِنْ أَرْكَانِ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَأَنَّ عَقْدَ الزَّوْجِ يَصِحُّ بِلَا مَهْرٍ، فَإِذَا زَوَّجَهَا وَسَكَتَ عَنْ تَعْيِينِ الصَّدَاقِ حِينَ الْعَقْدِ، أَوْ قَالَتْ لِوَلِيِّهَا أَوْ لِزَوْجِهَا أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ: زَوِّجْنِي عَلَى مَا شِئْتَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ صَحَّ الْعَقْدُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} الْآيَةَ، وَلِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ- رضي الله عنه-: لَهَا مِثْلُ صَدَاقِ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهَا الْمِيرَاثُ وَلِأَنَّ الْقَصْدَ مِنَ النِّكَاحِ الِاسْتِمْتَاعُ وَالْوَصْلَةُ دُونَ الصَّدَاقِ، فَصَحَّ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِهِ كَالنَّفَقَةِ.

أَقْسَامُ الْمُفَوِّضَةِ

قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ التَّفْوِيضَ إِلَى ضَرْبَيْنِ:

الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: تَفْوِيضُ الْبُضْعِ:

4- التَّفْوِيضُ يَنْصَرِفُ إِلَى تَفْوِيضِ الْبُضْعِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ إِخْلَاءُ النِّكَاحِ عَنِ الْمَهْرِ كَأَنْ تَأْذَنَ الْمَرْأَةُ لِوَلِيِّهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ بِقَوْلِهَا لَهُ: زَوِّجْنِي بِلَا مَهْرٍ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ عَاقِلَةً بَالِغَةً رَشِيدَةً ثَيِّبًا كَانَتْ أَوْ بِكْرًا، فَيُزَوِّجُهَا الْوَلِيُّ وَيَسْكُتُ عَنِ الْمَهْرِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ مِنَ التَّفْوِيضِ صَحِيحَةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، أَوْ يَنْفِي الْمَهْرَ بِقَوْلِهِ: زَوَّجْتُكَ بِغَيْرِ مَهْرٍ أَوْ زَوَّجْتُكَ بِغَيْرِ مَهْرٍ لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمَآلِ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِلنُّصُوصِ السَّابِقَةِ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ مِنَ النِّكَاحِ الْوَصْلَةُ وَالِاسْتِمْتَاعُ دُونَ الصَّدَاقِ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الصُّورَتَيْنِ وَاحِدٌ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى بُطْلَانِ عَقْدِ النِّكَاحِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ هَذَا الشَّرْطِ يَجْعَلُهَا كَالْمَوْهُوبَةِ الَّتِي اخْتَصَّ بِهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-.

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ وَقَعَ- النِّكَاحُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ- فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُفْسَخُ النِّكَاحُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ فَسَادَهُ مِنْ جِهَةِ صَدَاقِهِ، وَيَثْبُتُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِصَدَاقِ الْمِثْلِ، وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ قَوْلَانِ.

الْأَوَّلُ: يُفْسَخُ الْعَقْدُ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَبَعْدَ الْبِنَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ فَسَادَ النِّكَاحِ مِنْ جِهَةِ عَقْدِهِ.

الثَّانِي: لَا يُفْسَخُ الْعَقْدُ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَلَا بَعْدَ الْبِنَاءِ وَيَكُونُ لَهَا صَدَاقُ الْمِثْلِ.

وَهَلْ يُفْسَخُ الْعَقْدُ بِطَلَاقٍ؟ قَوْلَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الرَّاجِحُ مِنْهُمَا أَنَّهُ يُفْسَخُ- فِي حَالِ الْفَسْخِ- بِطَلَاقٍ، لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.

وَفِي كُلِّ الْأَحْوَالِ يُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ، وَيَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ لِوُجُودِ الْخِلَافِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَفِي مَعْنَى إِسْقَاطِ الْمَهْرِ- الْمَذْكُورِ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ- إِرْسَالُ الْمَرْأَةِ لِلزَّوْجِ مَالًا عَلَى أَنْ يَدْفَعَهُ لَهَا صَدَاقًا فَيُفْسَخُ الْعَقْدُ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَيَثْبُتُ بَعْدَ الْبِنَاءِ بِصَدَاقِ الْمِثْلِ، أَمَّا لَوْ سَكَتَا عَنِ الْمَهْرِ عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْ دَخَلَا عَلَى التَّفْوِيضِ بِاللَّفْظِ أَوْ عَلَى تَحْكِيمِ الْغَيْرِ فِي بَيَانِ قَدْرِ الْمَهْرِ فَلَا فَسَادَ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمُفَوِّضَةُ صَغِيرَةً أَوْ مَجْنُونَةً أَوْ غَيْرَ رَشِيدَةٍ كَأَنْ تَكُونَ سَفِيهَةً مَحْجُورًا عَلَيْهَا فَلَا يَصِحُّ تَفْوِيضُهَا.

وَإِذَا زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَتَهُ الْمُجْبَرَةَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ صَحَّ النِّكَاحُ وَبَطَلَ التَّفْوِيضُ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ بِالْعَقْدِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ هُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ وَالتَّفْوِيضِ.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا فَوَّضَ الْوَلِيُّ نِكَاحَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ.

أَحَدِهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ مِمَّنْ لَا يَنْكِحُ إِلاَّ بِإِذْنٍ كَسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ مَعَ الثَّيِّبِ وَغَيْرِ الْأَبِ مَعَ الْبِكْرِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهَا فِي النِّكَاحِ وَلَا فِي التَّفْوِيضِ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا، فَإِنِ اسْتَأْذَنَهَا فِي النِّكَاحِ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْهَا فِي التَّفْوِيضِ صَحَّ النِّكَاحُ وَبَطَلَ التَّفْوِيضُ، وَكَانَ لَهَا بِالْعَقْدِ مَهْرُ الْمِثْلِ.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ مِمَّنْ يَصِحُّ أَنْ يُنْكِحَ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ كَالْأَبِ مَعَ بِنْتِهِ الْبِكْرِ فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ بِغَيْرِ إِذْنِهَا فَأَمَّا صِحَّةُ التَّفْوِيضِ بِغَيْرِ إِذْنِهَا فَمُعْتَبَرٌ بِاخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ الزَّوْجُ دُونَ الْأَبِ بَطَلَ تَفْوِيضُ الْأَبِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ الْأَبُ فَفِي صِحَّةِ تَفْوِيضِهِ وَجْهَانِ.

أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ بَاطِلٌ وَلَهَا بِالْعَقْدِ مَهْرُ الْمِثْلِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ صَحِيحٌ كَالْعُقُودِ وَلَيْسَ لَهَا بِالْعَقْدِ مَهْرٌ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ- رحمه الله- (: لَوْ زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ وَنَفَى الْمَهْرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَرْضَى هِيَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ نَقَصَ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ مُجْبَرًا فَهَلْ يَبْطُلُ النِّكَاحُ؟ أَمْ يَصِحُّ بِمَهْرِ الْمِثْلِ؟ قَوْلَانِ.

وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ غَيْرَ مُجْبَرٍ فَهَلْ يَبْطُلُ قَطْعًا أَمْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ.

وَلَوْ أَنْكَحَهَا وَلِيُّهَا عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا وَلَا نَفَقَةَ أَوْ عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا وَتُعْطِي زَوْجَهَا أَلْفًا فَهَذَا أَبْلَغُ فِي التَّفْوِيضِ، وَلَوْ قَالَتْ لِوَلِيِّهَا: زَوِّجْنِي بِلَا مَهْرٍ فَزَوَّجَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ صَحَّ الْمُسَمَّى وَإِنْ زَوَّجَهَا بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ لَمْ يَلْزَمِ الْمُسَمَّى وَكَانَ كَمَا لَوْ أَنْكَحَهَا تَفْوِيضًا.

الضَّرْبُ الثَّانِي: تَفْوِيضُ الْمَهْرِ

5- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ إِذَا زَوَّجَهَا عَلَى مَا شَاءَتْ هِيَ أَوْ عَلَى مَا شَاءَ، الزَّوْجُ، أَوْ عَلَى مَا شَاءَ الْوَلِيُّ أَوْ عَلَى مَا شَاءَ

أَجْنَبِيٌّ: أَيْ أَنْ يَجْعَلَ الصَّدَاقَ إِلَى رَأْيِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ رَأْيِ الْوَلِيِّ، أَوْ رَأْيِ أَجْنَبِيٍّ بِقَوْلِهِ: زَوَّجْتُكَ عَلَى مَا شِئْتَ أَوْ عَلَى مَا شِئْنَا، أَوْ عَلَى مَا شَاءَ زَيْدٌ، أَوْ زَوَّجْتُكَ عَلَى حُكْمِهَا أَوْ عَلَى حُكْمِكَ أَوْ عَلَى حُكْمِي، أَوْ عَلَى حُكْمِ زَيْدٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ لِأَنَّهَا لَمْ تَأْذَنْ فِي تَزْوِيجِهَا إِلاَّ عَلَى صَدَاقٍ لَكِنَّهُ مَجْهُولٌ فَسَقَطَ لِجَهَالَتِهِ وَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَالتَّفْوِيضُ الصَّحِيحُ كَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: أَنْ تَأْذَنَ الْمَرْأَةُ الْجَائِزَةُ لِلتَّصَرُّفِ لِوَلِيِّهَا فِي تَزْوِيجِهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ، أَوْ بِتَفْوِيضِ قَدْرِهِ أَوْ يُزَوِّجُهَا أَبُوهَا كَذَلِكَ- أَيْ بِغَيْرِ مَهْرٍ- فَأَمَّا إِنْ زَوَّجَهَا غَيْرُ أَبِيهَا وَلَمْ يَذْكُرْ مَهْرًا بِغَيْرِ إِذْنِهَا فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ.

قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ- رحمه الله-: لَوْ قَالَتْ لِوَلِيِّهَا: زَوِّجْنِي وَسَكَتَتْ عَنِ الْمَهْرِ فَالَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَفْوِيضٍ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُعْقَدُ غَالِبًا بِمَهْرٍ فَيُحْمَلُ الْإِذْنُ عَلَى الْعَادَةِ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ: زَوِّجْنِي بِمَهْرٍ.

ثُمَّ قَالَ: وَفِي بَعْضِ كُتُبِ الْعِرَاقِيِّينَ مَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ تَفْوِيضًا.

فَإِذَا أَطْلَقَتِ الْإِذْنَ- أَيْ سَكَتَتْ عَنِ الْمَهْرِ- وَزَوَّجَهَا الْوَلِيُّ وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا فِي الْعَقْدِ مَهْرًا، وَلَا شَرَطَ فِيهِ أَنْ لَيْسَ لَهَا مَهْرٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ هَلْ يَكُونُ نِكَاحَ تَفْوِيضٍ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِنِكَاحِ تَفْوِيضٍ، لِعَدَمِ الشَّرْطِ فِي سُقُوطِ الْمَهْرِ وَيَكُونُ مَهْرُ الْمِثْلِ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ، قَالَ النَّوَوِيُّ- رحمه الله- (: وَلَيْسَ النِّكَاحُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ خَالِيًا عَنِ الْمَهْرِ وَلَيْسَ هَذَا التَّفْوِيضُ بِالتَّفْوِيضِ الَّذِي عَقَدْنَا لَهُ الْبَابَ.

الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ نِكَاحُ تَفْوِيضٍ، لِأَنَّ إِسْقَاطَ ذِكْرِ الْمَهْرِ فِي الْعَقْدِ كَاشْتِرَاطِ سُقُوطِهِ فِي الْعَقْدِ، فَعَلَى هَذَا لَا مَهْرَ لَهَا بِالْعَقْدِ إِلاَّ أَنْ تَتَعَقَّبَهُ أَحَدُ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ هِيَ: إِمَّا: بِأَنْ يَفْرِضَاهُ عَنْ مُرَاضَاةٍ، وَإِمَّا: بِأَنْ يَفْرِضَهُ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، وَإِمَّا بِالدُّخُولِ بِهَا، وَإِمَّا بِالْمَوْتِ، كَمَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ لَاحِقًا.

مَا تَسْتَحِقُّهُ الْمُفَوِّضَةُ مِنَ الصَّدَاقِ

6- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ لِلْمُفَوِّضَةِ مَهْرٌ: إِمَّا بِنَفْسِ الْعَقْدِ، أَوْ بِغَيْرِهِ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ كَمَا سَيَأْتِي، وَأَنَّهُ لَا يَخْلُو نِكَاحٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَنْ مَهْرٍ وَأَنَّ الْمُفَوِّضَةَ تَسْتَحِقُّ هَذَا الْمَهْرَ بِأَحَدِ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ.

أَوَّلُهَا: أَنْ يَفْرِضَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْمَهْرَ بِرِضَاءِ الْآخَرِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَهَذَا الْمَفْرُوضُ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ فَيَتَشَطَّرُ بِالطَّلَاقِ وَيَتَأَكَّدُ بِالدُّخُولِ وَبِالْمَوْتِ وَلَهَا حَبْسُ نَفْسِهَا لِتَسْلِيمِهِ.

الثَّانِي: أَنْ يَفْرِضَهُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ عِنْدَ تَنَازُعِهِمَا فِي قَدْرِ الْمَفْرُوضِ أَوْ عِنْدَمَا يَمْتَنِعُ الزَّوْجُ مِنَ الْفَرْضِ فَيَفْرِضُ مِقْدَارَ مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّ وَظِيفَتَهُ فَصْلُ الْخُصُومَاتِ وَلَا يَتَوَقَّفُ مَا يَفْرِضُهُ الْقَاضِي عَلَى رِضَاهُمَا، لِأَنَّهُ حُكْمٌ إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ مَيْلٌ عَلَى الزَّوْجِ، وَلَا يَنْقُصُ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، لِأَنَّ النُّقْصَانَ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ مَيْلٌ عَلَى الزَّوْجَةِ وَلَا يَحِلُّ الْمَيْلُ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا يُفْرَضُ بَدَلُ الْبُضْعِ، فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِهِ كَسِلْعَةٍ أُتْلِفَتْ يُقَوِّمُهَا بِمَا يَقُولُ بِهِ أَهْلُ الْخِبْرَةِ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: فَلَا يُغَيِّرُهُ حَاكِمٌ آخَرُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرِ السَّبَبُ كَيَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ فِي النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُغَيِّرُهُ وَيَفْرِضُهُ ثَانِيًا بِاعْتِبَارِ الْحَالِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ نَقْضًا لِلْحُكْمِ السَّابِقِ وَبِذَلِكَ يُشْتَرَطُ لِلْقَاضِي عِنْدَ فَرْضِهِ لِمَهْرِ الْمِثْلِ عِلْمُهُ بِقَدْرِ مَهْرِ مِثْلِهَا حَتَّى لَا يَزِيدَ عَلَيْهِ وَلَا يَنْقُصُ عَنْهُ لَكِنِ الشَّافِعِيَّةُ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُغْتَفَرُ الزِّيَادَةُ أَوِ النَّقْصُ الْيَسِيرُ الْوَاقِعُ فِي مَحِلِّ الِاجْتِهَادِ الَّذِي يُحْتَمَلُ مِثْلُهُ فِي قَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ مَا مَعْنَاهُ: مَنْعُ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ وَإِنْ رَضِيَ الزَّوْجَانِ وَهُوَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَنْصِبَهُ يَقْتَضِي ذَلِكَ ثُمَّ إِنْ شَاءَا بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَا مَا شَاءَا، وَاخْتَارَ الْأَذْرَعِيُّ الْجَوَازَ.

وَمَا فَرَضَهُ الْقَاضِي مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ كَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ أَيْضًا فَيَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ مَعَهُ، لِعُمُومِ قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فَرْضُ أَجْنَبِيٍّ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجَيْنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزَوْجٍ وَلَا حَاكِمٍ، وَلِأَنَّ هَذَا فِيهِ خِلَافُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ فَإِذَا فَرَضَ أَجْنَبِيٌّ لِلْمُفَوِّضَةِ مَهْرًا يُعْطِيهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ رَضِيَتْ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ يَصِحُّ كَمَا يَصِحُّ أَنْ يُؤَدِّيَ الصَّدَاقَ عَنِ الزَّوْجِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ فَرْضَ الْأَجْنَبِيِّ كَفَرْضِ الزَّوْجِ وَيُسَمُّونَ هَذَا تَحْكِيمًا، فَإِنْ فَرَضَ مَهْرَ الْمِثْلِ لَزِمَهُمَا وَلَا يَلْزَمُهُ فَرْضُهُ ابْتِدَاءً، وَإِنْ فَرَضَ أَقَلَّ مِنْهُ لَزِمَهُ دُونَ الزَّوْجَةِ، وَإِنْ فَرَضَ الْمُحَكِّمُ أَكْثَرَ مِنْهُ فَعَلَى الْعَكْسِ أَيْ لَزِمَهَا دُونَهُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الرِّضَا وَعَدَمِهِ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَدْخُلَ بِهَا.فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا دَخَلَ بِالْمُفَوِّضَةِ وَجَبَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ وَإِنْ أَذِنَتْ لَهُ فِي وَطْئِهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا، لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ، لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ، وَلِأَنَّ الْوَطْءَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَخْلُو مِنْ مَهْرٍ أَوْ حَدٍّ، وَلِتَخْرُجَ بِالْتِزَامِ الْمَهْرِ مِمَّا خُصَّ بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ مِنْ نِكَاحِ الْمَوْهُوبَةِ بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَمِنْ حُكْمِ الزِّنَا الَّذِي لَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ مَهْرٌ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَهَا الصَّدَاقُ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا».وَمِثْلُ الدُّخُولِ فِي وُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْقَدِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ أَنْ يَخْلُوَ الزَّوْجُ بِزَوْجَتِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ بِلَا مَانِعٍ حِسِّيٍّ كَمَرَضٍ لِأَحَدِهِمَا يَمْنَعُ الْوَطْءَ، وَبِلَا مَانِعٍ طَبْعِيٍّ كَوُجُودِ شَخْصٍ ثَالِثٍ عَاقِلٍ مَعَهُمَا، وَبِلَا مَانِعٍ شَرْعِيٍّ مِنْ أَحَدِهِمَا كَإِحْرَامٍ لِفَرْضٍ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَمِنَ الْمَانِعِ الْحِسِّيِّ رَتْقٌ وَقَرَنٌ وَعَفَلٌ، وَصِغَرٌ لَا يُطَاقُ مَعَهُ الْجِمَاعُ. وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: أَنَّ الْمَهْرَ يَتَقَرَّرُ كَذَلِكَ بِلَمْسِ الزَّوْجَةِ بِشَهْوَةٍ وَالنَّظَرِ إِلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ، وَتَقْبِيلِهَا وَلَوْ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، لِأَنَّ ذَلِكَ نَوْعُ اسْتِمْتَاعٍ فَأَوْجَبَ الْمَهْرَ كَالْوَطْءِ، وَلِأَنَّهُ نَالَ مِنْهَا شَيْئًا لَا يُبَاحُ لِغَيْرِهِ، وَلِمَفْهُومِ قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} وَحَقِيقَةُ اللَّمْسِ الْتِقَاءُ الْبَشَرَتَيْنِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ فَلَا يَسْتَقِرُّ عِنْدَهُمُ الْمَهْرُ بِالْخَلْوَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسِّ الْجِمَاعُ، وَلِأَنَّ الْخَلْوَةَ لَا تَلْتَحِقُ بِالْوَطْءِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ مِنْ حَدٍّ وَغُسْلٍ وَنَحْوِهِمَا.

الرَّابِعُ: الْمَوْتُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُفَوِّضَةَ يَجِبُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ إِذَا مَاتَ زَوْجُهَا أَوْ مَاتَتْ هِيَ قَبْلَ الْفَرْضِ وَقَبْلَ الْمَسِيسِ، لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- عَلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَبْطُلُ بِهِ النِّكَاحُ بِدَلِيلِ التَّوَارُثِ وَإِنَّمَا هُوَ نِهَايَةٌ لَهُ وَنِهَايَةُ الْعَقْدِ كَاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ الْإِجَارَةِ وَمَتَى اسْتَقَرَّ لَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ شَيْءٌ بِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ وَلَا غَيْرُهُ، قَالَ الْحَنَابِلَةُ: حَتَّى وَلَوْ قَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، أَوْ قَتَلَ أَحَدُهُمَا نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ بَلَغَ غَايَتَهُ فَقَامَ مَقَامَ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمَنْفَعَةِ، وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَتَلَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَسْتَقِرَّ الْمَهْرُ.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا مَاتَا جَمِيعًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُقْضَى بِشَيْءٍ وَعِنْدَهُمَا يُقْضَى بِمَهْرِ الْمِثْلِ.

وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: هَذَا إِذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ بِحَيْثُ يُتَعَذَّرُ عَلَى الْقَاضِي الْوُقُوفُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَقَادَمْ فَيُقْضَى بِمَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَهُ أَيْضًا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ مَوْتَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ.

قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: إِذَا مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الْفَرْضِ وَالْمَسِيسِ فَهَلْ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ أَمْ لَا يَجِبُ شَيْءٌ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى حَدِيثِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ أَنَّهَا نُكِحَتْ بِلَا مَهْرٍ، فَمَاتَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ لَهَا فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ بِمَهْرِ يُفْرَضُ لَهَا فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ بِمَهْرِ نِسَائِهَا وَالْمِيرَاثِ.

وَالرَّاجِحُ تَرْجِيحُ الْوُجُوبِ وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ.وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا قِيلَ فِي إِسْنَادِهِ وَقِيَاسًا عَلَى الدُّخُولِ فَإِنَّ الْمَوْتَ مُقَرَّرٌ كَالدُّخُولِ، وَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ الْآخَرِ مَعَ صِحَّةِ الْحَدِيثِ.

مَتَى تَسْتَحِقُّ الْمُفَوِّضَةُ مَهْرَ الْمِثْلِ؟

7- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ لِلْمُفَوِّضَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ مُطَالَبَةَ الزَّوْجِ بِأَنْ يَفْرِضَ لَهَا مَهْرًا لِتَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا، لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَخْلُو مِنَ الْمَهْرِ، فَلَهَا حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِبَيَانِ قَدْرِهِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا، فَإِنِ اتَّفَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى فَرْضِهِ جَازَ مَا فَرَضَاهُ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا سَوَاءٌ كَانَا عَالِمَيْنِ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ غَيْرَ عَالِمَيْنِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا فَرَضَ لَهَا كَثِيرًا فَقَدْ بَذَلَ لَهَا مِنْ مَالِهِ فَوْقَ مَا يَلْزَمُهُ، وَإِنْ رَضِيَتْ بِالْيَسِيرِ، فَقَدْ رَضِيَتْ بِدُونِ مَا يَجِبُ لَهَا فَلَا تُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لِرَجُلٍ «أَتَرْضَى أَنْ أُزَوِّجَكَ فُلَانَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: أَتَرْضَيْنَ أَنْ أُزَوِّجَكِ فُلَانًا؟ قَالَتْ: نَعَمْ فَزَوَّجَ أَحَدَهُمَا صَاحِبَهُ فَدَخَلَ بِهَا الرَّجُلُ وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا وَلَمْ يُعْطِهَا شَيْئًا، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ، وَكَانَ مَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ لَهُ سَهْمٌ بِخَيْبَرَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ زَوَّجَنِي فُلَانَةَ وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ أُعْطِهَا شَيْئًا وَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَعْطَيْتُهَا مِنْ صَدَاقِهَا سَهْمِي بِخَيْبَرَ، فَأَخَذَتْ سَهْمًا فَبَاعَتْهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ».

فَأَمَّا إِنْ تَشَاحَّا فِيهِ فَفَرَضَ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ فَلَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِسِوَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَرْضَ بِهِ لَمْ يَسْتَقِرَّ لَهَا حَتَّى تَرْضَاهُ، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَيْسَ لَهَا إِلاَّ الْمُتْعَةُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا بِفَرْضِهِ مَا لَمْ تَرْضَ بِهِ كَحَالَةِ الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ فَرَضَ لَهَا أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِتَمَامِهِ وَلَا يَثْبُتُ لَهَا مَا لَمْ تَرْضَ بِهِ، وَإِنْ تَشَاحَّا رُفِعَا إِلَى الْقَاضِي، وَفُرِضَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَا سَبَقَ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ لِلْمُفَوِّضَةِ طَلَبَ تَقْدِيرِ قَدْرِ الْمَهْرِ فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَيُكْرَهُ لَهَا تَمْكِينُهُ مِنْ نَفْسِهَا قَبْلَ الْبِنَاءِ إِلاَّ أَنَّهُ يَلْزَمُهَا الرِّضَا بِمَا فَرَضَ لَهَا الزَّوْجُ إِنْ فَرَضَ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ أَوْ أَكْثَرَ، أَمَّا إِنْ فَرَضَ لَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فَلَا يَلْزَمُهَا الرِّضَا بِهِ، فَإِنْ رَضِيَتْ بِهِ جَازَ إِذَا كَانَتْ رَشِيدَةً رَشَّدَهَا مُجْبِرُهَا بَعْدَ بُلُوغِهَا وَتَجْرِبَتِهَا بِحُسْنِ تَصَرُّفِهَا فِي الْمَالِ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ عَلَى رَفْعِ حَجْرِهِ عَنْهَا وَإِطْلَاقِ التَّصَرُّفِ لَهَا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الدُّخُولِ، كَمَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يَرْضَى بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الرَّشِيدَةِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الدُّخُولِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِوَصِيِّ الْأَبِ أَنْ يَرْضَى بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِ مَحْجُورَتِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ هَذَا صَلَاحًا لَهَا كَأَنْ كَانَ رَاجِيًا حُسْنَ عِشْرَةِ زَوْجِهَا لَهَا، وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ الْبِكْرِ الْمُهْمَلَةِ الَّتِي مَاتَ أَبُوهَا وَلَمْ يُوصِ عَلَيْهَا وَلَمْ يُقَدِّمِ الْقَاضِي عَلَيْهَا مُقَدَّمًا يُتَصَرَّفُ لَهَا الرِّضَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا.

وَقَالُوا إِذَا لَمْ يَرْضَ الزَّوْجُ بِمَا فَرَضَ لَهَا فَلَهُ تَطْلِيقُهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ.

وَلِلْمُفَوِّضَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ حَبْسُ نَفْسِهَا عَنِ الزَّوْجِ لِيَفْرِضَ لَهَا مَهْرًا وَلَهَا كَذَلِكَ حَبْسُ نَفْسِهَا عَنْهُ لِتَسْلِيمِ الْمَفْرُوضِ إِذَا كَانَ حَالًّا كَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَفْرُوضُ مُؤَجَّلًا فَلَيْسَ لَهَا حَبْسُ نَفْسِهَا عَنْهُ لِتَسْلِيمِهِ كَالْمَهْرِ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ إِذَا كَانَ مُؤَجَّلًا أَيْضًا.

وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا حَبْسُ نَفْسِهَا عَنْ زَوْجِهَا لِتَسْلِيمِ الْمَفْرُوضِ لِأَنَّهَا سَامَحَتْ بِالْمَهْرِ فَكَيْفَ تُضَايَقُ فِي تَقْدِيمِهِ.

8- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ اسْتِحْقَاقِ الْمُفَوِّضَةِ لِلْمَهْرِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُفَوِّضَةَ يَجِبُ لَهَا الْمَهْرُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَلِذَلِكَ يَحِقُّ لَهَا وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِفَرْضِهِ، وَوِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ الْمَفْرُوضِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِمَا اسْتَقَرَّ بِالْمَوْتِ كَمَا فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ عَنِ الْمَهْرِ وَالْقَوْلُ بِعَدِمِ وُجُوبِهِ يُفْضِي إِلَى خُلُوِّهِ عَنْهُ، وَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَمْ يُشْرَعْ لِعَيْنِهِ، بَلْ لِمَقَاصِدَ لَا حُصُولَ لَهَا إِلاَّ بِالدَّوَامِ عَلَى النِّكَاحِ وَالْقَرَارِ عَلَيْهِ، وَلَا يَدُومُ إِلاَّ بِوُجُوبِ الْمَهْرِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، لِمَا يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَحْمِلُ الزَّوْجَ عَلَى الطَّلَاقِ مِنَ الْوَحْشَةِ وَالْخُشُونَةِ فَلَوْ لَمْ يَجِبِ الْمَهْرُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لَا يُبَالِي الزَّوْجُ عَنْ إِزَالَةِ هَذَا الْمَذْهَبِ بِأَدْنَى خُشُونَةٍ تَحْدُثُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ إِزَالَتُهُ لَمَّا لَمْ يَخَفْ لُزُومَ الْمَهْرِ، فَلَا تَحْصُلُ الْمَقَاصِدُ الْمَطْلُوبَةُ مِنَ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّ مَصَالِحَ النِّكَاحِ وَمَقَاصِدَهُ لَا تَحْصُلُ إِلاَّ بِالْمُوَافَقَةِ، وَلَا تَحْصُلُ الْمُوَافَقَةُ إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ عَزِيزَةً مُكَرَّمَةً عِنْدَ الزَّوْجِ وَلَا عِزَّةَ إِلاَّ بِانْسِدَادِ طَرِيقِ الْوُصُولِ إِلَيْهَا بِمَالٍ لَهُ خَطَرٌ عِنْدَهُ، لِأَنَّ مَا ضَاقَ طَرِيقُ إِصَابَتِهِ يَعِزُّ فِي الْأَعْيُنِ فَيَعِزُّ بِهِ إِمْسَاكُهُ وَمَا يَتَيَسَّرُ طَرِيقُ إِصَابَتِهِ يَهُونُ فِي الْأَعْيُنِ فَيَهُونُ إِمْسَاكُهُ، وَمَتَى هَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي أَعْيُنِ الزَّوْجِ تَلْحَقُهَا الْوَحْشَةُ فَلَا تَقَعُ الْمُوَافَقَةُ، فَلَا تَحْصُلُ مَقَاصِدُ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ فِي جَانِبِهَا إِمَّا فِي نَفْسِهَا، وَإِمَّا فِي الْمُتْعَةِ، وَأَحْكَامُ الْمِلْكِ فِي الْحُرَّةِ تُشْعِرُ بِالذُّلِّ وَالْهَوَانِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُقَابِلَهُ مَالٌ لَهُ خَطَرٌ، لِيَنْجَبِرَ الذُّلُّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلِأَنَّهَا إِذَا طَلَبَتِ الْفَرْضَ مِنَ الزَّوْجِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْفَرْضُ حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ فَالْقَاضِي يُجْبِرُهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي الْفَرْضِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِلزَّوْجَةِ الْمُفَوِّضَةِ مَهْرٌ عَلَى زَوْجِهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ لَهَا إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الْمَسِيسِ إِلاَّ الْمُتْعَةُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَهَا مَهْرٌ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لَتَشَطَّرَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ كَالْمُسَمَّى الصَّحِيحِ.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَمْ يَجِبْ لِلْمُفَوِّضَةِ بِالْعَقْدِ مَهْرٌ، لِاشْتِرَاطِهِ سُقُوطَهُ، وَلَا لَهَا أَنْ تُطَالِبَ بِمَهْرٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ لَهَا بِالْعَقْدِ مَهْرٌ وَلَكِنْ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ بِأَنْ يَفْرِضَ لَهَا مَهْرًا إِمَّا بِمُرَاضَاةِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فَيَصِيرُ الْمَهْرُ بَعْدَ الْفَرْضِ كَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ مِثْلَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ إِذَا فَرَضَ الْمُحَكِّمُ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ وَلَمْ يَرْضَ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ لَهَا مَهْرٌ بِنَفْسِ الْعَقْدِ. تَنْصِيفُ مَهْرِ الْمُفَوِّضَةِ إِذَا طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ

9- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِصَافِ مَا فُرِضَ لِلْمُفَوِّضَةِ إِذَا طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَذَلِكَ بَعْدَ مَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَبْلَ الْفَرْضِ فَلَا يَجِبُ لَهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَهْرِ، لِمَفْهُومِ قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَتَنَصَّفُ مَا فُرِضَ لِلْمُفَوِّضَةِ إِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ كَالْمَهْرِ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ الْفُرْقَةِ مِنَ الزَّوْجِ لَا مِنَ الزَّوْجَةِ وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَفْرُوضُ صَحِيحًا، سَوَاءٌ كَانَ النُّهُوضُ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَوْ مِنَ الْحَاكِمِ لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} الْآيَةَ، وَلِأَنَّ هَذَا مَهْرٌ وَجَبَ قَبْلَ الطَّلَاقِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَصَّفَ كَمَا لَوْ سَمَّاهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُنَصَّفُ الْمَهْرُ الْمَفْرُوضُ لِلْمُفَوِّضَةِ إِذَا طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ لِأَنَّ عَقْدَهَا خَلَا مِنْ تَسْمِيَةٍ فَأَشْبَهَتِ الَّتِي لَمْ يُسَمَّ لَهَا شَيْءٌ، وَلِأَنَّ التَّنْصِيفَ خَاصٌّ بِالْمَهْرِ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ بِالنَّصِّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} الْآيَةَ، وَلِأَنَّ هَذَا الْمَفْرُوضَ تَعْيِينٌ لِلْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَذَلِكَ لَا يَتَنَصَّفُ فَكَذَا مَا نُزِّلَ مَنْزِلَتَهُ.

وُجُوبُ الْمُتْعَةِ لِلْمُفَوِّضَةِ إِذَا طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ

10- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا طَلُقَتِ الْمُفَوِّضَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَقَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ لَهَا مَهْرٌ فَلَا تَسْتَحِقُّ عَلَى زَوْجِهَا شَيْئًا إِلاَّ الْمُتْعَةَ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْمُتْعَةِ لَهَا إِذَا كَانَتِ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ لَا مِنْ جِهَتِهَا.

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْمُتْعَةِ لَهَا إِذَا طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ لَهَا شَيْءٌ وَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ كَأَنْ يُطَلِّقَ أَوْ يُلَاعِنَ، أَوْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ مِنْ قِبَلِهَا بِسَبَبِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَالرِّدَّةِ مِنْهُ وَإِبَائِهِ الْإِسْلَامَ وَتَقْبِيلِهِ ابْنَتَهَا، أَوْ أُمَّهَا عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ.

أَمَّا إِذَا كَانَ السَّبَبُ مِنْ جِهَتِهَا فَلَا مُتْعَةَ لَهَا عِنْدَهُمْ لَا وُجُوبًا وَلَا اسْتِحْبَابًا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ الْمُتْعَةَ لَيْسَتْ وَاجِبَةً لِلْمُفَوِّضَةِ.

وَسَبَبُ الْخِلَافِ يَعُودُ إِلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي تَفْسِيرِ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِي قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ}.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَفْوِيضٌ ف 8، مُتْعَةُ الطَّلَاقِ ف 2).

مَا يُرَاعَى عِنْدَمَا يُفْرَضُ لِلْمُفَوِّضَةِ مَهْرٌ

11- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَيِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الْمُفَوِّضَةِ يُعْتَبَرُ عِنْدَ فَرْضِ مَهْرِ الْمِثْلِ لَهَا، هَلْ فِي حَالِهَا عِنْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ، لِأَنَّهُ الْمُقْتَضِي لِلْوُجُوبِ، أَوْ فِي حَالِهَا عِنْدَ الْوَطْءِ، لِأَنَّهُ وَقْتُ الْوُجُوبِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، أَمْ يُعْتَبَرُ حَالُهَا مِنَ الْعَقْدِ إِلَى الْوَطْءِ، لِأَنَّ الْبُضْعَ دَخَلَ بِالْعَقْدِ فِي ضَمَانِ الزَّوْجِ وَاقْتَرَنَ بِهِ الْإِتْلَافُ فَوَجَبَ أَكْثَرُ مَهْرِ مِثْلِهَا مِنْ وَقْتِ عَقْدِهَا إِلَى أَنْ يَطَأَهَا زَوْجُهَا كَالْمَقْبُوضِ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مَهْرٌ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


107-موسوعة الفقه الكويتية (نتف)

نَتَفَ

التَّعْرِيفُ:

1- النَّتْفُ فِي اللُّغَةِ: نَزْعُ الشَّعْرِ وَالشَّيْبِ وَالرِّيشِ، يُقَالُ: نَتَفْتُ الشَّعْرَ وَالرِّيشَ أَنْتِفُهُ نَتْفًا- وَبَابُهُ ضَرَبَ- نَزَعْتُهُ بِالْمِنْتَافِ أَوْ بِالْأَصَابِعِ، وَالنُّتَافُ وَالنُّتَافَةُ: مَا انْتَتَفَ وَسَقَطَ مِنَ الشَّيْءِ الْمَنْتُوفِ، وَنُتَافَةُ الْإِبِطِ: مَا نُتِفَ مِنْهُ، وَالْآلَةُ: مِنْتَافٌ، وَالنُّتْفَةُ: مَا تَنْزِعُهُ بِأَصَابِعِكَ مِنْ نَبْتٍ وَغَيْرِهِ، وَالْجَمْعُ نُتَفٌ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْحَلْقُ:

2- مِنْ مَعَانِي الْحَلْقِ: إِزَالَةُ شَعْرِ الْإِنْسَانِ بِالْمُوسَى وَنَحْوِهِ مِنَ الْحَدِيدِ، يُقَالُ: حَلَقَ شَعْرَهُ حَلْقًا وَحِلَاقًا: أَزَالَهُ بِالْمُوسَى وَنَحْوِهِ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ النَّتْفِ وَالْحَلْقِ إِزَالَةُ الشَّعْرِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا.

ب- الِاسْتِحْدَادُ:

3- الِاسْتِحْدَادُ: هُوَ حَلْقُ الْعَانَةِ خَاصَّةً بِاسْتِعْمَالِ الْحَدِيدِ وَهُوَ الْمُوسَى.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ النَّتْفِ وَالِاسْتِحْدَادِ إِزَالَةُ الشَّعْرِ فِي كُلٍّ.

ج- الْحَفُّ:

4- الْحَفُّ: هُوَ أَخْذُ شَعْرِ الْوَجْهِ، يُقَالُ: حَفَّتِ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا حَفًّا: زَيَّنَتْهُ بِأَخْذِ شَعْرِهِ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ النَّتْفِ وَالْحَفِّ أَنَّ فِي كِلَيْهِمَا إِزَالَةَ الشَّعْرِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّتْفِ:

يَتَعَلَّقُ بِالنَّتْفِ أَحْكَامٌ مِنْهَا: نَتْفُ شَعْرِ الْمُحْرِمِ:

5- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ إِزَالَةُ شَعْرِ الْمُحْرِمِ قَبْل التَّحَلُّلِ بِنَتْفٍ أَوْ غَيْرِهِ، سَوَاءٌ فِيهِ شَعْرُ الرَّأْسِ وَالشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ وَالْإِبِطِ وَالْعَانَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ شُعُورِ الْبَدَنِ، حَتَّى يَحْرُمَ نَتْفُ شَعْرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ مِنَ الْبَدَنِ، وَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَصَى وَتَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ، وَلَوْ مَشَطَ شَعْرَ رَأْسِهِ أَوْ لِحْيَتِهِ فَأَدَّى إِلَى نَتْفِ شَيْءٍ مِنَ الشَّعْرِ، حَرُمَ وَوَجَبَتِ الْفِدْيَةُ، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ فَلَا يَحْرُمُ وَلَكِنْ يُكْرَهُ، وَإِنْ مَشَطَ فَانْتَتَفَ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ، فَإِنْ سَقَطَ شَعْرٌ فَشَكَّ هَلِ انْتَتَفَ بِالْمُشْطِ أَمْ كَانَ مُنْسَلًّا فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَدَلِيلُ تَحْرِيمِ النَّتْفِ قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وَقِيسَ النَّتْفُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَاهُ، وَعَبَّرَ النَّصُّ بِالْحَلْقِ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ فِي إِزَالَةِ الشَّعْرِ.

نَتْفُ رِيشِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ:

6- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ نَتَفَ رِيشَ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ حَتَّى عَجَزَ عَنِ الِامْتِنَاعِ عَمَّنْ يُرِيدُ أَخْذَهُ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ نَتْفُ كُلِّ الرِّيشِ، بَلْ يُشْتَرَطُ نَتْفُ مَا يُخْرِجُهُ مِنْ حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ نَتَفَ الْمُحْرِمُ رِيشَ الصَّيْدِ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى الطَّيَرَانِ وَلَمْ تُعْلَمْ سَلَامَتُهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الطَّيَرَانِ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ، وَلَوْ نَتَفَ رِيشَهُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الطَّيَرَانِ إِلاَّ بِهِ وَأَمْسَكَهُ عِنْدَهُ حَتَّى نَبَتَ بَدَلُهُ وَأَطْلَقَهُ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا نَتَفَ رِيشَ طَائِرٍ مِنَ الصَّيْدِ الْمَضْمُونِ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي الْإِحْرَامِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى امْتِنَاعِهِ بَعْدَ النَّتْفِ أَوْ يَصِيرَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ بَعْدَ النَّتْفِ، فَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا بَعْدَ النَّتْفِ، فَالْكَلَامُ فِيهِ يَتَعَلَّقُ بِفَصْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: ضَمَانُ نَقْصِهِ بِالنَّتْفِ.

وَالثَّانِي: ضَمَانُ نَقْصِهِ بِالتَّلَفِ.

فَأَمَّا ضَمَانُ نَقْصِهِ بِالنَّتْفِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَسْتَخْلِفَ مَا نَتَفَ مِنْ رِيشِهِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ مِنْهُ، وَهُوَ: أَنْ يُقَوَّمَ قَبْلَ نَتْفِ رِيشِهِ، فَإِذَا قِيلَ: عَشَرَةُ دَرَاهِمَ قَوَّمَهُ بَعْدَ نَتْفِ رِيشِهِ فَإِذَا قِيلَ: تِسْعَةٌ، عُلِمَ أَنَّ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ عُشْرُ الْقِيمَةِ، وَيُنْظَرُ فِي الطَّائِرِ الْمَنْتُوفِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ شَاةٌ فَعَلَيْهِ عُشْرُ ثَمَنِ شَاةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَعُشْرُ شَاةٍ عِنْدَ الْمُزَنِيِّ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجِبُ قِيمَتُهُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ وَهُوَ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ.

وَإِنِ اسْتُخْلِفَ مَا نُتِفَ مِنْ رِيشِهِ وَعَادَ كَمَا كَانَ قَبْلَ نَتْفِ رِيشِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِعَوْدِهِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.

وَالثَّانِي: عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ بِالنَّتْفِ قَبْلَ حُدُوثِ مَا اسْتُخْلِفَ، لِأَنَّ الرِّيشَ الْمَضْمُونَ بِالنَّتْفِ غَيْرُ الَّذِي اسْتُخْلِفَ، وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ مُخْرَجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ جَنَى عَلَى سِنٍّ فَانْقَلَعَتْ فَأَخَذَ دِيَتَهَا، ثُمَّ نَبَتَتْ مِنْ جَدِيدٍ، هَلْ يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ مَا أَخَذَ مِنَ الدِّيَةِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا امْتَنَعَ الطَّائِرُ فَلَمْ يُعْلَمْ هَلِ اسْتُخْلِفَ رِيشُهُ أَمْ لَمْ يُسْتَخْلَفْ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِهِ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ.

7- أَمَّا ضَمَانُ نَفْسِهِ إِنْ تَلِفَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتْلَفَ مِنْ ذَلِكَ النَّتْفِ، وَهُوَ أَنْ يَمْتَنِعَ بَعْدَ النَّتْفِ فَيَطِيرَ مُتَحَامِلًا لِنَفْسِهِ وَيَسْقُطَ مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ فَيَمُوتَ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَفْسِهِ، وَيَسْقُطُ ضَمَانُ نَقْصِهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ شَاةٌ فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ قِيمَتُهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ قَبْلَ النَّتْفِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَمُوتَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ النَّتْفِ: إِمَّا حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ مِنْ حَادِثٍ غَيْرِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ نَفْسِهِ، لَكِنْ عَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِهِ.

وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يُعْلَمَ هَلْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ النَّتْفِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَفْدِيَهُ كُلَّهُ وَيَضْمَنَ نَفْسَهُ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ مِنْ نَتْفِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَضْمَنَ إِلاَّ قَدْرَ نَقْصِهِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ مَوْتِهِ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ أَنَّهُ فِي حَادِثٍ غَيْرِهِ.

وَإِنْ صَارَ الطَّائِرُ بِالنَّتْفِ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَهُ وَيُطْعِمَهُ وَيَسْقِيَهُ لِيَنْظُرَ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ حَالُهُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَإِنْ عَاشَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ وَصَارَ مَطْرُوحًا كَالْكَسِيرِ الزَّمِنِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَفْسِهِ وَفِدَاءُ جَمِيعِهِ، لِأَنَّ الصَّيْدَ بِامْتِنَاعِهِ، فَإِذَا صَارَ بِجِنَايَتِهِ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ فَقَدْ أَتْلَفَهُ.

وَإِنْ عَاشَ مُمْتَنِعًا وَعَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ النَّتْفِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِعَدَمِ نَقْصِهِ.

وَالثَّانِي: عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ عَافِيًا (أَيْ طَوِيلَ الرِّيشِ) مُمْتَنِعًا وَمَنْتُوفًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ، وَإِنْ غَابَ الصَّيْدُ بَعْدَ النَّتْفِ فَلَا يُعْلَمُ هَلِ امْتَنَعَ أَوْ لَمْ يَمْتَنِعْ إِلاَّ أَنَّ جِنَايَتَهُ مَعْلُومَةٌ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ حَتَّى يُعْلَمَ امْتِنَاعُهُ، وَفِي غَيْرِ الْمُمْتَنِعِ قِيمَتُهُ، وَإِنْ مَاتَ الصَّيْدُ فَإِنْ مَاتَ بِالنَّتْفِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ أَوْ فِدَاءُ مِثْلِهِ، لِأَنَّ مَوْتَهُ مِنْ جِنَايَتِهِ، وَإِنْ مَاتَ بِسَبَبٍ حَادِثٍ غَيْرِ النَّتْفِ، فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ الْحَادِثُ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانُ الصَّيْدِ لَوِ انْفَرَدَ: كَأَنْ يَفْتَرِسَهُ سَبُعٌ أَوْ يَقْتُلَهُ مُحِلٌّ فَيَكُونُ عَلَى الْجَانِي الْأَوَّلِ أَنْ يَفْدِيَهُ كَامِلًا لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ ضَامِنًا.

وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ الْحَادِثُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانُ الصَّيْدِ لَوِ انْفَرَدَ مِثْلُ أَنْ يَقْتُلَهُ مُحْرِمٌ أَوْ يَقْتُلَهُ مُحِلٌّ، وَالصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ: فَإِنْ كَانَتْ جِنَايَةُ الْأَوَّلِ بِالنَّتْفِ قَدِ اسْتَقَرَّتْ فِيهِ وَبَرَأَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْأَوَّلِ أَنْ يَفْدِيَهُ كَامِلًا، لِأَنَّهُ قَدْ كَفَّهُ عَنِ الِامْتِنَاعِ، وَوَجَبَ عَلَى الثَّانِي أَنْ يَفْدِيَهُ كَامِلًا، لِأَنَّهُ قَتَلَ صَيْدًا حَيًّا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُضْمَنُ بِشَاةٍ كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ شَاةٌ كَامِلَةٌ، وَعَلَى الثَّانِي شَاةٌ كَامِلَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ فَعَلَى الْأَوَّلِ قِيمَتُهُ وَهُوَ صَيْدٌ مُمْتَنِعٌ، وَعَلَى الثَّانِي قِيمَتُهُ وَهُوَ صَيْدٌ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، أَمَّا إِنْ كَانَتْ جِنَايَةُ الْأَوَّلِ بِالنَّتْفِ غَيْرَ مُسْتَقِرَّةٍ وَلَا بَرَأَ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي قَاتِلًا لِلصَّيْدِ بِالتَّوْجِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَذْبَحَهُ أَوْ يَشُقَّ بَطْنَهُ وَيُخْرِجَ حَشْوَتَهُ وَجَبَ عَلَى الْأَوَّلِ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ عَافِيًا وَمَنْتُوفًا، لِأَنَّهُ بِالنَّتْفِ جَارِحٌ، وَعَلَى الثَّانِي أَنْ يَفْدِيَهُ كَامِلًا، لِأَنَّهُ بِالتَّوْجِيهِ قَاتِلٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي جَارِحًا مِنْ غَيْرِ تَوْجِيهٍ فَقَدِ اسْتَوَيَا فَيَكُونَانِ قَاتِلَيْنِ وَتَكُونُ الْفِدْيَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ.

وَإِنْ مَاتَ الصَّيْدُ بَعْدَ أَنْ يَغِيبَ عَنِ الْعَيْنِ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ، وَلَا يُعْلَمُ هَلْ مَاتَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْجِنَايَةِ أَوْ بِسَبَبٍ حَادِثٍ غَيْرِ الْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهُ كَامِلًا، لِأَنَّ حُدُوثَ سَبَبِهِ بَعْدَ الْأَوَّلِ مَظْنُونٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ حُكْمُ الْيَقِينِ، وَلِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ ضَمِنَ جَمِيعَ قِيمَتِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ مِمَّا ضَمِنَهُ شَيْءٌ بِالشَّكِّ، وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رضي الله عنه-: وَمَنْ رَمَى طَيْرًا فَجَرَحَهُ جُرْحًا لَا يَمْتَنِعُ مَعَهُ فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي نَتْفِ الرِّيشِ.

8- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ نَتَفَ الْمُحْرِمُ رِيشَ الصَّيْدِ أَوْ شَعْرَهُ أَوْ وَبَرَهُ فَعَادَ مَا نَتَفَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ النَّقْصَ زَالَ، أَشْبَهَ مَا لَوِ انْدَمَلَ الْجُرْحُ، فَإِنْ صَارَ الصَّيْدُ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ بِنَتْفِ رِيشِهِ وَنَحْوِهِ فَكَمَا لَوْ جَرَحَهُ جُرْحًا صَارَ بِهِ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ فَعَلَيْهِ جَزَاءُ جَمِيعِهِ لِأَنَّهُ عَطَّلَهُ فَصَارَ كَالتَّالِفِ، وَإِنْ نَتَفَهُ فَغَابَ وَلَمْ يَعْلَمْ خَبَرَهُ فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَهُ.

نَتْفُ شَعْرِ الْوَجْهِ:

9- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَتْفِ شَعْرِ وَجْهِ الْمَرْأَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي النَّمْصِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ «بِلَعْنِهِ - صلى الله عليه وسلم- الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى».

وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ، وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَنَمُّص ف 4 وَمَا بَعْدَهَا).

نَتْفُ شَعْرِ الْإِبِطِ:

10- إِنَّ نَتْفَ شَعْرِ الْإِبِطِ مِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم-: «الْفِطْرَةُ خَمْسٌ- أَوْ خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ -: الْخِتَانُ وَالِاسْتِحْدَادُ وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَقَصُّ الشَّارِبِ» وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ نَتْفَ الْإِبِطِ مَشْرُوعٌ مَأْمُورٌ بِهِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ السُّنَّةِ يَحْصُلُ بِإِزَالَتِهِ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ مِنْ حَلْقٍ أَوْ نُورَةٍ، إِلاَّ أَنَّ الْأَوْلَى وَالْأَفْضَلَ إِزَالَتُهُ بِالنَّتْفِ الَّذِي وَرَدَ فِي النَّصِّ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (فِطْرَة ف 10).

نَتْفُ الشَّيْبِ:

11- لَا بَأْسَ بِنَتْفِ الشَّيْبِ إِلاَّ إِذَا قُصِدَ لِلتَّزَيُّنِ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (لِحْيَة ف 14).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


108-موسوعة الفقه الكويتية (نصيحة)

نَصِيحَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- النَّصِيحَةُ فِي اللُّغَةِ: قَوْلٌ فِيهِ دُعَاءٌ إِلَى صَلَاحٍ وَنَهْيٌ عَنْ فَسَادٍ، وَالْجَمْعُ: نَصَائِحُ، وَهِيَ اسْمٌ مِنْ مَصْدَرِ الْفِعْلِ نَصَحَ، يُقَالُ: نَصَحَ الشَّيْءَ نُصْحًا وَنَصُوحًا وَنَصَاحَةً: خَلَصَ.

وَنَصَحَتْ تَوْبَتُهُ: خَلَصَتْ مِنْ شَوَائِبِ الْعَزْمِ عَلَى الرُّجُوعِ، وَنَصَحَ قَلْبُهُ: خَلَا مِنَ الْغِشِّ، وَنَصَحَ الشَّيْءَ: أَخْلَصَهُ، وَيُقَالُ: نَصَحَ فُلَانًا وَلَهُ وَهُوَ بِاللاَّمِ أَفْصَحُ-: أَرْشَدَهُ إِلَى مَا فِيهِ صَلَاحُهُ.

وَنَاصَحَ فُلَانًا: نَصَحَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ، وَنَاصَحَ فُلَانٌ نَفْسَهُ فِي التَّوْبَةِ: أَخْلَصَهَا.

وَانْتَصَحَ فُلَانٌ: قَبِلَ النَّصِيحَةَ، وَانْتَصَحَ فُلَانًا: اتَّخَذَهُ نَاصِحًا وَاعْتَدَّهُ نَاصِحًا.

وَالنَّصْحُ وَالنُّصْحُ: إِخْلَاصُ الْمَشُورَةِ، وَالنَّصُوحُ: مُبَالَغَةٌ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ أَنْ يَتُوبَ الْعَبْدُ مِنَ الذَّنْبِ ثُمَّ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ أَبَدًا.

وَالنَّصِيحَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: إِخْلَاصُ الرَّأْيِ مِنَ الْغِشِّ لِلْمَنْصُوحِ، أَوْ هِيَ: الدُّعَاءُ إِلَى مَا فِيهِ الصَّلَاحُ وَالنَّهْيُ عَمَّا فِيهِ الْفَسَادُ.

وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنِ الْخَطَّابِيُّ قَوْلَهُ: النَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ مَعْنَاهَا حِيَازَةُ الْحَظِّ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ، وَيُقَالُ: وَهِيَ مِنْ وَجِيزِ الْأَسْمَاءِ وَمُخْتَصَرِ الْكَلَامِ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَلِمَةٌ مُفْرَدَةٌ يُسْتَوْفَى بِهَا الْعِبَارَةُ عَنْ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْخَدِيعَةُ:

2- الْخَدِيعَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنَ الْخَدْعِ، يُقَالُ: خَدَعَهُ خَدْعًا- وَيُكْسَرُ-: خَتَلَهُ وَأَرَادَ بِهِ الْمَكْرُوهَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ، كَاخْتَدَعَهُ فَانْخَدَعَ، وَالْحَرْبُ خُدْعَةٌ- مُثَلَّثَةٌ- وَكَهُمَزَةٍ: أَيْ تَنْقَضِي بِخُدْعَةِ، وَالْخُدَعَةُ أَيْضًا: الْكَثِيرُ الْخِدَاعِ، وَالْخُدْعَةُ: مَنْ يَخْدَعُهُ النَّاسُ كَثِيرًا.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّصِيحَةِ وَالْخَدِيعَةِ التَّضَادُّ.

ب- الْغِشُّ:

3- الْغِشُّ- بِكَسْرِ الْغَيْنِ- اسْمٌ مِنَ الْغَشِّ- بِفَتْحِهَا- يُقَالُ: غَشَّهُ غِشًّا: لَمْ يَنْصَحْهُ وَزَيَّنَ لَهُ غَيْرَ الْمَصْلَحَةِ، أَوْ لَمْ يُمَحِّصْهُ النُّصْحُ، أَوْ أَظْهَرَ لَهُ خِلَافَ مَا أَضْمَرَهُ، أَوْ هُوَ الْغِلُّ وَالْحِقْدُ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّصِيحَةِ وَالْغِشِّ التَّضَادُّ.

ج- التَّوْبِيخُ:

4- التَّوْبِيخُ مَصْدَرُ وَبَّخَ، يُقَالُ: وَبَّخْتُهُ تَوْبِيخًا: لُمْتُهُ، وَعَذَلْتُهُ، وَأَنَّبْتُهُ، وَهَدَّدْتُهُ، وَعَنَّفْتُهُ، وَقَالَ الْفَارَابِيُّ: عَيَّرْتُهُ.

وَالتَّوْبِيخُ فِي الِاصْطِلَاحِ: التَّعْيِيرُ وَاللَّوْمُ وَالْعَذَلُ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّصِيحَةِ وَالتَّوْبِيخِ الْإِسْرَارُ وَالْإِعْلَانُ بِمَعْنَى أَنَّ النَّصِيحَةَ مِنْ شَأْنِهَا الْإِسْرَارُ بِهَا، وَالتَّوْبِيخُ يَكُونُ عَلَانِيَةً.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

5- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ النَّصِيحَةَ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِينَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: يَتَأَكَّدُ وُجُوبُهَا لِخَاصَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ.وَقَالَ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ: عَظَّمَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَمْرَ النُّصْحِ فَقَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» فَبَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ النُّصْحَ وَاجِبٌ لِكَافَّةِ النَّاسِ بِأَنْ تَتَحَرَّى مَصْلَحَتَهُمْ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: النَّصِيحَةُ فَرْضُ عَيْنٍ سَوَاءٌ طُلِبَتَ أَوْ لَمْ تُطْلَبْ إِذَا ظَنَّ الْإِفَادَةَ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ.

وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنِ ابْنِ بَطَّالٍ أَنَّ النَّصِيحَةَ فَرْضُ كِفَايَةٍ يُجْزَى فِيهِ مَنْ قَامَ بِهِ وَيَسْقُطُ عَنِ الْبَاقِينَ.

وَهِيَ لَازِمَةٌ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ أَوِ الطَّاقَةِ إِذَا عَلِمَ النَّاصِحُ أَنَّهُ يُقْبَلُ نُصْحُهُ وَيُطَاعُ أَمْرُهُ وَأَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ الْمَكْرُوهَ فَإِنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ أَذًى فَهُوَ فِي سَعَةٍ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: إِنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» وُجُوبُ النُّصْحِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ فِي الْمَنْصُوحِ.

وَلَا يَسْقُطُ التَّكْلِيفُ بِالنَّصِيحَةِ عَنِ الْمُسْلِمِ مَادَامَ صَحِيحَ الْعَقْلِ، قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: قَدْ تُرْفَعُ الْأَعْمَالُ كُلُّهَا عَنِ الْعَبْدِ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ، وَلَا يُرْفَعُ عَنْهُ النُّصْحُ لِلَّهِ، فَلَوْ كَانَ مِنَ الْمَرَضِ بِحَالٍ لَا يُمْكِنُهُ عَمَلٌ بِشَيْءٍ مِنْ جَوَارِحِهِ بِلِسَانٍ وَلَا غَيْرِهِ غَيْرَ أَنَّ عَقْلَهُ ثَابِتٌ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ النُّصْحُ لِلَّهِ بِقَلْبِهِ، وَهُوَ أَنْ يَنْدَمَ عَلَى ذُنُوبِهِ، وَيَنْوِيَ إِنْ صَحَّ أَنْ يَقُومَ بِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَيَجْتَنِبَ مَا نَهَاهُ عَنْهُ، وَإِلاَّ كَانَ غَيْرَ نَاصِحٍ لِلَّهِ بِقَلْبِهِ.

مَكَانَةُ النَّصِيحَةِ فِي الدِّينِ:

6- رَوَى تَمِيمُ بْنُ أَوْسٍ الدَّارِيُّ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ».وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَصْرِ الدِّينِ فِي النَّصِيحَةِ- الَّذِي وَرَدَ بِالْحَدِيثِ- هَلْ هُوَ حَصْرٌ مَجَازِيٌّ أَمْ حَقِيقِيٌّ.

فَقَالَ بَعْضُهُمْ كَالْمُنَاوِيِّ وَابْنِ عَلاَّنٍ: حَدِيثُ «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» أَيْ هِيَ عِمَادُ الدِّينِ وَقِوَامُهُ كَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْحَجُّ عَرَفَةُ» فَهُوَ مِنَ الْحَصْرِ الْمَجَازِيِّ لَا الْحَقِيقِيِّ، أَيْ أَنَّهُ أُرِيدَ الْمُبَالَغَةُ فِي مَدْحِ النَّصِيحَةِ حَتَّى جُعِلَتْ كُلَّ الدِّينِ وَإِنْ كَانَ الدِّينُ مُشْتَمِلًا عَلَى خِصَالٍ كَثِيرَةٍ غَيْرِهَا.

وَقَالَ غَيْرُهُمْ كَابْنِ رَجَبٍ: أَخْبَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّصِيحَةَ تَشْمَلُ خِصَالَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ، وَسَمَّى ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا، فَإِنَّ النُّصْحَ لِلَّهِ يَقْتَضِي الْقِيَامَ بِأَدَاءِ وَاجِبَاتِهِ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهَا، وَهُوَ مَقَامُ الْإِحْسَانِ، فَلَا يَكْمُلُ النُّصْحُ لِلَّهِ بِدُونِ ذَلِكَ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ بِدُونِ كَمَالِ الْمَحَبَّةِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ.

وَقَالَ ابْنُ حَجْرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ لَمْ يُرِدْ بِهِ عَامِلُهُ الْإِخْلَاصَ فَلَيْسَ مِنَ الدِّينِ.

مَنْ تَجِبُ لَهُ النَّصِيحَةُ وَمَا تَكُونُ بِهِ:

7- وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ- رضي الله عنه- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ».

قَالَ النَّوَوِيُّ: ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَلَامًا نَفِيسًا، أَنَا أَضُمُّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، قَالُوا:

أَمَّا النَّصِيحَةُ لِلَّهِ تَعَالَى فَمَعْنَاهَا مُنْصَرِفٌ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، وَنَفْيِ الشَّرِيكِ عَنْهُ، وَتَرْكِ الْإِلْحَادِ فِي صِفَاتِهِ، وَوَصْفِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ كُلِّهَا، وَتَنْزِيهِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ جَمِيعِ النَّقَائِصِ، وَالْقِيَامِ بِطَاعَتِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، وَالْحُبِّ فِيهِ، وَالْبُغْضِ فِيهِ، وَمُوَالَاةِ مَنْ أَطَاعَهُ، وَمُعَادَاةِ مَنْ عَصَاهُ، وَجِهَادِ مَنْ كَفَرَ بِهِ، وَالِاعْتِرَافِ بِنِعْمَتِهِ، وَشُكْرِهِ عَلَيْهَا، وَالْإِخْلَاصِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَالدُّعَاءِ إِلَى جَمِيعِ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهَا، وَالتَّلَطُّفِ بِالنَّاسِ أَوْ مَنْ أَمْكَنَ مِنْهُمْ عِلْمُهَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: حَقِيقَةُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْعَبْدِ فِي نُصْحِهِ نَفْسَهُ فَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ نُصْحِ النَّاصِحِ.

وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَتَكُونُ بِالْإِيمَانِ بِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيلُهُ، لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْخَلْقِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ تَعْظِيمُهُ وَتِلَاوَتُهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَتَحْسِينُهَا وَالْخُشُوعُ عِنْدَهَا، وَإِقَامَةُ حُرُوفِهِ فِي التِّلَاوَةِ، وَالذَّبُّ عَنْ تَأْوِيلِ الْمُحَرِّفِينَ وَتَعَرُّضِ الطَّاغِينَ، وَالتَّصْدِيقُ بِمَا فِيهِ، وَالْوُقُوفُ مَعَ أَحْكَامِهِ، وَتَفَهُّمُ عُلُومِهِ وَأَمْثَالِهِ، وَالِاعْتِبَارُ بِمَوَاعِظِهِ، وَالتَّفَكُّرُ فِي عَجَائِبِهِ، وَالْعَمَلُ بِمُحْكَمِهِ وَالتَّسْلِيمُ لِمُتَشَابِهِهِ، وَالْبَحْثُ عَنْ عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَنَشْرُ عُلُومِهِ، وَالدُّعَاءُ إِلَيْهِ وَإِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَصِيحَتِهِ.

وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَتَصْدِيقُهُ عَلَى الرِّسَالَةِ، وَالْإِيمَانُ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ، وَطَاعَتُهُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَنُصْرَتُهُ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَمُعَادَاةُ مَنْ عَادَاهُ وَمُوَالَاةُ مَنْ وَالَاهُ، وَإِعْظَامُ حَقِّهِ وَتَوْقِيرِهِ، وَإِحْيَاءُ طَرِيقَتِهِ وَسُنَّتِهِ، وَبَثُّ دَعْوَتِهِ، وَنَشْرُ شَرِيعَتِهِ، وَنَفْيُ التُّهْمَةِ عَنْهَا، وَاسْتِثَارَةُ عُلُومِهَا، وَالتَّفَقُّهُ فِي مَعَانِيهَا، وَالدُّعَاءُ إِلَيْهَا، وَالتَّلَطُّفُ فِي تَعَلُّمِهَا وَتَعْلِيمِهَا، وَإِعْظَامُهَا وَإِجْلَالُهَا، وَالتَّأَدُّبُ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا، وَالْإِمْسَاكُ عَنِ الْكَلَامِ فِيهَا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِجْلَالُ أَهْلِهَا لِانْتِسَابِهِمْ إِلَيْهَا، وَالتَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِهِ وَالتَّأَدُّبُ بِآدَابِهِ، وَمَحَبَّةُ أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمُجَانَبَةُ مَنِ ابْتَدَعَ فِي سُنَّتِهِ أَوْ تَعَرَّضَ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَالنَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ تَكُونُ بِمُعَاوَنَتِهِمْ عَلَى الْحَقِّ، وَطَاعَتِهِمْ فِيهِ، وَأَمْرِهِمْ بِهِ وَتَنْبِيهِهِمْ وَتَذْكِيرِهِمْ بِرِفْقٍ وَلُطْفٍ، وَإِعْلَامِهِمْ بِمَا غَفَلُوا عَنْهُ وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَرْكِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ، وَتَأْلِيفِ قُلُوبِ النَّاسِ لِطَاعَتِهِمْ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَمِنَ النَّصِيحَةِ لَهُمُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُمْ، وَالْجِهَادُ مَعَهُمْ، وَأَدَاءُ الصَّدَقَاتِ إِلَيْهِمْ، وَتَرْكُ الْخُرُوجِ بِالسَّيْفِ عَلَيْهِمْ إِذَا ظَهَرَ مِنْهُمْ حَيْفٌ أَوْ سُوءُ عِشْرَةٍ، وَأَنْ لَا يُغَرُّوا بِالثَّنَاءِ الْكَاذِبِ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يُدْعَى لَهُمْ بِالصَّلَاحِ وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْخُلَفَاءُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَقُومُ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْوِلَايَاتِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ أَيْضًا ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يُتَأَوَّلُ ذَلِكَ عَلَى الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ هُمْ عُلَمَاءُ الدِّينِ وَأَنَّ مِنْ نَصِيحَتِهِمْ قَبُولَ مَا رَوَوْهُ وَتَقْلِيدَهُمْ فِي الْأَحْكَامِ وَإِحْسَانَ الظَّنِّ بِهِمْ.

وَأَمَّا نَصِيحَةُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ- وَهُمْ مَنْ عَدَا وُلَاةِ الْأَمْرِ- فَإِرْشَادُهُمْ لِمَصَالِحِهِمْ فِي آخِرَتِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَكَفِّ الْأَذَى عَنْهُمْ، فَيُعَلِّمُهُمْ مَا يَجْهَلُونَ مِنْ دِينِهِمْ وَيُعِينُهُمْ عَلَيْهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَسَتْرِ عَوْرَاتِهِمْ، وَسَدِّ خَلاَّتِهِمْ، وَدَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ لَهُمْ وَأَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ بِرِفْقٍ وَإِخْلَاصٍ، وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ، وَتَوْقِيرِ كَبِيرِهِمْ، وَرَحْمَةِ صَغِيرِهِمْ، وَتَخَوُّلِهِمْ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَتَرْكِ غِشِّهِمْ وَحَسَدِهِمْ، وَأَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ، وَيَكْرَهَ لَهُمْ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَالذَّبِّ عَنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَحَثِّهِمْ عَلَى التَّخَلُّقِ وَبِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنْوَاعِ النَّصِيحَةِ، وَتَنْشِيطِ هِمَمِهِمْ إِلَى الطَّاعَاتِ.

الْحَاجَةُ إِلَى النَّصِيحَةِ:

8- الْمُسْلِمُ بِحَاجَةٍ إِلَى نُصْحِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: لِأَنَّهُ يَرَى مِنْهُ مَا لَا يَرَى مِنْ نَفْسِهِ، فَيَسْتَفِيدُ مِنْ أَخِيهِ مَعْرِفَةَ عُيُوبِ نَفْسِهِ، وَلَوِ انْفَرَدَ لَمْ يَسْتَفِدْ، كَمَا يَسْتَفِيدُ بِالْمِرْآةِ الْوُقُوفَ عَلَى عُيُوبِ صُورَتِهِ الظَّاهِرَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ مِرْآةُ أَخِيهِ، فَإِنْ رَأَى بِهِ أَذًى فَلْيُمِطْهُ عَنْهُ».

وَقَدْ كَانَ عُمَرُ- رضي الله عنه- يَسْتَهْدِي ذَلِكَ مِنْ إِخْوَانِهِ، وَيَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَهْدَى إِلَى أَخِيهِ عُيُوبَهُ، وَقَالَ لِسَلْمَانَ- رضي الله عنه- وَقَدْ قَدِمَ عَلَيْهِ: مَا الَّذِي بَلَغَكَ عَنِّي مِمَّا تَكْرَهُ؟ فَاسْتَعْفَى، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ لَكَ حُلَّتَيْنِ تَلْبِسُ إِحْدَاهُمَا بِالنَّهَارِ وَالْأُخْرَى بِاللَّيْلِ، وَبَلَغَنِي أَنَّكَ تَجْمَعُ بَيْنَ إِدَامَيْنِ عَلَى مَائِدَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: أَمَّا هَذَانِ فَقَدْ كَفَيْتُهُمَا فَهَلْ بَلَغَكَ غَيْرُهُمَا؟ فَقَالَ: لَا.

وَقَدْ قَالَ الْمُنَاوِيُّ: مَنْ قَبِلَ النَّصِيحَةَ أَمِنَ الْفَضِيحَةَ وَمَنْ يَأْبَى فَلَا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَاذِبِينَ بِبُغْضِهِمْ لِلنَّاصِحِينَ إِذْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}.

الْإِسْرَارُ بِالنَّصِيحَةِ:

9- قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ النَّصِيحَةُ فِي سِرٍّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، بِأَنْ يَنْصَحَ النَّاصِحُ لِلْمَنْصُوحِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَلَا يُطْلِعَ عَلَى عَيْبِهِ أَحَدًا، لِأَنَّ نَصَائِحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي آذَانِهِمْ، وَمَا كَانَ عَلَى الْمَلأَِ فَهُوَ تَوْبِيخٌ وَفَضِيحَةٌ وَمَا كَانَ فِي السِّرِّ فَهُوَ شَفَقَةٌ وَنَصِيحَةٌ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ نَصَحَهُ وَزَانَهُ وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَانِيَةً فَقَدْ فَضَحَهُ وَشَانَهُ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: اللَّهُ تَعَالَى يُعَاتِبُ الْمُؤْمِنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ كَنَفِهِ فِي ظِلِّ سَتْرِهِ، فَيُوقِفُهُ عَلَى ذُنُوبِهِ سِرًّا، وَقَدْ يُدْفَعُ كِتَابُ عَمَلِهِ مَخْتُومًا إِلَى الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَحِفُّونَ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ، فَإِذَا قَارَبُوا بَابَ الْجَنَّةِ أَعْطَوْهُ الْكِتَابَ مَخْتُومًا لِيَقْرَأَهُ، وَأَمَّا أَهْلُ الْمَقْتِ فَيُنَادَوْنَ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ وَتُسْتَنْطَقُ جَوَارِحُهُمْ بِفَضَائِحِهِمْ فَيَزْدَادُونَ بِذَلِكَ خِزْيًا وَافْتِضَاحًا.

وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ: كَانَ السَّلَفُ إِذَا أَرَادُوا نَصِيحَةَ أَحَدٍ وَعَظُوهُ سِرًّا، بَلْ إِنَّ بَعْضَ السَّلَفِ إِذَا سَمِعَ مَا يَكْرَهُ عَنْ أَخِيهِ ذَبَّ عَنْ عِرْضِهِ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهِ بِرَأْيِهِ وَنَصَحَهُ، نَقَلَ ابْنُ الْحَاجِّ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ لِلْفُضَيْلِ: إِنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ قَبِلَ جَوَائِزَ السُّلْطَانِ، فَقَالَ: مَا أَخَذَ مِنْهُمْ إِلاَّ دُونَ حَقِّهِ، ثُمَّ خَلَا بِهِ وَحَدَّثَهُ فِي ذَلِكَ بِالرِّفْقِ فَقَالَ: يَا أَبَا عَلِيٍّ إِنْ لَمْ نَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ فَإِنَّا نُحِبُّ الصَّالِحِينَ.

بَلْ إِنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ السَّتْرَ وَالنُّصْحَ مِنْ خِلَالِ الْمُؤْمِنِ، قَالَ الْفُضَيْلُ: الْمُؤْمِنُ يَسْتُرُ وَيَنْصَحُ، وَالْفَاجِرُ يَهْتِكُ وَيُعَيِّرُ.

الْإِخْلَاصُ فِي النَّصِيحَةِ:

10- نَقَلَ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَزْدَادُ فِي صِحَّةِ رَأْيِهِ مَا نَصَحَ لِمُسْتَشِيرِهِ، فَإِذَا غَشَّهُ سَلَبَهُ اللَّهُ نُصْحَهُ وَرَأْيَهُ، وَلَا يَلْتَفِتَنَّ إِلَى مَنْ قَالَ: إِذَا نَصَحْتَ الرَّجُلَ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْكَ فَتَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ بِغِشِّهِ، فَذَلِكَ قَوْلٌ أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ، اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ بِغِشِّهِ السُّكُوتَ عَنْهُ، فَقَدْ قِيلَ: كَثْرَةُ النَّصِيحَةِ تُورِثُ الظِّنَّةُ.

وَقَالَ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ: أَوَّلُ النُّصْحِ أَنْ يَنْصَحَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ فَمَنْ غَشَّهَا فَقَلَّمَا يَنْصَحُ غَيْرَهُ.

وَفِي عَوْنِ الْمَعْبُودِ: وَيَنْبَغِي لِمَنِ اسْتَنْصَحَ أَنْ يُخْلِصَ النَّصِيحَةَ، لِأَنَّهُ مُسْتَشَارٌ يُوَجِّهُ إِلَى مَا فِيهِ رُشْدُ الْمُسْتَشِيرِ وَخَيْرُهُ، فَإِنْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ صَوَابٍ فَقَدْ غَشَّهُ فِي مَشُورَتِهِ، رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا يُسْأَلُ مِنَ الْأُمُورِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخُونَ الْمُسْتَشِيرَ بِكِتْمَانِ مَصْلَحَتِهِ.

عُدَّةُ النَّاصِحِ:

11- نَقَلَ الْمَنَاوِيُّ أَنَّ النَّاصِحَ يَحْتَاجُ إِلَى عِلْمٍ كَبِيرٍ كَثِيرٍ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ أَوَّلًا إِلَى عِلْمِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ الْعِلْمُ الْعَامُّ الْمُتَضَمِّنُ لِأَحْوَالِ النَّاسِ، وَعِلْمِ الزَّمَانِ، وَعِلْمِ الْمَكَانِ، وَعِلْمِ التَّرْجِيحِ إِذَا تَقَابَلَتِ الْأُمُورُ فَيَفْعَلُ بِحَسَبِ الْأَرْجَحِ عِنْدَهُ، وَهَذَا يُسَمَّى عِلْمَ السِّيَاسَةِ، فَإِنَّهُ يَسُوسُ بِذَلِكَ النُّفُوسَ الْجَمُوحَةَ الشَّارِدَةَ عَنْ طَرِيقِ مَصَالِحِهَا، فَلِذَلِكَ قَالُوا: يَحْتَاجُ النَّاصِحُ إِلَى عِلْمٍ وَعَقْلٍ وَفِكْرٍ صَحِيحٍ وَرُؤْيَةٍ حَسَنَةٍ وَاعْتِدَالِ مِزَاجٍ وَتُؤَدَةٍ وَتَأَنٍّ، فَإِنْ لَمْ تُجْمَعْ هَذِهِ الْخِصَالُ فَخَطَؤُهُ أَسْرَعُ مِنْ إِصَابَتِهِ فَلَا يَنْصَحُ.

النَّصِيحَةُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ:

12- قَالَ الْمَنَاوِيُّ: بِالنَّصِيحَةِ يَحْصُلُ التَّحَابُبُ وَالِائْتِلَافُ، وَبِضِدِّهَا يَكُونُ التَّبَاغُضُ وَالِاخْتِلَافُ، وَأَقْصَى مُوجِبَاتِ التَّحَابُبِ أَنْ يَرَى الْإِنْسَانُ لِأَخِيهِ مَا يَرَاهُ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ نَقَلَ قَوْلَ الْعُلَمَاءِ: مَا فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ أَدَقُّ وَلَا أَخْفَى وَلَا أَعْظَمُ مِنَ النَّصِيحَةِ.

وَقَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ فِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الْمُزَنِيِّ: مَا فَاقَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه- أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِصَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ وَلَكِنْ بِشَيْءٍ كَانَ فِي قَلْبِهِ، قَالَ: الَّذِي كَانَ فِي قَلْبِهِ الْحُبُّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالنَّصِيحَةُ فِي خَلْقِهِ.

وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: مَا أَدْرَكَ عِنْدَنَا مَنْ أَدْرَكَ بِكَثْرَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَإِنَّمَا أَدْرَكَ عِنْدَنَا بِسَخَاءِ الْأَنْفُسِ وَسَلَامَةِ الصَّدْرِ وَالنُّصْحِ لِلْأُمَّةِ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنْ شِئْتُمْ لأَُقْسِمَنَّ لَكُمْ بِاللَّهِ أَنَّ أَحَبَّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ...الَّذِينَ يُحَبِّبُونَ اللَّهَ إِلَى عِبَادِهِ، وَيُحَبِّبُونَ عِبَادَ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ بِالنَّصِيحَةِ.

النَّصِيحَةُ لِلْغَائِبِ:

13- لَا يُقَصَّرُ حَقُّ الْمُسْلِمِ فِي النُّصْحِ عَلَى حُضُورِهِ، بَلْ إِنَّ حَقَّهُ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فِي النُّصْحِ يَمْتَدُّ إِلَى غِيَابِهِ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ: «لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ سِتُّ خِصَالٍ»...وَذَكَرَ مِنْهَا: «يَنْصَحُ لَهُ إِذَا غَابَ أَوْ شَهِدَ».قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا ذُكِرَ فِي غَيْبِهِ بِالسُّوءِ أَنْ يَنْصُرَهُ وَيَرُدَّ عَنْهُ، وَإِذَا رَأَى مَنْ يُرِيدُ أَذَاهُ فِي غَيْبِهِ كَفَّهُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ النُّصْحَ فِي الْغَيْبِ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ النُّصْحِ.

النُّصْحُ لِلذِّمِّيِّ وَالْكَافِرِ:

14- ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَنْصَحَ الْكَافِرَ أَوِ الذِّمِّيَّ لِحَدِيثِ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ؟ قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ، وَإِلْحَاقُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ بِالْمُسْلِمِ يَصِحُّ إِذَا كَانَ مِثْلَهُ، وَلَيْسَ الذِّمِّيُّ كَالْمُسْلِمِ، وَلَا حُرْمَتُهُ كَحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ».

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: التَّقْيِيدُ بِالْمُسْلِمِ- أَيْ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ- رضي الله عنه- وَفِيهِ «فَشَرَطَ عَلَيَّ وَالنُّصْحُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ».لِلْأَغْلَبِ، وَإِلاَّ فَالنُّصْحُ لِلْكَافِرِ مُعْتَبَرٌ، بِأَنْ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ، وَيُشَارَ عَلَيْهِ بِالصَّوَابِ إِذَا اسْتَشَارَ.

الْمُسْلِمُ يَنْصَحُ حَيًّا وَمَيِّتًا:

15- مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَقُومَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ النُّصْحِ فِي كُلِّ الظُّرُوفِ وَالْأَحْوَالِ، حَتَّى وَهُوَ يَسْتَقْبِلُ الْمَوْتَ، فَقَدْ أَثْنَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَدَعَا لَهُ بِالرَّحْمَةِ فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ سَعْدَ بْنَ الرَّبِيعِ- رضي الله عنه- اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَمَّا الْتُمِسَ فِي الْقَتْلَى وُجِدَ وَهُوَ حَيٌّ، فَقَالَ لِمُلْتَمِسِهِ- وَهُوَ أَبَيُّ بْنُ كَعْبٍ- رضي الله عنه- مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لآِتِيَهُ بِخَبَرِكَ، قَالَ: فَاذْهَبْ إِلَيْهِ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ؟..وَأَخْبِرْ قَوْمَكَ أَنَّهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ إِنْ قُتِلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَحَدٌ مِنْهُمْ حَيٌّ، قُلْ لِقَوْمِكَ: يَقُولُ لَكُمْ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ: اللَّهَ اللَّهَ وَمَا عَاهَدْتُمْ عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ لِمَجِيءِ لَيْلَةِ الْعَقَبَةِ، فَوَاللَّهِ مَا لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ عُذْرٌ إِنْ خُلِصَ إِلَى نَبِيِّكُمْ وَفِيكُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ، قَالَ أُبَيٌّ: فَلَمْ أَبْرَحْ حَتَّى مَاتَ، فَرَجَعْتُ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: - رحمه الله-، نَصَحَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا».

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


109-موسوعة الفقه الكويتية (نفر)

نَفْرٌ

التَّعْرِيفُ:

1- النَّفْرُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ نَفَرَ، وَيَأْتِي بِمَعَانٍ، يُقَالُ: نَفَرَ نَفْرًا: هَجَرَ وَطَنَهُ وَضَرَبَ فِي الْأَرْضِ، وَيُقَالُ: نَفَرَ الْحَاجُّ مِنْ مِنًى: دَفَعُوا إِلَى مَكَّةَ، وَنَفَرَ النَّاسُ إِلَى الْعَدُوِّ: أَسْرَعُوا فِي الْخُرُوجِ لِقِتَالِهِ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

:

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّفْرِ نَفْرُ الْحَاجِّ:

2- لِلْحَاجِّ نَفْرَانِ يَنْفِرُ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ؛ لقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى}.

النَّفْرُ الْأَوَّلُ:

3- وَهُوَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ثَالِثُ أَيَّامِ النَّحْرِ، أَيِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَيُسَمَّى يَوْمَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ.

وَذَلِكَ إِذَا رَمَى الْحَاجُّ الْجِمَارَ الثَّلَاثَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، جَازَ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ أَيْ يَرْحَلَ إِلَى مَكَّةَ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ رَمْيُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَالْمَبِيتُ بِمِنًى لَيْلَتَهُ.

وَيُشْتَرَطُ لِذَلِكَ أَنْ يُجَاوِزَ الْحَاجُّ مِنًى قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يُجَاوِزَ حُدُودَ مِنًى قَبْلَ فَجْرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.

فَإِنْ لَمْ يَخْرُجِ الْحَاجُّ مِنْ مِنًى إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُبَيَّنِ لِكُلِّ مَذْهَبٍ فَلْيَمْكُثْ وَلْيَبِتْ بِمِنًى، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَمْيُ الْجِمَارِ الثَّلَاثِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْمَبِيتُ بِمِنًى هَذِهِ اللَّيْلَةَ، عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْمَبِيتِ بِمِنًى. (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: رَمْيٌ ف 3 وَمَا بَعْدَهَا).

النَّفْرُ الثَّانِي:

4- وَهُوَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، بَعْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ الثَّلَاثِ، وَيُسَمَّى «يَوْمَ النَّفْرِ الثَّانِي» (ر: مُصْطَلَحَ: رَمْيٌ ف 3 وَمَا بَعْدَهَا وَحَجٌّ ف 46).

وَبَعْدَ هَذَا الرَّمْيِ تَنْتَهِي مَنَاسِكُ مِنًى، وَيَرْحَلُ الْحُجَّاجُ جَمِيعُهُمْ إِلَى مَكَّةَ، وَلَا يُشْرَعُ الْمُكْثُ بِمِنًى بَعْدَ رَمْيِ هَذَا الْيَوْمِ.

وَيُسْتَحَبُّ فِي النَّفْرِ إِلَى مَكَّةَ مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الْأَذْكَارِ لِلْمُسَافِرِينَ مِنَ التَّكْبِيرِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَالتَّمْجِيدِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَالدُّعَاءِ.

وَإِذَا وَصَلَ «الْمُحَصَّبَ» يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْزِلَ فِيهِ وَيُصَلِّيَ، ر: مُصْطَلَحَ (حَجٌّ ف 107).

النَّفْرُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَالْجِهَادِ:

5- وَرَدَ النَّفْرُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي الْحَثِّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْجِهَادِ فِي قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ (يَعْنِي الْآيَةَ الْأُولَى) أَصْلٌ فِي وُجُوبِ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ يَقْتَضِي نَدْبَ طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْحَثَّ عَلَيْهِ، دُونَ الْوُجُوبِ وَالْإِلْزَامِ، وَإِنَّمَا لَزِمَ طَلَبُ الْعِلْمِ بِأَدِلَّتِهِ.

ر: مُصْطَلَحَ: (طَلَبُ الْعِلْمِ ف 6 وَجِهَادٌ ف 7). (

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


110-موسوعة الفقه الكويتية (نهر 2)

نَهْرٌ -2

امْتِنَاعُ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ عَنِ الْكَرْيِ وَالْإِصْلَاحِ:

21- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يَحْتَاجُهُ النَّهْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ مِنْ كَرْيٍ وَإِصْلَاحٍ وَعِمَارَةٍ يَكُونُ عَلَى جَمِيعِ الشُّرَكَاءِ فِيهِ.لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي حُكْمِ مَا إِذَا امْتَنَعَ حَدُّ الشُّرَكَاءِ عَنِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْكَرْيِ وَالْإِصْلَاحِ.

وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَإِنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْآبِيَ يُجْبَرُ عَلَى الْمُشَارَكَةِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ لَا يُجْبَرُ الْآبِي وَلِكُلِّ مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ خَاصٌّ يَخْتَلِفُ عَنْ غَيْرِهِ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

22- قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ النَّهْرَ الْمَمْلُوكَ إِلَى قِسْمَيْنِ: عَامٍّ، وَخَاصٍّ.

وَالْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَا تُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ خَاصٌّ، وَمَا لَا تُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ عَامٌّ.وَاخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِ ذَلِكَ، فَقِيلَ: الْخَاصُّ مَا كَانَ لِعَشَرَةٍ فَمَا دُونَهَا، أَوْ كَانَ عَلَيْهِ قَرْيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ النَّهْرُ لِمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ فَهُوَ خَاصٌّ، وَإِنْ كَانَ لِأَرْبَعِينَ فَهُوَ نَهْرٌ عَامٌّ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْحَدَّ الْفَاصِلَ فِي الْمِائَةِ، وَبَعْضُهُمْ فِي الْأَلْفِ وَغَيْرُ ذَلِكَ عَامٌّ، وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهِ: أَنَّهُ يُفَوَّضُ إِلَى رَأْيِ الْمُجْتَهِدِ فَيَخْتَارُ مِنَ الْأَقَاوِيلِ أَيَّ قَوْلٍ شَاءَ، وَقِيلَ: الْخَاصُّ مَا لَا تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ، وَمَا تَجْرِي فِيهِ فَهُوَ عَامٌّ.

قَالَ الْإِتْقَانِيُّ: وَلَكِنَّ أَحْسَنَ مَا قِيلَ فِيهِ: إِنْ كَانَ النَّهْرُ لِدُونِ مِائَةٍ فَالشَّرِكَةُ خَاصَّةٌ وَإِلاَّ فَعَامَّةٌ.

23- وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ النَّهْرُ عَامًّا وَأَبَى بَعْضُ الشُّرَكَاءِ مِنَ الْكَرْيِ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْكَرْيِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ الْعَامِّ وَهُوَ ضَرَرُ بَقِيَّةِ الشُّرَكَاءِ، وَضَرَرُ الْآبِي خَاصٌّ وَيُقَابِلُهُ عِوَضٌ فَلَا يُعَارَضُ بِهِ.

وَإِذَا أَرَادَ الشُّرَكَاءُ فِي النَّهْرِ الْعَامِّ أَنْ يُحَصِّنُوهُ خِيفَةَ الِانْبِثَاقِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ كَغَرَقِ الْأَرَاضِي وَفَسَادِ الطُّرُقِ يُجْبَرُ الْآبِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ فَلَا يُجْبَرُ الْآبِي لِأَنَّهُ مَوْهُومٌ، بِخِلَافِ الْكَرْيِ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ.

24- أَمَّا النَّهْرُ الْخَاصُّ فَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي إِجْبَارِ الْمُمْتَنِعِ عَنِ الْكِرَى.

فَإِنْ كَانَ الْمُمْتَنِعُ بَعْضَ الشُّرَكَاءِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْكِفَايَةِ: قِيلَ: يُجْبَرُ الْآبِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْكَافِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: أُجْبِرَ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا فِي الْخِزَانَةِ، وَقِيلَ: لَا يُجْبَرُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْبَلْخِيِّ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.

وَإِنْ كَانَ الْمُمْتَنِعُ كُلَّ الشُّرَكَاءِ فِي النَّهْرِ وَاتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِ الْكَرْيِ فَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ لَا يُجْبِرُهُمُ الْإِمَامُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا لَوِ امْتَنَعُوا عَنْ عِمَارَةِ أَرَاضِيهِمْ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: يُجْبِرُهُمُ الْإِمَامُ عَلَى ذَلِكَ لِحَقِّ أَصْحَابِ الشَّفَةِ فِي النَّهْرِ

25- وَعَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ جَبْرِ الْآبِي إِذَا أَبَى بَعْضُ الشُّرَكَاءِ مِنَ الْكَرْيِ وَقَامَ الْبَاقُونَ بِالْكَرْيِ، فَهَلْ يَرْجِعُونَ عَلَى الْآبِي بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ مُؤْنَةِ مَا أَنْفَقُوا؟ قَالُوا: إِنْ كَانَ بِأَمْرِ الْقَاضِي رَجَعُوا عَلَى الْآبِي.

نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الذَّخِيرَةِ: أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا أَمَرَ الْبَاقِينَ بِكَرْيِ نَصِيبِ الْآبِي عَلَى أَنْ يَسْتَوْفُوا مُؤْنَةَ الْكَرْيِ مِنْ نَصِيبِهِ مِنَ الشُّرْبِ مِقْدَارَ مَا يَبْلُغُ قِيْمَةَ مَا أَنْفَقُوا عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَلَى الْآبِي بِذَلِكَ.

وَإِنْ لَمْ يَرْفَعُوا الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي، هَلْ يَرْجِعُونَ عَلَى الْآبِي بِقِسْطِهِ مِنَ النَّفَقَةِ وَيُمْنَعُ الْآبِي مِنْ شُرْبِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ؟ قِيلَ: نَعَمْ، وَقِيلَ: لَا.

وَذُكِرَ فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الْأَوَّلَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَمَثَلُهُ فِي التَّتَارَخَانِيَّةِ وَالْبَزَّازِيَّةِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَكِنَّ مَفْهُومَ كَلَامِ الدُّرِّ كَالْهِدَايَةِ وَالتَّبْيِينِ وَغَيْرِهِمَا تَرْجِيحُ عَدَمِ الرُّجُوعِ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي.

26- وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُقْضَى عَلَى شَرِيكٍ فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ أَنْ يُعَمِّرَ مَعَ شَرِيكِهِ أَوْ يَبِيعَ مِنْهُ جَمِيعَ حِصَّتِهِ إِنْ أَبَى التَّعْمِيرَ.

لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الشُّرَكَاءَ فِي الْبِئْرِ أَوِ الْعَيْنِ أَوِ النَّهْرِ فَإِنَّ مَنْ أَبَى الْعِمَارَةَ مِنَ الشُّرَكَاءِ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْبِئْرِ أَوِ الْعَيْنِ زَرْعٌ أَوْ شَجَرٌ فِيهِ ثَمَرٌ مُؤَبَّرٌ أَمْ لَا، وَيُقَالُ لِلشَّرِيكِ: عَمِّرْ إِنْ شِئْتَ وَلَكَ مَا حَصَلَ مِنَ الْمَاءِ بِعِمَارَتِكَ، وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: هُوَ إِمَّا كُلُّ الْمَاءِ إِنْ كَانَ التَّخْرِيبُ أَذْهَبَ كُلَّ الْمَاءِ وَحَصَلَ الْمَاءُ بِالتَّعْمِيرِ، أَوْ مَا زَادَ مِنْهُ بِالْعِمَارَةِ، وَذَلِكَ إِلَى أَنْ تَسْتَوْفِيَ قَدْرَ مَا أَنْفَقْتَ، أَوْ إِلَى أَنْ يَأْتِيَكَ صَاحِبُكَ الْآبِي بِمَا يُصِيبُهُ مِنَ النَّفَقَةِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ.

وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ: يُجْبَرُ الشَّرِيكُ عَلَى الْبَيْعِ إِنْ أَبَى الْعِمَارَةَ إِنْ كَانَ عَلَى الْبِئْرِ أَوِ الْعَيْنِ زَرْعٌ أَوْ شَجَرٌ فِيهِ ثَمَرٌ مُؤَبَّرٌ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ ابْنُ رُشْدٍ وَرَجَّحَ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ.

وَجَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيلِ: إِذَا احْتَاجَتْ بِئْرٌ أَوْ قَنَاةٌ بَيْنَ شُرَكَاءَ لِسَقْيِ أَرْضِهِمْ إِلَى الْكَنْسِ لِقِلَّةِ مَائِهَا فَأَرَادَ أَحَدُهُمُ الْكَنْسَ وَأَبَى الْآخَرُونَ.- وَفِي تَرْكِ الْكَنْسِ ضَرَرٌ عَلَى الْمَاءِ وَانْتِقَاصٌ، وَالْمَاءُ يَكْفِي أَوْ لَا يَكْفِي إِلاَّ الَّذِينَ أَرَادُوا الْكَنْسَ خَاصَّةً- فَلِلَّذِينِ أَرَادُوا الْكَنْسَ أَنْ يَكْنِسُوا ثُمَّ يَكُونُوا أَوْلَى بِالَّذِي زَادَ فِي الْمَاءِ لِكَنْسِهِمْ دُونَ مَنْ لَمْ يَكْنِسْ حَتَّى يُؤَدُّوا حِصَّتَهُمْ مِنَ النَّفَقَةِ فَيَرْجِعُوا إِلَى أَخْذِ حِصَّتِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْمَاءِ

27- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا امْتَنَعَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ عَنِ الْعِمَارَةِ فِي النَّهْرِ وَالْقَنَاةِ وَالْبِئْرِ فَفِي الْجَدِيدِ لَا إِجْبَارَ عَلَيْهِ كَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى زَرْعِ الْأَرْضِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَلِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ يَتَضَرَّرُ أَيْضًا بِتَكْلِيفِهِ الْعِمَارَةَ وَالضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِالضَّرَرِ.

وَفِي الْقَدِيمِ يُجْبَرُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَصِيَانَةً لِلْأَمْلَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ عَنِ التَّعْطِيلِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ هُوَ الْجَدِيدُ.

وَصَحَّحَ صَاحِبُ الشَّامِلِ الْقَدِيمَ وَأَفْتَى بِهِ الشَّاشِيُّ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْفَتَاوَى: الْأَقْيَسُ أَنْ يُجْبَرَ الْمُمْتَنِعُ، وَقَالَ: وَالِاخْتِيَارُ إِنْ ظَهَرَ لِلْقَاضِي أَنَّ امْتِنَاعَهُ مَضَارَّةٌ أَجْبَرَهُ، وَإِنْ كَانَ لِإِعْسَارٍ أَوْ غَرَضٍ صَحِيحٍ أَوْ شَكَّ فِيهِ لَمْ يُجْبَرْ.

وَلَوْ أَنْفَقَ الشَّرِيكُ عَلَى تَعْمِيرِ النَّهْرِ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ الشَّرِيكِ الْمُمْتَنِعِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْمَاءِ لِسَقْيِ الزَّرْعِ وَغَيْرِهِ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالدُّولَابِ وَالْبَكَرَةِ وَالْآلَاتِ الَّتِي أَحْدَثَهَا.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَإِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ- وَهُوَ إِجْبَارُ الْمُمْتَنِعِ- فَأَصَرَّ عَلَى الِامْتِنَاعِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اقْتَرَضَ عَلَيْهِ، أَوْ أُذِنَ لِلشَّرِيكِ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ لِيَرْجِعَ عَلَى الْمُمْتَنِعِ، فَلَوِ اسْتَقَلَّ بِهِ الشَّرِيكُ فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ: الْقَدِيمُ: نَعَمْ، وَالْجَدِيدُ: لَا، وَقِيلَ: يَرْجِعُ فِي الْقَدِيمِ، وَفِي الْجَدِيدِ قَوْلَانِ.

28- وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ مِنَ الشُّرَكَاءِ عَنِ الْعِمَارَةِ لِحَقِّ شُرَكَائِهِ أَيْ يُجْبِرُهُ الْحَاكِمُ وَيَأْخُذُ مِنْ مَالِ الْمُمْتَنِعِ النَّقْدَ وَيُنْفِقُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُمْتَنِعِ نَقْدٌ بَاعَ الْحَاكِمُ عَرْضَهُ وَأَنْفَقَ مِنْ ثَمَنِهِ مَعَ شَرِيكِهِ بِالْمُحَاصَّةِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمُمْتَنِعِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ لِنَحْوِ تَغْيِيبِ مَالِهِ اقْتَرَضَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ لِيُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ كَنَفَقَةٍ نَحْوَ زَوْجَتِهِ، وَإِنْ عَمَّرَ الشَّرِيكُ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ أَوْ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ لِوُجُوبِهِ عَلَى الْمُنْفَقِ عَنْهُ.

وَإِذَا أَرَادَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ أَنْ يُعَمِّرَ فَلَيْسَ لِلشُّرَكَاءِ مَنْعُهُ وَالْمَاءُ بَيْنَهُمْ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُعَمِّرُ لِأَنَّ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ مِلْكِهِمَا وَإِنَّمَا أَثَّرَ أَحَدُهُمَا فِي نَقْلِ الطِّينِ مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ، وَرُجُوعُ الْمُعَمِّرِ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى مَا سَبَقَ.

حُكْمُ مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الْمَاءُ:

29- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْأَرْضِ الَّتِي يَنْكَشِفُ عَنْهَا مَاءُ النَّهْرِ هَلْ تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ تَكُونُ لِمَنْ يَلِي هَذِهِ الْأَرْضَ؟ فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ تَكُونُ لِمَنْ يَلِي الْأَرْضَ الَّتِي انْكَشَفَ عَنْهَا النَّهْرُ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلِكُلِّ مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ خَاصٌّ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ جَزَرَ مَاءُ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ كَسَيْحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ عَنْ أَرْضٍ فَلَيْسَ لِمَنْ يَلِيهَا أَنْ يَضُمَّهَا إِلَى أَرْضِ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ مَاؤُهَا إِلَى مَكَانِهِ وَلَا يَجِدَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فَيُحْمَلُ عَلَى جَانِبٍ آخَرَ فَيَضُرُّ، حَتَّى لَوْ أَمِنَ الْعَوْدَ، أَوْ كَانَ بِإِزَائِهَا مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ أَرْضٌ مَوَاتٌ لَا يَسْتَضِرُّ أَحَدٌ بِحَمْلِ الْمَاءِ عَلَيْهِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَيُمَلَّكُهُ إِذَا أَحْيَاهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ إِذْنِ الْإِمَامِ فِي الْإِحْيَاءِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ.

وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْحُكْمِ، فَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ أَرْضٍ انْكَشَفَ عَنْهَا الْبَحْرُ هَلْ تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ لِمَنْ تَلِيهِ أَوْ لِمَنْ دَخَلَ الْبَحْرُ أَرْضَهُ؟ أَنَّهَا تَكُونُ لِمَنْ تَلِيهِ ثُمَّ قَالَ: وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ وَعَلَيْهِ حَمْدِيسُ، وَبِهِ الْفَتْوَى وَالْقَضَاءُ، وَقَالَ سَحْنُونٌ وَأَصْبَغُ وَمُطَرِّفٌ: تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا كَانَ الْبَحْرُ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوِ انْحَسَرَ مَاءُ النَّهْرِ عَنْ جَانِبٍ مِنْهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ، وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ إِقْطَاعُهُ لِأَحَدٍ كَالنَّهْرِ وَحَرِيمِهِ.

وَلَوْ زَرَعَهُ أَحَدٌ لَزِمَهُ أُجْرَتُهُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ قَدْرُ حِصَّتِهِ إِنْ كَانَ لَهُ حِصَّةٌ فِي مَالِ الْمَصَالِحِ.

نَعَمْ، لِلْإِمَامِ دَفْعُهُ لِمَنْ يَرْتَفِقُ بِهِ بِمَا لَا يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ. وَمِثْلُهُ مَا يَنْحَسِرُ عَنْهُ الْمَاءُ مِنَ الْجَزَائِرِ فِي الْبَحْرِ، وَيَجُوزُ زَرْعُهُ وَنَحْوَهُ لِمَنْ لَمْ يَقْصِدْ إِحْيَاءَهُ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْبِنَاءُ وَلَا الْغِرَاسُ وَلَا مَا يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ.

وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ غَلَبَ عَلَيْهَا الْمَاءُ ثُمَّ نَضَبَ عَنْهَا وَبَيْنَ أَرْضٍ نَضَبَ عَنْهَا الْمَاءُ وَلَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لِأَحَدٍ.

جَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: وَلَا يُمْلَكُ بِإِحْيَاءِ مَا نَضَبَ أَيْ غَارَ عَنْهُ الْمَاءُ مِمَّا كَانَ مَمْلُوكًا وَغَلَبَ الْمَاءُ عَلَيْهِ ثُمَّ نَضَبَ الْمَاءُ عَنْهُ، بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مُلاَّكِهِ قَبْلَ غَلَبَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ فَلَهُمْ أَخْذُهُ؛ لِأَنَّهَا لَا تُزِيلُ مِلْكَهُمْ عَنْهُ.

أَمَّا مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ مِنَ الْجَزَائِرِ وَالرَّقَاقِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا فَلِكُلِّ أَحَدٍ إِحْيَاؤُهُ بَعُدَتْ أَوْ قَرُبَتْ كَمَوَاتٍ، قَالَ الْحَارِثِيُّ: مَعَ عَدَمِ الضَّرَرِ وَنَصَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ فِي التَّنْقِيحِ: لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ، وَتَبِعَهُ فِي الْمُنْتَهَى، وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُوسَى: إِذَا نَضَبَ الْمَاءُ مِنْ جَزِيرَةٍ إِلَى فِنَاءِ رَجُلٍ لَمْ يَبْنِ فِيهَا، لِأَنَّ فِيهَا ضَرَرًا، وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ يَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَإِذَا وَجَدَهُ مَبْنِيًّا رَجَعَ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَأَضَرَّ بِأَهْلِهِ، وَلِأَنَّ الْجَزَائِرَ مَنْبَتُ الْكَلأَِ وَالْحَطَبِ فَجَرَتْ مَجْرَى الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ.

وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: يُرْوَى عَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه- أَنَّهُ أَبَاحَ الْجَزَائِرَ يَعْنِي أَبَاحَ مَا يَنْبُتُ فِي الْجَزَائِرِ مِنَ النَّبَاتِ، قَالَ: إِذَا نَضَبَ الْفُرَاتُ عَنْ شَيْءٍ، ثُمَّ نَبَتَ فِيهِ نَبَاتٌ فَجَاءَ رَجُلٌ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْهُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدٌ، فَعَمَرَهُ رَجُلٌ عِمَارَةً لَا تَرُدُّ الْمَاءَ، مِثْلَ أَنْ يَجْعَلَهُ مَزْرَعَةً فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَحَجِّرٌ لِمَا لَيْسَ لِمُسْلِمٍ فِيهِ حَقٌّ.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ (إِحْيَاء ف 11).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


111-موسوعة الفقه الكويتية (نهي)

نَهْيٌ

التَّعْرِيفُ:

1- النَّهْيُ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ الْأَمْرِ، يُقَالُ: نَهَى عَنِ الشَّيْءِ: زَجَرَهُ عَنْهُ، وَنَهَى اللَّهُ عَنْ كَذَا حَرَّمَهُ.

أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَقَدْ عَرَّفَهُ الْأُصُولِيُّونَ بِتَعْرِيفَاتٍ:

مِنْهَا: أَنَّهُ اقْتِضَاءُ كَفٍّ عَنْ فِعْلٍ عَلَى جِهَةِ اسْتِعْلَاءٍ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْأَمْرُ:

2- مِنْ مَعَانِي الْأَمْرِ فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ الْفِعْلِ، وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ: التَّضَادُّ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّهْيِ:

بَيَّنَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ أَحْكَامَ النَّهْيِ وَمِنْ أَهَمِّهَا:

أ- صِيغَةُ النَّهْيِ:

3- قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ لِلنَّهْيِ صِيغَةً مُبَيِّنَةً لَهُ تَدُلُّ بِتَجْرِيدِهَا عَنِ الْقَرَائِنِ عَلَيْهِ، وَهِيَ قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا تَفْعَلْ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ: لَيْسَ لَهُ صِيغَةٌ تَخْتَصُّ بِهِ.

ب- مَا يَقْتَضِيهِ النَّهْيُ:

أَوَّلًا: إِفَادَةُ النَّهْيِ الدَّوَامَ وَالتَّكْرَارَ:

4- اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي النَّهْيِ هَلْ يُفِيدُ الدَّوَامَ وَالتَّكْرَارَ أَوْ لَا؟

فَقَطَعَ جَمَاعَةٌ بِأَنَّ النَّهْيَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي الدَّوَامَ وَالتَّكْرَارَ، وَلِبَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ فِي الْمَسْأَلَةِ آرَاءٌ أُخْرَى.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ الْمُلْحَقُ الْأُصُولِيُّ.

ثَانِيًا: اقْتِضَاءُ النَّهْيِ الْفَوْرَ أَوْ عَدَمَهُ:

5- اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي اقْتِضَاءِ النَّهْيِ الْكَفَّ عَلَى الْفَوْرِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى اقْتِضَائِهِ الْفَوْرَ، وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

ثَالِثًا: اقْتِضَاءُ النَّهْيِ التَّحْرِيمَ:

6- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ مُطْلَقَ النَّهْيِ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ.

وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ مَوْقُوفٌ لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَلَا غَيْرَهُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ.

وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّهُ لِلتَّنْزِيهِ حَقِيقَةً لَا لِلتَّحْرِيمِ، لِأَنَّهَا يَقِينٌ فَحُمِلَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى التَّحْرِيمِ إلاَّ بِدَلِيلٍ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهم- رَجَعُوا فِي التَّحْرِيمِ إِلَى مُجَرَّدِ النَّهْيِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

رَابِعًا: اقْتِضَاءُ النَّهْيِ الْفَسَادَ:

7- اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ فِي اقْتِضَاءِ النَّهْيِ الْمُطْلَقِ الْفَسَادَ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ فِي الْجُمْلَةِ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ مُطْلَقًا إِلاَّ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ.

وَقَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ النَّهْيَ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَرْجِعُ إِلَى عَيْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَبَيْعِ الدَّمِ وَ الْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، أَوْ يَرْجِعُ لِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْعَقْدِ أَوْ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ كَبَيْعِ الْمَلَاقِيحِ، فَهَذَا النَّوْعُ لَا يَنْعَقِدُ بِالِاتِّفَاقِ.وَقِسْمٌ يَرْجِعُ لِمَعْنًى مُجَاوِرٍ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ لَا مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ وَلَا مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ، كَالْبَيْعِ عِنْدَ شُرُوعِ النِّدَاءِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ.

وَنَوْعٌ يَرْجِعُ لِمَعْنًى اتَّصَلَ بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَصْفًا، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ لِوَصْفِهِ اللاَّزِمِ، وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.

وَتَفْصِيلُ الْمَسْأَلَةِ كُلِّهَا فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

ج- مَا تُسْتَعْمَلُ فِيهِ صِيغَةُ النَّهْيِ مِنْ مَعَانٍ:

8- تُسْتَعْمَلُ صِيغَةُ النَّهْيِ فِي مَعَانٍ أُخْرَى غَيْرِ مَا سَبَقَ، كَالْكَرَاهَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} وَالدُّعَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} وَالْإِرْشَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وَالتَّحْقِيرِ لِشَأْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وَالْيَأْسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} وَبَيَانِ الْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالِي: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}.

وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

د- النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ:

9- النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ هُوَ طَلَبُ الْكَفِّ عَنْ فِعْلٍ مَا لَيْسَ فِيهِ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقُومُوا بِهَا، وَيَأْثَمُونَ إِذَا تَرَكُوهَا جَمِيعًا، وَيَسْقُطُ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ الْمُنْكَرِ ف1 وَمَا بَعْدَهَا).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


112-موسوعة الفقه الكويتية (واجب)

وَاجِبٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْوَاجِبُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ وَجَبَ يَجِبُ وُجُوبًا: لَزِمَ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْوَاجِبُ مَا لَزِمَ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةٌ.

وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ: هُوَ مَا يُذَمُّ تَارِكُهُ شَرْعًا عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ.

وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الْوَاجِبُ هُوَ مَا يُذَمُّ شَرْعًا تَارِكُهُ قَصْدًا مُطْلَقًا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْفَرْضُ:

2- الْفَرْضُ فِي اللُّغَةِ: الْقَطْعُ.

وَفِي اصْطِلَاحِ الْحَنَفِيَّةِ: مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ: هُوَ مَا يُرَادِفُ الْوَاجِبَ.

ب- الْحَرَامُ:

3- الْحَرَامُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: مَا يُذَمُّ شَرْعًا فَاعِلُهُ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: مَا ثَبَتَ الْكَفُّ عَنْهُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَهُوَ بِذَلِكَ مُقَابِلٌ لِلْفَرْضِ.

ص- الْمَكْرُوهُ:

4- الْمَكْرُوهُ: مَا هُوَ رَاجِحُ التَّرْكِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْمَكْرُوهُ إِلَى الْحَرَامِ أَقْرَبَ فَهُوَ الْمَكْرُوهُ تَحْرِيمًا، وَإِنْ كَانَ إِلَى الْحَلِّ أَقْرَبَ فَهُوَ الْمَكْرُوهُ تَنْزِيهًا، وَبِذَلِكَ يُقَابِلُ الْمَكْرُوهَ تَحْرِيمًا الْوَاجِبُ عِنْدَهُمْ، وَيُقَابِلُ الْمَكْرُوهَ تَنْزِيهًا الْمَنْدُوبُ عِنْدَهُمْ.

الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْفَرْضِ:

5- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ فِي الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ.

فَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ شَرْعًا، وَإِنْ كَانَا مُتَغَايِرَيْنِ لُغَةً.

فَالْفَرْضُ فِي اللُّغَةِ: التَّقْدِيرُ، وَالْوَاجِبُ: اللُّزُومُ وَالثُّبُوتُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِأَحْمَدَ: إِنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ.وَقَالُوا: الْفَرْضُ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَحُكْمُهُ اللُّزُومُ عِلْمًا وَتَصْدِيقًا بِالْقَلْبِ- أَيْ يَلْزَمُ اعْتِقَادُ حَقِيقَتِهِ- وَعَمَلًا بِالْبَدَنِ، حَتَّى يَكْفُرَ جَاحِدُهُ، وَيَفْسُقَ تَارِكُهُ بِلَا عُذْرٍ.

أَمَّا الْوَاجِبُ: فَهُوَ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ فِيهِ شُبْهَةٌ، كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَةِ.

وَحُكْمُهُ اللُّزُومُ عَمَلًا كَالْفَرْضِ، لَا عِلْمًا عَلَى الْيَقِينِ، وَذَلِكَ لِلشُّبْهَةِ حَتَّى لَا يَكْفُرَ جَاحِدُهُ، وَيَفْسُقَ تَارِكُهُ بِلَا تَأْوِيلٍ.

وَقَالُوا: وَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ الْفَرْضِ عَلَى الْوَاجِبِ، وَبِالْعَكْسِ.

وَانْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي مُصْطَلَحِ (فَرْض ف 2، وَالْمُلْحَق الْأُصُولِيّ)

مَرَاتِبُ الْوَاجِبِ:

6- لِلْوَاجِبِ مَرَاتِبُ بَعْضُهَا أَوْجَبُ مِنْ بَعْضٍ، بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ اللَّوْمِ عَلَى تَرْكِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَمَا كَانَ اللَّوْمُ عَلَى تَرْكِهِ أَكْثَرَ كَانَ أَوْجَبَ، فَأَرْكَانُ الْإِسْلَامِ أَوْجَبُ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ.

وَبِاعْتِبَارِ تَفَاوُتِ الْأَدِلَّةِ فِي الْقُوَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: فَمَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ آكَدُ مِمَّا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ.فَسُجُودُ التِّلَاوَةِ آكَدُ مِنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عِنْدَهُمْ، وَهِيَ آكَدُ مِنْ وُجُوبِ الْأُضْحِيَةِ.

أَقْسَامُ الْوَاجِبِ:

أ- الْوَاجِبُ الْعَيْنِيُّ وَالْكِفَائِيُّ:

7- يَنْقَسِمُ الْوَاجِبُ بِحَسَبِ فَاعِلِهِ: إِلَى وَاجِبٍ عَلَى الْعَيْنِ وَوَاجِبٍ عَلَى الْكِفَايَةِ.

فَالْعَيْنِيُّ: مَا كَانَ الْمَطْلُوبُ إِقَامَتَهُ مِنْ كُلِّ ذَاتٍ: أَيْ كُلِّ ذَاتٍ مُكَلَّفَةٍ بِعَيْنِهَا، فَلَا يَكْفِي فِيهِ فِعْلُ الْبَعْضِ عَنِ الْبَاقِينَ، كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ.

أَمَّا الْكِفَائِيُّ: فَهُوَ مَا طَلَبَ الشَّارِعُ فِعْلَهُ مِنْ مَجْمُوعِ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْعَالِمِينَ بِهِ، سَوَاءٌ كَانُوا جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بَعْضَهُمْ، كَالدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالدِّفَاعِ عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ، وَإِقَامَةِ الْحُجَجِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ عَلَى إِثْبَاتِ وُجُودِ الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَالْقِيَامِ بِعُلُومِ الشَّرْعِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَالْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَبِنَاءِ الْمَصَانِعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَلْزَمُ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْبِلَادِ.

فَإِنْ قَامَ بِذَلِكَ بَعْضُ الْمُكَلَّفِينَ فَقَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَسَقَطَ الْإِثْمُ وَالْحَرَجُ عَنْهُمْ، وَإِذَا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَثِمُوا جَمِيعًا بِإِهْمَالِ الْوَاجِبِ.

فَإِنْ تَعَيَّنَ فَرْدٌ لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ الْكِفَائِيِّ صَارَ عَلَيْهِ وَاجِبًا عَيْنِيًّا.

ب- الْوَاجِبُ الْمُعَيَّنُ وَالْمُخَيَّرُ:

8- يَنْقَسِمُ الْوَاجِبُ- بِاعْتِبَارِ تَعْيِينِ الْمَطْلُوبِ وَعَدَمِ تَعْيِينِهِ- إِلَى وَاجِبٍ مُعَيَّنٍ وَوَاجِبٍ مُخَيَّرٍ.

فَالْمُعَيَّنُ: مَا طَلَبَهُ الشَّارِعُ بِعَيْنِهِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَأُجْرَةِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَرَدِّ الْمَغْصُوبِ، وَلَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُكَلَّفِ إِلاَّ بِأَدَائِهِ.

وَالْوَاجِبُ الْمُخَيَّرُ: مَا طَلَبَ الشَّارِعُ فِيهِ وَاحِدًا مِنْ أُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ، كَإِحْدَى خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ أَوْجَبَ عَلَى مَنْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ أَنْ يُطْعِمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، أَوْ يَكْسُوَهُمْ أَوْ يُعْتِقَ رَقَبَةً، أَيْ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، فَأَيُّمَا فَعَلَ مِنْهَا سَقَطَ عَنْهُ الْوُجُوبُ.

(ر: كَفَّارَة ف 84)

الْوَاجِبُ فِي الْخِصَالِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَهَا:

9- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْوَاجِبِ مِنَ الْخِصَالِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَهَا بَعْدَ اتِّفَاقِ جُمْهُورِهِمْ عَلَى جَوَازِ إِيجَابِ شَيْءٍ مُبْهَمٍ.

فَقَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ: إِنَّ الْوَاجِبَ وَاحِدٌ مِنْهَا لَا بِعَيْنِهِ، وَأَيُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَتَى بِهِ سَقَطَ بِهِ الْوُجُوبُ، لَا أَنَّهُ الْوَاجِبُ بَلْ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْوَاجِبِ، وَلَا يُوصَفُ الْجَمِيعُ بِالْوَاجِبِ.

وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْكُلُّ عَلَى التَّخْيِيرِ وَالْبَدَلِ.

وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: إِنَّ الْوَاجِبَ مِنْهَا مُعَيَّنٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَغَيْرُ مُعَيَّنٍ عِنْدَ الْمُكَلَّفِ، وَالْوَاجِبُ بِالنِّسْبَةِ لَهُ مَا يَفْعَلُهُ، وَبِفِعْلِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ الْوَاجِبُ بِعِلْمِ اللَّهِ، وَعَلَيْهِ يَخْتَلِفُ الْوَاجِبُ مِنْهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ.

فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا جَمِيعًا فَالْوَاجِبُ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ كَالصَّوْمِ فِي كَفَّارَاتِ الْيَمِينِ.

وَمَعْنَى التَّخْيِيرِ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِكُلٍّ مِنَ الْأُمُورِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهَا جَمِيعًا، إِذَا أَتَى بِوَاحِدٍ مِنْهَا سَقَطَ الْوُجُوبُ عَنْهُ وَخَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ.

فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْقُيُودُ فَذَاكَ هُوَ الْوَاجِبُ الْمُخَيَّرُ.

ج ـ الْوَاجِبُ الْمُؤَقَّتُ وَغَيْرُ الْمُؤَقَّتِ:

10- يَنْقَسِمُ الْوَاجِبُ بِاعْتِبَارِ الزَّمَنِ الْمَضْرُوبِ لِفِعْلِهِ فِيهِ إِلَى: مُؤَقَّتٍ، وَغَيْرِ مُؤَقَّتٍ.وَالْمُؤَقَّتُ إِلَى: مُضَيَّقٍ، وَمُوَسَّعٍ.

وَذَلِكَ: لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ وَقْتٌ مُقَدَّرٌ شَرْعًا فَهُوَ مُؤَقَّتٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَدَائِهِ وَقْتٌ مُقَدَّرٌ شَرْعًا فَهُوَ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ، وَالْمُكَلَّفُ فِي سَعَةٍ مِنْ أَدَائِهِ يُؤَدِّيهِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ، حَتَّى يَصِلَ إِلَى وَقْتٍ يَظُنُّ فَوْتَهُ بَعْدَهُ، أَوْ مَوْتَهُ.

أَمَّا الْوَاجِبُ الْمُؤَقَّتُ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ الْمُقَدَّرُ لِأَدَائِهِ لَا يُفَضَّلُ عَنْ فِعْلِ الْوَاجِبِ- وَيُسَمَّى مُضَيَّقًا- وَلَا نِزَاعَ فِي وُجُوبِ شُرُوعِهِ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ لَهُ شَرْعًا، مَا دَامَ مَضِيقًا لَا يَزِيدُ عَنْ فِعْلِ الْوَاجِبِ.

وَإِمَّا أَنْ يُفَضَّلَ عَنِ الْوَاجِبِ فَيَسَعُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ.

وَفِي هَذِهِ الْحَالِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ الْمُوَسَّعِ يَجِبُ أَدَاءُ الْوَاجِبِ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ، إِلَى أَنَّ وَقْتَ أَدَاءِ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ هُوَ جَمِيعُ الْوَقْتِ، أَيِ الْإِيجَابُ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ يَقْتَضِي إِيقَاعَ الْفِعْلِ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ وَقْتِهِ يَخْتَارُهُ الْمُكَلَّفُ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي أَنْ يُوقِعَ الْفِعْلَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، أَوْ فِي وَسَطِهِ، أَوْ فِي آخِرِهِ، هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ فُقَهَاءَ وَأُصُولِيِّينَ.

وَمَعْنَى كَوْنِهِ مُوَسَّعًا: أَنَّ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْوَاجِبِ أَوَّلَ وَقْتِهِ أَوْ وَسَطَهُ إِلَى أَنْ يَبْقَى مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ لِفِعْلِ الْوَاجِبِ فَيَكُونُ مُضَيَّقًا.

فَالْوَاجِبُ الْمُخَيَّرُ، وَالْمُوَسَّعُ وَالْكِفَائِيُّ، كُلُّهَا مُشْتَرِكَةٌ فِي أَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِأَحَدِ أُمُورٍ: فَفِي الْمُخَيَّرِ بِأَحَدِ الْخِصَالِ، وَفِي الْمُوَسَّعِ بِأَحَدِ الْأَزْمَانِ الْكَامِنَةِ بَيْنَ أَطْرَافِ الْوَقْتِ، وَفِي الْكِفَائِيِّ بِأَحَدِ طَوَائِفِ الْمُكَلَّفِينَ.وَمَتَى تَعَلَّقَ الْوُجُوبُ بِقَدْرٍ مُشْتَرَكٍ كَفَى فِيهِ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ، لَا يَتَعَيَّنُ الْإِخْلَالُ بِهِ إِلاَّ بِتَرْكِ جَمِيعِ أَفْرَادِهِ.

وَعَلَى هَذَا، فَإِنَّ الْوَقْتَ كُلَّهُ مِنَ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ ظَرْفٌ لِلْوَاجِبِ؛ لِتَحَقُّقِ الْمُشْتَرَكِ فِي جُمْلَةِ أَجْزَائِهِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ، وَلَكِنْ قَالُوا: إِذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَخِّرَ أَدَاءَهُ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ لَزِمَ الْعَزْمُ عَلَى فِعْلِهَا فِي الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَلَمْ يَفْعَلْ وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَى الْفِعْلِ، فَهُوَ مُعْرِضٌ عَنِ الْأَمْرِ بِالضَّرُورَةِ، وَالْمُعْرِضُ عَاصٍ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ هُوَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْهُ إِنِ اتَّصَلَ بِهِ الْأَدَاءُ، وَإِلاَّ فَأَيُّ جُزْءٍ مِنَ الْوَقْتِ يَتَّصِلُ بِهِ الْأَدَاءُ.وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلِ الْأَدَاءُ بِجُزْءٍ فَسَبَبُ الْوُجُوبِ هُوَ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ وَلَوْ نَاقِصًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَلْزَمُهُ الْمَنْعُ مِنَ التَّرْكِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ بِعَيْنِهِ يَجُوزُ إِخْلَاؤُهُ عَنِ الْفِعْلِ، وَكَذَا كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، وَذَلِكَ يُنَافِي الْوُجُوبَ؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ الْوَقْتِ لَزِمَ تَقَدُّمُ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ، أَوْ وُجُوبَ أَدَاءِ الْوَاجِبِ بَعْدَ وَقْتِهِ، فَتَعَيَّنَ الْبَعْضُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْبَعْضُ أَوَّلَ الْوَقْتِ عَيْنًا لِلُزُومِ عَدَمِ الْوُجُوبِ عَلَى مَنْ صَارَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ بِقَدْرٍ يَسَعُهُ، كَمَجْنُونٍ وَمُغْمًى عَلَيْهِ أَفَاقَا فِيهِ، وَحَائِضٍ وَنُفَسَاءَ طَهُرَتَا فِيهِ، وَصَبِيٍّ بَلَغَ، وَمُرْتَدٍّ أَسْلَمَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْبَعْضُ آخِرَ الْوَقْتِ عَيْنًا، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَصِحَّ الْأَدَاءُ فِي أَوَّلِهِ لِامْتِنَاعِ التَّقَدُّمِ عَلَى السَّبَبِ، فَتَعَيَّنَ كَوْنُهُ الْجُزْءَ الَّذِي يَتَّصِلُ بِهِ الْأَدَاءُ وَيَلِيهِ الشُّرُوعُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي السَّبَبِ هُوَ الِاتِّصَالُ بِالْمُسَبِّبِ وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا لَا يَتَّسِعُ لِفِعْلِ كُلِّ الْوَاجِبِ فِيهِ، كَوَقْتِ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ مَثَلًا فَيَصِحُّ أَدَاءُ الْعَصْرِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اتَّصَلَ الْأَدَاءُ بِهِ صَارَ هُوَ السَّبَبَ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِأَدَائِهِ فَيَكُونُ أَدَاؤُهُ كَمَا وَجَبَ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (أَدَاء ف 6، وَالْمُلْحَق الْأُصُولِيّ)

د- أَقْسَامُ الْوَاجِبِ بِاعْتِبَارِ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي:

11- يَنْقَسِمُ الْوَاجِبُ إِلَى مَا هُوَ عَلَى الْفَوْرِ وَإِلَى مَا هُوَ عَلَى التَّرَاخِي.

نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ الَّذِي عَلَى التَّرَاخِي يَصِيرُ وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِ بِشَيْئَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَضِيقَ وَقْتُهُ بِالِاتِّفَاقِ.

وَثَانِيهِمَا: بِالشُّرُوعِ فِيهِ فَيَمْتَنِعُ قَطْعُهُ بِلَا عُذْرٍ، وَمِنْ ثَمَّ لَوْ أَفْسَدَ الْحَجُّ وَجَبَ قَضَاؤُهُ عَلَى الْفَوْرِ لِأَنَّهُ صَارَ عَلَى الْفَوْرِ بِإِحْرَامِهِ.

انْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِحْرَام ف 185).

وَعَدَّاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى الصَّلَاةِ.

هـ- أَقْسَامُ الْوَاجِبِ مِنْ حَيْثُ ثُبُوتُهُ بِالذِّمَّةِ وَعَدَمُهُ:

12- يَنْقَسِمُ الْوَاجِبُ أَيْضًا إِلَى مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ وَيُطَالِبُ بِأَدَائِهِ: وَهُوَ الدَّيْنُ الْحَالُّ عَلَى الْمُوسِرِ، وَكُلُّ عِبَادَةٍ وَجَبَتْ وَتَمَكَّنَ مِنْهَا، وَإِلَى مَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ وَلَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ، كَالزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ.

وَإِلَى مَا لَا يَثْبُتُ بِالذِّمَّةِ وَلَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ، كَالْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ، يَجِبُ تَحْقِيقًا لِلصِّدْقِ وَعَدَمِ الْإِخْلَافِ، لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْوَفَاءَ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ الْوَعْدَ لَا يَلْزَمُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

فَوَاتُ الْوَاجِبِ بِالتَّأْخِيرِ:

13- إِذَا فَاتَ الْوَاجِبُ بِالتَّأْخِيرِ وَجَبَ قَضَاؤُهُ أَوْ جَبْرُهُ بِالْكَفَّارَةِ.

فَإِذَا تَقَدَّمَ السَّبَبُ وَلَمْ يَفْعَلْ أُمِرَ بِالْقَضَاءِ، وَمَتَى لَمْ يَتَقَدَّمِ السَّبَبُ أَصْلًا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْقَضَاءِ.فَتَارِكُ الصَّلَاةِ عَمْدًا يَقْضِي لِتَقَدُّمِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ الْوَقْتُ، وَالنَّائِمُ يَقْضِي لِوُجُودِ السَّبَبِ الَّذِي قَارَنَهُ مَانِعُ الْوُجُوبِ وَهُوَ النَّوْمُ.

وَاخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِيمَا انْعَقَدَ سَبَبُ وَجُوبِهِ وَلَمْ يَجِبْ إِمَّا لِمَانِعٍ، أَوْ لِفَوَاتِ شَرْطٍ، أَوْ تَخْفِيفًا مِنَ الشَّارِعِ، اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُسَمَّى تَدَارُكُهُ بَعْدَ الْوَقْتِ قَضَاءً عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ أَوِ الْمَجَازِ؟ 14- وَيَتَفَرَّعُ مِنْ قَاعِدَةِ «إِذَا فَاتَ الْوَاجِبُ بِالتَّأْخِيرِ وَجَبَ قَضَاؤُهُ» مَسَائِلُ:

مِنْهَا: إِنَّ الصَّبِيَّ غَيْرَ الْمُمَيِّزِ إِذَا بَلَغَ لَا يُؤْمَرُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ فِي صِغَرِهِ مِنْ وَاجِبَاتٍ لَا إِيجَابًا وَلَا نَدْبًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي ذِمَّتِهِ سَبَبُ الْوُجُوبِ.وَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا فَتَرَكَهَا ثُمَّ بَلَغَ، أُمِرَ بِالْقَضَاءِ بَعْدَ الْبُلُوغِ نَدْبًا كَمَا كَانَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَدَاؤُهَا إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالشَّرْعِ، فَإِنْ قُلْنَا بِأَمْرِ الْوَلِيِّ فَلَا.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَجْنُونَ إِذَا أَفَاقَ بَعْدَ الْوَقْتِ لَا يُؤْمَرُ بِالْقَضَاءِ إِيجَابًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَحَبَّ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ فِي حَقِّهِ رُخْصَةٌ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا سَقَطَ عَنْهُ تَخْفِيفًا، وَلَكِنْ قَالُوا: إِنَّهُ لَا يَنْدُبُ فِي حَقِّهِ قَضَاءُ النَّوَافِلِ لِسُقُوطِ الْفَرَائِضِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْحَائِضَ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءُ مَا فَاتَ مِنَ الصَّلَوَاتِ فِي مُدَّةِ الْحَيْضِ بَعْدَ الطُّهْرِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْوَاجِبِ فِي حَيْضِهَا عَزِيمَةٌ وَلَيْسَتْ أَهْلًا لِلصَّلَاةِ، فَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الْوُجُوبِ.

وَلَكِنْ هَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ أَوْ يُكْرَهُ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْحُرْمَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْكَرَاهَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا خِلَافُ الْأَوْلَى بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْوَاجِبِ عَنْهُمَا رُخْصَةٌ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاجِبِ:

15- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ عِبَادَةٌ فَأَتَى بِالْوَاجِبِ وَزَادَ عَلَيْهِ، هَلْ يَقَعُ الْكُلُّ وَاجِبًا أَمْ لَا؟

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ- عَلَى مَا جَاءَ فِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ لِابْنِ نُجَيْمٍ -: إِذَا أَتَى بِالْوَاجِبِ وَزَادَ عَلَيْهِ هَلْ يَقَعُ الْكُلُّ وَاجِبًا أَمْ لَا؟ قَالَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: لَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي الصَّلَاةِ وَقَعَ فَرْضًا، وَلَوْ أَطَالَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فِيهَا وَقَعَ فَرْضًا.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا مَسَحَ جَمِيعَ رَأْسِهِ، فَقِيلَ: يَقَعُ الْكُلُّ فَرْضًا، وَالْمُعْتَمَدُ وُقُوعُ الرُّبْعِ فَرْضًا وَالْبَاقِي سُنَّةً، وَاخْتَلَفُوا فِي تَكْرَارِ الْغُسْلِ، فَقِيلَ: يَقَعُ الْكُلُّ فَرْضًا، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْأُولَى فَرْضٌ، وَالثَّانِيَةَ مَعَ الثَّالِثَةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: وَلَمْ أَرَ الْآنَ مَا إِذَا أَخْرَجَ بَعِيرًا عَنْ خَمْسَةٍ مِنَ الْإِبِلِ، هَلْ يَقَعُ فَرْضًا أَوْ خُمْسُهُ؟ وَأَمَّا إِذَا نَذَرَ ذَبْحَ شَاةٍ فَذَبَحَ بَدَنَةً، وَلَعَلَّ فَائِدَتَهُ فِي النِّيَّةِ، هَلْ يَنْوِي فِي الْكُلِّ الْوُجُوبَ أَوَّلًا؟ وَفِي الثَّوَابِ هَلْ يُثَابُ عَلَى الْكُلِّ ثَوَابَ الْوَاجِبِ أَوْ ثَوَابَ النَّفْلِ فِيمَا زَادَ؟

وَفِي مَسْأَلَةِ الزَّكَاةِ: لَوِ اسْتَحَقَّ الِاسْتِرْدَادَ مِنَ الْعَامِلِ، هَلْ يَرْجِعُ بِقَدْرِ الْوَاجِبِ أَوِ الْكُلِّ؟

قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: ثُمَّ رَأَيْتُهُمْ قَالُوا فِي الْأُضْحِيَةِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ وَهْبَانَ مُعْزِيًا إِلَى الْخُلَاصَةِ: الْغَنِيُّ إِذَا ضَحَّى بِشَاتَيْنِ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا فَرْضًا وَالْأُخْرَى تَطَوُّعًا، وَقِيلَ: الْأُخْرَى لَحْمًا.

وَقَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: وَلَمْ أَرَ حُكْمَ مَا إِذَا وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ أَزْيَدَ مِنَ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ، أَوْ زَادَ عَلَى حَالِهِمَا فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، أَوْ كَشَفَ عَوْرَتَهُ فِي الْخَلَاءِ زَائِدًا عَلَى الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، هَلْ يَأْثَمُ عَلَى الْجَمِيعِ أَوْ لَا؟.

وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ فِي بَيَانِ مَا يُفَارِقُ التَّطَوُّعُ الْفَرْضَ فِي الصَّلَاةِ: إِنَّ التَّطَوُّعَ غَيْرُ مُوَقَّتٍ بِوَقْتٍ خَاصٍّ، وَلَا مُقَدَّرٍ بِمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ، فَيَجُوزُ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ عَلَى أَيِّ مِقْدَارٍ كَانَ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَعَلَى بَعْضِ الْمَقَادِيرِ، وَالْفَرْضُ مُقَدَّرٌ بِمِقْدَارٍ خَاصٍّ، مُؤَقَّتٍ بِأَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِهِ.

وَجَاءَ فِي الْمَبْسُوطِ فِي زِيَادَةِ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ قَبْلَ إِكْمَالِ الْفَرِيضَةِ: إِنَّ زِيَادَةَ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ قَبْلَ إِكْمَالِ الْفَرِيضَةِ لَا يَكُونُ مُفْسِدًا لِلصَّلَاةِ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الرَّكْعَةِ الْكَامِلَةِ، وَإِنَّمَا تَتَقَيَّدُ الرَّكْعَةُ بِالسَّجْدَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ زِيَادَةُ السَّجْدَةِ الْوَاحِدَةِ قَبْلَ إِكْمَالِ الْفَرِيضَةِ يُفْسِدُهَا.

وَجَاءَ فِيهِ أَيْضًا فِي بَابِ رَمْيِ الْجِمَارِ: إِنْ رَمَاهَا بِأَكْثَرَ مِنْ سَبْعِ حَصَيَاتٍ لَمْ تَضُرَّهُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ، فَلَا يَضُرُّهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَجَاءَ فِيهِ أَيْضًا فِي بَابِ الْمُهُورِ: لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَهْرٍ مُسَمًّى ثُمَّ زَادَ فِيهِ جَازَتِ الزِّيَادَةُ إِنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا إِلاَّ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رحمه الله- (، أَصْلُهُ: الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْبُيُوعِ، وَدَلِيلُنَا لِجَوَازِ الزِّيَادَةِ هُنَا قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ}.مَعْنَاهُ مِنْ فَرِيضَةٍ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا بَطَلَتِ الزِّيَادَةُ إِلاَّ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ.

وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْوَاجِبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَالَّذِي يُؤْخَذُ مِنَ الْأَمْثِلَةِ الْوَارِدَةِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الَّذِي أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ وَحَدَّدَ مِقْدَارَهُ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ تَكُونُ مَكْرُوهَةً، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ:

أ- مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ مَسْحُ الرَّأْسِ، فَإِنْ غَسَلَهُ أَجْزَأَ؛ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَسْحِ وَزِيَادَةٍ، وَلَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ.

ب- فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ: الْوَاجِبُ صَاعٌ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الصَّاعِ مَكْرُوهَةٌ؛ لِأَنَّ الصَّاعَ تَحْدِيدٌ مِنَ الشَّارِعِ، فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ.

ج ـ فِي زَكَاةِ الْإِبِلِ: الْوَاجِبُ فِي كُلِّ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاةٌ، فَإِنْ أَخْرَجَ بَعِيرًا عَنِ الشَّاةِ أَجْزَأَ- وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ إِنِ اسْتَوَتْ قِيمَتُهُمَا- وَقَالَ الْبَاجِيُّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا يُجْزِئُ إِخْرَاجُ الْبَعِيرِ عِوَضًا عَنِ الشَّئاةِ.

د- فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ: الْفَرْضُ أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ، فَلَوْ زَادَ الْإِمَامُ عَلَى أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ بَطَلَتْ، وَعَلَى الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُسَلِّمُوا عَقِبَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ، وَقَالَ أَشْهَبُ: يَنْتَظِرُونَ الْإِمَامَ لِيُسَلِّمُوا عَقِبَهُ.

هـ- الطُّمَأْنِينَةُ فَرْضٌ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالرَّفْعِ مِنْهُمَا فِي الصَّلَاةِ، وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِ الزَّائِدِ عَلَى أَقَلِّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الطُّمَأْنِينَةِ: فَقِيلَ: فَرْضٌ مُوَسَّعٌ، وَقِيلَ: نَافِلَةٌ، وَهُوَ الْأَحْسَنُ.

هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِمَا أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ، أَمَّا مَا أَوْجَبَهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ فَقَدْ وَضَعَ الْمَالِكِيَّةُ لِذَلِكَ قَاعِدَةً وَهِيَ: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِعْلُ الْأَعْلَى عَنْ فِعْلِ الْأَدْنَى إِذَا نَذَرَهُ، فَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِرَغِيفٍ لَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثَوْبٍ وَإِنْ كَانَ أَعْظَمَ مِنْهُ وَقْعًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يُصَلِّيَهُ بَدَلًا مِنَ الصَّوْمِ وَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ أَفْضَلَ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ لَمْ يُجْزِهِ بِأَنْ يَتَصَدَّقَ بِآلَافٍ مِنَ الدَّنَانِيرِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ وَالضُّعَفَاءِ، وَلَا أَنْ يُصَلِّيَ السِّنِينَ، مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنَ الْحَجِّ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.

قَالَ صَاحِبُ تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ: وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ فِعْلُ الْأَعْلَى عَنْ فِعْلِ الْأَدْنَى- وَإِنْ كَانَ الْأَعْلَى أَعْظَمَ قَدْرًا- لِأَنَّ فِي تَرْكِ الْأَدْنَى الْمَنْذُورِ مُخَالَفَةً لِلنَّذْرِ، وَإِذَا خُولِفَ الْمَنْذُورُ حَصَلَ ارْتِكَابُ الْمَمْنُوعِ، وَهُوَ عَدَمُ الْوَفَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَا الْتَزَمَ لِوَجْهِهِ.

قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ كَيْفَ صَحَّ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ بِالْمَدِينَةِ أَوْ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمَكَّةَ إِذَا كَانَ مُقِيمًا بِهِمَا وَلَا يَأْتِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ تَرَكَ الْمَفْضُولَ لِفِعْلِ الْفَاضِلِ وَالْقَاعِدَةُ مَنْعُ ذَلِكَ، فَكَيْفَ سَاغَ ذَلِكَ هُنَا؟

قَالَ الْقَرَافِيُّ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يُصَلِّي بِالْحَرَمَيْنِ إِذَا كَانَ مُقِيمًا بِهِمَا حَالَةَ النَّذْرِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ نَذَرَ الْخُرُوجَ وَتَرَكَ الصَّلَاةَ فِي الْحَرَمَيْنِ حَتَّى يُصَلِّيَهَا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَدْ نَذَرَ الْمَرْجُوحَ، وَالنَّذْرُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَرْجُوحِ، بَلْ فِي الْمَنْدُوبِ الرَّاجِحِ، أَمَّا لَوْ كَانَ بِغَيْرِ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ مِنْ أَقْطَارِ الدُّنْيَا وَنَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ وَجْهًا آخَرَ فَقَالَ:

أَوْ يُقَالُ: الصَّلَاةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ صَلَاةٌ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، فَالْعُدُولُ فِيهَا عَنِ الصِّفَةِ الدُّنْيَا إِلَى الصِّفَةِ الْعُلْيَا لَا يَقْدَحُ فِي مُوجِبِ النَّذْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثَوْبٍ خَلِقٍ أَوْ غَلِيظٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي لَا تَتَضَمَّنُ مَصْلَحَةً بَلْ هِيَ مَرْجُوحَةٌ فِي الثِّيَابِ، فَتَصَدَّقَ بِثَوْبٍ جَدِيدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الثِّيَابِ الْمَوْصُوفَةِ بِالصِّفَاتِ الْجَيِّدَةِ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ...فَإِنَّ النَّذْرَ لَمَّا وَرَدَ عَلَى الثَّوْبِ الْخَلِقِ وَرَدَ عَلَى شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَصْلُ الثَّوْبِ، وَالْآخَرُ صِفَتُهُ، فَأَمَّا التَّصَدُّقُ فِي أَصْلِ الثَّوْبِ فَقُرْبَةٌ فَتَجِبُ، وَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِوَصْفِ الْخَلِقِ فَلَيْسَ فِيهِ نَدْبٌ شَرْعِيٌّ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ النَّذْرُ، فَيُجْزِئُ ضِدُّهُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَذَرَ الصَّلَاةَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَدْ نَذَرَ الصَّلَاةَ مَوْصُوفَةً بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَهَذِهِ الْخَمْسُمِائَةِ هِيَ بِعَيْنِهَا فِي الْحَرَمَيْنِ مَعَ زِيَادَةِ خَمْسِمِائَةٍ أُخْرَى لِلْحَدِيثِ فَكُلُّ مَا هُوَ مَطْلُوبٌ لِلشَّرْعِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْحَرَمَيْنِ مِنْ أَصْلِ الصَّلَاةِ وَزِيَادَةِ أَجْرِهَا، وَلَمْ يَفْتَرِقَا إِلاَّ فِي زِيَادَةِ خَمْسِمِائَةٍ أُخْرَى تَحْصُلُ لَهُ فِي الْحَرَمَيْنِ، وَتَرْكُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا نَذْرٌ، وَيَكُونُ وِزَانُ ذَلِكَ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثَوْبٍ فَتَصَدَّقَ بِثَوْبَيْنِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ إِجْمَاعًا، وَلَا يَكُونُ وِزَانُهُ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ فَصَلَّى؛ لِأَنَّ خُصُوصَ الصَّوْمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ صَوْمٌ مَطْلُوبٌ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْخُصُوصُ فِي الصَّلَاةِ كَمَا حَصَلَ خُصُوصُ الْخَمْسِمِائَةِ فِي الْأَلْفِ مِنْ غَيْرِ خَلَلٍ الْبَتَّةَ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ إِذَا قُدِّرَ بِشَيْءٍ فَعَدَلَ إِلَى مَا فَوْقَهُ فَهَلْ يُجْزِئُ؟ فَقَالُوا: إِنَّهُ إِنْ كَانَ مِمَّا يَجْمَعُهُمَا نَوْعٌ وَاحِدٌ أَجْزَأَ، وَإِلاَّ فَلَا، وَأَقْسَامُهُ أَرْبَعَةٌ:

أَحَدُهَا: مَا يُجْزِئُ قَطْعًا كَمَا لَوْ وَجَبَتْ شَاةٌ فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ فَدَفَعَ بَعِيرًا مَعَ أَنَّ وَاجِبَهَا شَاةٌ، وَإِذَا ذَبَحَ الْمُتَمَتِّعُ بَدَنَةً أَوْ بَقَرَةً بَدَلَ الشَّاةِ، وَإِذَا مَسَحَ الْمُتَوَضِّئُ جَمِيعَ الرَّأْسِ، وَإِذَا أَطَالَ السُّجُودَ وَالرُّكُوعَ زِيَادَةً عَلَى الْقَدْرِ الْوَاجِبِ وَنَحْوَ ذَلِكَ.

وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ يَقَعُ الزَّائِدُ كُلُّهُ فَرْضًا أَمْ يَقَعُ الزَّائِدُ نَفْلًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، فَصَحَّحَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّمْيِيزُ كَبَعِيرِ الزَّكَاةِ أَنَّ الْكُلَّ يَقَعُ فَرْضًا.وَمَا أَمْكَنَ التَّمْيِيزُ فِيهِ كَمَسْحِ الرَّأْسِ وَنَحْوِهِ يَقَعُ الْبَعْضُ فَرْضًا وَالزَّائِدُ عَلَى الْقَدْرِ الْوَاجِبِ نَفْلًا.

وَمِنْهُ: قِيَامُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَقَامَ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَالْأَقْصَى عِنْدَ نَذْرِهِمَا لِلِاعْتِكَافِ؛ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُمَا وَلَا عَكْسَ؛ لِأَنَّهُمَا مَفْضُولَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ.

وَقِيَامُ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ مَقَامَ الْأَقْصَى.

الثَّانِي: مَا يُجْزِئُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ كَمَا إِذَا وَجَبَ فِي الْفِطْرَةِ قُوتُ نَفْسِهِ أَوْ قُوتُ الْبَلَدِ فَعَدَلَ إِلَى أَعْلَى مِنْهُ أَجْزَأَ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ زَادَ خَيْرًا.

وَمِنْهَا لَوِ اغْتَسَلَ الْمُحْدِثُ نَاوِيًا رَفْعَ الْجَنَابَةِ سَوَاءٌ أَنَوَى الْوُضُوءَ مَعَهُ أَمْ لَا؟ لِانْدِرَاجِ الْوُضُوءِ فِي الْغُسْلِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ لَا يَكْفِي وَإِنْ نَوَى مَعَهُ الْوُضُوءَ.

وَمِنْهَا لَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ مُدَّةٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَجْزَأَ التَّتَابُعُ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ.

الثَّالِثُ: مَا لَا يُجْزِئُ قَطْعًا، كَمَا لَوْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ بِدِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ بِدِينَارٍ، وَكَذَا مَا لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ شَاةٌ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، فَأَخْرَجَ بَدَنَةً أَوْ بَقَرَةً لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ فِي الصُّورَةِ.

الرَّابِعُ: مَا لَا يُجْزِئُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ كَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا لَزِمَهُ الْمَشْيُ مِنْ حِينِ الْإِحْرَامِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الرُّكُوبَ أَفْضَلُ فِي الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ وَالرُّكُوبَ نَوْعَانِ فَلَا يَقُومُ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَفْضَلَ.

كَمَا لَا تُجْزِئُ الصَّدَقَةُ بِالذَّهَبِ عَنِ الْفِضَّةِ، وَمِثْلُهُ لَوْ نَذَرَ الْإِحْرَامَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ لَزِمَهُ فِي الْأَصَحِّ وَإِنْ قُلْنَا: الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ.

(ر: نَذْر، إِحْرَام ف 49)

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: عَلَى مَا جَاءَ فِي الْقَوَاعِدِ لِابْنِ رَجَبٍ: مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ عِبَادَةٌ فَأَتَى بِمَا لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى مَا دُونَهُ لأَجْزَأَهُ هَلْ يُوصَفُ الْكُلُّ بِالْوُجُوبِ أَوْ قَدْرُ الْإِجْزَاءِ مِنْهُ؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةً مُنْفَصِلَةً فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّهَا نَفْلٌ بِانْفِرَادِهَا، كَإِخْرَاجِ صَاعَيْنِ مُنْفَرِدَيْنِ فِي الْفِطْرَةِ وَنَحْوِهَا.وَأَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ مُتَمَيِّزَةً فَفِيهِ وَجْهَانِ:

أَوَّلُهُمَا: أَنَّ الزِّيَادَةَ نَدْبٌ وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْجَمِيعَ وَاجِبٌ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى.

وَتُبْنَى عَلَيْهِ مَسَائِلُ:

مِنْهَا: إِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ بَعْدَ فَوَاتِ قَدْرِ الْإِجْزَاءِ مِنْهُ هَلْ يَكُونُ مُدْرِكًا لَهُ فِي الْفَرِيضَةِ؟ ظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ تَخْرِيجُهَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ إِذَا قُلْنَا: لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرَضِ بِالْمُتَنَفِّلِ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُجْرَى الزِّيَادَةُ مَجْرَى الْوَاجِبِ فِي بَابِ الِاتِّبَاعِ خَاصَّةً، إِذْ الِاتِّبَاعُ قَدْ يُسْقِطُ الْوَاجِبَ كَمَا فِي الْمَسْبُوقِ وَمُصَلِّي الْجُمْعَةِ مِنِ امْرَأَةٍ وَعَبْدٍ وَمُسَافِرٍ.

وَمِنْهَا: إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ شَاةٌ فَذَبَحَ بَدَنَةً فَهَلْ كُلُّهَا وَاجِبَةٌ أَوْ سُبْعُهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.

وَمِنْهَا: إِذَا أَدَّى عَنْ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ بَعِيرًا- وَقُلْنَا: يَجْزِيهِ- فَهَلِ الْوَاجِبُ كُلُّهُ أَوْ خُمْسُهُ الْوَاجِبُ؟ حَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الصَّغِيرُ فِيهِ وَجْهَيْنِ: فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ خُمْسَهُ الْوَاجِبُ يُجْزِئُ عَنْ عِشْرِينَ بَعِيرًا أَيْضًا، وَعَلَى الْآخَرِ لَا يُجْزِئُ عَنِ الْعِشْرِينَ إِلاَّ أَرْبَعَةُ أَبْعِرَةٍ.

وَمِنْهَا: إِذَا مَسَحَ رَأْسَهُ كُلَّهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً- وَقُلْنَا: الْفَرْضُ مِنْهُ قَدْرُ النَّاصِيَةِ- فَهَلِ الْكُلُّ فَرْضٌ أَوْ قَدْرُ النَّاصِيَةِ مِنْهُ؟

وَمِنْهَا: إِذَا أَخْرَجَ فِي الزَّكَاةِ سِنًّا أَعْلَى مِنَ الْوَاجِبِ فَهَلْ كُلُّهُ فَرْضٌ أَوْ بَعْضُهُ تَطَوُّعٌ؟ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: كُلُّهُ فَرْضٌ، وَقَالَ الْقَاضِي: بَعْضُهُ تَطَوُّعٌ، وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَعْطَاهُ جُبْرَانًا عَنِ الزِّيَادَةِ.

فَأَمَّا مَا كَانَ الْأَصْلُ فَرْضِيَّتَهُ وَوُجُوبَهُ ثُمَّ سَقَطَ بَعْضُهُ تَخْفِيفًا، فَإِذَا فَعَلَ الْأَصْلَ وُصِفَ الْكُلُّ بِالْوُجُوبِ عَلَى الصَّحِيحِ، فَمِنْ ذَلِكَ إِذَا صَلَّى الْمُسَافِرُ أَرْبَعًا فَإِنَّ الْكُلَّ فَرْضٌ فِي حَقِّهِ، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ نَفْلٌ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِهِ فِيهِمَا، وَهُوَ مُتَمَشٍّ عَلَى أَصْلِهِ وَهُوَ عَدَمُ اعْتِبَارِ نِيَّةِ الْقَصْرِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.

وَمِنْهُ إِذَا كَفَرَ الْوَاطِئُ فِي الْحَيْضِ بِدِينَارٍ فَإِنَّ الْكُلَّ وَاجِبٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى نِصْفِهِ، وَيَتَخَرَّجُ فِيهِ وَجْهٌ مِنْ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَمَّا إِنْ غَسَلَ رَأْسَهُ بَدَلًا عَنْ مَسْحِهِ- وَقُلْنَا بِالْإِجْزَاءِ- فَفِي الْمَاءِ السَّائِلِ مِنْهُ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي رَفْعِ حَدَثٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْغَسْلُ وَإِنَّمَا سَقَطَ تَخْفِيفًا.

وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ طَهُورٌ لِأَنَّ الْغَسْلَ مَكْرُوهٌ فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا.

وَقَدْ يُقَالُ: وَالْإِتْمَامُ فِي السَّفَرِ مَكْرُوهٌ أَيْضًا.

مُسْقِطَاتُ الْوَاجِبِ:

16- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَجِبُ الشَّيْءُ وَيَسْقُطُ لِتَعَارُضِ الْمُقْتَضِي وَالْمَانِعِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَذَلِكَ فِي صُوَرٍ:

مِنْهَا: لَوْ زَوَّجَ عَبْدَهُ بِأَمَتِهِ هَلْ وَجَبَ الْمَهْرُ ثُمَّ سَقَطَ أَوْ لَمْ يَجِبْ أَصْلًا؟ وَجْهَانِ، وَقَالُوا: وَمِنْ ثَمَرَةِ الْخِلَافِ أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهَا السَّيِّدُ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ أَصْلًا، وَجَبَ الْمَهْرُ بِالدُّخُولِ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ مِلْكِ السَّيِّدِ، وَإِنْ قُلْنَا: وَجَبَ ثُمَّ سَقَطَ لَمْ يَجِبْ بِالدُّخُولِ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُسْتَوْفَى.

وَمِنْهَا: إِذَا قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ هَلْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ثُمَّ سَقَطَ أَوْ لَمْ يَجِبْ أَصْلًا؟ وَجْهَانِ، وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي، وَمِنْ ثَمَرَةِ الْخِلَافِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ عَلَى شَرِيكِهِ.

وَمِنْهَا: الْمَسْبُوقُ إِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ فَإِنَّهُ يُدْرِكُ الرَّكْعَةَ، وَهَلْ يُقَالُ: إِنَّ الْفَاتِحَةَ يَحْمِلُهَا الْإِمَامُ عَنْهُ أَوْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ أَصْلًا؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ.

امْتِنَاعُ الْمُكَلَّفِ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ:

17- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا امْتَنَعَ الْمُكَلَّفُ عَنِ الْوَاجِبِ فَإِنْ لَمْ تَدْخُلْهُ النِّيَابَةُ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ نُظِرَ، إِنْ كَانَتْ صَلَاةً طُولِبَ بِالْأَدَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قُتِلَ، فَإِنْ كَانَ صَوْمًا حُبِسَ وَمُنِعَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لآِدَمِيٍّ حُبِسَ حَتَّى يَفْعَلَهُ كَالْمُمْتَنِعِ مِنَ الِاخْتِيَارِ إِذَا أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرَ مِنَ الْعَدَدِ الشَّرْعِيِّ مِنَ النِّسَاءِ، وَكَالْمُقِرِّ بِمُبْهَمٍ يُحْبَسُ حَتَّى يُبَيِّنَ، وَأَمَّا إِذَا دَخَلَتْهُ النِّيَابَةُ قَامَ الْقَاضِي مَقَامَهُ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (أَدَاء ف 23، تَرْك ف9- 15).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


113-موسوعة الفقه الكويتية (وطء 3)

وَطْءٌ -3

د- حَقُّ الزَّوْجِ فِي الْفَسْخِ إِذَا كَانَ بِالزَّوْجَةِ عَيْبٌ يَمْنَعُ الْوَطْءَ:

42- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ فِي الْفَسْخِ إِذَا كَانَ فِي الزَّوْجَةِ عَيْبٌ يَمْنَعُ الْوَطْءَ كَالرَّتَقِ وَالْقَرَنِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

وَالتَّفْصِيلُ فِي (رَتَق ف4- 6، قَرَن ف3، طَلَاق ف93).

هـ- حُكْمُ امْتِنَاعِ الرَّجُلِ عَنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ إِيلَاءً أَوْ مُظَاهَرَةً:

أَوَّلاً: الْإِيلَاءُ:

43- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُؤْلِي يُمْهَلُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، كَمَا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيُطَالَبُ بِالْوَطْءِ فِيهِنَّ، قَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْجَاهِلِيِّينَ كَانُوا يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمُ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَأَكْثَرَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَوَقَّتَ لَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.

44- وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُولِي إِمَّا أَنْ يُصِرَّ عَلَى عَدَمِ الْوَطْءِ، حَتَّى مُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ أَوْ يَرْجِعَ إِلَيْهَا قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ.

فَإِنْ أَصَرَّ الْمُولِي عَلَى عَدَمِ وَطْءِ زَوْجَتِهِ الَّتِي آلَى مِنْهَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ تَارِيخِ الْإِيلَاءِ، كَانَ إِصْرَارُهُ هَذَا دَاعِيًا إِلَى الْفُرْقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الِامْتِنَاعِ إِضْرَارًا بِهَا، وَلِلزَّوْجَةِ أَنْ تَرْفَعَ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي، فَيَأْمُرَ الرَّجُلَ بِالْفَيْءِ- أَيْ بِالرُّجُوعِ عَنْ مُوجَبِ يَمِينِهِ- فَإِنْ أَبَى أَمَرَهُ بِتَطْلِيقِهَا، فَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْ طَلَّقَهَا عَلَيْهِ الْقَاضِي.وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِمُجَرَّدِ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى رَفْعِ الْأَمْرِ إِلَى الْقَاضِي وَلَا حُكْمِهِ بِتَطْلِيقِهَا، وَذَلِكَ جَزَاءٌ لِلزَّوْجِ عَلَى الْإِضْرَارِ بِزَوْجَتِهِ وَإِيذَائِهَا بِمَنْعِ حَقِّهَا الْمَشْرُوعِ.

أَمَّا إِذَا وَطِئَهَا قَبْلِ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ، وَيَنْحَلُّ الْإِيلَاءُ.

(ر: إِيلَاء ف16- 19).

ثَانِيًا: الظِّهَارُ:

45- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَحْرِيمِ وَطْءِ الْمُظَاهِرِ زَوْجَتَهُ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ عَنِ الظِّهَارِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}.وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: لَا يَحْرُمُ وَطْؤُهَا إِذَا كَانَ التَّكْفِيرُ بِالْإِطْعَامِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي حُرْمَةِ دَوَاعِي الْوَطْءِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، وَالتَّفْصِيلُ فِي (ظِهَار ف22- 23).كَمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْمُظَاهِرِ إِذَا وَطِئَ زَوْجَتَهُ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ.(ر: كَفَّارَة ف64).

46- وَلِلْمَرْأَةِ الْحَقُّ فِي مُطَالَبَةِ الزَّوْجِ بِالْوَطْءِ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَمْنَعَ الزَّوْجَ مِنْ وَطْئِهَا حَتَّى يُكَفِّرَ، فَإِنِ

امْتَنَعَ عَنِ التَّكْفِيرِ، كَانَ لَهَا أَنْ تَرْفَعَ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي، وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَهُ بِالتَّكْفِيرِ، فَإِنْ أَبَى أَجْبَرَهُ بِمَا يَمْلِكُ مِنْ وَسَائِلِ التَّأْدِيبِ حَتَّى يُكَفِّرَ أَوْ سيُطَلِّقَ.

وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ الزَّوْجَ قَدْ أَضَرَّ بِزَوْجَتِهِ بَتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ بِالظِّهَارِ، حَيْثُ مَنَعَهَا حَقَّهَا فِي الْوَطْءِ مَعَ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ لِلزَّوْجَةِ الْمُطَالَبَةُ بِإِيفَاءِ حَقِّهَا وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا، وَالزَّوْجُ فِي وُسْعِهِ إِيفَاءُ حَقِّ الزَّوْجَةِ بِإِزَالَةِ الْحُرْمَةِ بِالْكَفَّارَةِ، فَيَكُونُ مُلْزَمًا بِذَلِكَ شَرْعًا.فَإِذَا أَصَرَّ عَلَى الِامْتِنَاعِ أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى التَّكْفِيرِ أَوِ الطَّلَاقِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ حَالَةِ عَجْزِ الْمُظَاهِرِ عَنِ الْكَفَّارَةِ وَحَالَةِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا، فَقَالُوا: إِذَا عَجَزَ الْمُظَاهِرُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، كَانَ لِزَوْجَتِهِ أَنْ تَطْلُبَ مِنَ الْقَاضِي الطَّلَاقَ، لِتَضَرُّرِهَا مِنْ تَرْكِ الْوَطْءِ، وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَ الزَّوْجَ بِالطَّلَاقِ، فَإِنِ امْتَنَعَ طَلَّقَ عَلَيْهِ الْقَاضِي فِي الْحَالِ، وَكَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا.فَإِنْ قَدَرَ الزَّوْجُ عَلَى الْكَفَّارَةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَفَّرَ وَرَاجَعَهَا.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُظَاهِرُ قَادِرًا عَلَى الْكَفَّارَةِ، وَامْتَنَعَ عَنِ التَّكْفِيرِ، فَلِلزَّوْجَةِ طَلَبُ الطَّلَاقِ مِنَ الْقَاضِي، فَإِنْ طَلَبَتِ الطَّلَاقَ، فَإِنَّهُ لَا يُطَلِّقُهَا حَتَّى تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، كَمَا فِي الْإِيلَاءِ، فَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، أَمَرَ الْقَاضِي الزَّوْجَ بِالطَّلَاقِ أَوِ التَّكْفِيرِ، فَإِنِ امْتَنَعَ طَلَّقَ الْقَاضِي عَلَيْهِ، وَكَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُولِي مُظَاهِرًا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْوَطْءِ، لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ شَرْعًا، أَشْبَهُ بِالْمَرِيضِ، وَيُقَالُ لَهُ: إِمَّا أَنْ تُكَفِّرَ وَتَفِيءَ، وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَ، فَإِنْ طَلَبَ الْإِمْهَالَ لِيَطْلُبَ رَقَبَةً يُعْتِقُهَا أَوْ طَعَامًا يَشْتَرِيهِ وَيُطْعِمُهُ لِلْمَسَاكِينِ، إِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنِ الْعِتْقِ وَالصَّوْمِ- أُمْهِلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ قَرِيبَةٌ.

وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْمُظَاهِرَ قَادِرٌ عَلَى التَّكْفِيرِ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا قَصْدُهُ الْمُدَافَعَةُ لَمْ يُمْهَلْ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُمْهَلُ لِلْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ هُنَا.

وَإِنْ كَانَ فَرْضُ الْمُظَاهِرِ الصِّيَامَ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَعَجْزِهِ عَنِ الْعِتْقِ، وَطَلَبَ أَنْ يُمْهَلَ لِيَصُومَ- لَمْ يُمْهَلْ حَتَّى يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ كَثِيرٌ، بَلْ يُؤْمَرُ أَنْ يُطَلِّقَ.

وَإِنْ كَانَ بَقِيَ عَلَى الْمُظَاهِرِ مِنَ الصِّيَامِ مُدَّةٌ يَسِيرَةٌ عُرْفًا أُمْهِلَ فِيهَا كَسَائِرِ الْمَعَاذِيرِ.

و- عَدَمُ تَمْكِينِ الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا مِنْ وَطْئِهَا حَتَّى تَقْبِضَ مَهْرَهَا:

47- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا سَلَّمَ زَوْجَتَهُ مَهْرَهَا، وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا إِذَا طَلَبَ ذَلِكَ مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ثَمَّةَ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ زَوْجَهَا إِذَا كَانَ الْمَهْرُ كُلُّهُ مُؤَجَّلاً أَوْ كَانَ بَعْضُهُ مُؤَجَّلاً- لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ طَلَبَهُ- وَقَبَضَتِ الْقَدْرَ الْمُعَجَّلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ رِضَاهَا بِتَأْخِيرِ حَقِّهَا رِضًا بِتَسْلِيمِ نَفْسِهَا قَبْلَ قَبْضِهِ، كَالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ فِي الْبَيْعِ، فَقَدْ أَسْقَطَتْ حَقَّ نَفْسِهَا بِالتَّأْجِيلِ، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ زَوْجِهَا، لِانْعِدَامِ الْإِسْقَاطِ مِنْ جِهَتِهِ، وَرِضَاهَا بِالسُّقُوطِ، لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَيَّدُوا قَوْلَهُمْ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَهْرُ كُلُّهُ مُؤَجَّلاً بِأَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ قَدِ اشْتَرَطَ عَلَيْهَا الدُّخُولَ بِهَا قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَرَضِيَتْ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فَقَوْلَانِ.

48- أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَهْرُ كُلُّهُ مُعَجَّلاً أَوْ بَعْضُهُ، وَلَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهَا الزَّوْجُ الْقَدْرَ الْمُعَجَّلَ، فَهَلْ يَحِقُّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ تَمْكِينِهِ مِنْ وَطْئِهَا حَتَّى تَقْبِضَهُ؟

ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وِالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنْ زَوْجِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا حَتَّى تَقْبِضَ مَهْرَهَا الْمُعَجَّلَ، أَوِ الْقَدْرَ الْمُعَجَّلَ مِنْهُ إِنْ كَانَ بَعْضُهُ حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَلًّا؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ عِوَضٌ عَنْ بُضْعِهَا، كَالثَّمَنِ عِوَضٌ عَنِ الْمَبِيعِ، فَكَمَا أَنَّ لِلْبَائِعِ حَقَّ حَبْسِ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ الْحَالِّ، فِلِلْمَرْأَةِ حَقُّ حَبْسِ نَفْسِهَا عَنْ زَوْجِهَا لِاسْتِيفَاءِ مَهْرِهَا الْمُعَجَّلِ، وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا تَتْلَفُ بِالِاسْتِيفَاءِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْمَهْرِ عَلَيْهَا، لَمْ يُمْكِنْهَا اسْتِرْجَاعُ عِوَضِهَا، فَلِذَلِكَ مَلَكَتِ الِامْتِنَاعَ مِنَ التَّسْلِيمِ حَتَّى تَقْبِضَهُ.وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.

أَثَرُ الْوَطْءِ فِي سِقُوُطِ حَقِّ الزَّوْجَةِ فِي الِامْتِنَاعِ عَنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَ مُعَجَّلَ صَدَاقِهَا:

49- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِ حَقِّ الزَّوْجَةِ فِي مَنْعِ نَفْسِهَا عَنْ زَوْجِهَا حَتَّى تَقْبِضَ مُعَجَّلَ مَهْرِهَا بَعْدَمَا مَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا بِرِضَاهَا فَوَطِئَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا عَنْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَا يُسْتَوْفَى مِنْ مَنَافِعِ الْبُضْعِ فِي جَمِيعِ الْوَطَآتِ الَّتِي تُوجَدُ فِي ذَلِكَ الْمِلْكِ، لَا بِالْمُسْتَوْفَى فِي الْوَطْأَةِ الْأُولَى خَاصَّةً، فَكَانَتْ كُلُّ وَطْأَةٍ مَعْقُودًا عَلَيْهَا، وَتَسْلِيمُ الْبَعْضِ لَا يُوجِبُ تَسْلِيمَ الْبَاقِي، كَالْبَائِعِ إِذَا سَلَّمَ بَعْضَ الْمَبِيعِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، كَانَ لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْبَاقِي لِيَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ الْمُعَجَّلَ، كَذَا هَذَا.وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمُعْتَمَدُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ.

وَالثَّانِي: لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ- وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا بِالتَّسْلِيمِ أَسْقَطَتْ حَقَّهَا مِنْ حَبْسِ نَفْسِهَا، ذَلِكَ أَنَّ تَسْلِيمَ نَفْسِهَا فِي الِابْتِدَاءِ رِضًا مِنْهَا بِبَقَاءِ الْمَهْرِ فِي ذِمَّتِهِ، وَامْتِنَاعُهَا بَعْدَ ذَلِكَ رُجُوعٌ فِيمَا تَرَكَتْهُ فَلَا يُقْبَلُ، كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ الْبَائِعُ فَسَلَّمَ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِهِ، فَلَيْسَ لَهُ اسْتِرْدَادُهُ وَحَبْسُهُ.قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ تَسْلِيمُ رِضًا اسْتَقَرَّ بِهِ الْعِوَضُ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ حَقُّ الْإِمْسَاكِ، قِيَاسًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ؛ وَلِأَنَّ أَحْكَامَ الْعَقْدِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِالْوَطْءِ اخْتَصَّتْ بِالْوَطْءِ الْأَوَّلِ، وَكَانَ مَا بَعْدَهُ تَبَعًا، وَقَدْ رَفَعَ الْوَطْءُ الْأَوَّلُ حُكْمَ الْإِمْسَاكِ فِي حَقِّهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَرْفَعَهُ فِي حَقِّ تَبَعِهِ كَالْإِحْلَالِ.

حُلُولُ أَجَلِ الْمَهْرِ الْمُؤَجَّلِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ:

50- إِذَا حَلَّ الْأَجَلُ قَبْلَ تَسْلِيمِ الزَّوْجَةِ نَفْسَهَا، فَهَلْ يُعْتَبَرُ الْمَهْرُ الْمُؤَجَّلُ فِي حُكْمِ الْمُعَجَّلِ، وَيَكُونُ لَهَا الِامْتِنَاعُ مِنْ تَمْكِينَ زَوْجِهَا مِنْ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَهُ، أَمْ يُعْتَبَرُ حَقُّهَا فِي الِامْتِنَاعِ قَدْ سَقَطَ بِرِضَاهَا بِالتَّأْجِيلِ، فَلَا يَعُودُ إِلَيْهَا بِحُلُولِ الْأَجَلِ؟

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنْهُ لِتَسْتَوْفِيَ مَهْرَهَا، وَذَلِكَ لِوُجُوبِ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا قَبْلَ الْحُلُولِ، فَلَا يَرْتَفِعُ ذَلِكَ بِالْحُلُولِ، لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ قَدْ سَقَطَ بِرِضَاهَا بِالتَّأْجِيلِ، وَالسَّاقِطُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ، كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ.

الثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَنَّ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا حَلَّ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْعَاجِلِ، وَالْعَاجِلُ تَمْنَعُهُ حَتَّى يُعْطِيَهَا إِيَّاهُ.إِلاَّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَيَّدَ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يَشْتَرِطِ الزَّوْجُ عَلَى الزَّوْجَةِ الدُّخُولَ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، فَلَوْ شَرَطَهُ وَرَضِيَتْ لَيْسَ لَهَا الِامْتِنَاعُ.

تَنَازُعُ الزَّوْجَيْنِ فِي الْبَدْءِ بِالتَّسْلِيمِ:

51- إِذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِي الْبَدَاءَةِ بِالتَّسْلِيمِ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا حَتَّى تَقْبِضَ مَهْرَهَا، وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ تَسْلِيمُهُ أَوَّلاً؛ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ قَدْ تَعَيَّنَ فِي الْمُبْدَلِ بِالْعَقْدِ، وَحَقُّ الْمَرْأَةِ فِي الْمَهْرِ وَهُوَ الْبَدَلُ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ، فَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ التَّسْلِيمُ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ لِيَتَعَيَّنَ حَقُّهَا فِي الْبَدَلِ تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا.وَكَرِهَ مَالِكٌ لِلزَّوْجَةِ تَمْكِينَ الزَّوْجِ مِنْ نَفْسِهَا قَبْلَ قَبْضِهَا مِنْهُ رُبْعَ دِينَارٍ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، بِأَنَّهُ يُجْبَرُ الزَّوْجُ أَوَّلاً عَلَى التَّسْلِيمِ، ثُمَّ تُجْبَرُ الزَّوْجَةُ عَلَى تَمْكِينِهِ مِنْ وَطْئِهَا؛ لِأَنَّ فِي إِجْبَارِهَا عَلَى تَسْلِيمِ نَفْسِهَا أَوَّلاً خَطَرَ إِتْلَافِ الْبُضْعِ، وَالِامْتِنَاعَ مِنْ بَذْلِ الصَّدَاقِ، وَلَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ فِي الْبُضْعِ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ، أَنَّهُمَا يُجْبَرَانِ مَعًا، بَأَنْ يُؤْمَرَ الزَّوْجُ بِوَضْعِ الصَّدَاقِ عِنْدَ عَدْلٍ، وَهَذَا الْعَدْلُ لَيْسَ نَائِبًا عَنِ الزَّوْجِ وَلَا عَنِ الزَّوْجَةِ، بَلْ هُوَ نَائِبُ الشَّرْعِ بِقَطْعِ الْخُصُومَةِ بَيْنَهُمَا، وَتُؤْمَرُ الزَّوْجَةُ بِالتَّمْكِينِ، فَإِذَا مَكَّنَتْ سَلَّمَ الْعَدْلُ الصَّدَاقَ إِلَيْهَا، وَبِذَلِكَ تُفْصَلُ الْخُصُومَةُ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ مَوْضُوعٌ لِقَطْعِ التَّنَازُعِ وَفِعْلِ الْأَحْوَطِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ، وَهَذَا أَحْوَطُ الْأُمُورِ فِيهَا، وَأَقْطَعُ لِلتَّنَازُعِ بَيْنَهُمَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ أَنَّهُ لَا إِجْبَارَ عَلَى كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي ثُبُوتِ الْحَقِّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَحِينَئِذٍ فَمَنْ بَادَرَ وَسَلَّمَ مِنْهُمَا أُجْبِرَ صَاحِبُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ.

ز- اشْتِرَاطُ عَدَمِ الْوَطْءِ أَوْ عَدَمِ حِلِّهِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ:

فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ ذَلِكَ الِاشْتِرَاطِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ، حَالَةِ اشْتِرَاطِ نَفْيِ حِلِّ الْوَطْءِ، وَحَالَةِ اشْتِرَاطِ عَدَمِ فِعْلِهِ.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

52- إِذَا اشْتَرَطَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ نَفْيَ حِلِّ الْوَطْءِ بَأَنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا تَحِلَّ لَهُ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي بُطْلَانِ هَذَا الشَّرْطِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَأْثِيرِهِ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ بُطْلَانُ الشَّرْطِ وَالْعَقْدِ مَعًا، وَذَلِكَ لِإِخْلَالِ ذَلِكَ الشَّرْطِ بِمَقْصُودِ الْعَقْدِ وَلِلتَّنَاقُضِ، إِذْ لَا يَبْقَى مَعَهُ لِلزَّوَاجِ مَعْنًى، بَلْ يَكُونُ كَالْعَقْدِ الصُّورِيِّ.

وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ فَاسِدٌ وَالْعَقْدَ صَحِيحٌ.إِذِ الْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ الشَّرْطُ دُونَهُ. 53- أَمَّا إِذَا شُرِطَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ عَدَمُ الْوَطْءِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحْنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَلْغُو الشَّرْطُ.أَمَّا بُطْلَانُ الشَّرْطِ، فَلِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَيَتَضَمَّنُ إِسْقَاطَ حُقُوقٍ تَجِبُ بِالْعَقْدِ لَوْلَا اشْتِرَاطُهُ، وَأَمَّا بَقَاءُ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ، فَلِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَعُودُ إِلَى مَعْنًى زَائِدٍ فِي الْعَقْدِ فَلَا يُبْطِلُهُ؛ وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ الشَّرْطُ دُونَهُ.

وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ فَاسِدٌ وَالْعَقْدَ فَاسِدٌ لِوُقُوعِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ شَرْعًا.

ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْوُقُوعِ، فَقِيلَ: يُفْسَخُ النِّكَاحُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ.وَقِيلَ: يُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ، وَيَسْقُطُ الشَّرْطُ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ.

وَالثَّالِثُ: لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا نَكَحَهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَطَأَهَا، أَوْ لَا يَطَأَهَا إِلاَّ نَهَارًا أَوْ إِلاَّ مَرَّةً مَثَلاً، بَطَلَ النِّكَاحُ إِنْ كَانَ الِاشْتِرَاطُ مِنْ جِهَتِهَا، لِمُنَافَاتِهِ مَقْصُودَ الْعَقْدِ، وَإِنْ وَقَعَ مِنْهُ لَمْ يَضُرَّ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ حَقٌّ لَهُ، فَلَهُ تَرْكُهُ، وَالتَّمْكِينُ حَقٌّ عَلَيْهَا، فَلَيْسَ لَهَا تَرْكُهُ.

ح- الْعَزْلُ:

54- الْمُرَادُ بِالْعَزْلِ: أَنْ يُنَحِّيَ الرَّجُلُ مَاءَهُ عِنْدَ الْجِمَاعِ عَنِ الرَّحِمِ، فَيُلْقِيَهُ خَارِجَ الْفَرْجِ.

وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ عَزْلِ السَّيِّدِ عَنْ أَمَتِهِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَذِنَتْ فِي ذَلِكَ أَوْ لَمْ تَأْذَنْ؛ لِأَنَّ إِنْجَابَ الْوَلَدِ حَقُّهُ، وَلَيْسَ بِحَقٍّ لَهَا.

وَقَدْ نَقَلَ الْقَرَافِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ الْعَزْلِ عَنِ السُّرِّيَّةِ، أَمَّا الْعَزْلُ عَنِ الزَّوْجَةِ الْحُرَّةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي (عَزَل ف33- 35) ط- الْغِيلَةُ:

55- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ وَطْءِ الْمُرْضِعِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- : «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّ الرُّومَ وَفَارِسَ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ».

وَقَالَ الزُّرْقَانِيُّ: الْغِيلَةُ، بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَقِيلَ بِالْفَتْحِ: وَطْءُ الْمُرْضِعِ، كَانَ مَعَهُ إِنْزَالٌ أَمْ لَا، وَقِيلَ بِقَيْدِ الْإِنْزَالِ.

(ر: غِيلَة ف7)

ي- وَطْءُ الْحَامِلِ:

56- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ وَطْءِ الْحَامِلِ:

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى كَرَاهَةِ وَطْءِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ إِذَا كَانَتْ حُبْلَى، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- : «لَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ سِرًّا، فَإِنَّ الْغَيْلَ يُدْرِكُ الْفَارِسَ فَيُدَعْثِرُهُ عَنْ فَرَسِهِ».

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى حِلِّ وَطْءِ الْحَامِلِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- : «أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنِّي أَعْزِلُ عَنِ امْرَأَتِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- : لِمَ تَفْعَلُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: أُشْفِقُ عَلَى وَلَدِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- : إِنْ كَانَ لِذَلِكَ فَلَا، مَا ضَارَّ ذَلِكَ فَارِسَ وَلَا الرُّومَ».

قَالَ الطَّحَاوِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِبَاحَةُ وَطْءِ الْحَبَالَى، وَإِخْبَارُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ لَا يَضُرُّ فَارِسَ وَالرُّومَ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ غَيْرَهُمْ.

وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- : «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّ الرُّومَ وَفَارِسَ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ».

فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- هَمَّ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى بَلَغَهُ، أَوْ حَتَّى ذَكَرَ أَنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ يَفْعَلُونَهُ فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ.

وَفِي ذَلِكَ إِبَاحَةُ مَا قَدْ حَظَرَهُ الْحَدِيثُ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِكَرَاهَةِ وَطْءِ الْحَامِلِ.

آثَارُ الْوَطْءِ:

أ- أَثَرُ الْوَطْءِ فِي تَأْكِيدِ لُزُومِ كُلِّ الْمَهْرِ:

57- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى اسْتِقْرَارِ كَمَالِ الْمَهْرِ بِوَطْءِ الزَّوْجَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَيَتَقَرَّرُ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ الصَّدَاقُ الْمُسَمَّى كَامِلاً؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَقْصُودَ، فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ عِوَضُهُ.قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ هَاهُنَا الْأَمْنُ مِنْ سُقُوطِ كُلِّ الْمَهْرِ أَوْ بَعْضِهِ بِالتَّشْطِيرِ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْبَابَرْتِيُّ فِي الْعِنَايَةِ: أَنَّهُ بِالدُّخُولِ يَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُ الْمُبْدَلِ، وَبِهِ يَتَأَكَّدُ الْبَدَلُ وَهُوَ الْمَهْرُ، كَمَا فِي تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ فِي بَابِ الْبَيْعِ، يَتَأَكَّدُ بِهِ وُجُوبُ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ، فَإِنَّ وُجُوبَ الثَّمَنِ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَأَكِّدًا، لِكَوْنِهِ عَلَى عُرْضَةِ أَنْ يَهْلِكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَيَنْفَسِخَ الْعَقْدُ، وَبِتَسْلِيمِهِ يَتَأَكَّدُ وُجُوبُ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ وُجُوبُ الْمَهْرِ كَانَ عُرْضَةً أَنْ يَسْقُطَ بِتَقْبِيلِ ابْنِ الزَّوْجِ أَوِ الِارْتِدَادِ، وَأَنْ يَتَنَصَّفَ بِطَلَاقِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَبِالْوَطْءِ تَأَكَّدَ لُزُومُ تَمَامِهِ.

ب- أَثَرُ الْوَطْءِ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ:

58- لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ تَثْبُتُ بِالْوَطْءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}.إِذِ الْمَسِيسُ هَهُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْوَطْءِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: عِدَّة ف6) ج- أَثَرُ الْوَطْءِ فِي الْفَيْءِ مِنَ الْإِيلَاءِ:

59- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْوَطْءَ هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَكُونُ فَيْئًا، وَيَنْحَلُّ بِهِ الْإِيلَاءُ.

(ر: إِيلَاء ف20- 21)

د- أَثَرُ الْوَطْءِ فِي ثُبُوتِ الْإِحْصَانِ فِي الزِّنَا:

60- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْإِحْصَانِ- إِلَى جَانِبِ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالْحُرِّيَّةِ- الْوَطْءَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَأَنْ يَكُونَ فِي الْقُبُلِ، عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْغُسْلَ، سَوَاءٌ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ.

(ر: إِحْصَان ف6- 11) هـ- ثُبُوتُ رَجْعَةِ الْمُطَلَّقَةِ رَجْعِيًّا بِالْوَطْءِ:

61- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ تَصِحُّ فِي الْعِدَّةِ بِالْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ فِي خِطَابِ مُطَلَّقَتِهِ: «رَاجَعْتُكِ» أَوْ «رَاجَعْتُ زَوْجَتِي» إِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُخَاطَبَةٍ، وَكَذَا بِكُلِّ لَفْظٍ يُؤَدِّي ذَلِكَ الْمَعْنَى.

أَمَّا الرَّجْعَةُ بِالْوَطْءِ فَتَصِحُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كَذَا الْمَالِكِيَّةُ، بِشَرْطِ قَصْدِ الزَّوْجِ إِلَى الِارْتِجَاعِ؛ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (رَجْعَة ف12- 18) ز- أَثَرُ الْوَطْءِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الطَّلَاقِ:

62- قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الطَّلَاقَ مِنْ حَيْثُ وَصْفُهُ الشَّرْعِيُّ إِلَى قِسْمَيْنِ: سُنِّيٍّ وَبِدْعِيٍّ.

فَأَمَّا طَلَاقُ السُّنَّةِ: فَهُوَ مَا وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي نَدَبَ الشَّرْعُ لِإِيقَاعِهِ، وَأَمَّا طَلَاقُ الْبِدْعَةِ: فَهُوَ مَا وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي مَنَعَ الشَّرْعُ إِيقَاعَهُ عَلَيْهِ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الطَّلَاقُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهَانِ حَلَالٌ، وَوَجْهَانِ حَرَامٌ.فَالْحَلَالَانِ: أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، أَوْ يُطَلِّقَهَا حَامِلاً مُسْتَبِينًا حَمْلُهَا، وَالْحَرَامَانِ: أَنْ يُطَلِّقَهَا وَهِيَ حَائِضٌ، أَوْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ، وَهَذَا فِي طَلَاقِ الْمَدْخُولِ بِهَا.أَمَّا مَنْ لَمْ يُدْخَلْ بِهَا، فَيَجُوزُ طَلَاقُهَا حَائِلاً وَطَاهِرًا.

وَعَلَى ذَلِكَ كَانَتْ صِفَةُ طَلَاقِ السُّنَّةِ: مَا وَقَعَ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعِ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ فِيهِ.أَمَّا إِذَا جَامَعَهَا فِيهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِيهِ قَبْلَ تَبَيُّنِ الْحَمْلِ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ مُحْدِثًا لِطَلَاقٍ بِدْعِيٍّ مُوجِبٍ لِإِثْمِ فَاعِلِهِ فِي قَوْلِ سَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

أَمَّا عَنْ وُقُوعِ طَلَاقِ الْبِدْعَةِ الَّذِي صَدَرَ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَكَانَ الْمُطَلِّقُ عَاصِيًا.لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- «أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُرَاجِعَهَا» وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ: «فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنِّي طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا، أَكَانَ يَحِلُّ لِي أَنْ أُرَاجِعَهَا؟ قَالَ: لَا، كَانَتْ تَبِينُ مِنْكَ، وَتَكُونُ مَعْصِيَةً».وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ سَالِمٌ: «وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً، فَحُسِبَتْ مِنْ طَلَاقِهِ، وَرَاجَعَهَا عَبْدُ اللَّهِ كَمَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ».

وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: تُحْتَسَبُ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ! وَكُلُّهَا أَحَادِيثُ صِحَاحٌ؛ وَلِأَنَّهُ طَلَاقٌ مِنْ مُكَلَّفٍ فِي مَحَلِّ الطَّلَاقِ، فَوَقَعَ، كَطَلَاقِ الْحَامِلِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ، فَيُعْتَبَرُ لِوُقُوعِهِ مُوَافَقَةُ السُّنَّةِ، بَلْ هُوَ إِزَالَةُ عِصْمَةٍ، وَقَطْعُ مِلْكٍ، فَإِيقَاعُهُ فِي زَمَنِ الْبِدْعَةِ أَوْلَى، تَغْلِيظًا عَلَيْهِ وَعُقُوبَةً لَهُ، أَمَّا غَيْرُ الزَّوْجِ، فَلَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ، وَالزَّوْجُ يَمْلِكُهُ بِمِلْكِهِ مَحِلَّهُ.

الثَّانِي: يَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ، وَابْنُ عُلَيَّةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَابْنُ حَزْمٍ وَالشَّوْكَانِيُّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَطَاوُسٍ وَهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ وَخِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مُخَالِفٌ لِأَمْرِهِ فَكَانَ مَرْدُودًا بَاطِلاً.

وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ فِي قُبُلِ الْعِدَّةِ، فَإِذَا بَطَلَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَقَعْ، كَالْوَكِيلِ إِذَا أَوْقَعَهُ فِي زَمَنٍ أَمَرَهُ مُوَكِّلُهُ بِإِيقَاعِهِ فِي غَيْرِهِ.

ح- أَثَرُ الْوَطْءِ فِي إِيجَابِ حَدِّ الزِّنَا:

63- الْوَطْءُ الْمُوجِبُ لِحَدِّ الزِّنَا- كَمَا قَالَ التَّمْرَتَاشِيُّ- هُوَ إِدْخَالُ قَدْرِ حَشَفَةٍ مِنْ ذَكَرِ مُكَلَّفٍ نَاطِقٍ طَائِعٍ فِي قُبُلِ مُشْتَهَاةٍ، خَالٍ عَنْ مِلْكِ الْوَاطِئِ وَشُبْهَتِهِ، فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (زِنى ف1، ف7، 11، 28)

ط- أَثَرُ الْوَطْءِ فِي إِيجَابِ الْغُسْلِ:

64- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مِنْ مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الْتِقَاءَ الْخِتَانَيْنِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَغِيبَ الْحَشَفَةُ بِكَمَالِهَا فِي الْفَرْجِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» وَمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ، ثُمَّ جَهَدَهَا، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ».زَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ.

(ر: غُسْل ف9- 10، إِكْسَال ف4)

ي- أَثَرُ الْوَطْءِ فِي تَحْلِيلِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لِزَوْجِهَا:

65- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا بَعْدَ الدُّخُولِ لَا تَحِلُّ لِمُطَلِّقِهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}

.وَجَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى عَدَمِ حِلِّهَا لِلْأَوَّلِ حَتَّى يَطَأَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي وَطْئًا يُوجَدُ فِيهِ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ، وَلَوْ لَمْ يُنْزِلْ؛ لِلْآيَةِ.

وَيَرَى سَعِيدُ بْنُ الْمَسَيَّبِ أَنَّهُ إِذَا تَزَوَّجَهَا تَزْوِيجًا صَحِيحًا لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ إِحْلَالَهَا لِلْأَوَّلِ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ.

التَّفْصِيلُ فِي (تَحْلِيل ف6- 9، عُسَيْلَة ف2).

ك- أَثَرُ الْوَطْءِ فِي التَّحْرِيمِ بِالْمُصَاهَرَةِ:

66- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ بِسَبَبِ الْمُصَاهَرَةِ- عَلَى التَّأْبِيدِ- أُمُّ زَوْجَتِهِ (وَإِنْ عَلَتْ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ) بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَى الْبِنْتِ، سَوَاءٌ وَطِئَهَا أَمْ لَمْ يَطَأْهَا، وَكَذَلِكَ زَوْجَاتُ الْأَبْنَاءِ (وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ ابْنُ صُلْبِهِ وَابْنُهُ مِنَ الرِّضَاعِ وَابْنُ ابْنِهِ وَابْنُ ابْنَتِهِ) وَزَوْجَاتُ الْآبَاءِ (وَيَتَنَاوَلُ آبَاءَ الْآبَاءِ وَآبَاءَ الْأُمَّهَاتِ وَإِنْ عَلَوْا) سَوَاءٌ أَكَانَ مَعَ الْعَقْدِ وَطْءٌ أَمْ لَمْ يَكُنْ.

أَمَّا الرَّبَائِبُ- جُمْعُ رَبِيبَةٍ- وَهِيَ: بِنْتُ امْرَأَةِ الرَّجُلِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُرَبِّيهَا فِي حِجْرِهِ غَالِبًا، فَحُرْمَتُهُنَّ مُقَيَّدَةٌ بِأَمْرَيْنِ: عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى الْأُمِّ، وَالدُّخُولِ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الدُّخُولُ بَعْدَ الْعَقْدِ، لَمْ يُثْبُتِ التَّحْرِيمُ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (رَبِيبَةٍ ف2، وَمُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ ف9)

ل- أَثَرُ الْوَطْءِ فِي إِيجَابِ الْكَفَّارَاتِ:

(1) وَطْءُ الْحَائِضِ:

67- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ الْحَائِضَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِينَارٍ إِنْ كَانَ الْجِمَاعُ فِي أَوَّلِ الْحَيْضِ، وَبِنِصْفِ دِينَارٍ إِنْ كَانَ فِي آخِرِهِ، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ: أَوْ فِي وَسَطِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا كَانَ دَمًا أَحْمَرَ فَدِينَارٌ، وَإِذَا كَانَ دَمًا أَصْفَرَ فَنِصْفُ دِينَارٍ».

وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ، وَهُوَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ وَطِئَ الْحَائِضَ، وَهُوَ دِينَارٌ أَوْ نِصْفُ دِينَارٍ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ، أَيُّهُمَا أَخْرَجَ أَجْزَأَهُ، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «قَالَ فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ: يَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ أَوْ بِنِصْفٍ دِينَارٍ».

وَالثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَأَحْمَدِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إِلاَّ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَتَرْكُ الْعَوْدِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَمَكْحُولٍ وَالزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِمْ.

وَالرَّابِعُ: لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ: إِعْتَاقُ رَقَبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا.

(2) الْوَطْءُ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ:

68- ذَهَبَ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَالْقَضَاءِ عَلَى مَنْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِي فَرْجِهَا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَامِدًا، أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنَّ الْآخَرَ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ: أَتَجِدُ مَا تُحَرِّرُ رَقَبَةً؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا.قَالَ: أَفَتَجِدُ مَا تُطْعِمُ بِهِ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَأُتِيَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، وَهُوَ الزَّبِيلُ، قَالَ: أَطْعِمْ هَذَا عَنْكَ.قَالَ: عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا؟ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا، قَالَ: فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ».

وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِإِفْسَادِ قَضَائِهَا، فَلَا تَجِبُ فِي أَدَائِهَا كَالصَّلَاةِ.

وَقَدْ أُجِيبَ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ الْأَدَاءِ فِي ذَلِكَ بِالْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ يَتَعَلَّقُ بِزَمَنٍ مَخْصُوصٍ يَتَعَيَّنُ بِهِ، وَالْقَضَاءُ مَحَلُّهُ الذِّمَّةُ، وَالصَّلَاةُ لَا يَدْخُلُ فِي جُبْرَانِهَا الْمَالُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: أَمَّا إِذَا جَامَعَهَا نَاسِيًا لِصَوْمِهِ، فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.

(ر: صَوْم ف68، كَفَّارَة ف20 وَمَا بَعْدَهَا) (3) الْوَطْءُ فِي إِحْرَامِ الْحَجِّ:

69- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِذَا جَامَعَ أَهْلَهُ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَ حَجُّهُ، وَعَلَيْهِ ذَبْحُ الْهَدْيِ فِي حَجَّةِ الْقَضَاءِ.وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ شَاةٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بَدَنَةٌ.

أَمَّا إِذَا جَامَعَهَا بَعْدَ الْوُقُوفِ وَقَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.وَلَوْ جَامَعَهَا بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجَزَاءِ الْوَاجِبِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ شَاةٌ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ.

(ر: إِحْرَام ف 170- 175)

م- أَثَرُ الْوَطْءِ فِي إِبْطَالِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالِاعْتِكَافِ:

(1) أَثَرُهُ فِي إِبْطَالِ الصَّوْمِ:

70- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ عَامِدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَسَدَ صَوْمُهُ، سَوَاءٌ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّ مَنْ جَامَعَ فِي الْفَرْجِ، فَأَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ، أَوْ دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ، أَنَّهُ يَفْسُدُ صَوْمُهُ.وَقَدْ دَلَّتِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ عَلَى ذَلِكَ.

أَمَّا إِذَا جَامَعَهَا نَاسِيًا، فَلَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى حَرَّمَهُ الصَّوْمُ، فَإِذَا وُجِدَ مِنْهُ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا، لَمْ يُفْسِدْهُ كَالْأَكْلِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَعَطَاءٌ: يَفْسُدُ صَوْمُهُ كَالْعَامِدِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ تُحَرِّمُ الْوَطْءَ، فَاسْتَوَى فِيهَا عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ كَالْحَجِّ، وَلِأَنَّ إِفْسَادَ الصَّوْمِ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ، لَا تُسْقِطُهُ الشُّبْهَةُ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ، كَسَائِرِ أَحْكَامِهِ.

