نتائج البحث عن (وَيُعَبِّرُ)

1-العربية المعاصرة (أشر)

أشِرَ يَأشَر، أَشَرًا، فهو أَشِر.

* أشِر الرَّجلُ: بطِر واستكبر ومرحِ ونشِط (أشِر الفقيرُ عندما اغتنى- {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [قرآن]).

أشَّرَ على يؤشِّر، تَأْشيرًا، فهو مُؤشِّر، والمفعول مُؤشَّر عليه.

* أشَّر على الطَّلب: وقَّع عليه، وضع عليه علامة أو إشارة برأيه (أشَّر على قرار التعيين بالموافقة- أشَّر على جواز سفره: وضع عليه سمة المرور أو الإذن بالإقامة).

أشِر [مفرد]: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من أشِرَ.

أَشَر [مفرد]: مصدر أشِرَ.

تأشيرة [مفرد]:

1 - اسم مرَّة من أشَّرَ على.

2 - سمة تُوضع على جواز سفر تمنح حقّ الدُّخول إلى قطر من الأقطار أو الخروج منه أو المرور به (حصل أخيرًا على تأشيرة السَّفر إلى خارج البلاد).

3 - إشارة أو ختم أو توقيع يُوضع على ورقة من الأوراق الرسميَّة دلالة على الاطلاع عليها.

مُؤشِّر [مفرد]: جمعه مؤشِّرون (للعاقل) ومؤشِّرات (لغير العاقل):

1 - اسم فاعل من أشَّرَ على.

2 - علامة (توجد مؤشِّرات كثيرة تدلّ على انفراج الأزمة).

3 - إبرة الميزان أو عقرب السَّاعة.

4 - عود من خشب أو حديد يمسك به الشّخص ليشير إلى مكان محدّد على خريطة أو لوحة (شرح الدرس مستعينًا بمؤشِّر).

5 - أداة تستخدم للضبط أو للإشارة إلى محَطّة إذاعيَّة معيّنة لتوضيح الصوت أو تحويله.

6 - [في الاقتصاد] بند إحصائيّ مفرد يبيّن التغيّر النسبيّ في سعر أو قيمة، أو التغيّر النسبيّ في متغيّر اقتصاديّ عامّ مقارنة بفترة سابقة، ويعبَّر عنه بنسبة مئويّة تُحسب على اعتبار أن مستوى الفترة السابقة هو الرقم 100.

* المُؤشِّرة: شريط يوضع بين صفحات كتاب للإشارة إلى موضع معيَّن.

* مؤشِّر البُورْصَة: مؤشِّر يدلّ على اتجاهات الأسهم والأسعار وتطوُّرها من خلال بعض العيِّنات المرجعيَّة.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


2-العربية المعاصرة (حصل)

حصَلَ/حصَلَ على/حصَلَ ل/حصَلَ من يَحصُل، حُصولًا، فهو حاصل، والمفعول محصول عليه.

* حصَلَ الشَّيءُ: ثبت، بقي وذهب ما سواه (حصَل اتِّفاقٌ بين الدَّولتين- {وَحَصَلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [قرآن]).

* حصَلَ على كذا: أدركه، ناله، تملّكه (حصَل على وظيفة/المال/الجائزة/اللّقب/معلومات مهمّة/لقمة العيش/شهادة تأمين).

* حصَلَ لفلانٍ على شيء: تمكَّن من جعله في حوزته (حصل له على وظيفة).

* حصَلَ له أمرٌ: حدث ووقع (حصَل له ما منعه من الحضور- حصَل ذلك مرَّة).

* حصَلَ من كذا: نتج ونشأ (القوّة التي تحصُل من اتِّحاد المسلمين تكون أعظم من الحاصلة من اتِّحاد العرب).

استحصلَ يستحصل، استحصالًا، فهو مُستحصِل، والمفعول مُستحصَل.

* استحصل الحكمَ: [في الفقه] استنبطه واستخرجه (ملكة الاستحصال هي الشرط الأوَّل في الفقيه).

تحصَّلَ/تحصَّلَ على/تحصَّلَ ل/تحصَّلَ من يتحصَّل، تحصُّلًا، فهو مُتحصِّل، والمفعول مُتحصَّل عليه.

* تحصَّل الشَّيءُ: تجمَّع وثبت (تحصَّل لديه مالٌ وفيرٌ عن بيع منتجاته) (*) كلامٌ يحصِّل المحبّة: أي يوحي بها.

* تحصَّل على الشَّيء: حصل عليه، أدركه وناله (تحصّل على فرصة عمل).

* تحصَّل لفلان: تهيَّأ له (تحصَّل له أن يدرس لغةً أجنبيّة).

* تحصَّل من الأمر كذا: نتج عنه، نشأ وتولَّد (تحصَّل من المفاوضات أنّ الاتفاق ممكن).

حصَّلَ يحصِّل، تحصيلًا، فهو مُحصِّل، والمفعول مُحصَّل.

* حصَّل الشَّيءَ والأمرَ:

1 - خلَّصه وميَّزه من غيره (حصَّل الذَّهبَ من حجر المعدن- {أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ. وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [قرآن]).

2 - أدركه وناله (حصَّل الكتابَ).

3 - أحرزه، اكتسبه، جمعه (حصَّل المالَ/العلمَ- حصَّل الضَّرائبَ: جباها).

تحصيل [مفرد]:

1 - مصدر حصَّلَ (*) بغير تحصيل: بغير فهم، بدون فطنة- تحصيل حاصل: معروف لا جديد فيه أو متوقّع.

2 - [في علوم النفس] إنجاز في ميدان معيَّن وخاصّة في المجال الدِّراسيّ.

* تحصيل حاصل: [في الفلسفة والتصوُّف] تكرار الشَّيء الواحد بألفاظ مختلفة، وقد لا يخلو من مغالطة أحيانًا.

* شهادة التَّحصيل: شهادة تمنحها بعضُ المعاهد، أو المؤسَّسات الدِّينيّة.

* الفجوة التَّحصيليَّة: قصور التّلاميذ في التّحصيل النّاشئ عن خلفيّتهم الاجتماعيّة أو البيئيّة أو الاقتصاديّة.

حاصِل [مفرد]: جمعه حواصِلُ (لغير العاقل):

1 - اسم فاعل من حصَلَ/حصَلَ على/حصَلَ ل/حصَلَ من.

2 - ما خلُص من الفضّة ونحوها من حجارة المعدن.

3 - مخزن، مستودع.

* حاصلُ المال: باقيه بعد الحساب (كان الحاصلُ من الرِّبح زهيدًا في هذه السَّنة).

* حاصل الأمر: خلاصتُه (هذا حاصل الموضوع- هذا حاصل كلامه: غرضه وفحواه) (*) الحاصل/والحاصل: تقال اختصارًا للكلام، ومعناها: وخلاصة القول، وجملة القول.

* حاصل الجمع أو الضَّرب: [في الجبر والإحصاء] نتيجته، ما يحصل بعمل الضرب من الأعمال الحسابيّة (تدرّب الطِّفلُ على معرفة الحاصل من الضَّرب والجمع).

* حاصل الذَّكاء: نسبة حاصل اختبار العُمْر العقليّ إلى العمر الفعليّ ويُعبَّر عنه بنسبة مئويّة (طفل نسبة ذكائه 90: متوقّد العقل).

حاصِل [مفرد]: جمعه حاصِلات: غلَّة (تميَّزت الحاصلات الزراعيّة هذا العام بالجودة والوفرة).

حَصَّالة [مفرد]: صندوق مغلق مثقوب، يُحفظ فيه ما يُدّخر من النّقود (يضع الأطفالُ جزءًا من مصروفهم في الحصَّالة).

حُصول [مفرد]: مصدر حصَلَ/حصَلَ على/حصَلَ ل/حصَلَ من.

حَصيلة [مفرد]: جمعه حَصائِلُ:

1 - ما اكتُسب من الأموال وغيرها، ما نتج من توظيف المال والجهد (حصيلة الأرباح/البيع/الضَّرائب- ما حصيلتُك؟).

2 - نتيجة (كانت حصيلةُ الاصطدامات أربعةَ قتلى).

3 - بقيّة (ما حصيلة المخزون من الحبوب في هذه السَّنة؟).

حَوْصَلَة [مفرد]: جمعه حَوصَلات (لغير المصدر) وحواصِلُ وحَواصيلُ (لغير المصدر): (انظر: ح و ص ل - حَوْصَلَة).

حُوَيْصِلَة [مفرد]: (انظر: ح و ص ل - حُوَيْصِلَة).

مُحَصِّل [مفرد]:

1 - اسم فاعل من حصَّلَ.

2 - من يجمع المستحقّ للدَّولة والشَّركات ونحو ذلك (محصِّلُ الضَّرائب/الكهرباء).

مُحصِّلة [مفرد]: صيغة المؤنَّث لفاعل حصَّلَ.

* مُحصِّلةُ الشَّيءِ: خلاصتُه وفحواه (محصِّلةُ الموضوع/الموقف).

مَحصُول [مفرد]: جمعه محصولات ومحاصيلُ:

1 - اسم مفعول من حصَلَ/حصَلَ على/حصَلَ ل/حصَلَ من.

2 - حاصِل2؛ غَلَّة، ثمر، مُنتَج زراعيّ (المحصولات/المحاصيل الزراعيَّة) (*) ما له محصولٌ ولا معقول: ما له رأي.

3 - خلاصة (هذا محصول كلامه: مفاده ومعناه، مضمونه).

4 - مبلغ من المال ناتج عن مشروع تجاريّ أو جمع التبرعات (محصول اليوم وفير).

* تنوُّع المحاصيل: الزِّراعة المتتابعة للأرض نفسها بمحاصيلَ مختلفة لتحسين الخصوبة والحدّ من الأمراض والحشرات.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


3-العربية المعاصرة (دل)

دلَّ دَلَلْتُ، يَدُلّ، ادْلُلْ/دُلَّ، دَلالةً ودِلالةً، فهو دَالّ ودليل، والمفعول مَدْلول.

* دلَّ الشَّخصَ إلى الشَّيءِ/دلَّ الشَّخصَ على الشَّيءِ: أرشده وهداه إليه، قاده، عيَّن له المكانَ (مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ [حديث] - {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} [قرآن]) (*) خيرُ الكلام ما قلَّ ودلَّ: أفضل القول ما يعبّر عن معنى كثير بوجيز الألفاظ- مَوْقِفٌ يدلُّ على ذكاءٍ/مَوْقِفٌ يدلُّ على خجلٍ: يَنُمُّ عنه.

دلَّ/دلَّ على دَلَلْتُ، يَدِلّ، ادْلِلْ/دِلَّ، دَلالًا، فهو دالّ، والمفعول مدلول عليه.

* دلَّت الفتاةُ:

1 - اتَّصفت بالسَّكينة والوقار، وحسُنتْ هيئتُها وطريقتُها، ويوصَف به الرجُل كذلك (دلَّت المرأةُ).

2 - تغنَّجت وتلوَّت.

* دلَّت المرأةُ على زوجها: أظهرت الجرأةَ عليه في تكسُّرٍ ومَلاحةٍ، كأنّها تخالفه وما بها من خلافٍ (ما دلَّكِ عليّ؟: ما جرَّأكِ عليّ؟).

دلَّ/دلَّ على دَلِلْتُ، يَدَلّ، ادْلَلْ/دَلَّ، دلاًّ ودَلالًا، فهو دَالّ، والمفعول مَدْلُول عليه.

* دلَّتِ الفتاةُ: دلَّ2؛ اتّصفت بالسكينة والوقار وحَسُنت هيئتُها وطريقتُها.

* دلَّتِ المرأةُ على زوجها: دلَّ2؛ أظهرت الجرأةَ عليه في تكسُّر وملاحةٍ، كأنّها تخالفه وما بها من خلافٍ.

أدلَّ ب/أدلَّ على يُدِلّ، أدْلِلْ/أدِلَّ، إدْلالًا، فهو مُدِلّ، والمفعول مُدَلّ به.

* أدلَّ الشَّخصُ بكذا: افتَخر به، ازْدَهى به (أدلَّ بشجاعته أو بفضله- أدلّ بحسبه ونسبه).

* أدلَّ على فلانٍ: وثِقَ بمحبَّته فتجرَّأ عليه، عامله بلا تكلُّف (أدلّ فأمَلّ [مثل]: أظهر من الدَّلال ما أدّى إلى الضَّجر والملل).

استدلَّ ب/استدلَّ على يستدِلّ، استَدْلِلْ/استَدِلَّ، اسْتِدلالًا، فهو مُسْتدِلّ، والمفعول مُسْتَدَلّ به.

* استدلَّ بالنُّجوم: اتَّخذها دليلًا في سفره، توجَّه نحوها.

* استدلَّ بالشَّيءِ على الشَّيء: اتَّخذه دليلًا عليه، وجد فيه ما يرشد إليه (استدلَّ بالبصمات على الجاني- استدلَّ بالتجربة على صدق نظريَّته).

* استدلَّ على الشَّيءِ:

1 - تعرَّف عليه، وتوصَّل إلى حقيقته (استدلَّ على المجرم).

2 - طلب أن يُدلّ عليه (استدلّ على الطريق).

اندلَّ على يندلّ، انْدَلِلْ/انْدَلَّ، اندِلالًا، فهو مُنْدَلّ، والمفعول مُنْدَلّ عليه.

* اندلَّ على الطَّريقِ: مُطاوع دلَّ1: أُرْشِد، اهتُدي إليه.

تدلَّلَ على يتدلَّل، تَدَلُّلًا، فهو مُتدَلِّل، والمفعول مُتدَلَّل عليه.

* تدلَّلَ عليه: أظهر الجرأةَ عليه، تملّقه، صانَعه (تدلّل الصَّديقُ على صديقه).

* تدلَّل على أُمِّه: تغنّج معها وداعبها ولاطفها.

* تدلَّلتِ المرأةُ على زوجِها: دلّت، أظهرت الجرأةَ عليه في تكسُّر وملاحة كأنّها تخالفه وما بها من خِلاف (*أفاطمَ مهلًا بعض هذا التدلُّل*).

دلَّلَ/دلَّلَ على يُدلِّل، تدلِيلًا، فهو مُدَلِّل، والمفعول مُدَلَّل.

* دلَّل الطِّفْلَ: رفَّهَه وتساهل في تربيته ومعاملته، دلَّعه، لاطفه وداهنه (دَلَّل ولدَه/نَفْسَه).

* دلَّل على المسألةِ: أقامَ الدليلَ على صحَّتها، أثبتها بالدَّليل.

* دلَّل على السِّلْعةِ: عرضها للبيع مناديًا عليها بصوت مرتفع، باعها بالمزاد.

اسْتِدْلال [مفرد]:

1 - مصدر استدلَّ ب/استدلَّ على.

2 - [في الفلسفة والتصوُّف] انتقال الذِّهن من أمرٍ معلومٍ إلى أمرٍ مجهولٍ، أو بحثٌ عقلِيٌّ منظَّمٌ لبلوغ حقيقة مجهولة انطلاقًا من حقيقة معلومةٍ (اسْتِدْلال مَنْطِقيٌّ).

3 - [في الفلسفة والتصوُّف] استنتاج قضيّة من قضيّة أخرى، أو استنتاج قضيّة من قضايا أخر.

4 - [في الفقه] ذِكْر دليل ليس بنصٍّ ولا إجماعٍ ولا قياس شرعيّ.

* علم الاستدلال الخطّيّ: علم تفسير الخطّ.

* استدلال مباشر: [في الفلسفة والتصوُّف] ما كانت عمليَّة الاستدلال فيه محصورة بين قضيَّتين اثنتين.

* استدلال غير مباشر: [في الفلسفة والتصوُّف] الذي تستنبط فيه النتيجة من قضيَّتين أو أكثر.

اسْتِدْلاليّ [مفرد]:

1 - اسم منسوب إلى اسْتِدْلال: (قام بحثه على أسس استدلاليّة لا حدسيّة).

2 - تجريبيّ؛ قائِمٌ على البحث العَقْليّ المنظَّم بالانتقال من مُقدِّمات إلى نتائج أو من حالات خاصَّة إلى مبادئ عامَّة (طريقةٌ اسْتِدلاليَّة- تفكير استدلاليّ).

دالّ [مفرد]: مؤنثه: دالّة، والجمع المؤنث دَالاّت ودوالُّ:

1 - اسم فاعل من دلَّ ودلَّ/دلَّ على ودلَّ/دلَّ على.

2 - [في العلوم اللغوية] صفة تُطلق على الكلمات التي تشير إلى شيء بعينه مميَّزًا عن غيره، مثال ذلك: أسماء الإشارة والضمائر.

* اللَّحن الدَّالّ: [في الموسيقى] نصّ أو مقطع موسيقيّ له سمة مُميِّزة أو عنصر مُميِّز.

* المصباح الدَّالّ: [في الطبيعة والفيزياء] مصباح كهربيّ صغير يُستخدم ليدلّ على أنّ الكهربائيّة عاملة.

* الشَّكل الدَّالّ: [في الثقافة والفنون] المثال أو النَّموذج الذي يَمثُل في ذِهن الفنّان أو الأديب ويحتذيه في التَّأليف، ومن جهة أخرى يمكن اعتباره الشَّكل الإجماليّ الذي يستنبطه القارئ أو المستمع أو المشاهِد للأثر الذي يقدَّم إليه.

دالَّة [مفرد]: جمعه دَالاّت ودوالُّ:

1 - مؤنَّث دالّ.

2 - ما تتجرَّأ به على صديقك الحميم بسبب مكانتك عنده (له عليه دَالَّة).

3 - [في الجبر والإحصاء] متغيِّر تتوقّف قيمتُه على متغيِّر آخر (دالَّةٌ عكْسِيَّةٌ/تكامليّةٌ).

4 - [في الحاسبات والمعلومات] مؤشّر يتحرّك على شاشة العرض يُبيِّن موقع الرَّمز المطلوب إدخاله أو تصحيحه أو حذفه.

* الدَّالّة الموجبة: [في الطبيعة والفيزياء] الدَّالَّة الرِّياضيَّة المستخدمَة في ميكانيكا الكمّ لوصف انتقال الموجة المقرونة بأيّ جسيم أو مجموعة جسيمات.

* الدَّالَّة المُثلَّثيَّة: [في الهندسة] دالَّة يُعبَّر عنها كمعدَّل جانبي المثلّث القائم الزَّاوية الذي يتضمَّن تلك الزَّاوية.

دَلال [مفرد]:

1 - مصدر دلَّ/دلَّ على ودلَّ/دلَّ على.

2 - تغنُّج وتدلُّل، رفاهية وترف.

3 - زهو، عجب، تيه.

* الدَّلال من المرأة: حُسْن حديثها ومَزْحها.

دَلالَة [مفرد]: جمعه دلالات (لغير المصدر) ودلائلُ (لغير المصدر):

1 - مصدر دلَّ.

2 - ما يُفْهم من اللَّفظ عند إطلاقه (لهذه الكلمات دلالات خاصّة).

3 - دليل، شاهد، برهان (ما هي دَلالتك على صحّة الخبر؟).

4 - إشارةٌ، علامة (وضعت إدارة المرور دلالات للطرق).

* علم الدَّلالة: [في العلوم اللغوية] علم الدِّلالة، العلم المختصّ بدراسة معاني الألفاظ والعبارات والتَّراكيب اللُّغويَّة في سياقاتها المختلفة.

* انحطاط الدَّلالة: [في العلوم اللغوية] تغيُّر معنى الكلمة على مرّ الزَّمن من دلالة مرغوب فيها إلى دلالة غير مرغوب فيها.

دِلالة [مفرد]:

1 - مصدر دلَّ (*) بدلالة كذا.

2 - دَلالةٌ، ما يُفْهم من اللَّفظ عند إطلاقه (لهذه الكلمة دِلالة خاصّة).

3 - حِرْفَةُ الدَّلاّل.

4 - أُجْرةُ الدَّلاّل.

* علم الدِّلالة: [في العلوم اللغوية] علم الدَّلالة، العلم المختصّ بدراسة معاني الألفاظ والعبارات والتّراكيب اللُّغويَّة في سياقاتها المختلفة.

دَلّ [مفرد]: مصدر دلَّ/دلَّ على (*) امرأةٌ ذاتُ دَلٍّ: ذاتُ شَكْلٍ تدلُّ به.

دَلاَّل [مفرد]:

1 - سِمْسار، من يتوسّط ويجمَعُ بين البائع والمشتري (دَفَعَ عمولةً لدَلاَّلٍ- إنها دَلاّلة ماهِرة).

2 - من يُنادِي على السِّلعة لتباع بالمزاد، أو بالمُساومة (سُوقُ الدَّلاّلين- ينادي الدّلاّل على بضاعته).

دَلِيل [مفرد]: جمعه أدِلاَّءُ (للعاقل) وأدِلّة ودلائلُ:

1 - صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من دلَّ1: مرشد.

2 - كتابٌ يدلُّ القارئ ويرشده إلى معلومات خاصَّة بموضوعٍ ما (دليل الفنادق/المطبوعات/الجامعات/الهاتف).

3 - ما يُسْتَدَلُّ به، برهانٌ، بيِّنة، حجّة، شاهد، علامة يعرف بها المسافرون طريقهم (أقامَ الدَّليلَ على براءته- {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} [قرآن]) (*) بدليل كذا.

4 - ما يعبّر عن شيءٍ، ما يمكّن من وجود شيءٍ آخر مرتبط به (الضَّحك دليل الفرح- اللَّون الأسود دليلُ الحِداد) (*) دلائل الصُّبح: أوائله وتباشِيره.

5 - أداة من أدوات البحث في الوثائق مهمَّتها توجيه الباحث للتعرّف على الوحدة الأرشيفيّة المتكاملة.

6 - [في الفلسفة والتصوُّف] استنتاج من الخاصّ إلى العام، ومن العلّة إلى المعلول.

7 - [في الكيمياء والصيدلة] مادَّة يتغيَّر لونُها بتغيّر الرقم الهيدروجينيّ للوسط، وبذلك تستخدم دليلًا لمعرفة الطبيعة الحمضيّة أو القلويَّة لمحلول.

* الدَّليل الإبهاميّ: الثقوب النصفيّة في حافّة المعجم ونحوه يستعين بها المرء للاهتداء إلى الصَّفحة الأولى من الحرف الذي يريد مراجعته.

* الدَّليل الرَّأسيّ: نسبة أقصى عرض الرَّأس إلى أقصى طوله مضروبة في مائة.

* الدَّليل الوجهيّ: نسبة طول الوجه إلى عرضه مضروبًا في مائة.

* دليلُ خُلْف: أن يُبرهَن على المطلوب في قضيّة رياضيَّة بإظهار استحالة نقيضه.

* دليل ظرفيّ: [في القانون] دليل متعلِّق بالعديد من الملابسات التي قد يستدلّ منها القاضي أو هيئة المحلِّفين على حقيقة الواقعة التي هي موضع الجدل.

* دليلُ انكسار: [في الهندسة] نسبة جيب زاوية السّقوط إلى جيب زاوية الانكسار.

* رقم دليليّ: [في الاقتصاد] بند إحصائيّ مفرد يبيِّن التغيّر النسبيّ في سعر أو قيمة أو في متغيِّر اقتصاديّ عام مقارنة بفترة سابقة، ويعبَّر عنه بنسبة مئويّة تُحسب على اعتبار أن مستوى الفترة السابقة هو الرقم 100.

مَدْلول [مفرد]: جمعه مَدْلولات:

1 - اسم مفعول من دلَّ.

2 - معنًى، مَفْهوم (مدلول الكلمات- كلمة لها مدلولات عِدّة).

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


4-العربية المعاصرة (رأى)

رأَى يَرَى، رَه، رُؤيةً، فهو راءٍ، والمفعول مَرئِيّ.

* رأى الهلالَ: أبصره بالعَيْن (رأيتُ النجمَ يسبح في السماء- حجب الضبابُ الرُّؤية- {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [قرآن]) (*) ألم تر إلى كذا: كلمة تقال عند التعجُّب- داري ترى داره: تقع مُقابِلةً له- رأى النُّجومَ ظهرًا: حلَّ به مكروه لم يعهده من قبل- رأى منه عجبًا: رأى شيئًا لم يكن يتوقعه- لا يرى أَبْعَد مِن أَنْفه: قاصر الفهم، ليس لديه بُعْد نظر للأمور.

* رأى الشَّخصُ الأمرَ: تأمَّله، تروَّى فيه.

* رأى الشَّيءَ: وَجَدَه {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا} [قرآن].

رأَى يَرَى، رَه، رُؤْيا، فهو راءٍ، والمفعول مَرْئِيّ.

* رأى في منامه كذا: حَلَم (رأيْتُ فيما يرى النّائم أنّني أطوف حول الكعبة- {يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [قرآن]).

رأَى يَرَى، رَه، رَأْيًا، فهو راءٍ، والمفعول مَرْئيّ.

* رأى العالِمُ شيئًا: اعتقده ونادى به (عبّر عن رأيه بصراحة- رأى في الفقه رأيًا).

* رأى فلانًا عالمًا: ظنّه أو علمه كذلك (يرى المؤمنُ الحسابَ حقًّا- رأيتُني على حقٍّ) (*) أرأيت: ماذا تظن؟ أخبرني- أُراه: أظنه- تُرى/يا تُرى/يا هل تُرى: يا رجل هل ترى وتظن؟ لإفادة التعجّب مع طلب الرأي من السامع.

أرى/أرى ب يُري، أرِ، إراءةً، فهو مُرٍ، والمفعول مُرًى.

* أراه طريقَ الصَّواب: عرَّفه به وأطلعه عليه، جعله ينظر إليه (أراه كيف تدور الآلة- أراه البضاعةَ- {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [قرآن]).

* أرى اللهُ بفلان: نكّل به، وأرى عدوَّه فيه ما يشمت به.

ارتأى يرتئي، ارْتإِ، ارْتِئاءً، فهو مُرْتَئٍ، والمفعول مُرْتَأًى.

* ارتأى الشَّخصُ الأمرَ:

1 - اعتقده ونادى به (ارتأى الفقهاءُ حلَّ كذا- ارتأى مَخْرجًا من مشكلته- ارتأى في الأمر رأيًا- ارتأى بالأمر رأيًا).

2 - شكّ فيه.

* ارتأى الشَّيءَ: رآه؛ أبصره بعينه.

استرأى يسترئي، اسْتَرْإِ، استرئاءً، فهو مُسْتَرْءٍ، والمفعول مُسْتَرْأًى.

* استرأى الشَّخصَ:

1 - عدَّه مُرائيًا (يُظهر أمامَ الناس خلاف ما يُبطن).

2 - استشاره (استرأى عالِمًا/أباه).

3 - طلب رؤيتَه (استرأى أمَّه وهو يُحتضَر).

* استرأى الشَّيءَ: أبصره.

تراءى يتراءى، تَراءَ، ترائيًا، فهو مُتراءٍ.

* تراءى القومُ: أبصر بعضُهم بعضًا ({فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} [قرآن]: التقتا).

* تراءى الشَّيءُ: ظهَر وبدا (يتراءى لي أن مصلحتك في إكمال تعليمك: يبدو لي ذلك- تراءى المنظر في خيالي).

راءى يُرائي، راءِ، رِياءً ورِئاءً ومُراءاةً، فهو مُراءٍ، والمفعول مُراءًى.

* راءى النَّاسَ: نافَق، أظهر أمامهم خلاف ما هو عليه (راءَى رئيسَه- {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِيَاءَ النَّاسِ} [قرآن] - {يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إلاَّ قَلِيلًا} [قرآن] - {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} [قرآن]: مرائين لهم التماسًا للجاه وطلبًا للثناء).

إراءة [مفرد]: مصدر أرى/أرى ب.

ارتئاء [مفرد]: مصدر ارتأى.

استرئاء [مفرد]: مصدر استرأى.

رِئة [مفرد]: جمعه رِئون ورِئات: [في التشريح] عضو التنفس وهما رئتان: رئة يُمنى ورئة يُسرى، للإنسان والحيوان تقعان في التجويف الصدريّ، تتّصفان بالمرونة، تمتصان الأكسجين من هواء الشهيق وتُخرجان ثاني أكسيد الكربون مع هواء الزفير (*) تنفَّس بملء رئتيه: شعر بالراحة.

* قصبة الرِّئة: [في التشريح] أنبوب رقيق الجدار من الأنسجة الغضروفيّة الغشائيّة ينحدر من الحنجرة إلى القصبات الهوائية ويحمل الهواء إلى الرِّئة.

* ذات الرِّئة: [في الطب] التهاب يصيب فصًّا أو فصوصًا من الرئة، وهو عبارة عن ورم حارّ ينتج عن دمٍ أو صفراء أو بلغم مالح عفن.

رِئويّ [مفرد]: اسم منسوب إلى رِئة: (تدرّن رِئويّ- سلٌّ رِئويّ).

* الصِّمام الرِّئويّ: [في التشريح] أحد صمامين أحدهما على فتحة الأورطي، والآخر على فتحة الشريان الرِّئوي، وكلّ منهما مصنوع من ثلاث شرفات هلاليّة الشَّكل تعمل على منع الدَّم من العودة إلى البطين.

* اضطرابات رئويَّة: [في الطب] مجموعة من الأمراض يصاحبها عدم القدرة على تنفُّس الأكسجين إلى الرئة، وطرد ثاني أكسيد الكربون، وهذه الاضطرابات تشمل أيضًا الربو والالتهاب الرئويّ وغيرها، ولها أسباب كثيرة كالتدخين ومرض الجهاز التنفُّسيّ وتعطُّل القوى التنفُّسيّة.

رَأْي [مفرد]: جمعه آراء (لغير المصدر):

1 - مصدر رأَى.

2 - حُكم وتقدير لعمل أو موقف معيّن وكثيرًا ما يتأثَّر بالظروف والملابسات (لا تتعجّل في إصدار رأيكَ- باتِّفاق الآراء- اختلاف الرَّأي لا يفسد للودّ قضيّة- لا رأي لمن لا إرادة له [مثل] - الرَأْي قبل شجاعة الشُّجعان.. هو أوّلٌ وهي المحلّ الثاني) (*) أخْذُ الرَّأي على أمر: إجراءُ تصويتٍ عليه- أصحاب الرَّأي والقِياس/أهل الرَّأي والقِياس: الفقهاء الذين يستخرجون أحكامَ الفتوى باستعمالهم رأيهم الشّخصيّ والقياس الشرعيّ فيما لا يجدون فيه حديثًا أو أثرًا- استطلاع رأي: طريقة فنِّيَّة لجمع المعلومات التي تُستخدم في معرفة رأي مجموعة من الناس في مكان مُعيَّن ووقت مُعيَّن عن موضوع مُعيَّن- الرَّأي العامّ: رأي أكثريَّة النَّاس في وقت مُعيَّن إزاء موقف أو مشكلة من المشكلات- ذو الرَّأي: الحكيم العاقل، ذو البصيرة والحذق بالأمور- رأي الإجماع: الرَّأي الذي تتَّحد فيه كل الآراء الفرديّة والجماعيَّة، وتظهر فيه عقيدة عامَّة يقف الجميع خلفها- رأي الأغلبيّة: هو الذي يُمثِّل ما يزيد على نصف عدد أفراد الجماعة، وهو في الواقع عبارة عن عدَّة آراء أقليَّات مختلفة اجتمعت حول هدف مُعيَّن- رأي الأقلِّيَّة: رأي ما يقلّ عن نصف عدد أفراد الجماعة ويُعبِّر عن آراء طائفة من هؤلاء الأفراد- رأيته رأي العين: وقع عليه بصري- سجين الرَّأي: من يُسجن بسبب اختلافه في الرَّأي مع النظام الحاكم- صاحب رأي/أصحاب رأي: شخص أو مجموعة أشخاص يجسِّدون خصائص ذهنيّة معيّنة- فلانٌ صُلْب الرَّأي/فلان عند رأيه: متمسك برأيه لا يتزحزح عنه- قويم الرَّأي: ذو آراء ووجهات نظر مبنيّة على ما هو صحيح أو المقصود بأن يكون صحيحًا.

3 - ما ارتآه الإنسان واعتقده.

4 - [في الفقه] استنباط الأحكام الشرعيّة في ضوء قواعد مقرّرة.

* صحافة الرأي: صحافة تختار من مادة الرأي العام ما يلائم دعوتها السياسيّة ويؤيِّد فكرتها الحزبيّة.

* قسم الرَّأي: [في القانون] إدارة الفتوى وأخذ الرَّأي القانونيّ.

رِئْي [مفرد]: ما رأته العين من حالٍ حسنة وكسوة ظاهرة {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} [قرآن].

رُؤْيا [مفرد]: جمعه رُؤًى (لغير المصدر):

1 - مصدر رأَى (*) الرُّؤيا الصَّادقة: أول طريق لكشف الغيب، وقد بدأ الرّسول محمد صلّى الله عليه وسلم نبوَّته بالرّؤيا الصادقة.

2 - ما يَحْلُم به النائم (رؤيا طيِّبة- {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ} [قرآن]).

رؤية [مفرد]: جمعه رُؤًى (لغير المصدر):

1 - مصدر رأَى.

2 - حالة أو درجة كون الشّيء مرئيًّا (*) اختلاط الرُّؤية: غموض الأمر وعدم ظهور الصواب فيه- ذو رؤية: مُظْهر أو مُبْدٍ آراء صائبة- رؤية ثاقبة: رأيٌ سديد- رؤية عربيّة موحَّدة- مدى الرُّؤْية: أبعد مسافة يمكن رؤيتها دون أيّة مساعدة من أيّة أداة تحت ظروف جويّة معيّنة.

* الرُّؤية:

1 - إبصار هلال رمضان لأوّل ليلة فيه (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ يومًا) [حديث] (*) لَيْلَةُ الرؤية: الليلة التي يعقبها شهر رمضان.

2 - الرؤية بالعين؛ وهي إدراك الأشياء بحاسّة البصر وعليها المعوّل في الشهادة.

* رؤية مجسَّمة:

1 - [في الطبيعة والفيزياء] إدراك الأجسام مجسَّمة بكلتا العينين.

2 - [في الأحياء] نوع من الرؤية تتميَّز بها الحيوانات التي لها عينان موجَّهتان للأمام وترى صور الأشياء ذوات عمق.

رِياء [مفرد]:

1 - مصدر راءى.

2 - تظاهر بخلاف ما في الباطن (فعل ذلك رياءً- أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ، قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الرِّيَاءُ) [حديث].

مِرآة [مفرد]: جمعه مَراءٍ ومرايا: اسم آلة من رأَى1: [في الطبيعة والفيزياء] سطح مستوٍ أو منحنٍ يعكس الضّوء عكسًا تنشأ عنه صورة لما أمامه، وقد تُصنع من فلزّ أو من زجاج مُغطَّى ظهره بالفضَّة (مرآة عاكسة- الكلمة مرآة الفكر) (*) صورة المرآة: صورة منعكسة كما تظهر في مرآة.

مَرْأَى [مفرد]:

1 - اسم مكان من رأَى1: منظر، مظهر؛ مكان النّظر (يخبر مَرْآه عن داخله- امرأة حَسَنة المرأى).

2 - في حدود الرُّؤية والمشاهدة (فعله على مرأى ومَسْمَع من الجميع).

مَرْئيّ [مفرد]:

1 - اسم مفعول من رأَى ورأَى ورأَى (*) الصُّورة المرئيّة: الجزء المرئيّ للبثّ التليفزيونيّ- وسيلة مرئيّة: مساعدة بصريّة كالنموذج البيانيّ النسبيّ أو شريط من الصور أو شريط فيديو حيث تقدِّم هذه الوسائل المعلومات بصريًّا.

2 - مُنشأ أو مصمَّم لإبقاء الأجزاء المهمّة في مكان يمكّن رؤيته أو يسهل الوصول إليه.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


5-العربية المعاصرة (رطب)

رطَبَ يَرطُب، رَطابةً ورُطُوبةً، فهو رَطْب.

* رطَب البلحُ: لان وحلا قبل أن يصير تمرًا.

رطُبَ يَرطُب، رُطوبةً، فهو رَطْب ورَطيب.

* رطُب الهواءُ: نَدِي، ابتلّ وتشبع بالبُخار (رطُبت الأرضُ- لا تكن رَطْبًا فتُعْصر ولا يابسًا فتُكْسَر [مثل] - {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [قرآن]) (*) رطُب لساني بذكره: أكثرت من الإشادة به.

رطِبَ يَرطَب، رُطوبةً ورَطَابةً، فهو رَطْب.

* رطِب الشَّيءُ: رطُبَ؛ نَدِي، ابتلَّ وتشبَّع بالبُخار (رطِب الهواءُ- رطِب العُشبُ بعد هطول المطر) (*) رطِبَ لساني بذكره: أكثرت من الإشادة به.

أرطبَ يُرطب، إرطابًا، فهو مُرطِب، والمفعول مُرطَبٌ (للمتعدِّي).

* أَرطب البلحُ: رطَب؛ لان وحلا قبل أن يصير تمرًا.

* أرطب النَّخلُ: جاء بالرُّطَب، أي ثمر النخل حين يلين ويحلو، قبل أن يصير تمرًا.

* أرطب الثَّوبَ: بلَّله وندّاه (أرطب المطرُ النباتَ).

ترطَّبَ يترطَّب، ترطُّبًا، فهو مُترطِّبُ.

* ترطًَّب الزَّرعُ: مُطاوع رطَّبَ: ابتلَّ (ترطَّب لساني بذكرك).

* ترطَّب الجوُّ: تندَّى.

رطَّبَ يُرطِّب، ترطيبًا، فهو مُرطِّب، والمفعول مُرطَّبٌ (للمتعدِّي).

* رطَّب البلحُ: رطَب؛ صار ليِّنًا حُلوًا قبل أن يصير تَمْرًا.

* رطَّبَ الثَّوبَ: أرطبه؛ بلَّله وندَّاه (رطَّب الأرضَ- قام بترطيب القميص قبل كيِّه) (*) رطَّبَ قلبه: برَّده وسكَّنه وهدّأه بمعنى طيَّب خاطره وأنعم عليه- رطَّبَ لسانَه بذكر الله: أكثر من التسبيح والتحميد والتكبير وتلاوة القرآن. إلخ- رطَّبَ لسانه بذكر فلان: أكثر من الإشادة به.

ترطيب [مفرد]: مصدر رطَّبَ.

* ترطيب كحوليّ: مزج الكحول بالحبر بنسب مُعيَّنة آليًّا ونقلها إلى لوح الطباعة أثناء إنجاز الطبعة.

رَطابة [مفرد]: مصدر رطَبَ ورطِبَ.

رَطْب [مفرد]: جمعه رُطْب ورُطُب: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من رطَبَ ورطُبَ ورطِبَ (*) فرسٌ رَطْب العنان: وديع سلِس القياد.

رُطَب [جمع]: وجمع الجمع رِطاب وأرطاب، ومفرده رُطَبَة: ما نضج من البلح قبل أن يصير تَمْرًا {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [قرآن].

رَطْبة [مفرد]: جمعه رَطَبات ورَطْبات ورِطاب ورَطْب: كُلُّ ما أكل من النبات غضًّا طريًّا (نباتات/فواكه رَطْبة).

رُطوبة [مفرد]:

1 - مصدر رطَبَ ورطُبَ ورطِبَ.

2 - نزلة مرض، تسبِّبه برودة الهواء النديّ.

3 - [في البيئة والجيولوجيا] حالة الجوّ فيما يتَّصل ببخار الماء الذي يحتويه، وتقدَّر عادة تقديرًا نسبيًّا أو مطلقًا (حين ترتفع الرُّطوبة يزيد الإحساس بحرارة الجوِّ) (*) قياس درجة الرّطوبة: قياس كمّيّة بخار الماء في الجوّ- مقياس رطوبة الجَوّ: المقياس الذي يستخدم الفرق في القراءات بين الترمومتر المبتلّ والجاف لقياس رطوبة الجو النسبيَّة.

4 - [في التشريح] سائل شفاف لا لون له موجود بين قرنيّة العين وبلوّريتها.

* رطوبة نسبيَّة: [في البيئة والجيولوجيا] معدَّل كميّة الماء المتبخِّر في الهواء إلى الكميَّة الأعلى التي يمكن للهواء أن يحملها في الدرجة ذاتها، ويُعبَّر عنها بنسبة.

رَطيب [مفرد]: جمعه رِطاب، والمؤنث رطيبة، والجمع المؤنث رطيبات ورِطاب: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من رطُبَ.

مِرْطاب [مفرد]: مقياس الرطوبة.

مُرطِّبات [جمع]: مفرده مُرطِّب: مشروبات حارّة أو مثلجة (شاي، قهوة، ليمونادة، عصير فواكه ونحوها) (ستُقدم المُرطِّبات بعد المحاضرة- محَلّ مُرطِّبات).

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


6-العربية المعاصرة (سمك)

سمَكَ يسمُك، سُمُوكًا، فهو سَامِك.

* سمَك الشَّيءُ: علا وارتفع (سِنَامٌ سَامِكٌ).

سمَكَ يَسمُك، سَمْكًا، فهو سامِك، والمفعول مَسْموك.

* سمَك اللهُ السَّماءَ: رفعها وأعلاها (سمَكَ البناءَ: رفعَ سقفَهُ- إنّ الذي سَمَك السَّماءَ بنى لنا.. بيتًا دعائمه أعزُّ وأطولُ).

سمَّكَ يسمِّك، تسميكًا، فهو مُسمِّك، والمفعول مُسمَّك.

* سمَّك الجدارَ: زاد من سُمْكه، جعله أكثر سماكة.

سِماكان [مثنى]: مف سِماك: [في الفلك] نجمان نَيِّران، أحدهما في الشَّمال وهو السِّماك الرَّامح، والآخر في الجنوب وهو السِّماك الأعزل.

سَماكة [مفرد]: سُمْك، غِلَظ وثخانة (اشترى لوحًا خشبيًّا أكثر سَماكة).

سِماكة [مفرد]:

1 - تربية السّمك.

2 - تجارة السّمك.

سَمْك [مفرد]: جمعه سُمُوك (لغير المصدر):

1 - مصدر سمَكَ.

2 - سَقْف {ءَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا. رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [قرآن].

3 - [في الجبر والإحصاء] البُعد الثالث بعد الطّول والعرض، ويعبّر عنه بالارتفاع.

سَمَك [جمع]: وجمع الجمع أسْماك، ومفرده سَمَكَة:

1 - [في الحيوان] حيوان فقاريّ مائيّ خيشوميّ التَّنفس، وهو أنواع كثيرة لكلِّ نوع اسم خاصّ يميّزه (صيّاد السَّمَك- السمك الكبير يأكل الصغير- سمك بياض/مرجان) (*) خياشيم السَّمك: أعضاء التنفُّس فيه- سَمَكيّ الشَّكل: له شكل سَمَكة.

2 - [في الطب] مرض جلديّ خلقيّ وراثيّ، يصيب البشرة ويجعلها خشنة ومتقشّرة باستمرار.

* سَمَك القِرْش: [في الحيوان] أسماك كبيرة ذات أفواهٍ مقوّسةٍ مزوّدة بأسنانٍ حادّة، وهي ماهرة في السباحة وتفترس الأحياء من كلّ نوع، وهي خطيرة على حياة الإنسان.

* عَيْن السَّمكة: [في الطب] غِلَظ في صلابة، يكون في الجلد، ينشأ من ضغط أو احتكاك، كما يحدث في أصابع القدم من ضغط الحذاء.

سُمْك [مفرد].

* سُمْك الشَّيء: غلظه وثخانته (سُمْك كتاب- سُمْك اللوح الخشبيّ ثلاثة سنتيمترات).

سَمّاك [مفرد]: بائع السّمك (يعمل سَمّاكًا).

سُمُوك [مفرد]: مصدر سمَكَ.

سَمِيك [مفرد]: غليظ، ثخين، عكس رقيق (شريحة سَمِيكة من اللحم- نَسيج سَمِيك- سميك الجلد).

سُميكاءُ [مفرد].

* السُّمَيْكاء: [في الحيوان] الحُساس؛ سمك صغير يصل طوله إلى عشرة سنتيمترات جسمه أسطوانيّ فضيّ اللَّون إلى خضرة، يعيش في البحر الأحمر والبحرين والمحيط الهندي، يؤكل مجفَّفًا.

مِسْماك [مفرد]: جمعه مَسامِيكُ: عمود يُرفع به الخِباء أو أيّ شيءٍ آخر كالكَرمة.

مَسْمَكة [مفرد]: جمعه مَسامِكُ:

1 - مكان بيع السّمك (في المسمكة اليوم سمَك طازج).

2 - حوض يُجدّد ماؤُه ويُربّى فيه السَّمَك.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


7-العربية المعاصرة (أفاد)

أفادَ/أفادَ من يُفيد، أَفِدْ، إفادةً، فهو مُفيد، والمفعول مُفاد.

* أفاد مالًا أو علمًا ونحوَهما:

1 - اكتسبه، انتفع به.

2 - اقتناه (أفاد معرفةً/ثروة).

* أفاده مالًا أو علمًا ونحوهما: أكسبه إيّاه، نفّعه به (أفادته نصائحُ أبيه) (*) أفادكم اللهُ: دعاء بالإفادة.

* أفاده بكذا: أعلمه به (أفاده بخطأ سلوكه).

* أفاد من نجاح المشروع التِّجاري: انتفع منه.

استفادَ/استفادَ من يستفيد، استَفِدْ، استفادةً، فهو مُستفيد، والمفعول مُستفاد.

* استفادَ مالًا أو علمًا أو نحوَهما: اكتسبه، انتفع به (استفاد الكثيرَ من المعلومات من قراءة هذا الكتاب).

* استفاد منه: جنى منه نفعًا، حصل منه على فائدة، استغلّه (استفاد من مواهبه/ظروفه/وضع أبيه).

إفادة [مفرد]:

1 - مصدر أفادَ/أفادَ من.

2 - وثيقة رسميّة تصدر عن سلطة إداريّة تثبت أمرًا مُعيَّنًا.

3 - شهادة مقرونة بقسم يتم تدوينها وتسجيلها للاستخدام فيما بعد.

استفادة [مفرد]: مصدر استفادَ/استفادَ من.

فائدة [مفرد]: جمعه فوائدُ:

1 - مَنْفَعة، ما يُستفاد من مال أو علم أو نحوهما (في السفر/القراءة فوائد كثيرة- عاد عليه بفائدة- مصائبُ قوم عند قومٍ فوائدُ [مثل]: يعني أن المكروه الذي يحلّ بشخص يمكن أن يحمل الخير لشخص آخر في الوقت ذاته) (*) الفائدة الإضافيَّة: ميزة مضافة للأجور- الفائدة الميكانيكيّة: معدَّل القوَّة الخارجة التي تنتج من آلة إلى معدَّل القوّة المدخلة.

2 - [في التجارة] ربح المال في زمن محدّد بسعر محدّد (سعر الفائدة- أقرضه مالًا بفائدة كبيرة).

3 - [في الاقتصاد] مبلغ يدفع مقابل استخدام رأس المال، ويعبَّر عنه عادة بنسبة مئويّة هي سعر الفائدة.

* الفائدة البسيطة: [في الاقتصاد] فائدة تُدفع على رأس المال الأصليّ.

* الفائدة القانونيَّة: [في الاقتصاد] فائدة يحدِّد سعرها القانون في حالة عدم تعيينها في العقد المُبرم بين المتعاقدين.

* الفائدة الرِّبَوِيَّة: [في الاقتصاد] فائدة تتجاوز الحدّ الذي عيّنه القانون لسعر الفائدة.

* فائدة مركَّبة: [في الاقتصاد] فائدة تُحسب على مبلغ أصليّ مُضافًا إليه الفوائد المتراكمة حتى تاريخ الاستحقاق.

* سِعْر الفائدة: [في الاقتصاد] النسبة المئويّة لفائدة المال في السَّنة.

* فوائد عن التَّأخير: [في التجارة] فوائد مستحقّة من جرّاء التأخير في السَّداد، تسري ابتداءً من يوم الإنذار.

مُستفاد [مفرد]:

1 - اسم مفعول من استفادَ/استفادَ من.

2 - فائدة.

مُفاد [مفرد]: اسم مفعول من أفادَ/أفادَ من.

* مفاد الأمر: محتواه، مضمونه، ما يستفاد منه (نشرت تصريحات مُفادُها وجود أزمة بين البلدين).

مُفيد [مفرد]: مؤنثه: مُفيدة:

1 - اسم فاعل من أفادَ/أفادَ من (*) المختصَر المفيد: ما قلَّ ودلَّ.

2 - ذو فائدة، مؤدّ إلى منفعة (كتاب/عمل مُفِيد).

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


8-العربية المعاصرة (قرط)

قرَطَ يقرِط، قَرْطًا، فهو قارط، والمفعول مَقْروط.

* قرَط النَّباتَ: قطّعه قطعًا في القِدْر (قرَط الملوخيَّةَ).

* قرَط الثّوبَ أو الزرعَ: قصَّ ما به من طول (قرَط البرسيمَ) (*) الأمور لا تُؤخذ قرطًا هكذا!: مبتورة دون معلومات كافية للحكم عليها.

قرِطَ يَقرَط، قَرَطًا، فهو أَقْرَطُ.

* قرِطت الأذنُ: كان بها قُرْط.

تقرَّطَ يتقرّط، تقرُّطًا، فهو مُتقرِّط.

* تقرَّطتِ الفتاةُ: لبست القُرطَ، وضعت القُرطَ في أذنيها.

قرَّطَ/قرَّطَ على يقرِّط، تقريطًا، فهو مُقرِّط، والمفعول مُقرَّط.

* قرَّط الفتاةَ: ألبسها القُرْطَ (قرَّطت مولودَتها- قرّط خطيبتَه بأقراط ذهبيَّة).

* قرَّط الشّيءَ: قرَطه، قطَّعه قطعًا في القِدْر (قرَّطت الملوخيّةَ).

* قرَّط على زوجته: أعطاها قليلًا قليلًا (قرَّط عليه في النفقة).

أقْرَطُ [مفرد]: جمعه قُرْط، والمؤنث قَرْطاءُ، والجمع المؤنث قَرْطاوات وقُرْط: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من قرِطَ.

قَرْط [مفرد]: مصدر قرَطَ.

قَرَط [مفرد]: مصدر قرِطَ.

قُرط [مفرد]: جمعه أقْراط وأقْرِطة وقِراط وقِرَطة وقُروط:

1 - ما يُعَلَّق في شحمة الأذن من ذهب أو فضة أو نحوهما (قُرْط ماسيّ- زيّنت أذنيها بقرطين من الذَّهب- تحلَّت أذنا سلمى بقُرط).

2 - [في النبات] نبات عُشْبِيّ حَوْليّ كَلَئِيّ من الفصيلة القَرْنيّة، أو هو البَرسيم.

قِيراط [مفرد]: جمعه قَرَاريطُ:

1 - رُبُع سُدُس الدينار.

2 - وحدة من وحدات الوزن تساوي 200 ملليجرام، اتُّخذت معيارًا لوزن الأحجار الكريمة والفِلِزَّات النَّفيسة، ويدلّ عدد القراريط على نسبة الذَّهب في سبيكة ما، ويعبَّر عنها بعدد من الأجزاء من أصل أربعة وعشرين جُزْءًا.

3 - جُزْء من أربعة وعشرين جزءًا من الشَّيء، ومنه قيراط الأرض الذي هو جزء من أربعة وعشرين جزءًا من الفدّان، وهو يعادل مائةً وخمسة وسبعين مترًا مربّعًا (اتّخذ مزرعة على مساحة قيراطين).

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


9-العربية المعاصرة (قسطاس)

قُسْطاس/قِسْطاس [مفرد]:

1 - آلة، ميزانٌ دقيق، يعتبر أضبط الموازين وأقْومَها، ويُعبَّر به عن العدالة (فلان يقيس الأمر بمقياسه ويزنه بقسطاسه- زن بالقسطاس المستقيم وبع غاليًا [مثل أجنبيّ] - {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} [قرآن]).

2 - ميزان للنَّقْد الذَّهَبيّ أو الفِضّيّ.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


10-العربية المعاصرة (قصد)

قصَدَ/قصَدَ إلى/قصَدَ في/قصَدَ ل يَقصِد، قَصْدًا، فهو قاصِد، والمفعول مَقْصود (للمتعدِّي).

* قصَد الشاعرُ: أنْشأ القصائِدَ ونظمها (قصَد الشّاعرُ قصيدة جديدة).

* قصَد المكانَ/قصَد إلى المكان/قصَد للمكان: توجَّهَ إليه عامدًا (قصَد الحِجازَ- يقصُد الحجَّاجُ البيتَ الحرام كلَّ عام) (*) قصَد قصدَه: نحا نحوه.

* قصَد السفرَ: نواه، عَزَمَ عليه.

* قصَدَ الشَّيءَ: عناه، أراده (قصَد أن يُبرهن لك- نِسْيان مقصود- لم أقصد أحدًا في كلامي: لا ألمِّح إلى أحد).

* قصَد في الأمر: توسَّط واعتدل، لم يُفْرط ولَمْ يُفرِّط، توسَّط، ضدّ أفرط (قصَد في النفقة- {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [قرآن]: توسَّط فيه بين الدَّبيب والإسراع- {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَتَّبَعُوكَ} [قرآن]: سهلًا غير شاقّ).

اقتصدَ/اقتصدَ في يقتصد، اقْتِصادًا، فهو مُقْتَصِد، والمفعول مُقتصَد.

* اقتصد الشَّخصُ بعضَ دخله: ادّخَره (يقتصد كُلَّ شهْرٍ مبلغًا من المال- اقتصد في شبابك لتَصْرِف في شيخوختك [مثل أجنبيّ]: يماثله في المعنى الحديث الشريف: خذ من دنياك لآخرتك، ومن شبابك لهرمك، ومن صحّتك لسقمك).

* اقتصد في النَّفقة/اقتصد في معيشته: توسَّط بين الإفراط والتقتير، ضدّ أفرط (اقتصد في المصروفات/استهلاك المياه- لم يهلك من اقتصد ولم يفتقر من زهد [مثل] - ألا فاستقم في كُلِّ أمرك واقتصد.. فذلك نهجٌ للصِّراط قويمُ- {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} [قرآن]: طائفة معتدلة).

قصَّدَ يقصِّد، تَقْصِيدًا، فهو مُقصِّد، والمفعول مُقَصَّد.

* قصَّد الشاعرُ الشِّعرَ: نقّحَهُ وجوّده وهذّبه (كان الشّاعر زهير يقصِّد شِعرَه قبل روايته للنّاس).

اقْتِصاد [مفرد]:

1 - مصدر اقتصدَ/اقتصدَ في.

2 - [في الاقتصاد] علم يبحث في الإنتاج وفي توزيع الثّرْوة وطُرْق اسْتِهلاكها (أستاذ في الاقْتِصاد السِّياسيّ- الاقْتِصاد الرَّأسماليّ/الاشتراكيّ/الحرّ) (*) اللِّيبراليّة الاقتصاديَّة: نظريّة اقتصاديَّة تتبع سياسة عدم التدخُّل والسوق الحرّة وقاعدة الذهب.

* الاقتصاد السِّياسيّ: [في الاقتصاد] علم يهتمّ بدراسة القوانين التي تتحكَّم في عمليّة الإنتاج وتوزيع الوسائل التي يُشبع بها الإنسانُ حاجاته.

* اقْتِصاد اجتماعيّ: [في الاقتصاد] مَجْموع المعارف الخاصّة بالوَضْع العُمّاليّ وتحْسينه.

* اقْتِصاد مُوجَّه: نظام تتولَّى فيه الدَّولةُ توجيهَ الاقْتِصاد ومسئوليَّة الأمور الاقْتِصاديّة بكاملها.

* اقتصاد السُّوق: حركة الإنتاج والتوزيع والتبادل وفق قواعد الاقتصاد الحرّ، المعتمِد على حرّيّة التجارة ورأس المال بعيدًا عن قبضة الدَّولة.

اقتصادويَّة [مفرد]:

1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى اقْتِصاد: على غير قياس (تبنَّى النظريّة الاقتصادويّة).

2 - مصدر صناعيّ من اقْتِصاد: نزعة تميل إلى تبسيط الأمور واختزالها (يتبيَّن لنا من موقف العرب تجاه الحرب على العراق أننا حيال اقتصادويّة عربيّة).

* الاقتصادويَّة الماركسيَّة: [في الاقتصاد] مذهب كارل ماركس القائل بأنَّ الأحداث والقُوَى الاقتصاديّة هي أساس جميع الظَّواهر التّاريخيّة والاجتماعيّة ومحرّكها الرّئيسيّ.

اقْتِصادِيّ [مفرد]:

1 - اسم منسوب إلى اقْتِصاد: كلّ ما له علاقة بالاقْتِصاد (تنمية/وسيلة نقل اقْتِصادِيّة- حصار اقْتِصادِيّ: تضييقٌ اقتصاديٌّ على بلد من البلدان- انطلاقة/آليَّة/أزمة اقْتِصادِيّة) (*) الاستكفاء الاقْتِصادِيّ: حالة بلد يكفي نفسه بنفسِه في الحقل الاقْتِصادِيّ أي يستغني عن الخارج لسدّ احتياجاته- الاقْتِصادِيّات: عناصر الاقْتِصاد عامّة- عقوبات اقْتِصادِيّة: إجراء اقتصادي تطبِّقه دولةٌ على أخرى كمقاطعة بضائعها أو الامتناع عن التَّصدير لها.

2 - مُتخَصِّص في الاقْتِصاد (باحث اقْتِصادِيّ).

* التَّوازُن الاقتصاديّ: [في الاقتصاد] نظريَّة اقتصاديّة حديثة مفادها أنّ هناك أسبابًا متعدِّدة تؤثِّر في تحديد قيم السِّلع بسبب التَّرابط بين جميع الظَّواهر الاقتصاديّة.

* النُّمُوّ الاقتصاديّ: [في الاقتصاد] زيادة في القيمة الاقتصاديّة لإنتاج السِّلع والخدمات، ويعبِّر ذلك النموّ عن القوة الاقتصاديّة لدولةٍ ما من خلال ناتجها الاقتصاديّ القوميّ.

* الإغراق الاقتصاديّ: [في الاقتصاد] تدفّق السِّلع نتيجة لفتح أبواب الاستيراد ممّا يؤدِّي إلى عجز الإنتاج المحلّيّ عن المنافسة إمّا لعدم جودة الإنتاج وإما لارتفاع التكلِفة.

قاصِد [مفرد]: جمعه قواصِدُ، والمؤنث قاصِدة، والجمع المؤنث قاصِدات وقواصِدُ: اسم فاعل من قصَدَ/قصَدَ إلى/قصَدَ في/قصَدَ ل.

* سفرٌ قاصِدٌ: سَهْل قريب {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَتَّبَعُوكَ} [قرآن].

قَصْد [مفرد]: جمعه قُصود (لغير المصدر):

1 - مصدر قصَدَ/قصَدَ إلى/قصَدَ في/قصَدَ ل.

2 - هدف، ونيَّة، عَمْد (أساء إليه من غير قَصْد- قَصْدي كذا- حسن القَصْد) (*) فعل كذا قَصْد كذا: فعله لأجله- فلانٌ على قَصْد: على رُشْدٍ- قَصْدًا: بنيّة واضحة وصريحة.

3 - استقامة الطريق.

4 - بيان الطريق الموصِل إلى الحقّ ({وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [قرآن]: المراد: بيان الطريق المستقيم).

5 - تُجاه (هو قَصْدك).

قَصْديَّة [مفرد]:

1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى قَصْد: (حاسبه على أعماله القصديَّة).

2 - مصدر صناعيّ من قَصْد: إرادة (الحكم على المتَّهم مرتبط بقصديَّة سلوكه).

* القَصْديَّة: [في علوم النفس] صفة لمواقف نفسيَّة موجَّهة، مكيَّفة وَفْق مستقبل قريب أو مباشر، وقيل هي تحضير فعل أو حالة ضميريّة بقصد أو عن عمد.

قصيد [مفرد]: جمعه قصائِدُ.

* القصيد من الشِّعر:

1 - سبعة أبيات فأكثر (*) بَيْتُ القصيد: الأمر المهمّ، خلاصة الموضوع، أحسن أبيات القصيدة وأنفسها.

2 - شعر مجوَّد منقَّح.

قصيدة [مفرد]: جمعه قصائِدُ: مجموعة من الأبيات الشِّعريّة متّحدة في الوزن والقافية والرَّويّ وهي تتكوّن من سبعة أبيات فأكْثر (قصيدة غزليّة) (*) بَيْتُ القصيدة: البيت المتضمّن غاية الشّاعر، أو أنفس أبياتها، أو مثل يُضرب في تفضيل بعض الشَّيء على كُلّه- مطلع القصيدة: أوّل بيت منها.

مَقْصَد [مفرد]: جمعه مقاصِدُ: مصدر ميميّ من قصَدَ/قصَدَ إلى/قصَدَ في/قصَدَ ل: قَصْد واتِّجاه (إلى مكَّة مَقْصَدي- سيّئ المقاصد).

مَقْصِد [مفرد]: جمعه مقاصِدُ:

1 - اسم مكان من قصَدَ/قصَدَ إلى/قصَدَ في/قصَدَ ل: (مَقْصِدي مكّة).

2 - غاية، فحوى (مَقْصِدي من فعل كذا مساعدته- مقاصد الشريعة: الأهداف التي وضعت لها- مقاصد الكلام: ما وراء السطور أو ما بينها).

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


11-العربية المعاصرة (قيراط)

قِيراط [مفرد]: جمعه قَرَاريطُ:

1 - ربُعُ سُدُس الدينار.

2 - وحدة من وحدات الوزن تساوي 200 ملليجرام، اتُّخذت معيارًا لوزن الأحجار الكريمة والفِلِزَّات النَّفيسة، ويدلّ عدد القراريط على نسبة الذَّهب في سبيكة ما، ويعبَّر عنها بعدد من الأجزاء من أصل أربعة وعشرين جُزْءًا.

3 - جُزْء من أربعة وعشرين جزءًا من الشَّيء، ومنه قيراط الأرض الذي هو جزء من أربعة وعشرين جزءًا من الفدان، وهو يعادل مائةً وخمسة وسبعين مترًا مربعًا (اتّخذ مزرعة على مساحة قيراطين).

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


12-العربية المعاصرة (كثف)

كثُفَ يَكثُف، كثافةً، فهو كَثيف.

* كَثُف النسيجُ: غلُظ وثخُن (كثُفتِ السُّحُبُ- كثافة الصّوت).

* كثُف اللّبنُ أو السّائلُ: تماسك وغلُظ.

* كثُفت الغابةُ: كثُرت أشجارُها وازدحمت مع الالتفاف والتراكب.

تكاثفَ يتكاثف، تكاثُفًا، فهو مُتكاثِف.

* تكاثف السَّحابُ: كثُف؛ غلُظ وثخُن، كثُر وتراكب (تكاثف الضّبابُ- تكاثفتِ الغيومُ).

* تكاثف المعدِنُ: تضامَّت أجزاءُ جسمه وتقبَّض حجمُه من غير نقصٍ.

تكثَّفَ يتكثَّف، تكثُّفًا، فهو مُتكثِّف.

* تكثَّف الشَّرابُ: صار غليظًا وسميكًا.

* تكثَّف الضَّبابُ: تجمّع وتلبَّد (تكثَّف البخار على النَّافذة).

كثَّفَ/كثَّفَ من يكثِّف، تكثيفًا، فهو مُكثِّف، والمفعول مُكثَّف.

* كثَّف الشَّيءَ/كثَّفَ من الشَّيءِ: كثَّره (تكثيف الإنتاج والتبادل الدوليّ- كثّف الزّعيمُ من نشاطه- كثّف العدوُّ من هجماته).

* كثَّف البخارَ: حوّله إلى سائل.

* كثَّف اللَّبن: جعله متماسكًا غليظًا.

* كثَّف تيّارًا كهربائيًّا: زاد طاقَتَه أو سَعَتَه.

* كثَّف دروسَه: ركّزها (تدريب مُكثَّف) (*) حليب مكثّف: حليب بقريّ يضاف إليه سكّر ويركّز بالتبخير.

تكاثُف [مفرد]:

1 - مصدر تكاثفَ.

2 - [في الطبيعة والفيزياء] تكثُّف، تكثيف، عمليّة يتحوَّل بها غاز أو بخار إلى سائل أو جامد، ويُطلق أيضًا على الناتج من هذه العمليّة.

3 - [في الكيمياء والصيدلة] تكثُّف، تكثيف، نوع من التفاعلات تتَّحد فيه جزيئات صغيرة لتكوِّن جزيئات كبيرة، كما تنفصل فيه جزيئات مثل جزيئات الماء.

تكثُّف [مفرد]:

1 - مصدر تكثَّفَ.

2 - [في الطبيعة والفيزياء] تراكم الكهربيّة على موصِّل.

3 - [في الطبيعة والفيزياء] تكاثف، تكثيف؛ عمليّة يتحوَّل بها غاز أو بخار إلى سائل أو جامد، ويُطلق أيضًا على النَّاتج من هذه العمليَّة.

4 - [في الكيمياء والصيدلة] تكاثف، تكثيف؛ نوع من التفاعلات تتَّحد فيه جزيئات صغيرة لتكوين جزيئات كبيرة، كما تنفصل فيه جزيئات مثل جزيئات الماء.

تكثيف [مفرد]:

1 - مصدر كثَّفَ/كثَّفَ من.

2 - [في الطبيعة والفيزياء] تكاثف، تكثُّف؛ عمليّة يتحوَّل بها غاز أو بخار إلى سائل أو جامد، ويُطلق أيضًا على الناتج من هذه العمليّة.

3 - [في الكيمياء والصيدلة] تكاثف، تكثُّف؛ نوع من التفاعلات تتَّحد فيه جزيئات صغيرة لتكوِّن جزيئات كبيرة، كما تنفصل فيه جزيئات مثل جزيئات الماء.

كثافة [مفرد]:

1 - مصدر كثُفَ.

2 - [في الطبيعة والفيزياء] نسبة كتلة المادَّة إلى الحجم الذي تشغله هذه الكتلة، ويُعبَّر عنها ب (جم/سم3)، فإذا كانت كتلة الحديد تساوي ألف جرام وحجمها 128.2 سم تكون كثافة الحديد تساوي 7.8 جم/سم.

* كثافة التَّيّار: [في الطبيعة والفيزياء] نسبة حجم أو مقدار تيّار سارٍ في مُوصِّل من جسيمات دون ذَرِّيّة إلى المنطقة ذات المقطع العرضي والمتعامدة لاتِّجاه حركة الجسيمات.

* كثافة اللَّون: [في الكيمياء والصيدلة] الدّرجة التي يظهر بها بوضوح.

* كثافة السُّكَّان: [في علوم الاجتماع] معدّل عدد السكّان في الكيلومتر المُرَبَّع.

كثيف [مفرد]: جمعه كِثاف، والمؤنث كثيفة، والجمع المؤنث كِثاف:

1 - صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من كثُفَ (*) رَجُل كثيف: ثقيل الظِّلّ غليظ المعاشرة.

2 - ما يسمح بمرور القليل من الضوء بسبب كثافة المادّة.

مِكْثاف [مفرد]: جمعه مكاثيفُ.

* مكثاف السَّوائل: [في الطبيعة والفيزياء] آلة تطفو في السّوائل تُتَّخذ لتعيين كثافتها.

مِكثافيّ [مفرد].

* ميزان مِكثافيّ: [في الطبيعة والفيزياء] خاصّ بقياس الكثافة المائيَّة.

مُكثَّف [مفرد]:

1 - اسم مفعول من كثَّفَ/كثَّفَ من.

2 - [في الطبيعة والفيزياء] معدن متضامّ الأجزاء مُتقبِّض الحجم.

مُكثِّف [مفرد]: جمعه مُكثِّفات (لغير العاقل):

1 - اسم فاعل من كثَّفَ/كثَّفَ من.

2 - مُقَوٍّ (الجهاز المُكثِّف في الراديو).

3 - [في الطبيعة والفيزياء] جهاز يتركَّب من أنبوبة يمرُّ بداخلها بخار سائل، ويبرَّد السطح الخارجيّ لهذه الأنبوبة بوسائل مُتعدِّدة، وبذلك يكثّف البخار المارُّ بها، ويتحوّل من الحالة الغازيّة إلى السَّائلة.

4 - [في الطبيعة والفيزياء] جهاز مؤلَّف من مجموعة من الموصِّلات الكهربائيّة المفصولة بعازل، ويستخدم لتكثيف الشّحنة الكهربائيّة وتخزينها.

* مُكثِّف ضوئيّ: [في الطبيعة والفيزياء] آلة تقوم فيها العدسات بتجميع الأشعّة في مساحة ضيّقة.

* مكثِّف جوامد: [في الطبيعة والفيزياء] جهاز يستعمل؛ لتركيز جسم جامد في سائل محلول.

* مُكثِّف شدّة الصّورة: أنبوب للصورة قادر على زيادة درجة إضاءة الصُّور 10000 مرّة.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


13-العربية المعاصرة (نسب)

نسَبَ يَنسُب ويَنسِب، نَسَبًا ونِسْبَةً، فهو ناسِب، والمفعول مَنْسوب.

* نسَب الشّخصَ: وصفه وذكر نَسَبه، أي: قرابته وأهله.

* نسَبه إلى فلان/نسَبه إلى كذا/نسَبه لفلان/نسَبه لكذا: عزاه إليه (نسَب تفوُّقه إلى زوجته- نسَب الخبرَ إلى مصدر موثوق- ينسب الفضلَ لمِن يستحقّه).

نسَبَ ب ينسِب، نَسِيبًا، فهو ناسب، والمفعول مَنْسوبٌ به.

* نسَب الشَّاعرُ بمحبوبته: وصف محاسنَها وتغزَّل بها (أجاد النَّسِيبَ في شعره).

استنسبَ يستنسب، استنسابًا، فهو مُسْتنسِب، والمفعول مُسْتنسَب.

* استنسب الشَّيءَ: وجده مناسبًا ملائمًا (استنسب الإقامةَ في هذا الحيّ).

انتسبَ/انتسبَ إلى ينتسب، انتسابًا، فهو مُنتسِب، والمفعول مُنتسَب إليه.

* انتسب الرَّجُلُ:

1 - ذكر نسبَه أي: قرابته (انتسب إلى قبيلة قريش).

2 - انتمى (انتسب إلى فريق رياضيّ/حزب سياسيّ/شُعبة دراسيَّة/أسرة كريمة- كان انتسابه إلى الحزب بداية عمل جاد).

* انتسب الطَّالبُ إلى كليَّة بالجامعة: سجّل اسمَه فيها ليدرس من الخارج (انتسب إلى كليّة الآداب/الحقوق/التجارة).

تناسبَ يتناسب، تَنَاسُبًا، فهو مُتناسِب.

* تناسب الشَّيئان: مُطاوع ناسبَ: تشاكلا، وتماثلا وتوافقا، عكسه تعارضا (لا يتناسب الجهد مع النتائج- تناسب العقابُ مع الجرم).

* تناسب القومُ: انتسبوا إلى أصولهم (تناسب الأشرافُ إلى آل البيت).

ناسبَ يناسب، مُناسبةً، فهو مُناسِب، والمفعول مُناسَب (للمتعدِّي).

* ناسب بين الشَّيئين: وفّق ونسَّق (ناسب بين الأجر وعدد ساعات العمل- ناسب بين الأقمشة في العرض).

* ناسبه الشّيءُ: لاءمه ووافق مزاجه (وفّر له عملًا يناسب مؤهلاته الذهنيّة والدراسيّة).

* ناسب الشّخصَ: شاكله (ناسبتِ المرأة زوجَها).

* ناسب عائلةً معروفة: صاهرها؛ تَزَوَّج منها.

تناسُب [مفرد]:

1 - مصدر تناسبَ.

2 - [في البلاغة] مراعاة النظير، أي أن يجمع في الكلام بين أمر وما يناسبه (*والطيرُ يقرأ والغدير صحيفة*).

3 - [في الجبر والإحصاء] تساوي نسبتين مثل: أ/ب ج/د (*) حدّ التَّناسب: هو العدد الواقع في كُلٍّ من النسبتين.

مُناسِب [مفرد]:

1 - اسم فاعل من ناسبَ (*) غير مناسب لكذا: غير موافق له- مناسب لكذا: موافق له.

2 - ملائم، لائق (جاء في الوقت المناسب- تعبير/موضوع مناسب- هذا الحلّ مناسب) (*) الرَّجل المناسب في المكان المناسب- لَوْنٌ مناسب: مُنْسجِم- مُناسبًا: ملائمًا، موافقًا.

3 - [في الجبر والإحصاء] ما له نفس النِّسبة.

مُناسَبة [مفرد]:

1 - مصدر ناسبَ (*) بمناسبة وبدون مناسبة: في كل وقت.

2 - فُرصة (طرح أفكاره في مناسبات عديدة- في مناسبات أخرى- اشتهر شوقي بشعر المناسبات- في كلِّ مناسبة).

3 - حفلة أو اجتماع أو عرس أو مأتم أونحو ذلك (تشاهده في المناسبات كلّها- حضر بدون دعوة إلى مناسبة خاصّة).

* أدب المناسَبات: [في الآداب] ما يلقى في المناسبات من خطب وقصائد في التهنئة والتعزية ونحو ذلك.

مُنتسِب [مفرد]:

1 - اسم فاعل من انتسبَ/انتسبَ إلى.

2 - طالب يدرس من خارج الجامعة (تقبل الكليّات النظريّة آلافًا من المنتسِبين كلّ عام).

مَنسوب [مفرد]: جمعه منسوبون ومناسيبُ (لغير العاقل):

1 - اسم مفعول من نسَبَ ونسَبَ ب.

2 - مُعدَّل، مستوى (تابع منسوب الفيضان- منسوب البحر/النهر: المستوى الذي يصل إليه في ارتفاعه- خفّ منسوب المياه).

3 - [في النحو والصرف] اسم يُزاد في آخره ياء مُشدَّدة مكسور ما قبلها تدلّ على نسبته إلى الاسم المجرّد منها (مِصْرِيّ- لُبْنانِيّ).

* علامة المنسوب: علامة سهميَّة لتعيين الارتفاع يضعها مسَّاحو الأراضي على جسم قرطاسيّ لموضع أو ارتفاع محدَّد مسبقا حيث تستخدم هذه العلامة كنقطة مرجع في أعمال المساحة.

نَسَب [مفرد]: جمعه أنساب (لغير المصدر):

1 - مصدر نسَبَ.

2 - تتابع النّسل في أسرة، قرابة بالاشتراك في الأبوين أو أحدهما (شجرة/سلسلة النسب: مخطط أو تخطيط بفرُوع تُظهر صلة الوراثة والقرابة- عريق/كريم النسب: شريف الأصل- {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ} [قرآن]) (*) علماء الأنساب: المهتمّون بالقرابات وبتتابع الأنسال في الأسرة الواحدة أو العِرق الواحد- قدح في نسبه: عابه، طعن فيه- كتاب الأنساب: سجلّ تدوّن فيه أنسابُ سلالات الخيل أو البقر أو نحوهما- وضيع النسب: ذو مولد غير رفيع.

3 - [في النحو والصرف] إلحاق الاسم ياءً مشددة مكسورًا ما قبلها للدلالة على نسبته إلى المجرد منها (مصريّ- لبنانيّ).

نِسْبَة [مفرد]: جمعه نِسْبات (لغير المصدر) ونِسَب (لغير المصدر):

1 - مصدر نسَبَ.

2 - مقدار (بلغت نسبةُ النجاح الثلثين).

3 - معدّل، كميّة (نسبة الوفيات/المواليد تختلف في البلدان النامية عنها في البلدان المتقدِّمة- زادت نسبة توزيع المجلّة هذا العام).

4 - تماثل بين علاقات الأشياء أو الكميَّات (نسبة 2 إلى كنسبة 5إلى 10).

5 - [في الجبر والإحصاء] نتيجة مقارنة كميّتين من نوع واحد بالأخرى (*) بالنسبة إلى كذا: بالنَّظر إليه وإضافةً إليه وبالقياس عليه.

* النِّسبة المئويَّة: [في الجبر والإحصاء] مقدار الشَّيء منسوبًا إلى مائة (بلغت نسبة التنمية 20).

* نسبة الذكاء: حاصل قسمة عمر الفرد العقليّ على عمره الزمنيّ مضروبًا في مائة.

* ثابت النِّسبة: مُتعلِّق بأسلوب أو شكل للوفاء بالدَّيْن عن طريق دُفعات متساوية على فترات مُتَّفق عليْها لفترة زمنيَّة مُحدَّدة.

نِسْبَويّ [مفرد]: اسم منسوب إلى نِسْبَة: على غير قياس (حركة نسبويّة: حركة منسوبة إلى نظريّة النسبيَّة لأينشتاين).

نِسْبيّ [مفرد]:

1 - اسم منسوب إلى نِسْبَة: خاصّ بالنظريّة النسبيّة.

2 - مُقيَّد بغيره مرتبط به؛ عكسه مُطلَق (مشاركة/ضريبة نسبيَّة- المعرفة البشريّة نسبيَّة- نسبيًّا لك الحقّ فيما تقول) (*) الأكثريَّة النِّسبيَّة: العدد الأكبر من أصوات المقترعين، بدون بلوغ الأكثريّة المطلقة، أو زيادة أحد المرشحين في الأصوات بالنسبة إلى غيره ولكن بدون بلوغ الأكثريّة المطلقة- نسبيًّا: بالمقارنة، بالمقابلة.

3 - ما هو محدود وتقريبيّ (لا يزال يسود الحالة هدوء نسبيّ).

* التَّمثيل النِّسبيّ: [في السياسة] محاولة توزيع المقاعد أو المناصب بالنِّسبة إلى القوى السِّياسيَّة المتنافسة في البرلمان أو في الحكومة أو في وظائف أخرى.

نِسْبيَّة [مفرد]:

1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى نِسْبَة.

2 - مصدر صناعيّ من نِسْبَة.

3 - [في الفلسفة والتصوُّف] مذهب يقول بأنّ المعرفة نسبيَّة غير مُطلقة.

* مبدأ النِّسبيَّة: [في الطبيعة والفيزياء] القول بتكافؤ صيغ القوانين الفيزيقيَّة كيفما اختلفت حركات الراصدين لها أو كيفما اختلفت حركات المراجع التي تسند تلك القوانين إليها.

* النَّظريَّة النِّسبيَّة: [في الطبيعة والفيزياء] النَّظريّة التي يتوصَّل فيها، على أساس مبدأ النِّسبيّة، إلى معرفة ما تقضي إليه من نتائج.

* رطوبة نسبيَّة: معدل كمِّيَّة الماء المتبخِّر في الهواء إلى الكمِّيَّة الأعْلى التي يمكن للهواء أن يحملها في الدرجة ذاتها ويعبَّر عنها بنسبة.

نَسّاب [مفرد]:

1 - صيغة مبالغة من نسَبَ ونسَبَ ب.

2 - عالم بالأنساب.

نسَّابة [مفرد]: جمعه نسَّابات: نسَّاب؛ كثير العلم بالأنساب، والتاء للمبالغة.

نسيب [مفرد]: جمعه أنْسِبَاءُ (لغير المصدر) ونُسَبَاءُ (لغير المصدر):

1 - مصدر نسَبَ ب.

2 - صِهْر، قريب (رجل نسيب: شريف معروف نسبه- فلان نسيب فلان: قريبه أو صهره) (*) حسيب نسيب: ذو حسب ونسب.

3 - [في الآداب] رقيق الشّعر في النساء، والحديث عن المرأة والتعريض بهواها وحبّها، ولا يخلو منه شعر في الأدب العربيّ في القديم وفي الحديث، وقديمًا كان في مقدِّمات القصائد، وقد تكون القصيدة نسيبًا كلّها.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


14-المعجم الوسيط (الحَضْرَةُ)

[الحَضْرَةُ]: الحضور.

يقال: كلَّمته بحَضرة فلان.

و- قُرْبُ الشيء.

ويقال: كنت بحضرة الدّار.

وحضرةُ الرجل: فِناؤه، وهو مكان حضوره، ويعبَّر بها عن ذي المكانة تجوّزًا، فيقال: أذِن حضرتُه بكذا.

(وهو موَلَّد).

و- المدينة.

و- عُدّة البناء من الآجُرّ والجِصّ وغيرهما.

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


15-المعجم الوسيط (السَّمْك)

[السَّمْك]: السَّقْف.

و- القامةُ من كل شيءٍ.

و- (في الرياضة): البُعد الثالث بعد الطول والعرض، ويعبر عنه بالارتفاع.

(والجمع): سُمُوكٌ.

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


16-المعجم الوسيط (السِّلْسِلَةُ)

[السِّلْسِلَةُ]: حَلقاتٌ ونحوها يتصل بعضها ببعض.

ويعبّر بها من الأَشياء المتتابعةِ.

فيقال: سلسلة مقالات أو مؤلَّفاتٍ وما أَشبه.

(وهي كلمة محدثة).

و- من البرق: ما استطال منه في عرض السحاب.

وسِلْسِلَةُ الجبال: نَسَقٌ من الجبال متَّصل بعضه ببعض.

(مما أقره مجمع اللغة العربية بالقاهرة).

(والجمع): سَلاسِل.

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


17-المعجم الوسيط (الصَّرْحُ)

[الصَّرْحُ]: القصر العالي.

وفي التنزيل العزيز: {قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} [النمل: 44].

و - البناء العالي الذاهب في السماء؛ ويعبِّر عنه المحْدَثون بناطحة السَّحاب.

وفي التنزيل العزيز: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر: 36].

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


18-شمس العلوم (الإِزَار)

الكلمة: الإِزَار. الجذر: ءزر. الوزن: فِعَال.

[الإِزَار]: معروف، يذكّر ويؤنث.

وفي الحديث: قال النبي عليه‌ السلام: «لك منها ما فوق الإِزار، وليس لك ما تحته»يعني الحائض.

ويقال: إِن الإِزار أيضًا العفاف.

ويعبّر عن المرأة بالإِزار.

ولذلك قيل في العبارة: إِزار الرجل امرأته، فما حدث بها من حدث فهو بامرأته كذلك قال بعض العرب لعمر بن الخطاب:

أَلَا أَبْلِغْ أَبا حَفْصٍ رسولًا *** فِدًى لَكَ مِنْ أَخِي ثِقَةٍ إِزَارِي

رسولًا: أي رسالة.

وأراد: فدى لك أهلي.

وقيل: أراد: نفسي، فعبّر بالإِزار عن نفسه لاشتمال الإِزار عليها، قال أبو ذؤيب في امرأة:

تَبَرَّأُ مِنْ دَمِّ القَتِيلِ وَبزِّهِ *** وقَدْ عَلِقَتْ دَمَّ القَتِيلِ إِزَارُها

أي نفسُها.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


19-شمس العلوم (الأَيْر)

الكلمة: الأَيْر. الجذر: ءير. الوزن: فَعْل.

[الأَيْر]: ذكَر الرجل.

ويعبّر عن الولد الذكر.

وفي حديث عليّ «مَنْ يَطُلْ أَيْرُ أَبِيه يَنْتَطِقْ به»

أي من كثر إِخوته اشتد ظهره، قال:

فَلَوْ شَاءَ، رَبّي كانَ أَيْرُ أَبِيكُم *** طَوِيلًا كأَيْرِ الحارِثِ بنِ سَدُوسِ

قال الأصمعيُّ: كان للحارث بن سدوس واحد وعشرون ذَكَرًا.

ولذلك قيل في تأويل الرؤيا: إِنَّ ذَكَر الرجل ولدُه من الذكور؛ فإِن رأى فيه طولًا وقوة وزيادة كان كذلك في ولده، وإِن رأى فيه ضعفًا ونقصًا كان كذلك.

وإِن رأى أنه انقطع فهو انقطاع الذكور من ولده.

وقد يكون الذكَر أيضًا ذِكْر الرجل في الناس فما رأى فيه كان في ذِكْره كذلك.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


20-شمس العلوم (جَفْن)

الكلمة: جَفْن. الجذر: جفن. الوزن: فَعْل.

[جَفْن]: هو جَفْن العين.

وجَفْن السيف: غمده.

ويعبَّر بالجَفْن عن المرأة، قال الفرزدق:

وجَفْنِ سِلَاحٍ قَدْ رُزِئْتُ فَلَمْ أَنُحْ *** عَلَيْهِ ولم أَبْعَثْ عليهِ البَوَاكِيا

وفي جَوْفِهِ من دارِمٍ ذُو حَفِيظَةٍ *** لَوَ انَّ المَنَايا أَنْسَأَتْه لَيالِيا

يعني امرأة (حاملًا) ماتت.

ومن ذلك قيل في العبارة: إِن جَفْن السيف امرأة، فإِن انكسر السيف في جفنه مات الولد دون الأم، وإِن انكسر الجفن ماتت الأم وسلم الولد، وإِن انكسر الجفن والسيف ماتا جميعًا.

والجفْن: الكَرْم.

ويقال: بل هو ضرب من العنب.

ويقال: هو العنب نفسه.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


21-شمس العلوم (العَصَا)

الكلمة: العَصَا. الجذر: عصو. الوزن: فَعَل.

[العَصَا]: معروفة، يقال: عصَا وعصوان وعُصيّ بضمها.

ويقال: إنها لغة تميم، قال الله تعالى: فألقوا حبالهم وعُصِيَّهم.

والعَصَا: الاجتماع والائتلاف.

يقال: فلان يَشُّقّ عَصَا المسلمين: أي يُفرق جماعتهم، وفي الحديث: «إيّاكَ وقَتيلَ العَصَا»: أي الذي يفارق الجماعة فيقتل.

ويُعبر بالعَصَا عن الضّرب.

يقال: راعٍ لين العصا: إذا كان قليل الضرب للماشية.

وفي الحديث: «قالت فاطمة بنت قيس القرشية للنبي عليه‌ السلام: إن معاوية وأبا جهم خطباني، فقال: أما أبو جهم فلا يرفع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك ولكن انكحي بأسامة بن زيد فنكحت به».

وفي الحديث أيضًا: «لا ترفع عصاك عن أهلك».

أراد: الأدب.

والعصا: اسم فرسٍ جواد كان لجذيمة الأبرش الملك الأزدي، وكان قتل أبا الزباء الملكة العملقية، فعرضت نفسها عليه للنكاح لتخدعه بذلك، فأجابها إلى ذلك، فنهاه وزيره قصير اللخمي فأبى، فقال له قصير: إن العروس تزف إلى الزوج فلا تسِر إليها.

فسار إليها في جماعة من فرسانه فلقيتهم خيل الزباء فقال له قصير: انج أيها الملك على العصا فليس زيُّ هؤلاء زيَّ من يلقى الملوك، وعرض له العصا ليركبها فلم يركبها فنجا عليها قصير، فلمّا رآها جذيمة تهوي به قال: «ما ضَلّ من تهوي به العصا» أي ما ضلّ رأيه، فأرسلها مثلًا.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


22-شمس العلوم (القَلَم)

الكلمة: القَلَم. الجذر: قلم. الوزن: فَعَل.

[القَلَم]: واحد الأقلام التي يكتب بها {قال الله تعالى: {وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ}: أقسم بالقلم لعظم شأنه لأنه يستقيم به أمر الدين والدنيا.

قال قتادة: القلم نعمة من الله عظيمة لولاه لم يستقم دين ولم يصلح عيش.

ويقال: أول ما خلق الله تعالى القلم يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة.

ويعبّر بالقلم عن الحكم، ومنه قول النبي عليه‌ السلام: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يُفيق وعن النائم حتى يستيقظ».

والقَلَم: القِدْح}، قال الله تعالى: {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ}: أي سهامهم.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


23-تغير المناخ (البياض)

البياض: الجزء من الإشعاع الشمسي الذي يعكس سطحًا أو هدفًا، ويعبر عنه عادة في صورة نسبة مئوية. وللسطوح المغطاة بالثلج بياض مرتفع. ويتراوح بياض الشمس بين المرتفع والمنخفض. والسطوح المغطاة بالنباتات والمحيطات لها بياض منخفض. ويتباين البياض الأرضي وذلك أساسًا نتيجة لتباين السحب والثلوج والجليد ومنطقة الغطاء النباتي والتغيرات في الغطاء الأرضي.

تغير المناخ


24-تغير المناخ (مجتزأ)

مجتزأ: المول مجتزأ المول أو نسبة المزج هو نسبة عدد المولات في واحد من مكونات حجم ما إلى مجموع عدد مولات جميع المكونات في ذلك الحجم. ويشار إليه في التقارير عادة بالهواء الجاف. والقيم المعتادة لغازات الدفيئة الطويلة العمر هي في حدود μmol mol-1 (أجزاء من المليون: ppm) وnmol mol-1 (أجزاء من التريليون ppb). ويختلف مجتزأ المول عن نسبة مزج الحجم Volume mixing ratio، ويعبر عنه عادة بالمختصر ppmv وغيره من خلال تصويب عدم مثالية الغازات. وهذا التصويب كبير بالنسبة لدقة قياسات الكثير من غازات الدفيئة (المصدر: Schwartz and Warneck, 1995).

تغير المناخ


25-السوق المالية (إجمالي الهامش الربحي)

إجمالي الهامش الربحي: يمثل إجمالي الهامش الربحي حاصل قسمة إجمالي قيمة المبيعات بعد خصم التكاليف على إجمالي قيمة المبيعات. ويعبر عنها في شكل نسبة مئوية. على سبيل المثال، إذا كانت مبيعات إحدى الشركات تساوي 100 ألف ريال، وكانت تكاليف مبيعاتها تساوي 75 ألف ريال، فإن إجمالي الهامش الربحي لها يساوي 25% (100.00 – 75.000) والناتج مقسوما على 100.000.

السوق المالية


26-السوق المالية (العائد على الاستثمار)

العائد على الاستثمار: يحسب العائد على الاستثمار بقسمة مجموع الأرباح المتحققة من بيع الأسهم على حجم المبالغ المستثمرة، ويعبر عنه في شكل نسبة مئوية. فعلى سبيل المثال، إذا تم استثمار 5000 ريال، وأصبحت بعد عامين من استثمارها تساوي 7500 ريال، فإن نسبة العائد على الاستثمار تكون 50%. ويتم الحصول على هذه النتيجة بقسمة الربح وهو 2500 ريال (7500 – 5000) على قيمة الاستثمار البالغة 5000 ريال. وللحصول على العائد السنوي، تتم قسمة الـ 50% على عدد سنوات الاستثمار.

ويشمل العائد على الاستثمار الدخل الذي جناه المستثمر من استثماره علاوة على أي تحسن سعري طرأ على بيع الأصول المستثمرة. و يمكن أن تكون عوائد الاستثمار سلبية إذا كان سعر بيع الأصول المستثمرة إضافة إلى الدخل المتحقق منها أقل من سعر شرائها.

السوق المالية


27-التمويل السكني الإسلامي (الحد الأقصى للعائد)

الحد الأقصى للعائد: وهي النسبة القصوى للعائد التي يمكن تحصيلها خلال فترة التمويل. ويعبر عن هذه القيمة غالبًا بالزيادة فوق مستوى العائد المبدئي.

التمويل السكني الإسلامي


28-معارف منوعة (27 الكثافة)

27-الكثافة: يشير مفهوم الكثافة السكانية إلى العلاقة ما بين السكان ومساحة الأرض التي يقطنها هؤلاء السكان، وتقاس الكثافة السكانية من خلال قسمة عدد السكان على مساحة الأرض ويعبر عنها بمجموع عدد الأشخاص في الهكتار الواحد أو في الكيلو متر مربع أو الميل المربع.

* كثافة السكان هي عبارة عن العلاقة بين المساحة الكلية وعدد السكان و تعتبر من أبسط المقاييس وأكثرها استعمالا وشيوعا في جغرافية السكان، ولاشك أن هذا المقياس يحمل في طياته شيئا من المبالغة خصوصا وأنه يفترض تساوي توزيع السكان على سطح الأرض بحيث لا يعطي نسبة التركيز السكاني في كل منطقة بدقة. إذ أن هناك مناطق ترتفع فيها الكثافة وأخرى تنخفض.

وعلى الرغم من الانتقادات والعيوب التي توجه للكثافة العامة إلا أنها لها بعض المحاسن والإيجابيات، حيث أن البيانات التي تحتاجها تتوفر في أغلب المناطق بالإضافة إلى سهولة حسابها وبساطتها.

معارف منوعة


29-المصطلحات السياسية في الإسلام (الحرية والحرمات والواجبات الأساسية)

الحرية والحرمات والواجبات الأساسية: ان الارادة الطلقة في العربية هي (المشيئة) {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}، وقد كانت (الحرية) قديما كلمة تقابل (الرق). ولكن زوال الرق ظاهرة اجتماعية، بسط كلمة (الحرية) اصطلاحًا للمشيئة المطلقة. والله بمشيئته قد خلق بني الإنسان احرارًا تميزًا عن اشياء الطبيعة الأخرى، بل عن جسدهم البشري حيث الخضوع لقوانين طبيعية سنها الله الزامًا، اما الانسان في تفكيره وشعوره وتصرفه فهو يحمل أمانة الحرية: ان يعبد الله مع الوجود العابد او يشذ كفرا، فينتهي في الآخرة الى سلام وسعد في الجنة او شقاق وشقاء في النار.

ومن ثم له في النظام السياسي في وجه قوة السلطان مجال من الحريات الأساسية المتصلة بعلاقات بنية الحكم، فضلًا عن العلاقات الاجتماعية: له ان يذهب مذاهبه ويعبر ويوالي ويعاقد قوى السياسة الجماعية، ويختار ويحاسب من يلي السلطان. وله (حرمات): ألا يكبت بقهر السلطان او يحرم في خصوصياته وحركته وحياته. وله (حقوق): ان يتمتع بحرياته وحرماته، والا فان له ان يدافع عنها حسب عدوان التسلط والجبر السلطاني، حجة بحجة او تجبرًا بثورة.

وقد اصبحت اليوم بعض المصطلحات غائبة في العربية الدارجة (كالحرمات والحصانات). ولما غابت المساواة في مجتمعات تحصن فيها ذوو السلطة والأمر عرفت كلمة (الحصانة)، لكن الدين يكتب التواضع والمساواة في مجال السلطان، وانما (الحصانة والحصانات المشروعة) للجميع. واندرجت اليوم كل (الحرمات) في كلمة (الحقوق)، اذ اصبح الوجود الانساني في الفكر المادي السائد منسوبًا لذاته، فللإنسان قدر فحق أعلى من كل قوة، واشتهرت لذلك عبارة (حقوق الانسان). واذا تذكرنا اصول الحياة الدينية لحفظنا نسبة الانسان الى ربه الاعلى، ولراجت كلمة (المشيئة والحرية والحرمة) ازاء علاقاته الافقية بإخوانه من بني الانسان الذين قد يعتدون عليه ظلما في مجال السياسة او المجتمع، ويمكن ان ترد كلمة (الحق) في تلك العلاقة الافقية الانسانية. ولكن اذا تذكرنا صلته بالله القوي العزيز تعالى لعلمنا انه على الانسان (واجبًا) من التكليف يقع عليه ان يؤديه بممارسة حرياته والتمتع بحرياته، واجبات دينية يمكن ان تترك تكليفًا خلقيًا روحيا، او تترجم تكاليف بشرية على التفريط فيها جزاء بأحكام قانونية، كمن يكلف ولا يشارك في انتخاب من يفضل لولاية الأمر العام مثلًا فتنزل عليه عقوبة جزاء.

ولا حاجة هنا لايراد آيات القرآن الكثيرة التي توصي القائد ولو كان نبيًا او يكون مذكرًا لا مسيطرًا ولا جبارًا، وان يترك كلا يعمل على حريته ومكانته وشاكلته ويجادل بمقولاته ويتمتع بحرماته ولو كفرًا او نفاقًا. وجملة السنة في بناء دولة المدينة كلها ان يقوم البناء السياسي على هذه (الحريات والحرمات والواجبات) التي يرعاها المؤمنون ويضيعها من شاء من المنافقين والكافرين، المواطنين. شواهد الآيات والاحاديث والروايات في ذلك لا تكاد تحصى مهما كان فقهها وجمعها مما افتقر اليه تراث مجتمع المسلمين الذين ضيعوا (الحرية) لاسيما في مجال السلطان حيث عهدوا الجبروت كثيرًا.

وفي الحياة العامة السياسية وغيرها يظهر في لغة الإسلام ـ حقًا وتكليفا ـ (الامر بالمعروف والنهي عن المنكر) فذلك هو التعبير عن الوظيفة العامة لعلاقات المؤمنين {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [23] [23] [23] وذلك خلق أمة المؤمنين {ولتكن منكم امة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [24] [24] [24] {كنتم خير أمة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}. [25] [25] [25]

اما حق الفرد وتكليفه فيمكن ان يندرج في الساحة السياسية في كل عبارات الدعوة فيكون المؤمن داعيا للخير بشيرًا، نذيرًا، صادعًا بالحق، شهيدًا، مصلحًا، ناصحًا، وهي معان تذكرها او توحي بمقتضاها كثير من الآيات والاحاديث.

والخلق العام في الحياة السياسية اذا دعت الفرد مقتضياته ألا يستغني بالنصيحة، او أن لا يكتفي بالشهادة وحده في اختيار من يلي الأمر العام، او محاولة دفعه للخير او ضبطه عن الشر، او ان لا يعني بإلقاء الرأي الفرد سهمًا في شركة الشورى ـ الخلق عندئذ او يؤثر طوعًا التعاون مع من يوافقه في وجهة النصيحة والشهادة والرأي حتى يكون لذلك وقع ذو بال في حركة المجتمع السياسي، وعندئذ تنعقد موالاة وينحزم تحزب او تتألف قوة في تفاعلات السياسة.

المصطلحات السياسية في الإسلام-حسن الترابي-صدر: 1421هـ/2000م


30-البيئة والمناخ (البياض)

البياض: الجزء من الإشعاع الشمسي الذي يعكس سطحًا أو هدفًا، ويعبر عنه عادة في صورة نسبة مئوية. وللسطوح المغطاة بالثلج بياض مرتفع. ويتراوح بياض الشمس بين المرتفع والمنخفض. والسطوح المغطاة بالنباتات والمحيطات لها بياض منخفض. ويتباين البياض الأرضي وذلك أساسًا نتيجة لتباين السحب والثلوج والجليد ومنطقة الغطاء النباتي والتغيرات في الغطاء الأرضي.

البيئة والمناخ


31-البيئة والمناخ (مجتزأ)

مجتزأ: المول مجتزأ المول أو نسبة المزج هو نسبة عدد المولات في واحد من مكونات حجم ما إلى مجموع عدد مولات جميع المكونات في ذلك الحجم. ويشار إليه في التقارير عادة بالهواء الجاف. والقيم المعتادة لغازات الدفيئة الطويلة العمر هي في حدود μmol mol-1 (أجزاء من المليون: ppm) وnmol mol-1 (أجزاء من التريليون ppb). ويختلف مجتزأ المول عن نسبة مزج الحجم Volume mixing ratio، ويعبر عنه عادة بالمختصر ppmv وغيره من خلال تصويب عدم مثالية الغازات. وهذا التصويب كبير بالنسبة لدقة قياسات الكثير من غازات الدفيئة (المصدر: Schwartz and Warneck, 1995).

البيئة والمناخ


32-البيئة (تكلفة التدهور البيئي-COED)

تكلفة التدهور البيئي (COED): هو التقدير النقدي للآثار الحالية والمستقبلية الناجمة عن الأضرار البيئية التي تحدث في عام معين، أو سنة بعينها. ويرد التقدير النهائي لهذا الاثار كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي (GDP) لسنة معينة. ويعبر هذا التقدير عن تكلفة التدهور البيئي مقارنة بالمؤشرات الاقتصادية المستخدمة على نطاق واسع، مما يجعل هذه التكلفة واضحاة لصانعي السياسات وعامة السكان (Sarraf 2004). كما يسمح هذا المؤشر بـ (أ) مقارنة تكلفة التدهور البيئي في مختلف الدول (ب) تكاليف الأنواع المختلفة من الأضرار البيئية داخل نفس الدولة. وعادة يقيس مؤشر تكاليف التدهور البيئي الأضرار التي تحدث في فئات بيئية عدة كالمياه، ونوعية الهواء، والأراضي الزراعية، والغابات، والنفايات، والمناطق الساحلية. مكانيا، يمكن القيام بهذا التحليل على المستوى المحلي (على سبيل المثال، مدينة أو ساحل)، أو على المستوى الوطني (دولة)، أو على مستوى متعدد الجنسيات (عدة دول)، أو حتى على المستوى الإقليمي (الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا). واعتمادا على الهدف من التحليل، يمكن أن يركز هذا المؤشر على الفئات البيئية جميعها أو على فئة واحدة فقط أو عدد منها. (المصدر: البنك الدولي.

البيئة


33-معجم متن اللغة (الرحل)

الرحل: مركب للبعير والناقة وهو أصغر من القتب، وهو من مراكب الرجال دون النساء ج أرحل ورحال.

ويعبر به عما يستصحبه الراكب وعما جلس عليه في المنزل (ز) وعن المنزل نفسه (ز) وعن مسكن الرجل (ز).

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


34-معجم متن اللغة (الشبابة)

الشبابة: آلة طرب متخذة من القب المجوف يقال لها إلىراع ويعبر عنها بالمزمار العراقي، وهي معروفة إلى إلىوم، وذكرها في صبح الأعشى "2: 144".

وفي شفاء الغليل: "

هي قصبة الزمر المعروفوفة "مولد".

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


35-معجم متن اللغة (الطرف)

الطرف: العين، وهو اسم جامع للبصر، وقيل جمعه أطراف.

"وفي شفاء الغليل أنه مولد".

"لايثنى ولايجمع لأنه في الأصل مصدر".

وقيل: هو تحريك الجفون، ويعبر به عن النظر"

وإطباق الجفن على الجفن.

و-: الجفن: الرجل الكريم الآباء إلى الجد الأكبر مع كثرة فيهم.

و- من كل شيء: منتهاه وطرفه.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


36-معجم متن اللغة (الطوف)

الطوف: قرب ينفخ فيها ويشد بعضها إلى بعض كهيئة سطح فوق الماء تحمل عليه الميرة والناس، وهو الرمث، وربما كان من خشب يشد ويركب عليه في البحر؛ أو يسوى من قصب وعيدان يشد بعضها فوق بعض، ثم يقمط حتى يؤمن انحلالها، ثم تركب ويعبر عليها، وتسمى العامة ج أطواف.

و-: النجو الغائط (ز): الثور الذي يدور حول البقر في الدياسة.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


37-معجم متن اللغة (العمامة وفتح العين غلط)

العمامة "وفتح العين غلط": ما يلف على الرأس.

وقيل للمغفر والبيضة (ز) ج عمائم وعمام.

و-: عيدان مشدودة تركب ويعبر عليها في النهر؛ أو الصواب العامة "بالتخفيف".

و-: القحط العام: القيامة.

ويقولون: أرخى عمامته، إذا أمن وترفه.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


38-معجم متن اللغة (العامة)

العامة: خلاف الخاصة ج العوام.

والنسبة إليها عامي.

و-: القيامة: عيدان تشد ويعبر عليها في النهر "أو التخفيف أفصح".

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


39-معجم متن اللغة (استهد فلانا)

استهد فلانًا: استضعفه (ز).

الهد "مصدر".

و-: الهدم له وقع وسقوط شيء ثقيل: الهرم (ز): الرجل القوي الكريم (ز).

و-: المهدود، كالذبح للمذبوح، ويعبر به عن الرجل الضعيف البدن "ضد" ج هدون "ولا يكسر" وهو الهد "ومنعه بعضهم".

و-: الصوت الغليظ: هدير البعير.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


40-المياه (تكلفة التدهور البيئي-COED)

هو التقدير النقدي للآثار الحالية والمستقبلية الناجمة عن الأضرار البيئية التي تحدث في عام معين، أو سنة بعينها. ويرد التقدير النهائي لهذا الاثار كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي (GDP) لسنة معينة. ويعبر هذا التقدير عن تكلفة التدهور البيئي مقارنة بالمؤشرات الاقتصادية المستخدمة على نطاق واسع، مما يجعل هذه التكلفة واضحاة لصانعي السياسات وعامة السكان (Sarraf 2004). كما يسمح هذا المؤشر بـ (أ) مقارنة تكلفة التدهور البيئي في مختلف الدول (ب) تكاليف الأنواع المختلفة من الأضرار البيئية داخل نفس الدولة. وعادة يقيس مؤشر تكاليف التدهور البيئي الأضرار التي تحدث في فئات بيئية عدة كالمياه، ونوعية الهواء، والأراضي الزراعية، والغابات، والنفايات، والمناطق الساحلية. مكانيا، يمكن القيام بهذا التحليل على المستوى المحلي (على سبيل المثال، مدينة أو ساحل)، أو على المستوى الوطني (دولة)، أو على مستوى متعدد الجنسيات (عدة دول)، أو حتى على المستوى الإقليمي (الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا). واعتمادا على الهدف من التحليل، يمكن أن يركز هذا المؤشر على الفئات البيئية جميعها أو على فئة واحدة فقط أو عدد منها. (المصدر: البنك الدولي.

المياه


41-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (الحسيسة)

الحسيّسة

هي بقرية خاربة بإزاء بور، في سفح الجبل الجنوبيّ المعروف بشعب مخدّم.

وكانت قرية معمورة، ثمّ خربت، فبناها عليّ بن عمر الكثيريّ في سنة (821 ه‍)، ثمّ أخربها عقيل بن عيسى الصّبراتيّ سنة (839 ه‍)، كذا في «تاريخ ابن حميد»، وهو إنّما ينقل عن «شنبل»، والّذي رأيته فيه: أنّ عقيلا هذا أخربها في سنة (889 ه‍).

وفي رحلة المهاجر إلى الله السّيّد أحمد بن عيسى أنّه: لمّا وصل حضرموت.. دخل الهجرين، وأقام بها مديدة، واشترى مالا، فلم تطب له، فوهب المال لعتيقه شويّه.

وانتقل منها إلى قارة جشيب، فلم يأنس بها.

فانتقل إلى الحسيّسة ـ بضمّ الحاء وفتح السّين المكرّرة بينهما ياء مشدّدة مكسورة، قرية على نصف مرحلة من تريم ـ فاستوطنها إلى أن توفّي بها سنة (345 ه‍)، ودفن بحضن الجبل المذكور.

قال السّيّد عمر بن عبد الرّحمن صاحب الحمراء في ترجمته للعيدروس: (توفّي الشّيخ أحمد بن عيسى بالحسيّسة، ودفن في شعبها، ولم يعرف الآن موضع قبره، بل إنّ الشّيخ عبد الله بن أبي بكر العيدروس كان يزوره في الشّعب المذكور، وقال: إنّ الشّيخ عبد الرّحمن كان يزوره) اه

وهو ظاهر في أنّهما كانا يزوران الجبل بدون تعيين موضع، أمّا الآن.. فقد عيّنوه: إمّا بالقرائن، وإمّا بالكشف، على ارتفاع يزيد عن مئة ذراع في الجبل، وههنا مباحث:

"المبحث الأوّل:

زعم قوم أنّ سيّدنا المهاجر، وابنه عبيد الله، وأولادهم الثّلاثة: بصريّ وجديد وعلويّ، كانوا شافعيّة أشعريّة، وقد فنّدت ذلك متوكّئا على ما يغني ويقني من الأدلّة والأمارات في «الأصل»، وتشكّكت في وقت دخول المذهب الشّافعيّ إلى حضرموت، وقرّرت كثرة العلماء بحضرموت لعهد المهاجر وما قبله، ولو شئت أن أجمع ما أنجبتهم تلك العصور من رجالات العلم والحديث.. لاستدعى مجلّدا ضخما؛ إذ لا يخلو «تهذيب التّهذيب» في حرف منه عن العدد الكثير منهم.

«وإذا استطال الشّيء قام بنفسه *** وصفات ضوء الشّمس تذهب باطلا »

ومعاذ الله أن تحصل منهم تلك الثّروة الضّخمة في الآفاق، ويملؤون زوايا الشّام والحجاز ومصر والعراق، بدون نظيره أو أقلّ منه في مساقط رؤوسهم.

ويتأكّد بما سيأتي عن «المشرع» في تريم من تردّد السّادة من بيت جبير إلى تريم في سبيل العلم.

وفي ترجمة عبد الله بن أحمد: أنّه أخذ عن أبيه وعن غيره من علماء عصره، مع ذكرهم لاجتماعه بأبي طالب وقراءته لكتابه «القوت» عليه.

ومرّ في شبام ما يكثّر علماء الإباضيّة من شعر إبراهيم بن قيس، وهو من أهل القرن الخامس، وذكر من نجع من الأزد إليها في أيّام الحجّاج.

وسبق في الشّحر ما يدلّ على حالتها العلميّة حوالي سنة (280 ه‍)، وفي صوران ونقعة وغيرها ما يؤكّد ذلك، وحسبك أنّ أكثر مشايخ الفقيه المقدّم من غير العلويّين، قال سيّدي الأبرّ في «عقده»: (وتفقّه ـ يعني: الفقيه المقدّم ـ على الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن باعبيد، وعلى القاضي أحمد بن محمّد باعيسى، وأخذ الأصول والعلوم العقليّة عن الإمام العلّامة عليّ بن أحمد بامروان، والإمام محمّد بن أحمد بن أبي الحبّ، وأخذ علم التّفسير والحديث عن الحافظ المجتهد السّيد عليّ بن محمد باجديد، وأخذ التّصوف والحقائق عن عمّه الشّيخ علويّ بن محمد صاحب مرباط، وعن الإمام سالم بن بصريّ، والشّيخ محمّد بن عليّ الخطيب) اه

وأكبر من هذا ما تضمّه الغنّاء من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ودعاته إلى الإسلام حتّى لهذا أنكر الشّيخ عبد الله باعلويّ على من استبعد وجود ربع أهل بدر فيها كما سيأتي في تريم، وقال: إنّه يتلقّاه الخلف عن السّلف، فانطمس منارهم، واندرست آثارهم، وهم نجوم الهدى، ومصابيح الدّجى، وشفاء الكلوم، وينابيع العلوم، كلّا، ولكنّها الأقدام تزلّ، والأفهام تضل، والأهواء تتغلّب، والأوهام تتألّب، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.

ولا يلزم ـ على كثرة العلماء بها ـ أن يتمذهبوا بشيء من المذاهب المشهورة؛ فقد اشتهروا بالعلوم في عصر التّابعين فمن بعدهم قبل ظهور المذاهب، وإن كان البدويّ الجافي ليأتي إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيقيم أيّاما لا يقرأ كتابا، فيعود وفي يده سراج الإسلام يرشد قومه ويدعوهم إلى الله؛ ففي (ص 492 ج 1) من «إمتاع الأسماع» للمقريزي: (أنّ عثمان بن أبي العاصي كان أصغر وفد ثقيف، فكانوا يخلفونه في رحالهم وكان إذا ناموا بالهاجرة.. عمد إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فسأله عن الدّين واستقرأه القرآن، وأسلم سرّا وفقه، وقرأ من القرآن سورا) اه

والشّاهد: في فقهه مع أنّه لم يتلقّ إلّا أوقاتا يسيرة، وكذلك أحوال كثير من الوافدين.

وقد توفّي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن مئة وعشرين ألفا من الصّحابة، وفيهم من الأجلاف من لا يعرف إلّا الفاتحة أو إلّا البسملة، كما في «معاهد التّنصيص» في قسمة أنفال القادسيّة، وهم يصلّون ويصومون ويحجّون ويزكّون بدون تمذهب، وكذلك كان أهل حضرموت فيما أظنّ وفيما يقضي الاستصحاب، حتّى غزتهم المذاهب بسبب الاختلاط الواقع أكثره بالحجاز واليمن.

وقد جاء في «المشرع»: (أنّ فتاوى السّيّد سالم بن بصريّ على أساليب أولي الاجتهاد) وفي (ص 5 ج 2) منه: (أنّ أهل حضرموت يشتغلون بالعلوم الفقهيّة، وجمع الأحاديث النّبويّة) اه

ويؤيّده ما جاء في موضع آخر منه: (أنّ كثيرا من الصّلحاء والعلماء لا يعرفون عين قبره، بل ولا جهته؛ لأنّ المتقدّمين كانوا يجتنبون البناء والكتابة على القبور) اه

فإنّه أنصع الأدلّة على تمسّكهم بالسّنّة. وفي (ص 144 ج 6) من «تاريخ ابن

خلّكان» (عن ابن حزم: مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرّئاسة والسّلطان؛ مذهب أبي حنيفة، ومذهب مالك بن أنس) اه مختصرا.

وفي (ص 233 ج 5): (أنّ المعزّ ابن باديس حمل أهل المغرب على مذهب مالك بعدما كان مذهب أبي حنيفة أظهر المذاهب به). وكانت وفاة المعزّ المذكور سنة (454 ه‍).

وفي «مذكراتي»: (أنّ عبد الرّحيم بن خالد بن يزيد بن يحيى بن مولى جمح وصل إلى مصر في أيّام اللّيث بن سعد، فأخذ عنه اللّيث وابن وهب ورشيد بن سعد، وانتشر به مذهب مالك، وتوفّي بالإسكندريّة سنة «163 ه‍»، وخلفه ـ في نشر مذهب مالك بمصر ـ عبد الرّحمن بن القاسم، وما زال مشهورا حتّى قدمها الشّافعيّ في سنة «198 ه‍» فصحبه جماعة من أعيانها كابن الحكم والرّبيع بن سليمان والمزنيّ والبويطيّ وعملوا بمذهبه، ولم يكن أهل مصر يعرفون مذهب أبي حنيفة معرفتهم بمذهب مالك والشّافعيّ.

ويعلّل المقريزيّ ذلك بأنّ إسماعيل بن الرّبيع الكوفيّ ـ الّذي تولّى قضاء مصر بعد ابن لهيعة ـ كان يبطل الأحباس، فثقل على المصريّين مذهبه في ذلك، وسئموه.

أمّا الإمام أحمد.. فكان في القرن الثّالث، ولم يخرج مذهبه عن العراق إلّا في القرن الرّابع، وفي هذا القرن ملك الفاطميّون مصر، وجاؤوا بمذهبهم على يد جوهر الصّقلّي) اه

ولا بدع أن يغزو المذهب الشّافعيّ حضرموت؛ إمّا من أصحاب الشّافعيّ الأدنين، أو من أمّ القرى، أو من زبيد بواسطة الحجّاج والتّجّار وطلّاب العلم؛ فالمواصلات متواترة بين حضرموت وبين هذه الأطراف، على أنّ الحضارمة من أبعد النّاس عن التّمذهب.

وفي «نسيم حاجر» وفي المبحث الثّالث نسبة الاجتهاد لكثير من اللّاحقين فضلا عن السّابقين. قال الشّيخ إبراهيم بن يحيى بافضل، المتوفّى سنة (684 ه‍) [من الوافر]

«إذا لم أفتكم بصريح علم *** فلا من بعدها تستفتئوني »

«بما في محكم القرآن أفتي *** وإلّا بعد هذا كذّبوني »

أو ليس من أصرح الصّريح في دعوى الاجتهاد؟

وذكر العلّامة ابن حجر في «فتاويه» عن علماء المتأخّرين من الحضارم: أنّهم لا يتقيّدون بكلام الرّافعيّ والنّوويّ، وهما عمدة المذهب، ولا يحضرني نصّ صريح في تعيين وقت التّمذهب، وكانت العرب إذ ذاك متّصلة، والأسواق جالبة، والمشاهد جامعة، والبلاد بما ألفوه من التّرحّل واستقراب البعيد متقاربة.

وممّا يشهد لهذا: أنّ كلّ مرحلة يأتي ذكرها عند الهمدانيّ وأمثاله تزيد عن مرحلتين بسير أهل العصور المتأخّرة.

ومرّ في الكسر أنّ يونس بن عبد الأعلى كان منه، وهو أحد أصحاب الشّافعيّ، وغير خاف أن حرملة بن عبيد الله صاحب الإمام الشّافعيّ وأحد رواة مذهبه.. كان من تجيب، ومثله أبو نعيم التّجيبيّ المتوفّى سنة (204 ه‍).

ومثرى تجيب بالكسر، ثمّ نجع منهم الكثير إلى مصر، ولا بدّ بطبيعة الحال أن يكونوا على اتّصال بأهل وطنهم أدبيّا ومادّيّا كما هي العادة بين العشائر، ومعاذ الله أن تقطع رجالات العلم صلاتها بأوطانها وقراباتها وهم أحقّ النّاس بصلة الأرحام والحنين إلى الأوطان والقيام بحقوقها الّتي تفضل حقوق الأمّهات على الأولاد كما فصّلت في غير قصيدة من «الدّيوان».

ومرّت الإشارة في هذا المبحث لبعض العلماء الحضرميّين، وأنّ آل باذيب نجعوا من العراق إلى حضرموت في أيّام الحجّاج، وكان فيهم مفتون وقضاة.

وقال الشّيخ عبد الله بن أحمد باسودان في «جواهر الأنفاس»: (نقل الشّيخ عليّ بن أبي بكر عن بعض علماء آل عبّاد أنّه كان في تريم ثلاث مئة مفت، والصّفّ الأوّل من جامعها كلّه فقهاء، يعني: مجتهدين في المذهب.

وفي شبام ستّون مفتيا، وقاض شافعيّ، وقاض حنفيّ، وفي الهجرين مثل ذلك) اه

وفي موضع آخر منه عن الشّيخ محمّد بن عمر جمال: (أنّه يقول: عمّت البلوى في جهة حضرموت بكثرة الجهل، والجهّال أشبه بالشّياطين في أحوالهم، وأقرب من البهائم في طبائعهم، وقد كانت هذه الجهة معمورة بالعلم، حكى المؤرّخون أنّه كان ببلد تريم ثلاث مئة مفت، وفي شبام ستّون مفت، وقاض شافعيّ، وقاض حنفيّ، وفي الهجرين قريب من ذلك) اه

وما نقله عن الشّيخ عليّ بن أبي بكر موجود في آخر الصّفحة (117) من «البرقة» ونصّه: (وقد صحّ بالنّقل الصّحيح عن الثّقات أنّه اجتمع في تريم في زمن واحد ثلاث مئة مفت، وبلغ الصّفّ الأوّل في صلاة الجمعة كلّه فقهاء) اه

وسيعاد هذا بأبسط ممّا هنا في تريم.

وفي الصّفحة التي قبلها: أنّ الإمام عليّ بن محمّد حاتم هنّأ شيخه المحقّق قاضي القضاة وسيّد القرّاء في عصره أبا بكر بن يحيى بن سالم أكدر بأبيات على شفائه من مرض ألمّ به؛ منها:

«قد حنّ مسجدنا لفقدك واشتكى *** خللا وإن كثرت به الأقوام »

وفي الحاشية: أنّ مسجدهم هو المعروف بمسجد عاشق، يجلس على دكته منهم من أهل العلم والفتوى (45) رجلا.

وفي «سموم ناجر»: أنّ وفاة الشّيخ أبي بكر بن يحيى هذا كانت سنة (575 ه‍) شهيدا، ويأتي في تريم عن «جوهر الخطيب» ما يوهم أنّ كثرة المفتين بتريم يعود إلى ما بذله الشّيخ سالم بافضل من نشر العلم، والله أعلم.

وكانت وفاة الشّيخ بافضل في سنة (581 ه‍) أي: بعد الشّيخ أبي بكر أكدر بنحو ستّ سنين، ومن البعيد أن يكون تفقّهه عليه.. فليتأمّل.

أمّا اشتهار مذهب الشّافعيّ في اليمن.. فقد قال السّخاويّ: إنّه كان في المئة الثّالثة، ونقله عن الجنديّ.

وقال اليافعيّ: إنّ ممّن أظهر مذهب الشّافعيّ باليمن موسى بن عمران المعافريّ، قال: وممّن نشره بزبيد بنو عقامة.

ومن كتاب «المسالك اليمنيّة» للسّيّد محمّد بن إسماعيل الكبسيّ: أنّ المأمون ولّى محمّد بن هارون التّغلبيّ قضاء التّهائم في سنة (203 ه‍).

ومحمّد بن هارون هذا هو جدّ بني عقامة.

وفي «طبقات ابن السّبكيّ» [7 / 130]: (عن ابن سمرة: أنّ فضائل بني عقامة مشهورة، وهم الّذين نشر الله بهم مذهب الشّافعيّ في تهامة، وقدماؤهم جهروا بالبسملة في الجمعة والجماعات) اه

وقوله: (وهم الّذين... إلخ) صيغة حصر، وكأنّ المذهب الشّافعيّ أتاهم قبل أن يعرفوا المذاهب، فوافق ما عندهم فتمكّن ونشره الله بهم.

يعجبني ما ذكره ياقوت [4 / 108] لبعض قضاتهم يرثي هلكاه المدفونين بالعرق وهو موضع بزبيد [من الكامل]:

«يا صاح قف بالعرق وقفة معول *** وانزل هناك فثمّ أكرم منزل »

«نزلت به الشّمّ البواذخ بعدما *** لحظتهم الجوزاء لحظة أسفل »

«أخواي والولد العزيز ووالدي *** يا حطم رمحي عند ذاك ومنصل »

«هل كان في اليمن المبارك بعدنا *** أحد يقيم صغا الكلام الأميل »

«حتّى أنار الله سدفة أهله *** ببني عقامة بعد ليل أليل »

«لا خير في قول امرىء مستمدح *** لكن طغى قلمي وأفرط مقولي »

وذكر اليافعيّ أيضا: (أنّ القاسم بن محمّد بن عبد الله القرشيّ المتوفّى سنة «438 ه‍» نشر مذهب الشّافعيّ في نواحي الجند وصنعاء والمعافر والسّحول وعدن ولحج وأبين) اه

ولئن تأخّر وصول المذهب الشّافعيّ إلى حضرموت عمّا مرّ.. فلن يخطئها فيما حوالي هذا التّاريخ.

وقال بعض الزّيديّة: إنّ العترة الطّيّبة قد تفرّقت في البلاد، وملأت الأغوار والأنجاد، وكلّ من كان منهم في إقليم.. فإنّما هو على مذهب جهته وإقليمه في غالب الأمر، لم يتواصوا كلّهم بمذهب واحد في مهمّات الأصول، فضلا عن نوادر الفروع، فهؤلاء الأئمّة المعروفون في اليمن وعدد قليل من الجبل شاعت أقوالهم، وسارت الرّكبان بمذاهبهم كالنّاصر.

وفي الكثير منهم ـ وهم أهل الكوفة وما والاها ـ ذكر بعض العلماء جماعة كثيرة زيديّة من دعاتهم، وأهل اليمن لا يعرفونهم ولا يعرفون مقالتهم، وكذلك الإدريسيّون في المغرب فيهم كثرة، وظاهرهم على مذهب مالك، ثمّ من هذه الذّرّيّة شافعيّة أو حنفيّة في الفروع، أشعريّة في الأصول، متظاهرون بذلك؛ كالمحقّق السّيّد الشّريف الجرجانيّ وغيره.

وفي المحدثين الكثير الطّيّب علماء مجتهدون منتسبون إلى المذاهب الأربعة، مصنّفون فيها، إذا طالعت كتب الرّجال.. عرفت ما يصفونهم به.

وبه نعرف أنّ الّذي في الزّيديّة لا يزيدون عليهم وصفا ولا عددا، وكلّ يدّعي أنّه المقتفي لآبائه القدماء من أهل البيت عليّ والحسنين ونحوهم رضي الله عنهم... إلخ كلامه.

وكتب عليه القاضي إسماعيل بن مزاحم المجاهد بما حاصله: حصر الحقّ على السّادة الزّيديّة باليمن؛ لأنّهم هم الّذين بقوا مع القرآن في قرن متبوعين لا تابعين.

وقال: ألا ترى لو أنّ أحد أهل البيت المقلّدين لمالك قال: إنّ الكلب طاهر.. لأنكر عليه الكلّ أن تكون هذه المقالة لأهل البيت. اه مختصرا بالمعنى

وأنا لا أرضى هذا الجواب؛ لما فيه من تحجّر، وليس الزّيديّة بفرقة واحدة، وإنّما هم ـ كغيرهم ـ فيهم المغالون والمعتدلون، وما أحسن ما فسّر به الشّوكانيّ الفرقة النّاجية من أنّها: من كانت على هديه صلّى الله عليه وآله وسلّم في إيثار الحقّ على ما سواه. أو ما يقرب هذا من معناه.

والوسط هو المحمود، وعنده يلتقي شأو المنصفين من كلّ فرقة، وقبلتنا من أمّها.. لا يكفّر.

وفي غير هذا الموضع أنّه كان للعلويّين اتّصال بالسّادة الزّيديّة إلّا أنّه تلاشى بعد التّمذهب حتّى جدّده الله باتّصالي بأمير المؤمنين المتوكّل على الله يحيى بن محمّد حفظه الله.

"المبحث الثّاني:

لا نزاع فيما يؤثر عن سابقي العلويّين من الشّهامة والفتوّة والكرم، والمروءة والجاه والشّرف والسّيادة، والحلم والصّبر والعبادة، والنّجدة والتّواضع والورع والتّقوى، والأخذ من مكارم الأخلاق بالغايات القصوى، بل كلّ ثناء مقصّر عنهم في هذه النّواحي.

وجاء في مواضع من كلام الحبيب عمر بن حسن الحدّاد أنّ المشايخ استنكروا العلويّين؛ لأنّ المقام مقامهم، وفي كلام غيره: أنّ النّاس أقبلوا عليهم من بدء الأمر، وتجتمع أطراف الكلام بما انتصبت عليه القرائن من استنكار أهل المذاهب للتّخالف المنضمّ إلى الحسد، ولكنّ العامّة ـ بسلامة قلوبهم ونشأتهم على الفطرة وانقيادهم بسوق الطّبيعة ـ أقبلوا عليهم إقبالا عظيما، وكيف لا.. وهم أوّل من عرفوا من العترة الطّاهرة، وقد قيل:

«يقولون ما بال النّصارى تحبّهم *** وأهل النّهى من أعرب وأعاجم »

«فقلت لهم: إنّي لأحسب حبّهم *** سرى في قلوب الخلق حتّى البهائم »

لا سيّما وقد انضمّ إلى ذلك ما يستجهر الأبصار والبصائر من الشّرف الفخم والسّؤدد الضّخم؛ فقد كان الأمر أعظم ممّا يتصوّر، وإن كان سيّدنا محمّد بن عليّ ـ صاحب مرباط ـ ليخفر القوافل من بيت جبير إلى ظفار، بما له من ضخامة الجاه، كما ذكره الشّيخ سالم بن حميد عن الشّيخ عبد الله بن عمر الكثيريّ.

وكانت القوافل ترحل من حضرموت إلى صنعاء في خفارة مسبحة سيّدنا الشّيخ عبد الله باعلويّ كما رواه والدي عن الأستاذ الأبرّ فيما جمعه من كلامه.

ولا شاهد بشيء من ذلك على التّوسّع في العلم بأمارة المشاهدة؛ فأولو الجاه عند البوادي والعامّة وغيرهم من مناصب حضرموت قديما وحديثا لا ينتسب منهم إلى العلم إلّا القليل، فأرى أنّه مبالغ فيما ينسب منه إلى الأسلاف الطّيّبين.

فقد نقلوا عن «الياقوت الثّمين»: (أنّ عبيد الله بن أحمد من أكابر العلماء)، مع أنّهم لم يذكروا أثرا لعلمه إلّا قراءته ل «قوت القلوب» على مؤلّفه، وطنطنوا على ذلك بما دلّنا على أنّه لو كان هناك أثر أكبر منه.. لذكروه وكبّروه، على أنّ الّذي في «المشرع» أنّه: (حجّ في سنة «377 ه‍»، وفي ذلك العام حجّ أبو طالب المكيّ، فأخذ عنه مؤلّفاته، وسمع منه مرويّاته) اه

ولم يذكر أنّه قرأ عليه «قوت القلوب».. ومعلوم أنّ وقت الحجّ لا يتّسع لغير مجرّد الأخذ، فأمّا قراءة «قوت القلوب» بحذافيره.. فلا بدّ لها من زمان طويل، ثمّ إنّ مجرّد قراءة «القوت» ـ بتسليمها ـ لا تستدعي التّوسّع في العلم الشّرعيّ، بل ولا الاتّسام بسمته؛ إذ لا يعطى من حفظ «قوت القلوب» وتعقّله ـ فضلا عمّن قرأه فقط ـ ممّا يوصى به للعلماء أو يوقف عليهم.

وممّا يدلّك على تسامحهم في الثّناء بالعلم: أنّ الشّلّيّ وغيره ترجم للسّيّد عبد الله بن محمّد صاحب مرباط، ووصفوه بالحفظ، ثمّ لم يذكروا له أثرا من ذلك سوى إجازة له من القلعيّ في رواية «جامع التّرمذيّ»، مع أنّ البخاريّ ـ كما رواه غير واحد ـ يقول: (اعلم أنّ الرّجل لا يصير محدّثا كاملا في الحديث.. إلّا أن يكتب أربعا مع أربع، كأربع مثل أربع، في أربع عند أربع، بأربع على أربع، عن أربع لأربع. وكلّ هذه الرّباعيّات لا تتمّ إلّا بأربع مع أربع..) إلى آخره، ممّا ينبغي أن يكشف من [ص 284] «فتاوى حديثية» لابن حجر الهيتمي.

وأخرى، وهي أنّ بين أيدينا «البرقة» و «عقد» سيّدي الأستاذ الأبرّ، وقد ذكروا عمود النّسب فلم يطنبوا في الثّناء بالعلم إلّا على الفقيه المقدّم وصاحب مرباط، ولم يصفوا والد الفقيه المقدّم إلّا بأنّه عالم صوفيّ.

واقتصروا في الإمام أحمد بن عيسى على: (ذي العقل الكبير، والقلب المستنير، والعلم الغزير) لأجل السّجع، ولو كان واسع العلم.. لبسطوا القول فيه، كما لم يذكروا ولده عبيد الله ولا محمّدا صاحب الصّومعة، ولا عليّا العريضيّ، ولا عليّا خالع قسم بعلم أصلا.

وأضجعوا القول في وصف علويّ بن محمّد وعيسى بن محمّد بالعلم، مع إطنابهم في فضلهم وعبادتهم، على أنّنا لا ننسى ما نقله والدي عن سيّدي الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر: أنّه زار المهاجر مع العلّامة الحبيب عبد الله بن عمر، فقال لولد له صغير ـ يدعى محمّد الطّاهر ـ: تدري من هذا ـ يعني المهاجر ـ يا ولدي؟ فقال له: هذا المهاجر، أفضل من في الوادي علما وعملا وقربا من النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لأنّ مثل ذلك قد لا يراد به كلّ ظاهره في تبصير الأولاد وحثّهم على الاجتهاد.

وسيأتي في تريم أنّ الطّيّب بامخرمة لم يذكر فقيها من العلويّين إلّا الفقيه المقدّم.

وفي ترجمة عليّ بن الجديد من «تاريخ الجنديّ»: أنّه من أشراف هناك يعرفون بآل أبي علويّ، بيت عبادة وصلاح، على طريق التّصوّف، وفيهم فقهاء يأتي ذكر من أتحقّق منهم إن شاء الله تعالى.

ومن مجموع ما سقناه مع ما سبق من مبالغة «العقد الثّمين».. تعرف أنّ تلك المبالغات ـ من غير شهادة الآثار ـ مبنيّة على ممادح العناوين الّتي لا يراد من أكثرها إلّا مجرّد الثّناء، وهو شيء معروف بين النّاس.

والثالثة: هي: أنّ قريشا ـ ومن على شاكلتهم من العرب ـ انصرفوا لتلك العصور عن طلب العلم؛ لما في طريقه من الذّلّ الّذي يمنعهم الشّرف ـ بعد الطّفوليّة ـ عن امتهان أنفسهم فيه، ولذا قلّ ما يوجد العلم فيهم إلّا في النّدرى؛ كالباقر وأخيه، والصّادق وابنه، والإمام أحمد بن عيسى بن زيد ثمّ المرتضى وأخيه والنّاصر للحقّ من بعدهم.

وهناك دسيس آخر، وهو: أنّ الملوك لا ينصفون العلماء منهم، ولا ينعمونهم به عيونا؛ لأنّ للعلم سلطانا فوق كلّ سلطانهم، فلا بدّ للمستبدّ أن يستحقر نفسه ـ ولو في سرّه ـ كلّما وقعت عينه على من هو أرفع منه سلطانا، فإن اضطرّ إلى العلم.. اختار المتصاغر المتملّق.

وإذا كان الأمويّون والعبّاسيّون يطاردون العلويّين لمجرّد بسوقهم في الشّرف.. أفتراهم يسكتون عنهم لو جمعوا إليه عزّة العلم وسلطان المعرفة؟ هذا ما لا يتصوّر بحال.

وقد أخرج ابن الصّلاح في «رحلته» عن الزّهريّ، قال: (قدمت على عبد الملك ابن مروان. فقال: من أين أقبلت؟ قلت: من مكّة. قال: من يسود أهلها؟ قلت: عطاء بن أبي رباح. قال: من العرب هو؟ قلت: لا، بل من الموالي. قال: بم سادهم؟ قلت: بالدّيانة والرّواية. قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قلت:

طاووس بن كيسان. فقال مثل قوله الأوّل.. فأجبته بمثل قولي في عطاء. قال: فمن يسود أهل مصر؟ قلت: يزيد بن أبي حبيب. قال: فمن يسود أهل دمشق؟ قلت: مكحول، وهو عبد نوبيّ أعتقته امرأة من هذيل. قال: فمن يسود أهل الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران. قال: فمن يسود أهل خراسان؟ قلت: الضّحّاك بن مزاحم. قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قلت: الحسن بن أبي الحسن. وهو في كلّ ذلك يسألني مثل سؤاله عن عطاء، وأجيبه بمثل جوابي فيه، حتّى قال: من يسود أهل الكوفة؟ قلت: إبراهيم النّخعيّ.

قال: من العرب أم من الموالي؟ قلت: بل من العرب. قال: ويلك يا زهريّ! فرّجت عنّي، والله لتسودنّ الموالي حتّى يخطب لها على المنابر والعرب من تحتها. قلت: إنّما هو أمر الله ودينه، من حفظه.. ساد، ومن ضيّعه.. سقط) اه مختصرا.

وما كان ابن مروان ليجهل حال أولئك، وإنّما هو من سوق المعلوم مساق المجهول؛ لنكتة هي ـ فيما أرجّح ـ قرّة عينه بانصراف العرب عن العلم؛ لئلّا يستحقر نفسه في جانبهم، خلاف ما يتظاهر به من قوله: (فرّجت عنّي)؛ إذ لو كان أولئك من قريش فضلا عن أن يكونوا هاشميّين.. لاستشاط غضبا، وتأجّج حسدا، لا سيّما وأشدّ النّاس حسدا هم الملوك كما قيل.

وما كانت قريش إذ ذاك خالية من العلم، ولكنّهم ضيّقوا عليهم الأنفاس، وأخذوا منهم بالمخنق، وقد أشرت إلى شيء من انصرافهم عن العلم أوائل «النّجم المضي في نقد عبقرية الرّضي».

وفي آخر الجزء الأوّل من «البيان والتّبيين» للجاحظ: أنّ رجلا من بني العبّاس قال: ليس ينبغي للقرشيّ أن يستغرق في شيء من العلم إلّا علم الأخبار، فأمّا غير ذلك.. فالنّتف والشّدو من القول.

وفيه أيضا: (أنّ رجلا من قريش مرّ بفتى من ولد عتّاب بن أسيد يقرأ «كتاب سيبويه»، فقال: إنّ لكم علم المؤدّبين وهمّة المحتاجين).

وفيه: (قال ابن عتّاب: يكون الرّجل نحويّا عروضيّا، قسّاما فرضيّا، حسن الكتابة جيّد الحساب، حافظا للقرآن، راوية للأشعار، يرضى أن يعلّم أولادنا بستّين درهما).

ومتى تقرّر انحراف قريش عن العلم لما يجلبه لها من تهضّم الملوك، ولأنّها تسود قبل أن تتفقّه.. فما كان العلويّون المهاجرون إلى حضرموت ليخرقوا عادتهم إلّا بعد أن تؤثّر فيهم الظّروف، وينطبعوا بطابع الزّمان والمكان، وتقهرهم العوائد وتنتفي الموانع، وربّما كان ذلك أواسط القرن السّابع، مع استثناء القليل فيما قبل ذلك.

وإنّما بقي العلم في السّادة الزّيديّة لبعدهم عن المدنيّة الشّومى، وتصديقا لوعد النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولاشتراطه للخلافة، وهي لا تزال فيهم، والنّاس على دين ملوكهم، والسّلطان سوق يجلب إليه ما يناسبه، ولهذا فلا بدّ أن تتفاوت أزمنتهم بحسب رغبات خلفائهم فيه كثرة وقلّة. ولهذا المبحث تكميل ـ إن شاء الله ـ يأتي في تريم.

"أمّا المبحث الثّالث:

فقد اتّسع فيه القول، وتفتّحت شآبيب الكلام، وسالت فيه عزالي البراهين والأدّلة، حتّى صار رسالة فضفاضة تستحقّ أن تسمّى: «سموم ناجر لمن يعترض نسيم حاجر»، ولا بأس أن نزيد هنا ما يتأكّد به بعض ما فيها وما في «النّسيم» مع الاعتذار عمّا لا بدّ منه للفائدة من التّكرار.

قال سيّدي الحبيب أحمد بن زين الحبشيّ في كتابه «المسلك السّويّ»: (ومن ثمّ لمّا ذهبت عنهم الخلافة الظّاهرة ـ لكونها صارت ملكا عضوضا ـ ولذا لم تتمّ للحسن.. عوّضوا عنها بالخلافة الباطنة حتّى ذهب كثير من القوم إلى أنّ قطب الأولياء في كلّ زمان لا يكون إلّا منهم) اه

ثمّ رأيت هذه العبارة عند الحفظيّ آخر كلام نقل عن «صواعق ابن حجر» [2 / 426] والله أعلم.

وقال في «المسلك السّويّ» أيضا: (ولمبالغة الشّافعيّ في تعظيمهم.. صرّح بأنّه من شيعتهم حتّى نسبه الخوارج إلى الرفض) اه

وذكر الذّهبيّ: أنّ والي اليمن كتب إلى العراق: إن كنتم لطاعة أهل اليمن أرسلتم الشّافعيّ.. فإنّه يعمل مع الطّالبيّين للخروج، فأرسلوا به إلى العراق مكبّلا بالحديد، وممّا قال حين اتّهم بالرّفض [من الكامل]:

«إن كان رفضا حبّ آل محمّد *** فليشهد الثّقلان أنّي رافضي »

وفي «المسلك» أيضا عن الأستاذ الحدّاد أنّه قال: (جاءني جماعة من علماء مكّة يسألونني عن مذهبي، فأردت أن أقول لهم: مذهبي الكتاب والسّنّة، لكن حصلت محاذرة؛ خوفا عليهم من الإنكار.

وهذه إشارة إلى أنّه مجتهد لا مقلّد، وكثيرا ما أسمعه يقول عند المذاكرة في المسائل: وعندنا فيها رأي آخر، لكنّ التّمسّك بمذهب الشّافعيّ كافي) اه

ونقل عن الأستاذ أيضا أنّه قال: (أريت أصول أهل الأصول، لكن يغلب علينا الرّجاء حتّى للمخالفين من الفرق. وهذه المسألة متّصلة بالذّوق، ولا يمكن التّعبير عنها؛ لخفاء الحقّ فيها، فلا يعلم إلّا في الدّار الآخرة.

وادّعى أناس أنّهم حقّقوها، ولم يظهر لنا ذلك؛ لأنّ التّدقيق لا تحيط به العبارة، ولا بدّ أن يقع في الغلط من يعبّر عنها؛ كقول الغزاليّ: ما في الإمكان أبدع ممّا كان) اه

وقوله: (حتى للمخالفين من الفرق) أي: الإسلامية؛ لإجماعهم على تكفير من لم يدن بدين الإسلام ـ كما فصّلناه في «السّيف الحاد» ـ وكلّ من يعتقد بنجاة ملّة غير الإسلام.. فهو كافر، وقد حاول البهائيّون ـ الّذين ذكرهم فريد وجديّ ـ أن يوحّدوا بين الأديان، فوقعوا في شرّ من كفر اليهود قاتلهم الله أنّى يؤفكون. ومنهم القائلون بالإباحة من أهل الوحدة المطلقة الّذين يعتقدون بأنّ الباري عزّ شأنه هذا الوجود السّاري في الموجودات الظّاهر فيها على اختلاف صورها وأنواعها بحسبها.. فهو في الماء ماء، وفي النّار نار، وهو حقيقة كلّ شيء وماهيّته، ووجود كلّ موجود صغير

أو كبير، خسيس أو شريف. (تَعالى) الله (عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا).

وليس منها كما قال سعد الدّين التّفتازانيّ في «شرح المقاصد» أن يستغرق السّالك عند انتهاء سلوكه في بحر التّوحيد والعرفان بحيث تضمحلّ ذاته في ذاته، وصفاته في صفاته، ويغيب عن كلّ ما سواه، ولا يرى في الوجود إلّا الله، وهذا ما يسمّونه: الفناء في التّوحيد، ويسمّونه: الجمع أيضا.

وغاية سير السّالكين.. فناء المريد عن نفسه، ومنه يرجع إلى عالم الملك، وهو الفرق الثّاني، والصّحو بعد المحو، ويعبّر عنه أيضا: بانصداع الجمع، وبالفرق بعد الجمع، وبظهور الكثرة في الوحدة، ويعبر عنه أيضا: بمحو المحو، وبشهود الوحدة في الكثرة، والكثرة في الوحدة، وصاحب هذا المقام عندهم لا يحجبه الحقّ عن الخلق، ولا الخلق عن الحقّ، وهو مقام إرشاد المريدين.

"المبحث الرّابع:

جاء في (ص 33 ج 1) من «المشرع»: (أنّه كان للمهاجر في الوعظ لسان فصيح، ثمّ لمّا استولى أخوه محمّد بن عيسى على أقاليم العراق.. أتى إليه ووعظه موعظة بليغة، بألفاظ فصيحة جسيمة، ولم يزل به حتّى ترك ذلك، وزهد فيما هنالك) اه

وفي (ص 139) من «البرقة»: (أنّ محمّد بن عيسى استولى على جهة من العراق، وتبعه خلق كثير، وجمّ غفير، ثمّ ترك الولاية زاهدا) اه

وبين الرّوايتين فرق ليس باليسير، وقد راجعت «كامل ابن الأثير» و «تاريخ ابن خلدون».. فلم أر لخروج محمّد بن عيسى ذكرا، ولو كان كما يقول صاحب «المشرع» في شمول استيلائه للعراق.. لذكراه، وإذا لم يذكراه.. كان ذلك قادحا فيه؛ لأنّ الخبر الّذي تتوافر الدّواعي على تواتره ثمّ لا ينقله إلّا الآحاد.. يكون مردودا كما قرّره أهل الأثر؛ فإن وجد له ذكر في التّاريخ، وإلّا.. فما هو إلّا انتقال نظر إليه من زيد بن موسى الكاظم.

وقد كان زيد هذا ـ كما عند ابن خلدون ـ من قوّاد أبي السّرايا مدبّر أمر محمّد بن محمّد بن زيد بن عليّ زين العابدين، وكان أبو السّرايا وجّه زيد بن موسى هذا إلى البصرة، فعاث وأحرق خلقا كثيرا حتّى سمّوه: زيد النّار.

وفي (ص 271 ج 3) من «تاريخ ابن خلّكان»: (وكان زيد بن موسى الكاظم خرج بالبصرة وفتك بأهلها، فأرسل إليه المأمون أخاه عليّا الرّضا يردّه عن ذلك، وقال له: ويلك يا زيد؛ فعلت بالمسلمين بالبصرة ما فعلت وتزعم أنّك ابن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ والله لأشدّ النّاس عليك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يا زيد، ينبغي لمن أخذ برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يعطي به.

فبلغ كلامه المأمون، فبكى وقال: هكذا ينبغي أن يكون أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

قلت: وآخر هذا الكلام مأخوذ من كلام عليّ زين العابدين؛ فقد قيل: إنّه إذا سافر.. كتم نفسه، فقيل له في ذلك؟ فقال له: أنا أكره أن آخذ برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما لا أعطي به) اه كلام ابن خلّكان

أقول: ومثله موجود في خطبة عليّ الرّضا يوم بويع له، فقد قال: أيّها النّاس؛ إنّ لنا عليكم حقّا برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولكم علينا حقّ به، فإذا أدّيتم لنا ذلك.. وجب لكم علينا الحقّ، والسّلام.

"المبحث الخامس:

اشتبه عليّ وقت انهيار سدّ سنا، وقد رأيت في مناقب الحبيب عليّ بن عبد الله السّقّاف ـ تأليف الحبيب عمر بن سقّاف بن محمّد الصّافي، السّابق ذكره في السّوم ـ: (أنّ الحبيب عليّا المذكور اجتمع بالسّيّد الجليل حسن بن عبد الله بن علويّ الحدّاد، فسأله عن ارتفاع قبر المهاجر، فقال: لعلّه خشية السّيول السّابقة الهائلة مع عدم الخدّ في الأرض، لأنّه لم يحدث إلّا بعد زمان الفقيه المقدّم بسيل قاحش، الّذي أخبر عنه في غيبته، قال الحبيب عليّ: هذا هو الّذي أراه) اه بمعناه وفيه إشكالات وفائدة:

فمن الإشكالات: أنّ الحسيّسة ـ وهي محلّ السّكنى ـ لم تكن بذلك الارتفاع ولا بقريب منه، وإنّما كانت بسفح الجبل وحضيضه، وآثارها ظاهرة به إلى اليوم.. فكيف يخافون على الميت في قبره ما لا يخافونه على الأحياء في دورهم؟!

ومنها: أنّه لو كان ماء السّيل الرّاجع عن سدّ سنا يصل ولو إلى ربع ارتفاع الموجود.. لأغرق شباما فضلا عمّا دونها، حسبما قلنا في الكسر.

ومنها: أنّ تريم، وبور، وتنعه، والعجز، وثوبه، كانت موجودة من قبل انهيار سدّ سنا، ولو كان رجع الماء عنه يضرّها.. لما أمكن بقاؤها.

وأمّا الفائدة الّتي لم نسمع بها إلّا من هذا الكلام.. فهي: أنّ الخدّ بالأرض لم يكن إلّا من بعد الفقيه المقدّم، المتوفّى سنة (652 ه‍)، ومعلوم أنّه لن يكون دفعة، بل بالتّدريج، في الّذي يلي السّدّ، ثمّ في الّذي يليه، وهكذا كما يشهد له الحسّ، فمسيال سرّ الواقع الآن بين الحسيّسة وبور لا ينخفض الآن عن سطح الأرض بأكثر من نحو ستّة أذرع.. إن لم يكن بأقلّ.

وجاء في «النّور السّافر» [ص 118] عن تريم أنّها كانت في قديم الزّمان عامرة جدّا، وأمّا الآن.. فهي ضعيفة إلى الغاية، إلى أن قال: (والظّاهر أنّ سبب خرابها سيل العرم الّذي أرسله الله على سبأ، فانقطعت عنها المياه الّتي كانت تزرع عليها، فسبحان من يقلّب الأمور) اه

وهذا أيضا فيه فائدة وإشكال:

أمّا الفائدة فهي: الإشارة إلى أنّ حضرموت كانت تشرب من المياه المخزونة بسدّ مأرب، وهو موافق لما ذكرته في «الأصل» عن الخزرجيّ و «شرح الأمثال» للميدانيّ، إلّا أنّه قد يغبّر عليه ما جاء في «إكليل الهمدانيّ» (ص 46 ج 8) من قوله [من البسيط]:

«وجنّتا مأرب من بعد ذا مثل *** والعرش فيها وسدّ وسط واديها»

«تسقى به جنّتاها ثمّ بعدهما *** مسافة الخمس موصولا لياليها»

ولكن يجاب بأنّ المسافة من مأرب إلى الكسر إنّما هي أربع مراحل، وهي لا تستوفي الخمسة الأيّام، وإذا بقي للّيالي مثلها.. بلغ سدّ سنا أو جاوزها، فالأمر قريب من بعضه.

وأمّا الإشكال: فإنّه لا يمكن أن تصل حضرموت من الضّعف إلى حيث ذكر ما دام الماء ينبسط على الأرض كلّها فتئثّ زروعها، وتؤتي أكلها كما كانت أيّام ملوك كندة وملوك حضرموت، وإنّما تناهى بها الجدب والقحط من حين ظهور الأخدود، وانقباض الماء عن أكثر الأرض ولم يكن ذلك إلّا بعد الفقيه المقدّم بزمان طويل، حتّى إنّه ـ مع تفارط الأيّام ـ لم يصل إلى المسحرة بعد؛ فهي لا تزال سالمة منه، والماء ينبسط فيها من الشّمال إلى الجنوب.

وقد كان الإشكال في سدّ سنا أثقل عليّ من الطّود العظيم، وكلّما التأم لي الكلام عنه من جانب.. انتشر من الآخر، حتّى أخبرني الأخ الفاضل عبد الرّحمن بن عبد الله بن عبد الرّحمن بن محمّد بن شهاب عن مشاهدة أنّ سدّ سنا طبيعيّ من حجارة رخوة، يمازجها طين صلب، شبه القارة الصّغيرة، يدفع الماء عن جانبيها المرتفعين عن مستوى الأرض بنحو من ستّة أذرع تقريبا، ثمّ إنّ السيول جرفت تلك القارة وحفرتها فصار الماء يجري في مكانها الّذي خدّه سيل قاحش وما بعده، وارتفع جانباها اللّذان كان عليهما يجري السّيل ـ كما سنرسم صورته الّتي دفعها لي في موضعه إن شاء الله ـ فلم يكن رجع السّيول عن ذلك السّدّ الطّبيعيّ بالفاحش حتّى يكتسح البلاد، ولكنّه صغير يصدّ تيّار الماء فقط، فينبسط في كلّ ناحية، ويسقي النّاس منه أراضيهم بدون أن يجرف في الأرض؛ لأنّ انبساطه يقلّل من قوّة جريه فلا يخدّ في الأرض، وهذا هو المعقول؛ فقد كانت الحصاة الّتي يصلّي عليها سيّدنا عمر المحضار بحافّة نهر هود عليه السلام بارزة لعهده، وما به بعد عن عهد الفقيه، وليس ارتفاعها عن النّهر اليوم بالفاحش، مع تناهي الخدّ، ولكنّه قريب. ولهذا السّبب أنكر بعض السّيّاح الأجانب وجود هذا السّدّ رأسا؛ لأنّ الوهم يذهب بهم إلى ارتفاعه، فيتأمّلون ولا يجدون له أثرا، فأنكروه. والحال أنّه كما وصفه لي الأخ عبد الرّحمن ابن شهاب.

وفي حدود سنة (1339 ه‍) اشتد النّزاع بين آل بور وآل تاربه بشأن جبل الحسيّسة، وكلّ ادّعى أنّه في حدّه، فله قنص صيده وإدارة القهوة والعود في حفلاته العامّة، حتّى عطّلت مرارا، ثمّ تواضعوا على أن لا يدار شيء خوف الفتنة.

وما زالوا كذلك حتّى أقيمت جمعيّة ببتاوي لآل العيدروس، كان من أغراضها: الالتفات إلى إصلاح ذات بينهم.

وفي سنة (1341 ه‍) وافق آل العيدروس بحضرموت، وصار الإصلاح بين آل بور وآل تاربه على أنّ لكلّ منهم قنص الجبل، وعلى أنّ خدّامهم يشتركون فيما يدار فيه.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


42-التوقيف على مهمات التعاريف (الأبد)

الأبد: استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في المستقبل، كما أن الأزل استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في الماضي، وعبر عنه الراغب بأنه مدة الزمان الممتد الذي لا يتجزأ كما يتجزأ الزمان، وتأبد الشيء أبدا ويعبر به عما يبقى مدة طويلة.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


43-التوقيف على مهمات التعاريف (الإحاطة)

الإحاطة: إدراك الشيء بكماله ظاهرا وباطنا، والاستدارة بالشيء من جميع جوانبه، ذكره الراغب. وقال أبو البقاء احتواء الشيء على ما وراءه ويعبر بها عن إدراك الشيء على حقيقته. ا. هـ. وقال ابن الكمال: الإحاطة بالشيء علما أن يعلم وجوده وجنسه وقدره وصفته وكيفيته وغرضه المقصود به وما يكون به ومنه وعليه، وذلك لا يكون إلا لله تعالى.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


44-التوقيف على مهمات التعاريف (الإذن)

الإذن: بالكسر، رفع المنع وإيتاء المكنة كونا وخلقا أي من جهة سلامة الخلقة، ذكره الحرالي، وقال ابن الكمال: فك الحجر وإطلاق التصرف لمن كان ممنوعا شرعا وقال الراغب: الإذن في الشيء الإعلام بإجازته والرخصة فيه، ويعبر به عن العلم إذ هو مبدأ كثير من العلم فينا، لكن بين الإذن والعلم فرق، فأن الإذن أخص ولا يكاد يستعمل إلا فيما فيه مشيئة ما ضامه أمر أم لا. وفي المصباح: أذنت له في كذا، أطلقت له فعله ويكون الأمر إذنا وكذا الإرادة نحو بإذن الله وأذنت للعبد في التجارة، فهو مأذون له والفقهاء يحذفون الصلة تحفيفا فيقولون العبد المأذون كما قالوا محجور بحذف الصلة، والأصل محجور عليه.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


45-التوقيف على مهمات التعاريف (الأرض)

الأرض: الجرم المقابل للسماء ويعبر بها عن أسفل الشيء، كما يعبر بالسماء عن أعلاه، وربما ذكرت في الشعر بمعنى البساط ذكره الراغب، وقال العكبري: مشتقة من أرضت القرحة إذا اتسعت فسميت به لاتساعها، قال ولا عبرة بقول من قال سميت أرضا لأنها ترض بالأقدام لأن الرض مكرر الضاد ولا همزة فيها، وجمعها أرضون، ولم تجمع في القرآن. وقال الحرالي: الأرض المحل الجامع لنبات كل نابت ظاهر أو باطن فالظاهر كالمواليد وكل ما الماء أصله والباطن كالأعمال والأخلاق، ولتحقق دلالة اسمها على هذا المعنى جاء وصفها بذلك من لفظ اسمها فقيل أرض أريضة للكريمة النبتة، وأصل معناها ما سفل في مقابل معنى السماء الذي هو ما علا على سفل الأرض لأنها لوح قلمه الذي

يظهر فيها كتابه.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


46-التوقيف على مهمات التعاريف (الاستهزاء)

الاستهزاء: ارتياد الهزء، ويعبر به أيضا عنه كذا.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


47-التوقيف على مهمات التعاريف (الأكل)

الأكل: إيصال ما يمضغ إلى الجوف ممضوغا أو لا فليس اللبن والسويق مأكولا، ذكره ابن الكمال. وفي كلام الرماني ما يخالفه حيث قال: الأكل حقيقة بلع الطعام بعد مضغه، قال: فبلع الحصاة ليس بأكل حقيقة، وعلى التشبيه يقال أكلت النار الحطب. والأكل بالضم اسم لما يؤكل، وأكيلة الأسد فريسته، والأكول والأكيل المواكل، ويعبر به عن النصيب فيقال ذو أكل من الزمان، واستوفى أكله كناية عن الأجل، وأكل فلانا اغتابه، وكذا أكل لحمه.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


48-التوقيف على مهمات التعاريف (الأواه)

الأواه: الذي يكثر التأوه وهو أن يقول أوه، وكل كلام يدل على حزن تأوه ويعبر بالأواه عمن يظهر خشية الله.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


49-التوقيف على مهمات التعاريف (الأوتاد)

الأوتاد: أربعة في كل زمن لا يزيدون ولا ينقصون. قال ابن عربي رضي الله عنه: رأيت منهم رجلا بمدينة فاس ينخل الحناء بالاجرة اسمه ابن جعد، وأن أحدهم يحفظ الله به المشرق وولايته فيه، والآخر المغرب والآخر الجنوب، والآخر الشمال. ويعبر عنهم بالجبال فحكمهم في العالم حكم الجبال في الأرض، وألقابهم في كل زمن عبد الحي وعبد الحليم وعبد القادر وعبد المريد.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


50-التوقيف على مهمات التعاريف (الجلل)

الجلل: كل شيء عظيم، وجللته أخذت جله وتجلل البعر تناوله، ويعبر به عن كل شيء حقير. والجل بالضم: المعظم. والمجلة ما يغطى به المصحف ثم سمي المصحف مجلة.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


51-التوقيف على مهمات التعاريف (الحادث)

الحادث: ما يكون مسبوقا بالعدم ويسمى حدوثا زمانيا، ويعبر بالحدوث عن الحاجة للغير ويسمى حدوثا ذاتيا.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


52-التوقيف على مهمات التعاريف (الحمار)

الحمار: الحيوان المعروف. ويعبر به عن الجاهل.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


53-التوقيف على مهمات التعاريف (الدرجة)

الدرجة: محركة نحو المنزلة لكن يقال للمنزلة درجة إذا اعتبرت بالصعود دون الامتداد على البسيطة كدرجة السطح والسلم، ويعبر بها عن المنزلة الرفيعة. والدرج طي الكتاب والثوب، ويقال للمطوي درج واستعير الدرج للموت كما استعير الطي له في قولهم طوته المنية، وقولهم أكذب من دب ودرج، أي كان حيا فمشى ومن مات فطويت أحواله. والدرج بالضم، سفط يجعل فيه الشيء.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


54-التوقيف على مهمات التعاريف (الدهمة)

الدهمة: سواد الليل، ويعبر بها عن سواد الفرس وعن الخضرة الكاملة اللون كما يعبر عن الدهمة بالخضرة إذا لم تكن كاملة اللون لتقاربهما لونا.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


55-التوقيف على مهمات التعاريف (الذراع)

الذراع: العضو المعروف، ويعبر به عن المذروع والمسوح، كذا في المفردات. وفي المصباح: الذراع اليد من كل حيوان لكنها من الإنسان من المرفق إلى أطراف الأصابع. وذراع القياس أنثى في الأكثر وهو ست قبضات معتدلات ويسمى ذراع العامة.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


56-التوقيف على مهمات التعاريف (الرغام)

الرغام: التراب الدقيق. ورغم أنفه: وقع في الرغام، ويعبر به عن السخط. ثم استعيرت المراغمة للمنازعة.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


57-التوقيف على مهمات التعاريف (الساعة)

الساعة: جزء من أجزاء الزمان، ويعبر بها عن القيامة تشبيها بذلك لسرعة حسابه. والساعات ثلاث: كبرى وهي القيامة ووسطى وهي موت أهل القرن الواحد، وصغرى وهي موت الإنسان، فساعة كل إنسان موته.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


58-التوقيف على مهمات التعاريف (السبط)

السبط: أصله انبساط في سهولة يقال: شعر سبط ويعبر به عن الجود ورجل سبط الكفين ممتدها، ويعبر به عن الجود. والسبط بالكسر: ولد الولد كأنه امتداد الفروع.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


59-التوقيف على مهمات التعاريف (السؤال)

السؤال: طلب الأدنى من الأعلى، كذا ذكروه. وقال الراغب: السؤال استدعاء معرفة أو ما يؤدي إلى معرفة واستدعاء مال أو ما يؤدي إلى مال، فاستدعاء المعرفة جوابه على اللسان واليد خليفة لها بالكتابة أو الإشارة، واستدعاء المال جوابه على اليد واللسان خليفة لها بوعد أو برد. والسؤال للمعرفة تارة يكون للاستعلام، وتارة للتبكيت، وتارة لتعريف المسئول وتنبيهه لا لتحر وتعلم، ويعبر عن الفقير إذا كان مستدعيا لشيء بالسائل تجوزا نحو {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَر}.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


60-التوقيف على مهمات التعاريف (السواد)

السواد: اللون المضاد للبياض ويعبر به عن الشخص المترائي من بعد وعن سواد العين وعن الجمع الكثير.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


61-التوقيف على مهمات التعاريف (الشطط)

الشطط: الإفراط في البعد في السوم، ويعبر عن الجور والغلو ومجاوزة الحد.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


62-التوقيف على مهمات التعاريف (أشهد في مجلس القاضي بحق لغيره على غيره والإخبارات ثلاثة)

أشهد في مجلس القاضي بحق لغيره على غيره. والإخبارات ثلاثة: إما بحق لغيره على آخر، وهو الشهادة، أو بحق للمخبر على آخر وهو الدعوى، أو عكسه، وهو الإقرار. وقال الراغب: الشهادة: قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة، وشهدت يقال على ضربين: أحدهما جار مجرى العلم وبلفظه تقام الشهادة، ولا يكفي من الشاهد أن يقول: أعلم. الثاني: يجري مجرى القسم فتقول: أشهد بالله أنه كذا. ويعبر بالشهادة عن الحكم نحو {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا}. وعن الإقرار نحو {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ}، ذكره الراغب. وفي المصباح: جرى على ألسنة الأمة خلفا وسلفا في أداء الشهادة: أشهد مقتصرا عليه دون غيره من الألفاظ الدالة على تحقيق الشيء أعلم وأتيقن، وهو موافق لألفاظ الكتاب والسنة، فكان الإجماع على تعين هذه اللفظة، ولا يخلو من تعبد إذا لم ينقل غيره، ولعل سره أن الشهادة اسم من المشاهدة، وهي الاطلاع على الشيء عيانا، فاشترط في الأداء ما ينبىء عن المشاهدة.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


63-التوقيف على مهمات التعاريف (الشوك)

الشوك: ما يدق ويصلب رأسه من النبات، ويعبر بالشوكة عن السلاح، وعن الشدة.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


64-التوقيف على مهمات التعاريف (الشيخ)

الشيخ: من طعن في السن، ويعبر به عمن يكثر علمه لما كان شأن الشيخ أن تكثر تجاربه ومعارفه، ذكره الراغب. الشيعة: الذين بايعوا عليا، وقالوا إنه الإمام بعد المصطفى، وإن الإمامة حق لأولاده، وأصل الشيعة من يتقوى بهم الإنسان.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


65-التوقيف على مهمات التعاريف (الصفرة)

الصفرة: لون بين سواد وبياض، وإلى البياض أقرب ويعبر بها عن السواد، ومنه {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا}.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


66-التوقيف على مهمات التعاريف (الظل)

الظل: ما نسخته الشمس، وهو من الطلوع إلى الزوال، كذا عبر ابن الكمال. وقال الراغب: الظل ضد الضح وهو أعم من الفيء، فإنه يقال ظل الليل وظل الجنة، ويقال لكل موضع لم تصل إليه الشمس ظل، ولا يقال الفيء إلا لما زال عنه الشمس. ويعبر بالظل عن العز والرفاهية، الظل في اصطلاح أهل الحقيقة: وجود الراحة خلف الحجاب. ويقال هو الوجود الإضافي الظاهر بتعينات الأعيان الممكنة وأحكامها التي هي معدومات ظهرت بالنور الذي هو الوجود الخارج المنسوب إليها فيستر ظلمة عدميتها النور الظاهر بضوئها فصار ظلا لظهور الظل

بالنور، وعدميته في نفسه، قال تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}، أي بسط الوجود الإضافي على الممكنات.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


67-التوقيف على مهمات التعاريف (الظلمة)

الظلمة: ما يطمس الباديات حسا أو معنى، والنور ما يظهرها كذلك ذكره الحرالي. وقال غيره: الظلمة عدم النور عما من شأنه أن يستنير. والظلمة: الظل المنشأ من الأجسام الكثيفة، وقد يطلق على العلم بالذات الإلهية، فإن العلم لا يكشف معها غيرها إذ العلم بها يعطي ظلمة لا يدرك بها شيء كالبصر حين يغشاه بصره نور الشمس عند تعلقه بواسطة قرصها الذي ينبوعه، ذكره ابن الكمال. وقال الراغب: الظلمة عدم النور. ويعبر بها عن الجهل والشرك والفسق، كما يعبر بالنور عن ضد ذلك.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


68-التوقيف على مهمات التعاريف (القعود)

القعود: يقابل به القيام، ومنه {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا}. ويعبر عن المتكاسل بالقاعد ومنه {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ}. وعن الترصد للشيء بالقعود نحو {لَأَقْعُدَنَّ لَهُم}.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


69-التوقيف على مهمات التعاريف (القلب)

القلب: لطيفة ربانية لها بهذا القلب الجسماني الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر تعلق، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان، ويسميها الحكيم النفس الناطقة، والروح باطنه، والنفس الحيوانية مركبة وهي المدركة العالمة من الإنسان والمخاطب والمطالب والمعاتب. والمعاقب. وقال الراغب. قلب الشيء: تصريفه وصرفه عن وجه إلى وجه آخر. وقلب الإنسان سمي به لكثرة تقلبه، ويعبر بالقلب عن المعاني المختصة به من روح وعلم وشجاعة. وتقليب الشيء: تغييره من حال إلى حال. وتقليب الأمور: تدبيرها والنظر فيها. وتقليب اليد: عبارة عن الندم.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


70-التوقيف على مهمات التعاريف (الكتب)

الكتب: ضم أديم إلى أديم بالخياطة. وعرفا ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط. وقد يقال ذلك للمضموم بعضها إلى بعض باللفظ. والأصل في الكتابة النظم بالخط. وفي المقال النظم باللفظ، لكن قد يستعار كل للآخر، والكتاب في الأصل اسم للصحيفة مع المكتوب فيه ويعبر عن الإثبات والتقدير والإيجاب والفرض والقضاء بالكتابة ووجه ذلك أن الشيء يراد ثم يقال ثم يكتب، فالإرادة مبدأ والكتابة منتهى، ثم يعبر عن المراد الذي هو المبدأ إذا اريد به توكيده بالكتابة التي هي المنتهى، ويعبر بالكتاب عن الحجة الثابتة من جهة الله ومنه {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} ويعبر عن الإيجاد وعن الإزالة وعن الإفناء بالمحو وغير ذلك، وأمثلة الكل في القرآن.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


71-التوقيف على مهمات التعاريف (اللازب)

اللازب: الثابت الشديد الثبوت، ويعبر به عن الواجب فيقال: ضربة لازب.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


72-التوقيف على مهمات التعاريف (اللقاء)

اللقاء: اجتماع بإقبال، ذكره الحرالي. وقال الإمام الرازي: وصول أحد الجسمين إلى الآخر بحيث يماسه بشخصه. وقال الراغب. مقابلة الشيء ومصادفته معا، ويعبر عن كل منهما، ويقال ذلك في الإدراك بالحس والبصر، والإلقاء طرح الشيء حيث تلقاه، ثم صار في التعارف اسما لكل طرح.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


73-التوقيف على مهمات التعاريف (اللمس)

اللمس: قوة مثبتة في جميع البدن تدرك بها الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ونحوها عند الاتصال به. وعبارة الراغب: اللمس إدراك بظاهر البشرة ويعبر به عن الطلب، ويكنى به وبالملامسة عن الجماع. ونهي عن بيع الملامسة. وفي المصباح: لمسه، أفضى إليه باليد هكذا فسروه، ولمس امرأته كناية عن الجماع. وقال ابن دريد اصل اللمس باليد ليعرف مس الشيء ثم كثر حتى صار اللمس لكل طالب. قال الجوهري: اللمس المس باليد، وإذا كان اللمس هو المس باليد فكيف يفرق الفقهاء بينهما في لمس الخنثى ويقولون لأنه لا يخلو من لمس أو مس.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


74-التوقيف على مهمات التعاريف (اللمم)

اللمم: مقاربة المعصية، ويعبر به عن الصغيرة. وقيل هو فعل الصغيرة ثم لا يعاوده كالقبلة.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


75-التوقيف على مهمات التعاريف (اللون)

اللون: تكيف ظاهر الأشياء في العين، قاله الحرالي وقال الراغب: معروف، وينطوي على الأبيض والأسود وما يتركب منهما. ويعبر بالألوان عن الأجناس والأنواع، يقال فلان أتى بألوان من الأحاديث، وتناول كذا لونا من الطعام. واللون صفة الجسد من البياض والسواد وغيرهما. وتلون فلان: اختلفت أخلاقه.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


76-التوقيف على مهمات التعاريف (النزع)

النزع: رفع الشيء عن غيره مما كان متشابكا له كالقلع والنشط. ذكره الحرالي. وقال غيره: حذف شيء من مقره، ويستعمل في الأعراض، ومنه نزع العداوة والمحبة من القلب. والمنازعة والتنازع: المجاذبة ويعبر بها عن المخاصمة والمجادلة. والنزع عن الشيء: الكف عنه.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


77-التوقيف على مهمات التعاريف (النطفة)

النطفة: الماء الصافي، ويعبر بها عن ماء الرجل.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


78-التوقيف على مهمات التعاريف (النعاس)

النعاس: ريح لطيفة تأتي من قبل الدماغ يغطي على العين ولا يصل إلى القلب، فإذا وصل إليه كان نوما. وقيل النعاس النوم القليل، ويعبر به عن السكون والهدوء.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


79-التوقيف على مهمات التعاريف (النفس الرحماني)

النفس الرحماني: الوجود العام المنبسط على الأعيان عينا، وعن الهيولى الحاملة بصور الموجودات. والأول مرتب على الثاني سمي به تشبيها بنفس الإنسان المختلف بصور الحروف مع كونه هواء ساذجا، ويعبر عنها بالطبيعة عند الحكماء.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


80-التوقيف على مهمات التعاريف (الوجود أضرب)

الوجود أضرب: وجود بإحدى الحواس الخمس نحو، وجدت زيدا، ووجود بقوة الشهوة نحو: وجدت الشبع، ووجود بقوة الغضب كوجود الحزن والسخط، ووجود بالعقل أو بواسطة العقل كمعرفة الله والنبوة، ويعبر عن التمكن من الشيء بالوجود نحو {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


81-القاموس المحيط (عبر)

عبَرَ الرُّؤيا عَبْرًا وعِبارةً

وعَبَّرَها: فَسَّرَها، وأخْبَرَ بآخِرِ ما يَؤُولُ إليه أمْرُها.

واسْتَعْبَرَه إيَّاها: سَألَهَ عَبْرَها.

وعَبَّرَ عما في

نفسه: أعْرَبَ، وعَبَّرَ عنه غيرهُ فأعْرَبَ عنه، والاسم: العَبْرَةُ والعِبارةُ.

وعِبْرُ الوادِي، ويفتحُ: شاطِئُه، وناحِيَتُه.

وعَبَرَه عَبْرًا وعُبورًا: قَطَعَه من عِبْرِه إلى عِبْرِهِ،

وـ القومُ: ماتوا،

وـ السَّبيلَ: شَقَّها،

وـ به الماءَ،

وعَبَّرَه به: جازَ،

وـ الكتابَ عَبْرًا: تَدَبَّرَه، ولم يَرفَعْ صَوْتَه بِقِراءَتِهِ،

وـ المَتاعَ والدَّراهِمَ: نَظَرَ كَمْ وزْنُها، وما هي،

وـ الكَبْشَ: تَرَكَ صُوفَه عليه سَنَةً، وأكبُشٌ عُبْرٌ،

وـ الطَّيْرَ: زَجَرَها، يَعْبُرُ ويَعْبِرُ.

والمِعْبَرُ: ما عُبِرَ به النَّهْرُ، وبالفتح: الشَّطُّ المُهَيَّأ للعُبُورِ،

ود بِساحِلِ بَحْرِ الهِندِ.

وناقةٌ عُبْرُ أسْفارٍ، مُثَلَّثَةً: قَوِيَّةٌ تَشُقُّ ما مَرَّتْ به، وكذا رجلٌ، للواحدِ والجَمْع.

وجَمَلٌ عَبَّارٌ، ككَتَّانٍ: كذلكَ.

وعَبَّرَ الذَّهَبَ تَعْبيرًا: وزَنَه دِينارًا دِينارًا، ولم يُبالِغْ في وَزْنِه.

والعِبْرَةُ، بالكسر: العَجَبُ.

واعْتَبَرَ منه: تَعَجَّبَ، وبالفتح: الدَّمْعَةُ قبلَ أن تَفيضَ، أو تَرَدُّدُ البُكاءِ في الصَّدْرِ، أو الحُزْنُ بلا بُكاءٍ

ج: عَبَراتٌ وعِبَرٌ.

وعَبَرَ عَبْرًا،

واسْتَعْبَرَ: جَرَتَ عَبْرَتُه، وحَزِنَ. وامرأةٌ عابِرٌ وعَبْرَى وعَبِرَةٌ

ج: عَبارَى. وعينٌ عَبْرَى، ورجلٌ عَبْرانُ وعَبِرٌ.

والعُبْرُ، بالضم: سُخْنَةُ العينِ، ويُحَرَّكُ، والكثيرُ من كلِّ شيءٍ، والجَماعةُ.

وعَبَّرَ به: أراهُ عُبْرَ عَيْنِه.

وامرأةٌ مُسْتَعْبِرَةٌ، وتفتحُ الباءُ، (أي): غيرُ حَظِيَّةٍ.

ومجلسٌ عَبْرٌ، بالكسر والفتح: كثيرُ الأهْلِ.

وقَوْمٌ عَبِيرٌ: كثيرٌ.

وأعْبَرَ الشاةَ: وفَّرَ صُوفَها.

وجَمَلٌ مُعْبَرٌ: كثيرُ الوَبَرِ، ولا تَقُلْ أعْبَرْتُه.

وسَهْمٌ مُعْبَرٌ وعَبيرٌ: مَوْفُورُ الرِّيشِ.

وغُلامٌ مُعْبَرٌ: كادَ يَحْتَلِمُ ولم يُخْتَنْ بعدُ.

ويا ابنَ المُعْبَرَةِ: شَتْمٌ، أي: العَفْلاءِ.

والعُبْرُ، بالضم: قبيلَةٌ، والثَّكْلَى، والسَّحائِبُ التي تَسيرُ شديدًا، والعُقابُ، وبالكسر: ما أخَذ على غَرْبِيِّ الفُراتِ إلى بَرِّيَّةِ العَرَبِ، وقبيلَةٌ.

وبناتُ عِبْرٍ: الكَذِبُ، والباطِلُ.

والعِبْرِيُّ والعِبْرانِيُّ: لُغَةُ اليَهودِ، وبالتحريكِ: الاعْتبارُ، ومنه قولُ العَرَبِ: اللهمَّ اجْعَلْنا مِمَّنْ يَعْبُرُ الدُّنْيا ولا يَعْمُرُها. وأبو عَبَرَةَ، أو أبو العَبَرِ: هازِلٌ خَليعٌ.

والعَبيرُ: الزَّعْفرانُ، أو أخْلاطٌ من الطِّيبِ.

والعَبُورُ: الجَذَعَةُ من الغَنَمِ

ج: عَبائِرُ، والأَقْلَفُ

ج: عُبْرٌ.

والعُبَيْراءُ: نَبْتٌ.

والعَوْبَرُ: جِرْوُ الفَهْدِ.

والمَعابِيرُ: خَشَبٌ في السفينةِ يُشَدُّ إليها الهَوْجَلُ. وعابَرُ، كهاجَرَ: ابنُ أرْفَخْشَذَ بنِ سامِ بنِ نوحٍ عليه السلامُ.

وعَبَّرَ به الأمرُ تَعْبيرًا: اشْتَدَّ عليه.

وعَبَّرْتُ به: أهْلَكْتُهُ. وكمُعَظَّمٍ: جَبلٌ بالدَّهْناءِ.

وقَوْسٌ مُعَبَّرَةٌ: تامَّةٌ.

والمُعْبَرَةُ، بالتخفيفِ: الناقةُ لم تُنْتَجْ ثلاثَ سنين، فيكونُ أصْلَبَ لها.

والعَبْرانُ: ع.

وعَبَرْتَى: ة قُرْبَ النَّهْرَوانِ.

والعُبْرَةُ، بالضم: خَرَزَةٌ كانَ يَلْبَسُها ربيعةُ بنُ الحَريشِ، فَلُقِّبَ ذا العُبْرَةِ.

ويومُ العَبَراتِ، محركةً: م.

ولُغَةٌ عابِرَةٌ: جائزَةٌ.

القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م


82-القاموس المحيط (القول)

القَوْلُ: الكَلامُ، أو كُلُّ لَفْظٍ مَذَلَ به اللِسانُ، تامًّا أو ناقِصًا

ج: أقْوالٌ.

جج: أقاويلٌ.

أو القَوْلُ في الخَيْرِ،

والقالُ والقيلُ والقالَةُ في الشَّرِّ. أو القَوْلُ مَصْدَرٌ، والقيلُ والقالُ اسْمانِ له، أَو قالَ قَوْلًا وقيلًا وقَوْلَةً ومَقَالَةً ومَقالًا (فيهما) فهو قائِلٌ وقالٌ وقَؤُولٌ، بالهَمْزِ وبالواوِ

ج: قُوَّلٌ وقُيَّلٌ وقالَةٌ وقُؤُولٌ، بالهمزِ والواوِ.

ورجُلٌ قَوَّالٌ وقَوَّالَةٌ وتِقْوَلَةٌ وتِقْوالَةٌ، بكسرهما،

ومِقْوَلٌ ومِقْوالٌ وقُوَلَةٌ، كهُمَزَةٍ: حَسَنُ القولِ، أو كثيرُهُ، لَسِنٌ. وهي مِقْوَلٌ ومِقْوالٌ. والاسمُ: القالَةُ والقيلُ والقالُ.

وهو ابنُ أقوالٍ، وابن قَوَّالٍ: فَصيحٌ جَيِّدُ الكَلامِ.

وأقْوَلَه ما لم يَقُلْ،

وقَوَّلَهُ وأقالَه: ادَّعاهُ عليه.

وقَوْلٌ مَقولٌ ومَقْؤُولٌ.

وتَقَوَّلَ قَوْلًا: ابتَدَعه كذِبًا.

وكَلِمَةٌ مُقَوَّلَةٌ، كمُعَظَّمَةٍ: قِيلَتْ مَرَّةً بعدَ مَرَّةٍ.

والمِقْوَلُ، كمِنبرٍ: اللسانُ، والمَلِكُ، أو من مُلوكِ حِمْيَرَ، يقولُ ما شاءَ فَيَنْفُذُ،

كالقَيْلِ، أو هو دونَ المَلِك الأعْلَى. وأصلُهُ قَيِّلٌ، كفَيْعِلٍ، سُمِّيَ لأنه يقولُ ما شاءَ فَيَنْفُذُ

ج: أقوالٌ وأقْيالٌ ومَقاوِلُ ومَقاوِلَةٌ.

واقْتالَ عليهم: احْتَكَمَ،

وـ الشيءَ: اخْتَارَهُ.

وقال به: غَلَبَ به، ومنه: "سُبْحانَ من تَعَطَّفَ بالعِزِّ وقال به"،

وـ القومُ بفُلانٍ: قَتَلوهُ. ابنُ الأنْبارِي: قال يَجيءُ بمعنَى: تَكَلَّمَ، وضَرَبَ، وغَلَبَ، وماتَ، ومالَ، واسْتَرَاحَ، وأقْبَلَ. ويُعَبَّرُ بها عن التَّهَيُّؤِ لِلأَفْعالِ والاسْتِعْدادِ لها.

يقالُ: قال فأكَلَ،

وقال فَضَرَبَ،

وقال فَتَكَلَّمَ، ونحوُه.

والقالُ: الابْتِداءُ.

والقِيلُ، بالكسر: الجوابُ.

والقَوْلِيَّةُ: الغَوْغاءُ.

وقُولَ: لُغَةٌ في قيلَ.

وتقولُ في الاسْتِفهامِ كتَظُنُّ في العَمَلِ.

والقالُ: القُلَةُ، أو خَشَبَتُها التي تُضْرَبُ بها

ج: قيلانٌ.

وقُولَةُ، بالضم: لَقَبُ ابنِ خُرَّشِيدَ، شيخِ أبي القاسِمِ القُشَيْرِيِّ.

القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م


83-القاموس المحيط (العم)

العَمُّ: أَخو الأَبِ

ج: أعْمامٌ وعُمومَةٌ وأعُمُّ

جج: أعْمُمونَ،

وهي عَمَّةٌ،

والمَصْدَرُ: العُمومَةُ، وما كُنْتَ عَمًّا، ولقد عَمَمْتَ.

ومُعَمٌّ، بضم الميم وكسرها: كثيرُ الأَعْمامِ، أو كريمُهُم.

وتَعَمَّمَتْه النِّساءُ: دَعَوْنَهُ عَمًّا.

واسْتَعْمَمْتُه: اتَّخَذْتُه عَمًّا. ويقالُ: هُما ابنا عَمٍّ لا خالٍ، وابنا خالةٍ لا عَمَّةٍ.

والعَمُّ: الجَماعَةُ الكثيرَةُ،

كالأَعَمِّ، والعُشْبُ كُلُّهُ،

وع،

وة بين حَلَبَ وأَنْطَاكِيَة، منها عُكاشَةُ العَمِّيُّ، والنَّخْلُ الطِّوالُ، ويُضَمُّ، ولَقَبُ مالِكِ بنِ حَنْظَلَةَ أبي قَبيلَةٍ، وهم العَمِّيُّونَ، أو النِّسْبَةُ إلى عَمٍّ: عَمِّيُّونَ، كأَنَّهُ نِسْبَةٌ إلى عَمِّيٍّ،

وبالكسر: ة بِحَلَبَ غيرُ الأُولَى.

والعِمامةُ، بالكسرِ: المِغْفَرُ، والبَيْضَةُ، وما يُلَفُّ على الرأسِ

ج: عَمائِمُ وعِمامٌ، وقد اعْتَمَّ وتَعَمَّمَ واسْتَعَمَّ، وعِيدانٌ مَشْدودَةٌ تُرْكَبُ في البَحْرِ، ويُعْبَرُ عليها في النَّهْرِ،

كالعامَّةِ، أو الصوابُ: العامَةُ، مُخَفَّفَةً.

وأرْخَى عِمامَتَه، أي: أمِنَ وتَرَفَّهَ.

وعُمِّمَ، بالضم: سُوِّدَ،

وـ رأسُه: لُفَّتْ عليه العِمامَةُ،

كعُمَّ.

وهو حَسَنُ العِمَّةِ: بالكسر، أي: الاعْتِمامِ.

وكُلُّ ما اجْتَمَعَ وكثُر: عَمِيمُ

ج: عُمُمٌ، ككُتُبٍ، والاسْمُ: العَمَمُ، محرَّكةً.

وجارِيَةٌ ونَخْلَةٌ عَمِيمَةٌ وعَمَّاءُ: طويلةٌ

ج: عُمٌّ،

وهو أعَمُّ.

ونَبْتٌ يَعْمومٌ: طويلٌ.

والعَمَمُ، محرَّكةً: عِظَمُ الخَلْقِ في الناسِ وغيرِهم، والتامُّ العامُّ من كلِّ أمرٍ، واسْمُ جَمْعٍ للعامَّةِ، وهي خلافُ الخاصَّةِ.

واسْتَوى على عُمُمِه، بضمتينِ، أي: تَمامِ جِسْمِهِ ومالِه وشَبابِه.

وعَمَّ الشيءُ عُمومًا: شَمِلَ الجَماعَةَ، يقالُ: عَمَّهُم بالعَطِيَّةِ.

وهو مِعَمُّ (بِكسر أوَّلِه: خَيِّرٌ يَعُمُّ بخَيْرِه) وعَقْلهِ،

كالعَمَمِ.

والعَمِيمُ: ع، ويَبيسُ البُهْمَى، وصَميمُ القَوْمِ.

والعُمِّيَّةُ، بالضم والكسر: الكِبْرُ.

والعَماعِمُ: الجَماعاتُ المُتَفَرِّقونَ.

وعَمَّمَ اللَّبَنُ تَعْميمًا: أرْغَى،

كاعْتَمَّ.

ورَجُلٌ عُمِّيٌّ، كقُمِّيِّ، أي: عامٌّ، وقُصْرِيٌّ، أي: خاصٌّ.

واعْتَمَّ النَّبْتُ: اكْتَهَلَ.

والمُعَمَّمُ، كمُعَظَّمٍ: الفَرَسُ الأَبْيَضُ الهامَةِ دونَ العُنُقِ، أو ابْيَضَّتْ ناصِيَتُه كُلُّها ثم انْحَدَرَ البَياضُ إلى مَنْبِتِ الناصِيَةِ.

والأَعَمُّ: الغَليظُ.

وعَمْعَمَ الرَّجُلُ: كثُرَ جَيْشُه بعدَ قِلَّةٍ.

وعَمَّى، كحَتَّى: امْرَأةٌ.

وعَمَّانُ، كقَبَّانٍ: د بالشأْمِ.

ومُعْتَمٌّ: اسْمٌ.

القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م


84-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (ثوب)

(ثوب) - في الحَدِيثِ: "كلابِسِ ثَوبَيْ زُورٍ".

الذي يُشكِل من هذا الحَدِيث على أَكثَرِ النَّاس، تَثْنِيَة الثَّوْبِ. فأَمَّا مَعنَى الحَدِيث فقد ذكر في باب الزُّورِ والتَّشَبُّع - وإنَّما ثَنَّى الثَوبَ فيما نُرَى؛ لأنَّ العَربَ أَكثرُ ما كانت تَلْبَس عند الجِدَةِ إزارًا ورِداءً، ولهذَا حِينَ سُئِل رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصَّلاةِ في الثَّوب الوَاحِد. قال: "أوَ كُلُّكم يَجِد ثَوبَيْن".

وفَسَّره عُمرُ، رضي الله عنه بإزارٍ ورِداءٍ، إزارٍ وقَمِيصٍ، رِداءٍ وتُبَّان في أَشياءَ ذَكَرهَا في كِتابِ البُخارِي، ولا يُرِيد بِذلِك الثَّوْبَيْن يَلبَس أَحدَهما فوقَ الآخَرِ كما جَرَت عادةُ العَجَم بها: وفي الحَدِيث: "رُبَّ ذِي طِمْرَين".

وأخبرنا أبو عَلِيّ الحَدَّادُ، رَحِمه الله، قراءةً، قال: أخبرنا أبو نُعَيم إجازةً، ثنا أبو أَحمَد الغِطْرِيفيّ، ثَنَا ابن شِيرَوَيْه، ثنا إسحاقُ ابنُ رَاهَوَيْة، قال: سأَلت أَبا الغَمْر الأعرابِيَّ عن تَفسِير ذلك - وهو ابنُ ابنَةِ ذى الرُّمَّة فقال:

كانت: العَرَبُ إذا اجتمَعَت في المَحافِل كانت لهم جَماعةٌ يَلبَس أَحدُهم ثَوبَيْن حَسَنَيْن فإن احْتاجُوا إلى شِهادَةٍ شُهِد لهم بِزُور. ومعناه: أن يَقول: أَمضَى زُورَه بثَوبَيْه، يَقولُون: ما أَحسنَ ثِيابَه! ما أَحسنَ هَيْئَتَه! فَيُجِيزون شَهادَتَه، فجعل المُتَشَبِّع بما لَمْ يُعطَ مِثلَ ذلك.

قُلتُ: وقد قِيلَ: إنه الرّجُلُ يَجْعَل لقَمِيصه كُمَّين: أَحدِهما فَوقَ الآخَر، ليُرِي أنَّه لابِسُ قَمِيصَيْن. وها هُنَا يَكُونُ أَحدُ الثَّوبَين زُورًا، لا يكون ثَوبَى زُورٍ.

وقيل اشتِقاق الثَّوبِ من قَولِهم: ثَابَ إذا رَجَع، لأن الغَزْلَ ثاب ثَوبًا: أي عَادَ وصَارَ، ويُعَبَّر بالثَّوب عن نَفسِ الإنسان، وعن قَلبِه أَيضا.

- في الحَدِيث: "مَنْ لَبِس ثَوبَ شُهرةٍ أَلبسَه اللهُ تَعالى ثَوبَ مَذَلَّة".

: أي يَشمَلُه بالمَذَلَّة حتَّى يَضفُو عليه، ويَلتَقِي عليه من جَنَبَاته، كما يَشمَل الثّوبُ بدنَ لابسِه، ويُحَقِّرُه في القُلوبِ ويُصَغِّرُه في العُيون.

- في حديث أَبِي سَعِيد، رضي الله عنه: "أنَّه لَمَّا حَضَره المَوتُ دَعَا بثِياب جُدُدٍ فَلَبِسَها. ثم ذَكَر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ المَيِّتَ يُبعَث في ثِيابِه التي يَمُوت فيها".

قال الخَطَّابِي: أَمَّا أَبُو سَعِيد، رضي الله عنه، فقد استعمَل الحَدِيثَ على ظاهِرِه، وقد رُوِي في تَحْسِين الكَفَن أَحادِيثُ.

وقد تَأَولَه بعضُ العُلماء على خِلافِ ذلك فَقال: مَعْنَى الثِّياب العَمَلُ، كُنِي بها عَنه، يُرِيد أَنّه يُبعَث على ما مَاتَ عليه من عَمَل صالِحٍ أو شَىء

والعَرب تَقُولُ: فُلانٌ طاهِرُ الثِّياب، إذا وَصَفُوه بطَهارَة النَّفسِ والبَراءة من العَيْب، ودَنِسُ الثِّياب إذا كان بخِلافِه.

واستَدلَّ عليه بقَولِه عليه الصَّلاة والسَّلام: "يُحشَر النَّاسُ حُفاةً عُراةً".

وقال بَعضُهم: البَعْث غَيرُ الحَشْر، فقد يَجُوز أن يَكُون البَعثُ مع الثِّيّاب، والحَشْر مع العُرْى والحَفَاء، والله أعلم.

وحَدِيثُه الآخر: "إذا وَلى أَحدُكم أَخاه فَلْيُحْسِنْ كَفنَه".

وحديثه الآخر: "يَتَزاوَرُون في أَكْفانِهم".

والآثارُ والرُّؤْيَا التي وردت فيه تُبطِل تَأوِيلَه، والله تَعالَى أَعلم.

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


85-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (رقب)

(رقب) - في حديث ابنِ سِيرِين: "لنا رِقابُ الأَرضِ".

: أي ما كَانَ من أَرضِ الخَراج فهو للمُسْلِمين، ليس لأَصحابِه، الذين كانوا قبل الِإسلام، شَىْء، لأنها فُتِحَت عَنْوةً.

والرِّقاب: جمع رَقَبَةَ، ويُعَبَّر بها عن الجَسد كُلَّه، وعن أَصلِ الشَّىءِ كقَوله تَعالَى: {فَكُّ رَقَبَة}. وإنَّما يُفَكُّ جَسدُه كُلُّه. وكقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}.

ويقال: ذَلك في رَقَبته: أي لازِمٌ واجِبٌ عليه.

- في حَديثِ حَفْر زَمْزَم:

« فَغارَ سَهمُ اللهِ ذِى الرَّقِيبِ »

الرَّقِيبُ: الثالِثُ من سِهامِ المَيْسِر.

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


86-المعجم الاشتقاقي المؤصل (بصر)

(بصر): {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 203]

البَصَر - محركة: العين حِسُّ العين. والبَصْرة - بالفتح: الطين العَلِكُ/ العَلِك الجيد الذي فيه حَصًى، وأرض حجارتها جصّ/ كأنها جبل من جصّ. وفي الشاة بُصْرة - بالضم - من لَبن: أي أَثَرٌ قليل يُبْصِره الناظر إليه، (كذا). وبُصْر الجِلْد، والسماءِ, والأَرْضِ بالضم: غِلَظها/ سُمْكها - وغَلَب في جِلْد الوجه. والبَصْر - بالفتح: أن تُضَمَّ حاشيتا أديمين فيُخْرَزا، كما تُخاط حاشيتا الثوبين. والباصر: الملفق بين شُقَّتَين أو خِرْقتين.

° المعنى المحوري

هو: إمساكٌ أو التقاطٌ في أثناء المتجمع أو الممتد: كحس الرؤية في مُقْلة العين مع التقاط (صور) الأشياء أي رؤيتها وتحصيلها، وكالحصى في الطين العَلِك أو عرق التماسك الساري في الطين العَلِك والجصّ (1)، وكاللبن القليل يبقى في ضرع الشاة - فبقاؤه هذا كأنه امتساك في الضرع، وكقوة التماسك الساريةِ في الجلود. وسَرَيانِ خَيْط الخَرْز في الأديمين لجمعهما بإمساك بعضهما ببعض. ولعل هذا ما لحظ في "البصيرة: الشُّقة التى من قُطن أو غيره يعلقها الرجل على باب رحله، والتي تكون بين شُقَّتَي البيت ". ومنه "ثوبٌ جَيّدُ البُصْر - بالضم: قَوِيٌّ وَثِيجٌ (ثخين ومتين). والبَصيرةُ: الدِرْع، وكل مأ لُبِسَ جُنَّةً. والباصَرُ - كهاجَر: قَتَبٌ صغير مستدير " (فارغ الوَسَط للسنام)، (ينفذ اللابسُ في الدرع والجُنّةِ، والسنامُ في القَتَب. وحِفْظُ اللابس والراكب إمساك لهما). و "البصيرةُ: دم من الرميّة يستدير على الأرض " (تُتَّخَذ دلالة توصّل إلى مكان الرمية - وهذا الْتِقاطٌ وتوصيلٌ لحقيقة. (ويعبّر بالبصيرة عن دم القتل أخذًا من بصيرة الرمية).

ومنه: "بَصَره بسيفه: قطعه، وأُمِر به فبُصِر رأسُه أي قُطع - للمفعول. والفعل هنا للإصابة، أي إصابة الكتلة المتجمعة أو عمل الكتلة من قولهم: "بُصْر

كل شيء - بالضم: غِلَظه "فالبَصْر: القَطْع يَفْصِل من المبصور كتلةً كما في بَصْر الرأس.

ومن البصَر (: حِسّ الرؤية) جاءت استعمالات التركيب في القرآن الكريم بهذا المعنى ومشتقاته {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} [القصص: 11]، {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} [الحاقة: 38, 39] {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] أي مضيئة تمكّن من الإبصار. ومما هو بمعنى حسّ الرؤية بالعين هذا وما أخذ منه مباشرة كل كلمات (بَصَر) وجمعها (أبصار)، والفعل (بَصُر)، و (أَبْصَرَ) ومضارعاهما، والفعل (يُبَصّر)، والصفات (مُبْصِر)، (مبصِرة)، (بصير) - على ما يليق به تعالى إذا كان هو الموصوف، وصيغة التعجب (أبصِرْ).

• ولما في البصر من الرؤية والكشف جاء "البصيرة: نظر القلب/ الفطنة "، فهي رؤية قلبية {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]: على معرفة وبيّنة ويقين، {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14] هو البصير كما تقول: أنت حجة على نفسك/ شاهدٌ [قر 19/ 99]. {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأنعام: 104]: آيات وبينات يُبْصَر بها ويُستَدَلّ، جمعُ بصيرة وهي الدلالة [قر 7/ 57] ومثلها كل (بصائر) في القرآن. {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً} [ق: 7، 8] في [قر 17/ 6] أنها تعني: جعلنا ذلك تبصرةً لندُلَّ به على كمال قدرتنا أي تبصيرًا وتنبيهًا. {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59]: آتيناه الناقة آية مبصرة، أي تمكنهم من الإِبصار والاهتداء، لوضوح المعجزة فيها غاية الوضوح.

{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم: 5, 6]: فستعلم ويعلمون [قر 18/ 229] (والعلم من رؤية القلب). {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]: يعني بصر القلب ليعرفوا كمال قدرته [قر 17/ 40]. {وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} [الصافات: 175] "وأبصِرْهم وما يُقْضَى عليهم من الأسر والقتل والعذاب في الآخرة، فسوف يبصرونك وما يقضي لك من النصر والتأييد والثواب في العاقبة " [الكشاف 4/ 65]. وقال عن {وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} [الصافات: 175] تأكيد لوقوع الميعاد إلى تأكيد. وفيه فائدة زائدة وهي إطلاق الفعلين معًا عن التقييد بالمفعول وأنه يبصر، وهم يبصرون ما لا يحيط به الذكر من صنوف المسرّة وأنواع المساءة. {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38]: قد عرفوا الحق من الباطل بظهور البراهين [قر 13/ 344] أي أنهم ضلوا عنادًا رغم علمهم.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


87-المعجم الاشتقاقي المؤصل (ثقل)

(ثقل): {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة: 6، 7].

الثقل - كعنب: نقيضُ الخِفّة/ رجحان الثقيل. الثِقْل - بالكسر: الحِمْل الثقيل. مِثْقال الشيء: ما آذَن وزنَه فثقُل ثِقَله.

° المعنى المحوري

هو: انجذاب الشيء المحمول إلى الأرض أو إلى أسفل (بقدر وزن مادته): كما هو شائع في استعمال التركيب. واستعملت مفردات التركيب في القرآن لعدة مستويات من الثقل: منها الثقل المادي المعتاد {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} [النحل: 7]، وثقل الموازين (وإن كانت الكيفية غير معروفة) {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون: 102]، (أي بالأعمال الصالحة لأنها التي طولبنا بها) ومثلها ما في [الأعراف: 8، القارعة: 6].

وفي قوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2] قال الفرّاء: لَفَظت ما (كان مدفونًا) فيها من ذهب أو فضة أو ميت [ل] (المندفن في الأرض كأنها جذبته) ومن ذلك قول الخنساء: (حَلّت به الأرضُ أثقالَها) أي زينت موتاها به.

ومن ذلك ثقل الحامل: "أثقلت المرأة: ثقُلتْ واستبان حملها "أي صار حَمْلها ثقيلًا: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} [الأعراف: 189] (كبِر الجنينُ في بطنها فصار ثقيلًا وقرُب وقت ولادته)، وثقل السحاب بمعنى امتلائه بالماء {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد: 12]: المْلأَى بالماء، ومثلها ما في [الأعراف: 57]، وثقل بدنيّ لعجز أو نحوه {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41]، وثقل نفسي من الغرم المالي {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [الطور: 40, القلم: 46] أو من فقد الحماس للجهاد {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة: 38]. ثم ثقل حمل الأوزار والذنوب {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} [العنكبوت: 13، ومثلها {مُثْقَلَةٌ} في [فاطر: 18]. أما {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] (فمعناه: زاخرًا بالتشريعات والأحكام والعلوم والإشارات والمعاني العامة) (1) {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} [الرحمن: 31]. أرجع ابن فارس [المقاييس 1/ 382] هذه التسمية إلى كثرة العدد، وأغفل

الراغب تفسير الآية. والأقرب إلى القبول قول قر "والثقلان الجن والإنس سُميا بذلك لعظم شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من غيرهما بسبب التكليف ". ويمكن أيضًا أن يضاف أن الإنس هم الذين استُعْمِروا الأرض وسُخّر لهم ما فيها، وشاركهم الجنّ فيها. فتسميتهم ثقلين من الثقل المعنوي كما يوصف الشخص الكبير القَدْر بأنه ثقيل (1). ومِثْقالُ الشيء: ما ثَقُل ثِقَلَه: {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} [لقمان: 16]، {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [الأعراف: 187]: روى [طب شاكر/ 3/ 295] عن السُدّى "خفيت في السموات والأرض " (لا يوصل إلى علمها فيحْمَلَ، أو من الخفاء اللازم لكون الشيء في باطن) ثم لما حاول [في ص 296] ردها إلى ما هو ضد الخفة جاء في قوله... فالأَولَى أن يكون هذا خبرًا عن إخفاء علمها عن الخلق... اهـ. والأقرب إلى لفظ "ثقلت "ما جاء في [بحر 4/ 432] "ويعبَّر بالثقل عن الشدة والصعوبة - كما قال تعالى: {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان: 27] أي شديدًا صعبًا "اهـ. وأقول أنا إن هذا أقرب "للفظ لأنه نظر عربي، فما زلنا إلى الآن نعبر عن المادة العلمية التي يعسر استيعابها بأنها صعبة وثقيلة. والمسئول عنه في أمر الساعة هنا هو أمرُ عِلْم ميقاتها. أما ذكر السموات والأرض هنا فلأنهما سيَطِيح بناؤهما بقيامها؛ فلا عجب من ثقل علمها عليهما كما هو على أهلهما.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


88-المعجم الاشتقاقي المؤصل (جوو جوى)

(جوو - جوى): {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} [النحل: 79].

الجُوّة - بالضم: نُقْرةٌ في الجبل وغيره. والجَوّ والجَوّة - بالفتح: المنخفِض من الأرض. والجِواء - ككتاب: البطن من الأرض، والواسع من الأودية. وجوُّ كل شيء وجَوّته - بالفتح: بَطْنُه وداخله. قال: (يجرى بجَوّته موجُ الفرات).. أي ببطن ذلك الموضع.

° المعنى المحوري

تجوف قوي مُكتنَف الجوانب في جرم شيء: كما في النقرة الخ. ومنه الجوّ: ما بين السماء والأرض كما في آية التركيب (حيث يبدو فجوة عظيمة بينهما) وفي حديث علي - رضي الله عنه -: "ثم فَتَقَ الأجواء ". ويطلق على الهواء الذي بين السماء والأرض {مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ} [النحل: 79] وليس في القرآن من التركيب إلا هذا.

والفعل (جَوِى) كالمطاوع لـ (جوو) فمنه: "الجوَى: السُلّ وتطاول المرض، وكل داء يأخذ في الباطن لا يُسْتَمْرأ معه الطعام، أو داءٌ يأخذ في الصدر وفعله (كتعب)، والماء المتغير المُنْتِن جَوٍ: فاسدٌ (فهن من فساد الجوف أي هلاكه وخرابه). جَوِيَت نفسي من الطعام وعنه (تعب): كرِهَتْه. وجَوِىَ الرجل الأرضَ والطعامَ (تعب) واجتواه: لم يوافقه وكَرِهَه. (كأنما فسد منهما جوفه). وفي حديث العُرَنيين: فاجْتَوَوْا المدينة أي أصابهم الجَوَى: وهو المرض وداء

الجوف إذا تطاول ". (ويعبر عن المعنوى من هذا بالحُرْقة وشدة الوجد أي مرجعه إلى تجوف الباطن كأنما احترق أو تآكل).

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


89-المعجم الاشتقاقي المؤصل (جلس)

(جلس): {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا} [المجادلة: 11]

الجَلْس - بالفتح: الصخرة العظيمة الشديدة, وما ارتفع عن الغَوْر.

° المعنى المحوري

ارتفاعٌ أو نتوءٌ (محدود) مع تجمع جرم وشدة تماسك. كالصخرة. والجَلْسُ من الأرض ناتئ عما حوله من الأرض، ويعبَّر بالجَلْس عن الجبل تغاضيا عن قيد المحدودية. ومنه "ناقة جَلْس شديدةٌ مشرفة، وقَدَح جَلْس: طويل، وشُهْد جَلْس: غليظ (لا يبدو تماسكه إلا إذا كان متراكمًا مرتفعًا) ومنه الجلوس: القعود (حيث يجتمع الجسم ويتضام مرتفعًا عن وضع الاتكاء ونحوه). والمجلس - كمنزل موضع الجلوس "جمعه {الْمَجَالِسِ} كما في آية التركيب.

هذا. وقد قال ابن فارس - مثبتًا للفرق بين الجلوس والقعود "ونحن نقول إن في "قعد "مَعْنى ليسَ في "جلس ". ألا تَرَى أنّا نقول: "قامَ ثم قعد "و "أخذه المُقيم المُقْعد "ونقول لناس من الخوارج "قَعَدٌ ". ثم نقول: "كان مضطجعًا فجلس "فيكونُ القعودُ عن قيام، والجلوس عن حالةٍ هي دون الجلوس، لأن "الجلس: المرتفع. فالجلوس ارتفاعٌ عما هو دونه " [الصاحبي 116]. وقال الراغب: "وجلس "أصلُه أن يَقْصد بمقعده جَلْسا (أي مرتفعًا) من الأرض. ثم جُعِل الجُلوس لكل قعود، والمَجْلِسُ لكل موضع يقعد فيه الإنسان. قال الله تعالى: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} فابن فارس يبين الأصل، والراغب ينبّه على تطور الدلالة.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


90-المعجم الاشتقاقي المؤصل (خوف خيف)

(خوف - خيف): {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]

الخافة: خَريطةٌ من أَدَمٍ ضَيّقةُ الأعلى واسعة الأسفل يُشتار فيها العَسَلُ، رجُبّةٌ من أَدَم يلبسُها العَسّال والسقاء. والخَيفُ -بالفتح: جِلد الضَّرْع حين يَخْلو من اللَبَن ويَسترخِى، ووِعاءُ قضيبِ البعير. وناقة خَيفاء ويعبرٌ أَخيف: واسعاهما.

° المعنى المحوري

فراغٌ كبير في جَوف الشيء (لذَهابِ ما كان يشغله أو انتقاصِه). كجَوْف الخَافَة وخُلُو الضرع والوِعاء بذَهاب اللَبَن وغُئُور القضيب. ومنه "تَخَوف السَفَنُ (وهو ما تُبْرَدُ به القِسي) عُودَ النبعَة: تَنَقَصَه (أي بردَه وأكل منه متجها إلى مَتْنِه وهو صُلبُهُ وجَوفُه) وكذلك خَوَّفَه وخَوَّفَ منه -ض. وهو يتخوفُ المالَ: يتنقَّصه ويأخذ من أطرافه وكذلك يتخَيَّفه. وخَوف غَنَمه -ض: أرسلها قِطعة قِطعة. وخُفِّيتْ عُمُور اللِثَة بينَ الأسنان -ض للمفعول: فرِّقَتْ (باعتار الفجوات أو باعتبار التجزئة والتفريق اقتطاعًا) {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47] أي تَنَقُص (أي من شيئًا بعد شيء حينًا بعد آخر).

ومن الأصل: الخَوف: الفَزَع. خافَه يَخَافُه خَوْفًا وخِيفة ". كأن الذي يخاف منخوبُ الفؤاد. كما قال تعالى. "وأفئِدَتهُمْ هَواء "وقال حسان: (فأنت مُجَوَّفٌ نَخِبٌ هَوَاء) وخوفه -ض: جَعَلَ فيه الخوفَ وكذلك جَعَلَ الناسَ يخافونه. {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175] أي يجعلكم تخافون أولياءه. {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] {تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205]. وسائر ما في القرآن من التركيب هو من الخوف ضد الأمن.

ومن الماديّ "الخَيفُ: ما ارتفع عن موضع مجرَى السَيل ومَسِيل الماء وانحدَرَ عن غَلْظ الجبل (كأنه اقتُطِع له جزء من أعلى جانب الجبل إلى وسطه) ومن هذا: الخيف الذي فيه المسجد في مِنَى، والخيفُ أيضًا: السكين (تَقتَطِع) والخَيفاء: حشيش ليس له وَرَقٌ، له سَنَمةُ (طرف كالسنبلة) صُبَيْغاءُ (ملونة) بيضاءُ السُفل (كأنه خال من قوة إخراج الورق. أو لتجرده). أما "خَيِفَ البعيرُ والإنسانُ والفرسُ وغيرُه (فرح): كانت إحدى عينيه سَوداء كَحلاء والأخرى زَرقاء "= فمن الأصل لاعتبار ذلك نقصًا. فالكمال أن تكونا سواء ". ومنه عُمِّمَ في الأَخْياف: الضُرُوب المختلفة في الأخلاق والأشكال.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


91-المعجم الاشتقاقي المؤصل (درك)

(درك): {لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: 77]

الدَرْك -بالتحريك وبالفتح: أقصى قَعْر الشيء كالبحر والرَكِيّة ونحوها، وبالتحريك: حبل يشد في طرف الرِشاء إلى عَرقُوَة الدلو ليكون هو الذي يلي الماء فلا يَعْفَنَ الرِشاءُ. وتدارك الثَرَيان: أي أدرك ثرى المطر ثرى الأرض.

° المعنى المحوري

لحاقٌ أو تعلقٌ بطرَفِ الشيء أو أقصاه: كالقَعْر في عُمْق البئر وأقصاها الممتد، وكما يتعلق الدرَك الموصوف بطرَف الرِشَاء الأعمق، وكما يتلاقى الثريان ويتصلان. فمن أقصى الشيء الذي يلحق به كل هاوٍ فيه {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 45].

ومن اللحاق والالتحام جاء "الإدراك والدَرَكُ: لحَاقُ المطارِد بالمطارَد {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ}، {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} [النساء: 78، 100]. {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يس: 40] (تعاقُب جريهما في الأفق في نفس

المسار هو كالمطاردة). {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} [يونس: 90] (لحقه وتمكنّ منه) {لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: 77]، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]، {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف: 38] (أي تداركوا: لحق بعضهم بعضًا). ومنه: "طعْنٌ دِرَاكٌ: متلاحق "أي متتابع يلحق التالي سابقَه {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} [النمل: 66] أي تلاحق وتتابع على إنكارها [قر 13/ 266]. ثم أضرب عنه إلى شكهم، {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا}، ثم إلى عماهم {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ}. [بحر 7/ 87 - 89].

ومن ذلك "تدارُك ما وقع من أمر غير مرغوب: لحاقه بما يتلافاه أو بما يُصْلح قبل أن يَثْبُتَ ما وقع به {لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم: 49].

وعن ذلك اللحاقِ والالتحامِ جاء معنى إدْراك الحاجة والمَطْلَب، والإدراكُ بالبَصَر (التقاطٌ وتحصيل للشيء أو لصورته أي إمساك بها) وكذا الإدراك العِلْمي إمساكٌ أو لحاق بالمعنى أو المدرَك في العقل {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]. (ويعبر الدارس الآن عن فهمه فيقول: وصل المعنى أو وصلت الفكرة).

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


92-المعجم الاشتقاقي المؤصل (رفع)

(رفع): {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]

الرفع: ضد الوضع والخفض. الرُفاعة -كرخامة- للمقيَّد: خيط يَرْفَع به قيدَه إليه. والرافع من الإبل: التي رَفَعَت اللِبَأ/ اللبنَ في ضَرعها فلم تدُرّ.

° المعنى المحوري

جذب الشيء أو دفعه مسافة إلى أعلى (بقوة): كرفع أي شيء إلى أعلى، وخيط المقيد يصدق عليه أن يكون آلة، فلعلهم تركوا الكسر للمخالفة)، وكالذي يتصور في رفع الناقة لبنها من جذب اللبن إلى أعلى في أثناء جوفها. {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2]، {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63]، الطور الجبل -كما قال تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} [الأعراف: 171]، لما رفضوا التوارة قُلِع الجبل فجُعِل عليهم مثلَ الظُلة. فخلق الله الإيمان في قلوبهم -لا أنهم آمنوا كرهًا) عن [قر 1/ 436]. ورَفْع الصوتِ دَفْعه بقوة فيصل إلى أعلى {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2]، ويقال "رجل رفيع الصوت: جهيره ". {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] إلى السماء [قر 6/ 10، 1004] {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] يرفعه الله، أو يرفع الكلم الطيب [قر 14/ 329] {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 34] هي الفرش أو الدرجات، أو نساء الجنة والارتفاع ارتفاع قَدْر [قر 17/ 210] وسائر ما في القرآن من التركيب من الرفع الحسّيّ أو المعنوي.

ومن الجذب أو الدفع مسافة بقوة -مع طفر قيد العلو "السير المرفوع: دون الحُضْر وفوق الموضوع يكون للخيل والإبل. رفع البعيرُ في السير فهو رافع أي بالَغ وسار ذلك السير "ويعبر الآن عن زيادة السرعة بالسحب كما يقال (علَّى

السرعة) بمعنى زادها فيكون هذا من الزيادة فالرفع المعتاد كالزيادة إلى أعلى.

ومن الجذب أو الرفع بمعنى لازِمِه وهو النَقْل "رفع الزرعَ: نَقَله من الموضع الذي يحصده فيه إلى البيدر ".

ومن الرفع المعنوي {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] فى الملأ الأعلى، وفي قلب كل مسلم وعلى لسانه. مع ارتباطه بذكر الله تعالى في الأذان والشهادتين والذكر والعلم. {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]. نعم فالعلم والإيمان هما مادة كل شرف حقيقي. و "رَفَعَ الأمر إلى الحاكم ". لأن الحاكم أعلى رتبة من المحكوم.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


93-المعجم الاشتقاقي المؤصل (سفر)

(سفر): {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس: 38، 39].

سفر البيتَ (ضرب): كَنَسه. والمِسْفرة: المكنسة. وأصله الكشف. سفرت الريحُ الغيمَ عن وجه السماء: فرّقته وكَشَطته عن وجه السماء، والريحُ الترابَ والورَقَ: كنسته. السَفير: ما سقط من ورق الشجر وتحاتّ. انسفر مقدم رأسه من الشعر: إذا صار أَجْلَح.

° المعنى المحوري

كشف ظاهر الشيء أو أعلاه بزوال ما يعروه أو يغشاه كما في كنس أرض البيت، وكما في إزالة الريح الغيمَ والتراب والورق، وخلو منبت الشعر منه. ومن ذلك: "فرس سافر اللحم، أي: قليله (كأنه زال عنه)، والسَفْر - بالفتح: الأثر يبقى على جلد الإنسان " (كأنه أثر كشطٍ لبعض الجلد).

ومن ذلك السفَر وقد عرّفوه بأنه قطع المسافة. ويمكن أن يقال إنه مفارقة (إرادية) للمقر بابتعاد أو استرسال. وهذا القيد (بابتعاد أو استرسال) يؤخذ من كون المفارقة أو الزوال في الاستعمالات السابقة ليست قريبة العودة، كما في سقوط ورق الشجر والشعر، وزوال الكُناسة. ويؤخذ أيضًا من تعريفهم السفَر بأنه قطع المسافة، ومن قولهم: سافرت إلى بلد كذا. وما جاء في الحديث: "يا أهل البلد صلُّوا أربعًا فإنا سَفْرٌ "؛ فالبلاد لم تكن حينذاك متقاربة. ويعتبر ذلك بالسفر من مكة إلى الطائف أو إلى جدة مثلًا. فالمسافة البعيدة قَيْدٌ من صُلب معنى

السفر. وتحديد الأئمة لها بنحو 85 إلى 90 كم له أصل صحيح في المعنى اللغوي للسفر. وللأزهري تعليلاتٌ لتسمية السفَر سفرًا يؤخذ منها هذا القيد، فمما علل به: "كَشْفُ قناعِ الكِنّ عن وجهه، ومنازلِ الحَضَر عن نفسه، ومنزلِ الخَفْض عن نفسه، وبروزُه إلى الفضاء "، وكذلك: "السَفَر يُسفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم فيَظهر منها ما كان خافيًا ". وسُمي القوي على السفر من الناس والإبل مِسْفَرًا. ولا يمكن أن يكون ذلك بضعة أميال. {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا} [البقرة: 283]، ونفي وجود الكاتب يؤكد كون مسافة السفر مسيرة نحو ثلاثة أيام في ذلك الزمن، أي نحو 90 كم. ومن السَفَر سُميت بقرة الوحش مسافرة، وثور الوحش مسافرًا؛ لانطلاقهما في الصحراء بلا حدود، وسُميت الحَكَمة الحديدية التي توضع على أنف البعير مكان الحَكَمة من أنف الفرس: سِفارًا؛ لأنها كانت تُتخذ عند السفر الطويل. ومنه كذلك: السُفْرة - بالضم: طعام يُعَدّ للمسافر. ثم سُمي به الوعاء الجلدي الذي كان يُحمل فيه.

وتفرع من هذا السَفَرِ "السِفارة بين القوم المتعادين (المتباعدين) للإصلاح بينهم: سفَر بين القوم: ذهب إلى هؤلاء مرة ليعرف ما عندهم. ثم إلى الآخرين كذلك. والسفير: الرسول المصلح بين القوم ".

ومن الأصل: "السَفَر - بالتحريك: "بياض النهار "، فهو من انكشاف سواد الليل وظلامه، فقالوا: "سَفَر الصبحُ وأسفر: أضاء {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر: 34]. ويعبَّر به عن بياض النهار بعد مغيب الشمس حملًا على سَفَرِ الصبح وإسفاره.

وجاء من انكشاف سواد الليل وظلامه "سفرت المرأة نقابها: جلّته عن

وجهها فهي سافرة "كما قالوا: سَفَر وجهُه حُسنًا وأسفَر: أشرَق {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} [عبس: 38]: مشرقة مضيئة.

ومن فرع الضوء والانكشاف استُعمل التركيب في الكتابة "لأنها تُبيّن الشيء وتوضِّحه "أي تبين ما يريد من الأمر الذي يكتبه وبخاصة إذا كان عملًا يراد تسجيله لا كلامًا {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] أي كُتُبًا جمع سِفْر - بالكسر. {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 15، 16] جمع سافر وهو الكاتب. ويصلح أن يرجع استعمالُ "السَفْر "في "الكتابة "إلى المعنى الأصلي (الزوال)؛ حيث كانت الكتابة نقشًا، أي كشطًا، في سطوح الألواح والحجارة - [ينظر ل زبر]، والكشط كشف من الظاهر.

ومن الأصل، وهو استعمال طريف نادر، حديث الباقر - رضي الله عنه - وعن آبائه، وصلى الله وسلم على جده: "تصدَّقْ بحَلال يدك وسَفْرها "- بالفتح. فهذا استعمال طريف، فالسَفْر هنا بمعنى كشط الظاهر كما هو أصل التعبير بالكسب والحرفة. والمراد: كَدُّ اليد.

والذي جاء من التركيب في القرآن هو (السفَر) الانتقال البعيد، وجمعه الأسفار، و (إسفار) الصبح والوجوه، و (السفَرة) الكاتبون و (الأسفار) الكتب. وهي واضحة في سياقاتها.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


94-المعجم الاشتقاقي المؤصل (عمل)

(عمل): {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105].

عامل الرمح: صدرُه دون السنان. استعمل البنَّاء اللبِنَ: بَنَى به. طريق مُعْمَل كمُكْرمَ: لْحبٌ مَسْلُوك. وشراب مُعْمَل: فيه لَبَنٌ وعَسَل وثَلْج. وعوامل الدابة؛ قَوَائمه. والعَمَلة -بالتحريك: القوم يعملون بأيديهم ضُروبًا من العمل في طِين أو حَفْر أو كيره. والعوامل: بَقَر الحرْث والدياسة. العَمَل الفعلُ باليد من زراعة وتلقيح وسقي.

° المعنى المحوري

جهد مادّي (من حيّ أو جماد) يؤدي إلى إحداث شيء أو هيأة أو نقلة إلخ - كعامل السنان يَعْمِده ويَدْعَمه في اندفاعه لمخالطة الضريبة، وكقوائم الدابة تحركه إلى مكان (آخر)، وكالشراب المخلوط هو من صنع الإنسان وليس طبيعيًّا، وكالطريق المُعْمَل صُيّر على هذه الصفة بكثرة السالكين، وكالعَمَلة بأيديهم في الطين والحفر، وكذلك الزراعة والتلقيح والسَقْي، وكل ذلك لاستحداث أمور مادية أو تحصيل جديد. ومنه: "عَمِل البرقُ (فرح): دام " (البرق يخالط السحاب والجو وتردد سطوعه من وراء السحاب كالحركة النشطة ويعطي صورة غريبة). ومن هذا: "عامِل الزكاة: الذي يستخرجها ويجمعها "-كما يسمى الساعي: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60]. ومن مباشرة العمل جاء في القرآن الكريم {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

هذا وقد جاء في [كليات الكفوي 616] أن العمل يعم أفعال القلوب والجوارح و (عمل) لما كان مع امتداد زمان نحو {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] وكذا ما في [الأنبياء: 82] وأن العمل لا يقال إلَّا في ما كان عن فكر وروية ولهذا قُرِن بالعلم

اهـ ببعض الزِّيادة. وأضيف أن الملحظ الأخير عن الفكر والروية كأنه متمم أو لازم لملحظ امتداد زمن العمل. كما أضيف أن مما يؤيد ملحظ الامتداد هذا أننا نسأل الشخص عن حرفته فنقول له ما عملك؟ والعرب تقول "رجل عَمُول: إذا كان كسوبًا. وفلان خبيث العِمْلة -بالكسر- أي الكسب (السعي الذي يحصّل منه رزقه).

ويمكن أن نجمل خلاصة هي أن تركيب (عمل) يعبر عن الجهد المادّي وتأثير الأشياء بعضها في بعض، ويعبَّر به عما لَهُ امداد، ووراءه فكر. وقد جاء منه في القرآن الكريم نحو 350 مفردة بالمكررات، منها نحو 80 لأداء عمل صالح و 16 مرة لأداء عمل سيئ، و 250 مرة لمطلق العمل. فالراجح أنَّه عامّ بمعنى أنَّه صالح للتعبير به عن أي نشاط، يستوفى ما ذكرناه.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


95-المعجم الاشتقاقي المؤصل (فتق)

(فتق): {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30]

الفَتْق -بالفتح: الخَلّة بين الغَيْم. ونصل فَتِيق: حَديدُ الشفرتين جُعِل له شعبتان كأن إحداهما فُتِقَت عن الأخرى. وامرأة فَتْقاء: صار مسلكاها واحدًا. "فَتَقَه (نصر وضرب): شَقَّه. ويقال: أسأْت الخياطَة فافْتُقْها "

° المعنى المحوري

فتح وشق واصل إلى العمق الملتحم: كما في الغيم والنصل والمرأة المذكورات. {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}. كلام علماء الفلك المحدثين أنهما كانتا معا في صورة تجمع غازي ساخن كثيف متماسك ثم حدث انفجار شديد منذ ملايين السنين باعد بين مكونات ذلك التجمع. [الإسلام يتحدى وحيد خان - ظفرخان/ الرسالة - ص 145] وهذا يؤيد ما قاله كثير من المفسرين القدماء [ينظر بحر 6/ 287]. ومنه: "تفتقت خواصر المال (: الماشية) من البقل: اتسعت، وكذا فتقت " (فرح) (الخاصرتان: الجنبان، وهما غائرتان كالملتقيتين من الداخل، فإذا امتلأت بطن الماشية انْتَبَرَتا حتى ساوتا ظاهرَ الضلوع أو أكثر فتباعدتا، وهذا معنى اتساعهما). ومنه "الفَتَق -محركة: الصبح ".. (يشق ضوءه الظلام - كما سمي فَلَقا وفَجْرا).

ومن مجازه: "فَتَق الكلام: بعجه (شرحه)، ولسان فتيق (يشرح ويعبِّر عن

الغامض موضحًا). وفتق المِسْك بغيره: استخرج رائحته بشيء يدخله عليه " (فتح أثناءه عن الرائحة فخرجت). و "الفَتْق -بالفتح: انشقاق العصا وتصدُّع الكلمة ".

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


96-المعجم الاشتقاقي المؤصل (فأد)

(فأد): {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]

الفؤاد: القلب. - فَأَدْتُ الخبزة: مَلَلْتُها وخَبَزْتها في المَلّة. ويقال فَحَصْتُ للخبزة في الأرض وفَأَدْت لها (فَتَح) والاسم أُفْحُوص وأُقْثُود: جَعَلْتُ لها موضعًا في الرماد والنار لتضعها فيه. وفَأَدَ اللحمَ في النار (فتح) وافْتَأَده فيه: شواه فيه (النار قد تُذَكَّر). إذا شُوِىَ اللحمُ فوق الجَمْر فَهُو مُفْأَد وفَئِيد " [تاج]. وفي معلقة النابغة {سَفُّودُ شَرْب نَسُوهُ عند مُفْتَأَد} (السفّود هو السيخ الحديدي الذي تُشَكّ فيه قطع اللحم واحدة تلو الأخرى ثم يوضع بِلَحْمه على النار ليُشْوى).

° المعنى المحوري

إنضاجٌ بعد تهيئة وإعداد وترتيب: كما تُنْضَجُ الخُبْزة بعد تهيئتها في المَلَّة، وكما يُنْضَج اللحم بتهيثته لذلك في السفود. وقد سمى النابغة نار الشيّ مُفْتأدًا -كما ترى. فهل سمي القلب فؤادًا من أجل إنضاج الرأي كما سمي قلبًا من أجل تقلبه على ما قالوا؟ هذا ما عندي فيه. وفي [تاج] أن أكثر اللغويين

يفرقون بين القلب والفؤاد: "قال الأزهري: القلب مضغة في الفؤاد معلقة بالنياط- وبهذا جَزَم الواحديّ وغيرُه، وقيل: الفؤادُ وعاء القلب، أو داخله، أو غِشاؤه والقلب حَبَّتُه... وقيل: القلب أخصُّ من الفؤاد لحديث (أتاكم أهل اليمن هم أرق قلوبًا وأَلْين أفئدة)، فوصف القلوب بالرقة والأفئدة باللين ". ثم استدرك صاحب التاج على المجد قولهم: "فأد فلان لفلان: إذا عَمِل في أَمْرِه بالغيب جَميلًا -كذا في النوادر للحياني ". فهذا يدخل في التهيئة الحسنة. وفي [بحر 5/ 421] "سُمِّيَ القلب فؤادًا لانفئاده، مأخوذ من (فأد) ومنه المفتأد، وهو مستوقد النار حيث يشوَى اللحم ". وفي [فروق اللغات للجزائري 191] "لم يفرق أهل اللغة بين القلب والفؤاد. وقال بعض أصحابنا الأفئدة توصف بالرقة والقلوب باللين.. إلخ ".

ونقول إن استعمالات التركيب فيها المعاني الآتية:

أ) الإعداد والتهيئة: مَلّةً أو جَمْرًا أو سَفُّودًا.

ب) الإنضاج أخذًا من فَأْد الخُبْز واللحم أي إنضاجه بوضعه في المَلّة والجَمْر والسفود.

ج) التحرق والتوقد. (وهذا ملحظ ظاهري).

الذي أميل إليه أن لفظ الفؤاد يشير إلى وظيفة إنضاج الرأي أو الفكرة أو الاتجاه، وهذا يجمع (أ) و (ب). فقد نُسِبت إليه البصيرة في قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]، وعُدَّ من روافد العلم كما في آية التركيب {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}، وطُولب بالميل في قوله تعالى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [الأنعام: 113] لذلك, ولما

وَلِهَتْ أم موسى على ولدها ففقدت القدرة على تحديد صواب ما تَفْعل في أمره عبّر القرآن عن ذلك بقوله: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص: 10]. أما {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} فهي تصوير للعجز عن الفقه، ويعبر بمثل هذا أيضًا عن الجبن -كما قال: {فأنت مُجَوَّفٌ نَخِبٌ هواء}.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


97-المعجم العربي لأسماء الملابس (النطاق)

والنِّطاق: شبه إزار فيه تكة كانت المرأة تنتطق به، وفى حديث أم إسماعيل: "أول ما اتخذ النساء المنطق من قِبَل أم إسماعيل اتخذت مِنطقًا" وهو النطاق؛ وجمعه: مناطق. وهو أن تليس المرأة ثوبها ثم تشد وسطها بشئ وترفع وسط ثوبها وترسله على الأسفل عند معاناة الأشغال لئلا تعثر في ذيلها.

وفى المحكم: النطاق شُقة أو ثوب تلبسه المرأة ثم تشدّ وسطها بحبل ثم ترسل الأعلى على الأسفل إلى الركبة، فالأسفل ينجر على الأرض وليس لها حجزة ولا نيفق ولا ساقان، والجمع: نُطُق.

وقال بعضهم: النطاق والإزار الذي يُثنى والمِنطق ما دخل فيه من خيط أو غيره.

وانتطق الرجل؛ أي لبس المِنْطق،

وهو كل ما شددت به وسطك، وقالت عائشة في نساء الأنصار: فعمدن إلى حُجَز أو حُجوز مناطقهن فشققنها وسوَّين منها خُمُرًا واختمرن بها حين أنزل اللَّه تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}. والمناطق: واحدها مِنْطَق، وهو النطاق. يُقال: مِنْطق ونِطاق بمعنى واحد، كما يقال مئزر وإزار؛ وملحف ولحاف، ومِسْرد وسِراد.

وكان يُقال لأسماء بنت أبي بكر رضي اللَّه عنهما ذات النطاقين لأنها كانت تطارق نطاقًا على نطاق، وقيل: إنه كان لها نطاقان تلبس أحدهما وتحمل في الآخر الزاد إلى سيدنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبى بكر رضي اللَّه عنه، وهما في الغار، وقيل: إنها شقت نطاقها نصفين فاستعملت أحدهما وجعلت الآخر شدادًا لزادهما.

وروى عن عائشة رضي اللَّه عنها: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما خرج مع أبي بكر مهاجرين صنعنا لهما سُفْرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر رضي اللَّه عنهما من نطاقها وأوكت به الجراب، لذلك كانت تسمى ذات النطاقين.

والمناطق جمع مِنطقة، وهي حزام يُشدُّ على الوسط، ويعبر عنها بالحياصة، ويُلْبسها المَلِك للأمراء عند إلباسهم الخلع.

ويحدثنا المسعودى أن المعتز باللَّه كان أول خليفة أظهر الركوب بحلية الذهب وكان من سلف قبله من خلفاء بنى العباس وكذلك جماعة من بنفي أمية يركبون بالحلية الخفيفة من الفضة والمناطق وأنجاد السيوف والسروج واللُّجم، فلما ركب المعتز بحلية الدهب اتبعه الناس في فعل ذلك".

وعند دوزى: تشير كلمتما: المِنْطَق والمِنْطَقة إلى الحزام، ولكنه دائمًا حزام من الذهب أو الفضة، ولن نقرأ أبدًا منطق أو منطقة من الجلد أو من القماش، أيا كان نوع القماش، وبالرغم من تحريم التحلى بالذهب أو

الفضة على الرجال، فإن الشريعة قد أحلت التمنطق بمنطقة من الفضة أو الذهب، فقد روى في متلقى الأبحر: ويجوز للنساء التحلى بالذهب والفضة ولا يجوز للرجال إلا الخاتم والمنطقة وحلية السيف.

والذي يؤكد أن المناطق كانت تتخذ من ذهب ما ورد عند الرحالة ابن بطوطة في قوله: وكل واحد منهم تكون على رأسه شاشية ذهب، وعلى وسطه منطقة ذهب، وبعضهم يرصعها بالجوهر".

ويحدثنا mayer أن حزام العسكريين المماليك الذي يُسمَّى منطقة، وأطلق عليه فيما بعد اسم حياصة كان يُصنع من معدن ثمين، أفخمها ما كان من الفضة المطلية بالذهب، كما صنعت أحيانًا من الذهب الخالص المرصع بحجر اليشم. وكان السلطان هو صاحب الحق الوحيد في منح المناطق إلى الأمراء العظماء كجزء من ثياب التشريف، وكان من المألوف أن ترصع بالأحجار الكريمة.

وتختلف المنطقة باختلاف أقدار الأمراء، فأعلى المناطق ما عُمل بين عمدها بواكر وسطى ومجنبتان بالبلخش والزمرد واللؤلؤ، ثم ما كان ببيكارية واحدة مرصعة، ثم ما كان ببيكارية واحدة غير مرصعة.

المعجم العربي لأسماء الملابس-رجب عبدالجواد إبراهيم-صدر: 1423هـ/2002م


98-معجم النحو (اللام الجارة)

الّلام الجارّة: وتجرّ الظاهر والمضمر، وهي مكسورة مع كلّ ظاهر، إلّا مع المستغاث المباشر ل «يا» نحو «يا لله»، وأمّا مع المضمر فتفتح أيضا إذا كان للمخاطب أو للغائب وإذا كان مع ياء المتكلم فتكسر للمناسبة.

ولهذه الّلام نحو من ثلاثين معنى وهاك بعضها:

(1) الملك، نحو {لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ}.

(2) شبه الملك، ويعبّر عنه بالاختصاص نحو «السّرج للفرس».

«ما أحبّ محمّدا لبكر».

(4) التعليل نحو:

«وإنّي لتعروني لذكراك هزّة***كما انتفض العصفور بلّله القطر»

(5) الزّائدة، وهي لمجرّد التّوكيد كقول ابن ميّادة:

«وملكت ما بين العراق ويثرب ***ملكا أجار لمسلم ومعاهد»

(6) تقوية العامل الذي ضعف، إمّا بكونه فرعا في العمل نحو {مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ}، {فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ} وإمّا بتأخّر العامل عن المعمول نحو {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ}.

(7) لانتهاء الغاية نحو {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}.

(8) القسم نحو «لله لا يؤخّر الأجل» أي تالله.

(9) التّعجّب نحو «لله درّك» و «لله أنت».

(10) الصيرورة، وتسمى لام العاقبة نحو:

«لدوا للموت وابنوا للخراب ***فكلّكم يصير إلى الذّهاب “

(11) البعديّة، نحو {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أي بعده.

(12) الاستعلاء نحو {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ} أي عليها.

معجم النحو-عبدالغني الدقر-صدر: 1395هـ/1975م


99-المعجم المفصل في النحو العربي (الزيادة بغير التكرير)

الزّيادة بغير التّكرير

اصطلاحا: هي زيادة حرف أو أكثر من حروف الزّيادة لا من الحروف الأصول في الكلمة، مثل: «كرم» و «أكرم» «جلس» و «أجلس» ويعبّر عن الحرف الزائد بلفظه فتقول في «أكرم» بزيادة الهمزة في أوله، أما إذا كان الحرف مبدلا من تاء الافتعال فتقول: الإبدال من تاء الافتعال، مثل:

«اضطرب» فنقول: بابدال تاء الافتعال «طاء» والأصل: «اضترب» وزن «افتعل».

المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م


100-المعجم المفصل في النحو العربي (المستقبل المجرد)

المستقبل المجرّد

اصطلاحا: هو الذي يدلّ على حدث متوقّع ويعبّر عنه بلفظ المضارع وحده، كقوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا}.

المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م


101-المعجم المفصل في علم الصرف (الماضي الناقص)

الماضي الناقص

هو، في الاصطلاح، الذي يدلّ على حدث مصاحب لحدث آخر، ويعبّر عنه بصيغة المضارع مسبوقة بـ «كان»، أو بصيغة اسم الفاعل، مسبوقة أيضا بـ «كان» نحو: «كنت أدرس لمّا دخل»، و «كنت جالسا لمّا دخل».

المعجم المفصل في علم الصرف-راجي الأسمر-صدر:1414هـ/1993م


102-المعجم المفصل في علم الصرف (المستقبل المجرد)

المستقبل المجرّد

هو، في الاصطلاح، ما دلّ على حدث متوقّع، ويعبّر عنه بصيغة المضارع وحدها، نحو: «لا بدّ أن يرجع».

المعجم المفصل في علم الصرف-راجي الأسمر-صدر:1414هـ/1993م


103-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (الرمزية-من المدارس الأدبية)

الرمزيــة

التعريف:

الرمزية مذهب أدبي فلسفي ملحد، يعبر عن التجارب الأدبية والفلسفية المختلفة بواسطة الرمز أو الإشارة أو التلميح.

- والرمز معناه الإيحاء، أي التعبير غير المباشر عن النواحي النفسية المستترة التي لا تقوى اللغة على أدائها أو لا يراد التعبير عنها مباشرة.

- ولا تخلو الرمزية من مضامين فكرية واجتماعية، تدعو إلى التحلل من القيم الدينية والخلقية، بل تتمرد عليها؛ متسترة بالرمز والإشارة.

- وتعد الرمزية الأساس المؤثر في مذهب الحداثة الفكري والأدبي الذي خلفه.

التأسيس وأبرز الشخصيات:

رغم أن استعمال الرمز قديم جدًا، كما هو عند الفراعنة واليونانيين القدماء إلا أن المذهب الرمزي بخصائصه المتميزة لم يعرف إلا عام 1886م حيث أصدر عشرون كاتبًا فرنسيًّا بيانًا نشر في إحدى الصحف يعلن ميلاد المذهب الرمزي، وعرف هؤلاء الكتّاب حتى مطلع القرن العشرين بالأدباء الغامضين. وقد جاء في البيان: إن هدفهم "تقديم نوع من التجربة الأدبية تستخدم فيها الكلمات لاستحضار حالات وجدانية، سواء كانت شعورية أو لا شعورية، بصرف النظر عن الماديات المحسوسة التي ترمز إلى هذه الكلمات، وبصرف النظر عن المحتوى العقلي الذي تتضمنه، لأن التجربة الأدبية تجربة وجدانية في المقام الأول".

ومن أبرز الشخصيات في المذهب الرمزي في فرنسا وهي مسقط رأس الرمزية:

- الأديب الفرنسي بودلير 1821 – 1967م وتلميذه رامبو.

- ومالارراميه 1842 – 1898م ويعد من رموز مذهب الحداثة أيضًا.

- بول فاليري 1871 – 1945م.

- وفي ألمانيا ر.م. ريلكه وستيفان جورج.

- وفي أمريكا يمي لويل.

- وفي بريطانيا: أوسكار وايلد.

الأفكار والمعتقدات:

من الأفكار والآراء التي تضمنتها الرمزية:

الابتعاد عن عالم الواقع وما فيه من مشكلات اجتماعية وسياسية، والجنوح إلى عالم الخيال بحيث يكون الرمز هو المعبر عن المعاني العقلية والمشاعر العاطفية.

البحث عن عالم مثالي مجهول يسد الفراغ الروحي ويعوضهم عن غياب العقيدة الدينية، وقد وجد الرمزيون ضالتهم في عالم اللاشعور والأشباح الأرواح.

اتخاذ أساليب تعبيرية جديدة واستخدام ألفاظ موحية، تعبر عن أجواء روحية، مثل لفظ الغروب الذي يوحي بمصرع الشمس الدامي والشعور بزوال أمر ما، والإحساس بالإنقباض. وكذلك تعمد الرمزية إلى تقريب الصفات المتباعدة رغبة في الإيحاء مثل تعبيرات: الكون المقمر، الضوء الباكي، الشمس المرة المذاق.. الخ.

تحرير الشعر من الأوزان التقليدية، فقد دعى الرمزيون إلى الشعر المطلق مع التزام القافية أو الشعر الحر وذلك لتساير الموسيقى فيه دفعات الشعور.

الجذور الفكرية والعقائدية:

لقد انبثقت الرمزية عن نظرية المثل لدى أفلاطون، وهي نظرية تقوم على إنكار الحقائق الملموسة، وتعبر النظرية عن حقائق مثالية، وتقول: إن عقل الإنسان الظاهر الواعي عقل محدود، وأن الإنسان يملك عقلًا غير واعٍ أرحب من ذلك العقل.

وفي أواخر القرن التاسع عشر تجمعت عوامل عقدية واجتماعية وثقافية لولادة الرمزية على يد: بودلير وغيره من الأدباء:

العوامل العقدية: وتتمثل في انغماس الإنسان الغربي في المادية التي زرعتها الفلسفة الوضعية، ونسيان كيانه الروحي، وقد فشلت المادية والإلحاد في ملء الفراغ الذي تركه عدم الإيمان بالله.

العوامل الإجتماعية: وتتمثل في الصراع الاجتماعي الحاد بين ما يريده بعض الأدباء والمفكرين من حرية مطلقة وإباحية أخلاقية، وبين ما يمارسه المجتمع من ضغط وكبح لجماحهم، مما زاد بتأثرهم بنظرية المثل الأفلاطونية وكتابات الكاتب الأمريكي ادجار الآن بو – الخيالية المتميزة.

- العوامل الفنية: وذلك باعتقادهم أن اللغة عاجزة عن التعبير عن تجربتهم الشعورية العميقة، فلم يبق إلا الرمز ليعبر فيه الأديب عن مكنونات صدره.

الانتشار ومواقع النفوذ:

بدأت الرمزية في فرنسا حيث ولدت أكثر المذاهب الأدبية والفكرية، ثم انتشرت في أوروبا وأمريكا.

ويكاد يكون هذا المذهب نتيجة من نتائج تمزق الإنسان الأوروبي وضياعه بسبب طغيان النزعة المادية وغيبة الحقيقة، والتعلق بالعقل البشري وحده للوصول إليها، من خلال علوم توهم بالخلاص عند السير في دروب الجمال، ولا شك أن الرمزية ثمرة من ثمرات الفراغ الروحي والهروب من مواجهة المشكلات باستخدام الرمز في التعبير عنها.

ويتضح مما سبق:

أن الرمزية مذهب أدبي يتحلل من القيم الدينية، ويعبر عن التجارب الأدبية الفلسفية من خلال الرمز والتلميح، نأيًا من عالم الواقع وجنوحًا إلى عالم الخيال، وبحثًا عن مثالية مجهولة تعوض الشباب عن غياب العقيدة الدينية، وذلك باستخدام الأساليب التعبيرية الجديدة، والألفاظ الموحية، وتحرير الشعر من كافة قيود الوزن التقليدية. ولاشك في خطورة هذا المذهب على الشباب المسلم إن درسه دون أن يكون ملمًا سلفًا بأسسه المتقدمة والتي تهدر القيم الدينية.

الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م


104-معجم البلدان (قلعة النجم)

قَلْعَةُ النَّجْم:

بلفظ النجم من الكواكب: وهي قلعة حصينة مطلة على الفرات على جبل تحتها ربض عامر وعندها جسر يعبر عليه، وهي المعروفة بجسر منبج في الإقليم الرابع، طولها أربع وستون درجة وخمس وثلاثون دقيقة، وعرضها ست وثلاثون درجة وأربع عشرة دقيقة، ويعبر على هذا الجسر القوافل من حرّان إلى الشام، وبينها وبين منبج أربعة فراسخ، وهي الآن في حكم صاحب حلب الملك العزيز ابن الملك الظاهر ابن الملك الناصر يوسف بن أيوب.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


105-معجم القواعد العربية (اللام الجارة)

اللّام الجارّة:

وتجرّ الظاهر والمضمر، وهي مكسورة مع كلّ ظاهر، إلّا مع المستغاث المباشر ل «يا» نحو «يالله» وأمّا مع المضمر فتفتح أيضا إذا كان للمخاطب أو للغائب وإذا كان مع ياء المتكلم فتكسر للمناسبة. ولهذه اللّام نحو من ثلاثين معنى وهاك بعضها:

(1) الملك، نحو: {لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ}.

(2) شبه الملك، ويعبّر عنه بالاختصاص نحو: «السّرج للفرس» و «ما أحبّ محمّدا لبكر».

(3) التعليل، نحو:

«وإنّي لتعروني لذكراك هزّة *** كما انتفض العصفور بلّله القطر»

(4) الزّائدة، وهي لمجرّد التّوكيد كقول ابن ميّادة:

«وملكت ما بين العراق ويثرب *** ملكا أجار لمسلم ومعاهد»

(5) تقوية العامل الذي ضعف، إمّا بكونه فرعا في العمل نحو: {مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ} {فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ}.

وإمّا بتأخّير العامل عن المعمول نحو: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ}.

(6) لانتهاء الغاية نحو: {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}.

(7) القسم، نحو «لله لا يؤخّر الأجل» أي تالله. وهذا قليل.

(8) التّعجّب، نحو «لله درّك» و «لله أنت».

(9) الصّيرورة، وتسمّى لام العاقبة نحو:

«لدوا للموت وابنوا للخراب *** فكلّكم يصير إلى ذهاب »

(10) البعديّة، نحو: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أي بعده.

(11) بمعنى على نحو: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ} أي عليها.

معجم القواعد العربية في النحو والتصريف وذُيّل بالإملاء-عبدالغني الدقر-صدر: 1404ه‍/1984م


106-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (استفهام التوبيخ)

استفهام التّوبيخ:

وجعله بعضهم من قبيل الانكار، إلّا أنّ الأول إنكار إبطال وهذا الانكار توبيخ، والمعنى أنّ ما بعده واقع جدير بأن ينفى، فالنفي هنا قصدي والاثبات قصدي، ويعبر عن ذلك بالتقريع أيضا. ومنه قوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي؟} وقوله: {أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟} وقوله: {لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ} ؟

معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م


107-موسوعة الفقه الكويتية (آمين)

آمِينَ

مَعْنَاهُ، وَاللُّغَاتُ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهِ:

1- جُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ آمِينَ فِي الدُّعَاءِ يُمَدُّ وَيُقْصَرُ، وَتَقُولُ: أَمَّنْتُ عَلَى الدُّعَاءِ تَأْمِينًا، إِذَا قُلْتَ آمِينَ. وَيُعَبَّرُ غَالِبًا بِالتَّأْمِينِ بَدَلًا مِنْ عِبَارَةِ: قَوْلِ آمِينَ، لِسُهُولَةِ اللَّفْظِ. وَلَمْ يُعْتَبَرْ التَّأْمِينُ عُنْوَانًا لِلْبَحْثِ؛ لِئَلاَّ يُشْتَبَهَ بِالتَّأْمِينِ التِّجَارِيِّ.

وَنَقَلَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ لُغَاتٍ عَدِيدَةً، نَكْتَفِي مِنْهَا بِأَرْبَعٍ: الْمَدِّ، وَالْقَصْرِ، وَالْمَدِّ مَعَ الْإِمَالَةِ وَالتَّخْفِيفِ، وَالْمَدِّ مَعَ التَّشْدِيدِ. وَالْأَخِيرَتَانِ حَكَاهُمَا الْوَاحِدِيُّ وَزَيَّفَ الْأَخِيرَةَ مِنْهُمَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهَا مُنْكَرَةٌ. وَحَكَى ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ الْقَصْرَ مَعَ التَّشْدِيدِ. وَهِيَ شَاذَّةٌ أَيْضًا.

وَكُلُّهَا إِلاَّ الرَّابِعَةَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى اسْتَجِبْ. وَمَعْنَى آمِّينَ (بِالْمَدِّ مَعَ التَّشْدِيدِ) قَاصِدِينَ إِلَيْكَ. «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ مَعْنَى آمِينَ، فَقَالَ: افْعَلْ». وَقَالَ قَتَادَةُ: كَذَلِكَ يَكُونُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «آمِينَ خَاتَمُ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ». وَقَالَ عَطَاءٌ: آمِينَ دُعَاءٌ. وَإِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَا حَسَدَكُمُ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدُوكُمْ عَلَى آمِينَ وَتَسْلِيمِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ». قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ لَمْ تَكُنْ لِمَنْ قَبْلَنَا، خَصَّنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَا.

حَقِيقَةُ التَّأْمِينِ:

2- التَّأْمِينُ دُعَاءٌ؛ لِأَنَّ الْمُؤَمِّنَ يَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَسْتَجِيبَ الدُّعَاءَ.

صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):

3- الْأَصْلُ فِي قَوْلِ آمِينَ أَنَّهُ سُنَّةٌ، لَكِنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ عَنِ النَّدْبِ إِلَى غَيْرِهِ، كَالتَّأْمِينِ عَلَى دُعَاءٍ مُحَرَّمٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ حَرَامًا.

نَفْيُ الْقُرْآنِيَّةِ عَنْ «آمِينَ»:

4- لَا خِلَافَ فِي أَنَّ «آمِينَ» لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، لَكِنَّهَا مَأْثُورَةٌ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-. وَقَدْ وَاظَبَ عَلَيْهَا وَأَمَرَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا، كَمَا يُعْرَفُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي سَتَرِدُ فِي خِلَالِ الْبَحْثِ.

مَوَاطِنُ التَّأْمِينِ:

5- التَّأْمِينُ دُعَاءٌ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ بَلْ مُرْتَبِطٌ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَدْعِيَةِ، لِذَلِكَ يَحْسُنُ بَيَانُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُؤَمَّنُ عَلَى الدُّعَاءِ فِيهَا، فَمِنْ أَهَمِّهَا:

أ- التَّأْمِينُ فِي الصَّلَاةِ: التَّأْمِينُ عَقِبَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَعَلَى الدُّعَاءِ فِي قُنُوتِ الصُّبْحِ وَالْوِتْرِ وَالنَّازِلَةِ.

ب- وَالتَّأْمِينُ خَارِجَ الصَّلَاةِ: عَقِبَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَالتَّأْمِينُ عَلَى الدُّعَاءِ فِي الْخُطْبَةِ، وَفِي الِاسْتِسْقَاءِ.

أَوَّلًا: التَّأْمِينُ فِي الصَّلَاةِ

التَّأْمِينُ عَقِبَ الْفَاتِحَةِ:

5 م- التَّأْمِينُ لِلْمُنْفَرِدِ سُنَّةٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الصَّلَاةُ سِرِّيَّةً أَمْ جَهْرِيَّةً. وَمِثْلُهُ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ فِي السِّرِّيَّةِ، وَالْمُقْتَدِي فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ.

أَمَّا الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:

أَوَّلًا- نَدْبُ التَّأْمِينِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ، عَدَا رِوَايَةَ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةُ الْمَدَنِيِّينَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ لِحَدِيثِ: «إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

ثَانِيًا- عَدَمُ النَّدْبِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْمِصْرِيِّينَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَدَلِيلُ عَدَمِ اسْتِحْسَانِهِ مِنَ الْإِمَامِ مَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، فَقُولُوا: آمِينَ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ». وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقُولُهُ؛ لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَسَمَ ذَلِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْمِ، وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ.

ثَالِثًا- وُجُوبُ التَّأْمِينِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، قَالَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: آمِينَ أَمْرٌ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.

ارْتِبَاطُ التَّأْمِينِ بِالسَّمَاعِ:

6- اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ التَّأْمِينُ عِنْدَ سَمَاعِ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ، أَمَّا إِنْ سَمِعَ الْمَأْمُومُ التَّأْمِينَ مِنْ مُقْتَدٍ آخَرَ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ رَأْيَانِ:

الْأَوَّلُ: نَدْبُ التَّأْمِينِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَقَوْلٌ مُضَعَّفٌ لِلشَّافِعِيَّةِ.

الثَّانِي: لَا يُطْلَبُ التَّأْمِينُ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَلَمْ نَقِفْ عَلَى نَصٍّ لِلْحَنَابِلَةِ فِي هَذَا.

تَحَرِّي الِاسْتِمَاعِ:

7- لَا يَتَحَرَّى الْمُقْتَدِي عَلَى الْأَظْهَرِ الِاسْتِمَاعَ لِلْإِمَامِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِلُهُ: يَتَحَرَّى، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ.

الْإِسْرَارُ بِالتَّأْمِينِ وَالْجَهْرُ بِهِ:

8- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي أَنَّ الصَّلَاةَ إِنْ كَانَتْ سِرِّيَّةً فَالْإِسْرَارُ بِالتَّأْمِينِ سُنَّةٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ جَهْرِيَّةً فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْإِسْرَارِ بِهِ وَعَدَمِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:

الْأَوَّلُ: نَدْبُ الْإِسْرَارِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اسْتَحَبُّوهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ فَقَطْ، وَالْحَنَفِيَّةُ وَمَعَهُمُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ اسْتَحَبُّوهُ لِلْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَالْأَصْلُ فِيهِ الْإِخْفَاءُ. لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وَلِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-: أَرْبَعٌ يُخْفِيهِنَّ الْإِمَامُ، وَذَكَرَ مِنْهَا آمِينَ.

وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَخْصِيصُ الْإِسْرَارِ بِالْمَأْمُومِ فَقَطْ إِنْ أَمَّنَ الْإِمَامُ، كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ، وَقِيلَ: يُسِرُّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِنْ قَلَّ الْجَمْعُ.

الثَّانِي: نَدْبُ الْجَهْرِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ عَمَّمُوا النَّدْبَ فِي كُلِّ مُصَلٍّ.

وَوَافَقَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ اتِّفَاقًا بِالنِّسْبَةِ لِلْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ. وَأَمَّا فِي الْمَأْمُومِ فَقَدْ وَافَقُوهُمْ أَيْضًا بِشَرْطِ عَدَمِ تَأْمِينِ الْإِمَامِ. فَإِنْ أَمَّنَ فَالْأَظْهَرُ نَدْبُ الْجَهْرِ كَذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا يَجْهَرُ فِي حَالَةِ تَأْمِينِ الْإِمَامِ بِشَرْطِ كَثْرَةِ الْجَمْعِ. فَإِنْ لَمْ يَكْثُرْ فَلَا يُنْدَبُ الْجَهْرُ.

وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِنَدْبِ الْجَهْرِ بِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «آمِينَ» وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ.

الثَّالِثُ: التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ ابْنَ بُكَيْرٍ خَصَّهُ بِالْإِمَامِ فَقَطْ، وَخَيَّرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْجَمِيعَ، وَصَحَّحَ فِي كِتَابِهِ «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» الْجَهْرَ.

وَلَوْ أَسَرَّ بِهِ الْإِمَامُ جَهَرَ بِهِ الْمَأْمُومُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ جَهْرَ الْمَأْمُومِ بِالتَّأْمِينِ سُنَّةٌ، فَلَا يَسْقُطُ بِتَرْكِ الْإِمَامِ لَهُ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا نَسِيَهُ الْإِمَامُ، فَيَجْهَرُ بِهِ الْمَأْمُومُ لِيُذَكِّرَهُ.

الْمُقَارَنَةُ وَالتَّبَعِيَّةُ فِي التَّأْمِينِ:

9- مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مُقَارَنَةَ تَأْمِينِ الْإِمَامِ لِتَأْمِينِ الْمَأْمُومِ سُنَّةٌ، لِخَبَرِ «إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» وَخَبَرِ «إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ: آمِينَ، وَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ: آمِينَ، فَوَافَقَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُقْتَدِيَ يُؤَمِّنُ بَعْدَ تَأْمِينِ الْإِمَامِ.

وَلَمْ أَقِفْ عَلَى نَصٍّ صَرِيحٍ فِي ذَلِكَ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، لَكِنَّهُمْ ذَكَرُوا مَا يُفِيدُ مُقَارَنَةَ التَّأْمِينِ لِتَأْمِينِ الْمَلَائِكَةِ، مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقِ «إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ: آمِينَ، وَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ: آمِينَ..» إِلَخْ. وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، فَقُولُوا: آمِينَ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

فَإِنْ فَاتَتْهُ مُقَارَنَةُ تَأْمِينِهِ لِتَأْمِينِ إِمَامِهِ أَتَى بِهِ عَقِبَهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْمَأْمُومُ بِتَأْمِينِ إِمَامِهِ، أَوْ أَخَّرَهُ عَنْ وَقْتِهِ الْمَنْدُوبِ أَمَّنَ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، كَمَا نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَرَأَ مَعَهُ وَفَرَغَا مَعًا كَفَى تَأْمِينٌ وَاحِدٌ، أَوْ فَرَغَ قَبْلَهُ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: يَنْتَظِرُهُ، وَالْمُخْتَارُ أَوِ الصَّوَابُ أَنَّهُ يُؤَمِّنُ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ يُؤَمِّنُ لِلْمُتَابَعَةِ.

الْفَصْلُ بَيْنَ «آمِينَ» وَبَيْنَ {وَلَا الضَّالِّينَ}:

10- الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى نَدْبِ السُّكُوتِ لَحْظَةً لَطِيفَةً بَيْنَ {وَلَا الضَّالِّينَ} وَبَيْنَ «آمِينَ» لِيُعْلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَعَلَى أَلاَّ يَتَخَلَّلَ فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ لَفْظٌ. نَعَمْ، يَسْتَثْنِي الشَّافِعِيَّةُ «رَبِّ اغْفِرْ لِي» قَالُوا: وَيَنْبَغِي أَنَّهُ لَوْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ «وَلِوَالِدَيَّ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ» لَمْ يَضُرَّ أَيْضًا.

وَلَمْ أَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذِهِ النُّقْطَةِ، فِيمَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ.

تَكْرَارُ آمِينَ وَالزِّيَادَةُ بَعْدَهَا:

11- يَحْسُنُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلُ «آمِينَ رَبَّ الْعَالَمِينَ»، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الذِّكْرِ. وَلَا يُسْتَحَبُّ عِنْدَ أَحْمَدَ، لَكِنْ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، وَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ عَنْهَا. وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ نَصًّا فِي التَّكْرَارِ.

وَذَكَرَ الْكُرْدِيُّ عَنِ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّهُ يُنْدَبُ تَكْرَارُ «آمِينَ» فِي الصَّلَاةِ، مُسْتَدِلًّا بِمَا رَوَاهُ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ أَنَّهُ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ الصَّلَاةَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، قَالَ: آمِينَ، ثَلَاثًا» وَيُؤْخَذُ مِنْهُ تَكْرَارُ «آمِينَ» ثَلَاثًا، حَتَّى فِي الصَّلَاةِ.

تَرْكُ التَّأْمِينِ

12- الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَوْ تَرَكَ «آمِينَ» وَاشْتَغَلَ بِغَيْرِهَا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ فَاتَ مَحَلُّهَا.

عَدَمُ انْقِطَاعِ الْقِرَاءَةِ بِالتَّأْمِينِ عَلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ:

13- إِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَثْنَاءَ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ، قَالَ الْمَأْمُومُ: «آمِينَ» ثُمَّ يُتِمُّ قِرَاءَتَهُ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَلَا قِرَاءَةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَأْمُومِ.

التَّأْمِينُ عَقِبَ الْفَاتِحَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ:

14- التَّأْمِينُ عَقِبَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «لَقَّنَنِي جِبْرِيلُ- عليه السلام- عِنْدَ فَرَاغِي مِنَ الْفَاتِحَةِ: آمِينَ».

التَّأْمِينُ عَلَى الْقُنُوتِ:

15- الْقُنُوتُ قَدْ يَكُونُ فِي النَّازِلَةِ وَقَدْ يَكُونُ فِي غَيْرِهَا. وَلِلْفُقَهَاءِ فِي التَّأْمِينِ عَلَى قُنُوتِ غَيْرِ النَّازِلَةِ ثَلَاثَةُ اتِّجَاهَاتٍ:

الْأَوَّلُ: التَّأْمِينُ جَهْرًا، إِنْ سَمِعَ الْإِمَامَ، وَإِلاَّ قَنَتَ لِنَفْسِهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي الْقُنُوتِ وَفِي الدُّعَاءِ بَعْدَهُ. وَمِنْهُ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- كَمَا نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ. وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ لِغَيْرِهِمْ لِدُخُولِهِ فِي الشُّمُولِ.

الثَّانِي: تَرْكُ التَّأْمِينِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، وَقَوْلٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

الثَّالِثُ: التَّخْيِيرُ بَيْنَ التَّأْمِينِ وَتَرْكِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَقَوْلٌ ضَعِيفٌ لِلشَّافِعِيَّةِ.

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قُنُوتِ النَّازِلَةِ وَقُنُوتِ غَيْرِهَا، عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَلَا تَأْمِينَ فِي النَّازِلَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِإِسْرَارِهِمْ بِالْقُنُوتِ فِيهَا. فَإِنْ جَهَرَ الْإِمَامُ أَمَّنَ الْمَأْمُومُ. قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْمُقْتَدِيَ يُتَابِعُ إِمَامَهُ إِلاَّ إِذَا جَهَرَ فَيُؤَمِّنُ.

وَلَا قُنُوتَ فِي النَّازِلَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ.

وَلَوِ اقْتَدَى الْمَأْمُومُ بِمَنْ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ أَجَازَ لَهُ الْحَنَابِلَةُ التَّأْمِينَ. وَمَعَهُمْ فِي ذَلِكَ ابْنُ فَرْحُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَيَسْكُتُ مَنْ صَلَّى وَرَاءَ مَنْ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَيُرَاعِي الْمَأْمُومُ الْمُقْتَدِي بِمَنْ لَا يَقْنُتُ حَالَ نَفْسِهِ، عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، بِشَرْطِ عَدَمِ الْإِخْلَالِ بِالْمُتَابَعَةِ.

ثَانِيًا: التَّأْمِينُ خَارِجَ الصَّلَاةِ

التَّأْمِينُ عَلَى دُعَاءِ الْخَطِيبِ:

16- يُسَنُّ التَّأْمِينُ عَلَى دُعَاءِ الْخَطِيبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ يَكُونُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ سِرًّا، وَبِلَا رَفْعِ صَوْتٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَلَا تَأْمِينَ بِاللِّسَانِ جَهْرًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بَلْ يُؤَمِّنُ فِي نَفْسِهِ.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ مَا يَقَعُ عَلَى دَكَّةِ الْمُبَلِّغِينَ بَعْدَ قَوْلِ الْإِمَامِ: «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ» مِنْ رَفْعِ أَصْوَاتِ جَمَاعَةٍ بِقَوْلِهِمْ: «آمِينَ. آمِينَ. آمِينَ» وَاعْتَبَرُوهُ بِدْعَةً مُحَرَّمَةً.

التَّأْمِينُ عَلَى دُعَاءِ الِاسْتِسْقَاءِ:

17- اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، التَّأْمِينَ عَلَى دُعَاءِ الِاسْتِسْقَاءِ عِنْدَ جَهْرِ الْإِمَامِ بِهِ. وَلَا يُخَالِفُ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ.

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَدْعُوَ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُونَ. وَقِيلَ بَعْدَ دُعَائِهِمْ مَعًا: يَسْتَقْبِلُهُمُ الْإِمَامُ، فَيَدْعُو وَيُؤَمِّنُونَ.

التَّأْمِينُ عَلَى الدُّعَاءِ دُبُرَ الصَّلَاةِ.

18- لَمْ أَجِدْ مَنْ يَقُولُ بِالتَّأْمِينِ عَلَى دُعَاءِ الْإِمَامِ بَعْدَ الصَّلَاةِ إِلاَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِجَوَازِهِ ابْنُ عَرَفَةَ، وَأَنْكَرَ الْخِلَافَ فِي كَرَاهِيَتِهِ. وَفِي جَوَابِ الْفَقِيهِ الْعَلاَّمَةِ أَبِي مَهْدِيٍّ الْغُبْرِينِيُّ مَا نَصُّهُ: «وَنُقَرِّرُ أَوَّلًا أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْمِلَّةِ نَهْيٌ عَنِ الدُّعَاءِ دُبُرَ الصَّلَاةِ، عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ الْيَوْمَ مِنَ الِاجْتِمَاعِ، بَلْ جَاءَ التَّرْغِيبُ فِيهِ عَلَى الْجُمْلَةِ.» فَذَكَرَ أَدِلَّةً كَثِيرَةً ثُمَّ قَالَ: «فَتَحَصَّلَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنَ الْمَجْمُوعِ أَنَّ عَمَلَ الْأَئِمَّةِ مُنْذُ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَقَادِمَةِ مُسْتَمِرٌّ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ، وَهُيَ مَسَاجِدُ الْجَوَامِعِ، وَفِي مَسَاجِدِ الْقَبَائِلِ، وَهِيَ مَسَاجِدُ الْأَرْبَاضِ وَالرَّوَابِطِ، عَلَى الْجَهْرِ بِالدُّعَاءِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَوَاتِ، عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُتَعَارَفَةِ الْآنَ، مِنْ تَشْرِيكِ الْحَاضِرِينَ، وَتَأْمِينِ السَّامِعِينَ، وَبَسْطِ الْأَيْدِي وَمَدِّهَا عِنْدَ السُّؤَالِ وَالتَّضَرُّعِ وَالِابْتِهَالِ مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ.»

وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ غَيْرُهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، لِمَا يَقَعُ فِي نَفْسِ الْإِمَامِ مِنَ التَّعَاظُمِ. وَبَقِيَّةُ الْقَائِلِينَ بِالدُّعَاءِ عَقِبَ الصَّلَاةِ يُسِرُّونَ بِهِ نَدْبًا، عَلَى تَفْصِيلٍ. (ر: دُعَاءٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


108-موسوعة الفقه الكويتية (إبراء 1)

إِبْرَاء -1

التَّعْرِيفُ بِالْإِبْرَاءِ:

1- مِنْ مَعَانِي الْإِبْرَاءِ فِي اللُّغَةِ: التَّنْزِيهُ وَالتَّخْلِيصُ وَالْمُبَاعَدَةُ عَنِ الشَّيْءِ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: بَرِئَ: تَخَلَّصَ وَتَنَزَّهَ وَتَبَاعَدَ، فَالْإِبْرَاءُ عَلَى هَذَا: جَعْلُ الْمَدِينِ- مَثَلًا- بَرِيئًا مِنَ الدَّيْنِ أَوِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ. وَالتَّبْرِئَةُ: تَصْحِيحُ الْبَرَاءَةِ، وَالْمُبَارَأَةُ: الْمُصَالَحَةُ عَلَى الْفِرَاقِ.

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَهُوَ إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْحَقُّ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ وَلَا تُجَاهَهُ، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ وَحَقِّ السُّكْنَى الْمُوصَى بِهِ، فَتَرْكُهُ لَا يُعْتَبَرُ إِبْرَاءً، بَلْ هُوَ إِسْقَاطٌ مَحْضٌ. وَقَدِ اخْتِيرَ لَفْظُ (إِسْقَاطٍ) فِي التَّعْرِيفِ- بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ فِي الْإِبْرَاءِ مَعْنَيَيْنِ، هُمَا الْإِسْقَاطُ وَالتَّمْلِيكُ- تَغْلِيبًا لِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهِ إِسْقَاطٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْبَرَاءَةُ، وَالْمُبَارَأَةُ، وَالِاسْتِبْرَاءُ:

2- (الْبَرَاءَةُ): هِيَ أَثَرُ الْإِبْرَاءِ، وَهِيَ مَصْدَرُ بَرِئَ. فَهِيَ مُغَايِرَةٌ لَهُ فِي الْفِقْهِ، غَيْرَ أَنَّ الْبَرَاءَةَ كَمَا تَحْصُلُ بِالْإِبْرَاءِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِفِعْلِ الدَّائِنِ، تَحْصُلُ بِأَسْبَابٍ أُخْرَى غَيْرِهِ، كَالْوَفَاءِ وَالتَّسْلِيمِ مِنَ الْمَدِينِ أَوِ الْكَفِيلِ، وَتَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ بِالِاشْتِرَاطِ، كَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْعُيُوبِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالتَّبَرُّؤِ أَيْضًا، وَتَفْصِيلُهُ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ، وَالْكَفَالَةِ.

وَقَدْ تَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ بِإِزَالَةِ سَبَبِ الضَّمَانِ، أَوْ بِمَنْعِ صَاحِبِ التَّضْمِينِ مِنْ إِزَالَتِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ أَنَّ حَافِرَ الْبِئْرِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ إِنْ أَرَادَ رَدْمَهَا فَمَنَعَهُ الْمَالِكُ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ صِيغَةُ إِبْرَاءٍ.

وَمِمَّا يُؤَكِّدُ التَّبَايُنَ بَيْنَهُمَا مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مِنْ تَقْيِيدِ الْبَرَاءَةِ بِالْإِبْرَاءِ أَوِ الْإِسْقَاطِ لِتَمْيِيزِهَا عَنِ الْبَرَاءَةِ بِالِاسْتِيفَاءِ. وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ ابْنُ الْهُمَامِ: الْبَرَاءَةُ بِالْإِبْرَاءِ لَا تَتَحَقَّقُ بِفِعْلِ الْكَفِيلِ، بَلْ بِفِعْلِ الطَّالِبِ- أَيْ الدَّائِنِ- فَلَا تَكُونُ حِينَئِذٍ مُضَافَةً إِلَى الْكَفِيلِ. وَنَحْوَهُ بَحَثَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي تَلْفِيقِ شَهَادَتَيْ الْإِبْرَاءِ وَالْبَرَاءَةِ، كَأَنْ شَهِدَ وَاحِدٌ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ أَبْرَأَهُ، وَآخَرُ بِأَنَّهُ بَرِئَ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَرَجَّحُوا جَوَازَهُ وَاعْتِبَارَ الشَّهَادَةِ مُسْتَكْمِلَةَ النِّصَابِ

3- أَمَّا (الْمُبَارَأَةُ) فَهِيَ مُفَاعَلَةٌ وَتَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْبَرَاءَةِ. وَهِيَ فِي الِاصْطِلَاحِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْخُلْعِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَهُوَ بَذْلُ الْمَرْأَةِ الْعِوَضَ عَلَى طَلَاقِهَا. لَكِنَّهَا تَخْتَصُّ بِإِسْقَاطِ الْمَرْأَةِ عَنِ الزَّوْجِ حَقًّا لَهَا عَلَيْهِ. فَالْمُبَارَأَةُ صُورَةٌ خَاصَّةٌ لِلْإِبْرَاءِ تَقَعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِإِيقَاعِ الزَّوْجِ الطَّلَاقَ- إِجَابَةً لِطَلَبِ الزَّوْجَةِ غَالِبًا- مُقَابِلَ عِوَضٍ مَالِيٍّ تَبْذُلُهُ لِلزَّوْجِ، هُوَ تَرْكُهَا مَا لَهَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقٍ مَالِيَّةٍ، كَالْمَهْرِ الْمُؤَجَّلِ، أَوِ النَّفَقَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِي الْعِدَّةِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهَا أَيُّ حَقٍّ إِلاَّ بِالتَّسْمِيَةِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْقَائِلَيْنِ بِسُقُوطِ جَمِيعِ حُقُوقِهَا الزَّوْجِيَّةِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَوْطِنُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ (الْخُلْعِ).

وَلِابْنِ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ رِسَالَةٌ فِي الطَّلَاقِ الْمُوَقَّعِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِبْرَاءِ، حَقَّقَ فِيهَا أَنَّهُ يَقَعُ بَائِنًا لِوُقُوعِهِ بِعِوَضٍ، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: مَتَى ظَهَرَ كَذَا وَأَبْرَأْتِنِي مِنْ مَهْرِكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَلَيْسَ بَائِنًا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الطَّلَاقَ مُعَلَّقًا بِالْإِبْرَاءِ، فَالْإِبْرَاءُ شَرْطٌ لِلطَّلَاقِ وَلَيْسَ عِوَضًا.

4- وَأَمَّا (الِاسْتِبْرَاءُ) فَهُوَ يَأْتِي بِمَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا: هُوَ تَعَرُّفُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، أَيْ طَهَارَتُهُ مِنْ مَاءِ الْغَيْرِ. وَهُوَ حَيْثُ لَا تَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ عِدَّةٌ. وَأَحْكَامُهُ مُفَصَّلَةٌ فِي مُصْطَلَحِهِ. وَالْمَعْنَى الْآخَرُ: هُوَ طَلَبُ نَقَاءِ الْمَخْرَجَيْنِ مِمَّا يُنَافِي التَّطَهُّرَ، وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِهِ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءِ الْحَاجَةِ).

ب- الْإِسْقَاطُ:

5- الْإِسْقَاطُ لُغَةً: الْإِزَالَةُ، وَاصْطِلَاحًا: إِزَالَةُ الْمِلْكِ أَوِ الْحَقِّ لَا إِلَى مَالِكٍ أَوْ مُسْتَحِقٍّ. وَهُوَ قَدْ يَقَعُ عَلَى حَقٍّ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ، عَلَى سَبِيلِ الْمَدْيُونِيَّةِ (كَالْحَالِ فِي الْإِبْرَاءِ) كَمَا قَدْ يَقَعُ عَلَى حَقٍّ ثَابِتٍ بِالشَّرْعِ لَمْ تُشْغَلْ بِهِ الذِّمَّةُ (كَحَقِّ الشُّفْعَةِ) وَيَكُونُ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ، فَالْإِبْرَاءُ أَخَصُّ مِنَ الْإِسْقَاطِ، فَكُلُّ إِبْرَاءٍ إِسْقَاطٌ، وَلَا عَكْسَ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ نَوْعٌ مِنَ الْإِسْقَاطِ تَقْسِيمُ الْقَرَافِيِّ الْإِسْقَاطَ إِلَى نَوْعَيْنِ، أَحَدُهُمَا: بِعِوَضٍ، كَالْخُلْعِ. وَالْآخَرُ: بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَمَثَّلَ لَهُ بِالْإِبْرَاءِ مِنَ الدُّيُونِ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ.

وَالْإِسْقَاطُ مُتَمَحِّضٌ لِسُقُوطِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، فِي حِينِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ مُخْتَلِفٌ فِي أَنَّهُ إِسْقَاطٌ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، أَوْ تَمْلِيكٌ مَحْضٌ، أَوْ إِسْقَاطٌ مَحْضٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

هَذَا وَإِنَّ الْقَلْيُوبِيَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَفَادَ أَنَّ غَيْرَ الْقِصَاصِ لَا يُسَمَّى تَرْكُهُ إِسْقَاطًا، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ: إِبْرَاءٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَأْلُوفِ الْمَذْهَبِ.

وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الْإِبْرَاءُ فِي مَوْطِنِ الْإِسْقَاطِ، كَمَا فِي خِيَارِ الْعَيْبِ، فَالْإِبْرَاءُ مِنَ الْعَيْبِ كِنَايَةٌ عَنْ إِسْقَاطِ الْخِيَارِ.

ج- الْهِبَةُ:

6- الْهِبَةُ لُغَةً: الْعَطِيَّةُ الْخَالِيَةُ عَنِ الْأَعْوَاضِ وَالْأَغْرَاضِ، أَوِ التَّبَرُّعُ بِمَا يَنْفَعُ الْمَوْهُوبَ لَهُ مُطْلَقًا. وَهِيَ شَرْعًا: تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِلَا عِوَضٍ.

وَالَّذِي يُوَافِقُ الْإِبْرَاءَ مِنَ الْهِبَةِ هُوَ هِبَةُ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، فَهِيَ وَالْإِبْرَاءُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ لَا يُجِيزُونَ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْجُمْلَةِ فَالْإِبْرَاءُ مُخْتَلِفٌ عَنْ هِبَةِ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، لِلِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْإِبْرَاءِ بَعْدَ قَبُولِهِ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ، وَالسَّاقِطُ لَا يَعُودُ كَمَا تَنُصُّ عَلَى ذَلِكَ الْقَاعِدَةُ الْمَشْهُورَةُ.

أَمَّا هِبَةُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ- عَلَى الْخِلَافِ وَالتَّفْصِيلِ الَّذِي مَوْطِنُهُ الْهِبَةُ وَالدَّيْنُ- فَلَا صِلَةَ لَهُ بِالْإِبْرَاءِ.

د- الصُّلْحُ:

7- الصُّلْحُ لُغَةً: التَّوْفِيقُ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْمُصَالَحَةِ. وَهُوَ شَرْعًا: عَقْدٌ بِهِ يُرْفَعُ النِّزَاعُ وَتُقْطَعُ الْخُصُومَةُ بَيْنَ الْمُتَصَالِحَيْنِ بِتَرَاضِيهِمَا.

وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِقْهًا أَنَّ الصُّلْحَ يَكُونُ عَنْ إِقْرَارٍ أَوْ إِنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ. فَإِذَا كَانَ عَنْ إِقْرَارٍ، وَكَانَتِ الْمُصَالَحَةُ عَلَى إِسْقَاطِ جُزْءٍ مِنَ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَأَدَاءِ الْبَاقِي، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُشْبِهُ الصُّلْحُ الْإِبْرَاءَ؛ لِأَنَّهَا أَخْذٌ لِبَعْضِ الْحَقِّ وَإِبْرَاءٌ عَنْ بَاقِيهِ. أَمَّا إِنْ كَانَ الصُّلْحُ هُنَا عَلَى أَخْذِ بَدَلٍ فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ.

وَكَذَلِكَ الْحَالُ إِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ وَتَضَمَّنَ إِسْقَاطَ الْجُزْءِ مِنْ حَقِّهِ، فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُدَّعِي إِبْرَاءٌ عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ، فِي حِينِ أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ افْتِدَاءٌ لِلْيَمِينِ وَقَطْعٌ لِلْمُنَازَعَةِ.

وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ الصُّلْحَ عَلَى نَوْعَيْنِ، أَحَدُهُمَا: إِسْقَاطٌ وَإِبْرَاءٌ، وَقَالَ: هُوَ جَائِزٌ مُطْلَقًا، وَالْآخَرُ: صُلْحٌ عَلَى عِوَضٍ، وَقَالَ فِيهِ: هُوَ جَائِزٌ إِلاَّ إِنْ أَدَّى إِلَى حَرَامٍ.

هـ- الْإِقْرَارُ:

8- مِنْ مَعَانِي الْإِقْرَارِ فِي اللُّغَةِ: الْإِيقَانُ وَالِاعْتِرَافُ. وَأَمَّا تَعْرِيفُهُ فِي الِاصْطِلَاحِ فَهُوَ: الْإِخْبَارُ بِحَقِّ الْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ.

وَالْإِقْرَارُ قَدْ يَرِدُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، فَيَكُونُ إِقْرَارًا بِالْبَرَاءَةِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِمَّا إِبْرَاءُ اسْتِيفَاءٍ، وَإِمَّا إِبْرَاءُ إِسْقَاطٍ كَمَا سَيَأْتِي. وَكُلٌّ مِنَ الْإِقْرَارِ بِالِاسْتِيفَاءِ وَالْإِبْرَاءِ عَلَى إِطْلَاقِهِ يَقْطَعُ النِّزَاعَ وَيَفْصِلُ الْخُصُومَةَ. فَالْمُرَادُ مِنْهُمَا وَاحِدٌ، وَلِذَا عُبِّرَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ وَإِنْ اخْتَلَفَا مَفْهُومًا.

وَدَعْوَى الْإِبْرَاءِ تَتَضَمَّنُ إِقْرَارًا، فَإِذَا قَالَ: أَبْرَأْتَنِي مِنْ كَذَا، أَوْ: أَبْرِئْنِي، فَهُوَ إِقْرَارٌ وَاعْتِرَافٌ بِشَغْلِ الذِّمَّةِ وَادِّعَاءٌ لِلْإِسْقَاطِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. وَعَلَيْهِ بَيِّنَةُ الْإِبْرَاءِ أَوِ الْقَضَاءُ.

و- الضَّمَانُ:

9- الضَّمَانُ لُغَةً: الْكَفَالَةُ وَالِالْتِزَامُ بِالشَّيْءِ. وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: الْتِزَامُ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ أَوْ إِحْضَارُ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ. وَالضَّمَانُ عَكْسُ الْإِبْرَاءِ، فَهُوَ يُفِيدُ انْشِغَالَ الذِّمَّةِ

فِي حِينِ يُطْلَقُ الْإِبْرَاءُ عَلَى خُلُوِّهَا، وَلِصِلَةِ الضِّدِّيَّةِ هَذِهِ وَضَعَ الشَّافِعِيَّةُ أَكْثَرَ أَحْكَامِ الْإِبْرَاءِ فِي بَابِ الضَّمَانِ.

هَذَا وَإِنَّ لِلْإِبْرَاءِ صِلَةً بِالضَّمَانِ، وَهِيَ أَنَّهُ أَحَدُ الْأَسْبَابِ لِسُقُوطِهِ، بَلْ إِنَّ لَهُ مَدْخَلًا إِلَى أَكْثَرِ الِالْتِزَامَاتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَتَطَرَّقُ لَهُ فِي سُقُوطِهَا؛ لِأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَسْقُطَ بِالْوَفَاءِ- أَيْ الْأَدَاءِ- أَوِ الْمُقَاصَّةِ أَوِ الْإِبْرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

ز- الْحَطُّ:

10- الْحَطُّ لُغَةً: الْوَضْعُ، أَوِ الْإِسْقَاطُ. وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: إِسْقَاطُ بَعْضِ الدَّيْنِ أَوْ كُلِّهِ. فَالْحَطُّ إِبْرَاءٌ مَعْنًى، وَلِذَا قَدْ يُطْلَقُ الْحَطُّ عَلَى الْإِبْرَاءِ نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ إِمَّا أَنْ يُقَيَّدَ بِالْكُلِّ أَوِ الْجُزْءِ. وَالْغَالِبُ اسْتِعْمَالُ الْحَطِّ لِلْإِبْرَاءِ عَنْ جُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ، أَمَّا الْإِبْرَاءُ فَهُوَ عَنْ كُلِّهِ.

وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ تَسْمِيَةُ وَضْعِ بَعْضِ الدَّيْنِ إِبْرَاءً، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ إِبْرَاءٌ جُزْئِيٌّ. وَقَالَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: صُلْحُ الْحَطِيطَةِ إِبْرَاءٌ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الصُّلْحِ يُشْعِرُ بِقَنَاعَةِ الْمُسْتَحِقِّ بِالْقَلِيلِ عَنِ الْكَثِيرِ.

ح- التَّرْكُ:

11- مِنْ مَعَانِي التَّرْكِ فِي اللُّغَةِ: الْإِسْقَاطُ، يُقَالُ: تَرَكَ حَقَّهُ: إِذَا أَسْقَطَهُ. وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ ذَلِكَ.

وَمِنْ صِلَتِهِ بِالْإِبْرَاءِ مَا جَاءَ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ مِنَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ إِنْ وَقَعَتْ بِلَفْظِ (التَّرْكِ) كَأَنْ يَقُولَ: تَرَكْتُ الدَّيْنَ، أَوْ: لَا آخُذُهُ مِنْكَ، فَهِيَ كِنَايَةُ إِبْرَاءٍ. وَلَكِنْ نَقَلَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا الْقَوْلَ بِأَنَّ ذَلِكَ إِبْرَاءٌ صَرِيحٌ. وَهُوَ مَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ وَالْمُقْرِي.

وَالتَّرْكُ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِسْقَاطِ عُمُومًا بِحَيْثُ يَحْصُلُ بِهِ مَا يَحْصُلُ بِلَفْظِ الْإِسْقَاطِ وَيُعْطَى أَحْكَامَهُ، وَلِذَا أَوْرَدَهُ الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي عِدَادِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا يَحْتَاجُ الْإِسْقَاطُ فِيهَا إِلَى قَبُولٍ- كَالْإِبْرَاءِ عِنْدَهُمْ- فِي حِينِ يَحْتَاجُ لَفْظُ الصُّلْحِ إِلَى الْقَبُولِ.

وَقَدْ يُطْلَقُ التَّرْكُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْحَقِّ دُونَ إِسْقَاطِهِ، كَتَرْكِ الزَّوْجَةِ حَقَّهَا فِي الْقَسْمِ وَمَنْحِهِ لِلزَّوْجَةِ الْأُخْرَى، فَإِنَّ لَهَا الرُّجُوعَ وَطَلَبَ الْقَسْمِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَقْبَلِ.

وَالْغَالِبُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ لَفْظُ التَّرْكِ فِي الدَّعْوَى، فَالْمُدَّعِي فِي أَشْهَرِ تَعْرِيفَاتِهِ «مَنْ إِذَا تَرَكَ (أَيْ دَعْوَاهُ) تُرِكَ» وَهَذَا حَيْثُ لَمْ يَصْدُرْ دَفْعٌ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِدَعْوَاهُ، فَإِنْ حَصَلَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي التَّرْكُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ بِهِ الْكَيْدَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيُلْزَمُ بِالِاسْتِمْرَارِ فِي الدَّعْوَى لِلْفَصْلِ فِيهَا. وَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ هُنَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُدَّعِيًا أَنَّهُ يَتَعَرَّضُ لَهُ فِي كَذَا بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُ طَلَبُ دَفْعِ التَّعَرُّضِ.

صِفَةُ الْإِبْرَاءِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):

12- الْإِبْرَاءُ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَتَعْرِضُ لَهُ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْخَمْسَةُ الْمَعْرُوفَةُ:

فَيَكُونُ وَاجِبًا إِذَا سَبَقَهُ اسْتِيفَاءٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ اعْتِرَافًا بِالْبَرَاءَةِ لِمُسْتَحِقِّهَا، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْعَدْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} وَالْمُؤَكَّدِ بِالْحَدِيثِ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي بَابِ السَّلَمِ: إِذَا أَحْضَرَ الْمُسَلَّمُ إِلَيْهِ مَالَ السَّلَمِ الْحَالَّ لِغَرَضِ الْبَرَاءَةِ أُجْبِرَ الْمُسَلِّمُ عَلَى الْقَبُولِ أَوِ الْإِبْرَاءِ. فَهَذَا وَاجِبٌ تَخْيِيرِيٌّ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمُفْلِسِ فَلَهُ إِجْبَارُ الْغُرَمَاءِ عَلَى أَخْذِ الْعَيْنِ إِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِمْ، أَوْ إِبْرَائِهِ.

وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا، كَمَا لَوْ جَاءَ ضِمْنَ عَقْدٍ بَاطِلٍ، لِأَنَّ اسْتِبْقَاءَ الْبَاطِلِ حَرَامٌ، عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي بُطْلَانِ الْإِبْرَاءِ.

وَتَعْرِضُ لَهُ الْكَرَاهَةُ فِيمَا إِذَا أَبْرَأَ وَارِثَهُ أَوْ غَيْرَهُ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ وَهُوَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ حَيْثُ أَجَازَهُ الْوَرَثَةُ، وَمُسْتَنَدُ الْكَرَاهَةِ مَا فِي ذَلِكَ الْإِبْرَاءِ مِنْ تَضْيِيعِ وَرَثَتِهِ، «لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم- لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ حِينَ هَمَّ بِالتَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ مَالِهِ: إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ». أَمَّا الثُّلُثُ فَقَدْ أَقَرَّهُ عَلَيْهِ.

13- عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْغَالِبَ لَهُ النَّدْبُ، وَلِذَا يَقُولُ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: «الْإِبْرَاءُ مَطْلُوبٌ، فَوُسِّعَ فِيهِ، بِخِلَافِ الضَّمَانِ» ذَلِكَ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْإِحْسَانِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْغَالِبِ يَتَضَمَّنُ إِسْقَاطَ الْحَقِّ عَنِ الْمُعْسِرِ الَّذِي يُثْقِلُ الدَّيْنُ كَاهِلَهُ. وَحَتَّى إِذَا كَانَ الْإِبْرَاءُ لِمَنْ لَا يَعْسُرُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ، فَإِنَّهُ مِمَّا يَزِيدُ الْمَوَدَّةَ بَيْنَ الدَّائِنِ وَالْمَدِينِ، فَلَا يَخْلُو عَنْ مَعْنَى الْبِرِّ وَالصِّلَةِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنه- حِينَ قَامَ بِوَفَاءِ دَيْنِ أَبِيهِ، وَخَبَرُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، حِينَ أَعْسَرَا، حَيْثُ ثَبَتَ حَضُّهُ - عليه الصلاة والسلام- الدَّائِنِينَ عَلَى إِسْقَاطِ كُلِّ الدَّيْنِ أَوْ بَعْضِهِ عَنْهُمْ.

وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لِلْمُعْسِرِ أَفْضَلُ مِنَ الْقَرْضِ، وَأَنَّ الْقَرْضَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ أَفْضَلُ مِنْهُ.

وَالْإِبْرَاءُ فِي غَيْرِ الْأَحْوَالِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا هُوَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ الْجَارِيَةِ فِي مُعْظَمِ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي بُعِثَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهَا فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهَا، وَلَا سِيَّمَا فِي حَالَةِ عَجْزِ الْمُبْرِئِ عَنْ تَحْصِيلِ حَقِّهِ مِنْ مُنْكِرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ هُنَا غَيْرُ وَارِدٍ، لِفُقْدَانِ مَحَلِّهِ.

أَقْسَامُ الْإِبْرَاءِ:

14- يُقَسِّمُ بَعْضُ الْمُؤَلِّفِينَ الْإِبْرَاءَ إِلَى قِسْمَيْنِ: إِبْرَاءُ الْإِسْقَاطِ، وَإِبْرَاءُ الِاسْتِيفَاءِ. وَيَعْتَبِرُونَ الْأَوَّلَ مِنْهُمَا هُوَ الْجَدِيرُ بِالْبَحْثِ تَحْتَ هَذَا الِاسْمِ، فِي حِينِ أَنَّ الثَّانِيَ (الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِالْقَبْضِ وَالِاسْتِيفَاءِ لِلْحَقِّ الثَّابِتِ لِشَخْصٍ فِي ذِمَّةِ آخَرَ) هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْإِقْرَارِ. وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ هَذَا التَّقْسِيمِ فِي صُورَةِ الْإِبْرَاءِ فِي الْكَفَالَةِ الْوَاقِعِ مِنَ الطَّالِبِ (الدَّائِنِ) إِنْ جَاءَ بِلَفْظِ «بَرِئْتَ إِلَيَّ مِنَ الْمَالِ» بَرِئَ الْكَفِيلُ وَالْمَدِينُ كِلَاهُمَا مِنَ الْمُطَالِبِ، وَرَجَعَ الْكَفِيلُ بِالْمَالِ عَلَى الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّهُ بَرَاءَةُ قَبْضٍ وَاسْتِيفَاءٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: دَفَعْتَ إِلَيَّ. أَمَّا إِنْ قَالَ: بَرِئْتَ مِنَ الْمَالِ، أَوْ: أَبْرَأْتُكَ، بِدُونِ لَفْظِ (إِلَيَّ) فَلَا رُجُوعَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إِبْرَاءُ إِسْقَاطٍ، لَا إِقْرَارٌ بِالْقَبْضِ. عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ مَوْطِنُهُ الْكَفَالَةُ.

وَوَجْهُ اعْتِبَارِهِمَا قِسْمَيْنِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِبْرَاءِ وَالْإِقْرَارِ يُرَادُ بِهِ قَطْعُ النِّزَاعِ وَفَصْلُ الْخُصُومَةِ وَعَدَمُ جَوَازِ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَهُمَا. فَالْمُرَادُ مِنْهُمَا وَاحِدٌ. وَلِذَا عَبَّرُوا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ وَإِنِ اخْتَلَفَا مَفْهُومًا.

وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ لَيْسَ لِلْإِبْرَاءِ فِي ذَاتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِثَمَرَةِ الْإِبْرَاءِ وَمَقْصُودِهِ، وَإِلاَّ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ- وَمِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالِاسْتِيفَاءِ- غَيْرُ الْإِبْرَاءِ فِي الشُّرُوطِ وَالْأَرْكَانِ وَالْآثَارِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، فِي حِينِ يَخْتَصُّ إِبْرَاءُ الْإِسْقَاطِ بِالدُّيُونِ، كَمَا سَيَأْتِي، وَسَيَقْتَصِرُ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ تَفْصِيلَ مَا يَتَّصِلُ بِإِبْرَاءِ الِاسْتِيفَاءِ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ (إِقْرَار).

وَلَمْ نَقِفْ فِي غَيْرِ الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ عَلَى التَّصْرِيحِ بِهَذَا التَّقْسِيمِ لِلْإِبْرَاءِ. وَإِنْ كَانَتْ لِسَائِرِ الْمَذَاهِبِ صُوَرٌ يُمَيِّزُونَ فِيهَا بَيْنَ بَرَاءَةِ الِاسْتِيفَاءِ وَبَرَاءَةِ الْإِسْقَاطِ.

وَهُنَاكَ تَقْسِيمٌ آخَرُ لِلْإِبْرَاءِ مِنْ حَيْثُ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، تَبَعًا لِلصِّيغَةِ الَّتِي يَرِدُ بِهَا، وَيَظْهَرُ أَثَرُهَا فَمَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِبْرَاءُ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ تَحْتَ عُنْوَانِ (أَنْوَاع الْإِبْرَاءِ) بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْأَرْكَانِ.

الْإِبْرَاءُ لِلْإِسْقَاطِ أَوِ التَّمْلِيكِ:

15- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِبْرَاءِ، هَلْ هُوَ لِلْإِسْقَاطِ أَوِ التَّمْلِيكِ. وَتَبَايَنَتْ أَقْوَالُ الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِتَوْجِيهِ الْأَحْكَامِ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ كَانَ لِكُلِّ مَذْهَبٍ رَأْيٌ غَالِبٌ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ، عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِكُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ لِلْإِسْقَاطِ. قَالَ السُّبْكِيُّ: لَوْ كَانَ الْإِبْرَاءُ تَمْلِيكًا لَصَحَّ الْإِبْرَاءُ مِنَ الْأَعْيَانِ.

الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: مَا نَقَلَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ مُفْلِحٍ الْحَنْبَلِيُّ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، أَنَّهُ تَمْلِيكٌ مِنْ وَجْهٍ. قَالَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا: الْإِبْرَاءُ، وَإِنْ كَانَ تَمْلِيكًا، الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِسْقَاطُ.

الِاتِّجَاهُ الثَّالِثُ: مَا نَقَلَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ أَيْضًا، أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْحَنَابِلَةِ جَزَمُوا بِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ، وَقَالُوا: إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ إِسْقَاطٌ، فَكَأَنَّهُ مَلَّكَهُ إِيَّاهُ ثُمَّ سَقَطَ.

وَهُنَاكَ اتِّجَاهٌ آخَرُ ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، هُوَ أَنَّ الْإِبْرَاءَ- فِي غَيْرِ مُقَابَلَتِهِ لِلطَّلَاقِ- تَمْلِيكٌ مِنَ الْمُبْرِئِ، إِسْقَاطٌ عَنِ الْمُبْرَأِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ تَمْلِيكًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الدَّيْنَ مَالٌ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ مَالًا فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ، فَإِنَّ أَحْكَامَ الْمَالِيَّةِ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّهِ، بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ اشْتِرَاطُ عِلْمِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي.

غَلَبَةِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ أَوْ تَسَاوِيهِمَا:

16- الْمُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ اشْتِمَالُ الْإِبْرَاءِ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ: الْإِسْقَاطِ وَالتَّمْلِيكِ، وَفِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ تَكُونُ الْغَلَبَةُ لِأَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ يَتَعَيَّنُ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ تَبَعًا لِلْمَوْضُوعِ، كَالْإِبْرَاءِ عَنِ الْأَعْيَانِ، فَهُوَ لِلتَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ. أَمَّا فِي الدُّيُونِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَّةِ فَيَجْرِي الْمَعْنَيَانِ كِلَاهُمَا. فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنْ أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنِ الدَّيْنِ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَمَعْنَى الْإِسْقَاطِ، وَمَثَّلَ لِمَا غَلَبَ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى الشَّرْطِ، وَيَرْتَدُّ بِالرَّدِّ.

وَمَثَّلَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ لِمَا غَلَبَ فِيهِ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ بِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُهُ، فَأَبْرَأَهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكُ عَيْنٍ، وَهَذَا إِسْقَاطٌ. وَأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ الْإِبْرَاءُ عَنِ الزَّكَاةِ، لِانْتِفَاءِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ.

وَنَقَلَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا عَنِ النَّوَوِيِّ فِي الرَّوْضَةِ قَوْلَهُ: الْمُخْتَارُ أَنَّ كَوْنَ الْإِبْرَاءِ تَمْلِيكًا أَوْ إِسْقَاطًا مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يُطْلَقُ فِيهَا تَرْجِيحٌ، بَلْ يَخْتَلِفُ الرَّاجِحُ بِحَسَبِ الْمَسَائِلِ، لِقُوَّةِ الدَّلِيلِ وَضَعْفِهِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ تَمْلِيكًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الدَّيْنَ مَالٌ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ مَالًا فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ، فَإِنَّ أَحْكَامَ الْمَالِيَّةِ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّهِ.

وَمِمَّا غَلَبَ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَرْجِيحُهُمْ اشْتِرَاطَ الْقَبُولِ فِي الْإِبْرَاءِ، كَمَا سَيَأْتِي.

عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَا يَصْلُحُ بِالِاعْتِبَارَيْنِ (الْإِسْقَاطِ وَالتَّمْلِيكِ بِالتَّسَاوِي). وَمِنْهُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الْوَارِثُ مَدِينَ مُوَرِّثِهِ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَوْتِهِ، ثُمَّ بَانَ مَيِّتًا، فَبِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّهُ إِسْقَاطٌ يَصِحُّ، وَكَذَا بِالنَّظَرِ إِلَى كَوْنِهِ تَمْلِيكًا؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ لَوْ بَاعَ عَيْنًا قَبْلَ الْعِلْمِ بِمَوْتِ الْمُوَرِّثِ ثُمَّ ظَهَرَ مَوْتُهُ صَحَّ، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَهُنَا بِالْأَوْلَى.

اخْتِلَافُ الْحُكْمِ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ:

17- قَدْ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِ اعْتِبَارِ الْإِبْرَاءِ، هَلْ هُوَ إِسْقَاطٌ أَوْ تَمْلِيكٌ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا لَوْ وَكَّلَ الدَّائِنُ الْمَدِينَ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ صَحَّ التَّوْكِيلُ، نَظَرًا إِلَى جَانِبِ الْإِسْقَاطِ، وَلَوْ نَظَرَ إِلَى جَانِبِ التَّمْلِيكِ لَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَبِيعَ مِنْ نَفْسِهِ.

أَرْكَانُ الْإِبْرَاءِ

تَمْهِيدٌ:

18- لِلْإِبْرَاءِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ، بِحَسَبِ الْإِطْلَاقِ الْوَاسِعِ لِلرُّكْنِ، لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا هُوَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ الشَّيْءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ مَاهِيَّتِهِ أَمْ خَارِجًا عَنْهَا، كَالْأَطْرَافِ وَالْمَحَلِّ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. فَالْأَرْكَانُ عِنْدَهُمْ هُنَا: الصِّيغَةُ وَالْمُبْرِئُ (صَاحِبُ الْحَقِّ أَوِ الدَّائِنُ) وَالْمُبْرَأُ (الْمَدِينُ) وَالْمُبْرَأُ مِنْهُ (مَحَلُّ الْإِبْرَاءِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ حَقٍّ)

وَرُكْنُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ، أَمَّا الْمُتَعَاقِدَانِ وَالْمَحَلُّ فَهِيَ أَطْرَافُ الْعَقْدِ وَلَيْسَتْ رُكْنًا، لِمَا سَبَقَ.

الصِّيغَةُ:

19- الْأَصْلُ فِي الصِّيغَةِ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مَعًا فِي الْعَقْدِ، وَهِيَ هُنَا كَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَرَى تَوَقُّفَ الْإِبْرَاءِ عَلَى الْقَبُولِ. أَمَّا مَنْ لَا يَرَى حَاجَةَ الْإِبْرَاءِ إِلَيْهِ فَالصِّيغَةُ هِيَ الْإِيجَابُ فَقَطْ.

الْإِيجَابُ:

20- يَحْصُلُ إِيجَابُ الْإِبْرَاءِ بِجَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِهَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ، وَهُوَ التَّخَلِّي عَمَّا لِلدَّائِنِ عِنْدَ الْمَدِينِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ وَاضِحَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْأَثَرِ (سُقُوطُ الْحَقِّ وَالْمُبْرَأِ مِنْهُ)، فَيَحْصُلُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ صَرَاحَةً أَوْ كِنَايَةً مَحْفُوفَةً بِالْقَرِينَةِ، سَوَاءٌ أُورِدَ مُسْتَقِلًّا أَمْ تَبَعًا ضِمْنَ عَقْدٍ آخَرَ.

وَلَا بُدَّ أَنْ يَنْتَفِيَ احْتِمَالُ الْمُعَاوَضَةِ، أَوْ قَصْدُ مُجَرَّدِ التَّأْخِيرِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُكَ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي كَذَا، فَهُوَ صُلْحٌ بِمَالٍ، عَلَى خِلَافٍ سَيَأْتِي فِيمَا بَعْدُ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُكَ مِنْ حُلُولِ الدَّيْنِ، فَهُوَ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ، لَا لِسُقُوطِهَا.