(2) أَثَرُهُ فِي إِبْطَالِ الْحَجِّ:

71- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ إِذَا وَقَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَيَجِبُ عَلَى الْوَاطِئِ الِاسْتِمْرَارُ فِي حَجِّهِ الْفَاسِدِ إِلَى نِهَايَتِهِ، ثُمَّ قَضَاؤُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ إِذَا وَقَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَبَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ.

أَمَّا إِذَا جَامَعَ الْمُحْرِمُ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يَفْسُدُ حَجُّهُ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يَفْسُدُ.

التَّفْصِيلُ فِي (إِحْرَام ف170- 175).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


114-موسوعة الفقه الكويتية (وعظ)

وَعْظٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْوَعْظُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ زَجْرٌ مُقْتَرِنٌ بِتَخْوِيفٍ، يُقَالُ: وَعَظَهُ يَعِظُهُ وَعْظًا وَعِظَةً؛ أَيْ أَمَرَهُ بِالطَّاعَةِ وَوَصَّاهُ بِهَا.

وَمِنْ مَعَانِي الْوَعْظِ أَيْضًا: النُّصْحُ وَالتَّذْكِيرُ بِالْعَوَاقِبِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ}.

وَوَعَظَهُ فَاتَّعَظَ؛ أَيِ ائْتَمَرَ وَقَبِلَ الْمَوْعِظَةَ، وَالِاسْمُ: الْمَوْعِظَةُ، وَهِيَ مَا يُوعَظُ بِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَالْوَاعِظُ مَنْ يَنْصَحُ وَيُذَكِّرُ وَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ التَّذْكِيرُ بِالْخَيْرِ فِيمَا يَرِقُّ لَهُ الْقَلْبُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

النَّصِيحَةُ:

2- النَّصِيحَةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الْإِخْلَاصُ وَالصِّدْقُ وَالْمَشُورَةُ وَالْعَمَلُ.

وَالنَّصِيحَةُ اصْطِلَاحًا: هِيَ الدُّعَاءُ إِلَى مَا فِيهِ الصَّلَاحُ وَالنَّهْيُ عَمَّا فِيهِ الْفَسَادُ.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْوَعْظِ وَالنَّصِيحَةِ: أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا الدُّعَاءَ إِلَى مَا فِيهِ الصَّلَاحُ وَالتَّذْكِيرَ بِالْخَيْرِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

3- بِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوَعْظِ الِاسْتِحْبَابُ، فَقَدْ قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: التَّذْكِيرُ عَلَى الْمَنَابِرِ وَالِاتِّعَاظُ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ.

وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَمَّا كَانَتِ الْمَوَاعِظُ مَنْدُوبًا إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «تَعَاهَدُوا النَّاسَ بِالتَّذْكِرَةِ» أَلَّفْتُ فِي هَذَا الْفَنِّ كُتُبًا.

وَقَالَ الرُّحَيْبَانِيُّ: ذَكَرَ الْإِمَامُ (أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ) أَلْفَاظًا كَثِيرَةً تَدُلُّ عَلَى الْحَثِّ عَلَى الْوَعْظِ، وَحُسْنِ حَالِ الْوُعَّاظِ مِمَّا قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى وَعْظِهِمْ مِنَ الْفَوَائِدِ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ- وَتَبِعَهُ الْقُرْطُبِيُّ- فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْوَعْظِ الْمُرَقِّقِ لِلْقُلُوبِ الْمُقَوِّي لِلْيَقِينِ.

وَقَدْ يَكُونُ الْوَعْظُ مَنْهِيًّا عَنْهِ كَأَنْ يُهَيِّجَ الْمُصِيبَةَ فَيُعْتَبَرُ مِنَ النِّيَاحَةِ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْوَعْظِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ: الْوَعْظُ لِلرِّئَاسَةِ، وَكَسْبِ الْمَالِ، وَالْقَبُولِ لَدَى عَامَّةِ النَّاسِ.

فَقَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: لَا يَحِلُّ لِلْوَاعِظِ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا فِي مَجْلِسِهِ لِلْوَعْظِ لِأَنَّهُ اكْتِسَابُ الدُّنْيَا بِالْعِلْمِ.

أَرْكَانُ الْوَعْظِ:

أَرْكَانُ الْوَعْظِ هِيَ: الْوَاعِظُ، وَالْمَوْعُوظُ، وَأُسْلُوبُ الْوَعْظِ.

وَنَتَنَاوَلُ كُلَّ رُكْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ بِالتَّفْصِيلِ حَسَبَ الْآتِي:

الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: الْوَاعِظُ:

شُرُوطُ الْوَاعِظِ:

4- يُشْتَرَطُ فِي الْوَاعِظِ مَا يَلِي:

أ- أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا أَيْ عَاقِلًا بِالِغًا.

ب- أَنْ يَكُونَ عَدْلًا.

ج- أَنْ يَكُونَ مُحَدِّثًا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُشْتَغِلُ بِكُتُبِ الْحَدِيثِ بِأَنْ يَكُونَ قَرَأَ لَفْظَهَا وَفَهِمَ مَعْنَاهَا وَعَرَفَ صِحَّتَهَا وَسُقْمَهَا وَلَوْ بِإِخْبِارِ حَافِظٍ أَوِ اسْتِنْبَاطِ فَقِيهٍ.

د- أَنْ يَكُونَ مُفَسِّرًا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُشْتَغِلُ بِشَرْحِ غَرِيبِ كِتَابِ اللَّهِ وَتَوْجِيهِ مُشْكِلِهِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِهِ.

وَيُسْتَحَبُّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فَصِيحًا لَا يَتَكَلَّمُ مَعَ النَّاسِ إِلاَّ قَدْرَ فَهْمِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ لَطِيفًا ذَا وَجْهٍ وَمُرُوءَةٍ.

وَأَنْ يَكُونَ مُيَسِّرًا لَا مُعَسِّرًا.

آدَابُ الْوَاعِظِ:

5- مِنْ آدَابِ الْوَاعِظِ وَالْعَالِمِ وَالْمُعَلِّمِ وَنَحْوِهِمْ: أَنْ يَجْتَنِبَ الْأَفْعَالَ وَالْأَقْوَالَ وَالتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي ظَاهِرُهَا خِلَافَ الصَّوَابِ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا فِيهَا، لِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ.

مِنْ جُمْلَتِهَا: تَوَهُّمُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ عَلَى ظَاهِرِهِ بِكُلِّ حَالٍ، وَأَنْ يُصْبِحَ ذَلِكَ شَرْعًا وَأَمْرًا مَعْمُولًا بِهِ أَبَدًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْمَحْمَلِ الَّذِي صَحِبَهُ مَقْصُورًا.

وَمِنْهَا: وُقُوعُ النَّاسِ فِي الْوَاعِظِ بِالتَّنْقِيصِ بِكَوْنِهِ يُبَاشِرُ مَا لَا يَجُوزُ، فَيُطْلِقُونَ أَلْسِنَتَهُمْ عَلَيْهِ وَيُنَفِّرُونَ عَنْهُ.

وَمِنْهَا: أَنَّ النَّاسَ يُسِيئُونَ الظَّنَّ بِهِ فَيَنْفِرُوا عَنْهُ، وَيُنَفِّرُونَ غَيْرَهُمْ عَنْ أَخْذِ الْعِلْمِ عَنْهُ، وَتَسْقُطُ رِوَايَاتُهُ وَشَهَادَاتُهُ، وَيَبْطُلُ الْعَمَلُ بِفَتْوَاهُ، وَيَذْهَبُ رُكُونُ النَّفْسِ إِلَى مَا يَقُولُهُ مِنَ الْعُلُومِ، وَذَلِكَ لِانْطِلَاقِ الْأَلْسِنَةِ فِيهِ الْمُقْتَضِي عَادَةً قِلَّةَ الْوُثُوقِ مِمَّنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَهَذِهِ مَفَاسِدُ ظَاهِرَةٌ يَنْبَغِي اجْتِنَابُ أَفْرَادِهَا، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ- وَكَانَ مُحِقًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ- لَمْ يُظْهِرْهُ خَشْيَةً مِنْ حُصُولِ الضَّرَرِ الْمَذْكُورِ، فَإِنْ ظَهَرَ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ، أَوْ أَظْهَرَهُ قَصْدًا لِيُعْلَمَ جَوَازُهُ مَثَلًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: هَذَا الَّذِي فَعَلْتُهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَإِنَّمَا فَعَلْتُهُ لِتَعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ إِذَا كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلْتُهُ، وَهُوَ كَذَا وَكَذَا وَكَذَا، وَدَلِيلُهُ كَذَا وَكَذَا، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ عَنْ «سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: قَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ عُمِلَ وَوُضِعَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، كَبَّرَ وَقَامَ النَّاسُ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَرَكَعَ النَّاسُ خَلْفَهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى فَسَجَدَ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى حَتَّى سَجَدَ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي» وَلِحَدِيثِ صَفِيَّةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا، فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ لِأَنْقَلِبَ، فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي، وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَسْرَعَا، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّهَا بِنْتُ حُيَيٍّ، فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا».

وَلِمَا وَرَدَ «أَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- شَرِبَ قَائِمًا، وَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ».

قَالَ ابْنُ عَلاَّنَ: فَعَلَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- لِتَبْلِيغِ شَرْعِهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَأَنَّ فِعْلَهُ- صلى الله عليه وسلم- لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَأَنَّ نَهْيَهُ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيمِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهَةِ وَالتَّنْزِيهِ.

مَنْعُ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلْوَعْظِ مِنَ الْوَعْظِ:

6- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَصَدَّى لِلْوَعْظِ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، أَوْ كَانَ يَكْذِبُ، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ اغْتِرَارُ النَّاسِ بِهِ فِي تَأْوِيلٍ أَوْ تَحْرِيفٍ.

أَمَّا الْمُبْتَدِعُ فَلَا يَجُوزُ حُضُورُ مَجْلِسِهِ إِلاَّ عَلَى قَصْدِ إِظْهَارِ الرَّدِّ عَلَيْهِ، إِمَّا لِلْكَافَّةِ إِنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ لِبَعْضِ الْحَاضِرِينَ حَوَالَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْجُلُوسُ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}.

الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمَوْعُوظُ

7- مِنْ آدَابِ الْمَوْعُوظِ مَا يَلِي:

أ- مِنْ آدَابِ الْمَوْعُوظِينَ وَالْمُسْتَمِعِينَ لِلْوَعْظِ أَنْ يُنْصِتُوا لِلْوَاعِظِ وَأَنْ لَا يَتَكَلَّمُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُنْصِتُوا فَلِلْوَاعِظِ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ الْحَاضِرِينَ الِاسْتِمَاعَ إِلَى وَعْظِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِتَيْسِيرِ وُصُولِ الْوَعْظِ إِلَيْهِمْ، لِحَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: اسْتَنْصِتِ النَّاسَ.فَقَالَ: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» قَالَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ: إِنَّ الْإِنْصَاتَ لِلْعُلَمَاءِ لَازِمٌ لِلْمُتَعَلِّمِينَ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَكَانِتُ الْخُطْبَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَالْجَمْعُ كَثِيرٌ جِدًّا، وَكَانَ اجْتِمَاعُهُمْ لِرَمْيِ الْجِمَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْحَجِّ، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ- صلى الله عليه وسلم-: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» فَلَمَّا خَطَبَهُمْ لِيُعَلِّمَهُمْ نَاسَبَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْإِنْصَاتِ.

وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ: أَوَّلُ الْعِلْمِ الِاسْتِمَاعُ، ثُمَّ الْإِنْصَاتُ، ثُمَّ الْحِفْظُ، ثُمَّ الْعَمَلُ، ثُمَّ النَّشْرُ.

ب- وَمِنْ آدَابِ الْمَوْعُوظِينَ وَالْمُسْتَمِعِينَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا الْوَاعِظَ.

ج- وَمِنْ آدَابِهِمْ أَنْ لَا يَلْعَبُوا وَلَا يَلْغَطُوا أَثْنَاءَ الْوَعْظِ.

د- مِنْ آدَابِهِمْ أَلاَّ يُكْثِرُوا السُّؤَالَ مِنَ الْوَاعِظِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ، بَلْ إِذَا عَرَضَ خَاطِرٌ فَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْأَلَةِ تَعَلُّقًا قَوِيًّا أَوْ كَانَ دَقِيقًا لَا يَتَحَمَّلُهُ فَهْمُ الْعَامَّةِ فَلْيَسْكُتِ الْمَوْعُوظُ عَنْهُ فِي الْمَجْلِسِ الْحَاضِرِ، فَإِنْ شَاءَ سَأَلَهُ فِي الْخَلْوَةِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ قَوِيٌّ كَتَفْصِيلِ إِجَمَالٍ، وَشَرْحِ غَرِيبٍ فَلْيَنْتَظِرْ حَتَّى يَنْقَضِيَ كَلَامُهُ.

الرُّكْنُ الثَّالِثُ: أُسْلُوبُ الْوَعْظِ وَمَنْهَجُهُ:

يُرَاعَى فِي أُسْلُوبِ الْوَعْظِ مَا يَلِي:

أَوَّلًا: اسْتِعْمَالُ الْأَلْفَاظِ الظَّاهِرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُرَادِ:

8- يَنْبَغِي لِلْوَاعِظِ أَنْ يُوَضِّحَ الْكَلَامَ بِاسْتِعْمَالِ الْأَلْفَاظِ الظَّاهِرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُرَادِ، وَاجْتِنَابِ الْغَرِيبِ مِنَ الْكَلِمَاتِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَوْعُوظِ، وَعَدَمِ إِخْفَاءِ شَيْءٍ مِنْ حُرُوفِ الْكَلِمَاتِ حَتَّى يَسْهُلَ عَلَى الْمَوْعُوظِ فَهْمُهُ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَلَامًا فَصْلًا يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ» لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُخَاطِبُ كُلًّا بِقَدْرِ فَهْمِهِ وَعَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ.

قَالَ ابْنُ عَلاَّنَ نَقْلًا عَنِ السَّخَاوِيِّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ: «كَلَامًا فَصْلًا» أَيْ مَفْصُولًا بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ لِبَيَانِهِ وَوُضُوحِهِ مَعَ اخْتِصَارِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يَلْتَبِسُ مَعْنَاهُ بِمَعْنَى غَيْرِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: فَاصِلًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَوْ مَفْصُولًا عَنِ الْبَاطِلِ وَمَصُونًا عَنْهُ، فَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ بَاطِلٌ أَصْلًا، وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ.

وَقَوْلُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ يسْمَعُهُ» أَيْ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْفَهْمِ.

ثَانِيًا: تَكْرَارُ كَلِمَاتِ الْوَعْظِ:

9- يَنْبَغِي لِلْوَاعِظِ أَنْ يُكَرِّرَ الْكَلِمَاتِ إِذَا لَمْ يَفْهَمْهَا الْمَوْعُوظُ إِلاَّ بِذَلِكَ التَّكْرَارِ، أَوْ إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ لِمَزِيدِ الِاعْتِنَاءِ بِمَدْلُولِ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ، أَوْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْمُخَاطَبِينَ، فَيُعِيدُ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ سَمَاعَ الْجَمِيعِ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ- رضي الله عنه- «عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ».

قَالَ ابْنُ عَلاَّنَ: الْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ هُنَا مَا يَشْمَلُ الْجُمْلَةَ وَالْجُمَلَ مِمَّا لَا يَتَبَيَّنُ لَفْظُهُ أَوْ مَعْنَاهُ إِلاَّ بِإِعَادَتِهِ، فَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يُعِيدُهَا لِذَلِكَ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا عَرَضَ لِلسَّامِعِينَ مَا خَلَطَ عَلَيْهِمْ فَيُعِيدُهُ لَهُمْ لِيَفْهَمُوهُ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَثُرُوا لَمْ يَسْتَيْقِنْ سَمَاعَ جَمِيعِهِمْ فَيُعِيدُ لِيَسْمَعَ الْكُلُّ، ثُمَّ قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يُعِيدَ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِعَادَةِ كَيْ يُفْهَمَ عَنْهُ.

ثَالِثًا: مُرَاعَاةُ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْوَعْظِ:

10- يُرَاعَى فِي أُسْلُوبِ الْوَعْظِ أَنْ لَا يُحَدِّثَ الْوَاعِظُ النَّاسَ بِمَا لَا يَفْهَمُونَهُ مِمَّا لَا تُطِيقُ عُقُولُهُمْ قَبُولَهُ، أَوْ بِمَا يَخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَحْرِيفِهِ إِذَا أَرَادُوا نَقْلَهُ وَالتَّعْبِيرَ عَنْهُ؛ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لِغُمُوضِهِ وَدِقَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَّسِعُ لَهُ عَقْلُ الْمُخَاطَبِ، كَمَا لَا يُحَدِّثُهُمْ بِمَا يَخَافُ حَمْلُهُ عَلَى خِلَافِ الْمُرَادِ الْمُتَبَادَرِ مِنْهُ إِلَى الذِّهْنِ، فَيُنْهَى الْعَالِمُ وَالْوَاعِظُ وَالْقَاصُّ عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْحَالِ؛ لِئَلاَّ يَحْمِلَهُ الْمُخَاطَبُ عَلَى خِلَافِ الْمُرَادِ.

لِمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ، وَاتْرُكُوا مَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ فَهْمُهُ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي فَتْحِ الْبَارِي: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَ الْعَامَّةِ.

وَلِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً.

رَابِعًا: الِاقْتِصَادُ فِي الْوَعْظِ:

11- يُرَاعَى فِي الْوَعْظِ أَنْ يَكُونَ مُقْتَصِدًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْبَسْطِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِمْلَالِ وَالسَّآمَةِ وَبَيْنَ الْإِيجَازِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِخْلَالِ أَوْ عُسْرِ الْفَهْمِ لِلْمَقَالِ، لِأَنَّ خَيْرَ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا، وَأَحْسَنُ الْمَوَاعِظِ مَا كَانَ جَزْلًا جَامِعًا بَلِيغًا نَافِعًا، وَلِأَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ مَا قَلَّ وَدَلَّ، لِمَا رَوَى عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ».

قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْفَقِيهَ يَعْلَمُ أَنَّ الصَّلَاةَ مَقْصُودَةٌ بِالذَّاتِ وَالْخُطْبَةَ تَوْطِئَةٌ لَهَا، فَيَصْرِفُ الْعِنَايَةَ إِلَى مَا هُوَ الْأَهَمُّ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عُبُودِيَّةُ الْعَبْدِ، وَالْإِطَالَةُ فِيهَا مُبَالَغَةٌ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَالْخُطْبَةُ الْمُرَادُ مِنْهَا التَّذْكِيرُ، وَمَا قَلَّ وَقَرَّ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَفَرَّ.

12- وَذَهَبَ الْعُلَمَاءُ إِلَى اسْتِحْبَابِ تَعَهُّدِ النَّاسِ بِالْوَعْظِ وَمُرَاعَاةِ الْأَوْقَاتِ فِي وَعْظِهِمْ، وَيَتَحَرَّى مِنَ الْأَوْقَاتِ مَا كَانَ مَظِنَّةَ الْقَبُولِ، وَلَا يَعِظُ النَّاسَ كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى لَا يَسْأَمُوا مِنْ سَمَاعِ الْمَوْعِظَةِ.

وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ الْحَاجَةُ مَعَ مُرَاعَاةِ وُجُودِ النَّشَاطِ مِنَ النَّاسِ، لِأَنَّ الْمَوَاعِظَ إِذَا كَثُرَتْ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي الْقُلُوبِ فَتَسْقُطُ بِالْإِكْثَارِ فَائِدَةُ الْمَوَاعِظِ.

وَذَهَبَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا إِلَى اسْتِحْبَابِ أَنْ يَجْعَلَ الْوَاعِظُ لِوَعْظِهِ وَقْتًا مُحَدَّدًا كَيَوْمِ الْخَمِيسِ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا».

وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.

خَامِسًا: التَّعَرُّفُ عَلَى الْمُنْكَرِ وَكَيْفِيَّةُ وَعْظِ مُرْتَكِبِهِ:

13- عَلَى الْوَاعِظِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْمُنْكَرِ الَّذِي يَنْهَى عَنْهُ، وَعَارِفًا بِحَالِ الْمَوْعُوظِ، مِنْ كَوْنِهِ قَدِ ارْتَكَبَهُ عَنْ جَهْلٍ أَوْ عَنْ عِلْمٍ، وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى دَرَجَاتٍ فِي وَعْظِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ:

فَالنَّهْيُ بِالْوَعْظِ وَالنُّصْحِ وَالتَّخْوِيفِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَذَلِكَ فِيمَنْ يُقْدِمُ عَلَى الْأَمْرِ، وَهُوَ عَالِمٌ بِكَوْنِهِ مُنْكَرًا، أَوْ فِيمَنْ أَصَرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ عَرَفَ كَوْنَهُ مُنْكَرًا، كَالَّذِي يُوَاظِبُ عَلَى الشَّرَابِ، أَوْ عَلَى الظُّلْمِ أَوْ عَلَى اغْتِيَابِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُوعَظَ، وَيُخَوَّفَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَتُورَدَ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ بِالْوَعِيدِ فِي ذَلِكَ، وَتُحْكَى لَهُ سِيرَةُ السَّلَفِ وَعِبَادَةُ الْمُتَّقِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِشَفَقَةٍ وَلُطْفٍ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ وَغَضَبٍ؛ بَلْ يَنْظُرُ إِلَيْهِ نَظَرَ الْمُتَرَحِّمِ عَلَيْهِ، وَيَرَى إِقْدَامَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مُصِيبَةً عَلَى نَفْسِهِ، إِذِ الْمُسْلِمُونَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ.

وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَعْظُ وَالنُّصْحُ فِي سِرٍّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَمَا كَانَ عَلَى الْمَلأَِ فَهُوَ تَوْبِيخٌ وَفَضِيحَةٌ، وَمَا كَانَ فِي السِّرِّ فَهُوَ شَفَقَةٌ وَنَصِيحَةٌ.

فَعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ- رضي الله عنها- قَالَتْ: مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ زَانَهُ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَانِيَةً فَقَدْ شَانَهُ.

قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْكِيلَانِيُّ: وَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُ وَيَنْهَاهُ فِي خَلْوَةٍ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ وَأَمْكَنَ فِي الْمَوْعِظَةِ وَالزَّجْرِ وَالنَّصِيحَةِ لَهُ، وَأَقْرَبَ إِلَى الْقَبُولِ وَالْإِقْلَاعِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْفَعْهُ أَظْهَرَ- حِينَئِذٍ- ذَلِكَ، وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِأَهْلِ الْخَيْرِ، وَإِنْ لَمْ يَنْفَعْ فَبِأَصْحَابِ السُّلْطَانِ.

14- وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: وَمِنْ دَرَجَاتِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ التَّعْنِيفُ بِالْقَوْلِ الْغَلِيظِ الْخَشِنِ، وَذَلِكَ يُعْدَلُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَنْعِ بِاللُّطْفِ وَظُهُورِ مَبَادِئِ الْإِصْرَارِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالْوَعْظِ وَالنُّصْحِ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.

ثُمَّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الْآمِرِ النَّاهِي مِنْ تَغْلِيظِ الْقَوْلِ وَتَخْشِينِهِ رُجُوعَ الْمَأْمُورِ عَنْ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ لَا الِانْتِصَارَ لِنَفْسِهِ.

سَادِسًا: مَا يَنْبَغِي اسْتِخْدَامُهُ فِي الْوَعْظِ مِنْ آيَاتٍ وَأَحَادِيثَ وَقِصَصٍ:

15- قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَالَّذِي يَنْبَغِي لِلْآمِرِ النَّاهِي بِالْوَعْظِ، وَحَمْلِ النَّاسِ عَلَى تَرْكِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يَذْكُرَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْآيَاتِ الْمُخَوِّفَةِ لِلْعَاصِينَ وَالْمُذْنِبِينَ، وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وَغَيْرِهِمْ.

الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ حِكَايَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالسَّلَفِ وَمَا جَرَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَصَائِبِ.

الثَّالِثُ: أَنْ يُقَرِّرَ أَنَّ تَعْجِيلَ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا مُتَوَقَّعٌ عَلَى الذَّنْبِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يُصِيبُ الْعَبْدَ مِنَ الْمَصَائِبِ فَهُوَ بِسَبَبِ جِنَايَاتِهِ، فَكَمْ مِنْ عَبْدٍ يَتَسَاهَلُ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ وَيَخَافُ مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا أَكْثَرَ لِفَرْطِ جَهْلِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَوَّفَ بِهِ، فَإِنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا يُتَعَجَّلُ شُؤْمُهَا فِي الدُّنْيَا، فَفِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ مَرْفُوعًا: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِسَبَبِ الذَّنْبِ يُصِيبُهُ...».

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنِّي لأَحْسَبُ أَنَّ الْعَبْدَ يَنْسَى الْعَمَلَ بِذَنْبٍ يُصِيبُهُ.

الرَّابِعُ: مِنْ صِفَةِ الْوَعْظِ أَنْ يَذْكُرَ مَا وَقَعَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى آحَادِ الذُّنُوبِ فِي مَحَلِّهِ كَالْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ وَالْغَيْبَةِ وَالْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ.

.الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَعْظِ:

لِلْوَعْظِ أَحْكَامٌ ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي مُخْتَلِفِ الْأَبْوَابِ الْفِقْهِيَّةِ مِنْهَا:

أ- وَعْظُ الزَّوْجَةِ:

16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا نَشَزَتْ يَقُومُ الرَّجُلُ بِوَعْظِهَا، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}.

وَاخْتَلَفُوا فِي وَعْظِهَا إِذَا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ النُّشُورِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (نُشُوز ف14).

وَالْوَعْظُ يَكُونُ بِأَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ لَهَا: كُونِي مِنَ الصَّالِحَاتِ الْقَانِتَاتِ الْحَافِظَاتِ لِلْغَيْبِ، وَلَا تَكُونِي مِنْ كَذَا وَكَذَا، وَيَذْكُرُ لَهَا مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا مِنَ الْحَقِّ وَمَا يَلْحَقُهَا مِنَ الْإِثْمِ بِالْمُخَالَفَةِ، وَمَا يُسْقِطُ بِذَلِكَ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ، وَمَا يُبَاحُ لَهُ مِنْ هَجْرِهَا وَضَرْبِهَا.

ب- وَعْظُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ:

17- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُسَنُّ تَخْوِيفُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ بِالْوَعْظِ، بِأَنْ يُقَالَ لَهُمَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي اللَّعَانِ عِنْدَ الْأُولَى وَعِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وَخُصُوصًا عِنْدَ الْخَامِسَةِ: إِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْحَلِفِ بِاللَّهِ كَاذِبًا فِيهِ الْوَبَالُ الْأُخْرَوِيُّ وَالدُّنْيَوِيُّ، وَالِاعْتِرَافُ بِالْحَقِّ فِيهِ النَّجَاةُ وَإِنْ لَزِمَهُ الْحَدُّ، لِأَنَّهُ يَكُونُ كَفَّارَةً لَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَقَدْ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِهِلَالٍ: اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ».

وَيَقْرَأُ عَلَيْهِمَا {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَيُقَالُ لَهُمَا كَمَا قَالَ- صلى الله عليه وسلم- لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا مِنْ تَائِبٍ».

وَقَالَ ابْنُ شَاسٍ: فَأَمَّا سُنَّةُ اللِّعَانِ فَأَنْ يُخَوَّفَا، فَيُقَالُ لِلزَّوْجِ: تُبْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تُجْلَدْ وَيَسْقُطْ عَنْكَ الْمَأْثَمُ، وَيُقَالُ لِلْمَرْأَةِ أَيْضًا نَحْوُ ذَلِكَ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُبَالِغُ الْقَاضِي وَمَنْ فِي حُكْمِهِ فِي وَعْظِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ نَدْبًا عِنْدَ الْخَامِسَةِ مِنْ لِعَانِهِمَا قَبْلَ شُرُوعِهِمَا فِيهَا، فَيَقُولُ لِلزَّوْجِ: اتَّقِ اللَّهَ فِي قَوْلِكِ: عَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ، فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلَّعْنٍ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، وَيَقُولُ لِلزَّوْجَةِ: اتَّقِي اللَّهَ فِي قَوْلِكِ: غَضَبُ اللَّهِ عَلَيَّ، فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلْغَضَبِ إِنْ كُنْتِ كَاذِبَةً، لَعَلَّهُمَا يَنْزَجِرَانِ أَوْ يَتْرُكَانِ، وَيَأْمُرُ رَجُلًا أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ، وَامْرَأَةً أَنَ تَضَعَ يَدَهَا عَلَى فِيهَا، لِلْأَمْرِ بِذَلِكَ فِي خَبَرِ أَبِي دَاوُدَ وَيَأْتِي الَّذِي يَضَعُ يَدَهُ مِنْ وَرَائِهِ، فَإِنْ أَبَيَا إِلاَّ إِتْمَامَ اللَّعَّانِ تَرَكَهُمَا عَلَى حَالِهِمَا وَلَقَّنَهُمَا الْخَامِسَةَ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ مَوْعِظَةُ الْإِمَامِ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ بَعْدَ الرَّابِعَةِ وَقَبْلَ الْخَامِسَةِ، فَإِذَا بَلَغَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْخَامِسَةَ أَمَرَ الْحَاكِمُ رَجُلًا فَأَمْسَكَ بِيَدِهِ فَمَ الرَّجُلِ، وَأَمَرَ امْرَأَةً تَضَعُ يَدَهَا عَلَى فَمِ الْمَرْأَةِ، ثُمَّ يَعِظُهُ فَيَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّهَا الْمُوجِبَةُ، وَعَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- فِي قِصَّةِ هِلَالٍ قَالَ: «فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأَمْسَكَ عَلَى فِيهِ فَوَعَظَهُ، وَقَالَ: وَيْحَكَ كُلُّ شَيْءٍ أَهْوَنُ عَلَيْكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ ثُمَّ أَرْسَلَهُ، فَقَالَ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ.ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَأَمْسَكَ عَلَى فِيهَا فَوَعَظَهَا، وَقَالَ: وَيْحَكِ كُلُّ شَيْءٍ أَهْوَنُ عَلَيْكِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ».

ج- الْوَعْظُ قَبْلَ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ:

18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَرَادَ صَلَاةَ الِاسْتِسْقَاءِ يُسْتَحَبُّ لَهُ وَعْظُ النَّاسِ وَتَذْكِيرُهُمْ بِالْخَيْرِ، وَأَمْرُهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعَاصِي وَبِالْخُرُوجِ مِنَ الْمَظَالِمِ، وَبِأَدَاءِ الْحُقُوقِ إِلَى أَصْحَابِهَا.

انْظُرْ مُصْطَلَحَ (اسْتِسْقَاء ف9 وَمَا بَعْدَهَا).

د- الْوَعْظُ بَعْدَ صَلَاةِ الْكُسُوفِ:

19- صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ الْوَعْظُ بَعْدَ صَلَاةِ الْكُسُوفِ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: يَسْتَقْبِلُ الْإِمَامُ النَّاسَ بَعْدَ سَلَامِهِ، فَيُذَكِّرُهُمْ وَيُخَوِّفُهُمْ وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَدْعُوا اللَّهَ وَيُكَبِّرُوا وَيَتَصَدَّقُوا.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَا خُطْبَةَ لِصَلَاةِ الْكُسُوفِ.

وَنَصُّ الْحَنَفِيَّةِ: عَلَى أَنَّهُ يَدْعُو الْإِمَامُ بَعْدَ الصَّلَاةِ جَالِسًا مُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةِ إِنْ شَاءَ، أَوْ يَدْعُو قَائِمًا مُسْتَقْبَلَ النَّاسِ، وَإِذَا دَعَا يُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ ذِكْرُ اللَّهِ وَالدُّعَاءُ وَالتَّكْبِيرُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَالصَّدَقَةُ وَالْعِتْقُ وَالتَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا اسْتَطَاعَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ أَنْ يَخْطُبَ لِصَلَاةِ الْكُسُوفِ خُطْبَتَيْنِ بَعْدَ الصَّلَاةِ كَخُطْبَتَيِ الْجُمُعَةِ فِي الْأَرْكَانِ.

(ر: صَلَاةُ الْكُسُوفِ ف7)

هـ- وَعْظُ السُّلْطَانِ:

20- لَا خِلَافَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ وَعْظِ السُّلْطَانِ وَأَمْرِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِ عَنِ الْمُنْكَرِ إِذَا كَانَ عَادِلًا.

وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ وَعْظِ السُّلْطَانِ إِذَا كَانَ جَائِرًا.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى جَوَازِ وَعْظِ السُّلْطَانِ بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ.

وَأَمَّا تَخْشِينُ الْقَوْلِ: فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى أَنَّ تَخْشِينَ الْقَوْلِ لَهُ كَقَوْلِهِ: يَا ظَالِمُ، يَا مَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَذَلِكَ إِنْ كَانَ يُحَرِّكُ فِتْنَةً يَتَعَدَّى شَرُّهَا إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ.أَمَّا إِنْ كَانَ هَذَا الشَّرُّ لَا يَعُودُ إِلاَّ عَلَى الْوَاعِظِ فَهُوَ جَائِزٌ وَمَنْدُوبٌ إِلَيْهِ.وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ».

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ وَعْظِ السُّلْطَانِ وَتَخْوِيفِهِ وَتَحْذِيرِهِ مِنَ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

قَالَ أَبُو عُمَرَ فِي قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» أَوْجَبُ مَا يَكُونُ هَذَا عَلَى مَنْ وَاكَلَهُمْ وَجَالَسَهُمْ وَكُلُّ مَنْ أَمْكَنُهُ نُصْحُ السُّلْطَانِ لَزِمَهُ ذَلِكَ، قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ إِذَا رَجَا أَنْ يَسْمَعَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ: إِنَّ تَرْكَ الْإِنْكَارِ عَلَى السُّلْطَانِ الْجَائِزِ أَفْضَلُ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا يَتَعَرَّضُ لِلسُّلْطَانِ؛ فَإِنَّ سَيْفَهُ مَسْلُولٌ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِذَا قُلْنَا بِالْإِنْكَارِ عَلَى السُّلْطَانِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ بِالتَّعْرِيفِ وَالْوَعْظِ بِالْكَلَامِ اللَّطِيفِ، وَيَذْكُرُ لَهُ الْعَاقِبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَيَجِبُ ذَلِكَ لقوله تعالى خِطَابًا لِنَبِيِّهِ مُوسَى وَهَارُونَ حِينَ أَرْسَلَهُمَا إِلَى عَدُوِّهِ فِرْعَوْنَ: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا}.أَيْ كَنِّيَاهُ، وَقِيلَ: الْقَوْلُ اللَّيِّنُ هُوَ الَّذِي لَا خُشُونَةَ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ مُوسَى أُمِرَ أَنْ يَقُولَ لِفِرْعَوْنَ قَوْلًا لَيِّنًا فَمَنْ دُونَهُ أَحْرَى بِأَنْ يَقْتَدِيَ بِذَلِكَ فِي خِطَابِهِ وَأَمْرِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَكَلَامِهِ.

و- وَعَظُ الْبُغَاةِ:

21- إِذَا بَعَثَ الْإِمَامُ إِلَى الْبُغَاةِ مَنْ يَسْأَلُهُمْ وَيَكْشِفُ لَهُمُ الصَّوَابَ فَأَبَوُا الرُّجُوعَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ وَعْظِهِمْ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ وَعْظِ الْبُغَاةِ وَتَخْوِيفِهِمُ الْقِتَالَ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ كَفُّهُمْ وَدَفْعُ شَرِّهِمْ لَا قَتْلُهُمْ، فَإِذَا أَمْكَنَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ كَانَ أَوْلَى مِنَ الْقِتَالِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ بِالْفَرِيقَيْنِ، فَإِنْ فَاءُوا وَإِلاَّ قَاتَلَهُمْ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَدْلِ إِذَا لَقُوا أَهْلَ الْبَغْيِ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْعَدْلِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ بَعَثَ ابْنَ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- إِلَى أَهْلِ حَرُورَا حَتَّى نَاظَرَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ رُبَّمَا يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ بِالْوَعْظِ وَالْإِنْذَارِ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَدَّمَ ذَلِكَ عَلَى الْقِتَالِ، لِأَنَّ الْكَيَّ آخِرُ الدَّوَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا مَا يُقَاتَلُونَ عَلَيْهِ فَحَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَحَالِ الْمُرْتَدِّينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ اسْتِحْبَابَ وَعْظِهِمْ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا، وَتَحْسِينَ اتِّحَادِ كَلِمَةِ الدِّينِ لَهُمْ وَعَدَمَ شَمَاتَةِ الْكَافِرِينَ.

(ر: بُغَاة ف10).

التَّكَسُّبُ بِالْوَعْظِ:

22- لَا يَحِلُّ لِلْوَاعِظِ سُؤَالُ النَّاسِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ فِي مَجْلِسِ الْوَعْظِ، لِأَنَّهُ اكْتِسَابُ الدُّنْيَا بِالْعِلْمِ.وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

حُضُورُ النِّسَاءِ مَجَالِسَ الْوَعْظِ:

23- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ حُضُورِ النِّسَاءِ مَجَالِسَ الْوَعْظِ إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ شَابَّةً وَذَلِكَ لِخَشْيَةِ الْفِتْنَةِ.

أَمَّا الْعَجَائِزُ فَلَهُنَّ حُضُورُ مَجَالِسِ الْوَعْظِ وَذَلِكَ لِأَمْنِ الْفِتْنَةِ فَعَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- تَقُولُ: لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: فَقُلْتُ لِعَمْرَةَ: أَنِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُنِعْنَ الْمَسْجِدَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ.

H

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


115-موسوعة الفقه الكويتية (وقف 9)

وَقْفٌ -9

النَّظَرُ عَلَى الْوَقْفِ:

98- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُتَّبَعُ شَرْطُ الْوَاقِفِ فِي النَّظَرِ عَلَى الْوَقْفِ، فَإِذَا جَعَلَ النَّظَرَ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ اتُّبِعَ شَرْطُهُ، لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- جَعَلَ وَقْفَهُ إِلَى ابْنَتِهِ حَفْصَةَ تَلِيهِ مَا عَاشَتْ، ثُمَّ إِلَى ذَوِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلِأَنَّ مَصْرِفَ الْوَقْفِ يُتَبَّعُ فِيهِ شَرْطُ الْوَاقِفِ فَكَذَلِكَ النَّاظِرُ فِيهِ.

لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ ذَلِكَ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَحُزِ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الْوَقْفَ، فَإِنْ مَاتَ الْوَاقِفُ، أَوْ مَرِضَ، أَوْ فَلِسَ بَطَلَ الْوَقْفُ.

أَمَّا إِذَا حَازَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الْوَقْفَ، وَشَرَطَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ فَيَصِحُّ الْوَقْفُ، وَأُجْبِرَ الْوَاقِفُ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ النَّظَرَ لِغَيْرِهِ إِذْ لَا يَجُوزُ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَجْعَلَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ.

وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ نَاظِرًا عَلَى الْوَقْفِ بِأَنْ أَغْفَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ.

فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاجِدِ فَالْحَاكِمُ يُوَلِّي عَلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يُمْكِنُهُ تَوَلِّي النَّظَرِ بِنَفْسِهِ.

وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مُعَيَّنٍ رَشِيدٍ فَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَ الْوَقْفِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لِأَنَّهُ مَلَكَهُ وَنَفْعُهُ لَهُ، فَكَانَ نَظَرُهُ إِلَيْهِ كَمِلْكِهِ الْمُطْلَقِ.

وَإِنْ كَانَ غَيْرَ رَشِيدٍ فَوَلِيُّهُ يَتَوَلَّى أَمْرَ الْوَقْفِ، وَفِي احْتِمَالٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- كَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ- أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ الْحَاكِمُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ أَبِي مُوسَى.

وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْحَنَفِيَّةِ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهِلَالٍ- وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ- تَكُونُ الْوِلَايَةُ لِلْوَاقِفِ، ثُمَّ لِوَصِيِّهِ إِنْ كَانَ وَإِلاَّ فَلِلْحَاكِمِ، لِأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ إِنَّمَا يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ جِهَةِ الْوَاقِفِ بِشَرْطِهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْوِلَايَةُ وَغَيْرُهُ يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَى هَذَا الْوَقْفِ فَيَكُونُ أَوْلَى بِوِلَايَتِهِ.

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تَكُونُ الْوِلَايَةُ لِلْوَاقِفِ مَا دَامَ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ التَّسْلِيمَ إِلَى الْقَيِّمِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ، فَإِذَا سَلَّمَ لَمْ يَبْقَ لَهُ وِلَايَةٌ فِيهِ.

وَإِنْ مَاتَ الْوَاقِفُ وَلَمْ يَجْعَلْ وِلَايَتَهُ لِأَحَدٍ جَعَلَ الْقَاضِي لَهُ قَيِّمًا وَلَا يَجْعَلْهُ مِنَ الْأَجَانِبِ مَا دَامَ يَجِدُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ الْوَاقِفِ مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ، إِمَّا لِأَنَّهُ أَشْفَقُ، أَوْ لِأَنَّهُ مَنْ قَصَدَ الْوَاقِفُ نِسْبَةَ الْوَقْفِ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَمِنَ الْأَجَانِبِ مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ النِّظَارَةَ لِأَحَدٍ فَالنَّظَرُ لِلْقَاضِي عَلَى الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ لَهُ النَّظَرَ الْعَامَّ فَكَانَ أَوْلَى بِالنَّظَرِ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْوَقْفِ لِلَّهِ تَعَالَى.

الرَّأْيُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ النَّظَرَ إِلَى الْوَاقِفِ، لِأَنَّهُ كَانَ النَّظَرُ إِلَيْهِ فَإِذَا لَمْ يَشْرُطْهُ بَقِيَ عَلَى نَظَرِهِ.

وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْغَلَّةَ لَهُ فَكَانَ النَّظَرُ إِلَيْهِ.

مَا يُشْتَرَطُ فِي نَاظِرِ الْوَقْفِ:

اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِصَلَاحِيَّةِ النَّاظِرِ عَلَى الْوَقْفِ شُرُوطًا عِدَّةً، مِنْهَا مَا هُوَ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَهُمْ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: التَّكْلِيفُ:

99- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي النَّاظِرِ عَلَى الْوَقْفِ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا، فَلَا يَصِحُّ تَوْلِيَةُ الصَّبِيِّ وَلَا الْمَجْنُونِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِمَا وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.

وَلِلْفُقَهَاءِ بَعْضُ التَّفْصِيلِ:

فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ نَاظِرًا مُعَيَّنًا، وَكَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو، فَإِنَّهُ يَلِي أَمْرَ الْوَقْفِ بِنَفْسِهِ وَيَكُونُ نَاظِرًا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا فَإِنَّ وَلِيَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي النَّظَرِ.

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُتَّبَعُ شَرْطُ الْوَاقِفِ فِي تَخْصِيصِ نَاظِرٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ لَمْ يَجْعَلِ الْوَاقِفُ نَاظِرًا فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحِقُّ مُعَيَّنًا رَشِيدًا فَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَ الْوَقْفِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ رَشِيدٍ فَوَلِيُّهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحِقُّ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَالْفُقَرَاءِ فَالْحَاكِمُ يُوَلِّي عَلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِي الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ آدَمِيًّا مُعَيَّنًا أَوْ جَمْعًا مَحْصُورًا كَأَوْلَادِهِ أَوْ أَوْلَادِ زَيْدٍ، وَيَنْظُرُ فِيهِ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مُكَلَّفًا رَشِيدًا، أَوْ يَنْظُرُ فِيهِ وَلِيُّهُ إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ سَفِيهًا.وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: يَنْظُرُ فِيهِ الْحَاكِمُ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْإِسْعَافِ قَوْلَهُ: وَلَوْ أَوْصَى إِلَى صَبِيٍّ تَبْطُلُ فِي الْقِيَاسِ مُطْلَقًا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هِيَ بَاطِلَةٌ مَا دَامَ صَغِيرًا فَإِذَا كَبُرَ تَكُونُ الْوِلَايَةُ لَهُ، وَحُكْمُ مَنْ لَمْ يُخْلَقْ مِنْ وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ فِي الْوِلَايَةِ كَحُكْمِ الصَّغِيرِ قِيَاسًا.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَفِي فَتَاوَى الْعَلاَّمَةِ الشَّلَبِيِّ: وَأَمَّا الْإِسْنَادُ لِلصَّغِيرِ فَلَا يَصِحُّ بِحَالٍ لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ بِالنَّظَرِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ الْمُشَارَكَةِ لِغَيْرِهِ، لِأَنَّ النَّظَرَ عَلَى الْوَقْفِ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ، وَالصَّغِيرُ يُوَلَّى عَلَيْهِ لِقُصُورِهِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوَلَّى عَلَى غَيْرِهِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: رَأَيْتُ فِي أَحْكَامِ الصِّغَارِ لِلْإِسْتُرُوشِنِيِّ عَنْ فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ قَالَ: الْقَاضِي إِذَا فَوَّضَ التَّوْلِيَةَ إِلَى صَبِيٍّ يَجُوزُ إِذَا كَانَ أَهْلًا لِلْحِفْظِ، وَتَكُونُ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ، كَمَا أَنَّ الْقَاضِيَ يَمْلِكُ إِذْنَ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ لَا يَأْذَنُ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَعَلَيْهِ فَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بِحَمْلِ مَا فِي الْإِسْعَافِ وَغَيْرِهِ عَلَى غَيْرِ الْأَهْلِ لِلْحِفْظِ بِأَنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ، أَمَّا الْقَادِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ فَتَكُونُ تَوْلِيَتُهُ مِنَ الْقَاضِي إِذْنًا لَهُ فِي التَّصَرُّفِ، وَلِلْقَاضِي أَنْ يَأَذَنَ لِلصَّغِيرِ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَلِيُّهُ.

وَكَمَا أَنَّ الْجُنُونَ يَمْنَعُ التَّوْلِيَةَ ابْتِدَاءً فَإِنَّهُ يَمْنَعُهَا بَقَاءً، فَلَوْ كَانَ نَاظِرًا ثُمَّ جُنَّ فَإِنَّهُ يُعْزَلُ عَنِ النِّظَارَةِ.لَكِنْ لَوْ عَادَ إِلَيْهِ عَقْلُهُ وَبَرِئَ مِنْ عِلَّتِهِ هَلْ يَعُودُ نَاظِرًا؟ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَتْحِ: أَنَّ النَّاظِرَ يَنْعَزِلُ بِالْجُنُونِ الْمُطْبِقِ سَنَةً لَا أَقَلَّ، وَلَوْ بَرِئَ عَادَ إِلَيْهِ النَّظَرُ، قَالَ فِي النَّهْرِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا فِي الْمَشْرُوطِ لَهُ النَّظَرُ، أَمَّا مَنْصُوبُ الْقَاضِي فَلَا.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ بِالْجُنُونِ تَنْسَلِبُ الْوِلَايَاتُ قَالَ الشَّبْرَامَلْسِيُّ: لَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ تَعُودُ إِلَيْهِ وِلَايَةُ النِّظَارَةِ بِنَفْسِ الْإِفَاقَةِ مِنْ غَيْرِ تَوْلِيَةٍ جَدِيدَةٍ إِذَا كَانَ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: الْعَدَالَةُ:

100- يُشْتَرَطُ فِي نَاظِرِ الْوَقْفِ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا.

وَلِلْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الشَّرْطِ تَفْصِيلٌ:

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ الْعَدَالَةِ شَرْطَ صِحَّةٍ أَوْ شَرْطَ أَوْلَوِيَّةٍ عَلَى رَأْيَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ صِحَّةِ الْوَقْفِ.فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْإِسْعَافِ: وَلَا يُوَلَّى إِلاَّ أَمِينٌ قَادِرٌ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ، لِأَنَّ الْوِلَايَةَ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ وَلَيْسَ مِنَ النَّظَرِ تَوْلِيَةُ الْخَائِنِ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ.

وَالرَّأْيُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ أَوْلَوِيَّةٍ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ أَوْلَوِيَّةٍ لَا شَرْطُ صِحَّةٍ، وَأَنَّ النَّاظِرَ إِذَا فُسِّقَ اسْتَحَقَّ الْعَزْلَ وَلَا يَنْعَزِلُ، كَالْقَاضِي إِذَا فُسِّقَ لَا يَنْعَزِلُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُفْتَى بِهِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تُعْتَبَرُ الْعَدَالَةُ شَرْطًا إِذَا كَانَ النَّاظِرُ مَنْصُوبًا مِنْ قِبَلِ الْقَاضِي أَوْ مِنْ قِبَلِ الْوَاقِفِ.فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَطَّابِ: النَّظَرُ فِي الْحَبْسِ لِمَنْ جَعَلَهُ إِلَيْهِ مُحَبِّسُهُ يَجْعَلُهُ لِمَنْ يَثِقُ فِي دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ، فَإِنْ غَفَلَ الْمُحَبِّسُ عَنْ ذَلِكَ كَانَ النَّظَرُ فِيهِ لِلْحَاكِمِ يُقَدِّمُ لَهُ مَنْ يَرْتَضِيهِ..وَالنَّاظِرُ عَلَى الْحَبْسِ إِذَا كَانَ سَيِّئَ النَّظَرِ غَيْرَ مَأْمُونٍ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَعْزِلُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمُحَبَّسُ عَلَيْهِ مَالِكًا أَمْرَ نَفْسِهِ وَيَرْضَى بِهِ وَيَسْتَمِرُّ، وَذَكَرَ الْبَدْرُ الْقَرَافِيُّ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَعْزِلُ نَاظِرًا إِلاَّ بِجُنْحَةٍ، وَلِلْوَاقِفِ عَزْلُهُ وَلَوْ بِغَيْرِ جُنْحَةٍ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ فِي مَنْصُوبِ الْحَاكِمِ، قَالَ السُّبْكِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى فِي مَنْصُوبِ الْوَاقِفِ بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ.

وَقَالَ الْأَذْرُعِيُّ: تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ فِي مَنْصُوبِ الْوَاقِفِ أَيْضًا، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ.

وَإِذَا فُسِّقَ النَّاظِرُ انْعَزَلَ وَمَتَى انْعَزَلَ بِالْفِسْقِ فَالنَّظَرُ لِلْحَاكِمِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ فُسِّقَ النَّاظِرُ ثُمَّ صَارَ عَدْلًا فَإِنْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ مَشْرُوطَةً فِي أَصْلِ الْوَقْفِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ عَادَتْ وِلَايَتُهُ وَإِلاَّ فَلَا، أَفْتَى بِذَلِكَ النَّوَوِيُّ وَوَافَقَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُ.قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرٌ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ النَّظَرُ لِغَيْرِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَكَانَتْ تَوْلِيَةُ النَّاظِرِ مِنَ الْحَاكِمِ بِأَنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، أَوْ وَلَّى الْحَاكِمُ نَاظِرًا مِنْ غَيْرِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ، أَوْ كَانَ النَّظَرُ لِبَعْضِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ مِنْ حَاكِمٍ بِأَنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَوَلَّى الْحَاكِمُ مِنْهُمْ نَاظِرًا عَلَيْهِ، أَوْ كَانَتِ التَّوْلِيَةُ مِنْ نَاظِرٍ أَصْلِيٍّ فَلَا بُدَّ مِنْ شَرْطِ الْعَدَالَةِ فِيهِ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ عَلَى مَالٍ فَاشْتُرِطَ لَهَا الْعَدَالَةُ كَالْوِلَايَةِ عَلَى مَالِ الْيَتِيمِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا لَمْ تَصِحَّ وِلَايَتُهُ وَأُزِيلَتْ يَدُهُ عَنِ الْوَقْفِ حِفْظًا لَهُ، فَإِنْ عَادَ إِلَى أَهْلِيَّتِهِ عَادَ حَقُّهُ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِينًا لَمْ تَصِحَّ وَأُزِيلَتْ يَدُهُ، وَإِنْ كَانَ النَّاظِرُ مَشْرُوطًا مِنْ قِبَلِ الْوَاقِفِ فَلَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ وَيُضَمُّ إِلَى الْفَاسِقِ عَدْلٌ، ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَالسَّامِرِيُّ وَغَيْرُهُمَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْعَمَلِ بِالشَّرْطِ وَحِفْظِ الْوَقْفِ، وَلَا تُزَالُ يَدُهُ إِلاَّ أَنْ لَا يُمْكِنَ حِفْظُهُ مِنْهُ فَتُزَالُ وِلَايَتُهُ، لِأَنَّ مُرَاعَاةَ حِفْظِ الْوَقْفِ أَهَمُّ مِنْ إِبْقَاءِ وِلَايَةٍ لِفَاسِقٍ عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ النَّاظِرُ أَجْنَبِيًّا أَوْ بَعْضَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَصِحَّ تَوْلِيَتُهُ وَأَنَّهُ يَنْعَزِلُ إِذَا فُسِّقَ فِي أَثْنَاءِ وِلَايَتِهِ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ عَلَى حَقِّ غَيْرِهِ فَنَفَاهَا الْفِسْقُ، وَإِنْ كَانَ النَّظَرُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إِمَّا بِجَعْلِ الْوَاقِفِ النَّظَرَ لَهُ بِأَنْ قَالَ: وَقَفْتُهُ عَلَى زَيْدِ وَنَظَرُهُ لَهُ أَوْ لِكَوْنِهِ أَحَقَّ بِهِ لِعَدَمِ نَاظِرٍ شَرَطَهُ الْوَاقِفُ فَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ أَحَقُّ بِالنَّظَرِ، عَدْلًا كَانَ أَوْ فَاسِقًا، رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْوَقْفَ فَهُوَ يَنْظُرُ لِنَفْسِهِ، وَقِيلَ: يُضَمُّ إِلَى الْفَاسِقِ أَمِينٌ، حِفْظًا لِأَصْلِ الْوَقْفِ عَنِ الْبَيْعِ أَوِ التَّضْيِيعِ.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْكِفَايَةُ:

101- الْمَقْصُودُ بِالْكِفَايَةِ قُوَّةُ الشَّخْصِ وَقُدْرَتُهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيمَا هُوَ نَاظِرٌ عَلَيْهِ.

وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي النَّاظِرِ الْكِفَايَةُ، لِأَنَّ مُرَاعَاةَ حِفْظِ الْوَقْفِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النَّاظِرُ مُتَّصِفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يُمْكِنْهُ مُرَاعَاةُ حِفْظِ الْوَقْفِ.

فَإِنِ اخْتَلَّتِ الْكِفَايَةُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَنْزِعُ الْحَاكِمُ الْوَقْفَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ الْمَشْرُوطُ لَهُ النَّظَرُ الْوَاقِفَ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّ الْحَاكِمَ يَتَوَلاَّهُ اسْتِقْلَالًا فَيُوَلِّيهِ مَنْ أَرَادَ وَأَنَّ النَّظَرَ لَا يَنْتَقِلُ لِمَنْ بَعْدَهُ إِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ لِإِنْسَانٍ بَعْدَ آخَرَ أَيْ إِلاَّ أَنْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الْوَاقِفُ كَمَا قَالَهُ السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ.فَإِنْ زَالَ الِاخْتِلَالُ عَادَ نَظَرُهُ إِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي الْوَقْفِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ كَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي فَتَاوِيهِ وَإِنِ اقْتَضَى كَلَامُ الْإِمَامِ خِلَافَهُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنِ اخْتَلَّتِ الْكِفَايَةُ لَا يُعْزَلُ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: يُضَمُّ إِلَى نَاظِرٍ ضَعِيفٍ قَوِيٌّ أَمِينٌ، لِيُحَصَّلَ الْمَقْصُودُ سَوَاءٌ كَانَ نَاظِرًا بِشَرْطٍ أَوْ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: يُنْزَعُ النَّاظِرُ وُجُوبًا لَوْ كَانَ الْوَاقِفُ غَيْرَ مَأْمُونٍ أَوْ عَاجِزًا.

وَفِي الْإِسْعَافِ: لَا يُوَلَّى إِلاَّ أَمِينٌ قَادِرٌ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ، لِأَنَّ الْوِلَايَةَ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ وَلَيْسَ مِنَ النَّظَرِ تَوْلِيَةُ الْخَائِنِ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ، وَكَذَا تَوْلِيَةُ الْعَاجِزِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِهِ.

لَكِنْ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ شَرْطُ الْأَوْلَوِيَّةِ لَا شَرْطُ صِحَّةٍ.

وَكَلَامُ الْمَالِكِيَّةِ يُفِيدُ اشْتِرَاطَ الْكِفَايَةِ أَيْضًا، فَقَدْ قَالُوا: النَّاظِرُ عَلَى الْحَبْسِ إِنْ كَانَ سَيِّئَ النَّظَرِ غَيْرَ مَأْمُونٍ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَعْزِلُهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمُحَبَّسُ عَلَيْهِ مَالِكًا أَمْرَ نَفْسِهِ وَيَرْضَى بِهِ وَيَسْتَمِرُّ.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْإِسْلَامُ:

102- قَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ فِي النَّاظِرِ الْإِسْلَامُ إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُسْلِمًا أَوْ كَانَتِ الْجِهَةُ كَمَسْجِدٍ وَنَحْوِهِ لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} فَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى كَافِرٍ مُعَيَّنٍ جَازَ شَرْطُ النَّظَرِ فِيهِ لِكَافِرٍ كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ الْكُفَّارِ وَشَرَطَ النَّظَرَ لِأَحَدِهِمْ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ.

وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ النَّاظِرُ ذِمِّيًّا وَأَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَلَوْ كَانَ النَّاظِرُ ذِمِّيًّا وَأَخْرَجَهُ الْقَاضِي لِأَيِّ سَبَبٍ ثُمَّ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ لَا تَعُودُ الْوِلَايَةُ إِلَيْهِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ الرَّمْلِيُّ: قِيَاسُ مَا فِي الْوَصِيَّةِ وَالنِّكَاحِ صِحَّةُ شَرْطِ ذِمِّيٍّ النَّظَرَ لِذِمِّيٍّ عَدْلٍ فِي دِينِهِ إِنْ كَانَ الْمُسْتَحِقُّ ذِمِّيًّا لَكِنْ يُرَدُّ بِاشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي بَابِ الْوَقْفِ، قَالَ الشَّبْرَامَلْسِيُّ: الْقَوْلُ بِالرَّدِّ هُوَ الْمُعْتَمَدُ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَتَزْوِيجِ الذِّمِّيِّ مُوَلِّيَتَهُ أَنَّ وَلِيَّ النِّكَاحِ فِيهِ وَازِعٌ طَبِيعِيٌّ يَحْمِلُهُ عَلَى الْحِرْصِ عَلَى تَحْصِينِ مُوَلِّيَتِهِ دَفْعًا لِلْعَارِ عَنْهُ بِخِلَافِ الْوَقْفِ.

وَهُوَ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ، فَفِي الْمَوَّاقِ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: النَّظَرُ فِي الْحَبْسِ لِمَنْ جَعَلَهُ إِلَيْهِ مُحَبِّسُهُ، قَالَ الْمَتِّيطِيُّ: يَجْعَلُهُ لِمَنْ يُوثَقُ بِهِ فِي دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ.

أُجْرَةُ نَاظِرِ الْوَقْفِ:

الْكَلَامُ عَلَى أُجْرَةِ النَّاظِرِ يَشْمَلُ عِدَّةَ مَسَائِلَ؛ مِثْلَ أَحَقِّيَّتِهِ فِي الْأُجْرَةِ، وَفِي تَقْدِيرِهَا مِنَ الْوَاقِفِ أَوِ الْقَاضِي، وَفِي مِقْدَارِهَا، وَهَلْ يَسْتَحِقُّ أَجْرًا إِذَا لَمْ يَجْعَلْ لَهُ الْوَاقِفُ أَوِ الْقَاضِي أَجْرًا؟ وَهَكَذَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ- أَحَقِّيَّةُ نَاظِرِ الْوَقْفِ فِي الْأُجْرَةِ:

103- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النَّاظِرَ عَلَى الْوَقْفِ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةً نَظِيرَ قِيَامِهِ بِإِدَارَةِ الْوَقْفِ وَالْعِنَايَةِ بِمَصَالِحِهِ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا قَالَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- لَمَّا وَقَفَ أَرْضَهُ بِخَيْبَرَ حَيْثُ قَالَ: «لَا بَأْسَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ».

وَمَا فَعَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- حَيْثُ جَعَلَ نَفَقَةَ الْعَبِيدِ الَّذِينَ وَقَفَهُمْ مَعَ صَدَقَتِهِ لِيَقُومُوا بِعِمَارَتِهَا مِنَ الْغَلَّةِ.

وَبِالْقِيَاسِ عَلَى عَامِلِ الزَّكَاةِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ».

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي عِنْدَ شَرْحِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ: هُوَ دَالٌّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ أُجْرَةِ الْعَامِلِ عَلَى الْوَقْفِ، وَمُرَادُ الْعَامِلِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: الْقَيِّمُ عَلَى الْأَرْضِ.

ب- تَقْدِيرُ أُجْرَةِ النَّاظِرِ أَوْ مَا يَسْتَحِقُّهُ النَّاظِرُ مِنَ الْأَجْرِ:

أُجْرَةُ النَّاظِرِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَشْرُوطَةً مِنْ قِبَلِ الْوَاقِفِ أَوْ مُقَدَّرَةً مِنْ قِبَلِ الْقَاضِي.

104- فَإِنْ كَانَتِ الْأُجْرَةُ مَشْرُوطَةً مِنْ قِبَلِ الْوَاقِفِ فَإِنَّ النَّاظِرَ يَأْخُذُ مَا شَرَطَهُ لَهُ الْوَاقِفُ وَلَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ أَجْرِ مِثْلِهِ.وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ عَيَّنَ لَهُ الْوَاقِفُ أَقَلَّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ فَلِلْقَاضِي أَنْ يُكْمِلَ لَهُ أَجْرَ مِثْلِهِ بِطَلَبِهِ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ وَشَرَطَ لِنَفْسِهِ أَجْرًا فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ، فَإِنْ شَرَطَ النَّظَرَ بِأَكْثَرَ مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ لِأَنَّهُ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ.

وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: أَنَّ الْوَاقِفَ لَوْ شَرَطَ لِلنَّاظِرِ أُجْرَةً أَيْ عِوَضًا مَعْلُومًا فَإِنْ كَانَ الْمَشْرُوطُ لِقَدْرِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ اخْتُصَّ بِهِ وَكَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهُ الْوَقْفُ مِنْ أُمَنَاءَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْرُوطُ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ فَكُلْفَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْوَقْفُ مِنْ نَحْوِ أُمَنَاءَ وَعُمَّالٍ يَكُونُ عَلَى النَّاظِرِ يَصْرِفُهَا مِنَ الزِّيَادَةِ حَتَّى يَبْقَى لَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ شَرَطَهُ لَهُ خَالِصًا.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يُحَدِّدُوا شَيْئًا وَتَرَكُوا ذَلِكَ لِتَقْدِيرِ الْوَاقِفِ أَوِ الْقَاضِي.

105- وَإِنْ كَانَتِ الْأُجْرَةُ مُقَدَّرَةً مِنْ قِبَلِ الْقَاضِي بِأَنْ لَمْ يَجْعَلِ الْوَاقِفُ لِلنَّاظِرِ شَيْئًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَا يُقَدِّرُهُ الْقَاضِي لِلنَّاظِرِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْأَجْرَ الْمُقَدَّرَ مِنَ الْقَاضِي يَجِبُ أَنْ لَا يَزِيدَ عَنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، فَإِنْ عَيَّنَ لَهُ زَائِدًا عَنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ يُمْنَعْ عَنْهُ الزَّائِدُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُتْرَكُ الْأَمْرُ لِاجْتِهَادِ الْقَاضِي.جَاءَ فِي مِنَحِ الْجَلِيلِ: النَّظَرُ فِي الْحَبْسِ لِمَنْ جَعَلَهُ إِلَيْهِ مُحَبِّسُهُ، يَجْعَلُهُ لِمَنْ يَثِقُ بِهِ فِي دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ، فَإِنْ غَفَلَ الْمُحَبِّسُ عَنْ جَعْلِ النَّظَرِ لِمَنْ يَثِقُ بِهِ، كَانَ النَّظَرُ فِي الْحَبْسِ لِلْقَاضِي فَيُقَدِّمُ عَلَيْهِ مَنْ يَرْتَضِيهِ وَيَجْعَلُ لَهُ مِنْ كِرَاءِ الْوَقْفِ مَا يَرَاهُ الْقَاضِي سَدَادًا بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ.

وَقَالَ ابْنُ فَتُّوحٍ: لِلْقَاضِي أَنْ يَجْعَلَ لِمَنْ قَدَّمَهُ لِلنَّظَرِ فِي الْأَحْبَاسِ رِزْقًا مَعْلُومًا فِي كُلِّ شَهْرٍ بِاجْتِهَادِهِ فِي قَدْرٍ ذَلِكَ بِحَسَبِ عَمَلِهِ، وَفَعَلَهُ الْأَئِمَّةُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْوَاقِفُ لِلنَّاظِرِ أُجْرَةً فَلَا أُجْرَةَ لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَيْسَ لِلنَّاظِرِ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ وَلَمْ يَبْرَأْ إِلاَّ بِإِقْبَاضِهِ لِلْحَاكِمِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فَلَوْ رَفَعَ النَّاظِرُ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي لِيُقَرِّرَ لَهُ أُجْرَةً فَهُوَ كَمَا إِذَا تَبَرَّمَ الْوَلِيُّ بِحِفْظِ مَالِ الطِّفْلِ فَرَفَعَ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي لِيُثْبِتَ لَهُ أُجْرَةً، قَالَهُ الْبَلْقِينِيُّ، قَالَ تِلْمِيذُهُ الْعِرَاقِيُّ: وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ يَأْخُذُ الْأُجْرَةَ مَعَ الْحَاجَةِ إِمَّا قَدْرَ النَّفَقَةِ لَهُ- كَمَا رَجَّحَهُ الرَّافِعِيُّ- أَوِ الْأَقَلَّ مِنْ نَفَقَتِهِ وَأُجْرَةِ مِثْلِهِ كَمَا رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقَرِّرَ لَهُ أُجْرَةَ مِثْلِهِ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ النَّفَقَةِ.

ج- حُكْمُ مَا إِذَا لَمْ يُعَيِّنِ الْوَاقِفُ لِلنَّاظِرِ أَجْرًا:

106- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا لَمْ يُعَيَّنْ لِلنَّاظِرِ أَجْرٌ.

فَقَالَ الرَّمْلِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ لِلنَّاظِرِ شَيْئًا لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا إِلاَّ إِذَا جَعَلَ لَهُ الْقَاضِي أُجْرَةً مِثْلَ عَمَلِهِ فِي الْوَقْفِ، فَيَأْخُذُهُ عَلَى أَنَّهُ أُجْرَةٌ.

وَحَرَّرَ ابْنُ عَابِدِينَ الْمَسْأَلَةَ فَقَالَ: فَتَحَرَّرَ أَنَّ الْوَاقِفَ إِنْ عَيَّنَ لَهُ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ، كَثِيرًا كَانَ أَوْ قَلِيلًا عَلَى حَسَبِ مَا شَرَطَهُ، عَمِلَ أَوْ لَمْ يَعْمَلْ، حَيْثُ لَمْ يَشْرُطْهُ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لَهُ الْوَاقِفُ وَعَيَّنَ لَهُ الْقَاضِي أُجْرَةَ مِثْلِهِ جَازَ، وَإِنْ عَيَّنَ لَهُ أَكْثَرَ يُمْنَعُ عَنْهُ الزَّائِدُ عَنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، هَذَا إِنْ عَمِلَ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ لَا يَسْتَحِقَّ أُجْرَةً.وَبِمَثَلِهِ صَرَّحَ فِي الْأَشْبَاهِ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى.

وَإِنْ نَصَبَهُ الْقَاضِي وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ شَيْئًا يُنْظَرُ: إِنْ كَانَ الْمَعْهُودُ أَنْ لَا يَعْمَلَ إِلاَّ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، لِأَنَّ الْمَعْهُودَ كَالْمَشْرُوطِ، وَإِلاَّ فَلَا شَيْءَ لَهُ.

لَكِنَّ ابْنَ نُجَيْمٍ نَقَلَ عَنِ الْقُنْيَةِ رَأْيَيْنِ لِلْحَنَفِيَّةِ فِي مَنْصُوبِ الْقَاضِي إِذَا لَمْ يُعَيِّنْ لَهُ أُجْرَةً.

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ نَصَبَ قَيِّمًا مُطْلَقًا وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ أَجْرًا فَسَعَى فِيهِ سَنَةً فَلَا شَيْءَ لَهُ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَيِّمَ يَسْتَحِقُّ مِثْلَ أَجْرِ سَعْيِهِ سَوَاءٌ شَرَطَ لَهُ الْقَاضِي أَوْ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ أَجْرًا أَوْ لَا، لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْقِوَامَةَ ظَاهِرًا إِلاَّ بِأَجْرٍ، وَالْمَعْهُودُ كَالْمَشْرُوطِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا لَمْ يَشْرُطِ الْوَاقِفُ لِلنَّاظِرِ شَيْئًا لَا يَسْتَحِقُّ أُجْرَةً عَلَى الصَّحِيحِ.

وَإِذَا رُفِعَ الْأَمْرُ لِلْحَاكِمِ فَإِنَّهُ يُعْطَى مَعَ الْحَاجَةِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ في ف 105.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: آرَاءٌ ثَلَاثَةٌ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ بِالْمَعْرُوفِ سَوَاءٌ أَكَانَ مُحْتَاجًا أَوْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلْحَاقًا لَهُ بِعَامِلِ الزَّكَاةِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو الْخَطَّابِ.

الثَّانِي: أَنَّ لِنَاظِرِ الْوَقْفِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَقَلَّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ أَوْ كِفَايَتِهِ، قِيَاسًا عَلَى وَلِيِّ الصَّغِيرِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الْأَجْرَ إِلاَّ إِذَا كَانَ فَقِيرًا كَوَصِيِّ الْيَتِيمِ.

الثَّالِثُ: أَنَّ لِلنَّاظِرِ عَلَى الْوَقْفِ إِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِأَنَّهُ يَأْخُذُ أَجْرَ عَمَلِهِ الْحَقُّ فِي أَجْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ مُقَابِلُ عَمَلٍ يُؤَدِّيهِ، وَهُوَ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ.

فَقَدْ جَاءَ فِي الْفُرُوعِ: وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ لَهُ شَيْئًا فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ إِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِأَخْذِ الْجَارِي عَلَى عَمَلِهِ فَلَهُ جَارِي مِثْلِهِ، وَإِلاَّ فَلَا شَيْءَ لَهُ.

وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ الْقَاضِي يَجْعَلُ لَهُ فِي الْأَحْبَاسِ أُجْرَةً، أَوْ كَمَا يَقُولُ ابْنُ فَتُّوحٍ رِزْقًا مَعْلُومًا فِي كُلِّ شَهْرٍ بِاجْتِهَادِهِ فِي قَدْرِ ذَلِكَ بِحَسَبِ عَمَلِهِ.

د- الْجِهَةُ الَّتِي يَسْتَحِقُّ مِنْهَا النَّاظِرُ أُجْرَتَهُ:

107- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ غَيْرَ ابْنِ عَتَّابٍ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ النَّاظِرُ مِنْ أَجْرٍ سَوَاءٌ أَكَانَ مَشْرُوطًا مِنْ قِبَلِ الْوَاقِفِ أَمْ مِنْ قِبَلِ الْقَاضِي يَكُونُ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ.

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- حَيْثُ قَالَ: لِوَالِي هَذِهِ الصَّدَقَةِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا.

وَقَالَ ابْنُ عَتَّابٍ عَنِ الْمُشَاوِرِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يَكُونُ أَجْرُ النَّاظِرِ إِلاَّ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ أَخَذَهَا مِنَ الْأَحْبَاسِ أُخِذَتْ مِنْهُ وَرَجَعَ بِأَجْرِهِ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَإِنْ لَمْ يُعْطَ مِنْهَا فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، قَالَ الْحَطَّابُ: وَإِنَّمَا لَمْ يُجْعَلْ لَهُ فِيهَا شَيْءٌ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ لِلْوَصَايَا، وَبِمِثْلِ قَوْلِ الْمُشَاوِرِ أَفْتَى ابْنُ وَرْدٍ.

لَكِنَّ الدُّسُوقِيَّ ضَعَّفَ قَوْلَ ابْنِ عَتَّابٍ.

هـ- الْعَمَلُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ النَّاظِرُ الْأُجْرَةَ:

108- الْعَمَلُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ النَّاظِرُ الْأُجْرَةَ هُوَ حِفْظُ الْوَقْفِ وَعِمَارَتُهُ وَإِيجَارُهُ، وَتَحْصِيلُ رَيْعِهِ مِنْ أُجْرَةٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ ثَمَرٍ، وَالِاجْتِهَادُ فِي تَنْمِيَتِهِ، وَصَرْفُهُ فِي جِهَاتِهِ مِنْ عِمَارَةٍ وَإِصْلَاحٍ وَإِعْطَاءٍ مُسْتَحَقٌّ لِأَنَّهُ الْمَعْهُودُ فِي مِثْلِهِ.

وَلِلنَّاظِرِ الْأُجْرَةُ مِنْ وَقْتِ نَظَرِهِ فِيهِ لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَتِهِ، فَلَا يُسْتَحَقُّ إِلاَّ بِقَدْرِهِ.

قَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَمَتَى فَرَّطَ النَّاظِرُ سَقَطَ مِمَّا لَهُ مِنَ الْمَعْلُومِ بِقَدْرِ مَا فَوَّتَهُ عَلَى الْوَقْفِ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ، فَيُوَزَّعُ مَا قُدِّرَ لَهُ عَلَى مَا عَمِلَ وَعَلَى مَا لَمْ يَعْمَلْهُ، وَيَسْقُطُ قِسْطُ مَا لَمْ يَعْمَلْهُ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ نَازَعَ أَهْلُ الْوَقْفِ الْقَيِّمَ، وَقَالُوا لِلْحَاكِمِ: إِنَّ الْوَاقِفَ إِنَّمَا جَعَلَ لَهُ الْأَجْرَ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ وَهُوَ لَا يَعْمَلُ شَيْئًا، لَا يُكَلِّفُهُ الْحَاكِمُ مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا يَفْعَلُهُ الْوُلَاةُ، وَلَوْ حَلَّتْ بِهِ آفَةٌ يُمْكِنُهُ مَعَهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْأَخْذُ وَالْإِعْطَاءُ فَلَهُ الْأَجْرُ وَإِلاَّ فَلَا أَجْرَ لَهُ، وَلَوْ جَعَلَ الْوَاقِفُ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِهِ يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ الْقِيَامَ بِأَمْرِهِ يَجُوزُ، فَهَذَا أَوْلَى بِالْجَوَازِ.

وَلَوْ وَقَفَ أَرْضَهُ عَلَى مَوَالِيهِ ثُمَّ مَاتَ، فَجَعَلَ الْقَاضِي لِلْوَقْفِ قَيِّمًا وَجَعَلَ لَهُ عُشْرَ الْغَلَّةِ، وَفِي الْوَقْفِ طَاحُونٌ فِي يَدِ رَجُلٍ بِالْمُقَاطَعَةِ لَا يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الْقَيِّمِ، وَأَصْحَابُ الْوَقْفِ يَقْبِضُونَ غَلَّتَهَا مِنْهُ، لَا يَسْتَحِقُّ الْقَيِّمُ عُشْرَ غَلَّتِهَا، لِأَنَّ مَا يَأْخُذُهُ إِنَّمَا هُوَ بِطْرِيقِ الْأُجْرَةِ وَلَا أُجْرَةَ بِدُونِ عَمَلٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


116-موسوعة الفقه الكويتية (ولاية 1)

وِلَايَـة -1

التَّعْرِيفُ:

1 ـ الْوِلَايَةُ بِالْكَسْرِ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْوَلْيِ، وَهُوَ الْقُرْبُ.يُقَالُ: وَلِيَهُ وَلْيًا، أَيْ دَنَا مِنْهُ.وَأَوْلَيْتُهُ إِيَّاهُ: أَدْنَيْتَهُ مِنْهُ.وَوَلِيَ الْأَمْرَ: إِذَا قَامَ بِهِ، وَتَوَلَّى الْأَمْرَ؛ أَيْ تَقَلَّدَهُ، وَتَوَلَّى فُلَانًا: اتَّخَذَهُ وَلِيًّا.

وَالْوَلِيُّ- فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ- مِنْ وَلِيَهُ: إِذَا قَامَ بِهِ.وَمِنْهُ قوله تعالى {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا}.

وَبِمَعْنَى مَفْعُولٍ فِي حَقِّ الْمُطِيعِ.وَمِنْهُ قِيل: الْمُؤْمِنُ وَلِيُّ اللَّهِ.وَالْمَصْدَرُ الْوِلَايَةُ.وَكَذَلِكَ تَأْتِي بِمَعْنَى السَّلْطَنَةِ، وَمِنْهُ قِيلَ: الْعِلْمُ مِنْ أَشْرَفِ الْوِلَايَاتِ، يَأْتِي إِلَيْهِ الْوَرَى وَلَا يَأْتِي، أَمَّا الْوَلَايَةُ- بِالْفَتْحِ- فَتَعْنِي النُّصْرَةَ وَالْمَحَبَّةَ.

وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَكُلٌّ مَنْ وَلِيَ أَمْرَ آخَرَ فَهُوَ وَلِيُّهُ.وَمِنْهُ وَلِيُّ الْيَتِيمِ وَوَلِيُّ الْقَتِيلِ وَوَلِيُّ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ الْقَائِمُ بِهِمْ وَالْمُتَصَرِّفُ فِي أَمْرِهِمْ.وَوَالِي الْبَلَدِ: وَهُوَ نَاظِرُ أُمُورِ أَهْلِهِ الَّذِي يَلِي الْقَوْمَ بِالتَّدْبِيرِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.

وَالْوِلَايَةُ اصْطِلَاحًا: اسْتَعْمَلَ جُلُّ الْفُقَهَاءِ كَلِمَةَ الْوِلَايَةِ بِمَعْنَى تَنْفِيذِ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ أَوْ أَبَى فَتَشْمَلُ الْإِمَامَةَ الْعُظْمَى وَالْخُطَّةَ كَالْقَضَاءِ، وَالْحِسْبَةِ وَالْمَظَالِمِ وَالشُّرَطَةِ وَنَحْوِهَا، كَمَا تَشْمَلُ قِيَامَ شَخْصٍ كَبِيرٍ رَاشِدٍ عَلَى شَخْصٍ قَاصِرٍ فِي تَدْبِيرِ شُؤُونِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ.قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُقَالُ لِلْمَحْجُورِ فِيهَا مَوْلِيٌّ عَلَيْهِ وَمُوَلًّى عَلَيْهِ كَذَلِكَ وَرَدَتْ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ بِمَعْنَى إِقَامَةِ الْغَيْرِ مَقَامَ النَّفْسِ فِي تَصَرُّفٍ جَائِزٍ مَعْلُومٍ، فَتَنَاوَلَتِ الْوَكَالَةَ وَنِظَارَةَ الْوَقْفِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَبِمَعْنَى أَحَقِّيَّةِ الْمُطَالَبَةِ بِدَمِ الْقَتِيلِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ، وَسَمَّوْا صَاحِبَهَا «وَلِيَّ الدَّمِ».كَمَا عَبَّرُوا عَنْ سُلْطَةِ الزَّوْجِ فِي تَأْدِيبِ زَوْجَتِهِ النَّاشِزِ، وَالْوَالِدِ فِي تَأْدِيبِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَالْمُعَلِّمِ فِي تَأْدِيب تَلَامِيذِهِ بِالْوِلَايَةِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا.

وَاسْتَعْمَلَهَا فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ بِمَعْنَى الْآصِرَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْإِرْثِ.فَقَالَ ابْنُ جُزَيٍّ: الْوِلَايَةُ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ: وِلَايَةُ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُورَثُ بِهَا إِلاَّ مَعَ عَدَمِ غَيْرِهَا.وَوِلَايَةُ الْحِلْفِ، وَوِلَايَةُ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ يُتَوَارَثُ بِهِمَا أَوَّلَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ.وَوِلَايَةُ الْقَرَابَةِ، وَوِلَايَةُ الْعِتْقِ، وَالْمِيرَاثُ بِهِمَا ثَابِتٌ.

2- وَقَدْ أَوْضَحَ الْقَاضِي ابْنُ رُشْدٍ مُرَادَهُمْ بِذَلِكَ فَقَالَ:

فَأَمَّا وِلَايَةُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ نَصَّ عَلَيْهَا فِي مُحْكَمِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وَهِيَ وِلَايَةٌ عَامَّةٌ.

وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحِلْفِ (وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ، فَقِيلَ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِهَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}.

وَقِيلَ: إِنْ ذَلِكَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أُمِرُوا أَنْ يُؤْتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ النَّصْرِ وَالنَّصِيحَةِ وَالْمَعُونَةِ وَالْمَشُورَةِ، وَلَا مِيرَاثَ.وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ.

(ر: مَوْلَى الْمُوَالَاةِ).

وَأَمَّا وِلَايَةُ الْهِجْرَةِ، فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِهَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ.قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.فَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ وَالْمُؤَاخَاةِ الَّتِي آخَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِهَا بَيْنَهُمْ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: (فِي كِتَابِ اللَّهِ) عَلَى مَا قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ: أَيْ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ، فَالْمُرَاد بِأُولِي الْأَرْحَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ سَمَّى اللَّهُ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ أَوْ دَخَلَ فِيهَا بِالْمَعْنَى وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ.

وَأَمَّا وِلَايَةُ النَّسَبِ، فَمَوْجُودَةٌ أَيْضًا فِي الْقُرْآنِ.قَالَ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}.وَقَالَ حَاكِيًا عَنْ زَكَرِيَّا- عليه السلام-: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا}.

يَقُولُ: وَإِنِّي خِفْتُ بَنِي عَمِّي وَعَصَبَتِي مِنْ بَعْدِي أَنْ يَرِثُونِي {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}.أَيْ وَلَدًا وَارِثًا مُعِينًا يَرِثُ مَالِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّ زَكَرِيَّا كَانَ مَنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ، فَوَهَبَ اللَّهُ لَهُ يَحْيَى.

وَأَمَّا وِلَايَةُ الْعِتْقِ، فَإِنَّهَا تُوجِبُ الْمِيرَاثَ عِنْدَ انْقِطَاعِ النَّسَبِ بِحَقِّ الْإِنْعَامِ بِالْعِتْقِ وَالْمَنِّ بِهِ عِنْدَ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ.

(ر: مَوْلَى الْعَتَاقَةِ) 3- أَمَّا «وَلَايَةُ اللَّهِ تَعَالَى» لِلْمُؤْمِنِينَ، فَمَدْلُولُهُ أَنَّهُمْ أَقْبَلُوا عَلَى اللَّهِ بِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، فَقَرُبَ مِنْهُمْ بِالْمَحَبَّةِ وَالْهِدَايَةِ وَالنُّصْرَةِ، وَتَوَلَّى أَمْرَهُمْ فَلَمْ يَكِلْهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ لَحْظَةً، وَكَفَلَ مَصَالِحَهُمْ وَرَعَاهُمْ بِحِفْظِهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ قَالَ الشَّرِيفُ الْجُرْجَانِيُّ وَغَيْرُهُ: الْوَلِيُّ- فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ- هُوَ مَنْ تَوَالَتْ طَاعَتُهُ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ عِصْيَانٍ.أَوْ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَهُوَ مَنْ يَتَوَالَى عَلَيْهِ إِحْسَانُ اللَّهِ وَإِفْضَالُهُ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وِلَايَةُ اللَّه تَعَالَى نَوْعَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ.

فَالْعَامَّةُ: وِلَايَةُ كُلِّ مُؤْمِنٍ.فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا لِلَّهِ تَقِيًّا، كَانَ اللَّهُ لَهُ وَلِيًّا، وَفِيهِ مِنَ الْوِلَايَةِ بِقَدْرِ إِيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ.

وَالْخَاصَّةُ: وِلَايَةُ الْقَائِمِ لِلَّهِ بِجَمِيعِ حُقُوقِهِ، الْمُؤْثِرِ لَهُ عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ، الَّذِي صَارَتْ مَرَاضِي اللَّهِ وَمَحَابِّهِ هَمَّهُ وَمُتَعَلَّقَ خَوَاطِرِهِ، يُصْبِحُ وَيُمْسِي وَهَمُّهُ مَرْضَاةُ رَبِّهِ وَإِنْ سَخِطَ الْخَلْقُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ

أ ـ النِّيَابَةُ:

4 ـ النِّيَابَةُ فِي اللُّغَةِ: جَعْلُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ نَائِبًا عَنْهُ فِي الْأَمْرِ، يُقَالُ: نَابَ عَنْهُ فِي الْأَمْرِ: إِذَا قَامَ مَقَامَهُ.

وَالنِّيَابَةُ فِي الاصْطِلِاحِ: قِيَامُ الإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ بِفِعْلِ أَمْرٍ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَالْوِلَايَةُ أَعَمُّ مُطْلَقًا مِنَ النِّيَابَةِ، وَالْأَخَصُّ يَسْتَلْزِمُ دَائِمًا مَعْنَى الْأَعَمِّ وَلَا عَكْسَ، فَكُلُّ نِيَابَةٍ وِلَايَةٌ وَلَا عَكْسَ.

ب ـ الْعِمَالَةُ:

5 ـ يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: عَمِلْتُهُ عَلَى الْبَلَدِ، أَيْ وَلَّيْتُهُ عَمَلَهُ.وَعَمِلْتُ عَلَى الصَّدَقَةِ: أَيْ سَعَيْتُ فِي جَمْعِهَا.وَاسْتَعْمَلْتُهُ: أَيْ جَعَلْتُهُ عَامِلاً.وَالْجَمْعُ عُمَّالٌ وَعَامِلُونَ.وَالْعُمَالَةُ بِضَمِّ الْعَيْنِ: أُجْرَةُ الْعَامِلِ، وَالْكَسْرُ لُغَةٌ، وَأَصْلُ الْعُمَالَةِ أُجْرَةُ مَنْ يَلِي الصَّدَقَةَ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا حَتَّى أُجْرِيَتْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوِلَايَةِ وَالْعُمَالَةِ: أَنَّ الْوِلَايَةَ أَعَمُّ مِنَ الْعُمَالَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ عَمِلَ السُّلْطَانِ فَهُوَ وَالٍ، فَالْقَاضِي وَالٍ، وَالْأَمِيرُ وَالٍ وَالْعَامِلُ وَالٍ، وَلَيْسَ الْقَاضِي عَامِلاً وَلَا الْأَمِيرُ، وَإِنَّمَا الْعَامِلُ مَنْ يَلِي جِبَايَةَ الْمَالِ فَقَطْ.فَكُلُّ عَامِلٍ وَالٍ، وَلَيْسَ كُلُّ وَالٍ عَامِلاً.

جـ ـ الْقِوَامَةُ:

6 ـ الْقِوَامَةُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذَةٌ مَنْ قَامَ عَلَى الشَّيْءِ يَقُومُ قِيَامًا، أَيْ حَافَظَ عَلَيْهِ وَرَاعَى مَصَالِحَهُ.وَمِنْ ذَلِكَ: الْقَيِّمُ، وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ عَلَى شَأْنِ شَيْءٍ وَيَلِيهِ وَيُصْلِحُهُ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}.وَكُلُّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْقِيَامِ الْمَجَازِيِّ، لِأَنَّ شَأْنَ الَّذِي يَهْتَمُّ بِالْأَمْرِ وَيَعْتَنِي بِهِ أَنْ يَقِفَ لِيُدَبِّرَ أَمْرَهُ وَيَرْعَاهُ.

وَلَا يَخْرُجُ الِاسْتِعْمَالُ الْفِقْهِيُّ لِلْكَلِمَةِ عَنْ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ، وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ «الْقَيِّمِ» بِمَعْنَى الْمُتَوَلِّي وَالنَّاظِرِ، فَيَقُولُونَ: الْقَيِّمُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ، وَالْقَيِّمُ عَلَى مَالِ الْوَقْفِ.وَيُرِيدُونَ بِهِ الْأَمِينَ الَّذِينَ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ وَيَقُومُ بِمَصَالِحِهِ قِيَامَ الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقِوَامَةَ أَخَصُّ مِنَ الْوِلَايَةِ.

د ـ الْوِصَايَةُ:

7 ـ الْوِصَايَةُ لُغَةً مَصْدَرُ وَصَّى، تَعْنِي طَلَبَ شَخْصٍ شَيْئًا مِنْ غَيْرِهِ لِيَفْعَلَهُ عَلَى غَيْبٍ مِنْهُ حَالَ حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ.

أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ الْفِقْهِيِّ فَهِيَ: إِقَامَةُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ لِيَنْظُرَ فِي شُؤُونِ تَرِكَتِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ دُيُونٍ وَوَصَايَا وَفِي شُؤُونِ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَرِعَايَتِهِمْ.وَيُسَمَّى ذَلِكَ الشَّخْصُ الْمُقَامُ وَصِيًّا.أَمَّا إِقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ فِي الْقِيَامِ بِبَعْضِ أُمُورِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، فَلَا يُقَالُ لَهُ فِي اصْطِلَاحِهِمْ وِصَايَةٌ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى وِكَالَةً.

وَالْوِصَايَةُ عَلَى ذَلِكَ أَخَصُّ مِنَ الْوِلَايَةِ.

هـ الْوَكَالَةُ:

8 ـ الْوَكَالَةُ فِي اللُّغَةِ: التَّفْوِيضُ إِلَى الْغَيْرِ وَرَدُّ الْأَمْرِ إِلَيْهِ.

وَمَعْنَاهَا فِي الِاصْطِلَاحِ الْفِقْهِيِّ: تَفْوِيضُ شَخْصٍ مَا لَهُ فِعْلُهُ مِمَّا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ إِلَى غَيْرِهِ لِيَفْعَلَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَقَدْ عَرَّفَهَا الْمَنَاوِيُّ بِأَنَّهَا: اسْتِنَابَةُ جَائِزِ التَّصَرُّفِ مِثْلَهُ فِيمَا لَهُ عَلَيْهِ تَسَلُّطٌ أَوْ وِلَايَةٌ لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ.وَقَالَ التَّهَانَوِيُّ: هِيَ إِقَامَةُ أَحَدٍ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي تَصَرُّفٍ شَرْعِيٍّ مَعْلُومٍ مُوَرِّثٍ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ.كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ الْمُوَرِّثَيْنِ لِلْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَالْوِكَالَةُ أَخَصُّ مِنَ الْوِلَايَةِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوِلَايَةِ

الْوِلَايَةُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَامَّةً أَوْ خَاصَّة وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِهَا:

أَوَّلاً: الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ:

9 ـ الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ: سُلْطَةٌ عَلَى إِلْزَامِ الْغَيْرِ وَإِنْفَاذِ التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ بِدُونِ تَفْوِيضٍ مِنْهُ، تَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالنَّفْسِ وَالْمَالِ، وَتُهَيْمِنُ عَلَى مَرَافِقِ الْحَيَاةِ الْعَامَّةِ وَشُؤُونِهَا، مِنْ أَجْلِ جَلْبِ الْمَصَالِحِ لِلْأُمَّةِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَنْهَا.

وَهِيَ مَنْصِبٌ دِينِيٌّ وَدُنْيَوِيٌّ، شُرِعَ لِتَحْقِيقِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَالْحُكْمُ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ.قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَالْمَقْصُودُ الْوَاجِبُ بِالْوِلَايَاتِ: إِصْلَاحُ دِينِ الْخَلْقِ الَّذِي مَتَى فَاتَهُمْ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا نَعِمُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِصْلَاحُ مَا لَا يَقُومُ الدِّينُ إِلاَّ بِهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُمْ.

10- وَلِلْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ مَرَاتِبُ وَاخْتِصَاصَاتٌ تَتَفَاوَتُ فِيمَا بَيْنَهَا وَتَتَدَرَّجُ مِنْ وِلَايَةِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ إِلَى وِلَايَةِ نُوَّابِهِ وَوُلَاتِهِ وَنَحْوِهِمْ، وَبِهَا يُنَاطُ تَجْهِيزُ الْجُيُوشِ، وَسَدُّ الثُّغُورِ، وَجِبَايَةُ الْأَمْوَالِ مِنْ حِلِّهَا، وَصَرْفُهَا فِي مَحِلِّهَا، وَتَعْيِينُ الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ، وَإِقَامَةُ الْحَجِّ وَالْجَمَاعَاتِ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ، وَقَمْعُ الْبُغَاةِ وَالْمُفْسِدِينَ وَحِمَايَةُ بَيْضَةِ الدِّينِ، وَفَصْلُ الْخُصُومَاتِ، وَقَطْعُ الْمُنَازَعَاتِ، وَنَصْبُ الْأَوْصِيَاءِ وَالنُّظَّارِ وَالْمُتَوَلِّينَ وَمُحَاسَبَتِهِمْ.وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَسْتَتِبُّ بِهَا الْأَمْنُ، وَيُحَكَّمُ شَرْعُ اللَّهِ.قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ جَمِيعَ الْوِلَايَاتِ فِي الْإِسْلَامِ مَقْصُودُهَا أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِذَلِكَ، وَبِهِ أَنْزَلَ الْكُتُبَ، وَلَهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ، وَعَلَيْهِ جَاهَدَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ.

11- وَلِهَذَا اعْتَبَرَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ وِلَايَةَ أَمْرِ النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الدِّينِ، بَلْ لَا قِيَامَ لِلدِّينِ إِلاَّ بِهَا، لِأَنَّ بَنِي آدَمَ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُمْ إِلاَّ بِالِاجْتِمَاعِ، لِحَاجَةِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مِنْ رَأْسٍ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ».فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَأْمِيرَ الْوَاحِدِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْقَلِيلِ الْعَارِضِ فِي السَّفَرِ، تَنْبِيهًا بِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الِاجْتِمَاعِ...كَذَلِكَ أَوْجَبَ اللَّهُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلاَّ بِقُوَّةٍ وَسُلْطَانٍ، وَكَذَا سَائِرُ مَا أَوْجَبَهُ مِنَ الْجِهَادِ وَالْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْحَجِّ وَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَهِيَ لَا تَتِمُّ إِلاَّ بِالْقُوَّةِ وَالْإِمَارَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ.

الشُّرُوطُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ:

يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِتَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ تَوَفُّرَ الشُّرُوطِ التَّالِيَةِ:

أ ـ الْإِسْلَامُ:

12- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ لِصِحَّةِ تَوَلِّي جَمِيعِ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}.حَيْثُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ عَلَى الْمُسْلِمِ بِوَجْهٍ.وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}.قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: أُولُو الْأَمْرِ هُمُ الْأَئِمَّةُ وَالسَّلَاطِينُ وَالْقُضَاةُ وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ لَهُ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ.فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مُسْتَحِقِّي الطَّاعَةِ أُولُو الْأَمْرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ، فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ وَلَا طَاعَةَ.

ب ـ الْبُلُوغُ:

13- أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ لِصِحَّةِ تَوَلِّي جَمِيعِ الْوِلَايَاتِ، لِأَنَّ الصَّغِيرَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ يَلِي أَمْرَهُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَلِيَ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ.يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوَيُفِيقَ».حَيْثُ أَفَادَ عَدَمَ تَكْلِيفِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُ الْأُمُورَ، وَمَنْ كَانَ هَذَا حَالَهُ لَمْ يَصِحَّ تَوْلِيَتُهُ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ رَأْسِ السَّبْعِينَ وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ».

جـ ـ الْعَقْلُ:

14- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَقْلِ لِصِحَّةِ تَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، فَالْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ لَا تَجُوزُ وِلَايَتُهُ فِي قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ شَرْعًا، وَالتَّكْلِيفُ مِلَاكُ الْأَمْرِ، وَلِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَلِي أَمْرَهُ، فَلَا يَلِي أَمْرَ غَيْرِهِ.

د ـ الْحُرِّيَّةُ:

15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ صِحَّة تَوَلِّي الْعَبْدِ الْوِلَايَةَ الْعَامَّةَ، لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِخِدْمَةِ مَالِكِهِ، وَلِأَنَّ نَقْصَ الْعَبْدِ عَنْ وِلَايَةِ نَفْسِهِ يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ وِلَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ.

هـ ـ الذُّكُورَةُ:

16- ذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ لِصِحَّةِ تَوَلِّي الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} حَيْثُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ هُوَ الْقَائِمُ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَكَيْفَ تَقُومُ هِيَ عَلَى شُؤُونِ الْأُمَّةِ؟ وَلِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً».فَقَدْ قَرَنَ الرَّسُول- عليه الصلاة والسلام- عَدَمَ الْفَلَاحِ لِلْأُمَّةِ بِتَوَلِّي الْمَرْأَةِ شُؤُونَهَا.

و ـ الْعَدَالَةُ:

17- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ لِصِحَّةِ تَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ.وَالْعَدَالَةُ: هِيَ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَالْمُرُوءَةُ، فَالصَّلَاحُ فِي الدِّينِ هُوَ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ بِعَدَمِ ارْتِكَابِ الْكَبَائِرِ وَعَدَمِ الْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ، وَأَنْ يَكُونَ بَعِيدًا عَنْ مَوَاطِنِ الرِّيَبِ، مَأْمُونًا فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ.