وَالْإِبْرَاءُ الْمُطْلَقُ هُوَ مِنَ الْإِسْقَاطَاتِ عَلَى التَّأْبِيدِ اتِّفَاقًا. فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ الْمُؤَقَّتُ، كَأَنْ يَقُولَ: أَبْرَأْتُكَ مِمَّا لِي عَلَيْكَ سَنَةً، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ. وَهُوَ مُسْتَفَادُ عِبَارَاتِ غَيْرِهِمْ فِي حَالِ الْإِطْلَاقِ. أَمَّا تَقْيِيدُ الْإِبْرَاءِ بِأَنَّهُ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ فَهُوَ لَيْسَ مِنَ الْإِبْرَاءِ الْمُطْلَقِ وَإِنْ سَمَّاهُ ابْنُ الْهُمَامِ تَجَوُّزًا (إِبْرَاءً مُؤَقَّتًا).

وَمِثْلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ الْكِتَابَةُ الْمَرْسُومَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ، أَوِ الْإِشَارَةُ الْمَعْهُودَةُ، بِشُرُوطِهِمَا الْمُفَصَّلَةِ فِي مَوْطِنِهِمَا.

21- وَقَدْ أَوْرَدَ الْفُقَهَاءُ- بِالْإِضَافَةِ إِلَى لَفْظِ الْإِبْرَاءِ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَى حُصُولِ الْإِيجَابِ بِهِ- أَمْثِلَةً عَدِيدَةً لِمَا يُؤَدِّي مَعْنَى الْإِبْرَاءِ. وَلَمْ يَنُصَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى انْحِصَارِ الصِّيغَةِ فِيمَا أَشَارُوا إِلَيْهِ، وَمِنْ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا صِيغَتُهُ: الْإِسْقَاطُ، وَالتَّمْلِيكُ، وَالْإِحْلَالُ، وَالتَّحْلِيلُ، وَالْوَضْعُ، وَالْعَفْوُ، وَالْحَطُّ، وَالتَّرْكُ، وَالتَّصَدُّقُ، وَالْهِبَةُ، وَالْعَطِيَّةُ. قَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَإِنَّمَا صَحَّ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَطِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَيْنٌ مَوْجُودَةٌ يَتَنَاوَلُهَا اللَّفْظُ انْصَرَفَ إِلَى مَعْنَى الْإِبْرَاءِ. ثُمَّ نَقَلَ عَنِ الْحَارِثِيِّ قَوْلَهُ: لَوْ وَهَبَهُ دَيْنَهُ هِبَةً حَقِيقِيَّةً لَمْ يَصِحَّ، لِانْتِفَاءِ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ وَانْتِفَاءِ شَرْطِ الْهِبَةِ. كَمَا اسْتَدَلَّ مِنْ مَثَّلَ بِلَفْظِ الْعَفْوِ أَوِ التَّصَدُّقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْإِبْرَاءِ مِنَ الْمَهْرِ {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وقوله تعالى فِي شَأْنِ الْإِبْرَاءِ مِنَ الدِّيَةِ {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} وقوله تعالى فِي شَأْنِ إِبْرَاءِ الْمُعْسِرِ {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وَبِقَوْلِهِ - عليه الصلاة والسلام- دَاعِيًا لِإِبْرَاءِ الَّذِي أُصِيبَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا: «تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ» وَقَدْ يَحْصُلُ الْإِبْرَاءُ بِصِيغَةٍ يَدُلُّ تَرْكِيبُهَا عَلَيْهِ، كَأَنْ يَقُولَ: لَيْسَ لِي عِنْدَ فُلَانٍ حَقٌّ، أَوْ: مَا بَقِيَ لِي عِنْدَهُ حَقٌّ، أَوْ: لَيْسَ لِي مَعَ فُلَانٍ دَعْوَى، أَوْ: فَرَغْتُ مِنْ دَعْوَايَ الَّتِي هِيَ مَعَ فُلَانٍ، أَوْ: تَرَكْتُهَا.

22- وَيُسْتَفَادُ مِمَّا أَوْرَدَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ مِنْ تَعْقِيبٍ عَلَى مَا جَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْمَذْهَبَيْنِ مِنْ أَنَّ هُنَاكَ صِيَغًا مُخَصِّصَةٌ لِلْإِبْرَاءِ مِنَ الْأَمَانَاتِ أَوِ الدُّيُونِ، وَأُخْرَى لَا يَحْصُلُ عُمُومُ الْإِبْرَاءِ إِلاَّ بِهَا- يُسْتَفَادُ أَنَّ الْمَدَارَ عَلَى الْعُرْفِ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِبْرَاءُ أَصْلًا، أَوْ تَعْمِيمًا، أَوْ تَخْصِيصًا بِمَوْضُوعٍ دُونَ آخَرَ، كَمَا يُنْظَرُ إِلَى الْقَرَائِنِ فِي الْعِبَارَاتِ الَّتِي لَهَا أَكْثَرُ مِنْ إِطْلَاقٍ. وَمِنْ ذَلِكَ عِبَارَةُ «بَرِئْتُ مِنْ فُلَانٍ» الَّتِي تَحْتَمِلُ نَفْيَ الْمُوَالَاةِ وَالْبَرَاءَةَ مِنَ الْحُقُوقِ. فَإِذَا جَرَى الْعُرْفُ، أَوْ دَلَّتِ الْقَرَائِنُ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا هِيَ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا لَمْ يُمَثِّلُوا بِهِ لِلْإِيجَابِ عَنِ الْإِبْرَاءِ، كَعِبَارَةِ «التَّنَازُلِ» أَوِ «التَّخَلِّي عَنِ الْحَقِّ». فَالْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ بِالْعُرْفِ.

الْقَبُولُ:

23- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الْإِبْرَاءَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ أَوْ لَا، عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: عَدَمُ حَاجَةِ الْإِبْرَاءِ إِلَى الْقَبُولِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةِ) وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ لِأَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، فَهَؤُلَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى قَبُولٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ، وَالْإِسْقَاطَاتُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى قَبُولٍ، كَالطَّلَاقِ، وَالْعِتْقِ، وَإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ وَالْقِصَاصِ، بَلْ قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: هُوَ الْمَذْهَبُ، سَوَاءٌ أَقُلْنَا: الْإِبْرَاءُ إِسْقَاطٌ أَمْ تَمْلِيكٌ.

الِاتِّجَاهُ الْآخَرُ: حَاجَةُ الْإِبْرَاءِ إِلَى الْقَبُولِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ. وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ نَقْلٌ لِلْمِلْكِ، أَيْ تَمْلِيكُ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ لَهُ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْهِبَةِ، وَهِيَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْقَبُولِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: يَتَأَكَّدُ ذَلِكَ- أَيْ الِافْتِقَارُ لِلْقَبُولِ- بِأَنَّ الْمِنَّةَ قَدْ تَعْظُمُ فِي الْإِبْرَاءِ، وَذَوُو الْمُرُوءَاتِ وَالْأَنَفَاتِ يَضُرُّ ذَلِكَ بِهِمْ، لَا سِيَّمَا مِنَ السَّفَلَةِ، فَجَعَلَ صَاحِبُ الشَّرْعِ لَهُمْ قَبُولَ ذَلِكَ أَوْ رَدَّهُ، نَفْيًا لِلضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنَ الْمِنَنِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَرْبِطُونَ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ الْخِلَافِ فِي مَعْنَى الْإِبْرَاءِ، عَلَى مَا سَبَقَ.

24- وَلَا فَرْقَ فِي الْحَاجَةِ إِلَى الْقَبُولِ أَوْ عَدَمِهَا بَيْنَ التَّعْبِيرِ بِالْإِبْرَاءِ، أَوِ التَّعْبِيرِ بِهِبَةِ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، وَإِثْبَاتُ الْفَرْقِ هُوَ مَا عَلَيْهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِذْ قَالُوا فِيهَا بِالْحَاجَةِ لِلْقَبُولِ لِمَا فِي اللَّفْظِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَالْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَهَا آكَدَ فِي الِافْتِقَارِ لِلْقَبُولِ- عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي الْإِبْرَاءِ عُمُومًا- لِأَنَّهَا نَصٌّ فِي التَّمْلِيكِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ، لِنَظَرِهِمْ إِلَى وَحْدَةِ الْمَقْصُودِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِبْرَاءِ.

هَذَا، وَبِالرَّغْمِ مِمَّا هُوَ مُقَرَّرٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ مِنِ اعْتِبَارِ الْقَبُولِ مَحْدُودًا بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ مَا دَامَ قَائِمًا فَقَدِ اشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ الْفَوْرِيَّةَ فِي الْقَبُولِ فِي صُورَةِ مَنْ يُوَكِّلُ فِي إِبْرَاءِ نَفْسِهِ.

وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ تَأْخِيرِ الْقَبُولِ عَنِ الْإِيجَابِ، وَلَوْ بِالسُّكُوتِ عَنِ الْقَبُولِ زَمَانًا، فَلَهُ الْقَبُولُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: إِنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ.

25- وَقَدِ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ عَدَمِ التَّوَقُّفِ عَلَى الْقَبُولِ: الْعُقُودَ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ، كَالصَّرْفِ، وَالسَّلَمِ (أَيْ عَنْ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ) فَيَتَوَقَّفُ فِيهَا الْإِبْرَاءُ عَلَى الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ بَدَلِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ يَفُوتُ بِهِ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ، وَفَوَاتُهُ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْعَقْدِ، وَنَقْضُ الْعَقْدِ لَا يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ، بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِ الْآخَرِ، فَإِنْ قَبِلَهُ بَرِئَ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ لَا يَبْرَأُ. وَهَذَا بِخِلَافِ سَائِرِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْفَسْخِ لِعَقْدٍ ثَابِتٍ وَإِنَّمَا فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ مِنْ وَجْهٍ، وَمَعْنَى الْإِسْقَاطِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. أَمَّا الْإِبْرَاءُ عَنِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ أَوْ عَنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ فَهُوَ جَائِزٌ بِدُونِ قَبُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِسْقَاطُ شَرْطٍ.

رَدُّ الْإِبْرَاءِ:

26- يَنْبَنِي اخْتِلَافُ النَّظَرِ الْفِقْهِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ أَوْ تَمْلِيكٌ. وَالَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حَاجَتُهُ لِلْقَبُولِ أَوْ عَدَمُ حَاجَتِهِ. فَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَرْجُوحِ، وَهُمْ أَكْثَرُ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ حَاجَتِهِ لِلْقَبُولِ، ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ كَالْقِصَاصِ وَالشُّفْعَةِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَالْخِيَارِ وَالطَّلَاقِ، لَا تَمْلِيكُ عَيْنٍ، كَالْهِبَةِ.

وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَبُولِ (وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلِهِمُ الْآخَرِ وَمَعَهُمْ فِي هَذَا الْحَنَفِيَّةُ الَّذِينَ رَاعَوْا مَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ بِالرَّغْمِ مِنْ عَدَمِ تَوَقُّفِهِ عَلَى الْقَبُولِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ) يَرَوْنَ أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ. وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ هَلْ يَتَقَيَّدُ الرَّدُّ بِمَجْلِسِ الْإِبْرَاءِ، أَوْ هُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ. وَالَّذِي فِي الْبَحْرِ وَالْحَمَوِيِّ عَلَى الْأَشْبَاهِ إِطْلَاقُ صِحَّةِ الرَّدِّ فِي مَجْلِسِ الْإِبْرَاءِ أَوْ بَعْدَهُ.

وَالرَّدُّ الْمُعْتَبَرُ هُوَ مَا يَصْدُرُ مِنَ الْمُبْرِئِ، أَوْ مِنْ وَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَخَالَفَ فِي الثَّانِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.

وَقَدِ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مَسَائِلَ لَا يَرْتَدُّ فِيهَا الْإِبْرَاءُ بِالرَّدِّ وَهِيَ:

1، 2- الْإِبْرَاءُ فِي الْحَوَالَةِ (وَالْكَفَالَةِ عَلَى الْأَرْجَحِ) لِأَنَّهُمَا مُتَمَحِّضَانِ لِلْإِسْقَاطِ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ مَحْضٌ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ، لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ مَالٍ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ، وَالْإِسْقَاطُ الْمَحْضُ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ لِتَلَاشِي السَّاقِطِ، بِخِلَافِ التَّأْخِيرِ، لِعَوْدِهِ بَعْدَ الْأَجَلِ.

3- إِذَا تَقَدَّمَ عَلَى الْإِبْرَاءِ طَلَبٌ مِنَ الْمُبْرَأِ بِأَنْ قَالَ: أَبْرِئْنِي، فَأَبْرَأَهُ فَرَدَّ، لَا يَرْتَدُّ.

4- إِذَا سَبَقَ لِلْمُبْرَأِ أَنْ قَبِلَهُ ثُمَّ رَدَّهُ لَا يَرْتَدُّ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


109-موسوعة الفقه الكويتية (أخت)

أُخْتٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْأُخْتُ هِيَ: مَنْ وَلَدَهَا أَبُوكَ وَأُمُّكَ أَوْ أَحَدُهُمَا.وَقَدْ يُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْأُخْتِ مِنَ الرَّضَاعِ بِقَرِينَةٍ قَوْلِيَّةٍ أَوْ حَالِيَّةٍ.وَلَا يَخْرُجُ الِاسْتِعْمَالُ الشَّرْعِيُّ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ.وَالْأُخْتُ مِنَ الرَّضَاعِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هِيَ: مَنْ أَرْضَعَتْكَ أُمُّهَا، أَوْ أَرْضَعَتْهَا أُمُّكَ، أَوْ أَرْضَعَتْكَ وَإِيَّاهَا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، أَوْ أُرْضِعْتَ أَنْتَ وَهِيَ مِنْ لَبَنِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، كَرَجُلٍ لَهُ امْرَأَتَانِ لَهُمَا مِنْهُ لَبَنٌ، أَرْضَعَتْكَ إِحْدَاهُمَا وَأَرْضَعَتْهَا الْأُخْرَى.

وَالْأُخْتُ إِنْ كَانَتْ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ يُقَالُ لَهَا: الْأُخْتُ الشَّقِيقَةُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْأَبِ فَقَطْ يُقَالُ لَهَا: الْأُخْتُ لِأَبٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْأُمِّ فَقَطْ يُقَالُ لَهَا: الْأُخْتُ لِأُمٍّ.

وَأُخْتُكَ لِأُمٍّ مِنَ الرَّضَاعَةِ هِيَ: مَنْ أَرْضَعَتْهَا أُمُّكَ بِلَبَنٍ مِنْ زَوْجٍ غَيْرِ أَبِيكَ، أَوْ رَضَعْتَ أَنْتَ مِنْ أُمِّهَا بِلَبَنِ غَيْرِ أَبِيهَا، أَوْ رَضَعْتَ أَنْتَ وَهِيَ مِنَ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ عَنْكُمَا لَكِنْ بِلَبَنٍ مِنْ زَوْجَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ.

وَيُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ عَنِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ الشَّقِيقَاتِ بِأَوْلَادِ الْأَبَوَيْنِ، وَالْإِخْوَةِ الْأَعْيَانِ، وَعَنِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِأَبٍ بِأَوْلَادِ الْأَبِ وَأَوْلَادِ الْعَلاَّتِ، وَعَنِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِأُمٍّ بِأَوْلَادِ الْأُمِّ، وَالْإِخْوَةِ الْأَخْيَافِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

2- الْأُخْتُ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ.وَتَأْخُذُ حُكْمَ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فِي وُجُوبِ الصِّلَةِ، وَفِي جَوَازِ النَّظَرِ وَمَا فِي حُكْمِهِ، وَفِي حُرْمَةِ النِّكَاحِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَحَارِمِ بِنِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ، وَفِي النَّفَقَةِ، وَفِي تَغْلِيظِ الدِّيَةِ، وَاسْتِحْقَاقِ الْعِتْقِ إِذَا مَلَكَهَا أَخُوهَا أَوْ أُخْتُهَا.غَيْرَ أَنَّهَا قَدْ تَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ دُونَ بَعْضِ الْأَقَارِبِ، فَالزَّكَاةُ يُجْزِئُ دَفْعُهَا لِلْأُخْتِ بِاتِّفَاقٍ- غَيْرَ أَنَّ الْبَعْضَ اشْتَرَطَ لِذَلِكَ عَدَمَ إِرْثِهَا بِالْفِعْلِ- وَقَدْ لَا يُجْزِئُ دَفْعُهَا لِبَعْضِ الْمَحَارِمِ كَالْبِنْتِ.

3- وَفِي الْإِرْثِ تُحْجَبُ الْأُخْتُ بِمَا يَحْجُبُ الْأَخَ، فَهِيَ بِأَنْوَاعِهَا تُحْجَبُ بِالْأَبِ وَبِالْفَرْعِ الْوَارِثِ الذَّكَرِ، وَكَذَلِكَ تُحْجَبُ الْأُخْتُ لِأُمٍّ بِالْجَدِّ.

وَالْأُخْتُ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ تَرِثُ بِالْفَرْضِ، أَوْ بِالتَّعْصِيبِ، بِخِلَافِ الْأُخْتِ لِأُمٍّ فَإِنَّهَا لَا تَرِثُ إِلاَّ الْفَرْضَ.

وَلَا تَكُونُ الْأُخْتُ عَصَبَةً بِنَفْسِهَا، بَلْ بِالْغَيْرِ أَوْ مَعَ الْغَيْرِ، وَلَا تَحْجُبُ غَيْرَهَا مِمَّنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهَا إِنْ كَانَتْ ذَاتَ فَرْضٍ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِرْثٌ).وَفِي الْحَضَانَةِ تُقَدَّمُ الْأُخْتُ عَلَى الْأَخِ، وَتُؤَخَّرُ عَنِ الْأُمِّ بِاتِّفَاقٍ، وَتُؤَخَّرُ كَذَلِكَ عَنِ الْأَبِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ.

وَالْأُخْتُ لِأُمٍّ كَسَائِرِ الْأَخَوَاتِ النَّسَبِيَّةِ فِي الْأَحْكَامِ، إِلاَّ فِي الْمِيرَاثِ، فَهِيَ لَا تَرِثُ إِلاَّ بِالْفَرْضِ، وَلَا تَرِثُ بِالتَّعْصِيبِ، وَهِيَ مَعَ أَخِيهَا الذَّكَرِ مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ- عَلَى التَّسَاوِي، تَأْخُذُ مِثْلَهُ.وَتُحْجَبُ بِالْفَرْعِ الْوَارِثِ مُطْلَقًا وَالْأَصْلِ الْوَارِثِ الْمُذَكَّرِ كَالْأَبِ وَالْجَدِّ (ر: إِرْثٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


110-موسوعة الفقه الكويتية (إرث 1)

إِرْثٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الْإِرْثِ فِي اللُّغَةِ: الْأَصْلُ، وَالْأَمْرُ الْقَدِيمُ تَوَارَثَهُ الْآخَرُ عَنِ الْأَوَّلِ، وَالْبَقِيَّةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.وَهَمْزَتُهُ أَصْلُهَا وَاوٌ.وَيُطْلَقُ الْإِرْثُ وَيُرَادُ مِنْهُ انْتِقَالُ الشَّيْءِ مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ.وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ مِنْهُ الْمَوْرُوثُ.وَيُقَارِبُهُ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ فِي الْمَعْنَى التَّرِكَةُ.وَعِلْمُ الْمِيرَاثِ- وَيُسَمَّى أَيْضًا عِلْمَ الْفَرَائِضِ- هُوَ عِلْمٌ بِأُصُولٍ مِنْ فِقْهٍ وَحِسَابٍ تُعَرِّفُ حَقَّ كُلٍّ فِي التَّرِكَةِ.وَالْإِرْثُ اصْطِلَاحًا: عَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي أَفْضَلُ الدِّينِ الْخُونَجِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ حَقٌّ قَابِلٌ لِلتَّجَزُّؤِ يَثْبُتُ لِمُسْتَحِقِّهِ بَعْدَ مَوْتِ مَنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِقَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا أَوْ نَحْوِهَا.

أَهَمِّيَّةُ الْإِرْثِ:

2- مَعْرِفَةُ الْفَرَائِضِ مِنْ أَهَمِّ الْعُلُومِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَرْكَانِ الدِّينِ.وَقَدْ حَثَّ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى تَعْلِيمِهَا وَتَعَلُّمِهَا.فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-.أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ، وَتَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ، فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ، وَسَيُقْبَضُ هَذَا الْعِلْمُ مِنْ بَعْدِي حَتَّى يَتَنَازَعَ الرَّجُلَانِ فِي فَرِيضَةٍ فَلَا يَجِدَانِ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا».

وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ مُذَاكَرَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا فِي عِلْمِ الْفَرَائِضِ وَمُدِحُوا عَلَى ذَلِكَ.

عَلَاقَةُ الْإِرْثِ بِالْفِقْهِ:

3- وَالْفُقَهَاءُ فِي الْمَذَاهِبِ الْإِسْلَامِيَّةِ حِينَ يَتَكَلَّمُونَ عَنِ الْمِيرَاثِ يُعَنْوِنَونَ لِذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ بِكِتَابِ الْفَرَائِضِ.وَقَدْ أَفْرَدَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِكُتُبٍ مُسْتَقِلَّةٍ عَنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.وَابْتَدَأَ ذَلِكَ مِنَ الْقَرْنِ الثَّانِي لِلْهِجْرَةِ مَعَ ابْتِدَاءِ تَدْوِينِ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ.

وَمِنْ أَوَّلِ مَنْ أَلَّفَ الْكُتُبَ الْخَاصَّةَ بِأَحْكَامِ الْفَرَائِضِ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو ثَوْرٍ.

وَكَانَتْ كُتُبُ الْفِقْهِ الْمُدَوَّنَةُ فِي هَذَيْنِ الْقَرْنَيْنِ خَالِيَةً مِنْ أَحْكَامِ الْفَرَائِضِ مِثْلَ الْمُدَوَّنَةِ لِسَحْنُونٍ وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَالْأُمِّ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ.

وَعَلَى الْخِلَافِ مِنْ ذَلِكَ كَانَتْ كُتُبُ السُّنَّةِ، فَقَدْ شَمِلَتْ أَحْكَامَ الْفَرَائِضِ مَعَ أَحْكَامِ الْفِقْهِ كَالْمُوَطَّأِ وَمُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَصَحِيحِ مُسْلِمٍ.

وَلَمْ تَبْدَأْ كُتُبُ الْفِقْهِ تَشْمَلُ أَحْكَامَ الْفَرَائِضِ إِلاَّ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ، مِثْلَ رِسَالَةِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَمُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.

دَلِيلُ مَشْرُوعِيَّتِهِ:

4- الْمِيرَاثُ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.

أَمَّا الْكِتَابُ فَآيَاتُ الْمَوَارِيثِ.وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَحَادِيثُ مِثْلُ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وَمِثْلُ ثُبُوتِ مِيرَاثِ الْجَدَّةِ لِأُمٍّ بِشَهَادَةِ الْمُغِيرَةِ وَابْنِ سَلَمَةَ لَدَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَرَّثَهَا، وَلَمْ يَرِدْ تَوْرِيثُهَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَمِثْلُ إِرْثِ الْجَدَّةِ لِأَبٍ بِاجْتِهَادِ عُمَرَ- رضي الله عنه- الدَّاخِلِ فِي عُمُومِ الْإِجْمَاعِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي ذَلِكَ.

التَّدَرُّجُ فِي تَشْرِيعِ الْمِيرَاثِ:

5- كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَوَارَثُونَ بِشَيْئَيْنِ: النَّسَبُ وَالسَّبَبُ.

فَأَمَّا مَا يَسْتَحِقُّ بِالنَّسَبِ فَلَمْ يَكُونُوا يُوَرِّثُونَ الصِّغَارَ وَلَا الْإِنَاثَ، وَإِنَّمَا يُوَرِّثُونَ مَنْ قَاتَلَ وَحَازَ الْغَنِيمَةَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَآخَرِينَ إِلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَسْتَفْتُونَك فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ}: إِلَى قوله تعالى: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}.

وَقَدْ كَانُوا بَعْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْمُنَاكَحَاتِ وَالطَّلَاقِ وَالْمِيرَاثِ إِلَى أَنْ نُقِلُوا عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ بِالشَّرِيعَةِ.

قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: «أَبَلَغَكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَقَرَّ النَّاسَ عَلَى مَا أَدْرَكَهُمْ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ مِيرَاثٍ؟، قَالَ: لَمْ يَبْلُغْنَا إِلاَّ ذَلِكَ».

وَرَوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم- وَالنَّاسُ عَلَى أَمْرِ جَاهِلِيَّتِهِمْ إِلَى أَنْ يُؤْمَرُوا بِشَيْءٍ أَوْ يُنْهَوْا عَنْهُ، وَإِلاَّ فَهُمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ جَاهِلِيَّتِهِمْ.

وَكَانَ السَّبَبُ الَّذِي يَتَوَارَثُونَ بِهِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْحَلِفُ وَالْمُعَاقَدَةُ، وَالْآخَرُ التَّبَنِّي.ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَتُرِكُوا بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ نُسِخَ.فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْحَلِفِ وَالْمُعَاقَدَةِ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ ثُمَّ نُسِخَ، وَقَالَ شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ فِي قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ عَقَدَت أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ: دَمِي دَمُكَ، وَهَدْمِي هَدْمُكَ، وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ، وَتُطْلَبُ بِي وَأُطْلَبُ بِكَ.قَالَ: فَوَرَّثُوا السُّدُسَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْوَالِ، ثُمَّ يَأْخُذُ أَهْلُ الْمِيرَاثِ مِيرَاثَهُمْ، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}.

الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّرِكَةِ وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَهَا:

6- مِنْ إِطْلَاقَاتِ الْإِرْثِ لُغَةً: التَّرِكَةُ.وَهِيَ فِي الِاصْطِلَاحِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: مَا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ مِنْ أَمْوَالٍ وَحُقُوقٍ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ مَا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ مِنَ الْأَمْوَالِ صَافِيًا عَنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِعَيْنٍ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَالْأَصْلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْحُقُوقَ لَا يُورَثُ مِنْهَا إِلاَّ مَا كَانَ تَابِعًا لِلْمَالِ أَوْ فِي مَعْنَى الْمَالِ، كَحَقِّ التَّعَلِّي وَحُقُوقِ الِارْتِفَاقِ، أَمَّا حَقُّ الْخِيَارِ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ وَحَقُّ الِانْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ الْمُوصَى بِهَا فَلَا تُورَثُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَيَدْخُلُ فِي التَّرِكَةِ اتِّفَاقًا الدِّيَةُ الْوَاجِبَةُ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ، أَوْ بِالصُّلْحِ عَنِ الْعَمْدِ، أَوْ بِانْقِلَابِ الْقِصَاصِ مَالًا بِعَفْوِ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ فَتُقْضَى مِنْهُ دُيُونُ الْمَيِّتِ وَتَنْفُذُ وَصَايَاهُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُبْدَأُ مِنَ التَّرِكَةِ بِالدُّيُونِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَعْيَانِهَا قَبْلَ الْوَفَاةِ كَالْأَعْيَانِ الْمَرْهُونَةِ، لِأَنَّ الْمُوَرِّثَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْأَعْيَانِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ، فَأَوْلَى أَلاَّ يَكُونَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ بَعْدَ وَفَاتِهِ.

فَإِذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ كُلُّهَا مَرْهُونَةً فِي دَيْنٍ فَإِنَّ الْمُوَرِّثَ (الْمَيِّتَ) لَا يُجَهَّزُ إِلاَّ بَعْدَ سَدَادِ الدَّيْنِ، أَوْ فِيمَا يَفْضُلُ بَعْدَ سَدَادِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ سَدَادِ الدَّيْنِ يَكُونُ تَجْهِيزُهُ عَلَى مَنْ كَانَتْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فِي حَيَاتِهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ بُدِئَ بِتَكْفِينِهِ وَتَجْهِيزِهِ مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا تُقَدَّمُ نَفَقَةُ الْمُفْلِسِ عَلَى دُيُونِ غُرَمَائِهِ، ثُمَّ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ تُقْضَى دُيُونُهُ مِنْ جَمِيعِ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ.

7- لَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي الدُّيُونِ الَّتِي تُقْضَى بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ:

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الدَّيْنَ إِنْ كَانَ لِلْعِبَادِ فَالْبَاقِي بَعْدَ تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ إِنْ وَفَى بِهِ فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَفِ فَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ وَاحِدًا يُعْطِي لَهُ الْبَاقِيَ.وَمَا بَقِيَ لَهُ عَلَى الْمَيِّتِ إِنْ شَاءَ عَفَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ.

وَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ مُتَعَدِّدًا، فَإِنْ كَانَ الْكُلُّ دَيْنَ الصِّحَّةِ- وَهُوَ مَا كَانَ ثَابِتًا بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الْإِقْرَارِ فِي زَمَانِ صِحَّةِ الْمَدِينِ- أَوْ كَانَ الْكُلُّ دَيْنَ الْمَرَضِ- وَهُوَ مَا كَانَ ثَابِتًا بِإِقْرَارِهِ فِي مَرَضِهِ- فَإِنَّهُ يُصْرَفُ الْبَاقِي إِلَيْهِمْ عَلَى حَسَبِ مَقَادِيرِ دُيُونِهِمْ.

وَإِنِ اجْتَمَعَ الدَّيْنَانِ مَعًا يُقَدَّمُ دَيْنُ الصِّحَّةِ لِكَوْنِهِ أَقْوَى، لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَنِ التَّبَرُّعِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، فَفِي إِقْرَارِهِ حِينَئِذٍ نَوْعُ ضَعْفٍ.

وَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ عُلِمَ ثُبُوتُهُ بِطَرِيقِ الْمُعَايَنَةِ، كَاَلَّذِي يَجِبُ بَدَلًا عَنْ مَالِ مِلْكِهِ أَوِ اسْتَهْلَكَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ دَيْنِ الصِّحَّةِ، إِذْ قَدْ عُلِمَ وُجُوبُهُ بِغَيْرِ إِقْرَارِهِ، فَلِذَلِكَ سَاوَاهُ فِي الْحُكْمِ.

وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ- تَعَالَى- كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَحِجَّةِ الْإِسْلَامِ وَالنَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ، فَإِنْ أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ وَجَبَ تَنْفِيذُهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ الْبَاقِي بَعْدَ دَيْنِ الْعِبَادِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ لَمْ يَجِبْ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ تُقْضَى دُيُونُ الْمَيِّتِ الَّتِي لآِدَمِيٍّ كَانَتْ بِضَامِنٍ أَمْ لَا.حَالَّةً كَانَتْ أَوْ مُؤَجَّلَةً لِأَنَّ الْمُؤَجَّلَةَ تَحِلُّ بِالْمَوْتِ، ثُمَّ هَدْيُ تَمَتُّعٍ إِنْ مَاتَ بَعْدَ رَمْيِ الْعَقَبَةِ أَوْصَى بِهِ أَمْ لَا، ثُمَّ زَكَاةُ فِطْرٍ فَرَّطَ فِيهَا، وَكَفَّارَاتٌ فَرَّطَ فِيهَا، مِثْلُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالصَّوْمِ وَالظِّهَارِ وَالْقَتْلِ إِذَا أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.سَوَاءٌ أَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا أَمْ لَمْ يُوصِ، لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ مَتَى أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ بِهَا خَرَجَتْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، أَوْصَى بِهَا أَمْ لَا، فَإِنْ أَوْصَى بِهَا، وَلَمْ يُشْهِدْ فَمِنَ الثُّلُثِ، وَمِثْلُ الْكَفَّارَاتِ عِنْدَهُمْ الَّتِي أَشْهَدَ بِهَا زَكَاةُ عَيْنٍ حَلَّتْ وَأَوْصَى بِهَا، وَزَكَاةُ مَاشِيَةٍ حَلَّتْ وَلَا سَاعِيَ، وَلَمْ تُوجَدِ السِّنُّ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا، فَإِنْ وُجِدَ فَهُوَ كَالدَّيْنِ الْمُتَعَلِّقِ بِحَقٍّ فَيَجِبُ إِخْرَاجُهُ قَبْلَ الْكَفَنِ وَالتَّجْهِيزِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ تُقْضَى الدُّيُونُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِذِمَّةِ الْمَيِّتِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ لِلَّهِ- تَعَالَى- أَمْ لآِدَمِيٍّ أَوْصَى بِهَا أَمْ لَا، لِأَنَّهَا حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَيُقَدَّمُ دَيْنُ اللَّهِ- تَعَالَى- كَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا عَلَى دَيْنِ الْآدَمِيِّ.وَذَلِكَ فِيمَا إِذَا تَلِفَ الْمَالُ.فَلَوْ كَانَ بَاقِيًا فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الزَّكَاةِ فَتَخْرُجُ قَبْلَ التَّجْهِيزِ كَمَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ، وَإِنْ كَانَتِ الدُّيُونُ مُتَعَلِّقَةً بِعَيْنٍ قُدِّمَتْ عَلَى التَّجْهِيزِ كَمَا سَبَقَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ يُوفَى حَقُّ مُرْتَهِنٍ لَدَيْهِ، ثُمَّ إِنْ فَضَلَ لِلْمُرْتَهِنِ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِهِ شَارَكَ الْغُرَمَاءَ، لِأَنَّهُ سَاوَاهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ رُدَّ عَلَى الْمَالِ لِيُقْسَمَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، ثُمَّ بَعْدَمَا سَبَقَ تُسَدَّدُ الدُّيُونُ غَيْرُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَعْيَانِ وَهِيَ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ.وَيَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالتَّرِكَةِ كُلِّهَا وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْرِقْهَا الدَّيْنُ سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ لِلَّهِ- تَعَالَى- كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحَجِّ الْوَاجِبِ، أَمْ كَانَ لآِدَمِيٍّ كَالْقَرْضِ وَالثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ، فَإِنْ زَادَتِ الدُّيُونُ عَنِ التَّرِكَةِ وَلَمْ تَفِ بِدَيْنِ اللَّهِ- تَعَالَى- وَدَيْنِ الْآدَمِيِّ يَتَحَاصُّونَ عَلَى نِسْبَةِ دُيُونِهِمْ كَمَالِ الْمُفْلِسِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الدُّيُونُ لِلَّهِ- تَعَالَى- أَمْ لِلْآدَمِيِّينَ أَمْ مُخْتَلِفَةً، ثُمَّ بَعْدَ الدَّيْنِ الْوَصِيَّةُ لِلْأَجْنَبِيِّ- وَهُوَ مَنْ لَيْسَ بِوَارِثٍ- مِنْ ثُلُثِ مَا يَفِي مِنَ الْمَالِ بَعْدَ الْحُقُوقِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ فَلَا بُدَّ مِنْ إِجَازَةِ بَاقِي الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لِأَجْنَبِيٍّ فَمَا يَزِيدُ عَنِ الثُّلُثِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ كُلِّ الْوَرَثَةِ.

8- وَالْفُقَهَاءُ مُجْمِعُونَ- كَمَا سَبَقَ- عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ، لِمَا قَالَهُ عَلِيٌّ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى أَنَّ الدَّيْنَ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ»، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ تَسْتَغْرِقُهُ حَاجَتُهُ فَقُدِّمَ كَمَئُونَةِ تَجْهِيزِهِ، ثُمَّ تَنْفُذُ وَصَايَاهُ. 9- وَإِنَّمَا قُدِّمَتْ الْوَصِيَّةُ فِي الذِّكْرِ عَلَى الدَّيْنِ فِي الْآيَةِ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْمِيرَاثَ، لِكَوْنِهَا مَأْخُوذَةً بِلَا عِوَضٍ، فَيَشُقُّ إِخْرَاجُهَا عَلَى الْوَرَثَةِ، فَكَانَتْ لِذَلِكَ مَظِنَّةً فِي التَّفْرِيطِ فِيهَا بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَإِنَّ نُفُوسَهُمْ مُطْمَئِنَّةٌ إِلَى أَدَائِهِ، فَقُدِّمَ ذِكْرُهَا حَثًّا عَلَى أَدَائِهَا، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا مِثْلُهُ فِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ، أَوِ الْمُسَارَعَةِ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ جِيءَ بَيْنَهُمَا بِكَلِمَةِ التَّسْوِيَةِ، وَأَيْضًا إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالتَّبَرُّعَاتِ وَلَيْسَ فِي التَّرِكَةِ وَفَاءٌ بِالْكُلِّ فَتَقْدِيمُهُ عَلَيْهَا ظَاهِرٌ، لِأَنَّ أَدَاءَ الدَّيْنِ فَرْضٌ عَلَيْهِ يُجْبَرُ عَلَى أَدَائِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَالْوَصِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ تَطَوُّعٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفَرْضَ أَقْوَى.

10- ثُمَّ بَعْدَ التَّكْفِينِ وَالدَّيْنِ تَنْفُذُ الْوَصَايَا مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ، وَذَلِكَ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ- عَدَا خُوَاهَرْ زَادَهْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- لَا مِنْ أَصْلِ الْمَالِ، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّكْفِينِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ قَدْ صَارَ مَصْرُوفًا فِي ضَرُورَاتِهِ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا، فَالْبَاقِي هُوَ مَالُهُ الَّذِي كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي ثُلُثِهِ، وَأَيْضًا رُبَّمَا اسْتَغْرَقَ ثُلُثُ الْأَصْلِ جَمِيعَ الْبَاقِي، فَيُؤَدِّي إِلَى حِرْمَانِ الْوَرَثَةِ بِسَبَبِ الْوَصِيَّةِ، وَهَذَا سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُطْلَقَةً أَمْ مُعَيَّنَةً، وَهُوَ الصَّحِيحُ.

11- وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُعَيَّنَةً كَانَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى الْإِرْثِ.وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً كَأَنْ يُوصِيَ بِثُلُثِ مَالِهِ أَوْ رُبُعِهِ كَانَتْ فِي مَعْنَى الْمِيرَاثِ لِشُيُوعِهَا فِي التَّرِكَةِ، فَيَكُونُ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكًا لِلْوَرَثَةِ لَا مُقَدَّمًا عَلَيْهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَى شُيُوعِهِ فِيهَا كَحَقِّ الْوَارِثِ أَنَّهُ إِذَا زَادَ الْمَالُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ زَادَ عَلَى الْحَقَّيْنِ، وَإِذَا نَقَصَ نَقَصَ عَنْهُمَا، حَتَّى إِذَا كَانَ مَالُهُ حَالَ الْوَصِيَّةِ أَلْفًا مَثَلًا فَصَارَ أَلْفَيْنِ، فَلَهُ ثُلُثُ الْأَلْفَيْنِ.وَإِنِ انْعَكَسَ فَلَهُ ثُلُثُ الْأَلْفِ.

ثُمَّ بَعْدَ التَّكْفِينِ وَالدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ يُقْسَمُ الْبَاقِي مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الَّذِينَ ثَبَتَ إِرْثُهُمْ بِالْكِتَابِ وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، أَوِ الَّذِينَ ثَبَتَ إِرْثُهُمْ بِالنِّسْبَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَطْعِمُوا الْجَدَّاتِ السُّدُسَ»، أَوِ الَّذِينَ ثَبَتَ إِرْثُهُمْ بِالْإِجْمَاعِ كَالْجَدِّ وَابْنِ الِابْنِ وَبِنْتِ الِابْنِ وَسَائِرِ مَنْ عُلِمَ تَوْرِيثُهُمْ بِالْإِجْمَاعِ.

أَرْكَانُ الْإِرْثِ:

12- الرُّكْنُ لُغَةً جَانِبُ الشَّيْءِ الْأَقْوَى، وَفِي الِاصْطِلَاحِ عِبَارَةٌ عَنْ جُزْءِ الْمَاهِيَّةِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِرْثَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِحْقَاقُ وَبِهَذَا الْإِطْلَاقِ لَهُ أَرْكَانٌ ثَلَاثَةٌ إِنْ وُجِدَتْ كُلُّهَا تَحَقَّقَتِ الْوِرَاثَةُ، وَإِنْ فُقِدَ رُكْنٌ مِنْهَا فَلَا إِرْثَ.

أَوَّلُهَا: الْمُورَثُ وَهُوَ الْمَيِّتُ أَوِ الْمُلْحَقُ بِالْأَمْوَاتِ.

وَثَانِيهَا: الْوَارِثُ وَهُوَ الْحَيُّ بَعْدَ الْمُورَثِ أَوِ الْمُلْحَقُ بِالْأَحْيَاءِ.

وَثَالِثُهَا: الْمَوْرُوثُ (أَيِ التَّرِكَةُ) وَهُوَ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَالِ، بَلْ يَشْمَلُ الْمَالَ وَغَيْرَهُ.

وَعَلَى هَذَا فَمَنْ مَاتَ وَلَهُ وَارِثٌ وَلَا مَالَ لَهُ فَلَا إِرْثَ وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ فَلَا إِرْثَ أَيْضًا عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى بَيْتَ الْمَالِ وَارِثًا، كَمَا سَيَأْتِي.

شُرُوطُ الْمِيرَاثِ:

13- الشُّرُوطُ جَمْعُ شَرْطٍ وَهُوَ لُغَةً الْعَلَامَةُ.وَاصْطِلَاحًا مَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ لِذَاتِهِ وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْمَاهِيَّةِ.

(وَلِلْإِرْثِ شُرُوطٌ ثَلَاثَةٌ):

أَوَّلُهَا: تَحَقُّقُ مَوْتِ الْمُورَثِ أَوْ إِلْحَاقُهُ بِالْمَوْتَى حُكْمًا كَمَا فِي الْمَفْقُودِ إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِمَوْتِهِ أَوْ تَقْدِيرًا كَمَا فِي الْجَنِينِ الَّذِي انْفَصَلَ بِجِنَايَةٍ عَلَى أُمِّهِ تُوجِبُ غُرَّةً.

ثَانِيهَا: تَحَقُّقُ حَيَاةِ الْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُورَثِ، أَوْ إِلْحَاقُهُ بِالْأَحْيَاءِ تَقْدِيرًا، كَحَمْلٍ انْفَصَلَ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً لِوَقْتٍ يَظْهَرُ مِنْهُ وُجُودُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَوْ نُطْفَةً عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي فِي مِيرَاثِ الْحَمْلِ.

ثَالِثُهَا: الْعِلْمُ بِالْجِهَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْإِرْثِ مِنْ زَوْجِيَّةٍ أَوْ قَرَابَةٍ أَوْ وَلَاءٍ، وَتَعَيُّنُ جِهَةِ الْقَرَابَةِ مِنْ بُنُوَّةٍ أَوْ أُبُوَّةٍ أَوْ أُمُومَةٍ أَوْ أُخُوَّةٍ أَوْ عُمُومَةٍ، وَالْعِلْمُ بِالدَّرَجَةِ الَّتِي اجْتَمَعَ الْمَيِّتُ وَالْوَارِثُ فِيهَا.

أَسْبَابُ الْإِرْثِ:

14- السَّبَبُ لُغَةً مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ.وَاصْطِلَاحًا: مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَمِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ لِذَاتِهِ.

أَسْبَابُ الْإِرْثِ أَرْبَعَةٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَالرَّابِعُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.

فَالثَّلَاثَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا: النِّكَاحُ، وَالْوَلَاءُ، وَالْقَرَابَةُ، وَيُعَبِّرُ عَنْهَا الْحَنَفِيَّةُ بِالرَّحِمِ، وَالرَّابِعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ هُوَ جِهَةُ الْإِسْلَامِ، وَاَلَّذِي يَرِثُ بِهَذَا السَّبَبِ- عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- هُوَ بَيْتُ الْمَالِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ.

وَكُلُّ سَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ يُفِيدُ الْإِرْثَ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ

مَوَانِعُ الْإِرْثِ:

15- الْمَانِعُ: مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْعَدَمُ.

وَمَوَانِعُ الْإِرْثِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ثَلَاثَةٌ: الرِّقُّ، وَالْقَتْلُ، وَاخْتِلَافُ الدِّينِ، وَاخْتَلَفُوا فِي ثَلَاثَةٍ أُخْرَى وَهِيَ: الرِّدَّةُ، وَاخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ، وَالدَّوْرُ الْحُكْمِيُّ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ الْمَوَانِعِ جَهْلُ تَأَخُّرِ مَوْتِ الْوَارِثِ عَنْ مَوْتِ الْمُورَثِ وَاللِّعَانُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذِهِ الْمَوَانِعِ كُلِّهَا. الرِّقُّ:

16- اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الرِّقَّ الْكَامِلَ يَمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ.وَذَلِكَ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ مِنَ الْمَالِ فَهُوَ لِمَوْلَاهُ.فَلَوْ وَرَّثْنَاهُ مِنْ أَقْرِبَائِهِ لَوَقَعَ الْمِلْكُ لِسَيِّدِهِ، فَيَكُونُ تَوْرِيثًا لِلْأَجْنَبِيِّ بِلَا سَبَبٍ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ إِجْمَاعًا.

الْقَتْلُ:

17- اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ يَمْنَعُ الْقَاتِلَ الْبَالِغَ الْعَاقِلَ مِنَ الْمِيرَاثِ إِذَا كَانَ الْقَتْلُ مُبَاشِرًا.وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْقَتْلِ الَّذِي يُوجِبُ الْقِصَاصَ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَاتِلُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ غَيْرَ مُبَاشِرٍ لِلْقَتْلِ أَوْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً.فَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْقَتْلَ الْعُدْوَانَ الْعَمْدَ الْمُوجِبَ لِلْقِصَاصِ: هُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْجَانِي مَنْ يَعْلَمُهُ آدَمِيًّا مَعْصُومًا فَيَقْتُلَهُ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مَوْتُهُ بِهِ.

وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ الَّذِي يُوجِبُ الْقِصَاصَ: مَا يَكُونُ بِضَرْبَةِ سِلَاحٍ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فِي تَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ كَالْمُحَدَّدِ مِنَ الْخَشَبِ أَوِ الْحَجَرِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْقَتْلَ شِبْهَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ يَمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَالْقَتْلُ شِبْهُ الْعَمْدِ: كَأَنْ يَتَعَمَّدَ الْقَاتِلُ ضَرْبَ الْمَقْتُولِ بِمَا لَا يُقْتَلُ بِهِ غَالِبًا، وَمُوجِبُهُ عِنْدَ جَمِيعِ الْحَنَفِيَّةِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَالْإِثْمُ وَالْكَفَّارَةُ.

وَالْخَطَأُ كَأَنْ رَمَى إِلَى الصَّيْدِ فَأَصَابَ إِنْسَانًا، أَوِ انْقَلَبَ عَلَيْهِ فِي النَّوْمِ فَقَتَلَهُ، أَوْ وَطِئَتْهُ دَابَّةٌ، وَهُوَ رَاكِبُهَا أَوْ سَقَطَ مِنْ سَطْحٍ عَلَيْهِ، أَوْ سَقَطَ عَلَيْهِ حَجَرٌ مِنْ يَدِهِ فَمَاتَ.وَمُوجِبُهُ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَا إِثْمَ فِيهِ.وَفِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ كُلِّهَا يُحْرَمُ الْقَاتِلُ مِنَ الْمِيرَاثِ عِنْدَهُمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ الْقَتْلُ بِحَقٍّ.

وَإِذَا كَانَ الْقَتْلُ بِالسَّبَبِ دُونَ الْمُبَاشَرَةِ كَحَافِرِ الْبِئْرِ أَوْ وَاضِعِ الْحَجَرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، أَوْ كَانَ الْقَاتِلُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَلَا حِرْمَانَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِالْقَتْلِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْأَرْجَحِ إِلَى أَنَّ الْقَاتِلَ عَمْدًا مُبَاشِرًا أَوْ مُتَسَبِّبًا يُمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ مِنَ الْمَالِ وَالدِّيَةِ وَلَوْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا، وَإِنْ أَتَى بِشُبْهَةٍ تَدْفَعُ الْقِصَاصَ كَرَمْيِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ بِحَجَرٍ فَمَاتَ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ رَأْيٌ آخَرُ هُوَ أَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَالْخَطَأِ، فَيَرِثُ مِنَ الْمَالِ دُونَ الدِّيَةِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُمْ.وَأَمَّا إِذَا قَتَلَ مُورَثُهُ قِصَاصًا أَوْ حَدًّا أَوْ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُحْرَمُ مِنَ الْمِيرَاثِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْقَتْلِ يُمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَلَوْ كَانَ الْقَتْلُ بِحَقٍّ كَمُقْتَصٍّ، وَإِمَامٍ، وَقَاضٍ، وَجَلاَّدٍ بِأَمْرِ الْإِمَامِ وَالْقَاضِي وَشَاهِدٍ وَمُزَكٍّ.وَيُحْرَمُ الْقَاتِلُ وَلَوْ قَتَلَ بِغَيْرِ قَصْدٍ كَنَائِمٍ وَمَجْنُونٍ وَطِفْلٍ وَلَوْ قَصَدَ بِهِ مَصْلَحَةً كَضَرْبِ الْأَبِ ابْنَهُ لِلتَّأْدِيبِ، وَفَتْحِهِ الْجَرْحَ لِلْمُعَالَجَةِ، وَقَالُوا: لَوْ قَالَ الْمَقْتُولُ: وَرِّثُوهُ فَهُوَ وَصِيَّةٌ.

وَلَوْ سَقَطَ مُتَوَارِثَانِ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ وَأَحَدُهُمَا فَوْقَ الْآخَرِ فَمَاتَ الْأَسْفَلُ لَمْ يَرِثْهُ الْأَعْلَى، لِأَنَّهُ قَاتِلٌ.وَإِنْ مَاتَ الْأَعْلَى وَرِثَهُ الْأَسْفَلُ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَاتِلٍ لَهُ.

اسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ عَدَمِ الْحِرْمَانِ بِالْقَتْلِ بِالتَّسَبُّبِ، وَمِنْ عَدَمِ حِرْمَانِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ بِأَنَّ الْقَاتِلَ بِالتَّسَبُّبِ لَيْسَ بِقَاتِلٍ حَقِيقَةً، لِأَنَّهُ لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ وَوَقَعَ فِيهَا مُورَثُهُ فَمَاتَ فَلَا يُؤَاخَذُ عَلَى ذَلِكَ بِشَيْءٍ.وَالْقَاتِلُ يُؤَاخَذُ بِفِعْلِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ فِي مِلْكِهِ أَمْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ كَالرَّامِي.وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقَتْلَ لَا يَتِمُّ إِلاَّ بِمَقْتُولٍ وَقَدِ انْعَدَمَ حَالَ التَّسَبُّبِ.فَإِنَّ حَفْرَهُ مَثَلًا قَدِ اتَّصَلَ بِالْأَرْضِ دُونَ الْحَيِّ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ قَاتِلًا حَالَ الْوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ؛ إِذْ رُبَّمَا كَانَ الْحَافِرُ حِينَئِذٍ مَيِّتًا.وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَاتِلًا حَقِيقَةً لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ جَزَاءُ الْقَتْلِ، وَهُوَ الْحِرْمَانُ مِنَ الْمِيرَاثِ وَالْكَفَّارَةِ.وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يُحْرَمَانِ مِنَ الْمِيرَاثِ بِالْقَتْلِ، لِأَنَّ الْحِرْمَانَ جَزَاءٌ لِلْقَتْلِ الْمَحْظُورِ، وَفِعْلُهُمَا مِمَّا لَا يَصْلُحُ أَنْ يُوصَفَ بِالْحَظْرِ شَرْعًا، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَجُّهُ خِطَابِ الشَّارِعِ إِلَيْهِمَا.وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحِرْمَانَ بِاعْتِبَارِ التَّقْصِيرِ فِي التَّحَرُّزِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ نِسْبَةُ التَّقْصِيرِ إِلَيْهِمَا.

وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِحَدِيثِ «لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِنَ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ» وَفَسَّرُوهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْقَتْلِ شَيْءٌ مِنَ الْإِرْثِ.

وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ خَوْفُ اسْتِعْجَالِ الْوَارِثِ لِلْإِرْثِ بِقَتْلِ مُورَثِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَهُوَ مَا إِذَا قَتَلَهُ عَمْدًا فَاقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ حِرْمَانَهُ مِنَ الْإِرْثِ، عَمَلًا بِقَاعِدَةِ: مَنَ اسْتَعْجَلَ بِشَيْءٍ قَبْلَ أَوَانِهِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِهِ، وَالِاسْتِعْجَالُ إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ ظَنِّهِ، وَبِالنَّظَرِ لِلظَّاهِرِ وَسَدِّ بَابِ الْقَتْلِ فِي بَاقِي الصُّوَرِ، وَهُوَ مَا إِذَا كَانَ الْقَتْلُ بِغَيْرِ قَصْدٍ كَمَا فِي النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَالطِّفْلِ.

وَلَا مَدْخَلَ لِلْمُفْتِي فِي الْقَتْلِ وَلَوْ أَخْطَأَ فِي الْإِفْتَاءِ وَإِنْ كَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ، لِأَنَّ إِفْتَاءَهُ غَيْرُ مُلْزِمٍ، وَلَا رَاوِي الْحَدِيثِ، وَلَا الْقَاتِلِ بِالْعَيْنِ، وَلَا مَنْ أَتَى لِامْرَأَتِهِ بِلَحْمٍ فَأَكَلَتْ مِنْهُ حَيَّةٌ ثُمَّ أَكَلَتْ مِنْهُ الزَّوْجَةُ فَمَاتَتْ.

وَأَمَّا مَنْ شَهِدَ عَلَى مُورَثٍ بِمُقْتَضَى جَلْدٍ فَجُلِدَ فَمَاتَ فَلِلنَّظَرِ فِيهِ مَجَالٌ، لَكِنْ ظَاهِرُ إِطْلَاقِهِمْ مَنْعُهُ بِذَلِكَ.

اخْتِلَافُ الدِّينَيْنِ:

18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلُ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَكْثَرِ الصَّحَابَةِ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ حَتَّى وَلَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ، لِأَنَّ الْمَوَارِيثَ قَدْ وَجَبَتْ لِأَهْلِهَا بِمَوْتِ الْمُورَثِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الِارْتِبَاطُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ بِالْقَرَابَةِ أَمْ بِالنِّكَاحِ أَمْ بِالْوَلَاءِ.

وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ قَبْلَ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ وَرِثَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ» وَلِأَنَّ فِي تَوْرِيثِهِ تَرْغِيبًا فِي الْإِسْلَامِ. كَمَا ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ يَرِثُ عَتِيقَهُ الْمُسْلِمَ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ.

وَذَهَبَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَالْحَسَنُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَمَسْرُوقٌ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْكَافِرَ.

اسْتَدَلَّ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى مَذْهَبِهِمْ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَلٍ شَتَّى» وَلِقَوْلِهِ- عليه السلام-: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ».

وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِتَوْرِيثِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ بِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى» وَمِنَ الْعُلُوِّ أَنْ يَرِثَ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ.

وَفَسَّرَ الْمَانِعُونَ الْحَدِيثَ بِأَنَّ نَفْسَ الْإِسْلَامِ هُوَ الَّذِي يَعْلُو، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ الْإِسْلَامُ عَلَى وَجْهٍ وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ وَيَعْلُو.أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ الْعُلُوُّ بِحَسَبِ الْحُجَّةِ أَوْ بِحَسَبِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ.أَيِ النُّصْرَةِ فِي الْعَاقِبَةِ لِلْمُسْلِمِينَ.

إِرْثُ الْمُرْتَدِّ:

19- لَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي أَنَّ الْمُرْتَدَّ- وَهُوَ مَنْ تَرَكَ الْإِسْلَامَ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ- لَا يَرِثُ أَحَدًا مِمَّنْ يَجْمَعُهُ وَإِيَّاهُمْ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْمِيرَاثِ، لَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ، أَوْ أَيِّ دِينٍ آخَرَ خِلَافُهُ، لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ.وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدَّةُ لَا تَرِثُ أَحَدًا، لِأَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُرْتَدِّ إِنْ كَانَ رَجُلًا هُوَ أَنْ يَتُوبَ وَيَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوْ يُقْتَلَ إِنْ أَصَرَّ عَلَى رِدَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَإِنَّهَا تُحْبَسُ حَتَّى تَتُوبَ أَوْ يُدْرِكَهَا الْمَوْتُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا مَعْنَى مُطْلَقًا لأَنْ يُقَالَ بِأَنَّهُ يَرِثُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ.

أَمَّا كَوْنُهُ يُورَثُ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- قَالَ الْقَاضِي: هِيَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ- أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرُهُمْ مِمَّنِ انْتَقَلَ إِلَى دِينِهِمْ بَلْ مَالُهُ كُلُّهُ- إِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ- يَكُونُ فَيْئًا وَحَقًّا لِبَيْتِ الْمَالِ.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالْحَسَنِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالشَّعْبِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَاسْتَدَلَّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِفِعْلِ الْخَلِيفَتَيْنِ الرَّاشِدَيْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَلِيٍّ، وَلِأَنَّ رِدَّتَهُ يَنْتَقِلُ بِهَا مَالُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا لَوِ انْتَقَلَ بِالْمَوْتِ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ، فَالْمُرْتَدَّةُ يَرِثُهَا أَقَارِبُهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَيَرِثُونَ كُلَّ مَالِهَا، سَوَاءٌ مَا اكْتَسَبَتْهُ حَالَ إِسْلَامِهَا أَوْ حَالَ رِدَّتِهَا.

أَمَّا الْمُرْتَدُّ فَإِنَّ وَرَثَتَهُ الْمُسْلِمِينَ يَرِثُونَ مِنْهُ مَا اكْتَسَبَهُ فِي زَمَانِ إِسْلَامِهِ.وَلَا يَرِثُونَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي زَمَانِ رِدَّتِهِ.وَيَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ لَكِنْ هَلْ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ وَقْتَ رِدَّتِهِ أَوْ وَقْتَ مَوْتِهِ أَوْ لَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ؟ أَوْ مَنْ كَانُوا مَوْجُودِينَ وَقْتَ رِدَّتِهِ وَوَقْتَ مَوْتِهِ؟

اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ.فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّ الْوَارِثَ لِلْمُرْتَدِّ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ وَقْتَ رِدَّتِهِ وَبَقِيَ إِلَى مَوْتِ الْمُرْتَدِّ، أَمَّا مَنْ حَدَثَتْ لَهُ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يَرِثُهُ، فَلَوْ أَسْلَمَ بَعْضُ قَرَابَتِهِ بَعْدَ رِدَّتِهِ أَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ رِدَّتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَرِثُهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، لِأَنَّ سَبَبَ التَّوْرِيثِ هُنَا الرِّدَّةُ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ ذَلِكَ لَمْ يَنْعَقِدْ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ، وَتَمَامُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْمَوْتِ، فَيُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْوَارِثِ إِلَى حِينِ تَمَامِ السَّبَبِ.

وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْوَارِثِ وَقْتَ الرِّدَّةِ، وَلَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُرْتَدِّ، لِأَنَّ الرِّدَّةَ فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ كَالْمَوْتِ، وَمَنْ مَاتَ مِنَ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُورَثِ قَبْلَ قِسْمَةِ مِيرَاثِهِ لَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ وَيَحِلُّ وَارِثُهُ مَحَلَّهُ.

وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَنْ يَكُونُ وَارِثًا لَهُ حِينَ مَاتَ أَوْ قُتِلَ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الرِّدَّةِ أَمْ حَدَثَ بَعْدَهُ، لِأَنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ قَبْلَ تَمَامِهِ يُعْتَبَرُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّبَبِ، مِثْلُ الزِّيَادَةِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ إِذْ تُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فَتَكُونُ مَعْقُودًا عَلَيْهَا بِالْقَبْضِ، وَيَكُونُ لَهَا حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ، فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ هُنَا.

وَاعْتَبَرَ الْإِمَامُ مُحَمَّدٌ لَحَاقَ الْمُرْتَدِّ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ، فَتُقْسَمُ تَرِكَتُهُ مِنْ حِينِ اللَّحَاقِ.وَاعْتَبَرَ الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ مَنْ يَكُونُ وَارِثًا لَهُ حِينَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ، وَتَرِثُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ إِنْ مَاتَ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ عَلَى رَأْيِ الصَّاحِبَيْنِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُرْتَدِّ وَإِنِ ارْتَفَعَ بِالرِّدَّةِ لَكِنَّهُ فَارٌّ عَنْ مِيرَاثِهَا.وَامْرَأَةُ الْفَارِّ تَرِثُ إِذَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ وَقْتَ مَوْتِهِ.

وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنِ الْإِمَامِ تَرِثُ وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ مَوْتِهِ مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ، لِأَنَّ سَبَبَ التَّوْرِيثِ كَانَ مَوْجُودًا فِي حَقِّهَا عِنْدَ رِدَّتِهِ؛ إِذْ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُعْتَبَرُ قِيَامُ السَّبَبِ عِنْدَ أَوَّلِ الرِّدَّةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


111-موسوعة الفقه الكويتية (استثناء 1)

اسْتِثْنَاءٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الِاسْتِثْنَاءُ لُغَةً: مَصْدَرُ اسْتَثْنَى، تَقُولُ: اسْتَثْنَيْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ إِذَا أَخْرَجْتَهُ، وَيُقَالُ: حَلَفَ فُلَانٌ يَمِينًا لَيْسَ فِيهَا ثُنْيَا، وَلَا مَثْنَوِيَّةً، وَلَا اسْتِثْنَاءَ، كُلُّهُ وَاحِدٌ.

وَذَكَرَ الشِّهَابُ الْخَفَاجِيُّ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي اللُّغَةِ وَالِاسْتِعْمَالِ يُطْلَقُ عَلَى: التَّقْيِيدِ بِالشَّرْطِ وَمِنْهُ قوله تعالى {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} أَيْ لَا يَقُولُونَ: «إِنْ شَاءَ اللَّهُ».

وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظِيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا أَوْ حُكْمِيًّا، فَالِاسْتِثْنَاءُ اللَّفْظِيُّ هُوَ: الْإِخْرَاجُ مِنْ مُتَعَدِّدٍ بِإِلاَّ، أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا وَيَلْحَقُ بِهِ فِي الْحُكْمِ الْإِخْرَاجُ بِأَسْتَثْنِي وَأُخْرِجُ وَنَحْوِهِمَا عَلَى لَفْظِ الْمُضَارِعِ، وَعَرَّفَهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّهُ: الْإِخْرَاجُ بِإِلاَّ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ.

وَعَرَّفَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ الْحَنَفِيُّ بِأَنَّهُ: الْمَنْعُ مِنْ دُخُولِ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ فِي حُكْمِهِ بِإِلاَّ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا، فَعَرَّفَهُ بِالْمَنْعِ، وَلَمْ يُعَرِّفْهُ بِالْإِخْرَاجِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا إِخْرَاجَ بِهِ، إِذْ لَمْ يَدْخُلِ الْمُسْتَثْنَى فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَصْلًا حَتَّى يَكُونَ مُخْرَجًا.فَالِاسْتِثْنَاءُ لِمَنْعِهِ مِنَ الدُّخُولِ وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الِاسْتِثْنَاءَ أَيْضًا بِمَعْنَى قَوْلِ: «إِنْ شَاءَ اللَّهُ» فِي كَلَامٍ إِنْشَائِيٍّ أَوْ خَبَرِيٍّ.

وَهَذَا النَّوْعُ لَيْسَ اسْتِثْنَاءً حَقِيقِيًّا بَلْ هُوَ مِنْ مُتَعَارَفِ النَّاسِ.فَإِنْ كَانَ بِإِلاَّ وَنَحْوِهَا فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقِيٌّ، أَوِ «اسْتِثْنَاءٌ وَضْعِيٌّ»، كَأَنْ يَقُولَ: لَا أَفْعَلُ كَذَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أَوْ: لأَفْعَلَنَّ كَذَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، وَمِنَ الْعُرْفِيِّ قَوْلُ النَّاسِ: إِنْ يَسَّرَ اللَّهُ، أَوْ إِنْ أَعَانَ اللَّهُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ.

وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا التَّعْلِيقُ- وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ إِلاَّ- اسْتِثْنَاءً لِشِبْهِهِ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ فِي صَرْفِهِ الْكَلَامَ السَّابِقَ لَهُ عَنْ ظَاهِرِهِ.

وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمَعْنَوِيُّ هُوَ: الْإِخْرَاجُ مِنَ الْجُمْلَةِ بِغَيْرِ أَدَاةِ اسْتِثْنَاءٍ، كَقَوْلِ الْمُقِرِّ: «لَهُ الدَّارُ، وَهَذَا الْبَيْتُ مِنْهَا لِي».وَإِنَّمَا أَعْطَوْهُ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّهُ فِي قُوَّةِ قَوْلِهِ: «لَهُ جَمِيعُ الدَّارِ إِلاَّ هَذَا الْبَيْتِ».

وَالِاسْتِثْنَاءُ الْحُكْمِيُّ يُقْصَدُ بِهِ أَنْ يُرِدَ التَّصَرُّفَ مَثَلًا عَلَى عَيْنٍ فِيهَا حَقٌّ لِلْغَيْرِ، كَبَيْعِ الدَّارِ الْمُؤَجَّرَةِ، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْقَطِعُ بِذَلِكَ، وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، فَكَأَنَّ الْبَيْعَ وَرَدَ عَلَى الْعَيْنِ بِاسْتِثْنَاءِ مَنْفَعَتِهَا مُدَّةَ الْإِجَارَةِ.

وَهَذَا الْإِطْلَاقُ قَلِيلٌ فِي مُتَعَارَفِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ لِلسُّيُوطِيِّ وَالْقَوَاعِدِ لِابْنِ رَجَبٍ إِلاَّ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ لَا يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ، وَلِذَا فَلَا تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَا يَلِي مِنْ هَذَا الْبَحْثِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّخْصِيصُ:

2- التَّخْصِيصُ: قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ فَهُوَ يُبَيِّنُ كَوْنَ اللَّفْظِ قَاصِرًا عَنِ الْبَعْضِ.وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُفَارِقُ التَّخْصِيصَ فِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُشْتَرَطُ اتِّصَالُهُ، وَأَنَّهُ يَتَطَرَّقُ إِلَى الظَّاهِرِ وَالنَّصِّ جَمِيعًا، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ ثَلَاثَةً، كَمَا يَقُولُ: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إِلاَّ زَيْدًا، وَالتَّخْصِيصُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَى النَّصِّ أَصْلًا، وَمِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَيْضًا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِقَوْلٍ، وَيَكُونُ التَّخْصِيصُ بِقَوْلٍ أَوْ قَرِينَةٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ.

هَذَا وَإِنَّ الْفَرْقَ الْأَوَّلَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ مِنِ اشْتِرَاطِ الِاتِّصَالِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فِي التَّخْصِيصِ، لَا يَجْرِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِقَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ اتِّصَالِ الْمُخَصِّصَاتِ أَيْضًا.

ب- النَّسْخُ:

3- النَّسْخُ: رَفْعُ الشَّارِعِ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِهِ بِدَلِيلٍ لَاحِقٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ: أَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ لِمَا دَخَلَ تَحْتَ اللَّفْظِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَدْخُلُ عَلَى الْكَلَامِ فَيَمْنَعُ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ اللَّفْظِ مَا كَانَ يَدْخُلُ لَوْلَاهُ، فَالنَّسْخُ قَطْعٌ وَرَفْعٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مَنْعٌ أَوْ إِخْرَاجٌ، وَأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ، وَالنَّسْخَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُنْفَصِلًا.

ج- الشَّرْطُ:

4- يُشْبِهُ الِاسْتِثْنَاءُ بِإِلاَّ وَأَخَوَاتِهَا الشَّرْطَ (التَّعْلِيقَ)، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مَنْعِ الْكَلَامِ مِنْ إِثْبَاتِ مُوجِبِهِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الشَّرْطَ يَمْنَعُ الْكُلَّ، وَالِاسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ الْبَعْضَ.

وَيُشَابِهُ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ الشَّرْطَ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مَنْعِ الْكُلِّ وَذِكْرِ أَدَاةِ التَّعْلِيقِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِهِ؛ لِأَنَّهُ مَنْعٌ لَا إِلَى غَايَةٍ، وَالشَّرْطُ مَنْعٌ إِلَى غَايَةِ تَحَقُّقِهِ، كَمَا فِي قَوْلِكَ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ إِنْ دَخَلُوا دَارِي.وَمِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ لَا يَدْخُلُ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ فِي بَحْثِ التَّعْلِيقِ وَالشَّرْطِ.وَلَا يُورِدُهُ الْفُقَهَاءُ فِي مَبَاحِثِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ، لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي الِاسْمِ.

5- الْقَاعِدَةُ الْأَصِيلَةُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ:

الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ، فَنَحْوُ: مَا قَامَ أَحَدٌ إِلاَّ زَيْدًا، يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ، وَنَحْوُ: قَامَ الْقَوْمُ إِلاَّ زَيْدًا، يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْقِيَامِ عَنْهُ،

وَفِي هَذَا خِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ.

فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ قِيلَ: خِلَافُهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ.وَقِيلَ: بَلْ فِي الثَّانِيَةِ فَقَطْ، فَقَدْ قَالَ: إِنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ، فَزَيْدٌ فِي الْمِثَالِ الْمُتَقَدِّمِ غَيْرُ مَحْكُومٍ بِقِيَامِهِ وَلَا بِعَدَمِهِ.

وَحَاصِلُ الْخِلَافِ فِي نَحْوِ: قَامَ الْقَوْمُ إِلاَّ زَيْدًا، أَنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ: إِنَّ زَيْدًا بِالِاسْتِثْنَاءِ دَخَلَ فِي عَدَمِ الْقِيَامِ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ انْتَقَلَ إِلَى عَدَمِ الْحُكْمِ.وَعِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ هُوَ مُخْرَجٌ مِنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ.

وَأَمَّا مَالِكٌ فَيُوَافِقُ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ فِي غَيْرِ الْأَيْمَانِ، أَمَّا فِي الْأَيْمَانِ فَلَيْسَ الِاسْتِثْنَاءُ إِثْبَاتًا.

فَمَنْ حَلَفَ: لَا يَلْبَسُ الْيَوْمَ ثَوْبًا إِلاَّ الْكَتَّانَ، يَحْنَثُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِذَا قَعَدَ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَارِيًّا فَلَمْ يَلْبَسْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ النَّفْيُ إِثْبَاتًا فَقَدْ حَلَفَ أَنْ يَلْبَسَ الْكَتَّانَ، فَإِذَا لَمْ يَلْبَسْهُ وَقَعَدَ عَارِيًّا حَنِثَ.

أَمَّا عِنْدَ مَالِكٍ فَلَا يَحْنَثُ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَجَّهَ الْقَرَافِيُّ ذَلِكَ بِأَنَّ (إِلاَّ) فِي هَذَا الْمِثَالِ وَنَحْوِهَا صِفَةٌ، فَهِيَ بِمَعْنَى غَيْرُ، فَيَكُونُ قَدْ حَلَفَ عَلَى أَلاَّ يَلْبَسَ ثِيَابًا مُغَايِرَةً لِلْكَتَّانِ.

وَوَجَّهَهُ أَيْضًا بِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّ جَمِيعَ الثِّيَابِ مَحْلُوفٌ عَلَيْهَا غَيْرَ الْكَتَّانِ.

أَنْوَاعُ الِاسْتِثْنَاءِ:

6- الِاسْتِثْنَاءُ إِمَّا مُتَّصِلٌ وَإِمَّا مُنْفَصِلٌ.

فَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُتَّصِلُ: مَا كَانَ فِيهِ الْمُسْتَثْنَى بَعْضُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ نَحْوُ جَاءَ الْقَوْمُ إِلاَّ زَيْدًا.

وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ: (وَيُسَمَّى الْمُنْفَصِلُ أَيْضًا) مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ الْمُسْتَثْنَى بَعْضُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، مِثْلُ قوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} فَإِنَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ لَيْسَ عِلْمًا.

وَيَتَبَيَّنُ مِنْ هَذَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ لَا إِخْرَاجَ بِهِ، وَلَا يَكُونُ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَدْخُلْ أَصْلًا.هَذَا وَلَا بُدَّ لِلِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فِيمَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ الْمُوَافَقَةُ.وَالْفَائِدَةُ فِيهِ دَفْعُ هَذَا التَّوَهُّمِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ شَبِيهٌ بِ (لَكِنَّ)، فَإِنَّهُ لِلِاسْتِدْرَاكِ، أَيْ دَفْعِ التَّوَهُّمِ مِنَ السَّابِقِ.وَأَشْهَرُ صُوَرِ الْمُخَالَفَةِ: أَنْ يَنْفِيَ عَنِ الْمُسْتَثْنَى الْحُكْمَ الَّذِي ثَبَتَ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، نَحْوُ: جَاءَنِي الْمُدَرِّسُونَ إِلاَّ طَالِبًا، فَقَدْ نَفَيْنَا الْمَجِيءَ عَنِ الطَّالِبِ بَعْدَمَا أَثْبَتْنَاهُ لِلْمُدَرِّسِينَ.

وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ لَا إِخْرَاجَ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً حَقِيقَةً، بَلْ هُوَ مَجَازٌ.

قَالَ الْمَحَلِّيُّ: هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ الْمُتَّصِلُ دُونَ الْمُنْقَطِعِ.

وَعَلَى هَذَا جَاءَ حَدُّ الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَا سَبَقَ، فَقَدْ عُرِّفَ بِمَا لَا يَشْمَلُ الْمُنْقَطِعَ وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخْرَى مَوْطِنُ تَفْصِيلِهَا كُتُبُ الْأُصُولِ.

صِيغَةُ الِاسْتِثْنَاءِ:

أ- أَلْفَاظُ الِاسْتِثْنَاءِ:

7- يَذْكُرُ اللُّغَوِيُّونَ وَالْأُصُولِيُّونَ لِلِاسْتِثْنَاءِ الْحَقِيقِيِّ الْأَلْفَاظَ التَّالِيَةَ: إِلاَّ، وَغَيْرَ، وَسِوَى، وَخَلَا، وَعَدَا، وَحَاشَا، وَبَيْدَ، وَلَيْسَ، وَلَا يَكُونُ.

ب- الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ وَنَحْوِهَا:

8- شَرَعَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَذَا النَّوْعَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ، فَقَدْ قَالَ لِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم-: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: عَاتَبَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - عليه الصلاة والسلام- عَلَى قَوْلِهِ لِلْكُفَّارِ حِينَ سَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، وَالْفِتْيَةِ، وَذِي الْقَرْنَيْنِ: (ائْتُونِي غَدًا) وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِي ذَلِكَ.فَاحْتُبِسَ الْوَحْيُ عَنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَأَرْجَفَ الْكُفَّارُ بِهِ، فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْكَهْفِ، وَأُمِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْهَا: أَلاَّ يَقُولَ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ: إِنِّي أَفْعَلُ غَدًا كَذَا وَكَذَا إِلاَّ أَنْ يُعَلِّقَ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى لَا يَكُونَ مُحَقِّقًا لِحُكْمِ الْخَبَرِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ: لأَفْعَلَنَّ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلْ كَانَ كَاذِبًا، وَإِذَا قَالَ لأَفْعَلَنَّ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُحَقِّقًا لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ إِلاَّ أَنْ تَقُولَ: إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ.أَوْ: إِلاَّ أَنْ تَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَقَالَ: وَالْآيَةُ لَيْسَتْ فِي الْأَيْمَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي سُنَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي غَيْرِ الْيَمِينِ وَأَوْضَحَ كَذَلِكَ أَنَّ آخِرَ الْآيَةِ، وَهُوَ قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}.يَدُلُّ- عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِهَا- أَنَّهُ إِذَا نَسِيَ الِاسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ يَقُولُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا تَذَكَّرَهُ.

فَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: مَا دَامَ فِي مَجْلِسِ الذِّكْرِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَنَتَيْنِ.فَيُحْمَلُ عَلَى تَدَارُكِ التَّبَرُّكِ بِالِاسْتِثْنَاءِ.

فَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ الْمُفِيدُ حُكْمًا- يَعْنِي فِي الْيَمِينِ وَنَحْوِهَا- فَلَا يَصِحُّ إِلاَّ مُتَّصِلًا.هَذَا، وَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ وَنَحْوِهَا يَدْخُلُ فِي كَلَامِ النَّاسِ فِي الْأَخْبَارِ، وَالْأَيْمَانِ، وَالنُّذُورِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَالْوَعْدِ، وَالْعَقْدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.ثُمَّ يَكُونُ لَهُ أَثَرُهُ فِي حِلِّ الْيَمِينِ وَنَحْوِهَا.

اسْتِثْنَاءُ عَدَدَيْنِ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الشَّكِّ:

9- إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِلاَّ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْحَاصِلِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَلْزَمُهُ تِسْعُمِائَةٍ؛ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا شَكَكْنَا فِي الْمُتَكَلِّمِ بِهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ شَغْلِ الذِّمَمِ، فَثَبَتَ الْأَقَلُّ.

وَالثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ «خُرُوجٌ بَعْدَ دُخُولٍ». يَلْزَمُهُ تِسْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الْأَلْفُ صَارَ الشَّكُّ فِي الْمُخْرَجِ، فَيَخْرُجُ الْأَقَلُّ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ وَالْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ:

10- إِذَا وَرَدَ الِاسْتِثْنَاءُ بِإِلاَّ وَنَحْوِهَا بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ بِالْوَاوِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْفَخْرِ الرَّازِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ.وَعِنْدَ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْكُلِّ.

وَقَالَ الْبَاقِلاَّنِيُّ بِالتَّوَقُّفِ فِي عَوْدِهِ إِلَى مَا عَدَا الْأَخِيرَ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ بِالتَّوَقُّفِ مُطْلَقًا.

وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْمُعْتَزِلِيُّ: إِنْ ظَهَرَ الْإِضْرَابُ عَنِ الْأُولَى، كَمَا لَوِ اخْتَلَفَ بِالْإِنْشَائِيَّةِ وَالْخَبَرِيَّةِ، أَوِ الْأَمْرِيَّةِ وَالنَّهْيِيَّةِ، أَوْ لَمْ يَكُنِ اشْتِرَاكٌ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ، فَإِنَّهُ يَعُودُ لِلْأَخِيرَةِ فَقَطْ، وَإِلاَّ فَلِلْجَمِيعِ.

وَالنِّزَاعُ كَمَا تَرَى فِي الظُّهُورِ.وَلَا تَتَأَتَّى دَعْوَى النُّصُوصِيَّةِ فِي وَاحِدٍ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ.وَلَمْ يُنَازِعْ أَحَدٌ أَيْضًا فِي إِمْكَانِ عَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْأَخِيرَةِ وَحْدَهَا، وَإِمْكَانِ عَوْدِهِ إِلَى الْكُلِّ، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ، هَذَا إِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ أَوْ ثُمَّ فَالْخِلَافُ قَائِمٌ أَيْضًا، لَكِنْ ذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ- كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْآمِدِيِّ- إِلَى أَنَّهُ يَعُودُ حِينَئِذٍ إِلَى الْأَخِيرِ.

وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ حُكْمَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، ظَاهِرٌ فِي الثُّبُوتِ عُمُومًا، وَرَفْعُهُ عَنِ الْبَعْضِ بِالِاسْتِثْنَاءِ مَشْكُوكٌ فِيهِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ لِلْأَخِيرَةِ فَقَطْ، فَلَا يَرْفَعُ حُكْمَ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يُعَارِضُهُ الْمَشْكُوكُ.بِخِلَافِ الْأَخِيرَةِ، فَإِنَّ حُكْمَهَا غَيْرُ ظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ الرَّفْعَ ظَاهِرٌ فِيهَا فِيمَا لَا صَارِفَ لَهُ، فَيَتَعَلَّقُ بِهَا.

وَاحْتَجُّوا ثَانِيًا بِأَنَّ الِاتِّصَالَ مِنْ شَرْطِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالِاتِّصَالُ ثَابِتٌ فِي الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، أَمَّا فِيمَا قَبْلَهَا فَإِنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِالْعَطْفِ، إِلاَّ أَنَّ الِاتِّصَالَ بِالْعَطْفِ فَقَطْ ضَعِيفٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ آخَرَ مُوجِبٍ لِاعْتِبَارِ هَذَا الِاتِّصَالِ.

وَالشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمُ احْتَجُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى الشَّرْطِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا رَجَعَ إِلَيْهَا اتِّفَاقًا.

وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ الْعَطْفَ يَجْعَلُ الْمُتَعَدِّدَ كَالْمُفْرَدِ، فَالْمُتَعَلِّقُ بِالْوَاحِدِ هُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْكُلِّ.وَبِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْكُلِّ، فَإِمَّا أَنْ يُكَرَّرَ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ كُلِّ جُمْلَةٍ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ وَاحِدَةٍ فَقَطْ، أَوْ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ الْجَمِيعِ.فَالتَّكْرَارُ مُسْتَهْجَنٌ، فَبَطَلَ الْأَوَّلُ وَفِي الثَّانِي تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، فَبَقِيَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ، فَيَلْزَمُ الظُّهُورُ فِيهِ.

11- وَمِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا}...قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الَّذِينَ تَابُوا مِنَ الْقَاذِفِينَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَالِاسْتِثْنَاءُ عَائِدٌ عَلَى الْحُكْمِ بِفِسْقِهِمْ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَعُودُ عَلَى الْجُمَلِ الثَّلَاثِ. أَمَّا الْجَلْدُ فَاتُّفِقَ عَلَى عَدَمِ سُقُوطِهِ بِالتَّوْبَةِ لِأَجْلِ الدَّلِيلِ الْمَانِعِ مِنْ تَعَلُّقِ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وَالْمَانِعُ هُوَ كَوْنُ الْجَلْدِ حَقًّا لِلْآدَمِيِّ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ.

الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ الْمُفْرَدَاتِ الْمُتَعَاطِفَةِ:

12- إِنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ مُفْرَدَاتٍ مُتَعَاطِفَةٍ فَالْخِلَافُ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِي الْجُمَلِ، وَلَكِنْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ أَوْلَى بِعَوْدِهِ لِلْكُلِّ مِنَ الْوَارِدِ بَعْدَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِ الْمُفْرَدَاتِ.نَحْوُ: تَصَدَّقْ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِلاَّ الْفَسَقَةَ مِنْهُمْ.

الِاسْتِثْنَاءُ الْعُرْفِيُّ بَعْدَ الْمُتَعَاطِفَاتِ:

13- أَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ الْعُرْفِيُّ بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ إِذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا نَحْوَ: وَاَللَّهِ لَا آكُلُ وَلَا أَشْرَبُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَيَتَعَلَّقُ بِالْجَمِيعِ اتِّفَاقًا.وَوَجْهُهُ أَنَّهُ شَرْطٌ وَلَيْسَ مِنْ حَقِيقَةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالشَّرْطُ مُقَدَّمٌ تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّ لَهُ صَدْرَ الْكَلَامِ بِاتِّفَاقِ النُّحَاةِ، فَيَصِحُّ تَعَلُّقُهُ بِالْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مُقَارِنٌ لَهُ تَقْدِيرًا.بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ مُؤَخَّرٌ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا.

الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ:

14- هَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ:

الْأَوَّلُ: الِاسْتِثْنَاءَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْمُتَعَاطِفَةُ نَحْوُ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ أَرْبَعَةً، وَإِلاَّ ثَلَاثَةً، وَإِلاَّ اثْنَيْنِ.

وَحُكْمُهَا أَنْ تَعُودَ كُلُّهَا إِلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَذْكُورُ قَبْلَهَا.فَيَلْزَمُهُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ وَاحِدٌ فَقَطْ.

الثَّانِي: الِاسْتِثْنَاءَاتُ الْمُتَوَالِيَةُ بِدُونِ عَاطِفٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهَا مُسْتَغْرِقًا لِمَا قَبْلَهُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا يَعُودُ إِلَى مَا قَبْلَهُ.فَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ سَبْعَةً، إِلاَّ خَمْسَةً إِلاَّ دِرْهَمَيْنِ، صَحَّ، وَكَانَ مُقِرًّا بِسِتَّةٍ، فَإِنَّ خَمْسَةَ إِلاَّ دِرْهَمَيْنِ عِبَارَةُ عَنْ ثَلَاثَةٍ اسْتَثْنَاهَا مِنْ سَبْعَةٍ بَقِيَ أَرْبَعَةٌ، اسْتَثْنَاهَا مِنْ عَشَرَةٍ بَقِيَ سِتَّةٌ.

وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الِاسْتِثْنَاءَاتِ مُسْتَغْرِقًا لِمَا قَبْلَهُ فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ، بَلْ تَعُودُ جَمِيعُهَا إِلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَاخْتِلَافٌ.

شُرُوطُ الِاسْتِثْنَاءِ

15- شُرُوطُ الِاسْتِثْنَاءِ عَامَّةٌ، مَا عَدَا شَرْطَ الِاسْتِغْرَاقِ، فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الرَّمْلِيُّ وَسَيَأْتِي أَيْضًا أَنَّ شَرْطَ الْقَصْدِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ.

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ:

16- يُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، بِأَلاَّ يَكُونَ مَفْصُولًا بِمَا يُعَدُّ فِي الْعَادَةِ فَاصِلًا.فَلَوْ كَانَ مَفْصُولًا بِتَنَفُّسٍ أَوْ سُعَالٍ أَوْ نَحْوِهِمَا لَمْ يَمْنَعِ الِاتِّصَالَ، وَكَذَلِكَ إِنْ حَالَ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَلَامٌ غَيْرُ أَجْنَبِيٍّ، وَمِنْهُ النِّدَاءُ؛ لِأَنَّهُ لِلتَّنْبِيهِ وَالتَّأْكِيدُ.أَمَّا إِنْ سَكَتَ سُكُوتًا يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ فِيهِ، أَوْ فَصَلَ بِكَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ، أَوْ عَدَلَ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ اسْتَقَرَّ حُكْمُ الْمُسْتَثْنَى فَلَمْ يَرْتَفِعْ، بِخِلَافِ مَا لَا يُمْكِنُ، كَمَا لَوْ أَخَذَ آخِذٌ بِفَمِهِ فَمَنَعَهُ الْكَلَامَ.هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمُقَدَّمُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَيُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِ الِاتِّصَالِ أَنْ يَنْوِيَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ، فَلَوْ لَمْ يَنْوِ إِلاَّ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الْعُمْدَةُ مُجَرَّدُ الِاتِّصَالِ سَوَاءٌ نَوَى أَوَّلَ الْكَلَامِ، أَوْ أَثْنَاءَهُ، أَوْ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ.

وَقَدْ نُقِلَ خِلَافُ هَذَا عَنْ قَوْمٍ.فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى شَهْرٍ، وَقِيلَ أَبَدًا.وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَعَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ: يَجُوزُ فِي الْمَجْلِسِ، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ: إِلَى سَنَتَيْنِ.وَقِيلَ: مَا لَمْ يَأْخُذْ فِي كَلَامٍ آخَرَ.وَقِيلَ:

إِنْ نَوَى الِاسْتِثْنَاءَ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ جَازَ التَّأْخِيرُ بَعْدَهُ.وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ.

وَقِيلَ: يَجُوزُ التَّأْخِيرُ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً.

وَمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- لَمَّا حَرَّمَ مَكَّةَ، وَقَالَ: «لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، قَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ الْإِذْخِرَ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، فَقَالَ: إِلاَّ الْإِذْخِرَ» فَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْفَصِلٌ.فَحُمِلَ عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ.

فَكَأَنَّهُ كَرَّرَ الْقَوْلَ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَلَامِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا

وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الِاتِّصَالِ؛ أَنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ غَيْرِ الْمُتَّصِلِ يَسْتَلْزِمُ أَلاَّ يَجْزِمَ بِصِدْقٍ أَوْ كَذِبٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ لِاحْتِمَالِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ عَقْدٌ مِنَ الْعُقُودِ، وَلِإِجْمَاعِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ عَلَى وُجُوبِ الِاتِّصَالِ.فَلَوْ قَالَ: لَهُ عَشَرَةٌ، ثُمَّ زَادَ بَعْدَ شَهْرٍ: إِلاَّ ثَلَاثَةً يُعَدُّ لَغْوًا.

وَلَعَلَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَنْ قَالَ شِبْهَ قَوْلِهِ، إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ أَنَّ مَنْ نَسِيَ أَنْ يَقُولَ: «إِنْ شَاءَ اللَّهُ» يَقُولُهَا مَتَى تَذَكَّرَ ذَلِكَ، وَلَوْ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، امْتِثَالًا لِلْآيَةِ، وَلَيْسَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُوجِبِ رَفْعُ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى كَمَا تَقَدَّمَ.الشَّرْطُ الثَّانِي:

17- وَيُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَلاَّ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مُسْتَغْرِقًا لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُسْتَغْرِقَ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا، إِلاَّ عِنْدَ مَنْ شَذَّ.

وَادَّعَى الْبَعْضُ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ.فَلَوْ قَالَ: «لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ عَشَرَةً» لَغَا قَوْلُهُ «إِلاَّ عَشَرَةً» وَلَزِمَهُ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ.وَمِمَّنْ شَذَّ ابْنُ طَلْحَةَ الْمَالِكِيُّ فِي الْمَدْخَلِ، نَقَلَ عَنْهُ الْقَرَافِيُّ أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: «أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلاَّ ثَلَاثًا»: لَا يَقَعُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ، فَهُمْ يُوَافِقُونَ عَلَى بُطْلَانِ الِاسْتِثْنَاءِ إِنْ كَانَ بِعَيْنِ لَفْظِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، كَقَوْلِهِ: عَبِيدِي أَحْرَارٌ إِلاَّ عَبِيدِي، أَوْ بِلَفْظٍ مُسَاوٍ لَهُ، كَقَوْلِهِ: نِسَائِي طَوَالِقُ إِلاَّ زَوْجَاتِي.

أَمَّا إِنْ كَانَ بِغَيْرِهِمَا كَقَوْلِهِ: ثُلُثُ مَالِي لِزَيْدٍ إِلاَّ أَلْفًا، وَالثُّلُثُ أَلْفٌ.فَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا يَسْتَحِقُّ زَيْدٌ شَيْئًا.

فَالشَّرْطُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِيهَامُ الْبَقَاءِ لَا حَقِيقَتُهُ، حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا سِتًّا إِلاَّ أَرْبَعًا صَحَّ، وَوَقَعَ ثِنْتَانِ.وَإِنْ كَانَتِ السِّتَّةُ لَا صِحَّةَ لَهَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَزِيدُ عَنْ ثَلَاثٍ، وَمَعَ هَذَا لَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلاَّ أَرْبَعًا، فَكَأَنَّ اعْتِبَارَ اللَّفْظِ أَوْلَى.

وَجَعَلَ صَاحِبُ الْمُغْنِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُسْتَغْرِقِ أَنْ يَقُولَ مَثَلًا: «لَهُ عَلَيَّ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَدِرْهَمَانِ إِلاَّ دِرْهَمَيْنِ» فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَهُوَ فِي مِثَالِنَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ.

اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ وَالْأَقَلِّ:

18- أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ النِّصْفِ، وَمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ، مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَغْرِقًا كَمَا تَقَدَّمَ، نَحْوُ: «لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ سِتَّةً أَوْ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ خَمْسَةً».وَنَسَبَ صَاحِبُ فَوَاتِحِ الرَّحَمُوتِ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى الْحَنَفِيَّةِ، وَالْأَكْثَرِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.

وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.

قِيلَ: إِنَّمَا يَمْنَعُ الْحَنَابِلَةُ اسْتِثْنَاءَ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ، وَيُجِيزُونَ اسْتِثْنَاءَ النِّصْفِ.وَقِيلَ: يَمْنَعُونَ النِّصْفَ أَيْضًا.

وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ يَمْنَعُ اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَدَدًا صَرِيحًا.قِيلَ وَبِهَذَا قَالَ الْقَاضِي الْبَاقِلاَّنِيُّ آخِرًا.

وَقَدْ احْتَجَّ لِجَوَازِ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ فِي غَيْرِ الْعَدَدِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَك مِنَ الْغَاوِينَ} وَالْغَاوُونَ هُمْ الْأَكْثَرُ لقوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وَاحْتَجَّ لِجَوَازِهِ أَيْضًا فِي الْعَدَدِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا عَلَى لُزُومِ وَاحِدٍ فِي الْإِقْرَارِ بِلَفْظِ: «لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ تِسْعَةً» وَاحْتَجَّ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ أَئِمَّةَ اللُّغَةِ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ جَائِزًا لُغَةً، مِنْهُمُ ابْنُ جِنِّي، وَالزَّجَّاجُ، وَالْقُتَيْبِيُّ.قَالَ الزَّجَّاجُ: لَمْ يَأْتِ الِاسْتِثْنَاءُ إِلاَّ فِي قَلِيلٍ مِنَ الْكَثِيرِ.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ:

19- وَيُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ إِذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَجَوَّزَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْبَاقِلاَّنِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ.وَمِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنَ الدَّنَانِيرِ إِلاَّ فَرَسًا.

وَكَذَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ فَرَسٌ إِلاَّ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ، فَيُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ فَإِنِ اسْتَغْرَقَتِ الْقِيمَةُ الْمُقَرَّ بِهِ بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ.وَلَزِمَهُ الْأَلْفُ بِتَمَامِهَا.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا اسْتِثْنَاءُ الْمُقَدَّرِ مِنَ الْمُقَدَّرِ الْكَيْلِيِّ وَالْوَزْنِيِّ، وَالْمَعْدُودِ الَّذِي لَا تَتَفَاوَتُ آحَادُهُ، كَالْفُلُوسِ وَالْجَوْزِ، مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ.وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فَاعْتُبِرَتْ جِنْسًا وَاحِدًا، فَكَانَتْ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.وَتُطْرَحُ قِيمَةُ الْمُسْتَثْنَى مِمَّا أَقَرَّ بِهِ.

وَيَصِحُّ عِنْدَهُمَا هَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَلَوِ اسْتَغْرَقَتِ الْقِيمَةُ جَمِيعَ مَا أَقَرَّ بِهِ، لِاسْتِغْرَاقِهِ بِغَيْرِ الْمُسَاوِي.

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ.وَهُوَ الْقِيَاسُ.

أَمَّا فِي غَيْرِ الْمُقَدَّرَاتِ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إِلاَّ ثَوْبًا، فَلَا يَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ جَمِيعًا، قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ لَا يَصِحُّ إِلاَّ أَنْ يُسْتَثْنَى الدَّرَاهِمُ مِنَ الدَّنَانِيرِ، أَوِ الدَّنَانِيرُ مِنَ الدَّرَاهِمِ.وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَهُمْ لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا.

وَحُجَّةُ الْمُجِيزِينَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ، مِنْهُ قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآِدَم فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ}.وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلاَّ قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا}.

وَحُجَّةُ الْمَانِعِينَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَرْفُ اللَّفْظِ بِحَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ عَمَّا كَانَ يَقْتَضِيهِ لَوْلَاهُ.

وَغَيْرُ الْجِنْسِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي الْكَلَامِ، فَإِذَا ذَكَرَهُ فَمَا صَرَفَ الْكَلَامَ عَنْ صَوْبِهِ، وَلَا ثَنَاهُ عَنْ وَجْهِ اسْتِرْسَالِهِ، فَلَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً، وَإِنَّمَا يُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ اسْتِثْنَاءً مَجَازًا، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ (ف: 6) وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْتِدْرَاكٌ، وَتَكُونُ إِلاَّ بِمَعْنَى لَكِنَّ، فَإِذَا ذَكَرَ الِاسْتِدْرَاكَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ، كَأَنْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ إِلاَّ ثَوْبًا لِي عَلَيْهِ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُقِرًّا بِشَيْءٍ، مُدَّعِيًا لِشَيْءٍ سِوَاهُ، فَيُقْبَلُ إِقْرَارُهُ، وَتَبْطُلُ دَعْوَاهُ وَهِيَ الِاسْتِثْنَاءُ.

وَحُجَّةُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَثْمَانِ وَغَيْرِهَا أَنَّ قَدْرَ الدَّنَانِيرِ مِنَ الدَّرَاهِمِ مَعْلُومٌ، وَيُعَبَّرُ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، فَإِذَا اسْتَثْنَى أَحَدَهُمَا مِنَ الْآخَرِ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ التَّعْبِيرَ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، فَإِنَّ قَوْمًا يُسَمُّونَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ دِينَارًا، وَفِي بِلَادٍ أُخْرَى يُسَمُّونَ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ دِينَارًا.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: التَّلَفُّظُ بِالِاسْتِثْنَاءِ

20- ذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ تَحْرِيكُ الشَّفَتَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحْلَفًا، فَإِنْ كَانَ مُسْتَحْلَفًا لَمْ يُجْزِئْهُ إِلاَّ الْجَهْرُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَنْفَعُهُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ الْمَحْلُوفُ لَهُ.

وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ لِلِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهِ بِحَيْثُ يُسْمِعُ غَيْرَهُ، وَإِلاَّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ خَصْمِهِ فِي النَّفْيِ، وَحَكَمَ بِالْوُقُوعِ إِذَا حَلَفَ الْخَصْمُ عَلَى نَفْيِ الِاسْتِثْنَاءِ.

هَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، أَمَّا فِيمَا عَدَاهُ فَيَكْفِي أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ، إِنِ اعْتَدَلَ سَمْعُهُ وَلَا عَارِضَ، وَيُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَلَمْ يَظْهَرْ لِلْحَنَابِلَةِ تَعَرُّضٌ لِصِفَةِ النُّطْقِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا فِي نِيَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْقَلْبِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَنْطُوقُ بِهِ عَامًّا، كَقَوْلِهِ: نِسَائِي طَوَالِقُ، وَاسْتَثْنَى بِقَلْبِهِ وَاحِدَةً، فَيَكُونُ لَهُ اسْتِثْنَاؤُهُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ «نِسَائِي» اسْمٌ عَامٌّ يَجُوزُ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنْ بَعْضِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَصًّا فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ كَالْعَدَدِ، فَلَا يَرْتَفِعُ بِالنِّيَّةِ مَا ثَبَتَ بِاللَّفْظِ، كَقَوْلِهِ: نِسَائِي الْأَرْبَعُ أَوِ الثَّلَاثُ طَوَالِقُ، فَلَا يُقْبَلُ اسْتِثْنَاؤُهُ ظَاهِرًا، وَقِيلَ لَا يُقْبَلُ وَلَا بَاطِنًا.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ إِذَا تَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ وَاسْتَثْنَى فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاؤُهُ مَسْمُوعًا، وَالْمُرَادُ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُسْمَعَ، بِحَيْثُ لَوْ قَرَّبَ شَخْصٌ أُذُنَهُ إِلَى فَمِهِ يَسْمَعُ اسْتِثْنَاءَهُ، وَلَوْ حَالَ دُونَ سَمَاعِ الْمُنْشِئِ لِلْكَلَامِ صَمَمٌ أَوْ كَثْرَةُ أَصْوَاتٍ.وَفِي قَوْلِ الْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظٍ مَسْمُوعٍ وَيَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِالْكِتَابَةِ صَحِيحٌ، حَتَّى لَوْ تَلَفَّظَ بِالطَّلَاقِ وَكَتَبَ الِاسْتِثْنَاءَ مَوْصُولًا، أَوْ عَكَسَ، أَوْ أَزَالَ الِاسْتِثْنَاءَ بَعْدَ الْكِتَابَةِ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ.

وَجَاءَ فِي التَّتَارْخَانِيَّةِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الزَّوْجَةَ إِذَا سَمِعَتِ الطَّلَاقَ وَلَمْ تَسْمَعِ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَسَعُهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنَ الْوَطْءِ، وَيَلْزَمُهَا مُنَازَعَتُهُ.

21- وَلَوِ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي صُدُورِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَادَّعَاهُ الزَّوْجُ وَأَنْكَرَتْهُ الزَّوْجَةُ، فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ.وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.وَهُوَ الْمَذْهَبُ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يُقْبَلُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، عَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ وَالْفَتْوَى احْتِيَاطًا لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ، إِذْ قَدْ يُعَلِّمُهُ ذَلِكَ حِيلَةً بَعْضُ مَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ تَعَالَى، وَلِأَنَّ دَعْوَى الزَّوْجِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، فَإِنَّهُ بِدَعْوَى الِاسْتِثْنَاءِ يَدَّعِي إِبْطَالَ الْمُوجِبِ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بِهِ.

فَالظَّاهِرُ خِلَافُ قَوْلِهِ، وَإِذَا عَمَّ الْفَسَادُ يَنْبَغِي الرُّجُوعُ إِلَى الظَّاهِرِ.وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَهُمْ نَقَلَهُ ابْنُ الْهُمَامِ عَنِ الْمُحِيطِ إِنْ عُرِفَ الزَّوْجُ بِالصَّلَاحِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ تَصْدِيقًا لَهُ، وَإِنْ عُرِفَ بِالْفِسْقِ أَوْ جُهِلَ حَالُهُ فَلَا؛ لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ.وَأَيَّدَهُ ابْنُ عَابِدِينَ.وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى نُصُوصٍ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


112-موسوعة الفقه الكويتية (استصلاح)

اسْتِصْلَاحٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الِاسْتِصْلَاحُ فِي اللُّغَةِ: نَقِيضُ الِاسْتِفْسَادِ.

وَعِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ: اسْتِنْبَاطُ الْحُكْمِ فِي وَاقِعَةٍ لَا نَصَّ فِيهَا وَلَا إِجْمَاعَ، بِنَاءً عَلَى مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ لَا دَلِيلَ عَلَى اعْتِبَارِهَا وَلَا إِلْغَائِهَا.وَيُعَبَّرُ عَنْهُ أَيْضًا بِالْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ.

2- وَالْمَصْلَحَةُ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ الْمَفْسَدَةِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَقَاصِدِ الشَّرْعِ الْخَمْسَةِ.

3- وَالْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ: مَا لَا يَشْهَدُ لَهَا أَصْلٌ بِالِاعْتِبَارِ وَلَا بِالْإِلْغَاءِ، لَا بِالنَّصِّ وَلَا بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ عَلَى وَفْقِهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الِاسْتِحْسَانُ:

4- عَرَّفَهُ الْأُصُولِيُّونَ بِتَعَارِيفَ كَثِيرَةٍ، الْمُخْتَارُ مِنْهَا: الْعُدُولُ إِلَى خِلَافِ النَّظِيرِ بِدَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ، كَدُخُولِ الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِزَمَانِ مُكْثٍ، وَلَا مِقْدَارِ مَاءٍ، لِدَلِيلِ الْعُرْفِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَالِاسْتِحْسَانُ يَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ قِيَاسٍ بِقِيَاسٍ، أَوْ بِمُقَابَلَةِ نَصٍّ بِقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ، وَالِاسْتِصْلَاحُ لَيْسَ كَذَلِكَ.

ب- الْقِيَاسُ:

5- وَهُوَ مُسَاوَاةُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ.

فَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاسْتِصْلَاحِ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ لِلْقِيَاسِ أَصْلًا يُقَاسُ الْفَرْعُ عَلَيْهِ، فِي حِينِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلِاسْتِصْلَاحِ هَذَا الْأَصْلِ.

أَقْسَامُ الْمُنَاسِبِ الْمُرْسَلِ:

6- الْمُنَاسِبُ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ الِاسْتِصْلَاحُ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

أ- إِمَّا أَنْ يَعْتَبِرَهُ الشَّارِعُ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الِاعْتِبَارَاتِ.

ب- وَإِمَّا أَنْ يُلْغِيَهُ.

ج- وَإِمَّا أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ.وَالْأَخِيرُ هُوَ الِاسْتِصْلَاحُ.

حُجِّيَّةُ الِاسْتِصْلَاحِ:

7- اخْتُلِفَ فِي حُجِّيَّتِهِ عَلَى مَذَاهِبَ كَثِيرَةٍ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ مَا مِنْ مَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ إِلاَّ يَأْخُذُ بِهِ إِجْمَالًا، وَقَدْ وَضَعَ بَعْضُهُمْ قُيُودًا لِجَوَازِ الْأَخْذِ بِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ، عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ الْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


113-موسوعة الفقه الكويتية (إسقاط 1)

إِسْقَاطٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الْإِسْقَاطِ لُغَةً: الْإِيقَاعُ وَالْإِلْقَاءُ، يُقَالُ: سَقَطَ اسْمُهُ مِنَ الدِّيوَانِ: إِذَا وَقَعَ، وَأَسْقَطَتِ الْحَامِلُ: أَلْقَتِ الْجَنِينَ، وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ: سَقَطَ الْفَرْضُ، أَيْ سَقَطَ طَلَبُهُ وَالْأَمْرُ بِهِ.

وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ إِزَالَةُ الْمِلْكِ، أَوِ الْحَقِّ، لَا إِلَى مَالِكٍ وَلَا إِلَى مُسْتَحِقٍّ، وَتَسْقُطُ بِذَلِكَ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، لِأَنَّ السَّاقِطَ يَنْتَهِي وَيَتَلَاشَى وَلَا يَنْتَقِلُ، وَذَلِكَ كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ وَالْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ وَبِمَعْنَى الْإِسْقَاطِ: الْحَطُّ، إِذْ يَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَى نَفْسِهِ.وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِي إِسْقَاطِ الْحَامِلِ الْجَنِينَ.وَسَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي (إِجْهَاضٌ).

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْإِبْرَاءُ:

2- الْإِبْرَاءُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ.وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ الْإِبْرَاءَ مِنَ الدَّيْنِ إِسْقَاطًا مَحْضًا، أَمَّا مَنْ يَعْتَبِرُهُ تَمْلِيكًا فَيَقُولُ: هُوَ تَمْلِيكُ الْمَدِينِ مَا فِي ذِمَّتِهِ.وَتَوَسَّطَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فَقَالَ: هُوَ تَمْلِيكٌ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ، إِسْقَاطٌ فِي حَقِّ الْمَدِينِ، وَهَذَا بِالنَّظَرِ لِبَرَاءَةِ الْإِسْقَاطِ لَا لِبَرَاءَةِ الِاسْتِيفَاءِ.

وَيُلَاحَظُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ وَلَا تُجَاهِهِ، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ، فَتَرْكُهُ لَا يُعْتَبَرُ إِبْرَاءً، بَلْ هُوَ إِسْقَاطٌ.وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ.غَيْرَ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ يَعْتَبِرُ الْإِبْرَاءَ أَعَمَّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، إِذْ يَقُولُ: الْإِسْقَاطُ فِي الْمُعَيَّنِ، وَالْإِبْرَاءُ أَعَمُّ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي الْمُعَيَّنِ وَغَيْرِهِ.

ب- الصُّلْحُ:

3- الصُّلْحُ اسْمٌ بِمَعْنَى: الْمُصَالَحَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَالسِّلْمِ.

وَشَرْعًا: عَقْدٌ يَقْتَضِي قَطْعَ النِّزَاعِ وَالْخُصُومَةِ.

وَيَجُوزُ فِي الصُّلْحِ إِسْقَاطُ بَعْضِ الْحَقِّ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَنْ إِقْرَارٍ أَمْ إِنْكَارٍ أَمْ سُكُوتٍ.فَإِذَا كَانَتِ الْمُصَالَحَةُ عَلَى أَخْذِ الْبَدَلِ فَالصُّلْحُ مُعَاوَضَةٌ، وَلَيْسَ إِسْقَاطًا، فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ.

ج- الْمُقَاصَّةُ:

4- يُقَالُ تَقَاصَّ الْقَوْمُ: إِذَا قَاصَّ كُلٌّ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ فِي الْحِسَابِ، فَحَبَسَ عَنْهُ مِثْلَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ.

وَالْمُقَاصَّةُ نَوْعٌ مِنَ الْإِسْقَاطِ، إِذْ هِيَ إِسْقَاطُ مَا لِلْإِنْسَانِ مِنْ دَيْنٍ عَلَى غَرِيمِهِ فِي مِثْلِ مَا عَلَيْهِ.فَهِيَ إِسْقَاطٌ بِعِوَضٍ، فِي حِينِ أَنَّ الْإِسْقَاطَ الْمُطْلَقَ يَكُونُ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ الْمُقَاصَّةُ أَخَصَّ مِنَ الْإِسْقَاطِ.وَلَهَا شُرُوطٌ تُنْظَرُ فِي مَوْضِعِهَا.

د- الْعَفْوُ:

5- مِنْ مَعَانِي الْعَفْوِ: الْمَحْوُ وَالْإِسْقَاطُ وَتَرْكُ الْمُطَالَبَةِ، يُقَالُ: عَفَوْت عَنْ فُلَانٍ إِذَا تَرَكْتَ مُطَالَبَتَهُ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}.أَيِ التَّارِكِينَ مَظَالِمَهُمْ عِنْدَهُمْ لَا يُطَالِبُونَهُمْ بِهَا.فَالْعَفْوُ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي تَرْكِ الْحَقِّ مُسَاوٍ لِلْإِسْقَاطِ فِي الْمَعْنَى، إِلاَّ أَنَّ الْعَفْوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ أَعَمُّ لِتَعَدُّدِ اسْتِعْمَالَاتِهِ.

هـ- التَّمْلِيكُ:

6- التَّمْلِيكُ: نَقْلُ الْمِلْكِ وَإِزَالَتُهُ إِلَى مَالِكٍ آخَرَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَنْقُولُ عَيْنًا كَمَا فِي الْبَيْعِ، أَمْ مَنْفَعَةً كَمَا فِي الْإِجَارَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ بِعِوَضٍ كَمَا سَبَقَ، أَمْ بِدُونِهِ كَالْهِبَةِ.وَالتَّمْلِيكُ بِعُمُومِهِ يُفَارِقُ الْإِسْقَاطَ بِعُمُومِهِ، إِذْ التَّمْلِيكُ إِزَالَةٌ وَنَقْلٌ إِلَى مَالِكٍ، فِي حِينِ أَنَّ الْإِسْقَاطَ إِزَالَةٌ وَلَيْسَ نَقْلًا، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ إِلَى مَالِكٍ، لَكِنَّهُمَا قَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي الْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ، عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُهُ تَمْلِيكًا، كَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَلِذَلِكَ يَشْتَرِطُونَ فِيهِ الْقَبُولَ.

صِفَةُ الْإِسْقَاطِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):

7- الْإِسْقَاطُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْجُمْلَةِ، إِذْ هُوَ تَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ، دُونَ أَنْ يَمَسَّ ذَلِكَ حَقًّا لِغَيْرِهِ.

وَالْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ، وَقَدْ تَعْرِضُ لَهُ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْأُخْرَى.فَيَكُونُ وَاجِبًا، كَتَرْكِ وَلِيِّ الصَّغِيرِ الشُّفْعَةَ الَّتِي وَجَبَتْ لِلصَّغِيرِ، إِذَا كَانَ الْحَظُّ فِي تَرْكِهَا، لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي مَالِهِ بِمَا فِيهِ حَظٌّ وَغِبْطَةٌ لَهُ.وَكَالطَّلَاقِ الَّذِي يَرَاهُ الْحَكَمَانِ إِذَا وَقَعَ الشِّقَاقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَكَذَلِكَ طَلَاقُ الرَّجُلِ إِذَا آلَى مِنْ زَوْجَتِهِ وَلَمْ يَفِئْ إِلَيْهَا.

وَيَكُونُ مَنْدُوبًا إِذَا كَانَ قُرْبَةً، كَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ، وَإِبْرَاءِ الْمُعْسِرِ، وَالْعِتْقِ، وَالْكِتَابَةِ.وَمِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى النَّدْبِ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ}.فَنَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْعَفْوِ وَالتَّصَدُّقِ بِحَقِّ الْقِصَاصِ.وَفِي إِبْرَاءِ الْمَدِينِ قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يَقُولُ الْقُرْطُبِيُّ: نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ إِلَى الصَّدَقَةِ عَلَى الْمُعْسِرِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ خَيْرًا مِنْ إِنْظَارِهِ.، وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ الْمَنْدُوبَ هُنَا وَهُوَ الْإِبْرَاءُ أَفْضَلُ مِنَ الْوَاجِبِ وَهُوَ الْإِنْظَارُ.

وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا، كَطَلَاقِ الْبِدْعَةِ، وَهُوَ طَلَاقُ الْمَدْخُولِ بِهَا فِي حَالِ الْحَيْضِ مِنْ غَيْرِ حَمْلٍ، وَكَذَلِكَ عَفْوُ وَلِيِّ الصَّغِيرِ عَنِ الْقِصَاصِ مَجَّانًا.

وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا، كَالطَّلَاقِ بِدُونِ سَبَبٍ يَسْتَدْعِيهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ».

الْبَاعِثُ عَلَى الْإِسْقَاطِ:

8- تَصَرُّفَاتُ الْمُكَلَّفِينَ فِيمَا يَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ فِيهِ لَا تَأْتِي عَفْوًا، بَلْ تَكُونُ لَهَا بَوَاعِثُ، قَدْ تَكُونُ شَرْعِيَّةً، فَيَكُونُ التَّصَرُّفُ اسْتِجَابَةً لِأَوَامِرِ الشَّرْعِ، وَقَدْ تَكُونُ لِمَصَالِحَ شَخْصِيَّةٍ.

وَالْإِسْقَاطُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَتَأَتَّى فِيهَا الْبَاعِثُ الشَّرْعِيُّ وَالشَّخْصِيُّ.

فَمِنَ الْبَوَاعِثِ الشَّرْعِيَّةِ:

الْعَمَلُ عَلَى حُرِّيَّةِ الْإِنْسَانِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ لِكُلِّ النَّاسِ، وَذَلِكَ الْعِتْقُ الَّذِي حَثَّ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ.

وَمِنْهَا: الْإِبْقَاءُ عَلَى الْحَيَاةِ، وَذَلِكَ بِإِسْقَاطِ حَقِّ الْقِصَاصِ مِمَّنْ ثَبَتَ لَهُ هَذَا الْحَقُّ.

وَمِنْهَا: مُعَاوَنَةُ الْمُعْسِرِينَ، وَذَلِكَ بِإِسْقَاطِ الدَّيْنِ عَنْهُمْ إِنْ وُجِدَ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ.

وَمِنْهَا: إِرَادَةُ نَفْعِ الْجَارِ، كَمَا فِي وَضْعِ خَشَبِهِ عَلَى جِدَارِ جَارِهِ وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَّسِعُ الْمَقَامُ لِذِكْرِهِ.

أَمَّا الْبَوَاعِثُ الشَّخْصِيَّةُ:

فَمِنْهَا: رَجَاءُ حُسْنِ الْعِشْرَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، مِمَّا يَدْعُو الزَّوْجَةَ إِلَى إِبْرَاءِ زَوْجِهَا مِنَ الْمَهْرِ فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ بَعْدَ الدُّخُولِ أَوْ إِسْقَاطِ الزَّوْجَةِ حَقَّهَا فِي الْقَسْمِ.

وَمِنْهَا: الْإِسْرَاعُ فِي الْحُصُولِ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، وَذَلِكَ كَالْمُكَاتَبِ، إِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْأَجَلِ فِي أَدَاءِ الْمَالِ الْمُكَاتَبِ، عَلَيْهِ، فَعَجَّلَ أَدَاءَ النُّجُومِ (الْأَقْسَاطِ)، فَإِنَّ السَّيِّدَ يَلْزَمُهُ أَخْذُ الْمَالِ، لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّ الْمُكَاتَبِ فَيَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، حَتَّى لَوْ أَبَى السَّيِّدُ أَخْذَ الْمَالِ جَعَلَهُ الْإِمَامُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَحَكَمَ بِعِتْقِهِ.

وَمِنْهَا: الِانْتِفَاعُ الْمَادِّيُّ، كَالْخُلْعِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى مَالٍ.

أَرْكَانُ الْإِسْقَاطِ

9- رُكْنُ الْإِسْقَاطِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ، وَيُزَادُ عَلَيْهَا عِنْدَ غَيْرِهِمُ: الطَّرَفَانِ- الْمُسْقِطُ وَهُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ، وَالْمُسْقَطُ عَنْهُ الَّذِي تَقَرَّرَ الْحَقُّ قِبَلَهُ- وَالْمَحَلُّ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَرِدُ عَلَيْهِ الْإِسْقَاطُ.

الصِّيغَةُ:

10- مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ أَنَّ الصِّيغَةَ تَتَكَوَّنُ مِنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مَعًا فِي الْعَقْدِ، وَهِيَ هُنَا كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ فِي الْإِسْقَاطَاتِ الَّتِي تُقَابَلُ بِعِوَضٍ كَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ.وَفِي غَيْرِهَا اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَبُولِ عَلَى مَا سَيَأْتِي.

الْإِيجَابُ فِي الصِّيغَةِ:

11- الْإِيجَابُ فِي الصِّيغَةِ، هُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِسْقَاطِ مِنْ قَوْلٍ، أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَى الْقَوْلِ، مِنْ إِشَارَةٍ مُفْهِمَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ سُكُوتٍ.

وَيُلَاحَظُ أَنَّ الْإِسْقَاطَاتِ قَدْ مُيِّزَ بَعْضُهَا بِأَسْمَاءٍ خَاصَّةٍ تُعْرَفُ بِهَا، فَإِسْقَاطُ الْحَقِّ عَنِ الرِّقِّ عِتْقٌ، وَعَنِ اسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ طَلَاقٌ، وَعَنِ الْقِصَاصِ عَفْوٌ، وَعَنِ الدَّيْنِ إِبْرَاءٌ.

وَلِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْإِسْقَاطَاتِ صِيَغٌ خَاصَّةٌ سَوَاءٌ أَكَانَتْ صَرِيحَةً، أَمْ كِنَايَةً تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ أَوْ قَرِينَةٍ.ر: (طَلَاق، عِتْق).

أَمَّا غَيْرُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْإِسْقَاطَاتِ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهَا هُوَ الْإِسْقَاطُ.وَمَا بِمَعْنَاهُ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَلْفَاظًا مُتَعَدِّدَةً تُؤَدِّي مَعْنَى الْإِسْقَاطِ، وَذَلِكَ مِثْلُ: التَّرْكِ وَالْحَطِّ وَالْعَفْوِ وَالْوَضْعِ وَالْإِبْرَاءِ فِي بَرَاءَةِ الْإِسْقَاطِ وَالْإِبْطَالِ وَالْإِحْلَالِ وَالْمَدَارُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْعُرْفِ وَدَلَالَةِ الْحَالِ، وَلِذَلِكَ جَعَلُوا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِ: الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْعَطِيَّةُ حِينَ لَا يُرَادُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ حَقِيقَتُهَا وَهِيَ التَّمْلِيكُ، وَيَكُونُ الْمَقَامُ دَالًّا عَلَى الْإِسْقَاطِ، فَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: مَنْ أَبْرَأَ مِنْ دَيْنِهِ، أَوْ وَهَبَهُ لِمَدِينِهِ، أَوْ أَحَلَّهُ مِنْهُ، أَوْ أَسْقَطَهُ عَنْهُ، أَوْ تَرَكَهُ لَهُ، أَوْ مَلَّكَهُ لَهُ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ، أَوْ عَفَا عَنِ الدَّيْنِ، صَحَّ ذَلِكَ جَمِيعُهُ، وَكَانَ مُسْقِطًا لِلدَّيْنِ.وَإِنَّمَا صَحَّ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَطِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَيْنٌ مَوْجُودَةٌ يَتَنَاوَلُهَا اللَّفْظُ انْصَرَفَ إِلَى مَعْنَى الْإِبْرَاءِ.

قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَلِهَذَا لَوْ وَهَبَهُ دَيْنَهُ هِبَةً حَقِيقِيَّةً لَمْ يَصِحَّ، لِانْتِفَاءِ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ وَانْتِفَاءِ شَرْطِ الْهِبَةِ.

وَكَمَا يَحْصُلُ الْإِسْقَاطُ بِالْقَوْلِ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِالْكِتَابَةِ الْمُعَنْوَنَةِ الْمَرْسُومَةِ، وَبِالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ مِنْ فَاقِدِ النُّطْقِ.

كَذَلِكَ قَدْ يَحْصُلُ الْإِسْقَاطُ بِالسُّكُوتِ، كَمَا إِذَا عَلِمَ الشَّفِيعُ بِبَيْعِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ، وَسَكَتَ مَعَ إِمْكَانِ الطَّلَبِ، فَإِنَّ سُكُوتَهُ يُسْقِطُ حَقَّهُ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ.

وَيَحْصُلُ الْإِسْقَاطُ أَيْضًا نَتِيجَةَ فِعْلٍ يَصْدُرُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، كَمَنْ يَشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ، ثُمَّ يَتَصَرَّفُ فِي الْمَبِيعِ بِوَقْفٍ أَوْ بَيْعٍ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، فَإِنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا لِحَقِّهِ فِي الْخِيَارِ.

الْقَبُولُ:

12- الْأَصْلُ فِي الْإِسْقَاطِ أَنْ يَتِمَّ بِإِرَادَةِ الْمُسْقِطِ وَحْدَهُ، لِأَنَّ جَائِزَ التَّصَرُّفِ لَا يُمْنَعُ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّهِ، مَا دَامَ لَمْ يَمَسَّ حَقَّ غَيْرِهِ.

وَمِنْ هُنَا فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْإِسْقَاطَ الْمَحْضَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَاَلَّذِي لَمْ يُقَابَلْ بِعِوَضٍ، يَتِمُّ بِصُدُورِ مَا يُحَقِّقُ مَعْنَاهُ مِنْ قَوْلٍ، أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى قَبُولِ الطَّرَفِ الْآخَرِ، كَالطَّلَاقِ، فَلَا يَحْتَاجُ الطَّلَاقُ إِلَى قَبُولٍ.

13- وَيَتَّفِقُونَ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِسْقَاطَ الَّذِي يُقَابَلُ بِعِوَضٍ يَتَوَقَّفُ نَفَاذُهُ عَلَى قَبُولِ الطَّرَفِ الْآخَرِ فِي الْجُمْلَةِ، كَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُعَاوَضَةً، فَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عَلَى قَبُولِ دَفْعِ الْعِوَضِ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ، إِذِ الْمُعَاوَضَةُ لَا تَتِمُّ إِلاَّ بِرِضَى الطَّرَفَيْنِ.

وَقَدْ أَلْحَقَ الْحَنَفِيَّةُ بِهَذَا الْقِسْمِ الصُّلْحَ عَلَى دَمِ الْعَمْدِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَى الْجَانِي، لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} وَالْمُرَادُ بِهِ الصُّلْحُ.وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِلْوَرَثَةِ يَجْرِي فِيهِ الْإِسْقَاطُ عَفْوًا، فَكَذَا تَعْوِيضًا، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى إِحْسَانِ الْأَوْلِيَاءِ وَإِحْيَاءِ الْقَاتِلِ، فَيَجُوزُ بِالتَّرَاضِي.

وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ هُوَ قَوْلٌ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّ مَنْ لَهُ حَقُّ الْقِصَاصِ، إِذَا أَرَادَ أَخْذَ الدِّيَةِ بَدَلَ الْقِصَاصِ، فَلَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ رِضَى الْجَانِي، لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «قَامَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُودَى، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ».وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

14- وَيَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ الْإِسْقَاطُ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، كَإِبْرَاءِ الْمَدِينِ مِنَ الدَّيْنِ.وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْإِسْقَاطِ هُوَ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَسَاسِ مَا فِيهِ مِنْ جَانِبَيِ الْإِسْقَاطِ وَالتَّمْلِيكِ.

فَالْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ وَأَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، نَظَرُوا إِلَى جَانِبِ الْإِسْقَاطِ فِيهِ، فَلَا يَتَوَقَّفُ تَمَامُهُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْقَبُولِ، لِأَنَّ جَائِزَ التَّصَرُّفِ لَا يُمْنَعُ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّهِ أَوْ بَعْضِهِ.وَلِأَنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ مَالٍ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْقَبُولُ، كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَالشُّفْعَةِ.بَلْ إِنَّ الْخَطِيبَ الشِّرْبِينِيَّ قَالَ: لَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ عَلَى الْمَذْهَبِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: الْإِبْرَاءُ تَمْلِيكٌ أَوْ إِسْقَاطٌ.

وَيَسْتَوِي عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءِ التَّعْبِيرُ بِالْإِبْرَاءِ أَوْ بِهِبَةِ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، إِلاَّ مَا فَرَّقَ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْهِبَةِ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَبُولِ.جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: هِبَةُ الدَّيْنِ مِنَ الْكَفِيلِ لَا تَتِمُّ بِدُونِ الْقَبُولِ، وَإِبْرَاؤُهُ يَتِمُّ بِدُونِ قَبُولٍ.

15- وَلَمَّا كَانَ الْإِبْرَاءُ مِنْ بَدَلِ الصَّرْفِ وَرَأْسُ مَالِ السَّلَمِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، مِمَّا يُشْعِرُ بِالتَّعَارُضِ مَعَ رَأْيِهِمْ فِي عَدَمِ تَوَقُّفِ الْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ عَلَى الْقَبُولِ، فَقَدْ عَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ التَّوَقُّفَ عَلَى الْقَبُولِ فِيهِمَا لَيْسَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ هِبَةُ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، وَلَكِنْ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ فِيهِمَا يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ بِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ لِحَقِّ الشَّارِعِ، وَأَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِهِ، فَلِهَذَا تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِ الْآخَرِ.

وَالْأَرْجَحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ إِبْرَاءَ الْمَدِينِ مِنَ الدَّيْنِ يَتَوَقَّفُ تَمَامُهُ عَلَى الْقَبُولِ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ- عَلَى رَأْيِهِمْ- نَقْلٌ لِلْمِلْكِ، فَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَدِينِ مَا فِي ذِمَّتِهِ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْهِبَةِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا الْقَبُولُ.

وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ هِيَ تَرَفُّعُ ذَوِي الْمُرُوءَاتِ عَمَّا قَدْ يَحْدُثُ فِي الْإِبْرَاءِ مِنْ مِنَّةٍ، وَمَا قَدْ يُصِيبُهُمْ مِنْ ضَرَرٍ بِذَلِكَ، لَا سِيَّمَا مِنَ السَّفَلَةِ، فَكَانَ لَهُمُ الرَّفْضُ شَرْعًا، نَفْيًا لِلضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنَ الْمِنَنِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ.

رَدُّ الْإِسْقَاطِ:

16- لَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَاَلَّتِي لَمْ تُقَابَلْ بِعِوَضٍ، كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَالشُّفْعَةِ وَالْقِصَاصِ لَا تَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، لِأَنَّهَا لَا تَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ، وَبِالْإِسْقَاطِ يَسْقُطُ الْمِلْكُ وَالْحَقُّ، فَيَتَلَاشَى وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الرَّدُّ، وَالسَّاقِطُ لَا يَعُودُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.وَلَا يَخْتَلِفُونَ كَذَلِكَ فِي أَنَّ الْإِسْقَاطَاتِ الَّتِي تُقَابَلُ بِعِوَضٍ، كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ، تَرْتَدُّ بِالرَّدِّ مَا لَمْ يَسْبِقْ قَبُولٌ أَوْ طَلَبٌ.

17- أَمَّا مَا فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ كَالْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ رَأْيُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، نَظَرًا لِجَانِبِ التَّمْلِيكِ فِيهِ، وَلِمَا قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى عَدَمِ قَابِلِيَّتِهِ لِلرَّدِّ مِنْ ضَرَرِ الْمِنَّةِ الَّتِي يَتَرَفَّعُ عَنْهَا ذَوُو الْمُرُوءَاتِ.

18- هَذَا مَعَ اسْتِثْنَاءِ الْحَنَفِيَّةِ لِبَعْضِ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يَرْتَدُّ فِيهَا الْإِبْرَاءُ بِالرَّدِّ وَهِيَ:

أ- إِذَا أَبْرَأَ الْمُحَالُ الْمُحَالَ عَلَيْهِ فَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ.

ب- إِذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ فَالْأَرْجَحُ أَنَّهُ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، وَقِيلَ يَرْتَدُّ.

ج- إِذَا طَلَبَ الْمَدِينُ الْإِبْرَاءَ فَأَبْرَأَهُ الدَّائِنُ فَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ.

د- إِذَا قَبِلَ الْمَدِينُ الْإِبْرَاءَ ثُمَّ رَدَّهُ لَا يَرْتَدُّ.

وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ خُرُوجًا عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي سَارَ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، ذَلِكَ أَنَّ الْحَوَالَةَ وَالْكَفَالَةَ مِنَ الْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ وَلَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ مَالٍ.

وَأَمَّا الْقَبُولُ إِذَا تَمَّ فَلَا مَعْنَى لِلرَّدِّ بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ طَلَبُ الْمَدِينِ الْبَرَاءَةَ يُعْتَبَرُ قَبُولًا.

19- وَمَعَ اتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ إِلاَّ أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ مِنْ حَيْثُ تَقْيِيدُ الرَّدِّ بِمَجْلِسِ الْإِبْرَاءِ وَعَدَمُ تَقْيِيدِهِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: هُمَا قَوْلَانِ.وَفِي الْفَتَاوَى الصَّيْرَفِيَّةِ: لَوْ لَمْ يَقْبَلْ وَلَمْ يَرُدَّ حَتَّى افْتَرَقَا، ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ رَدَّ لَا يَرْتَدُّ فِي الصَّحِيحِ.

التَّعْلِيقُ وَالتَّقْيِيدُ وَالْإِضَافَةُ فِي الْإِسْقَاطَاتِ:

20- التَّعْلِيقُ هُوَ رَبْطُ وُجُودِ الشَّيْءِ بِوُجُودِ غَيْرِهِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ أَدَاةِ الشَّرْطِ صَرِيحًا، كَإِنْ وَإِذَا، وَانْعِقَادُ الْحُكْمِ فِيهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ الشَّرْطِ.

21- وَالتَّقْيِيدُ بِالشُّرُوطِ مَا جُزِمَ فِيهِ بِالْأَصْلِ، وَشُرِطَ فِيهِ أَمْرٌ آخَرُ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ أَدَاةِ الشَّرْطِ صَرِيحًا.

22- أَمَّا الْإِضَافَةُ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَمْنَعُ سَبَبِيَّةَ اللَّفْظِ لِلْحُكْمِ إِلاَّ أَنَّهَا تَجْعَلُ الْحُكْمَ يَتَأَخَّرُ الْبَدْءُ بِهِ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ يُحَدِّدُهُ الْمُتَصَرِّفُ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِسْقَاطَاتِ هُوَ:

أَوَّلًا: تَعْلِيقُ الْإِسْقَاطِ عَلَى الشَّرْطِ:

23- يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ تَعْلِيقُ الْإِسْقَاطَاتِ عَلَى الشَّرْطِ الْكَائِنِ بِالْفِعْلِ (أَيِ الْمَوْجُودِ حَالَةَ الْإِسْقَاطِ)، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُنْجَزِ، كَقَوْلِ الدَّائِنِ لِغَرِيمِهِ: إِنْ كَانَ لِي عَلَيْكَ دَيْنٌ فَقَدْ أَبْرَأْتُكَ، وَكَقَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ كَانَتِ السَّمَاءُ فَوْقَنَا وَالْأَرْضُ تَحْتَنَا، وَكَمَنْ قَالَ لآِخَرَ: بَاعَنِي فُلَانٌ دَارَكَ بِكَذَا، فَقَالَ: إِنْ كَانَ كَذَا فَقَدْ أَجَزْتُهُ، وَإِنْ كَانَ فُلَانٌ اشْتَرَى هَذَا الشِّقْصَ بِكَذَا فَقَدْ أَسْقَطْتُ الشُّفْعَةَ.

كَذَلِكَ يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ التَّعْلِيقُ عَلَى مَوْتِ الْمُسْقِطِ، وَيُعْتَبَرُ وَصِيَّةً، كَقَوْلِهِ لِمَدِينِهِ: إِذَا مِتَّ فَأَنْتَ بَرِيءٌ.

وَهَذَا فِيمَا عَدَا مَنْ عَلَّقَ طَلَاقَ زَوْجَتِهِ عَلَى مَوْتِهِ، إِذْ فِيهِ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ تَنْجِيزِ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ عَدَمِ وُقُوعِهِ.

أَمَّا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ فَيُمْكِنُ تَقْسِيمُ الْإِسْقَاطَاتِ بِالنِّسْبَةِ لَهَا فِي الْجُمْلَةِ إِلَى الْآتِي:

24- (أ) إِسْقَاطَاتٌ مَحْضَةٌ لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَلَمْ تُقَابَلْ بِعِوَضٍ.وَهَذِهِ يَجُوزُ فِي الْجُمْلَةِ تَعْلِيقُهَا عَلَى الشَّرْطِ، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَضَعُوا هُنَا ضَابِطًا فَقَالُوا: إِنْ كَانَتِ الْإِسْقَاطَاتُ مِمَّا يُحْلَفُ بِهَا، كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ مُلَائِمًا أَمْ غَيْرَ مُلَائِمٍ.وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُحْلَفُ بِهَا، كَالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ وَتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ الْمُلَائِمِ فَقَطْ، وَهُوَ مَا يُؤَكِّدُ مُوجَبَ الْعَقْدِ.وَيُعَبِّرُ الْحَنَفِيَّةُ أَحْيَانًا بِالشَّرْطِ الْمُتَعَارَفِ.وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا وَاحِدٌ، فَفِي ابْنِ عَابِدِينَ: وَفِي الْبَحْرِ عَنِ الْمِعْرَاجِ: غَيْرُ الْمُلَائِمِ هُوَ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلطَّالِبِ أَصْلًا، كَدُخُولِ الدَّارِ وَمَجِيءِ الْغَدِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ.وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ- بَعْدَ الْكَلَامِ عَنِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي جَوَازِ تَعْلِيقِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ- قَالَ: وَجْهُ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ إِنَّمَا هُوَ إِذَا كَانَ الشَّرْطُ مَحْضًا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ أَصْلًا، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ بَيْنَ النَّاسِ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِشَرْطٍ لَيْسَ لِلنَّاسِ فِيهِ تَعَامُلٌ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ بِشَرْطٍ فِيهِ نَفْعٌ لِلطَّالِبِ، وَلَهُ تَعَامُلٌ، فَتَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ بِهِ صَحِيحٌ.

وَلَمْ يَتَعَرَّضْ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ لِهَذَا التَّقْسِيمِ، وَاَلَّذِي يَبْدُو مِمَّا ذَكَرُوهُ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ تَعْلِيقُ الْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ عَلَى الشَّرْطِ مُطْلَقًا، دُونَ تَفْرِيقٍ بَيْنَ مَا يُحْلَفُ بِهِ وَمَا لَا يُحْلَفُ بِهِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ الضَّابِطُ الَّذِي وَضَعَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ: مَا كَانَ تَمْلِيكًا مَحْضًا لَا مَدْخَلَ لِلتَّعْلِيقِ فِيهِ قَطْعًا كَالْبَيْعِ، وَمَا كَانَ حِلًّا مَحْضًا، يَدْخُلُهُ التَّعْلِيقُ قَطْعًا كَالْعِتْقِ، وَبَيْنَهُمَا مَرَاتِبُ يَجْرِي فِيهَا الْخِلَافُ كَالْفَسْخِ وَالْإِبْرَاءِ.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَإِنَّ الْمَسَائِلَ الَّتِي ذَكَرُوا أَنَّهَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ تُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى.وَقَدْ وَرَدَ الْكَثِيرُ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي فَتَاوَى الشَّيْخِ عُلَيْشٍ الْمَالِكِيِّ، وَمِنْهَا: إِذَا طَلَبَتِ الْحَاضِنَةُ الِانْتِقَالَ بِالْأَوْلَادِ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ، فَقَالَ الْأَبُ: إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ فَنَفَقَتُهُمْ وَكِسْوَتُهُمْ عَلَيْكَ، لَزِمَهَا ذَلِكَ، لِأَنَّ لِلْأَبِ مَنْعَهَا مِنَ الْخُرُوجِ بِهِمْ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ، فَأَسْقَطَ حَقَّهُ بِذَلِكَ.وَإِذَا قَالَ الشَّفِيعُ: إِنِ اشْتَرَيْتَ ذَلِكَ الشِّقْصَ فَقَدْ سَلَّمْتُ لَكَ شُفْعَتِي عَلَى دِينَارٍ تُعْطِينِي إِيَّاهُ، فَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ مِنْكَ فَلَا جُعْلَ لِي عَلَيْكَ، جَازَ ذَلِكَ.

25- (ب) إِسْقَاطَاتٌ فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، كَالْخُلْعِ وَالْمُكَاتَبَةِ.وَمَا يَلْحَقُ بِهِمَا مِنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ.

فَالطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ وَكَذَا الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ تَعْلِيقُهُمَا جَائِزٌ بِاتِّفَاقٍ، لِأَنَّهُمَا إِسْقَاطٌ مَحْضٌ، وَالْمُعَاوَضَةُ فِيهِمَا مَعْدُولٌ بِهَا عَنْ سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ.

وَأَمَّا الْخُلْعُ فَقَدْ أَجَازَ تَعْلِيقَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ، بِاعْتِبَارِهِ طَلَاقًا، وَمَنَعَهُ الْحَنَابِلَةُ لِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ.

وَأَمَّا الْمُكَاتَبَةُ فَقَدْ أَجَازَ تَعْلِيقَهَا بِالشَّرْطِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَمَنَعَهَا الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، جَاءَ فِي قَوَاعِدِ الزَّرْكَشِيِّ: الْمُعَاوَضَةُ غَيْرُ الْمَحْضَةِ وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ الْمَالُ فِيهَا مَقْصُودًا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ (أَيْ كَالْمُكَاتَبَةِ) لَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ، إِلاَّ فِي الْخُلْعِ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ.

26- (ج) الْإِسْقَاطُ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، كَالْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ.وَقَدْ أَجَازَ تَعْلِيقَهُ عَلَى الشَّرْطِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ.غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَيَّدُوهُ بِالشَّرْطِ الْمُلَائِمِ أَوِ الْمُتَعَارَفِ عَلَى مَا سَبَقَ تَفْسِيرُهُ.وَمَنَعَ تَعْلِيقَهُ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ.

وَقَدِ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ ثَلَاثَ صُوَرٍ يَجُوزُ فِيهَا التَّعْلِيقُ، وَهِيَ:

(1) لَوْ قَالَ: إِنْ رَدَدْتَ ضَالَّتِي فَقَدْ أَبْرَأْتُكَ عَنِ الدَّيْنِ الَّذِي لِي عَلَيْكَ صَحَّ.

(2) تَعْلِيقُ الْإِبْرَاءِ ضِمْنًا، كَمَا إِذَا عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ، ثُمَّ كَاتَبَهُ فَوُجِدَتِ الصِّفَةُ، عَتَقَ، وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ الْإِبْرَاءَ مِنَ النُّجُومِ (أَيِ الْأَقْسَاطِ).

(3) الْبَرَاءَةُ الْمُعَلَّقَةُ بِمَوْتِ الْمُبَرِّئِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ.

ثَانِيًا: تَقْيِيدُ الْإِسْقَاطِ بِالشَّرْطِ:

27- يَصِحُّ فِي الْجُمْلَةِ تَقْيِيدُ الْإِسْقَاطَاتِ بِالشُّرُوطِ، فَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ صَحِيحًا لَزِمَ، وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ فَاسِدًا فَلِكُلِّ مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ فِي الْحُكْمِ عَلَى مَا يُعْتَبَرُ فَاسِدًا مِنَ الشُّرُوطِ وَمَا لَا يُعْتَبَرُ، وَهَلْ يَبْطُلُ التَّصَرُّفُ بِفَسَادِ الشَّرْطِ، أَوْ يَبْطُلُ الشَّرْطُ وَيَصِحُّ التَّصَرُّفُ.وَنَتْرُكُ التَّفَاصِيلَ لِمَوَاضِعِهَا.

لَكِنَّ الْحُكْمَ الْغَالِبَ فِي الْإِسْقَاطَاتِ أَنَّهَا لَوْ قُيِّدَتْ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، صَحَّ وَبَطَلَ الشَّرْطُ.

وَيَتَبَيَّنُ هَذَا مِمَّا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الضَّوَابِطِ، وَمِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي أَوْرَدَهَا غَيْرُهُمْ، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ ذَلِكَ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: كُلُّ مَا جَازَ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِالشَّرْطِ، وَلَا يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ، الْفَاسِدِ.

وَقَالُوا أَيْضًا: مَا لَيْسَ مُبَادَلَةَ مَالٍ بِمَالٍ لَا يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ.وَذَكَرَ صَاحِبُ الدُّرِّ وَابْنُ عَابِدِينَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَصِحُّ وَلَا تَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَمِنْهَا: الطَّلَاقُ وَالْخُلْعُ وَالْعِتْقُ وَالْإِيصَاءُ وَالشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَالْكَفَالَةُ وَالْحَوَالَةُ وَالْوَكَالَةُ وَالْكِتَابَةُ وَالْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالْإِبْرَاءُ عَنْهُ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَلَمْ يَرْبِطُوا بَيْنَ التَّعْلِيقِ وَالتَّقْيِيدِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ أَنَّ مَا يَقْبَلُ الشَّرْطَ وَالتَّعْلِيقَ: الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ قَبُولِ التَّعْلِيقِ قَبُولُ الشَّرْطِ، وَلَا مِنْ قَبُولِ الشَّرْطِ قَبُولُ التَّعْلِيقِ، وَتُطْلَبُ الْمُنَاسَبَةُ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ.وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي وَرَدَتْ عِنْدَهُمْ: لَوْ خَالَعَتْ زَوْجَهَا وَاشْتَرَطَتِ الرَّجْعَةَ، لَزِمَ الْخُلْعُ، وَبَطَلَ الشَّرْطُ.وَلَوْ صَالَحَ الْجَانِي وَلِيَّ الدَّمِ عَلَى شَيْءٍ بِشَرْطِ أَنْ يَرْحَلَ مِنَ الْبَلَدِ، فَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: الشَّرْطُ بَاطِلٌ وَالصُّلْحُ جَائِزٌ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: الشَّرْطُ جَائِزٌ وَالصُّلْحُ لَازِمٌ، وَكَانَ سَحْنُونٌ يُعْجِبُهُ قَوْلُ الْمُغِيرَةِ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: الشَّرْطُ الْفَاسِدُ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَعْضُ أَحْكَامِ الصَّحِيحِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْإِسْقَاطَاتِ الْكِتَابَةُ وَالْخُلْعُ.

وَمِمَّا قَالَهُ الْحَنَابِلَةُ فِي ذَلِكَ: إِذَا قُيِّدَ الْخُلْعُ بِشَرْطٍ فَاسِدٍ صَحَّ الْخُلْعُ وَلَغَا الشَّرْطُ.وَفِي الْمُغْنِي: الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ لَا تُبْطِلُهُمَا الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ.

ثَالِثًا: إِضَافَةُ الْإِسْقَاطِ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ:

28- مِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا يَظْهَرُ أَثَرُهَا وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ بِمُجَرَّدِ تَمَّامِ الصِّيغَةِ، وَلَا تَقْبَلُ إِرْجَاءَ حُكْمِهَا إِلَى زَمَنٍ آخَرَ كَالزَّوَاجِ وَالْبَيْعِ.

وَمِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا تَكُونُ طَبِيعَتُهَا تَمْنَعُ ظُهُورَ أَثَرِهَا إِلاَّ فِي زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، كَالْوَصِيَّةِ.

وَمِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا يَقَعُ حُكْمُهُ مُنْجَزًا، كَالطَّلَاقِ تَنْتَهِي بِهِ الزَّوْجِيَّةُ فِي الْحَالِ، وَيَصِحُّ أَنْ يُضَافَ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ لَا تَنْتَهِي الزَّوْجِيَّةُ إِلاَّ عِنْدَ حُصُولِهِ.

وَإِضَافَةُ الطَّلَاقِ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَهُوَ مُنْجَزٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَلَوْ أَضَافَهُ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّهُ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ أَشْبَهُ بِنِكَاحِ الْمُتْعَةِ.وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ فَإِنَّهُ إِسْقَاطٌ يَقْبَلُ الْإِضَافَةَ.

وَمِمَّا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْإِسْقَاطَاتِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْإِضَافَةَ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ: الْإِبْرَاءُ مِنَ الدَّيْنِ وَإِسْقَاطُ الْقِصَاصِ.وَالْحُكْمُ الْغَالِبُ أَنَّ الْإِسْقَاطَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ تَقْبَلُ الْإِضَافَةَ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ.هَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلِكُلِّ مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ، وَيُنْظَرُ فِي مَوْضِعِهِ.

مَنْ يَمْلِكُ الْإِسْقَاطَ (الْمُسْقِطُ):

29- الْإِسْقَاطُ قَدْ يَكُونُ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ أَسَاسًا، كَإِسْقَاطِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَكُونُ فِي مُبَاشَرَتِهَا مَشَقَّةٌ وَحَرَجٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَكَإِسْقَاطِ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي تَرِدُ عَلَيْهَا شُبْهَةٌ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ.

وَقَدْ يَكُونُ الْإِسْقَاطُ مِنْ قِبَلِ الْعِبَادِ نَتِيجَةً لِأَمْرِ الشَّارِعِ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ كَإِبْرَاءِ الْمُعْسِرِ مِنَ الدَّيْنِ، وَكَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ.

وَقَدْ يَكُونُ الْإِسْقَاطُ مِنَ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ لِأَسْبَابٍ خَاصَّةٍ، كَإِسْقَاطِ حَقِّ الشُّفْعَةِ لِعَدَمِ الرَّغْبَةِ فِي الشِّرَاءِ.عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ.

مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُسْقِطِ:

30- الْإِسْقَاطُ مِنَ الْعِبَادِ يُعْتَبَرُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَتَنَازَلُ فِيهَا الْإِنْسَانُ عَنْ حَقِّهِ، فَهُوَ فِي حَقِيقَتِهِ تَبَرُّعٌ.وَلَمَّا كَانَ هَذَا التَّصَرُّفُ قَدْ يَعُودُ عَلَى الْمُسْقِطِ بِالضَّرَرِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ أَهْلِيَّتُهُ لِلتَّبَرُّعِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا.فَلَا يَصِحُّ الْإِسْقَاطُ مِنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ الْحَنَابِلَةَ يَقُولُونَ بِصِحَّةِ الْخُلْعِ مِنَ الصَّغِيرِ الَّذِي يَعْقِلُهُ، لِأَنَّ فِيهِ تَحْصِيلَ عِوَضٍ لَهُ.

وَيُشْتَرَطُ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ دَيْنٍ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلتَّبَرُّعَاتِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَ وَأَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ وَأَنْ يُخَالِعَ، لَكِنْ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ الْمَالُ، وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ الْخُلْعُ مِنَ الزَّوْجَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا لِسَفَهٍ أَوْ صِغَرٍ، مَعَ مُلَاحَظَةِ أَنَّهُ لَا يُحْجَرُ عَلَى السَّفِيهِ، وَلَا عَلَى الْمَدِينِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.ر: (حَجْر، وَسَفَه، وَأَهْلِيَّة).

وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ ذَا إِرَادَةٍ، فَلَا يَصِحُّ إِسْقَاطُ الْمُكْرَهِ، إِلاَّ مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ صِحَّةِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ مِنَ الْمُكْرَهِ.وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ وَغَيْرِ الْمُلْجِئِ.وَيُنْظَرُ فِي (إِكْرَاهٌ).

وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ، إِذَا كَانَ إِسْقَاطُهُ لِكُلِّ مَالِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا مَرَضَ الْمَوْتِ وَقْتَ الْإِسْقَاطِ فَتَصَرُّفُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِلْأَجْنَبِيِّ، أَوْ بِأَقَلَّ لِلْوَارِثِ، يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ.ر: (وَصِيَّة).

وَإِذَا كَانَ الْمَرِيضُ مَدِينًا وَالتَّرِكَةُ مُسْتَغْرَقَةٌ بِالدُّيُونِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِبْرَاءُ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ.

وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ.وَفِي تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ خِلَافٌ بَيْنَ مَنْ يُجِيزُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَبَيْنَ مَنْ لَا يُجِيزُهُ وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مَوْضِعُهُ مُصْطَلَحُ (فُضُولِيّ).

وَقَدْ يَكُونُ مَلَكَ التَّصَرُّفَ بِالْوَكَالَةِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَقْتَصِرَ التَّصَرُّفُ عَلَى الْمَأْذُونِ بِهِ لِلْوَكِيلِ.وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِالْخُلْعِ، وَبِالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ، وَبِالصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَفِي إِبْرَاءٍ مِنَ الدَّيْنِ وَلَوْ لِلْوَكِيلِ، إِذَا عَيَّنَهُ الْمُوَكِّلُ وَقَالَ لَهُ: أَبْرِئْ نَفْسَكَ.وَيُرَاعَى فِي كُلِّ ذَلِكَ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ وَمَا أُذِنَ فِيهِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (وَكَالَة).

وَقَدْ يَكُونُ مَلَكَ التَّصَرُّفَ بِالْوِلَايَةِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَقْتَصِرَ تَصَرُّفُهُمَا عَلَى مَا فِيهِ الْحَظُّ لِلصَّغِيرِ وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّبَرُّعُ وَلَا إِسْقَاطُ الْمَهْرِ وَلَا الْعَفْوُ عَلَى غَيْرِ مَالٍ وَلَا تَرْكُ الشُّفْعَةِ إِذَا كَانَ فِي التَّرْكِ ضَرَرٌ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ (ر: وِصَايَة وِلَايَة).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


114-موسوعة الفقه الكويتية (أضحية 1)

أُضْحِيَّةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْأُضْحِيَّةُ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَبِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَوْ كَسْرِهَا، وَجَمْعُهَا الْأَضَاحِيُّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْضًا، وَيُقَالُ لَهَا: الضَّحِيَّةُ بِفَتْحِ الضَّادِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَجَمْعُهَا الضَّحَايَا، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا: الْأَضْحَاةُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَجَمْعُهَا الْأَضْحَى، وَهُوَ عَلَى التَّحْقِيقِ اسْمُ جِنْسٍ جَمْعِيٍّ، وَبِهَا سُمِّيَ يَوْمُ الْأَضْحَى، أَيِ الْيَوْمُ الَّذِي يُضَحِّي فِيهِ النَّاسُ.وَقَدْ عَرَّفَهَا اللُّغَوِيُّونَ بِتَعْرِيفَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) الشَّاةُ الَّتِي تُذْبَحُ ضَحْوَةً، أَيْ وَقْتَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ وَالْوَقْتَ الَّذِي يَلِيهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى نَقَلَهُ صَاحِبُ اللِّسَانِ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ. (وَثَانِيهُمَا) الشَّاةُ الَّتِي تُذْبَحُ يَوْمَ الْأَضْحَى، وَهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَهُ صَاحِبُ اللِّسَانِ أَيْضًا.أَمَّا مَعْنَاهَا فِي الشَّرْعِ: فَهُوَ مَا يُذَكَّى تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَيَّامِ النَّحْرِ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ.فَلَيْسَ، مِنَ الْأُضْحِيَّةِ مَا يُذَكَّى لِغَيْرِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَالذَّبَائِحِ الَّتِي تُذْبَحُ لِلْبَيْعِ أَوِ الْأَكْلِ أَوْ إِكْرَامِ الضَّيْفِ، وَلَيْسَ مِنْهَا مَا يُذَكَّى فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَلَوْ لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ مَا يُذَكَّى بِنِيَّةِ الْعَقِيقَةِ عَنِ الْمَوْلُودِ، أَوْ جَزَاءِ التَّمَتُّعِ أَوِ الْقِرَانِ فِي النُّسُكِ، أَوْ جَزَاءِ تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ فِي النُّسُكِ، أَوْ يُذَكَّى بِنِيَّةِ الْهَدْيِ كَمَا سَيَأْتِي.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْقُرْبَانُ:

2- الْقُرْبَانُ: مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى رَبِّهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الذَّبَائِحِ أَمْ مِنْ غَيْرِهَا.وَالْعَلَاقَةُ الْعَامَّةُ بَيْنَ الْأُضْحِيَّةِ وَسَائِرِ الْقَرَابِينِ أَنَّهَا كُلُّهَا يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَتِ الْقَرَابِينُ مِنَ الذَّبَائِحِ كَانَتْ عَلَاقَةُ الْأُضْحِيَّةِ بِهَا أَشَدَّ، لِأَنَّهَا يَجْمَعُهَا كَوْنُهَا ذَبَائِحَ يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، فَالْقُرْبَانُ أَعَمُّ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ.

ب- الْهَدْيُ:

3- الْهَدْيُ: مَا يُذَكَّى مِنَ الْأَنْعَامِ فِي الْحَرَمِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ لِتَمَتُّعٍ أَوْ قِرَانٍ، أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ مِنْ وَاجِبَاتِ النُّسُكِ، أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ النُّسُكِ، حَجًّا كَانَ أَوْ عُمْرَةً، أَوْ لِمَحْضِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَطَوُّعًا.وَيَشْتَرِكُ الْهَدْيُ مَعَ الْأُضْحِيَّةِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ذَبِيحَةٌ، وَمِنَ الْأَنْعَامِ، وَتُذْبَحُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، وَيُقْصَدُ بِهَا التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.وَيَفْتَرِقُ الْهَدْيُ ذُو السَّبَبِ عَنِ الْأُضْحِيَّةِ افْتِرَاقًا ظَاهِرًا، فَإِنَّ الْأُضْحِيَّةَ لَا تَقَعُ عَنْ تَمَتُّعٍ وَلَا قِرَانٍ، وَلَا تَكُونُ كَفَّارَةً لِفِعْلٍ مَحْظُورٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ.وَأَمَّا الْهَدْيُ الَّذِي قُصِدَ بِهِ التَّقَرُّبُ الْمَحْضُ فَإِنَّهُ يَشْتَبِهُ بِالْأُضْحِيَّةِ اشْتِبَاهًا عَظِيمًا، لَا سِيَّمَا أُضْحِيَّةُ الْمُقِيمِينَ بِمِنًى مِنْ أَهْلِهَا وَمِنَ الْحُجَّاجِ، فَإِنَّهَا ذَبِيحَةٌ مِنَ الْأَنْعَامِ ذُبِحَتْ فِي الْحَرَمِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّ هَذِهِ الصِّفَاتِ صِفَاتٌ لِلْهَدْيِ فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، فَمَا نُوِيَ بِهِ الْهَدْيُ كَانَ هَدْيًا، وَمَا نُوِيَ بِهِ التَّضْحِيَةُ كَانَ أُضْحِيَّةً.فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ النِّيَّةَ لَيْسَتْ نِيَّةَ أَلْفَاظٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مَعَانٍ، فَمَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يَخْطِرُ بِبَالِ النَّاوِي، حِينَ يَنْوِي الْهَدْيَ، وَحِينَ يَنْوِي الْأُضْحِيَّةَ حَتَّى تَكُونَ النِّيَّةُ فَارِقَةً بَيْنَهُمَا؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ نَاوِيَ الْهَدْيِ يَخْطِرُ بِبَالِهِ الْإِهْدَاءُ إِلَى الْحَرَمِ وَتَكْرِيمُهُ، وَنَاوِيَ الْأُضْحِيَّةِ يَخْطِرُ بِبَالِهِ الذَّبْحُ الْمُخْتَصُّ بِالْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ الْإِهْدَاءِ إِلَى الْحَرَمِ.هَذَا، وَالْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ الْحَاجَّ لَا يُضَحِّي كَمَا سَيَأْتِي، فَيَكُونُ الْفَرْقُ عِنْدَهُمْ بَيْنَ هَدْيِ التَّطَوُّعِ وَالْأُضْحِيَّةِ ظَاهِرًا، فَإِنَّ مَا يَقُومُ بِهِ الْحَاجُّ يَكُونُ هَدْيًا، وَمَا يَقُومُ بِهِ غَيْرُ الْحَاجِّ يَكُونُ أُضْحِيَّةً.

ج- الْعَقِيقَةُ:

4- الْعَقِيقَةُ مَا يُذَكَّى مِنَ النَّعَمِ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ، مِنْ وِلَادَةِ مَوْلُودٍ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا تُخَالِفُ الْأُضْحِيَّةَ الَّتِي هِيَ شُكْرٌ عَلَى نِعْمَةِ الْحَيَاةِ، لَا عَلَى الْإِنْعَامِ بِالْمَوْلُودِ، فَلَوْ وُلِدَ لِإِنْسَانٍ مَوْلُودٌ فِي عِيدِ الْأَضْحَى فَذَبَحَ عَنْهُ شُكْرًا عَلَى إِنْعَامِ اللَّهِ بِوِلَادَتِهِ كَانَتِ الذَّبِيحَةُ عَقِيقَةً.وَإِنْ ذَبَحَ عَنْهُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى إِنْعَامِهِ عَلَى الْمَوْلُودِ نَفْسِهِ بِالْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْخَاصِّ، كَانَتِ الذَّبِيحَةُ أُضْحِيَّةً.

د- الْفَرَعُ وَالْعَتِيرَةُ:

5- الْفَرْعُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ، وَيُقَالُ لَهُ الْفَرَعَةُ: أَوَّلُ نِتَاجِ الْبَهِيمَةِ، كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَذْبَحُونَهُ لِطَوَاغِيتِهِمْ، رَجَاءَ الْبَرَكَةِ فِي الْأُمِّ وَكَثْرَةِ نَسْلِهَا، ثُمَّ صَارَ الْمُسْلِمُونَ يَذْبَحُونَهُ لِلَّهِ تَعَالَى.وَالْعَتِيرَةُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ: ذَبِيحَةٌ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَذْبَحُونَهَا فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ رَجَبٍ لآِلِهَتِهِمْ وَيُسَمُّونَهَا الْعِتْرَ (بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ) وَالرَّجِيبَةُ أَيْضًا، ثُمَّ صَارَ الْمُسْلِمُونَ يَذْبَحُونَهَا لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ وَلَا تَقَيُّدٍ بِزَمَنٍ.وَعَلَاقَةُ الْأُضْحِيَّةِ بِهِمَا أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ مَعَهَا فِي أَنَّ الْجَمِيعَ ذَبَائِحُ يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ.فَإِنَّ الْفَرَعَ يَقْصِدُ بِهِ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى أَوَّلِ نِتَاجٍ تُنْتِجُهُ النَّاقَةُ وَغَيْرُهَا وَرَجَاءَ الْبَرَكَةِ فِيهَا، وَالْعَتِيرَةُ يَقْصِدُ بِهَا شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعْمَةِ الْحَيَاةِ إِلَى وَقْتِ ذَبْحِهَا.وَالْأُضْحِيَّةُ يَقْصِدُ بِهَا شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعْمَةِ الْحَيَاةِ إِلَى حُلُولِ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ الْحَرَامِ.

مَشْرُوعِيَّةُ الْأُضْحِيَّةِ وَدَلِيلُهَا:

6- الْأُضْحِيَّةُ مَشْرُوعَةٌ إِجْمَاعًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ: صَلِّ صَلَاةَ الْعِيدِ وَانْحَرِ الْبُدْنَ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَحَادِيثُ تَحْكِي فِعْلَهُ- صلى الله عليه وسلم- لَهَا، وَأُخْرَى تَحْكِي قَوْلَهُ فِي بَيَانِ فَضْلِهَا وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا وَالتَّنْفِيرِ مِنْ تَرْكِهَا.فَمِنْ ذَلِكَ مَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: «ضَحَّى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا».وَأَحَادِيثُ أُخْرَى سَيَأْتِي بَعْضُهَا مِنْهَا قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلاَّنَا».وَقَدْ شُرِعَتِ التَّضْحِيَةُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي شُرِعَتْ فِيهَا صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ وَزَكَاةُ الْمَالِ.

أَمَّا حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا، فَهِيَ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعْمَةِ الْحَيَاةِ، وَإِحْيَاءُ سُنَّةِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ اسْمُهُ بِذَبْحِ الْفِدَاءِ عَنْ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَنْ يَتَذَكَّرَ الْمُؤْمِنُ أَنَّ صَبْرَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَإِيثَارَهُمَا طَاعَةَ اللَّهِ وَمَحَبَّتَهُ عَلَى مَحَبَّةِ النَّفْسِ وَالْوَلَدِ كَانَا سَبَبَ الْفِدَاءِ وَرَفْعَ الْبَلَاءِ، فَإِذَا تَذَكَّرَ الْمُؤْمِنُ ذَلِكَ اقْتَدَى بِهِمَا فِي الصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَتَقْدِيمِ مَحَبَّتِهِ عَلَى هَوَى النَّفْسِ وَشَهْوَتِهَا.

وَقَدْ يُقَالُ: أَيُّ عَلَاقَةٍ بَيْنَ إِرَاقَةِ الدَّمِ وَبَيْنَ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ هَذِهِ الْإِرَاقَةَ وَسِيلَةٌ لِلتَّوْسِعَةِ عَلَى النَّفْسِ وَأَهْلِ الْبَيْتِ، وَإِكْرَامِ الْجَارِ وَالضَّيْفِ، وَالتَّصَدُّقِ عَلَى الْفَقِيرِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مَظَاهِرُ لِلْفَرَحِ وَالسُّرُورِ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَهَذَا تَحَدُّثٌ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ عَزَّ اسْمُهُ: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}. (ثَانِيهِمَا) الْمُبَالَغَةُ فِي تَصْدِيقِ مَا أَخْبَرَ بِهِ اللَّهُ مِنْ أَنَّهُ خَلَقَ الْأَنْعَامَ لِنَفْعِ الْإِنْسَانِ، وَأَذِنَ فِي ذَبْحِهَا وَنَحْرِهَا لِتَكُونَ طَعَامًا لَهُ.فَإِذَا نَازَعَهُ فِي حِلِّ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ مُنَازِعٌ تَمْوِيهًا بِأَنَّهُمَا مِنَ الْقَسْوَةِ وَالتَّعْذِيبِ لِذِي رُوحٍ تَسْتَحِقُّ الرَّحْمَةَ وَالْإِنْصَافَ، كَانَ رَدُّهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَنَا وَخَلَقَ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ، وَأَمَرَنَا بِرَحْمَتِهَا وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا، أَخْبَرَنَا وَهُوَ الْعَلِيمُ بِالْغَيْبِ أَنَّهُ خَلَقَهَا لَنَا وَأَبَاحَ تَذْكِيَتَهَا، وَأَكَّدَ هَذِهِ الْإِبَاحَةَ بِأَنْ جَعَلَ هَذِهِ التَّذْكِيَةَ قُرْبَةً فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ.

حُكْمُ الْأُضْحِيَّةِ:

7- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ أَرْجَحُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَإِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إِلَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ.وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَبِلَالٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ وَسُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءٍ وَعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ عَلَى السُّنِّيَّةِ بِأَدِلَّةٍ: مِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ بَشَرِهِ شَيْئًا».وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ» فَجَعَلَهُ مُفَوَّضًا إِلَى إِرَادَتِهِ، وَلَوْ كَانَتِ التَّضْحِيَةُ وَاجِبَةً لَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: «فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّيَ».وَمِنْهَا أَيْضًا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ- رضي الله عنهما- كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، مَخَافَةَ أَنْ يُرَى ذَلِكَ وَاجِبًا.وَهَذَا الصَّنِيعُ مِنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا عَلِمَا مِنَ الرَّسُول- صلى الله عليه وسلم- عَدَمَ الْوُجُوبِ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ خِلَافُ ذَلِكَ.

8- وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ.وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} فَقَدْ قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ صَلِّ صَلَاةَ الْعِيدِ وَانْحَرِ الْبُدْنَ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَمَتَى وَجَبَ عَلَى النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- وَجَبَ عَلَى الْأُمَّةِ لِأَنَّهُ قُدْوَتُهَا.وَبِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلاَّنَا»، وَهَذَا كَالْوَعِيدِ عَلَى تَرْكِ التَّضْحِيَةِ، وَالْوَعِيدُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ.وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيَذْبَحْ شَاةً مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ»، فَإِنَّهُ أَمَرَ بِذَبْحِ الْأُضْحِيَّةِ وَبِإِعَادَتِهَا إِذَا ذُكِّيَتْ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ.ثُمَّ إِنَّ الْحَنَفِيَّةَ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ يَقُولُونَ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ عَيْنًا عَلَى كُلِّ مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ شَرَائِطُ الْوُجُوبِ.فَالْأُضْحِيَّةُ الْوَاحِدَةُ كَالشَّاةِ وَسُبْعِ الْبَقَرَةِ وَسُبْعِ الْبَدَنَةِ إِنَّمَا تُجْزِئُ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ.

9- وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالسُّنِّيَّةِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا سُنَّةُ عَيْنٍ أَيْضًا، كَالْقَوْلِ الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَعِنْدَهُ لَا يُجْزِئُ الْأُضْحِيَّةُ الْوَاحِدَةُ عَنِ الشَّخْصِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ.وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا سُنَّةُ عَيْنٍ وَلَوْ حُكْمًا، بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُطَالَبٌ بِهَا، وَإِذَا فَعَلَهَا وَاحِدٌ بِنِيَّةِ نَفْسِهِ وَحْدَهُ لَمْ تَقَعْ إِلاَّ عَنْهُ، وَإِذَا فَعَلَهَا بِنِيَّةِ إِشْرَاكِ غَيْرِهِ فِي الثَّوَابِ، أَوْ بِنِيَّةِ كَوْنِهَا لِغَيْرِهِ أَسْقَطَتِ الطَّلَبَ عَمَّنْ أَشْرَكَهُمْ أَوْ أَوْقَعَهَا عَنْهُمْ.وَهَذَا رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِيضَاحُهُ أَنَّ الشَّخْصَ إِذَا ضَحَّى نَاوِيًا نَفْسَهُ فَقَطْ سَقَطَ الطَّلَبُ عَنْهُ، وَإِذَا ضَحَّى نَاوِيًا نَفْسَهُ وَأَبَوَيْهِ الْفَقِيرَيْنِ وَأَوْلَادَهُ الصِّغَارَ، وَقَعَتِ التَّضْحِيَةُ عَنْهُمْ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُشْرِكَ غَيْرَهُ فِي الثَّوَابِ- قَبْلَ الذَّبْحِ- وَلَوْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ بِثَلَاثِ شَرَائِطَ: (الْأُولَى): أَنْ يَسْكُنَ مَعَهُ.

(الثَّانِيَةُ): أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا لَهُ وَإِنْ بَعُدَتِ الْقَرَابَةُ، أَوْ زَوْجَةً. (الثَّالِثَةُ): أَنْ يُنْفِقَ عَلَى مَنْ يُشْرِكُهُ وُجُوبًا كَأَبَوَيْهِ وَصِغَارِ وَلَدِهِ الْفُقَرَاءِ، أَوْ تَبَرُّعًا كَالْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ وَكَعَمٍّ وَأَخٍ وَخَالٍ.فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ سَقَطَ الطَّلَبُ عَمَّنْ أَشْرَكَهُمْ.وَإِذَا ضَحَّى بِشَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا نَاوِيًا غَيْرَهُ فَقَطْ، وَلَوْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ، مِنْ غَيْرِ إِشْرَاكِ نَفْسِهِ مَعَهُمْ سَقَطَ الطَّلَبُ عَنْهُمْ بِهَذِهِ التَّضْحِيَةِ، وَإِنْ لَمْ تَتَحَقَّقْ فِيهِمُ الشَّرَائِطُ الثَّلَاثُ السَّابِقَةُ.وَلَا بُدَّ فِي كُلِّ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْأُضْحِيَّةُ مِلْكًا خَاصًّا لِلْمُضَحِّي، فَلَا يُشَارِكُوهُ فِيهَا وَلَا فِي ثَمَنِهَا، وَإِلاَّ لَمْ تُجْزِئْ، كَمَا سَيَأْتِي فِي شَرَائِطِ الصِّحَّةِ.

10- وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِالسُّنِّيَّةِ مَنْ يَجْعَلُهَا سُنَّةَ عَيْنٍ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ، وَسُنَّةَ كِفَايَةٍ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَيْتِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الشَّخْصَ يُضَحِّي بِالْأُضْحِيَّةِ الْوَاحِدَةِ- وَلَوْ كَانَتْ شَاةً- عَنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ.وَلِلشَّافِعِيَّةِ تَفْسِيرَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ لِأَهْلِ الْبَيْتِ الْوَاحِدِ (وَالرَّاجِحُ) تَفْسِيرَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِمْ مَنْ تَلْزَمُ الشَّخْصَ نَفَقَتُهُمْ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ الشَّمْسُ الرَّمْلِيُّ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ. (ثَانِيهِمَا) مَنْ تَجْمَعُهُمْ نَفَقَةُ مُنْفِقٍ وَاحِدٍ وَلَوْ تَبَرُّعًا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ الشِّهَابُ الرَّمْلِيُّ بِهَامِشِ شَرْحِ الرَّوْضِ.

قَالُوا: وَمَعْنَى كَوْنِهَا سُنَّةَ كِفَايَةٍ- مَعَ كَوْنِهَا تُسَنُّ لِكُلِّ قَادِرٍ مِنْهُمْ عَلَيْهَا- سُقُوطُ الطَّلَبِ عَنْهُمْ بِفِعْلِ وَاحِدٍ رَشِيدٍ مِنْهُمْ، لَا حُصُولُ الثَّوَابِ لِكُلٍّ مِنْهُمْ، إِلاَّ إِذَا قَصَدَ الْمُضَحِّي تَشْرِيكَهُمْ فِي الثَّوَابِ.وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى كَوْنِ التَّضْحِيَةِ سُنَّةَ كِفَايَةٍ عَنِ الرَّجُلِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «كُنَّا نُضَحِّي بِالشَّاةِ الْوَاحِدَةِ يَذْبَحُهَا الرَّجُلُ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، ثُمَّ تَبَاهَى النَّاسُ بَعْدُ فَصَارَتْ مُبَاهَاةً».وَهَذِهِ الصِّيغَةُ الَّتِي قَالَهَا أَبُو أَيُّوبَ- رضي الله عنه- تَقْتَضِي أَنَّهُ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ.الْأُضْحِيَّةُ الْمَنْذُورَةُ:

11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَذْرَ التَّضْحِيَةِ يُوجِبُهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ النَّاذِرُ غَنِيًّا أَمْ فَقِيرًا، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَذْرًا لِمُعَيَّنَةٍ نَحْوُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَذِهِ الشَّاةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَذْرًا فِي الذِّمَّةِ لِغَيْرِ مُعَيَّنَةٍ لِمَضْمُونَةٍ، كَأَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ، أَوْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِشَاةٍ.فَمَنْ نَذَرَ التَّضْحِيَةَ بِمُعَيَّنَةٍ لَزِمَهُ التَّضْحِيَةُ بِهَا فِي الْوَقْتِ، وَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ التَّضْحِيَةَ فِي الذِّمَّةِ بِغَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، ثُمَّ عَيَّنَ شَاةً مَثَلًا عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّضْحِيَةُ بِهَا فِي الْوَقْتِ.وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ مَنْ نَذَرَ مُعَيَّنَةً، وَبِهَا عَيْبٌ مُخِلٌّ بِالْإِجْزَاءِ صَحَّ نَذْرُهُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ ذَبْحُهَا فِي الْوَقْتِ، وَفَاءً بِمَا الْتَزَمَهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَدَلُهَا.وَمَنْ نَذَرَ أُضْحِيَّةً فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ عَيَّنَ شَاةً بِهَا عَيْبٌ مُخِلٌّ بِالْإِجْزَاءِ لَمْ يَصِحَّ تَعْيِينُهُ إِلاَّ إِذَا كَانَ قَدْ نَذَرَهَا مَعِيبَةً، كَأَنْ قَالَ: عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِشَاةٍ عَرْجَاءَ بَيِّنَةِ الْعَرَجِ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ مِثْلَ مَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ أَجَازُوا إِبْدَالَ الْمُعَيَّنَةِ بِخَيْرٍ مِنْهَا، لِأَنَّ هَذَا أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ.وَدَلِيلُ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ بِالنَّذْرِ: أَنَّ التَّضْحِيَةَ قُرْبَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ جِنْسِهَا وَاجِبٌ كَهَدْيِ التَّمَتُّعِ، فَتَلْزَمُ بِالنَّذْرِ كَسَائِرِ الْقُرَبِ، وَالْوُجُوبُ بِسَبَبِ النَّذْرِ يَسْتَوِي فِيهِ الْفَقِيرُ وَالْغَنِيُّ.

أُضْحِيَّةُ التَّطَوُّعِ:

12- مَنْ لَمْ تَجِبِ التَّضْحِيَةُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ تَوَفُّرِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِهَا عِنْدَ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ، وَلِعَدَمِ تَوَفُّرِ شُرُوطِ السُّنِّيَّةِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِأَنَّهَا سُنَّةٌ، فَالْأُضْحِيَّةُ تُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ تَطَوُّعًا.

شُرُوطُ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ أَوْ سُنِّيَّتُهَا:

13- الْأُضْحِيَّةُ إِذَا كَانَتْ وَاجِبَةً بِالنَّذْرِ فَشَرَائِطُ وُجُوبِهَا هِيَ شَرَائِطُ النَّذْرِ، وَهِيَ: الْإِسْلَامُ وَالْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالِاخْتِيَارُ، وَلِتَفْصِيلِهَا يُرَاجَعُ بَابُ النَّذْرِ.

وَإِذَا كَانَتْ وَاجِبَةً بِالشَّرْعِ (عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ) فَشُرُوطُ وُجُوبِهَا أَرْبَعَةٌ، وَزَادَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ شَرْطَيْنِ، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ أَوْ بَعْضُهَا مُشْتَرَطَةٌ فِي سُنِّيَّتِهَا أَيْضًا عِنْدَ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ شَرْطًا فِي سُنِّيَّتِهَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ كَمَا يَلِي:

14- (الشَّرْطُ الْأَوَّلُ): الْإِسْلَامُ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ، وَلَا تُسَنُّ لَهُ، لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَبِ، وَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وُجُودُ الْإِسْلَامِ فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ الَّذِي تُجْزِئُ فِيهِ التَّضْحِيَةُ، بَلْ يَكْفِي وُجُودُهُ آخِرَ الْوَقْتِ، لِأَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ يَفْضُلُ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ، فَيَكْفِي فِي وُجُوبِهَا بَقَاءُ جُزْءٍ مِنَ الْوَقْتِ كَالصَّلَاةِ، وَكَذَا يُقَالُ فِي جَمِيعِ الشُّرُوطِ الْآتِيَةِ، وَهَذَا الشَّرْطُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ وَالْقَائِلِينَ بِالسُّنِّيَّةِ، بَلْ إِنَّهُ أَيْضًا شَرْطٌ لِلتَّطَوُّعِ.

15- (الشَّرْطُ الثَّانِي): الْإِقَامَةُ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ، لِأَنَّهَا لَا تَتَأَدَّى بِكُلِّ مَالٍ وَلَا فِي كُلِّ زَمَانٍ، بَلْ بِحَيَوَانٍ مَخْصُوصٍ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، وَالْمُسَافِرُ لَا يَظْفَرُ بِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ فِي وَقْتِ التَّضْحِيَةِ، فَلَوْ أَوْجَبْنَاهَا عَلَيْهِ لَاحْتَاجَ لِحَمْلِ الْأُضْحِيَّةِ مَعَ نَفْسِهِ، وَفِيهِ مِنَ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى، أَوِ احْتَاجَ إِلَى تَرْكِ السَّفَرِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ، فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى امْتِنَاعِ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمُقِيمِ وَلَوْ كَانَ حَاجًّا، لِمَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ كَانَ يُخَلِّفُ لِمَنْ لَمْ يَحُجَّ مِنْ أَهْلِهِ أَثْمَانَ الضَّحَايَا، وَذَلِكَ لِيُضَحُّوا عَنْهُ تَطَوُّعًا.وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لِيُضَحُّوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ لَا عَنْهُ، فَلَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ مَعَ الِاحْتِمَالِ.

هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالسُّنِّيَّةِ فَلَا يُشْتَرَطُ هَذَا الشَّرْطُ، وَكَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ فِي التَّطَوُّعِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى سُنِّيَّتِهَا وَلَا التَّطَوُّعِ بِهَا حَرَجٌ.

16- (الشَّرْطُ الثَّالِثُ): الْغِنَى- وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْيَسَارِ- لِحَدِيثِ «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلاَّنَا» وَالسَّعَةُ هِيَ الْغِنَى، وَيَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِ الْإِنْسَانِ مِائَتَا دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرُونَ دِينَارًا، أَوْ شَيْءٌ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ ذَلِكَ، سِوَى مَسْكَنِهِ وَحَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ وَدُيُونِهِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَتَحَقَّقُ الْغِنَى بِأَلاَّ تُجْحِفَ الْأُضْحِيَّةُ بِالْمُضَحِّي، بِأَلاَّ يَحْتَاجَ لِثَمَنِهَا فِي ضَرُورِيَّاتِهِ فِي عَامِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّمَا تُسَنُّ لِلْقَادِرِ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَنْ مَلَكَ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْأُضْحِيَّةُ، فَاضِلًا عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ وَلَيْلَتِهِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةِ وَلَيَالِيِهَا.

17- (الشَّرْطَانِ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ): الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ، وَهَذَانِ الشَّرْطَانِ اشْتَرَطَهُمَا مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ، وَلَمْ يَشْتَرِطْهُمَا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، فَعِنْدَهُمَا تَجِبُ التَّضْحِيَةُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إِذَا كَانَا مُوسِرَيْنِ، فَلَوْ ضَحَّى الْأَبُ أَوِ الْوَصِيُّ عَنْهَا مِنْ مَالِهِمَا لَمْ يَضْمَنْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَيَضْمَنُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ، وَهَذَا الْخِلَافُ كَالْخِلَافِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ.وَلِتَفْصِيلِ حُجَجِ الْفَرِيقَيْنِ يُرْجَعُ لِمُصْطَلَحِ (صَدَقَةُ الْفِطْرِ).

18- وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ يُعْتَبَرُ حَالُهُ فِي الْجُنُونِ وَالْإِفَاقَةِ، فَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَإِنْ كَانَ مُفِيقًا وَجَبَتْ مِنْ مَالِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَقِيلَ: إِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ كَيْفَمَا كَانَ.

وَهَذَا الَّذِي قَرَّرَهُ صَاحِبُ «الْبَدَائِعِ» يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ، لَكِنْ صَحَّحَ صَاحِبُ الْكَافِي الْقَوْلَ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ وَرَجَّحَهُ ابْنُ الشِّحْنَةِ وَاعْتَمَدَهُ صَاحِبُ «الدُّرِّ الْمُخْتَارِ» نَاقِلًا عَنْ مَتْنِ «مَوَاهِبِ الرَّحْمَنِ» أَنَّهُ أَصَحُّ مَا يُفْتَى بِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ اخْتَارَهُ صَاحِبُ الْمُلْتَقَى حَيْثُ قَدَّمَهُ، وَعَبَّرَ عَنْ مُقَابِلِهِ بِصِيغَةِ التَّضْعِيفِ، وَهِيَ «قِيلَ».هَذَا كُلُّهُ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُشْتَرَطُ فِي سُنِّيَّةِ التَّضْحِيَةِ الْبُلُوغُ وَلَا الْعَقْلُ، فَيُسَنُّ لِلْوَلِيِّ التَّضْحِيَةُ عَنِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ مِنْ مَالِهِمَا، وَلَوْ كَانَا يَتِيمَيْنِ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ مَحْجُورِيهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْهُمْ مِنْ مَالِهِ إِنْ كَانَ أَبًا أَوْ جَدًّا، وَكَأَنَّهُ مَلَكَهَا لَهُمْ وَذَبَحَهَا عَنْهُمْ، فَيَقَعُ لَهُ ثَوَابُ التَّبَرُّعِ لَهُمْ، وَيَقَعُ لَهُمْ ثَوَابُ التَّضْحِيَةِ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْيَتِيمِ الْمُوسِرِ: يُضَحِّي عَنْهُ وَلِيُّهُ مِنْ مَالِهِ، أَيْ مَالِ الْمَحْجُورِ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّوْسِعَةِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ.

19- هَذَا وَقَدِ انْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ بِذِكْرِ شَرْطٍ لِسُنِّيَّةِ التَّضْحِيَةِ، وَهُوَ أَلاَّ يَكُونَ الشَّخْصُ حَاجًّا، فَالْحَاجُّ لَا يُطَالَبُ بِالتَّضْحِيَةِ شَرْعًا، سَوَاءٌ، أَكَانَ بِمِنًى أَمْ بِغَيْرِهَا، وَغَيْرُ الْحَاجِّ هُوَ الْمُطَالَبُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا أَوْ كَانَ بِمِنًى.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا تَجِبُ عَلَى حَاجٍّ مُسَافِرٍ.

20- هَذَا وَلَيْسَتِ الذُّكُورَةُ وَلَا الْمِصْرُ مِنْ شُرُوطِ الْوُجُوبِ وَلَا السُّنِّيَّةِ، فَكَمَا تَجِبُ عَلَى الذُّكُورِ تَجِبُ عَلَى الْإِنَاثِ، وَكَمَا تَجِبُ عَلَى الْمُقِيمِينَ فِي الْأَمْصَارِ تَجِبُ عَلَى الْمُقِيمِينَ فِي الْقُرَى وَالْبَوَادِي، لِأَنَّ أَدِلَّةَ الْوُجُوبِ أَوِ السُّنِّيَّةِ شَامِلَةٌ لِلْجَمِيعِ.

تَضْحِيَةُ الْإِنْسَانِ مِنْ مَالِهِ عَنْ وَلَدِهِ:

21- إِذَا كَانَ الْوَلَدُ كَبِيرًا فَلَا يَجِبُ عَلَى أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ التَّضْحِيَةُ عَنْهُ، أَمَّا الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ الصَّغِيرَانِ فَإِنْ كَانَ لَهُمَا مَالٌ فَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَالٌ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ:

(أُولَاهُمَا): أَنَّهَا لَا تَجِبُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ شَيْءٌ عَنْ غَيْرِهِ، وَخُصُوصًا الْقُرُبَاتُ، لقوله تعالى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}.وَقَوْلُهُ جَلَّ شَأْنُهُ {لَهَا مَا كَسَبَتْ}.

وَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ عَنْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ الْكَبِيرَيْنِ.

(ثَانِيَتُهُمَا): أَنَّهَا تَجِبُ، لِأَنَّ وَلَدَ الرَّجُلِ جُزْؤُهُ وَكَذَا وَلَدَ ابْنِهِ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ نَفْسِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ ابْنِهِ قِيَاسًا عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ.

ثُمَّ عَلَى الْقَوْلِ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ- وَهُوَ عَدَمُ الْوُجُوبِ- يُسْتَحَبُّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ ابْنِهِ الصَّغِيرَيْنِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَالْمَقْصُودُ بِوَلَدِ ابْنِهِ هُوَ الْيَتِيمُ الَّذِي تَحْتَ وِلَايَةِ جَدِّهِ.وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ.

شُرُوطُ صِحَّةِ الْأُضْحِيَّةِ

22- لِلتَّضْحِيَةِ شَرَائِطُ تَشْمَلُهَا وَتَشْمَلُ كُلَّ الذَّبَائِحِ، وَلِتَفْصِيلِهَا (ر: ذَبَائِحُ).وَشَرَائِطُ تَخْتَصَّ بِهَا، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إِلَى الْأُضْحِيَّةِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إِلَى الْمُضَحِّي، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إِلَى وَقْتِ التَّضْحِيَةِ.

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: شُرُوطُ الْأُضْحِيَّةِ فِي ذَاتِهَا:

23- (الشَّرْطُ الْأَوَّلُ) وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ: أَنْ تَكُونَ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ الْإِبِلُ عِرَابًا كَانَتْ أَوْ بَخَاتِيَّ، وَالْبَقَرَةُ الْأَهْلِيَّةُ وَمِنْهَا الْجَوَامِيسُ وَالْغَنَمُ ضَأْنًا كَانَتْ أَوْ مَعْزًا وَيُجْزِئُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ.

فَمَنْ ضَحَّى بِحَيَوَانٍ مَأْكُولٍ غَيْرِ الْأَنْعَامِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الدَّوَابِّ أَمِ الطُّيُورِ، لَمْ تَصِحَّ تَضْحِيَتُهُ بِهِ، لقوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} وَلِأَنَّهُ لَمْ تُنْقَلِ التَّضْحِيَةُ بِغَيْرِ الْأَنْعَامِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَلَوْ ذَبَحَ دَجَاجَةً أَوْ دِيكًا بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ لَمْ يُجْزِئْ.

وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الشَّرْطِ أَنَّ الشَّاةَ تُجْزِئُ عَنْ وَاحِدٍ، وَالْبَدَنَةُ وَالْبَقَرَةُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ سَبْعَةٍ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ»، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ- رضي الله عنهم-، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَسَالِمٌ وَالْحَسَنُ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُجْزِئُ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ عَنْ سَبْعَةٍ» وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُجْزِئُ الِاشْتِرَاكُ فِي اللَّحْمِ أَوِ الثَّمَنِ، لَا فِي الشَّاةِ وَلَا فِي الْبَدَنَةِ وَلَا فِي الْبَقَرَةِ، وَلَكِنْ تُجْزِئُ الْأُضْحِيَّةُ الْوَاحِدَةُ الَّتِي يَمْلِكُهَا شَخْصٌ وَاحِدٌ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَبَوَيْهِ الْفَقِيرَيْنِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ، وَكَذَلِكَ يُجْزِئُ أَنْ يُضَحِّيَ الْإِنْسَانُ بِالْأُضْحِيَّةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي يَمْلِكُهَا وَحْدَهُ نَاوِيًا إِشْرَاكَ غَيْرِهِ مَعَهُ فِي الثَّوَابِ، أَوْ نَاوِيًا كَوْنَهَا كُلَّهَا عَنْ غَيْرِهِ كَمَا سَبَقَ (ف9).

24- (الشَّرْطُ الثَّانِي): أَنْ تَبْلُغَ سِنَّ التَّضْحِيَةِ، بِأَنْ تَكُونَ ثَنِيَّةً أَوْ فَوْقَ الثَّنِيَّةِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ، وَجَذَعَةً أَوْ فَوْقَ الْجَذَعَةِ مِنَ الضَّأْنِ، فَلَا تُجْزِئُ التَّضْحِيَةُ بِمَا دُونَ الثَّنِيَّةِ مِنْ غَيْرِ الضَّأْنِ، وَلَا بِمَا دُونَ الْجَذَعَةِ مِنَ الضَّأْنِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَذْبَحُوا إِلاَّ مُسِنَّةً، إِلاَّ أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ، فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ».وَالْمُسِنَّةُ مِنْ كُلِّ الْأَنْعَامِ هِيَ الثَّنِيَّةُ فَمَا فَوْقَهَا.حَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ.

وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «نِعْمَتِ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ».

وَهَذَا الشَّرْطُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الثَّنِيَّةِ وَالْجَذَعَةِ.

25- فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجَذَعَ مِنَ الضَّأْنِ مَا أَتَمَّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: مَا أَتَمَّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَشَيْئًا.وَأَيًّا مَا كَانَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَظِيمًا بِحَيْثُ لَوْ خُلِطَ بِالثَّنَايَا لَاشْتَبَهَ عَلَى النَّاظِرِينَ مِنْ بَعِيدٍ.وَالثَّنِيُّ

مِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ ابْنُ سَنَةٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ ابْنُ سَنَتَيْنِ، وَمِنَ الْإِبِلِ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَذَعَ مِنَ الضَّأْنِ مَا بَلَغَ سَنَةً (قَمَرِيَّةً) وَدَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ وَلَوْ مُجَرَّدَ دُخُولٍ، وَفَسَّرُوا الثَّنِيَّ مِنَ الْمَعْزِ بِمَا بَلَغَ سَنَةً، وَدَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ دُخُولًا بَيِّنًا، كَمُضِيِّ شَهْرٍ بَعْدَ السَّنَةِ، وَفَسَّرُوا الثَّنِيَّ مِنَ الْبَقَرِ بِمَا بَلَغَ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَدَخَلَ فِي الرَّابِعَةِ وَلَوْ دُخُولًا غَيْرَ بَيِّنٍ، وَالثَّنِيَّ مِنَ الْإِبِلِ بِمَا بَلَغَ خَمْسًا وَدَخَلَ فِي السَّادِسَةِ وَلَوْ دُخُولًا غَيْرَ بَيِّنٍ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَذَعَ مَا بَلَغَ سَنَةً، وَقَالُوا: لَوْ أَجْذَعَ بِأَنْ أَسْقَطَ مُقَدَّمَ أَسْنَانِهِ قَبْلَ السَّنَةِ وَبَعْدَ تَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ يَكْفِي، وَفَسَّرُوا الثَّنِيَّ مِنَ الْمَعْزِ بِمَا بَلَغَ سَنَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْبَقَرُ.

26- (الشَّرْطُ الثَّالِثُ): سَلَامَتُهَا مِنَ الْعُيُوبِ الْفَاحِشَةِ، وَهِيَ الْعُيُوبُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُنْقِصَ الشَّحْمَ أَوِ اللَّحْمَ إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ.

وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الشَّرْطِ لَا تُجْزِئُ التَّضْحِيَةُ بِمَا يَأْتِي:

(1) الْعَمْيَاءُ.

(2) الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَهِيَ الَّتِي ذَهَبَ بَصَرُ إِحْدَى عَيْنَيْهَا، وَفَسَّرَهَا الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا الَّتِي انْخَسَفَتْ عَيْنُهَا وَذَهَبَتْ، لِأَنَّهَا عُضْوٌ مُسْتَطَابٌ، فَلَوْ لَمْ تَذْهَبِ الْعَيْنُ أَجْزَأَتْ عِنْدَهُمْ، وَإِنْ كَانَ عَلَى عَيْنِهَا بَيَاضٌ يَمْنَعُ الْإِبْصَارَ.

(3) مَقْطُوعَةُ اللِّسَانِ بِالْكُلِّيَّةِ.

(4) مَا ذَهَبَ مِنْ لِسَانِهَا مِقْدَارٌ كَثِيرٌ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَضُرُّ قَطْعُ بَعْضِ اللِّسَانِ وَلَوْ قَلِيلًا.

(5) الْجَدْعَاءُ وَهِيَ مَقْطُوعَةُ الْأَنْفِ.

(6) مَقْطُوعَةُ الْأُذُنَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا، وَكَذَا السَّكَّاءُ وَهِيَ: فَاقِدَةُ الْأُذُنَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا خِلْقَةً وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي السَّكَّاءِ.

(7) مَا ذَهَبَ مِنْ إِحْدَى أُذُنَيْهَا مِقْدَارٌ كَثِيرٌ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ الْكَثِيرِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ فِي رِوَايَةٍ، وَالثُّلُثُ فَأَكْثَرُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَالنِّصْفُ أَوْ أَكْثَرُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَالرُّبْعُ أَوْ أَكْثَرُ فِي رِوَايَةٍ رَابِعَةٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَضُرُّ ذَهَابُ ثُلُثِ الْأُذُنِ أَوْ أَقَلُّ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَضُرُّ ذَهَابُ بَعْضِ الْأُذُنِ مُطْلَقًا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَضُرُّ ذَهَابُ أَكْثَرِ الْأُذُنِ.

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ حَدِيثُ: «إِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى أَنْ يُضَحِّيَ بِعَضْبَاءِ الْأُذُنِ».

(8) الْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا، وَهِيَ الَّتِي لَا تَقْدِرُ أَنْ تَمْشِيَ بِرِجْلِهَا إِلَى الْمَنْسَكِ- أَيِ الْمَذْبَحِ- وَفَسَّرَهَا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِاَلَّتِي لَا تَسِيرُ بِسَيْرِ صَوَاحِبِهَا.

(9) الْجَذْمَاءُ وَهِيَ: مَقْطُوعَةُ الْيَدِ أَوِ الرِّجْلِ، وَكَذَا فَاقِدَةُ إِحْدَاهُمَا خِلْقَةً.

(10) الْجَذَّاءُ وَهِيَ: الَّتِي قُطِعَتْ رُءُوسُ ضُرُوعِهَا أَوْ يَبِسَتْ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَضُرُّ قَطْعُ بَعْضِ الضَّرْعِ، وَلَوْ قَلِيلًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الَّتِي لَا تُجْزِئُ هِيَ يَابِسَةُ الضَّرْعِ جَمِيعِهِ، فَإِنْ أَرْضَعَتْ بِبَعْضِهِ أَجْزَأَتْ.

(11) مَقْطُوعَةُ الْأَلْيَةِ، وَكَذَا فَاقِدَتُهَا خِلْقَةً، وَخَالَفَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا بِإِجْزَاءِ فَاقِدَةِ الْأَلْيَةِ خِلْقَةً، بِخِلَافِ مَقْطُوعَتِهَا.

(12) مَا ذَهَبَ مِنْ أَلْيَتِهَا مِقْدَارٌ كَثِيرٌ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَضُرُّ ذَهَابُ بَعْضِ الْأَلْيَةِ وَلَوْ قَلِيلًا.

(13) مَقْطُوعَةُ الذَّنَبِ، وَكَذَا فَاقِدَتُهُ خِلْقَةً، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْبَتْرَاءِ، وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ فِيهِمَا فَقَالُوا: إِنَّهُمَا يُجْزِئَانِ.وَخَالَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى.

(14) مَا ذَهَبَ مِنْ ذَنَبِهَا مِقْدَارٌ كَثِيرٌ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا تُجْزِئُ ذَاهِبَةُ ثُلُثِهِ فَصَاعِدًا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَضُرُّ قَطْعُ بَعْضِهِ وَلَوْ قَلِيلًا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَضُرُّ قَطْعُ الذَّنَبِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا.

(15) الْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، أَيِ الَّتِي يَظْهَرُ مَرَضُهَا لِمَنْ يَرَاهَا.

(16) الْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي، وَهِيَ الْمَهْزُولَةُ الَّتِي ذَهَبَ نَقْيُهَا، وَهُوَ الْمُخُّ الَّذِي فِي دَاخِلِ الْعِظَامِ، فَإِنَّهَا لَا تُجْزِئُ، لِأَنَّ تَمَامَ الْخِلْقَةِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ، فَإِذَا تَبَيَّنَ خِلَافُهُ كَانَ تَقْصِيرًا.

(17) مُصَرَّمَةُ الْأَطِبَّاءِ، وَهِيَ الَّتِي عُولِجَتْ حَتَّى انْقَطَعَ لَبَنُهَا.

(18) الْجَلاَّلَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ وَلَا تَأْكُلُ غَيْرَهَا، مِمَّا لَمْ تُسْتَبْرَأْ بِأَنْ تُحْبَسَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا إِنْ كَانَتْ مِنَ الْإِبِلِ، أَوْ عِشْرِينَ يَوْمًا إِنْ كَانَتْ مِنَ الْبَقَرِ، أَوْ عَشْرَةً إِنْ كَانَتْ مِنَ الْغَنَمِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


115-موسوعة الفقه الكويتية (أيمان 8)

أَيْمَانٌ -8

وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ الْقَوَاعِدِ الَّتِي تُتْبَعُ مُرَتَّبَةً مَعَ بَيَانِ اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فِيهَا.

الْقَاعِدَةُ الْأُولَى: مُرَاعَاةُ نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ:

153- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ صَاحِبُكَ» وَالْمَعْنَى: يَمِينُكَ الَّتِي تَحْلِفُهَا، مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي لَوْ نَوَيْتَهُ، وَكُنْتَ صَادِقًا، لَاعْتَقَدَ خَصْمُكَ أَنَّكَ صَادِقٌ فِيهَا، وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يَخْطِرُ بِبَالِهِ حِينَ اسْتِحْلَافِهِ إِيَّاكَ، وَهُوَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ مُتَّفِقًا مَعَ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ التَّوْرِيَةَ بَيْنَ يَدَيِ الْمُسْتَحْلِفِ لَا تَنْفَعُ الْحَالِفَ، بَلْ تَكُونُ يَمِينُهُ غَمُوسًا تَغْمِسُهُ فِي الْإِثْمِ.

وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، غَيْرَ أَنَّ لَهُمْ تَفْصِيلَاتٍ وَشَرَائِطَ بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:

154- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: حَكَى الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْمَذْهَبَ كَوْنُ الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ إِنْ كَانَ مَظْلُومًا، فَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فَعَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ، لَكِنْ فَرَّقَ الْقُدُورِيُّ بَيْنَ الْيَمِينِ عَلَى الْمَاضِي وَعَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَقَالَ: إِذَا كَانَتِ الْيَمِينُ عَلَى مَاضٍ فَفِيهَا التَّفْصِيلُ السَّابِقُ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَيْهَا إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً إِنَّمَا هِيَ بِالْإِثْمِ، كَالْمَظْلُومِ إِذَا نَوَى بِهَا مَا يُخْرِجُهَا عَنِ الْكَذِبِ، صَحَّتْ نِيَّتُهُ فَلَمْ يَأْثَمْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَظْلِمْ بِهَا أَحَدًا، بِخِلَافِ الظَّالِمِ إِذَا نَوَى بِيَمِينِهِ مَا يُخْرِجُهَا عَنِ الْكَذِبِ فَإِنَّ نِيَّتَهُ بَاطِلَةٌ، وَتَكُونُ يَمِينُهُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ فَتَكُونُ كَاذِبَةً ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَيَأْثَمُ لِأَنَّهُ ظَلَمَ بِهَا غَيْرَهُ.

وَإِذَا كَانَتْ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ فَهِيَ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ عَقْدٌ، وَالْعَقْدُ عَلَى نِيَّةِ الْعَاقِدِ.

وَالْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ تُعْتَبَرُ فِيهَا نِيَّةُ الْحَالِفِ، ظَالِمًا كَانَ أَوْ مَظْلُومًا، إِذَا لَمْ يَنْوِ خِلَافَ الظَّاهِرِ، فَلَا تَطْلُقُ زَوْجَتُهُ لَا قَضَاءً وَلَا دِيَانَةً، لَكِنَّهُ يَأْثَمُ- إِنْ كَانَ ظَالِمًا- إِثْمَ الْغَمُوسِ، فَلَوْ نَوَى خِلَافَ الظَّاهِرِ- كَمَا لَوْ نَوَى الطَّلَاقَ عَنْ وَثَاقٍ- اعْتُبِرَتْ نِيَّتُهُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً، فَيَحْكُمُ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ سَوَاءٌ أَكَانَ ظَالِمًا أَمْ مَظْلُومًا.

وَقَالَ الْخَصَّافُ: تُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ قَضَاءً إِنْ كَانَ مَظْلُومًا.

155- مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ سَحْنُونٌ وَأَصْبَغُ وَابْنُ الْمَوَّازِ: إِنَّ الْيَمِينَ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إِنَّهَا عَلَى، نِيَّةِ الْحَالِفِ، فَيَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ، فَلَا تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ، وَلَكِنْ يَحْرُمُ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَنَعَ حَقَّ غَيْرِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ خِلَافُ الْمَشْهُورِ.ثُمَّ إِنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهَا عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهَا عَلَى نِيَّةِ الْمَحْلُوفِ لَهُ عِنْدَ عَدَمِ اسْتِحْلَافِهِ، فَذَهَبَ خَلِيلٌ إِلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ عَلَى نِيَّتِهِ، وَذَهَبَ الصَّاوِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الشَّرْحِ الصَّغِيرِ إِلَى أَنَّهَا تَكُونُ عَلَى نِيَّتِهِ، وَسَبَقَ فِي شَرَائِطِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ بَيَانٌ مُوَضَّحٌ تَكُونُ فِيهِ الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ أَوِ الْمَحْلُوفِ لَهُ عِنْدَهُمْ.

156- مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ: الْيَمِينُ تَكُونُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ بِشَرَائِطَ:

الشَّرِيطَةُ الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحْلِفُ مِمَّنْ يَصِحُّ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ كَالْقَاضِي وَالْمُحَكِّمِ وَالْإِمَامِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَتْ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ، وَأَلْحَقَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْخَصْمَ بِالْقَاضِي، عَمَلًا بِحَدِيثِ: «يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ صَاحِبُكَ» أَيْ خَصْمُكَ.

الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ الْقَاضِي وَنَحْوُهُ بِطَلَبٍ مِنَ الْخَصْمِ، فَإِنِ اسْتَحْلَفَهُ بِلَا طَلَبٍ مِنْهُ كَانَتِ الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ.

الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ: أَلاَّ يَكُونَ الْحَالِفُ مُحِقًّا فِيمَا نَوَاهُ عَلَى خِلَافِ نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ، فَإِنِ ادَّعَى زَيْدٌ أَنَّ عَمْرًا أَخَذَ مِنْ مَالِهِ كَذَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَسَأَلَ رَدَّهُ، وَكَانَ عُمَرُ وَقَدْ أَخَذَهُ مِنْ دَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ، فَأَجَابَ بِنَفْيِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَقَالَ زَيْدٌ لِلْقَاضِي: حَلِّفْهُ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ مَالِي شَيْئًا بِغَيْرِ إِذْنِي.وَكَانَ الْقَاضِي يَرَى إِجَابَتَهُ لِذَلِكَ، فَيَجُوزُ لِعَمْرٍو أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَيَنْوِي أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهُ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، فَيَمِينُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَكُونُ عَلَى نِيَّتِهِ الْمُقَيَّدَةِ، لَا عَلَى نِيَّةِ الْقَاضِي الْمُطْلَقَةِ، وَلَا يَأْثَمُ بِذَلِكَ.الشَّرِيطَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ الِاسْتِحْلَافُ بِاللَّهِ تَعَالَى لَا بِالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ، لَكِنْ إِذَا كَانَ الْمُسْتَحْلِفُ يَرَى جَوَازَ التَّحْلِيفِ بِالطَّلَاقِ كَالْحَنَفِيِّ، كَانَتِ الْيَمِينُ عَلَى نِيَّتِهِ لَا عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ.

157- مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: يَرْجِعُ فِي الْيَمِينِ إِلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ فَهِيَ مَبْنَاهَا ابْتِدَاءً، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْحَالِفُ ظَالِمًا، وَيَسْتَحْلِفُهُ لِحَقٍّ عَلَيْهِ، فَهَذَا يَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إِلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ الَّذِي عَنَاهُ الْمُسْتَحْلِفُ.

الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: مُرَاعَاةُ نِيَّةِ الْحَالِفِ:

إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحْلِفٌ أَصْلًا، أَوْ كَانَ مُسْتَحْلِفٌ وَلَكِنْ عُدِمَتْ شَرِيطَةٌ مِنَ الشَّرَائِطِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ إِلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ، رُوعِيَتْ نِيَّةُ الْحَالِفِ الَّتِي يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ:

158- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: الْأَصْلُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْكَلَامَ يَنْصَرِفُ إِلَى الْعُرْفِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْحَالِفِ نِيَّةٌ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةُ شَيْءٍ وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُ انْعَقَدَتِ الْيَمِينُ بِاعْتِبَارِهِ، فَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ لَا يَحْنَثُ إِذَا لَمْ يَنْوِهِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْعُرْفِ بَيْتًا، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ قَدْ سَمَّاهُ بَيْتًا.

159- مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ لَمْ تَجِبْ مُرَاعَاةُ نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ وَجَبَتْ مُرَاعَاةُ نِيَّةِ الْحَالِفِ، فَهِيَ تُخَصِّصُ الْعَامَّ وَتُقَيِّدُ الْمُطْلَقَ وَتُبَيِّنُ الْمُجْمَلَ ثُمَّ إِنَّ النِّيَّةَ الْمُخَصَّصَةَ وَالْمُقَيَّدَةَ لَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:

الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ تَكُونَ مُسَاوِيَةً لِظَاهِرِ اللَّفْظِ، بِأَنْ يَحْتَمِلَ اللَّفْظُ إِرَادَتَهَا وَعَدَمَ إِرَادَتِهَا عَلَى السَّوَاءِ بِلَا تَرْجِيحٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، كَحَلِفِهِ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ تَزَوَّجَ فِي حَيَاتِهَا فَالَّتِي يَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ أَوْ فَعَلَيْهِ الْمَشْيُ إِلَى مَكَّةَ، فَتَزَوَّجَ بَعْدَ طَلَاقِهَا، وَقَالَ: كُنْتُ نَوَيْتُ أَنِّي إِنْ تَزَوَّجْتُ عَلَيْهَا فِي حَيَاتِهَا وَهِيَ فِي عِصْمَتِي، وَهِيَ الْآنَ لَيْسَتْ فِي عِصْمَتِي.

فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَصْدُقُ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوِ الطَّلَاقِ أَوِ الْتِزَامِ قُرْبَةٍ فِي كُلٍّ مِنَ الْفَتْوَى وَالْقَضَاءِ.وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ لَحْمًا، فَأَكَلَ لَحْمَ طَيْرٍ، وَقَالَ: كُنْتُ أَرَدْتُ لَحْمَ غَيْرِ الطَّيْرِ، فَإِنَّهُ يَصْدُقُ مُطْلَقًا أَيْضًا.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ مُقَارِبَةً لِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَإِنْ كَانَ أَرْجَحَ مِنْهَا، كَحَلِفِهِ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا أَوْ سَمْنًا إِذَا ادَّعَى أَنَّهُ نَوَى لَحْمَ الْبَقَرِ وَسَمْنَ الضَّأْنِ، فَأَكَلَ لَحْمَ الضَّأْنِ وَسَمْنَ الْبَقَرِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَصْدُقُ فِي حَلِفِهِ بِاللَّهِ، وَبِتَعْلِيقِ الْقُرْبَةِ مَا عَدَا الطَّلَاقَ، إِذَا رُفِعَ أَمْرُهُ لِلْقَاضِي وَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بِالطَّلَاقِ، وَمِثْلُ الْبَيِّنَةِ الْإِقْرَارُ.

وَيُقْبَلُ مِنْهُ مَا ادَّعَاهُ فِي الْفَتْوَى مُطْلَقًا، فَلَا يُعَدُّ حَانِثًا فِي جَمِيعِ أَيْمَانِهِ.

وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ حَلَفَ: لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا فَكَلَّمَهُ، وَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ نَوَيْتُ أَلاَّ أُكَلِّمَهُ شَهْرًا أَوْ أَلاَّ أُكَلِّمَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ كَلَّمْتُهُ بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، فَيُقْبَلُ فِي الْفَتْوَى مُطْلَقًا، وَيُقْبَلُ فِي الْقَضَاءِ فِي غَيْرِ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ.

وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ: أَلاَّ يَبِيعَهُ أَوْ أَلاَّ يَضْرِبَهُ، ثُمَّ وَكَّلَ إِنْسَانًا فِي بَيْعِهِ أَوْ أَمَرَهُ بِضَرْبِهِ، وَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الِامْتِنَاعَ عَنْ تَكْلِيمِهِ وَضَرْبِهِ بِنَفْسِي.

الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ بَعِيدَةً عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلْتُ دَارَ فُلَانٍ فَزَوْجَتِي طَالِقٌ، إِذَا ادَّعَى أَنَّهُ أَرَادَ زَوْجَتَهُ الْمَيِّتَةَ، ثُمَّ دَخَلَ الدَّارَ اسْتِنَادًا إِلَى هَذِهِ النِّيَّةِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ مَا ادَّعَاهُ لَا فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِي الْفَتْوَى، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى.

160- مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ: فِي أَسْنَى الْمَطَالِبِ: مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ، فَقَالَ: أَرَدْتُ مُدَّةَ شَهْرٍ فَقَطْ وَنَحْوَهُ مِمَّا يُخَصِّصُ الْيَمِينَ قُبِلَ مِنْهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي حَقِّ آدَمِيٍّ كَطَلَاقٍ وَإِيلَاءٍ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ ظَاهِرًا وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ حَلَفَ: لَا يُكَلِّمُ أَحَدًا، وَقَالَ: أَرَدْتُ زَيْدًا مَثَلًا لَمْ يَحْنَثْ بِغَيْرِهِ عَمَلًا بِنِيَّتِهِ.

ثُمَّ اللَّفْظُ الْخَاصُّ لَا يُعَمَّمُ بِالنِّيَّةِ، مِثْلُ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ بِمَا نَالَ مِنْهُ، فَحَلَفَ لَا يَشْرَبُ لَهُ مَاءً مِنْ عَطَشٍ لَمْ يَحْنَثْ بِغَيْرِهِ، مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ وَمَاءٍ مِنْ غَيْرِ عَطَشٍ وَغَيْرِهَا، وَإِنْ نَوَاهُ وَكَانَتِ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا تَقْتَضِي مَا نَوَاهُ؛ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ عَلَى الْمَاءِ مِنْ عَطَشٍ خَاصَّةً، وَإِنَّمَا تُؤَثِّرُ النِّيَّةُ إِذَا احْتَمَلَ اللَّفْظُ مَا نَوَى بِجِهَةٍ يَتَجَوَّزُ بِهَا.

وَقَدْ يُصْرَفُ اللَّفْظُ إِلَى الْمَجَازِ بِالنِّيَّةِ، كَلَا أَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ، وَنَوَى مَسْكَنَهُ دُونَ مِلْكِهِ، فَيُقْبَلُ فِي غَيْرِ حَقِّ آدَمِيٍّ- كَأَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ- لَا فِي حَقِّ آدَمِيٍّ، كَأَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ. 161- مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحْلَفٌ، أَوْ كَانَ مُسْتَحْلَفٌ وَلَمْ يَكُنِ الْحَالِفُ ظَالِمًا رَجَعَ إِلَى نِيَّتِهِ هُوَ- سَوَاءٌ أَكَانَ مَظْلُومًا أَمْ لَا- وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى نِيَّتِهِ إِنِ احْتَمَلَهَا لَفْظُهُ، كَأَنْ يَنْوِيَ السَّقْفَ وَالْبِنَاءَ السَّمَاءَ، وَبِالْفِرَاشِ وَالْبِسَاطِ الْأَرْضَ، وَبِاللِّبَاسِ اللَّيْلَ، وَبِالْأُخُوَّةِ أُخُوَّةَ الْإِسْلَامِ.

ثُمَّ إِنْ كَانَ الِاحْتِمَالُ بَعِيدًا لَمْ يُقْبَلْ قَضَاءً، وَإِنَّمَا يُقْبَلُ دِيَانَةً، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا أَوْ مُتَوَسِّطًا قُبِلَ قَضَاءً وَدِيَانَةً.

فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ أَصْلًا لَمْ تَنْصَرِفْ يَمِينُهُ إِلَيْهِ، بَلْ تَنْصَرِفُ إِلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ كَأَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا آكُلُ، وَيَنْوِيَ عَدَمَ الْقِيَامِ دُونَ عَدَمِ الْأَكْلِ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ النِّيَّةِ الْمُحْتَمَلَةِ احْتِمَالًا قَرِيبًا: مَا لَوْ نَوَى التَّخْصِيصَ، كَأَنْ يَحْلِفَ: لَا يَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ، وَيَنْوِي تَخْصِيصَ ذَلِكَ بِالْيَوْمِ، فَيُقْبَلُ مِنْهُ حُكْمًا، فَلَا يَحْنَثُ بِالدُّخُولِ فِي يَوْمٍ آخَرَ، وَلَوْ كَانَ حَلِفُهُ بِالطَّلَاقِ.

الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ: مُرَاعَاةُ قَرِينَةِ الْفَوْرِ أَوِ الْبِسَاطِ، أَوِ السَّبَبِ:

إِذَا عُدِمَتْ نِيَّةُ الْمُسْتَحْلِفِ الْمُحِقِّ وَنِيَّةُ الْحَالِفِ، وَكَانَتِ الْيَمِينُ عَامَّةً أَوْ مُطْلَقَةً فِي الظَّاهِرِ، لَكِنْ كَانَ سَبَبُهَا الَّذِي أَثَارَهَا خَاصًّا أَوْ مُقَيَّدًا كَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا تَخْصِيصَ الْيَمِينِ أَوْ تَقْيِيدَهَا.

وَهَذَا السَّبَبُ يُسَمَّى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِسَاطُ الْيَمِينِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ السَّبَبُ الْمُهَيِّجُ لِلْيَمِينِ، وَيُعَبِّرُ الْحَنَفِيَّةُ عَنْ هَذِهِ الْيَمِينِ بِيَمِينِ الْفَوْرِ.وَفِيمَا يَلِي أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ: 162- فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مُقَيَّدًا نَصًّا، وَلَكِنْ دَلَّتِ الْحَالُ عَلَى تَقْيِيدِهِ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْقَيْدَ يُرَاعَى فِي الْيَمِينِ اسْتِحْسَانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الرَّاجِحُ.

مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ تَخْرُجَ الْيَمِينُ جَوَابًا لِكَلَامٍ مُقَيَّدٍ، أَوْ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ مُقَيَّدٍ، وَلَكِنَّ الْحَالِفَ لَا يَذْكُرُ فِي يَمِينِهِ هَذَا الْقَيْدَ نَصًّا، كَمَا لَوْ قَالَ إِنْسَانٌ: تَعَالَ تَغَدَّ مَعِي، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَتَغَدَّى، فَلَمْ يَتَغَدَّ مَعَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَتَغَدَّى، فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ كَلَامَهُ خَرَجَ جَوَابًا لِلطَّلَبِ، فَيَنْصَرِفُ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَهُوَ الْغَدَاءُ الْمَدْعُوُّ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَتَغَدَّى الْغَدَاءَ الَّذِي دَعَوْتَنِي إِلَيْهِ.

وَقَالَ زُفَرُ: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنِ التَّغَدِّي عَامًّا، فَلَوْ صَرَفَ لِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ كَانَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا بِغَيْرِ مُخَصِّصٍ، وَذَا هُوَ الْقِيَاسُ.

163- مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ لَمْ يُوجَدْ مُسْتَحْلِفٌ ذُو حَقٍّ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْحَالِفِ نِيَّةٌ صَرِيحَةٌ، أَوْ كَانَ لَهُ نِيَّةٌ صَرِيحَةٌ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَضْبِطْهَا، رُوعِيَ بِسَاطُ يَمِينِهِ فِي التَّعْمِيمِ وَالتَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ، وَالْبِسَاطُ هُوَ السَّبَبُ الْحَامِلُ عَلَى الْيَمِينِ، وَمِثْلُهُ كُلُّ سِيَاقٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا، وَيُعْتَبَرُ الْبِسَاطُ قَرِينَةً عَلَى النِّيَّةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَرِيحَةً وَلَا مُنْضَبِطَةً، وَعَلَامَتُهُ صِحَّةُ تَقْيِيدِ الْيَمِينِ بِقَوْلِهِ مَا دَامَ هَذَا الشَّيْءُ مَوْجُودًا.

وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي لَحْمًا، أَوْ لَا يَبِيعُ فِي السُّوقِ، إِذَا كَانَ الْحَامِلُ عَلَى الْحَلِفِ زَحْمَةٌ أَوْ وُجُودُ ظَالِمٍ، فَيَمِينُهُ تُقَيَّدُ بِذَلِكَ، فَلَا يَحْنَثُ بِشِرَاءِ اللَّحْمِ وَلَا بِالْبَيْعِ فِي السُّوقِ إِذَا انْتَفَتِ الزَّحْمَةُ وَالظَّالِمُ، سَوَاءٌ أَكَانَ حَلِفُهُ بِاللَّهِ أَمْ بِتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْقَضَاءُ وَالْفُتْيَا، لَكِنْ لَا بُدَّ فِي الْقَضَاءِ مِنْ إِقَامَةِ بَيِّنَةٍ عَلَى وُجُودِ الْبِسَاطِ.

وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ أَيْضًا: مَا لَوْ كَانَ خَادِمُ الْمَسْجِدِ يُؤْذِيهِ، فَحَلَفَ لَا يَدْخُلُهُ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ مَا دَامَ هَذَا الْخَادِمُ فِيهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ فَاسِقٌ بِمَكَانٍ فَقَالَ إِنْسَانٌ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ دَخَلْتِ هَذَا الْمَكَانَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَكَانَ وُجُودُ هَذَا الْفَاسِقِ الْحَامِلِ عَلَى الْحَلِفِ، فَإِنَّ الْحَلِفَ يُقَيَّدُ بِوُجُودِهِ، فَإِنْ زَالَ فَدَخَلَتِ امْرَأَتُهُ الْمَكَانَ لَمْ تَطْلُقْ.

وَمِنْ ذَلِكَ: مَا لَوْ مَنَّ إِنْسَانٌ عَلَى آخَرَ، فَحَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَهُ طَعَامًا، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَلاَّ يَنْتَفِعَ مِنْهُ بِشَيْءٍ فِيهِ الْمِنَّةُ، سَوَاءٌ أَكَانَ طَعَامًا أَمْ كُسْوَةً أَوْ غَيْرَهُمَا، فَهَذَا تَعْمِيمٌ لِلْيَمِينِ بِالْبِسَاطِ.

فَإِنْ لَمْ يَكُنِ السَّبَبُ الْحَامِلُ عَلَى الْيَمِينِ دَاعِيًا إِلَى مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ لَمْ يَكُنْ بِسَاطًا، كَمَا لَوْ حَلَفَ إِنْسَانٌ: لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا أَوْ لَا يَدْخُلُ دَارَهُ، وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ شَتَمَهُ أَوْ تَشَاجَرَ مَعَهُ، فَهَذَا السَّبَبُ لَا يَدْعُو إِلَى مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ الِامْتِنَاعُ مِنَ التَّكْلِيمِ وَمِنْ دُخُولِ الدَّارِ أَبَدًا.

164- مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ: يَتَّضِحُ مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى كُتُبِ الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ- بَعْدَ نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ وَنِيَّةِ الْحَالِفِ- هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ السَّبَبِ الْحَامِلِ عَلَى الْيَمِينِ، فَلَوْ كَانَتِ الْيَمِينُ عَامَّةً أَوْ مُطْلَقَةً فِي الظَّاهِرِ- لَكِنْ كَانَ سَبَبُهَا الَّذِي أَثَارَهَا خَاصًّا أَوْ مُقَيَّدًا- لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا تَخْصِيصَ الْيَمِينِ أَوْ تَقْيِيدَهَا عِنْدَهُمْ.

165- مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ لَمْ يُوجَدْ مُسْتَحْلِفٌ ذُو حَقٍّ، وَلَمْ يَنْوِ الْحَالِفُ مَا يُوَافِقُ ظَاهِرَ اللَّفْظِ أَوْ يُخَصِّصُهُ، أَوْ يَكُونُ اللَّفْظُ مَجَازًا فِيهِ، رَجَعَ إِلَى السَّبَبِ الْمُهَيِّجِ لِلْيَمِينِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى النِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ غَافِلًا عَنْهَا، فَمَنْ حَلَفَ: لَيَقْضِيَنَّ زَيْدًا حَقَّهُ غَدًا فَقَضَاهُ قَبْلَهُ لَمْ يَحْنَثْ، إِذَا كَانَ سَبَبُ يَمِينِهِ أَمْرًا يَدْعُو إِلَى التَّعْجِيلِ وَقَطْعِ الْمَطْلِ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ غَدٍ، فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ مَانِعًا مِنَ التَّعْجِيلِ حَامِلًا عَلَى التَّأْخِيرِ إِلَى غَدٍ فَقَضَاهُ قَبْلُ حَنِثَ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَحْنَثُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ غَدٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبٌ يَدْعُو إِلَى التَّعْجِيلِ أَوِ التَّأْخِيرِ حَنِثَ بِهِمَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَنِ النِّيَّةِ، وَأَمَّا إِذَا نَوَى التَّعْجِيلَ أَوِ التَّأْخِيرَ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ بِنِيَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَعِنْدَ نِيَّةِ التَّعْجِيلِ يَحْنَثُ بِالتَّأْخِيرِ دُونَ التَّقْدِيمِ، وَعِنْدَ التَّأْخِيرِ يَكُونُ الْحُكْمُ عَكْسَ ذَلِكَ.

وَمَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ لَا يَبِيعُهُ إِلاَّ بِمِائَةٍ، وَكَانَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى الْحَلِفِ عَدَمَ رِضَاهُ بِأَقَلَّ مِنْ مِائَةٍ، حَنِثَ بِبَيْعِهِ بِأَقَلَّ مِنْهَا، وَلَمْ تَحْنَثْ بِبَيْعِهِ بِأَكْثَرَ إِلاَّ إِذَا كَانَ قَدْ نَوَى الْمِائَةَ بِعَيْنِهَا لَا أَكْثَرَ وَلَا أَقَلَّ.

وَمَنْ حَلَفَ لَا يَبِيعُهُ بِمِائَةٍ، وَكَانَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى الْحَلِفِ أَنَّهُ يَسْتَقِلُّ الْمِائَةَ، حَنِثَ بِبَيْعِهِ بِهَا، وَكَذَا يَحْنَثُ بِبَيْعِهِ بِأَقَلَّ مِنْهَا مَا لَمْ يَنْوِ تَعَيُّنَ الْمِائَةِ، وَلَا يَحْنَثُ بِبَيْعِهِ بِأَكْثَرَ مِنَ الْمِائَةِ مَا لَمْ يَنْوِ تَعَيُّنَهَا.

وَمَنْ دُعِيَ لِغَدَاءٍ، فَحَلَفَ لَا يَتَغَدَّى، لَمْ يَحْنَثْ بِغَدَاءٍ آخَرَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْحَامِلَ عَلَى الْحَلِفِ هُوَ عَدَمُ إِرَادَتِهِ لِهَذَا الْغَدَاءِ الْمُعَيَّنِ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِالْغَدَاءِ الْآخَرِ إِذَا نَوَى الْعُمُومَ، فَإِنَّ النِّيَّةَ الْمُوَافِقَةَ لِلظَّاهِرِ تُقَدَّمُ عَلَى السَّبَبِ الْمُخَصَّصِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ.

وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ لِفُلَانٍ مَاءً مِنْ عَطَشٍ، وَكَانَ السَّبَبُ عَدَمَ رِضَاهُ بِمِنَّتِهِ، حَنِثَ بِأَكْلِ خُبْزِهِ وَاسْتِعَارَةِ دَابَّتِهِ، وَمَا مَاثَلَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا فِيهِ مِنَّةٌ تَزِيدُ عَلَى شُرْبِ الْمَاءِ مِنَ الْعَطَشِ، بِخِلَافِ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنَّةً مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ كَقُعُودِهِ فِي ضَوْءِ نَارِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَنِ النِّيَّةِ، فَإِنْ نَوَى ظَاهِرَ اللَّفْظِ عَمِلَ بِهِ.

وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَلَدًا، وَكَانَ السَّبَبُ ظُلْمًا رَآهُ فِيهَا، أَوْ حَلَفَ لَا رَأَى مُنْكَرًا إِلاَّ رَفَعَهُ إِلَى الْوَالِي، وَكَانَ السَّبَبُ طَلَبَ الْوَالِي ذَلِكَ مِنْهُ، ثُمَّ زَالَ الظُّلْمُ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ، وَعُزِلَ الْوَالِي فِي الْمِثَالِ الثَّانِي، لَمْ يَحْنَثْ بِدُخُولِ الْبَلَدِ بَعْدَ زَوَالِ الظُّلْمِ، وَلَا بِتَرْكِ رَفْعِ الْمُنْكَرِ إِلَى الْوَالِي بَعْدَ عَزْلِهِ، فَإِنْ عَادَ الظُّلْمُ أَوْ عَادَ الْوَالِي لِلْحُكْمِ حَنِثَ بِمُخَالَفَةِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَوِي فِي هَذَا الْحُكْمِ مَا لَوْ أَطْلَقَ الْحَالِفُ لَفْظَهُ عَنِ النِّيَّةِ، وَمَا لَوْ نَوَى التَّقْيِيدَ بِدَوَامِ الْوَصْفِ الْحَامِلِ عَلَى الْيَمِينِ.

166- هَذَا وَإِذَا تَعَارَضَتِ النِّيَّةُ وَالسَّبَبُ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا مُوَافِقًا لِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَالثَّانِي أَعَمُّ مِنْهُ عَمِلَ بِالْمُوَافِقِ، فَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْوِي مَعَ امْرَأَتِهِ بِدَارِ فُلَانٍ نَاوِيًا جَفَاءَهَا، وَكَانَ السَّبَبُ الْحَامِلُ عَلَى الْيَمِينِ هُوَ عَدَمُ مُلَاءَمَةِ الدَّارِ عَمِلَ بِالسَّبَبِ، فَلَا يَحْنَثُ بِاجْتِمَاعِهِ مَعَهَا فِي دَارٍ أُخْرَى، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِنِيَّتِهِ.فَإِنْ كَانَ نَاوِيًا عَدَمَ الِاجْتِمَاعِ مَعَهَا فِي الدَّارِ بِخُصُوصِهَا، وَكَانَ السَّبَبُ الْحَامِلُ عَلَى الْيَمِينِ يَدْعُو إِلَى الْجَفَاءِ الْعَامِّ فَالْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ، عَمَلًا بِالنِّيَّةِ الْمُوَافِقَةِ لِلظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلسَّبَبِ.فَإِنْ وُجِدَتْ نِيَّةٌ وَلَا سَبَبَ، أَوْ كَانَ السَّبَبُ يَدْعُو إِلَى الْجَفَاءِ وَلَا نِيَّةَ، أَوِ اتَّفَقَا مَعًا فِي الْجَفَاءِ حَنِثَ بِالِاجْتِمَاعِ مَعَهَا مُطْلَقًا، وَإِنِ اتَّفَقَا فِي تَخْصِيصِ الدَّارِ لَمْ يَحْنَثْ بِغَيْرِهَا.

الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ: مُرَاعَاةُ الْعُرْفِ الْفِعْلِيِّ وَالْقَوْلِيِّ وَالشَّرْعِيِّ وَالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ:

167- مَنْ تَصَفَّحَ كُتُبَ الْمَذَاهِبِ وَجَدَ عِبَارَاتِهَا فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ تَخْتَلِفُ.

فَالْحَنَفِيَّةُ يَذْكُرُونَ مُرَاعَاةَ الْعُرْفِ فَاللُّغَةَ، وَلَا يُقَسِّمُونَ الْعُرْفَ إِلَى فِعْلِيٍّ وَقَوْلِيٍّ وَشَرْعِيٍّ، وَلَعَلَّهُمُ اكْتَفَوْا بِأَنَّ الْكَلِمَةَ إِذَا أُطْلِقَتْ لَمْ تَتَنَازَعْهَا أَعْرَافٌ مُخْتَلِفَةٌ؛ لِأَنَّهَا قَدْ يَكُونُ الْمَشْهُورُ فِيهَا هُوَ الْفِعْلِيُّ فَقَطْ أَوِ الْقَوْلِيُّ فَقَطْ أَوِ الشَّرْعِيُّ فَقَطْ، فَلَا حَاجَةَ لِتَرْتِيبِهَا.

وَالْمَالِكِيَّةُ ذَكَرَ بَعْضُهُمُ الْعُرْفَ الْفِعْلِيَّ وَقَدَّمَهُ عَلَى الْقَوْلِيِّ، وَأَغْفَلَهُ بَعْضُهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّمَ الشَّرْعِيَّ عَلَى اللُّغَوِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ.

وَالشَّافِعِيَّةُ لَمْ يُفَصِّلُوا فِي الْعُرْفِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ تَارَةً يُقَدِّمُونَ الْعُرْفَ عَلَى اللُّغَةِ، وَتَارَةً يَعْكِسُونَ.

وَالْحَنَابِلَةُ قَدَّمُوا الْمَعْنَى الشَّرْعِيَّ، وَأَتْبَعُوهُ بِالْعُرْفِيِّ فَاللُّغَوِيِّ، وَلَمْ يُقَسِّمُوا الْعُرْفِيَّ إِلَى فِعْلِيٍّ وَقَوْلِيٍّ.

أ- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:

168- الْأَصْلُ فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الْحَالِفُ أَنْ يُرَاعِيَ فِيهَا مَعْنَى الْمُفْرَدَاتِ فِي اللُّغَةِ، وَأَنْ يُرَاعِيَ الْمَعْنَى التَّرْكِيبِيَّ مِنْ عُمُومٍ وَخُصُوصٍ وَإِطْلَاقٍ وَتَقْيِيدٍ بِالْوَقْتِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنَ الْقُيُودِ، وَمَعَانِي الْحُرُوفِ الَّتِي فِيهَا كَالْوَاوِ وَالْفَاءِ وَثُمَّ وَأَوْ. وَإِنَّمَا يُرَاعَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَلَامُ النَّاسِ بِخِلَافِهِ، فَإِنْ كَانَ كَلَامُ النَّاسِ بِخِلَافِهِ وَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ، فَيَكُونُ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً.

وَمِنْ أَدِلَّةِ تَقْدِيمِ الْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ عَلَى اللُّغَوِيِّ الْأَصْلِيِّ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-، وَقَالَ: إِنَّ صَاحِبًا لَنَا مَاتَ وَأَوْصَى بِبَدَنَةٍ، أَفَتُجْزِي عَنْهُ الْبَقَرَةُ؟ فَقَالَ: «مِمَّنْ صَاحِبُكُمْ؟ فَقَالَ مِنْ بَنِي رَبَاحٍ، فَقَالَ: » مَتَى اقْتَنَتْ بَنُو رَبَاحٍ الْبَقَرَ؟ إِنَّمَا الْبَقَرُ لِلْأَزْدِ، وَذَهَبَ وَهْمُ صَاحِبِكُمْ إِلَى الْإِبِلِ

فَهَذَا الْأَثَرُ أَصْلٌ أَصِيلٌ فِي حَمْلِ الْكَلَامِ الْمُطْلَقِ عَلَى مَا يُرِيدُهُ النَّاسُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِرَادَةَ النَّاسِ تَذْهَبُ إِلَى الْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ، فِيمَا لَهُ مَعْنًى لُغَوِيٌّ وَمَعْنًى عُرْفِيٌّ، فَالظَّاهِرُ عِنْدَ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ إِرَادَةُ الْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ الْغَرِيمُ لِغَرِيمِهِ: وَاللَّهِ لأَجُرَّنَّكَ فِي الشَّوْكِ، لَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَتَهُ اللُّغَوِيَّةَ عَادَةً، وَإِنَّمَا يُرِيدُ شِدَّةَ الْمَطْلِ، فَلَا يَحْنَثُ بِعَدَمِ جَرِّهِ فِي الشَّوْكِ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِإِعْطَائِهِ الدَّيْنَ مِنْ غَيْرِ مُمَاطَلَةٍ.

وَلَوْ حَلَفَ: أَلاَّ يَجْلِسَ فِي سِرَاجٍ، فَجَلَسَ فِي الشَّمْسِ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَمَّاهَا سِرَاجًا فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} وَكَذَا لَا يَحْنَثُ مَنْ جَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ، وَكَانَ قَدْ حَلَفَ أَلاَّ يَجْلِسَ عَلَى بِسَاطٍ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سَمَّى الْأَرْضَ بِسَاطًا فِي قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} وَكَذَا مَنْ حَلَفَ أَلاَّ يَمَسَّ وَتَدًا، فَمَسَّ جَبَلًا لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ سَمَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَدًا فِي قَوْلِهِ: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} وَكَذَا مَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً فَرَكِبَ إِنْسَانًا لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى دَابَّةً فِي الْعُرْفِ، وَإِنْ كَانَ يُسَمَّى دَابَّةً فِي اللُّغَةِ.

وَهَذَا كُلُّهُ حَيْثُ لَمْ يَجْعَلِ اللَّفْظَ فِي الْعُرْفِ مَجَازًا عَنْ مَعْنًى آخَرَ، كَمَا لَوْ حَلَفَ: لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ، فَإِنَّهُ صَارَ مَجَازًا عَنِ الدُّخُولِ مُطْلَقًا، فَفِي هَذَا لَا يُعْتَبَرُ اللَّفْظُ أَصْلًا، حَتَّى لَوْ وَضَعَ قَدَمَهُ وَلَمْ يَدْخُلْ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْأَصْلِيَّ وَالْعُرْفِيَّ لِلَّفْظِ قَدْ هُجِرَ، وَصَارَ الْمُرَادُ بِهِ مَعْنًى آخَرَ، وَمِثْلُهُ: لَا آكُلُ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ- وَهِيَ مِنَ الْأَشْجَارِ الَّتِي لَا تُثْمِرُ وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَكْلِ شَيْءٍ مِنْهَا- فَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تَنْصَرِفُ إِلَى الِانْتِفَاعِ بِثَمَنِهَا، فَلَا يَحْنَثُ بِتَنَاوُلِ شَيْءٍ مِنْهَا وَمَضْغِهِ وَابْتِلَاعِهِ.

ب- مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:

169- إِذَا لَمْ يُوجَدْ مُسْتَحْلِفٌ ذُو حَقٍّ، وَلَمْ يَنْوِ الْحَالِفُ نِيَّةً مُعْتَبَرَةً، وَلَمْ يَكُنْ لِلْيَمِينِ بِسَاطٌ دَالٌّ عَلَى مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ، فَالْمُعْتَمَدُ اعْتِبَارُ الْعُرْفِ الْفِعْلِيِّ، كَمَا لَوْ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ خُبْزًا، وَكَانَ أَهْلُ بَلَدِهِ لَا يَأْكُلُونَ إِلاَّ خُبْزَ الْقَمْحِ، فَأَكْلُ الْقَمْحِ عِنْدَهُمْ عُرْفٌ فِعْلِيٌّ، فَهُوَ مُخَصِّصٌ لِلْخُبْزِ الَّذِي حَلَفَ عَلَى عَدَمِ أَكْلِهِ، فَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ خُبْزِ الذُّرَةِ.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُرْفٌ فِعْلِيٌّ اعْتُبِرَ الْعُرْفُ الْقَوْلِيُّ، كَمَا لَوْ كَانَ عُرْفُ قَوْمٍ اسْتِعْمَالَ لَفْظِ الدَّابَّةِ فِي الْحِمَارِ وَحْدَهُ، وَلَفْظَ الثَّوْبِ فِيمَا يُلْبَسُ مِنْ جِهَةِ الرَّأْسِ وَيَسْلُكُ فِي الْعُنُقِ، فَحَلَفَ حَالِفٌ مِنْهُمْ: أَلاَّ يَشْتَرِيَ دَابَّةً أَوْ ثَوْبًا، فَلَا يَحْنَثُ بِشِرَاءِ فَرَسٍ وَلَا عِمَامَةٍ.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُرْفٌ فِعْلِيٌّ وَلَا قَوْلِيٌّ اعْتُبِرَ الْعُرْفُ الشَّرْعِيُّ، فَمَنْ حَلَفَ: لَا يُصَلِّي فِي هَذَا الْوَقْتِ، أَوْ لَا يَصُومُ غَدًا، أَوْ لَا يَتَوَضَّأُ الْآنَ، أَوْ لَا يَتَيَمَّمُ حَنِثَ بِالشَّرْعِيِّ مِنْ ذَلِكَ دُونَ اللُّغَوِيِّ، فَلَا يَحْنَثُ بِالدُّعَاءِ، وَلَا بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، مَعَ أَنَّهُمَا يُسَمَّيَانِ صَلَاةً فِي اللُّغَةِ، وَلَا يَحْنَثُ بِالْإِمْسَاكِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَإِنْ كَانَ يُسَمَّى صِيَامًا فِي اللُّغَةِ، وَلَا بِغُسْلِ الْيَدَيْنِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ، مَعَ أَنَّهُ يُسَمَّى وُضُوءًا فِي اللُّغَةِ، وَلَا بِقَصْدِهِ إِنْسَانًا وَالذَّهَابَ إِلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ يُسَمَّى تَيَمُّمًا فِي اللُّغَةِ.

فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ اللُّغَوِيِّ، مِنْ نِيَّةٍ أَوْ بِسَاطٍ أَوْ عُرْفٍ فِعْلِيٍّ أَوْ قَوْلِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ، حُمِلَتِ الْيَمِينُ عَلَى الظَّاهِرِ اللُّغَوِيِّ، فَمَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً أَوْ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا، وَلَيْسَ لَهُ نِيَّةٌ، وَلَا لِأَهْلِ بَلَدِهِ عُرْفٌ فِي دَابَّةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ ثَوْبٍ مُعَيَّنٍ، حَنِثَ بِرُكُوبِهِ التِّمْسَاحَ وَلُبْسِهِ الْعِمَامَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَدْلُولُ اللُّغَوِيُّ. ج- مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ:

170- الْأَصْلُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُتَّبَعَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ عِنْدَ ظُهُورِهِ وَشُمُولِهِ، ثُمَّ يُتَّبَعَ الْعُرْفُ إِذَا كَانَ مُطَّرِدًا وَكَانَتِ الْحَقِيقَةُ بَعِيدَةً، مِثْلُ لَا آكُلُ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الثَّمَرِ لَا الْوَرَقِ، وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ الرَّأْسَ، حُمِلَ عَلَى رُءُوسِ النَّعَمِ، وَهِيَ الْبَقَرُ وَالْإِبِلُ وَالْغَنَمُ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُتَعَارَفَةُ، حَتَّى إِنِ اخْتَصَّ بَعْضُهَا بِبَلَدِ الْحَالِفِ، بِخِلَافِ رَأْسِ الطَّيْرِ وَالْحُوتِ وَالظَّبْيِ وَنَحْوِهَا فَلَا تُحْمَلُ الْيَمِينُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا إِلاَّ إِذَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِبَيْعِهَا فِي بَلَدِ الْحَالِفِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُفْهَمُ مِنَ اللَّفْظِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ.

د- مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ:

171- إِنْ عُدِمَتِ النِّيَّةُ وَالسَّبَبُ رَجَعَ فِي الْيَمِينِ إِلَى مَا تَنَاوَلَهُ الِاسْمُ شَرْعًا فَعُرْفًا فَلُغَةً، فَالْيَمِينُ عَلَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْوُضُوءِ وَالْبَيْعِ وَنَحْوِهَا مِنْ كُلِّ مَا لَهُ مَعْنًى شَرْعِيٌّ وَمَعْنًى لُغَوِيٌّ تُحْمَلُ عَلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَيُحْمَلُ عَلَى الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ، فِيمَا عَدَا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ.

وَلَوْ قَيَّدَ حَالِفٌ يَمِينَهُ بِمَا لَا يَصِحُّ شَرْعًا، كَأَنْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ الْخَمْرَ، فَفَعَلَ، حَنِثَ بِصُورَةِ ذَلِكَ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ لِتَعَذُّرِ الصَّحِيحِ.

وَمَنْ حَلَفَ عَلَى الرَّاوِيَةِ وَالظَّعِينَةِ وَالدَّابَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا اشْتُهِرَ مَجَازُهُ حَتَّى غَلَبَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُهَا أَكْثَرُ النَّاسِ، فَهَذَا حَلِفٌ عَلَى أَسْمَاءٍ لَهَا مَعَانٍ عُرْفِيَّةٌ وَهِيَ الَّتِي اشْتُهِرَتْ، وَمَعَانٍ لُغَوِيَّةٌ وَهِيَ الَّتِي صَارَتْ كَالْمَجْهُولَةِ.فَالرَّاوِيَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِمَا يُسْتَقَى عَلَيْهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَاشْتُهِرَتْ فِي الْمَزَادَةِ، وَهِيَ وِعَاءٌ يُحْمَلُ فِيهِ الْمَاءُ فِي السَّفَرِ كَالْقِرْبَةِ وَنَحْوِهَا.وَالظَّعِينَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِلنَّاقَةِ الَّتِي يُظْعَنُ عَلَيْهَا، ثُمَّ اشْتُهِرَتْ فِي الْمَرْأَةِ فِي الْهَوْدَجِ.وَالدَّابَّةُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا دَبَّ وَدَرَجَ، وَاشْتُهِرَتْ فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ خَيْلٍ وَبِغَالٍ وَحَمِيرٍ وَيُرَاعَى فِي الْحَلِفِ عَلَيْهَا الْمَعْنَى الْعُرْفِيُّ لَا اللُّغَوِيُّ.

وَمَنْ حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ لَحْمًا أَوْ شَحْمًا أَوْ رَأْسًا أَوْ بَيْضًا أَوْ لَبَنًا، أَوْ ذَكَرَ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ، وَهِيَ الَّتِي لَمْ يَغْلِبْ مَجَازُهَا عَلَى حَقِيقَتِهَا، يُرَاعَى فِي يَمِينِهِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَيَحْنَثُ الْحَالِفُ عَلَى تَرْكِ أَكْلِ اللَّحْمِ بِأَكْلِ سَمَكٍ وَلَحْمِ خِنْزِيرٍ وَنَحْوِهِ، وَلَا بِمَرَقِ اللَّحْمِ، وَلَا بِالْمُخِّ وَالشَّحْمِ وَالْكَبِدِ وَالْكُلْيَةِ وَالْمُصْرَانِ وَالطِّحَالِ وَالْقَلْبِ وَالْأَلْيَةِ وَالدِّمَاغِ وَالْقَانِصَةِ وَالْكَارِعِ وَلَحْمِ الرَّأْسِ وَاللِّسَانِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ اللَّحْمِ لَا يَتَنَاوَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ نَوَى الِامْتِنَاعَ مِنْ تَنَاوُلِ الدَّسَمِ حَنِثَ بِذَلِكَ كُلِّهِ.

وَيَحْنَثُ الْحَالِفُ عَلَى تَرْكِ أَكْلِ الشَّحْمِ بِجَمِيعِ الشُّحُومِ، حَتَّى شَحْمِ الظَّهْرِ وَالْجَبِّ وَالْأَلْيَةِ وَالسَّنَامِ؛ لِأَنَّ الشَّحْمَ مَا يَذُوبُ مِنَ الْحَيَوَانِ بِالنَّارِ، لَا بِاللَّحْمِ الْأَحْمَرِ وَلَا الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ وَالرَّأْسِ وَالْكُلْيَةِ وَالْقَلْبِ وَالْقَانِصَةِ وَنَحْوِهَا.

وَالْحَالِفُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ أَكْلِ الرُّءُوسِ يَحْنَثُ بِجَمِيعِ الرُّءُوسِ: رَأْسِ الطَّيْرِ وَرَأْسِ السَّمَكِ وَرَأْسِ الْجَرَادِ.

وَالْحَالِفُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ أَكْلِ الْبَيْضِ يَحْنَثُ بِكُلِّ بَيْضٍ، حَتَّى بَيْضِ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ.

وَالْحَالِفُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ أَكْلِ اللَّبَنِ يَحْنَثُ بِكُلِّ مَا يُسَمَّى لَبَنًا، حَتَّى لَبَنَ الظَّبْيَةِ وَالْآدَمِيَّةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ حَلِيبًا أَمْ رَائِبًا أَمْ مُجَمَّدًا، وَيَحْنَثُ بِالْمُحَرَّمِ كَلَبَنِ الْخِنْزِيرَةِ وَالْأَتَانِ، وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الزُّبْدِ أَوِ السَّمْنِ أَوِ الْكِشْكِ أَوِ الْمَصْلِ أَوِ الْجُبْنِ أَوِ الْأَقَطِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُعْمَلُ مِنَ اللَّبَنِ وَيَخْتَصُّ بِاسْمٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


116-موسوعة الفقه الكويتية (أيام منى)

أَيَّامُ مِنًى

التَّعْرِيفُ:

1- أَيَّامُ مِنًى أَرْبَعَةٌ هِيَ: يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ، وَهِيَ الْحَادِيَ عَشَرَ، وَالثَّانِيَ عَشَرَ، وَالثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَيْهَا هَذَا الِاسْمُ لِعَوْدَةِ الْحُجَّاجِ إِلَى مِنًى بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْمَبِيتِ بِهَا لَيَالِيَ هَذَا الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ.

وَكَمَا أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى هَذِهِ الْأَيَّامِ أَيَّامُ مِنًى، فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهَا كَذَلِكَ أَيَّامُ الرَّمْيِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَأَيَّامُ رَمْيِ الْجِمَارِ، وَالْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ.كُلُّ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ وَاقِعَةٌ عَلَيْهَا، وَيُعَبِّرُ بِهَا الْفُقَهَاءُ، إِلاَّ أَنَّهُ

(

اشْتُهِرَ التَّعْبِيرُ عِنْدَهُمْ بِأَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

2- لِأَيَّامِ مِنًى أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِهَا، كَالْمَبِيتِ بِمِنًى فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَرَمْيِ الْجِمَارِ فِيهَا.

وَقَدْ ذُكِرَ تَفْصِيلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فِي مُصْطَلَحِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، نَظَرًا لِشُهْرَةِ هَذِهِ الْأَيَّامِ بِهَا. (ر: أَيَّامٌ، التَّشْرِيقُ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


117-موسوعة الفقه الكويتية (البيع 2)

البَيْعٌ -2

ثَانِيًا: وَسِيلَةُ مَعْرِفَةِ الْمَبِيعِ وَتَعْيِينِهِ

34- إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ غَائِبًا عَنِ الْمَجْلِسِ وَلَمْ تَتِمَّ مَعْرِفَةُ الْمَبِيعِ بِرُؤْيَتِهِ أَوِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ عَلَى مَا سَبَقَ، فَإِنَّهَا تَتِمُّ بِالْوَصْفِ الَّذِي يُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ، مَعَ بَيَانِ مِقْدَارِهِ.وَإِذَا كَانَ عَقَارًا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ حُدُودِهِ، لِاخْتِلَافِ قِيمَةِ الْعَقَارِ بِاخْتِلَافِ جِهَتِهِ وَمَوْقِعِهِ.وَإِذَا كَانَ مِنَ الْمَكِيلَاتِ أَوِ الْمَوْزُونَاتِ أَوِ الْمَذْرُوعَاتِ أَوِ الْمَعْدُودَاتِ فَإِنَّهُ تَحْصُلُ مَعْرِفَتُهَا بِالْمِقْدَارِ الَّذِي تُبَاعُ بِهِ.وَفِي ذَلِكَ بَعْضُ التَّفْصِيلَاتِ سَيَأْتِي بَيَانُهَا قَرِيبًا.

وَيَصِحُّ بَيْعُ الْجُزَافِ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِجْمَالِ الثَّمَنِ عَلَى الصُّبْرَةِ كُلِّهَا، فَيَصِحُّ بِاتِّفَاقٍ مَعَ مُرَاعَاةِ مَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ شُرُوطٍ فِي بَيْعِ الْجُزَافِ.

وَإِمَّا بِتَفْصِيلِهِ بِنَحْوِ: كُلُّ صَاعٍ بِكَذَا، فَيَصِحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ، وَيَبْطُلُ فِيمَا سِوَاهُ، لِجَهَالَةِ الْمَجْمُوعِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ قَدَّرَ الصُّبْرَةَ كَأَنْ قَالَ: بِعْتُكَ الصُّبْرَةَ كُلَّ صَاعٍ بِدِرْهَمٍ، عَلَى أَنَّهَا مِائَةٌ، صَحَّ الْبَيْعُ إِنْ خَرَجَتْ مِائَةٌ لِتَوَافُقِ الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِائَةً، بِأَنْ خَرَجَتْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، فَفِي الصَّحِيحِ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ، لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ جُمْلَةِ الثَّمَنِ وَتَفْصِيلِهِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي يَصِحُّ.

وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَكِيلِ بِالْوَزْنِ، وَعَكْسُهُ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ فِي غَيْرِ الرِّبَوِيَّاتِ، أَيْ فِيمَا لَا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِيهِ، لِلنَّصِّ عَلَى ذَلِكَ فِي الرِّبَوِيَّاتِ.

وَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِمِكْيَالٍ أَوْ مِيزَانٍ خَاصٍّ، كَحَجَرٍ مُعَيَّنٍ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَارَفًا عَلَيْهِ عِنْدَ غَيْرِهِمَا.

أَمَّا الْبَيْعُ بِمِكْيَالٍ غَيْرِ مُنْضَبِطٍ، بِأَنْ كَانَ يَتَّسِعُ وَيَضِيقُ فَلَا يَجُوزُ.مَعَ اسْتِثْنَاءِ بَيْعِ الْمَاءِ بِالْقِرَبِ، فَيَجُوزُ اسْتِحْسَانًا لِجَرَيَانِ الْعُرْفِ بِهِ كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ.

ثَالِثًا- شُمُولُ الْمَبِيعِ:

تَوَابِعُ الْمَبِيعِ:

35- يَقَعُ الْبَيْعُ عَلَى الْعَيْنِ وَمَنَافِعِهَا، وَلِذَا كَانَ مِنْ مُقْتَضَاهُ أَحْيَانًا أَنْ يَدْخُلَ فِي الْمَبِيعِ مَالُهُ صِلَةً بِهِ، لِتَحْقِيقِ الْمَنْفَعَةِ الْمُرَادَةِ مِنْهُ، أَوْ أَنْ يَقْضِيَ الْعُرْفُ بِشُمُولِ الْمَبِيعِ لِأَشْيَاءَ تَدْخُلُ فِيهِ وَلَوْ لَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ فِي الْعَقْدِ.كَمَا أَنَّهَا لَا تَنْفَصِلُ عَنْهُ لَا بِالِاسْتِثْنَاءِ.

فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَدْخُلُ فِي الْمَبِيعِ مَا يَلِي:

أ- مَا يَتَنَاوَلُهُ مَدْلُولُ اسْمِ الْمَبِيعِ، بِحَيْثُ يُعْتَبَرُ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهِ.فَبَيْعُ الدَّارِ مَثَلًا يَدْخُلُ فِيهِ غُرَفُهَا، وَبَيْعُ الْخِزَانَةِ يَدْخُلُ فِيهِ الْأَدْرَاجُ.

ب- مَا لَا يَقْبَلُ الِانْفِكَاكَ عَنِ الْمَبِيعِ بِالنَّظَرِ إِلَى الْغَرَضِ مِنَ الْعَقْدِ عَلَيْهِ.فَبَيْعُ الْقُفْلِ يَدْخُلُ مَعَهُ الْمِفْتَاحُ.

ج- مَا كَانَ مُتَّصِلًا بِالْمَبِيعِ اتِّصَالَ قَرَارٍ، بِأَنْ كَانَ مَوْضُوعًا عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ، كَبَيْعِ الدَّارِ تَدْخُلُ فِيهِ الْأَبْوَابُ وَالْأَحْوَاضُ.

د- مَا جَرَى الْعُرْفُ بِبَيْعِهِ مَعَ الْمَبِيعِ تَابِعًا لَهُ.كَالْخِطَامِ بِالنِّسْبَةِ لِلْبَعِيرِ.

فَالْأَصْلُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ كُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْعُرْفِ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ، فَمَا جَرَى الْعُرْفُ فِي بَلَدٍ بِدُخُولِهِ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا دَخَلَ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ هَذَا الْعُرْفُ فِي بَلَدٍ آخَرَ.

وَلِذَلِكَ يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الذَّخِيرَةِ فِي بَيْعِ الدَّارِ: الْأَصْلُ أَنَّ مَا لَا يَكُونُ مِنْ بِنَاءِ الدَّارِ وَلَا مُتَّصِلًا بِهَا، لَا يَدْخُلُ إِلاَّ إِذَا جَرَى الْعُرْفُ أَنَّ الْبَائِعَ لَا يَمْنَعُهُ عَنِ الْمُشْتَرِي، فَالْمِفْتَاحُ يَدْخُلُ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا لِعَدَمِ اتِّصَالِهِ، وَقُلْنَا بِدُخُولِهِ بِحُكْمِ الْعُرْفِ.ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ شِرْبَ الدَّارِ يَدْخُلُ فِي دِيَارِنَا (دِمَشْقَ) لِلتَّعَارُفِ، بَلْ هُوَ أَوْلَى مِنْ دُخُولِ السَّلَمِ الْمُنْفَصِلِ فِي عُرْفِ مِصْرَ الْقَاهِرَةِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ فِي دِمَشْقَ إِذَا كَانَ لَهَا مَاءٌ جَارٍ وَانْقَطَعَ عَنْهَا أَصْلًا لَمْ يُنْتَفَعْ بِهَا، وَأَيْضًا إِذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شِرْبَهَا بِعَقْدِ الْبَيْعِ لَا يَرْضَى بِشِرَائِهَا إِلاَّ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ لِلدَّارِ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا شِرْبُهَا.

وَيَقُولُ الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ: مَا يَتْبَعُ الْعَقْدَ عُرْفًا، وَقَاعِدَةِ: مَا لَا يَتْبَعُهُ- بَعْدَ أَنْ سَرَدَ الْأَبْوَابَ فِي ذَلِكَ- قَالَ: وَهَذِهِ الْأَبْوَابُ الَّتِي سَرَدْتُهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعَوَائِدِ، غَيْرُ مَسْأَلَةِ الثِّمَارِ الْمُؤَبَّرَةِ بِسَبَبِ أَنَّ مُدْرَكَهَا النَّصُّ وَالْقِيَاسُ، وَمَا عَدَاهَا مُدْرَكُهُ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ، فَإِذَا تَغَيَّرَتِ الْعَادَةُ أَوْ بَطَلَتْ بَطَلَتْ هَذِهِ الْفَتَاوَى، وَحَرُمَتِ الْفَتْوَى بِهَا لِعَدَمِ مُدْرَكِهَا فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ، بَلْ تَتْبَعُ الْفَتْوَى هَذِهِ الْعَوَائِدَ كَيْفَمَا تَقَلَّبَتْ، كَمَا تَتْبَعُ النُّقُودُ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَحِينٍ، وَكُلُّ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي النُّقُودِ وَاقْتَضَتْهُ اللُّغَةُ فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَوَائِدِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْعُرْفَ اقْتَضَاهُ.

وَمَعْنَى شُمُولِ الْمَبِيعِ لِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ أَنَّهَا تَدْخُلُ مَعَهُ بِالثَّمَنِ نَفْسِهِ دُونَ أَنْ يَكُونَ لَهَا حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ فِي الْمَبِيعِ تَبَعًا لَا حِصَّةَ لَهُ مِنَ الثَّمَنِ.

وَيُعْتَبَرُ مِثْلُ ذَلِكَ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- مَا كَانَ وَصْفًا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَبِيعِ، فَإِذَا تَلِفَ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي إِسْقَاطُ شَيْءٍ فِي مُقَابِلِهِ مِنَ الثَّمَنِ، بَلْ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ التَّمَسُّكِ بِالْعَقْدِ وَبَيْنَ الْفَسْخِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا لَوْ هَلَكَ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِ الْمَبِيعِ (لَا مِنْ تَوَابِعِهِ) فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ بِهِ الْمُشْتَرِي مِنْ إِسْقَاطِ مَا يَخُصُّهُ مِنَ الثَّمَنِ.

وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِنْ قَالَ بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ دَخَلَ فِيهَا مَا اتَّصَلَ بِهَا مِنَ الرُّفُوفِ الْمُسَمَّرَةِ وَالْخَوَابِي وَالْأَجَاجِينِ الْمَدْفُونَةِ فِيهَا، وَكُلُّ مَا اتَّصَلَ بِهَا اتِّصَالَ اسْتِقْرَارٍ لِمَصْلَحَتِهَا.

وَلَا يَدْخُلُ الْمُنْفَصِلُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَأَحَدُ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَيَدْخُلُ حَجَرُ الرَّحَى السُّفْلَانِيُّ إِنْ كَانَ مُتَّصِلًا، وَلَا يَدْخُلُ الْحَجَرُ الْفَوْقَانِيُّ، وَلَا مِثْلُ دَلْوٍ وَحَبْلٍ وَبَكْرَةٍ وَمِفْتَاحٍ.

الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْمَبِيعِ:

36- يَنْبَنِي حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْمَبِيعِ عَلَى نَصٍّ وَضَابِطٍ مَبْنِيٍّ عَلَيْهِ، مَعَ اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ مَا يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلَ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي التَّوْجِيهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ الثُّنْيَا إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ».

وَأَمَّا الضَّابِطُ فَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُنْفَرِدًا يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ، وَمَا لَا يَجُوزُ إِيقَاعُ الْبَيْعِ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ.

وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمُسْتَثْنَى مَعْلُومًا، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مَجْهُولًا عَادَ عَلَى الْبَاقِي بِالْجَهَالَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ.

وَعَلَى ذَلِكَ لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْحَمْلِ مِنْ بَيْعِ الدَّابَّةِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ، فَكَذَا اسْتِثْنَاؤُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلاَّ فِيمَا نُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِصِحَّةِ اسْتِثْنَائِهِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ، لِمَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ بَاعَ جَارِيَةً وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ فِي الْعِتْقِ، فَصَحَّ فِي الْبَيْعِ قِيَاسًا عَلَيْهِ.

وَهَكَذَا كُلُّ مَجْهُولٍ لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ، كَاسْتِثْنَاءِ شَاةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ مِنْ قَطِيعٍ.

وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحَائِطِ وَاسْتِثْنَاءُ شَجَرَةٍ أَوْ نَخْلَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْمَجْهُولِ مِنَ الْمَعْلُومِ يُصَيِّرُهُ مَجْهُولًا، فَإِنْ عَيَّنَ الْمُسْتَثْنَى صَحَّ الْبَيْعُ وَالِاسْتِثْنَاءُ.وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

وَيَجُوزُ عِنْدَ الْإِمَامِ مَالِكٍ اسْتِثْنَاءُ نَخَلَاتٍ أَوْ شَجَرَاتٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِأَعْيَانِهَا، عَلَى أَنْ يَخْتَارَهَا، إِذَا كَانَ ثَمَرُهَا قَدْرَ الثُّلُثِ أَوْ أَقَلَّ، وَكَانَتْ ثِمَارُ الْحَائِطِ لَوْنًا وَاحِدًا، لِخِفَّةِ الْغَرَرِ فِي ذَلِكَ.

وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ ثَمَرَةٍ وَاسْتِثْنَاءُ أَرْطَالٍ مَعْلُومَةٍ مِنْهَا، «لِنَهْيِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الثُّنْيَا»، وَلِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مَجْهُولٌ.رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالشَّافِعِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ غَيْرَ أَبِي الْخَطَّابِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ وَقَوْلُ الطَّحَاوِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَيَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِمَامِ مَالِكٍ إِذَا كَانَ قَدْرَ ثُلُثٍ فَأَقَلَّ، وَالْجَوَازُ هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى مَعْلُومًا.

وَيَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ جُزْءٍ مُشَاعٍ كَرُبُعٍ وَثُلُثٍ، لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةِ الْمُسْتَثْنَى وَلَا الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَصَحَّ كَمَا لَوِ اشْتَرَى شَجَرَةً بِعَيْنِهَا.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ أَبِي مُوسَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لَا يَجُوزُ.

وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بَيْعُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ وَاسْتِثْنَاءُ رَأْسِهِ وَجِلْدِهِ وَأَطْرَافِهِ وَسَوَاقِطِهِ.وَجَوَّزَ مَالِكٌ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ فَقَطْ، إِذْ لَا ثَمَنَ لِلسَّوَاقِطِ هُنَاكَ، وَكَرِهَهُ فِي الْحَضَرِ، وَلِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِالْجِلْدِ وَالسَّوَاقِطِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ اسْتِثْنَاءِ ذَلِكَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ الثُّنْيَا إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ» وَهَذِهِ مَعْلُومَةٌ وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَرُّوا بِرَاعِي غَنَمٍ فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ وَعَامِرٌ فَاشْتَرَيَا مِنْهُ شَاةً.وَشَرَطَا لَهُ سَلَبَهَا أَيْ جِلْدَهَا وَأَكَارِعَهَا وَبَطْنَهَا» وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.

وَمِمَّا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ مَا اعْتَبَرَهُ بَعْضُهُمْ شَرْطًا صَحِيحًا، فَأَجَازَهُ وَأَجَازَ الْبَيْعَ، وَاعْتَبَرَهُ غَيْرُهُمْ شَرْطًا فَاسِدًا، فَأَبْطَلَهُ وَأَبْطَلَ الْبَيْعَ.

وَمِثَالُ ذَلِكَ: مَنْ يَبِيعُ الدَّارَ وَيُسْتَثْنَى سُكْنَاهَا شَهْرًا مَثَلًا، فَأَجَازَ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ «جَابِرٍ أَنَّهُ بَاعَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- جَمَلًا، وَاشْتَرَطَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ أَيْ رُكُوبَهُ» وَفِي لَفْظٍ: قَالَ: «بِعْتُهُ وَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلَانَهُ إِلَى أَهْلِي».

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَالْبَيْعُ، لِأَنَّهُ شَرْطٌ غَيْرُ مُلَائِمٍ. بَيْعُ الْأُصُولِ:

37- الْأُصُولُ: جَمْعُ أَصْلٍ، وَهُوَ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَالْمُرَادُ بِالْأُصُولِ هُنَا مَا عَبَّرَ عَنْهُ النَّوَوِيُّ، بِقَوْلِهِ فِي «تَحْرِيرِهِ» الْأُصُولُ: الشَّجَرُ وَالْأَرْضُ وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: الْمُرَادُ بِالْأُصُولِ هُنَا: أَرْضٌ وَدُورٌ وَبَسَاتِينُ.

وَقَدْ دَرَجَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِفْرَادِ فَصْلٍ بِعِنْوَانِ (بَيْعُ الْأُصُولِ) ذَاكِرِينَ فِيهِ مَا يَتْبَعُ هَذِهِ الْأُصُولَ فِي الْبَيْعِ وَمَا لَا يَتْبَعُهَا.وَبَيَانُ ذَلِكَ كَمَا يَأْتِي.

38- بَيْعُ الْأَرْضِ: مَنْ بَاعَ أَرْضًا دَخَلَ فِيهَا الْغِرَاسُ وَالْبِنَاءُ لِاتِّصَالِهَا بِهَا اتِّصَالَ قَرَارٍ، وَهِيَ مِنْ حُقُوقِهَا، وَهَذَا فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ إِلاَّ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَقُلْ بِحُقُوقِهَا فَلَا يَدْخُلُ الْبِنَاءُ وَالشَّجَرُ لَكِنَّ الْمَذْهَبَ دُخُولُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ.كَمَا أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ فَسَّرُوا الشَّجَرَ الَّذِي يَتْبَعُ الْأَرْضَ بِالشَّجَرِ الرَّطْبِ، أَمَّا الْيَابِسُ فَلَا يَدْخُلُ، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَالسُّبْكِيُّ تَفَقُّهًا.وَقَالَ الْإِسْنَوِيُّ لَا يَدْخُلُ جَزْمًا.

كَمَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ الْحِجَارَةُ الْمَخْلُوقَةُ وَالْمُثْبَتَةُ فِيهَا، لِأَنَّهَا مِنْ أَجْزَائِهَا، دُونَ الْمَدْفُونَةِ كَالْكَنْزِ فَلَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ، وَتَكُونُ لِلْبَائِعِ، لَكِنْ قَالَ الْقَرَافِيُّ: لَا تَدْخُلُ الْمَدْفُونَةُ إِلاَّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَنْ مَلَكَ ظَاهِرَ الْأَرْضِ مَلَكَ بَاطِنَهَا.

وَإِنْ كَانَ فِي الْأَرْضِ زَرْعٌ يُجَزُّ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَالْأُصُولُ لِلْمُشْتَرِي، وَالْجِزَّةُ الظَّاهِرَةُ عِنْدَ الْبَيْعِ لِلْبَائِعِ.

39- وَمَنْ بَاعَ دَارًا دَخَلَ فِي الْبَيْعِ بِنَاؤُهَا، وَفِنَاؤُهَا وَمَا فِيهَا مِنْ شَجَرٍ مَغْرُوسٍ، وَمَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهَا لِمَصْلَحَتِهَا، كَسَلَالِمَ، وَرُفُوفٍ مُسَمَّرَةٍ، وَأَبْوَابٍ وَرَحًى مَنْصُوبَةٍ، وَلَا يَتَنَاوَلُ مَا فِيهَا مِنْ كَنْزٍ مَدْفُونٍ وَلَا مَا هُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْهَا كَحَبْلٍ وَدَلْوٍ، وَلَا مَا يُنْقَلُ كَحَجَرٍ وَخَشَبٍ.أَمَّا الْغَلْقُ الْمُثَبَّتُ فَيَدْخُلُ مِفْتَاحُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

40- وَمَنْ بَاعَ شَجَرًا تَبِعَهُ الْأَغْصَانُ وَالْوَرَقُ وَسَائِرُ أَجْزَاءِ الشَّجَرِ، لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَائِهَا خُلِقَ لِمَصْلَحَتِهَا، أَمَّا الْأَرْضُ الَّتِي هِيَ مَكَانُ غَرْسِهَا فَتَدْخُلُ أَيْضًا فِي بَيْعِهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنِ اشْتَرَاهَا لِلْقَرَارِ اتِّفَاقًا.وَلَا تَدْخُلُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَعَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ لَا يَتَنَاوَلُهَا وَلَا هِيَ تَبَعٌ لِلْمَبِيعِ.

وَإِنْ كَانَ فِي الشَّجَرِ أَوِ النَّخْلِ ثَمَرٌ فَالْمُؤَبَّرُ لِلْبَائِعِ، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ».

أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ مُؤَبَّرَةً فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي، لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- دَلَّ عَلَى أَنَّهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ مُؤَبَّرَةً فَهِيَ لِلْمُبْتَاعِ، وَلِأَنَّ ثَمَرَةَ النَّخْلِ كَالْحَمْلِ، لِأَنَّهُ نَمَاءٌ كَامِنٌ لِظُهُورِهِ غَايَةٌ.وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا تَدْخُلُ الثَّمَرَةُ مُؤَبَّرَةً أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ إِلاَّ بِالشَّرْطِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ.لَكِنْ بِرِوَايَةٍ لَيْسَ فِيهَا التَّأْبِيرُ.

41- وَمَنْ بَاعَ حَيَوَانًا تَبِعَهُ مَا جَرَى الْعُرْفُ بِتَبَعِيَّتِهِ لَهُ كَاللِّجَامِ وَالْمِقْوَدِ وَالسَّرْجِ، وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ مَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ كَالْبَرَّةِ (الْحَلْقَةُ الَّتِي فِي أَنْفِ الدَّابَّةِ) وَكَالنَّعْلِ الْمُسَمَّرِ، فَهَذَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْحَيَوَانِ تَبَعًا.

أَمَّا اللِّجَامُ وَالسَّرْجُ وَالْمِقْوَدُ، فَلَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْحَيَوَانِ اقْتِصَارًا عَلَى مُقْتَضَى اللَّفْظِ.

بَيْعُ الثِّمَارِ:

42- يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ بَيْعُ الثِّمَارِ وَحْدَهَا مُنْفَرِدَةً عَنِ الشَّجَرِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا إِلاَّ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا- مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَفْسِيرِ بُدُوِّ الصَّلَاحِ- هَلْ هُوَ ظُهُورُ النُّضْجِ وَالْحَلَاوَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الْجُمْهُورُ، أَوْ هُوَ أَمْنُ الْعَاهَةِ وَالْفَسَادِ كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ.

وَدَلِيلُ الْجَوَازِ مَأْخُوذٌ مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا».قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَمَفْهُومُهُ إِبَاحَةُ بَيْعِهَا بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ.كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ جَوَازُ كُلِّ بَيْعٍ اسْتَكْمَلَ شُرُوطَهُ.

وَيَجُوزُ كَذَلِكَ بَيْعُ الثِّمَارِ بَعْدَ ظُهُورِهَا، وَقَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَالِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ شَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْتَاجَ الْمُتَبَايِعَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا لِلْبَيْعِ.وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَتَمَالأَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْبَلَدِ عَلَى الدُّخُولِ فِي هَذَا الْبَيْعِ.

فَإِنْ بِيعَ الثَّمَرُ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ أَوْ عَلَى الْإِطْلَاقِ دُونَ بَيَانِ جَذٍّ وَلَا تَبْقِيَةٍ فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) الْبَيْعُ بَاطِلٌ.

وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ شَرَطَ التَّرْكَ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ قَطْعًا وَلَا تَبْقِيَةً فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، إِذَا كَانَ يُنْتَفَعُ بِهِ.وَعَلَى الصَّحِيحِ إِنْ كَانَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، لِأَنَّهُ مَالٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ فِي ثَانِي الْحَالِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَفِعًا بِهِ فِي الْحَالِ، فَإِنْ شَرَطَ التَّرْكَ فَسَدَ الْبَيْعُ.

فَإِنْ بَاعَ الثَّمَرَةَ مَعَ الْأَصْلِ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّهَا تَكُونُ تَبَعًا لِأَصْلٍ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (ثِمَارٌ).

رَابِعًا: حُضُورُ الْمَبِيعِ وَغِيَابُهُ

أ- حُضُورُ الْمَبِيعِ:

43- مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْمَبِيعِ هِيَ أَقْوَى طُرُقِ التَّعْرِيفِ وَالتَّعْيِينِ، وَلِذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ فِي حَضْرَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ (مَجْلِسِ الْعَقْدِ) وَتَمَّ تَعْيِينُهُ بِالْإِشَارَةِ بِحَيْثُ عَرَفَهُ الْمُشْتَرِي وَرَآهُ، فَإِنَّ الْبَيْعَ لَازِمٌ إِذَا خَلَا مِنْ سَبَبٍ خَاصٍّ (لَا يَتَّصِلُ بِرُؤْيَةِ الْمَبِيعِ) مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَنْشَأُ بِهَا الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي.

حَتَّى لَوِ اقْتَرَنَتِ الْإِشَارَةُ بِالْوَصْفِ، وَكَانَ الْوَصْفُ مُغَايِرًا لِمَا رَآهُ الْمُشْتَرِي وَرَضِيَ بِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بَعْدَئِذٍ بِالْوَصْفِ، مَا دَامَ الْعَقْدُ قَدْ تَمَّ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ وَالرِّضَا.وَيُعَبَّرُ عَنْ ذَلِكَ بِالْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ التَّالِيَةِ (الْوَصْفُ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ، وَفِي الْغَائِبِ مُعْتَبَرٌ).وَهَذَا بِخِلَافِ التَّغَايُرِ بَيْنَ اسْمِ الْمَبِيعِ وَالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: بِعْتُكَ هَذِهِ الْفَرَسَ، وَأَشَارَ إِلَى نَاقَةٍ مَثَلًا، فَالتَّسْمِيَةُ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يُحَدَّدُ بِهِ جِنْسُ الْمَبِيعِ، فَهَذَا غَلَطٌ فِي الْجِنْسِ لَا فِي الْوَصْفِ، وَالْغَلَطُ فِي الْجِنْسِ غَيْرُ مُغْتَفَرٍ، لِأَنَّهُ يَكُونُ بِهِ الْمَبِيعُ مَعْدُومًا.

وَقَدْ صَرَّحَ الْقَرَافِيُّ: بِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْجِنْسَ فِي الْبَيْعِ، بِأَنْ قَالَ: بِعْتُكَ ثَوْبًا امْتَنَعَ إِجْمَاعًا.

وَهَذَا إِذَا كَانَ الْوَصْفُ مِمَّا يُدْرِكُهُ الْمُشْتَرِي، أَمَّا لَوْ كَانَ مِمَّا يَخْفَى عَلَيْهِ، أَوْ يَحْتَاجُ إِلَى اخْتِبَارٍ، كَالْوَصْفِ لِلْبَقَرَةِ بِأَنَّهَا حَلُوبٌ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ فَوَاتَ الْوَصْفِ هُنَا مُؤَثِّرٌ، إِنْ كَانَ قَدِ اشْتُرِطَ فِي الْعَقْدِ، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ حَاضِرًا مُشَارًا إِلَيْهِ.لِأَنَّ الْوَصْفَ هُنَا مُعْتَبَرٌ مِنَ الْبَائِعِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى فَوَاتِهِ خِيَارٌ لِلْمُشْتَرِي يُسَمَّى: خِيَارَ فَوَاتِ الْوَصْفِ.

وَيَسْتَوِي فِي اسْتِحْقَاقِ الْخِيَارِ بِفَوَاتِ الْوَصْفِ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (خِيَارِ الْوَصْفِ).

ب- غِيَابُ الْمَبِيعِ:

44- إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ غَائِبًا، فَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِيَ بِالْوَصْفِ الْكَاشِفِ لَهُ، عَلَى النَّحْوِ الْمُبَيَّنِ فِي عَقْدِ السَّلَمِ، وَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِيَ دُونَ وَصْفٍ، بَلْ يُحَدَّدُ بِالْإِشَارَةِ إِلَى مَكَانِهِ أَوْ إِضَافَتِهِ إِلَى مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ.

فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ بِالْوَصْفِ، وَهُوَ هُنَا غَيْرُ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ السَّابِقِ، فَإِذَا تَبَيَّنَتِ الْمُطَابَقَةُ بَيْنَ الْمَبِيعِ بَعْدَ مُشَاهَدَتِهِ وَبَيْنَ الْوَصْفِ لَزِمَ الْبَيْعُ، وَإِلاَّ كَانَ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْخُلْفِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ لِلْمُشْتَرِي هُنَا خِيَارَ الرُّؤْيَةِ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ سَبْقِ وَصْفِهِ أَوْ عَدَمِهِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (خِيَارُ الْوَصْفِ، وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ).

لَكِنْ إِنْ تَمَّ الشِّرَاءُ عَلَى أَسَاسِ النَّمُوذَجِ، وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْمَبِيعُ عَنْهُ، فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ رُؤْيَةٍ.

وَبَيْعُ الْغَائِبِ مَعَ الْوَصْفِ صَحِيحٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي الْجُمْلَةِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) فَقَدْ أَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَلَوْ لَمْ يَسْبِقْ وَصْفُهُ.وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ لَا بُدَّ مِنَ الْوَصْفِ لِأَنَّ لِلْمُشْتَرِي هُنَا خِيَارَ الرُّؤْيَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ مَعَ الْوَصْفِ وَالْمُطَابَقَةِ، أَوِ الْمُخَالَفَةِ، وَمَعَ عَدَمِ الْوَصْفِ.وَهُوَ خِيَارٌ حُكْمِيٌّ لَا يَحْتَاجُ إِلَى اشْتِرَاطٍ.وَأَجَازَهُ الْحَنَابِلَةُ مَعَ الْوَصْفِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ لِصِحَّةِ السَّلَمِ، وَقَصَرُوا الْخِيَارَ عَلَى حَالِ عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ.

وَأَجَازَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ:

أ- أَلاَّ يَكُونَ قَرِيبًا جِدًّا بِحَيْثُ تُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ غَائِبًا فِي هَذِهِ الْحَالِ عُدُولٌ عَنِ الْيَقِينِ إِلَى تَوَقُّعِ الضَّرَرِ فَلَا يَجُوزُ.

ب- أَلاَّ يَكُونَ بَعِيدًا جِدًّا، لِتَوَقُّعِ تَغَيُّرِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، أَوْ لِاحْتِمَالِ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِهِ.

ج- أَنْ يَصِفَهُ الْبَائِعُ بِصِفَاتِهِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ الْأَغْرَاضُ بِهَا وَهِيَ صِفَاتُ السَّلَمِ.وَالْأَظْهَرُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْغَائِبِ، وَهُوَ: مَا لَمْ يَرَهُ الْمُتَعَاقِدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا، وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا، لِلنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ.

أَمَّا الْبَيْعُ عَلَى الْبَرْنَامَجِ، وَهُوَ الدَّفْتَرُ الْمُبَيَّنَةُ فِيهِ الْأَوْصَافُ، أَوْ عَلَى الْأُنْمُوذَجِ بِأَنْ يُرِيَهُ صَاعًا وَيَبِيعَهُ الصُّبْرَةَ عَلَى أَنَّهَا مِثْلُهُ فَقَدْ أَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ صَوَّبَهُ الْمِرْدَاوِيُّ- لِمَا سَبَقَ- وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْأَصَحُّ لِلْحَنَابِلَةِ مَنْعُهُ، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ فِيمَا لَوْ قَالَ مَثَلًا: بِعْتُكَ الْحِنْطَةَ الَّتِي فِي هَذَا الْبَيْتِ، وَهَذَا أُنْمُوذَجُهَا، وَيَدْخُلُ الْأُنْمُوذَجُ فِي الْبَيْعِ.

وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِيمَا إِذَا ظَهَرَ أَنَّ مَا فِي الْعَدْلِ الْمَبِيعِ عَلَى الْبَرْنَامَجِ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (ظُهُورُ الْمَبِيعِ زَائِدًا أَوْ نَاقِصًا).

خَامِسًا: ظُهُورُ النُّقْصَانِ أَوِ الزِّيَادَةِ فِي الْمَبِيعِ:

45- يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي الْمَبِيعِ إِذَا ظَهَرَ فِيهِ نُقْصَانٌ أَوْ زِيَادَةٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ عَلَى أَسَاسِ الْمِقْدَارِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ بَيْعِ الْجُزَافِ (أَوِ الْمُجَازَفَةِ) وَهُوَ مَا يُسَمَّى أَيْضًا (بَيْعَ الصُّبْرَةِ) وَمِنْهُ بَعْضُ صُوَرِ الْبَيْعِ عَلَى الْبَرْنَامَجِ أَوِ الْأُنْمُوذَجِ، حَيْثُ يَظْهَرُ الْقَدْرُ مُخَالِفًا لِمَا كُتِبَ فِي الْبَرْنَامَجِ.

أ- بَيْعُ الْجُزَافِ:

46- إِذَا كَانَ الْبَيْعُ جُزَافًا فَلَا أَثَرَ لِظُهُورِ النَّقْصِ أَوِ الزِّيَادَةِ عَمَّا تَوَقَّعَهُ الْمُشْتَرِي أَوِ الْبَائِعُ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (بَيْعِ الْجُزَافِ).

ب- بَيْعُ الْمُقَدَّرَاتِ:

47- إِذَا ظَهَرَ نَقْصٌ أَوْ زِيَادَةٌ فِيمَا بِيعَ مُقَدَّرًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ، فَيُنْظَرُ فِي الْمَبِيعِ، هَلْ هُوَ مِمَّا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ أَوْ لَا يَضُرُّهُ؟ كَمَا يُنْظَرُ فِي أَسَاسِ الثَّمَنِ الَّذِي تَمَّ عَلَيْهِ الْبَيْعُ هَلْ هُوَ مُجْمَلٌ أَوْ مُفَصَّلٌ عَلَى أَجْزَاءٍ؟.

فَإِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ كَالْمَكِيلَاتِ بِأَنْوَاعِهَا، وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْمَوْزُونَاتِ كَالْقَمْحِ، وَالْمَذْرُوعَاتِ كَالْقُمَاشِ الَّذِي يُبَاعُ بِالذِّرَاعِ، دُونَ نَظَرٍ إِلَى مَا يَكْفِي لِلثَّوْبِ الْوَاحِدِ، وَكَذَلِكَ الْمَعْدُودَاتُ الْمُتَقَارِبَةُ.فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْمَبِيعِ هِيَ لِلْبَائِعِ، وَالنَّقْصُ عَلَى حِسَابِهِ، وَلَا حَاجَةَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لِلنَّظَرِ إِلَى تَفْصِيلِ الثَّمَنِ أَوْ إِجْمَالِهِ.

وَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ مُفَصَّلًا، كَمَا لَوْ قَالَ: كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، فَالزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ وَالنَّقْصُ عَلَيْهِ، وَلَا حَاجَةَ لِلنَّظَرِ إِلَى كَوْنِهِ يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ أَوْ لَا.

أَمَّا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ مُفَصَّلٍ، وَالْمَبِيعُ مِمَّا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ لِلْمُشْتَرِي وَالنَّقْصُ عَلَيْهِ، وَلَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، لَكِنْ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي حَالِ النَّقْصِ، وَهُوَ خِيَارُ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ.

وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ يُعْتَبَرُ التَّقْدِيرُ فِيهِ كَالْجُزْءِ، وَمَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ يُعْتَبَرُ التَّقْدِيرُ فِيهِ كَالْوَصْفِ.وَالْوَصْفُ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ بَلْ يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ.

هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ فِي الْمَبِيعِ الْمُقَدَّرِ زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْبَارُ الْبَائِعِ عَلَى تَسْلِيمِ الزِّيَادَةِ، وَلَا الْمُشْتَرِي عَلَى أَخْذِ الْبَعْضِ، وَهُنَاكَ ضَرَرٌ فِي الشَّرِكَةِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي بِالنِّسْبَةِ لِمَا زَادَ.

وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ كَوْنِ النَّقْصِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا..فَإِنْ كَانَ قَلِيلًا لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ الْبَاقِي بِمَا يَنُوبُهُ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا كَانَ مُخَيَّرًا فِي الْبَاقِي بَيْنَ أَخْذِهِ بِمَا يَنُوبُهُ، أَوْ رَدِّهِ.وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ لِلْمَبِيعِ، فَإِنْ وَجَدَهُ أَكْثَرَ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ وَجَدَهُ أَقَلَّ كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ رَدِّهِ.

وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي ظُهُورِ الزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ: صِحَّةُ الْبَيْعِ لِلْإِشَارَةِ تَغْلِيبًا.ثُمَّ لِلشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ قَابَلَ الْبَائِعُ الْجُمْلَةَ بِالْجُمْلَةِ، كَقَوْلِهِ: بِعْتُكَ الصُّبْرَةَ بِمِائَةٍ عَلَى أَنَّهَا مِائَةٌ، فَفِي حَالِ الزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِمَنْ عَلَيْهِ الضَّرَرُ.

أَمَّا إِنْ قَابَلَ الْأَجْزَاءَ بِالْأَجْزَاءِ كَقَوْلِهِ: بِعْتُكَ الصُّبْرَةَ كُلَّ صَاعٍ بِدِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ صَاعٍ، فَإِذَا ظَهَرَتْ زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ عِنْدَ الْإِسْنَوِيِّ، وَفَرَّقَ الْمَاوَرْدِيُّ بَيْنَ النُّقْصَانِ فَيَكُونُ الْبَيْعُ صَحِيحًا، وَبَيْنَ الزِّيَادَةِ فَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، وَهُوَ بُطْلَانُ الْبَيْعِ عَلَى الصَّحِيحِ، أَوْ صِحَّتُهُ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ.

وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي أَنَّهُ إِذَا قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الْأَرْضَ أَوْ هَذَا الثَّوْبَ عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، فَبَانَ أَحَدَ عَشَرَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: الْبَيْعُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْبَارُ الْبَائِعِ عَلَى تَسْلِيمِ الزِّيَادَةِ وَإِنَّمَا بَاعَ عَشَرَةً، وَلَا الْمُشْتَرِي عَلَى أَخْذِ الْبَعْضِ، وَإِنَّمَا اشْتَرَى الْكُلَّ وَعَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي الشَّرِكَةِ أَيْضًا.

وَالثَّانِيَةُ: الْبَيْعُ صَحِيحٌ وَالزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَقْصٌ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ كَالْعَيْبِ، ثُمَّ يُخَيَّرُ الْبَائِعُ بَيْنَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ زَائِدًا، وَبَيْنَ تَسْلِيمِ الْعَشَرَةِ، فَإِنْ رَضِيَ بِتَسْلِيمِ الْجَمِيعِ فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُ زَادَهُ خَيْرًا، وَإِنْ أَبِي تَسْلِيمَهُ زَائِدًا فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ، وَالْأَخْذِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى وَقِسْطِ الزَّائِدِ، فَإِنْ رَضِيَ بِالْأَخْذِ أَخَذَ الْعَشَرَةَ، وَالْبَائِعُ شَرِيكٌ لَهُ بِالذِّرَاعِ.وَهَلْ لِلْبَائِعِ خِيَارُ الْفَسْخِ؟ وَجْهَانِ.أَحَدُهُمَا: لَهُ الْفَسْخُ لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي الْمُشَارَكَةِ.وَالثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ، وَقَوَّاهُ ابْنُ قُدَامَةَ، وَإِنْ بَانَ الْمَبِيعُ تِسْعَةً فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: يَبْطُلُ الْبَيْعُ كَمَا تَقَدَّمَ.وَالثَّانِيَةُ: الْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِمْسَاكِ بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ الثَّمَنِ.

وَإِنِ اشْتَرَى صُبْرَةً عَلَى أَنَّهَا عَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ، فَبَانَتْ أَحَدَ عَشَرَ، رَدَّ الزَّائِدَ وَلَا خِيَارَ لَهُ هَاهُنَا لِأَنَّهُ ضَرَرٌ فِي الزِّيَادَةِ.وَإِنْ بَانَتْ تِسْعَةً أَخَذَهَا بِقِسْطِهَا مِنَ الثَّمَنِ.

وَمَتَى سُمِّيَ الْكَيْلُ فِي الصُّبْرَةِ لَا يَكُونُ قَبْضُهَا إِلاَّ بِالْكَيْلِ، فَإِنْ وَجَدَهَا زَائِدَةً رَدَّ الزِّيَادَةَ، وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً أَخَذَهَا بِقِسْطِهَا مِنَ الثَّمَنِ.وَهَلْ لَهُ الْفَسْخُ فِي حَالَةِ النُّقْصَانِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: لَهُ الْخِيَارُ.وَالثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ. الثَّمَنُ وَأَحْكَامُهُ وَأَحْوَالُهُ

أَوَّلًا: تَعْرِيفُ الثَّمَنِ:

48- الثَّمَنُ هُوَ مَا يَبْذُلُهُ الْمُشْتَرِي مِنْ عِوَضٍ لِلْحُصُولِ عَلَى الْمَبِيعِ، وَالثَّمَنُ أَحَدُ جُزْأَيِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ- وَهُوَ الثَّمَنُ وَالْمُثَمَّنُ- وَهُمَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ عَقْدِ الْبَيْعِ، وَلِذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ هَلَاكَ الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَنْفَسِخُ بِهِ الْبَيْعُ فِي الْجُمْلَةِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنَ الْبَيْعِ هُوَ الْمَبِيعُ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْأَعْيَانِ، وَالْأَثْمَانُ وَسِيلَةٌ لِلْمُبَادَلَةِ وَلِذَا اعْتَبَرُوا التَّقَوُّمَ فِي الثَّمَنِ شَرْطَ صِحَّةٍ، وَهُوَ فِي الْمَبِيعِ شَرْطُ انْعِقَادٍ، وَهِيَ تَفْرِقَةٌ خَاصَّةٌ بِهِمْ دُونَ الْجُمْهُورِ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ مُتَقَوَّمٍ لَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ عِنْدَهُمْ، بَلْ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا، فَإِذَا أُزِيلَ سَبَبُ الْفَسَادِ صَحَّ الْبَيْعُ.

كَمَا أَنَّ هَلَاكَ الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَبْطُلُ بِهِ الْبَيْعُ، بَلْ يَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ بَدَلَهُ.أَمَّا هَلَاكُ الْمَبِيعِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ بِهِ الْبَيْعُ.وَالثَّمَنُ غَيْرُ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ هِيَ: مَا يُسَاوِيهِ الشَّيْءُ فِي تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ (أَهْلِ الْخِبْرَةِ)، أَمَّا الثَّمَنُ فَهُوَ كُلُّ مَا يَتَرَاضَى عَلَيْهِ الْمُتَعَاقِدَانِ، سَوَاءٌ أَكَانَ أَكْثَرَ مِنَ الْقِيمَةِ، أَمْ أَقَلَّ مِنْهَا، أَمْ مِثْلَهَا.

فَالْقِيمَةُ هِيَ الثَّمَنُ الْحَقِيقِيُّ لِلشَّيْءِ.أَمَّا الثَّمَنُ الْمُتَرَاضَى عَلَيْهِ فَهُوَ الثَّمَنُ الْمُسَمَّى.

وَالسِّعْرُ هُوَ: الثَّمَنُ الْمُقَدَّرُ لِلسِّلْعَةِ.

وَالتَّسْعِيرُ: تَحْدِيدُ أَسْعَارِ بَيْعِ السِّلَعِ.وَقَدْ يَكُونُ التَّسْعِيرُ مِنَ السُّلْطَانِ، ثُمَّ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنَ الْبَيْعِ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهَا أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا.

حُكْمُ التَّسْعِيرِ:

49- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّسْعِيرِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ ذَلِكَ، إِذَا كَانَ الْبَاعَةُ يَتَعَدَّوْنَ الْقِيمَةَ، وَعَجَزَ الْقَاضِي عَنْ صِيَانَةِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ بِالتَّسْعِيرِ بِمَشُورَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْبَصَرِ، وَذَلِكَ لِفِعْلِ عُمَرَ- رضي الله عنه- حِينَ مَرَّ بِحَاطِبٍ فِي السُّوقِ فَقَالَ لَهُ: إِمَّا أَنْ تَرْفَعَ السِّعْرَ وَإِمَّا أَنْ تَدْخُلَ بَيْتَكَ فَتَبِيعَ كَيْفَ شِئْتَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى تَحْرِيمِ التَّسْعِيرِ، وَكَرَاهَةِ الشِّرَاءِ بِهِ، وَحُرْمَةِ الْبَيْعِ وَبُطْلَانِهِ إِذَا كَانَ بِالْإِكْرَاهِ.وَذَلِكَ لِحَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ».

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَسْعِيرٌ)

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


118-موسوعة الفقه الكويتية (تسامع)

تَسَامُعٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّسَامُعُ: مَصْدَرُ تَسَامَعَ النَّاسُ، وَهُوَ مَا حَصَلَ مِنَ الْعِلْمِ بِالتَّوَاتُرِ أَوْ بِالشُّهْرَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، يُقَالُ: تَسَامَعَ بِهِ النَّاسُ أَيِ اشْتَهَرَ عِنْدَهُمْ، وَسَمِعَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَتَسَامَعَ النَّاسُ بِفُلَانٍ: شَاعَ بَيْنَهُمْ عَيْبُهُ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْأَوَّلِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْإِفْشَاءُ:

2- الْإِفْشَاءُ: نَشْرُ الْخَبَرِ، سِرًّا كَانَ أَوْ جَهْرًا، بِبَثِّهِ بَيْنَ النَّاسِ.

ب- الْإِعْلَامُ:

3- الْإِعْلَامُ: إِيصَالُ الْخَبَرِ إِلَى شَخْصٍ أَوْ طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِالْإِعْلَانِ، أَمْ بِالتَّحْدِيثِ مِنْ غَيْرِ إِعْلَانٍ.

ج- الْإِعْلَانُ:

4- الْإِعْلَانُ: الْمُجَاهَرَةُ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ، وَيُلَاحَظُ فِيهِ قَصْدُ الشُّيُوعِ وَالِانْتِشَارِ.

د- الْإِشْهَارُ:

5- الْإِشْهَارُ: مَصْدَرُ أَشْهَرَ، وَالشَّهْرُ مَصْدَرُ شَهَرَ الشَّيْءَ، وَكِلَاهُمَا فِي اللُّغَةِ وَالِاصْطِلَاحِ بِمَعْنَى الْإِعْلَانِ وَالْإِظْهَارِ.

هـ- السَّمْعُ:

6- السَّمْعُ: قُوَّةٌ فِي الْأُذُنِ بِهَا تُدْرَكُ الْأَصْوَاتُ، وَيُسْتَعْمَلُ أَيْضًا بِمَعْنَى الْمَسْمُوعِ، وَبِمَعْنَى الذِّكْرِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ فِي سِتَّةِ أَشْيَاءَ هِيَ: الْعِتْقُ، وَالنَّسَبُ، وَالْمَوْتُ، وَالنِّكَاحُ، وَالْوَلَاءُ، وَالْوَقْفُ.

8- وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى السِّتَّةِ: الْمَهْرُ- عَلَى الْأَصَحِّ- وَالدُّخُولُ بِزَوْجَتِهِ، وَوِلَايَةُ الْقَاضِي، وَمَنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ- سِوَى رَقِيقٍ لَمْ يَعْلَمْ رِقَّهُ وَيُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ.وَفِي عَدِّ الْأَخِيرِ مِنْهَا نَظَرٌ ذَكَرَهُ فِي الْفَتْحِ وَالْبَحْرِ.

9- وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى السِّتَّةِ: الشَّهَادَةُ بِمِلْكِ الشَّيْءِ مِنْ عَقَارٍ أَوْ غَيْرِهِ لِحَائِزٍ لَهُ- وَتُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْبَتِّ بِالْمِلْكِ عَلَى بَيِّنَةِ السَّمَاعِ، إِلاَّ أَنْ تَشْهَدَ بَيِّنَةُ السَّمَاعِ بِنَقْلِ الْمِلْكِ- وَعَزْلُ قَاضٍ، وَتَعْدِيلٌ وَتَجْرِيحٌ لِبَيِّنَةٍ، وَإِسْلَامٌ وَكُفْرٌ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَرُشْدٌ، وَسَفَهٌ لِمُعَيَّنٍ، وَفِي النِّكَاحِ اشْتَرَطُوا: ادِّعَاءَ الْحَيِّ مِنْهُمَا عَلَى الْمَيِّتِ لِيَرِثَهُ، أَوِ ادِّعَاهُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْحَيَّيْنِ وَلَمْ يُنْكِرِ الْآخَرُ، وَكَانَتِ الزَّوْجَةُ فِي عِصْمَتِهِ.وَأَمَّا لَوِ ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ النِّكَاحُ، وَفِي الطَّلَاقِ- وَأَنْ يُخْلَعَ- يَثْبُتُ بِالسَّمَاعِ الطَّلَاقُ لَا دَفْعُ الْعِوَضِ، وَبِضَرَرِ زَوْجٍ لِزَوْجَتِهِ- نَحْوُ: لَمْ نَزَلْ نَسْمَعُ عَنِ الثِّقَاتِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ يُضَارُّهَا فَيُطَلِّقُهَا عَلَيْهِ الْحَاكِمُ- وَبِالْوِلَادَةِ لِإِثْبَاتِ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ، أَوْ لِخُرُوجٍ مِنْ عِدَّةٍ، وَبِالرَّضَاعِ، وَالْحِرَابَةِ، وَالْإِبَاقِ، وَالْأَسْرِ، وَالْفَقْدِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْهِبَةِ، وَاللَّوْثِ- نَحْوُ: لَمْ نَزَلْ نَسْمَعُ بِأَنَّ فُلَانًا قَتَلَ فُلَانًا، فَتَكُونُ الشَّهَادَةُ لَوْثًا تُسَوِّغُ لِلْوَلِيِّ الْقَسَامَةَ- وَالْبَيْعَ، وَالْقِسْمَةَ، وَالْوَصِيَّةَ، وَالْعُسْرَ وَالْيُسْرَ.قَالَ الدُّسُوقِيُّ: فَجُمْلَةُ الْمَسَائِلِ الَّتِي تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ السَّمَاعِ ثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً.

10- وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى السِّتَّةِ: الْمِلْكُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَتَنْبَنِي الشَّهَادَةُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ وَالتَّسَامُعِ.

11- وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ زَادُوا عَلَى السِّتَّةِ: الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ، وَالْوِلَادَةُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْخُلْعُ، وَأَصْلُ الْوَقْفِ وَشَرْطُهُ، وَمَصْرِفُهُ، وَالْعَزْلُ، وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ كَمَا فِي الْمُغْنِي وَالْفُرُوعِ.أَمَّا صَاحِبُ الْإِقْنَاعِ وَشَرْحِ الْمُنْتَهَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهَا فَقَدْ قَالَا: وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

12- وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِجَوَازِ الشَّهَادَةِ بِمَا ذُكِرَ أَنْ يَحْصُلَ عِلْمُ الشَّاهِدِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَنْ خَبَرِ جَمَاعَةٍ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَلَوْ بِلَا شَرْطِ عَدَالَةٍ، أَوْ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ.أَمَّا فِي الْمَوْتِ فَيَكْفِي الْعَدْلُ وَلَوْ أُنْثَى وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَقَيَّدَهُ شَارِحُ الْوَهْبَانِيَّةِ بِأَنْ لَا يَكُونَ الْمُخْبِرُ مُتَّهَمًا كَوَارِثٍ وَمُوصًى لَهُ، وَلَوْ فَسَّرَ الشَّاهِدُ لِلْقَاضِي أَنَّ شَهَادَتَهُ بِالتَّسَامُعِ رُدَّتْ عَلَى الصَّحِيحِ إِلاَّ فِي الْوَقْفِ وَالْمَوْتِ إِذَا فُسِّرَا، وَقَالَا فِيهِ بِأَخْبَرَنَا مَنْ نَثِقُ بِهِ فَتُقْبَلُ عَلَى الْأَصَحِّ.

وَقَالَ فِي الْهِدَايَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا يَجُوزُ الشَّهَادَةُ فِيهِ بِالتَّسَامُعِ: يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِذَا أَخْبَرَهُ بِهَا مَنْ يَثِقُ بِهِ- وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ- وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ تَخْتَصُّ بِالْمُعَايَنَةِ، وَتَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامٌ تَبْقَى عَلَى انْقِضَاءِ الْقُرُونِ، فَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ فِيهَا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ أَدَّى إِلَى الْحَرَجِ وَتَعْطِيلِ الْأَحْكَامِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِالِاشْتِهَارِ، وَذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ، أَوْ بِإِخْبَارِ مَنْ يَثِقُ بِهِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يُخْبِرَهُ رَجُلَانِ عَدْلَانِ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ لِيَحْصُلَ لَهُ نَوْعُ عِلْمٍ، وَقِيلَ: فِي الْمَوْتِ يُكْتَفَى بِإِخْبَارِ وَاحِدٍ أَوْ وَاحِدَةٍ.

13- وَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا: إِنَّ شَرْطَ التَّسَامُعِ- لِيُسْتَنَدَ إِلَيْهِ فِي الشَّهَادَةِ- هُوَ سَمَاعُ الْمَشْهُودِ بِهِ مِنْ جَمْعٍ يُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَيَحْصُلُ الظَّنُّ الْقَوِيُّ بِصِدْقِهِمْ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا مُكَلَّفِينَ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِمْ حُرِّيَّةٌ وَلَا ذُكُورَةٌ وَلَا عَدَالَةٌ، وَقِيلَ: يَكْفِي التَّسَامُعُ مِنْ عَدْلَيْنِ إِذَا سَكَنَ الْقَلْبُ لِخَبَرِهِمَا.

14- وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ فِيمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ، وَاسْتَقَرَّتْ مَعْرِفَتُهُ فِي قَلْبِ الشَّاهِدِ، وَهُوَ مَا يُعْلَمُ بِالِاسْتِفَاضَةِ.

وَالتَّفْصِيلُ لِمَا سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (شَهَادَةٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


119-موسوعة الفقه الكويتية (تعليل)

تَعْلِيلٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّعْلِيلُ لُغَةً: مِنْ عَلَّ يَعُلُّ وَاعْتَلَّ أَيْ: مَرِضَ فَهُوَ عَلِيلٌ.وَالْعِلَّةُ: الْمَرَضُ الشَّاغِلُ.وَالْجَمْعُ عِلَلٌ.وَالْعِلَّةُ فِي اللُّغَةِ أَيْضًا: السَّبَبُ.وَاصْطِلَاحًا: تَقْرِيرُ ثُبُوتِ الْمُؤَثِّرِ لِإِثْبَاتِ الْأَثَرِ وَقِيلَ: إِظْهَارُ عِلِّيَّةِ الشَّيْءِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ تَامَّةً أَمْ نَاقِصَةً.

وَالْعِلَّةُ عَرَّفَهَا الْأُصُولِيُّونَ بِقَوْلِهِمْ: الْعِلَّةُ هِيَ الْوَصْفُ الظَّاهِرُ الْمُنْضَبِطُ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُكَلَّفِ مِنْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ أَوْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ.

وَلِلْعِلَّةِ أَسْمَاءٌ مِنْهَا: السَّبَبُ وَالْبَاعِثُ وَالْحَامِلُ وَالْمَنَاطُ وَالدَّلِيلُ وَالْمُقْتَضِي وَغَيْرُهَا.

وَتُسْتَعْمَلُ الْعِلَّةُ أَيْضًا بِمَعْنَى: السَّبَبِ، لِكَوْنِهِ مُؤَثِّرًا فِي إِيجَابِ الْحُكْمِ، كَالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ سَبَبٌ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ.كَمَا تُسْتَعْمَلُ الْعِلَّةُ أَيْضًا بِمَعْنَى: الْحِكْمَةِ، وَهِيَ الْبَاعِثُ عَلَى تَشْرِيعِ الْحُكْمِ أَوِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا شُرِعَ الْحُكْمُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

تَعْلِيلُ الْأَحْكَامِ:

2- الْأَصْلُ فِي أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ عَدَمُ التَّعْلِيلِ؛ لِأَنَّهَا قَائِمَةٌ عَلَى حِكْمَةٍ عَامَّةٍ، وَهِيَ التَّعَبُّدُ دُونَ إِدْرَاكِ مَعْنًى مُنَاسِبٍ لِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا أَحْكَامُ الْمُعَامَلَاتِ وَالْعَادَاتِ وَالْجِنَايَاتِ وَنَحْوِهَا، فَالْأَصْلُ فِيهَا: أَنْ تَكُونَ مُعَلَّلَةً؛ لِأَنَّ مَدَارَهَا عَلَى مُرَاعَاةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ، فَرُتِّبَتِ الْأَحْكَامُ فِيهَا عَلَى مَعَانٍ مُنَاسَبَةٍ لِتَحْقِيقِ تِلْكَ الْمَصَالِحِ.

وَالْأَحْكَامُ التَّعَبُّدِيَّةُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا لِعَدَمِ إِمْكَانِ تَعْدِيَةِ حُكْمِهَا إِلَى غَيْرِهَا.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَعَبُّدِيٌّ).

فَوَائِدُ تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ:

3- لِتَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ فَوَائِدُ مِنْهَا: أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَعَلَتِ الْعِلَلَ مُعَرِّفَةً وَمُظْهِرَةً لِلْأَحْكَامِ كَيْ يَسْهُلَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا وَالْتِزَامُهَا.

وَمِنْهَا أَنْ تَصِيرَ الْأَحْكَامُ أَقْرَبَ إِلَى الْقَبُولِ وَالِاطْمِئْنَانِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

تَعْلِيلُ النُّصُوصِ:

4- اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي تَعْلِيلِ النُّصُوصِ عَلَى أَرْبَعَةِ اتِّجَاهَاتٍ:

أ- أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّعْلِيلِ، حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ.

ب- أَنَّ الْأَصْلَ التَّعْلِيلُ بِكُلِّ وَصْفٍ صَالِحٍ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَيْهِ، حَتَّى يُوجَدَ مَانِعٌ عَنِ الْبَعْضِ.

ج- أَنَّ الْأَصْلَ التَّعْلِيلُ بِوَصْفٍ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ يُمَيِّزُ الصَّالِحَ مِنَ الْأَوْصَافِ لِلتَّعْلِيلِ وَغَيْرِ الصَّالِحِ.

د- أَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ التَّعَبُّدُ دُونَ التَّعْلِيلِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَعَبُّدِيٌّ) وَفِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

مَسَالِكُ الْعِلَّةِ:

5- وَهِيَ الطُّرُقُ الَّتِي يَسْلُكُهَا الْمُجْتَهِدُ لِلْوُقُوفِ عَلَى عِلَلِ الْأَحْكَامِ.

الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ: النَّصُّ الصَّرِيحُ.

وَهُوَ أَنْ يُذْكَرَ دَلِيلٌ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ عَلَى التَّعْلِيلِ بِوَصْفٍ، بِلَفْظٍ مَوْضُوعٍ لَهُ فِي اللُّغَةِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ.

وَهُوَ قِسْمَانِ:

الْأَوَّلُ: مَا صُرِّحَ فِيهِ بِكَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً أَوْ سَبَبًا لِلْحُكْمِ.

الثَّانِي: مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ مُعَلَّلًا بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ.

الْمَسْلَكُ الثَّانِي: الْإِجْمَاعُ.

الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ: الْإِيمَاءُ وَالتَّنْبِيهُ.

وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيلُ لَازِمًا مِنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ، لَا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ دَالًّا بِوَضْعِهِ عَلَى التَّعْلِيلِ.وَهُوَ عَلَى أَقْسَامٍ تُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ: السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ.

وَهُوَ حَصْرُ الْأَوْصَافِ فِي الْأَصْلِ، وَإِبْطَالُ مَا لَا يَصْلُحُ مِنْهَا لِلتَّعْلِيلِ، فَيَتَعَيَّنُ الْبَاقِي لِلتَّعْلِيلِ.

الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ: الْمُنَاسَبَةُ وَالشَّبَهُ وَالطَّرْدُ:

يَنْقَسِمُ الْوَصْفُ الْمُعَلَّلُ بِهِ إِلَى قِسْمَيْنِ:

أ- مَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَتُهُ لِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَيُسَمَّى الْمُنَاسِبَ.وَهُوَ أَنْ يَتَرَتَّبَ الْحُكْمُ عَلَى وَصْفٍ ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٍ، يَلْزَمُ مِنْ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عُلَيَّةَ مَصْلَحَةٌ لِلْمُكَلَّفِ مِنْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ أَوْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ.وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْإِخَالَةِ وَبِالْمَصْلَحَةِ وَبِالِاسْتِدْلَالِ وَبِرِعَايَةِ الْمَقَاصِدِ.وَيُسَمَّى اسْتِخْرَاجُهَا تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ.

ب- مَا لَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَتُهُ لِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَيَنْقَسِمُ إِلَى نَوْعَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يُؤَلَّفَ مِنَ الشَّارِعِ اعْتِبَارُهُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَيُسَمَّى الْوَصْفَ الطَّرْدِيَّ.

الثَّانِي: أَنْ يُؤَلَّفَ مِنَ الشَّارِعِ اعْتِبَارُهُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَيُسَمَّى الْوَصْفَ الشَّبَهِيَّ.

الْمَسْلَكُ السَّادِسُ: تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ وَتَحْقِيقُ الْمَنَاطِ وَالدَّوَرَانِ:

وَهِيَ رَاجِعَةٌ فِي حَقِيقَتِهَا إِلَى الْمَسَالِكِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَمُنْدَرِجَةٌ تَحْتَهَا.

وَتَنْقِيحُ الْمَنَاطِ: هُوَ إِلْحَاقُ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا.

أَمَّا تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ: فَهُوَ أَنْ يَجْتَهِدَ الْمُجْتَهِدُ فِي إِثْبَاتِ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الصُّورَةِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.

وَأَمَّا الدَّوَرَانُ: فَهُوَ أَنْ يُوجَدَ الْحُكْمُ عِنْدَ وُجُودِ الْوَصْفِ، وَيَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِهِ.

وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَسَالِكِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

الْحَدِيثُ الْمُعَلَّلُ:

6- هُوَ الَّذِي اطُّلِعَ فِيهِ عَلَى عِلَّةٍ تَقْدَحُ فِي صِحَّتِهِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَهُ السَّلَامَةُ مِنْهَا، وَهُوَ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


120-موسوعة الفقه الكويتية (تيسير 1)

تَيْسِيرٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- التَّيْسِيرُ لُغَةً مَصْدَرُ يَسَّرَ، يُقَالُ: يَسَّرَ الْأَمْرَ إِذَا سَهَّلَهُ وَلَمْ يُعَسِّرْهُ وَلَمْ يَشُقَّ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ نَفْسِهِ فِيهِ.وَفِي التَّنْزِيلِ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أَيْ سَهَّلْنَاهُ وَجَعَلْنَا الِاتِّعَاظَ بِهِ مَيْسُورًا.

وَفِي الْحَدِيثِ «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا» وَهُوَ مِنَ الْيُسْرِ، وَالْيُسْرُ فِي اللُّغَةِ اللِّينُ وَالِانْقِيَادُ، وَيُقَالُ: يَاسَرَ فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا لَايَنَهُ، وَتَيَسَّرَتِ الْبِلَادُ إِذَا أَخْصَبَتْ، وَالْيُسْرُ وَالْمَيْسَرَةُ الْغِنَى، وَكَذَلِكَ الْيَسَارُ وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}.

وَمِنْ مَعَانِي التَّيْسِيرِ فِي اللُّغَةِ التَّهْيِئَةُ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} أَيْ نُهَيِّئُهُ لِلْعَوْدِ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ.وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «تَيَسَّرُوا لِلْقِتَالِ» أَيْ تَهَيَّئُوا لَهُ وَتَأَهَّبُوا.

وَمَعْنَى التَّيْسِيرِ فِي الِاصْطِلَاحِ الْفِقْهِيِّ مُوَافِقٌ لِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّخْفِيفُ:

2- التَّخْفِيفُ لُغَةً ضِدُّ التَّثْقِيلِ، سَوَاءٌ أَكَانَ حِسِّيًّا أَمْ مَعْنَوِيًّا، وَالْخِفَّةُ ضِدُّ الثِّقَلِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} أَيْ: قَلَّتْ أَعْمَالُهُ الصَّالِحَةُ حَتَّى رَجَحَتْ عَلَيْهَا سَيِّئَاتُهُ.وَالْخِفَّةُ خِفَّةُ الْوَزْنِ وَخِفَّةُ الْحَالِ.

وَالتَّكْلِيفُ الْخَفِيفُ هُوَ الَّذِي يَسْهُلُ أَدَاؤُهُ، وَالثَّقِيلُ هُوَ الَّذِي يَشُقُّ أَدَاؤُهُ، كَالْجِهَادِ.

وَالتَّخْفِيفُ فِي الِاصْطِلَاحِ رَفْعُ مَشَقَّةِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِنَسْخٍ، أَوْ تَسْهِيلٍ، أَوْ إِزَالَةِ بَعْضِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ أَيْ إِنْ كَانَ فِيهِ فِي الْأَصْلِ حَرَجٌ أَوْ مَشَقَّةٌ.

فَالتَّخْفِيفُ أَخَصُّ مِنَ التَّيْسِيرِ إِذْ هُوَ تَيْسِيرُ مَا كَانَ فِيهِ عُسْرٌ فِي الْأَصْلِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا كَانَ فِي الْأَصْلِ مُيَسَّرًا.

ب- التَّرْخِيصُ:

3- التَّرْخِيصُ لُغَةً التَّيْسِيرُ وَالتَّسْهِيلُ.وَالِاسْمُ الرُّخْصَةُ.وَيُقَالُ: رَخَّصَ لَهُ فِي الْأَمْرِ، وَأَرْخَصَ لَهُ فِيهِ: إِذَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «وَأَرْخَصَ فِي السَّلَمِ» أَيْ أَذِنَ فِيهِ.وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الرَّخَاصَةِ، وَهِيَ فِي النَّبَاتِ هَشَاشَتُهُ وَلِينُهُ، وَفِي الْمَرْأَةِ نُعُومَةُ بَشَرَتِهَا وَلُيُونَتُهَا.وَمِنْهُ الرُّخْصُ لِانْخِفَاضِ السِّعْرِ، ضِدُّ الْغَلَاءِ؛ لِمَا فِي الرُّخْصِ مِنَ السُّهُولَةِ، وَفِي الْغَلَاءِ مِنَ الشِّدَّةِ.

وَالتَّرْخِيصُ فِي الِاصْطِلَاحِ أَنْ يَجْعَلَ فِي الْأَمْرَ سُهُولَةً.وَالرُّخْصَةُ تُسْتَعْمَلُ بِاصْطِلَاحَيْنِ:

الْأَوَّلِ: الْحُكْمِ النَّازِلِ بِالْيُسْرِ بَعْدَ الْعُسْرِ لِعُذْرٍ مِنَ الْأَعْذَارِ.

وَالثَّانِي: وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْأَوَّلِ: مَا اُسْتُبِيحَ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرِّمِ.فَالْإِذْنُ فِي السَّلَمِ مَعَ انْعِدَامِ الْمَبِيعِ رُخْصَةٌ مِنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ عَلَى التَّعْرِيفِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ رُخْصَةً عَلَى التَّعْرِيفِ الثَّانِي، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا.وَكَذَا مَا نُسِخَ عَنَّا مِنَ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا رُخْصَةٌ عَلَى الْأَوَّلِ، لَا عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَمْ يَبْقَ عَلَيْنَا.

ج- التَّوْسِعَةُ:

4- التَّوْسِعَةُ مَصْدَرُ وَسَّعَ، أَيْ صَيَّرَ الشَّيْءَ وَاسِعًا، وَالسِّعَةُ ضِدُّ الضِّيقِ، وَالسِّعَةُ الْغِنَى وَالرَّفَاهِيَةُ.وَوَسَّعَ اللَّهُ عَلَى فُلَانٍ: أَغْنَاهُ وَرَفَّهَهُ، وَوَسَّعَ فُلَانٌ عَلَى أَهْلِهِ: أَنْفَقَ عَلَيْهِمْ عَنْ سِعَةٍ، أَيْ بِمَا يَزِيدُ عَنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ.

فَالتَّوْسِعَةُ مِنَ التَّيْسِيرِ، بَلْ هِيَ أَعْلَى التَّيْسِيرِ.

د- رَفْعُ الْحَرَجِ:

5- الْحَرَجُ لُغَةً: الضِّيقُ وَمَا لَا مَخْرَجَ لَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَضْيَقُ الضِّيقِ.سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الْحَرَجِ، فَدَعَا رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ فَقَالَ لَهُ: مَا الْحَرَجُ فِيكُمْ؟ فَقَالَ: الْحَرِجَةُ مِنَ الشَّجَرِ مَا لَا مَخْرَجَ لَهُ.فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ ذَلِكَ.الْحَرَجُ مَا لَا مَخْرَجَ لَهُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْحَرَجُ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ فَوْقَ الْمُعْتَادِ.

وَرَفْعُ الْحَرَجِ: إِزَالَةُ مَا فِي التَّكْلِيفِ الشَّاقِّ مِنَ الْمَشَقَّةِ بِرَفْعِ التَّكْلِيفِ مِنْ أَصْلِهِ، أَوْ بِتَخْفِيفِهِ، أَوِ بِالتَّخْيِيرِ فِيهِ، أَوْ بِأَنْ يُجْعَلَ لَهُ مَخْرَجٌ، كَرَفْعِ الْحَرَجِ فِي الْيَمِينِ بِإِبَاحَةِ الْحِنْثِ فِيهَا مَعَ التَّكْفِيرِ عَنْهَا أَوْ بِنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْوَسَائِلِ، فَرَفْعُ الْحَرَجِ لَا يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ الشِّدَّةِ، خِلَافًا لِلتَّيْسِيرِ.

هـ- التَّوَسُّطُ:

6- التَّوَسُّطُ فِي الْأَمْرِ أَنْ لَا يَذْهَبَ فِيهِ إِلَى أَحَدِ طَرَفَيْهِ.وَالتَّوَسُّطُ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ.فَلَا غُلُوَّ فِيهَا وَلَا تَقْصِيرَ، وَلَكِنْ هِيَ وَسَطٌ بَيْنَهُمَا.وَالتَّوَسُّطُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهَا لَا تَمِيلُ إِلَى جَانِبِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّشْدِيدِ عَلَى الْعِبَادِ، وَلَا إِلَى جَانِبِ التَّيْسِيرِ الشَّدِيدِ الَّذِي يَصِلُ إِلَى حَدِّ التَّحَلُّلِ مِنَ الْأَحْكَامِ.وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ.فَالتَّوَسُّطُ نَوْعٌ مِنَ التَّيْسِيرِ، وَلَيْسَ مُقَابِلًا لَهُ؛ إِذْ الَّذِي يُقَابِلُ التَّيْسِيرَ التَّعْسِيرُ وَالتَّشْدِيدُ، أَمَّا التَّوَسُّطُ فَفِيهِ الْيُسْرُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَشَقَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ، وَمِثَالُهُ يُسْرُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ؛ إِذْ فِيهِمَا مَشَقَّةٌ، وَلَكِنَّهَا مُعْتَادَةٌ.

و- التَّشْدِيدُ وَالتَّثْقِيلُ:

7- التَّشْدِيدُ وَالتَّثْقِيلُ ضِدُّ التَّخْفِيفِ، وَأَصْلُ التَّشْدِيدِ فِي اللُّغَةِ مِنْ شَدِّ الْحَبْلِ، وَالشِّدَّةُ الصَّلَابَةُ وَالْقُوَّةُ.

حُكْمُ التَّيْسِيرِ:

8- الْيُسْرُ وَانْتِفَاءُ الْحَرَجِ صِفَتَانِ أَسَاسِيَّتَانِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ وَشَرِيعَتِهِ، وَالتَّيْسِيرُ مَقْصِدٌ أَسَاسِيٌّ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ.وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَحَادِيثُ نَبَوِيَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ:

فَمِنَ الْقُرْآنِ قوله تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا ذَلِكَ سِعَةُ الْإِسْلَامِ وَمَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ التَّوْبَةِ وَالْكَفَّارَاتِ.وَمِنْهُ قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وَقَوْلُهُ {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}.

وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» أَيِ السَّهْلَةِ اللَّيِّنَةِ، وَقَوْلُهُ «إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ» وَقَوْلُهُ «إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ، إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ».

وَقَوْلُهُ «: إِنَّ اللَّهَ شَرَعَ هَذَا الدِّينَ فَجَعَلَهُ سَمْحًا سَهْلًا وَاسِعًا وَلَمْ يَجْعَلْهُ ضَيِّقًا».

وَيُسْتَأْنَسُ لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي هَذَا الْبَابِ، قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ إِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ، إِيَّاكُمْ وَالتَّعَمُّقَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ أَيْ: الْأَمْرِ الْقَدِيمِ، أَيْ: الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ.

وَقَوْلُ إِبْرَاهِيمِ النَّخَعِيِّ: «إِذَا تَخَالَجَكَ أَمْرَانِ فَظُنَّ أَنَّ أَحَبَّهُمَا إِلَى اللَّهِ أَيْسَرُهُمَا».

أَنْوَاعُ الْيُسْرِ فِي الشَّرِيعَةِ:

9- يُسْرُ الشَّرِيعَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: 1- تَيْسِيرُ مَعْرِفَةِ الشَّرِيعَةِ وَالْعِلْمِ بِهَا وَسُهُولَةِ إِدْرَاكِ أَحْكَامِهَا وَمَرَامِيهَا.

2- تَيْسِيرُ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ حَيْثُ سُهُولَةُ تَنْفِيذِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا.

3- أَمْرُ الشَّرِيعَةِ لِلْمُكَلَّفِينَ بِالتَّيْسِيرِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ.

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: تَيْسِيرُ الْعِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ:

10- اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ حَمَلَ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ- أَوَّلَ مَا حَمَلَهَا- قَوْمٌ أُمِّيُّونَ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَعْرِفَةٌ بِكُتُبِ الْأَقْدَمِينَ وَلَا بِعُلُومِهِمْ، مِنَ الْعُلُومِ الْكَوْنِيَّةِ، وَالْمَنْطِقِ، وَالرِّيَاضِيَّاتِ، وَغَيْرِهَا، وَلَا مِنَ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ، بَلْ كَانُوا بَاقِينَ قَرِيبًا مِنَ الْفِطْرَةِ.وَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ رَسُولًا أُمِّيًّا لَمْ يَكْتُبْ كِتَابًا، وَلَمْ يَخُطَّهُ بِيَمِينِهِ، وَلَا عَرَفَ أَنْ يَقْرَأَ شَيْئًا مِمَّا كَتَبَهُ الْكَاتِبُونَ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وَقَالَ: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِك إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَرَادَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الشَّرِيعَةُ الْمُبَارَكَةُ خَاتِمَةَ الشَّرَائِعِ، فَهِيَ لِمَنْ عَاصَرَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَلِمَنْ بَعْدَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ عَامَّةٌ لِلْبَشَرِ جَمِيعًا، لَيْسَتْ لِلْعَرَبِ وَحْدَهُمْ، بَلْ لَهُمْ وَلِمَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْأُمَمِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَفِيهِمِ الْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ، وَالْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ، وَالْقَارِئُ وَالْأُمِّيُّ، وَالذَّكِيُّ وَالْبَلِيدُ.فَاقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ تَعَالَى أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الشَّرِيعَةُ الْعَامَّةُ الْخَاتِمَةُ مَيْسُورًا فَهْمُهَا وَتَعَقُّلُهَا وَالْعِلْمُ بِهَا لِتَسَعَ الْجَمِيعَ؛ إِذْ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِهَا عَسِيرًا، أَوْ مُتَوَقِّفًا عَلَى وَسَائِلَ عِلْمِيَّةٍ تَدُقُّ عَلَى الْأَفْهَامِ لَكَانَ مِنَ الْعَسِيرِ عَلَى جُمْهُورِ الْمُكَلَّفِينَ بِهَا أَخْذُهَا وَمَعْرِفَتُهَا أَوَّلًا، وَالِامْتِثَالُ لِأَوَامِرِهَا وَنَوَاهِيهَا ثَانِيًا.

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا يَلِي:

أ- تَيْسِيرُ الْقُرْآنِ:

11- جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْقُرْآنَ مُيَسَّرَ التِّلَاوَةِ وَالْفَهْمِ عَلَى الْجُمْهُورِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِك لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} وَقَالَ: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}.وَمِنْ تَيْسِيرِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ مُرَاعَاةً لِحَالِ النَّاسِ مِنْ حَيْثُ الْقُدْرَةُ عَلَى النُّطْقِ.وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أُبَيٌّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: «لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- جِبْرِيلَ، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أُرْسِلْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ، إِلَى الشَّيْخِ وَالْعَجُوزِ، وَالْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ، وَالشَّيْخِ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ.فَقَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ».

وَيَرْجِعُ تَيْسِيرُ الْقُرْآنِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلِ: أَنَّهُ مُيَسَّرٌ لِلتِّلَاوَةِ لِسَلَاسَتِهِ وَخُلُوِّهِ مِنَ التَّعْقِيدِ اللَّفْظِيِّ.

الثَّانِي: أَنَّهُ مُيَسَّرٌ لِلْحِفْظِ، فَيُمْكِنُ حِفْظُهُ وَيَسْهُلُ.قَالَ الرَّازِيُّ: وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى يُحْفَظُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَيْرَ الْقُرْآنِ.

الثَّالِثِ: سُهُولَةُ الِاتِّعَاظِ بِهِ لِشِدَّةِ تَأْثِيرِهِ فِي الْقُلُوبِ؛ وَلِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْقَصَصِ وَالْحِكَمِ وَالْأَمْثَالِ، وَتَصْرِيفُ آيَاتِهِ عَلَى أَوْجُهٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثَ لَهُمْ ذِكْرًا}.

الرَّابِعِ: أَنَّهُ جَعَلَهُ بِحَيْثُ يَعْلَقُ بِالْقُلُوبِ، وَيُسْتَلَذُّ سَمَاعُهُ، وَلَا يُسْأَمُ مِنْ سَمَاعِهِ وَفَهْمِهِ، وَلَا يَقُولُ سَامِعُهُ: قَدْ عَلِمْتُ وَفَهِمْتُ فَلَا أَسْمَعُهُ، بَلْ كُلُّ سَاعَةٍ يَجِدُ مِنْهُ لَذَّةً وَعِلْمًا.

وَهَذَا التَّيْسِيرُ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى إِنَّمَا هُوَ فِي الْغَالِبِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى جُمْهُورِ النَّاسِ.وَفِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَسْرَارِ، وَالْمَوَاعِظِ، وَالْعِبَرِ، مَا يَدُقُّ عَنْ فَهْمِ الْجُمْهُورِ، وَيَتَنَاوَلُ بَعْضَ الْخَوَاصِّ مِنْهُ شَيْئًا فَشَيْئًا بِحَسَبِ مَا يُيَسِّرُهُ اللَّهُ لَهُمْ وَيُلْهِمُهُمْ إِيَّاهُ، يَفْتَحُ عَلَى هَذَا بِشَيْءٍ لَمْ يَفْتَحْ بِهِ عَلَى الْآخَرِ، وَإِذَا عُرِضَ عَلَى الْآخَرِ أَقَرَّهُ.

ب- التَّيْسِيرُ فِي عِلْمِ الْأَحْكَامِ الِاعْتِقَادِيَّةِ:

12- التَّكَالِيفُ الِاعْتِقَادِيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ مُيَسَّرٌ تَعَقُّلُهَا وَفَهْمُهَا، يَشْتَرِكُ فِي فَهْمِهَا الْجُمْهُورُ، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ ثَاقِبَ الْفَهْمِ وَمَنْ كَانَ بَلِيدًا، وَلَوْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُدْرِكُهُ إِلاَّ الْخَوَاصُّ لَمَا كَانَتِ الشَّرِيعَةُ عَامَّةً؛ وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْمَعَانِي الْمَطْلُوبُ عِلْمُهَا وَاعْتِقَادُهَا سَهْلَةَ الْمَأْخَذِ.فَعَرَّفَتِ الشَّرِيعَةُ الْأُمُورَ الْإِلَهِيَّةَ بِمَا يَسَعُ الْجُمْهُورَ فَهْمُهُ، وَحَضَّتْ عَلَى النَّظَرِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، وَالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ، وَالِاعْتِبَارِ بِآثَارِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَأَحَالَتْ فِيمَا يَقَعُ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ مِنَ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَى قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وَسَكَتَتْ عَنْ أَشْيَاءَ لَا تَهْتَدِي الْعُقُولُ إِلَيْهَا.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهم- لَمْ يَبْلُغْنَا عَنْهُمْ مِنَ الْخَوْضِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مَا يَكُونُ أَصْلًا لِلْبَاحِثِينَ، وَالْمُتَكَلَّفِينَ، كَمَا لَمْ يَأْتِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ الْمُقْتَدَى بِهِمْ لَمْ يَكُونُوا إِلاَّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ.وَثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَعَنْ تَكَلُّفِ مَا لَا يَعْنِي، عَامًّا فِي الِاعْتِقَادِيَّات وَالْعَمَلِيَّاتِ.

ج- التَّيْسِيرُ فِي عِلْمِ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ:

13- رَاعَى الشَّارِعُ الْحَكِيمُ أُمَيَّةَ الْمَدْعُوِّينَ وَتَنَوُّعَ أَحْوَالِهِمْ فِي الْفَهْمِ، فَجَعَلَ الْأَحْكَامَ الْعَمَلِيَّةَ مِمَّا يَسْهُلُ تَعَقُّلُهَا وَتَعَلُّمُهَا وَفَهْمُهَا، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَلَّفَهُمْ بِجَلَائِلِ الْأَعْمَالِ الْعِبَادِيَّةِ، وَقَرَّبَ الْمَنَاطَ فِيهَا بِحَيْثُ يُدْرِكُهَا الْجُمْهُورُ، وَجَعَلَهُ ظَاهِرًا مُنْضَبِطًا، كَتَعْرِيفِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ بِالظِّلَالِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَزَوَالِ الشَّمْسِ، وَغُرُوبِهَا، وَغُرُوبِ الشَّفَقِ، وَكَذَلِكَ فِي الصِّيَامِ فِي قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}.وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا» وَقَالَ: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ» وَلَمْ يُطَالِبْنَا بِجَعْلِ ذَلِكَ مُرْتَبِطًا بِحِسَابِ مَسِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي الْمَنَازِلِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الدِّقَّةِ وَالْخَفَاءِ.

وَلَا يَعْنِي ذَلِكَ خُلُوُّ الشَّرِيعَةِ مِمَّا يَسْتَقِلُّ الْخَاصَّةُ بِإِدْرَاكِهِ، وَهِيَ الْأُمُورُ الِاجْتِهَادِيَّةُ، الَّتِي تَخْفَى عَلَى الْجُمْهُورِ، غَيْرَ أَنَّ عَامَّةَ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَحْتَاجُهَا الْمُكَلَّفُ، وَتَقُومُ مَقَامَ الْأُسُسِ مِنَ الدِّينِ، ظَاهِرَةٌ لَا تَخْفَى عَلَى الْجُمْهُورِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ يَحْتَاجُ فِي تَطَلُّبِهِ إِلَى بَذْلِ جَهْدٍ، إِلاَّ أَنَّهُ يَتَيَسَّرُ لِأَهْلِ الْعِلْمِ الْوُصُولُ إِلَيْهِ بِاتِّبَاعِ مَا بَيَّنَتْهُ الشَّرِيعَةُ مِنْ طُرُقِ الِاجْتِهَادِ.

النَّوْعُ الثَّانِي: يُسْرُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ:

14- يُسْرُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ يَتَشَعَّبُ فِيهِ النَّظَرُ شُعْبَتَيْنِ:

1- الْيُسْرُ الْأَصْلِيُّ، وَهُوَ الْيُسْرُ فِي مَا شُرِعَ مِنَ الْأَحْكَامِ مِنْ أَصْلِهِ مُيَسَّرًا لَا عَنَتَ فِيهِ.

2- الْيُسْرُ التَّخْفِيفِيُّ، وَهُوَ مَا وُضِعَ فِي الْأَصْلِ مُيَسَّرًا، غَيْرَ أَنَّهُ طَرَأَ فِيهِ الثِّقَلُ بِسَبَبِ ظُرُوفٍ اسْتِثْنَائِيَّةٍ، وَأَحْوَالٍ تَخُصُّ بَعْضَ الْمُكَلَّفِينَ، فَيُخَفِّفُ الشَّرْعُ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ.

الشُّعْبَةُ الْأُولَى: الْيُسْرُ الْأَصْلِيُّ:

15- التَّيْسِيرُ الْأَصْلِيُّ صِفَةٌ عَامَّةٌ لِلشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي أَحْكَامِهَا الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي تَلْزَمُ الْمُكَلَّفِينَ.قَالَ الشَّاطِبِيُّ: إِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى التَّكْلِيفِ بِالشَّاقِّ وَالْإِعْنَاتِ فِيهِ.

وَيُسْتَدَلُّ لِذَلِكَ بِأُمُورٍ، مِنْهَا:

16- أ- النُّصُوصُ الَّتِي تُبَيِّنُ ذَلِكَ صَرَاحَةً، مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهَا قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} وَمِنْهَا مَا امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي سِيَاقِ بَيَانِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}.

وَمِنَ الْيُسْرِ الْأَصْلِيِّ إِعْفَاءُ الصَّغِيرِ، وَالْمَجْنُونِ، مِنْ سَرَيَانِ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ عَلَيْهِمَا، وَإِعْفَاءِ النِّسَاءِ مِنْ وُجُوبِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَمِنْ تَأَكُّدِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ أَوْ وُجُوبِهَا عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ.وَهَذَا مَعْنَى كَثِيرٍ مِنَ الِاشْتِرَاطَاتِ الَّتِي تُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَالْحُدُودِ، وَبَعْضِ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَحَقِّ الْقِصَاصِ، وَحَقِّ حَدِّ الْقَذْفِ، فَقَدِ اشْتُرِطَ فِيهَا جَمِيعًا الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ، وَاشْتُرِطَ فِي حَدِّ الزِّنَى أَرْبَعَةُ شُهُودٍ تَقْلِيلًا لِحَالَاتِ وُجُوبِ الْحَدِّ، تَخْفِيفًا وَتَيْسِيرًا، وَاشْتُرِطَ لِلرَّجْمِ لِشِدَّتِهِ الْإِحْصَانُ تَخْفِيفًا عَنْ غَيْرِ الْمُحْصَنِ، وَاسْتُثْنِيَ الْوَلِيُّ الْفَقِيرُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الْأَكْلِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ؛ تَخْفِيفًا عَنْهُ، فَقَدْ أُذِنَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ.

17- ب- وَمِنْهَا مَا عُهِدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّهُ يَسْتَثْنِي مِنْ نُصُوصِ التَّكْلِيفِ الصُّوَرَ الَّتِي فِيهَا عُسْرٌ فَيُيَسِّرُهَا، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذِنَ لِلْوَلِيِّ فِي مُخَالَطَةِ الْيَتِيمِ فِي النَّفَقَةِ بَعْدَ أَنْ نَهَى عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ وَأَمَرَ بِإِصْلَاحِهَا فَقَالَ: {وَيَسْأَلُونَك عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} فَأَذِنَ فِي الْمُخَالَطَةِ، لِأَنَّ فِي عَزْلِ نَفَقَةِ الْيَتِيمِ وَحْدَهُ عُسْرًا عَلَى الْوَلِيِّ.وَالْمُخَالَطَةُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّهُ كَافِيهِ، بِالتَّحَرِّي، فَيَجْعَلُهَا مَعَ نَفَقَةِ أَهْلِهِ، مَعَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ يَأْكُلُ أَكْثَر مِنْ بَعْضٍ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِصْلَاحًا.ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ} أَيْ بِإِيجَابِ عَزْلِ نَفَقَةِ الْيَتِيمِ وَحْدَهَا لِيَأْمَنَ الْوَلِيُّ مِنْ أَكْلِهِ أَوْ أَهْلِهِ شَيْئًا مِنْهَا.

وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمَشَقَّةَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ لَيْسَتْ مُرَادَةً لِلَّهِ تَعَالَى.

18- ج- وَمِنْهَا مَا عُلِمَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَتَفَادَى مَا يَكُونُ سَبَبًا لِتَكَالِيفَ قَدْ تَشُقُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ يَتَجَنَّبُ أَنْ يَصْنَعَ شَيْئًا يَكُونُ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى أَصْحَابِهِ إِذَا اقْتَدَوْا بِهِ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}

فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَحُثُّ أَصْحَابَهُ عَلَى تَرْكِ السُّؤَالِ لِئَلاَّ تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ فَرَائِضُ بِسَبَبِ سُؤَالِهِمْ.فَقَدْ «سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ الْحَجِّ.أَفِي كُلِّ عَامٍ هُوَ؟ فَقَالَ: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ، ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ» وَقَالَ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ».وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُحِبُّ الْيُسْرَ عَلَى النَّاسِ».

«وَقَالَتْ عَائِشَةُ: خَرَجَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ عِنْدِي وَهُوَ مَسْرُورٌ طَيِّبُ النَّفْسِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ وَهُوَ كَئِيبٌ، فَقَالَ: إِنِّي دَخَلْتُ الْكَعْبَةَ وَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ دَخَلْتُهَا إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ أَتْعَبْتُ أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي» وَقَالَ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ قَطُّ».

19- د- وَمِنْهَا الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ قَصْدِ الْمَشَقَّةِ وَالْعَنَتِ فِي التَّكْلِيفِ، وَأَنَّهَا وُضِعَتْ عَلَى قَصْدِ الرِّفْقِ وَالتَّيْسِيرِ، وَعَلَى هَذَا لَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْفُتْيَا فِي الْأُمَّةِ عَلَى طَلَبِ الْيُسْرِ عَلَى النَّاسِ.

دَرَجَاتُ الْمَشَاقِّ، وَالتَّكْلِيفُ بِهَا:

20- لَيْسَ مَعْنَى يُسْرِ الشَّرِيعَةِ خُلُوُّ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ جِنْسِ الْمَشَقَّةِ أَصْلًا، بَلْ إِنَّ التَّكْلِيفَ، مَا سُمِّيَ بِهَذَا إِلاَّ لِأَنَّهُ طَلَبُ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ، فَلَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنَ التَّكَالِيفِ عَنِ الْمَشَقَّةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَشَقَّةَ عَلَى دَرَجَاتٍ:

الدَّرَجَةِ الْأُولَى:

21- الْمَشَقَّةُ الَّتِي لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَى حَمْلِهَا أَصْلًا، فَهَذَا النَّوْعُ لَمْ يَرِدْ التَّكْلِيفُ بِهِ فِي الشَّرْعِ أَصْلًا؛ إِذْ لَا قُدْرَةَ لِلْمُكَلَّفِ عَلَيْهِ فِي الْعَادَةِ، فَلَا يَقَعُ التَّكْلِيفُ بِهِ شَرْعًا، وَإِنْ جَازَ عَقْلًا، وَقِيلَ يَمْتَنِعُ التَّكْلِيفُ بِهِ شَرْعًا وَعَقْلًا.فَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مِثْلُ تَكْلِيفِ الْإِنْسَانِ بِحَمْلِ جَبَلٍ، وَلَا كَتَكْلِيفِ مَقْطُوعِ الرِّجْلَيْنِ الْقِيَامَ أَوِ الْمَشْيَ.

وَهَذَا التَّكْلِيفُ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، لَمْ يُوجَدْ فِي الشَّرَائِعِ السَّمَاوِيَّةِ السَّابِقَةِ أَيْضًا، بِخِلَافِ الْأَنْوَاعِ الْآتِيَةِ.وَيُعَبِّرُ الْأُصُولِيُّونَ عَنْ هَذَا بِمَنْعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ.

الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ:

22- أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مَقْدُورًا عَلَيْهِ، لَكِنْ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ، كَمَشَقَّةِ الْخَوْفِ عَلَى النُّفُوسِ وَالْأَعْضَاءِ وَمَنَافِعِ الْأَطْرَافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَالتَّكْلِيفُ بِهَذَا النَّوْعِ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا فِيمَا قَبْلَهَا مِنَ الشَّرَائِعِ.وَدَلِيلُ ذَلِكَ قوله تعالى فِي بَيَانِ الْمِنَّةِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِإِرْسَالِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمِ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} وَالْإِصْرُ الْعَهْدُ الثَّقِيلُ، وَالتَّكَالِيفُ الثَّقِيلَةُ الَّتِي تَخْرُجُ مَشَقَّتُهَا عَنِ الْمُعْتَادِ.أَيْ مَا عُهِدَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَهْدٍ ثَقِيلٍ.

وَفِي خَاتِمَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ فَعَلْتُ» أَيْ: أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ دُعَاءَ الْمُؤْمِنِينَ.

وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْهَا قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} وَمِنْ تِلْكَ التَّكَالِيفِ الثَّقِيلَةِ الَّتِي شَدَّدَ بِهَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَتَوْا بِخَطِيئَةٍ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الطَّعَامِ بَعْضُ مَا كَانَ حَلَالًا لَهُمْ قَالَ تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}.

الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ:

23- الْمَشَقَّةُ الَّتِي تُطَاقُ وَيُمْكِنُ احْتِمَالُهَا لَكِنْ فِيهَا شِدَّةٌ بِحَيْثُ تُشَوِّشُ عَلَى النُّفُوسِ فِي تَصَرُّفِهَا، وَتُقْلِقُهَا فِي الْقِيَامِ بِمَا فِيهِ تِلْكَ الْمَشَقَّةُ.

وَيَكُونُ الْإِنْسَانُ مَعَهَا فِي ضِيقٍ وَحَرَجٍ، فَلَا يَشْعُرُ بِالرَّاحَةِ لِخُرُوجِ الْمَشَقَّةِ عَنِ الْمُعْتَادِ فِي الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ.

وَهَذَا النَّوْعُ قَدْ يَكُونُ فِي الْأَصْلِ مِنَ الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا فُعِلَ مَرَّةً وَاحِدَةً لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ لِلْإِنْسَانِ الضِّيقُ وَالْحَرَجُ، وَلَكِنْ إِذَا تَكَرَّرَ وَدَامَ جَاءَ الْحَرَجُ بِسَبَبِ الدَّوَامِ عَلَيْهِ.قَالَ الشَّاطِبِيُّ: وَيُوجَدُ هَذَا فِي النَّوَافِلِ وَحْدَهَا إِذَا تَحَمَّلَ الْإِنْسَانُ مِنْهَا فَوْقَ مَا يَحْتَمِلُهُ عَلَى وَجْهٍ مَا، إِلاَّ أَنَّهُ فِي الدَّوَامِ يُتْعِبُهُ حَتَّى يَحْصُلَ لِلنَّفْسِ بِسَبَبِهِ مَا يَحْصُلُ لَهَا بِالْعَمَلِ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي غَيْرِهِ قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي شُرِعَ لَهُ الرِّفْقُ وَالْأَخْذُ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا لَا يُحَصِّلُ مَلَلًا، حَسْبَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي نَهْيِهِ عَنِ الْوِصَالِ، وَعَنِ التَّنَطُّعِ وَالتَّكَلُّفِ.

وَقَالَ: «خُذُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَلَّ حَتَّى تَمَلُّوا» وَقَالَ: «الْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا» وَقَالَ: «إِنَّ الْمَنْبَتَ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى».

الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ:

24- الْمَشَقَّةُ الَّتِي فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي تَعَبِ النَّفْسِ خُرُوجٌ عَنِ الْمُعْتَادِ فِي الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ، وَلَكِنْ نَفْسُ التَّكْلِيفِ بِهِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَاتُ قَبْلَ التَّكْلِيفِ.فَفِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى النَّفْسِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ؛ وَلِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ «التَّكْلِيفِ» وَهُوَ فِي اللُّغَةِ يَقْتَضِي مَعْنَى الْمَشَقَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ «كَلَّفْتُهُ تَكْلِيفًا» إِذَا حَمَّلْتُهُ أَمْرًا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَأَمَرْتُهُ بِهِ، وَتَقُولُ: «تَكَلَّفْتُ الشَّيْءَ» إِذَا تَحَمَّلْتُهُ عَلَى مَشَقَّةٍ.فَمِثْلُ هَذَا يُسَمَّى مَشَقَّةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ لِأَنَّهُ دُخُولٌ فِي أَعْمَالٍ زَائِدَةٍ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا.وَأَقَلُّ مَا فِيهِ فِي الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ إِخْرَاجُ الْمُكَلَّفِ عَمَّا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ، وَمُخَالَفَةُ الْهَوَى فِيهِ مَشَقَّةٌ مَا.

وَلَكِنِ الشَّرِيعَةُ جَاءَتْ لِإِخْرَاجِ الْمُكَلَّفِ مِنِ اتِّبَاعِ هَوَاهُ حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ اخْتِيَارًا كَمَا هُوَ عَبْدٌ لِلَّهِ اضْطِرَارًا.

وَهَذَا النَّوْعُ لَازِمٌ لِكُلِّ تَكْلِيفٍ؛ إِذْ لَا تَخْلُو مِنْهُ التَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ.وَالْمَشَقَّةُ الَّتِي فِيهِ- وَإِنْ سُمِّيَتْ مَشَقَّةً مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ- إِلاَّ أَنَّهَا لَا تُسَمَّى فِي الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ مَشَقَّةً، كَمَا لَا يُسَمَّى فِي الْعَادَةِ مَشَقَّةً طَلَبُ الْمَعَاشِ بِالْحِرَفِ وَسَائِرِ الصَّنَائِعِ، بَلْ أَهْلُ الْعُقُولِ، وَأَصْحَابُ الْعَادَاتِ يَعُدُّونَ الْمُنْقَطِعَ عَنْهُ كَسْلَانَ، وَيَذُمُّونَهُ بِذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْمُعْتَادُ فِي التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ.

فَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الدَّرَجَةَ الْأُولَى لَا تَكْلِيفَ بِهَا أَصْلًا، فَالشَّرِيعَةُ لَا تُكَلِّفُ الْعِبَادَ بِمَا لَيْسَ مَقْدُورًا لَهُمْ أَصْلًا، وَكَذَلِكَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ، فَالْمَشَقَّاتُ الْفَادِحَةُ كَقَتْلِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ، أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ لَا تَكْلِيفَ بِهَا فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ حَصَلَ التَّكْلِيفُ بِهَا فِيمَا قَبْلَهَا مِنَ الشَّرَائِعِ.

وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ فَهِيَ مَوْضِعُ النَّظَرِ، وَتَفْصِيلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِأَدْنَاهَا، أَوْ أَوْسَطِهَا دُونَ أَعْلَاهَا، وَإِنَّهُ إِنْ حَصَلَ التَّكْلِيفُ بِمَا مَشَقَّتُهُ مُعْتَادَةٌ، فَحَصَلَ فِيهِ خُرُوجٌ عَنِ الْمُعْتَادِ، جَاءَ فِيهِ التَّخْفِيفُ، كَمَا يَأْتِي.

وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الرَّابِعَةُ، مِنَ الْمَشَقَّاتِ الْمُعْتَادَةِ فِي الْأَعْمَالِ فَلَا تَمْنَعُ التَّكْلِيفَ،

غَيْرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي بَيَانِ مَعْنَى الِاعْتِيَادِ فِيهِ؛ إِذْ قَدْ يَكُونُ فِي التَّكْلِيفِ شِدَّةٌ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ وَاقِعٌ فِي حَيِّزِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يَأْتِي فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

مَوَاضِعُ الْمَشَقَّةِ الْوَارِدَةِ فِي الشَّرِيعَةِ:

الْيُسْرُ وَإِنْ كَانَ هُوَ الصِّبْغَةُ الْعَامَّةُ لِلشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي أَحْكَامِهَا، إِلاَّ أَنَّ فِيهَا أَحْكَامًا فِيهَا نَوْعٌ مِنَ الْمَشَقَّةِ لِدَوَاعٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ، مِنْهَا:

25- أَوَّلًا: أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي تُرْجَى مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَحْكُومِ فِيهِ مَصْلَحَةً عَظِيمَةً لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا إِلاَّ بِتَعَرُّضِ الْبَعْضِ لِلْمَشَاقِّ، كَإِنْقَاذِ الْغَرْقَى وَالْحَرْقَى وَالْهَدْمَى، فَإِنَّ الَّذِي يَتَصَدَّى لِذَلِكَ قَدْ يَتَعَرَّضُ لِأَخْطَارٍ جَسِيمَةٍ، وَكَذَلِكَ دَرْءُ الْمَفَاسِدِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ دَرْؤُهَا إِلاَّ بِتَعَرُّضِ الْبَعْضِ لِلْمَشَاقِّ، كَالْجِهَادِ لِدَفْعِ الْمُعْتَدِينَ عَلَى الدِّيَارِ، وَالْأَعْرَاضِ، وَالْحُقُوقِ، فَكُلُّ ذَلِكَ يُعَرِّضُ حَيَاةَ الْقَائِمِ بِهِ لِلْأَخْطَارِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مَطْلُوبٌ شَرْعًا لقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَقَوْلُهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وَمَا وَرَدَ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قَالَ: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي مَنْشَطِنَا، وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا، وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا».

26- ثَانِيًا: حَالَاتٌ مِنَ الِاحْتِيَاطِ فِيهَا نَوْعٌ مِنَ الْعُسْرِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ غَالِبًا اطْمِئْنَانُ الْمُكَلَّفِ إِلَى خُرُوجِهِ مِنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ بِيَقِينٍ.

وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتَذَكَّرَ أَنَّهُ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ لَا يَدْرِي، أَيِّ الْخَمْسِ هِيَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الْخَمْسَ، أَوْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ لَا يَدْرِي أَهِيَ الظُّهْرُ أَمِ الْعَصْرُ، فَيَقْضِيهِمَا، وَإِذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَالْآخَرُ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ، يَغْلِبُ التَّحْرِيمُ مَعَ أَنَّ الْإِبَاحَةَ أَيْسَرُ، وَلَوْ اشْتَبَهَتْ مَحْرَمٌ بِأَجْنَبِيَّاتٍ مَحْصُورَاتٍ لَمْ تَحِلَّ أَيُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، أَوْ اشْتَبَهَتْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّاةٍ لَمْ يَجُزْ تَنَاوُلُ شَيْءٍ مِنْهُمَا.

لَكِنْ إِنْ وَصَلَ الْأَمْرُ بِالِاحْتِيَاطِ إِلَى الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى تَغْلِيبِ قَاعِدَةِ رَفْعِ الْحَرَجِ، فَلَوْ كَانَ النِّسْوَةُ اللاَّتِي اخْتَلَطَتْ بِهِنَّ مَحْرَمُهُ غَيْرَ مَحْصُورَاتٍ بِأَنِ اخْتَلَطَتْ بِنِسَاءِ قَرْيَةٍ كَبِيرَةٍ، فَلَهُ النِّكَاحُ مِنْهُنَّ، وَلَوِ اخْتَلَطَ حَمَامٌ مَمْلُوكٌ بِحَمَامٍ مُبَاحٍ لَا يَنْحَصِرُ جَازَ لَهُ الصَّيْدُ.وَلَوِ اخْتَلَطَ فِي الْبَلَدِ حَرَامٌ لَا يَنْحَصِرُ لَمْ يَحْرُمِ الشِّرَاءُ مِنْهُ، بَلْ يَجُوزُ الْأَخْذُ مِنْهُ، إِلاَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْحَرَامِ.

وَرُبَّمَا غَلَّبَ الْبَعْضُ قَاعِدَةَ الِاحْتِيَاطِ عَلَى قَاعِدَةِ رَفْعِ الْحَرَجِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ.

مَنْ شُرِعَ لَهُ التَّيْسِيرُ:

27- التَّيْسِيرُ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ.

أَمَّا الْكَافِرُ فَلَهُ التَّشْدِيدُ وَالتَّضْيِيقُ وَالتَّغْلِيظُ بِسَبَبِ كُفْرِهِ بِاَللَّهِ وَجَحْدِهِ لِنِعْمَتِهِ وَحَقِّهِ؛ وَلِرَفْضِهِ الدُّخُولَ تَحْتَ أَحْكَامِ اللَّهِ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.

وَلِذَلِكَ شُرِعَ قِتَالُ الْكُفَّارِ وَإِدْخَالُهُمْ تَحْتَ الْجِزْيَةِ وَالصَّغَارِ.فَإِنْ دَخَلَ الْكَافِرُ فِي الذِّمَّةِ وَتَرَكَ الْمُحَارَبَةَ، أَوْ دَخَلَ مُسْتَأْمَنًا، حَصَلَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ أَنْوَاعٌ مِنَ التَّيْسِيرِ، كَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ، وَمَنْعِ ظُلْمِهِ فِي النَّفْسِ أَوِ الْمَالِ، وَإِقْرَارِهِ عَلَى مَا يَجُوزُ فِي دِينِهِ.وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (أَهْلُ الذِّمَّةِ) (وَجِهَادٌ).وَأَمَّا الْفَاسِقُ وَالْمُعْتَدِي وَالظَّالِمُ مِنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَلَهُ مِنَ التَّشْدِيدِ بِحَسَبِ فِسْقِهِ وَعُدْوَانِهِ وَظُلْمِهِ بِقَدْرِ الذَّنْبِ الَّذِي جَنَاهُ، وَلَهُ مِنَ التَّيْسِيرِ بِحَسَبِ إِسْلَامِهِ وَإِيمَانِهِ.فَمِنَ التَّشْدِيدِ عَلَى الْفَاسِقِ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الزَّانِي بِرَجْمِهِ حَتَّى الْمَوْتِ إِنْ كَانَ مُحْصَنًا، وَهِيَ مِنْ أَعْسَرِ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ وَأَشَدِّهَا، وَبِجِلْدِهِ مِائَةَ جَلْدَةٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا.وَمِنْهَا قَطْعُ يَدِ السَّارِقِ، وَقَتْلُ قَاطِعِ الطَّرِيقِ، أَوْ صَلْبُهُ، أَوْ تَقْطِيعُ يَدِهِ وَرِجْلِهِ مِنْ خِلَافٍ، أَوْ نَفْيُهُ مِنَ الْأَرْضِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي الْحُدُودِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


121-موسوعة الفقه الكويتية (جائزة)

جَائِزَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْجَائِزَةُ: الْعَطِيَّةُ إِذَا كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ يُقَالُ: أَجَازَهُ أَيْ: أَعْطَاهُ جَائِزَةً.وَالْجَمْعُ جَوَائِزُ.وَقَرِيبٌ مِنْهَا التُّحْفَةُ فَهِيَ مَا أَتْحَفْتَهُ غَيْرَكَ مِنَ الْبِرِّ.قَالَ صَاحِبُ اللِّسَانِ:

«وَأَصْلُهَا أَنَّ أَمِيرًا وَاقَفَ عَدُوًّا وَبَيْنَهُمَا نَهْرٌ فَقَالَ:

مَنْ جَازَ هَذَا النَّهْرَ فَلَهُ كَذَا، فَكُلَّمَا جَازَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ أَخَذَ جَائِزَةً وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي قَوْلِهِمْ: أَجَازَ السُّلْطَانُ فُلَانًا بِجَائِزَةٍ: أَصْلُ الْجَائِزَةِ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مَاءً وَيُجِيزَهُ لِيَذْهَبَ لِوَجْهِهِ فَيَقُولَ الرَّجُلُ إِذَا وَرَدَ مَاءً لِقَيِّمِ الْمَاءِ: أَجِزْنِي مَاءً، أَيْ: أَعْطِنِي مَاءً حَتَّى أَذْهَبَ لِوَجْهِي وَأَجُوزَ عَنْكَ، ثُمَّ كَثُرَ هَذَا حَتَّى سَمَّوُا الْعَطِيَّةَ جَائِزَةً.وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْجِيزَةُ مِنَ الْمَاءِ مِقْدَارُ مَا يَجُوزُ بِهِ الْمُسَافِرُ مِنْ مَنْهَلٍ إِلَى مَنْهَلٍ، يُقَالُ: اسْقِنِي جِيزَةً وَجَائِزَةً وَجَوْزَةً: وَفِي الْحَدِيثِ: «الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَجَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَمَا زَادَ فَهُوَ صَدَقَةٌ» أَيْ: يُضَافُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَيَتَكَلَّفُ لَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ بِمَا اتَّسَعَ لَهُ مِنْ بِرٍّ وَإِلْطَافٍ، وَيُقَدِّمُ لَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مَا حَضَرَهُ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى عَادَتِهِ، ثُمَّ يُعْطِيهِ مَا يَجُوزُ بِهِ مَسَافَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَهِيَ قَدْرُ مَا يَجُوزُ بِهِ الْمُسَافِرُ مِنْ مَنْهَلٍ إِلَى مَنْهَلٍ، فَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ وَمَعْرُوفٌ، إِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ...وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَجَازَهُ بِجَائِزَةٍ سَنِيَّةٍ أَيْ بِعَطَاءٍ...وَفِي الْحَدِيثِ: «أَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ» أَيْ: أَعْطُوهُمُ الْجِيزَةَ (أَيْ الْجَائِزَةَ) وَمِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ- رضي الله عنه-: «أَلَا أَمْنَحُكَ أَلَا أُجِيزُكَ» أَيْ أُعْطِيكَ، وَالْأَصْلُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُلِّ عَطَاءٍ».

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْمُكَافَأَةُ

2- هِيَ مَصْدَرُ كَافَأَ، يُقَالُ: كَافَأَهُ عَلَى الشَّيْءِ مُكَافَأَةً وَكِفَاءً أَيْ جَازَاهُ، وَكَافَأَ فُلَانٌ فُلَانًا: مَاثَلَهُ.

وَاصْطِلَاحًا عَرَّفَ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ الْمُكَافَأَةَ بِأَنَّهَا: الْمُسَاوَاةُ وَالْمُقَابَلَةُ فِي الْفِعْلِ، أَوْ مُقَابَلَةُ نِعْمَةٍ بِنِعْمَةٍ هِيَ كُفْؤُهَا.

وَعَرَّفَهَا الْجُرْجَانِيُّ بِأَنَّهَا: مُقَابَلَةُ الْإِحْسَانِ بِمِثْلِهِ أَوْ زِيَادَةٍ.

فَالْجَائِزَةُ تَكُونُ بِلَا مُقَابِلٍ، أَمَّا الْمُكَافَأَةُ فَتَكُونُ بِمُقَابِلٍ وَتَكُونُ مُمَاثِلَةً عَلَى الْأَقَلِّ.

ب- الْأَجْرُ:

3- مِنْ مَعَانِي الْأَجْرِ: الْجَزَاءُ عَلَى الْعَمَلِ، وَالثَّوَابُ، وَالذِّكْرُ الْحَسَنُ، وَالْمَهْرُ.وَالْأَجْرُ قَدْ يَكُونُ دُنْيَوِيًّا أَوْ أُخْرَوِيًّا، وَيُقَالُ فِيمَا كَانَ عَنْ عَقْدٍ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الْعَقْدِ، وَلَا يُقَالُ إِلاَّ فِي النَّفْعِ دُونَ الضَّرِّ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَائِزَةِ وَالْأَجْرِ، أَنَّ الْجَائِزَةَ بِلَا مُقَابِلٍ وَلَا تَعَاقُدٍ وَلَا عِلْمَ بِهَا، أَمَّا الْأَجْرُ فَيُخَالِفُ فِي كُلِّ ذَلِكَ.

ج- الْجَزَاءُ:

4- هُوَ مَصْدَرُ جَزَى، يُقَالُ: جَزَى الشَّيْءُ يَجْزِي أَيْ كَفَى، وَجَزَى عَنْهُ أَيْ قَضَى، وَالْجَزَاءُ يَكُونُ مَنْفَعَةً أَوْ مَضَرَّةً أَيْ بِالْمُقَابَلَةِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وَيُقَالُ فِيمَا كَانَ عَنْ عَقْدٍ وَغَيْرِ عَقْدٍ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لَفْظُ جَزَى دُونَ جَازَى؛ لِأَنَّ الْمُجَازَاةَ هِيَ الْمُكَافَأَةُ أَيْ مُقَابَلَةُ نِعْمَةٍ بِنِعْمَةٍ هِيَ كُفْؤُهَا، وَنِعْمَةُ اللَّهِ لَا كُفْءَ لَهَا، وَلِهَذَا لَا يَسْتَعْمِلُ الْمُكَافَأَةَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.

وَالْجَزَاءُ يَكُونُ بِمُقَابِلٍ وَيَكُونُ بِالْمَنْفَعَةِ أَوِ الْمَضَرَّةِ بِخِلَافِ الْجَائِزَةِ.

د- الْجُعْلُ:

5- الْجُعْلُ: لُغَةً مَا يُجْعَلُ لِلْعَامِلِ عَلَى عَمَلِهِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ

وَاصْطِلَاحًا: الْمَالُ الْمَعْلُومُ سُمِّيَ فِي الْجَعَالَةِ لِمَنْ يَعْمَلُ عَمَلًا مُبَاحًا وَلَوْ كَانَ مَجْهُولًا فِي الْقَدْرِ أَوْ الْمُدَّةِ أَوْ بِهِمَا فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَائِزَةِ أَنَّ الْجَائِزَةَ عَطِيَّةٌ بِلَا مُقَابِلٍ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

6- الْأَصْلُ إِبَاحَةُ الْجَائِزَةِ عَلَى عَمَلٍ مَشْرُوعٍ سَوَاءٌ أَكَانَ دِينِيًّا أَوْ دُنْيَوِيًّا لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْحَثِّ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَالْإِعَانَةِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْهِبَةِ.

وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْجَائِزَةِ بِاخْتِلَافِ مَبْحَثِهَا الْفِقْهِيِّ.

وَهُنَاكَ مَوَاطِنُ لِلْجَائِزَةِ لَهَا حُكْمٌ خَاصٌّ مِنْهَا: جَائِزَةُ السُّلْطَانِ، وَالْجَائِزَةُ فِي السِّبَاقِ (السَّبَقِ).

أَوَّلًا: جَائِزَةُ السُّلْطَانِ:

7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُولِ جَائِزَةِ السُّلْطَانِ أَوْ هَدِيَّتِهِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَبُولُ هَدِيَّةِ أُمَرَاءِ الْجَوْرِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي مَالِهِمُ الْحُرْمَةُ إِلاَّ إِذَا عَلِمَ أَنَّ أَكْثَرَ الْمَالِ حَلَالٌ، بِأَنْ كَانَ لِصَاحِبِهِ تِجَارَةٌ، أَوْ زَرْعٌ، فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَ النَّاسِ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ حَرَامٍ فَالْمُعْتَبَرُ الْغَالِبُ.

وَأَمَّا جَائِزَةُ السُّلْطَانِ الَّذِي لَمْ يُعْرَفْ بِالْجَوْرِ فَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: إِنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي أَخْذِهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يُعْطِيهِ مِنْ حَرَامٍ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: وَبِهِ نَأْخُذُ مَا لَمْ نَعْرِفْ شَيْئًا حَرَامًا بِعَيْنِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ- رحمه الله- (وَأَصْحَابِهِ.

وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَحْرُمُ الْأَكْلُ وَلَا الْمُعَامَلَةُ، وَلَا أَخْذُ الصَّدَقَةِ، وَالْهَدِيَّةِ، مِمَّنْ أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامٌ إِلاَّ مَا عُلِمَ حُرْمَتُهُ، وَلَا يَخْفَى الْوَرَعُ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي جَائِزَةِ السُّلْطَانِ: أَكْرَهُهَا، وَكَانَ يَتَوَرَّعُ عَنْهَا، وَيَمْنَعُ بَنِيهِ وَعَمَّهُ مِنْ أَخْذِهَا، وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ بِمَا أَخَذُوهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ تَخْتَلِطُ بِمَا يَأْخُذُونَهُ مِنَ الْحَرَامِ مِنَ الظُّلْمِ وَغَيْرِهِ فَيَصِيرُ شُبْهَةً، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ» وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ».

وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِأَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ تَنَزَّهُوا عَنْ مَالِ السُّلْطَانِ، مِنْهُمْ: حُذَيْفَةُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، - رضي الله عنهما-.

وَلَمْ يَرَ أَحْمَدُ ذَلِكَ حَرَامًا، فَإِنَّهُ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ: مَالُ السُّلْطَانِ حَرَامٌ؟ فَقَالَ: لَا، وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُتَنَزَّهَ عَنْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ وَلَهُ فِي هَذِهِ الدَّرَاهِمِ حَقٌّ، فَكَيْفَ أَقُولُ إِنَّهَا سُحْتٌ؟

وَقَالَ أَحْمَدُ: جَوَائِزُ السُّلْطَانِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الصَّدَقَةِ، يَعْنِي أَنَّ الصَّدَقَةَ أَوْسَاخُ النَّاسِ صِينَ عَنْهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَآلُهُ لِدَنَاءَتِهَا وَلَمْ يُصَانُوا عَنْ جَوَائِزِ السُّلْطَانِ.

ثَانِيًا- جَائِزَةُ السَّبَقِ (الْجُعْلِ):

8- السَّبْقُ- بِسُكُونِ الْبَاءِ- مَصْدَرُ سَبَقَ، وَالسَّبَقُ- بِفَتْحِ الْبَاءِ- الْجُعْلُ أَيِ الْمَالُ الَّذِي يُوضَعُ بَيْنَ الْمُتَسَابِقِينَ لِيَأْخُذَهُ السَّابِقُ، أَيِ الْجَائِزَةُ.

وَيُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ بِالسَّبَقِ، أَوْ السِّبَاقِ، أَوْ الْمُسَابَقَةِ، وَيُرِيدُونَ مَا يَعُمُّ سِبَاقَ الْخَيْلِ أَوْ الْإِبِلِ وَالرَّمْيِ، لِقَوْلِ الْأَزْهَرِيِّ: النِّضَالُ فِي الرَّمْيِ، وَالرِّهَانُ فِي الْخَيْلِ، وَالسِّبَاقُ يَكُونُ فِي الْخَيْلِ وَالرَّمْيِ، كَمَا فِي قوله تعالى: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} قِيلَ: مَعْنَاهُ نَنْتَضِلُ بِالسِّهَامِ.

وَقَدْ يُعَبِّرُونَ عَنِ الْمُسَابَقَةِ فِي الرَّمْيِ بِالسِّهَامِ بِلَفْظِ الْمُنَاضَلَةِ أَيِ الْمُبَارَاةِ وَالْمُغَالَبَةِ فِي الرَّمْيِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاضَلْتُهُ فَنَضَلْتُهُ، كَغَالَبْتُهُ فَغَلَبْتُهُ، وَزْنًا وَمَعْنًى.

9- وَالْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْمُسَابَقَةِ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ.

فَمِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الْمُضْمَرَةِ مِنَ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ سِتَّةُ أَمْيَالٍ أَوْ سَبْعَةٌ وَبَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ مِنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي رُزَيْقٍ».مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْمُسَابَقَةِ فِي الْجُمْلَةِ.

10- وَالْمُسَابَقَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُسَابَقَةٌ بِعِوَضٍ وَهُوَ الْجُعْلُ أَوِ الْجَائِزَةُ، وَمُسَابَقَةٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ.

فَإِنْ كَانَتِ الْمُسَابَقَةُ بِغَيْرِ جُعْلٍ فَتَجُوزُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ فِي سَفَرٍ مَعَ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- فَسَابَقَتْهُ عَلَى رِجْلِهَا فَسَبَقَتْهُ، قَالَتْ- رضي الله عنها-: فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي فَقَالَ: هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ».وَلِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ: «خَرَجَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ فَقَالَ: ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا».

وَيَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ إِذَا قُصِدَ بِالْمُسَابِقَةِ التَّلَهِّي أَوِ الْمُفَاخَرَةُ فَتَكُونُ مَكْرُوهَةً، أَمَّا إِذَا قُصِدَ بِهَا التَّقَوِّي وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْجِهَادِ فَإِنَّهَا تَكُونُ مَنْدُوبَةً، بَلْ تَكُونُ وَاجِبَةً عَلَى الْكِفَايَةِ إِذَا لَمْ يَتِمَّ التَّقَوِّي عَلَى الْجِهَادِ وَالْإِعْدَادُ لِلِقَاءِ الْعَدُوِّ إِلاَّ بِهَا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}

وَإِنْ كَانَتِ الْمُسَابَقَةُ بِجَائِزَةٍ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا فِي الْخَيْلِ، وَالْإِبِلِ، وَالسَّهْمِ، لِحَدِيثِ: «لَا سَبَقَ إِلاَّ فِي خُفٍّ، أَوْ حَافِرٍ، أَوْ نَصْلٍ».

وَقَالُوا: إِنَّهَا تَكُونُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَنْدُوبَةً إِذَا قُصِدَ بِهَا الْإِعْدَادُ لِلْجِهَادِ، بَلْ تَكُونُ وَاجِبَةً عَلَى الْكِفَايَةِ إِذَا لَمْ يَتِمَّ الْإِعْدَادُ لِلْجِهَادِ إِلاَّ بِهَا.

11- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا فِي غَيْرِ الْخَيْلِ، وَالْإِبِلِ، وَالسَّهْمِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي «سِبَاقٍ».

وَالْجُعْلُ أَوِ الْجَائِزَةُ- يَجُوزُ بِشُرُوطٍ، مِنْهَا: كَوْنُهُ مَعْلُومًا جِنْسًا، وَقَدْرًا، وَصِفَةً، وَمِمَّا يَصِحُّ بَيْعُهُ.وَالْجَائِزَةُ قَدْ يُخْرِجُهَا الْإِمَامُ أَوْ غَيْرُهُ، أَوْ أَحَدُ الْمُتَسَابِقَيْنِ، أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا.

فَإِنْ أَخْرَجَهَا الْإِمَامُ أَوْ غَيْرُهُ، أَوْ أَحَدُ الْمُتَسَابِقَيْنِ لِيَأْخُذَهَا السَّابِقُ مِنْهُمَا فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ عَقْدَ السَّبَقِ صَحِيحٌ وَالْجُعْلَ حَلَالٌ.

وَإِنْ أَخْرَجَهَا الْمُتَسَابِقَانِ لِيَأْخُذَهَا السَّابِقُ مِنْهُمَا لَمْ تَصِحَّ الْمُسَابَقَةُ وَلَمْ يَحِلَّ الْجُعْلُ لِأَنَّ ذَلِكَ قِمَارٌ وَهُوَ حَرَامٌ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَصِحُّ الْمُسَابَقَةُ، وَيَحِلُّ الْجُعْلُ فِي حَالَةِ إِخْرَاجِهِ، أَوِ اشْتِرَاطِهِ مِنَ الْمُتَسَابِقَيْنِ إِذَا أَدْخَلَا بَيْنَهُمَا مُحَلِّلًا يُخْرِجُ عَقْدَ الْمُسَابَقَةِ عَنْ صُورَةِ الْقِمَارِ، يَغْنَمُ إِنْ سَبَقَ وَلَا يَغْرَمُ إِنْ سُبِقَ، عَلَى أَنْ يَكُونَ فَرَسُهُ أَوْ بَعِيرُهُ أَوْ رَمْيُهُ مُكَافِئًا لِفَرَسَيْهِمَا، أَوْ بَعِيرَيْهِمَا، أَوْ رَمْيَيْهِمَا، وَيَتَوَهَّمُ أَنْ يَسْبِقَهُمَا أَيْ يَجُوزُ أَنْ يَسْبِقَ أَوْ يُسْبَقَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ ضَعِيفًا عَنْهُمَا بِحَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ سَبْقُهُ، أَوْ قَوِيًّا بِحَيْثُ يَسْبِقُ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّ السِّبَاقَ لَا يَصِحُّ، وَالْجُعْلَ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ قِمَارًا، وَلِذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ فَلَيْسَ بِقِمَارٍ، وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ أُمِنَ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

12- وَالْجَائِزَةُ فِي حَالَةِ وُجُودِ الْمُحَلِّلِ تُسْتَحَقُّ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي: إِنْ جَاءَ الْمُتَسَابِقَانِ وَالْمُحَلِّلُ كُلُّهُمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً أَحْرَزَ كُلٌّ مِنْهُمَا سَبَقَ نَفْسِهِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُحَلِّلِ لِأَنَّهُ لَا سَابِقَ فِيهِمْ، وَكَذَلِكَ إِنْ سَبَقَا الْمُحَلِّلَ، وَإِنْ سَبَقَ الْمُحَلِّلُ وَحْدَهُ أَحْرَزَ السَّبَقَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا أَحْرَزَ سَبَقَ نَفْسِهِ، وَأَخَذَ سَبَقَ صَاحِبِهِ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْمُحَلِّلِ شَيْئًا، وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا وَالْمُحَلِّلُ أَحْرَزَ السَّابِقُ مَالَ نَفْسِهِ، وَيَكُونُ سَبَقُ الْمَسْبُوقِ بَيْنَ السَّابِقِ وَالْمُحَلِّلِ نِصْفَيْنِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَخْرَجَ كُلٌّ مِنَ الْمُتَسَابِقَيْنِ جُعْلًا مُتَسَاوِيًا أَوْ مُخْتَلِفًا لِيَأْخُذَهُ السَّابِقُ مِنْهُمَا فِي الْجَرْيِ أَوِ الرَّمْيِ فَيُمْنَعُ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْقِمَارِ، وَمَنَعَ الشَّرْعُ فِي بَابِ الْمُعَاوَضَةِ مِنِ اجْتِمَاعِ الْعِوَضَيْنِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَيَظَلُّ الْحُكْمُ الْمَنْعُ وَلَوْ بِمُحَلِّلٍ لَمْ يُخْرِجْ شَيْئًا يُمْكِنُ سَبْقُهُ لَهُمَا فِي الْجَرْيِ وَالرَّمْيِ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَقَ أَخَذَ الْجَمِيعَ؛ لِعَوْدِ الْجُعْلِ إِلَى مُخْرِجِهِ عَلَى تَقْدِيرِ سَبْقِهِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


122-موسوعة الفقه الكويتية (حاجة 2)

حَاجَةٌ -2

الْحَاجَاتُ غَيْرُ الْمَحْدُودَةِ لَا تَتَرَتَّبُ فِي الذِّمَّةِ:

21- الْحُقُوقُ مِنَ الْحَاجَاتِ غَيْرِ الْمَحْدُودَةِ لَازِمَةٌ لِلْإِنْسَانِ وَمُطَالَبٌ بِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَتَرَتَّبُ فِي ذِمَّتِهِ؛ وَذَلِكَ لِمَا يَأْتِي:

أَنَّهَا لَوْ تَرَتَّبَتْ فِي ذِمَّتِهِ لَكَانَتْ مَحْدُودَةً مَعْلُومَةً؛ إِذِ الْمَجْهُولُ لَا يَتَرَتَّبُ فِي الذِّمَّةِ وَلَا يُعْقَلُ نِسْبَتُهُ إِلَيْهَا، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَرَتَّبَ دَيْنًا.

وَمِثَالُهُ الصَّدَقَاتُ الْمُطْلَقَةُ، وَسَدُّ الْخَلاَّتِ، وَدَفْعُ حَاجَاتِ الْمُحْتَاجِينَ، وَإِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِينَ، وَإِنْقَاذُ الْغَرْقَى...فَإِذَا قَالَ الشَّارِعُ: أَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ، أَوْ قَالَ: اكْسُوا الْعَارِيَ، أَوْ: أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَمَعْنَى ذَلِكَ طَلَبُ رَفْعِ الْحَاجَةِ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ بِحَسَبِهَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مِقْدَارٍ، فَإِذَا تَعَيَّنَتْ حَاجَةٌ تَبَيَّنَ مِقْدَارُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِيهَا بِالنَّظَرِ لَا بِالنَّصِّ، فَإِذَا تَعَيَّنَ جَائِعٌ فَالْمُخَاطَبُ مَأْمُورٌ بِإِطْعَامِهِ وَسَدِّ خَلَّتِهِ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ الْإِطْلَاقِ، فَإِنْ أَطْعَمَهُ مَا لَا يَرْفَعُ عَنْهُ الْجُوعَ فَالطَّلَبُ بَاقٍ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفْعَلْ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ كَافٍ وَرَافِعٌ لِلْحَاجَةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا أُمِرَ ابْتِدَاءً، وَالَّذِي هُوَ كَافٍ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السَّاعَاتِ وَالْحَالَاتِ فِي ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ.

تَقْدِيمُ الْحَوَائِجِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضِهِ:

22- إِذَا اجْتَمَعَتِ الْحَوَائِجُ وَأَمْكَنَ تَحْصِيلُهَا حُصِّلَتْ، وَذَلِكَ مِثْلُ الْمُسْتَحِقِّينَ مِنَ الزَّكَاةِ إِذَا أَمْكَنَ إِيفَاءُ حَاجَةِ الْجَمِيعِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ إِيفَاءُ حَاجَةِ الْجَمِيعِ قُدِّمَ الْأَشَدُّ حَاجَةً عَلَى غَيْرِهِ.وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ الْإِنْسَانُ بِصَدَقَةِ تَطَوُّعٍ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ لِنَفَقَتِهِ أَوْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ.لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ «رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ، قَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ قَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ قَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى خَادِمِكَ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ».

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ أَشَدُّ حَاجَةً فَيُقَدِّمُهُ، وَلَوْ كَانَ غَيْرُ الْقَرَابَةِ أَحْوَجَ أَعْطَاهُ، فَإِنْ تَسَاوَوْا قُدِّمَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ فِي الْجِوَارِ وَأَكْثَرَ دِينًا.

وَيَقُولُ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوَاعِدِهِ: النَّفَقَاتُ الَّتِي لَيْسَتْ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمُفْتَقِرَاتِ إِلَى النِّيَّاتِ فَيُقَدِّمُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ عَلَى نَفَقَةِ آبَائِهِ وَأَوْلَادِهِ وَزَوْجَاتِهِ، وَيُقَدِّمُ نَفَقَةَ زَوْجَاتِهِ عَلَى نَفَقَةِ آبَائِهِ وَأَوْلَادِهِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ تَتِمَّةِ حَاجَاتِهِ.

وَإِذَا اجْتَمَعَ مُضْطَرَّانِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَا يَدْفَعُ ضَرُورَتَهُمَا لَزِمَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ دَفْعِ الضَّرُورَتَيْنِ تَحْصِيلًا لِلْمَصْلَحَتَيْنِ، وَإِنْ وَجَدَ مَا يَدْفَعُ ضَرُورَةَ أَحَدِهِمَا، فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الضَّرُورَةِ وَالْقَرَابَةِ وَالْجِوَارِ وَالصَّلَاحِ احْتَمَلَ أَنْ يَتَخَيَّرَ بَيْنَهُمَا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَقْسِمَهُ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ وَالِدًا، أَوْ وَالِدَةً، أَوْ قَرِيبًا، أَوْ زَوْجَةً، أَوْ إِمَامًا مُقْسِطًا، أَوْ حَاكِمَا عَدْلًا، قَدَّمَ الْفَاضِلَ عَلَى الْمَفْضُولِ.

أَثَرُ الْحَاجَةِ:

23- مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ تَحْقِيقَ مَصَالِحِ النَّاسِ تَيْسِيرًا لَهُمْ وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ عَنْهُمْ.وَالْحَاجِيَّاتُ مُفْتَقَرٌ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ التَّوْسِعَةُ وَالتَّيْسِيرُ وَرَفْعُ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْحَرَجِ غَالِبًا.لِذَلِكَ نَجِدُ أَثَرَ الْحَاجَةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَيُمْكِنُ إِجْمَالُ أَثَرِ الْحَاجَةِ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا: الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ

(مُخَالَفَةُ الْقِيَاسِ):

24- تَظْهَرُ مُخَالَفَةُ الْقِيَاسِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْعُقُودِ الَّتِي شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَدَفْعِ حَوَائِجِهِمْ.وَمِنْ ذَلِكَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ، فَإِنَّهُ جُوِّزَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ.

وَالْقِيَاسُ فِي الْمُضَارَبَةِ عَدَمُ الْجَوَازِ؛ لِأَنَّهَا اسْتِئْجَارٌ بِأَجْرٍ مَجْهُولٍ بَلْ بِأَجْرٍ مَعْدُومٍ وَلِعَمَلٍ مَجْهُولٍ، لَكِنْ تُرِكَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إِلَى عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ لَهُ مَالٌ لَكِنَّهُ لَا يَهْتَدِي إِلَى التِّجَارَةِ، وَقَدْ يَهْتَدِي إِلَى التِّجَارَةِ لَكِنَّهُ لَا مَالَ لَهُ، فَكَانَ فِي شَرْعِ هَذَا الْعَقْدِ دَفْعُ الْحَاجَتَيْنِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا شَرَعَ الْعُقُودَ إِلاَّ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَدَفْعِ حَوَائِجِهِمْ.

وَمِنْ ذَلِكَ شَرْطُ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ لَكِنْ تُرِكَ اعْتِبَارُ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ.

وَيَقُولُ الْقَرَافِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ قَاعِدَةَ الْقَرْضِ خُولِفَتْ فِيهَا ثَلَاثُ قَوَاعِدُ شَرْعِيَّةٌ، قَاعِدَةُ الرِّبَا إِنْ كَانَ فِي الرِّبَوِيَّاتِ كَالنَّقْدَيْنِ وَالطَّعَامِ، وَقَاعِدَةُ الْمُزَابَنَةِ وَهِيَ بَيْعُ الْمَعْلُومِ بِالْمَجْهُولِ مِنْ جِنْسِهِ إِنْ كَانَ فِي الْحَيَوَانِ وَنَحْوِهِ مِنْ غَيْرِ الْمِثْلِيَّاتِ، وَقَاعِدَةُ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ فِي الْمِثْلِيَّاتِ.وَسَبَبُ مُخَالَفَةِ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ مَصْلَحَةُ الْمَعْرُوفِ لِلْعِبَادِ.

وَفِي قَوَاعِدِ الْأَحْكَامِ لِلْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ لِعِبَادِهِ السَّعْيَ فِي تَحْصِيلِ مَصَالِحَ عَاجِلَةٍ وَآجِلَةٍ تَجْمَعُ كُلُّ قَاعِدَةٍ مِنْهَا عِلَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهَا مَا فِي مُلَابَسَتِهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ، أَوْ مَفْسَدَةٌ تَرْبُو عَلَى الْمَصْلَحَةِ، وَكَذَلِكَ شَرَعَ لَهُمُ السَّعْيَ فِي دَرْءِ مَفَاسِدَ فِي الدَّارَيْنِ أَوْ فِي إِحْدَاهُمَا تَجْمَعُ كُلُّ قَاعِدَةٍ مِنْهَا عِلَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهَا مَا فِي اجْتِنَابِهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ، أَوْ مَصْلَحَةٌ تَرْبُو عَلَى الْمَفْسَدَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ رَحْمَةً بِعِبَادِهِ، وَيُعَبِّرُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَا خَالَفَ الْقِيَاسَ، وَذَلِكَ جَارٍ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَاوَضَاتِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ.

ثَانِيًا: الْأَخْذُ بِالْأَعْرَافِ وَالْعَادَاتِ:

25- قَدْ تَقْتَضِي مَصَالِحُ النَّاسِ وَحَوَائِجُهُمْ الْأَخْذَ بِالْعَادَاتِ وَالْأَعْرَافِ.لَكِنِ الْمَقْصُودُ هُوَ الْعُرْفُ الصَّحِيحُ، وَهُوَ مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ دُونَ أَنْ يُحَرِّمَ حَلَالًا أَوْ يُحِلَّ حَرَامًا.وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: الثَّابِتُ بِالْعُرْفِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ.

وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ: الْعَادَةُ مُحَكَّمَةٌ، أَيْ مَعْمُولٌ بِهَا شَرْعًا.وَيَقُولُ الشَّاطِبِيُّ: الْعَوَائِدُ الْجَارِيَةُ ضَرُورِيَّةُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا، كَانَتْ شَرْعِيَّةً فِي أَصْلِهَا أَوْ غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ، أَيْ سَوَاءً أَكَانَتْ مُقَرَّرَةً بِالدَّلِيلِ شَرْعًا- أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَوْ إِذْنًا- أَمْ لَا، أَمَّا الْمُقَرَّرَةُ بِالدَّلِيلِ فَأَمْرُهَا ظَاهِرٌ، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَلَا يَسْتَقِيمُ إِقَامَةُ التَّكْلِيفِ إِلاَّ بِذَلِكَ.ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ فَقَالَ: لِأَنَّ الشَّارِعَ بِاعْتِبَارِهِ الْمَصَالِحَ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ قَطْعًا لَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِهِ الْعَوَائِدَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ التَّشْرِيعِ سَبَبٌ لِلْمَصَالِحِ، وَالتَّشْرِيعُ دَائِمٌ فَالْمَصَالِحُ كَذَلِكَ، وَهُوَ مَعْنَى اعْتِبَارِهِ لِلْعَادَاتِ فِي التَّشْرِيعِ، وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْعَوَائِدَ لَوْ لَمْ تُعْتَبَرْ لأَدَّى إِلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ أَوْ غَيْرُ وَاقِعٍ.

وَيَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ فِي بَيْعِ الدَّارِ: الْأَصْلُ أَنَّ مَا لَا يَكُونُ مِنْ بِنَاءِ الدَّارِ وَلَا مُتَّصِلًا بِهَا لَا يَدْخُلُ إِلاَّ إِذَا جَرَى الْعُرْفُ أَنَّ الْبَائِعَ لَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْمُشْتَرِي، فَالْمِفْتَاحُ يَدْخُلُ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا؛ لِعَدَمِ اتِّصَالِهِ، وَقُلْنَا بِدُخُولِهِ بِحُكْمِ الْعُرْفِ.

ثَالِثًا: إِبَاحَةُ الْمَحْظُورِ لِلْحَاجَةِ، وَكَذَلِكَ مَا حُرِّمَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ:

26- الْحَرِيرُ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ وَلَكِنَّهُ يَجُوزُ لُبْسُهُ لِلْحَاجَةِ كَإِزَالَةِ الْأَذَى وَالْحِكَّةِ.

وَالنَّظَرُ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ حَرَامٌ لَكِنَّهُ يُبَاحُ عِنْدَ الْخِطْبَةِ وَلِلتَّعْلِيمِ وَلِلْإِشْهَادِ.

وَالْمَسْأَلَةُ حَرَامٌ لِمَا فِيهَا مِنَ الذِّلَّةِ وَالِامْتِهَانِ، لَكِنَّهَا تُبَاحُ لِلْحَاجَةِ، وَقَدْ حَدَّدَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مَوَاطِنَ الْحَاجَةِ الَّتِي تُبِيحُ السُّؤَالَ فِي حَدِيثِ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيِّ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ، «قَالَ قَبِيصَةُ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَسْأَلُهُ فِيهَا، فَقَالَ: أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: يَا قَبِيصَةُ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلاَّ لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ- أَوْ قَالَ: سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ- وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ- أَوْ قَالَ: سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ- فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا».وَيَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: مَا حُرِّمَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ يُبَاحُ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ.

رَابِعًا: اعْتِبَارُ الشُّبُهَاتِ فِي دَرْءِ الْحُدُودِ:

27- ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّ الْحَاجَةَ شُبْهَةٌ دَارِئَةٌ لِحَدِّ السَّرِقَةِ، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- لَمْ يُقِمْ حَدَّ السَّرِقَةِ فِي عَامِ الْمَجَاعَةِ، وَأَسْقَطَهَا عَنْ غِلْمَةِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ حِينَمَا سَرَقُوا بَعِيرًا لآِخَرَ وَذَبَحُوهُ وَأَكَلُوهُ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَا يَجِدُ مَا يَشْتَرِيهِ، أَوْ لَا يَجِدُ مَا يَشْتَرِي بِهِ، فَإِنَّ لَهُ شُبْهَةً فِي أَخْذِ مَا يَأْكُلُهُ.وَقَدْ بَنَى ابْنُ قُدَامَةَ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَحْمَدَ: لَا قَطْعَ فِي الْمَجَاعَةِ.وَقَوْلُهُ: لَا أَقْطَعُهُ إِذَا حَمَلَتْهُ الْحَاجَةُ وَالنَّاسُ فِي شِدَّةٍ وَمَجَاعَةٍ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


123-موسوعة الفقه الكويتية (خيار الشرط 1)

خِيَارُ الشَّرْطِ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْخِيَارُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ مَصْدَرٍ مِنَ الِاخْتِيَارِ، وَمَعْنَاهُ طَلَبُ خَيْرِ الْأَمْرَيْنِ، أَوِ الْأُمُورِ.

أَمَّا (الشَّرْطُ) - بِسُكُونِ الرَّاءِ- فَمَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ: إِلْزَامُ الشَّيْءِ وَالْتِزَامُهُ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَالْجَمْعُ شُرُوطٌ، وَبِفَتْحِهَا: الْعَلَامَةُ، وَالْجَمْعُ أَشْرَاطٌ، وَالِاشْتِرَاطُ: الْعَلَامَةُ يَجْعَلُهَا النَّاسُ بَيْنَهُمْ.

2- أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: «إِنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ صَارَ عَلَمًا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ عَلَى: مَا يَثْبُتُ (بِالِاشْتِرَاطِ) لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مِنَ الِاخْتِيَارِ بَيْنَ الْإِمْضَاءِ وَالْفَسْخِ...»

وَقَدْ عَرَّفَهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (ابْنُ عَرَفَةَ) - بِمُلَاحَظَةِ الْكَلَامِ عَنْ (بَيْعِ الْخِيَارِ) - بِقَوْلِهِ: (بَيْعٌ وُقِفَ بَتُّهُ أَوَّلًا عَلَى إِمْضَاءٍ يُتَوَقَّعُ).وَاحْتَرَزَ بِعِبَارَةِ وُقِفَ بَتُّهُ عَنْ بَيْعِ الْبَتِّ، وَهُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ خِيَارٌ.

كَمَا ذَكَرُوا أَنَّ قَيْدَ (أَوَّلًا) لِإِخْرَاجِ خِيَارِ الْعَيْبِ وَنَحْوِهِ (خِيَارَاتِ النَّقِيصَةِ) لِأَنَّ أَمْثَالَ هَذَا الْخِيَارِ لَمْ تَتَوَقَّفْ أَوَّلًا، بَلْ آلَ أَمْرُهَا إِلَى الْخِيَارِ، أَيْ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ فِيهَا يَثْبُتُ فِيمَا بَعْدُ، حِينَ ظُهُورِ الْعَيْبِ.

3- وَلِخِيَارِ الشَّرْطِ أَسْمَاءٌ أُخْرَى دَعَاهُ بِهَا بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ، مِنْهَا:

أ- الْخِيَارُ الشَّرْطِيُّ (بِالْوَصْفِيَّةِ لَا بِالْإِضَافَةِ) وَالسَّبَبُ فِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ ظَاهِرٌ، وَالْغَرَضُ مِنْ وَصْفِهِ بِالشَّرْطِيِّ تَمْيِيزُهُ عَنِ الْخِيَارِ (الْحُكْمِيِّ) الَّذِي يَثْبُتُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ دُونَ الْحَاجَةِ إِلَى اشْتِرَاطٍ، كَخِيَارِ الْعَيْبِ.

وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ مُتَدَاوَلَةٌ كَثِيرًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

ب- خِيَارُ التَّرَوِّي، لِأَنَّهُ شُرِعَ لِلتَّرَوِّي وَهُوَ النَّظَرُ وَالتَّفَكُّرُ فِي الْأَمْرِ وَالتَّبَصُّرُ فِيهِ قَبْلَ إِبْرَامِهِ.

وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ يَسْتَعْمِلُهَا الشَّافِعِيَّةُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ.

ج- بَيْعُ الْخِيَارِ، وَهَذَا الِاسْمُ وَاقِعٌ عَلَى الْعَقْدِ الَّذِي اقْتَرَنَ بِخِيَارِ الشَّرْطِ، وَيُعَبِّرُ بِهِ أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ كُلُّهُمْ وَبِخَاصَّةِ الْمَالِكِيَّةُ.

مَشْرُوعِيَّتُهُ:

4- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى الْأَخْذِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَاعْتِبَارَهُ مَشْرُوعًا لَا يُنَافِي الْعَقْدَ.

وَاسْتَدَلُّوا بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.

فَأَمَّا السُّنَّةُ: فَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ «رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ بِلِسَانِهِ لَوْثَةٌ، وَكَانَ لَا يَزَالُ يُغْبَنُ فِي الْبُيُوعِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إِذَا بِعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ، مَرَّتَيْنِ»

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ حِبَّانَ قَالَ: هُوَ جَدِّي مُنْقِذُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ رَجُلًا قَدْ أَصَابَتْهُ آمَّةٌ فِي رَأْسِهِ، فَكَسَرَتْ لِسَانَهُ وَنَازَعَتْهُ عَقْلَهُ، وَكَانَ لَا يَدَعُ التِّجَارَةَ وَلَا يَزَالُ يُغْبَنُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: «إِذَا بِعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ، ثُمَّ أَنْتَ فِي كُلِّ سِلْعَةٍ تَبْتَاعُهَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَإِنْ رَضِيتَ فَأَمْسِكْ، وَإِنْ سَخِطْتَ فَارْدُدْهَا عَلَى صَاحِبِهَا».وَقَدْ كَانَ عُمِّرَ طَوِيلًا، عَاشَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ، وَكَانَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ- رضي الله عنه- حِينَ فَشَا النَّاسُ وَكَثُرُوا، يَتَبَايَعُ الْبَيْعَ فِي السُّوقِ وَيَرْجِعُ بِهِ إِلَى أَهْلِهِ وَقَدْ غُبِنَ غَبْنًا قَبِيحًا، فَيَلُومُونَهُ وَيَقُولُونَ: لِمَ تَبْتَاعُ؟ فَيَقُولُ: أَنَا بِالْخِيَارِ إِنْ رَضِيتُ أَخَذْتُ، وَإِنْ سَخِطْتُ رَدَدْتُ، قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- جَعَلَنِي بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا، فَيَرُدُّ السِّلْعَةَ عَلَى صَاحِبِهَا مِنَ الْغَدِ وَبَعْدَ الْغَدِ فَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَقْبَلُهَا، قَدْ أَخَذْتُ سِلْعَتِي وَأَعْطَيْتنِي دَرَاهِمَ، قَالَ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ جَعَلَنِي بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا.فَكَانَ يَمُرُّ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَيَقُولُ لِلتَّاجِرِ: وَيْحَكَ إِنَّهُ قَدْ صَدَقَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ كَانَ جَعَلَهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا.

وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِإِحْدَى رِوَايَاتِ حَدِيثِ «الْمُتَبَايِعَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» الَّتِي فِيهَا قَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام-: «إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «إِلاَّ صَفْقَةَ خِيَارٍ».فَحَمَلَ هَؤُلَاءِ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى حَالَةِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ، وَقَالُوا فِي مَعْنَاهُ: هُوَ خِيَارُ كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْعَقْدِ، أَوِ الْإِحْجَامِ عَنْهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَمْتَدَّ فَيَكُونَ لَهُ الْخِيَارُ أَطْوَلَ مِنْ تِلْكَ الْفَتْرَةِ إِذَا كَانَ الْبَيْعُ مُشْتَرَطًا فِيهِ خِيَارٌ.

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَاسْتَدَلَّ بِهِ لِخِيَارِ الشَّرْطِ كَثِيرُونَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: «وَقَدْ نَقَلُوا فِيهِ الْإِجْمَاعَ» وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: «وَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ».لَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَوْضِعٍ ثَالِثٍ إِلَى أَنَّ صِحَّتَهُ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا هِيَ فِيمَا «إِذَا كَانَتْ مُدَّتُهُ مَعْلُومَةً»

وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: «وَشَرْطُ الْخِيَارِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ».

صِيغَةُ الْخِيَارِ:

5- لَا يَتَطَلَّبُ ثُبُوتُ الْخِيَارِ التَّعْبِيرَ بِصِيغَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَكَمَا يَحْصُلُ بِلَفْظِ اشْتِرَاطِ (الْخِيَارِ) يَحْصُلُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْمُرَادِ، مِثْلُ لَفْظِ (الرِّضَا) أَوِ (الْمَشِيئَةِ) بَلْ يَثْبُتُ وَلَوْ لَمْ يَتَضَمَّنُ الْكَلَامُ لَفْظَ الْخِيَارِ أَوْ مَا هُوَ بِمَعْنَاهُ، فِيمَا إِذَا وَرَدَ عِنْدَ التَّعَاقُدِ أَوْ بَعْدَهُ مَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْخِيَارِ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ حَيْثُ جَاءَ فِيهَا: «إِذَا بَاعَ مِنْ آخَرَ ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، ثُمَّ إِنَّ الْبَائِعَ قَالَ لِلْمُشْتَرِي: لِي عَلَيْكَ الثَّوْبُ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ (وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ) قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا عِنْدَنَا خِيَارٌ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ».وَذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ نَقْلًا عَنِ الْمِعْرَاجِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْبَائِعُ: خُذْهُ وَانْظُرْ إِلَيْهِ الْيَوْمَ فَإِنْ رَضِيتَهُ أَخَذْتَهُ بِكَذَا، فَهُوَ خِيَارٌ.وَنُقِلَ عَنِ الذَّخِيرَةِ مِثْلُ هَذَا الِاعْتِبَارِ فِيمَا لَوْ قَالَ: هُوَ بَيْعٌ لَكَ إِنْ شِئْتَ الْيَوْمَ.

وَمِنْ ذَلِكَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي الثَّمَنِ، أَوِ الْمَبِيعِ بَدَلًا عَنِ اشْتِرَاطِهِ فِي الْعَقْدِ، فَيَكُونُ بِمَثَابَةِ اشْتِرَاطِهِ فِيهِ، فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ فِي الثَّمَنِ أَوْ فِي الْمَبِيعِ.فَهُوَ كَقَوْلِهِ: عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ (فِي الْعَقْدِ).

وَمِنْ ذَلِكَ: التَّوَاطُؤُ عَلَى أَلْفَاظٍ أَوْ تَعَابِيرَ بِأَنَّهَا يَتَوَلَّدُ عَنْهَا الْخِيَارُ، سَوَاءٌ كَانَ ارْتِبَاطُ هَذِهِ التَّعَابِيرِ بِنُشُوءِ الْخِيَارِ مُنْبَعِثًا عَنِ الِاسْتِعْمَالِ الشَّرْعِيِّ مُبَاشَرَةً أَوِ الْعُرْفِ.فَمِمَّا اعْتُبِرَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَوَاطَأِ عَلَى أَنَّهَا يُرَادُ بِهَا الْخِيَارُ، تَبَعًا لِلِاسْتِعْمَالِ الشَّرْعِيِّ، عِبَارَةُ «لَا خِلَابَةَ» شَرِيطَةَ عِلْمِ الْعَاقِدَيْنِ بِمَعْنَاهَا.

قَالَ النَّوَوِيُّ: اشْتُهِرَ فِي الشَّرْعِ أَنَّ قَوْلَهُ: «لَا خِلَابَةَ» عِبَارَةٌ عَنِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِذَا أَطْلَقَ الْمُتَعَاقِدَانِ هَذِهِ اللَّفْظَةَ، وَهُمَا عَالِمَانِ بِمَعْنَاهَا كَانَ كَالتَّصْرِيحِ بِالِاشْتِرَاطِ، وَإِنْ كَانَا جَاهِلَيْنِ لَمْ يَثْبُتِ الْخِيَارُ قَطْعًا، فَإِنْ عَلِمَهُ الْبَائِعُ دُونَ الْمُشْتَرِي فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، حَكَاهُمَا الْمُتَوَلِّي وَابْنُ الْقَطَّانِ وَآخَرُونَ (أَصَحُّهُمَا) لَا يَثْبُتُ، (وَالْوَجْهُ الثَّانِي) يَثْبُتُ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ، بَلْ غَلَطٌ، لِأَنَّ مُعْظَمَ النَّاسِ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ وَالْمُشْتَرِي غَيْرُ عَارِفٍ بِهِ.

وَمِنْ ذَلِكَ الْعَقْدُ مَعَ شَرْطِ الِاسْتِئْمَارِ خِلَالَ وَقْتٍ مُحَدَّدٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ عَلَى أَنْ أَسْتَأْمِرَ فُلَانًا، وَحَدَّدَ لِذَلِكَ وَقْتًا مَعْلُومًا، فَهُوَ خِيَارٌ صَحِيحٌ لَدَى الْحَنَابِلَةِ.وَقَالُوا: إِنَّ لَهُ الْفَسْخَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَأْمِرَهُ «لِأَنَّا جَعَلْنَا ذَلِكَ كِنَايَةً عَنِ الْخِيَارِ» وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي جَوَازِ الْفَسْخِ قَبْلَ الِاسْتِئْمَارِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَأْمِرَهُ.

هَذَا إِذَا ضُبِطَ شَرْطُ الِاسْتِئْمَارِ بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُضْبَطْ، فَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ فِي الْأَصَحِّ أَنَّهُ غَيْرُ سَائِغٍ.أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَحُكْمُهُ عِنْدَهُمْ حُكْمُ الْخِيَارِ الْمَجْهُولِ، لَا يَصِحُّ عَلَى الرَّاجِحِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَادَةَ تَقُومُ مَقَامَ التَّصْرِيحِ بِالْخِيَارِ.قَالَ الزَّرْقَانِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: «لَوْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِاشْتِرَاطِهِ (أَيْ خِيَارِ الشَّرْطِ) كَانَ خِيَارًا، لِأَنَّهَا- أَيِ الْعَادَةَ- كَالشَّرْطِ صَرَاحَةً»

فَإِذَا تَعَارَفَ النَّاسُ عَلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ مِنَ السِّلَعِ ثَبَتَ الْخِيَارُ فِيهَا بِلَا شَرْطٍ.

وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الْأَخْرَسَ تَقُومُ إِشَارَتُهُ مَقَامَ الصِّيغَةِ، فَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ إِشَارَتُهُ أَوْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، قَامَ وَلِيُّهُ مِنْ أَبٍ أَوْ وَصِيٍّ أَوْ حَاكِمٍ مَقَامَهُ.

شَرَائِطُ قِيَامِ الْخِيَارِ:

6- لَا يَقُومُ خِيَارُ الشَّرْطِ بِمُجَرَّدِ حُدُوثِ الِاشْتِرَاطِ فِي الْعَقْدِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الشَّرَائِطِ الشَّرْعِيَّةِ لَهُ، فَإِذَا اكْتَمَلَتْ تِلْكَ الشَّرَائِطُ غَدَا خِيَارُ الشَّرْطِ قَائِمًا مَرْعِيَّ الِاعْتِبَارِ، وَإِذَا اخْتَلَّ شَيْءٌ مِنْهَا اعْتُبِرَ الْعَقْدُ لَازِمًا بِالرَّغْمِ مِنِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِي الْعَقْدِ.غَيْرَ أَنَّ تِلْكَ الشَّرَائِطَ لَيْسَتْ مَوْضِعَ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فَهِيَ مُتَفَاوِتَةُ الْعَدَدِ بَيْنَ مَذْهَبٍ وَآخَرَ، وَفِيمَا يَأْتِي بَيَانُهَا:

أَوَّلًا: شَرِيطَةُ الْمُقَارَنَةِ لِلْعَقْدِ:

7- الْمُرَادُ مِنَ الْمُقَارَنَةِ لِلْعَقْدِ أَنْ يَحْصُلَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ مَعَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ أَوْ لَاحِقًا بِهِ، لَا أَنْ يَسْبِقَ الِاشْتِرَاطُ الْعَقْدَ.فَلَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ قَبْلَ إِجْرَاءِ الْعَقْدِ، إِذِ الْخِيَارُ كَالصِّفَةِ لِلْعَقْدِ فَلَا يُذْكَرُ قَبْلَ الْمَوْصُوفِ.وَبَيَانُ الصُّورَةِ الْمُحْتَرَزِ مِنْهَا مَا جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ عَنِ الْعَتَّابِيَّةِ أَنَّهُ «لَوْ قَالَ: جَعَلْتُكَ بِالْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ الَّذِي نَعْقِدُهُ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ مُطْلَقًا لَمْ يَثْبُتِ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ».

وَيُعْتَبَرُ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَارَنَةِ لِلْعَقْدِ مَا لَوْ أُلْحِقَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ بِالْعَقْدِ بَعْدَئِذٍ، بِتَرَاضِي الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَذَلِكَ فِي حُكْمِ حُصُولِهِ فِي أَثْنَاءِ الْعَقْدِ أَوْ بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ عِنْدَ الْمُلْتَزَمَيْنِ بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ.

ذَهَبَ إِلَى تِلْكَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُقَارَنَةِ وَاللَّحَاقِ الْحَنَفِيَّةُ.وَمِنْ مُسْتَنَدِهِمُ الْقِيَاسُ لِهَذَا عَلَى مَا فِي النِّكَاحِ مِنْ جَوَازِ الِاتِّفَاقِ بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَى مَا يَتَّصِلُ بِهِ، كَالزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ أَوِ الْحَطِّ مِنْهُ، وَدَلِيلُ هَذَا الْحُكْمِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ}.قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ يَجُوزُ إِلْحَاقُ خِيَارِ الشَّرْطِ بِالْبَيْعِ، لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْبَيْعِ وَلَوْ بِأَيَّامٍ: جَعَلْتُكَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ صَحَّ بِالْإِجْمَاعِ- أَيْ إِجْمَاعِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ- ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ إِلْحَاقَ الْخِيَارِ بَعْدَ الْعَقْدِ جَارٍ مَجْرَى إِدْخَالِهِ فِي الْعَقْدِ تَمَامًا مِنْ حَيْثُ نَوْعُ الْخِيَارِ الْمَشْرُوطِ وَمُدَّتُهُ وَبَقِيَّةُ أَحْكَامِهِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ خِيَارُ الشَّرْطِ بِالْعَقْدِ بَعْدَهُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، أَوْ فِي مَجْلِسِهِ.وَاسْتَدَلَّ ابْنُ قُدَامَةَ لِمَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ الْمَانِعِ مِنْ تَأَخُّرِ الْخِيَارِ عَنِ الْعَقْدِ بِأَنَّ الْعَقْدَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمَجْلِسِ أَصْبَحَ لَازِمًا، فَلَمْ يَصِرْ جَائِزًا بِقَوْلِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.وَذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ مِنْ أُصُولِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّ إِلْحَاقَ الزِّيَادَةِ (فِي الْأُجْرَةِ) وَالشُّرُوطِ بِالْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ لَا يَصِحُّ.

وَبَيْن هَذَيْنِ الِاتِّجَاهَيْنِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ اشْتَرَكَ مَعَ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ فِي النَّتِيجَةِ وَاخْتَلَفَ عَنْهُ فِي تَحْدِيدِ طَبِيعَةِ هَذَا التَّصَرُّفِ، فَقَدْ أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ إِلْحَاقَ الْخِيَارِ بِالْعَقْدِ بَعْدَ أَنْ وَقَعَ عَلَى النِّيَّاتِ، سَوَاءٌ كَانَ إِلْحَاقُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْ مِنْ كِلَيْهِمَا، فَيَصِحُّ الِاشْتِرَاطُ اللاَّحِقُ، وَيَلْزَمُ مَنِ الْتَزَمَهُ بَعْدَ صُدُورِ الْعَقْدِ خَالِيًا مِنْهُ، لَكِنَّهُ- وَهَذَا هُوَ الْفَارِقُ عَنِ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ- بِمَثَابَةِ بَيْعٍ مُؤْتَنَفٍ، بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ الْمُشْتَرِي لَهَا مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ..صَارَ فِيهِ الْمُشْتَرِي بَائِعًا..كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ الْبَائِعُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، بِنَاءً عَلَى الْمَذْهَبِ مِنْ أَنَّ اللاَّحِقَ لِلْعُقُودِ لَيْسَ كَالْوَاقِعِ فِيهَا، فَمَا أَصَابَ السِّلْعَةَ فِي أَيَّامِ الْخِيَارِ فَهُوَ مِنَ الْمُشْتَرِي.

وَأَشَارَ خَلِيلٌ وَشُرَّاحُهُ إِلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِ إِلْحَاقِ الْخِيَارِ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ انْتِقَادِ الْبَائِعِ الثَّمَنَ، أَمَّا إِلْحَاقُهُ قَبْلَ انْتِقَادِهِ فَلَا يُسَاوِيهِ فِي الْجَوَازِ لِمَا فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ (فَسْخِ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ) وَأَصْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ مَنْعُهُ.

وَقَدْ ذَكَرُوا فِي خِلَالِ مُنَاقَشَةِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَجْهًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ «جَعْلَ الْخِيَارِ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ لَيْسَ عَقْدًا حَقِيقَةً، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَطْيِيبُ نَفْسِ مَنْ جُعِلَ لَهُ الْخِيَارُ لَا حَقِيقَةُ الْبَيْعِ».قَالَ الْخَرَشِيُّ وَالدُّسُوقِيُّ: لَكِنَّ الْمُرَجَّحَ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، أَيِ اقْتِصَارُ الْجَوَازِ عَلَى مَا لَوْ نَقَدَ الثَّمَنَ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا.

ثَانِيًا: شَرِيطَةُ التَّوْقِيتِ أَوْ مَعْلُومِيَّةُ الْمُدَّةِ:

8- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ تَقْيِيدِ الْخِيَارِ بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ مَضْبُوطَةٍ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَلَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ خِيَارٍ غَيْرِ مُؤَقَّتٍ أَصْلًا، وَهُوَ مِنَ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ بِالتَّفْصِيلِ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ لِلْحَالِ، فَكَانَ شَرْطًا مُغَيِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، إِلاَّ أَنَّا عَرَفْنَا جَوَازَهُ اسْتِحْسَانًا (بِخِلَافِ الْقِيَاسِ) بِالنَّصِّ، فَبَقِيَ مَا وَرَاءَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ.

وَالْحِكْمَةُ فِي تَوْقِيتِ الْمُدَّةِ أَنْ لَا يَكُونَ الْخِيَارُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى التَّنَازُعِ، وَهُوَ مِمَّا تَتَحَامَاهُ الشَّرِيعَةُ فِي أَحْكَامِهَا.

9- وَلِلْمُدَّةِ الْجَائِزِ ذِكْرُهَا حَدَّانِ: حَدٌّ أَدْنَى، وَحَدٌّ أَقْصَى.

أَمَّا الْحَدُّ الْأَدْنَى فَلَا تَوْقِيتَ لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ قَدْرٌ مَحْدُودٌ بِحَيْثُ لَا يَقِلُّ عَنْهُ فَيَجُوزُ مَهْمَا قَلَّ، لِأَنَّ جَوَازَ الْأَكْثَرِ يَدُلُّ بِالْأَوْلَوِيَّةِ عَلَى جَوَازِ الْأَقَلِّ، وَمِنْ هُنَا نَصَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ «وَلَوْ لَحْظَةً».

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: (أَقَلُّ مُدَّةِ الْخِيَارِ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ).وَنَحْوُهُ نُصُوصُ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ يُعْرَفُ.

وَأَمَّا الْحَدُّ الْأَقْصَى لِلْمُدَّةِ الْجَائِزَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْمَذَاهِبُ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، يُمْكِنُ حَصْرُهُ فِي الِاتِّجَاهَاتِ الْفِقْهِيَّةِ التَّالِيَةِ: التَّفْوِيضُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ مُطْلَقًا- التَّفْوِيضُ لَهُمَا فِي حُدُودِ الْمُعْتَادِ- التَّحْدِيدُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ- التَّفْوِيضُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ مُطْلَقًا:

10- مُقْتَضَى هَذَا الِاتِّجَاهِ جَوَازُ اتِّفَاقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ عَلَى أَيِّ مُدَّةٍ مَهْمَا طَالَتْ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَبِي يُوسُفَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ، لَكِنَّهُ قَالَ: لَا يُعْجِبُنِي الطَّوِيلُ.

فَعِنْدَ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءِ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لِمَا فِي النُّصُوصِ الْمُثْبِتَةِ لِلْخِيَارِ مِنَ الْإِطْلَاقِ وَعَدَمِ التَّفْصِيلِ، وَلِأَنَّ الْخِيَارَ حَقٌّ يَعْتَمِدُ الشَّرْطَ مِنَ الْعَاقِدِ فَرَجَعَ إِلَيْهِ فِي تَقْدِيرِهِ.أَوْ يُقَالُ: هُوَ مُدَّةٌ مُلْحَقَةٌ بِالْعَقْدِ فَتَقْدِيرُهَا إِلَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ.

وَهُنَاكَ صُورَةٌ نَادِرَةٌ تُشْبِهُ مَا سَبَقَ فِي الْحَدِّ الْأَدْنَى لِلْمُدَّةِ لَكِنَّهَا تَسْتَحِقُّ الْإِشَارَةَ إِلَيْهَا، لِمَا فِي بَحْثِهَا مِنْ تَقْيِيدِ الْخِيَارِ بِأَنْ لَا يُنَافِيَ الْعَقْدَ وَيُفْقِدَهُ غَايَتَهُ.تِلْكَ الصُّورَةُ مَا لَوْ شَرَطَ الْمُتَعَاقِدَانِ مُدَّةً طَوِيلَةً خَارِجَةً عَنِ الْعَادَةِ «كَأَلْفِ سَنَةٍ، وَمِائَةِ سَنَةٍ» فَقَدِ اسْتَوْجَهَ صَاحِبُ غَايَةِ الْمُنْتَهَى أَنْ لَا يَصِحَّ لِإِفْضَائِهِ- عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ وَنَحْوِهَا- إِلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ، وَهَذَا الْمَنْعُ مُنَافٍ لِلْعَقْدِ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّارِعُ إِرْفَاقًا لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَقَدْ وَافَقَهُ الشَّارِحُ عَلَى ذَلِكَ.

الِاتِّجَاهُ الثَّانِي- التَّفْوِيضُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي حُدُودِ الْمُعْتَادِ:

11- وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَحْدَهُ.فَيَتَحَدَّدُ أَقْصَى مُدَّةِ الْخِيَارِ الْجَائِزَةِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، نَظَرًا لِاخْتِلَافِ الْمَبِيعَاتِ، فَلِلْعَاقِدِ تَعْيِينُ الْمُدَّةِ الَّتِي يَشَاءُ عَلَى أَنْ لَا يُجَاوِزَ الْحَدَّ الْمُعْتَادَ فِي كُلِّ نَوْعٍ.

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَأَمَّا عُمْدَةُ أَصْحَابِ مَالِكٍ فَهُوَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْخِيَارِ هُوَ اخْتِبَارُ الْمَبِيعِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَحْدُودًا بِزَمَانِ إِمْكَانِ اخْتِبَارِ الْمَبِيعِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ كُلِّ مَبِيعٍ.

وَبِمَا أَنَّ لِهَذَا الِاتِّجَاهِ الْفِقْهِيِّ تَقْدِيرَاتٍ مُحَدَّدَةً بِحَسَبِ الْحَاجَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا فَقَدْ جَرَى تَصْنِيفُهَا لَدَى الْمَالِكِيَّةِ إِلَى زُمَرٍ: الْعَقَارُ:

12- وَأَقْصَى مُدَّتِهِ شَهْرٌ، وَمَا أُلْحِقَ بِهِ هُوَ سِتَّةُ أَيَّامٍ، فَأَقْصَى الْمُدَّةِ الَّتِي يَجُوزُ مَدُّ الْخِيَارِ إِلَيْهَا فِي الْعَقَارِ (36) يَوْمًا.وَهُنَاكَ الْيَوْمَانِ الْمُلْحَقَانِ بِزَمَنِ الْخِيَارِ وَهُمَا لِلتَّمْكِينِ مِنْ رَدِّ الْمَبِيعِ إِذَا كَانَ حِينَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ (الشَّهْرِ وَالْأَيَّامِ السِّتَّةِ) بِيَدِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ يُرِيدُ الْفَسْخَ، وَالْحُكْمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَلْزَمَ الْمَبِيعُ عَلَى مَنْ هُوَ بِيَدِهِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ دُونَ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لَهُ أَوْ لِلْعَاقِدِ الْآخَرِ.فَالْيَوْمَانِ الْمُلْحَقَانِ هُمَا لِهَذَا الْغَرَضِ (دَفْعِ اللُّزُومِ عَنِ الْمُشْتَرِي دُونَ إِرَادَتِهِ).أَمَّا زَمَنُ الْخِيَارِ لِلْعَقَارِ فَهُوَ شَهْرٌ وَسِتَّةُ أَيَّامٍ.

الدَّوَابُّ:

13- وَتَخْتَلِفُ الْمُدَّةُ فِيهَا بِحَسَبِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْخِيَارِ فِيهَا

، فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِمَعْرِفَةِ قُوَّتِهَا وَأَكْلِهَا وَسِعْرِهَا فَأَقْصَى مُدَّتِهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ.وَإِنْ كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ مُتَضَمِّنًا أَنَّهَا لِلِاخْتِبَارِ فِي الْبَلَدِ نَفْسِهِ فَالْمُدَّةُ يَوْمٌ وَاحِدٌ وَشَبَهُهُ، أَمَّا إِنْ كَانَ خَارِجَهُ فَأَقْصَى الْمُدَّةِ بَرِيدٌ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَبَرِيدَانِ عِنْدَ أَشْهَبَ.وَقَدْ أُلْحِقَ بِالثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ يَوْمٌ وَاحِدٌ لِتَمْكِينِ الْمُشْتَرِي مِنْ رَدِّ الْمَبِيعِ، كَمَا سَلَفَ.

بَقِيَّةُ الْأَشْيَاءِ:

14- وَتَشْمَلُ: الثِّيَابَ، وَالْعُرُوضَ، وَالْمِثْلِيَّاتِ. وَأَقْصَى الْمُدَّةِ لَهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَيَلْحَقُ بِهَا يَوْمٌ.وَقَدْ أَطْلَقَ الْخَرَشِيُّ لَفْظَ (الْمِثْلِيَّاتِ) عَلَى كُلِّ مَا عَدَا (الرَّقِيقِ وَالْعَقَارِ وَالدَّوَابِّ) وَبِالرَّغْمِ مِنْ شُمُولِ الْمِثْلِيَّاتِ لِلْخُضَرِ وَالْفَوَاكِهِ إِلاَّ أَنَّ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ حُكْمًا خَاصًّا بِهِمَا مِنْ حَيْثُ الْمُدَّةُ نَظَرًا لِطَبِيعَتِهِمَا الْخَاصَّةِ مِنْ تَسَارُعِ التَّلَفِ إِلَيْهِمَا، فَالْخُضَرُ وَالْفَوَاكِهُ بِخَاصَّةٍ أَمَدُ الْخِيَارِ فِيهِمَا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى الْمُدَّةُ الَّتِي لَا تَتَغَيَّرُ فِيهَا.

الِاتِّجَاهُ الثَّالِثُ- التَّحْدِيدُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ:

15- وَهَذَا التَّحْدِيدُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا مَهْمَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، مَعَ الْمَنْعِ مِنْ مُجَاوَزَتِهَا.وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبِهِ زُفَرَ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ.

وَقَدِ احْتَجَّ لِهَذَا التَّحْدِيدِ بِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ السَّابِقِ ذِكْرُهُ لِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.

وَالْبَيَانُ الدَّقِيقُ لِمُسْتَنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَحْدِيدِ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ هُوَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُهُ أَبُو يُوسُفَ، فَقَدْ قَالَ فِي بَيَانِ مَذْهَبِ الْإِمَامِ: لَا يَكُونُ الْخِيَارُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُحَفَّلَةً فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ: إِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ».فَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ الْخِيَارَ كُلَّهُ عَلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.

وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: (الْخِيَارُ جَائِزٌ شَهْرًا كَانَ أَوْ سَنَةً وَبِهِ نَأْخُذُ).وَنَحْوُهُ مُسْتَنَدُ الشَّافِعِيِّ، كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَعْرِفَةِ السُّنَنِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْأَصْلُ فِي الْبَيْعِ بِالْخِيَارِ أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا، وَلَكِنْ لَمَّا شَرَطَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمُصَرَّاةِ خِيَارَ ثَلَاثٍ فِي الْبَيْعِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ لَحِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ خِيَارَ ثَلَاثٍ فِيمَا ابْتَاعَ، انْتَهَيْنَا إِلَى مَا قَالَ- صلى الله عليه وسلم-.

كَمَا احْتَجُّوا لَهُ مِنَ الْمَعْقُولِ بِأَنَّ الْخِيَارَ مُنَافٍ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَقَدْ جَازَ لِلْحَاجَةِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْقَلِيلِ مِنْهُ، وَآخِرُ الْقِلَّةِ ثَلَاثٌ، وَاحْتَجَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ النَّوَوِيُّ بَعْدَمَا أَشَارَ إِلَى حَدِيثِ حِبَّانَ.

الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِ:

16- إِذَا زَادَتْ مُدَّةُ خِيَارِ الشَّرْطَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا لَدَى هَذَا الْفَرِيقِ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِ بِالتَّحْدِيدِ بِهَا، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، وَبَاطِلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، ذَهَابًا مِنْهُ إِلَى أَنَّ إِسْقَاطَ الزِّيَادَةِ لَا يُصَحِّحُ الْعَقْدَ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْمَجْلِسِ فَقَطْ، بَلْ فِي الْمَجْلِسِ أَيْضًا عَلَى الْمَشْهُورِ، لِأَنَّ الْمَجْلِسَ ثَبَتَ لِعَقْدٍ صَحِيحٍ، لَا لِفَاسِدٍ، لِوُقُوعِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَثْبُتُ دَائِمًا.

غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَحْدَهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ إِسْقَاطَ شَرْطِ الْخِيَارِ الزَّائِدِ عَنِ الثَّلَاثِ- أَوْ إِسْقَاطَ الزِّيَادَةِ- يُصَحِّحُ الْعَقْدَ، وَلَوْ حَصَلَ ذَلِكَ الْإِسْقَاطُ بَعْدَ مُفَارَقَةِ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ مَا لَمْ تَمْضِ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ.وَخَالَفَهُ صَاحِبُهُ زُفَرُ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ إِسْقَاطَ الزَّائِدِ لَا يُصَحِّحُ الْعَقْدَ لِأَنَّ الْبَقَاءَ عَلَى حَسَبِ الثُّبُوتِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنَ الصُّوَرِ الْمُفْسِدَةِ: - اشْتِرَاطَ مُشَاوَرَةِ مَنْ لَا يَعْلَمُ مَا عِنْدَهُ إِلاَّ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُدَّةِ بِأَمَدٍ، كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ الْخِيَارَ فِي الْعَقَارِ لِمُدَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مَعَ أَنَّ الْمُدَّةَ الْمُحَدَّدَةَ لِلْعَقَارِ أَقْصَاهَا ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا.

- اشْتِرَاطَ مُدَّةٍ زَائِدَةٍ عَلَى مُدَّةِ تِلْكَ السِّلْعَةِ بِكَثِيرٍ، أَمَّا لَوْ بِزِيَادَةِ يَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ فَلَا يَضُرُّ.

الْخِيَارُ الْمُطْلَقُ:

17- فِي الْخِيَارِ الْمُطْلَقِ عَنِ الْمُدَّةِ تَتَّجِهُ الْمَذَاهِبُ إِلَى أَرْبَعَةِ اتِّجَاهَاتٍ: بُطْلَانِ الْعَقْدِ أَوْ فَسَادِهِ- بُطْلَانِ الشَّرْطِ دُونَ الْعَقْدِ- صِحَّةِ الْعَقْدِ وَتَعْدِيلِ الشَّرْطِ- صِحَّةِ الْعَقْدِ وَبَقَاءِ الشَّرْطِ بِحَالِهِ.

أ- بُطْلَانُ الْعَقْدِ أَوْ فَسَادُهُ، فَالْبُطْلَانُ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ- وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى فَسَادِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا هُنَا بَيْنَ الْجَهَالَةِ الْمُتَفَاحِشَةِ أَوِ الْمُتَقَارِبَةِ كَالْحَصَادِ مَثَلًا، كَمَا ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْخِيَارِ الْمُفْسِدِ لَوْ أَبْطَلَ خِيَارَهُ، أَوْ بَيَّنَهُ، أَوْ سَقَطَ بِسَبَبٍ مَا وَلَزِمَ الْبَيْعُ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ التَّالِيَةِ لِلْعَقْدِ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ (خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْمُشْتَرِطِ حُصُولَ ذَلِكَ قَبْلَ مُضِيِّ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ) انْقَلَبَ الْعَقْدُ صَحِيحًا عِنْدَ الْجَمِيعِ- بَلْ لَوْ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ- لِحَذْفِ الْمُفْسِدِ قَبْلَ اتِّصَالِهِ بِالْعَقْدِ لِأَنَّهُمَا يُجِيزَانِ الزِّيَادَةَ عَنِ الثَّلَاثَةِ.

ب- بُطْلَانُ الشَّرْطِ دُونَ الْعَقْدِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ لِأَحْمَدَ وَمَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى

ج- صِحَّةُ الْعَقْدِ وَتَعْدِيلُ الشَّرْطِ، فَالْخِيَارُ الْمُطْلَقُ أَوِ الْمُؤَبَّدُ هُنَا يُخَوِّلُ الْقَاضِي تَحْدِيدَ الْمُدَّةِ الْمَأْلُوفَةِ فِي الْعَادَةِ لِاخْتِبَارِ مِثْلِ السِّلْعَةِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ مُقَيَّدٌ فِي الْعَادَةِ، فَإِذَا أَطْلَقَا حُمِلَ عَلَيْهِ.وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ.

وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ الْعَاقِدَيْنِ إِنْ أَطْلَقَا الْخِيَارَ وَلَمْ يُوَقِّتَاهُ بِمُدَّةٍ تَوَجَّهَ أَنْ يَثْبُتَ ثَلَاثًا، لِخَبَرِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ.

د- صِحَّةُ الْعَقْدِ وَبَقَاءُ الشَّرْطِ بِحَالِهِ: فَيَبْقَى الْخِيَارُ مُطْلَقًا أَبَدًا كَمَا نَشَأَ حَتَّى يَصْدُرَ مَا يُسْقِطُهُ.وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ شُبْرُمَةَ، وَقَوْلٌ لِأَحْمَدَ.

تَأْبِيدُ الْخِيَارِ:

18- مِنَ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ: شَرْطُ خِيَارٍ مُؤَبَّدٍ فِي الْبَيْعِ بِأَنْ قَالَ (أَبَدًا) أَوْ (أَيَّامًا).

التَّوْقِيتُ بِوَقْتٍ مَجْهُولٍ:

19- مِنَ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ: شَرْطُ خِيَارٍ مُؤَقَّتٍ بِوَقْتٍ مَجْهُولٍ سَوَاءٌ كَانَتْ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً، كَهُبُوبِ الرِّيَاحِ، وَمَجِيءِ الْمَطَرِ، وَقُدُومِ فُلَانٍ، وَمَوْتِ فُلَانٍ، وَوَضْعِ الْحَامِلِ وَنَحْوِهِ.أَوْ جَهَالَةً مُتَقَارِبَةً، كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ، وَقُدُومِ الْحَاجِّ.

ثَالِثًا- شَرِيطَةُ الِاتِّصَالِ، وَالْمُوَالَاةِ

20- الْمُرَادُ بِالِاتِّصَالِ أَنْ تَبْدَأَ مُدَّةُ الْخِيَارِ مِنْ فَوْرِ إِبْرَامِ الْعَقْدِ، أَيْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَتَرَاخَى عَنْهُ، فَلَوْ شَرَطَ الْمُتَعَاقِدَانِ الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَثَلًا مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ، أَوْ تَبْدَأُ مِنَ الْغَدِ، أَوْ تَبْدَأُ مَتَى شَاءَ..أَوْ شَرَطَا خِيَارَ الْغَدِ دُونَ الْيَوْمِ، فَسَدَ الْعَقْدُ لِمُنَافَاتِهِ لِمُقْتَضَاهُ، وَالْمُرَادُ بِالْمُقْتَضَى هُنَا: حُصُولُ آثَارِهِ مُبَاشَرَةً.هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: (وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ مُتَّصِلَةً بِالْعَقْدِ.لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ خِيَارًا مُتَرَاخِيًا عَنِ الْعَقْدِ) لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ لَا يُبْطِلُونَ هَذَا الْعَقْدَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ نَظَرًا لِذَهَابِهِمْ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْبُطْلَانِ وَالْفَسَادِ، وَالْفَاسِدُ مِنَ الْعُقُودِ مُنْعَقِدٌ وَيَحْتَمِلُ بَعْضُهُ التَّصْحِيحَ، وَسَبِيلُ ذَلِكَ هُنَا اعْتِبَارُ الْمُدَّةِ الْفَاصِلَةِ بَيْنَ الْعَقْدِ وَبَيْنَ مَبْدَأِ الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ مَشْمُولَةً بِالشَّرْطِ، فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ اشْتِرَاطَ خِيَارِ أَيَّامٍ غَيْرِ مُتَّصِلَةٍ بِالْعَقْدِ، مِثْلُ مَا لَوْ كَانَ الْعَقْدُ فِي آخِرِ رَمَضَانَ وَاشْتَرَطَ خِيَارَ يَوْمَيْنِ بَعْدَ رَمَضَانَ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ (الْيَوْمُ الْآخِرُ مِنْ رَمَضَانَ وَالْيَوْمَانِ مِمَّا بَعْدَهُ).

وَهَكَذَا يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى إِرَادَةِ الْمُدَّةِ الْمُتَّصِلَةِ وَمَا بَعْدَهَا.أَمَّا إِذَا كَانَ الِاشْتِرَاطُ غَيْرَ قَابِلٍ لِلْحَمْلِ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ عَقْدٌ فَاسِدٌ مُسْتَحِقٌّ لِلْفَسْخِ بِإِرَادَةِ كُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ وَبِإِرَادَةِ الْقَاضِي، وَمِثَالُهُ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ- عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- مَا لَوْ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ فِي رَمَضَانَ، وَلَهُ كَذَا يَوْمًا مِمَّا بَعْدَهُ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ. 21- وَيَتْبَعُ شَرِيطَةَ الِاتِّصَالِ شَرِيطَةٌ أُخْرَى يُمْكِنُ تَسْمِيَتُهَا «الْمُوَالَاةَ» لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا: تَتَابُعُ أَجْزَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ.فَلَوْ شَرَطَا الْخِيَارَ لِمُدَّةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَلَى أَنَّهُ يَوْمًا يَثْبُتُ وَيَوْمًا لَا يَثْبُتُ فَفِيهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا- وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ-: الصِّحَّةُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، لِإِمْكَانِهِ، وَالْبُطْلَانُ فِيمَا بَعْدَهُ، لِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا لَزِمَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَمْ يَعُدْ إِلَى عَدَمِ اللُّزُومِ.

وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: (احْتِمَالُ) بُطْلَانِ الشَّرْطِ كُلِّهِ، لِأَنَّهُ شَرْطٌ وَاحِدٌ تَنَاوَلَ الْخِيَارَ فِي أَيَّامٍ، فَإِذَا فَسَدَ فِي بَعْضِهِ فَسَدَ جَمِيعُهُ.

رَابِعًا- تَعْيِينُ مُسْتَحِقِّ الْخِيَارِ:

22- مُسْتَحِقُّ الْخِيَارِ أَوْ صَاحِبُ الْخِيَارِ: هُوَ ذَلِكَ الشَّخْصُ الَّذِي يَكُونُ إِلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْخِيَارِ وَمُمَارَسَتُهُ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ مُشْتَرِطَهُ أَوْ خُوِّلَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَاقِدِ الْآخَرِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ طَرَفًا فِي الْعَقْدِ أَمْ كَانَ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ، وَلَا يَصِحُّ تَطَرُّقُ الْجَهَالَةِ إِلَى مُسْتَحِقِّ الْخِيَارِ، فَلَوِ اتَّفَقَ الْعَاقِدَانِ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ لِأَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يُبَيِّنَا هَلْ هُوَ الْبَائِعُ أَمِ الْمُشْتَرِي، أَوْ تَعَاقَدَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِشَخْصٍ مَا يُعَيِّنُهُ أَحَدُهُمَا فِيمَا بَعْدُ، أَوْ لِمَنْ يَشَاءُ أَحَدُهُمَا، فَهَذَا كُلُّهُ فِيهِ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ لِلنِّزَاعِ. وَلِذَا صَرَّحَ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى التَّنَازُعِ.لِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ مُسْتَحِقِّ الْخِيَارِ تَعْيِينًا مُشَخَّصًا أَهُوَ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ تَعْيِينُهُ بِالذَّاتِ إِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا عَنِ الْعَقْدِ، وَعَدَمُ الِاكْتِفَاءِ بِذِكْرِ الصِّفَةِ (مَثَلًا) كَقَوْلِهِ: عَلَى أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِأَحَدِ التُّجَّارِ أَوِ الْخُبَرَاءِ دُونَ تَحْدِيدٍ.وَقَالَ النَّوَوِيُّ: (لَوْ يُشْرَطُ الْخِيَارُ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ، الْأَصَحُّ: الصِّحَّةُ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


124-موسوعة الفقه الكويتية (خيار الشرط 3)

خِيَارُ الشَّرْطِ -3

الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ:

36- إِذَا كَانَتْ زَوَائِدُ مَحَلِّ الْخِيَارِ مِنْ نَوْعِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الْأَصْلِ، فَفِيهَا يَجْرِي الْخِلَافُ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ.وَهَذَا الْخِلَافُ لَا مَجَالَ لَهُ إِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي إِمْضَاءَ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَمَلَّكُ الْأَصْلَ وَالزَّوَائِدَ اتِّفَاقًا، لِأَنَّهُ بِالْإِمْضَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ الزَّوَائِدَ كَسْبُ مِلْكِهِ فَكَانَتْ مِلْكًا لَهُ، أَمَّا إِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الْفَسْخَ وَإِعَادَةَ مَحَلِّ الْخِيَارِ إِلَى الْبَائِعِ فَهَلْ يُعِيدُ مَعَهَا الزَّوَائِدَ أَمْ لَا؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَرُدُّ الْأَصْلَ مَعَ الزَّوَائِدِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ كَانَ مَوْقُوفًا، فَإِذَا حَصَلَ الْفَسْخُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَالزِّيَادَةُ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَتُرَدُّ إِلَيْهِ مَعَ الْأَصْلِ.وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ: الْمَبِيعُ دَخَلَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَكَانَتِ الزَّوَائِدُ حَاصِلَةً عَلَى مِلْكِهِ، فَيَظْهَرُ أَثَرُ الْفَسْخِ فِي الْأَصْلِ لَا فِي الزَّوَائِدِ لِأَنَّهَا بَقِيَتْ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَيَأْخُذُهَا هُوَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْخِلَافِ الْكَبِيرِ السَّابِقِ.

الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ:

37- ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ الْخِيَارَ يَسْقُطُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ.وَقَدْ عَرَفْنَا أَنَّهُ حَيْثُ يَمْتَنِعُ الرَّدُّ يَتَمَلَّكُ صَاحِبُ الْخِيَارِ الْأَصْلَ وَالزِّيَادَةَ، لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِإِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَنَّهُ الْمَالِكُ لِمَحَلِّ الْخِيَارِ فَيَمْلِكُ زَوَائِدَهُ مَهْمَا كَانَ وَصْفُهَا.وَعِنْدَ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ لَا يَبْطُلُ الْخِيَارُ فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ بَيْنَ الْإِمْضَاءِ وَالْفَسْخِ،.

وَيَكُونُ مَصِيرُ هَذِهِ الصُّورَةِ مُمَاثِلًا لِلصُّورَةِ السَّابِقَةِ (صُورَةِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ) حَيْثُ يَظَلُّ صَاحِبُ الْخِيَارِ مُتَمَكِّنًا مِنَ اسْتِعْمَالِ خِيَارِهِ.

أَحْكَامُ الزَّوَائِدِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ:

لِلْمَالِكِيَّةِ مَنْحًى آخَرُ فِي شَأْنِ الزَّوَائِدِ، فَهُمْ لَمْ يَنْظُرُوا إِلَى الِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ، كَمَا لَمْ يَعْتَبِرُوا التَّوَلُّدَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلْ خَصُّوا مَا يُعْتَبَرُ جُزْءًا بَاقِيًا مِنَ الْمَبِيعِ فَاعْتَبَرُوهُ لَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ فِي الْعَقْدِ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِالْوَلَدِ وَالصُّوفِ، فَالْوَلَدُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَلَّةٍ- وَمِثْلُهُ الصُّوفُ- تَمَّ أَمْ لَا «لِأَنَّهُمَا كَجُزْءِ الْمَبِيعِ، أَيْ أَنَّ الْوَلَدَ كَالْجُزْءِ الْبَاقِي، بِخِلَافِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ كَجُزْءٍ فَاتَ وَهُوَ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ» يَكُونُ مَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي، وَمَا عَدَاهُ فَهُوَ لِلْبَائِعِ، لِأَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْأَصْلِ- زَمَنَ الْخِيَارِ- يَظَلُّ لِلْبَائِعِ حَتَّى يَسْتَعْمِلَ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ.وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ الزَّوَائِدُ كُلُّهَا- عَدَا الْوَلَدِ وَالصُّوفِ- لِلْبَائِعِ.

وَمِنْ ذَلِكَ:

1- الْغَلَّةُ الْحَادِثَةُ زَمَنَ الْخِيَ

"رِ مِنْ لَبَنٍ وَسَمْنٍ وَبَيْضٍ، لِلْبَائِعِ أَيْضًا.

2- أَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَبِيعِ بِالْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَيْضًا.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَتْ زَوَائِدُ مُنْفَصِلَةٌ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، كَاللَّبَنِ وَالْبَيْضِ وَالثَّمَرِ، فَهِيَ لِمَنْ لَهُ الْمِلْكُ وَهُوَ مَنِ انْفَرَدَ بِالْخِيَارِ، فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ كَحُكْمِ الْبَيْعِ نَفْسِهِ، فَإِنْ فُسِخَ الْبَيْعُ فَهِيَ لِلْبَائِعِ وَإِلاَّ فَلِلْمُشْتَرِي.أَمَّا الزَّوَائِدُ الْمُتَّصِلَةُ فَتَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ.

وَالْحَمْلُ الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْبَيْعِ كَالْأَصْلِ فِي أَنَّهُ مَبِيعٌ لِمُقَابَلَتِهِ بِقِسْطٍ مِنَ الثَّمَنِ، كَمَا لَوْ بِيعَ مَعَهُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ لَا كَالزَّوَائِدِ.أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَالزَّوَائِدُ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا، وَيَشْتَمِلُ ذَلِكَ عَلَى الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ كَالْكَسْبِ وَالْأُجْرَةِ بَلْ لَوْ كَانَتْ نَمَاءً مُنْفَصِلًا مُتَوَلِّدًا مِنْ عَيْنِ الْمَبِيعِ كَالثَّمَرَةِ وَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ (وَفِي هَذِهِ الْحَالِ تُعْتَبَرُ الزَّوَائِدُ أَمَانَةً عِنْدَ الْبَائِعِ فَلَا يَضْمَنُهَا لِلْمُشْتَرِي إِنْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَعَدٍّ وَلَا تَفْرِيطٍ خِلَافًا لِحُكْمِ الْمَبِيعِ نَفْسِهِ فَهُوَ مَضْمُونٌ قَبْلَ قَبْضِهِ) وَسَوَاءٌ تَمَخَّضَ الْخِيَارُ عَنْ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ قُدَامَةَ لِلْمَذْهَبِ بِحَدِيثِ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ».وَهَذَا مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَاسْتَدَلَّ لَهُ أَيْضًا بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ إِلَى الْمُشْتَرِي، أَيْ فَهِيَ تَتْبَعُهُ فِي الِانْتِقَالِ.

رَابِعًا: أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلَيْنِ

38- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُ الْبَدَلَيْنِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فِي حَالِ الْإِطْلَاقِ وَعَدَمِ اشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ، فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ ابْتِدَاءً، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي تَسْلِيمُ الثَّمَنِ ابْتِدَاءً لِاحْتِمَالِ الْفَسْخِ مَا لَمْ تَمْضِ مُدَّةُ الْخِيَارِ، أَوْ يُسْقِطُ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ.

أَمَّا التَّسْلِيمُ لِلثَّمَنِ أَوِ الْمَبِيعِ اخْتِيَارًا وَطَوَاعِيَةً فَلَا مَانِعَ مِنْهُ عِنْدَهُمْ أَيْ لَا يَبْطُلُ الْخِيَارُ فَإِذَا بَادَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا إِلَى تَسْلِيمِ مَا بِيَدِهِ- فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ- فَهُوَ جَائِزٌ، لِأَيٍّ مِنْهُمَا كَانَ الْخِيَارُ، وَلَا أَثَرَ لِلتَّسْلِيمِ عَلَى الْخِيَارِ فَنَقْدُ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ أَوْ دَفْعُ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي لَا يُبْطِلُ الْخِيَارَ شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ تَسْلِيمُ الْبَائِعِ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهِ الِاخْتِبَارِ وَالنَّظَرِ فِي صُلُوحِهِ أَوْ عَدَمِهِ، أَمَّا إِنْ سَلَّمَهُ الْمَبِيعَ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ- وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ- فَإِنَّ خِيَارَهُ يَبْطُلُ،.

وَإِذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمَا تَطَوُّعًا فَامْتَنَعَ الْآخَرُ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، فَأَبُو حَنِيفَةَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ الْآخَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ أَيًّا كَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ وَلَهُ اسْتِرْدَادُهُ.وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ إِجْبَارِ الْآخَرِ أَيْضًا وَهُمْ يَقُولُونَ: بِأَنَّ لِمَنْ سَلَّمَ مُؤَمِّلًا التَّسْلِيمَ مِنْ صَاحِبِهِ فَلَمْ يَحْدُثْ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ.

سُقُوطُ الْخِيَارِ:

39- يَسْقُطُ الْخِيَارُ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ بِعَدَدٍ مِنَ الْأَسْبَابِ هِيَ: الْبُلُوغُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ الَّذِي عَقَدَ عَنْهُ وَلِيُّهُ أَوْ وَصِيُّهُ، وَالْجُنُونُ وَنَحْوُهُ، وَمَوْتُ صَاحِبِ الْخِيَارِ عَلَى خِلَافٍ فِي هَذَا السَّبَبِ الْأَخِيرِ:

أ- بُلُوغُ الصَّبِيِّ مُسْتَحِقِّ الْخِيَارِ:

40- يَرَى الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ دُخُولَ الصَّغِيرِ صَاحِبِ الْخِيَارِ فِي طَوْرِ الْبُلُوغِ، فِي مُدَّةِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْخِيَارَاتِ الْمُحَدَّدَةِ بِوَقْتٍ يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ لِلْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ سَعْيًا مِنْهُمَا لِمَصْلَحَةِ الصَّبِيِّ، وَيَلْزَمُ بِهِ الْعَقْدُ.أَمَّا الْإِمَامُ مُحَمَّدٌ، فَقَدْ جَزَمَ بِأَنَّ الْخِيَارَ لَا يَسْقُطُ، ثُمَّ تَعَدَّدَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ فِي مَصِيرِ الْخِيَارِ بَعْدَئِذٍ هَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى الصَّغِيرِ فِي الْمُدَّةِ أَوْ بِدُونِ تَحْدِيدِ مُدَّةٍ، أَوْ يَبْقَى لِلْوَصِيِّ أَوِ الْوَلِيِّ؟

وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ كَلَامًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

ب- طُرُوءُ الْجُنُونِ وَنَحْوِهِ:

41- قَدْ يَطْرَأُ الْجُنُونُ عَلَى الْعَاقِدِ صَاحِبِ الْخِيَارِ، وَمِثْلُهُ (مَا هُوَ فِي حُكْمِهِ مِنْ حَيْثُ ذَهَابُ الْعَقْلِ وَعَجْزُ الْإِنْسَانِ عَنْ إِظْهَارِ مَوْقِفِهِ، كَالْإِغْمَاءِ وَالنَّوْمِ أَوِ السَّكْتَةِ) فَإِذَا بَقِيَ ذَلِكَ حَتَّى اسْتَغْرَقَ وَقْتَ الْخِيَارِ مِنْ حَالَةِ تَوْقِيتِهِ سَقَطَ الْخِيَارُ.لَكِنَّ سُقُوطَهُ لَيْسَ لِكَوْنِ الْجُنُونِ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْخِيَارِ، بَلْ لِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ دُونَ صُدُورِ فَسْخٍ مِنْهُ، فَالْجُنُونُ نَفْسُهُ لَيْسَ مُسْقِطًا بَلِ اسْتِغْرَاقُ الْوَقْتِ كُلِّهِ دُونَ فَسْخٍ، وَلِذَا لَوْ أَفَاقَ خِلَالَ الْمُدَّةِ كَانَ عَلَى خِيَارِهِ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا فِي الْأَصَحِّ لَدَى الْحَنَفِيَّةِ.قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْإِغْمَاءَ وَالْجُنُونَ لَا يُسْقِطَانِ الْخِيَارَ وَإِنَّمَا الْمُسْقِطُ لَهُ مُضِيُّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ.وَاخْتُلِفَ فِي السُّكْرِ هَلْ هُوَ فِي حُكْمِ الْجُنُونِ أَمْ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ بِالْبَنْجِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْوَسَائِلِ الْمُسْتَخْدَمَةِ فِي الطِّبِّ، وَبَيْنَ السُّكْرِ بِالْمُحَرَّمِ.وَيُنْظَرُ فِي الْمُطَوَّلَاتِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ جُنَّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ وَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَفِيقُ أَوْ يَفِيقُ بَعْدَ طُولٍ يَضُرُّ الصَّبْرُ إِلَيْهِ بِالْآخَرِ، نَظَرَ السُّلْطَانُ فِي الْأَصْلَحِ لَهُ، أَيْ لَا يَسْقُطُ الْخِيَارُ.وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي انْتِقَالِ الْخِيَارِ.

ج- تَغَيُّرُ مَحَلِّ الْخِيَارِ:

42- إِذَا كَانَ تَغَيُّرُ مَحَلِّ الْخِيَارِ بِالْهَلَاكِ وَالتَّعَيُّبِ أَوِ النُّقْصَانِ، فَإِنَّ الْخِيَارَ يَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أُسْوَةً بِالْعَقْدِ الْبَاتِّ، فَهَذَا أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْهُ لِوُجُودِ شَرْطِ الْخِيَارِ.أَمَّا إِنْ كَانَ الْهَلَاكُ بَعْدَ الْقَبْضِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْمَذَاهِبُ، فَهُوَ مُسْقِطٌ لِلْخِيَارِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مُطْلَقًا.وَهُوَ بِمَثَابَةِ الْفَسْخِ لِلْعَقْدِ وَسُقُوطِ الْخِيَارِ تَبَعًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَيَرْبِطُونَهُ بِمَسْأَلَةِ انْتِقَالِ الْمِلْكِ، فَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَفْتَرِقُ بَيْنَ كَوْنِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ أَوْ لَهُ وَلِلْمُشْتَرِي- فَالْمِلْكُ لِلْبَائِعِ- فَإِذَا هَلَكَ لَمْ تُمْكِنُ الْمُبَادَلَةُ عَلَيْهِ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَيَبْطُلُ الْخِيَارُ.أَمَّا إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَالْهَلَاكُ فِي عِدَادِ مُسْقِطَاتِ الْخِيَارِ الَّتِي يَلْزَمُ بِهَا الْعَقْدُ لِأَنَّهُ عَجْزٌ عَنِ التَّصَرُّفِ بِحُكْمِ الْخِيَارِ حِينَ أَشْرَفَتِ السِّلْعَةُ عَلَى الْهَلَاكِ.وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْبَائِعِ وَتَعَذَّرَ نَقْلُهُ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لَهُمَا مَعًا، فَلَا أَثَرَ لِلْهَلَاكِ عَلَى الْعَقْدِ أَوِ الْخِيَارِ إِنَّمَا تَتَأَثَّرُ تَصْفِيَةُ هَذَا الْعَقْدِ، فَإِنِ اخْتَارَ صَاحِبُ الْخِيَارِ الْإِمْضَاءَ فَالْوَاجِبُ هُوَ الثَّمَنُ وَإِنِ اخْتَارَ الْفَسْخَ فَالْوَاجِبُ رَدُّ الْمِثْلِ أَوِ الْقِيمَةِ بَدَلًا مِنَ الْمَبِيعِ. وَمِثْلُ الْهَلَاكِ النُّقْصَانُ بِالتَّعَيُّبِ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ أَوْ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ مَهْمَا كَانَ قَدْرُهُ أَوْ فَاعِلُهُ، لِإِخْلَالِ النُّقْصَانِ بِشَرْطِ رَدِّ الْمَبِيعِ كَمَا قُبِضَ.أَمَّا لَوْ كَانَ يُرْجَى زَوَالُهُ كَالْمَرَضِ فَالْخِيَارُ بَاقٍ وَلَا يُرَدُّ حَتَّى يَبْرَأَ فِي الْمُدَّةِ فَإِنْ مَضَتْ وَلَمْ يَبْرَأْ لَزِمَ الْبَيْعُ.

43- وَإِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ بِالزِّيَادَةِ: إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا لَا أَثَرَ لَهَا فِي سُقُوطِ الْخِيَارِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَلَا أَثَرَ لَهَا أَيْضًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَهْمَا كَانَ نَوْعُهَا وَكَذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ، أَوِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ، أَمَّا الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنَ الْأَصْلِ فَإِنَّهَا تُسْقِطُ الْخِيَارَ لِتَعَذُّرِ وُرُودِ الْفَسْخِ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا غَيْرُ مَبِيعٍ، فَالرَّدُّ بِدُونِهَا مُؤَدٍّ لِشُبْهَةِ الرِّبَا، وَإِنْ رَدَّهَا مَعَ الْأَصْلِ كَانَ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ.

د- إِمْضَاءُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ

44- إِذَا تَعَاقَدَ شَرِيكَانِ مَعَ آخَرَ عَلَى أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ فَأَجَازَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ سَقَطَ الْخِيَارُ بِالنِّسْبَةِ لَهُمَا جَمِيعًا وَلَزِمَ الْعَقْدُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ الشَّرِيكُ الْآخَرُ الْفَسْخَ، أَمَّا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ فَالْخِيَارُ لَا يَسْقُطُ عَمَّنْ لَمْ يُجِزِ الْعَقْدَ بَلْ يَبْقَى خِيَارُهُ عَلَى حَالِهِ.

وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ كَلَامًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

هـ- مَوْتُ صَاحِبِ الْخِيَارِ

45- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى سُقُوطِ الْخِيَارِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَمْ لِلْمُشْتَرِي، وَسَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ أَصِيلًا أَمْ نَائِبًا (وَكِيلًا، أَوْ وَصِيًّا، أَوْ وَلِيًّا) فَبِمَوْتِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ يَسْقُطُ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى بَقَاءِ الْخِيَارِ لِلْوَرَثَةِ، فَمَوْتُ صَاحِبِ الْخِيَارِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ لَيْسَ مُسْقِطًا، بَلْ هُوَ نَاقِلٌ فَقَطْ.

أَمَّا وَفَاةُ مَنْ عَلَيْهِ الْخِيَارُ فَلَا يَسْقُطُ بِهَا الْخِيَارُ، بَلْ يَبْقَى الْخِيَارُ لِصَاحِبِهِ وَيَكُونُ رَدُّهُ إِنْ شَاءَ الرَّدَّ فِي مُوَاجِهَةِ الْوَرَثَةِ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَأَجْمَعُوا (أَيِ الْحَنَفِيَّةُ) أَنَّهُ إِذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْخِيَارُ فَإِنَّ الْخِيَارَ بَاقٍ.

انْتِهَاءُ الْخِيَارِ:

46- يَنْتَهِي خِيَارُ الشَّرْطِ بِأَحَدِ سَبَبَيْنِ: الْأَوَّلُ: إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِإِجَازَتِهِ أَوْ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ دُونَ فَسْخٍ،

وَالثَّانِي: فَسْخُ الْعَقْدِ.

السَّبَبُ الْأَوَّلُ: إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ أَوْ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ دُونَ فَسْخٍ:

47- يَنْتَهِي الْخِيَارُ بِإِمْضَاءِ الْعَقْدِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ إِمَّا بِإِجَازَتِهِ، وَإِمَّا بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ.

إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ:

48- إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ يُنْهِي الْخِيَارَ بِالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَقْدِ اللُّزُومُ وَالِامْتِنَاعُ يُعَارِضُ الْخِيَارَ وَقَدْ بَطَلَ بِالْإِجَازَةِ فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ.

أَنْوَاعُ الْإِجَازَةِ:

49- قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْإِجَازَةَ إِلَى نَوْعَيْنِ: صَرِيحٍ أَوْ شِبْهِ الصَّرِيحِ، وَدَلَالَةٍ.

فَالصَّرِيحُ، بِالنِّسْبَةِ لِلْبَائِعِ، أَنْ يَقُولَ: أَجَزْتُ الْعَقْدَ- أَوِ الْبَيْعَ مَثَلًا- أَوْ أَمْضَيْتُهُ أَوْ أَوْجَبْتُهُ، أَوْ أَلْزَمْتُهُ، أَوْ رَضِيتُهُ، أَوْ أَسْقَطْتُ الْخِيَارَ، أَوْ أَبْطَلْتُهُ.وَشِبْهُ الصَّرِيحِ مَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَعَلِمَ الْمُشْتَرِي الْإِجَازَةَ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ.وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ صَاحِبَ الْخِيَارِ لَوْ قَالَ: هَوِيتُ أَخْذَهُ، أَوْ أَحْبَبْتُ، أَوْ أَعْجَبَنِي، أَوْ وَافَقَنِي لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ.

أَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَتَصَرَّفَ صَاحِبُ الْخِيَارِ فِي مَحَلِّ الْخِيَارِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ، كَالْبَيْعِ، وَالْمُسَاوَمَةِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْهِبَةِ، وَالرَّهْنِ، سَلَّمَ أَوْ لَمْ يُسَلِّمْ.لِأَنَّ جَوَازَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ، فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهَا يَكُونُ دَلِيلَ قَصْدِ التَّمَلُّكِ، أَوْ تَقَرُّرِ الْمِلْكِ- عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ- وَذَلِكَ دَلِيلُ الْإِمْضَاءِ.هَذَا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَإِذَا كَانَ لِلْبَائِعِ فَالدَّلَالَةُ عَلَى الْإِمْضَاءِ فِي حَقِّهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ قَبْضِهِ بِالْبَيْعِ أَوْ نَحْوِهِ، إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.

هَذَا وَلَا يُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْمَحَلِّ لِلْإِجَازَةِ، ذَلِكَ أَنَّهُ فِي الْإِجَازَةِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ، وَلَيْسَ الْإِنْشَاءِ، فَبِالْإِجَازَةِ يَظْهَرُ أَنَّ الْعَقْدَ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ انْعَقَدَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، وَالْمَحَلُّ كَانَ قَابِلًا وَقْتَ الْعَقْدِ فَهَلَاكُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْإِجَازَةَ.

كَمَا لَا يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْعَاقِدِ الْآخَرِ بِالْإِجَازَةِ.فَلَوْ أَجَازَ الْعَقْدَ فَإِنَّهُ لَازِمٌ مُنْذُ الْإِجَازَةِ سَوَاءٌ أَبْلَغَ الْعَاقِدُ الْآخَرَ ذَلِكَ أَمْ لَا.

وَنَحْوُ هَذَا التَّقْسِيمِ جَاءَ فِي الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى.

إِنْهَاءُ الْخِيَارِ بِعِوَضٍ:

50- جَاءَ فِي فَتَاوَى قَاضِيخَانْ أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ صَاحِبَ الْخِيَارِ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ، أَوْ عَلَى عَرَضٍ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنْ يُسْقِطَ الْخِيَارَ وَيُمْضِيَ الْبَيْعَ جَازَ ذَلِكَ وَيَكُونُ زِيَادَةً فِي الثَّمَنِ.وَكَذَا لَوْ كَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ هُوَ الْمُشْتَرِي فَصَالَحَهُ الْبَائِعُ عَلَى أَنْ يُسْقِطَ الْخِيَارَ فَيَحُطَّ عَنْهُ مِنَ الثَّمَنِ كَذَا أَوْ يَزِيدَهُ هَذَا الْعَرَضَ بِعَيْنِهِ فِي الْبَيْعِ جَازَ ذَلِكَ أَيْضًا.

ثَانِيًا- انْتِهَاءُ الْخِيَارِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ:

51- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ- فِي الْجُمْلَةِ- عَلَى أَنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ يَنْتَهِي بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ، ذَلِكَ لِأَنَّهُ خِيَارٌ مُؤَقَّتٌ بِمُدَّةٍ (سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِتَحْدِيدِ الْعَاقِدِ، أَمْ بِتَقْدِيرِ الشَّارِعِ فِي حَالِ الْإِطْلَاقِ)، فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ الَّتِي وُقِّتَ بِهَا الْخِيَارُ فَمِنَ الْبَدَهِيِّ أَنْ يَنْتَهِيَ بِمُضِيِّهَا «لِأَنَّ الْمُؤَقَّتَ إِلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ».وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ مَنَعَ مِنْ لُزُومِ الْعَقْدِ تِلْكَ الْمُدَّةَ- وَالْأَصْلُ هُوَ اللُّزُومُ- فَبِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ يَثْبُتُ مُوجِبُ الْعَقْدِ، وَتَرْكُ صَاحِبِ الْخِيَارِ الْفَسْخَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ رِضًا مِنْهُ بِالْعَقْدِ.

عَلَى ذَلِكَ تَوَارَدَتْ نُصُوصُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، خِلَافًا لِلْقَاضِي أَبِي يَعْلَى مِنْهُمْ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ قَائِلُونَ بِأَنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ يُنْهِي الْخِيَارَ، غَيْرَ أَنَّ لَهُمُ اتِّجَاهًا خَاصًّا فِيمَا يُنْتَجُ عَنْ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَإِذَا كَانَ الْحَالُ عِنْدَ غَيْرِهِمُ اعْتِبَارَهُ إِمْضَاءً لِلْعَقْدِ مِنْ صَاحِبِ الْخِيَارِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ انْتِهَاءٌ لِلْخِيَارِ وَلَيْسَ إِمْضَاءً لِلْعَقْدِ إِلاَّ حَيْثُ تَنْقَضِي الْمُدَّةُ، وَالْمَبِيعُ بِيَدِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، فَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي (مَثَلًا) كَانَ تَرْكُ الْمَبِيعِ فِي يَدِهِ بِمَثَابَةِ الْإِمْضَاءِ وَلُزُومِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَانْقَضَى الْأَمَدُ- وَالْمَبِيعُ فِي يَدِهِ- فَذَلِكَ بِمَثَابَةِ الْفَسْخِ مِنَ الْبَائِعِ.هَذَا مِنْ حَيْثُ أَدَاؤُهُ إِلَى إِمْضَاءِ الْعَقْدِ.أَمَّا اعْتِبَارُ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَسْخًا أَوْ إِجَازَةً فَيُنْظَرُ إِلَى مَنْ يَنْقَضِي زَمَنُ الْخِيَارِ وَالْمَبِيعُ بِيَدِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبَ الْخِيَارِ أَمْ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ بِيَدِ الْبَائِعِ آنَئِذٍ فَهُوَ فَسْخٌ، وَإِنْ كَانَ بِيَدِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ إِمْضَاءٌ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: يَلْزَمُ الْمَبِيعُ بِالْخِيَارِ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ مِنْهُمَا كَانَ صَاحِبَ الْخِيَارِ أَوْ غَيْرَهُ بِانْقِضَاءِ زَمَنِ الْخِيَارِ وَمَا أُلْحِقَ بِهِ وَهُوَ الْيَوْمُ وَالْيَوْمَانِ.وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلَاتٌ تُنْظَرُ فِي كُتُبِهِمْ.

السَّبَبُ الثَّانِي: انْتِهَاءُ الْخِيَارِ بِفَسْخِ الْعَقْدِ

52- يَنْقَسِمُ الْفَسْخُ إِلَى صَرِيحٍ وَدَلَالَةٍ، أَوْ بِنَظْرَةٍ أُخْرَى إِلَى فَسْخٍ قَوْلِيٍّ، وَفَسْخٍ فِعْلِيٍّ، فَالْفَسْخُ الْقَوْلِيُّ أَوِ الصَّرِيحُ يَقَعُ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: فَسَخْتُ الْبَيْعَ، أَوِ اسْتَرْجَعْتُ الْمَبِيعَ، أَوْ رَدَدْتُهُ، أَوْ رَدَدْتُ الثَّمَنَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَكُلُّ هَذَا فَسْخٌ صَرِيحٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْبَائِعِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ: لَا أَبِيعُ حَتَّى تَزِيدَ فِي الثَّمَنِ، مَعَ قَوْلِ الْمُشْتَرِي لَا أَفْعَلُ، وَكَذَلِكَ مِنْهُ عَكْسُ هَذِهِ الصُّورَةِ بِأَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي: لَا أَشْتَرِي حَتَّى يُنْقِصَ عَنِّي مِنَ الثَّمَنِ، عَلَى قَوْلِ الْبَائِعِ لَا أَفْعَلُ.وَكَذَا مِنْهُ طَلَبُ الْبَائِعِ حُلُولَ الثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ، وَطَلَبُ الْمُشْتَرِي تَأْجِيلَ الثَّمَنِ الْحَالِّ فَكُلُّ هَذَا فَسْخٌ.

وَصُورَةُ الْفَسْخِ دَلَالَةً- وَيُسَمَّى الْفَسْخَ الْفِعْلِيَّ- (أَوِ الْفَسْخَ بِالْفِعْلِ كَمَا سَمَّاهُ ابْنُ الْهُمَامِ): أَنْ يَتَصَرَّفَ صَاحِبُ الْخِيَارِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي الْمَبِيعِ.هَذَا إِذَا كَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ هُوَ الْبَائِعُ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُشْتَرِي فَبِأَنْ يَتَصَرَّفَ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي الثَّمَنِ، شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ عَيْنًا.أَمَّا إِنْ كَانَ دَيْنًا فَلَا يُتَصَوَّرُ الْفَسْخُ دَلَالَةً فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَلِذَلِكَ أَغْفَلَهُ ابْنُ الْهُمَامِ مُقْتَصِرًا عَلَى تَصْوِيرِهِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُ لَوْ تَصَرَّفَ الْبَائِعُ فِي الثَّمَنِ- وَهُوَ دَيْنٌ- يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ الْخَاصِّ لَا فِي الثَّمَنِ «لِأَنَّ الْأَثْمَانَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ».

وَالسَّبَبُ فِي الِاعْتِدَادِ بِالتَّصَرُّفِ كَالْمُلاَّكِ فِي إِسْقَاطِ الْخِيَارِ أَنَّ الْخِيَارَ إِذَا كَانَ لِلْبَائِعِ فَتَصَرُّفُهُ فِي الْمَبِيعِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ دَلِيلُ اسْتِبْقَاءِ مِلْكِهِ فِيهِ.إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَتَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي الثَّمَنِ إِذَا كَانَ عَيْنًا دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى اسْتِبْقَاءِ مِلْكِهِ فِيهِ.وَاسْتِبْقَاءُ مِلْكِ كُلٍّ مِنْهُمَا لَا يَكُونُ إِلاَّ بِالْفَسْخِ، فَالْإِقْدَامُ عَلَى التَّصَرُّفِ الْمَذْكُورِ يَكُونُ فَسْخًا لِلْعَقْدِ دَلَالَةً، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ، وَمِنْ قَبْلِهِ الْكَاسَانِيُّ: «وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا وُجِدَ مِنَ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ لَوْ وُجِدَ مِنْهُ فِي الثَّمَنِ لَكَانَ إِجَازَةً لِلْبَيْعِ: يَكُونُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ دَلَالَةً». وَالْفَسْخُ دَلَالَةً مُتَّفَقٌ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْآخَرِ بِهِ، أَمَّا فِي الْفَسْخِ الصَّرِيحِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ.

ثُمَّ إِنَّ لِلْفَسْخِ دَلَالَةً بَعْدَ هَذَا الضَّابِطِ تَفَارِيعَ مِنْهَا:

- أَكْلُ الْمَبِيعِ وَشُرْبُهُ وَلُبْسُهُ، يُسْقِطُ الْخِيَارَ.وَفِي فَتَاوَى قَاضِيخَانْ: إِذَا لَبِسَهُ مَرَّةً لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ.

- النَّسْخُ مِنَ الْكِتَابِ، لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، لَا يُسْقِطُ الْخِيَارَ، وَلَوْ دَرَسَ فِيهِ يَسْقُطُ.

- رُكُوبُ الدَّابَّةِ لِيَسْقِيَهَا، أَوْ يَرُدَّهَا، وَيَعْلِفَهَا، إِجَازَةٌ.وَقِيلَ: إِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِدُونِ الرُّكُوبِ لَا يَكُونُ إِجَازَةً.وَأَطْلَقَ قَاضِيخَانْ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ فَقَالَ: وَرُكُوبُهَا لِيَسْقِيَهَا أَوْ يَرُدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ لَا يُبْطِلُ خِيَارَهُ اسْتِحْسَانًا، فَجَعَلَهُ مِنَ الِاسْتِحْسَانِ.

- بَيْعُ مَحَلِّ الْخِيَارِ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ هِبَتُهُ أَوْ رَهْنُهُ- مَعَ التَّسْلِيمِ- مُسْقِطٌ لِلْخِيَارِ، أَمَّا لَوْ وَهَبَهُ أَوْ رَهَنَهُ وَلَمْ يُسَلِّمْ لَا يَنْفَسِخُ.

- إِيجَارُ مَحَلِّ الْخِيَارِ فَسْخٌ وَلَوْ لَمْ يُسَلِّمْ، وَقِيلَ: لَيْسَ فَسْخًا مَا لَمْ يُسَلِّمْ.

- تَسْلِيمُ مَحَلِّ الْخِيَارِ إِلَى الْمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَفَرَّقَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْفَضْلِ بَيْنَ التَّسْلِيمِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِيَارِ فَلَا يُبْطِلُ خِيَارَهُ وَلَا يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي، وَالتَّسْلِيمُ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ فَيَبْطُلُ خِيَارُهُ.

قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: وَكَذَا كُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يَحِلُّ إِلاَّ فِي الْمِلْكِ، وَكَذَا كُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يَنْفُذُ إِلاَّ فِي الْمِلْكِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ.

شَرَائِطُ الْفَسْخِ:

53- يُشْتَرَطُ لِاعْتِبَارِ الْفَسْخِ نَافِذًا الشَّرَائِطُ التَّالِيَةُ:

1- قِيَامُ الْخِيَارِ، لِأَنَّ الْخِيَارَ إِذَا زَالَ، بِالسُّقُوطِ مَثَلًا، يَلْزَمُ الْعَقْدُ، فَلَا أَثَرَ لِلْفَسْخِ حِينَئِذٍ.

2- عِلْمُ الْعَاقِدِ الْآخَرِ بِالْفَسْخِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْمَرَاجِعِ الْفِقْهِيَّةِ بِعِبَارَةِ الْفَسْخِ بِحَضْرَةِ الْعَاقِدِ، وَعَكْسُهُ الْفَسْخُ فِي غَيْبَتِهِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْحَضْرَةِ، الْعِلْمُ لَا الْحُضُورُ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَإِنْ جَرَى الْفَسْخُ مِنْ صَاحِبِ الْخِيَارِ دُونَ عِلْمِ الْعَاقِدِ الْآخَرِ فَالْفَسْخُ مَوْقُوفٌ: إِنْ عَلِمَ بِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ نَفَذَ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ حَتَّى مَضَتِ الْمُدَّةُ لَزِمَ الْعَقْدُ لِعَدَمِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ الْفَسْخِ.وَفِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ- حَيْثُ يُعْتَبَرُ مَوْقُوفًا- لَوْ عَادَ الْعَاقِدُ عَنْ فَسْخِهِ فَأَمْضَى الْعَقْدَ قَبْلَ عِلْمِ الْآخَرِ فَذَلِكَ مِنْهُ مُعْتَبَرٌ فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ وَيَبْطُلُ فَسْخُهُ السَّابِقُ.

أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ نُقِلَتْ عَنْهُ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ مِثْلُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ، وَقَوْلٌ آخَرُ لَهُ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الْآخَرِ، وَقَوْلٌ ثَالِثٌ بِالنَّظَرِ إِلَى صَاحِبِ الْخِيَارِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْبَائِعُ فَلَا يُشْتَرَطُ بَلْ يَقْتَصِرُ اشْتِرَاطُ الْعِلْمِ فِي خِيَارِ الْمُشْتَرِي لَكِنَّ الْقَوْلَ الْمَشْهُورَ عَنْهُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الْآخَرِ بِالْفَسْخِ وَرَجَّحَ ابْنُ الْهُمَامِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا، وَبَيَّنَ أَنَّ الْفَسْخَ بِالْقَوْلِ هُوَ الَّذِي وَقَعَ الْخِلَافُ فِي جَوَازِهِ بِغَيْرِ عِلْمِ الْآخَرِ، وَأَمَّا الْفَسْخُ بِالْفِعْلِ فَيَجُوزُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ اتِّفَاقًا بَيْنَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ.

وَعَدَمُ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الْآخَرِ بِالْفَسْخِ هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالرِّوَايَاتُ السَّابِقَةُ لِبَعْضِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، عَلَى مَا ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْفَاسِخَ مِنْهَا مُسَلَّطٌ عَلَى الْفَسْخِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ الَّذِي لَا خِيَارَ لَهُ فَلَا يَتَوَقَّفُ فَسْخُهُ عَلَى عِلْمِهِ، فَهُوَ كَبَيْعِ الْوَكِيلِ مَعَ عَدَمِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ وَهُوَ جَائِزٌ، فَلَا يُشْتَرَطُ الرِّضَا هُنَا وَلَا هُنَاكَ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ، مِنْهَا: أَنَّ الْفَسْخَ كَالْإِجَازَةِ فِي هَذَا، لِأَنَّهُمَا شَقِيقَانِ كِلَاهُمَا لِاسْتِعْمَالِ الْخِيَارِ فَهُوَ- كَمَا قَالَ الْبَابَرْتِيُّ- قِيَاسٌ لِأَحَدِ شِطْرَيِ الْعَقْدِ عَلَى الْآخَرِ.

3- أَنْ لَا يَنْشَأَ عَنِ الْفَسْخِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ، أَيْ أَنْ يَقَعَ الْفَسْخُ عَلَى جَمِيعِ الصَّفْقَةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْضِيَ الْعَقْدَ فِي بَعْضِ الصَّفْقَةِ وَيَفْسَخَ فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ.

وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي الْإِجَازَةِ فِي الْبَعْضِ، فَيَنْشَأُ عَنْهُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فِي اللُّزُومِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا.

وَالْمَالِكِيَّةُ يُجْبِرُونَ الْعَاقِدَ عَلَى رَدِّ الْجَمِيعِ إِنْ أَجَازَ الْعَقْدَ فِي الْبَعْضِ وَرَدَّ الْبَعْضَ حَيْثُ لَمْ يَرْضَ الْعَاقِدُ الشَّرِكَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَرَادَ الْفَسْخَ فِي أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنِ فِيهِمَا الْخِيَارُ فَالْأَصَحُّ لَا يَجُوزُ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، أَمَّا لَوِ اشْتَرَى اثْنَانِ شَيْئًا مِنْ وَاحِدٍ صَفْقَةً وَاحِدَةً بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَلِأَحَدِهِمَا الْفَسْخُ فِي نَصِيبِهِ.

الْأَدِلَّةُ: لِكُلٍّ مِنَ الْقَائِلِينَ بِاشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الْآخَرِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ أَدِلَّةٌ تَدُورُ بَيْنَ وُجُوهٍ مِنَ الْمَعْقُولِ وَالِاسْتِشْهَادِ بِالنَّظَائِرِ الْفِقْهِيَّةِ. انْتِقَالُ خِيَارِ الشَّرْطِ:

أَوَّلًا- انْتِقَالُ الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ:

54- ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِ الْمَوْرُوثِ، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَجْهًا بِإِرْثِ خِيَارِ الشَّرْطِ مُطْلَقًا.

وَقَدْ عَلَّلَ الْقَائِلُونَ بِانْتِقَالِ الْخِيَارِ لِلْوَارِثِ بِاعْتِبَارِ الْخِيَارِ مِنْ مُشْتَمِلَاتِ التَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِإِصْلَاحِ الْمَالِ، كَالرَّهْنِ وَحَبْسِ الْمَبِيعِ عَلَى تَحْصِيلِ الثَّمَنِ.وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنَ السُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ.فَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَرَكَ مَالًا أَوْ حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ»،، وَخِيَارُ الشَّرْطِ حَقٌّ لِلْمَوْرُوثِ فَيَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِهِ كَمَا يَقْضِي الْحَدِيثُ.

ثُمَّ قَاسُوا خِيَارَ الشَّرْطِ عَلَى خِيَارَيِ الْعَيْبِ وَالتَّعْيِينِ الْمُتَّفَقِ عَلَى انْتِقَالِهِمَا لِلْوَارِثِ بِالْمَوْتِ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْ تِلْكَ الْخِيَارَاتِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ فَيَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ بِمُجَرَّدِ انْتِقَالِهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لَا يُورَثُ، وَمِنْ عِبَارَاتِهِمْ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ قَوْلُ الزَّيْلَعِيِّ: الْخِيَارُ صِفَةٌ لِلْمَيِّتِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِلاَّ مَشِيئَةً وَإِرَادَةً فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ كَسَائِرِ أَوْصَافِهِ. وَاسْتَدَلُّوا لِمَذْهَبِهِمْ بِأَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ لَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ فَلَمْ يُورَثْ، نَظِيرُ حَقِّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ إِذَا مَاتَ الْوَاهِبُ لَمْ يُورَثْ عَنْهُ.وَقَالُوا أَيْضًا: خِيَارُ الشَّرْطِ لَيْسَ وَصْفًا بِالْمَبِيعِ حَتَّى يُورَثَ بِإِرْثِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَشِيئَةٌ وَإِرَادَةٌ، فَهُوَ وَصْفٌ قَائِمٌ بِشَخْصِ مَنْ ثَبَتَ لَهُ فَلَا يُورَثُ عَنْهُ، لِأَنَّ الْإِرْثَ يَجْرِي فِيمَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ، وَالْوَصْفُ الشَّخْصِيُّ لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ بِحَالٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَحْدَهُمْ إِلَى التَّفْصِيلِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الْمَيِّتِ بِالْخِيَارِ قَبْلَ مَوْتِهِ أَوْ عَدَمِ الْمُطَالَبَةِ، فَإِنْ مَاتَ صَاحِبُ الْخِيَارِ دُونَ أَنْ يُطَالِبَ بِحَقِّهِ فِي الْخِيَارِ، بَطَلَ الْخِيَارُ وَلَمْ يُورَثْ، أَمَّا إِنْ طَالَبَ بِذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ يُورَثُ عَنْهُ.فَالْأَصْلُ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ غَيْرُ مَوْرُوثٍ إِلاَّ بِالْمُطَالَبَةِ مِنَ الْمُشْتَرِطِ.

وَقَدْ صَوَّرَهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ نَقْلٌ، وَتَوْرِيثٌ مِنَ الْمُوَرِّثِ لِوَرَثَتِهِ بِإِرَادَاتِهِ، حَيْثُ جَاءَ فِي الْفَوَاكِهِ الْعَدِيدَةِ قَوْلُ الْفَقِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَهْلَانَ- شَيْخِ الْمُؤَلِّفِ -: «إِذَا مَاتَ وَوَرِثَ خِيَارَهُ وَرَثَتُهُ، لِشَرْطِهِ لَهُمْ فَأَسْقَطَهُ أَحَدُ الْوَرَثَةِ سَقَطَ خِيَارُ الْجَمِيعِ».وَقَدْ جَاءَتْ تِلْكَ الْعِبَارَةُ إِيضَاحًا وَتَقْيِيدًا لِعِبَارَةِ أَحَدِ الْكُتُبِ الَّتِي جَاءَتْ مُوهِمَةً أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يُورَثُ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ يُشْتَرَطُ لِذَلِكَ مُطَالَبَةُ الْمُوَرِّثِ بِحَقِّ الْخِيَارِ.

وَأَمَّا ابْنُ قُدَامَةَ فَقَالَ: الْمَذْهَبُ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَيِّتِ مِنْهُمَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، وَيَبْقَى خِيَارُ الْآخَرِ بِحَالِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ قَدْ طَالَبَ بِالْفَسْخِ قَبْلَ مَوْتِهِ فِيهِ فَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ.

ثَانِيًا: انْتِقَالُ الْخِيَارِ بِالْجُنُونِ وَحَالَاتِ الْغَيْبُوبَةِ:

55- سَبَقَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ الْجُنُونَ يُسْقِطُ الْخِيَارَ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي فِقْرَةِ 41

وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا طَرَأَ الْجُنُونُ- أَوِ الْإِغْمَاءُ- عَلَى صَاحِبِ الْخِيَارِ لَمْ يَنْقَطِعْ خِيَارُهُ، بَلْ يَقُومُ وَلِيُّهُ أَوِ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فَيَفْعَلُ مَا فِيهِ الْأَحَظُّ مِنَ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ وَكَذَلِكَ إِذَا أَصَابَهُ خَرَسٌ- وَلَمْ تَكُنْ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ أَوْ كِتَابَةٌ- نَصَّبَ الْحَاكِمُ نَائِبًا عَنْهُ.

وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَابِلَةِ كَلَامًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ: أ- فَفِي الْجُنُونِ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَفِيقُ، أَوْ يَفِيقُ بَعْدَ وَقْتٍ طَوِيلٍ يَضُرُّ الِانْتِظَارُ إِلَيْهِ بِالْعَاقِدِ الْآخَرِ، يَنْظُرُ السُّلْطَانُ أَوْ نُوَّابُهُ فِي الْأَصْلَحِ لَهُ مِنْ إِمْضَاءٍ أَوْ رَدٍّ، وَلَوْ لَمْ يَنْظُرِ السُّلْطَانُ حَتَّى مَضَى جُزْءٌ مِنَ الْمُدَّةِ فَزَالَ الْجُنُونُ يُحْتَسَبُ مَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَلَوْ لَمْ يُنْظَرْ حَتَّى أَفَاقَ بَعْدَ أَمَدِ الْخِيَارِ لَا يُسْتَأْنَفُ لَهُ أَجَلٌ عَلَى الظَّاهِرِ، وَالْمَبِيعُ لَازِمٌ لِمَنْ هُوَ بِيَدِهِ.وَمِثْلُ الْمَجْنُونِ- فِي الْحُكْمِ- الْمَفْقُودُ، عَلَى الرَّاجِحِ، وَقِيلَ: هُوَ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.

ب- وَفِي الْإِغْمَاءِ يُنْتَظَرُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ لِكَيْ يَفِيقَ وَيَخْتَارَ لِنَفْسِهِ، إِلاَّ إِذَا مَضَى زَمَنُ الْخِيَارِ وَطَالَ إِغْمَاؤُهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ الضَّرَرُ لِلْآخَرِ فَيُفْسَخُ.وَلَا يَنْظُرُ لَهُ السُّلْطَانُ.

فَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ حَتَّى أَفَاقَ بَعْدَ أَيَّامِ الْخِيَارِ اسْتُؤْنِفَ لَهُ الْأَجَلُ، وَهَذَا الْحُكْمُ خِلَافُ مَا مَرَّ فِي الْمَجْنُونِ.

هَذَا وَقَدْ يَزُولُ الطَّارِئُ الَّذِي نُقِلَ الْخِيَارُ بِسَبَبِهِ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَى غَيْرِهِ، كَالْجُنُونِ النَّاقِلِ لِلْخِيَارِ إِلَى السُّلْطَانِ، لَوْ أَفَاقَ بَعْدَهُ لَا عِبْرَةَ بِمَا يَخْتَارُهُ بَلِ الْمُعْتَبَرُ بِمَا نَظَرَهُ السُّلْطَانُ.

هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَخَالَفَهُمْ فِيهِ الشَّافِعِيَّةُ، فَفِي هَذِهِ الْحَالِ: لَوْ أَفَاقَ الْعَاقِدُ وَادَّعَى أَنَّ الْغِبْطَةَ خِلَافُ مَا فَعَلَهُ الْقَيِّمُ عَنْهُ يَنْظُرُ الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ وَجَدَ الْأَمْرَ كَمَا يَقُولُ الْمُفِيقُ مَكَّنَهُ مِنَ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ وَنَقَضَ فِعْلَ الْقَيِّمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا ادَّعَاهُ الْمُفِيقُ ظَاهِرًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَيِّمِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا فَعَلَهُ إِلاَّ أَنْ يُقِيمَ الْمُفِيقُ بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


125-موسوعة الفقه الكويتية (خيار العيب 2)

خِيَارُ الْعَيْبِ -2

أَقْسَامُ وَأَحْكَامُ الْبَرَاءَةِ:

23- تَنْقَسِمُ الْبَرَاءَةُ أَوَّلًا إِلَى نَوْعَيْنِ: خَاصَّةٍ، مِنْ عَيْبٍ مُعَيَّنٍ مُسَمًّى، وَعَامَّةٍ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ- أَوْ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ- وَلَا أَثَرَ لِهَذَا التَّقْسِيمِ فِي الْحُكْمِ غَيْرُ أَثَرِ الشُّمُولِ لِكُلِّ عَيْبٍ أَوِ الِاخْتِصَاصِ بِالْعَيْبِ الْمُسَمَّى.عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ مَنَعَ الْعَامَّةَ لِأَنَّهَا تَشْمَلُ الْعَيْبَ الَّذِي يَحْدُثُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَلَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ، فِي حِينِ أَجَازَهَا الْآخَرُونَ وَحَمَلُوهَا عَلَى مَا يَرَوْنَهُ جَائِزًا: دُخُولُ الْحَادِثِ أَوْ عَدَمُهُ.

24- لَكِنَّ لِلْبَرَاءَةِ تَقْسِيمًا آخَرَ ذَا أَثَرٍ كَبِيرٍ وَهُوَ أَنَّهَا: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً بِالْعَيْبِ الْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَإِمَّا أَنْ تَصْدُرَ مُضَافَةً إِلَى الْعَيْبِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ مَعَ الْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَإِمَّا أَنْ تَرِدَ مُطْلَقَةً لَا مُقَيَّدَةً وَلَا مُضَافَةً.

أ- فَإِذَا كَانَ اشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ فِي صُورَةِ الْقَيْدِ بِالْعَيْبِ- أَوِ الْعُيُوبِ- الْمَوْجُودَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ يُسْتَفَادُ مِنْ عِبَارَةِ: «عَلَى أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِهِ»، أَوْ «مِنْ عَيْبِ كَذَا بِهِ»، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْبَرَاءَةَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ وَنَحْوِهَا لَا تَتَنَاوَلُ إِلاَّ مَا كَانَ قَائِمًا وَقْتَ الْعَقْدِ، دُونَ مَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ إِلَى حِينِ التَّسَلُّمِ.وَلَا فَرْقَ بَيْنَ صُدُورِ الْبَرَاءَةِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ أَوِ الْخُصُوصِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُقَيَّدَ بِوَصْفٍ لَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَ الْمَوْصُوفِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ.

ب- إِذَا كَانَ اشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ فِيهِ إِضَافَةٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ، بِأَنْ كَانَتْ صَرِيحَةً بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْعَيْبِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الِاشْتِرَاطُ، وَالْعَقْد مَعَهُ فَاسِدٌ، أَمَّا عَدَمُ صِحَّةِ الشَّرْطِ فَلِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ (وَلَا التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ) فَهُوَ- وَإِنْ كَانَ إِسْقَاطًا- فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ الِارْتِدَادَ بِالرَّدِّ.وَأَمَّا فَسَادُ الْعَقْدِ، فَلِأَنَّهُ بَيْعٌ أُدْخِلَ فِيهِ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَيَفْسُدُ.وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ شَامِلٌ لِمَا لَوْ نَصَّ عَلَى الْعَيْبِ الْكَائِنِ وَالْحَادِثِ، أَوْ أَفْرَدَ الْحَادِثَ بِالذِّكْرِ، وَالْأَخِيرُ أَوْلَى بِالْفَسَادِ.

ج- إِذَا كَانَ اشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ بِصُورَةِ الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْمُرَادِ أَهُوَ الْبَرَاءَةُ مِنَ الْعَيْبِ الْمَوْجُودِ أَمْ مِنْهُ وَمِنَ الْحَادِثِ (وَيَسْتَوِي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا أَنْ تَجِيءَ عَامَّةً: عَلَى أَنِّي بَرِيءٌ مِنَ الْعُيُوبِ، أَوْ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، أَوْ خَاصَّةً: مِنْ عَيْبِ كَذَا- وَسَمَّاهُ-) فَلِأَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ رَأْيَانِ فِي الْمُرَادِ بِهَا:

أَحَدُهَا: شُمُولُ الْبَرَاءَةِ لِمَا هُوَ قَائِمٌ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَمَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ إِلَى الْقَبْضِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا.

وَالرَّأْيُ الثَّانِي: اقْتِصَارُ الْبَرَاءَةِ عَلَى الْعُيُوبِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ، وَهُوَ قَوْلٌ لِأَبِي يُوسُفَ أَيْضًا.

الْعُقُودُ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الْعَيْبِ.

25- ذَكَرَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ يَثْبُتُ فِي الْعُقُودِ التَّالِيَةِ: الْبَيْعِ أَوِ الشِّرَاءِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْقِسْمَةِ، وَالصُّلْحِ عَنِ الْمَالِ، وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَفِي الْمَهْرِ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ.

1- أَمَّا ذِكْرُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَعًا فَلِمُرَاعَاةِ ظُهُورِ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ، فَيُذْكَرُ ثُبُوتُهُ فِي الشِّرَاءِ إِذَا لُوحِظَ كَوْنُ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ، وَإِذَا لُوحِظَ كَوْنُ الْعَيْبِ فِي الثَّمَنِ ذُكِرَ ثُبُوتُهُ فِي الْبَيْعِ، لَكِنَّهُمْ يُصَوِّرُونَهُ غَالِبًا فِي الشِّرَاءِ، وَأَنَّ الْعَيْبَ فِي الْمَبِيعِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الثَّمَنِ الِانْضِبَاطُ فَيَقِلُّ ظُهُورُ الْعَيْبِ فِيهِ.وَالْمُرَادُ مِنَ الْبَيْعِ (أَوِ الشِّرَاءِ) الصَّحِيحُ لَا الْفَاسِدُ، لِوُجُوبِ فَسْخِهِ بِدُونِ الْخِيَارِ.

وَيَشْمَلُ الْبَيْعُ عَقْدَ الصَّرْفِ، لِأَنَّ السَّلَامَةَ عَنِ الْعَيْبِ مَطْلُوبَةٌ عَادَةً فِيهِ، سَوَاءٌ- أَكَانَ بَدَلَ الصَّرْفِ مِنَ الْأَثْمَانِ كَالتِّبْرِ وَالنُّقْرَةِ، أَمِ الدُّيُونِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ، إِلاَّ أَنَّ بَدَلَ الصَّرْفِ إِذَا كَانَ عَيْنًا فَرَدُّهُ بِالْعَيْبِ يَفْسَخُ الْعَقْدَ سَوَاءٌ رَدَّهُ فِي الْمَجْلِسِ أَمْ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا نَقَدَ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا بِأَنْ وَجَدَ الدَّرَاهِمَ الْمَقْبُوضَةَ زُيُوفًا فَرَدَّهَا فِي الْمَجْلِسِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالرَّدِّ، حَتَّى لَوِ اسْتَبْدَلَ مَكَانَهُ مَضَى الصَّرْفُ، وَإِنْ رَدَّهَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ بَطَلَ الصَّرْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.

2- الْإِجَارَةُ: وَلَوْ حَدَثَ الْعَيْبُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، أَيْ يَثْبُتُ فِيهَا الْخِيَارُ سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَيْبُ قَدِيمًا أَمْ حَادِثًا.كَمَا أَنَّهُ يَنْفَرِدُ صَاحِبُ الْخِيَارِ بِالرَّدِّ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ.وَفِي الْبَيْعِ يَنْفَرِدُ قَبْلَهُ فَقَطْ.

3- الْقِسْمَةُ: فَإِذَا وَجَدَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ فِي نَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ عَيْبًا قَدِيمًا.كَانَ لَهُ الْخِيَارُ.

4- الصُّلْحُ عَنِ الْمَالِ.

5- الْمَهْرُ.

6- بَدَلُ الْخُلْعِ.

7- بَدَلُ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ.

وَهِيَ تُفَارِقُ مَا سَبَقَ مِنْ مَجَالِ خِيَارِ الْعَيْبِ، بِأَنَّ الرَّدَّ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ بِفَاحِشِ الْعَيْبِ لَا بِيَسِيرِهِ.

26- وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ الْعَقْدَ بِالنِّسْبَةِ لِكَوْنِهِ مَجَالًا لِخِيَارِ الْعَيْبِ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ:

1- مَا هُوَ مَجَالٌ لَهُ بِلَا خِلَافٍ، وَهُوَ الْعُقُودُ الْمَقْصُودُ بِهَا الْمُعَاوَضَةُ.

2- مَا لَيْسَ مَجَالًا لَهُ بِلَا خِلَافٍ، وَهُوَ الْعُقُودُ الَّتِي لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهَا الْمُعَاوَضَةَ.وَذَلِكَ مِثْلُ الْهِبَةِ لِغَيْرِ الْعِوَضِ، وَالصَّدَقَةِ.

3- مَا فِيهِ خِلَافٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ مَجَالًا لَهُ، وَهُوَ الْعُقُودُ الَّتِي جَمَعَتْ قَصْدَ الْمُكَارَمَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ مِثْلُ الْهِبَةِ بِقَصْدِ الْعِوَضِ.وَهَذَا الضَّابِطُ لِمَجَالِ خِيَارِ الْعَيْبِ تَشْهَدُ لَهُ تَفْرِيعَاتُ الْمَذَاهِبِ وَلَمْ نَجِدْ تَعْدَادًا لِلْعُقُودِ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ.

تَوْقِيتُ خِيَارِ الْعَيْبِ:

27- فِيهِ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:

الرَّأْيُ الْأَوَّلُ- أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ:

فَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ لِلْفَسْخِ وَإِلاَّ سَقَطَ.وَمُرَادُهُمْ مِنَ الْفَوْرِيَّةِ: الزَّمَنُ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ الْفَسْخُ بِحَسَبِ الْعَادَةِ.فَلَوْ عَلِمَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ وَلَمْ يَفْسَخْ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ وَلَا يَرْجِعُ بِأَرْشِ الْعَيْبِ.وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنْ تَعَدُّدِ الرِّوَايَةِ فِيهِ.وَهُوَ رَأْيٌ لَدَى الْحَنَفِيَّةِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْحَاوِي وَمُفَادُهُ: أَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ الْمَعِيبَ بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَيْبِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الرَّدِّ كَانَ رِضًا.وَقَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ عَنْ هَذَا الرَّأْيِ: إِنَّهُ غَرِيبٌ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي.

وَالْمُرَادُ مِنَ الْمُبَادَرَةِ الَّتِي يَسْقُطُ الْخِيَارُ بِتَرْكِهَا، أَنْ يُبَادِرَ عَلَى الْعَادَةِ.

وَلَوْ قَالَ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ الرَّدَّ عَلَى الْفَوْرِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ.

وَحَيْثُ بَطَلَ حَقُّ الرَّدِّ بِالتَّقْصِيرِ يَبْطُلُ حَقُّ الْأَرْشِ أَيْضًا وَلَا بُدَّ مِنْ يَمِينِهِ

قَالَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا: هَذَا فِي بَيْعِ الْأَعْيَانِ، بِخِلَافِ مَا فِي الذِّمَّةِ فَهُوَ عَلَى التَّرَاخِي لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا إِلاَّ بِالرِّضَا- وَلَوْ قَبَضَهُ- لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ.

وَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ الْفَوْرُ فِي طَلَبِ الْأَرْشِ.

وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِدَلِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ اللُّزُومُ ثُمَّ ثَبَتَ خِيَارُ الْعَيْبِ بِالْإِجْمَاعِ وَغَيْرِهِ، وَالْقَدْرُ الْمُحَقَّقُ مِنَ الْإِجْمَاعِ ثُبُوتُهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَالزَّائِدُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ إِجْمَاعٌ وَلَا نَصٌّ، فَيَكُونُ عَلَى مُقْتَضَى اللُّزُومِ تَقْلِيلًا لِمُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ مَا أَمْكَنَ، وَلِأَنَّ الضَّرَرَ الْمَشْرُوعَ لِأَجْلِ الْخِيَارِ يَنْدَفِعُ بِالْمُبَادَرَةِ، فَالتَّأْخِيرُ تَقْصِيرٌ، فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ اللُّزُومِ.

وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: الْقِيَاسُ عَلَى حَقِّ الشُّفْعَةِ لِوُرُودِ النَّصِّ فِيهَا وَكِلَاهُمَا خِيَارٌ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ لَا لِلتَّرَوِّي، بَلْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ.

الرَّأْيُ الثَّانِي- أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي:

28- فَلَا يَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ- عَلَى الْمُعْتَمَدِ- مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا.

وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ- عَلَى الْمُعْتَمَدِ- وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُصَحَّحَةِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَصَنِيعُ أَبِي الْخَطَّابِ مِنْهُمْ أَنَّهُ هُوَ الْمَذْهَبُ دُونَ أَنْ يُشِيرَ إِلَى تَعَدُّدِ الرِّوَايَةِ فِيهِ. وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي بِأَنَّهُ خِيَارٌ لِدَفْعِ ضَرَرٍ مُتَحَقَّقٍ، فَكَانَ عَلَى التَّرَاخِي، كَالْقِصَاصِ.وَلَمْ يُسَلِّمُوا بِدَلَالَةِ الْإِمْسَاكِ عَلَى الرِّضَا بِهِ.

الرَّأْيُ الثَّالِثُ: تَوْقِيتُهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ:

29- وَيَفْتَرِقُ الْحُكْمُ بِالرَّدِّ فَإِنْ حَصَلَ فِي يَوْمٍ فَأَقَلَّ لَمْ يَحْتَجْ لِرَدِّهِ إِلَى الْيَمِينِ، بِعَدَمِ حُصُولِ رِضَاهُ، وَإِنْ تَأَخَّرَ إِلَى يَوْمَيْنِ رَدَّهُ مَعَ الْيَمِينِ بِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ.

وَمُسْتَنَدُهُمْ كَالْمُسْتَنَدِ السَّابِقِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ جَعَلُوا مِنِ انْقِضَاءِ الْيَوْمِ أَوِ الْيَوْمَيْنِ بِلَا رَدٍّ دَلِيلًا عَلَى الرِّضَا.

أَثَرُ خِيَارِ الْعَيْبِ عَلَى حُكْمِ الْعَقْدِ:

30- إِنَّ وُجُودَ خِيَارِ الْعَيْبِ فِي الْعَقْدِ لَا أَثَرَ لَهُ عَلَى حُكْمِ الْعَقْدِ الَّذِي هُوَ انْتِقَالُ الْمِلْكِ، فَمِلْكُ الْمَبِيعِ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي حَالًا، وَمِلْكُ الثَّمَنِ يَنْتَقِلُ إِلَى الْبَائِعِ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ مُطْلَقٌ عَنِ الشَّرْطِ.وَالثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ شَرْطُ السَّلَامَةِ لَا شَرْطُ السَّبَبِ (كَمَا فِي خِيَارِ الشَّرْطِ) وَلَا شَرْطُ الْحُكْمِ (كَمَا فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ) وَأَثَرُ شَرْطِ السَّلَامَةِ يَقْتَصِرُ عَلَى مَنْعِ لُزُومِ الْعَقْدِ وَلَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَى مَنْعِ أَصْلِ حُكْمِ الْعَقْدِ.

صِفَةُ الْعَقْدِ مَعَ خِيَارِ الْعَيْبِ:

31- الْمِلْكُ مَعَ خِيَارِ الْعَيْبِ غَيْرُ لَازِمٍ، لِأَنَّ السَّلَامَةَ شَرْطٌ فِي الْعَقْدِ دَلَالَةً، فَمَا لَمْ يُسَلَّمِ الْمَبِيعُ، لَا يَلْزَمُ الْبَيْعُ فَلَا يَلْزَمُ حُكْمُهُ.وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْكَاسَانِيُّ لِكَوْنِ السَّلَامَةِ مَشْرُوطَةً فِي الْعَقْدِ دَلَالَةً بِأَنَّهَا فِي الْبَيْعِ مَطْلُوبَةُ الْمُشْتَرِي عَادَةً إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، لِأَنَّ غَرَضَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَبِيعِ، وَلَا يَتَكَامَلُ انْتِفَاعُهُ إِلاَّ بِقَيْدِ السَّلَامَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْ جَمِيعَ الثَّمَنِ إِلاَّ لِيُسَلَّمَ لَهُ جَمِيعُ الْمَبِيعِ، فَكَانَتِ السَّلَامَةُ مَشْرُوطَةً فِي الْعَقْدِ دَلَالَةً (فَكَانَتْ كَالْمَشْرُوطَةِ نَصًّا) فَإِذَا فَاتَتِ الْمُسَاوَاةُ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ.

- 32- وَلِلْفُقَهَاءِ اتِّجَاهَاتٌ ثَلَاثَةٌ فِي تَحْدِيدِ مَا يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ قِيَامِ خِيَارِ الْعَيْبِ:

1- التَّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ هُمَا الرَّدُّ، أَوِ الْإِمْسَاكُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ.وَبِعِبَارَةٍ أَوْضَحَ هِيَ: التَّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ اثْنَيْنِ: أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَيَرُدَّ الْمَبِيعَ الْمَعِيبَ وَيَسْتَرِدَّ الثَّمَنَ، أَوْ أَنْ يُمْضِيَ الْعَقْدَ وَيُمْسِكَ الْمَعِيبَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ دُونَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِالْأَرْشِ (نُقْصَانِ الْمَعِيبِ) فَعَلَى هَذَا الِاتِّجَاهِ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُمْسِكَ الْمَعِيبَ وَيَأْخُذَ الْأَرْشَ وَهُوَ نُقْصَانُ الْمَعِيبِ، إِلاَّ فِي حَالِ تَعَذُّرِ الرَّدِّ بِأَحَدِ الْمَوَانِعِ الَّتِي سَتَأْتِي، فَحِينَئِذٍ لَهُ الْإِمْسَاكُ مَعَ الْأَرْشِ لَكِنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْخُلْفِ عَنِ الرَّدِّ وَلَا يَثْبُتُ أَصَالَةً.

وَهَذَا الِاتِّجَاهُ هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.قَالَ الشِّيرَازِيُّ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ إِلاَّ بِمَبِيعٍ سَلِيمٍ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى إِمْسَاكِ مَعِيبٍ بِبَعْضِ الثَّمَنِ.وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: لَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي: أَنَا أُمْسِكُ الْمَعِيبَ وَآخُذُ النُّقْصَانَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أُمْسِكُ الْمَعِيبَ دَلَالَةُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ.وَقَالَ بَعْدَئِذٍ: لِأَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ بِالنُّقْصَانِ كَالْخُلْفِ عَنِ الرَّدِّ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إِلَى الْخُلْفِ.

2- التَّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ اثْنَيْنِ أَيْضًا، لَكِنَّهُمَا هُنَا: الرَّدُّ- كَمَا سَبَقَ- أَوِ الْإِمْسَاكُ مَعَ الْأَرْشِ وَلَوْ لَمْ يَتَعَذَّرِ الرَّدُّ وَسَوَاءٌ رَضِيَ الْبَائِعُ بِدَفْعِ الْأَرْشِ أَوْ سَخِطَ بِهِ.فَفِي هَذَا الِاتِّجَاهِ الْفِقْهِيِّ لَا مَكَانَ لِلْإِمْسَاكِ بِدُونِ أَرْشٍ بَلْ هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ.

وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ- وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ-.

وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مَا إِذَا كَانَ الْإِمْسَاكُ مَعَ الْأَرْشِ يُؤَدِّي إِلَى الرِّبَا، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الرَّدِّ أَوِ الْإِمْسَاكِ مَجَّانًا، وَمِثَالُهُ: شِرَاءُ حُلِيٍّ فِضَّةٍ بِزِنَتِهِ دَرَاهِمَ فِضَّةً، وَشِرَاءُ قَفِيزٍ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا، إِذَا اشْتَرَاهُ بِمِثْلِهِ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَعِيبًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَخْذَ الْأَرْشِ يُؤَدِّي إِلَى رِبَا الْفَضْلِ، أَوْ إِلَى مَسْأَلَةِ (مُدِّ عَجْوَةٍ).

وَسَبَبُ الْخِلَافِ النَّظَرُ إِلَى نَقْصِ الْعَيْبِ، هَلْ هُوَ نَقْصُ أَصْلٍ أَوْ نَقْصُ وَصْفٍ؟ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الْعَيْبِ الْكَثِيرِ) هُوَ نَقْصُ وَصْفٍ وَلِذَا يُخَيَّرُ بَيْنَ الرَّدِّ وَالْإِمْسَاكِ بِدُونِ شَيْءٍ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ هُوَ نَقْصُ أَصْلٍ، وَلِذَا يُخَيَّرُ بَيْنَ الرَّدِّ وَالْإِمْسَاكِ مَعَ الرُّجُوعِ بِالنُّقْصَانِ.

3- التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْعَيْبِ الْكَثِيرِ، وَالْعَيْبِ الْيَسِيرِ- وَيُسَمُّونَهُ غَالِبًا: الْقَلِيلَ الْمُتَوَسِّطَ- (بَعْدَ إِخْرَاجِ الْعَيْبِ الْقَلِيلِ جِدًّا الَّذِي لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ الْمَبِيعُ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ كَمَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْجَدُّ).

فَفِي الْعَيْبِ الْكَثِيرِ- وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ حَدِّهِ، وَأَنَّ الرَّاجِحَ فِي تَقْدِيرِهِ عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ: عَشَرَةٌ فِي الْمِائَةِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ: الثُّلُثُ- لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (أَصْحَابِ الِاتِّجَاهِ الْأَوَّلِ) يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الرَّدِّ وَالْإِمْسَاكِ مَجَّانًا، بِلَا أَرْشٍ، وَهَذَا الْحُكْمُ فِي الْعَيْبِ الْكَثِيرِ سَمَّاهُ ابْنُ جُزَيٍّ: (عَيْبَ رَدٍّ). أَمَّا فِي الْعَيْبِ الْمُتَوَسِّطِ فَالْمَشْهُورُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأُصُولِ (الْعَقَارَاتِ مِنْ دُورٍ وَنَحْوِهَا) وَبَيْنَ الْعُرُوضِ (وَهِيَ مَا عَدَا الْعَقَارِ):

فَفِي الْعَقَارَاتِ لَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي الرَّدُّ بِهَذَا الْعَيْبِ الْمُتَوَسِّطِ بَلْ لَهُ الرُّجُوعُ بِالْأَرْشِ.

أَمَّا فِي الْعُرُوضِ، فَظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا الرَّدُّ سَوَاءٌ كَانَ الْعَيْبُ مُتَوَسِّطًا أَوْ كَثِيرًا.وَقِيلَ: إِنَّ الْعُرُوضَ كَالْأُصُولِ لَا يَجِبُ الرَّدُّ فِي الْعَيْبِ الْمُتَوَسِّطِ وَإِنَّمَا فِيهِ الرُّجُوعُ بِالْقِيمَةِ.

وَذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ الْجَدُّ أَنَّ شَيْخَهُ الْفَقِيهَ أَبَا بَكْرِ بْنَ رِزْقٍ كَانَ يَحْمِلُ ظَاهِرَ الرِّوَايَاتِ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْعُرُوضِ وَالْأُصُولِ فِي أَنَّ حُكْمَهَا الرُّجُوعُ بِالْقِيمَةِ إِذَا كَانَ الْعَيْبُ مُتَوَسِّطًا، وَأَشَارَ ابْنُ رُشْدٍ إِلَى أَنَّ لِتَأْوِيلِهِ هَذَا مَا يُؤَيِّدُهُ مِنْ رِوَايَةِ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الثِّيَابِ.وَلَعَلَّهُ اسْتِنَادًا لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ كَانَ بَعْضُ شُيُوخِ ابْنِ يُونُسَ يَرَوْنَ أَنَّ الثِّيَابَ فِي ذَلِكَ كَالدُّورِ.

الرَّدُّ وَشَرَائِطُهُ

33- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْفَسْخِ أَوِ الرَّدِّ مَا يَلِي:

1- قِيَامُ الْخِيَارِ، وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ يَقْتَضِيهَا أَنَّ الْفَسْخَ فِي الْخِيَارِ إِنَّمَا هُوَ لِأَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ لَازِمٍ، فَإِذَا سَقَطَ الْخِيَارُ لَزِمَ الْعَقْدُ، وَالْعَقْدُ اللاَّزِمُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ.

2- أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ مَقْبُوضًا:

وَالْمُرَادُ أَنْ لَا يَلْحَقَ بِالْمَبِيعِ عَيْبٌ زَائِدٌ عَنِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ، فَكَمَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ غَيْرَ مَعِيبٍ بِعَيْبٍ زَائِدٍ كَعَيْبِ الشَّرِكَةِ النَّاشِئِ عَنْ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ، أَوِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ.

3- أَنْ لَا يَتَضَمَّنَ الْفَسْخُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ:

وَهُوَ مَا قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ كُلِّهِ، لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّفْرِيقِ مِنْ عُيُوبٍ، أَحَدُهَا عَيْبُ الشَّرِكَةِ كَمَا سَيَأْتِي.قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَهَذَا الْمَنْعُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَرْضَ الْبَائِعُ، إِذْ لَوْ رَضِيَ لَجَازَ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ ضَرَرٌ مَرْضِيٌّ مِنْ جِهَتِهِ لَا يَجِبُ دَفْعُهُ عَنْهُ وَفِي هَذَا يَقُولُ ابْنُ حَجَرٍ: إِذَا اتَّحَدَ الْمَبِيعُ صَفْقَةً لَا يَرُدُّ الْمُشْتَرِي بَعْضَهُ بِعَيْبٍ قَهْرًا، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْبَعْضُ الْآخَرُ لِلْبَائِعِ فَحِينَئِذٍ يَرُدُّ عَلَيْهِ الْبَعْضَ قَهْرًا، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ مِنَ الْقَاضِي وَمَنْ تَبِعَهُ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ الصَّحِيحَةَ فِي امْتِنَاعِ رَدِّ الْبَعْضِ إِنَّمَا هِيَ الضَّرَرُ النَّاشِئُ مِنْ تَبْعِيضِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ..وَالتَّعْلِيلُ بِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ وَتَفْرِيقِهَا بِمُجَرَّدِهِ لَا يَصْلُحُ لِلتَّعْلِيلِ، وَإِنَّمَا وَجْهُ الْعِلَّةِ مَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ غَالِبًا فَآلَتِ الْعِلَّتَانِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ انْتِفَاءُ الضَّرَرِ).

34- وَتَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ كُلِّهِ لَا يَجُوزُ مَهْمَا كَانَ الْمَبِيعُ، سَوَاءٌ كَانَ شَيْئًا وَاحِدًا كَالثَّوْبِ، وَالدَّارِ، أَوِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فِي وِعَاءٍ أَوْ أَوْعِيَةٍ، أَوْ كَانَ شَيْئَيْنِ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا كَالثَّوْبَيْنِ وَالدَّارَيْنِ، أَمْ شَيْئَيْنِ حَقِيقَةً شَيْئًا وَاحِدًا تَقْدِيرًا كَمِصْرَاعَيْ بَابٍ.وَدَلِيلُ عَدَمِ جَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ قَبْلَ تَمَامِهَا مَا يَلْحَقُ بِالْبَائِعِ مِنْ ضَرَرٍ يَجِبُ دَفْعُهُ مَا أَمْكَنَ، وَالضَّرَرُ هُوَ إِلْزَامُ الْبَائِعِ بِالشَّرِكَةِ، وَالشَّرِكَةُ فِي الْأَعْيَانِ عَيْبٌ.هَذَا فِي تَفْرِيقِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ أَشْيَاءَ فَفِيهِ ضَرَرٌ آخَرُ وَهُوَ لُزُومُ الْبَيْعِ فِي الْجَيِّدِ بِثَمَنِ الرَّدِيءِ لِأَنَّ ضَمَّ الرَّدِيءِ إِلَى الْجَيِّدِ وَالْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي الصَّفْقَةِ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ تَرْوِيجًا لِلرَّدِيءِ بِوَسَاطَةِ الْجَيِّدِ.

وَأَمَّا اعْتِبَارُ قَبْضِ الْبَعْضِ بِمَثَابَةِ عَدَمِ الْقَبْضِ فَلِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَتِمُّ إِلاَّ بِقَبْضِ جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ- وَسَوَاءٌ وُجِدَ الْعَيْبُ فِي الْمَقْبُوضِ أَوْ فِي غَيْرِهِ- وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْعَيْبُ فِي الْمَقْبُوضِ فَلَهُ رَدُّهُ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ.

وَفِي تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ يَفْصِلُ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ بَقَاءِ السَّالِمِ (غَيْرِ الْمَعِيبِ) وَفَوَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ فَائِتًا فَلَهُ رَدُّ الْمَعِيبِ مُطْلَقًا وَأَخْذُ حِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّ الْجَمِيعَ هُنَا رَدَّ قِيمَةَ الْهَالِكِ عَيْنًا وَرَجَعَ فِي عَيْنٍ وَهُوَ الثَّمَنُ لِلْعَيْنِ وَقِيمَةُ الْعَرْضِ الَّذِي قَدْ فَاتَ عِنْدَ الْبَائِعِ، وَرَدُّ الْعَيْنِ وَالرُّجُوعُ فِيهَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ بَاقِيًا فَلَهُ رَدُّ الْبَعْضِ بِحِصَّتِهِ بِشَرِيطَتَيْنِ:

1- أَنْ لَا يَكُونَ الْمَعِيبُ هُوَ الْأَكْثَرُ مِنَ النِّصْفِ وَلَوْ بِيَسِيرٍ، فَلَيْسَ لَهُ رَدُّهُ بِحِصَّتِهِ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَتَمَاسَكَ بِالْجَمِيعِ أَوْ يَرُدَّ الْجَمِيعَ، أَوْ يَتَمَاسَكَ بِالْبَعْضِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ.

2- أَنْ لَا يَكُونَ الْمَعِيبُ وَجْهَ الصَّفْقَةِ فَلَيْسَ لِلْمُبْتَاعِ إِلاَّ رَدُّ الْجَمِيعِ أَوِ الرِّضَا بِالْجَمِيعِ.

وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ أَحَدَ مُزْدَوَجَيْنِ. وَلَمْ يُصَوِّرَ الْمَالِكِيَّةُ التَّفَرُّقَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ لِاعْتِبَارِهِمْ ذَلِكَ مِنَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ (الْمُتَوَسِّطِ) وَحُكْمُهُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَأَخْذِ أَرْشِ الْقَدِيمِ، أَوِ الرَّدِّ وَدَفْعِ أَرْشِ الْحَادِثِ مَا لَمْ يَقْبَلْهُ الْبَائِعُ بِالْحَادِثِ.

35- وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ تَفَرُّقَ الصَّفْقَةِ مَانِعٌ مِنَ الرَّدِّ قَطْعًا إِذَا كَانَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَفِي الشَّيْئَيْنِ مِمَّا يُنْقِصُهُمَا التَّفْرِيقُ، أَوْ مِمَّا لَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، دَفْعًا لِضَرَرِ الْبَائِعِ.أَمَّا إِذَا كَانَا شَيْئَيْنِ مِمَّا لَا يَنْقُصُ بِالتَّفْرِيقِ وَمَا كَانَ فِي وِعَاءَيْنِ فَهُوَ كَشَيْئَيْنِ عِنْدَهُمْ وَوَجَدَهُمَا مَبِيعَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ رَدُّ أَحَدِهِمَا عَلَى الصَّحِيحِ.قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ: وَهُوَ الصَّوَابُ.فَإِنْ وَجَدَ بِأَحَدِهَا عَيْبًا فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ رَدُّ الْمَعِيبِ فَقَطْ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُخْتَارَةِ مِنْ ثَلَاثِ رِوَايَاتٍ.

وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ لَا يَرُدُّ الْمُشْتَرِي بَعْضَ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ، وَإِنْ زَالَ الْبَاقِي عَنْ مِلْكِهِ وَانْتَقَلَ لِلْبَائِعِ، عَلَى مَا جَزَمَ بِهِ الْمُتَوَلِّي وَالسُّبْكِيُّ وَالْبَغَوِيُّ، لِأَنَّهُ وَقْتَ الرَّدِّ لَمْ يَرُدَّ كَمَا تَمَلَّكَ.وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنُ: إِنَّ لَهُ الرَّدَّ إِذْ لَيْسَ فِيهِ تَبْعِيضٌ عَلَى الْبَائِعِ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ كَانَا شَيْئَيْنِ تَتَّصِلُ مَنْفَعَةُ أَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ.أَمَّا الشَّيْئَانِ مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ- سَوَاءٌ كَانَا مَعِيبَيْنِ أَوْ ظَهَرَ الْعَيْبُ بِأَحَدِهِمَا- فَلَيْسَ لَهُ رَدُّ أَحَدِهِمَا بَلْ يَرُدُّهُمَا.وَيُفَرِّقُ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ تَعَدُّدِ الصَّفْقَةِ وَتَفَرُّدِهَا.

فَإِنْ تَعَدَّدَتِ الصَّفْقَةُ (وَذَلِكَ بِتَعَدُّدِ الْبَائِعِ أَوْ تَعَدُّدِ الْمُشْتَرِي، أَوْ تَفْصِيلِ الثَّمَنِ) فَلَهُ رَدُّ أَحَدِهِمَا فِي الْأَظْهَرِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ.أَمَّا إِنْ تَفَرَّدَتْ (بِعَدَمِ تَوَافُرِ شَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ تَعَدُّدِهَا) فَلَيْسَ لَهُ رَدُّ الْبَعْضِ.

تَفَرُّقُ الصَّفْقَةِ بِتَعَدُّدِ الْعَاقِدِ:

36- تَفَرُّقُ الصَّفْقَةِ لَا تَنْحَصِرُ صُوَرُهُ فِي مَحَلِّ الْعَقْدِ، بَلْ قَدْ يَنْشَأُ عَنْ تَعَدُّدِ الْعَاقِدِ.كَمَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي رَجُلَيْنِ اشْتَرَيَا شَيْئًا وَاحِدًا وَاطَّلَعَا عَلَى عَيْبٍ بِالْمَبِيعِ، فَإِنَّهُ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ دُونَ صَاحِبِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَنْفَرِدُ.

وَحُجَّةُ الصَّاحِبَيْنِ أَنَّهُ رَدَّ الْمُشْتَرِي كَمَا اشْتَرَاهُ، فَالرَّدُّ صَالِحٌ فِي النِّصْفِ لِأَنَّهُ مُشْتَرٍ نِصْفَهُ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الرَّدَّ لَمْ يُوجَدْ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ مَقْبُوضًا لِأَنَّهُ قَبَضَهُ غَيْرَ مَعِيبٍ بِعَيْبٍ زَائِدٍ- وَهُوَ هُنَا عَيْبُ الشَّرِكَةِ- فَلَا يَصِحُّ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْبَائِعِ. وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ قُدَامَةَ مَذْهَبَ الْحَنَابِلَةِ وَمُوَافَقَتَهُ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَوِ اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ شَيْئًا فَوَجَدَهُ مَعِيبًا فَلَهُ رَدُّهُ عَلَيْهِمَا فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا رَدَّ عَلَى الْحَاضِرِ حِصَّتَهُ بِقِسْطِهَا مِنَ الثَّمَنِ وَيَبْقَى نَصِيبُ الْغَائِبِ فِي يَدِهِ حَتَّى يَقْدَمَ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا بَاعَ الْعَيْنَ كُلَّهَا بِوَكَالَةِ الْآخَرِ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَاضِرُ الْوَكِيلَ أَمِ الْمُوَكِّلَ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى قَرِيبٍ مِنْ هَذَا، فَإِنْ أَرَادَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا وَإِمْسَاكَ نَصِيبِ الْآخَرِ جَازَ لِأَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى الْبَائِعِ جَمِيعَ مَا بَاعَهُ، وَلَا يَحْصُلُ بِرَدِّهِ تَشْقِيصٌ، لِأَنَّ الْمَبِيعَ كَانَ مُشَقَّصًا فِي الْبَيْعِ.

4- عِلْمُ الْعَاقِدِ الْآخَرِ بِالْفَسْخِ:

37- فَلَوْ فَسَخَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ، وَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْ فَسْخِهِ وَكَانَ ذَلِكَ الْفَسْخُ مَوْقُوفًا.

إِنْ عَلِمَ بِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ نَفَذَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى مَضَتِ الْمُدَّةُ كَانَ ذَلِكَ إِجَازَةً لِلْعَقْدِ.

وَيُعَبِّرُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَنْ شَرِيطَةِ الْعِلْمِ هَذِهِ بِقَوْلِهِمْ: أَنْ يُجِيزَ- أَوْ يَفْسَخَ- فِي حَضْرَةِ صَاحِبِهِ، وَهُمْ مُجْمِعُونَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْحَضْرَةِ الْعِلْمُ وَلَيْسَ الْحُضُورَ.

وَاشْتِرَاطُ الْعِلْمِ لِلْفَسْخِ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ.سَوَاءٌ أَكَانَ الرَّدُّ قَبْلَ الْقَبْضِ أَمْ بَعْدَهُ.

وَلَيْسَ الْعِلْمُ بِمُشْتَرَطٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى رِضَا الْبَائِعِ وَحُضُورِهِ (وَلَا حُكْمِ حَاكِمٍ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَا بَعْدَهُ).وَلَمْ نَجِدْ لِلْمَالِكِيَّةِ كَلَامًا فِي هَذَا، وَالْحَنَفِيَّةُ لَا يَشْتَرِطُونَ لِلرَّدِّ قَبْلَ الْقَبْضِ الْقَضَاءَ أَوِ التَّرَاضِي، أَمَّا إِذَا كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ عِنْدَ رَفْعِ الْعَقْدِ لِحُضُورِ مَنْ لَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ فِيهِ.

وَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَهُوَ رَفْعٌ لِعَقْدٍ مُسْتَحَقٍّ لَهُ بِالْعَيْبِ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ رِضَا الْبَائِعِ نَظِيرَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ.

كَيْفِيَّةُ الرَّدِّ:

38- الرَّدُّ إِمَّا أَنْ يَتِمَّ بِمَحْضِ إِرَادَةِ صَاحِبِ الْخِيَارِ، وَإِمَّا أَنْ يُشْتَرَطَ لِحُصُولِهِ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- وُجُودُ التَّرَاضِي بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ أَوِ التَّرَافُعُ لِلْقَضَاءِ.وَذَلِكَ يَتْبَعُ حَالَ الصَّفْقَةِ مِنْ حَيْثُ التَّمَامُ وَعَدَمُهُ.وَتَمَامُهَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْقَبْضِ، فَإِذَا لَمْ تَتِمَّ الصَّفْقَةُ لَا يُشْتَرَطُ التَّرَاضِي أَوِ التَّقَاضِي.قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لِأَنَّ الصَّفْقَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَيْسَتْ تَامَّةً بَلْ تَمَامُهَا بِالْقَبْضِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ كَأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِهِ.

أَمَّا إِذَا كَانَتِ الصَّفْقَةُ قَدْ تَمَّتْ، فَالرَّدُّ لَا يَكُونُ مُجَرَّدَ نَقْضٍ وَانْفِسَاخٍ تَكْفِي فِيهِ إِرَادَةُ صَاحِبِ الْخِيَارِ، بَلْ هُوَ فَسْخٌ لِصَفْقَةٍ تَمَّتْ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّرَاضِي أَوِ التَّقَاضِي، وَيُعَلِّلُ الْكَاسَانِيُّ ذَلِكَ بِأَنَّ الصَّفْقَةَ قَدْ تَمَّتْ بِالْقَبْضِ فَلَا تَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ بِنَفْسِ الرَّدِّ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةِ الْقَضَاءِ أَوِ الرِّضَا.وَبِعِبَارَةِ السَّرَخْسِيِّ: «الْفَسْخُ بَعْدَ تَمَامِ الصَّفْقَةِ نَظِيرُ الْإِقَالَةِ، وَهِيَ لَا تَتِمُّ إِلاَّ بِاتِّفَاقِ الْعَاقِدَيْنِ» وَلَا فَرْقَ فِي الرَّدِّ بَيْنَ وُقُوعِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ فَسْخٍ فَلَا تُفْتَقَرُ صِحَّتُهُ إِلَى الْقَضَاءِ وَلَا لِلرِّضَا، كَالْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ (بِالْإِجْمَاعِ) وَكَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَذَا بَعْدَهُ.وَلِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ عِنْدَهُمْ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ، فَلَمْ يَتَفَاوَتِ الرَّدُّ.

صِيغَةُ الْفَسْخِ وَإِجْرَاءَاتُهُ:

39- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- كَمَا ذَكَرْنَا- إِلَى أَنَّ الْفَسْخَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَحْصُلُ بِالْإِرَادَةِ الْمُنْفَرِدَةِ وَالْمُرَادُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي رَدَدْتُ أَوْ فَسَخْتُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ.أَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا بُدَّ مِنَ الِاتِّفَاقِ بِأَنْ يَفْسَخَ صَاحِبُ الْخِيَارِ وَيَقْبَلَ الْعَاقِدُ الْآخَرُ أَوْ يَتَقَاضَيَانِ.قَالَ الْكَاسَانِيُّ (لِأَنَّ الْفَسْخَ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ الْعَقْدَ، ثُمَّ الْعَقْدُ لَا يَنْعَقِدُ بِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَلَا يَنْفَسِخُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ رِضَا الْآخَرِ.أَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ فَالصَّفْقَةُ لَمْ تَتِمَّ، فَكَانَ مِنَ السَّهْلِ الرَّدُّ لِأَنَّهُ كَالِامْتِنَاعِ مِنَ الْقَبْضِ، وَهُوَ تَصَرُّفُ دَفْعٍ وَامْتِنَاعٍ وَذَلِكَ خَالِصُ حَقِّهِ).

أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَالْفَسْخُ يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي مَهْمَا كَانَتِ الْكَيْفِيَّةُ: فِي حُضُورِ الْبَائِعِ أَوْ غَيْبَتِهِ، بِرِضَاهُ أَوْ عَدَمِهِ، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْحَاكِمِ وَلَكِنْ نَظَرًا لِذَهَابِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ يَثْبُتُ عَلَى الْفَوْرِ، لَا التَّرَاخِي، وَأَنَّهُ تَجِبُ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الْفَسْخِ وَإِلاَّ سَقَطَ، فَقَدِ احْتِيجَ إِلَى الْقِيَامِ بِبَعْضِ الْإِجْرَاءَاتِ دُونَ أَنْ تَخْتَصَّ صُورَةٌ مِنْهَا بِالْوُجُوبِ، بَلْ يُجْزِئُ عَنْهَا مَا يُؤَدِّي الْمُرَادَ وَهُوَ إِثْبَاتُ مُبَادَرَتِهِ لِلْفَسْخِ.

وَخُلَاصَةُ هَذِهِ الْإِجْرَاءَاتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْخَصْمِ وَالْحَاكِمِ بِالْبَلَدِ وَجَبَ الذَّهَابُ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَإِنْ أَخَّرَ سَقَطَ حَقُّهُ وَإِنْ فَسَخَ، وَلَكِنْ هُنَاكَ صُورَةٌ بَدِيلَةٌ عَنِ الذَّهَابِ إِلَى الْبَائِعِ أَوِ الْحَاكِمِ، وَهِيَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الْفَسْخِ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الذَّهَابُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلاَّ لِلتَّسْلِيمِ وَفَصْلِ الْخُصُومَةِ، عَلَى مَا حَقَّقَهُ السُّبْكِيُّ خِلَافًا لِمَا تُوهِمُهُ بَعْضُ عِبَارَاتِ الْمُتُونِ.

طَبِيعَةُ الرَّدِّ، وَآثَارُهَا فِي تَعَاقُبِ الْبَيْعِ

40- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الرَّدُّ بِالتَّرَاضِي بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَهُوَ فَسْخٌ فِي حَقِّهِمَا بَيْعٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، وَذَلِكَ فِي الرَّدِّ بَعْدَ الْقَبْضِ (أَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ فَهُوَ رَدٌّ بِإِرَادَةٍ مُنْفَرِدَةٍ) وَإِذَا كَانَ الرَّدُّ بِالْقَضَاءِ كَانَ فَسْخًا فِي حَقِّهِمَا وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمَا.أَمَّا عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ فَالْفَسْخُ رَفْعٌ لِلْعَقْدِ مِنْ أَصْلِهِ مُطْلَقًا.

وَيَظْهَرُ أَثَرُ هَذِهِ الطَّبِيعَةِ فِي حَالِ تَعَاقُبِ بَيْعَيْنِ عَلَى الْمَعِيبِ بِعَيْبٍ قَدِيمٍ، حَيْثُ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَبُولُ الرَّدِّ مِنَ الْبَائِعِ الثَّانِي حَصَلَ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِالْقَضَاءِ، فَإِنْ تَمَّ بِالْقَضَاءِ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّ الْعَيْبَ كَانَ عِنْدَهُ بَعْدَمَا أَنْكَرَ الْعَيْبَ.أَوْ بِنُكُولِهِ عَنِ الْيَمِينِ عَلَى الْعَيْبِ، أَوْ بِإِقْرَارِهِ بِالْعَيْبِ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ، وَالْمَقْصُودُ صُدُورُ إِقْرَارٍ مِنْهُ ثُمَّ إِنْكَارُهُ، فَيُقِيمُ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ الْإِقْرَارِ (أَمَّا الْإِقْرَارُ الْمُبْتَدَأُ فَلَا حَاجَةَ مَعَهُ إِلَى الْقَضَاءِ أَصْلًا) فَفِي هَذِهِ الْحَالِ لِلْبَائِعِ الثَّانِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ الْأَوَّلِ فَيُخَاصِمَهُ وَيَفْعَلَ الْإِجْرَاءَاتِ الْوَاجِبَةَ لِرَدِّهِ عَلَيْهِ.

وَإِنْ كَانَ قَبُولُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ لِلرَّدِّ بِغَيْرِ الْقَضَاءِ بَلْ بِرِضَاهُ فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ عَلَى بَائِعِهِ، لِأَنَّ الرَّدَّ بِالتَّرَاضِي بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ- أَوْ كَمَا يُعَبِّرُونَ: فِي حَقِّ الثَّالِثِ- وَالْبَائِعُ الْأَوَّلُ هُنَا غَيْرُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ وَالْمُشْتَرِي الثَّانِي، كَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ اشْتَرَاهُ مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، وَفِي هَذِهِ الْحَالِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ.

وَلِأَنَّهُ إِذَا قَبِلَهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَقَدْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ فَلَا يَرُدُّهُ عَلَى بَائِعِهِ الْأَوَّلِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُمَا بِالتَّرَاضِي عَلَى الرَّدِّ فَعَلَا عَيْنَ مَا يَفْعَلُهُ الْقَاضِي، لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ فِي هَذَا هُوَ الْمُطَالَبَةُ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْعَيْبِ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَى الرَّدِّ لِلْعَجْزِ، فَإِذَا نَقَلَاهُ إِلَى الرَّدِّ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، أَلَا يُرَى أَنَّ الرَّدَّ إِذَا امْتَنَعَ وَجَبَ الرُّجُوعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ.

41- هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا كَانَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بَعْدَ قَبْضِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ قَبْلَ قَبْضِهِ فَلِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ سَوَاءٌ كَانَ بِقَضَاءٍ أَمْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ- كَمَا لَوْ بَاعَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ لِلْمُشْتَرِي الثَّانِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ- أَوْ بَيْعًا فِيهِ خِيَارُ رُؤْيَةٍ فَإِنَّهُ إِذَا فَسَخَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِحُكْمِ الْخِيَارِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَرُدَّهُ مُطْلَقًا.قَالَ فِي الْإِيضَاحِ: (الْفِقْهُ فِيهِ أَنَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْقَبْضِ عِنْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَيْبِ، فَكَانَ هَذَا تَصَرُّفُ دَفْعٍ وَامْتِنَاعٍ مِنَ الْقَبْضِ، وَوِلَايَةُ الدَّفْعِ عَامَّةٌ فَظَهَرَ أَثَرُهُ فِي حَقِّ الْكُلِّ وَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ).

وَتَعَرَّضَ ابْنُ قُدَامَةَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَذَكَرَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ إِنْ عَادَ الْمَعِيبُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُشْتَرِي (الثَّانِي) فَأَرَادَ رَدَّهُ بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ حِينَ بَاعَهُ عَالِمًا بِالْعَيْبِ، أَوْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ فَلَيْسَ لَهُ رَدُّهُ، لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ رِضًا بِالْعَيْبِ.وَإِلاَّ كَانَ لَهُ رَدُّهُ..سَوَاءٌ رَجَعَ إِلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ أَوْ بِإِقَالَةٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ شِرَاءٍ ثَانٍ، أَوْ مِيرَاثٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


126-موسوعة الفقه الكويتية (داخل)

دَاخِلٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الدَّاخِلُ فِي اللُّغَةِ: فَاعِلٌ مِنْ دَخَلَ الشَّيْءُ دُخُولًا، وَدَاخِلُ الشَّيْءِ خِلَافُ خَارِجِهِ، وَدَخَلْتُ الدَّارَ وَنَحْوَهَا دُخُولًا صِرْتَ دَاخِلَهَا، فَهِيَ حَاوِيَةٌ لَكَ.

وَالْمُرَادُ بِالدَّاخِلِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ: وَاضِعُ الْيَدِ عَلَى الْعَيْنِ، وَيُعَبِّرُ عَنْهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِذِي الْيَدِ، وَصَاحِبِ الْيَدِ، وَالْحَائِزِ.يَقُولُ الْبَعْلِيُّ الْحَنْبَلِيُّ: الدَّاخِلُ: مِنَ الْعَيْنِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا فِي يَدِهِ.

وَجَاءَ فِي الْمَجَلَّةِ فِي تَعْرِيفِ ذِي الْيَدِ: (هُوَ الَّذِي وَضَعَ يَدَهُ عَلَى عَيْنٍ بِالْفِعْلِ، أَوِ الَّذِي ثَبَتَ تَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ).

وَيَسْتَعْمِلُ الْفُقَهَاءُ (الدَّاخِلَ) بِالْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْخَارِجُ:

2- الْخَارِجُ خِلَافُ الدَّاخِلِ.وَيُرَادُ بِهِ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ مَنْ لَا شَيْءَ فِي يَدِهِ، بَلْ جَاءَ مِنَ الْخَارِجِ، وَيُنَازِعُ الدَّاخِلَ (ذَا الْيَدِ).فَهُوَ الْبَرِيءُ عَنْ وَضْعِ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ بِالْوَجْهِ الْمَذْكُورِ.

وَيَكْثُرُ اسْتِعْمَالُ كَلِمَتَيِ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي مَبَاحِثِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ.

وَإِذَا تَمَيَّزَ الدَّاخِلُ عَنِ الْخَارِجِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ يَتَمَيَّزُ الْمُدَّعِي عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَالْخَارِجُ هُوَ الْمُدَّعِي، وَالدَّاخِلُ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الدَّعْوَى، لِأَنَّ الدَّاخِلَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الدَّعْوَى لِوُجُودِ الْعَيْنِ فِي يَدِهِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:

3- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي الدَّعَاوَى وَتَرْجِيحِ الْبَيِّنَاتِ صُوَرًا تُرَجَّحُ فِيهَا بَيِّنَةُ الْخَارِجِ عَلَى الدَّاخِلِ، وَأُخْرَى تُرَجَّحُ فِيهَا بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ عَلَى الْخَارِجِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ حَالَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، نَذْكُرُ مِنْهَا الصُّوَرَ الْمَشْهُورَةَ التَّالِيَةَ مَعَ بَيَانِ أَدِلَّتِهِمْ إِجْمَالًا تَارِكِينَ التَّفْصِيلَ إِلَى مَوَاضِعِهِ مِنْ مُصْطَلَحَاتِ: (تَعَارُضٌ، دَعْوَى، شَهَادَةٌ).

أَوَّلًا: الْبَيِّنَةُ عَلَى دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ:

4- إِذَا تَدَاعَى الرَّجُلَانِ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ بِأَنِ ادَّعَيَا مِلْكَ عَيْنٍ دُونَ سَبَبِ الْمِلْكِيَّةِ مِنَ الْإِرْثِ أَوِ الشِّرَاءِ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يُقْضَى بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ، وَلَا تُعْتَبَرُ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ (ذِي الْيَدِ) فِي مِلْكٍ مُطْلَقٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَارِجَ هُوَ الْمُدَّعِي، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ».فَجَعَلَ جِنْسَ الْبَيِّنَةِ فِي جَنْبَةِ الْمُدَّعِي فَلَا يَبْقَى فِي جَنْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ.وَلِأَنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي أَكْثَرُ فَائِدَةً، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهَا، كَتَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الْجَرْحِ عَلَى التَّعْدِيلِ، وَدَلِيلُ كَثْرَةِ فَائِدَتِهَا أَنَّهَا تُثْبِتُ سَبَبًا لَمْ يَكُنْ، وَبَيِّنَةُ الْمُنْكِرِ إِنَّمَا تُثْبِتُ ظَاهِرًا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْيَدُ، فَلَمْ تَكُنْ مُفِيدَةً، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْمِلْكِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهَا رُؤْيَةَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ (الدَّاخِلِ)، لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ بِيَدِهِ، كَالْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ مَعَ أَحَدِهِمَا قِيَاسٌ، فَيُقْضَى لَهُ بِهَا.

قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ عِنْدَ التَّكَافُؤِ.

وَهَلْ يُحْكَمُ لِلدَّاخِلِ بِبَيِّنَةٍ مَعَ الْيَمِينِ أَوْ بِغَيْرِ الْيَمِينِ؟ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ بَيِّنَتِهِ فِي الْأَصَحِّ، وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الدُّسُوقِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.وَذَكَرَ ابْنُ فَرْحُونَ أَنَّهُ يُحْكَمُ لِلْحَائِزِ مَعَ الْيَمِينِ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ.

ثَانِيًا: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمِلْكِ الْمُضَافِ إِلَى سَبَبٍ:

5- إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى عَلَى مِلْكٍ مُسْتَنِدٍ إِلَى سَبَبٍ مِنَ الْإِرْثِ، أَوِ الشِّرَاءِ، أَوْ غَيْرِهِمَا فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنِ اخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ بِاخْتِلَافِ الصُّوَرِ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:

أ- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ إِذَا كَانَ قَابِلًا لِلتَّكْرَارِ، كَالشِّرَاءِ، وَنَسْجِ ثَوْبِ الْخَزِّ، وَزَرْعِ الْحُبُوبِ وَنَحْوِهَا تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ، لِكَوْنِهَا فِي حُكْمِ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ.إِلاَّ إِذَا ادَّعَى كُلٌّ مِنْهُمَا تَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ، بِأَنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: إِنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ زَيْدٍ مَثَلًا.فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ سَبَبُ الْمِلْكِ غَيْرَ قَابِلٍ لِلتَّكْرَارِ، كَالنِّتَاجِ، أَوْ نَسْجِ ثَوْبِ الْقُطْنِ مَثَلًا، فَتُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ، لِأَنَّ مَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَمْرٌ زَائِدٌ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْيَدُ فَتَعَارَضَتَا، فَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِالْيَدِ.وَلِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- اخْتَصَمَ إِلَيْهِ رَجُلَانِ فِي دَابَّةٍ أَوْ بَعِيرٍ، فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَتَهُ بِأَنَّهَا لَهُ نُتِجَهَا، فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِلَّذِي فِي يَدِهِ».

وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَرْجِيحُ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ (ذِي الْيَدِ) إِذَا تَسَاوَتَا فِي الْعَدَالَةِ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الدَّعْوَى فِي مِلْكٍ مُطْلَقٍ أَوْ فِي مِلْكٍ مُضَافٍ إِلَى سَبَبٍ يَتَكَرَّرُ أَوْ لَا يَتَكَرَّرُ.وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا يَنْتَفِعُ الْحَائِزُ (الدَّاخِلُ) بِبَيِّنَتِهِ، وَبَيِّنَةُ الْمُدَّعِي أَوْلَى.

أَمَّا إِذَا ذَكَرَتْ إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ سَبَبَ الْمِلْكِ مِنْ نِتَاجٍ أَوْ زِرَاعَةٍ، وَالْأُخْرَى لَمْ تَذْكُرْ سِوَى مُجَرَّدِ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ يُرَجَّحُ مَنْ ذَكَرَ السَّبَبَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ إِلَى تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ (الدَّاخِلِ) فِي الْمِلْكِ الْمُضَافِ إِلَى سَبَبٍ أَيْضًا، كَمَا فِي الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، إِلاَّ إِذَا أَطْلَقَ الدَّاخِلُ دَعْوَى الْمِلْكِ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً.وَقَيَّدَهُ الْخَارِجُ بِقَوْلِهِ: (اشْتَرَيْتُهُ مِنْكَ)، وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ، لِزِيَادَةِ عِلْمِهَا، لَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا تُسْمَعُ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ إِلاَّ بَعْدَ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي جَانِبِهِ الْيَمِينُ فَلَا يَعْدِلُ عَنْهَا مَا دَامَتْ كَافِيَةً.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَهُمْ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: الْأُولَى: وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَهُمْ تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي (الْخَارِجِ)، وَعَدَمُ سَمَاعِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ بِحَالٍ، سَوَاءٌ أَشَهِدَتْ بِأَنَّ الْعَيْنَ لَهُ نَتَجَتْ فِي مِلْكِهِ، أَوْ قَطِيعَةُ الْإِمَامِ أَمْ لَا، إِلاَّ إِذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنَ الْآخَرِ فَتُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ.

وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ إِذَا شَهِدَتْ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ بِسَبَبِ الْمِلْكِ فَقَالَتْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَتَجَتْ فِي مِلْكِهِ، أَوِ اشْتَرَاهَا، أَوْ نَسَجَهَا..قُدِّمَتْ، وَإِلاَّ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي (الْخَارِجِ).

وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (الدَّاخِلِ) تُقَدَّمُ بِكُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُسْتَنِدَةً إِلَى سَبَبٍ أَمْ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ، لِأَنَّ جَنْبَةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَقْوَى، لِأَنَّ الْأَصْلَ مَعَهُ وَيَمِينُهُ تُقَدَّمُ عَلَى يَمِينِ الْمُدَّعِي، فَإِذَا تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ وَجَبَ إِبْقَاءُ يَدِهِ عَلَى مَا فِيهَا، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا.وَحَدِيثُ جَابِرٍ يَدُلُّ عَلَى هَذَا، فَإِنَّهُ إِنَّمَا قُدِّمَتْ بَيِّنَتُهُ لِيَدِهِ.

ثَالِثًا: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمِلْكِ الْمُؤَرَّخِ:

6- إِذَا أَقَامَ كُلٌّ مِنَ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ بَيِّنَةً عَلَى مِلْكِ عَيْنٍ وَذَكَرَ التَّارِيخَ، فَبَيِّنَةُ مَنْ تَارِيخُهُ مُقَدَّمٌ أَوْلَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، مَثَلًا إِذَا ادَّعَى أَحَدٌ أَنَّ الْعَرْصَةَ الَّتِي فِي يَدِ غَيْرِهِ مَلَكَهَا هُوَ مُنْذُ سَنَةٍ، وَقَالَ ذُو الْيَدِ (الدَّاخِلُ): إِنَّهُ مَلَكَهَا مُنْذُ سَنَتَيْنِ، تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ.

وَإِنْ قَالَ الدَّاخِلُ: (مَلَكْتُهَا مُنْذُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ) تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَيِّنَةَ مَنْ يَكُونُ تَارِيخُهُ مُقَدَّمًا تُثْبِتُ الْمِلْكَ لَهُ وَقْتَ التَّارِيخِ، وَالْآخَرُ لَا يَدَّعِيهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا يَثْبُتُ لِغَيْرِهِ إِلاَّ بِالتَّلَقِّي مِنْهُ، إِذِ الْأَصْلُ فِي الثَّابِتِ دَوَامُهُ.

وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ دَعْوَى النِّتَاجِ، فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ فِيهَا أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ مُطْلَقًا، دُونَ اعْتِبَارِ التَّارِيخِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ جَابِرٍ الْمُتَقَدِّمُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَانَتِ الْيَدُ لِمُتَقَدِّمِ التَّارِيخِ قُدِّمَتْ قَطْعًا، وَإِذَا كَانَتْ لِمُتَأَخِّرِ التَّارِيخِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا تُقَدَّمُ أَيْضًا، لِأَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَتَانِ فِي إِثْبَاتِ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ فَيَتَسَاقَطَانِ فِيهِ، وَتَبْقَى الْيَدُ فِيهِ مُقَابِلَةَ الْمِلْكِ السَّابِقِ، وَهِيَ أَقْوَى مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمِلْكِ السَّابِقِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تُزَالُ بِهَا.

وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي: يُرَجَّحُ السَّبْقُ، وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ: يَتَسَاوَيَانِ.

وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ وَلَا اعْتِبَارَ لِلتَّارِيخِ.

وَهُنَاكَ صُوَرٌ وَفُرُوعٌ أُخْرَى يُرْجَعُ لِحُكْمِهَا وَأَدِلَّةِ الْفُقَهَاءِ فِيهَا فِي مُصْطَلَحَاتِ: (دَعْوَى، شَهَادَةٌ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


127-موسوعة الفقه الكويتية (دار)

دَارٌ

التَّعْرِيفُ

1- الدَّارُ لُغَةً اسْمٌ جَامِعٌ لِلْعَرْصَةِ وَالْبِنَاءِ وَالْمَحَلَّةِ.وَفِي كُلِّيَّاتِ أَبِي الْبَقَاءِ: الدَّارُ اسْمٌ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى بُيُوتٍ وَمَنَازِلَ وَصَحْنٍ غَيْرِ مَسْقُوفٍ.

وَهِيَ مِنْ دَارَ يَدُورُ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ حَرَكَاتِ النَّاسِ فِيهَا وَاعْتِبَارًا بِدَوَرَانِهَا الَّذِي لَهَا بِالْحَائِطِ، وَجَمْعُهَا أَدْوُرٌ، وَدُورٌ، وَالْكَثِيرُ دِيَارٌ، وَهِيَ الْمَنَازِلُ الْمَسْكُونَةُ وَالْمَحَالُّ.

وَكُلُّ مَوْضِعٍ حَلَّ بِهِ قَوْمٌ فَهُوَ دَارُهُمْ، وَمِنْ هُنَا سُمِّيَتِ الْبَلْدَةُ دَارًا، وَالصَّقْعُ دَارًا.

وَقَدْ تُطْلَقُ الدَّارُ عَلَى الْقَبَائِلِ مَجَازًا.

وَمَعْنَاهَا الِاصْطِلَاحِيُّ لَا يَخْتَلِفُ عَنْ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْبَيْتُ:

2- أَصْلُ الْبَيْتِ لُغَةً مَأْوَى الْإِنْسَانِ بِاللَّيْلِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: بَاتَ: أَيْ أَقَامَ بِاللَّيْلِ، كَمَا يُقَالُ: ظَلَّ بِالنَّهَارِ، وَيُقَالُ: لِلْمَسْكَنِ بَيْتٌ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ اللَّيْلِ فِيهِ.

وَيَقَعُ اسْمُ الْبَيْتِ عَلَى الْمُتَّخَذِ مِنْ حَجَرٍ، أَوْ مَدَرٍ، أَوْ صُوفٍ، أَوْ وَبَرٍ، أَوْ غَيْرِهَا.

وَيُعَبَّرُ عَنْ مَكَانِ الشَّيْءِ بِأَنَّهُ بَيْتُهُ، وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} وَبَيْتُ اللَّهِ مَحَلُّ عِبَادَتِهِ.وَالْبَيْتُ الْعَتِيقُ، وَالْبَيْتُ الْحَرَامُ هُوَ الْكَعْبَةُ أَوِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ كُلُّهُ.

فَبَيْنَ الْبَيْتِ وَالدَّارِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ.

ب- الْحُجْرَةُ:

3- الْحُجْرَةُ هِيَ الْوَاحِدَةُ مِنْ حُجَرِ الدَّارِ، وَالْجَمْعُ حُجَرٌ، وَحُجُرَاتٌ، مِثْلُ غُرَفٍ وَغُرُفَاتٍ.

ح- الْغُرْفَةُ:

4- الْغُرْفَةُ: الْعُلِّيَّةُ، وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْحُجْرَةِ، وَالْجَمْعُ غُرَفٌ، ثُمَّ غُرُفَاتٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا.

د- الْخِدْرُ:

5- الْخِدْرُ: السِّتْرُ، وَالْجَمْعُ خُدُورٌ، وَيُطْلَقُ الْخِدْرُ عَلَى الْبَيْتِ إِنْ كَانَ فِيهِ امْرَأَةٌ وَأَوْلَادٌ.

هـ- الْمَنْزِلُ:

6- الْمَنْزِلُ: الْمَنْهَلُ، وَالدَّارُ، وَمَوْضِعُ النُّزُولِ، وَقَدْ تَكُونُ اسْمًا لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى بُيُوتٍ، وَصَحْنٍ مُسَقَّفٍ، وَمَطْبَخٍ، يَسْكُنُهُ الرَّجُلُ لِعِيَالِهِ، وَهُوَ دُونَ الدَّارِ وَفَوْقَ الْبَيْتِ.وَأَقَلُّهُ بَيْتَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ.

و- الْمُخْدَعُ:

7- الْمُخْدَعُ بِضَمِّ الْمِيمِ، بَيْتٌ صَغِيرٌ يُحْرَزُ فِيهِ الشَّيْءُ، وَكَسْرُ الْمِيمِ وَفَتْحُهَا لُغَتَانِ، مَأْخُوذٌ مِنْ أَخْدَعْتُ الشَّيْءَ بِالْأَلِفِ إِذَا أَخْفَيْتَهُ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالدَّارِ:

8- أَوْرَدَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الدَّارِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي عِدَّةِ أَبْوَابٍ مِنْهَا: الْبَيْعُ، وَالْإِجَارَةُ، وَالْوَصِيَّةُ، وَالْوَقْفُ.

وَبَحَثُوا فِيمَا لَوْ بَاعَ الشَّخْصُ الدَّارَ، أَوْ آجَرَهَا أَوْ أَوْصَى بِهَا، أَوْ وَقَفَهَا، مَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعَقْدِ وَمَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ.

فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الدَّارِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَدْخُلُ فِيهِ الْأَرْضُ وَالْبِنَاءُ وَكُلُّ مَا هُوَ مُثَبَّتٌ فِيهَا كَالْأَجْنِحَةِ وَالرَّوَاشِنِ، وَالدَّرَجِ وَالْمَرَاقِي الْمَعْقُودَةِ، وَالسُّقُفِ، وَالْجُسُورِ، وَالْبَلَاطِ الْمَفْرُوشِ الْمُثَبَّتِ فِي الْأَرْضِ، وَالْأَبْوَابِ الْمَنْصُوبَةِ وَغَلْقِهَا الْمُثَبَّتِ، وَالْخَوَابِي، وَمَعَاجِنِ الْخَبَّازِينَ وَخَشَبِ الْقَصَّارِينَ، وَالْإِجَّانَاتِ الْمُثَبَّتَةِ (وَهِيَ آنِيَةٌ تُغْسَلُ فِيهَا الثِّيَابُ) وَالرُّفُوفِ، وَالسَّلَالِمِ، وَالسُّرُرِ عَلَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ مُسَمَّرَةً.

كَمَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعَقْدِ الْأَشْجَارُ الرَّطْبَةُ الْمَغْرُوسَةُ فِي الدَّارِ، وَالْبِئْرُ الْمَحْفُورَةُ، وَالْأَوْتَادُ الْمَغْرُوزَةُ فِيهَا، لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ يَقَعُ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عُرْفًا.

وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعَقْدِ حَجَرُ الرَّحَى إِذَا كَانَ الْأَسْفَلُ مِنْهُمَا مُثَبَّتًا.

وَفِي قَوْلٍ لِكُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لَا يَدْخُلُ الْحَجَرُ الْأَعْلَى إِذَا كَانَ مُنْفَصِلًا.

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَنْقُولَاتِ الْمُنْفَصِلَةَ وَغَيْرَ الْمُثَبَّتَةِ لَا تَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَذَلِكَ كَالسَّرِيرِ، وَالْفُرُشِ، وَالسَّتَائِرِ، وَالرُّفُوفِ الْمَوْضُوعَةِ بِغَيْرِ تَسْمِيرٍ وَلَا غَرْزٍ فِي الْحَائِطِ، وَكَذَلِكَ الْأَقْفَالُ وَالْحِبَالُ، وَالدَّلْوُ، وَالْبَكَرَةُ إِذَا لَمْ تَكُنْ مُرَكَّبَةً بِالْبِئْرِ بِأَنْ كَانَتْ مَشْدُودَةً بِحَبْلٍ أَوْ مَوْضُوعَةً.

وَكَذَلِكَ السَّلَالِمُ الْمَوْضُوعَةُ غَيْرُ الْمُرَكَّبَةِ.وَكُلُّ مَا لَا يَكُونُ مِنْ بِنَاءِ الدَّارِ وَلَا مُتَّصِلًا بِهَا مِنْ خَشَبٍ وَحَجَرٍ، وَحَيَوَانٍ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَنْقُولَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الدَّارِ.

وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ.

أَمَّا إِذَا اتَّفَقَ الطَّرَفَانِ عَلَى أَنْ يَشْمَلَ الْعَقْدُ جَمِيعَ الْمَنْقُولَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الدَّارِ أَوْ بَعْضَهَا، أَوْ قَالَ: وَقَفْتُ الدَّارَ بِجَمِيعِ مَا فِيهَا، فَإِنَّ الْمَنْقُولَاتِ الْمَوْجُودَةَ تَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ تَبَعًا لِلدَّارِ أَوْ حَسْبَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الطَّرَفَانِ.

وَالتَّفَاصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٌ، وَقْفٌ)

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْفِ عُلْوِ الدَّارِ دُونَ سُفْلِهَا، أَوْ سُفْلِهَا دُونَ عُلْوِهَا، أَوْ جَعْلِ وَسَطِ دَارِهِ مَسْجِدًا وَلَمْ يَذْكُرِ الِاسْتِطْرَاقَ.

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى صِحَّةِ هَذَا الْوَقْفِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَصِحُّ بَيْعُهُ فَكَذَلِكَ يَصِحُّ وَقْفُهُ، كَوَقْفِ الدَّارِ جَمِيعًا، وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ يُزِيلُ الْمِلْكَ إِلَى مَنْ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الِاسْتِقْرَارِ وَالتَّصَرُّفِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ.

وَالتَّفَاصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْفٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


128-موسوعة الفقه الكويتية (رؤيا)

رُؤْيَا

التَّعْرِيفُ:

1- الرُّؤْيَا عَلَى وَزْنِ فُعْلَى مَا يَرَاهُ الْإِنْسَانُ فِي مَنَامِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِأَلِفِ التَّأْنِيثِ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ، وَتُجْمَعُ عَلَى رُؤًى.

وَأَمَّا الرُّؤْيَةُ بِالْهَاءِ فَهِيَ رُؤْيَةُ الْعَيْنِ وَمُعَايَنَتُهَا لِلشَّيْءِ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ، وَتَأْتِي أَيْضًا بِمَعْنَى الْعِلْمِ كَمَا فِي الصِّحَاحِ وَاللِّسَانِ، فَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى النَّظَرِ بِالْعَيْنِ فَإِنَّهَا تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الْعِلْمِ فَإِنَّهَا تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ.

وَالرُّؤْيَا فِي الِاصْطِلَاحِ لَا تَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْإِلْهَامُ:

2- الْإِلْهَامُ فِي اللُّغَةِ: تَلْقِينُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْخَيْرَ لِعَبْدِهِ، أَوْ إِلْقَاؤُهُ فِي رُوعِهِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: إِيقَاعُ شَيْءٍ يَطْمَئِنُّ لَهُ الصَّدْرُ يَخُصُّ بِهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْضَ أَصْفِيَائِهِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِلْهَامٌ).

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرُّؤْيَا وَالْإِلْهَامِ أَنَّ الْإِلْهَامَ يَكُونُ فِي الْيَقَظَةِ، بِخِلَافِ الرُّؤْيَا فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إِلاَّ فِي النَّوْمِ.

ب- الْحُلُمُ:

3- الْحُلُمُ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ اللاَّمِ وَقَدْ تُسَكَّنُ تَخْفِيفًا هُوَ الرُّؤْيَا، أَوْ هُوَ اسْمٌ لِلِاحْتِلَامِ وَهُوَ الْجِمَاعُ فِي النَّوْمِ.وَالْحُلُمُ وَالرُّؤْيَا وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَحْدُثُ فِي النَّوْمِ إِلاَّ أَنَّ الرُّؤْيَا اسْمٌ لِلْمَحْبُوبِ فَلِذَلِكَ تُضَافُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْحُلُمُ اسْمٌ لِلْمَكْرُوهِ فَيُضَافُ إِلَى الشَّيْطَانِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الرُّؤْيَا مِنَ اللَّهِ، وَالْحُلُمُ مِنَ الشَّيْطَانِ»،، وَقَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ: الرُّؤْيَا رُؤْيَةُ مَا يُتَأَوَّلُ عَلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرِ الَّذِي يُسَرُّ بِهِ، وَالْحُلُمُ هُوَ الْأَمْرُ الْفَظِيعُ الْمَجْهُولُ يُرِيهِ الشَّيْطَانُ لِلْمُؤْمِنِ لِيُحْزِنَهُ وَلِيُكَدِّرَ عَيْشَهُ.

ج- الْخَاطِرُ:

4- الْخَاطِرُ هُوَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مَرَاتِبِ حَدِيثِ النَّفْسِ، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ مَا يَخْطِرُ فِي الْقَلْبِ مِنْ تَدْبِيرِ أَمْرٍ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ مَا يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ مِنَ الْخِطَابِ أَوِ الْوَارِدُ الَّذِي لَا عَمَلَ لِلْعَبْدِ فِيهِ، وَالْخَاطِرُ غَالِبًا يَكُونُ فِي الْيَقَظَةِ بِخِلَافِ الرُّؤْيَا.

د- الْوَحْيُ:

5- مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ فَارِسٍ الْإِشَارَةُ وَالرِّسَالَةُ وَالْكِتَابَةُ وَكُلُّ مَا أَلْقَيْتَهُ إِلَى غَيْرِك لِيَعْلَمَهُ، وَهُوَ مَصْدَرُ وَحَى إِلَيْهِ يَحِي مِنْ بَابِ وَعَدَ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ بِالْأَلِفِ مِثْلُهُ، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْوَحْيِ فِيمَا يُلْقَى إِلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى.فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّؤْيَا وَاضِحٌ، وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، وَفِي الْحَدِيثِ: «أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ».

الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ وَمَنْزِلَتُهَا:

6- الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ حَالَةٌ شَرِيفَةٌ وَمَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ كَمَا ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ».وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ أَنَّ «رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ سَأَلَ أَبَا الدَّرْدَاءِ- رضي الله عنه- عَنْ قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قَالَ: مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ مُنْذُ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْهَا، فَقَالَ: مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ غَيْرُك مُنْذُ أُنْزِلَتْ، هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ».

وَقَدْ «حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» وَرُوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ.

وَالْمُرَادُ بِالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ غَالِبُ رُؤَى الصَّالِحِينَ كَمَا قَالَ الْمُهَلَّبُ، وَإِلاَّ فَالصَّالِحُ قَدْ يَرَى الْأَضْغَاثَ وَلَكِنَّهُ نَادِرٌ لِقِلَّةِ تَمَكُّنِ الشَّيْطَانِ مِنْهُمْ، بِخِلَافِ عَكْسِهِمْ، فَإِنَّ الصِّدْقَ فِيهَا نَادِرٌ لِغَلَبَةِ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ، فَالنَّاسُ عَلَى هَذَا ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ.

- الْأَنْبِيَاءُ وَرُؤَاهُمْ كُلُّهَا صِدْقٌ، وَقَدْ يَقَعُ فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرٍ.

- وَالصَّالِحُونَ وَالْأَغْلَبُ عَلَى رُؤَاهُمُ الصِّدْقُ، وَقَدْ يَقَعُ فِيهَا مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرٍ.

- وَمَنْ عَدَاهُمْ وَقَدْ يَقَعُ فِي رُؤَاهُمُ الصِّدْقُ وَالْأَضْغَاثُ.

وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْعَرَبِيُّ: إِنَّ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ الصَّالِحِ هِيَ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَى أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ لِصَلَاحِهَا وَاسْتِقَامَتِهَا، بِخِلَافِ رُؤْيَا الْفَاسِقِ فَإِنَّهَا لَا تُعَدُّ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ، وَقِيلَ تُعَدُّ مِنْ أَقْصَى الْأَجْزَاءِ، وَأَمَّا رُؤْيَا الْكَافِرِ فَلَا تُعَدُّ أَصْلًا.وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ أَنَّ الْمُسْلِمَ الصَّادِقَ الصَّالِحَ هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ حَالُهُ حَالَ الْأَنْبِيَاءِ فَأُكْرِمَ بِنَوْعٍ مِمَّا أُكْرِمَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَهُوَ الِاطِّلَاعُ عَلَى الْغَيْبِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْفَاسِقُ وَالْمُخَلِّطُ فَلَا، وَلَوْ صَدَقَتْ رُؤْيَاهُمْ أَحْيَانًا فَذَاكَ كَمَا قَدْ يَصْدُقُ الْكَذُوبُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ حَدَّثَ عَنْ غَيْبٍ يَكُونُ خَبَرُهُ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ كَالْكَاهِنِ وَالْمُنَجِّمِ.

هَذَا، وَقَدِ اسْتُشْكِلَ كَوْنُ الرُّؤْيَا جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ مَعَ أَنَّ النُّبُوَّةَ انْقَطَعَتْ بِمَوْتِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- كَمَا ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ فَقِيلَ فِي الْجَوَابِ: إِنْ وَقَعَتِ الرُّؤْيَا مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ حَقِيقَةً، وَإِنْ وَقَعَتْ مِنْ غَيْرِ النَّبِيِّ فَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ.وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: قِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّ الرُّؤْيَا تَجِيءُ عَلَى مُوَافَقَةِ النُّبُوَّةِ لَا أَنَّهَا جُزْءٌ بَاقٍ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّهَا جُزْءٌ مِنْ عِلْمِ النُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّ النُّبُوَّةَ وَإِنِ انْقَطَعَتْ فَعِلْمُهَا بَاقٍ.

رُؤْيَا اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْمَنَامِ:

7- اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ رُؤْيَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ: لَا تَقَعُ، لِأَنَّ الْمَرْئِيَّ فِيهِ خَيَالٌ وَمِثَالٌ، وَذَلِكَ عَلَى الْقَدِيمِ مُحَالٌ، وَقِيلَ: تَقَعُ لِأَنَّهُ لَا اسْتِحَالَةَ لِذَلِكَ فِي الْمَنَامِ.

رُؤْيَا النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَنَامِ:

8- ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ مِنْ صَحِيحِهِ بَابًا بِعِنْوَانِ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَنَامِ وَذَكَرَ فِيهِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ مِنْهَا: مَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ وَلَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي».

وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ رُؤْيَتِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَنَامِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ، وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَقْوَالًا مُخْتَلِفَةً فِي مَعْنَى قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ».

وَالصَّحِيحُ مِنْهَا أَنَّ مَقْصُودَهُ أَنَّ رُؤْيَتَهُ فِي كُلِّ حَالَةٍ لَيْسَتْ بَاطِلَةً وَلَا أَضْغَاثًا، بَلْ هِيَ حَقٌّ فِي نَفْسِهَا، وَلَوْ رُئِيَ عَلَى غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا فِي حَيَاتِهِ- صلى الله عليه وسلم- فَتَصَوُّرُ تِلْكَ الصُّورَةِ لَيْسَ مِنَ الشَّيْطَانِ بَلْ هُوَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، وَقَالَ: وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: «فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ» أَيْ رَأَى الْحَقَّ الَّذِي قَصَدَ إِعْلَامَ الرَّائِي بِهِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا وَإِلاَّ سَعَى فِي تَأْوِيلِهَا وَلَا يُهْمِلُ أَمْرَهَا، لِأَنَّهَا إِمَّا بُشْرَى بِخَيْرٍ، أَوْ إِنْذَارٌ مِنْ شَرٍّ إِمَّا لِيُخِيفَ الرَّائِيَ، إِمَّا لِيَنْزَجِرَ عَنْهُ، وَإِمَّا لِيُنَبِّهَ عَلَى حُكْمٍ يَقَعُ لَهُ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ.

وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ أَنَّ رُؤْيَتَهُ- عليه الصلاة والسلام- إِنَّمَا تَصِحُّ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: صَحَابِيٌّ رَآهُ فَعَلِمَ صِفَتَهُ فَانْطَبَعَ فِي نَفْسِهِ مِثَالُهُ فَإِذَا رَآهُ جَزَمَ بِأَنَّهُ رَأَى مِثَالَهُ الْمَعْصُومَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَيَنْتَفِي عَنْهُ اللَّبْسُ وَالشَّكُّ فِي رُؤْيَتِهِ- عليه الصلاة والسلام-.

وَثَانِيهِمَا: رَجُلٌ تَكَرَّرَ عَلَيْهِ سَمَاعُ صِفَاتِهِ الْمَنْقُولَةِ فِي الْكُتُبِ حَتَّى انْطَبَعَتْ فِي نَفْسِهِ صِفَتُهُ- عليه الصلاة والسلام-، وَمِثَالُهُ الْمَعْصُومُ، كَمَا حَصَلَ ذَلِكَ لِمَنْ رَآهُ، فَإِذَا رَآهُ جَزَمَ بِأَنَّهُ رَأَى مِثَالَهُ- عليه الصلاة والسلام- كَمَا يَجْزِمُ بِهِ مَنْ رَآهُ، فَيَنْتَفِي عَنْهُ اللَّبْسُ وَالشَّكُّ فِي رُؤْيَتِهِ- عليه الصلاة والسلام-، وَأَمَّا غَيْرُ هَذَيْنِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْجَزْمُ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَآهُ- عليه السلام- بِمِثَالِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَخْيِيلِ الشَّيْطَانِ، وَلَا يُفِيدُ قَوْلُ الْمَرْئِيِّ لِمَنْ رَآهُ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، وَلَا قَوْلُ مَنْ يَحْضُرُ مَعَهُ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَكْذِبُ لِنَفْسِهِ وَيَكْذِبُ لِغَيْرِهِ، فَلَا يَحْصُلُ الْجَزْمُ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ صَرِيحًا فِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ مِثَالِهِ الْمَخْصُوصِ لَا يُنَافِي مَا تَقَرَّرَ فِي التَّعْبِيرِ أَنَّ الرَّائِيَ يَرَاهُ- عليه الصلاة والسلام- شَيْخًا وَشَابًّا وَأَسْوَدَ، وَذَاهِبَ الْعَيْنَيْنِ، وَذَاهِبَ الْيَدَيْنِ، وَعَلَى أَنْوَاعٍ شَتَّى مِنَ الْمُثُلِ الَّتِي لَيْسَتْ مِثَالَهُ- عليه الصلاة والسلام-؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ صِفَاتُ الرَّائِينَ وَأَحْوَالُهُمْ تَظْهَرُ فِيهِ- عليه الصلاة والسلام- وَهُوَ كَالْمِرْآةِ لَهُمْ.

تَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ فِعْلِهِ فِي الرُّؤْيَا:

9- مَنْ رَأَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَنَامِ يَقُولُ قَوْلًا أَوْ يَفْعَلُ فِعْلًا فَهَلْ يَكُونُ قَوْلُهُ هَذَا أَوْ فِعْلُهُ حُجَّةً يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ أَوْ لَا؟.

ذَكَرَ الشَّوْكَانِيُّ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: -

الْأَوَّلَ: أَنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً وَيَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهِ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهَا الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَنَامِ حَقٌّ وَالشَّيْطَانُ لَا يَتَمَثَّلُ بِهِ.

الثَّانِيَ: أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً وَلَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَنَامِ وَإِنْ كَانَتْ رُؤْيَا حَقٍّ وَأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِهِ لَكِنِ النَّائِمُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّحَمُّلِ لِلرِّوَايَةِ لِعَدَمِ حِفْظِهِ.

الثَّالِثَ: أَنَّهُ يُعْمَلُ بِذَلِكَ مَا لَمْ يُخَالِفْ شَرْعًا ثَابِتًا.

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ الشَّرْعَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لَنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا- صلى الله عليه وسلم- قَدْ كَمَّلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.

وَلَمْ يَأْتِنَا دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رُؤْيَتَهُ فِي النَّوْمِ بَعْدَ مَوْتِهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا قَالَ فِيهَا بِقَوْلٍ، أَوْ فَعَلَ فِيهَا فِعْلًا يَكُونُ دَلِيلًا وَحُجَّةً، بَلْ قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ كَمَّلَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَا شَرَعَهُ لَهَا عَلَى لِسَانِهِ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ حَاجَةٌ لِلْأُمَّةِ فِي أَمْرِ دِينِهَا، وَقَدِ انْقَطَعَتِ الْبَعْثَةُ لِتَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ وَتَبْيِينِهَا بِالْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ رَسُولًا حَيًّا وَمَيِّتًا، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا ضَبْطَ النَّائِمِ لَمْ يَكُنْ مَا رَآهُ مِنْ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ فِعْلِهِ حُجَّةً عَلَيْهِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَّةِ.

وَذَكَرَ صَاحِبُ تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ الرُّؤْيَا التَّعْوِيلُ عَلَيْهَا فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لِاحْتِمَالِ الْخَطَأِ فِي التَّحَمُّلِ وَعَدَمِ ضَبْطِ الرَّائِي، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يَثْبُتُ فِي الْيَقَظَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا ثَبَتَ بِالنَّوْمِ عِنْدَ التَّعَارُضِ، قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ لِرَجُلٍ رَأَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَنَامِ يَقُولُ لَهُ إِنَّ فِي الْمَحَلِّ الْفُلَانِيِّ رِكَازًا اذْهَبْ فَخُذْهُ وَلَا خُمُسَ عَلَيْكَ فَذَهَبَ وَوَجَدَهُ وَاسْتَفْتَى ذَلِكَ الرَّجُلُ الْعُلَمَاءَ، فَقَالَ لَهُ الْعِزُّ: أَخْرِجِ الْخُمُسَ فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ، وَقُصَارَى رُؤْيَتِكَ الْآحَادُ، فَلِذَلِكَ لَمَّا اضْطَرَبَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ بِالتَّحْرِيمِ وَعَدَمِهِ فِيمَنْ رَآهُ- عليه السلام- فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ إِنَّ امْرَأَتَكَ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهُوَ يَجْزِمُ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا لِتَعَارُضِ خَبَرِهِ- عليه السلام- عَنْ تَحْرِيمِهَا فِي النَّوْمِ، وَإِخْبَارِهِ فِي الْيَقَظَةِ فِي شَرِيعَتِهِ الْمُعَظَّمَةِ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ لَهُ، اسْتَظْهَرَ الْأَصْلَ أَنَّ إِخْبَارَهُ- عليه السلام- فِي الْيَقَظَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْخَبَرِ فِي النَّوْمِ لِتَطَرُّقِ الِاحْتِمَالِ لِلرَّائِي بِالْغَلَطِ فِي ضَبْطِهِ الْمِثَالَ قَالَ: فَإِذَا عَرَضْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا احْتِمَالَ طُرُوِّ الطَّلَاقِ مَعَ الْجَهْلِ بِهِ وَاحْتِمَالَ طُرُوِّ الْغَلَطِ فِي الْمِثَالِ فِي النَّوْمِ وَجَدْنَا الْغَلَطَ فِي الْمِثَالِ أَيْسَرَ وَأَرْجَحَ، أَمَّا ضَبْطُ عَدَمِ الطَّلَاقِ فَلَا يَخْتَلُّ إِلاَّ عَلَى النَّادِرِ مِنَ النَّاسِ، وَالْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ مُتَعَيِّنٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَنْ حَلَالٍ إِنَّهُ حَرَامٌ، أَوْ عَنْ حَرَامٍ إِنَّهُ حَلَالٌ، أَوْ عَنْ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ قَدَّمْنَا مَا ثَبَتَ فِي الْيَقَظَةِ عَلَى مَا رَأَى فِي النَّوْمِ، كَمَا لَوْ تَعَارَضَ خَبَرَانِ مِنْ أَخْبَارِ الْيَقَظَةِ صَحِيحَانِ فَإِنَّا نُقَدِّمُ الْأَرْجَحَ بِالسَّنَدِ، أَوْ بِاللَّفْظِ، أَوْ بِفَصَاحَتِهِ، أَوْ قِلَّةِ الِاحْتِمَالِ فِي الْمَجَازِ أَوْ غَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ خَبَرُ الْيَقَظَةِ وَخَبَرُ النَّوْمِ يَخْرُجَانِ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ.

تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا:

10- التَّعْبِيرُ كَمَا ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ خَاصٌّ بِتَفْسِيرِ الرُّؤْيَا، وَمَعْنَاهُ الْعُبُورُ مِنْ ظَاهِرِهَا إِلَى بَاطِنِهَا، وَقِيلَ: هُوَ النَّظَرُ فِي الشَّيْءِ، فَيُعْتَبَرُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ حَتَّى يَحْصُلَ عَلَى فَهْمِهِ حَكَاهُ الْأَزْهَرِيُّ، وَبِالْأَوَّلِ جَزَمَ الرَّاغِبُ، وَقَالَ أَصْلُهُ مِنَ الْعَبْرِ بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ، وَهُوَ التَّجَاوُزُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَخَصُّوا تَجَاوُزَ الْمَاءِ بِسِبَاحَةٍ أَوْ فِي سَفِينَةٍ أَوْ غَيْرِهَا بِلَفْظِ الْعُبُورِ بِضَمَّتَيْنِ، وَعَبَرَ الْقَوْمُ إِذَا مَاتُوا كَأَنَّهُمْ جَازُوا الْقَنْطَرَةَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ، قَالَ: وَالِاعْتِبَارُ وَالْعِبْرَةُ الْحَالَةُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُشَاهَدِ إِلَى مَا لَيْسَ بِمُشَاهَدٍ، وَيُقَالُ: عَبَرْتُ الرُّؤْيَا بِالتَّخْفِيفِ إِذَا فَسَّرْتَهَا، وَعَبَّرْتُهَا بِالتَّشْدِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ.

وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ عُبُورِ النَّهْرِ، فَعَابِرُ الرُّؤْيَا يَعْبُرُ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهَا، وَيَنْتَقِلُ بِهَا كَمَا فِي رُوحِ الْمَعَانِي مِنَ الصُّورَةِ الْمُشَاهَدَةِ فِي الْمَنَامِ إِلَى مَا هِيَ صُورَةٌ وَمِثَالٌ لَهَا مِنَ الْأُمُورِ الْآفَاقِيَّةِ وَالْأَنْفُسِيَّةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْخَارِجِ.

هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ صُوَرًا لِتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا وَتَأْوِيلِهَا، وَمِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ: تَأْوِيلُ الثِّيَابِ بِالدِّينِ وَالْعِلْمِ، فَإِنَّ «الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- أَوَّلَ الْقَمِيصَ فِي الْمَنَامِ بِالدِّينِ وَالْعِلْمِ».

وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَسْتُرُ صَاحِبَهُ وَيُجَمِّلُهُ بَيْنَ النَّاسِ، فَالْقَمِيصُ يَسْتُرُ بَدَنَهُ، وَالْعِلْمُ وَالدِّينُ يَسْتُرُ رُوحَهُ وَقَلْبَهُ، وَيُجَمِّلُهُ بَيْنَ النَّاسِ.

وَتَأْوِيلُ اللَّبَنِ بِالْفِطْرَةِ لِمَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ التَّغْذِيَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَيَاةِ وَكَمَالِ النَّشْأَةِ.وَتَأْوِيلُ الْبَقَرِ بِأَهْلِ الدِّينِ وَالْخَيْرِ الَّذِينَ بِهِمْ عِمَارَةُ الْأَرْضِ كَمَا أَنَّ الْبَقَرَ كَذَلِكَ.

وَتَأْوِيلُ الزَّرْعِ وَالْحَرْثِ بِالْعَمَلِ، لِأَنَّ الْعَامِلَ زَارِعٌ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ.

وَتَأْوِيلُ الْخَشَبِ الْمَقْطُوعِ الْمُتَسَانِدِ بِالْمُنَافِقِينَ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُنَافِقَ لَا رُوحَ فِيهِ وَلَا ظِلَّ وَلَا ثَمَرَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَشَبِ الَّذِي هُوَ كَذَلِكَ.

وَتَأْوِيلُ النَّارِ بِالْفِتْنَةِ لِإِفْسَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا يَمُرُّ عَلَيْهِ وَيَتَّصِلُ بِهِ.

وَتَأْوِيلُ النُّجُومِ بِالْعُلَمَاءِ وَالْأَشْرَافِ لِحُصُولِ هِدَايَةِ أَهْلِ الْأَرْضِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَلِارْتِفَاعِ الْأَشْرَافِ بَيْنَ النَّاسِ كَارْتِفَاعِ النُّجُومِ.

وَتَأْوِيلُ الْغَيْثِ بِالرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ وَالْحِكْمَةِ وَصَلَاحِ حَالِ النَّاسِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصُّوَرِ الْوَارِدَةِ فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا وَالْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْأَمْثِلَةِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ، ثُمَّ قَالَ: وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْثَالِ الْقُرْآنِ كُلِّهَا أُصُولٌ وَقَوَاعِدُ لِعِلْمِ التَّعْبِيرِ لِمَنْ أَحْسَنَ الِاسْتِدْلَالَ بِهَا، وَكَذَلِكَ مَنْ فَهِمَ الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يُعَبِّرُ بِهِ الرُّؤْيَا أَحْسَنَ تَعْبِيرٍ، وَأُصُولُ التَّعْبِيرِ الصَّحِيحَةُ إِنَّمَا أُخِذَتْ مِنْ مِشْكَاةِ الْقُرْآنِ، فَالسَّفِينَةُ تُعَبَّرُ بِالنَّجَاةِ، لقوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} وَتُعَبَّرُ بِالتِّجَارَةِ.وَالطِّفْلُ الرَّضِيعُ يُعَبَّرُ بِالْعَدُوِّ لقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}.

وَالرَّمَادُ بِالْعَمَلِ الْبَاطِلِ لقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} فَإِنَّ الرُّؤْيَا أَمْثَالٌ مَضْرُوبَةٌ لِيَسْتَدِلَّ الرَّائِي بِمَا ضُرِبَ لَهُ مِنَ الْمَثَلِ عَلَى نَظِيرِهِ، وَيَعْبُرُ مِنْهُ إِلَى شَبَهِهِ.

هَذَا وَمِمَّا وَرَدَ فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا مِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى- رضي الله عنه- أَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ، وَرَأَيْتُ فِيهَا بَقَرًا وَاللَّهُ خَيْرٌ، فَإِذَا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَإِذَا الْخَيْرُ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ وَثَوَابِ الصِّدْقِ الَّذِي أَتَانَا اللَّهُ بِهِ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ».

وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أُوتِيتُ خَزَائِنَ الْأَرْضِ فَوُضِعَ فِي يَدَيَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَبُرَا عَلَيَّ وَأَهَمَّانِي، فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنِ انْفُخْهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا: صَاحِبَ صَنْعَاءَ وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ».

وَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «رَأَيْتُ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ خَرَجَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ حَتَّى قَامَتْ بِمَهْيَعَةَ، فَأَوَّلْتُ أَنَّ وَبَاءَ الْمَدِينَةِ نُقِلَ إِلَى مَهْيَعَةَ وَهِيَ الْجُحْفَةُ».

وَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «رَأَيْتُ فِي رُؤْيَايَ أَنِّي هَزَزْتُ سَيْفًا فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ، فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ هَزَزْتُهُ أُخْرَى فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ، فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ».

هَذَا وَلَا تُقَصُّ الرُّؤْيَا عَلَى غَيْرِ شَفِيقٍ وَلَا نَاصِحٍ، وَلَا يُحَدَّثُ بِهَا إِلاَّ عَاقِلٌ مُحِبٌّ، أَوْ نَاصِحٌ، لقوله تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُقَصُّ الرُّؤْيَا إِلاَّ عَلَى عَالِمٍ أَوْ نَاصِحٍ».وَأَنْ لَا يَقُصَّهَا عَلَى مَنْ لَا يُحْسِنُ التَّأْوِيلَ، لِقَوْلِ مَالِكٍ: لَا يُعَبِّرُ الرُّؤْيَا إِلاَّ مَنْ يُحْسِنُهَا، فَإِنْ رَأَى خَيْرًا أَخْبَرَ بِهِ، وَإِنْ رَأَى مَكْرُوهًا فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، قِيلَ: فَهَلْ يُعَبِّرُهَا عَلَى الْخَيْرِ وَهُوَ عِنْدَهُ عَلَى الْمَكْرُوهِ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا عَلَى مَا تَأَوَّلَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَا، ثُمَّ قَالَ: الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ، فَلَا يُتَلَاعَبُ بِالنُّبُوَّةِ.

وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ، وَلْيَتْفُلْ ثَلَاثًا، وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ، وَإِذَا رَأَى مَا يُحِبُّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْمَدَ، وَأَنْ يُحَدِّثَ بِهَا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ يَقُولُ: لَقَدْ كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا فَتُمْرِضُنِي حَتَّى سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ يَقُولُ: وَأَنَا كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا تُمْرِضُنِي حَتَّى سَمِعْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنَ اللَّهِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ فَلَا يُحَدِّثْ بِهِ إِلاَّ مَنْ يُحِبُّ، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَلْيَتْفُلْ ثَلَاثًا، وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ».

وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤْيَا يُحِبُّهَا فَإِنَّهَا مِنَ اللَّهِ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَيْهَا وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ فَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا وَلَا يَذْكُرْهَا لِأَحَدٍ فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ».

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


129-موسوعة الفقه الكويتية (ربا 2)

رِبًا -2

الْأَجْنَاسُ الَّتِي نُصَّ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا:

19- الْأَجْنَاسُ الَّتِي نُصَّ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا سِتَّةٌ وَهِيَ: الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالْمِلْحُ، وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ عَلَيْهَا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، مِنْ أَتَمِّهَا حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ السَّابِقُ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْقَوْلِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ السُّنَّةِ، وَعَلَيْهَا جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ فَإِنَّ مَالِكًا جَعَلَهُمَا صِنْفًا وَاحِدًا، فَلَا يَجُوزُ مِنْهُمَا اثْنَانِ بِوَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمُعْظَمِ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، وَأَضَافَ مَالِكٌ إِلَيْهِمَا السُّلْتَ.

وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ رِبَا الْفَضْلِ لَا يَجْرِي إِلاَّ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَلَا يَجْرِي فِي الْجِنْسَيْنِ وَلَوْ تَقَارَبَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ».

وَخَالَفَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَقَالَ: كُلُّ شَيْئَيْنِ يَتَقَارَبُ الِانْتِفَاعُ بِهِمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا، كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ بِالزَّبِيبِ، لِأَنَّهُمَا يَتَقَارَبُ نَفْعُهُمَا فَجَرَيَا مَجْرَى نَوْعَيِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ.

الِاخْتِلَافُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ:

20- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا سِوَى الْأَجْنَاسِ السِّتَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ- رضي الله عنه-، وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ، هَلْ يَحْرُمُ الرِّبَا فِيهَا كَمَا يَحْرُمُ فِي هَذِهِ الْأَجْنَاسِ السِّتَّةِ أَمْ لَا يَحْرُمُ؟.

فَذَهَبَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْأَجْنَاسِ السِّتَّةِ، بَلْ يَتَعَدَّى إِلَى مَا فِي مَعْنَاهَا، وَهُوَ مَا وُجِدَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ التَّحْرِيمِ فِي الْأَجْنَاسِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الرِّبَا فِيهَا بِعِلَّةٍ، فَيَثْبُتُ فِي كُلِّ مَا وُجِدَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، فَتُسْتَخْرَجُ عِلَّةُ الْحُكْمِ وَيَثْبُتُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وُجِدَتْ عِلَّتُهُ فِيهِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ وَإِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيَّ رَوَيَا حَدِيثَ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْأَعْيَانِ السِّتَّةِ وَفِي آخِرِهِ «وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ» فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ إِلَى سَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَلَا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمُ الرَّمَا» أَيِ الرِّبَا، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ عَيْنَ الصَّاعِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الصَّاعِ، كَمَا يُقَالُ خُذْ هَذَا الصَّاعَ أَيْ مَا فِيهِ، وَوَهَبْتُ لِفُلَانٍ صَاعًا أَيْ مِنَ الطَّعَامِ.

وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيَّ فَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَيْبَرَ، فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَكُلُّ تَمْرَ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قَالَ: لَا، وَاللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَشْتَرِي الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنَ الْجَمْعِ.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: لَا تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ مِثْلًا بِمِثْلٍ، أَوْ بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا، وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ».

يَعْنِي مَا يُوزَنُ بِالْمِيزَانِ، فَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْآثَارِ قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ مِنَ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ إِلَى غَيْرِهَا.وَكَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ مَالَ الرِّبَا سِتَّةُ أَشْيَاءَ، وَلَكِنْ ذَكَرَ حُكْمَ الرِّبَا فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ.

وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ السِّتَّةِ بِالذِّكْرِ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ عَامَّةَ الْمُعَامَلَاتِ يَوْمَئِذٍ كَانَتْ بِهَا عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «كُنَّا فِي الْمَدِينَةِ نَبِيعُ الْأَوْسَاقَ وَنَبْتَاعُهَا» وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ مِمَّا تَكْثُرُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ وَهِيَ الْأَجْنَاسُ الْمَذْكُورَةُ.

وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَمَسْرُوقٍ وَالشَّعْبِيِّ وَقَتَادَةَ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَنُفَاةِ الْقِيَاسِ أَنَّهُمْ قَصَرُوا التَّحْرِيمَ عَلَى الْأَجْنَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا، وَقَالُوا إِنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَجْرِي فِي غَيْرِهَا بَلْ إِنَّهُ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ: أَنَّ الشَّارِعَ خَصَّ مِنَ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَطْعُومَاتِ وَالْأَقْوَاتِ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، فَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي كُلِّ الْمَكِيلَاتِ أَوْ فِي كُلِّ الْمَطْعُومَاتِ لَقَالَ: لَا تَبِيعُوا الْمَكِيلَ بِالْمَكِيلِ مُتَفَاضِلًا أَوْ: لَا تَبِيعُوا الْمَطْعُومَ بِالْمَطْعُومِ مُتَفَاضِلًا، فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَكُونُ أَشَدَّ اخْتِصَارًا وَأَكْثَرَ فَائِدَةً، فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَعَدَّ الْأَرْبَعَةَ عَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَ الْحُرْمَةِ مَقْصُورٌ عَلَيْهَا.وَأَنَّ التَّعْدِيَةَ مِنْ مَحَلِّ النَّصِّ إِلَى غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ لَا تُمْكِنُ إِلاَّ بِوَاسِطَةِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ وَهُوَ عِنْدَ نُفَاةِ الْقِيَاسِ غَيْرُ جَائِزٍ.

عِلَّةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْأَجْنَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا:

21- اتَّفَقَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا فِي الْأَجْنَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا إِنَّمَا هُوَ لِعِلَّةٍ، وَأَنَّ الْحُكْمَ بِالتَّحْرِيمِ يَتَعَدَّى إِلَى مَا تَثْبُتُ فِيهِ هَذِهِ الْعِلَّةُ، وَأَنَّ عِلَّةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاحِدَةٌ، وَعِلَّةَ الْأَجْنَاسِ الْأَرْبَعَةِ الْأُخْرَى وَاحِدَةٌ..ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْعِلَّةِ.

22- فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْعِلَّةُ: الْجِنْسُ وَالْقَدْرُ، وَقَدْ عُرِفَ الْجِنْسُ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ» وَعُرِفَ الْقَدْرُ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مِثْلًا بِمِثْلٍ» وَيَعْنِي بِالْقَدْرِ الْكَيْلَ فِيمَا يُكَالُ وَالْوَزْنَ فِيمَا يُوزَنُ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ»،، وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَبِيعُوا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ»،، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَكِيلٍ سَوَاءٌ أَكَانَ مَطْعُومًا أَمْ لَمْ يَكُنْ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ إِمَّا إِجْمَاعًا (أَيْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) أَوْ؛ لِأَنَّ التَّسَاوِيَ حَقِيقَةً لَا يُعْرَفُ إِلاَّ بِهِمَا، وَجَعْلُ الْعِلَّةِ مَا هُوَ مُتَعَلِّقُ الْحُكْمِ إِجْمَاعًا أَوْ هُوَ مُعَرِّفٌ لِلتَّسَاوِي حَقِيقَةً أَوْلَى مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَلَا يُعْرَفُ التَّسَاوِي حَقِيقَةً فِيهِ؛ وَلِأَنَّ التَّسَاوِيَ وَالْمُمَاثَلَةَ شَرْطٌ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «مِثْلًا بِمِثْلٍ»، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «سَوَاءً بِسَوَاءٍ» أَوْ صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ، وَالْمُمَاثَلَةُ بِالصُّورَةِ وَالْمَعْنَى أَتَمُّ، وَذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ يُوجِبُ الْمُمَاثَلَةَ صُورَةً، وَالْجِنْسُ يُوجِبُهَا مَعْنًى، فَكَانَ أَوْلَى.

23- وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: عِلَّةُ الرِّبَا فِي النُّقُودِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَقِيلَ: غَلَبَةُ الثَّمَنِيَّةِ، وَقِيلَ: مُطْلَقُ الثَّمَنِيَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ عِلَّةُ الرِّبَا فِي النُّقُودِ مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُمْنَعِ الرِّبَا فِيهَا لأَدَّى ذَلِكَ إِلَى قِلَّتِهَا فَيَتَضَرَّرُ النَّاسُ.

وَعِلَّةُ رِبَا الْفَضْلِ فِي الطَّعَامِ الِاقْتِيَاتُ وَالِادِّخَارُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَقَوْلُ الْأَكْثَرِ وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَالِاقْتِيَاتُ مَعْنَاهُ قِيَامُ بِنْيَةِ الْآدَمِيِّ بِهِ- أَيْ حِفْظُهَا وَصِيَانَتُهَا- بِحَيْثُ لَا تَفْسُدُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ، وَفِي مَعْنَى الِاقْتِيَاتِ إِصْلَاحُ الْقُوتِ كَمِلْحٍ وَتَوَابِلَ، وَمَعْنَى الِادِّخَارِ عَدَمُ فَسَادِهِ بِالتَّأْخِيرِ إِلَى الْأَجَلِ الْمُبْتَغَى مِنْهُ عَادَةً، وَلَا حَدَّ لَهُ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ بَلْ هُوَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، فَالْمَرْجِعُ فِيهِ لِلْعُرْفِ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الِادِّخَارُ مُعْتَادًا، وَلَا عِبْرَةَ بِالِادِّخَارِ لَا عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ.

وَإِنَّمَا كَانَ الِاقْتِيَاتُ وَالِادِّخَارُ عِلَّةَ حُرْمَةِ الرِّبَا فِي الطَّعَامِ لِخَزْنِ النَّاسِ لَهُ حِرْصًا عَلَى طَلَبِ وُفُورِ الرِّبْحِ فِيهِ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ.

وَعِلَّةُ رِبَا النَّسَاءِ مُجَرَّدُ الطَّعْمِ عَلَى وَجْهِ التَّدَاوِي، فَتَدْخُلُ الْفَاكِهَةُ وَالْخُضَرُ كَبِطِّيخٍ وَقِثَّاءٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

24- وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَوْنُهُمَا جِنْسَ الْأَثْمَانِ غَالِبًا- كَمَا نَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ- وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِجِنْسِيَّةِ الْأَثْمَانِ غَالِبًا أَوْ بِجَوْهَرِيَّةِ الْأَثْمَانِ غَالِبًا، وَهَذِهِ عِلَّةٌ قَاصِرَةٌ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا تَتَعَدَّاهُمَا إِذْ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِمَا، فَتَحْرِيمُ الرِّبَا فِيهِمَا لَيْسَ لِمَعْنًى يَتَعَدَّاهُمَا إِلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِمَعْنًى يَتَعَدَّاهُمَا إِلَى غَيْرِهِمَا لَمْ يَجُزْ إِسْلَامُهُمَا فِيمَا سِوَاهُمَا مِنَ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْئَيْنِ جَمَعَتْهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي الرِّبَا لَا يَجُوزُ إِسْلَامُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، فَلَمَّا جَازَ إِسْلَامُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الْمَوْزُونَاتِ وَالْمَكِيلَاتِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَمْوَالِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِمَا لِمَعْنًى لَا يَتَعَدَّاهُمَا وَهُوَ أَنَّهُمَا مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ.

وَذُكِرَ لَفْظُ «غَالِبًا» فِي بَيَانِ عِلَّةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلِاحْتِرَازِ مِنَ الْفُلُوسِ إِذَا رَاجَتْ رَوَاجَ النُّقُودِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ ثَمَنًا فِي بَعْضِ الْبِلَادِ فَلَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ غَالِبًا، وَيَدْخُلُ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا الْأَوَانِي وَالتِّبْرُ وَنَحْوُهُمَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: الْعِلَّةُ كَوْنُهُمَا قِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَمَعَهُمَا، قَالَ: وَكُلُّهُ قَرِيبٌ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: جَزَمَ الشِّيرَازِيُّ فِي التَّنْبِيهِ أَنَّ الْعِلَّةَ كَوْنُهُمَا قِيَمَ الْأَشْيَاءِ، وَأَنْكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْ قَالَهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَانِيَ وَالتِّبْرَ وَالْحُلِيَّ يَجْرِي فِيهَا الرِّبَا، وَلَيْسَتْ مِمَّا يَقُومُ بِهَا، وَلَنَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ غَرِيبٌ أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا فِيهِمَا بِعَيْنِهِمَا لَا لِعِلَّةٍ، حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ.

وَمَا سِوَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنَ الْمَوْزُونَاتِ كَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالصُّوفِ وَالْغَزْلِ وَغَيْرِهَا..لَا رِبَا فِيهَا، فَيَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا وَمُؤَجَّلًا.

وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْأَجْنَاسِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالْمِلْحُ أَنَّهَا مَطْعُومَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَالدَّلِيلُ مَا رَوَى مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» فَقَدْ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِالطَّعَامِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْمَطْعُومِ، وَالْمُعَلَّقُ بِالْمُشْتَقِّ مُعَلَّلٌ بِمَا مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ كَالْقَطْعِ وَالْجَلْدِ الْمُعَلَّقَيْنِ بِالسَّارِقِ وَالزَّانِي.وَلِأَنَّ الْحَبَّ مَا دَامَ مَطْعُومًا يَحْرُمُ فِيهِ الرِّبَا، فَإِذَا زُرِعَ وَخَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَطْعُومًا لَمْ يَحْرُمْ فِيهِ الرِّبَا، فَإِذَا انْعَقَدَ الْحَبُّ وَصَارَ مَطْعُومًا حَرُمَ فِيهِ الرِّبَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ كَوْنُهُ مَطْعُومًا، فَعَلَى هَذَا يَحْرُمُ الرِّبَا فِي كُلِّ مَا يُطْعَمُ.

وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْأَجْنَاسِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهَا مَطْعُومَةٌ مَكِيلَةٌ أَوْ مَطْعُومَةٌ مَوْزُونَةٌ، وَعَلَيْهِ فَلَا يَحْرُمُ الرِّبَا إِلاَّ فِي مَطْعُومٍ يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ.

وَالْجَدِيدُ هُوَ الْأَظْهَرُ، وَتَفْرِيعُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ عَلَيْهِ، قَالُوا: الْمُرَادُ بِالْمَطْعُومِ مَا قُصِدَ لِطَعْمِ الْآدَمِيِّ غَالِبًا، بِأَنْ يَكُونَ أَظْهَرُ مَقَاصِدِهِ الطَّعْمَ وَإِنْ لَمْ يُؤْكَلْ إِلاَّ نَادِرًا، وَالطَّعْمُ يَكُونُ اقْتِيَاتًا أَوْ تَفَكُّهًا أَوْ تَدَاوِيًا، وَالثَّلَاثَةُ تُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ الْأَجْنَاسِ السِّتَّةِ، فَإِنَّهُ نُصَّ فِيهِ عَلَى الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُمَا التَّقَوُّتُ، فَأُلْحِقَ بِهِمَا مَا فِي مَعْنَاهُمَا كَالْأُرْزِ وَالذُّرَةِ، وَنُصَّ فِيهِ عَلَى التَّمْرِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّفَكُّهُ وَالتَّأَدُّمُ، فَأُلْحِقَ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ كَالتِّينِ وَالزَّبِيبِ، وَنُصَّ فِيهِ عَلَى الْمِلْحِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِصْلَاحُ، فَأُلْحِقَ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ كَالْمُصْطَكَى وَالسَّقَمُونْيَا وَالزَّنْجَبِيلِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يُصْلِحُ الْغِذَاءَ وَمَا يُصْلِحُ الْبَدَنَ، فَالْأَغْذِيَةُ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ وَالْأَدْوِيَةُ لِرَدِّ الصِّحَّةِ.

25- وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْأَجْنَاسِ السِّتَّةِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: أَشْهَرُهَا أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَوْنُهُمَا مَوْزُونَيْ جِنْسٍ، وَفِي الْأَجْنَاسِ الْبَاقِيَةِ كَوْنُهَا مَكِيلَاتِ جِنْسٍ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَجْرِي الرِّبَا فِي كُلِّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِجِنْسِهِ وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا لَا يَتَأَتَّى كَيْلُهُ كَتَمْرَةٍ بِتَمْرَةٍ أَوْ تَمْرَةٍ بِتَمْرَتَيْنِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِتَسَاوِيهِمَا فِي الْكَيْلِ، وَلَا يَتَأَتَّى وَزْنُهُ كَمَا دُونَ الْأَرْزَةِ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ وَنَحْوِهِمَا، مَطْعُومًا كَانَ الْمَكِيلُ أَوِ الْمَوْزُونُ أَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، وَلَا يَجْرِي الرِّبَا فِي مَطْعُومٍ لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ كَالْمَعْدُودَاتِ مِنَ التُّفَّاحِ وَالرُّمَّانِ وَالْبِطِّيخِ وَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ وَنَحْوِهَا، فَيَجُوزُ بَيْعُ بَيْضَةٍ وَخِيَارَةٍ وَبِطِّيخَةٍ بِمِثْلِهَا، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَكِيلًا وَلَا مَوْزُونًا، لَكِنْ نَقَلَ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَرِهَ بَيْعَ بَيْضَةٍ بِبَيْضَتَيْنِ وَقَالَ: لَا يَصْلُحُ إِلاَّ وَزْنًا بِوَزْنٍ؛ لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ، وَلَا يَجْرِي الرِّبَا فِيمَا لَا يُوزَنُ عُرْفًا لِصِنَاعَتِهِ، وَلَوْ كَانَ أَصْلُهُ الْوَزْنَ غَيْرَ الْمَعْمُولِ مِنَ النَّقْدَيْنِ كَالْمَعْمُولِ مِنَ الصُّفْرِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَنَحْوِهِ، كَالْخَوَاتِمِ مِنْ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَثْمَانِ الثَّمَنِيَّةُ، وَفِيمَا عَدَاهَا كَوْنُهُ مَطْعُومَ جِنْسٍ فَيَخْتَصُّ بِالْمَطْعُومَاتِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا عَدَاهَا؛ لِمَا رَوَى مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» وَلِأَنَّ الطَّعْمَ وَصْفُ شَرَفٍ إِذْ بِهِ قِوَامُ الْأَبْدَانِ، وَالثَّمَنِيَّةَ وَصْفُ شَرَفٍ إِذْ بِهَا قِوَامُ الْأَمْوَالِ، فَيَقْتَضِي التَّعْلِيلَ بِهِمَا؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ فِي الْأَثْمَانِ الْوَزْنَ لَمْ يَجُزْ إِسْلَامُهُمَا فِي الْمَوْزُونَاتِ لِأَنَّ أَحَدَ وَصْفَيْ عِلَّةِ الرِّبَا الْفَضْلِ يَكْفِي فِي تَحْرِيمِ النَّسَاءِ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: الْعِلَّةُ فِيمَا عَدَا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ كَوْنُهُ مَطْعُومَ جِنْسٍ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا فَلَا يَجْرِي الرِّبَا فِي مَطْعُومٍ لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ، كَالتُّفَّاحِ وَالرُّمَّانِ وَالْخَوْخِ وَالْبِطِّيخِ وَنَحْوِهَا، وَلَا فِيمَا لَيْسَ بِمَطْعُومٍ كَالزَّعْفَرَانِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ أَثَرًا، وَالْحُكْمُ مَقْرُونٌ بِجَمِيعِهَا فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ حَذْفُهُ؛ وَلِأَنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ وَالْجِنْسَ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْمُمَاثَلَةِ وَإِنَّمَا أَثَرُهُ فِي تَحْقِيقِهَا فِي الْعِلَّةِ مَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ لَا مَا تَحَقَّقَ شَرْطُهُ.

وَالطَّعْمُ بِمُجَرَّدِهِ لَا تَتَحَقَّقُ الْمُمَاثَلَةُ بِهِ لِعَدَمِ الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ فِيهِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ، وَلِهَذَا وَجَبَتِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَكِيلِ كَيْلًا وَفِي الْمَوْزُونِ وَزْنًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطَّعْمُ مُعْتَبَرًا فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ دُونَ غَيْرِهِمَا، وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَتَقْيِيدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِالْآخَرِ، «فَنَهْيُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إِلاَّ مِثْلًا بِمِثْلٍ» يَتَقَيَّدُ بِمَا فِيهِ مِعْيَارٌ شَرْعِيٌّ وَهُوَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ، وَنَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الصَّاعِ بِالصَّاعَيْنِ يَتَقَيَّدُ بِالْمَطْعُومِ الْمَنْهِيِّ عَنِ التَّفَاضُلِ فِيهِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا فَرْقَ فِي الْمَطْعُومَاتِ بَيْنَ مَا يُؤْكَلُ قُوتًا كَالْأُرْزِ وَالذُّرَةِ وَالدُّخْنِ، أَوْ أُدْمًا كَالْقُطْنِيَّاتِ وَاللَّحْمِ وَاللَّبَنِ، أَوْ تَفَكُّهًا كَالثِّمَارِ، أَوْ تَدَاوِيًا كَالْإِهْلِيلَجِ وَالسَّقَمُونْيَا، فَإِنَّ الْكُلَّ فِي بَابِ الرِّبَا وَاحِدٌ.

مِنْ أَحْكَامِ الرِّبَا:

26- إِذَا تَحَقَّقَتْ عِلَّةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي مَالٍ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَإِنْ بِيعَ بِجِنْسِهِ حُرِّمَ فِيهِ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَاءُ وَالتَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ».

وَهَذَا قَدْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَفِيمَا عَدَاهُ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْعِلَّةِ.

وَفِيمَا يَلِي مُجْمَلُ أَحْكَامِ الرِّبَا فِي كُلِّ مَذْهَبٍ عَلَى حِدَةٍ.

27- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الرِّبَا الْقَدْرُ مَعَ الْجِنْسِ، فَإِنْ وُجِدَا حُرِّمَ الْفَضْلُ وَالنَّسَاءُ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ قَفِيزِ بُرٍّ بِقَفِيزَيْنِ مِنْهُ، وَلَا بَيْعُ قَفِيزِ بُرٍّ بِقَفِيزٍ مِنْهُ وَأَحَدُهُمَا نَسَاءٌ، وَإِنْ عُدِمَا- أَيِ الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ- حَلَّ الْبَيْعُ، وَإِنْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا أَيِ الْقَدْرُ وَحْدَهُ كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ، أَوِ الْجِنْسُ وَحْدَهُ كَالثَّوْبِ الْهَرَوِيِّ بِهَرَوِيٍّ مِثْلِهِ حَلَّ الْفَضْلُ وَحَرُمَ النَّسَاءُ.قَالُوا: أَمَّا إِذَا وُجِدَ الْمِعْيَارُ وَعُدِمَ الْجِنْسُ كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ وَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، فَلِقَوْلِهِ- عليه السلام- «إِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ، وَيُرْوَى النَّوْعَانِ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ» وَأَمَّا إِذَا وُجِدَتِ الْجِنْسِيَّةُ وَعُدِمَ الْمِعْيَارُ كَالْهَرَوِيِّ بِالْهَرَوِيِّ، فَإِنَّ الْمُعَجَّلَ خَيْرٌ مِنَ الْمُؤَجَّلِ وَلَهُ فَضْلٌ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الْفَضْلُ مِنْ حَيْثُ التَّعْجِيلُ رِبًا؛ لِأَنَّهُ فَضْلٌ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَهُوَ مَشْرُوطٌ فِي الْعَقْدِ فَيَحْرُمُ.

وَيَحْرُمُ بَيْعُ كَيْلِيٍّ أَوْ وَزْنِيٍّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا وَنَسِيئَةً وَلَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، كَجِصٍّ كَيْلِيٍّ أَوْ حَدِيدٍ وَزْنِيٍّ، وَيَحِلُّ بَيْعُ ذَلِكَ مُتَمَاثِلًا لَا مُتَفَاضِلًا وَبِلَا مِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ، فَإِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُقَدِّرِ الْمِعْيَارَ بِالذَّرَّةِ وَبِمَا دُونَ نِصْفِ الصَّاعِ كَحَفْنَةٍ بِحَفْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ مَا لَمْ يَبْلُغْ نِصْفَ الصَّاعِ، وَكَذَرَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَتُفَّاحَةٍ بِتُفَّاحَتَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا، فَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُعَيَّنَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ.وَخَالَفَ مُحَمَّدٌ فَرَأَى تَحْرِيمَ الرِّبَا فِي الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ كَتَمْرَةٍ بِتَمْرَتَيْنِ.

وَجَيِّدُ مَالِ الرِّبَا وَرَدِيئُهُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ سَوَاءٌ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ»؛ وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ سَدَّ بَابِ الْبِيَاعَاتِ فَيَلْغُو، وَاسْتَثْنَوْا مَسَائِلَ لَا يَجُوزُ فِيهَا إِهْدَارُ اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ، وَهِيَ: مَالُ الْيَتِيمِ وَالْوَقْفِ وَالْمَرِيضِ فَلَا يُبَاعُ الْجَيِّدُ مِنْهُ بِالرَّدِيءِ.وَيَجُوزُ بَيْعُ الرَّدِيءِ بِالْجَيِّدِ وَالْقُلْبِ وَالْمَرْهُونِ إِذَا انْكَسَرَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ وَنَقَصَتْ قِيمَتُهُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا بِخِلَافِ جِنْسِهِ.

وَمَا وَرَدَ النَّصُّ بِكَيْلِهِ فَكَيْلِيٌّ أَبَدًا، وَمَا وَرَدَ النَّصُّ بِوَزْنِهِ فَوَزْنِيٌّ أَبَدًا اتِّبَاعًا لِلنَّصِّ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْعُرْفِ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ خِلَافَ النَّصِّ وَأَشَارَ ابْنُ عَابِدِينَ إِلَى تَقْوِيَتِهِ، وَرَجَّحَهُ الْكَمَالُ ابْنُ الْهُمَامِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ عَلَى ذَلِكَ الْكَيْلِ فِي الشَّيْءِ أَوِ الْوَزْنِ فِيهِ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلاَّ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ إِذْ ذَاكَ كَذَلِكَ، وَقَدْ تَبَدَّلَتْ فَتَبَدَّلَ الْحُكْمُ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْعُرْفُ فِي زَمَنِهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالْعَكْسِ لَوَرَدَ النَّصُّ مُوَافِقًا لَهُ، وَلَوْ تَغَيَّرَ الْعُرْفُ فِي حَيَاتِهِ لَنَصَّ عَلَى تَغَيُّرِ الْحُكْمِ.

وَيَجُوزُ بَيْعُ لَحْمٍ بِحَيَوَانٍ وَلَوْ مِنْ جِنْسِهِ وَبَيْعُ قُطْنٍ بِغَزْلِ قُطْنٍ فِي الْأَصَحِّ، وَبَيْعُ رُطَبٍ بِرُطَبٍ مُتَمَاثِلًا كَيْلًا، وَبَيْعُ لُحُومٍ مُخْتَلِفَةٍ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَلَبَنُ بَقَرٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ مُتَفَاضِلًا يَدًا بِيَدٍ، وَيَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ بِالْجُبْنِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْبُرِّ بِدَقِيقٍ أَوْ سَوِيقٍ، وَلَا بَيْعُ الزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ.

وَلَا رِبَا بَيْنَ مُتَفَاوِضَيْنِ وَشَرِيكَيْ عِنَانٍ إِذَا تَبَايَعَا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ.

28- وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ وَلَا ذَهَبٍ بِذَهَبٍ إِلاَّ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلًا إِلاَّ يَدًا بِيَدٍ، وَالطَّعَامُ مِنَ الْحُبُوبِ وَالْقُطْنِيَّةِ وَشِبْهِهَا مِمَّا يُدَّخَرُ مِنْ قُوتٍ أَوْ إِدَامٍ لَا يَجُوزُ الْجِنْسُ مِنْهُ بِجِنْسِهِ إِلاَّ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ تَأْخِيرٌ، وَلَا يَجُوزُ طَعَامٌ بِطَعَامٍ إِلَى أَجَلٍ، كَانَ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ خِلَافِهِ، كَانَ مِمَّا يُدَّخَرُ أَوْ لَا يُدَّخَرُ.

وَلَا بَأْسَ بِالْفَوَاكِهِ وَالْبُقُولِ وَمَا لَا يُدَّخَرُ مُتَفَاضِلًا وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ يَدًا بِيَدٍ، وَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ فِيمَا يُدَّخَرُ مِنَ الْفَوَاكِهِ الْيَابِسَةِ وَسَائِرِ الْإِدَامِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلاَّ الْمَاءَ وَحْدَهُ، وَمَا اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهُ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ سَائِرِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالطَّعَامِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّفَاضُلِ فِيهِ يَدًا بِيَدٍ، وَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْهُ إِلاَّ فِي الْخُضَرِ وَالْفَوَاكِهِ، وَالْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ وَالسُّلْتُ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ فِيمَا يَحِلُّ مِنْهُ وَيَحْرُمُ، وَالزَّبِيبُ كُلُّهُ جِنْسٌ وَالتَّمْرُ كُلُّهُ صِنْفٌ، وَالْقُطْنِيَّةُ أَجْنَاسٌ فِي الْبُيُوعِ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيهَا وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي الزَّكَاةِ أَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلُحُومُ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ مِنَ الْأَنْعَامِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْوَحْشِ كَالْغَزَالِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ، وَلُحُومُ الطَّيْرِ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلُحُومُ دَوَابِّ الْمَاءِ كُلُّهَا جِنْسٌ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ لُحُومِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ شَحْمٍ فَهُوَ كَلَحْمِهِ، وَأَلْبَانُ ذَلِكَ الْجِنْسِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ الْإِنْسِيِّ مِنْهُ وَالْوَحْشِيِّ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ جُبْنُهُ وَسَمْنُهُ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا جِنْسٌ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَمَاثِلًا لَا مُتَفَاضِلًا.

29- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا بِيعَ الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ إِنْ كَانَا جِنْسًا اشْتُرِطَ الْحُلُولُ وَالْمُمَاثَلَةُ وَالتَّقَابُضُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، أَوْ جِنْسَيْنِ كَحِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ جَازَ التَّفَاضُلُ وَاشْتُرِطَ الْحُلُولُ وَالتَّقَابُضُ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ، وَدَقِيقُ الْأُصُولِ الْمُخْتَلِفَةِ الْجِنْسِ وَخَلُّهَا وَدُهْنُهَا أَجْنَاسٌ؛ لِأَنَّهَا فُرُوعُ أُصُولٍ مُخْتَلِفَةٍ فَأُعْطِيَتْ حُكْمَ أُصُولِهَا، وَاللُّحُومُ وَالْأَلْبَانُ كَذَلِكَ فِي الْأَظْهَرِ.وَالنَّقْدُ بِالنَّقْدِ كَالطَّعَامِ بِالطَّعَامِ.

وَالْمُمَاثَلَةُ تُعْتَبَرُ فِي الْمَكِيلِ كَيْلًا وَفِي الْمَوْزُونِ وَزْنًا، وَالْمُعْتَبَرُ غَالِبُ عَادَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَمَا جُهِلَ يُرَاعَى فِيهِ بَلَدُ الْبَيْعِ، وَقِيلَ: الْكَيْلُ، وَقِيلَ: الْوَزْنُ، وَقِيلَ: يُتَخَيَّرُ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ اعْتُبِرَ.

وَتُعْتَبَرُ الْمُمَاثَلَةُ وَقْتَ الْجَفَافِ؛ لِأَنَّهُ «- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فَقَالَ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ» أَشَارَ- صلى الله عليه وسلم- بِقَوْلِهِ: «أَيَنْقُصُ» إِلَى أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ الْجَفَافِ وَإِلاَّ فَالنُّقْصَانُ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ، وَيُعْتَبَرُ أَيْضًا إِبْقَاؤُهُ عَلَى هَيْئَةٍ يَتَأَتَّى ادِّخَارُهُ عَلَيْهَا كَالتَّمْرِ بِنَوَاهُ، فَلَا يُبَاعُ رُطَبٌ بِرُطَبٍ وَلَا بِتَمْرٍ، وَلَا عِنَبٌ بِعِنَبٍ وَلَا بِزَبِيبٍ، لِلْجَهْلِ بِالْمُمَاثَلَةِ وَقْتَ الْجَفَافِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَمَا لَا جَفَافَ لَهُ كَالْقِثَّاءِ وَالْعِنَبِ الَّذِي لَا يَتَزَبَّبُ لَا يُبَاعُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ أَصْلًا قِيَاسًا عَلَى الرُّطَبِ، وَفِي قَوْلٍ مُخَرَّجٍ تَكْفِي مُمَاثَلَتُهُ رُطَبًا؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ مَنَافِعِهِ فِي رُطُوبَتِهِ فَكَانَ كَاللَّبَنِ فَيُبَاعُ وَزْنًا وَإِنْ أَمْكَنَ كَيْلُهُ.

وَكُلُّ شَيْئَيْنِ اتَّفَقَا فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ كَالتَّمْرِ الْبَرْنِيِّ وَالتَّمْرِ الْمَعْقِلِيِّ فَهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَكُلُّ شَيْئَيْنِ اخْتَلَفَا فِي الِاسْمِ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ فَهُمَا جِنْسَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ سِتَّةَ أَشْيَاءَ وَحَرَّمَ فِيهَا التَّفَاضُلَ إِذَا بِيعَ كُلٌّ مِنْهَا بِمَا وَافَقَهُ فِي الِاسْمِ وَأَبَاحَ فِيهِ التَّفَاضُلَ إِذَا بِيعَ بِمَا خَالَفَهُ فِي الِاسْمِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْئَيْنِ اتَّفَقَا فِي الِاسْمِ فَهُمَا جِنْسٌ وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الِاسْمِ فَهُمَا جِنْسَانِ.

30- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: كُلُّ مَا كِيلَ أَوْ وُزِنَ مِنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ فَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهِ إِذَا كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا، وَمَا كَانَ مِنْ جِنْسَيْنِ جَازَ التَّفَاضُلُ فِيهِ يَدًا بِيَدٍ، وَلَا يَجُوزُ نَسِيئَةً، وَالدَّلِيلُ حَدِيثُ عُبَادَةَ السَّابِقُ، وَمَا كَانَ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَجَائِزٌ التَّفَاضُلُ فِيهِ يَدًا بِيَدٍ وَنَسِيئَةً سَوَاءٌ بِيعَ بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ- فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ- وَلَا يُبَاعُ شَيْءٌ مِنَ الرُّطَبِ بِيَابِسٍ مِنْ جِنْسِهِ إِلاَّ الْعَرَايَا، فَأَمَّا بَيْعُ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ وَالْعِنَبِ بِالْعِنَبِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الرُّطُبِ بِمِثْلِهِ فَيَجُوزُ مَعَ التَّمَاثُلِ، وَأَمَّا مَا لَا يَيْبَسُ كَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ، وَلَا يُبَاعُ مَا أَصْلُهُ الْكَيْلُ بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ وَزْنًا وَلَا مَا أَصْلُهُ الْوَزْنُ كَيْلًا، وَالْمَرْجِعُ فِي مَعْرِفَةِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ إِلَى الْعُرْفِ بِالْحِجَازِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ».

وَمَا لَا عُرْفَ فِيهِ بِالْحِجَازِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:

أَحَدَهُمَا: يُرَدُّ إِلَى أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ شَبَهًا بِالْحِجَازِ.

وَالثَّانِيَ: يُعْتَبَرُ عُرْفُهُ فِي مَوْضِعِهِ.وَالتُّمُورُ كُلُّهَا جِنْسٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهَا، وَالْبُرُّ وَالشَّعِيرُ جِنْسَانِ.هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِشَيْءٍ مِنْ فُرُوعِهَا: السَّوِيقُ، وَالدَّقِيقُ فِي الصَّحِيحِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالدَّقِيقِ، فَأَمَّا بَيْعُ بَعْضِ فُرُوعِهَا بِبَعْضٍ فَيَجُوزُ بَيْعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ بِنَوْعِهِ مُتَسَاوِيًا، فَأَمَّا بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالسَّوِيقِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ.وَالْأَصَحُّ أَنَّ اللَّحْمَ أَجْنَاسٌ بِاخْتِلَافِ أُصُولِهِ، وَفِي اللَّبَنِ رِوَايَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: هُوَ جِنْسٌ وَاحِدٌ.

وَالثَّانِيَةُ: هُوَ أَجْنَاسٌ بِاخْتِلَافِ أُصُولِهِ كَاللَّحْمِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِهِ، وَأَمَّا بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي جَوَازَهُ، وَبَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ جَائِزٌ فِي ظَاهِرِ قَوْلِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الرِّبَا بِأَصْلِهِ الَّذِي فِيهِ مِنْهُ كَالسِّمْسِمِ بِالشَّيْرَجِ وَالزَّيْتُونِ بِالزَّيْتِ وَسَائِرِ الْأَدْهَانِ بِأُصُولِهَا وَالْعَصِيرِ بِأَصْلِهِ.

وَبَيْعُ شَيْءٍ مِنَ الْمُعْتَصَرَاتِ بِجِنْسِهِ يَجُوزُ مُتَمَاثِلًا، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا وَكَيْفَ شَاءَ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ، وَيُعْتَبَرُ التَّسَاوِي فِيهِمَا بِالْكَيْلِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَا مَطْبُوخَيْنِ أَمْ نِيئَيْنِ، أَمَّا بَيْعُ النِّيءِ بِالْمَطْبُوخِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَلَا يَجُوزُ.

مِنْ مَسَائِلِ الرِّبَا:

31- مَسَائِلُ الرِّبَا كَثِيرَةٌ وَمُتَعَدِّدَةٌ، وَالْعِلَّةُ هِيَ الْأَصْلُ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَامَّةُ مَسَائِلِ الرِّبَا.

أَوْ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ مَسَائِلَ هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ وَفُرُوعَهُ مُنْتَشِرَةٌ، وَالَّذِي يَرْبِطُ لَكَ ذَلِكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى مَا اعْتَبَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي عِلَّةِ الرِّبَا.وَفِيمَا يَلِي أَمْثِلَةٌ وَمُخْتَارَاتٌ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ:

الْمُحَاقَلَةُ:

32- بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا بِحِنْطَةٍ صَافِيَةٍ مِنَ التِّبْنِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ شَرْعًا لِمَا فِيهِ مِنْ جَهْلِ التَّسَاوِي بَيْنَ الْعِوَضَيْنِ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي (بَيْعُ الْمُحَاقَلَةِ) (وَمُحَاقَلَةٌ).

الْمُزَابَنَةُ:

33- بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى النَّخْلِ بِتَمْرٍ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ شَرْعًا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمُمَاثَلَةِ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي: (بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ).

الْعِينَةُ:

34- بَيْعُ السِّلْعَةِ بِثَمَنٍ، إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ شِرَاؤُهَا مِنَ الْمُشْتَرِي بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ، وَهِيَ حَرَامٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- لِأَنَّهُ مِنَ الرِّبَا أَوْ ذَرِيعَةٌ إِلَى الرِّبَا. وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْعِينَةِ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


130-موسوعة الفقه الكويتية (زنى 2)

زِنَى -2

ب- أَنْوَاعُ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:

19- قَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ الشُّبْهَةَ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ فِي إِفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: شُبْهَةٍ فِي الْوَاطِئِ، وَشُبْهَةٍ فِي الْمَوْطُوءَةِ، وَشُبْهَةٍ فِي الطَّرِيقِ.

فَالشُّبْهَةُ فِي الْوَاطِئِ: كَاعْتِقَادِ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْنَبِيَّةَ امْرَأَتُهُ، فَالِاعْتِقَادُ الَّذِي هُوَ جَهْلٌ مُرَكَّبٌ وَغَيْرُ مُطَابِقٍ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُعْتَقِدٌ الْإِبَاحَةَ، وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ فِي اعْتِقَادِهِ يَقْتَضِي الْحَدَّ، فَحَصَلَ الِاشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ.

وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَوْطُوءَةِ: كَالْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ إِذَا وَطِئَهَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ.فَمَا فِيهَا مِنْ نَصِيبِهِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ، وَمَا فِيهَا مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ يَقْتَضِي الْحَدَّ، فَحَصَلَ الِاشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ.وَالشُّبْهَةُ فِي الطَّرِيقِ: كَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي إِبَاحَةِ الْمَوْطُوءَةِ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَنَحْوِهِ.فَإِنَّ قَوْلَ الْمُحَرِّمِ يَقْتَضِي الْحَدَّ، وَقَوْلَ الْمُبِيحِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ، فَحَصَلَ الِاشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ.

فَهَذِهِ الثَّلَاثُ هِيَ ضَابِطُ الشُّبْهَةِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَهُمْ فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ.غَيْرَ أَنَّ لَهَا شَرْطًا وَهُوَ اعْتِقَادُ الْمُقْدِمِ عَلَى الْفِعْلِ مُقَارَنَةَ السَّبَبِ الْمُبِيحِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فِي حُصُولِ السَّبَبِ كَأَنْ يَطَأَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً يَعْتَقِدُ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ.وَضَابِطُ الشُّبْهَةِ الَّتِي لَا تُعْتَبَرُ فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ تَتَحَقَّقُ بِأَمْرَيْنِ: إِمَّا بِالْخُرُوجِ عَنِ الشُّبُهَاتِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ كَمَنْ تَزَوَّجَ خَامِسَةً أَوْ مَبْتُوتَةً ثَلَاثًا قَبْلَ زَوْجٍ، أَوْ أُخْتَهُ مِنَ الرَّضَاعِ أَوِ النَّسَبِ أَوْ ذَاتَ مَحْرَمٍ عَامِدًا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، أَوْ بِعَدَمِ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ كَأَنْ يَطَأَ امْرَأَةً يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سَيَتَزَوَّجُهَا فَإِنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ لِعَدَمِ اعْتِقَادِ مُقَارَنَةِ الْعِلْمِ لِسَبَبِهِ.

ج- أَنْوَاعُ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:

20- الشُّبْهَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: شُبْهَةٍ فِي الْمَحَلِّ، وَشُبْهَةٍ فِي الْفَاعِلِ، وَشُبْهَةٍ فِي الْجِهَةِ.

فَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ، كَوَطْءِ زَوْجَتِهِ الْحَائِضِ وَالصَّائِمَةِ، وَالْمُحْرِمَةِ، وَأَمَتِهِ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَجَارِيَةِ وَلَدِهِ.فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.وَكَذَا لَوْ وَطِئَ مَمْلُوكَتَهُ الْمُحَرَّمَةَ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، كَأُخْتِهِ مِنْهُمَا، أَوْ بِمُصَاهَرَةٍ كَمَوْطُوءَةِ أَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ، فَلَا حَدَّ بِوَطْئِهَا فِي الْأَظْهَرِ؛ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ.قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَمَحَلُّ ذَلِكَ فِيمَنْ يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا كَأُخْتِهِ.أَمَّا مَنْ لَا يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا كَالْأُمِّ وَالْجَدَّةِ فَهُوَ زَانٍ قَطْعًا.وَكَذَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ، أَوْ أَمَتَهُ الْمُزَوَّجَةَ، أَوِ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ غَيْرِهِ، أَوِ الْمَجُوسِيَّةَ وَالْوَثَنِيَّةَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ أَسْلَمَتْ أَمَةُ ذِمِّيٍّ فَوَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ تُبَاعَ.وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْفَاعِلِ، فَمِثْلُ أَنْ يَجِدَ امْرَأَةً فِي فِرَاشِهِ فَيَطَؤُهَا ظَانًّا أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ ظَنَّ ذَلِكَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ.وَلَوْ ظَنَّهَا جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ فَكَانَتْ غَيْرَهَا فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ لِأَنَّهُ عَلِمَ التَّحْرِيمَ فَكَانَ عَلَيْهِ الِامْتِنَاعُ.وَهَذَا مَا رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ مِنَ احْتِمَالَيْنِ.وَجَزَمَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِسُقُوطِهِ.وَيَدْخُلُ فِي شُبْهَةِ الْفَاعِلِ الْمُكْرَهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.

وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْجِهَةِ: فَهِيَ كُلُّ طَرِيقٍ صَحَّحَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَأَبَاحَ الْوَطْءَ بِهَا فَلَا حَدَّ فِيهَا عَلَى الْمَذْهَبِ وَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ نَظَرًا لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ.فَلَا حَدَّ فِي الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ.وَبِلَا شُهُودٍ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ.وَلَا فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ كَمَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِشُبْهَةِ الْخِلَافِ.

ثُمَّ إِنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي النِّكَاحِ الْمَذْكُورِ أَنْ لَا يُقَارِنَهُ حُكْمٌ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.فَإِنْ قَارَنَهُ حُكْمٌ قَاضٍ بِبُطْلَانِهِ حُدَّ قَطْعًا، أَوْ حُكْمٌ قَاضٍ بِصِحَّتِهِ لَمْ يُحَدَّ قَطْعًا.

وَقَدْ صَرَّحَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الضَّابِطَ فِي الشُّبْهَةِ قُوَّةُ الْمُدْرِكِ لَا عَيْنُ الْخِلَافِ.فَلَوْ وَطِئَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ حُدَّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ حُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ حِلُّ ذَلِكَ.

وَصَرَّحَ الرَّمْلِيُّ بِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ مِنْ عَالِمٍ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَإِنْ لَمْ يُقَلِّدْهُ الْفَاعِلُ.

د- الشُّبْهَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:

21- لَمْ يُقَسِّمِ الْحَنَابِلَةُ الشُّبْهَةَ إِلَى أَنْوَاعٍ كَالْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا لَهَا أَمْثِلَةً فَقَالُوا: لَا حَدَّ عَلَى الْأَبِ إِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ سَوَاءٌ وَطِئَهَا الِابْنُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ تَمَكَّنَتِ الشُّبْهَةُ فِيهِ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي مِلْكِ وَلَدِهِ لِحَدِيثِ «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ».وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ، أَوْ لِوَلَدِهِ فِيهَا شِرْكٌ، أَوْ لِمُكَاتَبِهِ فِيهَا شِرْكٌ؛ لِلْمِلْكِ أَوْ شُبْهَتِهِ، وَلَا حَدَّ إِنْ وَطِئَ أَمَةً كُلَّهَا لِبَيْتِ الْمَالِ أَوْ بَعْضَهَا لِبَيْتِ الْمَالِ وَهُوَ حُرٌّ مُسْلِمٌ، لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي بَيْتِ الْمَالِ.وَلَا حَدَّ إِنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ دُبُرٍ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ قَدْ صَادَفَ مِلْكًا، وَإِنْ وَطِئَ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ أَوْ فِي مَنْزِلِهِ ظَنَّهَا امْرَأَتَهُ أَوْ زُفَّتْ إِلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يُقَلْ لَهُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ.وَلَوْ دَعَا ضَرِيرٌ امْرَأَتَهُ فَأَجَابَتْهُ امْرَأَةٌ غَيْرُهَا فَوَطِئَهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ.بِخِلَافِ مَا لَوْ دَعَا مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ فَأَجَابَهُ غَيْرُهَا فَوَطِئَهَا يَظُنُّهَا الْمَدْعُوَّةَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمَدْعُوَّةُ مِمَّنْ لَهُ فِيهَا شُبْهَةٌ كَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ أَمْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ بِهَذَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَ رَجُلًا يَظُنُّهُ ابْنَهُ فَبَانَ أَجْنَبِيًّا.وَإِنْ وَطِئَ أَمَتَهُ الْمَجُوسِيَّةَ أَوِ الْوَثَنِيَّةَ أَوِ الْمُرْتَدَّةَ أَوِ الْمُعْتَدَّةَ، أَوِ الْمُزَوَّجَةَ، أَوْ فِي مُدَّةِ اسْتِبْرَائِهَا فَلَا حَدَّ، لِأَنَّهَا مِلْكُهُ.وَإِنْ وَطِئَ فِي نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ أَوْ فِي مِلْكٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ، أَوْ بِلَا شُهُودٍ، وَنِكَاحِ الشِّغَارِ، وَنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، وَنِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا، وَنَحْوِهَا، وَنِكَاحِ الْبَائِنِ مِنْهُ، وَنِكَاحِ خَامِسَةٍ فِي عِدَّةِ رَابِعَةٍ لَمْ تَبِنْ، وَنِكَاحِ الْمَجُوسِيَّةِ، وَعَقْدِ الْفُضُولِيِّ وَلَوْ قَبْلَ الْإِجَازَةِ، سَوَاءٌ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ أَمْ لَا.

هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ.وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ، أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ إِذَا اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ.

وَإِنْ جَهِلَ نِكَاحًا بَاطِلًا إِجْمَاعًا كَخَامِسَةٍ فَلَا حَدَّ لِلْعُذْرِ، وَيُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا.أَمَّا إِذَا عَلِمَ بِبُطْلَانِهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ.وَلَا حَدَّ فِي الْوَطْءِ فِي شِرَاءٍ فَاسِدٍ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَوِ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ لِلشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ بِإِقْبَاضِهِ الْأَمَةَ كَأَنَّهُ أَذِنَهُ فِي فِعْلِ مَا يَمْلِكُهُ بِالْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَمِنْهُ الْوَطْءُ، أَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ فَيُحَدُّ عَلَى الصَّحِيحِ.كَمَا يَجِبُ الْحَدُّ فِي وَطْءِ الْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ إِذَا كَانَ يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ وَيَعْلَمُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ عَلَى الصَّحِيحِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ.

5- مِنْ شُرُوطِ حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُخْتَارًا:

22- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُكْرَهَةِ عَلَى الزِّنَى لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».وَعَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ امْرَأَةً اسْتُكْرِهَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ».وَلِأَنَّ هَذَا شُبْهَةٌ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِهَا.

وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الرَّجُلِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَى.فَذَهَبَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ وَالَّذِي بِهِ الْفَتْوَى وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ إِلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الرَّجُلِ الْمُكْرَهِ عَلَى الزِّنَى لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ وَلِشُبْهَةِ الْإِكْرَاهِ.

وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ- وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ- وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِالِانْتِشَارِ الْحَادِثِ بِالِاخْتِيَارِ.

وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ إِكْرَاهِ السُّلْطَانِ وَإِكْرَاهِ غَيْرِهِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي إِكْرَاهِ السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ الْمُلْجِئَ قَائِمٌ ظَاهِرًا، وَالِانْتِشَارُ دَلِيلٌ مُتَرَدِّدٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ؛ لِأَنَّ الِانْتِشَارَ قَدْ يَكُونُ طَبْعًا لَا طَوْعًا، كَمَا فِي النَّائِمِ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً، وَعَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ، لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ لَا يَدُومُ إِلاَّ نَادِرًا لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِالسُّلْطَانِ أَوْ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَيُمْكِنُهُ دَفْعُهُ بِنَفْسِهِ بِالسِّلَاحِ.وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ، بِخِلَافِ السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِعَانَةُ بِغَيْرِهِ وَلَا الْخُرُوجُ بِالسِّلَاحِ عَلَيْهِ فَافْتَرَقَا.وَالْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْلِ الصَّاحِبَيْنِ.قَالَ مَشَايِخُ الْحَنَفِيَّةِ: وَهَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ، فَفِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لِغَيْرِ السُّلْطَانِ مِنَ الْقُوَّةِ مَا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالسُّلْطَانِ، وَفِي زَمَنِهِمَا ظَهَرَتِ الْقُوَّةُ لِكُلِّ مُتَغَلِّبٍ فَيُفْتَى بِقَوْلِهِمَا.

ثَانِيًا: الشُّرُوطُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا:

1- اشْتِرَاطُ كَوْنِ الْمَوْطُوءَةِ حَيَّةً:

23- اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) فِي وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَى أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ حَيَّةً، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عِنْدَهُمْ بِوَطْءِ الْمَيْتَةِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا وَجَبَ لِلزَّجْرِ، وَهَذَا مِمَّا يَنْفِرُ الطَّبْعُ عَنْهُ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الزَّجْرِ عَنْهُ بِحَدٍّ لِزَجْرِ الطَّبْعِ عَنْهُ.وَفِيهِ التَّعْزِيرُ عِنْدَهُمْ.

وَيُعَبِّرُ الشَّافِعِيَّةُ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ بِالْفَرْجِ الْمُشْتَهَى طَبْعًا، وَهُوَ فَرْجُ الْآدَمِيِّ الْحَيِّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ فَيَجِبُ عِنْدَهُمُ الْحَدُّ بِوَطْءِ الْمَيْتَةِ سَوَاءٌ كَانَ فِي قُبُلِهَا أَوْ دُبُرِهَا.وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الزَّوْجَ فَلَا يُحَدُّ بِوَطْءِ زَوْجَتِهِ الْمَيْتَةِ.وَاسْتَثْنَوْا كَذَلِكَ الْمَرْأَةَ إِذَا أَدْخَلَتْ ذَكَرَ مَيْتٍ غَيْرَ زَوْجٍ فِي فَرْجِهَا فَلَا تُحَدُّ لِعَدَمِ اللَّذَّةِ.

كَوْنُ الْمَوْطُوءَةِ امْرَأَةً:

24- اشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ امْرَأَةً.فَلَا حَدَّ عِنْدَهُ فِيمَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ وَيُسْجَنُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَتُوبَ، وَلَوِ اعْتَادَ اللِّوَاطَةَ قَتَلَهُ الْإِمَامُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مِحْصَنٍ سِيَاسَةً.أَمَّا الْحَدُّ الْمُقَدَّرُ شَرْعًا فَلَيْسَ حُكْمًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًى وَلَا فِي مَعْنَاهُ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حَدٌّ.

وَلَمْ يَشْتَرِطْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ هَذَا الشَّرْطَ، فَذَهَبَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ حَدَّ الزِّنَى عَلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ جَلْدًا إِنْ لَمْ يَكُنْ أُحْصِنَ، وَرَجْمًا إِنْ أُحْصِنَ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمَا يُرْجَمَانِ حَدًّا أُحْصِنَا أَمْ لَا.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْفَاعِلِ.أَمَّا الْمَفْعُولُ بِهِ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ وَيُغَرَّبُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ إِحْصَانٌ. وَطْءُ الْبَهِيمَةِ:

25- ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ أَتَى بَهِيمَةً لَكِنَّهُ يُعَزَّرُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.وَمِثْلُ هَذَا لَا يَقُولُهُ إِلاَّ عَنْ تَوْقِيفٍ، وَلِأَنَّ الطَّبْعَ السَّلِيمَ يَأْبَاهُ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى زَجْرٍ بِحَدٍّ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ: إِنَّهُ يُحَدُّ حَدَّ الزِّنَى وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ: بِأَنَّهُ يُقْتَلُ مُطْلَقًا مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ.

وَمِثْلُ وَطْءِ الْبَهِيمَةِ مَا لَوْ مَكَّنَتِ امْرَأَةٌ حَيَوَانًا مِنْ نَفْسِهَا حَتَّى وَطِئَهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا بَلْ تُعَزَّرُ.

وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ) أَنَّهُ لَا تُقْتَلُ الْبَهِيمَةُ، وَإِذَا قُتِلَتْ فَإِنَّهَا يَجُوزُ أَكْلُهَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُؤْكَلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَمَنَعَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ أَكْلَهَا.وَقَالَا: تُذْبَحُ وَتُحْرَقُ.وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ الِانْتِفَاعِ بِهَا حَيَّةً وَمَيِّتَةً.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْبَهِيمَةَ تُقْتَلُ سَوَاءٌ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ.وَسَوَاءٌ كَانَتْ مَأْكُولَةً أَوْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ.وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا قَالَ: «مَنْ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ».وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّهَا تُذْبَحُ إِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً، وَصَرَّحُوا بِحُرْمَةِ أَكْلِهَا إِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ مَا يُؤْكَلُ.

3- كَوْنُ الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ:

26- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَى عَلَى مَنْ أَتَى امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فِي دُبُرِهَا، لِأَنَّهُ فَرْجٌ أَصْلِيٌّ كَالْقُبُلِ.

وَخَصَّ الشَّافِعِيَّةُ الْحَدَّ بِالْفَاعِلِ فَقَطْ.أَمَّا الْمَفْعُولُ بِهَا فَإِنَّهَا تُجْلَدُ وَتُغَرَّبُ، مُحْصَنَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ إِحْصَانٌ.

وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ فِي الْقُبُلِ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عِنْدَهُ عَلَى مَنْ أَتَى امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فِي دُبُرِهَا، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ.

ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ.أَمَّا إِتْيَانُ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ أَوْ مَمْلُوكَتَهُ فِي دُبُرِهَا فَلَا حَدَّ فِيهِ اتِّفَاقًا، وَيُعَزَّرُ فَاعِلُهُ لِارْتِكَابِهِ مَعْصِيَةً.وَقَصَرَ الشَّافِعِيَّةُ التَّعْزِيرَ عَلَى مَا إِذَا تَكَرَّرَ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَكَرَّرْ فَلَا تَعْزِيرَ فِيهِ.

4- كَوْنُ الْوَطْءِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ:

27- اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ الزِّنَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوِ الْبَغْيِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ زَنَى أَوْ سَرَقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَصَابَ بِهَا حَدًّا ثُمَّ هَرَبَ فَخَرَجَ إِلَيْنَا فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ».

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقَامَ عَلَى أَحَدٍ حَدٌّ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ.

وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ، وَلَا قُدْرَةَ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِ حَالَ كَوْنِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا وُجُوبَ وَإِلاَّ عَرَى عَنِ الْفَائِدَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الِاسْتِيفَاءُ لِيَحْصُلَ الزَّجْرُ، وَالْفَرْضُ أَنْ لَا قُدْرَةَ عَلَيْهِ، وَإِذَا خَرَجَ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِلْإِيجَابِ حَالَ وُجُودِهِ لَمْ يَنْقَلِبْ مُوجِبًا لَهُ حَالَ عَدَمِهِ.

وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ إِذَا زَنَى فِي عَسْكَرٍ لِأَمِيرِهِ وِلَايَةُ إِقَامَةِ الْحَدِّ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُقِيمُ عَلَيْهِ حَدَّ الزِّنَى؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَالْقُدْرَةُ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ خَرَجَ مِنَ الْعَسْكَرِ فَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَزَنَى ثُمَّ عَادَ إِلَى الْعَسْكَرِ فَإِنَّهُ لَا يُقِيمُهُ، وَكَذَا لَوْ زَنَى فِي الْعَسْكَرِ وَالْعَسْكَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي أَيَّامِ الْمُحَارَبَةِ قَبْلَ الْفَتْحِ فَإِنَّهُ يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ.وَهَذَا الْحُكْمُ خَاصٌّ بِمَا إِذَا كَانَ فِي الْعَسْكَرِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ إِقَامَةِ الْحُدُودِ، بِخِلَافِ أَمِيرِ الْعَسْكَرِ أَوِ السَّرِيَّةِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا فَوَّضَ لَهُمَا تَدْبِيرَ الْحَرْبِ لَا إِقَامَةَ الْحُدُودِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلْإِمَامِ، وَوِلَايَةُ الْإِمَامِ مُنْقَطِعَةٌ ثَمَّةَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ إِنْ لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً مِنْ نَحْوِ رِدَّةِ الْمَحْدُودِ وَالْتِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مَنْ أَتَى حَدًّا فِي الْغَزْوِ لَمْ يُسْتَوْفَ مِنْهُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لِمَا رَوَى جُنَادَةُ بْنُ أُمَيَّةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ بُسْرِ بْنِ أَرْطَاةَ فِي الْبَحْرِ، فَأُتِيَ بِسَارِقٍ يُقَالُ لَهُ: مَصْدَرٌ، قَدْ سَرَقَ بُخْتِيَّةً، فَقَالَ: قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي السَّفَرِ» وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَطَعْتُهُ.

وَنَقَلُوا إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ مَتَى رَجَعَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعُمُومِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ، وَإِنَّمَا أُخِّرَ لِعَارِضٍ، وَقَدْ زَالَ.

وَإِذَا أَتَى حَدًّا فِي الثُّغُورِ أُقِيمَ عَلَيْهِ فِيهَا بِغَيْرِ خِلَافٍ، لِأَنَّهَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إِلَى زَجْرِ أَهْلِهَا كَالْحَاجَةِ إِلَى زَجْرِ غَيْرِهِمْ.

5- أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُسْلِمًا:

28- اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُسْلِمًا، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْكَافِرِ إِذَا زَنَى بِمُسْلِمَةٍ طَائِعَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ.وَيُرَدُّ إِلَى أَهْلِ مِلَّتِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ الْعُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ، وَتُحَدُّ الْمُسْلِمَةُ.وَإِنِ اسْتَكْرَهَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَةَ عَلَى الزِّنَى قُتِلَ.

وَقَدْ وَافَقَتِ الْمَذَاهِبُ الْأُخْرَى مَذْهَبَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمُسْتَأْمَنِ فَقَطْ.

وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ فِي الْمَذَاهِبِ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي: فَفِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يُحَدُّ الْمُسْتَأْمَنُ سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، وَيُحَدُّ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ: يُحَدُّ الْجَمِيعُ.وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ: لَا يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ.فَإِذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ بِالْمُسْلِمَةِ أَوِ الذِّمِّيَّةِ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ دُونَ الْحَرْبِيِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ جَمِيعًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَلَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَتَقْيِيدُ الْمَسْأَلَةِ بِالْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ زَنَى بِحَرْبِيَّةٍ مُسْتَأْمَنَةٍ لَا يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُحَدَّانِ، وَإِنْ زَنَى الْمُسْلِمُ أَوِ الذِّمِّيُّ بِالْحَرْبِيَّةِ الْمُسْتَأْمَنَةِ حُدَّ الرَّجُلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُحَدَّانِ جَمِيعًا.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْمُعَاهَدِ وَالْمُسْتَأْمَنِ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِمَا بِالْأَحْكَامِ، وَيُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ لِالْتِزَامِهِ بِالْأَحْكَامِ، وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَجَمَ رَجُلًا وَامْرَأَةً مِنَ الْيَهُودِ زَنَيَا».وَكَانَا قَدْ أُحْصِنَا.قَالَ الرَّمْلِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ الْيَوْمَ لَا يُحَدُّونَ عَلَى الْمَذْهَبِ كَالْمُسْتَأْمَنِ، لِأَنَّهُمْ لَا يُجَدَّدُ لَهُمْ عَهْدٌ، بَلْ يَجْرُونَ عَلَى ذِمَّةِ آبَائِهِمْ.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يُحَدُّونَ حَدَّ الزِّنَى، «لِأَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِامْرَأَةٍ وَرَجُلٍ مِنْهُمْ قَدْ زَنَيَا فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَرُجِمَا» وَيَلْزَمُ الْإِمَامَ إِقَامَةُ الْحَدِّ فِي زِنَى بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ؛ لِالْتِزَامِهِمْ حُكْمَنَا.وَلَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى مُسْتَأْمَنٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ حُكْمَنَا.

وَلِأَنَّ زِنَى الْمُسْتَأْمَنِ يَجِبُ بِهِ الْقَتْلُ لِنَقْضِ الْعَهْدِ، وَلَا يَجِبُ مَعَ الْقَتْلِ حَدٌّ سِوَاهُ.وَهَذَا إِذَا زَنَى بِمُسْلِمَةٍ.أَمَّا إِذَا زَنَى الْمُسْتَأْمَنُ بِغَيْرِ مُسْلِمَةٍ فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

6- أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ نَاطِقًا:

29- اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ نَاطِقًا.فَلَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عِنْدَهُمْ عَلَى الْأَخْرَسِ مُطْلَقًا، حَتَّى وَلَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَى أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي كِتَابٍ كَتَبَهُ أَوْ إِشَارَةٍ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِالزِّنَى لَا تُقْبَلُ لِلشُّبْهَةِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ هَذَا الشَّرْطَ فَيَجِبُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْأَخْرَسِ إِذَا زَنَى.

ثُبُوتُ الزِّنَى:

يَثْبُتُ الزِّنَى بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: بِالشَّهَادَةِ، وَالْإِقْرَارِ، وَالْقَرَائِنِ.

أ- الشَّهَادَةُ:

30- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ الزِّنَى بِالشَّهَادَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْيَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْيَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}

وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: نَعَمْ».

وَيُشْتَرَطُ فِي الشُّهُودِ عَلَى الزِّنَى بِالْإِضَافَةِ إِلَى الشُّرُوطِ الْعَامَّةِ لِلشَّهَادَةِ (الْمَذْكُورَةِ فِي مُصْطَلَحِ شَهَادَةٍ) أَنْ تَتَوَافَرَ فِيهِمْ شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ حَتَّى يَثْبُتَ الزِّنَى، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ هِيَ:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: الذُّكُورَةُ:

31- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِي شُهُودِ الزِّنَى، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا رِجَالًا كُلَّهُمْ، لِلنُّصُوصِ السَّابِقَةِ.

وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الزِّنَى بِحَالٍ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْأَرْبَعَةِ اسْمٌ لِعَدَدِ الْمَذْكُورِينَ، وَيَقْتَضِي أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ بِأَرْبَعَةٍ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأَرْبَعَةَ إِذَا كَانَ بَعْضُهُمْ نِسَاءً لَا يُكْتَفَى بِهِمْ، وَأَنَّ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ خَمْسَةٌ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَا مَدْخَلَ لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا أَرْبَعَةً:

32- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزِّنَى لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ، لِلنُّصُوصِ السَّابِقَةِ؛ وَلِأَنَّ الزِّنَى مِنْ أَغْلَظِ الْفَوَاحِشِ فَغُلِّظَتِ الشَّهَادَةُ فِيهِ لِيَكُونَ أَسْتَرَ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَمُلُوا أَرْبَعَةً حُدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكْمُلُوا فَهُمْ قَذَفَةٌ، وَعَلَيْهِمْ حَدُّ الْقَذْفِ، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْيَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وَلِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- حَدَّ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالزِّنَى.وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ، وَلِئَلاَّ يَتَّخِذَ صُورَةَ الشَّهَادَةِ ذَرِيعَةً إِلَى الْوَقِيعَةِ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ.

وَعِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي الْمَذْهَبِ، أَنَّهُ لَا يُجْلَدُ الشُّهُودُ إِذَا نَقَصَ عَدَدُهُمْ عَنْ أَرْبَعَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا شَاهِدِينَ لَا هَاتِكِينَ.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ:

33- اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَى أَنْ تَكُونَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ شَهِدَ بَعْضُ الْأَرْبَعَةِ فِي مَجْلِسٍ، وَبَعْضُهُمْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ.كَمَا اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَأْتِيَ الشُّهُودُ مُجْتَمِعِينَ إِلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي

وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعُوا خَارِجَ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ وَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ، أَمَّا لَوْ كَانُوا قُعُودًا فِي مَوْضِعِ الشُّهُودِ فَقَامَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ وَشَهِدَ، فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ.

وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ بَعْدَ إِتْيَانِهِمْ مَحَلَّ الْحَاكِمِ جَمِيعًا فَإِنَّهُمْ يُفَرَّقُونَ وُجُوبًا لِيَسْأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا أَوْ بَعْضُهُمْ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَحُدُّوا.

وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَابِلَةُ إِتْيَانَهُمْ مُجْتَمِعِينَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَأْتُوا مُتَفَرِّقِينَ لِقِصَّةِ الْمُغِيرَةِ، فَإِنَّهُمْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ، وَسُمِعَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَإِنَّمَا حُدُّوا لِعَدَمِ كَمَالِهَا.عَلَى أَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ جَاءَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ أَنْ قَامَ الْحَاكِمُ مِنْ مَجْلِسِهِ فَهُمْ قَذَفَةٌ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَلَا صَحِيحَةٌ، وَعَلَيْهِمُ الْحَدُّ.

وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ فَيَسْتَوِي عِنْدَهُمْ أَنْ يَأْتِيَ الشُّهُودُ مُتَفَرِّقِينَ أَوْ مُجْتَمِعِينَ، وَأَنْ تُؤَدَّى الشَّهَادَةُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مَجْلِسٍ، لقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}.وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَجْلِسَ.وَقَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ}.وَلِأَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ مَقْبُولَةٌ إِنِ اتَّفَقَتْ، تُقْبَلُ إِذَا افْتَرَقَتْ فِي مَجَالِسَ، كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: تَفْصِيلُ الشَّهَادَةِ:

34- يُشْتَرَطُ فِي شَهَادَةِ الزِّنَى التَّفْصِيلُ، فَيَصِفُ الشُّهُودُ كَيْفِيَّةَ الزِّنَى، فَيَقُولُونَ: رَأَيْنَاهُ مُغَيِّبًا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا، أَوْ غَيَّبَ حَشَفَتَهُ أَوْ قَدْرَهَا- إِنْ كَانَ مَقْطُوعَهَا- فِي فَرْجِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، أَوِ الرِّشَاءِ فِي الْبِئْرِ، لِأَنَّهُ إِذَا اعْتَبَرَ التَّصْرِيحَ فِي الْإِقْرَارِ كَانَ اعْتِبَارُهُ فِي الشَّهَادَةِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَعْتَقِدُ الشَّاهِدُ مَا لَيْسَ بِزِنًى زِنًى، فَاعْتُبِرَ ذِكْرُ صِفَتِهِ.كَمَا يُبَيِّنُ الشُّهُودُ كَيْفِيَّتَهُمَا مِنَ اضْطِجَاعٍ أَوْ جُلُوسٍ أَوْ قِيَامٍ، أَوْ هُوَ فَوْقَهَا أَوْ تَحْتَهَا.

وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا سَأَلَهُمُ الْقَاضِي فَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّهُمَا زَنَيَا، فَإِنَّهُ لَا يَحُدُّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ وَلَا الشُّهُودَ.وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْمَرْأَةِ، فَلَوْ شَهِدُوا بِأَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُونَهَا لَمْ يُحَدَّ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ.

كَمَا لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْبَلَدِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَكَذَا تَعْيِينُ الْمَكَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، كَكَوْنِهَا فِي رُكْنِ الْبَيْتِ الشَّرْقِيِّ أَوِ الْغَرْبِيِّ، أَوْ وَسَطِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْمَكَانِ فِي الْبَيْتِ الْوَاحِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الشُّهُودُ فِيهِ حُدَّ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ لِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ حَقِيقَةً وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ فِي زَاوِيَةٍ وَالِانْتِهَاءُ فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى بِالِاضْطِرَابِ، أَوْ لِأَنَّ الْوَاقِعَ فِي وَسَطِ الْبَيْتِ فَيَحْسِبُهُ مَنْ فِي الْمُقَدَّمِ فِي الْمُقَدَّمِ، وَمَنْ فِي الْمُؤَخَّرِ فِي الْمُؤَخَّرِ فَيَشْهَدُ بِحَسَبِ مَا عِنْدَهُ، وَهَذَا فِي الْبَيْتِ الصَّغِيرِ، أَمَّا فِي الْبَيْتِ الْكَبِيرِ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّعْيِينِ.

وَلَا بُدَّ أَيْضًا مِنْ تَعْيِينِ الزَّمَانِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، لِتَكُونَ الشَّهَادَةُ مِنْهُمْ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَا شَهِدَ بِهِ أَحَدُهُمْ غَيْرَ مَا شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ.فَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَى فَشَهِدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَنَّهُ زَنَى بِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا يَوْمَ السَّبْتِ فَإِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.وَكَذَا لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِيمَا لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي سَاعَةٍ أُخْرَى.

الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَصَالَةُ الشَّهَادَةِ:

35- اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- فِي شُهُودِ الزِّنَى الْأَصَالَةَ، فَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَى؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السِّتْرِ وَالدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيهَا شُبْهَةٌ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا اجْتِمَاعُ الْغَلَطِ وَالسَّهْوِ وَالْكَذِبِ فِي شُهُودِ الْفَرْعِ مَعَ احْتِمَالِ ذَلِكَ فِي شُهُودِ الْأَصْلِ، وَهَذَا احْتِمَالٌ زَائِدٌ لَا يُوجَدُ فِي شُهُودِ الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ إِنَّمَا تُقْبَلُ لِلْحَاجَةِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهَا فِي الْحَدِّ، لِأَنَّ سِتْرَ صَاحِبِهِ أَوْلَى مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ.

وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ فَتَجُوزُ عِنْدَهُمُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَى بِشَرْطِ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ كُلِّ شَاهِدٍ أَصِيلٍ شَاهِدَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْقُلَ الشَّاهِدَانِ عَنْ شَاهِدٍ وَاحِدٍ أَوْ عَنْ شَاهِدَيْنِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الشَّاهِدَيْنِ النَّاقِلَيْنِ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُهُمَا شَاهِدًا أَصِيلًا، فَيَجُوزُ فِي الزِّنَى أَنْ يَشْهَدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ، أَوْ يَشْهَدَ كُلُّ اثْنَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ، أَوْ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ، أَوْ يَشْهَدَ ثَلَاثَةٌ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَيَشْهَدَ اثْنَانِ عَلَى شَهَادَةِ الرَّابِعِ، وَإِذَا نَقَلَ اثْنَانِ عَنْ ثَلَاثَةٍ وَعَنِ الرَّابِعِ اثْنَانِ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَشْهُورِ خِلَافًا لِابْنِ الْمَاجِشُونِ؛ وَوَجْهُ عَدَمِ صِحَّتِهَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْفَرْعُ إِلاَّ حَيْثُ تَصِحُّ شَهَادَةُ الْأَصْلِ لَوْ حَضَرَ، وَالرَّابِعُ الَّذِي نَقَلَ عَنْهُ الِاثْنَانِ الْآخَرَانِ لَوْ حَضَرَ مَا صَحَّتْ شَهَادَتُهُ مَعَ الِاثْنَيْنِ النَّاقِلَيْنِ عَنِ الثَّلَاثَةِ لِنَقْصِ الْعَدَدِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ عَدَمَ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ عَدَدَ الْفَرْعِ فِيهَا نَاقِصٌ عَنْ عَدَدِ الْأَصْلِ حَيْثُ نَقَلَ عَنِ الثَّلَاثَةِ اثْنَانِ فَقَطْ، وَالْفَرْعُ لَا يَنْقُصُ عَنِ الْأَصْلِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ وَنِيَابَتِهِ مَنَابَهُ.كَمَا يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ التَّلْفِيقُ بَيْنَ شُهُودِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، كَأَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ عَلَى رُؤْيَةِ الزِّنَى، وَيَنْقُلَ اثْنَانِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الِاثْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


131-موسوعة الفقه الكويتية (سرقة 1)

سَرِقَةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- فِي اللُّغَةِ: السَّرِقَةُ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنَ الْغَيْرِ خُفْيَةً.يُقَالُ: سَرَقَ مِنْهُ مَالًا، وَسَرَقَهُ مَالًا يَسْرِقُهُ سَرَقًا وَسَرِقَةً: أَخَذَ مَالَهُ خُفْيَةً، فَهُوَ سَارِقٌ.وَيُقَالُ: سَرَقَ أَوِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ وَالنَّظَرَ: سَمِعَ أَوْ نَظَرَ مُسْتَخْفِيًا.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هِيَ أَخْذُ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ نِصَابًا مُحْرَزًا، أَوْ مَا قِيمَتُهُ نِصَابٌ، مِلْكًا لِلْغَيْرِ، لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ.

وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: أَخْذُ مُكَلَّفٍ طِفْلًا حُرًّا لَا يَعْقِلُ لِصِغَرِهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الِاخْتِلَاسُ:

2- يُقَالُ خَلَسَ الشَّيْءَ أَوِ اخْتَلَسَهُ، أَيْ: اسْتَلَبَهُ فِي نُهْزَةٍ وَمُخَاتَلَةٍ.

وَالْمُخْتَلِسُ: هُوَ الَّذِي يَأْخُذُ الْمَالَ جَهْرَةً مُعْتَمِدًا عَلَى السُّرْعَةِ فِي الْهَرَبِ.

فَالْفَرْقُ بَيْنَ السَّرِقَةِ وَالِاخْتِلَاسِ: أَنَّ الْأُولَى عِمَادُهَا الْخُفْيَةُ، وَالِاخْتِلَاسُ يَعْتَمِدُ الْمُجَاهَرَةَ.

وَلِذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ».

انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (اخْتِلَاسٍ).

ب- جَحْدُ الْأَمَانَةِ، أَوْ خِيَانَتُهَا:

3- الْجَحْدُ أَوِ الْجُحُودُ: الْإِنْكَارُ، وَلَا يَكُونُ إِلاَّ عَلَى عِلْمٍ مِنَ الْجَاحِدِ بِهِ.وَالْجَاحِدُ أَوِ الْخَائِنُ: هُوَ الَّذِي يُؤْتَمَنُ عَلَى شَيْءٍ بِطَرِيقِ الْعَارِيَّةِ أَوِ الْوَدِيعَةِ فَيَأْخُذُهُ وَيَدَّعِي ضَيَاعَهُ، أَوْ يُنْكِرُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ أَوْ عَارِيَّةٌ.

فَالْفَرْقُ بَيْنَ السَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ يَرْجِعُ إِلَى قُصُورٍ فِي الْحِرْزِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِنْكَارٍ).

ج- الْحِرَابَةُ:

4- الْحِرَابَةُ: الْبُرُوزُ لِأَخْذِ مَالٍ أَوْ لِقَتْلٍ أَوْ لِإِرْعَابٍ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ مُكَابَرَةً اعْتِمَادًا عَلَى الْقُوَّةِ مَعَ الْبُعْدِ عَنِ الْغَوْثِ، وَتُسَمَّى قَطْعَ الطَّرِيقِ، وَالسَّرِقَةَ الْكُبْرَى.

وَيُفَرَّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّرِقَةِ بِأَنَّ الْحِرَابَةَ هِيَ الْبُرُوزُ لِأَخْذِ مَالٍ أَوْ لِقَتْلٍ أَوْ إِرْعَابٍ مُكَابَرَةً اعْتِمَادًا عَلَى الشَّوْكَةِ مَعَ الْبُعْدِ عَنِ الْغَوْثِ، أَمَّا السَّرِقَةُ فَهِيَ أَخْذُ الْمَالِ خُفْيَةً.فَالْحِرَابَةُ تَكْتَمِلُ بِالْخُرُوجِ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ وَإِنْ لَمْ يُؤْخَذْ مَالٌ، أَمَّا السَّرِقَةُ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ أَخْذِ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (حِرَابَةٍ).

د- الْغَصْبُ:

5- الْغَصْبُ فِي اللُّغَةِ: أَخْذُ الشَّيْءِ ظُلْمًا مُجَاهَرَةً.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ عُدْوَانًا.فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ: أَنَّ الْأَوَّلَ يَتَحَقَّقُ بِالْمُجَاهَرَةِ، فِي حِينِ يُشْتَرَطُ فِي السَّرِقَةِ أَنْ يَكُونَ الْأَخْذُ سِرًّا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (غَصْبٍ).

هـ- النَّبْشُ:

6- يُقَالُ: نَبَشْتُهُ نَبْشًا، أَيِ اسْتَخْرَجْتُهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَنَبَشْتُ الْأَرْضَ: كَشَفْتُهَا.وَمِنْهُ: نَبَشَ الرَّجُلُ الْقَبْرَ.

وَالنَّبَّاشُ: هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ أَكْفَانَ الْمَوْتَى بَعْدَ دَفْنِهِمْ فِي قُبُورِهِمْ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ وَفِي اعْتِبَارِهِ سَارِقًا، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ) مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى اعْتِبَارِ النَّبَّاشِ سَارِقًا؛ لِانْطِبَاقِ حَدِّ السَّرِقَةِ عَلَيْهِ، وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ نَبَشَ قَطَّعْنَاهُ».

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ النَّبَّاشِ سَارِقًا لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مَا لَا مَالِكَ لَهُ وَلَيْسَ مَرْغُوبًا فِيهِ، وَاشْتِرَاطُ الْخُفْيَةِ وَالْحِرْزِ لَا يَجْعَلُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْأَخْذِ سَرِقَةً.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (نَبْشٍ).

- وَالنَّشْلُ:

7- نَشَلَ الشَّيْءَ نَشْلًا: أَسْرَعَ نَزْعَهُ.يُقَالُ: نَشَلَ اللَّحْمَ مِنَ الْقِدْرِ، وَنَشَلَ الْخَاتَمَ مِنَ الْيَدِ.وَالنَّشَّالُ: الْمُخْتَلِسُ الْخَفِيفُ الْيَدِ مِنَ اللُّصُوصِ، يَشُقُّ ثَوْبَ الرَّجُلِ وَيَسُلُّ مَا فِيهِ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْ صَاحِبِهِ.وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالطَّرَّارِ، مِنْ طَرَرْتُهُ طَرًّا: إِذَا شَقَقْتُهُ.

وَلَا يَخْتَلِفُ اصْطِلَاحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَالطَّرَّارُ أَوِ النَّشَّالُ هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ النَّاسَ فِي يَقَظَتِهِمْ بِنَوْعٍ مِنَ الْمَهَارَةِ وَخِفَّةِ الْيَدِ.

فَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّشْلِ أَوِ الطَّرِّ بَيْنَ السَّرِقَةِ يَتَمَثَّلُ فِي تَمَامِ الْحِرْزِ.وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَطْبِيقِ حَدِّ السَّرِقَةِ عَلَى النَّشَّالِ فَجُمْهُورُهُمْ يُسَوِّي بَيْنَ السَّارِقِ وَالطَّرَّارِ سَوَاءٌ شَقَّ الْكُمَّ أَوِ الْقَمِيصَ

وَأَخَذَ مِنْهَا مَا يَبْلُغُ النِّصَابَ، أَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ فَأَخَذَ دُونَ شَقٍّ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُعْتَبَرُ حِرْزًا لِكُلِّ مَا يَلْبَسُهُ أَوْ يَحْمِلُهُ مِنْ نُقُودٍ وَغَيْرِهَا.وَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّهُ إِذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْكُمِّ أَوْ فِي الْجَيْبِ فَأَخَذَ مِنْ غَيْرِ شَقٍّ، أَوْ شَقَّ غَيْرَهُمَا مِثْلَ الصُّرَّةِ، فَلَا يُطَبَّقُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ؛ لِعَدَمِ اكْتِمَالِ الْأَخْذِ مِنَ الْحِرْزِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (نَشْلٍ).

ز- النَّهْبُ:

8- نَهَبَ الشَّيْءَ نَهْبًا: أَخَذَهُ قَهْرًا.وَالنَّهْبُ: الْغَارَةُ وَالْغَنِيمَةُ وَالشَّيْءُ الْمَنْهُوبُ وَهُوَ الْغَلَبَةُ عَلَى الْمَالِ وَالْقَهْرُ.قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَالنَّهْبُ مَا انْتُهِبَ مِنَ الْمَالِ بِلَا عِوَضٍ، يُقَالُ: أَنْهَبَ فُلَانٌ مَالَهُ: إِذَا أَبَاحَهُ لِمَنْ أَخَذَهُ، وَلَا يَكُونُ نَهْبًا حَتَّى تَنْتَهِبَهُ الْجَمَاعَةُ، فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ شَيْئًا، وَهِيَ النُّهْبَةُ.

وَمِنْ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّهْبِ وَالسَّرِقَةِ يَعُودُ إِلَى شِبْهِ الْخُفْيَةِ، وَهُوَ لَا يَتَوَافَرُ فِي النَّهْبِ وَلِهَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ».

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (نَهْبٍ).

أَرْكَانُ السَّرِقَةِ:

9- لِلسَّرِقَةِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ: السَّارِقُ، وَالْمَسْرُوقُ مِنْهُ، وَالْمَالُ الْمَسْرُوقُ، وَالْأَخْذُ خُفْيَةً.

الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: السَّارِقُ:

10- يَجِبُ- لِإِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ- أَنْ تَتَوَافَرَ فِي السَّارِقِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا، وَأَنْ يَقْصِدَ فِعْلَ السَّرِقَةِ، وَأَلاَّ يَكُونَ مُضْطَرًّا إِلَى الْأَخْذِ، وَأَنْ تَنْتَفِيَ الْجُزْئِيَّةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَأَلاَّ تَكُونَ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ فِي اسْتِحْقَاقِهِ مَا أَخَذَ.

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: التَّكْلِيفُ:

11- لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى إِلاَّ إِذَا كَانَ مُكَلَّفًا، أَوْ بَالِغًا عَاقِلًا.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (تَكْلِيفٍ).

أ- وَيُعْتَبَرُ الشَّخْصُ بَالِغًا إِذَا تَوَافَرَتْ فِيهِ إِحْدَى عَلَامَاتِ الْبُلُوغِ.

يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (بُلُوغٍ).

أَمَّا مَنْ كَانَ دُونَ الْبُلُوغِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَبْرَأَ وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ».وَلِذَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الِاحْتِلَامَ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ يَلْزَمُ بِهِ الْعِبَادَاتُ وَالْحُدُودُ وَسَائِرُ الْأَحْكَامِ.

ب- وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَقْلِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ، إِذْ أَنَّهُ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: «وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ».هَذَا إِنْ كَانَ الْمَجْنُونُ مُطْبَقًا، فَأَمَّا إِنْ كَانَ غَيْرَ مُطْبَقٍ وَجَبَ الْحَدُّ إِنْ سَرَقَ فِي حَالِ الْإِفَاقَةِ، وَلَا يَجِبُ إِنْ سَرَقَ فِي حَالِ الْجُنُونِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (جُنُونٍ).

ج- وَقَدْ أَلْحَقَ الْفُقَهَاءُ الْمَعْتُوهَ بِالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّ الْعَتَهَ نَوْعُ جُنُونٍ فَيَمْنَعُ أَدَاءَ الْحُقُوقِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (عَتَهٍ).

د- وَلَا يَجِبُ إِقَامَةُ الْحَدِّ إِذَا صَدَرَتِ السَّرِقَةُ مِنَ النَّائِمِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: «وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ».انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (نَوْمٍ).

هـ- كَذَلِكَ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ إِذَا سَرَقَ حَالَ إِغْمَائِهِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِغْمَاءٍ).

و- أَمَّا مَنْ يَسْرِقُ وَهُوَ سَكْرَانُ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِي حُكْمِهِ أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ:

فَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّ عَقْلَهُ غَيْرُ حَاضِرٍ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مُطْلَقًا إِلاَّ حَدَّ السُّكْرِ.سَوَاءٌ أَكَانَ مُتَعَدِّيًا بِسُكْرِهِ أَمْ كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِهِ.غَيْرَ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ يُفَرِّقُ بَيْنَ حَالَتَيْنِ: إِذَا كَانَ السَّكْرَانُ قَدْ تَعَدَّى بِسُكْرِهِ، فَإِنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ يُقَامُ عَلَيْهِ، سَدًّا لِلذَّرَائِعِ، حَتَّى لَا يَقْصِدَ مَنْ يُرِيدُ ارْتِكَابَ جَرِيمَةٍ إِلَى الشُّرْبِ دَرْءًا لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ.أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا بِالسُّكْرِ فَيَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لِقِيَامِ عُذْرِهِ وَانْتِفَاءِ قَصْدِهِ.

انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (سُكْرٍ).

ز- وَمِمَّا يَلْتَحِقُ بِمَسْأَلَةِ التَّكْلِيفِ: اشْتِرَاطُ كَوْنِ السَّارِقِ مُلْتَزِمًا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ حَتَّى تَثْبُتَ وِلَايَةُ الْإِمَامِ عَلَيْهِ.وَلِذَا لَا يُقَامُ حَدُّ السَّرِقَةِ عَلَى الْحَرْبِيِّ غَيْرِ الْمُسْتَأْمَنِ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ يَلْتَزِمُ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَتَثْبُتُ وِلَايَةُ الْإِمَامِ عَلَيْهِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَيْ: (أَهْلِ الْحَرْبِ، وَأَهْلِ الذِّمَّةِ).

12- أَمَّا الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ: فَإِنْ سَرَقَ مِنْ مُسْتَأْمَنٍ آخَرَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعَدَمِ الْتِزَامِ أَيٍّ مِنْهُمَا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ.وَإِنْ سَرَقَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَفِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ:

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ) إِلَى وُجُوبِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ دُخُولَهُ فِي الْأَمَانِ يَجْعَلُهُ مُلْتَزِمًا الْأَحْكَامَ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ}.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَظْهَرُهَا: أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ كَالْحَرْبِيِّ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ كَالذِّمِّيِّ.وَالثَّالِثُ: يُفَصَّلُ بِالنَّظَرِ إِلَى عَقْدِ الْأَمَانِ: فَإِنْ شَرَطَ فِيهِ إِقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَيْهِ وَجَبَ الْقَطْعُ، وَإِلاَّ فَلَا حَدَّ وَلَا قَطْعَ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: الْقَصْدُ:

13- لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ إِلاَّ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ بِتَحْرِيمِ السَّرِقَةِ، وَأَنَّهُ يَأْخُذُ مَالًا مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ دُونَ عِلْمِ مَالِكِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَأَنْ تَنْصَرِفَ نِيَّتُهُ إِلَى تَمَلُّكِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا فِيمَا فَعَلَ، وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ.

أ- أَنْ يَعْلَمَ السَّارِقُ بِتَحْرِيمِ الْفِعْلِ الَّذِي اقْتَرَفَهُ، فَالْجَهَالَةُ بِالتَّحْرِيمِ مِمَّنْ يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ.وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ- رضي الله عنهما-: لَا حَدَّ إِلاَّ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ.أَمَّا عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْعُقُوبَةِ فَلَا يُعَدُّ مِنَ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تَدْرَأُ الْحَدَّ.

ب- أَنْ يَعْلَمَ السَّارِقُ أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ مَمْلُوكٌ لِغَيْرِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ أَخَذَهُ دُونَ عِلْمِ مَالِكِهِ وَدُونَ رِضَاهُ.وَعَلَى ذَلِكَ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ أَخَذَ مَالًا وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ أَوْ مَتْرُوكٌ.وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمُؤَجِّرِ الَّذِي يَأْخُذُ الْعَيْنَ الَّتِي آجَرَهَا، وَلَا عَلَى الْمُودِعِ الَّذِي يَأْخُذُ الْوَدِيعَةَ دُونَ رِضَا الْوَدِيعِ.

ج- أَنْ تَنْصَرِفَ نِيَّةُ الْآخِذِ إِلَى تَمَلُّكِ مَا أَخَذَهُ، وَلِهَذَا لَا يُقَامُ حَدُّ السَّرِقَةِ عَلَى مَنْ أَخَذَ مَالًا مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ دُونَ أَنْ يَقْصِدَ تَمَلُّكَهُ، كَأَنْ أَخَذَهُ لِيَسْتَعْمِلَهُ ثُمَّ يَرُدَّهُ، أَوْ أَخَذَهُ عَلَى سَبِيلِ الدُّعَابَةِ، أَوْ أَخَذَهُ لِمُجَرَّدِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، أَوْ أَخَذَهُ مُعْتَقِدًا أَنَّ مَالِكَهُ يَرْضَى بِأَخْذِهِ، مَا دَامَتِ الْقَرَائِنُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنَ الْقَرَائِنِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى نِيَّةِ التَّمَلُّكِ، إِخْرَاجُ الْمَالِ مِنَ الْحِرْزِ لِغَيْرِ مَا سَبَقَ، بِحَيْثُ يُعْتَبَرُ سَارِقًا لِتَوَافُرِ قَصْدِ التَّمَلُّكِ حِينَئِذٍ وَلَوْ أَتْلَفَهُ بِمُجَرَّدِ إِخْرَاجِهِ- أَمَّا لَوْ أُتْلِفَ دَاخِلَ الْحِرْزِ فَلَا تَظْهَرُ نِيَّةُ التَّمَلُّكِ، وَلِهَذَا لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

د- لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ إِلاَّ إِذَا كَانَ مُخْتَارًا فِيمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا انْعَدَمَ الْقَصْدُ وَسَقَطَ الْحَدُّ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ السَّرِقَةَ تُبَاحُ بِالْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ الَّذِي يَرْفَعُ الْإِثْمَ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ هُوَ مَا يَكُونُ فِي جَانِبِ الْأَقْوَالِ وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى الْأَفْعَالِ فَفِي حُكْمِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِكْرَاهٍ) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ 6 98- 112

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: عَدَمُ الِاضْطِرَارِ أَوِ الْحَاجَةِ:

14- أ- الِاضْطِرَارُ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ، وَالضَّرُورَةُ تُبِيحُ لِلْآدَمِيِّ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ لِيَدْفَعَ الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ فَمَنْ سَرَقَ لِيَرُدَّ جُوعًا أَوْ عَطَشًا مُهْلِكًا فَلَا عِقَابَ عَلَيْهِ، لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَاعَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا قَطْعَ فِي زَمَنِ الْمَجَاعِ».

ب- وَالْحَاجَةُ أَقَلُّ مِنَ الضَّرُورَةِ، فَهِيَ كُلُّ حَالَةٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حَرَجٌ شَدِيدٌ وَضِيقٌ بَيِّنٌ، وَلِذَا فَإِنَّهَا تَصْلُحُ شُبْهَةً لِدَرْءِ الْحَدِّ، وَلَكِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الضَّمَانَ وَالتَّعْزِيرَ.

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ بِالسَّرِقَةِ عَامَ الْمَجَاعَةِ وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: «وَهَذِهِ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنِ الْمُحْتَاجِ، وَهِيَ أَقْوَى مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الشُّبَهِ الَّتِي يَذْكُرُهَا كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي مُغَالَبَةِ صَاحِبِ الْمَالِ عَلَى أَخْذِ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ.وَعَامُ الْمَجَاعَةِ يَكْثُرُ فِيهِ الْمَحَاوِيجُ وَالْمُضْطَرُّونَ، وَلَا يَتَمَيَّزُ الْمُسْتَغْنِي مِنْهُمْ وَالسَّارِقُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ مِنْ غَيْرِهِ، فَاشْتَبَهَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَدُرِئَ».

وَقَدْ حَدَّدَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْمِقْدَارَ الَّذِي يَكْفِي حَاجَةَ الْمُضْطَرِّ بِقَوْلِهِ: «كُلْ وَلَا تَحْمِلْ، وَاشْرَبْ وَلَا تَحْمِلْ»، وَذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الرَّدِّ عَلَى مَنْ سَأَلَ أَرَأَيْتَ إِنِ احْتَجَّنَا إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؟

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: انْتِفَاءُ الْقَرَابَةِ بَيْنَ السَّارِقِ وَالْمَسْرُوقِ مِنْهُ:

15- قَدْ يَكُونُ السَّارِقُ أَصْلًا لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ، كَمَا قَدْ يَكُونُ فَرْعًا لَهُ، وَقَدْ تَقُومُ بَيْنَهُمَا صِلَةُ قَرَابَةٍ أُخْرَى، وَقَدْ تَرْبِطُ بَيْنَهُمَا رَابِطَةُ الزَّوْجِيَّةِ، وَحُكْمُ إِقَامَةِ الْحَدِّ يَخْتَلِفُ فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْحَالَاتِ:

أ- سَرِقَةُ الْأَصْلِ مِنَ الْفَرْعِ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْوَالِدِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ؛ لِأَنَّ لِلسَّارِقِ شُبْهَةَ حَقٍّ فِي مَالِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَدُرِئَ الْحَدُّ.وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِمَنْ جَاءَ يَشْتَكِي أَبَاهُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالَهُ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ»، وَاللاَّمُ هُنَا لِلْإِبَاحَةِ لَا لِلتَّمْلِيكِ.فَإِنَّ مَالَ الْوَلَدِ لَهُ، وَزَكَاتَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَوْرُوثٌ عَنْهُ.

ب- سَرِقَةُ الْفَرْعِ مِنَ الْأَصْلِ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْوَلَدِ مِنْ مَالِ أَبِيهِ وَإِنْ عَلَا، لِوُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ فِي مَالِ وَالِدِهِ؛ وَلِأَنَّهُ يَرِثُ مَالَهُ، وَلَهُ حَقُّ دُخُولِ بَيْتِهِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا شُبُهَاتٌ تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ.أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ فِي عَلَاقَةِ الِابْنِ بِأَبِيهِ شُبْهَةً تَدْرَأُ عَنْهُ حَدَّ السَّرِقَةِ، وَلِذَلِكَ يُوجِبُونَ إِقَامَةَ الْحَدِّ فِي سَرِقَةِ الْفُرُوعِ مِنَ الْأُصُولِ.

ج- سَرِقَةُ الْأَقَارِبِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ:

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ سَرِقَةَ الْأَقَارِبِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ لَيْسَتْ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنِ السَّارِقِ، وَلِهَذَا أَوْجَبُوا الْقَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ مَالِ أَخِيهِ أَوْ أُخْتِهِ أَوْ عَمِّهِ أَوْ عَمَّتِهِ أَوْ خَالِهِ أَوْ خَالَتِهِ، أَوِ ابْنِ أَوْ بِنْتِ أَحَدِهِمْ، أَوْ أُمِّهِ أَوْ أُخْتِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَوِ امْرَأَةِ أَبِيهِ أَوْ زَوْجِ أُمِّهِ، أَوِ ابْنِ امْرَأَتِهِ أَوْ بِنْتِهَا أَوْ أُمِّهَا، حَيْثُ لَا يُبَاحُ الِاطِّلَاعُ عَلَى الْحِرْزِ، وَلَا تُرَدُّ شَهَادَةُ بَعْضِ هَؤُلَاءِ لِلْبَعْضِ الْآخَرِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، كَالْأَخِ وَالْأُخْتِ وَالْعَمِّ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ؛ لِأَنَّ دُخُولَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ دُونَ إِذْنٍ عَادَةً يُعْتَبَرُ شُبْهَةً تُسْقِطُ الْحَدَّ؛ وَلِأَنَّ قَطْعَ أَحَدِهِمْ بِسَبَبِ سَرِقَتِهِ مِنَ الْآخَرِ يُفْضِي إِلَى قَطْعِ الرَّحِمِ وَهُوَ حَرَامٌ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ: مَا أَفْضَى إِلَى الْحَرَامِ فَهُوَ حَرَامٌ.أَمَّا مَنْ سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ غَيْرِ مَحْرَمٍ كَابْنِ الْعَمِّ أَوْ بِنْتِ الْعَمِّ، وَابْنِ الْعَمَّةِ أَوْ بِنْتِ الْعَمَّةِ، وَابْنِ الْخَالِ أَوْ بِنْتِ الْخَالِ، وَابْنِ الْخَالَةِ أَوْ بِنْتِ الْخَالَةِ، فَيُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ لِأَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ عَادَةً، فَالْحِرْزُ كَامِلٌ فِي حَقِّهِمْ.وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي سَرِقَةِ الْمَحَارِمِ غَيْرِ ذَوِي الرَّحِمِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ كَالْأُمِّ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَالْأُخْتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ، أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَلَا يَرَى أَنْ يُقَامَ الْحَدُّ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ مَالِ أُمِّهِ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ بَيْتَهَا دُونَ إِذْنٍ عَادَةً، فَلَمْ يَكْتَمِلِ الْحِرْزُ.

د- السَّرِقَةُ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ: اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ إِذَا سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ مَالِ الْآخَرِ وَكَانَتِ السَّرِقَةُ مِنْ حِرْزٍ قَدِ اشْتَرَكَا فِي سُكْنَاهُ، لِاخْتِلَالِ شَرْطِ الْحِرْزِ، وَلِلِانْبِسَاطِ بَيْنَهُمَا فِي الْأَمْوَالِ عَادَةً؛ وَلِأَنَّ بَيْنَهُمَا سَبَبًا يُوجِبُ التَّوَارُثَ بِغَيْرِ حَجْبٍ.

16- أَمَّا إِذَا كَانَتِ السَّرِقَةُ مِنْ حِرْزٍ لَمْ يَشْتَرِكَا فِي سُكْنَاهُ، أَوِ اشْتَرَكَا فِي سُكْنَاهُ وَلَكِنَّ أَحَدَهُمَا مَنَعَ مِنَ الْآخَرِ مَالًا أَوْ حَجَبَهُ عَنْهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ السَّرِقَةِ مِنْهُ: فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الرَّاجِحَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِمَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الِانْبِسَاطِ فِي الْأَمْوَالِ عَادَةً وَدَلَالَةً، وَقِيَاسًا عَلَى الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا سَبَبًا يُوجِبُ التَّوَارُثَ مِنْ غَيْرِ حَجْبٍ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَإِنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْحَدَّ عَلَى السَّارِقِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لِعُمُومِ آيَةِ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ الْحِرْزَ هُنَا تَامٌّ، وَرُبَّمَا لَا يَبْسُطُ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ فِي مَالِهِ، فَأَشْبَهَ سَرِقَةَ الْأَجْنَبِيِّ.

وَهُنَاكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ: وُجُوبُ قَطْعِ الزَّوْجِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ زَوْجَتِهِ مَا هُوَ مُحْرَزٌ عَنْهُ وَلَا تُقْطَعُ الزَّوْجَةُ إِذَا سَرَقَتْ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا وَلَوْ كَانَ مُحْرَزًا عَنْهَا، لِأَنَّ الزَّوْجَةَ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ عَلَى زَوْجِهَا، فَصَارَ لَهَا شُبْهَةٌ تَدْرَأُ عَنْهَا الْحَدَّ، بِخِلَافِ الزَّوْجِ فَلَا تَقُومُ بِهِ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِهَا الْمُحْرَزِ عَنْهُ.

17- هَذَا هُوَ حُكْمُ السَّرِقَةِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ مَا دَامَتِ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً.فَلَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَانْقَضَتِ الْعِدَّةُ صَارَا أَجْنَبِيَّيْنِ وَوَجَبَ قَطْعُ السَّارِقِ.أَمَّا السَّرِقَةُ أَثْنَاءَ الْعِدَّةِ مِنَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فَتَأْخُذُ حُكْمَ السَّرِقَةِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ؛ لِبَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ الْعِدَّةُ.فَإِنْ وَقَعَتِ السَّرِقَةُ أَثْنَاءَ الْعِدَّةِ مِنَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ أُقِيمَ الْحَدُّ، عَلَى رَأْيِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِانْتِهَاءِ الزَّوْجِيَّةِ.وَلَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَذْهَبُ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى أَيٍّ مِنْهُمَا بِسَرِقَةِ مَالِ الْآخَرِ؛ لِبَقَاءِ الْحَبْسِ فِي الْعِدَّةِ وَوُجُوبِ السُّكْنَى، فَبَقِيَ أَثَرُ النِّكَاحِ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ.

وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ قِيَامَ الزَّوْجِيَّةِ بَعْدَ السَّرِقَةِ لَا أَثَرَ لَهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَدِّ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ تَمَّتْ بَيْنَ أَجْنَبِيَّيْنِ.وَلَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ إِلاَّ الْحَنَفِيَّةُ، فَعِنْدَهُمْ: لَوْ سَرَقَ مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الزَّوَاجَ مَانِعٌ طَرَأَ عَلَى الْحَدِّ، وَالْمَانِعُ الطَّارِئُ لَهُ حُكْمُ الْمَانِعِ الْمُقَارِنِ.وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْحَدِّ وَقَبْلَ تَنْفِيذِهِ؛ لِأَنَّ الْإِمْضَاءَ فِي الْحُدُودِ مِنْ تَمَامِ الْقَضَاءِ، فَكَانَتِ الشُّبْهَةُ مَانِعَةً مِنَ الْإِمْضَاءِ.

الشَّرْطُ الْخَامِسُ: انْتِفَاءُ شُبْهَةِ اسْتِحْقَاقِهِ الْمَالَ:

18- إِذَا كَانَ لِلسَّارِقِ شُبْهَةُ مِلْكٍ أَوِ اسْتِحْقَاقٍ فِي الْمَالِ الْمَسْرُوقِ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ كَانَ شَرِيكًا فِي الْمَالِ الْمَسْرُوقِ، أَوْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ مِنْ مَالٍ مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، أَوْ سَرَقَ مِنْ مَالِ مَدِينِهِ، أَوْ مَا شَابَهَ ذَلِكَ.

19- أ- سَرِقَةُ الشَّرِيكِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ سَرِقَةِ الشَّرِيكِ مِنَ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ لِلسَّارِقِ حَقًّا فِي هَذَا الْمَالِ، فَكَانَ هَذَا الْحَقُّ شُبْهَةً تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى إِيجَابِ الْقَطْعِ إِنْ تَحَقَّقَ شَرْطَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَالُ فِي غَيْرِ الْحِرْزِ الْمُشْتَرَكِ، كَأَنْ يَكُونَ الشَّرِيكَانِ قَدْ أَوْدَعَاهُ عِنْدَ غَيْرِهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَالُ مَحْجُوبًا عَنْهُمَا وَسَرَقَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ الْقَطْعُ.

وَالشَّرْطُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ فِيمَا سَرَقَ مِنْ حِصَّةِ صَاحِبِهِ فَضْلٌ عَنْ جَمِيعِ حِصَّتِهِ رُبُعُ دِينَارٍ فَصَاعِدًا.

وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي سَرِقَةِ الشَّرِيكِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ قَوْلَانِ: الرَّاجِحُ مِنْهُمَا أَنْ لَا قَطْعَ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ إِيجَابُ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلشَّرِيكِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ، فَإِذَا سَرَقَ نِصْفَ دِينَارٍ مِنَ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ كَانَ سَارِقًا لِنِصَابٍ مِنْ مَالِ شَرِيكِهِ فَيُقْطَعُ بِهِ.

20- ب- السَّرِقَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، إِذَا كَانَ السَّارِقُ مُسْلِمًا، غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ حَقًّا فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَيَكُونُ هَذَا الْحَقُّ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنْهُ، كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ مَالٍ لَهُ فِيهِ شَرِكَةٌ.وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَسْأَلُهُ عَمَّنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَقَالَ: أَرْسِلْهُ، فَمَا مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ.

وَيُوجِبُ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الرَّأْيُ الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِعُمُومِ نَصِّ الْآيَةِ، وَضَعْفِ الشُّبْهَةِ، لِأَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ فِي عَيْنِهِ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ قَبْلَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ.

وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ لِلسَّرِقَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بَيْنَ أَنْوَاعٍ ثَلَاثَةٍ 1- إِنْ كَانَ الْمَالُ مُحْرَزًا لِطَائِفَةٍ هُوَ مِنْهَا أَوْ أَحَدُ أُصُولِهِ أَوْ فُرُوعِهِ مِنْهَا، فَلَا قَطْعَ لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ، حَتَّى وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سَهْمٌ مُقَدَّرٌ.

2- وَإِنْ كَانَ الْمَالُ مُحْرَزًا لِطَائِفَةٍ لَيْسَ هُوَ وَلَا أَحَدُ أُصُولِهِ أَوْ فُرُوعِهِ مِنْهَا، وَجَبَ قَطْعُهُ لِعَدَمِ الشُّبْهَةِ الدَّارِئَةِ لِلْحَدِّ.

3- وَإِنْ كَانَ الْمَالُ غَيْرَ مُحْرَزٍ لِطَائِفَةٍ بِعَيْنِهَا، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ فِي الْمَسْرُوقِ، كَمَالِ الْمُصَالِحِ وَمَالِ الصَّدَقَةِ وَهُوَ فَقِيرٌ أَوْ فِي حُكْمِهِ كَالْغَارِمِ وَالْغَازِي وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، فَلَا قَطْعَ لِلشُّبْهَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ قُطِعَ؛ لِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ.

21- ج- السَّرِقَةُ مِنَ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ سَرِقَةِ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنَ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ وَقْفًا عَامًّا فَإِنَّهُ يَأْخُذُ حُكْمَ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ وَقْفًا خَاصًّا عَلَى قَوْمٍ مَحْصُورِينَ فَلِعَدَمِ الْمَالِكِ حَقِيقَةً، سَوَاءٌ كَانَ السَّارِقُ مِنْهُمْ أَوْ لَا.وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ السَّارِقَ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِيمَنْ وُقِفَ الْمَالُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بِطَلَبِ مُتَوَلِّي الْوَقْفِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ الْوَقْفَ يَبْقَى عِنْدَهُمْ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ حَقِيقَةً.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنَ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَقْفُ عَامًّا أَوْ خَاصًّا، سَوَاءٌ أَكَانَ السَّارِقُ مِمَّنْ وُقِفَ الْمَالُ عَلَيْهِمْ أَمْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ بَيْعِ مَالِ الْوَقْفِ يُقَوِّي جَانِبَ الْمِلْكِ فِيهِ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْوَقْفِ الْعَامِّ فَلَا يُقْطَعُ سَارِقُهُ، وَبَيْنَ الْوَقْفِ الْخَاصِّ، فَلَا يُقْطَعُ سَارِقُهُ إِنْ كَانَ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِهِ.

وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ فَعِنْدَهُمْ آرَاءٌ ثَلَاثَةٌ

1- ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ بَيْعِهِ يُقَوِّي جَانِبَ الْمِلْكِ فِيهِ.

2- لَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ هَذَا الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالِكَ لَهُ.

3- إِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمَوْقُوفَ مَمْلُوكُ الرَّقَبَةِ، قُطِعَ سَارِقُهُ.وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا لَا تُمْلَكُ، فَلَا قَطْعَ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُمْلَكُ فِي حُكْمِ الْمُبَاحِ وَإِنْ لَمْ يُسْتَبَحْ.

وَيَذْهَبُ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنَ الْوَقْفِ الْعَامِّ، أَوْ مَنْ يَسْرِقُ مِنَ الْوَقْفِ الْخَاصِّ إِذَا كَانَ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِهِ، لِوُجُودِ شُبْهَةٍ تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنْهُ.أَمَّا مَنْ يَسْرِقُ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ الْخَاصِّ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ، فَفِي حُكْمِهِ رِوَايَتَانِ: أَشْهَرُهُمَا: إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ لِبَقَاءِ الْوَقْفِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ.وَالْأُخْرَى: لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْمٍ مَحْصُورِينَ لَيْسَ لَهُ مَالِكٌ حَقِيقَةً.

22- د- السَّرِقَةُ مِنْ مَالِ الْمَدِينِ: إِذَا سَرَقَ الدَّائِنُ مِنْ مَالِ مَدِينِهِ فَفِي وُجُوبِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

يُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ حَالَتَيْنِ: أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ.

1- فَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ؛ لِأَنَّ لِلدَّائِنِ أَنْ يَأْخُذَ جِنْسَ دَيْنِهِ مِنْ مَالِ الْمَدِينِ، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا أَمْ مُؤَجَّلًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَدِينُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ بَاذِلًا لَهُ، أَمْ كَانَ جَاحِدًا لَهُ مُمَاطِلًا فِيهِ.وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، إِذْ أَطْلَقَ الْقَطْعَ بِسَرِقَةِ مَالِ الْغَرِيمِ؛ لِأَنَّ السَّارِقَ يَأْخُذُ مَالًا لَا يَمْلِكُهُ، وَالْغَرِيمُ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.

2- وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسْرُوقُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، بِأَنْ كَانَ الدَّيْنُ دَنَانِيرَ فَسَرَقَ عُرُوضًا، وَجَبَ إِقَامَةُ الْحَدِّ؛ لِضَرُورَةِ التَّرَاضِي فِي الْمُعَاوَضَاتِ؛ وَلِاخْتِلَافِ الْقِيَمِ بِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ.إِلاَّ إِذَا ادَّعَى السَّارِقُ أَنَّهُ أَخَذَهُ رَهْنًا بِحَقِّهِ، فَلَا يُقْطَعُ، لِوُجُودِ شُبْهَةٍ تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ، حَيْثُ إِنَّهُ اعْتَبَرَ الْمَعْنَى- وَهِيَ الْمَالِيَّةُ لَا الصُّورَةُ- وَالْأَمْوَالُ كُلُّهَا فِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ مُتَجَانِسَةً، فَكَانَ أَخْذًا عَنْ تَأْوِيلٍ فَلَا يُقْطَعُ.

وَيُفَرِّقُ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ حَالَتَيْنِ:

1- أَنْ يَكُونَ الْمَدِينُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ عَنْ أَدَائِهِ مَتَى حَلَّ أَجَلُهُ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الدَّائِنِ إِذَا سَرَقَ مِقْدَارَ دَيْنِهِ أَوْ أَكْثَرَ لِعَدَمِ وُجُودِ شُبْهَةٍ، إِذْ إِنَّهُ يَسْتَطِيعُ الْحُصُولَ عَلَى حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْرِقَ.

2- أَنْ يَكُونَ الْمَدِينُ جَاحِدًا لِلدَّيْنِ أَوْ مُمَاطِلًا فِيهِ: فَلَا قَطْعَ عَلَى الدَّائِنِ إِنْ سَرَقَ قَدْرَ دَيْنِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ جِنْسِهِ أَمْ لَا.فَإِنْ أَخَذَ أَكْثَرَ مِنْ دَيْنِهِ بِمَا يَبْلُغُ نِصَابًا، قُطِعَ لِتَعَدِّيهِ بِأَخْذِ مَا لَيْسَ مِنْ حَقِّهِ.

وَيَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ:

1- إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ إِذَا كَانَ الْمَدِينُ مَلِيئًا غَيْرَ جَاحِدٍ لِلدَّيْنِ، أَوْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا وَلَمْ يَحِلَّ أَجَلُهُ، إِذْ لَا شُبْهَةَ لَهُ حِينَئِذٍ.

2- عَدَمُ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الدَّائِنِ إِذَا كَانَ الْمَدِينُ جَاحِدًا أَوْ مُمَاطِلًا وَالدَّيْنُ حَالٌّ، سَوَاءٌ أَخَذَ الدَّائِنُ مِقْدَارَ دَيْنِهِ أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ إِنْ أَخَذَ مِقْدَارَ دَيْنِهِ فَهُوَ مَأْذُونٌ فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، وَإِنْ أَخَذَ أَكْثَرَ لَا يَقْطَعُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَمْ يَبْقَ مُحْرَزًا عَنْهُ مَا دَامَ قَدْ أُبِيحَ لَهُ الدُّخُولُ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ.

وَيُفَرِّقُ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ ثَلَاثِ حَالَاتٍ:

1- إِنْ كَانَ الْمَدِينُ بَاذِلًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ عَنْ أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ، ثُمَّ تَرَكَ الدَّائِنُ مُطَالَبَتَهُ، وَعَمَدَ إِلَى سَرِقَةِ حَقِّهِ، وَجَبَ قَطْعُهُ إِنْ بَلَغَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا، إِذْ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِي الْأَخْذِ مَا دَامَ الْوُصُولُ إِلَى حَقِّهِ مَيْسُورًا.

2- وَإِنْ عَجَزَ الدَّائِنُ عَنِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فَسَرَقَ قَدْرَ دَيْنِهِ فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِي إِبَاحَةِ أَخْذِهِ حَقَّهُ يُورِثُ شُبْهَةً تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ، كَالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ.

3- وَإِنْ عَجَزَ رَبُّ الدَّيْنِ عَنِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فَأَخَذَ مِنْ مَالِ مَدِينِهِ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ، وَبَلَغَتِ الزِّيَادَةُ نِصَابًا: فَإِنْ أَخَذَ الزَّائِدَ مِنْ نَفْسِ الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ مَالُهُ، فَلَا قَطْعَ؛ لِأَنَّ هَتْكَ الْحِرْزِ لِأَخْذِ مَالِهِ جَعَلَ الْمَكَانَ غَيْرَ مُحْرَزٍ بِالنِّسْبَةِ لِكُلِّ مَا فِيهِ.وَإِنْ أَخَذَ الزَّائِدَ مِنْ غَيْرِ الْحِرْزِ الَّذِي فِيهِ مَالُهُ وَجَبَ الْقَطْعُ؛ لِعَدَمِ الشُّبْهَةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


132-موسوعة الفقه الكويتية (صغائر)

صَغَائِرُ

التَّعْرِيفُ:

1- الصَّغَائِرُ لُغَةً: مِنْ صَغُرَ الشَّيْءُ فَهُوَ صَغِيرٌ وَجَمْعُهُ صِغَارٌ، وَالصَّغِيرَةُ صِفَةٌ وَجَمْعُهَا صِغَارٌ أَيْضًا، وَلَا تُجْمَعُ عَلَى صَغَائِرَ إِلاَّ فِي الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ.

أَمَّا اصْطِلَاحًا: فَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الصَّغِيرَةُ- مِنَ الذُّنُوبِ- هِيَ كُلُّ ذَنْبٍ لَمْ يُخْتَمْ بِلَعْنَةٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ نَارٍ.وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الصَّغِيرَةُ مَا دُونَ الْحَدَّيْنِ حَدِّ الدُّنْيَا، وَحَدِّ الْآخِرَةِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الصَّغِيرَةُ هِيَ مَا لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فِي الدُّنْيَا وَلَا وَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الصَّغِيرَةُ هِيَ كُلُّ مَا كُرِهَ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْكَبَائِرُ:

2- الْكَبِيرَةُ فِي اللُّغَةِ: الْإِثْمُ وَجَمْعُهَا كَبَائِرُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ مَا كَانَ حَرَامًا مَحْضًا، شُرِعَتْ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ، بِنَصٍّ قَاطِعٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.وَقِيلَ: إِنَّهَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حَدٌّ، أَوْ تَوَعَّدَ عَلَيْهَا بِالنَّارِ أَوِ اللَّعْنَةِ أَوِ الْغَضَبِ، وَهَذَا أَمْثَلُ الْأَقْوَالِ.

اللَّمَمُ:

3- وَاللَّمَمُ- بِفَتْحَتَيْنِ- مُقَارَبَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَقِيلَ: هِيَ الصَّغَائِرُ، أَوْ هِيَ فِعْلُ الرَّجُلِ الصَّغِيرَةِ ثُمَّ لَا يُعَاوِدُهَا، وَيُقَالُ: أَلَمَّ بِالذَّنْبِ فَعَلَهُ، وَأَلَمَّ بِالشَّيْءِ قَرُبَ مِنْهُ، وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الصَّغِيرَةِ.وَمِنْهُ قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اللَّمَمُ: هُوَ مَا دُونَ الزِّنَى الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ؛ مِنَ الْقُبْلَةِ، وَالنَّظْرَةِ.

وَقَالَ آخَرُونَ: اللَّمَمُ هُوَ صَغَائِرُ الذُّنُوبِ.

حُكْمُ الصَّغَائِرِ:

4- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي انْقِسَامِ الذُّنُوبِ إِلَى كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ.

فَقَالَ مُعْظَمُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الذُّنُوبَ تَنْقَسِمُ إِلَى كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ، وَأَنَّ الصَّغَائِرَ تُغْفَرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ: مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ».

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الذُّنُوبَ وَالْمَعَاصِيَ كُلَّهَا كَبَائِرُ؛ وَإِنَّمَا يُقَالُ لِبَعْضِهَا صَغِيرَةٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا.

فَالْمُضَاجَعَةُ مَعَ الْأَجْنَبِيَّةِ كَبِيرَةٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى النَّظْرَةِ، صَغِيرَةٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الزِّنَى.وَقَطْعُ يَدِ الْمُسْلِمِ كَبِيرَةٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَرْبِهِ، صَغِيرَةٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى قَتْلِهِ، كَمَا صَرَّحَ الْغَزَالِيُّ بِذَلِكَ فِي الْإِحْيَاءِ.

وَقَالُوا: لَا ذَنْبَ عِنْدَنَا يُغْفَرُ بِاجْتِنَابِ آخَرَ، بَلْ كُلُّ الذُّنُوبِ كَبِيرَةٌ، وَمُرْتَكِبُهَا فِي الْمَشِيئَةِ، غَيْرُ الْكُفْرِ لقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.

وَلِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا؟ قَالَ: وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ» فَقَدْ جَاءَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى الْيَسِيرِ كَمَا جَاءَ عَلَى الْكَثِيرِ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الطَّيِّبُ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرايِينِيُّ وَأَبُو الْمَعَالِي وَعَبْدُ الرَّحِيمِ الْقُشَيْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ.

وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنْوَاعًا مِنْ صَغَائِرِ الذُّنُوبِ مِنْهَا: النَّظَرُ الْمُحَرَّمُ، وَالْقُبْلَةُ، وَالْغَمْزَةُ، وَلَمْسُ الْأَجْنَبِيَّةِ.

وَمِنْهَا: هَجْرُ الْمُسْلِمِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَكَثْرَةُ الْخُصُومَاتِ إِلاَّ إِنْ رَاعَى فِيهَا حَقَّ الشَّرْعِ.

وَمِنْهَا: الْإِشْرَافُ عَلَى بُيُوتِ النَّاسِ، وَالْجُلُوسُ بَيْنَ الْفُسَّاقِ إِينَاسًا لَهُمْ، وَالْغَيْبَةُ لِغَيْرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ.

وَقَدْ تَعْظُمُ الصَّغَائِرُ مِنَ الذُّنُوبِ، فَتَصِيرُ كَبِيرَةً لِعِدَّةِ أَسْبَابٍ:

مِنْهَا: الْإِصْرَارُ وَالْمُوَاظَبَةُ.

وَمِنْهَا: أَنْ يَسْتَصْغِرَ الذَّنْبَ.

وَمِنْهَا: السُّرُورُ بِالصَّغِيرَةِ وَالْفَرَحُ وَالتَّبَجُّحُ بِهَا، وَاعْتِدَادُ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ نِعْمَةٌ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ كَوْنِهِ سَبَبَ الشَّقَاوَةِ.وَالتَّفَاصِيلُ فِي: مُصْطَلَحِ (كَبِيرَةٌ، وَشَهَادَةٌ، وَعَدَالَةٌ، وَمَعْصِيَةٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


133-موسوعة الفقه الكويتية (صوم 3)

صَوْمٌ -3

ثَالِثًا: الْمُعَالَجَاتُ وَنَحْوُهَا، وَهِيَ أَنْوَاعٌ، أَهَمُّهَا:

أ- الِاسْتِعَاطُ:

45- الِاسْتِعَاطُ، افْتِعَالٌ مِنَ السَّعُوطِ، مِثَالُ رَسُولٍ: دَوَاءٌ يُصَبُّ فِي الْأَنْفِ وَالِاسْتِعَاطُ وَالْإِسْعَاطُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: إِيصَالُ الشَّيْءِ إِلَى الدِّمَاغِ مِنَ الْأَنْفِ.

وَإِنَّمَا يُفْسِدُ الِاسْتِعَاطُ الصَّوْمَ، بِشَرْطِ أَنْ يَصِلَ الدَّوَاءُ إِلَى الدِّمَاغِ، وَالْأَنْفُ مَنْفَذٌ إِلَى الْجَوْفِ، فَلَوْ لَمْ يَصِلْ إِلَى الدِّمَاغِ لَمْ يَضُرَّ، بِأَنْ لَمْ يُجَاوِزِ الْخَيْشُومَ، فَلَوْ وَضَعَ دَوَاءً فِي أَنْفِهِ لَيْلًا، وَهَبَطَ نَهَارًا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

وَلَوْ وَضَعَهُ فِي النَّهَارِ، وَوَصَلَ إِلَى دِمَاغِهِ أَفْطَرَ؛ لِأَنَّهُ وَاصِلٌ إِلَى جَوْفِ الصَّائِمِ بِاخْتِيَارِهِ فَيُفَطِّرُهُ كَالْوَاصِلِ إِلَى الْحَلْقِ، وَالدِّمَاغُ جَوْفٌ- كَمَا قَرَّرُوا- وَالْوَاصِلُ إِلَيْهِ يُغَذِّيهِ، فَيُفَطِّرُهُ، كَجَوْفِ الْبَدَنِ.

وَالْوَاجِبُ فِيهِ الْقَضَاءُ لَا الْكَفَّارَةُ، هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مُوجِبُ الْإِفْطَارِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَالصُّورَةُ هِيَ الِابْتِلَاعُ، وَهِيَ مُنْعَدِمَةٌ، وَالنَّفْعُ الْمُجَرَّدُ عَنْهَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ فَقَطْ.

وَهَذَا الْحُكْمُ لَا يَخُصُّ صَبَّ الدَّوَاءِ، بَلْ لَوِ اسْتَنْشَقَ الْمَاءَ، فَوَصَلَ إِلَى دِمَاغِهِ أَفْطَرَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

ب- اسْتِعْمَالُ الْبَخُورِ:

46- وَيَكُونُ بِإِيصَالِ الدُّخَانِ إِلَى الْحَلْقِ، فَيُفْطِرُ، أَمَّا شَمُّ رَائِحَةِ الْبَخُورِ وَنَحْوِهِ بِلَا وُصُولِ دُخَانِهِ إِلَى الْحَلْقِ فَلَا يُفْطِرُ وَلَوْ جَاءَتْهُ الرَّائِحَةُ وَاسْتَنْشَقَهَا، لِأَنَّ الرَّائِحَةَ لَا جِسْمَ لَهَا.

فَمَنْ أَدْخَلَ بِصُنْعِهِ دُخَانًا حَلْقَهُ، بِأَيَّةِ صُورَةٍ كَانَ الْإِدْخَالُ- فَسَدَ صَوْمُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ دُخَانَ عَنْبَرٍ أَمْ عُودٍ أَمْ غَيْرِهِمَا، حَتَّى مَنْ تَبَخَّرَ بِعُودٍ، فَآوَاهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَاشْتَمَّ دُخَانَهُ، ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ، أَفْطَرَ، لِإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ مِنْ إِدْخَالِ الْمُفْطِرِ جَوْفَهُ وَدِمَاغَهُ.

قَالَ الشَّرَنْبَلَالِيُّ: هَذَا مِمَّا يَغْفُلُ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَلْيُنَبَّهْ لَهُ، وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ كَشَمِّ الْوَرْدِ وَالْمِسْكِ، لِوُضُوحِ الْفَرْقِ بَيْنَ هَوَاءٍ تَطَيَّبَ بِرِيحِ الْمِسْكِ وَشَبَهِهِ، وَبَيْنَ جَوْهَرِ دُخَانٍ وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ بِفِعْلِهِ

ج- بُخَارُ الْقِدْرِ:

47- بُخَارُ الْقِدْرِ، مَتَى وَصَلَ لِلْحَلْقِ بِاسْتِنْشَاقٍ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ، لِأَنَّ دُخَانَ الْبَخُورِ وَبُخَارَ الْقِدْرِ كُلٌّ مِنْهُمَا جِسْمٌ يَتَكَيَّفُ بِهِ الدِّمَاغُ، وَيَتَقَوَّى بِهِ، أَيْ تَحْصُلُ لَهُ قُوَّةٌ كَالَّتِي تَحْصُلُ مِنَ الْأَكْلِ، أَمَّا لَوْ وَصَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِلْحَلْقِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ.

هَذَا بِخِلَافِ دُخَانِ الْحَطَبِ، فَإِنَّهُ لَا قَضَاءَ فِي وُصُولِهِ لِلْحَلْقِ، وَلَوْ تَعَمَّدَ اسْتِنْشَاقَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لِلدِّمَاغِ بِهِ قُوَّةٌ كَالَّتِي تَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْأَكْلِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ فَتَحَ فَاهُ عَمْدًا حَتَّى دَخَلَ الْغُبَارُ فِي جَوْفِهِ، لَمْ يُفْطِرْ عَلَى الْأَصَحِّ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ الْإِفْطَارُ بِابْتِلَاعِ غَرْبَلَةِ الدَّقِيقِ وَغُبَارِ الطَّرِيقِ، إِنْ تَعَمَّدَهُ.

د- التَّدْخِينُ:

48- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ شُرْبَ الدُّخَانِ الْمَعْرُوفِ أَثْنَاءَ الصَّوْمِ يُفْسِدُ الصِّيَامَ، لِأَنَّهُ مِنَ الْمُفْطِرَاتِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَبَغ) الْمَوْسُوعَة الْفِقْهِيَّة 10 فِقْرَة 30.

هـ- التَّقْطِيرُ فِي الْأُذُنِ:

49- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى فَسَادِ الصَّوْمِ بِتَقْطِيرِ الدَّوَاءِ أَوِ الدُّهْنِ أَوِ الْمَاءِ فِي الْأُذُنِ.

فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَمَّا يَصِلُ إِلَى الْحَلْقِ، مِمَّا يَنْمَاعُ أَوْ لَا يَنْمَاعُ.

وَالْمَذْهَبُ: أَنَّ الْوَاصِلَ إِلَى الْحَلْقِ مُفَطِّرٌ وَلَوْ لَمْ يُجَاوِزْهُ، إِنْ وَصَلَ إِلَيْهِ، وَلَوْ مِنْ أَنْفٍ أَوْ أُذُنٍ أَوْ عَيْنٍ نَهَارًا.

وَتَوْجِيهُهُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ وَاصِلٌ مِنْ أَحَدِ الْمَنَافِذِ الْوَاسِعَةِ فِي الْبَدَنِ، وَهِيَ: الْفَمُ وَالْأَنْفُ وَالْأُذُنُ، وَأَنَّ كُلَّ مَا وَصَلَ إِلَى الْمَعِدَةِ مِنْ مَنْفَذٍ عَالٍ- مُوجِبٌ لِلْقَضَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ الْمَنْفَذُ وَاسِعًا أَمْ ضَيِّقًا.وَأَنَّهُ لَا تَفْرِقَةَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْمَائِعِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي الْوَاصِلِ إِلَى الْمَعِدَةِ مِنَ الْحَلْقِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: لَوْ صَبَّ الْمَاءَ أَوْ غَيْرَهُ فِي أُذُنَيْهِ، فَوَصَلَ دِمَاغَهُ أَفْطَرَ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَنَا، وَلَمْ يَرَ الْغَزَالِيُّ الْإِفْطَارَ بِالتَّقْطِيرِ فِي الْأُذُنَيْنِ.

وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: إِذَا قَطَّرَ فِي أُذُنِهِ فَوَصَلَ إِلَى دِمَاغِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ، لِأَنَّ الدِّمَاغَ أَحَدُ الْجَوْفَيْنِ، فَالْوَاصِلُ إِلَيْهِ يُغَذِّيهِ، فَأَفْسَدَ الصَّوْمَ.

وَالْحَنَفِيَّةُ قَالُوا بِفَسَادِ الصَّوْمِ بِتَقْطِيرِ الدَّوَاءِ وَالدُّهْنِ فِي الْأُذُنِ، لِأَنَّ فِيهِ صَلَاحًا لِجُزْءٍ مِنَ الْبَدَنِ، فَوُجِدَ إِفْسَادُ الصَّوْمِ مَعْنًى.

وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَقْطِيرِ الْمَاءِ فِي الْأُذُنِ، فَاخْتَارَ الْمَرْغِينَانِيُّ فِي الْهِدَايَةِ- وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ غَيْرُهُ- عَدَمَ الْإِفْطَارِ بِهِ مُطْلَقًا، دَخَلَ بِنَفْسِهِ أَوْ أَدْخَلَهُ.

وَفَرَّقَ قَاضِيخَانْ، بَيْنَ الْإِدْخَالِ قَصْدًا فَأَفْسَدَ بِهِ الصَّوْمَ، وَبَيْنَ الدُّخُولِ فَلَمْ يُفْسِدْهُ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي صَحَّحُوهُ، لِأَنَّ الْمَاءَ يَضُرُّ الدِّمَاغَ، فَانْعَدَمَ الْإِفْسَادُ صُورَةً وَمَعْنًى.

فَالِاتِّفَاقُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى الْفِطْرِ بِصَبِّ الدُّهْنِ، وَعَلَى عَدَمِهِ بِدُخُولِ الْمَاءِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي التَّصْحِيحِ فِي إِدْخَالِهِ.

و- مُدَاوَاةُ الْآمَّةِ وَالْجَائِفَةِ وَالْجِرَاحِ:

50- الْآمَّةُ: جِرَاحَةٌ فِي الرَّأْسِ، وَالْجَائِفَةُ: جِرَاحَةٌ فِي الْبَطْنِ.

وَالْمُرَادُ بِهَذَا- كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ- مَا يَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ مِنْ غَيْرِ الْمَخَارِقِ الْأَصْلِيَّةِ.

فَإِذَا دَاوَى الصَّائِمُ الْآمَّةَ أَوَ الْجِرَاحَ، فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ- بِوَجْهِ عَامٍّ- فَسَادُ الصَّوْمِ، إِذَا وَصَلَ الدَّوَاءُ إِلَى الْجَوْفِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: لَوْ دَاوَى جُرْحَهُ فَوَصَلَ الدَّوَاءُ إِلَى جَوْفِهِ أَوْ دِمَاغِهِ أَفْطَرَ عِنْدَنَا سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّوَاءُ رَطْبًا أَمْ يَابِسًا وَعَلَّلَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ أَوْصَلَ إِلَى جَوْفِهِ شَيْئًا بِاخْتِيَارِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَكَلَ.قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ.

وَعَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ- مَعَ نَصِّهِمْ عَلَى عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الدَّوَاءِ الرَّطْبِ وَبَيْنَ الدَّوَاءِ الْيَابِسِ- بِأَنَّ بَيْنَ جَوْفِ الرَّأْسِ وَجَوْفِ الْمَعِدَةِ مَنْفَذًا أَصْلِيًّا، فَمَتَى وَصَلَ إِلَى جَوْفِ الرَّأْسِ، يَصِلُ إِلَى جَوْفِ الْبَطْنِ.

أَمَّا إِذَا شَكَّ فِي وُصُولِ الدَّوَاءِ إِلَى الْجَوْفِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بَعْضُ التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ، فَإِنْ كَانَ الدَّوَاءُ رَطْبًا، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الظَّاهِرُ هُوَ الْوُصُولُ، لِوُجُودِ الْمَنْفَذِ إِلَى الْجَوْفِ، وَهُوَ السَّبَبُ، فَيُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى الظَّاهِرِ، وَهُوَ الْوُصُولُ عَادَةً، وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: لَا يُفْطِرُ، لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ، فَلَا يُفْطِرُ بِالشَّكِّ، فَهُمَا يَعْتَبِرَانِ الْمَخَارِقَ الْأَصْلِيَّةَ؛ لِأَنَّ الْوُصُولَ إِلَى الْجَوْفِ مِنَ الْمَخَارِقِ الْأَصْلِيَّةِ مُتَيَقَّنٌ بِهِ، وَمِنْ غَيْرِهَا مَشْكُوكٌ بِهِ، فَلَا نَحْكُمُ بِالْفَسَادِ مَعَ الشَّكِّ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ الدَّوَاءُ يَابِسًا، فَلَا فِطْرَ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى الْجَوْفِ وَلَا إِلَى الدِّمَاغِ.

لَكِنْ قَالَ الْبَابَرْتِيُّ: وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْوُصُولِ، حَتَّى إِذَا عَلِمَ أَنَّ الدَّوَاءَ الْيَابِسَ وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ، فَسَدَ صَوْمُهُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الرَّطْبَ لَمْ يَصِلْ إِلَى جَوْفِهِ، لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ عِنْدَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ ذَكَرَ الرَّطْبَ وَالْيَابِسَ بِنَاءً عَلَى الْعَادَةِ.

وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ يَقِينًا فَسَدَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، نَظَرًا إِلَى الْعَادَةِ، لَا عِنْدَهُمَا.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ عَدَمُ الْإِفْطَارِ بِمُدَاوَاةِ الْجِرَاحِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشِّيحِ تَقِيِّ الدِّينِ.

قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ: وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَدَمَ الْإِفْطَارِ بِمُدَاوَاةِ جَائِفَةٍ وَمَأْمُومَةٍ.

قَالَ ابْنُ جُزَيٍّ: أَمَّا دَوَاءُ الْجُرْحِ بِمَا يَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ، فَلَا يُفْطِرُ.

وَقَالَ الدَّرْدِيرُ، مُعَلِّلًا عَدَمَ الْإِفْطَارِ بِوَضْعِ الدُّهْنِ عَلَى الْجَائِفَةِ، وَالْجُرْحِ الْكَائِنِ فِي الْبَطْنِ الْوَاصِلِ لِلْجَوْفِ: لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ لِمَحَلِّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَإِلاَّ لَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ.

ز- الِاحْتِقَانُ:

51- الِاحْتِقَانُ: صَبُّ الدَّوَاءِ أَوْ إِدْخَالُ نَحْوِهِ فِي الدُّبُرِ.وَقَدْ يَكُونُ بِمَائِعٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، فَالِاحْتِقَانُ بِالْمَائِعِ مِنَ الْمَاءِ، وَهُوَ الْغَالِبُ، أَوْ غَيْرِ الْمَاءِ- يُفْسِدُ الصَّوْمَ وَيُوجِبُ الْقَضَاءَ، فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَمَنْصُوصُ خَلِيلٍ، وَهُوَ مُعَلَّلٌ بِأَنَّهُ يَصِلُ بِهِ الْمَاءُ إِلَى الْجَوْفِ مِنْ مَنْفَذٍ مَفْتُوحٍ، وَبِأَنَّ غَيْرَ الْمُعْتَادِ كَالْمُعْتَادِ فِي الْوَاصِلِ، وَبِأَنَّهُ أَبْلَغُ وَأَوْلَى بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ مِنَ الِاسْتِعَاطِ اسْتِدْرَاكًا لِلْفَرِيضَةِ الْفَاسِدَةِ.

وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ، لِعَدَمِ اسْتِكْمَالِ الْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ صُورَةً وَمَعْنًى، كَمَا هُوَ سَبَبُ الْكَفَّارَةِ، بَلْ هُوَ لِوُجُودِ مَعْنَى الْفِطْرِ، وَهُوَ وُصُولُ مَا فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ إِلَى الْجَوْفِ، دُونَ صُورَتِهِ، وَهُوَ الْوُصُولُ مِنَ الْفَمِ دُونَ مَا سِوَاهُ.

وَاسْتَدَلَّ الْمَرْغِينَانِيُّ وَغَيْرُهُ لِلْإِفْطَارِ بِالِاحْتِقَانِ وَغَيْرِهِ، كَالِاسْتِعَاطِ وَالْإِفْطَارِ، بِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رضي الله عنها-: إِنَّمَا الْإِفْطَارُ مِمَّا دَخَلَ، وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ.

وَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما- الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ، وَلَيْسَ مِمَّا يَخْرُجُ.

أَمَّا الِاحْتِقَانُ بِالْجَامِدِ، فَفِيهِ بَعْضُ الْخِلَافِ: فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَا يَدْخُلُ إِلَى الْجَوْفِ مِنَ الدُّبُرِ بِالْحُقْنَةِ يُفْطِرُ، لِأَنَّهُ وَاصِلٌ إِلَى الْجَوْفِ بِاخْتِيَارِهِ، فَأَشْبَهَ الْأَكْلَ.

كَذَلِكَ دُخُولُ طَرَفِ أُصْبُعٍ فِي الْمَخْرَجِ حَالَ الِاسْتِنْجَاءِ يُفْطِرُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: لَوْ أَدْخَلَ الرَّجُلُ أُصْبُعَهُ أَوْ غَيْرَهَا دُبُرَهُ، وَبَقِيَ الْبَعْضُ خَارِجًا، بَطَلَ الصَّوْمُ، بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَغْيِيبَ الْقُطْنِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْجَوَامِدِ الْجَافَّةِ يُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَعَدَمَ التَّغْيِيبِ لَا يُفْسِدُهُ، كَمَا لَوْ بَقِيَ طَرَفُهُ خَارِجًا، لِأَنَّ عَدَمَ تَمَامِ الدُّخُولِ كَعَدَمِ دُخُولِ شَيْءٍ بِالْمَرَّةِ، كَإِدْخَالِ الْأُصْبُعِ غَيْرِ الْمَبْلُولَةِ، أَمَّا الْمَبْلُولَةُ بِالْمَاءِ وَالدُّهْنِ فَيُفْسِدُهُ.

وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ الْإِفْطَارَ وَإِبْطَالَ الصَّوْمِ بِالْحُقْنَةِ الْمَائِعَةِ نَصًّا.

وَقَالُوا: احْتَرَزَ (خَلِيلٌ) بِالْمَائِعِ عَنِ الْحُقْنَةِ بِالْجَامِدِ، فَلَا قَضَاءَ فِيهَا، وَلَا فِي فَتَائِلَ عَلَيْهَا دُهْنٌ لِخِفَّتِهَا.

وَفِي الْمُدَوَّنَةِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الْفَتَائِلِ تُجْعَلُ لِلْحُقْنَةِ؟ قَالَ مَالِكٌ: أَرَى ذَلِكَ خَفِيفًا، وَلَا أَرَى عَلَيْهِ فِيهِ شَيْئًا، قَالَ مَالِكٌ: وَإِنِ احْتَقَنَ بِشَيْءٍ يَصِلُ إِلَى جَوْفِهِ، فَأَرَى عَلَيْهِ الْقَضَاءَ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.

وَيَبْدُو مَعَ ذَلِكَ تَلْخِيصًا أَنَّ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي الْحُقْنَةِ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: وَهُوَ الْمَشْهُورُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ: الْإِفْطَارُ بِالْحُقْنَةِ الْمَائِعَةِ.

الثَّانِيَ: أَنَّ الْحُقْنَةَ تُفْطِرُ مُطْلَقًا.

الثَّالِثُ: أَنَّهَا لَا تُفْطِرُ، وَاسْتَحْسَنَهُ اللَّخْمِيُّ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِلُ إِلَى الْمَعِدَةِ، وَلَا مَوْضِعَ يَتَصَرَّفُ مِنْهُ مَا يُغَذِّي الْجِسْمَ بِحَالٍ.

الرَّابِعُ: أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْحُقْنَةِ مَكْرُوهٌ.قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَكَانَ مَنْ مَضَى مِنَ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ التَّعَالُجَ بِالْحَقْنِ إِلاَّ مِنْ ضَرُورَةٍ غَالِبَةٍ، لَا تُوجَدُ عَنِ التَّعَالُجِ بِهَا مَنْدُوحَةٌ، فَلِهَذَا اسْتُحِبَّ قَضَاءُ الصَّوْمِ بِاسْتِعْمَالِهَا.

ح- الْحُقْنَةُ الْمُتَّخَذَةُ فِي مَسَالِكِ الْبَوْلِ:

وَيُعَبِّرُ عَنْ هَذَا الشَّافِعِيَّةُ بِالتَّقْطِيرِ، وَلَا يُسَمُّونَهُ احْتِقَانًا وَفِيهِ هَذَا التَّفْصِيلُ: الْأَوَّلُ: التَّقْطِيرُ فِي الْإِحْلِيلِ، أَيِ الذَّكَرِ:

52- فِي التَّقْطِيرِ أَقْوَالٌ: فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ، سَوَاءٌ أَوَصَلَ إِلَى الْمَثَانَةِ أَمْ لَمْ يَصِلْ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ بَاطِنِ الذَّكَرِ وَبَيْنَ الْجَوْفِ مَنْفَذٌ، وَإِنَّمَا يَمُرُّ الْبَوْلُ رَشْحًا، فَالَّذِي يَتْرُكُهُ فِيهِ لَا يَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ، فَلَا يُفْطِرُ، كَالَّذِي يَتْرُكُهُ فِي فِيهِ وَلَا يَبْتَلِعُهُ وَقَالَ الْمَوَّاقُ: هُوَ أَخَفُّ مِنَ الْحُقْنَةِ.

وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: لَوْ قَطَّرَ فِيهِ، أَوْ غَيَّبَ فِيهِ شَيْئًا فَوَصَلَ إِلَى الْمَثَانَةِ لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ.

وَلِلشَّافِعِيَّةِ- مَعَ ذَلِكَ- فِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ:

أَحَدُهَا: إِذَا قَطَّرَ فِيهِ شَيْئًا لَمْ يَصِلْ إِلَى الْمَثَانَةِ لَمْ يُفْطِرْ، وَهَذَا أَصَحُّهَا، لِأَنَّهُ- كَمَا قَالَ الْمَحَلِّيُّ- فِي جَوْفٍ غَيْرِ مُحِيلٍ.

الثَّانِي: لَا يُفْطِرُ.

الثَّالِثُ: إِنْ جَاوَزَ الْحَشَفَةَ أَفْطَرَ، وَإِلاَّ لَا.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يُفْطِرُ إِذَا وَصَلَ إِلَى الْمَثَانَةِ، أَمَّا مَا دَامَ فِي قَصَبَةِ الذَّكَرِ فَلَا يُفْسِدُ.

الثَّانِي: التَّقْطِيرُ فِي فَرْجِ الْمَرْأَةِ:

53- الْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَنْصُوصُ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- الَّذِينَ نَصُّوا عَلَى الْإِحْلِيلِ فَقَطْ- هُوَ فَسَادُ الصَّوْمِ بِهِ، وَعَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِالْحُقْنَةِ.

وَوَجْهُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، اسْتِجْمَاعُ شَرْطَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْمَنْفَذِ السَّافِلِ الْوَاسِعِ،

وَالْآخَرُ: الِاحْتِقَانُ بِالْمَائِعِ.

وَقَدْ نَصَّ الدَّرْدِيرُ عَلَى الْإِفْطَارِ بِهِ، وَنَصَّ الدُّسُوقِيُّ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَمُقَابِلُهُ مَا لِابْنِ حَبِيبٍ مِنِ اسْتِحْبَابِ الْقَضَاءِ، بِسَبَبِ الْحُقْنَةِ مِنَ الْمَائِعِ الْوَاصِلَةِ إِلَى الْمَعِدَةِ، مِنَ الدُّبُرِ أَوْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ، كَمَا نَصَّ الدَّرْدِيرُ عَلَى أَنَّ الِاحْتِقَانَ بِالْجَامِدِ لَا قَضَاءَ فِيهِ، وَلَا فِي الْفَتَائِلِ الَّتِي عَلَيْهَا دُهْنٌ.

رَابِعًا: التَّقْصِيرُ فِي حِفْظِ الصَّوْمِ وَالْجَهْلُ بِهِ:

الْأَوَّلُ: التَّقْصِيرُ:

54- أ- مِنْ صُوَرِ التَّقْصِيرِ مَا لَوْ تَسَحَّرَ أَوْ جَامَعَ، ظَانًّا عَدَمَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالْحَالُ أَنَّ الْفَجْرَ طَالِعٌ، فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَذَلِكَ لِلشُّبْهَةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ، وَالْجِنَايَةُ قَاصِرَةٌ، وَهِيَ جِنَايَةُ عَدَمِ التَّثَبُّتِ، لَا جِنَايَةُ الْإِفْطَارِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْهُ، وَلِهَذَا صَرَّحُوا بِعَدَمِ الْإِثْمِ عَلَيْهِ.

وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ- أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ.

وَإِذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ شَيْءٌ، لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- وَقِيلَ: يَقْضِي احْتِيَاطًا.وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا أَفْطَرَ بِظَنِّ الْغُرُوبِ، وَالْحَالُ أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَغْرُبْ- عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّهَارِ، وَابْنُ نُجَيْمٍ فَرَّعَ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ عَلَى قَاعِدَةِ: الْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ. قَالَ ابْنُ جُزَيٍّ: مَنْ شَكَّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ، حُرِّمَ عَلَيْهِ الْأَكْلُ، وَقِيلَ: يُكْرَهُ.

فَإِنْ أَكَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وُجُوبًا- عَلَى الْمَشْهُورِ- وَقِيلَ: اسْتِحْبَابًا، وَإِنْ شَكَّ فِي الْغُرُوبِ، لَمْ يَأْكُلِ اتِّفَاقًا، فَإِنْ أَكَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَقِيلَ: الْقَضَاءُ فَقَطْ، وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: الْمَشْهُورُ عَدَمُهَا.

وَمِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَنْ خَصَّ الْقَضَاءَ بِصِيَامِ الْفَرْضِ فِي الشَّكِّ فِي الْفَجْرِ، دُونَ صِيَامِ النَّفْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا.

وَقِيلَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يُفْطِرُ فِي صُورَتَيِ الشَّكِّ فِي الْغُرُوبِ وَالْفَجْرِ، وَقِيلَ: يُفْطِرُ فِي الْأُولَى، دُونَ الثَّانِيَةِ.

وَمَنْ ظَنَّ أَوِ اشْتَبَهَ فِي الْفِطْرِ، كَمَنْ أَكَلَ نَاسِيًا فَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ، فَأَكَلَ عَامِدًا، فَإِنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَالْقَضَاءُ هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ.

أَمَّا لَوْ فَعَلَ مَا لَا يَظُنُّ بِهِ الْفِطْرَ، كَالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَالِاكْتِحَالِ وَاللَّمْسِ وَالتَّقْبِيلِ بِشَهْوَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ بِذَلِكَ، فَأَكَلَ عَمْدًا، فَإِنَّهُ يَقْضِي فِي تِلْكَ الصُّوَرِ وَيُكَفِّرُ لِأَنَّهُ ظَنٌّ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ.

فَلَوْ كَانَ ظَنُّهُ فِي مَحَلِّهِ فَلَا كَفَّارَةَ، كَمَا لَوْ أَفْتَاهُ مُفْتٍ- يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِهِ وَيُؤْخَذُ بِفَتْوَاهُ فِي الْبَلَدِ- بِالْإِفْطَارِ فِي الْحِجَامَةِ فَأَكَلَ عَامِدًا، بَعْدَمَا احْتَجَمَ لَا يُكَفِّرُ.

وَالْمَالِكِيَّةُ قَسَّمُوا الظَّنَّ فِي الْفِطْرِ إِلَى قِسْمَيْنِ:

أ- تَأْوِيلٌ قَرِيبٌ: وَهُوَ الَّذِي يَسْتَنِدُ فِيهِ الْمُفْطِرُ إِلَى أَمْرٍ مَوْجُودٍ، يُعْذَرُ بِهِ شَرْعًا، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، كَمَا فِي هَذِهِ الصُّوَرِ:

- لَوْ أَفْطَرَ نَاسِيًا، فَظَنَّ لِفَسَادِ صَوْمِهِ إِبَاحَةَ الْفِطْرِ، فَأَفْطَرَ ثَانِيًا عَامِدًا، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.

- أَوْ لَزِمَهُ الْغُسْلُ لَيْلًا لِجَنَابَةٍ أَوْ حَيْضٍ، وَلَمْ يَغْتَسِلْ إِلاَّ بَعْدَ الْفَجْرِ، فَظَنَّ الْإِبَاحَةَ، فَأَفْطَرَ عَمْدًا.

- أَوْ تَسَحَّرَ قُرْبَ الْفَجْرِ، فَظَنَّ بُطْلَانَ صَوْمِهِ، فَأَفْطَرَ.

- أَوْ قَدِمَ الْمُسَافِرُ لَيْلًا، فَظَنَّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ صَوْمُ صَبِيحَةِ قُدُومِهِ، فَأَفْطَرَ مُسْتَنِدًا إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ.

أَوْ سَافَرَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَظَنَّ إِبَاحَةَ الْفِطْرِ فَبَيَّتَ الْفِطْرَ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.

أَوْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ نَهَارًا، يَوْمَ ثَلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَاعْتَقَدَ أَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ، فَأَفْطَرَ.

فَهَؤُلَاءِ إِذَا ظَنُّوا إِبَاحَةَ الْفِطْرِ فَأَفْطَرُوا، فَعَلَيْهِمُ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ عَلِمُوا الْحُرْمَةَ، أَوْ شَكُّوا فِيهَا فَعَلَيْهِمُ الْكَفَّارَةُ.

ب- تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ: وَهُوَ الْمُسْتَنِدُ فِيهِ إِلَى أَمْرٍ مَعْدُومٍ أَوْ مَوْجُودٍ، لَكِنَّهُ لَمْ يُعْذَرْ بِهِ شَرْعًا، فَلَا يَنْفَعُهُ، وَعَرَّفَهُ الْأَبِيُّ بِأَنَّهُ: مَا لَمْ يَسْتَنِدْ لِمَوْجُودٍ غَالِبًا مِثَالُ ذَلِكَ:

- مَنْ رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ، فَشَهِدَ عِنْدَ حَاكِمٍ، فَرُدَّ وَلَمْ يُقْبَلْ لِمَانِعٍ، فَظَنَّ إِبَاحَةَ الْفِطْرِ، فَأَفْطَرَ، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِبُعْدِ تَأْوِيلِهِ.

وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِقُرْبِ تَأْوِيلِهِ لِاسْتِنَادِهِ لِمَوْجُودٍ، وَهُوَ رَدُّ الْحَاكِمِ شَهَادَتَهُ.

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ اسْتَنَدَ لِمَعْدُومٍ، وَهُوَ أَنَّ الْيَوْمَ لَيْسَ مِنْ رَمَضَانَ، مَعَ أَنَّهُ مِنْهُ بِرُؤْيَةِ عَيْنِهِ.

- أَوْ بَيَّتَ الْفِطْرَ وَأَصْبَحَ مُفْطِرًا، فِي يَوْمٍ لِحُمَّى تَأْتِيهِ فِيهِ عَادَةً، ثُمَّ حُمَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَوْلَى إِنْ لَمْ يُحَمَّ.

- أَوْ بَيَّتَتِ الْفِطْرَ امْرَأَةٌ لِحَيْضٍ اعْتَادَتْهُ فِي يَوْمِهَا، ثُمَّ حَصَلَ الْحَيْضُ بَعْدَ فِطْرِهَا، وَأَوْلَى إِنْ لَمْ يَحْصُلْ.

أَوْ أَفْطَرَ لِحِجَامَةٍ فَعَلَهَا بِغَيْرِهِ، أَوْ فُعِلَتْ بِهِ، فَظَنَّ الْإِبَاحَةَ، فَإِنَّهُ يُكَفِّرُ.لَكِنْ قَالَ الدَّرْدِيرُ: الْمُعْتَمَدُ فِي هَذَا عَدَمُ الْكَفَّارَةِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْقَرِيبِ، لِاسْتِنَادِهِ لِمَوْجُودٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عليه الصلاة والسلام-: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ».

أَوِ اغْتَابَ شَخْصًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَظَنَّ إِبَاحَةَ الْفِطْرِ فَأَفْطَرَ، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ جَامَعَ عَامِدًا، بَعْدَ الْأَكْلِ نَاسِيًا، وَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ بِهِ، لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ بُطْلَانَ صَوْمِهِ بِالْجِمَاعِ، لِأَنَّهُ جَامَعَ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ غَيْرُ صَائِمٍ، فَلَمْ يَأْثَمْ بِهِ، لِذَلِكَ قِيلَ: لَا يَبْطُلُ صَوْمُهُ، وَبُطْلَانُهُ مَقِيسٌ عَلَى مَنْ ظَنَّ اللَّيْلَ وَقْتَ الْجِمَاعِ، فَبَانَ خِلَافُهُ.

وَعِنْدَ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَجِبَ بِهِ الْكَفَّارَةُ، لِأَنَّ هَذَا الظَّنَّ لَا يُبِيحُ الْوَطْءَ.

وَأَمَّا لَوْ قَالَ: عَلِمْتُ تَحْرِيمَهُ، وَجَهِلْتُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ، لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ بِلَا خِلَافٍ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَامَعَ فِي يَوْمٍ رَأَى الْهِلَالَ فِي لَيْلَتِهِ، وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِفِسْقِهِ أَوْ غَيْرِهِ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، لِأَنَّهُ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ، فَلَزِمَتْهُ كَمَا لَوْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ.

وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ إِلاَّ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، أَوْ نَسِيَ النِّيَّةَ، أَوْ أَكَلَ عَامِدًا، ثُمَّ جَامَعَ تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، لِهَتْكِهِ حُرْمَةَ الزَّمَنِ بِهِ، وَلِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمُسْتَدِيمِ لِلْوَطْءِ، وَلَا صَوْمَ هُنَاكَ، فَكَذَا هُنَا.

الثَّانِي: الْجَهْلُ:

54- ب- الْجَهْلُ: عَدَمُ الْعِلْمِ بِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْلَمَ.

فَالْجُمْهُورُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، عَلَى إِعْذَارِ حَدِيثِ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ، إِذَا جَهِلَ الصَّوْمَ فِي رَمَضَانَ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُعْذَرُ مَنْ أَسْلَمَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَصُمْ، وَلَمْ يُصَلِّ، وَلَمْ يُزَكِّ بِجَهْلِهِ بِالشَّرَائِعِ مُدَّةَ جَهْلِهِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ إِنَّمَا يَلْزَمُ بِالْعِلْمِ بِهِ أَوْ بِدَلِيلِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ، إِذْ لَا دَلِيلَ عِنْدَهُ عَلَى فَرْضِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ جَهِلَ تَحْرِيمَ الطَّعَامِ أَوِ الْوَطْءِ، بِأَنْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَشَأَ بَعِيدًا عَنِ الْعُلَمَاءِ، لَمْ يُفْطِرْ، كَمَا لَوْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْقَيْءُ.

وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْجَاهِلَ بِأَحْكَامِ الصِّيَامِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هُوَ كَالْعَامِدِ.

وَقَسَّمَ الدُّسُوقِيُّ الْجَاهِلَ إِلَى ثَلَاثَةٍ: فَجَاهِلُ حُرْمَةِ الْوَطْءِ، وَجَاهِلُ رَمَضَانَ، لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا، وَجَاهِلُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ- مَعَ عِلْمِهِ بِحُرْمَةِ الْفِعْلِ- تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ.

وَأَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ، كَمَا قَرَّرَ بَعْضٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَصَرَّحُوا بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْعَامِدِ وَالْجَاهِلِ وَالْمُكْرَهِ وَالسَّاهِي وَالْمُخْطِئِ.

خَامِسًا: عَوَارِضُ الْإِفْطَارِ:

55- الْمُرَادُ بِالْعَوَارِضِ: مَا يُبِيحُ عَدَمَ الصَّوْمِ.

وَهِيَ: الْمَرَضُ، وَالسَّفَرُ، وَالْحَمْلُ، وَالرَّضَاعُ، وَالْهَرَمُ، وَإِرْهَاقُ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَالْإِكْرَاهُ. أَوَّلًا: الْمَرَضُ:

56- الْمَرَضُ هُوَ كُلُّ مَا خَرَجَ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنْ حَدِّ الصِّحَّةِ مِنْ عِلَّةٍ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى إِبَاحَةِ الْفِطْرِ لِلْمَرِيضِ فِي الْجُمْلَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.

وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ - رضي الله عنه- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ، يُفْطِرُ وَيَفْتَدِي، حَتَّى أُنْزِلَتِ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا يَعْنِي قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَنَسَخَتْهَا.

فَالْمَرِيضُ الَّذِي يَخَافُ زِيَادَةَ مَرَضِهِ بِالصَّوْمِ أَوْ إِبْطَاءَ الْبُرْءِ أَوْ فَسَادَ عُضْوٍ، لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، بَلْ يُسَنُّ فِطْرُهُ، وَيُكْرَهُ إِتْمَامُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ، فَيَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ.

ثُمَّ إِنَّ شِدَّةَ الْمَرَضِ تُجِيزُ الْفِطْرَ لِلْمَرِيضِ.

أَمَّا الصَّحِيحُ إِذَا خَافَ الشِّدَّةَ أَوِ التَّعَبَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ، إِذَا حَصَلَ لَهُ بِالصَّوْمِ مُجَرَّدُ شِدَّةِ تَعَبٍ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ فِطْرِهِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا خَافَ الصَّحِيحُ الْمَرَضَ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ فَلَهُ الْفِطْرُ، فَإِنْ خَافَهُ بِمُجَرَّدِ الْوَهْمِ، فَلَيْسَ لَهُ الْفِطْرُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا خَافَ حُصُولَ أَصْلِ الْمَرَضِ بِصَوْمِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ- عَلَى الْمَشْهُورِ- إِذْ لَعَلَّهُ لَا يَنْزِلُ بِهِ الْمَرَضُ إِذَا صَامَ.وَقِيلَ: يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ.

فَإِنْ خَافَ كُلٌّ مِنَ الْمَرِيضِ وَالصَّحِيحِ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ بِصَوْمِهِ، وَجَبَ الْفِطْرُ.

وَكَذَا لَوْ خَافَ أَذًى شَدِيدًا، كَتَعْطِيلِ مَنْفَعَةٍ، مِنْ سَمْعٍ أَوْ بَصَرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، لِأَنَّ حِفْظَ النَّفْسِ وَالْمَنَافِعِ وَاجِبٌ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْجَهْدِ الشَّدِيدِ، فَإِنَّهُ يُبِيحُ الْفِطْرَ لِلْمَرِيضِ، قِيلَ: وَالصَّحِيحِ أَيْضًا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْمَرِيضَ- وَإِنْ تَعَدَّى بِفِعْلِ مَا أَمْرَضَهُ- يُبَاحُ لَهُ تَرْكُ الصَّوْمِ، إِذَا وَجَدَ بِهِ ضَرَرًا شَدِيدًا، لَكِنَّهُمْ شَرَطُوا لِجَوَازِ فِطْرِهِ نِيَّةَ التَّرَخُّصِ- كَمَا قَالَ الرَّمْلِيُّ وَاعْتَمَدَهُ- وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمَرَضِ الْمُطْبِقِ، وَبَيْنَ الْمَرَضِ الْمُتَقَطِّعِ، فَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ مُطْبِقًا، فَلَهُ تَرْكُ النِّيَّةِ فِي اللَّيْلِ.

وَإِنْ كَانَ يُحَمُّ وَيَنْقَطِعُ؛ نُظِرَ.فَإِنْ كَانَ مَحْمُومًا وَقْتَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ، فَلَهُ تَرْكُ النِّيَّةِ، وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ مِنَ اللَّيْلِ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى الْإِفْطَارِ أَفْطَرَ.

وَمِثْلُ ذَلِكَ الْحَصَادُ وَالْبِنَاءُ وَالْحَارِسُ- وَلَوْ مُتَبَرِّعًا- فَتَجِبُ عَلَيْهِمُ النِّيَّةُ لَيْلًا، ثُمَّ إِنْ لَحِقَتْهُمْ مَشَقَّةٌ أَفْطَرُوا.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى حَالَةٍ لَا يُمْكِنُهُ فِيهَا الصَّوْمُ، بَلْ قَالَ أَصْحَابُنَا: شَرْطُ إِبَاحَةِ الْفِطْرِ أَنْ يَلْحَقَهُ بِالصَّوْمِ مَشَقَّةٌ يَشُقُّ احْتِمَالُهَا، وَأَمَّا الْمَرَضُ الْيَسِيرُ الَّذِي لَا يَلْحَقُ بِهِ مَشَقَّةٌ ظَاهِرُهُ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْفِطْرُ، بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِأَهْلِ الظَّاهِرِ.

وَخَوْفُ الضَّرَرِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَمَّا خَوْفُ التَّلَفِ بِسَبَبِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الصَّوْمَ مَكْرُوهًا، وَجَزَمَ جَمَاعَةٌ بِحُرْمَتِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي الْإِجْزَاءِ، لِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ، كَمَا لَوْ أَتَمَّ الْمُسَافِرُ.

قَالُوا: وَلَوْ تَحَمَّلَ الْمَرِيضُ الضَّرَرَ، وَصَامَ مَعَهُ، فَقَدْ فَعَلَ مَكْرُوهًا، لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ، وَتَرْكِهِ تَخْفِيفًا مِنَ اللَّهِ وَقَبُولَ رُخْصَتِهِ، لَكِنْ يَصِحُّ صَوْمُهُ وَيُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ عَزِيمَةٌ أُبِيحَ تَرْكُهَا رُخْصَةً، فَإِذَا تَحَمَّلَهُ أَجْزَأَهُ، لِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ، كَمَا أَتَمَّ الْمُسَافِرُ، وَكَالْمَرِيضِ الَّذِي يُبَاحُ لَهُ تَرْكُ الْجُمُعَةِ، إِذَا حَضَرَهَا.

قَالَ فِي الْمُبْدِعِ: فَلَوْ خَافَ تَلَفًا بِصَوْمِهِ، كُرِهَ، وَجَزَمَ جَمَاعَةٌ بِأَنَّهُ يَحْرُمُ.وَلَمْ يَذْكُرُوا خِلَافًا فِي الْإِجْزَاءِ.

وَلَخَصَّ ابْنُ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَحْوَالَ الْمَرِيضِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّوْمِ، وَقَالَ: لِلْمَرِيضِ أَحْوَالٌ:

الْأُولَى: أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى الصَّوْمِ أَوْ يَخَافَ الْهَلَاكَ مِنَ الْمَرَضِ أَوِ الضَّعْفَ إِنْ صَامَ، فَالْفِطْرُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ.

الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الصَّوْمِ بِمَشَقَّةٍ، فَالْفِطْرُ لَهُ جَائِزٌ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مُسْتَحَبٌّ.

الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقْدِرَ بِمَشَقَّةٍ، وَيَخَافَ زِيَادَةَ الْمَرَضِ، فَفِي وُجُوبِ فِطْرِهِ قَوْلَانِ.

الرَّابِعَةُ: أَنْ لَا يَشُقَّ عَلَيْهِ، وَلَا يَخَافُ زِيَادَةَ الْمَرَضِ، فَلَا يُفْطِرُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِابْنِ سِيرِينَ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَصْبَحَ الصَّحِيحُ صَائِمًا، ثُمَّ مَرِضَ، جَازَ لَهُ الْفِطْرُ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ لِلضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ مَوْجُودَةٌ، فَجَازَ لَهُ الْفِطْرُ.

ثَانِيًا: السَّفَرُ:

57- يُشْتَرَطُ فِي السَّفَرِ الْمُرَخِّصِ فِي الْفِطْرِ مَا يَلِي:

أ- أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ طَوِيلًا مِمَّا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَأَمَّا الْمَعْنَى الْمَعْقُولُ مِنْ إِجَازَةِ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ فَهُوَ الْمَشَقَّةُ، وَلَمَّا كَانَتْ لَا تُوجَدُ فِي كُلِّ سَفَرٍ، وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ الْفِطْرُ فِي السَّفَرِ الَّذِي فِيهِ الْمَشَقَّةُ، وَلَمَّا كَانَ الصَّحَابَةُ كَأَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى الْحَدِّ فِي ذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ يُقَاسَ ذَلِكَ عَلَى الْحَدِّ فِي تَقْصِيرِ الصَّلَاةِ.

ب- أَنْ لَا يَعْزِمَ الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ خِلَالَ سَفَرِهِ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهِيَ نِصْفُ شَهْرٍ أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

ج- أَنْ لَا يَكُونَ سَفَرُهُ فِي مَعْصِيَةٍ، بَلْ فِي غَرَضٍ صَحِيحٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِطْرَ رُخْصَةٌ وَتَخْفِيفٌ، فَلَا يَسْتَحِقُّهَا عَاصٍ بِسَفَرِهِ، بِأَنْ كَانَ مَبْنَى سَفَرِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، كَمَا لَوْ سَافَرَ لِقَطْعِ طَرِيقٍ مَثَلًا.

وَالْحَنَفِيَّةُ يُجِيزُونَ الْفِطْرَ لِلْمُسَافِرِ، وَلَوْ كَانَ عَاصِيًا بِسَفَرِهِ، عَمَلًا بِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ الْمُرَخِّصَةِ، وَلِأَنَّ نَفْسَ السَّفَرِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ مَا يَكُونُ بَعْدَهُ أَوْ يُجَاوِرُهُ، وَالرُّخْصَةُ تَتَعَلَّقُ بِالسَّفَرِ لَا بِالْمَعْصِيَةِ.

د- أَنْ يُجَاوِزَ الْمَدِينَةَ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا، وَالْبِنَاءَاتِ وَالْأَفْنِيَةَ وَالْأَخْبِيَةَ.

وَذَهَبَ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ، إِلَى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ هِلَالَ رَمَضَانَ وَهُوَ مُقِيمٌ، ثُمَّ سَافَرَ، جَازَ لَهُ الْفِطْرُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مُطْلَقَ السَّفَرِ سَبَبَ الرُّخْصَةِ، بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَلِمَا ثَبَتَ مِنْ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ مُسَافِرًا، وَأَفْطَرَ».

وَلِأَنَّ السَّفَرَ إِنَّمَا كَانَ سَبَبَ الرُّخْصَةِ لِمَكَانِ الْمَشَقَّةِ.

وَحَكَى النَّوَوِيُّ عَنْ أَبِي مَخْلَدٍ التَّابِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُسَافِرُ، فَإِنْ سَافَرَ لَزِمَهُ الصَّوْمُ وَحُرِّمَ الْفِطْرُ وَعَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ التَّابِعِيِّ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ، وَلَا يَمْتَنِعُ السَّفَرُ، وَاسْتَدَلَّ لَهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.

حَكَى الْكَاسَانِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما- أَنَّهُ إِذَا أَهَلَّ فِي الْمِصْرِ، ثُمَّ سَافَرَ، لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ.وَاسْتَدَلَّ لَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَهَلَّ فِي الْحَضَرِ لَزِمَهُ صَوْمُ الْإِقَامَةِ، وَهُوَ صَوْمُ الشَّهْرِ حَتْمًا، فَهُوَ بِالسَّفَرِ يُرِيدُ إِسْقَاطَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ، كَالْيَوْمِ الَّذِي سَافَرَ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِيهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


134-موسوعة الفقه الكويتية (طريق)

طَرِيقٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الطَّرِيقُ فِي اللُّغَةِ: السَّبِيلُ- يُذَكَّرُ، وَيُؤَنَّثُ.بِالتَّذْكِيرِ جَاءَ الْقُرْآنُ: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} وَيُقَالُ: الطَّرِيقُ الْأَعْظَمُ كَمَا يُقَالُ: كَمَا يُقَالُ الطَّرِيقُ الْعُظْمَى.

وَفِي الْإِصْلَاحِ: لَا يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّافِذِ، وَغَيْرِ النَّافِذِ، وَالْوَاسِعِ وَالضَّيِّقِ، وَالْعَامِّ، وَالْخَاصِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الشَّارِعُ:

2- مِنْ مَعَانِي الشَّارِعِ: الطَّرِيقُ، قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: بَيْنَ الطَّرِيقِ وَالشَّارِعِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَالطَّرِيقُ عَامٌّ فِي الصَّحَارِيِ، وَالْبُنْيَانِ، وَالنَّافِذِ وَغَيْرِ النَّافِذِ، أَمَّا الشَّارِعُ فَهُوَ خَاصٌّ فِي الْبُنْيَانِ النَّافِذِ.

ب- السِّكَّةُ:

3- السِّكَّةُ هِيَ الطَّرِيقُ الْمُصْطَفَّةُ مِنَ النَّخِيلِ.وَالطَّرِيقُ أَعَمُّ مِنَ السِّكَّةِ.

ج- الزُّقَاقُ:

4- الزُّقَاقُ طَرِيقٌ ضَيِّقٌ دُونَ السِّكَّةِ، وَيَكُونُ نَافِذًا وَغَيْرَ نَافِذٍ وَالطَّرِيقُ أَعَمُّ مِنَ الزُّقَاقِ.

د- الدَّرْبُ:

5- الدَّرْبُ: بَابُ السِّكَّةِ الْوَاسِعُ، وَأَصْلُ الدَّرْبِ: الطَّرِيقُ الضَّيِّقُ فِي الْجَبَلِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَدْخَلِ الضَّيِّقِ.

هـ- الْفِنَاءُ:

6- الْفِنَاءُ فِي اللُّغَةِ: سِعَةٌ أَمَامَ الْبَيْتِ، وَقِيلَ: مَا امْتَدَّ مِنْ جَوَانِبِهِ، وَيُطْلِقُهُ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا فَضَلَ مِنْ حَاجَةِ الْمَارَّةِ مِنْ طَرِيقٍ نَافِذٍ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالطَّرِيقِ:

7- الطَّرِيقُ قَدْ يَكُونُ عَامًّا، وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا: فَالطَّرِيقُ الْعَامُّ: مَا يَسْلُكُهُ قَوْمٌ غَيْرُ مَحْصُورِينَ، أَوْ مَا جُعِلَ طَرِيقًا عِنْدَ إِحْيَاءِ الْبَلَدِ، أَوْ قَبْلَهُ، أَوْ وَقَفَهُ مَالِكُ الْأَرْضِ لِيَكُونَ طَرِيقًا، وَلَوْ بِغَيْرِ إِحْيَاءٍ.

وَإِنْ وُجِدَ سَبِيلٌ يَسْلُكُهُ النَّاسُ عَامَّةً، اعْتُمِدَ فِيهِ الظَّاهِرُ وَاعْتُبِرَ طَرِيقًا عَامًّا، وَلَا يَبْحَثُ عَنْ أَصْلِهِ.

أَمَّا بِنْيَاتُ الطَّرِيقِ- وَهِيَ الْمَمَرَّاتُ الْخَفِيَّةُ الَّتِي يَعْرِفُهَا الْخَوَاصُّ- فَلَا تَكُونُ بِذَلِكَ طَرِيقًا.

قَدْرُ مِسَاحَةِ الطَّرِيقِ:

8- إِنْ كَانَتِ الطَّرِيقُ مِنْ أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ يُسَبِّلُهَا مَالِكُهَا فَتَقْدِيرُ مِسَاحَةِ الطَّرِيقِ إِلَى اخْتِيَارِهِ، وَالْأَفْضَلُ تَوْسِيعُهُ، وَعِنْدَ الْإِحْيَاءِ: إِلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُحْيُونَ، فَإِنْ تَنَازَعُوا جُعِلَ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «قَضَى النَّبِيُّ إِذَا تَشَاجَرُوا فِي الطَّرِيقِ الْمِيتَاءِ بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ»، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ: «إِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي الطَّرِيقِ جُعِلَ عَرْضُهُ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ».

وَنَازَعَ فِي هَذَا التَّحْدِيدِ جَمْعٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ تَبَعًا لِلْأَذْرَعِيِّ: تَابَعَ النَّوَوِيُّ فِي هَذَا التَّحْدِيدِ إِفْتَاءَ ابْنِ الصَّلَاحِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: اعْتِبَارُ قَدْرِ الْحَاجَةِ فِي قَدْرِ الطَّرِيقِ، زَادَ عَنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ أَوْ نَقَصَ عَنْهَا، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ عُرْفَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَإِنْ زَادَ عَلَى سَبْعَةِ أَذْرُعٍ، أَوْ عَنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ لَمْ يُغَيَّرْ، لِأَنَّ الطُّرُقَ وَالْأَفْنِيَةَ كَالْإِحْبَاسِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، أَوْ يَقْتَطِعَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا، لَا يَتَضَرَّرُ الْمَارَّةُ بِالْجُزْءِ الْمُقْتَطَعِ مِنْهُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ الْحَارِثِ السُّلَمِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ أَخَذَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، شِبْرًا طَوَّقَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ»، وَيُهْدَمُ إِنِ اسْتَوْلَى شَخْصٌ أَوِ اقْتَطَعَ مِنَ الطَّرِيقِ وَأَدْخَلَهُ فِي بِنَائِهِ وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لَا يُهْدَمُ عَلَيْهِ مَا اقْتَطَعَ مِنْهَا إِذَا كَانَ مِمَّا لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَارَّةُ، وَلَا يُضَيِّقُ عَلَى الْمَارَّةِ لِسِعَتِهِ.

الِانْتِفَاعُ بِالطَّرِيقِ النَّافِذَةِ:

9- الطَّرِيقُ النَّافِذَةُ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِـ «الشَّارِعِ» مِنَ الْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ، لِلْجَمِيعِ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِمَا لَا يَضُرُّ الْآخَرِينَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَمَنْفَعَتُهَا الْأَصْلِيَّةُ: الْمُرُورُ فِيهَا، لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِذَلِكَ، فَيُبَاحُ لَهُمُ الِانْتِفَاعُ بِمَا وُضِعَ لَهُ، وَهُوَ الْمُرُورُ بِلَا خِلَافٍ وَكَذَلِكَ يُبَاحُ لِلْجَمِيعِ الِانْتِفَاعُ بِغَيْرِ الْمُرُورِ مِمَّا لَا يَضُرُّ الْمَارَّةَ، كَالْجُلُوسِ فِي الطَّرِيقِ الْوَاسِعَةِ لِانْتِظَارِ رَفِيقٍ أَوْ سُؤَالٍ إِنْ لَمْ يَضُرَّ الْمَارَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنِ الْإِمَامُ بِذَلِكَ لِاتِّفَاقِ النَّاسِ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ وَالْأَعْصَارِ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا أَيْضًا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فَإِنْ ضَرَّ الْمَارَّةَ أَوْ ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجُزْ لِخَبَرِ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».

وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ الْجُلُوسُ فِي الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ لِلْمُعَامَلَةِ كَالْبَيْعِ وَالصِّنَاعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ طَالَ عَهْدُهُ وَلَمْ يَأْذَنِ الْإِمَامُ، كَمَا لَا يَحْتَاجُ فِي الْإِحْيَاءِ إِلَى إِذْنِهِ، لِاتِّفَاقِ النَّاسِ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ.

وَلَا يُزْعَجُ عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي سَبَقَ إِلَيْهِ لِلْمُعَامَلَةِ، وَإِنْ طَالَ مُقَامُهُ فِيهِ، لِخَبَرِ: «مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ»، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْمُرْتَفِقِينَ، وَقَدْ ثَبَتَ لَهُ بِالْيَدِ فَصَارَ أَحَقَّ مِنْ غَيْرِهِ فِيهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَطُولَ الْجُلُوسُ أَوِ الْبَيْعُ، فَإِنْ طَالَ أُخْرِجَ عَنْهُ.لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُتَمَلِّكِ إِنْ طَالَ الْجُلُوسُ لِلْمُعَامَلَةِ، وَيَنْفَرِدُ بِنَفْعٍ يُسَاوِيهِ فِيهِ غَيْرُهُ.

وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجُلُوسُ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ لِاسْتِرَاحَةٍ وَنَحْوِهَا كَالْحَدِيثِ، وَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِ الْجُلُوسِ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ لِلِاسْتِرَاحَةِ، لِحَدِيثِ الْأَمْرِ بِإِعْطَاءِ الطَّرِيقِ حَقَّهُ: مِنْ: غَضٍّ لِلْبَصَرِ، وَكَفٍّ لِلْأَذَى، وَرَدٍّ لِلسَّلَامِ، وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، مَا لَمْ يَضُرَّ الْمَارَّةَ، وَلَمْ يُضَيِّقْ عَلَيْهِمْ، وَإِلاَّ كُرِهَ.

إِذْنُ الْإِمَامِ فِي الِارْتِفَاقِ بِالطَّرِيقِ:

10- لَا يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ الْجُلُوسِ لِلْمُعَامَلَةِ فِي الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ إِذْنُ الْإِمَامِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ وَلَا لِأَحَدٍ مِنَ الْوُلَاةِ أَخْذُ عِوَضٍ مِمَّنْ يَرْتَفِقُ بِالْجُلُوسِ فِيهِ لِلْمُعَامَلَةِ، وَلَا أَنْ يَبِيعَ جُزْءًا مِنَ الطَّرِيقِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ فَضَلَ الْجُزْءُ الْمُبَاعُ عَنْ حَاجَةِ الطَّرِيقِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ يَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الْمِلْكِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ بَيْعُ الْمَوَاتِ وَلَا قَائِلَ بِهِ، وَلِأَنَّ الطُّرُقَ كَالْأَحْبَاسِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا تَصَرُّفًا يُغَيِّرُ وَضْعَهَا.

وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَ بُقْعَةً مِنَ الطَّرِيقِ الْعَامِّ لِمَنْ يَجْلِسُ فِيهَا لِلْمُعَامَلَةِ ارْتِفَاقًا، لَا تَمْلِيكًا، إِنْ لَمْ يَضُرَّ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ لَهُ نَظَرًا وَاجْتِهَادًا فِي الضَّرَرِ وَغَيْرِهِ، وَلَا يَمْلِكُ الْمَقْطُوعُ لَهُ الْبُقْعَةَ، إِنَّمَا يَكُونُ أَحَقَّ بِالْجُلُوسِ فِيهَا كَالسَّابِقِ إِلَيْهَا.

التَّزَاحُمُ فِي الِارْتِفَاقِ:

11- لِلْجَالِسِ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ لِلْمُعَامَلَةِ تَظْلِيلُ مَوْضِعِ جُلُوسِهِ بِمَا لَا ثَبَاتَ لَهُ مِنْ حَصِيرٍ، أَوْ عَبَاءَةٍ، أَوْ ثَوْبٍ، لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُزَاحِمَهُ فِي مَحَلِّ جُلُوسِهِ بِحَيْثُ يَضُرُّهُ، وَيُضَيِّقُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَالْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ، وَلَا أَنْ يُزَاحِمَهُ فِي مَوْضِعِ أَمْتِعَتِهِ وَمَوْقِفِ مُعَامِلِيهِ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ الْوُقُوفَ بِقُرْبِهِ إِنْ كَانَ الْوُقُوفُ يَمْنَعُ رُؤْيَةَ بِضَاعَتِهِ، أَوْ وُصُولَ الْقَاصِدِينَ إِلَيْهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ تَمَامِ الِانْتِفَاعِ بِمَوْضِعِ اخْتِصَاصِهِ، وَلَيْسَ لَهُ الْمَنْعُ مِنَ الْجُلُوسِ بِقُرْبِهِ لِبَيْعِ مِثْلِ بِضَاعَتِهِ، إِنْ لَمْ يُزَاحِمْهُ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنَ الْمَرَافِقِ الْمَذْكُورَةِ.

وَمَنْ سَبَقَ إِلَى الْجُلُوسِ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الطَّرِيقِ النَّافِذِ لِلْمُعَامَلَةِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ سَبَقَ اثْنَانِ، وَتَنَازَعَا فِيهِ وَلَمْ يَسَعْهُمَا مَعًا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، لِانْتِفَاءِ الْمُرَجِّحِ.

تَرْكُ صَاحِبِ الِاخْتِصَاصِ مَوْضِعًا اخْتَصَّ بِهِ:

12- إِنْ تَرَكَ الْجَالِسُ مَوْضِعَ اخْتِصَاصِهِ، وَانْتَقَلَ إِلَى غَيْرِهِ أَوْ تَرَكَ الْحِرْفَةَ الَّتِي كَانَ يُزَاوِلُهَا فِيهِ بَطَلَ حَقُّهُ فِيهِ، سَوَاءٌ أَأَقْطَعُهُ الْإِمَامُ لَهُ، أَمْ سَبَقَ إِلَيْهِ بِلَا إِقْطَاعٍ مِنَ الْإِمَامِ.وَإِنْ فَارَقَهُ لِيَعُودَ إِلَيْهِ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ إِلاَّ أَنْ يَطُولَ غِيَابُهُ عَنْهُ، لِحَدِيثِ: «مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» فَإِنْ طَالَ غِيَابُهُ عَنْهُ بِحَيْثُ يَنْقَطِعُ مُعَامِلُوهُ عَنْهُ وَيَأْلَفُونَ غَيْرَهُ يَبْطُلُ حَقُّهُ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ فَارَقَهُ لِعُذْرٍ أَوْ تَرَكَ مَتَاعَهُ فِيهِ أَوْ كَانَ بِإِقْطَاعِ الْإِمَامِ لَهُ إِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ نَقَلَ مَتَاعَهُ عَنْ مَوْضِعِ اخْتِصَاصِهِ، بَطَلَ حَقُّهُ فِيهِ، وَإِنْ تَرَكَ مَتَاعَهُ فِيهِ، أَوْ أَجْلَسَ شَخْصًا فِيهِ لِيَحْفَظَ لَهُ الْمَكَانَ، لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ إِزَالَةُ مَتَاعِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ قَامَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوْ وُضُوءٍ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ.

وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) لَا يُجِيزُ إِطَالَةَ الْجُلُوسِ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ لِلْمُعَامَلَةِ، فَإِنْ أَطَالَ أُزِيلَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُتَمَلِّكِ، يَخْتَصُّ بِنَفْعٍ يُسَاوِيهِ فِيهِ غَيْرُهُ، وَحَدَّدَ الْمَالِكِيَّةُ طُولَ الْمُقَامِ بِيَوْمٍ كَامِلٍ.

وَإِنْ جَلَسَ لِاسْتِرَاحَةٍ، أَوْ حَدِيثٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ بَطَلَ حَقُّهُ فِيهِ بِمُفَارَقَتِهِ، بِلَا خِلَافٍ.

الِانْتِفَاعُ فِي الطَّرِيقِ بِغَيْرِ الْمُرُورِ، وَالْجُلُوسِ لِلْمُعَامَلَةِ:

13- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى حُرْمَةِ التَّصَرُّفِ فِي الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِـ (الشَّارِعِ) بِمَا يَضُرُّ الْمَارَّةَ فِي مُرُورِهِمْ، لِأَنَّ الْحَقَّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُضَارَّهُمْ فِي حَقِّهِمْ، وَيَمْتَنِعُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بِنَاءُ دِكَّةٍ- وَهِيَ الَّتِي تُبْنَى لِلْجُلُوسِ عَلَيْهَا وَنَحْوِهَا- فِي الطَّرِيقِ النَّافِدَةِ وَغَرْسُ شَجَرَةٍ فِيهَا وَإِنِ اتَّسَعَ الطَّرِيقُ، وَأَذِنَ الْإِمَامُ، وَانْتَفَى الضَّرَرُ، وَبُنِيَتْ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لِمَنْعِهِمَا الطُّرُوقَ فِي مَحَلِّهِمَا، وَلِأَنَّهُ بِنَاءٌ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَقَدْ يُؤْذِي الْمَارَّةَ فِيمَا بَعْدُ، وَيُضَيِّقُ عَلَيْهِمْ، وَيَعْثِرُ بِهِ الْعَاثِرُ، فَلَمْ يَجُزْ، وَلِأَنَّهُ إِذَا طَالَ الزَّمَنُ أَشْبَهَ مَوْضِعُهُمَا الْأَمْلَاكَ الْخَاصَّةَ، وَانْقَطَعَ اسْتِحْقَاقُ الطُّرُوقِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ بِنَاءُ دِكَّةٍ، وَغَرْسُ أَشْجَارٍ فِي الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ كَإِخْرَاجِ الْمَيَازِيبِ، وَالْأَجْنِحَةِ، إِنْ لَمْ يَضُرَّ الْمَارَّةَ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْمُرُورِ فِيهَا، فَإِنْ ضَرَّ الْمَارَّةَ أَوْ مَنَعَ لَمْ يَجُزْ إِحْدَاثُهَا، وَلِكُلٍّ مِنَ الْعَامَّةِ مِنْ أَهْلِ الْخُصُومَةِ مَنْعُهُ مِنْ إِحْدَاثِهَا ابْتِدَاءً، وَمُطَالَبَتُهُ بِنَقْضِهِ بَعْدَ الْبِنَاءِ، سَوَاءٌ أَضَرَّ أَمْ لَمْ يَضُرَّ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبُ حَقٍّ بِالْمُرُورِ بِنَفْسِهِ وَبِدَوَابِّهِ، فَكَانَ لَهُ حَقُّ النَّقْضِ كَمَا فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ.

هَذَا إِذَا بَنَاهَا لِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ، فَإِنْ بَنَاهَا لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَإِنْ بَنَاهَا لِنَفْسِهِ لَمْ يُنْقَضْ، إِنْ لَمْ يَضُرَّ الْمَارَّةَ.

وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ الْعَامَّةَ لَا يَجُوزُ إِحْدَاثُهُ، أَذِنَ الْإِمَامُ أَمْ لَمْ يَأْذَنْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».

الِارْتِفَاقُ فِي هَوَاءِ الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ:

14- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَامَّةِ الِانْتِفَاعُ فِي هَوَاءِ الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ بِإِخْرَاجِ جَنَاحٍ إِلَيْهَا أَوْ رَوْشَنٍ أَوْ سَابَاطٍ، وَهُوَ سَقِيفَةٌ عَلَى حَائِطَيْنِ وَيَمُرُّ الطَّرِيقُ بَيْنَهُمَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ كَالْمِيزَابِ، إِنْ رَفَعَهَا بِحَيْثُ يَمُرُّ تَحْتَهُ الْمَاشِي مُنْتَصِبًا، مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى طَأْطَأَةِ رَأْسِهِ، وَعَلَى رَأْسِهِ الْحُمُولَةُ الْمُعْتَادَةُ، وَلَمْ يَسُدَّ الضَّوْءَ عَنِ الطَّرِيقِ، وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ مَمَرًّا لِلْقَوَافِلِ يُرْفَعُ الْمِيزَابُ وَالْجَنَاحُ وَنَحْوُهَا بِحَيْثُ يَمُرُّ تَحْتَهَا الْمَحْمَلُ عَلَى الْبَعِيرِ، وَالْمِظَلَّةُ فَوْقَ الْمَحْمَلِ، فَإِنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدَمَهُ الْحَاكِمُ، وَلِكُلٍّ الْمُطَالَبَةُ بِإِزَالَتِهِ، لِأَنَّهُ إِزَالَةٌ لِلْمُنْكَرِ

وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ إِخْرَاجِ الْجَنَاحِ إِلَى الطَّرِيقِ النَّافِذِ مَا صَحَّ مِنْ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم-: نَصَبَ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ مِيزَابًا فِي دَارِ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ إِلَى الطَّرِيقِ، وَكَانَ شَارِعًا إِلَى مَسْجِدِهِ» وَقِيسَ عَلَيْهِ الْجَنَاحُ وَنَحْوُهُ، وَلِإِطْبَاقِ النَّاسِ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ، لِكُلٍّ مِنْ أَهْلِ الْخُصُومَةِ مِنَ الْعَامَّةِ مَنْعُهُ مِنْ إِحْدَاثِ ذَلِكَ ابْتِدَاءً، وَمُطَالَبَتُهُ بِنَقْضِهِ بَعْدَ الْبِنَاءِ ضَرَّ أَمْ لَمْ يَضُرَّ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ إِلَى طَرِيقٍ نَافِذَةٍ أَذِنَ الْإِمَامُ، أَوْ لَمْ يَأْذَنْ، ضَرَّ الْمَارَّةَ أَوْ لَمْ يَضُرَّ وَقَالُوا: لِأَنَّهُ بِنَاءٌ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ، فَلَمْ يَجُزْ كَبِنَاءِ الدِّكَّةِ، أَوْ بِنَائِهِ فِي دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ بِغَيْرِ إِذْنِ أَهْلِهِ، وَيُفَارِقُ الْمُرُورَ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنَّهَا جُعِلَتْ لِذَلِكَ وَلَا مَضَرَّةَ فِيهِ، وَالْجُلُوسُ لِأَنَّهُ لَا يَدُومُ وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَلَا يَخْلُو الْإِخْرَاجُ إِلَى الطَّرِيقِ الْعَامِّ عَنْ مَضَرَّةٍ، فَإِنَّهُ يَظْلِمُ الطَّرِيقَ بِسَدِّ الضَّوْءِ عَنْهُ، وَرُبَّمَا سَقَطَ عَلَى الْمَارَّةِ، أَوْ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَقَدْ تَعْلُو الْأَرْضُ بِمُرُورِ الزَّمَنِ فَيَصْدِمُ رُءُوسَ النَّاسِ، وَيَمْنَعُ مُرُورَ الدَّوَابِّ بِالْأَحْمَالِ، وَمَا يُفْضِي إِلَى الضَّرَرِ فِي ثَانِي الْحَالِ يَجِبُ الْمَنْعُ مِنْهُ فِي ابْتِدَائِهِ، كَمَا لَوْ أَرَادَ بِنَاءَ حَائِطٍ مَائِلٍ إِلَى الطَّرِيقِ يَخْشَى وُقُوعَهُ عَلَى مَنْ يَمُرُّ فِيهَا.

وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، أَوْ نَائِبِهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ، لِأَنَّ الْإِمَامَ، نَائِبٌ عَنِ الْمُسْلِمِينَ- وَفِي حُكْمِهِ نُوَّابُهُ- وَإِذْنُهُ كَإِذْنِ الْمُسْلِمِينَ.

وَلِمَا وَرَدَ «أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه-: اجْتَازَ عَلَى دَارِ الْعَبَّاسِ- رضي الله عنهما- وَقَدْ نَصَبَ مِيْزَابًا إِلَى الطَّرِيقِ فَقَلَعَهُ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: تَقْلَعُهُ وَقَدْ نَصَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا تَنْصِبُهُ إِلاَّ عَلَى ظَهْرِي، فَانْحَنَى حَتَّى صَعِدَ عَلَى ظَهْرِهِ فَنَصَبَهُ»، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِهِ.

مَا تَوَلَّدَ مِنْ إِخْرَاجِ الْمِيزَابِ وَنَحْوِهِ إِلَى الطَّرِيقِ النَّافِذِ:

15- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ مَا تَوَلَّدَ مِنْ إِخْرَاجِ مِيزَابٍ وَنَحْوِهِ: كَالْجَنَاحِ وَالسَّابَاطِ إِلَى الطَّرِيقِ النَّافِذِ مِنْ تَلَفِ مَالٍ، أَوْ مَوْتِ نَفْسٍ فَمَضْمُونٌ وَإِنْ جَازَ إِخْرَاجُهُ، وَأَذِنَ الْإِمَامُ وَلَمْ يَضُرَّ الْمَارَّةَ، وَتَنَاهَى فِي الِاحْتِيَاطِ، وَحَدَثَ مَا لَمْ يُتَوَقَّعْ، كَصَاعِقَةٍ، أَوْ رِيحٍ شَدِيدَةٍ، لِأَنَّ الِارْتِفَاقَ بِالطَّرِيقِ الْعَامِّ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ، وَمَا لَمْ تَسْلَمْ عَاقِبَتُهُ فَلَيْسَ بِمَأْذُونٍ فِيهِ، وَيَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ، وَكَذَا إِنْ وَضَعَ تُرَابًا فِي الطَّرِيقِ لِتَطْيِينِ سَطْحِ مَنْزِلِهِ، فَزَلَّ بِهِ إِنْسَانٌ فَمَاتَ، أَوْ بَهِيمَةٌ فَتَلِفَتْ يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ فِي تَلَفِهِ، فَتَجِبُ دِيَةُ الْخَطَأِ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَقِيمَةُ الدَّابَّةِ فِي مَالِهِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: هَذَا إِذَا لَمْ يَأْذَنِ الْإِمَامُ، فَإِنْ أَذِنَ الْإِمَامُ بِإِخْرَاجِ الْمِيزَابِ وَنَحْوِهِ إِلَى الطَّرِيقِ الْعَامِّ فَلَا ضَمَانَ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي إِخْرَاجِ الْجَنَاحِ حِينَئِذٍ، لِأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً عَلَى الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنِ الْعَامَّةِ، فَكَانَ الْمُخْرِجُ كَمَنْ فَعَلَهُ فِي مِلْكِهِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا أَذِنَ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ، جَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيلِ: قَالَ مَالِكٌ فِي جَنَاحٍ خَارِجٍ إِلَى الطَّرِيقِ فَسَقَطَ عَلَى رَجُلٍ فَمَاتَ.قَالَ مَالِكٌ: لَا شَيْءَ عَلَى مَنْ بَنَاهُ.

مَا يَجِبُ فِي الضَّمَانِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ:

16- إِنْ كَانَ بَعْضُ الْجَنَاحِ فِي الْجِدَارِ، وَبَعْضُهُ خَارِجًا إِلَى الطَّرِيقِ فَسَقَطَ الْخَارِجُ وَحْدَهُ- كُلُّهُ، أَوْ بَعْضُهُ- فَأَتْلَفَ شَيْئًا فَعَلَى الْمُخْرِجِ ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِهِ مِنْ نَفْسٍ، أَوْ مَالٍ، لِأَنَّهُ تَلِفَ بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ خَاصَّةً، سَوَاءٌ كَانَ الْمُخْرِجُ مَالِكَهُ أَوْ مُسْتَعِيرًا أَوْ مُسْتَأْجِرًا أَوْ غَاصِبًا، وَإِنْ سَقَطَ مَا فِي الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ، وَتَلِفَ بِهِ إِنْسَانٌ، أَوْ مَالٌ فَعَلَى صَاحِبِ الْجِدَارِ، نِصْفُ الدِّيَةِ، إِنْ كَانَ التَّالِفُ إِنْسَانًا، وَنِصْفُ قِيمَةِ الْمُتْلَفِ إِنْ كَانَ مَالًا، لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِسُقُوطِ مَا فِي دَاخِلِ الْجِدَارِ مِنَ الْجَنَاحِ، وَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ لِأَنَّهُ فِي مِلْكِهِ، وَالْمَشْرُوعُ إِلَى الطَّرِيقِ الْعَامِّ، وَهُوَ مَضْمُونٌ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَضْمَنُ كُلَّ الدِّيَةِ أَوِ الْقِيمَةَ فِي الْحَالَيْنِ، لِأَنَّهُ تَلِفَ بِمَا أَخْرَجَهُ إِلَى الطَّرِيقِ فَضَمِنَ، كَمَا لَوْ بَنَى حَائِطًا مَائِلًا إِلَى الطَّرِيقِ فَأَتْلَفَ شَيْئًا، وَلِأَنَّهُ إِخْرَاجٌ يَضْمَنُ بِهِ بَعْضَهُ فَيَضْمَنُ كُلَّهُ.

سُقُوطُ جِدَارٍ مَائِلٍ إِلَى طَرِيقٍ نَافِذٍ:

17- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَنَى فِي مِلْكِهِ جِدَارًا مَائِلًا إِلَى الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ فَسَقَطَ فِيهِ فَتَلِفَ بِهِ شَيْءٌ ضَمِنَ، لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ بَنَاهُ فِي مِلْكِهِ مُسْتَوِيًا فَسَقَطَ بِغَيْرِ اسْتِهْدَامٍ وَلَا مَيْلٍ، فَأَتْلَفَ شَيْئًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ فِي بِنَائِهِ، وَلَا حَصَلَ مِنْهُ تَفْرِيطٌ بِإِبْقَائِهِ، وَإِنْ مَالَ قَبْلَ وُقُوعِهِ إِلَى هَوَاءِ الطَّرِيقِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ نَقْضُهُ وَإِصْلَاحُهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ بِبِنَائِهِ، وَلَا فَرَّطَ فِي تَرْكِهِ وَإِصْلَاحِهِ، لِعَجْزِهِ عَنْهُ، فَأَشْبَهَ كَمَا لَوْ سَقَطَ مِنْ غَيْرِ مَيْلٍ.

وَإِنْ أَمْكَنَهُ نَقْضُهُ وَإِصْلَاحُهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ إِلَى الضَّمَانِ بِشَرْطِ أَنْ يُطَالِبَ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْمَصْلَحَةِ فِي الْخُصُومَةِ بِالنَّقْضِ، وَيَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ حَاكِمٍ أَوْ جَمْعٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَضْمَنُ لِتَقْصِيرِهِ وَإِنْ لَمْ يُطَالِبْ وَلَمْ يَشْهَدْ.

إِلْقَاءُ شَيْءٍ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ:

18- لَوْ أَلْقَى قُمَامَاتٍ، أَوْ قُشُورَ بِطِّيخٍ وَرُمَّانٍ وَمَوْزٍ بِطَرِيقٍ نَافِذٍ فَمَضْمُونٌ، مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ الْمَارُّ الْمَشْيَ عَلَيْهَا قَصْدًا، وَكَذَا إِنْ رَشَّ فِي الطَّرِيقِ مَاءً فَزَلَقَ بِهِ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ، فَتَلِفَ يَضْمَنُ. (ر: مُصْطَلَح: ضَمَان)

إِحْدَاثُ بِئْرٍ فِي طَرِيقٍ نَافِذٍ:

19- لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ النَّافِذِ لِنَفْسِهِ، سَوَاءٌ جَعَلَهَا لِمَاءِ الْمَطَرِ، أَوِ اسْتِخْرَاجِ مَاءٍ يَنْتَفِعُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ مِلْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْدَثَ فِيهَا شَيْءٌ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، وَإِذْنُ كُلِّهِمْ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، وَإِنْ حَفَرَهَا وَتَرَتَّبَ عَلَى حَفْرِهَا ضَرَرٌ فَفِي ضَمَانِهِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْحَفْرُ لِمَصْلَحَةِ الْحَافِرِ أَوْ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ.

(ر: مُصْطَلَح: ضَمَان).

ضَمَانُ الضَّرَرِ الْحَادِثِ مِنْ مُرُورِ الْبَهَائِمِ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ:

20- الْمُرُورُ فِي الطَّرِيقِ النَّافِذِ حَقٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ، لِأَنَّهُ وُضِعَ لِذَلِكَ، وَمُبَاحٌ لَهُمْ بِدَوَابِّهِمْ، بِشَرْطِ السَّلَامَةِ فِيمَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، فَإِنْ تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ ضَرَرٌ فَفِي ضَمَانِهِ تَفْصِيلٌ (يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: ضَمَان) الطَّرِيقُ غَيْرُ النَّافِذِ:

21- الطَّرِيقُ غَيْرُ النَّافِذِ مِلْكٌ لِأَهْلِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ أَهْلِهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ إِلاَّ بِرِضَاهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ، لِأَنَّهُ مِلْكُهُمْ، فَأَشْبَهَ الدُّورَ.

وَأَهْلُهُ مَنْ لَهُمْ حَقُّ الْمُرُورِ فِيهِ إِلَى مِلْكِهِمْ مِنْ دَارٍ، أَوْ بِئْرٍ، أَوْ فُرْنٍ، أَوْ حَانُوتٍ، لَا مَنْ لَاصَقَ جِدَارُهُ الدَّرْبَ مِنْ غَيْرِ نُفُوذِ بَابٍ فِيهِ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الْمُسْتَحِقُّونَ الِارْتِفَاقَ فِيهِ.

وَيَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ غَيْرِ النَّافِذِ الِارْتِفَاقَ بِمَا بَيْنَ رَأْسِ الدَّرْبِ وَبَابِ دَارِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَحَلُّ تَرَدُّدِهِ، وَمُرُورِهِ، وَمَا عَدَاهُ هُوَ فِيهِ كَالْأَجْنَبِيِّ مِنَ الطَّرِيقِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: لِكُلٍّ مِنْ أَهْلِ الدَّرْبِ غَيْرِ النَّافِذِ الِارْتِفَاقُ بِكُلِّ الطَّرِيقِ، لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا يَحْتَاجُونَ إِلَى التَّرَدُّدِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ كُلِّهِ، لِإِلْقَاءِ الْقُمَامَاتِ فِيهِ عِنْدَ الْإِدْخَالِ وَالْإِخْرَاجِ.

أَمَّا الْبِنَاءُ فِيهِ وَإِخْرَاجُ رَوْشَنٍ، أَوْ جَنَاحٍ، أَوْ سَابَاطٍ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، إِلاَّ بِرِضَا الْبَاقِينَ، كَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ، لِأَنَّهُ بِنَاءٌ فِي هَوَاءِ قَوْمِ مُعَيَّنِينَ فَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ.

وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ لِبَعْضِ أَهْلِ الدَّرْبِ إِخْرَاجُ مَا ذُكِرَ إِلَى الطَّرِيقِ الْمَسْدُودِ بِغَيْرِ رِضَا الْبَاقِينَ إِنْ لَمْ يَضُرَّ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الِانْتِفَاعَ بِقَرَارِهِ فَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَوَائِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

قَالَ الزُّرْقَانِيُّ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَالْأَوَّلُ ضَعِيفٌ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


135-موسوعة الفقه الكويتية (طهارة 1)

طَهَارَةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ: النَّظَافَةُ، يُقَالُ: طَهُرَ الشَّيْءُ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَضَمِّهَا يَطْهُرُ بِالضَّمِّ طَهَارَةً فِيهِمَا، وَالِاسْمُ: الطُّهْرُ بِالضَّمِّ، وَطَهَّرَهُ تَطْهِيرًا، وَتَطَهَّرَ بِالْمَاءِ، وَهُمْ قَوْمٌ يَتَطَهَّرُونَ أَيْ: يَتَنَزَّهُونَ مِنَ الْأَدْنَاسِ، وَرَجُلٌ طَاهِرُ الثِّيَابِ، أَيْ: مُنَزَّهٌ.

وَفِي الشَّرْعِ: هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ غَسْلِ أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ.

وَعُرِفَتْ أَيْضًا بِأَنَّهَا: زَوَالُ حَدَثٍ أَوْ خَبَثٍ، أَوْ رَفْعُ الْحَدَثِ أَوْ إِزَالَةُ النَّجِسِ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُمَا أَوْ عَلَى صُورَتِهِمَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهَا صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِلْمَوْصُوفِ بِهَا جَوَازَ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ بِهِ، أَوْ فِيهِ، أَوْ لَهُ.فَالْأَوَّلَانِ يَرْجِعَانِ لِلثَّوْبِ وَالْمَكَانِ، وَالْأَخِيرُ لِلشَّخْصِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْغَسْلُ:

2- الْغَسْلُ بِالْفَتْحِ: مَصْدَرُ غَسَلَ، وَالْغُسْلُ بِالضَّمِّ: اسْمٌ مِنَ الْغَسْلِ- بِالْفَتْحِ- وَمِنْ الِاغْتِسَالِ، وَأَكْثَرُ مَا يَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ الِاغْتِسَالِ.

وَيُعَرِّفُونَهُ لُغَةً: بِأَنَّهُ سَيَلَانُ الْمَاءِ عَلَى الشَّيْءِ مُطْلَقًا.

وَشَرْعًا: بِأَنَّهُ سَيَلَانُهُ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ بِنِيَّةٍ.

وَالطَّهَارَةُ أَعَمُّ مِنَ الْغَسْلِ.

ب- التَّيَمُّمُ:

3- التَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ: مُطْلَقُ الْقَصْدِ، وَفِي الشَّرْعِ: قَصْدُ الصَّعِيدِ الطَّاهِرِ وَاسْتِعْمَالُهُ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ لِإِزَالَةِ الْحَدَثِ.

وَالتَّيَمُّمُ أَخَصُّ مِنَ الطَّهَارَةِ.

ج- الْوُضُوءُ:

4- الْوُضُوءُ بِضَمِّ الْوَاوِ: اسْمٌ لِلْفِعْلِ، وَهُوَ: اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِي أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَبِفَتْحِهَا: اسْمٌ لِلْمَاءِ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَضَاءَةِ، وَهِيَ الْحُسْنُ وَالنَّظَافَةُ وَالضِّيَاءُ مِنْ ظُلْمَةِ الذُّنُوبِ.

وَفِي الشَّرْعِ: أَفْعَالٌ مَخْصُوصَةٌ مُفْتَتَحَةٌ بِالنِّيَّةِ.

وَالطَّهَارَةُ أَعَمُّ مِنْهُ.

تَقْسِيمُ الطَّهَارَةِ:

5- الطَّهَارَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: طَهَارَةٌ مِنَ الْحَدَثِ، وَطَهَارَةٌ مِنَ النَّجِسِ، أَيْ: حُكْمِيَّةٌ وَحَقِيقِيَّةٌ.

فَالْحَدَثُ هُوَ: الْحَالَةُ النَّاقِضَةُ لِلطَّهَارَةِ شَرْعًا، بِمَعْنَى أَنَّ الْحَدَثَ إِنْ صَادَفَ طَهَارَةً نَقَضَهَا، وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ طَهَارَةً فَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ.

وَيَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: الْأَكْبَرُ وَالْأَصْغَرُ؛ أَمَّا الْأَكْبَرُ فَهُوَ: الْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ، وَأَمَّا الْأَصْغَرُ فَمِنْهُ: الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ وَالرِّيحُ وَالْمَذْيُ وَالْوَدْيُ وَخُرُوجُ الْمَنِيِّ بِغَيْرِ لَذَّةٍ، وَالْهَادِي وَهُوَ: الْمَاءُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ عِنْدَ وِلَادَتِهَا.

وَأَمَّا النَّجِسُ (وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْخَبَثِ أَيْضًا) فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّجَاسَةِ الْقَائِمَةِ بِالشَّخْصِ أَوِ الثَّوْبِ أَوِ الْمَكَانِ.

وَالْأُولَى مِنْهُمَا- وَهِيَ الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرِ- شُرِعَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} الْآيَةَ، وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طَهُورٍ».

وَالثَّانِيَةُ مِنْهُمَا- وَهِيَ طَهَارَةُ الْجَسَدِ وَالثَّوْبِ وَالْمَكَانِ الَّذِي يُصَلَّى عَلَيْهِ مِنَ النَّجِسِ- شُرِعَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وقوله تعالى {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وَبِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «اغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي».

وَالطَّهَارَةُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ.

وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِ الطَّهَارَةِ الْحُكْمِيَّةِ- وَهِيَ الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ- إِلَى مَوَاطِنِهَا فِي مُصْطَلَحَاتِ: (حَدَث، وُضُوء، جَنَابَة، حَيْض، نِفَاس).

مَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ:

6- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ طَهَارَةُ بَدَنِ الْمُصَلِّي وَثَوْبِهِ وَمَكَانِهِ مِنَ النَّجَاسَةِ.لِمَا مَرَّ فِي الْفِقْرَةِ السَّابِقَةِ.

وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ: «صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ».

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ، وَسُنَّةٌ مَعَ النِّسْيَانِ وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ.

وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّ مَنْ صَلَّى بِالنَّجَاسَةِ مُتَعَمِّدًا عَالِمًا بِحُكْمِهَا، أَوْ جَاهِلاً وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِزَالَتِهَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ أَبَدًا، وَمَنْ صَلَّى بِهَا نَاسِيًا أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ بِهَا أَوْ عَاجِزًا عَنْ إِزَالَتِهَا يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ.

وَأَيْضًا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَهِيَ شَرْطٌ فِي الْمَيِّتِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمُصَلِّي.

وَتُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ كَذَلِكَ فِي سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي الطَّوَافِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى اشْتِرَاطِهَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ فِيهِ الْمَنْطِقَ، فَمَنْ نَطَقَ فَلَا يَنْطِقْ إِلاَّ بِخَيْرٍ».

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي الطَّوَافِ.

قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ.

وَانْفَرَدَ الشَّافِعِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ.

تَطْهِيرُ النَّجَاسَاتِ:

7- النَّجَاسَاتُ الْعَيْنِيَّةُ لَا تَطْهُرُ بِحَالٍ، إِذْ أَنَّ ذَاتَهَا نَجِسَةٌ، بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ الْمُتَنَجِّسَةِ، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ طَاهِرَةً فِي الْأَصْلِ وَطَرَأَتْ عَلَيْهَا النَّجَاسَةُ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهَا.

وَالْأَعْيَانُ مِنْهَا مَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَمِنْهَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ.

وَمِمَّا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَتِهِ: الدَّمُ الْمَسْفُوحُ، وَالْمَيْتَةُ، وَالْبَوْلُ وَالْعَذِرَةُ مِنَ الْآدَمِيِّ.

وَمِمَّا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ: الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ، حَيْثُ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى الْقَوْلِ بِنَجَاسَةِ الْخِنْزِيرِ كَمَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى نَجَاسَةِ الْكَلْبِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ: إِنَّ الْكَلْبَ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا لَحْمُهُ نَجِسٌ.

وَلِمَعْرِفَةِ مَا يُعْتَبَرُ نَجِسًا أَوْ غَيْرَ نَجِسٍ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (نَجَاسَة).

النِّيَّةُ فِي التَّطْهِيرِ مِنَ النَّجَاسَاتِ:

8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّطْهِيرَ مِنَ النَّجَاسَةِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ، فَلَيْسَتِ النِّيَّةُ بِشَرْطٍ فِي طَهَارَةِ الْخَبَثِ، وَيَطْهُرُ مَحَلُّ النَّجَاسَةِ بِغَسْلِهِ بِلَا نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ عَنِ النَّجَاسَةِ مِنْ بَابِ التُّرُوكِ، فَلَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى النِّيَّةِ كَمَا عَلَّلَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَلِأَنَّ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ تَعَبُّدٌ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى.

وَقَالَ الْبَابَرْتِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الْمَاءُ طَهُورٌ بِطَبْعِهِ، فَإِذَا لَاقَى النَّجِسَ طَهَّرَهُ قَصَدَ الْمُسْتَعْمِلُ ذَلِكَ أَوْ لَا، كَالثَّوْبِ النَّجِسِ.

مَا تَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ:

9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُطْلَقَ رَافِعٌ لِلْحَدَثِ مُزِيلٌ لِلْخَبَثِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} وَلِحَدِيثِ أَسْمَاءَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: إِحْدَانَا يُصِيبُ ثَوْبَهَا مِنْ دَمِ الْحَيْضَةِ، كَيْفَ تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ تَنْضَحُهُ، ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ».

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَطْهِيرُ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَبِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ قَالِعٍ، كَالْخَلِّ وَمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ مِمَّا إِذَا عُصِرَ انْعَصَرَ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: (مَا كَانَ لِإِحْدَانَا إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ تَحِيضُ فِيهِ، فَإِذَا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ قَالَتْ بِرِيقِهَا، فَقَصَعَتْهُ بِظُفْرِهَا) أَيْ حَكَّتْهُ.وَلِأَنَّهُ مُزِيلٌ بِطَبْعِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُفِيدَ الطَّهَارَةَ كَالْمَاءِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقْلَعُ لَهَا، وَلِأَنَّا نُشَاهِدُ وَنَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمَائِعَ يُزِيلُ شَيْئًا مِنَ النَّجَاسَةِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَلِهَذَا يَتَغَيَّرُ لَوْنُ الْمَاءِ بِهِ، وَالنَّجَاسَةُ مُتَنَاهِيَةٌ، لِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ جَوَاهِرَ مُتَنَاهِيَةٍ، فَإِذَا انْتَهَتْ أَجْزَاؤُهَا بَقِيَ الْمَحَلُّ طَاهِرًا لِعَدَمِ الْمُجَاوَرَةِ.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَهَارَةِ الْخَمْرِ بِالِاسْتِحَالَةِ، فَإِذَا انْقَلَبَتِ الْخَمْرُ خَلًّا بِنَفْسِهَا فَإِنَّهَا تَطْهُرُ، لِأَنَّ نَجَاسَتَهَا لِشِدَّتِهَا الْمُسْكِرَةِ الْحَادِثَةِ لَهَا، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَجَاسَةٍ خَلَفَتْهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَطْهُرَ، كَالْمَاءِ الَّذِي تَنَجَّسَ بِالتَّغَيُّرِ إِذَا زَالَ تَغَيُّرُهُ بِنَفْسِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ».

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ طَهَارَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغِ.لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: «أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِأَرْضِ جُهَيْنَةَ، قَالَ: وَأَنَا غُلَامٌ- قَبْلَ وَفَاتِهِ بِشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ: أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ».

وَعَدَّ الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْمُطَهِّرَاتِ: الدَّلْكَ، وَالْفَرْكَ، وَالْمَسْحَ، وَالْيُبْسَ، وَانْقِلَابَ الْعَيْنِ، فَيَطْهُرُ الْخُفُّ وَالنَّعْلُ إِذَا تَنَجَّسَ بِذِي جِرْمٍ بِالدَّلْكِ، وَالْمَنِيُّ الْيَابِسُ بِالْفَرْكِ، وَيَطْهُرُ الصَّقِيلُ كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ بِالْمَسْحِ، وَالْأَرْضُ الْمُتَنَجِّسَةُ بِالْيُبْسِ، وَالْخِنْزِيرُ وَالْحِمَارُ بِانْقِلَابِ الْعَيْنِ، كَمَا لَوْ وَقَعَا فِي الْمَمْلَحَةِ فَصَارَا مِلْحًا.

الْمِيَاهُ الَّتِي يَجُوزُ التَّطْهِيرُ بِهَا، وَاَلَّتِي لَا يَجُوزُ:

10- قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْمَاءَ مِنْ حَيْثُ جَوَازُ التَّطْهِيرِ بِهِ وَرَفْعُهُ لِلْحَدَثِ وَالْخَبَثِ، أَوْ عَدَمُ ذَلِكَ، إِلَى عِدَّةِ أَقْسَامٍ:

أ- مَاءٌ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَهُوَ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ، وَهُوَ الْمَاءُ الْبَاقِي عَلَى خِلْقَتِهِ، أَوْ هُوَ الَّذِي لَمْ يُخَالِطْهُ مَا يَصِيرُ بِهِ مُقَيَّدًا.

وَالْمَاءُ الْمُطْلَقُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَالْخَبَثَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.وَيُلْحَقُ بِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مَا تَغَيَّرَ بِطُولِ مُكْثِهِ، أَوْ بِمَا هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْهُ كَالطُّحْلُبِ.

ب- مَاءٌ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ مَكْرُوهٌ، وَخَصَّ كُلُّ مَذْهَبٍ هَذَا الْقِسْمَ بِنَوْعٍ مِنَ الْمِيَاهِ: فَخَصَّ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِالْمَاءِ الَّذِي شَرِبَ مِنْهُ حَيَوَانٌ مِثْلُ الْهِرَّةِ الْأَهْلِيَّةِ وَالدَّجَاجَةِ الْمُخْلَاةِ وَسِبَاعِ الطَّيْرِ وَالْحَيَّةِ وَالْفَأْرَةِ، وَكَانَ قَلِيلاً، وَالْكَرَاهَةُ تَنْزِيهِيَّةٌ عَلَى الْأَصَحُّ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكَرْخِيُّ مُعَلِّلاً ذَلِكَ بِعَدَمِ تَحَامِيهَا النَّجَاسَةَ، ثُمَّ إِنَّ الْكَرَاهَةَ إِنَّمَا هِيَ عِنْدَ وُجُودِ الْمُطْلَقِ، وَإِلاَّ فَلَا كَرَاهَةَ أَصْلاً.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي رَفْعِ حَدَثٍ أَوْ فِي إِزَالَةِ حُكْمِ خَبَثٍ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي طَهَارَةِ حَدَثٍ كَوُضُوءٍ أَوِ اغْتِسَالٍ مَنْدُوبٍ لَا فِي إِزَالَةِ حُكْمِ خَبَثٍ، وَالْكَرَاهَةُ مُقَيَّدَةٌ بِأَمْرَيْنِ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ قَلِيلاً كَآنِيَةِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَأَنْ يُوجَدَ غَيْرُهُ، وَإِلاَّ فَلَا كَرَاهَةَ، كَمَا يُكْرَهُ عِنْدَهُمُ الْمَاءُ الْيَسِيرُ- وَهُوَ مَا كَانَ قَدْرَ آنِيَةِ الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ فَمَا دُونَهَا- إِذَا حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ قَلِيلَةٌ كَالْقَطْرَةِ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: الْكَرَاهَةُ مُقَيَّدَةٌ بِقُيُودٍ سَبْعَةٍ: أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الَّذِي حَلَّتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ يَسِيرًا، وَأَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ الَّتِي حَلَّتْ فِيهِ قَطْرَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، وَأَنْ لَا تُغَيِّرَهُ، وَأَنْ يُوجَدَ غَيْرُهُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَادَّةٌ كَبِئْرٍ، وَأَنْ لَا يَكُونَ جَارِيًا، وَأَنْ يُرَادَ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى طَهُورٍ، كَرَفْعِ حَدَثٍ حُكْمَ خَبَثٍ وَوُضُوءٍ أَوْ غُسْلٍ مَنْدُوبٍ، فَإِنِ انْتَفَى قَيْدٌ مِنْهَا فَلَا كَرَاهَةَ.

وَمِنَ الْمَكْرُوهِ أَيْضًا: الْمَاءُ الْيَسِيرُ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ كَلْبٌ وَلَوْ تَحَقَّقَتْ سَلَامَةٌ فِيهِ مِنَ النَّجَاسَةِ، وَسُؤْرُ شَارِبِ الْخَمْرِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْمَاءُ الْمَكْرُوهُ ثَمَانِيَةٌ: الْمُشَمَّسُ، وَشَدِيدُ الْحَرَارَةِ، وَشَدِيدُ الْبُرُودَةِ، وَمَاءُ دِيَارِ ثَمُودَ إِلاَّ بِئْرُ النَّاقَةِ، وَمَاءُ دِيَارِ قَوْمِ لُوطٍ، وَمَاءُ بِئْرِ بَرَهُوتَ، وَمَاءُ أَرْضِ بَابِلَ، وَمَاءُ بِئْرِ ذَرْوَانَ.

وَالْمَكْرُوهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الْمَاءُ الْمُتَغَيِّرُ بِغَيْرِ مُمَازِجٍ، كَدُهْنٍ وَقَطِرَانٍ وَقِطَعِ كَافُورٍ، أَوْ مَاءٍ سُخِّنَ بِمَغْصُوبٍ أَوْ بِنَجَاسَةٍ، أَوِ الْمَاءُ الَّذِي اشْتَدَّ حَرُّهُ أَوْ بَرْدُهُ، وَالْكَرَاهَةُ مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، فَإِنْ احْتِيجَ إِلَيْهِ تَعَيَّنَ وَزَالَتِ الْكَرَاهَةُ.

وَكَذَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ مَاءِ الْبِئْرِ الَّذِي فِي الْمَقْبَرَةِ، وَمَاءٌ فِي بِئْرٍ فِي مَوْضِعِ غَصْبٍ، وَمَا ظُنَّ تَنَجُّسُهُ، كَمَا نَصُّوا عَلَى كَرَاهَةِ اسْتِعْمَالِ مَاءِ زَمْزَم فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ دُونَ طَهَارَةِ الْحَدَثِ تَشْرِيفًا لَهُ.

ج- مَاءٌ طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ، وَعَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ: مَا أُزِيلَ بِهِ حَدَثٌ أَوِ اسْتُعْمِلَ فِي الْبَدَنِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي طَهَارَةِ الْأَحْدَاثِ، بِخِلَافِ الْخَبَثِ، وَيَصِيرُ مُسْتَعْمَلاً عِنْدَهُمْ بِمُجَرَّدِ انْفِصَالِهِ عَنِ الْجَسَدِ وَلَوْ لَمْ يَسْتَقِرَّ بِمَحَلٍّ.

وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- هُوَ: الْمَاءُ الْمُغَيَّرُ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ أَوْ رِيحُهُ بِمَا خَالَطَهُ مِنَ الْأَعْيَانِ الطَّاهِرَةِ تَغَيُّرًا يَمْنَعُ إِطْلَاقَ اسْمِ الْمَاءِ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي فَرْضِ الطَّهَارَةِ وَنَفْلِهَا عَلَى الْجَدِيدِ.

وَصَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- بِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ لَا يَرْفَعُ حُكْمَ الْخَبَثِ أَيْضًا، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَرْفَعُ حُكْمَ الْخَبَثِ.

د- مَاءٌ نَجِسٌ، وَهُوَ: الْمَاءُ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ وَكَانَ قَلِيلاً، أَوْ كَانَ كَثِيرًا وَغَيَّرَتْهُ، وَهَذَا لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَلَا النَّجِسَ بِالِاتِّفَاقِ.

هـ- مَاءٌ مَشْكُوكٌ فِي طَهُورِيَّتِهِ، وَانْفَرَدَ بِهَذَا الْقِسْمِ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ: مَا شَرِبَ مِنْهُ بَغْلٌ أَوْ حِمَارٌ.

و- مَاءٌ مُحَرَّمٌ لَا تَصِحُّ الطَّهَارَةُ بِهِ، وَانْفَرَدَ بِهِ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ: مَاءُ آبَارِ دِيَارِ ثَمُودَ- غَيْرِ بِئْرِ النَّاقَةِ- وَالْمَاءُ الْمَغْصُوبُ، وَمَاءٌ ثَمَنُهُ الْمُعَيَّنُ حَرَامٌ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مِيَاه).

تَطْهِيرُ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ:

11- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَا يَحْصُلُ بِهِ طَهَارَةُ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ النَّجَاسَةِ الْمَرْئِيَّةِ وَغَيْرِ الْمَرْئِيَّةِ.

فَإِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَرْئِيَّةً فَإِنَّهُ يَطْهُرُ الْمَحَلُّ الْمُتَنَجِّسُ بِهَا بِزَوَالِ عَيْنِهَا وَلَوْ بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ وَلَوْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ غَلِيظَةً، وَلَا يُشْتَرَطُ تَكْرَارُ الْغُسْلِ، لِأَنَّ النَّجَاسَةَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ عَيْنِهَا، فَتَزُولُ بِزَوَالِهَا.

وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ: أَنَّهُ يُغْسَلُ مَرَّتَيْنِ بَعْدَ زَوَالِ الْعَيْنِ، وَعَنْ فَخْرِ الْإِسْلَامِ: ثَلَاثًا بَعْدَهُ، وَيُشْتَرَطُ زَوَالُ الطَّعْمِ فِي النَّجَاسَةِ، لِأَنَّ بَقَاءَهُ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ، وَلَا يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنِ النَّجَاسَةِ الَّذِي يَشُقُّ زَوَالُهُ، وَكَذَا الرِّيحُ وَإِنْ لَمْ يَشُقَّ زَوَالُهُ.

وَهَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إِذَا صَبَّ الْمَاءَ عَلَى النَّجَاسَةِ، أَوْ غَسَلَهَا فِي الْمَاءِ الْجَارِي.

أَمَّا لَوْ غَسَلَهَا فِي إِجَّانَةٍ فَيَطْهُرُ بِالثَّلَاثِ إِذَا عُصِرَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ.

وَإِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ الْمَحَلُّ بِغَسْلِهَا ثَلَاثًا وُجُوبًا، وَالْعَصْرُ كُلَّ مَرَّةٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، تَقْدِيرًا لِغَلَبَةِ الظَّنِّ فِي اسْتِخْرَاجِهَا.

قَالَ الطَّحْطَاوِيّ: وَيُبَالِغُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ حَتَّى يَنْقَطِعَ التَّقَاطُرُ، وَالْمُعْتَبَرُ قُوَّةُ كُلِّ عَاصِرٍ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَوْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ عَصَرَ غَيْرَهُ قَطَّرَ طَهُرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ دُونَ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَلَوْ لَمْ يَصْرِفْ قُوَّتَهُ لِرِقَّةِ الثَّوْبِ قِيلَ: يَطْهُرُ لِلضَّرُورَةِ.وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَقِيلَ: لَا يَطْهُرُ وَهُوَ اخْتِيَارُ قَاضِيخَانْ.

وَفِي رِوَايَةٍ: يُكْتَفَى بِالْعَصْرِ مَرَّةً.

ثُمَّ إِنَّ اشْتِرَاطَ الْغَسْلِ وَالْعَصْرِ ثَلَاثًا إِنَّمَا هُوَ إِذَا غَمَسَهُ فِي إِجَّانَةٍ، أَمَّا إِذَا غَمَسَهُ فِي مَاءٍ جَارٍ حَتَّى جَرَى عَلَيْهِ الْمَاءُ أَوْ صُبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ كَثِيرٌ، بِحَيْثُ يَخْرُجُ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْمَاءِ وَيَخْلُفُ غَيْرُهُ ثَلَاثًا، فَقَدْ طَهُرَ مُطْلَقًا بِلَا اشْتِرَاطِ عَصْرٍ وَتَكْرَارِ غَمْسٍ.

وَيُقْصَدُ بِالنَّجَاسَةِ الْمَرْئِيَّةِ عِنْدَهُمْ: مَا يُرَى بَعْدَ الْجَفَافِ، وَغَيْرُ الْمَرْئِيَّةِ: مَا لَا يُرَى بَعْدَهُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَطْهُرُ مَحَلُّ النَّجَاسَةِ بِغَسْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدِ عَدَدٍ، بِشَرْطِ زَوَالِ طَعْمِ النَّجَاسَةِ وَلَوْ عَسُرَ، لِأَنَّ بَقَاءَ الطَّعْمِ دَلِيلٌ عَلَى تَمَكُّنِ النَّجَاسَةِ مِنَ الْمَحَلِّ فَيُشْتَرَطُ زَوَالُهُ، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ زَوَالُ اللَّوْنِ وَالرِّيحِ إِنْ تَيَسَّرَ.ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَعَسَّرَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ عَيْنًا أَوْ لَيْسَتْ بِعَيْنٍ.

فَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ عَيْنًا فَإِنَّهُ يَجِبُ إِزَالَةُ الطَّعْمِ، وَمُحَاوَلَةُ إِزَالَةِ اللَّوْنِ وَالرِّيحِ، فَإِنْ عَسِرَ زَوَالُ الطَّعْمِ، بِأَنْ لَمْ يَزُلْ بِحَتٍّ أَوْ قَرْصٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عُفِيَ عَنْهُ مَا دَامَ الْعُسْرُ، وَيَجِبُ إِزَالَتُهُ إِذَا قَدَرَ، وَلَا يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنٍ أَوْ رِيحٍ عَسُرَ زَوَالُهُ فَيُعْفَى عَنْهُ، فَإِنْ بَقِيَا مَعًا ضَرَّ عَلَى الصَّحِيحِ، لِقُوَّةِ دَلَالَتِهِمَا عَلَى بَقَاءِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ.

وَإِنْ لَمْ تَكُنِ النَّجَاسَةُ عَيْنًا- وَهِيَ مَا لَا يُدْرَكُ لَهَا عَيْنٌ وَلَا وَصْفٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَدَمُ الْإِدْرَاكِ لِخَفَاءِ أَثَرِهَا بِالْجَفَافِ، كَبَوْلٍ جَفَّ فَذَهَبَتْ عَيْنُهُ وَلَا أَثَرَ لَهُ وَلَا رِيحَ، فَذَهَبَ وَصْفُهُ، أَمْ لَا، لِكَوْنِ الْمَحَلِّ صَقِيلاً لَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ كَالْمِرْآةِ وَالسَّيْفِ- فَإِنَّهُ يَكْفِي جَرْيُ الْمَاءِ عَلَيْهِ مَرَّةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِفِعْلِ فَاعِلٍ كَمَطَرٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تَطْهُرُ الْمُتَنَجِّسَاتُ بِسَبْعِ غَسَلَاتٍ مُنَقِّيَةٍ، لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: «أُمِرْنَا أَنْ نَغْسِلَ الْأَنْجَاسَ سَبْعًا» وَقَدْ أُمِرَ بِهِ فِي نَجَاسَةِ الْكَلْبِ، فَيُلْحَقُ بِهِ سَائِرُ النَّجَاسَاتِ، لِأَنَّهَا فِي مَعْنَاهَا، وَالْحُكْمُ لَا يَخْتَصُّ بِمَوْرِدِ النَّصِّ، بِدَلِيلِ إِلْحَاقِ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ بِهِ.

قَالَ الْبُهُوتِيُّ: فَعَلَى هَذَا يُغْسَلُ مَحَلُّ الِاسْتِنْجَاءِ سَبْعًا كَغَيْرِهِ، صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي وَالشِّيرَازِيُّ وَابْنُ عَقِيلٍ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ، لَكِنْ نَصَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَاخْتَارَهُ فِي الْمُغْنِي: أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ عَدَدٌ، اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، لَا فِي قَوْلِهِ وَلَا فِعْلِهِ.

وَيَضُرُّ عِنْدَهُمْ بَقَاءُ الطَّعْمِ، لِدَلَالَتِهِ عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ وَلِسُهُولَةِ إِزَالَتِهِ وَيَضُرُّ كَذَلِكَ بَقَاءُ اللَّوْنِ أَوِ الرِّيحِ أَوْ هُمَا مَعًا إِنْ تَيَسَّرَ إِزَالَتُهُمَا، فَإِنْ عَسُرَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّ.

وَهَذَا فِي غَيْرِ نَجَاسَةِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، أَمَّا نَجَاسَتُهُمَا فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهَا تَفْصِيلٌ آخَرُ سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

تَطْهِيرُ مَا تُصِيبُهُ الْغُسَالَةُ قَبْلَ طَهَارَةِ الْمَغْسُولِ:

12- الْغُسَالَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ بِأَحَدِ أَوْصَافِ النَّجَاسَةِ نَجِسَةٌ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَلَوْنِهِ وَطَعْمِهِ».قَالَ الْخَرَشِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: سَوَاءٌ كَانَ تَغَيُّرُهَا بِالطَّعْمِ أَوِ اللَّوْنِ وَالرِّيحِ وَلَوِ الْمُتَعَسِّرَيْنِ، وَمِنْ ثَمَّ يَنْجُسُ الْمَحَلُّ الَّذِي تُصِيبُهُ الْغُسَالَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ، وَيَكُونُ تَطْهِيرُهُ كَتَطْهِيرِ أَيِّ مَحَلٍّ مُتَنَجِّسٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

لَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا يَطْهُرُ الْمَحَلُّ الْمُتَنَجِّسُ إِلاَّ بِغُسْلِهِ سَبْعًا، فَيُغْسَلُ عِنْدَهُمْ مَا نَجِسَ بِبَعْضِ الْغَسَلَاتِ بِعَدَدِ مَا بَقِيَ بَعْدَ تِلْكَ الْغَسْلَةِ، فَلَوْ تَنَجَّسَ بِالْغَسْلَةِ الرَّابِعَةِ مَثَلاً غُسِلَ ثَلَاثَ غَسَلَاتٍ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ تَطْهُرُ فِي مَحَلِّهَا بِمَا بَقِيَ مِنَ الْغَسَلَاتِ، فَطَهُرَتْ بِهِ فِي مِثْلِهِ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْغُسَالَةَ غَيْرَ الْمُتَغَيِّرَةِ طَاهِرَةٌ، قَالَ الدَّرْدِيرُ: لَوْ غُسِلَتْ قَطْرَةُ بَوْلٍ مَثَلاً فِي جَسَدٍ أَوْ ثَوْبٍ وَسَالَتْ غَيْرَ مُتَغَيِّرَةٍ فِي سَائِرِهِ وَلَمْ تَنْفَصِلْ عَنْهُ كَانَ طَاهِرًا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الْغُسَالَةُ غَيْرُ الْمُتَغَيِّرَةِ إِنْ كَانَتْ قُلَّتَيْنِ فَطَاهِرَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَهُمَا فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَظْهَرُهَا: أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْمَحَلِّ بَعْدَ الْغَسْلِ، إِنْ كَانَ نَجِسًا بَعْدُ فَنَجِسَةٌ، وَإِلاَّ فَطَاهِرَةٌ غَيْرُ مُطَهِّرَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ غُسِلَتْ بِالطَّهُورِ نَجَاسَةٌ فَانْفَصَلَ مُتَغَيِّرًا بِهَا، أَوِ انْفَصَلَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ قَبْلَ زَوَالِ النَّجَاسَةِ، كَالْمُنْفَصِلِ مِنَ الْغَسْلَةِ السَّادِسَةِ فَمَا دُونَهَا وَهُوَ يَسِيرٌ فَنَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ مُلَاقٍ لِنَجَاسَةٍ لَمْ يُطَهِّرْهَا.

وَإِنِ انْفَصَلَ الْقَلِيلُ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ بَعْدَ زَوَالِ النَّجَاسَةِ، كَالْمُنْفَصِلِ عَنْ مَحَلٍّ طَهُرَ أَرْضًا كَانَ الْمَحَلُّ أَوْ غَيْرُهَا، فَطَهُورٌ إِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَإِنْ كَانَ دُونَ قُلَّتَيْنِ فَطَاهِرٌ.

تَطْهِيرُ الْآبَارِ:

13- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَ مَاءُ الْبِئْرِ، فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِالتَّكْثِيرِ إِلَى أَنْ يَزُولَ التَّغَيُّرُ، وَيَكُونُ التَّكْثِيرُ بِالتَّرْكِ حَتَّى يَزِيدَ الْمَاءُ وَيَصِلَ إِلَى حَدِّ الْكَثْرَةِ، أَوْ بِصَبِّ مَاءٍ طَاهِرٍ فِيهِ حَتَّى يَصِلَ هَذَا الْحَدَّ.

كَمَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اعْتِبَارِ النَّزْحِ طَرِيقًا لِلتَّطْهِيرِ أَيْضًا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَ مَاءُ الْبِئْرِ فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِالنَّزَحِ فَقَطْ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (آبَار ف 21 وَمَا بَعْدَهَا).

الْوُضُوءُ وَالِاغْتِسَالُ فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ:

14- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الْوُضُوءَ وَالِاغْتِسَالَ فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ مَكْرُوهٌ خَشْيَةَ أَنْ يَتَنَجَّسَ بِهِ الْمُتَوَضِّئُ أَوِ الْمُغْتَسِلُ، وَتَوَقِّي ذَلِكَ كُلِّهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ يُورِثُ الْوَسْوَسَةَ فَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي مُسْتَحَمِّهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ أَوْ يَتَوَضَّأُ فِيهِ، فَإِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ».

تَطْهِيرُ الْجَامِدَاتِ وَالْمَائِعَاتِ:

15- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَتْ النَّجَاسَةُ فِي جَامِدٍ، كَالسَّمْنِ الْجَامِدِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِرَفْعِ النَّجَاسَةِ وَتَقْوِيرِ مَا حَوْلَهَا وَطَرْحِهِ، وَيَكُونُ الْبَاقِي طَاهِرًا، لِمَا رَوَتْ مَيْمُونَةُ- رضي الله عنها- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: أَلْقُوهَا، وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ، وَكُلُوا سَمْنَكُمْ».

وَإِذَا وَقَعَتِ النَّجَاسَةُ فِي مَائِعٍ فَإِنَّهُ يُنَجَّسُ، وَلَا يَطْهُرُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَيُرَاقُ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ» وَفِي رِوَايَةٍ «وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ».

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى إِمْكَانِ تَطْهِيرِهِ بِالْغَلْيِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُوضَعَ فِي مَاءٍ وَيَغْلِي، فَيَعْلُو الدُّهْنُ الْمَاءَ، فَيُرْفَعُ بِشَيْءٍ، وَهَكَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَوْسَعُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ.

وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ مَا يَتَأَتَّى تَطْهِيرُهُ بِالْغَلْيِ- كَالزَّيْتِ- يَطْهُرُ بِهِ كَالْجَامِدِ، وَطَرِيقَةُ ذَلِكَ: جَعْلُهُ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ يُخَاضُ فِيهِ، حَتَّى يُصِيبَ الْمَاءُ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ، ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَعْلُوَ عَلَى الْمَاءِ، فَيُؤْخَذُ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا يَطْهُرُ غَيْرُ الْمَاءِ مِنَ الْمَائِعَاتِ بِالتَّطْهِيرِ فِي قَوْلِ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إِلاَّ الزِّئْبَقَ، فَإِنَّهُ لِقُوَّتِهِ وَتَمَاسُكِهِ يَجْرِي مَجْرَى الْجَامِدِ.وَاسْتَدَلَّ ابْنُ قُدَامَةَ «بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ السَّمْنِ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ، وَلَوْ كَانَ إِلَى تَطْهِيرِهِ طَرِيقٌ لَمْ يَأْمُرْ بِإِرَاقَتِهِ».

تَطْهِيرُ الْمِيَاهِ النَّجِسَةِ:

16- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَطْهِيرَ الْمِيَاهِ النَّجِسَةِ يَكُونُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا وَمُكَاثَرَتِهَا حَتَّى يَزُولَ التَّغَيُّرُ.

وَلَوْ زَالَ التَّغَيُّرُ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِنَزْحِ بَعْضِهِ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلَانِ، قِيلَ: إِنَّ الْمَاءَ يَعُودُ طَهُورًا، وَقِيلَ: بِاسْتِمْرَارِ نَجَاسَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَرْجَحُ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تُزَالُ إِلاَّ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَلَيْسَ حَاصِلاً، وَحِينَئِذٍ فَيَسْتَمِرُّ بَقَاءُ النَّجَاسَةِ.

وَمَحَلُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ الَّذِي زَالَ تَغَيُّرُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَزْحِ بَعْضِهِ، أَمَّا الْقَلِيلُ فَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَى تَنَجُّسِهِ بِلَا خِلَافٍ.

كَمَا يَطْهُرُ الْمَاءُ النَّجِسُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَوْ زَالَ تَغَيُّرُهُ بِإِضَافَةِ طَاهِرٍ، وَبِإِلْقَاءِ طِينٍ أَوْ تُرَابٍ إِنْ زَالَ أَثَرُهُمَا، أَيْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ أَوْصَافِهِمَا فِيمَا أُلْقِيَا فِيهِ، أَمَّا إِنْ وُجِدَ فَلَا يَطْهُرُ، لِاحْتِمَالِ بَقَاءِ النَّجَاسَةِ مَعَ بَقَاءِ أَثَرِهِمَا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّ الْمَاءَ إِنْ بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَنْجُسُ إِلاَّ إِذَا غَيَّرَتْهُ النَّجَاسَةُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ» وَتَطْهِيرُهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِزَوَالِ التَّغَيُّرِ، سَوَاءٌ زَالَ التَّغَيُّرُ بِنَفْسِهِ: كَأَنْ زَالَ بِطُولِ الْمُكْثِ، أَوْ بِإِضَافَةِ مَاءٍ إِلَيْهِ.

قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: وَهَذَا فِي التَّغَيُّرِ الْحِسِّيِّ، وَأَمَّا التَّقْدِيرِيُّ: كَمَا لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ نَجِسٌ لَا وَصْفَ لَهُ فَيُقَدَّرُ مُخَالِفًا أَشَدَّ، كَلَوْنِ الْحِبْرِ وَطَعْمِ الْخَلِّ وَرِيحِ الْمِسْكِ، فَإِنْ غَيَّرَهُ فَنَجِسٌ، وَيُعْتَبَرُ الْوَصْفُ الْمُوَافِقُ لِلْوَاقِعِ، وَيُعْرَفُ زَوَالُ التَّغَيُّرِ مِنْهُ بِزَوَالِ نَظِيرِهِ مِنْ مَاءٍ آخَرَ، أَوْ بِضَمِّ مَاءٍ إِلَيْهِ لَوْ ضُمَّ لِلْمُتَغَيِّرِ حِسًّا لَزَالَ، أَوْ بَقِيَ زَمَنًا ذَكَرَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّهُ يَزُولُ بِهِ الْحِسِّيُّ.

وَلَا يَطْهُرُ الْمَاءُ إِنْ زَالَ التَّغَيُّرُ بِمِسْكٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ أَوْ خَلٍّ، لِلشَّكِّ فِي أَنَّ التَّغَيُّرَ زَالَ أَوِ اسْتَتَرَ، وَالظَّاهِرُ الِاسْتِتَارُ، مِثْلُ ذَلِكَ زَوَالُ التَّغَيُّرِ بِالتُّرَابِ وَالْجِصِّ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ نُزِحَ مِنَ الْمَاءِ الْمُتَنَجِّسِ الْكَثِيرُ، وَبَقِيَ بَعْدَ الْمَنْزُوحِ كَثِيرٌ غَيْرُ مُتَغَيِّرٍ، فَإِنَّهُ يَطْهُرُ لِزَوَالِ عِلَّةِ تَنَجُّسِهِ، وَهِيَ التَّغَيُّرُ.وَكَذَا الْمَنْزُوحُ الَّذِي زَالَ مَعَ نَزْحِهِ التَّغَيُّرُ طَهُورٌ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ فِيهِ.

وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ وَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْهُ، وَتَطْهِيرُهُ يَكُونُ بِإِضَافَةِ الْمَاءِ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْقُلَّتَيْنِ وَلَا تُغَيَّرُ بِهِ وَلَوْ كُوثِرَ بِإِيرَادِ طَهُورٍ فَلَمْ يَبْلُغْ الْقُلَّتَيْنِ لَمْ يَطْهُرْ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (مِيَاه).

تَطْهِيرُ الْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةِ مِنْ عِظَامِ الْمَيْتَاتِ:

17- الْآنِيَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ عَظْمِ حَيَوَانٍ مَأْكُولِ اللَّحْمِ مُذَكًّى يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهَا.

وَأَمَّا الْآنِيَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ حَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَفِيهَا خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (آنِيَة) ج 1 ف 10 وَمَا بَعْدَهَا.

تَطْهِيرُ مَا كَانَ أَمْلَسَ السَّطْحِ:

18- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَصَابَتِ النَّجَاسَةُ شَيْئًا صَقِيلاً- كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ- فَإِنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ، وَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ، لِعُمُومِ الْأَمْرِ بِغَسْلِ الْأَنْجَاسِ، وَالْمَسْحُ لَيْسَ غَسْلاً.

قَالَ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ قُطِعَ بِالسَّيْفِ الْمُتَنَجِّسِ وَنَحْوِهِ بَعْدَ مَسْحِهِ وَقَبْلَ غَسْلِهِ مَا فِيهِ بَلَلٌ كَبِطِّيخٍ وَنَحْوِهِ نَجَّسَهُ، لِمُلَاقَاةِ الْبَلَلِ لِلنَّجَاسَةِ، فَإِنْ كَانَ مَا قَطَعَهُ بِهِ رَطْبًا لَا بَلَلَ فِيهِ كَجُبْنٍ وَنَحْوِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، كَمَا لَوْ قُطِعَ بِهِ يَابِسًا لِعَدَمِ تَعَدِّي النَّجَاسَةِ إِلَيْهِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: لَوْ سُقِيَتْ سِكِّينٌ مَاءً نَجِسًا، ثُمَّ غَسَلَهَا طَهُرَ ظَاهِرُهَا، وَهَلْ يَطْهُرُ بَاطِنُهَا بِمُجَرَّدِ الْغَسْلِ أَمْ لَا يَطْهُرُ حَتَّى يَسْقِيَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً بِمَاءٍ طَهُورٍ؟ وَجْهَانِ: قَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي بِأَنَّهُ يَجِبُ سَقْيُهَا مَرَّةً ثَانِيَةً وَاخْتَارَ الشَّاشِيُّ الِاكْتِفَاءَ بِالْغَسْلِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنِ الشَّافِعِيِّ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا كَانَ أَمْلَسَ السَّطْحِ، كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ وَنَحْوِهِمَا، إِنْ أَصَابَهُ نَجِسٌ فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِالْمَسْحِ بِحَيْثُ يَزُولُ أَثَرُ النَّجَاسَةِ، لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانُوا يَقْتُلُونَ الْكُفَّارَ بِسُيُوفِهِمْ ثُمَّ يَمْسَحُونَهَا وَيُصَلُّونَ وَهُمْ يَحْمِلُونَهَا، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ، وَمَا عَلَى ظَاهِرِهِ يَزُولُ بِالْمَسْحِ.

قَالَ الْكَمَالُ: وَعَلَيْهِ فَلَوْ كَانَ عَلَى ظُفْرِهِ نَجَاسَةٌ فَمَسَحَهَا طَهُرَتْ.

فَإِنْ كَانَ بِالصَّقِيلِ صَدَأٌ يَتَشَرَّبُ مَعَهُ النَّجَاسَةَ، أَوْ كَانَ ذَا مَسَامَّ تَتَشَرَّبُهَا، فَإِنَّهُ لَا يَطْهُرُ إِلاَّ بِالْمَاءِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا كَانَ صُلْبًا صَقِيلاً، وَكَانَ يُخْشَى فَسَادُهُ بِالْغَسْلِ كَالسَّيْفِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يُعْفَى عَمَّا أَصَابَهُ مِنَ الدَّمِ الْمُبَاحِ وَلَوْ كَانَ كَثِيرًا، خَوْفًا مِنْ إِفْسَادِ الْغَسْلِ لَهُ.

قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَسَوَاءٌ مَسَحَهُ مِنَ الدَّمِ أَمْ لَا عَلَى الْمُعْتَمَدِ، أَيْ خِلَافًا لِمَنْ عَلَّلَهُ بِانْتِفَاءِ النَّجَاسَةِ بِالْمَسْحِ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: فَهَذَا التَّعْلِيلُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُعْفَى عَمَّا أَصَابَ السَّيْفَ وَنَحْوَهُ مِنَ الدَّمِ الْمُبَاحِ إِلاَّ إِذَا مُسِحَ، وَإِلاَّ فَلَا، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: لَا يُعْفَى عَمَّا أَصَابَ الظُّفْرَ وَالْجَسَدَ مِنَ الدَّمِ الْمُبَاحِ لِعَدَمِ فَسَادِهِمَا بِالْغَسْلِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: يُعْفَى عَمَّا أَصَابَهَا مِنْهُ إِذَا مُسِحَ.

وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ الْعَفْوَ بِأَنْ يَكُونَ الدَّمُ مُبَاحًا، أَمَّا الدَّمُ الْعُدْوَانُ فَيَجِبُ الْغَسْلُ مِنْهُ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: قَالَ الْعَدَوِيُّ: وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُبَاحِ غَيْرُ الْمُحَرَّمِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ دَمٌ مَكْرُوهُ الْأَكْلِ إِذَا ذَكَّاهُ بِالسَّيْفِ، وَالْمُرَادُ: الْمُبَاحُ أَصَالَةً، فَلَا يَضُرُّ حُرْمَتُهُ لِعَارِضٍ كَقَتْلِ مُرْتَدٍّ بِهِ، وَقَتْلِ زَانٍ أَحْصَنَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ.

كَمَا قَيَّدُوا الْعَفْوَ بِأَنْ يَكُونَ مَصْقُولاً لَا خَرْبَشَةَ فِيهِ، وَإِلاَّ فَلَا عَفْوَ.

تَطْهِيرُ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ مِنَ الْمَنِيِّ

19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى نَجَاسَتِهِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ طَاهِرٌ.

وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي كَيْفِيَّةِ تَطْهِيرِهِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَطْهِيرَ مَحَلِّ الْمَنِيِّ يَكُونُ بِغَسْلِهِ إِنْ كَانَ رَطْبًا، وَفَرْكِهِ إِنْ كَانَ يَابِسًا، لِحَدِيثِ «عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَانَ يَابِسًا، وَأَغْسِلُهُ إِذَا كَانَ رَطْبًا».

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ بِعِلْمِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- خُصُوصًا إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهَا مَعَ الْتِفَاتِهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى طَهَارَةِ ثَوْبِهِ وَفَحْصِهِ عَنْ حَالِهِ.

وَلَا فَرْقَ فِي طَهَارَةِ مَحَلِّهِ بِفَرْكِهِ يَابِسًا وَغَسْلِهِ طَرِيًّا بَيْنَ مَنِيِّ الرَّجُلِ وَمَنِيِّ الْمَرْأَةِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا صَحَّ «عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا كَانَتْ تَحُتُّ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يُصَلِّي»، وَلَا خَفَاءَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ جِمَاعٍ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا تَحْتَلِمُ، فَيَلْزَمُ اخْتِلَاطُ مَنِيِّ الْمَرْأَةِ بِهِ، فَيَدُلُّ عَلَى طَهَارَةِ مَنِيِّهَا بِالْفَرْكِ بِالْأَثَرِ، لَا بِالْإِلْحَاقِ.

كَمَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنَ الْمَذْهَبِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَطْهِيرَ مَحَلِّ الْمَنِيِّ يَكُونُ بِالْغَسْلِ لَا غَيْرُ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (مَنِيّ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


136-موسوعة الفقه الكويتية (عدل)

عَدْل

التَّعْرِيفُ:

1- الْعَدْلُ: خِلَافُ الْجَوْرِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ فِي الْأُمُورِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَمْرِ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَالْعَدْلُ مِنَ النَّاسِ: هُوَ الْمَرْضِيُّ.قَوْلُهُ وَحُكْمُهُ، وَرَجُلٌ عَدْلٌ: بَيِّنُ الْعَدْلِ، وَالْعَدَالَةُ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ مَعْنَاهُ: ذُو عَدْلٍ.

وَالْعَدْلُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُطَابِقَ فِي التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ فَيُقَالُ: عَدْلَانِ، وَعُدُولٌ، وَفِي الْمُؤَنَّثَةِ: عِدْلَةٌ.

وَالْعَدَالَةُ: صِفَةٌ تُوجِبُ مُرَاعَاتُهَا الِاحْتِرَازَ عَمَّا يُخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ عَادَةً فِي الظَّاهِرِ.

وَالْعَدْلُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: مَنْ تَكُونُ حَسَنَاتُهُ غَالِبَةً عَلَى سَيِّئَاتِهِ.وَهُوَ ذُو الْمُرُوءَةِ غَيْرُ الْمُتَّهَمِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْقِسْطُ:

2- الْقِسْطُ فِي اللُّغَةِ: الْعَدْلُ وَالْجَوْرُ فَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَأَقْسَطَ بِالْأَلِفِ عَدَلَ فَهُوَ مُقْسِطٌ إِذَا عَدَلَ، فَكَأَنَّ الْهَمْزَةَ فِي أَقْسَطَ لِلسَّلْبِ كَمَا يُقَالُ شَكَا إِلَيْهِ فَأَشْكَاهُ.

فَقَسَطَ وَأَقْسَطَ لُغَتَانِ فِي الْعَدْلِ، أَمَّا فِي الْجَوْرِ فَلُغَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ قَسَطَ بِغَيْرِ أَلِفٍ.

وَالْقِسْطُ بِإِطْلَاقَيْهِ أَعَمُّ مِنَ الْعَدْلِ.

ب- الظُّلْمُ:

3- أَصْلُ الظُّلْمِ: الْجَوْرُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَمِنْهُ «قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْوُضُوءِ: فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ».

وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ، وَالظُّلْمُ فِي الشَّرْعِ: عِبَارَةٌ عَنِ التَّعَدِّي عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ.

ج- الْفِسْقُ:

4- الْفِسْقُ هُوَ: الْخُرُوجُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَأَصْلُهُ خُرُوجُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ، وَفَسَقَ فُلَانٌ أَيْ: خَرَجَ عَنْ حَجْرِ الشَّرْعِ، وَالظُّلْمُ أَعَمُّ مِنَ الْفِسْقِ.

أَحْكَامُ الْعَدْلِ:

5- الْعَدْلُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى، وَبِهِ قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَانْتَظَمَ أَمْرُ الْخَلِيقَةِ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحْكَامُ الْعَدْلِ فِي أَبْوَابٍ عَدِيدَةٍ مِنْ كُتُبِ الْفُقَهَاءِ مِنْهَا:

فِي إِمَامِ الصَّلَاةِ:

6- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ عَدْلًا.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ خِلَافُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْإِمَامِ عَدْلًا، لِحَدِيثِ: «صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ».

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْإِمَامِ عَدْلًا، فَلَا تَصِحُّ إِمَامَةُ الْفَاسِقِ لقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا، وَلَا يَؤُمُّ أَعْرَابِيٌّ مُهَاجِرًا، وَلَا فَاجِرٌ مُؤْمِنًا» وَحَدِيثِ: «اجْعَلُوا أَئِمَّتَكُمْ خِيَارَكُمْ».

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِمَامَةُ الصَّلَاةِ) ف 24

فِي عَامِلِ الزَّكَاةِ:

7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي عَامِلِ الزَّكَاةِ الْعَدْلُ، وَأَنَّهُ يَحْرُمُ تَوْلِيَةُ الْفَاسِقِ وَجَعْلُهُ عَامِلًا لِلزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ هَذَا نَوْعُ وِلَايَةٍ فَاشْتُرِطَ فِيهَا الْعَدْلُ كَسَائِرِ الْوِلَايَاتِ؛ وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْأَمَانَةِ.

إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: الْمُرَادُ بِالْعَدْلِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ فَاسِقٍ فِي عَمَلِهِ، وَلَيْسَ أَنْ يَكُونَ عَادِلًا عَدْلَ الشَّهَادَةِ.

وَيُعَبِّرُ الْحَنَابِلَةُ فِي غَالِبِ كُتُبِهِمْ بِالْأَمَانَةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مُرَادَهُمْ مِنْهَا الْعَدَالَةُ.

فِي رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ:

8- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَرَى هِلَالَ رَمَضَانَ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْعَدَالَةِ الْمَعْنِيَّةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَدَالَةَ الْمَشْرُوطَةَ فِي رَائِي هِلَالِ رَمَضَانَ هِيَ الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ عِنْدَهُمْ بِرُؤْيَةِ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْعَدَالَةَ الْمَقْصُودَةَ هِيَ الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ مَسْتُورِ الْحَالِ لِعَدَمِ الثِّقَةِ بِهِ، كَمَا لَا تُقْبَلُ مِنَ الْفَاسِقِ.

وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا بِوُجُوبِ الصِّيَامِ عَلَى مَنْ أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ يَثِقُ بِهِ بِرُؤْيَتِهِ لِهِلَالِ رَمَضَانَ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا غَيْرَ عَدْلٍ، كَمَا أَنَّ عَلَى رَائِي الْهِلَالِ أَنْ يَصُومَ عَدْلًا كَانَ أَوْ فَاسِقًا، شَهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَوْ لَمْ يَشْهَدْ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ أَوْ رُدَّتْ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ.

وَفِي رُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ وَذِي الْحِجَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الشُّهُورِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (رُؤْيَةُ الْهِلَالِ ف 6).

فِي الْقِبْلَةِ:

9- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ مَنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ عَنِ الْقِبْلَةِ أَوْ يُقَلِّدُهُ غَيْرُهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهَا أَنْ يَكُونَ عَدْلًا، وَأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيهَا خَبَرُ الْفَاسِقِ؛ لِقِلَّةِ دِينِهِ، وَتَطَرُّقِ التُّهْمَةِ إِلَيْهِ؛ وَلِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِإِخْبَارِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُقْبَلُ خَبَرُ الْفَاسِقِ فِي شَأْنِ الْقِبْلَةِ؛ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ فِيهَا، كَمَا أَنَّ بَعْضَ الْحَنَابِلَةِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ التَّوَجُّهُ إِلَى قِبْلَةِ الْفَاسِقِ فِي بَيْتِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي عَمِلَهَا أَمَّا إِذَا عَمِلَهَا هُوَ فَكَإِخْبَارِهِ.

فِي نَجَاسَةِ الْمَاءِ أَوْ طَهَارَتِهِ:

10- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ مَنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ أَوْ طَهَارَتِهِ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا، فَلَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْفَاسِقِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الرِّوَايَةِ وَلَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَالْعَدَالَةُ الْمَشْرُوطَةُ هُنَا هِيَ الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ.

إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ: لَوْ أَخْبَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُسَّاقِ لَا يُمْكِنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ أَوْ طَهَارَتِهِ قُبِلَ خَبَرُهُمْ، وَكَذَا لَوْ أَخْبَرَ الْفَاسِقُ عَنْ فِعْلِ نَفْسِهِ فِي الْمَاءِ.

فِي وَلِيِّ النِّكَاحِ:

11- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ فِي النِّكَاحِ عَدْلًا.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ عَدْلًا فِي النِّكَاحِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي غَيْرِ الْمَشْهُورِ: إِنَّهُ شَرْطُ كَمَالٍ يُسْتَحَبُّ وُجُودُهُ، وَيُكْرَهُ تَزْوِيجُ الْوَلِيِّ الْفَاسِقِ.

وَهَذَا الْخِلَافُ عِنْدَهُمْ فِي غَيْرِ السُّلْطَانِ الَّذِي يُزَوِّجُ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا، أَمَّا هُوَ فَلَا تُشْتَرَطُ عَدَالَتُهُ لِلْحَاجَةِ، كَمَا لَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِي سَيِّدٍ يُزَوِّجُ أَمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ كَمَا لَوْ آجَرَهَا.

فِي الْوَصِيِّ:

12- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْوَصِيِّ عَدْلًا:

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ، وَوَافَقَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِهِ عَدْلًا هُنَا: أَنْ يَكُونَ أَمِينًا حَسَنَ التَّصَرُّفِ حَافِظًا لِمَالِ الصَّبِيِّ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِيصَاء ف 11)

فِي نَاظِرِ الْوَقْفِ:

13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَاظِرَ الْوَقْفِ إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا مِنْ قِبَلِ الْحَاكِمِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا؛ لِأَنَّ النَّظَرَ فِي الْوَقْفِ وِلَايَةٌ كَالْوِصَايَةِ، وَأَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا عَيَّنَ فَاسِقًا لَمْ يَصِحَّ تَعْيِينُهُ، وَتُزَالُ يَدُهُ مِنَ الْوَقْفِ، وَإِنْ وَلاَّهُ الْحَاكِمُ وَهُوَ عَدْلٌ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْفِسْقُ انْعَزَلَ وَنَزَعَ الْحَاكِمُ مِنْهُ الْوَقْفَ؛ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْوَقْفِ أَهَمُّ مِنْ إِبْقَاءِ وِلَايَةِ الْفَاسِقِ عَلَيْهِ، قَالَ السُّبْكِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يُعْتَبَرُ فِي مَنْصُوبِ الْحَاكِمِ الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى فِي مَنْصُوبِ الْوَاقِفِ بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ النَّاظِرُ مَنْصُوبًا مِنْ قِبَلِ الْوَاقِفِ فَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْف)

فِي وَلِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ:

14- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وَلِيِّ الصَّغِيرِ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا سَوَاءٌ كَانَ أَبًا أَوْ جَدًّا أَوْ غَيْرَهُمَا؛ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ، وَتَفْوِيضُهَا إِلَى غَيْرِ الْعَدْلِ تَضْيِيعٌ لِلصَّبِيِّ وَلِمَالِ الصَّبِيِّ، وَالْعَدَالَةُ الْمَشْرُوطَةُ هِيَ الظَّاهِرَةُ لَا الْبَاطِنَةُ، فَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِلْأَبِ مَثَلًا إِذَا كَانَ مَسْتُورَ الْحَالِ لَا يُعْرَفُ عَدَالَتُهُ وَلَا فِسْقُهُ وَذَلِكَ؛ لِوُفُورِ شَفَقَتِهِ وَكَمَالِهَا عَلَى وَلَدِهِ، وَمِثْلُ الصَّبِيِّ فِي ذَلِكَ الْمَجْنُونُ وَالْمَعْتُوهُ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (وِلَايَةٌ) Cفِي الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى وَالْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ:

15- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا مَنْ يَتَوَلَّى الْإِمَامَةَ الْكُبْرَى أَوْ مَا شَابَهَهَا مِنَ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِهِ عَدْلًا؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ مُتَّهَمٌ فِي دِينِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَدَالَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلصِّحَّةِ وَأَنَّ تَقْلِيدَ الْفَاسِقِ الْإِمَامَةَ الْكُبْرَى جَائِزٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَنُقِلَتْ فِي هَذَا رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.

وَمِثْلُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ الْوُلَاةُ الْعَامُّونَ وَالْوُزَرَاءُ التَّنْفِيذِيُّونَ وَأَعْضَاءُ مَجْلِسِ الشُّورَى وَأُمَرَاءُ الْجُيُوشِ...

ر: مُصْطَلَحُ: (الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى ف 11)

فِي الْقُضَاةِ وَوُلَاةِ الْمَظَالِمِ وَالْمُفْتِينَ وَالْمُسْتَخْلَفِينَ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْمُحَكَّمِينَ وَغَيْرِهِمْ:

16- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي وَنَحْوُهُ عُدُولًا.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِيمَنْ يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ أَوْ يَتَصَدَّى لِلْفَتْوَى، فَلَا يَجُوزُ تَوْلِيَةُ الْفَاسِقِ لِلْقَضَاءِ وَلَا مَنْ فِيهِ نَقْصٌ يَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَتِهِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْعَدَالَةَ لَيْسَتْ شَرْطَ صِحَّةٍ فِي تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ، وَأَنَّ الْفَاسِقَ أَهْلٌ لِلْقَضَاءِ وَيَجُوزُ تَقْلِيدُهَا لَهُ وَتَنْفُذُ قَضَايَاهُ إِذَا لَمْ يُجَاوِزْ فِيهَا حَدَّ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ إِلاَّ شَرْطَ كَمَالٍ، وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي عِنْدَهُمْ أَلاَّ يُقَلَّدَ الْفَاسِقُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ أَمَانَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ أَمَانَةُ الْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ وَالنُّفُوسِ، فَلَا يَقُومُ بِوَفَائِهَا إِلاَّ مَنْ كَمُلَ وَرَعُهُ وَتَمَّ تَقْوَاهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لَوْ قُلِّدَ الْفَاسِقُ مَعَ هَذَا جَازَ التَّقْلِيدُ فِي نَفْسِهِ وَصَارَ قَاضِيًا؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ تَقْلِيدِهِ الْقَضَاءَ، وَحُكِيَ عَنِ الْأَصَمِّ مِثْلُ هَذَا حَيْثُ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي فَاسِقًا؛ «لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِأَبِي ذَرٍّ: كَيْفَ أَنْتَ إِذَا كَانَتْ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، أَوْ يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا.

قَالَ: قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ، فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ»

ر: مُصْطَلَحُ: (قَضَاءٌ) وَمُصْطَلَحُ: (وِلَايَةٌ)

فِي الشُّهُودِ:

17- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الشَّاهِدِ عَدْلًا:

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الشُّهُودِ أَنْ يَكُونُوا عُدُولًا فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ بِالتَّوَقُّفِ عَنْ نَبَأِ الْفَاسِقِ فِي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}

وَالشَّهَادَةُ نَبَأٌ فَيَجِبُ التَّثَبُّتُ.

وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ، وَلَا خَائِنَةٍ وَلَا مَحْدُودٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ»، وَلِأَنَّ دِينَ الْفَاسِقِ لَمْ يَزَعْهُ عَنِ ارْتِكَابِ مَحْظُورَاتٍ فِي الدِّينِ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ لَا يَزَعَهُ عَنِ الْكَذِبِ فَلَا تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِشَهَادَتِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَدْلَ لَيْسَ شَرْطًا فِي أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ، وَأَنَّ الْفَاسِقَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ، وَالْمَالِكِيَّةُ يُوَافِقُونَهُمْ فِي هَذِهِ الْجُزْئِيَّةِ، فَإِذَا تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ وَهُوَ فَاسِقٌ ثُمَّ تَابَ مِنْ فِسْقِهِ ثُمَّ شَهِدَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتُبْ فَيُمْنَعُ مِنَ الْأَدَاءِ؛ لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ.

وَالْعَدَالَةُ الْمَشْرُوطَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ هِيَ الظَّاهِرَةُ، أَمَّا الْعَدَالَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَهِيَ الْبَاطِنَةُ الثَّابِتَةُ بِالسُّؤَالِ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ بِالتَّعْدِيلِ، وَالتَّزْكِيَةِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَهُمْ، مَا لَمْ يَطْعَنِ الْخَصْمُ فِي الشُّهُودِ، أَوْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ لَا يَكْتَفِيَ بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ، بَلْ يَسْأَلُ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ؛ لِدَرْءِ الْحُدُودِ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ إِذَا لَمْ يَطْعَنِ الْخَصْمُ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَسْأَلُ الْقَاضِي عَنْ حَالِ الشُّهُودِ، بَلْ يَعْتَمِدُ عَلَى الْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}؛ وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ Cالْحَقِيقِيَّةَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَيْهَا فَيَجِبُ الِاكْتِفَاءُ بِالظَّاهِرَةِ.

وَذَهَبَ صَاحِبَاهُ: إِلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (شَهَادَةٌ ف 22)

فِي رَاوِي الْحَدِيثِ:

18- ذَهَبَ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِ- فِي الْحَدِيثِ- أَنْ يَكُونَ عَدْلًا سَالِمًا مِنْ أَسْبَابِ الْفِسْقِ وَخَوَارِمِ الْمُرُوءَةِ، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَأْخُذُوا الْعِلْمَ إِلاَّ عَمَّنْ تُجِيزُونَ شَهَادَتَهُ»، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ وَعَنِ النَّخَعِيِّ قَالَ: كَانُوا إِذَا أَتَوُا الرَّجُلَ لِيَأْخُذُوا عَنْهُ نَظَرُوا إِلَى سَمْتِهِ وَإِلَى صَلَاتِهِ وَإِلَى حَالِهِ ثُمَّ يَأْخُذُونَ عَنْهُ

وَتَثْبُتُ عَدَالَةُ الرَّاوِي إِمَّا بِتَنْصِيصِ مُعَدِّلِينَ، وَإِمَّا بِالِاسْتِفَاضَةِ، فَمَنِ اشْتُهِرَتْ عَدَالَتُهُ بَيْنَ أَهْلِ النَّقْلِ وَالْعِلْمِ، وَشَاعَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ اسْتُغْنِيَ فِيهِ بِذَلِكَ عَنْ بَيِّنَةٍ شَاهِدَةٍ بِعَدَالَتِهِ تَنْصِيصًا.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كُلُّ حَامِلِ عِلْمٍ مَعْرُوفَ الْعِنَايَةِ بِهِ فَهُوَ عَدْلٌ مَحْمُولٌ فِي أَمْرِهِ أَبَدًا عَلَى الْعَدَالَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ جَرْحُهُ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ»

وَيُقْبَلُ التَّعْدِيلُ سَوَاءٌ فِي الرَّاوِي أَوْ فِي الشَّاهِدِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ سَبَبِهِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَهُ كَثِيرَةٌ يَصْعُبُ ذِكْرُهَا.

أَمَّا الْجَرْحُ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ إِلاَّ مُفَسَّرًا مُبَيَّنَ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا يَجْرَحُ وَمَا لَا يَجْرَحُ، فَقَدْ يُطْلِقُ أَحَدُهُمُ الْجَرْحَ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ اعْتَقَدَهُ جَرْحًا وَلَيْسَ بِجَرْحٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ سَبَبِهِ لِيُنْظَرَ هَلْ هُوَ قَادِحٌ أَوْ لَا؟ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا ظَاهِرٌ مُقَرَّرٌ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ.

وَجَرْحُ الرَّاوِي أَوْ تَعْدِيلُهُ يَثْبُتُ- فِي Cالصَّحِيحِ- بِوَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي قَبُولِ الْخَبَرِ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي جَرْحِ رَاوِيهِ أَوْ تَعْدِيلِهِ، وَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنَ اثْنَيْنِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ.

وَالْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ إِنِ اجْتَمَعَا فِي شَخْصٍ فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَرْحَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّ الْمُعَدِّلَ يُخْبِرُ عَمَّا ظَهَرَ مِنْ حَالِهِ، وَالْجَارِحَ يُخْبِرُ عَنْ بَاطِنٍ خَفِيَ عَلَى الْمُعَدِّلِ؛ وَلِأَنَّ الْجَارِحَ يَقُولُ: رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا، وَالْمُعَدِّلُ مُسْتَنَدُهُ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا، سَوَاءٌ كَانُوا مُتَسَاوِينَ أَوْ كَانَ عَدَدُ الْمُعَدِّلِينَ أَكْثَرَ.

وَقِيلَ إِنْ كَانَ عَدَدُ الْمُعَدِّلِينَ أَكْثَرَ فَالتَّعْدِيلُ أَوْلَى.

وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلُهُمْ: إِذَا كَانَ الْجَارِحُونَ وَالْمُعَدِّلُونَ مُتَسَاوِينَ يُنْظَرُ أَيُّهُمَا أَعْدَلُ فَيُرَجَّحُ جَانِبُهُمْ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي التَّعْدِيلِ أَمْ فِي التَّجْرِيحِ.

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَبُولِ رِوَايَةِ الْمُبْتَدِعِ الَّذِي لَا يَكْفُرُ فِي بِدْعَتِهِ.فَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّ رِوَايَتَهُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ بِبِدْعَتِهِ، وَكَمَا اسْتَوَى فِي الْكُفْرِ الْمُتَأَوِّلُ وَغَيْرُ الْمُتَأَوِّلِ، يَسْتَوِي فِي الْفِسْقِ الْمُتَأَوِّلُ وَغَيْرُ الْمُتَأَوِّلِ،

وَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَ رِوَايَتَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَسْتَحِلُّ الْكَذِبَ فِي نُصْرَةِ مَذْهَبِهِ أَوْ لِأَهْلِ مَذْهَبِهِ، سَوَاءٌ كَانَ دَاعِيَةً إِلَى بِدْعَتِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَقْبَلُ شَهَادَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إِلاَّ الْخَطَابِيَّةَ مِنَ الرَّافِضَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ بِالزُّورِ لِمُوَافِقِيهِمْ.

وَقَالَ آخَرُونَ: تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً، وَلَا تُقْبَلُ إِذَا كَانَ دَاعِيَةً إِلَى بِدْعَتِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ

الْعَدْلُ فِي الْحُكْمِ:

19- تَحَدَّثَ الْفُقَهَاءُ عَنِ الْعَدْلِ فِي الْحُكْمِ وَحُرْمَةِ جَوْرِ الْحَاكِمِ عَلَى رَعِيَّتِهِ

وَأَصْلُ ذَلِكَ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}

وقوله تعالى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.

وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».

وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلاَّ حَرَّمَ Cاللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» وَفِي رِوَايَةٍ: «مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لَا يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ إِلاَّ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ».

وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ».

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى ف 11)

20- الْعَدْلُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ:

تَحَدَّثَ الْفُقَهَاءُ عَنْ وُجُوبِ الْعَدْلِ بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ أَوْ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}.

وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «إِذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ امْرَأَتَانِ فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ سَاقِطٌ».

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَسْوِيَة ف 8) 21- الْعَدْلُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ:

ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ مُرَاعَاةَ الْعَدْلِ فِي الْهِبَاتِ، وَالْعَطَايَا بَيْنَ الْأَوْلَادِ، وَعَدَمِ تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِحَدِيثِ «النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ- رضي الله عنهما-: أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً.فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ: أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لَا.قَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهُ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ قَالَ: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ»

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَسْوِيَة ف 11)

(C

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


137-موسوعة الفقه الكويتية (عقد 1)

عَقْد -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْعَقْدُ فِي اللُّغَةِ: الرَّبْطُ وَالشَّدُّ وَالضَّمَانُ وَالْعَهْدُ، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: عَقَدَ الْحَبْلَ وَالْبَيْعَ وَالْعَهْدَ: شَدَّهُ.

وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ أَطْرَافِ الشَّيْءِ، يُقَالُ: عَقَدَ الْحَبْلَ: إِذَا جَمَعَ أَحَدَ طَرَفَيْهِ عَلَى الْآخَرِ وَرَبَطَ بَيْنَهُمَا.

وَفِي الْمِصْبَاحِ: قِيلَ: عَقَدْتُ الْبَيْعَ وَنَحْوَهُ، وَعَقَدْتُ الْيَمِينَ وَعَقَّدْتُهَا بِالتَّشْدِيدِ تَوْكِيدٌ، وَعَاقَدْتُهُ عَلَى كَذَا، وَعَقَدْتُهُ عَلَيْهِ بِمَعْنَى: عَاهَدْتُهُ، وَمَعْقِدُ الشَّيْءِ مِثْلُ مَجْلِسٍ: مَوْضِعُ عَقْدِهِ، وَعُقْدَةُ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ: إِحْكَامُهُ وَإِبْرَامُهُ، وَالْجَمْعُ عُقُودٌ وَمِنْهُ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وقوله تعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} أَيْ: أَحْكَامَهُ، وَالْمَعْنَى: لَا تَعْزِمُوا عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ فِي زَمَانِ الْعِدَّةِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ يُطْلَقُ الْعَقْدُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:

أ- الْمَعْنَى الْعَامُّ، وَهُوَ كُلُّ مَا يَعْقِدُهُ (يَعْزِمُهُ) الشَّخْصُ أَنْ يَفْعَلَهُ هُوَ، أَوْ يَعْقِدَ عَلَى غَيْرِهِ فِعْلَهُ عَلَى وَجْهِ إِلْزَامِهِ إِيَّاهُ، كَمَا يَقُولُ الْجَصَّاصُ وَعَلَى ذَلِكَ فَيُسَمَّى الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ وَسَائِرُ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ عُقُودًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ طَرَفَيِ الْعَقْدِ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَفَاءَ بِهِ، وَسُمِّيَ الْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ عَقْدًا؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَفَاءَ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ مِنَ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ، وَكَذَلِكَ الْعَهْدُ وَالْأَمَانُ؛ لِأَنَّ مُعْطِيَهَا قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَفَاءَ بِهَا، وَكَذَا كُلُّ مَا شَرَطَ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَهُوَ عَقْدٌ، وَكَذَلِكَ النُّذُورُ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ.

وَمِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ الْعَامِّ قَوْلُ الْأَلُوسِيِّ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} حَيْثُ قَالَ: الْمُرَادُ بِهَا يَعُمُّ جَمِيعَ مَا أَلْزَمَ اللَّهُ عِبَادَهُ وَعَقَدَ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ وَمَا يَعْقِدُونَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ عُقُودِ الْأَمَانَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ.

ب- الْمَعْنَى الْخَاصُّ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى يُطْلَقُ الْعَقْدُ عَلَى مَا يَنْشَأُ عَنْ إِرَادَتَيْنِ لِظُهُورِ أَثَرِهِ الشَّرْعِيِّ فِي الْمَحَلِّ، قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: الْعَقْدُ رَبْطُ أَجْزَاءِ التَّصَرُّفِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.

وَبِهَذَا الْمَعْنَى عَرَّفَهُ الزَّرْكَشِيُّ بِقَوْلِهِ: ارْتِبَاطُ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ الِالْتِزَامِيِّ كَعَقْدِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا.

وَمَوْضُوعُ الْبَحْثِ هُنَا الْعَقْدُ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الِالْتِزَامُ:

2- أَصْلُ الِالْتِزَامِ فِي اللُّغَةِ: مِنْ لَزِمَ يَلْزَمُ لُزُومًا؛ أَيْ ثَبَتَ وَدَامَ، يُقَالُ: لَزِمَهُ الْمَالُ: وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ: وَجَبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ، وَأَلْزَمْتُهُ الْمَالَ وَالْعَمَلَ فَالْتَزَمَ، وَالِالْتِزَامُ الِاعْتِنَاقُ.

وَالِالْتِزَامُ فِي الِاصْطِلَاحِ: إِلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، وَقَالَ الْحَطَّابُ: إِنَّهُ إِلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا عَلَى شَيْءٍ...وَقَدْ يُطْلَقُ فِي الْعُرْفِ عَلَى مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْتِزَامُ الْمَعْرُوفِ بِلَفْظِ الِالْتِزَامِ.

وَالِالْتِزَامُ أَعَمُّ مِنَ الْعَقْدِ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ.

ب- التَّصَرُّفُ.

3- التَّصَرُّفُ فِي اللُّغَةِ: التَّقَلُّبُ فِي الْأُمُورِ، وَالسَّعْيُ فِي طَلَبِ الْكَسْبِ.

وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ التَّصَرُّفَ عِنْدَهُمْ هُوَ: مَا يَصْدُرُ عَنِ الشَّخْصِ بِإِرَادَتِهِ، وَيُرَتِّبُ الشَّرْعُ عَلَيْهِ أَحْكَامًا مُخْتَلِفَةً، وَيَشْمَلُ التَّصَرُّفَ الْأَفْعَالَ وَالْأَقْوَالَ وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَالتَّصَرُّفُ أَعَمُّ مِنَ الْعَقْدِ.

ج- الْعَهْدُ وَالْوَعْدُ:

4- الْعَهْدُ فِي اللُّغَةِ: الْوَصِيَّةُ، يُقَالُ: عَهِدَ إِلَيْهِ يَعْهَدُ: إِذَا أَوْصَاهُ، وَالْعَهْدُ: الْأَمَانُ وَالْمَوْثِقُ وَالذِّمَّةُ، وَيُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَا عُوهِدَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَكُلِّ مَا بَيْنَ الْعِبَادِ مِنَ الْمَوَاثِيقِ.

فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْعَقْدِ بِالْإِطْلَاقِ الْعَامِّ وَأَعَمُّ مِنْهُ بِالْإِطْلَاقِ الْخَاصِّ.

وَأَمَّا الْوَعْدُ فَيَدُلُّ عَلَى تَرْجِيَةٍ بِقَوْلٍ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ حَقِيقَةً وَفِي الشَّرِّ مَجَازًا.

وَالْوَعْدُ فِي الِاصْطِلَاحِ: إِخْبَارٌ عَنْ إِنْشَاءِ الْمُخْبِرِ مَعْرُوفًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

أَرْكَانُ الْعَقْدِ:

5- أَرْكَانُ الشَّيْءِ: أَجْزَاءُ مَاهِيَّتِهِ، وَجَوَانِبُهُ الَّتِي يَسْتَنِدُ إِلَيْهَا وَيَقُومُ بِهَا.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الرُّكْنُ هُوَ الْجُزْءُ الذَّاتِيُّ الَّذِي تَتَرَكَّبُ الْمَاهِيَّةُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ بِحَيْثُ يَتَوَقَّفُ تَقَوُّمُهَا عَلَيْهِ.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ لَا يُوجَدُ إِلاَّ إِذَا وُجِدَ عَاقِدٌ وَصِيغَةٌ (الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ) وَمَحَلٌّ يَرِدُ عَلَيْهِ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ (الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ).

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ كُلَّهَا أَرْكَانُ الْعَقْدِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُكْنَ الْعَقْدِ هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ، أَمَّا الْعَاقِدَانِ وَالْمَحَلُّ فَمِمَّا يَسْتَلْزِمُهُ وُجُودُ الصِّيغَةِ، لَا مِنَ الْأَرْكَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا عَدَا الصِّيغَةَ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ حَقِيقَةِ الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَيْهِ.

وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الصِّيغَةِ وَالْعَاقِدَيْنِ وَالْمَحَلِّ شُرُوطٌ لَا بُدَّ لِوُجُودِ الْعَقْدِ الشَّرْعِيِّ مِنْ تَوَافُرِهَا، نَبْحَثُهَا فِيمَا يَلِي:

أَوَّلاً- صِيغَةُ الْعَقْدِ:

6- صِيغَةُ الْعَقْدِ: كَلَامٌ أَوْ فِعْلٌ يَصْدُرُ مِنَ الْعَاقِدِ وَيَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ، وَيُعَبِّرُ عَنْهَا الْفُقَهَاءُ بِـ (الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ).

وَتَخْتَلِفُ الصِّيغَةُ فِي الْعَقْدِ حَسْبَ اخْتِلَافِ الْعُقُودِ.

فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً يَصْلُحُ لِلصِّيغَةِ كُلُّ لَفْظٍ أَوْ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا وَالتَّمْلِيكِ بِعِوَضٍ، مِثْلِ قَوْلِ الْبَائِعِ: بِعْتُكَ، أَوْ: أَعْطَيْتُكَ، أَوْ: مَلَّكْتُكَ بِكَذَا، وَقَوْلِ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ، أَوْ تَمَلَّكْتُ، أَوِ ابْتَعْتُ، أَوْ: قَبِلْتُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.

وَفِي عَقْدِ الْحَوَالَةِ يَكْفِي كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ، مِثْلُ قَوْلِ الْمُحِيلِ: أَحَلْتُكَ وَأَتْبَعْتُكَ، وَقَوْلِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ: رَضِيتُ وَقَبِلْتُ، وَنَحْوَهَا.

وَعَقْدُ الرَّهْنِ يَنْعَقِدُ بِقَوْلِ الرَّاهِنِ: رَهَنْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ، أَوْ أَعْطَيْتُهَا لَكَ رَهْنًا، وَقَوْلِ الْمُرْتَهِنِ: قَبِلْتُ أَوْ رَضِيتُ.

فَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ لُغَةً أَوْ عُرْفًا يَنْعَقِدُ بِهِ الْعَقْدُ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي الْأَصْلِ لَفْظٌ خَاصٌّ، وَلَا صِيغَةٌ خَاصَّةٌ.

7- وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ عَقْدَ النِّكَاحِ، فَلَا يَصِحُّ إِلاَّ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالزَّوَاجِ وَمُشْتَقَّاتِهِمَا، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ: وَلَا يَصِحُّ إِلاَّ بِلَفْظٍ اشْتُقَّ مِنْ لَفْظِ التَّزْوِيجِ أَوِ الْإِنْكَاحِ، دُونَ لَفْظِ الْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ وَنَحْوِهِمَا كَالْإِحْلَالِ وَالْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ سِوَاهُمَا فَوَجَبَ الْوُقُوفُ مَعَهُمَا تَعَبُّدًا وَاحْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَنْزِعُ إِلَى الْعِبَادَاتِ لِوُرُودِ النَّدْبِ فِيهِ، وَالْأَذْكَارُ فِي الْعِبَادَاتِ تُتَلَقَّى مِنَ الشَّرْعِ.

وَقَالَ الْحَجَّاوِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَلَا يَصِحُّ إِيجَابٌ إِلاَّ بِلَفْظِ أَنْكَحْتُ أَوْ زَوَّجْتُ..وَلَا يَصِحُّ قَبُولٌ لِمَنْ يُحْسِنُهَا إِلاَّ بِقَبِلْتُ تَزْوِيجَهَا أَوْ نِكَاحَهَا، أَوْ هَذَا التَّزْوِيجَ أَوْ هَذَا النِّكَاحَ، أَوْ تَزَوَّجْتُهَا، أَوْ رَضِيتُ هَذَا النِّكَاحَ، أَوْ قَبِلْتُ، فَقَطْ، أَوْ: تَزَوَّجْتُ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَلَا يَشْتَرِطُونَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ، فَيَصِحُّ عِنْدَهُمَا بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى التَّأْبِيدِ مُدَّةَ الْحَيَاةِ، كَأَنْكَحْتُ وَزَوَّجْتُ وَمَلَّكْتُ وَبِعْتُ وَوَهَبْتُ وَنَحْوِهَا، إِذَا قُرِنَ بِالْمَهْرِ وَدَلَّ اللَّفْظُ عَلَى الزَّوَاجِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ ر: (نِكَاح وَصِيغَة).

الْمُرَادُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.

8- الْمُرَادُ بِالْإِيجَابِ فِي الْعُقُودِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ: مَا صَدَرَ أَوَّلاً مِنْ كَلَامِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْكَلَامِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الْمُمَلِّكِ أَمْ مِنَ الْمُتَمَلِّكِ، وَالْقَبُولُ: مَا صَدَرَ ثَانِيًا عَنْ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ دَالًّا عَلَى مُوَافَقَتِهِ بِمَا أَوْجَبَهُ الْأَوَّلُ فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمْ أَوَّلِيَّةُ الصُّدُورِ فِي الْإِيجَابِ وَثَانَوِيَّتُهُ فِي الْقَبُولِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الْمُمَلِّكِ أَمْ مِنَ الْمُتَمَلِّكِ.

وَيَرَى غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْإِيجَابَ: مَا صَدَرَ مِمَّنْ يَكُونُ مِنْهُ التَّمْلِيكُ كَالْبَائِعِ وَالْمُؤَجِّرِ وَالزَّوْجَةِ أَوْ وَلِيِّهَا، سَوَاءٌ صَدَرَ أَوَّلاً أَوْ آخِرًا، وَالْقَبُولُ: هُوَ مَا صَدَرَ مِمَّنْ يَصِيرُ لَهُ الْمِلْكُ وَإِنْ صَدَرَ أَوَّلاً، فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمْ هُوَ أَنَّ الْمُمَلِّكَ هُوَ الْمُوجِبُ وَالْمُتَمَلِّكُ هُوَ الْقَابِلُ، وَلَا اعْتِبَارَ لِمَا صَدَرَ أَوَّلاً أَوْ آخِرًا Bوَسَائِلُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.

9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ كَمَا يَحْصُلَانِ بِالْأَلْفَاظِ، كَذَلِكَ يَحْصُلَانِ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشَارَةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْمُعَاطَاةِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ بَعْضِ هَذِهِ الْوَسَائِلِ فِي بَعْضِ الْعُقُودِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ- الْعَقْدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ اللَّفْظِيَّيْنِ.

10- الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ بِالْأَلْفَاظِ هُوَ الْأَصْلُ فِي انْعِقَادِ الْعُقُودِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ إِذَا كَانَا بِصِيغَةِ الْمَاضِي يَنْعَقِدُ بِهِمَا الْعَقْدُ كَمَا إِذَا قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ، وَلَا حَاجَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِلَى النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ وَإِنْ كَانَتْ لِلْمَاضِي وَضْعًا لَكِنَّهَا جُعِلَتْ إِيجَابًا لِلْحَالِ فِي عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، وَالْعُرْفُ قَاضٍ عَلَى الْوَضْعِ كَمَا عَلَّلَهُ الْكَاسَانِيُّ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ صَرِيحَةٌ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ فَيَلْزَمُهُمَا، كَمَا قَالَ الْحَطَّابُ.

وَلَا يَنْعَقِدُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ كَصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَالْمُضَارِعِ الْمُرَادِ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَدُلُّ عَلَى الْحَالِ كَصِيغَةِ الْأَمْرِ مَثَلاً، كَقَوْلِهِ: بِعْنِي، فَإِذَا أَجَابَهُ الْآخَرُ بِقَوْلِهِ: بِعْتُكَ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: كَانَ هَذَا اللَّفْظُ الثَّانِي إِيجَابًا وَاحْتَاجَ إِلَى قَبُولٍ مِنَ الْأَوَّلِ، وَهَذَا رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ- وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- يَنْعَقِدُ بِهِمَا الْبَيْعُ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى قَبُولٍ مِنَ الْأَوَّلِ.

أَمَّا صِيغَةُ الْمُضَارِعِ فَإِذَا أَرَادَ بِهَا الْحَالَ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ وَإِلاَّ فَلَا، فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: إِذَا قَالَ الْبَائِعُ: أَبِيعُ مِنْكَ هَذَا بِأَلْفٍ أَوْ أَبْذُلُهُ أَوْ أُعْطِيكَهُ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: أَشْتَرِيهِ مِنْكَ أَوْ آخُذُهُ، وَنَوَيَا الْإِيجَابَ لِلْحَالِ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا بِلَفْظِ الْمَاضِي وَالْآخَرُ بِالْمُسْتَقْبَلِ مَعَ نِيَّةِ الْإِيجَابِ لِلْحَالِ- فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ يَنْعَقِدْ.

وَمِثْلُهُ مَا نَقَلَهُ الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ حَيْثُ قَالَ: إِنْ أَتَى بِصِيغَةِ الْمَاضِي لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ رُجُوعٌ، وَإِنْ أَتَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فَكَلَامُهُ مُحْتَمَلٌ، فَيَحْلِفُ عَلَى مَا أَرَادَهُ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (صِيغَة ف 7).

اعْتِبَارُ اللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى فِي الْعَقْدِ.

11- مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: الْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي لَا لِلْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي مَعْنَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ- كَمَا يَقُولُ فِي الدُّرَرِ- أَنَّهُ عِنْدَ حُصُولِ الْعَقْدِ لَا يُنْظَرُ لِلْأَلْفَاظِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا الْعَاقِدَانِ حِينَ الْعَقْدِ، بَلْ إِنَّمَا يُنْظَرُ إِلَى مَقَاصِدِهِمُ الْحَقِيقِيَّةِ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يُلْفَظُ بِهِ حِينَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْمَعْنَى وَلَيْسَ اللَّفْظُ وَلَا الصِّيغَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ، وَمَا الْأَلْفَاظُ إِلاَّ قَوَالِبُ لِلْمَعَانِي.وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَطْبِيقِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي مُخْتَلِفِ الْعُقُودِ، فَطَبَّقُوهَا فِي بَعْضِهَا وَلَمْ يُطَبِّقُوهَا فِي بَعْضٍ، وَذَلِكَ حَسْبَ اخْتِلَافِ طَبِيعَةِ هَذِهِ الْعُقُودِ.

وَالظَّاهِرُ: أَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ مُطَبَّقَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَكْثَرَ مِنْ عَقْدٍ، وَلَهَا فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ، قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: الِاعْتِبَارُ لِلْمَعْنَى لَا لِلْأَلْفَاظِ، صَرَّحُوا بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا الْكَفَالَةُ، فَهِيَ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ حَوَالَةٌ، وَهِيَ بِشَرْطِ عَدَمِ بَرَاءَتِهِ كَفَالَةٌ..وَلَوْ وَهَبَ الدَّيْنَ لِمَنْ عَلَيْهِ كَانَ إِبْرَاءً لِلْمَعْنَى، فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ عَلَى الصَّحِيحِ..وَلَوْ رَاجَعَهَا بِلَفْظِ النِّكَاحِ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ لِلْمَعْنَى، وَيَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِقَوْلِهِ: خُذْ هَذَا بِكَذَا، فَقَالَ: أَخَذْتُ، وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ مَعَ ذِكْرِ الْبَدَلِ، وَبِلَفْظِ الْإِعْطَاءِ وَالِاشْتِرَاءِ.وَتَنْعَقِدُ الْإِجَارَةُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ، وَبِلَفْظِ الصُّلْحِ عَنِ الْمَنَافِعِ، وَبِلَفْظِ الْعَارِيَّةِ، وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مِلْكِ الْعَيْنِ لِلْحَالِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ، وَيَنْعَقِدُ السَّلَمُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ كَعَكْسِهِ، وَلَوْ شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ لِلْمُضَا رِبِ كُلَّ الرِّبْحِ كَانَ الْمَالُ قَرْضًا، وَلَوْ شَرَطَ لِرَبِّ الْمَالِ كَانَ إِبْضَاعًا.

ثُمَّ قَالَ: وَخَرَجَتْ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ:

مِنْهَا: لَا تَنْعَقِدُ الْهِبَةُ بِالْبَيْعِ بِلَا ثَمَنٍ، وَلَا الْعَارِيَّةُ بِالْإِجَارَةِ بِلَا أُجْرَةٍ وَلَا الْبَيْعُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، وَلَا يَقَعُ الْعِتْقُ بِأَلْفَاظِ الطَّلَاقِ وَإِنْ نَوَى، وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ تُرَاعَى Bفِيهِمَا الْأَلْفَاظُ لَا الْمَعْنَى فَقَطْ.

وَمِنْ أَهَمِّ الْمَسَائِلِ الَّتِي طَبَّقَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الْقَاعِدَةَ فِيهَا عَقْدُ بَيْعِ الْوَفَاءِ.فَإِذَا قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُ هَذِهِ الدَّارَ بَيْعَ الْوَفَاءِ بِكَذَا، وَقَبِلَ الْآخَرُ، لَا يُفِيدُ تَمْلِيكَ عَيْنِ الدَّارِ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ يُفِيدُ تَمْلِيكَ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، بَلِ الْمَقْصُودَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ تَأْمِينُ دَيْنِ الْمُشْتَرِي الْمُتَرَتِّبِ فِي ذِمَّةِ الْبَائِعِ، وَإِبْقَاءُ الْمَبِيعِ تَحْتَ يَدِ الْمُشْتَرِي لِحِينِ وَفَاءِ الدَّيْنِ، وَلِهَذَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الرَّهْنِ دُونَ الْبَيْعِ اعْتِبَارًا لِلْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي دُونَ الْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ لِلْبَائِعِ فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ أَنْ يُعِيدَ الثَّمَنَ وَيَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ، كَمَا أَنَّهُ يَحِقُّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُعِيدَ الْمَبِيعَ وَيَسْتَرِدَّ الثَّمَنَ.

وَلَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَبِيعَ الْمَبِيعَ وَفَاءً مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ كَالرَّهْنِ.كَمَا لَا يَحِقُّ لِلْمُشْتَرِي فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ حَقُّ الشُّفْعَةِ، وَتَبْقَى الشُّفْعَةُ لِلْبَائِعِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (بَيْعُ الْوَفَاءِ ف 7).

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعُقُودَ كُلَّهَا إِنَّمَا هِيَ بِالنِّيَّةِ وَالْقَصْدِ مَعَ اللَّفْظِ الْمُشْعِرِ بِذَلِكَ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ إِشَارَةٍ وَشَبَهِهَا، وَقَدْ تَوَسَّعُوا بِالْأَخْذِ بِالْمَعْنَى فِي بَعْضِ الْعُقُودِ حَتَّى أَجَازُوا الْبَيْعَ بِالْمُعَاطَاةِ وَقَالُوا: كُلُّ مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ، وَشَدَّدُوا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَاشْتَرَطُوا فِيهِ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِيهِ لَفْظَ النِّكَاحِ أَوِ الزَّوَاجِ، وَقَالُوا: يَنْعَقِدُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ عَلَى التَّأْبِيدِ كَالنِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَالتَّمْلِيكِ وَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا، وَقَالُوا: إِنْ قَصَدَ بِاللَّفْظِ النِّكَاحَ صَحَّ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَمْ يَأْخُذُوا بِتَرْجِيحِ الْمَعَانِي عَلَى الْأَلْفَاظِ فِي الْعُقُودِ كَأَصْلٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، بَلْ ذَكَرُوا فِي الْأَخْذِ بِهِ خِلَافًا، قَالَ السُّيُوطِيُّ: هَلِ الْعِبْرَةُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ بِمَعَانِيهَا؟ خِلَافٌ، وَالتَّرْجِيحُ مُخْتَلِفٌ فِي الْفُرُوعِ، فَمِنْهَا: إِذَا قَالَ: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ ثَوْبًا صِفَتُهُ كَذَا بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، فَقَالَ: بِعْتُكَ، فَرَجَّحَ الشَّيْخَانِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بَيْعًا اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ.

وَالثَّانِي- وَرَجَّحَهُ السُّبْكِيُّ- أَنَّهُ يَنْعَقِدُ سَلَمًا اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى.

وَمِنْهَا: إِذَا وَهَبَ بِشَرْطِ الثَّوَابِ فَهَلْ يَكُونُ بَيْعًا اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى أَوْ هِبَةً بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ؟ الْأَصَحُّ: الْأَوَّلُ.

وَمِنْهَا: إِذَا قَالَ: بِعْتُكَ، وَلَمْ يَذْكُرْ ثَمَنًا، فَإِنْ رَاعَيْنَا الْمَعْنَى انْعَقَدَ هِبَةً، أَوِ اللَّفْظَ فَهُوَ بَيْعٌ فَاسِدٌ.

وَمِنْهَا: لَوْ قَالَ: أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ هَذَا الثَّوْبَ فِي هَذَا الْعَبْدِ، فَلَيْسَ بِسَلَمٍ قَطْعًا، وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعًا عَلَى الْأَظْهَرِ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ، وَالثَّانِي: نَعَمْ، نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى.

وَمِنْهَا: إِذَا قَالَ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ: وَهَبْتُهُ مِنْكَ، فَفِي اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُشْتَرَطُ اعْتِبَارًا بِلَفْظِ الْهِبَةِ، وَالثَّانِي: لَا، اعْتِبَارًا بِمَعْنَى الْإِبْرَاءِ.

وَمِنْهَا: الْخِلَافُ فِي الرَّجْعَةِ بِلَفْظِ النِّكَاحِ، وَالْإِجَارَةِ بِلَفْظِ الْمُسَاقَاةِ، وَالسَّلَمِ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ، وَالْإِجَارَةِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَالْبَيْعِ بِلَفْظِ الْإِقَالَةِ، وَالْحَوَالَةِ بِلَفْظِ الضَّمَانِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمَسَائِلِ.

وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ ضَابِطًا لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَقَالَ:

وَالضَّابِطُ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ إِنْ تَهَافَتَ اللَّفْظُ حُكِمَ بِالْفَسَادِ عَلَى الْمَشْهُورِ، كَبِعْتُكَ بِلَا ثَمَنٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَهَافَتْ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الصِّيغَةُ أَشْهَرَ فِي مَدْلُولِهَا أَوِ الْمَعْنَى، فَإِنْ كَانَتِ الصِّيغَةُ أَشْهَرَ كَأَسْلَمْتُ إِلَيْكَ هَذَا الثَّوْبَ فِي هَذَا الْعَبْدِ فَالْأَصَحُّ اعْتِبَارُ الصِّيغَةِ؛ لِاشْتِهَارِ الصِّيغَةِ فِي بَيْعِ الذِّمَمِ، وَقِيلَ: يَنْعَقِدُ بَيْعًا..وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ، بَلْ كَانَ الْمَعْنَى هُوَ الْمَقْصُودَ، كَوَهَبْتُكَ بِكَذَا، فَالْأَصَحُّ انْعِقَادُهُ بَيْعًا، وَإِنِ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فَوَجْهَانِ، وَالْأَصَحُّ اعْتِبَارُ الصِّيغَةِ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ وَالْمَعْنَى تَابِعٌ لَهَا

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ أَخَذُوا بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَرَجَّحُوا الْمَقَاصِدَ وَالْمَعَانِيَ عَلَى الْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي فِي أَكْثَرِ الْعُقُودِ مَعَ بَعْضِ الِاسْتِثْنَاءَاتِ وَالْخِلَافِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ.

يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: مَنْ تَدَبَّرَ مَصَادِرَ الشَّرْعِ وَمَوَارِدَهُ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الشَّارِعَ أَلْغَى الْأَلْفَاظَ الَّتِي لَمْ يَقْصِدِ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا مَعَانِيَهَا بَلْ جَرَتْ عَلَى غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ، كَالنَّائِمِ وَالنَّاسِي وَالسَّكْرَانِ وَالْجَاهِلِ وَالْمُكْرَهِ وَالْمُخْطِئِ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ أَوِ الْغَضَبِ أَوِ الْمَرَضِ، وَنَحْوِهِمْ، وَلَمْ يُكَفِّرْ مَنْ قَالَ مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهِ بِرَاحِلَتِهِ بَعْدَ يَأْسِهِ مِنْهَا: (اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ) فَكَيْفَ Bيَعْتَبِرُ الْأَلْفَاظَ الَّتِي يُقْطَعُ بِأَنَّ مُرَادَ قَائِلِهَا خِلَافُهَا؟.

وَيَقُولُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَإِنْ أَظْهَرَا خِلَافَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ فَالْعِبْرَةُ لِمَا أَضْمَرَاهُ وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ وَقَصَدَاهُ بِالْعَقْدِ.

وَيَقُولُ: إِنَّ الْقَصْدَ رُوحُ الْعَقْدِ وَمُصَحِّحُهُ وَمُبْطِلُهُ، فَاعْتِبَارُ الْمَقْصُودِ فِي الْعُقُودِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ الْأَلْفَاظِ، فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ مَقْصُودَةٌ لِغَيْرِهَا، وَمَقَاصِدُ الْعُقُودِ هِيَ الَّتِي تُرَادُ لِأَجْلِهَا، فَعُلِمَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعُقُودِ وَالْأَفْعَالِ بِحَقَائِقِهَا وَمَقَاصِدِهَا دُونَ ظَوَاهِرِ أَلْفَاظِهَا وَأَفْعَالِهَا.

وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ هَذَا النَّصِّ الصَّرِيحِ فِي اعْتِبَارِ الْمَقَاصِدِ فِي الْعُقُودِ دُونَ الْأَلْفَاظِ فَإِنَّ الْحَنَابِلَةَ ذَكَرُوا بَعْضَ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَخْتَلِفُونَ فِي اعْتِبَارِ الْمَقَاصِدِ أَوِ الْأَلْفَاظِ فِيهَا.

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: إِذَا وَصَلَ بِأَلْفَاظِ الْعُقُودِ مَا يُخْرِجُهَا عَنْ مَوْضُوعِهَا فَهَلْ يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِذَلِكَ، أَوْ يُجْعَلُ كِنَايَةً عَمَّا يُمْكِنُ صِحَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ؟ فِيهِ خِلَافٌ يَلْتَفِتُ إِلَى أَنَّ الْمُغَلَّبَ هَلْ هُوَ اللَّفْظُ أَوِ الْمَعْنَى؟ وَيَتَخَرَّجُ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِلُ: مِنْهَا: لَوْ أَعَارَهُ شَيْئًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ الْعِوَضَ فَهَلْ يَصِحُّ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ وَيَكُونُ كِنَايَةً عَنِ الْقَرْضِ فَيَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ إِذَا كَانَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا، وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَفْسُدُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ يُخْرِجُهَا عَنْ مَوْضِعِهَا.

وَمِنْهَا: لَوْ قَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لَكَ، أَوْ لِي، فَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: إِنَّهَا مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ يَسْتَحِقُّ فِيهَا أُجْرَةَ الْمِثْلِ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْمُغْنِي، وَنَقَلَ ابْنُ رَجَبٍ عَنِ الْمُغْنِي أَنَّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّهُ إِبْضَاعٌ صَحِيحٌ، فَرَاعَى الْحُكْمَ دُونَ اللَّفْظِ.

وَمِنْهَا: لَوْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ حَالًّا فَهَلْ يَصِحُّ وَيَكُونُ بَيْعًا؟ أَوْ لَا يَصِحُّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ: لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ بِلَفْظِ السَّلَمِ، وَالثَّانِي: يَصِحُّ، قَالَهُ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ مِنْ خِلَافِهِ.

وَهَكَذَا نَجِدُ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي تَطْبِيقِ قَاعِدَةِ تَرْجِيحِ الْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي عَلَى الْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ مَعَ أَخْذِهِمْ بِهَا كَأَصْلٍ.

الصَّرِيحُ وَالْكِنَايَةُ فِي الصِّيغَةِ.

12- مِنَ الصِّيَغِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى Bالْمُرَادِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ أَوْ قَرِينَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى مَكْشُوفٌ عِنْدَ السَّامِعِ كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ كِنَايَةٌ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ أَوِ الْقَرِينَةِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَقُولُ الشُّبْرَامِلْسِيُّ يَحْتَمِلُ الْمُرَادَ وَغَيْرَهُ، فَيَحْتَاجُ فِي الِاعْتِدَادِ بِهِ لِنِيَّةِ الْمُرَادِ لِخَفَائِهِ.

وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ وَالْأَيْمَانَ وَالنُّذُورَ تَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ كَمَا تَنْعَقِدُ بِالصَّرِيحِ.

وَلَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي انْعِقَادِ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ بِالْكِنَايَاتِ.

وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ تَفْصِيلاً فِي بَيَانِ اسْتِعْمَالِ صِيَغِ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ فِي الْعُقُودِ هُمُ الشَّافِعِيَّةُ، فَفِي الْمَجْمُوعِ لِلنَّوَوِيِّ: قَالَ أَصْحَابُنَا: كُلُّ تَصَرُّفٍ يَسْتَقِلُّ بِهِ الشَّخْصُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْإِبْرَاءِ يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ بِلَا خِلَافٍ كَمَا يَنْعَقِدُ بِالصَّرِيحِ، وَأَمَّا مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ بَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ فَضَرْبَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِشْهَادُ كَالنِّكَاحِ وَبَيْعِ الْوَكِيلِ إِذَا شَرَطَ الْمُوَكِّلُ الْإِشْهَادَ، فَهَذَا لَا يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَعْلَمُ النِّيَّةَ.

وَالثَّانِي: مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِشْهَادُ، وَهُوَ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا يَقْبَلُ مَقْصُودُهُ التَّعْلِيقَ بِالْغَرَرِ كَالْكِتَابَةِ وَالْخُلْعِ فَيَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ بِلَا خِلَافٍ.

وَالثَّانِي: مَا لَا يَقْبَلُهُ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَغَيْرِهَا، وَفِي انْعِقَادِ هَذِهِ الْعُقُودِ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، أَصَحُّهُمَا الِانْعِقَادُ كَالْخُلْعِ لِحُصُولِ التَّرَاضِي مَعَ جَرَيَانِ اللَّفْظِ وَإِرَادَةِ الْمَعْنَى، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ - رضي الله عنه- وَفِيهِ: «قَالَ لِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- : بِعْنِي جَمَلَكَ، فَقُلْتُ: إِنَّ لِرَجُلٍ عَلَيَّ أُوقِيَّةَ ذَهَبٍ فَهُوَ لَكَ بِهَا، قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ».

قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَالْخِلَافُ فِي انْعِقَادِ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ هُوَ فِيمَا إِذَا عَدِمَتْ قَرَائِنَ الْأَحْوَالِ، فَإِنْ تَوَفَّرَتْ وَأَفَادَتِ التَّفَاهُمَ وَجَبَ الْقَطْعُ بِالصِّحَّةِ، لَكِنَّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ بِالْكِنَايَةِ وَإِنْ تَوَافَرَتِ الْقَرَائِنُ Bوَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَابِلَةِ فِي دُخُولِ الْكِنَايَةِ فِي الْعُقُودِ، فَفِي الْقَوَاعِدِ لِابْنِ رَجَبٍ: يَخْتَلِفُ الْأَصْحَابُ فِي انْعِقَادِ الْعُقُودِ بِالْكِنَايَاتِ، فَقَالَ الْقَاضِي فِي مَوَاضِعَ: لَا كِنَايَةٌ إِلاَّ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَسَائِرُ الْعُقُودِ لَا كِنَايَاتٌ فِيهَا.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ: أَنَّ الْبَيْعَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقَعُ بِالْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ وَبِالْكِنَايَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا أَذْكُرُ لِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ قَوْلاً إِلاَّ أَنَّ الْقُرْطُبِيَّ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} قَالَ: الْبَيْعُ قَبُولٌ وَإِيجَابٌ يَقَعُ بِاللَّفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمَاضِي، فَالْمَاضِي فِيهِ حَقِيقَةٌ، وَالْمُسْتَقْبَلُ كِنَايَةٌ، ثُمَّ قَالَ: وَالْبَيْعُ يَقَعُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ الْمَفْهُومِ مِنْهَا نَقْلُ الْمِلْكِ وَنَقَلَ الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ يُونُسَ وَغَيْرِهِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ الْبَيْعِ بِلَفْظِ الْمَاضِي فَتَلْزَمُ، أَوْ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ فَيَحْلِفُ، ثُمَّ نَقَلَ قَوْلَ الْقُرْطُبِيِّ: الْبَيْعُ يَقَعُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ الْمَفْهُومِ مِنْهَا نَقْلُ الْمِلْكِ، وَفِي الْحَطَّابِ أَيْضًا: إِنْ أَتَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي الْبَيْعِ فَكَلَامُهُ مُحْتَمَلٌ فَيَحْلِفُ عَلَى مَا أَرَادَهُ.

وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْكِنَايَةَ تَدْخُلُ فِي الْعُقُودِ كَذَلِكَ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ فِي بَابِ الْهِبَةِ: لَوْ قَالَ: حَمَلْتُكَ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْهِبَةَ، وَيَحْتَمِلُ الْعَارِيَّةَ، فَإِنَّهُ وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه- قَالَ: «حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ».

فَاحْتَمَلَ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ وَاحْتَمَلَ تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ، فَلَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ لِلتَّعْيِينِ وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: لَوْ قَالَ الْبَائِعُ: أَبِيعُهُ مِنْكَ بِكَذَا، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: أَشْتَرِيهِ، وَنَوَيَا الْإِيجَابَ فَإِنَّ الرُّكْنَ يَتِمُّ وَيَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا النِّيَّةَ هُنَا- وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ أَفْعَلَ لِلْحَالِ هُوَ الصَّحِيحَ - ؛ لِأَنَّهُ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا لِلِاسْتِقْبَالِ إِمَّا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، فَوَقَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ.

ب- الْعَقْدُ بِالْكِتَابَةِ أَوِ الرِّسَالَةِ.

13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى صِحَّةِ الْعُقُودِ وَانْعِقَادِهَا بِالْكِتَابَةِ وَإِرْسَالِ رَسُولٍ إِذَا تَمَّ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ بِهِمَا، وَهَذَا فِي غَيْرِ عَقْدِ النِّكَاحِ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الْعُقُودِ وَفَصَّلُوا فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ.قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ: الْكِتَابُ كَالْخِطَابِ، وَكَذَا الْإِرْسَالُ، حَتَّى اعْتُبِرَ مَجْلِسُ بُلُوغِ الْكِتَابِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ.وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ فِي بَابِ الْبَيْعِ: يَصِحُّ بِقَوْلٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ أَوْ كِتَابَةٍ مِنْهُمَا، أَوْ قَوْلٍ مِنْ أَحَدِهِمَا وَكِتَابَةٍ مِنَ الْآخَرِ.

أَمَّا عَقْدُ النِّكَاحِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِالْكِتَابَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَاقِدَانِ حَاضِرَيْنِ أَمْ غَائِبَيْنِ، قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَلَا تَكْفِي فِي النِّكَاحِ الْإِشَارَةُ وَلَا الْكِتَابَةُ إِلاَّ لِضَرُورَةِ خَرَسٍ.

وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَفُسِخَ مُطْلَقًا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ وَإِنْ طَالَ، كَمَا لَوِ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْوَلِيِّ أَوِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، أَوِ اخْتَلَّ رُكْنٌ، كَمَا لَوْ زَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِلَا وَلِيٍّ أَوْ لَمْ تَقَعِ الصِّيغَةُ بِقَوْلٍ، بَلْ بِكِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ بِقَوْلٍ غَيْرِ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا.

وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَلَا يَنْعَقِدُ بِكِتَابَةٍ فِي غَيْبَةٍ أَوْ حُضُورٍ؛ لِأَنَّهَا كِنَايَةٌ، فَلَوْ قَالَ لِغَائِبٍ: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي، أَوْ قَالَ: زَوَّجْتُهَا مِنْ فُلَانٍ، ثُمَّ كَتَبَ فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ فَقَالَ: قَبِلْتُ، لَمْ يَصِحَّ.

وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى النُّطْقِ بِإِشَارَةٍ وَلَا كِتَابَةٍ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا.

وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فِي جَوَازِ عَقْدِ النِّكَاحِ بِالْكِتَابَةِ فَقَالُوا: لَا يَنْعَقِدُ بِكِتَابَةِ حَاضِرٍ، فَلَوْ كَتَبَ: تَزَوَّجْتُكِ، فَكَتَبَتْ: قَبِلْتُ، لَمْ يَنْعَقِدْ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَتْ: قَبِلْتُ، أَمَّا كِتَابَةُ غَائِبٍ عَنِ الْمَجْلِسِ فَيَنْعَقِدُ بِهَا النِّكَاحُ بِشُرُوطٍ وَكَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ نَقَلَهَا ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَتْحِ فَقَالَ: يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْكِتَابَةِ كَمَا يَنْعَقِدُ بِالْخِطَابِ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهَا يَخْطُبَهَا، فَإِذَا بَلَغَهَا الْكِتَابُ أَحْضَرَتِ الشُّهُودَ وَقَرَأَتْهُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَتْ: زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْهُ، أَوْ تَقُولُ: إِنَّ فُلَانًا كَتَبَ إِلَيَّ يَخْطِبُنِي فَاشْهَدُوا أَنِّي زَوَّجْتُ Bنَفْسِي مِنْهُ، أَمَّا لَوْ لَمْ تَقُلْ بِحَضْرَتِهِمْ سِوَى: زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْ فُلَانٍ، لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ سَمَاعَ الشَّطْرَيْنِ شَرْطُ صِحَّةِ النِّكَاحِ، وَبِإِسْمَاعِهِمُ الْكِتَابَ أَوِ التَّعْبِيرَ عَنْهُ مِنْهَا يَكُونُونَ قَدْ سَمِعُوا الشَّطْرَيْنِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا انْتَفَيَا، وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْكَامِلِ: هَذَا الْخِلَافَ إِذَا كَانَ الْكِتَابُ بِلَفْظِ التَّزَوُّجِ، أَمَّا إِذَا كَانَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِ: زَوِّجِي نَفْسَكِ مِنِّي، لَا يُشْتَرَطُ إِعْلَامُهَا الشُّهُودَ بِمَا فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهَا تَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ.

14- وَيُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِالْكِتَابَةِ- عُمُومًا- أَنْ تَكُونَ مُسْتَبِينَةً؛ أَيْ تَبْقَى صُورَتُهَا بَعْدَ الِانْتِهَاءِ مِنْهَا، كَالْكِتَابَةِ عَلَى الصَّحِيفَةِ أَوِ الْوَرَقِ، وَأَنْ تَكُونَ مَرْسُومَةً بِالطَّرِيقَةِ الْمُعْتَادَةِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ فَتُقْرَأُ وَتُفْهَمُ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُسْتَبِينَةٍ كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْمَاءِ أَوِ الْهَوَاءِ، أَوْ غَيْرَ مَرْسُومَةٍ بِالطَّرِيقَةِ الْمُعْتَادَةِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهَا أَيُّ عَقْدٍ.

وَوَجْهُ انْعِقَادِ الْعُقُودِ بِالْكِتَابَةِ هُوَ أَنَّ الْقَلَمَ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ بَلْ رُبَّمَا تَكُونُ هِيَ أَقْوَى مِنَ الْأَلْفَاظِ، وَلِذَلِكَ حَثَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى تَوْثِيقِ دُيُونِهِمْ بِالْكِتَابَةِ حَيْثُ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا}.

ج- الْعَقْدُ بِالْإِشَارَةِ.

15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِشَارَةَ الْأَخْرَسِ الْمَعْهُودَةَ وَالْمَفْهُومَةَ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا، فَيَنْعَقِدُ بِهَا جَمِيعُ الْعُقُودِ، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهَا.

قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: الْإِشَارَةُ مِنَ الْأَخْرَسِ مُعْتَبَرَةٌ وَقَائِمَةٌ مَقَامَ الْعِبَارَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ.

وَقَالَ النَّفْرَاوِيُّ: يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِالْكَلَامِ وَبِغَيْرِهِ مِنْ كُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا

وَقَالَ الْخَطِيبُ: إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ وَكِتَابَتُهُ بِالْعَقْدِ كَالنُّطْقِ لِلضَّرُورَةِ.وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ الْحَنَابِلَةُ.

وَاخْتَلَفُوا فِي إِشَارَةِ غَيْرِ الْأَخْرَسِ، فَقَالَ Bجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِذَا كَانَ الشَّخْصُ قَادِرًا عَلَى النُّطْقِ لَا تُعْتَبَرُ إِشَارَتُهُ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ صَرَّحُوا بِاعْتِبَارِ الْإِشَارَةِ فِي الْعُقُودِ وَلَوْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّطْقِ.

وَهَلْ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكِتَابَةِ شَرْطٌ لِلْعَمَلِ بِالْإِشَارَةِ أَمْ لَا؟ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ أَيْضًا.

وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (إِشَارَة).

د- الْعَقْدُ بِالتَّعَاطِي (الْمُعَاطَاةِ).

16- التَّعَاطِي مَصْدَرُ تَعَاطَى، مِنَ الْعَطْوِ بِمَعْنَى التَّنَاوُلِ، وَصُورَتُهُ فِي الْبَيْعِ: أَنْ يَأْخُذَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ وَيَدْفَعَ لِلْبَائِعِ الثَّمَنَ، أَوْ يَدْفَعَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ فَيَدْفَعَ الْآخَرُ الثَّمَنَ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّمٍ وَلَا إِشَارَةٍ، وَكَمَا يَكُونُ التَّعَاطِي فِي الْبَيْعِ يَكُونُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمُعَاوَضَاتِ.

وَعَقْدُ الزَّوَاجِ لَا يَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي.

أَمَّا سَائِرُ الْعُقُودِ فَالْأَصْلُ فِيهَا أَنْ تَنْعَقِدَ بِالْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ لَيْسَ لَهَا دَلَالَةٌ بِأَصْلِ وَضْعِهَا عَلَى الِالْتِزَامِ بِالْعَقْدِ، لَكِنْ إِذَا كَانَ التَّعَاطِي يَنْطَوِي عَلَى دَلَالَةٍ تُشْبِهُ الدَّلَالَةَ اللَّفْظِيَّةَ حَسْبَ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِهِ الْعَقْدُ إِذَا وُجِدَتْ قَرَائِنُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُفِيدُ الرِّضَا، وَهَذَا فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِصْنَاعِ وَنَحْوِهَا، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: عَدَمُ جَوَازِ الْعُقُودِ بِالتَّعَاطِي، وَبَعْضُهُمْ أَجَازَ الْعَقْدَ بِالتَّعَاطِي فِي الْمُحَقَّرَاتِ دُونَ غَيْرِهَا، وَاخْتَارَ النَّوَوِيُّ وَجَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ الِانْعِقَادَ بِهَا فِي كُلِّ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ بَيْعًا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


138-موسوعة الفقه الكويتية (عقد موقوف)

عَقْدٌ مَوْقُوفٌ

التَّعْرِيفُ:

1- يُطْلَقُ الْعَقْدُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا: الرَّبْطُ وَالشَّدُّ وَالتَّوْثِيقُ، فَقَدْ جَاءَ فِي تَاجِ الْعَرُوسِ: عَقَدَ الْحَبْلَ وَالْبَيْعَ وَالْعَهْدَ يَعْقِدُهُ عَقْدًا؛ أَيْ شَدَّهُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ: الرَّبْطُ بَيْنَ كَلَامَيْنِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا عَلَى وَجْهٍ يَنْشَأُ عَنْهُ أَثَرُهُ الشَّرْعِيُّ.

أَمَّا الْمَوْقُوفُ فَمِنَ الْوَقْفِ، وَهُوَ لُغَةً: الْحَبْسُ، وَقِيلَ لِلْمَوْقُوفِ: (وَقْفٌ) مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَالْمَوْقُوفُ: كُلُّ مَا حُبِسَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.

أَمَّا الْوَقْفُ فِي الِاصْطِلَاحِ، فَقَدْ عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِتَعَارِيفَ مُخْتَلِفَةٍ لَا تَخْرُجُ فِي مَعْنَاهَا عَنِ الْحَبْسِ وَالتَّأْخِيرِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ فِي الْبَيْعِ هُوَ: مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ وَيُفِيدُ الْمِلْكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَقُّفِ، وَلَا يُفِيدُ تَمَامَهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْبَيْعُ النَّافِذُ.

2- الْبَيْعُ النَّافِذُ هُوَ: الْبَيْعُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ وَيُفِيدُ الْحُكْمَ فِي الْحَالِ، فَهُوَ ضِدُّ الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ.

ب- الْبَيْعُ الْفَاسِدُ:

3- الْبَيْعُ الْفَاسِدُ هُوَ: مَا يَكُونُ مَشْرُوعًا أَصْلًا لَا وَصْفًا، وَالْمُرَادُ بِالْأَصْلِ الصِّيغَةُ وَالْعَاقِدَانِ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَبِالْوَصْفِ مَا عَدَا ذَلِكَ.

ج- الْبَيْعُ الْبَاطِلُ.

4- الْبَيْعُ الْبَاطِلُ هُوَ: مَا لَمْ يُشْرَعْ لَا بِأَصْلِهِ وَلَا بِوَصْفِهِ.وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ وَالْبَاطِلُ كِلَاهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ، بِخِلَافِ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْإِجَازَةِ

حُكْمُ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ:

5- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ صَحِيحٌ، وَيَتَوَقَّفُ نَفَاذُهُ عَلَى إِجَازَةِ مَنْ لَهُ الْإِجَازَةُ.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ وَرِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ:

أَمَّا الْكِتَابُ فَقَدِ احْتَجُّوا بِعُمُومِ قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}.

وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شَرَعَ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَالتِّجَارَةَ ابْتِغَاءَ الْفَضْلِ، مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إِذَا وُجِدَ مِنَ الْمَالِكِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَبَيْنَ مَا إِذَا وُجِدَ مِنَ الْوَكِيلِ فِي الِابْتِدَاءِ، أَوْ بَيْنَ مَا إِذَا وُجِدَتِ الْإِجَازَةُ مِنَ الْمَالِكِ فِي الِانْتِهَاءِ، وَبَيْنَ وُجُودِ الرِّضَا فِي التِّجَارَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِهَا إِلاَّ مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ «عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَاةً فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ فَجَاءَ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، وَكَانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ».

وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَذِنَ لِعُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ- رضي الله عنه- أَنْ يَشْتَرِيَ شَاةً، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي أَنْ يَبِيعَ مَا يَشْتَرِيهِ، فَيَكُونُ بَيْعًا فُضُولِيًّا، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يُبْطِلِ الْعَقْدَ، بَلْ أَقَرَّهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّصَرُّفِ صَحِيحٌ يُنْتِجُ آثَارَهُ بِالْإِقْرَارِ أَوِ الْإِجَازَةِ.

وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَقَدْ قَاسُوا التَّصَرُّفَ الْمَوْقُوفَ عَلَى وَصِيَّةِ الْمَدِينِ بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ، كَبَيْعِ الْمَرْهُونِ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ، وَعَلَى الْعَقْدِ الْمَشْرُوطِ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مِنَ الْمَدِينِ بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ لِمَالِهِ تَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُسْتَحِقِّ، فَالْوَصِيَّةُ تَصَرُّفٌ صَحِيحٌ وَلَا حُكْمَ لَهُ فِي الْحَالِ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ الْمَشْرُوطُ فِيهِ الْخِيَارُ تَصَرُّفٌ صَحِيحٌ وَلَا حُكْمَ لَهُ فِي الْحَالِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ كَمَالُ الرِّضَا بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.

وَيَرَى فَرِيقٌ آخَرُ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ: أَنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ بَاطِلٌ وَلَا يَصِحُّ بِالْإِجَازَةِ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى بُطْلَانِ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا طَلَاقَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ، وَلَا عِتْقَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ، وَلَا بَيْعَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ، وَلَا وَفَاءَ نَذْرٍ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ».

وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ عَلَى الْبُطْلَانِ بِأَنَّ الْفُضُولِيَّ أَحَدُ طَرْفَيِ الْبَيْعِ، فَلَمْ يَقِفِ الْبَيْعُ عَلَى الْإِجَازَةِ كَالْقَبُولِ؛ وَلِأَنَّهُ بَاعَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ كَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْفُضُولِيِّ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا).

التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي يَسْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ:

أ- بَيْعُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَشِرَاؤُهُ:

6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى بُطْلَانِ تَصَرُّفَاتِ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِبَارَتَهُ مُلْغَاةٌ لَا اعْتِدَادَ بِهَا شَرْعًا، فَلَا تَصِحُّ بِهَا عِبَادَةٌ، وَلَا تَجِبُ بِهَا عُقُوبَةٌ، وَلَا يَنْعَقِدُ مَعَهَا بَيْعٌ أَوْ شِرَاءٌ، وَيَسْتَمِرُّ هَكَذَا حَتَّى يَبْلُغَ السَّابِعَةَ وَهُوَ سِنُّ التَّمْيِيزِ.

أَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِ تَصَرُّفَاتِهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ إِلَى فَرِيقَيْنِ:

فَذَهَبَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ، وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ يَنْعَقِدُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيمَا أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ، وَإِلاَّ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ.

وَذَهَبَ الْفَرِيقُ الثَّانِي وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ بَيْعَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَشِرَاءَهُ لَا يَنْعَقِدُ أَيٌّ مِنْهُمَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْعَاقِدِ عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ أَكَانَ بَائِعًا، أَمْ مُشْتَرِيًا هُوَ الرُّشْدُ.

ب: تَصَرُّفَاتُ السَّفِيهِ الْمَالِيَّةُ:

7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَصَرُّفَاتِ السَّفِيهِ الْمَالِيَّةِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ الَّتِي يَعْقِدُهَا.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ صَحِيحَةٌ وَتَنْعَقِدُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ وَلِيِّهِ، فَإِنْ أَجَازَهَا نَفَذَتْ وَإِلاَّ بَطَلَتْ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ السَّفِيهِ الْمَالِيَّةَ بَاطِلَةٌ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ السَّفِيهَ مُبَذِّرٌ لِمَالِهِ وَمُتْلِفٌ لَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يُمْنَعَ عَنْهُ مَالُهُ.وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهَا صَحِيحَةٌ نَافِذَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ أَصْلًا، فَهُوَ كَالرَّشِيدِ فِي سَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ.

ج- تَصَرُّفُ ذِي الْغَفْلَةِ وَعُقُودُهُ:

8- ذُو الْغَفْلَةِ هُوَ: مَنْ يُغْبَنُ فِي الْبُيُوعِ لِسَلَامَةِ قَلْبِهِ، وَلَا يَهْتَدِي إِلَى التَّصَرُّفَاتِ الرَّابِحَةِ.

وَعَلَى الرَّغْمِ مِنَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ ذِي الْغَفْلَةِ إِلاَّ أَنَّ الْمَعْنَى عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَصَرُّفَاتِ ذِي الْغَفْلَةِ وَعُقُودِهِ وَالْحَجْرِ عَلَيْهِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجْر ف 15)

د- تَصَرُّفَاتُ الْفُضُولِيِّ.

9- الْفُضُولِيُّ هُوَ: مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ شَرْعِيٍّ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ الَّذِي يُوقِعُهُ الْفُضُولِيُّ لِلْمَالِكِ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي.

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ مُعْتَبَرَةٌ، وَأَنَّ عُقُودَهُ فِي حَالَتَيِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مُنْعَقِدَةٌ إِلاَّ أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ صَاحِبِ الشَّأْنِ، فَإِنْ أَجَازَهَا جَازَتْ وَنَفَذَتْ وَإِلاَّ بَطَلَتْ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ اللاَّحِقَةَ كَالْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ عَقْدِ الْفُضُولِيِّ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ كَذَلِكَ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِمَا إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ بِالْفُضُولِيَّةِ.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى صِحَّةِ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ بِعُمُومِ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وَقَوْلِهِ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وَبِحَدِيثِ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ- رضي الله عنه- السَّابِقِ.وَبِأَنَّ الْفُضُولِيَّ كَامِلُ الْأَهْلِيَّةِ، فَإِعْمَالُ عَقْدِهِ أَوْلَى مِنْ إِهْمَالِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي الْعَقْدِ مَصْلَحَةٌ لِلْمَالِكِ وَلَيْسَ فِيهِ أَيُّ ضَرَرٍ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي مَذْهَبِهِ الْجَدِيدِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ تَصَرُّفَاتُ الْفُضُولِيِّ، فَبَيْعُ الْفُضُولِيِّ وَشِرَاؤُهُ بَاطِلٌ مِنْ أَسَاسِهِ، وَلَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا فَلَا تَلْحَقُهُ إِجَازَةُ صَاحِبِ الشَّأْنِ.

وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ: تَصَرُّفُ الْفُضُولِيِّ جَائِزٌ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِجَازَةِ إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْغَيْرِ أَوْ حَقِّهِ وَتَعَذَّرَ اسْتِئْذَانُهُ إِمَّا لِلْجَهْلِ بِعَيْنِهِ أَوْ لِغَيْبَتِهِ وَمَشَقَّةِ انْتِظَارِهِ.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى بُطْلَانِ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ بِمَا وَرَدَ «عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ- رضي الله عنه-: لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» أَيْ: مَا لَيْسَ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ وَذَلِكَ لِلْغَرَرِ النَّاشِئِ عَنْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ النِّزَاعِ؛ وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ شَرْطٌ لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ

صُوَرُ عَقْدِ الْفُضُولِيِّ:

مِنْ صُوَرِ عَقْدِ الْفُضُولِيِّ مَا يَأْتِي:

الصُّورَةُ الْأُولَى: بَيْعُ الْغَاصِبِ:

10- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ الْغَاصِبِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى صِحَّةِ عَقْدِ بَيْعِ الْغَاصِبِ وَنُفُوذِهِ بِالْإِجَازَةِ.

وَوُجْهَةُ نَظَرِهِمْ أَنَّ بَيْعَ الْغَاصِبِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ عَقْدًا فُضُولِيًّا تَوَفَّرَتْ فِيهِ جَمِيعُ الشُّرُوطِ الْمَطْلُوبَةِ لِلصِّحَّةِ، فَيَلْزَمُ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ وَنُفُوذِهِ إِذَا أَجَازَهُ الْمَالِكُ، وَيُعَبِّرُ عَنْ ذَلِكَ السَّرَخْسِيُّ فَيَقُولُ: فَإِنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ مَا لَهُ مُجِيزٌ حَالَ وُقُوعِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ، وَأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَكِنَّ الشَّرْطَ لِتَمَامِ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ بَقَاءُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَالْمُجِيزُ وَذَلِكَ كُلُّهُ بَاقٍ هُنَا.

وَقَالَ الْخَرَشِيُّ: إِنَّ الْغَاصِبَ أَوِ الْمُشْتَرِيَ مِنْهُ إِذَا بَاعَ الشَّيْءَ الْمَغْصُوبَ فَإِنَّ لِلْمَالِكِ أَنْ يُجِيزَ ذَلِكَ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ بَيْعُ فُضُولِيٍّ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ، وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ أَمْ لَا، وَظَاهِرُهُ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ غَاصِبٌ أَمْ لَا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى بُطْلَانِ بَيْعِ الْغَاصِبِ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْفُضُولِيِّ).

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ إِذَا تَجَاوَزَ حُدُودَ الْوَكَالَةِ.

أَوَّلًا- مُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ فِي الشِّرَاءِ:

أ- مُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ فِي جِنْسِ الْمُوَكَّلِ بِشِرَائِهِ.

11- إِذَا وَكَّلَ إِنْسَانٌ آخَرَ فِي شِرَاءِ ثَوْبٍ مِنَ Cالْقُطْنِ فَعَلَى الْوَكِيلِ أَنْ يَلْتَزِمَ بِمَا قَيَّدَهُ بِهِ مُوَكِّلُهُ وَلَا يُخَالِفَهُ، فَإِنِ اشْتَرَى ثَوْبًا مِنْ صُوفٍ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ شِرَاءَ الْوَكِيلِ وَإِنْ خَالَفَ مُوَكِّلَهُ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ، وَإِلاَّ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ عَلَى الْوَكِيلِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بَاطِلٌ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ وَيَقَعُ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ

ب- مُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ فِي جِنْسِ الثَّمَنِ.

12- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى بُطْلَانِ شِرَاءِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ إِذَا اشْتَرَى بِغَيْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ يَكُونُ فُضُولِيًّا، فَإِنْ أَجَازَهُ الْمُوَكِّلُ نَفَذَ عَلَيْهِ وَإِلاَّ فَعَلَى الْوَكِيلِ.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الشِّرَاءَ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ؛؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسٌ وَاحِدٌ؛ وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ مَأْذُونٌ بِالشِّرَاءِ عُرْفًا.

وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ: أَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَيَكُونُ الْوَكِيلُ مُخَالِفًا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَكَالَة).

ج- مُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ الْمُقَيَّدِ بِالشِّرَاءِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ:

13- إِذَا كَانَ الْقَيْدُ بِالشِّرَاءِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فَمُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ إِلَى خَيْرٍ أَوْ إِلَى شَرٍّ، فَإِنْ كَانَتْ مُخَالَفَةً إِلَى خَيْرٍ: كَأَنْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ دُكَّانٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَاشْتَرَاهُ بِتِسْعِمِائَةٍ فَذَلِكَ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

وَأَمَّا إِذَا خَالَفَ الْوَكِيلُ إِلَى شَرٍّ: بِأَنِ اشْتَرَى الدَّارَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا الَّذِي عَيَّنَهُ الْمُوَكِّلُ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ فِي الزِّيَادَةِ، فَإِذَا كَانَتْ قَلِيلَةً يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا عَادَةً فَإِنَّهَا تَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ مُتَعَارَفٌ عَلَى وُقُوعِهَا.

وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ، وَيَلْزَمُ الْوَكِيلَ الْمُشْتَرَى، وَيَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ كَثِيرَةً عَمَّا سَمَّاهُ لَهُ الْمُوَكِّلُ، Cوَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَتِهِ، فَإِذَا قَبِلَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِلاَّ لَزِمَتِ الزِّيَادَةُ الْوَكِيلَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ.

وَلِلْحَنَابِلَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ رِوَايَتَانِ.

الْأُولَى: أَنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ مُسْتَنِدٌ فِي أَصْلِهِ إِلَى إِذْنٍ صَحِيحٍ، فَيَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ وَيَلْتَزِمُ الْوَكِيلُ بِالزَّائِدِ عَنِ الْمُسَمَّى.

وَالثَّانِيَةُ: يَبْطُلُ لِمُخَالَفَتِهِ صَرِيحَ الْإِذْنِ.

د- مُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ الْمُقَيَّدِ بِالشِّرَاءِ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ

14- إِنْ كَانَ الْقَيْدُ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ: كَأَنْ يُوَكِّلَ شَخْصٌ آخَرَ بِشِرَاءِ سَيَّارَةٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ نَسِيئَةً فَيَشْتَرِيهَا بِأَلْفٍ حَالَّةٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ صَحِيحٌ وَيَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ؛ لِأَنَّ مُخَالَفَةَ الْمُوَكِّلِ فِي الشِّرَاءِ صُورِيَّةٌ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْمُخَالَفَةِ فِي الْمَعْنَى لَا فِي الصُّورَةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ إِلاَّ أَنْ يَرْضَى بِهِ، وَيَقَعُ لِلْوَكِيلِ عِنْدَ عَدَمِ الرِّضَا بِهِ.

ثَانِيًا- مُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ.

15- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُخَالَفَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ حِينَ يَكُونُ مُقَيَّدًا عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مُخَالَفَةَ الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ إِذَا كَانَتْ إِلَى خَيْرٍ، فَإِنَّ بَيْعَهُ صَحِيحٌ وَيَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ ثَوْبٍ حَرِيرٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي هَذَا حَاصِلٌ دَلَالَةً.

أَمَّا إِذَا تَصَرَّفَ الْوَكِيلُ خِلَافًا لِمَا أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّلُ، كَأَنْ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ عَلَى الْحُلُولِ فَبَاعَ نَسِيئَةً، فَإِنَّ بَيْعَ الْوَكِيلِ هُنَا يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ عَلَيْهِ وَإِلاَّ فَعَلَى الْوَكِيلِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ فِي صِحَّتِهِ وَبُطْلَانِهِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ فِي بَيْعٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ مِنْ قِبَلِ الْمُوَكِّلِ تُبْطِلُ بَيْعَ الْوَكِيلِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَكَالَة)

الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: الْوَصِيَّةُ بِمَالِ الْغَيْرِ.

16- أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ انْعِقَادَ وَصِيَّةِ الْفُضُولِيِّ Cبِمَالِ الْغَيْرِ مَوْقُوفَةً عَلَى الْإِجَازَةِ مِمَّنْ يَمْلِكُهَا، فَإِذَا أَجَازَهَا نَفَذَتْ وَإِذَا لَمْ يُجِزْهَا بَطَلَتْ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَصِيَّة)

الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: هِبَةُ مَالِ الْغَيْرِ.

17- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هِبَةِ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ إِلَى فَرِيقَيْنِ:

الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ: يَرَى فِي هِبَةِ مَالِ الْغَيْرِ أَنَّهَا تَنْعَقِدُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ أَوْ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي الْإِجَازَةِ شَرْعًا، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ هِبَةَ الْفُضُولِيِّ لِمَالِ الْغَيْرِ تَصَرُّفٌ شَرْعِيٌّ صَادِرٌ مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِإِصْدَارِهِ مُضَافٌ إِلَى الْمَحَلِّ، فَيَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ، يُضَافُ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ مِنَ انْعِقَادِ الْهِبَةِ مَوْقُوفَةً عَلَى الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ يَتَحَقَّقُ فِي انْعِقَادِهَا مِنَ الْفُضُولِيِّ نَافِذَةً لَا مَوْقُوفَةً.

أَمَّا الْفَرِيقِ الثَّانِي: فَقَدْ ذَهَبَ إِلَى بُطْلَانِ هِبَةِ مَالِ الْغَيْرِ، وَهَذَا قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى بُطْلَانِ هِبَةِ مَالِ الْغَيْرِ بِالْقِيَاسِ، فَقَالُوا: هِبَةُ الْفُضُولِيِّ لِمَالِ الْغَيْرِ كَبَيْعِهِ تَنْعَقِدُ بَاطِلَةً، فَكَمَا لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْفُضُولِيِّ لَا تَصِحُّ هِبَتُهُ.وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (هِبَة)

الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ: وَقْفُ مَالِ الْغَيْرِ.

18- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ الْفُضُولِيَّ إِذَا وَقَفَ مَالَ الْغَيْرِ تَوَقَّفَ نَفَاذُ هَذَا التَّصَرُّفِ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ، وَقَدِ احْتَجُّوا بِالْقِيَاسِ وَوَجْهُهُ أَنَّ وَقْفَ الْفُضُولِيِّ لِمَالِ الْغَيْرِ كَبَيْعِهِ، وَبِمَا أَنَّ بَيْعَهُ مَوْقُوفٌ فَوَقْفُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَكَذَلِكَ احْتَجُّوا بِأَنَّ الْوِلَايَةَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يَقِفُ مَالَ الْغَيْرِ شَرْطٌ فِي النَّفَاذِ لَا فِي الِانْعِقَادِ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ وَقْفَ مَالِ الْغَيْرِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ مِمَّنْ يَمْلِكُهَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ إِلَى بُطْلَانِ وَقْفِ الْفُضُولِيِّ مَالَ الْغَيْرِ وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْفُضُولِيَّ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ، فَلَا يَمْلِكُ إِنْشَاءَهُ.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (وَقْف).

التَّصَرُّفَاتُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ

وَتَشْمَلُ مَا يَأْتِي.

أَوَّلًا: بَيْعُ الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ إِذَا أَلْحَقَ ضَرَرًا بِالدَّائِنِينَ.

19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إِذَا أَلْحَقَ ضَرَرًا بِالدَّائِنِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: إِنَّ بَيْعَهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الدَّائِنِينَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْمَدِينِ يَمْنَعُ نَفَاذَ تَصَرُّفِهِ، وَالْمَنْعُ مِنَ النَّفَاذِ لَا يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي وَقْفَ نَفَاذِ التَّصَرُّفِ عَلَى إِجَازَةِ الدَّائِنِينَ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ أَصْلًا مُقَرَّرٌ لِمَصْلَحَتِهِمْ، فَإِنْ أَجَازُوا تَصَرُّفَاتِ الْمَدِينِ نَفَذَتْ، وَإِنْ شَاءُوا رَدُّوهَا فَتَبْطُلُ.

وَلِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَدِينِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ كَتَصَرُّفِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ الَّذِي عَلَيْهِ دُيُونٌ فِي صِحَّتِهِ، فَكُلُّ تَصَرُّفٍ يَصْدُرُ مِنْهُمَا يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا غَيْرَ نَافِذٍ الْقَوْلِ الثَّانِي: إِنَّ بَيْعَ الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ يَقَعُ بَاطِلًا، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَدِ اعْتَبَرُوا كُلَّ تَصَرُّفٍ مَالِيٍّ يَصْدُرُ مِنَ الْمَدِينِ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بَاطِلًا فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْحَجْرَ يَقْتَضِي انْعِدَامَ أَثَرِ تَصَرُّفَاتِ الْمَدِينِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَهَذَا الِانْعِدَامُ يُؤَدِّي إِلَى بُطْلَانِ تَصَرُّفَاتِهِ مُحَافَظَةً عَلَى حُقُوقِ الدَّائِنِينَ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِأَعْيَانِ مَالِهِ فَلَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهَا

ثَانِيًا- تَبَرُّعُ الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ:

20- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَبَرُّعَاتِ الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ.

فَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ إِذَا صَحَّ الْحَجْرُ بِالدَّيْنِ صَارَ الْمَحْجُورُ كَمَرِيضٍ عَلَيْهِ دُيُونُ الصِّحَّةِ، فَكُلُّ تَصَرُّفٍ أَدَّى إِلَى إِبْطَالِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ يُؤَثِّرُ فِيهِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ.

ثَالِثًا- تَصَرُّفُ الْوَصِيِّ فِي الْقَدْرِ الزَّائِدِ عَنِ الثُّلُثِ وَالْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ:

21- الْوَصِيَّةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِوَارِثٍ أَوْ لِغَيْرِ Cوَارِثٍ، وَالْمُوصَى بِهِ قَدْ يَكُونُ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ وَقَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْهُ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي:

أ- الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ:

22- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَصِيَّةِ لِوَارِثٍ عَلَى قَوْلَيْنِ.

الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ تَنْعَقِدُ صَحِيحَةً مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازُوهَا بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوصِي نَفَذَتْ وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهَا بَطَلَتْ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَثَرٌ، وَإِنْ أَجَازَهَا الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ نَفَذَتْ فِي حَقِّ مَنْ أَجَازَهَا، وَبَطَلَتْ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُجِزْ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ».

الْقَوْلِ الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَظْهَرِ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ بَاطِلَةٌ مُطْلَقًا وَإِنْ أَجَازَهَا سَائِرُ الْوَرَثَةِ، إِلاَّ أَنْ يُعْطُوهُ عَطِيَّةً مُبْتَدَأَةً، وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»؛ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ تُلْحِقُ الضَّرَرَ بِبَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ وَتُثِيرُ الْحَفِيظَةَ فِي نُفُوسِهِمْ وَقَدْ نَهَى الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ}.

ب- الْوَصِيَّةُ لِلْأَجْنَبِيِّ بِمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ.

23- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ لِلْأَجْنَبِيِّ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: إِنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْأَجْنَبِيِّ فِي الْقَدْرِ الزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ تَصِحُّ وَتَنْعَقِدُ، وَلَكِنَّهَا تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَرَثَةٌ نَفَذَتْ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى إِجَازَةِ أَحَدٍ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَكَذَا الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَهُمَا.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ حَقِّ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا أَسْقَطُوا هَذَا الْحَقَّ بِالْإِجَازَةِ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ وَلَا يَبْطُلُ.

وَلَا يُعْتَدُّ بِإِجَازَتِهِمْ حَالَ حَيَاةِ الْمُوصَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ، وَالْحَقُّ فِي الْإِجَازَةِ يَثْبُتُ لَهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يُجِيزُوا أَوْ يَرُدُّوا بَعْدَ وَفَاتِهِ.

الْقَوْلِ الثَّانِي: إِنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْأَجْنَبِيِّ بِمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ تَقَعُ بَاطِلَةً، وَهَذَا قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَهُمَا.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ نَهَى سَعْدًا عَنِ التَّصَدُّقِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ» وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَرَدَّ الْوَارِثُ الْخَاصُّ الْمُطْلَقُ التَّصَرُّفِ الزِّيَادَةَ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ فِي الزَّائِدِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَارِثُ عَامًّا فَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ فِي الزَّائِدِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ رَدٍّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا مُجِيزَ

رَابِعًا- بَيْعُ الرَّاهِنِ الْعَيْنَ الْمَرْهُونَةَ:

24- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ حَقُّ اسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنْ ثَمَنِ الْمَرْهُونِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الرَّاهِنِ وَفَاءُ الدَّيْنِ لِلْمُرْتَهِنِ عِنْدَ الْأَجَلِ فَهَلْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَبِيعَ الشَّيْءَ الْمَرْهُونَ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ بَيْعَ الْمَرْهُونِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الرَّاهِنَ حِينَ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ الْمَرْهُونِ يُعْتَبَرُ كَالْمُوصِي حِينَ يُوصِي بِجَمِيعِ مَالِهِ، فَيَنْعَقِدُ تَصَرُّفُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ بَيْعَ الشَّيْءِ الْمَرْهُونِ بَاطِلٌ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ فِي بَيْعِ الْمَرْهُونِ ضَرَرًا عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي حَقَّهُ، إِذْ أَنَّ حَقَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِالشَّيْءِ الْمَرْهُونِ، فَالتَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ فِيهِ إِضْرَارٌ بِهِ، وَالضَّرَرُ مَمْنُوعٌ وَتَجِبُ إِزَالَتُهُ.

خَامِسًا- بَيْعُ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ:

25- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي بَيْعِ الْمَرْهُونِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ إِلَى فَرِيقَيْنِ:

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ بَيْعَ الْمُؤَجِّرِ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ لِغَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ يَقَعُ صَحِيحًا نَافِذًا مُعَلِّلِينَ قَوْلَهُمْ: بِأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ عَلَى الْعَيْنِ، وَحَقُّ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمَنْفَعَةِ، فَالْبَيْعُ قَدْ وَقَعَ عَلَى غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ؛ وَلِأَنَّ ضَرَرَ الْمُسْتَأْجِرِ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ يَحْصُلُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي سَيَتَسَلَّمُهَا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ وَلَكِنَّهُ لَنْ يَتَسَلَّمَهَا إِلاَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَلَيْسَ فِي بَيْعِهَا إِبْطَالٌ لِحَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ بَيْعَ الْمُسْتَأْجِرِ يَنْعَقِدُ صَحِيحًا مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهِ كَيْ لَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ، وَحُجَّتُهُمْ قِيَاسُ بَيْعِ الْمُسْتَأْجَرِ عَلَى بَيْعِ الْمَرْهُونِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، كَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ، وَتَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِالْمَحَلِّ يَمْنَعُ نَفَاذَ الْعَقْدِ وَيَجْعَلُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ مَنْ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ.

سَادِسًا- بَيْعُ الشَّرِيكِ حِصَّتَهُ الشَّائِعَةَ:

26- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ بَيْعَ الشَّرِيكِ حِصَّتَهُ الشَّائِعَةَ بِدُونِ إِذْنِ شَرِيكِهِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الشَّرِيكِ أَوِ الشُّرَكَاءِ الْآخَرِينَ.

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ جَابِرٌ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي حَائِطٍ فَلَا يَبِعْ نَصِيبَهُ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَى شَرِيكِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «حَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَى شَرِيكِهِ فَيَأْخُذَ أَوْ يَدَعَ، فَإِنْ أَبَى فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يُؤْذِنَهُ».

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَ الشَّرِيكِ فِي الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ يَكُونُ بَاطِلًا، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْجُزْءُ قَلِيلًا أَمْ كَثِيرًا، Cوَسَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا التَّصَرُّفُ بَيْعًا أَمْ هِبَةً.

كَيْفِيَّةُ الْإِجَازَةِ فِي الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ:

27- الْإِجَازَةُ: الْإِنْفَاذُ وَالْإِمْضَاءُ، وَتَرِدُ الْإِجَازَةُ عَلَى الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ دُونَ النَّافِذِ وَالْبَاطِلِ، وَتَقَعُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ، سَوَاءٌ أَكَانَ أَصِيلًا أَمْ وَكِيلًا أَوْ وَلِيًّا أَمْ وَصِيًّا أَمْ قَيِّمًا، وَكَذَا كُلُّ مَنْ يَتَوَقَّفُ التَّصَرُّفُ عَلَى إِذْنِهِ كَالشَّرِيكِ وَالْوَارِثِ وَالدَّائِنِينَ.

وَالْأَصْلُ فِي الْإِجَازَةِ أَنْ تَكُونَ بِالْقَوْلِ الْمُعَبِّرِ عَنْهَا بِنَحْوِ قَوْلِ الْمُجِيزِ: أَجَزْتُ أَوْ أَنَفَذْتُ أَوْ أَمْضَيْتُ أَوْ رَضِيتُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَتَكُونُ بِالْفِعْلِ: فِيمَا لَوْ أَخَذَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ الَّذِي لَمْ يَدْفَعْ ثَمَنَهُ فَأَجَّرَهُ أَوْ أَعَارَهُ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ كَانَ الْمَبِيعُ دَارًا فَسَكَنَهَا فَكُلُّ ذَلِكَ إِجَازَةٌ فِعْلِيَّةٌ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَازَةٌ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


139-موسوعة الفقه الكويتية (عمرية)

عُمَرِيَّة

التَّعْرِيفُ:

1- الْعُمَرِيَّةُ- وَيُعَبِّرُ عَنْهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ «بِالْعُمَرِيَّتَيْنِ» لَهَا صُورَتَانِ لِمَسْأَلَةٍ فِي الْفَرَائِضِ، أَوْ هُمَا مَسْأَلَتَانِ اشْتُهِرَتَا بِهَذَا الِاسْمِ نِسْبَةً إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ قَضَى فِيهِمَا، وَتُسَمَّيَانِ أَيْضًا: بِالْغَرَّاوَيْنِ تَشْبِيهًا بِالْكَوْكَبِ «الْأَغَرِّ» لِشُهْرَتِهِمَا وَبِالْغَرِيبَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا نَظِيرَ لَهُمَا.

وَصُورَتَا الْمَسْأَلَتَيْنِ أَوِ الْمَسْأَلَةِ:

1) زَوْجٌ، وَأَبَوَانِ.

2) أَوْ زَوْجَةٌ وَأَبَوَانِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعُمَرِيَّةِ:

2- نَصِيبُ الْأُمِّ فِي الْفُرُوضِ الْمُقَدَّرَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا السُّدُسُ أَوِ الثُّلُثُ، فَتَأْخُذُ السُّدُسَ فِي حَالَتَيْنِ:

1) إِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ، أَوْ وَلَدُ وَلَدٍ.

2) إِذَا كَانَ مَعَهَا عَدَدٌ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَلَيْسَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أَوْ وَلَدُ وَلَدٍ.

وَتَأْخُذُ ثُلُثَ التَّرِكَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مِنْ ذَكَرٍ وَتَفَرَّدَ الْأَبَوَانِ بِالْمِيرَاثِ، لقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}.

فَإِنْ كَانَ مَعَ الْأَبَوَيْنِ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فَإِنَّ فَرْضَ الْأُمِّ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْعُمَرِيَّةُ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي فَرْضِهَا، فَذَهَبَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ فَرْضَهَا ثُلُثُ مَا يَبْقَى بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ، فَفِي حَالَةِ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ سِتَّةٍ فَيَأْخُذُ الزَّوْجُ النِّصْفَ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، وَتَأْخُذُ الْأُمُّ ثُلُثَ الْبَاقِي وَهُوَ وَاحِدٌ، وَيَأْخُذُ الْأَبُ الْبَاقِيَ وَهُوَ اثْنَانِ، وَفِي زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ، فَتَأْخُذُ الزَّوْجَةُ الرُّبُعَ، وَهُوَ وَاحِدٌ، وَتَأْخُذُ الْأُمُّ ثُلُثَ الْبَاقِي وَهُوَ وَاحِدٌ، وَلِلْأَبِ مَا بَقِيَ هُوَ اثْنَانِ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ فِي هَذَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا أَعْطَاهَا الثُّلُثَ كَامِلًا إِذَا انْفَرَدَ الْأَبَوَانِ بِالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} شَرَطَ فِي اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثِ عَدَمَ الْوَلَدِ، وَتَفَرُّدَهُمَا بِمِيرَاثِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ تَفَرُّدُهُمَا شَرْطًا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} فَائِدَةٌ، وَكَانَ تَطْوِيلًا يُغْنِي عَنْهُ قَوْلُهُ: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}، فَلَمَّا قَالَ: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} عُلِمَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأُمِّ الثُّلُثَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ذَكَرَ أَحْوَالَ الْأُمِّ كُلَّهَا: نَصًّا وَإِيمَاءً فَذَكَرَ أَنَّ لَهَا السُّدُسَ مَعَ الْإِخْوَةِ أَوِ الْوَلَدِ، وَأَنَّ لَهَا الثُّلُثَ كَامِلًا مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ وَتَفَرُّدِ الْأَبَوَيْنِ بِالْمِيرَاثِ بَقِيَتْ حَالَةٌ ثَالِثَةٌ وَهِيَ عَدَمُ الْوَلَدِ وَعَدَمُ تَفَرُّدِ الْأَبَوَيْنِ بِالْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلاَّ مَعَ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ، فَإِمَّا أَنْ تُعْطَى فِي هَذَا الْحَالِ الثُّلُثَ كَامِلًا، وَهُوَ خِلَافُ مَفْهُومِ الْقُرْآنِ فِي قوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وَإِمَّا أَنْ تُعْطَى السُّدُسَ وَاللَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ فَرْضَهَا إِلاَّ فِي مَوْضِعَيْنِ: مَعَ الْوَلَدِ وَمَعَ عَدَدٍ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، فَإِنِ امْتَنَعَ الْأَمْرَانِ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجَيْنِ: هُوَ الْمَالُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْأَبَوَانِ وَلَا يُشَارِكُهُمَا مُشَارِكٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ كُلِّهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ زَوْجٌ وَلَا زَوْجَةٌ، فَإِذَا تَقَاسَمَاهُ أَثْلَاثًا كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَتَقَاسَمَا الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجَيْنِ كَذَلِكَ، وَالْقِيَاسُ الْمَحْضُ أَنَّ الْأُمَّ مَعَ الْأَبِ كَالْبِنْتِ مَعَ الِابْنِ، وَالْأُخْتِ مَعَ الْأَخِ؛ لِأَنَّهُمَا ذَكَرٌ وَأُنْثَى مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَأَعْطَى اللَّهُ الْأَبَ ضِعْفَ مَا أَعْطَى الْأُمَّ تَفْضِيلًا بِجَانِبِ الذُّكُورَةِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: إِنَّ الْأُمَّ تَأْخُذُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ ثُلُثَ أَصْلِ التَّرِكَةِ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: جَعَلَ لَهَا أَوَّلًا: سُدُسَ التَّرِكَةِ مَعَ الْوَلَدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ لَهَا مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ الثُّلُثَ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا ثُلُثُ أَصْلِ التَّرِكَةِ أَيْضًا، وَقَدْ تَنَاظَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ- رضي الله عنهما- فِي الْعُمَرِيَّتَيْنِ فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ثُلُثُ مَا بَقِيَ، فَقَالَ زَيْدٌ: وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِعْطَاؤُهَا الثُّلُثَ كُلَّهُ مَعَ الزَّوْجَيْنِ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: إِنَّ لِلْأُمِّ مَعَ الزَّوْجِ ثُلُثَ مَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِهِ، وَمَعَ الزَّوْجَةِ ثُلُثَ أَصْلِ التَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ لَهَا مَعَ الزَّوْجِ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ لَزَادَ نَصِيبُهَا عَلَى نَصِيبِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ حِينَئِذٍ مِنْ سِتَّةٍ لِاجْتِمَاعِ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ، فَيَأْخُذُ الزَّوْجُ ثَلَاثَةً، وَلِلْأُمِّ اثْنَانِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ فَيَبْقَى لِلْأَبِ وَاحِدٌ، وَفِي هَذَا تَفْضِيلُ الْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ، وَإِذَا جَعَلَ لَهَا ثُلُثَ مَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ كَانَ لَهَا وَاحِدٌ، وَلِلْأَبِ اثْنَانِ، وَلَوْ جَعَلَ لَهَا مَعَ الزَّوْجَةِ ثُلُثَ الْأَصْلِ لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ التَّفْضِيلُ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ، لِاجْتِمَاعِ الرُّبُعِ وَالثُّلُثِ، فَإِذَا أَخَذَتِ الْأُمُّ أَرْبَعَةً- وَهُوَ ثُلُثُ التَّرِكَةِ- بَقِيَ لِلْأَبِ خَمْسَةٌ فَلَا تَفْضِيلَ لَهَا عَلَيْهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِرْث ف 151).

وَالْأُمُّ تَأْخُذُ سُدُسَ التَّرِكَةِ فِي حَالَةِ الزَّوْجِ وَالْأَبَوَيْنِ، وَتَأْخُذُ الرُّبُعَ فِي حَالَةِ الزَّوْجَةِ وَالْأَبَوَيْنِ، وَلَمْ يُعَبِّرِ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بِالسُّدُسِ، وَالرُّبُعِ تَأَدُّبًا مَعَ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


140-موسوعة الفقه الكويتية (قضاء الفوائت 2)

قَضَاءُ الْفَوَائِتِ -2

قَضَاءُ السُّنَنِ:

26- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ: أَنَّ السُّنَنَ- عَدَا سُنَّةِ الْفَجْرِ- لَا تُقْضَى بَعْدَ الْوَقْتِ.

ثُمَّ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي قَضَاءِ هَذِهِ السُّنَنِ تَبَعًا لِلْفَرْضِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَقْضِيهَا تَبَعًا، لِأَنَّهُ كَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَلَا يَثْبُتُ.قَصْدًا.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَقْضِيهَا تَبَعًا كَمَا لَا يَقْضِيهَا مَقْصُودَةً، قَالَ الْعَيْنِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِاخْتِصَاصِ الْقَضَاءِ بِالْوَاجِبِ وَفِي مُخْتَصَرِ الْبَحْرِ: مَا سِوَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ مِنَ السُّنَنِ إِذَا فَاتَتْ مَعَ الْفَرْضِ يَقْضِي عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَعِنْدَ الْخُرَاسَانِيِّينَ لَا يُقْضَى.

وَأَمَّا سُنَّةُ الْفَجْرِ فَإِنَّهَا تُقْضَى تَبَعًا لِلْفَرْضِ إِلَى وَقْتِ الزَّوَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، سَوَاءٌ كَانَ قَضَى الْفَرْضَ بِالْجَمَاعَةِ، أَوْ قَضَاهُ وَحْدَهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تُقْضَى مُنْفَرِدَةً بَعْدَ الشَّمْسِ قَبْلَ الزَّوَالِ فَلَا قَضَاءَ لِسُنَّةِ الْفَجْرِ مُنْفَرِدَةً قَبْلَ الشَّمْسِ وَلَا بَعْدَ الزَّوَالِ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ، وَسَوَاءٌ صَلَّى مُنْفَرِدًا أَوْ بِجَمَاعَةٍ.

ثُمَّ اخْتَلَفَ مَشَايِخُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِي قَضَاءِ سُنَّةِ الْفَجْرِ تَبَعًا لِلْفَرْضِ فِيمَا بَعْدَ الزَّوَالِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُقْضَى تَبَعًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تُقْضَى تَبَعًا وَلَا مَقْصُودَةً.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يُقْضَى نَفْلٌ خَرَجَ وَقْتُهُ سِوَى سُنَّةِ الْفَجْرِ فَإِنَّهَا تُقْضَى بَعْدَ حِلِّ النَّافِلَةِ لِلزَّوَالِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا الصُّبْحُ أَوْ لَا.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ النَّوَافِلَ غَيْرَ الْمُؤَقَّتَةِ كَصَلَاةِ الْكُسُوفَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ لَا مَدْخَلَ لِلْقَضَاءِ فِيهَا، وَأَمَّا النَّوَافِلُ الْمُؤَقَّتَةُ كَالْعِيدِ وَالضُّحَى، وَالرَّوَاتِبِ التَّابِعَةِ لِلْفَرَائِضِ، فَفِي قَضَائِهَا عِنْدَهُمْ أَقْوَالٌ: أَظْهَرُهَا: أَنَّهَا تُقْضَى، وَالثَّانِي: لَا، وَالثَّالِثُ: مَا اسْتَقَلَّ كَالْعِيدِ وَالضُّحَى قُضِيَ، وَمَا كَانَ تَبَعًا كَالرَّوَاتِبِ فَلَا.

وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا تُقْضَى، فَالْمَشْهُورُ: أَنَّهَا تُقْضَى أَبَدًا، وَالثَّانِي: تُقْضَى صَلَاةُ النَّهَارِ مَا لَمْ تَغْرُبْ شَمْسُهُ، وَفَائِتُ اللَّيْلِ مَا لَمْ يَطْلُعْ فَجْرُهُ فَيَقْضِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ مَا دَامَ النَّهَارُ بَاقِيًا، وَالثَّالِثُ: يَقْضِي كُلَّ تَابِعٍ مَا لَمْ يُصَلِّ فَرِيضَةً مُسْتَقْبَلَةً، فَيَقْضِي الْوِتْرَ مَا لَمْ يُصَلِّ الصُّبْحَ، وَيَقْضِي سُنَّةَ الصُّبْحِ مَا لَمْ يُصَلِّ الظُّهْرَ، وَالْبَاقِي عَلَى هَذَا الْمِثَالِ، وَقِيلَ: عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ بِدُخُولِ وَقْتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، لَا بِفِعْلِهَا.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّ مَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ سُنَّ لَهُ قَضَاؤُهَا، وَعَنْ أَحْمَدَ: لَا يُسْتَحَبُّ قَضَاؤُهَا، وَعَنْهُ: يَقْضِي سُنَّةَ الْفَجْرِ إِلَى الضُّحَى، وَقِيلَ: لَا يَقْضِي إِلاَّ سُنَّةَ الْفَجْرِ إِلَى وَقْتِ الضُّحَى وَرَكْعَتَيِ الظُّهْرِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ التَّطَوُّعُ بِالشُّرُوعِ مُضِيًّا وَقَضَاءً، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فِيهِ حَتَّى إِذَا أَفْسَدَهُ لَزِمَ قَضَاؤُهُ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: نَفْلٌ) (وَصَلَاةُ الْعِيدَيْنِ ف 7- 9) (وَأَدَاءٌ ف 20) (وَتَطَوُّعٌ ف 18).

الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ لِلْفَوَائِتِ:

27- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ سُنَّ لَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلْأُولَى، ثُمَّ يُقِيمَ لِكُلِّ صَلَاةٍ إِقَامَةً.

وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ إِنْ وَالَى بَيْنَ الْفَوَائِتِ، فَإِنْ لَمْ يُوَالِ بَيْنَهَا أَذَّنَ وَأَقَامَ لِكُلٍّ.

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْأَكْمَلَ فِعْلُهُمَا فِي كُلٍّ مِنْهَا كَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- «حِينَ شَغَلَهُ الْكُفَّارُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ: الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَقَضَاهُنَّ مُرَتَّبًا عَلَى الْوِلَاءِ، وَأَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ».

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهِيَةِ الْأَذَانِ لِفَائِتَةٍ.

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَذَانِ لِلْفَوَائِتِ (ر: أَذَانٌ ف 43- 44).

قَضَاءُ الْفَوَائِتِ فِي جَمَاعَةٍ:

28- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ الْجَمَاعَةِ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِسُنِّيَّةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَقْضِيَّةِ، وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ السُّنِّيَّةَ بِكَوْنِهَا فِي الْمَقْضِيَّةِ الَّتِي يَتَّفِقُ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ فِيهَا، بِأَنْ يَكُونَ قَدْ فَاتَهُمَا ظُهْرٌ أَوْ عَصْرٌ مَثَلًا وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْخَنْدَقِ «فَاتَهُ أَرْبَعُ صَلَوَاتٍ فَقَضَاهُنَّ فِي جَمَاعَةٍ» وَقَدْ رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «سَرَيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ عَرَّسْنَا- أَيْ نَزَلَ بِنَا لِلِاسْتِرَاحَةِ- فَلَمْ نَسْتَيْقِظْ حَتَّى حَرِّ الشَّمْسِ فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنَّا يَقُومُ دَهِشًا إِلَى طَهُورِهِ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: أَنْ يَسْكُنُوا، ثُمَّ ارْتَحَلْنَا فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ، تَوَضَّأَ ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ ثُمَّ صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّيْنَا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نُعِيدُهَا فِي وَقْتِهَا فِي الْغَدِ لِوَقْتِهَا؟ قَالَ: أَيَنْهَاكُمْ رَبُّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنِ الرِّبَا وَيَقْبَلُهُ مِنْكُمْ»؟.

وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ السُّنِّيَّةَ بِكَوْنِهَا فِي الْمَقْضِيَّةِ الَّتِي يَتَّفِقُ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ فِيهَا بِأَنْ يَكُونَ قَدْ فَاتَهُمَا ظُهْرٌ أَوْ عَصْرٌ مَثَلًا.وَحُكِيَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ مَنْعَ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ فِي جَمَاعَةٍ.

وَلِلْفُقَهَاءِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ فِي الْقَضَاءِ خَلْفَ الْأَدَاءِ، وَالْأَدَاءِ خَلْفَ الْقَضَاءِ، وَقَضَاءِ صَلَاةٍ خَلْفَ مَنْ يَقْضِي غَيْرَهَا، يُنْظَرُ فِي (اقْتِدَاءٌ ف 35).

قَضَاءُ الْفَوَائِتِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ:

29- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ قَضَاءُ الْفَرَائِضِ الْفَائِتَةِ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَغَيْرِهَا.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا»، وَبِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ- رضي الله عنه-: «إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَنْتَبِهُ لَهَا».

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ عَدَمَ جَوَازِ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَوَقْتَ الزَّوَالِ، وَوَقْتَ الْغُرُوبِ، لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِلْفَرَائِضِ وَغَيْرِهَا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «لَمَّا نَامَ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ أَخَّرَهَا حَتَّى ابْيَضَّتِ الشَّمْسُ» وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ، فَلَمْ تَجُزْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كَالنَّوَافِلِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ ف 24).

قَضَاءُ الزَّكَاةِ:

30- مَنْ تَرَكَ الزَّكَاةَ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إِخْرَاجِهَا حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يُوصِ بِإِخْرَاجِهَا أَثِمَ إِجْمَاعًا.

(ر: زَكَاةٌ ف 126).

ثُمَّ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَائِهَا فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ وَجَبَ قَضَاءُ ذَلِكَ مِنْ تَرِكَتِهِ، لِأَنَّهُ مَتَى لَزِمَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ لَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ، كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ.

وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ قَالَ الدُّسُوقِيُّ: زَكَاةُ الْعَيْنِ فِي عَامِ الْمَوْتِ لَهَا أَحْوَالٌ أَرْبَعَةٌ:

أ- إِنِ اعْتَرَفَ بِحُلُولِهَا وَبَقَائِهَا فِي ذِمَّتِهِ، وَأَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا، فَمِنْ رَأْسِ الْمَالِ جَبْرًا عَلَى الْوَرَثَةِ.

ب- وَإِنِ اعْتَرَفَ بِحُلُولِهَا وَلَمْ يَعْتَرِفْ بِبَقَائِهَا وَلَمْ يُوصِ بِإِخْرَاجِهَا، فَلَا يُجْبَرُونَ عَلَى إِخْرَاجِهَا، لَا مِنَ الثُّلُثِ وَلَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُونَ مِنْ غَيْرِ جَبْرٍ، إِلاَّ أَنْ يَتَحَقَّقَ الْوَرَثَةُ عَدَمَ إِخْرَاجِهَا فَتُخْرَجُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ جَبْرًا.

ج- وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِبَقَائِهَا وَأَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا، أُخْرِجَتْ مِنَ الثُّلُثِ جَبْرًا.

د- وَإِنِ اعْتَرَفَ بِبَقَائِهَا وَلَمْ يُوصِ بِإِخْرَاجِهَا، لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِمْ بِإِخْرَاجِهَا، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُونَ بِغَيْرِ جَبْرٍ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَخْرَجَهَا، فَإِنْ عَلِمُوا عَدَمَ إِخْرَاجِهَا أُجْبِرُوا عَلَيْهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ وَالْمُثَنَّى وَالثَّوْرِيُّ أَنَّ الزَّكَاةَ تَسْقُطُ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ بِغَيْرِ وَصِيَّةٍ، لِفَقْدِ شَرْطِهَا وَهُوَ النِّيَّةُ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةٌ ف 126).

قَضَاءُ زَكَاةِ الْفِطْرِ:

31- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنْ أَخَّرَ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ يَوْمِ الْعِيدِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِخْرَاجِهَا أَثِمَ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ.

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ التَّأْخِيرِ إِلاَّ أَنَّ وَقْتَ أَدَاءِ زَكَاةِ الْفِطْرِ عِنْدَهُمْ مُوَسَّعٌ لَا يَضِيقُ إِلاَّ فِي آخِرِ الْعُمُرِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي سَبَبِ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ وَوَقْتِ وُجُوبِ أَدَائِهَا (ر: زَكَاةُ الْفِطْرِ ف 8- 9).

قَضَاءُ الصَّوْمِ الْفَائِتِ مِنْ رَمَضَانَ:

32- مَنْ أَفْطَرَ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ قَضَى بِعِدَّةِ مَا فَاتَهُ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِعِدَّةِ مَا فَاتَهُ، لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.

وَلِلتَّفْصِيلِ فِيمَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ انْظُرْ (صَوْمٌ ف 86).

قَضَاءُ الِاعْتِكَافِ:

33- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ إِذَا فَسَدَ، فَالَّذِي فَسَدَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا، وَهُوَ الْمَنْذُورُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا يَقْضِي إِذَا قَدَرَ عَلَى الْقَضَاءِ، إِلاَّ الرِّدَّةَ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ إِذَا فَسَدَ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ، فَصَارَ فَائِتًا مَعْنًى، فَيَحْتَاجُ إِلَى الْقَضَاءِ جَبْرًا لِلْفَوَاتِ، وَيَقْضِي بِالصَّوْمِ، لِأَنَّهُ فَاتَهُ مَعَ الصَّوْمِ فَيَقْضِيهِ مَعَ الصَّوْمِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَنْذُورَ بِهِ إِنْ كَانَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ، يَقْضِي قَدْرَ مَا فَسَدَ لَا غَيْرُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ، كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ فِي شَهْرٍ بِعَيْنِهِ إِذَا أَفْطَرَ يَوْمًا، أَنَّهُ يَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ، كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، وَإِذَا كَانَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ مُتَتَابِعًا فَيُرَاعَى فِيهِ صِفَةُ التَّتَابُعِ، وَسَوَاءٌ فَسَدَ بِصُنْعِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، كَالْخُرُوجِ وَالْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي النَّهَارِ، إِلاَّ الرِّدَّةَ، أَوْ فَسَدَ بِصُنْعِهِ لِعُذْرٍ، كَمَا إِذَا مَرِضَ فَاحْتَاجَ إِلَى الْخُرُوجِ فَخَرَجَ، أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ رَأْسًا، كَالْحَيْضِ وَالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ الطَّوِيلِ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى الْجَبْرِ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، إِلاَّ أَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ فِي الرِّدَّةِ عُرِفَ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قوله تعالى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ»، وَالْقِيَاسُ فِي الْجُنُونِ الطَّوِيلِ أَنْ يَسْقُطَ الْقَضَاءُ، كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، إِلاَّ أَنَّ فِي الِاسْتِحْسَانِ يَقْضِي، لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إِنَّمَا كَانَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ، لِأَنَّ الْجُنُونَ إِذَا طَالَ قَلَّمَا يَزُولُ، فَيَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ، فَيُحْرَجُ فِي قَضَائِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِي الِاعْتِكَافِ، وَأَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ إِذَا قَطَعَهُ قَبْلَ تَمَّامِ الْيَوْمِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَقْضِي، بِنَاءً عَلَى أَنَّ اعْتِكَافَ التَّطَوُّعِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ.

وَأَمَّا حُكْمُهُ إِذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ، بِأَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ، أَنَّهُ إِذَا فَاتَ بَعْضُهُ قَضَاهُ لَا غَيْرُ، وَلَا يَلْزَمْهُ الِاسْتِقْبَالُ، كَمَا فِي الصَّوْمِ، وَإِنْ فَاتَهُ كُلُّهُ قَضَى الْكُلَّ مُتَتَابِعًا، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ صَارَ الِاعْتِكَافُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ أَنْشَأَ النَّذْرَ بِاعْتِكَافِ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى قَضَائِهِ فَلَمْ يَقْضِهِ حَتَّى أَيِسَ مِنْ حَيَاتِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ لِكُلِّ يَوْمٍ طَعَامَ مِسْكِينٍ، لِأَجْلِ الصَّوْمِ، لَا لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ، كَمَا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَلَمْ يَعْتَكِفْ، فَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ صَحِيحًا وَقْتَ النَّذْرِ، فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا وَقْتَ النَّذْرِ فَذَهَبَ الْوَقْتُ وَهُوَ مَرِيضٌ حَتَّى مَاتَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ صَحَّ يَوْمًا وَاحِدًا يَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِيَ بِالْإِطْعَامِ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَلْزَمُهُ إِلاَّ مِقْدَارُ مَا يَصِحُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ.

وَإِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، فَجَمِيعُ الْعُمُرِ وَقْتُهُ، كَمَا فِي النَّذْرِ بِالصَّوْمِ فِي وَقْتٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا، لِأَنَّ الْإِيجَابَ حَصَلَ مُطْلَقًا عَنِ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ إِذَا أَيِسَ مِنْ حَيَاتِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ كَمَا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ الْمُطْلَقِ، فَإِنْ لَمْ يُوصِ حَتَّى مَاتَ سَقَطَ عَنْهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا حَتَّى لَا تُؤْخَذَ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَرَثَةِ الْفِدْيَةُ إِلاَّ أَنْ يَتَبَرَّعُوا بِهِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْعُذْرَ الَّذِي يَقْطَعُ الِاعْتِكَافَ إِمَّا إِغْمَاءٌ أَوْ جُنُونٌ أَوْ حَيْضٌ أَوْ نِفَاسٌ أَوْ مَرَضٌ، وَالِاعْتِكَافُ إِمَّا نَذْرٌ مُعَيَّنٌ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ نَذْرٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، وَفِي كُلٍّ إِمَّا أَنْ يَطْرَأَ الْعُذْرُ قَبْلَ الِاعْتِكَافِ، أَوْ مُقَارِنًا لَهُ، أَوْ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ.

فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَوَانِعُ فِي الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ الْمُطْلَقِ أَوِ الْمُعَيَّنِ مِنْ رَمَضَانَ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْبِنَاءِ بَعْدَ زَوَالِهَا، سَوَاءٌ طَرَأَتْ قَبْلَ الِاعْتِكَافِ وَقَارَنَتْ، أَوْ بَعْدَ الدُّخُولِ.

وَإِنْ كَانَ نَذْرًا مُعَيَّنًا مِنْ غَيْرِ رَمَضَانَ، فَإِنْ طَرَأَتْ خَمْسَةُ الْأَعْذَارِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الِاعْتِكَافِ، أَوْ مُقَارِنَةً، فَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ.

وَإِنْ طَرَأَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَالْقَضَاءُ مُتَّصِلًا.

وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَلَا قَضَاءَ، سَوَاءٌ طَرَأَتِ الْأَعْذَارُ الْخَمْسَةُ قَبْلَ الشُّرُوعِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ مُقَارِنَةً لَهُ.

وَبَقِيَ حُكْمُ مَا إِذَا أَفْطَرَ نَاسِيًا، وَالْحُكْمُ أَنَّهُ يَقْضِي، سَوَاءٌ كَانَ الِاعْتِكَافُ نَذْرًا مُعَيَّنًا مِنْ رَمَضَانَ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ كَانَ نَذْرًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، أَوْ كَانَ تَطَوُّعًا مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ.

وَأَمَّا إِنْ أَفْطَرَ فِي اعْتِكَافِهِ مُتَعَمِّدًا فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ اعْتِكَافَهُ، وَكَذَلِكَ يَبْتَدِئُ اعْتِكَافَهُ مَنْ جَامَعَ فِيهِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا نَاسِيًا أَوْ مُتَعَمِّدًا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ شَهْرًا نُظِرَ فَإِنْ كَانَ شَهْرًا بِعَيْنِهِ لَزِمَهُ اعْتِكَافُهُ لَيْلًا وَنَهَارًا، سَوَاءٌ كَانَ الشَّهْرُ تَامًّا أَوْ نَاقِصًا، لِأَنَّ الشَّهْرَ عِبَارَةٌ عَمَّا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ تَمَّ أَوْ نَقَصَ، وَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ نَهَارَ الشَّهْرِ، لَزِمَهُ النَّهَارُ دُونَ اللَّيْلِ، لِأَنَّهُ خَصَّ النَّهَارَ، فَلَا يَلْزَمُهُ اللَّيْلُ، فَإِنْ فَاتَهُ الشَّهْرُ وَلَمْ يَعْتَكِفْ فِيهِ، لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَهُ مُتَتَابِعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا، لِأَنَّ التَّتَابُعَ فِي أَدَائِهِ بِحُكْمِ الْوَقْتِ، فَإِذَا فَاتَ سَقَطَ، كَالتَّتَابُعِ فِي يَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ مُتَتَابِعًا لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ مُتَتَابِعًا، لِأَنَّ التَّتَابُعَ هَاهُنَا وَجَبَ لِحُكْمِ النَّذْرِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا ثُمَّ أَفْسَدَهُ يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ نَذَرَ أَيَّامًا مُتَتَابِعَةً فَسَدَ مَا مَضَى مِنَ اعْتِكَافِهِ وَاسْتَأْنَفَ، لِأَنَّ التَّتَابُعَ وَصْفٌ فِي الِاعْتِكَافِ، وَقَدْ أَمْكَنَهُ الْوَفَاءُ بِهِ، فَلَزِمَهُ، وَإِنْ كَانَ نَذَرَ أَيَّامًا مُعَيَّنَةً كَالْعَشَرَةِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ مَا مَضَى وَيَسْتَأْنِفُهُ، لِأَنَّهُ نَذَرَ اعْتِكَافًا مُتَتَابِعًا فَبَطَلَ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ، كَمَا لَوْ قَيَّدَهُ بِالتَّتَابُعِ بِلَفْظِهِ.

وَالثَّانِي: لَا يَبْطُلُ، لِأَنَّ مَا مَضَى مِنْهُ قَدْ أَدَّى الْعِبَادَةَ فِيهِ أَدَاءً صَحِيحًا، فَلَمْ يَبْطُلْ بِتَرْكِهَا فِي غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ أَفْطَرَ فِي أَثْنَاءِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالتَّتَابُعُ هَاهُنَا حَصَلَ ضَرُورَةَ التَّعْيِينِ، وَالتَّعْيِينُ مُصَرَّحٌ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْإِخْلَالِ بِأَحَدِهِمَا، فَفِيمَا حَصَلَ ضَرُورَةً أَوْلَى، وَلِأَنَّ وُجُوبَ التَّتَابُعِ مِنْ حَيْثُ الْوَقْتُ لَا مِنْ حَيْثُ النَّذْرُ، فَالْخُرُوجُ فِي بَعْضِهِ لَا يُبْطِلُ مَا مَضَى مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا يَقْضِي مَا أَفْسَدَ فِيهِ فَحَسْبُ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِبَعْضِ مَا نَذَرَهُ.

قَضَاءُ مَنَاسِكِ الْحَجِّ:

34- تَرْكُ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَانِعٍ قَاهِرٍ يَمْنَعُ الْمُحْرِمَ مِنْ أَرْكَانِ النُّسُكِ، وَيُعَبِّرُ عَنْهُ الْفُقَهَاءُ بِالْإِحْصَارِ، أَوْ يَكُونَ بِغَيْرِ مَانِعٍ قَاهِرٍ، وَيُعَبِّرُ عَنْهُ الْفُقَهَاءُ بِالْفَوَاتِ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُحْصَرِ قَضَاءُ النُّسُكِ الَّذِي أُحْصِرَ عَنْهُ إِذَا كَانَ وَاجِبًا كَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ الْمَنْذُورَيْنِ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ، وَكَعُمْرَةِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَا يَسْقُطُ هَذَا الْوَاجِبُ عَنْهُ بِسَبَبِ الْإِحْصَارِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَحْكَامِ قَضَاءِ النُّسُكِ الْوَاجِبِ الَّذِي أُحْصِرَ عَنْهُ الْمُحْرِمُ، وَقَضَاءِ نُسُكِ التَّطَوُّعِ وَمَا يَلْزَمُ الْمُحْصَرَ فِي الْقَضَاءِ

(ر: إِحْصَارٌ ف 49- 51) (وَحَجٌّ ف 121- 123).

وَمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ يَتَحَلَّلُ بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ وَحَلْقٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ مِنْ قَابِلٍ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْمُزَنِيُّ، أَنَّهُ يَمْضِي فِي حَجٍّ فَاسِدٍ وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ أَفْعَالِ الْحَجِّ، لِأَنَّ سُقُوطَ مَا فَاتَ وَقْتُهُ لَا يَمْنَعُ مَا لَمْ يَفُتْ.

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي صُوَرِ فَوَاتِ الْحَجِّ، وَتَحَلُّلِ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَكَيْفِيَّةِ التَّحَلُّلِ (ر: فَوَاتٌ).

قَضَاءُ الْأُضْحِيَّةِ لِفَوَاتِ وَقْتِهَا:

35- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّ التَّضْحِيَةَ تَفُوتُ بِمُضِيِّ وَقْتِهَا، وَلَا يُخَاطَبُ بِهَا الْمُكَلَّفُ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَنِهَا.

ثُمَّ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ شَاةً بِعَيْنِهَا، بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَذِهِ الشَّاةِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُوجِبُ فَقِيرًا أَوْ غَنِيًّا، أَوْ كَانَ الْمُضَحِّي فَقِيرًا وَقَدْ اشْتَرَى شَاةً بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ فَلَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ، تَصَدَّقَ بِهَا حَيَّةً، وَإِنْ كَانَ مَنْ لَمْ يُضَحِّ غَنِيًّا وَلَمْ يُوجِبْ عَلَى نَفْسِهِ شَاةً بِعَيْنِهَا، تَصَدَّقَ بِقِيمَةِ شَاةٍ اشْتَرَى أَوْ لَمْ يَشْتَرِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا تَتَعَيَّنُ الْأُضْحِيَّةُ إِلاَّ بِالذَّبْحِ، فَلَا تَتَعَيَّنُ أُضْحِيَّةٌ بِالنَّذْرِ وَلَا بِالنِّيَّةِ وَلَا بِالتَّمْيِيزِ لَهَا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُضَحِّ حَتَّى فَاتَ الْوَقْتُ فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا لَمْ يُضَحِّ، بَلْ قَدْ فَاتَتِ التَّضْحِيَةُ هَذِهِ السَّنَةِ، وَإِنْ كَانَ مَنْذُورًا لَزِمَهُ أَنْ يُضَحِّيَ وَيَقْضِيَ الْوَاجِبَ كَالْأَدَاءِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: أُضْحِيَّةٌ ف 42- 44).

قَضَاءُ مَا فَاتَ مِنَ الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ:

36- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَضَاءِ مَا فَاتَ مِنَ الْقَسْمِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَسْمَ يَفُوتُ بِفَوَاتِ زَمَنِهِ سَوَاءٌ فَاتَ لِعُذْرٍ أَمْ لَا، فَلَا يُقْضَى، فَلَيْسَ لِلَّتِي فَاتَتْ لَيْلَتُهَا لَيْلَةٌ بَدَلَهَا، لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْقَسْمِ دَفْعُ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ فِي الْحَالِ، وَذَلِكَ يَفُوتُ بِفَوَاتِ زَمَنِهِ، وَلَوْ قُلْنَا بِالْقَضَاءِ، لَظُلِمَتْ صَاحِبَةُ اللَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ.

وَقَالَ الْعَيْنِيُّ نَقْلًا عَنِ الْمُحِيطِ وَالْمَبْسُوطِ: الزَّوْجُ لَوْ أَقَامَ عِنْدَ وَاحِدَةٍ شَهْرًا ظُلْمًا، ثُمَّ طُلِبَ الْقَسْمُ مِنَ الْبَاقِيَاتِ، أَوْ بِغَيْرِ طَلَبٍ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعَوِّضَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، لَكِنَّهُ ظَالِمٌ يُوعَظُ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ يُؤَدَّبُ تَعْزِيرًا.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ إِنْ تَعَذَّرَ عَلَى الزَّوْجِ الْمَقَامُ عِنْدَ ذَاتِ اللَّيْلَةِ لَيْلًا لِشُغْلٍ أَوْ حَبْسٍ، أَوْ تَرَكَ الْمُقَامَ عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ قَضَاهُ لَهَا، كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ.

وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ ابْنُ الْهُمَامِ حَيْثُ قَالَ: وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْقَضَاءِ إِذَا طَلَبَتْ، لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ، وَلَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إِيفَائِهِ.

قَضَاءُ النَّفَقَاتِ:

37- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْحَسَنُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْإِنْفَاقَ الْوَاجِبَ لِامْرَأَتِهِ مُدَّةً لَمْ يَسْقُطْ بِذَلِكَ، وَكَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، سَوَاءٌ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ، لِأَنَّهُ مَالٌ يَجِبُ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَلَا يَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، كَالثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ وَالْمَهْرِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، أَنَّهُ إِذَا مَضَتْ مُدَّةٌ وَلَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا سَقَطَتِ النَّفَقَةُ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ قَدْ قُضِيَ بِهَا أَوْ صَالَحَتْهُ عَلَى مِقْدَارِهَا، فَيُقْضَى لَهَا بِنَفَقَةِ مَا مَضَى، لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَمْ تَجِبْ عِوَضًا عَنِ الْبُضْعِ، فَبَقِيَ وُجُوبُهُ جَزَاءً عَنِ الِاحْتِبَاسِ صِلَةً وَرِزْقًا لَا عِوَضًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ رِزْقًا بِقَوْلِهِ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ}.

وَالرِّزْقُ اسْمٌ لِمَا يُذْكَرُ صِلَةً، وَالصِّلَاتُ لَا تُمْلَكُ إِلاَّ بِالتَّسْلِيمِ حَقِيقَةً أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، كَمَا فِي الْهِبَةِ، أَوْ بِالْتِزَامِهِ بِالتَّرَاضِي.

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ الْقَضَاءِ أَوِ الِاصْطِلَاحِ قَبْلَ الْقَبْضِ سَقَطَتِ النَّفَقَةُ، لِأَنَّهَا صِلَةٌ مِنَ الصِّلَاتِ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْقَبْضِ.

هَذَا حُكْمُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، وَأَمَّا نَفَقَةُ الْقَرِيبِ، فَيَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ إِذَا فَاتَ مِنْهَا يَوْمٌ أَوْ أَيَّامٌ وَلَمْ يُنْفِقْ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ لَمْ يَصِرْ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، لِأَنَّهَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي أَمَرَ بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ، فَتَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَلَا تَسْقُطُ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: نَفَقَةٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


141-موسوعة الفقه الكويتية (كفاءة 2)

كَفَاءَةٌ -2

هـ- الْيَسَارُ:

11- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ الْيَسَارِ- وَيُعَبِّرُ عَنْهُ الْحَنَفِيَّةُ بِالْمَالِ- مِنْ خِصَالِ الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ أَوْ عَدَمِ اعْتِبَارِهِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ- فِي الرِّوَايَةِ الْمُعْتَمَدَةِ- وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى اعْتِبَارِهِ، فَلَا يَكُونُ الْفَقِيرُ كُفْءَ الْغَنِيَّةِ؛ لِأَنَّ التَّفَاخُرَ بِالْمَالِ أَكْثَرُ مِنَ التَّفَاخُرِ بِغَيْرِهِ عَادَةً، وَلِأَنَّ لِلنِّكَاحِ تَعَلُّقًا لَازِمًا بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالنَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ، فَلَمَّا اعْتُبِرَتِ الْكَفَاءَةُ ثَمَّةَ فَلأَنْ تُعْتَبَرَ هَاهُنَا أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ عَلَى الْمُوسِرَةِ ضَرَرًا فِي إِعْسَارِ زَوْجِهَا لِإِخْلَالِهِ بِنَفَقَتِهَا وَمُؤْنَةِ أَوْلَادِهَا، وَلِهَذَا مَلَكَتِ الْفَسْخَ بِإِخْلَالِهِ بِنَفَقَتِهَا وَمُؤْنَةِ أَوْلَادِهَا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ مَعْدُودٌ نَقْصًا فِي عُرْفِ النَّاسِ، وَيَتَفَاضَلُونَ فِيهِ كَتَفَاضُلِهِمْ فِي النَّسَبِ وَأَبْلَغَ، فَكَانَ مِنْ شُرُوطِ الْكَفَاءَةِ كَالنَّسَبِ.

وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْيَسَارِ الْقُدْرَةُ عَلَى مَهْرِ مِثْلِ الزَّوْجَةِ وَالنَّفَقَةُ، وَلَا تُعْتَبَرُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ الزَّوْجَ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا وَنَفَقَتِهَا يَكُونُ كُفْئًا لَهَا وَإِنْ كَانَ لَا يُسَاوِيهَا فِي الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُعْتَبَرَ مِنَ الْمَالِ فِي الْيَسَارِ هُوَ الَّذِي يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، إِذْ إِنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ مَهْرًا وَلَا نَفَقَةً لَا يَكُونُ كُفْئًا لِأَنَّ الْمَهْرَ بَدَلُ الْبُضْعِ فَلَا بُدَّ مِنْ إِيفَائِهِ، وَبِالنَّفَقَةِ قِوَامُ الِازْدِوَاجِ وَدَوَامُهُ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمَا، وَلِأَنَّ مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ يُسْتَحْقَرُ وَيُسْتَهَانُ بِهِ فِي الْعَادَةِ، كَمَنْ لَهُ نَسَبٌ دَنِيءٌ، فَتَخْتَلُّ بِهِ الْمَصَالِحُ كَمَا تَخْتَلُّ عِنْدَ دَنَاءَةِ النَّسَبِ.وَالْمُرَادُ بِالْمَهْرِ قَدْرُ مَا تَعَارَفُوا تَعْجِيلَهُ؛ لِأَنَّ مَا وَرَاءَهُ مُؤَجَّلٌ عُرْفًا، قَالَ الْبَابَرْتِيُّ: لَيْسَ بِمُطَالَبٍ بِهِ فَلَا يُسْقِطُ الْكَفَاءَةَ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ الْقُدْرَةَ عَلَى النَّفَقَةِ دُونَ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ تَجْرِي الْمُسَاهَلَةُ فِي الْمَهْرِ وَيُعَدُّ الْمَرْءُ قَادِرًا عَلَيْهِ بِيَسَارِ أَبِيهِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ تَسَاوِيَ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ فِي الْغِنَى شَرْطُ تَحَقُّقِ الْكَفَاءَةِ، حَتَّى إِنَّ الْفَائِقَةَ الْيَسَارِ لَا يُكَافِئُهَا الْقَادِرُ عَلَى الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاخَرُونَ بِالْغِنَى وَيَتَعَيَّرُونَ بِالْفَقْرِ.

وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ لَا يَتَقَدَّرَ الْمَالُ بِمِقْدَارِ مِلْكِ النِّصَابِ أَوْ غَيْرِهِ، بَلْ إِنْ كَانَ حَالُ أَبِيهَا مِمَّنْ لَا يُزْرِي عَلَيْهَا بِتَزْوِيجِهَا بِالزَّوْجِ، بِأَنْ يَكُونَ مُوَازِيًا أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ فِي الْمَالِ الَّذِي يَقْدِرُ بِهِ عَلَى نَفَقَةِ الْمُوسِرِينَ، بِحَيْثُ لَا تَتَغَيَّرُ عَادَتُهَا عِنْدَ أَبِيهَا فِي بَيْتِهِ، فَذَلِكَ الْمُعْتَبَرُ.

وَالْقَائِلُونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الْيَسَارِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْكَفَاءَةِ، فَقِيلَ: يُعْتَبَرُ بِقَدْرِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، فَيَكُونُ بِهِمَا كُفْئًا لِصَاحِبَةِ الْأُلُوفِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَكْفِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ أَصْنَافٌ: غَنِيٌّ وَفَقِيرٌ وَمُتَوَسِّطٌ، وَكُلُّ صِنْفٍ أَكْفَاءٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْمَرَاتِبُ.

وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْيَسَارَ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْكَفَاءَةِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ غَادٍ وَرَائِحٌ وَلَا يَفْتَخِرُ بِهِ أَهْلُ الْمُرُوءَاتِ وَالْبَصَائِرِ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْيَسَارِ؛ لِأَنَّ الْفَقْرَ شَرَفٌ فِي الدِّينِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْيَسَارِ مَا يُقْدَرُ بِهِ عَلَى النَّفَقَةِ وَالْمَهْرِ.

و- السَّلَامَةُ مِنَ الْعُيُوبِ:

12- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ السَّلَامَةَ مِنَ الْعُيُوبِ الْمُثْبِتَةِ لِخِيَارِ فَسْخِ النِّكَاحِ مِنْ خِصَالِ الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ.

وَقَالَ ابْنُ رَاشِدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: الْمُرَادُ أَنْ يُسَاوِيَهَا فِي الصِّحَّةِ، أَيْ يَكُونَ سَالِمًا مِنَ الْعُيُوبِ الْفَاحِشَةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ بَشِيرٍ وَابْنِ شَاسٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَصْحَابِ.

وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: مِنَ الْخِصَالِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْكَفَاءَةِ السَّلَامَةُ مِنَ الْعُيُوبِ الْمُثْبِتَةِ لِلْخِيَارِ، فَمَنْ بِهِ بَعْضُهَا كَالْجُنُونِ أَوِ الْجُذَامِ أَوِ الْبَرَصِ لَا يَكُونُ كُفْئًا لِسَلِيمَةٍ عَنْهَا؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تَعَافُ صُحْبَةَ مَنْ بِهِ ذَلِكَ، وَيَخْتَلُّ بِهِ مَقْصُودُ النِّكَاحِ، وَلَوْ كَانَ بِهَا عَيْبٌ أَيْضًا، فَإِنِ اخْتَلَفَ الْعَيْبَانِ فَلَا كَفَاءَةَ، وَإِنِ اخْتَلَفَا وَمَا بِهِ أَكْثَرُ فَكَذَلِكَ، وَكَذَا إِنْ تَسَاوَيَا أَوْ كَانَ مَا بِهَا أَكْثَرُ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَعَافُ مِنْ غَيْرِهِ مَا لَا يَعَافُ مِنْ نَفْسِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَجْبُوبًا وَهِيَ رَتْقَاءُ أَوْ قَرْنَاءُ.

وَاسْتَثْنَى الْبَغَوِيُّ وَالْخُوَارِزْمِيُّ الْعُنَّةَ لِعَدَمِ تَحَقُّقِهَا، فَلَا نَظَرَ إِلَيْهَا فِي الْكَفَاءَةِ وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ الْإِسْنَوِيُّ وَابْنُ الْمُقْرِي، قَالَ الشَّيْخَانِ وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا، وَإِطْلَاقُ الْجُمْهُورِ يُوَافِقُهُ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَوَجَّهَ بِأَنَّ الْأَحْكَامَ تُبْنَى عَلَى الظَّاهِرِ وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى التَّحَقُّقِ.

وَأَلْحَقَ الرُّويَانِيُّ بِالْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ الْعُيُوبَ الْمُنَفِّرَةَ، كَالْعَمَى وَالْقَطْعِ وَتَشَوُّهِ الصُّورَةِ، وَقَالَ: هِيَ تَمْنَعُ الْكَفَاءَةَ عِنْدِي، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ، وَهَذَا خِلَافُ الْمَذْهَبِ.

وَاشْتِرَاطُ السَّلَامَةِ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ هُوَ عَلَى عُمُومِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرْأَةِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَلِيِّ، فَيُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ الْجُنُونُ وَالْجُذَامُ وَالْبَرَصُ، لَا الْجَبُّ وَالْعُنَّةُ.

قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَالْهَرَوِيُّ: وَالتَّنَقِّي مِنَ الْعُيُوبِ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الزَّوْجَيْنِ خَاصَّةً دُونَ آبَائِهِمَا، فَابْنُ الْأَبْرَصِ كُفْءٌ لِمَنْ أَبُوهَا سَلِيمٌ..قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَالْأَوْجَهُ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ لَيْسَ كُفْئًا لَهَا لِأَنَّهَا تُعَيَّرُ بِهِ.

وَقَالَ الْقَاضِي: يُؤَثِّرُ فِي الزَّوْجِ كُلُّ مَا يَكْسِرُ سُورَةَ التَّوَقَانِ.

وَقَالَ الْمَقْدِسِيُّ وَالرَّحِيبَانِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَيَتَّجِهُ أَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي اشْتِرَاطُهُ فِي الْكَفَاءَةِ فَقْدُ الْعُيُوبِ الْمُثْبِتَةِ لِخِيَارِ الْفَسْخِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَصْحَابُنَا، لَكِنْ عِنْدَ ابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي مُحَمَّدٍ أَنَّهُ شَرْطٌ، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ: أَنَّهَا لَا تُزَوَّجُ بِمَعِيبٍ وَإِنْ أَرَادَتْ، فَعَلَى هَذَا السَّلَامَةُ مِنَ الْعُيُوبِ مِنْ جُمْلَةِ خِصَالِ الْكَفَاءَةِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ: لَا تُعْتَبَرُ فِي الْكَفَاءَةِ السَّلَامَةُ مِنَ الْعُيُوبِ لَكِنَّ ابْنَ عَابِدِينَ نَقَلَ عَنِ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ، أَنَّ غَيْرَ الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ لَوْ زَوَّجَ الصَّغِيرَةَ مِنْ عِنِّينٍ مَعْرُوفٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْجِمَاعِ شَرْطُ الْكَفَاءَةِ كَالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، بَلْ أَوْلَى، وَنَقَلَ عَنْ الْبَحْرِ أَنَّ الْكَبِيرَةَ لَوْ زَوَّجَهَا الْوَكِيلُ غَنِيًّا مَجْبُوبًا جَازَ، وَإِنْ كَانَ لَهَا التَّفْرِيقُ بَعْدُ.

تَقَابُلُ خِصَالِ الْكَفَاءَةِ:

13- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ بَعْضَ خِصَالِ الْكَفَاءَةِ لَا يُقَابَلُ بِبَعْضٍ فِي الْأَصَحِّ، فَلَا تُجْبَرُ نَقِيصَةٌ بِفَضِيلَةٍ، أَيْ لَا تُزَوَّجُ عَفِيفَةٌ رَقِيقَةٌ بِفَاسِقٍ حُرٍّ، وَلَا سَلِيمَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ دَنِيئَةٌ بِمَعِيبٍ نَسِيبٍ.لِمَا بِالزَّوْجِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ مِنَ النَّقْصِ الْمَانِعِ مِنَ الْكَفَاءَةِ، وَلَا يَنْجَبِرُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْفَضِيلَةِ الزَّائِدَةِ عَلَيْهَا.

وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ أَنَّ دَنَاءَةَ نَسَبِ الزَّوْجِ تَنْجَبِرُ بِعِفَّتِهِ الظَّاهِرَةِ، وَأَنَّ الْأَمَةَ الْعَرَبِيَّةَ يُقَابِلُهَا الْحُرُّ الْعَجَمِيُّ.

وَفَصَّلَ الْإِمَامُ فَقَالَ: السَّلَامَةُ مِنَ الْعُيُوبِ لَا تُقَابَلُ بِسَائِرِ فَضَائِلِ الزَّوْجِ، وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ، وَكَذَا النَّسَبُ، وَفِي انْجِبَارِ دَنَاءَةِ نَسَبِهِ بِعِفَّتِهِ الظَّاهِرَةِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ، قَالَ: وَالتَّنَقِّي مِنَ الْحِرَفِ الدَّنِيَّةِ يُقَابِلُهُ الصَّلَاحُ وِفَاقًا، وَالصَّلَاحُ إِنِ اعْتَبَرْنَاهُ يُقَابَلُ بِكُلِّ خَصْلَةٍ، وَالْأَمَةُ الْعَرَبِيَّةُ بِالْحُرِّ الْعَجَمِيِّ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ.

وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الزَّوْجُ ذَا جَاهٍ كَالسُّلْطَانِ وَالْعَالِمِ وَلَمْ يَمْلِكْ إِلاَّ النَّفَقَةَ، قِيلَ: يَكُونُ كُفْئًا لِأَنَّ الْخَلَلَ يَنْجَبِرُ بِهِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالُوا: الْفَقِيهُ الْعَجَمِيُّ كُفْءٌ لِلْعَرَبِيِّ الْجَاهِلِ، وَقَالَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ شَرَفَ النَّسَبِ أَوِ الْعِلْمِ يَجْبُرُ نَقْصَ الْحِرْفَةِ، بَلْ يَفُوقُ سَائِرَ الْحَرْفِ.

تَخَلُّفُ مَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ فِي خِصَالِ الْكَفَاءَةِ:

14- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي لَا تُعْتَبَرُ فِي خِصَالِ الْكَفَاءَةِ الَّتِي سَبَقَ بَيَانُهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي الْكَفَاءَةِ، كَالْكَرَمِ وَعَكْسِهِ، وَاخْتِلَافِ الْبَلَدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَالُوا: لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَقَدْ خَالَفَ بَعْضُهُمْ فِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ كَمَا يَلِي:

أ- كَفَاءَةُ الدَّمِيمِ لِلْجَمِيلَةِ:

15- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْجَمَالَ لَيْسَ مِنَ الْخِصَالِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْكَفَاءَةِ لِلنِّكَاحِ، لَكِنَّ الرُّويَانِيَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ اعْتَبَرَهُ مِنْ تِلْكَ الْخِصَالِ، وَمَعَ مُوَافَقَةِ الْحَنَفِيَّةِ لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَكِنَّ النَّصِيحَةَ أَنْ يُرَاعِيَ الْأَوْلِيَاءُ الْمُجَانَسَةَ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ.

ب- كَفَاءَةُ وَلَدِ الزِّنَا لِذَاتِ النَّسَبِ:

16- نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ فِيهَا فَنَقَلَ الْبُهُوتِيُّ أَنَّهُ قَدْ قِيلَ إِنَّهُ كُفْءٌ لِذَاتِ نَسَبٍ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يُحْتَمَلُ أَلاَّ يَكُونَ كُفْئًا لِذَاتِ نَسَبٍ، وَنَقَلَ الْبُهُوتِيُّ وَابْنُ قُدَامَةَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ أَنَّ وَلَدَ الزِّنَا يَنْكِحُ وَيُنْكَحُ إِلَيْهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُحِبَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تُعَيَّرُ بِهِ هِيَ وَوَلِيُّهَا، وَيَتَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى وَلَدِهَا، وَأَمَّا كَوْنُهُ لَيْسَ بِكُفْءٍ لِعَرَبِيَّةٍ فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ، لِأَنَّهُ أَدْنَى حَالًا مِنَ الْمَوَالِي.

ج- كَفَاءَةُ الْجَاهِلِ لِلْعَالِمَةِ:

17- ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَاخْتَلَفُوا فِيهَا، فَصُحِّحَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ كَوْنُ الرَّجُلِ الْجَاهِلِ كُفْئًا لِلْعَالِمَةِ، وَرَجَّحَ الرُّويَانِيُّ أَنَّهُ غَيْرُ كُفْءٍ لَهَا، وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ الْعِلْمَ فِي الْأَبِ، فَاعْتِبَارُهُ فِي الْمَرْأَةِ نَفْسِهَا أَوْلَى، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ مَا سَبَقَ: وَهَذَا مُتَعَيَّنٌ.

د- كَفَاءَةُ الْقَصِيرِ لِغَيْرِ الْقَصِيرَةِ:

18- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الطُّولَ أَوِ الْقِصَرَ لَا يُعْتَبَرُ أَيٌّ مِنْهُمَا فِي الْكَفَاءَةِ لِلنِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَهُوَ فَتْحٌ لِبَابٍ وَاسِعٍ، وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ: فِيمَا إِذَا أَفْرَطَ الْقِصَرُ فِي الرَّجُلِ نُظِرَ، وَيَنْبَغِي أَلاَّ يَجُوزَ لِلْأَبِ تَزْوِيجُ ابْنَتِهِ بِمَنْ هُوَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ مِمَّنْ تَتَعَيَّرُ بِهِ الْمَرْأَةُ.

هـ- كَفَاءَةُ الشَّيْخِ لِلشَّابَّةِ:

19- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشَّيْخَ كُفْءٌ لِلشَّابَّةِ، لَكِنَّ الرُّويَانِيَّ ذَكَرَ أَنَّ الشَّيْخَ لَا يَكُونُ كُفْئًا لِلشَّابَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّحِيحُ خِلَافُ مَا قَالَهُ الرُّويَانِيُّ، وَقَالَ الرَّمْلِيُّ: هُوَ ضَعِيفٌ لَكِنْ يَنْبَغِي مُرَاعَاتُهُ.

و- كَفَاءَةُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ لِلرَّشِيدَةِ:

20- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ كُفْءٌ لِلرَّشِيدَةِ، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَيَّرُ غَالِبًا بِالْحَجْرِ عَلَى الزَّوْجِ، وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: الْأَوْجَهُ أَنَّهُ غَيْرُ كُفْءٍ.

مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَخَلُّفِ الْكَفَاءَةِ:

21- إِذَا تَخَلَّفَتِ الْكَفَاءَةُ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُونَهَا لِصِحَّةِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بَاطِلًا أَوْ فَاسِدًا، أَمَّا مَنْ لَا يَعْتَبِرُونَهَا لِصِحَّةِ النِّكَاحِ، وَيَرَوْنَهَا حَقًّا لِلْمَرْأَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ فَإِنَّ تَخَلُّفَ الْكَفَاءَةِ لَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ عِنْدَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ، بَلْ يَجْعَلُهُ عُرْضَةً لِلْفَسْخِ.

وَلِلْفُقَهَاءِ وَرَاءَ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ- عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ- إِذَا تَزَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ غَيْرَ كُفْءٍ فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا دَفْعًا لِلْعَارِ مَا لَمْ يَجِئْ مِنْهُ دَلَالَةُ الرِّضَا، وَالتَّفْرِيقُ إِلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ، وَكُلٌّ مِنَ الْخَصْمَيْنِ يَتَشَبَّثُ بِدَلِيلٍ، فَلَا يَنْقَطِعُ النِّزَاعُ إِلاَّ بِفَصْلِ الْقَاضِي، وَمَا لَمْ يُفَرِّقْ فَأَحْكَامُ النِّكَاحِ ثَابِتَةٌ، يَتَوَارَثَانِ بِهِ إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَلَا يَكُونُ الْفَسْخُ طَلَاقًا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ تَصَرُّفٌ فِي النِّكَاحِ وَهَذَا فَسْخٌ لِأَصْلِ النِّكَاحِ؛ وَلِأَنَّ الْفَسْخَ إِنَّمَا يَكُونُ طَلَاقًا إِذَا فَعَلَهُ الْقَاضِي نِيَابَةً عَنِ الزَّوْجِ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ لَهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَهْرِ إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمُسَمَّى، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ لِلدُّخُولِ فِي عَقْدٍ صَحِيحٍ، وَالْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ عِنْدَهُمْ فِي هَذَا كَالدُّخُولِ.

وَقَالُوا: إِنْ قَبَضَ الْوَلِيُّ الْمَهْرَ أَوْ جَهَّزَ بِهِ أَوْ طَالَبَ بِالنَّفَقَةِ فَقَدْ رَضِيَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَقْرِيرٌ لِلنِّكَاحِ وَأَنَّهُ يَكُونُ رِضًا، كَمَا إِذَا زَوَّجَهَا فَمَكَّنَتِ الزَّوْجَ مِنْ نَفْسِهَا، وَإِنْ سَكَتَ لَا يَكُونُ قَدْ رَضِيَ وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ، مَا لَمْ تَلِدْ، فَلَيْسَ لَهُ حِينَئِذٍ التَّفْرِيقُ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ عَنِ الْحَقِّ الْمُتَأَكِّدِ لَا يُبْطِلُهُ، لِاحْتِمَالِ تَأَخُّرِهِ إِلَى وَقْتٍ يَخْتَارُ فِيهِ الْخُصُومَةَ، وَعَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَنَّ لَهُ التَّفْرِيقَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ أَيْضًا.

وَإِنْ رَضِيَ أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ أَوْ أَسْفَلَ مِنْهُ الِاعْتِرَاضُ، لِأَنَّ حَقَّ الْأَوْلِيَاءِ لَا يَتَجَزَّأُ، وَهُوَ دَفْعُ الْعَارِ، فَجُعِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَالْمُنْفَرِدِ؛ لِأَنَّهُ صَحَّ الْإِسْقَاطُ فِي حَقِّهِ، فَيَسْقُطُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ضَرُورَةَ عَدَمِ التَّجَزُّؤِ، كَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا رَضِيَتْ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا غَيْرُ حَقِّهِمْ، إِذْ أَنَّ حَقَّهَا صِيَانَةُ نَفْسِهَا عَنْ ذُلِّ الِاسْتِفْرَاشِ، وَحَقَّهُمْ دَفْعُ الْعَارِ، فَسُقُوطُ أَحَدِهِمَا لَا يَقْتَضِي سُقُوطَ الْآخَرِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لِلْبَاقِينَ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لِجَمَاعَتِهِمْ، فَإِذَا رَضِيَ أَحَدُهُمْ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ وَبَقِيَ حَقُّ الْآخَرِينَ، وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ الْمُعْتَرِضُ أَقْرَبَ مِنَ الْوَلِيِّ الَّذِي رَضِيَ فَلَهُ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ.

وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ- وَرِوَايَتُهُ هِيَ الْمُخْتَارَةُ لِلْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ كُفْءٍ لَمْ يَجُزْ وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ أَصْلًا، قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَهُوَ أَحْوَطُ، فَلَيْسَ كُلُّ وَلِيٍّ يُحْسِنُ الْمُرَافَعَةَ إِلَى الْقَاضِي، وَلَا كُلُّ قَاضٍ يَعْدِلُ، فَكَانَ الْأَحْوَطُ سَدَّ هَذَا الْبَابِ، وَقَالَ فِي الْخَانِيَّةِ: هَذَا أَصَحُّ وَأَحْوَطُ.

وَقَدْ نَقَلَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ عَنْ أَبِي اللَّيْثِ: أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ أَنْ تَمْتَنِعَ عَنْ تَمْكِينِهِ مِنْ وَطْئِهَا؛ لِأَنَّ مِنْ حُجَّةِ الْمَرْأَةِ أَنْ تَقُولَ: إِنَّمَا تَزَوَّجْتُكَ عَلَى رَجَاءِ أَنْ يُجِيزَ الْوَلِيُّ، وَعَسَى أَنْ لَا يَرْضَى، فَيُفَرِّقَ

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ- كَمَا حَكَى الْبُنَانِيِّ إِذَا تَزَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فِي الدِّينِ، فَيَتَحَصَّلُ فِي الْعَقْدِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: لُزُومُ فَسْخِهِ لِفَسَادِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ اللَّخْمِيِّ وَابْنِ بَشِيرٍ وَغَيْرِهِمَا.

الثَّانِي: أَنَّهُ نِكَاحٌ صَحِيحٌ، وَشَهَرَهُ الْفَاكِهَانِيُّ.

الثَّالِثُ: لِأَصْبَغَ: إِنْ كَانَ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا مِنْهُ رَدَّهُ الْإِمَامُ وَإِنْ رَضِيَتْ بِهِ.وَقَالَ الْبُنَانِيُّ: وَظَاهِرُ كَلَامِ الْحَطَّابِ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ هُوَ الرَّاجِحُ.

وَنَقَلَ الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ فَرْحُونَ أَنَّهُ قَالَ فِي تَبْصِرَتِهِ: مِنَ الطَّلَاقِ الَّذِي يُوقِعُهُ الْحَاكِمُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَرْأَةِ وَإِنْ كَرِهَتْ إِيقَاعَهُ نِكَاحُهَا الْفَاسِقَ، وَعَقَّبَ الْحَطَّابُ بِقَوْلِهِ: سَوَاءٌ كَانَ فَاسِقًا بِالْجَوَارِحِ أَوْ بِالِاعْتِقَادِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ يُفْسَخُ مُطْلَقًا بَعْدَ الدُّخُولِ وَقَبْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الْحَالُ- أَيْ تَخَلُّفُ الْكَفَاءَةِ بِسَبَبِ الْحَالِ وَلَيْسَ بِسَبَبِ الدِّينِ- فَلَا إِشْكَالَ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ وَوَلِيِّهَا إِسْقَاطَهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ زَوَّجَ الْوَلِيُّ الْمُنْفَرِدُ الْمَرْأَةَ غَيْرَ كُفْءٍ بِرِضَاهَا، أَوْ زَوَّجَهَا بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ الْمُسْتَوِينَ غَيْرَ كُفْءٍ بِرِضَاهَا وَرِضَا الْبَاقِينَ مِمَّنْ فِي دَرَجَتِهِ، صَحَّ التَّزْوِيجُ؛ لِأَنَّ الْكَفَاءَةَ حَقُّهَا وَحَقُّ الْأَوْلِيَاءِ- كَمَا سَبَقَ- فَإِنْ رَضُوا بِإِسْقَاطِهَا فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِمْ.

وَلَوْ زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ الْأَقْرَبُ غَيْرَ كُفْءٍ بِرِضَاهَا فَلَيْسَ لِلْأَبْعَدِ الِاعْتِرَاضُ؛ إِذْ لَا حَقَّ لَهُ الْآنَ فِي التَّزْوِيجِ.

وَلَوْ زَوَّجَهَا أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ الْمُسْتَوِينَ فِي الدَّرَجَةِ بِغَيْرِ الْكُفْءِ بِرِضَاهَا دُونَ رِضَاءِ بَاقِي الْمُسْتَوِينَ لَمْ يَصِحَّ التَّزْوِيجُ بِهِ؛ لِأَنَّ لَهُمْ حَقًّا فِي الْكَفَاءَةِ، فَاعْتُبِرَ رِضَاهُمْ- وَيُسْتَثْنَى مَا لَوْ زَوَّجَهَا بِمَنْ بِهِ جَبٌّ أَوْ عُنَّةٌ بِرِضَاهَا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ- وَفِي قَوْلٍ: يَصِحُّ وَلَهُمُ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ يَقْتَضِي الْخِيَارَ لَا الْبُطْلَانَ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى مَعِيبًا.

وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ فِي تَزْوِيجِ الْأَبِ أَوِ الْجَدِّ بِكْرًا صَغِيرَةً أَوْ بَالِغَةً بِغَيْرِ رِضَاهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ، وَفِي الْأَظْهَرِ: التَّزْوِيجُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْغِبْطَةِ؛ لِأَنَّ وَلِيَّ الْمَالِ لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ بِغَيْرِ الْغِبْطَةِ، فَوَلِيُّ الْبُضْعِ أَوْلَى، وَفِي الْآخَرِ: يَصِحُّ، وَلِلْبَالِغَةِ الْخِيَارُ فِي الْحَالِ، وَلِلصَّغِيرَةِ إِذَا بَلَغَتْ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي تَزْوِيجِ غَيْرِ الْمُجْبَرِ إِذَا أَذِنَتْ فِي التَّزْوِيجِ مُطْلَقًا.

وَلَوْ طَلَبَتْ مَنْ لَا وَلِيَّ خَاصًّا لَهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ بِغَيْرِ كُفْءٍ فَفَعَلَ لَمْ يَصِحَّ تَزْوِيجُهُ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْمُسْلِمِينَ وَلَهُمْ حَظٌّ فِي الْكَفَاءَةِ، وَالثَّانِي: يَصِحُّ كَالْوَلِيِّ الْخَاصِّ، وَصَحَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ.

وَلَوْ كَانَ لِلْمَرْأَةِ وَلِيٌّ خَاصٌّ، وَلَكِنْ زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ لِغَيْبَتِهِ أَوْ عَضْلِهِ أَوْ إِحْرَامِهِ، فَلَا تُزَوَّجُ إِلاَّ مِنْ كُفْءٍ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ فِي التَّصَرُّفِ، فَلَا يَصِحُّ التَّزْوِيجُ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ مَعَ عَدَمِ إِذْنِهِ.

وَلَوْ كَانَ الْوَلِيُّ حَاضِرًا وَفِيهِ مَانِعٌ مِنْ فِسْقٍ وَنَحْوِهِ وَلَيْسَ بَعْدَهُ إِلاَّ السُّلْطَانُ، فَزَوَّجَ السُّلْطَانُ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ بِرِضَاهَا فَظَاهِرُ إِطْلَاقِهِمْ طَرْدُ الْوَجْهَيْنِ.

ادِّعَاءُ الْمَرْأَةِ كَفَاءَةَ الْخَاطِبِ:

22- وَإِذَا ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ كَفَاءَةَ الْخَاطِبِ وَأَنْكَرَهَا الْوَلِيُّ رُفِعَ الْأَمْرُ إِلَى الْقَاضِي، فَإِنْ ثَبَتَتْ كَفَاءَتُهُ أَلْزَمَهُ تَزْوِيجَهَا، فَإِنِ امْتَنَعَ زَوَّجَهَا الْقَاضِي بِهِ، وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ كَفَاءَتُهُ فَلَا يُلْزِمُهُ تَزْوِيجَهَا بِهِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ الْمُقْرِي وَالْأَنْصَارِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.

تَزْوِيجُ مَنْ لَا يُوجَدُ لَهَا كُفْءٌ:

23- نَصَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ لَهَا كُفْءٌ أَصْلًا جَازَ لِلْوَلِيِّ تَزْوِيجُهَا- لِلضَّرُورَةِ- بِغَيْرِ الْكُفْءِ.قَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ تَزَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ غَيْرَ كُفْءٍ، وَكَانَتِ الْكَفَاءَةُ مَعْدُومَةً حَالَ الْعَقْدِ، فَرَضِيَتِ الْمَرْأَةُ وَالْأَوْلِيَاءُ كُلُّهُمْ صَحَّ النِّكَاحُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْكَفَاءَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بَعْضُهُمْ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ:

إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَاءَةَ حَقٌّ لِجَمِيعِهِمْ، وَالْعَاقِدُ مُتَصَرِّفٌ فِيهَا بِغَيْرِ رِضَاهُمْ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَتَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ.

وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ صَحِيحٌ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي رُفِعَتْ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْئِهَا، خَيَّرَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يُبْطِلِ النِّكَاحَ مِنْ أَصْلِهِ؛ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ بِالْإِذْنِ، وَالنَّقْصُ الْمَوْجُودُ فِيهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ، وَإِنَّمَا يُثْبِتُ خِيَارَ الْفَسْخِ، وَالْحَقُّ فِي الْخِيَارِ لِمَنْ لَمْ يَرْضَ بِالنِّكَاحِ مِنَ الْمَرْأَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ كُلِّهِمْ، حَتَّى مَنْ يَحْدُثُ مِنْ عَصَبَتِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْعَارَ فِي تَزْوِيجِ مَنْ لَيْسَ بِكُفْءٍ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَهَذَا الْحَقُّ فِي الْفَسْخِ عَلَى الْفَوْرِ وَعَلَى التَّرَاخِي لِأَنَّهُ خِيَارٌ لِنَقْصٍ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ خِيَارَ الْعَيْبِ، فَلَا يَسْقُطُ الْخِيَارُ إِلاَّ بِإِسْقَاطِ الْعَصَبَةِ الْأَوْلِيَاءِ بِقَوْلِ مِثْلَ: أَسْقَطْنَا الْكَفَاءَةَ، أَوْ رَضِينَا بِهِ غَيْرَ كُفْءٍ، وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا سُكُوتُهُمْ فَلَيْسَ رِضًا، وَخِيَارُ الزَّوْجَةِ يَسْقُطُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى رِضَاهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، كَأَنْ مَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا عَالِمَةً أَنَّهُ غَيْرُ كُفْءٍ.

وَيَمْلِكُ الْحَقَّ فِي خِيَارِ الْفَسْخِ لِفَقْدِ الْكَفَاءَةِ الْأَبْعَدُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ مَعَ رِضَا الْأَقْرَبِ مِنْهُمْ بِهِ، وَمَعَ رِضَا الزَّوْجَةِ؛ دَفْعًا لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْعَارِ، فَلَوْ زَوَّجَ الْأَبُ بِنْتَهُ بِغَيْرِ كُفْءٍ بِرِضَاهَا، فَلِلْإِخْوَةِ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّ الْعَارَ فِي تَزْوِيجِ مَنْ لَيْسَ بِكُفْءٍ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.

تَخَلُّفُ الْكَفَاءَةِ فِيمَنْ رَضِيَ بِهِ الْأَوْلِيَاءُ فِي نِكَاحٍ سَابِقٍ:

24- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لَوْ زَوَّجَ الْمَرْأَةَ بِإِذْنِهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَطَلَّقَهَا، ثُمَّ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ ثَانِيًا، كَانَ لِذَلِكَ الْوَلِيِّ التَّفْرِيقُ، وَلَا يَكُونُ الرِّضَا بِالْأَوَّلِ رِضًا بِالثَّانِي؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَبْعُدُ رُجُوعُهُ عَنْ خُلَّةٍ دَنِيئَةٍ، وَكَذَا لَوْ زَوَّجَهَا هُوَ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَطَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ غَيْرَ كُفْءٍ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْهُ ثَانِيًا فِي الْعِدَّةِ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا لَزِمَهُ مَهْرٌ ثَانٍ، وَاسْتَأْنَفَتِ الْعِدَّةَ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الثَّانِي.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَيْسَ لِوَلِيٍّ رَضِيَ بِتَزْوِيجِ وَلِيَّتِهِ غَيْرَ كُفْءٍ وَزَوَّجَهُ إِيَّاهَا، فَطَلَّقَهَا طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا، امْتِنَاعٌ مِنْ تَزْوِيجِهَا لَهُ

ثَانِيًا- إِنْ رَضِيَتْ بِهِ- بِلَا عَيْبٍ حَادِثٍ مُقْتَضٍ لِلِامْتِنَاعِ، لِسُقُوطِ حَقِّهِ فِي الْكَفَاءَةِ، حَيْثُ رَضِيَ بِهِ أَوَّلًا، فَإِنِ امْتَنَعَ عُدَّ عَاضِلًا، وَلَهُ الِامْتِنَاعُ بِعَيْبٍ حَادِثٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ رَضِيَ الْأَوْلِيَاءُ بِتَزْوِيجِهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ، ثُمَّ خَالَعَهَا الزَّوْجُ، ثُمَّ زَوَّجَهَا أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ بِهِ بِرِضَاهَا دُونَ رِضَا الْبَاقِينَ فَإِنَّهُ يَصِحُّ، كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الرَّوْضَةِ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي؛ لِرِضَاهُمْ بِهِ أَوَّلًا، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ، وَفِي مَعْنَى الْمُخْتَلِعِ: الْفَاسِخُ وَالْمُطَلِّقُ رَجْعِيًّا إِذَا أَعَادَ زَوْجَتَهُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، وَالْمُطَلِّقُ قَبْلَ الدُّخُولِ.

تَكَلُّمُ الْأُمِّ إِنْ تَخَلَّفَتْ كَفَاءَةُ زَوْجِ ابْنَتِهَا:

25- نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مَسْأَلَةِ تَكَلُّمِ أُمِّ الزَّوْجَةِ فِي رَدِّ تَزْوِيجِ الْأَبِ ابْنَتَهُمَا الْمُوسِرَةَ الْمَرْغُوبَ فِيهَا مِنْ رَجُلٍ فَقِيرٍ، فَفِي الْمُدَوَّنَةِ: أَتَتِ امْرَأَةٌ مُطَلَّقَةٌ إِلَى مَالِكٍ فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي ابْنَةً فِي حِجْرِي مُوسِرَةً مَرْغُوبًا فِيهَا، فَأَرَادَ أَبُوهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنَ ابْنِ أَخٍ لَهُ فَقِيرٍ، وَفِي الْمُهِمَّاتِ: مُعْدَمٌ لَا مَالَ لَهُ، أَفَتَرَى لِي فِي ذَلِكَ تَكَلُّمًا؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لأَرَى لَكَ تَكَلُّمًا، وَرُوِيَتْ الْمُدَوَّنَةُ أَيْضًا بِالنَّفْيِ، أَيْ نَعَمْ، لَا أَرَى لَكَ تَكَلُّمًا.

قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا أَرَى لَهَا تَكَلُّمًا، وَأَرَاهُ مَاضِيًا، إِلاَّ لِضَرَرٍ بَيِّنٍ فَلَهَا التَّكَلُّمُ.

قَالَ خَلِيلٌ وَالْأَبِيُّ وَغَيْرُهُمَا: هَلْ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وِفَاقٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ بِحَمْلِ رِوَايَةِ الْإِثْبَاتِ عَلَى ثُبُوتِ الضَّرَرِ، وَرِوَايَةِ النَّفْيِ عَلَى عَدَمِهِ، أَوْ خِلَافٌ بِحَمْلِ كَلَامِ مَالِكٍ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ إِطْلَاقُ الْكَلَامِ عَلَى رِوَايَةِ الْإِثْبَاتِ، وَإِطْلَاقُ عَدَمِهِ عَلَى رِوَايَةِ النَّفْيِ؟ فِيهِ تَأْوِيلَانِ: التَّوْفِيقُ لِأَبِي عِمْرَانَ وَابْنِ مُحْرِزٍ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَالْخِلَافُ لِابْنِ حَبِيبٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


142-موسوعة الفقه الكويتية (متحيرة 1)

مُتَحَيِّرَةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْمُتَحَيِّرَةُ فِي اللُّغَةِ: مُشْتَقٌّ مِنْ مَادَّةِ حَيَرَ، وَالتَّحَيُّرُ: التَّرَدُّدُ، وَتَحَيَّرَ الْمَاءُ: اجْتَمَعَ وَدَارَ، وَتَحَيَّرَ الرَّجُلُ: إِذَا ضَلَّ فَلَمْ يَهْتَدِ لِسَبِيلِهِ، وَتَحَيَّرَ السَّحَابُ: لَمْ يَتَّجِهْ جِهَةً، وَاسْتَحَارَ الْمَكَانُ بِالْمَاءِ وَتَحَيَّرَ: تَمَلأَّ.

وَالْمُتَحَيِّرَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: هِيَ مَنْ نَسِيَتْ عَادَتَهَا وَتُسَمَّى الْمُضَلَّةَ وَالضَّالَّةَ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَا يُطْلَقُ اسْمُ الْمُتَحَيِّرَةِ إِلاَّ عَلَى مَنْ نَسِيَتْ عَادَتَهَا قَدْرًا وَوَقْتًا وَلَا تَمْيِيزَ لَهَا، وَأَمَّا مَنْ نَسِيَتْ عَدَدًا لَا وَقْتًا وَعَكْسَهَا فَلَا يُسَمِّيهَا الْأَصْحَابُ مُتَحَيِّرَةً، وَسَمَّاهَا الْغَزَالِيُّ مُتَحَيِّرَةً، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْرُوفُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْمُتَحَيِّرَةُ هِيَ مَنْ نَسِيَتْ عَادَتَهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهَا تَمْيِيزٌ.وَسُمِّيَتِ الْمَرْأَةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُتَحَيِّرَةً لِتَحَيُّرِهَا فِي أَمْرِهَا وَحَيْضِهَا، وَتُسَمَّى أَيْضًا الْمُحَيِّرَةَ- بِكَسْرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ- لِأَنَّهَا حَيَّرَتِ الْفَقِيهَ فِي أَمْرِهَا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْمُسْتَحَاضَةُ:

2- الْمُسْتَحَاضَةُ: مَنْ يَسِيلُ دَمُهَا وَلَا يَرْقَأُ، فِي غَيْرِ أَيَّامٍ مَعْلُومَةٍ، لَا مِنْ عِرْقِ الْحَيْضِ بَلْ مِنْ عِرْقٍ يُقَالُ لَهُ: الْعَاذِلُ.

وَالْمُسْتَحَاضَةُ أَعَمُّ مِنَ الْمُتَحَيِّرَةِ.

ب- الْمُبْتَدَأَةُ:

3- الْمُبْتَدَأَةُ مَنْ كَانَتْ فِي أَوَّلِ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُتَحَيِّرَةِ وَالْمُبْتَدَأَةِ أَنَّ الْمُبْتَدَأَةَ قَدْ تَكُونُ مُتَحَيِّرَةً.

ج- الْمُعْتَادَةُ:

4- الْمُعْتَادَةُ: مَنْ سَبَقَ مِنْهَا مِنْ حِينِ بُلُوغِهَا دَمٌ وَطُهْرٌ صَحِيحَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا بِأَنْ رَأَتْ دَمًا صَحِيحًا وَطُهْرًا فَاسِدًا.

أَنْوَاعُ الْمُتَحَيِّرَةِ

5- الْأَصْلُ أَنَّ الْمُتَحَيِّرَةَ هِيَ الْمُعْتَادَةُ النَّاسِيَةُ لِعَادَتِهَا- كَمَا مَرَّ آنِفًا فِي تَعْرِيفِ الْفُقَهَاءِ لِلْمُتَحَيِّرَةِ- لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ أَطْلَقُوا عَلَى الْمُبْتَدَأَةِ إِذَا لَمْ تَعْرِفْ وَقْتَ ابْتِدَاءِ دَمِهَا مُتَحَيِّرَةً أَيْضًا.

قَالَ النَّوَوِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ حُكْمَ الْمُتَحَيِّرَةِ لَا يَخْتَصُّ بِالنَّاسِيَةِ بَلِ الْمُبْتَدَأَةِ إِذَا لَمْ تَعْرِفْ وَقْتَ ابْتِدَاءِ دَمِهَا كَانَتْ مُتَحَيِّرَةً وَجَرَى عَلَيْهَا أَحْكَامُهَا.

وَالتَّحَيُّرُ كَمَا يَقَعُ فِي الْحَيْضِ يَقَعُ فِي النِّفَاسِ أَيْضًا فَيُطْلَقُ عَلَى النَّاسِيَةِ لِعَادَتِهَا فِي النِّفَاسِ: مُتَحَيِّرَةً.

أَوَّلًا: الْمُتَحَيِّرَةُ فِي الْحَيْضِ

6- الْأَصْلُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ امْرَأَةٍ حِفْظُ عَادَتِهَا فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ عَدَدًا وَمَكَانًا، كَكَوْنِهِ خَمْسَةً مَثَلًا مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ أَوْ آخِرِهِ مَثَلًا.

فَإِذَا نَسِيَتْ عَادَتَهَا فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: لِأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً لِلْعَدَدِ، أَيْ عَدَدِ أَيَّامِهَا فِي الْحَيْضِ مَعَ عِلْمِهَا بِمَكَانِهَا مِنَ الشَّهْرِ أَنَّهَا فِي أَوَّلِهِ أَوْ آخِرِهِ مَثَلًا، أَوْ نَاسِيَةً لِلْمَكَانِ أَيْ مَكَانِهَا مِنَ الشَّهْرِ عَلَى التَّعْيِينِ مَعَ عِلْمِهَا عَدَدَ أَيَّامِ حَيْضِهَا، أَوْ نَاسِيَةً لِلْعَدَدِ وَالْمَكَانِ، أَيْ بِأَنْ لَمْ تَعْلَمْ عَدَدَ أَيَّامِهَا وَلَا مَكَانَهَا مِنَ الشَّهْرِ، هَذَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- وَيُعَبِّرُ الشَّافِعِيَّةُ عَنِ الْعَدَدِ بِالْقَدْرِ، وَعَنِ الْمَكَانِ بِالْوَقْتِ، كَمَا يُعَبِّرُ الْحَنَابِلَةُ عَنِ الْمَكَانِ بِالْمَوْضِعِ.

وَيُسَمِّي الْحَنَفِيَّةُ حَالَةَ النِّسْيَانِ فِي الْعَدَدِ وَالْمَكَانِ إِضْلَالًا عَامًّا، وَحَالَةَ النِّسْيَانِ فِي الْعَدَدِ فَقَطْ أَوِ الْمَكَانِ فَقَطْ إِضْلَالًا خَاصًّا.

الْإِضْلَالُ الْخَاصُّ:

أ- النَّاسِيَةُ لِلْعَدَدِ فَقَطْ (الْإِضْلَالُ بِالْعَدَدِ):

7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْمُتَحَيِّرَةِ النَّاسِيَةِ لِلْعَدَدِ فَقَطْ، فَالْأَصْلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُتَحَيِّرَةَ بِأَنْوَاعِهَا تَتَحَرَّى، فَإِنْ وَقَعَ تَحَرِّيهَا عَلَى طُهْرٍ تُعْطَى حُكْمَ الطَّاهِرَاتِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى حَيْضٍ تُعْطَى حُكْمَهُ، لِأَنَّ الظَّنَّ مِنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ ظَنُّهَا عَلَى شَيْءٍ فَعَلَيْهَا الْأَخْذُ بِالْأَحْوَطِ فِي الْأَحْكَامِ.

وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمُضَلَّةِ بِالْعَدَدِ بِاخْتِلَافِ عِلْمِهَا بِالْمَكَانِ، فَإِنْ عَلِمَتْ أَنَّهَا تَطْهُرُ آخِرَ الشَّهْرِ فَإِنَّهَا تُصَلِّي إِلَى عِشْرِينَ فِي طُهْرٍ بِيَقِينٍ وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا، لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا يَزِيدُ عَلَى عَشْرَةٍ، ثُمَّ فِي سَبْعَةٍ بَعْدَ الْعِشْرِينَ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ- أَيْضًا- لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ لِلشَّكِّ فِي الدُّخُولِ فِي الْحَيْضِ، حَيْثُ إِنَّهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ السَّبْعَةِ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الطُّهْرِ وَالدُّخُولِ فِي الْحَيْضِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ حَيْضَهَا الثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ فَقَطْ أَوْ شَيْءٌ مِمَّا قَبْلَهَا أَوْ جَمِيعُ الْعَشْرَةِ، وَتَتْرُكُ الصَّلَاةَ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ لِلتَّيَقُّنِ بِالْحَيْضِ، ثُمَّ تَغْتَسِلُ فِي آخِرِ الشَّهْرِ غُسْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ وَقْتَ الْخُرُوجِ مِنَ الْحَيْضِ مَعْلُومٌ لَهَا، وَإِنْ عَلِمَتْ أَنَّهَا تَرَى الدَّمَ إِذَا جَاوَزَ الْعِشْرِينَ- أَيْ أَنَّ أَوَّلَ حَيْضِهَا الْيَوْمُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ- فَإِنَّهَا تَدَعُ الصَّلَاةَ ثَلَاثَةً بَعْدَ الْعِشْرِينَ، لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ لِتَوَهُّمِ الْخُرُوجِ مِنَ الْحَيْضِ، وَتُعِيدُ صَوْمَ هَذِهِ الْعَشْرَةِ فِي عَشْرَةٍ أُخْرَى مِنْ شَهْرٍ آخَرَ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ سَائِرُ الْمَسَائِلِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُتَحَيِّرَةِ: سُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَمَّنْ حَاضَتْ فِي شَهْرٍ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، وَفِي آخَرَ سِتَّةَ أَيَّامٍ، وَفِي آخَرَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتُحِيضَتْ كَمْ تُجْعَلُ عَادَتُهَا؟ قَالَ: لَا أَحْفَظُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، وَلَكِنَّهَا تَسْتَظْهِرُ عَلَى أَكْثَرِ أَيَّامِهَا، قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ: قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ تَسْتَظْهِرُ عَلَى أَقَلِّ أَيَّامِهَا إِنْ كَانَتْ هِيَ الْأَخِيرَةَ لِأَنَّهَا الْمُسْتَقِرَّةُ، وَيَقُولُ ابْنُ الْقَاسِمِ لَعَلَّ عَادَتَهَا الْأُولَى عَادَتْ إِلَيْهَا بِسَبَبِ زَوَالِ سَدٍّ مِنَ الْمَجَارِي، وَقَوْلُ مَالِكٍ الْأَوَّلُ: إِنَّهَا تَمْكُثُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، لِأَنَّ الْعَادَةَ قَدْ تَنْتَقِلُ.

وَوَضَعَ الشَّافِعِيَّةُ قَاعِدَةً لِلْمُتَحَيِّرَةِ النَّاسِيَةِ لِلْعَدَدِ وَالْمُتَحَيِّرَةِ النَّاسِيَةِ لِلْمَكَانِ، فَقَرَّرُوا أَنَّ الْمُتَحَيِّرَةَ إِنْ حَفِظَتْ شَيْئًا مِنْ عَادَتِهَا وَنَسِيَتْ شَيْئًا كَأَنْ ذَكَرَتِ الْوَقْتَ دُونَ الْقَدْرِ أَوِ الْعَكْسَ، فَلِلْيَقِينِ مِنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ حُكْمُهُ، وَهِيَ فِي الزَّمَنِ الْمُحْتَمِلِ لِلطُّهْرِ وَالْحَيْضِ كَحَائِضٍ فِي الْوَطْءِ وَنَحْوِهِ، وَطَاهِرٍ فِي الْعِبَادَاتِ- وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ- وَإِنِ احْتَمَلَ انْقِطَاعًا وَجَبَ الْغُسْلُ لِكُلِّ فَرْضٍ لِلِاحْتِيَاطِ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْهُ وَجَبَ الْوُضُوءُ فَقَطْ.

مِثَالُ الْحَافِظَةِ لِلْوَقْتِ دُونَ الْقَدْرِ كَأَنْ تَقُولَ: كَانَ حَيْضِي يَبْتَدِئُ أَوَّلَ الشَّهْرِ، فَيَوْمٌ وَلَيْلَةٌ مِنْهُ حَيْضٌ بِيَقِينٍ، لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْحَيْضِ، وَنِصْفُهُ الثَّانِي طُهْرٌ بِيَقِينٍ، لِأَنَّ أَكْثَرَ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ الْحَيْضَ وَالطُّهْرَ وَالِانْقِطَاعَ.

وَمِثَالُ الْحَافِظَةِ لِلْقَدْرِ دُونَ الْوَقْتِ كَأَنْ تَقُولَ: حَيْضِي خَمْسَةٌ فِي الْعَشْرَةِ الْأُوَلِ مِنَ الشَّهْرِ، لَا أَعْلَمُ ابْتِدَاءَهَا، وَأَعْلَمُ أَنِّي فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ طَاهِرٌ، فَالسَّادِسُ حَيْضٌ بِيَقِينٍ، وَالْأَوَّلُ طُهْرٌ بِيَقِينٍ كَالْعَشَرَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ، وَالثَّانِي إِلَى آخِرِ الْخَامِسِ مُحْتَمِلٌ لِلْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَالسَّابِعُ إِلَى آخِرِ الْعَاشِرِ مُحْتَمِلٌ لَهُمَا وَلِلِانْقِطَاعِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْحَافِظَةُ لِقَدْرِ حَيْضِهَا إِنَّمَا يَنْفَعُهَا حِفْظُهَا، وَتَخْرُجُ عَنِ التَّحَيُّرِ الْمُطْلَقِ إِذَا حَفِظَتْ مَعَ ذَلِكَ قَدْرَ الدَّوْرِ وَابْتِدَاءَهُ، فَإِنْ فَقَدَتْ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَتْ: كَانَ حَيْضِي خَمْسَةَ عَشَرَ أَضْلَلْتُهَا فِي دَوْرِي، وَلَا أَعْرِفُ سِوَى ذَلِكَ، فَلَا فَائِدَةَ فِيمَا ذَكَرَتْ لِاحْتِمَالِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالِانْقِطَاعِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَكَذَا لَوْ قَالَتْ: حَيْضِي خَمْسَةَ عَشَرَ، وَابْتِدَاءُ دَوْرِي يَوْمُ كَذَا وَلَا أَعْرِفُ قَدْرَهُ، فَلَا فَائِدَةَ فِيمَا حَفِظَتْ لِلِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ، وَلَهَا فِي هَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ حُكْمُ الْمُتَحَيِّرَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ النَّاسِيَةَ لِلْعَدَدِ فَقَطْ تَجْلِسُ غَالِبَ الْحَيْضِ إِنِ اتَّسَعَ شَهْرُهَا لَهُ، وَشَهْرُ الْمَرْأَةِ هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي يَجْتَمِعُ لَهَا فِيهِ حَيْضٌ وَطُهْرٌ صَحِيحَانِ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِلَيَالِيِهَا يَوْمًا بِلَيْلَةٍ لِلْحَيْضِ- لِأَنَّهُ أَقَلُّهُ- وَثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِلَيَالِيِهَا لِلطُّهْرِ- لِأَنَّهُ أَقَلُّهُ- وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِ شَهْرِ الْمَرْأَةِ، لِأَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَكْثَرِ الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ، لِحَدِيثِ «حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ - رضي الله عنها- قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً شَدِيدَةً كَبِيرَةً، قَدْ مَنَعَتْنِي الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ، فَقَالَ: تَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ ثُمَّ اغْتَسِلِي».

وَحَمْنَةُ امْرَأَةٌ كَبِيرَةٌ- قَالَهُ أَحْمَدُ- وَلَمْ يَسْأَلْهَا عَنْ تَمْيِيزِهَا وَلَا عَادَتِهَا فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً فَتُرَدُّ إِلَى غَالِبِ الْحَيْضِ إِنَاطَةً لِلْحُكْمِ بِالْأَكْثَرِ، كَمَا تُرَدُّ الْمُعْتَادَةُ لِعَادَتِهَا.

وَإِنْ لَمْ يَتَّسِعْ شَهْرُهَا لِغَالِبِ الْحَيْضِ جَلَسَتِ الْفَاضِلَ مِنْ شَهْرِهَا بَعْدَ أَقَلِّ الطُّهْرِ، كَأَنْ يَكُونَ شَهْرُهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَإِنَّهَا تَجْلِسُ الزَّائِدَ عَنْ أَقَلِّ الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ فَقَطْ- وَهُوَ خَمْسَةُ أَيَّامٍ- لِئَلاَّ يَنْقُصَ الطُّهْرُ عَنْ أَقَلِّهِ فَيَخْرُجَ عَنْ كَوْنِهِ طُهْرًا، حَيْثُ إِنَّ الْبَاقِيَ مِنَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ بَعْدَ الثَّلَاثَةَ عَشَرَ- وَهُوَ أَقَلُّ الطُّهْرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- خَمْسَةُ أَيَّامٍ فَتَجْلِسُهَا فَقَطْ، وَإِنْ جَهِلَتْ شَهْرَهَا جَلَسَتْ غَالِبَ الْحَيْضِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ هِلَالِيٍّ.

(ب) النَّاسِيَةُ لِلْمَكَانِ فَقَطْ (الْإِضْلَالُ بِالْمَكَانِ):

8- سَبَقَ بَيَانُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ فِي النَّاسِيَةِ لِلْمَكَانِ فَقَطْ فِي الْإِضْلَالِ بِالْعَدَدِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِنْ عَلِمَتْ أَيَّامَ حَيْضِهَا وَنَسِيَتْ مَوْضِعَهَا: بِأَنْ لَمْ تَدْرِ أَكَانَتْ تَحِيضُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ، فَإِنَّهَا تَجْلِسُ أَيَّامَ حَيْضِهَا مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرِ هِلَالِيٍّ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- جَعَلَ حَيْضَةَ حَمْنَةَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ وَالصَّلَاةَ فِي بَقِيَّتِهِ، وَلِأَنَّ دَمَ الْحَيْضِ جِبِلَّةٌ، وَالِاسْتِحَاضَةَ عَارِضَةٌ، فَإِذَا رَأَتْهُ وَجَبَ تَقْدِيمُ دَمِ الْحَيْضِ.

وَإِنْ عَلِمَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ عَدَدَ أَيَّامِهَا فِي وَقْتٍ مِنَ الشَّهْرِ وَنَسِيَتْ مَوْضِعَهَا، بِأَنْ لَمْ تَدْرِ أَهِيَ فِي أَوَّلِهِ أَمْ آخِرِهِ، فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو: إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَيَّامُهَا نِصْفَ الْوَقْتِ الَّذِي عَلِمَتْ أَنَّ حَيْضَهَا فِيهِ أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا نِصْفَ الْوَقْتِ الَّذِي عَلِمَتْ أَنَّ حَيْضَهَا فِيهِ فَأَقَلَّ فَحَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِهَا، كَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّ حَيْضَهَا كَانَ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ الشَّهْرِ، فَإِنَّهَا تَجْلِسُ مِنْ أَوَّلِهِ، وَعَلَى هَذَا الْأَكْثَرُ، وَهُنَاكَ وَجْهٌ أَنَّهَا تَتَحَرَّى، وَلَيْسَ لَهَا حَيْضٌ بِيَقِينٍ بَلْ حَيْضُهَا مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَإِنْ زَادَتْ أَيَّامُهَا عَلَى النِّصْفِ، مِثْلُ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ حَيْضَهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ مِنَ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنَ الشَّهْرِ ضُمَّ الزَّائِدُ إِلَى النِّصْفِ- وَهُوَ فِي الْمِثَالِ يَوْمٌ- إِلَى مِثْلِهِ مِمَّا قَبْلَهُ- وَهُوَ يَوْمٌ- فَيَكُونَانِ حَيْضًا بِيَقِينٍ، وَهُمَا الْيَوْمُ الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ فِي هَذَا الْمِثَالِ ثُمَّ يَبْقَى لَهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ تَتِمَّةُ عَادَتِهَا، فَإِنْ جَلَسَتْهَا مِنَ الْأَوَّلِ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ كَانَ حَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ الْعَشَرَةِ إِلَى آخِرِ السَّادِسِ، مِنْهَا يَوْمَانِ هُمَا الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ حَيْضٌ بِيَقِينٍ.

وَالْأَرْبَعَةُ حَيْضٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَالْأَرْبَعَةُ الْبَاقِيَةُ طُهْرٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَإِنْ جَلَسَتْ بِالتَّحَرِّي عَلَى الْوَجْهِ الْمُقَابِلِ لِقَوْلِ الْأَكْثَرِ فَأَدَّاهَا اجْتِهَادُهَا إِلَى أَنَّهَا مِنْ أَوَّلِ الْعَشَرَةِ فَهِيَ كَالَّتِي ذَكَرْنَا، وَإِنْ جَلَسَتِ الْأَرْبَعَةَ مِنْ آخِرِ الْعَشَرَةِ كَانَتِ الْأَرْبَعَةُ حَيْضًا مَشْكُوكًا فِيهِ، وَالْيَوْمَانِ قَبْلَهَا حَيْضٌ بِيَقِينٍ، وَالْأَرْبَعَةُ الْأُوَلُ طُهْرٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَإِنْ قَالَتْ: حَيْضَتِي سَبْعَةُ أَيَّامٍ مِنَ الْعَشَرَةِ، فَقَدْ زَادَتْ أَيَّامُهَا يَوْمَيْنِ عَلَى نِصْفِ الْوَقْتِ فَتَضُمُّهُمَا إِلَى يَوْمَيْنِ قَبْلَهُمَا فَيَصِيرُ لَهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ حَيْضًا بِيَقِينٍ، مِنْ أَوَّلِ الرَّابِعِ إِلَى آخِرِ السَّابِعِ، وَيَبْقَى لَهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ تَجْلِسُهَا مِنْ أَوَّلِ الْعَشَرَةِ أَوْ بِالتَّحَرِّي عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَهِيَ حَيْضٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَالنَّاسِيَةُ لِلْمَكَانِ فَقَطْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا تَخْلُو: إِمَّا أَنْ تَضِلَّ أَيَّامَهَا فِي ضِعْفِهَا أَوْ أَكْثَرَ أَوْ فِي أَقَلَّ مِنْ ضِعْفِهَا، فَإِنْ أَضَلَّتْ أَيَّامَهَا فِي ضِعْفِهَا أَوْ أَكْثَرَ فَلَا تَيَقُّنَ فِي يَوْمٍ مِنْهَا بِحَيْضٍ، كَمَا إِذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا ثَلَاثَةً فَأَضَلَّتْهَا فِي سِتَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَإِنْ أَضَلَّتْ أَيَّامَهَا فِي أَقَلَّ مِنَ الضِّعْفِ فَإِنَّهَا تَيَقُّنٌ بِالْحَيْضِ فِي يَوْمٍ أَوْ أَيَّامٍ، كَمَا إِذَا أَضَلَّتْ ثَلَاثَةً فِي خَمْسَةٍ فَإِنَّهَا تَيَقُّنٌ بِالْحَيْضِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنَ الْخَمْسَةِ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ الْحَيْضِ أَوْ آخِرُهُ أَوْ وَسَطُهُ بِيَقِينٍ فَتَتْرُكُ الصَّلَاةَ فِيهِ.

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّهَا إِنْ عَلِمَتْ أَنَّ أَيَّامَهَا ثَلَاثَةٌ فَأَضَلَّتْهَا فِي الْعَشَرَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الشَّهْرِ، فَإِنَّهَا تُصَلِّي مِنْ أَوَّلِ الْعَشَرَةِ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لِلتَّرَدُّدِ فِيهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، ثُمَّ تُصَلِّي بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ بِالِاغْتِسَالِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ لِلتَّرَدُّدِ فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْحَيْضِ، إِلاَّ إِذَا تَذَكَّرَتْ وَقْتَ خُرُوجِهَا مِنَ الْحَيْضِ فَتَغْتَسِلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَرَّةً، كَأَنْ تَذَكَّرَتْ أَنَّهَا كَانَتْ تَطْهُرُ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ مَثَلًا وَلَا تَدْرِي مِنْ أَيِّ يَوْمٍ، فَتُصَلِّي الصُّبْحَ وَالظُّهْرَ بِالْوُضُوءِ لِلتَّرَدُّدِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، ثُمَّ تُصَلِّي الْعَصْرَ بِالْغُسْلِ لِلتَّرَدُّدِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ، ثُمَّ تُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْوَتْرَ بِالْوُضُوءِ لِلتَّرَدُّدِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، ثُمَّ تَفْعَلُ هَكَذَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِمَّا بَعْدَ الثَّلَاثَةِ.

وَإِنْ أَضَلَّتْ أَرْبَعَةً فِي عَشَرَةٍ فَإِنَّهَا تُصَلِّي أَرْبَعَةً مِنْ أَوَّلِ الْعَشَرَةِ بِالْوُضُوءِ، ثُمَّ بِالِاغْتِسَالِ إِلَى آخِرِ الْعَشَرَةِ، وَكَذَلِكَ الْخَمْسَةُ إِنْ أَضَلَّتْهَا فِي ضِعْفِهَا فَتُصَلِّي خَمْسَةً مِنْ أَوَّلِ الْعَشَرَةِ بِالْوُضُوءِ وَالْبَاقِي بِالْغُسْلِ.

وَمَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ فِي إِضْلَالِ الْعَدَدِ فِي الضِّعْفِ أَوْ أَكْثَرَ، وَأَمْثِلَةُ إِضْلَالِ الْعَدَدِ فِي أَقَلَّ مِنْ ضِعْفِهِ فَكَمَا لَوْ أَضَلَّتْ سِتَّةً فِي عَشَرَةٍ، فَإِنَّهَا تَتَيَقَّنُ بِالْحَيْضِ فِي الْخَامِسِ وَالسَّادِسِ، فَتَدَعُ الصَّلَاةَ فِيهِمَا، لِأَنَّهُمَا آخِرُ الْحَيْضِ أَوْ أَوَّلُهُ أَوْ وَسَطُهُ، وَتَفْعَلُ فِي الْبَاقِي مِثْلَ مَا تَفْعَلُ فِي إِضْلَالِ الْعَدَدِ فِي الضِّعْفِ أَوْ أَكْثَرَ، فَتُصَلِّي أَرْبَعَةً مِنْ أَوَّلِ الْعَشَرَةِ بِالْوُضُوءِ، ثُمَّ أَرْبَعَةً مِنْ آخِرِهَا بِالْغُسْلِ لِتَوَهُّمِ خُرُوجِهَا مِنَ الْحَيْضِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ مِنْهَا، وَإِنْ أَضَلَّتْ سَبْعَةً فِي الْعَشَرَةِ فَإِنَّهَا تَتَيَقَّنُ فِي أَرْبَعَةٍ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ بِالْحَيْضِ، فَتُصَلِّي ثَلَاثَةً مِنْ أَوَّلِ الْعَشَرَةِ بِالْوُضُوءِ، ثُمَّ تَتْرُكُ أَرْبَعَةً، ثُمَّ تُصَلِّي ثَلَاثَةً بِالْغُسْلِ، وَفِي إِضْلَالِ الثَّمَانِيَةِ فِي الْعَشَرَةِ تَتَيَقَّنُ بِالْحَيْضِ فِي سِتَّةٍ بَعْدَ الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، فَتَدَعُ الصَّلَاةَ فِيهَا، وَتُصَلِّي يَوْمَيْنِ قَبْلَهَا بِالْوُضُوءِ، وَيَوْمَيْنِ بَعْدَهَا بِالْغُسْلِ، وَفِي إِضْلَالِ التِّسْعَةِ فِي عَشَرَةٍ تَتَيَقَّنُ بِثَمَانِيَةٍ بَعْدَ الْأُوَلِ أَنَّهَا حَيْضٌ، فَتُصَلِّي أَوَّلَ الْعَشَرَةِ بِالْوُضُوءِ وَتَتْرُكُ ثَمَانِيَةً، وَتُصَلِّي آخِرَ الْعَشَرَةِ بِالْغُسْلِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ إِضْلَالُ الْعَشَرَةِ فِي مِثْلِهَا.

الْإِضْلَالُ الْعَامُّ:

النَّاسِيَةُ لِلْعَدَدِ وَالْمَكَانِ

9- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ النَّاسِيَةَ لِلْعَدَدِ وَالْمَكَانِ عَلَيْهَا الْأَخْذُ وُجُوبًا بِالْأَحْوَطِ فِي الْأَحْكَامِ، لِاحْتِمَالِ كُلِّ زَمَانٍ يَمُرُّ عَلَيْهَا لِلْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالِانْقِطَاعِ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا حَائِضًا دَائِمًا لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَلَا طَاهِرًا دَائِمًا لِقِيَامِ الدَّمِ، وَلَا التَّبْعِيضِ لِأَنَّهُ تَحَكُّمٌ، فَتَعَيَّنَ الِاحْتِيَاطُ لِلضَّرُورَةِ لَا لِقَصْدِ التَّشْدِيدِ عَلَيْهَا.

وَسَتَأْتِي كَيْفِيَّةُ الِاحْتِيَاطِ فِي الْأَحْكَامِ بِالتَّفْصِيلِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ النَّاسِيَةَ لِلْعَدَدِ وَالْمَكَانِ تَجْلِسُ غَالِبَ الْحَيْضِ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ هِلَالِيٍّ، فَإِنْ عَرَفَتِ ابْتِدَاءَ الدَّمِ بِأَنْ عَلِمَتْ أَنَّ الدَّمَ كَانَ يَأْتِيهَا فِي أَوَّلِ الْعَشَرَةِ الْأَوْسَطِ مِنَ الشَّهْرِ، وَأَوَّلِ النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْهُ وَنَحْوِهِ، فَهُوَ أَوَّلُ دَوْرِهَا فَتَجْلِسُ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَتْ نَاسِيَةً لِلْعَدَدِ فَقَطْ، أَوْ لِلْعَدَدِ وَالْمَوْضِعِ وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ مَا تَجْلِسُهُ النَّاسِيَةُ لِلْعَدَدِ، أَوِ الْمَوْضِعِ أَوْ هُمَا مِنْ حَيْضٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ كَحَيْضٍ يَقِينًا فِيمَا يُوجِبُهُ وَيَمْنَعُهُ، وَكَذَا الطُّهْرُ مَعَ الشَّكِّ فِيهِ كَطُهْرٍ يَقِينًا، وَمَا زَادَ عَلَى مَا تَجْلِسُهُ إِلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ كَطُهْرٍ مُتَيَقَّنٍ.

وَغَيْرِ زَمَنِ الْحَيْضِ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ إِلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ اسْتِحَاضَةٌ.

وَإِذَا ذَكَرَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ النَّاسِيَةُ لِعَادَتِهَا رَجَعَتْ إِلَيْهَا وَقَضَتِ الْوَاجِبَ زَمَنَ الْعَادَةِ الْمَنْسِيَّةِ، وَقَضَتِ الْوَاجِبَ أَيْضًا زَمَنَ جُلُوسِهَا فِي غَيْرِهَا.

كَيْفِيَّةُ الِاحْتِيَاطِ فِي الْأَحْكَامِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ:

أ- الِاحْتِيَاطُ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ -

10- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُتَحَيِّرَةَ تُصَلِّي الْفَرَائِضَ أَبَدًا وُجُوبًا لِاحْتِمَالِ طُهْرِهَا، وَلَهَا فِعْلُ النَّفْلِ مُطْلَقًا: صَلَاتُهُ وَطَوَافُهُ وَصِيَامُهُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ فَلَا وَجْهَ لِحِرْمَانِهَا مِنْهُ وَكَذَا لَهَا فِعْلُ الْوَاجِبِ وَالسُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَإِنَّمَا لَا تَتْرُكُ السُّنَنَ الْمُؤَكَّدَةَ وَمِثْلَهَا الْوَاجِبَ بِالْأَوْلَى لِكَوْنِهَا شُرِعَتْ جَبْرًا لِنُقْصَانِ تَمَكُّنٍ فِي الْفَرَائِضِ، فَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الْفَرَائِضِ.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا تَغْتَسِلُ وُجُوبًا لِكُلِّ فَرْضٍ إِنْ جَهِلَتْ وَقْتَ انْقِطَاعِ الدَّمِ وَلَمْ يَكُنْ دَمُهَا مُتَقَطِّعًا، وَيَكُونُ الْغُسْلُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لِاحْتِمَالِ الِانْقِطَاعِ حِينَئِذٍ، وَإِنَّمَا تَفْعَلُهُ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهِ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ كَالتَّيَمُّمِ، فَإِنْ عَلِمَتْ وَقْتَ الِانْقِطَاعِ كَعِنْدَ الْغُرُوبِ لَمْ يَلْزَمْهَا الْغُسْلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلاَّ عَقِبَ الْغُرُوبِ، وَذَاتُ التَّقَطُّعِ لَا يَلْزَمُهَا الْغُسْلُ زَمَنَ النَّقَاءِ لِأَنَّ الْغُسْلَ سَبَبُهُ الِانْقِطَاعُ وَالدَّمُ مُنْقَطِعٌ، وَلَا يَلْزَمُهَا الْمُبَادَرَةُ لِلصَّلَاةِ إِذَا اغْتَسَلَتْ عَلَى الْأَصَحِّ لَكِنْ لَوْ أَخَّرَتْ لَزِمَهَا الْوُضُوءُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ كُلَّمَا تَرَدَّدَتْ بَيْنَ الطُّهْرِ وَدُخُولِ الْحَيْضِ، وَتَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ إِنْ تَرَدَّدَتْ بَيْنَ الطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْحَيْضِ، فَفِي الْأَوَّلِ يَكُونُ طُهْرُهَا بِالْوُضُوءِ، وَفِي الثَّانِي بِالْغُسْلِ.

مِثَالُ ذَلِكَ: امْرَأَةٌ تَذْكُرُ أَنَّ حَيْضَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةٌ، وَانْقِطَاعَهُ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ، وَلَا تَذْكُرُ غَيْرَ هَذَيْنِ، فَإِنَّهَا فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ الدُّخُولِ وَالطُّهْرِ فَيَكُونُ طُهْرُهَا بِالْوُضُوءِ، وَفِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ الطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ فَيَكُونُ طُهْرُهَا بِالْغُسْلِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ تَذْكُرْ شَيْئًا أَصْلًا فَهِيَ مُتَرَدِّدَةٌ فِي كُلِّ زَمَنٍ بَيْنَ الطُّهْرِ وَالدُّخُولِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ التَّرَدُّدِ بَيْنَ الطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ بِلَا فَرْقٍ، ثُمَّ إِنَّهَا إِذَا اغْتَسَلَتْ فِي وَقْتِ صَلَاةٍ وَصَلَّتْ، ثُمَّ اغْتَسَلَتْ فِي وَقْتِ الْأُخْرَى أَعَادَتِ الْأُولَى قَبْلَ الْوَقْتِيَّةِ، وَهَكَذَا تَصْنَعُ فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ احْتِيَاطًا، لِاحْتِمَالِ حَيْضِهَا فِي وَقْتِ الْأُولَى وَطُهْرِهَا قَبْلَ خُرُوجِهِ، فَيَلْزَمُهَا الْقَضَاءُ احْتِيَاطًا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سَهْلٍ وَاخْتَارَهُ الْبَرْكَوِيُّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُبْتَدَأَةَ الَّتِي اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ إِنْ كَانَتِ اسْتَوْفَتْ تَمَامَ حَيْضِهَا بِنِصْفِ شَهْرٍ أَوْ بِالِاسْتِظْهَارِ فَذَلِكَ الدَّمُ اسْتِحَاضَةٌ وَإِلاَّ ضَمَّتْهُ لِلْأَوَّلِ حَتَّى يَحْصُلَ تَمَامُهُ بِالْخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ بِالِاسْتِظْهَارِ، وَمَا زَادَ فَاسْتِحَاضَةٌ.

وَأَمَّا الْمُعْتَادَةُ الَّتِي اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَإِنَّهَا تَزِيدُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَلَى أَكْثَرِ عَادَتِهَا اسْتِظْهَارًا، وَمَحَلُّ الِاسْتِظْهَارِ بِالثَّلَاثَةِ مَا لَمْ تُجَاوِزْ نِصْفَ الشَّهْرِ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ مَكَثَتِ الْمُبْتَدَأَةُ نِصْفَ شَهْرٍ، وَبَعْدَ أَنِ اسْتَظْهَرَتِ الْمُعْتَادَةُ بِثَلَاثَةٍ أَوْ بِمَا يُكْمِلُ نِصْفَ شَهْرٍ، تَصِيرُ إِنْ تَمَادَى بِهَا الدَّمُ مُسْتَحَاضَةً، وَيُسَمَّى الدَّمُ النَّازِلُ بِهَا دَمَ اسْتِحَاضَةٍ وَدَمَ عِلَّةٍ وَفَسَادٍ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ طَاهِرٌ تَصُومُ وَتُصَلِّي وَتُوطَأُ.

وَإِذَا مَيَّزَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ الدَّمَ بِتَغَيُّرِ رَائِحَةٍ أَوْ لَوْنٍ أَوْ رِقَّةٍ أَوْ ثِخَنٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ بَعْدَ تَمَامِ طُهْرٍ فَذَلِكَ الدَّمُ الْمُمَيَّزُ حَيْضٌ لَا اسْتِحَاضَةٌ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ بِصِفَةِ التَّمَيُّزِ اسْتَظْهَرَتْ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَا لَمْ تُجَاوِزْ نِصْفَ شَهْرٍ، ثُمَّ هِيَ مُسْتَحَاضَةٌ، وَإِلاَّ- بِأَنْ لَمْ يَدُمْ بِصِفَةِ التَّمَيُّزِ بِأَنْ رَجَعَ لِأَصْلِهِ- مَكَثَتْ عَادَتَهَا فَقَطْ وَلَا اسْتِظْهَارَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


143-موسوعة الفقه الكويتية (مساقاة 1)

مُسَاقَاةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْمُسَاقَاةُ فِي اللُّغَةِ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ السَّقْيِ- بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الْقَافِ- وَهِيَ دَفْعُ النَّخِيلِ وَالْكُرُومِ إِلَى مَنْ يَعْمُرُهُ وَيَسْقِيهِ وَيَقُومُ بِمَصْلَحَتِهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْعَامِلِ سَهْمٌ (نَصِيبٌ) وَالْبَاقِي لِمَالِكِ النَّخِيلِ.

وَأَهْلُ الْعِرَاقِ يُسَمُّونَهَا الْمُعَامَلَةَ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: هِيَ دَفْعُ الشَّجَرِ إِلَى مَنْ يُصْلِحُهُ بِجُزْءٍ مِنْ ثَمَرِهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْمُزَارَعَةُ:

2- الْمُزَارَعَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الزِّرَاعَةِ وَتُسَمَّى مُخَابِرَةً مِنَ الْخَبَارِ- بِفَتْحِ الْخَاءِ- وَهِيَ الْأَرْضُ اللَّيِّنَةُ.

وَالْمُزَارَعَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: عَقْدٌ عَلَى الزَّرْعِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَوْضُوعَ الْمُسَاقَاةِ الشَّجَرُ، وَمَوْضُوعَ الْمُزَارَعَةِ الْبَذْرُ وَالزَّرْعُ.

ب- الْمُنَاصَبَةُ:

3- الْمُنَاصَبَةُ وَتُسَمَّى الْمُغَارَسَةَ وَهِيَ دَفْعُ أَرْضٍ بَيْضَاءَ مُدَّةً مَعْلُومَةً لِيَغْرِسَ فِيهَا وَتَكُونَ الْأَرْضُ وَالشَّجَرُ بَيْنَهُمَا.أَوْ هِيَ كَمَا قَالَ الْبُهُوتِيُّ دَفْعُ الشَّجَرِ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَهُ ثَمَرٌ مَأْكُولٌ بِلَا غَرْسٍ مَعَ أَرْضِهِ لِمَنْ يَغْرِسُهُ وَيَعْمَلُ عَلَيْهِ حَتَّى يُثْمِرَ بِجُزْءٍ مُشَاعٍ مَعْلُومٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ ثَمَرِهِ أَوْ مِنْهُمَا.

وَتَخْتَلِفُ الْمُسَاقَاةُ عَنِ الْمُنَاصَبَةِ فِي أَنَّ الشَّجَرَ فِي الْمُسَاقَاةِ مَغْرُوسٌ، وَفِي الْمُنَاصَبَةِ غَيْرُ مَغْرُوسٍ.

ج- الْإِجَارَةُ:

4- الْإِجَارَةُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْأُجْرَةِ، وَهِيَ كِرَاءُ الْأَجِيرِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ عَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ هِيَ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ أَعَمُّ مِنَ الْإِجَارَةِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

5- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْمُسَاقَاةِ عَلَى أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا جَائِزَةٌ شَرْعًا، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَمُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَهُمْ.وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- «أَنَّ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- أَعْطَى خَيْبَرَ الْيَهُودَ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا».

وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ مِنْ حَيْثُ الشَّرِكَةُ فِي النَّمَاءِ فَقَطْ دُونَ الْأَصْلِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ، وَحُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ.

وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ- رضي الله عنه- حَيْثُ جَاءَ فِيهِ «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيُزْرِعْهَا، وَلَا يُكَارِهَا بِثُلُثٍ وَلَا رُبُعٍ وَلَا بِطَعَامٍ مُسَمًّى»،، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ وَارِدًا فِي الْمُزَارَعَةِ غَيْرَ أَنَّ مَعْنَى النَّهْيِ- وَهُوَ الْكِرَاءُ بِجُزْءٍ مِنَ الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ- وَارِدٌ فِي الْمُسَاقَاةِ أَيْضًا.

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: «نَهَى رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ»،، وَغَرَرُ الْمُسَاقَاةِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ وَعَدَمِهَا، وَبَيْنَ قِلَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا، فَكَانَ الْغَرَرُ أَعْظَمُ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِإِبْطَالِهَا أَحَقُّ.

وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِحَدِيثِ: «نَهَى رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ»،، وَالْمَعْنَى الَّذِي نَهَى لِأَجَلِهِ عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ مَوْجُودٌ فِي الْمُسَاقَاةِ، لِأَنَّهَا اسْتِئْجَارُ الْعَامِلِ بِبَعْضِ مَا يُخْرِجُ مِنْ عَمَلِهِ.

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ فِي الْمَعْقُولِ: أَنَّ هَذَا اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.

صِفَّةُ عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ مِنْ حَيْثُ اللُّزُومُ وَعَدَمُهُ

6- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُسَاقَاةِ الصَّحِيحَةِ ابْتِدَاءً فَوْرَ انْعِقَادِهَا مِنْ حَيْثُ لُزُومُ الْعَقْدِ أَوْ جَوَازُهُ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ عَقْدٌ لَازِمٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَإِنَّهُ لَا خِيَرَةَ لِوَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي فَسْخِهِ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى لُزُومِ الْعَقْدِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: -

أَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي التَّنْفِيذِ.

- وَأَنَّهَا كَالْإِجَارَةِ مِنْ حَيْثُ وُرُودُ الْعَقْدِ عَلَى عَمَلٍ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ مَعَ بَقَائِهَا.

- وَأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ جَائِزَةً غَيْرَ لَازِمَةٍ وَفَسَخَ الْمَالِكُ الْعَقْدَ قَبْلَ ظُهُورِ الثِّمَارِ فَقَدْ فَاتَ عَمَلُ الْعَامِلِ وَذَهَبَ سُدًى.

وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ، وَهُوَ قَوْلُ السُّبْكِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: فِي مُعَامَلَةِ أَهْلِ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ، وَوَرَدَ فِيهِ: «نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا»،، وَلَوْ كَانَتْ عَقْدًا لَازِمًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْعَلَ الْخِيَرَةَ إِلَيْهِ فِي مُدَّةِ إِقْرَارِهِمْ، وَلَمَا جَازَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ.

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّهَا عَقْدٌ عَلَى جُزْءٍ مِنْ نَمَاءِ الْمَالِ فَكَانَتْ جَائِزَةً غَيْرَ لَازِمَةٍ كَالْمُضَارَبَةِ.

وَتَفَرَّعَ عَلَى الْقَوْلِ بِاللُّزُومِ أَحْكَامٌ مِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الِاسْتِقْلَالَ بِفَسْخِ الْمُسَاقَاةِ إِلاَّ مِنْ عُذْرٍ وَلَا الِامْتِنَاعَ مِنَ التَّنْفِيذِ إِلاَّ بِرِضَا الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَالِكِ الشَّجَرِ إِخْرَاجُ الْعَامِلِ إِلاَّ مِنْ عُذْرٍ.

وَكَذَلِكَ تَرَتَّبَ عَلَى الْقَوْلِ «بِعَدَمِ اللُّزُومِ» أَحْكَامٌ مِنْهَا: أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخَهَا مَتَى شَاءَ وَلَوْ قَبْلَ الْعَمَلِ، وَأَنَّهَا لَا تَفْتَقِرُ إِلَى ضَرْبِ مُدَّةٍ يَحْصُلُ الْكَمَالُ فِيهَا، وَأَنَّهَا تَبْطُلُ بِمَا تَبْطُلُ بِهِ الْوَكَالَةُ مِنَ الْمَوْتِ وَالْجُنُونِ وَالْحَجْرِ وَالْعَزْلِ.

حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا:

7- الْحِكْمَةُ فِي تَشْرِيعِ الْمُسَاقَاةِ تَحْقِيقُ الْمَصْلَحَةِ وَدَفْعُ الْحَاجَةِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَمْلِكُ الشَّجَرَ وَلَا يَهْتَدِي إِلَى طُرُقِ اسْتِثْمَارِهِ أَوْ لَا يَتَفَرَّغُ لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَهْتَدِي إِلَى الِاسْتِثْمَارِ وَيَتَفَرَّغُ لَهُ وَلَا يَمْلِكُ الشَّجَرَ، فَمَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى انْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْعَامِلِ.

أَرْكَانُ الْمُسَاقَاةِ

8- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: أَرْكَانُ الْمُسَاقَاةِ خَمْسَةٌ وَهِيَ: الْأَوَّلُ: الْعَاقِدَانِ، وَالثَّانِي: الصِّيغَةُ، وَالثَّالِثُ: مُتَعَلِّقُ الْعَمَلِ (الشَّجَرُ)، وَالرَّابِعُ: الثِّمَارُ، الْخَامِسُ: الْعَمَلُ، وَزَادَ ابْنُ رُشْدٍ: الْمُدَّةَ فَهِيَ سِتَّةٌ.

وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَارِدٌ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، مَعَ مُلَاحَظَةِ أَنَّ الرُّكْنَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ كَمَا فِي الْبَدَائِعِ وَالْبَوَاقِي أَطْرَافٌ.

وَلِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ شُرُوطٌ نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:

الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: الْعَاقِدَانِ:

وَيُرَادُ بِهِمَا الْعَامِلُ وَالْمَالِكُ:

9- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْعَامِلِ فِي الْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ عَاقِلًا أَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، وَتَجُوزُ مُزَارَعَةُ وَمُسَاقَاةُ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ تَصِحُّ مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ لِنَفْسِهِ وَلِصَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَسَفِيهٍ بِالْوِلَايَةِ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ لِلِاحْتِيَاجِ إِلَى ذَلِكَ.

الرُّكْنُ الثَّانِي: الصِّيغَةُ:

10- الْمُرَادُ بِهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ بِكُلِّ مَا يُنْبِئُ عَنْ إِرَادَةِ الْمُسَاقَاةِ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى عُلِمَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي قَضِيَّةِ اعْتِبَارِ اللَّفْظِ أَمِ الْمَعْنَى فِي الْعَقْدِ.

الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمَحَلُّ وَشُرُوطُهُ:

يُقْصَدُ بِالْمَحَلِّ هُنَا: مُتَعَلَّقُ الْعَمَلِ فِي الْمُسَاقَاةِ، أَيْ مَا يَقُومُ الْعَامِلُ بِسَقْيِهِ وَرِعَايَتِهِ مُقَابِلَ جُزْءٍ مِنَ الْعُمُرِ.

وَيَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ فِي مَحَلِّ الْمُسَاقَاةِ شُرُوطًا هِيَ:

أَوَّلًا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ عَلَيْهِ:

11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِجِوَازِ الْمُسَاقَاةِ عَلَى جِوَازِهَا فِي النَّخْلِ وَاخْتَلَفُوا فِي جِوَازِهَا فِي: الْعِنَبِ، وَالشَّجَرِ الْمُثْمِرِ وَغَيْرِ الْمُثْمِرِ، وَكَذَا الْبُقُولُ وَالرِّطَابُ وَنَحْوُهَا.

وَتَبِعَ ذَلِكَ اخْتِلَافُ الشُّرُوطِ الْخَاصَّةِ بِكُلِّ مَحَلٍّ عَلَى حِدَةٍ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْمَذَاهِبِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

12- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ نَوْعٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الشَّجَرِ، فَالْمُثْمِرُ وَغَيْرُ الْمُثْمِرِ سَوَاءٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، فَتَصِحُّ فِي الْحَوَرِ، وَالصَّفْصَافِ وَفِيمَا يُتَّخَذُ لِلسَّقْفِ وَالْحَطَبِ، كَمَا أَنَّهُ تَصِحُّ عِنْدَهُمْ فِي الرِّطَابِ، وَجَمِيعِ الْبُقُولِ، قَالَ فِي تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ وَشَرْحِهِ: وَتَصِحُّ فِي الْكَرْمِ وَالشَّجَرِ وَالرِّطَابِ وَالْمُرَادُ مِنْهَا جَمِيعُ الْبُقُولِ، وَأُصُولُ الْبَاذِنْجَانِ وَالنَّخْلُ، وَتَصِحُّ فِي نَحْوِ الْحَوَرِ وَالصَّفْصَافِ مِمَّا لَا ثَمَرَةَ لَهُ، وَالْبُقُولُ غَيْرُ الرِّطَابِ، فَالْبُقُولُ مِثْلُ الْكُرَّاتِ وَالسِّلْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالرِّطَابُ كَالْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانِ وَالْعِنَبِ وَالسَّفَرْجَلِ وَالْبَاذِنْجَانِ فَإِنْ سَاقَى عَلَيْهَا قَبْلَ الْجُذَاذِ، كَانَ الْمَقْصُودُ الرَّطْبَةَ فَيَقَعُ الْعَقْدُ عَلَى أَوَّلِ جَزَّةٍ، وَإِنْ سَاقَى بَعْدَ انْتِهَاءِ جُذَاذِهَا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْبَذْرَ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ بِاعْتِبَارِ قَصْدِ الْبَذْرِ، كَمَا يَقْصِدُ الثَّمَرَ مِنَ الشَّجَرِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِمَّا يُرْغَبُ فِيهِ وَحْدَهُ.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ لِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِأَنَّ الْجِوَازَ لِلْحَاجَةِ وَقَدْ عَمَّتْ، وَأَثَرُ خَيْبَرَ لَا يَخُصُّهَا لِأَنَّ أَهْلَهَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي الْأَشْجَارِ وَالرِّطَابِ أَيْضًا.

13- وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الشَّجَرُ الَّذِي يُسَاقَى عَلَى قِسْمَيْنِ:

الْقَسْمُ الْأَوَّلُ: مَا لَهُ أُصُولٌ ثَابِتَةٌ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ شَرْطَانِ:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُثْمِرُ فِي عَامِهِ، فَلَا تَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ فِي صِغَارِ الْأَشْجَارِ، قَالَ عِيَاضٌ مِنْ شُرُوطِ الْمُسَاقَاةِ: أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إِلاَّ فِي أَصْلٍ يُثْمِرُ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَزْهَارِ وَالْأَوْرَاقِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا كَالْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ.

وَقَالَ ابْنُ غَازِي وَقَوْلُهُمْ يُثْمِرُ أَوْ ذِي ثَمَرٍ- أَخْرَجَ بِهِ الشَّجَرَ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الْإِطْعَامِ كَالْوَدِيِّ فَإِنَّ مُسَاقَاتَهُ غَيْرُ جَائِزَةٍ، صَرَّحَ بِهِ اللَّخْمِيُّ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُخَلِّفُ وَهُوَ الَّذِي إِذَا قُطِفَ مِنْهُ ثَمَرَةٌ لَا يُثْمِرُ فِي الْعَامِ نَفْسِهِ.

وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ مُعْظَمُ أَشْجَارِ الْفَاكِهَةِ بِخِلَافِ الْمَوْزِ فَإِنَّهُ مِمَّا يُخَلِّفُ إِذَا نَبَتَتْ لَهُ ثَمَرَةٌ بِجَانِبِ الْأُولَى مِنْ قَبْلِ أَنْ تُقْطَعَ هَذِهِ الثَّمَرَةُ، فَالثَّمَرَةُ الثَّانِيَةُ يَنَالُهَا شَيْءٌ مِنْ عَمَلِ الْعَامِلِ، وَلَا تَتَّضِحُ فِي الْعَامِ نَفْسِهِ، فَكَأَنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى الْعَمَلِ، فَلَا تَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ فِي مِثْلِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الشَّجَرِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَيْسَتْ لَهُ أُصُولٌ ثَابِتَةٌ كَالْمَقَاثِيِّ وَالزَّرْعِ، وَهَذَا تَصِحُّ مُسَاقَاتُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالشُّرُوطِ التَّالِيَةِ:

- أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ بَعْدَ ظُهُورِهَا.

- وَأَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِ ثَمَرِهَا.

- وَأَنْ يَعْجَزَ رَبُّ الْأَرْضِ عَنْ تَعَهُّدِهَا.

- وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُخَلِّفُ بَعْدَ قَطْفِهِ.

- وَأَنْ يُخَافَ مَوْتُهَا لَوْ تُرِكَ الْعَمَلُ فِيهَا.

14- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْمُسَاقَاةُ جَائِزَةٌ فِي النَّخْلِ وَالْكَرْمِ دُونَ غَيْرِهِمَا، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (أَخَذَ صَدَقَةَ ثَمَرَتِهَا بِالْخَرْصِ، وَثَمَرُهَا مُجْتَمِعٌ بَائِنٌ مِنْ شَجَرِهِ لَا حَائِلَ دُونَهُ يَمْنَعُ إِحَاطَةَ النَّاظِرِ إِلَيْهِ، وَثَمَرُ غَيْرِهَا مُتَفَرِّقٌ بَيْنَ أَضْعَافِ وَرَقٍ لَا يُحَاطُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ إِلاَّ عَلَى النَّخْلِ وَالْكَرْمِ

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ الشَّجَرِ مِنَ النَّبَاتِ مُثْمِرًا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

الْقَسْمُ الْأَوَّلُ: لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي جِوَازِ الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهِ وَهُوَ: النَّخْلُ وَالْكَرْمُ.

وَالْقَسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي بُطْلَانِ الْمُسَاقَاةِ فِيهِ، وَهُوَ مَا لَا سَاقَ لَهُ، كَالْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَالْبَاذِنْجَانِ، وَالْبُقُولِ الَّتِي لَا تَثْبُتُ فِي الْأَرْضِ وَلَا تُجَزُّ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلَا تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ عَلَيْهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ عَلَى الزَّرْعِ.

فَإِنْ كَانَتْ تَثْبُتُ فِي الْأَرْضِ وَتُجَزُّ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَالْمَذْهَبُ الْمَنْعُ وَهُوَ الْأَصَحُّ.

وَالْقَسْمُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ شَجَرًا، فَفِي جِوَازِ الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: الْجِوَازُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ لَمَّا اجْتَمَعَ فِي الْأَشْجَارِ مَعْنَى النَّخْلِ مِنْ بَقَاءِ أَصْلِهَا وَالْمَنْعِ مِنْ إِجَارَتِهَا كَانَتْ كَالنَّخْلِ فِي جِوَازِ الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهَا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بِأَرْضِ خَيْبَرَ شَجَرٌ لَمْ يُرْوَ عَنِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- إِفْرَادُهَا عَنْ حُكْمِ النَّخْلِ، وَلِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ مُشْتَقَّةُ الِاسْمِ مِمَّا يَشْرَبُ بِسَاقٍ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، أَنَّ الْمُسَاقَاةَ عَلَى الشَّجَرِ بَاطِلَةٌ، اخْتِصَاصًا بِالنَّخْلِ وَالْكَرْمِ لِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ فِي الْفَرَقِ بَيْنَ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ وَبَيْنَ الشَّجَرِ:

وَأَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ هُوَ: اخْتِصَاصُ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِمَا دُونَ مَا سِوَاهُمَا مِنْ جَمِيعِ الْأَشْجَارِ.

وَالثَّانِي: بُرُوزُ ثَمَرِهِمَا وَإِمْكَانُ خَرْصِهِمَا دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ الْأَشْجَارِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ بَيْنَ النَّخْلِ شَجَرٌ قَلِيلٌ فَسَاقَاهُ عَلَيْهِمَا صَحَّتِ الْمُسَاقَاةُ فِيهِمَا، وَكَانَ الشَّجَرُ تَبَعًا، كَمَا تَصِحُّ الْمُخَابَرَةُ فِي الْبَيَاضِ الَّذِي بَيْنَ النَّخْلِ وَيَكُونُ تَبَعًا.

15- وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ، وَفِي الْمَذْهَبِ الْقَدِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيَلْتَقُونَ مَعَ الْحَنَفِيَّةِ بِصِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ فِي سَائِرِ الْأَشْجَارِ، دُونَ غَيْرِهَا، وَاشْتَرَطُوا أَنْ تَكُونَ الْأَشْجَارُ مُثْمِرَةً وَثَمَرُهَا مَقْصُودٌ كَالْجَوْزِ وَالتُّفَّاحِ وَالْمِشْمِشِ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالتَّصْرِيحِ بِذِكْرِ الثَّمَرِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- فِي» مُعَامَلَةِ الرَّسُول- صلى الله عليه وسلم- أَهْلَ خَيْبَرَ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَأَمَّا مَا لَا ثَمَرَ لَهُ مِنَ الشَّجَرِ كَالصَّفْصَافِ وَالْحَوَرِ وَنَحْوِهِمَا، أَوْ لَهُ ثَمَرٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ كَالصَّنَوْبَرِ وَالْأَرْزِ فَلَا تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ وَلَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، وَلِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِجُزْءٍ مِنَ الثَّمَرِ، وَهَذَا لَا ثَمَرَةَ لَهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقْصَدُ وَرَقُهُ كَالتُّوتِ وَالْوَرْدِ، فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي جَوَازَ الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الثَّمَرِ وَلِأَنَّهُ نَمَاءٌ يَتَكَرَّرُ كُلَّ عَامٍ وَيُمْكِنُ أَخْذُهُ وَالْمُسَاقَاةُ عَلَيْهِ بِجُزْءٍ مِنْهُ فَيَثْبُتُ لَهُ مِثْلُ حُكْمِهِ.

16- وَمُسَاقَاةُ الْوَدِيِّ وَصِغَارِ الشَّجَرِ تَصِحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الِاتِّفَاقِ بِالْجُمْلَةِ فِيمَا بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَانَ الْوَدِيُّ مَغْرُوسًا وَسَاقَاهُ عَلَيْهِ وَشَرَطَ لَهُ جُزْءًا عَلَى الْعَمَلِ فَإِنْ قَدَّرَ فِي عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهِ مُدَّةً يُثْمِرُ الْوَدِيُّ فِيهَا غَالِبًا صَحَّ الْعَقْدُ وَإِلاَّ بِأَنْ قَدَّرَ مُدَّةً لَا يُثْمِرُ فِيهَا غَالِبًا فَلَا تَصِحُّ لِخُلُوِّهَا عَنِ الْعِوَضِ كَالْمُسَاقَاةِ عَلَى شَجَرَةٍ لَا تُثْمِرُ، فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ وَعَمِلَ الْعَامِلُ لَمْ يَسْتَحِقَّ أُجْرَةً إِنْ عَلِمَ أَنَّهَا لَا تُثْمِرُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِلاَّ اسْتَحَقَّ.

وَيُرْجَعُ فِي الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ لِأَهْلِ الْخَبِرَةِ بِالشَّجَرِ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا سَاقَاهُ عَلَى وَدِيِّ النَّخْلِ أَوْ صِغَارِ الشَّجَرِ إِلَى مُدَّةٍ يَحْمِلُ فِيهَا غَالِبًا وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا جُزْءٌ مِنَ الثَّمَرَةِ مَعْلُومٌ صَحَّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّ عَمَلَ الْعَامِلِ يَكْثُرُ وَنَصِيبُهُ يَقِلُّ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهَا كَمَا لَوْ جَعَلَ لَهُ سَهْمًا مِنْ أَلْفِ سَهْمٍ.

فَإِنْ قُلْنَا: الْمُسَاقَاةُ عَقْدٌ جَائِزٌ لَمْ نَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ لَازِمٌ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ.

أَحَدُهَا: أَنْ يَجْعَلَ الْمُدَّةَ زَمَنًا يَحْمِلُ فِيهِ غَالِبًا فَيَصِحُّ.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ صَحَّتْ وَحَمَلَ فِيهَا فَلَهُ مَا شَرَطَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ فِيهَا فَلَا شَيْءَ لَهُ.

الثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَهَا إِلَى زَمَنٍ لَا يَحْمِلُ فِيهِ غَالِبًا فَلَا يَصِحُّ، وَإِنْ عَمِلَ فِيهَا فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَإِنْ حَمَلَ فِي الْمُدَّةِ لَمْ يَسْتَحِقَّ مَا جَعَلَ لَهُ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ فَاسِدًا فَلَمْ يَسْتَحِقَّ مَا شُرِطَ فِيهِ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَجْعَلَ الْمُدَّةَ زَمَنًا: يَحْتَمِلُ أَنْ يَحْمِلَ فِيهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَحْمِلَ فَهَلْ يَصِحُّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:

فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ.

وَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ فَحَمَلَ فِي الْمُدَّةِ اسْتَحَقَّ مَا شُرِطَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ فِيهَا لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا.

وَقَالَ: وَإِنْ شَرَطَ نِصْفَ الثَّمَرَةِ وَنِصْفَ الْأَصْلِ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْمُسَاقَاةِ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي النَّمَاءِ وَالْفَائِدَةِ، فَإِذَا شَرَطَ اشْتِرَاكَهُمَا فِي الْأَصْلِ لَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ شَرَطَ فِي الْمُضَارَبَةِ اشْتِرَاكَهُمَا فِي رَأْسِ الْمَالِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ.

وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ لَهُ جُزْءًا مِنْ ثَمَرَتِهَا مُدَّةَ بَقَائِهَا لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ جَعَلَ لَهُ ثَمَرَةَ عَامٍ بَعْدَ مُدَّةِ الْمُسَاقَاةِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ خَالَفَ مَوْضُوعَ الْمُسَاقَاةِ.

ثَانِيًا: أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْمُسَاقَاةِ مَعْلُومًا مُعَيَّنًا:

17- يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْمُسَاقَاةِ مَعْلُومًا مُعَيَّنًا لِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ إِجَارَةٌ ابْتِدَاءً وَشَرِكَةٌ انْتِهَاءً، فَكَمَا تُشْتَرَطُ مَعْلُومِيَّةُ مَحَلِّ الْإِجَارَةِ تُشْتَرَطُ مَعْلُومِيَّةُ مَحَلِّ الْمُسَاقَاةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالْإِشَارَةِ أَوِ الْوَصْفِ أَوِ التَّحْدِيدِ، أَوِ الرُّؤْيَةِ.

ثَالِثًا: أَنْ يَكُونَ الشَّجَرُ بِحَيْثُ يَزِيدُ ثَمَرُهُ بِالسَّقْيِ وَالتَّعَهُّدِ:

18- أَوْرَدَ هَذَا الشَّرْطَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ سَحْنُونَ، وَعَنِ الشَّافِعِيَّةِ فِيهِ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا الْجَوَازُ، كَمَا فِي الرَّوْضَةِ.

رَابِعًا: التَّخْلِيَةُ:

19- التَّخْلِيَةُ بِمَعْنَى تَسْلِيمِ الشَّجَرِ إِلَى الْعَامِلِ وَانْفِرَادِ الْعَامِلِ بِوَضْعِ الْيَدِ فِي الْحَدِيقَةِ، وَذَلِكَ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْعَمَلِ مَتَى شَاءَ.

الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الثِّمَارُ:

20- وَيُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ عَنْهُ ب (الْخَارِجِ) وَلَهُ شُرُوطُهُ الْخَاصَّةُ بِهِ.

1- أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْعَامِلِ، لَا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لِأَنَّ مَعْنَى الشَّرِكَةِ لَازِمٌ لِهَذَا الْعَقْدِ وَكُلُّ شَرْطٍ يَكُونُ قَاطِعًا لِلشَّرِكَةِ يَكُونُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ.

غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَى جَوَازِ أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ كُلُّهَا لِلْعَامِلِ أَوِ الْمَالِكِ.

وَخَرَجَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مِنْحَةٌ لَا مُسَاقَاةٌ.

ب- أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْخَارِجِ جُزْءًا مَعْلُومَ الْقَدْرِ كَالثُّلُثِ وَالنِّصْفِ وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ كَوْنَ التَّعْيِينِ بِالْعَادَةِ الْجَارِيَةِ فِي الْبَلَدِ.

ج- أَنْ يَكُونَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْخَارِجِ عَلَى وَجْهِ الشُّيُوعِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ أَوِ الْعَدَدِ.

وَمُحَصَّلُ هَذَا اشْتِرَاطُ كَوْنِ نَصِيبِ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الثَّمَرَةِ جُزْءًا شَائِعًا مَعْلُومًا، وَذَلِكَ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الْمُسَاقَاةِ، وَهُوَ الْعَمَلُ فِي الشَّجَرِ لِقَاءَ جُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنَ الثَّمَرِ.

الرُّكْنُ الْخَامِسُ: الْعَمَلُ:

يُشْتَرَطُ فِي الْعَمَلِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ هِيَ:

أَوَّلًا: أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى الْعَامِلِ وَحْدَهُ بِدُونِ اشْتِرَاطِ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى الْمَالِكِ.

21- هَذَا الشَّرْطُ- فِي الْجُمْلَةِ- مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ حَتَّى يَفْسُدَ الْعَقْدُ بِوَجْهٍ عَامٍّ بِاشْتِرَاطِ شَيْءٍ مِنَ الْعَمَلِ وَمُؤْنَتِهِ وَلَوَازِمِهِ عَلَى الْمَالِكِ، لِأَنَّهُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَهُوَ: أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى الْعَامِلِ، كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ إِذَا شَرَطَ فِيهَا الْعَمَلَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ.

ثَانِيًا: أَنْ لَا يُشْتَرَطَ عَلَى الْعَامِلِ مَا لَا يَدْخُلُ فِي جِنْسِ عَمَلِهِ.

22- قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ بِالْجُمْلَةِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْعَامِلِ هُوَ السَّقْيُ وَالْإِبَارُ وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ.

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهَا اشْتِرَاطُ مَنْفَعَةٍ زَائِدَةٍ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ زِيَادَةَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَلَا شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْمُسَاقَاةِ.

ثَالِثًا: أَنْ يَنْفَرِدَ الْعَامِلُ بِالْحَدِيقَةِ:

23- مِنْ شُرُوطِ الْعَمَلِ: أَنْ يَسْتَبِدَّ الْعَامِلُ بِالْيَدِ فِي الْحَدِيقَةِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْعَمَلِ مَتَى شَاءَ فَلَوْ شَرَطَا كَوْنَهُ فِي يَدِ الْمَالِكِ، أَوْ مُشَارَكَتَهُ فِي الْيَدِ لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ سَلَّمَ الْمِفْتَاحَ إِلَيْهِ، وَشَرَطَ الْمَالِكُ الدُّخُولَ عَلَيْهِ، جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا دَخَلَ، كَانَتِ الْحَدِيقَةُ فِي يَدِهِ، يَتَعَوَّقُ بِحُضُورِهِ عَنِ الْعَمَلِ.

مَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالِاشْتِرَاطُ عَلَيْهِ

فِي ضَبْطِ مَا عَلَى الْعَامِلِ بِالْعِقْدِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ وَمَا لَيْسَ عَلَيْهِ، وَمَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَيْهِ وَمَا لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ التَّفْصِيلُ التَّالِي:

24- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ ضَابِطَيْنِ:

الضَّابِطُ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَا كَانَ مِنْ عَمَلٍ قَبْلَ إِدْرَاكِ الثَّمَرِ مِنَ السَّقْيِ وَالتَّلْقِيحِ وَالْحِفْظِ، فَهُوَ عَلَى الْعَامِلِ، وَمَا بَعْدَ الْإِدْرَاكِ كَالْجُذَاذِ وَهُوَ الْقَطْفُ، وَحِفْظُهُ فَهُوَ عَلَيْهِمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَمَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ عَلَيْهِمَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ شَرَطَ قَطْفَ الثَّمَرِ عَلَى الْعَامِلِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ لَا عُرْفَ فِيهِ.

الضَّابِطُ الثَّانِي: أَنَّ مَا لَا تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ بَعْدَ مُدَّةِ الْعَقْدِ فَهُوَ عَلَى الْعَامِلِ، فَاشْتِرَاطُهُ عَلَيْهِ لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَمَا تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ بَعْدَهَا كَغَرْسِ الْأَشْجَارِ وَنَصْبِ الْعَرَائِشِ، وَإِلْقَاءِ السِّرْقِينِ، فَاشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِلِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ.

25- وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَأَرْجَعُوا الْأَمْرَ إِلَى الْعُرْفِ، فَقَرَّرُوا: أَنَّ كُلَّ مَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ الثَّمَرُ عُرْفًا يَجِبُ عَلَى الْعَامِلِ وَلَوْ بَقِيَ بَعْدَ الْمُسَاقَاةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ تَفْصِيلُ الْعَمَلِ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْعُرْفِ إِنْ كَانَ مُنْضَبِطًا، وَإِلاَّ فَلَا بُدَّ مِنَ الْبَيَانِ.

وَلَهُمْ ضَابِطٌ تَفْصِيلِيٌّ قَرِيبٌ مِنْ ضَابِطِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أ- أَنَّ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّمَرَةِ وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إِصْلَاحِهَا لَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ بِالْعِقْدِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ إِلاَّ الْيَسِيرَ مِنْهُ كَسَدِّ الْحِيطَانِ وَإِصْلَاحِ مَجَارِي الْمِيَاهِ.

ب- مَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّمَرَةِ وَيَبْقَى بَعْدَهَا أَوْ يَتَأَبَّدُ، كَحَفْرِ بِئْرٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ سَاقِيَةٍ أَوْ بِنَاءِ بَيْتٍ يُخَزِّنُ فِيهِ الثَّمَرَ، أَوْ غَرْسِ فَسِيلٍ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِالْعَقْدِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ وَفِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهَدِ وَأَمَّا مَا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي إِصْلَاحِ الثَّمَرِ وَيَبْقَى بَعْدَ الثَّمَرِ فَيَدْخُلُ عِنْدَهُ بِالشَّرْطِ فِي الْمُسَاقَاةِ لَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ.

ج- مَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّمَرَةِ وَلَا يَبْقَى أَوْ لَا يَتَأَبَّدُ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْعَامِلِ بِالْعِقْدِ، كَالسَّقْيِ وَالْحَفْرِ، وَالتَّنْقِيَةِ وَالتَّذْكِيرِ، وَالْجُذَاذِ وَشِبْهِ ذَلِكَ.

26- أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ أَوَسْعُ- وَيَلْتَقُونَ بِالْجُمْلَةِ مَعَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- وَفْقَ الْبَيَانِ التَّالِي:

قَالَ فِي الْحَاوِي قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَكُلُّ مَا كَانَ فِيهِ مُسْتَزَادٌ فِي الثَّمَرِ مِنْ إِصْلَاحِ الْمَاءِ وَطَرِيقِهِ وَتَصْرِيفِ الْجَرِيدِ وَإِبَارِ النَّخْلِ، وَقَطْعِ الْحَشِيشِ الْمُضِرِّ بِالنَّخْلِ وَنَحْوِهِ جَازَ شَرْطُهُ عَلَى الْعَامِلِ، فَأَمَّا شَدُّ الْحَظَائِرِ فَلَيْسَ فِيهِ مُسْتَزَادٌ وَلَا صَلَاحَ فِي الثَّمَرَةِ فَلَا يَجُوزُ شَرْطُهُ عَلَى الْعَامِلِ.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْعَمَلُ الْمَشْرُوطُ فِي الْمُسَاقَاةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ

أَحَدُهَا: مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الثَّمَرَةِ دُونَ النَّخْلِ.

وَالثَّانِي: مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْلِ دُونَ الثَّمَرَةِ.

وَالثَّالِثُ: مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْلِ وَالثَّمَرَةِ.

وَالرَّابِعُ: مَا لَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الثَّمَرَةِ وَلَا النَّخْلِ.

فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الثَّمَرَةِ دُونَ النَّخْلِ، فَمِثْلُ إِبَارِ النَّخْلِ وَتَصْرِيفِ الْجَرِيدِ وَتَلْقِيحِ الثَّمَرَةِ وَلِقَاطِهَا رُطَبًا وَجُذَاذُهَا ثَمَرًا، فَهَذَا الضَّرْبُ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِلِ، وَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:

أ- قِسْمٌ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَهُوَ كُلُّ مَا لَا تَحْصُلُ الثَّمَرَةُ إِلاَّ بِهِ كَالتَّلْقِيحِ وَالْإِبَارِ.

ب- وَقِسْمٌ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ إِلاَّ بِالشَّرْطِ، وَهُوَ كُلُّ مَا فِيهِ مُسْتَزَادٌ لِلثَّمَرَةِ وَقَدْ تَصْلُحُ بِعَدَمِهِ، كَتَصْرِيفِ الْجَرِيدِ وَتَدَلِّيهِ الثَّمَرَةَ.

ج- قِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ كُلُّ مَا تَكَامَلَتِ الثَّمَرَةُ قَبْلَهُ كَاللِّقَاطِ وَالْجُذَاذِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَامِلِ إِلاَّ بِشَرْطٍ لِتَكَامُلِ الثَّمَرَةِ بِعَدِمِهِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْعَامِلِ بِغَيْرِ شَرْطٍ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ وَإِنْ تَكَامَلَتْ قَبْلَهُ.

وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْلِ دُونَ الثَّمَرَةِ، فَمِثْلُ شَدِّ الْحَظَائِرِ وَحَفْرِ الْآبَارِ وَشَقِّ السَّوَّاقِي وَكَرْيِ الْأَنْهَارِ، فَكُلُّ هَذَا مِمَّا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْلِ دُونَ الثَّمَرَةِ، فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ، وَكَذَا مَا شَاكَلَهُ مِنْ عَمَلِ الدَّوَالِيبِ وَنَحْوِهَا.

فَإِنْ شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ عَلَى الْعَامِلِ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا وَالْمُسَاقَاةُ فَاسِدَةً.

وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَبْطُلُ الشَّرْطُ وَتَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ، حَمْلًا عَلَى الشُّرُوطِ الزَّائِدَةِ فِي الرَّهْنِ تَبْطُلُ وَلَا يَبْطُلُ مَعَهَا الرَّهْنُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.

وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْلِ وَالثَّمَرَةِ، فَكَالسَّقْيِ وَالْإِثَارَةِ وَقَطْعِ الْحَشِيشِ الْمُضِرِّ بِالنَّخْلِ.إِلَى مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِمَّا فِيهِ صَلَاحُ النَّخْلِ وَمُسْتَزَادٌ فِي الثَّمَرَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَا لَا تَصْلُحُ الثَّمَرَةُ إِلاَّ بِهِ، كَالسَّقْيِ فِيمَا لَا يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ مِنَ النَّخْلِ حَتَّى يُسْقَى سَيْحًا فَهُوَ عَلَى الْعَامِلِ، كَنَخْلِ الْبَصْرَةِ فَهُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ شُرُوطِ هَذَا الْفَصْلِ سَوَاءٌ، وَهُوَ الضَّرْبُ الثَّانِي فِي هَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ، وَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْعَامِلِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَاشْتِرَاطُهُ عَلَيْهِ تَأْكِيدٌ لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ النَّخْلِ وَزِيَادَةِ الثَّمَرَةِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ، وَاشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِلِ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ لِأَنَّهُ بِصَلَاحِ النَّخْلِ أَخَصُّ مِنْهُ بِصَلَاحِ الثَّمَرَةِ.

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِلِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الثَّمَرَةِ، وَيَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ النَّخْلِ فَلَمْ يَتَنَافَ الشَّرْطَانِ فِيهِ فَإِنْ شَرَطَهُ عَلَى الْعَامِلِ لَزِمَهُ، وَإِنْ شَرَطَ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ لَزِمَهُ، وَإِنْ أَغْفَلَ لَمْ يَلْزَمْ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَأَمَّا الْعَامِلُ فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ أَوْ مِنْ شُرُوطِهِ، وَأَمَّا رَبُّ النَّخْلِ فَلِأَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَثْمِيرِ مَالِهِ.

وَأَمَّا الضَّرْبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَا لَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْلِ وَلَا عَلَى الثَّمَرَةِ فَهُوَ كَاشْتِرَاطِهِ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَبْنِيَ لَهُ قَصْرًا أَوْ يَخْدِمَهُ شَهْرًا أَوْ يَسْقِيَ لَهُ زَرْعًا، فَهَذِهِ شُرُوطٌ تُنَافِي الْعَقْدَ، وَتَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهِ لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِهِ، وَلَا تَخْتَصُّ بِشَيْءٍ فِي مَصْلَحَتِهِ.

27- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَلْزَمُ الْعَامِلَ بِإِطْلَاقِ عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ مَا فِيهِ صَلَاحُ الثَّمَرَةِ وَزِيَادَتُهَا مِثْلُ حَرْثِ الْأَرْضِ تَحْتَ الشَّجَرِ وَالْبَقَرِ الَّتِي تَحْرُثُ وَآلَةُ الْحَرْثِ وَسَقْيِ الشَّجَرِ وَاسْتِقَاءِ الْمَاءِ وَإِصْلَاحِ طُرُقِ الْمَاءِ وَتَنْقِيَتِهَا وَقَطْعِ الْحَشِيشِ الْمُضِرِّ وَالشَّوْكِ وَقَطْعِ الشَّجَرِ الْيَابِسِ وَزِبَارِ الْكَرْمِ وَقَطْعِ مَا يُحْتَاجُ إِلَى قَطْعِهِ وَتَسْوِيَةِ الثَّمَرِ وَإِصْلَاحِ الْأَجَاجِينِ وَهِيَ الْحُفَرُ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا الْمَاءُ عَلَى أُصُولِ النَّخْلِ وَإِدَارَةِ الدُّولَابِ، وَالْحِفْظِ لِلثَّمَرِ فِي الشَّجَرِ وَبَعْدَهُ حَتَّى يُقْسَمَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُشَمَّسُ فَعَلَيْهِ تَشْمِيسُهُ.

وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ مَا فِيهِ حِفْظُ الْأَصْلِ كَسَدِّ الْحِيطَانِ وَإِنْشَاءِ الْأَنْهَارِ وَعَمَلِ الدُّولَابِ وَحَفْرِ بِئْرِهِ وَشِرَاءِ مَا يُلَقَّحُ بِهِ.

وَعَبَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ هَذَا بِعَبَّارَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: كُلُّ مَا يَتَكَرَّرُ كُلَّ عَامٍ فَهُوَ عَلَى الْعَامِلِ وَمَا لَا يَتَكَرَّرُ فَهُوَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَهَذَا صَحِيحٌ فِي الْعَمَلِ، فَأَمَّا شِرَاءُ مَا يُلَقِّحُ بِهِ فَهُوَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَإِنْ تَكَرَّرَ، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْعَمَلِ.

وَإِنْ أَطْلَقَا الْعَقْدَ وَلَمْ يُبَيِّنَا مَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَرَطَا ذَلِكَ كَانَ تَأْكِيدًا، وَإِنْ شَرَطَا عَلَى أَحَدِهِمَا شَيْئًا مِمَّا يَلْزَمُ الْآخِرَ، فَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا تَفْسُدُ الْمُسَاقَاةُ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَأَفْسَدَهُ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْجُذَاذَ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ شَرَطَهُ عَلَى الْعَامِلِ جَازَ، لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يُخِلُّ بِمَصْلَحَةِ الْعَقْدِ وَلَا مَفْسَدَةَ فِيهِ فَصَحَّ كَتَأْجِيلِ الثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَا يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَمَلِ مَعْلُومًا لِئَلاَّ يُفْضِيَ إِلَى التَّنَازُعِ وَالتَّوَاكُلِ فَيَخْتَلَّ الْعَمَلُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَكْثَرَ الْعَمَلِ، لِأَنَّ الْعَامِلَ يَسْتَحِقُّ بِعَمَلِهِ فَإِذَا لَمْ يَعْمَلْ أَكْثَرَ الْعَمَلِ كَانَ وُجُودُ عَمَلِهِ كَعَدِمِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا.

فَأَمَّا الْجُذَاذُ وَالْحَصَادُ وَاللِّقَاطُ فَهُوَ عَلَى الْعَامِلِ، نَصَّ أَحْمَدُ عَلَيْهِ فِي الْحَصَادِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْعَمَلِ فَكَانَ عَلَى الْعَامِلِ كَالتَّشْمِيسِ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْجُذَاذِ أَنَّهُ إِذَا شُرِطَ عَلَى الْعَامِلِ فَجَائِزٌ لِأَنَّ الْعَمَلَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْهُ فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ بِحِصَّتِهِ مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


144-موسوعة الفقه الكويتية (ممسوح)

مَمْسُوحٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمَمْسُوحُ لُغَةً: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ مَسَحَ، وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: الْخَصِيُّ إِذَا سُلَّتْ مَذَاكِيرُهُ، وَالْمُغَيَّرُ عَنْ خِلْقَتِهِ.

وَالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَيُعَبِّرُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَنِ الْمَمْسُوحِ فِي الْغَالِبِ بِلَفْظِ الْمَجْبُوبِ.

فَقَدْ قَالَ الْبَابَرْتِيُّ: الْمَجْبُوبُ هُوَ الَّذِي اسْتُؤْصِلَ ذَكَرُهُ وَخُصْيَتَاهُ.

وَقَالَ الشَّلَبِيُّ: الْمَجْبُوبُ هُوَ مَقْطُوعُ الذَّكَرِ وَالْخُصْيَتَيْنِ.

وَقَالَ الْمَنُوفِي الْمَالِكِيُّ: الْجَبُّ هُوَ قَطْعُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ.

وَيُطْلِقُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لَفْظَ الْمَجْبُوبِ فِي غَالِبِ اسْتِعْمَالَاتِهِمْ عَلَى مَقْطُوعِ الذَّكَرِ فَقَطْ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْمَجْبُوبُ:

2- الْمَجْبُوبُ لُغَةً: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ جَبَّ بِمَعْنَى قَطَعَ وَهُوَ: الَّذِي اسْتُؤْصِلَتْ مَذَاكِيرُهُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَعْنَاهُ إِلَى رَأْيَيْنِ:

الْأَوَّلُ: الْمَجْبُوبُ وَهُوَ مَنْ قُطِعَ ذَكَرُهُ أَصْلًا، كَمَا صَرَّحَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

الثَّانِي: هُوَ مَنْ قُطِعَ ذَكَرُهُ وَخُصْيَتَاهُ كَمَا صَرَّحَ بَهْ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَمْسُوحِ وَالْمَجْبُوبِ أَنَّ الْمَمْسُوحَ أَعَمُّ مِنَ الْمَجْبُوبِ عِنْدَ الْبَعْضِ.

ب- الْخَصِيُّ:

3- الْخَصِيُّ فِي اللُّغَةِ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، يُطْلَقُ عَلَى مَنْ قُطِعَ ذَكَرُهُ، أَوْ سُلَّتْ خُصْيَتَاهُ.

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ: فَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمُرَادِ بِهَذَا اللَّفْظِ، فَقِيلَ: الْخَصِيُّ مَنْ قُطِعَتْ أُنْثَيَاهُ مَعَ جِلْدَتِهِمَا.

وَقِيلَ: الْخَصِيُّ مَنْ قُلِبَتْ أُنْثَيَاهُ.

وَقِيلَ: الْخَصِيُّ مَقْطُوعُ الذَّكَرِ قَائِمُ الْأُنْثَيَيْنِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْخَصِيِّ وَالْمَمْسُوحِ: أَنَّ الْمَمْسُوحَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى ذَاهِبِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ جَمِيعًا.

ج- الْعِنِّينُ:

4- الْعِنِّينُ فِي اللُّغَةِ: مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِتْيَانِ النِّسَاءِ، أَوْ لَا يَشْتَهِي النِّسَاءَ.

وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: الْعِنِّينُ هُوَ الْعَاجِزُ عَنِ الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ لِعَدَمِ انْتِشَارِ الْآلَةِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَمْسُوحِ وَالْعِنِّينِ هُوَ بَقَاءُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ فِي الْعِنِّينِ، وَذَهَابُهُمَا فِي الْمَمْسُوحِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَمْسُوحِ:

تَتَعَلَّقُ بِالْمَمْسُوحِ عِدَّةُ أَحْكَامٍ، مِنْهَا:

مَرْتَبَةُ الْمَمْسُوحِ فِي إِدْخَالِ الْأُنْثَى الْقَبْرُ

5- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ فِي وَضْعِ الْأُنْثَى فِي قَبْرِهَا الزَّوْجُ، فَالْمَحْرَمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، فَعَبْدُهَا لِأَنَّهُ كَالْمَحْرَمِ فِي النَّظَرِ وَنَحْوِهِ، فَمَمْسُوحٌ، فَمَجْبُوبٌ، فَخَصِيٌّ لِضَعْفِ شَهْوَتِهِمْ، وَرُتِّبُوا كَذَلِكَ لِتَفَاوُتِهِمْ فِي الشَّهْوَةِ، إِذِ الْمَمْسُوحُ أَضْعَفُ مِنَ الْمَجْبُوبِ وَالْخَصِيِّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْأُنْثَيَيْنِ، وَالْمَجْبُوبُ أَضْعَفُ مِنَ الْخَصِيِّ لِجَبِّ ذَكَرِهِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: دَفْنٌ ف 6).

نَظَرُ الْمَمْسُوحِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ

6- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ نَظَرِ الْمَمْسُوحِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ إِلَى ثَلَاثَةِ آرَاءٍ:

الرَّأْيُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الْمُقَابِلِ لِلْأَصَحِّ- وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ- إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ نَظَرُ الْمَمْسُوحِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَلَوِ امْرَأَةَ سَيِّدِهِ كَغَيْرِ الْمَمْسُوحِ.

قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا تُبَاحُ خَلْوَةُ النِّسَاءِ بِالْخُصْيَانِ وَلَا بِالْمَجْبُوبِينَ لِأَنَّ الْعُضْوَ وَإِنْ تَعَطَّلَ أَوْ عُدِمَ فَشَهْوَةُ الرِّجَالِ لَا تَزُولُ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَلَا يُؤْمَنُ التَّمَتُّعُ بِالْقُبْلَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَلِذَلِكَ لَا يُبَاحُ خَلْوَةُ الْفَحْلِ بِالرَّتْقَاءِ مِنَ النِّسَاءِ.

وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: لَا يَجُوزُ لِلْخَصِيِّ الدُّخُولُ عَلَى الْمَرْأَةِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَبْدَهَا، وَاسْتُخِفَّ إِذَا كَانَ عَبْدَ زَوْجِهَا لِلْمَشَقَّةِ الدَّاخِلَةِ عَلَيْهَا فِي اسْتِتَارِهَا مِنْهُ.

الرَّأْيُ الثَّانِي: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْمَمْسُوحَ كَالْفَحْلِ فِي النَّظَرِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ الْمَجْبُوبَ مُطْلَقًا- سَوَاءٌ جَفَّ مَاؤُهُ أَوْ لَا- كَالْفَحْلِ فِي النَّظَرِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} وَالْمَجْبُوبُ مِنَ الذُّكُورِ الْمُؤْمِنِينَ فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «الْخِصَاءُ مُثْلَةٌ فَلَا يُبِيحُ مَا كَانَ حَرَامًا قَبْلَهُ» وَالْمَجْبُوبُ يَشْتَهِي وَيَسْحَقُ وَيُنْزِلُ وَلَوْ جَاءَتِ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ يَثْبُتُ نَسَبُهُ.

وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ (الْفَحْلُ) إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ إِلاَّ وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا، فَإِنْ كَانَ لَا يَأْمَنُ الشَّهْوَةَ لَا يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهَا إِلاَّ لِحَاجَةٍ.

وَرَخَّصَ بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ فِي حَقِّ الْمَجْبُوبِ الَّذِي جَفَّ مَاؤُهُ الِاخْتِلَاطُ بِالنِّسَاءِ.

قَالَ أَبُو السُّعُودِ: الْأَصَحُّ الْمَنْعُ مُطْلَقًا كَمَا فِي الْخَانِيَّةِ.

الرَّأْيُ الثَّالِثُ: يَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ إِلَى أَنَّ نَظَرَ الْمَمْسُوحِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ كَالنَّظَرِ إِلَى الْمَحْرَمِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَحِلُّ نَظَرُهُ بِلَا شَهْوَةٍ نَظَرَ الْمَحْرَمِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَمْسُوحُ حُرًّا أَمْ لَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} أَيْ: غَيْرِ أَصْحَابِ الْحَاجَةِ إِلَى النِّكَاحِ، وَيَشْمَلُ الْمَمْسُوحَ.

وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَيَنْبَغِي- كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ- تَقْيِيدُ جَوَازِ النَّظَرِ فِي الْمَمْسُوحِ بِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمَةِ، فَإِنْ كَانَ كَافِرًا مُنِعَ عَلَى الْأَصَحِّ لِأَنَّ أَقَلَّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ كَالْمَرْأَةِ الْكَافِرَةِ.

أَثَرُ خَلْوَةِ الْمَمْسُوحِ بِزَوْجَتِهِ فِي تَقْرِيرِ الْمَهْرِ

7- يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ خَلْوَةَ الْمَمْسُوحِ بِزَوْجَتِهِ تُقَرِّرُ الْمَهْرَ.

فَقَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَخَلْوَةُ الْمَجْبُوبِ خَلْوَةٌ صَحِيحَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَالْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ مِنْ أَحَدِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ الَّتِي يَتَأَكَّدُ الْمَهْرُ بِهَا، سَوَاءٌ كَانَ مُسَمًّى أَوْ مَهْرَ الْمِثْلِ، حَتَّى لَا يَسْقُطُ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدَ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْإِبْرَاءِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ.

وَجَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: وَتُقَرِّرُ الْخَلْوَةُ الْمَهْرَ وَلَوْ لَمْ يَطَأْ، وَلَوْ كَانَ بِالزَّوْجَيْنِ أَوْ كَانَ بِأَحَدِهِمَا مَانِعٌ حِسِّيٌّ كَجَبِّ وَرَتْقٍ وَنُضَاوَةٍ أَيْ هُزَالٍ...فَإِنَّ الْخَلْوَةَ تُقَرِّرُ الْمَهْرَ كَامِلًا إِذَا كَانَتْ بِشُرُوطِهَا، لِأَنَّ الْخَلْوَةَ نَفْسَهَا مُقَرِّرَةٌ لِلْمَهْرِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْجَدِيدِ إِلَى أَنَّ خَلْوَةَ الْمَمْسُوحِ بِزَوْجَتِهِ لَا تُقَرِّرُ الْمَهْرَ وَلَا تُؤَثِّرُ فِيهِ.

قَالَ الْحَطَّابُ: الْقُبْلَةُ وَالْمُبَاشَرَةُ وَالتَّجَرُّدُ وَالْوَطْءُ دُونَ الْفَرْجِ لَا يُوجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الصَّدَاقَ.

وَقَالَ الصَّاوِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى كَلَامِ الدَّرْدِيرِ عَنْ رَدِّ الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا لِعَيْبِهِ: فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مِمَّنْ لَا يُتَصَوَّرُ وَطْؤُهُ كَالْمَجْبُوبِ وَالْعِنِّينِ وَالْخَصِيُّ مَقْطُوعِ الذَّكَرِ فَإِنَّهُ لَا مَهْرَ عَلَى الزَّوْجِ.

التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمَمْسُوحِ وَزَوْجَتِهِ

8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمَرْأَةِ بَيْنَ التَّفْرِيقِ وَالْبَقَاءِ إِذَا وَجَدَتْ زَوْجَهَا مَمْسُوحًا لِأَنَّ فِيهِ نَقْصًا يَمْنَعُ الْوَطْءَ أَوْ يُضْعِفُهُ.

وَلِتَفْصِيلِ أَحْكَامِ التَّفْرِيقِ بِالْعَيْبِ وَشُرُوطِ التَّفْرِيقِ بِهِ. (ر: جَبٌّ ف 5- 8، وَطَلَاقٌ ف 93 وَمَا بَعْدَهَا).

عِدَّةُ زَوْجَةِ الْمَمْسُوحِ

9- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمَمْسُوحَ إِذَا كَانَ يُنْزِلُ كَالصَّحِيحِ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَى الزَّوْجَةِ عِنْدَ الْفُرْقَةِ.

وَإِذَا مَاتَ الْمَمْسُوحُ عَنْ زَوْجَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ، أَوْ حَدَثَ الْحَمْلُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَفِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ هِيَ كَزَوْجَةِ الْفَحْلِ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالْوَضْعِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ هِيَ كَزَوْجَةِ الصَّبِيِّ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَى زَوْجَةِ الْمَمْسُوحِ ذَكَرُهُ وَأُنْثَيَاهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ عِدَّةُ الطَّلَاقِ عَلَى زَوْجَةِ الْمَمْسُوحِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ أَصْلًا.

وَأَمَّا إِذَا مَاتَ الْمَمْسُوحُ عَنْ حَامِلٍ فَتَعْتَدُّ زَوْجَتُهُ بِالْأَشْهُرِ لَا بِالْوَضْعِ، إِذْ لَا يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ عَلَى الْمَذْهَبِ، لِأَنَّهُ لَا يُنْزِلُ وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنْ يُخْلَقَ لَهُ وَلَدٌ.

وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ وَالْقَاضِيَانِ وَالصَّيْدَلَانِيُّ والصَّيْمَرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدِ ابْنُ حَرْبَوَيْهِ يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ، لِأَنَّ مَعْدِنَ الْمَاءِ الصُّلْبُ، وَهُوَ يَنْفُذُ مِنْ ثُقْبَةٍ إِلَى الظَّاهِرِ وَهُمَا بَاقِيَانِ، وَيُحْكَى ذَلِكَ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ قَالَ الْمَحَلِّيُّ: فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْوَضَعِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ.

وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ وَقَدْ خَلَا بِهَا فَعِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ غَيْرَ الْحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيُّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا مَعَ الْمَانِعِ مِنَ الْوَطْءِ أَوْ مَعَ عَدَمِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَانِعُ حَقِيقِيًّا كَالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَالْفَتْقِ وَالرَّتْقِ، أَوْ شَرْعِيًّا كَالصَّوْمِ وَالْإِحْرَامِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالظِّهَارِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ هَاهُنَا عَلَى الْخَلْوَةِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ الْإِصَابَةِ دُونَ حَقِيقَتِهَا. ثُمَّ قَالُوا: لَا تَنْقَضِي عِدَّةُ الزَّوْجَةِ مِنْ زَوْجِهَا بِوَضْعِ حَمْلٍ لَمْ يَلْحَقِ الزَّوْجَ لِصِغَرِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ خَصِيًّا مَجْبُوبًا أَوْ غَيْرَ مَجْبُوبٍ، لِأَنَّ الْحَمْلَ لَيْسَ مِنْهُ يَقِينًا فَلَمْ تَعْتَدَّ بِوَضْعِهِ، وَتَعْتَدُّ بَعْدَهُ عِدَّةَ وَفَاةٍ إِنْ كَانَتْ مُتَوَفًّى عَنْهَا، أَوْ عِدَّةَ حَيَاةٍ إِنْ كَانَ فَارَقَهَا فِي الْحَيَاةِ حَيْثُ وَجَبَتْ عِدَّةُ الْفِرَاقِ.وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: عِدَّةٌ 39).

لُحُوقُ الْوَلَدِ بِالْمَمْسُوحِ

10- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي لُحُوقِ الْوَلَدِ بِالْمَمْسُوحِ:

فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمَمْسُوحَ لَا يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ، لِأَنَّهُ لَا يُنْزِلُ وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنْ يُخْلَقَ لَهُ وَلَدٌ.

وَقَدْ فَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ الْمَجْبُوبَ يَنْتَفِي عَنْهُ الْوَلَدُ بِغَيْرِ لِعَانٍ لِاسْتِحَالَةِ حَمْلِهَا مِنْهُ حِينَئِذٍ عَادَةً، وَمِثْلُهُ مَقْطُوعُ الْأُنْثَيَيْنِ أَوِ الْبَيْضَةِ الْيُسْرَى فَقَطْ عَلَى الصَّحِيحِ.

فَإِذَا وُجِدَتِ الْبَيْضَةُ الْيُسْرَى وَأَنْزَلَ فَلَا بُدَّ مِنَ اللِّعَانِ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ مَقْطُوعَ الذَّكَرِ.

وَإِنْ فُقِدَتِ الْبَيْضَةُ الْيُسْرَى وَلَوْ قَائِمَ الذَّكَرِ فَلَا لِعَانَ وَلَوْ أَنْزَلَ، وَيَنْتَفِي الْوَلَدُ لِغَيْرِهِ.

وَطَرِيقَةُ الْقَرَافِيِّ أَنَّ الْمَجْبُوبَ وَالْخَصِيَّ إِنْ لَمْ يُنْزِلَا فَلَا لِعَانَ لِعَدَمِ لُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِمَا، وَإِنْ أَنْزَلَا لَاعَنَا.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْوَلَدَ يَلْحَقُ بِهِ.

جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: إِذَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَ الْمَجْبُوبِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ بَعْدَ الْخَلْوَةِ، ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ إِلَى سَنَتَيْنِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ، وَلَا يَبْطُلُ تَفْرِيقُ الْقَاضِي.

وَعِنْدَ التُّمُرْتَاشِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ عَلِمَ أَنَّ الْمَمْسُوحَ يُنْزِلُ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ، وَإِنْ عَلِمَ بِخِلَافِهِ فَلَا.

وَجَاءَ فِي شَرْحِ الْمَحَلِّيِّ: قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ وَالْقَاضِيَانِ وَالصَّيْدَلَانِيُّ وَالصَّيْمَرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْمَمْسُوحَ يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ لِأَنَّ مَعْدِنَ الْمَاءِ الصُّلْبُ وَهُوَ يَنْفُذُ مِنْ ثُقْبَةٍ إِلَى الظَّاهِرِ وَهُمَا بَاقِيَانِ، وَيُحْكَى ذَلِكَ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْوَضْعِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: نَسَبٌ).

قَذْفُ الْمَمْسُوحِ بِالزِّنَا

11- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ قَاذِفِ الْمَمْسُوحِ بِالزِّنَا.

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُحَدُّ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: قَذْفٌ ف 47).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


145-موسوعة الفقه الكويتية (مناسبة)

مُنَاسَبَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمُنَاسَبَةُ فِي اللُّغَةِ: الْمُلَاءَمَةُ.

قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ: الْمُنَاسَبَةُ وَصْفٌ ظَاهِرٌ مُنْضَبِطٌ، يَحْصُلُ عَقْلًا مِنْ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لِلْعُقَلَاءِ مِنْهُ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ، أَوْ دُنْيَوِيَّةٌ، أَوْ دَفْعُ مَفْسَدَةٍ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

2- الْمُنَاسَبَةُ مِنَ الطُّرُقِ الْمَعْقُولَةِ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا: بِالْإِخَالَةِ، وَبِالْمَصْلَحَةِ، وَالِاسْتِدْلَالِ، وَبِرِعَايَةِ الْمَقَاصِدِ، وَيُسَمَّى اسْتِخْرَاجُهَا تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ، لِأَنَّهُ إِبْدَاءُ مَنَاطِ الْحُكْمِ.

دَلِيلُ إِفَادَةِ الْمُنَاسَبَةِ لِلْعِلِّيَّةِ:

3- احْتَجَّ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَلَى إِفَادَةِ الْمُنَاسَبَةِ لِلْعِلِّيَّةِ بِتَمَسُّكِ الصَّحَابَةِ بِهَا، فَإِنَّهُمْ يُلْحِقُونَ غَيْرَ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ، إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ أَنَّهُ يُضَاهِيهِ لِمَعْنًى أَوْ يُشْبِهُهُ، ثُمَّ قَالَ: فَالْأَوْلَى الِاعْتِمَادُ لِإِفَادَةِ الْمُنَاسَبَةِ لِلْعِلِّيَّةِ عَلَى الْعُمُومَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْقِيَاسِ.

تَقْسِيمُ الْمُنَاسِبِ:

4- يَنْقَسِمُ الْمُنَاسِبُ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَالْإِقْنَاعُ: إِلَى حَقِيقِيٍّ وَإِقْنَاعِيٍّ، لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ إِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَزُولُ بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ فَهُوَ الْحَقِيقِيُّ وَإِلاَّ فَهُوَ الْإِقْنَاعِيُّ.

وَالْحَقِيقِيُّ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا هُوَ: وَاقِعٌ فِي مَحَلِّ الضَّرُورَةِ، أَوْ مَحَلِّ الْحَاجَةِ، أَوْ مَحَلِّ التَّحْسِينِ.

تَقْسِيمُ الْمُنَاسَبَةِ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِبَارُ الشَّرْعِيُّ وَعَدَمُهُ

تَنْقَسِمُ الْمُنَاسَبَةُ بِاعْتِبَارِ شَهَادَةِ الشَّرْعِ لَهَا بِالْمُلَاءَمَةِ وَالتَّأْثِيرِ وَعَدَمِهَا، إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يُلْغِيَهُ الشَّارِعُ:

5- إِذَا أَوْرَدَ الشَّارِعُ الْفُرُوعَ عَلَى عَكْسِ الْمُنَاسَبَةِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِهِ، وَذَلِكَ كَإِيجَابِ صَوْمِ شَهْرَيْنِ فِي كَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَبْلَغَ فِي رَدْعِهِ مِنَ الْعِتْقِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّارِعَ بِإِيجَابِهِ الْإِعْتَاقَ ابْتِدَاءً أَلْغَاهُ، فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ.

الثَّانِي: أَنْ يَعْتَبِرَهُ الشَّارِعُ:

6- وَذَلِكَ بِأَنْ يُورِدَ الشَّارِعُ الْفُرُوعَ عَلَى وَفْقِ الْمُنَاسَبَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِاعْتِبَارِهِ: أَنْ يَنُصَّ الشَّارِعُ عَلَى الْعِلَّةِ أَوْ يُومِئَ إِلَيْهَا، وَإِلاَّ لَمْ تَكُنِ الْعِلَّةُ مُسْتَفَادَةً مِنَ الْمُنَاسَبَةِ.

الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُعْلَمَ اعْتِبَارُ الشَّارِعِ وَلَا إِلْغَاؤُهُ:

7- وَهُوَ الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ بِالِاعْتِبَارِ وَلَا بِالْإِلْغَاءِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى «بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ» وَقَدِ اعْتَبَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ أَدِلَّةِ الْفِقْهِ.

تَقْسِيمُ الْمُنَاسَبَةِ مِنْ حَيْثُ التَّأْثِيرُ وَالْمُلَاءَمَةُ

تَنْقَسِمُ الْمُنَاسَبَةُ إِلَى مُؤَثِّرٍ وَمُلَائِمٍ وَغَرِيبٍ:

8- الْأَوَّلُ: الْمُؤَثِّرُ: وَهُوَ مَا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي الْحُكْمِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، وَسُمِّيَ مُؤَثِّرًا، لِظُهُورِ تَأْثِيرِ الْوَصْفِ فِي الْحُكْمِ.

فَالنَّصُّ كَمَسِّ الْمُتَوَضِّئِ ذَكَرَهُ، فَإِنَّهُ اعْتُبِرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحَدَثِ بِنَصِّ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ: «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلَا يُصَلِّ حَتَّى يَتَوَضَّأَ»

وَالْإِجْمَاعُ: كَقِيَاسِ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ فِي سُقُوطِ الصَّلَاةِ بِالْحَيْضِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَشَقَّةِ التَّكْرَارِ، إِذْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَكِنْ فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ، فَعُدِّيَ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ.

وَهَذَا لَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ.

9- الثَّانِي: الْمُلَائِمُ: وَهُوَ أَنْ يَعْتَبِرَ الشَّارِعُ عَيْنَهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، بِتَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِ النَّصِّ، لَا بِنَصٍّ وَلَا إِجْمَاعٍ، وَسُمِّيَ مُلَائِمًا لِكَوْنِهِ مُوَافِقًا لِمَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ دُونَ مَا قَبْلَهَا، وَمَثَّلَهُ صَاحِبُ رَوْضَةِ النَّاظِرِ مِنْ أُصُولِيِّ الْحَنَابِلَةِ: بِظُهُورِ الْمَشَقَّةِ فِي إِسْقَاطِ الصَّلَاةِ عَنِ الْحَائِضِ، فَإِنَّهُ ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِ الْحَرَجِ فِي إِسْقَاطِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ عَنِ الْحَائِضِ كَتَأْثِيرِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ فِي إِسْقَاطِ الرَّكْعَتَيْنِ السَّاقِطَتَيْنِ بِالْقَصْرِ.

10- الثَّالِثُ: الْغَرِيبُ: وَهُوَ أَنْ يَعْتَبِرَ عَيْنَهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ فَتَرَتَّبَ الْحُكْمُ وَفْقَ الْوَصْفِ فَقَطْ، وَلَا يُعْتَبَرُ عَيْنُ الْوَصْفِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ وَلَا عَيْنِهِ، وَلَا جِنْسُهُ فِي جنْسِهِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، كَالْإِسْكَارِ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، فَإِنَّهُ اعْتُبِرَ عَيْنُ الْإِسْكَارِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، وَيَتَرَتَّبُ التَّحْرِيمُ عَلَى الْإِسْكَارِ فَقَطْ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمُنَاسِبِ الْغَرِيبِ: تَوْرِيثُ الْمَبْتُوتَةِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ إِلْحَاقًا بِالْقَاتِلِ الْمَمْنُوعِ مِنَ الْمِيرَاثِ تَعْلِيلًا بِالْمُعَارَضَةِ بِنَقِيضِ الْقَصْدِ، فَإِنَّ الْمُنَاسَبَةَ ظَاهِرَةٌ، وَلَكِنْ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ لَمْ يُعْهَدِ اعْتِبَارُهُ فِي غَيْرِ هَذَا فَكَانَ غَرِيبًا.

وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


146-موسوعة الفقه الكويتية (نفل 1)

نَفْلٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي النَّفْلِ- بِسُكُونِ الْفَاءِ وَقَدْ تُحَرَّكُ- فِي اللُّغَةِ: الزِّيَادَةُ، وَالنَّفْلُ وَالنَّافِلَةُ: مَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ مِمَّا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ}.

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ: فَقَدْ عَرَّفَهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَلَبِيُّ الْحَنَفِيُّ بِأَنَّهُ: الْعِبَادَةُ الَّتِي لَيْسَتْ بِفَرْضٍ وَلَا وَاجِبٍ، فَهِيَ الْعِبَادَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى مَا هُوَ لَازِمٌ، فَتَعُمُّ السُّنَنَ الْمُؤَكَّدَةَ وَالْمُسْتَحَبَّةَ وَالتَّطَوُّعَاتِ غَيْرَ الْمُؤَقَّتَةِ.

وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: النَّفْلُ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ، أَيْ يَتْرُكُهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَيَفْعَلُهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: النَّفْلُ هُوَ مَا عَدَا الْفَرَائِضَ- أَيْ مِنَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا كَالصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ- وَهُوَ: مَا طَلَبَهُ الشَّارِعُ طَلَبًا غَيْرَ جَازِمٍ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالسُّنَّةِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْحَسَنِ وَالْمُرَغَّبِ فِيهِ وَالْمُسْتَحَبِّ وَالتَّطَوُّعِ، فَهِيَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ لِتَرَادُفِهَا عَلَى الْمَشْهُورِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

السُّنَّةُ:

2- السُّنَّةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرِيقَةُ وَالسِّيرَةُ، يُقَالُ: سُنَّةُ فُلَانٍ كَذَا؛ أَيْ طَرِيقَتُهُ وَسِيرَتُهُ، حَسَنَةً كَانَتْ أَوْ سَيِّئَةً.

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَقَدْ عَرَّفَهَا إِبْرَاهِيمُ الْحَلَبِيُّ بِأَنَّهَا الطَّرِيقَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْمَسْلُوكَةُ فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ إِلْزَامٍ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاظَبَةِ.

وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: السُّنَّةُ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَظْهَرَهُ حَالَةَ كَوْنِهِ فِي جَمَاعَةٍ وَدَاوَمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ.

وَأَمَّا الصِّلَةُ بَيْنَ النَّفْلِ وَالسُّنَّةِ فَقَدْ قَالَ الشُّرُنْبُلَالِيُّ: النَّفْلُ أَعَمُّ، إِذْ كُلُّ سُنَّةٍ نَافِلَةٌ وَلَا عَكْسَ.

فَضْلُ النَّفْلِ:

3- تَدُلُّ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ عَلَى أَنَّ إِدَامَةَ النَّوَافِلِ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ تُفْضِي إِلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ وَصَيْرُورَتِهِ مِنْ جُمْلَةِ أَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ».

فَقَدْ قَسَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْلِيَاءَهُ الْمُقَرَّبِينَ إِلَى قِسْمَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَنْ تَقَرَّبِ إِلَيْهِ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ الَّتِي افْتَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ.

وَالثَّانِي: مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ بِالنَّوَافِلِ.

وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ النَّوَافِلِ: كَثْرَةُ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَسَمَاعِهِ بِتَفَكُّرٍ وَتَدَبُّرٍ وَتَفَهُّمٍ، قَالَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ- رضي الله عنه- لِرَجُلٍ: تَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ مَا اسْتَطَعْتَ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَسْتَ تَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ.وَمِنْ ذَلِكَ: كَثْرَةُ ذِكْرِ اللَّهِ الَّذِي يَتَوَاطَأُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ فَقَدْ وَرَدَ «عَنْ مُعَاذٍ- رضي الله عنه- قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ».وَتَدُلُّ الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُكْمِلُ لِلْعَبْدِ مَا تَرَكَ مِنَ الْفَرَائِضِ بِفَضْلِ النَّوَافِلِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، فَإِنِ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ؟ فَيُكْمِلُ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنَ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ».

قَالَ الْعِرَاقِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا انْتَقَصَهُ مِنَ السُّنَنِ وَالْهَيْئَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهَا مِنَ الْخُشُوعِ وَالْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ، وَأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُ ذَلِكَ فِي الْفَرِيضَةِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فِيهَا وَإِنَّمَا فَعَلَهُ فِي التَّطَوُّعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا انْتَقَصَ أَيْضًا مِنْ فُرُوضِهَا وَشُرُوطِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مَا تَرَكَ مِنَ الْفَرَائِضِ رَأْسًا فَلَمْ يُصَلِّهِ فَيُعَوَّضُ عَنْهُ مِنَ التَّطَوُّعِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقْبَلُ مِنَ التَّطَوُّعَاتِ الصَّحِيحَةِ عَنِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يُكْمِلُ لَهُ مَا نَقَصَ مِنْ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَأَعْدَادِهَا بِفَضْلِ التَّطَوُّعِ، وَيُحْتَمَلُ مَا نَقَصَهُ مِنَ الْخُشُوعِ، وَالْأَوَّلُ عِنْدِي أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ- «ثُمَّ الزَّكَاةُ مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ تُؤْخَذُ الْأَعْمَالُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ» وَلَيْسَ فِي الزَّكَاةِ إِلاَّ فَرْضٌ أَوْ فَضْلٌ فَكَمَا يَكْمُلُ فَرْضُ الزَّكَاةِ بِفَضْلِهَا كَذَلِكَ الصَّلَاةُ، وَفَضْلُ اللَّهِ أَوْسَعُ وَوَعْدُهُ أَنْفَذُ وَعَزْمُهُ أَعَمُّ.

الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ:

4- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْفَرْضَ أَفْضَلُ مِنَ النَّفْلِ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا يَحْكِيهِ عَنْ رَبِّهِ: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ».وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: قَالَ الْأَئِمَّةُ: خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ- صلى الله عليه وسلم- بِإِيجَابِ أَشْيَاءَ لِتَعْظِيمِ ثَوَابِهِ، فَإِنَّ ثَوَابَ الْفَرَائِضِ يَزِيدُ عَلَى ثَوَابِ الْمَنْدُوبَاتِ بِسَبْعِينَ دَرَجَةٍ.

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَدَاءُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ، وَالْوَرَعُ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ، وَصِدْقُ النِّيَّةِ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي خُطْبَتِهِ: أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ.

5- وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْلِ أَفْضَلِيَّةِ الْفَرْضِ عَلَى النَّفْلِ أُمُورًا، وَذَكَرُوا صُوَرًا لِلنَّوَافِلِ الَّتِي فَضَّلَهَا الشَّرْعُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ مِنْهَا:

أ- إِبْرَاءُ الْمُعْسِرِ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ إِنْظَارِهِ، وَإِنْظَارُهُ وَاجِبٌ، وَإِبْرَاؤُهُ مُسْتَحَبٌّ.

هَذِهِ الصُّورَةُ ذَكَرَهَا ابْنُ نُجَيمٍ وَابْنُ السُّبْكِيِّ وَالْقَرَافِيُّ.

ب- ابْتِدَاءُ السَّلَامِ فَإِنَّهُ سُنَّةٌ، وَالرَّدُّ وَاجِبٌ وَالِابْتِدَاءُ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ».

ج- الْوُضُوءُ قَبْلَ الْوَقْتِ مَنْدُوبٌ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْوُضُوءِ بَعْدَ الْوَقْتِ وَهُوَ الْفَرْضُ.

وَذَكَرَ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْأَذَانَ سُنَّةٌ، وَهُوَ عَلَى مَا رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ أَفْضَلُ مِنَ الْإِمَامَةِ وَهِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ أَوْ عَيْنٍ.

وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ الصُّوَرَ الْآتِيَةَ:

أ- صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً، أَيْ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ مَثُوبَةً مِثْلَ مَثُوبَةِ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ، وَهَذِهِ السَّبْعُ وَالْعِشْرُونَ مَثُوبَةً هِيَ مُضَافَةٌ لِوَصْفِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ خَاصَّةً، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ صَلَّى وَحْدَهُ ثُمَّ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ حَصَلَتْ لَهُ، مَعَ أَنَّ الْإِعَادَةَ فِي جَمَاعَةٍ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَصَارَ وَصْفُ الْجَمَاعَةِ الْمَنْدُوبُ أَكْثَرَ ثَوَابًا مِنْ ثَوَابِ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ فَضُلَ وَاجِبًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَصْلَحَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ.

ب- الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ بِأَلْفِ مَثُوبَةٍ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَقَدْ فَضُلَ الْمَنْدُوبُ الَّذِي هُوَ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْوَاجِبَ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الصَّلَاةِ.

ج- الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ، مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَقَدْ فَضُلَ الْمَنْدُوبُ الْوَاجِبَ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الصَّلَاةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ صَلَاةٌ.

د- الصَّلَاةُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ، مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَقَدْ فَضُلَ الْمَنْدُوبُ الْوَاجِبَ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الصَّلَاةِ.

هـ- رُوِيَ أَنَّ صَلَاةً بِسِوَاكٍ خَيْرٌ مِنْ سَبْعِينَ صَلَاةً بِغَيْرِ سِوَاكٍ، مَعَ أَنَّ وَصْفَ السِّوَاكِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَقَدْ فَضُلَ الْمَنْدُوبُ الْوَاجِبَ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الصَّلَاةِ.

و- الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لَا يَأْثَمُ تَارِكُهُ.فَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ «عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلَاةِ.قَالَ: فَلَا تَفْعَلُوا، إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا».وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا».

قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّمَا أَمَرَ بِعَدَمِ الْإِفْرَاطِ فِي السَّعْيِ، لِأَنَّهُ إِذَا قَدِمَ عَلَى الصَّلَاةِ عَقِيبَ شِدَّةِ السَّعْيِ يَكُونُ عِنْدَهُ انْبِهَارٌ وَقَلَقٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الْخُشُوعِ اللاَّئِقِ بِالصَّلَاةِ، فَأَمَرَه- عليه الصلاة والسلام- بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَاجْتِنَابِ مَا يُؤَدِّي إِلَى فَوَاتِ الْخُشُوعِ وَإِنْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَاتُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخُشُوعَ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ وَصْفِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ مَعَ أَنَّ الْجُمُعَةَ وَاجِبَةٌ، فَقَدْ فَضُلَ الْمَنْدُوبُ الْوَاجِبَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَهِيَ عَلَى خِلَافِ الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهَا الَّتِي شَهِدَ لَهَا الْحَدِيثُ فِي قوله تعالى: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ».

لُزُومُ النَّفْلِ بِالشُّرُوعِ:

6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى لُزُومِ إِتْمَامِ حَجِّ النَّفْلِ وَالْعُمْرَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِمَا.

كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ نَوَى الصَّدَقَةَ بِمَالٍ مُقَدَّرٍ، وَشَرَعَ فِي الصَّدَقَةِ بِهِ، فَأَخْرَجَ بَعْضَهُ لَمْ تَلْزَمْهُ الصَّدَقَةُ بِبَاقِيهِ.

وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي لُزُومِ إِتْمَامِ النَّفْلِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِمَا.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مَنْ شَرَعَ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ أَوْ فِي صَوْمِ النَّفْلِ يُؤَاخَذُ بِالْمُضِيِّ فِيهِ، وَلَوْ لَمْ يَمْضِ يُؤَاخَذُ بِالْقَضَاءِ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ صَارَ مُسَلَّمًا بِالْأَدَاءِ، وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ كَانَ مُثَابًا عَلَى ذَلِكَ، فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْ إِبْطَالِهِ مُرَاعَاةً لِحَقِّ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَهَذَا التَّحَرُّزُ لَا يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِالْإِتْمَامِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي عِبَادَةً، فَيَجِبُ الْإِتْمَامُ لِهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ نَفْلًا، وَيَجِبُ الْقَضَاءُ إِذَا أَفْسَدَهُ لِوُجُودِ التَّعَدِّي فِيمَا هُوَ حَقُّ الْغَيْرِ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْذُورِ، فَالْمَنْذُورُ فِي الْأَصْلِ مَشْرُوعٌ نَفْلًا، وَلِهَذَا لَا يَكُونُ مُسْتَدَامًا كَالنَّوَافِلِ، إِلاَّ أَنَّهُ لِمُرَاعَاةِ التَّسْمِيَةِ بِالنَّذْرِ يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الْمَشْرُوعِ نَفْلًا، فَإِذَا وَجَبَ الِابْتِدَاءُ لِمُرَاعَاةِ التَّسْمِيَةِ فَلأَنْ يَجِبَ الْإِتْمَامُ لِمُرَاعَاةِ مَا وُجِدَ مِنْهُ الِابْتِدَاءُ ابْتِدَاءً كَانَ أَوْلَى، وَهُوَ نَظِيرُ الْحَجِّ فَإِنَّ الْمَشْرُوعَ مِنْهُ نَفْلًا يَصِيرُ وَاجِبَ الْأَدَاءِ لِمُرَاعَاةِ التَّسْمِيَةِ حَقًّا لِلشَّرْعِ، فَكَذَلِكَ الْإِتْمَامُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْأَدَاءِ يَجِبُ حَقًّا لِلشَّرْعِ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الصَّلَاةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، فَإِنَّ الْأَثْرَمَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الرَّجُلُ يُصْبِحُ صَائِمًا مُتَطَوِّعًا فَيَكُونُ بِالْخِيَارِ، وَالرَّجُلُ يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ لَهُ أَنْ يَقْطَعَهَا؟ فَقَالَ: الصَّلَاةُ أَشَدُّ؛ أَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا يَقْطَعُهَا، قِيلَ لَهُ: فَإِنْ قَطَعَهَا قَضَاهَا؟ قَالَ: فَإِنْ قَضَاهَا فَلَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَمَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْجَوْزَجَانِيُّ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَقَالَ: الصَّلَاةُ ذَاتُ إِحْرَامٍ وَإِحْلَالٍ فَلَزِمَتْ بِالشُّرُوعِ فِيهَا.

وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا افْتَتَحَ التَّنَفُّلَ بِالصَّلَاةِ حَالَةَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ وَالِانْتِصَافِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.

وَلَوْ شَرَعَ فِي صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ.

وَالْفَرْقُ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا وَرَدَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَالصَّلَاةُ إِنَّمَا هِيَ أَرْكَانٌ مِثْلُ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَابْتِدَاءُ الِافْتِتَاحِ لَيْسَ بِصَلَاةٍ، فَلَمْ يُوجَدْ مَا هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَهُ.

وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصَّوْمُ لِأَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ فِي صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَابْتِدَاءُ الصَّوْمِ صَوْمٌ، لِأَنَّ الصَّوْمَ لَيْسَ هُوَ إِلاَّ الْإِمْسَاكَ، فَوُجِدَ الْفِعْلُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، فَجَازَ أَنْ لَا يَثْبُتَ حُكْمُهُ وَلَا يُؤْمَرَ بِإِتْمَامِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَلَبَّسَ بِنَفْلٍ- غَيْرَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ- فَلَهُ قَطْعُهُ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي صَوْمِ النَّفْلِ: «الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِينُ نَفْسِهِ، إِنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ» وَقَالَ: وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَغَيْرِهِمْ..

وَقَاسُوا الصَّلَاةَ عَلَى الصَّوْمِ وَقَالُوا: يُقَاسُ بِذَلِكَ بَقِيَّةُ النَّوَافِلِ غَيْرَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كَاعْتِكَافٍ وَطَوَافٍ وَوُضُوءٍ وَقِرَاءَةِ سُورَةِ الْكَهْفِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَوْ يَوْمَهَا، وَالتَّسْبِيحَاتِ عَقِبَ الصَّلَاةِ، وَلِئَلاَّ يُغَيِّرَ الشُّرُوعُ حُكْمَ الْمَشْرُوعِ فِيهِ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ الْخُرُوجُ مِنَ النَّفْلِ غَيْرَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِلَا عُذْرٍ، لِظَاهِرِ قوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَلِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَ إِتْمَامَهُ.

وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: لَيْسَ لَنَا نَفْلٌ مُطْلَقٌ يُسْتَحَبُّ قَضَاؤُهُ إِلاَّ مَنْ شَرَعَ فِي نَفْلِ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ ثُمَّ أَفْسَدَهُ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ قَضَاؤُهُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ شَرَعَ فِي النَّفْلِ إِتْمَامُهُ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ اسْتُحِبَّ قَضَاؤُهُ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ وَعَمَلًا بِالْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ الْمُخَالِفُونَ.

تَنَفُّلُ مَنْ عَلَيْهِ فَرْضٌ مَنْ جِنْسِهِ قَبْلَ أَدَائِهِ:

7- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ بِالصَّلَاةِ لِمَنْ عَلَيْهِ الْفَوَائِتُ، وَأَمَّا التَّنَفُّلُ بِالصَّوْمِ قَبْلَ قَضَاءِ رَمَضَانَ فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ.

وَقَالُوا: مَنْ نَوَى الْحَجَّ وَعَيَّنَهُ نَفْلًا فَيَقَعُ نَفْلًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَجَّ لِلْفَرْضِ، وَكَذَا لَوْ نَوَى الْحَجَّ عَنِ الْغَيْرِ أَوِ النَّذْرِ كَانَ عَمَّا نَوَى وَإِنْ لَمْ يَحُجَّ لِلْفَرْضِ، لِأَنَّ الْفَرْضَ لَا يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ النَّفْلِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ الْمَنْقُولُ الصَّرِيحُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَرُوِيَ عَنِ الثَّانِي وُقُوعُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ كَأَنَّهُ قَاسَهُ عَلَى الصِّيَامِ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يَحْرُمُ التَّنَفُّلُ لِمَنْ عَلَيْهِ فَوَائِتُ مِنَ الصَّلَاةِ حَتَّى تَبْرَأَ ذِمَّتُهُ مِمَّا عَلَيْهِ، لِاسْتِدْعَائِهِ التَّأْخِيرِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا الْحُكْمِ السُّنَنَ كَوَتْرٍ وَعِيدٍ وَالشَّفْعِ الْمُتَّصِلِ بِالْوَتْرِ وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ.

وَقَالُوا: يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ بِالصَّوْمِ لِمَنْ عَلَيْهِ صَوْمٌ وَاجِبٌ كَالْمَنْذُورِ وَالْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ، وَذَلِكَ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ تَأْخِيرِ الْوَاجِبِ وَعَدَمِ فَوْرِيَّتِهِ.

وَصَرَّحُوا بِأَنَّ مِنْ نَوَى وَقْتَ إِحْرَامِهِ لِلْحَجِّ النَّفْلَ وَقَعَ نَفْلًا وَالْفَرْضُ بَاقٍ عَلَيْهِ.

وَجَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ نَقْلًا عَنِ الْجُرْجَانِيِّ: يُكْرَهُ لِمَنْ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِصَوْمٍ.

وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لَيْسَ لَهُ التَّطَوُّعُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَدَاءِ الْفَرْضِ، فَلَوْ فَعَلَ انْصَرَفَ إِلَى الْفَرْضِ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: لَا يَجُوزُ لِمَنْ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ بِغَيْرِ عُذْرٍ أَنْ يَصْرِفَ زَمَنًا لِغَيْرِ قَضَائِهَا كَالتَّطَوُّعِ، قَالَ الشَّرَوَانِيُّ: وَيَصِحُّ التَّطَوُّعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَعَ الْإِثْمِ خِلَافًا لِلزَّرْكَشِيِّ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ كَرَاهَةَ التَّنَفُّلِ قَبْلَ قَضَاءِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ الْفَائِتَةِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا الْحُكْمِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ حَيْثُ قَالُوا بِاسْتِحْبَابِ قَضَائِهِمَا قَبْلَ الْفَرِيضَةِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي جَوَازِ التَّطَوُّعِ بِالصَّوْمِ مِمَّنْ عَلَيْهِ صَوْمُ فَرْضٍ، فَنَقَلَ عَنْهُ حَنْبَلٌ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ لَهُ التَّطَوُّعُ بِالصَّوْمِ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ مِنَ الْفَرْضِ حَتَّى يَقْضِيَهُ، يَبْدَأُ بِالْفَرْضِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ نَذْرٌ صَامَهُ، يَعْنِي بَعْدَ الْفَرْضِ.

وَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ صَامَ تَطَوُّعًا وَعَلَيْهِ مِنْ رَمَضَانَ شَيْءٌ لَمْ يَقْضِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ حَتَّى يَصُومَهُ».

ثُمَّ قَالَ: وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ يَدْخُلُ فِي جُبْرَانِهَا الْمَالُ فَلَمْ يَصِحَّ التَّطَوُّعُ بِهَا قَبْلَ أَدَاءِ فَرْضِهَا كَالْحَجِّ.

وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّطَوُّعُ، لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِوَقْتٍ مُوَسَّعٍ فَجَازَ التَّطَوُّعُ فِي وَقْتِهَا قَبْلَ فِعْلِهَا، كَالصَّلَاةِ يُتَطَوَّعُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِنْ أَحْرَمَ بِتَطَوُّعٍ أَوْ نَذْرٍ مَنْ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَعَلَيْهِ فَرْضُهُ فَوَقَعَ عَنْ فَرْضِهِ كَالْمُطْلَقِ، وَلَوْ أَحْرَمَ بِتَطَوُّعٍ وَعَلَيْهِ مَنْذُورَةٌ وَقَعَتْ عَنِ الْمَنْذُورَةِ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ فَهِيَ كَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ.

وَالْعُمْرَةُ كَالْحَجِّ فِيمَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهَا أَحَدُ النُّسُكَيْنِ فَأَشْبَهَتِ الْآخَرَ، وَالنَّائِبُ كَالْمَنُوبِ عَنْهُ فِي هَذَا، فَمَتَى أَحْرَمَ النَّائِبُ بِتَطَوُّعٍ أَوْ نَذْرٍ عَمَّنْ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَقَعَتْ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ النَّائِبَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَنُوبِ عَنْهُ.

نَفْلُ الصَّلَاةِ:

8- الصَّلَاةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: فَرْضٌ وَنَفْلٌ.

فَالْفَرْضُ خَمْسٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَسَبَقَ تَفْصِيلُ أَحْكَامِهَا فِي مُصْطَلَحِ (الصَّلَوَات الْخَمْس الْمَفْرُوضَة).

وَأَمَّا النَّوَافِلُ فَتَنْقَسِمُ إِلَى مُعَيَّنَةٍ وَمُطْلَقَةٍ:

أ- النَّوَافِلُ الْمُعَيَّنَةُ:

9- النَّوَافِلُ الْمُعَيَّنَةُ تَتَعَلَّقُ بِسَبَبٍ أَوْ بِوَقْتٍ.

فَأَمَّا النَّوَافِلُ الْمُعَيَّنَةُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِسَبَبٍ، فَهِيَ: الْكُسُوفَانِ، وَالِاسْتِسْقَاءُ، وَرَكْعَتَا الطَّوَافِ، وَرَكْعَتَا الْإِحْرَامِ، وَتَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْوُضُوءِ، وَصَلَاةُ الِاسْتِخَارَةِ، وَصَلَاةُ الْحَاجَةِ.

وَأَمَّا النَّوَافِلُ الْمُعَيَّنَةُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْوَقْتِ فَهِيَ: الْعِيدَانِ وَالتَّرَاوِيحُ، وَالْوَتْرُ، وَالضُّحَى، وَصَلَاةُ الْأَوَّابِينَ، وَصَلَاةُ التَّهَجُّدِ، وَالسُّنَنُ الرَّوَاتِبُ.

وَمِنْ هَذَا الصِّنْفِ: إِحْيَاءُ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَإِحْيَاءُ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ، وَلَيْلَةِ الْجُمُعَةِ، وَأَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ الِاجْتِمَاعُ عَلَى إِحْيَاءِ لَيْلَةٍ مِنْ هَذِهِ اللَّيَالِي فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا.

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَلَبِيُّ: إِنَّ كُلًّا مِنْ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ لَيْلَةَ أَوَّلِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَصَلَاةِ الْبَرَاءَةِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَصَلَاةِ الْقَدْرِ لَيْلَةَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ بِالْجَمَاعَةِ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ.

وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيلُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَذِهِ النَّوَافِلِ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ الْخَاصَّةِ بِهَا وَفِي (إِحْيَاء اللَّيْلِ ف 6).

وَأَمَّا حُكْمُ الْجَمَاعَةِ فِي النَّوَافِلِ فَيُنْظَرُ فِي (صَلَاة الْجَمَاعَةِ ف 8).

ب- النَّوَافِلُ الْمُطْلَقَةُ:

10- هِيَ النَّوَافِلُ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِسَبَبٍ وَلَا وَقْتٍ وَلَا حَصْرٍ لِأَعْدَادِهَا.

عَدَدُ رَكَعَاتِ النَّوَافِلِ الْمُطْلَقَةِ:

11- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْأَفْضَلَ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَنْ يَكُونَ مَثْنَى.

وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا شَرَعَ فِي نَفْلٍ وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا فَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ رَكْعَةٍ وَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ فَصَاعِدًا، وَلَوْ صَلَّى عَدَدًا لَا يَعْلَمُهُ ثُمَّ سَلَّمَ صَحَّ، وَلَوْ نَوَى رَكْعَةً أَوْ عَدَدًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا فَلَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ إِذَا نَوَى عَدَدًا فَلَهُ أَنْ يَزِيدَ وَلَهُ أَنْ يَنْقُصَ، فَمَنْ أَحْرَمَ بِرَكْعَةٍ فَلَهُ جَعْلُهَا عَشْرًا، أَوْ بِعَشْرٍ فَلَهُ جَعْلُهَا وَاحِدَةً بِشَرْطِ تَغْيِيرِ النِّيَّةِ قَبْلَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَلَوْ زَادَ أَوْ نَقَصَ قَبْلَ تَغَيُّرِ النِّيَّةِ عَمْدًا بَطُلَتْ صَلَاتُهُ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ مَنْ تَطَوَّعَ بِأَرْبَعٍ نَهَارًا فَلَا بَأْسَ؛ لِحَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِتَسْلِيمٍ» وَكَوْنُ الْأَرْبَعِ بِتَشَهُّدَيْنِ أَوْلَى مِنْ سَرْدِهَا لِأَنَّهُ أَكْثَرُ عَمَلًا، وَإِنْ زَادَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ نَهَارًا، أَوْ زَادَ عَلَى اثْنَتَيْنِ لَيْلًا، وَلَوْ جَاوَزَ ثَمَانِيًا نَهَارًا أَوْ لَيْلًا بِسَلَامٍ وَاحِدٍ صَحَّ ذَلِكَ وَكُرِهَ.

وَقَالُوا: يَصِحُّ التَّنَفُّلُ بِرَكْعَةٍ وَنَحْوِهَا، كَثَلَاثٍ وَخَمْسٍ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ مَنْ شَاءَ اسْتَقَلَّ وَمَنْ شَاءَ اسْتَكْثَرَ» وَعَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَرَكَعَ رَكْعَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَحِقَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا رَكَعْتَ إِلاَّ رَكْعَةً وَاحِدَةً.قَالَ: هُوَ التَّطَوُّعُ فَمَنْ شَاءَ زَادَ وَمَنْ شَاءَ نَقَصَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ فِي النَّوَافِلِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَنْ تَكُونَ مَثْنَى مَثْنَى يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَقَدْ جَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيلِ نَقْلًا عَنِ التَّلْقِينِ وَالِاخْتِيَارِ فِي النَّفْلِ مَثْنَى مَثْنَى.

وَفِي كِتَابِ الصَّلَاةِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمُدَوَّنَةِ فِي بَابِ النَّافِلَةِ مَا نَصُّهُ: وَصَلَاةُ النَّافِلَةِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى قَالَ ابْنُ نَاجِي: هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ بِاتِّفَاقٍ، وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: السُّنَّةُ فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَأَجَازَ ابْنُ عَرَفَةَ التَّنَفُّلَ بِأَرْبَعٍ، وَاسْتَظْهَرَ الْحَطَّابُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ ابْتِدَاءً.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْأَفْضَلُ فِي نَوَافِلِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ رِبَاعٌ لِمَا وَرَدَ «أَنَّ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- سُئِلَتْ: كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ فِي رَمَضَانَ؟ فَقَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا» «وَكَانَ- صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعًا لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِسَلَامٍ»

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْأَفْضَلُ فِي النَّهَارِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَرْبَعٌ وَأَرْبَعٌ، وَفِي اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، قَالَ فِي الدِّرَايَةِ وَفِي الْعُيُونِ: وَبِقَوْلِهِمَا يُفْتَى اتِّبَاعًا لِلْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُه- عليه الصلاة والسلام-: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى».

وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ: تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى أَرْبَعٍ بِتَسْلِيمَةٍ فِي نَفْلِ النَّهَارِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ثَمَانٍ لَيْلًا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ.

قَالَ حَسَنٌ الشُّرُنْبُلَالِيُّ: هَذَا اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ، وَفِي الْمِعْرَاجِ: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ وَصْلِ الْعِبَادَةِ، وَكَذَا صَحَّحَ السَّرَخْسِيُّ عَدَمَ كَرَاهَةِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا.

وَيُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الرُّبَاعِيَّاتِ الْمُؤَكَّدَةِ وَالرُّبَاعِيَّاتِ الْمَنْدُوبَةِ إِذْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا قَامَ لِلشَّفْعِ الثَّانِي مِنَ الرُّبَاعِيَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ لَا يَأْتِي فِي ابْتِدَاءِ الثَّالِثَةِ بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ؛ لِأَنَّهَا لِتَأَكُّدِهَا أَشْبَهَتِ الْفَرَائِضَ، بِخِلَافِ الرُّبَاعِيَّاتِ الْمَنْدُوبَةِ فَيَسْتَفْتِحُ وَيَتَعَوَّذُ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي ابْتِدَاءِ كُلِّ شَفْعٍ مِنْهَا.

وَقَالُوا: إِذَا صَلَّى نَافِلَةً أَكْثَرَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ كَأَرْبَعٍ فَأَتَمَّهَا وَلَمْ يَجْلِسْ إِلاَّ فِي آخِرِهَا فَالْقِيَاسُ فَسَادُهَا، وَبِهِ قَالَ زُفَرُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ.

وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: لَا تَفْسُدُ لِأَنَّهَا صَارَتْ صَلَاةً وَاحِدَةً مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، وَفِيهَا الْفَرْضُ الْجُلُوسُ آخِرُهَا، وَيُجْبَرُ تَرْكُ الْقُعُودِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ سَاهِيًا بِالسُّجُودِ، وَيَجِبُ الْعَوْدُ إِلَيْهِ بِتَذَكُّرِهِ بَعْدَ الْقِيَامِ مَا لَمْ يَسْجُدْ.

وَصَرَّحُوا بِأَنَّ التَّنَفُّلَ بِالرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ.

الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ طُولِ الْقِيَامِ وَبَيْنَ كَثْرَةِ الرَّكَعَاتِ فِي النَّافِلَةِ:

12- لَا خِلَافَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْكَثِيرَ مِنَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنَ الْقَلِيلِ مَعَ الِاسْتِوَاءِ فِي الطُّولِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ طُولِ الْقِيَامِ وَبَيْنَ كَثْرَةِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَعَ اسْتِوَاءِ الزَّمَانِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ- فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ- وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ تَطْوِيلَ الْقِيَامِ أَفْضَلُ مِنْ تَكْثِيرِ الرَّكَعَاتِ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ» أَيِ الْقِيَامِ، وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ تَكْثُرُ بِطُولِ الْقِيَامِ، وَبِكَثْرَةِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يَكْثُرُ التَّسْبِيحُ، وَالْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ، فَكَانَ اجْتِمَاعُ أَجْزَائِهِ أَوْلَى وَأَفْضَلُ مِنِ اجْتِمَاعِ رُكْنٍ وَسُنَّةٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ.وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، مَعَ اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ إِلَى أَنَّ كَثْرَةَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ- أَيْ كَثْرَةَ الرَّكَعَاتِ- أَفْضَلُ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ رَكَعَ رَكْعَةً أَوْ سَجَدَ سَجْدَةً رُفِعَ بِهَا دَرَجَةً وَحُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ».

وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: أَمَّا فِي النَّهَارِ فَتَكْثِيرُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ، وَأَمَّا بِاللَّيْلِ فَتَطْوِيلُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ جُزْءٌ بِاللَّيْلِ يَأْتِي عَلَيْهِ، فَتَكْثِيرُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ يَقْرَأُ جُزْءَهُ وَيَرْبَحُ كَثْرَةَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّمَا قَالَ إِسْحَاقُ هَذَا لِأَنَّهُمْ وَصَفُوا صَلَاةَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِاللَّيْلِ بِطُولِ الْقِيَامِ وَلَمْ يُوصَفْ مِنْ تَطْوِيلِهِ بِالنَّهَارِ مَا وُصِفَ بِاللَّيْلِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ وِرْدٌ مِنَ اللَّيْلِ بِقِرَاءَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُكْثِرَ عَدَدَ الرَّكَعَاتِ، وَإِلاَّ فَطُولُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ فِي الْأَوَّلِ لَا يَخْتَلِفُ وَيُضَمُّ إِلَيْهِ زِيَادَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.

الْفَصْلُ بَيْنَ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ:

13- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ الْفَصْلُ بَيْنَ النَّافِلَةِ وَالْفَرِيضَةِ «لِقَوْلِ مُعَاوِيَةَ- رضي الله عنه-: إِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَنَا أَنْ لَا تُوصَلَ صَلَاةٌ بِصَلَاةٍ حَتَّى نَتَكَلَّمَ أَوْ نَخْرُجَ».

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ- فِيمَا نَقَلَ عَنْهُ النَّوَوِيُّ- أَشَارَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاضْطِجَاعِ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ- الْفَصْلُ بَيْنَ النَّافِلَةِ وَالْفَرِيضَةِ، فَيَحْصُلُ بِالِاضْطِجَاعِ وَالتَّحَدُّثِ أَوِ التَّحَوُّلِ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا يَتَعَيَّنُ الِاضْطِجَاعُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي وَالْمُنْفَرِدِ وَصْلُ السُّنَّةِ بِالْمَكْتُوبَةِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ، إِلاَّ أَنَّ الِاسْتِحْبَابَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ أَشَدُّ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ تَأْخِيرُهُ إِلَى الْكَرَاهَةِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إِلاَّ مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ».

بِخِلَافِ الْمُقْتَدِي وَالْمُنْفَرِدِ.

وَقَالُوا: إِذَا تَمَّتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ انْحَرَفَ عَنْ يَسَارِهِ وَإِنْ شَاءَ انْحَرَفَ عَنْ يَمِينِهِ، وَإِنْ شَاءَ ذَهَبَ إِلَى حَوَائِجِهِ وَإِنْ شَاءَ اسْتَقْبَلَ النَّاسَ بِوَجْهِهِ.

هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ الَّتِي أَتَمَّهَا تَطَوُّعٌ كَالْفَجْرِ وَالْعَصْرِ، قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَفِي الصَّلَاةِ الَّتِي لَا تَطَوُّعَ بَعْدَهَا كَالْفَجْرِ وَالْعَصْرِ يُكْرَهُ الْمُكْثُ قَاعِدًا فِي مَكَانِهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ.

فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ تَطَوُّعٌ يَقُومُ إِلَى التَّطَوُّعِ بِلَا فَصْلٍ إِلاَّ مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ السُّنَّةِ عَنْ حَالِ أَدَاءِ الْفَرِيضَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ نَحْوِ ذَلِكَ الْقَدْرِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إِلاَّ مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ».

وَقَالُوا: إِذَا قَامَ الْإِمَامُ إِلَى التَّطَوُّعِ لَا يَتَطَوَّعُ فِي مَكَانِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْفَرِيضَةَ، بَلْ يَتَقَدَّمُ أَوْ يَتَأَخَّرُ أَوْ يَنْحَرِفُ يَمِينًا أَوْ شَمَالًا، أَوْ يَذْهَبُ إِلَى بَيْتِهِ فَيَتَطَوَّعُ ثَمَّةَ.

وَأَضَافُوا: لَوْ تَكَلَّمَ الْإِمَامُ بَعْدَ الْفَرْضِ لَا تَسْقُطُ السُّنَّةُ لَكِنَّ ثَوَابَهَا أَقَلُّ.

وَقِيلَ فِي الْكَلَامِ أَنَّهُ يُسْقِطُ السُّنَّةَ.

قَالَ الْحَلَبِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.

وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الْمُقْتَدِيَ وَالْمُنْفَرِدَ إِنْ لَبِثَا فِي مَكَانِهِمَا الَّذِي صَلَّيَا فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ جَازَ، وَإِنْ قَامَا إِلَى التَّطَوُّعِ فِي مَكَانِهِمَا ذَلِكَ جَازَ أَيْضًا، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَتَطَوَّعَا فِي مَكَانٍ آخَرَ غَيْرَ مَكَانِ الْمَكْتُوبَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَفْصِلُ بَيْنَ الْفَرِيضَةِ وَالنَّفْلِ بِالذِّكْرِ الْوَارِدِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


147-موسوعة الفقه الكويتية (نهي)

نَهْيٌ

التَّعْرِيفُ:

1- النَّهْيُ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ الْأَمْرِ، يُقَالُ: نَهَى عَنِ الشَّيْءِ: زَجَرَهُ عَنْهُ، وَنَهَى اللَّهُ عَنْ كَذَا حَرَّمَهُ.

أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَقَدْ عَرَّفَهُ الْأُصُولِيُّونَ بِتَعْرِيفَاتٍ:

مِنْهَا: أَنَّهُ اقْتِضَاءُ كَفٍّ عَنْ فِعْلٍ عَلَى جِهَةِ اسْتِعْلَاءٍ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْأَمْرُ:

2- مِنْ مَعَانِي الْأَمْرِ فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ الْفِعْلِ، وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ: التَّضَادُّ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّهْيِ:

بَيَّنَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ أَحْكَامَ النَّهْيِ وَمِنْ أَهَمِّهَا:

أ- صِيغَةُ النَّهْيِ:

3- قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ لِلنَّهْيِ صِيغَةً مُبَيِّنَةً لَهُ تَدُلُّ بِتَجْرِيدِهَا عَنِ الْقَرَائِنِ عَلَيْهِ، وَهِيَ قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا تَفْعَلْ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ: لَيْسَ لَهُ صِيغَةٌ تَخْتَصُّ بِهِ.

ب- مَا يَقْتَضِيهِ النَّهْيُ:

أَوَّلًا: إِفَادَةُ النَّهْيِ الدَّوَامَ وَالتَّكْرَارَ:

4- اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي النَّهْيِ هَلْ يُفِيدُ الدَّوَامَ وَالتَّكْرَارَ أَوْ لَا؟

فَقَطَعَ جَمَاعَةٌ بِأَنَّ النَّهْيَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي الدَّوَامَ وَالتَّكْرَارَ، وَلِبَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ فِي الْمَسْأَلَةِ آرَاءٌ أُخْرَى.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ الْمُلْحَقُ الْأُصُولِيُّ.

ثَانِيًا: اقْتِضَاءُ النَّهْيِ الْفَوْرَ أَوْ عَدَمَهُ:

5- اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي اقْتِضَاءِ النَّهْيِ الْكَفَّ عَلَى الْفَوْرِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى اقْتِضَائِهِ الْفَوْرَ، وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

ثَالِثًا: اقْتِضَاءُ النَّهْيِ التَّحْرِيمَ:

6- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ مُطْلَقَ النَّهْيِ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ.

وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ مَوْقُوفٌ لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَلَا غَيْرَهُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ.

وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّهُ لِلتَّنْزِيهِ حَقِيقَةً لَا لِلتَّحْرِيمِ، لِأَنَّهَا يَقِينٌ فَحُمِلَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى التَّحْرِيمِ إلاَّ بِدَلِيلٍ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهم- رَجَعُوا فِي التَّحْرِيمِ إِلَى مُجَرَّدِ النَّهْيِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

رَابِعًا: اقْتِضَاءُ النَّهْيِ الْفَسَادَ:

7- اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ فِي اقْتِضَاءِ النَّهْيِ الْمُطْلَقِ الْفَسَادَ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ فِي الْجُمْلَةِ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ مُطْلَقًا إِلاَّ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ.

وَقَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ النَّهْيَ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَرْجِعُ إِلَى عَيْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَبَيْعِ الدَّمِ وَ الْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، أَوْ يَرْجِعُ لِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْعَقْدِ أَوْ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ كَبَيْعِ الْمَلَاقِيحِ، فَهَذَا النَّوْعُ لَا يَنْعَقِدُ بِالِاتِّفَاقِ.وَقِسْمٌ يَرْجِعُ لِمَعْنًى مُجَاوِرٍ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ لَا مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ وَلَا مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ، كَالْبَيْعِ عِنْدَ شُرُوعِ النِّدَاءِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ.

وَنَوْعٌ يَرْجِعُ لِمَعْنًى اتَّصَلَ بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَصْفًا، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ لِوَصْفِهِ اللاَّزِمِ، وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.

وَتَفْصِيلُ الْمَسْأَلَةِ كُلِّهَا فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

ج- مَا تُسْتَعْمَلُ فِيهِ صِيغَةُ النَّهْيِ مِنْ مَعَانٍ:

8- تُسْتَعْمَلُ صِيغَةُ النَّهْيِ فِي مَعَانٍ أُخْرَى غَيْرِ مَا سَبَقَ، كَالْكَرَاهَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} وَالدُّعَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} وَالْإِرْشَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وَالتَّحْقِيرِ لِشَأْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وَالْيَأْسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} وَبَيَانِ الْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالِي: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}.

وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

د- النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ:

9- النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ هُوَ طَلَبُ الْكَفِّ عَنْ فِعْلٍ مَا لَيْسَ فِيهِ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقُومُوا بِهَا، وَيَأْثَمُونَ إِذَا تَرَكُوهَا جَمِيعًا، وَيَسْقُطُ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ الْمُنْكَرِ ف1 وَمَا بَعْدَهَا).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


148-موسوعة الفقه الكويتية (وضوء 1)

وُضُوءٌ-1

التَّعْرِيفُ:

1- الْوُضُوءُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْوَضَاءَةِ: أَيِ الْحُسْنِ وَالنَّظَافَةِ، وَقَدْ وَضُؤَ- مِنْ بَابِ كَرُمَ- وَضَاءَةً، مِثْلُ ضَخُمَ ضَخَامَةً: حَسُنَ وَنَظُفَ، وَوَضَّأَهُ: جَعَلَهُ يَتَوَضَّأُ، وَتَوَضَّأَ: غَسَلَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ وَنَظَّفَهَا، وَتَوَضَّأَ الْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ: أَدْرَكَا حَدَّ الْبُلُوغِ.

وَالْمِيضَأَةُ: بِكَسْرِ الْمِيمِ: الْمَوْضِعُ يُتَوَضَّأُ فِيهِ وَمِنْهُ، وَالْمِطْهَرَةُ: يُتَوَضَّأُ مِنْهَا.

وَالْوُضُوءُ- بِالضَّمِّ- الْفِعْلُ، وَبِالْفَتْحِ: الْمَاءُ يُتَوَضَّأُ بِهِ.

وَقِيلَ: الْوُضُوءُ بِالْفَتْحِ- مَصْدَرٌ أَيْضًا، أَوْ هُمَا لُغَتَانِ قَدْ يُعْنَى بِهِمَا الْمَصْدَرُ، وَقَدْ يُعْنَى بِهِمَا الْمَاءُ.

وَالْوُضُوءُ شَرْعًا: عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِتَعْرِيفَاتِ مِنْهَا: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْوُضُوءُ هُوَ الْغَسْلُ وَالْمَسْحُ عَلَى أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: هُوَ طِهَارَةٌ مَائِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِأَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ- وَهِيَ الْأَعْضَاءُ الْأَرْبَعَةُ- عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ أَفْعَالٌ مَخْصُوصَةٌ مُفْتَتَحَةٌ بِالنِّيَّةِ، أَوْ هُوَ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِي أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ مُفْتَتَحًا بِالنِّيَّةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: هُوَ اسْتِعْمَالُ مَاءٍ طَهُورٍ فِي الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ، (وَهِيَ الْوَجْهُ وَالْيَدَانِ، وَالرَّأْسُ، وَالرِّجْلَانِ)، عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ فِي الشَّرْعِ، بِأَنْ يَأْتِيَ بِهَا مُرَتَّبَةً مُتَوَالِيَةً مَعَ بَاقِي الْفُرُوضِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْغَسْلُ:

2- الْغَسْلُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ غَسَلَ، يُقَالُ: غَسَلَ يَغْسِلُهُ غَسْلًا: أَزَالَ عَنْهُ الْوَسَخَ وَنَظَّفَهُ بِالْمَاءِ، وَيُضَمُّ- أَيْ تُضَمُّ الْغَيْنُ- أَوْ: بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ، وَبِالضَّمِّ اسْمٌ، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ الْمَضْمُومَ وَالْمَفْتُوحَ بِمَعْنًى، وَعَزَاهُ إِلَى سِيبَوَيْهِ.

وَمِنْ مَعَانِي الْغُسْلِ- بِالضَّمِّ- فِي اللُّغَةِ: تَمَامُ الطِّهَارَةِ.كَمَا قَالَ ابْنُ الْقُوطِيَّةِ.

وَالْغُسْلُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: اسْتِعْمَالُ مَاءٍ طَهُورٍ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رَافِعٌ لِلْحَدَثِ، لَكِنَّ الْوُضُوءَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ، وَالْغُسْلَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ الْأَكْبَرَ.

ب- الطَّهَارَةُ:

3- الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ نَقِيضُ النَّجَاسَةِ، وَهِيَ النَّقَاءُ مِنَ النَّجَاسَةِ وَالدَّنَسِ.يُقَالُ: طَهَّرَهُ بِالْمَاءِ: غَسَلُهُ بِهِ، وَالتَّطَهُّرُ: التَّنَزُّهُ، وَالْكَفُّ عَنِ الْإِثْمِ.

وَالطَّهَارَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: ارْتِفَاعُ الْحَدَثِ- أَكْبَرَ كَانَ أَوْ أَصْغَرَ، أَيْ زَوَالُ الْوَصْفِ الْمَانِعِ مِنَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا- وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَزَوَالُ النَّجَسِ أَوِ ارْتِفَاعُ حُكْمِ ذَلِكَ.

وَالصِّلَةُ أَنَّ الطَّهَارَةَ أَعَمُّ مِنَ الْوُضُوءِ.

ج- التَّيَمُّمُ:

4- التَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ: التَّوَخِّي وَالتَّعَمُّدُ وَالْقَصْدُ، يُقَالُ: تَيَمَّمْتُ الصَّعِيدَ تَيَمُّمًا وَتَأَمَّمْتُ أَيْضًا: قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} أَيِ اقْصِدُوا الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ: مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِصَعِيدٍ طَاهِرٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.

وَالصِّلَةُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ طَهَارَةٌ وَرَفْعٌ لِلْحَدَثِ، لَكِنَّ الْوُضُوءَ مِنَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَهُوَ طَهَارَةٌ مَائِيَّةٌ، أَمَّا التَّيَمُّمُ فَيَكُونُ مِنْ أَيٍّ مِنَ الْحَدَثَيْنِ: الْأَصْغَرِ أَوِ الْأَكْبَرِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِيهِ الصَّعِيدُ الطَّاهِرُ.

الْوُضُوءُ مِنَ الشَّرَائِعِ الْقَدِيمَةِ:

5- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ- إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ مِنَ الشَّرَائِعِ الْقَدِيمَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي تِلْكَ الشَّرَائِعِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم-، بِدَلِيلِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: «ثُمَّ دَعَا- أَيِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي» وَمَا ثَبَتَ لِلْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَثْبُتُ لِأُمَمِهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ «إِبْرَاهِيمَ- عليه السلام- لَمَّا مَرَّ عَلَى الْجَبَّارِ وَمَعَهُ سَارَّةُ.أَنَّهَا لَمَّا دَخَلَتْ عَلَى الْجَبَّارِ تَوَضَّأَتْ وَصَلَّتْ وَدَعَتِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» وَمَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ جُرَيْجٍ الرَّاهِبِ لَمَّا رَمَوْهُ بِالْمَرْأَةِ أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ قَالَ لِلْغُلَامِ: مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: هَذَا الرَّاعِي.

وَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي هُوَ مِنْ خَصَائِصِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- إِنَّمَا هُوَ الْكَيْفِيَّةُ الْمَخْصُوصَةُ، أَوْ أَثَرُ الْوُضُوءِ، وَهُوَ بَيَاضُ مَحَلِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُسَمَّى بِالْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْ خَصَائِصَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، مُسْتَدِلِّينَ بِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ».

مَكَانُ فَرْضِ الْوُضُوءِ وَزَمَانُهُ:

6- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ بِمَكَّةَ مَعَ فَرْضِ الصَّلَاةِ، وَالْمَعِيَّةُ هُنَا لِلْمَكَانِ لَا لِلزَّمَانِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ الِافْتِرَاضِ بِلَا وُضُوءٍ، وَقَدْ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ قَطْعًا، وَلَمْ يُصَلِّ قَطُّ إِلاَّ بِوُضُوءٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا مِمَّا لَا يَجْهَلُهُ عَالِمٌ، وَلَمْ يُنْقَلْ وُقُوعُ صَلَاةٍ لِغَيْرِ عُذْرٍ بِدُونِهِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» أَيْ بِالْمَاءِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ» فَأَطْلَقَ الشَّارِعُ عَلَى التَّيَمُّمِ أَنَّهُ وُضُوءٌ لِكَوْنِهِ قَامَ مَقَامَهُ.

وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْوُضُوءَ شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا إِذَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ نَسْخُهُ.وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَرَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ فَائِدَةَ نُزُولِ آيَةِ الْوُضُوءِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، مَعَ أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ بِمَكَّةَ: تَقْرِيرُ حُكْمِهِ الثَّابِتِ، فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عِبَادَةً مُسْتَقِلَّةً، بَلْ تَابِعًا لِلصَّلَاةِ احْتُمِلَ أَنْ لَا تَهْتَمَّ الْأُمَّةُ بِشَأْنِهِ، وَأَنْ يَتَسَاهَلُوا فِي شَرَائِطِهِ وَأَرْكَانِهِ بِطُولِ الْعَهْدِ عَنْ زَمَنِ الْوَحْيِ وَانْتِقَاصِ النَّاقِلِينَ يَوْمًا فَيَوْمًا، بِخِلَافِ مَا إِذَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ الْمُتَوَاتِرِ الْبَاقِي فِي كُلِّ زَمَانٍ وَعَلَى كُلِّ لِسَانٍ.

وَمِنَ الْفَائِدَةِ كَذَلِكَ تَأَتِّي اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ الَّذِي هُوَ رَحْمَةٌ، وَذَلِكَ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ، كَالنِّيَّةِ، وَالدَّلْكِ، وَالتَّرْتِيبِ، وَقَدْرِ الْمَسْمُوحِ، وَنَقْضِهِ بِالْمَسِّ، وَكَذَلِكَ اشْتِمَالُ الْآيَةِ عَلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ مَبْسُوطَةٍ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لَا يُصَلُّونَ إِلاَّ بِالْوُضُوءِ، لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ أَوِ النَّظَافَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الشَّرَائِعِ الْقَدِيمَةِ، كَمَا دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا.

وَكَانَ الْوُضُوءُ وَاجِبًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لِكُلِّ صَلَاةٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ثُمَّ نُسِخَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ- إِلاَّ مَعَ الْحَدَثِ- وَصَارَ يُؤَدَّى بِهِ صَلَوَاتٌ كَثِيرَةٌ مَعَ بَقَاءِ طَلَبِهِ. (ر: شَرْع مَنْ قَبْلَنَا ف 3).

مَشْرُوعِيَّةُ الْوُضُوءِ:

7- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ:

فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}.قَالُوا: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْوُضُوءِ، أَوْ هِيَ آيَةُ الْوُضُوءِ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ، وَظَاهِرُهَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إِلَى الصَّلَاةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ- مُحْدِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ- وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ، قَالُوا: مَعْنَاهُ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ.وَإِنَّمَا أَضْمَرَ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ كَرَاهَةَ أَنْ يَفْتَتِحَ آيَةَ الطَّهَارَةِ بِذِكْرِ الْحَدَثِ كَمَا قَالَ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} وَلَمْ يَقُلْ هُدًى لِلضَّالِّينَ الصَّائِرِينَ إِلَى التَّقْوَى بَعْدَ الضَّلَالِ، كَرَاهَةَ أَنْ يَفْتَتِحَ أُولَى الزَّهْرَاوَيْنِ بِذِكْرِ الضَّلَالَةِ.

وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طَهُورٍ».

وَأَجْمَعَ أَهِلُ السِّيَرِ أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ بِمَكَّةَ مَعَ فَرْضِ الصَّلَاةِ بِتَعْلِيمِ جِبْرِيلَ- عليه السلام-، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوُضُوءِ وَوُجُوبِهِ.

مُنْكِرُ وُجُوبِ الْوُضُوءِ:

8- نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ وُجُوبَ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ يَكْفُرُ، لِإِنْكَارِهِ النَّصَّ الْقَطْعِيَّ، وَهُوَ آيَةُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} وَلِإِنْكَارِهِ الْإِجْمَاعَ.

وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مُنْكِرَ وُجُوبِ الْوُضُوءِ إِنْ كَانَ إِنْكَارُهُ وُجُوبَ الْوُضُوءِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ لَا يَكْفُرُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ لِمَسِّ الْمُصْحَفِ، لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِي تَفْسِيرِ آيَتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}.

تَرَكَ الْوُضُوءَ عَمْدًا ثُمَّ صَلَّى مُحْدِثًا:

9- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْتَخِفُّ بِالدِّينِ يَكْفُرُ- كَالصَّلَاةِ بِلَا وُضُوءٍ عَمْدًا-.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ تَرَكَ الطَّهَارَةَ يُقْتَلُ بِهَا كَالصَّلَاةِ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ تَعَمَّدَ تَرْكَ الْوُضُوءِ ثُمَّ صَلَّى مُحْدِثًا، اسْتُتِيبَ فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ حَدًّا لَا كُفْرًا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ تَرَكَ شَرْطًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَوْ رُكْنًا كَالطَّهَارَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَهُوَ كَتَارِكِهَا، حُكْمُهُ حُكْمُهُ، وَقَالُوا: مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَهُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ- جَاحِدًا أَوْ غَيْرَ جَاحِدٍ- دُعِيَ إِلَيْهَا فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ صَلَّى وَإِلاَّ قُتِلَ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْوُضُوءِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ مَا يُتَوَضَّأُ لِأَجْلِهِ، وَتَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا: مَا يَكُونُ الْوُضُوءُ لَهُ فَرْضًا:

أ- الصَّلَاةُ:

10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فَرْضٌ عَلَى الْمُحْدِثِ إِذَا أَرَادَ الْقِيَامَ لِصَلَاةِ الْفَرْضِ أَوِ النَّفْلِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ صَلَاةً مِنْ غَيْرِ طَهُورٍ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فَرْضٌ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَامِلَةً.وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ، إِذْ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عِنْدَهُمْ مَا يُشْتَرَطُ لِبَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ مِنَ الطَّهَارَةِ الْحُكْمِيَّةِ أَوِ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ بَدَنًا وَثَوْبًا وَمَكَانًا وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَالنِّيَّةِ.

(ر: جَنَائِز ف22)

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ لِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ مَا يُشْتَرَطُ لِلصَّلَاةِ.

(ر: سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ ف3)

ب- الطَّوَافُ

11- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ لِلطَّوَافِ فَرْضِهِ وَنَفْلِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «الطَّوَافُ حَوْلَ الْبَيْتِ مِثْلُ الصَّلَاةِ، إِلاَّ أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلَا يَتَكَلَّمَنَّ إِلاَّ بِخَيْرٍ».

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لِلطَّوَافِ وَاجِبٌ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِالْحَدِيثِ الْآنِفِ الذِّكْرِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الْجُمْهُورُ وَقَالُوا: إِنَّهُ لَمَّا أَشْبَهَ الطَّوَافُ الصَّلَاةَ مِنْ وَجْهٍ قُلْنَا بِوُجُوبِ الطَّهَارَةِ وَعَدَمِ تَوَقُّفِ صِحَّتِهِ عَلَيْهَا، وَزَادُوا: إِذَا طَافَ الطَّائِفُ الْفَرْضَ مُحْدِثًا وَجَبَ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَبَدَنَةٌ، وَإِذَا طَافَ الْوَاجِبَ كَالْوَدَاعِ أَوِ النَّفْلَ مُحْدِثًا فَصَدَقَةٌ، وَجُنُبًا فَدَمٌ.

ج- مَسُّ الْمُصْحَفِ:

12- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي فَرْضِيَّةِ الْوُضُوءِ لِمَسِّ الْمُصْحَفِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ لِمَسِّ الْمُصْحَفِ لقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}.

(ر: مُصْحَف ف 4- 11) ثَانِيًا: مَا يَكُونُ الْوُضُوءُ لَهُ سُنَّةً:

13- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ غَيْرَ الْبَغَوِيِّ بِأَنَّ الْوُضُوءَ لِلنَّوْمِ سُنَّةٌ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِحَدِيثِ: «إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ».

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْوُضُوءَ لِلنَّوْمِ مُسْتَحَبٌّ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ وُضُوءُ الْجُنُبِ لِلنَّوْمِ سُنَّةٌ وَفِي قَوْلٍ: إِنَّهُ وَاجِبٌ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِنَّ النُّوَّمَ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْوُضُوءُ.

ثَالِثًا: مَا يَكُونُ الْوُضُوءُ لَهُ مَنْدُوبًا:

ضَابِطُ الْوُضُوءِ الْمَنْدُوبِ: كُلُّ وُضُوءٍ لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ مَا يُفْعَلُ بِهِ بَلْ مِنْ كَمَالَاتِ مَا يُفْعَلُ بِهِ.

يَكُونُ الْوُضُوءُ مَنْدُوبًا فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: أ- قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ

14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَةِ الْحَدِيثِ وَرِوَايَتِهِ.

ب- ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى:

15- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِاسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى.

(ر: ذِكْر ف 28).

ج- الْأَذَانُ:

5 ام- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ: الْوُضُوءُ لِلْأَذَانِ.

(ر: أَذَان ف33).

د- الْإِقَامَةُ:

16- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْوُضُوءِ لِلْإِقَامَةِ. (ر: إِقَامَة ف 11).

هـ- الْخُطْبَةُ:

17- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِلْخُطْبَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي عَقِبَ الْخُطْبَةِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِطَهَارَةٍ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَطَهِّرًا، وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ- صلى الله عليه وسلم- إِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَهُوَ سُنَّةٌ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْقَوْلِ الْمُقَابِلِ لِلْمَشْهُورِ أَنَّ الطَّهَارَةَ عَنِ الْحَدَثِ مِنْ شُرُوطِ الْخُطْبَةِ.

(ر: خُطْبَة ف11)

و- دِرَاسَةُ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ:

18- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِدِرَاسَةِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، وَقَالَ الْحَطَّابُ نَقْلًا عَنِ الشَّبِيبِيِّ: مِنَ الْمُبَاحِ الْوُضُوءُ لِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمِهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ.

ز- الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ:

19- يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لِشَرَفِ الْمَكَانِ وَمُبَاهَاةِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ بِالْوَاقِفِينَ، كَمَا يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِلسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِأَدَاءِ الْعِبَادَةِ وَشَرَفِ الْمَكَانَيْنِ.

ح- زِيَارَةُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-:

20- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِزِيَارَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- تَعْظِيمًا لِحَضْرَتِهِ وَدُخُولِ مَسْجِدِهِ.

ط- الْوُضُوءُ عَلَى الْوُضُوءِ:

21- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ.

(ر: تَجْدِيد ف2) ي- وُضُوءُ الْجُنُبِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَمُعَاوَدَةِ الْوَطْءِ وَالنَّوْمِ:

22- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْجُنُبِ الْوُضُوءُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَمُعَاوَدَةِ الْوَطْءِ وَالنَّوْمِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ غَسَلَ فَرْجَهُ وَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ».

وَلِحَدِيثِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «إِذَا كَانَ جُنُبًا فَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَنَامَ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ» وَلِحَدِيثِ «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ».

قَالَ الطَّحْطَاوِيُّ: أَمَّا الْوُضُوءُ بَيْنَ الْجِمَاعَيْنِ وَعِنْدَ النَّوْمِ فَالْمُرَادُ بِهِ الشَّرْعِيُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالْجُمْهُورِ لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ غَسَلَ فَرْجَهُ وَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ».

أَمَّا الْوُضُوءُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَالْمُرَادُ بِهِ اللُّغَوِيُّ؛ لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ وَهُوَ جُنُبٌ غَسَلَ يَدَيْهِ» قَالَ فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ: وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ بَيْنَ الْجِمَاعَيْنِ بَلْ هُوَ جَائِزٌ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَيْسَ عَلَى الْجُنُبِ وُضُوءٌ عِنْدَ إِرَادَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَوْ مُعَاوَدَةِ الْجِمَاعِ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ غَسْلُ يَدَيْهِ مِنَ الْأَذَى إِذَا أَرَادَ الْأَكْلَ كَمَا يُسْتَحَبُّ لَهُ غَسْلُ فَرْجِهِ وَمَوَاضِعِ النَّجَاسَةِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُعَاوِدَ الْجِمَاعَ، أَمَّا إِذَا أَرَادَ النَّوْمَ فَفِي وُضُوئِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُنْدَبُ لَهُ الْوُضُوءُ.

الثَّانِي: أَنَّهُ يُسَنُّ لَهُ الْوُضُوءُ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوء.

ك- الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْوُضُوءِ:

23- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْوُضُوءِ، وَتَفْسِيرُهُ: أَنْ يَتَوَضَّأَ كُلَّمَا أَحْدَثَ لِيَكُونَ عَلَى الْوُضُوءِ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا.

ل- الْوُضُوءُ خُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ:

24- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا إِذَا مَسَّ امْرَأَةً مُشْتَهَاةً غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ، أَوْ فَرْجَهُ بِبَطْنِ كَفِّهِ لِتَكُونَ عِبَادَتُهُ صَحِيحَةً بِالِاتِّفَاقِ عَلَيْهَا اسْتِبْرَاءً لِدِينِهِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْإِفْسَادِ.

(ر: مُرَاعَاة الْخِلَاف فِقْرَة 2- 4)

رَابِعًا: مَا يُبَاحُ لَهُ الْوُضُوءُ:

25- صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْوُضُوءَ الْمُبَاحَ هُوَ الْوُضُوءُ لِلتَّنْظِيفِ وَالتَّبَرُّدِ، وَقَالَ الشَّبِيبِيُّ: مِنَ الْمُبَاحِ الْوُضُوءُ لِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمِهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ.

وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الْوُضُوءُ الْمُبَاحُ هُوَ الْوُضُوءُ لِلدُّخُولِ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَلِرُكُوبِ الْبَحْرِ وَشِبْهِهِ مِنَ الْمَخَاوِفِ، وَلِيَكُونَ الشَّخْصُ عَلَى طَهَارَةٍ وَلَا يُرِيدَ بِهِ اسْتِبَاحَةَ صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا يَمْنَعُهُ الْحَدَثُ.ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يُقَالُ فِي هَذَا كُلِّهِ: إِنَّهُ مِنَ الْمُسْتَحِبَّاتِ.

وَاسْتَظْهَرَ الْحَطَّابُ فِي هَذَا كُلِّهِ الِاسْتِحْبَابَ مَا عَدَا التَّنْظِيفَ وَالتَّبَرُّدَ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ.

وَهَذَا الْوُضُوءُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ مَا لَمْ يَنْوِهِ؛ لِأَنَّ مَا قَصَدَهُ يَصِحُّ فِعْلُهُ مَعَ بَقَاءِ الْحَدَثِ.

خَامِسًا: الْوُضُوءُ الْمَمْنُوعُ:

26- نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ الْمَمْنُوعَ هُوَ الْمُجَدَّدُ قَبْلَ أَنْ تُفْعَلَ بِهِ عِبَادَةٌ، وَالْوُضُوءُ لِغَيْرِ مَا شُرِعَ لَهُ الْوُضُوءُ أَوْ أُبِيحَ.

انْظُرِ الْمُصْطَلَحَ (تَجْدِيد ف2)

فَضِيلَةُ الْوُضُوءِ:

27- وَرَدَتْ عِدَّةُ أَحَادِيثَ فِي فَضْلِ الْوُضُوءِ وَسُقُوطِ الْخَطَايَا بِهِ، مِنْهَا:

مَا رَوَى أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الطَّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ».

وَرَوَى «عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ مِثْلَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ قَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

وَعَنْ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ».

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ، أَوْ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، إِلاَّ فُتِّحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ، «وَفِي رِوَايَةٍ»: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ».

وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ».

شُرُوطُ الْوُضُوءِ:

28- شُرُوطُ الْوُضُوءِ مِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِهِ وَصِحَّتِهِ مَعًا.

وَالْمُرَادُ بِشُرُوطِ الْوُجُوبِ: هِيَ مَا إِذَا اجْتَمَعَتْ وَجَبَتِ الطَّهَارَةُ عَلَى الشَّخْصِ.

وَشُرُوطُ الصِّحَّةِ هِيَ مَا لَا تَصِحُّ الطَّهَارَةُ إِلاَّ بِهَا، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ بَلْ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَجْهِيٌّ.

أَوَّلًا: شُرُوطُ وُجُوبِ الْوُضُوءِ:

أ- الْعَقْلُ:

29- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْعَقْلَ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ إِذْ لَا خِطَابَ بِدُونِ الْعَقْلِ وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ وَصِحَّتِهِ مَعًا وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوُضُوءِ.

ب- الْبُلُوغُ:

30- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْبُلُوغَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ لِعَدَمِ تَكْلِيفِ الْقَاصِرِ، أَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَيَصِحُّ وُضُوؤُهُ.

ج- الْإِسْلَامُ:

31- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْوُضُوءِ، إِذْ لَا يُخَاطَبُ كَافِرٌ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ.

كَمَا يَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْمَشْهُورِ أَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ وَالصِّحَّةِ مَعًا.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ أَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْوُضُوءِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ يُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ.

د- انْقِطَاعُ مَا يُنَافِي الْوُضُوءَ مِنْ حَيْضٍ وَنِفَاسٍ:

32- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ انْقِطَاعَ مَا يُنَافِي الْوُضُوءَ مِنْ حَيْضٍ وَنِفَاسٍ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ وَصِحَّتِهِ مَعًا.

هـ- وُجُودُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ الطَّهُورِ الْكَافِي:

33- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ وُجُودَ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ الطَّهُورِ الْكَافِي.

فَلَا يَجِبُ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ عَدِمَ الْمَاءَ، وَالْحَاجَةُ إِلَى الْمَاءِ تَنْفِيهِ حُكْمًا، فَلَا قُدْرَةَ إِلاَّ بِالْمَاءِ الْكَافِي لِجَمِيعِ الْأَعْضَاءِ مَرَّةً مَرَّةً، وَغَيْرُهُ كَالْعَدَمِ.

وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وُجُودَ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَالْعِلْمَ بِأَنَّهُ مُطْلَقٌ وَلَوْ ظَنًّا عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى اشْتِرَاطِ طَهُورِيَّةِ الْمَاءِ.

و- الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ:

34- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ الْقُدْرَةَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى عَاجِزٍ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرِ، وَلَا عَلَى مَنْ قُطِعَتْ يَدَاهُ مِنَ الْمَرْفِقَيْنِ، وَرِجْلَاهُ مِنَ الْكَعْبَيْنِ.

ز- وُجُودُ الْحَدَثِ:

35- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ وُجُودَ الْحَدَثِ الْمُوجِبِ لِلْوُضُوءِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْوُضُوءِ.

نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ فِي مُوجِبِهِ أَوْجُهًا:

أَحَدُهَا: الْحَدَثُ مَعَ الِانْقِطَاعِ فَيَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا.

ثَانِيهَا: الْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا.

ثَالِثُهَا: هُمَا مَعًا وَهُوَ الْأَصَحُّ فِي التَّحْقِيقِ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْوُضُوءِ الْحَدَثُ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ.

وَفِي الِانْتِصَارِ: يَجِبُ بِإِرَادَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْحَدَثِ.قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَا تَجِبُ الطَّهَارَةُ قَبْلَ إِرَادَةِ الصَّلَاةِ بَلْ تُسْتَحَبُّ.

أَمَّا إِذَا شَكَّ فِي الْحَدَثِ وَتَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ وُجُوبًا، وَقِيلَ: اسْتِحْبَابًا.

انْظُرْ مُصْطَلَحَ (شَكّ ف 14).

ح- ضِيقُ الْوَقْتِ:

36- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ ضِيقَ الْوَقْتِ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ، وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ الْمُضَيَّقِ، لِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ مُضَيَّقًا حِينَئِذٍ وَمُوَسَّعًا فِي ابْتِدَائِهِ، بِمَعْنَى أَنَّ وُجُوبَ الْوُضُوءِ مُوَسَّعٌ بِدُخُولِ الْوَقْتِ كَالصَّلَاةِ، فَإِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ صَارَ الْوُجُوبُ فِيهِمَا مُضَيَّقًا.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ دُخُولَ وَقْتِ الصَّلَاةِ الْحَاضِرَةِ وَتَذَكُّرَ الْفَائِتَةِ.

وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيُتَوَجَّهُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْوُضُوءَ يَجِبُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ إِذَنْ وَوُجُوبِ الشَّرْطِ بِوُجُوبِ الْمَشْرُوطِ.

ط- بُلُوغُ دَعْوَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-:

37- صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْوُضُوءِ وَوُجُوبِهِ بُلُوغَ دَعْوَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمُكَلَّفِ.

ثَانِيًا: شُرُوطُ صِحَّةِ الْوُضُوءِ:

أ- عُمُومُ الْبَشَرَةِ بِالْمَاءِ الطَّهُورِ:

38- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْوُضُوءِ عُمُومَ الْبَشَرَةِ بِالْمَاءِ الطَّهُورِ، أَيْ بِأَنْ يَعُمَّ الْمَاءُ جَمِيعَ الْمَحَلِّ الْوَاجِبِ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ، حَتَّى لَوْ بَقِيَ مِقْدَارُ مَغْرِزِ إِبْرَةٍ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ مِنَ الْمَفْرُوضِ غَسْلُهُ لَمْ يَصِحَّ الْوُضُوءُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ أَنْ يَغْسِلَ مَعَ الْمَغْسُولِ جُزْءًا يَتَّصِلُ بِالْمَغْسُولِ وَيُحِيطُ بِهِ، لِيَتَحَقَّقَ بِهِ اسْتِيعَابُ الْمَغْسُولِ.

ب- زَوَالُ مَا يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ إِلَى الْجَسَدِ:

39- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْوُضُوءِ زَوَالُ مَا يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ إِلَى الْجَسَدِ لِجِرْمِهِ الْحَائِلِ كَشَمْعٍ وَشَحْمٍ وَعَجِينٍ وَطِينٍ.

وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِزَالَةَ مَانِعِ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ.

وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: وَأَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الْعُضْوِ مَا يُغَيِّرُ الْمَاءَ تَغَيُّرًا مُضِرًّا.قَالَ فِي الْإِمْدَادِ: وَمِنْهُ الطِّيبُ الَّذِي يُحَسَّنُ بِهِ الشَّعْرُ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُنَشَّفُ وَيَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ لِلْبَاطِنِ، فَيَجِبُ إِزَالَتُهُ وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ.

ج- انْقِطَاعُ الْحَدَثِ حَالَ التَّوَضُّؤِ:

40- يَرَى الْفُقَهَاءُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّ انْقِطَاعَ الْحَدَثِ حَالَ التَّوَضُّؤِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ بِظُهُورِ بَوْلٍ وَسَيَلَانٍ نَاقِضٍ لَا يَصِحُّ الْوُضُوءُ.

د- الْعِلْمُ بِكَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ:

41- ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ- ضِمْنَ شُرُوطِ الْوُضُوءِ- مَعْرِفَةَ كَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُتَوَضِّئِ أَنْ يُمَيِّزَ فَرَائِضَ الْوُضُوءِ مِنْ سُنَنِهِ، أَوْ يَعْتَقِدَ أَنَّ فِيهِ فَرْضًا وَسُنَّةً وَإِنْ لَمْ يُمَيِّزْ أَحَدَهُمَا عَنِ الْآخَرِ، أَوْ يَعْتَقِدَ أَنَّ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا فَرْضٌ.

وَالْمُضِرُّ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ فِيهِ فُرُوضًا وَسُنَنًا وَيَعْتَقِدَ أَنَّ الْفَرْضَ سُنَّةٌ.

وَهَذَا فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ، أَمَّا الْعَالِمُ فَلَا بُدَ فِيهِ مِنَ التَّمْيِيزِ.

هـ- عَدَمُ الصَّارِفِ عَنِ الْوُضُوءِ:

42- ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ عَدَمَ صَارِفٍ عَنِ الْوُضُوءِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِدَوَامِ النِّيَّةِ حُكْمًا: بِأَنْ لَا يَأْتِيَ بِمُنَافٍ لِلنِّيَّةِ كَرِدَّةٍ أَوْ قَوْلِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا بِنِيَّةِ التَّبَرُّكِ أَوْ قَطْعٍ لِلنِّيَّةِ.

و- جَرْيُ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ:

43- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ جَرْيَ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ، وَقَالُوا: لَا يَمْنَعُ مَنْ عَدَّ هَذَا شَرْطًا كَوْنَهُ مَعْلُومًا مِنْ مَفْهُومِ الْغُسْلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يَعُمُّ النَّضْحَ.

ز- النِّيَّةُ:

44- عَدَّ الْحَنَابِلَةُ مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ النِّيَّةَ لِخَبَرِ «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» أَيْ لَا عَمَلَ جَائِزٌ وَلَا فَاضِلٌ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَلِأَنَّ النَّصَّ دَلَّ عَلَى الثَّوَابِ فِي كُلِّ وُضُوءٍ وَلَا ثَوَابَ فِي غَيْرِ مَنْوِيٍّ؛ وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ وَمِنْ شُرُوطِ الْعِبَادَةِ النِّيَّةُ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يُعْلَمْ إِلاَّ مِنَ الشَّارِعِ فَهُوَ عِبَادَةٌ.

ح- إِبَاحَةُ الْمَاءِ:

45- يَرَى الْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْوُضُوءِ إِبَاحَةَ الْمَاءِ لِحَدِيثِ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» فَلَا يَصِحُّ الْوُضُوءُ بِمَاءٍ مُحَرَّمِ الِاسْتِعْمَالِ كَالْمَغْصُوبِ وَنَحْوِهِ، وَعَنْ أَحْمَدَ: تَصِحُّ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ الْمَغْصُوبِ وَتُكْرَهُ.

شُرُوطُ الْوُضُوءِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الضَّرُورَةِ:

46- يَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِوُضُوءِ صَاحِبِ الضَّرُورَةِ- وَهُوَ مَنْ حَدَثُهُ دَائِمٌ كَسَلَسٍ وَاسْتِحَاضَةٍ- دَخَلَ الْوَقْتُ وَلَوْ ظَنًّا؛ لِأَنَّ طَهَارَتَهُ طَهَارَةُ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ، فَتَقَيَّدَتْ بِالْوَقْتِ كَالتَّيَمُّمِ، وَتَقْدِيمِ الِاسْتِنْجَاءِ أَوِ الِاسْتِجْمَارِ.

وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ اشْتِرَاطَ التَّحَفُّظِ حَيْثُ احْتِيجَ إِلَيْهِ، وَأَيْضًا الْمُوَالَاةَ بَيْنَ الِاسْتِنْجَاءِ وَالتَّحَفُّظِ، وَالْمُوَالَاةَ بَيْنَ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ، وَالْمُوَالَاةَ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ.

وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيلِ فِي مُصْطَلَحِ (سَلَس ف 5)، (وَاسْتِحَاضَة ف 30 وَمَا بَعْدَهَا)

أَسْبَابُ الْوُضُوءِ:

47- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَرَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- إِلَى أَنَّ سَبَبَ فَرِيضَةِ الْوُضُوءِ إِرَادَةُ الصَّلَاةِ مَعَ وُجُودِ الْحَدَثِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا}.) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْوُضُوءِ الْحَدَثُ.

وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا، فَلَوْلَاهُ لَمْ يَجِبِ الْوُضُوءُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رَأْيٍ إِلَى أَنَّ مُوجِبَ الْوُضُوءِ الْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ أَوْ نَحْوَهَا، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ.

وَفِي رَأْيٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- نُقِلَ عَنِ الْفُرُوعِ- أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْوُضُوءَ يَجِبُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ.

فُرُوضُ الْوُضُوءِ:

48- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ غَسْلَ الْوَجْهِ، وَغَسْلَ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَمَسْحَ الرَّأْسِ، وَغَسْلَ الرِّجْلَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي عَدِّ النِّيَّةِ وَالْمُوَالَاةِ (وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْفَوْرِ) وَالتَّرْتِيبِ وَالدَّلْكِ مِنْ فَرَائِضِهِ.

وَنُوَضِّحُ كُلَّ فَرْضٍ مِنْ هَذِهِ الْفُرُوضِ فِيمَا يَلِي

أَوَّلًا: الْفَرَائِضُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا فِي الْوُضُوءِ:

الْفَرْضُ الْأَوَّلُ: غَسْلُ الْوَجْهِ:

49- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ غَسْلَ ظَاهِرِ الْوَجْهِ بِكَامِلِهِ مَرَّةً فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الْوُضُوءِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}.).

وَلِمَا رَوَى عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أَنَّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ «أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ- رضي الله عنه- دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا».

وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الْوَجْهِ بِكَامِلِهِ فِي الْوُضُوءِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


149-موسوعة الفقه الكويتية (وضوء 2)

وُضُوءٌ-2

الْمُجْزِئُ مِنَ الْغَسْلِ فِي الْوُضُوءِ:

50- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُجْزِئِ مِنَ الْغَسْلِ فِي الْوُضُوءِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: (الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّهُ يَكْفِي فِي غَسْلِ الْأَعْضَاءِ فِي الْوُضُوءِ جَرَيَانُ الْمَاءِ عَلَى الْأَعْضَاءِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الدَّلْكُ، وَانْفَرَدَ مَالِكٌ وَالْمُزَنِيُّ بِاشْتِرَاطِهِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: غَسْلُ الْوَجْهِ هُوَ إِسَالَةُ الْمَاءِ مَعَ التَّقَاطُرِ وَلَوْ قَطْرَةً، حَتَّى لَوْ لَمْ يَسِلْ، بِأَنِ اسْتَعْمَلَهُ اسْتِعْمَالَ الدُّهْنِ لَمْ يَجُزْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَكَذَا لَوْ تَوَضَّأَ بِالثَّلْجِ وَلَمْ يَقْطُرْ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يَجُزْ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: هُوَ مُجَرَّدُ بَلِّ الْمَحَلِّ بِالْمَاءِ.سَالَ أَوْ لَمْ يَسِلْ.

وَنَقَلَ ابْنُ الْهُمَامِ عَنْهُ أَنَّهُ يُجْزِئُ إِذَا سَالَ عَلَى الْعُضْوِ وَإِنْ لَمْ يَقْطُرْ.

وَنَقَلَ الْحَصْكَفِيُّ عَنِ الْفَيْضِ أَنَّ أَقَلَّهُ قَطْرَتَانِ فِي الْأَصَحِّ.

وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: الْغَسْلُ هُوَ إِمْرَارُ الْيَدِ عَلَى الْعُضْوِ مُقَارِنًا لِلْمَاءِ أَوْ عَقِبَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْمُرَادُ بِالْغَسْلِ الِانْغِسَالُ، سَوَاءٌ كَانَ بِفِعْلِ الْمُتَوَضِّئِ أَمْ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، أَمْ بِغَيْرِ فِعْلٍ أَصْلًا- كَأَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْمَطَرُ- وَلَوْ بِغَسْلِ غَيْرِهِ بِلَا إِذْنِهِ، أَوْ سُقُوطِهِ فِي نَهَرٍ إِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلنِّيَّةِ فِيهِمَا.

الْوَجْهُ وَحَدُّهُ:

51- قَالَ الْفُقَهَاءُ: الْوَجْهُ هُوَ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ، فَيُغْسَلُ ظَاهِرُهُ كُلُّهُ.

وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: حَدُّ الْوَجْهِ عَرْضًا: مَا بَيْنَ الْأُذُنَيْنِ، وَحَدُّهُ طُولًا: مَا بَيْنَ مَنَابِتِ شَعَرِ رَأْسِهِ عَالِيًا- أَيْ أَنَّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَنْبُتَ عَلَيْهِ الشَّعْرُ الْمَذْكُورُ- وَيُعَبِّرُ عَنْهُ بَعْضُهُمْ: مِنْ مَبْدَأِ أَعْلَى جَبْهَتِهِ.إِلَى أَسْفَلِ الذَّقَنِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: ذَلِكَ فِيمَنْ لَا لِحْيَةَ لَهُ، وَأَمَّا مَنْ لَهُ لِحْيَةٌ.فَمُنْتَهَى لِحْيَتُهُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْمُسْتَرْسِلُ أَيِ الْخَارِجُ عَنْ دَائِرَةِ الْوَجْهِ مِنَ الشَّعْرِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُوَاجِهُ إِلَى الْمُتَّصِلِ عَادَةً لَا إِلَى الْمُسْتَرْسِلِ فَلَمْ يَكُنْ وَجْهًا، فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ، وَلَا يَجِبُ مَسْحُهُ كَذَلِكَ، بَلْ يُسَنُّ، وَالسِّلْعَةُ إِذَا تَدَلَّتْ عَنِ الْوَجْهِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الشُّعُورُ الْخَارِجَةُ عَنْ حَدِّ الْوَجْهِ يَجِبُ غَسْلُ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا مُطْلَقًا إِنْ خَفَّتْ، وَظَاهِرِهَا مُطْلَقًا إِنْ كَثُفَتْ.وَفِي قَوْلٍ: لَا يَجِبُ غَسْلُ خَارِجٍ عَنْ حَدِّ الْوَجْهِ مِنْ لِحْيَةٍ وَغَيْرِهَا خَفِيفًا كَانَ أَوْ كَثِيفًا، لَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا؛ لِخُرُوجِهِ عَنْ مَحَلِّ الْغَرَضِ.وَقَالُوا: يَجِبُ غَسْلُ سِلْعَةٍ نَبَتَتْ فِي الْوَجْهِ وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ حَدِّهِ؛ لِحُصُولِ الْمُوَاجَهَةِ بِهَا.