وَأَمَّا الْمُرُوءَةُ فَهِيَ: اسْتِعْمَالُ مَا يُجَمِّلُهُ وَيُزَيِّنُهُ، وَتَرْكُ مَا يُدَنِّسُهُ وَيَشِينُهُ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ.

وَإِنَّمَا اشْتُرِطَتِ الْعَدَالَةُ هَهُنَا لِأَنَّ الْفَاسِقَ مُتَّهَمٌ فِي دِينِهِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَلَا يُوثَقُ بِتَصَرُّفَاتِهِ وَلَا يُؤْمَنُ مَعَهُ مِنَ الْحَيْفِ فِي الْأَحْكَامِ، فَلَا يَصِحُّ تَوْلِيَتُهُ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ.

ز ـ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ

18- اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لِتَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ الْعِلْمَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

قَالَ السِّمْنَانِيُّ: يُشْتَرَطُ فِي الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأُصُولِ الدِّينِ وَمِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي فُرُوعِهِ لِيُمْكِنَهُ حَلُّ الشُّبَهِ وَإِرْشَادُ الضَّالِّ وَفُتْيَا الْمُسْتَفْتِي وَالْحُكْمُ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَهَذَا شَرْطٌ عَلَيْهِ سَائِرُ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ فِي اعْتِبَارِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَسَائِرِ الْمُخْتَلِفِينَ، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ فِرَقِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ، لَا يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ فِي ذَلِكَ.

ثُمَّ نَقَلَ السِّمْنَانِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي عَصْرِهِ وَهُوَ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّ اعْتِبَارَ الْعِلْمِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ لَا يَصِحَّ لِإِمَامٍ إِمَامَةٌ فِي الْعَصْرِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ بَصَرٌ وَعَقْلٌ وَرَأْيٌ وَيُقَوِّي كُلَّ فَرِيقٍ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ «وَيَتَوَلَّوْنَ ذَلِكَ عَنْهُ» كَمَا يَتَوَلاَّهُ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ كَلَّفْنَاهُ الْعِلْمَ بِذَلِكَ مَعَ ضِيقِ الزَّمَانِ وَكَثْرَةِ الْأَشْغَالِ لأَدَّى ذَلِكَ إِلَى انْقِطَاعِ زَمَانِهِ وَفَوَاتِ تَدْبِيرِ أُمُورِ الْخَلْقِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ كَثِيرٌ وَالْمَسَائِلَ صَعْبَةٌ، وَلَا يَكَادُ يَجْتَمِعُ جَمِيعُ الْعُلُومِ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ إِلاَّ نَادِرًا شَاذًّا، وَيَجْتَمِعُ مَجْمُوعُ الْعُلُومِ فِي الْأَشْخَاصِ، فَإِذَا احْتَاجَ إِلَى نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَقَاسَ ذَلِكَ عَلَى الْقَضَاءِ.

ح ـ الْكِفَايَةُ الْجِسْمِيَّةُ

19- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّة تَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ كَوْنَهُ سَمِيعًا بَصِيرًا نَاطِقًا، لِأَنَّ الِاخْتِلَالَ الْوَاقِعَ فِي تِلْكَ الْأَعْضَاءِ أَوِ الْحَوَاسِّ يُؤَدِّي إِلَى الْعَجْزِ عَنْ كَمَالِ التَّصَرُّفِ، وَيُفْضِي إِلَى الْخَلَلِ فِي قِيَامِ ذِي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ بِمَا جُعِلَ وَأُسْنِدَ إِلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ.

وَقَدْ ذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ أَنَّ فَقْدَ الْحَوَاسِّ كَالْبَصَرِ وَالسَّمْعِ وَالْكَلَامِ يَحُولُ دُون الِانْتِهَاضِ فِي الْمُلِمَّاتِ وَالْحُقُوقِ، وَيَجُرُّ إِلَى الْمُعْضِلَاتِ عِنْد مَسِيسِ الْحَاجَاتِ.وَالْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ تَسْتَدْعِي كَمَالَ الْأَوْصَافِ، وَالْأَعْمَى وَالْأَصَمُّ وَالْأَبْكَمُ وَمَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ.

ط ـ الرَّأْيُ وَالْكِفَايَةُ:

20- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ تَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ الرَّأْيُ وَالْكِفَايَةُ.وَهَذِهِ الصِّفَةُ تَخْتَلِفُ مُتَطَلَّبَاتُهَا بِحَسْبِ الْوِلَايَةِ الَّتِي يُرَادُ إِسْنَادُهَا، فَمَا يَلْزَمُ تَوَفُّرُهُ فِي الْخَطِيرِ مِنْهَا كَالْإِمَامَةِ الْعُظْمَى مِنَ الْمَقْدِرَةِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ وَالصَّرَامَةِ وَالشَّفَقَةِ وَالْمَضَاءِ وَالدَّهَاءِ لَا يُشْتَرَطُ فِيمَا دُونَهَا مِنَ الْوِلَايَاتِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ بِحَسْبِهَا.

وَقَدْ نَبَّهَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، فِيمَا رَوَاهُ «أَبُو ذَرٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا» فَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي عَدَمِ جَوَازِ إِسْنَادِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ لِمَنْ كَانَ فِيهِ ضَعْفٌ عَنِ الْقِيَامِ بِوَظَائِفِهَا وَأَعْبَائِهَا وَمُوجِبَاتِهَا، لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ.وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ.قِيلَ:كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ».

هَذِهِ هِيَ الشُّرُوطُ الْمُشْتَرَكَةُ لِتَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ، وَهُنَاكَ شُرُوطٌ أُخْرَى فَوْقَهَا تُضَافُ لِبَعْضِ أَنْوَاعِهَا، مِثْلَ شَرْطِ الْقُرَشِيَّةِ لِلْخِلَافَةِ.ر: الْإِمَامَةُ الْعُظْمَى ف 11، وَقَضَاء ف 18.

تَقْدِيمُ الْأَمْثَلِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ:

21- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَ اجْتِمَاعُ كُلِّ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي النَّاسِ، وَفُقِدَ مُكْتَمِلُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، فَلَا يُعَطَّلُ إِسْنَادُ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ فِي الدَّوْلَةِ، بَلْ يَجِبُ تَقْدِيمُ الْأَصْلَحِ وَالْأَمْثَلِ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ بِحَسْبِهَا، إِذِ الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، وَلِأَنَّ حِفْظَ بَعْضِ الْمَصَالِحِ أَوْلَى مِنْ تَضْيِيعِهَا كُلِّهَا، فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ أَصْلِ الْمَصَالِحِ لِوُجُودِ بَعْضِ الْفِسْقِ فِي وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلِأَنَّ الْبَعِيدَ مَعَ الْأَبْعَدِ قَرِيبٌ، وَأَهْوَنَ الشَّرَّيْنِ خَيْرٌ بِالْإِضَافَةِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فَعَلَّقَ تَحْصِيلَ التَّقْوَى عَلَى الِاسْتِطَاعَةِ، فَكَذَا الْمَصَالِحُ كُلُّهَا.

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ إِلاَّ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَأَنَّ الْأَمْرَ يَسْقُطُ بِالْعَجْزِ.وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: لَوْ تَعَذَّرَتِ الْعَدَالَةُ فِي جَمِيعِ النَّاسِ لَمَا جَازَ تَعْطِيلُ الْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُضَاةِ وَالْخُلَفَاءِ وَالْوُلَاةِ، بَلْ قَدَّمْنَا أَمْثَلَ الْفَسَقَةِ فَأَمْثَلَهُمْ، وَأَصْلَحَهُمْ لِلْقِيَامِ بِذَلِكَ فَأَصْلَحَهُمْ، بِنَاءً عَلَى أَنَّا إِذَا أُمِرْنَا بِأَمْرٍ أَتَيْنَا مِنْهُ بِمَا قَدَرْنَا عَلَيْهِ، وَيَسْقُطُ عَنَّا مَا عَجَزْنَا عَنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ حِفْظَ الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ تَضْيِيعِ الْكُلِّ.

22- وَمَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَوْلِيَةُ غَيْرِ الْأَهْلِ لِلضَّرُورَةِ إِذَا كَانَ أَصْلَحَ الْمَوْجُودِ، فَيَجِبُ مَعَ ذَلِكَ السَّعْيُ فِي إِصْلَاحِ الْأَحْوَالِ حَتَّى يَكْمُلَ فِي النَّاسِ مَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ مِنْ أُمُورِ الْوِلَايَاتِ وَالْإِمَارَاتِ وَنَحْوِهَا، كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُعْسِرِ السَّعْيُ فِي وَفَاءِ دِينِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ إِلاَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَكَمَا يَجِبُ الِاسْتِعْدَادُ لِلْجِهَادِ بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ فِي وَقْتِ سُقُوطِهِ لِلْعَجْزِ، فَإِنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.

وَاجِبَاتُ صَاحِبِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ:

23- تَخْتَلِفُ وَاجِبَاتُ أَصْحَابِ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ بِحَسْبِ الْوِلَايَةِ الَّتِي يَتَقَلَّدُهَا كُلٌّ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ لِتَبَايُنِ الْوَظَائِفِ وَالْأَعْبَاءِ وَالِاخْتِصَاصَاتِ وَالْمَسْئُولِيَّاتِ الْمَنُوطَةِ بِكُلِّ ذِي وِلَايَةٍ، فَوَاجِبَاتُ الْخَلِيفَةِ مَثَلاً مُخْتَلِفَةٌ عَنْ وَاجِبَـاتِ وَالِي الشُّرَطَةِ، وَوَاجِبَاتُ الْوَزِيرِ مُخْتَلِفَةٌ عَنْ وَاجِبَاتِ الْقَاضِي، وَوَاجِبَاتُ أَمِيرِ الْجَيْشِ مُخْتَلِفَةٌ عَنْ وَاجِبَاتِ الْمُحْتَسِبِ، وَهَذِهِ الْوَاجِبَاتُ هِيَ كَمَا يَلِي:

أ ـ الِالْتِزَامُ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ:

24- الِالْتِزَامُ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ عَلَى صَاحِبِ الْوِلَايَةِ، وَذَلِكَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ، فَإِنَّهُ مِلَاكُ الْأَمْرِ وَجِمَاعُ الْخَيْرِ فِيهِ.فَمُتَقَلِّدُ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قُدْوَةً حَسَنَةً لِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ، بِأَنْ يَتَعَهَّدَ نَفْسَهُ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى قَبْلَ أَنْ يَطْلُبَ ذَلِكَ مِنَ الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَى امْتِثَالِهِمْ، وَأَقْوَى أَثَرًا فِي صَلَاحِهِمْ وَفَلَاحِهِمْ.

ب ـ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ:

25- وَمِنْ وَاجِبَاتِ صَاحِبِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، حَيْثُ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي وُلَاةِ الْأُمُورِ.

وَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ اسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنْ عِصَابَةٍ، وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَخَانَ رَسُولَهُ وَخَانَ الْمُؤْمِنِينَ».

وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَدًا مُحَابَاةً، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلاً حَتَّى يُدْخِلَهُ جَهَنَّمَ».

وَعَلَى ذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيمَا تَحْتَ يَدِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أَصْلَحَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَأَمْثَلَهُمْ وَأَفْضَلَهُمْ، أَدَاءً لِلْأَمَانَةِ وَبُعْدًا عَنِ الْخِيَانَةِ.قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْأَحَقِّ الْأَصْلَحِ إِلَى غَيْرِهِ لِأَجْلِ قَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا، أَوْ وَلَاءِ عَتَاقَةٍ، أَوْ صَدَاقَةٍ، أَوْ مُوَافَقَةٍ فِي بَلَدٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ طَرِيقَةٍ أَوْ جِنْسٍ، كَالْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ، أَوْ لِرِشْوَةٍ يَأْخُذُهَا مِنْهُ مِنْ مَالٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ، أَوْ لِضِغْنٍ فِي قَلْبِهِ عَلَى الْأَحَقِّ، أَوْ عَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَدَخَلَ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.

وَأَدَاءُ أَوْلِيَاءِ الْأُمُورِ لِلْأَمَانَةِ- كَمَا قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ- مَبْنِيٌّ عَلَى ثَلَاثِ شُعَبٍ: خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَلاَّ يَشْتَرِيَ بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً، وَتَرْكُ خَشْيَةِ النَّاسِ.

(ر: أَمَانَةُ ف3)

جـ ـ الْعَدْلُ بَيْنَ النَّاسِ:

26- الْعَدْلُ مِيزَانُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ قِوَامُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَسَبَبُ صَلَاحِ الْخَلْقِ، وَبِهِ قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ.قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}.وَوَرَدَ عَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

وَلِهَذَا نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ إِذَا شَمِلَهَا الْعَدْلُ كَانَتْ مِنْ أَفْضَلِ الطَّاعَاتِ، وَأَنَّ الْعَادِلَ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ جَمِيعِ الْأَنَامِ.

قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا يَجْرِي عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَدَرْءِ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ فَيَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا مِائَةَ أَلْفِ مَظْلِمَةٍ فَمَا دُونَهَا، أَوْ يَجْلِبُ بِهَا مِائَةَ أَلْفِ مَصْلَحَةٍ فَمَا دُونَهَا، فَيَا لَهُ مِنْ كَلَامٍ يَسِيرٍ وَأَجْرٍ كَبِيرٍ.

أَمَّا وُلَاةُ الْجَوْرِ وَقُضَاةُ السُّوءِ فَأَعْظَمُ النَّاسِ وِزْرًا، وَأَحَطُّهُمْ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِعُمُومِ مَا يَجْرِي عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ جَلْبِ الْمَفَاسِدِ وَدَرْءِ الْمَصَالِحِ، وَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُولُ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ فَيَأْثَمُ بِهَا أَلْفَ إِثْمٍ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى حَسَبِ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَا لَهَا مِنْ صَفْقَةٍ خَاسِرَةٍ وَتِجَارَةٍ بَايِرَةٍ.

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ جِمَاعَ السِّيَاسَةِ الْعَادِلَةِ وَالْوِلَايَةِ الصَّالِحَةِ: أَدَاءُ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَالْحُكْمُ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ.وَحَكَى: إِنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَلَا يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَلَوْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً.

د ـ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ:

27- إِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوِلَايَاتِ فِي الْإِسْلَامِ: إِصْلَاحُ دِينِ الْخَلْقِ الَّذِي مَتَى فَاتَهُمْ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا نَعِمُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِصْلَاحُ مَا لَا يَقُومُ الدِّينُ إِلاَّ بِهِ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا.وَذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا.

- 16- قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَإِذَا كَانَ جِمَاعُ الدِّينِ وَجَمِيعِ الْوِلَايَاتِ هُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، فَالْأَمْرُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ هُوَ النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهَذَا نَعْتُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَالْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}.

وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ قَادِرٍ، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَيَصِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْقَادِرِ إِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ، وَالْقُدْرَةُ هِيَ السُّلْطَانُ وَالْوِلَايَةُ، فَذَوُو السُّلْطَانِ أَقْدَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَعَلَيْهِمْ مِنَ الْوُجُوبِ مَا لَيْسَ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ مَنَاطَ الْوُجُوبِ هُوَ الْقُدْرَةُ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ بِحَسْبِ قُدْرَتِهِ.

وَجَمِيعُ الْوِلَايَاتِ إِنَّمَا مَقْصُودُهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وِلَايَةُ الْحَرْبِ الْكُبْرَى مِثْلُ نِيَابَةِ السَّلْطَنَةِ، وَالصُّغْرَى مِثْلُ وِلَايَةِ الشُّرَطَةِ، وَوِلَايَةِ الْحُكْمِ، وَوِلَايَةِ الْمَالِ- وَهِيَ وِلَايَةُ الدَّوَاوِينِ الْمَالِيَّةِ- وَوِلَايَةِ الْحِسْبَةِ.لَكِنَّ مِنَ الْمُتَوَلِّينَ مَنْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ الْمُؤْتَمَنِ، وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ الصِّدْقُ، مِثْلُ الشُّهُودِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَمِثْلُ صَاحِبِ الدِّيوَانِ الَّذِي وَظِيفَتُهُ أَنْ يَكْتُبَ الْمُسْتَخْرَجَ وَالْمَصْرُوفَ، وَالنَّقِيبِ وَالْعَرِيفِ الَّذِي وَظِيفَتُهُ إِخْبَارُ ذِي الْأَمْرِ بِالْأَحْوَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْأَمِينِ الْمُطَاعِ، وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْعَدْلُ، مِثْلُ الْأَمِيرِ وَالْحَاكِمِ وَالْمُحْتَسِبِ.وَبِالصِّدْقِ فِي كُلِّ الْأَخْبَارِ، وَالْعَدْلِ فِي الْإِنْشَاءِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ تَصْلُحُ جَمِيعُ الْأَحْوَالِ.

هـ ـ مَشُورَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَذَوِي الرَّأْيِ وَالتَّجْرِبَةِ:

28- مَشُورَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَذَوِي الرَّأْيِ وَالتَّجْرِبَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى صَاحِبِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ لِظَاهِرِ وَعُمُومِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْمُشَاوَرَةُ أَصْلُ الدِّينِ، وَسُنَّةُ اللَّهِ فِي الْعَالَمِينَ، وَهِيَ حَقٌّ عَلَى عَامَّةِ الْخَلِيقَةِ مِنَ الرَّسُولِ إِلَى أَقَلِّ خَلْقٍ بَعْدَهُ فِي دَرَجَاتِهِمْ، وَهِيَ اجْتِمَاعٌ عَلَى أَمْرٍ يُشِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ بِرَأْيِهِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِشَارَةِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَيَلْزَمُ ذَا الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ اسْتِشَارَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْخِبْرَةِ فِيمَا خَفِيَ عَنْهُ أَوْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ مِـنَ الْأُمُورِ وَالْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِوِلَايَتِـهِ وَسُلْطَانِهِ، فَالشُّورَى أُلْفَةٌ لِلْجَمَاعَةِ، وَمِسْبَارٌ لِلْعُقُولِ، وَسَبَبٌ إِلَى الصَّوَابِ، وَمَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ إِلاَّ هُدُوا.

قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادَ: وَاجِبٌ عَلَى الْوُلَاةِ مُشَاوَرَةُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ، وَفِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَوُجُوهِ الْجَيْشِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُرُوبِ، وَوُجُوهِ النَّاسِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ، وَوُجُوهِ الْكُتَّابِ وَالْعُمَّالِ وَالْوُزَرَاءِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْبِلَادِ وَعِمَارَتِهَا.

وَقَدْ مَدَحَ اللَّه مَنْ عَمِلَ بِهَا فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}.قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَيْ لَا يَسْتَبِدُّونَ بِأَمْرٍ، وَيَتَّهِمُونَ رَأْيَهُمْ حَتَّى يَسْتَعِينُوا بِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُظَنُّ بِهِ أَنَّ عِنْدَهُ مَدْرَكًا لِغَرَضِهِ.وَهَذِهِ سِيرَةٌ أَوَّلِيَّةٌ، وَسُنَّةٌ نَبَوِيَّةٌ، وَخَصْلَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ مَرَضِيَّةٌ.

(ر: شُورَى ف 5 ـ 8).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


117-إكمال الإعلام بتثليث الكلام (السعف)

السعف: كل جيد بَالغ من عبد وَدَار وَغَيرهمَا.

ومصدر سعف الصَّبِي، فَهُوَ مسعوف: أَي حدث فِي رَأسه السعفة: وَهِي دَاء.

وَالسَّعَف الْيَد: لُغَة فِي السعف الْيَد: وَهُوَ الَّذِي تشعث مَا يَلِي أَظْفَاره.

وَالسَّعَف: جمع أسعف: وَهُوَ الْفرس الَّذِي فِي ناصيتهشعرت بيض وَالْبَعِير الذى أَصَابَهُ دَاء كالجرب، يتمعط مِنْهُ خرطومه، وَيسْقط شعر عينه.

إكمال الإعلام بتثليث الكلام-محمد بن عبدالله، ابن مالك الطائي الجياني، أبو عبدالله، جمال الدين-توفي: 672هـ/1273م


118-معجم الرائد (أَعْثَرَ)

أَعْثَرَ إِعْثَارًا:

1- أَعْثَرَهُ: جعله «يعثر»، أي يزل ويسقط.

2- أَعْثَرَهُ على سره أو ضميره: أطلعه عليه.

3- أَعْثَرَهُ على أصحابه: دله عليهم.

4- أَعْثَرَ به عند الحاكم: طعن فيه وذمه وشكاه.

الرائد-جبران مسعود-صدر: 1384هـ/1965م


119-معجم الرائد (قوباء)

قوباء: داء يظهر في الجسد يتقشر منه الجلد ويسقط الشعر.

الرائد-جبران مسعود-صدر: 1384هـ/1965م


120-معجم الرائد (هلك)

هلك:

1- جثة الهالك المنتنة.

2- ما بين أعلى الجبل وأسفله.

3- فضاء ما بين كل شيئين.

4- شيء يهوي ويسقط.

الرائد-جبران مسعود-صدر: 1384هـ/1965م


121-معجم الرائد (هيار)

هيار: ما ينهار ويسقط.

الرائد-جبران مسعود-صدر: 1384هـ/1965م


122-معجم الرائد (ورق)

ورق:

1- أعضاء نباتية تنمو على أغصان الشجر، مختلفة الأشكال، بعضها ييبس في الشتاء ويسقط، وبعضها دائم الخضرة.

2- صفائح جافة رقيقة تصنع من عجين عدد من المواد النباتية وتتخذ للكتابة والطباعة أو غير ذلك.

3- دراهم مضروبة.

4- من كل حيوان: الحي.

5- مال من دراهم وماشية.

6- قطع مستديرة من الدم على الأرض.

7- جمال، بهجة.

8- «ورق الشباب»: نضرته، حداثته.

9- «هو طيب الورق»: أي طيب النسل.

الرائد-جبران مسعود-صدر: 1384هـ/1965م


123-التعريفات الفقهية (الفَرض على الكفاية)

الفَرض على الكفاية: ما يلزم جميعَ المسلمين إقامتُه ويسقط بإقامة البعض عن الباقين كالجهاد وصلاة الجنازة.

التعريفات الفقهية-محمد عميم الإحسان-صدر: 1407هـ/1986م


124-لغة الفقهاء (الخوارم)

الخوارم: مفردها خارم، من خرم الشيء إذا شقه وقطعه.

[*] ما ينقص به الشيء، يقولون: خوارم العدالة، وخوارم المروءة، أي: ما ينقص العدالة والمروءة ويسقط الشهادة... The case was a failure

معجم لغة الفقهاء-محمد رواس قلعه جي/حامد صادق قنيبي-صدر: 1405هـ/1985م


125-مقاليد العلوم (الفَنَاء)

الفَنَاء (فِي التصوف): سُقُوط الْأَوْصَاف المذمومة، وَقيل: أَن يفنى عَنهُ الحظوظ فَلَا يكون لَهُ فِي شَيْء حَظّ، وَيسْقط عَنهُ التَّمْيِيز فنَاء عَن الْأَشْيَاء كلهَا شغلا بِمن فني بِهِ.

مقاليد العلوم-جلال الدين السيوطي-توفي: 911هـ/1505م


126-طِلبة الطلبة (رتق)

(رتق):

وَلَا تُرَدُّ الْمَنْكُوحَةُ عِنْدَنَا بِعَيْبِ الرَّتَقِ بِفَتْحِ التَّاءِ وَهُوَ انْسِدَادُ الرَّحِمِ بِعَظْمٍ وَنَحْوِهِ وَالْمَرْأَةُ الرَّتْقَاءُ الَّتِي لَا يَصِلُ إلَيْهَا زَوْجُهَا وَصَرْفُهُ مِنْ حَدِّ عَلِمَ وَلَا بِالْقَرْنِ بِتَسْكِينِ الرَّاءِ وَهِيَ كَالْعَفَلَةِ الَّتِي هِيَ لِلنِّسَاءِ كَالْأُدْرَةِ لِلرِّجَالِ وَلَا بِالْبَرَصِ وَهُوَ بَيَاضٌ يَظْهَرُ بِالْجِلْدِ وَيُتَشَاءَمُ بِهِ وَصَرْفُهُ مِنْ حَدِّ عَلِمَ وَلَا بِالْجُذَامِ وَهُوَ دَاءٌ يَقَعُ فِي اللَّحْمِ فَيَفْسُدُ وَيَنْتُنُ وَيَتَقَطَّعُ وَيَسْقُطُ وَقَدْ جُذِمَ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ فَهُوَ مَجْذُومٌ وَلَا بِالشَّلَلِ وَهُوَ آفَةٌ تُصِيبُ الْيَدَ أَوْ الرِّجْلَ وَقَدْ شَلَّ يَشَلُّ فَهُوَ أَشَلُّ مِنْ حَدِّ عَلِمَ.

طلبة الطلبة-أبوحفص النسفي-توفي: 537هـ/1142م


127-تاج العروس (غرب)

[غرب]: الغَرْبُ قال ابنُ سيدَه: خِلَافُ الشَّرْقِ وهو المَغْرِب وقَوْلُه تَعَالى {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} أَحدُ المَغْرِبَيْنِ: أَقْصَى ما تَنْتَهي إِلَيْه الشَّمْسُ في الصَّيْفِ، والآخر أَقْصَى ما تَنْتَهي في الشِّتَاءِ، وأَحَدُ المَشْرِقَيْن: أَقْصَى ما تُشْرِق منْه في الصَّيْفِ، والآخَرُ أَقْصَى ما تُشْرِق مِنْه في الشِّتَاءِ. وبين المَغْرِب الأَقْصَى والمَغْرِبِ الأَدْنَى مائَةٌ وثَمَانُونَ مَغْربًا، وكذلك بَيْنَ المَشْرِقَيْنِ. وفي التَّهْذِيب: للشَّمْسِ مَشْرِقَانِ ومَغْرِبَانِ، فأَحَدُ مَشْرِقَيْهَا أَقْصَى المَطالِع في الشِّتَاء والآخَرُ أَقْصَى مَطَالِعِها في القَيْظ، وكَذَلِكَ أَحَدُ مَغْرِبَيْهَا أَقْصَى المَغَارِب في الشِّتَاءِ وَكَذَلِكَ [في الجانب]: الآخَرُ. وقَولُه جَلَّ ثَنَاؤُهُ {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ} جَمع؛ لأَنَّه أُرِيد أَنَّهَا تُشْرِقُ كُلَّ يوم من موضِع وتَغْرُبُ في موضع إِلَى انْتِهَاء السَّنَة.

والغُرُوبُ غُروب الشَّمْسُ وغَرَبَتِ الشَّمْسُ تَغْرُب، سَيَأْتِي قَرِيبًا.

والغَرْبُ: الذَّهَابُ بالفَتْح مَصْدر ذَهب. والغَرْبُ: التَّنَحِّي عن النَّاس، وقد غَرَبَ عَنَّا يَغْرُب غَرْبًا. والغَرْبُ: أَوَّلُ الشَّي‌ء وحَدُّه، كَغُرَابِهِ بالضَّمِّ. والغَرْبُ والغَرْبَةُ: الحِدَّةُ. في التَّهْذِيبِ: يقال: كُفَّ عَنْ غَرْبك أَي حِدَّتك.

وغَرْبُ الفَرس: حِدَّتُه وَأَوَّلُ جَرْيِه. تقول: كَفَفْتُ مِن غَرْبِه، قال النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيّ:

والخَيْلُ تَمْزَعُ غَرْبًا في أَعِنَّتِهَا *** كالطَّيْرِ يَنْجُو مِنَ الشُّؤْبُوبِ ذِي البَرَد

هكذا أَنْشَدَهُ الجَوْهَريّ، قال ابْنُ بَرِّيّ: صَوَابُ إِنشَادِه «والخَيْلَ» بالنَّصْبِ لأَنَّه مَعْطُوفٌ على المِائة مِنْ قَوْلِه:

الواهِبِ المِائَةَ الأَبْكَارَ زَيَّنَها *** سَعْدانُ تُوضِحَ في أَوْبَارِها اللِّبَد

والشُّؤْبُوبُ: الدَّفْعةُ منَ المطَرِ الَّذِي يَكُون فيه البَرَدُ وقد تَقَدَّمَ، والمَزْعُ: سُرْعَةُ السِّيْر. والسَّعْدانُ: نَبْتٌ تَسمن عنْه الإِبلُ وتَغزُر أَلبانُها ويَطِيبُ لَحْمُها. وتُوضِحُ: موْضع.

واللِّبَد: ما تَلَبَّدَ من الوبر، الواحِدَةُ لِبْدَة، كذا في لسان العرب.

ويقال: في لِسانِه غَرْبٌ؛ أَي حِدَّةٌ، وغَرْبُ اللِّسانِ: حِدَّتُه.

وسيْفٌ غَرْبٌ؛ أَي قَاطعٌ حدِيد.

قال الشَّاعِر يصِف سَيْفًا:

غَرْبًا سَرِيعًا في العِظَامِ الخُرْس

ولِسَانٌ غَرْبٌ: حَدِيدٌ وفي حَدِيثِ ابْنِ عبَّاس ذَكَر الصِّدِّيقَ فقال: «كَانَ واللهِ بَرًّا تَقِيًّا يُصَادَى غَرْبُه» وفي رواية «يُصادَى مِنْه غَرْبٌ».

الغَرْبُ: الحدَّةُ، ومنه غَرْبُ السَّيْف؛ أَي كَانَت تُدَارَى حِدَّتُه وتُتَّقَى. ومنه‌حَدِيثُ عمر «فسَكَّن مِنْ غَرْبه».

وفي حديث عَائشَةَ قالت عن زَيْنَبَ رضي ‌الله‌ عنهما: «كُلُّ خِلالِها محْمُودٌ ما خلا سَوْرَةً من غرْبٍ كانتْ فِيها» وفي حديث الحسَن: سُئل عن قُبْلةِ الصَّائِم، فقال: «إنِّي أَخافُ عليك غَرْبَ الشَّبابِ» أَي حِدَّته. هذا كُلُّه خُلَاصَةُ ما فِي التَّهْذِيب والمُحْكَمِ والنِّهَايَة.

والغَرْبُ: النَّشَاطُ والتَّمادِي في الأَمْرِ.

والغَرْبُ: الرَّاوِيَةُ التي يُحْمَل علَيها المَاءُ، قال لَبِيد:

غَرْبُ المَصَبَّة محْمَودٌ مَصَارِعُه *** لَاهِي النَّهارِ لِسيْرِ الَّليْلِ مُحْتَقِرُ

وفَسَّره الأَزْهَرِيُّ بالدَّلْو.

والغَرْبُ: الدَّلْوُ العظيمَةُ تُتَّخَذُ من مَسْكِ ثَوْرِ مُذَكَّر، وجمعه غُرُوبٌ. وبه فُسِّر حَديثُ الرُّؤْيَا «فأَخَذَ الدَّلْوَ عُمرُ فاسْتَحَالَتْ غَرْبًا» قال ابنُ الأَثير: ومعْنَاهُ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا أَخَذَ الدَّلْوَ لِيَسْتَقِيَ عَظُمَت في يَدِه؛ لأَنَّ الفُتُوحَ كانَت في زَمَنِه أَكثَرَ مِنْهَا في زَمَنِ أَبِي بَكْر، رضي ‌الله‌ عنهما. ومعنى اسْتَحالَتْ انقلَبَت عن الصِّغَرِ إِلى الكِبَر. وفي حَدِيثِ الزَّكَاة «وما سُقِيَ بالغَرْب ففيه نِصْفُ العُشْرِ» وفي الحَدِيث «لَوْ أَنَّ غَرْبًا من جَهَنَّمَ جُعِلَ في الأَرْض لآذَى نَتْنُ رِيحهِ وشِدَّةُ حَرِّه ما بَيْن المَشْرِق والمَغْرِب».

والغَرْب: عِرْقٌ في مَجْرَى الدَّمْع، وهو كالنَّاسُورِ، وقيل: هو عِرْق في العَيْن يَسْقِي و* لا يَنْقَطِع سَقْيُه. قال الأَصْمَعِيُّ: يقال: بِعَيْنه غَرْبٌ، إِذا كانت تسيل ولا تَنْقَطع دُمُوعُها.

والغَرْبُ: الدَّمعُ حين يَخْرُج من العَيْن، جمعه غُروبٌ قال:

ما لكَ لا تذكُرُ أُمَّ عَمْرِو *** إِلَّا لعَيْنَيْك غُروبٌ تَجْرِي

وفي حديث الحَسَن ذكرَ ابنَ عبَّاس فقال: «كان مِثَجًّا يَسِيل غَرْبًا».

شَبَّه به غَزارةَ عِلْمه وأَنَّه لا يَنْقَطع مَدَدُه وجَرْيُه. والغَرْبُ: مَسِيلُه أَي الدَّمْع أَو هو انْهِلَالُه وفي نسخة انْهمالُه من العيْنِ. والغَرْبُ: الفَيْضَةُ من الخَمْر، وكذلك هي من الدَّمْع، والغَرْبُ: بَثْرَةٌ تَكُونُ في العَيْن تُغِذُّ ولا تَرْقَأُ. وغَرِبت العَيْنُ غَرَبًا وهو وَرم في المآقي.

والغَرْب: كَثرةُ الرِّيقِ في الفَمِ وبَلَلُه وجمعه غُروب: والغَرْبُ في السِّنّ مَنْقَعُه أَي مَنْقَعُ رِيقِه، وقيل: طَرَفُه وحِدَّتُه ومَاؤُه. قال عَنتَرة:

إِذ تَسْتَبِيكَ بذِي غُرُوبٍ وَاضحٍ *** عَذْبٍ مُقَبَّلُه لَذِيذِ المَطْعَمِ

والغَرْبُ: شَجَرَةٌ حِجَازِيَّةٌ خَضراءُ ضخمةٌ شاكَةٌ بالتَّخْفِيفِ، وهي التي يُعمَل منها الكُحَيْل الذي تُهنأُ به الإِبِل، واحِدَتُه غَرْبة، قاله ابن سِيده. والكُحَيْل هو القَطِرَانُ، حِجَازِيَّة، كذا في التَّهْذِيب. وقال أَيضًا: الأَبْهَلُ هو الغَرْبُ، لأَن القَطِرانَ يُسْتَخْرجُ منه قِيل: ومِنْه الحَدِيث: لَا يَزَالُ أَهْلُ الغَرْبِ ظَاهِرِين على الحَقّ. لم يَذْكُره أَهلُ الغَرِيبِ، فلِغَرابَته ذَكَرَه هُنَا. وفي لسان العرب.

وقيل: أَراد بهم أَهلَ الشأْم؛ لأَنهم غَرْبُ الحِجَازِ. وقيل: أَراد بِه الحِدَّة والشَّوْكَةَ، يريد أَهلَ الجهاد. وقال ابن المَدَائِنِيّ: الغَرْبُ هنا الدَّلْوُ، وأَراد بهم العَرَبَ لأَنَّهم أَصحابُها وهم يَسْتَقُون بها.

قال شَيْخُنَا: ورجَّحَ عِياضٌ في الشِّفاء وَغَيْرُه من أَهْلِ الغَرِيب على الحَقِيقَةِ، وأَيَّده بأَنَّ الدارَ قُطْنِي رواه «المغرب» بِزِيادة. المِيمِ، وهو لا يَحْتَمِل غيرَه، وفيه كَلَامٌ في شُرُوحِ الشِّفَاءِ.

والغَرْبُ: يَوْمُ السَّقْيِ. نَقله الأَزْهَرِيُّ عن اللَّيْث قال:

في يَومِ غَرْب ومَاءُ البِئْر مُشْتَرَكٌ

وأَراد بقَوْله في يَوْم غَرْبٍ أَي في يَوْم يُسْتَقَى بِهِ عليى السَّانِيَة، قال: ومنه قَوْلُ لَبِيد:

فصَرَفْتُ قَصْرًا والشُّؤُونُ كأَنَّهَا *** غَرْبٌ تَخُبُّ به القَلُوصُ هَزِيمُ

وفَسَّره اللَّيْثُ بالدَّلْوِ الكَبِيرة، وقد تَقَدَّم.

والغَرْبُ: الفَرَسُ الكَثِيرُ الجَرْيِ قال لَبِيد:

غَرْبُ المَصَبَّةِ مَحْمُودٌ مَصَارِعُه *** لاهِي النَّهَارِ لسَيْرِ اللَّيْل مُحْتَقِرُ

أَرادَ بقَوْله: غَرْبُ المَصْبَّة أَنَّه جَوادٌ وَاسِعُ الخَيْرِ والعَطاءِ. عند المَصَبَّة؛ أَي عند إِعْطاءِ المال يُكْثِرُهُ كما يُصَبُّ المَاءُ: ويقال: فَرَسٌ غَرْبٌ؛ أَي مُتَرامٍ بنَفْسِه مُتَتابعٌ في حُضْرِه، لا يُنْزِعُ حَتَّى يَبْعَدَ بِفارِسِه.

والغَرْبَانِ: مُقْدِمُ العَيْنِ ومُؤْخِرُهَا، وللعيْن غَرْبَانِ.

والغَرْبُ: النّوَى والبُعْدُ، كالغَرْبَة، بالفَتْح. ونَوًى غَرْبَة: بَعِيدَة. وغَرْبَةُ النَّوى: بُعْدُهَا. قال الشَّاعِر:

وشَطَّ وَلْيُ النَّوَى إِنَّ النَّوَى قُذُفٌ *** تَيَّاحَةٌ غَرْبَةٌ بِالدَّارِ أَحْيانَا

والنَّوَى: المَكَانُ الَّذي تَنْوِي أَن تَأْتَيَه في سَفَرك. ودَارُهُم غَرْبَة: نَائية. وقد تَغَرَّبَ. قال سَاعِدةُ بْنُ جُؤَيَّةَ يَصِفُ سَحَابًا:

ثم انْتَهَى بَصَرِي وأَصْبَحَ جَالِسًا *** مِنْه لنَجْد طائقٌ مُتَغَرِّبُ

وقيلَ: مُتَغَرِّبٌ هنا: أَتَى منْ قِبَل المَغْرِب.

فظهر بما ذَكَرْنَا أَنَّ المُؤَلِّف ذَكَرَ لِلْغَرْب أَرْبعَةً وَعِشْرِين مَعْنًى؛ وهو: المَغْرِب، والذَّهَابُ، والتّنَحِّي، وأَوَّلُ الشَّيْ‌ء، وحَدُّه، والحِدَّةُ والنَّشَاطُ، والتَّمَادي، والرَّاوِيَةُ، والدَّلْوُ، والعرْقُ، والدَّمْعُ، ومسِيلُه وانُهِمَالُه، والفَيْضَة، والبَثْرَةُ، والوَرَمُ، وكَثْرَةُ الرِّيق، والبَلَلُ، والمَنْقَع، والشَّجَرَةُ، ويومُ السَّقْيِ، والفَرَسُ، ومُقْدِمُ العَيْن، والنَّوَى. اقْتَصَرَ منها في الأَسَاسِ على التِّسْعَة، والبَقِيَّةُ في المُحْكَمِ والتَّهْذِيبِ والنَّهايَةِ.

ومما يُسْتدرَك على المُؤَلِّف من مَعَانِيه: الغَرْبُ: السَّيْفُ القَاطِعُ الحَدِيدُ. قَال:

غَرْبًا سَرِيعًا في العِظَامِ الخُرْسِ

والغَرْبُ: اللِّسَانُ الذَّلِيقُ الحَدِيدُ، والغَرْبُ: الشَّوْكَةُ. يقال: فَلَّ غَرْبَهُمْ وكَسَر غَرْبَهم؛ أَي شَوكَتَهم، كما تَقَدَّم، وهو مَجَاز. قال شَيْخُنَا في آخِرِ المَادَّة: وبَقِي غُرُوبُ الأَسْنَانِ وهي حِدَّتُهَا ومَاؤُها، وَاحِدُها غَرْب، وقد أُطْلِقَت بمَعْنَى الأَسْنَان، كَمَا في حَدِيثِ النَّابِغَةِ الجَعْدِيّ. قال الرَّاوِي: «ولا تَولَّت بَرْق غُروبه» أَي تبرق أَسنانه من بَرَق البَرْقُ إِذا تلأْلأَ. والغُرُوبُ: الأَسْنَان، وكنتُ تركْتُ نقلَه لشُهْرَته في دَوَاوِين الغَرِيب فوقَف بَعْضُ الأَصْحَاب على كِتَابِنا «العُيونُ السَّلسَلَة في الأَسَانِيدِ المُسَلْسَلَة» فأَنْكَر الغُرُوبَ بمَعْنَى الأَسْنَان، واستدَلّ بأَنَّها لَيْسَتْ في القَامُوس، فقُلْت في العُيُون: الغُرُوبُ: الأَسْنَانُ، كما في النِّهاية، ورِقَّتُهَا وحِدَّتُهَا، كما في الصِّحَاح وغَيْرِه، وأَغْفَلَه المَجْدُ في قَامُوسِه تَقْصِيرًا على عَادَتِه، إِلى آخر ما قال.

قلت: والَّذي في الأَسَاسِ: وكأَنّ غُرُوبَ أَسنَانِها ومَيضُ البَرْقِ؛ أَي مَاؤُها وظَلْمُها.

وفي التَّهْذِيبِ والنِّهَاية والمُحْكَمِ ولِسَانِ العَرَب: وغُرُوبُ الأَسْنَانِ: مَنَاقِعُ رِيقها، وقيل: أَطْرَافُها وحِدَّتُها وَمَاؤُهَا. قال عنترة:

إِذ تَسْتَبِيكَ بِذِي غُرُوبٍ واضِحٍ *** عَذْبٍ مُقْبَّلُه لَذِيذ المَطْعَمِ

وغُرُوبُ الأَسْنَان: المَاءُ الَّذي يَجْرِي عَلَيْهَا، الوَاحِد غَرْبٌ، وغُرُوبُ الثَّنَايَا حَدُّهَا وأُشَرُها. وفي حَدِيثِ النَّابِغَة: «تَرِفُّ غُرُوبُه» هي جمع غَرْب وهو ماء الفَمِ وحِدَّةُ الأَسْنَان، فيُسْتَدْرَك عليهم الغَرْبُ بمَعْنى السِّنِّ. والمَعَانِي الثَّلَاثَة التي استَدْرَكْنَاها، فَصَارَ المَجْموعُ ثَمَانِيَةً وعِشْرِينَ مَعْنًى، وإِذا قُلْنا: مُؤْخِر العَيْنِ المَفْهُوم من قَوْله والغَرْبَان فَهِي تِسْعَةٌ وعِشْرُون. ويُزَاد عَلَيْه أَيْضًا الغُرُوبُ: جمع غَرْبٍ، وهي الوَهْدَةُ المُنْخَفِضَة. وللهِ دَرُّ الخَلِيل بْنِ أَحْمَد حيثُ يَقُولُ:

يا وَيْحَ قَلْبِي من دَوَاعِي الهَوى *** إِذْ رحَل الجِيرَانُ عِنْد الغُرُوبْ

أَتْبَعْتُهم طَرْفي وقد أَزْمعُوا *** ودَمْعُ عينيّ كفَيْضِ الغُرُوبْ

بَانُوا وفِيهِم طفْلَةٌ حُرَّةٌ *** تفتَرُّ عن مِثْل أَقَاحِي الغُرُوبْ

الأَوّلُ غروبُ الشَّمْسِ. والثَّانِي: الدِّلاءُ العَظِيمَةُ.

والثَالِثُ: الوَهْدَةُ المُنْخَفِضَةُ.

فكمل بذلك ثَلَاثُونَ. ثم إِنّي وَجَدْتُ في شرح البَدِيعِيَّة لبَدِيع زَمَانِه عَلِيِّ بْنِ تَاج الدِّين القلعيّ المَكّيّ رَحِمه اللهُ تَعالى قال ما نَصُّه في سَانِحَات دُمَى القَصْر للعَلَّامَة دَرْوِيش أَفندي الطَّالُوِي رَحِمَه اللهُ: كَتَب إِليّ الأَخ الفَاضِل دَاوود بْن عُبَيْد خَلِيفَة نَزِيل دمَشْق عن بعض المدارس في لفظ مشترك الغرب طَالِبًا مِنّي أَنْ أَنْسُج على مِنْوَالِهَا وأَحذُوَ على أَمثالها وهي:

لقد ضَاءَ وجهُ الكَوْنِ وانْسلَّ غَرْبُهُ *** فَلَمْ يَدْرِ أيّا شرقُه ثم غَرْبُهُ

وسائِل وَصْلٍ منه لَمَّا رأَى جَفَا *** بما قَدْ جَرَى من بعده سَالَ غَرْبُهُ

يَمُرُّ عليه الحَتْفُ في كُلِّ ساعَةٍ *** ولكنْ بِحُجْبِ السُّقْم يُمنَعُ غَرْبُهُ

تَدَلَّى إِليه عند ما لَاح فَقْدُه *** بثَغْرٍ شَنِيبٍ قد رَوَى الخلَّ غربُهُ

فكتبتُ إِليه هَذِه الأَبياتِ التِي هي لا شَرْقِيَّة ولا غَرْبيَّة، وهي:

أَمِنْ رَسْم دَارٍ كاد يُشْجِيك غَربُهُ *** نَزَحْتَ ركيّ الدَّمْع إِذْ سَالَ غَرْبُهُ

: عرق الجبين.

عفا آيَةُ نَشْرُ الجَنُوبِ مَعَ الصَّبَا *** وكُلُّ هَزِيم الوَدْقِ قد سَال غَربُه

: الدلو.

به النَّوْء عَفَّى سطْرَه فكأَنَّه *** هِلالٌ خِلالَ الدَارِ يَجْلوه غَرْبُهُ

: محل الغروب.

وقَفْتُ به صَحْبِي أُسائِلُ رَسْمها *** على مِثْلِها والجَفْنُ يَذْرِف غَرْبُهُ

: الدمع.

على طَلَلٍ يَحْكِي وُقُوفًا برَسْمِه *** بحاجة صَبٍّ طالَ بالدَّارِ غَرْبُهُ

: التمادي.

أَقُولُ وقد أَرْسَى العَنَا بعِرَاصِه *** وأَتْرفَ أَهليه البِعادُ وغرْبُهُ

: النوم.

سَقَى ربعَك المعهودَ رَيْعَانُ عارضٍ *** يَسُحُّ على سُحْم الأَثَافِيّ غَربُهُ

: الرواية.

وليل كَيوْمِ البَيْن مُلْقٍ رِوَاقَه *** عليَّ وقد حَلَّى الكواكبَ غَربُهُ

: أَول الشي‌ء.

أُراعِي به زُهْرَ النُّجُوم سَوابحًا *** ببَحْرٍ من الظَّلماءِ قد جَاشَ غَرْبُهُ

: أَعلى الماء.

يُرَاقِب طَرْفى السَّابِحَاتِ كأَنَّما *** لِطُولِ دَوَامٍ نِيطَ بالشُّهْب غَرْبُهُ

: مُقْدِم العين.

كأَنَّ جَنَاحَىْ نَسْرِه حُصَّ مِنهما *** قَوَادِمُ حتى ما يُزايِل غَرْبُهُ

: التنحّي.

ذكرْتُ به لُقْيَا الحَبِيبِ وبَيْنَنَا *** أَهاضِيبُ أَعلامِ الحِجَازِ وغَرْبُهُ

: شجر.

فهَاجَ لِيَ التَّذْكَارُ نَارَ صَبَابَةٍ *** لها الجَفْنُ أَضْحَى سائِلَ الدَّمْع غَرْبُه

: المبل.

إِلى أَنْ نَضَا كَفُّ الصباح سِلاحه *** وأُغمِد من سَيْفِ المَجَرَّةِ غربُهُ

: الحد.

وولّت نجومُ اللَّيْل صَرْعَى كأَنَّما *** أُرِيقَ عليهَا من فَم الكَأْسِ غَربُهُ

: فيض.

وأَقبَل جيشُ الصُّبْح يُغْمِد سيفَه *** بنَحْرِ الدُّجَى والليلُ يركُضُ غربُهُ

: فرس يجري.

وزَمْزم فوق الأَيْكِ قُمْرِيُّ بانَةٍ *** بروضٍ كَفَاه عن نَدَى السُّحْب غَربُهُ

: يوم السَّقْي.

فهَبَّ يُدِيرُ الرَاحَ بدرٌ يَزِينُه *** إِذَا قامَ يجلُوه على الشّرب غَربُهُ

: النشاط.

من الرِّيم خُوطِيّ القَوَامِ بثَغْرِه *** وسَلْسَال راحٍ يُبْرِئُ السُّقْمَ غَربُهُ

: سيلان الريق.

بِخَدٍّ أَسِيلٍ يَجْرَحُ اللُّبَّ خَدُّه *** وطَرْفٍ كَحِيل ينفُثُ السِّحْرَ غَرْبُهُ

: مُؤْخِر العين.

يُرِيكَ شَبِيهَ الدُّرِّ منه مُنَضَّدًا *** كمَنْطِق داوُودٍ إِذا سَالَ غَرْبُهُ

: اللسان.

فتًى قد كَسَاه الفضلُ ثَوْبَ مَهَابَةٍ *** لها خَصْمُه قد نَسَّ بالفَم غَرْبُهُ

: الريق.

إِلَيْكَ أَتَتْ تَفْلِي الفَلَا بَدَوِيَّةٌ *** ولم يُنضِهَا طُولُ المَسِير وغَرْبُهُ

: البعد.

أَرقّ من الصَّهْبَاءِ فاعْجبْ نَسِيبُها *** وأَعْذَبُ من ثَغْرٍ حَوَى الشَّهْدَ غربُهُ

: منقطع الريق.

إِذا ما جَرَت في حَلْبَةِ الشِّعْرِ لم يَكُ ال *** كُميْت يُدَانِيها وإِن زَادَ غَرْبُهُ

: الجري.

ولو عَرَضَتْ يومًا لغَيْلانَ لم يَكُنْ *** بأَطْلالِ مَيٍّ يُغْرِق الجفْنَ غربُهُ

: انهلال الدمع.

فَدُونَكَها لا زِلْتَ تَسْمُو إِلَى العُلَا *** مَدَى الدَّهْر ما صَبٌّ سَقَي الدَّارَ غَربُهُ

: فيضة من دمع.

فَزَادَ على المُصَنِّف فيما أَورده: عَرَق الجَبِين، والنَّوم، وأَعْلَى المَاء، والجَرْي، فَصَارَ المجمُوعُ أَربعةً وثَلَاثِين مَعْنًى للفْظ الغَرْب، فافْهَم ذَلِك والله أَعْلم.

والغُرْبُ. بالضَّمِّ: النُّزُوحُ عن الوَطَن كالغُرْبَة بالضَّمِّ أَيْضًا والاغْتِرَاب والتَّغَرُّب، والتَّغَرُّب أَيضًا البُعْدُ، تَقُولُ منه: تَغرَّب واغْتَرَب.

والغَرَبُ: بالتَّحْرِيك: شَجَرٌ يُسوَّى منه الأَقْدَاحُ البِيضُ، كذا في التَّهْذِيب. وقال ابنُ سِيدَه: هو ضَرْب من الشَّجَر، واحِدَته غَرَبَةٌ، وأَنْشَدَ:

عُودُك عُودُ النُّضَارِ لا الغَرَبُ

والغَرَبُ: الخَمْرُ قال:

دَعِينِي أَصْطَبِح غَرَبًا فأُغْرِبْ *** مع الفِتْيَانِ إِذ صَبَحُوا ثُمُودَا

والغَرَبُ: الذَّهَبُ، وقيلَ: الفِضَّةُ. قال الأَعْشَى:

إِذَا انْكَبَّ أَزْهَرُ بين السُّقَاةِ *** تَرَامَوْا بِهِ غَرَبًا أَو نُضَارَا

نَصَب غَرَبًا على الحَال وإِن كان جَوْهَرًا، وقد يكُون تمْيِيزًا.

أَو الغَرَبُ جَامٌ مِنْهَا أَي الفِضَّة قال الأَعْشَى:

فدَعْدَعَا سُرَّةَ الرَّكاءِ كَمَا *** دعْدَعَ سَاقِي الأَعَاجِمِ الغَرَبَا

في لِسَانِ العَرَبِ، قال ابنُ بَرِّي هَذَا البَيْتُ لِلَبِيدٍ ولَيْسَ للأَعْشَى كما زَعَم الجَوْهَرِي، والرَّكاءُ بفَتْح الرَّاء: مَوْضِع قال: ومِنَ النَّاس من يكْسر الرَّاءَ والفَتْحُ أَصحُّ، ومَعْنَى دَعْدَعَ: ملأَ، وصفَ مَاءَيْن التَقَيَا من السَّيْل فملآ سُرَّةَ الرَّكاء، كما ملأَ ساقي الأَعاجم قَدَحَ الغَرَب خَمْرًا.

قال: وأَمَّا بيتُ الأَعْشَى الَّذِي وقَعَ فيه الغَرَب بمعنى الفِضَّة، فهو الَّذِي تَقَدَّم ذِكْرُه. والأَزْهَرُ: إِبْرِيق أَبيضُ يُعْمَلُ فِيهِ الخَمْر، وانْكبَابُه، إِذَا صُبَّ منه في القَدح، وتَرَامِيهِم بِالشَّرَابِ هو مُنَاولَة بَعْضِهِم بَعْضًا أَقْدَاحَ الخَمْر.

وقيل: الغَرَب والنُّضَار ضَرْبَان من الشَّجَر تُعْمَل منهُمَا الأَقْدَاحُ. وفي التَّهْذِيب: النُّضارُ: شَجَرٌ تُسَوَّى منه أَقدَاحٌ صُفْر، وسيَأْتي في محله، والغَرَب: القَدَحُ، وجَمْعُه أَغْرَابٌ. قال الأَعْشى:

بَاكَرَتْهُ الأَغْرَابُ في سِنَةِ النَّوْ *** مِ فَتجْرِي خِلَال شَوْكِ السَّيَالِ

والغَرَبُ: دَاءٌ يُصِيبُ الشَّاةَ فيَتَمَعَّطُ خُرْطُومُهَا ويَسْقُط منه شَعَرُ العَيْن. والغَرَبُ في الشاة كالسَّعَف في النَّاقَة، وقد غَرِبَت الشَّاةُ بالكَسْر.

والغَرَبُ: الذَّهَبُ، وكان يَنْبَغِي ذِكرُه عند الفِضَّة، وقد أَشرْنا إِليه آنفًا. والغَرَبُ: المَاءُ الذي يقْطُر مِنَ الدَّلْو بَيْنَ البِئْرِ والحَوْضِ*، هكذا في النُّسَخ، وفي أُخْرَى تَقْدِيم الحَوْض على البِئر وقيل: هُو كُلُّ ما يَنْصَبُّ من الدِّلَاء من لَدُن رَأْسِ البِئر إِلى الحَوْض ويَتَغَيَّر رِيحُه سَرِيعًا وقيل: هو ما حَوْلَهُمَا من الماءِ والطِّين. قال ذُو الرُّمَّة:

وأُدْرِكَ المُتَبَقَّى مِنْ ثَمِيلَتِه *** ومن ثَمَائلها واسْتُنْشِئَ الغَرَبُ

وقيل: هو رِيحُ المَاءِ والطِّين لأَنَّه يتغَيَّر سَرِيعًا. ويقال للدَّالِج بَيْن البِئر والحَوْض لا تُغْرِب؛ أَي لا تَدْفُقِ المَاءَ بَيْنَهُمَا فتَوْحَلَ والغَرَب: الزَّرَقُ في عَيْنِ الفَرَس مع ابْيِضَاضِها.

والغُرَابُ: معروف أَي معرُوف فلا يُحْتَاج إِلى ضَبْطِه، وهو الطَّائِرُ الأَسْوَد. وقَسَّمُوه إِلَى أَنواع. وفي الحَدِيث أَنَّه غَيَّر اسمَ غُرَاب لِمَا فيه من البُعْد ولأَنَّه من أَخْبَثِ الطُّيُور.

والعَرَبُ تَقُولُ: «فلانٌ أَبصَرُ من غُرَابٍ، وأَحْذَرُ مِنْ غُرَابٍ، وأَزْهَى من غُرَاب، وأَصْفَى عَيْشًا من غُرَاب، وأَشَدُّ سَوادًا مِنْ غُرَاب، وهذا بِأَبِيه أَشبَهُ مِنَ الغُرَابِ بالغُرَابِ، وإِذَا نَعَتُوا أَرْضًا بالخِصْب قالوا: وقَع في أَرْض لَا يَطِيرُ غُرَابُهَا.

ويَقُولُون: وَجَدَ ثَمرَة الغُرَابِ، وذلك أَنَّه يَتَّبع أَجْوَدَ الثَّمَر فيَنتقِيه، ويَقُولُون: أَشأَمُ مَنْ غُرَاب، وأَفْسَقُ مِنْ غُرَاب، ويَقُولُون: طَارَ غُرَابُ فلان إِذَا شَابَ رأْسُه، وغُرَابٌ غَاربٌ على المُبَالَغَة. كما قالوا: شِعْرٌ شَاعِرٌ، ومَوْتٌ مَائتٌ. قال رؤبَة:

فازجُرْ مِنَ الطَّيْرِ الغُرَابَ الغَارِبَا

قال شيخُنَا: قالوا: وليس شَيْ‌ءٌ في الأَرْض يُتَشَاءَم بِه إِلّا والغُرَابُ أَشأَمُ مِنْهُ. وللبَدِيع الهَمَذَانِيّ فَصْلٌ بَدِيع في وَصْفِه ذَكَره في المُضَافِ والمَنْسُوب. وأَورَد ما يُضَافُ إِلَيْه الغُرَابُ ويُضَافُ إِلَى الغُرَاب، والأَبْيَاتُ في غُرَاب البَيْنِ كَثيرَةٌ مُلئت بها الدَّفَاتِر، وإِنَّمَا الكلامُ فيما حَقَّقه العَلَّامَة الكَبِير قَاضِي غَرْنَاطَةَ أَبو عَبْدِ اللهِ الشَّرِيفُ الغَرْنَاطِيّ في شَرْحه الحَافِل على مَقْصُورَة الإِمام حَازِم، وصرَّح بأَنَّ غُرَاب البَيْنِ في الحقيقَة إنَّما هو الإِبِلُ التي تَنْقُلُهم مِنْ بِلاد إِلى بِلَاد. وأَنْشَدَ في ذلك مَقَاطِيعَ مِنْهَا:

غَلِطَ الَّذِينَ رَأَيْتُهُم بجَهَالَة *** يَلْحَون كُلُّهمُ غُرابًا يَنْعَقُ

ما الذَّنْب إِلّا للأَباعر إِنَّها *** مِمَّا يُشَتِّتُ جمْعَهمْ ويُفَرِّقُ

إِنَّ الغُرَابَ بيُمْنِهِ تَدْنُو النَّوَى *** وتُشَتِّتُ الشملَ الجَمِيعَ الأَيْنُقُ

وأَنشَدَ شَيْخُنا ابْنُ المسَنَّاوِيّ لابْنِ عَبْدِ رَبّه وهو عَجِيبٌ:

زَعَق الغُرَابُ فقلتُ أَكذَبُ طَائِرٍ *** إِن لم يُصَدِّقْهُ رُغَاءُ بَعِيرٍ

انْتَهى.

الجمع: أَغْرُبٌ وأَغْرِبَةٌ وغِرْبَانٌ بالكسر وغُرْبٌ بضَمٍّ فسُكُون قال:

وأَنْتُم خِفَافٌ مِثْلُ أَجْنِحةِ الغُرْبِ

جج أَي جَمْعُ الجَمْع غَرَابِينُ وهو جَمْع غِرْبَان كسِرْحَان وسَرَاحِين.

وبلا لام فَرَسٌ كانت لِغَنِيِّ بْنِ أَعْصُر، على التَّشْبِيه بالغُرَاب من الطَّيْر. وفرس آخر للبَرَاء بْنِ قَيْس.

والغُرَابُ من الفَأْسِ: حَدُّهَا. قال الشَّمَّاخُ يَصِف رَجُلًا قَطَع نَبْعَةً:

فأَنْحَى عليها ذَاتَ حَدٍّ غُرَابُها *** عَدُوٌّ لأَوْسَاطِ العِضاهِ مُشَارِزُ

والغُرَابُ: البَرَدُ والثَّلْجُ، مأْخوذٌ من المُغرَب وهو الصبح لبياضهما.

والغُرَابُ: لَقَبُ أَبِي عَبْدِ اللهِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الأَصْفَهَانيّ المُحَدِّث عن غانم البرجيّ وعنه علي بن بوزندان.

والغُراب: جَبَلٌ، قال أَوْسٌ:

فمُنْدَفَعُ الغُلَّان غُلَّانِ مُنْشِدٍ *** فنَعْفُ الغُرَاب خُطْبُه فَأَسَاوِدُهْ

والغُرَابُ: موضع بِدِمَشْقَ، وجَبَلٌ آخر شَاهِقٌ وفي نسخة: شامي بالمَدِينَةِ أَي على طَرِيقِ الشَّام كذا في النَّهاية في تَرْجَمَة «غرن».

والغُرَابُ: قَذَالُ الرَّأْسِ. يقال: شاب غُرَابُه؛ أَي شَعَرُ قَذَالِه. وطار غُرَابُ فُلَان، إِذا شَابَ. نقله الصَّاغَانِيّ.

والغُرَابُ من البَرِيرِ بالمُوَحَّدَة كأَمِير: عُنْقُودُه الأَسْوَدُ، جَمْعُهَا غِرْبان. قال بِشْرُ بْنُ أَبي خَازِم:

رَأَى دُرَّةً بيضاءَ يَحْفِل لَوْنَها *** سُخَامٌ كغِرْبَان البَرِيرِ مُقَصَّبُ

يعني به النَّضِجَ من ثَمَر الأَرَاك، ومَعْنَى يَحْفِل لَوْنَها: يَجْلُوه، والسُّخَام: كُلُّ شَي‌ء لَيِّنٍ من صُوفٍ أَو قُطْن أَو غَيْرِهما، وأَرَادَ بِهِ شَعَرها، والمُقَصَّبُ: المُجَعَّدُ.

والغُرَابَانِ هما: طَرَفَا الوَرِكَيْن الأَسْفَلَانِ اللذان يلِيَان أَعَالِيَ الفَخِذ يْن وقيل: هما رُؤوسُ الورِكَيْن وأَعَالِي فُرُوعهما، أَو هما عَظْمَانِ رَقِيقَان أَسْفَلَ مِنَ الفَرَاشَةِ.

والغُرَابَانِ من الفَرسِ والبَعير: حَرْفَا الوَرِكَيْن الأَيْسرِ والأَيمنِ اللَّذَانِ فوق الذَّنَب حيث الْتَقَى رَأْسا الوَرِك اليُمْنَى واليُسْرى والجَمْعُ غِرْبَانٌ. قال الرَّاجِزُ:

يا عَجَبا للعجَبِ العُجابِ *** خَمْسَةُ غِرْبانٍ عَلَى غُرَابِ

وقال ذُو الرُّمَّة:

وقَرَّبْنَ بالزُّرْقِ الحَمائِلَ بَعْدَ مَا *** تَقَوَّبَ عن غرْبَانٍ أَوْرَاكِها الخَطْرُ

أَراد تَقَوَّبَت غِربانُهَا عن الخَطْرِ فقَلَبه، لأَنَّ المَعْنَى معروفٌ، كقَوْلك: لا يدخُلُ الخاتَمُ في إِصْبِعي؛ أَي لا يدْخُل إِصْبَعي في خَاتَمي.

وقيل: الغِرْبَانُ: أَوراكُ الإِبِل أَنْفُسِها، أَنْشَدَ ابْنُ الأَعْرابِيّ:

سأَرْفَعُ قولًا للحُصَيْن ومُنْذِرٍ *** تَطِيرُ به الغرْبَانُ شَطْرَ المَوَاسِمِ

قال: الغرْبانُ هُنَا أَوراكُ الإِبِل. أَي تَحْمِلُه الرُّوَاةُ إِلى المَوَاسِم، والغِرْبَانُ: غِربَانُ الإِبِلِ. والغُرَابَانِ: طَرَفَا الوَرِك اللَّذَانِ يكُونَان خَلْف القَطَاةِ، والمعنى أَنَّ هَذَا الشِّعرَ يُذهَبُ به على الإِبل إِلَى المَوَاسِم، وليس يُريدُ بالغِرْبانِ غيرَ ما ذكرْنا. وهَذَا كَما قَالَ الآخر:

وإِنَّ عِتَاقَ العِيسِ سَوْفَ يزُورُكُم *** ثَنَائي على أَعْجَازِهِنّ مُعَلَّقُ

فلَيْسَ يُرِيدُ الأَعْجازَ دُونَ الصُّدُورِ.

والغُرَابُ: حَدُّ الوَرك الذي يلي الظَّهْرَ، كَذا في لسان العرب.

ورِجْلُ الغُرَاب: ضَرْبٌ مِنْ صَرِّ الإِبِلِ شَديد لَا يَقْدِرُ مَعَهُ الفَصِيلُ أَن يَرْضَع أُمَّه ولا ينْحَلّ. وحَشِيشَةٌ مذكورة في التّذْكرة وغيرها من كتب الطّبّ، وهي التي تُسَمَّى بالبَرْبَرِيّةِ أَي لِسَانِ البَرْبَر: الجِيلِ المَعْرُوف. آطْريلَال بالكَسْر وهو كالشَّبَتِ محركة وبِكَسْر الأَوَّل وسُكُون الثَّاني في سَاقِه وجُمَّتِه، بالضَّم فتشديد وأَصْلِهِ أَي شَبِيه بالشَّبَت في هَذِه الثّلاثة غَيْرَ أَنّ زَهْرَهُ أَيْ رِجْلِ الغُرَاب أَبيَضُ بخِلَاف الشَّبَت، وهو يَعْقِدُ حَبًّا كحَبِّ المَقْدُونِسِ تقريبًا، ثم ذكر خَوَاصَّها فقال: ودِرْهَمٌ من بِزْرِه حالة كونه مَسْحُوقًا مَخْلوطًا بالعَسَل المَنْزُوع الرَّغْوَةِ مُجَرَّبٌ مَشْهُور في استئْصَالِ مَادَّة البَرَص، وكذا البَهَقِ هما مُحَرَّكتان شُربًا، وقد يُضَافُ إِليه أَيضًا رُبْعُ دِرْهَمٍ من عَاقِرِ قَرْحَا المَعْرُوف بعُودِ القَرْح وَشرط أَن يَقْعُد فيَ شَمْسِ صَيْف حَارَّةٍ حَالَةَ كونه مَكْشُوفَ المَوَاضِع البَرِصَة والبَهقة. وزاد الصاغانيّ: وأَصلها إِذَا طُبخ نَفَع من الإِسْهَال، وهذَا الذِي ذَكَرَه المُؤَلِّف هنا مَذْكُورٌ في التَّذكرة وغَيْرِها من كُتُبِ الطّبّ، مشْهُورٌ عِندَهُم، وإِنما ذَكَرها لغَرابَتِها، ولِمَا فِيها من هذِه الخَاصِّيَّة العَجِيبَة، فأَحبّ أَن لا يُخْلِيَ كتَابه من فَائِدة؛ لأَنه القَامُوس المُحِيط، والله أَعْلَم.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


128-تاج العروس (حت حتت حتحت)

[حتت]: حَتَّهُ؛ أَي الشَّيْ‌ء، عن الثَّوْب وغيرِه، يَحُتُّهُ، حَتًّا: فَرَكَهُ، وقَشَرَهُ، فانْحَتَّ، وتَحَاتَّ، واسْمُ ما تَحاتَّ منه: الحُتاتُ كالدُّقاق. وهذا البِناءُ من الغالب على مثل هذا، وعامَّتُه بالهَاءِ. وكُلُّ ما قُشِرَ، فقد حُتَّ. وفي الحديث أَنَّه قال لِامْرَأَةٍ سأَلْته عن الدَّمِ يُصِيبُ ثَوْبَها، فقال لها: «حُتِّيه ولو بِضِلَعٍ» معناه: حُكِّيه وأَزِيليه. والضِّلَعُ: العُودُ. والحَتُّ والحَكُّ، والقَشْرُ، سواءٌ. وقال الشّاعر:

وما أَخذَا الدِّيوانَ حَتَّى تَصَعْلَكا *** زمانًا وحَتَّ الأَشْهَبَانِ غناهُمَا

حَتَّ: قَشَرَ وحَكَّ. وفي حديث كَعْب: يُبْعَثُ من بَقيع الغَرْقَد سبعونَ أَلفًا، هم خيارُ مَنْ يَنْحَتُّ عن خَطْمه المَدَرُ» أَي: يَنْقَشرُ ويسقُطُ عن أُنُوفهم التُّرابُ.

والحَتُّ، والانْحتاتُ، والتَّحاتُّ، والتَّحَتْحُتُ: سُقُوطُ الوَرَقِ عن الغُصْن وغيرِه.

وفي الحديث: «تَحَاتَّتْ عنه ذُنُوبُه» أَي: سَقَطَتْ.

وشَجَرَةٌ مِحْتَاتٌ: أَي مِنْثارٌ.

والحَتَتُ: داءٌ يُصيبُ الشَّجرَ، تَحاتُّ أَوراقُهَا منه.

كانْحَتَّتْ، وتَحَاتَّتْ، وتَحَتْحَتَتْ قال شيخنا: أَنَّث باعتبارِ المعنى، وهو الأَفصحُ في اسم الجِنس الجمعيّ، والتّذكيرُ فصيحٌ.

وتَحَاتَّ الشَّيْ‌ءُ: أَي تَنَاثَرَ، وفي الحديث: «ذاكِرُ اللهِ في الغافلينَ مثلُ الشَّجَرَةِ الخَضْراءِ وَسَطَ الشَّجَرِ الّذي تَحَاتَّ وَرَقُهُ من الضَّريبِ»، أَي: تساقَطَ. والضَّرِيبُ: الجَلِيدُ.

وحَتَّ الشَّيْ‌ءَ: حَطَّهُ.

ومن المَجَاز: الحَتُّ: الجَوَادُ من الفَرَسِ الكثيرُ العَرَقِ، وقيل: السَّرِيعُ العرقِ منه. وفَرَسٌ حَتٌّ: سَريعٌ، كأَنّه يَحُتُّ الأَرْضَ. والحَتُّ: سريعُ السَّيْرِ مِنَ الإِبِلِ، والخَفِيفَةُ، كالحَتْحَتِ وكذلك الظَّلِيمُ، وقال الأَعْلَمُ بنُ عبدِ اللهِ الهُذَلِيّ:

على حَتِّ البُرَايَةِ زَمْخَرِيِّ السَّ *** وَاعِدِ ظَلَّ في شَرْيٍ طِوَالِ

وإنَّمَا أَرادَ حَتًّا عندَ البُرَايَة، أَي: سَريعٌ عندَ ما يَبْريه من السَّفَرِ وقيل: أَراد حَتَّ البَرْيِ، فوضعَ الاسْم موضعَ المصدرِ. وخالَف قومٌ من البصريّين تفسيرَ هذا البيت فقالوا: يَعنِي بعيرًا، فقال الأَصمعيّ: كيف يكونُ ذلك، وهو يقولُ قبلَهُ:

كَأَنَّ مُلاءَتَيَّ على هِجَفٍّ *** يَعِنُّ مع العَشِيَّةِ لِلرِّئالِ

قال ابْنُ سِيدَهْ: وعندي [أَنه] إنّما هو ظَلِيم، شَبَّهَ [به] فَرسَه أَو بَعيرَه، أَلا تَراه قال: هِجَفّ. وهذا من صفة الظَّلِيم. وقال: ظَلَّ في شَرْي طِوَالِ، والفَرسُ أَو البعيرُ لا يأْكُلانِ الشَّرْيَ، إِنَّمَا يَهْتَبِدُه النَّعامُ. والشَّرْيُ: شَجرُ الحَنْظَل. وقال ابنُ جِنّي: الشَّرْيُ: شجرٌ تُتَّخذُ منه القِسِيُّ.

قال: وقوله: ظَلَّ في شرْيٍ طِوالِ، يريد أَنهنَّ إِذا كُنَّ طِوالًا سَتَرْنَهُ، فزادَ استيحاشُه، ولو كُنَّ قِصَارًا لسَرّحَ بَصَرَهُ، وطابتْ نَفسُه، فَخَفَّضَ عَدْوَه. كذا في لسان العرب.

والحَتُّ، أَيضًا: الكريمُ العتيقُ، هكذا فسّرَه غيرُ واحد.

والحَتُّ: المَيِّتُ من الجَرادِ، والجمع: أَحْتاتٌ لا تُجاوزُ به هذا البناءَ، حُمِلَ على المُعْتَلِّ، لأَنّه تَقرّرَ أَن فَعْلًا بالفتح، لا يُجْمَعُ على أَفْعالٍ، إلّا في أَلفاظ ثلاثة: أَحْمَال، وأَزْنَاد، وأَفْرَاخ، وجاءَت أَلفاظٌ معتلَّةٌ أَو مضاعَفَةٌ تُوجَد مع الاستقراءِ، قاله شيخُنا.

والحَتُّ: ما لا يَلْتَزِقُ من التَّمْرِ، يقال: جاءَ بتَمْرٍ حَتٍّ: لا يَلْتَزِقُ بعضُهُ ببعض.

والحَتُّ: سَيْفُ أَبِي دُجَانَةَ سِماكِ بنِ خَرَشَةَ الأَنْصارِيّ، رضي ‌الله‌ عنه وسَيْفُ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ الكِنْدِيّ.

والحُتُّ، بالضَّمِّ: المَلْتُوتُ من السَّويقِ، كذا في النُّسَخ. والّذي في التّكْملة، سوِيقٌ حُتٌّ: أَي غير مَلْتُوت.

والحُتُّ: قَبِيلَةٌ من كِنْدَةَ، تُنْسَبُ إِلى بَلَد، لا إِلى أَب، أَوْ أُمٍّ. وعبارة ابن منظور: ليس بأُمٍّ، ولا أَبٍ.

والحُتُّ: جَبَلٌ من القَبَلِيَّةِ محرَّكَةً، كذا هو مضبوط.

وحَتَّ، مَبْنيًّا على الكسر: زَجْرٌ للطَّيْرِ.

قال ابْنُ سِيدَهْ: وحَتَّى: حَرْفٌ من حروف الجرِّ، كإِلَى، ومعناه لِلغَايَةِ، كقولك: [سِرْتُ] اليومَ حتَّى اللَّيْلِ، أَي: إِلى اللَّيْل، ومثَّلُوا لها أَيضًا بقوله تَعَالى: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى} و {حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} وغيرِهما. وتأْتي لِلتَّعْلِيل، نحو: أَسْلمْ حتَّى تَدْخُلَ الجَنَّةَ {وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتّى يَرُدُّوكُمْ} أَي: كي يَرُدُّوكُمْ، أَقرّه ابْنُ هشَام وابنُ مالِك وأَبو حَيّان، وأَنكره الأَنْدَلُسِيُّ في شرح المفصَّل، ونقله الرَّضِيّ وسلّمه، وزعموا أَنّها إنّما تكون دائمًا بمعنى «إِلى» الغائِيَّة. وتأْتي بِمَعْنَى إلَّا في الاسْتِثْناءِ، أَي: لا في الوَصْف، ولا في الزِّيادة. هكذا قَيَّدُوا، صرَّحَ به ابْنُ هِشَامٍ الخَضْرَاوِيُّ وابْنُ مالك، ونقلهُ أَبو البَقَاءِ عن بعضهم، وأَدَلُّ الأَمثلة على المُرَاد ما أَنشده ابنُ مالك من قول الشّاعر:

لَيْسَ العَطَاءُ من الفُضُولِ سَماحَةً *** حَتَّى تَجُودَ وَمَا لَديْكَ قَلِيلُ

وهو حَرْفٌ يَخْفِضُ، عدَّهَا الجماهيرُ من حُروف الجرّ، وإنما تَجُرُّ الظّاهِرَ الوَاقِعَ غايَةً لِذِي أَجزاءٍ، أَو ما يقوم مَقَامهُ، على ما أَوضحَه ابنُ هِشَامٍ في المُغْنِي والتَّوْضِيح وغيرِهما ويَرْفَعُ إِذا وقَعَ في ابتداءِ الكلام. وفي الصَّحاح: وقد تكون حرف ابتداء، يُستأْنَفُ بها الكلامُ بعدَهَا، كما قال:

فما زَالتِ القَتْلَى تَمُجُّ دِماءَهَا *** بِدجْلَةَ حَتَّى ماءُ دِجْلَةَ أَشْكَلُ

وهو قولُ جريرٍ يهجو الأَخطَلَ، ويذكر إيقاعَ الجَحّافِ بقومه، وبعدَهُ:

لنَا الفَضْلُ في الدُّنْيا وأَنْفُك راغِمٌ. *** ونحنُ لكم يومَ القِيامَةِ أَفْضَلُ

وفي المُغْنِي: الثّالثُ من وجوه حَتَّى: أَنْ تكونَ حرفَ ابتداءٍ؛ أَي حرفًا تُبْدَأُ بعدَهُ الجُمَلُ، أَي: تُستأْنَفُ، فتدخل على الجملة الاسميّة، وأَنشد: قولَ جرير السّابقَ، وقولَ الفَرَزْدَقِ:

فوَا عَجبًا حَتَّى كُلَيْبٌ تَسُبُّنِي *** كَأَنَّ أَبَاهَا نَهْشَلٌ ومُجاشِعُ

ولا بُدَّ من تقدير محذوفٍ قبلَ حتَّى في هذا البيت، أَي: فواعَجَبًا: يَسُبُّنِي النّاسُ حتَّى كُلَيْبٌ: وتدخُل على الفعليّة الّتي فعلُها مضارعٌ كقراءَة نافع: حَتَّى يَقُول الرَّسُولُ، وكقول حَسّانَ:

يُغْشَوْنَ حَتَّى ما تَهِرُّ كِلابُهُمْ *** لا يَسْأَلُونَ عن السَّوَاد المُقْبِلِ

وعلى الفعليّة الماضَويَّة، نحو: {حَتّى عَفَوْا وَقالُوا} ويَنْصِبُ، أَي: يَقَعُ الفعلُ المضارِعُ بعدَهَا منصوبًا بشروطه الّتي منها: أَن يكونَ مستقبَلًا، باعْتبار التكلُّم، أَو باعتبار ما قبلَها.

وفي الصّحاح، ولسان العرب: وإن أَدخلتَها على الفعل المستقْبَل، نصبتَه بإضمار أَنْ تقول: سِرْت إِلى الكوفة حتّى أَدخُلَهَا، بمعنَى إِلى أَنْ أَدخُلَهَا، فإن كنتَ في حالِ ويقولُ. فمن نصَبَ، جعله غاية؛ ومن رَفَعَ، جعله حالًا بمعنى حَتَّى الرَّسُولُ هذه حالُهُ. قال شيخُنا: وظاهرُ كلامه أَنّ لها دَخْلًا في رفع ما بعدَهَا، وليس كذلك كما عَرَفْت: وأَنّها هي النّاصبة وهو مرجوع عند البصريِّين، وإنّما النّاصِبُ عندَ الجُمْهُور «أَنْ» مقدَّرَة بعدَ «حتَّى» كما هو مشهور في المبادئ.

ولِهذا؛ أَي لأَجل أَنّها عاملة أَنواعَ العَمَل في أَنواع المُعْرَبَات، وهي الأَسماءُ والفعل المضارع، قالَ الفَرَّاءُ: أَمُوتُ، وفي نَفْسِي مِنْ حتّى شَيْ‌ءٌ، لأَنَّ القواعدَ المقرَّرَةَ بين أَئمّة العربيّة أَنّ العواملَ الّتي تعملُ في الأَسماء، لا يُمكن أَن تكون عاملة في الأَفعال ذلك العملَ ولا غيرَهُ، ولذلك حَكَموا على الحروف العاملة في نوع بأَنّها خاصّةٌ به، فالنّواصبُ خاصَّة بالأَفعال، كالجوازم لا يُتَصَوَّرُ وِجْدَانُها في الأَسماءِ، كما أَنّ الحروف العاملة في الأَسماءِ كحروف الجَرّ، وإنّ وأَخواتِها خاصة بالأَسماء، لا يُمْكِن أَن يوجد لها عملٌ في غيرِهَا، وحَتَّى كأَنَّهَا جاءَت على خلاف ذلك، فعَملتِ الرّفعَ والنَّصْبَ والجَرَّ في الأَسماءِ والأَفعال، وهو على قواعد أَهل العربيّة مُشْكلٌ.

والصّواب أَنّه لا إِشكالَ ولا عَمَل، وحَتَّى عندَ المُحَقِّقِينَ إنّما تعمل الجرَّ خاصةً بشروطها. وأَمّا الرفعُ، فقد أَوضحنا أَنَّها يقالُ لها الابتدائيّة، وما بعدَها مرفوع بما كان مرفوعًا به قبلَ دخولها، ولا أَثَرَ لها فيه أَصلًا، وإنّما نَصْبُ الفعلِ بعدَهَا له شروط، إِن وُجِدَت، نُصِبَ، وإلّا بقي الفعلُ على رفعه، لتجرُّدِه من النّاصب والجازم. وأَمّا النّاصبة، فهي الجارَّةُ في الحقيقة، لأَنَّ نَصْبَ الفعلِ بعدَها إِنّمَا هو بأَنْ مقدّرة على ما عُرِف، ولذلك يُؤَوَّلُ الفعلُ الواقِع بعدَهَا بمصدر يكون هو المجرورَ بها، فقوله تعالى: {حَتّى يَرْجِعَ}، تقديرُه: حتى أَنْ يَرْجِعَ، وأَنْ والفِعْلُ: مُؤَوَّلانِ بِالمصدر، وهي في المعنى، كإِلَى الدّالَّة على الغاية.

والتّقدير: إِلى رجوع موسى إلينا، وبه تعلم ما في كلام المصنِّف من التقصير والقُصُور، والتّخليط الّذي لا يُمَيَّز به المشهورُ من غير المشهور، ولا يُعْرَفُ منه الشّاذُّ من كلام الجمهور، قاله شيخُنا، وهو تحقيقٌ حسَنٌ.

وفي لسان العرب: وتدخُل على الأَفعال الآتية، فتَنْصبُها بإضمارِ «أَنْ»، وتكونُ عاطفةً بمعنى الواو.

وقال الأَزهريُّ: وقال النَّحْوِيُّونَ: «حَتَّى» تجي‌ءُ لوقتٍ مُنْتَظَر، وتجي‌ءُ بمعنى إِلى، وأَجمعوا أَنَّ الإِمالَةَ فيها غيرُ مستقيم، وكذلك في عَلَى. ولِحَتَّى في الأَسماءِ والأَفعال، أَعمالٌ مختلفة.

وقال بعضهم: حَتَّى، فَعْلَى، من الحَتِّ، وهو الفَرَاغُ من الشَّيْ‌ءِ، مثل: شَتَّى من الشَّتِّ. قال الأَزهَرِيُّ: وليس هذا القولُ ممّا يُعَرَّجُ عليه؛ لأَنّها لو كانت فَعْلَى من الحَتِّ، كانت الإِمالةُ جائزةً، ولكِنَّها حرفُ أَداة، وليست باسْمٍ ولا فِعل.

وفي الصَّحاح، وغيره: وقولُهُم: حَتّامَ، أَصلُه: حَتّى ما، فحذفت أَلف ما للاستفهام، وكذلك كلُّ حرف من حروف الجَرِّ يُضَاف في الاستفهام إِلى ما، فإنّ أَلف ما يُحْذَفُ فيه، كقوله تَعالَى: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ}، و {فِيمَ كُنْتُمْ}، و {عَمَّ يَتَساءَلُونَ}.

وهُذَيْلٌ تقول: عَتَّى، في: حَتَّى، كذا في اللّسان.

وحَتَّى: جَبَلٌ بِعُمَانَ.

وحَتّاوَةُ: قرية بعَسْقَلانَ، منها أَبو صالح عَمْرُو بنُ خَلَفٍ عن رَوّاد بن الجَرّاحِ، وعنه محمّد بن الحُسَيْن بن قُتَيْبَة، روى له المالِينيُّ، وذكره ابنُ عَدِيٍّ في الضُّعَفاءِ.

وتقول: ما في يدِي مِنْهُ حَتٌّ كما تقُولُ: ما في يَدِي منه شَيْ‌ءٌ. وفي الأَساس: ما في يَدِي منه حُتاتَةٌ.

والحَتُّ: سُقُوطُ الوَرَقِ عن الغُصْن وغيرِه.

والحَتُوتُ، كصَبُورٍ من النَّخْلِ: المُتَنَاثِرُ البُسْرِ، كالمِحْتَاتِ.

يقالُ شَجَرَةٌ مِحْتَاتٌ: أَي مِنْثَارٌ.

وتَحاتَّ الشَّيْ‌ءُ: تَنَاثَرَ. وتحاتَّتْ أَسنانُهُ: تَنَاثَرَتْ.

والحتَات، كسَحَاب: الجَلَبَة، محرَّكَةً، نقله الصّاغانيُّ عن الفَرّاءِ.

وكغُرَاب: قَطِيعَةٌ بالبَصْرَةِ، نقله الصّاغانيُّ.

والحِتَاتُ، بالكسر: من أَعراضِ المدينة.

والحُتَاتُ بْنُ عَمْرٍو الأَنصاريُّ أَخُو أَبِي اليُسْرِ كَعْبِ بن عَمْرٍو، مات في حياة رسولِ الله، صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم، وقد أَسلم. أَو هو الحُبَاب بباءَيْنِ مُوَحَّدَتَيْنِ، وهو الّذِي صحَّحه جماعةٌ، وصرَّح ابنُ المَدِينِيّ بأَنه المشهور.

وأَما قولُ الفَرَزْدَقِ: فإِنَّكَ واجِدٌ دُونِي صَعُودًا جَرَاثِيمَ الأَقارعِ والحُتَاتِ فيعني به الحُتَاتَ بْنَ يزيدَ، لا ابْنَ زَيْدٍ المُجَاشِعيّ، وحُتَاتٌ: لَقَبٌ، واسمُه بِشْرٌ، ذكر ابْنُ إِسحاقَ، وابْنُ الكَلْبِيّ، وابْنُ هِشام: أَنّ النَّبيَّ، صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم، واخى بينَ الحُتَاتِ ومُعاوِيَةَ، فمات الحُتات عندَ مُعاوِيَةَ في خلافته، فوَرِثَهُ بالأُخُوَّة، فخرج إِليه الفَرَزْدَقُ، وهو غلامٌ، فأَنشدَه: أَبُوكَ وعمِّي يا مُعَاوِيَ أُورِثَا تُراثًا فيَحْتَازُ التُّراثَ أَقارِبُهْ فما بالُ ميراث الحُتَات أَكَلْتَهُ ومِيراثُ حَرْبٍ جامدٌ لك ذائِبُه؟ الأَبيات. فدفَعَ إِليه مِيرَاثَهُ، ووَهِمَ الجَوْهَرِيُّ، وهما صَحابِيّان.

وفي الإصابة. الحُتَاتُ، بالضَّمّ، هو ابنُ زَيْد بن علقمةَ بن جري بن سُفْيَانَ بْن مُجَاشع بن دارِم التَّميميّ الدّارِميّ المُجَاشِعيّ، ذكره ابنُ إِسحاقَ وابْنُ الكلبيّ وابنُ هشام فيمن وَفَد من بني تَمِيمٍ عَلى النّبيّ، صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم. ووجدت في هامش لسان العرب، ما نَصُّه: وأَورد هذا البيتَ، يعني: الجوهريُّ، بيتَ الفَرَزْدَق، في ترجمة قَرَعَ، وقال: الحُتاتُ بِشْرُ بنُ عَامِرِ بْنِ عَلْقَمَةَ، فليُراجَعْ.

والحُتَاتُ بنُ يَحْيَى بْنِ جُبَيْرٍ اللَّخْميُّ: مُحَدِّثٌ.

وَرِمْدةُ حَتّانَ: سيأْتي في ر معروف د.

والحَتْحَتَةُ: السُّرْعَةُ، والعَجَلةُ في كلّ شيْ‌ءٍ. وهو مَجاز، ومنه: حَتَّهُ مِائَةَ سَوْطٍ: ضربَه، وعَجّلَ ضَرْبَه. وحَتّهُ دَراهِمَه: عَجَّلَ له النَّقْدَ. ومنه المثَل: «شَرُّ السَّيْرِ الحَتْحَتَةُ».

والحَتْحَاتُ: بمعنى الحَثْحاثِ بالمُثَلَّثة، وسيأْتي ذكرُه.

وأَحَتَّ الأَرْطَى، وهو شَجَرٌ: أَي يَبِسَ.

* ومما يُستدرَكُ عليه: انْحَتَّ شَعَرُه عن رأْسه، وانْحَصَّ: إِذا تَساقطَ.

والحَتَّةُ: القَشْرَةُ.

وحَتَّ الله مالهُ حَتًّا: أَذهبَه فأَفقرَه، على المَثَل.

وتَرَكُوهُمْ حَتًّا بَتًّا، وحَتًّا فَتًّا: أَي أَهْلَكُوهم.

ومن المَجَاز أَيضًا: حَتَّهُ عن الشَّيْ‌ءِ، يَحُتُّه، حَتًّا: رَدَّه.

وفي الحديث: أَنّه قال لسعد، يومَ أُحُدٍ: «احْتُتْهُم، يا سعْدُ، فِداك أَبي وأُمِّي»، يعني: ارْدُدْهم. قال الأَزهَرِيّ: إِنْ صحَّت هذه اللَّفْظَةُ، فهي مَأْخوذَة من حَتّ الشَّيْ‌ء، وهو قَشْرُه شيئًا بعدَ شَيْ‌ءٍ، وحَكُّهُ. والحَتُّ: القَشْرُ.

والحُتَاتُ من أَمراض الإِبلِ: أَنْ يَأْخُذَ البعيرَ هَلْسٌ، فيتغيَّر لَحْمُه وطَرْقُهُ ولَوْنُهُ، ويتَمَعَّط شَعَرُه، عن الهَجَرِيّ.

وقال الفَرَّاءُ؛ حَتَّاهُ، أَي: حَتَّى هُوَ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


129-تاج العروس (ركح)

[ركح]: رَكَحَ السّاقِي على الدَّلْوِ كمنَعَ: إِذا اعْتَمَد عليها نَزْعًا. والرَّكْحُ: الاعْتِمادُ. وأَنشد الأَصمعيّ:

فصادَفَتْ أَهْيَفَ مثلَ القِدْحِ *** أَجْرَدَ بالدَّلْوِ شديدَ الرَّكْحِ

ورَكَحَ إِليه: اسْتَنَد، كأَرْكَحَ وارْتَكَحَ. يقال: رَكَحْتُ إِليه وأَرْكَحْت وارْتَكَحْت. ورَكَحَ إِليه رُكُوحًا بالضّمّ: رَكَنَ وأَنابَ. قال:

رَكَحْتُ إِليها بعد ما كُنْتُ مُجمِعًا

والرُّكوحُ إِلى الشَّيْ‌ءِ: الرُّكونُ إِليه. والرُّكْح، بالضمّ: رُكْنُ الجَبَل أَو ناحِيَتُه المُشْرِفةُ على الهَواءِ. وقيل: هو ما عَلا عن السَّفْحِ واتَّسعَ. وقال ابن الأَعرابيّ: رُكْحُ كلِّ شيْ‌ءٍ: جانِبُه. الجمع: رُكوحٌ وأَرْكَاحٌ. قال أَبو كَبِير الهُذَليّ:

حتَّى يَظَلَّ كأَنَّه مُتَثبِّتٌ *** برُكُوح أَمْعَزَ ذِي رُيودٍ مُشْرفِ

أَي يَظلُّ من فَرَقى أَن يتكلّم فيُخْطِئَ ويَزِلَّ كأَنّه يَمْشِي برُكْحِ جَبَلٍ، وهو جانِبُه وحَرْفُه، فيخاف أَن يَزِلّ ويَسْقُط.

والرُّكْحُ أَيضًا: ساحةُ الدّارِ والفِنَاءُ.

وفي الحديث: «لا شُفْعَةَ في فِنَاءٍ ولا طَرِيقٍ ولا رُكْحٍ» قال أَبو عُبَيْد: الرُّكْحُ، بالضّمّ: ناحيةُ البَيْتِ من وَرَائه كأَنّه فَضَاءٌ. قال القُطَاميّ:

أَمَا تَرَى ما غَشِيَ الأَرْكاحَا *** لمْ يَدَعِ الثَّلْجُ لهمْ وَجَاحَا

الأَرْكاحُ: الأَفْنِيَةُ. والوَجَاحُ: السِّتْر. كالرُّكْحَة، بالضّمّ.

والرُّكْحُ أَيضًا: الأَساسُ، الجمع: أَرْكاحٌ، وجمْع الرُّكْحَةِ رُكْحٌ، مثل بُسْرةٍ وبُسْر، وليس الرُّكْح واحِدًا. والأَرْكَاح جَمْع رُكْحٍ لا رُكْحةٍ، قال ابن بَرّيّ.

وفي الحديث: «أَهْلُ الرُّكْحِ أَحقُّ برُكْحِهم».

وقال ابن ميّادةَ:

ومُضَبَّرٍ عرِدِ الزِّجَاجِ كأَنَّه *** إِرمٌ لِعادَ مُلَزَّزُ الأَرْكاحِ

أَراد بعرِدِ الزِّجاجِ أَنْيَابَه. وإِرَمٌ. قَبْرٌ عَلَيْه حِجَارةٌ.

ومُضَبَّر: يعنِي رأْسَهَا كأَنّه قبرٌ. والأَرْكَاح: الأَساسُ.

والرُّكْحة، بالضّمّ: قِطْعةٌ من الثَّرِيد تَبْقَى في الجَفْنَةِ، هكذا في الصّحاح. وعبارة اللّسان: البَقِيَّةُ من الثَّريد.

وجفْنة مُرْتكِحةٌ أَي مُكْتَنِزةٌ بالثَّريد؛ ومثله عبارة الصّحاح.

وسَرْجٌ مِرْكاحٌ، ورَحْلٌ مِرْكاحٌ إِذا كان يتَأَخَّرُ عن ظَهْرِ الفَرسِ. وفي اللسان: والمِرْكاحُ من الرِّحال والسُّرُوجِ: الّذي يَتَأَخَّرُ، فيكون مرْكَبُ الرَّجُلِ على آخِرةِ الرَّحْلِ.

قال [العجاج]:

كأَنَّ فاهُ واللِّجامُ شاحِي *** شرْخَا غَبِيطٍ سلِسٍ مِرْكاحِ

وأَحسنُ من عبارة المصنّف نصُّ الجوهريّ: سَرْجٌ مِرْكاحٌ: إِذا كان يتأَخَّرُ عن ظهْرِ الفَرس، وكذلك الرَّحْلُ إِذا تأَخَّر عن ظَهْرِ البعيرِ. والمصنّفُ ذَكَر الرَّحْلَ ولم يذكرِ البعِير. ووُجِدَ عندنا في بعض النُّسَخ الموجودةِ: «الرَّجُل» بالجيم بدل الحاءِ وهو تحريفٌ شَنِيعٌ ينْبغِي التَّنَبُّه لذلك.

والرَّكْحَاءُ: الأَرْضُ الغليظةُ المُرْتَفِعَة.

والأَرْكَاحُ جمْع رُكْحٍ: بيُوتُ الرُّهْبانِ. قال الأَزهريّ: ويقال لها الأَكَيْرَاحُ. قال: وما أَراهَا عربيَّةً. وقال ابن سيده: الرُّكْح: أَبْيَاتُ النَّصارَى، ولستُ منها على ثِقة.

وركّاحٌ كَكَتَّانٍ: كَلْبٌ، وفَرَسُ رَجلٍ من بني ثَعْلَبةَ بن سعْدٍ من بني تَميم.

ورَكَاحٌ كسحابٍ: موضع وأَرْكَحَه إِليه: أَسْنَده. وأَرْكَعَ إِليه: استند، وقد تقدّم.

وأَرْكَحَ ظَهْرَه إِليه: أَلجَأَه.

وفي حديث عُمَر قال لعَمْرِو بن العَاصِ: «ما أُحبُّ أَن أَجعلَ لك عِلَّةً تَرْكحُ إِليها»: أَي تَرْجِعُ وتَلْجَأُ إِليها.

والتَّرَكُّحُ: التَّوسُّعُ، يقال: تَركَّحَ في الدّار: إِذا تَوَسّعَ فيها. ويقال: إِنّ لفُلان ساحةً يَتَرَكَّحُ فيها؛ أَي يَتَوَسَّعُ والتَّركُّحُ التَّصرُّفُ والتَّلَبُّث، في النوادر: تركَّحَ فُلانٌ في المَعِيشةِ، إِذا تَصَرَّف فيها. وتَركَّحَ بالمكان: تَلَبَّثَ، وقد تقدّمت الإِشارةُ إِليه.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


130-تاج العروس (دبر)

[دبر]: الدُّبْرُ، بالضَّمّ وبِضَمَّتَيْن، نَقِيضُ القُبُل. والدُّبُر مِنْ كُلِّ شَيْ‌ءٍ: عَقِبُه ومُؤَخَّرُه. ومن المَجاز: جِئْتُكَ دُبُرَ الشَّهْرِ؛ أَي آخِرَه، على المَثَل. يقال: جِئْتك دُبُرَ الشَّهْر وفِيهِ؛ أَي في دُبُره، وعَلَيْهِ؛ أَي عَلى دُبُره، والجَمْع من كُلّ ذلك أَدْبَارٌ. يقال: جئتُك أَدْبَارَه، وفِيهَا؛ أَي في الأَدْبار. أَي آخِرَه. والأَدْبارُ لذَوات الظِّلف والمِخْلَب: ما يَجْمَع الاسْت والحَيَاءَ. وخَصّ بعضُهُم به ذَواتِ الخُفِّ والحَيَاءِ، الواحِدُ دُبُرٌ.

والدُّبُرُ والدُّبْر: الظَّهْرُ، وبه صَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيّ في الأَساس، والمصنِّف في البصائر، وزاد الاستدلالَ بقوله تعالى: {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} قال: جَعَله للجماعة، كقولِه تَعالى: {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} والجمعُ أَدْبَارٌ. قال الفَرَّاءُ: كان هذا يوم بَدْرٍ. وقال ابنُ مُقْبِل:

الكاسِرِينَ القَنَا في عَوْرَةِ الدُّبُرِ

وإِدْبَارُ النُّجُومِ: تَوَالِيهَا. وأَدْبارُهَا أَخْذُهَا إِلى الغَرْب للغُرُوب آخِرَ اللَّيْل. هذِه حِكايَةُ أَهل اللُّغَة، قال ابنُ سِيدَه: ولا أَدرِي كَيْف هذا، لأَنَّ الأَدْبَارَ لا يَكُون الأَخْذَ، إِذ الأَخْذُ مَصْدرٌ والأَدْبَارُ أَسماءٌ. وأَدْبار السُّجُودِ وإِدْبارُه: أَواخِرُ الصَّلوَاتِ. وقد قُرِئَ: {وَأَدْبارَ}، وإِدْبار، فمَنْ قرأَ {وَأَدْبارَ}، فمِن بابِ خَلْفَ ووَرَاء، ومَن قَرأَ وإِدْبَار، فمِن بابِ خُفُوق النَّجْم.

قال ثعلب في قَوْلِه تعالى: {وَإِدْبارَ النُّجُومِ} {وَأَدْبارَ السُّجُودِ} قال الكسَائيّ: {إِدْبارَ النُّجُومِ} أَن لها دُبُرًا واحدًا في وقت السحر. و {أَدْبارَ السُّجُودِ} لأَنَّ مع كل سَجْدَةٍ إِدْبارًا.

وفي التهذيب: مَنْ قرأَ: {وَأَدْبارَ السُّجُودِ}، بفتح الأَلف جمع على دُبُر وأَدْبَار، وهما الرَّكْعَتَان بعد المَغْرِب، رُوِيَ ذلِك عن عَلِيّ بن أَبِي طالِبٍ رضي الله عَنْه. قال: وأَما قوله: {وَإِدْبارَ النُّجُومِ} في سورة الطُّور، فهما الرَّكْعَتَان قبل الفجر، قال: ويُكسرَان جميعًا ويُنْصَبانِ، جائزانِ.

والدُّبُر: زَاوِيَةُ البَيْتِ ومُؤَخَّرُه.

والدَّبْر، بالفَتْحِ: جَماعَةُ النَّحْلِ، ويقال لها الثَّوْلُ والخَشْرَمُ، ولا وَاحِدَ لشيْ‌ءٍ من هذا، قاله الأَصمَعيّ.

وروَى الأَزْهَرِيّ بسنده عن مُصعَب بن عبد الله الزُّبَيْرِيّ: الدَّبْر: الزَّنَابِيرُ. ومن قال النَّحْل فقد أَخطأَ. قال: والصواب ما قاله الأَصمعيّ.

وفَسَّر أَهلُ الغَرِيبِ بهما في قصّة عاصم بن ثابتٍ الأَنصاريّ المعروف بحَمِيِّ الدَّبْرِ، أُصِيبَ يومَ أُحُدٍ فمَنَعت النَّحْلُ الكُفَّارَ منه؛ وذلك أَن المشركين لمَّا قَتلُوه أَرادوا أَن يُمَثِّلُوا به، فسلَّطَ الله عليهم الزَّنابيرَ الكِبَارَ تَأْبِر الدَّارِعَ، فارتَدَعوا عنه حتى أَخَذَه المُسْلِمُون فَدَفَنُوه، وفي الحديث: «فأَرْسلَ الله عليهم مِثْلَ الظُّلَّةِ مِن الدَّبْر»، قيل: النَّحْل، وقيل: الزَّنابير.

ولقد أَحسنَ المُصنِّف في البَصَائر حيث قال: الدَّبْر: النَّحْل والزّنابِير ونَحْوهُمَا مما سِلاحُها في أَدْبَارِها.

وقال شَيْخُنَا نَقْلًا عن أَهْل الاشْتِقَاق: سُمِّيَت دَبْرًا لتَدْبِيرها وتَأَنُّقِها في العَمَل العَجِيب، ومنه بِنَاءُ بُيوتِها.

ويُكْسَر فِيهِما، عن أَبي حَنِيفَة، وهكذا رُوِيَ قَولُ أَبي ذُؤَيْب الهُذَليّ:

بأَسْفَلِ ذَاتِ الدَّبْرِ أُفرِدَ خِشْفُهَا *** وقد طُرِدَتْ يَوْمَيْن وهْي خَلُوجُ

عَنَى شُعْبَةً فيها دَبْر.

وفي حديث سُكَيْنةَ بنتِ الحُسَيْن «جاءَت إِلى أُمّها وهي صغيرة تَبْكِي فقالت لها: ما لَكِ؟ فقالتْ: مَرَّت بي دُبَيْرة، فلسَعَتْني بأُبَيْرة»، هي تصغير الدَّبْرة: النّحلة، الجمع: أَدْبُرٌ ودُبُورٌ، كفَلْس وأَفْلُسٍ وفُلُوس. قال لبيد:

بأَشْهَبَ من أَبْكارِ مُزْنِ سَحَابةٍ *** وأَرْيِ دُبُورٍ شَارَهُ النَّحْلَ عاسِلُ

أَراد: شارَه من النَّحْل؛ أَي جَناه.

قال ابنُ سِيدَه: ويجوز أَن يكون جمْع دَبْرة، كصَخْرَة وصُخُور، ومَأْنَة ومُؤُون.

والدَّبْرُ: مَشَارَاتُ المَزْرَعَةِ؛ أَي مَجَارِي مائِها، كالدِّبَارِ، بالكَسْرِ، واحِدُهُما بِهَاءٍ، وقيل: الدِّبَار جمْع الدَّبْرة، قال بِشْر بن أَبِي خَازِم:

تَحَدُّرَ ماءِ البِئْر عن جُرَشِيَّةٍ *** علَى جِرْبةٍ يَعْلُو الدِّبَارَ غُرُوبُها

وقيل الدِّبَار: الكُرْدَة من المَزْرعَة، الواحِدَة دِبَارَةٌ.

والدِّبَاراتُ: الأَنْهَار الصِّغَار التي تَتَفَجَّر في أَرض الزَّرْع، واحدتها دَبْرة، قال ابنُ سِيدَه: ولا أَعْرف كيف هذا إِلَّا أَن يكون جمعَ دَبْرَة على دِبَار، ثمّ أُلْحِق الْهاءُ للجَمْع، كما قالُوا الفِحَالَة، ثُمَّ جُمِع الجَمْعُ جَمْعَ السَّلَامة.

والدَّبْر أَيضًا: أَوْلادُ الجَرَادِ، عن أَبي حَنِيفَة: ونصّ عبارته: صِغَار الجَرَادِ، ويُكْسَرُ.

والدَّبْر: خَلْفُ الشَّيْ‌ءِ، ومنه: جَعَلَ فُلانٌ قَوْلَكَ دَبْرَ أُذُنِهِ؛ أَي خَلْف أُذُنه. وفي حديث عُمَر: «كُنْتُ أَرجو أَن يَعيشَ رسولُ الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم حتى يَدْبُرَنا»؛ أَي يَخْلُفنا بعد مَوْتِنَا.

يقال: دبَرْتُ الرَّجُلَ دَبْرًا إِذا خَلَفْتَه وبَقِيتَ بَعْدَه.

والدَّبْر: المَوْتُ، ومنه دَابَر الرَّجُلُ: ماتَ. عن اللِّحْيَانيّ، وسيأْتي.

والدَّبْر: الجَبَلُ، بلسانِ الحَبشة.

ومِنْه حَدِيثُ النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الحَبَشةِ أَنه قال: «ما أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبْرًا ذَهَبًا وأَنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنَ المُسْلِمِين».

قال الصَّاغانِيّ: وانْتِصَاب «ذَهبًا» على التَّمْيِيز. ومثله قولُهم: عندي راقُودٌ خَلًّا، ورِطْلٌ سَمْنًا والواو في «وأَنّي» بمعنى «مَعَ»؛ أَي ما أُحِبّ اجْتِمَاع هذَيْنِ، انْتَهَى. وفي رواية «دَبْرًا من ذَهبٍ». وفي أُخرى: «ما أُحِبُّ أَن يكون دَبْرَى لي ذَهَبًا» وهكذا فَسَّروا، فهو في الأَوَّل نَكِرة وفي الثَّاني مَعْرفة. وقال الأَزهريّ: لا أَدْرِي أَعرَبِيّ هو أَم لا؟.

والدَّبْر: رُقَادُ كُلِّ سَاعَة، وهو نحْو التَّسبيح، والدَّبْر الاكْتِتاب، وفي بعض النسخ الالتتاب، باللام، وهو غَلَط. قال ابنُ سِيدَه: دَبَرَ الكِتَابَ يَدْبُره دَبْرًا: كَتَبَه، عن كُراع. قال: والمعروف ذَبَره، ولم يَقُل دَبَرَه إِلّا هو.

والدَّبْر: قِطْعَةٌ تَغْلُظُ في البَحْرِ كالجَزِيرَة يَعْلوهَا الماءُ ويَنْصَبُّ عنها، هكذا في النُّسَخ، وهو مُوافِقٌ لِما في الأُمَّهات اللُّغَوِيَّة. وفي بعض النُّسخ: يَنضُب من النضب، وكلاها صَحِيح.

والدَّبْر: المَالُ الكَثِيرُ الذي لا يُحصَى كَثْرة، واحدُه وجَمْعُه سَوَاءٌ، ويُكْسَرُ يقال: مَالٌ دَبْر، ومَالانِ دَبْر، وأَمْوَالٌ دَبْرٌ. قال ابنُ سِيدَه: هذا الأَعْرف، قال: وقد كُسِّر على دُبُور، ومثْله مال دَثْر. وقال الفَرَّاءُ: الدَّبْرُ: الكَثِيرُ الضَّيْعَةِ والمَالِ. يقال: رجلٌ كَثِيرُ الدَّبْرِ، إِذا كانَ فاشِيَ الضَّيْعَة، ورجُل ذو دَبْرٍ: كثيرُ الضَّيْعَةِ والمالِ، حكاه أَبو عُبَيْد عن أَبِي زَيْد.

والدَّبْرُ: مُجَاوَزَةُ السَّهْمِ الهَدَفَ، كالدُّبُورِ، بالضّمّ، يقال: دَبَرَ السَّهْمُ الهَدَفَ يَدْبُره دَبْرًا ودُبُورًا، جاوَزَه وسَقَطَ وَراءَه.

وقولُهم: جَعَلَ كَلَامَكَ دَبْرَ أُذُنِه؛ أَي خَلْفَ أُذُنه، وذلِك إِذا لم يُصْغِ إِليْهِ ولم يُعَرِّجْ عَلَيْهِ؛ أَي لم يَعْبَأْ وتَصَامَمَ عنه وأَغْضَى عنه ولم يَلتفِتْ إِليه، قال الشاعر:

يَدَاهَا كأَوْبِ الماتِحِينَ إِذَا مَشَتْ *** ورِجْلٌ تَلَتْ دَبْرَ اليَدَيْن طَرُوحُ

والدَّبْرَةُ: نَقِيضُ الدَّوْلةِ، فالدَّوْلةُ في الخَيْر، والدَّبْرَة في الشَّرّ. يقال: جَعَل الله عليك الدَّبْرَة. قاله الأَصْمَعِيّ. قال ابنُ سِيدَه: وهذا أَحْسَنُ ما رَأَيْتُه في شَرْح الدَّبْرَةِ، وقيل: الدَّبْرَةُ: العَاقِبَةُ، ومنه قَولُ أَبِي جهل لابْنِ مَسْعودٍ وهو صَرِيعٌ جَريحٌ: لِمَنِ الدَّبْرةُ؟ فقال لِلّه ولرسُولِه، يا عَدُوَّ الله.

ويقال: جَعَلَ الله عليهم الدَّبْرةَ؛ أَي الهَزِيمة في القِتَالِ، وهو اسْمٌ من الإِدْبَار، ويُحَرَّك، كما في الصّحاح، وذَكَرَه أَهْلُ الغَرِيب.

وعن أَبي حَنِيفةَ: الدَّبْرَةُ: البُقْعَةُ من الأَرْض تُزْرَعُ، والجَمْع دِبَارٌ.

ومن المَجَاز: الدِّبْرَة: بالكَسْرِ، خِلَافُ القِبْلَةِ. ويقال: ما لَهُ قِبْلَةٌ ولا دِبْرَةٌ؛ أَي لَمْ يَهْتَدِ لجِهَةِ أَمْرِهِ وقَوْلُهم: فُلانٌ مَا يَدْرِي قِبَالَ الأَمر من دِبارِه؛ أَي أَوَّلَه من آخِرِه وليس لِهذا الأَمرِ قِبْلَةٌ ولا دِبْرَةٌ، إِذا لم يُعْرَف وَجْهُه.

والدَّبَرَة: بالتَّحْرِيكِ: قَرْحَةُ الدَّابَّةِ والبَعِيرِ، الجمع: دَبَرٌ، مُحَرَّكةً، وأَدْبَارٌ، مثل شَجَرة وشَجَر وأَشْجَار. وفي حديث ابْنِ عَبّاس: «كانُوا يَقولون في الجاهليّة: إِذا بَرَأَ الدَّبَر، وعَفَا الأَثَر»، وفسّروه بالجُرْح الذي يكون في ظَهْر الدّابّة. وقيل: هو أَن يَقْرَح خُفُّ البَعِير، وقد دَبِرَ البَعِيرُ، كفَرِحَ، يَدْبَر دَبَرًا، وأَدْبَرَ، واقتصر أَئِمَّة الغَرِيب على الأَوَّل، فهو؛ أَي البَعِيرُ دَبِرٌ، ككَتِف، وأَدْبَرُ، والأُنثَى دَبِرَةٌ ودَبْراءُ، وإِبِلٌ دَبْرَى.

وفي المَثَل: «هَانَ عَلَى الأَمْلَسِ ما لَاقَى الدَّبِرُ». ذَكَرَه أَهلُ الأَمْثَال في كُتُبِهم، وقالوا: يُضْرَبُ في سُوءِ اهْتِمَامِ الرَّجُلِ بِصَاحِبِه، وهكذا فَسَّرَه شُرَّاحُ المَقَامَات.

وأَدْبَرَهُ الحِمْلُ والقَتَبُ فدَبِرَ.

ودَبَرَ الرَّجلُ دَبْرًا: وَلَّى، كأَدْبَرَ إِدْبَارًا، ودُبْرًا، وهذا عن كُرَاع.

قال أَبو مَنْصُور: والصَّحيح أَن الإِدْبارَ المَصْدَرُ، والدُّبْر الاسْمُ. وأَدْبَرَ أَمرُ القَوْمِ: وَلَّى لِفَسَادٍ، وقَوْلُ الله تَعَالَى: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} هذا حالٌ مُؤَكّدة، لأَنه قد عُلِم أَنَّ مع كُلِّ تَوْلِيَة إِدبارًا فقال: مُدْبِرِينَ، مُؤَكّدًا.

وقال الفَرَّاءُ: دَبَرَ النَّهَارُ، وأَدْبَرَ، لُغَتانِ، وكذلك قَبَلَ وأَقْبَلَ،، فإِذا قالوا: أَقْبَلَ الرّاكبُ أَو أَدْبَرَ، لم يقولوا إِلّا بالأَلف.

قال ابنُ سِيده: وإِنَّهُمَا عندي في المعَنى لَواحِدٌ لا أُبْعِدُ أَن يَأْتِيَ في الرِّجَال ما أَتَى في الأَزْمِنَة. وقرأَ ابنُ عَبَّاس ومُجَاهِدٌ: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} مَعْنَاه وَلَّى ليَذْهَب.

ودَبَر بالشَّيْ‌ءِ: ذَهَبَ بِهِ. ودَبَرَ الرَّجُلُ: شَيَّخَ، وفي الأَساس شَاخَ، وهو مَجَازٌ، وقيل ومنه قَوْلُه تَعَالى: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ}.

ودَبَرَ الحَدِيث عن فُلانٍ: حَدَّثَه عَنْه بَعْدَ مَوْتِهِ، وهو يَدْبُر حَدِيثَ فُلانٍ أَي يَرْوِيه، ورَوَى الأَزْهَرِيّ بسَنَده إِلى سَلَّام بنِ مِسْكين قال: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحدِّث عن فلانٍ يَرويه عن أَبي الدَّرْدَاءِ، يَدْبُرُه عن رَسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم، قال: «ما شَرَقَتْ شَمْسٌ قطُّ إِلّا بجَنْبِهَا مَلَكَانِ يُنادِيَان، إِنهما يُسْمِعَانِ الخلائقَ غَيْرَ الثَّقلَيْن الجِنِّ والإِنْس: أَلَا هَلُمُّوا إِلى رَبّكم فإِنَّ ما قَلَّ وكَفَى خَيْرٌ مما كَثُر وأَلْهَى، اللهُمَّ عَجِّل لمُنْفِقٍ خَلَفًا، وعَجِّل لمُمْسِك تَلَفًا».

قال شَمِرٌ: ودَبَّرْتُ الحَدِيثَ، غيْرُ مَعروف. وإِنما هو يُذْبُره، بالذّال المُعْجَمَة؛ أَي يُتْقِنه، قال الأَزهَرِيّ: وأَما أَبو عُبَيْد فإِن أَصحابَه رَوَوْا عنه: يُدَبِّرهُ، كما تَرَى.

ودَبَرَت الرِّيحُ: تَحَوَّلَت، وفي الأَسَاس: هَبَّت دَبُورًا، وفي الحديث. قال صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم: «نُصِرْت بالصَّبَا وأُهلِكَت عادٌ بالدَّبُور» وهي ـ أَي الدَّبور، كصَبُور، وفي نسخة شَيْخنا «وهو» بتَذْكِير الضَّمِير، وهو غَلَطٌ، كما نَبَّه عليه، إِذ أَسماءُ الرِّيَاح كُلِّهَا مُؤَنَّثةٌ إِلَّا الإِعْصَارَ ـ رِيحٌ تُقَابِل الصَّبَا؛ والقَبُول: رِيحٌ تَهُبّ من نَحْو المَغْرب، والصَّبَا يُقَابِلها من ناحِيَة المَشْرِق، كذا في التَّهْذِيب. وقيل: سُمِّيَت [بالدَّبُور] لأَنَّهَا تأْتِي من دُبُر الكَعبة مّما يَذْهَب نحو المَشْرِق، وقد رَدَّه ابنُ الأَثِير وقال: ليس بشيْ‌ءٍ، وقيل: هي التي تَأْتِي من خَلْفِك إِذا وَقفْت في القِبْلَة.

وقال ابنُ الأَعرابيّ: مَهَبُّ الدَّبُور من مَسْقَطِ النَّسْر الطَّائرِ إِلى مَطْلَعِ سُهَيْلِ.

وقال أَبو عَلِيّ في التّذْكِرَة: الدَّبُور: يكون اسْمًا وصِفَةً، فمِنَ الصِّفة قَولُ الأَعْشَى:

لها زَجَلٌ كحَفِيف الحَصَا *** دِ صادَف باللَّيْل رِيحًا دَبُورَا

ومن الاسم قولُه، أَنشدَه سِيبَوَيْهِ لرجُل من باهِلَة:

رِيحُ الدَّبُورِ مع الشَّمَالِ وتارَةً *** رِهَمُ الرَّبِيعِ وصائِبُ التَّهْتانِ

قال: وكَونُها صِفَةً أَكثرُ. والجمع دُبُرٌ ودَبائِرُ.

وفي مجمع الأَمثال للمَيْدانيّ: وهي أَخْبَثُ الرِّياح، يقال إِنَّهَا لا تُلِقح شَجرًا ولا تُنْشِي‌ءُ سَحابًا.

ودُبِرَ الرّجلُ، كعُنِيَ، فهو مَدْبُورٌ: أَصابَتْه رِيحُ الدَّبُورِ.

وأَدْبَرَ: دَخَل فِيهَا، وكذلِك سائِرُ الرِّيَاح.

وعن ابنِ الأَعْرَابِيّ: أَدْبَرَ الرَّجلُ إِذا سافَر في دُبَارٍ، بالضَّمّ؛ يوم الأَرْبَعَاءِ، كما سيأْتِي للمُصَنِّف قريبًا، وهو يَومُ نَحْسٍ، وسُئِل مُجَاهِدٌ عن يوم النَّحْس فقال: هو الأَربعاءُ لا يَدُور في شَهْرِه.

ومن المَجاز: قال ابنُ الأَعْرَابِيّ: أَدْبَرَ الرّجلُ، إِذا عَرَفَ قَبِيله مِنْ دِبِيرِه، هكذا في النُّسَخ، ونَصُّ ابنِ الأَعْرَابِيّ: دَبِيرَه من قَبِيله، ومن أَمْثَالهم: «فُلانٌ ما يَعْرِف قَبِيلَه من دَبِيرِه». أَي ما يَدْرِي شيئًا.

وقال اللَّيْث: القَبِيل: فَتْل القُطْنِ، والدَّبِير: فَتْل الكَتّانِ والصُّوفِ.

وقال أَبو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيّ: مَعْنَاهُ طَاعَته من مَعْصِيَته.

ونصّ عِبارته: مَعْصِيِته من طَاعَتِه، كما في بَعْض النُّسَخ أَيضًا، وهو مُوافِقٌ لنَصِّ ابْنِ الأَعْرَابِيّ.

وقال الأَصْمَعِيّ: القَبِيلُ: ما أَقْبَلَ مِن الفاتِل إِلى حَقْوِه، والدَّبِير: ما أَدْبَر به الفاتِلُ إِلى رُكْبَته.

وقال المُفَضَّل: القَبِيلُ: فَوْزُ القِدَاح في القِمَار، والدَّبِيرُ: خَيْبَةُ القِدَاحِ. وسيُذْكَر من هذا شَيْ‌ءٌ في قبل إِن شاءَ الله تعالى. وسيأْتي أَيضًا في المَادَّة قَرِيبًا للمُصنِّف ويَذْكُر ما فَسَّر به الجَوْهَرِيّ، ونقل هنا قَوْلَ الشّيبَانِيّ وتَرَكَ الأَقْوَالَ البَقِيّة تَفَنُّنًا وتَعْمِيَةً على المُطالِع.

وأَدْبَرَ الرّجلُ، إِذا مَاتَ، كدَابَرَ، الأَخِير عن اللِّحْيَانيّ، وأَنْشَد لأُميَّةَ بنِ أَبي الصَّلْت:

زَعَمَ ابنُ جُدْعَانَ بنِ عَمْ *** روٍ أَنَّني يَوْمًا مُدابِرْ

ومُسَافِرٌ سَفَرًا بَعِي *** دًا لا يَؤُوبُ له مُسَافِرْ

وأَدْبَر، إِذا تَغَافَلَ عَنْ حاجَةِ صَدِيقِه، كأَنَّه وَلَّى عنه. وأَدْبَرَ، إِذا دَبِرَ بَعِيرُهُ، كما يقولون أَنْقَبُ، إِذا حَفِي خُفُّ بَعِيرِه، وقد جُمِعَا في حَدِيث عُمَر قال لامرأَة: «أَدْبَرْتِ وأَنْقَبْتِ»؛ أَي دَبِرَ بَعِيرُك وحَفِيَ. وفي حَدِيث قَيْسِ بنِ عاصم: «البَكْرَ الضَّرَعَ والنّابَ المُدبِرَ»، قالوا: الَّتي أَدْبَرَ خَيْرُهَا.

وأَدبَرَ الرجُلُ: صَارَ له دَبْر؛ أَي مَالٌ كَثِيرٌ.

وعن ابن الأَعْرَابيّ: أَدْبَرَ، إِذَا انْقَلَبَتْ فَتْلَةُ أُذُنِ النَّاقَةِ إِذا نُحِرَت إِلى ناحِيَة القَفَا، وأَقْبَلَ، إِذا صارتْ هذه الفَتْلَةُ إِلى ناحِيَةِ الوَجْهِ.

ومن المَجاز. شَرُّ الرَّأْي الدَّبَريّ، وهو مُحرّكةً: رَأْيٌ يَسْنَحُ أَخِيرًا عنْد فَوْتِ الحَاجَةِ؛ أَي شَرُّه إِذا أَدْبَر الأَمرُ وفَاتَ. وقيل: الرَّأْيُ الدَّبَرِيّ: الذي يُمْعَنُ النَّظَرُ فيه، وكذلك الجَوِابُ الدَّبَرِيّ.

ومن المَجاز: الدَّبرِيّ: الصّلاةُ في آخِرِ وَقْتِها. قلت: الّذِي وَرَدَ في الحديث: «لا يَأْتِي الصَّلاةَ إِلَّا دَبَرِيًّا».

وفي حَدِيثٍ آخَرَ: «لا يَأْتِي الصَّلاةَ إِلا دَبْرًا»، يُروَى بالضَّمّ وبالفَتْح. قالوا: يقال: جاءَ فُلانٌ دَبَرِيًّا أَي أَخيرًا، وفُلانُ لا يُصَلِّي [الصلاة] إِلَّا دَبَرِيًّا، بالفَتْح؛ أَي في آخِر وَقْتها. وفي المحكم: أَي أَخيرًا، رَواه أَبو عُبَيدٍ عن الأَصمعيّ. وتُسَكَّنُ الباءُ، رُوِيَ ذلِك عن أَبي الهَيْثَم، وهو مَنْصُوب على الظَّرف. ولا تَقُلْ دُبُرِيًّا، بِضَمَّتَيْن، فإِنَّه مِنْ لَحْنِ المُحَدِّثِين، كما في الصّحاح.

وقال ابنُ الأَثِير: هو منسوبٌ إِلى الدَّبْرِ آخِرِ الشيْ‌ءِ، وفَتْح الباءِ من تَغْييرات النَّسب، ونَصْبُه على الحَالِ من فاعلِ يَأْتِي.

وعِبارة المُصَنِّف لا تَخْلو عن قَلاقَةٍ وقَولُ المُحَدِّثين: «دُبُرِيًا»، إِن صَحَّت رِوايَتُه بسَمَاعِهِم من الثِّقات فلا لَحْنَ، وأَمّا مِن حَيْثُ اللُّغَة فصَحِيحٌ، كما عَرَفْت. وفي حَدِيثٍ آخرَ مَرْفُوعٍ أَنه قال: «ثَلاثَةٌ لا يَقْبَل الله لهُم صَلَاةً: رَجُلٌ أَتَى الصَّلاةَ دِبَارًا، ورَجلٌ اعتَبَدَ مُحَرَّرًا، ورَجلٌ أَمَّ قَومًا هم له كارهون»، قال الإِفْرِيقيّ، راوِي هذا الحديثِ: معنى قوله: دِبَارًا؛ أَي بعدَ ما يَفُوت الوَقْتُ.

وفي حديثِ أَبي هُرَيْرَة أَنَّ النبِيَّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم قال: «إِن للمُنافقيِنَ عَلامات يُعْرَفُون بها، تَحِيَّتُهم لَعْنَةٌ وطَعَامُهم نُهْبَةُ، لا يَقْرَبُون المساجدَ إِلَّا هَجْرًا، ولا يَأْتُون الصلاةَ إِلا دَبْرًا، مُسْتَكْبِرِين، لا يَأْلَفون ولَا يُؤْلَفُون، خُشُبٌ باللَّيْل، صُخُب بالنَّهار». قال ابنُ الأَعرابيّ: قوله: «دِبارًا» في الحدِيثِ الأَوّل جمع دَبْرٍ ودَبَرٍ، وهو آخر أَوقاتِ الشَّيْ‌ءِ: الصَّلاةِ وغَيْرِهَا.

والدَّابِرُ يقال للمُتَأَخِّرِ والتّابِع، إِمَّا باعْتَبَار المَكَانِ أَو بِاعْتِبَار الزّمَان أَو باعْتِبَار المَرْتَبَة. يقال: دَبَرَه يَدْبُره ويَدْبِره دُبُورًا إِذا اتَّبَعه مِنْ ورائِه وتَلَا دُبُرَه، وجاءَ يَدْبُرهُم؛ أَي يَتْبَعُهم، وهو من ذلك.

والدّابِر: آخِرُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ، قاله ابن بُزُرْج، وبه فُسِّر قولُهُم: قَطَع الله دابِرَهم؛ أَي آخرَ مَنْ بَقِيَ منهم، وفي الكتاب العَزِيز: {فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا}؛ أَي استُؤصِل آخِرُهم. وقال تَعَالَى في مَوضع آخَرَ {وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} وفي حَدِيث الدّعَاءِ: «وابْعَث عَلَيْهم بأْسًا تَقْطَع به دَابِرَهم»؛ أَي جَمِيعَهم حتَّى لا يَبْقَى منهم أَحَدٌ.

وقال الأَصمعيّ وغيره: الأَصْلُ. ومَعْنَى قَوْلهم: قَطَع الله دابِرَه؛ أَي أَذْهَبَ الله أَصْلَه، وأَنشد لوَعْلَةَ:

فِدًى لَكْمَا رِجْلَيّ أُمِّي وخَالَتِي *** غَداةَ الكُلَابِ إِذْ تُحَزُّ الدَّوابِرُ

أَي يُقتَل القَومُ فتَذْهَب أُصُولُهم ولا يَبْقَى لهم أَثَرٌ.

والدَّابِر: سَهْمٌ يَخْرُجُ من الهَدَفِ ويَسْقُط وَرَاءَه، وقد دَبَرَ دُبُورًا.

وفي الأَسَاس: ما بَقِيَ في الكِنَانة إِلا الدَّابِرُ، وهو آخِرُ السِّهَام.

والدَّابِرُ: قِدْحٌ غَيْرُ فَائِز، وهو خِلافُ القَابِل، وصَاحِبُه مُدَابِرٌ. قال صَخْرُ الغَيِّ الهُذَلِيّ يَصِف ماءً وَرَدَه:

فَخَضْخَضْتُ صُفْنِيَ في جَمِّه *** ـ خِيَاضَ المُدَابِرِ قِدْحًا عَطُوفَا

المُدَابِر: المَقْمُور في المَيْسِر. وقيل هو الّذِي قُمِرَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فيُعَاوِدُ ليَقْمُرَ. وقال أَبو عُبيد: المُدابِر: الذي يَضْرِب بالقِداحِ.

والدَّابِر: البِنَاءُ فَوْقَ الحِسْيِ، عن أَبي زَيْد. قال الشَّمَّاخ:

ولمَّا دَعَاهَا مِنْ أَبَاطِحِ وَاسِطٍ *** دَوَابِرُ لم تُضْرَبْ علَيْهَا الجَرَامِزُ

والدَّابِر: رَفْرَفُ البِنَاءِ، عن أَبي زَيْد.

والدَّابِرَةُ، بهاءٍ: آخِرُ الرَّمْلِ، عن الشَّيْبَانِيّ، يقال: نَزَلُوا في دَابِرَةِ الرَّمْلَة، وفي دَوابِرِ الرِّمَال، وهو مَجَاز.

وعن ابن الأَعْرَابِيّ: الدَّابِرَةُ: الهَزِيمَةُ، كالدَّبْرَةِ.

والدّابِرَةُ: المَشْؤُومَةُ، عنه أَيضًا.

ويقال: صَكَّ دَابِرَتَه، هي منْكَ عُرْقُوبُكَ. قال وَعْلَةُ:

إِذ تُحَزُّ الدَّوابرُ...

والدَّابِرَةُ: ضَرْبٌ من الشَّغْزَبِيَّة في الصِّرَاع.

ودابِرةُ الحافِرِ: مُؤَخَّرُه، وقيل: ما حاذَى مَوْضِعَ الرُّسْغِ، كما في الصّحاح، وقيل: هي الَّتي تَلي مُؤَخَّرَ الرُّسْغِ، وجَمْعُهَا الدَّوَابِرُ.

والمَدْبُورُ: المَجْرُوحُ، وقد دُبِرَ ظَهْرُه.

والمَدْبُور: الكَثِيرُ المَالِ يقال: هو ذو دَبْرٍ ودِبْرٍ، كما تقدَّم.

والدَّبَرَانُ مُحَرَّكَةً: نَجْمٌ بَينَ الثُّرَيَّا والجَوْزاءِ، ويقال له التَّابعُ والتُّوَيْبع، وهو مَنْزِلٌ للقَمر سُمِّيَ دَبَرَانًا لأَنَّه يَدْبُر الثُّرَيَّا؛ أَي يَتْبَعُه. وفي المُحْكَم: الدَّبَرَانُ: نجْمٌ يَدْبُر الثُّرَيَّا، لَزِمته الأَلفُ واللامُ لأَنَّهم جَعَلوه الشَّيْ‌ءَ بعَينه. وفي الصّحاح: الدَّبَرَانُ: خَمْسَةُ كَوَاكِبَ من الثَّوْرِ يقال: إِنّه سَنَامُه.

ورجُلٌ أُدَابِرٌ، بالضَّمّ: قاطِعٌ رَحِمَه، كأُبَاتِر. ورجل أُدَابِرٌ: لا يَقْبَلُ قولَ أَحَدٍ ولا يَلْوِي على شيْ‌ءٍ. وقال ابنُ القَطَّاع: هو الّذِي لا يَقْبَل المَوْعِظَةَ.

قال السِّيرَافِيّ: وحَكى سِيبويهِ أُدابِرًا في الأَسماءِ ولم يُفَسِّره أَحَدٌ، على أَنّه اسمٌ. لكنّه قد قَرَنه بأُحامِرٍ وأُجارِدٍ، وهما مَوْضعانِ، فعَسَى أَن يكون أُدَابِرٌ مَوْضِعًا.

وذَكَر الأَزهَرِيُّ «أُخَايِل»، وهو المُخْتَالُ، وهو أَحَدُ النَّظائر التِّسْعَةِ التي نَبَّهْنا عليها في «جرد» و«بتر».

وفي الصّحاح: الدَّبِيرُ: ما أَدْبَرَتْ به المَرْأَة من غَزْلِها حين تَفْتِلُه، وبه فُسِّرَ: فُلانٌ ما يَعْرِف دَبِيرَه مِن قَبِيلِه.

وقال يَعْقُوب: القبيل: ما أَقْبلتَ به إِلى صَدْرِك. والدَّبِيرُ: مَا أَدْبَرْتَ به عن صَدْرِك. يقال: فُلانٌ ما يَعْرِف قَبِيلًا من دَبِيرٍ. وهو مَجاز.

ويقال: هو مُقَابَلٌ ومُدابَرٌ؛ أَي مَحْضٌ مِنْ أَبَوَيْهِ كَريمُ الطَّرَفَيْن وهو مَجَاز. قال الأَصمَعِيّ: وأَصْلُه من الإِقْبالَةِ والإِدْبَارَةِ، وهو شَقٌّ في الأُذُن ثم يُفْتَلُ ذلك، فإِنْ ـ وفي اللسان: فإِذا ـ أُقْبِلَ بِهِ فَهو إِقْبَالَةٌ، وإِن ـ وفي اللِّسَان: وإِذا ـ أُدْبِرَ به فإِدْبَارَةٌ. والجِلْدَةُ المُعَلَّقَةُ مِن الأُذُنِ هي الإِقبالَةُ: والإِدْبَارَةُ كأَنَّهَا زَنَمَةٌ. والشّاةُ مُقَابَلَةٌ ومُدَابَرَةٌ، وقد دابَرْتُها ـ والذّي في اللسان: وقد أَدْبَرْتُها ـ وقَابَلْتُها.

والّذِي عند المُصَنِّف أَصْوَبُ.

ونَاقَةٌ ذاتُ إِقْبَالَةٍ وإِدبارَةٍ وناقةٌ مُقَابَلَةٌ مُدَابَرَة؛ أَي كَريمةُ الطَّرفَيْنِ من قِبَلِ أَبِيهَا وأُمِّهَا، وفي الحَدِيث: «أَنه نَهَى أَن يُضَحَّى بمُقَابَلَةٍ أَو مُدابَرَة». قال الأَصمعيّ: المُقَابَلَة: أَن يُقْطَع من طَرَف أُذُنِهَا شَيْ‌ءٌ ثمّ يُتْرَك مُعَلَّقًا لا يَبِينُ كأنَّه زَنَمةٌ، ويقال لمثل ذلك من الإبل: المزنَّمُ، ويسَمَّى ذلك المُعَلَّقُ: الرَّعْلَ، والمُدَابَرَةُ: أَن يُفْعَلَ ذلِك بمُؤَخَّرِ الأُذُنِ من الشّاةِ. قال الأَصمعيّ: وكذلك إِن بان ذلِك من الأُذُن فهي مُقَابَلَةٌ ومُدَابَرةٌ بعد أَن كان قُطِعَ.

ودُبَارٌ، كغُرَابٍ وكِتَابٍ: يَومُ الأَربعاءِ. وفي كِتَاب العَيْن للخَلِيل بنِ أَحْمَد: ليلَتُه، ورَجَّحَه بَعْضُ الأَئِمَّة، عادِيَّة، من أَسمائهم القديمةِ. وقال كُرَاع: جاهِلِيَّة، وأَنشد:

أُرَجِّى أَن أَعِيشَ وأَنَّ يَومِي *** بِأَوّلَ أَو بأَهْوَنَ أَو جُبَار

أَو التّالي دُبَارِ فإِن أَفُتْه *** فمُؤْنِسٍ أَو عَرُوبَةَ أَو شِيَارِ

أَوَّلٌ: الأَحَد. وشِيَارٌ: السَّسْت. وكلّ منها مَذْكُور في مَوْضِعه. والدِّبَارُ: بالكَسْرِ: المُعَادَاةُ من خَلْفٍ، كالمُدابَرَةِ.

يقال: دَابَرَ فلانٌ فُلانًا مُدَابَرةً ودِبَارًا: عَادَاه وقَاطَعَه وأَعرَضَ عنه.

والدِّبَارُ: السَّواقِي بَيْنَ الزُّرُوعِ، واحدتها دَبْرةٌ، وقد تقدّم. قال بِشْرُ بنُ أَبِي خازِم؛

تَحَدُّرَ ماءِ البِئْر عن جُرَشِيِّها *** على جِرْيةٍ تَعلُو الدِّبَارَ غُرُوبُهَا

وقد يُجْمَع الدِّبَار على دِبَاراتٍ، وتقدّم ذلِك في أَوّل المَادّةِ.

والدِّبَار: الوَقَائِعُ والهَزَائِمُ، جمْعُ دَبْرة. يقال: أَوْقَعَ الله بهم الدِّبَارَ، وقد تقدّم أَيضًا.

وقال الأَصمعيّ: الدَّبَارُ بالفَتْحِ: الهَلَاكُ، مثل الدَّمَار.

وزادَ المصنِّف في البَصائر: الّذِي يَقْطَع دابِرَهم. ودَبَرَ القَوْمُ يَدْبُرُون دبَارًا: هَلَكُوا، ويقال: عَلَيْهِ الدَّبارُ إِذا دَعَوْا عَلَيْه بأَن يَدْبُرَ فلا يَرْجع، ومثله: عَلَيْه العَفَاءُ؛ أَي الدَّرُوسُ والهَلاكُ.

والتَّدْبِيرُ: النَّظَرُ في عاقِبَةِ الأَمْر؛ أَي إِلى ما يَؤُول إِليه عاقِبَتُه، كالتَّدَبُّر. وقيل: التَّدَبُّر التَّفكُّر أَي تَحْصِيل المَعْرِفَتَيْنِ لتَحْصِيل مَعْرِفةٍ ثالثة، ويقال عَرَف الأَمرَ تَدَبُّرًا؛ أَي بأَخَرَةٍ.

قال جَرِير:

ولا تَتَّقُون الشَّرَّ حتَّى يُصِيبَكُمْ *** ولا تَعْرِفون الأَمرَ إِلَّا تَدَبُّرَا

وقال أَكثَمُ بنُ صَيْفِيّ لبَنِيه: يا بَنِيَّ، لا تَتَدَبَّروا أَعْجازَ أُمُورٍ قد وَلَّتْ صُدُورُها.

والتَّدْبِير: عِتْقُ العَبْدِ عَنْ دُبُرٍ، هو أَن يَقُول له: أَنت حُرٌّ بعد مَوْتِي، وهو مُدَبَّر. ودَبَّرْتُ العَبْدَ، إِذا عَلَّقْتَ عِتْقَه بمَوْتِك.

والتَّدْبِير: رِوَايَةُ الحَدِيثِ ونَقْلُه عن غَيْرِك، هكذا رواه أَصْحَابُ أَبِي عُبَيْد عَنْه، وقد تَقَدَّم ذلك.

وتَدَابَرُوا: تَعَادَوْا وتَقاطَعُوا. وقِيلَ: لا يَكُون ذلِك إِلّا في بَنِي الأَبِ. وفي الحديث: «لا تَدَابَرُوا ولا تَقاطَعُوا».

قال أَبو عُبَيْد: التَّدَابُر: المُصَارَمَة والهِجْرَانُ. مأْخُوذٌ من أَن يُوَلِّيَ الرجلُ صاحبَه دُبُرَه وقَفَاه، ويُعرِضَ عنه بوَجْهه ويَهْجُرَه، وأَنشد:

أَأَوْصَى أَبُو قَيْسٍ بأَنْ تَتَواصَلُوا *** وأَوْصَى أَبُوكُم ويْحَكُمْ أَن تَدَابَرُوا

وقيل في معنَى الحَدِيث: لا يَذْكُرْ أَحَدُكم صاحِبَه من خَلْفِه.

واسْتَدْبَرَ: ضِدُّ استَقْبَلَ، يقال استَدْبَرَه فَرَمَاه؛ أَي أَتَاه من وَرائِه. واستدبَرَ الأَمْرَ: رَأَى في عاقِبَتِه ما لَمْ يَرَ في صَدْرِهِ.

ويقال: إِن فُلانًا لو استَقْبَلَ من أَمْرِه ما استَدْبَره لَهُدِيَ لِوِجْهَةِ أَمْرِه. أَي لو عَلِمَ في بَدْءِ أَمْرِه ما علِمَه في آخِرِه لاسْتَرْشَدَ لأَمْره.

واستَدْبَرَ: استَأْثَرَ، وأَنشد أَبو عُبَيْدةَ للأَعْشَى يَصِف الخَمْر:

تَمَزَّزْتُهَا غَيْرَ مُسْتَدْبِرٍ *** علَى الشَّرْبِ أَو مُنْكِرٍ ما عُلِمْ

قال: أَي غير مُستَأْثِر، وإِنما قيلَ للمُسْتَأْثِر مُسْتَدبِر، لأَنَّه إِذا استأْثَر بشُرْبها استَدْبَر عنهم ولم يَسْتَقْبِلهم، لأَنَّه يَشرَبُها دُونَهُم ويُوَلِّي عنهم.

وفي الكِتَابِ العَزِيز: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَي أَلم يَتَفَهَّموا ما خُوطِبُوا به في القُرآن وكذلك قَوْلُه تَعالَى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} أَي أَفَلَا يَتَفَكَّرُون فيَعتبِروا، فالتَّدبُّر هو التَّفَكُّر والتَّفَهُّم. وقوله تَعَالى {فَالْمُدَبِّراتِ أَمْرًا}، يَعنِي ملائِكَةً مُوَكَّلَةً بتَدْبِير أُمورٍ.

ودُبَيْر كزُبَيْر: أَبو قَبِيلَة من أَسَدٍ وهو دُبَيْر بنُ مالِك بْنِ عَمْرو بنِ قُعَيْن بن الحارِث بن ثَعْلَبَة بنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدٍ، واسمه كَعْب، وإِليه يَرْجِع كُلُّ دُبَيْريّ، وفيهم كَثْرةٌ.

ودُبَيْر: اسْمُ حِمَارٍ. ودُبَيْرَةُ، بِهاءٍ: قرية، بالبَحْرَين، لبَنِي عَبْدِ القَيْس. وذَاتُ الدَّبْر، بفتح فسكون: ثَنِيَّةٌ لِهُذَيْل، قال ابنُ الأَعْرَابِيّ، وقد صَحَّفه الأَصْمَعِيّ فقال: ذات الدَّيْر. قال أَبو ذُؤَيب:

بأَسْفلِ ذاتِ الدَّبْرِ أُفرِدَ خِشْفها *** وقد طُرِدَت يَوْمَيْنِ فهْيَ خَلُوجُ

ودَبْرٌ، بفتح فسكون: جَبَلٌ بَينَ تَيْمَاءَ وجَبَلَيّ طَيِّي‌ء.

ودَبِيرٌ كأَمِيرٍ: قرية بنَيْسَابُورَ، على فَرْسَخ، مِنَها أَبو عبد الله محمَّدُ بنُ عبدِ الله بنِ يُوسفَ بن خُرْشِيد الدَّبِيْرِيّ، ويقال الدَّوِيرِيّ أَيضًا، وذكره المُصنّف في دار، وسيأْتي، وهنا ذَكَره السَّمْعَانيّ وغيره، رَحَل إِلى بَلْخَ ومَرْو، وكتَبَ عن جماعةٍ، وستأْتي ترجمته.

ودَبِير: جَدُّ مُحمَّدِ بنِ سُليمانَ القَطَّانِ المحدِّثِ البَصْرِيّ، عن عَبدِ الرَّحمن بنِ يُونس السَّرّاج، تُوفِّيَ بعد الثلاثمائة، وكان ضَعِيفًا في الحديث.

ودبِيرَا: قرية بالعِراقِ من سَوادِه، نقله الصَّاغانِيّ.

ودَبَرُ كجَبَل: قرية باليَمَنِ من قُرَى صَنْعَاءَ، منها أَبو يَعْقُوب إِسحاقُ بنُ إِبراهِيمَ بن عبَّادٍ المحدِّثُ راويِ كُتُب عبد الرزّاق بن هَمَّام، روى عنه أَبو عَوانَةَ الأَسْفَرَاينيّ الحافظ، وأَبو القَاسم الطَّبَرانيّ، وخَيْثَمَة بنُ سَلْمَان الأَطْرابُلُسيّ وغَيْرُهم.

والأَدْبَرُ: لَقَبُ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ الكِنْدِيّ، نُبِزَ به لأَن السِّلاح أَدْبَرَت ظَهَرْه. وقيلَ: لأَنّه طُعِنَ مُوَلِّيًا، قالَه أَبو عَمْرو.

وقال غيرُه: الأَدْبَرُ: لَقَبُ أَبِيه عَدِيٍّ، وقد تقدّم الاخْتِلاف في «ح الجمع: ر» فراجِعْه.

والأَدْبَر أَيضًا: لَقَبُ جَبَلَةَ بن قَيْسٍ الكِنْدِيّ، قِيل إِنه؛ أَي هذا الأَخير صَحَابيّ، ويقال هو جَبَلَةُ بنُ أَبي كَرِبِ بنِ قَيْسٍ، له وِفَادَةٌ، قاله أَبو موسَى.

قُلْت: وهو جَدُّ هانِي‌ءِ بْنِ عَدِيِّ بن الأَدْبر.

ودُبَيْرٌ، كزُبَيْر: لَقَبُ كَعْبِ بن عَمْرِو بن قُعَيْن بن الحَارث بن ثَعْلَبَةَ بن دُودَانَ بن أَسَد الأَسَدِيِّ لأَنه دُبِرَ من حَمْل السِّلاح. وقال أَحمدُ بنُ الحباب الحِمْيَريّ النَّسّابة: حَمَلَ شيئًا فَدبَرَ ظَهْرَه.

وفي الروض أَنه تَصْغِير أَدبَر، على التَّرْخِيم، ولا يَخْفَى أَنه بعَيْنه الذي تقدَّم ذِكْرُه، وأَنه أَبو قَبِيلَةٍ من أَسد، فلو صَرَّحَ بذلِك كان أَحسنَ، كما هو ظاهرٌ.

والأُدَيْبِرُ، مُصَغَّرًا: دُوَيْبَة، وقيل: ضَرْبٌ مِنَ الحَيَّاتِ.

ويقال: لَيْسَ هُوَ من شَرْجِ فُلان ولا دَبُّورِهِ، كتَنَّورِه أَي من ضَرْبِه وزِيِّهِ وشَكْلِه.

ودَبُّورِيَةُ: د، قُربَ طَبَرِيَّةَ. وفي التَّكْمِلَة: من قُرَى طَبَرِيَّةَ، وهي بتَخْفِيف الياءِ التحتيّة.

* ومما يُسْتَدْرك عليه:

دَابِرُ القَوْمِ: آخِرُ مَنْ يَبْقَى منهم ويَجِي‌ءُ في آخِرِهم، كالدَّابِرَة. وفي الحديث: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ خَلَفَ غازِيًا في دابِرَتِه» أَي مَنْ يَبْقَى بعدَه.

وعَقِبُ الرَّجُلِ: دابِرُه.

ودَبَرَه: بَقِيَ بَعْدَه.

ودابِرةُ الطّائر: الإِصْبَعُ الَّتي من وَراءِ رِجْله، وبها يَضرِب البازِي. يقال: ضَرَبَه الجارِحُ بدَابِرَتِه، والجوارِحُ بدَوابِرِها. والدّابِرة للدِّيك: أَسْفلُ من الصِّيصِيَة يَطَأُ بها.

وجاءَ دَبَرِيًّا؛ أَي أَخيرًا. والعِلْم قَبْلِيٌّ وليس بالدَّبَرِيّ.

قال أَبو العَبَّاس: معناه أَنّ العالم المُتْقِنَ يُجِيبُك سَرِيعًا، والمُتَخَلِّف يقول: لي فيها نَظَرٌ. وتَبِعْتُ صاحِبي دَبَرِيًّا، إِذَا كنتَ معه فتَخَلَّفْت عنه ثم تَبِعْتَه وأَنتَ تَحْذَر أَن يَفُوتَك، كذا في المحكم.

والمُدْبَرَة، بالفَتْح: الإِدْبَار. أَنشد ثَعْلبٌ:

هذا يُصَادِيك إِقبَالًا بمَدْبَرَةٍ *** وذَا يُنَادِيك إِدْبَارًا بإِدْبارِ

وأَمْسِ الدَّابِرُ: الذّاهِبُ الماضِي لا يَرْجِع أَبدًا.

وقالوا: مَضَى فلان أَمْسِ الدّابِرُ وأَمْسِ المُدْبِرُ، وهذا من التَّطوّع المُشَام للتَّوكيد، لأَن اليوم إِذا قيل فيه أَمْسِ فمعلوم أَنَّه دَبَرَ، لكنه أَكَّده بقوله: الدَّابِر. قال الشاعر:

وأَبِي الَّذِي تَرَكَ المُلُوكَ وجَمْعَهمْ *** بصُهَابَ هامِدَةً كأَمْسِ الدّابِرِ

وقال ضَخْرُ بنُ عَمْرِو بنِ الشَّرِيد السُّلَمِيّ:

ولقدْ قَتَلْتكُمُ ثُنَاءَ ومَوْحَدًا *** وتَرَكْتُ مُرَّةَ مِثْلَ أَمِس المُدْبِرِ

ورجل خاسِرٌ دَابِرٌ، إِتْبَاعٌ. ويقال: خاسِرٌ دامِرٌ، على البَدَل وإِن لم يَلْزم أَن يكون بَدَلًا، وسيأْتِي.

وقال الأَصمَعِيّ: المُدابِرُ: المُوَلِّي المُعْرِض عن صاحِبِه.

ويقال: قَبَحَ الله ما قَبَلَ منه وما دَبَرَ.

والدّلْوُ بَينَ قابِلٍ ودابِرٍ: بين مَنْ يُقْبِل بها إِلى البِئْر ومَنْ يُدْبِر بها إِلى الحَوْض.

وما لَهُم من مُقْبَلٍ ولا مُدْبَرٍ؛ أَي من يَذْهَب في إِقبال ولا إِدبار.

وأَمْرُ فُلانٍ إِلى إِقبالٍ وإِلى إِدبارٍ.

وعنِ ابْنِ الأَعرابيّ: دَبَرَ: رَدَّ ودَبَرَ: تأَخَّر.

وقالوا: إِذَا رأَيتَ الثُّريَّا يُدْبِر فشَهْرُ نَتَاجٍ وشَهْرُ مَطَرٍ.

وفلان مُسْتَدْبَرُ المَجْدِ مُسْتَقْبَلٌ؛ أَي كَريم أَوّل مَجْدِهِ وآخِره، وهو مَجاز.

ودَابَر رَحِمَه: قَطَعها.

والمُدابَرُ من المَنازِل خِلافُ المُقَابَلِ.

وأَدْبَرَ القَوْمُ، إِذا وَلَّى أَمرُهُم إِلى آخِرِه، فلم يَبْقَ منهم باقِيَةٌ.

ومن المَجَاز: جَعَله دَبْرَ أُذُنِه إِذا أُعْرضَ عنه. ووَلَّى دُبُرَه: انهزمَ. وكانت الدَّبْرةُ له: انْهزَم قِرْنُه، وعليه: انهزمَ هو. وَوَلّوا دُبُرَهم مُنْهَزِمين. ودَبَرَتْ له الرِّيحُ بعد ما قَبَلَتْ، ودَبَر بعد إِقبال. وتقول: عَصَفَت دَبُورُه، وسَقَطت عَبُورُه، وكلّ ذلك مَجَازٌ.

وكَفْر دَبُّور، كتَنّور: قَرية بمصر.

والدَّيْبور: موضع في شعر أَبي عباد، ذكره البَكْرِيّ.

ودَبْرَةُ، بفتح فسكون: ناحيةٌ شاميّة.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


131-تاج العروس (هير)

[هير]: الهَيْرَةُ: الأَرضُ السَّهلَةُ المطمئنّة.

والهيرُ من اللَّيل، بالكَسر والفَتْح وكسَيِّد: الهِتْرُ، هكذا في سائر النُّسخ. ومُقْتَضَاه أَنْ يَكُون في هير اللّيلِ لغاتٌ ثلاثة، وليس كذلك، فالمنقول عن ابن الأَعرابيّ وغيره يقال: مَضَى هيرٌ من اللَّيل، بالكَسر فقط أَي أَقلّ من نِصْفه، قال: وحُكِيَ فيه هِتْرٌ، وقد ذُكِر في موضعه. وأَما اللّغَات المذكورة فإِنها جاءَت في معنَى رِيح الشَّمَال فقالوا: هِيرٌ وهَيْرٌ وهَيِّرٌ، وكذلك إِيرٌ وأَيْرٌ وأَيِّرٌ، ففي كلام المصنّف نَظرٌ، ولو قال: وبالفَتْح وكسَيِّد، لأَصابَ، وقيل: هيرٌ من أَسماءِ الصَّبَا.

والهَيْرُونُ: تَمْرٌ، معروف؛ معرُوف، هكذا نقله الصاغانيّ عن أَبي حنيفةَ، والذي نقلَه الأَئمة عن أَبي حنيفة: هيرُونُ بالكَسر وضم النّون، من غير أَلف ولام، فإِن كان ذلك فهو يحتمل أَن يكون فِعلُونًا وفِعلُولًا.

واليَهْيَرُّ، بالتَّشْدِيد: الحَجَرُ الأَحمرُ الصُّلْبُ، أَو اليَهْيَرُّ: حجارَةٌ أَمثَالُ الأَكُفِّ، أَو حَجرٌ صغيرٌ، وقال أَبو حنيفة: اليَهْيَرُّ، مُشدَّدًا: الصَّمْغَةُ الكَبِيرَةُ، وأَنشد:

قد مَلَؤُوا بُطُونَهُم يَهْيَرَّا

واليَهْيَرُّ: السَّرَابُ، ومنه المَثَل: «فلانٌ أَكْذَبُ من اليَهْيَرِّ»، وقاله الليث: اليَهْيَرُّ: اللَّجَاجَةُ والتَّمادِي في الأَمرِ، تقول: استَيْهَرَ وأَنشد:

وقَلْبُكَ في اللهْوِ مُسْتَيْهِرُ

واليَهْيَرُّ: الكَذِبُ. واليَهْيَرُّ: دُوَيْبَةٌ تكون في الصّحَارى، أَعْظَمُ من الجُرَذِ، وَاحدتُه يَهْيَرَّةٌ، أَنشد ابن شُمَيْل:

فَلَاةٌ بهَا اليَهْيَرُّ شُقْرًا كأَنَّهَا *** خُصَى الخَيْلِ قد شُدَّتْ عليها المَسَامِرُ

واليَهْيَرُّ: الحَنْظَلُ، وهو أَيضًا: السَّمُّ، وقد نُقِلَ فيهما التَّخفيف. واليَهْيَرُّ: صَمْغُ الطَّلْحِ، عن أَبي عَمْرو، وأَنشد:

أَطْعَمْتُ رَاعيَّ من اليَهْيَرِّ *** فظَلَّ يَعْوِي حَبَطًا بشَرِّ

خَلْفَ اسْته مثْلَ نَقيقِ الهِرِّ

قِيل: سُمِّي به على التّشبيه بالحجارة الحُمْر الصُّلْبة.

واليَهْيَرَّةُ، بهاءٍ، من النُّوق، قال ابنُ شُمَيْل: قيل لأَبي أَسْلَم: ما الثَّرَّةُ اليَهْيَرَّةُ الأَخلافِ؟ فقال: الثَّرَّةُ: الساهِرَةُ العِرْقِ، تَسمَع زَمِيرَ شُخْبِها وأَنت من ساعةٍ. قال: واليَهْيَرَّة: الّتِي يَسِيلُ لَبَنَهَا كَثْرَةً. وناقةٌ ساهِرَةُ لعِرْقِ: كثيرةُ اللّبَنِ.

وربَّمَا زادوا فيه الأَلِفَ فقالُوا: اليَهْيَرَّى، مَقْصُورًا مُشَدَّدًا، وهو: المَاءُ الكَثيرُ، كاليَهْيَرّ.

واليَهْيَرَّى من أَسماءِ الباطِل، يقال منه: ذَهبَ مَالُه في اليَهْيَرَّى، وقال أَبو الهَيْثَم: ذهبَ صاحِبُك في اليَهْيَرَّى؛ أَي في الباطِل.

واليَهْيَرَّى. نَبَاتٌ أَو شَجَرٌ، الأَخِيرُ عن ابن هانِئ، زِنتُه يَفْعَلّى أَو فَعْيَلَّى أَو فَعْلَلَّى.

قالِ سيبويه في الكتاب: أَما يَهْيَرّ مشدَّدةً فالزيادةُ فيه أُوْلَى، لأَنّه ليس في الكلام فَعْيَلُّ، وقد ثُقِّل آخِرُ ما أَوّله زيادةٌ كمكوَرّ، دون الثلاثيّ الذي أَوسطُه زيادة كفَوْعَل وفَعْيَل، ولو كانت يَهْيَرّ مخفَّفةَ الياءِ كانت الأُولى هي الزائدةَ أَيضًا، لأَنّ الياءَ إِذا كانت أَوّلا بمنزلة الهمزة. وقال الصاغانيّ: واختَلَفوا في تَقديره، قيل: إِنّه يَفْعَلٌّ، وقد حَكاه الجوهريّ، وقيل: إِنّه فَعْيَلٌّ. والياءُ الثانية زائدةٌ. وقيل: إِنه فَعْلَلٌّ.

وهِيرٌ، بالكسْر: موضع، بالبَادِيَة، عن اللّيْث.

والهَيَارُ، كسَحَابٍ: الّذي يَنْهَارُ كما يَنْهَار الرّمْلُ ويَسْقُط.

قال كُثَيّر:

فمَا وَجَدُوا مِنكَ الضَّرِيبَةَ هَدَّةً *** هَيَارًا ولا سَقْطَ الأَلِيَّةِ أَخْرَمَا

* ومّما يسْتَدرَك عليه:

تَهَيَّر الجُرْفُ والبِنَاءُ: انْهَدَمَ.

وهَيَّرْتُ الجُرْفَ فتَهيَّرَ، لغة في هَوَّرْتُه فتَهَوَّرَ.

والهائِرُ: السّاقطُ، وقد تقدّم أَيضًا في الواو.

ويقال: اسْتَيْهِرْ بإِبلِك واقْتَيِلْ وارتجِعْ؛ أَي استَبدِلْ بها إِبِلًا غيرَها، وسيأْتي في ي هـ ر. واقْتَيِلْ هو افْتَعِل من المقَايَلَةِ في البَيع والمبَادَلة.

ويقال: ذَهبَ في اليَهْيَرّ؛ أَي الرِّيحِ، عن شَمِر.

ويقال للرَّجُل إذا سأَلتَه عن شيْ‌ءٍ فأَخْطَأَ: ذَهَبْتَ في اليَهْيَرَّى. واينَ تَذْهَبْ تَذْهَبْ في اليَهْيَرَّى. وزعمَ أَبو عبَيْدَة أَنّ اليَهْيَرَّى الحِجَارةُ.

والمسْتَيْهِر: المتَمادِي في اللَّجاجة.

وقال الفَرّاءُ: يقَال: قد اسْتَبْهَرْتُ أَنّكم قد اصطَلَحْتُم؛ مثل: اسْتَيْقَنْت. وذَكرَه المصنّف في «وه ر» استطرادًا، ويأْتي له في «ي هـ ر» أَيضًا.

وإِذا كان التَّيْهور من تَهَيَّرَ الجُرْفُ فمَوضِع ذِكرِه هنا، وقد تقدَّم.

واليَهْيَرُّ، مُشدّد الآخِرِ: الصُّلْب، عن الأَحمر، كأَنّ هاءَه عن همزة.

التحتية مع الراءِ

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


132-تاج العروس (هلك)

[هلك]: هَلَكَ كضَرَبَ ومَنَعَ وعَلِمَ وعلى الثاني قِرَاءَةُ الحَسَنِ وأَبي حَيْوَةِ وابنِ أَبي إسْحق. ويَهْلَكُ الحَرْثُ والنَّسْلُ بفتحِ الياءِ واللَّامِ ورفعِ الثاءِ واللَّامِ كما في العُبَابِ، وفي كتابِ الشَّواذِ لابنِ جني: رَوَاه هرُون عن الحَسَنِ وابنِ أَبي إِسْحق قال ابنُ مجاهِدٍ: هو غلَطٌ لعَمْرِي أَنَّ ذلك تَرْكٌ لِمَا عليه أَهْل اللغةِ، ولكنْ قد جاءَ له نَظِيْر أَعْنِي قَوْلَنا: هَلَكَ يَهْلَكُ فَعَلَ يَفْعَلُ وهو ما حَكَاه صاحِبُ الكتابِ من قولِهم أَبَى يَأْبَى، وحَكَى غيرُه: قَنَطَ يَقْنَطُ، وسَلَا يَسْلى وجَبَا المَاءَ يَجْبَاه، ورَكَنَ يَرْكَنُ وقَلَا يَقْلى، وغَسَى الليل يَغْسى، وكانَ أَبُو بَكْرٍ رحمه ‌الله يذْهبُ في هذا إلى أَنَّها لغاتٌ تَدَاخَلَتْ، وذلك أَنَّه قَدْ يقالُ: قَنَطَ وقنط ورَكَنَ وركن وسَلَا وسلى فتداخلت مُضَارِعَاتُها. وأَيْضًا فإنَّ في آخرِها أَلفًا وهي أَلفُ سَلَا وَقَلا وغَسَى وأَبَى فضَارَعَتِ الهَمْزة نحو قَرَأَ وهَدَأَ وبَعد، فإذا كانَ الحَسَنُ وابنُ أَبي إسْحق إمامَيْن في الثِّقةِ واللّغةِ فلا وَجْه لمنْعِ ما قَرَأ به ولا سِيَّما وله نظِير في السماعِ.

وقد يجوزُ أنْ يكونَ يَهْلكُ جاءَ على هَلِكَ بمنزلَةِ عَطِبَ غيْرَ أنَّه اسْتَغْنى عن ماضِيهِ بهَلَكَ انتهى. هُلْكًا بالضم وهَلاكًا بالفتحِ وتُهْلُوكًا، وهذه عن ابنِ بَرِّي، وهُلوكًا بضمهما، وهذه نَقَلَها الجَوْهَرِيّ مع الثانيةِ. وقال شيْخُنا: لو قالَ بضمِّهنَّ وأَسْقط بالضمِّ الأَوَّل لكانَ أَخْصَر وأَوْجَزَ مع الجَرْي على قاعِدَتِه المأْلُوفةِ، فعُدُولُه عنها لغيرِ نكتةٍ غيرُ صَوابٍ.

قلْتُ: العُذْرُ في ذلك تخلُّلُ لفظِ هَلاك وهو بالفتحِ، نعم لو أَخَّرَ لفظَ هَلاكٍ بَعْد قَوْلِه بضمِّهما كان كما قالَهُ شيخُنا فتأمَّلْ. ومَهْلِكَةً كذا في النسخِ والصَّواب مهلكًا كما هو نصُّ الصِّحاحِ والعُبَابِ. وتَهْلِكَةً مُثَلَّثَتَيِ اللَّامِ واقْتَصَرَ الجَوْهَرِيّ على تَثْليثِ لامِ مَهْلَك، وأَمَّا التَّهْلُكَة بضمِ اللامِ فنَقَل عن اليَزِيدِيّ أنَّه من نوادِرِ المصَادِرِ وليْسَتْ ممَّا يجْرِي على القِياسِ، وأنْشَدَ ابنُ بَرِّي شاهِدًا على التُّهْلوكِ قَوْل أَبي نُخَيْلة لشَبِيبِ بن شَبَّةَ:

شَبِيبُ عادَى اللهُ من يَجْفُوكا *** وسَبَّبَ اللهُ له تُهْلوكا

وقَرَأَ الخلِيْلُ قَوْلَه تعَالَى: ولا تُلْقُوا بأَيْدِيَكُم إلى التَّهْلِكةِ بكسرِ اللامِ، وقَوْلُه: ماتَ تَفْسِيرٌ لقَوْلِه هَلَكَ ولم يقيِّدْه بشيْ‌ءٍ لأَنَّه الأَكْثَرُ في اسْتِعْمالِهم، واخْتِصاصُه بميتَةِ السُّوءِ عرْفٌ طارِئٌ لا يُعْتَدُّ به بدليلِ ما لا يُحْصَى من الآي والأَحادِيثِ. قال شيْخُنا: ولطروِّ هذا العُرْف قالَ الشَّهابُ في شرحِ الشفاء: إنَّه يُمْنَعُ إطْلاقُه في حقِّ الأَنْبياءِ، عليهم الصَّلاة والسَّلام، ولا يعتدُّ بأَصْلِ اللغةِ القدِيمةِ كما لا يَخْفَى عمَّن له مَسَاس بالقَوَاعدِ الشَّرْعيَّةِ والله أَعْلم. وأهْلَكَهُ غيرُه واسْتَهْلَكَهُ وهَلَّكَهُ تَهْلِيكًا وأَنْشَدَ ثَعْلب:

قالت سُلَيْمَى هَلِّكُوا يَسارا

وقَوْلُ النبيِّ، صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم: «إذا قال الرجلُ هَلَكَ الناسُ فهو أَهْلَكَهم؛ يُرْوَى برفعِ الكافِ وفَتْحِها فمن رَفَعَ الكافَ أَرَادَ أَنَّ الغالِيْن الذين يُؤْيِسُون الناسَ من رَحْمةِ اللهِ تعَالَى يقُولُون هَلَكَ الناسُ أَي اسْتَوجَبُوا النارَ والخُلودَ فيها لسوءِ أَعْمَالِهم، فإذا قالَ الرجلُ ذلك فهو أَهْلَكهم، وقيلَ: هو أَنْسَاهُم للهِ تعَالَى؛ ومَنْ رَوَى بفتحِ الكافِ أَرَاد فهو الذي يُوجِبُ لَهُم ذلك لا اللهُ تعَالَى. وقوْلُه، صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم؛ «ما خالَطتِ الصَّدقةُ مالًا إلَّا أَهْلَكَتْه»؛ حضٌّ على تَعْجيلِ الزَّكاةِ من قَبْلِ أَنْ تخْتَلِطَ بالمالِ فتَذْهبَ به؛ ويقالُ: أَرَادَ تحْذِيرَ العُمَّال اخْتِزَال شيْ‌ءٍ منها وخلْطَهم إِيَّاه بأَمْوالِهم. وفي التَّنْزيلِ: {وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمّا ظَلَمُوا}. وهَلَكَهُ يَهْلِكُهُ هَلْكًا بمعْنَى أَهْلَكَهُ لازِمٌ مُتَعَدٍ قال أَبو عُبَيْدَة: أَخْبَرَني رُؤْبَةُ أنَّه يقالُ: هَلَكْتَنِي بمعْنَى أَهْلَكْتَنِي، قالَ: وليْسَتْ بلُغَتِي. قالَ أَبُو عُبَيْدة: وهي لغةُ تَمِيم، وأَنْشَدَ الجَوْهَرِيُّ للعجَّاجِ:

ومَهْمَهٍ هالِكِ مَنْ تَعَرَّجا *** هائلةٍ أَهْوالُه مَنْ أَدْلَجا

أَي مُهْلِك، كما يقالُ: ليلٌ غاضٍ أَي مُغْضٍ. ويقالُ: هالِكُ المُتَعَرِّجين أي مَنْ تَعَرَّجَ فيه هَلَكَ. ورجُلٌ هالِكٌ مِن قومٍ هَلْكَى قال الخلِيْلُ: إنّما قالُوا هَلْكَى وزَمْنَى ومَرْضَى لأَنَّها أَشْياءٌ ضُرِبُوا بها، وأُدْخِلُوا فيها وهم لها كارِهُون؛ ويُجْمَعُ أَيْضًا على هُلَّكٍ وهُلَّاكٍ كسُكَّرٍ ورُمَّانٍ قال جَمِيْلٌ:

أَبِيتُ مع الهُلَّاكِ ضَيْفًا لأَهْلِها *** وأَهْلِي قريبٌ مُوسِعُون ذَوو فَضْلِ

وقال أَبو طالِبٍ:

يطيف به الهُلّاكُ من آل هاشمٍ *** فهم عنده في نعمةٍ وفواضلِ

وهَوالِكَ أَيْضًا. ومِنه المَثَلُ: فلانٌ هالِكٌ من الهَوَالِكِ وأَنْشَدَ أَبُو عَمْروٍ لابنِ جذْلِ الطِّعانِ:

تَجَاوَزْتُ هِنْدًا رَغْبَةً عن قِتالِه *** إِلى مالِكٍ أَعْشُو إِلى ذكْرِ مالكِ

فأَيْقَنْتُ أَنِّي ثائِرُ ابن مُكَدَّمٍ *** غَداةَ إِذٍ أَو هالِكٌ في الهَوالِكِ

قالَ: وهذا شاذٌّ على ما فسِّرَ في فَوَارِس؛ قال ابنُ بَرِّي: يجوزُ أَنْ يُرِيدَ هَالِك في الأُمَمِ الهَوالِكِ فيكونَ جَمْع هَالِكَةَ على القِياسِ، وإِنَّما جازَ فَوَارِس لأَنَّه مخصوصٌ بالرجالِ فلا لُبْس فيه، قال: وصوابُ إِنْشادِ البيتِ.

فأَيْقَنْتُ أَنِّي عند ذلك ثائِرٌ

والهَلَكَةُ محرَّكَةً والهَلْكاءُ بالفتحِ الهَلاكُ ومنه قولُهم: هي هَلَكَةٌ هَلْكاءُ وهو تَوْكيدٌ لها، كما يقالُ هَمَجٌ هامجٌ.

وقال أَبُو عُبَيْد: يقالُ وَقَعَ فلانٌ في الهَلَكَةِ الهَلْكَى والسَّوْأَةِ السَّوْأَى. وقولُهم: لأَذْهَبَنَّ فإِمَّا هَلْكٌ وإمَّا مَلْكٌ بفَتْحِهِما وبضَمِّهِما ومرَّ في «م ل ك» أنه يُثَلَّثُ أي إمَّا أنْ أهْلِكَ وإمَّا أنْ أمْلِكَ نَقَلَه ابنُ السِّكِّيت. واسْتَهْلَكَ المالَ أَنْفَقَهُ وأَنْفَذَهُ أَنْشَدَ سِيْبَوَيْه:

تقولُ إذا أَهْلَكْتُ مالًا للَذَّةٍ *** فُكَيْهَةُ هَشَّيْ‌ءٌ بكَفَّيْكَ لائِقُ

قال سِيْبَوَيْه: يريدُ هل شيْ‌ء فأَدْغم اللَّامَ في الشِّين، وليسَ لك بواجبٍ كوُجُوبِ إِدْغام الشَّمَّ والشَّرابَ ولا جَمِيْعهم يدغم هل شيْ‌ء. وأهْلَكَهُ باعَهُ. وفي بعضِ أَخْبارِ هُذَيْل: أَنَّ حَبيبًا الهُذَليَّ قال لمَعْقِلِ بنِ خُوَيْلِدٍ: ارجِعْ إِلى قومِك، قالَ: كيفَ أَصْنَعُ بإِبلي؟ قالَ: أَهْلِكْها أَي بعْها.

ومن المجازِ: المَهْلَكَةُ ويُثَلَّثُ المَفازَةُ لأَنَّها تُهْلَكُ الأَرْواحُ فيها، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وقال غيْرُه: لأَنَّها تَحْمِلُ على الهَلَاكِ. وفي حدِيثِ التوْبَةِ: «وتَرْكُها مَهْلَكَة» بفتحِ اللام وكسرِها أَيْضًا، والجَمْعُ المَهَالِكُ. والهَلَكونُ كحلَزونٍ وتُكْسَرُ الهاءُ أَيْضًا، وهذه عن ابنِ بُزُرْجَ. الأَرْضُ الجَدْبَةُ وإن كانَ فيها ماءٌ وقال ابنُ بُزُرْجَ: يقالُ هذه أرضٌ هَلَكينٌ أي جَدْبَةٌ كذا ذَكَرَه ابنُ فارِس. وأرضٌ هَلَكونٌ إذا لم تُمْطَرْ مُنْذُ دَهْر هكذا في النسخِ، ونصُّ ابن بَزُرْج: هذه أَرْضٌ آرِمَةٌ هَلَكُون وأَرْضٌ هَلَكُون إذا لم يكنْ فيها شيْ‌ءٌ.

ويقالُ تَرَكَها آرِمَةً هَلَكِين إذا لم يصبْها الغَيْثُ منذ دَهْرٍ طويلٍ. يقالُ: مررْتُ بأَرْضٍ هَلَكِينَ بفتحِ الهاءِ واللامِ ومن المجازِ: الهَلَكُ محرَّكةً السِّنونَ الجَدْبَةُ لأَنها تَهْلك عن ابنِ الأَعْرَابيِّ وأَنْشَدَ لأَسْوَد بن يَعْفُرَ:

قالت له أُمُّ صَمْعا إِذ تُؤَامِرُه *** أَلا تَرَى لِذَوِي الأَمْوالِ والهَلَكِ؟

الواحِدَةُ بهاءٍ كالهَلَكاتِ محرَّكةً أَيْضًا. والهَلَكُ: ما بين كُلِّ أَرْضٍ إلى التي تَحْتَها إلى الأَرْضِ السابِعَةِ. والهَلَكُ: جيفَةُ الشي‌ءِ الهالِكِ، نَقَلَه اللَّيْثُ وأَنْشَدَ قَوْلَ امْرِئ القَيْس الآتي قَرِيبًا. وقيلَ: الهَلَكُ: ما بين أَعْلَى الجَبَلِ وأَسْفَلِهِ ومنه اسْتُعِيرَ بمعْنَى هواءُ ما بين كلِّ شَيْئَيْنِ وكلُّه من الهَلَاكِ. وقيلَ: هو المَهْواةُ بَيْن الجَبَلَين. وقيلَ: مَشْرَفَةُ المَهْواةِ من جَوِّ السُّكاكِ؛ فأَمَّا قَوْل الشاعِرِ:

الموتُ تأْتي لميقاتٍ خَواطِفُه *** وليس يُعْجِزُهُ هَلْكٌ ولا لُوح

فإِنَّه سكَّنَ للضَّرُورَةِ، وهو مذْهَبٌ كُوفيٌّ، وقد حَجَرَ عليه سِيْبَوَيْه إلَّا في المكْسُورِ والمضْمُوم، وقالَ ذُو الرِّمَّة يصِفُ امرْأَةً جَيْدَاءَ:

تَرَى قُرْطَها في واضِحِ اللَّيْثِ مُشْرِفًا *** على هَلَكٍ في نَفْنَفٍ يَتَطَوَّحُ

والهَلَكُ: أَيْضًا الشي‌ءُ الذي يَهْوِي ويَسْقُطُ وأَنْشَدَ الجَوْهَرِيُّ لامْرِئ القَيْس:

رَأَتْ هَلَكًا بنِجَافِ الغَبِيطِ *** فكادَتْ تَجُدُّ لذاك الهِجَارَا

وأَنْشَدَهُ غيرُه شاهِدًا على المَهْواة بَيْن الجَبَلَين وقَبْلَهُ:

أَرَى ناقَةَ القَيْسِ قد أَصْبَحَتْ *** على الأَيْنِ ذَاتَ هِبابٍ نِوارا

قَولُه: هِباب: أي نَشَاط، ونِوارًا: أي نِفارًا، وتجُدُّ: تَقْطَعُ الحَبْلَ نُفورًا من المَهْواةِ، ويُرْوى: تجُدُّ الحُقِيّ الهِجارَا، والهِجَارُ: حبْلٌ يشَدُّ به رسغُ البَعِيرِ. ومن مجازِ المجازِ: الهَلوكُ كصَبورٍ المرأَةُ الفاجِرَةُ الشَبِقَةُ المُتَساقِطَةُ على الرِّجالِ مأْخُوذٌ من تَهَالَكَتْ في مَشْيِها إذا تَكَسَّرَتْ، أو لأَنَّها تَتَهالَكُ أي تَتَمَايلُ وتَتَثَّنَّى عند جماعِها، ولا يُوصَفُ الرجلُ الزَّاني بذلك فلا يقالُ رجلٌ هَلُوكٌ؛ وقالَ بعضُهم: الهَلُوكُ: الحَسَنَةُ التَّبَعُّلِ لِزَوْجِها. ومنه حدِيثُ مازِنٍ: «إِني مُولَعٌ بالخمرِ والهَلوكِ من النِّسَاءِ». وكأَنَّه ضِدٌّ.

ومن المجازِ: الرَّجُلُ السَّريعُ الإِنْزالِ عند الجماع، فكأَنَّه يَرْمي نَفْسَه لذلك عن ابن عَبَّادٍ. وقَوْلُهم: افْعَلْ ذلك إمَّا هَلَكَتْ هُلُكُ بالضَّمَّاتِ مَمْنوعَةً من الصَّرْفِ، وعليه اقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ، وقد تُصْرَفُ لُغَة نَقَلَها الفرَّاءُ؛ وقد قيلَ: إما هَلَكَتْ هُلُكُهُ بالإضافةِ أي على ما خَيَّلَتْ أي على كلِّ حالٍ وخَيَّلَتْ أي أَرَتْ وشَبَّهَتْ. وحَكَى الفرَّاءُ عَن الكِسائِيِّ اما هَلَكَهُ هُلُكَ جَعَلَهُ اسمًا وأضافَ إليه ولم يَجِزْ هُلَكَ وأَرَادَ: هي هَلَكَةُ هُلَكَ يا هذا كما في العُبَابِ.

وَوَقَعَ في مُسْنَدِ الإِمَام أحمدَ بن حَنْبلٍ رضي ‌الله‌ عنه في حديثِ الدَّجَّالِ وذَكَرَ صفَتَه فقال: «أَعْور جعد أَزْهر هجان أَقْمر كان رأْسُه أصلة أَشْبه الناس بعَبْد العُزى بن قطن» فإمَّا هَلَكَ الهُلُكُ فإنَّ رَبَّكُم ليسَ بأَعْوَرَ» هكذا رَوَى بأَلْ، ورَوَاه غيرُه: ولكنْ الهُلْكُ كلُّ الهُلْكِ أي لكنْ الهَلَاكُ كلُّ الهَلاكِ للدَّجَّال أنَّ الناسَ يَعْلمون أنَّ الله سُبْحانَه مُنَزَّهٌ عن العَوَرِ وعن جَميعِ الآفَاتِ فإذا ادَّعى الرُّبوبيَّةَ ولَبَّس عليهم بأَشْياء ليْسَتْ في البشرِ فإنَّه لا يقدِرُ على إِزالةِ العَوَرِ الذي يسجل عليه بالبشر، ويُرْوَى فإما هَلَكَتْ هُلَّكُ كسُكَّرٍ أي فإنْ هَلَكَ به ناسٌ جاهِلُون فضَلُّوا فاعْلَمُوا أنَّ الله ليس بأَعْوَرَ. قالَ الصَّاغَانيُّ: ولو رُوِيَ: فإِمَّا هَلَكَت هُلُك على قولِ العربِ افْعَلْ ذلك إِما هَلَكَتْ هُلَّكُ لكانَ وَجْهًا قريبًا ومُجْراه مُجْرَى قَوْلِهم افْعَلْ ذلك على ما خَيَّلَتْ أي على كلِّ حالٍ.

وهُلُكٌ: صفةٌ مُفْردَةٌ نحو قولِكَ امْرَأَةٌ عُطُلٌ وناقَةٌ سُرُحٌ بمعْنَى هالِكَةٍ والهَالِكَةُ نَفْسه، والمَعْنَى افْعَلْه فإنْ هلكت نفسك.

قُلْتُ: وهذا الذي وجهه فقد رُوِي أَيْضًا هكذا وفسَّرَه بما سَبَقَ ابنُ الأَثِيرِ في النِّهايةِ وغيرُه. وقيلَ في تفْسِيرِ الحدِيثِ: إِن شَبَّه عَلَيْكُم بكلِّ معنىً وعلى كلِّ حالٍ فلا يُشَبِّهَنَّ عَلَيْكُم أنَّ ربَّكُم ليس بأَعْور. التَّهْلُكَةُ بضمِ اللامِ كلُّ ما أي كلُّ شيْ‌ءٍ تصيرُ عاقِبَتُه إلى الهَلاكِ وبه فسِّرَت الآيةُ أَيْضًا. وقالَ الكِسَائِيُّ: يقالُ وَقَعَ فلانٌ في وادِي تُهُلِّكَ بضمِ التاءِ والهاءِ وكسرِ اللَّامِ المُشَدَّدَةِ مَمْنوعًا من الصَّرْفِ، والذي في العُبَابِ والصِّحاحِ: بضمِ التاءِ والهاءِ واللامِ مشَدَّدَة فلم يصَرِّحا أنَّ اللامَ مكْسُورةٌ أي في الباطِلِ والهَلَاكِ مِثْل تُخُيِّبَ وتُضُلِّلَ كأَنَّهم سَمَّوْه بالفِعْلِ وهو مجازٌ. ومن المجازِ: الإِهْتِلاكُ والإنْهلاكُ رَمْيُكَ نَفْسَكَ في تَهْلُكَةٍ ومنه القَطاةُ تَهْتَلِكُ من خوفِ البَازِي أي تَرْمي بنفْسِها في المَهَالِك قال زُهْيرٌ:

يركضن عند الذُنَابَى وهي جاهدة *** يكادُ يَخْطَفُها طَوْرًا وتَهْتَلكُ

وقالَ اللَّيْثُ: المُهْتَلَكُ: الهَالِكُ من لا هَمَّ له إلَّا أنْ يَتَضَيَّفَهُ الناسُ يَظَلُّ نهارَه فإذا جاءَ الليلُ أَسرعَ إِلى من يَكْفُله خَوْفَ الهَلاكِ لا يَتَمَالَك دونَه وأَنْشَدَ لأَبي خِراشٍ:

إِلى بَيْتِه يأْوِي الغريبُ إِذا شَتا *** ومُهْتَلِكٌ بالي الدَّريسَيْنِ عائِلُ

وقال ابنُ فارِسَ: المُهْتَلِكُ الذي يَهْتَلِك أَبدًا إِلى مَنْ يَكْفُله وهو مجازٌ. ومن المجازِ: الهُلَّاكُ كرُمَّانٍ الذين يَنْتابونَ النَّاسَ ابْتِغاءَ مَعْروفِهِمْ لسوءِ حالِهم. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هم الصَّعاليكُ؛ وقيلَ؛ هم المُنْتَجِعونَ الذين ضَلُّوا الطَّريقَ وأَنْشَدَ ثَعْلب لجَمِيلٍ:

أَبيتُ مع الهُلَّاكِ ضَيْفًا لأَهْلِها *** وأَهْلِي قريبٌ مُوسِعُون ذَوو فَضْلِ

كالمُهْتَلِكِينَ أَنْشَدَ ثَعْلب للمُتَنَخَّل الهُذَليِّ:

لو أَنَّه جاءَني جَوْعانُ مُهْتَلِكٌ *** من بُؤَّس الناسِ عنه الخَيْرُ مَحْجُوزُ

والهالِكِيُّ الحَدَّادُ وقيلَ: الصَّيْقَلُ لأَنَّ أَوَّلَ من عَمِلَ الحَديدَ الهالِكُ بنُ عَمْروِ بنِ أَسَدٍ بنِ خُزَيْمَةَ قالَهُ ابنُ الكَلْبِي. قالَ لَبِيْدٌ رَضِيَ الله تعَالَى عنه:

جُنوحَ الهالِكِيِّ على يَدَيْهِ *** مُكِيًّا يَجْتَلي نُقَبَ النِّصالِ

أي صَدَأَها. قالَ الجَوْهَرِيُّ: ولذلك يقالُ لبَنِي أَسَدٍ القُيون ومن المجازِ: تَهَالَكَ على الفِراشِ أو المتَاعِ إذا تَساقَطَ عليه، وفي العُبَابِ: سَقَطَ، قالَ ذُو الرِّمَّةِ:

كان على فيها إذا ردّ روحها *** إلى الرأس روحَ العاشِقِ المتهالِكِ

وفي الحدِيثِ: «فتهالَكْتُ عليه فسأَلتُه»؛ أَي سَقَطْتُ عليه ورَمَيْتُ بنفْسِي فوقَه. ومن المجازِ: تَهَالَكَتِ المرأةُ في مِشْيَتِها إذا تَمَايَلَتْ. وفي الأَسَاسِ: تَفَيَّأَتْ وتَكَسَّرَتْ. ومنه الهَلُوكُ للفَاجِرَةِ. وفي العُبَابِ: تَفَكَّكَتْ للرِّجالِ. وقالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ: الهالِكَةُ النَّفْسُ الشَّرِهَةُ وقد هَلَكَ الرجُلُ يَهْلِكُ هَلاكًا إذا شَرِه ومنه قَوْلُه أَنْشَدَه الكِسَائي في نوادِرِه:

جَلَّلْتُه السَّيْفَ إِذ مَالَتْ كِوَارَتُهُ *** تحْتَ العَجَاجِ ولم أَهْلِكْ إِلى اللَّبَنِ

أَي: لم أَشْرَهْ، وهو مجازٌ. ويقالُ: فلانٌ هِلْكَةٌ بالكسرِ مِنَ الهِلَكِ كعِنَبِ أي ساقِطَةٌ مِنَ السَّواقِطِ أي هالِكٌ.

والهَيْلَكونُ كحَيْزَبونٍ المِنْجَلُ الذي لا أَسْنانَ له نَقَلَه الصَّاغَانيُّ، وكأَنَّه إِذا لم يكنْ له أَسْنانٌ يهلك ما يحصد به، ولذلِكَ سُمِّي والهالوكُ سَمُّ الفأرِ وأَيْضًا نَوْعٌ من الطَّراثيثِ إذا طَلَعَ في الزَّرعِ يضْعفُه ويفْسدُه فيَصْفَرُّ لونُه ويَتَساقَطُ، هكذا يسمُّونَه بمِصْرَ ويَتَشَاءَمون به، وأَكْثَرُ ضَرَرهِ على الفولِ والعَدسِ.

* وممَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيه:

هَلَكَ يَهْلِكُ هَلْكًا بالفتحِ عن أَبي عُبَيْدٍ، وهَلَكَه محرَّكةً عن الصَّاغَانيّ. واسْتَعْمل أبو حَنِيْفة: الهَلَكَة في جُفُوفِ النباتِ. والهُلَّاكُ: الفُقَراءُ والصَّعاليك، وبه فسرَ قَوْل زِيادِ بنِ مُنْقِذ:

تَرَى الأَرَامِلَ والهُلَّاكَ تَتْبَعُه *** يَسْتَنُّ منه عليهم وابِلٌ رَذِمُ

ومفَازَةٌ هالِكٌ: أي مُهْلِكَة، مَنْ تعرَّض فيها هَلَكَ.

والهُلْكُ: بالضمِ الاسمُ من الهَلَاكِ نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.

وقَوْلُه تعَالَى: {وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا}، أي لوقتِ هَلاكِهم أَجَلًا، ومن قَرَأَ لمَهْلَكِهم فمعْنَاه لإِهْلاكِهم.

والمَهَالِكُ: الحُروبُ وهو مجازٌ. ومنه حدِيث أُمِّ زَرْعٍ: «وهو إِمامُ القَوْم في المَهَالِك»، أَرَادت أَنّه لِثِقَته بشجَاعَتِه يتقدَّمُ في الحُروبِ ولا يتخلَّفُ، وقيلَ: إِنَّه لعلْمِه بالطُّرُقِ يتقدَّمُ القومَ فيهدِيَهم وهم على أَثَرِه.

والهَلاكُ: الجَهْد المُهْلِكُ. وهَلاكٌ مُهْتَلِكٌ: على المُبالغَةِ قالَ رُؤْبَةُ:

من السِّنينَ والهَلاكِ المُهْتَلِكْ

وفي العُبَابِ: المُتَهَلِّك. وهالِكُ أَهْلٍ: الذي يَهْلِكُ في أَهْلِه قال الأَعْشَى:

وهالِك أَهْلٍ يَعودُونه *** وآخَرُ في قَفْرةٍ لم يُجَنْ

وفي العُبَابِ: يَجْنونَه بدل يَعودُونه. ومرَّ يَهْتَلِكُ في عَدْوِه ويَتَهَالَكُ أي يَجدُّ، وهو مجازٌ، ومنه: القَطاةُ تَهْتَلِكُ أي تَجدُّ في طيرانِها. وفي حدِيثِ عَرَّامٍ: كُنْتُ أَتَهَلَّكُ في مفازَةٍ أي أَدُورُ فيها شِبْهَ المُتَحَيِّرِ، وكذلك اهْتَلَكَ قالَ:

كأَنَّها قَطْرَةٌ جادَ السَّحابُ بها *** بين السَّماءِ وبين الأَرْضِ تَهْتَلِكُ

واسْتَهْلَكَ الرَّجلُ في كذا إذا جَهَدَ نَفْسَه واهْتَلَكَ معه وقالَ الرَّاعِي:

لهنَّ حديثٌ فاتِنٌ يَتْرُك الفَتى *** خفيفَ الحَشا مُسْتَهْلِكُ الرِّبْح طامِعا

أي يَجْهَدُ قَلْبَه في أَثَرِها. ويقالُ: أَنَا مُتَهَالِك في مَوَدَّتِك ومسْتَهْلِك، وتَهَالَكْتُ في هذا الأَمْرِ واسْتَهْلَكْت فيه كُنْتُ مجدًّا فيه مُتَعَجِّلًا وطريقٌ مُسْتَهْلِكُ الوِرْد أي يُجْهِدُ من سَلَكَه؛ قال الحُطَيْئة يصفُ الطَّريقَ:

مُسْتَهْلِكُ الوِرْدِ كالأُسْتِيِّ قد جعَلَتْ *** أَيدي المَطِيِّ به عادِيَّةً رُكُبا

الأُسْتِيُّ يعْنِي به السَّدَى شبَّه شَرَكَ الطَّريقِ بسَدَى الثَّوْبِ.

وفي العُبَابِ: عادِيَّةً رُغُبا. وقالَ: أَي يَهْلِكُ هذا الطَّريقُ مَنْ طَلَبَ الماءَ لبُعْدِه أي هو طريقٌ ممتَدّ كسَدَى الثوبِ.

وتَهَالَكَ على الشيْ‌ءِ اشْتَدَّ حرْصَه عليه.

والهَلْكَى: الشَّرِهُونَ من النِّساءِ والرِّجالِ. وهو هالِكٌ وهي هالِكَةٌ. ويقالُ للمُزاحِمِ على الموائِدِ: المُتَهالِكُ والمُلاهسُ فإِذا أَكَل بيدٍ ومَنَعَ بيدٍ فهو جَرْدَبانُ. والهالِكَةُ من السَّحابِ الذي يَصُوبُ المَطَرَ ثم يُقْلِعُ فلا يكون له مَطَر، عن شَمِرٍ.

والهَلَكُ: محرَّكَةً الجُرْفُ وبه فسِّرَ قَوْلُ ذِي الرِّمَّةِ السَّابِقِ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


133-تاج العروس (وسم)

[وسم]: الوَسْمُ: أَثَرُ الكَيِّ يكونُ في الأَعْضاءِ.

قالَ شيْخُنا: هذا هو الاسْمُ المُطْلقُ العام، والمُحقِّفونَ يُسَمّونَ كُلّ سِمَةٍ باسْمٍ خاصٍّ.

واسْتَوْعَبَ ذلك السّهيليّ في الرَّوْض.

وذَكَرَ بعضُه الثَّعالبيُّ في فقْهِ اللُّغَةِ.

* قُلْتُ: الذي ذَكَرَ السّهيليّ في الرَّوضِ مِن سِماتِ الإِبِلِ: السطاع والرقمة والخباط والكشاح والعلاط وقيد الفرس والشعب والمشيطفة والمعفاة والقرمة والجرفة والخطاف والدلو والمشط والفرتاج والثؤثور والدماغ والصداع واللجام والهلال والخراش هذا ما ذكره وفاته العراض واللحاظ والتلحيظ والتحجين والصقاع والدمع وقد ذكرهن المصنف كلهن في مواضع من كتابه. وقال الليثُ: الوَسَمُ أثرُ كَيّة يقالُ: موسُومٌ أي قد وُسِمَ بسِمَةٍ يُعْرَفُ بها إما كيّة وإما قطع في أُذُنٍ أَو قَرْمةٌ تكون علامةً له وقوله تعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} تقدم في خرطم ج. وُسومٌ أنشد ثعلب:

ترشح إلا موضع الوسومِ

وسَمَه يَسِمُه وَسْمًا وَسِمَةً كعِدَةٍ إذا أثر فيه بكيّ والهاء في سِمةٍ عوض من الواو.

قال شيخنا: فالسِّمَةُ هنا مصدرٌ وتكون اسمًا بمعنى العلامة والأصل فيها أن تكون بكيّ ونحوه، ثم أطلقوها على كل علامةٍ، وفي الحديث: «أنه كان يَسِمُ إبل الصّدقة»، أي يُعلم عليها بالكيّ فاتَّسَمَ أصله أو تسم ثم وقع فيه الإِبدالُ والإدغامُ.

وِالوِسامُ وِالسِّمةُ بكسرِهما: ما وُسِمَ به الحيوانُ من ضروبِ الصُّوَرِ.

وِالمِيسَمُ بكسر الميم: المِكْواةُ أو الشَّي‌ء الذي يوسم به الدواب. وفي الحديث: «وفي يدهِ المِيسَمُ» هي الحديدة التي يُكْوَى بها. قال ابن برِّي: اسمٌ للآلة التي يُوسمُ بها وأصله مُوسَمٌ فقلبت الواو بالكسرة الميم.

الجمع: مَواسِمُ وِمَياسِمُ الأخيرة معاقبة. وقال الجوهريّ: أصل الياء واو فإن شئتَ قلتَ في جَمْعِهِ مَياسِمَ على اللفظ وإِن شِئتَ مواسِمَ على الأصل.

وِقال ابن برِّي: الميسم اسمٌ لأثر الوسم أيضًا كقول الشَّاعر:

وِلو غيرُ أخوالي أرادوا نقيصتي *** جَعلتُ لهم فوق العَرانِينِ ميسُما

فليس يُريدُ جعلتُ لهم حديدةً وإنما يريد جعلت أثَرَ وَسْمٍ وِمن المجازِ مَوْسِمُ الحجِّ كمجلسٍ مُجْتَمَعَهُ وكذا موسم السوق والجمع مواسم.

قال اللّحيانيّ: ذو مجاز موسم وإنما سميت هذه كلها مواسم لاجتماعِ الناسِ والأسواقِ فيها، وفي الصِّحاحِ سُمِّي بذلك لأَنَّه مَعْلَمٌ يجتمع إليه. قال الليث وكذلك كانت أسواق الجاهلية وأنشد الجوهريّ:

حياضُ عِراكٍ هدّمَتها المواسمُ

يريد أهل المواسم وَوَسَّمَ تَوْسِيمًا: شَهِدَهُ كعرّف تعريفًا وعيّد تعييدًا عن ابن السكيت وِمن المجاز تَوَسَّم الشَّي‌ءَ إذا تَخَيَّلَهُ: وفي الأساس: إذا تبين فيه أَثَره وِتَوَسَّم فيه الخيرَ تَفَرَّسَهُ كما في الصِّحاح. قال شيخُنا: وأَصْلُه: عَلِمَ حقيقتَه بسِمَتِه، ويقال: توَسَّمه إذا نظره من قرنِهِ إلى قَدمِهِ واستقصى وجوهَ معرفته ومنه شاهِدُ التلخيص:

بعثوا إليّ عريفهم بِتَوَسُّمِ

وِالوَسْمَةُ، بالفتحِ وكَفَرِحَةٍ الأولى لغةٌ في الثانية، كما أشار له الجوهريّ قال: ولا يقالُ: وُسمة بالضم. وقال الأزهريّ: كلام العرب الوسِمَة بكسرِ السين. قاله الفراءُ وَغيره من النحويين؛ وفي المحكم: التثقيل لأهل الحجاز وغيرهم يخففونها وهو العظلم كما في الصحاح وهو ورَقُ النِّيلِ أَوْ نباتٌ آخر يُخْضَبُ بوَرقِهِ وقال اللَّيث: شجرةٌ ورقُها خضاب وفيه قُوَّةٌ مُحَلَّلَةٌ وِمِن المجاز المِيسَمُ، بكسر الميم، وِالوَسامةُ: أَثَرُ الحُسْنِ والجمالِ والعتقِ؛ يقال: امرأةٌ ذاتُ مِيسَمٍ إذا كان عليها أثر الجمال، نقله الجوهري قال ابن كلثوم:

خَلطْن بميسمٍ حَسَبًا ودينًا

وفي الحديثِ: «تنكح المرأة لميسمها»، أي لحُسنها من الوِسامة. وقَدْ وَسُمَ الرَّجُلُ ككَرُمَ وَسامةً وِوَسامًا أيضًا بحذف الهاء مثل جَمُلَ جمالًا بفتحهما وهذا التقييد مستغنى عنه لأن الإِطلاق كافٍ في ذلك. قال الكُميتُ يمدح الحسينَ بنَ عليٍّ رضي اللهُ تعالَى عنهما:

يَتَعرّفنَ حُرُّ وَجهٍ عليه *** عقبةُ السّرْ وِظاهرًا والوِسامِ

فهو وَسِيمٌ؛ أَي حَسَنُ الوَجْهِ والسيمي. وقال ابن الأعرابي: الوَسِيمُ الثابتُ الحسنِ كأنه قد وُسِمَ. وفي صفته صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم: «وسيمٌ قَسيمٌ» أي حَسَنٌ وضي‌ءٌ ثابتٌ.