غَسْلُ الشَّعْرِ الَّذِي عَلَى الْوَجْهِ:

52- قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ مَا فِي الْوَجْهِ مِنْ شَعْرٍ إِنْ كَانَ لِحْيَةَ رَجُلٍ فَيَغْسِلُ الْخَفِيفَ مِنْ هَذَا الشَّعْرِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا حَتَّى الْجِلْدَةَ الَّتِي نَبَتَ عَلَيْهَا الشَّعْرُ، وَإِنْ كَانَ كَثِيفًا بِحَيْثُ لَا تُرَى هَذِهِ الْجِلْدَةُ أَثْنَاءَ الْمُخَاطَبَةِ سَقَطَ غَسْلُ الْبَاطِنِ؛ لِلْحَرَجِ.

وَإِنْ كَانَ مَا فِي الْوَجْهِ مِنْ شَعَرٍ هُدْبًا، أَوْ حَاجِبًا، أَوْ شَارِبًا، أَوْ عَنْفَقَةً- وَهِيَ الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الشَّفَةِ السُّفْلَى- أَوْ لِحْيَةَ امْرَأَةٍ أَوْ خُنْثَى.فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ غَسْلِ هَذَا الشَّعْرِ- خَفِيفًا أَوْ كَثِيفًا- عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يَجِبُ غَسْلُ أُصُولِ شَعْرِ الْحَاجِبَيْنِ وَالشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ وَالْعَنْفَقَةِ إِذَا كَانَ هَذَا الشَّعْرُ كَثِيفًا؛ لِلْحَرَجِ فِي إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى أُصُولِ الشَّعْرِ وَيُسَنُّ تَخْلِيلُ لِحْيَةِ غَيْرِ الْمُحْرِمِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الشَّعْرُ خَفِيفًا تَبْدُو الْبَشَرَةُ مِنْ خِلَالِهِ فَيَجِبُ غَسْلُهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إِلَى الْجِلْدَةِ الَّتِي نَبَتَ عَلَيْهَا.

وَلَا يَجِبُ غَسْلُ الْمُسْتَرْسِلِ مِنَ الشَّعْرِ؛ لِخُرُوجِهِ مِنْ دَائِرَةِ الْوَجْهِ كَمَا لَا يَجِبُ مَسْحُهُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ غَسْلُ الْوَجْهِ مَعَ تَخْلِيلِ شَعْرٍ مِنْ لِحْيَةٍ أَوْ حَاجِبٍ أَوْ شَارِبٍ أَوْ عَنْفَقَةٍ أَوْ هُدْبٍ تَظْهَرُ الْبَشَرَةُ تَحْتَهُ فِي مَجْلِسِ الْمُخَاطَبَةِ، وَالتَّخْلِيلُ: إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ أَيِ الْجِلْدَةِ النَّابِتِ فِيهَا الشَّعْرُ.وَهَذَا فِي الشَّعْرِ الْخَفِيفِ، أَمَّا الْكَثِيفُ فَلَا يُخَلِّلُهُ، بَلْ يُكْرَهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعَمُّقِ، وَيَكْفِي إِمْرَارُ الْمَاءِ عَلَى ظَاهِرِ الشَّعْرِ دُونَ إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ.

قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَلَا يُنَافِي أَنَّهُ يَجِبُ تَحْرِيكُهُ لِيَدْخُلَ الْمَاءُ بَيْنَ ظَاهِرِهِ وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى الْبَشَرَةِ.قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَهُوَ الرَّاجِحُ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِنَدْبِهِ، وَلِمَنْ قَالَ بِوُجُوبِ تَخْلِيلِهِ، وَقَالَ: وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي وُجُوبِ تَخْلِيلِ الْخَفِيفِ، وَفِي الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِي الْكَثِيفِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: شُعُورُ الْهُدْبِ وَالْحَاجِبِ وَالشَّارِبِ وَالْعِذَارِ وَالْعَنْفَقَةِ تُغْسَلُ شَعْرًا وَبَشَرًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِنْ كَثُفَتْ؛ لِأَنَّ كَثَافَتَهَا نَادِرَةٌ، وَقِيلَ: لَا يَجِبُ غَسْلُ بَاطِنِ عَنْفَقَةٍ كَثِيفَةٍ وَلَا بَشَرَتِهَا كَاللِّحْيَةِ، وَفِي ثَالِثٍ: يَجِبُ إِنْ لَمْ تَتَّصِلْ بِاللِّحْيَةِ.

وَقَالُوا: لِحْيَةُ الْمَرْأَةِ كَهَذِهِ الشُّعُورِ تُغْسَلُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِنُدْرَةِ كَثَافَتِهَا؛ وَلِأَنَّهُ يُسَنُّ لَهَا إِزَالَتُهَا؛ لِأَنَّهَا مُثْلَةٌ فِي حَقِّهَا، وَمِثْلُهَا الْخُنْثَى فِي غَسْلِ مَا ذُكِرَ إِنْ لَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ عَلَامَةً عَلَى ذُكُورَتِهِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.

وَلِحْيَةُ الرَّجُلِ إِنْ خَفَّتْ- بِحَيْثُ تُرَى بَشَرَةُ الْوَجْهِ تَحْتَ الشَّعْرِ- يَجِبُ غَسْلُ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، وَإِنْ كَثُفَتْ فَيُغْسَلُ ظَاهِرُهَا وَلَا يَجِبُ غَسْلُ بَاطِنِهَا؛ لِعُسْرِ إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَيْهِ مَعَ الْكَثَافَةِ غَيْرِ النَّادِرَةِ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ فَغَرَفَ غَرْفَةً غَسَلَ بِهَا وَجْهَهُ وَكَانَتْ لِحْيَتُهُ الْكَرِيمَةُ كَثِيفَةً»، وَبِالْغَرْفَةِ الْوَاحِدَةِ لَا يَصِلُ الْمَاءُ إِلَى ذَلِكَ غَالِبًا.وَيُسَنُّ تَخْلِيلُهَا.

فَإِنْ خَفَّ بَعْضُ لِحْيَةِ الرَّجُلِ وَكَثُفَ بَعْضُهَا وَتَمَيَّزَ فَلِكُلٍّ حُكْمُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ بِأَنْ كَانَ الْكَثِيفُ مُتَفَرِّقًا بَيْنَ أَثْنَاءِ الْخَفِيفِ وَجَبَ غَسْلُ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ إِفْرَادَ الْكَثِيفِ بِالْغَسْلِ يَشُقُّ، وَإِمْرَارَ الْمَاءِ عَلَى الْخَفِيفِ لَا يُجْزِئُ.وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ.

وَفِي رَأْيٍ يَجِبُ غَسْلُ الْبَشَرَةِ، حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ قَوْلًا وَوَجْهًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ أَنَسٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ، فَأَدْخَلَهُ تَحْتَ حَنَكِهِ، فَخَلَّلَ بِهَا لِحْيَتَهُ، وَقَالَ: هَكَذَا أَمَرَنِي رَبِّي».

وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَى غُسْلِ الْجَنَابَةِ وَعَلَى الشَّارِبِ وَالْحَاجِبِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ اللِّحْيَةِ وَمَا خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْوَجْهِ مِنَ الشَّعْرِ الْمُسْتَرْسِلِ؛ لِأَنَّ اللِّحْيَةَ تُشَارِكُ الْوَجْهَ فِي مَعْنَى التَّوَجُّهِ وَالْمُوَاجَهَةِ.

وَكَذَا يَجِبُ غَسْلُ عَنْفَقَةِ وَشَارِبِ وَحَاجِبَيْ وَلِحْيَةِ امْرَأَةٍ وَخُنْثَى إِذَا كَانَ كَثِيفًا، وَيُجْزِئُ غَسْلُ ظَاهِرِهِ كَلِحْيَةِ الذَّكَرِ، وَيُسَنُّ غَسْلُ بَاطِنِهِ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ.كَالشَّافِعِيِّ أَيْ فِي غَيْرِ لِحْيَةِ الرَّجُلِ.

وَالْخَفِيفُ مِنْ شُعُورِ الْوَجْهِ كُلِّهَا- وَهُوَ الَّذِي يَصِفُ الْبَشَرَةَ- يَجِبُ غَسْلُهُ وَغَسْلُ مَا تَحْتَهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي لَا يَسْتُرُهُ شَعْرُهُ يُشْبِهُ مَا لَا شَعْرَ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ غَسْلُ الشَّعْرِ تَبَعًا لِلْمَحَلِّ، فَإِنْ كَانَ فِي شَعْرِهِ كَثِيفٌ وَخَفِيفٌ فَلِكُلٍّ حُكْمُهُ.

وَقَالُوا يُسَنُّ تَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ عِنْدَ غَسْلِهَا لِحَدِيثِ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ».

وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لَا يَجِبُ غَسْلُ مَا خَرَجَ عَنْ مُحَاذَاةِ الْبَشَرَةِ طُولًا وَعَرْضًا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ فِي الْمُسْتَرْسِلِ.قَالَ أَحْمَدُ: وَيُسَنُّ أَنْ يَزِيدَ فِي مَاءِ الْوَجْهِ لِأَسَارِيرِهِ وَدَوَاخِلِهِ وَخَوَارِجِهِ وَشُعُورِهِ.

غَسْلُ مَآقِ الْعَيْنِ وَدَاخِلِهَا:

53- قَالَ الْفُقَهَاءُ: يُغْسَلُ مَعَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ مَآقِ الْعَيْنِ- أَيْ طَرَفِهَا أَوْ مُؤَخِّرِهَا- فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ مَا يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ إِلَى الْمَحَلِّ الْوَاجِبِ غَسْلُهُ كَالرَّمَصِ وَجَبَتْ إِزَالَتُهُ وَغَسْلُ مَا تَحْتَهُ.

أَمَّا دَاخِلُ الْعَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءَ فِي غَسْلِهِ مَعَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ:

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُغْسَلُ مَعَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ بَاطِنُ الْعَيْنَيْنِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَفْعَلْهُ وَلَا أَمَرَ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ شَحْمٌ يَضُرُّهُ الْمَاءُ الْحَارُّ وَالْبَارِدُ.

وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ وُجُوبُ غَسْلِ دَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ بِشَرْطِ أَمْنِ الضَّرَرِ، وَعَنْهُ: يَجِبُ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى.

أَمَّا إِذَا تَنَجَّسَ دَاخِلُ الْعَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي غَسْلِهِ أَثْنَاءَ الْوُضُوءِ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ بَاطِنِ الْعَيْنِ مِنْ نَجَاسَةٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُ دَاخِلِ الْعَيْنِ مِنْ نَجَاسَةٍ فِيهَا، فَيُعْفَى عَنْهَا فِي الصَّلَاةِ.

غَسْلُ مَوْضِعِ الْغَمَمِ:

54- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ مَوْضِعُ الْغَمَمِ مِنَ الْوَجْهِ؛ لِحُصُولِ الْمُوَاجَهَةِ بِهِ، وَمَوْضِعُ الْغَمَمِ هُوَ مَا يَنْبُتُ عَلَيْهِ الشَّعْرُ مِنَ الْجَبْهَةِ، وَالْغَمَمُ أَنْ يَسِيلَ الشَّعْرُ حَتَّى يَضِيقَ الْجَبْهَةُ وَالْقَفَا فَيَغْسِلُ الْمُتَوَضِّئُ مَا نَزَلَ مِنَ الشَّعْرِ عَنِ الْمُعْتَادِ مِنْ حَدِّ مَنْبَتِهِ فِي الرَّأْسِ، وَيَنْتَهِي إِلَى الْمُعْتَادِ وَقَدْرِ مَا يَتِمُّ بِهِ الْوَاجِبُ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.

غَسْلُ مَوْضِعِ التَّحْذِيفِ فِي الْوُضُوءِ:

55- مَوْضِعُ التَّحْذِيفِ: هُوَ مَا يَنْبُتُ عَلَيْهِ الشَّعْرُ الْخَفِيفُ بَيْنَ ابْتِدَاءِ الْعِذَارِ وَالنَّزْعَةِ.

وَضَابِطُهُ أَنْ تَضَعَ طَرَفَ خَيْطٍ عَلَى طَرَفِ الْأُذُنِ، وَالطَّرَفَ الثَّانِيَ عَلَى أَعْلَى الْجَبْهَةِ، وَتَفْرِضَ هَذَا الْخَيْطَ مُسْتَقِيمًا، فَمَا نَزَلَ عَنْهُ إِلَى جَانِبِ الْوَجْهِ فَهُوَ مَوْضِعُ التَّحْذِيفِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دُخُولِ مَوْضِعِ التَّحْذِيفِ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ عِنْدَ الْوُضُوءِ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي رَأْيٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ مَوْضِعَ التَّحْذِيفِ مِنَ الرَّأْسِ لِاتِّصَالِ شَعْرِهِ بِشَعْرِ الرَّأْسِ، فَلَا يُغْسَلُ مَعَ الْوَجْهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي رَأْيٍ آخَرَ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ- قَالَ الْغَزَالِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا هُوَ الْأَصَحُّ- إِلَى أَنَّ التَّحْذِيفَ مِنَ الْوَجْهِ لِمُحَاذَاتِهِ بَيَاضَ الْوَجْهِ فَيُغْسَلُ مَعَهُ.

غَسْلُ الْبَيَاضِ بَيْنَ الْعِذَارِ وَالْأُذُنِ:

56- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- وَبِهِ يُفْتَى- إِلَى أَنَّ الْبَيَاضَ الَّذِي بَيْنَ الْعِذَارِ وَالْأُذُنِ مِنَ الْوَجْهِ؛ لِدُخُولِهِ فِي حَدِّهِ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْوَجْهِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ- كَمَا قَرَّرَ الدُّسُوقِيُّ- أَنَّ الْبَيَاضَ الْمُحَاذِيَ لِوَتَدِ الْأُذُنِ مِنَ الْوَجْهِ بِاتِّفَاقٍ، وَكَذَا مَا كَانَ تَحْتَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُغْسَلُ وَلَا يُمْسَحُ مَعَ الرَّأْسِ، وَأَمَّا الْبَيَاضُ الَّذِي فَوْقَهُ فَهُوَ مِنَ الرَّأْسِ.

غَسْلُ الشَّفَتَيْنِ:

57- قَالَ الْفُقَهَاءُ: يَجِبُ أَنْ يُغْسَلَ مَعَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ مَا ظَهَرَ مِنْ حُمْرَةِ الشَّفَتَيْنِ، أَيْ مَا يَظْهَرُ مِنْهُمَا عِنْدَ انْضِمَامِهِمَا انْضِمَامًا طَبِيعِيًّا لَا عِنْدَ انْضِمَامِهِمَا بِشِدَّةٍ وَتَكَلُّفٍ، وَقِيلَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي وَجْهٍ: الشَّفَةُ تَبَعٌ لِلْفَمِ.

غَسْلُ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ:

58- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ غَسْلِ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: وَغَسْلُ جُزْءٍ مِنَ الْحَلْقِ وَمِنْ تَحْتِ الْحَنَكِ وَمِنَ الْأُذُنَيْنِ مَعَ غَسْلِ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.

غَسْلُ الْعِذَارِ:

59- قَالَ الْفُقَهَاءُ: الْعِذَارُ- وَهُوَ الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الْعَظْمِ النَّاتِئِ أَيِ الْمُرْتَفِعِ الْمُسَامِتِ صِمَاخَ الْأُذُنِ وَهُوَ خَرْقُهَا- مِنَ الْوَجْهِ فَيُغْسَلُ مَعَهُ.

غَسْلُ الْوَتَرَةِ وَدَاخِلِ الْفَمِ وَالْأَنْفِ:

60- نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى غَسْلِ الْوَتَرَةِ- وَهِيَ الْحَائِلُ بَيْنَ طَاقَتَيِ الْأَنْفِ- مَعَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْوَجْهِ إِلاَّ أَنَّهَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَنْبُو عَنْهَا الْمَاءُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُغْسَلُ مَا ظَهَرَ مِنَ الْوَجْهِ بِالْجَدْعِ: أَيْ مَا بَاشَرَتْهُ السِّكِّينُ بِالْقَطْعِ لَا مَا كَانَ مَسْتُورًا بِالْأَنْفِ.وَلَوِ اتَّخَذَ لَهُ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ وَالْتَحَمَ وَجَبَ غَسْلُهُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ غَسْلُ مَا ظَهَرَ مِنْ أَنْفِهِ بِالْقَطْعِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ بِالْقَطْعِ، فَصَارَ الْأَنْفُ الْمَذْكُورُ فِي حَقِّهِ كَالْأَصْلِيِّ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْوُضُوءِ غَسْلُ الْوَجْهِ أَيْ ظَاهِرِهِ، وَقَالُوا: إِنَّ دَاخِلَ الْفَمِ وَدَاخِلَ الْأَنْفِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُمَا مَعَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنَ الْوَجْهِ، فَهُوَ مَا تَتِمُّ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالظَّاهِرِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْفَمَ وَالْأَنْفَ مِنَ الْوَجْهِ؛ لِدُخُولِهِمَا فِي حَدِّهِ، فَتَجِبُ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ فِي الطِّهَارَتَيْنِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ مِنَ الْوُضُوءِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ».

غَسْلُ الصُّدْغِ وَمَوْضِعِ الصَّلَعِ وَالنَّزْعَتَيْنِ:

61- وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصُّدْغَ وَمَوْضِعَ الصَّلَعِ وَالنَّزْعَتَانِ لَيْسَتْ مِنَ الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الرَّأْسِ.

وَالصُّدْغُ هُوَ الشَّعْرُ الَّذِي بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعِذَارِ يُحَاذِي رَأْسَ الْأُذُنِ وَيَنْزِلُ عَنْهُ قَلِيلًا.

وَمَوْضِعُ الصَّلَعِ: وَهُوَ مُقَدَّمُ الرَّأْسِ إِذَا خَلَا مِنَ الشَّعْرِ.

وَالنَّزْعَتَانِ هُمَا مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الشَّعْرُ مِنْ جَانِبَيْ مُقَدِّمَةِ الرَّأْسِ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الصُّدْغُ مِنَ الْوَجْهِ فَيُغْسَلُ.

وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ: يُسَنُّ غَسْلُ مَوْضِعِ الصَّلَعِ وَالتَّحْذِيفِ وَالنَّزَغَيْنِ وَالصُّدْغَيْنِ مَعَ الْوَجْهِ؛ لِلْخِلَافِ فِي وُجُوبِهَا فِي غَسْلِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَغْسِلُ الْمُتَوَضِّئُ أَسَارِيرَ جَبْهَتِهِ، أَيْ خُطُوطَهَا وَتَكَامِيشَهَا، وَمَا غَارَ مِنْ جَفْنٍ أَوْ غَيْرِهِ إِذَا أَمْكَنَ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهِ بِدَلْكٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ سَقَطَ غَسْلُهُ.

وَخَالَفَ الزُّهْرِيُّ الْجُمْهُورَ فِي تَحْدِيدِ الْوَجْهِ، فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْأُذُنَيْنِ مِنَ الْوَجْهِ يُغْسَلَانِ مَعَهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «سَجَدَ وَجْهِي لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ» حَيْثُ أَضَافَ السَّمْعَ إِلَى الْوَجْهِ كَمَا أَضَافَ الْبَصَرَ إِلَيْهِ.

وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ» وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- مَسَحَ أُذُنَيْهِ مَعَ رَأْسِهِ» وَلَمْ يَحْكِ أَحَدٌ أَنَّهُ غَسَلَهُمَا مَعَ الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا أَضَافَهُمَا إِلَى الْوَجْهِ لِمُجَاوَرَتِهِمَا لَهُ، وَالشَّيْءُ يُسَمَّى بِاسْمِ مَا جَاوَرَهُ.

غَسْلُ مَا ظَهَرَ مِنَ الْعُضْوِ بَعْدَ غَسْلِ مَا فَوْقَهُ:

62- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ غَسَلَ ظَاهِرَ شَعْرِ اللِّحْيَةِ أَوْ نَحْوِهَا مِنَ الشُّعُورِ ثُمَّ زَالَتْ عَنْهُ أَوِ انْقَلَعَتْ مِنْ وَجْهِهِ جِلْدَةٌ بَعْدَ غَسْلِهَا، هَلْ يَلْزَمُهُ غَسْلُ مَا ظَهَرَ أَمْ لَا؟

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ غَسْلُ مَا ظَهَرَ وَلَا يُعِيدُ وُضُوءَهُ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ انْتَقَلَ إِلَى الشَّعْرِ أَصْلًا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ غَسَلَ الْبَشَرَةَ دُونَ الشَّعْرِ لَمْ يُجْزِهِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَجْهِ الْآخَرِ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَابْنُ جَرِيرٍ إِلَى أَنَّ ظُهُورَ بَشَرَةِ الْوَجْهِ بَعْدَ غَسْلِ شَعْرِهِ يُوجِبُ غَسْلَهَا قِيَاسًا عَلَى ظُهُورِ قَدَمِ الْمَاسِحِ عَلَى الْخُفِّ؛ وَلِأَنَّ غَسْلَهَا كَانَ بَدَلًا عَمَّا تَحْتَهَا.

الْفَرْضُ الثَّانِي: غَسْلُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ:

63- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ غَسْلَ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْوُضُوءِ وَفَرْضٌ مِنْ فُرُوضِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.

أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} إِلَى الْمَرَافِقِ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَبِمَا رُوِيَ فِي صِفَةِ وُضُوءِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ «أَنَّهُ تَوَضَّأَ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ، فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ، ثُمَّ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ».

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ فِي وُجُوبِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْوُضُوءِ.

غَسْلُ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْوُضُوءِ

64- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا زُفَرَ) إِلَى وُجُوبِ غَسْلِ الْمِرْفَقَيْنِ مَعَ الْيَدَيْنِ؛ لقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} سَوَاءٌ كَانَ مَعْنَى «إِلَى» الْوَارِدِ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى «مَعَ» فَدُخُولُ الْمِرْفَقِ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْغَايَةِ فَالْحَدُّ إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَحْدُودِ دَخَلَ فِيهِ وَأَصْبَحَ شَامِلًا لِلْحَدِّ وَالْمَحْدُودِ.

وَلِحَدِيثِ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا تَوَضَّأَ أَدَارَ الْمَاءَ إِلَى مِرْفَقَيْهِ» وَلِمَا رُوِيَ «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدَيْنِ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقَيْنِ ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَتَوَضَّأُ» فَثَبَتَ غَسْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- الْمِرْفَقَيْنِ، وَفِعْلُهُ بَيَانٌ لِلْوُضُوءِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْآيَةِ وَلَمْ يُنْقَلْ تَرْكُهُ ذَلِكَ.

وَيَرَى نَفَرٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي قَوْلٍ وَأَحْمَدُ فِي قَوْلٍ: أَنَّ الْمِرْفَقَ لَا يَدْخُلُ فِي غَسْلِ الْيَدِ أَيْ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ مَعَ الْيَدِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمِرْفَقَ غَايَةً، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَا جُعِلَتْ لَهُ الْغَايَةُ كَمَا لَا يَدْخُلُ اللَّيْلُ تَحْتَ الْأَمْرِ بِالصَّوْمِ فِي قوله تعالى: «ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ».

وَفِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْمِرْفَقَيْنِ يَدْخُلَانِ، لَا لِأَجْلِ وُجُوبِ غَسْلِهِمَا مَعَ الْيَدَيْنِ، بَلِ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ إِلاَّ بِدُخُولِهِمَا.قَالَ الْحَطَّابُ بَعْدَ مَا ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ: عَزَاهُ الْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُ لِأَبِي الْفَرَجِ، وَعَزَاهُ اللَّخْمِيُّ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّيْخِ فِي الرِّسَالَةِ، وَإِدْخَالُهُمَا أَحْوَطُ؛ لِزَوَالِ تَكْلِيفِ التَّحْدِيدِ.

قَطْعُ بَعْضِ مَا يَجِبُ غَسْلُهُ مِنَ الْيَدِ:

65- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ قُطِعَ بَعْضُ مَا يَجِبُ غَسْلُهُ مِنَ الْيَدِ وَجَبَ غَسْلُ مَا بَقَى مِنْهُ؛ لِحَدِيثِ «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأَتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَلِأَنَّ الْمَيْسُورَ لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ.

قَطْعُ الْيَدِ مِنَ الْمِرْفَقِ:

66- إِذَا قُطِعَتِ الْيَدُ مِنَ الْمِرْفَقِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ غَسْلِ الْمِرْفَقِ فِي حُكْمِ غَسْلِ مَوْضِعِ الْقَطْعِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى وُجُوبِ غَسْلِ الْعَظْمِ الَّذِي هُوَ طَرَفُ الْعَضُدِ؛ لِأَنَّ غَسْلَ الْعَظْمَيْنِ الْمُتَلَاقِيَيْنِ مِنَ الذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ وَاجِبٌ، فَإِذَا زَالَ أَحَدُهُمَا غُسِلَ الْآخَرُ؛ وَلِأَنَّهُ مِنَ الْمِرْفَقِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلٍ لِلْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُ مَوْضِعِ الْقَطْعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ طَرَفُ عَظْمِ السَّاعِدِ فَقَطْ، وَوُجُوبُ غَسْلِ رَأْسِ الْعَضُدِ كَانَ بِالتَّبَعِيَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْمِرْفَقَ فِي الذِّرَاعِ، وَقَدْ أَتَى عَلَيْهِ الْقَطْعُ.قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلاَّ إِنْ عَرَفَ أَنَّهُ بَقِيَ مِنَ الْمِرْفَقِ شَيْءٌ فِي الْعَضُدِ، فَيُغْسَلُ مَوْضِعُ الْقَطْعِ.

قَطْعُ الْيَدِ مِنْ فَوْقِ الْمِرْفَقِ:

67- إِذَا قُطِعَتِ الْيَدُ مِنْ فَوْقِ الْمِرْفَقِ فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى سُقُوطِ وُجُوبِ الْغَسْلِ؛ لِعَدَمِ مَحَلِّهِ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ غَسْلُ بَاقِي عَضُدِهِ؛ لِئَلاَّ يَخْلُوَ الْعُضْوُ عَنْ طَهَارَةٍ، وَلِتَطْوِيلِ التَّحْجِيلِ كَمَا لَوْ كَانَ سَلِيمَ الْيَدِ، وَلِأَنَّ فِي هَذَا الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْعِبَادَةِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، كَإِمْرَارِ الْمُحْرِمِ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ عِنْدَ عَدَمِ شَعْرِهِ وَقَالُوا: وَإِنْ قُطِعَ مِنْ مَنْكِبِهِ نُدِبَ غَسْلُ مَحَلِّ الْقَطْعِ بِالْمَاءِ.نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَجَرَى عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ.

غَسْلُ مَا زَادَ مِنْ إِصْبَعٍ أَوْ كَفٍّ أَوْ يَدٍ:

68- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِلْإِنْسَانِ إِصْبَعٌ أَوْ كَفٌّ زَائِدٌ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ وَجَبَ غَسْلُهَا مَعَ الْأَصْلِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا نَابِتَةٌ مِنْهَا، أَشْبَهَتِ الثُّؤْلُولَ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا نَبَتَتْ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ كَالْمِنْكَبِ أَوِ الْعَضُدِ:

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ مَا حَاذَى مِنْهَا مَحَلَّ الْفَرْضِ؛ لِوُقُوعِ اسْمِ الْيَدِ عَلَيْهِ، وَمَا لَمْ يُحَاذِ مِنْهَا مَحَلَّ الْفَرْضِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ مَا نَبَتَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ وَتَمَيَّزَ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ؛ لِأَنَّهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ، فَأَشْبَهَتْ شَعْرَ الرَّأْسِ إِذَا نَزَلَ عَنِ الْوَجْهِ.

غَسْلُ ظُفُرِ الْيَدِ أَوْ مَا تَحْتَهُ:

69- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ غَسْلُ ظُفُرِ الْيَدِ وَإِنْ طَالَ؛ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِيَدِهِ اتِّصَالَ خِلْقَةٍ، فَيَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْيَدِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ: لَا يَضُرُّ وَسَخٌ يَسِيرٌ تَحْتَ الظُّفُرِ وَلَوْ مَنَعَ وُصُولَ الْمَاءِ، قَالَ الْمُرْدَاوِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ عَادَةً، فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ الْوُضُوءُ مَعَهُ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ.

وَأَلْحَقَ الشَّيْخُ بِالْوَسَخِ الْيَسِيرِ تَحْتَ الظُّفُرِ كُلَّ يَسِيرٍ مَنَعَ وُصُولَ الْمَاءِ حَيْثُ كَانَ مِنَ الْبَدَنِ كَدَمٍ وَعَجِينٍ وَنَحْوِهِمَا، وَاخْتَارَهُ قِيَاسًا عَلَى مَا تَحْتَ الظُّفُرِ.

وَعِبَارَةُ الْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِ: تَحْتَ ظُفُرٍ وَنَحْوِهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الشُّقُوقُ فِي بَعْضِ الْأَعْضَاءِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ- كَمَا جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ-: عَلَى أَنَّهُ إِنْ بَقِيَ مِنْ مَوْضِعِ الْوُضُوءِ قَدْرُ رَأْسِ إِبْرَةٍ أَوْ لَزِقَ بِأَصْلِ ظُفُرِهِ طِينٌ يَابِسٌ أَوْ رَطْبٌ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ تَلَطَّخَ يَدُهُ بِخَمْرٍ أَوْ حِنَّاءٍ جَازَ، وَسُئِلَ الدَّبُوسِيُّ عَمَّنْ عَجَنَ فَأَصَابَ يَدَهُ عَجِينٌ فَيَبِسَ وَتَوَضَّأَ؟ قَالَ: يُجْزِيهِ إِذَا كَانَ قَلِيلًا، كَذَا فِي الزَّاهِدِيِّ، وَمَا تَحْتَ الْأَظَافِيرِ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ حَتَّى لَوْ كَانَ فِيهِ عَجِينٌ يَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَهُ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ وَأَكْثَرِ الْمُعْتَبَرَاتِ.

ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ أَبُو نَصْرٍ الصَّفَارُ فِي شَرْحِهِ أَنَّ الظُّفُرَ إِذَا كَانَ طَوِيلًا بِحَيْثُ يَسْتُرُ رَأْسَ الْأُنْمُلَةِ يَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَهُ، وَإِنْ كَانَ قَصِيرًا لَا يَجِبُ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ.

وَلَوْ طَالَتْ أَظْفَارُهُ حَتَّى خَرَجَتْ عَنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ وَجَبَ غَسْلُهَا قَوْلًا وَاحِدًا، كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: سُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ عَنْ وَافِرِ الظُّفُرِ الَّذِي يَبْقَى فِي أَظْفَارِهِ الدَّرَنُ، أَوِ الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ الطِّينِ، أَوِ الْمَرْأَةِ الَّتِي صُبِغَ إِصْبَعُهَا بِالْحِنَّاءِ، أَوِ الصِّرَامِ، أَوِ الصِّبَاغِ قَالَ: كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ يُجْزِيهِمْ وُضُوؤُهُمْ؛ إِذْ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ إِلاَّ بِحَرَجٍ، وَالْفَتْوَى عَلَى الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَدَنِيِّ وَالْقَرَوِيِّ كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ، وَكَذَا الْخَبَّازُ إِذَا كَانَ وَافِرَ الْأَظْفَارِ، كَذَا فِي الزَّاهِدِيِّ نَاقِلًا عَنِ الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ، وَالْخِضَابُ إِذَا تَجَسَّدَ وَيَبِسَ يَمْنَعُ تَمَامَ الْوُضُوءِ وَالْغَسْلِ، كَذَا فِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ نَاقِلًا عَنِ الْوَجِيزِ.

وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فِي الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ إِنْ كَانَ وَافِرَ الْأَظْفَارِ وَفِيهَا دَرَنٌ أَوْ طِينٌ أَوْ عَجِينٌ، أَوِ الْمَرْأَةُ تَضَعُ الْحِنَّاءَ جَازَ الْوُضُوءُ فِي الْقَرَوِيِّ وَالْمَدَنِيِّ، قَالَ الدَّبُوسِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.وَقَالَ الْإِسْكَافُ: يَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَهُ إِلاَّ الدَّرَنَ الْمُتَوَلِّدَ مِنْهُ.وَقَالَ الصَّفَارُ فِيهِ يَجِبُ الْإِيصَالُ إِلَى مَا تَحْتَهُ إِنْ طَالَ الظُّفُرُ، وَهَذَا حَسَنٌ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ وَإِنْ كَانَ مَقْصُورًا عَلَى الظَّوَاهِرِ لَكِنْ إِذَا طَالَ الظُّفُرُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ عُرُوضِ الْحَائِلِ كَقَطْرَةِ شَمْعَةٍ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ عَارِضٌ.وَفِي النَّوَازِلِ يَجِبُ فِي الْمِصْرِيِّ لَا الْقَرَوِيُّ؛ لِأَنَّ دُسُومَةَ أَظْفَارِ الْمِصْرِيِّ مَانِعَةٌ وُصُولَ الْمَاءِ، بِخِلَافِ الْقَرَوِيِّ وَلَوْ لَزِقَ بِأَصْلِ ظُفُرِهِ طِينٌ يَابِسٌ وَنَحْوُهُ، أَوْ بَقِيَ قَدْرُ رَأْسِ الْإِبْرَةِ مِنْ مَوْضِعِ الْغَسْلِ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ طَالَتْ أَظْفَارُهُ حَتَّى خَرَجَتْ عَنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ وَجَبَ غَسْلُهَا قَوْلًا وَاحِدًا.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ الشَّعْرِ عَلَى الْيَدَيْنِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِنْ كَثُفَ؛ لِنُدْرَتِهِ، وَغَسْلُ بَاطِنِ ثُقْبٍ وَشُقُوقٍ فِيهِمَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَوْرٌ فِي اللَّحْمِ، وَإِلاَّ وَجَبَ غَسْلُ مَا ظَهَرَ مِنْهُ فَقَطْ، وَيُجْزِهِ هَذَا فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ.

وَيَجِبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ تَخْلِيلُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ فَقَطْ فِي الْوُضُوءِ (خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ)، وَيُحَافِظُ عَلَى عُقَدِ الْأَصَابِعِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، بِأَنْ يَحْنِيَ أَصَابِعَهُ، وَعَلَى رُءُوسِ الْأَصَابِعِ بِأَنْ يَجْمَعَهَا وَيَحُكَّهَا بِوَسَطِ الْكَفِّ، وَيَجِبُ مُعَاهَدَةُ تَكَامِيشِ الْأَنَامِلِ وَنَحْوِهَا، وَلَا يَجِبُ تَحْرِيكُ الْخَاتَمِ الْمَأْذُونِ فِيهِ لِرَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، فَيَشْمَلُ الْخَاتَمُ الْمُتَعَدِّدَ فِي حَقِّهَا وَمَا كَانَ مُبَاحًا لَهَا مِنْ أَسَاوِرَ وَغَيْرِهَا، وَلَوْ كَانَ الْخَاتَمُ الْمَأْذُونُ فِيهِ ضَيِّقًا لَا يَدْخُلُ الْمَاءُ تَحْتَهُ، وَلَا يُعَدُّ حَائِلًا، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ كَالذَّهَبِ لِلرَّجُلِ أَوِ الْمُتَعَدِّدِ، فَلَا بُدَّ مِنْ نَزْعِهِ مَا لَمْ يَكُنْ وَاسِعًا يَدْخُلُ تَحْتَهُ الْمَاءُ فَيَكْفِي تَحْرِيكُهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الدَّلْكِ بِالْخِرْقَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَرَامِ كَالذَّهَبِ أَوِ الْمَكْرُوهِ كَالنُّحَاسِ، وَإِنْ كَانَ الْمُحَرَّمُ يَجِبُ نَزْعُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ حَرَامٌ.

غَسْلُ الْيَدِ الزَّائِدَةِ:

70- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ يَدٍ زَائِدَةٍ نَبَتَتْ بِمَحَلِّ الْفَرْضِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ إِنْ نَبَتَتِ الْيَدُ الزَّائِدَةُ بِغَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ وَجَبَ غَسْلُ مَا حَاذَى مِنْهَا مَحَلَّ الْفَرْضِ، وَكَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِرْفَقٌ، فَإِنْ كَانَ لَهَا مِرْفَقٌ تُغْسَلُ كُلُّهَا.

وَكَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ لَمْ تَتَمَيَّزِ الزَّائِدَةُ، فَإِنْ تَمَيَّزَتْ وَجَبَ غَسْلُهَا أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ قَصِيرَةً أَوْ طَوِيلَةً.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ خُلِقَ لَهُ يَدَانُ عَلَى الْمَنْكِبِ، فَالتَّامَّةُ هِيَ الْأَصْلِيَّةُ يَجِبُ غَسْلُهَا وَالْأُخْرَى زَائِدَةٌ، فَمَا حَاذَى مِنْهَا مَحَلَّ الْفَرْضِ وَجَبَ غَسْلُهُ، وَمَا لَا فَلَا، بَلْ يُنْدَبُ غَسْلُهُ.

وَصَرَّحَ الْحَصْكَفِيُّ نَقْلًا عَنِ الْمُجْتَبَى: لَوْ خُلِقَ لَهُ يَدَانِ فَلَوْ يَبْطِشُ بِهِمَا غَسَلَهُمَا، وَلَوْ بِإِحْدَاهُمَا فِي الْأَصْلِيَّةِ فَيَغْسِلُهَا.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى عِبَارَةِ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: «لَوْ يَبْطِشُ بِإِحْدَاهُمَا فِي الْأَصْلِيَّةِ وَالْأُخْرَى زَائِدَةٌ لَا يَجِبُ غَسْلُهَا»، وَظَاهِرُهُ: وَلَوْ كَانَتْ تَامَّةً، وَفِي النَّهَرِ: وَلَمْ أَرَ حُكْمَ مَا لَوْ كَانَتَا تَامَّتَيْنِ مُتَّصِلَتَيْنِ أَوْ مُنْفَصِلَتَيْنِ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ غَسْلِهِمَا فِي الْأَوَّلِ وَغَسْلِ وَاحِدَةٍ فِي الثَّانِي.ثُمَّ قَالَ: فَلَمْ يَعْتَبِرْ- صَاحِبُ النَّهَرِ- الْبَطْشَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْبَطْشُ أَوَّلًا، فَإِنْ بَطَشَ بِهِمَا وَجَبَ غَسْلُهُمَا وَإِلاَّ فَإِنْ كَانَتَا تَامَّتَيْنِ مُتَّصِلَتَيْنِ وَجَبَ غَسْلُهُمَا، وَإِنْ كَانَتَا مُنْفَصِلَتَيْنِ لَا يَجِبُ إِلاَّ غَسْلُ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ الْيَدِ الزَّائِدَةِ إِنْ نَبَتَتْ بِغَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ وَلَمْ تَتَمَيَّزْ عَنِ الْأَصْلِيَّةِ بِأَنْ كَانَتَا أَصْلِيَّتَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا زَائِدَةٌ وَلَمْ تَتَمَيَّزْ بِفُحْشِ قِصَرٍ، وَنَقْصِ أَصَابِعَ، وَضَعْفِ بَطْشٍ وَنَحْوِهِ.

أَمَّا إِذَا كَانَتِ الزَّائِدَةُ مُتَمَيِّزَةً، فَإِنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ مَا حَاذَى مِنْهَا مَحَلَّ الْفَرْضِ.

غَسْلُ الْجِلْدِ الْمُتَدَلِّي مِنَ الْعَضُدِ:

71- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَدَلَّتْ جِلْدَةُ الْعَضُدِ مِنْهُ لَمْ يَجِبْ غَسْلُ شَيْءٍ مِنْهَا إِلاَّ مَا يُحَاذِي مَحَلَّ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْيَدِ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا مَعَ خُرُوجِهَا عَنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِنْ تَقَلَّعَتْ جِلْدَةٌ مِنَ الْعَضُدِ حَتَّى تَدَلَّتْ مِنَ الذِّرَاعِ وَجَبَ غَسْلُهَا كَالْإِصْبَعِ الزَّائِدَةِ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَوْ تَقَلَّصَتْ جِلْدَةٌ مِنَ الْعَضُدِ وَالْتَحَمَ رَأْسُهَا بِالذِّرَاعِ غَسْلَ مَا حَاذَى مَحَلَّ الْفَرْضِ مِنْ ظَاهِرِهَا، وَالْمُتَجَافِيَ مِنْهُ لِمَحَلِّ الْفَرْضِ مِنْ بَاطِنِهَا، وَغَسَلَ مَا تَحْتَهُ؛ لِأَنَّهَا كَالنَّاتِئَةِ فِي الْمَحَلَّيْنِ، وَالْحَنَفِيَّةُ يُوَافِقُونَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ.

غَسْلُ الْجِلْدِ الْمُتَدَلِّي مِنَ الذِّرَاعِ:

72- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَقَلَّصَتْ جِلْدَةُ الذِّرَاعِ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْهُ.

وَإِنْ تَقَلَّصَتِ الْجِلْدَةُ مِنَ الذِّرَاعِ وَالْتَحَمَ رَأَسُهَا فِي الْعَضُدِ وَجَبَ غَسْلُ مَا حَاذَى مَحَلَّ الْفَرْضِ مِنْهَا دُونَ غَيْرِهِ، ثُمَّ إِنْ تَجَافَتْ عَنْهُ لَزِمَهُ غَسْلُ مَا تَحْتَهَا أَيْضًا، وَبِهَذَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


150-موسوعة الفقه الكويتية (وقف 1)

وَقْفٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الْوَقْفِ فِي اللُّغَةِ: الْحَبْسُ، يُقَالُ: وَقَفْتُ الدَّارَ وَقْفًا: حَبَسْتُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمِنْهَا الْمَنْعُ، يُقَالُ: وَقَفْتُ الرَّجُلَ عَنِ الشَّيْءِ وَقْفًا: مَنَعْتُهُ عَنْهُ، وَمِنْهَا السُّكُونُ، يُقَالُ: وَقَفَتِ الدَّابَّةُ تَقِفُ وَقْفًا وَوُقُوفًا: سَكَنَتْ.

وَيُطْلَقُ الْوَقْفُ أَيْضًا عَلَى الشَّيْءِ الْمَوْقُوفِ تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ، وَجَمْعُهُ أَوْقَافٌ كَثَوْبٍ وَأَثْوَابٍ.

وَالْوَقْفُ اصْطِلَاحًا عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِتَعْرِيفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ:

فَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى وَصَرْفُ مَنْفَعَتِهَا عَلَى مَنْ أَحَبَّ، وَهَذَا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ.

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ.

وَعَرَّفَهُ ابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالَ: الْوَقْفُ- مَصْدَرًا- إِعْطَاءُ مَنْفَعَةِ شَيْءٍ مُدَّةَ وَجُودِهِ لَازِمًا بَقَاؤُهُ فِي مِلْكِ مُعْطِيهِ وَلَوْ تَقْدِيرًا، وَالْوَقْفُ- اسْمًا- مَا أَعْطَيْتَ مَنْفَعَتَهُ مُدَّةَ وُجُودِهِ.

وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ حَبْسُ مَالٍ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ بِقَطْعِ التَّصَرُّفِ فِي رَقَبَتِهِ عَلَى مَصْرِفٍ مُبَاحٍ مَوْجُودٍ.

وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ تَحْبِيسُ مَالِكٍ مُطْلَقِ التَّصَرُّفِ مَالَهُ الْمُنْتَفَعَ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ بِقَطْعِ تَصَرُّفِهِ وَغَيْرِهِ فِي رَقَبَتِهِ يُصْرَفُ رِيعُهُ إِلَى جِهَةِ بِرٍّ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

أ- التَّبَرُّعُ:

2- التَّبَرُّعُ لُغَةً مَأْخُوذٌ مِنْ بَرَعَ، يُقَالُ: بَرَعَ الرَّجُلُ بَرَاعَةً: فَاقَ أَصْحَابَهُ فِي الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ، وَتَبَرَّعَ بِالْأَمْرِ: فَعَلَهُ غَيْرَ طَالِبٍ عِوَضًا.

وَالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لِلتَّبَرُّعِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ التَّطَوُّعَ بِالشِّيْءِ غَيْرَ طَالِبٍ عِوَضًا، بِقَصْدِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ غَالِبًا.

وَعَلَى ذَلِكَ فَالتَّبَرُّعُ أَعَمُّ مِنَ الْوَقْفِ..

ب- الصَّدَقَةُ:

3- الصَّدَقَةُ فِي اللُّغَةِ: مَا يُعْطَى فِي ذَاتِ اللَّهِ، أَوْ مَا يُعْطَى عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَى وَجْهِ الْمَكْرُمَةِ، أَوْ مَا تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ.فِي الِاصْطَلَاحِ هِيَ تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ.

وَيَقُولُ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ: الصَّدَقَةُ مَا يُخْرِجُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ كَالزَّكَاةِ، لَكِنَّ الصَّدَقَةَ فِي الْأَصْلِ لِلْمُتَطَوَّعِ بِهِ، وَالزَّكَاةُ تُقَالُ لِلْوَاجِبِ.

وَالْغَالِبُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الصَّدَقَةِ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَالصَّدَقَةُ أَعَمُّ مِنَ الْوَقْفِ؛ إِذْ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْوَقْفِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- «أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ فِيمَا أَصَابَهُ مِنْ أَرْضٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا».

وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ الْوَقْفِ، فَفِي حَدِيثِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ».

ج- الْهِبَةُ:

4- الْهِبَةُ لُغَةً: الْعَطِيَّةُ بِلَا عِوَضٍ.

وَهُوَ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ أَيْضًا، يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْهَدِيَّةُ وَالْعَطِيَّةُ مَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَكُلُّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَاسْمُ الْعَطِيَّةِ شَامِلٌ لِجَمِيعِهِا.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْهِبَةِ أَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فَيهَا.

أَمَّا الْهِبَةُ فَهِيَ تَمْلِيكٌ لِلْعَيْنِ، فَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا بِمَا يَشَاءُ.

د- الْعَارِيَّةُ:

5- الْعَارِيَّةُ فِي اللُّغَةِ: الِاسْمُ مِنَ الْإِعَارَةِ، وَتُطْلَقُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُعَارِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ هِيَ الْعَيْنُ الْمَأْخُوذَةُ مِنْ مَالِكٍ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا بِلَا عِوَضٍ، أَوْ هِيَ إِبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِمَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْعَارِيَّةِ أَنَّ كِلَيْهِمَا إِبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ الْعَارِيَّةَ مَمْلُوكَةٌ لِصَاحِبِهَا فَتُرَدُّ إِلَيْهِ، أَمَّا الْوَقْفُ: فَالْعَيْنُ فِيهِ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى.

هـ- الْوَصِيَّةُ:

6- الْوَصِيَّةُ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذَةٌ مِنْ وَصَّيْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ أَصِيهِ وَصَلْتُهُ، وَوَصَّيْتُ إِلَى فُلَانٍ تَوْصِيَةً، وَأَوْصَيْتُ إِلَيْهِ إِيصَاءً.

وَالِاسْمُ: الْوِصَايَةُ، وَأَوْصَيْتُ إِلَيْهِ بِمَالٍ جَعَلْتُهُ لَهُ، وَأَوْصَيْتُهُ بِوَلَدِهِ اسْتَعْطَفْتُهُ عَلَيْهِ، وَأَوْصَيْتُهُ بِالصَّلَاةِ أَمَرْتُهُ بِهَا.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ عَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ: بِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: هِيَ تَبَرُّعٌ بِحَقٍّ مُضَافٍ وَلَوْ تَقْدِيرًا لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ أَنَّ كِلَيْهِمَا تَبَرُّعٌ، لَكِنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَدْ تَكُونُ بِالْعَيْنِ، وَقَدْ تَكُونُ بِالْمَنْفَعَةِ، أَمَّا الْوَقْفُ فَهُوَ تَبَرُّعٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَبِالْمَنْفَعَةِ فَقَطْ.

مَشْرُوعِيَّةُ الْوَقْفِ:

7- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَقْفِ وَلُزُومِهِ وَاعْتِبَارِهِ مِنَ الْقُرَبِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهَا وَذَلِكَ لِمَا رَوَى ابْنُ عَمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: «أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَأْمِرْهُ فِيهَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا.قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ، وَتَصَدَّقَ بَهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَفِي الْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالضَّيفِ، وَلَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ وَيَطْعَمَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ، وَفِي لَفْظٍ: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا».

وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ».

وَقَالَ جَابِرٌ- رضي الله عنه-: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَانَ لَهُ مَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إِلاَّ حَبَسَ مَالًا مِنْ صَدَقَةٍ مُؤَبَّدَةٍ لَا تُشْتَرَى أَبَدًا وَلَا تُوهَبُ وَلَا تُورثُ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ((فَإِنَّ الَّذِي قَدَرَ مِنْهُمْ عَلَى الْوَقْفِ وَقَفَ وَاشْتَهَرَ ذَلِكِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا.

وقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: الْأَحْبَاسُ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ عَمِلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ بَعْدِهِ.

وَنَقَلَ ابْنُ عَابدِينَ عَنِ الْإِسْعَافِ: أَنَّ الْوَقْفَ جَائِزٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُجِيزُ الْوَقْفَ فَأَخَذَ بَعْضُ النَّاسِ بِظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ وَقَالَ: لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عِنْدَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنَدَ الْكُلِّ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي اللُّزُومِ وَعَدَمِهِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ جَوَازَ الْإِعَارَةِ فَتُصْرَفُ مَنْفَعَتُهُ إِلَى جِهَةِ الْوَقْفِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْوَاقِفِ، وَلَوْ رَجَعَ عَنْهُ حَالَ حَيَاتِهِ جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَيُورَثُ عَنْهُ، وَلَا يَلْزَمُ إِلاَّ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْقَاضِي، أَوْ يُخْرِجَهُ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ.

وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ لَمْ يَرَ الْوَقْفَ وَقَالَ: لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ.

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ- صلى الله عليه وسلم- بِإِطْلَاقِ الْحَبْسِ.

وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ- صلى الله عليه وسلم- بِبَيْعِ الْحَبِيسِ، وَهَذَا مِنْهُ رِوَايَةٌ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَوْقُوفِ لِأَنَّ الْحَبِيسَ هُوَ الْمَوْقُوفُ- فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ- إِذِ الْوَقْفُ حَبْسٌ لُغَةً، فَكَانَ الْمَوْقُوفُ مَحْبُوسًا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الرَّقَبَةِ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

8- الْأَصْلُ فِي الْوَقْفِ أَنَّهُ مِنَ الْقُرَبِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهَا، وَقَدْ تَعْتَرِيهِ أَحْكَامٌ أُخْرَى فِي حَالَاتٍ مُعَيَّنَةٍ: فَقَدْ يَكُونُ الْوَقْفُ فَرْضًا وَهُوَ الْوَقْفُ الْمَنْذُورُ كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ قَدِمَ وَلَدِي فَعَلَيَّ أَنْ أَقِفَ هَذِهِ الدَّارَ عَلىَ ابْنِ السَّبِيلِ وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا إِذَا كَانَ بِلَا قَصْدِ الْقُرْبَةِ، وَلِذَا يَصِحُّ مِنَ الذِّمِّيِّ وَلَا ثَوَابَ لَهُ، وَيَكُونُ قُرْبَةً إِذَا كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِ.

وَقَدْ يَكُونُ الْوَقْفُ حَرَامًا كَمَا لَوْ وَقَفَ مُسْلِمٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ كَوَقْفِهِ عَلَى كَنِيسَةٍ.

وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمْالِكِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْوَقْفَ قَدْ يَكُونُ حَرَامًا وَذَلِكَ كَالْوَقْفِ عَلِى الْبَنِينَ دُونَ الْبَنَاتِ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ فِعْلَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ حِرْمَانِ الْبَنَاتِ مِنْ إِرْثِ أَبِيهِمْ، لَكِنْ رَجَّحَ بَعْضُهُمُ الْكَرَاهَةَ فَيَمْضِي الْوَقْفُ، وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَصَرَّحَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَلَى التَّنْزِيهِ.

أَرْكَانُ الْوَقْفِ:

أَرْكَانُ الْوَقْفِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- أَرْبَعَةٌ:

الصِّيغَةُ، وَالْوَاقِفُ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ، وَالْمَوْقُوفُ، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَالرُّكْنُ هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ.

وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ ذَلِكَ:

الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: الصِّيغَةُ:

9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَنْعَقِدُ إِلَا بِالْإِيجَابِ، وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ لِانْعِقَادِهِ.

أ- صِيغَةُ الْإِيجَابِ:

10- الإِيجَابُ فِي صِيغَةِ الْوَقْفِ هُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ الْوَاقِفِ مِنْ لَفْظٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ إِشَارَةٍ مُفْهِمَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ فِعْلٍ.

وَيَنْقَسِمُ اللَّفْظُ إِلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ، وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُعْتَبَرُ صَرِيحًا مِنَ الْأَلْفَاظِ وَمَا يُعَتَبَرُ كِنَايَةً.وَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لَفْظَ «وَقَفْتُ» مِنَ الْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَذَلِكَ لِاشْتِهَارِهِ لُغَةً وَعُرْفًا.

وَكَذَلِكَ لَفْظُ «حَبَسْتُ» مِنَ الصِّرِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَكَذَا «سَبَلْتُ» عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

فَمَتَى أَتَى الْوَاقِفُ بِلَفْظٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ: وَقَفْتُ كَذَا عَلَى كَذَا، أَوْ قَالَ: أَرْضِي مَوْقُوفَةٌ عَلَى كَذَا أَوْ حَبَسْتُ أَوْ سَبَلْتُ صَارَ وَقْفًا مِنْ غَيْرِ انْضِمَامِ أَمْرٍ زَائِدٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ ثَبَتَ لَهَا عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ بَيْنَ النَّاسِ وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ عُرْفُ الشَّرْعِ «بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعُمَرَ- رضي الله عنه-: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا».

وَمْقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ لَفْظَيْ: حَبَسْتُ وَسَبَلْتُ مِنَ الْكِنَايَاتِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَشْتَهِرَا اشْتِهَارَ الْوَقْفِ.وَكَذَلِكَ لَفْظُ «سَبَلْتُ» عِنْدَ الْحَارِثِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَالَ: تَصَدَّقْتُ بِكَذَا صَدَقَةٍ مُحَرَّمَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ مَوْقُوفَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ لَا تُبَاعُ أَوْ لَا تُوَهَبُ فَصَرِيحٌ فِي الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ فِي الْأُمِّ؛ لِأَنَّ لَفْظَ التَّصَدُّقِ مَعَ هَذِهِ الْقَرَائِنِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْوَقْفِ وَهَذَا صَرِيحٌ بِغَيْرِهِ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ أَنَّهُ كِنَايَةٌ لِاحْتِمَالِ التَّمْلِيكِ الْمَحْضِ.

أَمَّا أَلْفَاظُ الْكِنَايَةِ فَمِنْهَا لَفْظُ تَصَدَّقْتُ وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَتْ مُجَرَّدَةً فَقَالُوا: إِنَّ لَفْظَ تَصَدَّقْتُ فَقَطْ لَيْسَ بِصَرِيحٍ، وَإِنْ نَوَى الْوَقْفَ لِتَرَدُّدِ اللَّفْظِ بَيْنَ صَدَقَةِ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ وَالصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ إِلاَّ أَنْ يُضِيفَ إِلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ كَالْفُقَرَاءِ وَيَنْوِيَ الْوَقْفَ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَكُونُ صَرِيحًا حِينَئِذٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ فِي كُتُبِهِ وَالنَّوَوِيِّ فِي الرَّوْضَةِ عَدَمُ الصَّرَاحَةِ، وَإِنَّمَا إِضَافَتُهُ إِلَى الْجِهَةِ الْعَامَّةِ صَيَّرَتْهُ كِنَايَةً حَتَّى تُعْمَلَ فِيهِ النِّيَّةُ، وَهُوَ الصَّوَابُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ، لِأَنَّ الصَّرِيحَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ.

وَمِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ أَيْضًا: حَرَّمْتُ وَأَبَّدْتُ وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، قَالُوا: لِأَنَّ لَفْظَةَ الصَّدَقَةِ وَالتَّحْرِيمِ مُشْتَرَكَةٌ، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ تُسْتَعْمَلُ فِي الزَّكَاةِ وَالْهِبَاتِ، وَالتَّحْرِيمَ يُسْتَعْمَلُ فِي الظِّهَارِ وَالْأَيْمَانِ، وَيَكُونُ تَحْرِيمًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَالتَّأْبِيدُ يَحْتَمِلُ تَأْبِيدَ التَّحْرِيمِ وَتَأْبِيدَ الْوَقْفِ، وَلَمْ يَثْبُتْ لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ فَلَا يَحْصُلُ الْوَقْفُ بِمُجَرَّدِهَا فَإِنِ انْضَمَّ إِلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ حَصَلَ الْوَقْفُ بِهَا:

أَحَدُهَا: أَنْ يُضَمَّ عَلَيْهَا أَحَدُ أَلْفَاظٍ خَمْسَةٍ؛ وَهِيَ الصَّرَائِحُ الثَّلَاثُ وَالْكِنَايَاتِ فَيَقُولُ: تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً، أَوْ تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً مُحْبَسَةً، أَوْ تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً مُؤَبَّدَةً، أَوْ تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً مُسْبَلَةً، أَوْ تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً مُحَرَّمَةً.

الثَّانِي: أَنْ يَصِفَهَا بِصِفَاتِ الْوَقْفِ، فَيَقُولُ: صَدَقَةٌ لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ وَلَا تُورَثُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقَرِينَةَ تُزِيلُ الِاشْتِرَاكَ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَنْوِيَ الْوَقْفَ فَيَكُونُ عَلَى مَا نَوَى إِلاَّ أَنَّ النِّيَّةَ تَجْعَلُهُ وَقْفًا فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ لِعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا فِي الضَّمَائِرِ، فَإِنِ اعْتَرَفَ بِمَا نَوَاهُ لَزِمَ فِي الْحُكْمِ لِظُهُورِهِ، وَإِنْ قَالَ: مَا أَرَدْتُ الْوَقْفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا نَوَى.

وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ «حَرَّمْتُ، وَأَبَّدْتُ» مِنَ الْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ لِإِفَادَةِ الْغَرَضِ كَالتَّسْبِيلِ، وَلِأَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّأْبِيدَ فِي غَيْرِ الْأَبْضَاعِ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِالْوَقْفِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرُوا بَعْضَ الصِّيَغِ دُونَ بَيَانِ مَا هُوَ صَرِيحٌ وَمَا هُوَ كِنَايَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَضْمُونِهِ قَرِيبًا مِمَّا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ.

أَلْفَاظُ الْوَقْفِ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:

11- وَأَمَّا رُكْنُهُ فَالْأَلْفَاظُ الْخَاصَّةُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ هِيَ:

الْأَوَّلُ: أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ مُؤَبَّدَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ، الثَّانِي: صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ، فَهِلَالٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَغَيْرُهُمَا عَلَى صِحَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ صَدَقَةً عَرَّفَ مَصْرِفَهُ وَانْتَفَى بِقَوْلِهِ: «مَوْقُوُفَةٌ» احْتِمَالُ كَوْنِهِ نَذْرًا.

الثَّالِثُ: حَبْسُ صَدَقَةٍ، الرَّابِعُ: صَدَقَةٌ مُحَرَّمَةٌ وَهُمَا كَالثَّانِي، الْخَامِسُ: مَوْقُوفَةٌ فَقَطْ لَا يَصِحُّ إِلاَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَجْعَلُهَا بِمُجَرَّدِ هَذَا اللَّفْظِ مَوُقُوفَةً عَلَى الْفُقَرَاءِ وَإِذَا كَانَ مُفِيدًا لِخُصُوصِ الْمَصْرِفِ؛ أَعْنِي الْفُقَرَاءَ لَزِمَ كَوْنُهُ مُؤَبَّدًا لِأَنَّ جِهَةَ الْفُقَرَاءِ لَا تَنْقَطِعُ، قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَمَشَايِخُ بَلْخٍ يُفْتُونَ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَنَحْنُ نُفْتِي بِقَوْلِهِ أَيْضًا لِمَكَانِ الْعُرْفِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ رَدُّ هِلَالٍ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ بِأَنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَيَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ إِذَا كَانَ يَصْرِفُهُ إِلَى الْفُقَرَاءِ كَانَ كَالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِمْ، السَّادِسُ: مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ صَحَّ عِنْدَ هِلَالٍ أَيْضًا لِزَوَالِ الِاحْتِمَالِ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، السَّابِعُ: مَحْبُوسَةٌ، الثَّامِنُ: حَبْسٌ، وَهُمَا بَاطِلَانِ، وَلَوْ كَانَ فِي «حَبْسٌ» مِثْلُ هَذَا الْعُرْفِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَقَوْلِهِ: مَوْقُوفَةٌ، التَّاسِعُ: لَوْ قَالَ: هِيَ لِلسَّبِيلِ، إِنْ تَعَارَفُوهُ وَقْفًا مُؤَبَّدًا لِلْفُقَرَاءِ كَانَ كَذَلِكَ وَإِلَا سُئِلَ فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ الْوَقْفَ صَارَ وَقْفًا لِأَنَّهُ مْحْتَمِلٌ لَفْظَهُ، أَوْ قَالَ: أَرَدْتُ مَعْنَى صَدَقَةٍ فَهُوَ نَذْرٌ فَيَتَصَدَّقُ بِهَا أَوْ بِثَمَنِهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ كَانَتْ مِيرَاثًا، ذَكَرَهُ فِي النَّوَازِلِ، الْعَاشِرِ: جَعَلْتُهَا لِلْفُقَرَاءِ، إِنْ تَعَارَفُوهُ وَقْفًا عَمِلَ بِهِ وَإِلَا سُئِلَ، فَإِنْ أَرَادَ الْوَقْفَ فَهِيَ وَقْفٌ، أَوِ الصَّدَقَةَ فَهِيَ نَذْرٌ، وَهَذَا عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ لِأَنَّهُ أَدْنَى، فَإِثْبَاتُهُ بِهِ عِنْدَ الِاحْتِمَالِ أَوْلَى، الْحَادِيَ عَشَرَ: مُحَرَّمَةٌ، الثَّانِيَ عَشَرَ: وَقْفٌ، وَهُوَ صَحِيحٌ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ، الثَّالِثَ عَشَرَ: حَبْسٌ مَوْقُوفَةٌ، وَهُوَ كَالِاقْتِصَارِ عَلَى مَوْقُوفَةٍ، الرَّابِعَ عَشَرَ: جَعَلْتُ نُزُلَ كَرْمِي وَقْفًا، صَارَ وَقْفًا فِيهِ ثَمَرَةٌ أَوْ لَا، الْخَامِسَ عَشَرَ: جَعَلْتُ غَلَّتَهُ وَقْفًا كَذَلِكَ، السَّادِسَ عَشَرَ: مَوْقُوفَةٌ لِلَّهِ بِمَنْزِلَةِ صَدَقَةٍ مَوْقُوفَةٍ، الْكُلُّ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَجَزَمَ فِي الْبَزَّازِيَةِ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ بِقَوْلِهِ: وَقْفٌ أَوْ مَوْقُوفَةٌ، السَّابِعَ عَشَرَ: صَدَقَةٌ فَقَطْ كَانَتْ صَدَقَةً فَإِنْ لَمْ يَتَصَدَّقْ حَتَّى مَاتَ كَانَتْ مِيرَاثًا، كَذَا فِي الْخَصَّافِ.الثَّامِنَ عَشَرَ: هَذِهِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى وَجْهِ الْخَيْرِ أَوْ عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ تَكُونُ وَقْفًا عَلَى الْفُقَرَاءِ.التَّاسِعَ عَشَرَ: صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ فِي الْحَجِّ عَنِّي وَالْعُمْرَةِ عَنِّي يَصِحُّ الْوَقْفُ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ عَنِّي لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ.الْعِشْرُونَ: صَدَقَةٌ لَا تُبَاعُ تَكُونُ نَذْرًا بِالصَّدَقَةِ لَا وَقْفًا وَلَوْ زَادَ «وَلَا تُوهَبُ وَلَا تُورَثُ» صَارَتْ وَقْفًا عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَالثَّلَاثَةُ فِي الْإِسْعَافِ.الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: اشْتَرُوا مِنْ غَلَّةِ دَارِي هَذِهِ كُلَّ شَهْرٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ خُبْزًا وَفَرِّقُوهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، صَارَتِ الدَّارُ وَقَفًا.الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: هَذِهِ بَعْدَ وَفَاتِي صَدَقَةٌ يُتَصَدَّقُ بِعَيْنِهَا، أَوْ تُبَاعُ وَيُتَصَدَّقُ بِثَمَنِهَا، ذَكَرَهُمَا فِي الذَّخِيرَةِ، الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: أَوْصَى أَنْ يُوقَفَ ثُلُثُ مَالِهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَيَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ إِلاَّ أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ أَبَدًا كَذَا فِي التَّتَارْخَانِيَّةِ، الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: هَذَا الدُّكَّانُ مَوْقُوفَةٌ بَعْدَ مَوْتِي وَمُسْبَلٌ، وَلَمْ يُعَيِّنْ مَصْرِفًا لَا يَصِحُّ، الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: دَارِي هَذِهِ مُسْبَلَةٌ إِلَى الْمَسْجِدِ بَعْدَ مَوْتِي يَصِحُّ إِنْ خَرَجَتْ مِنَ الثُّلُثِ وَعَيَّنَ الْمَسْجِدَ وَإِلاَّ فَلَا.السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: سَبَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ فِي وَجْهِ إِمَامِ مَسْجِدِ كَذَا عَنْ جِهَةِ صَلَوَاتِي، وَصِيَامَاتِي تَصِيرُ وَقْفًا وَإِنْ لَمْ تَقَعْ عَنْهُمَا، وَالثَّلَاثَةُ فِي الْقُنْيَةِ، السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: جَعَلْتُ حُجْرَتِي لِدُهْنِ سِرَاجِ الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ صَارَتِ الْحُجْرَةُ وَقْفًا عَلَى الْمَسْجِدِ، كَمَا قَالَ: وَلَيْسَ لِلْمُتَوَلِّي أَنْ يَصْرِفَ إِلَى غَيْرِ الدُّهْنِ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ، الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: ذَكَرَ قَاضِيخَانُ مِنْ كِتَابِ الْوَصَايَا: رَجُلٌ قَالَ: ثُلُثُ مَالِي وَقْفٌ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ أَبُو نَصْرٍ: إِنْ كَانَ مَالُهُ نَقْدًا فَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: هَذِهِ الدَّرَاهِمُ وَقْفٌ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ ضِيَاعًا تَصِيرُ وَقَفًا عَلَى الْفُقَرَاءِ.

مَا يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ:

12- كَمَا يَصِحُّ الْوَقْفُ بِاللَّفْظِ فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ مَا يَأْتِي:

أ- الْإِشَارَةُ الْمُفْهَمَةُ مِنَ الْأَخْرَسِ.

ب- الْكِتَابَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الْأَخْرَسِ أَمْ مِنَ النَّاطِقِ كَالْكِتَابَةِ عَلَى أَبْوَابِ الْمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ وَالْكُتُبِ، لَكِنْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا وَجَدَ مَكْتُوبًا عَلَى كِتَابٍ: وَقْفٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ بِالْمَدْرَسَةِ الْفُلَانِيَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ مَشْهُورَةً بِالْكُتُبِ ثَبَتَتْ وَقْفِيَّتُهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَشْهُورَةً بِذَلِكَ لَمْ تَثْبُتْ وَقْفِيَّتُهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَصِحُّ الْوَقْفُ بِكِتَابَةِ النَّاطِقِ مَعَ نِيَّتِهِ.

ج- الْفِعْلُ: كَمَنْ يَبْنِي مَسْجِدًا أَوْ رِبَاطًا أَوْ مَدْرَسَةً وَيُخَلِّي بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ مَا أَعَدَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ وَقْفًا وَلَوْ لَمْ يَتَلَفَّظْ، وَكَمَنَ يَجْعَلُ أَرْضَهُ مَقْبَرَةً وَيَأْذَنُ لِلنَّاسِ إِذْنًا عَامًا بِالدَّفْنِ فِيهَا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَصِحُّ إِلاَّ بِاللَّفْظِ أَوِ الْإِشَارَةِ أَوِ الْكِتَابَةِ إِلاَّ أَنَّهُمُ اسْتَثْنُوا مِنِ اشْتِرَاطِ اللَّفْظِ مَا إِذَا بَنَى شَخْصٌ مَسْجِدًا فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ، وَنَوَى جَعْلَهُ مَسْجِدًا، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَسْجِدًا وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى لَفْظٍ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مَعَ النِّيَّةِ هُنَا مُغْنِيَانِ عَنِ الْقَوْلِ، وَوَجَّهَهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّ الْمَوَاتَ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ مَنْ أَحْيَاهُ مَسْجِدًا.

قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَقِيَاسُ ذَلِكَ إِجْزَاؤُهُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ أَيْضًا مِنَ الْمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ وَغَيْرِهَا.

أَمَّا مَنْ بَنَى مَسْجِدًا فِي مِلْكِهِ فَلَا يَصِيرُ وَقَفًا إِلاَّ بِالْقَوْلِ، قَالَ الشِّيرَازِيُّ فِي الْمُهَذَّبِ: لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ إِلاَّ بِالْقَوْلِ، فَإِنْ بَنَى مَسْجِدًا وَصَلَّى فِيهِ أَوْ أَذِنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ لَمْ يَصِرْ وَقْفًا؛ لِأَنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ مَعَ الْقُدْرَةِ كَالْعِتْقِ.

وَقَالَ الرَّمْلِيُّ: لَوْ قَالَ: أَذِنْتُ فِي الِاعْتِكَافِ فِيهِ صَارَ مَسْجِدًا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَصِحُّ إِلاَّ فِي مَسْجِدٍ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَصِحُّ إِلاَّ بِالْقَوْلِ وَحْدَهُ.

ب- الْقَبُولُ:

13- يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي:

إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ جِهَةً لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهَا الْقَبُولُ كَالْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ، أَوْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ جِهَةً غَيْرَ مَحْصُورَةٍ، كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَإِنَّ الْوَقْفَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ وَيَكْفِي الْإِيجَابُ فِي انْعِقَادِهِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي احْتِمَالٍ ذَكَرَهُ النَّاظِمُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يُشْتَرُطُ الْقَبُولُ فِي الْمَوْقُوفِ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَيَقْبَلُهُ نَائِبُ الْإِمَامِ.

وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا كَزَيْدٍ مَثَلًا فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِ قَبُولِهِ:

فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ قَبُولُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ مَثَلًا قَبِلَ عَنْهُ وَلِيُّهُ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ قَبُولُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمَنْفَعَةِ كَاسْتِحْقَاقِ الْعَتِيقِ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ بِالْإِعْتَاقِ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ إِزَالَةُ مِلْكٍ يَمْنَعُ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ وَالْمِيرَاثَ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْقَبُولُ.

وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ- عَلَى الْقَوْلِ بِاشْتِرَاطِ الْقَبُولِ مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ كَمَا فِي الْأَصَحِّ- أَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ عَلَى الْفَوْرِ عَقِبَ الْإِيجَابِ إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ أَوْ وَلِيُّهُ حَاضِرًا، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَلَا تُشْتَرَطُ الْفَوْرِيَّةُ فِي الْقَبُولِ عَقِبَ الْإِيجَابِ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ عَقِبَ بُلُوغِ الْخَبَرِ إِلَيْهِ وَإِنْ طَالَ الزَّمَنُ.قَالَ الشَّبْرَامَلْسِيُّ: وَلَوْ مَاتَ الْوَاقِفُ هَلْ يَكْفِي قَبُولُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ لَا يَكْفِي؟ فِيهِ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ صِحَّةِ الْقَبُولِ لِإِلْحَاقِهِمُ الْوَقْفَ بِالْعُقُودِ دُونَ الْوَصِيَّةِ.

وَقَالَ الْحَارِثِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يُشْتَرَطُ اتِّصَالُ الْقَبُولِ بِالْإِيجَابِ فَإِنْ تَرَاخَى عَنْهُ بَطَلَ كَمَا يَبْطُلُ فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، لَكِنْ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: إِذَا اشْتُرِطَ الْقَبُولُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ الْمَجْلِسَ، بَلْ يُلْحَقُ بِالْوَصِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ، فَيَصِحُّ مُعَجَّلًا وَمُؤَجَّلًا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَأَخْذُ رِيْعِهِ قَبُولٌ، وَتَصَرُّفُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ يَقُومُ مَقَامَ الْقَبُولِ بِالْقَوْلِ.

رَدُّ الْمَوْقُوفِ:

14- الرَّدُّ لَا يُتَصَوَّرُ إِلاَّ مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ، فَإِذَا رَدَّ وَلَمْ يَقْبَلْ مَا وُقِفَ عَلَيْهِ فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ كَانَ الْوَقْفُ لَشَخْصٍ بِعَيْنِهِ وَآخِرُهُ لِلْفُقَرَاءِ فَإِنْ قَبِلَهُ كَانَتِ الْغَلَّةُ لَهُ، وَإِنْ رَدَّهُ تَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ مَاتَ، وَمَنْ قَبِلَ مَا وُقِفَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ بَعْدَهُ، وَمَنْ رَدَّهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ لَيْسَ لَهُ الْقَبُولُ بَعْدَهُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ رَدَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنَ فَالْمَنْقُولُ فِي الْمَسْأَلَةِ كَمَا فِي ابْنِ شَاسٍ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَابْنِ عَرَفَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا لِلْإِمَامِ مَالِكٍ وَهُوَ الرَّاجِحُ: أَنَّهُ يَكُونُ وَقْفًا عَلَى غَيْرِ مَنْ رَدَّهُ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، وَهَذَا إِذَا جَعَلَهُ الْوَاقِفُ حَبْسًا مُطْلَقًا، أَمَّا إِنْ قَصَدَ الْوَاقِفُ الْمُعَيِّنُ بِخُصُوصِهِ فَرَدَّ، فَإِنَّهُ يَعُودُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِمُطَرِّفٍ: وَهُوَ أَنَّهُ يَرْجِعُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ أَوْ لِوَرَثَتِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ رَدَّ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنُ الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ بَطَلَ حَقُّهُ، سَوَاءً اشْتَرَطَ الْقَبُولَ مِنَ الْمُعَيِّنِ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ، وَلَوْ رَجَعَ بَعْدَ الرَّدِّ لَمْ يَعُدْ لَهُ، لَكِنْ قَالَ الرُّويَانِيُّ: إِنْ رَجَعَ قَبْلَ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِرَدِّهِ إِلَى غَيْرِهِ كَانَ لَهُ، وَإِنْ حَكَمَ بِهِ لِغَيْرِهِ بَطَلَ حَقُّهُ، وَهَذَا فِي الْبَطْنِ الْأَوَّلِ، أَمَّا الْبَطْنُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَنَقَلَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ قَبُولُهُ قَطْعًا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ لَا يَتَّصِلُ بِالْإِيجَابِ، وَنَقَلَا فِي ارْتِدَادِهِ بِرَدِّهِمْ وَجْهَيْنِ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ فِي الْوَقْفِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ أَمْ كَانَ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يَبْطُلُ الْوَقْفُ عَلَى الْمُعَيَّنِ بِرَدِّهِ، فَقَبُولُهُ وَرَدُّهُ سَوَاءٌ، وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: إِنَّهُ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ كَالْوَكِيلِ إِذَا رَدَّ الْوَكَالَةَ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَهَا الْقَبُولُ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِاشْتِرَاطِ الْقَبُولِ فَإِنْ رَدَّهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بَطَلَ فِي حَقِّهِ دُونَ مَنْ بَعْدَهُ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ قُلْنَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ فَرَدَّهُ مَنْ وُقِفَ عَلَيْهِ بَطَلَ فِي حَقِّهِ، وَصَارَ كَالْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ الِابْتِدَاءِ، يَخْرُجُ فِي صِحَّتِهِ فِي حَقِّ مَنْ سِوَاهُ وَبُطْلَانِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّتِهِ فَهَلْ يَنْتَقِلُ فِي الْحَالِ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ أَوْ يُصْرَفُ فِي الْحَالِ إِلَى مَصْرِفِ الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ الَّذِي رَدَّهُ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.

لُزُومُ الْوَقْفِ:

15- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي لُزُومِ الْوَقْفِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْوَقْفَ مَتَى صَدَرَ مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ مُسْتَكْمِلًا شَرَائِطَهُ أَصْبَحَ لَازِمًا، وَانْقَطَعَ حَقُّ الْوَاقِفِ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ بِأَيِّ تَصَرُّفٍ يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ مِنَ الْوَقْفِ، فَلَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-: «تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ، وَلَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ» (وَلِأَنَّ الْوَقْفَ تَبَرُّعٌ يَمْنَعُ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ وَالْمِيرَاثَ فَلَزِمَ بِمُجَرَّدِ صُدُورِ الصِّيغَةِ مِنَ الْوَاقِفِ كَالْعِتْقِ، وَيُفَارِقُ الْهِبَةَ فَإِنَّهَا تَمْلِيكٌ مُطْلَقٌ، وَالْوَقْفُ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ، فَهُوَ بِالْعِتْقِ أَشْبَهُ، فَإِلْحَاقُهُ بِهِ أَوْلَى..

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْوَقْفُ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ- كَمَا سَبَقَ- وَلِلْوَاقِفِ الرُّجُوعُ فِيهِ حَالَ حَيَاتِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَيُورِثُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْوَقْفُ عِنْدَهُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْقَاضِي، أَوْ يُخْرِجَهُ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ اللُّزُومُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْفَتْحِ: وَالْحَقُّ تَرْجِيحُ قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ بِلُزُومِهِ؛ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ مُتَضَافِرَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ عَمَلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَتَرَجَّحَ قَوْلُهُمَا.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَلْزَمُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ وَإِخْرَاجِ الْوَاقِفِ لَهُ عَنْ يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِمَالٍ لَمْ يُخْرِجْهُ عَنِ الْمَالِيَّةِ، فَلَمْ يَلْزَمْ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ.

قَبْضُ الْمَوْقُوفِ:

16- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ قَبْضِ الْمَوْقُوفِ لِتَمَامِ الْوَقْفِ وَلُزُومِهِ: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ لِتَمَامِ الْوَقْفِ وَلُزُومِهِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْرَاجٌ لَهُ عَنْ مِلْكِهِ إِلَى الْوَقْفِ فَأَشْبَهَ الْإِعْتَاقَ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ لَا يَتِمُّ الْوَقْفُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، كَالصَّدَقَةِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ التَّسْلِيمِ، وَيُعَبِّرُ الْمَالِكِيَّةُ عَنِ الْقَبْضِ بِالْحَوْزِ، قَالَ الْخَرَشِيُّ: إِذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى كَبِيرٍ وَلَمْ يَحُزْهُ قَبْلَ مَوْتِ الْوَاقِفِ، أَوْ قَبْلَ فَلَسِهِ، أَوْ قَبْلَ مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَإِنَّ الْحَبْسَ يَبْطُلُ، وَإِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ صَغِيرًا فَإِنَّ وَلِيَّهُ يَحُوزُ عَنْهُ، وَالْحَوْزُ- أَيِ الْقَبْضُ- إِمَّا أَنْ يَكُونَ حِسِّيًّا، وَذَلِكَ بِقَبْضِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لِلْمَوْقُوفِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حُكْمِيًّا، وَذَلِكَ بِتَخْلِيَةِ الْوَاقِفِ لِلْمَوْقُوفِ وَرَفْعِ يَدِهِ عَنْهُ، وَذَلِكَ فِي وَقْفِ مِثْلِ الْمَسْجِدِ وَالْقَنْطَرَةِ وَالْبِئْرِ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ.

وَإِنَّمَا يَبْطُلُ الْوَقْفُ قَبْلَ الْحَوْزِ إِذَا حَصَلَ الْمَانِعُ مِنْ مَوْتٍ أَوْ فَلَسٍ أَوْ مَرَضِ مَوْتٍ إِذَا لَمْ يُطَّلَعْ عَلَى الْوَقْفِ إِلاَّ بَعْدَ حُصُولِ الْمَانِعِ.وَلِذَلِكَ قَالَ الْعَدَوِيّ: لَوِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَرَضِ أَوِ الْفَلَسِ أَوِ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى التَّحْوِيزِ وَالتَّخْلِيَةِ، وَإِذَا أَرَادَ الرُّجُوعَ فِي الْوَقْفِيَّةِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ يَلْزَمُ بِالْقَوْلِ.

وَقَالَ الْخَرَشِيُّ: وَالْمُرَادُ بِالْبُطْلَانِ عَدَمُ التَّمَامِ لَا حَقِيقَتُهُ.

وَيُعَبِّرُ الْحَنَفِيَّةُ عَنِ الْقَبْضِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ بِالتَّسْلِيمِ، وَتَسْلِيمِ كُلِّ شَيْءٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ: فَفِي الْمَسْجِدِ بِالْإِفْرَازِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ، وَفِي الْمَقْبَرَةِ بِدَفْنٍ وَاحِدٍ فَصَاعِدًا، وَفِي السِّقَايَةِ بِشُرْبٍ وَاحِدٍ، وَفِي الْخَانِ بِنُزُولٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمَارَّةِ، لَكِنَّ السِّقَايَةَ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى صَبِّ الْمَاءِ فِيهَا، وَالْخَانَ الَّذِي يَنْزِلُهُ الْحُجَّاجُ بِمَكَّةَ وَالْغُزَاةُ بِالثَّغْرِ لَا بُدَّ فِيهِمَا مِنَ التَّسْلِيمِ إِلَى الْمُتَوَلِّي؛ لِأَنَّ نُزُولَهُمْ يَكُونُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً فَيُحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِ وَإِلَى مَنْ يَصُبُّ الْمَاءَ فِيهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


151-موسوعة الفقه الكويتية (وكالة 1)

وَكَالَة -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْوَكَالَةُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ فِي اللُّغَةِ: الْحِفْظُ، وَمِنْهُ الْوَكِيلُ، فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى الْحَافِظِ، وَمِنْهُ التَّوَكُّلُ، يُقَالُ: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا، أَيْ فَوَّضْنَا أُمُورَنَا.

وَالتَّوْكِيلُ: تَفْوِيضُ التَّصَرُّفِ إِلَى الْغَيْرِ، وَسُمِّيَ الْوَكِيلُ وَكِيلًا؛ لِأَنَّ مُوَكِّلَهُ قَدْ فَوَّضَ إِلَيْهِ الْقِيَامَ بِأَمْرِهِ فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَيْهِ الْأَمْرُ.

وَفِي حَدِيثِ الدُّعَاءِ، «اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ».

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِتَعْرِيفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ.

فَعَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهَا: إِقَامَةُ الْغَيْرِ مَقَامَ نَفْسِهِ- تَرَفُّهًا أَوْ عَجْزًا- فِي تَصَرُّفٍ جَائِزٍ مَعْلُومٍ.

وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا: نِيَابَةُ ذِي حَقٍّ- غَيْرِ ذِي إِمْرَةٍ وَلَا عِبَادَةٍ- لِغَيْرِهِ فِيهِ، غَيْرَ مَشْرُوطٍ بِمَوْتِهِ.

وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا: تَفْوِيضُ شَخْصٍ مَا لَهُ فِعْلُهُ مِمَّا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ إِلَى غَيْرِهِ لِيَفْعَلَهُ فِي حَيَاتِهِ.

وَعَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا: اسْتِنَابَةُ جَائِزِ التَّصَرُّفِ مِثْلَهُ فِيمَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ

أ- النِّيَابَةُ:

2- النِّيَابَةُ: مَأْخُوذَةٌ مِنْ نَابَ الشَّيْءُ نَوْبًا: قَرُبَ، وَنَابَ عَنْهُ نِيَابَةً قَامَ مَقَامَهُ.

وَالنِّيَابَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: قِيَامُ الْإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ بِفِعْلِ أَمْرٍ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَالنِّيَابَةِ أَنَّ النِّيَابَةَ أَعَمُّ مِنَ الْوَكَالَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَفِي قَوْلٍ إِنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ.

ب- الْوِلَايَةُ:

3- الْوِلَايَةُ فِي اللُّغَةِ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ: الْقُدْرَةُ، وَالنُّصْرَةُ، وَالتَّدْبِيرُ.

وَوَلِيُّ الْيَتِيمِ: الَّذِي يَلِي أَمْرَهُ وَيَقُومُ بِكِفَايَتِهِ.

وَوَلِيُ الْمَرْأَةِ: الَّذِي يَلِي عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَيْهَا، وَلَا يَدَعُهَا تَسْتَبِدُّ بِهِ دُونَهُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْوِلَايَةُ تَنْفِيذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ أَوْ أَبَى.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَالْوِلَايَةِ، أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نِيَابَةٌ، وَلَكِنَّ الْوَكَالَةَ نِيَابَةٌ اتِّفَاقِيَّةٌ، أَمَّا الْوِلَايَةُ فَنِيَابَةٌ شَرْعِيَّةٌ أَوْ إِجْبَارِيَّةٌ.

ج- الْإِيصَاءُ:

الْإِيصَاءُ فِي اللُّغَةِ، مَصْدَرُ أَوْصَى، يُقَالُ: أَوْصَى فُلَانًا، وَأَوْصَى إِلَيْهِ: جَعَلَهُ وَصِيَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي أَمْرِهِ وَمَالِهِ وَعِيَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ: إِقَامَةُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي التَّصَرُّفِ بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَالْإِيصَاءِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نِيَابَةٌ اتِّفَاقِيَّةٌ، وَلَكِنَّ الْوَكَالَةَ تَكُونُ أَثْنَاءَ الْحَيَاةِ، أَمَّا الْإِيصَاءُ فَبَعْدَ الْوَفَاةِ.

د- الْقِوَامَةُ:

5- الْقِوَامَةُ فِي اللُّغَةِ: الْقِيَامُ عَلَى الْأَمْرِ أَوِ الْمَالِ، أَوْ وِلَايَةُ الْأَمْرِ.

وَاسْتَعْمَلَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الْقِوَامَةِ فِي مَعَانٍ قَرِيبَةٍ مِنَ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ، مِنْهَا:

وِلَايَةٌ يُفَوِّضُهَا الْقَاضِي إِلَى شَخْصٍ رَاشِدٍ بِأَنْ يَتَصَرَّفَ لِمَصْلَحَةِ الْقَاصِرِ فِي تَدْبِيرِ شُئُونِهِ الْمَالِيَّةِ.

وَمِنْهَا: وِلَايَةٌ يَسْتَحِقُّهَا الزَّوْجُ عَلَى زَوْجَتِهِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَالْقَوَامَةِ، أَنَّ الْوَكَالَةَ نِيَابَةٌ اتِّفَاقِيَّةٌ، أَمَّا الْقِوَامَةُ فَقَدْ تَكُونُ قَضَائِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ شَرْعِيَّةً.

مَشْرُوعِيَّةُ الْوَكَالَةِ:

6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ جَائِزَةٌ وَمَشْرُوعَةٌ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ.

أَمَّا الْقُرْآنُ: فَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا}.وَذَاكَ كَانَ تَوْكِيلًا، وَقَدْ قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ بِلَا نَكِيرٍ.

وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا}..فَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَكَالَةِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الرَّأْيِ الْقَائِلِ بِأَنَّ الْحَكَمَ وَكِيلٌ عَنِ الزَّوْجَيْنِ.

أَمَّا السُّنَّةُ: فَمِنْهَا مَا وَرَدَ «عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ الْبَارِقِيِّ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَاةً، فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، فَجَاءَ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، وَكَانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ».

فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَكَالَةِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.

«وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- بَعَثَهُ لِيَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً بِدِينَارٍ فَاشْتَرَى أُضْحِيَّةً فَأُرْبِحَ فِيهَا دِينَارًا فَاشْتَرَى أُخْرَى مَكَانَهَا، فَجَاءَ بِالْأُضْحِيَّةِ وَالدِّينَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: ضَحِّ بِالشَّاةِ وَتَصَدَّقْ بِالدِّينَارِ».فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ فِي شِرَاءِ الْأُضْحِيَّةِ وَتَقْسِيمِهَا وَالتَّصَدُّقِ بِالْمَالِ.

«وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما- قَالَ: أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ: إِذَا أَتَيْتَ وَكِيلِي فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَإِنِ ابْتَغَى مِنْكَ آيَةً فَضَعْ يَدَكَ عَلَى تَرْقُوَتِهِ».

فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَكَالَةِ، وَأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُوكِلَ وَيُقِيمَ عَامِلًا عَلَى الصَّدَقَةِ فِي قَبْضِهَا وَدَفْعِهَا إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا وَإِلَى مَنْ يُرْسِلُهُ إِلَيْهِ بِأَمَارَةٍ.

«وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ، وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ، وَكُنْتُ أَنَا الرَّسُولَ بَيْنَهُمَا».فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ فِي النِّكَاحِ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ.

أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ وَمَشْرُوعِيَّتِهَا مُنْذُ عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَكَالَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِعْلُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا.

قَالَ قَاضِي زَادَهْ: لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْجِزُ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ عَلَى اعْتِبَارِ بَعْضِ الْأَحْوَالِ، بِأَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ شَيْخًا فَانِيًا أَوْ رَجُلًا ذَا وَجَاهَةٍ لَا يَتَوَلَّى الْأُمُورَ بِنَفْسِهِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُوكِلَ غَيْرَهُ، فَلَوْ لَمْ يَجُزِ التَّوْكِيلُ لَزِمَ الْحَرَجُ، وَهُوَ مُنْتَفٍ بِالنَّصِّ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.

أَرْكَانُ الْوَكَالَةِ:

7- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ الْوَكَالَةِ هِيَ: الصِّيغَةُ، وَالْعَاقِدَانِ (الْمُوَكِّلُ وَالْوَكِيلُ، وَمَحَلُّ الْعَقْدِ) الْمُوَكَّلُ فِيهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُكْنَ الْوَكَالَةِ هُوَ: الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، لِأَنَّ وُجُودَ هَذَا الرُّكْنِ يَسْتَلْزِمُ بِالضَّرُورَةِ وُجُودَ الرُّكْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَهَذَا طِبْقًا لِلْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ فِي الْعَقْدِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (عَقْد ف 5 وَمَا بَعْدَهَا).

الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: الصِّيغَةُ:

8- الصِّيغَةُ هِيَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، وَيُعَبَّرُ بِهِمَا عَنِ التَّرَاضِي الَّذِي هُوَ رُكْنٌ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْأُخْرَى.

وَالْوَكَالَةُ عَقْدٌ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ فَافْتَقَرَ إِلَى رِضَاهُمَا.

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي تَعْرِيفِ الصِّيغَةِ وَحَقِيقَتِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَأَحْكَامِهَا يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (صِيغَة ف 5 وَمَا بَعْدَهَا، وَعَقْد ف 6- 27).

أَوَّلًا: الْإِيجَابُ:

تَعْرِيفُهُ:

9- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْإِيجَابَ هُوَ مَا صَدَرَ مِنَ الْمَالِكِ.وَعَلَى ذَلِكَ فَالْإِيجَابُ هُنَا كُلُّ مَا يَصْدُرُ عَنِ الْمُوَكِّلِ وَيَدُلُّ عَلَى إِذْنِهِ بِالتَّوْكِيلِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْإِيجَابَ هُوَ مَا صَدَرَ أَوَّلًا مِنْ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى رَغْبَتِهِ فِي إِنْشَاءِ الْعَقْدِ.

بِمَ يَتَحَقَّقُ الْإِيجَابُ:

يَتَحَقَّقُ الْإِيجَابُ بِكُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِالْوَكَالَةِ سَوَاءٌ بِاللَّفْظِ، أَوْ بِالْكِتَابَةِ أَوْ بِالرِّسَالَةِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ أَوْ بِغَيْرِهَا.

أ- الْإِيجَابُ بِاللَّفْظِ:

10- يَتَحَقَّقُ الْإِيجَابُ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ الدَّالِّ عَلَى مَعْنَى الْوَكَالَةِ كَوَكَّلْتُكَ فِي كَذَا، أَوْ: أَنْتَ وَكِيلِي فِيهِ.

كَمَا يَتَحَقَّقُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْإِذْنِ بِالتَّوْكِيلِ، كَأَنْ يَأْمُرَ الْمُوَكِّلُ وَكِيلَهُ بِفِعْلِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ؛ أَيْ يَقُولَ لَهُ: أَذِنْتُ لَكَ فِي فِعْلِهِ، أَوْ: فَوَّضْتُ إِلَيْكَ فِعْلَ كَذَا، أَوْ: أَنَبْتُكَ فِيهِ، أَوْ أَقَمْتُكَ مَقَامِي فِيهِ.

وَذَلِكَ «لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَكَّلَ عُرْوَةَ بْنَ أَبِي الْجَعْدِ الْبَارِقِيَّ فِي شِرَاءِ شَاةٍ بِلَفْظِ الشِّرَاءِ، » وَلِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ أَنَّهُمْ قَالُوا: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ}.وَلِأَنَّ أَيَّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْإِذْنِ يَجْرِي مَجْرَى قَوْلِ الْمُوَكِّلِ: وَكَّلْتُكَ.

وَلِأَنَّ الشَّخْصَ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ غَيْرِهِ إِلاَّ بِرِضَاهُ، وَالرِّضَا يَكُونُ بِكُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ عِبَارَةٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا.

وَالْإِيجَابُ بِاللَّفْظِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حُضُورِ الْوَكِيلِ مُشَافَهَةً، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي غِيَابِ الْوَكِيلِ مُرَاسَلَةً.

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْإِيجَابُ بِاللَّفْظِ عِنْدَ حُضُورِ الْوَكِيلِ مُشَافَهَةً: 11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ الْإِيجَابُ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ بِلَفْظِ: وَكَّلْتُكَ فِي كَذَا، أَوْ: فَوَّضْتُ إِلَيْكَ كَذَا، أَوْ: أَنَبْتُكَ فِيهِ، أَوْ: أَذِنْتُ لَكَ فِيهِ، أَوْ: أَقَمْتُكَ مَقَامِي فِي كَذَا، أَوْ: أَنْتَ وَكِيلِي فِيهِ.

كَمَا يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْإِيجَابَ يَتَحَقَّقُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ، مِثْلَ: بِعْهُ، أَوْ: أَعْتِقْهُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا جَرَى الْعُرْفُ بِانْعِقَادِ الْوَكَالَةِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، حَيْثُ قَالُوا: الْوَكَالَةُ لَا تَخْتَصُّ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ إِرْسَالٍ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تَثْبُتُ الْوَكَالَةُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا كَوَكَّلْتُكَ وَأَشْبَاهِهِ، رَوَى بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ- رحمه الله-: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: أَحْبَبْتُ أَنْ تَبِيعَ دَارِي هَذِهِ، أَوْ: هَوَيْتُ، أَوْ: رَضِيتُ، أَوْ: شِئْتُ، أَوْ: أَرَدْتُ، فَذَاكَ تَوْكِيلٌ وَأَمْرٌ بِالْبَيْعِ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: سَأُوَكِّلُكَ، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أُوَكِّلُكَ، لِأَنَّهُ مَوْعِدٌ.

كَمَا نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: قَدْ عَوَّلْتُ عَلَيْكَ، فَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الْوَكَالَةِ، لِاحْتِمَالِهِ أَنْ يَكُونَ مُعَوِّلًا عَلَى رَأْيِهِ أَوْ مَعُونَتِهِ أَوْ نِيَابَتِهِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: قَدِ اعْتَمَدْتُ عَلَيْكَ، أَوِ اسْتَكْفَيْتُ، أَوْ إِلَى مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمَلَةِ، لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِهَا إِلاَّ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهَا أَحَدَ الْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ فِي التَّوْكِيلِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِيجَابُ بِاللَّفْظِ فِي غِيَابِ الْوَكِيلِ مُرَاسَلَةً:

12- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْإِيجَابَ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ يَنْعَقِدُ بِالرِّسَالَةِ.

وَصُورَةُ التَّوْكِيلِ بِالرِّسَالَةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهَا الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَقُولَ شَخْصٌ لآِخَرَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ لِفُلَانٍ وَلْيَبِعْهُ، أَوْ يَقُولَ: اذْهَبْ إِلَى فُلَانٍ وَأَخْبِرْهُ أَنْ يَبِيعَ مَالِي الْفُلَانِيَّ الَّذِي عِنْدَهُ، وَبَاعَ الْآخَرُ الْمَالَ بَعْدَ بُلُوغِ هَذَا الْخَبَرِ إِلَيْهِ، كَانَتِ الْوَكَالَةُ وَالْبَيْعُ صَحِيحَيْنِ.

كَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَ أَحَدٌ شَخْصًا غَائِبًا بِأَمْرٍ مَا فَبَلَّغَهُ أَحَدٌ خَبَرَ الْوَكَالَةِ وَقَبِلَ الْآخَرُ، انْعَقَدَتِ الْوَكَالَةُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُخْبِرُ عَادِلًا أَمْ مَسْتُورَ الْحَالِ، أَمْ كَانَ غَيْرَ عَادِلٍ، وَسَوَاءٌ أَأَعْطَى الْخَبَرَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ أَمْ أُخْبِرَ بِهِ رِسَالَةً مِنْ طَرَفِ الْآمِرِ، وَسَوَاءٌ أَصَدَّقَ الْغَائِبُ هَذَا الْخَبَرَ أَمْ كَذَّبَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الشَّخْصُ وَكِيلًا فِي الْأَحْوَالِ الْمَذْكُورَةِ.

ب- الْإِيجَابُ بِغَيْرِ اللَّفْظِ:

مِنْ صُوَرِ إِيجَابِ الْوَكَالَةِ بِغَيْرِ اللَّفْظِ مَا يَأْتِي:

الصُّورَةُ الْأُولَى: الْكِتَابَةُ:

13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِيجَابَ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ يَتَحَقَّقُ بِالْخَطِّ أَوِ الْكِتَابَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى.

وَمَثَّلَ الْحَنَفِيَّةُ بِذَلِكَ بِمَا لَوْ أَرْسَلَ أَحَدٌ لآِخَرَ غَائِبٍ كِتَابًا مُعَنْوَنًا وَمَرْسُومًا بِتَوْكِيلِهِ إِيَّاهُ بِأَمْرٍ مَا، وَقَبِلَ الْآخَرُ الْوَكَالَةَ، انْعَقَدَتْ.

انْظُرْ مُصْطَلَحَ (عَقْد ف 13).

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِشَارَةُ:

14- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ إِشَارَةَ الْأَخْرَسِ الْمَفْهُومَةَ مُعْتَبَرَةٌ وَقَائِمَةٌ مَقَامَ الْعِبَارَةِ فِي تَحَقُّقِ إِيجَابِ الْوَكَالَةِ بِهَا.

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي شُرُوطِ الِاعْتِدَادِ بِالْإِشَارَةِ. (ر: إِشَارَة ف 5، عَقْد ف 15).

الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: الْفِعْلُ:

15- صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْإِيجَابَ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ يَتِمُّ بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَى الْإِذْنِ.

حَيْثُ دَلَّ كَلَامُ الْقَاضِي عَلَى انْعِقَادِ الْوَكَالَةِ بِفِعْلٍ دَالٍّ كَبَيْعٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ فِيمَنْ دَفَعَ ثَوْبَهُ إِلَى قَصَّارٍ أَوْ خَيَّاطٍ، وَهُوَ أَظْهَرُ، كَالْقَبُولِ.

وَبِهَذَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ إِذَا جَرَى الْعُرْفُ بِانْعِقَادِ الْوَكَالَةِ بِالْفِعْلِ، فَقَدْ قَالَ الْخِرَشِيُّ: الْوَكَالَةُ لَا تَخْتَصُّ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ إِرْسَالٍ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ.

الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: مَا يَدُلُّ فِي الْعَادَةِ عَلَى اعْتِبَارِهِ إِيجَابًا:

16- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْإِيجَابَ فِي الْوَكَالَةِ قَدْ يَتَحَقَّقُ بِمُوجِبِ الْعَادَةِ كَتَصَرُّفِ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ فِي مَالِهَا وَهِيَ عَالِمَةٌ سَاكِتَةٌ فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَكَالَةِ.

وَكَمَا إِذَا كَانَ رَيْعٌ بَيْنَ أَخٍ وَأُخْتٍ وَكَانَ الْأَخُ يَتَوَلَّى كِرَاءَهُ وَقَبْضَهُ سِنِينَ مُتَطَاوِلَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَنَّهُ دَفَعَ لأُِخْتِهِ مَا يَخُصُّهَا فِي الْكِرَاءِ، قَالَ ابْنُ نَاجِي عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ: لِأَنَّهُ وَكِيلٌ بِالْعَادَةِ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ السُّكُوتُ إِيجَابًا فِي الْوَكَالَةِ، فَلَوْ رَأَى أَجْنَبِيًّا يَبِيعُ مَالَهُ فَسَكَتَ وَلَمْ يَنْهَهُ، لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا عَنْهُ بِسُكُوتِهِ، وَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ، لِأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ.

ثَانِيًا: الْقَبُولُ:

الْقَبُولُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِاللَّفْظِ أَوْ بِغَيْرِ اللَّفْظِ.

أ- الْقَبُولُ بِاللَّفْظِ:

17- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَبُولَ يَتَحَقَّقُ بِاللَّفْظِ، كَمَا لَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ لآِخَرَ: قَدْ وَكَّلْتُكَ بِهَذَا الْأَمْرِ، فَقَالَ لَهُ الْوَكِيلُ: قَبِلْتُ، أَوْ قَالَ كَلَامًا آخَرَ غَيْرَ لَفْظِ قَبِلْتُ، مُشْعِرًا بِالْقَبُولِ، فَإِنَّ الْقَبُولَ يَصِحُّ وَتَنْعَقِدُ الْوَكَالَةُ.

وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ قَبُولَ الْوَكِيلِ لَفْظًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ إِلاَّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عَدَمُ الرَّدِّ، فَلَوْ رَدَّ الْوَكِيلُ الْوَكَالَةَ بَعْدَ الْإِيجَابِ بِأَنْ قَالَ: لَا أَقْبَلُ أَوْ لَا أَفْعَلُ، فَلَا يَبْقَى حُكْمِ الْإِيجَابِ، وَلَا تَنْعَقِدُ الْوَكَالَةُ، وَإِنْ قَبِلَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَمْ يُجَدِّدِ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ.

ب- الْقَبُولُ بِغَيْرِ اللَّفْظِ:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِ الْوَكَالَةِ بِالْقَبُولِ بِغَيْرِ اللَّفْظِ، وَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

الصُّورَةُ الْأَوْلَى: الْقَبُولُ بِالْفِعْلِ:

18- لِلْفُقَهَاءِ فِي قَبُولِ الْوَكَالَةِ بِالْفِعْلِ ثَلَاثَةَ آرَاءٍ:

الْأَوَّلُ: يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- فِي أَصَحِّ الْأَوْجُهِ- وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْقَبُولَ يَتَحَقَّقُ بِكُلِّ فِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَفْعَلَ الْوَكِيلُ مَا أَمَرَهُ الْمُوَكِّلُ بِفِعْلِهِ لِأَنَّ الَّذِينَ وَكَّلَهُمُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ سِوَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَلِأَنَّ الْوَكَالَةَ إِذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ فَجَازَ الْقَبُولُ فِيهِ بِالْفِعْلِ كَأَكْلِ الطَّعَامِ.

وَجَاءَ فِي شَرْحِ مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: يَكُونُ الْإِيجَابُ صَرَاحَةً وَالْقَبُولُ دَلَالَةً، فَلَوْ لَمْ يَتَكَلَّمِ الْوَكِيلُ شَيْئًا بِنَاءً عَلَى إِيجَابِ الْمُوَكِّلِ، وَحَاوَلَ إِجْرَاءَ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُوكَّلِ بِهِ، فَيَكُونُ قَدْ قَبِلَ الْوَكَالَةَ دَلَالَةً وَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ صَحِيحًا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْقَبُولَ لَا يَتَحَقَّقُ بِالْفِعْلِ وَلَا بُدَّ لِتَحَقُّقِهِ مِنَ اللَّفْظِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ إِنْ أَتَى بِصِيغَةِ أَمْرٍ كَقَوْلِهِ: بِعْ وَاشْتَرِ، يَتِمُّ الْقَبُولُ بِالْفِعْلِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ اللَّفْظُ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْإِيجَابُ بِصِيغَةِ عَقْدٍ، كَوَكَّلْتُكَ، أَوْ: فَوَّضْتُ إِلَيْكَ فَلَا بُدَّ فِي الْقَبُولِ مِنَ اللَّفْظِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ بِالْفِعْلِ إِلْحَاقًا لِصِيَغِ الْعَقْدِ بِالْعُقُودِ وَالْأَمْرِ بِالْإِبَاحَةِ.

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَبُولُ بِالْكِتَابَةِ:

19- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَبُولَ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ يَصِحُّ بِالْكِتَابَةِ الْمُسْتَبِينَةِ الْمُعَنْوَنَةِ.

الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَبُولُ بِالْإِشَارَةِ:

20- يَصِحُّ الْقَبُولُ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ بِإِشَارَةِ الْأَخْرَسِ الْمَعْلُومَةِ الْمَفْهُومَةِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي شُرُوطِ الْعَمَلِ بِالْإِشَارَةِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (إِشَارَة ف 5، عَقْد ف 15).

الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ الْقَبُولُ بِالسُّكُوتِ:

21- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ سُكُوتَ الْوَكِيلِ قَبُولٌ وَيَرْتَدُّ بِرَدِّهِ.

تَرَاخِي الْقَبُولِ عَنِ الْإِيجَابِ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ:

22- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ وَقَعَ قَبُولُ الْوَكِيلِ فَوْرَ صُدُورِ الْإِيجَابِ مِنَ الْمُوَكِّلِ فَإِنَّ عَقْدَ الْوَكَالَةِ يَنْعَقِدُ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا تَرَاخَى الْقَبُولُ عَنِ الْإِيجَابِ:

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ قَبُولُ الْوَكَالَةِ عَلَى التَّرَاخِي، لِأَنَّ قَبُولَ وُكَلَائِهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ بِفِعْلِهِمْ وَكَانَ مُتَرَاخِيًا عَنْ تَوْكِيلِهِ إِيَّاهُمْ، وَلِأَنَّ الْوَكَالَةَ إِذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ، وَالْإِذْنُ قَائِمٌ مَا لَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ الْمُوَكِّلُ، فَأَشْبَهَ الْإِبَاحَةَ.

وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ كَوْنَ الْقَبُولِ عَلَى التَّرَاخِي بِمَا إِذَا لَمَّ يَتَعَيَّنْ زَمَانُ الْعَمَلِ الَّذِي وَكَّلَ فِيهِ، فَإِنْ تَعَيَّنَ زَمَانُهُ وَخِيفَ فَوَاتُهُ، كَانَ قَبُولُ الْوَكَالَةِ عَلَى الْفَوْرِ.

وَكَذَا لَوْ عَرَضَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ عِنْدَ ثُبُوتِهَا عِنْدَهُ صَارَ قَبُولُهَا عَلَى الْفَوْرِ أَيْضًا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي وَأَبُو حَامِدٍ الْمَرُّوذِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ قَبُولَ الْوَكَالَةِ عَلَى الْفَوْرِ، فَلَا يَصِحُّ إِذَا تَرَاخَى الْقَبُولُ عَنِ الْإِيجَابِ بِالزَّمَانِ الطَّوِيلِ، لِأَنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، فَكَانَ الْقَبُولُ فِيهِ عَلَى الْفَوْرِ كَالْبَيْعِ.

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا يَرْجِعُ إِلَى اعْتِبَارِ الْقَصْدِ وَالْعَوَائِدِ، هَلِ الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ اسْتِدْعَاءُ الْجَوَابِ فَوْرًا فَإِنْ تَأَخَّرَ سَقَطَ حُكْمُ الْخِطَابِ؟ أَوِ الْمُرَادُ اسْتِدْعَاءُ الْجَوَابِ مُعَجَّلًا أَوْ مُؤَجَّلًا؟.

أَقْسَامُ صِيغَةِ الْوَكَالَةِ:

أَوَّلًا: أَقْسَامُ صِيغَةِ الْوَكَالَةِ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ تَرَتُّبِ آثَارِهَا عَلَيْهَا:

تَنْقَسِمُ الصِّيغَةُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ إِلَى الصِّيغَةِ الْمُنَجِّزَةِ، وَالصِّيغَةِ الْمُعَلَّقَةِ وَالصِّيغَةِ الْمُضَافَةِ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ، وَالصِّيغَةِ الْمُوَقَّتَةِ.

أ- الصِّيغَةُ الْمُنَجِّزَةُ لِلْوَكَالَةِ:

23- التَّنْجِيزُ هُوَ خِلَافُ التَّعْلِيقِ.وَالتَّعْلِيقُ هُوَ رَبْطُ حُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةٍ بِحُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةٍ أُخْرَى.

وَالْمُرَادُ بِالصِّيغَةِ الْمُنَجِّزَةِ لِلْوَكَالَةِ أَنْ لَا تَكُونَ مُعَلَّقَةً بِشَرْطٍ، وَلَا مُضَافَةً إِلَى وَقْتٍ، كَقَوْلِ الْمُوَكِّلِ لِلْوَكِيلِ: وَكَّلْتُكَ بِبَيْعِ الدَّارِ الْفُلَانِيَّةِ، فَصِيغَةُ الْوَكَالَةِ فِي هَذَا الْمِثَالِ مُنَجِّزَةٌ حَيْثُ إِنَّهَا لَمْ تُعَلَّقْ بِشَرْطٍ، كَمَا أَنَّهَا لَمْ تُضَفْ إِلَى وَقْتٍ.

وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ إِذَا كَانَتْ صِيغَتُهَا مُنَجِّزَةً.

ب: الصِّيغَةُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَى شَرْطٍ:

24- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ إِذَا كَانَتْ صِيغَتُهَا مُعَلَّقَةً عَلَى شَرْطٍ عَلَى رَأْيَيْنِ:

الرَّأْيُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الْمَذْهَبِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ تَصِحُّ مُعَلَّقَةً بِشَرْطٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ: إِذَا قَدِمَ الْحَاجُّ فَبِعْ هَذَا الطَّعَامَ، وَإِذَا طَلَبَ مِنْكَ أَهْلِي شَيْئًا فَادْفَعْهُ إِلَيْهِمْ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: «أَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ»..

وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ اعْتُبِرَ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ حُكْمُهُ وَهُوَ إِبَاحَةُ التَّصَرُّفِ وَصِحَّتُهُ، فَكَانَ صَحِيحًا، وَلِأَنَّهُ إِذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ أَشْبَهَ الْوَصِيَّةَ وَالتَّأْمِيرَ.

الرَّأْيُ الثَّانِي: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْوَكَالَةِ بِشَرْطٍ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: تَعْلِيقُ الْوَكَالَةِ بِالشُّرُوطِ وَالْآجَالِ فَاسِدَةٌ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَوْ نَجَّزَ الْوَكَالَةَ وَشَرَطَ لِلتَّصَرُّفِ شَرْطًا جَازَ، كَأَنْ يَقُولَ: وَكَّلْتُكَ بِبَيْعِ دَارِي وَبِعْهَا بَعْدَ شَهْرٍ، فَإِنَّ الْوَكَالَةَ تَصِحُّ.

قَالَ الْغَزَالِيُّ: لَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ: وَكَّلْتُكَ الْآنَ، وَلَكِنْ لَا تُبَاشِرِ التَّصَرُّفَ إِلاَّ بَعْدَ شَهْرٍ، أَوْ بَعْدَ قُدُومِ فُلَانٍ، قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ بِالْجَوَازِ، وَقَالُوا: لَيْسَ هَذَا تَعْلِيقًا، إِنَّمَا هُوَ تَأْخِيرٌ فَيَجِبُ عَلَى الْوَكِيلِ الِامْتِثَالُ.

صِيغَةُ الْوَكَالَةِ الدَّوْرِيَّةِ:

25- الْوَكَالَةُ الدَّوْرِيَّةُ مِنْ قَبِيلِ الْوَكَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ بِالشَّرْطِ، وَصُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ الْمُوَكِّلُ لِلْوَكِيلِ: وَكَّلْتُكَ بِبَيْعِ هَذَا الْمَالِ وَكُلَّمَا عَزَلْتُكَ فَأَنْتَ وَكِيلِي، فَإِنَّ هَذَا الشَّخْصَ يَكُونُ وَكِيلًا، وَكُلَّمَا عَزَلَهُ الْمُوَكِّلُ تَجَدَّدَتِ الْوَكَالَةُ.

وَسُمِّيَتْ وَكَالَةً دَوْرِيَّةً، لِأَنَّهَا تَدُورُ مَعَ الْعَزْلِ، فَكُلَّمَا عَزَلَهُ عَادَ وَكِيلًا.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ الدَّوْرِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ قَابِلَةٌ لِلتَّعْلِيقِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَ وَكِيلَهُ فِي الْوَكَالَةِ الدَّوْرِيَّةِ مَتَى شَاءَ، لِأَنَّ الْوَكَالَةَ حَقٌّ لِلْمُوَكِّلِ فَلَهُ إِبْطَالُهَا، وَلِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ لَازِمًا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ، وَالْوَكَالَةُ مِنْهُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَيَحْصُلُ التَّوْكِيلُ فِي الْوَكَالَةِ الدَّوْرِيَّةِ بِقَوْلِ الْمُوَكِّلِ لِلْوَكِيلِ: عَزَلْتُكَ، وَكُلَّمَا وَكَّلْتُكَ فَقَدْ عَزَلْتُكَ، فَقَطْ.

وَذَهَبَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ الدَّوْرِيَّةَ لَا تَصِحُّ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ تَصِيرَ الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ لَازِمَةً، وَذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِقَاعِدَةِ الشَّرْعِ، وَلَيْسَ مَقْصُودُ الْمُعَلِّقِ إِيقَاعَ الْفَسْخِ، وَإِنَّمَا قَصْدُهُ الِامْتِنَاعُ مِنَ التَّوْكِيلِ وَحَلُّهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَالْعُقُودُ لَا تُفْسَخُ قَبْلَ انْعِقَادِهَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَالَ: وَكَّلْتُكَ، وَمَتَى عَزَلْتُكَ فَأَنْتَ وَكِيلِي، فَفِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ فِي الْحَالِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا الصِّحَّةُ لِوُجُودِ الْإِذْنِ.وَالثَّانِي لَا تَصِحُّ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى شَرْطِ التَّأْبِيدِ وَهُوَ الْتِزَامُ الْعَقْدِ الْجَائِزِ.

فَإِذَا قُلْنَا بِالصِّحَّةِ، أَوْ كَانَ قَوْلُهُ «مَتَى عَزَلْتُكَ» مَفْصُولًا عَنِ الْوَكَالَةِ، فَعَزَلَهُ، نُظِرَ: إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْوَكِيلُ، وَاعْتَبَرْنَا عِلْمَهُ فِي نُفُوذِ الْعَزْلِ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ.

وَإِنْ لَمْ نَعْتَبِرْهُ، أَوْ كَانَ عَالِمًا بِهِ، فَفِي عَوْدِهِ وَكِيلًا بَعْدَ الْعَزْلِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى تَعْلِيقِ الْوَكَالَةِ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْوَكَالَةَ ثَانِيًا عَلَى الْعَزْلِ، أَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ.

فَإِنْ قُلْنَا: يَعُودُ، نُظِرَ فِي اللَّفْظِ الْمَوْصُولِ بِالْعَزْلِ، فَإِنْ كَانَ قَالَ: إِذَا عَزَلْتُكَ، أَوْ، مَهْمَا، أَوْ: مَتَى، لَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ عَوْدَ الْوَكَالَةِ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً.

وَإِنْ قَالَ: «كُلَّمَا عَزَلْتُكَ» اقْتَضَى الْعَوْدَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ أَبَدًا، لِأَنَّ «كُلَّمَا» لِلتَّكْرَارِ.

ج- الصِّيغَةُ الْمُضَافَةُ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ لِلْوَكَالَةِ:

26- مِنْ صُوَرِ الْوَكَالَةِ الَّتِي تَكُونُ الصِّيغَةُ فِيهَا مُضَافَةً إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ أَنْ يَقُولَ الْمُوَكِّلُ لِلْوَكِيلِ: وَكَّلْتُكَ عَلَى أَنْ تَبِيعَ دَوَابِّي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، أَوْ يَقُولُ الْمُوَكِّلُ: وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ هَذِهِ الدَّارِ غَدًا، وَيَقْبَلُ الْوَكِيلُ ذَلِكَ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ مِنَ الْعُقُودِ الْقَابِلَةِ لِلْإِضَافَةِ، زَادَ الْحَنَفِيَّةُ: يَكُونُ وَكِيلًا فِي الْغَدِ فَمَا بَعْدَهُ، وَلَا يَكُونُ وَكِيلًا قَبْلَ الْغَدِ.

وَيُوَافِقُهُمُ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَكَالَةَ نُجِّزَتْ فِي الْحَالِ وَعُلِّقَ التَّصَرُّفُ عَلَى تَحَقُّقِ شَرْطٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَهُمْ بِالِاتِّفَاقِ.لِأَنَّهُ عَجَّلَ عَقْدَ الْوَكَالَةِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْمَوْعِدَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَحَلًّا لِوَقْتِ الْبَيْعِ.

27- أَمَّا إِذَا عُلِّقَتِ الْوَكَالَةُ عَلَى وَقْتٍ كَأَنْ يَقُولَ الْمُوَكِّلُ لِلْوَكِيلِ: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَقَدْ وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ دَارِي، كَانَتِ الْوَكَالَةُ بَاطِلَةً فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْوَكَالَةِ بِالْآجَالِ فَاسِدَةٌ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ تَكُونُ الْوَكَالَةُ صَحِيحَةً فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُوجَدُ فَرْقٌ بَيْنَ تَعْلِيقِ الْوَكَالَةِ وَإِضَافَتِهَا، فَالْإِيجَابُ الْمُضَافُ يَكُونُ سَبَبًا فِي انْعِقَادِ الْوَكَالَةِ فِي الْحَالِ، فَإِذَا انْعَقَدَتِ الْوَكَالَةُ فِي الْإِضَافَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَالًا فَيَتَأَخَّرُ حُكْمُ الْوَكَالَةِ إِلَى الْوَقْتِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ.

أَمَّا الْإِيجَابُ الْمُعَلَّقُ فَالتَّعْلِيقُ فِيهِ مَانِعٌ لِصَيْرُورَتِهِ سَبَبًا لِلْحُكْمِ فِي الْحَالِ، وَعَلَيْهِ فَالْوَكَالَةُ فِي التَّعْلِيقِ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ فِي الْحَالِ، وَيَكُونُ انْعِقَادُ الْوَكَالَةِ مُعَلَّقًا عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ.

د- الصِّيغَةُ الْمُؤَقَّتَةُ لِلْوَكَالَةِ:

28- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ إِذَا كَانَتْ صِيغَتُهَا مُؤَقَّتَةً، كَقَوْلِ الْمُوَكِّلِ لِلْوَكِيلِ: أَنْتَ وَكِيلِي شَهْرًا.

وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي بَقَاءِ الْوَكَالَةِ بَعْدَ الْوَقْتِ الَّذِي أَقَّتَهُ الْمُوَكِّلُ.

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَبْقَى بَعْدَ الْوَقْتِ الَّذِي حَدَّدَهُ الْمُوَكِّلُ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْ دَارِي الْيَوْمَ، أَوِ اشْتَرِ لِي الدَّارَ الْيَوْمَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ غَدًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَبْقَى بَعْدَ الْيَوْمِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْقَى بَعْدَ الْيَوْمِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّعْجِيلِ لَا لِتَوْقِيتِ الْوَكَالَةِ بِالْيَوْمِ، إِلاَّ إِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ.

وَفِي «مِنْحَةِ الْخَالِقِ» نَقْلًا عَنِ الْبَزَّازِيَّةِ: أَنَّ الْوَكِيلَ إِلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ لَا تَنْتَهِي وَكَالَتُهُ بِمُضِيِّ الْعَشْرَةِ فِي الْأَصَحِّ.

اقْتِرَانُ صِيغَةِ الْوَكَالَةِ بِالشَّرْطِ:

29- إِذَا اقْتَرَنَتِ الْوَكَالَةُ بِشَرْطٍ، فَإِمَّا أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الشُّرُوطُ صَحِيحَةً أَوْ فَاسِدَةً، فَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ فَاسِدًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِهِ عَلَى الْوَكَالَةِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، أَيَّ شَرْطٍ كَانَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ يُفْسِدُ الْوَكَالَةَ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ:

مَا لَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ لِلْوَكِيلِ: امْنَعِ الْمَبِيعَ مِنَ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْوَكَالَةَ تَفْسُدُ بِهِ، لِأَنَّ مَنْعَ الْحَقِّ عَمَّنْ يَسْتَحِقُّ إِثْبَاتَ يَدِهِ عَلَيْهِ حَرَامٌ، وَصَحَّ الْبَيْعُ بِالْإِذْنِ.

وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ كَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْمُضَارَبَةِ فَفَاسِدُهَا لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالْإِذْنِ، لَكِنَّ خَصَائِصَهَا تَزُولُ بِفَسَادِهَا فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَسْمَاءُ الْعُقُودِ إِلاَّ مُقَيَّدَةً بِالْفَاسِدَةِ.

وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَوْ عَلَّقَ الْوَكَالَةَ عَلَى شَرْطٍ وَتَصَرَّفَ الْوَكِيلُ بَعْدَ الشَّرْطِ، الْأَصَحُّ الصِّحَّةُ، إِلاَّ أَنَّهُ بَطَلَ خُصُوصُ الْوَكَالَةِ فَيَبْقَى عُمُومُ الْإِذْنِ.وَفَائِدَةُ فَسَادِ الْوَكَالَةِ سُقُوطُ الْمُسَمَّى إِنْ سَمَّى لَهُ أُجْرَةً، وَالرُّجُوعُ إِلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ.

وَحَذَا كَثِيرٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ حَذْوَ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَنَّ فَسَادَ الْوَكَالَةِ لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالْإِذْنِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: ظَاهِرُ كَلَامِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْمُخَالَفَةَ مِنَ الْوَكِيلِ تَقْتَضِي فَسَادَ الْوَكَالَةِ لَا بُطْلَانَهَا، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ وَيَصِيرُ مُتَصَرِّفًا بِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ.

وَقَالَ أَيْضًا: الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ كَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ، إِنَّ فَسَادَهَا لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالْإِذْنِ، لَكِنَّ خَصَائِصَهَا تَزُولُ بِفَسَادِهَا، فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَسْمَاءُ الْعُقُودِ الصَّحِيحَةِ إِلاَّ مُقَيَّدَةً بِالْفَسَادِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ كَالْوَدِيعَةِ لِزَوَالِ الِائْتِمَانِ، وَالْإِذْنُ فِي التَّصَرُّفِ كَانَ مَنُوطًا بِهِ.

وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا الِاتِّجَاهِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالَ: الْإِذْنُ لَيْسَ مُنْفَصِلًا عَنِ الْوَكَالَةِ، فَمَعْنَى فَسَادِ الْوَكَالَةِ بُطْلَانُ الْإِذْنِ.

أَمَّا الشَّرْطُ الصَّحِيحُ فَإِنَّهُ إِذَا خَالَفَ الْوَكِيلُ الْمُوَكِّلَ فَإِنَّ لِلْفُقَهَاءِ آرَاءً (تُنْظَرُ فِي فِقْرَةِ 79 وَمَا بَعْدَهَا).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


152-موسوعة الفقه الكويتية (ولاية العهد)

وِلَايَةُ الْعَهْدِ

التَّعْرِيفُ:

1- «وِلَايَةُ الْعَهْدِ» مُصْطَلَحٌ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ: وِلَايَةٍ، وَالْعَهْدِ.وَمِنْ مَعَانِي الْوِلَايَةِ: الْإِمَارَةُ، وَالسُّلْطَانُ.وَمِنْ مَعَانِي الْعَهْدِ: الْوَصِيَّةُ يُقَالُ: عَهِدَ إِلَيْهِ بِالْأَمْرِ: إِذَا أَوْصَاهُ بِهِ.

وَوِلَايَةُ الْعَهْدِ فِي الِاصْطِلَاحِ: عَهْدُ الْإِمَامِ فِي حَيَاتِهِ بِالْخِلَافَةِ إِلَى وَاحِدٍ لِيَكُونَ إِمَامًا لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ. (ر: الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى ف 15)

مَا يَتَعَلَّقُ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ أَحْكَامٍ:

كَيْفِيَّةُ الْعَهْدِ بِالْوِلَايَةِ:

2- الْعَهْدُ بِالْوِلَايَةِ: أَحَدُ الطُّرُقِ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الْإِمَامَةُ.وَصُورَتُهَا أَنْ يَسْتَخْلِفَ الْإِمَامُ شَخْصًا عَيَّنَهُ فِي حَيَاتِهِ لِيَكُونَ خَلِيفَةً لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ.وَيُعَبِّرُ عَنْهُ بِـ «عَهِدْتُ إِلَيْهِ» كَمَا عَهِدَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عُمَرَ- رضي الله عنهما-: بِقَوْلِهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: هَذَا مَا عَهِدَ أَبُو بَكْرٍ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ آخِرِ عَهْدِهِ فِي الدُّنْيَا وَأَوَّلِ عَهْدِهِ بِالْآخِرَةِ فِي الْحَالَةِ الَّتِي يُؤْمِنُ فِيهَا الْكَافِرُ وَيَتَّقِي فِيهَا الْفَاجِرُ: إِنِّي اسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَإِنْ بَرَّ وَعَدَلَ فَذَاكَ عِلْمِي بِهِ وَعِلْمِي فِيهِ، وَإِنْ جَارَ وَبَدَّلَ فَلَا عِلْمَ لِي بِالْغَيْبِ، وَالْخَيْرَ أَرَدْتُ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا اكْتَسَبَ.

وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِهِ.

شُرُوطُ صِحَّةِ وِلَايَةِ الْعَهْدِ:

3- يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ وِلَايَةِ الْعَهْدِ مَا يَلِي: أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ الْمُسْتَخْلَفُ جَامِعًا لِشُرُوطِ الْإِمَامَةِ فَلَا عِبْرَةَ بِاسْتِخْلَافِ الْفَاسِقِ وَالْجَاهِلِ.

وَأَنْ يُقْبَلَ الْخَلِيفَةُ فِي حَيَاةِ الْإِمَامِ، وَأَنْ يَتَرَاخَى الْقَبُولُ عَنِ الِاسْتِخْلَافِ.وَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتَحَرَّى الْأَصْلَحَ لِلْإِمَامَةِ بِأَنْ يَجْتَهِدَ فِيهِ فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ وَاحِدٌ وَلاَّهُ.

جَوَازُ الْخِلَافَةِ لِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ بِالتَّرْتِيبِ:

4- لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ الْخِلَافَةَ لِزَيْدٍ، ثُمَّ لِعَمْرٍ، ثُمَّ لِبَكْرٍ.وَتَنْتَقِلُ مِنْ أَحَدِهِمْ إِلَى الْآخَرِ عَلَى مَا رَتَّبَ، كَمَا رَتَّبَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أُمَرَاءَ جَيْشِ مُؤْتَةَ.فَإِنْ مَاتَ الْأَوَّلُ فِي حَيَاةِ الْإِمَامِ فَالْخِلَافَةُ لِلثَّانِي، وَإِنْ مَاتَ الثَّانِي أَيْضًا فَهِيَ لِلثَّالِثِ، فَإِنْ مَاتَ الْإِمَامُ وَبَقِيَ الثَّلَاثَةُ أَحْيَاءً وَانْتَصَبَ الْأَوَّلُ لِلْخِلَافَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا إِلَى غَيْرِ الْأَخِيرَيْنِ، لِأَنَّهَا لَمَّا انْتَهَتْ إِلَيْهِ صَارَ أَمْلَكَ بِهَا.

أَمَّا إِذَا مَاتَ وَلَمْ يَعْهَدْ إِلَى أَحَدٍ فَلَيْسَ لِأَهْلِ الْبَيْعَةِ أَنْ يُبَايِعُوا غَيْرَ الثَّانِي.وَيُقَدَّمُ عَهْدُ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ عَلَى اخْتِيَارِهِمْ.وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِخْلَافِ مُوَافَقَةُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي حَيَاةِ الْإِمَامِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، بَلْ إِذَا ظَهَرَ لَهُ وَاحِدٌ جَازَ بَيْعَتُهُ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ غَيْرِهِ، وَلَا مُشَارِكَةِ أَحَدٍ.وَإِنْ جَعَلَ الْإِمَامُ الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَ جَمْعٍ حَكَّمَهُ فَكَاسْتِخْلَافٍ، وَلَا يَضُرُّ كَوْنُ الْمُسْتَخْلَفِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَيَرْتَضُونَ أَحَدَهُمْ بَعْدَ مَوْتِ الْإِمَامِ فَيُعَيِّنُونَهُ لِلْخِلَافَةِ.كَمَا جَعَلَ عُمَرُ- رضي الله عنه- الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ: عَلِيٍّ، وَالزُّبَيْرِ، وَعُثْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَطَلْحَةَ، فَاتَّفَقُوا عَلَى عُثْمَانَ- رضي الله عنهم- جَمِيعًا.أَمَّا قَبْلَ مَوْتِ الْإِمَامِ فَلَيْسَ لِأَهْلِ الشُّورَى أَنْ يُعَيِّنُوا وَلِيًّا لِلْعَهْدِ إِلاَّ بِإِذْنِ الْإِمَامِ.فَإِنْ خَافُوا تَفَرُّقَ الْأَمْرِ وَانْتِشَارَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَسْتَأْذِنُونَهُ، وَلَوِ امْتَنَعَ أَهْلُ الشُّورَى مِنَ الِاخْتِيَارِ لَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهِ.

الْوِصَايَةُ بِالْخِلَافَةِ:

5- لِلْإِمَامِ أَنْ يُوصِيَ بِالْخِلَافَةِ لِمَنْ رَآهُ صَالِحًا لَهَا، كَمَا يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِخْلَافُ.لَكِنْ فِي حَالَةِ الْوِصَايَةِ يَكُونُ قَبُولُ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي.وَقِيلَ: لَا تَجُوزُ الْوِصَايَةُ بِهَا لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِالْمَوْتِ عَنِ الْوِلَايَةِ، وَيَتَعَيَّنُ مَنِ اخْتَارَهُ لِلْخِلَافَةِ بِالِاسْتِخْلَافِ أَوِ الْوَصِيَّةِ مَعَ الْقَبُولِ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُعَيِّنَ غَيْرَهُ.

اسْتِعْفَاءُ الْخَلِيفَةِ أَوِ الْمُوصَى لَهُ:

6- إِنِ اسْتَعْفَى الْمُسْتَخْلَفُ أَوِ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ الْقَبُولِ لَمْ يَنْعَزِلْ حَتَّى يُعْفَى وَيُوجَدَ غَيْرُهُ.فَإِنْ وُجِدَ غَيْرُهُ جَازَ اسْتِعْفَاؤُهُ وَإِعْفَاؤُهُ، وَخَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ بِاجْتِمَاعِهِمَا، وَإِلاَّ امْتَنَعَ وَبَقِيَ الْعَهْدُ لَازِمًا.

اسْتِخْلَافُ الْغَائِبِ:

7- يَصِحُّ اسْتِخْلَافُ غَائِبٍ عُلِمَتْ حَيَاتُهُ وَيُسْتَقْدَمُ بَعْدَ مَوْتِ الْإِمَامِ، فَإِنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ وَتَضَرَّرَ الْمُسْلِمُونَ بِتَأَخُّرِ النَّظَرِ فِي أُمُورِهِمْ عَقَدَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الْخِلَافَةَ لِنَائِبٍ عَنْهُ، فَيُبَايِعُونَهُ بِالنِّيَابَةِ لَا الْخِلَافَةِ، وَيَنْعَزِلُ بِقُدُومِهِ.وَلِلْإِمَامِ تَبْدِيلُ وَلِيِّ عَهْدٍ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْخِلَافَةَ لَمَّا انْتَهَتْ إِلَيْهِ صَارَ أَمْلَكَ لَهَا، وَلَيْسَ لَهُ تَبْدِيلُ وَلِيِّ عَهْدِهِ إِذْ لَيْسَ لَهُ عَزْلُهُ بِلَا سَبَبٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ نَائِبًا لَهُ، بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الْعَهْدِ نَقْلُ الْخِلَافَةِ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا تَثْبُتُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى، وَلَيْسَ لَهُ عَزْلُ نَفْسِهِ اسْتِقْلَالًا، وَإِنَّمَا يَنْعَزِلُ بِالتَّرَاضِي مِنْهُ وَمِنَ الْإِمَامِ إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ، فَإِنْ تَعَيَّنَ فَلَا يَنْعَزِلُ بِذَلِكَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


153-إكمال الإعلام بتثليث الكلام (الأثم)

الأثم: مصدر أثمة فِي كَذَا: عده عَلَيْهِ ذَنبا، وعَلى الذَّنب: جزاه عَلَيْهِ.

وَالْإِثْم: الذَّنب.

ويعبر بِهِ أَيْضا عَن الْخمر.

والأثم: جمع أثوم: وَهُوَ الْكثير الذُّنُوب، وَجمع أثام: وَهُوَ عُقُوبَة الآثم.

إكمال الإعلام بتثليث الكلام-محمد بن عبدالله، ابن مالك الطائي الجياني، أبو عبدالله، جمال الدين-توفي: 672هـ/1273م


154-إكمال الإعلام بتثليث الكلام (البنان)

البنان: الْأَصَابِع، أَو أطرافها، ويعبر بهَا أَيْضا عَن الْأَيْدِي والأرجل.

والبنان: جمع بنة: وَهِي الرَّائِحَة الطّيبَة أَو الكريهة.

والبنان أَيْضا جمع بَنِينَ: وَهُوَ المتثبث الْعَاقِل.

والبنان: جمع بنانة: وَهِي الرَّوْضَة.

وبنان (بِالضَّمِّ أَيْضا) اسْم رجل.

إكمال الإعلام بتثليث الكلام-محمد بن عبدالله، ابن مالك الطائي الجياني، أبو عبدالله، جمال الدين-توفي: 672هـ/1273م


155-إكمال الإعلام بتثليث الكلام (الروح)

الرّوح: برد النسيم، والراحة، ومصدر رحت الشىء، أراحه: أى شممته.

وَالرِّيح: مَعْلُومَة، ويعبر بهَا عَن النَّصْر وَالْغَلَبَة، وَعَما لَا يتَحَصَّل، وَمَا لَا يثبت أَيْضا، وَالرِّيح أَيْضا جمع أُرِيح: وَهُوَ كل شىء وَاسع.

وَالروح: مَا بِهِ الْحَيَاة، وَجِبْرِيل، وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَالْقُرْآن، وَالرَّحْمَة،: وَالْهدى، وَجمع أروح: وَهُوَ الذى تتدانى عقباه، وتتباعد صُدُور قَدَمَيْهِ، وَجمع روحاء: وهى النعامة المتباعد مَا بَين رِجْلَيْهَا، والقصعة الْقَرِيبَة القعر.

إكمال الإعلام بتثليث الكلام-محمد بن عبدالله، ابن مالك الطائي الجياني، أبو عبدالله، جمال الدين-توفي: 672هـ/1273م


156-إكمال الإعلام بتثليث الكلام (الصدق)

الصدْق: الْكَامِل من كل شَيْء، وَالرمْح المستوي أَو الصلب.

والصدق اللِّقَاء وَالنَّظَر (بِالْفَتْح أَيْضا): الشَّديد هما.

والصدق: نقيض الْكَذِب، ويعبر بِهِ أَيْضا عَن الشدَّة، وَعَن الصّلاح.

والصدق: جمع صدق، وصدوق، وصداق.

إكمال الإعلام بتثليث الكلام-محمد بن عبدالله، ابن مالك الطائي الجياني، أبو عبدالله، جمال الدين-توفي: 672هـ/1273م


157-إكمال الإعلام بتثليث الكلام (الظلف)

الظلْف: مصدر ظلف المفتوح اللَّام، وَذهب دَمه ظلفا (بِالْفَتْح أَيْضا مَفْتُوح اللَّام وساكنها): أَي هدرا.

والظلف من الْبَقر وَالْغنم والظباء بِمَنْزِلَة الْقدَم من الْإِنْسَان، ويستعار للخيل، ويعبر بِهِ أَيْضا عَن الْمَكَان المتيسر فِيهِ الْقُوت، فَيُقَال (وجد فلَان ظلفه).

والظلف: (بِالضَّمِّ) جمع ظليف.

إكمال الإعلام بتثليث الكلام-محمد بن عبدالله، ابن مالك الطائي الجياني، أبو عبدالله، جمال الدين-توفي: 672هـ/1273م


158-إكمال الإعلام بتثليث الكلام (الفوق)

الفوق: مُقَابل التحت، ومصدر فاق فلَان فلَانا: علاهُ.

والسهم: كسر فَوْقه.

والسطح: صعد إِلَيْهِ.

والفاق: الزَّيْت الْمَطْبُوخ، والبان، والصحراء، وَجمع فاقة وَهِي الْجَفْنَة المملوءة.

والفيق: جمع فيقة.

والفوق: مَوضِع الْوتر من السهْم، وكل وَاحِد من حرفي ذَلِك الْموضع، وَجمع فوقاء: وَهِي البكرة الَّتِي فِي أسنانها كأفواق السِّهَام، وَجمع أفوق: وَهُوَ السهْم المائل الفوق أَو المنكسره.

ويعبر بالفوق أَيْضا عَن أَعلَى الْفَضَائِل، وَعَن الطَّرِيق الأول، وَعَن أَعلَى الكمرة.

إكمال الإعلام بتثليث الكلام-محمد بن عبدالله، ابن مالك الطائي الجياني، أبو عبدالله، جمال الدين-توفي: 672هـ/1273م


159-إكمال الإعلام بتثليث الكلام (القدم)

الْقدَم من الْإِنْسَان: مَعْرُوفَة، ويعبر بِهِ أَيْضا عَن الرجل الشجاع، وَعَن السَّابِقَة، وَعَن الإهانة فِي قَوْلهم: ضَعْهُ تَحت قدمك، وَعَن الِاقْتِدَاء فِي قَوْلهم: ضع قدمك على قدم فلَان.

والقدم: ضد الْحُدُوث.

والقدم: جمع قدمة.

وَقدم (بِالضَّمِّ أَيْضا): قَبيلَة من الْيمن.

إكمال الإعلام بتثليث الكلام-محمد بن عبدالله، ابن مالك الطائي الجياني، أبو عبدالله، جمال الدين-توفي: 672هـ/1273م


160-إكمال الإعلام بتثليث الكلام (القشر)

القشر: مصدر قشر الشَّيْء: نزع قشره، وَالْقَوْم: شأمهم.

والقشر: مَعْرُوف، ويعبر بِهِ عَن الثِّيَاب.

والقشر: جمع أقشر: وَهُوَ الرجل الْأَحْمَر الْجلد كَأَنَّهُ مقشور، وَالْعَام الشَّديد أَيْضا، وَجمع قشراء: وَهِي الْحَيَّة المنسلخة.

إكمال الإعلام بتثليث الكلام-محمد بن عبدالله، ابن مالك الطائي الجياني، أبو عبدالله، جمال الدين-توفي: 672هـ/1273م


161-إكمال الإعلام بتثليث الكلام (القود)

الْقود: مصدر قاد الشَّيْء، ويعبر بِهِ أَيْضا عَن الْخَيل.

والقيد: الْمِقْدَار.

والقود: جمع أَقُود: وَهُوَ الرجل الَّذِي لَا يكَاد يلْتَفت إِذا نظر إِلَى شَيْء، وَالْحَبل الممتد، والطويل الظّهْر والعنق من الْخَيل وَالْإِبِل.

والقود أَيْضا جمع قؤود: وَهُوَ المنقاد من الْخَيل وَالْإِبِل.

إكمال الإعلام بتثليث الكلام-محمد بن عبدالله، ابن مالك الطائي الجياني، أبو عبدالله، جمال الدين-توفي: 672هـ/1273م


162-إكمال الإعلام بتثليث الكلام (المتاع)

الْمَتَاع: مَا ينْتَفع بِهِ، ويعبر بِهِ عَن الْقَلِيل، وينوب عَن مصدر متع.

وَالْمَتَاع أَيْضا: مصدر من تاع الشَّيْء تيعا: سَالَ.

ومفعل من تاع اللبأ توعا: قطعه بالكسرة.

وَالْمَتَاع (بِالْكَسْرِ): الْأَشْيَاء الجيدة، وَاحِدهَا ماتع.

وَالْمَتَاع: مفعول من أتاع الشَّيْء: أساله.

وَالرجل أعطَاهُ تيعة.

أَي غنما يجب فِيهَا الزَّكَاة.

إكمال الإعلام بتثليث الكلام-محمد بن عبدالله، ابن مالك الطائي الجياني، أبو عبدالله، جمال الدين-توفي: 672هـ/1273م


163-إكمال الإعلام بتثليث الكلام (المغفر)

المغفر: مصدر غفر.

والمغفر: مَعْرُوف.

ويعبر بِهِ أَيْضا عَن المغفور وَاحِد المغافير.

والمغفر: الثَّوْب المثار زئبره، وَهُوَ أَيْضا مفعل من أغفرت الأروية: صَارَت ذَات غفر، والرمث والعرفط: خرجت مغافيرهما: أَي صمغهما.

إكمال الإعلام بتثليث الكلام-محمد بن عبدالله، ابن مالك الطائي الجياني، أبو عبدالله، جمال الدين-توفي: 672هـ/1273م


164-الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي (الفاحشة)

1490 - قوله: (الفَاحِشَة)، الفَاحِشَةُ: يُعَبَّر بها عن الزنا، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ}، وُيعَبَّر بها عن كُلِّ مُسْتَقْبَحٍ.

يقال: كلمةٌ فاحِشَةٌ.

وأصلُ الفُحْشِ: الشَّيْءُ السَّيءُ، ومنه الحديث: "ليس بِفَاحِش ولا مُتَفَحِّش". يعني: ليْس بِسَيِّءِ الأَخْلاَق.

الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي-جمال الدين أبو المحاسن الحنبلي الدمشقي الصالحي المعروف بـ «ابن المبرد»-توفي: 909هـ/1503م


165-الفروق اللغوية للعسكري (الفرق بين الروح والمهجة والنفس والذات)

الْفرق بَين الرّوح والمهجة وَالنَّفس والذات

أَن المهجة خَالص دم الْإِنْسَأن الَّذِي إِذا خرج خرجت روحه وَهُوَ دم الْقلب فِي قَول الْخَلِيل وَالْعرب تَقول سَالَتْ مهجهم على رماحنا وَلَفظ النَّفس مُشْتَرك يَقع على الرّوح وعَلى الذَّات وَيكون توكيدا يُقَال خرجت نَفسه أَي روحه وَجَاءَنِي زيد نَفسه بِمَعْنى التوكيد والسواد سَوَاء لنَفسِهِ كَمَا تَقول لذاته ولنفس أَيْضا المَاء وَجمعه أنفاس قَالَ جرير الوافر

«تعلل وَهِي ساغبة بنيها *** بِأَنْفَاسِ من الشبم الْقرح» وَالنَّفس ملْء الْكَفّ من الدّباغ وَالنَّفس الَّتِي تستعد بِمَعْنى الذَّات مَا يَصح أَن تدل على الشَّيْء من وَجه يخْتَص بِهِ دون غَيره وَإِذا قلت هُوَ لنَفسِهِ على صفة كَذَا فقد دللت عَلَيْهِ من وَجه يخْتَص بِهِ دون مَا يخالغه وَقَالَ عَليّ ابْن عِيسَى الشَّيْء وَالْمعْنَى والذات نَظَائِر وَبَينهَا فروق فَالْمَعْنى الْمَقْصُود ثمَّ كثر حَتَّى سمي الْمَقْصُود معنى وكل شَيْء ذَات وكل ذَات شَيْء إِلَّا أَنهم ألزموا الذَّات الْإِضَافَة فَقَالُوا ذَات الْإِنْسَان وَذَات الْجَوْهَر ليحققوا الْإِشَارَة إِلَيْهِ دون غَيره قُلْنَا ويعبر بِالنَّفسِ عَن الْمَعْلُوم فِي قَوْلهم قد صَحَّ ذَلِك فِي نفس أَي قد صَار فِي جملَة مَا أعلمهُ وَلَا يُقَال صَحَّ فِي ذاتي وَمِمَّا يضاد الْحَيَاة الْمَوْت.

الفروق اللغوية-أبو هلال الحسن بن عبدالله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري-توفي:نحو: 395هـ/1005م


166-الفروق اللغوية للعسكري (الفرق بين الانتقال والزوال)

الْفرق بَين الِانْتِقَال والزوال

أَن الِانْتِقَال فِي مَا ذكر عَليّ ابْن عيس يكون فِي الْجِهَات كلهَا والزوال يكون فِي بعض الْجِهَات دون أَلا ترى أَنه لَا يُقَال زَالَ من سفل إِلَى علو كَمَا يُقَال انْتقل من سفل إِلَى علو قُلْنَا ويعبر عَن الْعَدَم بالزوال فَنَقُول زَالَت عِلّة زيد والانتقال يَقْتَضِي منتقلا غله وَالشَّاهِد أَنَّك تَعديَة بإلى والزوال لَا يَقْتَضِي ذَلِك والزوال أَيْضا لَا يكون إِلَّا بعد اسْتِقْرَار وثبات صَحِيح أَو مُقَدّر تَقول زَالَ ملك فلَان وَلَا تَقول ذَلِك إِلَّا بعد ثبات صَحِيح أَو مُقَدّر تَقول زَالَ ملك فلَان وَلَا تَقول ذَلِك إِلَّا بعد ثبات صَحِيح أَو مُقَدّر تَقول زَالَت الشَّمْس وَهَذَا وَقت الزَّوَال وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا يقدرُونَ أَن الشَّمْس تَسْتَقِر فِي كبد السَّمَاء ثمَّ تَزُول وَذَلِكَ لما يظنّ من بطء حركتها إِذا حصلت هنال وَلِهَذَا قَالَ شَاعِرهمْ من الطَّوِيل

«وزالت زَوَال الشَّمْس عَن مستقرها *** فَمن مخبري فِي أَي أَرض غُرُوبهَا» وَلَيْسَ كذلكت الِانْتِقَال.

الفروق اللغوية-أبو هلال الحسن بن عبدالله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري-توفي:نحو: 395هـ/1005م


167-الفروق اللغوية للعسكري (الفرق بين القوم والقرن)

الْفرق بَين الْقَوْم والقرن

أَن الْقرن اسْم يَقع على من يكون من النَّاس فِي مُدَّة سبعين سنة وَالشَّاهِد الشَّاعِر من الطَّوِيل

«إِذْ ذهب الْقرن الَّذِي أَنْت فيهم *** وخلقت فِي قرن فَأَنت غَرِيب» وَسموا قرنا لأَنهم حد الزَّمَأن الَّذِي هم فِيهِ ويعبر بالقرن عَن الْقُوَّة وَمِنْه قَوْله فَإِنَّهَا تطلع بَين قَرْني الشَّيْطَان أَرَادَ أَن الشَّيْطَان فِي ذَلِك الْوَقْت أقوى وَيجوز أَن يُقَال إِنَّهُم سموا قرناء لاقترانهم فِي الْعَصْر وَقَالَ بَعضهم أهل كل عصر قرن وَقَالَ الزّجاج الْقرن أهل كل عصر فِي نَبِي أَو من لَهُ طبقَة عالية فِي الْعَالم فَجعله من اقتران أهل الْعَصْر بَاهل الْعلم فَإِذا كَانَ من زمَان فَتْرَة وَغَلَبَة جهل لم يكن قرنا وَقَالَ بَعضهم الْقرن اسْم من اسماء الأزمنه فَكل قرن سَبْعُونَ وَأَصله من الْمُقَارنَة وَذَلِكَ أَن أهل كل عصر أشكال وانظراء وَردت وأسنان مُتَقَارِبَة وَمن ثمَّ قيل هُوَ قرنة أَي على سنة وَمِنْه قو قرنه لاقترانه مَعَه فِي الْقِتَال وَالْقَوْم هم الرِّجَال الَّذين يقوم بَعضهم مَعَ بعض فِي الْأُمُور وَلَا يَقع على النِّسَاء إِلَّا على وَجه التبع كَمَا قل عز وَجل (كذبت قوم نوح الْمُرْسلين) وَالْمرَاد الرِّجَال وَالنِّسَاء تبع لَهُم الشَّاهِد على مَا قُلْنَاهُ قَول زُهَيْر من الوافر

«وَمَا أَدْرِي وسوف إخال أَدْرِي *** أقوم آل حصن أم نسَاء» فَاخْرُج النِّسَاء من الْقَوْم.

الفروق اللغوية-أبو هلال الحسن بن عبدالله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري-توفي:نحو: 395هـ/1005م


168-المغرب في ترتيب المعرب (‏جمم-‏جم‏)

‏ (‏جمم‏) ‏‏

(‏جَمَّ‏) ‏ الْمَاءُ كَثُرَ جُمُومًا ‏ (‏وَمِنْهُ‏) ‏ إنْ تَغْفِرْ اللَّهُمَّ فَاغْفِرْ جَمًّا أَيْ ذَنْبًا جَمًّا كَثِيرًا و الْجُمَّةَ بِالضَّمِّ مُجْتَمَعُ شَعْرِ الرَّأْسِ وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ الْوَفْرَةِ وَقَوْلُهُ رَأَى لُمْعَةً فَغَسَلَهَا بِجُمَّتِهِ أَيْ بِبِلَّةِ جُمَّتِهِ أَوْ بِمَاءِ جُمَّتِهِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَجُمَامُ الْمَكُّوكِ بِالضَّمِّ مَا عَلَى رَأْسِهِ بَعْدَ الِامْتِلَاءِ فَوْقَ طَفَافِهِ وَالْفَتْحُ وَالْكَسْرُ لُغَةٌ ‏ (‏وَمِنْهُ‏) ‏ قَوْلُهُ فِي الْكَيْلِ وَإِنْ كَانَ يَمْسَحُ عَلَى الْجُمَامِ فَكَذَلِكَ يَعْنِي مَسَحَ الْكَيْلَ عَلَى رَأْسِ الْقَفِيزِ وَكَبْشٌ ‏ (‏أَجَمُّ‏) ‏ لَا قَرْنَ لَهُ وَالْأُنْثَى ‏ (‏جَمَّاءُ‏) ‏ وَجَمْعُهَا جُمٌّ ‏ (‏وَمِنْهُ‏) ‏ تُبْنَى الْمَسَاجِدُ جُمًّا أَيْ لَا شُرَفَ لِجُدْرَانِهَا ‏ (‏الْجَمْجَمَةُ‏) ‏ إخْفَاءُ الْكَلَامِ فِي الصَّدْرِ ‏ (‏وَالْمَجْمَجَةُ‏) ‏ مِثْلُهَا عَنْ الزَّوْزَنِيِّ وَالْجُمْجُمَةُ بِالضَّمِّ عِظَامُ الرَّأْسِ وَيُعَبَّرُ بِهَا عَنْ الْجُمْلَةِ فَيُقَالُ وَضَعَ الْإِمَامُ الْخَرَاجَ عَلَى الْجَمَاجِمِ عَلَى كُلِّ جُمْجُمَةٍ كَذَا‏.

المغرب في ترتيب المعرب-ناصر بن عبدالسيد أبى المكارم ابن على، أبو الفتح، برهان الدين الخوارزمي المُطَرِّزِىّ-توفي: 610هـ/1213م


169-المعجم الغني (ضَمِيرٌ)

ضَمِيرٌ- الجمع: ضَمَائِرُ. [ضمر]: مَا يُضْمِرُهُ الإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ وَيَصْعُبُ الوُقُوفُ عَلَيْهِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالقِيَمِ سَلْبًا أَوْ إِيجَابًا.

1- "حَيُّ الضَّمِيرِ": لَهُ نَفْسٌ تُضْمِرُ حَيَوِيَّةً وَتَيَقُّظًا وَأَنَفَةً.

2- "فَاقِدُ الضَّمِيرِ": لَا شَيْءَ يُحَرِّكُ وَعْيَهُ وَإِدْرَاكَهُ وَإِحْسَاسَهُ.

3- "تَأْنِيبُ الضَّمِيرِ": مَا يُحِسُّهُ الْمَرْءُ مِنْ تَأْنِيبٍ وَعَذَابٍ وَنَدَمٍ نَتِيجَةَ سُلُوكٍ مُشِينٍ قَامَ بِهِ.

4- "وَجَدَهُ مُرْتَاحَ الضَّمِيرِ": هَادِئَ البَالِ.

5- "الضَّميرُ العالَمِيُّ": الشُّعُورُ الدَّوْلِيُّ الْمَبْنِيُّ عَلَى مَبَادِئِ الأَخْلَاقِ وَالقِيَمِ الإِنْسَانِيَّةِ الْمُثْلَى كَمَا تَنُصُّ عَلَيْهَا وَثِيقَةُ حُقُوقِ الإِنْسَانِ.

6- "الضَّمِيرُ فِي النَّحْوِ": هُوَ مَا دَلَّ عَلَى مُتَكَلِّمٍ أَوْ مُخَاطَبٍ أَوْ غَائِبٍ، وَهُوَ إِمَّا ضَمِيرٌ مُنْفَصِلٌ: أَنَا، أَنْتَ، أَنْتِ، هُوَ، هِيَ، هُمَا، هُمْ، هُنَّ. أَوْ مُتَّصِلٌ كَالتَّاءِ: "خَرَجْتُ"، أَوْ. (نَا): "خَرَجْنَا"، أَوِ اليَاءُ: "مُعْجَمِي"، أَوِالكَافُ "مُعْجَمُكَ".

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


170-معجم الرائد (تشبيه)

تشبيه:

1- مصدر: شبه.

2- في علم البيان: هو دلالة على مشاركة أمر لأمر آخر في معنى ما، ويعبر عنها بإحدى أدوات التشبيه ظاهرة أو مقدرة، نحو «وجهه منير كالبدر».

الرائد-جبران مسعود-صدر: 1384هـ/1965م


171-تعريفات الجرجاني (البرزخ)

البرزخ: هو الحائل بين الشيئين، ويعبر به عن عالم المثال، أعني الحاجز من الأجسام الكثيفة وعالم الأرواح المجردة، أعني الدنيا والآخرة.

التعريفات-علي بن محمد الجرجاني-توفي: 816هـ/1413م


172-تاج العروس (ء الهمزة)

الهمزة: ويُعبَّر عنها بالأَلف المَهموزةِ، لأَنها لا تَقومُ بِنفْسِها ولا صُورَةَ لها، فلِذَا تُكْتَبُ مع الضَّمةِ واوًا، ومع الكَسرةِ ياءً، ومع الفتحةِ أَلِفًا.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


173-تاج العروس (أمد)

[أمد]: الأَمَدُ، محرَّكَةً، قال الرّاغب في المفردات: يقال باعتبار الغَايَة والزّمَان، عامّ في الغاية والمبدإِ. ويعَبَّر به مَجازًا عن سائر المدَّة. والأَمَد: المُنتَهَى من الأَعمار.

يقال: ما أَمَدُك؟ أَي مُنتهَى عُمرِك. وفي القرآن {فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} قال شَمِرٌ: الأَمَدُ مُنتهَى الأَجلِ، قال: وللإِنسان أَمَدانِ: أَحدُهما ابتداءُ خَلْقِه الّذي يظهَر عند مَولدهِ، والأَمَدُ الثاني الموتُ. ومن الأَوّل حديث لحجّاج حين سأَلَ الحَسَن فقال له «ما أَمَدُك: قال: سنَتَانِ من خلافةِ عُمرَ»، أَراد أَنّه وُلِدَ لسَنتين بَقِيَتَا من خِلافَةِ عُمَرَ رَضِي الله عنه.

والأَمَدُ: الغَضَبُ. أَمِدَ عَلَيْه كفَرِحَ، وأَبِدَ، إِذا غَضِبَ عَلَيْه.

والآمِدُ، كصاحبٍ: المملوءُ من خَيرٍ أَو شرٍّ. نقله الصَّاغَانيّ. وعن أَبي عَمرٍو: الآمِدُ: السَّفينةُ المشحونةُ، كالآمِدَةِ، والعامِدِ والعامِدةِ.

وآمِدُ: د، بالثُّغُور في ديار بكْر مُجاورةٌ لبلادِ الرُّوم. وفي المراصِد: هي لفظةٌ رُوميَّة، بلد قَديمٌ حَصينٌ رَكِينٌ، مَبنيٌّ بالحجارة السُّود على نَشْز، ودجْلةُ مُحيطةٌ بأَكثرِه، مستديرةٌ به كالهِلالِ، وهي تُسقَى من عيونٍ بقُرْبِه. ونقل شيخُنَا عن بعضٍ أَنّه ضبطه بضَمِّ الميم. قلْت: وهو المشهور على الأَلسنة. قال:

بآمدَ مَرّةً وبرَأْسِ عَينٍ *** وأَحْيانًا بمَيَّافارِقِينَا

ذهبَ إِلى الأَرض أَو البُقْعَة فلم يَصْرِف. وممن نُسِبَ إِليها الإِمَامُ العَلّامَة أَبو محمّدٍ محمود بن مَودُود بن سالمٍ الملقّب بسَيفِ الدِّين، صاحب التصانِيف، كذا في كشف القِنَاع المدني للبدر العَيْنيّ.

والتَّأْمِيدُ: تَبْيينُ الأَمَدِ، كالتأْجِيل تَبيين الأَجلِ، نقله الصاغانيّ.

وسِقَاءٌ مُؤمَّدٌ، كمعظَّم: ما فيه جَرْعَةُ ماءٍ، نقلَه الصاغانيّ.

والأُمْدَة، بالضّمّ: البَقِيَّةُ، نقله الصاغَانيّ؛ أَي من كلِّ شيْ‌ءٍ.

ويقال: له أَمَدٌ مأْمودٌ؛ أَي مُنتَهىً إِليه، نقلَه الصاغانيّ.

وأَمَدُ الخَيلِ في الرِّهان: مَدَافِعُها في السّباق ومنتهَى غاياتِها الّتي تَسبق إِليه. ومنه قَول النابغةِ:

سَبْقَ الجَوادِ إِذَا استَولَى على الأَمَدِ

أَي غَلَب على مُنتَهاه حين سبقَ.

والإِمِّدَانُ، بتشديد الميم، كإِسْحِمَان وإِضْحِيَان: موضع وهو أَيضًا: الماءُ على وَجْهِ الأَرضِ، عن كراع. قال ابن سيده: ولسْت منه على ثقة. ومالَها؛ أَي لهذه الأَلفاظِ الثلاثةِ رابعٌ. ثم إِنّ هذه العبارةَ مأْخوذَةٌ من كتاب الأَبنية لابن القَطّاع، ونصّها: وتأْتي أَبنِيةُ الأَسماءِ على إِفْعِلانٍ، بالكسر، نحو إِسْحِمَان لجبَلٍ بعَينِه، ولَيلة إِضْحيان، وإِمِّدان، بتشديد الميم اسم موضع. فأَمّا الإِمِدَّان، بتشديد الدّال، فهو الماءُ الذي يَنِزّ على وَجْه الأَرض. قال زيد الخَيل:

فأَصْبَحْنَ قد أَقْهَيْن عَنِّي كما أَبتْ *** حِيَاضَ الإِمِدَّانِ الظِّباءُ القَوامحُ

قال شيخنا: فقد أَورده المصنف هنا وسها عنه في بقيّة الموادّ. فإِسْحمان عند ابن القطّاع فيه لُغتانِ، الفتح والكسر، والإِضْحيان فيه لُغة واحدة. والإِمّدان قال فيه: إِنّه بتشديد الميم مع كسر الهمزة، فهي زائدة، فمَوضع ذِكره معروف م د، بميمين ودال، حتى تكون الميمانِ أَصليتين، الأُولى فاءُ الكلمة والثانية عَينها، والهمزة حينئذ زائدةٌ، وهي من باب هذه الأَوزان: ولذلك تَرجم المصنّف في فصل الميم كما يأْتي له في الزيادة. وأَمّا إِذا كانت الهمزة أَصليّة، كما هو نصُّ المصنّف، لذِكْره إِيّاهَا في فَصْلِهَا، فوزنه فِعِلَّان، فلا يكون من هذه المادّة، ولا من هذه الأَوزان، ففي كلام المصنّف كابن القطّاع نظرٌ ظاهر، ولو جرَيْنَا على تْشدِيدِ الدّال، كما قال ابن القطّاع وحَكمْنا بزيادةِ الهمزةِ فيكون موضعه حينئذٍ معروف بلد د، فلا دَخْلَ له هنا. وقد ذكره الجوهريُّ في معروف بلد د، ونَبّه على أَنه إِفعلان، وأورده المصنّف ولم يتعرَّض له بوزْن ولا غيره، والله أَعلم.

وآمِدُ بن البَلَنْدَي بن مالك بن دُعْر، قيل إِليه نُسِبَت مدينَة آمِدَ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


174-تاج العروس (وجد)

[وجد]: وَجَدَ المَطلوبَ والشيْ‌ءِ كوَعَدَ وهذَه هي اللغة المشهورة المتّفق عليها ووَجِدَه مثل وَرِمَ غير مشهورة، ولا تُعرَف في الدواوين، كذا قاله شيخُنَا، وقد وَجَدْت المصنِّفَ ذكَرَها في البصائر فقال بعد أَن ذَكَر المفتوحَ: ووَجِدَ، بالكسر، لُغَةٌ، وأَورده الصاغانيّ في التكملة فقال: وَجِد الشَي‌ءَ، بالكسر، لغة في وَجَدَه يَجِدُه ويَجُدُهُ، بضمّ الجيم، قالَ شيخنا: ظاهره أَنه مُضارعٌ في اللغتينِ السابِقَتينِ، مع أَنه لا قائلَ به، بل هاتانِ اللغتانِ في مُضارِعِ وَجَدَ الضالَّة ونَحْوها، المَفْتوح، فالكسر فيه على القياس لُغَةٌ لجميعِ العَرَب، والضمُّ مع حذفِ الواو لُغَة لبني عامرِ بن صَعْصَعَةَ، ولا نَظِيرَ لَهَا في باب المِثَال، كذا في ديوان الأَدب للفَارابيّ، والمصباح، وزاد الفيُّوميُّ: ووَجْه سُقُوطِ الواو على هذه اللغةِ وُقوعُها في الأَصل بين ياءٍ مفتوحةٍ وكسرةٍ، ثم ضُمَّت الجيم بعد سُقوط الواوِ من غير إِعادتها، لعدمِ الاعتداد بالعارِض، وَجْدًا، بفتح فسكون وجِدَةً، كعِدَة، ووُجْدًا، بالضَّمّ، ووُجُودًا، كقُعُود، ووِجْدَانًا وإِجْدَانًا، بِكَسْرِهما، الأَخِيرة عن ابن الأَعْرابيّ: أَدْرَكَه، وأَنشد:

وآخَر مُلْتَاث يجُرُّ كِساءَه *** نَفَى عَنْه إِجْدَانُ الرِّقِينَ المَلَاوِيَا

قال: وهذا يَدُلّ على بَدَلِ الهمزة من الواوِ المكسورةِ، كما قالوا إِلْدَة في وِلْدَة. واقتصر في الفَصيح على الوِجْدَان، بالكسر، كما قالوا في أَنشَدَ: نِشْدَان، وفي كتاب الأَبنيَة لابن القطّاع: وَجَدَ مَطْلوبَه يَجِدُه وُجُودًا ويَجُدْه أَيضًا، بالضمّ، لُغَة عامِريّة لا نظير لَهَا في باب المِثال، قال لَبِيدٌ وهو عامِرِيٌّ:

لَمْ أَرَ مِثْلَكِ يَا أُمَامَ خَلِيلَا *** آبَى بِحَاجَتِنَا وَأَحْسَنَ قِيلَا

لَوْ شِئْتِ قَدْ نَقَعَ الفُؤَادُ بِشَرْبَةٍ *** تَدَعُ الصَّوادِيَ لَا يَجُدْنَ غَلِيلًا

بِالعَذْبِ مِنْ رَضَفِ القِلَاتِ مَقِيلَةً *** قَضَّ الأَباطِحِ لَا يزالُ ظَلِيلَا

وقال ابْنُ بَرّيّ: الشِّعْرُ لِجَرِيرٍ وليس للبيدٍ، كما زعم الجوهَرِيُّ. قلت: ومثله في البصائر للمُصَنِّف وقال ابن عُدَيْس: هذه لُغَة بني عامرٍ، والبيتُ للبيد، وهو عامِريٌّ، وصرّحَ به الفرَّاءُ، ونقله القَزَّاز في الجامع عنه، وحكاها السيرافيُّ أَيضًا في كتاب الإِقناع، واللِّحْيَانيُّ في نوادِرِه، وكُلُّهم أَنشدوا البَيْتَ، وقال الفَرَّاءُ: ولم نسمع لها بنَظِيرٍ، زاد السيرَافيّ: ويُروَى: يَجِدْن، بالكسر، وهو القياس، قال سِيبويهِ: وقد قال ناسٌ من العرب وَجَد يَجُد، كأَنهم حَذَفوها مِن يَوجُدُ، قال: وهذا لا يكادُ يُوجد في الكلام. قلت: ويفهم من كلام سيبويه هذا أَنها لُغَة في وَجَد بجميع معانِيه، كما جَزَم به شُرَّاح الكتابِ، ونقلَه ابنُ هِشَامٍ اللَّخميُّ في شَرْح الفَصِيح، وهو ظاهرُ كلامِ الأَكثر، ومقتضَى كلام المصنّف أَنها مقصورةٌ على مَعْنَى وَجَدَ المَطلوبَ، ووَجَد عليه إِذا غَضِب، كما سيأْتي، ووافقَه أَبو جَعفر اللَّبْلِيّ في شَرْح الفصيحِ، قال شيخُنَا: وجَعلُها عامَّةً هو الصواب، ويدلُّ له البيتُ الذي أَنشدُوه، فإِن قوله: «لا يَجُدْن غَلِيلًا» ليس بشيْ‌ءٍ مما قَيَّدُوه به، بل هو من الوِجْدَانِ، أَو من معنَى الإِصابة، كما هو ظاهر، ومن الغريب ما نَقَلَه شيخُنَا في آخرِ المادّة في التنبيهات ما نَصُّه: الرابع، وقَعَ في التسهيل للشيخ ابنِ مالكٍ ما يقتضي أَن لُغَة بني عامِرٍ عامَّة في اللسان مُطْلقًا، وأَنَّهُم يَضُمُّون مُضَارِعَه مُطْلَقًا من غيرِ قَيْدٍ بِوَجَدَ أَو غيرِه، فيقولون وَجَد يَجُد ووَعَدَ يَعُدُ، ووَلَد يَلُدُ، ونَحْوها، بضمّ المضارع، وهو عجيبٌ منه رحمه ‌الله، فإِن المعروف بين أَئمّة الصَّرْف وعُلماءِ العَربيَّةِ أَن هذه اللغةَ العامريَّةَ خاصَّةٌ بهذا اللفظ الذي هو وَجَدَ، بل بعضُهم خَصَّه ببعضِ مَعَانِيه، كما هو صَنِيعُ أَبي عُبيدٍ في المُصَنَّف، واقتضاه كلامُ المُصَنِّف، ولذلك رَدّ شُرَّاحُ التسهيل إِطلاقَه وتَعَقَّبُوه، قال أَبو حَيَّان: بنو عامرٍ إِنما رُوِيَ عنهم ضَمُّ عَيْنِ مُضَارعِ وَجَدَ خاصَّةً، فقالوا فيه يَجُدُ، بالضّمّ، وأَنشدوا:

يَدَعُ الصَّوَادِيَ لَا يَجُدْنَ غَلِيلَا

على خلافٍ في رِوَايَةِ البيتِ، فإِن السيرافيّ قال في شرح الكتاب: ويُرْوَى بالكسر، وقد صرَّح الفارَابِيُّ وغيرُه بِقَصْرِ لُغَةِ بني عامرِ بن صَعْصَعَة على هذه اللفظةِ، قال: وكذا جَرَى عليه أَبو الحسن بن عصفور فقال: وقد شَذَّ عن فَعَل الذي فاؤه واوٌ لفظةٌ واحدةٌ، فجاءَت بالضمّ، وهي وَجَد يَجُد، قال: وأَصلُه يَوْجُد فحُذِفت الواو، لكَون الضَّمَّة هنا شاذَّةً، والأَصل الكسْر. قلت: ومثل هذا التعليل صَرَّحَ به أَبو عليٍّ الفارسيُّ قال: ويَجُد كانَ أَصلُه يَوْجُد، مثل يَوْطُؤُ، لكنه لما كان فِعْلٌ يُوْجَدُ فيه يَفْعِل ويَفْعُلُ كأَنَّهم توَهَّموا أَنه يَفْعُل، ولما كان فِعْلٌ لا يُوجَد فيه إِلَّا يَفْعِل لم يَصِحّ فيه هذا.

ووَجَدَ المالَ وغَيْرَه يَجِدُه وجْدًا، مثلَّثَةً وجِدَةً، كعِدَةٍ: اسْتَغْنَى، هذه عبارةُ المُحْكَم، وفي التهذيب يقال: وَجَدْتُ في المال وُجْدًا ووَجْدًا ووِجْدًا ووِجْدَانًا وجِدَةً؛ أَي صرْتُ ذا مالٍ، قال: وقد يُستعمل الوِجْدَانُ في الوُجْدِ، ومنه قولُ العَرَب: «وِجْدَانُ الرِّقِينَ يُغَطِّي أَفَنَ الأَفِينِ».

قلت: وجرى ثعلبٌ في الفصيح بمثْلِ عبارةِ التهذيبِ، وفي نوادِر اللِّحْيَانيِّ: وَجَدْتُ المالَ وكُلّ شيْ‌ءٍ أَجِدُه وَجْدًا ووُجْدًا ووِجْدًا وجِدَةً، قال أَبو جعفرٍ اللَّبْليُّ: وزاد اليزيديُّ في نوادِره ووُجُودًا، قال: ويُقَال وَجَدَ بعد فَقْرٍ، وافتقَرَ بَعْدَ وَجْدٍ. قلْت: فكلام المصنّف تَبَعًا لابنِ سيدَه يقتضِي أَنه يَتَعَدَّى بنفسِه. وكلام الأَزهريّ وثَعْلبٍ أَنه يتعدَّى بِفي، قال شيخُنا: ولا منافاةَ بينهما، لأَن المقصود وَجَدْتُ إِذ كان مَفْعُولُه المالَ بكون تَصريفُه ومصدَرُه على هذا الوَضْعِ، والله أَعلَم.

فتأَمّل، انتهى، وأَبو العباسِ اقتصرَ في الفصيح على قَوْلِه: وَجَدْت المالَ وُجْدًا؛ أَي بالضمّ وجِدَةً، قال شُرَّاحُه: معناه: استَغْنَيْتُ وكَسَبْتُ. قلت: وزاد غيرُه وِجْدَانًا، ففي اللسانِ: وتقول وَجَدْت في الغِنَى واليَسَارِ وُجْدًا ووُجْدَانًا.

ووَجَدَ عَلَيْهِ في الغَضَب يَجِدُ ويَجُدُ، بالوجهينِ، هكذا قاله ابنُ سِيدَه، وفي التكملة: وَجَدَ عليه يَجُدُ لُغَة في يَجِدُ، واقتصر في الفصيحِ على الأَوَّل وَجْدًا بفتح فسكون وجِدَةً، كعِدَةٍ، ومَوْجِدَةً، وعليه اقتصر ثعلبٌ، وذكر الثلاثةَ صاحبُ الواعِي، ووِجْدَانًا، ذكرَه اللحيانيُّ في النوادر وابنُ سِيدَه في نَصِّ عِبارته، ـ والعَجَب من المُصَنِّف كيف أَسْقَطَه مع اقتفائِه كلامَه ـ: غَضِبَ. وفي حديثِ الإِيمان: «إِنِّي سائِلُكَ فلا تَجِدْ عَلَيَّ»؛ أَي لا تَغْضَبْ مِن سُؤَالي، ومنه ‌الحديث: «لم يَجِدِ الصائمُ على المُفْطِرِ» وقد تَكَرَّر ذِكْرُه في الحديث اسْمًا وفِعْلًا ومَصدَرًا، وأَنشدَ اللِّحيانيُّ قولَ صَخْرِ الغَيِّ:

كِلَانَا ردَّ صَاحِبَهُ بِيَأْسٍ *** وتَأْنِيبٍ وَوِجْدَانٍ شَدِيدِ

فهذا في الغَضَب، لأَن صَخْرَ الغَيِّ أَيْأَسَ الحَمَامَةَ مِن وَلَدِهَا فَغَضِبَتْ عليه، ولأَن الحمامةَ أَيأَسَتْه من وَلَده فغَضِبَ عليها، وقال شُرَّاح الفصيحِ: وَجَدْتُ على الرَّجُلِ مَوْجِدَةً؛ أَي غَضِبْتُ عليه، وأَنا واجِدٌ عليه؛ أَي غَضْبَانُ، وحكَى القَزَّازُ في الجامِع وأَبو غالبٍ التِّيّانِيّ في المُوعب عن الفَرَّاءِ أَنه قال: سَمِعْت بعضَهم يقول: قد وَجِدَ، بكسر الجيم، والأَكثر فَتْحُهَا، إِذا غَضَبَ، وقال الزمخشريُّ عن الفراءِ: سَمِعْت فيه مَوْجَدَةً، بفتح الجيم، قال شيخُنَا: وهي غَرِيبَةٌ، ولم يَتَعَرَّض لها ابنُ مالكٍ في الشَّواذِّ، على كَثْرَةِ ما جَمَع، وزادَ القَزَّازُ في الجامِع وصاحِبُ المُوعب كِلاهُمَا عن الفَرَّاءِ وُجُودًا، من وَجَدَ: غَضِبَ؛ وفي الغريب المُصَنَّف لأَبي عُبَيد أَنه يقال: وَجَد يَجِدُ مِن المَوْجِدَة والوِجْدَانِ جَمِيعًا.

وحكى ذلك القَزَّازُ عن الفَرَّاءِ، وأَنشد البيتَ، وعن السيرافيّ أَنه رَوَاه بالكَسْرِ، وقال: هو القياسُ، قال شيخُنَا: وإِنما كانَ القِيَاسَ لأَنه إِذا انضَمَّ الجيمُ وَجَبَ رَدُّ الواوِ، كقولِهم وَجهُ يَوْجُه، مِن الوَجَاهة، ونَحْوه.

ووَجَد به وَجْدًا، بفتح فسكون، فِي الحُبِّ فَقَطْ، وإِنه لَيَجِد بِفُلَانَةَ وَجْدًا شَدِيدًا، إِذا كانَ يَهْوَاها ويُحِبُّهَا حُبًّا شديدًا، وفي حديث وَفْد هَوَازِنَ قَوْلُ أَبي صُرَد: «ما بَطْنُها بِوَالِد، ولا زَوْجُها بِوَاجِد» أَي أَنه لا يُحِبُّهَا، أَوردَه أَبو جَعْفَر اللبليّ، وهو في النهاية، وفي المحكم: وقالتْ شاعِرَةٌ مِن العرب وكَانَ تَزَوَّجَهَا رجُلٌ مِن غَيْرِ بَلَدِهَا فَعُنِّنَ عَنْهَا:

وَمَنْ يَهُدِ لِي مِنْ مَاءِ بَقْعَاءَ شَرْبَةً *** فَإِنَّ لَهُ مِنْ مَاءِ لَينَةَ أَرْبَعَا

لَقَدْ زَادَنَا وَجْدًا بِبَقْعَاءَ أَنَّنَا *** وَجَدْنَا مطَايَانَا بِلِينَةَ ظُلَّعَا

فَمَنْ مُبْلِغٌ تِرْبَيَّ بِالرَّمْلِ أَنَّنِي *** بَكَيْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِعَيْنَيَّ مَدْمَعَا

تقول: من أَهْدَى لِي شَرْبَةَ ماءٍ مِن بَقْعَاءَ على ما هُوَ به مِنْ مَرَارَةِ الطَّعْمِ فإِن له مِن ماءِ لِينَةَ على ما هُوَ به مِن العُذُوبَةِ أَرْبَعَ شَرَبَاتٍ، لأَن بَقْعَاءَ حَبِيبَةٌ إِليَّ إِذْ هِي بَلَدي ومَوْلِدِي، ولِينَةُ بَغِيضَةٌ إِليَّ، لأَن الذي تَزوَّجَني مِن أَهْلِها غيرُ مَأَمُونٍ عَلَيَّ. وإِنما تلك كِنايةٌ عَنْ تَشَكِّيها لهذا الرَّجُلِ حين عُنِّن عَنْهَا. وقولُها: لقد زَادَني حُبًّا لِبَلْدَتِي بَقْعَاءَ هذِهِ أَن هذا الرجُلَ الذي تَزَوَّجَني من أَهلِ لِينَةَ عُنِّنَ عَنِّي، فكانَ كالَمطِيَّةِ الظَّالِعَةِ لا تَحْمِلُ صاحِبَها، وقولها:

فَمَنْ مُبْلِغٌ تِرْبَيَّ...

البيت، تقول: هَلْ مِن رَجُلٍ يُبْلِغُ صاحِبَتَيَّ بالرَّمْلِ أَنَّ بَعْلِي ضَعُفَ عَنِّي وعُنِّنَ فأَوْحَشَني ذلك إِلى أَنْ بَكَيْتُ حَتّى قَرِحَتْ أَجفانِي فزَالَتِ المَدَامِعُ، ولم يَزُلْ ذلك الجَفْنُ الدَّامِعُ، قال ابنُ سِيدَه، وهذه الأَبياتُ قَرَأْتُها على أَبِي العَلاءِ صاعِدُ بنِ الحَسَن في الكِتَاب المَوْسُوم بالفُصُوصِ.

وَكَذَا في الحُزْنِ ولكن بِكَسْرِ ماضِيه، مُرَاده أَن وَجِدَ في الحُزْن مِثْل وَجَدَ في الحُبِّ؛ أَي ليس له إِلَّا مَصْدَرٌ واحِدٌ، وهو الوَجْدُ، وإِنما يخالفه في فِعْلِه، ففِعل الحُبِّ مفتوح، وفِعْل الحُزْن مَكسورٌ، وهو المراد بقوله: ولكن بكسرِ ماضِيه. قال شيخُنا: والذي في الفصيح وغيرِه من الأُمَّهات القديمةِ كالصّحاحِ والعَيْنِ ومُخْتَصر العينِ اقتَصَرُوا فيه على الفَتْح فقط، وكلامُ المصنّف صَرِيحٌ في أَنه إِنما يُقال بالكَسْرِ فقطْ، وهو غَرِيبٌ، فإِن الذين حَكَوْا فيه الكَسْرَ ذَكَرُوه مع الفَتْح الذي وَقَعَتْ عليه كَلِمَةُ الجماهيرِ، نَعمْ حَكَى اللَّحْيَانيُّ فيه الكسْرَ والضَّمَّ في كتابِه النوادِر، فظَنَّ ابنُ سِيدَه أَن الفَتْحَ الذي هو اللغةُ المشهورةُ غير مَسمُوعٍ فيه، واقتصر في المُحكمِ على ذِكْرِهما فقط، دون اللغَةِ المشهورةِ في الدَّوَاوِين، وهو وَهَمٌ، انتهى. قلت: والذي في اللسانِ: وَوَجَدَ الرَّجُلُ في الحُزْنِ وَجْدًا، بالفتح، وَوَجِدَ، كِلَاهُمَا عن اللِّحْيَانيِّ: حَزِنَ. فهو مُخَالِفٌ لما نَقَلَه شَيْخُنَا عن اللِّحْيانيِّ من الكَسْرِ والضّمِّ، فليتأَمَّل، ثم قال شيخُنَا: وابنُ سيده خالَفَ الجُمْهُورَ فَأَسْقَطَ اللُّغَةَ المشهورَةَ، والمُصَنِّف خالَف ابنَ سِيدَه الذي هو مُقْتَدَاه في هذه المادَّةِ فاقتَصَر على الكَسْرِ، كأَنَّه مُرَاعاةً لِرَدِيفه الذي هو حَزِنَ، وعلى كِلِّ حالٍ فهو قُصُورٌ وإِخلالٌ، والكَسْر الذي ذَكَرَه قد حكاه الهَجَرِيُّ وأَنشَدَ:

فَوَاكَبِدَا مِمَّا وَجِدْتُ مِن الأَسَى *** لَدَى رَمْسِه بَيْنَ القَطِيلِ المُشَذَّب

قال: وكأَنَّ كَسْر الجِيمِ مِن لُغَتِه، فتحَصَّل مِن مجموعِ كَلامِهم أَنَّ وَجَدَ بمعنى حَزِن فيه ثلاثُ لُغَاتٍ، الفتْح الذي هو المشهور، وعليه الجمهور، والكسْر الذي عليه اقتصر المُصَنِّف والهَجَرِيّ وغيرُهما، والضمُّ الذي حكاه الِّلحيانيّ في نَوَادِرِه، ونقلَهما ابنُ سِيده في المُحْكَم مقتَصِرًا عليهما.

والوُجْدُ: الغِنَى، ويُثَلَّث، وفي المحكم: اليَسَار والسَّعَةُ، وفي التنزيلِ العزيز: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وقد قُرِئ بالثلاث؛ أَي في سَعَتِكم وما مَلَكْتُم، وقال بعضُهم: مِن مَسَاكِنِكُم. قلت: وفي البصائر: قَرَأَ الأَعْرَجُ ونافِعٌ ويَحْيَى بن يَعْمُر وسَعِيد بن جُبَير وطَاوُوس وابنُ أَبي عَبْلَة وأَبو حَيْوَةَ: «مِنْ وَجْدِكُم»، بالفتح، وقرأَ أَبو الحَسن رَوْحُ بن عبد المُؤْمن: «من وِجْدِكم» بالكسر، والباقُون بالضَّمّ، انتهى، قال شيخُنَا: والضمُّ أَفْصَح، عن ابنِ خَالَوَيْه، قال: ومعناه: من طَاقَتِكُم ووُسْعِكُم، وحكَى هذا أَيضًا اللّحيانيُّ في نَوَادِرِه.

والوَجْدُ، بالفتح: مَنْقَعُ الماءِ، عن الصاغانيِّ، وإِعجام الدال لغةٌ فيه، كما سيأْتي الجمع: وِجَادٌ، بالكسر.

وأَوْجَدَه: أَغْنَاهُ.

وقال اللِّحيانيُّ: أَوْجَدَه إِيَّاه: جَعَلَه يَجِدُه.

وأَوْجَدَ اللهُ فُلانًا مطلُوبَهُ؛ أَي أَظْفَرَهُ به.

وأَوْجَدَه عَلى الأَمْرِ: أَكْرَهَهُ وأَلْجَأَه، وإِعجام الدَّالِ لُغَةٌ فيه.

وأَوْجَدَهُ بَعْدَ ضُعْفٍ: قَوَّاهُ، كآجَدَه والذي في اللسان: وقالُوا: الحَمْدُ للهِ الذي أَوْجَدَني بَعْدَ فَقْر؛ أَي أَغْنَاني، وآجَدَنِي بَعْدَ ضَعْف؛ أَي قَوَّانِي.

وعن أَبي سعيدٍ: تَوَجَّدَ فلانٌ السَّهَرَ وغَيْرَه: شَكَاهُ، وهم لَا يَتَوَجَّدُونَ سَهَرَ لَيْلِهم ولا يَشْكُونَ ما مَسَّهم مِنْ مَشَقَّتِه.

والوَجِيدُ: مَا اسْتَوَى من الأَرْضِ، الجمع: وُجْدَانٌ، بالضَّمّ، وسيأْتي في المُعْجَمَة.

ووُجِدَ الشيْ‌ءُ مِن العَدَمِ، وفي بعضِ الأُمّهات: عن عَدَمٍ، ومثلُه في الصَّحاح كعُنِىَ، فهو مَوجودٌ [مثل]: حُمَّ، فهو مَحْمُومٌ، ولا يُقَال: وَجَدَه الله تَعالى، كما لا يُقَال: حَمَّه اللهُ، وإِنما يقال: أَوْجَدَه الله تَعَالى وأَحَمَّه، قال الفيّومِيّ: الموجود خِلافُ المَعْدُومِ، وأَوْجَد اللهُ الشيْ‌ءَ من العَدَمِ فوُجِدَ فهو مَوْجُود، من النَّوادِر، مثْل أَجَنَّه اللهُ فجُنَّ فهو مَجْنُونٌ، قال شيخُنا: وهذا البابُ من النوادرِ يُسَمِّيه أَئمّةُ الصَّرْفِ والعَربيَّةِ بابَ أَفْعَلْتُه فهو مَفْعُولٌ، وقد عَقَدَ له أَبو عُبَيْدٍ بَابًا مُستقِلًّا في كتابِه الغَرِيب المُصَنَّف وذكر فيه أَلفاظًا منها: أَحَبَّه فهو مَحْبُوبٌ. قلت: وقد سبق البَحْثُ فيه في مواضِعَ مُتَعَدِّدةٍ في ح ب ب. وس موضع د، ون ب ت، فراجِعْه، وسيأْتي أَيضًا.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

الواجِدُ: الغَنِيُّ قال الشاعِر:

الحَمْدُ للهِ الغَنِيِّ الوَاجِدِ

وفي أَسماءِ الله تعالى: الواجِدُ، هو الغَنِيُّ الذي لا يَفْتَقِر.

وقد وَجَدَ يَجِدُ جِدَةً؛ أَي استَغْنَى غِنىً لا فَقْرَ بَعْدَه، قاله ابنُ الأَثير، وفي الحديث: «لَيُّ الوَاجِدِ يُحِلُّ عُقُوبَتَهُ وعِرْضَهُ» أَي القادِر على قَضَاءِ دَيْنِه، وفي حديثٍ آخَرَ: «أَيُّهَا النَّاشِدُ، غَيْرُك الوَاجِدُ» مِنْ وَجَدَ الضّالَّةَ يَجِدُهَا.

وتَوَجَّدْتُ لِفُلانٍ: حَزِنْتُ له.

واستَدْرَك شيخُنَا: الوِجَادَة، بالكسر، وهي في اصْطِلاح المُحَدِّثين اسمٌ لما أُخِذَ من العِلْمِ مِن صَحِيفَةٍ مِن غَيْرِ سَمَاعٍ ولا إِجَازَةٍ ولا مُنَاوَلَةٍ، وهو مُوَلَّدٌ غيرُ مَسموعٍ، كذا في التقريبِ للنووي.

والوُجُدُ، بضمتين، جَمْعُ واجِد، كما في التَّوشيحِ، وهو غَرِيبٌ، وفي الجامع للقَزَّاز: يقولون: لم أَجْدِ مِن ذلك بُدًّا، بسكون الجيم وكسْرِ الدال، وأَنشد:

فَوَ اللهِ لَوْلَا بُغْضُكُمْ ما سَبَبْتُكُمْ *** ولكِنَّنِي لَمْ أَجْدِ مِنْ سَبِّكُمْ بُدًّا

وفي المُفْرَدات للراغب: وَجَدَ اللهُ: عَلِم، حَيْثُمَا وَقَعَ، يعنِي في القُرآنِ، ووافقَه على ذلك الزَّمَخْشَرِيُّ وغيرُه.

وفي الأَساس: وَجَدْت الضَّالَّةَ، وأَوْجَدَنِيه اللهُ، وهو واجِدٌ بِفُلانَةَ، وعَلَيْهَا، وَمُتَوَجِّدٌ.

وَتَوَاجَدَ فُلانٌ: أَرَى مِن نَفْسِه الوَجْدَ.

ووَجَدْتُ زَيْدًا ذَا الحِفَاظِ: عَلِمْتُ.

والإِيجادُ: الإِنشاءُ من غير سَبقِ مِثَالٍ.

وفي كِتَاب الأَفْعَال لابنِ القطَّاع: وأُوْجِدَتِ النّاقَةُ: أُوثِقَ خَلْقُهَا.

تكميل وتذنيب: قال شيخنا نقلًا عن شَرْحِ الفصيح لابنِ هشامٍ اللَّخميِّ: وَجدَ له خَمْسَةُ مَعَانٍ، ذَكرَ منها أَرْبَعَةً ولم يَذكر الخَامِس، وهو: العِلْمُ والإِصابَةُ والغَضَب والإِيسارُ وهو الاستغْنَاءُ، والاهتمام وهو الحُزْن، قال: وهو في الأَوّل مُتَعَدٍّ إِلى مفعولينِ، كقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى. وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى}.

وفي الثاني مُتَعدٍّ إِلى واحِدٍ، كقولِه تعالى: {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفًا}.

وفي الثالثِ متَعدٍّ بحرْف الجَرِّ، كقولِه وَجَدْت على الرَّجُلِ، إِذا غَضِبْتَ عليه.

وفي الوجهين الأَخِيرَين لا يَتَعَدَّى، كقولِك: وَجَدْت في المالِ؛ أَي أَيْسَرْت، ووَجَدْتُ في الحُزْن؛ أَي اغْتَمَمْتُ.

قال شيخُنَا: وبقيَ عليه: وَجَدَ به، إِذَا أَحَبَّه وَجْدًا، كما مَرَّ عن المُصنِّف، وقد استدرَكه الفِهْرِيُّ وغيرُه على أَبي العَبَّاسِ في شَرْحِ الفصيحِ، ثم إِن وَجَدَ بمعنى عَلِمَ الذي قال اللّخميّ إِنه بَقِيَ على صاحِبِ الفصيح لم يَذْكُر له مِثَالًا، وكأَنّه قَصَدَ وَجَدَ التي هي أُخْتُ ظَنَّ، ولذلك قال يَتَعَدَّى لِمَفْعُولينِ، فيبقى وَجَدَ بمعنَى عَلِم الذي يتعدَّى لمفعولٍ واحِدٍ، ذكرَه جمَاعَةٌ، وقَرِيبٌ من ذلك كلامُ الجَلَالِ في هَمْعِ الهَوَامِعِ، وَجَدَ بمعنَى عَلِمَ يتعَدَّى لمفعولينِ ومَصْدَرُه وِجْدَانٌ، عن الأَخْفَش، ووُجُود، عن السيرافيّ، وبمعنى أَصَابَ يتعدَّى لواحِدٍ، ومَصْدرُه وِجْدَانٌ، وبمعنى اسْتَغْنَى أَو حَزِنَ أَو غَضِب لازِمَةٌ، ومصدر الأَوَّل الوَجْد، مثلّثه، والثاني الوَجْدُ، بالفتح، والثالث المَوْجِدَة.

قلت: وأَخْصَرُ من هذا قولُ ابنِ القَطّاعِ في الأَفعال: وَجَدْتُ الشيْ‌ءَ وِجْدَانًا بعد ذَهَابِه وفي الغِنَى بَعْدَ الفَقْرِ جِدَةً، وفي الغَضَب مَوْجِدَةً وفي الحُزْن وَجْدًا حَزِنَ.

وقال المُصَنّف في البصائرِ نقلًا عن أَبي القاسم الأَصبهانيّ: الوُجُودُ أَضْرُبٌ، وُجُودٌ بِإِحْدى الحَوَاسِّ الخَمْسِ، نحو وَجَدْتُ زَيْدًا وَوَجَدْتُ طَعْمَه ورائحتَه وصَوتَه وخُشُونَتَه، ووجُودٌ بِقُوَّةِ الشَّهْوَةِ نحو وَجَدْتُ الشِّبَع، ووُجُودٌ أَمَدَّه الغَضَبُ، كوُجُودِ الحَرْبِ والسَّخَطِ، ووُجُودٌ بالعَقْل أَو بِوسَاطَة العَقْلِ، كمَعْرِفَة الله تعالى، ومَعْرِفَة النُّبُوَّةِ. وما نُسِب إِلى الله تعالى مِن الوُجُود فبِمَعْنَى العِلْمِ المُجَرَّدِ، إِذ كان اللهُ تعالَى مُنَزَّهًا عن الوَصْفِ بالجَوَارِحِ والآلاتِ، نحو قولهِ تَعالى: {وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ} وكذا المعدوم، يقال على ضِدّ هذه الأَوْجُهِ. ويَعبَّر عن التَمَكُّنِ من الشي‌ءِ بالوُجُودِ نحو: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} أَي حَيْثُ رَأَيْتُمُوهُم، وقوله تعالى: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ}، وقوله: {وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ} وقوله: (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ) ووجود بالبصيرة، وكذا قوله: (وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا) وقوله: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) أَي إِن لم تَقْدِروا على الماءِ.

وقال بعضهم: المَوْجُودَات ثلاثةُ أَضْرُبٍ: مَوجُودٌ لا مَبْدَأَ له ولا مُنْتَهَى، وليس ذلك إِلَّا البارِئَ تَعالَى، ومَوْجُودٌ له مَبْدَأٌ ومُنْتَهًى، كالجَوَاهِرِ الدُّنْيَوِيَّة، وموجودٌ له مَبْدَأٌ وليس له مُنْتَهًى، كالنَّاسِ في النّشْأَةِ الآخِرِة، انتهى.

قال شيْخنا في آخِر هذه المادة ما نصُّه: وهذا آخِرُ الجزءِ الذي بخطّ المُصَنّف، وفي أَوّل الذي بَعْدَه: الواحد، وفي آخر هذا الجزءِ عَقِبَ قَوله: وإِنما يقال أَوجَدَه اللهُ، بخط المُصَنّف رَحمه الله تعالى ما نَصُّه: هذا آخِرُ الجُزءِ الأَوَّل من نُسْخَةِ المُصَنِّف الثانِيَة مِن كِتَابِ القَامُوسِ المُحِيط والقَابُوس الوَسِيط في جَمع لُغَاتِ العَرب التي ذَهَبَتْ شَماطِيطَ، فَرغَ منه مُؤَلِّفه مُحمد بن يَعْقُوب بن مُحمّد الفَيْرُوزَاباديّ في ذِي الحِجَّة سنةَ ثمانٍ وسِتّينَ وسَبْعمَائةٍ.

انتهى من خطّه، وانتهى كلام شَيْخِنَا.

قلت: وهو آخِر الجزءِ الثاني من الشَّرْحِ وبه يَكْمُل رُبْعُ الكِتَابِ ما عدَا الكلامَ على الخُطْبَة، وعلى الله التيسيرُ والتَّسْهِيل في تمامه وإِكماله على الوَجْهِ الأَتَمَّ، إِنّه بكُلّ شيْ‌ءٍ قدير، وبكُلِّ فَضْل جَدير، عَلَّقَه بِيَدِه الفَانِيَةِ الفقيرُ إِلى مولاه عَزَّ شَأْنُه مُحمّد مُرْتَضَى الحُسَيني الزَّبيدِيُّ، عُفِيَ عَنه، تَحرِيرًا في التاسِعَة مِن لَيْلَةِ الاثْنَيْنِ المُبَارَكِ عاشِر شهرِ ذِي القِعْدَةِ الحَرَامِ من شهور سنة 1181 خُتِمَتْ بِخَيْرٍ، وذلك بِوكالة الصَّاغَةِ بمصر.

قال مُؤَلِّفه: بلَغ عِرَاضُهُ على التَّكْمِلَة للصاغانيّ في مَجالِسَ آخِرُها يوم الاثنين حادِي عَشَرَ جُمَادَى سنة 1192، وكتبه مُؤَلِّفه محمد مرتضى، غَفَر له بمَنِّه.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


175-تاج العروس (رمز)

[رمز]: الرَّمزُ، بالفَتْح ويُضَمُّ ويُحَرَّك: الإِشارَةُ إِلى شَي‌ءٍ مِمّا يُبَانُ بلَفْظ بأَيّ شي‌ءٍ، أَوْ هو الإِيماءُ بأَيّ شي‌ءٍ أَشرْتَ إِليه بالشَّفَتَيْن أَي تَحْريكهما بكلام غير مفهوم باللَّفْظ من غير إِبانة بصَوت، أَو العَيْنَيْن أَو الحاجِبَيْن أَو الفَمِ أَو اليَدِ أَو اللِّسَان، وهو تَصْوِيتٌ خَفِيّ به كالهَمْس. وفي البَصائِر: الرَّمزُ: الصّوتُ الخَفِيّ، والغَمْزُ بالحاجِب، والإِشارة بالشَّفَة، ويُعَبَّر عن كلِّ إِشارةٍ بالرَّمز، كما عُبِّر عن السِّعَاية بالغَمْز، يَرْمُز، بالضّمّ، ويَرْمِز، بالكَسْر، وكَلَّمَه رَمْزًا.

والرَّمَّازَة، بالتَّشْدِيد: السّافِلَةُ؛ أَي الاسْتُ، لانْضِمامها، وقيل: لأَنَّهَا تَمُوجُ. وفي الحَدِيث: «نَهَى عن كَسْبِ الرَّمّازة» وهي المَرْأَةُ الزّانِيَة ولو قال: والرَّمّازة: الفَقْحَة والقَحْبَة كان أَحسَن لاخْتِصاره، وقال الأَخطل:

أَحادِيثُ سَدَّاها ابنُ حَدْرَاءَ فَرْقَدٌ *** ورَمَّازَةٌ مالَتْ لِمَنْ يَسْتَمِيلُها

قال شَمِر: الرّمّازة هُنَا الفَاجِرَة التي لا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ، وقيل للزَّانِيَة رَمّازة لأَنَّهَا تَرْمُز بِعَيْنِهَا. ومن سَجَعات الأَساس: جارية غَمَّازة بيَدِهَا، هَمَّازة بعَيْنِهَا، لَمَّازة بفَمِها، رَمّازة بحَاجِبِهَا. ويقال: امرأَة رَمَّازَة؛ أَي غَمَّازَة، من رَمَزَتْه المَرْأَةُ بعَيْنِهَا رَمْزًا، إِذا غَمَزَته.

والرَّمّازة: الشَّحْمةُ في عَيْنِ الرُّكْبَة، والذي في اللِّسان والتَّكْملة أَنّ تِلك الشَّحْمة رَامِزَة، وهما رَامِزَتَان، فَفِي كَلَام المُصَنِّف نَظَرٌ من وَجْهَيْن.

والرَّمَّازة: الكَتِيبَةُ الكَبيرَةُ، وهي التي تَرتَمِز من نَوَاحِيها وتَمُوجُ لكَثْرتها؛ أَي تَتَحَرَّكُ وتَضْطَّرِبُ من جَوَانِبها. ومن سَجَعَات الأَساس: شَتّانَ بينَ مُنَازَلَةِ الرّمَّازة ومُغَازَلةِ الرَّمّازة.

والرَّمِيزُ، كَأَمِير: الكَثِيرُ الحَرَكَةِ. والرَّمِيزُ: المُبَجَّلُ المُعَظَّمُ، لأَنَّه يُرْمَزُ إِليه ويُشَار.

وفي التَّهْذِيب عن أَبي زَيْد: الرَّمِيزُ والرَّبيزُ من الرّجالِ: العَاقِلُ الثَّخِينُ. والرَّمِيز: الكَثِيرُ في فَنّه، كالرَّبِيز. وقال أَعرابِيّ لرجُل: أَعْطِني دِرْهَمًا، قال: لقد سَأَلْتَ رَمِيزًا.

الدِّرْهمُ عُشْرُ العَشَرةِ، والعَشَرةُ عُشْرُ المِائةِ، والمِائَةُ عُشْرُ الأَلف، والأَلْفُ عُشْرُ دِيَتِك.

وقال اللّحْيَانيّ: الرَّمِيز: الأَصِيلُ الرّأْيِ والرَّزِينُ الرَّأْيِ الجَيِّدُه، وكذلك الوَزِين والرَّزِينُ.

ورجُلٌ رَمِيزُ الفُؤادِ: ضَيِّقُه، نقله الصاغانِيّ، وكأَنّ المرادَ به مُضْطَرِبُه، ومِن لَازمِ الاضْطرابِ القَلَقُ والضِّيقُ، وقد رَمُزَ رَمَازَةً، ككَرُم كَرامةً، في الكُلِّ ممّا ذَكَرَه من مَعَاني الرَّمِيز.

والرَّامُوز، كقاموس: البَحْرُ العَظِيمُ، لتَمَوُّجِه، وبِه سَمَّى بعضُ عَصْرِيِّي المُصَنِّف من أَهل تُونُس كِتَابَه بالرَّامُوز، وقد اطَّلعْتُ عليه في أَوَّل شَرْحِي هذا فلم أَسْتَفِد منه شَيْئًا، وكأَنّه لم يَطَّلع على هذا الكتاب.

والرَّامُوز: الأَصْلُ، والنَّمُوذَجُ، نقله الصاغانِيُّ وقال: إِنّهَا كلمةٌ مُوَلَّدة.

وارْمَأَزَّ عنه كاقشعَرّ: زَالَ. وارْمَأَزَّ أَيضًا: لَزِمَ مَكانَه لا يَبْرَح، وهو مُرْمَئِزٌّ، قاله الأَصْمَعِيّ ضِدّ. ويقال: ما ارمأَزَّ من مكانِه: ما بَرِحَ. وارْمَأَزَّ: انقَبَضَ ولَزِمَ مَكانَه.

وتَرَمَّزَ من الضَّرْبَة: تَحَرَّكَ منها واضْطَرَب، كارْتَمَزَ، قال:

خَرَرْتُ منها لِقَفَايَ أَرْتَمِزْ

وتَرَمَّزَ القَوْمُ، إِذا تَحَرَّكُوا في مَجَالِسهم لِقِيَامٍ أَو خُصُومةٍ، كارْتَمَزَ. وتَرَمَّزَ، إِذا تَهَيَّأَ وتَحَرَّك. وتَرَمَّزَ، إِذا ضَرِطَ شَدِيدًا. وفي بعض النُّسَخ، ضَرَب، والأُولَى الصوابُ. والذي في اللّسان وغيره: تَرَمَّزَت الاسْتُ: ضَرِطَت ضَرِطًا خَفِيًّا، وهذا أَوفَقُ للُّغَة، فإِن الرَّمزَ هو الصَّوت الخَفِيّ.

والتُّرَامِزُ كعُلَابِط من الإِبل: القَوِيُّ الشَّدِيدُ الذي قد ذَكَّى وتَمَّت قُوَّتُه، قاله أَبو زَيْد، وقيل: هو الذي إِذا مَضَغَ رَأَيتَ دِمَاغَه يَرتَفِع ويَسْفُل. وهو مِثالٌ لم يَذْكُره سِيبَوَيْه، وذهب أَبو بَكْر إِلى أَن التَّاءَ زائدة. وأَما ابنُ جِنّي فجَعَلَه رُباعِيًّا، وقد تقَدَّم للمُصنّف ذلك، وكأَنّه جَمَع بين القَوْلين.

وإِبِلٌ رُمْزٌ، بالضَّمّ: سُحَاحٌ سِمَانٌ، من ذلك.

وهذِه نَاقَةٌ تَرْمُزُ؛ أَي لا تَكادُ تَمشِي من ثِقَلِهَا وسِمَنها، هكذا في سائر النُّسخ كتَنْصُر، والذي يُؤْخَذُ من قَوْل أَبي عَمْرو: جَمَلٌ ترمّز بتَشْدِيد المِيمِ الذي إِذا اعْتَلَف رَأَيْتَ هَامَتَه تَرجُف من شدَّة وَقْعه، وذلك إِذا أَسَنَّ، وقد تَقَدّم الكلامُ فيه في ترمز، فراجِعْه ورَمَزَ غَنَمَه، ظاهِرُه أَنه من باب نَصَر، وليس كَذلك، بل الصّواب رَمَّزَ غَنَمَه تَرْمِيزًا، وكذلك إِبلَه؛ أَي لم يَرْضَ رِعْيَةَ الرَّاعِي فَحَوَّلها إِلى رَاعٍ آخَرَ، هكذا نَصَّ عليه ابنُ الأَعْرابيّ في النّوادر وأَنشد:

إِنا وَجَدْنا ناقَة العَجُوزِ *** خَيْرَ النِّياقاتِ على التَّرميزِ

ورَمَزَ القِرَبَةَ: مَلأَهَا، وهذه أَيضًا الصَّوابُ فيها التَّشْدِيد، وقد تَقَدَّم له في «ر ب ز» بيان ذلك. ورَمَز الظَّبْيُ رَمَزَانًا مُحَرَّكا: نَقَزَ؛ أَي وَثَب. ومن المَجَاز: رَمَز فُلانًا بكَذَا، إِذا أَغْراهُ به.

والرُّمَيْز، كزُبَيْر: العَصَا، لأَنّه يُرْمَز بها للضَّرْب.

* وممّا يُسْتَدْرَك عليه:

رَمَّزَ رَأْيَه تَرْمِيزًا: أَجَادَه. وإِبلٌ مَرامِيزُ: كَثِيرةُ التَّحَرّك، عن ابن الأَعرابيّ.

ويقال: دَخَلْتُ عليهم فَتَغَامَزُوا تَرامَزُوا.

والارتِمَازُ: الحَرَكَةُ الضَّعِيفَةُ، وهي حَرَكَة، الوَقِيذ، ومنه قولهم: ضَربَه حتى خَرَّ يَرْتَمِز للمَوْت، ونَبَّهْته فما ارْتَمَز وما تَرَمَّز؛ أَي ما تَحَرَّك.

ورَمَزَتِ الشَّاةُ: هُزِلَت، وأَنشدَ ابنُ الأَنْبَاريّ:

يُرِيحُ بعد الجِدِّ والتَّرمِيزِ *** إِراحَةَ الجِدَايَةِ النَّفُوزِ

وارتَمَز البَعِيرُ: تَحَرَّكتْ أَرْآدُ لَحْيِه عند الاجْتِرار.

والمُرْتَمِز: الكَبِيرُ في فَنّه، كالمُرْتَبِز.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


176-تاج العروس (أص أصص أصأص)

[أصص]: أَصَّهُ، كمَدَّهُ: كَسَرَه. وأَيْضًا مَلَّسَهُ، والمُسْتَقْبَلُ مِنْهُمَا يَؤُصُّ، كما في العُبَابِ.

وأَصَّ الشَّيْ‌ءُ يَئِصُّ مِنْ حَدِّ ضَرَبَ: بَرَقَ، عن أَبِي عُمَرَ الزّاهِدِ.

وأَصَّتِ النّاقَةُ تَؤُصُّ، بالضَّمِّ قاله أَبُو عَمْرٍو، وحَكَاهُ عَنْهُ أَبُو عُبَيْدٍ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ، وتَئِصُّ ـ بالكَسْرِ، أَصِيصًا، وهذِه عن أَبِي عَمْرٍو أَيْضًا، كَمَا نَقَلَه الصّاغَانِيُّ وضَبَطَه، وقالَ أَبو‌ زَكَرِيّا عِنْدَ قَوْلِ الجَوْهَرِيِّ تَؤُصُّ، بالضَّمِّ: الصَّوابُ تَئِصُّ، بالكَسْرِ؛ لِأَنَّه فِعْلٌ لازِمٌ، وقَالَ أَبْو سَهْلٍ النَّحْوِيُّ: الَّذِي قَرَأْتُه عَلَى أَبِي أُسَامَةَ في الغَرِيبِ المُصَنِّفِ: أَصَّت تَئِصُّ، بالكَسْرِ، وهُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّهُ فِعْلٌ لازِمٌ. قُلْتُ: وقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا الصّاغَانِيُّ، وقَلَّدَه المُصَنِّفُ ـ إِذا اشْتَدَّ لَحْمُهَا وتَلاحَكَتْ أَلْوَاحُهَا. قالَ شَيْخُنَا: لَمْ يَذْكُرْه غَيْرُ المُصَنِّفِ، فهو إِمّا أَنْ يُسْتَدْرَكَ به على الشَّيْخِ ابن مالكٍ في الأَفْعَالِ الَّتِي أَوْرَدَهَا بالوَجْهَيْنِ، أَوْ يُتَعَقَّب المُصَنِّفُ بِكَلامِ ابنِ مالكٍ وأَكْثَرِ الصَّرْفِيِّينَ واللُّغَوِيِّين حَتِّى يُعْرَف مُسْتَنَدَهُ. انتهى.

قُلْتُ: الصَّوابُ أَنَّه يُسْتَدْرَكُ به على ابنِ مالكٍ ويُتَعَقَّب، فإِنّ الضّمَّ نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ عن أَبِي عُبَيْد عَنْ أَبِي عَمْرٍو، والكَسْرَ نَقَلَه الصّاغَانِيُّ عن أَبِي عَمْرٍو أَيْضًا، وصَوَّبَه أَبُو زَكَريّا وأَبُو سَهْلٍ، فَهُمَا روايَتَان، وهذا هُوَ المُسْتَنَدُ، فتأَمّلْ.

وقِيلَ: أَصَّتِ النّاقَةُ، إِذا غَزُرَتْ، قِيلَ: ومِنْهُ أَصْبَهَانُ للبَلَدِ المَعْرُوفِ بالعَجَمُ أَصْلُه: أَصَّتْ بَهَانُ، قالُوا: بَهَان كقَطَام: اسْمُ امرأَةٍ، مبنِيٌّ أَو مُعْرَبٌ إِعْرَابَ ما لا يَنْصَرِفُ؛ أَي سَمِنَتْ المَلِيحَةُ، سُمِّيَتْ المَدِينَةُ بذلِكَ لحُسْنِ هَوائِهَا وعُذُوبَةِ مائها، وكَثْرَةِ فَواكِهِهَا، فخُفِّفَتْ اللَّفْظَةُ بحَذْفِ إِحْدى الصّادَيْنِ والتّاء، وبَيْنَ سَمِنَتْ وسُمِّيَتْ جِناسٌ، وأَمّا ما ذَكَرَه مِنْ صِحَّةِ هَوَائِهَا إِلَى آخِرِهِ، فقَالَ مِسْعَرُ بنُ مُهَلْهِلِ: أَصْبَهَانُ صَحِيحَةُ الهَوَاءِ، نَقِيَّةُ الجَوّ خالِيَةٌ مِنْ جَمِيعِ الهَوَامِّ، لا تَبْلَى المَوْتَى في تُرْبَتِهَا، ولا تَتَغَيّر فِيهَا رَائِحَةُ الَّلحْمِ ولَوْ بَقِيتِ القِدْرُ بعدَ أَنْ تُطْبَخَ شَهْرًا، ورُبَّمَا حَفَرَ الإِنْسَانُ بها حَفِيرَةً فيَهْجِم على قَبْرٍ لَهُ أُلُوفُ سِنَينَ والمَيِّتُ فيها عَلَى حالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وتُرْبَتُهَا أَصَحُّ تُرَبِ الأَرْضِ، ويَبْقَى التُّفّاحُ بِهَا غَضًّا سَبْعَ سِنَينَ، ولا تُسَوِّسُ بِهَا الحِنْطَةُ كَمَا تُسَوّسُ بِغَيْرِها، قالَ ياقُوت: وهِيَ مَدِينَةٌ مَشْهُورَةٌ من أَعْلامِ المُدُنِ، ويُسْرِفُون في وَصْفِ عِظَمِهَا حَتَّى يَتَجَاوَزُوا حَدَّ الاقْتِصَادِ إِلَى غَايَةِ الإِسْرَافِ، وهُوَ اسْمٌ للإِقْلِيمِ بأَسْرِه. قال الهَيْثَمُ بن عَدِيٍّ: وهي سِتَّةَ عَشَرَ رُسْتَاقًا، كُلُّ رُسْتَاقٍ ثَلاثُمِائَةٍ وسِتُّونَ قَرْيَةً قَدِيمةً سِوَى المُحْدِثَةِ، ونَهْرُها المَعْرُوفُ بِزَنْدَ رُوذ في غايَةِ الطِّيبِ والصِّحَّةِ والعُذُوبَةِ، وقَدْ وصَفَتْهُ الشُّعَرَاءُ، فَقَال بَعْضُهُم:

لَسْتُ آسَى مِنْ أَصْبَهَانَ عَلَى شَيْ *** ءٍ سِوَى مَائِهَا الرَّحِيقِ الزُّلَالِ

ونَسِيمِ الصَّبَا ومُنْخَرقِ الرِّي *** حِ وجَوٍّ صافٍ على كُلِّ حالِ

ولَهَا الزَّعْفَرَانُ والعَسَلُ الما *** ذِيُّ والصّافِنَاتُ تَحْتَ الجِلالِ

ولذلكَ‌ قال الحَجّاجُ لبَعْضِ مَنْ وَلاّهُ أَصْبَهَان: قد وَلَّيْتُكَ بَلْدَةً حَجَرُهَا الكُحْلُ، وذُبَابُهَا النَّحْلُ، وحَشيشُهَا الزَّعْفَرَانُ.

قالُوا: ومن كَيْمُوسِ هَوَائِهَا وخاصّيَّتِه أَنّهُ يُبَخِّلُ، فَلا تَرَى بهَا كَرِيمًا، و‌في بَعْضِ الأَخْبَارِ أَنّ الدّجّالَ يَخْرُجُ من أَصْبَهَانَ.

والصَّوَابُ أَنّهَا كَلِمَةٌ أَعْجَمِيَّةٌ، وهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الجَمَاهِيرُ، وصَوَّبَه شَيْخُنَا، قالَ: فحِينَئذٍ حَقُّهَا أَنْ تُذْكَرَ في باب النُّونِ وفَصْل الهَمْزَةِ لأَنّها صارَتْ كَلِمَةً وَاحِدَةً عَلَمًا عَلَى مَوْضعٍ مُعَيِّنٍ، حُرُوفُهَا كُلُّهَا أَصْلِيَّة، ولا يُنْظَرُ إِلَى ما كانَتْ مُفْرَدَاتُهَا، وقَدْ تُكْسَرُ هَمْزَتُهَا، قالَ السُّهَيْلِيُّ في الرَّوْضِ: هكَذَا قَيَّدَه البَكْرِيُّ في كِتَابِه المُعْجَم.

قلتُ: وتَبعَه ابنُ السَّمْعانِيّ، قال ياقُوت: والفَتْحُ أَصَحُّ.

وأَكْثَرُ، وقد تُبْدَلُ باؤُهَا فاءً فيُقَالُ: أَصْفَهَانُ فِيهِمَا، أَيْ في الكَسْرِ والفَتْحِ.

قُلْتُ: وقد تُحْذَفُ الأَلِفُ أَيْضًا، فيَقُولُون: صَفَاهان، كما هو جَارٍ الآنَ عَلَى أَلْسِنَتِهم، قال شيخُنَا: إِنْ أُرِيدَ من الأَجْنَاد الفُرْسَانَ، كَمَا مالَ إِلَيْه السُّهَيْليُّ وحَرّرهُ فَهُوَ ظاهرٌ، وباؤُه حينَئذٍ خالصةٌ، وإِلاّ فَفِيه نَظَرٌ.

قُلْتُ: الَّذِي قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ في الرَّوْضِ في ذِكْرِ‌ حَدِيثِ سَلْمَانَ، رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنه: «كُنْتُ مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَان» ‌ما نَصُّه: وأَصْبَه بالعَرَبِيّة فَرَسٌ، وقِيلَ: هو العَسْكَرُ، فمَعْنَى الكَلِمَةِ: مَوْضِعُ العَسْكَرِ، أَو الخَيْل أَو نَحْو هذا. انْتَهَى، فَلَيْسَ فيه مَا يَدُلُّ على أَنّه أَرادَ من الأَجْنَادِ الفُرْسَانَ، ولا مَيْلَه إِلَيْه، فتَأَمَّلْ. ثُمَّ قَولُ السُّهَيْلِيّ: مَوْضِعُ العَسْكَرِ أَو الخَيْل يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ في اللَّفْظِ ما يَدُلُّ عَلَى المَوْضِعِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بحَذْفِ مُضَافٍ، ثم قَالَ شَيْخُنَا: وفي كَلام ابن أَبي شَرِيفٍ وجَمَاعَةٍ أَنَّهَا تُقَالُ بَيْنَ الباءِ والفَاءِ، وقالَ جَمَاعَةٌ: إِنَّهَا تُقَالُ بالبَاءِ الفَارِسيَّةِ، قال شَيْخُنَا: قُلْتُ: وهُوَ المُرَادُ بأَنَّهَا بَيْنَ الباءِ والفَاءِ. وتَعَقَّبُوه بنَاءً على مَا بَنَوْا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ المُرَادَ الفُرْسَانُ، والأَسْبُ حينَئِذٍ هُوَ الخَيْلُ بالبَاءِ العَرَبيَّةِ، ولكِنْ بالسِّينِ لا الصّادِ، ففِيهِ نَظَرٌ منْ هذا الوَجْه، فَتَأَمَّلْ: انْتَهَى.

قُلْتُ: ما ذَكَرَه ابنُ أَبي شَرِيفٍ: وقال جَمَاعَةٌ مع ما قَبْلَهُ قولٌ واحِدٌ، كَمَا نَبَّه عَلَيْه شيخُنَا عَلَى الصَّوَابِ وأَمّا قَوْلُ شَيْخِنَا في التَّعَقُّبِ عَلَيْه: والأَسْبُ حينَئذٍ، إِلخ، فَفِيه نَظَرٌ؛ لأَنَّ الأَسْبَ اسْمٌ بمَعْنَى الفَرَسِ، بالبَاءِ العَجَمِيَّة لا العَرَبِيّة، وتَعْبِيرُه بالخَيْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنّه اسْمُ جَمْعٍ، ولَيْسَ كَذلِكَ، وفي عِبَارَةِ السُّهَيْلِيّ: وأَصْبَه، بالعَرَبِيَّةِ: الفَرَسُ، كما تَقَدَّم، فظَهَرَ بذلك أَنَّهُ يُقَال أَيْضًا بالصَادِ، وكَأَنَّهُ عنْدَ التَّعْرِيبِ، فتَأَمَّلْ.

وأَصْلُهَا إِسْبَاهانْ جَمْعُ إِسْباه، بالكَسْرِ، وهَان عَلامَةُ الجَمْعِ عِنْدَهُم: أَي الأَجْنَادُ، لأَنَّهُم كانُوا سُكّانَهَا، وقال ابنُ دُرَيْدٍ: أَصْبَهَان اسْمٌ مُرَكَّبٌ؛ لأَنّ الأَصْبَ البَلَدُ بلسَانِ الفُرْسِ، وهان اسمُ الفارِسِ، فكأَنَّهُ يقال بِلادُ الفُرْسانِ، وقَدْ رَدّ عَلَيْهِ ياقُوت، فقَالَ: الصَّوَابُ أَنَّ الأَصْبَ بلُغَةِ الفُرْسِ هو الفَرَسُ، وهان كَأَنَّهُ دَلِيلُ الجَمْعِ، فمَعْنَاهُ الفُرْسَانُ، والأَصْبَهيُّ: الفَارِسُ.

قُلْتُ: وهذا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْه ياقُوت، هُوَ ما يُعْطِيهِ حَقُّ الَّلفْظِ، وقَدْ أَصَابَ المَرْمَى وما أَخْطَأَ، أَوْ لِأَنَّهُمْ كانُوا سُكّانَهَا؛ أَي الأَجْنَاد، فسُمِّيَتْ بهم، بحَذْفِ مُضَافٍ؛ أَي مَوْضِع الأَجْنَادِ، كَمَا تَقَدَّم في قَوْلِ السُّهَيْلِيِّ.

قُلْتُ: والمُرَادُ بتلْكَ الأَجْنَاد هيَ الَّتي خَرَجَتْ عَلَى الضَّحّاكِ وأَجَابَتْهُم النّاسُ حَتَّى أَزالُوا، وأَخْرَجُوا أَفْريدُونَ جَدَّ بَني سَاسَانِ مِنْ مَكْمَنِه، وجَعَلُوه مَلِكًا، وتَوَّجُوه، في قصَّةٍ طَويلَةٍ، ذَكَرَهَا أَرْبَابُ التَّوَارِيخِ، ذاتِ تَهَاوِيلَ وخُرَافَاتٍ، ولِذَا لَمْ يَكُنْ يَحْمِلُ لوَاءَ مُلوكِ الفُرْس مِنْ آلِ سَاسَانَ إِلاَّ أَهْلُ أَصْبَهَانَ، أَشَارَ إِلَيْه ياقُوت.

أَوْ لِأَنَّهُم لَمّا دَعَاهُمْ نُمْرُوذُ إِلَى مُحَارَبَةِ مَنْ في السّمَاءِ، في قصّةٍ ذَكَرَهَا أَهْلُ التَّوَارِيخِ، كَتَبُوا في جَوَابِه: إِسْبَاه آنْ نَه كِهْ با خُدا جَنْكْ كُنَد ‌أَيْ هذا الجُنْد ليسَ مِمَّنْ يُحَارِبُ الله، فآنْ، مَمْدُودًا: اسْمُ الإِشَارَة، ونَهْ بالفَتْحِ: عَلَامَةُ النّفْيِ، وكِهْ بالكَسْرِ: بمَعْنَى الَّذِي، وبَا خُدَا؛ أَي مَعَ الله، وخُدَا بالضّمِّ اسمُ الله، وأَصْلُه خُودَاي، ويَعْنُون بذلِكَ وَاجِبَ الوُجُودِ، وجَنْك، بالفَتْح: الحْرْبُ، وكُنَد، بالضّمِّ وفتحِ النّون: تأْكيدٌ لِمَعْنَى الفِعْلِ، ويُعَبِّرُ بِهِ عن المُفْرَد؛ أَي لَيْسَ مِمّن، ولَوْ لَا ذلِكَ لَكَانَ حَقُّه كُنَنْد، بنُونَيْنِ، نظرًا إِلَى لَفْظ أَسْباهان بمَعْنَى الأَجْنَادِ، فتَأَمَّلْ. ثُمَّ إِنَّ هذا القَوْلَ الَّذِي ذَكَرَه المُصَنِّفُ نَقَلَه ابنُ حَمْزَةَ، وحَكَاه ياقُوت، وقَالَ: قد لَهِجَتْ به العَوَامُّ، ونَصُّ ابنِ حَمْزَةَ: أَصْلُه أَسْبَاهْ آن، أَيْ هُمْ جُنْدُ الله، قالَ يَاقُوت: وما أُشَبِّهُ قَوْلَهُ هذا إِلاَّ بِاشْتِقَاقِ عَبْدِ الأَعْلَى القاصّ حِينَ قِيلَ لَهُ: لِمَ سُمِّيَ العُصْفُور عُصْفُورًا؟ قالَ: لِأَنَّهُ عَصَى وفَرّ، قِيلَ لَهُ: فالطَّفَيْشَلُ؟ قالَ: لأَنّه طَفَا وشَالَ.

أَوْ مِنْ أَصْب، هكذا في سائرِ النُّسَخِ، وقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّه بمَعْنَى الفَرَسِ، وبالسِّينِ أَكْثَرُ في كَلَامِهِمْ، ثم قالَ شَيْخُنَا: فعِنْدِي أَنَّه يُسَلَّمُ عَلَى ما نَقَلُوه، ويَجْعَلُ كُلّه لَفْظًا وَاحِدًا، ويُذْكَرُ في البَابِ الَّذِي يَكُونُ آخِرَ حَرْفٍ منه، والله أَعْلَمُ، ومَا عَدَاه فكُلّه رَجْمٌ بالغَيْب، ووُقُوع في عَيْب. انْتَهَى.

وقَدْ ذَكَرَ حَمْزَةُ بنُ الحَسَنِ في اشْتِقَاقِ هذه الكَلِمَةِ وَجْهًا حَسَنًا، وهُوَ أَنّه اسْمٌ مُشْتَقٌّ من الجُنْدِيَّة، وذلِكَ أَنَّ لَفْظَ أَصْبَهَانَ إِذا رُدَّ إِلَى اسْمِه بالفَارِسِيّةِ كَان: أَسْبَاهان، وهِيَ جَمْعُ أَسْبَاه، وأَسْبَاه: اسْمٌ لِلْجُنْدِ والكَلْبِ، وكَذلِكَ سَك اسمٌ للجُنْدِ والكَلْبِ، وإِنّمَا لَزِمَهُمَا هذان الاسْمَانِ واشْتَرَكَا فِيهِمَا، لأَنّ أَفْعَالَهُمَا الحِرَاسَةُ، فالكَلْبُ يُسَمَّى في لُغَةٍ: سَك، وفي لُغَةٍ: أَسْبَاه، ويُخَفّف، فيُقَالُ: اسْبَهْ، فعَلَى هذا جَمَعُوا هذَيْن الاسْمَيْنِ، وسَمَّوْا بهما بَلَدَيْنِ كانَا مَعْدِنَ الجُنْدِ الأَسَاوِرَةِ، فقالُوا لأَصْبَهَانَ: أَسْبَاهَان، ولِسِجِسْتَانَ سِكَان، وسِكِسْتَان.

قُلْتُ: وهذا الَّذي نَقَلَه أَنّ أَسْبَاهَ: اسْمٌ لِلْكَلْبِ، وأَنَّ سَكْ اسْمٌ للجُنْدِ لَيْسَ ذلكَ مَشْهُورًا في لُغَتِهم الأَصْلِيّة، كمَا راجَعْتُه في البُرْهَانِ القاطِع للتِّبْرِيزِيّ، الَّذِي هو في اللُّغةِ عِنْدَهم كالقامُوسِ عندَنا، فلمْ أَجِدْ فيهِ هذا الإِطْلاق، اللهُمَّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بضَرْبٍ من المَجَازِ، فتَأَمَّلْ.

والَّذِي تَمِيلُ نفْسِي إِليْهِ ما ذَكَرَهُ أَصحابُ السِّيَرِ أَنّها سُمِّيَتْ بأَصْبَهانَ بنِ فَلوُّج بنِ لنطى بنِ يُونانَ بنِ يافِث، وقال ابنُ الكَلْبِيّ: سُمِّيَتْ بأَصْبَهانَ بنِ الفَلُوج بنِ سامِ بنِ نُوحٍ، وقدْ أَغْفَلَه المُصَنِّفُ قُصُورًا، ولمْ يَتنبَّه لِذلِكَ مَنْ تَكَلَّم في هذِه اللَّفْظة، كالبَكْرِيّ، والسُّهيْلِيّ، والمِزِّيّ وابنِ أَبي شَرِيفٍ، وشَيْخِنا وغيرِهِمْ، فاحْفَظْ ذلِكَ، والله أَعْلَم.

قال ياقُوت: وقد خَرَجَ مِنْ أَصْبَهانَ مِنَ العُلمَاءِ والأَئمَّةِ في كُلِّ فَنٍّ ما لَمْ يَخْرُجْ من مَدِينَةٍ من المُدُنِ، وعَلى الخُصُوصِ عُلُوِّ الإِسْنادِ؛ فإِنَّ أَعْمَارَ أَهْلِها تَطُولُ، ولَهُمْ مَع ذلِكَ عِنايَةٌ وَافِرَةٌ لِسَمَاعِ الحَدِيثِ، وبها من الحُفّاظ خَلْقٌ لا يُحْصَوْنَ، ولها عِدّةُ تَوارِيخَ، وقَدْ فَشَا الخرَابُ في هذا الوَقْتِ وقَبْلَه في نَواحِيها، لِكثْرَةِ الفِتَنِ والتّعَصُّبِ بَيْنَ الشّافِعِيّة والحَنَفِيَّة، والحُرُوب المُتَّصِلَةِ بَيْنَ الحِزْبَيْنِ، فكُلَّمَا ظَهَرَتْ طائِفةٌ نَهَبَتْ مَحَلَّةَ الأُخْرَى وأَحْرَقَتها، وخَرَّبَتْها، لا يَأْخُذُهم في ذلِكَ إِلٌّ ولا ذِمَّة، ومع ذلِكَ فَقلَّ أَنْ تَدُومَ بِها دَوْلَةُ سُلْطانِ، أَوْ يُقِيمَ بِها فيُصْلِحَ فاسِدَها، وكذلِكَ الأَمْرُ في رَسَاتِيقِها وقُرَاهَا الَّتِي كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْها كالمَدِينةِ.

قُلْتُ: وهذا الَّذِي ذكرَه ياقُوت كان في سَنةِ سِتِّمِائَةٍ من الْهِجْرَةِ، وأَمَّا الآن وقَبْلَ الآنَ من عَهْدِ الثَّمانِمِائةِ قَدْ غَلَبَ عَلَى أَهْلِها

الرَّفْضُ والتّشَيُّعُ، وطُمِسَت السُّنّةُ فِيها كأَسْترَاباذ، ويَزْدَ، وقُمَّ، وقاشانَ وقَزْوِين وغَيْرِهَا من البِلادِ، فلا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلاّ باللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

وأَصَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا: زَحَمَ، ومِنْهُ الأَصِيصَةُ.

والأَصُوصُ، كصَبُورٍ: النّاقةُ الحَائِلُ السَّمِينةُ، عن أَبِي عَمْرٍو، ومِنْهُ المَثَلُ «أَصُوصٌ عليها صُوصٌ» الصُّوصُ: اللَّئيمُ، يُضْرَبُ للأَصْلِ الكرِيمِ يَظْهرُ منه فرعٌ لئِيمٌ، وقال امْرُؤُ القيْسِ:

فَدَعْها وسَلِّ الهَمَّ عَنْكَ بجَسْرَةٍ *** مُدَاخَلَةٌ صُمُّ العِظامِ أَصُوصُ

وقِيلَ: هِيَ الَّتِي قد حُمِلَ عَلَيْها فلمْ تَلْقَحْ.

وعن ابنِ عَبّادٍ: الأَصُوصُ: اللِّصُّ، يُقال: أَصُوصٌ عَليْها أَصُوصٌ، الجمع: أُصُصٌ، بِضَمَّتَيْنِ.

والأَصُّ مُثَلَّثَةً عن ابنِ مالِكٍ، الكَسْرُ عن الجَوْهَرِيِّ، والفَتْحُ عن الأَزْهَرِيّ: الأَصْلُ، وقِيل: الأَصْلُ الكَرِيمُ، ج: آصَاصٌ، بالمَدّ، كحِمْلٍ وأَحْمَالٍ، وأَنْشد ابنُ دُرَيْدٍ:

قِلالُ مَجْدٍ فَرَعَتْ آصَاصَا *** وعِزَّةٌ قعْسَاءُ لنْ تُناصى

وكذلِك العَصُّ بالعَيْنِ، كمَا سَيأَتي.

والأَصِيصُ، كأَمِيرٍ: الرِّعْدَةُ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.

والأَصِيصُ الذُّعْرُ، يُقال: أَفْلَتَ ولَهُ أَصِيصٌ؛ أَي رِعْدَةٌ، ويُقال: ذُعْرٌ وانْقِبَاضٌ.

والأَصِيصُ أَيْضًا: مَا تَكَسَّرَ من الآنِيَةَ، أَوْ، وفي الصّحاحِ، وهُوَ نِصْفُ الجَرَّةِ، أَوِ الخابِيَةِ تُزْرَعُ فِيهِ الرَّياحِينُ، وأَنْشدَ قَوْلَ عَدِيِّ بنِ زَيْدٍ:

يا ليْت شِعْرِي وأَنا ذُو عَجَّةٍ *** مَتى أَرَى شَرْبًا حَوالَيْ أَصِيصْ

وفي رواية‌... ذُو ضجَّةٍ، وفي أُخْرَى: وآنَ ذُو عَجَّةٍ. قُلْتُ: وهِي لُغَةٌ في أَنا، وهي أَرْبَعُ لُغاتٍ: يُقال: أَنّ قُلْتُ، وأَنا قُلْتُ، وآنَ قُلْتُ، وأَنْ قُلْت، كذا وَجَدْتُه في بَعْضِ حَوَاشِي الصّحاح. قال الجَوْهَرِيُّ، يَعْنِي به أَصْلَ الدَّنِّ.

وقِيل: الأَصِيصُ: مِرْكَنٌ أَو بَاطِيَةٌ شِبْهُ أَصْلِ الدَّنِّ يُبَالُ فِيهِ. وقال خالِدُ بنُ يَزِيدَ: الأَصِيصُ: أَسْفَلُ الدَّنِّ، كانَ يُوضَعُ ليُبالَ فِيهِ، وأَنْشَدَ قولَ عَدِيٍّ السابق، وقال أَبُو الهَيْثَمِ: كانُوا يَبُولُون فِيه إِذا شَرِبُوا، وأَنْشَدَ:

تَرَى فِيهِ أَثْلامَ الأَصيصِ كأَنَّهُ *** إِذا بالَ فِيهِ الشَّيْخُ جَفْرٌ مُغَوَّرُ

وقَالَ عَبْدَةُ بن الطَّبِيبِ:

لَنَا أَصِيصٌ كَجِذْم الحَوْضِ هَدَّمَه *** وَطْءُ الغَزَالِ لَدَيْهِ الزِّقُّ مَغْسُولُ

والأَصِيصُ: البِنَاءُ المُحْكَمُ، كالرَّصيص.

والأَصِيصُ: شَيْ‌ءٌ كالجَرَّةِ لَهُ عُرْوَتَانِ يُحْمَلُ فِيهِ الطِّينُ، كما في اللِّسَانِ والعُبَاب.

والأَصِيصَةُ مِنَ البُيُوتِ: المُتَقَارِبَةُ، بَعْضُها بِبَعْضٍ، ويُقَالُ: هُمْ أَصِيصَةٌ وَاحِدَةٌ؛ أَي مُجْتَمِعُونَ كالبُيُوتِ المُتَلاصِقَةِ.

والتَّأْصِيصُ: الإِيثاقُ، كالتَّأْسِيسِ.

والتَّأْصِيصُ: التَّشْدِيدُ والإِحْكَامُ، وإِلْزَاقُ بَعْضٍ ببَعْضِ.

وعَنِ ابنِ عَبّاد: يُقَال: تَأَصَّصُوا، إِذا اجْتَمَعُوا وتَزَاحَمُوا، كائْتَصُّوا ائْتِصاصًا.

* وممّا يُسْتَدْرَك عَلَيْه:

نَاقَةٌ أَصُوصٌ: شَدِيدَةٌ مُوَثَّقَةُ الخَلْقِ، وقِيل: كَرِيمَةٌ.

والأَصُوصُ: البَخِيلُ.

ويُقَال: جِئْ بهِ من إِصِّكَ، أَيْ من حَيْثُ كان.

وأَنّه لأَصِيصٌ كَصِيصٌ، أَيْ مُنْقَبِضٌ.

ولَهُ أَصِيصٌ، أَيْ تَحَرُّكٌ والْتِوَاءٌ من الجَهْدِ.

وآصُ، بالمَدّ: من مُدُنِ التُّرْكِ، وقد نُسِبَ إِلَيْهَا جماعَةٌ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


177-تاج العروس (سمع)

[سمع]: السَّمْعُ: حِسُّ الأُذُنِ، وهي قُوَّةٌ فيها، بها تُدْرَكُ الأَصْوَات، وفي التَّنْزِيلِ العَزِيز: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} قال ثعلب: أَي خَلَا له فلم يَشْتَغِلْ بغَيْرِه، ويُعَبَّرُ تارَةً بالسَّمْع عن الأُذُن، نحو قوله تعالَى: {خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ} كما فِي المُفْرَداتِ.

وِالسَّمْعُ أَيْضًا: اسْمُ ما وَقَرَ فِيها من شَيْ‌ءٍ تَسْمَعُه، كما فِي اللِّسَانِ.

وِالسَّمْعُ أَيضًا: الذِّكْرُ المَسْمُوعُ الحَسَنُ الجَمِيلُ، ويُكْسَرُ، كالسَّمَاعِ، الفَتْحُ عن اللِّحْيَانِيِّ، والكسرُ سَيَذْكُره المُصَنِّفُ فيما بَعْدُ بمعنَى الصِّيتِ، وشَاهِدُ الأَخِيرِ:

أَلا يَا أُمَّ فارِعَ لا تَلُومِي *** على شَيْ‌ءٍ رَفَعْتُ به سَمَاعِي

وِالسَّمَاع: ما سَمَّعْتَ به فشَاعَ وتُكُلِّمَ به.

وِيكونُ السَّمْعُ للوَاحِدِ والجَمْع، كقَوْلِه تَعالى: {خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ} لأَنَّه في الأَصْلِ مَصْدَرٌ، كما في الصِّحاح، ج: أَسْمَاعٌ، قال أَبُو قَيْسِ بنُ الأَسْلَتِ:

قالَتْ ولم تَقْصِدْ لِقِيلِ الخَنَا *** مَهْلًا فقد أَبْلَغْتَ أَسْمَاعِي

ويُرْوَى: «إِسْمَاعِي» بكسر الهَمْزَة على المَصْدَر وجَمْع القِلَّة أَسْمُعٌ، وجج أَي جَمْع الأَسْمُع كما فِي العُبَابِ، وفي الصّحاح: جَمْع الأسْمَاعِ: أَسامِعُ، ومنه‌الحَدِيثُ: «مَنْ سَمَّعَ الناسَ بعَمَلِه سَمَّعَ الله به أَسامِعَ خَلْقِه، وحَقَّرَه، وصَغَّرَه» يريد أَنّ الله تَعالَى يُسَمِّعُ أَسماع خَلْقه بهذا الرَّجُل يومَ القيَامة.

ويحْتَملُ أَنْ يكونَ أَراد أَنَّ الله يُظْهِرُ للنّاسِ سَرِيرَتَه، ويمْلأُ أَسماعَهُم بما يَنْطوِي عليه من خُبْثِ السَّرائرِ؛ جَزَاءً لعَملِه. ويُرْوَى «سَامِعُ خَلْقِه» برفع العَيْن، فيكون صِفَةً من اللهِ تَعَالَى؛ المَعْنَى: فَضَحَه الله تَعالَى.

سَمِعَ، كعلِمَ سَمْعًا، بالفَتْحِ ويُكْسَرُ، كعَلِمَ عِلْمًا، أَو بالفَتْحِ المَصْدَرُ، وبالكَسْرِ الاسْمُ، نَقَلَه اللِّحْيَانِيُّ في نَوَادِرِهِ عن بَعْضِهِم، وسَماعًا وسَمَاعَةً، وسَمَاعِيَةً ككَرَاهِيَة.

وِتَسَمَّع الصَّوْتَ: مثلُ سَمِع، قال لَبِيدٌ ـ رضِيَ اللهُ عنه ـ يصِفُ مَهَاةً:

وِتَسَمَّعَتْ رِزَّ الأَنِيسِ فَرَاعَها *** عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ والأَنِيسُ سَقَامُها

وِإِذا أَدْغَمْتَ قُلْت: اسَّمَّعَ، وقرأَ الكُوفيُّون، غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ: {لا يَسَّمَّعُونَ}، بتشديدِ السِّينِ والمِيمِ، وفي الصّحاحٍ: يقال: تَسَمَّعْت إِليه، وسَمِعْتُ إِلَيْهِ، وَسَمِعْتُ له، كُلُّهُ بمعنًى واحِدٍ؛ لأَنَّهُ تعالى قال: وقَالُوا {لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ} وقُرِئَ: لا يسمَعُون إِلى المَلإِ الأَعْلَى مُخَفَّفًا.

وِالسَّمْعَة: فَعْلَةٌ من الإِسْمَاع، وبِالكَسْرِ: هَيْئتُه، يُقَالُ: أَسْمَعْتَه سَمْعَةً حَسَنَةً.

وِقولُهُمْ: سَمْعَكَ إِلَيَّ؛ أَي اسْمَعْ مِنِّي، وكذلِكَ سَمَاعِ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ، وسيأْتِي «سَمَاعِ» للمُصَنِّفِ في آخِر المادَّةِ.

وِقالُوا: ذلِكَ سَمْعَ أُذْنِي، بالفَتْحِ ويُكْسَر، وسَمَاعَهَا وسَمَاعَتَهَا؛ أَي إِسْمَاعَها قال:

سَماعَ اللهِ والعُلَمَاءِ إِنِّي *** أَعُوذُ بخَيْرِ خالِكَ يا ابْنَ عَمْرِو.

أَوْقَع الاسمَ مَوْقِعَ المَصْدَرِ، كأَنَّه قال: إِسْماعًا عَنِّي، قال:

وِبَعْدَ عَطَائِكَ المِائَةَ الرِّتَاعَا

قال سِيبَوَيْهٌ: وإِن شِئْتَ قُلْتَ: سَمْعًا، قالَ سِيبَوَيْهٌ أَيضًا: ذلِكَ إِذا لم تَخْتَصِصْ نَفْسَكَ، غير المستعملِ إِظْهَارُه.

وِقَالُوا: أَخَذْتُ ذلِكَ عَنْه سَمْعًا وسَمَاعًا، جاءُوا بالمَصْدَرِ عَلَى غيرِ فِعْلِه وهذا عِنْدَهُ غيرُ مُطَّرِدٍ.

وِقالُوا: سَمْعًا وطَاعَةً مَنْصُوبانِ على إِضْمارِ الفِعْلِ، والَّذِي يُرْفَعُ عليه غَيْرُ مستَعمَلٍ إِظهارُه، كما أَنَّ الذي يُنْصَب عليه كذلِكَ، ويُرْفَعُ أَيْضًا فيهما؛ أَي أَمْرِي ذلِكَ، فرفع في كُلِّ ذلِكَ.

وِسَمْعُ أُذُنِي فُلانًا يقولُ ذلِكَ، وسَمْعَةُ أُذُنِي، ويُكْسَرَانِ.

قال اللِّحْيَانِيُّ: ويُقَال: أُذُنٌ سَمْعَةٌ، بالفَتْحِ، ويُحَرَّكُ، وكَفَرِحَةٍ، وشَرِيفَةٍ، وشَرِيفٍ، وسامِعَةٌ وسَمّاعَةٌ وسَمُوعٌ، كصَبُورٍ وجَمْعُ الأَخِيرَةِ: سُمُعٌ، بضَمَّتَيْنِ.

وِيُقَال: مَا فَعَله رِيَاءً ولا سَمْعَةً بالفَتْحِ، ويُضَمُّ، ويُحَرَّكُ، وهي ما نُوِّهَ بذِكْرِهِ، لِيُرَى ويُسْمَع، ومنه حَدِيثُ عُمَرَ رضِي الله عنه: «من النّاسِ مَنْ يُقَاتِلُ رِيَاءً وسُمْعَةً، ومنهُم من يُقَاتِلُ وهو يَنْوِي الدُّنْيَا، ومِنْهُم من أَلْجَمَهُ القِتَالُ فلم يَجِدْ بُدًّا، ومِنْهُم مَنْ يُقَاتِلُ صابِرًا مُحْتَسِبًا أُولَئِكَ هُمُ الشُّهَدَاءُ» والسُّمْعَةُ: بمَعْنَى التَّسْمِيعِ، كالسُّخْرَةِ بمَعْنَى التَّسْخِيرِ.

وِرَجُلٌ سِمْعٌ، بالكَسْرِ: يُسْمَعُ، أَو يُقَالُ: هذا امْرُؤٌ ذُو سِمْعٍ، بالكسْرِ، وذُو سَمَاعٍ إِمّا حَسَنٌ وإِمّا قَبِيحٌ، قالَهُ اللِّحْيَانِيُّ.

وِفي الدُّعَاءِ: اللهُمَّ سِمْعًا لا بِلْغًا، ويُفْتَحَانِ، وكذا سِمْعٌ لا بِلْغٌ، بكسرِهِمَا، ويُفْتَحَانِ، ففيه أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، ذَكَر أَحَدَها الجَوْهَرِيُّ، وهو «سِمْعًا لا بِلْغًا» بالكَسْرِ مَنْصُوبًا؛ أَي يُسْمَعُ ولا يَبْلُغ، أَو يُسْمَعُ ولا يُحْتَاجُ إِلى أَنْ يُبَلَّغَ، أَو يُسْمَعُ به ولا يَتِمُّ الأَخِيرُ نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ، أَو هو كلامٌ يَقُولُه من يَسْمَعُ خَبَرًا لا يُعْجِبُه قاله الكِسَائِيُّ؛ أَي أَسْمَعُ بالدَّوَاهِي ولا تَبْلُغُنِي.

وِالمِسْمَعُ، كمِنْبَر: الأُذُنُ، وقِيلَ: خَرْقُهَا، وبها شُبِّه حَلْقَةُ مِسْمَعِ الغَرْب، كما في المُفْرَدَاتِ، يُقَال: فُلانٌ عَظِيمُ المِسْمَعَيْنِ؛ أَي عظيمُ الأُذُنَيْن، وقيل للأُذُن: مِسْمَعٌ؛ لأَنَّهَا آلَةٌ للسَّمْعِ كالسّامِعَةِ، قالَ طَرَفَةُ يَصِفُ أُذُنَيْ نَاقَتِه:

مُؤَلَّلَتانِ تَعرِفُ العِتْقَ فِيهِما *** كسَامِعَتَيْ شَاةٍ بحَوْمَلَ مُفْرَدِ

كما في الصّحاحِ، ج: مَسَامِعُ، ورُوِيَ أَنَّ أَبا جَهْلٍ قال: «إِنَّ مُحَمَّدًا قد نَزَلَ يَثْرِبَ، وإِنَّهُ حَنِقٌ عليكم؛ نَفَيْتُموه نَفْيَ القُرَادِ عن المَسَامِع» أَي أَخْرَجْتُمُوه إِخْرَاجَ اسْتِئْصالٍ؛ لأَنَّ أَخْذَ القُرَاد عن الدّابَّةِ هو قَلْعُهُ بكُلِّيَّتِهِ، والأُذُن أَخَفُّ الأَعْضَاءِ شَعَرًا، بل أَكْثَرُهَا لا شَعرَ عليهِ، فيكونُ النَّزْعُ مِنْهَا أَبْلَغَ. قال الصّاغَانِيُّ: ويَجُوزُ أَن يَكُونَ المَسَامِعُ جَمْعَ سَمْعٍ على غَيْرِ قِيَاسٍ، كمَشَابِهَ ومَلَامِحَ، في جَمْعَي: شِبْه ولَمْح.

وِمن المَجَاز: المِسْمَعُ: عُرْوَةٌ تكونُ في وَسَطِ الغَرْبِ يُجْعَلُ فِيها حَبْلٌ؛ لِتَعْتَدِلَ الدَّلْوُ، نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ، وأَنْشَدَ للشَّاعِرِ، وهُوَ أَوْسٌ، وقيلَ: عبدُ الله بنُ أَبِي أَوْفَى:

نُعَدِّلُ ذا المَيْلِ إِنْ رَامَنَا *** كمَا عُدِّلَ الغَرْبُ بالمِسْمَعِ

وقِيلَ: المِسْمَعُ: مَوْضِع العُرْوَةِ من المَزَادَةِ، وقيل: هو ما جَاوَزَ خُرْتَ العُرْوَة.

وِقال ابنُ دُرَيْدٍ: المِسْمَعُ: أَبو قَبِيلَةٍ من العَرَبِ وهُمُ المَسَامِعَةُ، كما يُقَال: المَهَالِبَةُ، والقَحَاطِبَةُ.

وقال اللِّحْيَانِيُّ: هم من بَنِي تَيْمِ الّلاتِ.

وِقال الأَحْمَرُ: المِسْمَعَانِ: الخَشَبَتانِ اللَّتَانِ تُدْخَلانِ في عُرْوَتِي الزَّبِيلِ إِذا أُخْرِجَ به التُّرَابُ من البِئرِ، وهو مَجازٌ.

وِالمَسْمَعُ، كمَقْعَدٍ: المَوْضِعُ الّذِي يُسْمَعُ منه، نَقَلَهُ ابنُ دُرَيْدٍ، قال: وهو من قَوْلِهم: هو مِنِّي بمَرْأَى ومَسْمَعٍ؛ أَي بِحَيْثُ أَراهُ وأَسْمَعُ كَلامَهُ، وكذلِكَ هو مِنِّي مَرْأًى ومَسْمَعٌ، يُرْفَع ويُنْصَبُ، وقد يُخَفِّفُ الهَمْزةَ الشاعِرُ، قال الحَادِرَةُ:

مُحْمَرَّةِ عَقِبَ الصَّبُوحِ عُيُونُهُمْ *** بِمَرًى هُنَاكَ من الحَيَاةِ ومَسْمَعِ

وِيُقَال: هُوَ خَرَج بَيْنَ سَمْعِ الأَرْضِ وَبَصَرِهَا، قال أَبو زَيْدٍ: إِذا لَمْ يُدْرَ أَيْنَ تَوَجَّهَ، أَو مَعْنَاهُ: بينَ سَمْعِ أَهْلِ الأَرْضِ وأَبْصَارِهم، فحُذِفَ المُضَافُ، كقوله تَعَالَى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} أَي أَهْلَها، نَقَلَه أَبو عُبَيْد أَو معنى لَقِيتُه بَيْنَ سَمْعِ الأَرْضِ وبَصَرِهَا؛ أَي بأَرْضٍ خَالِيَةٍ ما بَها أَحَدٌ، نقله ابنُ السِّكِّيتِ قالَ الأَزْهَرِيُّ: وهو صَحِيحٌ يَقْرُبُ من قولِ أَبِي عُبَيْدٍ. أَي لا يَسْمَعُ كَلامَه أَحَدٌ، ولا يُبْصِرُه أَحَدٌ، هو مَأْخُوذٌ من كَلامِ أَبي عُبَيْدٍ في تَفْسِيرِ حَدِيثِ قَيْلَةَ بنتِ مَخْرَمَةَ، رضِيَ الله عنها قَالَت: «الوَيْلُ لأُخْتِي لا تُخْبِرْها بكذا، فتَتَّبعَ أَخَا بَكْرِ بن وائلٍ بَيْنَ سَمْع الأَرْضِ وَبَصَرهَا» قال: معناه أَنَّ الرَّجُلَ يَخْلُو بها ليسَ مَعَها أَحَدٌ يَسْمَعُ كلامَها، أَو يُبْصِرُهَا إِلّا الأَرْضُ القَفْزُ، ليس أَنَّ الأَرْضَ لها سَمْعٌ وَبَصَرٌ، ولكِنَّهَا وَكَّدَت الشَّناعَةَ في خَلْوَتِها بالرَّجُلِ الذي صَحِبَها. أَو سَمْعُهَا وَبَصَرُهَا: طُولُهَا وعَرْضُها، وهو مَجَازٌ، قالَ أَبو عُبَيْد: ولا وَجْهَ له، إِنَّمَا مَعْنَاهُ الخَلَاء.

وِيُقَال: أَلْقَى نَفْسَه بين سَمْعِ الأَرْضِ وبَصَرِهَا، إِذا غَرَّرَ بِها، وأَلْقَاهَا حَيْثُ لا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ، قاله ثَعْلَبٌ وابنُ الأَعْرَابِيِّ، أَو أَلْقاها حيثُ لا يُسْمَعُ صَوْتُ إِنْسَانٍ، ولا يُرَى بَصَرُ إِنْسَانٍ. وهو قَرِيبٌ من قولِ ثَعْلَبٍ.

وَسَمَّوْا سَمْعُونَ، وسَمَاعَةَ ـ مُخَفَّفَةً ـ وسِمْعَانَ، بالكَسْرِ والعَامَّةُ تَفْتَحُ السِّينَ، وسُمَيْعًا كزُبَيْرٍ فمن الأَوّلِ: أَبُو الحُسَيْنِ بنُ سَمْعُونَ الوَاعِظُ مَشْهُور، وأَخُوه حَسَنٌ من شُيُوخِ ابن الأَبنُوسيّ. وفي سِمْعَان قال الشّاعِرُ:

يا لَعْنَةُ الله والأَقْوَامِ كُلِّهم *** وِالصَّالِحِينَ عَلَى سِمْعَانَ من جَارِ

حَذَفَ المُنَادَى، ولَعْنةُ: مرفُوعٌ بالابْتِدَاءِ، وعلى سِمْعَانَ: خَبَرُه، ومِنْ جارِ: تمييزٌ، كأَنَّهُ قال: على سِمْعَانَ جَارًا.

وِدَيْرُ سِمْعَانَ، بالكسرِ: موضع، بحَلَبَ.

وِدَيْرُ سِمْعَانَ أَيْضًا: موضع، بحِمْصَ، به دُفِنَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ، رَحِمَهُ الله تَعَالَى، وقد تَقَدَّمَ ذِكْر الدَّيْرِ في «د ى ر» وقِيلَ: سِمْعَانُ هذا كانَ أَحَدَ أَكابِر النَّصَارَى، قال له عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ: يا دَيْرَانِيُّ، بَلَغَنِي أَنَّ هذا الموضِعَ مِلْكُكُم، قال: نَعَمْ. قال: أُحِبُّ أَنْ تَبِيعَنِي مِنْه مَوْضِعَ قَبْرٍ سَنَةً، فإِذا حالَ الحَوْلُ فانْتَفِع به. فَبَكَى الدَّيْرَانِيُّ، وبَاعَه، فدُفِنَ فيهِ، قال كُثَيِّرٌ:

سَقَى رَبُّنا مِنْ دَيْرِ سِمْعَانَ حُفْرَةً *** بها عُمَرُ الخَيْرَاتِ رَهْنًا دَفِينُها

صَوَابِحَ مِنْ مُزْنٍ ثِقَالًا غَوَادِيًا *** دَوَالِحَ دُهْمًا مَاخِضَاتٍ دُجُونُها

وِمُحَمّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ سِمْعَانَ، بالكَسْر، السِّمْعَانِيُّ أَبو مَنْصُورٍ: مُحَدِّثٌ، عن مُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ بنِ عبدِ الجَبّارِ، وعنه عبدُ الوَاحِدِ المَلِيحِيُّ. وبِالفَتْحِ، ويُكْسَر، واقْتَصَرَ الحَافِظُ على الفَتْحِ: الإِمامُ أَبُو المُظَفَّرِ مَنْصُورُ بنُ مُحَمَّد بنِ عَبْدِ الجَبّارِ بنِ سَمْعَان السَّمْعَانِيُّ، وابنُه الحافِظُ أَبُو بكْرٍ مُحَمَّدٌ وآل بَيْتِهِ.

وِالسَّمِيعُ، كأَمِير: المُسْمِعُ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ، وأَنْشَدَ لعَمْرِو بن مَعْدِيَكَرِبَ:

أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدّاعِي السَّمِيعُ *** يُؤَرِّقُنِي وأَصْحَابِي هُجُوعُ

قال الأَزْهَرِيُّ: العَجَبُ من قَوْمٍ فَسَّرُوا السَّمِيعَ بمَعْنَى المُسْمِعِ فِرَارًا من أَنْ يُوصَفَ الله تَعَالَى بأَنَّ له سَمْعًا، وقد ذَكَرَ الله تَعالَى [الفِعْلَ] في غيرِ مَوْضِعٍ من كتابِه، فهو سَمِيعٌ: ذُو سَمْعٍ بلَا تَكْيِيفٍ ولا تَشْبِيهٍ بالسَّمْعِ من خَلْقِه، ولا سَمْعُه كسَمْعِ خَلْقهِ، ونحنُ نَصِفُه كما وَصْفَ به نَفْسَه بلا تَحْدِيدٍ ولا تَكْيِيفٍ، قال: ولَسْتُ أُنْكِرُ في كَلامِ العَرَبِ أَنْ يَكُونَ السَّمِيعُ سَامِعًا أَو مُسْمِعًا، وأَنْشَدَ: «أَمِنْ رَيْحَانَة...» قالَ، وهو شاذٌّ والظاهِرُ الأَكْثَرُ من كَلامِ العَرَبِ أَنْ يكونَ السَّمِيعُ بمَعْنَى السّامِع مثال: عَليمٍ وعالِم، وقَدِيرٍ وقادِرٍ.

وِالسَّمِيعُ: الأَسَدُ الّذِي يَسْمَع الحِسَّ حِسَّ الإِنْسَانِ والفَرِيسَةِ من بُعْدٍ، قالَ:

مُنْعَكِرُ الكَرِّ سَمِيعٌ مُبْصِرُ

وِأُمُّ السَّمِيعِ، وأُمُّ السَّمْعِ: الدِّماغُ، كما في العُبَابِ، وعَلَى الأَخِيرِ اقْتَصَرَ الزَّمْخَشْرِيُّ، قال: يُقَالُ: ضَرَبَه على أُمِّ السَّمْعِ.

وِالسَّمْعُ، مُحَرَّكَةً، كما ضَبَطَهُ الصّاغَانِيُّ، أَو كعِنَبٍ، كما ضَبَطَه الحافِظ، هو ابنُ مَالِكِ بنِ زَيْدِ بنِ سَهْل بنِ عَمْرِو بنِ قَيْسِ بنِ مُعَاويَةَ بن جُشَمَ بنِ عَبْدِ شَمْسِ بنِ وائلِ بنِ الغَوْثِ بن قَطَنِ بن عَرِيبِ بن زُهَيْرِ بنِ أَيْمَنَ بنِ الهَمَيْسَعِ بنِ حِمْيَرَ: أَبو قَبِيلة من حِمْيَرَ، مِنْهُم أَبُو رُهْمٍ، بضَمِّ الرّاءِ، أَحْزَابُ بنُ أَسِيدٍ كأَمِيرٍ الظَّهْرِيُّ، وشُفْعَةُ، بضَمّ الشّين المعجمة، السَّمَعِيّان التّابِعِيّانِ. قلتُ: وقالَ الحافِظُ في التَّبْصِيرِ: قيلَ: لأَبِي رُهْمٍ صُحْبَةٌ، وقال ابنُ فَهْدٍ: أَبو رُهْمٍ السَّمَعِيُّ ذكرَهُ ابنُ أَبي خَيْثَمَةَ في الصَّحَابَةِ، وهو تَابِعِيٌّ اسمُه أَحْزَابُ بنُ أَسِيد، ثم قال بَعْدَه: أَبو رُهْمٍ الظَّهْرِيُّ: شيخُ مَعْمَر، أَوْرَدَه أَبو بَكْرِ بنُ أَبِي عليٍّ في الصَّحَابَةِ، وقد تَقَدَّمَ ذِكْرُه في «ظ هـ ر» بأَتَمَّ من هذا، فراجِعْه، وجَعَله هُنَاكَ صحابِيًّا.

وِمُحَمَّدُ بنُ عَمْرو السَّمَعِيُّ، ضَبَطَه الحافِظُ بالتَّحْريك، من أَتْبَاع* التّابِعِينَ، شيخٌ للوَاقِدِيِّ، وعلى ضَبْطِ الحَافِظِ فهو من الأَنْصَارِ، لا مِنْ حِمْيَرَ، وقد أَغْفَلَه المُصَنِّفُ، وسَيَأْتِي، فتَأَمَّل.

وِعبدُ الرَّحْمنِ بنُ عَياشٍ الأَنْصَارِيُّ ثمّ السَّمَعِيُّ، مُحَرَّكَةً، المُحَدِّثُ عن دَلْهَمِ بنِ الأَسْوَد، أَو يُقَال في النِّسْبَةِ أَيضًا: سِمَاعِيٌّ، بالكَسْرِ، وهكَذا يَنْسُبونَ أَباهُم المَذْكُور.

وِالسُّمَّعُ، كسُكَّرٍ: الخفِيفُ، ويُوصَفُ به الغُولُ، يُقَال: غُولٌ سُمَّعٌ، وأَنْشَدَ شَمِرٌ:

فَلَيْسَتْ بإِنْسَان فيَنْفَعَ عَقْلُه *** وِلكِنَّهَا غُولٌ من الجِنَّ سُمَّعُ

وِالسَّمَعْمَعُ: الصَّغِيرُ الرَّأْسِ، وهو فعَلْعَلٌ، نقله الجَوْهَرِيُّ.

أَو: الصَّغِيرُ اللِّحْيَةِ، عن ابنِ عَبّادٍ، هكَذَا نَقَله الصّاغانِيُّ عنه، وهو تَحْرِيفٌ منهما، وصَوَابُه: والجُثَّةِ؛ أَي الصَّغِيرُ الرَّأْسِ والجُثَّةِ، الدّاهِيَةُ، هكَذَا بِغَيْرِ واوٍ، فتأَمَّلْ.

وِالسَّمَعْمَع: الدّاهِيَةُ، وعن ابْنِ عَبّاد أَيْضًا: الخَفِيفُ اللَّحْم السَّرِيعُ العَمَلِ، الخَبِيثُ اللَّبِقُ ويُوصَفُ به الذِّئْبُ، ومنه‌قولُ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقّاصٍ رضِيَ الله عنه: «رَأَيْتُ عَلِيًّا ـ رضِيَ الله عنه ـ يومَ بَدْرٍ وهو يَقُولُ:

ما تَنْقِمُ الحَرْبُ العَوَانُ مِنِّي *** بازِلُ عامَيْنِ حَدِيثٌ سِنِّي

سَمَعْمَعٌ كأَنَّنِي من جِنِّ *** لِمِثْلِ هذَا وَلَدَتْنِي أُمِّي

ومنه أَنَّ المُغِيرَةَ سأَلَ ابنَ لِسَانِ الحُمَّرَةِ عن النِّسَاءِ، فقال: النِّسَاءُ أَرْبَع: فرَبِيعٌ مَرْبَع، وجَمِيعٌ تَجْمَع، وشَيْطَانٌ سَمَعْمَع، وغُلٌّ لا تُخْلَع، فقال: فَسِّرْ، قال: الرَّبِيعِ المَرْبَع: الشابَّةُ الجَمِيلَةُ التي إِذا نَظَرْتَ إِليها سَرَّتْكَ، وإِذا أَقْسَمْتَ عليها أَبَرَّتْكَ، وأَمّا الجَمِيعُ التي تَجْمَع: فالمَرْأَةُ تَزَوَّجُها ولَكَ نَشَبٌ، ولها نَشَبٌ، فتَجْمَعُ ذلِك. وأَما الشَّيْطَان السَّمَعْمَع فهي: المَرْأَةُ الكالِحَةُ في وَجْهِك إِذا دَخَلْتَ، المُوَلْوِلَةُ في أَثَرِكَ إِذا خَرَجْتَ. قال: وأَمَّا الغُلُّ التي لا تُخْلَع، فبِنْتُ عَمِّك القَصِيرَةُ الفَوْهَاءُ، الدَّمِيمَةُ السَّوْداءُ، التي نَثَرَتْ لك ذا بَطْنِهَا، فإِن طَلَّقْتَهَا ضاعَ وَلَدُك، وإِنْ أَمْسَكْتَهَا أَمْسَكْتَها على مِثْلِ جَدْعِ أَنْفِكَ.

وِقال غَيْرُه: السَّمَعْمَعُ: الرَّجُلُ الطَّوِيلُ الدَّقِيقُ، وهي بهاءٍ.

وِامرأَةٌ سِمْعنَّةٌ نِظْرَنَّةٌ، كقِرْشَبَّةٍ؛ أَي بكَسْرِ أَوّلهما، وفَتْح ثَالِثِهما، وهو قولُ الأَحْمَرِ وطُرْطُبَّة. أَي بضمِّ أَوّلهما، وهو قولُ أَبي زَيْدٍ وتُكْسَر الفاءُ والَّلام، وقد تَقَدَّم في: ن ظ ر بيانُ ذلكَ ويُقَال فيها: سِمْعَنَةٌ كخِرْوَعَةٍ، مُخَفَّفَةَ النُّونِ؛ أَي مُسْتَمِعَةٌ سَمّاعَةٌ، وهي الَّتِي إِذا تَسَمَّعَت أَو تَبَصَّرَتْ فلَمْ تَسْمَعْ ولم تَرَ شيئًا تَظَنَّتْه تَظَنِّيًا، وكان الأَحْمَرُ يُنْشِدُ:

إِنَّ لنا لَكَنَّهْ *** مِعنَّةً مِفنَّهْ

سُمْعَنَّةً نُظْرَنَّهْ *** كالرِّيح حَوْلَ القُنَّهْ

إِلَّا تَرَهْ تَظَنَّهْ

وِالسِّمْعُ، بالكَسْرِ: الذِّكْرُ الجَمِيلُ، يُقَالُ: ذَهَبَ سِمْعُه في النّاسِ. نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.

وِالسِّمْعُ أَيضًا: سَبُعٌ مُرَكَّبٌ، وهو: وَلَدُ الذِّئْبِ من الضَّبُعِ، وهي بهَاءٍ، وفي المَثَل: «أَسْمَعُ من السِّمْعِ الأَزَلّ»، ورُبَّمَا قالوا: «أَسْمَعُ من سِمْعٍ» قال الشّاعِرُ:

تَرَاهُ حَدِيدَ الطَّرْفِ أَبْلَجَ وَاضِحًا *** أَغَرَّ طَوِيلَ البَاعِ أَسْمَعَ من سِمْعِ

يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لا يَعْرِفُ العِلَلَ والأَسْقَامَ، ولا يَمُوتُ حَتْفَ أَنْفِه كالحَيَّةِ، بل يَمُوتُ بعَرَضٍ من الأَعْرَاضِ يَعْرِضُ له، وليسَ في الحَيَوَانِ شَيْ‌ءٌ عَدْوُه كعَدْوِ السِّمْعِ؛ لأَنَّه في عَدْوِهِ أَسْرَعُ من الطَّيْرِ، ويُقَال: وَثْبَتُه تَزِيدُ على عِشْرِينَ، وثَلاثِينَ ذِرَاعًا.

وِسِمْعٌ بلا لامٍ: جَبَلٌ.

وِيُقَالُ: فَعَلْتُهُ تَسْمِعَتَكَ وتَسْمِعَةً لَكَ؛ أَي لِتَسْمَعَه، قاله أَبو زَيْد.

وِالسَّمَاعُ، كسَحَابٍ: بَطْنٌ من العَرَبِ، عن ابْنِ دُرَيْدٍ.

وِقَوْلُهُم: سَمَاعِ، كقَطامِ؛ أَي اسْمَعْ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ، وهو مِثْلُ دَرَاكِ، وَمَنَاعِ؛ أَي أَدْرِكْ وامْنَعْ، قال ابنُ بَرِّيٍّ: وشاهِدُه:

فسَمَاعِ أَسْتَاهَ الكِلابِ سَمَاعِ

وِالسُّمَيْعِيَّةُ، كزُبَيْرِيَّةٍ: قرية، قُرْبَ مَكَّةَ شَرَّفها الله تَعَالَى.

وِأَسْمَعَه: شَتَمَهُ، نَقَلَهُ الصّاغَانِيُّ والجَوْهَرِيُّ. قال الرّاغِبُ: وهو مُتَعَارَفٌ في السَبِّ.

وِمن المَجَازِ: أَسْمَعَ الدَّلْوَ؛ أَي جَعَل لها مِسْمَعًا، وكذا أَسْمَعَ الزَّبِيلَ، إِذا جَعَلَ لَه مِسْمَعَيْنِ يُدْخَلانِ في عُرْوَتَيْهِ إِذا أُخْرِجَ به التُّرَابُ من البِئْرِ، كما تَقَدَّمَ.

وِالمُسْمِعُ، كمُحْسِنٍ، من أَسْمَاءِ القَيْد، قاله أَبو عَمْرٍو، وأَنْشَدَ:

وِلِي مُسْمِعَانِ وزَمَّارَةٌ *** وِظِلٌّ ظَلِيلٌ وحِصْنٌ أَنِيقْ

وقد تَقَدَّم في «ز معروف ر».

وِالمُسْمِعَةُ بهَاءٍ: المُغَنِّيَةُ، وقد أَسْمَعَت، قال طَرَفَةُ يصفُ قَيْنَةً:

إِذا نَحْنُ قُلْنَا: أَسْمِعِينا، انْبَرَتْ لَنَا *** عَلَى رِسْلِهَا مَطْرُوفَةً لم تَشَدَّدِ

وِالتَّسْمِيعُ: التَّشْنِيعُ والتَّشْهِيرُ، ومنه‌الحَدِيثُ: «سَمَّعَ الله به أَسامِعَ خَلْقِه» وقد تقدَّم في أَوْلِ المادَّةِ.

وِالتَّسْمِيعُ أَيضًا: إِزالَةُ الخُمُولِ بنَشْرِ الذِكْرِ، يُقَال: سَمَّعَ بِه، إِذا رَفَعَه من الخُمُول، وَنَشَر ذِكْرَه، نَقَله الجَوْهَرِيُّ.

وِالتَّسْمِيعُ: الإِسْمَاعُ، يُقَال: سَمَّعَهُ الحَدِيثَ، وأَسْمَعَهُ، بمعنًى، نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ.

وِالمُسَمَّعُ، كمُعَظَّمٍ: المُقَيَّدُ المُسَوْجَرُ، وكَتَب الحَجّاجُ إِلى عامِلٍ له أَنْ «أَبْعَثْ إِليَّ فُلانًا مُسَمَّعًا مُزَمَّرًا» أَي: مُقَيَّدًا مُسَوْجَرًا، فالصَّوَابُ أَنَّ المُسَوْجَرَ تفسيرُ المُزَمَّر، وأَمّا المُسَمَّعُ فهو المُقَيَّدُ فقط، وقد تَقَدَّم في «س الجمع: ر».

وِاسْتَمَعَ له، وإِلَيْهِ: أَصْغَى، قال أَبُو دُوَادٍ يَصف ثَوْرًا:

وِيَصِيحُ تَاراتٍ كَما اسْ *** تَمَعَ المُضِلُّ لِصَوْتِ ناشِدْ

وشاهِدُ الثّانِي قولُه تَعالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ}.

وِيُقَال: تسامَعَ به النّاسُ. نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ؛ أَي اشْتَهَرَ عِنْدَهُم.

وِقولُه تَعالَى: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} أَي غَيْرَ مَقْبُولٍ ما تَقُولُ قاله مُجَاهِدٌ، أَو معناه اسْمَعْ لا أُسْمِعْتَ، قاله ابنُ عَرَفَةَ، وكذلِكَ قولُهُم: قُمْ غَيْرَ صاغِرٍ؛ أَي لا أَصْغَرَكَ الله، وفي الصِّحَاحِ قال الأَخْفَشُ: أَي لا سَمِعْتَ، وقال الأَزهريّ والرّاغِبُ: رُوِي أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ كانُوا يَقُولُونَ ذلِكَ للنَّبِيِّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم، يُوهِمُونَ أَنَّهم يُعَظِّمُونَهُ ويَدْعُونَ له، وهم يَدْعُونَ عليهِ بذلِكَ.

* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:

رجلٌ سَمّاعٌ، كشَدّادٍ، إِذا كانَ كَثِيرَ الاسْتِماعِ لما يُقَالُ ويُنْطَقُ به، وهو أَيضًا: الجَاسُوسُ.

ويُقَال: الأَمِيرُ يَسْمَع كلامَ فُلانٍ؛ أَي يُجِيبُه. وهو مَجازٌ.

وقولُ ابنِ الأَنْبَارِيّ: وقولُهُم: «سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَه» أَي أَجابَ الله دُعَاءَ مَنْ حَمِدَه» أَي أَجابَ الله دُعَاءَ من حَمِدَه، فوضَعَ السَّمْعَ مَوْضِعَ الإِجَابَةِ، ومنه‌الدُّعَاءُ: «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بك من دُعَاءٍ لا يُسْمَعُ» أَي لا يُعْتَدُّ به، ولا يُسْتَجَابُ، فكأَنَّه غيرُ مَسْمُوع، وقال سُمَيْرُ بنُ الحارِثِ الضَّبِّيُّ:

دَعَوْتُ الله حَتّى خِفْتُ أَنْ لا *** يكونَ الله يَسْمَعُ ما أَقُولُ

وبه فُسِّرَ قولُه تعالَى: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} أَي غَيْرَ مُجابٍ إِلى ما تَدْعُو إِلَيْه.

وقولُهُم: سَمْعٌ لا بَلْغٌ، بالفَتْح مَرْفُوعَانِ، ويُكْسَران: لُغَتان في سَمْعَان لا بَلْغان.

وِالسَّمَعْمَع: الشَّيْطَان الخَبِيث.

والسِّمْعَانِيَّةُ، بالكَسرِ: من قُرَى ذَمَار باليَمَنِ.

وِاسْتَمَع: أَصْغَى، قالَ الله تعالَى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} وقولُه تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ} وكذا اسْتَمَعَ، بهِ، ومنه قولُه تَعالَى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ}.

ويُعَبَّر بالسَّمْع تارةً عن الفَهْم، وتارةً عن الطّاعَةِ، تقولُ: اسْمَعْ ما أَقُولُ لك، ولَمْ تَسْمَعْ ما قُلْتُ لك؛ أَي لم تَفْهَم، وقولهُ تَعَالَى: {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ}؛ أَي أَفْهَمَهُم بأَنْ جَعَلَ لهم قُوَّةً يَفْهَمُون بها. وقالَ اللهُ تَعالَى: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} أَي أَطِيعُونِ.

ويُقَال: أَسْمَعَكَ الله؛ أَي لا جَعَلَكَ أَصَمَّ، وهو دعاءٌ.

وقولُه تعالَى: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} أَي ما أَبْصَرَه وما أَسْمَعَه! على التَّعَجُّبِ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.

وِالسَّمَّاعُ، كشَدَّادٍ: المُطِيعُ.

ويُقَال: كَلَّمَهُ سِمْعَهُم، بالكسر، أَي: بحيثُ يَسْمَعُونَ، ومنه قولُ جَنْدَلِ بن المُثَنَّى:

قامَتْ تُعَنْظِي بكَ سِمْعَ الحاضِرِ

أَي بحَيْثُ يَسْمَعُ مَنْ حَضَرَ. وتَقُولُ العَرَبُ: لا وِسِمْعِ الله، يَعْنُون وذِكْرِ الله.

والسَّمَاعِنَة: بَطنٌ من العَرَبِ، مَساكِنُهم جَبَلُ الخَلِيلِ عليه‌السلام.

والسَّوَامِعَةُ: بطنٌ آخرُ، مَسَاكِنُهم بالصَّعِيد.

وِالمَسْمَع: خَرْقُ الأُذُنِ، كالمِسْمَعِ. نَقَلَه الرّاغِبُ.

وِالسِّمَاعِيَةُ، بالفَتْحِ: موْضعٌ.

وَبَنُو السَّمِيعَةِ، كسَفِينَةٍ: قَبِيلةٌ من الأَنْصَارِ، كانوا يُعْرَفُونَ ببَنِي الصَّمَّاءِ، فغَيَّره النَّبِيُّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم.

وِالمَسْمَعُ، كمَقْعَدٍ: مصدرُ سَمِعَ سَمْعًا.

وأَيْضًا: الأُذُنُ، عن أَبِي جَبَلَةَ، وقِيلَ: هو خَرْقُهَا الَّذِي يُسْمَعُ به، وحكى الأَزْهَرِيُّ عن أَبِي زَيْدٍ: ويُقَال لِجَمِيعِ خُرُوقِ الإِنْسَانِ؛ عَيْنَيْه ومَنْخَرَيْه واسْتِهِ: مَسَامِعُ، لا يُفْرَدُ وَاحِدُهَا.

وقال اللَّيْثُ: يُقالُ: سَمِعَتْ أُذُنِي زَيْدًا يَفْعَلُ كذا وكذا؛ أَي أَبْصَرْتُه بِعَيْنِي يَفْعَلُ كذا وكذا، قالَ الأَزْهَرِيُّ: ولا أَدْرِي مِن أَيْن جاءَ اللّيْثُ بهذا الحَرْفِ، وليسَ من مَذْهَبِ العَرَبِ أَنْ يَقُولَ الرجلُ: سَمِعَتْ أُذُني بمَعْنَى أَبْصَرَت عَيْنِي، قال.

وهو عِنْدِي كلامٌ فاسِدٌ، ولا آمَنُ أَنْ يَكُونَ [مما] وَلَّدَه أَهْلُ البِدَع والأَهْوَاءِ [وكأَنه من كلام الجهمية].

ويُقَال: باتَ في لَهْوٍ وسَمَاعٍ: السَّمَاعُ: الغِنَاءُ، وكُلُّ ما الْتَذَّتْه الآذَانُ من صَوْتٍ حَسَنٍ: سَماعٌ.

وِالسَّمِيعُ، في أَسْمَاءِ الله الحُسْنَى: الَّذِي وَسِعَ سَمْعُه كُلَّ شَيْ‌ءٍ.

وِالسَّمِيعانِ مِنْ أَدَوَاتِ الحَرّاثِينَ: عُودانِ طَوِيلانِ في المِقْرَنِ الَّذِي يُقْرَنُ به الثَّوْرَانِ لِحِرَاثَةِ الأَرْضِ، قاله اللَّيْثُ.

وِالمِسْمَعانِ: جَوْرَبانِ يَتَجَوْرَبُ بهما الصائد إِذا طَلَبَ الظِّبَاءَ في الظَّهِيرَةِ.

وِالمِسْمَعانِ: عامِرٌ وعبدُ المَلِكِ بنُ مالِكِ بن مِسْمَع، هذا قولُ الأَصْمَعِيُّ وأَنْشَدَ:

ثَأَرْتُ المِسْمَعَيْنِ وقُلْتُ بُوآ *** بِقَتْلِ أَخِي فَزارَةَ والخَبَارِ

وقال أَبو عُبَيْدَة: هُمَا مَالِكٌ وعَبْدُ المَلِك ابْنَا مِسْمَع بنِ سُفيَانَ بنِ شِهَابِ الحِجَازِيّ، وقال غيرُه: هما مَالِكٌ وعبدُ المَلِك ابْنا مِسْمَعِ بن مالِكِ بنِ مِسْمَعِ بنِ سِنَانِ بنِ شِهَابٍ.

وأَبو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ عُثْمَانَ بنِ سَمْعان الحافظُ: حَدَّثَ عن أَسْلَمَ بنِ سَهْل الوَاسِطِيِّ، وغيرِه.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


178-تاج العروس (سوع)

[سوع]: سُوعٌ، بالضَّمِّ: قَبِيلَةٌ باليَمَن، قال النابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ:

مُسْتَشْعِرِينَ قَدَ الْقَوْا في دِيَارِهمُ *** دُعَاءَ سُوعٍ ودُعْمِيٍّ وأَيُّوبِ

ويُرْوَى: «دَعْوَى يَسُوعَ» وكُلُّهَا من قَبَائِلِ اليَمَنِ.

وِالسَّاعَةُ: جُزْءٌ من أَجْزَاءِ الجَدِيدَيْنِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ، قَالَهُ اللَّيْثُ، وهُمَا أَربعٌ وعِشْرُونَ ساعةً، وإِذا اعْتَدَلَا فكُلُّ واحِدٍ منهما ثِنْتَا عَشَرَةَ ساعةً.

وِفي الصّحاحِ: السّاعَةُ: الوَقْت الحاضِرُ، ويُعَبِّرُ عن جُزْءٍ قَلِيل من اللَّيْلِ والنَّهَارِ، يقال: جَلَسْتُ عِنْدَك سَاعَةً: أَي وَقْتًا قَلِيلًا، ج: سَاعاتٌ وسَاعٌ، وأَنْشَدَ للقُطامِيِّ:

وِكُنَّا كالحَرِيقِ أَصابَ غَابًا *** فيَخْبُو ساعَةً ويَهُبُّ سَاعَا

وِالسّاعَةُ: القِيَامَة، كما في الصحاحِ. وهو مَجَازٌ، قالَ الله عزَّ وجَلَّ: {اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ} {يَسْئَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ}، {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ} تَشْبِيهًا بذلِكَ، لسُرْعَةِ حِسَابِه.

أَو الساعةُ: الوَقْتُ الَّذِي تَقُومُ فيه القِيَامَةُ، سُمِّيَت بذلِكَ لأَنَّهَا تَفْجَأُ النّاسَ في سَاعَةٍ، فيموتُ الخَلْقُ كُلُّهم بصَيْحَةٍ وَاحِدَةٍ، قالَهُ الزَّجّاجُ، ونَقَلَه الأَزْهَرِيُّ، وقال الرّاغِبُ ـ في المُفْرَدَاتِ، وتَبِعَهُ المُصَنِّفُ في البَصَائِرِ ـ ما نَصُّهُ: وقِيلَ: السَّاعَاتُ الَّتِي هي القِيَامَةُ ثَلَاثٌ: السّاعَةُ الكُبْرَى، وهي بَعْثُ النّاسِ للمُحَاسَبَةِ، وهي الَّتِي أَشارَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم بقَوْلِه: لا تَقُومُ السّاعَةُ حَتَّى يَظْهَرَ الفُحْشُ والتَّفَحُّشُ، وحتّى يُعْبَدَ الدِّينَارُ والدِّرْهَمُ» وذَكَر أُمُورًا لم تَحْدُثْ في زَمَانِه ولا بَعْدَه.

وِالساعةُ الوُسْطَى، وهي مَوْتُ أَهْلِ القَرْنِ الوَاحِدِ، وذلِك نَحْو ما رُوِي أَنَّه رَأَى عبدَ الله بنَ أُنَيْسِ فقال: «إِنْ يَطُلْ عُمْرُ هذا الغُلَامِ لم يَمُتْ حَتَّى تَقُومَ السّاعَة» فقيل: إِنّه آخِرُ من ماتَ من الصَّحابَة.

وِالسّاعَةُ الصُّغْرَى: وهي مَوْتُ الإِنْسَانِ، فساعَةُ كُلِّ إِنسانٍ: مَوْتُهُ، وهى المُشَارُ إِليها بقَوْلِه عَزَّ وجَلَّ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتّى إِذا جاءَتْهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً} ومَعْلُومٌ أَنَّ هذا الخُسْرَ يَنَالُ الإِنْسَانَ عندَ مَوْتِه، وعلى هذا رُوِيَ أَنَّه كانَ إِذا هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ تَغَيَّر لَوْنُه صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم، فقالَ: «تَخَوَّفْتُ السّاعَةَ» وقال: «ما أَمُدُّ طَرْفِي ولا أَغُضُّها إِلَّا وأَظُنُّ السّاعَةَ قد قامَتْ» بمَعْنَى مَوْتهِ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم.

وِقال ابنُ الأَعْرَابِيِّ: الساعَة: الهَلْكَى، كالجَاعَةِ للجِيَاع والطاعَةِ للمُطِيعِينَ.

وِسَاعَةٌ سَوْعَاءُ؛ أَي شَدِيدَةٌ، كما يُقَالُ: ليلةٌ لَيْلَاءُ، نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ.

وِسُوَاعٌ بالضَّمِّ، في قَوْلِه تَعَالَى: {وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعًا} والفَتْح لُغَةٌ فِيه وبه قَرَأَ الخَلِيلُ: اسمُ صَنَم كان لهَمْدانَ، وقيل: عُبِدَ في زَمَنِ نُوحٍ عليهِ السَّلامُ، فدَفَنَهُ الطُّوفانُ، فاسْتَثَارَه إِبْلِيسُ لأَهْلِ الجَاهِلِيةِ، فعُبِدَ من دُونِ الله عَزَّ وجَلَّ، كذا نصّ اللَّيْث، وزادَ الجَوْهَرِيُّ: ثمّ صارَ لهُذَيْلٍ، وكان برُهَاط، وحُجَّ إِلَيْه، قال أَبو المُنْذِرِ: ولم أَسْمَع بذِكْره في أَشْعارِ هُذَيْلٍ، وقد قالَ رَجُلٌ من العَرَب:

تَرَاهُمْ حَوْلَ قَيْلِهِمُ عُكُوفًا *** كما عَكَفَتْ هُذَيْلُ على سُوَاعِ

يَظَلُّ جَنَابَهُ برُهَاطَ صَرْعَى *** عَتَائِرُ من ذَخَائرِ كُلِّ رَاعِ

وِسَاعَتِ الإِبِلُ تَسُوعُ سَوْعًا، كما في الصّحاحِ، وتَسِيعُ سَيْعًا، وهذِه عن شَمِر: تَخَلَّتْ بِلَا رَاعٍ، ومنه قولُهُم: هو ضَائعٌ سَائعٌ، كما في الصّحاحِ؛ أَي مُهْمَلٌ.

وِجاءَنَا بَعْدَ سَوْعٍ من اللَّيْلِ، وسُوَاع، كغُرَابٍ؛ أَي بَعْدَ هَدْءٍ منه، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ، أَو بَعْدَ سَاعَةٍ منه.

وِالسُّوَاعُ، والسُّوَعاءُ، كغُرَابٍ وبُرَحَاءَ: المَذْيُ زادَ شَمِرٌ: الَّذِي يَخْرُج قَبْلَ النُّطْفَةِ، أَو الوَدْيُ، و‌في الحَدِيثِ: «في السُّوَعَاءِ الوُضُوءُ» وقالَ أَبو عُبَيْدَةَ لرُؤْبَةَ: ما الوَدْيُ؟ فقال: يُسَمَّى عِنْدَنا السُوَعَاءَ. ويُقَال للرَّجُل: سُعْ سُعْ، بِضَمِّهِما، أَمْرٌ بِتَعهُّدِ سُوَعَائه، عن ابن الأَعْرَابِيّ.

وِناقَةٌ مِسْياعٌ، كمِصْباح، هي التي تَدَعُ وَلَدَهَا حَتَّى تَأْكُلَهُ السِّباعُ قاله شَمِرٌ، واوِيَّةٌ يائِيَّةٌ مِن ساعَتْ تَسُوع وتَسِيعُ، كما تقدَّم، يُقَال: رُبَّ نَاقَةٍ تَسِيعُ وَلَدَهَا حتى تَأْكُلَه السِّبَاعُ؛ أَي تُهْمِلُه وتُضَيِّعُه. وأَسَاعَهُ: أَهْمَلَه وضَيَّعَه، يُقَال: أَسَعْتُ الإِبِلَ؛ أَي أَهْمَلْتُهَا، فساعَتْ، نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ، قال الرّاغِبُ: وقد تُصُوِّرَ الإِهْمَالُ من السّاعَةِ.

وِأَسْوَعَ الرَّجُلُ: انْتَقَلَ مِن سَاعَةٍ إِلى سَاعَةٍ. نَقَلَه الزَّجَّاجُ.

أَو أَسْوَعَ: تَأَخَّرَ سَاعَةً، عن ابنِ عَبّادٍ.

قال: وأَسْوَعَ الرَّجُلُ وغَيْرُه، إِذا انْتَشَرَ، ثُمَّ مَذَى.

وِقال غَيْرُه: أَسْوَعَ الحِمَارُ: إِذا أَرْسَلَ غُرْمُولَهُ.

وِيقال: هذا مُسَوَّعٌ له، كمُعَظَّمٍ؛ أَي مُسَوَّغٌ له، بالغَيْنِ المُعْجَمَةِ.

وِعَامَلَهُ مُسَاوَعَةً، من السّاعةِ، كمُيَاوَمَةً من اليَوْمِ، قالَ الجَوْهَرِيُّ: ولا يُسْتَعْمَلُ مِنْهَا إِلّا هذا.

* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:

أَساعَ الرَّجُلُ إِسَاعَةً: انْتَقَلَ مِنْ سَاعَة إِلى ساعَة، نَقَلَهُ الزَّجّاجُ.

وِمُسَوَّعُ، كمُعَظَّم: مَدِينَةٌ من مُدُنِ الحَبَشَة بالقُرْبِ من اليَمَنِ.

وِسَاوَعَهُ سِوَاعًا: اسْتَأْجَرَه للسّاعَةِ. والسّاعُ والسّاعَةُ: المَشَقَّة، والسّاعَةُ: البُعْدُ، وقالَ رَجُلٌ لأَعْرَابِيَّةٍ: أَيْنَ مَنْزِلُكِ؟فقالَتْ:

أَمّا عَلَى كَسْلَانَ وَانٍ فسَاعَةٌ *** وِأَمّا عَلَى ذِي حاجَةٍ فيَسِيرُ

وقِيلَ: السُّوَعَاءُ: القَيْ‌ءُ.

وِأَسْوَعَ الرَّجُلُ، إِذا تَعَهَّدَ سُوَعَاءَهُ.

ورَجُلٌ سُوَاعِيٌّ: من السُّوَاعِ، عن ابْنِ الأَعْرَابِيِّ. ورَجُلٌ مُسِيعٌ: مُضِيعٌ. ومِسْياعٌ للمالِ: مِضْياع. وأَنْشَد ابنُ بَرِّيّ:

وَيْلُ امِّ أَجْيَاد شاةً شاةَ مُمْتَنِحٍ *** أَبِي عِيَالٍ قَلِيلِ الوَفْرِ مِسيَاعِ

أُمُّ أَجْيَاد: شَاةٌ وَصَفَهَا بالغُزْرِ، وشَاةً: مَنْصوبٌ على التَّمْيِيزِ.

وِسُيُوع: اسمٌ من أَسماءِ الجَاهِلِيَّةِ، وقيل: بَطْنٌ باليَمَنَ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


179-تاج العروس (نزع)

[نزع]: نَزَعَهُ من مَكَانِه [يَنْزِعُهُ] * نَزْعًا: قَلَعَه، فهُوَ مَنْزُوعٌ، ونَزِيعٌ، كانْتَزَعَهُ فانْتَزَعَ، لازِمٌ مُتَعَدٍّ، كَمَا سَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ.

وفَرَّقَ سِيبَوَيْه بَيْنَ نَزَعَ وانْتَزَعَ، فقالَ: انْتَزَعَ: اسْتَلَبَ، ونَزَعَ: حَوَّلَ الشَّيْ‌ءَ عن مَوْضِعِهِ وإِنْ كانَ عَلَى نَحْوِ الاسْتِلابِ.

وِقَوْلُه تَعَالَى: {وَنَزَعَ} يَدَهُ أَي: أَخْرَجَهَا مِنْ جَيْبِه.

وِمِنَ المَجَازِ: نَزعَ الغَرِيبُ إِلَى أَهْلِه نَزَاعَةً، كسَحَابَةٍ، ونِزَاعًا، بالكَسْرِ، ونُزُوعًا بالضَّمِّ، أَي: حَنَّ واشْتاقَ ومِنْهُ حَدِيثُ بَدْءِ الوَحْيِ: «قَبْلَ، أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِه» وقالُوا: نَزُوعٌ، والجَمْعُ نُزُعٌ، وقالَ الشّاعِرُ:

لا يَمْنَعَنَّكَ خَفْضَ العَيْشِ فِي دَعَةٍ *** نُزُوعُ نَفْسٍ إِلَى أَهْلٍ وأَوْطانِ

تَلْقَى بكُلِّ بِلادٍ إِنْ حَلَلْتَ بِهَا *** أَهْلًا بأَهْلٍ وجِيرانًا بجِيران

كنازَعَ يُقَال: نَزَعَ إِليهِ نِزَاعًا، ونازَعَتْهُ نَفْسُه إِلَيْهِ.

وِنَزَعَ عَن الأُمُورِ والصِّبَا نُزُوعًا: انْتَهَى عَنْهَا وكَفَّ، ورُبَّمَا قالُوا: نَزْعًا.

وِمِنَ المَجَازِ: نَزَعَ أَباهُ، ونَزَعَ إِلَيْهِ: إِذا أَشْبَهَهُ، ويُقَالُ: نَزَعَهُ عِرْقُ الخالِ، وفِي الأَسَاسِ: يُقَالُ لِلْمَرْءِ إِذا أَشْبَهَ أَعْمَامَه أَوْ أَخْوَالَه: نَزَعَهُمْ ونَزَعُوهُ، ونَزَعَ إِلَيْهِم، وفي الصِّحاحِ: نَزَعَ إِلى أَبِيهِ في الشَّبَهِ، أَي: ذَهَبَ، وفِي اللِّسَانِ: نَزَع إِلَى عِرْقٍ كَرِيمٍ، أَوْ لُؤْمٍ، يَنْزعُ نُزُوعًا، ونَزَعَتْ بهِ أَعْرَاقُه، ونَزَعَهَا، ونَزَعَ إِلَيْهَا، وفِي حَدِيثِ القَذْفِ: «إِنَّمَا هُوَ عِرْقٌ نَزَعَهُ» وأَنْشَدَ اللَّيْثُ للفَرَزْدَقِ:

أَشْبَهْتَ أُمَّكَ يا جَرِيرُ وإِنَّهَا *** نَزَعَتْكَ والأُمُّ اللَّئِيمَةُ تَنْزعُ

أَي: اجْتَرَّتْ شَبَهَكَ إِلَيْهَا.

وِنَزَعَ فِي القَوْسِ يَنْزِعُ نَزْعًا: مَدَّها، كما فِي الصِّحاحِ أَي: بالوَتَرِ، وقِيلَ: جَذَبَ الوَتَرَ بالسَّهْمِ، وفِي الحَدِيثِ: «لَنْ تَخُورَ قُوًى ما دامَ صاحِبُهَا يَنْزِعُ ويَنْزُو» أَي: يَجْذِبُ قَوْسَه، ويَثِبُ عَلَى فَرَسِه.

وِنَزَعَ الَّدْلْوَ مِنَ الْبِئْرِ يَنْزِعُهَا نَزْعًا، ونَزَعَ بِهَا، كِلاهُما: جَذَبَها بغَيْرِ قامَةٍ وأَخْرَجَهَا، أَنْشَدَ ثَعْلَبٌ:

قَدْ أَنْزِعُ الدَّلْوَ تَقَطَّى بالمَرَسْ *** تُوزِعُ مِنْ مَلْ‌ءٍ كإِيْزاغِ الفَرَسْ

تَقَطِّيهَا: خُرُوجُها قَلِيلًا قَلِيلًا بغَيْرِ قامَةٍ، وأَصْلُ النَّزْعِ: الجَذْبُ والقَلْعُ، وفِي الحَدِيث: «رأَيْتُنِي أَنْزعُ عَلَى قَلِيبٍ» أَي: رَأَيْتُنِي فِي المَنَامِ اسْتَقِي بِيَدِي، يُقَال: نَزَعَ بالدَّلْوِ: إِذا اسْتَقَى بِها وقَدْ عُلِّقَ فِيهَا الرِّشاءُ.

وِنَزَعَ الفَرَسُ سَنَنًا: إِذا جَرَى طَلَقًا، قالَ النّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ:

وِالخَيْلَ تَنْزِعُ غَرْبًا فِي أَعِنَّتِهَا *** كالطَّيْرِ تَنْجُو مِن الشُّؤْبُوبِ ذِي البَرَدِ

وِمِنَ المَجَازِ: هُوَ فِي النَّزْعِ، أَي: قَلْعِ الحَيَاةِ وقد نَزَع المُحْتَضَرُ يَنْزِعُ نَزْعًا، ونَازَعَ نِزَاعًا: جادَ بنَفْسِهِ، ويُقَالُ أَيْضًا: هُوَ في النَّزَعِ، مُحَرَّكَةً للاسْمِ، كَذا وُجِدَ لَهُ في هَامِشِ الصِّحاحِ.

وِمِنَ المَجَازِ: بَعِيرٌ نازِعٌ، ونَاقَةٌ نازِعٌ: حَنَّتْ إِلَى أَوْطَانِها ومَرْعَاهَا، قالَهُ الجَوْهَرِيُّ، وأَنْشَدَ لجَمِيلٍ:

وِقُلْتُ لَهُمْ: لا تَعْذُلُونِيَ وانْظُرُوا *** إِلَى النّازِعِ المَقْصُورِ كَيْفَ يَكُونُ

قُلْتُ: والَّذِي أَنْشَدَهُ ابنُ فارِسٍ فِي المُجْمَلِ:

يَقُولُونَ ما بَلَّاكَ والمالُ غامِرٌ *** عَلَيْكَ وضاحِي الجِلْدِ مِنْكَ كَنِينُ

فقُلْتُ لَهُمْ: لا تَسْأَلُونِيَ وانْظُرُوا *** إِلى النّازِعِ المَقْصُورِ كَيْفَ يَكُونُ

قال الصّاغَانِيُّ: والرِّوايَةُ الصَّحِيحَةُ:

إِلَى الطُّرَّفِ الوُلّاهِ كَيْفَ تَكُونُ

وِفي المَثَلِ: «صارَ الأَمْرُ إِلى النَّزَعَةِ» مُحَرَّكَةً، أَيْ:

قَامَ بإِصْلاحِهِ أَهْلُ الأَنَاةِ، وهُوَ جَمْعُ نَازِعٍ، كما فِي الصِّحاحِ، وهُمُ الرُّماةُ ويُرْوَى: عادَ السَّهْمُ إِلَى النَّزَعَةِ، أَي: رَجَعَ الحَقُّ إِلَى أَهْلِه، كَمَا في العُبَابِ واللِّسَان، زادَ الأَخِيرُ: وقَامَ بإِصْلاحِ الأَمْرِ أَهْلُ الأَناةِ.

قلتُ: فإِذنْ مآلُهُمَا واحِدٌ، وزادَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ كقَوْلِه: «أَعْطِ القَوْسَ بارِيَها» وزَادَ في العُبَابِ: ويُرْوَى: عادَ الأَمْرُ إِلَى الوَزَعَةِ، جَمْع وازِعٍ، يَعْنِي أَهْلَ الحِلْمِ، الَّذِينَ يَكُفُّونَ أَهْلَ الجَهْلِ.

قلتُ: الَّذِي فِي التَّهْذِيبِ للأَزْهَرِيِّ: «عادَ الرَّمْيُ عَلَى النَّزَعَةِ، يُضْرَبُ مَثَلًا للَّذِي يَحِيقُ بهِ مَكْرُه، والعَجَبُ مِنَ المُصَنِّفِ كَيْفَ تَرَكَه! وكأَنَّهُ قَلَّدَ الصّاغَانِيَّ فِيما يُورِدُه مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ، وهو غَرِيبٌ.

وِقولُه تَعالى: {وَالنّازِعاتِ} غَرْقًا {وَالنّاشِطاتِ نَشْطًا} قالَ ابنُ دُرَيْدٍ: لا أُقْدِمُ عَلَى تَفْسيرِه، إِلّا أَنَّ أَبا عُبَيْدَةَ ذَكَرَ أَنَهَا: النُّجُومُ تَنْزِعُ مِنْ مَكَانٍ إِلى مَكَانٍ، وتَنْشِطُ، أَي: تَطْلُعُ.

أَو النّازِعَاتُ: القِسِيُّ، والنّاشِطَاتُ: الأَوْهَاقُ، وقال الفَرّاءُ: تَنْزِعُ الأَنْفُسَ مِنَ صُدُورِ الكُفّارِ، كَمَا يُغْرِقُ النّازِعُ فِي القَوْسِ: إِذا جَذَبَ الوَتَر.

وِمِنَ المَجَازِ: النَّزِيعُ، كأَمِيرٍ: الغَرِيبُ، كالنّازِعِ، ج: نُزّاعٌ كَرُمّانِ، قالَ الصّاغَانِيُّ: وأَصْلُهُما في الإِبِلِ، وفِي الحَدِيثِ: «طُوبَى للغُرَباءِ، قِيلَ: مَنْ هُمْ يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: النُّزّاعُ مِنَ القَبَائِلِ» وهُوَ الَّذِي نَزَعَ عن أَهْلِهِ وعَشِيرَتهِ، أَيْ: بَعُدَ وغابَ، وقِيلَ: لأَنَّهُ يَنْزِعُ إِلَى وَطَنِه، أَي: يَنْجَذِبُ ويَمِيلُ، والمُرَادُ الأَوّلُ، أَي: طُوبَى للمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَجَرُوا أَوْطَانَهُمْ فِي اللهِ تَعَالَى، وقِيلَ: نُزّاعُ القَبَائِلِ: غُرَبَاؤُهُم الَّذِينَ يُجاوِرُونَ قَبَائِلَ لَيْسُوا مِنْهُمْ، ويُرْوَى: «قِيلَ: يا رَسُولَ اللهِ، مَن الغُرَبَاءُ؟ قالَ: الَّذِينَ يُصْلِحُونَ ما أَفْسَدَ النّاسَ».

وِمِنَ المَجَازِ: النَّزِيعُ: مَنْ أُمُّه سَبِيَّةٌ ومِنْهُ قَوْلُ المَرّارِ بنِ سَعِيدٍ الفَقْعَسِيِّ:

عَقَلْتُ نِساءَهُم فِينَا حَدِيثًا *** ضَنِينَ المالِ والوَلَدَ النَّزِيعَا

عَقَلْتُ، أَي: رأَيْتُ، وضَنِينَ المالِ، أَي: أَكْثَرْن مِنْه.

وِمن المَجَازِ: النَّزِيعُ: البَعِيدُ، ومِنْهُ قَوْلُ الطِّرِمّاحِ يَصِفُ حَمَامَةً:

بَرَتْ لَكَ حَمّاءُ العِلاطِ سَجُوعُ *** وِدَاعٍ دَعَا مِنْ خُلَّتَيْكَ نَزِيعُ

وقِيلَ: النَّزِيعُ هُنَا: هو الغَرِيبُ، وكِلاهُمَا صَحِيحٌ، وكذلِكَ فِي قَوْلِ الحُطَيْئَةِ:

وِلَمّا جَرَى فِي القَوْمِ بَيَّنْتُ أَنَّهَا *** أَجارِيُّ طِرْفٍ في رِباطِ نَزِيعِ

وِالنَّزِيعُ: المَقْطُوفُ المَجْنِيُّ، ومِنْهُ قَوْلُ الشَّمّاخِ يَصِفُ وَكْرَ عُقابٍ:

تَرَى قِطَعًا مِنَ الأَحْنَاشِ فِيها *** جَماجِمُهُنَّ كالخَشْلِ النَّزِيعِ

والخَشْلُ: المُقْلُ.

وِالنَّزِيعُ: البِئْرُ القَرِيبَةُ القَعْرِ، تُنْزَعُ دِلاؤُهَا بالأَيْدِي نَزْعًا، لقُرْبِهَا. كالنَّزُوعِ فَعُولٌ للمَفْعُولِ كالرَّكُوبِ، والجَمْعُ نُزّاعٌ.

وِبِلا لامٍ: نَزِيعُ بنُ سُلَيْمَانَ الحَنَفِيُّ الشّاعِرُ ذَكَرَهُ الحافِظُ في التَّبْصِيرِ.

وِمِنَ المَجَاز: النَّزِيعَةُ مِنَ النَّجَائِبِ: الَّتِي تُجْلَبُ إِلَى غَيْرِ بِلادِهَا ومَنْتِجِها من النَّجائِبِ. هذا هُوَ نَصُّ اللَّيْثِ، ووُجِدَ في بَعْضِ النُّسَخِ: «إِلَى بِلادِ غَيْرِهَا» وهُو غَلَطٌ، ومِنْهُ حَدِيثُ ظَبْيَانَ: «إِنَّ قَبَائِلَ مِنَ الأَزْدِ نَتَّجُوا فِيهَا النَّزائعِ» أَي: نَتَجُوا بِها إِبِلًا انْتَزعُوهَا مِنْ أَيْدِي النّاسِ، وقِيلَ: النَّزائِعُ مِنَ الخَيْلِ: الَّتِي نَزَعَتْ إِلَى أَعْرَاقٍ مِنَ اللِّحَاحِ، وفِي الأَسَاسِ: ومِنَ المَجَازِ: خَيْلٌ نَزَائِعُ: غَرَائِبُ نُزِعَتْ عَنْ قَوْمٍ آخَرِينَ.

وعِنْدَهُ نَزِيعٌ ونَزِيعَةٌ: نَجِيبٌ ونَجِيبَةٌ مِنْ غَيْرِ بلادِهِ، كما في العُبَابِ، وفي المُحْكَمِ: مِنْ أَيْدِي الغُرَبَاءِ، وفي التَّهْذِيبِ: مِنْ أَيْدِي قَوْمٍ آخَرِينَ، ومِثْلُه في الصِّحاحِ.

وِمِنَ المَجَازِ: النَّزِيعَةُ: المَرْأَةُ الَّتِي تَتَزَوَّجُ فِي غَيْرِ عَشِيرَتِهَا وبَلَدِهَا فتُنْقَلُ، ج: نَزَائِعُ ومِنْهُ حَدِيثُ عُمَرَ: «قَالَ لِآلِ السّائِبِ: قَدْ أَضْوَيْتُمْ فانْكِحُوا فِي النَّزائِعِ» أَيْ فِي الغَرَائِبِ مِنْ عَشِيرَتِكُمْ.

وِغَنَمٌ نُزَّعٌ، كرُكَّع: حَرَامَى، تَطْلُبُ الفَحْلَ، كَما فِي الصِّحاحِ.

وِالمِنْزَعُ كمِنْبَرٍ: السَّهْمُ، نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ، وزَادَ الصّاغَانِيُّ: الَّذِي يُنْتَزَعُ بهِ، وفِي اللِّسَانِ: الَّذِي يُرْمَى به أَبْعَدَ ما يُقْدَرُ عليهِ؛ لِتُقَدَّرَ بهِ الغَلْوَةُ، قالَ الأَعْشَى:

فَهْوَ كالمِنْزَعِ المَرِيشِ مِنَ الشَّوْ *** حَطِ غالَتْ بهِ يَمِينُ المُغَالِي

وقالَ أَبُو حَنِيفَةَ: المِنْزَعُ: حَدِيدَةٌ لا سِنْخَ لَها، إِنَّمَا هِيَ أَدْنَى حَدِيدَةٍ لا خَيْرَ فِيهَا، تُؤْخَذُ وتُدْخَلُ فِي الرُّعْظِ، وأَنْشَدَ الجَوْهَرِيُّ لأَبِي ذُؤَيْبٍ يَصِفُ صائِدًا غلبَتْ كِلابُه:

فَرَمَى فأَنْفَذَ طُرَّتَيْهِ المِنْزَعُ

قال ابْنُ بَرِّيٍّ: هكَذَا وُجِدَ بخَطِّهِ، والصّوابُ:

فَرَمَى لِيُنْفِذَ فَرَّهَا فهَوَى لَهُ *** سَهْمٌ فأَنْفَذ طُرَّتَيْهِ المِنْزَعُ

وِالمَنْزَعَةُ، بالفَتْحِ: القَوْسُ الفَجْوَاءُ، عَنِ الفَرّاءِ.

وِفِي الصِّحاحِ: المَنْزَعَةُ: ما يَرْجِعُ إِلَيْهِ الرَّجُلُ مِنْ رَأْيِه وأَمْرِه وتَدْبِيرِه، وهُوَ مَجَازٌ، وأَنْشَدَ الصّاغَانِيُّ لِلَبيدٍ ـ رضي ‌الله‌ عنه ـ:

أَنَا لَبِيدٌ ثُمَّ هذِي المَنْزَعَهْ *** يا رُبَّ هَيْجَا هِي خَيْرٌ مِنْ دَعَهْ

وِالمَنْزَعَةُ: رَأْسُ البِئْرِ الَّتِي يَنْزِعُ عَلَيْهِ، وقالَ الفَرّاءُ: هِيَ الصَّخْرَةُ يَقُومُ عَلَيْهَا السّاقِي، زادَ ابنُ الأَعْرَابِيِّ: والعُقابانِ مِنْ جَنْبَتَيْهَا تُعَضِّدانِهَا، وهِيَ الَّتِي تُسَمَّى القَبِيلَة.

وِمِنَ المَجَازِ: المَنْزَعَةُ: الهِمَّةُ قالَ الكِسَائِيُّ: يُقَال: والله لتَعْلَمَنَّ أَيُّنَا أَضْعَفُ مَنْزَعَةً. ويُكْسَرُ، عن خَشَّافٍ الأَعْرَابِيِّ، قالَ الجَوْهَرِيُّ: حَكَاهُ ابنُ السِّكِّيتِ في بابِ مِفْعَلَة ومَفْعَلَة، ويُقَالُ: فُلانٌ قَرِيبُ المِنْزَعَةِ، أَي: قَرِيبُ الهِمَّةِ، هذا نَصُّ العُبَابِ والصِّحاحِ واللِّسَانِ، ووَقَعَ في اللِّسَانِ: وهُوَ قَرِيبُ المَنْزَعَةِ، أَي: غيرُ ذِي هِمَّةِ، فتَأَمَّلْ.

وِالنَّزَعَةُ، مُحَرَّكَةً: موضع، نَقَلَه الصّاغَانِيُّ.

وِالنَّزَعَةُ: نَبْتٌ مِنْ نَباتِ الْقَيْظِ مَعْرُوفٌ، قالَهُ ابنُ السِّكِّيتِ، ويُسَكَّنُ، وحَكَى الوَجْهَيْنِ أَبُو حَنِيفَةَ، قَالَ: وهِيَ تَكُونُ بالرَّوْضِ، ولَيْسَ لَها زَهْرَةٌ ولا ثَمَرَةٌ، تَأْكُلُهَا الإِبِلُ إِذا لَمْ تَجِدْ غَيْرَها، فإِذا أَكَلَتْهَا امْتَنَعَتْ أَلْبانُهَا خُبْثًا، هكَذَا نَقَلَه أَبُو عَمْرو عَنِ الأَعْرَابِ الأَوَائِلِ.

وِالنَّزَعَةُ: الطَّرِيقُ في الجَبَلِ يُشَبَّهُ بالنَّزَعَةِ وهُوَ: مَوْضِعُ النَّزَعِ مِنَ الرَّأْسِ، وهُوَ انْحِسَارُ الشَّعَرِ مِنْ جانِبَيِ الجَبْهَةِ، وهُوَ أَنْزَعُ بَرّاقُ النَّزَعَتَيْنِ، كأَنَّهُ نَزِعَ عنه الشَّعَرْ، ففارَقَ، وقَدْ نَزِعَ، كفَرِحَ نَزَعًا، وفي صِفَةِ عَلِيٍّ ـ رَضِي الله عَنْهُ ـ: «البَطِينُ الأَنْزَعُ» والعَرَبُ تُحِبُّ النَّزَعَ، وتَتَيَمَّنُ بالأَنْزَعِ، وتَذُمُّ الغَمَمَ، وتَتَشَاءَمُ بالأَغمِّ، وتَزْعُمُ أَنَّ أَغمَّ القَفَا والجَبِينِ لا يَكُونُ إِلّا لَئِيمًا، ومِنْهُ قَوْلُ هُدْبَةَ بنِ خَشْرَمٍ:

وِلا تَنْكِحِي إِنْ فَرَّقَ الدَّهْرُ بَيْنَنَا *** أَغَمَّ القَفَا والوَجْهِ لَيْسَ بأَنْزَعَا

وِهِيَ زَعْرَاءُ، ولا تَقُلْ، نَزْعاءُ، كَما في الصِّحاحِ والعُبَابِ، وأَجَازَهُ بَعْضُهُم.

وِأَنْزَعَ الرَّجُلُ: ظَهَرَتْ نَزَعَتَاهُ عن ابنِ الأَعْرَابِيِّ.

وِأَنْزَعَ القَوْمُ: نَزَعَتْ إِبِلُهُم إِلى أَوْطانِهَا وفي المُفْرِدَاتِ: في مَوَاطِنِهم، قالَ الشّاعِرُ:

وِقَدْ أَهافُوا ـ زَعَمُوا ـ وأَنْزَعُوا

أَهافُوا: عَطِشَتْ إِبِلُهُم.

وِمِنَ المَجَازِ: شَرَابٌ طَيِّبُ المَنْزَعَةِ، أَي: طَيِّبُ مَقْطَعِ الشُّرْبِ، كَمَا قالَ عَزَّ وجَلَّ: {خِتامُهُ مِسْكٌ} أَي: أَنَّهُم إِذا شَرِبُوا الرَّحِيقَ، ففَنِيَ ما فِي الكَأْسِ، وانْقَطَعَ الشَّرَابُ، انْخَتَمَ ذلِكَ برِيحِ المِسْكِ، كمَا فِي اللِّسَانِ، وقالَ الأَصْبَهَانِيُّ فِي المُفْرَدَاتِ، في تَرْكِيبِ «خ ت م»: {خِتامُهُ مِسْكٌ} مَعْناه: مُنْقَطَعُه وخاتِمَةُ شُرْبه، أَي: سُؤْرُهُ فِي الطِّيبِ مِسْكٌ، وقَوْلُ مَنْ قالَ: يُخْتَمُ بالمِسْكِ، أَيْ: يُطْبَعُ، فَلَيْسَ بشَيْ‌ءٍ؛ لأَنَّ الشَّرَابَ يَجِبُ أَنْ يَطِيبَ فِي نَفْسِه، فأَمَّا خَتْمُه بالطِّيبِ فَلَيْسَ مِمّا يُفِيدُه، ولا يَنْفَعُه طِيبُ خَاتَمِهِ ما لَمْ يَطِبْ في نَفْسِه، فتَأَمَّلْ؛ فإِنَّه تَحْقِيقٌ حَسَنٌ، وسَيَأْتِي إِنْ شاءَ الله تَعَالَى.

وِالنَّزَاعَةُ كسَحَابَة: الخُصُومَةُ وفي الصِّحاح: بَيْنَهُمَا نَزَاعَةٌ، أَي: خُصُومَةٌ فِي حَقٍّ، هكَذَا في النّسَخ وفَي بَعْضِها: بَيْنَهُما نِزاعٌ، بالكَسْر.

وِثُمَامٌ مُنَزَّعٌ، كمُعَظَّم: مَنْزُوعٌ مِنَ الأَرْضِ، شُدِّدَ مُبَالَغَةً، كما فِي الصّحاحِ.

وِانْتَزَعَ الشَّيْ‌ءُ: كَفَّ وامْتَنَعَ قالَ سُوَيْدٌ اليَشْكُرِيُّ:

فدَعَانِي حُبُّ سَلْمَى بَعْدَ ما *** ذَهَبَ الجِدَّةُ مِنِّي وانْتَزَعْ

ويُرْوَى: «مِنِّي والرَّيَعْ» أَي: أَوَّلُ الشَّبَابِ، فحَرَّكَ الياءَ ضَرُورَةً.

وِانْتَزَعَ الشَّيْ‌ءُ: اقْتَلَعَ، وقد انْتَزَعَهُ لازِمٌ مُتَعَدٍّ، قالَ سُوَيْدٌ اليَشْكُرِيُّ:

أَرَّقَ العَيْنَ خَيالٌ لَمْ يَدَعْ *** مِنْ سُلَيْمَى، ففُؤادِي مُنْتَزَعْ

وقالَ القُطَامِيُّ:

فَوَارِسَ بالرِّماحِ كأَنَّ فِيها *** شَوَاطِنَ يَنْتَزِعْنَ بِهَا انْتِزَاعَا

وِنازَعَهُ مُنَازَعَةً، ونِزاعًا: خاصَمَهُ، وقِيلَ: جاذَبَهُ في الخُصُومَةِ، كَما في الصِّحاحِ، أَي: مُجَاذَبَة الحُجَجِ فِيما يَتَنَازَعُ فهيه الخَصْمَانِ، والأَصْلُ فِي المُنَازَعَةِ: المُجَاذَبَةُ، ثُمَّ عُبِّرَ بهِ عَن المُخَاصَمَةِ، يُقَالُ: نازَعَهُ الكَلامَ، ونازَعَه فِي كَذا، وهُوَ مَجَازٌ، قالَ ابنُ مُقْبِلٍ:

نازَعْتُ أَلْبَابَها لُبِّي بمُقْتَصِرٍ *** مِنَ الأَحَادِيثِ حَتَّى زدْنَنِي لِينَا

أَي: نازَعَ لُبِّي أَلْبابَهُنَّ.

وِمِنَ المَجَازِ: أَرْضِي تُنَازِعُ أَرْضَكُمْ، أَي: تَتَّصِلُ بِهَا، قالَ ذُو الرُّمَّةِ:

لَقًى بَيْنَ أَجْمَادٍ وجَرْعاءَ نازَعَتْ *** حِبَالًا بِهِنَّ الجازِئاتُ الأَوَابِدُ

وِالتَّنازُعُ فِي الأَصْلِ: التَّجاذُبُ، كالمُنَازَعَةِ، ويُعَبَّرُ بِهِمَا عن التَّخاصُمِ والمُجَادَلَةِ، ومِنْهُ قَوْلُه عَزَّ وجَلَّ: {وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا} وقَوْلُه تَعالَى: {فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‌ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ}.

وِمِنَ المَجَازِ: التَّنَازُعُ: التَّناوُلُ، والتَّعَاطِي، والأَصْلُ فِيه التَّجاذُبُ، قلَ اللهُ تَعَالَى: {يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْسًا}، أَي: يَتَنَاوَلُونَ.

وِالتَّنَزُّعُ: التَّسَرُّع، يُقَالُ: رَأَيْتُ فُلانًا مُتَنَزِّعًا إِلَى كَذا، ومُتَتَرِّعًا، أَي: مُتَسَرِّعًا إِليه نازِعًا.

* وممّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

انْتَزَعَ الرُّمْحَ: اقْتَلَعَهُ ثُمَّ حَمَلَ.

وِنَزَعَ الأَمِيرُ العامِلَ عَنْ عَمَلِه، أَي: أَزَالَهُ، وهُوَ مَجازٌ؛ لأَنَّه إِذا أَزالَه فقَد اقْتَلَعَه، ويُعَبَّرُ عنه بالعَزْلِ.

وِالمِنْزَعةُ، كمِكْنَسَةٍ: خَشَبَةٌ عَرِيضَةٌ نَحْوُ المِلْعَقَةِ، تَكُونُ مَع مُشْتارِ العَسَلِ، يَنْزِعُ بِها النَّحْلَ اللَّواصِقَ بالشَّهْدِ، وتُسَمّى المِحْبَضَة، عن ابْنِ دُرَيْدٍ.

وِنازَعَتْنِي نَفْسِي إِلَى هَوَاهَا، نِزَاعًا: غالَبَتْنِي، ونَزَعْتُهَا أَنَا: غَالَبْتُهَا، وقالَ سِيبَوَيْه: لا يُقَالُ في العَاقِبَةِ فنَزَعْتُه؛ اسْتَغْنَوْا عَنْه بغَلَبْتُه.

وِانْتِزَاعُ النِّيَّةِ: بُعْدُهَا، عن ابْنِ السِّكِّيتِ.

وِالنَّزِيعُ: الشَّرِيفُ مِنَ القَوْمِ الَّذِي نَزَعَ إِلى عِرْقٍ كَرِيمٍ، وكَذلِكَ فَرَسٌ نَزِيعٌ، وفي الحَدِيثِ: «لَقَدْ نَزَعْتَ بمِثْلِ ما فِي التَّوْرَاةِ؛ أَي جِئْتَ بِمَا يُشْبِهُها.

وِالنَّزَعَةُ، مُحَرَّكَةً: الرُّمَاةُ.

وِانْتَزَعَ لِلصَّيْدِ سَهْمًا: رَمَاهُ به، يُقَال: رَأَى الصَّيْدَ فانْتَزَعَ لَهُ.

وأَيْدٍ نَوازِعُ.

وِانْتَزَعَ بالآيَةِ والشِّعْرِ: تَمَثَّلَ. ويُقَالُ للرَّجُلِ إِذا اسْتَنْبَطَ مَعْنَى آيَةٍ: قد انْتَزَعَ مَعْنًى جَيِّدًا، وهو مَجازٌ.

ويُقَالُ: نَازَعَنِي فُلانٌ بَنَانَهُ، أَي: صافَحَنِي، والمُنَازَعَةُ: المُصَافَحَةُ: وهو مَجَازٌ، قالَ الرّاعِي:

يُنَازِعْنَنَا رَخْصَ البَنانِ كأَنَّمَا *** يُنَازِعْنَنَا هُدّابَ رَيْطٍ مُعَضَّدِ

وِالمِنْزَعَةُ، بكسرِ المِيمِ وفَتْحِهَا: الخُصُومَةُ، كالنِّزاعةِ بالكَسْرِ.

وِالنَّزْعاءُ من الجِباهِ: الَّتِي أَقْبَلَتْ ناصِيَتُهَا، وارْتَفَعَ أَعْلَى شَعَرِ صُدْغِهَا.

وِنَزَعَهُ بنَزِيعَةٍ: نَخَسَهُ، عن كُرَاع.

وغَنَمٌ نُزُعٌ، بضَمَّتَيْنِ: لُغَةٌ فِي نُزَّعٍ، كرُكَّعَ: بِها نِزاعٌ، وهو طَلَبُ الفَحْلِ، وشاةٌ نازِعٌ.

وِالنَّزائِعُ مِنَ الرِّيَاحِ: هي النُّكْبُ، سُمِّيَتْ لِاخْتِلافِ مَهابِّها، وهُو مَجَازٌ، وفِي الأَسَاسِ: بَيْنَ رِيحَيْنِ.

ورَجُلٌ مِنْزَعٌ، كَمِنْبَرٍ: شَدِيدُ النَّزْعِ.

وماءٌ بَعِيدُ المَنْزِعِ، وهُوَ المَوْضِعُ الّذِي يُنْزَعُ منه.

وِنازَعْتُه عَلَى البِئْرِ: نَزَعْتُ مَعَه.

ورَآه مُكِبًّا عَلَى الشَّرِّ فاسْتَنْزَعَه: سَأَلَه أَنْ يَنْزِعَ عَنْهُ.

ويُقَالُ: فُلانٌ يَنْزعُ بحُجَّتهِ: إِذا كانَ يَحْضُرُ بها، وهو مَجَازٌ، ومنه قَوْلُه تَعالَى: {وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا}.

ويُقَالُ: نَزَعَ يَدَهُ مِنَ الطّاعَةِ، وخَرَجَ عاصِيًا نازِعَ يَدٍ، وهو مَجازٌ، وتَنَازَعُوا.

والخَيْلُ تُنَازِعُ فارِسَهَا العِنَانَ.

وِالمُنَازَعَةُ: المُنَاوَلَةُ، يُقَال: نازَعَهُ كَأْسَ الكَرَى.

وفَلاةٌ نَزُوعٌ: بَعِيدَةٌ.

وِنَزّاعَةُ الشَّوى: مَوْضِعٌ بمَكَّةَ عِنْدَ شِعْبِ الصَّفَا، نَقَلَه الصّاغَانِيُّ، وياقُوت.

وِالنُّزَاعَةُ، كثُمامَةٍ: ما انْتَزَعْتَه بيَدِكَ، ثُمَّ ألْقَيْتَه.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


180-تاج العروس (طوف)

[طوف]: طافَ حَوْلَ الكَعْبَةِ وعَلَيه اقْتَصَرَ الجوهريُّ وزادَ غيرُه: وبِها، طَوْفًا، وطَوَافًا، وطَوَفانًا مُحرَّكَةً، واقتصرَ الجوهريُّ على الأَوّلِ والثالِثِ، ونقلَ ابنُ الأَثِيرِ الثّانِي وكذلِك اسْتَطافَ، وتَطَوَّفَ نَقَلَهما الجَوْهَرِيُّ وطَوَّفَ تَطْوِيفًا كلُّ ذلك بمَعْنًى: دارَ حَوْلَها.

وَيُقالُ ـ في الأَخير ـ طَوَّفَ الرَّجُلُ: إذا أَكْثَرَ الطَّوافَ، قال شيخُنا: وقد قَصَدَ المُصَنِّفُ إلى الطَّوافِ الشَّرْعِيِّ الذي أَوْضَحَه الشّارِعُ، وتَرَكَ أَصْلَه في اللُّغَةِ، وقد أورَدَه الرّاغِبُ، وَفسَّرَه بمُنْطَلِق المَشْيِ، أو مَشْيٌ فيه اسْتِدارَةٌ، أو غير ذلك.

والمَطافُ: موضِعُه أي: الطَّواف، وجمعُ الطَّوافِ: أَطْوافٌ.

ورَجُلٌ طافٌ أي كَثِيرُه نَقَله الجَوْهَرِيُّ.

والطَّوْفُ: قِرَبٌ يُنْفَخُ فِيها، ويُشَدُّ بعضُها إلى بَعْضٍ فتُجْعَلُ كهَيْئَةِ السَّطْحِ يُرْكَبُ عليها في الماءِ ويُحْمَلُ عَلَيْها المِيرَةُ والنّاسُ، ويُعْبَرُ عليها، وهو الرَّمَثُ، ورُبَّما كانَ من خَشَبٍ، والجمعُ أَطْوافٌ، وقال الأَزهريُّ: الطَّوْفُ الذي يُعْبَرُ عليها [في] الأَنْهارِ الكِبار، يُسَوَّى من القَصَبِ وَالعِيدانِ، يُشَدُّ بعضُها فوقَ بعضٍ، ثم تُقَمَّطُ بالقُمُطِ، حتّى يُؤْمَنَ انْحِلالُها، ثم تُرْكَبُ ويُعْبَرُ عليها، ورُبَّما حُمِلَ عليها الجَمَلُ على قَدْرِ قُوَّتِه وثَخانَتهِ، وتُسَمَّى العامَةَ، بتخفيفِ المِيم.

والطَّوْفُ: الغائِطُ وهو ما كانَ من ذلِك بعد الرَّضاعِ، وَأَمّا ما كانَ قبْلَه فهو عِقْيٌ، قالَه الأَحْمَر، وفي الحَدِيث: «لا يَتَناجَى اثْنانِ على طَوْفِهِما» وفي حَدِيثِ ابنِ عَبّاسٍ: «لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكم وهو يُدافِعُ الطَّوْفَ والبَوْلَ» وفي كَلامِ الرّاغبِ ما يَدُلُّ على أَنَّه من الكِناية.

وطافَ يَطُوفُ طَوْفًا: إذا ذَهَبَ إلى البَرازِ ليَتَغَوَّطَ زاد ابنُ الأَعرابِيِّ كاطَّافَ يَطّافُ اطِّيَافًا: إذا أَلْقَى ما في جَوْفِه، وَأَنشَدَ:

عَشَّيْتُ جابانَ حي اسْتَدَّ مَغْرِضُه *** وَكادَ يَنْقَدُّ إلّا أَنَّهُ اطّافَا

وَهو على افْتَعَلَ.

والطّائِفُ: العَسَسُ كما في الصِّحاح قال الرّاغِبُ: وهو الذي يَدُورُ حول البُيُوتِ حافِظًا، وقَيَّدَه غيرُه باللَّيْل.

والطّائِفُ: بِلادُ ثَقِيفٍ قال أَبُو طالِبِ بنُ عَبْدِ المُطلِبِ:

مَنَعْنا أَرْضَنا من كُلِّ حَيٍّ *** كما امْتَنَعَتْ بطائِفِها ثَقِيفُ

وَهي في وادٍ بالغَوْرِ أَوّلُ قُراها لُقَيْمُ، وآخرُها الوَهْطُ، سُمِّيَتْ لأَنّها طافَتْ على الماءِ في الطُّوفانِ، أو لأَنّ جِبْرِيلَ عليه‌السلام طافَ بِها عَلَى البَيْتِ سَبْعا نقله المَيُورْقِيّ عن الأَزْرَقِيِّ.

أَو لأَنَّها كانَتْ قريةً بالشّامِ، فَنَقَلَها الله تَعالَى إلى الحِجازِ بدَعْوَةِ إِبراهيمَ عليه‌السلام اقْتِلاعًا من تُخُومِ الثَّرَى بعُيُونِها وَثِمارِها ومَزارِعِها، وذلك لمَّا قالَ: {رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} نقله أَبو داودَ الأَزْرَقيُّ في تاريخ مكَّةَ، وأَبُو حذيفَةَ إِسحاقُ بْنُ بِشْرٍ القُرَشِيُّ في كتاب «المُبْتَدا» وهو قولُ الزُّهْرِيِّ، وقالَ القَسْطَلّانِيُّ في المَواهِبِ: إِنّ جِبْرِيلَ عليه‌السلام اقْتَلَعَ الجَنَّة التي كانَتْ لأصحابِ الصَّرِيمِ، فسارَ بِها إلى مكَّةَ، فطافَ بها حولَ البيتِ، ثمّ أنزلَها حيثُ الطّائِفُ، فسُمِّيَ الموضعُ بها، وَكانت أَوّلًا بنواحي صَنْعَاءَ، واسمُ الأَرضِ «وَجٌّ» وهي بَلْدَةٌ كبيرةٌ على ثلاثِ مَراحِلَ أو اثْنَتَيْنِ من مكَّةَ من جهة المَشْرِقِ، كثيرةُ الأَعنابِ والفَواكِهِ، وروى الحافِظ ابنُ عاتٍ في مَجالِسِه أنَّ هذه الجَنَّةَ كانت بالطّائِفِ، فاقْتَلَعَها جِبْرِيلُ، وطافَ بها البيتَ سَبْعًا، ثم رَدَّها إلى مَكانِها، ثم وَضَعَها مكانَها اليوم، قال أَبو العَبّاس المَيُورْقِيُّ: فتَكُون تلك البُقْعَةُ من سائِرِ بُقَع الطّائِفِ طِيفَ بها بالبيتِ مَرَّتَيْنِ في وَقْتَيْنِ.

أَو لأَنَّ رَجُلًا من الصَّدِفِ وهو ابنه الدَّمُّونُ بنُ الصَّدِفِ، واسمُ الصَّدِفِ مالِكُ بنُ مُرْتِعِ بن كِنْدَةَ من حَضْرَموْت أَصابَ دَمًا في قَوْمِه بحَضْرَمَوْتَ، ففَرَّ إلى وَجٍّ ولَحِقَ بثَقِيفَ، وأَقامَ بها وحالَفَ مَسْعُودَ بنَ مُعَتِّبٍ الثَّقَفيّ أَحدَ من قِيلَ فيه: إِنَّهُ المُرادُ من الآية {عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}، وكانَ له مالٌ عَظِيمٌ، فقَالَ لهم: هَلْ لَكُمْ أَنْ أَبْنِيَ لكم طَوْفًا عَلَيْكُم يُطِيفُ ببلدِكم يكونُ لكم رِدْءًا من العَرَبِ؟ فقالُوا: نَعَمْ، فبَناهُ، وهو الحائِطُ المُطِيفُ المُحْدِقُ به وهذا القَوْلُ نَقَلَه السُّهَيْلِيُّ في الرَّوْضِ عن البَكْرِيّ، وأَعرضَ عنه، وذَكَر ابنُ الكَلْبِيِّ ما يُوافِقُ هذا القولَ، وقد خُصَّت الطّائفُ بتَصانِيفَ، وذَكَرُوا هذا الخِلافَ الذي ساقَه المُصنِّفُ، وبَسَطوا فيه، أَوردَ بعضَ ذلك الحافِظُ ابنُ فَهْدٍ الهاشِمِيُّ في تاريخٍ له خَصَّه بذكر الطّائِف، جزاهم الله عنا كُلَّ خيرٍ.

والطّائِفُ من القَوْسِ: ما بَيْنَ السِّيَةِ والأَبْهَرِ نقله الجوهريُّ.

أَو هو قَرِيبٌ من عَظْمِ الذِّراعِ من كَبِدِها.

أَو الطّائِفانِ: دُونَ السِّيَتَيْنِ والجمعُ طوائِفُ، قال أَبو كَبِيرٍ الهُذَلِيُّ:

وَعُراضَةُ السِّيَتَيْنِ تُوبِعَ بَرْيُها *** تَأْوِي طَوائِفُها لعَجْسٍ عَبْهَرِ

ويَعْنِي بالسِّيَتَيْنِ: ما اعْوَجَّ من رَأْسِها، وفيها طائِفانِ، وَقال أبو حَنِيفَةَ: طائِفُ القَوْسِ: ما جاوَزَ كُلْيَتَها من فَوْق وَأَسْفَل إلى مُنْحَنَى تَعْطِيفِ القَوْسِ من طَرَفِها، وأَنشَد ابنُ بَرِّي:

وَمَصُونَةٍ دُفِعَتْ فَلَمّا أَدْبَرَتْ *** دَفَعَتْ طَوائِفُها على الأَقْيالِ

والطّائِفُ: الثَّوْرُ يَكونُ ممّا يَلِي طرَفَ الكُدْسِ عن ابنِ عَبّادٍ.

والطّائِفَةُ من الشي‌ءِ: القِطْعةُ منه نقله الجَوْهَرِيُّ أَو هي الوَاحِدَةُ فصاعِدًا وبه فَسّر ابنُ عَبّاد قولَه تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.

أَو الواحِدَةُ إلى الأَلْفِ وهو قولُ مُجاهِدٍ، وفي الحديثِ: «لا تَزالُ طائِفَةٌ من أُمَّتِي على الحَقِّ» قال إِسحاقُ بْنُ راهَوَيْهِ: الطّائِفَةُ دونَ الأَلفِ، وسيبلغُ هذا الأَمرُ إلى أَنْ يكونَ عددُ المُتَمَسِّكِين بما كانَ عَلَيه رَسُولُ الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم وأصحابُه أَلفًا، يعني بذلِك أَن لا يُعْجِبهُم كثرةُ [أَهْلِ] الباطل.

أَو أَقَلُّها رَجُلانِ قالَه عَطاءٌ أَو رَجُلٌ رُوِيَ ذلك عن مُجاهدٍ أَيضًا، فيَكُونُ حِينئذٍ بمَعْنَى النَّفْسِ الطائِفَةِ، قال الرّاغِبُ: إذا أُريدَ بالطائِفَةِ الجَمْعُ فجَمْعُ طائفٍ، وإذا أُريدَ به الواحد فيَصِحُّ أَنْ يكونَ جَمْعًا ويُكْنى به عن الواحدِ، وأَنْ يُجْعَلَ كراوِيةٍ وعَلّامَةٍ، ونحو ذلك.

وذُو طَوّافٍ كشَدّادٍ: وائِلٌ الحَضْرَمِيُّ والدُ ذِي العُرْفِ رَبِيعَةَ الآتي ذكره في «عرف».

والطَّوّافُ أَيضًا: الخَادِمُ يَخْدِمُك برِفْقٍ وعِنايَةٍ والجمع الطَّوّافُونَ، قاله أَبو الهَيْثَمِ، وقال ابنُ دُرَيْدٍ: الطَّوّافُونَ: الخَدَمُ والمَماليكُ، وفي الحَدِيثِ: «الهِرَّةُ لَيْسَت بنَجِسَةٍ، إِنّما هي من الطَّوّافِينَ عليكُم ـ أَو الطَّوّافاتِ ـ وكانَ يُصْغِي لها الإِناءَ فتَشْرَبُ منه، ثم يَتَوَضَّأُ به» جعَلَها بمَنْزِلَةِ المَمالِيكِ، من قولِه تعالَى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ} ومنه‌قولُ إبراهيمَ النَّخْعِيِّ: «إِنَّما الهِرَّةُ كبَعْضِ أَهْلِ البَيْتِ».

والطُّوفانُ، بالضَّمِّ: المَطَرُ الغالِبُ الذي يُغْرَقُ من كَثْرَتِه.

وقيل: هو الماءُ الغالِبُ الذي يَغْشَى كُلَّ شي‌ءٍ.

وقيل: هو المَوْتُ وقد جاء ذلك في حَدِيثِ عائِشَةَ مرفوعًا، وبه فُسِّرَ أَيضًا حَدِيثُ عَمْرِو بنِ العاصِ، وذَكَر الطّاعُونَ، فقَالَ: «لا أَراه إلّا رِجْزًا أو طُوفانًا».

وقيل: هو المَوْتُ الذَّرِيعُ. وقيل: هو المَوْتُ الجارِفُ.

وقِيلَ: هو القَتْلُ الذَّرِيعُ.

وقِيلَ: هو السَّيْلُ المُغْرِقُ قال الشّاعِرُ:

غَيَّرَ الجِدَّةَ من آياتِها *** خُرُقُ الرِّيحِ وطُوفانُ المَطَرْ

وقِيلَ الطُّوفانُ من كُلِّ شي‌ءٍ: ما كانَ كَثِيرًا مُحِيطًا مُطِيفًا بالجَماعَةِ كُلِّها، كالغَرَقِ الذي يَشْتَمِلُ عَلَى المُدُنِ الكَثِيرةِ، وَالقَتْلِ الذَّرِيعِ، والمَوْتِ الجارِفِ، وبذلِك كُلِّه فُسِّرَ قولُه تعالى: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ} وكُلُّ حادِثَةٍ تُحِيطُ بالإنسانِ، وَعَلَى ذلِكَ قولُه تعالَى: {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ} وصارَ مُتعارَفًا في الماءِ المُتَناهِي في الكَثْرةِ، لأَجْلِ أنَّ الحادِثَةَ به الَّتِي نالَتْ قومَ نُوحٍ كانَتْ ماءً، قال عزَّ وجَلّ: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ}. وهو تَحْقِيقٌ نفِيسٌ، ثم اخْتُلِفَ في اشتقاقِه ـ وإِنْ كانَ أَكثرُ الأَئمَّةِ لم يَتَعَرَّضُوا له ـ فقيل: مِن طافَ تَطُوفُ، كما اقتضاه كلامُ المُصَنِّفِ والرّاغبِ، قيل: هو فلعان من طَفَا الماءُ يَطْفُو: إذا عَلا وارتَفَعَ، فقُلِبَت لامُه لمكانِ العينِ، كما نقله شيخُنا عن الاقْتِضاب.

قلتُ: والقولُ الثّانِي غَرِيبٌ.

الواحِدَةُ بهاءٍ قال الأَخْفَشُ: الطُّوفان جمعُ طُوفانَةٍ، قال ابنُ سِيدَه: والأَخْفَشُ ثِقَةٌ، وإذا حَكَى الثِّقَةُ شيئًا لَزِمَ قَبُولُه، قال أَبو العَبّاس: هُوَ مِنْ طافَ يَطُوفُ، قال: والطُّوفانُ: مصدَرٌ مثلُ الرُّجْحانِ والنُّقْصانِ، ولا حاجَةَ به إلى أَنْ يَطْلُبَ له واحدًا.

ويقال: أَخَذَ بِطُوفِ رَقَبَتِه بالضمِّ وطَافِها، كصُوفِها وَصَافِها بمعنًى، نقلَهُ الجوهَرِيُّ.

وأَطافَ بِهِ: أي أَلَمَّ بِهِ وقارَبَه قال بِشْرُ بنُ أَبِي خازِمٍ:

أَبو صِبْيَةٍ شُعْثٍ يَطِيفُ بشَخْصِهِ *** كوالِحُ أَمْثالُ اليَعاسِيبِ ضُمَّرُ

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

طَافَ بِهِ الخَيالُ طَوْفًا: أَلَمَّ به في النَّوْمِ، واوِيَّةٌ ويائِيَّة، وَسيأْتي للمُصَنِّف في «ط ى ف» اسْتِطْرادًا، لأَنَّ الأصمَعِيَّ يقولُ: طافَ الخيالُ يَطِيفُ طَيْفًا، وغيرُه يَقولُ: يَطُوفُ طَوْفًا.

وَطَافَ بالقَوْمِ يَطُوفُ طَوْفًا وطَوَفانًا، ومَطافًا.

وَأَطافَ: اسْتَدارَ وجاءَ من نَواحِيه.

وَأَطافَ بِهِ، وعَلَيهِ: طَرَقَه لَيْلًا، قال الفَرّاءُ: ولا يكونُ الطّائِفُ نَهارًا، وقد يَتَكَلَّمُ به العَرَبُ، فيَقُولُون: أَطَفْتُ به نَهارًا، وليس مَوْضِعُه بالنَّهارِ، ولكِنَّه بمنزِلَةِ قولِكَ: لَوْ تُرِكَ القَطا لَيْلًا لَنامَ؛ لأَنَّ القَطَا لا يَسْرِي لَيْلًا، وأَنْشَدَ أَبو الجَرّاحِ:

أَطَفْتُ بها نَهارًا غيرَ لَيْلٍ *** وَأَلْهَى رَبَّها طَلَبُ الرِّجالِ

وَطافَ بالنِّساءِ لا غَيْرُ.

وَأَطافَ عَلَيهِ: دارَ حَوْلَه، قال أَبو خِراشٍ:

تُطِيفُ عَلَيهِ الطَّيْرُ وهو مُلَحَّبٌ *** خِلافَ البُيُوتِ عندَ مُحْتَمِلِ الصَّرْمِ

وَاسْتَطافَه: طافَ بِهِ.

وَاطَّوَّفَ اطِّوَّافًا، والأَصلُ تَطَوَّف تَطَوُّفًا، ومنه قَوْلُه تَعالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}.

وَالتَّطْوافُ: مصدرٌ، وبالكَسْرِ: اسمٌ للثَّوْبِ الذي يُطافُ به.

وَالطّائِفيُّ: زَبِيبٌ عناقِيدهُ مُتراصِفَةُ الحَبِّ، كأَنّه مَنْسُوبٌ إلى الطّائِفِ، عن أبي حَنِيفَةَ.

وَأصابَه من الشَّيْطانِ طَوْفٌ، أي: طائفٌ.

وَطافَ في البِلاد طَوْفًا وتَطْوافًا، وطَوَّفَ: سار فِيها. وَطَّوف تَطْوِيفًا وتَطْوافًا.

وَلأَقْطَعَنَّ منه طائفًا: أي بعضَ أَطْرافِه، هكذا جاءَ في حديثِ عِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ في العبدِ الآبِقِ، ويُرْوَى بالباءِ وَالقافِ، وقولُ أَبِي كَبِيرٍ الهُذَلِيَّ:

تَقَعُ السُّيُوفُ على طَوائِفَ مِنْهُمُ *** فيُقامُ منهم مَيْلُ مَنْ لَم يُعْدَلِ

قِيلَ: عَنَى بالطَّوائِف: النَّواحِيَ؛ الأَيْدِيَ والأَرْجُلَ.

وَالطَّوّافُ: مَنْ يَعْمَلُ الطَّوْفَ، وهو ما يُضَمُّ من القِرَبِ فيُعْبَرُ علَيْها.

وَالطَّوْفُ: القِلْدُ. وَطَوْفُ القَصَبِ: قَدْرُ ما يُسْقاهُ.

وَالطَّوْفُ: الثورُ الذي يَدُورُ حولَهُ البَقَرُ في الدِّياسَةِ.

وَالطُّوفان، بالضمِّ: البَلاءُ.

وَيُقالُ لشِدَّةِ ظَلامِ اللَّيْلِ: طُوفانٌ، قال العَجّاجُ:

حَتّى إذا ما يَوْمُها تَصَبْصَبَا *** وعَمَّ طُوفانُ الظَّلامِ الأَثْأَبَا

وَطَوَّفَ النّاسُ والجَرادُ: إذا مَلأُوا الأَرْضَ، كالطُّوفانِ: قال الفَرَزْدَقُ:

عَلَى مَنْ وَرَاءَ الرَّدْمِ لَوْ دُكَّ عَنْهُمُ *** لماجُوا كما ماجَ الجَرادُ وطَوَّفُوا

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


181-تاج العروس (وظف)

[وظف]: الوَظِيفُ: مُسْتَدَقُّ الذِّراعِ والسّاقِ مِن الخَيْلِ، ومِنَ الإِبِلِ ولَفْظَةُ مِن الثانيَةِ مُسْتَدْرَكَةٌ، وكذا نَصُّ الصِّحاحِ: من الخَيْلِ والإبِلِ وغَيْرِها وقال ابنُ الأَعْرابيِّ: هو من رُسْغَيِ البَعِيرِ إلى رُكْبَتَيْهِ في يَدَيْهِ، وأَمَّا في رجْلَيْهِ فمِنْ رُسْغَيْه إلى عُرْقُوبَيْهِ، وقالَ غيرُه: الوَظِيفُ لِكُلِّ ذِي أَرْبَعٍ: ما فَوْقَ الرُّسْغِ إلى مَفْصِلِ السّاقِ، ووَظِيفَا يَدَيِ الفَرَسِ: ما تَحْتَ رُكْبَتَيْهِ إلى جَنْبَيْهِ، ووَظِيفَا رِجْلَيْهِ: ما بَيْنَ كَعْبَيْه إلى جَنْبَيْهِ.

ج: أَوْظِفَةٌ وعَلَيه اقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ، ومنه قَوْلُ الأَصْمَعِيِّ: يُسْتَحَبُّ من الفَرَسِ أَنْ تَعْرُضَ أَوْظِفَةُ رِجْلَيْهِ، وَتَحْدَبَ أَوْظِفَةُ يَدَيْهِ ويُجْمَعُ أَيضًا على وُظُف، بضَمَّتَيْنِ وقال أَبُو عَمْرٍو: الوَظِيفُ: الرَّجُلُ القَويُّ عَلَى المَشْيِ في الحَزْنِ.

ومن المَجازِ: جاءَت الإِبلُ على وَظِيفٍ واحِدِ: إذا تَبِعَ بَعْضُها بَعْضًا كأَنَّها قِطارٌ، كلُّ بَعِيرٍ رَأَسُه عندَ ذَنَبِ صاحِبِه.

ووَظَفَه أي: البَعِيرَ يَظِفُه: إذا قَصَّرَ قَيْدَه.

ووَظَفَه وَظْفًا: أَصابَ وَظِيفَه.

ويُقال: وَظَفَ القَوْمَ يَظِفُهُم وَظْفًا: إذا تَبِعَهُم مَأْخُوذٌ من الوَظِيفِ، عن ابن الأَعْرابِيِّ.

والوَظِيفَةُ، كسَفِينَةٍ: ما يُقَدَّرُ لكَ في اليَوْمِ وكَذا في السَّنَةِ والزَّمان المُعَيَّنِ، كما في شُرُوح الشِّفاءِ مِن طَعامٍ، أَو رِزْقٍ كما في الصِّحاحِ، زادَ غيرُه ونحْوِه كشَرابٍ، أو عَلَف للدّابَّةِ، يُقال: له وَظِيفَةٌ من رِزْقٍ وعَلَيْهِ كُلَّ يومٍ وظيفةٌ من عَمَلٍ.

قال شَيْخُنا: ويَبْقَى النَّظَرُ: هَلْ هُوَ عَرَبِيٌّ أو مُوَلَّد؟ وَالأَظْهَرُ عِنْدِي الثّانِي.

وقال ابنُ عَبّادٍ: الوَظِيفَةُ: العَهْدُ والشَّرْطُ، ج: وَظائِفُ، ووُظُفٌ، بضَمَّتَيْنِ.

والتَّوْظِيفُ: تَعْيِينُ الوَظِيفَةِ يُقالُ: وَظَّفْتُ عَلَى الصَّبيِّ كُلَّ يَوْمٍ حِفْظَ آياتٍ من كِتابِ الله عَزَّ وجَلَّ.

وَيُقالُ: وَظَّفَ عَلَيه العَمَلَ، وهو مُوَظَّفٌ عَلَيه.

وَوَظَّفَ له الرِّزْقَ، ولدَابَّتِه العَلَفَ.

قلتُ: ويُعَبَّرُ الآنَ في زَمانِنا بالجِرَايَةِ والعَلِيقَةِ.

وقال ابنُ عَبّادٍ: المُواظَفَةُ: مثلُ المُوافَقَة، والمُوَازَرَة، وَالمُلازَمَة يُقال: واظَفْتُ فُلانًا إلى القَاضِي: إذا لازَمْتَه عِنْدَه.

واستَوْظَفَه: اسْتَوْعَبَه ومنه قَوْلُ الإمام الشّافِعِيِّ رحمه ‌الله ـ في كِتابِ الصَّيْدِ والذَّبائِح ـ: «إِذا ذَبَحْتَ ذَبِيحَةً فاسْتَوْظِفَ قَطْعَ الحُلْقُومِ والمَرِي‌ءِ والوَدَجَيْنِ» أي: اسْتَوْعِبْ ذلِكَ كُلَّه.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

وَظَفَ الشَّيْ‌ءَ على نَفْسِه وَظْفًا: أَلْزَمَها إِيّاهُ.

وَيُقال: للدُّنْيا وظائِفُ ووُظُفٌ؛ أي: نُوَبٌ ودُوَلٌ، وأَنشَدَ اللَّيْثُ:

أَبْقَتْ لَنا وَقَعاتُ الدَّهْرِ مَكْرُمَةً *** ما هَبَّت الرِّيحُ والدُّنْيا لَها وُظُفُ

أي: دُوَلٌ ونُوَبٌ، وهو مَجازٌ، وفي التَّهْذِيبِ: هي شِبْهُ الدُّوَلِ، مَرَّةً لهؤلاءِ، ومَرَّةً لهؤُلاءِ، جَمْعُ الوَظِيفَةِ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


182-تاج العروس (ذوق)

[ذوق]: ذاقَهُ ذَوْقًا، وذَواقًا، ومَذاقًا: ومَذاقَةً: اخْتَبَر طَعْمَه وأَصْلُه فيما يَقِلُّ تَناوُلُه، فإِنَّ ما يَكْثُرُ منه ذلك يُقالُ له: الأَكْلُ وأَذَقْتُه أَنا إِذاقَةً.

وفي البَصائِر والمُفْرَداتِ: اخْتِيرَ في القُرآنِ لَفْظُ الذَّوْق للعَذاب؛ لأَنَّ ذلِكَ وإِنْ كانَ في التَّعارُفِ للقَلِيلِ، فهو مُسْتَصْلَحٌ للكَثِيرِ، فخَصَّهُ بالذِّكْرِ ليُعْلمَ الأَمرين، وكثُر اسْتِعْمالُه في العَذابِ، وقد جاءَ في الرَّحْمَة، نحو قَوْله تَعالَى: {وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنّا} ويُعَبَّرُ به عن الاخْتِبارِ، يُقالُ: أَذَقْتُه كذا فذَاقَ، ويُقال: فُلانٌ ذاقَ كذا، وأَنا أَكَلْتُه؛ أَي خَبَرْتُه أَكْثَرَ مما خَبَرَه، وقوله تَعالَى: {فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} فاسْتِعْمالُ الذَّوْقِ مع اللِّباسِ من أَجْل أَنَّه أُرِيدَ بهِ التَّجْرِبَة والاخْتِبار، أَي: جَعَلَها بحيثُ تُمارِسُ الجُوعَ، وقِيلَ: إِنَّ ذلكَ على تَقْدِيرِ كَلامَيْنِ، كأَنّه قِيلَ: أَذاقَها [طعم] الجُوعَ والخَوْفَ، وأَلْبَسَها لِباسَهُما، وقولُه تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنّا رَحْمَةً} اسْتَعْمَلَ في الرَّحْمَةِ الإِذاقَةَ، وفي مُقابِلَتِها الإِصَابَة في قوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} تَنْبِيهًا على أَنَّ الإِنْسانَ بأَدْنَى ما يُعْطَى من النِّعْمَة يَبْطَرُ ويَأشَرُ.

قال المُصَنِّفُ: وقالَ بعضُ مَشايخِنا: الذَّوْقُ: مُباشَرَةُ الحاسَّةِ الظّاهِرَةِ، أَو الباطِنَةِ، ولا يَخْتَصُّ ذلك بحاسَّةِ الفَمِ في لُغَةِ القُرآنِ، ولا في لُغَةِ العَرَبِ، قالَ تعالى: {وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ} وقالَ تعالَى: {هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسّاقٌ} وقالَ تَعالَى: {فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} فتَأَمَّلْ كَيفَ جَمَعَ الذَّوْقَ واللِّباسَ حَتّى يَدُلَّ على مُباشَرةِ الذَّوْقِ وإِحاطَتِه وشُمُولِه، فأَفادَ الإِخْبارُ عن إِذاقَتِه أَنّه واقِعٌ مُباشَرٌ غَيْرُ مُنْتَظَر، فإِنَّ الخَوْفَ قد يُتَوَقَّعُ ولا يُباشَر، وأَفادَ الإِخْبارُ عن لِباسِه أَنّه مُحِيطٌ شامِلٌ كاللِّباسِ للبَدَنِ، وفي الحَدِيثِ: «ذاقَ طَعْمَ الإِيمانِ مَنْ رَضِيَ باللهِ رَبًّا، وبالإِسْلامِ دِينًا وبمُحَمَّدٍ رَسُولًا»، فأَخْبَرَ أَنَّ للإِيمانِ طَعْمًا، وأَنَّ القَلْبَ يَذُوقُه، كما يَذُوقُ الفَمُ طَعْمَ الطَّعامِ والشَّرابِ، وقد عَبَّرَ النَّبِيُّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم عن إِدْراكِ حَقِيقَةِ الإِيمان والإِحْسانِ.

حصولهِ للقلبِ ومُباشَرَتِه له بالذَّوْقِ تارَةً، وبالطَّعامِ والشَّرابِ تارةً، وبوِجْدانِ الحَلاوَةِ تارةً، كما قالَ: «ذاقَ طَعْمَ الإِيمانِ... الحديث» وقالَ: «ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فيهِ وَجَدَ حَلاوةَ الإِيمانِ».

قالَ: والذَّوْقُ عندَ العارِفينَ: مَنْزِلَةٌ مِنْ مَنازِلِ السّالِكِينَ أَثْبَتُ وأَرْسَخُ من مَنْزلَة الوَجْدِ، فتَأَمَّلْ ذلك.

ومن المَجازِ ذاقَ القَوْسَ ذَوْقًا: إِذا جَذَبَ وَتَرَها اخْتِبارًا ليَنْظُر ما شِدَّتُها، قال الشَّمّاخُ:

فذاقَ فأَعْطَتْهُ من اللِّينِ جانِبًا *** كَفَى وَلَهَا أَنْ يُغْرِقَ النَّبْلَ حاجزُ

أَي: لَها حاجِزٌ يمنَعُ من إِغراقٍ.

وما ذاقَ ذَواقًا أَي: شَيْئًا والذَّواقُ فَعالٌ: بمعنى مَفْعُول من الذَّوْقِ، ويَقعُ على المَصْدَرِ والاسمِ، وفي الحَدِيثِ: «لم يَكُنْ يَذُمُّ ذَواقًا» وفي الحَدِيثِ ـ في صِفَةِ الصَّحابَةِ ـ: «يَدْخُلُونَ رُوّادًا، ولا يَتَفَرَّقُونَ إِلّا عَنْ ذَواق، ويَخْرُجُونَ أَدِلَّةً» قال القُتَيْبيُّ: الذَّواقُ: أَصْلُه الطَّعْمُ، ولم يُرِدِ الطَّعْمَ ههُنا، ولكِنَّهُ ضَرَبَهُ مَثَلًا لما يَنالُونَ عِنْدَهُ من الخَيْرِ، وقالَ ابنُ الأَنْبارِيِّ: أَراد لا يَتَفَرَّقُونَ إِلّا عَن عِلْمٍ يتَعَلَّمُونَه، يقومُ لهم مَقامَ الطَّعامِ والشَّرابِ، لأَنّه كانَ يَحْفَظُ أَرْواحَهُم، كما كانَ يَحْفَظُ الطَّعامُ أَجْسامَهُمْ. وقالَ أَبو حَمْزَةَ: يقالُ: أَذاقَ زَيْدٌ بَعْدَكَ سَرْوًا؛ أَي صارَ: سَرِيًّا، وكَرَمًا أَي: صارَ كَرِيمًا وأَذاقَ الفَرَسُ بعدَك عَدْوًا، أَي: صارَ عَدّاءً بعدَك، وهو مَجازٌ.

وتَذَوَّقَهُ أَي: ذاقَهُ مَرَّةً بعدَ مَرَّةِ وشَيْئًا بعدَ شَيْ‌ءٍ.

وتَذاوَقُوا الرِّماحَ: إِذا تَناوَلُوها قالَ ابنُ مُقْبِلٍ:

أَو كاهْتِزازِ رُدَيْنيٍّ تَذاوَقَهُ *** أَيْدِي التِّجارِ فزَادُوا مَتْنَه لِينَا

وهو مَجازٌ.

* ومما يُسْتَدرَكُ عليه:

المَذاقُ، يكونُ مَصْدَرًا، ويكونُ اسْمًا.

وتَقُول: ذُقْتُ فُلانًا، وذُقْتُ ما عِنْدَه، أَي: خَبَرْتُه.

والذَّوّاقُ، كشَدّادٍ: السَّرِيعُ النِّكاحِ السَّرِيعُ الطّلاقِ، وهي ذَوّاقَةٌ، وقد نُهِيَ عن ذلِك.

والذَّوّاقُ أَيْضًا: المَلُولُ.

واسْتَذاقَ فُلانًا: خَبَره فلَمْ يَحْمَدْ مَخْبَرَتَه.

وأَمْرٌ مُسْتَذاقٌ، أَي: مُجَرَّبٌ مَعْلُومٌ.

وذَوْقُ العُسَيْلَةِ: كِنايَةٌ عن الإِيلاجِ.

ويَومٌ ما ذُقْتُه طَعامًا، أَي: ما ذُقْتُ فيهِ.

وتَذاوَقَه، كذَاقَهُ.

وهو حَسَنُ الذَّوْقِ للشِّعْرِ: مَطْبُوعٌ عليه.

وما ذُقْت غَماضًا، وما ذُقْتُ في عَيْنِيَ نَوْمًا.

وذاقَتْها يَدِي، وذاقَتْ [كَفِّي] فُلانَةَ: إِذا مَسَّتْها.

ويُقال: ذِيقَ كَذِبُه، وخُبِرَتْ حالُه.

واسْتَذاقَ الأَمْرُ لفُلانٍ: انْقادَ لَهُ، ولا يَسْتَدِيقُ لي الشِّعْر إِلّا في فُلان.

ودَعْنِي أَتَذَوَّق طَعْمَ فُلانٍ.

وتَذَوَّقْتُ طَعْمَ فِراقِه، وكلُّ ذلِك مَجازٌ وكِنايَةٌ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


183-تاج العروس (صدق)

[صدق]: الصِّدقُ بالكَسْر والفَتح: ضِدُّ الكَذِب والكسر أَفصح كالمَصْدُوقَة، وهي من المَصادر التي جاءَت على مَفعُولة، وقد صَدقَ يَصدُق صَدْقًا وصِدْقًا ومَصْدُوقَةً.

أَو بالفَتْح مَصْدرٌ، وبالكَسْر اسمٌ.

قال الرّاغِب: الصِّدْق والكَذِب أَصلُهُما في القَوْل، ماضِيًا كان أَو مُسْتَقْبلًا، وَعْدًا كان أَو غيره، ولا يَكونَان بالقَصْدِ الأَول إِلّا في القَوْل، ولا يَكونَان من القَوْل إِلّا في الخَبَرِ دُون غَيْره من أَنواع الكلام، ولذلك قال تَعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا}، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا} {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ}.

وقد يَكُونان بالعَرْض في غَيْره من أَنْواع الكلام، كالاستِفْهام، والأَمْر، والدُّعاءِ، وذلِك نَحوُ قولِ القَائِل: أَزَيْدٌ في الدّارِ؟ فإِنَّه في ضِمْنه إِخْبار بكَوْنِه جَاهِلًا بِحالِ زيْدٍ، وكذا إِذا قال: وَاسِني، في ضِمْنِه أَنَّه مُحْتاج إِلى المُواساةِ، وإِذا قال: لا تُؤْذنِي، فَفِي ضِمْنِه أَنه يُؤذِيه، قال: والصِّدقُ: مطابَقَةُ القَولِ الضَّمِيرَ، والمُخْبَرَ عنه مَعًا، ومَتَى انْخَرَم شَرْطٌ من ذلك لم يَكُن صِدْقًا تَامًّا، بل إَّما أَلّا يوصف بالصّدق وإِما أَن يُوصَف تارةً بالصّدق وتَارةً بالكَذِب على نَظَرين مُخْتَلِفين، كقَوْلِ كافرٍ ـ إِذا قالَ من غَيْر اعتِقاد ـ: مُحمَّدٌ رَسولُ الله، فإِنَّ هذا يَصِحُّ أَن يُقال: صِدْقٌ، لكَوْنِ المخبَر عنه كَذلك. ويَصِحُّ أَن يُقال: كِذْبٌ؛ لمُخالَفَةِ قَولِه ضَمِيرَهُ، وللوجْهِ الثَّانِيِ أَكْذَبَ اللهُ المُنَافِقينَ حَيْثُ قالوا: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ} فقال: {وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ} انتَهِى.

يُقال: صَدَق في الحَدِيثِ يَصدُق صِدْقًا.

وقد يَتَعَدَّى إِلى مَفْعُولين، تَقول: صدَقَ فُلانًا الحدِيثَ أَي: أَنْبَأَه بالصِّدْقِ. قالَ الأَعْشَى:

فصدَقْتُها وكَذَبْتُها *** والمَرْءُ ينفَعُه كِذابُهْ

ومنه قولُه تَعالَى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ} وقولُه تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ}.

ومن المجاز: صَدَقُوهم القِتالَ وصَدَقوا في القِتال: إِذا أَقدَمُوا عليهم، عادَلوا بها ضِدَّها حين قالوا: كَذَبوا عنه: إِذا أَحْجَموا.

وقال الراغب: إِذا وَفَّوْا حَقَّه، وفَعَلوا على ما يَجِبُ.

وقد استعمِل الصِّدقُ هنا في الجَوَارح، ومنه قَولُه تعالى: {رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ} أَي حَقَّقُوا العَهْدَ لِمَا أَظهَرُوه من أَفْعالِهم. وقال زُهيْر:

لَيْثٌ بِعَثَّرَ يَصْطَادُ الرِّجالَ إِذا *** ما اللَّيثُ كَذَّبَ عن أَقْرانِه صَدَقَا

ومن أَمثالهم: صَدَقَنِي سِنَّ بَكْرِه، وذلك أَنَّه لمَّا نَفَر قال له: هِدَعْ، وهي كلمةٌ تُسَكَّنُ بها صِغارُ الإِبل إِذا نَفَرت، كما في الصِّحاح، وقد مَرَّ في: ه بلد موضع هكذا في سائِر النُّسَخ المَوْجُودة، ولم يَذْكُر فيها ذلك، وإِنما تَعرَّض له في «ب ك ر» فكأَنَّه سَهَا، وقَلَّد ما في العُبابِ، فإِنّه أَحالَه على «هدع» ولكنّ إِحالة العُباب صَحِيحة، وإِحالة المُصَنِّفِ غَيْرُ صَحِيحةٍ.

ومن المجاز: الصِّدقُ، بالكَسْرِ: الشِّدَّة.

وفي العُباب: كُلُّ ما نُسِب إِلى الصَّلاح والخَيْر أُضِيف إِلى الصِّدْق، فقيل: هو رَجُلُ صِدْقٍ، وصَدِيقُ صِدْقٍ، مُضافَيْنِ، ومَعْناه: نِعْمَ الرَّجُلُ هو، وكذا امرأَةُ صِدْقٍ فإِن جعلته نَعْتًا قلت: الرجل الصَّدْق بفَتْح الصَّاد وهي صَدْقة كما سيأْتي، وكذلك ثوبٌ صَدْقٌ. وخِمارُ صِدْقٍ حكاه سِيبَوَيْه.

وقَولهُ عزَّ وجَلَّ: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ أَي: أَنزلْناهُم مَنْزِلًا صَالِحًا. وقال الرّاغِبُ: ويُعبَّر عن كُلِّ فِعْل فاعِل ظاهِرًا وباطِنًا بالصِّدق، فيُضاف إِليه ذلك الفِعْلُ الذي يُوصَف به نَحْو قوله عزّ وجلّ: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} وعلى هذا {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وقوله تعالى: {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} {وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} فإِن ذلِك سؤالٌ أَن يجعَلَه الله عَزَّ وجَلَّ صالِحًا بحَيْث إِذا أَثْنَى عليه مَنْ بعدَه لم يكن ذلِك الثَّنَاءُ كَاذِبًا، بَل يَكُون كما قَالَ الشَّاعِر:

إِذا نَحْن أَثنَيْنا عليكَ بصَالِحٍ *** فأَنتَ كما نُثْنِي وفَوقَ الّذي نُثْنِي

ويقال: هذا الرَّجُل الصَّدْقُ، بالفتح على أَنه نَعْتٌ للرّجل، فاذا أَضَفْت إِليه كَسَرْت الصَّادَ كما تَقَدَّم قريبًا، قال رُؤبةُ يَصِفُ فَرسًا:

والمَرْءُ ذو الصِّدقِ يُبَلِّي الصِّدْقا

والصُّدْق، بالضَّمّ، وبضَمَّتَيْن: جمع صَدْقٍ بالفتح كرَهْنٍ ورُهُن، وأَيضًا جَمْع صَدُوقٍ كَصَبُور، وصَدَاقَ كسَحاب، وسيأْتي بيان كلٍّ منهما.

والصَّدِيق كأَمِير: الحَبِيبُ المُصادِقُ لكَ، يُقالُ ذلك لِلْواحِدِ، والجَمْعِ، والمُؤَنَّثِ، ومنه قولُ الشاعِر:

نَصَبْنَ الهَوَى ثُمّ ارتَمَيْنَ قُلوبَنا *** بأَعْيُنِ أَعداءٍ وهُنَّ صَدِيقُ

كما في الصِّحاح، وفي التَّنْزِيل: {فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ. وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} فاستَعْمَله جَمْعًا، أَلا تَراه عَطَفه على الجَمْعِ، وأَنْشَد اللَّيث:

إِذِ النَّاسُ ناسٌ والزَّمانُ بعِزَّةٍ *** وإِذْ أُمُّ عَمَّارٍ صَدِيقٌ مُساعِفُ

وقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: أَخبرنا أَبو عُثْمَانَ عن التَّوَّزِي: كان رُؤْبَة يَقعُد بعد صلاة الجُمُعة في أَخْبِية بني تَمِيم فيُنْشِد وتَجْتَمع الناسُ إِليه فازْدَحَمُوا يومًا فضَيَّقُوا الطريقَ فأَقبلَت عَجوزٌ معها شي‌ءٌ تَحمِله فقال رُؤْبَةُ:

تَنحَّ للعَجُوز عن طَرِيقِها *** قد أَقبَلَت رائحةٌ من سُوقِها

دَعْهَا فَما النّحوِيُّ من صَدِيقِها

أَي: من أَصدِقائها.

وقال آخرُ ـ في جَمْع المُذَكَّر ـ:

لعَمْرِي لَئن كُنْتُم على الَّلأْيِ والنَّوَى *** بِكُم مِثلُ ما بي إِنَّكم لصَدِيقُ

وأَنشد أَبو زَيْد والأَصمَعِي لقَعْنَبِ ابنِ أُمِّ صَاحِبٍ:

ما بالُ قَوْمٍ صَدِيقٍ ثمَّ ليسَ لهم *** دِينٌ وليس لهم عَقْلٌ إِذا ائْتُمِنُوا

وقيل: هي أَي: الأُنْثَى بهاءٍ أَيْضًا نَقلَه الجوهَرِيُّ أَيضًا.

قال شَيْخُنا: وكَونُها بالهاءِ هو القِياسُ، وامْرأَةٌ صَدِيقٌ شَاذٌّ، كما في الهَمْع، وشَرْحِ الكافِية، والتَّسْهِيل، لأَنه فَعِيلٌ بمعنى فَاعِل، وقد حَكَى الرَّضِي ـ في شَرْح الشَّافية ـ أَنَّه جاءَ شَيْ‌ءٌ من فَعِيلٍ كَفاعِلٍ، مُسْتَوِيًا فيه الذَّكَر والأُنْثى؛ حَمْلًا على فَعِيلٍ بمعنى مَفْعُولٍ، كجَدِيرٍ، وسَدِيس، وريح خَرِيق، ورَحمةُ الله قَرِيبٌ، قال: ويَلزَم ذلِك في خَرِيقٍ وسَدِيسٍ، ومِثلُه للشَّيْخِ ابِن مَالِك في مُصَنَّفَاتِه.

ثُمّ هل يُفَرَّقُ بين تَابعِ المَوْصُوفِ أَو. لا؟ مَحَلُّ نَظَرٍ، وظَاهِرُ كلامِهم الإِطلاقُ، إِلَّا أَنَّ الإِحَالَة على الذي بِمَعْنى مَفْعولٍ رُبَّما تَقَيَّد، فَتدَبَّر.

ج: أَصدِقاءُ، وصُدَقَاءُ كأَنْصِباءَ، وكُرَماءَ وصُدْقانٌ بالضم، وهذه عن الفَرَّاءِ جج: أَصادِقُ وهو جَمْع الجَمْع وقال ابنُ دُرَيْدٍ: وقد جَمَعُوا صَدِيقًا: أَصادِق، على غَيْرِ قِياس، إِلَّا أَن يَكُونَ جَمْعَ الجمعِ، فأَمَّا جَمْعُ الوَاحِد فَلَا.

وأَنشدَ ابنُ فَارِس في المقَاييِس:

فلا زِلْن حَسْرى ظُلَّعًا إِنْ حَمَلْنيها *** إِلى بَلَدٍ ناءٍ قَلِيلِ الأَصَادِق

وقال عُمَارَةُ بنُ طَارِق:

فاعْجَلْ بغَرْبٍ مثل غَرْبِ طارِقِ *** يُبْذَل للجِيرَانِ والأَصادِقِ

وقال [جرير:]:

وأَنكَرْتُ الأَصادِقَ والبِلادَا

ويُقالُ: هو صُدَيّقِي، مُصَغَّرًا مُشدَّدًا، أَي: أَخَصُّ أَصْدِقَائِي وإِنّما يُصَغَّرُ على جِهَة المَدْح، كَقوْل حُبابِ بنِ المُنْذِر: «أَنا جُذَيْلُها المُحَكَّك، وعُذَيْقُها المُرَجَّب».

والصَّدَاقَة: إِمْحاضُ المَحَبَّة.

وقالَ الرَّاغِبُ: الصَّدَاقَةُ: صِدْق الاعْتِقاد في المَوَدَّة، وذلكَ مُخْتَصٌّ بالإِنْسانِ دُونَ غَيْرِه.

وقالَ شَمِر: الصَّيْدَقُ، كصَيْقَلٍ: الأَمِينُ، وأَنْشَدَ قولَ [أُمَيّة] بنِ أَبِي الصَّلْتِ:

فيها النُّجومُ طَلَعْنَ غَيرَ مُراحَةٍ *** ما قال صَيْدَقُها الأَمِينُ الأَرْشَدُ

وقال أَبو عَمْرو: الصَّيْدَقُ: القُطْبُ.

وقال كُراع: هو النَّجْم الصَّغِير الَّلاصِقُ بالوُسْطى من بَناتِ نَعْش الكُبْرى.

وقال غيْرُه: هو المُسَمَّى بالسُّها.

وقد شُرِحَ في تركيب ق ود فراجِعْه. وقال أَبو عَمْرو: قِيلَ الصَّيْدَق المَلِك.

والصَّدْقُ بالفتح: الصُّلْبُ المُسْتَوِي من الرِّماحِ والسُّيْوفِ. يُقالُ: رُمْحٌ صَدْقٌ، وسيفٌ صَدْق، أَي: مُسْتَوٍ.

قالَ أَبو قَيْسِ بنُ الأَسْلَتِ:

صَدْقٍ حُسامٍ وادقٍ حَدُّه *** ومُجْنَإِ أَسْمَرَ قَرَّاعِ

قال ابنُ سِيدَه: وظَنّ أَبو عُبَيْدٍ الصَّدْقَ في هذا البَيْتِ الرُّمْحَ، فَغلِط. والصَّدْقُ أَيضًا: الصُّلْب من الرِّجال.

وَرَوَى الأَزهَرِيُّ عن أَبي الهَيْثَمِ أَنّه أَنشَدَه لكَعْبٍ:

وفي الحِلم إِدْهانٌ وفي العَفْوِ دُرْسَةٌ *** وفي الصِّدْقِ مَنْجاةٌ من الشَّرِّ فاصْدُقِ

قال: الصِّدقُ هنا: الشَّجاعَةُ والصَّلَابة. يَقول: إِذا صَلُبْتَ وصَدَقْتَ انْهَزَم عَنكَ من تَصْدُقُه، وإِن ضَعُفْتَ قَوِيَ عليك، واستَمْكَن منك.

رَوَى ابنُ بَرِّيّ، عن ابنِ دُرُسْتَوَيهِ، قال: لَيْس الصِّدْقُ من الصَّلابةِ في شَيْ‌ءٍ، ولكنّ أَهلَ اللُّغة أَخَذُوه من قَوْل النّابِغَة:

في حَالِك اللَّونِ صَدْقٍ غَيرِ ذِي أَوَدِ

وقالَ: وإِنَّما الصَّدْقُ الجامِعُ للأَوْصافِ المَحْمُودَة، والرُّمحُ يُوصَف بالطُّولِ واللِّينِ والصَّلَابَةِ، ونَحْو ذلك.

وقالَ الخليلُ: الصَّدْقُ: الكَامِل من كُلِّ شَيْ‌ءٍ يُقالُ: رجل صَدْقٌ وهِيَ صَدْقَةٌ. قال ابن دُرُسْتَوَيْهِ: وإِنَّما هذا بمَنْزِلة قَولِكَ: رجلٌ صَدْقٌ، وامرأَة صَدْقٌ، فالصَّدْق من الصِّدْقِ بعَيْنِه، والمعنى أَنه يَصْدُق في وَصْفِه من صَلابَة وقُوَّةٍ وجَوْدةٍ، قال: ولو كانَ الصَّدقُ الصُّلْبَ لقِيلَ: حَجَرٌ صَدْقٌ، وحَدِيدٌ صَدْق، قال: وذلِك لا يُقال.

وقَوْمٌ صَدْقُون، ونِساءٌ صَدْقاتٌ قال رُؤْبةُ يَصِف الحُمُرَ:

مَقْذُوذَةُ الآذانِ صَدْقاتُ الحَدَقْ

أَي: نَوافِذُ الحَدَق، وهو مَجَاز.

ومن المَجازِ: رَجُلٌ صَدْقُ اللِّقاءِ أَي: الثَّبْتُ فيه. وصَدْقُ النَّظَرِ وقد صَدَقَ اللِّقاءَ صَدْقًا، قالَ حَسَّانُ بنُ ثابِت رضي ‌الله‌ عنه:

صَلَّى الإِلهُ على ابنِ عَمْرٍو إِنَّه *** صَدَقُ اللِّقاءِ وصَدْقُ ذلِك أَوفَقُ

وقَومٌ صُدْقٌ، بالضمِّ مثل: فَرسٌ وَرْد، وأَفراسٌ وُرْدٌ، وجَوْنٌ وجُونٌ، وهذا قد سَبَقَ في قولِه: «وبالضَّمِّ وبضَمَّتَيْن: جمعُ صَدْقٍ» فهو تَكْرار.

ومِصْداقُ الشَّيْ‌ءِ: ما يُصَدِّقُه. ومنه الحَدِيثُ: «إِن لكُلِّ قَوْلٍ مِصْداقًا ولكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَة».

وشُجاعٌ ذُو مِصْدَقٍ، كمِنْبَر هكذا في العُبابِ والصِّحاح، أَي: صادِقُ الحَمْلة وفَرَسٌ ذُو مِصْدَقٍ: صادِقُ الجَرْيِ كأَنّه ذُو صِدْقٍ فيما يَعِدُك من ذلك، نقله الجَوْهَرِيُّ، وهو مَجازٌ، وأَنشدَ لخُفافِ بنِ نُدْبَةَ:

إِذا ما اسْتَحَمَّت أَرْضُه من سَمائِه *** جَرَى وَهْوَ مَوْدوعٌ وواعِدُ مَصْدَقِ

يَقولُ: إِذا ابتلَّتْ حوافِرُه من عَرَق أَعالِيه جَرَى وهو مَتْروكٌ لا يُضرَبُ ولا يُزْجَرُ، ويَصْدُقك فيما يَعِدُك البلُوغَ إِلى الغَايَة.

والصَّدَقَة، مُحَرَّكَة: ما أَعْطَيْتَه في ذَاتِ اللهِ تَعالَى للفُقَراءِ: وفي الصّحاح: ما تَصدَّقْتَ به على الفُقَراءِ. وفي المُفْردات: الصَّدَقة: ما يُخرِجُه الإِنْسانُ من مالِه على وَجْهِ القُرْبةِ، كالزَّكاة، لكن الصَّدَقَة في الأَصل تُقالُ للمُتطَوَّع به، والزَّكاة تُقال للوَاجِب، وقيل: يُسَمَّى الواجِبُ صَدَقة إِذا تَحرَّى صاحِبُه الصِّدقَ في فِعْله. قال اللهُ عَزَّ وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً} وكذا قَولُه تَعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ}.

والصَّدُقَة، بضَمِّ الدَّالِ. والصُّدْقَة كغُرْفَةٍ، وصَدْمَةٍ، وبضَمَّتَيْن، وبفَتْحَتَيْن، وككِتاب، وسَحَاب سَبْع لُغَاتٍ، اقْتَصَر الجوهَرِيُّ منها على الأُولَى، والثَّانِيَة، والأَخِيرَتَيْنِ: مَهْرُ المَرْأَة وجَمْعُ الصَّدُقَةِ، كنَدُسَةٍ: صَدُقَاتٌ. قال اللهُ تَعالَى: {وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً} وجَمْعُ الصُّدْقةِ، بالضَّمِّ: صُدْقَاتٌ، وبه قَرأَ قَتادَةُ وطَلحَةُ بنُ سُلَيمان، وأَبو السَّمّالِ والمَدنِيُّون.

ويقال: صُدَقَات بضم ففَتْح وصُدُقَات بضَمَّتَيْن وهي قِراءَة المدَنِيِّين وهي أَقْبَحُها وقرأَ إِبراهيمُ ويَحْيَى بنُ عُبَيْد بن عُمَيْرٍ: صُدْقَتهن «بضَمٍّ فسُكُون بغير أَلف» وعن قَتَادَة صَدْقاتِهِن «بفَتحْ فسُكُون». وقال الزَّجّاجُ: ولا يُقرأُ من هذِه اللُّغاتِ بشَيْ‌ءٍ؛ لأَنَّ القِراءَةَ سُنَّةٌ. وفي حَديث عُمَر رضي ‌الله‌ عنه: «لا تُغالُوا في الصَّدُقاتِ» وفي رِوَايةٍ: «لا تُغالُوا في صُدُقِ النِّساءِ» هو جَمْعُ صَداقٍ. وفي اللِّسانِ: جمعُ صِدَاق في أَدْنَى العَدَدِ أَصْدِقَةٌ، والكَثِير صُدُقٌ. وهذان البِنَاءَانِ إِنّما هما على الغالِب، وقد ذَكَرَهُما المُصَنِّفُ في أَول المادّة.

وصُدَيْق كزُبَيْر: جَبَل.

وصُدَيْق بنُ مُوسَى بنِ عَبْدِ الله بنِ الزُّبَيْر بنِ العَوَّام، رَوَى عن ابن جُرَيج.

قُلتُ: وقد ذكره ابنُ حِبّان في ثِقاتِ التّابِعين، وقال: يَرْوِي عن رَجُلٍ من أَصحابِ النبيِّ صلى ‌الله‌ عليه‌وسلم، وعنه عُثْمانُ بنُ أَبي سُلَيمان، وحَفِيدُه عَتِيقُ بنُ يَعْقُوب بنِ صُدَيْق محدِّث مشهور.

وإِسماعِيل بنُ صُدَيْق الذَّارع شيخٌ لإِبراهيم بن عَرْعَرة مُحدِّثان.

وفاتَه: حمدُ بنُ أَحمد بنِ محمد بن صُدَيْق الحَرَّاني، عن عبدِ الحَق بنِ يُوسُف، وأَخوه حَمَّاد بن أَحمد، حَدّث.

والصِّدّيق كسِكِّيت ومثَّلَه الجَوهَرِيُّ بالفِسِّيق. قال صاحبُ اللّسانِ ولقد أَساءَ التَّمْثِيلَ به في هذا المَكَان: الكَثِيرُ الصِّدْق إِشارةً إِلى أَنّه للمُبالَغة، وهو أَبلَغُ من الصَّدُوقِ، كما أَنَّ الصَّدُوقَ أَبلغُ من الصَّدِيقِ، وفي الحَدِيثِ: «لا يَنْبَغي لصِدِّيقٍ أَنْ يكونَ لعَّانًا».

وفي الصِّحاح: الدَّائِم التَّصْدِيق. ويكونُ الذي يُصَدِّقُ قولَه بالعَمَل.

وفي المُفْردات: الصِّدِّيق: مَنْ كَثُر منه الصِّدقُ وقيل: بل مَنْ لم يَكذِب قطُّ. وقيلَ: بل مَنْ لا يتَأَتَّى منه الكذبُ؛ لتَعَوُّده الصِّدقَ وقيلَ: بل مَنْ صَدَق بقَوْله واعتِقاده، وحَقَّق صِدقَه بفِعْلِه. قالَ الله تَعالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} وقال اللهُ تَعالَى: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ} أَي: مُبالغة في الصِّدقِ والتَّصْدِيقِ، على النَّسَب، أَي: ذاتُ تَصْدِيقٍ.

والصِّدِّيق أَيضًا: لَقَب أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبي قُحافَةَ عُثْمان رضي ‌الله‌ عنهما: شَيْخُ الخُلَفاءِ الرّاشِدينَ. وقَولُه تَعالَى: {وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ}

رُوِي عن عَلِي رضي ‌الله‌ عنه قالَ: {الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ} مُحَمَّدٌ صلى ‌الله‌ عليه‌وسلم والَّذِي {صَدَّقَ بِهِ} أَبُو بَكْرٍ رضي ‌الله‌ عنه.

والصِّدِّيق: اسمُ أَبي هِنْد التَّابِعيِّ وهو أَحَدُ المَجاهِيلِ، رَوَى عن نَافِعٍ مَوْلَى ابنِ عُمَر، وعنه أَبُو خَالدٍ الدّالانِيُّ. وقالَ ابنُ مَاكُولا: اسمُه إِبراهِيمُ بنُ مَيمُون الصّائِغ، فقولُ المُصنِّفِ فيه: «التّابِعِيّ»، مَحلُّ نَظَر.

وأَبو الصِّدِّيق: كُنيَةُ بَكْرِ بن عَمْرٍو النَّاجِي البَصُرِيّ، كذا في العُباب، ومِثلُه في الكُنَى لابن المُهَنْدِس. وفي كتابِ الثِّقاتِ: هو بَكْرُ بنُ قَيْسٍ الناجِي، وهو تَابِعِيٌّ يَروِي عن أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، وعنه ثابِتٌ البُنانيُّ، مات سنة ثَمانِين ومائَة، زادَ المِزِّيّ: من الرّواة عنه قَتادَة، فقَولُ المُصنِّف ـ فيما تَقدَّم ـ «التَّابِعيُّ» ينبَغي أَن يُذْكَر هنا.

وخُشْنَامُ بنُ صَدِيقٍ، كأَمِيرٍ، أَو سِكِّيِتٍ ذكر الإِمامُ ابنُ مَاكُولا فيه الوَجْهَينِ: التَّخْفِيفَ، والتَّشْدِيدَ: مُحَدِّث.

وقال أَبو الهَيْثَم: من كَلام العَرَب: صدَقْتُ الله حَدِيثًا إِنْ لم أَفعَلْ كَذَا: يَمِينٌ لَهُم، أَي: لا صَدَقْتُ الله حَدِيثًا إِنْ لَم أَفْعَل كذا.

ويُقال: فَعَلَه في غِبّ صادِقَةٍ، أَي: بَعْدَ ما تَبَيَّنَ له الأَمْرُ، نقله ابنُ دُرَيْدٍ.

وأَصْدَقَها حتى تَزَوَّجَهَا: جَعَلَ لها صَداقًا، وقيل: سَمَّى لها صَداقَها وفي الحَدِيث: «ليسَ عندَ أَبوَيْنا ما يُصْدِقانِ عنا «أَي: يُؤَدِّيان إِلى أَزواجنا الصَّداق.

ولَيْلَةُ الوَقُودِ تُسمَّى السَّدْقُ، بالسّينِ المُهملة وبالصَّادِ لَحْن. قلتُ: وقد مَرَّ له أَنه بالسِّينِ، والذّالُ مُعْجَمةٌ محركة، مُعرَّب سَذَهْ، ونقله الجَوْهَرِيُّ أَيضًا، فانظُر ذلِك.

وصَدَّقه تَصْدِيقًا: قَبِل قولَه، وهو ضِدّ كَذَّبه، وهو قوله تعالى: {وَصَدَّقَ بِهِ} قال الراغب: أَي حَقَّق ما أَوْرَدَه قَولًا بما تَحرَّاه فعلًا.

وصَدَّق الَوحْشِيُّ: إِذا عَدَا ولم يَلْتَفِت لما حُمِل عليه نَقلَه ابن دُرَيد وهو مجاز.

والمُصَدِّق، كمُحَدّث: آخِذ الصَّدَقات أَي: الحُقُوق من الإِبِل والغَنَم، يقبِضها ويَجْمَعُها لأَهل السُّهْمان.

والمُتَصَدِّق: مُعْطِيها، وهكذا هو في القُرآن، وهو قولُه تعالى: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}.

وفي الحَدِيث: «تصَدَّقُوا ولو بِشِقِّ تَمْرةٍ». هذا قول القُتَيْبِيّ وغيرِه.

وقال الخَلِيلُ: المُعْطِي مُتَصَدِّقٌ، والسائِلُ مُتَصدِّق، وهما سواء.

وقال ابنُ السِّيد ـ في «شرح أَدب الكاتب» لابن قُتَيْبة ـ يقال: تَصدَّقَ: إِذا سأَل الصَّدَقَة، نقله عن أَبي زَيْد وابنِ جِنِّي. وحكى ابنُ الأَنبارِيّ في «كتابِ الأَضْدادِ» مثلَ قولِ الخَلِيل. قال الأَزهريُّ: وحُذّاق النَّحْوِيِّين [وأئمة اللغة] يُنكِرُونَ أَن يُقال للسَّائِل مُتصدِّق، ولا يُجِيزُونه قال ذلك الفَرَّاءُ والأَصمَعِيُّ وغَيرُهُما. والمُصادَقَة والصِّداقُ كَكِتاب: المُخالَّة، كالتَّصَادُقِ والصَّداقَة، وقد صَدَقه النَّصِيحَةَ والإِخاءَ: أَمْحَضَه له.

وصادَقَه مُصادَقةً وصِداقًا: خَالَلَهُ، والاسْمُ الصَّداقَةُ.

وتَصادَقَا في الحَدِيثِ، وفي المَودَّةِ: ضدُّ تَكاذَبَا. وقال الأَعْشَى:

ولقد أَقطَعُ الخَلِيلَ إِذا لَمْ *** أَرْجُ وَصْلًا إِنَّ الإِخاءَ الصِّداقُ

وفي التَّنْزِيل: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وأَصله المُتَصَدِّقين والمُتَصَدِّقات فقُلِبَت التَّاءُ صادًا، وأُدْغِمَت في مِثْلِها وهي قِراءَة غَيْرِ ابن كَثِيرٍ وأَبي بَكْر، فإِنَّهما قرآ بتَخْفِيفِ الصَّاد، وهم الذين يُعطُون الصَّدقاتِ.

* ومما يُستَدْرَك عليه:

التَّصْداقُ، بالفَتْح: الصِّدْق.

والمُصدِّق، كمُحدِّث: الذي يُصدِّقُك في حَدِيثك.

ورجلٌ صِدْقٌ، وامرأَة صِدْقٌ: وُصِفا بالمَصْدر.

وصِدْقٌ صادِقٌ، كقولهم: شِعْرٌ شاعِر، يُرِيدُون المبالغةَ.

وقال الرّاغب: وقد يُستَعْملُ الصِّدْق والكَذِبُ في كُلِّ ما يَحِقُّ ويَحصُلُ عن الاعْتِقادِ، نحو صَدَقَ ظَنِّي وكَذَبَ.

قلتُ: ومنه قولُه تَعالَى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} بتخفيف الدّال ونَصْب الظَّنِّ، أَي: صَدَق عليهم في ظَنِّه.

قالَ الفَرَّاءُ: ومن قَرأَ بالتَّشْدِيدِ فمَعْناه أَنه حَقَّقَ ظَنَّه حِينَ قال: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} لأَنه قال ذلك ظَانًّا، فحَقَّقَهُ في الضّالِّينَ.

وقال أَبو الهَيْثم: صَدَقَنِي فُلانٌ، أَي: قالَ لِيَ الصِّدْقَ.

وقالَ غيرُه: صَدَقَه النَّصِيحَةَ والإِخاءَ، أَي: أَمْحَضَه له.

وحَمْلةٌ صَادِقةٌ، كما قالوا: لَيْسَت لها مَكْذُوبةٌ، وهو مَجاز.

وقَولُ أَبي ذُؤَيبٍ:

نَماهُ من الحَيَّيْنِ قِرْدٌ ومازِنٌ *** لُيوثٌ غَداةَ البَأْسِ بِيضٌ مَصادِقُ

يَجوز أَن يكونَ جمعَ صَدْقٍ على غَيْر قِياس، كمَلامِحَ ومَشابِهَ، ويجوزُ أَن يَكُونَ على حَذْفِ المُضاف، أَي: ذُوو مَصادِقَ، فحَذَف.

والمَصْدَق، بالفتح: الجِدُّ، وبه فَسِّر بعَضُهم قولَ دُرَيْدِ بنِ الصِّمَّةِ:

وتُخرِجُ منه ضَرَّةُ القَوْم مَصْدَقًا *** وطُولُ السُّرَى دُرِّيَّ عَضْبٍ مُهَنَّدِ

والمَصْدَق: الصَّلابة، عن ثَعْلب.

وصَدَّق عليه، كتَصَدَّق، أَراه فَعَّل في معنى تَفعَّل، ومنه قولُه تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلّى}، قال ابنُ بَرِّي: وذَكَر ابنُ الأَنْباري أَنه قد جاءَ تَصدَّق بمعنى سَأَل، وأَنْشَد:

ولو انّهم رُزِقوا على أَقْدارِهم *** لَلَقِيت أَكثرَ من تَرَى يَتَصدَّق

وفي حَديثِ الزَّكاة: «لا تُؤخَذُ في الصَّدَقة هَرِمَةٌ ولا تَيْس، إِلّا أَن يَشاءَ المُصَدّقُ» رواه أَبو عُبيدٍ بفَتْح الدَّال والتَّشْدِيدِ، يُرِيدُ صاحبَ الماشِيَةِ الذي أُخِذَتْ صدقَةُ مالِه، وخالَفَه عامَّةُ الرُّواة، فقالوا: بكَسْرِ الدَّالِ، وهو عامِل الزَّكاة الذي يَسْتَوفْيها من أَربابها، صَدَّقَهم يُصدِّقُهم فهو مُصدِّقٌ.

وقال أَبو مُوسَى: الرِّوايةُ بتَشْدِيد الصَّادِ والدَّال معًا والاستثناءُ من التيس خاصة فإِنَّ الهَرِمةَ وذاتَ العُوَار لا يجوز أَخْذُهما في الصَّدَقة إِلّا أَن يكونَ المَالُ كُلُّه كذلك عند بعضِهم، وهذا إِنَّما يَتَّجِه إذا كان الغَرضُ من الحَدِيثِ النَّهْيَ عن أَخْذِ التَّيْس؛ لأَنَّه فَحْلُ المَعِز، وقد نُهِي عن أَخْذِ الفَحْل في الصَّدَقة، لأَنه مُضِرٌّ برَبِّ المالِ؛ لأَنه يَعِزُّ عليه إِلّا أَنْ يَسْمَحَ به، فيُؤْخَذ. والذي شَرحَه الخَطّابِيُّ في المَعالِم أَنّ المُصَدِّق بتَخْفِيف الصَّاد: العاملُ، وأَنَّه وَكِيلُ الفُقراءِ في القَبْضِ، فلَه أَنْ يَتَصرَّفَ لهم بما يَرَاه مِمّا يُؤَدِّي إِليه اجتِهادُه.

وسِكَّةُ صَدَقَة: من سِكَك مَرْوَ، نقله الصّاغانِيُّ.

وقال ابنُ دُرَيْدٍ: تَمْرٌ صادِقُ الحَلاوَةِ: إِذا اشتَدَّتْ حَلاوتُهُ.

وكأَمِير: عَبدُ اللهِ بنُ أَحمَدَ بن الصَّدِيق، عن مُحمَّدِ بنِ إِبراهيم البُوشَنْجِيّ، وعنه البُرْقانيّ.

وجَعْفرُ بنُ محمدِ بنِ محمدِ بنِ صَدِيقِ النَّسَفِيّ أَبو الفَضْل، عن البَغَوي.

وصَدِيقُ بنُ عبدِ الله النَّيْسابُورِي، رَحَل وسَمِعَ من جَبْر بنِ عَرَفة.

وأَبو نَصْر أَحمد بن محتاج بن رَوْح بن صَديق النَّسَفيّ عن محمد بن المُنْذِر، شَكَّر، وعنه أَبو علي البَردَعِيّ، وقالَ فيه: لَيّن، كذا في التَّبْصِير.

وصَدَقةُ بنُ يَسار الجَزَرِيُّ سَكَن مَكَّةَ، رَوَى عن ابنِ عُمَر، وعنه مَالِك والثَّوْرِي.

وصَدَقَة أَبو تَوْبَة، يَرْوِي عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ، وعنه مُعَاوِيَةُ بنُ صَالِح كذا قاله ابن حِبّان. وقالَ المِزِّيّ: هو أَبو صَدَقَةَ مولَى مالِكِ بنِ أَنَس، اسمه تَوْبة، روى عنه شُعْبةُ.

قال: وأَبو صَدَقَةَ العِجْلِيُّ اسمُه سُلَيمان بن كِندِير رَوَى عن ابنِ عُمَرَ، وعنه قُرَيْشُ بنُ حيّان.

ونَجْمٌ صَادِقٌ، ومِصْداقٌ: لم يُخْلِفْ.

والفَجْر الصَّادِق مَعرُوف، وهو مَجَاز.

والصَّادِق: لَقَبُ جَعْفَر بن مُحمَّد بنِ عَلِي بن الحُسَيْنِ.

وأَيضًا: لَقَب أَبِي مُحَمَّدٍ منصور بنِ مُظَفَّرِ بنِ مُحمّدِ بن طاهِرٍ العُمَرِيِّ، وإِليه نُسِبت الطَّرِيقةُ الصّادِقِيَّة، وقد ذَكَرْناها في عِقْد الجَوْهر الثَّمِين.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


184-تاج العروس (بول)

[بول]: البَوْلُ معروف معْرُوفٌ الجمع: أَبْوَالٌ وقد بالَ يَبُولُ والاسمُ البيلَةُ بالكسرِ كالرِّكْبةِ والجِلْسة ومن المجازِ: البَوْلُ الوَلَدُ قالَ المُفَضَّل: بالَ الرجُلُ يَبُولُ بَوْلًا شَرِيفًا فاخِرًا إذا وُلِدَ له وَلَدٌ يشْبِهُه في شَكْلِه وصورتِه وآسانِه وآسالِه وأَعْسانِه وأَعْسالِه وتجاليدِهِ وخنره أي طَبْعه وشَاكِلَتِه. ومن المجازِ: البَوْلُ: العَدَدُ الكثيرُ. والبَوْلُ: الإِنْفجارُ ومنه زقٌّ بَوَّالٌ إذا كانَ يَنْفَجِرُ بالشَّرابِ.

والبَوْلَةُ: بهاءٍ بنْتُ الرَّجُلِ عن المُفَضَّلِ. والبُوَالُ: كغُرابٍ داءٌ يَكْثُرُ منه البَوْلُ يقالَ: أَخَذَه بُوَال إذا جَعَلَ البَوْلَ يَعْتَريه كَثِيرًا. والبُوَلَة كهُمَزَةٍ الكَثيرُهُ يقالُ: رجُلٌ بُوَلَةٌ.

والمِبْوَلَةُ كمِكْنَسَةٍ كوزُهُ يُبَالُ فيه، ويقال: الشَّرابُ مَبْوَلَةٌ كمَرْحَلَةٍ أي كَثْرَته تَحْمِلُك على البَوْلِ.

والبالُ: الحالُ التي تَكَثَّرت بها، ولذلِكَ يقالُ: ما بَالَيْت بكذا بالَةً أي ما اكْتَرَثْتُ به، ومنه قَوْلُه تعَالى: {وَأَصْلَحَ بالَهُمْ}. وفي الحدِيثِ: «كلّ أَمْرٍ ذي بَالٍ لا يُبْدأْ فيه بحمدِ اللهِ فهو أَبْترُ، أي شَرِيف يُحْتَفَلٌ له ويُهْتَمُّ به. ويقالُ: هو كاسِفُ البَالِ أَي سَيِّ‌ءُ الحالِ، قالَ امْرُؤُ القَيْسِ:

فأَصْبَحْتُ مَعْشُوقًا وأَصْبَحَ بَعْلُها *** عَلَيْهِ القَتَامُ كاسفُ الظَّنِّ والبالِ

ويُعَبّر بالبَالِ عن الحالِ الذي يَنْطوي عليه الإِنْسانُ وهو الخاطِرُ فيقالُ: ما خَطَرَ كذا ببَالِي أي خاطِرِي.

وقالَ المُفَضَّلُ: البَالُ: القَلْبُ قال امْرُؤُ القَيْسِ:

وعاديتُ منه بين ثَوْرٍ وَنَعْجَةٍ *** وكان عِدَاءُ الوَحْشِ مني على بالِ

والبَالُ: الحوتُ العَظيمُ من حِيتَانِ البَحْرِ وليسَ بعَرَبيِّ كما في الصِّحاحِ يُدْعَى جَمَلُ البَحْرِ وهو مُعَرَّبُ وال كما في العُبَابِ.

قالَ شَيْخُنا: وهي سَمَكَةٌ طُولُها خَمْسُون ذِرَاعًا.

والبَالُ: المَرُّ الذي يُعْتَمَلُ به في أرضِ الزَّرْعِ. ورَخاءُ البَالِ: سعَةُ العَيْش ويقالُ: هو رَخِيُّ البَالِ إذا لم يَشْتدَّ عليه الأَمْرُ ولم يَكْتَرِثْ.

والبَالَةُ: بهاءِ القارورَةُ وأَيْضًا الجِرابُ الصغيرُ أَو الضَّخم جَمْعُها بَالٌ.

والبَالَةُ وِعاءٌ الطيبِ فارِسيَّةٌ وبه فسِّرَ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الهُذَلِيُّ:

كأَنَ عليها بالَةً لَطَمِيَّةً *** لها من خِلال الدَّأْيَتَيْنِ أَرِيجُ

نقله السُّكَّريُّ.

وبالَةُ: موضع بالحِجازِ ويعدّه بعضُهم في الحَرَمِ، ويُرْوَى أَيْضًا بالنُّون قالَهُ ياقوتُ.

وأَبُو عِقَالٍ هِلالُ بنُ زَيْدِ بنِ يَسارِ بنِ بَوْلَى كسَكْرَى تابِعيُّ عن أَنَس بن مالِكٍ رَضِيَ الله تعالى عنه، وهو مَوْلَاهُ وعنه دَاوُد بنُ عجْلَانِ.

وبالَ الشَّحم ذابَ وأَنْشَدَ ابنُ الأعْرَابيّ:

إذْ قَالَتِ النَّثُول لِلْجَمُولِ. *** يا ابنةَ شحمٍ فى المرِئِ بُولي

وقالَ الأَصْمَعِيُّ: يقالُ: لنطفِ البِغالِ أَبْوالُ البِغالِ ويشبَّه به السَّرابُ لأَنَّ بَوْلَ البَغْلِ كاذِبٌ لا يلقِحُ، والسَّرابُ كذلك قالَ:

لأبوال البغال بها نقيع

وقالَ ابن مُقْبِلٍ:

من سَرْوِ حِمْيَرَ أَبوالُ البغالِ بِهِ. *** أَنَّى تَسَدَّيت وَهْنًا ذلك البينا

وبالويه اسْمٌ. وما أُبالِيه بالَةً موضِعُه في المُعْتَلِّ.

* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:

بَوْلُ العَجُوزِ: لَبَنُ البَقَرةِ.

وأَبْوالُ البِغَالِ طريقُ اليَمَنِ لا يأْخذُه إلّا البِغَالُ وقد تقدَّم في «ب غ ل».

وبَعيرٌ بَوَّالٌ: كَثيرُ البَوْلِ لهزَالِه، ومنه الحدِيثُ: «فَهَلَّا ناقةً شَصُوصًا أَو ابنَ لَبُونٍ بَوَّالًا؟

وقالَ ابنُ الأَعْرَابِيِّ: شَحْمَةٌ بَوَّالَةٌ إذا أَسْرَعَ ذَوَبانُها.

وزقُّ بَوَّالٌ: يَتَفَجَّرُ بالشَّرابِ.

والمبالُ: الفَرْجُ ومنه حدِيثُ عَمَّارٍ: «مبال في مبالٍ.

وقال الهوازنيُّ، البَالُ الأَمَلُ. وهو كاسِفُ البَالِ إذا ضَاقَ عليه أَمَلُه.

والبَالَةُ الرَّائِحَةُ والشَّمَّةُ عن أَبِي سَعِيدٍ الضَّرِير: قالَ الأَزْهَرِيُّ: هو من قَوْلِهم: بَلَوْتُه أي شَمَمْتُه واخْتَبَرْتُه. وإنما كانَ أَصْلَه بَلَوَة ولكنَّه قَدَّم الواوَ قَبْل اللامِ فصَيَّرها أَلِفًا كقَوْلِهم: قاعَ وقَعَا.

والبالُ: جَمْع بالَةٍ وهي عَصًا فيها زُجٌّ تكونُ مَعَ صَيَّادي البَصْرةِ، يقُولُون. قد أَمْكَنَك الصيدُ فأَلْقِ البالَةَ.

قلْتُ: ومنه تَسْمِيةُ العامَّةِ للسيفِ الصغيرِ المُسْتطيلِ بالَةً.

وأَمْرٌ ذُو بالٍ أي ذُو خَطَرٍ وشأْنٍ، ومنه الحدِيثُ: «كلُّ أَمْرٍ ذِي بالِ».

وبَوْلانُ بنُ عَمْرِو بنِ الغَوْثِ من طَيِّ‌ءٍ. وأَبَالَ الخَيْلَ واسْتَبَالها: وقَفَها للبَوْلِ. يقالُ: لنُبِيلَنَّ الخيلَ في عَرَصاتِكُم، وقالَ الفَرَزْدَقُ:

وإنَّ امْرًا يَسْعَى يُخَبِّبُ زَوْجَتي *** كسَاعٍ إلى أُسْدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُها

أي يأْخذُ بَوْلَها في يدِه.

وبَوْلاهُ أَوْ بَوْلانُ: مَوْضعٌ جاءَ ذِكْرُه في سُنَن ابن ماجَه في الفِتَنِ والمَلاحِم.

وخطابُ بنُ محمَّدِ بن بَوْلَى عن أَبيهِ عن جدّه، ولجدِّه هذا صُحْبةٌ ذَكَرَه ابنُ قانعٍ.

وبَاوَلَ: كَهَاجَرَ نَهْرٌ كبيرٌ بطبرستان.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


185-تاج العروس (جبل)

[جبل]: الجَبَلُ محرَّكةً كُلُّ وَتِدٍ للأَرْضِ عَظُمَ وطالَ فَإِنِ انْفَرَدَ فأَكَمَةٌ أَو قُنَّةٌ الجمع: أَجْبُلٌ كأفْلُسٍ وجبالٌ بالكسرِ وأَجبالٌ والثاني في القُرْآنِ كَثِيرٌ كقَوْلِه تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهادًا وَالْجِبالَ أَوْتادًا}، {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتًا}، {وَالْجِبالَ أَرْساها}، وشاهِدُ الأَخيرِ قَوْل الشاعِرِ:

يا رب ماء لك بالأجبالْ *** أَجبال سلمى الشمخ الطوالْ

واعتبر مَعَانِيه فاسْتُعِير واشْتُقّ منه بحَسَبِه فقيلَ: الجَبَلُ سَيِّدُ القَومِ وعالِمُهُمْ عن الفرَّاء والجَبَلانِ لَطِّي‌ءٍ.. هما سَلْمَى وأَجَأٌ قالَ البرج بن مسهر الطائيُّ:

فإن نَرجع إلى الجبلين يومًا *** نُصالحُ قومَنَا حتّى المماتِ

وجَبَلُ بنُ جَوَّال صَحابِيُّ رَضِيَ الله تعالَى عنه.

وبِلادُ الجَبَلِ مُدُنٌ بَيْن أَذْرَبيجانَ وعِراقِ العَرَبِ وخُوزِسْتانَ وفارِسَ وبلادِ الدَّيْلَمِ نُسِبَ إليها الحَسَنُ بنُ علِيٍّ الجَبَلِيُّ عن أَبي خليفة الجُمَحِيّ.

وأَجْبَلُوا صاروا إلى الجَبَلِ عن ابنِ السِّكِّيت. وتَجَبَّلوا دَخَلوا فيه. وفي العُبَابِ: تجَبَّل القَوْمُ الجِبالَ أي دَخَلُوها.

ومن المجازِ: أَجْبَلَهُ وجَدَهُ جَبَلًا أي بَخيلًا رُوعِي فيه معْنَى الثَّبَات والجُمُودِ وكذا أَجْبَلَ الشاعِرُ إذا أُفْحِمَ وصَعُبَ عَلَيه القولُ فصَارَ لا يُبْدِي ولا يُعِيدُ.

وأَجْبَلَ الحافِرُ بَلَغَ المَكَانَ الصُّلْبَ في حَفْرِهِ وهو مجازٌ.

وابْنَةُ الجَبَلِ: الحَيَّةُ لملازَمَتِها له ويُعَبَّر بها عن الدَّاهِيَةِ أَيْضًا والقَوْسُ المُتَّخَذَةُ من النَّبْعِ لكَوْنِه من أَشْجارِ الجَبَلِ.

والمَجْبولُ: الرَّجُلُ العَظيم الخَلْقَةِ كَأَنَّه جَبَلٌ.

والجَبْلُ بالفتحِ السَّاحَةُ وبالكسرِ الكثيرُ يقالُ: مالٌ جَبْلٌ أي كثيرٌ وأنْشَدَ أَبُو عَمْرٍو:

وحاجبٍ كَرْدَسه في الجَبْل *** مِنَّا غلام كان غير وَغْل

حتى افْتَدَى منه بمالٍ جِبْل

ويقالُ أَيْضًا: حيُّ جِبلٌ أي كثيرٌ ومنه قَوْلُ أَبي ذُؤَيْبٍ:

مَنايا يُقَرِّبْنَ الحُتوفَ لأَهْلِها *** جِهارًا ويَسْتَمْتِعْنَ بالأَنَسِ الجبْلِ

يقولُ: الناسُ كُلّهم مُتْعَة للمَوتِ يُسْتَمْتَعُ بهم، ويُضَمُّ.

والجُبْلُ: بالضَمِ الشَّجَرُ اليابِسُ وأَيْضًا الجماعَةُ العظيمةُ مِنَّا تَصَوَّر فيه معْنَى العِظَمِ قالَ الله تعالَى: ولقَدْ أَضَلّ منكم جَبَلًا كثيرًا أي جَمَاعَةً تَشْبيهًا بالجَبَلِ في العِظَمِ، وبه قَرَأَ ابنُ عامِرٍ وأَبُو عَمْرٍو كما في العُبَابِ. وقالَ ابنُ جنيّ: هي قرَاءَةُ الأَشْهَبِ العقيليّ كالجُبُلِ كعُنُقٍ مِثَالُ يسر ويسر، وبه قَرَأَ يعقوب غَيْر روحٍ وزَيْدٍ وابنَ كَثِير وحَمْزَةَ والكَسائي وخَلَف.

والجِبْلُ: مِثْل عِدْلٍ وبه قَرَأَ اليَمَانيُّ. والجُبُلُّ: مِثْالُ: عُتُلِّ وبه قَرَأَ روح وزَيْدٌ كما في العُبَابِ. وقالَ ابنُ جنّي في الشَّواذِ: هي قرَاءَةُ الحَسَنِ وعَبْدِ الله بن عُبَيْد بن عُمَيْرٍ وابن أَبِي إِسْحق والزّهْرِيّ والأَعْرَجِ وحفْص بن حميدٍ. والجِبِلُّ مِثَالُ طِمِرَّ وبه قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ ونافِعٌ وعاصِمُ وسَهْلُ.

والجِبِلَّةُ: مِثَال طِمِرَّةٍ الجمَاعَةُ من الناسِ وكذا الجَبِيلُ مِثَالُ أَميرٍ بمعْنَى الجماعَةُ.

والجَبِلُ ككَتِفٍ السَّهْمُ الجافي البَرْيِ أَو كلُّ غَليظٍ جافٍ فهو جَبِلٌ كما في العُبَابِ رُوْعِي فيه معْنَى الضَّخَامَة والغِلَظِ.

وقالَ ابنُ عَبَّادٍ: الجَبِلُ الأَنيثُ من النِصالِ وهو الذي ليسَ بحديدٍ ولا يَنْفُذُ في الشي‌ءِ وفاسٌ جَبِلَةٌ كذلِكَ.

ومن المجازِ: أَجْبَلوا إذا جَبَل حَدِيدُهم ولم يَنْفُذْ. والجَبْلَةُ بالفتحِ ويُكْسَرُ الوَجْهُ أَو بَشَرَتُهُ أَو ما اسْتَقْبَلَكَ منه ويَرْوُون قَوْلَ الأَعْشَى:

وطالَ السَّنامُ على جِبْلَةٍ *** كخُلْقاءَ من هَضَباتِ الحَضَن

هكذا بالكسرِ. قالَ الصَّاغَانيُّ: وفي شِعْرِه على جَبْلةٍ بالفتحِ أَي غَلِيْظَة.

والجَبْلَةُ بالفتحِ المرأَةُ الغليظةُ العَظِيمةُ الخَلْقِ وهو مجازٌ قالَ قَيْسُ بنُ الخَطِيم:

بين شُكُول النِّساءِ خِلقَتُها *** قَصْدٌ فلا جَبْلَةٌ ولا قَضَفُ

والجَبْلَةُ: العَيْبُ، وأَيْضًا القُوَّةُ، وأَيْضًا صَلابَةُ الأَرْضِ عن اللَّيْثِ.

والجُبْلَةُ: بالكسرِ وبالضمِ وكطِمِرَّةِ الأُمَّةُ والجماعَةُ من الناسِ والأَخيرَةُ تقدَّمَ ذِكرُها فهو تِكْرارٌ.

والجُبُلَّةُ كحُزُقَّةٍ وطِمِرِّةٍ الكَثْرَةُ من كلِّ شي‌ءٍ والجِبْلَةُ بالكسرِ وكحُزُقَّةٍ الأَصْلُ من كلِّ مخلوقٍ وتوسه الذي طُبِعَ عليه.

ومن المجازِ: ثوبٌ جَيِّدُ الجِبْلَةِ بالكسرِ أي جَيِّدُ الغَزْلِ والنَسْجِ.

والجُبْلَةُ مُثَلَّثَةً ومحرَّكَةً وكطِمِرَةٍ الخِلْقَةُ والطبيعةُ قالَ الله تعالَى: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} أي المَجْبُولين على أَحْوالِهِم التي بُنُوا عَلَيها وسُبُلُهُمْ التي قُيِّضُوا لسُلُوكِها المُشَارُ إليها بقَوْلِه: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ}، فالضمُ قَرَأَ به أَبُو الحَسَن وأَبُو حُصَيْن ويَحْيَى عن أَبي بَكْرٍ عن عاصِم وابنِ زَاذَان عن الكِسَائِيّ وابن أَبي عَبَلَة، والفتحُ قَرَأَبه السلميُّ.

قالَ شيْخنا، حاصِلُ ما ذَكَرَه المصنَّفُ خَمْسُ لغاتٍ أَرْبَعَة منها مَشْهُورةٌ ذَكَرَها أَئمَّةُ اللغَةِ في كُتُبِهِم، وأَمَّا التَّحريكُ فليسَ بمشْهُورٍ ولا مَعْروفٍ، وزَادُوا عَلَيه لُغَتَيْن يأتي ذِكْرِهما في المُسْتَدْرَكات.

والجُبْلةُ بالضمِ السَّنامُ ويُفْتَحُ رُوعِيَ فيه معْنَى الضخمِ.

ومن المجازِ: الجِبَالُ ككِتابٍ الجَسَدُ والبَدَنُ نَشْبيهًا له بالجَبَلٍ في العِظَمِ، وقالَ ابنُ عَبَّادٍ: يقالُ أَحْسَنَ الله جَبَالَه يعْنِي جَسَدَه. وجَبَلَهُم الله تعالى يَجْبُلُ ويَجْبِلُ من حَدَّي نَصَرَ وضَرَبَ خَلَقَهُم ومنه الحدِيثُ: «جُبِلَتِ القُلُوبُ على حبِّ من أَحْسَن إليها وبغْضِ من أَسَاءَ إليها». وجَبَلَه الله تعالَى على الشي‌ءِ طَبَعَهُ إشارَةً إلى ما ركبَ فيه من الطَّبْعِ الذي يأْبَى على الناقِلِ نَقْلَه.

وجَبَلَه جَبْلًا جَبَرَهُ كأَجْبَلَهُ إِجْبالًا عن ابنِ عَبَّادٍ.

وجُبَيْلٌ كَزُبَيْرٍ جَبلٌ أَحْمرُ عَظِيمٌ قُرْبَ فَيْدَ على سِتَّةِ عَشَرَ مِيلا منها وهو من أَخيلةِ حمَّى فَيْدَ لِيسَ بَيْن الكُوفَةِ وفَيْدَ جَبَلٌ غَيْره قالَهُ نَصْر.

وجُبَيْلُ بَانٍ: جَبَلٌ آخَر بَيْن أَفَاعِيَةَ والمَسْلَح يُنْبِتُ البانُ فأُضِيفَ إليه وهو صَلَدٌ أَصَمُّ قالَهُ نَصْر. وأَيْضًا بلد من سَواحِلِ دِمَشْقَ بَيْنها وبَيْن بَيْرُوت من فُتُوحِ يَزِيد بن أبي سُفْيان منه عُبيدُ بنُ خِيارٍ وفي التَّبْصيرِ: حِبَّان رَوَى عن مالِكٍ وعنه صَفوانُ بنُ صالِحٍ وإسْمعيلُ بنُ حُصَيْنِ بنِ حَسَّان عن ابنِ شَابُور وعنه ابنُ أَبي حاتِمٍ وجماعَةٌ، وأَبُوه حدَّثَ عن أَبي مطِيْعٍ مُعَاوِية بن يَحْيَى، ومُحمدُ بنُ الحَارِثِ شَيْخٌ للطَّبْراني، وأَبو سعيدٍ أَخْطَلُ بنُ مويْل عن مُسْلمِ بنِ عُبَيْد، وعنه العبَّاسُ بنُ الولِيدِ وعَبْدُ الله بن يوسُفَ التَّنِيسيّ المُحَدِّثُون الجُبَيْليُّون.

وفَاتَه حميدان بن محمّد الجُبَيْليّ عن أَبي الولِيدِ أَحْمد بن أَبي رَجَاء الهَرَوِيّ وأَحْمد بن محمَّد الأَنْصَاريّ الجُبَيْليّ عن الفَضْلِ بنِ زِيادِ القَطَّان، وتَمام بن كثيرٍ الجُبَيْليّ عن عَقَبَة بن عَلْقَمَة ويُكنَّى أَبَا قُدَامَة، ووزِير بنُ القاسِمِ الجُبَيْليّ عن آدَمَ وعنه خَيْثَمة وأَبُو الحرمِ مَكَّي بن الحَسَنِ بن المُعَافَي الجُبَيْليّ عن أَبي القاسِمِ بن أَبي العَلاء، وعنه السَّلفيُّ وضَبَطَه كذا في التَّبْصيرِ، وعَبْد رُضا بضمِ الراءِ ابنُ جُبَيْلٍ مصغَّرًا في نَسَبِ قُضاعَةَ وهو جُبَيْلُ بنُ عَمَّار بن عَمْرِو بن عَوْف بن كنانَةَ بنَ عَوْف بن عُذْرَة بن زَيْدِ اللَّات بن رئدة، من ولدِهِ محمّدُ بنُ عَرَادِ بنِ أَوْس بن ثَعْلَبة بن حاوثة بن مُرَّة بن حارِثَةَ بنَ عَبْد رُضا المَذْكورُ قَتَلَه مَنْصُورُ بنُ جُمْهور بالسَّنْد.

وجَبُّلُ بضمِ الباءِ المُشدَّدةِ وفَتحِ الجيمِ قرية بشاطِي‌ءِ دِجْلَةَ من الجانِبِ الشَّرْقيِّ. منها موسى بنِ إسمعيل وليسَ بالتَّبُوذكيّ عن إبْرَاهيم بن سَعْد، والحَكَمُ بنُ سليمانَ شيْخٌ لابنِ أَبي عزَرةَ وأَحمدُ بنُ حَمْدانَ عن سَعْدان بن نَصْر وإِسْحقُ بنُ ابراهيمَ حافِظٌ أَخَذَ عنه أَبُو سَهْل بن زِيادِ القَطَّان المُحَدِّثونَ الجَبُّليُّون، وفَاتَه أَبُو إِسحق الجَبُّليُّ شاعِرٌ مَجيدٌ سَمِعَ عَبْد الوَهَاب.

وذُو جِبْلَةَ بالكسرِ موضع باليمنِ وهي قَرْيةٌ كبيرةٌ تَحْت جَبَل صَبِرَ نُسِبَ إليها جُمْلَة من المُحدِّثِين منهم عليُّ بنُ مَنْصور الجبليُّ كان معاصِرًا للذَّهَبيِّ، ومنهم جماعَةٌ أَدْرَكَهُم الحافِظُ بنُ حجر.

وجُبْلَةُ بالضم بلد بَيْن عَدَنَ وصَنْعاءَ والجَبِيلَةُ كسفينةٍ القبيلةُ.

وقالَ ابنُ عَبَّادٍ: الجُبُلَّةُ كالأُبُلَّةِ السَّنَةُ المُجْدِبَةُ يقالُ: أَصابَتْ بنِي فلانٍ جُبُلَّةٌ أي سَنَةٌ صَعْبةٌ. قالَ: والتَّجْبيلُ: التَّقْطِيعُ، يقالُ: جَبَلْتُ الشّجَرةَ أي قَطَعْتُها. قالَ: وتَجَبَّلَ ما عندَه اي اسْتَنْظَفَه.

ومن المجازِ: امرأةٌ جَبْلَةٌ بالفتحِ ومِجْبالٌ كمِحْرابٍ أي غليظةٌ عظيمةُ الخَلْقِ. وجَبَلَةُ محرَّكةً موضع بنَجْدٍ وهي هَضَبَةٌ حَمْراءُ بَيْن الشُّريْفِ والشّرَفِ، وقالَ نَصْرُ: قبلي أَضَاخَ به كانَتْ الوَقْعةُ المَشْهورَةُ بَيْن بَنِي عامِرِ بنِ صَعْصَعَة وبَيْن تَمِيمٍ وعَبْس وذُبْيَان وبَنِي فَزَارَةَ.

ويَوْمَ جَبَلَة من أَعْظمِ أَيامِ العَرَبِ كما أَوْضَحَه المَيْدَانيُّ في مَجْمَعِ الأَمْثالِ. قالُوا: وفي أَيامِ جَبَلَة وُلِدَ النبيُّ، صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم، قالَ:

لم أَرَ يومًا مثل يوم جَبَلَهْ *** لما أَتتنا أَسد وحنظلهْ

وغَطَفَانُ والملوكُ أَرْفَلَهْ

قالَ السهيْليُّ: وحَرْبُ دَاحِس كانَتْ بعْدَ يَوْم جَبَلَة بأَرْبَعِين سَنَةٍ. وأَيْضًا قرية بِتهامَةَ زَعَمُوا أَنَّها أَوَّلُ قَرْيةٍ بُنِيَتْ بتِهامَهَ وأَيْضًا بلد بساحِلِ بحرِ الشأمِ منه سُلَيمانُ بنُ عليِّ الفقيهُ عن أَحْمد بن عَبْدِ المُؤْمِن وعُثْمانُ بنُ أَيُّوبَ وعبدُ الواحِد بنُ شُعَيْبٍ الجَبلِيُّونَ المُحَدِّثونَ.

وجَبَلَةُ: قرية بالبَحْرَيْنِ وأَيْضًا موضع بالحجازِ وقيلَ سُليمانُ بنُ عليِّ المَذْكُور قَرِيبًا منه، وجَبَلَةُ بنُ حارِثَةَ بنَ شَرَاحِيل القضَاعيّ أَخُو زَيْدٍ رَوَى عنه فَرْوَةُ بنُ نَوْفَلٍ وأَبُو عَمْرو الشَّيْبانيُّ، وجَبَلَةٌ بنُ عَمْرٍ وبنِ الأَزْرَقِ كذا في النسخِ والصَّوابُ جَبَلَةُ بنُ عَمْرٍو ابنُ الأزْرَقِ بإثْباتِ واوِ العَطْفِ بَيْنهما وهما رَجُلان فالأَولُ أَنصَارِيُّ شَهِدَ أُحُدًا ومِصْرَ وصِفِّين، والثاني حمْصِيّ كنْدِيّ رَوَى عنه راشدُ بنُ سَعْد، وجَبَلَةُ بنُ مالِكٍ بنِ جَبَلَةَ من رَهطِ تَمِيمٍ الدَّارِيّ له وِفَادةٌ وضَبَطَه الأَميرُ في ذَيْلِه على الاسْتيِعابِ بالحاءِ المُهْمَلَةِ؛ وجَبَلةُ بنُ الأَشْعَرِ الخُزَاعِيُّ الكعْبيُّ قيلَ: قُتِلَ عامَ الفتحِ وهو مَجْهُولٌ، وجَبَلَةُ بنُ أَبي كَرِبٍ بنِ قَيْسِ الكَنْدِيّ له وِفَادَةٌ قالَهُ أَبُو موسَى، وجَبَلَةُ بنُ ثَعْلَبَة الخَزَرَجيُّ البَيَاضِيُّ شَهِدَ صِفِّين مَعَ عليِّ، وجَبَلَةُ بنُ سَعِيدٍ بنِ الأَسْودِ له وِفَادَةٌ قالَهُ ابنُ سَعْدٍ وآخَرانِ غَيْرُ مَنْسوبَيْنِ أَحَدُهما قالَ شُرَيْك عن أَبي إسْحق عن رجُلٍ عن عَمِّه جَبَلَة في قرَاءَةِ {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ} عندَ النومِ والثاني قالَ ابنُ سِيْرِين: كانَ بمِصْرَ رجُلٌ من الأَنْصارِ يقالُ له جَبَلَةُ صَحَابِيُّ جَمَعَ بَيْن امْرَأَةِ رجُلٍ وابْنَتِه من غيرها، صَحابيونَ رَضِىَ الله تعالَى عنهم، وجَبَلَةُ بنُ سُحَيْمٍ أَبُو سَرِيرَةَ التِّيْمِيّ ويقالُ الشيْبَانيّ الكُوفيّ عن مُعَاوِية وابنُ عُمَرَ، وعنه شُعْبَة وسُفْيان ثِقَةٌ توفي سَنَة 125، وقد ذَكَرَه المصنِّفُ أَيْضًا في س ر ر، وجَبَلَةُ بنُ عَطِيَّةَ عن ابنِ مُحَيْرِيزٍ وغيرِه، وعنه هِشَامُ بنُ حَسَّان وحَمَّاد بنُ سَلَمَة ثِقَةٌ كذا في الكَاشِفِ للذَّهَبيّ محدِّثانِ وابنُ سُحَيْمٍ تابِعِيُّ فكانَ يَنْبَغِي أن يُنَبَّه عَلَيه، وجَبَلَةُ بنُ أَيْهَمَ بنَ عَمْرِو بنِ جَبَلَة بنَ الحَرِثِ الأَعْرَجِ بنَ جَبَلَةَ بنَ الحَرِثِ الأَوْسَطِ بن ثَعْلَبَة بن الحارِثِ الأكْبرِ بن عَمْرو بن حجر بن هنْدٍ بن امامِ بن كَعْب بن جَفْنَة آخِرُ مُلُوكِ غَسَّانَ وهو الذي تَنَصَّرَ ولَحِقَ بالرومِ وأَخْبَارُهُ مَشْهورَةٌ من وَلَدِه عَمْرُو بنُ النُّعْمَانِ الجَبَلِيُّ نَقَلَه الحافِظُ والذَّهَبِيُّ، وأَمَّا محمدُ بنُ عليُّ الجَبَلِيُّ هكذا في النُسخ والصَّوابُ محمدُ بنُ أَحْمدٍ الجَبَلِيُّ فَمِنْ جَبَلِ الأَنْدَلُسِ سَمِعَ بقى بن مَخْلد ماتَ سَنَة 213، ومحمدُ بنُ عَبْدِ الواحدِ الجَبَليُّ الحافِظُ ضِياءُ الدينِ المقْدِسيُّ صاحِبُ المختارَةِ من جَبَلِ قاسِيونَ بالشأمِ لأَنَّه كانَ يسْكَنُه، وأَبُو جَعْفَرٍ محمدُ بنُ أَحمدَ بنِ عليِّ هكذا في النسخِ والصَّوابُ محمدُ بنُ محمدِ بنِ عليِّ الطُّوسِيُّ عن أَبي بَكْرِ بنِ خَلَف وعنه السمْعَانيّ وأَحمدُ بنُ عبدِ الرحمنِ الجَبَلِيَّانِ محدِّثانِ وفَاتَه إبْرَاهِيمُ بنُ محمدٍ الجَبَليُّ المصِيْصِيّ شيْخٌ للعشاريّ سَمِعَ البَغَويّ.

ورجُلٌ جَبيلٌ الوَجْهِ كأَميرٍ أَي قَبيحُه وهو مجازٌ.

وجُبَيْلَةُ كجُهَيْنَةَ قَصَبَةٌ بالبَحْرَيْنِ.

ومن المجازِ: رجُلٌ جَبْلُ الرأسِ وكذا الوَجْهِ إذا كانَ غَلِظَهُما قليلُ الحلاوَةِ.

ورجُلٌ ذو جَبِلَةٍ بالكسرِ أي غليظٌ والجِبْلَةُ: الخِلْقَةُ قالَهُ أَبُو عَمْرٍو.

وجَبُّولٌ: كتَنُّورٍ: قرية قُرْبَ حَلَبَ.

وجُنْبُلٌ: كقُنْفُذٍ قدَحٌ غليظٌ من خَشَبٍ، والنونُ زائِدَةٌ هنا ذَكَرَه الجَوْهَرِيُّ وسَيَأْتي للمصنَفِ ثانيًا ويأْتي الكَلامُ عليه.

* وممَّا يُسْتَدْرَكُ عليه:

جَبَلٌ: محرَّكَةً والِدٌ مَعَاذ الصَّحَابيُّ رَضِيَ الله تعالَى عنه مَشْهورٌ.

وقالَ أَبُو عَمْرٍو: رَكِبَ أَجْبَله أي رأْسَه، وقيلَ: أَغْلَظ ما يَجِدُ.

وقالَ اللَّيْثُ: جَبْلة الجَبَل بالكسرِ تأْسِيس خِلْقَته التي جُبِل عَلَيها.

والجِبَلَةُ كقِرَدَةٍ جَمْعِ جِبَل بالكسرِ بمعْنَى الجماعَةِ يقالُ: قَبَّحَ اللهُ جِبَلَتَكُم عن الفَرَّاء.

والجُبُلَّةُ بضمَّتَيْن مشدَّدَة اللامِ والجَبِيْلَةُ على فَعِيْلةٍ بمعْنَى الخِلْقَة نَقَلَهما شَيْخُنا عن الصَّاغَانِيّ في كتابِه المَوسُوم بأسْمَاءِ العادَةِ وسَبَقَ للمصنِّفِ خَمْسُ لغاتٍ وهذه اثْنَتَان فصارَتْ سَبْعَة.

وقالَ ابنُ عَبَّادٍ: يقالُ أَحْسَن الله جِبَاله ككِتَابٍ أي خلْقِه المَجْبُول عَلَيه.

والجَبُلُ كعَضُدٍ الجماعَةُ وبه قَرَأَ الخَلِيلُ جبُلًا كثيرًا نَقَلَه الصَّاغَانيُّ.

ومن المجازِ: الاجْبَالُ: المَنْعُ يقالُ سَأَلْنَاهم فأَجْبَلُوا أي مَنَعُوا ولم يُنَوِّلُوا نَقَلَه ابن عَبَّادٍ والزَّمَخْشَرِيُّ. وطَلَبَ حاجَةً فأَجْبَلَ أي خَفَقَ. وجَابَلَ الرجُلُ إذا نَزَلَ الجَبَلَ عن أَبي عَمْرٍو.

وناقَةٌ جَبَلَةُ السَّنامِ نامِيَتُه، وهو مجازٌ.

ورجُلٌ جَبِلُ الرَّأْسِ بالفتحِ غَلِيظُه. وسَيْفٌ جَبِلٌ ومِجْبال: لم يُرَقَّقْ.

وهو جَبَلٌ إذا لم يَتَزَحْزَحْ تَصَوَّر فيه معْنَى الثَّبَاتِ، ويقالُ: الجِبِلُّ كطِمِر جَمْعُ جِبِلَّةٌ كطِمِرَّةٍ بمعْنَى الجماعَةِ الكثيرةِ.

وجَبِلَ الرجُلُ صارَ كالجَبَلِ في الغِلَظِ.

والجِبْلِيُّ مَنْسوبٌ إلى الجِبْلَةِ كما يقال طَبيعيُّ أَي ذاتيُّ مُتَنَصِّلٌ عن تَدْبيرِ الجبلة في البَدَنِ بصنعِ بارِئِه.

ويونُسُ بنُ مَيْسَرَة الجُبْلانيُّ بالضمِ شَامي وذَكَرَه ابنُ السمْعَانيّ في الأَنْسابِ بالحاءِ المُهْملَةِ ووَهِمَ وتَعَقَّبَه ابنُ الأَثيرِ، وخالدُ بنُ صُبَيْح الجُبلانيُّ محدِّثٌ، وجُبْلان بنُ سَهْل بن عمرو إليه يُنْسَبُ الجُبْلانيُّونَ. وجَبَلَةُ محرَّكةً جَبَلٌ بضرية ذو شعابٍ قالَهُ نَصْر.

وجُبَيلٌ كزُبَيْرٍ موضِعٌ بَيْن المشلّل والبَحْرِ قالَهُ نَصْر أَيْضًا.

وأَجْبَال صبح بأَرْضِ الجِناب منزلة بنِي حِصن بن حُذَيفة وهَرِم بن قُطْبُة وصُبح رجل من عاد كان ينزله على وجْهِ الدَّهرِ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


186-تاج العروس (ظل ظلل ظلظل)

[ظلل]: الظِلُّ بالكسرِ: نَقِيضُ النضْجِ أَو هو الفَيْ‌ءُ.

وقالَ رُؤْبَة: كلُّ مَوْضعٍ تكونُ فيه الشمسُ فَتَزولُ عنه فهو ظِلٌّ وفي‌ءٌ، أَو هو أَي الظِلُّ بالغَداةِ والفَيْ‌ءُ بالعَشِيِّ فالظِلُّ ما كانَ قَبْلَ الشمسِ، والفَيْ‌ءُ ما فاءَ بَعْدُ.

وقالُوا: ظِلُّ الجَنَّة، ولا يقالُ فَيْئها لأَنَّ الشمسَ لا تُعاقِبُ ظِلَّها فيكونُ هناك فَي‌ءُ، إنَّما هي أَبدًا ظِلٌّ، ولذلِكَ قالَ عزّ وجلّ: {أُكُلُها دائِمٌ} {وَظِلُّها}، أَرَادَ وظِلُّه دائمٌ أَيْضًا.

وقالَ أَبُو حَيَّان، في ظلل: هذه المادّةُ بالظاءِ ان أفهمت سترًا أَو إقامةً أَو مصيرًا فتناول ذلِكَ كَلِمات كَثِيرَةٌ منها الظِلُّ وهو ما اسْتَتَرَتْ عنه الشمسُ الجمع: ظِلالٌ، بالكسرِ، وظُلُولٌ وأَظْلالٌ، وقد جَعَلَ بعضُهم للجَنَّةِ فَيْأً غَيْر أَنَّه قَيَّدَه بالظِلِّ، فقالَ يَصِفُ حالَ أَهْلِ الجنَّةِ وهو النابِغَةُ الجعديُّ رَضِيَ اللهُ تعالَى عنه:

فَسلامُ الإلهِ يَغْدُو عليهم *** وفُيُوءُ الفِرْدَوْسِ ذاتُ الظِّلال

وقالَ كُثَيِّرُ:

لقد سِرْتُ شَرْقيَّ البِلادِ وغَرْبَها *** وقد ضَرَبَتْني شَمْسُها وظُلُولُها

وقالَ أَبُو الهَيْثمِ: الظِّلُّ كلُّ ما لم تَطْلُع عليه الشمسُ والفَيْ‌ءُ لا يُدْعَى فَيْأً إلَّا بعْدَ الزَّوال إذا فاءَتِ الشمسُ أَي رَجَعَتْ إلى الجانِبِ الغَرْبيِّ، فما فاءَتْ منه الشمسُ، وبَقِيَ ظِلًّا فهو فَيْ‌ءٌ، والفَيْ‌ءُ شرقيٌّ والظِّلُّ غَرْبيٌّ، وإِنَّما يُدْعى الظِّلُّ ظِلًّا من أَوَّل النَّهار إلى الزَّوالِ، ثم يُدْعى فَيْأَ بعْدَ الزَّوالِ إلى اللَّيْلِ، وأَنْشَدَ:

فلا الظِّلّ من بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُه *** ولا الفَيْ‌ءُ من بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوقُ

والظّلُّ: الجَنَّةُ، قيلَ: ومنه قَوْلُه تعالَى: {وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ،} وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ، حَكَاهُ ثَعْلَبٌ قالَ: والحَرورُ النارُ، قالَ: وأَنَا أَقولُ الظِّلُّ الظِّلُّ بعَيْنِه، والحَرورُ الحَرُّ بعَيْنِه.

وقالَ الرَّاغِبُ: وقد يقالُ ظِلٌّ لكلِّ شي‌ءٍ ساتِرٌ مَحْمودًا كان أَو مَذْمومًا، فمن المَحْمودِ قَوْلُه عزّ وجلّ: {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ}، من المَذْمومِ قَوْلُه تعالَى: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ}.

والظِّلُّ أَيْضًا: الخَيالُ من الجِنِّ وغيرِه يُرَى.

وفي التَّهْذِيبِ: شِبْه الخَيَالِ من الجِنِّ.

والظِّلُّ أَيْضًا: فَرَسُ مَسْلَمَةَ بنِ عبدِ المَلِكِ بنِ مَرْوان.

ويُعَبَّرُ بالظِّلِّ عن العِزِّ والمَنَعَةِ والرَّفاهِيَةِ، ومنه قَوْلُه تعالَى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ}؛ أَي في عِزَّةٍ ومناعَةٍ، وكذا قَوْلُه تعالَى: {أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها}، وقَوْلُه تعالَى: {هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ}.

وأَظَلَّني فلانٌ أَي حَرَسَنِي وجَعَلَنِي في ظِلِّه أَي عِزّهِ ومناعَتِه، قالَهُ الرَّاغِبُ.

والظِّلُّ: الزِّئْبِرُ، عن ابنِ عَبَّادٍ.

والظِّلُّ: اللَّيلُ نَفْسُه، وهو قَوْلُ المْنَجمين زَعَمُوا ذلِكَ قالُوا: وإنّما اسْوَدَّ جِدًّا لأَنَّه ظِلُّ كُرَةِ الأَرْضِ، وبَقَدرِ ما زَادَ بَدَنُها في العِظَمِ ازْدَادَ سَوَادُ ظلِّها.

وقالَ أَبْو حَيَّان: وظِلُّ كلِّ شي‌ءٍ ذُرَاه وسِتْرُه، ولذلِكَ سُمِّي اللَّيلُ ظِلًّا.

أَو ظِلُّ اللَّيلِ: جُنْحُهُ، وفي الصِّحاحِ والفرق لابنِ السَّيِّدِ: سَوَادُه.

يقالُ: أَتَانَا في ظلِّ اللَّيلِ، قالَ ذُو الرُّمَّةِ:

قد أَعْسِفُ النَّازِحَ المَجْهولَ مَعْسِفُه *** في ظِلِّ أَخْضَرَ يَدْعُو هامَهُ البُومُ

قالَ الجَوْهَرِيُّ: هو اسْتِعارَةٌ لأَنَّ الظِّلَّ في الحَقيقَةِ إنَّما هو ضَوْءَ شُعاعِ الشمسِ دُوْنَ الشُّعاعِ، فإذا لم يَكُنْ ضَوْء فهو ظُلْمةٌ وليْسَ بظِلٍّ.

والظِّلُّ من كلِّ شي‌ءٍ شَخْصُه لمَكانِ سَوَادِه، ومنه قَوْلُهم: لا يُفارِقُ ظِلِّي ظِلَّكَ، كما يقولُون: لا يُفارِقُ سَوَادِي سَوَادَك.

وقالَ الرَّاغِبُ: قالَ بعضُ أَهْلِ اللُّغةِ: يقالُ للشَّخصِ ظِلٌّ، قالَ: ويدلُّ على ذِلكَ قَوْلُ الشاعِرِ:

لمّا نَزَلْنَا رَفَعْنَا ظِلَّ أَخْبِئَةٍ

وقالَ: ليْسَ يَنْصِبُون الظِّلَّ الذي هو الفَيْ‌ءُ إنما يَنْصِبُون الأَخْبِئَة.

وقالَ آخَرُ:

تَتْبَعُ أَفْيَاءَ الظِّلالِ عَشِيَّةً

أَي أَفْياء الشّخُوص، وليْسَ في هذا دَلالَةٌ، فإنَّ قَوْلَه رَفَعْنا ظِلَّ أَخْبئَة معْناهُ رَفَعْنا الأَخْبِئَة فرَفَعْنا به ظِلَّها فكأَنّه رَفَعَ الظّلَّ، وقَوْلُه: أَفْياء الظِّلالِ فالظِّلالُ عامٌّ والفَيْ‌ءُ خاصٌّ ففيه إضافَةُ الشي‌ءِ إلى جنْسِه، فتأَمَّل. أَو ظِلُّ الشي‌ءِ: كِنُّه.

والظِّلُّ من الشَّبابِ: أَوَّلُه، هكذا في النسخِ، والصَّوابُ على ما في نوادِرِ أَبي زَيْدٍ: يقالُ كان ذلِكَ في ظِلِّ الشتاءِ أَي في أَوّلِ ما جَاءَ من الشِّتاءِ.

والظِّلُّ من القَيْظِ: شِدَّتُه قالَ أَبُو زَيْدٍ: يقَالُ فَعَل ذلِكَ في ظِلِّ القَيْظِ أَي في شِدَّةِ الحَرِّ، وأَنْشَدَ الأَصْمَعِيُّ:

غَلَّسْتُه قبل القَطا وفُرَّطِه *** في ظِلِّ أَجَّاج المَقِيظِ مُغْبِطِه

والظِّلُّ من السَّحابِ: ما وَارَى الشّمسَ منه، أَو ظِلُّه: سَوادُهُ.

والشّمسُ مُسْتَظِلَّةٌ أَي هي في السَّحابِ.

وكلُّ شي‌ءٍ أَظَلَّك فهو ظُلَّةٌ.

والظِّلُّ من النَّهارِ: لَوْنُه إذا غَلَبَتْه الشّمسُ.

ويقالُ: هو يعيشُ في ظِلِّهِ أَي في كَنَفِهِ وناحِيَتِه أَي في عِزِّه ومَنَعَتِه وهو مجازٌ.

ومن أَمْثالِهم: اتْرُكْهُ، ويُرْوَى. لأَتْرُكَنَّه، تَرْكَ الظَّبْيِ ظِلَّهُ أَي مَوْضِع ظِلّهِ، كما في العُبَابِ، يُضْرَبُ للرَّجُلِ النُّفورِ لأَنَّ الظَّبْيَ إذا نَفَرَ من شي‌ءٍ لا يعودُ إليه أَبدًا، والأَصْلُ في ذلِكَ أَنَّ الظَّبْيَ يَكْنِس في الحَرِّ ويَأْتِيه السَّامي فيُثِيرُه ولا يعودُ إلى كِناسِه، فيُقالُ تَرَكَ الظَّبْيُ ظِلَّه، ثم صَارَ مَثَلًا لكلِّ نافِرٍ من شي‌ءٍ لا يعودُ إليه.

وقالَ الميْدانيّ: الظِّلُّ في المَثَلِ الكِناسُ الذي يُسْتَظَل به في شِدَّةِ الحَرِّ، يُضْرَبُ في هَجْرِ الرجُلِ صاحِبِه.

وتَرْكَ بسكونِ الرَّاءِ لا بفتْحِه كما وَهِمَ الجوهريُّ.

قلْتُ: هو في العُبَابِ والتَّهْذِيبِ كما أَوْرَدَه الجَوْهَرِيُّ بنَصِّه وكفى له شاهِدًا إيْراد هؤُلاء هكذا مَعَ أَنَّهم قد يَرْتكِبُون في الأَمْثالِ ما لا يرتكبُ في غيرِها فلا وَهْمَ حيْنَئِذٍ وأَحْسن من وَلَعِه بهذا التَّوْهِيم لو ذكر بَقِيَّة الأَمْثالِ الوَارِدَة فيه ممَّا ذَكَرَه الأَزْهَرِيُّ وغيرُه منها: أَتَيْته حِيْن شَدّ الظَّبي ظِلّه، وذلك إذا كنِس نصْفَ النَّهارِ فلا يَبْرَحُ مكْنَسَه، ومنها أَتَيْته حِيْن ينْشِدُ الظَّبْيُّ ظِلَّه؛ أَي حِيْن يشْتدُّ الحَرُّ فيَطْلبُ كِناسًا يَكْتَنّ فيه من شِدَّةِ الحَرِّ.

ومكانٌ ظَلِيلٌ: ذو ظِلٍّ، وفي العُبَابِ: وَارِفٌ، أَو دائِمُهُ قد دَامَتْ ظِلالَتُه.

وقَوْلُهم: ظِلٌّ ظَليلٌ يكونُ منه، وفي بعضِ النسخِ جنة وهو تَحْريفٌ صَوابُه منه كما ذَكَرْنا، أو مُبالَغَةٌ كقَوْلِهم: شِعْر شاعِرٌ، ومنه قَوْلُه تعالَى: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا}.

وقالَ الرَّاغِبُ: هو كِنايَةٌ عن غَضَارَةِ العَيْشِ، وقَوْلُ أُحَيْحَة بن الجُلاح يَصِفُ النَّخْلَ:

هِيَ الظِّلُّ في الحَرِّ حَقُّ الظلِي *** لِ والمَنْظَرُ الأَحْسَنُ الأَجْمَلُ

قالَ ابنُ سِيْدَه: المعْنَى عنْدِي هي الشَّي‌ءُ الظَّلِيلُ، فوَضَعَ المَصْدرَ مَوْضِعَ الاسمِ.

وأَظَلَّ يَوْمُنا: صارَ ذا ظِلٍّ، وفي العُبَابِ والصِّحاحِ: كانَ ذا ظِلٍّ.

واسْتَظَلَّ بالظِلِّ: اكْتَنَّ به، وقيلَ: مالَ إليه وقَعَدَ فيه، وبالشَّجَرَةِ: اسْتَذْرَى بها.

واسْتَظَلَّ من الشَّي‌ءِ وبه أَي تَظَلَّلَ.

واسْتَظَلَّ الكَرْمُ: الْتَفَّتْ نَوامِيه.

واسْتَظَلَّتِ العُيونُ، وفي المحيطِ: عَيْنُ الناقةِ، غارَتْ، قالَ ذو الرُّمَّةِ:

على مُسْتَظِلَّاتِ العُيونِ سَوَاهِمٍ *** شُوَيْكِيَةٍ يَكْسُو بُرَاها لُغَامُها

يقولُ: غارَتْ عُيونُها فهي تَحْتَ العَجَاجِ مُسْتَظِلَّةٌ، وشَوَيْكِيَةٌ حِيْن طَلَعَ نَابُها.

واسْتَظَلَّ الدَّمُ: كان في الجَوْفِ وهو المُسْتَظَلُّ، ومنه قَوْلُه:

مِنْ عَلَق الجَوْفِ الذي كان اسْتَظَلَّ

وأَظَلَّنِي الشَّي‌ءُ: غَشِيَنِي، والاسمُ منه الظِّلُّ، بالكسرِ، وبه فَسَّرَ ثَعْلَب قَوْلَه تعالَى: {إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} أَو أَظَلَّنِي فلانٌ إذا دَنَا مِنّي حتى أَلْقَى عليَّ ظِلَّهُ من قُرْبه، ثم قيلَ: أَظَلَّك أَمْرٌ، ومنه الحدِيثُ: «أَيُّها الناسُ قد أَظَلَّكُم شَهْرٌ عظيمٌ؛ أَي أَقْبَلَ عَلَيكُم ودَنَا منْكُم كأَنّه أَلْقَى عَلَيكُم ظِلَّهُ.

وظَلَّ نَهَارَهُ يَفْعَلُ كذا وكذا، ولا يقالُ ذلِكَ إلَّا بالنَّهارِ، كما لا يقُولُون بَاتَ يَبِيتُ إلَّا باللَّيلِ، قالَهُ اللَّيْثُ وغيرُه، وهو المَفْهومُ من كَلامٍ سِيْبَوَيْه.

وقالَ غيرُهم: يقالُ أَيْضًا ظَلَّ لَيْلَهُ يَفْعَلُ كذا لأَنَّه قد سُمِع في بعضِ الشِّعْرِ، وهو قَوْلُ الأَعْشَى:

يَظَلّ رَجيمًا لرَيْبِ المَنُونِ

وقد رَد عليه ذلِكَ وأَجَابُوا عنه بأَنَّ ظَلَّ بمعْنَى صَارَ، ويُسْتَعْملُ في غيرِ النَّهارِ كما ذَكَرَه المصنّفُ في البلغة.

يَظَلُّ، بالفتحِ؛ أَي فهو من حَدِّ مَنَعَ، وهي لُغَةٌ نَقَلَها الصَّاغانيُّ ولا وَهْمَ فيه كما زَعَمَه شيْخُنا، ظَلَّا وظُلُولًا، بالضم.

وظَلِلْتُ أَعْمَلُ كذا، بالكسرِ؛ أَي من حَدِّ تَعِبَ، أَظَلّ ظُلولًا، وعلى هذه اقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ وصاحِبُ المِصْباحِ.

قالَ اللَّيْثُ: ومِنَ العَرَبِ من يحذِفُ لامَ ظَلِلْت ونَحْوها فيقُولُون ظَلْتُ، كَلَسْتُ، ومنه قَوْلُه تعالَى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}، وهو من شَواذِّ التَّخفيفِ. وكذا قَوْلُه تعالَى: {ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفًا}، والأَصْلُ فيه ظَلِلْت، حُذِفَتِ اللامُ لثِقَلِ التَّضْعيفِ والكَسْرِ وبَقِيَتِ الظاءُ على فَتْحِها.

وقالَ الصَّاغانيُّ: أَسْقَطُوا الأُوْلَى اسْتِثْقالًا لاجْتِمَاعِ اللَّامَيْن وتَرَكُوا الظاء على فَتْحِها واكْتَفُوا بتعارُفِ مَوْضِعِه وقِيَام الثانِيَة مَقَامُها.

ويقُولُونَ: ظِلْتُ كَمِلْتُ وبه قَرَأَ ابنُ مَسْعودٍ والأَعْمَشُ وقَتَادَةُ وأَبُو البرهسم وأَبُو حَيْوَة وابنُ أَبي عَبَلَة، هي لُغَةُ الحجازِ على تَحْويلِ كَسْرةِ اللامِ على الظاءِ، ويجوزُ في غيرِ المكْسُورِ نَحْو هَمْت بذلِكَ أَي هَمَمْت، وأَحَسْتُ بذلِكَ أَي أَحْسَسْت، وهذا قَوْلُ حُذَّاق النَّحويِّين.

وقالَ ابنُ سِيْدَه: قالَ سِيْبَوَيْه: أَمَّا ظِلْتُ أَصْلُه ظَلِلْتُ إلّا أَنَّهم حَذَفُوا فأَلْقُوا الحَرَكَةَ على الفاءِ كما قالُوا خِفْت وهذا النّحْوُ شاذٌّ، وأَمَّا ما أَنْشَدَ أَبُو زَيْدٍ لرجُلٍ من بنِي عقيل:

أَلَمْ تَعْلَمِي ما ظِلْتُ بالقومِ واقِفًا *** على طَلَلٍ أَضْحَتْ مَعَارِفُه قَفْرا

قالَ ابنُ جنيِّ: قالَ كَسَرُوا الظاءَ في إنْشادِهم وليْسَ من لُغَتِهم.

وقالَ الرَّاغِبُ: يُعَبَّرُ بظَلّ عَمَّا يُفْعَل بالنّهارِ ويُجْرَى مجرى صرْت، قالَ تعالَى: {ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفًا} انتَهَى.

قالَ الشِّهابُ: فهو فعْلٌ ناقِصٌ لثُبُوتِ الخَبَرِ في جميعِ النَّهارِ، كما قالَ الرَّضيّ لأَنَّه لوقت فيه ظلّ الشمس من الصَبَاحِ للمَساءِ أَو من الطُّلوعِ للغُرُوبِ فإذا كانَتْ بمعْنَى صَارَ عَمَّتِ النَّهارَ وغيرِه، وكذا إذا كَانَتْ تامَّةً بمعْنَى الدَّوام، كذا في شَرْحِ الشفاءِ.

وقالَ الرَّضِي: قالُوا لم تستعمل ظَلَّ إلَّا ناقِصَة.

وقالَ ابنُ مالِكٍ: تكونُ تامَّةً بمعْنَى طَالَ ودَامَ، وقد جاءَتْ ناقِصَةً بمعْنَى صَارَ مُجَرَّدَة عن الزَّمانِ المَدْلولِ عليه بتَرْكِيبِه، قالَ تعالَى: ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا.

والظَّلَّةُ: الإِقامةُ.

وأَيْضًا الصِحَّةُ، هكذا في النسخِ ولم أَجِدْه في الأُصولِ التي بأَيْدِينا، وأَنَا أَخْشَى أَنْ يكونَ تَحْريفًا، فإِنَّ الأَزْهَرِيَّ وغيرَه ذَكَرُوا من مَعَاني الظُّلّةُ، بالضمِّ، الصَّيْحَةُ فتأَمَّلْ.

والظُّلَّةُ، بالضمِ: الغاشِيَةُ.

وأَيْضًا: البُرْطُلَّةُ، وفي التَّهْذِيبِ: والمِظَلَّةُ البُرْطُلَّةُ، قالَ: والظُّلَّةُ والمِظَلَّةُ سواءٌ، وهو ما يُسْتَظَلُّ به من الشمسِ. قلْتُ: وقد تقدَّمَ للمصنِّفِ أَنَّ البُرْطُلَّة المِظَلَّة الضَّيَّقَة، وتقدَّمَ أَنَّها كَلِمَةٌ نَبَطِيَّة.

والظُّلَّةُ: أَوَّلُ سَحابَةٍ تُظِلُّ، نَقَلَه الجَوْهرِيُّ عن أَبي زَيْدٍ.

قالَ الرَّاغِبُ: وأَكْثَرُ ما يقالُ فيما يُسْتَوْخَم ويُكْرَهُ، ومنه قَوْلُه تعالَى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}، ونَصّ الصِّحاحِ: يظل، وفي بعضِ الأُصُولِ أُوْلِى سَحابَةٍ ومنه الحدِيثُ «البقرةُ وآلُ عمرانَ كأَنَّهما ظُلَّتانِ أَو غَمَامَتانِ».

وأَيْضًا: ما أَظَلَّكَ من شجرٍ، وقيلَ: كلُّ ما أَطْبَقَ عليك، وقيلَ: كلُّ ما سَتَرَكَ من فَوْق.

وفي التَّنْزيلِ العَزِيزِ: فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ.

قالَ الجَوْهَرِيُّ: قالوا غَيْم تحتَهُ سَمومٌ.

وفي التَّهْذِيبِ: أَو سَحابَةٌ أَظَلَّتْهُم فاجْتَمَعُوا تحتَها مُسْتَجيرينَ بها ممَّا نَالَهُم من الحَرِّ فأَطْبَقَتْ عليهم وهَلكُوا تحتَها.

ويقالُ: دَامتْ ظِلالَةُ الظِلِّ، بالكسرِ، وظُلَّتُه، بالضمِ؛ أَي ما يُسْتَظَلُّ به من شَجَرٍ أَو حَجَرٍ أَو غيرِ ذلِكَ.

والظُّلَّةُ أَيْضًا: شي‌ءٌ كالصُّفَّةِ يُسْتَتَرُ به من الحَرِّ والبَرْدِ، نَقَلَه الأَزْهرِيُّ، الجمع: ظُلَلٌ كغُرْفَةٍ وغُرَفٌ، وظِلالٌ كعُلْبَةٍ وعِلابٍ، ومن الأوَّلِ قَوْلُه تعالَى: إِلّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ أَي يَأْتِيَهُم عَذَابَه، وقُرِئَ أَيْضًا في ظِلالٍ، وقَرَأَ حَمْزَةُ والكِسائي وخَلَف: في ظُلَلٍ على الأَرَائِكِ مُتَّكِئُون.

وقَوْلُه تعالَى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ، قالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ: هي ظُلَلٌ لمَنْ تحتهم وهي أَرْضٌ لَهُم، وذلِكَ أَنَّ جهنَّم أَدْرَاكٌ وأَطْباقٌ، فبِسَاطُ هذه ظُلَّةٌ لمَنْ تحتها، ثم هَلُمَّ جَرّا حتى ينْتهوا إِلى القَعْرِ.

وفي الحدِيثِ: أَنَّه ذَكَرَ فِتَنًا كأَنَّها الظُّلَلُ، أَرَادَ كأَنَّها الجِبَالُ والسُّحُب، قالَ الكُمَيْتُ:

فكَيْفَ تقولُ العَنْكَبُوتُ وبَيْتُها *** إِذا ما عَلَتْ مَوْجًا من البَحْرِ كالظُّلَلِ؟

والظِّلَّةُ، بالكسرِ: الظِلالُ وكأَنَّه جَمْعُ ظَلِيلٍ كطِلَّةٍ وطَلِيلٍ.

والمَظَلَّةُ، بالكسرِ والفتحِ؛ أَي بكسرِ الميمِ وفَتْحِها، الأَخِيرَةُ عن ابنِ الأَعْرَابيِّ واقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ على الكَسْرِ، وهو قَوْلُ أَبي زَيْدٍ.

قالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ: وإِنّما جَازَ فيها فَتْحُ الميمِ لأَنَّها تُنْقَلُ بمنْزِلَةِ البَيْتِ وهو الكَبيرُ من الأَخْبِيَةِ.

قيلَ: لا تكونُ إِلّا من الثيابِ وهي كَبيرَةٌ ذاتُ رُواقٍ ورُبّما كانَتْ شُقَّة وشُقَّتين وثلاثًا، ورُبَّما كان لها كِفَاةٌ وهو مؤخَّرُها.

وقالَ ثَعْلَبُ: المِظَلَّةُ من الشَّعَرِ خاصَّةً.

وقالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ: الخَيْمَة تكونُ من أَعْوادٍ تُسْقَفُ بالثُّمامِ ولا تكونُ من ثيابٍ، وأَمَّا المَظَلَّةُ فمن ثيابٍ.

وقالَ أَبُو زَيْدٍ: من بيوتِ الأَعْرابِ المَظَلَّةُ، وهي أَعْظَمُ ما يكونُ من بيوتِ الشَّعَرِ ثم الوَسُوط نَعْت المَظَلَّة، ثم الخِبَاء وهو أَصْغَرُ بيوتِ الشَّعَر.

وقالَ أَبُو مالِكٍ: المِظَلَّةُ والخِبَاءُ يكونُ صغيرًا وكبيرًا.

ومن أَمْثَالِهم: عِلَّةٌ ما عِلَّة أَوْتادٌ وأَخِلَّة، وعَمَدُ المِظَلَّة، أَبْرِزُوا لصِهْرِكم ظُلّه، قالَتْهُ جارِيَةٌ زُوِّجَتْ رَجُلًا فأَبْطأَ بها أَهْلُها على زَوْجِها وجَعَلُوا يَعْتَلُّون بجَمْعِ أَدَوَاتِ البَيْتِ فقالَتْ ذلِكَ اسْتِحْثاثًا لهُم، والجمْعُ المَظالُّ، وأَمّا قَوْلُ أُمَيَّة بن أَبي عائذ الهُذَليُّ:

ولَيْلٍ كأَنَّ أَفَانِينَه *** صَراصِرُ جُلِّلْنَ دُهْمَ المَظالي

إِنّما أَرَادَ المَظالَّ فخفَّفَ اللّامَ، فإِمَّا حَذَفَها وإِمَّا أَبْدَلَها ياءً لاجْتِماعِ المَثَلَيْن، وعلى هذا تُكْتَبُ بالياءِ.

والأَظَلُّ: بَطْنُ الإِصْبَعِ ممَّا يَلِي صَدْرَ القَدَمِ من أَصْلِ الإِبْهامِ إِلى أَصْلِ الخِنْصَرِ نَقَلَه ابنُ سِيْدَه، وقالَ: يَقُولُون: أَظَلَّ الإنْسَانُ بُطُونَ أَصَابِعِه، هكذا عَبَّرُوا عَنه ببُطُونٍ والصَّوابُ عنْدِي أَنَّ الأَظَلَّ بَطْنُ الإِصْبَعِ ممَّا يلِي ظَهْر القَدَمِ.

والأَظَلُّ من الإِبِلِ: باطِنُ المَنْسِمِ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.

وقالَ أَبُو حَيَّان: باطِنُ خُفَّ البَعير سُمِّي به لاسْتِتَارِه ويُسْتَعارُ لغَيرِه، ومنه المَثَلُ: إِنْ يَدْمَ أَظَلُّكَ فقد نَقِبَ خُفَّي، يقالُ للشَّاكي لمَنْ هو أَسْوأُ حالًا منه، وقالَ ذو الرُّمَّة:

دامي الأَظَلِّ بَعِيد الشَّأْوِ مَهْيُوم

وأَنْشَدَ الصَّاغانيُّ للَبِيدٍ رضي ‌الله‌ عنه:

وتصلّ المَرْوَ لما هَجَّرَتْ *** بنَكِيبٍ مَعِرٍ دامي الأَظَلّ

الجمع: ظُلُّ بالضمِ وهو شاذٌّ لأَنَّهم عامَلُوه مُعَامَلَة الوَصْفِ.

قالَ الجَوْهَرِيُّ: وأَظْهَرَ العجَّاجُ التَّضْعيفَ في قَوْلِه:

تَشْكو الوَجَى من أَظْلَلٍ وأَظْلَلِ *** مِنْ طُولِ إِمْلالٍ وظَهْرٍ أَمْلَل

ضَرُوْرَةً واحْتَاجَ إِلى فَكِّ الإدْغامِ كقَوْلِ قَعْنَب بن أُمِّ صاحب:

مَهْلًا أَعاذِلَ قد جَرَّبْتِ من خُلُقِي *** أَنِّي أَجُودُ لأَقوامٍ وإِن ضَنِنُوا

والظَّلِيلَةُ، كسَفِينَةٍ، مُسْتَنْقَع الماءِ في أَسْفَلِ مَسيلِ الوَادِي.

وفي التَّهْذِيبِ: مُسْتَنْقَعُ ماءٍ قَلِيلٍ في مَسِيلٍ ونَحْوِه.

وقالَ أَبُو عَمْرٍو هي: الرَّوْضَةُ الكثيرةُ الحَرَجاتِ، والجمع: ظَلائِلُ وهي شِبْه حُفْرة في بَطْنِ مَسِيلِ ماءٍ فيَنْقَطِعُ السَّيْل ويَبْقى ذلِكَ الماءُ فيها، قالَ رُؤْبَة:

بخَصِرَاتٍ تَنْقَعُ الغَلائِلا *** غادَرَهُنَّ السَّيْلُ في ظَلائِلا

قَوْلُه بخَصِرَاتٍ، يعْنِي أَسْنانًا بَوَارِدَ تَنْقَعُ الغَلِيلَ.

ومُلاعِبُ ظِلِّهِ: طائِرٌ مَعْروفٌ سُمِّي بذلِكَ، وهما مُلاعِبا ظِلِّهما وملاعِباتُ ظِلِّهنَّ هذا في لَغَةٍ، فإِذا نَكَرْتَهُ أَخْرَجْتَ الظِّلَّ على العِدَّةِ فَقُلْتَ هُنَّ مُلاعِباتٌ أَظْلالَهُنَّ، كذا في المُحْكَمِ والعُبَابِ.

والظَّلالَةُ، كسَحابَةٍ، الشَّخْصُ، وكذلِكَ الطَلالَةُ بالطاءِ.

والظِلالَةُ، بالكسرِ: السَّحابَةُ تَرَاها وَحْدَها وتَرَى ظِلّها على الأَرْضِ، قالَ أَسْماءُ بنُ خارِجَةَ:

لي كل يَوْمٍ ضَيْقَة *** فَوْقي تَأَجلُ كالظِّلَالَه

وقالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ: الظَلالُ، كسَحابٍ: ما أَظَلَّكَ من سَحابٍ ونَحْوِه.

وظَليلاءُ، بالمدِّ، موضع، وذَكَرَه المصنِّفُ أَيْضًا: ضَلِيلاءُ بالضادِ والصَّوابُ أَنَّه بالظاءِ.

وأَبُو ظِلالٍ، ككِتابٍ: هلالُ بنُ أَبي هِلالٍ وعليه اقْتَصَرَ ابنُ حَيَّان، ويقالُ: ابنُ أَبي مالِكٍ القَسْمَلِيُّ الأَعْمَى تابِعِيٌّ رَوَى عن أَنَس، وعنه مَرْوَانُ بنُ مُعَاوِيَة ويَزِيدُ بنُ هَارُون.

قالَ الذَّهبيُّ في الكَاشِفِ: ضَعَّفُوه. وشَدَّ ابنُ حَبَّانٍ فقَوَّاه.

وقالَ في الدِّيوانِ: هلالُ بنُ مَيْمون، ويقالُ: ابنُ سُوَيْد أَبُو ظِلالٍ القَسْمَلِيُّ.

قالَ ابنُ عَدِيٍّ: عامَّةُ ما يَرْوِيه لا يُتَابَعُ عليه:

قلْتُ: ويقالُ له أَيْضًا: هلالُ بنُ أَبي سُوَيْد. وهو من رجالِ التَّرْمذيّ ورَوَى عنه أَيْضًا يَحْيَى بنُ المُتَوَكِّلِ كما قالَهُ ابنُ حَبَّانٍ، وعبدُ العَزِيزِ بنُ مُسْلم كما قالَهُ المزيّ في الكُنَى.

وقالَ الفرَّاءُ: الظِّلالُ ظِلالُ الجَنَّةِ، وفي بعضِ النسخِ: الظِلالُ الجَنَّةُ وهو غَلَطٌ، ومنه قَوْلُ العَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ تعالَى عنه يَمْدَحه صلى ‌الله‌ عليه‌وسلم:

مِنْ قَبْلِها طِبْتَ في الظِّلالِ وفي *** مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الوَرَقُ

أَي كُنْتَ طَيِّبًا في صُلْبِ آدَمَ حيثُ كانَ في الجَنَّةِ، ومِنْ قَبْلِها أَي مِنْ قَبْل نُزُولِك إلى الأَرْضِ فكَنَى عنها، ولم يَتَقَدَّم ذِكْرها لبَيَانِ المعْنَى.

والظِّلالُ من البَحْرِ: أَمْواجُهُ لأَنّها تُرْفَع فتُظِلُّ السَّفِينَةَ ومَنْ فيها.

والظَّلَلُ، محرَّكةً: الماءُ الذي يكونُ تَحْتَ الشَّجَرِ لا تُصيبُهُ الشَّمسُ، كما في العُبَابِ، وقد تقدَّمَ له أَيْضًا مِثْلُ ذلِكَ في «ض ل ل».

وظَلَّلَ بالسَّوْطِ: أَشَارَ به تَخْويفًا، عن ابنِ عَبَّادٍ.

والظُّلْظُلُ، بالضمِ: السُّفُنُ، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ، هكذا عَبَّر بالسُّفُن وهو جَمْعٌ.

وظَلَّالٌ، كشَدَّادٍ: موضع ويُخَفَّفُ كما في العُبَابِ.

* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:

ظَلَّ يَفْعَلُ كذا أَي دام نَقَلَه ابنُ مالِكٍ، وهي لُغَةُ أَهْلِ الشامِ.

ويَوْمٌ مُظِلٌّ: ذو سَحابٍ، وقيلَ: دائمُ الظِّلِّ.

ويقالُ: وَجْهُه كَظِلِّ الحَجَرِ: أَي أَسْودُ قالَ الرَّاجِزُ:

كأَنَّمَا وَجْهُكَ ظِلٌّ من حَجَر

قالَ بعضُهم: أَرَادَ الوقاحةَ وقيل أَرَادَ أَنَّه كانَ أَسْودَ الوَجْهِ، والعَرَبُ تقولُ: ليْسَ شي‌ءٌ أَظَلَّ من حَجَر، ولا أَدْفَأَ من شَجَر، ولا أَشَدَّ سَوَادًا من ظِلُّ.

وكلُّ ما كانَ أَرْفَع سَمْكًا كانَ مَسْقطُ الشمسِ أَبْعَد، وكلُّ ما كانَ أَكْثَر عَرْضًا وأَشَدّ اكْتِنازًا كانَ أَشَدّ لسَوادِ ظِلِّه.

وأَظَلَّتْنِي الشَّجَرَةُ وغيرُها.

ومنه الحدِيثُ: «ما أَظَلَّتِ الخَضْرَاءُ ولا أَقَلَّتِ الغَبْراءُ أَصْدَق لَهْجَة من أَبي ذرٍّ».

واسْتَظَلَّ بها: اسْتَذْرّى.

ويقالُ للمَيِّثِ قد ضَحى ظلُّه.

وعَرشٌ مُظَلَّل من الظّلِّ.

وفي المَثَلِ: لكن على الأَثْلاثِ لَحْم لا يظَلّل قالَهُ بَيْهَس في إخْوتِه المَقْتُولِين لمَّا قالُوا: ظَلِّلوا لَحْمَ جَزُورِكم، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.

وقَوْلُه تعالَى: وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ، قيلَ: سَخَّرَ اللهُ لهُم السَّحابَ يُظِلُّهم حتى خَرَجُوا إلى الأَرْضِ المقدَّسَةِ، والاسمُ الظَّلالَةُ بالفتحِ.

وقَوْلُهم: مَرَّ بنا كأَنَّه ظِلُّ ذِئْبٍ أَي سَرِيعًا كَسُرْعَةِ الذِّئْبِ.

والظُّلَلُ، بُيوتُ السِّجْنِ، وبه فُسِّرَ قَوْلُ الرَّاجِزِ:

وَيْحَكَ يا عَلْقَمَةُ بنُ ماعِزِ *** هَلْ لَكَ في اللَّواقِحِ الحَرَائِزِ

وفي اتِّباعِ الظُّلَل الأَوَارِزِ؟ وفي الحدِيثِ: «الجَنَّةُ تحْتَ ظلالِ السُّيوفِ، كِنايةٌ عن الدُّنُوِّ من الضِّرَابِ في الجِهادِ حتى يَعْلُوَه السَّيفُ ويَصِيرَ ظِلُّه عليه.

وفي آخَرَ: السُّلْطانُ ظِلُّ اللهِ في الأَرْضِ لأَنَّه يَدْفَعُ الأَذَى عن الناسِ كما يَدْفَعُ الظِّلُّ أَذَى حَرِّ الشمسِ، وقيلَ: معْناهُ سِتْر اللهِ، وقيلَ: خاصَّة اللهِ، وقَوْلُ عَنْتَرَةَ:

ولقد أَبِيتُ على الطَّوى وأَظلّه *** حتى أَنالَ به كَرِيمَ المأْكَلِ

أَرَادَ: وأَظَلُّ عليه، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.

ويقالُ: انْتَعَلَتِ المَطَايا ظِلالُها إذا انْتَصَفَ النَّهارُ في القَيْطِ فلم يَكُنْ لها ظِلٌّ، قالَ الرَّاجِزُ:

قد وَرَدَتْ تَمْشِي على ظِلالِها *** وذَابَتِ الشَّمْس على قِلالِها

وقالَ آخَرُ مِثْلِه:

وانْتَعَلَ الظِّلَّ فكانَ جَوْرَبا

والمِظل: ماءٌ في دِيارِ بَنِي أَبي بَكْرِ بنِ كِلابٍ قالَهُ نَصْر.

والمُسْتَظِلُّ: لَحْمٌ رَقيقٌ لازِقٌ ببَاطِنِ المَنْسِم من البَعيرِ، نقله الأَزْهَرِيُّ عن أَعْرَابيٍّ من طيِّ‌ءٍ قالَ: وليْسَ في البَعيرِ مُضْغة أَرَقُّ ولا أَنْعَم منها غَيْر أَنَّه لا دَسَم فيه. وقالَ أَبو عُبَيْدٍ في بابِ سُوءِ المُشَاركَةِ في اهْتمامِ الرَّجُل بشأْنِ أَخِيه: قالَ أَبو عُبَيْدَةَ: إذا أَرَادَ المَشْكُوُّ إليه أَنَّه في نَحْوٍ ممَّا فيه صاحِبُه الشاكي قالَ له إن يَدْمَ أَظَلُّكَ فقد نَقِبَ خُفَّي، يقولُ: إنَّه في مِثْل حالِكَ. والمِظَلَّةُ ما تَسْتَظِلُّ به المُلُوك عنْدَ رُكُوبِهم، وهي بالفارِسِيَّةِ جتر.

والظّلّيلة، مُشَدَّدَة اللامِ: شي‌ءٌ يَتَّخذُه الإِنْسان من شَجَرٍ أَو وثَوْبٍ يَسْتَتِرُ به من حَرِّ الشمسِ عامِيَّةٌ. وأَيْكَة ظلِّيلةٌ: مُلْتَفّة.

وهذا مناخِي ومَحَلّي وبَيْتي ومظلِّي. ورَأَيْت ظِلَالةً من الطَّيرِ، بالكسرِ، أي غَيَابَة.

وانْتَقَلْت عن ظلِّي أَي هُجِّرْتُ عن حالَتِي وهو مجازٌ. وكذا هو يَتْبَعُ ظِلّ نَفْسه وأَنْشَدَنا بعضُ الشيوخِ:

مثل الرزق الذي تتبعه *** مثل الظل الذي يمشي مَعَكْ

أَنتَ لا تُدْركه متبعًا *** فإذا وليتَ عنه تَبعَكْ

وهو يُبَارِي ظِلّ رأْسِه إذا اخْتَالَ وهو مجازٌ كما في الأَسَاسِ.

وأَظَلّه: أَدْخَلَه في ظِلِّه أَي كَنَفِهِ.

وقَوْلُه تعالَى: لا ظَلِيلٍ أي لا يفيد فائدة الظل في كونِه راقِيًا عن الحَرِّ ويُرْوَى أَنَّ النبيَّ صلى ‌الله‌ عليه‌وسلم: كان إذا مَشَى لم يَكُن له ظِلّ، ولهذا تَأْوِيل يَخْتَص بغير هذا الكتابِ.

وظلّ اليَوْمِ وأَظَلّ: صَارَ ذا ظلٍّ وأَيْضًا دَامَ ظِلّه.

وظلّ الشي‌ءُ طَالَ.

والظُّلْظُلُ، كقُنْقُذٍ: ما يُسْتَرُ به من الشمسِ قالَهُ اللّيْثُ.

واسْتَظَلَّتِ الشمسُ اسْتَتَرَت بالسَّحابِ.

* وممَّا يُسْتَدْرَكُ عليه:

ظَالَ يَظُولُ، أي ظلَّ أَهْمَلَهُ الجماعَةُ. وأَوْرَدَه الصَّاغانيُّ هكذا في العُبَابِ هنا مُسْتقِلًّا قالَ: وقَرَأَ يَحْيَى بنُ يَعْمَر:

ظُلْت عليه عاكفًا بضمِ الظاءِ، وقيلَ: إنَّه أَرَادَ ما لم يُسَمَّ فاعِلُه؛ أَي ظَلَلْت أي فَعَلَ ذلِكَ لَكَ ثم أُسْقِطَتِ اللامُ الْأُوْلَى.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


187-تاج العروس (قنصل)

[قنصل]: القُنْصُلُ، بالضَّمِّ: أَهْمَلَه الجوْهَرِيُّ والصَّاغانيُّ.

وفي اللّسانِ: هو القَصيرُ.

قلْتْ: ويُعَبَّرُ به عن الوَكِيلِ للكُفَّارِ في بِلادِ الإِسْلامِ، وكأَنَّها بهذا المعْنى سِرْيانِية اسْتَعْمَلوها.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


188-تاج العروس (قول)

[قول]: القَوْلُ: الكَلامُ على التَّرْتِيب، أَو كُلُّ لَفْظٍ مَذَلَ به اللّسانُ تامًا كانَ أَو ناقِصًا؛ تقولُ: قالَ قَوْلًا، والفاعِلُ: قائِلٌ، والمَفْعولُ: مَقُول.

وقالَ الحَراليُّ: القَوْلُ إِبْداءُ صُوَرِ التَّكَلُّم نُظْمًا بمنْزِلَة ائْتِلاف الصُّور المَحْسُوسَة جمْعًا، فالقَوْلُ مَشْهود القَلْب بوَاسِطَة الأُذُنِ. كما أَنَّ المَحْسوسَ مَشْهودُ القَلْبِ بوَاسِطَة العَيْن وغيرِها.

وقالَ الرَّاغِبُ: القَوْلُ يُسْتَعْمَل على أَوْجهٍ: أَظْهَرُها أَنْ يكونَ للمُرَكَّب مِن الحُرُوف المَنْطُوق بها مُفْردًا كانَ أَو جُمْلةً.

والثاني يقالُ للمتصور في النَّفْسِ قبْلَ التَّلَفُّظ قَوْلٌ، فيُقالُ: في نفْسِي قَوْلٌ لم أُظْهره.

والثالِثُ: الاعْتِقادُ نَحْو: فلانٌ يقولُ بقَوْلِ الشافِعِيّ.

والرَّابعُ: يقالُ للدَّلالَةِ على الشَّي‌ءِ نَحْو:

امْتَلأ الحوض فقالَ قَطْني

والخامِسُ: يقالُ للعِنَايةِ الصَّادِقَة بالشي‌ءِ، نَحْو: فلانٌ يقولُ بكذا.

والسادِسُ: يَسْتَعْملُه المَنْطِقيُّون فيَقولون: قَوْل الجَوْهر كذا وقَوْل العَرض كذا؛ أَي حَدّهما.

والسابعُ في الإِلْهامِ، نَحْو: {قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمّا أَنْ تُعَذِّبَ}، فإِنَّ ذلِكَ لم يُخاطَبْ به بل كانَ إِلْهامًا فسُمِّي قَوْلًا، انتَهَى.

وقالَ سِيْبَوَيْه: واعلم أَنَّ قلْت في كَلامِ العَرَبِ إِنَّما وَقَعَتْ على أَنْ تَحْكِي بها ما كان كَلامًا لا قَوْلًا، يعْنِي بالكَلامِ الجُمَل كقَوْلِك: زَيْدٌ مُنْطلِق وقامَ زَيْدٌ، ويعْنِي بالقَوْلِ الأَلْفاظَ المُفْردة التي يُبْنى الكَلامُ منها كزَيْدٍ مِن قَوْلِكَ زَيْدٌ مُنْطلِق؛ وأَمَّا تَجَوُّزهم في تَسْمِيتهم الاعْتِقادَات والآرَاءُ قَوْلًا فلأَنَّ الاعْتِقادَ يخْفَى فلا يُعْرَف إِلَّا بالقَوْل، أَو بمَا يقومُ مقامَ القَوْل مِن شاهِدِ الحالِ، فلمَّا كانت لا تَظْهر إِلَّا بالقَوْل سُمِّيت قَوْلًا إِذا كانت سَبَبًا له، وكان القَوْلُ دَليلًا عليها، كما يسمَّى الشي‌ءُ باسمِ غيرِه إِذا كان مُلابِسًا له وكان القَوْلُ دَليلًا عليه، وقد يُسْتَعْمَل القَوْلُ في غيرِ الإِنْسانِ؛ قالَ أَبو النَّجْم:

قالت له الطيرُ تقدَّم راشِدا *** إِنَّك لا ترجِعُ إِلَّا حامِدا

وقالَ آخَرُ:

قالت له العينانِ سَمعًا وطاعَةً *** وحدَّرتا كالدُّرِّ لمَّا يُثَقَّب

وقالَ آخَرُ:

بينما نحن مُرْتعُون بفَلْج *** قالت الدُّلَّح الرِّواءُ إِنِيهِ

إِنِيهِ: صَوْت رَزَمة السَّحابِ وحَنِين الرَّعْد. وإِذا جَازَ أَن يسمَّى الرَّأْي والاعْتِقاد قَوْلًا، وإِن لم يكُنْ صَوْتًا، كان تَسْمِيتهم ما هو أَصْوات قَوْلًا أَجْدَر بالجَوازِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّيرَ لها هَدِير، والحَوْض له غَطِيط، والسَّحابَ له دَوِيٌّ؛ فأَمَّا قولُه:

قالت له العَيْنان سَمْعًا وطاعَةً

فإِنَّه وإِن لم يكُنْ منهما صَوْت، فإِنَّ الحالَ آذَنَتْ بأَن لو كانَ لهما جارِحَةُ نُطْقٍ لقالَتَا سَمْعًا وطاعَةً.

قالَ ابنُ جنيِّ: وقد حَرَّر هذا المَوْضع وأَوْضَحَه عَنْترةُ بقوْلِهِ:

لو كان يَدْرِي ما المُحَاوَرة اشْتَكَى *** أَو كان يَدْرِي ما جوابُ تَكَلُّم

الجمع: أَقْوالٌ، جمع الجمع: جَمْعُ الجَمْعِ أَقاويلُ، وهو الذي صَرَّح به سِيْبَوَيْه، وهو القِياسُ، وقالَ قَومٌ: هو جَمْعُ أُقْوُولَة كأُضْحُوكَةٍ.

قالَ شيْخُنا: وإِذا ثَبَتَ فالقِياسُ لا يَأْبَاه.

أَو القَوْلُ في الخَيْرِ والشَّرِّ؛ والقالُ والقيلُ والقالَةُ في الشَرِّ خاصَّةً؛ يقالُ: كَثُرَتْ قالَةُ الناسِ فيه، وقد رَدَّ هذه التَّفْرقةَ أَقْوامٌ وضَعَّفُوها بوِرُود كلٍّ مِن القَالِ والقِيل في الخَيْر، وناهِيك بقَوْلِه تعالَى: {وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ} الآية، قالَهُ شيْخُنا.

أَو القَوْلُ مَصْدَرٌ، والقيلُ والقالُ اسْمانِ له، الأَوَّل مقيسٌ في الثّلاثيّ المُتَعدِّي مُطْلقًا، والأَخِيرَان غيرُ مَقِيْسَين. أَو قالَ قَوْلًا وقِيلًا وقَوْلَةً ومَقالَةً ومَقالًا فيهما، وكذلِكَ قالًا وأَنْشَدَ ابنُ بَرِّي للحُطَيْئة:

تحنَّنْ علَيَّ هَداكَ المَلِيك *** فإِنَّ لكلِّ مَقامٍ مَقالا

ويقالُ كثُرَ القِيلُ والقالُ؛ وفي الحدِيْث: «نَهَى عن قِيلٍ وقال وإِضاعَةِ المَالِ».

قالَ أَبو عُبَيْد: في قِيلٍ وقَال نحوٌ وعربيَّةٌ، وذلِكَ أَنَّه جَعَلَ القالَ مَصْدرًا، أَلَا تَرَاه يقولُ عن قِيلٍ وقالٍ، كأَنَّه قالَ عن قيلٍ وقَوْلٍ؟ يقالُ على هذا: قلْتُ قَوْلًا وقِيلًا وقَالًا، قالَ: وسَمِعْت الكِسائيّ يقولُ في قِراءَةِ عبد الله بن مَسْعود: ذلِكَ عيسى بنُ مَرْيم قولَ الحقِّ الذي فيه تَمْتَرُونَ؛ فهذا من هذا.

وقالَ الفرَّاءُ: في معْنَى القَوْل مِثْل العَيْب والعابِ.

وقالَ ابنُ الأثيرِ في معْنَى الحدِيْث نَهْي عن فُضُول ما يتحدَّثُ به المُتَجالِسُون من قوْلِهِم، قِيْلَ كذا وقالَ فلانٌ كذا؛ قالَ وبناؤُهما على كَوْنِهما فِعْلَين محكِيَّيْن متضمِّنَيْن للضَّميرِ، والإِعرابُ على إجْرائِهما مجْرَى الأَسْماء خِلْوَيْن من الضَّميرِ؛ ومنه قوْلُهم إنَّما الدُّنيا قالٌ وقِيلٌ، وإدْخالُ حَرْف التَّعريف عليهما لذلِكَ في قوْلِهم: ما يُعْرَف القالُ مِن القِيلِ فهو قائِلٌ وقالٌ، ومنه قَوْلُ بعضِهم لقَصِيدَةٍ: أَنا قالُها أَي قائِلُها، وقَؤُولٌ، كصَبُورٍ، بالهَمْزِ وبالواوِ قالَ كَعْبُ بنُ سعدٍ الغَنَويُّ:

وما أَنا للشي‌ءِ الذي ليس نافِعِي *** ويَغْضَب منه صاحِبي بِقَؤُول

الجمع: قُوَّلٌ وقُيَّلٌ بالواوِ وبالياءِ كرُكَّعٍ فيهما، وأَنْشَدَ الجوْهَرِيُّ لرُؤْبَة:

فاليوم قد نَهْنَهَنِي تنَهْنُهِي *** وأَول حلم ليس بالمُسَفَّهِ

وقُوَّل إلَّا دَهٍ فَلا دَهِ

وقالَةٌ، عن ثَعْلَب، وقُؤُولٌ، مَضْمومًا بالهَمْزِ والواوِ، هكذا في النسخِ، والذي في الصَّحاحِ: رجُلٌ قَؤُولٌ وقومٌ قُوُل، مِثْل صَبُورٍ وصُبُر، وإنْ شِئْتَ سكَّنْت الواوَ.

قالَ ابنُ بَرِّي: المَعْروفُ عنْد أَهْلِ العَربيَّةِ؛ قَؤُولٌ وقُوْل، بإسْكان الواوِ؛ يقولُون: عَوَان وعُوْن والأصْل عُوُن، ولا يُحَرَّك إلَّا في الشِّعْرِ كقَوْلِه:

تَمْنَحُه سُوُكَ الإسْحِل

فتأَمَّل.

ورجُلٌ قَوَّالٌ وقَوَّالَةٌ، بالتَّشْديدِ فيهما، مِن قومٍ قَوَّالِيْن؛ وتِقْوَلَةٌ وتِقْوالَةٌ بكسرِهما الأُولَى عن الفرَّاءِ، والثانِيَة عن الكِسَائي. وحَكَى سِيْبَوَيْه: مِقْوَلٌ، كمِنْبَرٍ قالَ: ولا يُجْمَعُ بالواوِ والنّونِ لأَنَّ مُؤَنَّثه لا تدْخلُه الهاءُ قالَ: ومِقْوالٌ، كَمِحْرابٍ، هو على النَّسبِ؛ وقُوَلَةٌ، كهُمَزَةٍ، كلُّ ذلِكَ حَسَنُ القولِ أَو كثيرُهُ لَسِنٌ، كما في الصِّحاحِ، وهي مِقْوَلٌ ومِقْوالٌ وقَوَّالَةٌ؛ والاسمُ القالَةُ والقيلُ والقالُ.

وقالَ ابنُ شُمَيْل: يقالُ للرجُلِ: إنَّه لَمِقْوَل إذا كان بَيِّنًا ظَرِيفَ اللّسانِ.

والتَّقْولَةُ: الكثيرُ الكَلامِ البَلِيغُ في حاجَتِه وأَمْرِه.

ورجُلٌ تِقْوالَةٌ: مِنْطِيقُ.

وهو ابنُ أَقْوالٍ وابنُ قَوَّالٍ: فصِيحٌ جَيِّدُ الكَلَامِ.

وفي التَّهْذِيبِ: تَقُولُ للرجُلِ إذا كان ذا لسانٍ طَلْقٍ إنَّه لابنُ قَوْلٍ وابنُ أَقْوالٍ.

وأَقْوَلَه ما لم يَقُلْ، وهو شاذٌّ كقَوْلِه: صَدَدْت فأَطْوَلت الصُّدُود؛ وقيل: إنَّه غيرُ مَسْموعٍ في غيرِ أَطْوَل، نَقَلَه شيْخُنا. وكذلِكَ: قَوَّلَهُ ما لم يَقُلْ، وأَقالَه ما لم يَقُلْ أَي ادَّعاهُ عليه، الأخيرَةُ عن اللّحْيانيّ.

وقالَ شَمِرٌ: تقولُ قَوَّلَنِي فلانٌ حتى قلْتُ أَي عَلَّمني وأَمَرَني أَنْ أَقُولَ؛ وقيلَ: قَوَّلَني وأَقْوَلَني أَي عَلَّمني ما أَقُولُ وأَنْطَقَني وحَمَلَني على القَوْلِ. وفي حدِيث عليٍّ، رَضِيَ اللهُ تعالَى عنه: أَنَّه سَمِعَ امْرأَةً تنْدُبُ عُمَرَ فَقَالَ: أَمَا والله ما قالَتْه ولكنْ قُوِّلَتْه؛ أَي لُقِّنته وعُلِّمته وأُلْقِي على لسانِها يعْنِي من جانِبِ الإلْهامِ أَي أَنَّه حَقِيقٌ بما قالَتْ فيه.

وقَوْلٌ مَقولٌ ومَقْؤُولٌ، عن اللّحْيانيّ، قالَ: والإتْمامُ لُغَةُ أَبي الجَراحِ.

وتَقَوَّلَ قَوْلًا: ابتَدَعَه كذِبًا؛ ومنه قوْلُه تعالَى {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ} وتَقَوَّلَ فلانٌ عليَّ باطلًا أَي قالَ عليّ ما لم أَكُن قُلْتُ.

وكلِمَةٌ مُقَوَّلَةٌ، كمُعَظَّمَةٍ: قِيلَتْ مَرَّةً بعدَ مَرَّةٍ.

والمِقْوَلُ، كَمِنْبَرٍ: اللِّسانُ؛ يقالُ: إِنَّ لي مِقْوَلًا، وما يسُرُّني به مِقْوَل أي لِسانُه. وأَيْضًا: المَلَكُ بلُغَةِ أَهْل اليمن وجَمْعُهما المَقَاوِلُ؛ أَو مِن مُلوكِ حِمْيْرَ خاصَّةً، يقولُ ما شاءَ فَيَنْفُذُ ما يقُولُه، كالقَيْلِ، أَو هو دُوْنَ المَلِكِ الأَعْلَى، كما في العُبَابِ، وهو قَوْلُ أَبي عُبَيْدَةَ، قالَ: يكونُ مَلِكًا على قَوْمِه ومِخْلافِه ومَحْجَرِه أَي فهو بمنْزِلةِ الوَزِير، وأَصْلُه قَيِّلٌ، بالتَّشدِيدِ، كفَيْعِلٍ.

قالَ أَبو حَيَّان: لا يَنْبغي أَن يدعى في قَيل وشبهِهِ التَّخْفيفَ حتى يُسْمَع مِن العَرَبِ مُشَدَّدًا كنَظائِرِه نَحْو مَيْت وهَيْن وبَيْن، فإنّها سُمِعَت بهما، ويبعد القَوْل بالْتِزامِ تَخْفيف هذا خاصَّة مع أَنَّه غَيْرُ مَقِيْس عنْدَ بعضِ النُّحَّاة مُطْلقًا أَو في اليائي وَحْدِه، وإن أَجَابَ عنه الشّهاب الخفاجيّ بمالا يُجْدِي وخالَفَ أَبو عليَّ الفارِسيّ في ذلِكَ كُلِّه فقصَرَه على السّماعِ، والصَّوابُ خِلافُه، وفيه كَلامٌ طَويلٌ لابنِ الشجريّ وغيرِه. وادَّعَى فيه البَدْر الدماميني في شرْحِ المُغْني أَنَّهم تَصَرَّفوا فيه للفَرْق، نَقَلَه شيْخُنا. سُمِّي به لأَنَّه يقولُ ما شاءَ فَيَنْفُذُ، وهذا على أنَّه وَاوِيٌّ، وأَصْل قَيْل قَيْول كسَيَّد وسَيود، حُذِفَت عَيْنُه. وذَهَبَ بعضُهم إلى أَنَّه يائيُّ العَيْن مِن القيالَةِ وهي الإمَارَةُ، أَو من تَقَيَّله إذا تابَعَه أَو شابَهَه، الجمع: أَي جَمْعُ القَيلِ أَقْوالٌ.

قالَ سِيْبَوَيْه: كَسَّرُوه على أَفّعال تَشْبيهًا بفاعِلٍ؛ ومَن جَمَعَه على أَقْيالٍ لم يَجْعل الوَاحِدَ منه مُشَدَّدًا، كما في الصِّحاحِ.

وقالَ ابنُ الأثيرِ: أَقْيال مَحْمولٌ على لَفْظِ قَيْلَ، كما قِيْلَ في جَمْعِ رِيحٍ أَرْياحٌ والسائِغُ المَقِيس أَرْواح.

وفي التَّهْذِيبِ: هم الأَقْوالُ والأَقْيالُ، الوَاحِدُ قَيْل، فمن قالَ أَقْيال بَنَاه على لفْظِ قَيْل، ومن قالَ أَقْوال بَنَاه على الأصْلِ، وأَصْلُه مِن ذَواتِ الواوِ.

وجَمْعُ المِقْوَل مَقاوِلُ؛ وأَنْشَدَ الجوْهَرِيُّ للبيدٍ:

لها غُلَلٌ من رازِقيٍّ وكُرْسُفٍ *** بأَيمان عُجْمٍ يَنْصُفُون المَقاوِلا

أَي يَخْدمونَ المُلوكَ. ومقاوِلَةٌ دَخَلَت الهاءُ فيه على حَدِّ دُخولِها في القَشاعِمةِ.

واقْتَالَ عليهم احْتَكَمَ؛ وأَنْشَدَ ابنُ بَرِّي للغَطَمَّش مِن بنِي شَتمِرة:

فبالخَيْرِ لا بالشرِّ فارْجُ مَوَدَّتي *** وإِنِّي امرُؤٌ يَقْتالُ منِّي التَّرَهُّبُ

قالَ أَبو عُبَيْد: سَمِعْت الهَيْثم بن عديٍّ يقولُ: سَمِعْت عبدَ العَزيزِ بنَ عُمَر بنِ عبدِ العَزيزِ يقولُ في رُقْية النَّمْلةِ: العَرُوس تَحْتَفِل وتَقْتَالُ وتَكْتَحِلُ، وكلَّ شي‌ءٍ تَفْتَعِلْ، غيرَ أن لا تَعْصِي الرَّجُل؛ قالَ تَقْتالُ تَحْتَكِم على زَوْجِها؛ وأَنْشَدَ الجوْهَرِيُّ لكَعْبِ بنِ سعدِ الغَنَويّ:

ومنزلَةٍ في دارِ صِدْقٍ وغِبْطةٍ *** وما اقْتال من حُكْمٍ عَليَّ طَبيبُ

وأَنْشَدَ ابنُ بَرَّي للأعْشَى:

ولمِثْلِ الذي جَمَعْتَ لِرَيْبِ ال *** دّهْرِ تَأْبَى حُكومة المُقْتالِ

واقْتَالَ الشّي‌ءَ اخْتارَهُ، هكذا في النُّسخِ.

وفي الأسَاسِ واللّسانِ: واقْتالَ قَوْلًا: اجْتَرّه إلى نفْسِه من خيرٍ أَو شرٍّ.

وقال به أَي غَلَبَ به؛ ومنه حدِيْث الدُّعاءِ: سُبحانَ من تعطَّفَ بالعِزِّ، والرِّوايَةُ: تَعَطَّفَ العِزَّ، وقالَ به.

قالَ الصَّاغانِيُّ: وهذا مِن المجازِ الحِكَمِيّ كقَوْلِهم: نَهَارُه صائِمٌ، والمُرادُ وَصْف الرَّجُل بالصَّوْم، ووَصْف اللهِ بالعِزِّ؛ أَي غَلَبَ به كلّ عزيز ومَلَكَ عليه أَمْرَه.

وقالَ ابنُ الأَثيرِ: تَعَطَّف العِزَّ أي اشْتَمَلَ به فغَلَبَ بالعِزِّ كلَّ عَزيزٍ.

وقيلَ: معْنَى قالَ به أَي أَحَبَّه واخْتصَّه لنفْسِه، كما يقالُ: فلانٌ يَقُول بفلانٍ أَي بمحبَّتِه واخْتصاصِه، وقيلَ: معْناه حَكَمَ به، فإنَّ القَوْل يُسْتَعْمل في معْنى الحُكْم.

وفي الرَّوْض للسَّهيليّ في تَسْبيحِه صلى ‌الله‌ عليه‌وسلم: الذي لَبِس العِزَّ وقالَ به؛ أَي مَلَكَ به وقَهَرَ، كذا فَسَّرَه الهَرَويُّ في الغَرِيْبَيْن.

وقالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ: العَرَبُ تَقُولُ: قالَ القومُ بفُلانٍ أَي قَتَلوهُ؛ وقُلْنا به أَي قَتَلْناه، وهو مجازٌ، وأَنْشَدَ لِزِنْبَاعٍ المراديّ:

نحنُ ضَرَبْناه على نِطَابِه *** قُلْنَا به قُلْنَا به قُلْنا به

نحنُ أَرَحْنا الناسَ من عَذَابِه *** فليَأْتِنا الدَّهْر بما أَتَى به

وقالَ ابنُ الأَنْبارِيِّ اللُّغَويّ: قال يَجي‌ءُ بمعْنَى تَكَلَّم وضَرَبَ وغَلَبَ ومَاتَ ومَالَ واسْتَراحٍ وأَقْبَلَ، وهكذا نَقَلَه أَيْضًا ابنُ الأَثيرِ، وكلُّ ذلِكَ على الاتساعِ والمجازِ. ففي الأساسِ: قالَ بيدِه: أَهْوى بها، وقالَ برأْسِه: أَشَارَ، وقالَ الحائِطُ فسَقَطَ: أَي مالَ. ويُعَبَّرُ بها عن التَّهَيُّؤِ، للافْعالِ والاسْتِعدادِ لها يقالُ: قالَ فأَكَلَ، وقالَ فَضَرَبَ، وقالَ فتَكَلَّمَ، ونَحْوه: كقالَ بيدِه: أَخَذَ، وبرِجْلِهِ: مَشَى أَو ضَرَبَ، وبرأْسِه: أَشَارَ، وبالماءِ على يدِه: صَبَّه، وبثَوْبه: رَفَعَه، وتقدّمَ قَوْلُ الشاعِرِ:

وقالَت له العَيْنانِ سَمْعًا وطاعَةً

أَي أَوْمَأَتْ. ورُوِي في حدِيْث السَّهْوِ: ما يَقولُ ذُو اليَدَيْن؟ قالوا: صَدَق؛ رُوِي أَنَّهم أَوْمَؤُوا برُؤُوسِهم أَي نعَم ولم يتكلَّمُوا وقالَ بعضُهم في تَأْوِيل الحدِيْث: نَهَى عن قِيلٍ وقالٍ؛ القالُ: الابْتِداءُ والقِيلُ، بالكسرِ: الجوابُ ونَظيرُ ذلِكَ قَوْلُهم: أَعْيَيْتني مِن شُبٍّ إلى دُبٍّ ومِن شُبٍّ إلى دُبٍّ.

قالَ ابنُ الأَثيرِ: وهذا إنَّما يصحُّ إذا كانت الرِّوايَة: قِيل وقال على أَنَّهما فِعْلان، فيكونُ النَّهْي عن القَوْلِ بما لا يصحُّ ولا تُعلم حَقِيقتُه، وهو كحدِيثِه الآخَر: «بِئْس مَطِيَّةُ الرجُلِ» زَعَموا! وأَمَّا مَنْ حَكَى ما يصحُّ وتُعْرَف حَقِيقتُه وأَسْنده إلى ثِقةٍ صادِقٍ فلا وَجْه للنَّهْي عنه ولا ذَمَّ.

والقَوْلِيَّةُ: الغَوْغاءُ وقَتَلَهُ الأَنْبياء، هكذا تُسَمِّيه اليَهُودُ؛ ومنه حدِيثُ جُرَيْج: «فأَسْرَعَت القَوْلِيَّةُ إلى صَوْمَعَتِه».

وقُولَ، بالضَّمِّ، لُغَةٌ في قِيلَ، بالكسرِ، نَقَلَه الفرَّاءُ عن بَني أَسَدٍ وأَنْشَدَ:

وابتدأَتْ غَضْبى وأُمَّ الرِّحالْ *** وقُولَ لا أَهلَ له ولا مالْ

ويقالُ: قيلَ على بناءِ فِعْل، غَلَبَتِ الكَسْرة فقُلِبَت الواوُ ياءً.

والعَرَبُ تُجْري تقولُ وَحْدها في الاسْتِفهامِ كتَظُنُّ في العَمَلِ، قالَ هديةُ بنُ خَشْرم:

متى تَقُول الذُّبَّلَ الرَّواسِمَا *** والجِلَّةَ الناجيَةَ العَيَاهِمَا

إِذا هَبَطْنَ مُسْتَجِيرًا قاتِمَا *** ورَفَّعَ الهادِي لها الهَمَاهِمَا

أَرْجَفْنَ بالسَّوَالِفِ الجَماجِما *** يُبْلِغْنَ أُمَّ خازِمٍ وخازِمَا

وقالَ الأحْولُ: حازِمٍ وحازِمَا، بالحاءِ المُهْملَةِ.

قالَ الصَّاغانُّي: ورِوايَةُ النّحَوِيِّين:

متى تَقُول القُلُصَ الرَّواسِمَا *** يُدْنِيْن أُمَّ قاسِمٍ وقاسِما؟

وهو تَحْريفٌ، فنصبَ الذُّبَّلَ كما تَنْصِبُ بالظَّنِّ.

قلْتُ: وأَنْشَدَه الجوْهَرِيّ كما رَوَاه النّحَوِيون؛ وأَنْشَدَ أَيْضًا لعَمْرو بن مَعْدِيكْرِب:

عَلامَ تَقُول الرُّمْحَ يُثْقِلُ عاتِقي *** إذا أَنا لم أَطْعُنْ إذا الخيلُ كَرَّتِ؟

وقالَ عُمَرُ بنُ أَبي ربيعَةَ:

أَمَّا الرَّحِيل فدُون بعدَ غدٍ *** فمتى تَقُولُ الدارَ تَجْمَعُنا

قالَ: وبنُو سُلَيم يُجْرون متصرِّف قلْت في غيرِ الاسْتِفْهام أَيْضًا مُجْرى الظّنِّ فيعُدُّونه إلى مَفْعولَيْن، فعَلَى مَذْهبهم يجوزُ فَتْح أنَّ بعدَ القَوْل.

والقالُ: القُلَّةُ، مَقْلوب مغيَّرٌ؛ أَو خَشَبَتُها التي تُضْرَبُ بها، نَقَلَه الجوْهَرِيُّ عن الأَصْمَعِيّ، وأَنْشَدَ:

كأَنَّ نَزْوَ فِراخِ الهامِ بينَهُم *** نَزْوُ القُلات قَلاها قالُ قالِينا

قالَ ابنُ بَرِّي: هذا البَيْت يُرْوَى لابنِ مُقْبلٍ، قالَ: ولم أَجِده في شعْرِه الجمع: قِيلانٌ كخالٍ وخِيلان، قالَ:

وأَنا في ضُرَّابِ قِيلانِ القُلَهْ

وقُولَهُ، بالضَّمِّ: لَقَبُ ابن خُرَّشِيدَ، بضمِ الخاءِ وتَشْديدِ الراءِ المَفْتوحَةِ وكَسْر الشِّين، وأَصْلُه خورشيد بالتَّخْفيفِ، فارِسِيَّة بمعْنَى الشمسِ، وهو شيخُ أَبي القاسِمِ القُشَيْرِيِّ صاحِب الرِّسالَةِ.

* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:

القالَةُ: القَولُ الفاشِي في الناسِ خَيْرًا كان أَو شَرًّا.

والقالَةُ: القائِلَةُ.

وابنُ القَوالةِ عبدُ الباقي بنُ محمدِ بنِ أَبي العِزِّ الصوفيُّ سَمِعَ أَبا الحُسَيْن بنِ الطيوريّ، مَاتَ سَنَة 573.

وقاوَلْته في أَمْرِه وتَقاوَلْنا: أَي تَفاوَضْنا.

واقْتَالَه: قالَهُ، وأَنْشَدَ الجوْهَرِيّ للبيدٍ:

فإِنَّ اللهَ نافِلَةٌ تُقَاهُ *** ولا يَقْتالُها إلَّا السَّعِيدُ

أَي ولا يقُولُها.

وقالَ ابنُ بَرِّي: اقْتالَ بالبَعيرِ بَعيرًا وبالثَّوبِ ثَوْبًا أَي اسْتَبْدله به. ويقالُ: اقْتالَ باللّوْن لَوْنًا آخَر إذا تغيَّر مِن سَفَرٍ أَو كبِرَ؛ قالَ الرَّاجزُ:

فاقْتَلْتُ بالجدَّةِ لَوْنًا أَطْحَلا *** وكان هُدَّابُ الشَّباب أَجْملا

وقالَ عنه: أَخْبر؛ وقالَ له: خاطَبَ؛ وقالَ عليه افْتَرَى؛ وقالَ فيه: اجْتَهَدَ؛ وقال كذا: ذَكَرَه. ويقالُ عليه: يَحْملُ ويطْلِق ومِن الشَّواذِ في القِرَاآت: فاقْتَالوا أَنْفسكم، كذا في المحتسبِ لابنِ جنيِّ. وقَرَأَ الحَسَنُ قَوْل الحقِّ الذي فيه تَمْتَرُون، بالضمِ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


189-تاج العروس (ظلم)

[ظلم]: الظُّلْمُ، بالضمِّ: التَّصَرُّفُ في مُلْكِ الغَيْرِ ومُجاوَزَة الحَدِّ، قالهُ المَناوِيُّ.

قالَ شيْخُنا: ولذا كانَ مُحالًا في حَقِّه تعالَى إِذ العالَمُ كُلُّه مُلْكُه، تعالَى لا شَرِيكَ له.

وقالَ الرَّاغِبُ: هو عندَ أَكْثَر أَهْلِ اللّغَةِ: وَضْعُ الشَّي‌ءِ في غيرِ مَوْضِعِه.

قلْتُ: ومِثْلُه في كتابِ الفاخِرِ للمُفَضَّل بنِ سَلَمَةَ الضِّبِّيِّ.

زادَ الرّاغبُ: المُخْتصّ به إِمَّا بزيادَةٍ أَو بنُقْصانٍ وإِمَّا بعدولٍ عن وقْتِه ومَكانِه.

قالَ الجَوْهرِيُّ: ومِن أَمْثالِهِم: مَنْ أَشْبَه أَباه فما ظَلَم.

قالَ الأَصْمَعيُّ: أَي ما وضعَ الشَّبَه في غيرِ مَوْضِعِه.

ويقالُ أَيْضًا: مَنِ اسْتَرْعَى الذِّئْبَ فقد ظَلَمَ.

قالَ الرَّاغِبُ: ويقالُ في مُجاوَزَةِ الحَدِّ الذي يَجْري مجْرَى نقْطَة الدَّائِرَةِ، ويقالُ فيمَا يَكْثر وفيمَا يَقلُّ مِن التَّجاوزِ، ولهذا يُسْتَعْمل في الذَّنْبِ الكَبيرِ وفي الذنْبِ الصَّغير، ولذلِكَ قيلَ لآدَمَ، عليه‌السلام في تعدِّيه ظالِمٌ وفي إِبْليس ظالِمٌ وإِن كانَ بينَ الظّلْمين بَوْنِ بَعِيدٌ.

ونَقَلَ شيْخُنا عن بعضِ أَئمَّةِ الاشْتِقاقِ أَنَّ الظُّلْم في أَصْلِ اللُّغَةِ النَّقْص واسْتُعْمِل في كَلامِ الشارِعِ لمعانٍ منها الكُفْر ومنها الكَبائِر.

قلْتُ: وتَفْصِيلُ ذلِكَ في كَلامِ الرَّاغِبِ حيثُ قالَ: قالَ بعضُ الحُكَماء: الظُّلْم ثلاثَةٌ:

الأَوَّل: ظُلْمٌ بينَ الإِنْسانِ وبينَ اللهِ تعالَى، وأَعْظَمه الكُفْر والشّرْك والنِّفاق ولذلِكَ قالَ، عزّ وجلّ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.

والثاني: ظُلْمٌ بَيْنه وبينَ الناسِ وإِيَّاه قصدَ بقوْلِه: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النّاسَ}، وبقوْلِه: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا}.

والثالِثُ: ظُلْمٌ بيْنه وبينَ نفْسِه وإِيَّاه قصد بقوْلِه تعالَى: {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ}، وقوْله تعالَى: {وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظّالِمِينَ} أَي أَنْفُسهم، وقوْله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}. وكلُّ هذه الثَّلاثَة في الحَقِيقَةِ ظُلْمٌ للنَّفْسِ، فإِنَّ الإِنْسانَ في أَوَّل ما يهمُّ بالظُّلْم فقد ظَلَمَ نفْسَه، فإِذًا الظّالِمُ أَبَدًا مُبْتَدِئٌ بنفْسِه في الظُّلْم، ولهذا قالَ تعالَى في غيرِ مَوْضعٍ: {وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، وقَوْلُه تعالَى: (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ) بِظُلْمٍ، فقد قيلَ: هو الشّرْك، انتَهَى.

وِالمَصْدَرُ الحَقِيقيُّ الظَّلْمُ بالفَتحِ، وبالضمِّ: الاسمُ يقومُ مَقامَ المَصْدَر، وأَنْشَدَ ثَعْلَب:

ظَلَمْتُ وفي ظَلْمِي له عامِدًا أَجْرٌ

قالَ الأَزْهرِيُّ: هكذا سَمِعْتُ العَرَبَ تنشدُهُ بفَتْحِ الظاءِ.

ظَلَمَ يَظْلِمُ ظَلْمًا، بالفَتْحِ، كذا وُجِدَ في نسخِ الصِّحاح.

بخطِّ أَبي زكريَّا، وفي بعضِها بالضمِّ، فهو ظالِمٌ وِظَلومٌ، قالَ ضَيْغَمٌ الأَسَدِيُّ:

إِذا هُوَ لم يَخَفْني في ابن عَمِّي *** وِإِنْ لم أَلْقَهُ الرجُلُ الظَّلُومُ

وِظَلَمَهُ حَقَّهُ مُتَعدِّيًا بنفْسِه إِلى مَفْعولَيْن، قالَ أَبو زُبَيْد الطائيُّ:

وِأُعْطِيَ فَوْقَ النِّصْفِ ذُو الحَقِّ مِنْهمُ *** وِأَظْلِمُ بَعْضًا أَو جَمِيعًا مُؤَرِّبا

قالَ شيْخُنا: وهو يَتَعدَّى إِلى واحِدٍ بالباءِ، كما في قوْلِه، عزَّ وجَلَّ، في الأَعْرافِ {فَظَلَمُوا بِها}؛ أَي بالآياتِ التي جاءَتْهم.

قالوا: حملَ على معْنَى الكُفْر في التَّعْدِيَة لأَنَّهما مِن بابٍ واحِدٍ، ولأَنَّه بمعْنَى الكُفْرِ مجازًا، أَو تَضْمِينًا، أَو لتَضَمّنه معْنَى التّكْذيبِ، وقيلَ: الباءُ سَبَبِيَّة والمَفْعولُ مَحْذوفٌ؛ أَي أَنْفُسهم أَو الناس، وِتَظَلَّمَهُ إِيَّاهُ.

وفي الصِّحاحِ: وِتَظَلَّمني فلانٌ أَي ظَلَمَنِي مالي، ومنه قَوْلُ الشاعِرِ:

تَظَلَّمَ مالي هَكَذَا ولَوَى يَدِي *** لَوَى يَدَه اللهَ الذي هو غالِبُهْ

وِتَظَلَّمَ الرَّجُلُ: أَحالَ الظُّلْمَ على نفْسِه، حَكَاه ابنُ الأَعْرَابيِّ وأَنْشَدَ:

كانَتْ إِذا غَضِبَتْ عَلَيَّ تَظَلَّمَتْ

قالَ ابنُ سِيْدَه: هذا قولُ ابنِ الأَعْرابيِّ، ولا أَدْرِي كيفَ ذلِكَ، إنَّما التَّظَلُّمُ هنا تَشَكِّي الظُّلْمَ منه، لأَنَّها إِذا غَضِبَتْ عليه لم يَجُزْ أَنْ تَنْسُبَ الظُّلْمَ إِلى ذاتِها.

وِتَظَلَّمَ منه: شَكَا من ظُلْمِه، فهو مُتَظَلِّمٌ: يَشْكُو رَجُلًا ظَلَمَهُ.

وفي الصِّحاحِ: وِتَظَلَّمَ أَي اشْتَكَى ظُلْمَه، وفي بعضِ نسخِه ضُبِطَ بالمبْني للمَفْعُولِ.

وِاظَّلَمَ، كافْتَعَل، وِانْظَلَمَ إِذا احْتَمَلَهُ بطِيب نَفْسِه وهو قادِرٌ على الامْتِناعِ منه، وِهما مُطاوِها ظَلَّمَهُ تَظْلِيمًا إِذا نَسَبَهُ إِليه، وبهما رُوِي قوْلُ زُهَيْرٍ أَنْشَدَه الجَوْهرِيُّ:

هو الجَوادُ الذي يُعْطِيكَ نائِله *** عَفْوًا ويُظْلَمُ أَحْيانًا فيَظَّلِمُ

هكذا أَنْشَدَه سِيْبَوَيْه، قَوْلُه يُظْلَمُ أَي يُسْأَلُ فوقَ طاقَتِه، ويُرْوَى فيَنْظَلِمُ أَي يَتَكَلَّفه، وهكذا رِوايَةُ الأَصْمَعيّ.

قالَ الجَوْهرِيُّ: وفيه ثلاثُ لغاتٍ: مِن العَرَبِ مَنْ يقْلِبُ التاءَ طاءً ثم يُظْهِرُ الطاءَ والظاءَ جَمِيعًا فيَقولُ اظْطَلَمَ، ومنهم مَن يدغمُ الظاءَ في الطاءِ فيَقولُ اطَّلَمَ وهو أَكْثَر اللُّغاتِ، ومنهم مَنْ يَكْره أَن يدغمَ الأَصْلي في الزائِدِ فيَقولُ اظَّلَم.

قالَ ابنُ بَرِّي: جَعْلُ الجَوْهرِيّ انْظَلَم مُطاوِعَ ظَلَّمَهُ بالتَّشديدِ، وهو في بيتِ زُهَيْر مُطاوِع ظَلَمَه بالتَّخْفيفِ حملًا على معْنَى سَلَبَه حَقَّه. وِالمَظْلِمَةُ، بكسْرِ اللَّامِ، قالَ شيْخُنا: فيه قُصورٌ ظاهِرٌ، فقد نَقَلَ التَّثْلِيثَ فيه صاحِبُ التَّوْشيحِ في كتابِ المَظالِمِ، والفتْح حَكَاه ابنُ مالِكٍ وصرَّحَ به ابنُ سِيْدَه وابنُ القَطَّاعِ، والضمّ أَنْكَره جماعَةٌ، ولكن نَقَلَه الحافِظُ مغلطاي عن الفرَّاءِ.

قلْتُ: وهكذا ضُبِط بالتَّثْلِيثَ في نسخِ الصِّحاحِ.

وِالظُّلامَةُ، كثُمامَةٍ: اسمُ ما تَظَلَّمَهُ الرَّجُلُ.

وفي الصِّحاحِ: هو ما تَطْلُبُه عندَ الظَّالمِ، وهو اسْمُ ما أُخِذَ مِنْكَ.

وفي التَّهْذِيبِ: الظُّلامَةُ: اسْمُ مَظْلِمَتِك التي تَطْلُبها عندَ الظَّالِمِ. يقالُ: أَخَذَها منه ظُلامَةً.

وفي الأَساسِ: هو حَقُّه الذي ظُلِمهُ.

وجَمْعُ المَظْلِمةِ: المَظالِمُ، وأَنْشَدَ ابنُ بَرِّي لمالِكِ بنِ حَرِيم:

مَتَى تَجْمَعِ القَلْبَ الذَّكيَّ وصارِمًا *** وِأَنْفًا حَمِيًّا تَجْتَنِبْكَ المَظَالِمُ

وِأَرادَ ظِلامَهُ، بالكسْرِ وِمُظالَمَتَهُ: أَي ظُلْمَهُ، وبه فُسِّر قوْلُ المثقب العَبْديّ:

وِهُنَّ على الظِّلامِ مطلبات *** قَواتِل كلّ أَشْجَع مُسْتَلِينا

وقَوْلُ مغلس بن لقيط:

سَقَيْتها قَبْل التَّفرُّق شرْبَة *** يَمرُّ على باغِي الظِّلامِ شرابها

وسَيَأْتي فيه كَلامٌ في المُسْتدركاتِ.

وقالَ آخَرُ:

وِلَوْ أَنِّي أَمُوتُ أَصابَ ذُلًّا *** وِسَامَتْه عَشِيرتُه الظِّلامَا

وِقوْلُه تعالَى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها} وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا أَي ولم تَنْقُصْ، وشَيئًا جَعَلَه بعضُ المعربين مَصْدرًا أَي مَفْعولًا مُطْلَقًا، وبعضُهم مَفْعولًا به، وبه فَسَّر الفرَّاءُ أيْضًا قَوْلُه تعالَى: {وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}؛ أَي ما نَقَصُونا شَيئًا بما فَعَلوا ولكنْ نَقَصُوا أَنْفُسَهم.

وقد تقدَّمَ أَوَّلًا أَنَّ مِن أَئمَّةِ الاشْتِقاقِ مَنْ جَعَلَ أَصْل الظُّلْم بمعْنَى النَّقْصِ، وظاهِرُ سِياقِ الأَساسِ أَنَّه مِن المجازِ.

وِمِن المجازِ: ظَلَمَ الأَرضَ ظلمًا إِذا حَفَرَها في غيرِ مَوْضِعِ حَفْرِها، وتلْكَ الأَرْض يقالُ لها المَظْلومَةُ.

وقيلَ: الأَرْضُ المَظْلومَةُ التي لَم تُحْفَرْ قَطُّ ثم حُفِرَتْ.

وفي الأَساسِ: أَرْضٌ مَظْلومَةٌ حُفِرَ فيها بئْرٌ أَو حَوْضٌ ولم يُحْفَرْ فيها قَطُ.

وِمِن المجازِ: ظَلَمَ البَعيرَ ظلمًا إِذا نَحَرَهُ مِن غيرِ داءٍ، وهو التَّعْبيط، وقالَ ابنُ مُقْبِلٍ:

عَادَ الأَذِلَّةُ في دارٍ وكانَ بها *** هُرْتُ الشَّقاشِقِ ظَلَّامُونَ للجُزُرِ

أَي وَضَعوا النحْرَ في غيرِ مَوْضِعِهِ.

وِمِن المجازِ: ظَلَمَ الوادِي ظلمًا: إِذا بَلَغَ الماءُ منه مَوْضِعًا لم يَكُنْ بَلَغَهُ قَبْلَهُ ولا نَالَهُ فيمَا خَلا، قالَ يَصِفُ سَيْلًا:

يَكادُ يَطْلُع ظُلْمًا ثم يَمْنَعُه *** عن الشَّواهِقِ فالوادِي به شَرِقُ

وفي الأَساسِ: ظَلَمَ السَّيْلُ البِطاحَ: بَلَغَها ولم يَبْلُغْها قبْلُ.

وفي المُحْكَم: ظَلَمَ السَّيْلُ الأَرضَ إِذا خَدَّدَ فيها في غيرِ مَوْضِعِ تَخْدِيدٍ، قالَ الحُوَيْدِرَةُ:

ظَلَم البِطاحَ بها انْهلالُ حَرِيصَةٍ *** فَصَفَا النِّطافُ بها بُعَيْدَ المُقْلَعِ

وِمِن المجازِ: ظَلَم الوَطْبَ ظلمًا: إِذا سَقَى منه اللَّبَنَ قَبْلَ أَنْ يَرُوبَ وتَخْرجَ زُبْدَتُه، واسْمُ ذلِكَ اللّبَن الظَّلِيمُ وِالظَّلِيمَةُ وِالمَظْلومُ، وأَنْشَدَ الجَوْهرِيُّ:

وِقائِلةٍ ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقائِي *** وِهل يَخْفَى على العَكِدِ الظَّلِيمُ؟

وِمِن المجازِ: ظَلَمَ الحِمارُ الأَتانَ: إِذا سَفَدَها قَبْلَ وقْتِها وهي حامِلٌ، كما في الأَساسِ.

وِقالَ أَبو عُبَيْدٍ: ظَلَمَ القَوْمَ إِذا سَقاهُمُ اللَّبَنَ قَبْلَ إِدْرَاكِه.

قالَ الأَزْهرِيُّ: هكذا رُوِيَ لنا هذا الحَرفُ وهو وَهَمٌ، والصَّوابُ ظَلَم السِّقاءَ وِظَلَم اللَّبَنَ، كما رَوَاهُ المُنْذريُّ عن أَبي الهَيْثمِ وأَبي العبَّاس أَحْمد بن يَحْيَى.

وِالظُّلْمَةُ، بالضمِّ وبضَمَّتَيْنِ، لُغتانِ ذَكَرَهُما الجَوْهرِيُّ، وِكَذلِكَ الظَّلْماءُ بمعْنَى الظُّلْمة، نَقَلَه الجَوْهرِيُّ أَيْضًا، قالَ: ورُبَّما وُصفَ به كما سَيَأْتي. وِالظَّلامُ: اسمٌ يَجْمَع ذلِكَ كالسَّوادِ ولا يُجْمعُ، يَجْرِي مَجْرى المَصْدَرِ، كما لا يُجْمعُ نَظائِرُه نحْو السَّوادِ والبَياضِ.

وِالظُّلْمَةُ: ذَهابُ النَّورِ.

وفي الصِّحاحِ: خِلافُ النورِ.

وفي المُفْرداتِ: عدمُ النورِ أَي عَمَّا مِن شَأْنِه أَنْ يَسْتنير فبَيْنها وبينَ النّورِ تَقابل العَدَم والمَلكَةِ.

وقِيلَ: عرضٌ يُنافِي النّورَ فبَيْنهما تَضادٌّ وبسطه في العِنايَةِ.

وقالَ الرَّاغبُ: ويُعَبَّرُ بها عن الجَهْلِ والشِّرْكِ والفسْقِ كما يُعَبَّرُ بالنُّورِ عن أَضْدادِها.

وفي الأَساسِ: الظُّلْمُ ظُلْمةٌ كما أَنَّ العَدْلَ نُورٌ. ويقالُ: هو يَخْبِطُ الظَّلام، وِالظُّلْمَة وِالظَّلْماء.

وِلَيْلَةٌ ظُلْمَةٌ، على طَرْحِ الزَّائِدِ، وِلَيْلَةٌ ظَلْماءُ: كِلْتاهُما شَديدَةُ الظَّلْمَةِ.

وِحَكَى ابنُ الأَعْرابيِّ: لَيْلٌ ظَلْماءُ.

قالَ ابنُ سِيْدَه: هو شاذٌ وَضَعَ اللَّيْل مَكانَ الليْلَةِ، كما حُكِي ليلٌ قَمْراءُ أَي ليْلَةٌ.

وِقد أَظْلَمَ اللّيْلُ وِظَلِمَ، كسَمِعَ، بمعْنى، الأَخيرَةُ عن الفرَّاءِ، قالَ اللهُ تعالَى: {وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا}.

قالَ شيْخُنا: فهو لازِمٌ في اللُّغَتَيْن، وبذلِكَ صَرَّحَ ابنُ مالِكٍ وغيرُهُ.

وفي الكشاف احْتِمالُ أَنَّه مُتَعدٍّ في قوْلِه تعالَى: {وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ} بدَليلِ قِراءَةِ يَزِيد بنِ قطيبٍ: أُظْلَمَ مَجْهولًا، وتَبِعَه البَيْضاوِيُّ.

وفي نهر أَبي حَيَّان المَحْفوظ أَنَّ أَظْلَمَ لا يَتَعدَّى.

وجَعَلَه الزَّمَخْشريُّ مُتَعدِّيًا بنَفْسِه.

قالَ شيْخُنا: ولم يَتَعرَّض ابنُ جنيِّ لتلكَ القِراءَةِ الشاذّةِ، وجَزَمَ ابنُ الصَّلاح بوُرُودِه لازِمًا ومُتَعدِّيًا، وكأَنَّهُ قَلَّد الزَّمَخْشريّ في ذَلِكَ، وأَبو حَيَّان أَعْرَف باللّزومِ والتَّعَدي، انتَهَى.

قلْتُ: وهذا الذي جَزَمَ به ابنُ الصَّلاح فقد صَرَّحَ به الأَزْهرِيُّ في التهْذِيبِ وسَيَأْتي لذلِكَ ذِكْرٌ.

وِمِن المجازِ: يَوْمٌ مُظْلِمٌ، كمُحْسِنٍ؛ أَي كثيرٌ شَرُّه، أَنْشَدَ سِيْبَوَيْه:

فأُقْسِمُ أَنْ لوِ الْتَقَيْنا وأَنْتمُ *** لكانَ لكُم يومٌ من الشَّرِّ مُظْلِمٌ

وِمِن المجازِ: أَمْرٌ مُظْلِمٌ وِمِظْلامٌ، الأُوْلى عن أَبي زيْدٍ، والأَخيرَةُ عن اللَّحْيانيّ، أي لا يُدْرَى من أَيْنَ يُؤْتَى له، وأَنْشَدَ اللَّحْيانيُّ:

أُولِمْتَ يا خِنَّوْتُ شَرَّ إِيلام *** في يومِ نَحْسٍ ذي عَجاجٍ مِظْلام

والعَرَبُ تقولُ لليومِ الذي تَلْقَى فيه الشدَّةَ يومٌ مُظلِمٌ، حتى إِنَّهم يقُولُونَ يومٌ ذو كَواكِبَ؛ أَي اشْتَدَّتْ ظُلْمته حتى صارَ كاللَّيْلِ، قالَ:

بَني أَسَدٍ هل تَعْلَمونَ بَلاءَنا *** إِذا كان يومٌ ذو كواكِبَ أَشْهَبُ؟

وِمِن المجازِ: شَعَرٌ مُظْلِمٌ؛ أَي حالِكٌ؛ أَي شَديدُ السَّوادِ.

وِمِن المجازِ: نَبْتٌ مُظْلِمٌ؛ أَي ناضِرٌ يَضْرِبُ إِلى السَّوادِ من خُضْرَتِه، قالَ:

فصَبَّحَتْ أَرْعَلَ كالنِّقالِ *** وِمُظْلِمًا ليسَ على دَمالِ

وِأَظْلَموا. دَخَلوا في الظَّلامِ، قالَ اللهُ تعالَى: {فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ}، كما في الصِّحاحِ، وفي المُفْرداتِ: حصلوا في ظُلْمةٍ، وبه فَسَّر الآيَةَ.

وِأَظْلَمَ الثَّغْرُ إذا تَلَأْلَأَ كالماءِ الرَّقيقِ مِن شدَّةِ رِقَّتِه، ومنه قوْلُ الشاعِرِ:

إِذا ما اجْتَلى الرَّاني إِليها بطَرْفِه *** غُروبَ ثَناياها أَضاءَ وأَظْلَما

يقالُ: أضاءَ الرجُلُ إِذا أَصابَ ضَوْءًا.

وِأَظْلَمَ الرَّجُلُ: أَصابَ ظَلْمًا، بالفتحِ.

وِمِن المجازِ: لَقِيتُه أَدْنَى ظَلَمٍ، محرَّكةً، كما في الصِّحاحِ، أَو أَدْنَى ذي ظَلَمٍ، وهذه عن ثَعْلَب: أَي أَوَّلَ كُلِّ شي‌ءٍ.

وقالَ ثَعْلَب: أَوَّل شي‌ءٍ سَدَّ بَصَرَك بليْلٍ أَو نهارٍ، أَو حينَ اخْتَلَطَ الظَّلامُ، أَو أدْنَى ظَلَمٍ: القُرْبُ أَو القَريبٌ، الأَخيرُ نَقَلَه الجَوْهرِيُّ عن الْأُمويّ.

وِالظَّلَمُ، محرَّكةً الشَّخْصُ، قالَهُ ثَعْلَب وبه فَسَّر أَدْنَى ظلَمٍ وأَدْنَى شَبَحٍ قالَهُ الميدانيُّ.

وِأَيْضًا: الجَبَلُ، الجمع: ظُلُومٌ بالضمِّ جاءَ ذلِكَ في قوْلِ المُخَبَّلِ السَّعْدِيِّ.

وِ: موضع.

وِظِلَمٌ كعِنَبٍ: وادٍ بالقَبَلِيَّةِ.

وِالظُّلَمُ، كزُفَرَ: ثلاثُ ليالٍ مِن الشَّهْرِ اللّائي يَلِينَ الدُّرَعَ لإِظْلامِها على غيرِ قِياسٍ، لأَنَّ قِياسَه ظُلْم بالتَّسْكِيْن لأَنَّ واحِدَتَها ظَلْماء، قالَهُ الجَوْهرِيُّ.

قلْتُ: وهذا الذي ذَهَبَ إِليه الجَوْهرِيّ هو قوْلُ أَبي عُبَيْدٍ، فإنَّه قالَ واحِدَتِهما: دَرْعاءُ وِظَلْماءُ، والذي قالَهُ أَبو الهَيْثم وأَبو العبَّاس المبرِّدُ: واحِدَةُ الدُّرَعِ وِالظُّلَمِ دُرْعةٌ وِظُلْمةٌ.

قالَ الأَزْهرِيُّ: وهذا الذي قالاه هو القِياسُ الصَّحِيحُ.

وِالظَّلِيمُ، كأَميرٍ: الذَّكَرُ من النَّعامِ.

قالَ ابنُ دُرَيْدٍ: سُمِّي به لأَنَّه يُدْحِي في غيرِ مَوْضِعِ تَدْحِيَةٍ.

وقالَ الرَّاغبُ: سُمِّي به لاعْتِقادِ أَنَّه مَظْلومٌ للمعْنَى الذي أَشَارَ إِليه الشاعِرُ:

فصِرْتُ كالْهَيْقِ غدا يبتغي *** قَرْنًا يرْجعْ بأُذْنَيْنِ

قلْتُ: وزَعَمَ أَبو عَمْرو الشَّيْبانيُّ أَنَّه سأَل الأَعْرابَ عن الظَّلِيمِ هل يَسْمعُ؟ قالوا: لا ولكنَّه يَعْرفُ بأَنْفِه ما لا يَحْتاجُ معه إِلى سَمَع.

ومِن دُعاءِ العَرَبِ: اللهُمَّ صَلْخًا كصَلْخ النَّعَامَةِ والصَّلْخ، بالخاءِ والجيمِ، أَشدّ الصَّمَمِ، كذا في المُضافِ والمَنْسوب.

وقالَ ابنُ أَبي الحَديدِ في شرْحِ نهجِ البلاغَةِ: إِنَّه يَسْمَعُ بعَيْنِه وأَنْفِه ولا يَحْتاجُ إِلى حاسَّةٍ أُخْرى معهما. ويقالُ: نَوعانِ مِن الحَيوانِ أَصَمَّان النَّعامُ والأَفاعِي، نَقَلَه شيْخُنا.

الجمع: ظُلمانِ، بالكسْرِ والضمِّ.

وِمِن المجازِ: الظَّلِيمُ: تُرابُ الأَرضِ المَظْلومَةِ؛ أَي المَحْفورَةِ، وبه سُمِّي تُرابُ لَحْدِ القَبْرِ ظلِيمًا، قالَ:

فأَصْبَحَ في غَبْراءَ بعدَ إِشاحَةٍ *** على العَيْشِ مَرْدُودٍ عليها ظَلِيمُها

يعْنِي حُفْرةُ القَبْرِ يُرَدُّ تُرابُها عليه بعدَ دفْنِ الميتِ فيها.

وِالظَّلِيمانِ: نَجْمانِ.

وِظَلِيمٌ مَوْلَى عبدِ اللهِ بنِ سَعْدٍ تابعيٌّ إِذا كان الذي يكنى أَبا النَّجيبِ، ويَروِي عن أَبي سَعِيدٍ وابنِ عُمَر فهو ليسَ مَوْلًى بل مِن بَني عامِرٍ نزلَ مِصْرَ.

وِظَلِيمٌ: وادٍ بنَجْدٍ يُذْكَر مع نَعامَة وهو أَيْضًا وادٍ بها.

وِظَلِيمٌ: فَرَسٌ لعبدِ اللهِ بنِ الخطَّابِ، رضِيَ اللهُ تعالَى عنه.

وِأَيْضًا: للمُؤَرِّجِ السَّدوسِيِّ.

وِأَيْضًا: لفَضالَةَ بنِ هِنْدٍ بنِ شَرِيك الأَسَدِيِّ، وفيه يقولُ:

نصَبْتُ لهم صَدْرَ الظَّلِيمِ وصَعْدَةً *** شُراعِيَّةً في كفِّ حَرَّان ثائِر

وِقوْلُ الشاعِرِ أَنْشَدَه الجَوْهرِيُّ:

إلى شَنْباءَ مُشْرَبَةِ الثَّنايا *** بماءِ الظَّلْمِ طَيِّبَةِ الرُّضابِ

قيلَ: يُحْتَمل أَنْ يكونَ المعْنَى: بماءِ الثَّلْجِ.

وِالظَّلْمُ: سَيْفُ الهُذيْلِ التَّغْلَبِّي.

وِالظَّلْمُ: ماءُ الأَسْنانِ وبَريقُها، كذا في العيْنِ ودِيوانِ الأَدَبِ، زادَ الجوْهرِيُّ: وهو كالسَّوادِ داخلَ عَظْمِ السِّنِّ من شِدَّةِ البيَاضِ كفِرِنْدِ السَّيْفِ، قالَ يزيدُ بنُ ضَبَّةَ:

بوَجْهٍ مُشْرِقٍ صافٍ *** وِثغْرٍ نائرِ الظلْمِ

وقالَ كَعْبُ بنُ زهيرٍ:

تَجْلو غَواربَ ذي ظَلْمٍ إِذا ابتسمَتْ *** كأَنَّه مُنْهَلٌ بالرَّاحِ مَعْلولُ

وقالَ شَمِرٌ: هو بياضُ الأَسْنانِ كأَنَّه يَعْلُوه سَوادٌ، والغُروبُ: حاءُ الأَسْنانِ.

وقالَ أَبو العبَّاس الأَحْول في شرْحِ الكَعْبيةِ: الظَّلْمُ ماءُ الأَسْنانِ الذي يَجْري فتَراهُ مِن شدَّةِ صَفائِهِ عليه كالغبْرَةِ والسَّوادِ.

وقالَ غيرُهُ: هو رقَّتُها وشِدَّةُ بياضِها.

قالَ الدّمامِيني: هذا عندَ غالِبِ أَهْل الهِنْدِ مُعِيبٌ وإِنَّما يَسْتَحْسنونَ الأَسْنانَ إِذا كانتْ سَوداءَ مُظْلمةً وكأَنَّهم لم يَسْمَعوا قولَ القائِلِ:

كأَنَّما يَبْسِمُ عن لُؤْلؤٍ *** منضدٍ أَو بردٍ أَو اقاحِ

قلْتُ: يغيِّرُونَ خَلْقَتَها بسنون تنجذُ مِن العفْصِ المَحْروقِ المَسْحوقِ وكأَنَّهم يَطْلبُونَ بذلِكَ تَشْديدَ اللّثاتِ، وهو عندَهُم مَحْمودٌ لكَثْرةِ اسْتِعالِهم لوَرَقِ النبلِ مع بعضٍ مِن الفوفلِ والكلسِ، وهُما يأْكُلان اللَّثَّة خاصَّةً، فجعَلُوا هذا السّنونُ ضِدًّا لذلِكَ، وكم مِن مَحْمودٍ عندَ قوْمٍ مَذْمومٌ عندَ آخَرِيْن.

وِظُلَيْمُ*، كزُبَيْرٍ: موضع باليَمَنِ، وهو وادٍ أَو جَبَلٌ نُسِبَ إِليه ذُو ظُلَيْم أَحَدُ الأَذْواءِ مِن حِمْيَرَ، قالَهُ نَصْر.

وِظُلَيْم أَحَدُ الأَذْواءِ مِن حِمْيَرَ، قالَهُ نَصْر.

وِظُلَيْمُ بنُ حُطَيْطٍ الجَهْضميُّ: مُحَدِّثٌ عن محمدِ بنِ يوسفَ الفريابيّ، وعنه أَبو زُرْعَةَ الدِّمَشْقيّ.

وِظُلَيْمُ بنُ مالِكٍ معروف مَعْروفٌ.

قلْتُ: هو مُرَّةُ بنُ مالِكِ بنِ زيْدِ مَنَاة بنِ تَمِيمٍ، وِظُلَيْم لَقَبُه، أَحدُ بُطونِ البَراجِم منهم: الحَكَمُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عدن بنِ ظُلَيْمٍ الشاعِرُ. وذُو ظُلَيْمٍ: حَوْشَبُ بنُ طِخْمَةَ، تابِعيٌّ، وقيلَ له صُحْبَةٌ وقد ذُكِرَ في «ط خ م».

وقالَ نَصْر: ذُو ظُلَيْمٍ أَحدُ الأَذْواء مِن حِمْيَرَ، مِن ولدِهِ حَوْشَبُ الذي شَهِدَ مع مُعاوِيَةَ صِفِّين قَتَلَه سُلَيْمن، فتأَمَّل.

وفي تارِيخِ حَلَب لابنِ العَديمِ: أَبو مُرِّ ذُو ظُلَيْم، كزُبَيْرٍ وأَميرٍ والأُوْلى أَشْهَرُ، هو حَوْشَبُ بنُ طِخْمَةَ أَو طخْفَةَ، وقيلَ: ابنُ التباعي بنِ غسَّان بنِ ذي ظُلَيْم، وقيلَ: هو حَوْشَبُ بنُ عَمْرِو بنِ شرحبيل بنِ عبيدِ بنِ عَمْرِو بنِ حَوْشَبِ الأظلوم بن أَلْهان الحِمْيَرِيّ رَفَعَ حدِيثًا واحِدًا في موتِ الأَوْلادِ، وكانَ رئيسَ قوْمِه، رَوَى عنه ابنْه عُثْمان.

وِالظِّلامُ، ككِتابٍ ويُشدَّدُ وكعِنَبٍ وصاحِبٍ، الثالثَةُ عن ابنِ الأَعْرابيِّ قالَ: وهو مِن غَريبِ الشَّجَرِ واحِدَتُها ظِلمَةٌ، ورَوَى الثانيَةَ أَبو حنيفَةَ وقالَ: إنَّها عُشْبَةٌ تُرْعَى.

وقالَ الأصْمَعيُّ: شَجَرَةٌ لها عَساليجُ طِوالٌ وتَنْبسطُ حتى تَجوزَ أَصْلَ شَجَرِها فمنها سُمِّيَت ظِلامًا، وأَنْشَدَ أَبو حنيفَةَ:

رَعَتْ بقَرَارِ الحَزْنِ رَوْضًا مُواصِلًا *** عَمِيمًا من الظِّلَّامِ والهَيْثَمِ الجَعْدِ

وِمِن المجازِ: يقالُ: ما ظَلَمَكَ أَنْ تَفْعَلَ كذا؛ أَي ما مَنَعَكَ.

وشَكَا إنْسانٌ إلى أَعْرابيٍّ الكظَّة فقالَ: ما ظَلَمَكَ أَنْ تَقي‌ءَ.

وِظُلْمَة، بالكسْرِ والضمِّ: فاجِرَةٌ هُذَلِيَّةٌ أَسَنَّتْ فاشْتَرَتْ تَيْسًا وكانَتْ تقولُ أَرْتاحُ لنَبيبِهِ، فقيلَ: أَقْوَدُ من ظُلْمَةَ وأَفْجَرُ مِن ظُلْمَةَ.

وِكَهْفُ الظُّلْمِ: رَجُلٌ معروف مَعْروفٌ مِن العَرَبِ.

وِالمُظَلَّمُ، كمُعَظَّمٍ: الرَّخَمُ والغِرْبانُ، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ، وأَنْشَدَ:

حَمَتْهُ عِتاقُ الطيرِ كلَّ مُظَلَّم *** من الطيرِ حَوَّامِ المُقامِ رَمُوقِ

وِالمُظَلَّمُ من العُشْبِ المُنْبَتُّ في أَرْضٍ لم يُصِيْها المَطَرُ قَبْلَ ذلك.

وِالظِّلامُ، ككِتابٍ: اليَسيرُ، ومنه نَظَرَ إليَّ ظِلامًا؛ أَي شَزْرًا.

وِمَظْلومَةُ: اسمُ مَزْرَعَةٍ باليَمامَةِ بعَيْنِها.

وِالمُظْلِمُ، كمُحْسِنٍ: ساباطٌ قُرْبَ المَدائِنِ.

وِأَظْلَمُ، كأَحْمَدَ: جَبَلٌ بأَرْضِ بني سُلَيْمٍ بالحِجازِ، وأَنْشَدَ ابنُ بَرِّي لأَبي وجزَةَ:

يَزِيفُ يمانِيه لأَجْزاعِ بِيشَةٍ *** وِيَعْلو شآمِيهِ شَرَوْرَى وأَظْلَما

قالَ ياقوتُ: وبه فَسَّر ابنُ السِّكِّيت قولَ كثِّيرٍ:

سَقَى الكُدْرَ فالعلياء فالبَرْقَ فالحِمَى *** فلَوْذَ الحِصَى من تَغْلَمينَ فأَظلما

وِأَيْضًا: جَبَلٌ بالحَبَشَةِ به مَعْدِنُ الصُّفْرِ، نَقَلَه ياقوتُ.

وِأَيْضًا: موضع، كذا في النسخِ، والصَّوابُ: جَبَلٌ بنَجْدٍ بالشُّعَيْبَةِ، من بَطْنِ الرُّمَّةِ، كما في كتابِ نَصْرٍ، قالَ: ويقالُ أَيْضًا تظلمُ.

وِأَيْضًا جَبَلٌ أَسْوَدُ من ذاتِ جَيْشٍ عندَ حراء، ذَكَرَه الأصْمَعيُّ عندَ ذِكْرِه جِبال مكَّةَ، ونَقَلَه نَصْر أَيْضًا، وبه فسّر قَوْل الحُصَيْنِ بنِ حمام المريّ:

فلَيْتَ أَبا بِشْرٍ رأَى كَرَّ خَيْلِنا *** وِخَيْلهم بينَ الستار وأَظْلَما

وِلَعَنَ اللهُ أَظْلَمي وِأَظْلَمَكَ، هكذا في النسخِ، والذي قالَهُ المُؤَرِّجُ: سَمِعْتُ أَعْرابيًّا يقولُ لصاحِبِه: أَظْلَمي وِأَظْلَمُكَ فَعَلَ اللهُ به؛ أَي الأَظْلَمَ مِنَّا.

* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:

لَزِمَ الطَّريقَ فلم يَظْلِمْهُ؛ أَي لم يَعْدلْ عنه يَمِينًا وشِمالًا. وِالمَظْلَمَةُ، بكسْرِ اللامِ وفتْحِها: مَصْدَرٌ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.

وِالمُتَظَلِّمُ: الظالِمُ، قالَ ابنُ بَرِّي وشاهِدُه قوْلُ رَافِعِ بنِ هُرَيْم:

فهَلَّا غَيْرَ عَمِّكُمُ ظَلَمْتُمْ *** إِذا ما كُنْتُمْ مُتَظَلِّمِينا

أَي ظالِمِيْن، وأَنْشَدَ الأَزْهرِيُّ لجابِرِ الثَّعْلبيّ:

وِعَمْرُو بنُ هَمَّام صَقَعْنا جَبِينَه *** بِشَنْعاءَ تَنْهى نَخْوةَ المُتَظَلِّمِ

قالَ: يُريدُ نَخْوةَ الظالِمِ.

وِالظَّلَمَةُ، محرَّكةً: المانِعونَ أَهْلَ الحُقوقِ حُقُوقَهم.

وِالظَّلِيمَةُ، كسَفِينَةٍ الظُّلامَةُ، نَقَلَه الجَوْهرِيُّ.

وِتَظَالَم القَوْمُ: ظَلَمَ بعضُهم بعضًا.

وِالظِّلِّيمُ، كسِكِّيتٍ: الكَثيرُ الظُّلْم.

وِتَظَالَمتِ المِعْزَى تَناطَحَتْ ممَّا سَمِنَتْ وأَخْصَبَتْ، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ، وهو مجازٌ.

ومنه وَجَدْنا أَرْضًا تَظَالَمُ مِعْزاها؛ أَي تَناطَحُ مِن الشِّبَعِ والنَّشاطِ وهو مجازٌ.

وِالظَّلِيمُ وِالمَظْلومَةُ وِالظَّلِيمةُ: اللَّبَنُ يُشْرَبُ قَبْل أَنْ يَبْلُغَ الرُّؤُوبَ، نَقَلَه الجَوْهرِيُّ، وتقدَّمَ شاهِدُ الظَّلِيم.

وقالوا: امرأَةٌ لَزُومٌ للفِناءِ، ظَلومٌ للسِّقاءِ، مُكْرِمةٌ للأَحْماءِ.

وِظُلِمَتِ الناقةُ، مَجْهولًا: نُحِرَتْ من غَيْرِ عِلَّةٍ أَو ضَبِعَتْ على غَيْرِ ضَبَعَةٍ.

وكُلُّ ما أَعْجَلْتَهُ عن أَوانِهِ فقد ظَلَمْتَهُ.

وِالظَّلِيمُ: الموْضِعُ المَظْلومِ.

وأَرْضٌ مَظْلومَةٌ: لم تُمْطَرْ، قالَهُ الباهِلِيٌّ.

وبَلَدٌ مَظْلومٌ: لم يُصِبْهُ الغَيْثُ ولا رِعْيَ فيه للرِّكابِ، ومنه الحدِيْثُ: «إِذا أَتَيْتُمْ على مَظْلُومٍ فأَغِذُّوا السَّيْرَ».

وِظَلَمَهُ ظلْمًا: كَلَّفَهُ فوْقَ الطَّاقَةِ.

وبَيْتٌ مُظَلَّمٌ، كمُعَظَّمٍ: مُزَوَّقٌ بالتَّصاوِيرِ أَو مُمَوَّهٌ بالذهَبِ والفضَّةِ.

وأَنْكَرَ الأَزْهرِيُّ.

وصَوَّبَه الزَّمَخْشريُّ وقالَ: هو مِن الظَّلْمِ وهو مُوهَةُ الذهَبِ، قالَ: ومنه قيلَ للماءِ الجارِي على الثَّغْرِ ظَلْمٌ.

وجَمْعُ الظُّلْمَةِ ظُلَمٌ كصُرَدٍ، وِظُلُماتٌ بضمَّتَيْن، وِظُلَماتٌ بفتْحِ اللامِ، وِظُلْماتٌ بتَسْكينِها، قالَ الراجزُ:

يَجْلُو بعَيْنَيْهِ دُجَى الظُّلُماتِ

كذا في الصِّحاحِ.

قالَ ابنُ بَرِّي: ظُلَمٌ جَمْعُ ظُلْمَةٍ بإِسْكانِ اللامِ، فأَمَّا ظُلمُة فإِنَّما يكونُ جَمْعُها بالأَلفِ والتاءِ: قالَ ابنُ سِيْدَه: قيلَ الظَّلامُ أَوَّلُ اللَّيْلِ وإِنْ كانَ مُقْمرًا، يقالُ: أَتَيْته ظَلامًا أَي لَيْلًا.

قالَ سِيْبَوَيْه: لا يُسْتَعْملُ إِلَّا ظَرْفًا. وأَتَيْتَه مع الظَّلامِ أَي عندَ اللَّيْلِ.

وقالوا: ما أَظْلَمَه وما أَضْوَأَهُ وهو شاذٌّ، نَقَلَه الجوْهرِيُّ.

وِظُلُماتُ البَحْرِ: شَدائدُه.

وتَكَلَّم فأَظْلَمَ علينا البَيْتُ؛ أَي سَمِعْنا ما نَكْرَه وهو مُتَعدٍّ، نَقَلَه الأَزْهرِيُّ.

وقالَ الخَليلُ: لَقِيتُه أَوَّلَ ذي ظُلْمةٍ أَي أَوَّلَ شي‌ءٍ يَسُدُّ بَصَرَكَ في الرُّؤيَةِ، ولا يُشْتَقُّ منه فعْلٌ، كما في الصِّحاحِ.

وِأَظْلَمَ: نَظَرَ إِلى الأَسْنانِ فرَأَى الظَّلْمَ.

وجَمْعُ الظَّلِيم للذَّكَرِ مِن النَّعامِ: أَظْلِمةٌ أَيْضًا.

وإِذا أَزادُوا على القبْرِ مِن غيرِ تُرابِه قيلَ: لا تَظْلِمُوا، وهو مجازٌ.

وِالأَظْلم: الضَّبُّ وُصِفَ به لكَوْنِه يأْكُلُ أَوْلادَه.

وِالظِّلامُ بالكسْرِ: جَمْعُ ظُلم بالضمِّ عن كُراعٍ، وبه فُسِّرَ بَيْت المثقبِ العَبْديّ ومغلس بن لقيطٍ الماضِي ذِكْرهما، وإِن كانَ فِعال إِنَّما يكونُ جَمْع فعل المُضاعَف كخفٍّ وخِفافٍ، وقيلَ: هو مَصْدرٌ كالظُّلم كلبس ولِباسٍ. ويُرْوَى البَيْتُ أَيْضًا بالضمِّ فقيلَ: هو بمعْنَى الظَّلمِ أَو جَمْع له، كما قالَ أَبو عليٍّ في التُّرابِ إِنَّه جَمْعُ تُرْبٍ.

قالْ شيْخُنا: وعليه فيُزادُ على بابِ رِخالٍ.

وِظالِمُ بنُ عَمْرٍو الدُّؤليُّ أَبو الأَسْودِ صَحابيٌّ أَوَّل مَنْ تكلّمَ في النَّحْو.

وِالظلامُ: الكَثيرُ الظُّلْمِ.

وكأَميرٍ: ظَلِيمٌ أَبو النَّجيبِ المِصْرِيُّ العامِريُّ رَوَى عن ابنِ عُمَرَ وأَبي سعيدٍ، وعنه بكرُ بنُ سوادَةَ، ماتَ سَنَة ثَمَان وثَمانِيْن.

وِظَلِمٌ، ككَتِفٍ: جَبَلٌ بالحِجازِ بينَ إِضَم وجبل جُهَيْنَةَ.

وأَيْضًا جَبَلٌ أَسْودُ لعَمْرو بنِ عبدِ بنِ كِلابٍ.

وِتظلمُ، كتَمْنع: جَبَلٌ بنَجْدٍ، قالَهُ نَصْر.

وِظَلَمْلَمُ، كسَفَرْجَلٍ: جَبَلٌ باليَمَنِ.

وجَمْعُ ظَلْم الأَسْنان ظُلُومٌ، وأَنْشَدَ أَبو عُبَيْدَة:

إِذا ضَحِكَتْ لم تَنْبَهِرْ وتبسَّمَتْ *** ثنايا لها كالبَرْقِ غُرٌّ ظُلُومُها

كما في الصِّحاحِ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


190-تاج العروس (عم عمم عمعم)

[عمم]: العَمُّ: أَخُو الأَبِ، الجمع: أَعْمامٌ، وِعُمُومٌ وِعُمُومَةٌ.

قالَ سِيْبَوَيْه: أَدْخَلوا فيه الهاءَ لتَحْقيقِ التَّأْنيثِ ونَظِيرُه الفُحُولَة والبُعُولة.

وِحَكَى ابنُ الأَعْرابيِّ في أَدْنَى العَدَدِ: أَعَمُّ.

قالَ الفرَّاءُ: بمنْزِلَةِ صَكٍ وأَصُكٍّ وضَبٍّ وأَضُبِّ.

وِججِ جَمْعُ الجَمْعِ أَعْمُمونَ، بإظْهارِ التَّضْعيفِ، وكانَ الحُكْم أعُمُّونَ، لكنْ هكذا حَكَاه؛ وأَنْشَدَ:

تَرَوَّح بالعَشِيِّ بكُلِّ خِرْقٍ *** كَرِيم الأَعْمُمِينَ وكُلِّ خالِ

وِهي عَمَّةٌ، قد خالَفَ هنا اصْطِلاحَه في ذِكْرِ الأُنْثَى؛ والمَصْدَرُ العُمومَةُ، بالضمِّ كالأُبُوَّةِ والخُؤُولَةِ.

وِيقالُ: ما كُنْتَ عَمًّا ولقد عَمَمْتَ عُمُومَةً.

وِرجُلٌ مُعَمٌّ وِمِعَمٌّ، بضمِّ الميمِ وكَسْرِها: الكثيرُ* الأَعْمامِ أَو كَريمُهُم، هكذا نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ، وهو نَصُّ اللَّيْثِ في العَيْنِ.

وفي التهْذِيبِ: العَرَبُ تقولُ: رَجُلٌ مُعَمٌّ مُخْوَلٌ إذا كانَ كَريمَ الأَعْمامِ والأَخْوالِ كثيرَهُم؛ قالَ امْرُؤُ القَيْسِ:

بِجِيدٍ مُعَمٍّ في العَشِيرَةِ مُخْوَلِ

قالَ اللَّيْثُ: ويقالُ: مِعَمٌّ مِخْوَلٌ.

قالَ الأَزْهَرِيُّ: ولم أَسْمعْه لغيرِ اللَّيثِ ولكنْ يقالُ: مِعَمٌّ مِلَمٌّ إذا كانَ يَعُمُّ الناسَ ببرِّه وفَضْلِه، ويَلُمُّهُم؛ أَي يُصْلحُ أَمْرَهُم ويَجْمعُهم.

وتَعَمَّمَتْه النِّساءُ: دَعَوْنَهُ عَمًّا، هكذا هو في سائِرِ النسخِ، وكَذلِكَ تَأَخَّاه وتَأَبَّاه وتَبَنَّاهُ؛ أَنْشَدَ ابنُ الأَعْرَابيِّ:

عَلامَ بَنَتْ أُخْتُ المَرابِيعِ بَيْتَها *** عَلَيَّ وقالَتْ لي بِلَيْلٍ تَعَمَّمِ؟

أَي أَنَّها لمَّا رأَتِ الشَّيْبَ قالتْ لا تَأْتِنا خِلْمًا، ولكنِ ائْتِنَا عَمًّا.

وسِياقُ الجوْهَرِيِّ عن أَبي زيْدٍ: وِتَعَمَّمْته إذا دَعَوْته عَمًّا.

ومِثْلُه سِياقُ الزَّمَخْشرِيِّ؛ وكذَلِكَ تَخَوَّلْتَهَ إذا دَعَوْته خالًا.

وِاسْتَعْمَمْتُه: اتَّخَذْتُه عَمًّا.

وِيقالُ: هُما ابنا عَمِّ، وِلا يقالُ: ابنا خالٍ.

وِتقولُ: هُما ابْنا خالَةٍ وِلا تقولُ: هُما ابْنا عَمَّةٍ، هذا نَصُّ الجوْهَرِيّ.

وهكذا نَقَلَه الأَزْهَرِيُّ عن ابنِ السِّكِّيت وقالَ: ابْنا عَمِّ تُفْرِدُ العَمَّ ولا تُثَنِّيه لأنَّك إنَّما تُريدُ أَنَّ كلَّ واحِدٍ منهما مُضافٌ إلى هذه القَرابَةِ، كما تقولُ في حَدِّ الكُنْيةِ أَبَوَا زيْدٍ، إنَّما تُريدُ أَنَّ كلَّ واحِدٍ منهما مُضافٌ إلى هذه الكُنْيةِ اه.

ويقالُ: هُما ابْنا عَمٍّ لحًّا، وهُما ابْنا خالَةٍ لحًّا، ولا يقالُ: هُما ابْنا عَمَّة لحًّا ولا ابْنا خالٍ لحًّا، لأنَّهما مُفْتَرقَانِ، لأَنَّهما رجُلٌ وامْرأَةٌ: قالَ:

فإنَّكُما ابْنا خالَةٍ فاذْهَبا مَعًا *** وِإِنِّي مِنْ نَزْعٍ سِوى ذاكَ طَيِّب

وقالَ ابنُ بَرِّي: يقالُ: ابْنا عَمِّ لأَنَّ كلَّ واحِدٍ منهما يقولُ لصاحِبِه يابْنَ عَمِّي، وكَذلَكِ ابْنا خالَةٍ لأَنَّ كلَّ واحِدٍ منهما يقولُ لصاحِبِه يابْنَ خالَتِي، ولا يصحُّ أَنْ يقالَ: هُما ابْنا عَمَّةٍ، ولا يصحُّ أَنْ يقالَ: هُما ابْنا خالٍ لأنَّ أَحدَهما يقولُ لصاحِبِه يابْنَ خالي والآخَرُ يقولُ له يابْنَ عَمَّتي فاخْتَلَفا، ولا يصحُّ أَنْ يقالَ: هُما ابْنا عَمَّةٍ لأنَّ أَحدَهما يقولُ لصاحِبِه يابْنَ عَمَّتي والآخَرُ يقولُ: له يابْنَ خالي.

وِالعَمُّ: الجماعَةُ مِن الناسِ، كما في الصِّحاحِ؛ وقيلَ: مِن الحيِّ؛ وزادَ بعضُهم: الكَثيرَةُ؛ وأَنْشَدَ ابنُ الأَعْرَابيِّ:

يُرِيغُ إليه العَمُّ حاجَةَ واحِدٍ *** فَأُبْنا بحاجاتٍ ولَيْسَ بذي مالِ

قالَ: العَمُّ هنا الخَلْقُ الكَثيرُ، كالأَعَمِّ؛ حَكَاه الفارِسِيُّ عن أَبي زيْدٍ، قالَ: وليسَ في الكَلامِ أَفْعَلُ يدلُّ على الجَمْعِ غَيْر هذا إلَّا أَنْ يكونَ اسْمَ جنْسٍ كالأَرْوَى والأَمَرِّ الذي هو الأَمْعاءُ؛ وأَنْشَدَ:

ثُمَّ رَماني لأَكُونَنْ ذَبِيحةً *** وِقَدْ كَثُرَتْ بَيْنَ الأَعَمِّ المَضائِضُ

قالَ ابنُ جنيِّ: لم يأْتِ في الجَمْعِ المُكَسَّرِ شي‌ءٌ على أَفْعَلَ مُعْتلًّا ولا صَحِيحًا إلَّا الأَعَمّ، قالَ: وبخطِّ الأَرْزني: ثم رَآني.

قالَ: ورَوَاهُ الفرَّاءُ: بَيْنَ الأَعُمِّ بضمِّ العَيْنِ جَمْعُ عَمٍّ كضَبٍّ وأَضُبٍّ.

وِالعَمُّ: العُشْبُ كُلُّهُ، عن ثَعْلَب؛ وأَنْشَدَ:

يَرُوحُ في العَمِّ ويَجْني الْأُبْلُما

وِالعَمُّ: موضع، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ؛ وأَنْشَدَ:

أَقْسَمْتُ أَشْكُوكَ مِنْ أَيْنٍ وَمِنْ وَصَبٍ *** حَتّى تَرى مَعْشَرًا بالعَمِّ أَزْوَالا

وِأَيْضًا: قرية بَيْنَ حَلَبَ وأَنْطاكِيَةَ، منها: عُكاشَةُ بنُ عبدِ الصَّمَدِ العَمِّيُّ الضَّريرُ، شاعِرٌ مُحْسنٌ مُقلّ مِن شُعَراءِ الدَّولةِ الهاشِمِيَّة. والذي صَرَّحَ به البَكْريُّ في شرْحِ الأَمالي أَنَّه مِن البَصْرَةِ، وأَنَّه مِن بَني العَمِّ الآتي ذِكْرُهُم.

وِالعَمُّ: النَّخْلُ الطِّوالُ التامَّةُ طولُها والْتِفافُها، ويُضَمُّ؛ ومنه الحدِيْثُ: «وإِنَّها لَنَخْلٌ عُمٌّ»؛ وأَنْشَدَ أَبو عُبَيْدٍ يَصِفُ نَخْلًا:

سُحُقٌ يُمَتِّعُها الصَّفا وسَرِيَّة *** عُمٌّ نَواعِمُ بَيْنهنّ كُرُومُ

وِالعَمُّ: لَقَبُ مالِكِ بنِ حَنْظَلَةَ أَبي قَبيلَةٍ، كذا في النسخِ.

وفي التهْذِيبِ: لَقَبُ مُرَّةَ بنِ مالِكٍ.

وِهم العَمِّيُّونَ في تَمِيمٍ.

وقالَ أَبو عُبَيْدٍ: مُرَّةُ بنُ وائِلِ بنِ عَمْرِو بنِ مالِكِ بنِ حَنْظلَةَ بنِ فهمِ مِنَ الأَزْدِ، وهم بَنُو العَمِّ في تَمِيمِ، هذا نَسَبُهم، ثم قالوا: مُرَّةُ بنُ حَنْظلَةَ بنِ مالِكِ بنِ زيْدِ مَنَاة بنِ تميمٍ.

وفي الأَغاني: أَصْلُ بَني العَمِّ كالمَدْفوعِ يقالُ: إنَّهم نَزَلوا في بَني تَمِيمٍ بالبَصْرَةِ أَيَّام عُمَرَ، رضِيَ اللهُ تعالَى عنه، وغَزوا مع المُسْلمينَ وأَبْلو فحمدُوا، فقيلَ، لهم: إنْ لم تَكُونوا مِنَ العَرَبِ فأَنْتم الأخْوان وبَنُو العَمِّ فلُقّبُوا بذلِكَ ولذلِكَ قالَ كَعْبُ بنُ مَعْدان الأَشْعريُّ:

وَجَدْنا آلَ سامَةَ في قُرَيْش *** كمِثْل العَمِّ في سلفى حَمِيم

اه.

وقالَ جَريرٌ:

قُل للفَرَزْدقِ من عزٍّ يَلُوذُ به *** سوى بَني العَمِّ في أَيْدِيهم الخَشَبُ

سِيْرُوا بَني العَمِّ فالأَهْواز مَنْزِلكم *** وِنهر تيرى فمَا تدْرِيكُمُ العَرَبُ

أَو النِّسْبَةُ إلى عَمٍّ عَمِّيُّونَ كأَنَّه نِسْبَةٌ إلى عَمِّيٍّ.

ونَصُّ الجَوْهَرِيّ: والنِّسْبَةُ إلى عَمٍّ عَمَوِيٌّ كأَنَّه مَنْسوبٌ إلى عَمًى قالَهُ الأَخْفشُ.

وِالعِمُّ، بالكسْرِ: قرية بحَلَبَ غيرُ الأُوْلَى، ومنها: جَعْفرُ بنُ سَهْلٍ العِمِّيُّ، ذَكَرَه المَالينيّ، وبشرانُ بنُ عبدِ المَلِكِ العِمِّيُّ الموصِليُّ مِن مشايخِ الطَّبْرانيّ، وأَخُوه المغيثُ مَمْدوحُ المُتَنَبِّي.

وِالعِمامَةُ، بالكسْرِ؛ قالَ شيْخُنا: وضَبَطَه بعضُ شُرَّاحِ الشَّمايلِ بالفتْحِ أَيْضًا وهو غَلَطٌ: المِغْفَرُ والبَيْضَةُ؛ يُكْنَى بها عنهما؛ وِالأَصْلُ فيها ما يُلَفُّ على الرَأْسِ؛ الجمع: عَمائِمُ وِعِمامٌ، بالكسْرِ؛ الأَخيرَةُ عن اللحْيانيِّ، قالَ: والعَرَبُ تقولُ لمَّا وَضَعُوا عِمامَهُم عَرَفْناهُم، فإمَّا أَنْ يكونَ جَمْع عِمامَةٍ جَمْعُ التَّكْسيرِ، وإِمَّا أَنْ يكونَ مِن بابِ طَلْحةٍ وطَلْحٍ، وقد اعْتَمَّ بها وِتَعَمَّمَ بمعْنًى؛ وِكَذلِكَ اسْتَعَمَّ؛ وأَمَّا قوْلُ الشاعِرِ أَنْشَدَه ثَعْلَب:

إذا كَشَفَ اليَوْمُ العَماسُ عَنِ اسْتِهِ *** فلا يَرْتَدِي مِثْلي ولا يَتَعَمَّمُ

فقيلَ: معْناه أَلْبَسُ ثِيابَ الحَرْبِ ولا أَتَجمَّلُ، وقيلَ: معْناه ليسَ أَحدٌ يَرْتَدِي كارْتِدَائي ولا يَعْتَمُّ بالبَيْضةِ اعْتِمامي.

وِالعِمامَةُ: عِيدَانٌ مَشْدودَةٌ تُرْكَبُ في البَحْرِ ويُعْبَرُ عليها في النَّهْرِ كالعامَّةِ، بتَشْديدِ المِيمِ، أَو الصَّوابُ العامَةُ مُخَفَّفَةً، وهكذا رَوَاه ابنُ الأَعْرَابي، وهو الصَّحِيحُ.

وِفي المَثَلِ: أَرْخَى عِمامَتَه؛ أَي أَمِنَ وتَرَفَّهَ، لأَنَّ الرجُلَ إنَّما يُرْخِي عِمامَتَه عندَ الرّخاءِ؛ وأَنْشَدَ ثَعْلَب:

أَلْقى عَصاهُ وأَرْخى مِن عِمامَتِه *** وقالَ: ضَيْفٌ، فَقُلْتُ: الشَّيْبُ؟ قالَ: أَجَلْ

وِمِن المجازِ: عُمِّمَ بالضمِّ؛ أَي سُوِّدَ، لأنَّ تِيجانَ العَرَبِ العَمائِمُ، فكلَّما قيلَ في العَجَمِ تُوِّجَ مِنَ التاجِ قيلَ في العَرَبِ عُمِّمَ؛ قالَ:

وَفيهمُ إذْ عَمِّمَ المُعَمَّمُ

وكانوا إذا سَوَّدُوا رَجُلًا عَمَّمُوه عِمامَةً حَمْراءَ. وكانَتِ الفُرْسُ تُنَوِّجُ مُلوكَها فيقالُ له: المُتَوَّجُ.

وِعُمِّمَ رأْسُه: أَي لُفَّتْ عليه العِمامَةُ، كعُمَّ، بالضمِّ.

وِهو حَسَنُ العِمَّةِ، بالكسْرِ؛ أَي حَسَنُ الاعْتِمامِ وِالتَّعَمُّمِ.

وِكلُّ ما اجْتَمَعَ وكَثُرَ فهو عَمِيمٌ، كأَميرٍ، الجمع: عُمُمٌ ككُتُبٍ، ونَظِيرُه: سَرِيرٍ وسُرُرٍ؛ قالَ الجعْدِيُّ يَصِفُ سَفينَةَ نوحٍ، عليه‌السلام:

يَرْفَعُ بالنارِ والحَديدِ مِنَ ال *** جَوْزِ طِوالًا جُذُوعُها عُمُما

وِالاسْمُ منه العَمَمُ، محرَّكةً.

وِجارِيَةٌ عَمِيمَةٌ، ونَخْلَةٌ عمِيمَةٌ، وِجارِيَةٌ عَمَّاءُ: أَي طَويلةٌ تامَّةُ القَوامِ والخَلْقِ، الجمع: عُمٌّ، بالضمِّ.

قالَ سِيْبَوَيْه: أَلْزمُوه التَّخْفِيفَ إذ كانُوا يُخَفِّفونَ غيرَ المُعْتلِّ، وكان يجبُ عُمُم كَسُرُرٍ لأَنَّه لا يُشْبِهُ الفعْلَ.

ونخلةٌ عُمٌّ، عن اللحْيانيّ: إمَّا أَنْ يكونَ فُعْلًا وهي أَقَلّ، وإِمَّا أَنْ يكونَ فُعُلًا أَصْلُها عُمُمٌ، فسُكِّنَتِ المِيمُ وأُدْغِمَتْ، ونَظِيرُها على هذا ناقَةٌ عُلُطٌ وقوسٌ فُرُجٌ، وهو بابٌ إلى السَّعَةِ، وهو أَعَمُّ؛ أَي المُذَكَّر، قالَ:

عُمٌّ كَوارِعُ في خَلِيج مُحَلِّم

وِنَبْتٌ يَعْمومٌ؛ أَي طَويلٌ، قالَ:

وِلقَدْ رَعَيْتُ رِياضَهُنَّ يُوَيْعِفًا *** وِعُصَيْرُ طَرَّ شُوَيْرِبي يَعْمومُ

وِالعَمَمُ، محرَّكةً: عِظَمُ الخَلْقِ في النَّاسِ وغيرِهم.

وِأَيْضًا: التَّامُّ العامُّ مِن كلِّ أَمْرٍ؛ قالَ عَمْرُو ذو الكَلْبِ:

يا ليتَ شِعْري عَنْك والأَمْرُ عَمَمْ *** ما فَعَلَ اليومَ أُوَيْسٌ في الغَنَمْ؟

وِالعَمَمُ: اسْمُ جَمْعٍ للعامَّةِ وهي خِلافُ الخاصَّةِ؛ قالَ رُؤْبَة:

أَنتَ رَبيعُ الأَقرَبِينَ والعَمَمْ

وقالَ ثَعْلَبٌ: إنَّما سُمِّيَت لأَنَّها تَعُمُّ بالشَّرِّ.

وقالَ الرّاغبُ: لكثْرتِهم وِعُمومِيّتِهم في البِلادِ.

وِيقالُ: اسْتَوَى الأَمْرُ على عُمُمِه، بضَمَّتَيْن؛ أَي تَمامِ جِسْمِهِ ومالِهِ وشَبابِهِ؛ ومنه حَدِيْث عَمْرو بن الزُّبَيْر حينَ ذَكَرَ أُحَيْحة بن الجُلاح وقَوْل أَخْوالِه فيه: كُنَّا أَهْلَ ثُمِّه ورُمِّه، حَتَّى إذا اسْتَوَى على عُمُمِّه، يُرْوَى هكذا بضَمَّتَيْن وبالتَّحريكِ وبالتَّشْديدِ أَيْضًا اللازْدِواجِ؛ قالَهُ الجَوْهَرِيُّ؛ والمعْنَى على قَدِّه التامّ أَو على عِظامِهِ وأَعْضائِهِ التامَّةِ.

وِعَمَّ الشَّي‌ءُ يَعمُّ عَمُومًا: شَمِلَ الجَماعَةَ.

يقالُ: عَمَّهُم بالعَطِيَّةِ، وهو مِعَمٌّ، بكسْرِ أَوَّلِه؛ أَي خَيِّرٌ يَعُمُّ القَوْمَ بخَيْرِه [وعَقْلِهِ] *.

وقالَ كُراعٌ: رَجُلٌ مُعِمٌّ يَعُمُّ النَّاسَ بمعْرُوفِهِ؛ أَي يَجْمعُهم، وكَذلِكَ مُلِمٌّ يَلْمُّهُم أَي يَجْمعُهم، ولا يَكادُ يُوجدُ فَعَلَ فهو مُفْعِل غَيْرهما؛ كالعَمَم، محرَّكةً؛ ومنه قوْلُ الكُمَيْت:

بَحْرٌ جَريرُ بنُ رشقٍّ من أَرومَتِه *** وِخالدٌ من بَنِيهِ المِدْرَةُ العَمَمُ

وِالعَمِيمُ، كأَميرٍ: موضع.

وِأَيْضًا: يَبيسُ البُهْمَى.

وِيقالُ: هو مِن صَمِيمِ القَوْمِ وِعَمِيمِهم بمعْنًى واحدٍ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.

وِالعُمِّيَّةُ، بالضمِّ والكسْرِ: الكِبْرُ؛ واقْتَصَرَ الجوْهَرِيُّ على الضمِّ، وقالَ: كالعُبِّيَّةِ.

وِالعَماعِمُ: الجَماعاتُ المُتَفَرِّقونَ؛ وأَنْشَدَ الجوْهَرِيُّ للبيدٍ:

لِكَيْ لا يَكُونَ السَّنْدَرِيُّ نَدِيدَتي *** وِأَجْعَلَ أَقْوامًا عُمُومًا عَماعِما

أَي أَجْعَلَ أَقْوامًا مُجْتمعِيْنَ فرقًا؛ وهذا كما قيلَ:

مِنْ بَيْنِ جَمْعٍ غَيْرِ جُمَّاعِ

كما في الصِّحاحِ. قلْتُ: وهو قوْلُ أَبي قَيْس بن الأَسْلَت وأَوَّلُه:

ثُمَّ تَحَلَّتْ ولَنا غايةٌ

والسَّنْدَرِيُّ: شاعِرٌ كان مع عَلْقمَةَ بن عُلاثَةَ، وكان لَبيدٌ مع عامِرِ بنِ الطُّفَيْل فَدُعِي لَبيدٌ إلى مُهاجاتِهِ فأَبَى.

وِعَمَّمَ اللَّبَنُ تَعْمِيمًا: أَرْغَى، كأَنَّ رَغْوَتَه شُبِّهَت بالعِمامَةِ، كما في الصِّحاحِ، وهو مجازٌ، كاعْتَمَّ.

واللَّبَنُ مُعَمَّمُ وِمُعْتَمٌّ وذلِكَ إذا حُلِبَ.

وِرَجُلٌ عُمِّيٌّ كقُمِّيٍّ، بالضَّمِّ؛ أَي عامٌّ؛ والذي في المحْكَمِ: رجُلٌ عَمٌّ وقُصْرِيٌّ، فالعَمُّ العامُّ؛ وقُصْرِيٌّ أَي خاصٌّ.

وِمِن المجازِ: اعْتَمَّ النَّبْتُ إذا اكْتَهَلَ، كما في الصِّحاحِ.

وقالَ غيرُه: إذا الْتَفَّ وطَالَ. ورَوْضَةٌ مُعْتَمَّةٌ: أَي وافيَةُ النَّباتِ طَويلتُه.

وفي الصِّحاحِ: يقالُ للنَّباتِ إذا طَالَ: قد اعْتَمَّ؛ ووُجِدَ بخطِّ الجوْهَرِيّ: للشَّبابِ.

وِمِن المجازِ: المُعَمَّمُ، كمُعَظَّمٍ: الفَرَسُ الأَبْيَضُ الهامَةِ دونَ العُنُقِ. يقالُ: هو أَدْرَعٌ مُعَمَّمٌ؛ أَو هو مِن الخَيْلِ الذي ابْيَضَّتْ ناصِيَتُه كُلُّها ثم انْحَدَرَ البياضُ إلى مَنْبِتِ الناصِيَةِ وما حَوْلَها مِن القَوْنَس.

وِالأَعَمُّ: الغَلِيظُ التامُّ في قوْلِ المُسَيَّبِ بنِ عَلَس يَصِفُ ناقَةً:

وَلَها إذا لَحِقَتْ ثَمائِلُها *** جَوْزٌ أَعَمُّ ومِشْفَرٌ خَفِقُ

والجَوْزُ: الوَسَطُ، ومِشْفَرٌ خِفقٌ: أَهْدَلُ يَضْطربُ.

وِعَمْعَمَ الرَّجُلُ: إذا كثُرَ جَيْشُه بعدَ قِلَّةٍ.

وِعَمَّى، كحَتَّى: اسْمُ امْرَأَةٍ؛ ومنه قوْلُه:

فَقِعْدَكِ عَمَّى اللهَ هَلَّا نَعَيْتِهِ *** إلى أَهْلِ حَيٍّ بالقَنَافِذِ أَوْرَدُوا؟

أَرادَ: يا عَمَّى وقعدك يمينٌ.

وِعَمَّانُ، كقَبَّانٍ: بلد بالشأمِ قُرْبَ دِمَشْق سُمِّي بعَمَّان بنِ لوطِ بنِ هارَان، كان سَكَنَه، نَقَلَه السَّهيليّ في الرَّوْض، وأَنْشَدَ ابنُ الأعْرَابيِّ لمُلَيْحٍ:

وَمِنْ دُونِ ذِكْرَاها التي خَطَرَتْ بِنا *** بشَرْقيِّ عَمَّانَ الشَّرا فالمُعَرَّفُ

وقالَ أَئمَّةُ النَّسَبِ: هي مَدينَةٌ بالبَلْقاءِ مِن كُورَةِ دِمَشْق؛ وبه فُسِّرَ

حَدِيْث الحَوْض: «وإنَّه مِن مَقامِي هذا إلى عمَّان»؛ قالَهُ الأَزْهَرِيُّ.

ومنها: نصرُ بنُ محمدِ بنِ أَبي الفتْحِ الزّهريُّ؛ ومحمدُ بنُ كاملِ العمَّانيَّانِ مُحِدِّثانِ. ومنها أَيْضًا: الحافظُ أَبو سعيدٍ العمَّانيُّ المُقْرئُ مُؤَلفُ المُرْشِد في الوقْفِ والابْتِداءِ.

وِمُعْتَمٌّ: اسْمُ رجُلٍ، كما في الصِّحاحِ؛ وأَنْشَدَ لعُرْوَةَ:

أَيَهْلِكُ مُعْتَمٌّ وزَيْدٌ ولَمْ أُقِمْ *** على نَدَبٍ يَوْمًا ولي نَفْسُ مُخْطِرِ؟

وقالَ ابنُ بَرِّي: الصَّوابُ في الرِّوايَةِ: أَتَهْلك، بالتاءِ الفَوْقيَّة؛ وِمُعْتَمٌّ وزَيْدٌ قَبِيلَتانِ. وهكذا وُجِدَ بخطِّ أَبي زكريَّا على الصَّوابِ.

* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:

يقالُ: يابْنَ عَمِّي ويابْنَ عَمِّ ويابْنَ عَمَّ، بالتَّخْفيفِ ثَلاثُ لُغَاتٍ كما في الصِّحاحِ.

وشاةٌ مُعَمَّمَةٌ: بيضاءُ الرأْسِ؛ نَقَلَه الجوْهَرِيُّ.

وِالعَمِيمُ: الطَّويلُ مِن الرِّجالِ والنَّباتِ؛ قالَ الاعْشَى:

مُؤَزَّرٌ بعَمِيمِ النَّبْتِ مُكْتَهِلُ

واعْتَمَّتِ الآكَامُ بالنَّباتِ وِتَعَمَّمَتْ. وفي الحدِيث: «أَكْرِمُوا عَمَّتَكُم النَّخْلَة؛ أَي لأنّها خُلِقَتْ مِن فَضْلَةِ طِينَةِ آدَمَ، عليه‌السلام». وقالَ ابنُ الأعْرَابيِّ: عُمَّ إذا طُوِّلَ، وِعَمَّ إذا طَالَ.

ومَنْكِبٌ عَمَمٌ طَويلٌ؛ وأَنْشَدَ الجوْهَرِيُّ لعَمْرو بن شاس:

وِإِنَّ عِرارًا إنْ يَكُنْ غَيرَ واضِحٍ *** فإنِّي أُحِبُّ الجَوْنَ ذا المَنْكِبِ العَمَمْ

وبَقَرَةٌ عَمِيمَةٌ: تامَّةُ الخَلْقِ.

ويقالُ: عَمَّمْناكَ أَمْرَنا؛ أَي أَلْزَمْناك.

وهو المُعَمَّمُ: للسَّيِّدِ الذي يُقلِّدُه القَوْمُ أُمُورَهم ويلْجأُ إليه العَوامُّ؛ قالَ أَبو ذُؤَيْبٍ:

وِمِنْ خَيْرِ ما جَمَعَ النَّاشِئُ الـ *** مُعَمَّمُ خِيرٌ وزَنْدٌ وَري

وقالَ الأَصْمَعيُّ في سِنِّ البَقَرِ إذا اسْتَجْمَعَتْ أَسْنانُه قيلَ: قد اعْتَمَّ فهو عَمَمٌ، فإذا أَسَنَّ فهو فارِضٌ.

ومِن أَمْثالِهم: عَمَّ ثُوباءُ النَّاعِسِ؛ يُضْربُ للحَدَثِ يَحْدُثُ ببلْدَةٍ ثم يَتَعدَّاهُ إلى سائِرِ البُلْدانِ.

وِالعِمامَةُ: القَحْطُ العامُّ؛ وأَيْضًا القِيامَةُ لأنَّها تَعُمُّ الناسَ بالمَوْتِ.

وأَبو الفَضْل محمدُ بنُ حامدِ بنِ حربٍ البلخيُّ العمائميُّ: مُحَدِّثٌ تكلم فيه.

وزيدٌ العمِّيُّ البَصْرِيُّ: تابِعيٌّ، قيلَ ذلِكَ لأَنَّه كان كلَّما سُئِلَ عن قَبيلَةٍ قالَ: حتى أَسْأَلَ عَمِّي، رَوَى عن أَنَسٍ؛ وابْنُه أَبو زَيْدٍ عبدُ الرَّحيم عن أَبيهِ ضَعيفٌ.

وأَبو محمدٍ عبدُ الرَّحْمنِ بنُ محمودِ بنِ أَحْمدَ بنِ هبةِ اللهِ العمِّيُّ ويُعْرفُ بابنِ العَمِّ مِن مشايخِ أَبي سعْدٍ السّمعانيّ، وتُوفي بمَرْوَ.

والشيخُ ناصرُ الدِّيْن أَبو العَمائِمِ أَحَدُ الأَوْلياء بريقِ مِصْرَ.

وكفر عما: صقعٌ في بَرِّيَّة خساف بَيْنَ نابلس وحَلَبَ.

وِعما: صَنَمٌ لخَوْلان باليَمَنِ.

وعبدُ اللهِ بنُ المُعْتَمِّ: أَميرٌ مِن أُمراءِ القادِسِيَّة، ذَكَرَ سَيْف.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


191-تاج العروس (كون)

[كون]: الكَوْنُ: الحَدَثُ كالكَيْنُونَةِ، وقد كانَ كَوْنًا وكَيْنُونَةً؛ عن اللَّحْيانيِّ وكُراعٍ؛ والكَيْنُونَةُ في مَصْدرِ كانَ يكونُ أَحْسَنُ.

وقالَ الفرَّاءُ: العَرَبُ تقولُ في ذواتِ الياءِ: طِرْتُ طَيْرُورَةً، وحِدْتُ حَيْدُودَةً فيما لا يُحْصَى مِن هذا الضَّرْبِ، فأَمَّا ذَوَات الواو فإنَّهم لا يقُولُونَ ذلكَ، وقد أَتى عنهم في أَرْبعةِ أَحْرف؛ منها الكَيْنُونَةُ مَن كُنْتُ، والدَّيْمومَةُ مِن دُمْتُ، والهَيْعُوعَةُ من الهُواعِ، والسَّيْدُودَةُ مِن سُدْتُ، وكانَ يَنْبَغي أَنْ يكونَ كَوْكُونَة، ولكنَّها لمَّا قَلَّتْ في مَصادِرِ الواوِ وكَثُرَتْ في مَصادِرِ الياءِ أَلْحقُوها بالذي هو أَكْثَر مَجِيئًا منها، إذا كانتِ الياءُ والواوُ مُتَقارِبي المَخْرج.

قالَ: وكانَ الخَليلُ يقولُ كَيْنونَةَ فَيْعولَة هي في الأَصْلِ كَيْوَنُونة، الْتَقَتْ منها ياءٌ وواوٌ، الأُولى منهما ساكِنَةٌ فصيرتا ياءً مُشَدَّدَة مثْلَ ما قالوا الهَيِّنُ من هُنْتُ، ثم خَفَّفُوها كَيْنُونَة كما قالوا هَيْنٌ لَيْنٌ.

قالَ الفرَّاء: وقد ذُهِبَ مَذْهَبًا إلَّا أَنَّ القولَ عنْدِي هو الأَوَّل.

ونَقَلَ المَناوِي في التَّوْقِيف: أَنَّ الكَوْنَ اسمٌ لمَا حَدَثَ دفْعَةً كانْقِلابِ الماءِ عن الهَواءِ، لأنَّ الصُّورَةَ الكُلِّيةَ كانتْ للماءِ بالقوَّةِ فخَرَجَتْ منها إلى الفِعْلِ، فإذا كانَ على التَّدْريجِ فهو الحركَةُ، وقيلَ: الكَوْنُ حُصُولُ الصُّورةِ في المادَّةِ بعْدَ أَنْ لم تكنْ فيها؛ ذَكَرَه ابنُ الكَمالِ.

وقالَ الرَّاغبُ: الكَوْنُ يَسْتَعْملُه بعضُهم في اسْتِحالَةِ جَوْهرٍ ما إلى ما هو أَشْرَف منه، والفَسَاد في اسْتِحالَة جَوْهرٍ إلى ما هو دُونَه؛ والمُتَكَلِّمونَ يَسْتَعْملُونَه في معْنى الإبْدَاعِ.

* قلْتُ: وهو عنْدَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ عِبارَةٌ عن وُجودِ العالمِ مِن حيثُ هو أنَّه حقٌّ وإن كانَ مُرادُنا الوُجُود المُطْلَق العامُّ عنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ.

والكائنَةُ: الحادِثَةُ، والجَمْعُ الكَوائِنُ.

وكَوَّنَهُ تَكْوينًا: أَحْدَثَهُ؛ وقيلَ: التّكْوِينُ إيجادُ شي‌ءٍ مَسْبُوقٍ بمادَّةٍ.

وكَوَّنَ اللهُ الأَشْيَاءَ تَكْوينًا: أَوْجَدَها؛ أَي أَخْرجَها مِنَ العَدَمِ إلى الوُجودِ.

والمَكانُ: المَوْضِعُ، كالمَكانَةِ؛ ومنه قَوْلُه تعالى: {وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ}؛ الجمع: أَمْكِنَةٌ وأَماكِنُ، تَوَهَّمُوا المِيمَ أَصْلًا حتى قالوا: تَمَكَّنَ في المَكَانِ، وهذا كما قالوا في تَكْسِيرِ المَسِيل أَمْسِلَة؛ وقيلَ: المِيمُ في المَكانِ أَصْلٌ كأَنَّه مِن التَّمَكُّنِ دُونَ الكَوْنِ، وهذا يُقَوِّيه ما ذَكَرْناه مِن تَكْسِيرِه على أَفْعِلةٍ.

وقالَ اللّيْثُ: المَكانُ اشْتقاقُه مِن كانَ يكونُ، ولكنَّه لمَّا كَثُرَ في الكلامِ صارَتِ المِيمُ كأَنَّها أَصْليّةٌ.

وذَكَرَ الجوْهرِيُّ في هذه التَّرْجمةِ مِثْلَ ذلكَ، قالَ: المَكانَةُ المَنْزِلَةُ، فلانٌ مَكِينٌ عنْدَ فلانٍ بَيِّنُ المَكانَةِ ولمَّا كَثُرَ لُزُوم المِيم تُوُهِّمَتْ أَصْليَّة فقالوا: تَمَكَّن كما قالوا في المِسْكِين تَمَسْكَنَ.

قالَ ابنُ بَرِّي: مَكِينٌ فَعِيلٌ، ومَكانٌ فَعالٌ، ومَكانَةٌ فَعالَةٌ، ليسَ شي‌ءٌ منها مِن الكَوْنِ فهذا سَهْوٌ، وأَمْكِنَةٌ أَفْعِلَةٌ، وأمَّا تَمَسْكَنَ فهو تفعل كتَمَدْرَعَ مُشْتَقّ من المِدْرَعةِ بزِيادَتِه، فعلى قِياسِه يجبُ في تمكَّنَ تمَكْوَنَ لأنَّه تفعل على اشْتقِاقِه لا تمكَّنَ، وتمَكَّنَ وَزْنُه تَفَعَّلَ، وهذا كلُّه سَهْوٌ ومَوْضِعُه فَصْلُ المِيمِ مِنْ بابِ النونِ.

ومَضَيْتُ مَكانَتِي ومَكِينَتِي: أي على طِيَّتِي، وهذا أَيْضًا صَوابُ ذِكْرِه في مكن كما سَيَأْتي.

وكانَ: مِنَ الأفْعالِ التي تَرْفَعُ الاسمَ وتَنْصِبُ الخَبَر، كقوْلِكَ؛ كانَ زَيْدٌ قائِمًا، ويكونُ عَمْرو ذاهِبًا، كاكْتَانَ، والمَصْدَرُ الكَوْنُ والكِيانُ، ككِتابٍ، والكَيْنُونَةُ. ويقالُ: كُنَّاهُمْ؛ أَي كُنَّا لَهُم، عن سِيبَوَيْهِ مَثَّلَه بالفِعْلِ المُتَعدِّي.

وقالَ أَيْضًا: إذا لم تَكُنْهم فمَنْ ذا يَكُونُهم، كما تقولُ إذا لم تَضْربْهم فمَنْ ذا يَضْرِبهم. قالَ. وتقولُ هو كائِنٌ ومَكُونٌ، كما تقولُ ضارِبٌ ومَضْروبٌ.

وكُنْتُ الغَزْلَ كنونًا: غَزَلْتُه.

والكُنْتِيُّ والكُنْتُنِيُّ، بزِيادَةِ النُّونِ نسْبَة إلى كُنْتُ. وزَعَمَ سِيبَوَيْه أَنَّ إخْراجَه على الأَصْلِ أَقْيَس فتقولُ الكُونِيُّ، على حَدِّ ما يُوجِبُ النَّسَبَ إلى الحِكايَةِ، وهو الكَبيرُ العُمُرِ؛ وقد جَمَعَ الشاعِرُ بَيْنهما في بيتٍ:

وما كُنْتُ كُنْتِيًّا وما كُنْتُ عاجِنًا *** وشَرُّ الرِّجالِ الكُنْتِنِيُّ وعاجِنُ

قالَ الجوْهرِيُّ: يقالُ للرَّجُلِ إذا شاخَ: هو كُنْتِيٌّ، كأنَّه نُسِبَ إلى قَوْلِ كُنْتُ في شبَابي كذا؛ وأَنْشَدَ:

فأَصْبَحْتُ كُنْيتا وأَصْبَحْتُ عاجِنًا *** وشَرُّ خِصالِ المَرْءِ كُنْتُ وعاجِنُ

وهكذا أَنْشَدَه الجُرْجاني في كتابِ الكِنايَاتِ.

وقالَ ابنُ بُزُرْج: الكُنْتِيُّ القَوِيُّ الشَّديدُ؛ وأَنْشَدَ:

قد كُنْتُ كُنْيتا فأصْبَحْتُ عاجِنًا *** وشَرُّ خِصالِ الناسِ كُنْتُ وعاجِنُ

وقالَ أبو زَيْدٍ: الكُنْتِيُّ الكَبيرُ؛ وأنْشَدَ:

إذا ما كُنْتَ مُلْتَمِسًا لغَوْثٍ *** فلا تَصْرُخْ بكُنْتِيِّ كبِيرِ

فَلَيْسَ بمُدْرِكٍ شيئًا بِسَعْيٍ *** ولا سَمْعٍ ولا نَظَرٍ بَصِيرِ

وفي الحديثِ: أَنَّه دَخَلَ المَسْجِدَ وعامَّةُ أَهْلِه الكُنْتِيُّونَ؛ هم الشُّيوخُ الذين يقُولونَ كُنَّا كذا، وكان كذا، وكُنْتُ كذا.

ونَقَلَ ثَعْلَب عن ابنِ الأعْرابيِّ: قيلَ لصَبِيَّةٍ مِن العَرَبِ ما بَلَغَ الكِبَرُ من أَبِيكِ؟ قالتْ: قد عَجَنَ وخَبَزَ وثَنَّى وثَلَّثَ وأَلْصَقَ وأَوْرَصَ وكانَ وكَنَتَ.

وتكونُ كانَ زَائِدَةً ولا تُزادُ أَوّلًا، وإنَّما تُزادُ حَشْوًا، ولا يكونُ لها اسمٌ ولا خَبَرٌ ولا عَمَل لها، كقوْلِ الشاعِرِ:

باللهُ قُولُوا بأَجْمَعِكُمْ *** يا لَيْتَ ما كانَ كان لم يَكُنْ

وكقوْلِهِ:

سَراةُ بَني أَبي بَكْرٍ تَسامَوْا *** على كانَ المُسَوَّمةِ العِرابِ

ورَوَى الكِسائي عن العَرَب: نَزَلَ فلانٌ على كانَ خَتَنِه؛ أَي على خَتَنِه؛ وأَنْشَدَ الفرَّاءُ:

جادَتْ بكَفَّيْ كانَ من أَرْمى البَشَرْ

أَي جادَتْ بكَفَّيْ مَنْ هو مِن أَرْمى البَشَرِ؛ قالَ: والعَرَبُ تُدْخِلُ كانَ في الكَلامِ لَغْوًا فتقولُ: مُرَّ على كانَ زيدٍ، يُريدُونَ مُرَّ على زَيْدٍ.

قالَ الجوْهرِيُّ: وقد تَقَعُ زائِدَةً للتَّوْكيدِ كقَوْلِكَ: زيْدٌ كانَ مُنْطَلقٌ، ومَعْناه: زَيْدٌ مُنْطلِقٌ؛ وأمَّا قوْلُ الفَرَزْدقِ:

فكيفَ إذا مَرَرْتَ بدارِ قَوْمٍ *** وجيرانٍ لنا كانُوا كِرامِ؟

فزَعَمَ سِيبَوَيْه أَنَّ كانَ هنا زائِدَةٌ.

وقالَ أَبو العبَّاس: إنَّ تَقْديرَهُ: وجِيرانٍ كِرامٍ كانُوا لنا.

قالَ ابنُ سِيدَه: وهذا أَسْوغُ لأنَّ كانَ قد عَمِلَتْ ههنا في مَوْضِعِ الضَّميرِ وفي مَوْضِع لنا، فلا معْنَى لمَا ذَهَبَ إليه سِيبَوَيْه مِن أَنَّها زائِدَةٌ هنا.

وكانَ عليه كَوْنًا وكِيانًا، ككِتابٍ، واكْتَانَ: تَكَفَّل به.

قالَ الكِسائي: اكْتَنْتُ به اكْتِنانًا والاسمُ منه الكِيانَةُ، وكُنْتُ عليه أَكُونُ كَوْنًا: تَكَفَّلْتُ به. وقيلَ: الكِيانَةُ المَصْدَرُ كما شرَّحَ به شُرَّاحُ التَّسْهيل. ويقالُ: كُنْتُ الكُوفَةَ: أَي كُنْتُ بها ومَنازِلُ أَقْفَرَتْ كأَنْ لم يَكُنْها أَحدٌ؛ أَي لم يَكُنْ بها أَحدٌ.

وتقولُ: إذا سَمِعْتَ بخَبَرٍ فكُنْه، أَو بمكانِ خَيْرٍ فاسْكُنْه.

وتقولُ: كُنْتُكَ وكُنْتُ إيَّاكَ كما تقولُ طَنَنْتُكَ زيْدًا وظَنَنْتُ زَيْدًا إيَّاك، تَضَعُ المُنْفَصِلَ في مَوْضِعِ المُتَّصِلِ في الكِنايَةِ عن الاسمِ والخبَرِ، لأنَّهما مُنْفَصِلان في الأَصْلِ، لأنَّهما مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ؛ قالَ أَبو الأَسْود الدُّؤلي:

دعِ الخمْرَ تَشْريْها الغُواةُ فإنَّني *** رأَيْتُ أَخَاها مُجزِيًا بمَكَانِها

فإنْ لا يَكُنْها أَو تَكُنْه فإنَّه *** أَخُوها غَذَتْهُ أُمُّهُ بلِبانِها

يعْنِي الزَّبيبَ.

وتكونُ كانَ تامَّةً:

بمَعْنَى ثَبَتَ وثُبوتُ كلِّ شي‌ءٍ بحَسَبِه، فمنه الأَزَليَّة كقَوْلِهم: كانَ اللهُ ولا شي‌ءَ معه.

وبمَعْنَى حَدَثَ: كقَوْلِ الشاعِرِ:

إذا كانَ الشِّتاءُ فأَدْفِئُوني *** فإنَّ الشَّيْخَ يُهْرِمُه الشِّتاءُ

وقيلَ: كانَ هنا بمعْنَى جاءَ.

وبمَعْنَى حَضَرَ: كقَوْلِهِ تعالَى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ {فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ} وبمَعْنَى وَقَعَ: كقَوْلِهِ: ما شاءَ اللهُ كانَ وما لم يَشَأْ لم يَكُنْ: وحينَئِذٍ تأْتي باسمٍ واحِدٍ وهو خَبَرُ؛ ومنه قَوْلُهم: كانَ الأَمْرُ القصَّةُ؛ أَي وَقَعَ الأمْرُ ووَقَعَتِ القصَّةُ، وهذه تُسَمَّى التامَّة المُكْتَفِيَة.

وقالَ الجوْهرِيُّ: كانَ إذا جَعَلْتَه عِبارَة عمَّا مَضَى مِن الزَّمانِ احْتاجَ إلى خَبَرٍ لأنَّه دَلَّ على الزَّمانِ فقط، تقولُ: كانَ زَيْدٌ عالمًا؛ وإذا جَعَلْتَه عِبارَةً عن حُدُوثِ الشي‌ءِ ووُقُوعِه اسْتَغْنَى عن الخبَرِ لأنَّه دَلَّ على معْنًى وزَمانٍ، تقولُ: كانَ الأَمْرُ وأَنا أَعْرِفُه مُذْ كانَ أَي مُذْ خُلِقَ، قالَ مُقَّاسٌ العائِذِيُّ:

فِدًى لبَني ذُهْلِ بنِ شَيْبانَ ناقَتِي *** إذا كانَ يومٌ ذو كواكبَ شَهْبُ

وبمَعْنَى أَقامَ: كقَوْلِ عبدِ اللهِ بنِ عبْدِ الأَعْلَى:

كُنّا وكانُوا فما نَدرِي على وَهَمٍ *** أَنَحْنُ فيما لَبِثْنا أَمْ هُمُ عَجِلُوا؟

وكانَ يَقْتَضِي التّكْرَار، والصَّحيحُ عنْدَ الأُصُولِيِّين أَنَّ لَفْظَه لا يَقْتَضِي تِكْرارًا لا لُغَةً ولا عُرْفًا وإنْ صَحَّحَ ابنُ الحاجِبِ خِلافَه، وابنُ دَقيقِ العيدِ اقْتِضاءَها عُرْفًا كما في شرْحِ الدَّلائِل للفاسِي، رحِمَه اللهُ تعالى عنْدَ قوْلِه: كانَ إذا مَشَى تَعَلَّقَتِ الوُحوشُ بأَذْيالِهِ.

ومِن أَقْسامِ كانَ الناقِصَة أَنْ تأْتي بمَعْنَى صارَ: كقَوْلِه تعالَى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ.

قالَ ابنُ بَرِّي: ومنه قَوْلُه تعالى أَيْضًا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} ومنه قَوْلُه تعالى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ}؛ وقَوْلُه تعالى: {وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيبًا مَهِيلًا}؛ وقَوْلُه تعالى: {وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها}؛ أَي صِرْتَ إليها: وقَوْلُه تعالى: (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)؛ وقالَ شَمْعَلَةُ بنُ الأَخْضَر:

فَخَرَّ على الأَلأَةِ لم يُوَسَّدْ *** وقد كانَ الدِّماءُ له خِمارَا

* قلْتُ: ومنه أَيْضًا في حدِيثِ كَعْبٍ، رضِيَ اللهُ تعالى عنه: «كُنْ أَبا خَيْثَمَة»، أي صِرْهُ؛ يقالُ للرَّجُلِ يُرَى مِن بُعْد: كُنْ فُلانًا؛ أَي أَنْتَ فلانٌ، أَو هو فُلانٌ.

وقالَ أَبو العبَّاسِ: اخْتَلَفَ الناسُ في قوْلِهِ تعالىَ: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا}، فقالَ بعضُهم: كانَ هنا صِلَة، ومَعْناه كيفَ نُكَلِّمُ مَنْ هو في المَهْدِ صَبِيًّا؛ وقالَ الفرَّاءُ: كانَ هنا شَرْطٌ وفي الكَلامِ تَعجُّبٌ، ومَعْناه: مَنْ يَكُنْ في المَهْدِ صَبِيًّا فكيفَ يُكَلَّمُ؟.