ج، وُسَماء هكذا في النسخ وفي بعضها: وَسْمَى وكِلاهُما غيرُ صوابٍ، والصوابُ وِسام بالكسر. يقال قومٌ وِسامٌ وهي بهاء وجمعه: وسامٌ أيضًا كظريفةٍ وظِرافٍ وصبيحةٍ وصِباحٍ كما في الصحاح، فكان الأولى في العبارة أن يقول: فهو وَسيمٌ وهي بهاء، جمعهِ وسام وبه سَمَّوْا أَسماء: اسم امرأة مشتق من الوسامة وهمزتُه الأولى مبدلةٌ من واوٍ قال شيخنا: وهذا قول سيبويه وهو الذي ضخمه جماعةٌ، ولذا اختاره المُصَنِّف فوزنُ أسماء عليه فَعْلاء. وقال المبرّدُ أنه منقول من جمع الاسم فَوَزْنُهُ أفعَالٌ وهمزته الأولى زائدة والأخيرة أصلية وتبعه ابن النَّحَّاس في شرح المعلقات، قيل: والأصل كونه عَلَم مؤنث كما ذكره هو أيضًا فيمنع وإن سُمِّي به مذكر، قالوا: والتسمية بالصفات كثيرة دون الجموع اه.

وقال ابن بري: وأما أسماء اسمُ امرأةٍ فاختلف فيه منهم من يجعله فعلًا والهمزة فيه أصلًا ومنهم من يجعله بدلًا من واو وأصله عندهم وَسْمَاءُ ومنهم من يجعل همزته قطعًا زائدة ويجعله جمعَ اسمٍ سُمِّيَتُ به المرأة، ويقوي هذا الوجه قولُهُمْ في تصغيره سُمَيَّة ولو كانت الهمزة أصلًا لم تحذف اه. ثم قال شيخنا: وذكر العصام أن أصل أَسْمَاء وَسْمَاء ككَرْمَاء كما يدل له قولُ القاموسِ وبه سُمِّي فيه نظر اه.

* قُلْت: ووجه النظر أنّ قوله وبه سُمِّي ليس هو كما ظنّ أنه راجع إلى لفظِ وَسْمًا، وإنما المراد أنه مشتق من الوَسَامَةِ على أنّ قولَه وَسْمًا، في نسخ القاموس تحريف، والصواب وِسام بالكسر كما قدمناه؛ ثم نقل شيخنا عن بعض من صنّف في أسماء الصحابة أن أسماء مما وقع علمًا للمذكر كما وقع علمًا للمؤنث وعدّد من ذلك شيئًا كثيرًا وفَصّل بعضهم فقال: الموضوع للإناث منقول من الصفة وأصله وَسْماء والموضوع للمذكر منقول من الجمع وهو أَسْماء جمع اسم وكل ذلك لا يخلو عن نظر اه.

* قُلْتُ: ومِن المذكر: أَسْماءُ بْنُ الحَكم عن علي بن أبي طالب، وِأَسْماءُ بن عبيد الضّبعِيِّ عن الشعبيِّ وغيرِهما.

وَوَاسَمَه في الحُسْنِ فَوَسَمَه أي غَلَبَهُ فيه وفي الصحاح: به وِالوَسْمِيُّ مطرُ الرَّبيعِ الأوَّلُ كذا نص الصِّحاح، وفي المُحْكم: مطرُ أولِ الرّبيع وهو بعد الخريفِ لأنه يَسِمُ الأَرضَ بالنباتِ فيصير فيها أثرًا في أول السنة ثم يتبعه الولي في صميم الشتاء، ثم يتبعه الربعي. وقال ابن الأعرابيّ: نجوم الوَسمي أولُها فرغُ الدلو المؤخّر، ثم الحوتُ ثم الشَّرَطانِ ثم البُطَيْن ثم النَّجْم، وهو آخِرُ الصَّرْفة ويَسْقُطُ آخِرَ الشِّتاءِ.

وِالأرضُ مَوْسومةٌ: أَصابَها الوَسْمِيُّ.

وِتَوَسَّمَ الرجلُ: طَلَبَ كَلَأَ الوَسْمِيِّ، نَقَلَهُ الجَوْهرِيُّ عن الأَصْمَعيّ؛ وأَنْشَدَ للنابِغَةِ الجَعْديّ:

وِأَصْبَحْنَ كالدَّوْمِ النَّواعِم غُدْوَةً *** على وِجْهَةٍ من ظاعِنٍ مُتَوسِّم

وِمَوْسومٌ: فَرَسُ مالِكِ بنِ الجُلاحِ.

وِمُسلِمُ بنُ خَيْشَنَة الكِنانيُّ أَخُو أَبي قرصافَةَ له ذِكْر في حدِيثِ أَخِيه، يقالُ: كان اسْمُه ميسَمًا فَغَيَّرَهُ النبيُّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم، لأنَّ المِيْسَمَ المِكْوَاة.

وِدِرْعٌ مَوْسومةٌ: أَي مُزَيَّنَةٌ بالشِّيَةِ مِن أَسْفَلِها؛ عن شَمِرٍ.

وِوَسِيمٌ، كأَميرٍ: اسْمٌ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

اتَّسَمَ الرجلُ: إذا جَعَلَ لنفْسِه سِمةً يُعْرَفُ بها.

وفي الحَدِيْثِ: «على كلِّ مِيسمٍ مِن الإنْسانِ صَدَقَةٌ».

قالَ ابنُ الأثيرِ: هكذا جاء في رِوايَةٍ، فإن كانَ مَحْفوظًا فالمرادُ به أَنَّ على كلِّ عُضْوٍ مَوْسومٍ بصُنْع اللهِ.

وِالمُتَوَسِّمُ: المُتَحَلِّي بسِمَةِ الشيوخِ.

وهو مَوْسومٌ بالخَيْرِ والشَّرِّ.

وقد وَسَمَه بالهِجاءِ.

وحَكَى ثَعْلَب: أَسَمْتُه بمعْنَى وَسَمْتُه. وأَبْصِرْ وَسْمَ قِدْحِك؛ أَي لا تُجاوِزَنَّ قَدْرَك.

وصدَقَني وَسْمَ قِدْحِه: كصَدَقَني سِنَّ بَكْرِه.

وِالمَواسِيمُ: الإِبِلُ المَوْسومةُ؛ وبه فُسِّر قَوْلُ الشاعِرِ:

حِياضُ عِراكٍ هَدَّمَتْها المَواسِمُ

وِتَوَسَّمَ: اخْتَضَبَ بالوَسْمَةِ.

وهو أَوْسَمُ منه: أَي أَحْسَن منه.

وِوَسمَ وَجْهُه: حَسُنَ؛ وبه فُسِّر قَوْله:

كغصْنِ الأراكِ وَجْهه حينَ وسما

وِالوَسْمُ: الوَرَعُ، والشِّين لُغَةٌ فيه.

قالَ ابنُ سِيْدَه: ولسْتُ منها على ثِقَةٍ.

وِوَسِيمٌ، كأَميرٍ: قَرْيةٌ بالجِيزَةِ على ضفَّةِ النِّيلِ مِن الغَرْبِ، وقد دَخَلْتها، وهي على ثلاثَةِ فَراسِخ مِن مِصْرَ، وقد ذُكِرَتْ في حدِيثِ عُمَرَ، رضِيَ اللهُ تعالَى عنه، رَوَاه بكرُ بنُ سوادَةَ عن أَبي عطيف عن عميرِ بنِ رفيعِ قالَ: قالَ لي عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: يا مِصْري أيْنَ وَسِيم مِن قُراكم؟ فقُلْتُ: على رأْسِ مِيلٍ يا أَميرٍ المُؤْمِنِين.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


134-تاج العروس (فربن)

[فربن]: الفَرْبَيُونُ، بفتْحِ الفاءِ والباءِ وضمِّ الياءِ: أَهْمَلَهُ الجماعَةُ.

ويقالُ أفَرْبَيُون بالألفِ، وهي اللبانةُ المَغْربيَّةُ وأَجْوده ما حلَّ بالماءِ سَريعًا، وهو دَواءٌ مُلَطِّفٌ يحلِّلُ الرِّياحَ المُزْمِنَةُ، ويُكْسِر عادِيتها، نافِعٌ لِعِرْقِ النَّسا، والْاستِسْقَاء والطِّحَالِ، وبَرْدِ الكُلَى والقُولَنْج ولَسْعِ الهَوامِّ وعَضَّةِ الكَلْبِ الكَلِبِ، ويُسْقِطُ الجَنينَ ويُسَهِّلُ البَلْغَمَ اللَّزِجَ مِن الوركينِ والظَّهْرِ، والسّعوطُ به بماءِ السّلقِ يَقْطَعُ أُصُولَ السّبلِ والحمْرَةِ والدّمْعةِ ويُنَقِّي الدِّماغَ، وَمَعَ الزَّعْفرانِ والأَفْيونِ يُسَكِّن الضربان ضمادًا.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


135-تاج العروس (بدو)

[بدو]: وبَدَا الأَمْرُ يَبْدُو بَدْوًا، بالفتْحِ، وبُدُوًّا كقُعُودٍ، وعليه اقْتَصَر الجَوْهرِيُّ؛ وبَداءً، كسَحابٍ، وبَداءَةً كسَحابَةٍ، وبُدُوًّا، هكذا في النسخِ كقُعُود وفيه تكْرارٌ والصَّوابُ بَدًا كما في المُحْكَم وعَزَاهُ إلى سِيْبَوَيْه: أَي ظَهَرَ.

وأَبْدَيْتُه: أَظْهَرْتُه؛ كما في الصِّحاحِ، وفيه إشارَةٌ إلى أنَّه يَتَعدَّى بالهَمْزَةِ وهو مَشْهورٌ.

قالَ شيْخُنا: وقد قيلَ إنَّ الرّباعي يَتَعدَّى بعنْ، فيكونُ لازِمًا أَيْضًا كما قالَهُ ابنُ السيِّدِ في شرْحِ أَدَبِ الكَاتِبِ، انتَهَى.

وفي الحدِيثِ: «مَنْ يُبْدِ لنا صَفْحَتَه نُقِمْ عليه كتابَ اللهِ»؛ أَي مَنْ يُظْهِر لنا فِعْلَه الذي كانَ يخْفِيه أَقَمْنا عليه الحَدَّ.

وبَداوَةُ الشَّي‌ءِ: أَوَّلُ ما يَبْدُو منه؛ هذه عن اللَّحْيانّي.

وبادِي الرَّأْيِ: ظاهِرُهُ، عن ثَعْلَب.

وأَنْتَ بادِيَ الرَّأْي تَفْعَلُ كذا؛ حَكَاهُ اللَّحْيانيُّ بغيْرِ هَمْزٍ، مَعْناه أَنْتَ فيمَا بَدَا من الرَّأْي وظَهَرَ.

وقَوْلُه تعالى: {هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ}؛ أَي في ظاهِرِ الرَّأْي؛ كما في الصِّحاحُ؛ قَرَأَ أَبو عَمْرو وَحْدُه: بادِي‌ءَ الرَّأْي بالهَمْزِ، وسائِرُ القرَّاءِ قرأوا بادِيَ بغَيْرِ هَمْزٍ.

وقالَ الفرَّاءُ: لا يُهْمَز {بادِيَ الرَّأْيِ} لأنَّ المعْنَى فيمَا يَظْهرُ لنا ويَبْدُو.

وقالَ ابنُ سِيدَه: ولو أَرادَ ابْتِداءَ الرَّأْي فهَمَز كانَ صَوابًا.

وقالَ الزَّجَّاجُ: نصبَ {بادِيَ الرَّأْيِ} على اتَّبَعُوك في ظاهِرِ الرَّأْي وباطِنُهم على خِلافِ ذلِكَ، ويَجوزُ أَنْ يكونَ اتَّبَعُوكَ في ظاهِرِ الرَّأْي ولم يَتَدَبَّروا ما قلتَ ولم يَتَدَبَّروا فيه.

وقالَ الجَوْهرِيُّ: مَنْ هَمَزَه جَعَلَهُ مِن بَدَأْتُ مَعْناه أَوَّلَ الرَّأْي.

وبَدَا له في هذا الأَمْرِ بَدْوًا، بالفتْحِ، وبَدَاءَ، كسَحابٍ، وبَداةً، كحَصَاةٍ؛ وفي المُحْكَم: بَدَا له في الأَمْرِ بَدْوًا وبَدْأً وبَدَاءً؛ وفي الصِّحاحِ: بَداءٌ مَمْدود؛ أي نَشَأَ له فيه رَأْيٌ.

قالَ ابنُ بَرِّي: بَداءٌ، بالرَّفْعِ، لأنَّه الفاعِلُ وتَفْسِيره بنَشَأَ له فيه رَأْيٌ يدلّك على ذلِكَ؛ ومنه قَوْلُ الشاعِرِ، وهو الشَّماخُ، أَنْشَدَه ابنُ سِيدَه:

لَعَلَّك والمَوْعُودُ حقٌّ وفاؤُه *** بَدا لكَ في تلْكَ القَلُوص بَداءُ

وقالَ سِيْبَوَيْه في قَوْلِه، عزّ وجلّ: {ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ}؛ أَرادَ بَدَا لهُم بَداءٌ، وقالوا ليَسْجُنَنَّه، ذَهَبَ إلى أنَّ مَوْضِعَ ليَسْجُنُنَّه لا يكونُ فاعِلَ بَدَا لأنَّه جُمْلةٌ والفاعِلُ لا يكونُ جُمْلة.

وقالَ الأزْهرِيُّ: يقالُ بَدَا لي بَدَا أَي تَغَيَّر رَأْيي عمَّا كانَ عليه.

وقالَ الفرَّاءُ: بَدَا لي بَداءٌ ظَهَرَ لي رَأْيٌ آخَرُ، وأَنْشَدَ:

لَو على العَهْدِ لم يَخُنه لَدُمْنا *** ثم لم يَبْدُ لي سواه بَدَاءُ

وهو ذُو بَدَواتِ، كما في الصِّحاحِ.

قالَ ابنُ دُرَيْدٍ: وكانتِ العَرَبُ تَمدَح بهذه اللفْظَةِ فيقولونَ للرَّجُلِ الحازِمِ: ذُو بَدَواتٍ؛ أَي ذُو آراءٍ تَظْهرُ له فيختارُ بعضًا ويُسْقطُ بعضًا؛ أَنْشَدَ الفرَّاءُ:

من أَمْرِ ذِي بَدَواتٍ مَا يَزالُ له *** بَزْلاءُ يَعْيا بها الجَثَّامَةُ اللُّبَدُ

قالَ ابنُ دُرَيْدٍ: قَوْلُهم أَبو البَدَواتِ، مَعْناه أَبو الآراءِ التي تَظْهَرُ له، واحِدُها بَدَاةٌ، كقَطاةٍ وقَطَواتٍ.

وفَعَلَه بادِيَ بَدِيِّ، كغَنِيِّ، غَيْر مَهْمُوز، وبادِيَ بَدِّ؛ وحَكَى سِيْبَوَيْه: بادِيَ بَدًا، وقالَ: لا ينوَّنُ ولا يَمْنَعُ القياسُ تَنْوينَه. وقالَ الفرَّاءُ: يقالُ: افْعَلْ ذلِكَ بادِيَ بَدِيِّ، كقَوْلِكَ أَوَّل شي‌ءٍ، وكَذلِكَ بَدْأَةَ ذِي بَدِيِّ، قالَ: ومِنْ كَلامِ العَرَبِ بادِيَ بَدِيٍّ بهذا المَعْنى إلَّا أَنَّه لم يهمزْ، وأَنْشَدَ:

أَضْحَى لِخالي شَبَهِي بادِي بَدِي *** وصارَ للفَحْلِ لِساني ويَدِي

أَرادَ به: ظاهِري في الشَّبَه لِخالي.

وقالَ الزَّجاجُ: معْنَى البَيْتِ خَرَجْتُ عن شرْخِ الشَّبابِ إلى حدِّ الكُهُولةِ التي مَعَها الرَّأْيُ والحِجَا، فصرْتُ كالفُحُولةِ التي بها يَقَعُ الاخْتِيارُ ولها بالفضْلِ تُكْثَر الأوْصافُ.

وقالَ الجَوْهرِيُّ: افْعَلْ ذلِكَ بادِيَ بَدٍ وبادِيَ بَدِيٍّ؛ أَي أَوَّلًا، وأَصْلُها الهَمْزُ، وإنَّما ترك لكثْرَةِ الاسْتِعْمالِ؛ وقد ذُكِرَتْ بِلُغاتِها هناك.

ويَحْيَى بنُ أَيُّوبَ بنُ بادِي التَّجِيبيُّ العَلَّافُ عن سعيدِ بنِ أَبي مَرْيَم؛ وأَحمدُ بنُ عليِّ بنِ البادِي عن دعلج، وعنه الخَطِيبُ، وقد سُئِل منه عن هذا النَّسَبِ فقالَ: وُلدْتُ أَنا وأَخي تَوأَمًا وخَرَجْتُ أَوَّلًا فسُمِّيت البادِي؛ هكذا ذَكَرَه الأميرُ قالَ: ووَجَدْتُ خطَّه وقد نَسَبَ نَفْسَه فقالَ: البادِي بالياءِ، وهذا يدلُّ على صحَّةِ الحِكَايَةِ وثبتني فيه الأَنْصارِي، فعلى هذا لا يُقالُ فيه ابنُ البادِي، فالأَوْلى حَذْف لَفْظِ الابن.

ولا تَقُل البادَا، نبَّه عليه الذهبيُّ. وقالَ الأميرُ: العامَّةُ تَقَولُ فيه: ابنُ البادِ؛ مُحدِّثانِ.

* وفاتَهُ:

أَبو البَرَكاتِ طلحةُ بنُ أَحْمدَ بنِ بَادِي العاقُولي تَفَقَّه على الفرَّاء، ذَكَرَه ابنُ نُقْطَةَ، اسْتَدْركَه الحافِظُ على الذهبيِّ.

والبَدْوُ والبادِيَةُ والباداةُ؛ هكذا في النسخِ والصَّوابُ والبَداةُ كما في المُحْكَم؛ والبَداوةُ: خِلافُ الحَضَر.

قيلَ: سُمِّيَت البادِيَة بادِيَةً لبرُوزِها وظُهورِها، وقيلَ للبَرِّيَّةِ بادِيَةٌ لكونِها ظَاهِرَةً بارِزَةً.

وشاهِدُ البَدْوِ قَوْلُه تعالى: {وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} أَي البادِيَة.

قالَ شيْخُنا: البَدْوُ ممَّا أُطْلِقَ على المَصْدَر ومَكانِ البَدْوِ والمُتَّصِفِينَ بالبَدَاوَةِ، انتَهَى.

وقالَ اللَّيْثُ: البادِيَةُ اسمٌ للأَرْضِ التي لا حَضَرَ فيها، وإذا خَرَجَ الناسُ مِن الحَضَرِ إلى المَراعِي في الصَّحارِي قيلَ: بَدَوْا، والاسمُ البَدْوُ.

وقالَ الأَزْهرِيُّ: البادِيَةُ خِلافُ الحاضِرَةِ، والحاضِرَةُ القوْمُ الذينَ يَحْضُرونَ المِياهَ ويَنْزلونَ عليها في حَمْراءِ القَيْظِ، فإذا بَرَدَ الزَّمانُ ظَعَنُوا عن أَعْدادِ المِياهِ وبَدَوْا طَلَبًا للقُرْبِ مِن الكَلإِ، فالقَوْم حينَئِذٍ بادِيَةٌ بَعْدَ ما كانوا حاضِرَةً. ويقالُ لهذه المَواضِعِ التي يَبْتَدِي إليها البادُونَ بادِيَةٌ أَيْضًا، وهي البَوادِي، والقَوْم أَيْضًا بَوادِي.

وفي الصِّحاحِ: البَدَاوَةُ الإقامَةُ في البادِيَةِ، يُفْتَحُ ويُكْسَرُ، وهو خِلافُ الحضارَةِ.

قالَ ثَعْلَبْ: لا أَعْرِفُ البَدَاوَة بالفتْحِ، إلَّا عن أَبي زيْدٍ وَحْدِه، انتَهَى.

وقالَ الأَصْمعيُّ: هي البِدَاوَةُ والحَضارَة، بكسْرِ الباءِ وفتْحِ الحاءِ؛ وأَنْشَدَ:

فمَنْ تَكُنِ الحَضارَةُ أَعْجَبَتْه *** فأَيّ رجالِ بادِيَةٍ تَرانا؟

وقالَ أَبو زيْدٍ: بعكْسِ ذلِكَ.

وفي الحدِيثِ: «أَرادَ البَدَاوَةَ مَرَّة» أَي الخُروجَ إلى البادِيَةِ، رُوِي بفتحِ الباءِ وبكَسْرِها.

* قُلْتُ: وحَكَى جماعَةٌ فيه الضمَّ وهو غَيْرُ مَعْروفٍ.

قالَ شيْخُنا: وإن صحَّ كانَ مُثَلَّثًا، وبه تَعْلم ما في سِياقِ المصنِّفِ مِنَ القُصُورِ.

وتَبَدَّى الرَّجُلُ: أَقامَ بها؛ أَي بالبادِيَةِ.

وتَبادَى: تَشَبَّه بأَهْلِها؛ والنِّسْبَةُ إلى البَداوَةِ، بالفتْحِ على رأْيِ أَبي زيْدٍ، بالكَسْرِ على رأْيِ الأصْمعيّ: بَداوِيٌّ، كسَخاويِّ، وبِدَاوِيٌّ، بالكِسْرِ. ولو قالَ: ويُكْسَرُ كانَ أَخْصَر.

وقالَ شيْخُنا: قَوْلُه كسَخَاوِيّ مُسْتدركٌ، فإنَّ قَوْلَه بالكَسْر يُغْنِي عنه. قالَ: ثم إنَّ هذا إنَّما يَتَمَشَّى على رأَي أَبي زيْدٍ الذي ضَبَطَه بالفتْحِ، وأَمَّا على رأْيِ غيرِهِ فإنَّه بالكَسْرِ.

وقالَ ثَعْلَب: وهو الفَصِيحُ فالصَّوابُ أَنْ يقولَ: والنِّسْبَة بِدَاوِيٌّ ويُفْتَحُ انتهَىَ.

قالَ ابنُ سِيدَه: البَداوِيُّ، بالفتْحِ والكَسْرِ، نسْبَتانِ على القِياس إلى البَداوَةِ والبِدَاوَة، فإنْ قُلْت البَداوِيَّ قد يكونُ مَنْسوبًا إلى البَدْوِ والبادِيَةِ فيكونُ نادِرًا، قُلْتُ: إذا أَمْكَن في الشي‌ءِ المَنْسوبِ أَن يكونَ قِياسًا شاذًّا كان حَمْله على القياسِ أَوْلى لأنَّ القِياسَ أَشْيَع وأَوْسَع.

والنِّسْبَةُ إلى البَدْوِ: بَدَوِيٌّ، محرَّكةً، وهي نادِرَةٌ.

قالَ التَّبْريزِي: كأَنَّه على غيرِ قياسٍ، لأنَّ القياسَ سكونُ الدالِ؛ قالَ: والنَّسَبُ يَجِي‌ءُ فيه أَشْياء على هذا النَّحْو مِن ذلِكَ قَوْلهم: فَرَسٌ رضويةٌ مَنْسوبَةٌ إلى رَضويّ والقياسُ رضوية.

* قُلْتُ: وقد جاءَ ذلِكَ في الحدِيثِ: «لا تَجوزُ شهادَةُ بَدَوِيِّ على صاحِبِ قَرْيَةٍ». قالَ ابنُ الأثيرِ: وإنَّما كَرِهَ ذلِكَ لمَا في البَدَوِيِّ مِن الجفَاءِ في الدِّين والجَهالَةِ بأَحْكامِ الشَّرْعِ ولأنَّهم في الغالِبِ لا يَضْبِطُون الشَّهادَةَ على وَجْهِها؛ قالَ: وإليه ذَهَبَ مالِك، والناسُ على خِلافِه.

وبَدَا القَوْمُ بَدًا، كذا في النسخِ والصَّوابُ بَدْوًا، كما هو نصُّ الصِّحاحِ ومثَّلَه يَقْتُلُ قَتْلًا؛ خَرَجُوا إلى البادِيَةِ؛ ومنه الحدِيثُ: مَنْ بَدَا جَفا؛ أَي مَنْ نَزَلَ البادِيَةَ صارَ فيه جَفَاءُ الأعْرابِ، كما في الصِّحاحِ.

وفي حدِيث آخر: «كان إذا اهْتَمَّ لشي‌ءٍ بَدَا»؛ أَي خَرَجَ إلى البَدْوِ.

قالَ ابنُ الأثيرِ: يُشْبِهُ أَنْ يكونَ يَفْعَل ذلِكَ ليَبْعُدَ عن الناسِ ويَخْلُو بنَفْسِه؛ ومنه الحدِيثُ: «كان يَبْدُو إلى هذه التِّلاعِ».

وفي حدِيثِ الدّعاءِ: فإنَّ جارَ البادِي يَتَحَوَّلُ؛ وهو الذي يكونُ في البادِيَةِ ومَسْكَنَهُ المَضارِبُ والخِيامُ، وهو غَيْرُ مُقيِم في مَوْضِعِه بِخلافِ جارِ المُقامِ في المدر؛ ويُرْوى النادِي، بالنونِ.

وفي الحدِيثِ: «لا يَبعْ حاضِرٌ لبادٍ».

وقَوْلُه تعالى: {يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ} أَي وَدّوا أنَّهم في البادِيَةِ.

قالَ ابنُ الأَعْرابيِّ: إنَّما يكونُ ذلِكَ في ربِيعِهم، وإلَّا فهُم حُضَّارٌ على مِياهِهم.

وقَوْمٌ بُدىً، كهُدىً، وبُدّى، كغُزّى: بادُونَ؛ أَي هُما جَمْعا بادٍ.

وبَدْوَتَا الوادِي: جانِباهُ؛ عن أَبي حنيفَةَ.

والبَدَا، مَقْصورًا، السَّلْحُ، وهو ما يَخْرجُ مِن دُبرِ الرَّجُلِ.

وبَدَا الرَّجُلُ: أَنْجَى فَظَهَرَ نَجْوُهُ من دُبُرِهِ، كأَبْدَى، فهو مُبْدٍ، لأنَّه إذا أَحْدَثَ بَرَزَ مِن البيوتِ، ولذا قيل له: المُتَبَرِّزُ أَيْضًا، وهو كِنايَةٌ.

وبَدَا الإنْسانُ، مَقْصورًا: مَفْصِلُهُ، الجمع: أَبْداءٌ.

وقالَ أَبو عَمْرو: الأَبْداءُ المَفاصِلُ، واحِدُها بَدًا، وبُدْءٌ، بالضمِّ مَهْموزًا، وجَمْعُه بُدُوءٌ، بالضمِّ كقُعُودٍ.

والبَدِيُّ، كرَضِيِّ، ووادِي البَدِيِّ، كرَضِيِّ أَيْضًا، وبَدْوَةُ وبَدَا ودارَةُ بَدْوَتَيْنِ: مَواضِعُ. أَمَّا الأوَّل: فقَرْيةٌ مِن قُرَى هَجَر بينَ الزَّرائبِ والحَوْضَتَيْنِ؛ قالَ لبيدٌ:

جَعَلْنَ حراجَ القُرْنَتَيْنِ وعالِجًا *** يمينًا ونَكَّبْنَ البَدِيِّ شماليا

وأَمَّا الثَّاني: فوادٍ لبَني عامِرٍ بنَجْدٍ؛ ومنه قَوْلُ امْرئِ القَيْسِ:

فوادِي البَدِيِّ فانتحى لا ريض

وأَمَّا الثَّالِثُ: فجَبَلٌ لبَني العَجْلانِ بنَجْدٍ؛ قالَ عامِرُ بنُ الطّفَيْل:

فلا وأَبِيك لا أَنْسَى خَلِيلي *** ببَدْوَة ما تَحَرَّكتِ الرِّياحُ

وقالَ ابنُ مُقْبِل:

أَلا يا لقومي بالدِّيارِ ببَدْوَة *** وأَنَّى مراحُ المَرْءِ والشَّيْبُ شامِل

وأَمَّا الرابِعُ: فوادٍ قُرْبَ أَيْلَةَ مِن ساحِلِ البَحْرِ؛ وقيلَ: بوادِي القُرَى؛ وقيلَ: بوادِي عُذْرَةَ قُرْبَ الشأمِ، كانَ به مَنْزلُ عليِّ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عبّاسٍ وأَوْلادِه؛ قالَ الشاعِرُ:

وأَنْتِ التي حَبَّبتِ شَغْبًا إلى بَدًا *** إليَّ وأَوْطاني بِلادٌ سِواهُمَا

حَلَلْتِ بهذا حَلَّة ثم حَلَّةً *** بهذا فطَابَ الوَادِيانِ كِلاهُما

وأَمَّا الخامِسُ: فهُما هضْبتان لبَني ربيعَةَ بنِ عقيل بَيْنهما ماءٌ.

وبادَى فُلانٌ بالعداوَةِ: جاهَزَ بها، كتَبادَى؛ نَقَلَه الجَوْهرِيُّ.

والبَداةُ، كقَطاةٍ: الكَمْأَةُ.

وبَدَأَتْ، وقد بَدِيَتِ الأرضُ فيهما، كرَضِيَتْ: أَنْبَتَتْها أَو كَثُرَتْ فيها.

وبادِيَةُ بنتُ غَيْلانَ الثَّقَفِيَّةُ التي قالَ عنها هيت المُخَنَّث: تُقْبِلُ بأَرْبَعٍ وتُدْبِرُ بثمانٍ، صَحابيَّةٌ تَزَوَّجها عبدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ، وأَبُوها أسْلَم وتَحْتَه عَشْر نِسْوةٍ؛ أَو هي بادِنَةُ بنونٍ بَعْدَ الدَّالِ، وصَحَّحَه غيرُ واحِدٍ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

البَدَوَاتُ والبَدَاآتُ: الحَوائِجُ التي تَبْدُو لَكَ.

وبَدَاآتُ العَوارِضِ: ما يَبْدُو منها، واحِدُها بَداءَةٌ، كسَحابَةٍ.

وبَدَّى تَبْدِيةً: أَظْهَرَه؛ ومنه حدِيثُ سَلَمَة بن الأَكْوَع: «ومعي فرسُ أَبي طلحَةَ أَبَدِّيه مع الإِبِلِ؛ أَي أُبْرزُه معها إلى مَوْضِعِ الكَلأِ.

وبَادَى الناسَ بأَمْرِهِ: أَظْهَرَه لهُم.

وفي حدِيثِ البُخارِي في قصَّةِ الأقْرعِ والأَبْرصِ والأَعْمى: «بَدَا اللهُ، عزّ وجلّ، أَن يَقْتَلَهم»؛ أَي قَضَى بذلِكَ قالَ ابنُ الأثيرِ: وهو معْنَى البَدَاء، هنا لأنَّ القَضاءَ سابِقٌ.

والبداءُ: اسْتِصْوابُ شي‌ءٍ عُلِمَ بَعَدَ أَن لم يُعْلم، وذلِك على اللهِ غير جائِزٍ.

وقالَ السُّهيليّ في الرَّوضِ: والنَّسْخ للحُكْمِ ليسَ ببدء كما تَوهَّمَه الجَهَلةُ مِن الرَّافضَةِ واليهود وإنَّما هو تَبْديلُ حَكْمٍ بحُكْم يقدّرُ قَدْرَه وعِلْم قد تَمَّ عِلْمَهُ، قالَ: وقد يَجوزُ أَنْ يقالَ: بَدَا له أَنْ يَفْعَلَ كذا، ويكونُ مَعْناه أَرادَ، وبه فسّر حدِيثَ البُخارِي، وهذا مِن المجازِ الذي لا سَبِيلَ إلى إِطْلاقِه إلَّا باذْنٍ مِن صاحِبِ الشَّرْعِ.

وبَدانِي بكذا يَبْدوني: كَبَدَأَني. قالَ الجَوْهرِيُّ: ورُبَّما جَعَلُوا بادِيَ بَدِيِّ اسْمًا للداهِيَةِ؛ كما قالَ أَبو نُخَيْلة:

وقد عَلَتْني ذُرْأَةٌ بادِي بَدِي *** ورَثِيةٌ تَنْهَضُ بالتَّشَدُّدِ

وصار للفَحْلِ لساني ويدِي

قالَ: وهُما اسْمانِ جُعِلا اسمًا واحدًا مثْلُ مَعْدي كرب، وقالي قَلا.

والبَدِيُّ، كغَنِيِّ: الأوَّلُ؛ ومنه قَوْلُ سعدٍ في يَوْم الشَّوْري: الحمْدُ للهِ بَدِيًّا.

والبَدِيُّ أَيْضًا: البادِيَةُ؛ وبه فُسِّرَ قَوْلُ لبيدٍ:

غُلْبٌ تَشَذَّرَ بالدّخُولِ كأَنَّها *** جن البَدِيِّ رَواسِيا أَقْدامها

والبَدِيُّ أَيْضًا: البِئْرُ التي ليسَتْ بعادِيَةٍ، تُرِكَ فيها الهَمْزُ في أَكْثَرِ كَلامِهم، وقد ذُكِرَ في الهَمْزةِ.

ويقالُ: أَبْدَيْتَ في مَنْطقِكَ: أَي جُرْتَ مثْلَ أَعْدَيْتَ؛ ومنه قَوْلهم: السُّلْطان ذُو بَدَوانٍ، بالتَّحْرِيك فيهما؛ كما في الصِّحاحِ.

* قُلْتُ: وفي الحدِيثِ: السُّلْطانُ ذُو عَدَوان وذُو بَدَوانٍ»؛ أَي لا يزالُ يَبْدُو له رأْيٌ جَديدٌ.

والبادِيَةُ: القومُ البادُونَ خِلافُ الحاضِرَةِ كالبَدْوِ.

والمَبْدَى: خِلافُ المَحْضَر؛ نَقَلَهُ الجَوْهرِيُّ.

وقالَ الأزْهرِيُّ: المبَادِي: هي المَناجِعُ خِلافُ المَحاضِرِ.

وقومٌ بُدَّاءُ، كرُمَّانٍ: بادُونَ؛ قالَ الشاعِرُ:

بحَضْرِيِّ شَاقَه بُدَّاؤُه *** لم تُلْهِهِ السُّوقُ ولا كلاؤُه

وقد يكونُ البَدْوُ اسمَ جَمْعٍ لبادٍ كركْبٍ ورَاكِبٍ؛ وبه فُسِّرَ قَوْلُ ابنِ أَحْمر:

جَزَى اللهُ قومي بالأُبُلَّةِ نُصْرَةً *** وبَدْوًا لهم حَوْلَ الفِراضِ وحُضَّرَا

والبَدِيَّةُ، كغَنِيَّة: ماءَةٌ على مَرْحَلَتَيْنِ من حَلَب بَيْنها وبينَ سلمية؛ قالَ المُتَنَبيِّ:

وأَمْسَتْ بالبَدِيَّةِ شَفْرَتاه *** وأَمْسَى خَلْفَ قائِمِهِ الخَبَارُ

والبادِيَةُ: قُرى باليَمامَةِ.

والبِدَاءُ، بالكسْرِ: لُغَةٌ في الفداءِ وتَبدَّى.

تَفَدَّى، هكذا يَنْطقُ به عامَّةُ عَرَبِ اليَمَنِ.

والمبادَاةُ: المُبارَزَةُ والمُكاشَفَةُ.

وبادَى بَيْنهما: قايَسَ؛ كما في الأساسِ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


136-تاج العروس (ها)

[ها] وَهَا، بفخامَةِ الألِفِ: كَلمةُ تَنْبِيهٍ للمُخاطَبِ يُنَبِه بها على ما يُساقُ إليه مِن الكَلام. قالوا: ها السَّلامُ عَلَيْكم، فها مُنَبِّهةٌ مُؤَكِّدَةٌ؛ وقال الشاعرُ:

وَقَفْنا فقُلْنا ها السَّلامُ عَلَيْكُمُ *** فأَنْكَرَها ضَيْقُ المَجَمِّ غَيُورُ

وفي الصِّحاح: حَرْفُ تَنْبيهٍ؛ قال النابغَةُ:

ها إنَّ تا عِذْرَةٌ إلَّا تَكُنْ نَفَعَتْ *** فإنَّ صاحِبَها قد تاهَ في البَلَدِ

وتَدْخُلُ في ذا للمُذَكَّرِ وذِي للمُؤَنَّثِ تقولُ: هذا وهذهِ وهاذاكَ وهاذِيكَ إذا لحِقَ بهما الكافُ.

قال الأزْهرِي: وأَمَّا هذا إذا كانَ تَنْبيهًا فإنَّ أَبا الهَيْثم قالَ: ها تَنْبِيهٌ تَفْتَتِحُ العربُ بها الكَلامَ بِلا مَعْنى سِوَى الافْتِتاح، تقولُ: هذا أَخُوكَ، ها إنَّ ذَا أَخُوكَ، أَو ذَا لِمَا بَعُدَ وهذا لِمَا قَرُبَ، وقد تقدَّمَ البَحْثُ فيه مُفَصَّلًا في تركيبِ ذا.

وَهَا: كِنايَةٌ عن الواحِدةِ كَرَأَيْتُها.

وأَيْضًا: زَجْرٌ للإبِلِ ودُعاءُ لها، ويُبْنَى على الكَسْر إذا مُدَّ تقولُ: ها هَيْتُ بالإِبِلِ إذا دَعَوْتَها، كما تقدَّمَ في حاحَيْتُ.

وها أَيْضًا: كَلمةُ إجابَةٍ وتَلْبيةٍ. وفي التهذيبِ: يكونُ جوابَ النِّداءِ يُمَدُّ ويُقْصَر؛ وأَنْشَدَ:

لا بَلْ يُجِيبُكَ حينَ تَدْعُو باسْمِه *** فيقولُ: هاءَ وطالَما لَبَّى

قال: يَصِلُونَ الهاءَ بألفٍ تَطْويلًا للصَّوْتِ؛ قالَ: وأَهْلُ الحجازِ يقولون في مَوْضِع لَبَّى في الإجَابِة لَبَى خَفِيفَةً.

* قُلْت: وهي الآنَ لُغَةُ العَجَمِ قاطِبَةً.

وها: تكونُ اسْمًا لفِعْلٍ وهو خُذْ، وتُمَدُّ، ومنه حديثُ الرِّبا: «لا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بالذهب إِلَّا هاءَ وهاءَ»؛ قال بعضُهم: هو أَنْ يَقُولَ كلُّ واحِدٍ مِن البائِعَيْن هاءَ أَي خُذْ فيُعْطِيه ما في يَدِه ثم يَفْتَرِقانِ، وقيلَ: مَعْناه هاكَ وهاتِ؛ أَي خُذْ وأَعْطِ. وقالَ الأزْهري: إلَّا هاءَ وهاءَ؛ أَي إلَّا يدًا بيَدٍ يَعْني مُقابَضَةً في المَجْلِسِ والأصْلُ فيه هاكَ وهاتِ.

وقال الخطابي: أَصْحابُ الحديثِ يَرْوُونه ها وها، ساكِنَةَ الألِفِ، والصَّوابُ مَدُّها وفَتْحُها لأنَّ أَصْلَها هاكَ؛ أَي خُذْ فحُذِفَ الكافُ وعُوِّضَ منها المَدَّة والهَمْزة، وغَيْر الخطابي يُجِيزُ فيها السكونَ على حَذْفِ العِوَضِ وتَنْزِلُ مَنْزِلَةَ ها التي للتَّنْبيهِ.

ويُسْتَعْملانِ بكافِ الخِطابِ، يقالُ: هَاكَ وهاءَكَ؛ قال الكِسائي: مِن العَرَبِ مَنْ يقولُ: هاكَ يا رَجُل، وهاكُما هذا يا رَجُلانِ، وهاكُم هذا يا رِجالُ، وهاكِ هذا يا امْرأَةُ، وهاكُما هذا يا امْرأَتانِ، وهاكُنَّ يا نِسْوةُ.

قال الأزْهرِي: قال سِيبَوَيْه: في كَلامِ العربِ هاءَ وهاءَك بمنْزِلَةِ حَيَّهَلَ وحَيَّهَلَكَ، وكقولِهم النَّجاءَكَ، قال: وهذه الكافُ لم تَجِئْ عَلَمًا للمَأْمُورِينَ والمَنْهِيِّينَ والمُضْمَرِينَ، ولو كانتْ عَلَمًا للمُضْمَرِينَ لكانتُ خَطَأً لأنَّ المُضْمَرَ هنا فاعِلُونَ، وعلامَةُ الفاعِلِين الواوُ كقولكِ: افْعَلُوا، وإنَّما هذه الكافُ تَخْصِيص وتَوْكَيد وليسَتْ باسْمٍ، ولو كانتْ اسْمًا لكانَ النَّجاءَكُ مُحالًا لأنَّكَ لا تُضِيفُ فيه أَلِفًا ولامًا، قال: وكَذلكَ كافُ ذلكَ ليسَ باسْم.

ويجوزُ في المَمْدودَةِ أَنْ يُسْتَغْنَى عن الكافِ بِتَصْريفِ هَمْزتِها تَصارِيفَ الكافِ، وفيها لُغاتٌ: قالَ أَبو زيْدٍ: تقولُ هاءَ يا رَجُل للمُذَكَّر، وهاءِ يا امْرأَةُ للمُؤَنَّثِ، في الأوَّل بفَتْح الهَمْزةِ، وفي الثاني بكسْرِها مِن غَيْر ياءٍ. قال ابنُ السِّكيت: ويقالُ: هاؤُمَا يا رَجُلانِ، وهاؤُنْ يا نِسْوةُ، وهاؤُمْ يا رِجالُ؛ ومنه قوله تعالى: هاؤُمُ اقْرَؤُا {كِتابِيَهْ}. قالَ اللّيْثُ قد تَجِي‌ءُ الهاءُ خَلَفًا مِن الألِفِ التي تُبْنَى للقَطْعِ، قال الله، عزّ وجلّ: {هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ}؛ جاءَ في التَّفْسيرِ أنَّ الرجُلَ مِن المُؤْمِنِين يُعْطَى كِتابه بيَمِينِه، فإذا قَرَأَهُ رَأَى فيه تَبْشِيرَه بالجنَّةِ فيُعْطِيه أَصْحابَهُ فيقولُ: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِي؛ أَي خُذُوه واقْرَؤُوا ما فيه لتَعْلَمُوا فَوْزِي بالجنَّةِ، يدلُّ على ذلكَ قولهُ: {إِنِّي ظَنَنْتُ}؛ أَي عَلِمْتُ {أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ} وقال أَبو زيْدٍ: يقالُ في التَّثْنيةِ هائِيا في اللُّغَتَين جَميعًا، وهاؤُنَّ يا نِسْوةُ؛ ولُغَة ثانِيَة: هاء يا رَجُلُ، وهاآ بمنْزِلَةِ هاعَا، وللجَمِيعِ هاؤُوا، وللمرأَةِ هائِي، وللثِّنْتَيْن هائِيا، وللجَمِيعِ هائِينَ؛ وأَنْشَدَ أَبو زيْدٍ:

قُومُوا فهاؤُوا الحَقَّ تَنْزِلْ عِنْدَه *** إذْ لم يَكُنْ لَكُم عَلَيْنا مَفْخَرُ

وقال أَبو حزام، العكْلِي:

فهاؤا مضابئة لم تؤل

وقد ذُكِرَ في ضبأ.

الثَّاني: تكونُ ضميرًا للمُؤَنَّثِ فتُسْتَعْملُ مَجْرورَةَ المَوْضِعِ ومَنْصوبَتَه نحوُ قوله تعالى: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها فالضميرُ في {فَأَلْهَمَها} مَنْصوبُ الموضِع، وفي {فُجُورَها وَتَقْواها} مَجْرورُه.

الثَّالثُ: تكونُ للتَّنْبيهِ فَتَدْخُلُ على أَرْبعةٍ:

* أَحَدُها: الإشارَةُ غيرُ المُخْتَصَّةِ بالبعيدِ كهذَا بخِلافِ ثُمَّ وهُنَّا، بالتَّشْديدِ، وهُنالِكَ.

* الثَّاني: ضميرُ الرَّفْعِ المُخْبَرُ عنه باسْمِ الإشارَةِ نحوُ: ها أَنْتُمْ أُولاءِ {تُحِبُّونَهُمْ}، و {ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ}؛ ويقالُ إنَّ هذه الهاءَ تُسَمَّى هاء الزَّجْر.

* الثَّالثُ: نَعْتُ أَيِّ في النِّداءِ نحوُ: يا أَيُّها الرَّجُلُ، وهي في هذا واجِبَةٌ للتَّنْبِيهِ على أنَّه المَقْصُودُ بالنِّداءِ، قيل: وللتَّعْويضِ عمَّا تُضافُ إليه أَيّ، قال الأزْهري: قالَ سيبويه، وهو قَوْلُ الخليل، إذا قُلْتَ يا أَيُّها الرَّجُلُ، فأَيُّ اسْمٌ مُبْهَمٌ مَبْنيٌّ على الضمِّ لأنَّه مُنادًى مُفْرَدٌ والرَّجُلُ صِفَةٌ لأيٍّ، تقولُ يا أَيُّها الرَّجُلُ أَقْبِلْ ولا يجوزُ يا الرُّجُلُ، أَقْبِلْ، لأنَّ يا تَنْبِيهٌ بمنْزِلَةِ التَّعْريفِ في الرَّجُل ولا يُجْمَعُ بينَ يا وبينَ الألِفِ واللامِ فيَتَّصِل إلى الألِفِ واللامِ بأيٍّ، وها لازمَةٌ لأيٍّ البَتَّة، وهي عِوَضٌ مِن الإضافَةِ في أَيٍّ لأنَّ أَصْلَ أَيٍّ أَنْ تكونَ مُضافَةً إلى الاسْتِفْهامِ والخَبَرِ.

وتقولُ للمَرْأَةِ يا أَيَّتُها المرأَةُ.

ويجوزُ في هذه، في لُغَةِ بَني أَسَدٍ، أَنْ تُحْذَفَ أَلِفُها وأَن تُضَمَّ هاؤُها اتْباعًا، وعليه قِراءَةُ ابنِ عامِرٍ: أَيُّهُ الثَّقَلانِ، أَيُّهُ المُؤْمِنُونَ بضمِّ الهاءِ في الوصلِ، وكُلُّهم ما عَداهُ قَرَؤُا {أَيُّهَ الثَّقَلانِ} و {أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ}. وقالَ سِيبَوَيْه: ولا مَعْنَى لقِراءَةِ ابنِ عامِرٍ، وقال ابنُ الأنْبارِي: هي لُغَةٌ وخصّ غَيْره ببَني أَسَدٍ كما للمصنِّفِ.

* الرابعُ: اسْمُ الله في القَسَمِ عنْدَ حَذْفِ الحَرْفِ تقولُ: هَا الله بقَطْع الهمزةِ ووصْلِها وكلاهُما مع إثْباتِ أَلِفِ هَا وحَذْفِها.

وفي الصِّحاح: وهَا للتّنْبِيهِ قد يُقْسَمُ بها يقالُ: لا ها الله ما فَعَلْتُ؛ أَي والله، أُبْدِلَتِ الهاءُ مِن الواوِ، وإن شِئْتَ حذَفْتَ الألِفَ التي بعدَ الهاءِ، وإنْ شِئْتَ أَثْبَتَّ، وقولهم: لا ها الله ذا، أَصْلُه لا والله هذا، ففَرقْتَ بينَ ها وذا وجَعَلْتَ الاسْمَ بَيْنهما وجَرَرْتَه بحَرْفِ التَّنْبِيهِ، والتَّقْديرُ لا والله ما فَعَلْتُ هذا، فحُذِفَ واخْتُصِرَ لكَثْرةِ اسْتِعْمالِهم هذا في كَلامِهم وقُدِّمَ ها كما قُدِّمَ في قولِهم ها هُو ذا وها أَنا ذا؛ قال زهيرٌ:

تَعَلَّمَنَ ها لَعَمْرُ الله ذا قَسَمًا *** فاقْصِدْ لذَرْعِكَ وانْظُرْ أَيْنَ تَنْسَلِكُ

انتهى.

وفي حديثِ أَبي قتادَةَ يومَ حُنَيْنٍ: «قال أَبو بَكْرٍ: لا ها الله إذًا لا نَعْمِدُ إلى أَسَدٍ مِن أُسْدِ الله يُقاتِلُ عن الله ورَسُولِه فنُعْطِيكَ سَلَبَه»؛ هكذا جاءَ الحديثُ لا ها الله إذًا، والصَّوابُ لا ها الله ذا بحذْفِ الهَمْزةِ، ومَعْناه لا والله ولا يكونُ ذا ولا والله الأمْرُ ذا، فحُذِفَ تَخْفِيفًا، ولكَ في أَلِفِها مَذْهبانِ: أَحَدُهما: تُثْبِتُ أَلِفَها لأنَّ الذي بعدَها مُدْغَمٌ مثلُ دابّةٍ. والثاني: أَنْ تَحْذِفَها لالْتِقاءِ الساكِنَينِ؛ قالَهُ ابنُ الأثيرِ.

وهو بالضَّمِّ: بلد بالصَّعِيدِ الأعْلَى على تلٍّ بالجانِبِ الغَرْبيِّ دونَ قوص؛ وقد ذَكَرْناه في هُوِّ المُشَدَّدَةِ، لأنَّه جَمْعُ هُوَّةٍ، وهو الأَلْيقُ بأسْماءِ المَواضِع.

وهَيُوة: حِصْنٌ باليَمنِ لبَني زبيدٍ؛ كما قالَهُ ياقوت، ولم يَضْبْطه. وهو في التّكْملةِ بفَتْحٍ فسكونٍ والأخيرَةُ مَضْمومَةٌ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

قال الجَوْهرِي: والهاءُ تُزادُ في كَلامِ العربِ على سَبْعةِ أَضْرُبٍ.

أَحَدُها: للفَرْقِ بينَ الفاعِلِ والفاعِلَةِ مثْلُ ضارَبٍ وضارِبَةٍ وكَرِيمٍ وكَرِيمَةٍ.

والثَّاني: للفرْقِ بينَ المُذكَّرِ والمُؤَنَّثِ في الجِنْسِ نحوُ امْرئٍ وامْرأَةٍ.

والثَّالثُ: للفرْقِ بينَ الواحِدِ والجَمْع مثْلُ بَقَرَةٍ وبَقَرٍ وثَمْرَةٍ وثَمْرٍ.

والرابعُ: لتَأْنيثِ اللّفْظَةِ وإن لم يَكُنْ تَحْتها حَقِيقَة تَأْنِيثٍ نحو غُرْفَةٍ وقِرْيَةٍ.

والخَّامسُ: للمُبالَغَةِ نحُو عَلَّامَةٍ ونسَّابَةٍ، وهذا مَدْحٌ، وهِلْباجَةٍ وعَقاقةٍ، وهذا ذَمٌّ، وما كانَ منه مَدْحًا يَذْهبُونَ بتَأْنِيثِه إلى تَأْنيثِ الغايَةِ والنِّهايَةِ والداهِيَةِ؛ وما كانَ ذَمًّا يذْهَبُونَ به إلى تأْنِيثِ البَهِيمةِ، ومنه ما يَسْتَوي فيه المُذكَّرُ والمُؤَنَّثُ نحوُ رَجُل مَلُولٌ وامرأَةٌ مَلْولةُ.

والسَّادسُ: ما كانَ واحِدًا مِن جِنْسٍ يَقَعُ على الذَّكَرِ والأُنْثَى نحو بَطَّة وحَيَّة.

والسَّابعُ: تَدْخُلُ في الجَمْعِ لثلاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُها أَنْ تدلَّ على النَّسَبِ نحو المَهالِبَةِ والمَسامِعَةِ.

والثاني: أَنْ تدلَّ على العُجْمةِ نحو الموازِجةِ والجَوارِبةِ ورُبَّما لم تَدْخل بفيها الهاءُ كقولِهم كيَالِج.

والثالثُ: أنْ تكونَ عِوَضًا مِن حَرْفٍ مَحْذوفٍ نحو المَرازِبةِ الزَّنادِقةِ والعَبادِلةِ، وقد تكونُ الهاءُ عِوَضًا مِن الواوِ الذَّاهبَةِ مِن فاءِ الفِعْلِ نحو عِدَةِ وصِفَةِ، وقد تكونُ عِوَضًا مِن الواوِ والياءِ الذّاهبَةِ مِن عيْنِ الفِعْلِ نحو ثُبةِ الحَوْضِ، أَصْلُه مِن ثابَ الماءُ يَثُوبُ إذا رَجَعَ، وقولُهم أَقامَ إقامةً أَصْلُه إقْوامًا، وقد تكونُ عِوَضًا مِن الياءِ الذَّاهبَةِ مِن لامِ الفِعْلِ نحو مائةٍ ورِئةٍ وبُرةٍ انتَهَى.

ومنها: هاء العِمادِ كقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزّاقُ}، {إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ}، {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ}.

وهاءُ الأداةِ: وتكونُ للاسْتِبْعادِ نحو: هَيْهات؛ أَو للاسْتِزَادَةِ نحو: إيه؛ أَو للانْكِفافِ نحو: إيهَا؛ أَي كُفَّ؛ أَو للتَّحْضيضِ نحو: ويها؛ أَو للتَّوجّعِ نحو: آه وأوّه؛ أَو للتَّعَجُّبِ نحو: واه وهاه.

وقال الجَوْهرِي في قوله تعالى: {ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ}، إنَّما جَمَعَ بينَ التَّنْبِيهَيْن للتَّوْكيدِ، وكَذلكَ أَلا يا هَؤُلاء.

وقال الأزْهري: يقولون: ها أنَّكَ زَيْدٌ مَعْناهُ أَنَّك في الاسْتِفْهامِ، يَقْصِرُون فيقولون هانك زيْدٌ في موضِعِ أَأنَّك زَيْدٌ. وفي الصِّحاح: وهو للمُذَكَّر، وهي للمُؤَنَّثِ، وإنَّما بَنَوا الواوَ في هُوَ والياءَ في هيَ على الفَتْح ليَفْرُقُوا بينَ هذه الواو والياء التي هي مِن نَفْسِ الاسْمِ المَكْنِيِّ وبينَ الياءِ والواوِ اللتين يكونانِ صِلَةً في نحو قولك: رأَيْتُهو ومَرَرْتُ بهِي، لأنَّ كلَّ مَبْنِيٍّ فحقّه أن يُبْنى على السكونِ، إلَّا أن تَعْرِضَ عِلَّة تُوجِبُ له الحَرَكَة، والتي تَعْرِضُ ثلاثَةُ أَشْياء: أَحَدُها اجْتِماعُ الساكِنَيْنِ مِثْلُ كيفَ وأَيْنَ؛ والثاني: كَوْنه على حَرْفٍ واحِدٍ مِثْل الباءِ الزائِدَةِ؛ والثالثُ: للفَرْقِ بَيْنه وبينَ غيرِهِ مِثْلُ الفِعْلِ الماضِي بُني على الفَتْح لأنَّه ضَارَعَ الاسْمَ بعضَ المُضارَعَةِ ففُرِقَ بالحَرَكَةِ بَيْنه وبينَ ما لم يُضارعْ، وهو فِعْلُ الأمْرِ المُواجَهِ به نحو افْعَلْ؛ وأَمَّا قولُ الشاعرِ:

ما هِيَ إلَّا شَرْبَةٌ بالجَوْأَبِ *** فَصَعِّدِي مِنْ بَعْدِها أَو صَوِّبي

وقولُ بنْتِ الحُمارِس:

هل هِيَ إلَّا حِظةٌ أَو تَطْلِيقْ *** أَو صَلَفٌ مِنْ بَينِ ذاكَ تَعْلِيقْ؟

فإنَّ أَهْلَ الكُوفَةِ يقولون: هي كِنايَةٌ عن شي‌ءٍ مَجْهولٍ، وأَهْلَ البَصْرةِ يَتَأَوَّلُونَها القِصَّة.

قال ابنُ برِّي: وضميرُ القِصة والشَّأْنِ عنْدَ أَهْلِ البَصْرةِ لا تُفَسِّره إلَّا الجماعَةُ دونَ المُفْردِ.

وفي المُحْكم: هو كِنايَةٌ عن الواحِدِ المُذكَّرِ.

قال الكِسائي: هُوَ أَصْلُه أن يكونَ على ثلاثَةِ أَحْرُفٍ مِثْل أَنتَ فيقالُ هُوَّ فَعَلَ ذلكَ، قالَ: ومِن العربِ مَنْ يُخَفِّفه فيقولُ هُوَ فَعَلَ ذلكَ.

قال اللّحْياني: وحكَى الكِسائي عن بَني أَسَدٍ وتَمِيمٍ وقيس هُوْ فَعَلَ ذلكَ بإسْكانِ الواوِ؛ وأنْشَدَ لعبَيدٍ:

ورَكْضُكَ لوْلا هُو لَقِيَ الذي لَقُوا *** فأَصْبَحْتَ قد جاوَرْتَ قَوْمًا أَعادِيا

وقال الكِسائي: بعضُهم يُلْقي الواوَ مِن هُو إذا كانَ قَبْلَها أَلفٌ ساكنَةٌ فيقولُ حتَّاهُ فَعَلَ ذلكَ، وإنَّماهُ فَعَلَ ذلكَ، قال: وأَنْشَدَ أَبو خالدٍ الأسَدي:

إذاهُ لم يُؤْذَنْ له لَمْ يَنْبِس

قال؛ وأَنْشَدَني لحشَّاف:

إذاهُ سامَ الخَسْفَ آلَا فقَسَمْ *** بالله لا يَأْخُذُ إلَّا ما احْتَكَمْ

قال: وأَنْشَدَنا أَبو مجالِدٍ للعُجَيْر السَّلُولي:

فبَيْناهُ يَشْري رَحْلَه قال قائلٌ *** لمَنْ جَمَلٌ رِخْوُ المِلاطِ نَجِيبُ

وقال ابنُ جنِّي: إنَّما ذلكَ لضَرُورَةِ الشِّعْرِ والتَّشْبيهِ للضَّميرِ المُنْفَصِل بالضّميرِ المُتَّصلِ في عَصاهُ وفَتاهُ، ولم يُقَيِّد الجَوْهرِي حَذْفَ الواو مِن هُوَ بما إذا كانَ قَبْلَها أَلفٌ ساكنَةٌ بل قال ورُبَّما حُذِفَتْ مِن هُوَ الواو في ضَرُورة الشِّعْرِ، وأَوْرَدَ قولَ العُجَير السَّلُولي السابقَ؛ قالَ: وقالَ آخرُ:

إنَّ ه لا يُبْرِئُ داءَ الهُدَبِدْ *** مِثْلُ القَلايا مِنْ سَنامٍ وكَبِدْ

وكَذلكَ الياء مِن هِيَ؛ وأَنْشَدَ:

دارٌ لسُعْدَى إذْ هِ مِن هَواكا

انتَهَى.

وقال الكِسائي: لم أَسْمَعْهم يُلْقُونَ الواوَ والياءَ عنْدَ غيرِ الألفِ.

* قُلْت: وقولُ العُجَير السَّلُولي الذي تقدَّمَ هكذا هو في الصِّحاحِ وسائِرِ كتبِ اللغةِ والنّحْو رِخْوُ المِلاطِ نجيبُ. وقال ابنُ السِّيرافي: الذي وُجِدَ في شِعْره: رِخْوُ المِلاطِ طَوِيلُ؛ وقَبْله:

فباتَتْ هُمُومُ الصَّدْرِ شتى تَعُدْنَه *** كما عِيدَ شِلْوٌ بالعَراءِ قَتِيلُ

وبعده:

مُحَلًّى بأطْواقٍ عِتاقٍ كأَنَّها *** بَقايا لُجَيْنٍ جَرْسُهنَّ صَلِيلُ

انتَهَى.

قُلْتُ: يُرْوَى أَيْضًا رِخْوُ المِلاطِ ذَلولُ.

وتَثْنِيةُ هو هُما وجَمْعُه هُمُو، فأمَّا قولهُ هُم فمَحْذوفَةٌ مِن هُمُو كما أنَّ مُذْ مَحْذوفةٌ مِن مُنْذُ، وأمَّا قولُك رأَيْتُهو فإنَّما الاسْمُ هو الهاءُ وجِي‌ءَ بالواو لبَيانِ الحَركَةِ، وكَذلكَ لَهُو مالٌ إنَّما الاسْمُ منها الهاءُ والواو لما قدَّمْنا، ودَليلُ ذلكَ أنَّك إذا وقفْتَ حذفْتَ الواوَ فقلْتَ رأَيْتُه والمالُ لَهْ، ومنهم مَنْ يحذِفُها في الوَصْلِ مع الحركَةِ التي على الهاءِ ويسكِّنُ الهاءَ؛ حكَى اللّحْياني عن الكِسائي: لَهْ مالٌ أَي لَهُو مالٌ.

قال الجَوْهرِي: ورُبَّما حذَفُوا الواوَ مع الحَركَةِ؛ قالَ الشاعرُ، وهو يَعْلَى الأَحْوَل:

أَرقْتُ لبَرْقٍ دُونَه شَرَوانِ *** يَمانٍ وأَهْوَ البَرْقَ كُلَّ يَمانِ

فظَلْتُ لَدَى البَيْتِ العَتِيقِ أُخِيلُهو *** ومِطْوايَ مُشْتاقانِ لَهْ أَرِقانِ

فلَيْتَ لَنا مِن ماءِ زَمْزَمَ شَرْبةً *** مُبَرَّدةً باتَتْ على طَهَيانِ

قال ابنُ جنِّي: جَمَعَ بينَ اللُّغَتَيْن يَعْني إثباتَ الواوِ في أُخِيلُهو وإسْكانَ الهاءِ في لَهْ. عن حَذْف لَحِقَ الكَلِمةَ بالضّعةِ.

قال الجَوْهرِي: قالَ الأخْفَش: وهذا في لُغَةِ أُزْدِ السَّراةِ كثيرٌ.

قا ابنُ سِيدَه: ومِثْلُه ما رُوِي عن قُطْرب في قولِ الآخر:

وأشْرَبُ الماءَ ما بي نَحْوَ هُو عَطَشٌ *** إلَّا لأَنَّ عُيُونَهْ سَيْلُ وادِيها

فقال: نَحْوَ هُو عَطَشٌ بالواوِ، وقال: عُيُونَهْ بإسْكانِ الهاءِ. وأَمَّا قولُ الشمَّاخ:

لَهُ زَجَلٌ كأَنَّهُو صَوْتُ حادٍ *** إذا طَلَبَ الوَسِيقةَ أَوْ زَمِيرُ

فليسَ هذا لُغَتَيْنِ لأنَّا لا نَعْلم رِوايَةً حَذْفَ هذه الواوِ وإبْقاء الضمَّةِ قَبْلَها لُغَةً، فيَنْبَغي أن يكونَ ذلكَ ضَرُورَةً وضعة لا مَذْهبًا ولا لُغَةً، ومِثْلُه الهاءُ في قولهِ بهِي هي الاسْمُ والياءُ لبَيانِ الحَركَةِ، ودليلُ ذلكَ أَنَّك إذا وقفْتَ قلْتَ بِهْ، ومِن العربِ مَنْ يقولُ بهِي وبِهْ في الوَصْل.

قال اللّحْياني: قال الكِسائي: سَمِعْتُ أعْرابَ عُقَيْل وكلابٍ يَتَكَّلمُونَ في حالِ الرَّفْعِ والخَفْضِ وما قَبْلَ الهاءِ مُتحرِّك، فيجْزِمُونَ الهاءَ في الرفْعِ ويَرْفَعُونَ بغيرِ تَمامٍ، ويجزِمُونَ في الخفْضِ ويخْفضُونَ بغيرِ تمامٍ، فيقولون: {إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} بالجزْمِ، ولرَبِّه لَكَنُودٌ، بغيرِ تمامٍ، ولَهُ مالٌ ولَهْ مالٌ، وقال: التَّمامُ أحبُّ إليَّ ولا ينظرونَ في هذا إلى جزْمٍ ولا غيرِ لأنَّ الإعْرابَ إنَّما يَقَعُ فيمَا قَبْل الهاءِ؛ وقال: كانَ أَبو جَعْفرٍ قارِئَ المدينَةِ يخْفضُ ويرْفَعُ لغيرِ تمامٍ؛ قال: وأَنْشَدَ أَبو حزامٍ العُكْلِي:

لي والِدٌ شَيْخٌ تَحُضُّهْ غَيْبَتي *** وأَظُنُّ أنَّ نَفادَ عُمْرِهْ عاجِلُ

فخفَّف في مَوْضِعَيْن، وكان حمزةُ وأَبو عَمْرٍو يجزمان الهاءَ في مثْلِ يؤدِّهْ إليك، ونُؤْتِهْ منها ونُصْلِهْ جَهَنَّمَ، وسمعَ شيْخًا مِن هَوازِن يقولُ: عَلَيْهُ مالٌ، وكان يقول: عَلَيْهُم وفِيهُمْ وبهُمْ، قال: وقال الكِسائي هي لُغاتٌ يقالُ فيهِ وفِيهِي وفيهُ وفِيهُو، بتمامٍ وغيرِ تمامٍ، قال: وقال لا يكونُ الجَزْم في الهاءِ إذا كانَ ما قَبْلَها ساكِنًا.

وفي التهذيبِ: قالَ اللّيْثُ: هو كِنايَةُ تَذْكيرٍ، وهِي كِنايَةُ تأْنِيثٍ، وهُما للاثْنَيْن، وهُم للجماعَةِ مِن الرِّجالِ، وهُنَّ للنِّساءِ، فإذا وقَفْتَ على هو وَصَلْتَ الواو وقلْتَ هُوهْ، وإذا أَدْرَجْتَ طَرَحْتَ هاءَ الصِّلَةِ.

ورُوِي عن أَبي الهَيْثم أَنّه قال: مَرَرْتُ بهْ ومَرَرْتُ بِهِ ومَرَرْتُ بِهِي، قال: وإن شِئْتَ مَرَرْتُ بِهْ وبِهُ وبِهُو، وكَذلكَ ضَرَبَه فيه هذه اللُّغات، وكَذلكَ يَضْرِبُهْ ويَضْرِبُهُو، فإذا أَفْرَدْتَ الهاءَ مِن الاتِّصالِ بالاسْمِ أَو بالفِعْلِ أَو بالأداةِ وابْتَدأْتَ بها كَلامَكَ قلْت هو لكلِّ مذكَّرٍ غائبٍ، وهي لكلِّ مؤنَّثَةٍ غائبَةٍ، وقد جَرَى ذِكرُهُما فزِدْتَ واوًا أَو ياءً اسْتِثْقالًا للاسْمِ على حَرْفٍ واحِدٍ، لأنَّ الاسْمَ لا يكونُ أَقلَّ مِن حَرْفَيْن، قال: ومنهم مَنْ يقولُ: الاسْمُ إذا كانَ على حَرْفَيْن فهو ناقِصٌ قد ذهَبَ منه حرْفٌ، فإن عَرَفْتَ تَثْنِيَتَه وجَمْعَه وتَصْغِيرَه وتَصْرِيفَه عُرفَ النَّاقِصُ منه، وإن لم يُصَغَّر ولم يُصَرَّف ولم يُعْرَفْ له اشْتِقاقٌ زِيدَ فيه مِثْل آخرِه فتقولُ: هُوَّ أَخُوكَ، فزَادُوا مع الواوِ واوًا؛ وأَنْشَدَ:

وإنَّ لِسانِي شُهْدةٌ يُشْتَفَى بها *** وهُوَّ على مَنْ صَبَّه الله عَلْقَمُ

كما قالوا في مِن وعَن ولا تَصْرِيفَ لَهُما فقالوا: مِنِّي أَحْسَنُ مِن مِنْكَ، فزَادُوا نونًا مع النونِ.

وقال أبو الهَيْثم: بَنُو أَسَدٍ تسكِّنُ هُوَ وهِيَ فيقولون: هُو زيدٌ وهي هنْدٌ، كأَنَّهم حذَفُوا المُتَحَرِّكَ، وهي قالَتْه وهُو قالَهُ؛ وأَنْشَدَ:

وكُنَّا إذا ما كانَ يَوْمُ كَرِيهةٍ *** فَقَذْ عَلِمُوا أنِّي وهُو فَتَيانِ

فأَسْكَنَ.

ويقالُ: مَاهُ قالَهُ، وماهِ قالَتْه، يُرِيدُون ما هُوَ وما هِيَ؛ وأَمَّا قولُ جريرٍ:

تقولُ لي الأصْحابُ: هل أَنتَ لاحِقٌ *** بأَهْلِكَ إنَّ الزَّاهِرِيَّةَ لا هِيا

أَي لا سَبِيلَ إليها؛ وكَذلكَ إذا ذَكَرَ الرجُلُ شيئًا لا سَبِيلَ إليه، قال له المُجيبُ: لا هُوَ أَي لا سَبِيلَ إليه فلا تَذْكُرُهُ.

ويقالُ: هُوَ هُوَ؛ أَي قَدْ عَرَفْتُهُ. ويقالُ: هِيَ هِيَ أَي هِيَ الداهِيَةُ التي قد عَرَفْتُها. وهُمْ أَي هُمْ الذينَ قد عَرَفْتُهم؛ قالَ الهُذَلي:

رَفَوْني وقالوا يا خُوَيْلِدُ لم تُرَعْ *** فَقُلْتُ وأَنْكَرْتُ الوُجُوهَ هُمُ هُمُ

* مهمة وفيها فوائَدٌ:

الأُولى: قال الجَوْهرِي إذا أَدْخَلْتَ الهاءَ في النُّدْبةِ أَثْبَتَّها في الوَقْفِ وحَذَفْتَها في الوَصْلِ، ورُبَّما ثَبَتَتْ في ضَرُورَةِ الشِّعْرِ فتُضَمُّ كالحَرْفِ الأصْلي. قال ابنُ برِّي: صوابُه فتَضُمُّهما كهاءِ الضَّميرِ في عَصاهُ ورَحاهُ. قال الجَوْهرِي: ويجوزُ كَسْره لإلْتِقاءِ الساكِنَيْنِ، هذا على قولِ أَهْلِ الكوفةِ؛ وأنْشَدَ الفرَّاء:

يا رَبِّ يا رَبَّاهُ إيَّاكَ أَسَلْ *** عَفْراء يا رَبَّاهُ مِنْ قَبْلِ الأَجَلْ

وقال قيسُ بنُ مُعاذٍ العامِرِي:

فنادَيْتُ: يا رَبَّاهُ أَوَّلَ سَأْلَتي *** لنَفْسِيَ لَيْلى ثم أنْتَ حَسِيبُها

وهو كثيرٌ في الشِّعْرِ وليسَ شي‌ءٌ منه بحُجَّةٍ عنْدَ أهْلِ البَصْرةِ، وهو خارجٌ عن الأصْلِ.

الثَّانية: هَا، مَقْصورٌ: للتَّقْريبُ إذا قيلَ لكَ: أَيْنَ أَنْتَ؟

فقل: ها أَنا ذَا، والمرأَةُ تقولُ: ها أَنا ذِهْ، فإن قيل لك: أَيْنَ فلانٌ؟ قلْتَ إذا كانَ قرِيبًا: ها هُو ذَا، وإذا كانَ بعيدًا قلْتَ: ها هو ذاكَ؛ وللمرأةِ إذا كانتْ قريبَةً: ها هِي ذِهْ، وإذا كانتْ بعيدَةً: ها هي تِلْكَ.

الثَّالثة: يقالُ هاءٍ بالتَّنْوينِ بِمعْنَى خُذْ؛ ومنه قولُ الشاعرِ:

ومُرْبِحٍ قال لي: هاءٍ فقُلْتُ لَهُ *** حَيَّاكَ ربِّي لقَدْ أَحْسَنْتَ بي هائي

الرَّابعة: قد تَلْحقُ التاءُ بها فتكونُ بمعْنَى أَعْطِ، يقالُ: هاتِ هاتِيا هاتُوا وهاتِي هاتِينَ؛ ومنه قولُه تعالى: {قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ}؛ وقيل: إنَّ الهاءَ بدلٌ من هَمْزةِ آتِ؛ وقد ذُكِرَ في موضعِهِ؛ قال الشاعرُ:

وجَدْتُ الناسَ نائِلُهُمْ قُرُوضٌ *** كنَقْدِ السُّوقِ خُذْ مِنِّي وهاتِ

الخامسة: في حديثِ عُمَر قالَ لأبي موسَى، رضي ‌الله‌ عنهما: ها وإلَّا جَعَلْتُكَ عِظةً؛ أَي هاتِ مَنْ يَشْهَدُ لكَ على قولِكَ.

السَّادسة: قولُه تعالى: {وَهذا بَعْلِي شَيْخًا}، فـ {هذا} مُبْتَدأ، و {بَعْلِي} خَبَرُه، و {شَيْخًا} مَنْصوبٌ على الحالِ، والعامِلُ فيه الإشارَةُ والتَّنْبِيه: وقَرَأَ ابنُ مَسْعود وأُبيٍّ: وهذا بَعْلِي شَيْخٌ بِالرَّفْعِ، قال النَّحاس: (هذا) مُبْتَدأٌ، و (بَعْلِي) بدلٌ منه، وشيْخٌ خَبَرٌ، أَو (بَعْلِي) وشيْخٌ خَبَرانِ لهذا، كما يقالُ الرُّمَّانُ حُلْوٌ حاضٌ. وحَكَى المبرِّدُ أنَّ بعضَ الرُّؤساءِ عَزَمَ عليه مع جماعَةٍ فغَنَّتْ جارِيَةٌ مِن وَراء السِّتر:

وقالوا لها: هذا حَبِيبُكِ مُعْرِضٌ *** فقالتْ: أَلا إعْراضُه يسر الخطب

فما هي إلَّا نَظْرَة بتَبَسُّم *** وتَصْطَكُّ رِجْلاهُ ويَسْقُط للجنبِ

فطَرِبَ الحاضِرُونَ إلَّا المبرِّد، فعَجِبَ منه رَبُّ المَنْزلِ، فقالت: هو مَعْذورٌ لأنَّه أَرادَ أنْ أَقولَ حَبِيبُكِ مُعْرِضًا، فظَنَّني لَحَنْتُ ولم يَدْرِ أنَّ ابنَ مَسْعود قَرَأَ وهذا بَعْلِي شيْخٌ بالرَّفْعِ، فطَرِبَ المبرِّدُ مِن هذا الجَرابِ حتى شقٌ ثَوْبَه؛ نقلَهُ القرافي.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


137-لسان العرب (بدأ)

بدأ: فِي أَسماء اللهِ عزَّ وَجَلَّ المُبْدئ: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ الأَشياءَ واخْتَرَعَها ابْتِداءً مِنْ غيرِ سابقِ مِثَالٍ.

والبَدْء: فِعْلُ الشيءِ أَوَّلُ.

بَدأَ بهِ وبَدَأَهُ يَبْدَؤُهُ بَدْءًا وأَبْدَأَهُ وابْتَدَأَهُ.

ويقالُ: لكَ البَدْءُ والبَدْأَةُ والبُدْأَةُ والبَدِيئةُ

والبَداءَةُ والبُداءَةُ بالمدِّ والبَدَاهةُ عَلَى البدلِ أَي لكَ أَنْ تَبْدَأَ قَبْلَ غَيْرِكَ فِي الرَّمْي وغيرهِ.

وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ: كَانَ ذلكَ فِي بَدْأَتِنا وبِدْأَتِنا، بالقصرِ والمدِّ؛ قَالَ: وَلَا أَدري كَيْفَ ذلكَ.

وَفِي مَبْدَأَتِنا عنهُ أَيضًا.

وَقَدْ أَبْدَأْنا وبَدأْنا كُلُّ ذَلِكَ عَنْهُ.

والبَدِيئةُ والبَداءَةُ والبَداهةُ: أَوّلُ مَا يَفْجَؤُكَ، الْهَاءُ فيهِ بَدَلٌ مِنَ الْهَمْزِ.

وبَدِيتُ بالشيءِ قَدَّمتُهُ، أَنْصاريّةٌ.

وبَدِيتُ بالشيءِ وبَدأْتُ: ابْتَدَأْتُ.

وأَبْدَأْتُ بالأَمْرِ بَدْءًا ابْتَدأْتُ بِهِ.

وبَدأْتُ الشيءَ: فَعَلْتُهُ ابْتِداءً.

وَفِي الْحَدِيثِ: «الخَيْلُ مُبَدَّأَةٌ يومَ الوِرْدِ» أَي يُبْدَأُ بِهَا فِي السَّقْيِ قبلَ الإِبِلِ والغَنَمِ، وَقَدْ تحذفُ الْهَمْزَةُ فتصيرُ أَلفًا سَاكِنَةً.

والبَدْءُ والبَدِيءُ: الأَوَّلُ؛ ومنهُ قَوْلُهُمْ: افْعَلْهُ بادِيَ بَدْءٍ، عَلَى فَعْلٍ، وبادِي بَدِيءٍ عَلَى فَعِيلٍ، أَي أَوَّلَ شيءٍ، والياءُ من بادِي ساكِنةٌ فِي موضعِ النصبِ؛ هَكَذَا يتكلمونَ بهِ.

قَالَ وَرُبَّمَا تَرَكُوا هَمَزَهُ لكثرةِ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى مَا نذكرهُ فِي بَابِ الْمُعْتَلِّ.

وبادِئُ الرأْيِ: أَوَّلُهُ وابْتِداؤُهُ.

وَعِنْدَ أَهلِ التحقيقِ مَنَّ الأَوائِلِ مَا أُدْرِكَ قبلَ إِنْعامِ النَّظرِ؛ يُقال فَعَلَه فِي بادئِ الرأيِ.

وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: أَنتَ بادئَ الرَأْي ومُبْتَدَأَهُ تُرِيدُ ظُلْمنا، أَي أَنتَ فِي أَوَّلِ الرَّأْيِ تُريدُ ظُلْمنا.

وَرُوِيَ أَيضًا: أَنتَ باديَ الرأْي تُرِيدُ ظُلمنا بِغَيْرِ هَمْزٍ، ومعناهُ أَنتَ فِيمَا بَدا مِنَ الرأْي وظَهَرَ أَي أَنتَ فِي ظَاهِرِ الرأْي، فَإِنْ كَانَ هَكَذَا فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ} وبادئَ الرَّأْيِ؛ قرأَ أَبو عَمْرٍو وَحْدَهُ: بادئَ الرأْيِ بِالْهَمْزِ، وَسَائِرُ القرّاءِ قرءُوا بادِيَ بِغَيْرِ هَمْزٍ.

وَقَالَ الفَرّاءُ: لَا تَهْمِزُوا باديَ الرأْيِ لأَنَّ الْمَعْنَى فِيمَا يظهرُ لَنَا وَيَبْدُو؛ قَالَ: وَلَوْ أَرادَ ابْتِداءَ الرأْيِ فهَمزَ كَانَ صَوَابًا.

وَسَنَذْكُرُهُ أَيضًا فِي بَدَا.

وَمَعْنَى قراءَةِ أَبي عَمْرٍو بادئَ الرأيِ أَي أَوَّلَ الرأْيِ أَي اتَّبَعُوكَ ابْتِداءَ الرَأْي حِينَ ابْتَدءوا ينظرونَ، وَإِذَا فَكَّرُوا لَمْ يَتَّبِعُوكَ.

وقالَ ابنُ الأَنباري: بادئَ، بالهمزِ، مَنْ بَدَأَ إِذَا ابْتَدَأَ؛ قَالَ: وانْتِصابُ مَنْ هَمزَ وَلَمْ يَهْمِزْ بالاتِّباع عَلَى مَذهَب المَصدرِ أَي اتَّبَعوكَ اتِّباعًا ظَاهِرًا، أَو اتِّباعًا مُبْتَدأً؛ قَالَ: وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ الْمَعْنَى مَا نَراك اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا فِي ظاهرِ مَا نَرى مِنْهُمْ، وطَوِيَّاتُهم عَلَى خِلافِك وعَلى مُوافَقَتنَا؛ وَهُوَ منْ بَدا يَبْدُو إِذَا ظَهَر.

وَفِي حديثِ الغُلامِ الَّذِي قَتَلَهُ الخَضِرُ: فانْطَلقَ إِلَى أَحَدِهم بادئَ الرَّأْي فَقَتَله.

قَالَ ابنُ الأَثير: أَي فِي أَوَّلِ رأْيٍ رآهُ وابتدائِه، وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ غَيْرَ مَهْمُوزٍ مِنَ البُدُوِّ: الظُّهور أَي فِي ظاهرِ الرَّأْيِ والنَّظَرِ.

قَالُوا افْعَلْهُ بَدءًا وأَوَّلَ بَدْءٍ، عَنْ ثعلبٍ، وبادِيَ بَدْءٍ وباديَ بَدِيٍّ لَا يهمزُ.

قَالَ وَهَذَا نادرٌ لأَنهُ لَيْسَ عَلَى التخفيفِ القياسيِّ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا ذُكِرَ هَاهُنَا.

وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: أَما بادِئَ بَدْءٍ فإنِّي أَحْمَدُ اللهَ، وبادِي بَدأَةَ وبادئَ بداءٍ وَبَدَا بَدْءٍ وبَدْأَةَ بَدْأَةَ وباديَ بَدوٍ وبادِي بَداءٍ أَي أَمَّا بَدْءَ الرأْيِ فَإِنِّي أَحْمَدُ اللهَ.

ورأَيتُ فِي بعضِ أُصول الصحاحِ يقالُ: افْعَلْه بَدْأَةَ ذِي بَدْءٍ وبَدأَةَ ذِي بَدْأَةَ وبَدْأَةَ ذِي بَدِيءٍ وبَدْأَةَ بَديءٍ وبَديءَ بَدْءٍ، عَلَى فَعْل، وبادِئَ بَدِيءٍ، عَلَى فَعِيلٍ، وبادِئَ بَدِئٍ، عَلَى فَعِلٍ، وبَديءَ ذِي بَديءٍ أَي أَوَّلَ أَوَّلَ.

وبدأَ فِي الأَمرِ وعادَ وأَبْدَأَ وأَعادَ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ}.

قَالَ الزَّجَّاجُ: مَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ أَيَّ شيءٍ يُبْدِئُ الباطلُ وأَيَّ شيءٍ يُعِيدُ، وتكونُ مَا نَفْيًا والباطلُ هُنَا إِبْليِسُ، أَي مَا يَخْلُقُ إِبلِيسُ وَلَا يَبْعَثُ، واللهُ جلَّ وعزَّ هُوَ الخالقُ والباعثُ.

وفَعَلَه عَوْدَه عَلَى بَدْئِه وَفِي عَوْدِه وبَدْئِه وَفِي عَوْدَتِه وبَدأَته.

وَتَقُولُ: افْعَلْ ذلكَ عَوْدًا وبَدْءًا وَيُقَالُ: رجَعَ عَوْدَه عَلَى بَدْئِه: إِذا رَجَعَ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّم نَفَّلَ فِي البَدْأَةِ الرُّبُعَ وَفِي الرَّجْعَةِ الثُلثَ»، أَرادَ بالبَدْأَةِ ابتِداءَ سَفَرِ الغَزْوِ وبالرَّجْعةِ القُفُولَ منهُ؛ والمعْنى كانَ إِذا نَهَضَتْ سَرِيَّةٌ مِنْ جُملةِ الْعَسْكَرِ المُقْبِل عَلَى العَدُوّ فأَوْقَعَتْ بطائِفةٍ مِنَ العَدُوّ، فَمَا غَنِمُوا كانَ لهمْ الرُّبُع ويَشْرَكُهُمْ سائِرُ العَسكر فِي ثلاثةِ أَرباعِ مَا غَنِموا، وإِذا فَعَلَتْ ذَلِكَ عِنْدَ عَوْدِ العسكرِ كانَ لهمْ مِنْ جَمِيعِ مَا غَنِمُوا الثُّلث، لأَنَّ الكَرَّةَ الثانِيَةَ أَشَقُّ عَلَيْهِمْ، والخَطَر فِيهَا أَعْظَمُ، وَذَلِكَ لقُوّة الظَّهْرِ عِنْدَ دُخولهم وضَعْفِه عِنْدَ خُروجهم، وهمْ فِي الأَوّلِ أَنْشَطُ وأَشْهى للسَّيْرِ والإِمْعانِ فِي بِلادِ العَدُوّ، وهمْ عِنْدَ القُفُولِ أَضْعَفُ وأَفْترُ وأَشْهَى للرُّجوعِ إِلى أَوْطانهمْ، فزادَهمْ لِذلك.

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: «واللهِ لَقَدْ سَمِعْتُه يَقُولُ: لَيَضْرِبُنَّكُم عَلَى الدِّين عَوْدًا كَمَا ضَرَبْتُموهم عَلَيْهِ بَدْءًا» أَي أَوّلًا، يَعْنِي العَجَمَ والمَوالي.

وَفِي حَديثِ الحُدَيْبِيةِ: يكونُ لَهُمْ بَدءُ الفُجُورِ وثناهُ أَي أَوّلُه وآخِرُه.

ويُقالُ فُلَانٌ مَا يُبدِئُ وَمَا يُعِيدُ أَي مَا يَتَكَلَّمُ ببادِئَةٍ وَلَا عائِدَةٍ.

وَفِي الحديثِ: مَنَعَتِ العِراقُ دِرْهَمها وقَفِيزَها، ومَنَعَتِ الشامُ مُدْيَها ودِينارَها، وَمَنَعَتْ مِصْرُ إِرْدَبَّها، وعُدْتم مِن حيثُ بَدَأْتُمْ.

قالَ ابنُ الأَثيرِ: هَذَا الحديثُ مِنْ مُعْجِزات سيدِنا رسول اللهِ صلى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ، لأَنهُ أَخبر بِمَا لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ فِي عِلم اللهِ كَائِنٌ، فَخرَج لفظُه عَلَى لَفْظِ الماضِي ودَلَّ بهِ عَلَى رِضَاهُ مِنْ عُمَر بنِ الْخَطَّابِ رضيَ اللهُ عَنْهُ بِمَا وَظَّفَه عَلَى الكَفَرةِ مِنَ الجِزْيةِ فِي الْأَمْصَارِ.

وَفِي تَفْسِيرِ المنعِ قَوْلَانِ: أَحدُهما أَنه علِم أَنهم سَيُسْلِمُون ويَسْقُطُ عَنْهُمْ مَا وُظِّفَ عَلَيْهِمْ، فصارُوا لَهُ بِإسلامهم مَانِعِينَ؛ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وعُدْتُم مِن حيثُ بَدَأْتم، لأَنَّ بَدْأَهم، فِي عِلْم اللهِ، أَنهم سَيُسلِمُون، فَعَادُوا مِن حَيْثُ بَدَءُوا.

وَالثَّانِي أَنهم يَخرُجونَ عَنِ الطّاعةِ ويَعْصون الإِمام، فيَمْنَعون مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الوَظائفِ.

والمُدْيُ مِكيالُ أَهلِ الشامِ، والقَفِيزُ لأَهْلِ العِراقِ، والإِرْدَبُّ لأَهْل مِصْرَ.

والابتداءُ فِي العَرُوض: اسْمٌ لِكُلِّ جُزْءٍ يَعْتَلُّ فِي أَوّلِ البيتِ بِعلةٍ لَا يَكُونُ فِي شيءٍ مِنْ حَشْوِ البيتِ كالخَرْم فِي الطَّوِيلِ والوافِرِ والهَزَجِ والمُتقارَب، فإِنَّ هَذِهِ كُلُّهَا يُسَمَّى كلُ واحِدٍ مِنْ أَجْزائِها، إِذا اعْتَلَّ، ابْتِدَاءً، وَذَلِكَ لأَنَّ فَعُولُنْ تُحذف منهُ الفاءُ فِي الابتداءِ، وَلَا تُحْذَفُ الْفَاءُ مِنْ فَعُولُنْ فِي حَشْوِ الْبَيْتِ البتةَ وَكَذَلِكَ أَوّل مُفاعلتن وأَوّل مَفاعيلن يُحذفان فِي أَولِ الْبَيْتِ، وَلَا يُسمى مُسْتَفْعِلُن فِي البسيطِ وَمَا أَشبههُ مِمَّا علَّتُه، كَعِلَّةِ أَجزاءِ حَشوهِ، ابْتِدَاءً، وَزَعْمَ الأَخْفَشُ أَن الْخَلِيلَ جَعَلَ فَاعِلَاتُنْ فِي أَوّلِ المديدِ ابْتِدَاءً؛ قَالَ: ولَم يدرِ الأَخْفَشُ لِمَ جَعَلَ فاعِلاتُن ابْتداءً، وَهِيَ تَكُونُ فَعِلاتن وفاعِلاتن كَمَا تَكُونُ أَجزاءُ الحَشْوِ.

وذهبَ عَلَى الأَخْفَشِ أَنَّ الخَليل جعلَ فاعِلاتُن هُنَا لَيْسَتْ كالحَشو لأَن أَلِفَها تسقُطُ أَبدًا بِلا مُعاقبة، وكُلُّ مَا جَازَ فِي جُزْئهِ الأَوّلِ مَا لَا يَجُوزُ فِي حَشْوِهِ، فَاسْمُهُ الابتداءُ؛ وإِنما سُمِّي مَا وَقَعَ فِي الجزءِ ابْتِدَاءً لابتدائِكَ بِالإِعْلالِ.

وبَدَأَ اللهُ الخَلْقَ بَدْءًا وأَبْدَأَهمْ بِمَعْنَى خَلَقَهم.

وَفِي التنزيل العزيز: {اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ}.

وَفِيهِ {كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ}.

وَقَالَ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}.

وقالَ: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ}؛ فالأَوّل مِنَ البادِئِ وَالثَّانِي منَ المُبْدِئِ وَكلاهُما صِفةٌ للهِ جَلِيلَةٌ.

والبَدِيءُ: المَخْلوقُ.

وبِئرٌ بَدِيءٌ كَبديع، والجمْعُ بُدُؤٌ.

والبَدْءُ والبَدِيءُ: الْبِئْرُ الَّتِي حُفِرت فِي الإِسلام حَدِيثةً وَلَيْسَتْ بعادِيَّةٍ، وتُرِكَ فِيهَا الهمزةُ فِي أَكثرِ كَلَامِهِمْ، وَذَلِكَ أَن يَحْفِر بِئْرًا فِي الأَرْضِ المَواتِ الَّتِي لَا رَبَّ لَهَا.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ المسيَّب: «فِي حَرِيمِ البئرِ البَدِيءِ خَمسٌ وعِشْرونَ ذِراعًا»، يَقُولُ: لَهُ خَمس وَعِشْرُونَ ذِراعًا حَوالَيْها حَرِيمُها، ليسَ لأَحَدٍ أَن يَحْفِرَ فِي تلكَ الخمسِ والعشرينَ بِئْرًا.

وإِنما شُبِّهت هَذِهِ البئرُ بالأَرضِ الَّتِي يُحْيِيها الرجُلُ فَيَكُونُ مالِكًا لَهَا، قَالَ: والقَلِيبُ: البئرُ العادِيَّةُ القَدِيمَةُ الَّتِي لَا يُعلمُ لَهَا رَبٌّ وَلَا حافِرٌ، فَلَيْسَ لأَحدٍ أَن يَنْزِلَ عَلَى خمسينَ ذِرَاعًا مِنْهَا، وَذَلِكَ أَنها لعامَّة النَّاسِ، فإِذا نزَلها نازِلٌ مَنَعَ غَيْرَهُ؛ وَمَعْنَى النُّزولِ أَن لَا يَتَّخِذها دَارًا ويُقِيم عَلَيْهَا، وأَمّا أَن يَكُونَ عابِرَ سَبيلٍ فَلَا.

أَبو عُبَيْدَةَ يُقَالُ للرَّكِيَّةِ: بَدِيءٌ وبَدِيعٌ، إِذَا حَفَرْتها أَنت، فإِن أَصَبْتها قَدْ حُفِرَتْ قبلَك، فَهِيَ خَفِيَّةٌ، وزَمْزَمُ خَفِيَّةٌ لأَنها لإِسمعِيل فاندَفنت، وأَنشَدَ:

«فَصَبَّحَتْ، قَبْلَ أَذانِ الفُرْقانْ، ***تَعْصِبُ أَعْقارَ حِياض البُودانْ»

قَالَ: البُودانُ القُلْبانُ، وَهِيَ الرَّكايا، وَاحِدُهَا بَدِيءٌ؛ قَالَ الأَزهري: وَهَذَا مقلوبٌ، والأَصلُ بُدْيانٌ، فقَدَّمَ الياءَ وجعَلَها وَاوًا؛ والفُرقانُ: الصُّبْحُ، والبَدِيءُ: العَجَبُ، وجاءَ بأَمرٍ بَدِيءٍ، عَلَى فَعِيلٍ، أَيْ عَجيبٍ.

وبَدِيءٌ مِن بَدَأْتُ، والبَدِيءُ: الأَمْرُ البَدِيعُ، وأَبْدَأَ الرَّجُلُ: إِذا جاءَ بهِ، يُقال أَمرٌ بَدِيءٌ.

قالَ عَبِيدُ بْنُ الأَبرَص:

فَلَا بَدِيءٌ وَلَا عَجِيبُ والبَدْءُ: السيِّدُ، وقِيلَ الشَّابُّ المُسْتَجادُ الرأْيِ، المُسْتشَارُ، والجَمْعُ بُدُوءٌ.

والبَدْءُ: السَيِّدُ الأَوَّلُ فِي السِّيادةِ، والثُنْيانُ: الذِي يِليهِ فِي السُّؤْدد.

قالَ أَوْسُ بْنُ مَغْراءَ السَّعْدِيّ:

«ثُنْيانُنا، إِنْ أَتاهُمْ، كانَ بَدْأَهُمُ، ***وبدْؤُهُمْ، إنْ أَتانا، كانَ ثُنْيانا»

والبَدْءُ: المَفصِلُ.

والبَدْءُ: العَظْمُ بِمَا عَليهِ مِنَ اللَّحمِ.

والبَدْءُ: خَيرُ عَظْمٍ فِي الجَزُورِ، وقيلَ خَيْرُ نَصِيبٍ فِي الجَزُور.

والجمْعُ أَبْدَاءٌ وبُدُوءٌ مِثلُ جَفْنٍ وأَجْفانٍ وجُفُونٍ.

قالَ طَرَفةُ بْنُ الْعَبْدِ:

«وهُمُ أَيْسارُ لُقْمانَ، إِذا ***أَغْلَتِ الشَّتْوةُ أَبْداءَ الجُزُرْ»

ويُقالُ: أَهْدَى لهُ بَدْأَةَ الجَزُورِ أَيْ خَيْرَ الأَنصِباءِ، وأَنشَدَ ابنُ السِّكِّيتِ: عَلَى أَيِّ بَدْءٍ مَقْسَمُ اللّحْمِ يُجْعَلُ

والأَبْداءُ: المفَاصِلُ، واحِدُها بَدًى، مقصورٌ، وهو أَيْضًا بَدءٌ، مَهْمُوزٌ، تقدِيرُهُ بَدْعٌ.

وأَبْدَاءُ الجَزُورِ عَشرَةٌ: وَرِكاهَا وفَخِذَاهَا وساقاهَا وكَتِفَاهَا وعَضُداها، وهُمَا أَلأَمُ الجَزُورِ لِكَثرَةِ العُرُوقِ.

والبُدْأَةُ: النَّصِيبُ مِنْ أَنْصِباءِ الجَزُور؛ قالَ النَّمِرُ ابن تَوْلَب:

«فَمَنَحْتُ بُدْأَتَهَا رَقِيبًا جانِحًا، ***والنارُ تَلْفَحُ وَجْهَهُ بأُوَارِها»

وَرَوَى ابنُ الأَعرابيِّ: فمَنَحْتُ بُدَّتَها، وَهِيَ النَّصيبُ، وهوَ مَذْكورٌ فِي مَوْضِعِه؛ وروَى ثَعْلَبٌ رفِيقًا جانِحًا.

وَفِي الصِّحاحِ: البَدْءُ والبَدْأَةُ: النصِيبُ مِنَ الجَزورِ بفَتحِ الباءِ فِيهِمَا؛ وَهَذَا شِعْرُ النَّمِرِ بْنِ تَوْلَبٍ بضمِّها كَمَا ترَى.

وبُدِئَ الرَّجُلُ يُبْدَأُ بَدْءًا فَهُوَ مبْدُوءٌ: جُدِرَ أَوْ حُصِبَ.

قَالَ الكميتُ:

«فكأَنَّما بُدِئَتْ ظواهِرُ جِلْدِهِ، ***ممَّا يُصَافِحُ مِنْ لهِيبِ سُهَامِها»

وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: بُدِئَ الرَّجُلُ يُبْدَأُ بَدْءًا: خَرَجَ بهِ بَثْرٌ شِبْهُ الجُدَرِيِّ؛ ثمَّ قَالَ: قالَ بَعْضُهُمْ هُو الجُدريُّ بِعَيْنِهِ.

ورَجُلٌ مَبْدُوءٌ: خرَج بهِ ذلِك.

وَفِي حديثِ عائِشة رضِي اللَّهُ عَنْهَا أَنها قالتْ: فِي اليومِ الَّذِي بُدِئَ فيهِ رسولُ اللَّهِ صلَّى الله عليهِ وسلَّم، وَا رَأْساه.

قالَ ابنُ الأَثير: يُقالُ مَتَى بُدِئَ فلانٌ أَي مَتَى مَرِضَ؛ قَالَ: ويُسأَلُ بهِ عَنِ الحيِّ والمَيِّتِ.

وبَدَأَ مِنْ أَرضٍ إِلَى أَرضٍ أُخرى وأَبْدأَ: خرَجَ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا إِبْداءً.

وأَبْدأَ الرَّجلُ: كِناية عَنِ النَّجْو، والاسمُ البَداءُ، ممدودٌ.

وأَبْدَأَ الصبيُّ: خَرَجت أَسْنانُهُ بَعْدَ سُقُوطِها.

والبُدْأَةُ: هَنَةٌ سوداءُ كأَنها كَمْءٌ وَلَا يُنتَفَعُ بِهَا، حَكَاهُ أَبو حنيفة.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


138-لسان العرب (غرب)

غرب: الغَرْبُ والمَغْرِبُ: بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

ابْنُ سِيدَهْ: الغَرْبُ خِلافُ الشَّرْق، وَهُوَ المَغْرِبُ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ}؛ أَحدُ المَغْرِبين: أَقْصَى مَا تَنْتَهي إِليه الشمسُ فِي الصَّيْفِ، والآخَرُ: أَقْصَى مَا تَنْتَهِي إِليه فِي الشتاءِ؛ وأَحدُ المَشْرقين: أَقْصى مَا تُشرِقُ مِنْهُ الشمسُ فِي الصَّيْفِ، وأَقْصَى مَا تُشْرِقُ مِنْهُ فِي الشتاءِ؛ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ الأَقْصَى والمَغْربِ الأَدْنى مائةٌ وَثَمَانُونَ مَغْربًا، وَكَذَلِكَ بَيْنَ المَشْرقين.

التَّهْذِيبُ: لِلشَّمْسِ مَشْرِقانِ ومَغْرِبانِ: فأَحدُ مَشْرِقَيْهَا أَقْصَى المَطالع فِي الشتاءِ، والآخَرُ أَقصى مَطالعها فِي القَيْظ، وَكَذَلِكَ أَحدُ مَغْرِبَيْها أَقصى المَغارب فِي الشِّتاءِ، وَكَذَلِكَ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ.

وَقَوْلُهُ جَلَّ ثناؤُه: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ؛ جَمعَ، لأَنه أُريد أَنها تُشْرِقُ كلَّ يومٍ مِنْ مَوْضِعٍ، وتَغْرُبُ فِي مَوْضِعٍ، إِلى انتهاءِ السَّنَةِ.

وَفِي التَّهْذِيبِ: أَرادَ مَشْرِقَ كلِّ يَوْمٍ ومَغْرِبَه، فَهِيَ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ مَشْرقًا، ومائة وثمانون مغْرِبًا.

والغُرُوبُ: غُيوبُ الشَّمْسِ.

غَرَبَتِ الشمسُ تَغْرُبُ غُروبًا ومُغَيْرِبانًا: غابَتْ فِي المَغْرِبِ؛ وَكَذَلِكَ غَرَبَ النجمُ، وغَرَّبَ.

ومَغْرِبانُ الشمسِ: حَيْثُ تَغرُبُ.

وَلَقِيتُهُ مَغرِبَ الشمسِ ومُغَيْرِبانَها ومُغَيرِباناتِها أَي عِنْدَ غُروبها.

وقولُهم: لَقِيتُهُ مُغَيْرِبانَ الشمسِ، صَغَّروه على غير مُكَبَّره، كأَنهم صَغَّرُوا مَغرِبانًا؛ وَالْجَمْعُ: مُغَيْرِباناتُ، كَمَا قَالُوا: مَفارِقُ الرأْس، كأَنهم جَعَلُوا ذَلِكَ الحَيِّز أَجزاءً، كُلَّما تَصَوَّبَتِ الشمسُ ذَهَبَ مِنْهَا جُزْءٌ، فَجَمَعُوه عَلَى ذَلِكَ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَلا إِنَّ مَثَلَ آجالِكُم فِي آجالِ الأُمَمِ قَبْلَكم، كَمَا بَيْنَ صلاةِ العَصْر إِلى مُغَيْربانِ الشَّمْسِ» أَي إِلى وَقتِ مَغِيبها.

والمَغرِبُ فِي الأَصل: مَوْضِعُ الغُروبِ ثُمَّ استُعْمِل فِي الْمَصْدَرِ وَالزَّمَانِ، وقياسُه الْفَتْحُ، وَلَكِنِ استُعْمِل بِالْكَسْرِ كالمَشْرِق والمسجِد.

وَفِي حَدِيثِ أَبي سعيدٍ: «خَطَبَنا رسولُ اللهِ» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى مُغَيربانِ الشمسِ.

والمُغَرِّبُ: الَّذِي يأْخُذُ فِي نَاحِيَةِ المَغْرِبِ؛ قَالَ قَيْسُ بنُ المُلَوّح:

وأَصْبَحْتُ مِنْ لَيلى، الغَداة، كناظِرٍ ***مَعَ الصُّبْح فِي أَعْقابِ نَجْمٍ مُغَرِّبِ

وَقَدْ نَسَبَ المُبَرِّدُ هَذَا البيتَ إِلى أَبي حَيَّةَ النُّمَيْري.

وغَرَّبَ القومُ: ذَهَبُوا فِي المَغْرِبِ؛ وأَغْرَبُوا: أَتَوا الغَرْبَ؛ وتَغَرَّبَ: أَتَى مِنْ قِبَلِ الغَرْب.

والغَرْبيُّ مِنَ الشَّجَرِ: مَا أَصابته الشمسُ بحَرِّها عِنْدَ أُفُولها.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ}.

والغَرْبُ: الذهابُ والتَّنَحِّي عَنِ الناسِ.

وَقَدْ غَرَبَ عَنَّا يَغْرُبُ غَرْبًا، وغَرَّبَ، وأَغْرَبَ، وغَرَّبه، وأَغْرَبه: نَحَّاه.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَر بتَغْريبِ الزَّانِي سَنَةً إِذا لَمْ يُحْصَنْ»؛ وَهُوَ نَفْيُه عَنْ بَلَده.

والغَرْبة والغَرْبُ: النَّوَى والبُعْد، وَقَدْ تَغَرَّب؛ قَالَ سَاعِدَةُ بْنُ جُؤَيَّة يَصِفُ سَحَابًا:

ثُمَّ انْتَهى بَصَري وأَصْبَحَ جالِسًا، ***مِنْه لنَجْدٍ، طَائفٌ مُتَغَرِّبُ

وَقِيلَ: مُتَغَرِّبٌ هُنَا أَي مِنْ قِبَل المَغْرب.

وَيُقَالُ: غَرَّبَ فِي الأَرض وأَغْرَبَ إِذا أَمْعَنَ فِيهَا؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

أَدْنَى تَقاذُفِه التَّغْريبُ والخَبَبُ

ويُروى التَّقْريبُ.

ونَوًى غَرْبةٌ: بَعِيدَةٌ.

وغَرْبةُ النَّوى: بُعْدُها؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

وشَطَّ وليُ النَّوَى، إِنَّ النَّوَى قُذُفٌ، ***تَيَّاحةٌ غَرْبةٌ بالدَّارِ أَحْيانا

النَّوَى: المكانُ الَّذِي تَنْوي أَنْ تَأْتِيَه فِي سَفَرك.

ودارُهم غَرْبةٌ: نائِيَةٌ.

وأَغْرَبَ القومُ: انْتَوَوْا.

وشَأْوٌ مُغَرِّبٌ ومُغَرَّبٌ، بِفَتْحِ الراءِ: بَعِيدٌ؛ قَالَ الْكُمَيْتُ:

عَهْدَك مِنْ أُولَى الشَّبِيبةِ تَطْلُبُ ***عَلَى دُبُرٍ، هيهاتَ شَأْوٌ مُغَرِّبُ

وَقَالُوا: هَلْ أَطْرَفْتَنا مِنْ مُغَرِّبةِ خَبَرِ؟ أَي هَلْ مِنْ خَبَر جاءَ مِنْ بُعْدٍ؟ وَقِيلَ إِنما هُوَ: هَلْ مِنْ مُغَرِّبةِ خَبَرٍ؟ وَقَالَ يَعْقُوبُ إِنما هُوَ: هَلْ جاءَتْك مُغَرِّبةُ خَبَرٍ؟ يَعْنِي الخَبَر الَّذِي يَطْرَأُ عَلَيْكَ مِنْ بلَدٍ سوَى بلدِك.

وَقَالَ ثَعْلَبٌ: مَا عِنْدَه مِنْ مُغَرِّبةِ خَبرٍ، تَسْتَفْهِمُه أَو تَنْفِي ذَلِكَ عَنْهُ أَي طَريفةٌ.

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنه قَالَ لِرَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ بَعْضِ الأَطْرافِ: هَلْ مِنْ مُغَرِّبةِ خَبَر؟»أَي هَلْ مِنْ خبَرٍ جديدٍ جاءَ مِنْ بلدٍ بعيدٍ؟ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: يُقَالُ بِكَسْرِ الراءِ وَفَتْحِهَا، مَعَ الإِضافة فِيهِمَا.

وَقَالَهَا الأُمَوِيُّ، بِالْفَتْحِ، وأَصله فِيمَا نُرَى مِنَ الغَرْبِ، وَهُوَ البُعْد؛ وَمِنْهُ قِيلَ: دارُ فلانٍ غَرْبةٌ.

والخبرُ المُغْرِبُ: الَّذِي جاءَ غَرِيبًا حَادِثًا طَرِيفًا.

والتغريبُ: النفيُ عَنِ الْبَلَدِ.

وغَرَبَ أَي بَعُدَ؛ وَيُقَالُ: اغْرُبْ عَنِّي أَي تباعَدْ؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «أَنه أَمَرَ بتَغْريبِ الزَّانِي»؛ التغريبُ: النفيُ عَنِ الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَتِ الجِنايةُ فِيهِ.

يُقَالُ: أَغرَبْتُه وغَرَّبْتُه إِذا نَحَّيْتَه وأَبْعَدْتَه.

والتَّغَرُّبُ: البُعْدُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن رَجُلًا قَالَ لَهُ: إِنَّ امرأَتي لَا تَرُدُّ يدَ لامِس، فَقَالَ: غرِّبْها»أَي أَبْعِدْها؛ يريدُ الطَّلَاقَ.

وغَرَّبَت الكلابُ: أَمْعَنَتْ فِي طَلَبِ الصَّيْدِ.

وغَرَّبه وغَرَّبَ عَلَيْهِ: تَرَكه بُعْدًا.

والغُرْبةُ والغُرْب: النُّزوحُ عَنِ الوَطَن والاغْتِرابُ؛ قَالَ المُتَلَمِّسُ:

أَلا أَبْلِغا أَفناءَ سَعدِ بْنِ مالكٍ ***رِسالةَ مَن قَدْ صَارَ، فِي الغُرْبِ، جانِبُهْ

والاغْتِرابُ والتغرُّب كَذَلِكَ؛ تَقُولُ مِنْهُ: تَغَرَّبَ، واغْتَرَبَ، وَقَدْ غَرَّبه الدهرُ.

وَرَجُلٌ غُرُب، بِضَمِّ الْغَيْنِ وَالرَّاءِ، وغريبٌ: بَعِيدٌ عَنْ وَطَنِه؛ الْجَمْعُ غُرَباء، والأُنثى غَريبة؛ قَالَ:

إِذا كَوْكَبُ الخَرْقاءِ لاحَ بسُحْرةٍ ***سُهَيْلٌ، أَذاعَتْ غَزْلَها فِي الغَرائبِ

أَي فَرَّقَتْه بَيْنَهُنَّ؛ وَذَلِكَ أَن أَكثر مَنْ يَغْزِل بالأُجرة، إِنما هِيَ غريبةٌ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الغُرباء، فَقَالَ: الَّذِينَ يُحْيُونَ مَا أَماتَ الناسُ مِنْ سُنَّتِي».

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: إِنّ الإِسلامَ بَدأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدأَ، فطوبَى للغُرباءِ؛ أَي إِنه كَانَ فِي أَوّلِ أَمْرِه كالغريبِ الوحيدِ الَّذِي لَا أَهل لَهُ عِنْدَهُ، لِقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ؛ وسيعودُ غَرِيبًا كَمَا كَانَ أَي يَقِلُّ الْمُسْلِمُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَيَصِيرُونَ كالغُرباء، فطُوبى للغُرَباء؛ أَي الجنةُ لأُولئك الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي أَوّل الإِسلام، وَيَكُونُونَ فِي آخِرِهِ؛ وإِنما خَصَّهم بِهَا لصبْرهم عَلَى أَذى الْكُفَّارِ أَوَّلًا وَآخِرًا، ولُزومهم دينَ الإِسلام.

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ:

أُمَّتِي كَالْمَطَرِ، لَا يُدْرَى أَوَّلُها خَيْرٌ أَو آخِرُها.

قَالَ: وَلَيْسَ شيءٌ مِنَ هَذِهِ الأَحاديث مُخَالِفًا لِلْآخَرِ، وإِنما أَراد أَن أَهلَ الإِسلام حِينَ بَدأَ كَانُوا قَلِيلًا، وَهُمْ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَقِلُّون إِلَّا أَنهم خيارٌ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الحديثُ الْآخَرُ: خِيارُ أُمَّتِي أَوَّلُها وآخِرُها، وَبَيْنَ ذَلِكَ ثَبَجٌ أَعْوَجُ لَيْسَ منكَ ولَسْتَ مِنْهُ.

ورَحَى اليدِ يُقال لَهَا: غَريبة، لأَنّ الْجِيرَانَ يَتعاورُونها بَيْنَهُمْ؛ وأَنشد بعضُهم:

كأَنَّ نَفِيَّ مَا تَنْفي يَداها، ***نَفِيُّ غريبةٍ بِيَدَيْ مُعِينِ

والمُعينُ: أَن يَسْتعينَ المُدير بِيَدِ رَجُلٍ أَو امرأَة، يَضَعُ يَدَهُ عَلَى يَدِهِ إِذا أَدارها.

واغْتَرَبَ الرجلُ: نَكَح فِي الغَرائبِ، وتَزَوَّجَ إِلى غَيْرِ أَقاربه.

وَفِي الْحَدِيثِ: «اغْتَرِبُوا لَا تُضْوُوا»أَي لَا يَتَزَوَّجُ الرجلُ الْقَرَابَةَ القريبةَ، فيجيءَ ولدُه ضاوِيًّا.

والاغْتِرابُ: افتِعال مِنَ الغُرْبة؛ أَراد: تَزَوَّجُوا إِلى الْغَرَائِبِ مِنَ النساءِ غَيْرِ الأَقارب، فإِنه أَنْجَبُ للأَولاد.

وَمِنْهُ حَدِيثُ المُغِيرة: وَلَا غريبةٌ نَجِيبةٌ أَي إِنها مَعَ كَوْنِهَا غَرِيبَةً، فإِنها غيرُ نَجيبةِ الأَولاد.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنّ فِيكُمْ مُغَرِّبين»؛ قِيلَ: وَمَا مُغَرِّبون؟ قَالَ: الَّذِينَ يَشترِكُ فِيهِمُ الجنُ؛ سُمُّوا مُغَرِّبين لأَنه دَخَلَ فِيهِمْ عِرْقٌ غريبٌ، أَو جاؤُوا مِنْ نَسَبٍ بَعِيدٍ؛ وَقِيلَ: أَراد بِمُشَارَكَةِ الْجِنِّ فِيهِمْ أَمْرَهم إِياهم بِالزِّنَا، وتحسينَه لَهُمْ، فَجَاءَ أَولادُهم عَنْ غَيْرِ رِشْدة، وَمِنْهُ قولُه تعالى: {وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ}.

ابْنُ الأَعرابي: التغريبُ أَن يأْتي ببنينَ بِيضٍ، والتغريبُ أَن يأْتِيَ ببَنينَ سُودٍ، والتغريبُ أَن يَجْمَعَ الغُرابَ، وَهُوَ الجَلِيدُ والثَّلْج، فيأْكلَه.

وأَغْرَبَ الرجلُ: صَارَ غَرِيبًا؛ حَكَاهُ أَبو نَصْرٍ.

وقِدْحٌ غريبٌ: لَيْسَ مِنَ الشَّجَرِ الَّتِي سائرُ القِداحِ مِنْهَا.

وَرَجُلٌ غريبٌ: لَيْسَ مِنَ الْقَوْمِ؛ ورجلٌ غريبٌ وغُرُبٌ أَيضًا، بِضَمِّ الْغَيْنِ والراءِ، وَتَثْنِيَتُهُ غُرُبانِ؛ قَالَ طَهْمانُ بْنُ عَمْرو الكِلابيّ:

وإِنيَ والعَبْسِيَّ، فِي أَرضِ مَذْحِجٍ، ***غَريبانِ، شَتَّى الدارِ، مُخْتلِفانِ

وَمَا كَانَ غَضُّ الطَّرْفِ منا سَجِيَّةً، ***ولكننا فِي مَذْحِجٍ غُرُبانِ

والغُرباءُ: الأَباعِدُ.

أَبو عَمْرٍو: رَجُلٌ غَريبٌ وغَربيٌّ وشَصِيبٌ وطارِيٌّ وإِتاويٌّ، بِمَعْنًى.

والغَريبُ: الغامِضُ مِنَ الْكَلَامِ؛ وكَلمة غريبةٌ، وَقَدْ غَرُبَتْ، وَهُوَ مِنْ ذَلِكَ.

وَفَرَسٌ غَرْبٌ: مُتَرامٍ بِنَفْسِهِ، مُتَتابعٌ فِي حُضْره، لَا يُنْزِعُ حَتَّى يَبْعَدَ بِفَارِسِهِ.

وغَرْبُ الفَرَسِ: حِدَّتُه، وأَوَّلُ جَرْيِه؛ تَقُولُ: كفَفْتُ مِنْ غَرْبه؛ قَالَ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ:

والخَيْلُ تَمْزَعُ غرْبًا فِي أَعِنَّتِها، ***كالطَّيْرِ يَنْجُو مِنَ الشُّؤبُوبِ ذِي البَرَدِ

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صوابُ إنشادِهِ: والخيلَ، بِالنَّصْبِ، لأَنه مَعْطُوفٌ عَلَى الْمِائَةَ مِنْ قَوْلِهِ:

الواهِبِ المائةَ الأَبْكارَ زَيَّنَها، ***سَعْدانٌ تُوضِحَ، فِي أَوبارِها اللِّبَدِ

والشُّؤْبُوبُ: الدَّفْعةُ مِنَ المَطر الَّذِي يَكُونُ فِيهِ البَرَدُ.

والمَزْعُ: سُرْعةُ السَّيْر.

والسَّعْدانُ: تَسْمَنُ عَنْهُ الإِبل، وتَغْزُر أَلبانُها، ويَطِيبُ لَحْمُهَا.

وتُوضِحُ: مَوْضِعٌ.

واللِّبَدُ: مَا تَلَبَّدَ مِنَ الوَبر، الواحدةُ لِبْدَة، التَّهْذِيبُ: يُقَالُ كُفَّ مِنْ غَرْبك أَي مِنْ حِدَّتك.

والغَرْبُ: حَدُّ كلِّ شَيْءٍ، وغَرْبُ كلِّ شيءٍ حَدُّه؛ وَكَذَلِكَ غُرابه.

وفرسٌ غَرْبٌ: كثيرُ العَدْوِ؛ قَالَ لبِيد:

غَرْبُ المَصَبَّةِ، مَحْمودٌ مَصارِعُه، ***لَاهِي النَّهارِ لسَيْرِ الليلِ مُحْتَقِرُ

أَراد بِقَوْلِهِ غرْبُ المَصَبَّة: أَنه جَوَادٌ، واسِعُ الخَيْر والعَطاء عِنْدَ المَصَبَّة أَي عِنْدَ إِعْطاءِ الْمَالِ، يُكْثِرُه كَمَا يُصَبُّ الماءُ.

وعينٌ غَرْبةٌ: بعيدةُ المَطْرَح.

وإِنه لغَرْبُ العَين أَي بعيدُ مَطْرَح الْعَيْنِ؛ والأُنثى غَربةُ الْعَيْنِ؛ وإِياها عَنَى الطِّرمَّاحُ بِقَوْلِهِ:

ذَاكَ أَمْ حَقْباءُ بَيْدانَةٌ، ***غَرْبةُ العَيْنِ جَهادُ المَسَامْ

وأَغْرَبَ الرجلُ: جاءَ بشيءٍ غَرِيبٍ.

وأَغْرَب عَلَيْهِ، وأَغْرَب بِهِ: صَنَع بِهِ صُنْعًا قَبِيحًا.

الأَصمعي: أَغْرَب الرجلُ فِي مَنْطِقِه إِذا لَمْ يُبْقِ شَيْئًا إِلَّا تَكَلَّمَ

بِهِ.

وأَغْرَبَ الفرسُ فِي جَرْيه: وَهُوَ غَايَةُ الْإِكْثَارِ.

وأَغْرَبَ الرجلُ إِذا اشْتَدَّ وجَعُه مِنْ مرضٍ أَو غَيْرِهِ.

قَالَ الأَصمعي وَغَيْرُهُ: وكُلُّ مَا وَاراك وسَتَرك، فَهُوَ مُغْرِبٌ؛ وَقَالَ سَاعِدَةُ الهُذَليُّ:

مُوَكَّلٌ بسُدُوف الصَّوْم، يُبْصِرُها ***مِنَ المَغارِبِ، مَخْطُوفُ الحَشَا، زَرِمُ

وكُنُسُ الوَحْش: مَغارِبُها، لِاسْتِتَارِهَا بِهَا.

وعَنْقاءُ مُغْرِبٌ ومُغْرِبةٌ، وعَنْقاءُ مُغْرِبٍ، عَلَى الإِضافة، عَنْ أَبي عَلِيٍّ: طائرٌ عَظِيمٌ يَبْعُدُ فِي طَيرانه؛ وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الأَلفاظِ الدالةِ عَلَى غَيْرِ مَعْنًى.

التَّهْذِيبُ: والعَنْقاءُ المُغْرِبُ؛ قَالَ: هَكَذَا جاءَ عَنِ العَرَب بِغَيْرِ هَاءٍ، وَهِيَ الَّتِي أَغْرَبَتْ فِي البلادِ، فَنَأَتْ وَلَمْ تُحَسَّ وَلَمْ تُرَ.

وَقَالَ أَبو مَالِكٍ: العَنْقاءُ المُغْرِبُ رأْسُ الأَكمَة فِي أَعْلى الجَبَل الطَّوِيلِ؛ وأَنْكر أَن يَكُونَ طَائِرًا؛ وأَنشد:

وَقَالُوا: الْفَتَى ابنُ الأَشْعَرِيَّةِ، حَلَّقَتْ، ***بِهِ، المُغْرِبُ العَنْقاءُ، إِنْ لَمْ يُسَدَّدِ

وَمِنْهُ قَالُوا: طارَتْ بِهِ العَنْقاءُ المُغْرِبُ؛ قَالَ الأَزهري: حُذفت هَاءُ التأْنيث مِنْهَا، كَمَا قَالُوا: لِحْيةٌ ناصِلٌ، وَنَاقَةٌ ضَامِرٌ، وامرأَة عَاشِقٌ.

وَقَالَ الأَصمعي: أَغْرَبَ الرجلُ إِغرابًا إِذا جاءَ بأَمر غَرِيبٍ.

وأَغْرَبَ الدابَّةُ إِذا اشْتَدَّ بياضُه، حَتَّى تَبْيَضَّ مَحاجِرُه وأَرْفاغُه، وَهُوَ مُغْرِبٌ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «طارتْ بِهِ عَنْقاءُ مُغْرِبٌ»أَي ذَهَبَتْ بِهِ الداهيةُ.

والمُغْرِبُ: المُبْعِدُ فِي الْبِلَادِ.

وأَصابه سَهْمُ غَرْبٍ وغَرَبٍ إِذا كَانَ لَا يَدْري مَن رَماه.

وَقِيلَ: إِذا أَتاه مِن حيثُ لَا يَدْرِي؛ وَقِيلَ: إِذا تَعَمَّد بِهِ غيرَه فأَصابه؛ وَقَدْ يُوصَف بِهِ، وَهُوَ يسكَّن وَيُحَرَّكُ، وَيُضَافُ وَلَا يُضَافُ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ والأَصمعي: بِفَتْحِ الراءِ؛ وَكَذَلِكَ سَهْمُ غَرَضٍ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن رَجُلًا كَانَ واقِفًا مَعَهُ فِي غَزاةٍ، فأَصابَه سَهْمُ غَرْبٍ»أَي لَا يُعْرَفُ رَامِيهِ؛ يُقَالُ: سَهْمُ غَرْبٍ وسهمٌ غَربٌ، بِفَتْحِ الراءِ وَسُكُونِهَا، بالإِضافة وَغَيْرِ الإِضافة؛ وَقِيلَ: هُوَ بِالسُّكُونِ إِذا أَتاه مِن حيثُ لَا يَدْرِي، وَبِالْفَتْحِ إِذا رَمَاهُ فأَصاب غَيْرِهِ.

قَالَ ابْنُ الأَثير وَالْهَرَوِيُّ: لَمْ يَثْبُتْ عَنِ الأَزهري إِلا الْفَتْحُ.

والغَرْبُ والغَرْبة: الحِدَّةُ.

وَيُقَالُ لِحَدِّ السَّيْفِ: غَرْبٌ.

وَيُقَالُ: فِي لِسَانِهِ غَرْبٌ أَي حِدَّة.

وغَرْبُ اللسانِ: حِدَّتُه.

وسيفٌ غَرْبٌ: قَاطِعٌ حَدِيدٌ؛ قَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ سَيْفًا:

غَرْبًا سَرِيعًا فِي العِظامِ الخُرْسِ وَلِسَانٌ غَرْبٌ: حَديدٌ.

وغَرْبُ الْفَرَسِ: حِدَّتُه.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَكَر الصِّدِّيقَ، فَقَالَ: «كانَ واللهِ بَرًّا تَقِيًّا يُصَادَى غَرْبُه»؛ وَفِي رِوَايَةٍ:

يُصَادَى مِنْهُ غَرْبٌ؛ الغَرْبُ: الحِدَّةُ؛ وَمِنْهُ غَرْبُ السَّيْفِ؛ أي كانَتْ تُدَارَى حِدَّتُه وتُتَّقَى؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ عُمَرَ: فَسَكَّنَ مِنْ غَرْبه؛ وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، قَالَتْ عَنْ زَيْنَبُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كُلُّ خِلالِها مَحْمودٌ، مَا خَلا سَوْرَةً مِنْ غَرْبٍ، كَانَتْ فِيهَا؛ وَفِي حَدِيثِ الحَسَن: سُئل عَنِ القُبلة لِلصَّائِمِ، فَقَالَ: إِني أَخافُ عَلَيْكَ غَرْبَ الشَّباب؛ أي حِدَّته.

والغَرْبُ: النَّشاط والتَّمادِي.

واسْتَغْرَب فِي الضَّحِك، واسْتُغْرِبَ: أَكْثَرَ مِنْهُ.

وأَغْرَبَ: اشْتَدَّ ضَحِكُه ولَجَّ فِيهِ.

واسْتَغْرَبَ عَلَيْهِ الضحكُ، كَذَلِكَ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه ضَحِكَ حَتَّى استَغْرَبَ»أَي بالَغَ فِيهِ.

يُقال: أَغْرَبَ فِي ضَحِكه، واسْتَغْرَبَ، وكأَنه مِنَ الغَرْبِ البُعْدِ؛

وَقِيلَ: هُوَ القَهْقهة.

وَفِي حَدِيثِ الْحَسَنِ: «إِذا اسْتَغْرَب الرجلُ ضَحِكًا فِي الصَّلَاةِ، أَعادَ الصلاةَ»؛ قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبي حَنِيفَةَ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِ إِعادةَ الْوُضُوءِ.

وَفِي دُعاءِ ابنِ هُبَيْرَة: أَعُوذُ بِكَ مِنْ كُلِّ شيطانٍ مُسْتَغْرِبٍ، وكُلِّ نَبَطِيٍّ مُسْتَعْرِبٍ؛ قَالَ الحَرْبيُّ: أَظُنُّه الَّذِي جاوَزَ القَدْرَ فِي الخُبْثِ، كأَنه مِنَ الاسْتِغْراب فِي الضَّحِك، وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ بِمَعْنَى المُتَناهِي فِي الحِدَّةِ، مِنَ الغَرْبِ: وَهِيَ الحِدَّةُ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

فَمَا يُغْرِبُونَ الضَّحْكَ إِلَّا تَبَسُّمًا، ***وَلَا يَنْسُبُونَ القولَ إِلَّا تَخَافِيَا

شَمِرٌ: أَغْرَبَ الرجلُ إِذا ضَحِكَ حَتَّى تَبْدُوَ غُروبُ أَسْنانه.

والغَرْبُ: الرَّاوِيَةُ الَّتِي يُحْمَلُ عَلَيْهَا الْمَاءُ.

والغَرْبُ: دَلْو عَظِيمَةٌ مِنْ مَسكِ ثَوْرٍ، مُذَكَّرٌ، وجمعهُ غُروبٌ.

الأَزهري، اللَّيْثُ: الغَرْبُ يومُ السَّقْيِ؛ وأَنشد:

فِي يَوْمِ غَرْبٍ، وماءُ الْبِئْرِ مُشْتَرَكُ

قَالَ: أُراه أَراد بِقَوْلِهِ فِي يَوْمِ غَربٍ أَي فِي يَوْمٍ يُسْقَى فِيهِ بالغَرْبِ، وَهُوَ الدَّلْوُ الْكَبِيرُ، الَّذِي يُسْتَقَى بِهِ عَلَى السَّانِيَةِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:

فصَرَفْتُ قَصْرًا، والشُّؤُونُ كأَنها ***غَرْبٌ، تَخُبُّ بِهِ القَلُوصُ، هَزِيمُ

وَقَالَ اللَّيْثُ: الغَرْبُ، فِي بَيْتِ لبيدٍ: الرَّاوية، وإِنما هُوَ الدَّلْو الكبيرةُ.

وَفِي حَدِيثِ الرُّؤْيَا: «فأَخَذَ الدَّلْوَ عُمَرُ، فاسْتَحالَتْ فِي يَدِه غَرْبًا»؛ الغَرْبُ، بِسُكُونِ الراءِ: الدَّلْوُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي تُتَّخَذُ مِنْ جلدِ ثَوْرٍ، فإِذا فَتَحْتَ الرَّاءَ، فَهُوَ الْمَاءُ السَّائِلُ بَيْنَ الْبِئْرِ وَالْحَوْضِ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: وَمَعْنَاهُ أَن عُمَرَ لَمَّا أَخذ الدَّلْوَ لِيَسْتَقِيَ عَظُمَتْ فِي يَدِهِ، لأَن الفُتُوح كَانَ فِي زمنه أَكْثَرَ منه فِي زَمَنِ أَبي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.

وَمَعْنَى اسْتَحالَتْ: انقلبتْ عَنِ الصِّغَر إِلى الكِبَر.

وَفِي حَدِيثِ الزَّكَاةِ: «وَمَا سُقِيَ بالغَرْبِ»، فَفِيهِ نِصْفُ العُشْر.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَوْ أَنَّ غَرْبًا مِنْ جَهَنَّمَ جُعِلَ فِي الأَرض، لَآذَى نَتْنُ رِيحِه وشِدَّة حَرِّه مَا بَيْنَ المَشْرق وَالْمَغْرِبِ».

والغَرْبُ: عِرْقٌ فِي مَجْرَى الدَّمْع يَسْقِي وَلَا يَنْقَطِع، وَهُوَ كالناسُور؛ وَقِيلَ: هُوَ عرقٌ فِي الْعَيْنِ لَا يَنْقَطِعُ سَقْيُه.

قَالَ الأَصمعي: يُقَالُ: بِعَيْنِهِ غَرْبٌ إِذا كانت تسيل، وَلَا تَنْقَطع دُمُوعُها.

والغَرْبُ: مَسِيلُ الدَّمْع، والغَرْبُ: انْهِمالُه مِنَ الْعَيْنِ.

والغُرُوبُ: الدُّموع حِينَ تَخْرُجُ مِنَ الْعَيْنِ؛ قَالَ:

مَا لكَ لَا تَذْكُر أُمَّ عَمْرو، ***إِلَّا لعَيْنَيْكَ غُروبٌ تَجْرِي

واحِدُها غَرْبٌ.

والغُروبُ أَيضًا: مَجارِي الدَّمْعِ؛ وَفِي التَّهْذِيبِ: مَجارِي العَيْنِ.

وَفِي حَدِيثِ الْحَسَنِ: «ذَكَر ابنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: كَانَ مِثَجًّا يَسِيلُ غَرْبًا».

الغَرْبُ: أَحدُ الغُرُوبِ، وَهِيَ الدُّمُوع حِينَ تَجْرِي.

يُقال: بعينِه غَرْبٌ إِذا سالَ دَمْعُها، وَلَمْ ينقطعْ، فشَبَّه بِهِ غَزَارَة عِلْمِهِ، وأَنه لَا يَنْقَطِعُ مَدَدُه وجَرْيُه.

وكلُّ فَيْضَة مِنَ الدَّمْع: غَرْبٌ؛ وَكَذَلِكَ هِيَ مِنَ الْخَمْرِ.

واسْتَغْرَبَ الدمعُ: سَالَ.

وغَرْبَا الْعَيْنِ: مُقْدِمُها ومُؤْخِرُها.

وَلِلْعَيْنِ غَرْبانِ: مُقْدِمُها ومُؤْخِرُها.

والغَرْبُ: بَثْرة تَكُونُ فِي الْعَيْنِ، تُغِذُّ وَلَا تَرْقأُ.

وغَرِبَت العينُ غَرَبًا: وَرِمَ مَأْقُها.

وَبِعَيْنِهِ غَرَبٌ إِذا كَانَتْ تَسِيلُ، فَلَا تَنْقَطِعُ دُموعُها.

والغَرَبُ، مُحَرَّك: الخَدَرُ فِي الْعَيْنِ، وَهُوَ السُّلاقُ.

وغَرْبُ الْفَمِ: كثرةُ ريقِه وبَلَلِه؛ وَجَمْعُهُ: غُرُوبٌ.

وغُروبُ الأَسنانِ: مَناقِعُ ريقِها؛ وَقِيلَ: أَطرافُها وحِدَّتُها وماؤُها؛ قَالَ عَنترة:

إِذْ تَستَبِيكَ بِذي غُروبٍ واضِحٍ، ***عَذْبٍ مُقَبَّلُه، لَذِيذ المَطْعَمِ

وغُروبُ الأَسنانِ: الماءُ الَّذِي يَجرِي عَلَيْهَا؛ الْوَاحِدُ: غَرْبٌ.

وغُروبُ الثَّنايا: حدُّها وأُشَرُها.

وَفِي حَدِيثِ النَّابِغَةِ: «تَرِفُّ غُروبُه»؛ هِيَ جَمْعُ غَرْب، وَهُوَ مَاءُ الْفَمِ، وحِدَّةُ الأَسنان.

والغَرَبُ: الماءُ الَّذِي يَسِيلُ مِنَ الدَّلْو؛ وَقِيلَ: هُوَ كلُّ مَا انصَبَّ مِنَ الدَّلْوِ، مِنْ لَدُنْ رأْسِ الْبِئْرِ إِلى الحوضِ.

وَقِيلَ: الغَرَبُ الماءُ الَّذِي يَقْطُر مِنَ الدِّلاءِ بَيْنَ الْبِئْرِ وَالْحَوْضِ، وَتَتَغَيَّرُ ريحُه سَرِيعًا؛ وَقِيلَ: هُوَ مَا بَيْنَ الْبِئْرِ وَالْحَوْضِ، أَو حَوْلَهُما مِنَ الماءِ وَالطِّينِ؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

وأُدْرِكَ المُتَبَقَّى مِنْ ثَميلَتِه، ***وَمِنْ ثَمائِلها، واسْتُنشِئَ الغَرَبُ

وَقِيلَ: هُوَ رِيحُ الْمَاءِ وَالطِّينِ لأَنه يَتَغَيَّرُ ريحُهُ سَرِيعًا.

وَيُقَالُ للدَّالج بَيْنَ الْبِئْرِ والحوْض: لَا تُغْرِبْ أَي لَا تَدْفُقِ الماءَ بَيْنَهُمَا فتَوْحَل.

وأَغْرَبَ الحَوضَ والإِناءَ: ملأَهما؛ وَكَذَلِكَ السِّقاءَ؛ قَالَ بِشْر بْنُ أَبي خازِم:

وكأَنَّ ظُعْنَهُمُ، غَداةَ تَحَمَّلُوا، ***سُفُنٌ تَكَفَّأُ فِي خَليجٍ مُغْرَبِ

وأَغربَ السَّاقِي إِذا أَكثر الغَرْبَ.

والإِغرابُ: كثرةُ الْمَالِ، وحُسْنُ الْحَالِ مِنْ ذَلِكَ، كأَنَّ المالَ يَمْلأُ يَدَيْ مالِكِه، وحُسنَ الْحَالِ يَمْلأُ نفسَ ذِي الْحَالِ؛ قَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ العِبادِيّ:

أَنتَ مِمَّا لَقِيتَ، يُبْطِرُكَ الإِغرابُ ***بالطَّيشِ، مُعْجَبٌ مَحبُورُ

والغَرَبُ: الخَمْرُ؛ قَالَ:

دَعِيني أَصْطَبِحْ غَرَبًا فأُغْرِبْ ***مَعَ الفِتيانِ، إِذ صَبَحوا، ثُمُودا

والغَرَبُ: الذَّهَبُ، وَقِيلَ: الفضَّة؛ قَالَ الأَعشى:

إِذا انْكَبَّ أَزْهَرُ بَيْنَ السُّقاة، ***تَرامَوْا بِهِ غَرَبًا أَو نُضارا

نَصَبَ غَرَبًا عَلَى الْحَالِ، وإِن كَانَ جَوْهرًا، وَقَدْ يَكُونُ تَمْيِيزًا.

وَيُقَالُ الغَرَب: جامُ فِضَّةٍ؛ قَالَ الأَعشى:

فَدَعْدَعا سُرَّةَ الرَّكاءِ، كَمَا ***دَعْدَعَ سَاقِي الأَعاجِمِ الغَرَبا

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: هَذَا البيت لِلَبِيدٍ، وَلَيْسَ للأَعشى، كَمَا زَعَمَ الْجَوْهَرِيُّ، والرَّكاء، بِفَتْحِ الراءِ: مَوْضِعٌ؛ قَالَ: ومِن الناسِ مَن يَكْسِرُ الرَّاءَ، وَالْفَتْحُ أَصح.

وَمَعْنَى دَعدَعَ: مَلأَ.

وصَفَ ماءَينِ التَقَيا مِنَ السَّيل، فَمَلَآ سُرَّة الرَّكاء كَمَا ملأَ سَاقِي الأِعاجمِ قَدَحَ الغَرَب خمْرًا؛ قَالَ: وأَما بَيْتُ الأَعشى الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الغَرَبُ بِمَعْنَى الْفِضَّةِ فَهُوَ قَوْلُهُ:

تَرامَوا بِهِ غَرَبًا أَو نُضارا والأَزهر: إِبريقٌ أَبيضُ يُعْمَلُ فِيهِ الخمرُ، وانكبابُه إِذا صُبَّ مِنْهُ فِي القَدَح.

وتَراميهم بالشَّراب: هُوَ مُناوَلةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا أَقداحَ الخَمْر.

والغَرَبُ:

الْفِضَّةُ.

والنُّضارُ: الذَّهَبُ.

وَقِيلَ: الغَرَبُ والنُّضار: ضَرْبَانِ مِنَ الشَّجَرِ تُعمل مِنْهُمَا الأَقْداحُ.

التَّهْذِيبُ: الغَرْبُ شَجَرٌ تُسَوَّى مِنْهُ الأَقْداحُ البِيضُ؛ والنُّضار: شَجَرٌ تُسَوَّى مِنْهُ أَقداح صُفْر، الواحدةُ: غَرْبَةٌ، وَهِيَ شَجَرة ضَخْمةٌ شَاكَّةٌ خَضراءُ، وَهِيَ الَّتِي يُتَّخَذُ مِنْهَا الكُحَيلُ، وَهُوَ القَطِرانُ، حِجازية.

قَالَ الأَزهري: والأَبهَلُ هُوَ الغَرْبُ لأَنَّ القَطِرانَ يُسْتَخْرَجُ مِنْهُ.

ابْنُ سِيدَهْ: والغَرْبُ، بِسُكُونِ الراءِ: شَجَرَةٌ ضَخْمة شَاكَّةٌ خَضْراءُ حِجازِيَّة، وَهِيَ الَّتِي يُعْمَلُ مِنْهَا الكُحيلُ الَّذِي تُهْنأُ بِهِ الإِبلُ، واحِدَتُه غَرْبة.

والغَرْبُ: القَدَح، وَالْجَمْعُ أَغْراب؛ قَالَ الأَعشى:

باكَرَتْهُ الأَغْرابُ فِي سِنَةِ النَّوْمِ، ***فتَجْري خِلالَ شَوْكِ السَّيالِ

ويُروى باكَرَتْها.

والغَرَبُ: ضَرْبٌ مِنَ الشَّجَرِ، وَاحِدَتُهُ غَرَبَةٌ؛ قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ؛ وأَنشد:

عُودُكَ عُودُ النُّضارِ لَا الغَرَبُ

قَالَ: وَهُوَ اسْبِيدْدارْ، بِالْفَارِسِيَّةِ.

والغَرَبُ: دَاءٌ يُصِيبُ الشاةَ، فيتَمَعَّط خُرْطُومُها، ويَسْقُطُ مِنْهُ شَعَرُ العَين؛ والغَرَبُ فِي الشَّاةِ: كالسَّعَفِ فِي النَّاقَةِ؛ وَقَدْ غَرِبَت الشاةُ، بِالْكَسْرِ.

والغارِبُ: الكاهِلُ مِنَ الخُفِّ، وَهُوَ مَا بَيْنَ السَّنام والعُنُق، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: حَبْلُكِ عَلَى غارِبكِ.

وَكَانَتِ العربُ إِذا طَلَّقَ أَحدُهم امرأَته، فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ لَهَا: حَبْلُك عَلَى غارِبك أَي خَلَّيتُ سَبِيلَكِ، فاذْهَبي حيثُ شِئْتِ.

قَالَ الأَصمعي: وَذَلِكَ أَنَّ النَّاقَةَ إِذا رَعَتْ وَعَلَيْهَا خِطامُها، أُلْقِيَ عَلَى غارِبها وتُرِكَتْ لَيْسَ عَلَيْهَا خِطام، لأَنها إِذا رأَت الخِطامَ لَمْ يُهْنِها المَرْعى.

قَالَ: مَعْنَاهُ أَمْرُكِ إِلَيكِ، اعمَلي مَا شِئْتِ.

والغارِب: أَعْلى مُقَدَّم السَّنام، وإِذا أُهْمِلَ البعيرُ طُرِحَ حَبلُه عَلَى سَنامه، وتُرِكَ يَذْهَبُ حَيْثُ شاءَ.

وَتَقُولُ: أَنتَ مُخَلًّى كَهَذَا الْبَعِيرِ، لَا يُمْنَعُ مِنْ شيءٍ، فَكَانَ أَهل الْجَاهِلِيَّةِ يُطَلِّقونَ بِهَذَا.

وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ ليَزيدَ بْنِ الأَصَمِّ: «رُمِيَ بِرَسَنِك عَلَى غارِبك»أَي خُلِّيَ سَبِيلُك، فَلَيْسَ لَكَ أَحدٌ يَمْنَعُكَ عَمَّا تُرِيدُ؛ تَشْبيهًا بِالْبَعِيرِ يُوضَعُ زِمامُه عَلَى ظهرِه، ويُطْلَقُ يَسرَح أَين أَراد فِي المرْعى.

وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ فِي كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ: حَبْلُكِ عَلَى غارِبِك أَي أَنتِ مُرْسَلةٌ مُطْلَقة، غَيْرُ مَشْدُودَةٍ وَلَا مُمْسَكة بعَقْدِ النِّكَاحِ.

والغارِبانِ: مُقَدَّمُ الظهْر ومُؤَخَّرُه.

وغَوارِبُ الماءِ: أَعاليه؛ وَقِيلَ: أَعالي مَوْجِه؛ شُبِّهَ بغَوارِبِ الإِبل.

وَقِيلَ: غاربُ كلِّ شيءٍ أَعْلاه.

اللَّيْثُ: الغارِبُ أَعْلى المَوْج، وأَعلى الظَّهر.

والغارِبُ: أَعلى مُقَدَّمِ السَّنام.

وبعيرٌ ذُو غارِبَين إِذا كَانَ مَا بَينَ غارِبَيْ سَنامِه مُتَفَتِّقًا، وأَكثرُ مَا يَكُونُ هَذَا فِي البَخاتِيِّ الَّتِي أَبوها الفالِجُ وأُمها عَرَبِيَّةٌ.

وَفِي حَدِيثِ الزُّبَيْرِ: «فَمَا زَالَ يَفْتِلُ فِي الذِّرْوَةِ والغارِب حَتَّى أَجابَتْه عائشةُ إِلى الخُروج».

الغاربُ: مُقَدَّمُ السَّنام؛ والذِّرْوَةُ أَعلاه.

أَراد: أَنه مَا زَالَ يُخادِعُها ويَتَلطَّفُها حَتَّى أَجابَتهُ؛ والأَصل فِيهِ: أَن الرَّجُلُ إِذا أَراد أَن يُؤَنِّسَ البعيرَ الصَّعْبَ، لِيَزُمَّه ويَنْقاد لَهُ، جَعَل يُمِرُّ يَدَه عَلَيْهِ، ويَمسَحُ غاربَه، ويَفتِلُ وبَرَه حَتَّى يَسْتَأْنِسَ، ويَضَعَ فِيهِ الزِّمام.

والغُرابانِ: طَرَفا الوَرِكَينِ الأَسْفَلانِ اللَّذان يَلِيانِ أَعالي الفَخِذَين؛ وَقِيلَ: هُمَا رُؤُوس الوَرِكَين، وأَعالي فُرُوعهما؛ وَقِيلَ: بَلْ هُمَا عَظْمانِ رَقيقانِ أَسفل مِنَ الفَراشة.

وَقِيلَ: هُمَا عَظْمانِ شاخصانِ، يَبْتَدّانِ الصُّلْبَ.

والغُرابانِ، مِنَ الفَرس وَالْبَعِيرِ: حَرفا الوَرِكينِ الأَيْسَرِ والأَيمنِ، اللَّذانِ فوقَ الذَّنَب، حَيْثُ التَقَى رأْسا الوَرِكِ اليُمْنى واليُسْرى، وَالْجَمْعُ غِربانٌ؛ قَالَ الرَّاجِزُ:

يَا عَجَبا للعَجَبِ العُجابِ، ***خَمْسَةُ غِرْبانٍ عَلَى غُرابِ

وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

وقَرَّبْنَ بالزُّرْقِ الحَمائلَ، بَعْد مَا ***تَقَوَّبَ، عَنْ غِرْبان أَوْراكها، الخَطْرُ

أَراد: تَقَوَّبَتْ غِرْبانُها عَنِ الخَطْرِ، فَقَلَبَهُ لأَن الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ؛ كَقَوْلِكَ: لَا يَدْخُلُ الخاتَمُ فِي إِصْبَعِي أَي لَا يَدْخُلُ إِصْبَعي فِي خاتَمي.

وَقِيلَ: الغِرْبانُ أَوْراكُ الإِبل أَنْفُسها؛ أَنشد ابْنُ الأَعرابي:

سأَرْفَعُ قَوْلًا للحُصَينِ ومُنْذِرٍ، ***تَطِيرُ بِهِ الغِرْبانُ شَطْرَ المَواسم

قَالَ: الغِرْبانُ هُنَا أَوْراكُ الإِبِلِ أَي تَحْمِلُه الرواةُ إِلى الْمَوَاسِمِ.

والغِرْبانُ: غِرْبانُ الإِبِلِ، والغُرابانِ: طَرَفا الوَرِك، اللَّذانِ يَكونانِ خَلْفَ القَطاةِ؛ وَالْمَعْنَى: أَن هَذَا الشِّعْرَ يُذْهَبُ بِهِ عَلَى الإِبِل إِلى المَواسم، وَلَيْسَ يُرِيدُ الغِربانَ دونَ غيرِها؛ وَهَذَا كَمَا قَالَ الْآخَرُ:

وإِنَّ عِتاقَ العِيسِ، سَوْفَ يَزُورُكُمْ ***ثَنائي، عَلَى أَعْجازِهِنَّ مُعَلَّقُ

فَلَيْسَ يُرِيدُ الأَعجاز دُونَ الصُّدور.

وَقِيلَ: إِنما خصَّ الأَعْجازَ والأَوْراكَ، لأَنَّ قائِلَها جَعل كِتابَها فِي قَعْبَةٍ احْتَقَبها، وشدَّها عَلَى عَجُز بَعِيرِهِ.

والغُرابُ: حَدُّ الوَرك الَّذِي يَلِي الظهْرَ.

والغُرابُ: الطائرُ الأَسْوَدُ، وَالْجَمْعُ أَغْرِبة، وأَغْرُبٌ، وغِرْبانٌ، وغُرُبٌ؛ قَالَ:

وأَنْتُم خِفافٌ مِثْلُ أَجْنحةِ الغُرُبْ

وغَرابِينُ: جمعُ الْجَمْعِ.

وَالْعَرَبُ تَقُولُ: فلانٌ أَبْصَرُ مِنْ غُرابٍ، وأَحْذَرُ مِنْ غُرابٍ، وأَزْهَى مِنْ غُرابٍ، وأَصْفَى عَيْشًا مِنْ غُرابٍ، وأَشدُّ سَوَادًا مِنْ غُرابٍ.

وإِذا نَعَتُوا أَرْضًا بالخِصْبِ، قَالُوا: وَقَعَ فِي أَرْضٍ لَا يَطِير غُرابُها.

وَيَقُولُونَ: وجَدَ تَمْرَةَ الغُرابِ؛ وَذَلِكَ أَنه يتَّبِعُ أَجودَ التَّمْر فيَنْتَقِيه.

وَيَقُولُونَ: أَشْأَمُ مِنْ غُرابٍ، وأَفْسَقُ مِنْ غُراب.

وَيَقُولُونَ: طارَ غُرابُ فلانٍ إِذا شَابَ رأْسُه؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ:

ولمَّا رَأَيْتُ النَّسْرَ عَزَّ ابنَ دَايةٍ أَراد بابْنِ دايةٍ الغُرابَ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه غيَّرَ اسمَ غُرابٍ، لمَا فِيهِ مِنَ البُعْدِ، ولأَنه مِنْ أَخْبَث الطُّيور».

وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، لَمَّا نَزَلَ قولُه تعالى: « {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ}: فأَصْبَحْنَ عَلَى رؤوسِهِنَّ الغِرْبانُ».

شَبَّهَتِ الخُمُرَ فِي سَوَادِهَا بالغِرْبان، جَمْعِ غُراب؛ كَمَا قَالَ الْكُمَيْتُ:

كغِرْبانِ الكُروم الدوالِجِ وَقَوْلُهُ:

زَمانَ عَليَّ غُرابٌ غُدافٌ، ***فطَيَّرَهُ الشَّيْبُ عنِّي فَطَارَا

إِنما عَنى بِهِ شِدَّةَ سوادِ شَعَرِهِ زمانَ شَبابِه.

وَقَوْلُهُ:

فَطَيَّرَه الشَّيْبُ، لَمْ يُرِدْ أَن جَوْهَرَ الشَّعر زَالَ، لَكِنَّهُ أَراد أَنّ السَّوادَ أَزالَه الدهرُ فبَقِي الشعرُ مُبْيَضًّا.

وغُرابٌ غاربٌ، عَلَى الْمُبَالَغَةِ، كَمَا قَالُوا: شِعْرٌ شاعِرٌ، ومَوتٌ مائِتٌ؛ قَالَ رُؤْبَةُ:

فازْجُرْ مِنَ الطَّيرِ الغُرابَ الغارِبا

والغُرابُ: قَذالُ الرأْس؛ يُقَالُ: شابَ غُرابُه أَي شَعَرُ قَذالِه.

وغُرابُ الفأْسِ: حَدُّها؛ وَقَالَ الشَّمّاخ يَصِفُ رَجُلًا قَطَعَ نَبْعةً:

فأَنْحَى، عَلَيْهَا ذاتَ حَدٍّ، غُرابُها ***عَدُوٌّ لأَوْساطِ العِضاهِ، مُشارِزُ

وفأْسٌ حديدةُ الغُرابِ أَي حديدةُ الطَّرَف.

والغرابُ: اسْمُ فرسٍ لغَنِيٍّ، عَلَى التَّشْبِيهِ بالغُرابِ مِنَ الطَّيرِ.

ورِجْلُ الغُراب: ضَرْبٌ مِنْ صَرِّ الإِبلِ شديدٌ، لَا يَقْدِرُ الفَصِيلُ عَلَى أَن يَرْضَعَ مَعَهُ، وَلَا يَنْحَلُّ.

وأَصَرَّ عَلَيْهِ رِجْلَ الغرابِ: ضاقَ عَلَيْهِ الأَمْرُ؛ وَكَذَلِكَ صَرَّ عليه رِجلَ الغُرابِ؛ قَالَ الكُمَيْتُ:

صَرَّ، رِجْلَ الغُرابِ، مُلْكُكَ في الناسِ ***عَلَى مَنْ أَرادَ فِيهِ الفُجُورا

وَيُرْوَى: صُرَّ رِجْلَ الغُراب مُلْكُكَ

.

ورجلَ الغرابِ: مُنْتَصِبٌ عَلَى المَصْدَر، تَقْدِيرُهُ صَرًّا، مِثْلَ صَرِّ رِجْلِ الْغُرَابِ.

وإِذا ضاقَ عَلَى الإِنسان معاشُه قِيلَ: صُرَّ عَلَيْهِ رِجْلُ الغُرابِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

إِذا رِجْلُ الغُرابِ عليَّ صُرَّتْ، ***ذَكَرْتُكَ، فاطْمأَنَّ بيَ الضَّمِيرُ

وأَغرِبةُ العَرَبِ: سُودانُهم، شُبِّهوا بالأَغْرِبَةِ فِي لَوْنِهِم.

والأَغْرِبَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: عَنْترةُ، وخُفافُ بْنُ نُدْبَةَ السُّلَمِيُّ، وأَبو عُمَيرِ بنُ الحُبابِ السُّلَمِيُّ أَيضًا، وسُلَيْكُ بنُ السُّلَكَةِ، وهشامُ بنُ عُقْبة بنِ أَبي مُعَيْطٍ، إِلا أَنَّ هِشَامًا هَذَا مُخَضْرَمٌ، قَدْ وَلِيَ فِي الإِسلام.

قَالَ ابْنُ الأَعرابي: وأَظُنُّهُ قَدْ وَلِيَ الصائفَةَ وبعضَ الكُوَر؛ وَمِنَ الإِسلاميين: عبدُ اللَّهِ بنُ خَازِمٍ، وعُمَيْرُ بنُ أَبي عُمَير بنِ الحُبابِ السُّلَمِيُّ، وهمّامُ بنُ مُطَرِّفٍ التَّغْلَبِيّ، ومُنْتَشِرُ بنُ وَهْبٍ الباهِليُّ، ومَطَرُ بْنُ أَوْفى المازِنيّ، وتأَبَّطَ شَرًّا، والشّنْفَرَى، وحاجِزٌ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: كُلُّ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ الأَعرابي.

قَالَ: وَلَمْ يَنْسُبْ حَاجِزًا هَذَا إِلى أَب وَلَا أُم، وَلَا حيٍّ وَلَا مكانٍ، وَلَا عَرَّفَه بأَكثر مِنْ هَذَا.

وَطَارَ غرابُها بجَرادتِكَ: وَذَلِكَ إِذا فَاتَ الأَمْرُ، وَلَمْ يُطْمَعْ فِيهِ؛ حكاهُ ابنُ الأَعرابي.

وأَسودُ غُرابيٌّ وغِرْبيبٌ: شديدُ السوادِ؛ وقولُ بِشْر بْنُ أَبي خَازِمٍ:

رأَى دُرَّة بَيْضاءَ، يَحْفِلُ لَوْنَها ***سُخامٌ، كغِرْبانِ البَريرِ، مُقَصَّبُ

يَعْنِي بِهِ النَّضِيجَ مِنْ ثَمَر الأَراك.

الأَزهري: وغُرابُ البَرِيرِ عُنْقُودُه الأَسْوَدُ، وَجَمْعُهُ غِرْبانٌ، وأَنشد بَيْتَ بِشْرُ بْنُ أَبي خَازِمٍ؛ وَمَعْنَى يَحْفِلُ لَوْنَها: يَجْلُوه؛ والسُّخَامُ: كُلُّ شيءٍ لَيِّن مِنْ صُوفٍ، أَو قُطْنٍ، أَو غَيْرِهِمَا، وأَراد بِهِ شِعْرَهَا؛ والمُقَصَّبُ: المُجَعَّدُ.

وإِذا قُلْتَ: غَرابيبُ سُودٌ، تَجْعَلُ السُّودَ بَدَلًا مِنْ غَرابيب لِأَن تَوْكِيدَ الأَلوان لَا يتقدَّم.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِن اللَّهَ يُبْغِضُ الشيخَ الغِرْبِيبَ»؛ هوالشديدُ السَّوَادِ، وجمعُه غَرابيبُ؛ أَراد الَّذِي لَا يَشيبُ؛ وَقِيلَ: أَراد الَّذِي يُسَوِّدُ شَيْبَه.

والمَغارِبُ: السُّودانُ.

والمَغارِبُ: الحُمْرانُ.

والغِرْبِيبُ: ضَرْبٌ مِنَ العِنَب بِالطَّائِفِ، شديدُ السَّوادِ، وَهُوَ أَرَقُّ العِنَب وأَجْوَدُه، وأَشَدُّه سَوادًا.

والغَرَبُ: الزَّرَقُ فِي عَيْنِ الفَرس مَعَ ابْيضاضِها.

وعينٌ مُغْرَبةٌ: زَرْقاءُ، بيضاءُ الأَشْفارِ والمَحاجِر، فإِذا ابْيَضَّتْ الحَدَقةُ، فَهُوَ أَشدُّ الإِغرابِ.

والمُغْرَبُ: الأَبيضُ؛ قَالَ مُعَاوية الضَّبِّيُّ:

فَهَذَا مَكاني، أَو أَرَى القارَ مُغْرَبًا، ***وَحَتَّى أَرَى صُمَّ الجبالِ تَكَلَّمُ

وَمَعْنَاهُ: أَنه وَقَعَ فِي مَكَانٍ لَا يَرْضاه، وَلَيْسَ لَهُ مَنْجًى إِلّا أَن يَصِيرَ القارُ أَبيضَ، وَهُوَ شِبه الزِّفْتِ، أَو تُكَلِّمَه الجبالُ، وَهَذَا مَا لَا يَكُونُ وَلَا يَصِحُّ وُجُودُهُ عَادَةً.

ابْنُ الأَعرابي: الغُرْبةُ بَيَاضٌ صِرْفٌ، والمُغْرَبُ مِنَ الإِبل: الَّذِي تَبْيَضُّ أَشْفارُ عَيْنَيْه، وحَدَقَتاه، وهُلْبُه، وكلُّ شَيْءٍ مِنْهُ.

وَفِي الصِّحَاحِ: المُغْرَبُ الأَبيضُ الأَشْفارِ مِنْ كُلِّ شيءٍ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

شَرِيجَانِ مِنْ لَوْنَيْنِ خِلْطانِ، مِنْهُمَا ***سَوادٌ، وَمِنْهُ واضِحُ اللَّوْنِ مُغْرَبُ

والمُغْرَبُ مِنَ الخَيل: الَّذِي تَتَّسِعُ غُرَّتُه فِي وجهِه حَتَّى تُجاوِزَ عَيْنَيْه.

وَقَدْ أُغْرِبَ الفرسُ، عَلَى مَا لَمْ يُسمَّ فَاعِلُهُ، إِذا أَخَذَتْ غُرَّتُه عَيْنَيْهِ، وابْيَضَّت الأَشفارُ؛ وَكَذَلِكَ إِذا ابيضتْ مِنَ الزَّرَق أَيضًا.

وَقِيلَ: الإِغرابُ بياضُ الأَرْفاغ، مِمَّا يَلي الخاصرةَ.

وَقِيلَ: المُغْرَب الَّذِي كلُّ شَيْءٍ مِنْهُ أَبيضُ، وَهُوَ أَقْبَحُ الْبَيَاضِ.

والمُغْرَبُ: الصُّبْح لِبَيَاضِهِ، والغُرابُ: البَرَدُ، لِذَلِكَ.

وأُغْرِبَ الرجلُ: وُلِدَ لَهُ وَلدٌ أَبيضُ.

وأُغْرِبَ الرجلُ إِذا اشْتَدَّ وَجَعُه؛ عَنِ الأَصمعي: والغَرْبِيُّ: صِبْغٌ أَحْمَرُ.

والغَرْبيُّ: فَضِيخُ النبيذِ.

وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: الغَرْبِيُّ يُتَّخَذُ مِنَ الرُّطَب وَحْده، وَلَا يَزال شارِبُه مُتَماسِكًا، مَا لَمْ تُصِبْه الريحُ، فإِذا بَرَزَ إِلى الهواءِ، وأَصابتْه الريحُ، ذَهَبَ عقلُه؛ وَلِذَلِكَ قَالَ بعضُ شُرَّابه:

إِنْ لَمْ يكنْ غَرْبِيُّكُم جَيِّدًا، ***فنحنُ باللهِ وبالرِّيحِ

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «اخْتُصِمَ إِليه فِي مَسيلِ المَطَر، فَقَالَ: المَطَرُ غَرْبٌ، والسَّيْلُ شَرْقٌ»؛ أَراد أَن أَكثر السَّحاب يَنْشَأُ مِنْ غَرْبِ القِبْلَة، والعَيْنُ هُنَاكَ، تَقُولُ العربُ: مُطِرْنا بالعَيْن إِذا كَانَ السحابُ نَاشِئًا مِنْ قِبْلة العِراق.

وَقَوْلُهُ:

والسَّيْل شَرْقٌ

، يُرِيدُ أَنه يَنْحَطُّ مِنْ ناحيةِ المَشْرِقِ، لأَن ناحيةَ الْمَشْرِقِ عاليةٌ، وَنَاحِيَةَ الْمَغْرِبِ مُنْحَطَّة، قَالَ ذَلِكَ القُتَيْبي؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: وَلَعَلَّهُ شَيْءٌ يَخْتَصُّ بِتِلْكَ الأَرض، الَّتِي كَانَ الخِصام فِيهَا.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يزالُ أَهلُ الغَرْبِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ»؛ قِيلَ: أَراد بِهِمْ أَهلَ الشَّامِ، لأَنهم غَرْبُ الْحِجَازِ؛ وَقِيلَ: أَراد بِالْغَرْبِ الحِدَّةَ والشَّوْكَةَ، يُرِيدُ أَهلَ الْجِهَادِ؛ وَقَالَ ابْنُ الْمَدَائِنِيِّ: الغَرْبُ هُنَا الدَّلْوُ، وأَراد بِهِمُ العَرَبَ لأَنهم أَصحابها، وَهُمْ يَسْتَقُون بِهَا.

وَفِي حَدِيثِ الْحَجَّاجِ: «لأَضْرِبَنَّكم ضَرْبةَ غَرائبِ الإِبلِ»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبه لنَفْسه مَعَ رَعِيَّتِهِ يُهَدِّدُهم، وَذَلِكَ أَن الإِبل إِذا وَرَدَتِ الْمَاءَ، فدَخَلَعَلَيْهَا غَريبةٌ مِنْ غَيْرِهَا، ضُرِبَتْ وطُرِدَتْ حَتَّى تَخْرُجَ عَنْهَا.

وغُرَّبٌ: اسْمُ مَوْضِعٍ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ:

فِي إِثْرِ أَحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لِغُرَّبِ

ابْنُ سِيدَهْ: وغُرَّبٌ: بِالتَّشْدِيدِ، جَبَلٌ دُونَ الشَّامِ، فِي بِلَادِ بَنِي كَلْبٍ، وَعِنْدَهُ عَيْنُ مَاءٍ يُقَالُ لَهَا: الغُرْبة، والغُرُبَّةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


139-لسان العرب (حتت)

حتت: الحَتُّ: فَرْكُكَ الشيءَ اليابسَ عَنِ الثَّوْب، وَنَحْوِهِ.

حَتَّ الشيءَ عَنِ الثَّوْبِ وَغَيْرِهِ يَحُتُّه حَتًّا: فَركَه وقَشَره، فانْحَتَّ وتَحاتَّ؛ واسمُ مَا تَحاتَّ مِنْهُ: الحُتاتُ، كالدُّقاقِ، وَهَذَا الْبِنَاءُ مِنَ الْغَالِبِ عَلَى مِثْلِ هَذَا وعامَّتِه الهاءُ.

وكلُّ مَا قُشِرَ، فَقَدْ حُتَّ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه قَالَ لامرأَة سأَلته عَنِ الدَّمِ يُصيب ثَوبَها، فَقَالَ لَهَا: حُتِّيه وَلَوْ بضِلَعٍ»؛ مَعْنَاهُ: حُكِّيه وأَزِيليه.

والضِّلَعُ: العُودُ.

والحَتُّ والحَكُّ والقَشْرُ سَوَاءٌ؛ وَقَالَ الشَّاعِرُ:

وَمَا أَخَذَ الدِّيوانَ، حَتَّى تَصَعْلَكا ***زَمانًا، وحَتَّ الأَشْهبانِ غِناهُما

حَتَّ: قَشَر وحَكَّ.

وتَصَعْلَك: افْتَقَر.

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ: «أَنَّ أَسْلَمَ كانَ يأْتيه بِالصَّاعِ مِنَ التَّمْر، فَيَقُولُ: حُتَّ عَنْهُ قِشْرَه»أَي اقْشِرْه؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ كَعْب: يُبْعَثُ مِنْ بَقِيعِ الغَرْقَدِ سَبْعُونَ أَلفًا، هُمْ خِيارُ مَن يَنْحَتُّ عَنْ خَطْمه المَدَرُ

أَي يَنْقَشِرُ ويَسْقُط عَنْ أُنوفهم المَدَرُ، وَهُوَ التُّراب.

وحُتاتُ كُلّ شَيْءٍ: مَا تَحاتَّ مِنْهُ؛ وأَنشد:

تَحُتُّ بِقَرنَيْها بَرِيرَ أَراكةٍ، ***وتَعْطُو بِظِلْفَيْها، إِذا الغُصْنُ طالَها

والحَتُّ دُونَ النَّحْت.

قَالَ شَمِرٌ: تَرَكْتُهم حَتًّا فَتًّا بَتًّا إِذا اسْتَأْصَلْتَهم.

وَفِي الدُّعاء: تَرَكَه اللَّهُ حَتًّا فَتًّا لَا يَمْلأُ كَفًّا أَي مَحْتُوتًا أَو مُنْحَتًّا.

والحَتُّ، والانْحِتاتُ، والتَّحاتُّ، والتَّحَتْحُتُ: سُقوطُ الْوَرَقِ عَنِ الغُصن وَغَيْرِهِ.

والحَتُوتُ مِنَ النَّخْلِ: الَّتِي يَتَناثَرُ بُسْرُها، وَهِيَ شَجَرَةٌ مِحْتاتٌ مِنْثارٌ.

وتَحاتَّ الشيءُ أَي تَناثَرَ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «ذاكرُ اللَّهِ فِي الغافِلينَ مَثَلُ الشَّجرة الخَضْراء وَسَطَ الشَّجَر الَّذِي تَحاتَّ وَرَقُه مِنَ الضَّريبِ»؛ أَي تَساقَطَ.

والضَّريبُ: الصَّقِيعُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «تَحاتَّتْ عَنْهُ ذُنُوبه»أَي تَساقَطَتْ.

والحَتَتُ: دَاءٌ يُصيب الشَّجَرَ، تَحاتُّ أَوراقُها مِنْهُ.

وانْحَتَّ شَعَرُه عَنْ رأْسه، وانْحَصَّ إِذا تَساقَطَ.

والحَتَّةُ: القَشْرَةُ.

وحَتَّ اللَّهُ مَالَهُ حَتًّا: أَذْهَبَه، فأَفْقَره، عَلَى الْمِثْلِ.

وأَحَتَّ الأَرْطى: يَبِسَ.

والحَتُّ: العَجلَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ.

وحَتَّه مائةَ سَوْطٍ: ضَربَه وعَجَّلَ ضَرْبَه.

وحَتَّه دَرَاهِمَهُ: عَجَّل لَهُ النَّقْدَ.

وَفَرَسٌ حَتٌّ: جَواد سَرِيعٌ، كَثِيرُ العَدْو؛ وَقِيلَ: سريعُ العَرَقِ، وَالْجَمْعُ أَحْتاتٌ، لَا يُجاوَزُ بِهِ هَذَا البناءُ.

وبَعِير حَتٌّ وحَتْحَتٌ: سريعُ السَّيْرِ خفيفٌ، وَكَذَلِكَ الظَّلِيمُ؛ وَقَالَ الأَعْلم بْنُ عَبْدِ اللَّه الْهُذَلِيُّ:

عَلَى حَتِّ البُرايةِ، زمْخَرِيِّ السَواعِدِ، ***ظَلَّ فِي شَرْيٍ طِوالِ

وإِنما أَراد حَتًّا عِنْدَ البُرايةِ أَي سَريع عند ما يَبْريه مِنَ السَّفَر؛ وَقِيلَ: أَرادَ حَتَّ البَرْيِ، فَوَضَعَ الاسمَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ؛ وَخَالَفَ قَوْمٌ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ تَفْسِيرَ هَذَا الْبَيْتِ، فَقَالُوا: يَعْنِي بَعِيرًا، فَقَالَ الأَصمعي: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ، وَهُوَ يَقُولُ قَبْلَهُ:

كأَنَّ مُلاءَتَيَّ عَلَى هِجَفٍّ، ***يَعِنُّ مَعَ العَشِيَّةِ للرِّئالِ؟

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَعِنْدِي أَنه إِنما هُوَ ظَلِيمٌ، شَبَّه بِهِ فَرَسَه أَو بعيرَه، أَلا تَراه قَالَ: هِجَفٍّ، وَهَذَا مِنْ صِفَةِ الظَّلِيمِ، وَقَالَ: ظَلَّ فِي شَرْيٍ طِوالِ، والفرسُ أَو البَعِيرُ لَا يأْكلانِ الشَّرْيَ، إِنما يَهْتَبِدُه النَّعامُ، وَقَوْلُهُ: حَتِّ البُراية، لَيْسَ هُوَ مَا ذَهَبَ إِليه مِنْ قَوْلِهِ: إِنه سَرِيعٌ عند ما يَبْريه مِنَ السَّفَر، إِنما هُوَ مُنْحَتُّ الرِّيشِ لِمَا يَنْفُضُ عَنْهُ عِفاءَه مِنَ الرَّبِيعِ، ووَضَع الْمَصْدَرَ الَّذِي هُوَ الحَتُّ موضعَ الصِّفَةِ الَّذِي هُوَ المُنْحَتُّ؟ والبُراية: النُّحاتةُ.

وزَمْخَريُّ السَّواعِدِ: طويلُها.

والحَتُّ: السريعُ أَي هُوَ سَرِيعٌ عِنْدَمَا بَرَاهُ السَّيْرُ.

والشَّرْيُ: شجرُ الحَنْظلِ، وَاحِدَتُهُ شَرْيَة.

وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: الشَّرْيُ شَجَرٌ تُتَّخذ مِنْهُ القِسيُّ؛ قَالَ: وَقَوْلُهُ ظَلَّ فِي شَرْيٍ طِوالِ، يُريد أَنهنَّ إِذا كُنَّ طِوالًا سَتَرْته فَزَادَ اسْتِيحاشُه، وَلَوْ كُنَّ قِصارًا لَسَرَّح بَصَرَه، وطابَتْ نفسُه، فَخَفَّضَ عَدْوَهُ.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قَالَ الأَصمعي: شَبَّه فَرَسَهُ فِي عَدْوه وهَرَبِه بِالظَّلِيمِ، واسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ:

كأَنَّ مُلاءَتَيَّ عَلَى هِجَفٍ قَالَ: وَفِي أَصل النُّسْخَةِ شَبَّه نَفْسَه فِي عَدْوه، قَالَ: وَالصَّوَابُ شَبَّه فَرسَه.

والحَتْحَتَةُ: السُّرْعة.

والحَتُّ أَيضًا: الْكَرِيمُ العَتِيقُ.

وحَتَّه عَنِ الشَّيْءِ يَحُتُّه حَتًّا: رَدَّهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه قَالَ لسَعْدٍ يَوْمَ أُحُدٍ: احْتُتْهم يَا سَعْدُ، فِداك أَبي وأُمي»؛ يَعْنِي ارْدُدْهم.

قَالَ الأَزهري: إِن صَحَّت هَذِهِ اللفظةُ، فَهِيَ مأْخوذة مِنْ حَتَّ الشيءَ، وَهُوَ قَشْرُه شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وحَكُّه.

والحَتُّ: القَشْر.

والحَتُّ: حَتُّكَ الورقَ مِنَ الغُصْن، والمَنِيَّ مِنَ الثَّوْبِ وَنَحْوُهُ.

وحَتُّ الجَراد: مَيِّته.

وَجَاءَ بتَمْرٍ حَتٍّ: لَا يَلْتَزِق بعضُه بِبَعْضٍ.

والحُتاتُ مِنْ أَمراض الإِبل: أَن يأْخُذَ البعيرَ هَلْسٌ، فَيَتَغَيَّرُ لَحمُه وطَرْقُه ولَوْنُه، ويَتَمعَّطُ شَعَرُه؛ عَنِ الهَجَرِيِّ.

والحَتُّ: قَبِيلَةٌ مِنْ كِنْدَةَ، يُنْسَبون إِلى بَلَدٍ، لَيْسَ بأُمّ وَلَا أَب؛ وأَما قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:

فإِنكَ واجِدٌ دُونِي صُعُودًا، ***جَراثِيمَ الأَقارِع والحُتاتِ

فيَعْني بِهِ حُتاتَ بنَ زيْدٍ المُجاشِعيَّ؛ وأَورد هَذَا اللَّيْثُ فِي تَرْجَمَةِ قَرَع، وَقَالَ: الحُتاتُ بِشْرُ بْنُ عَامِرِ بْنِ عَلْقمة.

وحَتِّ: زَجْرٌ لِلطَّيْرِ.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وحَتَّى حرف من حروف الجر كإِلى، وَمَعْنَاهُ الْغَايَةُ، كَقَوْلِكَ: سِرْتُ اليومَ حَتَّى الليلِ أَي إِلى اللَّيْلِ، وَتَدْخُلُ عَلَى الأَفعال الْآتِيَةِ فَتَنْصِبُهَا بإِضمار أَن، وَتَكُونُ عَاطِفَةً؛ وَقَالَ الأَزهري: قَالَ النَّحْوِيُّونَ حَتَّى تَجِيءُ لِوَقْتٍ مُنْتَظَر، وَتَجِيءُ بِمَعْنَى إِلى، وأَجمعوا أَنَّ الإِمالة فِيهَا غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ، وَكَذَلِكَ فِي عَلَى؛ ولِحَتى فِي الأَسماء والأَفعال أَعمالٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَلَمْ يُفَسِّرْهَا فِي هَذَا الْمَكَانِ؛ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَتَّى فَعْلى مِنَ الحَتِّ، وَهُوَ الفَراغُ مِنَ الشَّيْءِ، مِثْلُ شَتَّى مِنَ الشَّتِّ؛ قَالَ الأَزهري: وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مِمَّا يُعَرَّجُ عَلَيْهِ، لأَنها لَوْ كَانَتْ فَعْلى مِنَ الحتِّ، كَانَتِ الإِمالةُ جَائِزَةً، وَلَكِنَّهَا حرفُ أَداةٍ، وَلَيْسَتْ بِاسْمٍ، وَلَا فِعْلٍ؛ وقالَ الْجَوْهَرِيُّ: حَتَّى فَعْلى، وَهِيَ حَرْفٌ، تَكُونُ جارَّةً بِمَنْزِلَةِ إِلى فِي الِانْتِهَاءِ وَالْغَايَةِ، وَتَكُونُ عَاطِفَةً بِمَنْزِلَةِ الْوَاوِ، وَقَدْ تَكُونُ حَرْفَ ابْتِدَاءٍ، يُسْتأْنف بِهَا الكلامُ بَعْدَهَا؛ كَمَا قَالَ جَرِيرٌ يَهْجُو الأَخْطل، وَيَذْكُرُ إِيقاع الجَحَّافِ بِقَوْمِهِ:

فَمَا زَالَتِ القَتْلى تَمُجُّ دماءَها ***بدِجْلَةَ، حَتَّى ماءُ دِجْلةَ أَشْكَلُ

لَنَا الفَضلُ فِي الدُّنيا، وأَنْفُكَ راغِمٌ، ***ونحنُ لَكُمْ، يومَ القيامةِ، أَفْضَلُ

والشَّكَلُ: حُمْرة فِي بَيَاضٍ؛ فإِن أَدخلتها عَلَى الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ، نَصَبْتَهُ بإِضمار أَن، تَقُولُ: سِرْتُ إِلى الْكُوفَةِ حَتَّى أَدخُلَها، بِمَعْنَى إِلى أَن أَدخلها؛ فإِن كنتَ فِي حالِ دخولٍ رَفَعْتَ.

وَقُرِئَ: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ، ويقولُ، فمَن نَصَبَ جَعَلَهُ غَايَةً، ومَن رَفَعَ جَعَلَهُ حَالًا، بِمَعْنَى حَتَّى الرسولُ هَذِهِ حالهُ؛ وَقَوْلُهُمْ: حَتَّامَ، أَصلُه حَتَّى مَا، فَحُذِفَتْ أَلف مَا لِلِاسْتِفْهَامِ؛ وَكَذَلِكَ كُلُّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْجَرِّ يُضَافُ فِي الِاسْتِفْهَامِ إِلى مَا، فإِن أَلف مَا تُحْذَفُ فِيهِ، كَقَوْلِهِ تعالى: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ؟} و {فِيمَ كُنْتُمْ؟} و {لِمَ تُؤْذُونَنِي؟} و {عَمَّ يَتَساءَلُونَ؟} وهُذَيْلٌ تَقُولُ: عَتَّى في حتَّى}.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


140-لسان العرب (ركح)

ركح: الرُّكْحُ، بِالضَّمِّ، مِنَ الْجَبَلِ: الرُّكْنُ أَو النَّاحِيَةُ المُشْرِفة عَلَى الْهَوَاءِ؛ وَقِيلَ: هُوَ مَا عَلَا عَنِ السَّفْح وَاتَّسَعَ.

ابْنُ الأَعرابي: رُكْحُ كلِّ شَيْءٍ جانبُه.

والرُّكْحُ أَيضًا: الفِناءُ، وَجَمْعُهُ أَرْكاحٌ ورُكُوحٌ؛ قَالَ أَبو كَبِيرٍ الْهُذَلِيُّ:

وَلَقَدْ نُقِيمُ، إِذا الخُصُومُ تَنافَدُوا ***أَحْلامَهم، صَعَرَ الخَصِيمِ المُجْنِفِ

حَتَّى يَظَلَّ كأَنه مُتَثَبِّتٌ، ***بِرُكُوحِ أَمْعَزَ ذِي رُيُودٍ مُشْرِفِ

قَالَ: مَعْنَاهُ يَظَلُّ مِنْ فَرَقِ أَن يَتَكَلَّمَ فُيخْطِئَ ويَزِلَّ كأَنه يَمْشِي بِرُكْحِ جبلٍ، وَهُوَ جَانِبُهُ وَحَرْفُهُ، فَيَخَافُ أَن يَزِلَّ ويَسْقُط.

ورُكْحة الدَّارِ ورُكْحُها: سَاحَتُهَا؛ وتَرَكَّح فِيهَا: تَوَسَّع.

وَيُقَالُ: إِن لِفُلَانٍ سَاحَةً يَتَرَكَّحُ فِيهَا أَي يَتَوَسَّعُ.

وَفِي النَّوَادِرِ: تَركَّحَ فُلَانٌ فِي الْمَعِيشَةِ إِذا تَصَرَّفَ فِيهَا.

وتَرَكَّحَ بِالْمَكَانِ: تَلَبَّثَ.

ورَكَحَ السَّاقِي عَلَى الدَّلْوِ إِذا اعْتَمَدَ عَلَيْهَا نَزْعًا.

والرَّكْحُ: الاعتمادُ؛ وأَنشد الأَصمعي:

فَصادَفَتْ أَهْيَفَ مثلَ القِدْحِ، ***أَجْرَدَ بالدَّلْوِ شَديدَ الرَّكْحِ

والرُّكْحَة: البقيَّة مِنَ الثَّرِيدِ تَبْقَى فِي الجَفْنَة.

وجَفْنَةٌ مُرْتَكِحَة: مُكْتَنِزة بِالثَّرِيدِ.

ورَكَح إِلى الشَّيْءِ رُكُوحًا: رَكَنَ وأَنابَ؛ قال:

رَكَحْتُ إِليها بعدَ ما كنت مُجْمِعًا ***على وا ***.

ها، وانْسَبْتُ بالليل فائزا

وأَرْكَحَ إِليه: اسْتَنَدَ إِليه.

وأَرْكَحْتُ إِليه: لجأْت إِليه؛ يُقَالُ: أَرْكَحْتُ ظَهْرِي إِليه أَي أَلجأْت ظَهْرِي إِليه.

والرُّكُوح إِلى الشَّيْءِ: الركونُ إِليه.

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: «مَا أُحب أَن أَجعل لَكَ عِلَّةً تَرْكَحُ إِليها»أَي تَرْجِعُ وتلجأُ إِليها؛ يقال: رَكَحْتُ إِليه وأَرْكَحْتُ وارْتَكَحْتُ؛ وأَرْكَحَ إِلى غِنًى، مِنْهُ عَلَى الْمَثَلِ.

والمِرْكاحُ مِنَ الرِّحال والسُّروج: الَّذِي يتأَخر فَيَكُونُ مَرْكَبُ الرجلِ عَلَى آخِرَةِ الرَّحْل؛ قَالَ:

كأَنَّ فَاهُ، واللجامُ شاحِي، ***شَرْجا غَبِيطٍ سَلِسٍ مِرْكاحِ

الْجَوْهَرِيُّ: سَرْجٌ مِركاحٌ إِذا كَانَ يتأَخر عَنْ ظَهْرِ الْفَرَسِ، وَكَذَلِكَ الرَّحْلُ إِذا تأَخر عَنْ ظَهْرِ الْبَعِيرِ.

ابْنُ سِيدَهْ: والرُّكْحُ أَبيات النَّصَارَى، وَلَسْتُ مِنْهَا عَلَى ثِقَةٍ.

والرَّكْحاءُ: الأَرض الْغَلِيظَةُ الْمُرْتَفِعَةُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا شُفْعَة فِي فِناء وَلَا طَرِيقٍ وَلَا رُكْحٍ»؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: الرُّكْحُ، بِالضَّمِّ، نَاحِيَةُ الْبَيْتِ مِنْ وَرَائِهِ كأَنه فضاء لا بناء فيه؛ قَالَ القُطامِيُّ:

أَما تَرَى مَا غَشِيَ الأَرْكاحا؟ ***لَمْ يَدَعِ الثَّلْجُ لَهُمْ وَجاحا

الأَركاح: الأَفنية.

والوَجاح: السَّيْرُ، بِفَتْحِ الْوَاوِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الرُّكْحُ جَمْعُ رُكْحةٍ مِثْلُ بُسْر وبُسْرَة، وَلَيْسَ الرُّكْحُ وَاحِدًا، والأَرْكاحُ جَمْعُ رُكْحٍ لَا رُكْحةٍ؛ وَفِي الْحَدِيثِ: «أَهلُ الرُّكْحِ أَحق برُكْحِهم»؛ وَقَالَ ابْنُ مَيَّادَةَ:

ومُضَبَّر عَرِد الزِّجاجِ، كأَنه ***إِرَمٌ لِعادَ، مُلَزَّزُ الأَرْكاحِ

أَراد بعَرِدِ الزِّجاج أَنيابه.

وإِرَمٌ: قَبْرٌ عَلَيْهِ حِجَارَةٌ.

وَمُضَبَّرٌ: يَعْنِي رأْسًا كأَنه قَبْرٌ.

والأَرْكاحُ: الأَساسُ والأَركان وَالنَّوَاحِي؛ قَالَ وَرَوَى بَعْضُهُمْ شِعْرَ الْقُطَامِيِّ:

أَلا تَرَى مَا غَشِيَ الأَرْكاحا؟

قَالَ: وَهِيَ بُيُوتُ الرُّهْبان؛ قَالَ الأَزهري: وَيُقَالُ لَهَا الأُكَيْراحُ، قَالَ: وَمَا أُراها عربيَّة.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


141-لسان العرب (شخس)

شخس: الشَخْسُ: الِاضْطِرَابُ وَالِاخْتِلَافُ.

والشَّخيس: الْمُخَالِفُ لِمَا يؤْمر بِهِ؛ قَالَ رؤْبة: " يَعْدِلُ عَنِّي الجَدِلَ الشَّخِيسا "وأَمر شَخيسٌ: مُتَفَرِّقٌ.

وشاخَسَ أَمْرُ الْقَوْمِ: اخْتَلَفَ.

وتَشاخَسَ مَا بَيْنَهُمْ: تَبَاعَدَ وَفَسَدَ.

وَضَرَبَهُ فتَشاخَسَ قِحْفا رأْسه: تَبَايَنَا وَاخْتَلَفَا، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي الإِبهام؛ قَالَ:

تَشاخَسَ إِبهاماكَ إِن كُنْتَ كاذِبًا، ***وَلَا بَرِثا مِنْ دَاحِسٍ وكُناعِ

وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الإِناء؛ أَنشد ابْنُ الأَعرابي لأَرْطاةَ بْنِ سُهَيَّة:

وَنَحْنُ كَصَدْعِ العُسِّ إِن يُعْطَ شاعِبًا ***يَدَعْهُ، وَفِيهِ عَيْبُه مُتَشاخِسُ

أَي مُتَبَاعِدٌ فَاسِدٌ، وإِن أُصلح فَهُوَ مُتَمَايِلٌ لَا يَسْتَوِي.

وَكَلَامٌ مُتَشاخِسٌ أَي مُتَفَاوِتٌ.

وتَشاخَسَتْ أَسنانه: اخْتَلَفَتْ إِما فِطْرَةً وإِما عَرَضًا.

وشاخَسَ الدهرُ فَاهُ؛ قَالَ الطِّرِمَّاح يَصِفُ وَعِلًا، وَفِي التَّهْذِيبِ يَصِفُ العَيْرَ:

وشاخَسَ فَاهَ الدَّهْرُ حَتَّى كأَنه ***مُنَمِّسُ ثيرانِ الكَريصِ الضَّوائن

ابْنُ السِّكِّيتِ: يَقُولُ خَالَفَ بَيْنَ أَسنانه مِنَ الكِبَر فَبَعْضُهَا طَوِيلٌ وَبَعْضُهَا مُعْوَج وَبَعْضُهَا مُتَكَسِّرٌ.

وَالضَّوَائِنُ: الْبَيْضُ.

قَالَ: والشُّخاسُ والشاخِسَة فِي الأَسنان، وَقِيلَ: الشُّخاسُ فِي الْفَمِ أَن يَمِيلَ بَعْضُ الأَسنان وَيَسْقُطَ بَعْضٌ مِنَ الهَرَم.

والمُتَشاخِسُ: الْمُتَمَايِلُ.

وَضَرَبَهُ فتَشاخَسَ رأَسُه أَي مَالَ.

والشَّخْسُ: فَتْحُ الْحِمَارِ فَمَهُ عِنْدَ التشاؤب أَو الكَرْفِ.

وشاخَسَ الكلبُ فَاهَ: فَتَحَهُ؛ قَالَ:

مُشاخِسًا طَوْرًا، وطَورًا خَائِفًا، ***وتارَةً يَلْتَهِسُ الطَّفاطِفا

وتَشاخَسَ صَدْعُ القَدَح إِذا تَبايَنَ فَبَقِيَ غَيْرَ مُلْتَئِمِ.

وَيُقَالُ للشَّعَّاب: قَدْ شاخَسْتَ.

أَبو سَعِيدٍ: أَشْخَصْتُ لَهُ في المنطق وأَشْخَسْتُ وذلك إِذا تَجَهَّمْتَه.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


142-لسان العرب (هلك)

هلك: الهَلْكُ: الْهَلَاكُ.

قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: يُقَالُ الهَلْك والهُلْكُ أو المُلْكُ والمَلْكُ؛ هَلَكَ يَهْلِكُ هُلْكًا وهَلْكًا وهَلاكًا: مَاتَ.

ابْنُ جِنِّي: وَمِنَ الشَّاذِّ قِرَاءَةُ مَنْ قرأَ: " ويَهْلَكُ الحَرْثُ والنَّسْلُ "، قَالَ: هُوَ مِنْ بَابِ رَكَنَ يَرْكَنُ وقَنَطَ يَقْنَطُ، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدَ أَبي بَكْرٍ لُغَاتٌ مُخْتَلِطَةٌ، قَالَ: وَقَدْ يَجُوزُ أَن يَكُونَ مَاضِيَ يَهْلكُ هَلِك كعَطِبَ، فَاسْتَغْنَى عَنْهُ بهَلَكَ وَبَقِيَتْ يَهْلَك دَلِيلًا عَلَيْهَا، وَاسْتَعْمَلَ أَبو حَنِيفَةَ الهَلَكَة فِي جُفُوف النَّبَاتِ وبَيُوده فَقَالَ يَصِفُ النَّبَاتَ: مِنْ لَدُنِ ابْتِدَائِهِ إِلى تَمَامِهِ، ثُمَّ تَوَلِّيه وإِدباره إِلى هَلَكَتِه وبَيُوده.

وَرَجُلٌ هالِكٌ مِنْ قَوْمٍ هُلَّكٍ وهُلَّاك وهَلْكَى وهَوَالِكَ، الأَخيرة شَاذَّةٌ؛ وَقَالَ الْخَلِيلُ: إِنما قَالُوا هَلْكَى وزَمْنَى ومَرْضَى لأَنها أَشياء ضُرِبُوا بِهَاوأُدْخِلوا فِيهَا وَهُمْ لَهَا كَارِهُونَ.

الأَزهري: قومٌ هَلْكَى وهالِكُون.

الْجَوْهَرِيُّ: وَقَدْ يُجْمَعُ هالِك عَلَى هَلْكَى وهُلَّاك؛ قَالَ زيادُ بْنُ مُنْقِذ:

تَرَى الأَرامِلَ والهُلَّاكَ تَتْبَعُه، ***يَسْتَنُّ مِنْهُ عَلَيْهِمْ وابِلٌ رَزِمُ

يَعْنِي بِهِ الْفُقَرَاءُ؛ وهَلَكَ الشيءَ وهَلَّكه وأَهْلَكَه؛ قَالَ الْعَجَّاجُ:

ومَهْمَهٍ هالِكِ مَنْ تَعَرَّجا، ***هائلةٍ أَهْوالُه مَنْ أَدْلَجا

يَعْنِي مُهْلِك، لُغَةُ تَمِيمٍ، كَمَا يُقَالُ لَيْلٌ غاضٍ أَي مُغْضٍ.

وَقَالَ الأَصمعي فِي قَوْلِهِ هالِكِ مَنْ تَعَرَّجا أَي هالكِ المُتَعَرِّجين إِن لَمْ يُهَذَّبوا فِي السَّيْرِ أَي مَنْ تعرَّض فِيهِ هَلَكَ؛ وأَنشد ثَعْلَبٌ: " قَالَتْ سُلَيْمى هَلِّكوا يَسارا "الْجَوْهَرِيُّ: هَلَكَ الشيءُ يَهْلِكُ هَلاكًا وهُلوكًا ومَهْلَكًا ومَهْلِكًا ومَهْلُكًا وتَهْلُكَةً، وَالِاسْمُ الهُلْكُ، بِالضَّمِّ؛ قَالَ الْيَزِيدِيُّ: التَّهْلُكة مِنْ نَوَادِرِ الْمَصَادِرِ لَيْسَتْ مِمَّا يَجْرِي عَلَى الْقِيَاسُ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَكَذَلِكَ التُّهْلوك الهَلاكُ؛ قَالَ: وأَنشد أَبو نُخَيْلة لشَبِيبِ بْنِ شَبَّةَ:

شَبيبُ، عَادَى اللهُ مِنْ يَجْفُوكا ***وسَبَّبَ اللهُ لَهُ تُهْلوكا

وأَهْلكه غَيْرُهُ واسْتَهْلَكه.

وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ: إِذا قَالَ الرجلُ هَلَكَ الناسُ فَهُوَ أَهْلَكهم "؛ يُرْوَى بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا، فَمَنْ فَتَحَهَا كَانَتْ فِعْلًا مَاضِيًا وَمَعْنَاهُ أَن الغالِين الَّذِينَ يُؤيِسُون الناسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَقُولُونَ هَلَك الناسُ أَي اسْتَوْجَبُوا النَّارَ وَالْخُلُودَ فِيهَا بِسُوءِ أَعمالهم، فإِذا قَالَ الرَّجُلُ ذَلِكَ فَهُوَ الَّذِي أَوجبه لَهُمْ لَا اللَّهُ تَعَالَى، أَو هُوَ الَّذِي لَمَّا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ وأَيأَسهم حَمَلَهُمْ عَلَى تَرْكِ الطَّاعَةِ وَالِانْهِمَاكِ فِي الْمَعَاصِي، فَهُوَ الَّذِي أَوقعهم فِي الْهَلَاكِ، وأَما الضَّمُّ فَمَعْنَاهُ أَنه إِذا قَالَ ذَلِكَ لَهُمْ فَهُوَ أَهْلَكهم أَي أَكثرهم هَلاكًا، وَهُوَ الرجلُ يُولَعُ بِعَيْبِ النَّاسِ ويَذْهبُ بِنَفْسِهِ عُجْبًا، وَيَرَى لَهُ عَلَيْهِمْ فَضْلًا.

وَقَالَ مَالِكٌ فِي قَوْلِهِ أَهلكهم أَي أَبْسَلُهم.

وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا خالَطتِ الصدقةُ مَالًا إِلَّا أَهْلَكَتْه»؛ قِيلَ: هُوَ حضٌّ عَلَى تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ مِنْ قَبْلِ أَن تَخْتَلِطَ بِالْمَالِ بَعْدَ وُجُوبِهَا فِيهِ فَتَذْهَبُ بِهِ، وَقِيلَ: أَراد تَحْذِيرَ العُمَّال عَنِ اخْتِزال شَيْءٍ مِنْهَا وَخَلْطِهِمْ إِياه بِهَا، وَقِيلَ: أَن يأْخذ الزَّكَاةَ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهَا.

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَتاه سَائِلٌ فَقَالَ لَهُ: هَلَكْتُ وأَهْلَكْتُ»؛ أي أَهلكت عِيَالِي.

وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا}.

وَقَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: أَخبرني رُؤْبة أَنه يَقُولُ هَلَكْتَني بِمَعْنَى أَهْلَكتني، قَالَ: وَلَيْسَتْ بِلُغَتِي.

أَبو عُبَيْدَةَ: تَمِيمٌ تَقُولُ هَلَكَه يَهْلِكُه هَلْكًا بِمَعْنَى أَهْلَكه.

وَفِي الْمَثَلِ: فُلَانٌ هالِكٌ فِي الْهَوَالِكِ؛ وأَنشد أَبو عَمْرٍو لِابْنِ جذْلِ الطِّعانِ:

تَجاوَزْتُ هِنْدًا رَغْبَةً عَنْ قِتالِه، ***إِلى مالِكٍ أَعْشُو إِلى ذكْرِ مالكِ

فأَيْقَنْتُ أَني ثائِرُ ابن مُكَدَّمٍ، ***غَداةَ إِذٍ، أَو هالِكٌ فِي الهَوالِكِ

قَالَ: وَهَذَا شَاذٌّ عَلَى مَا فُسِّرَ فِي فَوَارِسَ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: يَجُوزُ أَن يُرِيدَ هَالِكٌ فِي الأُمم الهَوالِك فَيَكُونُ جَمْعُ هَالِكَةٍ، عَلَى الْقِيَاسِ، وإِنما جَازَ فَوَارِسُ لأَنه مَخْصُوصٌ بِالرِّجَالِ فَلَا لَبْسَ فِيهِ، قَالَ: وَصَوَابُ إِنْشَادِ الْبَيْتِ: " فأَيقنت أَني عِنْدَ ذَلِكَ ثَائِرُ "والهَلَكَة: الهَلاكُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: هِيَ الهَلَكَة الهَلْكاءُ، وَهُوَ تَوْكِيدٌ لَهَا، كَمَا يُقَالُ هَمَجٌ هامجٌ.

أَبُو عُبَيْدٍ: يُقَالُ وَقَعَ فُلَانٌ فِي الهَلَكَةِ الهَلْكى والسَّوْأَةِ السَّوْأى.

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا}؛ أَيْ لِوَقْتِ هَلاكِهم أَجَلًا، وَمَنْ قَرَأَ لمَهْلَكِهم فَمَعْنَاهُ لإِهلاكهم.

وَفِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: «وَهُوَ إمامُ القَوْم فِي المَهالِك»؛ أَرَادَتْ فِي الْحُرُوبِ وَأَنَّهُ لثِقَته بِشَجَاعَتِهِ يتقدَّم وَلَا يَتَخَلَّفُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لِعِلْمِهِ بالطُّرق يتقدَّم القومَ فَيَهْدِيهِمْ وَهُمْ عَلَى أَثَرِهِ.

واسْتَهْلَكَ المالَ: أَنْفَقَهُ وَأَنْفَدَهُ؛ أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:

تقولُ، إِذَا اسْتَهْلَكْتُ مَالًا للَذَّةٍ، ***فُكَيْهَةُ: هَشَّيْءٌ بكَفَّيْكَ لائِقُ

قَالَ سِيبَوَيْهِ: يُرِيدُ هَلْ شَيْءٌ فَأَدْغَمَ اللَّامَ فِي الشِّينِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ كَوُجُوبِ إِدْغَامِ الشَّمِّ وَالشَّرَابِ وَلَا جَمِيعُهُمْ يُدْغِمُ هَلْ شَيْءٌ.

وأهْلَكَ المالَ: بَاعَهُ.

فِي بَعْضِ أَخْبَارِ هُذَيْلٍ: أَنَّ حَبيبًا الهُذَليّ قَالَ لمَعْقِلِ بْنِ خُوَيْلِد: ارجِعْ إِلَى قَوْمِكَ، قَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ بِإِبِلِي؟ قَالَ: أهْلِكْها أَيْ بعْها.

والمَهْلَكة والمَهلِكة والمَهْلُكة: المَفازة لأَنه يُهْلَكُ فِيهَا كَثِيرًا.

وَمَفَازَةٌ هالكةٌ مَنْ سَلَكها أَيْ هَالِكَةٌ لِلسَّالِكِينَ.

وَفِي حَدِيثِ التَّوْبَةِ: «وتَرْكُها مَهْلِكة»أَيْ مَوْضِعٌ لهَلاكِ نفْسه، وَجَمْعُهَا مَهالِكُ، وَتُفْتَحُ لَامُهَا وَتُكْسَرُ أَيْضًا لِلْمَفَازَةِ.

والهَلَكُونُ: الأَرض الجَدْبة وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَاءٌ.

ابْنُ بُزُرج: يُقَالُ هَذِهِ أَرْضٌ آرمَةٌ هَلَكُونٌ، وَأَرْضٌ هَلَكون إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ.

يُقَالُ: هَلَكونُ نَبَاتُ أَرْضِينَ.

وَيُقَالُ: ترَكها آرِمَةً هَلَكِينَ إِذَا لَمْ يَصِبْهَا الغَيْثُ مُنْذُ دَهْرٍ طَوِيلٍ.

يُقَالُ: مَرَرْتُ بِأَرْضٍ هَلَكِينَ، بِفَتْحِ الْهَاءِ وَاللَّامِ.

والهَلَكُ والهَلَكاتُ: السِّنُونَ لأَنها مُهْلِكَةٌ؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي؛ وَأَنْشَدَ لأَسْودَ بْنِ يَعْفُرَ:

قَالَتْ لَهُ أمُّ صَمْعا، إِذْ تُؤَامِرُه: ***أَلَا تَرَى لِذَوي الأَموالِ والهَلَكِ؟

الْوَاحِدَةُ هَلَكة بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْضًا.

والهَلاكُ: الجَهْدُ المُهْلِكُ.

وهَلاكٌ مُهْتَلِكٌ: عَلَى الْمُبَالَغَةِ؛ قَالَ رُؤْبَةُ: " مِنَ السِّنينَ والهَلاكِ المُهْتَلِكْ "ولأَذْهَبَنَّ فَإِمَّا هُلْكٌ وَإِمَّا مُلْكٌ، وَالْفَتْحُ فِيهِمَا لُغَةٌ، أَيْ لأَذْهَبَنَّ فَإِمَّا أَنْ أهْلِكَ وَإِمَّا أَنْ أمْلِكَ.

وهالِكُ أهْلٍ: الَّذِي يَهْلِكُ فِي أهْله؛ قَالَ الأَعشى:

وهالِك أهْلٍ يَعودُونه، ***وآخَرُ فِي قَفْرةٍ لَمْ يُجَنْ

قَالَ: وَيَكُونُ وَهَالِكُ أهلٍ الَّذِي يُهْلِك أهْلَه.

والهَلَكُ: جِيفَةُ الشَّيْءِ الهالِك.

والهَلَكُ: مَشْرَفَةُ المَهْواةِ مِنْ جَوِّ السُّكاكِ لأَنها مَهْلَكة، وَقِيلَ: الهَلَكُ مَا بَيْنَ كُلِّ أَرْضٍ إِلَى الَّتِي تَحْتَهَا إِلَى الأَرض السَّابِعَةِ، وَهُوَ مِنْ ذَلِكَ؛ فَأَمَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ:

الموتُ تَأْتِي لميقاتٍ خَواطِفُه، ***وَلَيْسَ يُعْجِزُهُ هَلْكٌ وَلَا لُوح

فَإِنَّهُ سَكَّنَ لِلضَّرُورَةِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ كُوفِيٌّ، وَقَدْ حَجَرَ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ إِلَّا فِي الْمَكْسُورِ وَالْمَضْمُومِ، وَقِيلَ: الهَلَكُ مَا بَيْنَ أَعْلَى الْجَبَلِ وَأَسْفَلِهِ ثُمَّ يُسْتَعَارُ لِهَوَاءِ مَا بَيْنَ كُلِّ شَيْئَيْنِ، وَكُلُّهُ مِنَ الهَلاك، وَقِيلَ: الهَلَكُ المَهْواة بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ؛ وَأَنْشَدَ لِامْرِئِ الْقَيْسِ:

أَرَى ناقَةَ القَيْسِ قَدْ أصْبَحَتْ، ***عَلَى الأَيْنِ، ذاتَ هِبابٍ نِوارا

رأتْ هَلَكًا بنِجاف الغَبِيط، ***فكادَتْ تَجُدُّ الحُقِيّ الهِجارا

وَيُرْوَى: تَجُدّ لِذَاكَ الهِجارا؛ قَوْلُهُ هِباب: نَشاط، ونِوارًا: نِفارًا، وَتَجِدُّ: تَقْطَعُ الْحَبْلَ نُفورًا منالمَهْواةِ، والهِجار: حَبْلٌ يُشَدُّ فِي رُسْغِ الْبَعِيرِ.

والهَلَكُ: المَهْواة بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ؛ وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ يَصِفُ امْرَاةً جَيْداء:

تَرى قُرْطَها فِي واضِحِ اللِّيتِ مُشْرِفًا ***عَلَى هَلَكٍ، فِي نَفْنَفٍ يَتَطَوّحُ

والهَلَكُ، بِالتَّحْرِيكِ: الشَّيْءُ الَّذِي يَهْوي ويسقُط.

والتَّهْلُكَةُ: الْهَلَاكُ.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}؛ وَقِيلَ: التَّهْلُكة كُلُّ شَيْءٍ تَصِيرُ عَاقِبَتُهُ إِلَى الهَلاك.

والتُّهْلُوك: الهَلاك؛ وَأَنْشَدَ بَيْتَ شَبيبٍ: " وسَبَّبَ اللَّهُ لَهُ تُهْلوكا "وَوَقَعَ فِي وَادِي تُهُلِّكَ، بِضَمِّ التَّاءِ وَالْهَاءِ واللامُ مُشَدَّدَةٌ، وَهُوَ غَيْرُ مَصْرُوفٍ مِثْلُ تُخيبَ أَيْ فِي الْبَاطِلِ وَالْهَلَاكِ كَأَنَّهُمْ سَمَّوْه بِالْفِعْلِ.

والاهْتِلاكُ والانْهِلاكُ: رَمْيُ الإِنسان بِنَفْسِهِ فِي تَهْلُكة.

والقَطاة تَهْتَلِكُ مِنْ خَوْفِ الْبَازِيِّ أَيْ تَرْمِي بِنَفْسِهَا فِي المَهالك.

وَيُقَالُ: تَهْتَلِكُ تَجْتَهِدُ فِي طَيَرَانِهَا، وَيُقَالُ مِنْهُ: اهْتَلَكتِ القَطاةُ.

والمِهْتَلِكُ: الَّذِي لَيْسَ لَهُ همٌّ إِلَّا أَنْ يَتَضَيَّفه الناسُ، يَظَلُّ نهارَه فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ أسرعَ إِلَى مَنْ يَكْفُله خَوْفَ الهَلاكِ لَا يَتَمَالَكُ دونَه؛ قَالَ أَبُو خِراشٍ:

إِلَى بَيْتِه يَأْوِي الغريبُ إِذَا شَتا، ***ومُهتَلِكٌ بَالِي الدَّريسَيْنِ عائِلُ

والهُلّاكُ: الصَّعاليك الَّذِينَ يَنْتابون الناسَ ابْتِغَاءَ مَعْرُوفِهِمْ مِنْ سُوءِ حَالِهِمْ، وَقِيلَ: الهُلّاك المُنْتَجِعون الَّذِينَ قَدْ ضَلُّوا الطَّرِيقَ، وَكُلُّهُ مِنْ ذَلِكَ؛ أَنْشَدَ ثَعْلَبٌ لجَمِيل:

أبِيتُ مَعَ الهُلّاكِ ضَيْفًا لأَهْلِها، ***وأهْلي قريبٌ مُوسِعُون ذَوُو فَضْلِ

وكذلك المُتَهَلِّكُون؛ أنشد ثَعْلَبٌ للمُتَنَخِّل الهُذَليّ:

لَوْ أَنَّهُ جَاءَنِي جَوْعانُ مُهْتَلِكٌ، ***مِنْ بُؤَّس النَّاسِ، عَنْهُ الخيْرُ مَحْجُوزُ

وافْعَلْ ذَلِكَ إِمَّا هَلَكَتْ هُلُكٌ أَيْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، بِضَمِّ الْهَاءِ وَاللَّامِ غَيْرُ مَصْرُوفٍ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَبَعْضُهُمْ لَا يَصْرِفُهُ أَيْ عَلَى مَا خَيَّلَتْ نَفْسُك وَلَوْ هَلَكْتَ، والعامَّة تَقُولُ: إِنْ هَلَكَ الهُلُكُ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: حَكَى أَبُو عَلِيٍّ عَنِ الْكِسَائِيِّ هَلَكَتْ هُلُكُ، مَصْرُوفًا وَغَيْرَ مَصْرُوفٍ.

وَفِي حَدِيثِ الدَّجَّالِ: «وَذَكَرَ صِفَتَهُ ثُمَّ قَالَ: وَلَكِنَّ الهُلْكُ كلُّ الهُلْكِ أَنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِمَّا هَلَكَتْ هُلَّكُ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ»؛ الهُلْكُ الهَلاك، وَمَعْنَى الرِّوَايَةِ الأُولى الهَلاكُ كلُّ الهَلاك لِلدَّجَّالِ لأَنه وَإِنِ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ ولَبَّس عَلَى النَّاسِ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِزَالَةِ العَور لأَن اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فهُلَّكٌ، بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ، جَمْعُ هَالِكٍ أَيْ فَإِنْ هَلَكَ بِهِ نَاسٌ جَاهِلُونَ وضلُّوا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَلَوْ رُويَ: فَإِمَّا هَلَكَتْ هُلُك عَلَى قَوْلِ الْعَرَبِ افْعَلْ كَذَا إِمَّا هَلَكَتْ هُلَّكُ وهُلُكٌ بِالتَّخْفِيفِ منوَّنًا وَغَيْرَ مُنَوَّنٍ، لَكَانَ وَجْهًا قَوِيًّا ومُجْراه مُجْرى قَوْلِهِمْ افْعَلْ ذَلِكَ عَلَى مَا خَيَّلَتْ أَيْ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

وهُلُكٌ: صِفَةٌ مُفْرَدَةٌ بِمَعْنَى هَالِكَةٌ كَنَاقَةٍ سُرُحٌ وَامْرَأَةٍ عُطُلٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَكَيْفَمَا كَانَ الأَمر فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَفِي رِوَايَةٍ: " فَإِمَّا هَلَكَ الهُلُكُ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ.

قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَقُولُ افْعَلْ ذَلِكَ إِمَّا هَلَكَتْ هُلُكُ، وهُلُكٌ بإجراءٍ وَغَيْرِ إِجْرَاءٍ، وَبَعْضُهُمْ يُضيفه إِمَّا هَلَكتْ هُلُكُه أَيْ عَلَى مَا خَيَّلَتْ أَيْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ: «إِنْ شَبَّه عَلَيْكُمْ بِكُلِّ مَعْنًى وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا يُشَبِّهَنَّ عَلَيْكُمْ أنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ»، وَقَوْلُهُ عَلَى مَا خَيَّلَتْ أَيْ أرَتْ وشَبَّهَتْ، وَرَوَى بَعْضُهُمْ حَدِيثَ الدَّجَّالِ وَخِزْيِهِ وَبَيَانَ كَذِبِهِ فِي عَوَرِهِ.

والهَلُوك مِنَ النِّسَاءِ: الْفَاجِرَةُ الشَّبِقَةُ الْمُتَسَاقِطَةُ عَلَى الرِّجَالِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَنها تَتهالك أَيْ تَتَمايل وَتَنْثَنِي عِنْدَ جِمَاعِهَا، وَلَا يُوصَفُ الرَّجُلُ الزَّانِي بِذَلِكَ فَلَا يُقَالُ رَجُلٌ هَلُوكٌ؛ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الهَلُوك الحَسَنة التَّبَعُّلِ لِزَوْجِهَا.

وَفِي حَدِيثِ مازِنٍ: «إِنِّي مُولَعٌ بِالْخَمْرِ والهَلُوكِ مِنَ النِّسَاءِ».

وَفِي الْحَدِيثِ: «فتهالَكْتُ عَلَيْهِ فَسَأَلْتُهُ»أَيْ سَقَطْتُ عَلَيْهِ وَرَمَيْتُ بِنَفْسِي فَوْقَهُ.

وتَهالك الرجلُ عَلَى الْمَتَاعِ والفِراشِ: سَقَطَ عَلَيْهِ، وتَهالَكَتِ المرأةُ فِي مَشْيِهَا: مِنْ ذَلِكَ.

والهالِكِيُّ: الحدَّادُ، وَقِيلَ الصَّيْقَل؛ قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: أَوَّلُ مَنْ عَمِلَ الحديدَ مِنَ الْعَرَبِ الهالكُ بْنُ عَمْرُو بْنُ أسَد بْنِ خُزيْمة، وَكَانَ حَدَّادًا نُسِبَ إِلَيْهِ الْحَدَّادُ فَقِيلَ الهالِكيُّ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِبَنِي أَسَدٍ القُيونُ؛ وَقَالَ لَبِيدٌ:

جُنوحَ الهالِكِيِّ عَلَى يدَيْهِ، ***مُكِبًّا يَجْتَلي نُقَبَ النِّصالِ

أَرَادَ بالهالِكيّ الْحَدَّادَ؛ وَقَالَ آخَرُ:

وَلَا تَكُ مِثلَ الهالِكيِّ وعِرْسِه، ***سَقَتْه عَلَى لَوْحٍ سِمامَ الذَّرارِحِ

فَقَالَتْ: شَرابٌ بارِدٌ قَدْ جَدَحْتُه، ***وَلَمْ يَدْر مَا خاضَتْ لَهُ بالمَجادِحِ

أَيْ خَلَطْتُهُ بِالسَّوِيقِ.

قَالَ عَرَّامٌ فِي حَدِيثِهِ: «كُنْتُ أتَهَلَّكُ فِي مَفاوز أَيْ كُنْتُ أَدُورُ فِيهَا شِبْهَ الْمُتَحَيِّرِ»؛ وَأَنْشَدَ:

كَأَنَّهَا قَطرةٌ جَادَ السحابُ بِهَا، ***بَيْنَ السَّمَاءِ وَبَيْنَ الأَرْضِ تَهْتَلِكُ

واسْتَهْلَكَ الرجلُ فِي كَذَا إِذَا جَهَدَ نَفْسَه، واهْتَلَكَ مَعَهُ؛ وَقَالَ الرَّاعِي:

لهنَّ حديثٌ فاتِنٌ يَتْرُك الفَتى ***خفيفَ الْحَشَا، مُسْتَهْلِكَ الرِّبْح، طامِعا

أَيْ يَجْهَدُ قَلْبَه فِي إِثْرِهَا.

وَطَرِيقٌ مُسْتَهْلِكُ الوِرْد أَيْ يُجْهِدُ مَنْ سَلَكَه؛ قَالَ الحُطَيئة يَصِفُ الطَّرِيقَ:

مُسْتَهْلِكُ الوِرْدِ، كالأُسْتيِّ، قَدْ جعَلَتْ ***أَيْدِي المَطيِّ بِهِ عاديَّةً رُكُبا

الأُسْتِيُّ والأُسْديُّ: يَعْنِي بِهِ السَّدى والسَّتى؛ شبَّه شَرَك الطَّرِيقِ بسَدَى الثَّوْبِ.

وَفُلَانٌ هِلْكَةٌ مِنَ الهِلَكِ أَيْ سَاقِطَةٌ مِنَ السَّوَاقِطِ أَيْ هالِكٌ.

والهَلْكى: الشَّرِهُونَ مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ، يُقَالُ: رِجَالٌ هَلْكى وَنِسَاءٌ هَلْكى، الْوَاحِدْ هالِكٌ وَهَالِكَةٌ.

ابْنُ الأَعرابي: الهالِكَة النَّفْسُ الشَّرِهَة؛ يُقَالُ: هَلَكَ يَهْلِكُ هَلاكًا إِذَا شَرِهَ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: " وَلِمَ أهلِكْ إِلَى اللَّبَنِ "أَيْ لَمْ أشْرَهْ.

وَيُقَالُ للمُزاحِمِ عَلَى الْمَوَائِدِ: المُتَهالِكُ والمُلاهسُ وَالْوَارِشُ والحاضِرُ واللَّعْوُ، فَإِذَا أَكَلَ بِيَدٍ وَمَنَعَ بِيَدٍ فَهُوَ جَرْدَبانُ؛ وَأَنْشَدَ شَمِرٌ:

إنَّ سَدى خَيْرٍ إِلَى غيرِ أهْلِه، ***كَهالِكَةٍ مِنَ السحابِ المُصَوِّبِ

قَالَ: هُوَ السَّحَابُ الَّذِي يَصُوبُ المَطَر ثُمَّ يُقلِعُ فَلَا يَكُونُ لَهُ مَطَرٌ فذلك هَلاكه.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


143-لسان العرب (جفل)

جَفَلَ: جَفَل اللحمَ عَنِ الْعَظْمِ والشَّحْمَ عَنِ الجِلْد والطَّيْرَ عَنِ الأَرض يَجْفِلُه جَفْلًا وجَفَّلَه، كِلاهما: قَشَرَه؛ قَالَ الأَزهري: وَالْمَعْرُوفُ بِهَذَا الْمَعْنَى جَلَفت وكأَنَّ الجَفْل مَقْلُوبٌ.

وجَفَلَ الطيرَ عَنِ الْمَكَانِ: طَرَدَها.

اللَّيْثُ: الجَفْل السَّفينة، والجُفُول السُّفُن؛ قَالَ الأَزهري: لَمْ أَسمعه لِغَيْرِهِ.

وجَفَلَتِ الريحُ السحابَ تَجْفِلُه جَفْلًا: اسْتَخَفَّتْه وَهُوَ الجَفْل، وَقِيلَ: الجَفْل مِنَ السَّحَابِ الَّذِي قَدْ هَراقَ ماءَه فخفَّ رُواقه ثُمَّ انْجَفَلَ ومَضى.

وأَجْفَلَتِ الريحُ الترابَ أَي أَذهبته وطَيَّرَته؛ وأَنشد الأَصمعي لِمُزَاحِمٍ الْعُقَيْلِيُّ:

وَهابٍ، كجُثْمان الحَمامَة، أَجْفَلَتْ ***بِهِ ريحُ تَرْج والصَّبا كلَّ مُجْفَل

اللَّيْثُ: الريحُ تَجْفِل السَّحَابَ أَي تَسْتَخِفُّه فَتَمْضي فِيهِ، وَاسْمُ ذَلِكَ السَّحَابِ الجَفْل.

وريحٌ جَفُول: تَجْفِل السحابَ.

وَرِيحٌ مُجْفِل وَجَافِلَةٌ: سَرِيعَةٌ، وَقَدْ جَفَلَت وأَجْفَلَت.

اللَّيْثُ: جَفَل الظَّليمُ وأَجْفَل إِذا شَرَد فَذَهَبَ.

وَمَا أَدري مَا الَّذِي جَفَّلَها أَي نَفَّرها.

وجَفَلَ الظَّليمُ يَجْفُلُ ويَجْفِلُ جُفُولًا وأَجْفَلَ: ذَهَبَ فِي الأَرض وأَسرع، وأَجْفَلَه هُوَ، والجَافِل "الْمُنْزَعِجُ؛ قَالَ أَبو الرُّبَيْس التَّغْلَبي وَاسْمُهُ عبَّاد بْنُ طَهْفه بْنِ مازِن، وثَعْلَبة هُوَ ابْنُ مَازِنٍ:

مُراجِعُ نَجْدٍ بَعْدَ فَرْكٍ وبِغْضَةٍ، ***مُطَلِّقُ بُصْرَى أَصْمَعُ القَلْبِ جَافِلُه

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وأَما ابْنُ جِنِّي فَقَالَ أَجْفَلَ الظَّليمُ وجَفَلَته الريحُ، جَاءَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ مَعْكُوسَةً مُخَالِفَةً لِلْعَادَةِ، وَذَلِكَ أَنك تَجِدُ فِيهَا فَعَلَ مُتَعَدِّيًا وأَفْعَل غَيْرَ متعدٍّ، قَالَ: وَعِلَّةُ ذَلِكَ عِنْدِي أَنه جَعَلَ تَعَدِّي فَعَلْت وَجُمُودَ أَفعلت كَالْعِوَضِ لفَعَلْت مِنْ غَلَبَةِ أَفْعَلْت لَهَا عَلَى التَّعَدِّي، نَحْوَ جَلَسَ وأَجلسته وَنَهَضَ وأَنهضته، كَمَا جُعِلَ قَلْبُ الْيَاءِ وَاوًا فِي التَّقْوى والدَّعْوى والثّنْوى والفَتْوى عِوَضًا لِلْوَاوِ مِنْ كَثْرَةِ دُخُولِ الْيَاءِ عَلَيْهَا، وَكَمَا جُعِلَ لُزُومُ الضَّرْبِ الأَول مِنَ الْمُنْسَرِحِ لِمُفْتَعِلِنْ، وَحَظَرَ مَجِيئَهُ تَامًّا أَو مَخْبُونًا، بَلْ تُوبِعَتْ فِيهِ الْحَرَكَاتُ الثَّلَاثُ أَلْبَتَّةَ تَعْوِيضًا لِلضَّرْبِ مِنْ كَثْرَةِ السَّوَاكِنِ فِيهِ نَحْوَ مَفْعُولِنْ وَمَفْعُولَانِ وَمُسْتَفْعِلَانِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا الْتَقَى فِي آخِرِهِ مِنَ الضَّرْبِ سَاكِنَانِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا يَلِي رَجُلٌ شَيْئًا مِنْ أُمور الْمُسْلِمِينَ إِلا جِيءَ بِهِ فيُجْفَل عَلَى شَفير جَهَنَّمَ».

والجُفُول: سُرْعَةُ الذَّهَابِ والنُّدود فِي الأَرض.

يُقَالُ: جَفَلَت الإِبل جُفُولًا إِذا شَرَدَت نادَّة، وجَفَلَت النَّعامةُ.

والإِجْفِيل: الجَبان.

وظليمٌ إِجْفِيل: يَهْرُب مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: شَاهِدُهُ قَوْلُ ابْنُ مُقْبِلٍ فِي صِفَةِ الظَّليم: " بالمَنْكِبَيْن سُخام الرِّيش إِجْفِيل قَالَ: وَمِثْلُهُ لِلرَّاعِي: يَراعَةً إِجْفِيلا "وأَجْفَلَ القومُ أَي هَرَبُوا مُسْرِعِينَ.

وَرَجُلٌ إِجْفِيل: نَفُورٌ جَبان يَهْرُب من كل شيء فَرَقًا، وَقِيلَ: هُوَ الجَبان مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.

وأَجْفَلَ القومُ: انْقَلَعُوا كُلُّهم فَمَضوْا؛ قَالَ أَبو كَبِيرٍ:

لَا يُجْفِلون عَنِ المُضافِ، وَلَوْ رَأَوْا ***أُولَى الوَعاوِعِ كالغُطاط المُقْبل

وانْجَفَل الْقَوْمُ انْجِفَالًا إِذا هَرَبُوا بِسُرْعَةٍ وَانْقَلَعُوا كُلُّهم ومَضَوْا.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَمَّا قدِمَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ الناسُ قِبَله» أَي ذَهَبُوا مُسْرِعِينَ نَحْوَهُ.

وانْجَفَلَتِ الشجرةُ إِذا هَبّت بِهَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ فقَعَرَتْها.

وَانْجَفَلَ الظلُّ: ذَهَبَ.

والجُفَالَة: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ ذَهَبُوا أَو جاؤوا.

ودَعاهم الجَفَلَى والأَجْفَلَى أَي بِجَمَاعَتِهِمْ، والأَصمعي لَمْ يَعْرِفِ الأَجْفَلَى، وَهُوَ أَن تَدْعُوَ النَّاسَ إِلى طَعَامِكَ عامَّة، قَالَ طَرَفَةُ:

نَحْنُ فِي المَشْتاةِ نَدْعُو الجَفَلَى، ***لَا تَرَى الآدِبَ فِينَا يَنْتَقِر

قَالَ الأَخفش: دُعِيَ فُلَانٌ فِي النَّقَرَى لَا فِي الجَفَلَى والأَجْفَلَى أَي دُعي فِي الْخَاصَّةِ لَا فِي الْعَامَّةِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: جَاءَ الْقَوْمُ أَجْفَلَة وأَزْفَلة أَي جماعة، وجاؤوا بأَجْفَلَتهم وأَزْفَلَتهم أَي بِجَمَاعَتِهِمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الأَجْفَلَى والأَزْفَلَى الْجَمَاعَةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.

وجَفَل الشعرُ يَجْفِلُ جُفُولًا: شَعِثَ.

وجُمَّة جَفُول: عَظِيمَةٌ.

وشَعَر جُفَال: كَثِيرٌ.

والجُفَال، بِالضَّمِّ: الصُّوف الْكَثِيرُ.

وأَخذت جُفْلَة "مِنْ صُوفٍ أَي جُزَّة، وَهُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِثْلُ قَوْلُهُ تعالى: {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً}.

والجُفَال مِنَ الشَّعْرِ: الْمُجْتَمِعُ الْكَثِيرُ؛ وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ يَصِفُ شَعْرَ امرأَة:

وأَسْوَد كالأَساوِدِ مُسْبَكِرًّا، ***عَلَى المَتْنَيْنِ، مُنسَدِلًا جُفَالا

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قَوْلُهُ وأَسود مَعْطُوفٌ عَلَى مَنْصُوبٍ قَبْلَ الْبَيْتِ وَهُوَ:

تُريكَ بَيَاضَ لَبَّتها ووَجْهًا ***كقَرْن الشَّمْسِ، أَفْتَق ثُمَّ زَالَا

وَلَا يُوصَفُ بالجُفَال إِلا فِي كَثْرَةٍ.

وَفِي صِفَةِ الدَّجَّالِ: أَنه جُفَال الشَّعْرِ أَي كَثِيرُهُ.

وشَعَر جُفَال أَي مُنْتَفِشٌ.

وَيُقَالُ: إِنه لَجَافِل الشَّعَر إِذا شَعِثَ وتَنَصَّب شَعَره تَنَصُّبًا، وَقَدْ جَفَلَ شَعْرُهُ يَجْفِلُ جُفُولًا.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: رأَيت قَوْمًا جَافِلة جِبَاهُهم يَقْتُلُونَ النَّاسَ»؛ الْجَافِلُ: القائمُ الشَّعَر المُنْتَفِشُه، وَقِيلَ: الجَافِل الْمُنْزَعِجُ، أَي مُنْزَعِجَةً جِباهُهم كَمَا يَعْرض لِلصِّبْيَانِ.

وجَزَّ جَفِيلَ الْغَنَمِ وجُفَالَها أَي صوفَها؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ فِيمَا تَضَعُهُ عَلَى لِسَانِ الضَّائِنَةِ: أُوَلَّد رُخالًا، وأُحْلَب كُثَبًا ثِقالًا، وأُجَزُّ جُفالًا، وَلَمْ تَرَ مِثْلي مَالًا؛ قَوْلُهُ جُفالًا أَي أُجَزّ بِمَرَّة وَاحِدَةٍ، وَذَلِكَ أَن الضَّائِنَةَ إِذا جُزَّت فَلَيْسَ يَسْقُطُ مِنْ صُوفِهَا إِلى الأَرض شَيْءٌ حَتَّى يُجَزّ كُلُّهُ وَيَسْقُطَ أَجمع.

والجُفال مِنَ الزَّبَد كالجُفاء، وَكَانَ" رُؤْبَةُ يقرأُ: فأَما الزَّبَد فَيَذْهَبُ جُفالًا، لأَنه لَمْ يَكُنْ مِنْ لُغَتِهِ جَفأَتِ القِدْرُ وَلَا جَفَأَ السَّيل.

والجُفَالَة: الزَّبَد الَّذِي يَعْلُو اللَّبَنَ إِذا حُلِب، وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: هِيَ رَغْوة اللَّبَنِ، وَلَمْ يَخُصَّ وَقْتَ الحَلْب.

وَيُقَالُ لرَغْوة القِدْر جُفَال.

والجُفَال: مَا نَفَاهُ السَّيْلُ.

وجُفَالة القِدْر: مَا أَخذته مِنْ رأْسها بالمِغْرَفة.

وضَرَبَه ضَرْبَةً فَجَفَلَه أَي صَرَعَه وأَلقاه إِلى الأَرض.

وَفِي حَدِيثِ أَبي قَتَادَةَ: «كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَنَعَس رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَتَّى كَادَ يَنْجَفِلُ عَنْهَا»أَي يَنْقَلِبَ وَيَسْقُطَ عَنْهَا؛ قَالَ أَبو النَّجْمِ يَصِفُ إِبلًا:

يَجْفِلُها كُلُّ سَنامٍ مُجْفِلُ، ***لأْيًا بِلأْيٍ فِي المَراغِ المُسْهِل

يُرِيدُ: يَقْلِبها سَنامها مِنْ ثِقَله، إِذا تمرَّغت ثُمَّ أَرادت الِاسْتِوَاءَ قَلَبها ثِقَلُ أَسْنِمتها؛ وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ: مَعْنَاهُ أَن يَصْرَعَهَا سَنامُها لعِظَمه كأَنه أَراد سَنَامٍ مِنْهَا مُجْفَلٍ، وبالَغَ بِكُلّ كَمَا تَقُولُ أَنت عَالِمُ كُلُّ عَالِمٍ.

وَفِي حَدِيثِ الْحَسَنِ: «أَنه ذَكَرَ النَّارَ فأَجْفَلَ مَغْشيًّا عَلَيْهِ»؛ أي خرَّ إِلى الأَرض.

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ: «أَن رَجُلًا يَهُودِيًّا حَمَل امرأَة مُسْلِمَةً عَلَى حِمار»، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ جَفَلَها ثُمَّ تَجَثَّمها لِيَنْكِحَهَا، فأُتِيَ بِهِ عُمَرَ فَقَتَلَهُ، أَي أَلقاها إِلى الأَرض وَعَلَاهَا.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «سأَله رَجُلٌ فَقَالَ آتِي الْبَحْرَ فأَجدُه قَدْ جَفَلَ سَمَكًا كَثِيرًا، فَقَالَ: كُلْ مَا لَمْ تَرَ شَيْئًا طَافِيًا»؛ أي أَلقاه وَرَمى بِهِ إِلى البَرِّ وَالسَّاحِلِ.

والجَفُول: المرأَة الْكَبِيرَةُ الْعَجُوزُ؛ قَالَ:

سَتَلْقى جَفُولًا أَو فَتاةً كأَنَّها، ***إِذا نُضِيَت عَنْهَا الثِّيابُ، غَرِير

أَي ظَبْيٌ غَرِير.

والجَفْل: لُغَة فِي الجَثْل، وَهُوَ ضَرب مِنَ النَّمْلِ سُودٌ كِبار.

والجَفْل والجِفْل: خِثْيُ الْفِيلِ، وَجَمْعُهُ أَجْفَال؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ لِجَرِيرٍ:

قَبَح الإِله بَني خَضافِ ونِسْوَةً، ***بَاتَ الخَزِيرُ لَهُنَّ كالأَجْفَال

والجَفْل: تَصْلِيع الْفِيلِ وَهُوَ سَلْحُه.

وَقَدْ جَفَلَ الفِيلُ إِذا بَاتَ يَجْفِلُ.

وجَيْفَلُ: مِنْ أَسماء ذِي القِعدة.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: أُراها عادِيَّة.

والجُفُول: اسْمُ مَوْضِعٍ؛ قَالَ الرَّاعِي:

تَرَوَّحْنَ مِنْ حَزْمِ الجُفُول، فأَصْبَحَتْ ***هِضابُ شَرَوْرَى دُونَها والمُضَيَّحُ

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


144-لسان العرب (بدا)

بدا: بَدا الشيءُ يَبْدُو بَدْوًا وبُدُوًّا وبَداءً وبَدًا؛ الأَخيرة عَنْ سِيبَوَيْهِ: ظَهَرَ.

وأَبْدَيْته أَنا: أَظهرته.

وبُدَاوَةُ الأَمر: أَوَّلُ مَا يَبْدُو مِنْهُ؛ هَذِهِ عَنِ اللِّحْيَانِيُّ، وَقَدْ ذُكِرَ عامةُ ذَلِكَ فِي الْهَمْزَةِ.

وبَادِي الرأْي: ظاهرُه؛ عَنْ ثَعْلَبٍ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْهَمْزِ.

وأَنت بَادِيَ الرأْي تَفْعَلُ كَذَا، حَكَاهُ اللِّحْيَانِيُّ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَمَعْنَاهُ أَنت فِيمَا بَدَا مِنَ الرأْي وَظَهَرَ.

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ}؛ أَي فِي ظَاهِرِ الرأْي، قرأَ أَبو عَمْرٍو وحده بَادِىءَ الرأْي، بِالْهَمْزِ، وَسَائِرُ الْقُرَّاءِ قرؤوا بادِيَ، بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يُهْمَزُ بادِيَ الرأْي لأَن الْمَعْنَى فِيمَا يَظْهَرُ لَنَا ويَبْدُو، وَلَوْ أَراد ابْتِدَاءَ الرأْي فهَمَز كَانَ صَوَابًا؛ وأَنشد:

أَضْحَى لِخالي شَبَهِي بادِي بَدِي، ***وَصَارَ للفَحْلِ لِساني ويَدِي

أَراد بِهِ: ظَاهِرِي فِي الشَّبَهِ لِخَالِي.

قَالَ الزَّجَّاجُ: نَصَبَ بَادِيَ الرأْي عَلَى اتَّبَعُوكَ فِي ظَاهِرِ الرأْي وباطنُهم عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ اتَّبَعُوكَ فِي ظَاهِرِ الرأْي وَلَمْ يَتَدَبَّرُوا مَا قلتَ وَلَمْ يُفَكِّرُوا فِيهِ؛ وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ: " أَضحى لِخَالِي شَبَهِي بَادِي بَدِي "مَعْنَاهُ: خَرَجْتُ عَنْ شَرْخ الشَّبَابِ إِلَى حَدِّ الكُهُولة الَّتِي مَعَهَا الرأْيُ والحِجا، فَصِرْتُ كَالْفُحُولَةِ الَّتِي بِهَا يَقَعُ الِاخْتِيَارُ وَلَهَا بِالْفَضْلِ تَكْثُرُ الأَوصاف؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: مَنْ هَمَزَهُ جَعَلَهُ مِنْ بَدَأْتُ مَعْنَاهُ أَوَّلَ الرَّأْيِ.

وبَادَى فلانٌ بِالْعَدَاوَةِ أَي جَاهَرَ بِهَا، وتَبَادَوْا بِالْعَدَاوَةِ أَي جاهَرُوا بِهَا.

وبَدَا لَهُ فِي الأَمر بَدْوًا وبَدًا وبَدَاءً؛ قَالَ الشَّمَّاخ:

لَعَلَّك، والمَوْعُودُ حقٌّ لِقَاؤُهُ، ***بَدَا لكَ فِي تِلْكَ القَلُوص بَداءُ

وَقَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ}؛ أَراد بَدَا لَهُمْ بَداءٌ وَقَالُوا لَيَسْجُنُنَّهُ، ذَهَبَ إِلَى أَن مَوْضِعَ لَيَسْجُنُنَّهُ لَا يَكُونُ فاعلَ بَدَا لأَنه جُمْلَةٌ وَالْفَاعِلُ لَا يَكُونُ جُمْلَةً.

قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: وَمِنْ هَذَا أَخذ مَا يَكْتُبُهُ الْكَاتِبُ فِي أَعقاب الكُتُب.

وبَداءَاتُ عَوارِضك، عَلَى فَعَالاتٍ، وَاحِدَتُهَا بَدَاءَةٌ بِوَزْنِ فَعَالَة: تَأْنِيثُ بَدَاءٍ أَي مَا يَبْدُو مِنْ عَوَارِضِكَ؛ قَالَ: وَهَذَا مِثْلُ السَّمَاءة لِمَا سَمَا وعَلاك مِنْ سَقْفٍ أَو غَيْرِهِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ سَمَاوَةٌ، قَالَ: وَلَوْ قِيلَ بَدَوَاتٌ فِي بَدَآت الحَوائج كَانَ جَائِزًا.

وَقَالَ أَبو بَكْرٍ فِي قَوْلِهِمْ أَبو البَدَوَاتِ، قَالَ: مَعْنَاهُ أَبو الْآرَاءِ الَّتِي تَظْهَرُ لَهُ، قَالَ: وَوَاحِدَةُ البَدَوَات بَدَاةٌ، يُقَالُ بَدَاة وبَدَوات كَمَا يُقَالُ قَطاة وقَطَوات، قَالَ: وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَمْدَحُ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ فَيَقُولُونَ لِلرَّجُلِ الْحَازِمِ ذُو بَدَوَات أَي ذُو آرَاءٍ تَظْهَرُ لَهُ فَيَخْتَارُ بَعْضًا ويُسْقطُ بَعْضًا؛ أَنشد الْفَرَّاءُ:

مِنْ أَمْرِ ذِي بَدَوَاتٍ مَا يَزالُ لَهُ ***بَزْلاءُ، يَعْيا بِهَا الجَثَّامةُ اللُّبَدُ

قَالَ: وبَدا لِي بَدَاءٌ أَي تَغَيَّر رأْيي عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.

وَيُقَالُ: بَدَا لِي مِنْ أَمرك بَداءٌ أَي ظَهَرَ لِي.

وَفِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَع: « خَرَجْتُ أَنا وربَاحٌ مَوْلَى رسول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعِي فرسُ أَبي طَلْحَةَ أُبَدِّيه مَعَ الإِبل »أَي أُبْرزُه مَعَهَا إِلَى مَوْضِعِ الكَلإِ.

وَكُلُّ شَيْءٍ أَظهرته فَقَدْ أَبْدَيْته وبَدَّيته؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: « أَنه أَمر أَن يُبَادِيَ الناسَ بأَمره »أَي يُظْهِرَهُ لَهُمْ؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: « مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَه نُقِمْ عَلَيْهِ كتابَ اللَّهِ أَي مَنْ يُظْهِرُ لَنَا فِعْلَهُ الَّذِي كَانَ يُخْفِيهِ أَقمنا عَلَيْهِ الْحَدَّ.

وَفِي حَدِيثِ الأَقْرع والأَبْرص والأَعمى: « بَدَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَن يَبْتَلِيَهُمْ »أَي قَضَى بِذَلِكَ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: وَهُوَ مَعْنَى البَداء هَاهُنَا لأَن الْقَضَاءَ سَابِقٌ، والبَدَاءُ اسْتِصْوَابُ شَيْءٍ عُلم بَعْدَ أَن لَمْ يُعْلم، وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ غَيْرُ جَائِزٍ.

وَقَالَ الْفَرَّاءُ: بَدَا لِي بَدَاءٌ أَي ظَهَرَ لِي رأْيٌ آخَرُ؛ وأَنشد:

لَوْ عَلَى العَهْدِ لَمْ يَخُنه لَدُمْنا، ***ثُمَّ لَمْ يَبْدُ لِي سِوَاهُ بَدَاءُ

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَبَدَا لَهُ فِي الأَمر بَدَاءً، مَمْدُودَةً، أَي نشأَ لَهُ فِيهِ رأْيٌ، وَهُوَ ذُو بَدَواتٍ، قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَوَابُهُ بَداءٌ، بِالرَّفْعِ، لأَنه الْفَاعِلُ وَتَفْسِيرُهُ بنَشَأَ لَهُ فِيهِ رأْيٌ يَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ؛ وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:

لعَلَّكَ، والموعودُ حَقٌّ لِقاؤه، ***بَدَا لَكَ فِي تِلْكَ القَلُوصِ بَدَاءُ

وبَدَاني بِكَذَا يَبْدوني: كَبَدأَني.

وافعَل ذَلِكَ بادِيَ بَدٍ وبَادِيَ بَدِيّ، غَيْرَ مَهْمُوزٍ؛ قَالَ: " وَقَدْ عَلَتْني ذُرْأَةٌ بَادِي بَدِي وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْهَمْزَةِ، وَحَكَى سِيبَوَيْهِ: بادِيَ بَدَا، وَقَالَ: لَا يُنَوَّنُ وَلَا يَمْنَعُ القياسُ تنوينَه.

وقال "الْفَرَّاءُ: يُقَالُ افعلْ هَذَا بَادِيَ بَدِيّ كَقَوْلِكَ أَوَّل شَيْءٍ، وَكَذَلِكَ بَدْأَةَ ذِي بَدِيّ، قَالَ: وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ بادِيَ بَدِيّ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا أَنه لَمْ يُهْمَزْ، الْجَوْهَرِيُّ: افعلْ ذَلِكَ بادِيَ بَدٍ وبَادِيَ بَدِيٍّ أَي أَوَّلًا، قَالَ: وأَصله الْهَمْزُ وَإِنَّمَا تُرِكَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ؛ وَرُبَّمَا جَعَلُوهُ اسْمًا لِلدَّاهِيَةِ كَمَا قَالَ أَبو نُخَيلة:

وَقَدْ عَلَتْني ذُرْأَةٌ بَادِي بَدِي، ***ورَيْثَةٌ تَنْهَضُ بالتَّشَدُّدِ،

وَصَارَ للفَحْلِ لِسَانِي ويدِي قَالَ: وَهُمَا اسْمَانِ جُعِلَا اسْمًا وَاحِدًا مِثْلَ معديكرب وَقَالِي قَلا.

وَفِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبي وقاص: « قَالَ يَوْمَ الشُّورَى الْحَمْدُ لِلَّهِ بَدِيًّا »؛ البَدِيُّ، بِالتَّشْدِيدِ: الأَول؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: افْعَلْ هَذَا بَادِيَ بَدِيّ؛ أي أَوَّل كُلِّ شَيْءٍ.

وبَدِئْتُ بِالشَّيْءِ وبَدِيتُ: ابْتَدَأْتُ، وَهِيَ لُغَةُ الأَنصار؛ قَالَ ابْنُ رواحَةَ:

باسمِ الإِله وَبِهِ بَدِينَا، ***وَلَوْ عَبَدْنا غيرَه شَقِينا،

وحَبَّذا رَبًّا وحُبَّ دِينا "قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ لَيْسَ أَحد يَقُولُ بَدِيتُ بِمَعْنَى بَدَأْتُ إِلَّا الأَنصار، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ بَدَيْتُ وبَدَأْتُ، لَمَّا خُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ كُسِرَتِ الدَّالُ فَانْقَلَبَتِ الْهَمْزَةُ يَاءً، قَالَ: وَلَيْسَ هُوَ مِنْ بَنَاتِ الْيَاءِ.

وَيُقَالُ: أَبْدَيْتَ فِي مَنْطِقِكَ أَي جُرْتَ مِثْلَ أَعْدَيْت؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْحَدِيثِ: « السُّلْطانُ ذُو عَدَوان وَذُو بَدَوانٍ، بِالتَّحْرِيكِ فِيهِمَا، » أَي لَا يَزَالُ يَبْدُو لَهُ رأْيٌ جَدِيدٌ، وأَهل الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ بَدَيْنَا بِمَعْنَى بَدأْنا.

والبَدْوُ والبَادِيَةُ والبَدَاةُ والبَدَاوَة والبِدَاوَةُ: خِلَافُ الحَضَرِ، وَالنَّسَبُ إِلَيْهِ بَدَوِيٌّ، نَادِرٌ، وبَدَاوِيّ وبِدَاوِيٌّ، وَهُوَ عَلَى الْقِيَاسِ لأَنه حِينَئِذٍ مَنْسُوبٌ إِلَى البَدَاوَة والبِدَاوَة؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَإِنَّمَا ذَكَرْتُهُ....

لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَ بَدَوِيّ، فَإِنْ قُلْتَ إِنَّ البَدَاوِيّ قَدْ يَكُونُ مَنْسُوبًا إِلَى البَدْوِ والبَادِيَةِ فَيَكُونُ نَادِرًا، قِيلَ: إِذَا أَمكن فِي الشَّيْءِ الْمَنْسُوبِ أَن يَكُونَ قِيَاسًا وَشَاذَّا كَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْقِيَاسِ أَولى لأَن الْقِيَاسَ أَشيع وأَوسع.

وبَدَا القومُ بَدْوًا أَي خَرَجُوا إِلَى بَادِيَتِهِمْ مِثْلَ قَتَلَ قَتْلًا.

ابْنُ سِيدَهْ: وبَدَا القومُ بَدَاءً خَرَجُوا إِلَى الْبَادِيَةِ، وَقِيلَ لِلْبَادِيَةِ بَادِيَةٌ لِبُرُوزِهَا وَظُهُورِهَا؛ وَقِيلَ للبَرِّيَّة بَادِيَة لأَنها ظَاهِرَةٌ بَارِزَةٌ، وَقَدْ بَدَوْتُ أَنا وأَبْدَيْتُ غَيْرِي.

وَكُلُّ شَيْءٍ أَظهرته فَقَدْ أَبْدَيْتَه.

وَيُقَالُ: بَدَا لِي شيءٌ أَي ظَهَرَ.

وَقَالَ اللَّيْثُ: الْبَادِيَةُ اسْمٌ للأَرض الَّتِي لَا حَضَر فِيهَا، وَإِذَا خَرَجَ الناسُ مِنَ الحَضَر إِلَى الْمَرَاعِي فِي الصَّحارِي قِيلَ: قَدْ بَدَوْا، والإِسم البَدْوُ.

قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: البَادِيَة خِلَافُ الْحَاضِرَةِ، وَالْحَاضِرَةُ الْقَوْمُ الَّذِينَ يَحْضُرون المياهَ وَيَنْزِلُونَ عَلَيْهَا فِي حَمْراء الْقَيْظِ، فَإِذَا بَرَدَ الزَّمَانُ ظَعَنُوا عَنْ أَعْدادِ الْمِيَاهِ وبَدَوْا طَلَبًا للقُرْب مِنَ الكَلإِ، فَالْقَوْمُ حينئذ بَادِيَةٌ بعد ما كَانُوا حَاضِرَةً، وَهِيَ مَبَادِيهِم جَمْعُ مَبْدًى، وَهِيَ المَناجِع ضِدُّ المَحاضر، وَيُقَالُ لِهَذِهِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَبْتَدِي إِلَيْهَا البادُونَ بَادِيَة أَيضًا، وَهِيَ البَوَادِي، وَالْقَوْمُ أَيضًا بَوَادٍ جَمْعُ بَادِيَةٍ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ بَدَا جَفَا» أَي مَنْ نَزَلَ الْبَادِيَةَ صَارَ فِيهِ جَفاءُ الأَعرابِ.

وتَبَدَّى الرجلُ: أَقام بِالْبَادِيَةِ.

وتَبَادَى: تَشَبَّه بأَهل الْبَادِيَةِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « لَا تَجُوزُ شهادةُ بَدَوِيّ عَلَى صَاحِبِ قَرْية »؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: إِنَّمَا كُرِهَ شَهَادَةُ البَدَوِيّ لِمَا فِيهِ مِنَ الجَفاء فِي الدِّينِ والجَهالة بأَحكام الشَّرْعِ، ولأَنهم فِي الْغَالِبِ لَا يَضْبِطُون الشهادةَ عَلَى وَجْهِها، قال: وإليه"" ذَهَبَ مَالِكٌ، والناسُ عَلَى خِلَافِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « كَانَ إِذَا اهْتَمَّ لشيءٍ بَدَا »أَي خَرَجَ إِلَى البَدْوِ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: يُشْبِهُ أَن يَكُونَ يَفْعَل ذَلِكَ ليَبْعُدَ عن الناس ويَخْلُوا بِنَفْسِهِ؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: « أَنه كَانَ يَبْدُو إِلَى هَذِهِ التِّلاع».

والمَبْدَى: خِلَافُ المَحْضر.

وَفِي الْحَدِيثِ: « أَنه أَراد البَدَاوَةَ مَرَّةً» أَي الخروجَ إِلَى الْبَادِيَةِ، وَتُفْتَحُ بَاؤُهَا وَتُكْسَرُ.

وَقَوْلُهُ فِي الدُّعَاءِ: فإنَّ جارَ البَادِي يَتَحَوَّلُ "؛ قَالَ: هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي الْبَادِيَةِ ومَسْكنه المَضارِبُ وَالْخِيَامُ، وَهُوَ غَيْرُ مُقِيمٍ فِي مَوْضِعِهِ بِخِلَافِ جارِ المُقامِ فِي المُدُن، وَيُرْوَى النادِي بِالنُّونِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « لَا يَبِعْ حاضِرٌ لبَادٍ، وَهُوَ مَذْكُورٌ مُسْتَوْفى فِي حَضَرَ».

وَقَوْلُهُ فِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ}؛ أَي إِذَا جاءَت الْجُنُودُ والأَحْزاب وَدُّوا أَنهم فِي الْبَادِيَةِ؛ وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: إِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي رَبِيعِهِمْ، وإلَّا فَهُمْ حُضَّارٌ عَلَى مِيَاهِهِمْ.

وقوم بُدَّا وبُدَّاءٌ: بادونَ؛ قَالَ:

بحَضَرِيّ شاقَه بُدَّاؤُه، ***لَمْ تُلْهه السُّوقُ وَلَا كلاؤُه

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: فأَما قَوْلُ ابْنِ أَحمر:

جَزَى اللهُ قَوْمِي بالأُبُلَّةِ نُصْرَةً، ***وبَدْوًا لَهُمْ حَوْلَ الفِراضِ وحُضَّرَا

فَقَدْ يَكُونُ اسْمًا لِجَمْعِ بَادٍ كَرَاكِبٍ ورَكْبٍ، قَالَ: وَقَدْ يَجُوزُ أَن يُعْنى بِهِ البَدَاوَة الَّتِي هِيَ خِلَافُ الحَضارة كأَنه قَالَ وأَهْلَ بَدْوٍ.

قَالَ الأَصمعي: هِيَ البِدَاوة والحَضارة بِكَسْرِ الْبَاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ؛ وأَنشد:

فمَن تكُنِ الحَضارةُ أَعْجَبَتْه، ***فأَيَّ رجالِ بَادِيَةٍ تَرانا؟

وَقَالَ أَبو زَيْدٍ: هِيَ البَدَاوَة والحِضارة، بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ.

وَالْبَدَاوَةُ: الإِقامة فِي الْبَادِيَةِ، تُفْتَحُ وَتُكْسَرُ، وَهِيَ خِلَافُ الحِضارة.

قَالَ ثَعْلَبٌ: لَا أَعرف البَدَاوَة، بِالْفَتْحِ، إِلَّا عَنْ أَبي زَيْدٍ وَحْدَهُ، وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهَا بَدَاوِيّ.

أَبو حَنِيفَةَ: بَدْوَتا الْوَادِي جَانِبَاهُ.

وَالْبِئْرُ البَدِيُّ: الَّتِي حَفَرَهَا فَحُفِرَتْ حَديثَةً وَلَيْسَتْ بعاديَّة، وَتُرِكَ فِيهَا الْهَمْزُ فِي أَكثر كَلَامِهِمْ.

والبَدَا، مَقْصُورٌ: مَا يَخْرُجُ مِنْ دُبُرِ الرَّجُلِ؛ وبَدَا الرجلُ: أَنْجَى فَظَهَرَ ذَلِكَ مِنْهُ.

وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا تغَوَّط وأَحدث: قَدْ أَبْدَى، فَهُوَ مُبْدٍ، لأَنه إِذَا أَحدث بَرَزَ مِنَ الْبُيُوتِ وَهُوَ مُتَبَرِّز أَيضًا.

والبَدَا مَفْصِلُ الإِنسان، وَجَمْعُهُ أَبْدَاءٌ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْهَمْزِ.

أَبو عَمْرٍو: الأَبْدَاءُ المَفاصِل، وَاحِدُهَا بَدًا، مَقْصُورٌ، وَهُوَ أَيضًا بِدْءٌ، مهموز، تقديره بِدْعٌ، وَجَمْعُهُ بُدُوءٌ عَلَى وَزْنِ بُدُوع.

والبَدَا: السَّيِّدُ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْهَمْزِ.

والبَدِيُّ ووادِي البَدِيِّ: مَوْضِعَانِ.

غَيْرُهُ: والبَدِيُّ اسْمُ وَادٍ؛ قَالَ لَبِيدٌ:

جَعَلْنَ جراجَ القُرْنَتَيْن وَعَالِجًا ***يَمِينًا، ونَكَّبْنَ البَدِيَّ شَمائلا

وبَدْوَةُ: ماءٌ لَبَنِي العَجْلانِ.

قَالَ: وَبَدَا اسْمُ مَوْضِعٍ.

يُقَالُ: بَيْنَ شَغْبٍ وبَدًا، مَقْصُورٌ يُكْتَبُ بالأَلف؛ قَالَ كثيِّر:

وأَنْتِ الَّتِي حَبَّبتِ شَغبًا إِلَى ***بَدًا إليَّ، وأَوطاني بلادٌ سِوَاهُمَا

وَيُرْوَى: بَدَا، غَيْرَ مُنَوَّنٍ.

وَفِي الْحَدِيثِ ذُكِرَ بَدَا بِفَتْحِ الْبَاءِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ: مَوْضِعٌ بِالشَّامِ قُرْبَ وَادِي القُرَى، كَانَ بِهِ مَنْزِلُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ "وأَولاده، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

والبَدِيُّ: الْعَجَبُ؛ وأَنشد:

عَجِبَتْ جارَتي لشَيْبٍ عَلاني، ***عَمْرَكِ اللهُ هَلْ رأَيتِ بَدِيَّا؟

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


145-مجمل اللغة (شخس)

شخس: الشخس: فتح الحمار فمه عند الكرف.

وتشاخس الأسنان: أن يميل بعضها ويسقط بعضها من الهرم.

وضربه فتشاخس، أي: تمايل.

مجمل اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م


146-مقاييس اللغة (حسف)

(حَسَفَ) الْحَاءُ وَالسِّينُ وَالْفَاءُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ شَيْءٌ يُتَقَشَّرُ عَنْ شَيْءٍ وَيَسْقُطُ.

فَمِنْ ذَلِكَ الْحُسَافَةُ، وَهُوَ مَا سَقَطَ مِنَ التَّمْرِ وَالثَّمَرِ.

وَيُقَالُ انْحَسَفَ الشَّيْءُ، إِذَا تَفَتَّتَ فِي يَدِكَ.

وَأَمَا الْحَسِيفَةُ، وَهِيَ الْعَدَاوَةُ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا الْبَابِ.

"وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّهَا مِنْ بَابِ الْإِبْدَالِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ الْحَسِيكَةُ ; فَأُبْدِلَتِ الْكَافُ فَاءً."

وَقَدْ ذُكِرَتِ الْحَسِيكَةُ وَقِيَاسُهَا بَعْدَ هَذَا الْبَابِ.

وَيُقَالُ الْحَسَفُ الشَّوْكُ، وَهُوَ مِنَ الْبَابِ.

مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م


147-مقاييس اللغة (شخس)

(شَخَسَ) الشِّينُ وَالْخَاءُ وَالسِّينُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى اعْوِجَاجٍ وَزَوَالٍ عَنْ نَهْجِ الِاسْتِقَامَةِ.

مِنْ ذَلِكَ الْأَسْنَانُ الْمُتَشَاخِسَةُ، وَذَلِكَ أَنْ يَمِيلَ بَعْضُهَا وَيَسْقُطَ بَعْضُهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْهَرَمِ.

قَالَ الطِّرِمَّاحُ:

وَشَاخَسَ فَاهُ الدَّهْرُ حَتَّى كَأَنَّهُ.

وَيُقَالُ: ضَرَبَهُ فَتَشَاخَسَ، أَيْ تَمَايَلَ.

وَكُلُّ مُتَمَايِلٍ مُتَشَاخِسٌ.

مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م


148-صحاح العربية (غرب)

[غرب] الغُربة: الاغتراب، تقول منه: تغرب،

واغترب، بمعنى، فهو غريب وغرب أيضا بضم الغين والراء.

وقال: وما كان غض الطرف منا سجية *** ولكننا في مذحج غربان والجمع الغرباء.

والغرباء أيضًا: الأباعد.

واغترب فلانٌ، إذا تزوَّج إلى غير أقاربه.

وفي الحديث " اغترِبوا لا تُضْووا ".

والمُغَرِّب: الذي يأخذ في ناحية المَغْرِب.

وقال قيس بن الملوَّح: وأصبحت من لَيْلى الغداةَ كناظرٍ *** مع الصُبحِ في أعقاب نجمٍ مُغَرّبِ ويقال أيضًا: " هل جاءكم مُغرِّبة خَبَرٍ "، يعني الخبر الذي طرأ عليهم من بلدٍ سوى بلدهم.

وشأو مغرب ومغرب أيضا بفتح الراء، أي بعيد.

والتَّغْريب: النفي عن البلد.

وغرب، بالتشديد: اسم جبل دون الشام في بلاد بنى كلب، وعنده عين.

ماء تسمى غربة.

وأغرب الرجل: جاء بشئ غريب.

وأغْرَبْتُ السقاءَ: ملأته.

قال بشر:

وكأنَّ ظعْنَهُم غداةَ تحمَّلوا *** سُفنٌ تكفأ في خليخ مغرب وأغرب الرجل: صار غريبا.

حكاه أبو نصر.

واستغرب في الضحك: اشتدَّ ضحكه وكثر.

والمُغْرَب: الأبيض.

قال الشاعر: فهذا مكاني أو أرى القارَ مُغْرَبًا *** وحتى أرى صُمّ الجبالِ تَكَلَّم والمُغْرَب أيضًا: الأبيض الأشفار من كلِّ شئ، تقول: أغرب الفرس، على ما لم يسمَّ فاعلُه، إذا فشت غُرَّته حتَّى تأخذ العينين فتبيضّ الأشفار، وكذلك إذا ابيضَّت من الزَّرَق.

وأُغْرِب الرجل أيضًا، إذا اشتد وجعه.

عن الاصمعي والغراب: واحد الغِرْبان، وجمع القلَّة أَغْرِبة.

وغرابُ الفأس: حدُّها.

قال الشماخ يصف رجلًا قطع نبعة: فأنحى عليها ذاتَ حدٍّ غُرابها *** عَدوٌّ لأوساط العِضاهِ مَشارِزُ وغُرابا الفرس والبعير: حدُّ الوِركين، وهما حرفاهما: الأيسر والأيمن، اللذان فوق الذنب حيث يلتقى رأسا الورك.

عن الاصمعي.

قال الراجز: يا عجبا للعجب العجاب *** خمسة غربان على غراب

وجمعه أيضا غربان.

قال ذو الرمة: وقربن بالزرق الحمائل بعد ما *** تقوب عن غربان أوراكها الخطر أراد تقوبت غربانها عن الخطر، فقلبه، لان المعنى معروف، كقولك: لا يدخل الخاتم في إصبعى، أي لا يدخل الاصبع في خاتمي.

ورجل الغراب: ضرب من الصِّرار شديد.

وقول الشاعر: رأى دُرَّةً بيضاء يَحفِلُ لونَها *** سُخامٌ كغِرْبان البرير مُقَصَّبُ يعني به النضيج من ثمر الأراك.

وتقول: هذا أسود غِرْبيبٌ، أي شديد السواد.

وإذا قلت: غرابيبُ سودٌ، تجعل السود بدلًا من الغرابيب، لأنَّ تواكيد الألوان لا تقدَّم.

والغَرْب والمَغْرِب بمعنًى واحد.

وقولهم: لقيته مُغَيْرِبان الشمس، صغَّروه على غير مكبَّره، كأنَّهم صغَّروا مَغْرِبانا.

والجمع مغيربانات، كما قالوا: مفارق الرأس، كأنهم جعلوا ذلك الحين أجزاء، كلما تصوبت الشمس ذهب منها جزء، فصغروه فجمعوه على ذلك.

وغرب أي بعد، يقال: اغرُبْ عنِّي، أي تباعد.

وغرَبت الشمس غُروبًا.

والغُروب أيضًا: مجاري الدمع.

وللعين غُرابان: مقدِمها ومؤخرها.

قال الأصمعيّ: يقال: لعَينهِ غَرْبٌ، إذا كانت تسيل ولا تنقطع دموعها.

والغروب: الدموع.

وقال الراجز: ما لك لا تذكر أم عمرو *** ألا لعينيك غروب تجرى والغروب أيضا: حدَّة الأسنان وماؤها، واحدها غَرْب.

قال عنترة: إذ تَستبيكَ بذي غُروبٍ واضحٍ *** عَذْبٍ مُقَبَّلُهُ لذيذِ المَطْعَمِ والغَرْب أيضًا: الدلو العظيمة.

ويقال لحدّ السيف غَرْب.

وغَرْب كل شئ: حده.

يقال: في لسانه غرب، أي حدَّة، وغَرْبُ الفرس: حدَّته وأوَّل جريه.

تقول: كففت من غربه.

قال النابغة:

والخيل تَنْزع غَرْبا في أعِنَّتها *** وفرسٌ غَربٌ، أي كثير الجري.

والغَرْب أيضًا: عِرق في مجرى الدمع يسقي فلا ينقطع، مثل الناسور.

ونوى غربة، أي بعيدة.

وغربة النوى: بعدها.

والنوى: المكان الذى تنوى أن تأتيه في سفرك.

والغارب: ما بين السنام والعنق.

ومنه قولهم: " حَبْلُكِ على غارِبك "، أي اذهبي حيث شئت.

وأصله أنَّ الناقة إذا رعت وعليها الخِطامُ أُلقِي على غاربها، لأنَّها إذا رأت الخطام لم يهنئها شئ.

وغوارب الماء: أعالي موجه، شبِّهت بغوارب الابل.

والغرب، بالتحريك: الفضة.

قال الاعشى: فدعدعا سرة الركاء كما *** دعدع ساقى الاعاجم الغربا والغرب أيضًا: الخمر.

والغَرَب في الشاة كالسَعَف في الناقة، وهو داءٌ يتمعَّط منه خرطومُها، ويسقط منه شَعر عينيها.

وقد غَرِبت الشاة، بالكسر.

قال ابن برى: الصواب أنه للبيد لا كما زعم الجوهرى.

والركاء بالفتح: موضع.

ومعنى دعدع: ملا.

يصف ماءين التقيا من السيل فملآ اسرة الركاء كما ملا ساقى الاعاجم قدح الغرب خمرا.

وأما بيت الاعشى الذى وقع فيه الغرب بمعنى الفضة فهو: إذا انكب أزهر بين السقاة *** تراموا به غربا أو نضارا لسان العرب وتاج العروس.

والغرَب أيضًا: الماء الذي يقطر من الدلاء بين البئر والحوض، وتتغير ريحه سريعا.

قال ذو الرمة: وأدرك المتبقى من ثميلته *** ومن ثمائلها واستنشئ الغرب والغرب أيضا: ضرب من الشجر وهو " إسفيدار " بالفارسية.

وأصابه سهم غَرَب يضاف ولا يضاف، يسكَّن ويحرك، إذا كان لا يُدرى من رماه.

صحاح العربية-أبونصر الجوهري-توفي: 393هـ/1003م


149-صحاح العربية (هلك)

[هلك] هلك الشئ يهلك هلا كا وهُلوكًا، ومَهْلَكًا ومَهْلِكًا ومَهْلُكًا، وتَهْلُكَةً، والاسم الهُلْكُ بالضم.

قال اليزيدي: التَهْلُكَةُ من نوادر المصادر، ليست مما يجري على القياس.

وأهلَكَهُ غيره واسْتَهْلَكَهُ.

والمَهْلَكَةُ والمَهْلِكَةُ: المفازةُ.

وقال أبو عبيد: تميم تقول هَلَكَهُ يَهْلِكُهُ هَلْكًا، بمعنى أهْلَكَهُ.

وأنشد للعجَّاج:

ومَهْمَةٍ هالِكِ من تَعَرَّجا *** يريد مهْلِك، كما يقال ليلٌ غاضٍ أي مُغْضٍ.

ويقال: أراد هالِكَ المتعرِّجين، أي من تعرج فيه هلك.

وقد يجمع هالك على هلكى وهلاك.

قال الشاعر: ترى الأراملَ والهُلاَّكَ تتْبَعُهُ يَسْتَنُّ منه عليهم وابِلٌ رَذِمُ يعني به الفقراء.

وقد جاء في المثل: فلانٌ هالِكٌ في الهَوالِكِ.

وأنشد أبو عمرو بن العلاء لابن جِذْلِ الطِعانِ: فأيقنتُ أنِّي ثائرُ ابنِ مُكَدَّمٍ غَداتَئِذٍ أو هالك في الهوالك وهذا شاذ على ما فسرناه في فوارس.

وقولهم: افْعَلْ ذاك إمَّا هَلَكَتْ هُلُكُ، بضم الهاء واللام، غير مصروف، أي على كلِّ حال.

وتَهالَكَ الرجل على الفراش، أي سقط.

واهْتَلَكَتِ القطاةُ خوفَ البازي، أي رمت بنفسها في المَهالِكِ.

والهَلوكُ من النساء: الفاجرةُ المتساقطةُ على الرجال، ولا يقال رجلٌ هَلوكٌ.

والهلك، بالتحريك: الشئ الذى يهوى ويسقط.

وقال: رأت هلكا بنجاف الغبيط فكادت تجد لذالك الهجارا

والهلكة أيضا: الهلاك، ومنه قولهم: هي الهَلَكَةُ الهَلْكاءُ، وهو توكيد لها، كما يقال: همج هامج.

والهالكي: الحداد، نسب إلى الهالك ابن عمرو بن أسد بن خزيمة، وكان حدادا.

ولذلك قيل لبنى أسد: القيون.

قال الكسائي: يقال وقع في وادي تُهُلِّكَ بضم التاء والهاء واللام مشددة، وهو غير مصروف، مثل تخيب، ومعناهما الباطل.

صحاح العربية-أبونصر الجوهري-توفي: 393هـ/1003م


150-منتخب الصحاح (غرب)

الغُربة: الاغتراب، تقول منه: تَغَرَّبَ، واغتربَ، بمعنًى، فهو غريب وغُرُب أيضًا.

والجمع الغُرَباء.

والغُرَباء أيضًا: الأباعد.

واغترب فلانٌ، إذا تزوَّج إلى غير أقاربه.

وفي الحديث: اغترِبوا لا تُضْووا.

والمُغَرِّب: الذي يأخذ في ناحية المَغْرِب.

وقال قيس بن الملوَّح:

وأصبحت من لَيْلى الغداةَ كناظرٍ *** مع الصُبحِ في أعقاب نجمٍ مُغَرّبِ

ويقال أيضًا: هل جاءكم مُغرِّبة خَبَرٍ، يعني الخبر الذي طرأ عليهم من بلدٍ سوى بلدهم.

وشَأْوٌ مُغَرِّبٌ ومغرَّب أيضًا: أي بعيد.

والتَّغْريب: النفي عن البلد.

وأغْرَب الرجل: جاء بشيءٍ غريب.

وأغْرَبْتُ السقاءَ: ملأته.

قال بشر:

وكأنَّ ظعْنَهُم غداةَ تحمَّلوا *** سُفنٌ تُكَفَّأُ في خليجٍ مُغْرَبِ

وأغْرَب الرجل: صار غريبًا.

واستَغْرَب في الضحك: اشتدَّ ضحكه وكثر.

والمُغْرَب: الأبيض، قال الشاعر:

فهذا مكاني أو أرى القارَ مُغْرَبًا *** وحتى أرى صُمّ الجبالِ تَكَلَّم

والمُغْرَب أيضًا: الأبيض الأشفار من كلِّ شيء؛ تقول: أغْرِب الفرس، على ما لم يسمّ فاعله، إذا فشت غُرَّته حتَّى تأخذ العينين فتبيضّ الأشفار.

وكذلك إذا ابيضَّت من الزَّرَق.

وأُغْرِب الرجل أيضًا، إذا اشتدَّ وجعه.

والغُراب: واحد الغِرْبان، وجمع القلَّة أَغْرِبة.

وغرابُ الفأس: حدُّها.

قال الشماخ يصف رجلًا قطع نبعة:

فأنحى عليها ذاتَ حدٍّ غُرابها *** عَدوٌّ لأوساط العِضاهِ مَشارِزُ

وغُرابا الفرس والبعير: حدُّ الوِركين، وهما حرفاهما: الأيسر والأيمن، اللذان فوق الذنب حيث يلتقي رأسا الورك.

وجمعه أيضًا غِرْبانٌ.

ورِجلُ الغُراب: ضربٌ من الصِّرار شديد.

وقول الشاعر:

رأى دُرَّةً بيضاء يَحفِلُ لونَها *** سُخامٌ كغِرْبان البرير مُقَصَّبُ

يعني به النضيج من ثمر الأراك.

وتقول: هذا أسود غِرْبيبٌ، أي شديد السواد.

وإذا قلت: غرابيبُ سودٌ، تجعل السود بدلًا من الغرابيب؛ لأنَّ تواكيد الألوان لا تقدَّم.

والغَرْب والمَغْرِب بمعنًى واحد.

وقولهم: لقيته مُغَيْرِبان الشمس، صغَّروه على غير مكبَّره، كأنَّهم صغَّروا مَغْرِبانا.

والجمع مُغَيْرِبانات.

وغَرَبَ أي بَعُد؛ يقال: اغرُبْ عنِّي، أي تباعد.

وغرَبت الشمس غُروبًا.

والغُروب أيضًا: مجاري الدمع.

وللعين غُرابان: مقدِمها ومؤخِرها.

قال الأصمعيّ: يقال: لعَينهِ غَرْبٌ، إذا كانت تسيل ولا تنقطع دموعها.

والغُروب: الدموع.

والغروب أيضًا: حدَّة الأسنان وماؤها، واحدها غَرْب.

قال عنترة:

إذ تَستبيكَ بذي غُروبٍ واضحٍ *** عَذْبٍ مُقَبَّلُهُ لذيذِ المَطْعَمِ

والغَرْب أيضًا: الدلو العظيمة.

ويقال لحدّ السيف غَرْب.

وغَرْب كلِّ شيء: حدُّه.

يقال في لسانه غرب، أي حدَّة.

وغَرْبُ الفرس حدَّته وأوَّل جريه.

تقول: كففت عن غَرْبه.

قال النابغة:

والخيل تَنْزع غَرْبا في أعِنَّتها

وفرسٌ غَربٌ، أي كثير الجري.

والغَرْب أيضًا: عِرق في مجرى الدمع يسقي فلا ينقطع، مثل الناسور.

ونَوًى غَرْبَةٌ، أي بعيدة.

وغَرْبة النوى: بُعْدها.

والغارِب: ما بين السنام والعنق.

ومنه قولهم: حَبْلُكِ على غارِبك، أي اذهبي حيث شئت.

وأصله أنَّ الناقة إذا رعت وعليها الخِطامُ أُلقِي على غاربها؛ لأنَّها إذا رأت الخطام لم يهنئها بشيء.

وغَوارِب الماء: أعالي موجه، شبِّهت بغوارب الإبل.

والغَرَب، بالتحريك: الفضَّة.

والغرَب أيضًا: الخمر.

والغَرَب في الشاة كالسَعَف في الناقة، وهو داءٌ يتمعَّط منه خرطومُها، ويسقط منه شَعر عينيها.

وقد غَرِبت الشاة.

والغرَب أيضًا: الماء الذي يقطر من الدلاء بين البئر والحوض، وتتغيَّر ريحُه سريعًا.

والغَرَب أيضًا: ضرب من الشجر وهو إسفيدار بالفارسية.

وأصابه سهم غَرَب يضاف ولا يضاف يسكَّن ويحرك، إذا كان لا يُدرى من رماه.

منتخب الصحاح-أبونصر الجوهري-توفي: 393هـ/1003م


151-منتخب الصحاح (هلك)

هلكَ الشيء يَهْلِكُ هَلاكًا وهُلوكًا، ومَهْلَكًا ومَهْلِكًا ومَهْلُكًا، وتَهْلُكَةً؛ والاسم: الهُلْكُ بالضم.

قال اليزيدي: التَهْلُكَةُ من نوادر المصادر، ليست مما يجري على القياس.

وأهلَكَهُ غيره، واسْتَهْلَكَهُ.

والمَهْلَكَةُ والمَهْلِكَةُ: المفازةُ.

وقال أبو عبيد: تميم تقول: هَلَكَهُ يَهْلِكُهُ هَلْكًا، بمعنى أهْلَكَهُ.

وأنشد للعجَّاج:

ومَهْمَةٍ هالِكِ من تَعَرَّجا

يريد مهْلِك، كما يقال ليلٌ غاضٍ، أي مُغْضٍ.

ويقال: أراد هالِكَ المتعرِّجين، أي من تَعَرَّجَ فيه هَلَكَ.

وقد يجمع هالِكٌ على هَلْكى وهُلاَّلٍ.

قال الشاعر:

ترى الأراملَ والهُلاَّكَ تتْبَعُهُ *** يَسْتَنُّ منه عليهم وابِلٌ رَذِمُ

يعني به الفقراء.

وقد جاء في المثل: فلانٌ هالِكٌ في الهَوالِكِ.

وأنشد أبو عمرو بن العلاء لابن جِذْلِ الطِعانِ:

فأيقنتُ أنِّي ثائرُ ابنِ مُكَدَّمٍ *** غَداتَئِذٍ أو هالِكٌ في الهَوالِكِ

وقولهم: افْعَلْ ذاك إمَّا هَلَكَتْ هُلُكُ، بضم الهاء واللام، غير مصروف، أي على كلِّ حال.

وتَهالَكَ الرجل على الفراش، أي سقط.

واهْتَلَكَتِ القطاةُ خوفَ البازي، أي رمت بنفسها في المَهالِكِ.

والهَلوكُ من النساء: الفاجرةُ المتساقطةُ على الرجال، ولا يقال رجلٌ هَلوكٌ.

والهَلَكُ بالتحريك: الشيء الذي يهوي ويسقط.

والهَلَكَةُ أيضًا: الهلاكُ؛ ومنه قولهم: هي الهَلَكَةُ الهَلْكاءُ؛ وهو توكيد لها، كما يقال: همج هامجٌ.

والهالكِيُّ: الحدَّاد.

قال الكسائي: يقال وقع في وادي تُهُلِّكَ وهو غير مصروف، ومعناهما الباطلُ.

منتخب الصحاح-أبونصر الجوهري-توفي: 393هـ/1003م


152-المحيط في اللغة (هير)

هير مهمل عنده.

الخارزنجي الهير والهير الريح.

والهير والأير ريح الصبا.

والهيرة الأرض السهلة.

والهيار الذي ينهار ويسقط.

وتهير البناء والجرف بمعنى تهور.

المحيط في اللغة-الصاحب بن عباد-توفي: 385هـ/995م


153-المحيط في اللغة (شخس)

شخس الشخس فتح فم الحمار عند التثاؤب والكرف.

والشخاس والمشاخسة في الأسنان وهو أن يميل بعضها ويسقط بعضها.

والمتشاخس المتمايل.

ومنطق شخيس فيه تجهم.

وأشخست له في المنطق.

وشتاخس القوم تباعدوا.

ومنه تشاخس فوه.

المحيط في اللغة-الصاحب بن عباد-توفي: 385هـ/995م


154-تهذيب اللغة (سعف)

سعف: أبو العباس عن ابن الأعرابي: السُّعُوف: جِهاز العَروس، والعُسُوف: الأقداح الكبار وأخبرني المنذريّ عن الخرَّاز عن ابن الأعرابي أنه قال: كل شيء جاد وبَلَغ من عِلْق أو مملوك أو دار ملكْتها فهو سَعَف.

يقال للغلام: هذا سَعَف سَوْءٍ.

وقال ابن الأعرابي: والسُّعُوف: طبائع الناس من الكَرَم وغيره

يقال: هو طيّب السُّعُوف أي الطبائع، لا واحد لها.

وفلان مسعوف بحاجته أي مُسْعَف.

قال الغنويِّ:

فلا أنا مسعوف بما أنا طالب

والسُّعَاف: شُقَاق في أسفل الظُّفُر.

وتسعف أطراف أصابعه أي تشقّقت وقال أبو عمرو: يقال للضرائب: سُعُوف.

قال: ولم أسمع لها بواحد من لفظها.

قال: والسَّعَف ـ محرّك ـ: جِهاز العروس.

الحرَّاني عن ابن السكيت: السَّعَف: داء في أفواه الإبل كالجَرَب، بعير أسعف، والسَّعَف: وَرَق جَرِيد النخل الذي يسَفَّ منه الزُبْلان والجِلال والمراوح وما أشبهها.

ويجوز السعف.

والواحدة سَعَفة.

وقال الليث: أكثر ما يقال له السَّعَف إذا يبس، وإذا كانت رَطْبة فهي الشَّطْبة.

قلت: ويقال للجَرِيد نفسه سَعَف أيضًا، وواحدة الجريد جَرِيدة.

وتجمع السَّعَفة سَعَفًا وسَعَفات.

الحرَّاني عن ابن السكيت: يقال: في رأسه سَعْفة ـ ساكنة العين ـ وهو داء يأخذ الرأس.

وقال أبو حاتم: السَعْفة يقال لها: داء الثعلب، تورِث القَرَع، والثعالب يصيبها هذا الداء، فلذلك نُسب إليها.

أبو عبيد عن الكسائي: سَعُفت يدُه وسَعِفت وهو التشعّث حول الأظفار والشُّقَاق.

قال: وقال أبو زيد: ناقة سَعْفاء وقد سَعِفت سَعَفًا، وهو داءٌ يتمعَّط منه خُرطومها ويسقط منه شعر العين قال: وهو في النوق خاصَّة دون الذكور.

قال: ومثله في الغنم الغَرَب.

وقال أبو عبيدة في كتاب «الخيل»: من شيات نواصي الخيل ناصية سعفاء وفرس أسعف إذا شابت ناصيته.

قال: وذلك ما دام فيها لون مخالف البياض.

فإذا خلصت بياضًا كلها فهي صبغاء.

وقال ابن شميل: التسعيف في المِسْك: أن يروِّح بأفاويه الطيب ويُخلط بالأدهان الطيّبة.

يقال: سعِّف لي دُهْني.

ويقال: أسعفتْ داره إسعافًا إذا دَنَت: وكل شيء دنا فقد أسعف.

ومنه قول الراعي:

وكائنْ ترى من مُسْعِف بمنيَّة

ومكان مساعِف ومنزل مساعف أي قريب.

وقال الليث: الإسعاف قضاء الحاجة.

والمساعفة: المواتاة على الأمر في حسن مصافاة ومعاونة.

وأنشد:

إذ الناس ناس والزمانُ بِغِرَّة *** وإذ أُمُّ عمَّار صديق مساعِفُ

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


155-تهذيب اللغة (ركح)

ركح: أبو عُبَيْد عَن الأُمَوِيّ: أركَحْتُ إليه أي اسْتَنَدْتُ إليه.

وقال الفراء: لَجَأُتُ إليه.

الليث: الرُّكْحُ: رُكْن من الجَبَل مُنِيفٌ صَعْبٌ، وأنشد:

كأنَّ فاهُ واللِّجَامُ شَاحِي *** شَرْجَا غَبِيطٍ سَلِسٍ مِرْكاحِ

أي: كأنه رُكْح جَبَل.

قلت: والمِرْكاحُ من الأقْتاب غَيْر ما فَسَّرَه اللَّيْثُ.

أقْرَأنِي الإيادِيُّ لأَبي عُبَيْد عن الأصْمَعِي قال: المِرْكاح: القَتَب الذي يَتَأخَّر فيكون مَرْكَبُ الرَّجُل فيه على آخِرةِ الرَّحْل، وهذا هو الصحيح.

شَمِر عن ابن الأعرابي: رُكْحُ الجبل: جانِبه وحرْفُه، ورُكْحُ كلِّ شيء: جانبُه.

ويقال: أركحْتُ ظَهْري إليه أي ألْجأْت ظَهْري إليه.

وقال أبو كَبِيرٍ الهُذَلِيّ:

ولقد نُقِيمُ إِذا الخُصوم تنَافَدُوا *** أحلامَهم صَعَر الخَصيم المُجْنِفِ

حتى يظلَّ كأنَّه مُتَثَبِّت *** بُركُوحِ أمْعَزَ ذي رُيودٍ مُشْرف

قال: معناه يظَلُّ من فَرَقي أن يتكلَّم فيُخطىءَ ويزلّ كأنه يمشي بِرُكْح جبل: وهو جانبُه وحرْفه فيخافُ أن يزِلَّ ويسقُط.

وقال أبو خَيْرة: الرَّكْحاءُ: الأرضُ الغلِيظة المُرْتفعة.

وفي الحديث: «لا شُفعةَ في فناء ولا طَريق ولا رُكْح».

قال أبو عُبيْد:

الرُّكْحُ: ناحيةُ البيْت من ورائِه، وربما كان فضَاءً لا بِناءَ فيه.

وقال القُطَامِيُّ:

* أما ترى ما غَشِيَ الأرْكاحَا*

وقال ابنُ ميَّادة:

ومُضَبَّر عَرِد الزِّجاجِ كأنَّه *** إرَمٌ لِعَادَ مُلَزَّزُ الأرْكاح

وإرَم: قبر عليه حجارة.

ومُضَبَّر يَعْنِي رأسَهَا كأنه قبْر.

والأرْكاح: الآساس والأركانُ والنَّواحي.

قال: ورواه بعْضُهم:

* ألا تَرَى ما غَشِيَ الأكْراحا*

قال: وهي بيوت الرُّهْبان قُلت: ويقال لها: الأُكْيَراحُ، وما أراها عربيَّة.

أبو عُبيد عن أبي عُبيْدة: الرُّكْحة: البقِيَّة من الثَّرِيد تبْقى في الجفْنة، ومنه قيل للجَفنة المُرْتَكِحة إذا اكْتَنَزَت بِالثَّريد.

ويقال: إنَّ لفلان ساحةً يتَرَكَّحُ فيها أي يَتوسَّع.

وفي النودار: تَرَكَّح فلان في المعِيشة إذا تَصَرّف فيها.

وتَرَكَّح بالمكان تَلبَّث به.

وركَحَ الساقي على الدَّلْوِ إذا اعْتَمد عليها نَزْعًا، والرّكْحُ: الاعْتماد.

وأنْشَدَ الأصْمَعِيّ:

فصادفْتَ أهْيَفَ مثل القِدْحِ *** أجْرَدَ بالدَّلْو شَديد الرّكْحِ

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


156-القانون (طرق ضرورة)

طرق ضرورة: ممر اضطراري: ارتفاق مرور يعود لصاحب الأرض إذا لم يجد مخرجا سوي أرض الغير، ويسقط حالما يتوافر له طريق آخر يكفيه حاجته.

والارتفاق المذكور حق ضمني يدوم بدوام الحاجة إليه وينعدم بانعدامها ويتبع الأرض المضطرة إليه تباعة ضمنية لا يعوزها تصريح.

المعجم القانوني (الفاروقي)


157-الحضارة (فلك)

فلك: astronomy.

علم التنبؤ بالظواهر الفلكية.

وكان يلقن بواسطة الكهنة بالمعابد.

وكان لكل من قدماء المصر يين والبابليين فلكهم الخاص بهم.

فلقد عثر علي تقاويم فوق أغطية التوابيت الفرعونية ترجع لسنة 2000-1600ق.

م.

ووجد أن أسقف المقابر المملكة الحد يثة فد زينت بصور النجوم التي كانت تري بالسماء وأطلق عليها أسماؤها.

كما وجد في بلاد ما بين النهرين تشكيلات لصور النجوم.

وكان البابليون يتنبؤن بدقة بالخسوف والكسوف للشمس والقمر.

وتاريخ الفلك يبدأ منذ عصر ماقبل التاريخ حيث كان الإنسان الأول قد شغل تفكيره بالحركة الظاهرية المتكررة للشمس والقمر وتتابع الليل حيث يظهر الظلام و تظهر النجوم وحيث يتبعه النهار لتتواري في نوره.

وكان يعزي هذا للقوي الخارقة لكثير من الآلهة.

فالسومريون (مادة) كانوا بعتقدون أن الأرض هضبة يعلوها القبة السماوية.

وتقوم فوق جدار مرتفع علي أطرافها البعيدة.

واعتبروا الأرض بانثيون (مادة) هائل تسكن فوق جبل شاهق.

والابليون (مادة) إعتقدوا أن المحيطات تسند الأرض والسماء.

والأرض جوفاء تطفو فوق مياهها ومركزها بها مملكة الأموات.

لهذا ألهت الشمس والقمر وتصورت الحضارات القديمة أنهما يعبران قية السماء فوق عربات تدخل من بوابة مشرق الشمس وتخرج من بوابة مغرب الشمس.

وهذه المفاهيم بنيت علي أساسها إتجهات المعابد الجنائزية.

وكان قدماء المصريين يعتقدون أن الأرض مستطيل طويل يتوسطها نهر النيل الذي ينبع من نهر أعظم يجري حولها تسبح فوقه النجوم الآلهة.

والسماء ترتكز علي جبال بأركان الكون الأربعة وتتدلي منها هذه النجوم.

لهذا كان الإه رع يسير حول الأرض باستمرار.

ليواجه الثعبان أبوبي (رمز قوي الظلام الشريرة) حتي يصبحا خلف الجبال جهة الغرب والتي ترفع السماء.

وهناك يهزم رع ويسقط.

فيحل الظلام.

وفي الصباح ينتصر رع علي هذه القوي الشريرة.

ويستيقظ من جهة الشرق.

بينما حورس (مادة) إله القمريسير بقاربه ليطوف حول العالم.

وكان القمر بعتبر إحدي عينيه.

و يلاحقه أعداؤه لفقيءهذه العين بإلقائها في النيل وينجحوا مجتمعين في هذه المهمة فيظلم الفمر.

لكن الإله رع يهب لنجدة عين حورس (القمر) ويعيدها لحورس.

وكان الصينيون يعتبرون الأرض عربة ضخمة في أركانها أعمدة ترفع مظلة (السماء) وبلاد الصين تقع في وسط هذه العربة ويجري النهر السماوي (النهر الأصفر) من خلال عجلات العربة ز ويقوم السيد الأعلي المهيمن علي أقدار السماء والأرض بملازمة النجم القطبي بالشمال بينما التنينات تفترس الشمس والقمر.

لكن في القرن الثاني ق.

م.

وضع الفلكي الصيني (هياهونج) نظرية السماء الكروية حيث قال أن الكون بيضة والأرض صفارهاوقبة السماء الزرقاء بياضها.

والكلدانيون (مادة) من خلال مراقبتهم لحركة الشمس ومواقع النجوم بالسماء وضعوا تقويمهم (انظر: تقويم).

واستطاعوا التنبؤ من خلال دورتي الشمس والقمر بحركتيهما ما مكنهم من وضع تقويم البروج حيث ريطوا فيعا بين الإنسان وأقداره.

وأخضعوا فيها إخضاع حركات النجوم لمشيئة الآلهة.

لهذا توأموا بين التنجيم (مادة) والفلك.

ومن خلال تقويم البروج تمكنوا من التنبؤ بكسوف الشمس وخسوف القمر.

لكنهم لم يجدوا لها تفسيرا.

وكان تقويمهم يعتمد أساسا علي السنو القمرية التي لم تكن تتوافق مع الفصول المناخية.

وكان قدماء المصريين منذ 3000 سنة ق.

م.

أمكنهمة الفيام بالرصد الفلكي وقياس الزمن وتحديده من خلال السنة والأشهر.

وبنوا الأهرامات (مادة) أضلاعها (وجوهها) متجهة للجهات الأربع الأصلية.

ومن خلال هذا نجدهم قد حددوا الشمال الحقيقي.

والفلك الفرعوني لم يتهموا به عكس بلاد الرافدين ولاسيما بالدورة القمرية.

واهتموا بالشمس لأنها كانت ترمز للإله رع.

(انظر: تقويم.

تنجيم.

دوائر الحجر.

ستونهنج.

أهرامات).

موسوعة حضارة العالم-أحمد محمد عوف-صدرت: 1421هـ/2000م


158-الحضارة (تنجيم)

تنجيم:: Astrology هو علم التنبؤ الغيبي.

وقد نشأ في بلاد مابين النهرين بشمال العراق.

وكان أحد فروع علم الفلك (مادة).

وكان يعني بالطالع للتعرف عل أمور مستقبلية.

ومارس السومريون والبابليون فن التنجيم (مادة) من خلال مراقبة الشمس والقمر والنجوم والمذنبات وأقواس قزح للتنبؤ بالأوبئة والمحاصيل والحروب.

وفي سنة 1000 ق.

م.

أصبح لدي البابليين والآشوريين مجموعة دلائل نجمية للقياس التنبؤي عليها.

فحددوا من خلالها الأيام السيئة الطالع وأيام السعد.

وكان القواد في المعارك يستعينون بالمنجمين لتحديد مواعيد المعارك الحربية.

ولأنهم كانوا يعتقدون أن الفرد حياته ومصيره مرتبطان بالنجوم والكواكب.

وكان قدماء المصر يين والبابليين يعتقدون أن هذه النجوم والكواكب تؤثر علي الحياة فوق الأرض.

وانتقل التنجيم للأغريق من بلاد الفرس و مابين النهرين.

وكان يلقن بواسطة الكهنة بالمعابد.

وكان لكل من قدماء المصر يين والبابليين فلكهم الخاص بهم.

فلقد عثر علي تقاويم فوق أغطية التوابيت الفرعونية ترجع لسنة 2000-1600ق.

م.

ووجد أن أسقف المقابر المملكة الحد يثة فد زينت بصور النجوم التي كانت تري بالسماء وأطلق عليها أسماؤها.

كما وجد في بلاد ما بين النهرين تشكيلات لصور النجوم.

وكان البابليون يتنبؤن بدقة بالخسوف والكسوف للشمس والقمر.

وتاريخ الفلك يبدأ منذ عصر ماقبل التاريخ حيث كان الإنسان الأول قد شغل تفكيره بالحركة الظاهرية المتكررة للشمس والقمر وتتابع الليل حيث يظهر الظلام و تظهر النجوم وحيث يتبعه النهار لتتواري في نوره.

وكان يعزي هذا للقوي الخارقة لكثير من الآلهة.

فالسومريون (مادة) كانوا بعتقدون أن الأرض هضبة يعلوها القبة السماوية.

وتقوم فوق جدار مرتفع علي أطرافها البعيدة.

واعتبروا الأرض بانثيون (مادة) هائل تسكن فوق جبل شاهق.

والابليون (مادة) إعتقدوا أن المحيطات تسند الأرض والسماء.

والأرض جوفاء تطفو فوق مياهها ومركزها بها مملكة الأموات.

لهذا ألهت الشمس والقمر وتصورت الحضارات القديمة أنهما يعبران قية السماء فوق عربات تدخل من بوابة مشرق الشمس وتخرج من بوابة مغرب الشمس.

وهذه المفاهيم بنيت علي أساسها إتجهات المعابد الجنائزية.

وكان قدماء المصريين يعتقدون أن الأرض مستطيل طويل يتوسطها نهر النيل الذي ينبع من نهر أعظم يجري حولها تسبح فوقه النجوم الآلهة.

والسماء ترتكز علي جبال بأركان الكون الأربعة وتتدلي منها هذه النجوم.

لهذا كان الإه رع يسير حول الأرض باستمرار.

ليواجه الثعبان أبوبي (رمز قوي الظلام الشريرة) حتي يصبحا خلف الجبال جهة الغرب والتي ترفع السماء.

وهناك يهزم رع ويسقط.

فيحل الظلام.

وفي الصباح ينتصر رع علي هذه القوي الشريرة.

ويستيقظ من جهة الشرق.

بينما حورس (مادة) إله القمريسير بقاربه ليطوف حول العالم.

وكان القمر بعتبر إحدي عينيه.

و يلاحقه أعداؤه لفقيءهذه العين بإلقائها في النيل وينجحوا مجتمعين في هذه المهمة فيظلم الفمر.

لكن الإله رع يهب لنجدة عين حورس (القمر) ويعيدها لحورس.

وكان الصينيون يعتبرون الأرض عربة ضخمة في أركانها أعمدة ترفع مظلة (السماء) وبلاد الصين تقع في وسط هذه العربة ويجري النهر السماوي (النهر الأصفر) من خلال عجلات العربة ز ويقوم السيد الأعلي المهيمن علي أقدار السماء والأرض بملازمة النجم القطبي بالشمال بينما التنينات تفترس الشمس والقمر.

لكن في القرن الثاني ق.

م.

وضع الفلكي الصيني (هياهونج) نظرية السماء الكروية حيث قال أن الكون بيضة والأرض صفارهاوقبة السماء الزرقاء بياضها.

والكلدانيون (مادة) من خلال مراقبتهم لحركة الشمس ومواقع النجوم بالسماء وضعوا تقويمهم (انظر: تقويم).

واستطاعوا التنبؤ من خلال دورتي الشمس والقمر بحركتيهما ما مكنهم من وضع تقويم البروج حيث ريطوا فيعا بين الإنسان وأقداره.

وأخضعوا فيها إخضاع حركات النجوم لمشيئة الآلهة.

لهذا توأموا بين التنجيم (مادة) والفلك.

ومن خلال تقويم البروج تمكنوا من التنبؤ بكسوف الشمس وخسوف القمر.

لكنهم لم يجدوا لها تفسيرا.

وكان تقويمهم يعتمد أساسا علي السنو القمرية التي لم تكن تتوافق مع الفصول المناخية.

وكان قدماء المصريين منذ 3000 سنة ق.

م.

أمكنهمة الفيام بالرصد الفلكي وقياس الزمن وتحديده من خلال السنة والأشهر.

وبنوا الأهرامات (مادة) أضلاعها (وجوهها) متجهة للجهات الأربع الأصلية.

ومن خلال هذا نجدهم قد حددوا الشمال الحقيقي.

والفلك الفرعوني لم يتهموا به عكس بلاد الرافدين ولاسيما بالدورة القمرية.

واهتموا بالشمس لأنها كانت ترمز للإله رع.

(انظر: تقويم.

تنجيم.

دوائر الحجر.

ستونهنج.

أهرامات).

وكان فلكيو المايا يقومون بعمليات حسابية صعبة من بينها تحديد اليوم والإسبوع من التاريخ التقويمي لأي سنة منذ آلاف السنين في الماضي او المستقبل.

وكانوا يستخدمون مقهوما للصفر رغم عدم وجود الحساب والكسور العشرية.

وعرفت جضارة المايا الكتابة الرمزية (الهيروغليفية) كما عرفت التقويم عام 613ٌ.

م.

والسنة الماياوية 18 شهر كل شهر 20 يوم.

وكان يضاف للسنة 5 أيام نسيء يمارس فيها الطقوس الدينية وعرفوا الحساب.

وكان متطورا.

فالوحدة نقطة والخمسة وحدات قضيب والعشرون هلال.

وكانوا يتخذون اشكال الإنسان والحيوان كوحدات عددية.

وكان الفلكيون القدماء لديهم قد لاحظوا حركات الشمس والقمر والكواكب.

وصنعوا تقويمهم من خلال حساباتهم وملاحظاتهم الفلكية لهذه الأجرام السماوية.

وكانت ملاحظات الفلكيين تتنبأ لتبشرهم بالأحداث والساعات السعيدة في كل أنشطتهم الحياتية, ولاسيما في الزراعة أو الحرب.

وحسب الفلكيون سنة كوكب الزهرة 583,92 يوم (584 يوم).

وكانت الأيام حسب الرقم 20 أساس الحساب الماياوي.

وقد وجدت تواريخ منقوشة علي الحجر.

وكانالعرب يستعملون الأسطرالاب.

(مادة).

موسوعة حضارة العالم-أحمد محمد عوف-صدرت: 1421هـ/2000م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com