وبمَعْنَى الاسْتِقْبالِ: كقَوْلِه تعالَى: يَخافُونَ يَوْمًا كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا، ومنه قَوْلُ الطرمَّاحِ:

وإنّي لآتِيكُم تَشَكُّرَ ما مَضَى *** من الأَمْرِ واسْتِنْجاز ما كانَ في غَدِ

وقَوْلُ سَلَمَة الجُعْفِيّ:

وكُنْتُ أَرَى كالمَوْتِ من بَيْنِ سَاعَةٍ *** فكيفَ بِبَيْنٍ كانَ مِيعادُه الحَشْرَا؟

وبمَعْنَى المُضِيِّ المُنْقَطِعِ وهي التَّامَّةُ كقَوْلِه تعالَى: وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ {يُفْسِدُونَ}، ومنه قَوْلُ أَبي الغول:

عَسَى الأَيامُ أَن يَرْجِعْ *** نَ قَومًا كالذي كانوا

أَي مَضَوْا وانْقَضَوا: وقَوْلُ أَبي زُبَيْدٍ:

ثم أَضْحَوْا كأَنَّهُم لم يَكُونوا *** ومُلُوكًا كانوا وأَهْلَ عَلاءِ

وبمَعْنَى الحالِ: كقَوْلِهِ تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ {أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ}؛ ورُوِي عن ابنِ الأَعْرابيِّ في تَفْسيرِ هذه الآيَة قالَ: أَي أَنْتُم خَيْر أُمَّةٍ، قالَ: ويقالُ مَعْناه {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} في عِلْمِ اللهِ.

وعليه خَرَّجَ بعضٌ قَوْلَه تعالى: {وَكانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا}، لأنَّ كانَ بمَنْزلَةِ ما في الحالِ، والمعْنَى: واللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ إلَّا أَنْ كَوْنَ الماضِي بمعْنَى الحالِ قَلِيلٌ. واحْتَجّ صاحِبُ هذا القَوْلِ بقَوْلِهم: غَفَرَ اللهُ لفلانٍ، بمعْنَى لِيَغْفِر اللهُ، فلمَّا كانَ في الحالِ دَليلٌ على الاسْتِقْبالِ وَقَعَ الماضِي مُؤَدِّيًا عنها اسْتِخْفافًا لأنَّ اخْتِلافَ أَلْفاظِ الأَفْعالِ إنَّما وَقَعَ لاخْتِلافِ الأَوْقاتِ؛ ومنه قَوْلُ أَبي جُنْدبٍ الهُذَليِّ:

وكنتُ إذا جارِي دعا لمَضُوفةٍ *** أُشَمِّرُ حتى يَنْصُفَ الساقَ مِئْزَرِي

وإنَّما يخبر عن حالِهِ لا عمَّا مَضَى مِن فِعْلِه.

وكَيْوانُ زُحَلُ مَمْنُوعٌ مِن الصَّرْفِ، والقَوْلُ فيه كالقَوْلِ في خَيْوانَ، والمانِعُ له مِن الصَّرْفِ العُجْمة، كما أنَّ المانِعَ لخَيْوان مِن الصَّرفِ إنَّما هو التّأْنِيثُ وإرادَةُ البُقْعَة أَو الأَرْض أَو القَرْجيَةِ، وسَيَأْتي.

وسَمْعُ الكِيانِ: كتابٌ للعَجَمِ.

قالَ ابنُ بَرِّي: هو بمَعْنَى سَماعِ الكِيانِ، وهو كتابٌ أَلَّفَه أَرَسْطو.

والاسْتِكانَةُ: الخُضوعُ والذّلُّ. جَعَلَهُ بعضُهم اسْتَفْعَلَ من الكَوْنِ، وجَعَلَهُ أَبو عليِّ مِنَ الكَيْنِ وهو الأشْبَهُ.

وقالَ ابنُ الأنْبارِي: فيه قَوْلان: أَحَدُهما: أَنَّه مِن السَّكِينَةِ وأَصْلُه اسْتَكَن افْتَعَلَ من سَكَنَ، فمُدَّتْ فتحةُ الكافِ بأَلفٍ؛ والثاني: أَنَّه اسْتِفْعالٌ من كانَ يكونُ.

والمَكانَةُ: المَنْزِلَةُ؛ نَقَلَهُ الجَوْهرِيُّ.

وتقدَّمَ كَلامُ ابنُ بَرِّي قَرِيبًا في الرَّدِّ عليه.

وقال الفناري في شرْحِ دِيباجَةِ المُطوَّلِ: إنَّ مِنَ العَجَبِ إيرادَ الجوْهرِيِّ المَكانَة في فصْلِ الكافِ مِن بابِ النونِ مع أَصالَةِ مِيمِها.

والتَّكَوُّنُ: التَّحَرُّكُ؛ عن ابنِ الأَعْرابيِّ، قالَ: وتَقُولُ العَرَبُ للبَغِيضِ: لا كانَ ولا تَكَوَّنَ؛ أَي لا خُلِقَ ولا تَحَرَّكَ؛ أَي ماتَ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

الكَوْنُ: واحِدُ الأكْوانِ مَصْدَرٌ بمعْنَى المَفْعول.

ولم يَكُ أَصْلُه يكونُ حُذِفَتِ الواوُ لالْتِقاءِ الساكِنَيْنِ، فلمَّا كَثُر اسْتِعمالُه حَذَفُوا النونَ تَخْفيفًا، فإذا تحرَّكَتْ أَثْبتُوها، قالوا: لم يَكُنِ الرَّجُلُ؛ وأَجازَ يونُسُ حذْفَها مع الحرَكَةِ، وأَنْشَدَ:

إذا لم تَكُ الحاجاتُ من همَّةِ الفَتى *** فليس بمُغْنٍ عنكَ عَقْدُ الرَّتائِمِ

ومِثْلُه ما حكَاه قُطْرُب: أنَّ يونُسَ أَجازَ لم يَكُ الرَّجُل مُنْطلقًا؛ وأَنْشَدَ للحَسَنِ بنِ عُرْفُطة:

لم يَكُ لحق سوى أَنْ هَاجَهُ *** رَسْمُ دارٍ قد تَعَفَّى بالسَّرَرْ

وحَكَى سِيبَوَيْه: أَنا أَعْرِفُكَ مُذْ كُنْتَ؛ أَي مُذْ خُلِقْتَ، والسَّكَوُّنُ؛ الحُدُوثُ، وهو مُطاوعُ كَوَّنَه اللهُ تعالى؛ وفي الحدِيثِ: «فإنَّ الشَّيْطانَ لا يَتَكَوَّنُني»؛ وفي رِوايَةٍ: لا يَتَكَوَّنُ على صُورَتِي.

وحَكَى سِيبَوَيْه في جَمْع مَكانٍ أَمْكُنٌ، وهذا زائِدٌ في الدَّلالَةِ على أَنَّ وَزْنَ الكَلِمةِ فَعَال دُونَ مَفْعَل.

وحَكَى الأَخْفَش في كتابِ القَوافِي: ويقُولُونَ أَزَيْدًا كُنْتَ له.

قالَ ابنُ جنِّي: إن سُمِعَ عنهم ذلِكَ ففيه دَلالَةٌ على جَوَازِ تقْدِيمِ خَبَر كانَ عليها.

وفي الحدِيثِ: «أَعُوذُ بكَ مِن الحَوْرِ بعْدَ الكَوْنِ»؛ قالَ ابنُ الأثيرِ: هو مَصْدَرُ كانَ التامَّةِ؛ والمعْنَى أَعُوذُ بكَ مِن النَّقْص بَعْدَ الوُجُودِ والثَّباتِ، ويُرْوَى: بَعْد الكَوْرِ، بالراءِ وقد تقدَّمَ.

قالَ ابنُ بَرِّي: وتأْتي كانَ بمَعْنَى اتِّصال الزَّمانِ مِن غَيْرِ انْقِطاعٍ، وهي الناقِصَةُ ويُعَبَّرُ عنها بالزائِدَةِ أَيْضًا، كقَوْلِه تعالى: {وَكانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا}؛ أَي لم يَزَلْ على ذلِكَ؛ وقَوْله تعالى: {إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا}؛ وقَوْله تعالى: {كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا}؛ ومنه قَوْلُ المُتَلَمس:

وكُنَّا إذا الجبَّارُ صَعَّرَ خَدَّه *** أَقَمْنا له من صَعْرِه فتَقَوَّما

قالَ: ومِن أَقْسام كانَ الناقِصَة: أَن يكونَ فيها ضَميرُ الشأْنِ والقِصَّةِ، وتُفارِقُها في اثني عَشَرَ وَجْهًا لأنَّ اسْمَها لا يكونُ إلَّا مُضْمرًا غَيْرُ ظاهِرٍ، ولا يَرْجع إلى مَذْكُورٍ، ولا يُقْصَدُ به شي‌ءٌ بعَيْنِه، ولا يُؤكَّدُ به، ولا يُعْطفُ عليه، ولا يُبْدلُ منه، ولا يُسْتَعْمل إلَّا في التَّفْخيمِ، ولا يُخَبَّر عنه إلّا بجُمْلةٍ، ولا يكونُ في الجمْلةِ ضَميرٌ، ولا يتقدَّمُ على كانَ.

قالَ: وقد تأْتي تكونُ بمَعْنَى كانَ، ومنه قَوْلُ جريرٍ:

ولقد يَكُونُ على الشَّبابِ بَصِيرَا

وقالَ ابنُ الأَعْرابيِّ: يقالُ كَنَتَ فُلانٌ في خَلْقِه وكانَ في خَلْقِه، فهو كُنْتِيٌّ وكانِيٌّ.

قالَ أَبو العبَّاسِ: وأَخْبَرني سَلَمَةُ عن الفرَّاء قالَ: الكُنْتِيُّ في الجِسْمِ والكَانِيُّ في الخُلُقِ.

وقالَ ابنُ الأعْرابيِّ: إذا قالَ كُنْتُ شابًّا وشُجاعًا فهو كُنْتِيٌّ، وإذا قالَ كانَ لي مالٌ فكُنْتُ أُعْطِي منه فهو كانِيٌّ. ورَجُلٌ كِنْتَأْوٌ: كثيرُ شَعَرِ اللّحْيةِ؛ عن ابنِ بُزُرْج، وقد تقدَّمَ ذلِكَ في الهَمْزَةِ.

وقالَ شَمِرٌ: تقولُ العَرَبُ: كأَنَّكَ واللهُ قدمُتَّ وصِرْتَ إلى كانَ، وكأَنَّكما مُتُّما وصِرْتُما إلى كانَ، وللثلاثَةِ كانوا: المعْنَى صِرْتَ إلى أَنْ يقالَ كانَ وأَنْتَ ميتٌ لا وأَنْتَ حَيٌّ؛ قالَ: والمعْنَى الحِكايَةُ على كُنْت مَرَّةً للمُواجَهَةِ ومَرَّةً للغائِبِ؛ ومنه قَوْلُه: وكلُّ امْرئٍ يومًا يَصِيرُ كانَ. وتقولُ للرَّجُلِ: كأَنِّي بكَ وقد، صِرْتَ كانِيًّا؛ أَي يقالُ كانَ والمرْأَة كانِيَّة، ولا يكونُ مِن حُرُوفِ الاسْتِثناءِ، تقولُ: جاءَ القَوْمُ لا يكونُ زَيْدًا، ولا تُسْتَعْمل إلَّا مُضْمرًا فيها، وكأنَّه قالَ: لا يكونُ الآتي زَيْدًا.

والكانونُ: إنَّ جعلْته من الكِنِّ فهو فاعُولٌ، وإنْ جعلْته فَعَلُولًا على تَقْديرِ قَرَبُوس فالأَلِفُ فيه أَصْلِيّة، وهي مِن الواوِ.

والمُكاوَنَةُ: الحَرْبُ والقِتالُ. وقَوْلُ العامَّة: كاني ماني اتباعٌ وهو على الحِكايَةِ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


192-تاج العروس (من)

[من]: ومَنْ، بالفتْحِ: اسمٌ بمعنى الذي، ويكونُ للشَّرْطِ، وهو اسمٌ مُغْنٍ عن الكَلامِ الكثيرِ المُتَناهي في البِعادِ والطُّولِ، وذلِكَ أَنَّك إذا قلْتَ مَن يَقُمْ أَقُمْ معه، كانَ كافِيًا عن ذِكْرِ جَمِيعِ النَّاسِ، ولولا هو لاحْتَجْتَ أَنْ تقولَ: إنْ يَقُمْ زَيْدٌ أَو عَمْرو أَو جَعْفَرُ أَو قاسِمُ ونَحْو ذلِكَ ثم تَقِفُ حَسِيرًا وتَبْقَى مَبْهُورًا ولمَّا تَجِدْ إلى غَرَضِكَ سَبِيلًا.

وتكونُ للاسْتِفهامِ المَحْضِ، ويُثَنَّى ويُجْمَعُ في الحِكايَةِ كقَوْلِكَ: مَنانِ ومَنُونَ ومَنْان ومَنَات، فإذا وَصَلُوا فهو في جَمِيعِ ذلِكَ مُفْردٌ مُذَكَّرٌ، قالَ: فأمَّا قَوْلُ الحارِثِ بنِ شَمِرٍ الضَّبِّيِّ:

أَتَوْا نارِي فقلتُ مَنُونَ؟ قالوا: *** سَرَاةُ الجِنِّ، قلتُ: عِمُوا ظَلامَا!

قالَ: فمَنْ رَوَاهُ هكذا أَجْرَى الوَصْل مُجْرَى الوَقْفِ، وإنَّما حَرَّكَ النونَ لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ ضَرُورَةٌ؛ قالَ: ومَنْ رَوَاهُ مَنُونَ أَنْتُم؟ فقالوا: الجِنّ، فأَمْرُه مشكلٌ، وذلِكَ أَنَّه شبَّه مَنْ بأَيٍّ، فقالَ: مَنُونَ أَنْتُم على قوْلِه: أَيُّونَ أَنْتُم؛ وإنْ شِئْتَ قلْتَ: كانَ تَقْدِيرَهُ مَنُونَ كالقَوْلِ الأوَّل ثم قالَ أَنْتُم؛ أَي أَنْتُم المَقْصُودُونَ بهذا الاسْتِثْباتِ.

وإذا قلْتَ: مَنْ عِنْدَكَ؟ أَغْناكَ ذلِكَ عن ذِكْرِ النَّاسِ، وتكونُ شَرْطِيَّةً، نحْو قَوْلِه تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}.

وتكونُ مَوْصُولَةً نَحْو قوْلِه تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}.

وتكونُ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، ولهذا دَخَلَتْ عليها ربَّ في قوْلِه:

رُبَّ مَن أنضجتُ غيظًا قلبَهُ *** قد تمنّى لي موتًا لم يُطَعْ

ووصف بالنّكِرَةِ في قَوْلِ بِشْر بنِ عبدِ الرحمنِ لكَعْبِ بنِ مالِكٍ الأنْصارِيِّ:

وكفَى بنا فَضْلًا على مَنْ غَيرِنا *** حُبُّ النَّبِيُّ محمدٍ إيَّانا

في رِوايَةِ الجَرِّ؛ وقَوْله تعالى: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا}، جَزَمَ جماعَةٌ أَنَّها نَكِرَةٌ مَوْصوفَةٌ، وآخَرُونَ أنَّها مَوْصُولَةٌ.

وتكونُ نَكِرَةً تامَّةً، نَحْو: مَرَرْت بمَنْ مُحْسِنٍ؛ أَي بإنْسانٍ مُحْسِنٍ.

وفي التهْذِيبِ عن الكِسائي: مَنْ تكونُ اسْمًا وجَحْدًا واسْتِفْهامًا وشَرْطًا ومَعْرفةً ونَكِرَةً، وتكونُ للواحِدِ والاثْنينِ والجَمْعِ، وتكونُ خُصوصًا، وتكونُ للإنْسِ والملائِكَةِ والجِنِّ، وتكونُ للبهائِمِ إذا خَلَطَّتها بغيرِها.

* قُلْت: أَمَّا الاسمُ المَعْرفَةُ فكَقَوْلِه تعالى: {وَالسَّماءِ وَما بَناها}؛ أَي والذي بَناها. والجَحْدُ، كقَوْلِه: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضّالُّونَ}، المعْنَى: لا يَقْنَطُ؛ وقيلَ: هي مَنْ الاسْتِفْهامِيَّة أشربَتْ معْنَى النَّفْي ومنه: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ}، ولا يَتَقيَّدُ جَوازُ ذلِكَ بأنْ يَتَقدَّمَها الواوُ خلافًا لبعضِهم بدَليلِ قَوْلِه تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلّا بِإِذْنِهِ}، والاسْتِفْهامُ نَحْو قَوْلِه تعالى: (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) ؟ والشَّرْطُ نَحْو قَوْلِه تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ)، فهذا شَرْطٌ وهو عامٌّ، ومَنْ للجماعَةِ نَحْو قَوْلِه تعالى: (وَمَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ). وأَمَّا في الواحِدِ فكقَوْلِه تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ)، وفي الاثْنَيْنِ كقَوْلِه:

تَعالَ فإنْ عاهَدْتَنِي لا تَخُونَني *** نَكُنْ مثلَ مَنْ يا ذِئبُ يَصْطَحِبانِ

قالَ الفرَّاءُ: ثَنَّى يَصْطَحِبان وهو فِعْلٌ لمَنْ لأنَّه نَواهُ ونَفْسَه. وفي جَمْعِ النِّساءِ نَحْو قوْلِه تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلّهِ وَرَسُولِهِ}.

وقالَ الرَّاغِبُ: مَنْ عبارَةٌ عنِ النَّاطِقِين ولا يُعَبَّرُ به عن غيْرِهِم إلَّا إذا جمعَ بَيْنهم وبينَ غيرِهم كقَوْلِكَ: رَأَيْت مَنْ في الدارِ مِنَ الناسِ والبَهائِمِ؛ أَو يكونُ تَفْصِيلًا لجملَةٍ يدخلُ فيها الناطِقُونَ كقَوْلِه، عزّ وجلّ: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي}، الآيَة. ويُعَبَّرُ به عن الواحِدِ والجَمْع والمُؤَنَّثِ والمُذَكَّرِ.

وفي الصِّحاحِ: اسمٌ لمَنْ يصلحُ أَنْ يُخاطَبَ، وهو مُبْهَمٌ غيرُ مُتَمكّن، وهو في اللفْظِ واحِدٌ ويكونُ في معْنَى الجماعَةِ، ولها أَرْبَعةُ مَواضِع: الاسْتِفهامُ نَحْو: مَنْ عِنْدَكَ؟ والخَبَرُ نَحْو رَأَيْت مَنْ عِنْدَكَ؟ والجَزاءُ نَحْو: مَنْ يُكْرِمْني أُكْرِمْهُ؛ وتكونُ نَكِرَةً وأَنْشَدَ قَوْلَ الأَنْصارِيّ: وكَفَى بنا فَضْلًا إلى آخِرِه.

قالَ: خَفَضَ غَيْر على الإتْباعِ لمَنْ، ويَجُوزُ فيه الرَّفْعُ على أَنْ تُجْعَل مَنْ صِلةً بإضْمارِ هو. قالَ: وتُحْكَى بها الأَعْلامُ والكُنَى والنّكِراتُ في لُغَةِ أَهْلِ الحجازِ إذا قالَ: رأَيْتُ زيدًا، قُلْتُ: مَنْ زيد، وإذا قالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا، قُلْت: مَنَا، لأنَّه نَكِرَةٌ، وإن قالَ: جاءَني رَجُلٌ قُلْتُ مَنُو، وإنْ قالَ: مَرَرْتُ برجُلٍ قُلْت مَنِي، وإن قالَ: جاءَني رجُلان، قُلْت مَنَانْ، وإن قالَ: مَرَرْتُ برَجُلَيْن، قُلْت مَنَينْ، بتَسْكِين النُّون فيهما.

وكذلكَ في الجَمْعِ: إنْ قالَ: جاءَني رِجالٌ، قُلْت مَنُونْ ومَنِينْ في النَّصْبِ والجرِّ، ولا يُحْكَى بها غيرُ ذلكَ، لو قالَ: رَأَيت الرَّجُلَ قُلْت: مَنِ الرَّجلُ، بالرَّفْعِ، لأنَّه ليسَ بعلم، وإن قالَ: مَرَرْتُ بالأَميرِ، قُلْت: مَنِ الأَمِيرُ، وإنْ قالَ: رَأَيْتُ ابن أَخِيكَ، قُلْت: مَنِ ابنُ أَخِيك، بالرَّفْعِ لا غَيْر؛ قالَ: وكذلِكَ إذا أَدْخَلْت حَرْفَ العَطْفِ على مَنْ رَفَعْتَ لا غَيْر، قُلْت: فَمَنْ زيدٌ ومَنْ زيدٌ، وإن وَصَلْتَ حَذَفْتَ الزِّيادَات، قُلْت: مَنْ هذا.

وتقولُ في المرأَةِ: مَنَةً ومَنْتانْ ومَنَاتْ، كُلُّه بالتَّسْكِين، وإن وَصَلْتَ قُلْت: مَنَةً يا هذا، ومَنَاتٍ يا هؤلاء.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

إذا جَعَلْتَ مَنْ اسْمًا مُتَمَكِّنًا شَددتَه لأنَّه على حَرْفَيْن كقَوْلِ خِطامٍ المُجاشِعيّ:

فرَحلُوها رِحْلَةً فيها رَعَنْ *** حتى أَنَخْناها إلى مَنٍّ ومَنْ

أَي إلى رَجُلٍ وأَيّ رَجُلٍ، يُريدُ بذلِكَ تَعْظِيمَ شَأْنِه، وإذا سَمَّيْتَ بمَنْ لم تشدِّدْ فقُلْتَ: هذا مَنٌ ومَرَرْتُ بمَنٍ.

قالَ ابنُ بَرِّي: وإذا سَأَلْتَ الرَّجلَ عن نَسَبِه قُلْتَ: المَنِّيُّ، وإن سَأَلْتَه عن بلْدَتِه قُلْتَ: الهَنِّيُّ؛ وفي حدِيثِ سَطِيح:

يا فاصِلَ الخُطَّةِ أَعْيَتْ مَنْ ومَنْ

قالَ ابنُ الأَثيرِ: هذا كما يُقالُ في المُبالغَةِ والتَّعْظِيمِ: أَعيا هذا الأَمْرُ فلانًا وفلانًا؛ أَي أَعْيت، كلَّ مَنْ جَلَّ قَدْرُه، فحذفَ، يعْنِي أنَّ ذلكَ ممَّا نقصرُ عنه العِبارَةُ لعظمِه كما حَذَفُوهَا مِن قوْلِهم: بعْدَ اللَّتيَّا واللَّتِي، اسْتِعْظامًا لشأْنِ المَخْلوقِ.

وحَكَى يونُسُ عن العَرَبِ: ضَرَبَ مَنٌ مَنًا، كقَوْلِكَ ضَرَبَ رَجُلٌ رَجُلًا.

وقَوْلهم في جَوابِ مَنْ قالَ: رَأَيْت زيدًا المَنِّيُّ يا هذا، فالمَنِّيُّ صفَةٌ غيرُ مُفِيدَةٍ، وإنَّما مَعْناهُ الإضافَة إلى مَنْ، لا يُخَصُّ بذلِكَ قَبيلَةٌ مَعْروفَةٌ، وكَذلكَ تقولُ: المَنِّيَّانِ والمَنِّيُّون والمَنِّيَّة والمَنِّيَّتانِ والمَنِّيَّات، فإذا وَصَلْتَ أَفْرَدْتَ على ما بَيَّنَه سِيْبَوَيْه.

وتكونُ مَنْ للاسْتِفهامِ الذي فيه معْنَى التَّعَجُّبِ نَحْو ما حَكَاه سِيْبَوَيْه مِن قوْلِ العَرَبِ: سُبْحان الله مَنْ هو وما هو؛ وقَوْل الشَّاعِرِ:

جادَتْ بكَفَّيْ كان مِنْ أَرْمَى البَشَرْ

يُرْوَى بفتْحِ الميمِ؛ أَي بكَفَّيْ مَنْ هو أَرْمَى البَشَر، وكانَ على هذا زَائِدَة، والرَّوايَةُ المَشْهورَةُ بكسْرِ الميمِ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


193-تاج العروس (أتي)

[أتي]: ي أَتَيْتُه أَتْيًا وإِتْيانًا وإِتْيانَةً، بكسرِهِما، ومَأْتاةً وأُتِيًّا، بالضَّمِّ كعُتِيِّ ويُكْسَرُ؛ اقْتَصَر الجَوْهرِيُّ على الأُولى والثَّانِيَةِ والرَّابِعَةِ، وما عَداهُنَّ عنِ ابنِ سِيدَه؛ جِئْتُه.

وقالَ الرَّاغِبُ: حَقيقَةُ الإِتْيانِ المَجِي‌ءُ بسُهُولةٍ.

قالَ السَّمين: الإِتْيانُ يقالُ للمَجِي‌ءِ، بالذَّاتِ وبالأَمْرِ والتَّدْبيرِ، وفي الخَيْرِ والشَّرِّ ومن الأوَّل قَوْله:

أَتَيْت المُرُوءَة من بابِها

وقَوْلُه تعالَى: {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلّا وَهُمْ كُسالى}؛ أَي لا يَتَعاطُونَ.

قالَ شَيْخُنا: أَتَى يَتَعدَّى بنَفْسِه؛ وقَوْلُهم: أَتَى عليه، كأَنَّهم ضَمَّنُوه معْنَى نَزَلَ، كما أَشارَ إِليه الجلالُ في عقودِ الزبرجدِ. وقالَ قوْمٌ: إنَّه يُسْتَعْملُ لازِمًا ومُتَعدِّيًا، انتَهَى.

وشاهِدُ الأَتْي قَوْلُ الشاعِرِ أَنْشَدَه الجَوْهرِيُّ:

فاحْتَلْ لنَفْسِكَ قَبْل أَتْيِ العَسْكَرِ

* قُلْتُ: ومِثْلُه قَوْلُ الآخر:

إِنِّي وأَتْيَ ابنِ علَّاقٍ ليَقْرِيَني *** كعائِطِ الكَلْبِ يَبْغي الطِّرْقَ في الذَّنَبِ

وقالَ اللَّيْثُ: يقالُ أَتاني فلانٌ أَتْيًا وأَتْيةً واحِدَةً وإِتْيانًا؛ فلا تقولُ إِتْيانَةً واحِدَةً إلَّا في اضْطِرارِ شِعْرٍ قَبيحٍ.

وقالَ ابنُ جنِّي: حُكِي أَنَّ بعضَ العَرَبِ يقولُ في الأَمْرِ مِنْ أَتى: تِ، فيَحْذفُ الهَمْزةَ تَخْفيفًا كما حُذِفَتْ من خُذْ وكُلْ ومُرْ، ومنه قَوْلُ الشاعِرِ:

تِ لي آلَ زيْدٍ فابْدُهم لي جماعَةً *** وسَلْ آلَ زيدٍ أَيُّ شي‌ءٍ يَضِيرُها

وقُرِئَ: يومَ تَأْتِ، بحذْفِ الياءِ كما قالوا لا أَدْرِ، وهي لُغَةُ هُذيْل؛ وأَمَّا قَوْلُ قَيْسِ بنِ زُهَيْر العَبْسيّ:

أَلَمْ يَأْتِيكَ والأَنْباءُ تَنْمِي *** بما لاقَتْ لَبُون بني زِيادِ؟

فإنَّما أَثْبَتَ الباءَ ولم يحذِفْها للجَزْمِ ضَرُورَةً، ورَدَّه إلى أَصْلِه.

قالَ المازِنيُّ: ويَجوزُ في الشِّعْرِ أَنْ تقولَ: زيْدٌ يرْمِيُكَ. برَفْعِ الياءِ، ويَغْزُوُك، برَفْعِ الواوِ، وهذا قاضِيٌ، بالتَّنْوينِ، فيجْري الحَرْف المُعْتَلّ مُجْرى الحَرْف الصَّحِيح في جَميعِ الوُجُوهِ في الأَسْماءِ والأَفْعَالِ جَمِيعًا لأنَّه الأَصْلُ، كذا في الصِّحاح.

وآتَى إليه الشَّي‌ءَ، بالمدِّ، إِيتاءً: ساقَهُ وجَعَلَه يَأْتِي إليه وآتى فلانًا شيئًا إيتاءً: أَعْطاهُ إِيَّاهُ؛ ومنه قَوْلُه تعالَى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ‌ءٍ}: أَرادَ، واللهُ أَعْلَم، أُوتِيْتَ مِن كلِّ شي‌ءٍ شيئًا. وقَوْلُه تعالَى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ}.

وفي الصِّحاح: آتاهُ أَتَى به؛ ومنه قَوْلُه تعالى: {آتِنا غَداءَنا}؛ أَي ائْتِنا به.

* قُلْتُ: فهو بالمدِّ يُسْتَعْملُ في الإِعْطاءِ وفي الإِتْيانِ بالشي‌ءِ.

وفي الكشافِ: اشْتَهَرَ الإِيتاءُ في مَعْنى الإِعْطاءِ وأَصْلُه الإِحْضارُ. وقالَ شيْخُنا: وذَكَرَ الرّاغبُ أَنَّ الإِيتاءَ مَخْصوصٌ بدَفْعِ الصَّدقَةِ؛ قالَ: وليسَ كَذَلِكَ فقد وَرَدَ في غيرِهِ: كـ {آتَيْناهُ الْحُكْمَ}، وآتَيْناهُ الكِتابَ، إلَّا أَنْ يكونَ قَصَد المَصْدَر فقط.

* قُلْتُ: وهذا غَيْرُ سَديدٍ، ونَصُّ عِبارَتهِ: إِلَّا أَنَّ الإِيتاءَ خُصَّ بدَفْعِ الصَّدَقَةِ في القُرْآنِ دُونَ الإِعْطاءِ قالَ تعالَى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ}. و {آتُوا الزَّكاةَ}؛ ووَافَقَه على ذلِكَ السَّمين في عمدَةِ الحفَّاظِ، وهو ظاهِرٌ لا غُبَارَ عليه، فتأَمَّل.

ثم بَعْدَ مدَّةٍ كَتَبَ إليَّ مِن بلدِ الخليلِ صاحِبُنا العلَّامَة الشَّهاب أَحْمَدُ بنُ عبْدِ الغنيّ التَّمِيميّ إمامُ مَسْجده ما نَصّه: قالَ ابنُ عبْدِ الحقِّ السّنباطيّ في شرْحِ نظمِ النقاية في علْمِ التَّفْسِيرِ منه ما نَصّه: قالَ الخويي: والإِعْطاءُ والإِيتاءُ لا يَكادُ اللُّغويُّونَ يُفَرِّقُونَ بَيْنهما، وظَهَرَ لي بَيْنهما فَرْقٌ يُنْبئُ عن بلاغَةِ كِتابِ اللهِ، وهو أَنَّ الإِيتاءَ أَقْوَى مِنَ الإِعْطاءِ في إثْباتِ مفْعولِه، لأنَّ الإِعْطاءَ له مُطاوعٌ بخِلافِ الإِيْتاءِ، تقولُ: أَعْطاني فعطوت، ولا يقالُ آتَاني فأتيت، وإنَّما يقالُ آتَاني فأَخَذْتُ، والفِعْلُ الذي له مُطاوعٌ أَضْعَفُ في إثْباتِ مَفْعولِه ممَّا لا مُطاوِعَ له، لأنَّك تقولُ قَطَعْته فانْقَطَعَ، فيدلُّ على أَنَّ فِعْلَ الفاعِلِ كانَ مَوْقوفًا على قُبولِ المَحلِّ، لولاه ما ثَبَتَ المَفْعُولُ، ولهذا لا يصحُّ قَطَعْته فما انْقَطَعَ، ولا يصحُّ فيمَا لا مُطاوعَ له ذلكَ؛ قالَ: وقد تَفَكَّرْت في مَواضِع مِنَ القُرْآنِ فوَجَدْت ذلِكَ مُراعىً، قالَ تعالى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ}، لأنَّ المُلْكَ شي‌ءٌ عَظيمٌ لا يُعْطاهُ إلَّا مَنْ له قُوَّةٌ؛ وقالَ: {إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ}، لأنَّه مورود في المَوْقفِ مُرْتَحِل عنه إلى الجنَّة، انتَهَى نَصُّه.

* قُلْتُ: وفي سِياقِه هذا عندَ التأَمُّل نَظَرٌ والقاعِدَةُ التي ذَكَرَها في المُطاوَعَةِ لا يَكادُ ينسحبُ حُكْمُها على كلِّ الأَفْعالِ، بل الذي يُظْهِرُ خِلافَ ما قالَهُ فإنَّ الإعْطاءَ أَقْوَى مِنَ الإيتاءِ، ولذا خَصَّ في دفْعِ الصَّدَقاتِ الإيتاءَ ليكونَ ذلِكَ بسُهولَةٍ من غَيْرِ تَطَلّعٍ إلى ما يَدْفَعه، وتَأَمَّل سائِرَ ما وَرَدَ في القُرْآنِ تَجِدُ مَعْنَى ذلِكَ فيه، والكَوْثَرُ لمَّا كانَ عَظِيمًا شَأْنَهُ غَيْر داخِلٍ في حِيطَةِ قدْرَةٍ بَشَريَّةٍ اسْتُعْمِل الإعْطاءُ فيه. وكَلامُ الأَئمَّة وسِياقُهم في الإيتاءِ لا يُخالِفُ ما ذَكَرْنا، فتأَمَّل والله أَعْلَم.

وآتَى فلانًا: جازَاهُ؛ وقد قُرِئَ قَوْلُه تعالى: {وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها}، بالقَصْر والمدِّ، فعلى القَصْرِ جئْنا، وعلى المدِّ أَعْطَينا، وقيلَ: جازَيْنا، فإنْ كانَ آتيْنا أَعْطَيْنا فهو أَفْعَلْنا، وإن كانَ جازَيْنا فهو فاعَلْنا.

وقَوْلُه تعالى: وَلا يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أَتى، قالوا في مَعْناه: أَي حيثُ كانَ، وقيلَ: مَعْناه حيثُ كانَ الساحِرُ يجبُ أَنْ يُقْتَلَ، وكَذلِكَ مَذْهَبُ أَهْلِ الفِقْه في السَّحَرةِ.

وطريقٌ مِئْتاةٌ، بالكسْرِ؛ كذا في النسخِ والصَّوابُ مِئْتاءٌ؛ عامِرٌ واضِحٌ؛ هكذا رَوَاهُ ثَعْلَب بالهَمْزِ قالَ: وهو مِفْعالٌ مِن أَتَيْت؛ أَي يَأْتِيه الناسُ؛ ومنه الحدِيثُ: «لو لا أنَّه وَعْدٌ حَقُّ وقولٌ صِدْقٌ وطريقٌ مِئْتاةٌ لحَزَنَّا عليكَ يا إبراهيمَ»؛ أَرادَ أَنَّ المْوتَ طَريقٌ مَسْلوكٌ، يَسْلُكُهُ كلُّ أَحدٍ.

قالَ السَّمين: وما أَحْسَن هذه الاسْتِعارَة وأَرْشَق هذه الإشارَة.

ورَوَاهُ أَبو عبيدٍ في المُصَنَّفِ: طريقٌ مِيتَاء بغيرِ هَمْزٍ، جَعلَه فِيعالًا.

قالَ ابنُ سِيدَه: فِيعالٌ مِن أَبْنيةِ المَصادِرِ، ومِيتاءُ ليسَ مَصْدرًا إنَّما هو صفَةٌ، فالصَّحِيحُ فيه ما رَوَاهُ ثَعْلَب وفَسَّره قالَ: وكان لنا أَنْ نَقولَ إنَّ أَبا عبيدٍ أَرادَ الهَمْزَ فتَرَكَه إلَّا أَنَّه عَقَدَ البابَ بِفِعْلاءَ ففَضَحَ ذاتَه وأَبانَ هِنَاتِه. وهو مُجْتَمَعُ الطَّريقِ أَيْضًا، كالمِيدَاءَ.

وقالَ شَمِرٌ مَحجَّتُه، وأَنْشَدَ ابنُ بَرِّي لحميدٍ الأَرْقَط:

إذا انْضَزَّ مِئْتاءُ الطَّريقِ عليهما *** مَضَتْ قُدُمًا برح الحزامِ زَهُوقُ

والمِيتاءُ: بمعْنَى التِّلْقاءِ. يقالُ: دارِي بمِيتاء دارِ فُلانٍ ومِيداءِ دارِ فُلانٍ؛ أَي تِلْقاءَ دارِهِ.

وبَنى القَوْمُ دارَهُم على مِيتاءٍ واحِدٍ ومِيداءٍ واحِدٍ.

ومَأْتَى الأَمْرِ ومَأْتاتُهُ: جِهَتُه ووَجْهُه الذي يُؤْتَى منه.

يقالُ: أَتَى الأَمْرَ من مَأْتاتِهِ؛ أَي مَأْتاهُ، كما تقولُ: ما أَحْسَنَ مَعْناةُ هذا الكَلامِ، تُريدُ مَعْناهُ؛ نَقَلَهُ الجوْهرِيُّ،، وأَنشَدَ للرَّاجزِ:

وحاجةٍ كنتُ على صُمِاتِها *** أَتَيْتُها وحْدِي على مَأْتاتِها

والإِتَى، كرِضًا؛ وضَبَطَه بعضٌ كعَدِيِّ، والأَتاءُ، كسَماءٍ، وضَبَطَه بعضٌ ككِساءٍ: ما يَقَعُ فِي النَّهْرِ من خَشَبٍ أَو وَرَقٍ، الجمع: آتاءُ، بالمدِّ.

وأُتِيٌّ، كَعُتِيّ، وكلُّ ذَلِكَ مِن الإتْيانِ. ومنه: سَيْلٌ أَتِيٌّ وأَتاوِيٌّ إذا كانَ لا يُدْرَى مِن أَيْنَ أَتى، وقد ذُكِرَ قَرِيبًا، فهي واوِيَّةٌ يائِيَّةٌ.

وأَتِيَّةُ الجُرْحِ، كعَلِيَّةٍ، وإئِتِّيَّتُه، بكسْرٍ فتَشْديدِ تاءٍ مكْسُورَةٍ وفي بعضِ النسخِ آتِيَتُه بالمدِّ؛ مادَّتُه وما يَأْتِي منه؛ عن أَبي عليِّ، لأنَّها تَأْتِيهِ مِن مَصَبِّها.

وأَتَى الأَمْرَ والذَّنْبَ: فَعَلَهُ.

ومِن المجازِ: أَتَى عليه الدَّهْرُ؛ أَي أَهْلَكَهُ؛ ومنه الأَتُو للمَوْتِ وقد تقدَّمَ.

واسْتَأَتَتِ النَّاقَةُ اسْتِئْتاءً: ضَبِعَتْ وأَرادَتِ الفَحْلَ.

وفي الأساسِ: اغْتَلَمَتْ أَن تُؤْتَى.

واسْتَأَتَّ زيْدٌ فلانًا: اسْتَبْطَأَهُ وسَأَلَهُ الإتْيانَ. يقالُ: ما أَتَيْناكَ حتى اسْتَأَتَيْناكَ إذا اسْتَبْطَؤُوهُ؛ كما في الأساسِ؛ وهو عن ابنِ خَالَوَيْه.

ورجُلٌ مِيتاءٌ: مُجازٍ مِعْطاءٌ، مِن آتاهُ جازَاهُ وأَعْطَاهُ، فعلى الأوَّل فاعَلَهُ، وعلى الثاني: أَفْعَلَهُ، كما تقدَّمَ.

وتَأَتَّى له: تَرَفَّقَ وأَتَاهُ مِن وَجْهِه؛ نَقَلَه الجَوْهرِيُّ، وهو قَوْلُ الأصْمَعيِّ.

وتَأَتَّى له الأَمْرُ: تَهَيَّأَ وتَسَهَّلَتْ طَرِيقُه، قالَ:

تَأَتَّى له الخَيْرُ حتى انْجَبَرْ

وقيلَ: التَّأَتِّي: التَّهَيؤُ للقِيامِ؛ ومنه قَوْلُ الأَعْشى:

إذا هي تَأَتَّى قَريب القِيام *** تَهادَى كما قد رأَيْتَ البَهِيرا

وأَتَيْتُ الماءَ وللماءِ تَأْتِيَةً، على تَفْعِلَةٍ، وتَأَتِّيًا، بالتَّشْديدِ: سَهَّلْتُ سَبِيلَه ووَّجَّهْتُ له مَجْرىً حتى جَرَى إلى مَقارِّهِ. ومنه حدِيثُ ظُبْيان في صفَةِ دِيارِ ثَمُود: «وأَتَّوْا جَداوِلَها»؛ أَي سَهَّلُوا طُرُقَ المِياهِ إليها.

وفي حدِيثٍ آخَر: رأَى رَجُلًا يُؤَتِّي الماءَ إلى الأرضِ؛ أَي يُطَرِّق كأَنَّه جعَلَه يَأَتي إليها، وأَنْشَدَ ابنُ الأعرابيِّ لأبي محمدٍ الفَقْعَسِيّ:

تَقْذِفهُ في مثلِ غِيطان النِّيهْ *** في كلِّ تِيهٍ جَدْول تُؤَتِّيهْ

وأُتِيَ فلانٌ، كعُنِيَ: أَشْرَفَ عليه العَدُوُّ ودَنا منه.

ويقالُ: أُتِيتَ يا فُلان إذا أُنْذِرَ عَدُوًّا أَشْرَفَ عليه، نَقَلَهُ الصَّاغانيُّ. وأَتَّى بمعْنَى حتَّى لُغَةٌ فيه.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

الأَتيْهُ: المرَّةُ الواحِدَةُ مِن الإِتيانِ.

والمِيتاءُ، كالمِيداءِ، مَمْدُودَانِ: آخِرُ الغايَةِ حيثُ يَنْتهِي إليه جَرْيُ الخَيلِ؛ نَقَلَهُ الجوْهرِيُّ.

ووَعْدٌ مَأْتِيٌّ: أَي آتٍ؛ كحجابٍ مَسْتُورٍ أَي ساتِرٍ، لأَنَّ ما أَتَيْته فقد أَتَاكَ.

قَالَ الجَوْهرِيُّ: وقد يكونُ مَفْعولًا لأنَّ ما أَتاكَ مِن أَمْرِ اللهِ فقد أَتَيْتَه أَنْتَ، وإِنَّما شُدِّدَ لأنَّ واوَ مَفْعولٍ انْقَلَبَتْ ياءً، لكَسْرةِ ما قَبْلها فأُدغِمَتْ في الياءِ التي هي لامُ الفِعْلِ.

وأتى الفَاحِشَةَ: تلَبَّسَ بها، ويُكَنَّى بالإتْيانِ عن الوَطْءِ؛ ومنه قَوْلُهُ تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ}، وهو مِن أَحْسَنِ الكِنايَاتِ.

ورجُلٌ مَأْتِيُّ: أَتى فيه، ومنه قَوْلُ بعضِ المُولّدين:

يَأْتي ويُؤْتَى ليسَ ينكرُ ذا ولا *** هذا كَذلِكَ إبْرة الخيَّاط

وقَوْلُه تعالى: {أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا}. قالَ أَبو إسْحاق: مَعْناهُ يُرْجِعُكُم إلى نَفْسِه.

وقَوْلُه، عزّ وجلّ: {أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ}؛ أَي قَرُبَ ودَنا إِتْيانُه.

ومِن أَمْثالِهم: مَأْتِيٌّ أَنْتَ أَيُّها السَّوادُ، أَي، لا بُدَّ لَكَ مِن هذا الأَمْرِ.

وأُتِيَ على يدِ فُلانٍ: إِذا هَلَك له مالٌ، قالَ الحُطيْئة:

أَخُو المَرْء يُؤْتَى دونه ثم يُتَّقَى *** بِزُبِّ الْلِّحَى جز الخُصى كالجَمامِحِ

قَوْلُه: أَخُو المَرْءِ؛ أَي أَخُو المَقْتُول الذي يَرْضَى مِن دِيَّةِ أَخيهِ بِتُيوسٍ طَوِيلَة اللِّحَى، يعْنِي لا خَيْر فيمَا دونه؛ أَي يُقْتَل ثم يُتَّقَى بِتُيوسٍ، ويقالُ: يُؤْتَى دونه أَي يُذْهَبُ به ويُغْلَبُ عليه؛ وقالَ آخَرُ:

أَتَى دون حُلْوِ العَيْشِ حتى أَمرَّه *** نُكُوبٌ على آثارِهنَّ نُكُوبُ

أَي ذَهَبَ بحُلْوِ العَيْشِ.

وقَوْلُه تعالى: {فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ}؛ أَي قَلَعَ بُنْيانَهم من قَواعِدِه وأَساسِه فهَدَمَه عليهم حتى أَهْلَكَهُم.

وقالَ السَّمين نَقْلًا عن ابنِ الأَنْبارِي في تَفْسيرِ هذه الآية: فأَتَى اللهُ مَكْرَهُم مِن أَجْله؛ أَي عَادَ ضَرَر المَكْر عليهم، وهل هذا مَجازٌ أَو حَقيقَةٌ؛ والمُرادُ به نمْرُوذ، أَو صَرْحه خَلافٌ، قالَ: ويُعَبَّرُ بالإِتْيانِ عن الهَلاكِ، كقَوْلهِ تعالى: {فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}.

ويقالُ: أَتى فلان من مَأْمَنِه: أَي جاءَهُ الهَلاكُ مِن جهَةِ أَمْنه.

وأُتِيَ الرَّجُل، كعُنِيَ: وهي وتغَيَّر عليه حِسُّه فتَوَهَّم ما ليسَ بصَحِيحٍ صَحيحًا.

وفَرَسٌ أَتيٌّ ومُسْتَأْتٍ ومُؤَتَّى ومُسْتَأْتَى، بغيْرِ هاءٍ: إِذا أَوْ دَقَتْ.

وآتِ: مَعْناه هَاتِ، دَخَلَتِ الهاءُ على الألِفِ.

وما أَحْسَنَ أَتْيَ يَدَي هذه الناقَة: أَي رَجْع يدَيْها في سَيْرِها.

وهو كرِيمُ المُؤَاتاةِ جَميلُ المُوَاسَاةِ: أَي حَسَن المُطَاوَعَةِ. وآتيْتُه على ذلِكَ الأَمْرِ: إِذا وَافَقْته وطاوَعْته. والعامَّةُ تقولُ: وأَتَيْتُه؛ كما في الصِّحاحِ.

وقيلَ: هي لُغَةٌ لأهْلِ اليَمَنِ، جَعَلُوها واوًا على تَخْفيفِ الهَمْزةِ.

ومنه الحدِيثُ: «خَيْرُ النِّساءِ المُواتِيَةُ لزَوْجِها».

وتَأَتَّى لمَعْرُوفِه: تَعَرَّضَ له، نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ.

وتَأَتى له بِسَهْمٍ حتى أَصَابَهُ: إِذا تَقَصَّدَه؛ نَقَلَهُ الزَّمَخْشرِيُّ.

وأَتَّى اللهُ لفلانٍ أَمْرَه تَأْتِيَةً هَيَّأَهُ.

ورجُلٌ أَتِيٌّ: نافِذٌ يتَأَتَّى للأُمورِ.

وآتَتِ النَّخْلةُ إِيتاءً: لُغَةٌ في أَتَتْ.

والآتي: النهيرُ الذي دونَ السّرى؛ عن ابنِ بَرِّي.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


194-تاج العروس (بقي)

[بقي]: ي بَقِيَ يَبْقَى بَقاءً، كرَضِيَ يَرْضَى.

قالَ شيْخُنا: قضيته أنَّه كضَرِبَ، ولا قائِلَ به، بل المَعْروفُ أنَّه كرَضِيَ.

وبَقَى بَقْيًا، وهذه لُغَةُ بلحارِثِ بنِ كَعْبٍ.

وقالَ شَيْخُنا: هي لُغَةُ طيِّي‌ءٍ.

وفي الصِّحاحِ: وطيِّئُ تقولُ بَقَا وبَقَتْ مَكَان بَقِيَ وبَقِيَتْ، وكَذلِكَ أَخَواتها مِنَ المُعْتَلِّ.

ضِدُّ فَنِيَ.

قالَ الرَّاغبُ: البَقاءُ ثَباتُ الشَّي‌ءِ على حالِةِ الأُولَى، وهو يُضادُّ الفَنَاء، والباقِي ضَرْبان: باقٍ بنَفْسِه لا إلى مدَّةٍ وهو البَارِي تعالى ولا يصحُّ عليه الفَنَاءُ؛ وباقٍ بغيرِهِ وهو ما عَداهُ ويصحُّ عليه الفنَاءُ؛ والباقِي باللهِ ضَرْبان: باقٍ بشَخْصِه وجزْئِهِ إلى أنْ يَشاءَ اللهُ أَن يَفْنيه كبَقاءِ الأَجْرامِ السَّماوِيَّةِ، وباقٍ بنَوْعهِ وجنْسِهِ دُونَ شَخْصِه وجزْئِه كالإنْسانِ والحَيَواناتِ، وكذا في الآخِرَةِ باقٍ بشخْصِه كأَهْلِ الجنَّةِ فإنَّهم يَبْقونَ على التَّأْبِيدِ لا إلى مُدَّةٍ، والآخَرُ بنَوْعِه وجِنْسِه كثِمارِ أَهْلِ الجنَّةِ، انتَهَى.

والبَقَاءُ عنْدَ أَهْلِ الحقِّ: رُؤْيَةُ العَبْدِ قِيَام الله على كلِّ شي‌ءٍ.

وأَبْقاهُ وبَقَّاهُ وتَبَقَّاهُ واسْتَبْقَاهُ، كُلُّ ذلِكَ بمعْنىً واحِدٍ.

وفي الحدَيثِ: «تَبَقَّهْ وتَوَقَّهْ»، هو أَمْرٌ من البَقاءِ والوِقاءِ، والهاءُ فيهما للسَّكتِ؛ أَي اسْتَبْق النفسَ ولا تُعَرِّضْها للهَلاكِ وتَحَرَّزْ مِن الآفاتِ.

والاسمُ البَقْوَى كدَعْوَى ويُضَمُّ؛ هذه عن ثَعْلَب؛ والبُقْيا، بالضَّمِّ ويُفْتَحُ.

قالَ ابنُ سِيدَه: إن قيلَ: لِمَ قَلَبَتِ العَرَبُ لامَ فَعْلَى إذا كانت اسْما وكان لامُها ياء واوًا حتى قالوا البَقْوَى وما أَشْبَه ذلك؟ فالجَوابُ: أنَّهم إنَّما فعلُوا ذلِكَ في فَعْلَى لأنَّهم قد قلَبُوا لامَ الفُعْلى إذا كانت اسْمًا، وكانت لامُها واوًا، ياء طلبًا للخِفَّةِ، وذلِكَ نَحْو الدُّنْيا والعُلْيا والقُصْيَا، وهي مِن دَنَوْتُ وعَلَوْتُ وقَصَوْتُ، فلمَّا قلبُوا الواوَ ياءً في هذا وفي غيرِهِ عوَّضُوا الواوَ مِن غلبَةِ الياءِ عليها في أَكْثَر المَواضِع في أنْ قلَبُوها في نَحْو البَقْوَى والتَّقْوَى واوًا، ليكونَ ذلِكَ ضَرْبًا من التَّعْوِيضِ ومِنَ التَّكافُؤ بَيْنهما، انتَهَى.

وشاهِدُ البَقْوَى قَوْلُ أَبي القَمْقامِ الأَسَدِيِّ:

أُذَكَّرُ بالبَقْوَى على ما أَصابَني *** وبَقْوايَ أَنِّي جاهِدٌ غَيْر مُؤْتَلِي

وشاهِدُ البُقْيا قَوْلُ اللَّعِين المنْقَريّ انْشَدَه الجَوْهرِيُّ:

فما بُقْيَا عليَّ تَرَكْتُماني *** ولكنْ خِفْتُما صَرَدَ النِّبالِ

والبَقِيّةُ، كالبَقْوَى.

وقد تُوضَعُ الباقِيةُ مَوْضِعَ المَصْدَرِ؛ قالَ اللهُ تعالى: {فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ}؛ أَي بَقَاء، كما في الصِّحاحِ وهو قَوْلُ الفرَّاءِ. ويقالُ: هلْ تَرَى منهم باقِيًا، كلُّ ذلِكَ في العربيَّة جائِزٌ حَسَنٌ.

ويقالُ: ما بَقِيَتْ باقِيَةٌ ولا وَقاهُم مِن الله واقِيَةٌ.

وقالَ الرَّاغبُ في تَفْسيرِ الآيَةِ: أَي مِن جماعَةٍ باقِيَةٍ؛ وقيلَ: مَعْناهُ بَقِيَّة. وقد جاءَ مِن المَصادِرِ ما هو على فاعِلٍ وما هو على بِناءِ مَفْعولٍ، والأَوَّل أَصَحّ، انتَهَى.

وقَوْلُه تعالى: بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ {لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}؛ أَي طاعَةُ اللهِ.

وقالَ أَبو عليِّ: أَي انْتِظارُ ثَوابِه لأنَّه إنَّما يَنْتَظِرُ ثَوابَه مَنْ آمَنَ.

أَو الحالَةُ الباقِيَةُ لَكُمْ من الخَيْرِ؛ قالَهُ الزجَّاجُ.

أَو ما أَبْقَى لَكُم من الحَلالِ؛ عن الفرَّاءِ؛ قالَ: ويقالُ مُراقَبَة اللهِ خَيْر لَكُم.

وقالَ الرَّاغِبُ: البَقِيَّةُ والباقِيَةُ كلُّ عِبادَةٍ يُقْصَدُ بها وَجْه اللهِ تعالى، وعلى هذا {بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ}، وأَضافَها إلى اللهِ تعالى.

وَالْباقِياتُ الصّالِحاتُ {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابًا}، قيلَ: كلُّ عَمَل صالِح يَبْقَى ثَوَابه. أَو هي قَوْلنا: سبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ ولا إله إلَّا اللهُ واللهُ أَكْبَرُ، كما جاء في حدِيثٍ. أَو الصَّلواتُ الخَمْسُ.

وقالَ الرَّاغبُ: والصَّحيحُ أنَّه كلُّ عِبادَةٍ يُقْصَد بها وَجْهُ اللهِ تعالى.

ومُبْقِياتُ الخَيْل؛ الأَوْلى المُبْقياتُ من الخَيْل، التي يَبْقَى جَرْيُها بعدَ؛ وفي المُحْكَم عنْدَ؛ انْقِطاعِ جَرْيِ الخَيْلِ.

وفي التَّهْذِيبِ: تُبْقِي بعضُ جَرْيها تَدَّخِره؛ قالَ الكَلحَبَةُ:

فأَدْرَكَ إبْقاءَ العَرادَةِ طَلْعُها *** وقد جَعَلَتْنِي من خزيمةَ إِصْبَعا

واسْتَبْقاهُ: اسْتَحْيَاهُ؛ نَقَلَهُ الجَوْهرِيُّ.

واسْتَبْقَى من الشَّي‌ءِ تَرَكَ بَعْضَه؛ نَقَلَهُ الجَوْهرِيُّ أَيْضًا.

وأَبو عبْدِ الرحمنِ بَقِيُّ بنُ مَخْلَدٍ بنِ يَزِيد القُرْطبيُّ، كرَضِيِّ؛ وضَبَطَه صاحِبُ النبراسِ كعَلِيِّ؛ والأشْهَرُ في وَزْنِه كغَنِي؛ حافِظُ الأنْدَلُسِ رَوَى عن محمدِ بنِ أَبي بكْرٍ المقدميّ وغيرِهِ، وله تَرْجمةٌ واسِعَةٌ، ومِن ولدِه قاضِي الجَماعَة الفَقِيهُ على مَذْهبِ أَهْلِ الحدِيثِ أَبو القاسِمِ أَحمدُ بنُ أَبِي الفَضْلِ يَزِيد بنِ عَبْدِ الرحمنِ بنِ أَحمدَ بنِ محمدِ بنِ أَحمدِ بنِ مَخْلدِ بنِ عَبْدِ الرحمنِ بنِ أَحمدَ بنِ بَقِيِّ، رَوَى عن أَبيهِ عن جَدِّه، وعنه أَبو عليِّ الحُسَيْنُ بنُ عبدِ العَزيزِ بنِ محمدِ بنِ أَبي الأَحْوَصِ القُرَشِيُّ وأَبو محمدٍ عبدُ اللهِ بنُ محمدِ بنِ هَارُون الطائِيُّ وهو آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عنه، وكِلاهُما شيخا أَبي حَيَّان، ويقالُ لهم البقويون نِسْبَة إلى جَدِّهم المَذْكُور.

وبَقِيَّةُ بنُ الولِيدِ: مُحدِّثٌ ضَعيفٌ يَرْوِي عن الكَذَّابِين ويدلسهم، قالَهُ الذهبيُّ في الدِّيوانِ؛ وقالَ في ذَيْلِه: هو صَدُوقٌ في نفْسِه حافِظٌ، لكنَّه يَرْوِي عمَّنْ دَبَّ ودرج فكَثُرَتِ المَناكِيرُ والعَجائِبُ في حدِيثِه؛ قالَ ابنُ خزيمَة: لا أَحْتَجّ بِبَقِيَّة؛ وقالَ أَحمدُ: له مَناكِيرٌ عن الثِّقاتِ؛ وقالَ ابنُ عَدِيِّ: لبَقِيَّة أَحادِيث صَالِحةَ ويُخالِفُ الثِّقاتَ وإذا رَوَى عن غيرِ الشَّامِيِّين خَلَطَ كما يَفْعَل إسْماعِيلُ بنُ عَيَّاش.

وبقِيَّةُ وبَقاءٌ اسْمانِ؛ فمِنَ الأوّل: بَقِيَّةُ بنُ شَعْبان الزَّهرانيُّ البَصْريُّ من أَتْباعِ التَّابعِين؛ ومِن الثاني: بَقاءُ بنُ بطر أَحدُ شيوخِ العِراقِ.

ومَنْ يكنى بأَبي البَقاءِ كَثيرٌ.

وأَبْقَيْتُ ما بَيْنَنا: لم أُبالِغْ في إفْسادِهِ، والاسمُ البَقِيَّةُ؛ قالَ الشاعِرُ:

إنْ تُذْنِبُوا ثم تَأْتِيني بَقِيَّتُكم *** فما عليَّ بذَنْبٍ منكُم فَوْتُ

وقَوْلُه تعالى: {فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ} أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ أَي أُولُو إِبْقاءٍ على أَنْفُسِهم لتَمَسّكِهم بالدِّيْن المَرْضي؛ نَقَلَهُ الأزْهرِيُّ.

أَو أُولُو فَهْمٍ وتَمْييزٍ؛ أَو أُولُو طاعَةٍ؛ كُلُّ ذلِكَ قد قيلَ.

وبَقاهُ بَقْيًا: رَصَدَهُ أَو نَظَرَ إليه؛ واوِيَّةٌ يائِيَّةٌ؛ ومنه حدِيثُ ابنِ عباسٍ، وصَلاةُ اللَّيلِ: «فبَقَيْتُ كيفَ يصلِّي النبيُّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم»؛ وفي رِوايَةٍ: «كَراهَةَ أَن يَرَى أنِّي كنتُ أَبْقِيه»؛ أَي أَنْظُره وأَرْصُده.

قالَ اللّحْيانيُّ: بَقَيْتُه وبَقَوْتُه نَظَرْتُ إليه؛ وأَنْشَدَ الأَحْمر:

كالطَّيْر تَبْقى مُتَدوّمَاتِها

يَعْنِي تَنْظُرُ إليها.

وفي الصِّحاحِ: بَقَيْتُه: نَظَرْتُ إليه وتَرَقَّبْتُه؛ قالَ كثيِّرٌ:

فما زلْتُ أَبْقي الظُّعْنَ حتى كأَنَّها *** أَواقِي سَدىً تَغْتالهُنَّ الحوائِكُ

أَي أَتَرَقَّبُ.

وفي الحدِيثِ: «بَقَيْنا رَسُولَ اللهِ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم»؛ أَي انْتَظَرْناه.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

مِن أَسْماءِ اللهِ الحُسْنَى: الباقِي، هو الذي لا يَنْتَهِي تَقْدِير وُجُودِهِ في الاسْتِقْبالِ إلى آخر يَنْتَهِي إليه، ويُعَبَّرُ عنه بأنَّه أَبَدِيُّ الوُجُودِ.

وبَقِيَ الرَّجُلُ زَمانًا طَويلًا: أَي عاشَ.

ويَقُولونَ للعَدُوِّ إذا غَلَبَ: البَقِيَّةَ أَي أَبْقُونا ولا تَسْتَأْصِلُونا؛ ومنه قَوْلُ الأعْشى:

قالوا البَقِيَّة والخَطْيُّ تَأْخُذُهم

وهو أَبْقَى الرَّجُلَيْن، فينا: أَي أَكْثَر إبْقاء على قَوْمِه.

وبَقِيَ من الشي‌ءِ بَقِيَّةٌ.

وأَبْقَيْتُ على فلانٍ إذا رَعَيْتَ عليه ورَحِمْتَه.

يقالُ: لا أَبْقَى اللهُ عليك إنْ أَبْقَيْتَ عليَّ؛ ومنه حدِيثُ الدُّعاءِ: «لا تُبْقِي على مَنْ تضرعُ إليها» أَي لا تُشفقُ أَي النَّار.

والباقِي: حاصِلُ الخرَاجِ ونحوِهِ؛ عن اللَّيْثِ.

والمُبْقِياتُ: الأَماكِنُ التي تُبْقِي فيها مِن مَناقِعِ الماءِ ولا تَشْربه؛ قالَ ذو الرُّمَّة:

فلما رَأَى الرَّائي الثُّرَيَّا بسُدْفةٍ *** ونَشَّتْ نِطافُ المُبْقِياتِ الوَقائِع

واسْتَبْقَى الرجلَ وأَبْقَى عليه: وجبَ عليه قَتْل فعَفَا عنه.

واسْتَبْقَيْتُ في مَعْنَى العَفْو عن زَللِه واسْتِبْقاء مودَّته؛ قالَ النابِغَةُ:

ولَسْتُ بمُسْتَبْقٍ أَخًا لا تَلُمُّه *** على شَعَثٍ أَيُّ الرِّجالِ المُهَذَّبُ؟

والبَقِيَّة: المُراقَبَةُ والطاعَةُ، والجَمْعُ البَقايا.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


195-تاج العروس (دنو)

[دنو]: ودَنا إليه ومنه وله يَدْنُو دُنُوًا، كعُلُوِّ، وعليه اقْتَصَر الجوهرِيُّ.

زادَ ابنُ سِيدَه: ودَناوَةً: قَرُبَ.

وقالَ الحرالي: الدُّنُوُّ القُرْبُ بالذاتِ أَو الحُكْم، ويُسْتَعْملُ في المَكانِ والزَّمانِ.

وأَنْشَدَ ابنُ سِيدَه لساعِدَةَ يَصِفُ جَبَلًا:

إذا سَبَلُ العَماءِ دَنا عليه *** يَزِلُّ برَيْدِهِ ماءٌ زَلُولُ

أَرَادَ: دَنا منه؛ كأَدْنَى؛ وهذه عن ابنِ الأعرابي.

ودَنَّاهُ تَدْنِيةً وأَدْنَاهُ: قَرَّبَهُ؛ ومنه الحدِيثُ: «إذا أَكَلْتُم فسَمُّوا اللهَ ودَنُّوا»؛ أَي كُلُوا ممَّا يَلِيكُم.

وفي حدِيثٍ آخر: «سَمُّوا وسَمِّتُوا ودَنُّوا»؛ أَي قارِبُوا بينَ الكَلِمَةِ والكَلِمَةِ في التَّسْبيحِ.

واسْتَدْناهُ: طَلَبَ منه الدُّنوَّ؛ أَي القُرْب.

والدَّناوَةُ: القَرابَةُ والقُرْبَى. يقالُ: بَيْنَهما دَناوَةٌ؛ أَي قَرابَةٌ. ويقالُ: ما تَزْدادُ منَّا إلَّا قُرْبًا ودَناوَةً.

والدُّنْيا، بالضَّمِّ: نَقِيضُ الآخِرَةِ، سُمِّيَت لدُنُوِّها؛ كما في الصِّحاحِ.

وفي المُحْكَم: انْقَلَبَتِ الواوُ فيها ياءً، لأنَّ فُعْلَى إذا كانتِ اسْمًا مِن ذواتِ الواوِ أُبْدلَتْ واوُه ياءً، كما أُبْدِلَتِ الواوُ مَكان الياءِ في فَعْلى، فأَدْخلُوها عليها في فُعْلى ليَتكَافآ في التَّغْييرِ؛ قالَهُ سِيْبَوَيْه وزِدْتُه أَنا بَيانًا.

وقالَ الليْثُ: إنَّما سُمِّيَت الدُّنْيا لأنَّها دَنَت وتأَخَّرَتِ الآخِرَةِ.

وقد تُنَوَّنُ إذا نُكِّرَتْ وزَالَ عنها الألِف واللَّام؛ وحَكَى ابنُ الأعرابيِّ: ما لَهُ دُنْيًا ولا آخِرَةٌ، فنَوَّنَ دُنْيًا تَشْبِيهًا لها بفعل؛ قالَ: والأصْلُ أن لا تُصْرَفَ لأنَّها فُعْلى.

قال شيْخُنا: وقد وَرَدَ تَنْوينها في رِوايَة الكشميهني كما حَكَاه ابنُ دحية وضَعَّفَه.

وقالَ ابنُ مالِكٍ: إنَّه مشكلٌ وأَطالَ في تَوْجِيهه.

الجمع: دُنًى، ككُبْرَى وكُبَر وصُغْرَى وصُغَر، وأَصْلُه دُنَوٌ، حُذِفَتِ الواوُ لاجْتِماعِ السَّاكِنَيْن؛ كما في الصِّحاحِ.

قالَ شيْخُنا: وقيلَ هو جَمْعٌ نادِرٌ غريبٌ عابَهُ صاحِبُ اليَتِيمَةِ على المُتَنبيِّ في قوْلِه:

أَعَزُّ مكانٍ في الدُّنَى سرجُ سابحٍ *** وخَيْرُ جَلِيسٍ في الزَّمانِ كِتابُ

ونَقَلَهُ الشَّهابُ في العنايةِ وأَقَرَّه فتأَمَّل.

* قُلْتُ: إنَّما أَرادَ المُتَنبيِّ في الدُّنْيا فحذَفَ الياءِ لضَرُورَةِ الشِّعْر، فتأَمَّل.

وقالوا: هو ابن عَمِّي أَو ابنُ خالِي، أَو ابنُ عَمَّتِي، أَو ابنُ خالِتي؛ هذه الثلاثَةُ عن اللحْيانيّ؛ أَو ابنُ أَخِي، أَو ابنُ أُخْتِي، هاتَانِ عن أَبي صَفْوان.

قال ابنُ سِيدَه: ولم يعْرفْها الكِسائيّ ولا الأصْمعيّ إلا في العَمِّ والخالِ.

دِنْيَةً ودِنْيًا، بكسْرِهما مُنَوَّنَتَيْن، ودُنْيا، بالضَّمِّ غَيْر مُنَوَّنَة، ودِنْيا، بالكسْرِ غَيْر منوَّنَة أَيْضًا؛ وقالَ الكِسائيُّ: هو عمه دُنْيَا، مَقْصورٌ، ودِنْيَةً ودِنْيًا، منوَّنٌ وغَيْرُ مُنوَّنٍ.

وفي الصِّحاحِ: هو ابنُ عمِّ دِنْيٍ ودُنْيَا ودِنْيا، ودُنْيا إذا ضَمَمْتَ الدَّال لم تجرِ، وإذا كَسَرْتَ إنْ شِئْتَ أَجْرَيْت وإنْ شِئْتَ لم تجرِ، فأَمَّا إذا أَضَفْتَ العمَّ إلى مَعْرِفةٍ لم يَجُزِ الخَفْض في دِنْي، كقَوْله: هو ابنُ عَمِّه دِنْيا* ودِنْيةٌ؛ أَي لَحًّا، لأنَّ دِنْيًا نَكِرةٌ فلا يكونُ نَعْتًا لمعْرفَةٍ، انتَهَى.

قالَ ابنُ سِيدَه: وإنَّما انْقَلَبتِ الواوُ في دِنْيًا ودِنْيةٍ ياٍءً لمجاوَرَةِ الكَسْرةِ وضعفِ الحاجِزِ، ونَظِيرُهُ قِنْيَةٌ وعِلْيَةٌ، وكأنَّ أَصْلَ الكُلِّ دُنْيا، والمَعْنى رَحِمًا أَدْنى إِليَّ مِن غيرِها، وإنَّما قَلَبُوا ليَدُلَّ ذلكَ على أنَّه ياءُ تأْنيثِ الأَدْنَى، ودِنْيَا داخِلَة عليها.

ودانَيْتُ القَيْدَ للبَعيرِ: ضَيَّقْتُه عليه.

وناقَةٌ مُدْنِيَةٌ ومُدْنٍ، كمُحْسِنَةٍ ومُحْسِنٍ: دَنا نِتاجُها؛ وكذا المَرْأَةُ وقد أَدْنَتْ.

والدَّنِيُّ مِن الرِّجالِ، كغَنِيَّ: السَّاقِطُ الضَّعِيفُ الذي إذا آواه اللَّيْل لم يَبْرَحْ ضَعْفًا، والجَمْعُ أَدْنِياهُ.

وما كانَ دَنِيًّا، ولقد دَنِيَ يَدْنَى، كرَضِيَ يَرْضَى، دَنًا بالفتْحِ مَقْصورًا، ودَنايَةً، كسَحابَةٍ، الياءُ فيه مُنْقَلبَةٌ عن الواوِ لقُرْبِ الكَسْرةِ، كُلُّه عن اللحْيانيّ.

وفي التَهْذيبِ: دَنا ودَنُؤَ، مَهْموزٌ وغَيْر مَهْموزٍ.

وقالَ ابنُ السِّكِّيت: دَنَوْتُ مِن فلانٍ أَدْنُو دُنُوًّا.

وما كنتُ دَنِيًّا ولقد دَنَوْت تَدْنُو، غيْر مَهْموزَةٍ، دَناءَةً مَصْدَره مَهْموز.

وما تَزْدادُ منَّا إلَّا قُرْبًا ودَناوَةً.

قالَ الأزهرِيُّ: فرقَ بينَ مَصْدرِ دَنا ودَنُؤَ، كما تَرى فجَعَلَ مَصْدَر دَنا دَناوَةً ومَصْدر دَنُؤَ دَناءَةً، قالَ: ويقالُ لقَدْ دَنَأْت تَدْنًا، مَهْموزًا؛ أَي سفلت في فِعْلِكَ ومَجنْت.

والدَّنا، بالفتْحِ مَقْصورًا: موضع بالبادِيَةِ؛ قالَهُ الجوهرِيُّ. وقالَ نَصْر: مِن دِيارِ تمِيمٍ بينَ البَصْرةِ واليَمامَة؛ وأَنْشَدَ الجوهرِيُّ:

فأَمْواهُ الدَّنا فعُوَيْرِضاتٌ *** دَوارِسُ بعدَ أَحْياءٍ حِلالٍ

وفي المُحْكَم: أَنَّه أَرْضٌ لكَلْب؛ وأَنْشَدَ لسَلامَة بنِ جَنْدل:

من أَخْدَرِيَّاتِ الدَّنا التَفَعَتْ له *** بُهْمَى الرِّقاعِ ولَجَّ في إِحْناقِ

والأَدْنَيانِ: وادِيانِ؛ كما في الصِّحاحِ.

ولَقِيتُه أَدْنَى دَنِيِّ، كغَنِيِّ، وأَدْنَى دَنًا، بالفتْحِ مَقْصُور؛ أَي أَوَّلَ شي‌ءٍ.

قال الجَوْهرِي: والدَّنيُّ القَرِيبُ وأَمَّا الذي بمعْنَى الدُّونِ فمَهْموزٌ.

وأَدْنَى الرَّجُلُ ادْناءً: عاشَ عَيْشًا ضَيِّقًا بعْدَ سَعَةٍ؛ عن ابنِ الأعرابيِّ.

ودَنَّى في الأُمورِ تَدْنِيَةً: تَتَّبَع صَغيرَها وكَبيرَها، هكذا في النسخِ والصَّوابُ وخَسِيسَها، كما هو نَصَّ الجَوهرِيُّ.

وفي المُحْكَم عن اللّحْيانيّ: دَنَّى طَلَبَ أَمْرًا خَسِيسًا.

وفي التَّهْذيبِ: يقالُ للرَّجُلِ إذا طَلَبَ أَمْرًا خَسِيسًا: قد دَنَّى يُدَنَّى تَدْنِيَةً.

وتَدَنَّى فلانٌ: أَي دَنا قَلِيلًا؛ نَقَلَهُ الجَوهرِيُّ.

وتَدَانَوْا: أَي دَنا بعضُهم من بعضٍ؛ نقلَهُ الجوهرِيُّ أَيْضًا.

ودانِيَةُ: بالمَغْرِب في شَرْقي الأَنْدَلُس ليسَ بساحِلِ البَحْر، منه جماعَةٌ عُلماءُ، منهم: أَبو عَمْرٍو عُثْمانُ بنُ سعيدِ بنِ عُثْمان الأُمَويُّ مَوْلاهم المُقْرِئُ القُرْطبيُّ، سَكَنَ دانِيَةَ، وُلِدَ سَنَة 372، وسَمِعَ الحدِيثَ بالأَنْدَلُس ورَحَلَ إلى المَشْرِق قبْلَ الأَرْبعمائَة وعادَ إلى الأَنْدَلُس فتَصَدَّرَ بالقِرَاآتِ وانْتَفَعَ النَّاسُ بكُتُبِه انْتِفاعًا جيِّدًا، وتُوفي بدانِيَةَ سَنَة 444.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

دنى تَدْنِيَةً: إذا قربَ؛ عن ابنِ الأعْرابيِّ.

ودَنَتِ الشمسُ للغُروبِ وأَدْنَتْ.

والعَذابُ الأدْنَى: كلُّ ما يُعَذَّبُ به في الدُّنْيا؛ عن الزجَّاج.

ودانَيْتُ الأَمْرَ: قارَبْتَه.

ودانَيْتُ بَيْنَ الأمْرَيْن: قارَبْت وجَمَعْت.

ودَانَى القَيْدُ قَيْنَيِ البَعيرِ: ضَيَّقَ عليه؛ قالَ ذو الرُّمَّة:

دَانَى له القَيْدُ في دَيْمُومَةٍ قُذُفٍ *** قَيْنَيْهِ وانْحَسَرَتْ عَنْهُ الأَناعِيمُ

وقولُ الراجز:

ما لي أَراهُ والفًا قَدْ دُنْيَ لهْ

إنما أَرادَ قد دُنِيَ له، وهو مِن الواوِ مِن دَنَوْتُ، ولكنَّها قُلِبَتْ ياء لانْكِسارِ ما قَبْلها ثم أُسْكِنَتْ النُّون.

قالَ ابنُ سِيدَه: ولا أَعْلَم دُنْيَ بالتَّخْفِيفِ إلَّا في هذا البيتِ، وكانَ الأصْمعيُّ لا يَعْتَمِدُ هذا الرَّجْز، ويقولُ هو مِن رَجَز المولّدِين.

وتَدانَتِ إبِلُ الرَّجُلِ: قَلَّتْ وضَعُفَتْ؛ قالَ ذو الرُّمَّة:

تباعَدَ منِّي أَنْ رأَيْتَ حَمُولِتي *** تَدانَتْ وأَنْ أَخْنَى عليكَ قَطِيعُ

والمُدَنِّي، كمُحَدِّثٍ: الضَّعيفُ الخَسِيسُ الذي لا غَناءَ عنْدَه، المُقَصِّرُ في كلِّ ما أَخَذَ فيه؛ نقلَهُ الأزْهرِيُّ وأَنْشَدَ:

فلا وأَبِيكِ ما خُلُقي بوَعْرٍ *** ولا أَنا بالدَّنيِّ ولا المُدَنيِّ

والدَّنِيَّةُ، كغَنِيَّةٍ: الخَصْلَةُ المَذْمومةُ، والأصْلُ فيه الهَمْز، ولكنَّه يُخَفَّف.

والجَمْرَةُ الدُّنْيا: هي القَرِيبَةُ من مِنيّ.

والسَّماءُ الدُّنْيا: هي القرْبَى إلينا. ويقالُ: سَماءُ الدُّنْيا بالإِضَافَةِ.

وادَّنَى ادّناءً، افْتَعَل مِن الدُّنُوِّ، أَقربَ.

ويُعَبَّرُ بالأدْنى تارَةً عن الأصْغَر فيقابَلُ بالأكْبَر، وتارَةً عن الأَرْذَل فيُقابَلُ بالخَيِّر، وتارَةً عن الأَوَّل فيُقابَلُ بالآخرِ، وتارَةً عن الأَقْرَبِ فيُقابَلُ بالأَقْصَى.

وأَدْنَيْتُ السِّتْرَ: أَرْخَيْته.

وأَبو بكْرِ بنُ أَبي الدُّنْيا: محدِّثٌ مَشْهورٌ.

والنِّسْبَةُ إلى الدُّنْيا: دُنْياوِيٌّ؛ وكذا إلى كلِّ ما مُؤَنَّثُه نَحْو حُبْلَى ودَهْناء.

قال الجَوهرِيُّ: ويقالُ دُنْيَوِي ودُنَيِيٌّ. والدُّنْياتَيْن، بالضمِّ: مُثَنَّى الدُّنْيا مَلَاوِي العود لُغَةٌ مُولَّدَة مُعَرَّبَة؛ نَقَلَهُ الشيخُ عبْدُ القادِرِ البَغْدادِيُّ في بعضِ رَسائِلِه اللّغَويَّة، واسْتَدَلَّ بقولِ أَبي طالبٍ محمدِ بنِ حسَّان المُهذّب الدِّمَشْقيّ في بعضِ منشآته: خَبِير بشَدِّ دُنْياتَيْن الأَلْحان، بَصِير بحلِّ عُرَى النَّغَمات الحِسَان.

* قُلْتُ: الصَّحيحُ أَنَّه تَصْحِيفُ الدّساتين، وهذه قد ذَكَرَها الشهابُ الخفاجيّ في ديوانِ الأدَبِ، فتأَمَّل.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


196-تاج العروس (طوي)

[طوي]: ي طَوَى الصَّحيفَةَ يَطْويها طَيًّا، فالطَّيُّ المَصْدَرُ، وهو نَقِيضُ نَشَرَها، فاطَّوَى، على افْتَعَلَ، نقلَهُ الأزْهري، وانْطَوَى، نقلَهُ الجوهريُّ وابنُ سِيدَه.

وإنَّهُ لحَسَنُ الطِّيَّةِ، بالكَسْرِ، يُرِيدُونَ ضَرْبًا من الطَّيِّ كالجِلْسَةِ والمِشْيَةِ؛ قالَ ذو الرُّمَّة:

كما تُنَشَّرُ بعدَ الطِّيَّةِ الكُتُبُ

فكسرَ الطاءَ لأنَّه لم يُرِدْ بهِ المَرَّة الواحِدَة.

ومِن المجازِ: طَوَى عنِّي الحديثَ والسِّرَّ: كَتَمَهُ.

ويقالُ: اطْوِ هذا الحديثَ أَي اكْتُمْه.

ومِن المجازِ: طَوَى كَشْحَهُ عنِّي: إذا أَعْرَضَ مُهاجِرًا؛ وهو كقوْلِهم: ضَرَبَ صَفْحَهُ عَنِّي؛ وفي الصِّحاح: أَعْرَضَ بودِّهِ؛ وفي المُحْكم: مَضَى لوَجْهِه؛ وأَنْشَدَ:

وصاحِبٍ قد طَوَى كَشْحًا فقُلْتُ له *** إنَّ انْطِواءَكَ هذا عَنْكَ يَطْوِيني

وطَوَى القَوْمَ: جَلَسَ عِنْدَهُم. يقالُ: مَرَّ بنا فطَوَانا؛ أَي جَلَسَ عِنْدَنا. أَو طَوَاهُم إذا أَتاهُم؛ أَو إذا حازَهُمْ، كِلاهُما عن ابنِ الأعرابيِّ؛ وكلُّ ذلكَ مجازٌ.

ومِن المجازِ: طَوَى كَشْحَهُ على أَمْر: إذا أخْفاهُ.

وفي المُحْكم: أَضْمَرَهُ وعَزَمَ عليه، قال زهيرٌ:

وكانَ طَوَى كَشْحًا على مُسْتَكِنَّةٍ *** فَلا هُوَ أَبْداها ولم يَتَقَدَّمِ

ومِن المجازِ: طَوَى البلادَ طَيًّا إذا قَطَعَها بَلَدًا عن بَلَدٍ.

ومِن المجازِ: طَوَى اللهُ البُعْدَ لنا: قَرَّبَهُ؛ وفي التَّهذيبِ: البَعِيدَ.

والأَطْواءُ في النَّاقَةِ: طَرائِقُ شَحْمِ سَنامِها.

وقالَ اللَّيْثُ: طَرائِقُ جَنْبَيْها وسَنامِها طَيٌّ فوْقَ طَيٍّ.

والأطْواءُ: قرية باليِمامَةِ قُرْبَ قرقرى ذات نَخْلٍ وزَرْعٍ كَثيرٍ؛ قالَ ياقوتُ: كأَنَّه جَمْعُ طَوِيٍّ وهو البِئْرُ المَبْنِيَّة.

ومَطاوِي الحَيَّة والأَمْعاءِ والشَّحْمِ والبَطْنِ والثَّوْبِ: أطْواؤُها، الواحِدُ مَطْوَى؛ كذا في التّهذيبِ.

وفي المُحْكم: أطْواءُ الثَّوْبِ والصَّحيفَةِ والبَطْنِ والشَّحْمِ والأَمْعاءِ والحيَّةِ وغَيْر ذلكَ: طَرائِقُه ومَكاسِرُ طَيِّه، واحِدُها طِيٌّ، بالكَسْر وبالفَتْح، وطِوىً.

وفي الأساسِ: وَجَدْتُ في طَيِّ الكِتابِ وفي أطْواءِ الكُتُبِ ومَطاوِيها كذا، وللحيَّة أطْواءٌ ومَطاوٍ؛ وما بَقِيَتْ في مَطاوِي أمْعائِها ثميلةٌ.

وطُوِيَ، بالضَّمِّ والكسر ويُنَوَّنُ: وادٍ بالشَّامِ؛ وبه فُسِّر قوْلُه تعالى: {إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً}، التَّنْوِين قِراءَةُ حَمْزة والكِسائي وعاصِم وابنِ عامِرٍ.

وفي الصِّحاح: طُوىً اسْمُ مَوْضِعٍ بالشام، يُكْسَرُ ويُضَمُّ ويُصْرَفُ ولا يُصْرَفُ، فمن صَرَفَه جَعَلَه اسْمَ وادٍ ومكانٍ وجعلهُ نكرَةً، ومن لم يَصْرِفْه جَعَلَه اسْمَ بَلْدةٍ وبُقْعَةٍ وجَعَلَه مَعْرفَةً، انتَهَى.

وقالَ الزجَّاجُ: في طُوىً أَرْبَعَة أَوْجُهٍ: ضَمّ أَوَّلهِ وكسْره مُنوّنًا وغَيْر مُنَوَّن، فمن نَوَّن فهو اسْمُ الوادِي وهو مُذكَّر سُمِّي بمذكَّرٍ على فُعَلٍ كحُطَمٍ وصُرَدٍ.

وسُئِلَ المبرِّدُ عن وادٍ يقالُ له طُوىً: أَنَصْرِفُه؟ قالَ: نعم لأنَّ احدى العِلَّتين قد انْخَرَمَتْ عنه.

وفي المُحْكم: طُوىً، بالضمِّ والكَسْر: جَبَلٌ بالشام أَو وادٍ في أَصْلِ الطُّور، فمن لم يَصْرْفه فلوَجْهَيْن: أَحَدُهما أَن يكونَ مَعْدولًا عن طاوٍ فيَصير كعُمَرَ المَعْدولِ عن عامِرٍ؛ والثاني: أَنْ يكونَ اسْمًا للبُقْعةِ، ومن ضَمَّ ونَوَّنَ جَعَلَهُ اسْمًا للوادِي أَو للجَبَلِ مُذكَّرًا سُمِّي بمذكَّرٍ، ومَنْ كَسَر ونَوَّنَ فهو كمِعىً وضِلَعٍ.

وفي الصِّحاح: قالَ بعضُهم: طُوىً مِثْل طِوىً، وهو الشي‌ءُ المَثْنِيُّ؛ وقالوا في قوْلِه تعالى: {الْمُقَدَّسِ طُوىً}؛ أَي طُويَ مَرَّتَيْن أَي قُدِّسَ.

وقالَ الحَسَنُ: ثُنِيَتْ فيه البَرَكَةُ والتَّقْدِيسُ مَرَّتَيْن.

وقال الرَّاغبُ: مَعْناه نادَيْته مَرَّتَيْن.

وذُو طُوَى، مُثَلَّثَةَ الطَّاءِ ويُنَوَّنُ: موضع قُرْبَ مكَّةَ، يُعْرفُ الآنَ بالزَّاهرِ؛ واقْتَصَرَ الجوهريُّ كغيرِهِ على الضَّم.

وذَكَرَ التَّثْلِيث السَّهيلي في الرَّوْض قالَ: والفَتْح أَشْهَر مَقْصور مُنَوَّن وقد لا يُنَوَّنُ، يُرْوَى أَنَّ آدَمَ، عليه‌السلام، كان إذا أَتَى البَيْتَ خَلَعَ نَعْلَيْه بذي طُوَى.

والطَّوِيُّ، كغَنِيٍّ: بئْرٌ بها بأَعْلاها حَفَرَها عبدُ شَمْس ابنُ عَبْد مَناف.

وأَيْضًا: الحُزْمَةُ من البُرِّ، كذا في النسخِ، وفي التكْملَةِ: من البُزِّ.

وأَيْضًا: السَّاعَةُ من اللّيْلِ. يقالُ: أَتَيْتُه بَعْد طَوِي من اللّيْلِ؛ نقلَهُ ابنُ سِيدَه.

والطَّوِيَّةُ، بهاءٍ: الضَّميرُ لأنَّه يُطْوَى على السرِّ، أَو يُطْوَى فيه السِّرُّ. والطَّوِيَّةُ: النِّيَّةُ، كالطِّيَّةِ، بالكسْرِ. يقالُ: مَضَى لطِيَّتِه؛ أَي لنِيَّتِه التي انْتَواها.

والطَّوِيَّةُ: البِئْرُ المَطْوِيَّةُ بالحِجارَةِ، جَمْعُه أَطْواءٌ.

والذي في الصِّحاح والمُحْكم: الطَّوِيُّ: البِئْرُ المَطْوِيَّةُ؛ ولم أَرَ أَحَدًا ذَكَرَ فيه الطَّوِيَّة.

قالَ ابنُ سِيدَه: مُذَكَّر فإنْ أُنِّثَ فَعَلى المَعْنى فكانَ المُناسِبُ أن يقدَّم ذِكْرُه على الطَّوِيَّة.

والطَّايَةُ: السَّطْحُ؛ نقلَهُ الجوهريُّ؛ زادَ الأزْهريُّ: الذي ينامُ عليه.

وأَيْضًا: مِرْبَدُ التَّمْرِ؛ نقلَهُ الجوهريُّ.

وأَيْضًا: صَخْرَةٌ عَظيمَةٌ في أَرْضٍ ذاتِ رَمْلٍ، أَو التي لا حِجارَةَ بها؛ نقلَهُ ابنُ سِيدَه.

ورَجُلٌ طَيَّانٌ: لم يأْكُلْ شيئًا. وقد طَوِيَ، كَرضِيَ، طِوًى، بالكسْرِ والفَتْح معًا عن سِيْبَوَيْه وأَطْوَى فهو طاوٍ وطَوٍ خَمْصَ، فإنْ تَعَمَّدَ ذلك فَطَوَى يَطْوِي طَيًّا، كرَمَى؛ نقلَهُ الجوهريُّ وابنُ سِيدَه والأَزْهريُّ؛ وهي طَيَّ وطاوِيَةٌ، جَمْعُ الكُلِّ طِوَاءٌ.

والطَّوَى، كعَلَى: السِّقاءُ طُوِيَ وفيه بَلَلٌ فتَقَطَّع؛ وقد طَوِي طَوًى، فكأَنَّه سُمِّي بالمَصْدرِ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

طَوَى الثَّوْبَ طِيّةً، بالكسْرِ، وطِيَّةً، كعِدَةٍ، وهذه عن اللّحْياني وهي نادِرَةٌ، وحَكى: صَحِيفةٌ جافِيَةُ الطِّيَةِ، بالتَّخْفيفِ أَيْضًا؛ أَي الطَّيّ.

وطَوَيْته فتَطَوَّى، وحكى سِيْبَوَيْه: تَطَوَّى انْطِواءً، وأَنْشَدَ:

وقد تَطَوَّيْتُ انْطِواءَ الخِصْبِ

لضَرْبٍ من الحيَّاتِ، أَو الوَتَر.

والطاوِي مِن الظِّباءِ: الذي يَطْوِي عُنُقَه عند الرُّبوضِ ثم يَرّبِضُ؛ قالَ الراعِي:

أغَنّ غَضِيض الطَّرْفِ باتَتْ تَعُلُّه *** صَرَى ضَرَّةٍ شَكْرى فأَصْبَحَ طَاوِيا

ومنه قوْلُهم: مَرَرْتُ بظَبْي: طاوٍ طَوَى عُنُقَه ونامَ آمِنًا.

والطِّيَّةُ، بالكسْرِ: الهَيْئةُ التي يُطْوَى عليها.

ويقالُ: طَواهُ طيّةً جَيِّدةً، وطَيَّةً واحِدَةً.

والطِّيَّةُ، بالكسْرِ: يكونُ مَنْزلًا. يقال: بَعُدَتْ عَنَّا طِيَّتُه، وهو المَنْزِلُ الذي انْتَواهُ.

وفي الأساس: وهي الجهَةُ التي يطوي إليها البِلادَ وله طِيَّاتٌ شَتَّى ولَقِيتُه بطِيَّاتِ العِراقِ: أَي نَواحِيه وجِهاتِه.

وطِيَّةٌ بَعيدَةٌ: أَي شاسِعَةٌ، وقد تُخَفَّفُ الطِّيَة؛ ومنه قولُ الشاعِرِ:

أَصَمّ القلبِ حُوشِيّ الطِّيَاتِ

وطِوَى البَطْن، بالكسْرِ: كسرُه.

وطِوَى الحيَّةِ: انْطِواؤُها.

وتَطَوَّتِ الحيَّةُ تحوَّتْ.

ومَطاوِي الدِّرْعِ: غُضُونُها إذا ضُمَّتْ، واحِدُها مِطْوىً.

والمِطْوَى: شي‌ءٌ يُطْوَى عليه الغَزْلُ.

وأَيْضًا: السكِّينَةُ الصَّغيرَةُ، عاميَّةٌ.

والمُنْطَوِي: الضامِرُ البَطْنِ؛ كالطَّوِيّ، على فَعِلٍ عن ابنِ السِّكِّيت؛ وأَنْشَدَ للعُجيرِ السَّلوليّ:

فقامَ فأَدْنَى من وِسادِي وسادَه *** طَوِي البَطْنِ ممشُوقُ الذِّراعَيْنِ شَرْجَبُ

وسِقاءٌ طَوٍ: طُوِيَ وفيه بَلَلٌ أَو رُطوبَةٌ أَو بَقِيَّةُ لَبَنٍ فَتَغَيَّر ولَجن وتَقَطَّعَ عَفَنًا؛ وقد طَوِيَ. والطَّيُّ في العَرُوضِ: حَذْفُ الرابِعِ من مُسْتَفْعِلُنْ ومَفْعُولاتُ، فيَبْقى مُسْتَعِلُنْ ومَفْعُلات، فتُنْقَلُ مُسْتَعِلُنْ إلى مُفْتَعِلُنْ ومَفْعُلات إلى فاعِلاتُ، يكونُ ذلكَ في البَسِيطِ والرَّجَز والمُنْسرِحِ.

وطَوَى الرَّكِيَّةَ طَيًّا: عرشَها بالحِجارَةِ والآجُرِّ، وكَذا اللَّبِنُ تَطْويه في البِناءِ؛ ويُسَمَّى ذلكَ البِئْر طَوِيًّا وطَيًّا.

وطَوَى المَكانَ إلى المَكانِ: جاوَزَهُ.

وطَوَيْت طِيَّته: بَعُدَتْ، عن اللّحياني.

والطِّيَّةُ: الوَطَرُ والحاجَةُ.

وقال أَبو حنيفَةَ: الأطْواءُ الأَثْناءُ في ذَنَبِ الجَرادِ، وهي كالعقدِ، واحِدُ طِوىً، كإِلَى.

وذُو طُواءٍ، كغُرابٍ: موْضِعٌ بطَريقِ الطائِفِ، أَو وادٍ.

وما بالدَّارِ طُووِيٌّ بالضمِّ: أَي أَحَدٌ.

ويُعَبَّرُ بالطيِّ عن مُضِي العُمُر فيُقالُ: طَوَى اللهُ عُمرَه؛ قال الشاعِرُ:

طَوَتْكَ خُطُوبُ دَهْرك بَعْد نَشْر

وعليه حُمِلَ قوْلُه تعالَى: {وَالسَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ} أَي مُهْلَكات؛ قالَهُ الراغبُ.

وطُوِىَ فلانٌ وهو مَنْشورٌ: إذا بَقيَ له حُسْنُ ذِكْرٍ أَوْ جَمِيلٌ، وهو مجازٌ.

وطَواهُ السَّيْرُ: هزَلَهُ الغِلُّ في طَيِّ قَلْبِه: وانْطَوَى قَلْبُه على غلِّ.

وعلى جَبِينِها أَطْواءُ الشَّحْمِ: أَي طَرائِقُه.

وأَدْرَجَنِي في طَيِّ النِّسْيانِ؛ وكلُّ ذلكَ مِن المجازِ.

والطَّاءُ: حَرْفُ هِجاءٍ، وهو مَجْهورٌ مُسْتَعْلٍ يكونُ أَصْلًا ويكونُ بَدَلًا، ولا يكونُ زائِدًا.

وشعْرٌ طاوِيٌّ: قافِيَتُه الطَّاء.

قالَ الخلِيلُ: أَلِفُها ترجعُ إلى الياءِ.

وطَيَّيْتُ طاء: كَتَبْتُها، ويجوزُ مَدّها وقَصْرها وتَذْكِيرها وتَأْنِيثها.

والطَّاءُ الرَّجُلُ الكَثيرُ الوقاعِ؛ وأَنْشَدَ الخليلُ:

إنِّي وإن قَلّ عن كلِّ المُنَى أَمَلِي *** طاء الوقاع قوي غير عنين

والطاءُ: قَرْيةٌ بمِصْرَ مِن أَعمال قويسنا؛ وأُخْرَى بالغَرْبيَّةِ؛ ومِن الأُوْلى: الإِمامُ المحدِّثُ محمدُ بنُ محمدِ ابنِ محمدِ بنِ الحَسَنِ الطائِيُّ الجَعْفريُّ حدَّثَ عن الوليِّ العراقي والحافِظِ بنِ حَجَرٍ وغيرِهما.

وطَوَى حدِيثًا إلى حَديثٍ: أَسَرَّه في نَفْسِه فجَازَه إلى آخر، كما يَطْوِي المُسافِرُ مَنْزلًا إلى مَنْزِلٍ فلا يَنْزِلُ؛ وكَذلكَ طَيّ الصَّوْم.

وقالَ أَبو زيادٍ: مِن مِياهِ عَمْرو بنِ كِلابٍ الأَطْواءُ في جَبَلٍ يقالُ له شرًا، نقلَهُ ياقوتُ.

وجاءَتِ الإِبِلُ طَاياتٍ: أَي قُطْعانًا واحِدُها طايَةٌ؛ وأَنْشَدَ الأَزْهريُّ لعمر بنِ لَجَأٍ يصِفُ إبلًا:

تَرِبعُ طاياتٍ وتَمْشِيَ هَمْسا

وقرْنُ الطّوَى: جَبَلٌ لمحاربٍ؛ عن نَصْر.

والطُّيَيَّةُ، كسُمَيَّةَ: مَوْضِعٌ في شِعْرٍ؛ عن نَصْر.

وطَواءُ، كسَحابٍ: موضِعٌ بينَ مكَّةَ والطائِفِ.

وطُوَّةُ، بالضَّمِّ: من كورِ بَطْنِ الرِّيف.

والطيُّ: السِّقاءُ.

والطوُّ: الجوعُ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


197-تاج العروس (لقي)

[لقي]: ي لقِيَهُ، كرَضِيَه، يَلْقَى لِقاءً، ككِتابٍ ولقاءَةٌ، بالمدِّ؛ قالَ الأزْهرِي: وهي أَقْبَحُها على جَوازِها؛ ولِقايَةً، بقَلْبِ الهَمْزَةِ ياءً، ولِقيًّا، مُشدَّدةَ الياءِ، ولِقْيانًا؛ وأَنْشَدَ القالِي:

أَعدّ اللّيالِي لَيْلةً بَعْدَ لَيْلةٍ *** للِقْيانِ لاهٍ لا يعدّ اللّيَالِيا

ولِقْيانَةً، بكسرِهِنَّ، ولُقْيانًا ولُقِيًّا، مُشدَّدَةَ الياءِ، ولُقْيَةٌ ولُقًى بضمهنَّ.

قال القالي: إذا ضَمَمْتَ أَوَّله قَصَرْت وكَتَبْته بالياءِ، وهو مَصْدرُ لَقِيته؛ وأَنْشَدَ:

وقد زَعَمُوا حُلْمًا لُقاكَ فلم تَزِدْ *** بحَمْدِ الذي أَعْطاكَ حِلْمًا ولا عَقْلا

وأَنْشَدَ الفرَّاء:

وإنَّ لُقاها في المَنامِ وغيرِهِ *** وإنْ لم تَجُدْ بالبَذْل عنْدِي لرابِحُ

ولَقاءَةً، مَفْتوحَةً مَمْدُودَةً، فهذه أحَد عَشَرَ مَصْدرًا، نَقَلَها ابنُ سِيدَه والأزْهرِي، وانْفَرَدَ كلٌّ منهما ببعضِها كما يَظْهَر ذلكَ لمَنْ طالَعَ كتابَيْهما.

وذَكَرَ الجَوْهرِي منها سِتَّةً وهي: اللِّقاءُ واللُّقَى واللُّقِيّ واللُّقيانُ واللُّقْيانَةُ واللِّقاءَةُ.

وقال شيْخُنا: هذا الحَرْفُ قد انْفَرَدَ بأَرْبَعَة عَشَرَ مَصْدرًا، ذَكَرَ المصنِّفُ بعضَها وأَغْفَلَ البَعْضَ قُصُورًا، ومَرَّتْ عن ابنِ القطَّاع وشُرُوح الفَصِيحِ، انتَهَى.

* قُلْت: ولم يُبَيِّن الثلاثَةَ التي لم يَذْكُرها المصنِّف وأنا قد تَتَبَّعْت فوَجَدْت ذلكَ، فمن ذلكَ: اللَّقْيةُ واللَّقاةُ، بفَتْحِهما، كِلاهُما عن الأزْهرِي وقالَ في الأخيرِ: إنَّها مُولَّدةٌ ليسَتْ بفَصِيحةٍ، واللُّقاةُ، بالضم، ذَكَرَه ابنُ سِيدَه عن ابنِ جنِّي، قالَ: واسْتَضْعَفَها ودَفَعَها يَعْقوبُ فقالَ: هي مُولَّدةٌ ليسَتْ من كَلامِهم فكملَ بهذه الثلاثَةِ أَرْبَعة عَشَرَ على ما ذَكَرَه شيْخُنا، ولكن يقالُ: إنَّ عَدَمَ ذِكْرِ الأخيرَيْن لِكَوْنِهما مُولَّدين غَيْر فَصِيحَيْن، فلا يكونُ تَرْكُهما قُصُورًا من المصنِّفِ كما لا يَخْفَى، وعلى قَوْلِ مَنْ قالَ إنَّ التّلْقاءَ مَصْدرٌ كما سَيَأْتي عن الجَوْهرِي فيكونُ مَجْموعُ ذلكَ خَمْسَة عَشَر.

وحَكَى ابنُ درستويه: لَقًى وَلقاه مثْلُ قَذًى وقَذاةٍ، مَصْدرُ قَذِيَت تَقْذَى.

وقال شيْخُنا: وقوْلُه في تفْسِيرِ لَقِيَه: رآهُ، ممَّا نقدُوه وأَطالُوا فيه البَحْثَ ومَنَعُوه وقالوا: لا يلزمُ مِن الرُّؤْيةِ اللّقَى ولا مِن اللّقْي الرُّؤْيَةِ، فتأَمَّل، انتَهَى.

وفي مهماتِ التَّعاريفِ للمَناوِي: اللّقاءُ اجْتِماعٌ بإقْبالٍ، ذَكَرَه الحرالي.

وقال الإمامُ الرَّازي: اللِّقاءُ وُصُولُ أَحَد الجِسْمَيْن إلى الآخرِ بحيثُ يُماسّه شَخْصه.

وقال الرَّاغبُ: هو مُقابلَةُ الشي‌ءِ ومُصادَفَتُه معًا، ويُعبَّر به عن كلِّ منهما، ويقالُ ذلكَ في الإدْراكِ بالحسِّ والبَصَرِ، انتَهَى.

وقال ابنُ القطَّاع: لَقِيتُ الشي‌ءَ: صادَفْتَه.

وقال الأزْهرِي: كلُّ شي‌ءٍ اسْتَقْبَل شيئًا فقد لَقِيَه وصادَفَه؛ كتَلَقَّاهُ والْتَقَاه؛ عن ابنِ سِيدَه.

والاسْمُ التِّلْقاءُ، بالكسْر، وليس على الفِعْل إذ لو كانَ عليه لفُتِحَتِ التاءُ، وقيلَ: هو مَصْدرٌ نادِرٌ لا نَظِيرَ له غَيْرُ التّبْيانِ، هذا نَصّ المُحْكم، وبه تَعْلَم ما في كَلامِ المصنِّفِ مِن خَلْطِ اسْمِ المَصْدَر والمَصْدَر بالفِعْل، فإنَّ قوْلَه أَوّلًا والاسْمُ دلَّ على أنَّه اسْمُ المَصْدَر، وَتَنْظِيره بالتِّبْيانِ ثانيًا دلَّ على أنَّه مَصْدرٌ بالفِعْل.

قال شيخُنا: ولا قائِلَ في تِبْيان أنَّه اسْمُ مَصْدرٍ، انتَهَى.

ولكن حيثُ أَوْرَدْنا سِياقَ ابن سِيدَه الذي اخْتَصَر منه المصنِّفُ قَوْله هذا ارْتَفَع الإشْكالُ.

وفي العِنايَةِ أثْناءَ الأعْراف: تِلْقاء مَصْدَر وليسَ في المَصادِرِ تِفْعال بالكسْر غيرُه وتِبْيان.

وقال الجَوْهرِي: والتِّلْقاءُ أَيْضًا مَصْدرٌ مِثْلُ اللّقاءِ؛ وقالَ:

أَمَّلْتُ خَيْرَكَ هل تَأْتِي مَواعِدُه *** فاليَوْمَ قَصَّرَ عَنْ تِلْقائِه الأَمَلُ

ومِن المجازِ: تَوَجَّه تِلْقاءَ النَّارِ وتِلْقاءَ فلانٍ؛ كما في الأساس.

وفي الصِّحاح: جَلَسْتُ تِلْقاءَهُ أَي حِذَاءَهُ.

وقالَ الخفاجي: قد توَسَّعُوا في التِّلْقاءِ فاسْتَعْملُوه ظَرْفَ مَكانٍ بمعْنَى جهَةِ اللَّقاءِ والمُقابَلَةِ ونَصَبُوه على الظَّرْفيةِ.

وتَلاقَيْنا والْتَقَيْنا بمعْنًى واحِدٍ.

ويومُ التَّلاقي: القيامَةُ لتَلاقِي أَهْلِ الأرْضِ والسَّماءِ فيه؛ كما في المُحْكم.

واللَّقِيُّ، كغَنِيٍّ: المُلْتَقِي، بكسْرِ القافِ، وهما لَقِيَّانِ للمُلْتَقِيَيْن؛ كما في المُحْكم.

ورجُلٌ لَقًى، كفَتًى، كما في النُّسخِ وضُبِطَ في نسخةِ المُحْكم كغنِيٍّ وهو الصَّوابُ، ومُلْقًّى، كمُكْرَمٍ، ومُلَقًّى، كمُعَظَّمٍ، ومَلْقِيٌّ، كمَرْمِيٍّ، ولَقَّاءٌ، كشَدَّادٍ، يكونُ ذلك في الخَيْرِ والشَّرِّ، وهو في الشَّرِّ أَكْثَرُ؛ كما في المُحْكم.

وفي التَّهْذِيبِ: رجُلٌ مُلْقًى لا يَزالُ يَلْقاهُ مَكْرُوه، وفي الأساسِ: فلانٌ مُلْقًى: أَي مُمْتَحَنٌ. ويقالُ: الشّجاعُ مُوَقَّى والجَبَانُ مُلَقَّى.

ولاقاهُ مُلاقاةً ولِقاءً: قابَلَهُ.

والأَلَاقِيٌّ: الشَّدائِدُ. يقالُ: لَقِيتُ منه الأَلاقِيَ، أي الشَّدائد؛ هكذا حَكَاهُ اللّحْياني بالتّخْفيفِ؛ كذا في المُحْكم.

والمَلاقِي: شُعَبُ رَأْسِ الرَّحِمِ. يقالُ: امرأةٌ ضَيِّقَةُ المَلاقِي؛ وهو مجازٌ؛ جَمْعُ مَلْقًى ومَلْقاةٍ، وقيلَ: هي أَدْنى الرَّحِم مِن مَوْضِعِ الولدِ، وقيلَ: هي الإسْكُ.

وفي التّهذيبِ: المَلْقاةُ جَمْعُها المَلاقِي، شُعَبُ رأْسِ الرَّحِمِ، وشُعَبٌ دونَ ذلكَ أَيْضًا.

والمُتلاحِمَةُ مِن النِّساءِ الضَّيِّقَةُ المَلاقِي، وهي مَآزِمُ الفَرْجِ ومَضايِقُه.

وتَلَقَّتِ المرأَةُ فهي مُتَلَقٍّ: عَلِقَتْ، وقلَّما جاءَ هذا البِناءُ للمُؤَنَّثِ بغيرِ هاءٍ؛ كذا في المُحْكم.

ولَقَّاهُ الشَّي‌ءَ تَلْقِيَةً: أَلْقَاهُ إليه؛ وبه فسَّر الزجَّاجُ قولَه تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}؛ أي يُلْقَى إليك القُرْآن وَحْيًا مِن عِنْدِ اللهِ تعالى.

وفي التّهذيبِ: الرَّجُل يُلَقَّى الكَلام؛ أَي يُلَقَّنه.

واللَّقَى، كفَتًى: المُلْقَى، وهو ما طُرِحَ وتُرِكَ لهَوَانِه؛ وأَنْشَدَ الجَوْهرِي:

وكُنْت لَقًى تَجْرِي عليْكَ السَّوابِلُ

وأَنْشَدَ القالِي لابنِ أَحْمر يَذْكُر القَطاةَ وفَرْخَها:

تَرْوِي لَقًى أُلْقِيَ في صَفْصَفٍ *** تَصْهَرُه الشمسُ وما يَنْصَهِر

وتَرْوي مَعْناهُ: تَسْقِي؛ الجمع: أَلْقاءٌ؛ وأَنْشَدَ القالِي للحارِثِ ابنِ حِلِّزة:

فتَأَوَّتْ لهم قَراضِبَةٌ من *** كلِّ حَيٍّ كأنَّهم أَلْقاءُ

ولَقاةُ الطَّريقِ: وسَطُه؛ وفي المُحْكم: وَسَطُها؛ وفي التكْملةِ: لقمُهُ ومَمَرُّه.

والأُلْقِيَّةُ، كأُثْفِيَّةٍ: ما أُلْقِيَ من التَّحاجِي. يقالُ: أَلْقَيْت عليه أُلْقِيَّةً، وأَلْقَيْت إليه أُحْجِيَّةً، كلُّ ذلكَ يقالُ؛ كما في الصِّحاح؛ أَي كلمةُ مُعاياةٍ ليَسْتخْرجَها؛ وهو مجازٌ.

وقيلَ: الأُلْقِيَّةُ واحِدةُ الأَلاقِي، مِن قوْلِكَ: لَقِيَ الأَلاقِيَّ من شَرِّ وعُسْرٍ.

وهم يَتَلاقَوْن بأُلْقِيَّةٍ لهم.

والمَلْقَى، بالفتح: مَقامُ الأُرْوِيَّةِ من الجَبَلِ تَسْتَعْصِم به مِن الصيَّادِ.

وفي التّهْذيبِ: أَعْلَى الجَبَلِ، والجَمْعُ المَلاقِي، ويُرْوَى قولُ الهُذَلِي:

إذا سامَتْ على المَلْقاةِ سامَا

وفُسِّرَ بهذا؛ والرِّوايَةُ المَشْهورةُ: على المَلَقاتِ، بالتّحْريكِ، وقد ذُكِرَ في القافِ.

واسْتَلْقَى على قَفاهُ: نامَ.

وقالَ الأزْهرِي: كلُّ شي‌ءٍ كانَ فيه كالانْبِطاح ففيه اسْتِلْقاءٌ.

وشَقِيٌّ لَقِيٌّ، كغَنِيِّ، اتْباعٌ؛ كما في الصِّحاح.

وفي التّهذيب: لا يزالُ يَلْقَى شَرًّا.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

اللَّقا، بالقَصْر: لُغَةٌ في اللِّقاءِ، بالمدِّ.

ولَقاهُ يَلْقاهُ، لُغَةٌ طائيَّةٌ؛ قال شاعرُهم:

لم تَلْقَ خَيْلٌ قبْلَها ما قد لَقَتْ *** مِنْ غِبِّ هاجِرةٍ وسَيْرٍ مُسْأَدِ

وقولُ الشَّاعرِ:

أَلا حَبَّذا مِنْ حُبِّ عَفْراء مُلْتَقَى *** نَعَمْ وأَلا لا حيثُ يَلْتَقِيانِ!

أَرادَ: مُلْتَقَى شَفَتَيْها لأنَّ التِقاءَ نَعَمْ ولا إنَّما يكونُ هنالكَ، أَو أَرادَ حَبَّذا هي مُتكلِّمةً وساكِتَة، يُريدُ بمُلْتَقَى نَعَم شَفَتَيْها؛ وبألا لا تُكلِّمُها، والمَعْنيانِ مُتَجاورانِ، كذا في المُحْكم.

والمَلاقِي من الناقَةِ: لَحْمٌ باطِنِ حَيائِها؛ ومِن الفَرَسِ: لَحْمُ باطِنِ طَبْيَيْهَا.

وأَلْقَى الشي‌ءَ إِلْقَاءً: طَرَحَهُ حيثُ يَلْقاهُ، ثم صارَ في التَّعارفِ اسْمًا لكلِّ طرْحٍ؛ قالَهُ الراغبُ.

قالَ الجَوْهرِي: تقولُ أَلْقِه مِن يدِكَ، وألْقِ به من يدِكَ، وأَلْقَيْتُ إليه المودَّةَ وبالمودَّةِ.

وتلَقَّاهُ: اسْتَقْبَلَه؛ ومنه الحديثُ: «نَهَى عن تَلَقِّي الرُّكْبانِ».

والالْتِقاءُ: المُحاذاةُ، ومنه الحديثُ: «إذا الْتَقَى الخِتانَانِ فقد وَجَبَ الغُسْلُ». وتَلاقَوْا: مثل تَحاجَوْا.

وتلَقَّاه منه: أَخَذه منه.

ولاقَيْتُ بينَ فلانٍ وفلانٍ، وبينَ طَرَفَيْ قَضِيبٍ: حَنَيْته حتى تلاقَيَا والْتَقَيا، ولُوقِيَ بينهما.

ولَقِيتُه لُقًى كثيرةً، جَمْعُ لُقْيَةٍ بالضم.

ومَلاقِي الأَجْفانِ: حيثُ تَلْتَقِي.

وهو مُلْقى الكناسات، وفِناؤُه مُلْقَى الرِّحالِ.

ورَكِبَ مَتْنَ المُلَقَّى: أَي الطَّرِيق.

وهو جارِي مُلاقِيَّ: أَي مُقابِلِي.

ويا ابنَ مُلْقَى أرحل الرّكْبان، يريدُ يا ابنَ الفاجِرَةِ.

ولقاء فلانٍ لقاء أي حرب.

وأَلْقَيْتُ إليه خَيْرًا: اصْطَنَعْته عنْدَه.

وأَلْقِ إليَّ سَمْعَك: أَي تَسَمَّع.

وتَلَقَّتِ الرَّحِمُ ماءَ الفَحْلِ: قَبِلَته وأرْتَجَت عليه.

واللُّقَى: الطُّيورُ، والأوْجاعُ، والسَّريعاتُ اللَّقَح من جميعِ الحيواناتِ.

واللَّقى، كفَتَى: ثَوْبُ المُحْرِمِ يَلْقِيهِ إذا طافَ بالبيتِ في الجاهِلِيَّةِ والجَمْعُ ألْقاءٌ.

واللَّقَى: المَنْبوذُ لا يُعْرفُ أَبُوهُ وأُمُّه؛ قالَ جريرٌ يَهْجُو البَعِيث:

لَقًى حَمَلَتْه أُمُّه وهي ضَيْفةٌ

وأَلْقَى اللهُ تعالى الشي‌ءَ في القُلوبِ: قَذَفَهُ.

وأَلْقَى القُرْآنَ: أَنْزَلَه.

وأبو الحَسَنِ يوسفُ بنُ إسْحاق الجرْجانيُّ الفَقِيهُ يُعْرفُ بالمُلْقِي لأنَّه كانَ يُلْقِي الدَّرْسَ عنْدَ أَبي عليِّ بن أَبي هُرَيْرَةَ، حدَّثَ عن أَبي نُعَيْم الجرْجاني، وسَمِعَ منه الحاكِمُ.

قال الحافِظُ: وهي أَيْضًا: نِسْبةُ بعضِ النسَّاخِينَ مِن الإسْكندريَّةِ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


198-تاج العروس (هنو)

[هنو]: والهِنْوُ، بالكسر: الوَقْتُ. يقالُ: مَضَى هِنْوٌ مِن الليْلِ: أَي وَقْتٌ، ويقالُ: هِنْ بالهَمْز كما مَرَّ للمصنِّفِ في أَوَّلِ الكِتابِ. والهِنْوُ، أَبو قَبيلةٍ، أَو قَبائِلَ، وهو ابنُ الأزْدِ؛ وضَبَطَه ابنُ خَطِيبِ الدَّهْشَة بالهَمْزةِ في آخِرِه؛ وهو أَعْقَبَ سَبْعَة أَفْخاذٍ، وهم: الهون وبديد ودهنة وبرقا وعوجا وأفكة وحَجْر أَوْلادُ الهِنْوِ بنِ الأزْدِ؛ قالَهُ ابنُ الجواني.

وهَنٌ، كأخٍ: كلمةُ كِنايَةٍ، ومَعْناهُ شي‌ءٌ، وأَصْلُه هَنَوٌ، تقولُ: هذا هَنُكَ: أَي شَيْئُكَ، هكذا بفَتْحِ الكافِ فيهما؛ في النسخِ وفي نسخِ الصِّحاحِ بكسْر الكافِ وفَتْحِها معًا؛ وهُما هَنوانِ والجَمْعُ هَنُونَ.

وفي الحديثِ الذي رَواهُ البُخارِي في صحيحِه في بابِ ما يقولُ بعْدَ التكْبيرِ عن أبي هُرَيْرَةَ، رضي ‌الله‌ عنه، قالَ: «كانَ رَسُولُ اللُّهِ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم، يَسْكُتُ بينَ التكْبيرِ والقِراءَةِ إسْكاتَةً، قالَ: أَحَسَبه هُنَيَّة وهو مُصَغَّرُ هَنَةٍ، أَو هَنْتٍ، بسكونِ النونِ وهو على القِياسِ؛ قال الحافِظُ ابنُ حَجَر: هكذا في روايَةِ الأكْثَرين.

أَصْلُها هَنْوَةٌ، فلمَّا صُغِّرَتْ صارَتْ هُنَيْوة فاجْتَمَعَتِ الواوُ والياءُ وسُبِقَتْ إحْدَاهما بالسكونِ فقُلِبَتِ الواوُ ياءً ثم أُدْغِمَتْ؛ أَي شي‌ءٌ يَسِيرٌ؛ ويُرْوَى هُنَيْئة، بالهَمْزِ، وعليها أَكْثَر رُواةِ مُسْلم؛ وخَطَّأَهُ النّوَوي وتَبِعَه المصنِّفُ في أَوَّلِ الكِتابِ.

ويُرْوَى هُنَيْهَةً بإبْدالِ الياءِ هاءً، هكذا وَقَعَ في رِوايةِ الكشميهني، وهي أَيْضًا رِوايَةُ إسْحق والحميدي في مُسْنَدَيْهما عن جريرٍ.

وفي الصِّحاح: وتقولُ للمَرْأَةِ هَنةٌ وهَنْتٌ أَيْضًا ساكِنَة النونِ كما قالوا بِنْتٌ وأُخْتٌ، وتَصْغيرُها هُنَيَّةٌ، تردُّها إلى الأصْلِ وتأْتي بالهاءِ، كما تقولُ أُخَيَّةٌ وبُنَيَّةٌ، وقد تُبْدلُ مِن الياءِ الثانيَةِ هاءً فيُقالُ هُنَيْهَةٌ. ومنهم مَنْ يَجْعَلُها بدلًا من التاءِ التي في هَنْت.

وهَنُ المرْأَةِ: فَرْجُها، قيلَ: أَصْلُه هَنَوٌ، والذّاهبُ منه واوٌ، والدَّليلُ على ذلكَ أنَّه يُصَغَّرُ على هُنَيْو؛ وقيلَ: أَصْلُه هَنٌّ، بالتّشْديدِ، فيُصَغَّرُ هُنَيْنا، وهذا القَوْلُ قد مَرَّ للمصنِّفِ في «هـ ن ن»، وتقدَّمَ شاهِدُه هناك.

قال أبو الهَيْثم: هو كِنايَةٌ عن الشي‌ءِ يُسْتَفْحَشُ ذِكْرُه، تقولُ: لها هَنٌ تريدُ لها حِرٌ، كما قالَ العُماني:

لها هَنٌ مُسْتَهْدَفُ الأرْكانِ *** أَقْمَرُ تَطْلِيهِ بزَعْفَرانِ

كأَنَّ فيه فِلَقَ الرُّمَّانِ

فكَنَّى عن الحِرِ بالهَنِ.

وظاهِرُ المصنِّفِ أنَّ الهَنَ إنَّما يُطْلَقُ على فَرْجِ المرْأَةِ فقط، والصَّحِيحُ الإطْلاقُ؛ ومنه الحديثُ: «أَعُوذُ بكَ مِن شَرِّ هَنِي؛ يَعْني الفَرْجَ.

وفي حديثِ مُعاذ: «هَنٌ مِثْل الخَشَبَةِ غَيْر أنِّي لا أَكْني، يَعْني أنَّه أَفْصَحَ باسْمِه، فيكونُ قد قالَ أَيْرٌ مِثْلُ الخَشَبَةِ، فلمَّا أَرادَ أَن يَحكِي كَنَى عنه.

وفي حديثٍ آخر: «مَنْ تَعَزَّى بعَزاءِ الجاهلِيَّةِ فأَعِضُّوه بهَنِ أَبيهِ ولا تَكْنُو»؛ أَي قولوا له عَضَّ أَيْرَ أَبِيكَ؛ وقَوْلُهم: مَنْ يَطُلْ هَنُ أَبيهِ يَنْتَطِقْ به؛ أَي يَتَقَوَّى بإخْوتِه؛ وقد مَرَّ في نطق؛ وفي الصِّحاح قالَ الشاعرُ:

رُحْتِ وفي رِجْلَيْكِ ما فيهما *** وقد بَدَا هَنْكِ مِن المِئْزَرِ

قال سيبويه: إنَّما سكَّنَه للضَّرُورَةِ.

قُلْت: هو للأُقَيْشِرِ، وقد جاءَ في شِعْرِ الفَرَزْدق أَيْضًا وصَدْرُه:

وأَنْتِ لو باكَرْتِ مَشْمَولةً *** صَهْباء مِثْل الفَرَسِ الأَشْقَرِ

قالَهُ وقد رأَتْه امْرأَةٌ وهو يَتَمايَلُ سكْرًا.

قال الجَوْهرِي: ورُبَّما جاءَ مُشدّدًا في الشِّعْر كما شَدّدوا لَوًّا، قال الشاعرُ:

أَلا لَيْتَ شِعْري هَلْ أَبِيتَنَّ ليلةً *** وهَنّيُ جاذٍ بينَ لِهْزِمَتَيْ هَنِ؟

وهُما هَنانِ، على القِياسِ، وهَنَوانِ، وعليه اقْتَصَرَ الجَوْهرِي.

ويقالُ في النِّداء للرَّجُلِ مِن غَيْر أَن يُصَرَّحَ باسْمِه: يا هَنُ أَقْبِلْ، أي يا رَجُلُ أَقْبِلْ؛ ويا هَنانِ أَقْبِلا، ويا هَنُونَ أَقْبِلُوا؛ ولها: يا هَنَةُ أَقْبِلي، ويقالُ: يا هَنْتُ أَقْبِلي، بالفتح وسكونِ النونِ والتاءِ مَبْسوطَة، لُغَةٌ في هَنَةٍ، وعليها اقْتَصَرَ ابنُ الأنْبارِي.

قالَ الجَوْهرِي: جَعَلُوه كأُخْتٍ وبِنْتٍ، قالَ: وهذه اللفْظَةُ تَخْتَصُّ بالنِّداءِ كما يَخْتصّ به قَوْلهم يا فُلُ ويا نَوْمانُ.

وفي المُحْكم: قالَ بعضُ النّحويِّين: هَنانِ وهَنُونَ أَسْماءَ لا تُنَكَّرُ أَبَدًا لأنَّها كِناياتٌ وجارِيَة مجْرَى المُضْمَرةِ، فإنّما هي أَسْماءٌ مَصُوغَة للتّثْنيةِ والجَمْع بمنْزلَةِ اللَّذَيْنِ والذِين، وليسَ كَذلكَ سائِر الأسْماءِ المُثنَّاةِ نَحْو زَيْد وعَمْرو، أَلا تَرى تَعْريفَ زَيْد وعَمْرو وإنَّما هو بالوَضْعِ والعِلْمِيَّة، فإذا ثنَّيْتهما تنكَّرَ فقلْتَ: رأَيْت زيْدَيْن كَرِيمَيْن، وعنْدِي عَمْرانِ عاقلانِ فإن آثَرْتَ التَّعْريفَ بالإِضافَةِ أَو باللامِ قلْتَ الزَّيدانِ والعَمْرانِ وزَيْداكَ وعَمْراكَ فقد تَعَرَّفا بعْدَ التّثْنِيةِ من غَيْر وَجْه تَعَرُّفهما قَبْلها، ولحقا بالأَجْناسِ ففارَقا ما كانَا عليه مِن تَعْرِيفِ العِلْميَّةِ والوَضْعِ.

وقال اللّيْثُ: هَنٌ كلمةٌ يُكنى بها عن اسْمِ الإنسانِ، كقوْلِكَ أَتاني هَنٌ وأَتَتْني هَنَةٌ، النونُ مَفْتوحَةٌ في هَنَة، إذا وَقَفْتَ عنْدَها، لظهورِ الهاءِ، فإذا أَدْرَجْتها في كلامٍ تَصِلُها به سكَّنْت النونَ لأنَّها بُنِيت في الأصْلِ على السكونِ، فإذا ذَهَبَتِ الهاءُ وجاءَتِ التاءُ حَسُنَ تَسْكِين النونِ مع التاءِ، ثم تَصْرِفها لأنَّها مَعْرفةٌ للمُؤَنَّثِ.

الجمع: هَنَاتٌ؛ ومن رَدَّ قالَ: هَنَواتٌ؛ وأَنْشَدَ الجَوْهرِي:

أَرَى ابنَ نِزارٍ قد جَفاني ومَلَّني *** على هَنَواتٍ شَأْنُها مُتَتابِعُ

فهَناتٌ على اللَّفْظِ، وهَنَواتٌ على الأصْلِ.

قال ابنُ جنِّي: أَمَّا هَنْتُ فيدلُّ على أنَّ التاءَ فيها بدلٌ من الواوِ، قَوْلهم هَنَواتٌ؛ وأَنْشَدَ ابنُ برِّي:

أُرِيدُ هَناتٍ مِنْ هَنِينَ وتَلْتَوي *** عليَّ وآبى مِنْ هَنِينَ هَناتِ

وأَنْشَدَ أَيْضًا للكُمَيْت:

وقالتْ ليَ النَّفْسُ أشْعَبِ الصَّدْعَ واهْتَبِلْ *** لإحْدى الهَناتِ المُعْضِلاتِ اهْتِبالَها

والهَناتُ: الدَّاهِيَةُ؛ كذا في النسخ ببَسْطِ تاءِ هَنَاتٍ، والصَّوابُ أنَّها الهَناةُ بالهاءِ المَرْبوطَةِ؛ كما في المُحْكمِ وغيرِهِ. وفي حديثِ سَطِيح: «ستكونُ هَناةٌ وهَناةٌ»؛ أَي شَدائِدُ وأُمُورٌ عِظامٌ. وفي حديثٍ آخر: «ستكونُ هَناةٌ وهَناةٌ»؛ أَي شُرورٌ وفَسادٌ؛ الجمع: هَنَواتٌ، وقيلَ: واحِدُها هَنْتٌ وَهَنَةٌ تأْنِيثُ الهَنِ، فهو كِنايَةٌ عن كلِّ اسْمِ جِنْسٍ.

وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

حكَى سِيبَوَيْه في تَثْنِيَةِ هَنِ المرأَةِ هَنانانِ، ذَكَرَه مُسْتَشْهدًا على أنَّ كِلا ليسَ مِن لَفْظِ كُلٍّ، وشَرْحُ ذلكَ أنَّ هَنانانِ ليسَ تَثْنِيَة هَنٍ. وهو في مَعْناهُ كسِبَطْرٍ ليسَ مِن لَفْظِ سَبِط، وهو في مَعْناهُ؛ وقولُ الصحاح يصِفُ ركابًا قَطَعَتْ بلدًا:

جافِينَ عُوجًا مِن جِحافِ النُّكَت *** وكَمْ طَوَيْنَ مِنْ هَنٍ وهَنَت.

يُريدُ مِن أرضٍ ذَكَرٍ وأَرضٍ أُنْثى.

والهَناتُ: الكَلِماتُ والأرَاجيزُ؛ ومنه حديثُ ابنِ الأَكْوع: «أَلا تُسْمِعُنا مِن هَناتِكَ»، ويُرْوَى مِن هُنَيَّاتِكَ، على التَّصْغيرِ، وفي أُخْرى: مِن هُنَيْهاتِكَ. وفي حديثِ عُمَر: «وفي البَيْتِ هَناتٌ مِن قَرَظٍ»؛ أَي قِطَعٌ مُتَفرِّقَةٌ.

ويقالُ: يا هَنَه أَقْبِل، تُدْخِلُ فيه الهاءَ لبَيانِ الحَرَكَة كما تقولُ لِمَهْ ومالِيَه وسُلُطانِيَهْ، ولَكَ أن تُشْبع الحَرَكَة فتقولُ: يا هَنَاهُ أقْبِلْ، بضم الهاءِ وخَفْضِها؛ حَكَاهُما الفرَّاء. فمَنْ ضمَّ الهاءَ قدَّرَ أَنَّها آخِرُ الاسْمِ، ومَنْ كَسَرها فلاجْتِماع السَّاكِنَيْن؛ ويقالُ في الاثْنَيْن على هذا المَذْهبِ: يا هَنانِيهِ أَقْبِلا؛ قال الفرَّاء: كَسْر النونِ وإتْباعِها الياء أَكْثَر: ويقالُ في الجَمْعِ على هذا المَذْهَبِ: يا هَنْوناهُ أَقْبِلوا: ومَنْ قالَ للذَّكَر يا هَناهِ، قال للمُؤَنَّث يا هَنَتاهُ أَقْبِلِي، وللاثْنَيْن يا هَنْتانِيه ويا هَنْتاناهُ أَقْبِلا، وللجَمْع مِن النِّساءِ يا هَناتاهُ، كذا لابنِ الأَنْبارِي.

وقال الجَوْهرِي: يا هَناتوه؛ وفي الصِّحاح: ولَكَ أَنْ تقولَ يا هَناهُ أَقْبِل، بهاءٍ مَضْمومَةٍ، ويا هَنانِيهِ أَقْبلا ويا هَنُوناهُ أقْبِلوا، وحَرَكَة الهاءِ فيهن مُنْكرة، ولكن هكذا رَواهُ الأخْفَش؛ وأنْشَدَ أَبو زيْدٍ في نوادرِهِ لامرئِ القَيْسِ:

وقد رابَني قوْلُها: يا هَنا *** هُ ويْحَكَ أَلْحَقْتَ شَرًّا بشَرّ!

قال: وهذه الهاء عنْدَ أَهْلِ الكُوفَةِ للوقْفِ، أَلا تَرى أنَّه شَبَّهها بحرْفِ الإعْرابِ فضمَّهما؟ وقال أَهْلُ البَصْرةِ: هي بدلٌ من الواوِ في هَنُوكَ وهَنَوت، فلذلكَ جازَ أَن تضمَّها.

قال ابنُ برِّي: ولكن حَكَى ابنُ السَّراج عن الأخْفَش أنَّ الهاءَ في هَناهُ هاءُ السَّكْت بدليلِ قوْلِهم: يا هَنانِيهْ، واسْتَبْعَد قولَ مَنْ زَعَمَ أنّها بدلٌ من الواوِ لأنَّه يجبُ أَنْ يقالَ يا هَناهانِ في التَّثْنيةِ، والمَشْهورُ يا هَنانِيهْ.

ثم قالَ الجَوْهري: وتقولُ في الإضافَةِ يا هَنِي أَقْبِلْ، ويا هَنَيَّ أَقْبِلا، بفتحِ النونِ، ويا هَنِيَّ أَقْبِلُوا، بكسْر النونِ.

وقال ابنُ سِيدَه؛: قال بعضُ النّحويِّين في قولِ امرئِ القَيْسِ يا هَناهُ أَصْلُه هَناوٌ، فأَبْدلَ الهاءَ مِن الواوِ في هَنَوات وهَنُوك؛ ولو قالَ قائِلٌ: إنَّ الهاءَ في هَناهُ إنَّما هي بدلٌ مِن الألفِ المُنْقلِبَةِ مِن الواوِ الواقِعَةِ بعْدَ أَلِفِ هَنا، إذ أَصْله هَناوٌ، ثم صارَ هَناءً، ثم قُلِبَتِ الألفُ الأخيرَةُ هاءً، فقالوا هَناهُ، لكانَ قَوِيًّا.

وقال أبو عليٍّ: ذهَبَ أَحدُ عُلمائِنا إلى أنَّ الهاءَ مِن هَناهُ إنَّما أُلْحقت لحقًا للألفِ كما تُلْحق بعْدَ أَلفِ النَّدْبة نَحْو وا زَيْداهُ، ثم شُبِّهت بالهاءِ الأصْلِيَّة فحرِّكَتْ.

وقد يُجْمَعُ هَنٌ على هَنِين جَمْع سَلامَةٍ ككُرَةٍ وكُرِينَ؛ ومنه حديثُ الجنِّ: «فإذا هو بهَنِينٍ كأنَّهم الزُّطُّ»، أَرادَ الكِنايَةَ عن أَشْخاصِهم؛ قالَهُ أَبو موسَى المَدِيني. ووَقَعَ في مُسْندِ أَحْمدَ مَضْبوطًا مقيَّدًا عن ابنِ مَسْعودٍ: «ثم إنَّ هَنِينًا أَتَوْا عليهم ثِيابٌ بيضٌ طِوالٌ».

وفي الحديثِ: «وذَكَرَ هَنةً مِن جِيرانِه»؛ أَي حاجَةً، ويعبَّر بها عن كلِّ شي‌ءٍ.

وفي حديثِ الإفْكِ: «قلتُ لها يا هَنْتاهُ»؛ أَي يا هذه، تُفْتَحُ النونُ وتُسَكَّن، وتضمُّ الهاءُ الأخيرَةُ وتُسَكَّن، وقيل: مَعْنى يا هَنْتاه يا بَلْهاءُ، كأنَّها نُسِبَتْ إلى قلَّةِ المَعْرفةِ بمكَايدِ الناسِ وشُرُورِهم.

وقولُهم: هاهنا وهنا، ذَكَرَه المصنِّفُ في آخر الكتابِ.

وهُنًا بالضمِّ: موضِعٌ في شِعْر امرئِ القَيْسِ:

وحديثُ القَوْمِ يوم هُنًا *** وحديث ما على قِصَرِهْ

وقالَ المهلبي: يوم هُنًا اليوم الأول؛ وأَنْشَدَ:

إنَّ ابنَ عائِشَةَ المَقْتُول يَوْم هُنًا *** خلّى عليّ فجاجًا كان يحميها

وهُنَيٌّ، كسُمَيٍّ: موضِعٌ دونَ مَعْدِنِ اللفْطِ؛ قالَ ابنُ مُقْبل:

يسوفان من قاعِ الهُنَيِّ كرامةً *** أَدامَ بها شهر الخريف وسَيّلا

والهَنَواتُ والهُنَيَّاتُ الخِصالُ السّوء، ولا يقالُ في الخَيْر.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


199-المصباح المنير (طوق)

الطَّوْقُ مَعْرُوفٌ وَالْجَمْعُ أَطْوَاقٌ مِثْلُ ثَوْبٍ وَأَثْوَابٍ وَطَوَّقْتُهُ الشَّيْءَ جَعَلْتُهُ طَوْقَهُ وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنْ التَّكْلِيفِ وَطَوْقُ كُلِّ شَيْءٍ مَا اسْتَدَارَ بِهِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْحَمَامَةِ ذَاتُ طَوْقٍ.

وَأَطَقْتُ الشَّيْءَ إطَاقَةً قَدَرْتُ عَلَيْهِ فَأَنَا مُطِيقٌ وَالِاسْمُ الطَّاقَةُ مِثْلُ الطَّاعَةِ مِنْ أَطَاعَ.

المصباح المنير-أبوالعباس الفيومي-توفي: 770هـ/1369م


200-لسان العرب (نهر)

نهر: النَّهْرُ والنَّهَرُ: وَاحِدُ الأَنْهارِ، وَفِي الْمُحْكَمِ: النَّهْرُ والنَّهَر مِنْ مَجَارِي الْمِيَاهِ، وَالْجَمْعُ أَنْهارٌ ونُهُرٌ ونُهُورٌ؛ أَنشد ابن الأَعرابي:

سُقِيتُنَّ، مَا زالَتْ بكِرْمانَ نَخْلَةٌ، ***عَوامِرَ تَجْري بينَكُنَّ نُهُورُ

هَكَذَا أَنشده مَا زَالَتْ، قَالَ: وأُراهُ مَا دَامَتْ، وَقَدْ يَتَوَجَّهُ مَا زَالَتْ عَلَى مَعْنَى مَا ظَهَرَتْ وَارْتَفَعَتْ؛ قَالَ النَّابِغَةُ:

كأَنَّ رَحْلي، وَقَدْ زالَ النَّهارُ بِنَا ***يَوْمَ الجَلِيلِ، عَلَى مُسْتأْنِسٍ وَحِدِ

وَفِي الْحَدِيثِ: «نَهْرانِ مُؤْمِنَانِ ونَهْرانِ كَافِرَانِ، فَالْمُؤْمِنَانِ النِّيلُ وَالْفُرَاتُ، وَالْكَافِرَانِ دِجْلَةُ وَنَهْرُ بَلْخٍ».

ونَهَرَ الماءُ إِذا جرى فِي الأَرض وَجَعَلَ لِنَفْسِهِ نَهَرًا.

ونَهَرْتُ النَّهْرَ: حَفَرْتُه.

ونَهَرَ النَّهْرَ يَنْهَرُهُ نَهْرًا: أَجراه.

واسْتَنْهَرَ النَّهْرَ إِذا أَخذ لِمَجْراهُ مَوْضِعًا مَكِينًا.

والمَنْهَرُ: مَوْضِعٌ فِي النَّهْرِ يَحْتَفِرُه الماءُ، وَفِي التَّهْذِيبِ: مَوْضِعُ النَّهْرِ.

والمَنْهَرُ: خَرْق فِي الحِصْنِ نافذٌ يَجْرِي مِنْهُ الْمَاءُ، وَهُوَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنس: «فأَتَوْا مَنْهَرًا فاختَبَؤوا».

وَحَفَرَ الْبِئْرَ حَتَّى نَهِرَ يَنْهَرُ أَي بَلَغَ الْمَاءَ، مُشْتَقٌّ مِنَ النَّهْرِ.

التَّهْذِيبُ: حَفَرْتُ الْبِئْرَ حَتَّى نَهِرْتُ فأَنا أَنْهَرُ أَي بلغتُ الْمَاءَ.

ونَهَر الماءُ إِذا جَرى فِي الأَرض وَجَعَلَ لِنَفْسِهِ نَهْرًا.

وَكُلُّ كَثِيرٍ جَرَى، فَقَدْ نَهَرَ واسْتَنْهَر.

الأَزهري: وَالْعَرَبُ تُسَمِّي العَوَّاءَ والسِّماكَ أَنْهَرَيْنِ لِكَثْرَةِ مَائِهِمَا.

والنَّاهُور: السَّحَابُ؛ وأَنشد: " أَو شُقَّة خَرَجَتْ مِنْ جَوْفِ ناهُورِ "ونَهْرٌ وَاسِعٌ: نَهِرٌ؛ قَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ:

أَقامت بِهِ، فابْتَنَتْ خَيْمَةً ***عَلَى قَصَبٍ وفُراتٍ نَهِرْ

وَالْقَصَبُ: مَجَارِي الْمَاءِ مِنَ الْعُيُونِ، وَرَوَاهُ الأَصمعي: وفُراتٍ نَهَرْ، عَلَى الْبَدَلِ، ومَثَّلَه لأَصحابه فَقَالَ: هُوَ كَقَوْلِكَ مَرَرْتُ بظَرِيفٍ رجلٍ، وَكَذَلِكَ مَا حَكَاهُ ابْنُ الأَعرابي مِنْ أَن سايَةَ وادٍ عظِيمٌ فِيهِ أَكثر مِنْ سَبْعِينَ عَيْنًا نَهْرًا تَجْرِي، إِنما النَّهْرُ بَدَلٌ مِنَ الْعَيْنِ.

وأَنْهَرَ الطَّعْنَةَ: وسَّعها؛ قَالَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ يَصِفُ طَعْنَةً:

مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فأَنْهَرْتُ فَتْقَها، ***يَرى قائمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وراءَها

مَلَكْتُ أَي شَدَدْتُ وَقَوَّيْتُ.

وَيُقَالُ: طَعَنَهُ طَعْنَةً أَنْهَرَ فَتْقَها أَي وسَّعه؛ وأَنشد أَبو عُبَيْدٍ قَوْلَ أَبي ذُؤَيْبٍ.

وأَنْهَرْتُ الدمَ أَي أَسلته.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنْهِرُوا الدمَ بِمَا شِئْتُمْ إِلا الظُّفُرَ والسِّنَّ».

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: مَا أَنْهَرَ الدمَ فَكُلْ "؛ الإِنهار الإِسالة وَالصَّبُّ بِكَثْرَةٍ، شَبَّهَ خُرُوجَ الدَّمِ مِنْ مَوْضِعِ الذَّبْحِ بِجَرْيِ الْمَاءِ فِي النَّهْرِ، وإِنما نَهَى عَنِ السِّنِّ وَالظُّفْرِ لأَن مَنْ تَعَرَّضَ لِلذَّبْحِ بِهِمَا خَنَقَ المذبوحَ وَلَمْ يَقْطَعْ حَلْقَه.

والمَنْهَرُ: خَرْقٌ فِي الحِصْنِ نافذٌ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَاءِ، وَهُوَ مَفْعَلٌ مِنَ النَّهر، وَالْمِيمُ زَائِدَةٌ.

وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ: «أَنه قُتِلَ وَطُرِحَ فِي مَنْهَرٍ مِنْ مَنَاهِيرِ خَيْبَرَ».

وأَما قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ}، فَقَدْ يَجُوزُ أَن يَعْنِيَ بِهِ السَّعَةَ والضِّياءَ وأَن يَعْنِيَ بِهِ النَّهْرَ الَّذِي هُوَ مَجْرَى الْمَاءِ عَلَى وَضْعِ الْوَاحِدِ مَوْضِعَ الْجَمِيعِ؛ قَالَ:

لَا تُنْكِرُوا القَتْلَ، وَقَدْ سُبِينا، ***فِي حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وَقَدْ شُجِينا

وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ "؛ أَي فِي ضِيَاءٍ وَسَعَةٍ لأَن الْجَنَّةَ لَيْسَ فِيهَا لَيْلٌ إِنما هُوَ نُورٌ يتلألأُ، وَقِيلَ: نَهَرٌ أَي أَنهار.

وَقَالَ أَحمد بْنُ يَحْيَى: نَهَرٌ جَمْعُ نُهُرٍ، وَهُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ للنَّهار.

وَيُقَالُ: هُوَ وَاحِدُ نَهْرٍ كَمَايُقَالُ شَعَرٌ وشَعْرٌ، وَنَصْبُ الْهَاءِ أَفصح.

وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فِي جَنَّاتٍ ونَهَرٍ، مَعْنَاهُ أَنهار.

كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}، أَي الأَدْبارَ، وَقَالَ أَبو إِسحاق نَحْوَهُ وَقَالَ: الِاسْمُ الْوَاحِدُ يَدُلُّ عَلَى الْجَمِيعِ فيجتزأُ بِهِ عَنِ الْجَمِيعِ وَيُعَبَّرُ بِالْوَاحِدِ عَنِ الْجَمْعِ، كَمَا قَالَ تعالى: {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ.

وَمَاءٌ نَهِرٌ: كَثِيرٌ.

وَنَاقَةٌ نَهِرَة: كَثِيرَةُ النَّهر؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي؛ وأَنشد:

حَنْدَلِسٌ غَلْباءُ مِصْباح البُكَرْ، ***نَهِيرَةُ الأَخْلافِ فِي غيرِ فَخَرْ

حَنْدَلِسٌ: ضَخْمَةٌ عَظِيمَةٌ.

وَالْفَخْرُ: أَن يَعْظُمَ الضَّرْعُ فَيَقِلُّ اللَّبَنُ.

وأَنْهَرَ العِرْقُ: لَمْ يَرْقَأْ دَمُه.

وأَنْهَرَ الدمَ: أَظهره وأَساله.

وأَنْهَرَ دَمَه أَي أَسال دَمَهُ.

وَيُقَالُ: أَنْهَرَ بطنُه إِذا جَاءَ بطنُه مثلَ مَجِيءِ النَّهَرِ.

وَقَالَ أَبو الجَرَّاحِ: أَنْهَرَ بطنُه واسْتَطْلَقَتْ عُقَدُه.

وَيُقَالُ: أَنْهَرْتُ دَمَه وأَمَرْتُ دَمَه وهَرَقْتُ دَمَه.

والمَنْهَرَةُ: فَضَاءٌ يَكُونُ بَيْنَ بُيُوتِ الْقَوْمِ وأَفْنيتهم يَطْرَحُونَ فِيهِ كُناساتِهم.

وحَفَرُوا بِئْرًا فأَنْهَرُوا: لَمْ يُصِيبُوا خَيْرًا؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.

والنَّهار: ضِياءُ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقِيلَ: مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلى غُرُوبِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: النَّهَارُ انْتِشَارُ ضَوْءِ الْبَصَرِ وَاجْتِمَاعِهِ، وَالْجَمْعُ أَنْهُرٌ؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي، ونُهُرٌ عَنْ غَيْرِهِ.

الْجَوْهَرِيُّ: النَّهَارُ ضِدَّ اللَّيْلِ، وَلَا يُجْمَعُ كَمَا لَا يُجْمَعُ الْعَذَابُ والسَّرابُ، فإِن جَمَعْتَ قُلْتَ فِي قَلِيلِهِ: أَنْهُر، وَفِي الْكَثِيرِ: نُهُرٌ، مِثْلُ سَحَابٍ وسُحُب.

وأَنْهَرْنا: مِنَ النَّهَارِ؛ وأَنشد ابْنُ سِيدَهْ:

لَوْلَا الثَّرِيدَانِ لَمُتْنا بالضُّمُرْ: ***ثَرِيدُ لَيْلٍ وثَرِيدٌ بالنُّهُرْ

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَلَا يُجْمَعُ، وَقَالَ فِي أَثناء التَّرْجَمَةِ: النُّهُر جَمْعُ نَهار هَاهُنَا.

وَرَوَى الأَزهري عَنْ أَبي الْهَيْثَمِ قَالَ: النَّهَارُ اسْمٌ وَهُوَ ضِدُّ اللَّيْلِ، وَالنَّهَارُ اسْمٌ لِكُلِّ يَوْمٍ، وَاللَّيْلُ اسْمٌ لِكُلِّ لَيْلَةٍ، لَا يُقَالُ نَهَارٌ وَنَهَارَانِ وَلَا لَيْلٌ وَلَيْلَانِ، إِنما وَاحِدُ النَّهَارِ يَوْمٌ، وَتَثْنِيَتُهُ يَوْمَانِ، وَضِدُّ الْيَوْمِ لَيْلَةٌ، ثُمَّ جَمَعُوهُ نُهُرًا؛ وأَنشد: " ثَرِيدُ لَيْلٍ وَثَرِيدٌ بالنُّهُر "وَرَجُلٌ نَهِرٌ: صَاحِبُ نَهَارٍ عَلَى النَّسَبِ، كَمَا قَالُوا عَمِلٌ وطَعِمٌ وسَتِهٌ؛ قَالَ: " لَسْتُ بلَيْلِيٍّ وَلَكِنِّي نَهِرْ "قَالَ سِيبَوَيْهِ: قَوْلُهُ بليليٍّ يَدُلُّ أَن نَهِرًا عَلَى النَّسَبِ حَتَّى كأَنه قَالَ نَهاريٌّ.

وَرَجُلٌ نَهِرٌ أَي صاحب نَهارٍ يُغِيرُ فِيهِ؛ قَالَ الأَزهري وَسَمِعْتُ الْعَرَبَ تُنْشِدُ:

إِن تَكُ لَيْلِيًّا فإِني نَهِرُ، ***مَتَى أَتى الصُّبْحُ فَلَا أَنْتَظِرُ

قَالَ: وَمَعْنَى نَهِر أَي صَاحِبُ نَهَارٍ لَسْتُ بِصَاحِبِ لَيْلٍ؛ وَهَذَا الرَّجَزُ أَورده الْجَوْهَرِيُّ: " إِن كنتَ لَيْلِيًّا فإِني نَهِرُ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الْبَيْتُ مُغَيَّرٌ، قَالَ: وَصَوَابُهُ عَلَى مَا أَنشده سِيبَوَيْهِ:

لستُ بلَيْلِيٍّ وَلَكِنِّي نَهِرْ، ***لَا أُدْلِجُ الليلَ، وَلَكِنْ أَبْتَكِرْ

وَجَعَلَ نَهِر فِي مُقَابَلَةِ لَيْلِيٍّ كأَنه قَالَ: لَسْتُ بِلَيْلِيٍّ وَلَكِنِّي نَهَارِيٌّ.

وَقَالُوا: نهارٌ أَنْهَرُ كَلَيْلٍ أَلْيَل ونَهارٌ نَهِرٌ كَذَلِكَ؛ كِلَاهُمَا عَلَى الْمُبَالَغَةِ.

واسْتَنْهَرَ الشيءُ أَي اتَّسَعَ.

والنَّهار: فَرْخُ القَطا والغَطاط، وَالْجَمْعُ أَنْهِرَةٌ، وَقِيلَ: النَّهار ذكرالبُوم، وَقِيلَ: هُوَ وَلَدُ الكَرَوانِ، وَقِيلَ: هُوَ ذَكَرُ الحُبَارَى، والأُنثى لَيْلٌ.

الْجَوْهَرِيُّ: وَالنَّهَارُ فَرْخُ الْحُبَارَى؛ ذَكَرَهُ الأَصمعي فِي كِتَابِ الْفَرْقِ.

وَاللَّيْلُ: فَرْخُ الْكَرَوَانِ؛ حَكَاهُ ابْنُ بَرِّيٍّ عَنْ يُونُسَ بْنِ حَبِيبٍ؛ قَالَ: وَحَكَى التَّوْزِيُّ عَنْ أَبي عُبَيْدَةَ أَن جَعْفَرَ بْنَ سُلَيْمَانَ قَدِمَ مِنْ عِنْدِ الْمَهْدِيِّ فَبَعَثَ إِلى يُونُسَ بْنِ حَبِيبٍ فَقَالَ إِني وأَمير المؤْمنين اخْتَلَفْنَا فِي بَيْتِ الْفَرَزْدَقِ وَهُوَ:

والشَّيْبُ يَنْهَضُ فِي السَّوادِ كأَنه ***ليلٌ، يَصِيح بجانِبيهِ نَهارُ

مَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ؟ فَقَالَ لَهُ: اللَّيْلُ هُوَ اللَّيْلُ الْمَعْرُوفُ، وَكَذَلِكَ النَّهَارُ، فَقَالَ جَعْفَرٌ: زَعَمَ الْمَهْدِيُّ أَنَّ اللَّيْلَ فَرْخُ الكَرَوان وَالنَّهَارُ فرخُ الحُبارَى، قَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: الْقَوْلُ عِنْدِي مَا قَالَ يُونُسُ، وأَما الَّذِي ذَكَرَهُ الْمَهْدِيُّ فَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْغَرِيبِ وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعِهِ.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قَدْ ذَكَرَ أَهل الْمَعَانِي أَن الْمَعْنَى عَلَى مَا قَالَهُ يُونُسُ، وإِن كَانَ لَمْ يُفَسِّرْهُ تَفْسِيرًا شَافِيًا، وإِنه لَمَّا قَالَ: لَيْلٌ يَصِيحُ بِجَانِبَيْهِ نَهَارُ، فَاسْتَعَارَ لِلنَّهَارِ الصِّيَاحَ لأَن النَّهَارَ لَمَّا كَانَ آخِذًا فِي الإِقبال والإِقدام وَاللَّيْلَ آخَذُ فِي الإِدبار، صَارَ النَّهَارُ كأَنه هَازِمٌ، وَاللَّيْلُ مَهْزُومٌ، وَمِنْ عَادَةِ الْهَازِمِ أَنه يَصِيحُ عَلَى الْمَهْزُومِ؛ أَلا تَرَى إِلى قَوْلِ الشَّمَّاخ:

ولاقَتْ بأَرْجاءِ البَسِيطَةِ سَاطِعًا ***مِنَ الصُّبح، لمَّا صَاحَ بِاللَّيْلِ نَفَّرَا

فَقَالَ: صَاحَ بِاللَّيْلِ حَتَّى نَفَر وَانْهَزَمَ؛ قَالَ: وَقَدِ اسْتَعْمَلَ هَذَا الْمَعْنَى ابْنُ هَانِئٍ فِي قَوْلِهِ:

خَلِيلَيَّ، هُبَّا فانْصُراها عَلَى الدُّجَى ***كتائبَ، حَتَّى يَهْزِمَ الليلَ هازِمُ

وَحَتَّى تَرَى الجَوْزاءَ تَنثُر عِقْدَها، ***وتَسْقُطَ مِنْ كَفِّ الثُّريَّا الخَواتمُ

والنَّهْر: مِنَ الِانْتِهَارِ.

ونَهَرَ الرجلَ يَنْهَرُه نَهْرًا وانْتَهَرَه: زَجَرَه.

وَفِي التَّهْذِيبِ: نَهَرْتَه وانْتَهرْتُه إِذا اسْتَقْبَلْتَهُ بِكَلَامٍ تَزْجُرُهُ عَنْ خَبَرٍ.

قَالَ: والنَّهْرُ الدَّغْر وَهِيَ الخُلْسَةُ.

ونَهار: اسْمُ رَجُلٍ.

وَنَهَارُ بْنُ تَوْسِعَةَ: اسْمُ شَاعِرٍ مِنْ تَمِيمٍ.

والنَّهْرَوانُ: مَوْضِعٌ، وَفِي الصِّحَاحِ: نَهْرَوانُ، بِفَتْحِ النُّونِ وَالرَّاءِ، بَلْدَةٌ، والله أَعلم.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


201-لسان العرب (طوف)

طوف: طافَ بِهِ الخَيالُ طَوْفًا: أَلَمَّ بِهِ فِي النَّوْمِ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي طَيْفٍ أَيضًا لأَن الأَصمعي يَقُولُ طَافَ الْخَيَالُ يَطيف طَيْفًا، وَغَيْرُهُ يَطوف.

وَطَافَ بِالْقَوْمِ وَعَلَيْهِمْ طَوْفًا وطَوَفَانًا ومَطافًا وأَطَافَ: اسْتدار وَجَاءَ مِنْ نواحِيه.

وأَطَاف فُلَانٌ بالأَمر إِذَا أَحاط بِهِ، وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ.

وَقِيلَ: طافَ بِهِ حامَ حَوْله.

وأَطَافَ بِهِ وَعَلَيْهِ: طَرَقَه لَيْلًا.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ}.

وَيُقَالُ أَيضًا: طَافَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ "قَالَ: لَا يَكُونُ الطَّائِف إِلَّا لَيْلًا وَلَا يَكُونُ نَهَارًا، وَقَدْ تَتَكَلَّمُ بِهِ الْعَرَبُ فَيَقُولُونَ أَطَفتُ بِهِ نَهَارًا وَلَيْسَ موضعُه بِالنَّهَارِ، وَلَكِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ لَوْ تُرِك القَطَا لَيْلًا لَنَامَ لأَنَّ القَطا لَا يَسْري لَيْلًا؛ وأَنشد أَبو الجَرّاح:

أَطَفْتُ بِهَا نَهَارًا غَيْرَ لَيْلٍ، ***وأَلْهَى رَبَّها طَلبُ الرِّجالِ

وطَافَ بِالنِّسَاءِ لَا غَيْرُ.

وطَافَ حَوْلَ الشَّيْءِ يَطُوفُ طَوْفًا وطَوَفَانًا وتَطَوَّفَ واسْتَطَافَ كلُّه بِمَعْنًى.

وَرَجُلٌ طَافٌ: كَثِيرُ الطَّواف.

وتَطَوَّفَ الرجلُ أَي طافَ، وطَوَّفَ أَي أَكثر الطَّوافَ، وطَافَ بِالْبَيْتِ وأَطَافَ عَلَيْهِ: دارَ حَوْله؛ قَالَ أَبو خِرَاشٍ:

تُطِيفُ عَلَيْهِ الطَّيرُ، وَهُوَ مُلَحَّبٌ، ***خِلافَ البُيوتِ عِنْدَ مُحْتَملِ الصُّرْم

وَقَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}، هُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَن الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ يَوْمَ النحْر فَرْض.

واسْتَطافَه: طافَ بِهِ.

وَيُقَالُ: طَافَ بِالْبَيْتِ طَوَافًا واطَّوَّفَ اطِّوَّافًا، والأَصل تَطَوَّفَ تَطَوُّفًا وطَافَ طَوْفًا وطَوَفَانًا.

والمَطَافُ: موضِعُ المَطافِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ.

وَفِي الْحَدِيثِ ذُكِرَ الطَّوَاف بِالْبَيْتِ، وَهُوَ الدَّوران حَوْلَهُ، تَقُولُ: طُفْتُ أَطُوفُ طَوْفًا وطَوَافًا، وَالْجَمْعُ الأَطْوَاف.

وَفِي الْحَدِيثِ: «كَانَتِ المرأَةُ تَطُوف بِالْبَيْتِ وَهِيَ عُرْيانةٌ تَقُولُ: مَنْ يُعِيرُني تَطْوافًا؟ تَجْعَلُهُ عَلَى فَرجها».

قَالَ: هَذَا عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَي ذَا تَطْوافٍ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِكَسْرِ التَّاءِ، قَالَ: وَهُوَ الثَّوْبُ الَّذِي يُطافُ بِهِ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ مَصْدَرًا.

والطَّائِفُ: مَدِينَةٌ بالغَوْرِ، يُقَالُ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ طَائِفًا لِلْحَائِطِ الَّذِي كَانُوا بنَوْا حَوْلها فِي الْجَاهِلِيَّةِ المُحْدِق بِهَا الَّذِي حَصَّنُوها بِهِ.

والطَّائِفُ: بِلَادُ ثَقِيفَ.

والطَّائِفيّ: زَبِيبٌ عَناقِيدُه مُتراصِفةُ الْحَبِّ كأَنه مَنْسُوبٌ إِلَى الطَّائِف.

وأَصابه طَوْفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وطَائِفٌ وطَيِّف وطَيْفٌ، الأَخيرة عَلَى التَّخْفِيفِ، أَي مَسٌّ.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ}، وطَيْفٌ؛ وَقَالَ الأَعشى:

وتُصْبِحُ عَنْ غِبِّ السُّرى، وكأَنما ***أَطَافَ بِهَا مِنْ طَائِفِ الجِنّ أَوْلَقُ

قَالَ الْفَرَّاءُ: الطَّائِفُ والطَّيْف سَوَاءٌ، وَهُوَ مَا كَانَ كالخَيال وَالشَّيْءُ يُلِمّ بِكَ؛ قَالَ أَبو الْعِيَالِ الهُذلي:

ومَنَحْتَني جَدَّاء، حينَ مَنَحْتَني، ***فَإِذَا بِهَا، وأَبيكَ، طَيْفُ جُنُونِ

وأَطَافَ بِهِ أَي أَلمّ بِهِ وقارَبه؛ قَالَ بِشْر:

أَبُو صِبْيةٍ شُعْثٍ يُطِيفُ بشَخْصه ***كَوالِحُ، أَمْثال اليعاسِيب، ضُمَّرُ

وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ قَالَ: الغَضَبُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ أَيضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: الطَّيْفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الجُنُون، رَوَاهُ أَبو عُبَيْدٍ عَنِ الأَحمر، قَالَ: وَقِيلَ لِلْغَضَبِ طيفٌ لأَن عَقْلَ مَنِ اسْتَفزَّه الغضبُ يَعْزُب حَتَّى يَصِيرَ فِي صُورَةِ المَجْنون الَّذِي زَالَ عَقْلُهُ، قَالَ: وَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ إِذَا أَحسَّ مِنْ نَفْسِهِ إِفْرَاطًا فِي الْغَضَبِ أَن يَذْكُرَ غضَب اللَّهِ عَلَى المُسْرِفين، فَلَا يَقْدَم عَلَى مَا يُوبِقُه ويَسأَل اللَّهَ تَوْفِيقَه لِلْقَصْدِ فِي جَمِيعِ الأَحوال إِنَّهُ المُوَفِّق لَهُ.

وَقَالَ اللَّيْثُ كُلُّ شَيْءٍ يَغْشَى الْبَصَرَ مِنْ وَسْواس الشَّيْطَانِ، فَهُوَ طَيْفٌ، وَسَنَذْكُرُ عَامَّةً ذَلِكَ فِي طَيَفَ لأَن الْكَلِمَةَ يَائِيَّةٌ وَوَاوِيَّةٌ.

وَطَافَ فِي الْبِلَادِ طَوْفًا وتَطْوَافًا وطَوَّفَ: سَارَ فِيهَا.

والطَّائِفُ: العاسُّ بِاللَّيْلِ.

والطَّائِفُ: العَسَسُ.

والطَّوَّافُون: الخَدَم والمَمالِيك.

وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ}، قَالَ: هَذَا كَقَوْلِكَ فِي الْكَلَامِ إِنَّمَا هُمْ خَدَمُكم وطَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ، قَالَ: فَلَوْ كَانَ نَصْبًا كَانَ صَوَابًا مَخْرَجُه مِنْ عَلَيْهِمْ.

وَقَالَ أَبو الْهَيْثَمِ: الطَّائِفُ هُوَ الخادمُ الَّذِي يخدُمك برفْق وَعِنَايَةٍ، وَجَمْعُهُ الطَّوَّافُونَ.

وَقَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فِي الهِرَّةِ: إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافَاتِ فِي الْبَيْتِ أَي مِنْ خَدَمِ الْبَيْتِ، وَفِي طَرِيقٍ آخَرَ: إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ والطَّوَّافَاتِ، والطَّوَّاف فَعَّال، شَبَّهَهَا بِالْخَادِمِ الَّذِي يَطُوف عَلَى مَوْلاه وَيَدُورُ حولَه أَخذًا من قوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ، وَلَمَّا كَانَ فِيهِمْ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ قَالَ: الطَّوَّافِين والطَّوَّافَاتِ، قَالَ: وَمِنْهُ الْحَدِيثُ لَقَدْ طَوَّفْتُمَا بِي اللَّيْلَةَ.

يُقَالُ: طَوَّفَ تَطْوِيفًا وتَطْوَافًا.

والطَّائِفَةُ مِنَ الشَّيْءِ: جُزْءٌ مِنْهُ.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}؛ قَالَ مُجَاهِدٌ: الطَّائِفَةُ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ إِلَى الأَلف، وَقِيلَ: الرَّجُلُ الْوَاحِدُ فَمَا فَوْقَهُ، " وَرُوِيَ عَنْهُ أَيضًا أَنه قَالَ: أَقَلُّه رَجُلٌ، وَقَالَ عَطَاءٌ: أَقله رَجُلَانِ.

يُقَالُ: طَائِفَة مِنَ النَّاسِ وطَائِفَة مِنَ اللَّيْلِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تزالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمتي عَلَى الْحَقِّ»؛ الطَّائِفَةُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ وَتَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ كأَنه أَراد نَفْسًا طَائِفَةً؛ وَسُئِلَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ عَنْهُ فَقَالَ: الطَّائِفَةُ دُونَ الأَلف وسَيبْلُغ هَذَا الأَمرُ إِلَى أَن يَكُونَ عَدَدَ الْمُتَمَسِّكِينَ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأَصحابه أَلفًا يُسَلِّي بِذَلِكَ أَن لَا يُعْجِبهم كثرةُ أَهل الْبَاطِلِ.

وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْن وغُلامه الآبِقِ: «لأَقْطَعَنَّ مِنْهُ طَائِفًا»؛ هَكَذَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ؛ أي بَعْضَ أَطرافه، وَيُرْوَى بِالْبَاءِ وَالْقَافِ.

والطَّائِفَةُ: القِطعةُ مِنَ الشَّيْءِ؛ وَقَوْلُ أَبي كَبِيرٍ الْهُذَلِيِّ:

تَقَعُ السُّيوفُ عَلَى طَوَائِفَ مِنهمُ، ***فيُقامُ مِنهمْ مَيْلُ مَن لَمْ يُعْدَلِ

قِيلَ: عَنَى بالطَّوَائِف النواحِيَ، الأَيدِيَ والأَرجلَ.

والطَّوَائِفُ مِنَ القَوْسِ: مَا دُونَ السِّيَةِ، يَعْنِي بالسِّية مَا اعْوَجَّ مِنْ رأْسها وَفِيهَا طَائِفَان، وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: طَائِفُ الْقَوْسِ مَا جاوَزَ كُلْيَتَها مِنْ فَوْقٍ وأَسفل إِلَى مُنحنَى تَعْطيف القوسِ مِنْ طرَفها.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وقضَيْنا عَلَى هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ بِالْوَاوِ لِكَوْنِهَا عَيْنًا مع أَن ط وف أَكثر مِنْ ط ي ف.

وطَائِفُ الْقَوْسِ: "مَا بَيْنَ السِّيةِ والأَبْهر، وَجَمْعُهُ طَوَائِفُ؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ:

ومَصُونَةٍ دُفِعَتْ، فَلَمَّا أَدْبَرَتْ، ***دَفَعَتْ طَوَائِفُها عَلَى الأَقْيالِ

وطَافَ يَطُوفُ طَوْفًا.

واطَّافَ اطِّيَافًا: تَغَوَّط وَذَهَبَ إلى البَراز.

والطَّوْفُ: النَّجْوُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَتناجى اثْنَانِ عَلَى طَوْفِهما».

وَمِنْهُ: نُهِيَ عَنْ مُتَحَدِّثَيْن عَلَى طَوْفِهما أَي عِنْدِ الْغَائِطِ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحدُكم وَهُوَ يُدافع الطَّوْف مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ الرِّضَاعِ الأَحمر».

يُقَالُ لأَول مَا يَخْرُجُ مِنْ بَطْنِ الصَّبي: عِقْيٌ فَإِذَا رَضِع فَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قِيلَ: طَافَ يَطُوف طَوْفًا، وَزَادَ ابْنُ الأَعرابي فَقَالَ: اطَّافَ يَطَّافُ اطِّيَافًا إِذَا أَلقى مَا فِي جَوْفه؛ وأَنشد:

عَشَّيْتُ جَابَانَ حَتَّى اسْتَدّ مَغْرِضُه، ***وكادَ يَنْقَدُّ إِلَّا أَنه اطَّافَا»

جَابَانُ: اسْمُ جَمَلٍ.

وَفِي حَدِيثِ لَقِيطٍ: «مَا يَبْسُطُ أَحدُكم يدَه إِلَّا وَقَع عَلَيْهَا قَدَحٌ مُطهِّرَةٌ مِنَ الطَّوْف والأَذى»؛ الطَّوْفُ: الْحَدَثُ مِنَ الطَّعَامِ، الْمَعْنَى مِنْ شُرْبِ تِلْكَ الشَّرْبَةِ طهُر مِنَ الْحَدَثِ والأَذى، وأَنث القَدَح لأَنه ذَهَبَ بِهَا إِلَى الشرْبة.

والطَّوْفُ: قِرَبٌ يُنْفَخُ فِيهَا ويُشَدُّ بعضُها ببعْض فتُجْعل كَهَيْئَةِ سَطْحٍ فَوْقَ الْمَاءِ يُحمل عَلَيْهَا المِيرةُ والناسُ، ويُعْبَر عَلَيْهَا ويُرْكَب عَلَيْهَا فِي الْمَاءِ وَيُحْمَلُ عَلَيْهَا، وَهُوَ الرَّمَث، قَالَ: وَرُبَّمَا كَانَ مِنْ خَشب.

والطَّوْفُ: خَشَبٌ يشدُّ وَيُرْكَبُ عَلَيْهِ فِي الْبَحْرِ، وَالْجَمْعُ أَطْوَاف، وَصَاحِبُهُ طَوَّافٌ.

قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: الطَّوْفُ الَّتِي يُعْبَرُ عَلَيْهَا فِي الأَنهار الْكِبَارِ تُسَوَّى مِنَ القَصَبِ والعِيدانِ يُشدُّ بعضُها فَوْقَ بَعْضٍ ثُمَّ تُقَمَّطُ بالقُمُط حَتَّى يُؤْمنَ انْحِلالُها، ثُمَّ تُرْكَبُ ويُعبر عَلَيْهَا وَرُبَّمَا حُمل عَلَيْهَا الجَملُ عَلَى قَدْرِ قُوَّته وَثَخَانَتِهِ، وتسمَّى العامَةَ، بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ.

وَيُقَالُ: أَخذه بِطُوفِ رَقَبَتِهِ وبطَافِ رَقَبَتِهِ مِثْلُ صُوف رَقَبَتِهِ.

والطَّوْفُ: القِلْدُ.

وطَوْفُ القصَب: قدرُ مَا يُسقاه.

والطَّوف والطَّائِفُ: الثَّوْرُ الَّذِي يَدُور حَوْلَه البَقَرُ فِي الدِّياسة.

والطُّوفَانُ: الْمَاءُ الَّذِي يَغْشى كُلَّ مَكَانٍ، وَقِيلَ: الْمَطَرُ الْغَالِبُ الَّذِي يُغْرِقُ مِنْ كَثْرَتِهِ، وَقِيلَ: الطُّوفَان الْمَوْتُ الْعَظِيمُ.

وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطُّوفَان الْمَوْتُ، وَقِيلَ الطُّوفَان مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَا كَانَ كَثِيرًا مُحِيطًا مُطيفًا بِالْجَمَاعَةِ كُلِّهَا كالغَرَق الَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَى الْمُدُنِ الْكَثِيرَةِ.

والقتلُ الذَّرِيعُ والموتُ الجارفُ يُقَالُ لَهُ طُوفَان، وَبِذَلِكَ كُلِّهِ فُسِّرَ قَوْلُهُ تعالى: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ}؛ وَقَالَ:

غَيَّر الجِدّةَ مِنْ آيَاتِهَا ***خُرُقُ الرِّيحِ، وطُوفَانُ المَطر

وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: «وذُكر الطاعونُ فَقَالَ لَا أَراه إِلَّا رِجْزًا أَو طُوفَانًا»؛ أَراد بالطُّوفَانِ البَلاء، وَقِيلَ الْمَوْتُ.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَقَالَ الأَخفش الطُّوفَانُ جَمْعُ طُوفَانَةٍ، والأَخفش ثِقة؛ قَالَ: وَإِذَا حَكَى الثِّقَةُ شَيْئًا لَزِمَ قَبُولُهُ، قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: وَهُوَ مِنْ طَافَ يَطُوفُ، قَالَ: والطُّوفَانُ مَصْدَرٌ مِثْلُ الرُّجْحان والنقْصان وَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى أَن يُطْلَبَلَهُ وَاحِدًا.

وَيُقَالُ لشدَّة سَوَادِ اللَّيْلِ: طُوفَان.

والطُّوفَانُ: ظَلام اللَّيْلِ؛ قَالَ الْعَجَّاجُ:

حَتَّى إِذَا مَا يَوْمُها تَصَبْصَبا، ***وعَمَّ طُوفَانُ الظَّلَامِ الأَثْأَبا

عَمَّ: أَلبس، والأَثأَب: شَجَرٌ شِبْهُ الطَّرْفَاءِ إِلَّا أَنه أَكبر مِنْهُ.

وطَوَّفَ الناسُ والجرادُ إذا ملؤوا الأَرض كالطُّوفان؛ قَالَ الْفَرَزْدَقُ:

عَلَى مَن وَراء الرَّدْمِ لَوْ دُكَّ عنهمُ، ***لَماجُوا كَمَا ماجَ الجرادُ وطَوَّفُوا

التَّهْذِيبُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ}، قَالَ الْفَرَّاءُ: أَرسل اللَّهُ عَلَيْهِمُ السماءَ سَبْتًا فَلَمْ تُقْلِع لَيْلًا وَلَا نَهَارًا فَضَاقَتْ بِهِمُ الأَرض فسأَلوا مُوسَى أَن يُرْفع عَنْهُمْ فَرُفِع فلم يتوبوا.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


202-لسان العرب (عمم)

عمم: العَمُّ: أَخو الأَب.

وَالْجَمْعُ أَعْمام وعُمُوم وعُمُومة مِثْلُ بُعُولة؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: أَدخلوا فِيهِ الْهَاءَ لِتَحْقِيقِ التأْنيث، وَنَظِيرُهُ الفُحُولة والبُعُولة.

وَحَكَى ابْنُ الأَعرابي فِي أَدنى الْعَدَدِ: أَعُمٌّ، وأَعْمُمُونَ، بِإِظْهَارِ التَّضْعِيفِ: جَمْعُ الْجَمْعِ، وَكَانَ الْحُكْمُ أَعُمُّونَ لَكِنْ هَكَذَا حَكَاهُ؛ وأَنشد:

تَرَوَّح بالعَشِيِّ بِكُلِّ خِرْقٍ ***كَرِيم الأَعْمُمِينَ وكُلِّ خالِ

وَقَوْلُ أَبي ذُؤَيْبٍ:

وقُلْتُ: تَجَنَّبَنْ سُخْطَ ابنِ عَمّ، ***ومَطْلَبَ شُلَّةٍ وَهِيَ الطَّرُوحُ

أَرَادَ: ابْنَ عَمِّكَ، يُرِيدُ ابْنَ عَمِّهِ خَالِدَ بْنَ زُهَيْرٍ، ونَكَّره لأَن خَبَرهما قَدْ عُرِف، وَرَوَاهُ الأَخفش بْنُ عَمْرٍو؛ وَقَالَ: يَعْنِي ابْنَ عُوَيْمِرٍ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ خَالِدٌ:

أَلَمْ تَتَنَقَّذْها مِنِ ابنِ عُوَيْمِرٍ، ***وأنْتَ صَفِيُّ نَفْسِهِ وسَجِيرُها

والأُنثى عَمَّةٌ، وَالْمَصْدَرُ العُمُومة.

وَمَا كُنْتَ عَمًّا وَلَقَدْ عَمَمْتَ عُمُومةً.

وَرَجُلٌ مُعِمٌّ ومُعَمٌّ: كَرِيمُ الأَعْمام.

واسْتَعَمَّ الرجلَ عَمًّا: اتَّخذه عَمًّا.

وتَعَمَّمَه: دَعاه عَمًّا، وَمِثْلُهُ تَخَوَّلَ خَالًا.

وَالْعَرَبُ تَقُولُ: رَجُلٌ مُعَمٌّ مُخْوَلٌ إِذَا كَانَ كَرِيمَ الأَعْمام والأَخْوال كثيرَهم؛ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: " بِجِيدٍ مُعَمّ فِي العَشِيرةِ مُخْوَلِ "قَالَ اللَّيْثُ: وَيُقَالُ فِيهِ مِعَمٌّ مِخْوَلٌ، قَالَ الأَزهري: وَلَمْ أَسْمَعْهُ لِغَيْرِ اللَّيْثِ وَلَكِنْ يُقَالُ: مِعَمٌّ مِلَمٌّ إِذَا كَانَ يَعُمُّ الناسَ ببرِّه وَفَضْلِهِ، ويَلُمُّهم أَيْ يُصْلِحُ أَمْرَهُمْ وَيَجْمَعُهُمْ.

وتَعَمَّمَتْه النساءُ: دَعَوْنَه عَمًّا، كَمَا تَقُولُ تَأَخَّاه وتَأَبَّاه وتَبَنَّاه؛ أَنْشَدَ ابْنُ الأَعرابي:

عَلامَ بَنَتْ أُخْتُ اليَرابِيعِ بَيْتَها ***عَلَيَّ، وقالَتْ لِي: بِلَيْلٍ تَعَمَّمِ؟

مَعْنَاهُ أَنَّهَا لَمَّا رأَت الشيبَ قَالَتْ لَا تَأْتِنا خِلْمًا وَلَكِنِ ائْتِنَا عَمًّا.

وَهُمَا ابْنَا عَمّ: تُفْرِدُ العَمَّ وَلَا تُثَنِّيه لأَنك إِنَّمَا تُرِيدُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُضَافٌ إِلَى هَذِهِ الْقَرَابَةِ، كَمَا تَقُولُ فِي حَدِّ الْكُنْيَةِ أبوَا زَيْدٍ، إِنَّمَا تُرِيدُ أَن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُضَافٌ إِلَى هَذِهِ الْكُنْيَةِ، هَذَا كَلَامُ سِيبَوَيْهِ.

وَيُقَالُ: هُمَا ابْنا عَمّ وَلَا يُقَالُ هُمَا ابْنا خالٍ، وَيُقَالُ: هُمَا ابْنا خَالَةٍ وَلَا يُقَالُ ابْنا عَمَّةٍ، وَيُقَالُ: هُمَا ابْنا عَمّ لَحّ وَهُمَا ابْنا خَالَةٍ لَحًّا، وَلَا يُقَالُ هُمَا ابْنا عَمَّةٍ لَحًّا وَلَا ابْنا خالٍ لَحًّا لأَنهما مُفْتَرِقَانِ، قَالَ: لأَنهما رَجُلٌ وامرأَة؛ وأَنشد:

فإنَّكُما ابْنا خالةٍ فاذْهَبا مَعًا، ***وإنيَ مِنْ نَزْعٍ سِوى ذَاكَ طَيِّب

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: يُقَالُ ابْنا عَمّ لأَن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ يَا ابنَ عَمِّي، وَكَذَلِكَ ابْنا خالةٍ لأَن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ يَا ابْنَ خَالَتِي، وَلَا يَصِحُّ أَن يُقَالُ هُمَا ابْنا خالٍ لأَن أَحدهما يَقُولُ لِصَاحِبِهِ يَا ابْنَ خَالِي وَالْآخِرَ يَقُولُ لَهُ يَا ابْن عَمَّتي، فَاخْتَلَفَا، وَلَا يَصِحُّ أَن يُقَالَ هُمَا ابْنَا عَمَّةٍ لأَن أَحَدَهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ يَا ابْنَ عَمَّتي وَالْآخِرَ يَقُولُ لَهُ يَا ابنَ خَالِي.

وَبَيْنِي وَبَيْنَ فُلَانٍ عُمُومة كَمَا يُقَالُ أُبُوَّةٌ وخُؤُولةٌ.

وَتَقُولُ: يَا ابْنَ عَمِّي وَيَا ابنَ عَمِّ وَيَا ابنَ عَمَّ، ثَلَاثُ لُغَاتٍ، وَيَا ابنَ عَمِ، بِالتَّخْفِيفِ؛ وَقَوْلِ أَبي النَّجْمِ:

يَا ابْنَةَ عَمَّا، لَا تَلُومي واهْجَعِي، ***لَا تُسْمِعِيني مِنْكِ لَوْمًا واسْمَعِي

أَراد عَمّاهُ بهاء النُّدْبة؛ وهكذا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ عَمّاهُ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَوَابُهُ عَمَّاهُ، بِتَسْكِينِ الْهَاءِ؛ وأَما الَّذِي وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: « استأْذَنتِ النبيَّ، صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فِي دُخُولِ أَبِي القُعَيْس عَلَيْهَا فَقَالَ: ائْذَني لَهُ فإنَّه عَمُّجِ »، فَإِنَّهُ يُرِيدُ عَمُّك مِنَ الرَّضَاعَةِ، فأَبدل كَافَ الْخِطَابِ جِيمًا، وَهِيَ لُغَةُ قَوْمٍ مِنَ الْيَمَنِ؛ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا جَاءَ هَذَا مِنْ بَعْضِ النَّقَلة، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِاللُّغَةِ الْعَالِيَةِ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِكَثِيرٍ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ مِنْهَا قَوْلُهُ: " لَيْسَ مِنَ امْبِرّ امْصِيامُ فِي امْسَفَرِ "وَغَيْرُ ذَلِكَ.

والعِمامةُ: مِنْ لِبَاسِ الرأْس مَعْرُوفَةٌ، وَرُبَّمَا كُنِيَ بِهَا عَنِ البَيْضة أَو المِغْفَر، وَالْجَمْعُ عَمائِمُ وعِمامٌ؛ الأَخيرة عَنِ اللِّحْيَانِيِّ، قَالَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ لَمّا وَضَعوا عِمامَهم عَرَفْناهم، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَمْع عِمامَة جَمْعَ التَّكْسِيرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ طَلْحةٍ وطَلْحٍ، وَقَدِ اعْتَمَّ بِهَا وتَعَمَّمَ بِمَعْنًى؛ وَقَوْلُهُ أَنشده ثَعْلَبٌ:

إِذَا كَشَفَ اليَوْمُ العَماسُ عَنِ اسْتِهِ، ***فَلَا يَرْتَدِي مِثْلي وَلَا يَتَعَمَّمُ

قِيلَ: مَعْنَاهُ أَلْبَسُ ثِيابَ الْحَرْبِ وَلَا أَتجمل، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَيْسَ يَرْتَدي أَحد بِالسَّيْفِ كَارْتِدَائِي وَلَا يَعْتَمُّ بِالْبَيْضَةِ كاعْتِمامي.

وعَمَّمْتُه: أَلبسته العِمامةَ، وَهُوَ حَسَنُ العِمَّةِ أَيِ التَّعَمُّمِ؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: " واعْتَمَّ بالزَّبَدِ الجَعْدِ الخَراطِيمُ "وأَرْخَى عِمامتَه: أَمِنَ وتَرَفَّهَ لأَن الرَّجُلَ إِنَّمَا يُرْخي عِمامَتَه عِنْدَ الرَّخَاءِ؛ وأَنشد ثَعْلَبٌ:

أَلْقى عَصاهُ وأَرْخى مِنْ عِمامَته ***وَقَالَ: ضَيْفٌ، فَقُلْتُ: الشَّيْبُ؟ قَالَ: أَجَلْ

قَالَ: أَراد وَقُلْتُ الشَّيْبُ هَذَا الَّذِي حَلَّ.

وعُمِّمَ الرجلُ: سُوِّدَ لأَن تِيجَانَ الْعَرَبِ العَمائم، فَكُلَّمَا قِيلَ فِي الْعَجَمِ تُوِّجَ مِنَ التَّاجِ قِيلَ فِي الْعَرَبِ عُمِّمَ؛ قَالَ الْعَجَّاجُ: " وَفيهمُ إذْ عُمِّمَ المُعَمَّمُ "وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا سُوِّد: قَدْ عُمِّمَ، وَكَانُوا إِذَا سَوَّدُوا رَجُلًا عَمَّمُوه عِمامةً حَمْرَاءَ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

رَأَيْتُكَ هَرَّيْتَ العِمامةَ بَعْدَ ما ***رَأَيْتُكَ دَهْرًا فاصِعًا لَا تَعَصَّب

وَكَانَتِ الفُرْسُ تُتَوِّجُ مُلُوكَهَا فَيُقَالُ لَهُ مُتَوَّج.

وشاةٌ مُعَمَّمةٌ: بَيْضَاءُ الرأْس.

وفرَسٌ مُعَمَّمٌ: أَبيض الهامَةِ دُونَ الْعُنُقِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْخَيْلِ الَّذِي ابيضَّتْ ناصيتُه كُلُّهَا ثُمَّ انْحَدَرَ الْبَيَاضُ إِلَى مَنْبِت النَّاصِيَةِ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ القَوْنَس.

وَمِنْ شِياتِ الْخَيْلِ أَدْرَعُ مُعَمَّم: وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ بَيَاضُهُ فِي هَامَتِهِ دُونَ عُنُقِهِ.

والمُعَمَّمُ مِنَ الْخَيْلِ وَغَيْرِهَا: الَّذِي ابيضَّ أُذناه ومنيت نَاصِيَتِهِ وَمَا حَوْلَهَا دُونَ سَائِرِ جَسَدِهِ؛ وَكَذَلِكَ شاةٌ مُعَمَّمة: فِي هامَتِها بَيَاضٌ.

والعامَّةُ: عِيدانٌ مَشْدُودَةٌ تُرْكَبُ فِي الْبَحْرِ ويُعْبَرُ عَلَيْهَا، وخَفَّفَ ابْنُ الأَعرابي الْمِيمَ مِنْ هَذَا الْحَرْفِ فَقَالَ: عامَةٌ مِثْلُ هامَة الرأْس وقامةَ العَلَق وَهُوَ الصَّحِيحُ.

والعَمِيمُ: الطَّوِيلُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنَّبَاتِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ الرُّؤْيَا: " فأَتينا عَلَى رَوْضَةٍ مُعْتَمَّةٍ "أَيْ وَافِيَةِ النَّبَاتِ طَوِيلَتِهِ، وكلُّ مَا اجْتَمَعَ وكَثُرَ عَمِيمٌ، وَالْجَمْعُ عُمُمٌ؛ قَالَ الْجَعْدِيُّ يَصِفُ سَفِينَةَ نُوحٌ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:

يَرْفَعُ، بالقارِ والحَديدِ مِنَ الْجَوْزِ، ***طِوالًا جُذُوعُها، عُمُما

وَالِاسْمُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ العَمَمُ.

والعَمِيمُ يَبِيسُ البُهْمى.

وَيُقَالُ: اعْتَمَّ النبتُ اعْتِمامًا إِذَا التفَّ وَطَالَ.

وَنَبْتٌ عَمِيمٌ؛ قَالَ الأَعشى: " مُؤَزَّرٌ بِعَمِيمِ النَّبْتِ مُكْتَهِلُ "واعْتَمَّ النبتُ: اكْتَهَلَ.

وَيُقَالُ لِلنَّبَاتِ إِذَا طَالَ: قَدِ اعْتَمَّ.

وَشَيْءٌ عَمِيمٌ أَيْ تَامٌّ، وَالْجَمْعُ عُمُمٌ مِثْلُ سَرير وسُرُر.

وَجَارِيَةٌ عَمِيمَةٌ وعَمَّاءُ: طَوِيلَةٌ تامةُ القَوامِ والخَلْقِ،، وَالذَّكَرُ أَعَمُّ.

وَنَخْلَةٌ عَمِيمةٌ: طَوِيلَةٌ، وَالْجَمْعُ عُمٌّ؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: أَلزموه التَّخْفِيفَ إِذْ كَانُوا يُخَفِّفُونَ غَيْرَ الْمُعْتَلِّ، ونظيرهُ بونٌ، وَكَانَ يَجِبُ عُمُم كَسُرُر لأَنه لَا يُشْبِهُ الْفِعْلَ.

ونخلةٌ عُمٌّ؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ: إِمَّا أَن يَكُونَ فُعْلًا وَهِيَ أَقل، وَإِمَّا أَن يَكُونَ فُعُلًا أَصْلُهَا عُمُمٌ، فَسَكَنَتِ الْمِيمُ وأُدغمت، وَنَظِيرُهَا عَلَى هَذَا نَاقَةٌ عُلُطٌ وَقَوْسٌ فُرُجٌ وَهُوَ بابإِلَى السَّعَة.

وَيُقَالُ: نَخْلَةٌ عَمِيمٌ وَنَخْلٌ عُمٌّ إِذَا كَانَتْ طِوالًا؛ قَالَ: " عُمٌّ كَوارِعُ فِي خَلِيج مُحَلِّم وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنه اختَصم إِلَيْهِ رَجُلَانِ فِي نَخْلٍ غَرَسَه أَحَدُهُمَا فِي غَيْرِ حَقِّهِ مِنَ الأَرض، قَالَ الرَّاوِي: فَلَقَدْ رأَيت النخل يُضرب في أُصولها بالفُؤُوس وإنَّها لَنَخْلٌ عُمٌ "؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: العُمُّ التَّامَّةُ فِي طُولِهَا وَالْتِفَافِهَا؛ وأَنشد لِلَبِيدٍ يَصِفُ نَخْلًا:

سُحُقٌ يُمَتِّعُها الصَّفا، وسَرِيُّهُ ***عُمٌّ نَواعِمُ، بَيْنهنّ كُرُومُ

وَفِي الْحَدِيثِ: « أَكْرِموا عَمَّتَكم النَّخْلَةَ »؛ سماها عَمَّة لِلْمُشَاكَلَةِ فِي أَنَّهَا إِذَا قُطِعَ رأْسها يَبِستْ كُمَّا إِذَا قُطِعَ رأْس الإِنسان مَاتَ، وَقِيلَ: لأَن النَّخْلَ خَلْقٌ مِنْ فَضْلةِ طِينَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

ابْنُ الأَعرابي: عُمَّ إِذَا طُوِّلَ، وعَمَّ إِذَا طَالَ.

ونبْتٌ يَعْمومٌ: طَوِيلٌ؛ قَالَ:

ولقَدْ رَعَيْتُ رِياضَهُنَّ يُوَيْفِعًا، ***وعُصَيْرُ طَرَّ شُوَيرِبي يَعْمومُ

والعَمَمُ: عِظَم الخَلْق فِي النَّاسِ وَغَيْرِهِمْ.

والعَمَم: الْجِسْمُ التامُّ.

يُقَالُ: إِنَّ جِسمه لعَمَمٌ وَإِنَّهُ لعَممُ الْجِسْمِ.

وجِسم عَمَم: تامٌّ.

وأَمر عَمَم: تامٌّ عامٌّ وَهُوَ مِنْ ذَلِكَ؛ قَالَ عَمْرٌو ذُو الْكَلْبِ الْهُذَلِيُّ:

يَا ليتَ شِعْري عَنْك، والأَمرُ عَمَمْ، ***مَا فَعَل اليومَ أُوَيْسٌ فِي الغَنَمْ؟

ومَنْكِب عَمَمٌ: طَوِيلٌ؛ قَالَ عَمْرُو بْنُ شَأْسٍ:

فإنَّ عِرارًا إنْ يَكُنْ غَيرَ واضِحٍ، ***فَإِنِّي أُحِبُّ الجَوْنَ ذَا المَنْكِب العَمَمْ

وَيُقَالُ: اسْتَوى فُلَانٌ عَلَى عَمَمِه وعُمُمِه؛ يُرِيدُونَ بِهِ تَمَامَ جِسْمِهِ وَشَبَابِهِ وَمَالِهِ؛ وَمِنْهُ حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ حِينَ ذَكَرَ أُحَيحة بْنَ الجُلاح وَقَوْلَ أَخواله فِيهِ: كُنَّا أَهلَ ثُمِّه ورُمِّه، حَتَّى إِذَا اسْتَوَى عَلَى عُمُمِّه "، شَدَّدَ لِلِازْدِوَاجِ، أَراد عَلَى طُولِهِ وَاعْتِدَالِ شَبَابِهِ؛ يُقَالُ لِلنَّبْتِ إِذَا طَالَ: قَدِ اعتَمَّ، وَيَجُوزُ عُمُمِه، بِالتَّخْفِيفِ، وعَمَمِه، بِالْفَتْحِ وَالتَّخْفِيفِ، فأَما بِالضَّمِّ فَهُوَ صِفَةٌ بِمَعْنَى العَمِيم أَوْ جَمْعُ عَمِيم كسَرير وسُرُر، وَالْمَعْنَى حَتَّى إِذَا اسْتَوَى عَلَى قَدّه التَّامِّ أَو عَلَى عِظَامِهِ وأَعضائه التَّامَّةِ، وَأَمَّا التَّشْدِيدَةُ فِيهِ عِنْدَ مَنْ شَدَّدَهُ فَإِنَّهَا الَّتِي تُزَادُ فِي الْوَقْفِ نَحْوُ قَوْلِهِمْ: هَذَا عُمَرّْ وَفَرَجّْ، فأُجري الْوَصْلَ مُجْرَى الْوَقْفِ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَأَمَّا مَنْ رَوَاهُ بِالْفَتْحِ وَالتَّخْفِيفِ فَهُوَ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: مَنْكِب عَمَمٌ؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" لُقْمَانَ: يَهَبُ الْبَقَرَةَ العَمِيمة "أَيِ التَّامَّةَ الخَلق.

وعَمَّهُم الأَمرُ يَعُمُّهم عُمومًا: شَمِلهم، يُقَالُ: عَمَّهُمْ بالعطيَّة.

والعامّةُ: خِلَافُ الخاصَّة؛ قَالَ ثعلب: سميت بذلك لأَنها تَعُمُّ بِالشَّرِّ.

والعَمَمُ: العامَّةُ اسْمٌ لِلْجَمْعِ؛ قَالَ رُؤْبَةُ: " أنتَ رَبِيعُ الأَقرَبِينَ والعَمَمْ وَيُقَالُ: رجلٌ عُمِّيٌّ وَرَجُلٌ قُصْرِيٌّ، فالعُمِّيُّ العامُّ، والقُصْرِيُّ الخاصُّ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « كَانَ إِذَا أَوى إِلَى مَنْزِلِهِ جَزَّأَ دُخُولَهُ ثَلَاثَةَ أَجزاء: جُزْءًا لِلَّهِ، وَجُزْءًا لأَهله، وَجُزْءًا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ جُزْءًا جزَّأَه بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ فَيَرُدُّ ذَلِكَ عَلَى الْعَامَّةِ بِالْخَاصَّةِ، أَراد أَن الْعَامَّةَ كَانَتْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَكَانَتِ الخاصَّة تُخْبِرُ العامَّة بِمَا سَمِعَتْ مِنْهُ، فكأَنه أَوْصَلَ الْفَوَائِدَ إِلَى الْعَامَّةِ بِالْخَاصَّةِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْبَاءَ بِمَعْنَى مِنْ، » أَي يَجْعَلُ وَقْتَ الْعَامَّةِ بَعْدَ وَقْتِ الْخَاصَّةِ وَبَدَلًا مِنْهُمْ كَقَوْلِ الأَعشى:

عَلَى أَنها، إذْ رَأَتْني أُقادُ، ***قالتْ بِمَا قَدْ أَراهُ بَصِيرا

أَي هَذَا العَشا مَكَانُ ذَاكَ الإِبصار وَبَدَلٌ مِنْهُ.

وَفِي حَدِيثِ عَطَاءٍ: « إِذَا توَضَّأْت وَلَمْ تَعْمُمْ فتَيَمَّمْ »أَي إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَاءِ وُضُوءٌ تامٌّ فتَيمَّمْ، وأَصله مِنَ العُموم.

وَرَجُلٌ مِعَمٌّ: يَعُمُّ الْقَوْمَ بِخَيْرِهِ.

وَقَالَ كُرَاعٌ: رَجُلٌ مُعِمٌّ يَعُمُّ النَّاسَ بِمَعْرُوفِهِ أَي يَجْمَعُهُمْ، وَكَذَلِكَ مُلِمٌّ يَلُمُّهم أَي يَجْمَعُهُمْ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ فَعَلَ فَهُوَ مُفْعِل غَيْرُهُمَا.

وَيُقَالُ: قَدْ عَمَّمْناك أَمْرَنا أَي أَلزمناك، قَالَ: والمُعَمَّم السَّيِّدُ الَّذِي يُقلِّده القومُ أُمُورَهم ويلجأُ إِلَيْهِ العَوامُّ؛ قَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ:

ومِنْ خَيرِ ما جَمَعَ النَّاشِئُ الْمُعَمِّمُ ***خِيرٌ وزَنْدٌ وَرِي

والعَمَمُ مِنَ الرِّجَالِ: الْكَافِي الَّذِي يَعُمُّهم بِالْخَيْرِ؛ قَالَ الْكُمَيْتُ:

بَحْرٌ، جَريرُ بنُ شِقّ مِنْ أُرومَتهِ، ***وخالدٌ مِنْ بَنِيهِ المِدْرَهُ العَمَمُ

ابْنُ الأَعرابي: خَلْقٌ عَمَمٌ أَي تامٌّ، والعَمَمُ فِي الطُّولِ وَالتَّمَامِ؛ قَالَ أَبو النَّجْمِ: " وقَصَب رُؤْد الشَّبابِ عَمَمه "الأَصمعي فِي سِنِّ الْبَقَرِ إِذَا استَجْمَعَتْ أَسنانُه قِيلَ: قد اعتَمَّ عَمَمٌ، فَإِذَا أَسَنَّ فَهُوَ فارِضٌ، قَالَ: وَهُوَ أَرْخٌ، وَالْجَمْعُ آرَاخٌ، ثُمَّ جَذَعٌ، ثُمَّ ثَنِيٌّ، ثُمَّ رَباعٌ، ثُمَّ سدَسٌ، ثُمَّ التَّمَمُ والتَّمَمةُ، وَإِذَا أَحالَ وفُصِلَ فَهُوَ دَبَبٌ، والأُنثى دَبَبةٌ، ثُمَّ شَبَبٌ والأُنثى شَبَبةٌ.

وعَمْعَمَ الرجلُ إِذَا كَثُرَ جيشُه بَعْدَ قِلَّة.

وَمِنْ أَمثالهم: عَمَّ ثُوَباءُ النَّاعِس؛ يُضْرَبُ مَثَلًا للحَدَث يَحْدُث بِبَلْدَةٍ ثُمَّ يَتَعَدَّاهَا إِلَى سَائِرِ الْبُلْدَانِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « سَأَلْتُ رَبِّي أَن لَا يُهْلِكَ أُمتي بسَنةٍ بِعامَّةٍ »أَي بِقَحْطٍ عَامٍّ يَعُمُّ جميعَهم، وَالْبَاءُ فِي بِعامَّةٍ زَائِدَةٌ فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ}؛ وَيَجُوزُ أَن لَا تَكُونَ زَائِدَةً، وَقَدْ أَبدل عامَّة مِنْ سنَةٍ بِإِعَادَةِ الجارِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {قالَ (الْمَلَأُ) الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا (مِنْ قَوْمِهِ) لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ}.

وَفِي الْحَدِيثِ: « بادِرُوا بالأَعمال سِتًّا »: كَذَا وَكَذَا وخُوَيْصَّة أَحدِكم وأَمرَ العامَّةِ؛ أَراد بِالْعَامَّةِ الْقِيَامَةَ لأَنها تَعُمُّ الناسَ بِالْمَوْتِ أَي بَادَرُوا بالأَعمال مَوْتَ أَحدكم والقيامةَ.

والعَمُّ: الْجَمَاعَةُ، وَقِيلَ: الْجَمَاعَةُ مِنَ الحَيّ؛ قَالَ مُرَقِّش:

لَا يُبْعِدِ اللهُ التَّلَبُّبَ والغاراتِ، ***إذْ قَالَ الخَميسُ نَعَمْ

والعَدْوَ بَينَ المجْلِسَيْنِ، إِذَا ***آدَ العَشِيُّ وتَنادَى العَمّ

تَنادَوْا: تَجالَسوا فِي النَّادِي، وَهُوَ الْمَجْلِسُ؛ أَنشد ابْنُ الأَعرابي:

يُرِيغُ إِلَيْهِ العَمُّ حاجةَ واحِدٍ، ***فَأُبْنا بحاجاتٍ ولَيْسَ بِذي مالِ

قَالَ: العَمُّ هُنَا الخَلق الْكَثِيرُ، أَراد الحجرَ الأَسود فِي رُكْنِ الْبَيْتِ، يَقُولُ: الْخَلْقُ إِنَّمَا حَاجَتُهُمْ أَن يَحُجُّوا ثُمَّ إِنَّهُمْ آبَوْا مَعَ ذَلِكَ بِحَاجَاتٍ، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ فأُبْنا بِحَاجَاتٍ أَي بِالْحَجِّ؛ هَذَا قَوْلُ ابْنِ الأَعرابي، وَالْجَمْعُ العَماعِم.

قَالَ الْفَارِسِيُّ: لَيْسَ بِجَمْعٍ لَهُ وَلَكِنَّهُ مِنْ بَابِ سِبَطْرٍ ولأآلٍ.

والأَعَمُّ: الْجَمَاعَةُ أَيضًا؛ حَكَاهُ الْفَارِسِيُّ عَنْ أَبي زَيْدٍ قَالَ: وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ أَفْعَلُ يَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ غَيْرُ هَذَا إِلَّا أَن يَكُونَ اسْمَ جِنْسٍ كالأَرْوَى والأَمَرِّ الَّذِي هُوَ الأَمعاء؛ وأَنشد:

ثُمَّ رَماني لَا أَكُونَنْ ذَبِيحةً، ***وَقَدْ كَثُرَتْ بَيْنَ الأَعَمّ المَضائِضُ

قَالَ أَبو الْفَتْحِ: لَمْ يأْت فِي الْجَمْعِ المُكَسَّر شَيْءٌ عَلَى أَفْعلَ مُعْتَلًّا وَلَا صَحِيحًا إِلَّا الأَعَمّ فِيمَا أَنشده أَبو زَيْدٍ مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ: ثُمَّ رَآنِي لَا أَكُونَنَّ ذَبِيحَةً "الْبَيْتُ بِخَطِّ الأَرزني رَآنِي؛ قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَرَوَاهُ الْفَرَّاءُ بَيْنَ الأَعُمِّ، جَمْعُ عَمّ بِمَنْزِلَةِ صَكّ وأصُكّ وضَبّ وأَضُبّ.

والعَمُّ: العُشُبُ؛ كُلُّهُ عَنْ ثَعْلَبٍ؛ وأَنشد: " يَرُوحُ فِي العَمِّ ويَجْني الأُبْلُما "والعُمِّيَّةُ، مِثَالُ العُبِّيَّةِ: الكِبْرُ: وَهُوَ مِنْ عَمِيمهم أَيْ صَمِيمِهم.

والعَماعِمُ: الجَماعات الْمُتَفَرِّقُونَ؛ قَالَ لَبِيدٌ:

لِكَيْلا يَكُونَ السَّنْدَرِيُّ نَدِيدَتي، ***وأَجْعَلَ أَقْوامًا عُمُومًا عماعِما

السَّندَرِيُّ: شَاعِرٌ كَانَ مَعَ عَلْقمة بْنِ عُلاثة، وَكَانَ لَبِيدٌ مَعَ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ فَدُعِي لَبِيدٌ إِلَى مُهَاجَاتِهِ فأَبى، وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَيْ أَجعل أَقوامًا مُجْتَمَعَيْنِ فِرَقًا؛ وَهَذَا كَمَا قَالَ أَبو قَيْسِ بْنُ الأَسلت:

ثُمَّ تَجَلَّتْ، ولَنا غايةٌ، ***مِنْ بَيْنِ جَمْعٍ غَيْرِ جُمَّاعِ

وعَمَّمَ اللَّبنُ: أَرْغَى كأَن رَغْوَتَه شُبِّهت بالعِمامة.

وَيُقَالُ لِلَّبَنِ إِذَا أَرْغَى حِينَ يُحْلَب: مُعَمِّمٌ ومُعْتَمٌّ، وَجَاءَ بقَدَحٍ مُعَمِّمٍ.

ومُعْتَمٌّ: اسْمُ رَجُلٍ؛ قَالَ عُرْوَةُ:

أَيَهْلِكُ مُعْتَمٌّ وزَيْدٌ، ولَمْ أُقِمْ ***عَلى نَدَبٍ يَوْمًا، وَلِي نَفْسُ مُخْطِرِ؟

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: مُعْتَمٌّ وَزَيْدٌ قَبِيلَتَانِ، والمُخْطِرُ: المُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلْهَلَاكِ، يَقُولُ: أَتهلك هَاتَانِ الْقَبِيلَتَانِ وَلَمْ أُخاطر بِنَفْسِي لِلْحَرْبِ وأَنا أَصلح لِذَلِكَ؟ وَقَوْلُهُ تعالى: {عَمَّ يَتَساءَلُونَ}؛ أَصله عَنْ مَا يَتَسَاءَلُونَ، فأُدغمت النُّونُ فِي الْمِيمِ لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا وَشُدِّدَتْ، وَحُذِفَتِ الأَلف فَرْقًا بَيْنَ الِاسْتِفْهَامِ وَالْخَبَرِ فِي هَذَا الْبَابِ، والخبرُ كَقَوْلِكَ: عَمَّا أَمرتك بِهِ، الْمَعْنَى عَنِ الَّذِي أَمَرْتُكَ بِهِ.

وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ: « فَعَمَّ ذَلِكَ »أَي لِمَ فَعَلْتَه وَعَنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ، وأَصله عَنْ مَا فَسَقَطَتْ أَلف مَا وأُدغمت النُّونُ فِي الْمِيمِ كَقَوْلِهِ تعالى: {عَمَّ يَتَساءَلُونَ}؛ وأَما قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:

بَرَاهُنَّ عمَّا هُنَّ إِمَّا بَوَادِئٌ ***لِحاجٍ، وإمَّا راجِعاتٌ عَوَائِدُ

قَالَ الْفَرَّاءُ: مَا صِلَةٌ وَالْعَيْنُ مُبْدَلَةٌ مِنْ أَلف أَنْ، الْمَعْنَى بَرَاهُنَّ أَنْ هُنَّ إمَّا بِوَادِئٌ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، يَقُولُونَ عَنْ هُنَّ؛ وأَما قَوْلُ الْآخَرِ يُخَاطِبُ امْرَأَةً اسْمُهَا عَمَّى:

فَقِعْدَكِ، عَمَّى، اللهَ هَلَّا نَعَيْتِهِ ***إِلَى أَهْلِ حَيّ بالقَنافِذِ أَوْرَدُوا؟

عَمَّى: اسْمُ امْرَأَةٍ، وأَراد يا عَمَّى، وقِعْدَكِ واللهَ يَمِينَانِ؛ وَقَالَ المسيَّب بْنِ عَلَس يَصِفُ نَاقَةً:

وَلَها، إِذَا لَحِقَتْ ثَمائِلُها، ***جَوْزٌ أعَمُّ ومِشْفَرٌ خَفِقُ

مِشْفَرٌ خفِقٌ أَهْدَلُ يَضْطَرِبُ، والجَوْزُ الأَعَمُّ: الْغَلِيظُ التَّامُّ، والجَوْزُ: الوَسَطُ.

والعَمُّ: مَوْضِعٌ؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي؛ وأَنشد:

أَقْسَمْتُ أُشْكِيك مِنْ أَيْنٍ وَمِنْ وَصَبٍ، ***حَتَّى تَرَى مَعْشَرًا بالعَمِّ أَزْوَالا

وَكَذَلِكَ عَمَّان؛ قَالَ مُلَيْح:

وَمِنْ دُونِ ذِكْرَاها الَّتي خَطَرَتْ لَنا ***بِشَرْقِيِّ عَمَّانَ، الثَّرى فالمُعَرَّفُ

وَكَذَلِكَ عُمَان، بِالتَّخْفِيفِ.

والعَمُّ: مُرَّة بْنَ مَالِكِ بْنِ حَنْظَلة، وَهُمُ العَمِّيُّون.

وعَمٌّ: اسْمُ بَلَدٍ.

يُقَالُ: رَجُلٌ عَمِّيٌّ؛ قَالَ رَبْعان:

إِذَا كُنْتَ عَمِّيًّا فَكُنْ فَقْعَ قَرْقَرٍ، ***وإلَّا فَكُنْ، إنْ شِئْتَ، أَيْرَ حِمارِ

وَالنِّسْبَةُ إِلَى عَمّ عَمَوِيٌّ كأَنه مَنْسُوبٌ إِلَى عَمىً؛ قاله الأَخفش.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


203-لسان العرب (كون)

كون: الكَوْنُ: الحَدَثُ، وَقَدْ كَانَ كَوْنًا وكَيْنُونة؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ وَكُرَاعٍ، والكَيْنونة فِي مَصْدَرِ كانَ يكونُ أَحسنُ.

قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَقُولُ فِي ذَوَاتِ الْيَاءِ مِمَّا يُشْبِهُ زِغْتُ وسِرْتُ: طِرْتُ طَيْرُورَة وحِدْتُ حَيْدُودَة فِيمَا لَا يُحْصَى مِنْ هَذَا الضَّرْبِ، فأَما ذَوَاتُ الْوَاوِ مِثْلَ قُلْتُ ورُضْتُ، فإِنهم لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ، وَقَدْ أَتى عَنْهُمْ فِي أَربعة أَحرف: مِنْهَا الكَيْنُونة مِنْ كُنْتُ، والدَّيْمُومة مِنْ دُمْتُ، والهَيْعُوعةُ مِنَ الهُواع، والسَّيْدُودَة مِنْ سُدْتُ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يَكُونَ كَوْنُونة، وَلَكِنَّهَا لَمَّا قَلَّتْ فِي مَصَادِرِ الْوَاوِ وَكَثُرَتْ فِي مَصَادِرِ الياءِ أَلحقوها بِالَّذِي هُوَ أَكثر مَجِيئًا مِنْهَا، إِذ كَانَتِ الْوَاوُ وَالْيَاءُ مَتَقَارِبَتَيِ الْمَخْرَجِ.

قَالَ: وَكَانَ الْخَلِيلُ يَقُولُ كَيْنونة فَيْعولة هِيَ فِي الأَصل كَيْوَنونة، الْتَقَتْ مِنْهَا يَاءٌ وواوٌ والأُولى مِنْهُمَا سَاكِنَةٌ فَصَيَّرَتَا يَاءً مُشَدَّدَةً مِثْلَ مَا قَالُوا الهَيِّنُ مَنْ هُنْتُ، ثُمَّ خَفَّفُوهَا فَقَالُوا كَيْنونة كَمَا قَالُوا هَيْنٌ لَيْنٌ؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: وَقَدْ ذَهَبَ مَذْهبًا إِلا أَن الْقَوْلَ عِندي هُوَ الأَول؛ وَقَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ عُرْفُطة، جَاهِلِيٌّ:

لَمْ يَكُ الحَقُّ سوَى أَنْ هاجَهُ ***رَسْمُ دارٍ قَدْ تَعَفَّى بالسَّرَرْ

إِنما أَراد: لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ، فَحَذَفَ النُّونَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَكَانَ حُكْمُهُ إِذا وَقَعَتِ النُّونُ مَوْقِعًا تُحَرَّكُ فِيهِ فتَقْوَى بِالْحَرَكَةِ أَن لَا يَحْذِفَها لأَنها بِحَرَكَتِهَا قَدْ فَارَقَتْ شِبْهَ حُرُوفِ اللِّينِ، إِذ كُنَّ لَا يَكُنَّ إِلا سَوَاكِنَ، وحذفُ النُّونِ مِنْ يَكُنْ أَقبح مِنْ حَذْفِ التَّنْوِينِ وَنُونِ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ، لأَن نُونَ يَكُنْ أَصل وَهِيَ لَامُ الْفِعْلِ، وَالتَّنْوِينُ وَالنُّونُ زَائِدَانِ، فَالْحَذْفُ مِنْهُمَا أَسهل مِنْهُ فِي لَامِ الْفِعْلِ، وَحَذْفُ النُّونِ أَيضًا مِنْ يَكُنْ أَقبح مِنْ حَذْفِ النُّونِ مِنْ قَوْلِهِ: غَيْرَ الَّذِي قَدْ يُقَالُ مِلْكذب، لأَن أَصله يَكُونُ قَدْ حُذِفَتْ مِنْهُ الْوَاوُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فإِذا حَذَفْتَ مِنْهُ النُّونَ أَيضًا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ أَجحفت بِهِ لِتَوَالِيَ الْحَذْفَيْنِ، لَا سِيَّمَا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، قَالَ: وَلَكَ أَيضًا أَن تَقُولَ إِن مِنْ حرفٌ، وَالْحَذْفُ فِي الْحَرْفِ ضَعِيفٌ إِلا مَعَ التَّضْعِيفِ، نَحْوَ إِنّ وربَّ، قَالَ: هَذَا قَوْلُ ابْنِ جِنِّي، قَالَ: وأَرى أَنا شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَن يَكُونَ جَاءَ بِالْحَقِّ بعد ما حَذْفِ النُّونِ مِنْ يَكُنْ، فَصَارَ يكُ مِثْلَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَمْ يَكُ شَيْئًا}؛ فَلَمَّا قَدَّرَهُ يَك، جاء بالحق بعد ما جَازَ الْحَذْفُ فِي النُّونِ، وَهِيَ سَاكِنَةٌ تَخْفِيفًا، فَبَقِيَ مَحْذُوفًا بِحَالِهِ فَقَالَ: لَمْ يَكُ الحَقُّ، وَلَوْ قَدَّره يَكُنْ فَبَقِيَ مْحَذُوفًا، ثُمَّ جَاءَ بِالْحَقِّ لَوَجَبَ أَن يَكْسِرَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ فيَقْوَى بِالْحَرَكَةِ، فَلَا يَجِدُ سَبِيلًا إِلى حَذْفِهَا إِلا مُسْتَكْرَهًا، فَكَانَ يَجِبُ أَن يَقُولَ لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الخَنْجَر بْنُ صَخْرٍ الأَسدي:

فإِنْ لَا تَكُ المِرآةُ أَبْدَتْ وَسامةً، ***فَقَدْ أَبْدَتِ المِرآةُ جَبْهةَ ضَيْغَمِ

يُرِيدُ: فإِن لَا تَكُنِ الْمِرْآةُ.

وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: لَمْ يَكْ أَصله يَكُونُ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهَا لَمْ جَزَمَتْهَا فَالْتَقَى سَاكِنَانِ فَحُذِفَتِ الْوَاوُ فَبَقِيَ لَمْ يَكُنْ، فَلَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ حَذَفُوا النُّونَ تَخْفِيفًا، فإِذا تَحَرَّكَتْ أَثبتوها، قَالُوا لَمْ يَكُنِ الرجلُ، وأَجاز يُونُسُ حَذْفَهَا مَعَ الْحَرَكَةِ؛ وأَنشد:

إِذا لَمْ تَكُ الحاجاتُ مِنْ همَّة الفَتى، ***فَلَيْسَ بمُغْنٍ عنكَ عَقْدُ الرَّتائِمِ

وَمِثْلُهُ مَا حَكَاهُ قُطْرُب: أَن يُونُسَ أَجاز لَمْ يكُ الرَّجُلُ مُنْطَلِقًا؛ وأَنشد بَيْتَ الْحَسَنِ بْنِ عُرْفُطة: " لَمْ يَكُ الحَقُّ سِوَى أَن هاجَه "والكائنة: الْحَادِثَةُ.

وَحَكَى سِيبَوَيْهِ: أَنا أَعْرِفُكَ مُذْ كُنْتَ أَي مُذْ خُلِقْتَ، وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ.

ابْنُ الأَعرابي: التَّكَوُّنُ التَّحَرُّك، تَقُولُ الْعَرَبُ لِمَنْ تَشْنَؤُه: لَا كانَ وَلَا تَكَوَّنَ؛ لَا كَانَ: لَا خُلِقَ، وَلَا تَكَوَّن: لَا تَحَرَّك أَي مَاتَ.

وَالْكَائِنَةُ: الأَمر الْحَادِثُ.

وكَوَّنَه فتَكَوَّن: أَحدَثَه فَحَدَثَ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فإِن الشَّيْطَانَ لَا يتَكَوَّنُني، وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يتَكَوَّنُ عَلَى صُورَتِي».

وكَوَّنَ الشيءَ: أَحدثه.

وَاللَّهُ مُكَوِّنُ الأَشياء يُخْرِجُهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ.

وَبَاتَ فُلَانٌ بكِينةِ سَوْءٍ وبجِيبةِ سَوْءٍ أَي بِحَالَةِ سَوءٍ.

وَالْمَكَانُ: الْمَوْضِعُ، وَالْجَمْعُ أَمْكِنة وأَماكِنُ، توهَّموا الْمِيمَ أَصلًا حَتَّى قَالُوا تَمَكَّن فِي الْمَكَانِ، وَهَذَا كَمَا قَالُوا فِي تَكْسِيرِ المَسِيل أَمْسِلة، وَقِيلَ: الْمِيمُ فِي الْمَكَانِ أَصل كأَنه مِنَ التَّمَكُّن دُونَ الكَوْنِ، وَهَذَا يُقَوِّيهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَكْسِيرِهِ عَلَى أَفْعِلة؛ وَقَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ فِي جَمْعِهِ أَمْكُنٌ، وَهَذَا زَائِدٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَن وَزْنَ الْكَلِمَةِ فَعَال دُونَ مَفْعَل، فَإِنْ قُلْتَ فَإِنَّ فَعَالًا لَا يُكْسَرُ عَلَى أَفْعُل إِلَّا أَن يَكُونَ مُؤَنَّثًا كأَتانٍ وآتُنٍ.

اللَّيْثُ: الْمَكَانُ اشتقاقُه مَنْ كَانَ يَكُونُ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَثُرَ فِي الْكَلَامِ صَارَتِ الْمِيمُ كأَنها أَصلية، والمكانُ مُذَكَّرٌ، قِيلَ: تَوَهَّمُوا.

فِيهِ طَرْحَ الزَّائِدِ كأَنهم كَسَّروا مَكَنًا وأَمْكُنٌ، عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، مِمَّا كُسِّرَ عَلَى غَيْرِ مَا يُكَسَّرُ عَلَيْهِ مثلُه، ومَضَيْتُ مَكانتي ومَكِينَتي أَيْ عَلَى طِيَّتي.

والاستِكانة: الْخُضُوعُ.

الْجَوْهَرِيُّ: والمَكانة الْمَنْزِلَةُ.

وفلانٌ مَكِينٌ عِنْدَ فُلَانٍ بَيِّنُ الْمَكَانَةِ.

وَالْمَكَانَةُ: الْمَوْضِعُ.

قَالَ تعالى: {وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ}؛ قَالَ: وَلَمَّا كَثُرَ لُزُومُ الْمِيمِ تُوُهِّمت أَصلية فَقِيلَ تَمَكَّن كَمَا قَالُوا مِنَ الْمِسْكِينِ تَمَسْكَنَ؛ ذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ ذَلِكَ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: مَكِينٌ فَعِيل ومَكان فَعال ومَكانةٌ فَعالة لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا مِنَ الكَوْن فَهَذَا سهوٌ، وأَمْكِنة أَفْعِلة، وأَما تَمَسْكَنَ فَهُوَ تَمَفْعل كتَمَدْرَع مُشْتَقًّا مِنَ المِدْرَعة بِزِيَادَتِهِ، فَعَلَى قِيَاسِهِ يَجِبُ فِي تمكَّنَ تمَكْونَ لأَنه تمفْعل عَلَى اشْتِقَاقِهِ لَا تمكَّنَ، وتمكَّنَ وَزْنُهُ تفَعَّلَ، وَهَذَا كُلُّهُ سَهْوٌ وَمَوْضِعُهُ فَصْلُ الْمِيمِ مِنْ بَابِ النُّونِ، وَسَنَذْكُرُهُ هُنَاكَ.

وَكَانَ وَيَكُونُ: مِنَ الأَفعال الَّتِي تَرْفَعُ الأَسماء وَتَنْصِبُ الأَخبار، كَقَوْلِكَ كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا وَيَكُونُ عَمْرٌو ذَاهِبًا، وَالْمَصْدَرُ كَوْنًا وَكَيَانًا.

قَالَ الأَخفش فِي كِتَابِهِ الْمَوْسُومِ بِالْقَوَافِي: وَيَقُولُونَ أَزَيْدًا كُنْتَ لَهُ؛ قَالَ ابْنُ جِنِّي: ظَاهِرُهُ أَنه مَحْكِيٌّ عَنِ الْعَرَبِ لأَن الأَخفش إِنَّمَا يَحْتَجُّ بِمَسْمُوعِ الْعَرَبِ لَا بِمَقِيسِ النَّحْوِيِّينَ، وَإِذَا كَانَ قَدْ سَمِعَ عَنْهُمْ أَزيدًا كُنْتَ لَهُ، فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ خَبَرِ كَانَ عَلَيْهَا، قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُفَسِّرُ الْفِعْلَ النَّاصِبَ الْمُضْمَرَ إِلَّا بِمَا لَوْ حُذِفَ مَفْعُولُهُ لَتَسَلَّطَ عَلَى الِاسْمِ الأَول فَنَصَبَهُ، أَلا تَراكَ تَقُولُ أَزيدًا ضَرَبْتَهُ، وَلَوْ شِئْتَ لَحَذَفْتَ الْمَفْعُولَ فتسلطتْ ضَرَبْتَ هَذِهِ الظَّاهِرَةُ عَلَى زَيْدٍ نَفْسِهِ فَقُلْتَ أَزيدًا ضَرَبْتَ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُمْ أَزيدًا كُنْتَ لَهُ يَجُوزُ فِي قِيَاسِهِ أَن تَقُولَ أَزيدًا كُنْتَ، ومثَّل سِيبَوَيْهِ كَانَ بِالْفِعْلِ المتعدِّي فَقَالَ: وَتَقُولُ كُنّاهمْ كَمَا تَقُولُ ضَرَبْنَاهُمْ، وَقَالَ إِذَا لَمْ تَكُنْهم فَمَنْ ذَا يَكُونُهم كَمَا تَقُولُ إِذَا لَمْ تَضْرِبْهُمْ فَمَنْ ذَا يَضْرِبُهُمْ، قَالَ: وَتَقُولُ هُوَ كائِنٌ ومَكُونٌ كَمَا تَقُولُ ضَارِبٌ وَمَضْرُوبٌ.

غَيْرُهُ: وَكَانَ تَدُلُّ عَلَى خَبَرٍ ماضٍ فِي وَسَطِ الْكَلَامِ وَآخِرِهِ، وَلَا تَكُونُ صلَةً فِي أَوَّله لأَن الصِّلَةَ تَابِعَةٌ لَا مَتْبُوعَةٌ؛ وَكَانَ فِي مَعْنَى جَاءَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

إِذَا كانَ الشِّتاءُ فأَدْفئُوني، ***فإنَّ الشَّيْخَ يُهْرِمُه الشِّتاءُ

قَالَ: وَكَانَ تأْتي بِاسْمٍ وَخَبَرٍ، وتأْتي بِاسْمٍ وَاحِدٍ وَهُوَ خَبَرُهَا كَقَوْلِكَ كَانَ الأَمْرُ وَكَانَتِ الْقِصَّةُ أَيْ وَقَعَ الأَمر وَوَقَعَتِ الْقِصَّةُ، وَهَذِهِ تُسَمَّى التَّامَّةَ الْمُكْتَفِيَةَ؛ وَكَانَ تَكُونُ جَزَاءً، قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: اخْتُلِفَ النَّاسُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا}؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ هَاهُنَا صِلَةٌ، وَمَعْنَاهُ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ هُوَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، قَالَ: وَقَالَ الْفَرَّاءُ كَانَ هَاهُنَا شَرْطٌ وَفِي الْكَلَامِ تعَجبٌ، وَمَعْنَاهُ مَنْ يكن" فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا فَكَيْفَ يُكَلَّمُ، وأَما قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}، وَمَا أَشبهه فَإِنَّ أَبا إِسْحَاقَ الزَّجَّاجَ قَالَ: قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي كَانَ فَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا لِعِبَادِهِ.

وَعَنْ عِبَادِهِ قَبْلَ أَن يَخْلُقَهُمْ، وَقَالَ النَّحْوِيُّونَ الْبَصْرِيُّونَ: كأَنَّ الْقَوْمَ شاهَدُوا مِنَ اللَّهِ رَحْمَةً فأُعْلِمُوا أَن ذَلِكَ لَيْسَ بِحَادِثٍ وأَن اللَّهَ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ: كانَ وفَعَل مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ مَا فِي الْحَالِ، فَالْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعلم،.

وَاللَّهُ عَفُوٌّ غَفُور؛ قَالَ أَبو إِسْحَاقَ: الَّذِي قَالَهُ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ أَدْخَلُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وأَشْبَهُ بِكَلَامِ الْعَرَبِ، وأَما الْقَوْلُ الثَّالِثُ فَمَعْنَاهُ يؤُول إِلَى مَا قَالَهُ الْحَسَنُ وَسِيبَوَيْهِ، إلَّا أَنَّ كَوْنَ الْمَاضِي بِمَعْنَى الْحَالِ يَقِلُّ، وصاحبُ هَذَا الْقَوْلِ لَهُ مِنَ الْحُجَّةِ قَوْلُنَا غَفَر اللَّهُ لِفُلَانٍ بِمَعْنَى لِيَغْفِر اللَّهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْحَالِ دَلِيلٌ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ وَقَعَ الْمَاضِي مؤدِّيًا عَنْهَا اسْتِخْفَافًا لأَن اخْتِلَافَ أَلفاظ الأَفعال إِنَّمَا وَقَعَ لِاخْتِلَافِ الأَوقات.

وَرَوِيَ عَنِ ابْنُ الأَعرابي فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}؛ أَي أَنتم خَيْرُ أُمة، قَالَ: وَيُقَالُ مَعْنَاهُ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمة فِي عِلْمِ اللَّهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « أَعوذ بِكَ مِنَ الحَوْر بَعْدَ الكَوْنِ »، قَالَ ابْنُ الأَثير: الكَوْنُ مَصْدَرُ كَانَ التامَّة؛ يُقَالُ: كَانَ يَكُونُ كَوْنًا أَي وُجِدَ واسْتَقَرَّ، يَعْنِي أَعوذ بِكَ مِنَ النَّقْصِ بَعْدَ الْوُجُودِ وَالثَّبَاتِ، وَيُرْوَى: " بَعْدَ الكَوْرِ "، بِالرَّاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ.

الْجَوْهَرِيُّ: كَانَ إِذَا جَعَلْتَهُ عِبَارَةً عَمَّا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ احْتَاجَ إِلَى خَبَرٍ لأَنه دَلَّ عَلَى الزَّمَانِ فَقَطْ، تَقُولُ: كَانَ زَيْدٌ عَالِمًا، وَإِذَا جَعَلْتَهُ عِبَارَةً عَنْ حُدُوثِ الشَّيْءِ وَوُقُوعِهِ اسْتُغْنَى عَنِ الْخَبَرِ لأَنه دَلَّ عَلَى مَعْنًى وَزَمَانٍ، تَقُولُ: كانَ الأَمْرُ وأَنا أَعْرفُه مُذْ كَانَ أَي مُذْ خُلِقَ؛ قَالَ مَقَّاسٌ الْعَائِذِيُّ:

فِدًا لبَني ذُهْلِ بْنِ شَيْبانَ ناقَتي، ***إِذَا كَانَ يومٌ ذُو كواكبَ أَشْهَبُ

قَوْلُهُ: ذُو كَوَاكِبَ أَي قَدْ أَظلم فبَدَتْ كواكبُه لأَن شَمْسَهُ كَسَفَتْ بِارْتِفَاعِ الْغُبَارِ فِي الْحَرْبِ، وَإِذَا كَسَفَتِ الشَّمْسُ ظَهَرَتِ الْكَوَاكِبُ؛ قَالَ: وَقَدْ تَقَعُ زَائِدَةً لِلتَّوْكِيدِ كَقَوْلِكَ كَانَ زَيْدٌ مُنْطَلِقًا، وَمَعْنَاهُ زِيدٌ مُنْطَلِقٌ؛ قَالَ تعالى: {وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}؛ وَقَالَ أَبو جُندب الهُذَلي:

وكنتُ، إِذَا جَارِي دَعَا لمَضُوفةٍ، ***أُشَمِّرُ حَتَّى يَنْصُفَ الساقَ مِئْزَري

وَإِنَّمَا يُخْبِرُ عَنْ حَالِهِ وَلَيْسَ يُخْبِرُ بِكُنْتُ عمَّا مَضَى مِنْ فِعْلِهِ، قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ عِنْدَ انْقِضَاءِ كَلَامِ الْجَوْهَرِيِّ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ: كَانَ تَكُونُ بِمَعْنَى مَضَى وتَقَضَّى، وَهِيَ التَّامَّةُ، وتأْتي بِمَعْنَى اتِّصَالِ الزَّمَانِ مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ، وَهِيَ النَّاقِصَةُ، وَيُعَبِّرُ عَنْهَا بِالزَّائِدَةِ أَيضًا، وتأْتي زَائِدَةً، وتأَتي بِمَعْنَى يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الزَّمَانِ، وَتَكُونُ بِمَعْنَى الْحُدُوثِ وَالْوُقُوعِ؛ فَمِنْ شَوَاهِدِهَا بِمَعْنَى مَضَى وَانْقَضَى قَوْلُ أَبي الْغُولِ:

عَسَى الأَيامُ أَن يَرْجِعنَ ***قَوْمًا كَالَّذِي كَانُوا

وَقَالَ ابْنُ الطَّثَرِيَّة:

فَلَوْ كنتُ أَدري أَنَّ مَا كانَ كائنٌ، ***وأَنَّ جَدِيدَ الوَصْلِ قَدْ جُدَّ غابِرُهْ

وَقَالَ أَبو الأَحوصِ:

كَمْ مِن ذَوِي خُلَّةٍ قبْلي وقبْلَكُمُ ***كَانُوا، فأَمْسَوْا إِلَى الهِجرانِ قَدْ صَارُوا

وَقَالَ أَبو زُبَيْدٍ:

ثُمَّ أَضْحَوْا كأَنهُم لَمْ يَكُونوا، ***ومُلُوكًا كَانُوا وأَهْلَ عَلاءِ

وَقَالَ نَصْرُ بْنُ حَجَّاجٍ وأَدخل اللَّامَ عَلَى مَا النَّافِيَةِ:

ظَنَنتَ بيَ الأَمْرَ الَّذِي لَوْ أَتَيْتُه، ***لَمَا كَانَ لِي، فِي الصَّالِحِينَ، مَقامُ

وَقَالَ أَوْسُ بْنُ حجَر:

هِجاؤُكَ إلَّا أَنَّ مَا كَانَ قَدْ مَضَى ***عَليَّ كأَثْوابِ الْحَرَامِ المُهَيْنِم

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدٍ الأَعلى:

يَا لَيْتَ ذَا خَبَرٍ عَنْهُمْ يُخَبِّرُنا، ***بَلْ لَيْتَ شِعْرِيَ، مَاذَا بَعْدَنا فَعَلُوا؟

كُنَّا وَكَانُوا فَمَا نَدْرِي عَلَى وَهَمٍ، ***أَنَحْنُ فِيمَا لَبِثْنا أَم هُمُ عَجِلُوا؟

أَي نَحْنُ أَبطأْنا؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:

فَكَيْفَ إِذَا مَرَرْتَ بدارِ قَوْمٍ، ***وجيرانٍ لَنَا كانُوا كرامِ

وَتَقْدِيرُهُ: وجيرانٍ لَنَا كرامٍ انْقَضَوْا وَذَهَبَ جُودُهم؛ وَمِنْهُ مَا أَنشده ثَعْلَبٌ:

فَلَوْ كنتُ أَدري أَنَّ مَا كَانَ كائنٌ، ***حَذِرْتُكِ أَيامَ الفُؤادُ سَلِيمُ

ولكنْ حَسِبْتُ الصَّرْمَ شَيْئًا أُطِيقُه، ***إِذَا رُمْتُ أَو حاوَلْتُ أَمْرَ غَرِيمِ

وَمِنْهُ مَا أَنشده الْخَلِيلُ لِنَفْسِهِ:

بَلِّغا عنِّيَ المُنَجِّمَ أَني ***كافِرٌ بِالَّذِي قَضَتْه الكَواكِبْ،

عالِمٌ أَنَّ مَا يكُونُ وَمَا كانَ ***قَضاءٌ مِنَ المُهَيْمِنِ واجِبْ

وَمِنْ شَوَاهِدِهَا بِمَعْنَى اتصالِ الزمانِ مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ قولُه سُبْحَانَهُ وَتعالى: {وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}؛ أَيْ لَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ؛ وَقَالَ الْمُتَلَمِّسُ:

وكُنَّا إِذَا الجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّه، ***أَقَمْنا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فتَقَوَّما

وَقَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:

وَكُنَّا إِذَا الجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّه، ***ضَرَبْناه تحتَ الأُنْثَيَينِ عَلَى الكَرْدِ

وَقَوْلُ قَيْسِ بْنِ الخَطِيم:

وكنتُ امْرَأً لَا أَسْمَعُ الدَّهْرَ سُبَّةً ***أُسَبُّ بِهَا، إلَّا كَشَفْتُ غِطاءَها

وَفِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَيضًا: إِنَّ هَذَا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا "؛ وَفِيهِ: إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيدًا؛ وَفِيهِ: كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا".

وَمِنْ أَقسام كَانَ النَّاقِصَةِ أَيضًا أَن تأْتي بِمَعْنَى صَارَ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ "؛ وَقَوْلِهِ تعالى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ}؛ وَفِيهِ: فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا؛ وَفِيهِ: وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيبًا مَهِيلًا؛ وَفِيهِ: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا؛ وَفِيهِ: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها؛ أَي صِرْتَ إِلَيْهَا؛ وَقَالَ ابْنُ أَحمر:

بتَيْهاءَ قَفْرٍ، والمَطِيُّ كأَنَّها ***قَطا الحَزْنِ، قَدْ كانَتْ فِراخًا بُيوضُها

وَقَالَ شَمْعَلَةُ بْنُ الأَخْضَر يَصِفُ قَتْلَ بِسْطامِ بْنِ قَيْسٍ:

فَخَرَّ عَلَى الأَلاءَة لَمْ يُوَسَّدْ، ***وَقَدْ كانَ الدِّماءُ لَهُ خِمارَا

وَمِنْ أَقسام كَانَ النَّاقِصَةِ أَيضًا أَنْ يَكُونَ فِيهَا ضميرُ الشأْن والقِصَّة، وَتُفَارِقُهَا مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ وجهًا لأَن "اسْمَهَا لَا يَكُونُ إِلَّا مُضْمَرًا غَيْرَ ظَاهِرٍ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَى مَذْكُورٍ، وَلَا يُقْصَدُ بِهِ شَيْءٌ بِعَيْنِهِ، وَلَا يؤَكد بِهِ، وَلَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ، وَلَا يُبْدَلُ مِنْهُ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي التَّفْخِيمِ، وَلَا يُخْبَرُ عَنْهُ إِلَّا بِجُمْلَةٍ، وَلَا يَكُونُ فِي الْجُمْلَةِ ضَمِيرٌ، وَلَا يتقدَّم عَلَى كَانَ؛ وَمِنْ شَوَاهِدِ كَانَ الزَّائِدَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

باللهِ قُولُوا بأَجْمَعِكُمْ: ***يَا لَيْتَ مَا كانَ لَمْ يَكُنِ

وَكَانَ الزائدةُ لَا تُزادُ أَوَّلًا، وَإِنَّمَا تُزادُ حَشْوًا، وَلَا يَكُونُ لَهَا اسْمٌ وَلَا خَبَرٌ، وَلَا عَمَلَ لَهَا؛ وَمِنْ شَوَاهِدِهَا بِمَعْنَى يَكُونُ لِلْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الزَّمَانِ قَوْلُ الطِّرمَّاح بْنِ حَكِيمٍ:

وَإِنِّي لآتِيكُمْ تَشَكُّرَ مَا مَضَى ***مِنَ الأَمْرِ، واسْتِنْجازَ مَا كانَ فِي غَدِ

وَقَالَ سَلَمَةُ الجُعْفِيُّ:

وكُنْتُ أَرَى كالمَوْتِ مِنْ بَيْنِ سَاعَةٍ، ***فكيفَ بِبَيْنٍ كانَ مِيعادُه الحَشْرَا؟

وَقَدْ تأْتي تَكُونُ بِمَعْنَى كَانَ كقولِ زيادٍ الأَعْجَمِ:

وانْضَخْ جَوانِبَ قَبْرِهِ بدِمائها، ***ولَقَدْ يَكُونُ أَخا دَمٍ وذَبائِح

وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِير: وَلَقَدْ يَكُونُ عَلَى الشَّبابِ بَصِيرَا قَالَ: وَقَدْ يَجِيءُ خَبَرُ كَانَ فِعْلًا مَاضِيًّا كَقَوْلِ حُمَيْدٍ الأَرْقَطِ:

وكُنْتُ خِلْتُ الشَّيْبَ والتَّبْدِينَا ***والهَمَّ مِمَّا يُذْهِلُ القَرِينَا

وَكَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:

وكُنَّا وَرِثْناه عَلَى عَهْدِ تُبَّعٍ، ***طَوِيلًا سَوارِيه، شَديدًا دَعائِمُهْ

وَقَالَ عَبْدَةُ بنُ الطَّبِيبِ:

وكانَ طَوَى كَشْحًا عَلَى مُسْتَكِنَّةٍ، ***فَلا هُوَ أَبْداها وَلَمْ يَتَجَمْجَمِ

وَهَذَا الْبَيْتُ أَنشده فِي تَرْجَمَةِ كَنَنَ وَنَسَبَهُ لِزُهَيْرٍ، قَالَ: وَتَقُولُ كانَ كَوْنًا وكَيْنُونة أَيضًا، شَبَّهُوهُ بالحَيْدُودَة والطَّيْرُورة مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، قَالَ: ولم يجيء مِنَ الْوَاوِ عَلَى هَذَا إِلَّا أَحرف: كَيْنُونة وهَيْعُوعة ودَيْمُومة وقَيْدُودَة، وأَصله كَيّنُونة، بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، فَحَذَفُوا كَمَا حَذَفُوا مِنْ هَيِّنٍ ومَيِّتٍ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَالُوا كَوْنُونة لأَنه لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فَعْلُول، وأَما الْحَيْدُودَةُ فأَصله فَعَلُولة بِفَتْحِ الْعَيْنِ فَسَكَنَتْ.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: "أَصل كَيّنُونة كَيْوَنُونة، وَوَزْنُهَا فَيْعَلُولة، ثُمَّ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً فَصَارَ كَيّنُونة، ثُمَّ حُذِفَتِ الْيَاءُ تَخْفِيفًا فَصَارَ كَيْنُونة، وَقَدْ جَاءَتْ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى الأَصل؛ قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ أَنشدني النَّهْشَلِيُّ:

قَدْ فارَقَتْ قَرِينَها القَرِينَه، ***وشَحَطَتْ عَنْ دارِها الظَّعِينه

يَا ليتَ أَنَّا ضَمَّنَا سَفِينه، ***حَتَّى يَعُودَ الوَصْل كَيّنُونه

قَالَ: والحَيْدُودَة أَصل وَزْنِهَا فَيْعَلُولة، وَهُوَ حَيْوَدُودَة، ثُمَّ فَعَلَ بِهَا مَا فَعَلَ بكَيْنونة.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَاعْلَمْ أَنه يُلْحَقُ بِبَابِ كَانَ وأَخواتها كُلُّ فِعْلٍ سُلِبَ الدِّلالةَ عَلَى الحَدَث، وجُرِّدَ لِلزَّمَانِ وَجَازَ فِي الْخَبَرِ عَنْهُ أَن يَكُونَ مَعْرِفَةً وَنَكِرَةً، وَلَا يَتِمُّ الْكَلَامُ دُونَهُ، وَذَلِكَ مِثْلُ عادَ ورَجَعَ وآضَ وأَتى وَجَاءَ وأَشباهها كَقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَأْتِ بَصِيرًا}؛ وَكَقَوْلِ الخوارج لابن عَبَّاسٍ: مَا جَاءَتْ حاجَتُك أَي مَا صَارَتْ؛ يُقَالُ لِكُلِّ طَالِبِ أَمر يَجُوزُ أَن يَبْلُغَه وأَن لَا يَبْلُغَهُ.

وَتَقُولُ: جَاءَ زيدٌ الشريفَ أَي صَارَزيدٌ الشريفَ؛ وَمِنْهَا: طَفِق يَفْعَلُ، وأَخَذ يَكْتُب، وأَنشأَ يَقُولُ، وجَعَلَ يَقُولُ.

وَفِي حَدِيثِ تَوْبةِ كَعْبٍ: « رأَى رَجُلًا لَا يَزُول بِهِ السَّرابُ فَقَالَ كُنْ أَبا خَيْثَمة»؛ أي صِرْهُ.

يُقَالُ لِلرَّجُلِ يُرَى مِنْ بُعْدٍ: كُن فُلَانًا أَي أَنت فُلَانٌ أَو هُوَ فُلَانٌ.

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: « أَنه دَخَلَ الْمَسْجِدَ فرأَى رَجَلًا بَذَّ الْهَيْئَةِ، فَقَالَ: كُنْ أَبا مُسْلِمٍ »، يَعْنِي الخَوْلانِيَّ.

وَرَجُلٌ كُنْتِيٌّ: كَبِيرٌ، نُسِبَ إِلَى كُنْتُ.

وَقَدْ قَالُوا كُنْتُنِيٌّ، نُسِبَ إِلَى كُنْتُ أَيضًا، وَالنُّونُ الأَخيرة زَائِدَةٌ؛ قَالَ:

وَمَا أَنا كُنْتِيٌّ، وَلَا أَنا عاجِنُ، ***وشَرُّ الرِّجال الكُنْتُنِيُّ وعاجِنُ

وَزَعَمَ سِيبَوَيْهِ أَن إِخْرَاجَهُ عَلَى الأَصل أَقيس فَتَقُولُ كُونِيٌّ، عَلَى حَدِّ مَا يُوجِبُ النَّسَبَ إِلَى الْحِكَايَةِ.

الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا شَاخَ هُوَ كُنْتِيٌّ، كأَنه نُسِبَ إِلَى قَوْلِهِ كُنْتُ فِي شَبَابِي كَذَا؛ وأَنشد:

فأَصْبَحْتُ كُنْتِيًّا، وأَصْبَحْتُ عاجِنًا، ***وشَرُّ خِصَالِ المَرْءِ كُنْتُ وعاجِنُ

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

إِذَا مَا كُنْتَ مُلْتَمِسًا لِغَوْثٍ، ***فَلَا تَصْرُخْ بكُنْتِيٍّ كبيرِ

فَلَيْسَ بِمُدْرِكٍ شَيْئًا بَسَعْيٍ، ***وَلَا سَمْعٍ، وَلَا نَظَرٍ بَصِيرِ

وَفِي الْحَدِيثِ: « أَنه دَخَلَ المسجدَ وعامَّةُ أَهله الكُنْتِيُّونَ »؛ هُمُ الشُّيوخُ الَّذِينَ يَقُولُونَ كُنَّا كَذَا، وكانَ كَذَا، وَكُنْتُ كَذَا، فكأَنه مَنْسُوبٌ إِلَى كُنْتُ.

يُقَالُ: كأَنك وَاللَّهِ قَدْ كُنْتَ وصِرْتَ إِلَى كانَ وكُنْتَ أَي صرتَ إِلَى أَن يُقَالَ عَنْكَ: كانَ فُلَانٌ، أَو يُقَالُ لك في حال الهَرَم: كُنْتَ مَرَّةً كَذَا، وَكُنْتَ مَرَّةً كَذَا.

الأَزهري فِي تَرْجَمَةِ كَنَتَ: ابْنُ الأَعرابي كَنَتَ فلانٌ فِي خَلْقِه وَكَانَ فِي خَلْقِه، فَهُوَ كُنْتِيٌّ وكانِيٌّ.

ابْنُ بُزُرْج: الكُنْتِيُّ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ؛ وأَنشد:

قَدْ كُنْتُ كُنْتِيًّا، فأَصْبَحْتُ عاجِنًا، ***وشَرُّ رِجال الناسِ كُنْتُ وعاجِنُ

يَقُولُ: إِذَا قَامَ اعْتَجَن أَي عَمَدَ عَلَى كُرْسُوعه، وَقَالَ أَبو زَيْدٍ: الكُنْتِيُّ الْكَبِيرُ؛ وأَنشد: " فَلَا تَصْرُخْ بكُنْتِيٍّ كَبِيرِ وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ:

فاكتَنِتْ، لَا تَكُ عَبْدًا طائِرًا، ***واحْذَرِ الأَقْتالَ مِنَّا والثُّؤَرْ

قَالَ أَبو نَصْرٍ: اكْتَنِتْ ارْضَ بِمَا أَنت فِيهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الاكْتناتُ الْخُضُوعُ؛ قَالَ أَبو زُبَيْدٍ:

مُسْتَضْرِعٌ مَا دَنَا منهنَّ مُكْتَنِتٌ ***للعَظْمِ مُجْتَلِمٌ مَا فَوْقَهُ فَنَعُ

قَالَ الأَزهري: وأَخبرني الْمُنْذِرِيُّ عَنْ أَبي الْهَيْثَمِ أَنه قَالَ لَا يُقَالُ فَعَلْتُني إِلَّا مِنَ الْفِعْلِ الَّذِي يتعدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، مِثْلَ ظَنَنْتُني ورأَيْتُني، ومُحالٌ أَن تَقُولَ ضَرَبْتُني وصَبَرْتُني لأَنه يُشْبِهُ إِضَافَةَ الْفِعْلِ إِلَى نِي، وَلَكِنْ تَقُولُ صَبَرْتُ نَفْسِي وضَرَبْتُ نَفْسِي، وَلَيْسَ يُضَافُ مِنَ الْفِعْلِ إِلَى نِي إِلَّا حَرْفٌ وَاحِدٌ وَهُوَ قَوْلُهُمْ كُنْتي وكُنْتُني؛ وأَنشد:

وَمَا كُنْتُ كُنْتِيًّا، وَمَا كُنْت عاجِنًا، ***وشَرُّ الرجالِ الكُنْتُنِيُّ وعاجِنُ

فَجَمَعَ كُنْتِيًّا وكُنْتُنيًّا فِي الْبَيْتِ.

ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الأَعرابي: قِيلَ لصَبِيَّةٍ مِنَ الْعَرَبِ مَا بَلَغَ الكِبَرُ مِنْ أَبيك؟ قَالَتْ: قَدْ عَجَنَ وخَبَزَ وثَنَّى وثَلَّثَ "وأَلْصَقَ وأَوْرَصَ وكانَ وكَنَتَ.

قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: وأَخبرني سَلَمَةُ عَنِ الْفَرَّاءِ قَالَ: الكُنْتُنِيُّ فِي الْجِسْمِ، والكَانِيُّ فِي الخُلُقِ.

قَالَ: وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي إِذَا قَالَ كُنْتُ شَابًّا وَشُجَاعًا فَهُوَ كُنْتِيٌّ، وَإِذَا قَالَ كانَ لِي مَالٌ فكُنْتُ أُعطي مِنْهُ فَهُوَ كانِيٌّ.

وَقَالَ ابْنُ هَانِئٍ فِي بَابِ الْمَجْمُوعِ مُثَلَّثًا: رَجُلٌ كِنْتَأْوٌ وَرَجُلَانِ كِنْتَأْوان وَرِجَالٌ كِنْتَأْوُونَ، وَهُوَ الْكَثِيرُ شَعَرِ اللِّحْيَةِ الكَثُّها؛ وَمِنْهُ: جَمَلٌ سِنْدَأْوٌ وسِنْدَأْوان وسِندَأْوُونَ، وَهُوَ الْفَسِيحُ مِنَ الإِبل فِي مِشْيَتِه، وَرَجُلٌ قِنْدَأْوٌ وَرَجُلَانِ قِنْدَأْوان وَرِجَالٌ قِنْدَأْوُون، مَهْمُوزَاتٌ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « دَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ المسجدَ وَعَامَّةُ أَهله الكُنْتِيُّون، فقلتُ: مَا الكُنْتِيُّون؟ فَقَالَ: الشُّيُوخُ الَّذِينَ يَقُولُونَ كانَ كَذَا وَكَذَا وكُنْتُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: دارَتْ رَحَى الإِسلام عليَّ خَمْسَةً وثَلاثين، ولأَنْ تَمُوتَ أَهلُ دارِي أَحَبُّ إليَّ مِنْ عِدَّتِهم مِنَ الذِّبَّان والجِعْلانِ».

قَالَ شَمِرٌ: قَالَ الْفَرَّاءُ تَقُولُ كأَنَّك وَاللَّهِ قَدْ مُتَّ وصِرْتَ إِلَى كانَ، وكأَنكما مُتُّمَا وَصِرْتُمَا إِلَى كَانَا، وَالثَّلَاثَةُ كَانُوا؛ الْمَعْنَى صِرْتَ إِلَى أَن يُقَالَ كانَ وأَنت مَيِّتٌ لَا وأَنت حَيٌّ، قَالَ: وَالْمَعْنَى لَهُ الْحِكَايَةُ عَلَى كُنْت مَرَّةً للمُواجهة وَمَرَّةً لِلْغَائِبِ، كَمَا قَالَ عَزَّ مِنْ قائلٍ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وسَيُغْلَبُون؛ هَذَا عَلَى مَعْنَى كُنْتَ وكُنْتَ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وكُلُّ أَمْرٍ يَوْمًا يَصِيرُ كَانَ.

وَتَقُولُ لِلرَّجُلِ: كأَنِّي بِكَ وَقَدْ صِرْتَ كانِيًّا أَي يُقَالُ كَانَ وللمرأَة كانِيَّة، وَإِنْ أَردت أَنك صِرْتَ مِنَ الهَرَم إِلَى أَن يُقَالَ كُنْت مَرَّةً وكُنْت مَرَّةً، قِيلَ: أَصبحتَ كُنْتِيًّا وكُنْتُنِيًّا، وَإِنَّمَا قَالَ كُنْتُنِيًّا لأَنه أَحْدَثَ نُونًا مَعَ الْيَاءِ فِي النِّسْبَةِ لِيَتَبَيَّنَ الرَّفْعُ، كَمَا أَرادوا تَبين النَّصبِ فِي ضَرَبني، وَلَا يَكُونُ مِنْ حُرُوفِ الِاسْتِثْنَاءِ، تَقُولُ: جَاءَ الْقَوْمُ لَا يَكُونُ زيدًا، ولا تستعمل إلى مُضْمَرًا فِيهَا، وكأَنه قَالَ لَا يَكُونُ الْآتِي زَيْدًا؛ وَتَجِيءُ كَانَ زَائِدَةً كَقَوْلِهِ:

سَراةُ بَني أَبي بَكْرٍ تَسامَوْا ***عَلَى كانَ المُسَوَّمةِ العِرابِ

أَي عَلَى المُسوَّمة العِراب.

وَرَوَى الْكِسَائِيُّ عَنِ الْعَرَبِ: نَزَلَ فُلَانٌ عَلَى كَانَ خَتَنِه أَي نزَل عَلَى خَتَنِه؛ وأَنشد الْفَرَّاءُ: " جادَتْ بكَفَّيْ كانَ مِنْ أَرمى البَشَرْ "أَي جَادَتْ بكفَّي مَنْ هُوَ مِنْ أَرمى الْبَشَرِ؛ قَالَ: وَالْعَرَبُ تُدْخِلُ كَانَ فِي الْكَلَامِ لَغْوًا فَتَقُولُ مُرَّ عَلَى كَانَ زيدٍ؛ يُرِيدُونَ مُرَّ عَلَى زيدٍ فأَدخل كَانَ لَغْوًا؛ وأَما قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:

فكيفَ وَلَوْ مَرَرْت بدارِ قومٍ، ***وجِيرانٍ لَنَا كَانُوا كِرامِ؟

ابْنُ سِيدَهْ: فَزَعَمَ سِيبَوَيْهِ أَن كَانَ هُنَا زائدة، وقال أَبو العباس: إِنَّ تَقْدِيرَهُ وجِيرانٍ كِرامٍ كَانُوا لَنَا، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَهَذَا أَسوغ لأَن كَانَ قَدْ عَمِلَتْ هَاهُنَا فِي مَوْضِعِ الضَّمِيرِ وَفِي مَوْضِعٍ لَنَا، فَلَا مَعْنًى لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ مِنْ أَنها زَائِدَةٌ هُنَا، وَكَانَ عَلَيْهِ كَوْنًا وكِيانًا واكْتانَ: وَهُوَ مِنَ الكَفالة.

قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: قَالَ أَبو زَيْدٍ اكْتَنْتُ بِهِ اكْتِيانًا وَالِاسْمُ مِنْهُ الكِيانةُ، وكنتُ عَلَيْهِمْ أَكُون كَوْنًا مِثْلُهُ مِنَ الْكَفَالَةِ أَيضًا ابْنُ الأَعرابي: كَانَ إِذَا كَفَل.

والكِيانةُ: الكَفالة، كُنْتُ عَلَى فلانٍ أكُونُ كَوْنًا أَي تَكَفَّلْتُ بِهِ.

وَتَقُولُ: كُنْتُكَ وكُنْتُ إِيَّاكَ كَمَا تَقُولُ ظَنَنْتُكَ زَيْدًا وظَنْنتُ زَيْدًا إِياك، تَضَعُ الْمُنْفَصِلَ مَوْضِعَ الْمُتَّصِلَ فِي الْكِنَايَةِ عَنْ الِاسْمِ وَالْخَبَرِ، لأَنهما مُنْفَصِلَانِ فِي الأَصل، لأَنهما مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ؛ قَالَ" أَبو الأَسود الدُّؤَلِيِّ:

دَعِ الخمرَ تَشربْها الغُواةُ، فَإِنَّنِي ***رأيتُ أَخاها مُجْزِيًا لمَكانِها

فَإِنْ لَا يَكُنها أَو تَكُنْه، فَإِنَّهُ ***أَخوها، غَذَتْهُ أُمُّهُ بلِبانِها

يَعْنِي الزَّبِيبَ.

والكَوْنُ: وَاحِدُ الأَكْوان.

وسَمْعُ الْكِيَانِ: كتابٌ لِلْعَجَمِ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: سَمْعُ الْكِيَانِ بِمَعْنَى سَماعِ الكِيان، وسَمْعُ بِمَعْنَى ذِكْرُ الْكِيَانِ، وَهُوَ كِتَابٌ أَلفه أَرَسْطو.

وكِيوانُ زُحَلُ: القولُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي خَيْوان، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَالْمَانِعُ لَهُ مِنَ الصَّرْفِ الْعُجْمَةُ، كَمَا أَن الْمَانِعَ لخَيْوان مِنَ الصَّرْفِ إِنَّمَا هُوَ التأْنيث وَإِرَادَةُ البُقْعة أَو الأَرض أَو القَرْية.

والكانونُ: إِنْ جَعَلْتَهُ مِنَ الكِنِّ فَهُوَ فاعُول، وَإِنْ جَعَلْتَهُ فَعَلُولًا عَلَى تَقْدِيرِ قَرَبُوس فالأَلف فِيهِ أَصلية، وَهِيَ مِنَ الْوَاوِ، سُمِّيَ بِهِ مَوْقِدُ النار.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


204-لسان العرب (بقي)

بقي: فِي أَسماء اللَّهِ الْحُسْنَى البَاقِي: هُوَ الَّذِي لَا يَنْتَهِي تَقْدِيرُ وجوده فِي الِاسْتِقْبَالِ إِلَى آخِرَ يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بأَنه أَبديّ الْوُجُودِ.

والبَقَاء: ضِدُّ الفَناء، بَقِيَ الشيءُ يَبْقَى بَقَاءً وبَقَى بَقْيًا، الأَخيرةُ لُغَةُ بَلْحَرْثِ بْنِ كَعْبٍ، وأَبْقَاه وبَقَّاه وتَبَقَّاه واسْتَبْقَاه، وَالِاسْمُ البَقْيَا والبُقْيَا.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وأَرى ثَعْلَبًا قَدْ حَكَى البُقْوَى، بِالْوَاوِ وَضَمِّ الْبَاءِ.

والبَقْوَى والبَقْيا: اسْمَانِ يُوضَعَانِ مَوْضِعَ الإِبْقاء، إِنْ قِيلَ: لِمَ قَلَبَتِ الْعَرَبُ لَامَ فَعْلَى إِذَا كَانَتِ اسْمًا وَكَانَ لَامُهَا يَاءً وَاوًا حَتَّى قَالُوا البَقْوَى وَمَا أَشبه ذَلِكَ نَحْوَ التَّقْوَى والعَوَّى؟ فَالْجَوَابُ: أَنهم إِنَّمَا فَعَلُوا ذلك في فَعْلى "لأَنهم قَدْ قَلَبُوا لَامَ الفُعْلَى، إِذَا كَانَتِ اسْمًا وَكَانَتْ لَامُهَا وَاوًا، يَاءً طَلَبًا لِلْخِفَّةِ، وَذَلِكَ نَحْوَ الدُّنْيا والعُلْيا والقُصْيا، وَهِيَ مِنْ دَنَوْتُ وعَلَوْتُ وقَصَوْت، فَلَمَّا قَلَبُوا الْوَاوَ يَاءً فِي هَذَا وَفِي غَيْرِهِ مِمَّا يَطُولُ تَعْدَادُهُ عوَّضوا الْوَاوَ مِنْ غَلَبَةِ الْيَاءِ عَلَيْهَا فِي أَكثر الْمَوَاضِعِ بأَن قَلَبُوهَا فِي نَحْوِ البَقْوَى والثَّنْوَى وَاوًا، لِيَكُونَ ذَلِكَ ضَرْبًا مِنَ التَّعْوِيضِ وَمِنَ التَّكَافُؤِ بَيْنَهُمَا.

وبَقيَ الرجلُ زَمَانًا طَوِيلًا أَي عَاشَ وأَبقاه اللَّهُ.

اللَّيْثُ: تَقُولُ الْعَرَبُ.

نَشَدْتُك اللَّهَ والبُقْيَا؛ هُوَ الإِبقاء مِثْلُ الرَّعْوى والرُّعْيا مِنَ الإِرْعاء عَلَى الشَّيْءِ، وَهُوَ الإِبْقاء عَلَيْهِ.

وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلْعَدُوِّ إِذَا غَلَبَ: البَقِيَّةَ أَي أَبْقُوا عَلَيْنَا وَلَا تستأْصلونا؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الأَعشى: " قَالُوا البَقِيَّة والخَطِّيُّ يأْخُذُهم وَفِي حَدِيثِ النَّجَاشِيِّ وَالْهِجْرَةِ: « وَكَانَ أَبْقَى الرَّجُلَيْنِ فِينَا» أَي أَكثر إِبْقَاءً عَلَى قَوْمِهِ، وَيُرْوَى بِالتَّاءِ مِنَ التُّقى.

والبَاقِيَةُ تُوضَعُ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ.

وَيُقَالُ: مَا بَقِيَتْ مِنْهُمْ بَاقِيَةٌ وَلَا وَقاهم اللَّهُ مِنْ واقِيَة.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ}؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ مِنْ بَقاء.

وَيُقَالُ: هَلْ تَرَى مِنْهُمْ بَاقِيًا، كُلُّ ذَلِكَ فِي الْعَرَبِيَّةِ جَائِزٌ حَسَنٌ، وبَقِيَ مِنَ الشَّيْءِ بَقِيَّةٌ.

وأَبْقَيْتُ عَلَى فُلَانٍ إِذَا أَرْعَيْتَ عَلَيْهِ ورَحِمْتَه.

يُقَالُ: لَا أَبْقَى اللهُ عَلَيْكَ إِنْ أَبْقَيْتَ عليَّ، وَالِاسْمُ البُقْيَا؛ قَالَ اللَّعِين:

سَأَقْضِي بَيْنَ كَلْبِ بَني كُلَيْبٍ، ***وبَيْنَ القَيْنِ قَيْنِ بَني عِقَالِ

فإنَّ الكلبَ مَطْعَمُه خَبيثٌ، ***وإنَّ القَيْنَ يَعْمَلُ فِي سِفَالِ

فَمَا بُقْيَا عَلَيَّ ترَكْتُماني، ***ولكنْ خِفْتُما صَرَدَ النِّبالِ

وَكَذَلِكَ البَقْوى، بِفَتْحِ الْبَاءِ.

وَيُقَالُ: البُقْيَا والبَقْوَى كالفُتْيا والفَتْوَى؛ قَالَ أَبو القَمْقام الأَسَدِيُّ:

أُذَكِّرُ بالبَقْوَى عَلَى مَا أَصابَني، ***وبَقْوَايَ أَنِّي جاهِدٌ غَير مُؤتَلي

واسْتَبْقَيتُ مِنَ الشَّيْءِ أَي تَرَكْتُ بَعْضَهُ.

واسْتَبْقَاه: اسْتَحْياه، وطيِءٌ تَقُولُ بَقَى وبَقَتْ مَكَانَ بَقِيَ وبَقِيَتْ، وَكَذَلِكَ أَخواتها مِنَ الْمُعْتَلِّ؛ قَالَ البَولاني:

تَسْتَوْقِدُ النَّبْلَ بالحَضِيضِ، وتَصْطادُ ***نُفُوسًا بُنَتْ عَلَى الكَرَمِ

أَي بُنِيَتْ، يَعْنِي إِذَا أَخطأَ يُورِي النارَ.

والبَقِيَّةُ: كالبَقْوَى.

والبَقِيَّة أَيضًا: مَا بَقِيَ مِنَ الشَّيْءِ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ}.

قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ الحالُ الَّتِي تَبْقَى لَكُمْ مِنَ الْخَيْرِ خَيْرٌ لَكُمْ، وَقِيلَ: طَاعَةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ.

وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَا قَوْمِ مَا أُبْقِيَ لَكُمْ مِنَ الْحَلَالِ خَيْرٌ لَكُمْ، قَالَ: وَيُقَالُ مُرَاقَبَةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ.

اللَّيْثُ: والبَاقِي حَاصِلُ الخَراج وَنَحْوُهُ، وَلُغَةُ طَيِّءٍ بَقَى يَبْقَى، وَكَذَلِكَ لُغَتُهُمْ فِي كُلِّ يَاءٍ انْكَسَرَ مَا قَبْلَهَا، يَجْعَلُونَهَا أَلفًا نَحْوَ بَقَى ورَضَى وفَنَى؛ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابًا}؛ قِيلَ: {الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ} " الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَقِيلَ هِيَ الأَعمال الصَّالِحَةُ كُلُّهَا، وَقِيلَ: هِيَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكبر.

قَالَ: {وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ}، وَاللَّهُ أَعلم، كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ يَبْقَى ثَوَابُهُ.

والمُبْقِياتُ مِنَ الْخَيْلِ: الَّتِي يَبْقَى جَريُها بعد "انْقِطَاعِ جَرْي الْخَيْلِ؛ قَالَ الكَلْحَبَةُ اليَرْبُوعِيُّ:

فأَدْرَكَ إبْقَاءَ العَرادَةِ ظَلْعُها، ***وَقَدْ جَعَلَتْنِي مِنْ حزِيمةَ إصْبَعا

وَفِي التَّهْذِيبِ: المُبْقِيَاتُ مِنَ الْخَيْلِ هِيَ الَّتِي تُبْقِي بعضَ جَريها تَدَّخِره.

والمُبْقِيَاتُ: الأَماكن الَّتِي تُبقِي مَا فِيهَا مِنْ مَنَاقِعِ الْمَاءِ وَلَا تَشْرَبُهُ؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

فَلَمَّا رَأَى الرَّائي الثُّرَيَّا بسُدْفَةٍ، ***ونَشَّتْ نِطافُ المُبْقِيَاتِ الْوَقَائِعِ

واسْتَبْقَى الرجلَ وأَبْقَى عَلَيْهِ: وَجَبَ عَلَيْهِ قَتْلٌ فَعَفَا عَنْهُ.

وأَبْقيْتُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ: لَمْ أُبالغ فِي إِفْسَادِهِ، وَالِاسْمُ البَقِيَّةُ؛ قَالَ:

إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تأْتِيني بَقِيَّتُكم، ***فَمَا عليَّ بذَنْبٍ منكمُ فَوْتُ

أَي إِبْقَاؤُكُمْ: وَيُقَالُ: اسْتَبْقَيْتُ فُلَانًا إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ قَتْلٌ فَعَفَوْتُ عَنْهُ.

وَإِذَا أَعطيت شَيْئًا وحَبَسْتَ بعضَه قُلْتَ: اسْتَبْقَيْتُ بعضَهُ.

واسْتَبْقَيْتُ فُلَانًا: فِي مَعْنَى الْعَفْوِ عَنْ زَلَلِهِ واسْتِبْقاء مودَّته؛ قَالَ النَّابِغَةُ:

ولَسْتَ بمُسْتَبْقٍ أَخًا لَا تَلُمُّه ***عَلَى شَعَثٍ، أَيُّ الرجالِ المُهَذَّبُ؟

وَفِي حَدِيثِ الدُّعَاءِ: « لَا تُبْقِي عَلَى مَنْ يَضْرَعُ إِلَيْهَا »، يَعْنِي النَّارَ.

يُقَالُ: أَبْقَيْت عَلَيْهِ أُبْقِي إبْقَاءً إِذَا رَحِمْتَهُ وأَشفقت عَلَيْهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « تَبَقَّهْ وتوَقَّهْ »؛ هُوَ أَمر مِنَ الْبَقَاءِ والوِقاء، وَالْهَاءُ فِيهِمَا لِلسَّكْتِ، أَي اسْتَبْق النفسَ وَلَا تُعَرِّضْها للهَلاك وَتَحَرَّزْ مِنَ الْآفَاتِ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ}؛ مَعْنَاهُ أُولو تَمْيِيزٍ، وَيَجُوزُ أُولوا بَقِيَّة أُولو طَاعَةٍ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: فُسِّرَ بأَنه الإِبقاء وَفُسِّرَ بأَنه الفَهْم، وَمَعْنَى البَقِيَّة إِذَا قُلْتَ فُلَانٌ بَقِيَّة فَمَعْنَاهُ فِيهِ فَضْل فيما يُمْدَحُ بِهِ، وَجَمْعُ البَقِيَّة بَقَايَا.

وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: أُولو بَقِيَّة مِنْ دِينِ قَوْمٍ لَهُمْ بَقِيَّة إِذَا كَانَتْ بِهِمْ مُسْكَة وَفِيهِمْ خَيْرٌ.

قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: البَقِيَّة اسْمٌ مِنَ الإِبْقاء كأَنه أَراد، وَاللَّهُ أَعلم، فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ قَوْمٌ أُولوا إِبْقَاءٍ عَلَى أَنفسهم لِتَمَسُّكِهِمْ بِالدِّينِ الْمَرْضِيِّ، وَنُصِبَ إِلَّا قَلِيلًا لأَن الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ فَلَوْلَا كَانَ فَمَا كَانَ، وَانْتِصَابُ قَلِيلًا عَلَى الِانْقِطَاعِ مِنَ الأَول.

والبُقْيَا أَيضًا: الإِبْقاءُ؛ وَقَوْلُهُ أَنشده ثَعْلَبٌ:

فَلَوْلَا اتِّقاءُ اللَّهِ بُقْيايَ فِيكُمَا، ***لَلُمْتُكما لَوْمًا أَحَرَّ مِنَ الجَمْرِ

أَراد بُقْيَايَ عَلَيْكُمَا، فأَبدل فِي مَكانَ عَلَى، وأَبدل بُقْيايَ مِنِ اتِّقَاءُ اللَّهِ.

وبَقَاهُ بَقْيًا: انْتَظَرَهُ ورَصَدَه، وَقِيلَ: هُوَ نَظَرُكَ إِلَيْهِ؛ قَالَ الكُمَيْت وَقِيلَ هُوَ لِكُثَيِّرٍ:

فَمَا زلْتُ أَبْقِي الظُّعْنَ، حَتَّى كأَنها ***أَواقِي سَدىً تَغْتالهُنَّ الحَوائِكُ

يَقُولُ: شَبَّهْتُ الأَظْعَان فِي تَبَاعُدِهَا عَنْ عَيْنِي وَدُخُولِهَا فِي السَّرَابِ بِالْغَزْلِ الَّذِي تُسْديه الحائكةُ فَيَتَنَاقَصُ أَوَّلًا فأَوّلًا.

وبَقَيْتُه أَي نظرت إليها وَتَرَقَّبْتُهُ.

وبَقِيَّةُ اللَّهِ: انتظارُ ثَوَابِهِ؛ وَبِهِ فَسَّرَ أَبو عَلِيٍّ قوله: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ"، لأَنه إنما يَنْتَظِرُ ثَوَابَهُ مَنْ آمَنَ به.

وبَقِيَّةُ: اسْمٌ.

وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ: « بَقَيْنا رسولَ الله وَقَدْ تأَخر لِصَلَاةِ العَتَمة، وَفِي نُسْخَةٍ: بَقَيْنا رسولَ الله فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى خَشينا فوتَ الفَلاح »أَي انْتَظَرْنَاهُ.

وبَقَّيْتُه، بِالتَّشْدِيدِ، وأَبْقَيْتُهُ وتَبَقَّيْتُه كُلُّهُ بِمَعْنًى.

وَقَالَ الأَحمر فِي بَقَيْنا: انْتَظَرْنَا وَتَبَصَّرْنَا؛ يُقَالُ مِنْهُ: بَقَيْتُ الرجلَ أَبْقِيه بَقْيًا أَي انْتَظَرْتُهُ ورَقَبْتُه؛ " وأَنشد الأَحمر:

فهُنَّ يَعْلُكْنَ حَدائداتِها، ***جُنْحُ النَّواصِي نَحْوَ أَلْوِياتِها،

كالطَّير تَبقي مُتَداوِماتِها يَعْنِي تَنْظُرُ إِلَيْهَا.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَصَلَاةُ اللَّيْلِ: « فبَقَيْتُ كَيْفَ يُصَلِّي النَّبِيُّ»، صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، وَفِي رِوَايَةٍ: كَرَاهَةَ أَن يَرَى أَني كُنْتُ أَبْقِيه أَي أَنْظُره وأَرْصُده.

اللحياني: بَقَيْتُه وبقو بَقَوْتُه نَظَرْتُ إِلَيْهِ، وَفِي الْمُحْكَمِ: بقو بَقَاه بعينه بقو "بَقَاوَةً نَظَرَ إِلَيْهِ؛ عَنِ اللحياني.

وبقو" بَقَوْتُ الشيءَ: انْتَظَرْتُهُ، لُغَةٌ فِي بَقَيْتُ، وَالْيَاءُ أَعلى.

وَقَالُوا: بقو ابْقُهْ بقو بَقْوَتَك مالَك وبقو بَقَاوَتَك مالَك أَي احْفَظْهُ حفْظَك مالَك.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


205-لسان العرب (هنا)

هنا: مَضَى هِنْوٌ مِنَ اللَّيْلِ أَي وَقْتٌ.

والهِنْوُ: أَبو قَبِيلةٍ أَو قَبائلَ، وَهُوَ ابْنُ الأَزْدِ.

وهَنُ المرأَةِ: فَرْجُها، والتَّثنية هَنانِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَحَكَى سِيبَوَيْهِ هَنانانِ، ذَكَرَهُ مُسْتَشْهِدًا عَلَى أَنَّ كِلا لَيْسَ مَنْ لَفْظِ كُلٍّ، وشرحُ ذَلِكَ أَنّ هَنانانِ لَيْسَ تَثْنِيَةَ هَنٍ، وَهُوَ فِي مَعْنَاهُ، كسِبَطْرٍ لَيْسَ مِنْ لَفْظِ سَبِط، وَهُوَ فِي مَعْنَاهُ.

أَبو الْهَيْثَمِ: كُلُّ اسْمٍ عَلَى حَرْفَيْنِ فَقَدْ حُذِفَ مِنْهُ حَرْفٌ.

والهَنُ: اسْمٌ عَلَى حَرْفَيْنِ مِثْلُ الحِرِ عَلَى حَرْفَيْنِ، فَمِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ يَقُولُ الْمَحْذُوفُ مَنَ الهَنِ والهَنةِ الْوَاوُ، كَانَ أَصله هَنَوٌ، وَتَصْغِيرُهُ هُنَيٌّ لَمَّا صَغَّرْتَهُ حَرَّكَتْ ثانِيَه فَفَتَحْتَهُ وَجَعَلْتَ ثَالِثَ حُرُوفِهِ يَاءَ التَّصْغِيرِ، ثُمَّ رَدَدْتَ الْوَاوَ الْمَحْذُوفَةَ فَقُلْتَ هُنَيْوٌ، ثُمَّ أَدغمت ياءَ التَّصْغِيرِ فِي الْوَاوِ فَجَعَلْتَهَا يَاءً مُشَدَّدَةً، كَمَا قُلْنَا فِي أَب وأَخ إِنَّهُ حُذِفَ مِنْهُمَا الْوَاوُ وأَصلهما أَخَوٌ وأَبَوٌ؛ قَالَ الْعَجَّاجُ يَصِفُ رِكَابًا قَطَعَتْ بَلَدًا:

جافِينَ عُوجًا مِن جِحافِ النُّكتِ، ***وكَمْ طَوَيْنَ مِنْ هَنٍ وهَنَت

أَي مِنْ أَرضٍ ذَكَرٍ وأَرضٍ أُنثى، وَمِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ يَقُولُ أَصلُ هَنٍ هَنٌّ، وَإِذَا صغَّرت قُلْتَ هُنَيْنٌ؛ وأَنشد:

يَا قاتَلَ اللهُ صِبْيانًا تَجِيءُ بِهِمْ ***أُمُّ الهُنَيْنِينَ مِنْ زَندٍ لَهَا وارِي

وأَحد الهُنَيْنِينَ هُنَيْنٌ، وَتَكْبِيرُ تَصْغِيرِهِ هَنٌّ ثُمَّ يُخَفَّفُ فَيُقَالُ هَنٌ.

قَالَ أَبو الْهَيْثَمِ: وَهِيَ كِناية عَنِ الشَّيء يُسْتَفْحَش ذِكْرُهُ، تَقُولُ: لَهَا هَنٌ تُرِيدُ لَهَا حِرٌ كَمَا قَالَ العُماني: لَهَا هَنٌ مُسْتَهْدَفُ الأَرْكانِ،

أَقْمَرُ تَطْلِيهِ بِزَعْفَرانِ، ***كأَنَّ فِيهِ فِلَقَ الرُّمَّانِ

فَكَنَّى عَنِ الحِرِ بالهَنِ، فافْهَمْه.

وَقَوْلُهُمْ: يَا هَنُ أَقْبِلْ يَا رَجُلُ أَقْبِلْ، وَيَا هَنانِ أَقْبِلا وَيَا هَنُونَ أَقْبِلوا، وَلَكَ أَن تُدخل فِيهِ الْهَاءَ لِبَيَانِ الْحَرَكَةِ فَتَقُولُ يَا هَنَهْ، كَمَا تَقُولُ لِمَهْ ومالِيَهْ وسُلْطانِيَهْ، وَلَكَ أَن تُشبع الْحَرَكَةَ فَتَتَوَلَّدُ الأَلف فَتَقُولُ يَا هَناة أَقْبِلْ، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ تَخْتَصُّ بِالنِّدَاءِ خَاصَّةً وَالْهَاءُ فِي آخِرِهِ تَصِيرُ تَاءً فِي الْوَصْلِ، مَعْنَاهُ يَا فُلَانُ، كَمَا يَخْتَصُّ بِهِ قَوْلُهُمْ يَا فُلُ وَيَا نَوْمانُ، وَلَكَ أَن تَقُولَ يَا هَناهُ أَقْبل، بِهَاءٍ مَضْمُومَةٍ، وَيَا هَنانِيهِ أَقْبِلا وَيَا هَنُوناهُ أَقْبِلوا، وَحَرَكَةُ الْهَاءِ فِيهِنَّ مُنْكَرَةٌ، وَلَكِنْ هَكَذَا رَوَى الأَخفش؛ وأَنشد أَبو زَيْدٍ فِي نَوَادِرِهِ لِامْرِئِ الْقَيْسِ:

وَقَدْ رابَني قَوْلُها: يا هَناهُ، ***ويْحَكَ أَلْحَقْتَ شَرًّا بِشَرْ

يَعْنِي كُنَّا مُتَّهَمَيْن فَحَقَّقْتُ الأَمر، وَهَذِهِ الْهَاءُ عِنْدَ أَهل الْكُوفَةِ لِلْوَقْفِ، أَلا تَرَى أَنه شَبَّهَهَا بِحَرْفِ الإِعراب فضمَّها؟ وَقَالَ أَهل الْبَصْرَةِ: هِيَ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ فِي هَنُوك وهَنَوات، فَلِهَذَا جَازَ أَن تَضُمَّهَا؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيِّ: وَلَكِنْ حَكَى ابْنُ السَّراج عَنِ الأَخفش أَنَّ الهاءَ فِي هَناه هاه السَّكْتِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ يَا هَنانِيهْ، وَاسْتُبْعِدَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنها بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ لأَنه يَجِبُ أَن يُقَالَ يَا هَنَاهَانِ فِي التَّثْنِيَةِ، وَالْمَشْهُورُ يَا هَنانِيهْ، وَتَقُولُ فِي الإِضافة يَا هَني أَقْبِلْ، وَيَا هَنَيَّ أَقْبِلا، وَيَا هَنِيَّ أَقْبِلُوا، وَيُقَالُ للمرأَة يَا هَنةُ أَقْبلي، فَإِذَا وَقَفْتَ قُلْتَ يَا هَنَهْ؛ وأَنشد:

أُريدُ هَناتٍ منْ هَنِينَ وتَلْتَوِي ***عليَّ، وَآبَى مِنْ هَنِينَ هَناتِ

وَقَالُوا: هَنْتٌ، بِالتَّاءِ سَاكِنَةُ النُّونِ، فَجَعَلُوهُ بِمَنْزِلَةِ بِنْت وأُخْت وهَنْتانِ وهَناتٍ، تَصْغِيرُهَا هُنَيَّةٌ وهُنَيْهةٌ، فهُنَيَّة عَلَى الْقِيَاسِ، وهُنَيْهة عَلَى إِبْدَالِ الْهَاءِ مِنَ الْيَاءِ فِي هُنَيَّة لِلْقُرْبِ الَّذِي بَيْنَ الْهَاءِ وَحُرُوفِ اللِّينِ، وَالْيَاءُ فِي هُنَيَّة بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ فِي هُنَيْوة، وَالْجَمْعُ هَنات عَلَى اللَّفْظِ، وهَنَوات عَلَى الأَصل؛ قَالَ ابْنُ جِنِّي: أَما هَنْت فَيَدُلُّ عَلَى أَن التَّاءُ فِيهَا بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ قَوْلُهُمْ هَنَوات؛ قَالَ:

أَرى ابنَ نِزارٍ قَدْ جَفاني ومَلَّني ***عَلَى هَنَوَاتٍ، شَأْنُها مُتَتابعُ

وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي تَصْغِيرِهَا هُنَيَّة، تردُّها إِلَى الأَصل وتأْتي بِالْهَاءِ، كَمَا تَقُولُ أُخَيَّةٌ وبُنَيَّةٌ، وَقَدْ تُبْدَلُ مِنَ الْيَاءِ الثَّانِيَةِ هَاءٌ فَيُقَالُ هُنَيْهة.

وَفِي الْحَدِيثِ: « أَنه أَقام هُنَيَّةً »أَي قَلِيلًا مِنَ الزَّمَانِ، وَهُوَ تَصْغِيرُ هَنةٍ، وَيُقَالُ هُنَيْهةٌ أَيضًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهَا بَدَلًا مِنَ التَّاءِ الَّتِي فِي هَنْت، قَالَ: وَالْجَمْعُ هَناتٌ، وَمَنْ رَدَّ قَالَ هَنَوَات؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ لِلْكُمَيْتِ شَاهِدًا لهَناتٍ:

وقالتْ ليَ النَّفْسُ: اشْعَبِ الصَّدْعَ، واهْتَبِلْ ***لإِحْدى الهَنَاتِ المُعْضِلاتِ اهْتِبالَها

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ الأَكوع: « قَالَ لَهُ أَلا تُسْمِعنُا مِنْ هَنَاتِك» أَي مِنْ كَلِمَاتِكَ أَو مِنْ أَراجيزك، وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ هُنَيَّاتِك، عَلَى التَّصْغِيرِ، وَفِي أُخرى: مِنْ هُنَيْهاتِك، عَلَى قَلْبِ الْيَاءِ هَاءً.

وَفِي فُلَانٍ هَنَوَاتٌ أَي خَصْلات شَرٍّ، وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْخَيْرِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « سَتَكُونُ هَناتٌ وهَناتٌ فَمَنْ رأَيتموه يَمْشِي إِلَى أُمة مُحَمَّدٍ ليُفَرِّقَ جَمَاعَتَهُمْ فَاقْتُلُوهُ، » أَي شُرورٌ وفَسادٌ، وَوَاحِدَتُهَا هَنْتٌ، وَقَدْ تُجْمَعُ عَلَى هَنَواتٍ، وَقِيلَ: وَاحِدَتُهَا هَنَةٌ تأْنيث هَنٍ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كُلِّ اسْمُ جِنْسٍ.

وَفِي حَدِيثِ سَطِيحٍ: « ثُمَّ تَكُونُ هَنَاتٌ وهَنَاتٌ»؛ أي شَدائدُ وأُمور عِظام.

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: « أَنه دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْتِ هَنَاتٌ مِنْ قَرَظٍ »أَي قِطَعٌ مُتَفَرِّقَةٌ؛ وأَنشد الْآخَرُ فِي هَنَوَات:

لَهِنَّكِ مِنْ عَبْسِيَّةٍ لَوَسِيمةٌ ***عَلَى هَنَواتٍ كاذِبٍ مَن يَقُولُها

وَيُقَالُ فِي النِّدَاءِ خَاصَّةً: يَا هَناهْ، بِزِيَادَةِ هَاءٍ فِي آخِرِهِ تَصِيرُ تَاءً فِي الْوَصْلِ، مَعْنَاهُ يَا فلانُ، قَالَ: وَهِيَ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ الَّتِي فِي هَنُوك وهَنَوات؛ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

وَقَدْ رابَني قَوْلُها: يا هَنَاهُ، ***وَيْحَكَ أَلْحَقْتَ شَرًّا بِشَرّ

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ فِي هَذَا الْفَصْلِ مِنْ بَابِ الأَلف اللَّيِّنَةِ: هَذَا وَهْمٌ مِنَ الْجَوْهَرِيِّ لأَن هَذِهِ الْهَاءَ هَاءُ السَّكْتِ عِنْدَ الأَكثر، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ الَّتِي هِيَ لَامٌ الْكَلِمَةِ مُنَزَّلَةٌ مَنْزِلَةَ الْحَرْفِ الأَصلي، وَإِنَّمَا تِلْكَ الْهَاءُ الَّتِي فِي قَوْلِهِمْ هَنْت الَّتِي تُجْمَعُ هَنات وهَنَوات، لأَن الْعَرَبَ تَقِفُ عَلَيْهَا بِالْهَاءِ فَتَقُولُ هَنَهْ، وَإِذَا وَصَلُوهَا قَالُوا هَنْت فَرَجَعَتْ تَاءً، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِي بَيْتِ امْرِئِ الْقَيْسِ، قَالَ: أَصله هناوٌ، فأَبدل الْهَاءَ مِنَ الْوَاوِ فِي هَنَوَاتٍ وَهْنُوكَ، لأَن الْهَاءَ إِذَا قَلَّت فِي بابِ شَدَدْتُ وقَصَصْتُ فَهِيَ فِي بابِ سَلِسَ وقَلِقَ أَجْدَرُ بالقِلة فَانْضَافَ هَذَا إِلَى قَوْلِهِمْ فِي مَعْنَاهُ هَنُوكَ وهَنواتٌ، فَقَضَيْنَا بأَنها بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ إِنَّ الْهَاءَ فِي هَنَاه إِنَّمَا هِيَ بَدَلٌ مِنَ الأَلف الْمُنْقَلِبَةِ مِنَ الْوَاوِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ أَلِفِ هَنَاهُ، إِذْ أَصله هَناوٌ ثُمَّ صارَ هَناءً، كَمَا أَن أَصل عَطاء عَطاوٌ ثُمَّ صَارَ بَعْدَ الْقَلْبِ عَطَاءً، فَلَمَّا صَارَ هَنَاءً والتَقَت أَلفان كُرِهَ اجْتِمَاعُ السَّاكِنَيْنِ فَقُلِبَتِ الأَلف الأَخيرة هَاءً، فَقَالُوا هِنَاهُ، كَمَا أَبدلَ الجميعُ مِنْ أَلف عَطَاءٍ الثَّانِيَةِ هَمْزَةً لِئَلَّا يَجْتَمِعَ هَمْزَتَانِ، لَكَانَ قَوْلًا قَوِيًّا،، وَلَكَانَ أَيضًا أَشبه مِنْ أَن يَكُونَ قُلِبَتِ الْوَاوُ فِي أَوّل أَحوالها هَاءً مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحدهما أَن مِنْ شَرِيطَةِ قَلْبِ الْوَاوِ أَلفًا أَن تَقَعَ طرَفًا بَعْدَ أَلف زَائِدَةٍ وَقَدْ وَقَعَتْ هُنَا كَذَلِكَ، وَالْآخَرُ أَن الْهَاءَ إِلَى الأَلف أَقرب مِنْهَا إِلَى الْوَاوِ، بَلْ هُمَا فِي الطَّرَفَيْنِ، أَلا تَرَى أَن أَبا الْحَسَنِ ذَهَبَ إِلَى أَن الْهَاءَ مَعَ الأَلف مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، لَقُرْبِ مَا بَيْنَهُمَا، فَقَلْبُ الأَلف هَاءً أَقْرَبُ مِنْ قَلْبِ الْوَاوِ هَاءً؟ قَالَ أَبو عَلِيٍّ: ذَهَبَ أَحد عُلَمَائِنَا إِلَى أَن الْهَاءَ مِنْ هَناه إِنَّمَا أُلحقت لِخَفَاءِ الأَلف كَمَا تَلْحَقُ بَعْدَ أَلف النُّدْبَةِ فِي نَحْوِ وا زيداه، ثم شبهت بالهاء الأَصلية فَحُرِّكَتْ فَقَالُوا يَا هَنَاهُ.

الْجَوْهَرِيُّ: هَنٌ، عَلَى وَزْنِ أَخٍ، كَلِمَةُ كِنَايَةٍ، وَمَعْنَاهُ شَيْءٌ، وأَصله هَنَوٌ.

يُقَالُ: هَذَا هَنُكَ أَي شَيْئُكَ.

والهَنُ: الحِرُ؛ وأَنشد سِيبَوَيْهِ:

رُحْتِ، وَفِي رِجْلَيْكِ مَا فِيهِمَا، ***وَقَدْ بَدا هَنْكِ منَ المِئْزَرِ

إِنَّمَا سَكَّنَهُ لِلضَّرُورَةِ.

وذهَبْت فهَنَيْت: كِنَايَةٌ عَنْ فعَلْت مِنْ قَوْلِكَ هَنٌ، وهُما هَنوانِ، وَالْجَمْعُ هَنُونَ، وَرُبَّمَا جاءَ مشدَّدًا لِلضَّرُورَةِ فِي الشِّعْرِ كَمَا شَدَّدُوا لَوًّا؛ قَالَ الشَّاعِرِ:

أَلا ليْتَ شِعْري هَلْ أَبيتَنَّ ليْلةً، ***وهَنِّيَ جاذٍ بينَ لِهْزِمَتَيْ هَنِ؟

وَفِي الْحَدِيثِ: « مَنْ تَعَزَّى بعَزاء الجاهِلِيَّةِ فأَعِضُّوه بِهَنِ أَبيه وَلَا تَكْنُوا» أَي قُولُوا لَهُ عَضَّ بأَيْرِ أَبيكَ.

وَفِي حَدِيثِ أَبي ذَرٍّ: « هَنٌ مِثْلُ الخَشبة غَيْرَ أَني لَا أَكْني »يَعْنِي أَنه أَفْصَحَ بِاسْمِهِ، فَيَكُونُ قَدْ قَالَ أَيْرٌ مثلُ الخَشبةِ، فَلَمَّا أَراد أَن يَحكي كَنى عَنْهُ.

وَقَوْلُهُمْ: مَن يَطُلْ هَنُ أَبيهِ يَنْتَطِقْ بِهِ أَي يَتَقَوَّى بِإِخْوَتِهِ؛ "" وَهُوَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرِ:

فلَوْ شَاءَ رَبي، كَانَ أَيْرُ أَبيكُمْ ***طَويلًا كأَيْرِ الحرِثِ بن سَدُوسِ

وهو الحَرِثُ بْنِ سَدُوسِ بْنِ ذُهْل بْنِ شَيْبانَ، وَكَانَ لَهُ أَحد وَعِشْرُونَ ذَكَرَا.

وَفِي الْحَدِيثِ: « أَعُوذُ بكَ مِنْ شَرَّ هَنِي »، يَعْنِي الفَرْج.

ابْنُ سِيدَهْ: قَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ هَنانِ وهَنُونَ أَسماء لَا تنكَّر أَبدًا لأَنها كِنَايَاتٌ وَجَارِيَةٌ مَجْرَى الْمُضْمَرَةِ، فإِنما هِيَ أَسماء مَصُوغَةٌ لِلتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ بِمَنْزِلَةِ اللَّذَيْنِ والذِين، وَلَيْسَ كَذَلِكَ سَائِرُ الأَسماء الْمُثَنَّاةِ نَحْوَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، أَلا تَرَى أَن تَعْرِيفَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو إِنَّمَا هُمَا بِالْوَضْعِ وَالْعَلَمِيَّةِ، فَإِذَا ثَنَّيْتَهُمَا تنكَّرا فَقُلْتَ رأَيت زَيْدَيْنِ كَرِيمَيْنِ وَعِنْدِي عَمْرانِ عاقِلانِ، فإِن آثَرْتَ التَّعْرِيفَ بالإِضافة أَو بِاللَّامِ قُلْتَ الزَّيْدَانِ والعَمران وزَيْداك وعَمْراك، فَقَدْ تَعَرَّفا بَعْدَ التَّثْنِيَةِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ تَعَرُّفهما قَبْلَهَا، وَلَحِقَا بالأَجناس فَفَارَقَا مَا كَانَا عَلَيْهِ مِنْ تَعْرِيفِ الْعَلَمِيَّةِ وَالْوَضْعِ؛ وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:

وَقَدْ رابَني قَوْلُها: يا هناهُ، ***وَيْحَكَ أَلْحَقْتَ شَرًّا بِشَرْ

قَالَ: الْعَرَبُ تَقُولُ يَا هَن أَقبل، وَيَا هَنوان أَقبلا، فَقَالَ: هَذِهِ اللُّغَةُ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ هَنَوَاتٌ؛ وأَنشد الْمَازِنِيُّ:

عَلَى مَا أَنَّها هَزِئَتْ وقالتْ: ***هَنُونَ أَحنّ مَنشَؤُه قريبُ

فإنْ أَكْبَرْ، فَإِنِّي فِي لِداتي، ***وغاياتُ الأَصاغِر للمَشِيب

قَالَ: إِنَّمَا تَهْزَأُ بِهِ، قَالَتْ: هَنُونَ هَذَا غُلَامٌ قَرِيبُ الْمَوْلِدِ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَإِنَّمَا تَهَكَّمَ بِهِ، وَقَوْلُهَا: أَحنّ أَي وَقَعَ فِي مِحْنَةٍ، وَقَوْلُهَا: مَنْشَؤُهُ قَرِيبُ أَي مَوْلِدُهُ قَرِيبٌ، تَسْخَرُ مِنْهُ.

اللَّيْثُ: هنٌ كَلِمَةٌ يُكَنَّى بِهَا عَنِ اسْمِ الإِنسان، كَقَوْلِكَ أَتاني هَنٌ وأَتتني هَنَةٌ، النُّونُ مَفْتُوحَةٌ فِي هَنَة، إِذَا وَقَفْتَ عِنْدَهَا، لِظُهُورِ الْهَاءِ، فَإِذَا أَدرجتها فِي كَلَامٍ تَصِلُهَا بِهِ سكَّنْت النُّونَ، لأَنها بُنيت فِي الأَصل عَلَى التَّسْكِينِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ الْهَاءُ وَجَاءَتِ التَّاءُ حَسُن تَسْكِينُ النُّونِ مَعَ التَّاءِ، كَقَوْلِكَ رأَيت هَنْةَ مُقْبِلَةً، لَمْ تَصْرِفْهَا لأَنها اسْمُ مَعْرِفَةٍ لِلْمُؤَنَّثِ، وَهَاءُ التَّأْنِيثِ إِذَا سَكَنَ مَا قَبْلَهَا صَارَتْ تَاءً مَعَ الأَلف لِلْفَتْحِ، لأَن الْهَاءَ تَظْهَرُ مَعَهَا لأَنها بُنيت عَلَى إِظْهار صَرْفٍ فِيهَا، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْفَتْحِ الَّذِي قَبْلَهُ، كَقَوْلِكَ الحَياة الْقَنَاةُ، وَهَاءُ التأْنيث أَصل بِنَائِهَا مِنَ التَّاءِ، وَلَكِنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ تَأْنِيثِ الْفِعْلِ وتأْنيث الِاسْمِ فَقَالُوا فِي الْفِعْلِ فَعَلَتْ، فَلَمَّا جَعَلُوهَا اسْمًا قَالُوا فَعْلَة، وإِنما وَقَفُوا عِنْدَ هَذِهِ التَّاءِ بِالْهَاءِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحُرُوفِ، لأَن الْهَاءَ أَلْيَنُ الْحُرُوفِ الصِّحاحِ وَالتَّاءُ مِنَ الْحُرُوفِ الصِّحَاحِ، فَجَعَلُوا الْبَدَلَ صَحِيحًا مثلَها، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْحُرُوفِ حَرْفٌ أَهَشُّ مِنَ الْهَاءِ لأَن الْهَاءَ نَفَس، قَالَ: وأَما هَنٌ فَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُسَكِّنُ، يَجْعَلُهُ كقَدْ وبَلْ فَيَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى هَنْ يَا فَتًى، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هنٍ، فَيُجْرِيهَا مَجْرَاهَا، وَالتَّنْوِينُ فِيهَا أَحسن كَقَوْلِ رُؤْبَةَ: إذْ مِنْ هَنٍ قَوْلٌ، وقَوْلٌ مِنْ هَنِ ""وَاللَّهُ أَعلم.

الأَزهري: تَقُولُ الْعَرَبُ يَا هَنا هَلُمَّ، وَيَا هَنَانِ هَلُمَّ، وَيَا هَنُونَ هَلُمَّ.

وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ أَيضًا: يَا هَنَاهُ هَلُمَّ، وَيَا هَنَانِ هَلُمَّ، وَيَا هَنُونَ هلمَّ، وَيَا هَنَاه، وَتَلْقَى الْهَاءَ فِي الإِدراج، وَفِي الْوَقْفِ يَا هَنَتَاهْ وَيَا هَناتُ هَلُمَّ؛ هَذِهِ لُغَةُ عُقَيل وَعَامَّةِ قَيْسٍ بَعْدُ.

ابْنُ الأَنباري: إِذَا نَادَيْتَ مُذَكَّرًا بِغَيْرِالتَّصْرِيحِ بِاسْمِهِ قُلْتَ يَا هَنُ أَقبِل، وَلِلرَّجُلَيْنِ: يَا هَنانِ أَقبلا، وَلِلرِّجَالِ: يَا هَنُونَ أَقْبِلوا، وللمرأَة: يَا هَنْتُ أَقبلي، بِتَسْكِينِ النُّونِ، وللمرأَتين: يَا هَنْتانِ أَقبلا، وَلِلنِّسْوَةِ: يَا هَناتُ أَقبلن، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزِيدُ الأَلف وَالْهَاءَ فَيَقُولُ لِلرَّجُلِ: يَا هناهُ أَقْبِلْ، وَيَا هناهِ أَقبلْ، بِضَمِّ الْهَاءِ وَخَفْضِهَا؛ حَكَاهُمَا الْفَرَّاءُ؛ فَمَنْ ضَمَّ الْهَاءَ قَدَّرَ أَنها آخِرُ الِاسْمِ، وَمَنْ كَسَرَهَا قَالَ كَسَرْتُهَا لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ، وَيُقَالُ فِي الِاثْنَيْنِ، عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ: يَا هَنانِيه أَقبلا.

الْفَرَّاءُ: كَسْرُ النُّونِ وإِتباعها الْيَاءَ أَكثر، وَيُقَالُ فِي الْجَمْعِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ: يَا هَنوناهُ أَقبلوا، قَالَ: وَمَنْ قَالَ لِلذَّكَرِ يَا هَناهُ وَيَا هَناهِ قَالَ للأُنثى يَا هَنَتاهُ أَقبلي وَيَا هَنَتاهِ، وَلِلِاثْنَتَيْنِ يَا هَنْتانيه وَيَا هَنْتاناه أَقبلا، وَلِلْجَمْعِ مِنَ النِّسَاءِ يَا هَناتاه؛ وأَنشد:

وَقَدْ رابَني قَوْلُها: يا هَناه، ***وَيْحَكَ أَلْحَقْتَ شَرًّا بِشَرّ

وَفِي الصِّحَاحِ: وَيَا هَنُوناهُ أَقبلوا.

وإِذا أَضفت إِلى نَفْسِكَ قُلْتَ: يَا هَنِي أَقْبِل، وإِن شِئْتَ قُلْتَ: يَا هَنِ أَقبل، وَتَقُولُ: يَا هَنَيَّ أَقبِلا، وَلِلْجَمْعِ: يَا هَنِيَّ أَقبِلوا، فَتَفْتَحُ النُّونَ فِي التَّثْنِيَةِ وَتَكْسِرُهَا فِي الْجَمْعِ.

وَفِي حَدِيثِ أَبي الأَحوص الجُشَمِي: « أَلستَ تُنْتَجُها وافِيةً أَعْيُنُها وآذانُها فتَجْدَعُ هَذِهِ وَتَقُولُ صَرْبَى، وتَهُنُّ هَذِهِ وَتَقُولُ بَحِيرة »؛ الهَنُ والهَنُّ، بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ: كِنَايَةٌ عَنِ الشَّيْءِ لَا تَذْكُرُهُ بِاسْمِهِ، تَقُولُ أَتاني هَنٌ وهَنةٌ، مُخَفَّفًا ومشدَّدًا.

وهَنَنْتُه أَهنُّه هَنًّا إِذا أَصبت مِنْهُ هَنًا، يُرِيدُ أَنك تَشُقُّ آذَانَهَا أَو تُصيب شَيْئًا مِنْ أَعضائها، وَقِيلَ: تَهُنُّ هَذِهِ أَي تُصيب هَن هَذِهِ أَي الشَّيْءَ مِنْهَا كالأُذن وَالْعَيْنِ وَنَحْوِهَا؛ قَالَ الْهَرَوِيُّ: عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَى الأَزهري فأَنكره وَقَالَ: إِنما هُوَ وتَهِنُ هَذِهِ أَي تُضْعِفُها، يُقَالُ: وهَنْتُه أَهِنُه وهْنًا، فَهُوَ مَوْهون أَي أَضعفته.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: « رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وذكرَ لَيْلَةَ الْجِنِّ فَقَالَ: ثُمَّ إِن هَنِينًا أَتَوْا عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ بِيضٌ طِوال »؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هَكَذَا جَاءَ فِي مُسْنَدِ أَحمد فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ حَدِيثِهِ مَضْبُوطًا مُقَيَّدًا، قَالَ: وَلَمْ أَجده مَشْرُوحًا فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْغَرِيبِ إِلا أَن أَبا مُوسَى ذَكَرَهُ فِي غَرِيبِهِ عَقِيبَ أَحاديث الهَنِ والهَناة.

وَفِي حَدِيثِ الْجِنِّ: « فإِذا هُوَ بهَنِينٍ كأَنهم الزُّطُّ »، ثُمَّ قَالَ: جَمْعُه جَمْعُ السَّلَامَةِ مِثْلُ كُرة وكُرِينَ، فكأَنه أَراد الْكِنَايَةَ عَنْ أَشخاصهم.

وَفِي الْحَدِيثِ: « وَذَكَرَ هَنةً مِنْ جِيرَانِهِ» أَي حَاجَةً، ويعبَّر بِهَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ.

وَفِي حَدِيثِ الإِفْك: « قلتُ لَهَا يَا هَنْتاه» أَي يَا هَذِهِ، وتُفتح النونُ وَتَسْكُنُ، وَتُضَمُّ الْهَاءُ الأَخيرة وَتَسْكُنُ، وَقِيلَ: مَعْنَى يَا هَنْتاه يَا بَلْهاء، كأَنها نُسِبت إِلى قِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ بِمَكَايِدِ النَّاسِ وشُرُورهم.

وَفِي حَدِيثِ الصُّبَيِّ بْنِ مَعْبَد: « فَقُلْتُ يَا هَنَاهُ إِني حَرِيصٌ عَلَى الجِهاد».

والهَنَاةُ: الداهِيةُ، وَالْجَمْعُ كَالْجَمْعِ هَنَوَات؛ وأَنشد: "" عَلَى هَنَوَاتٍ كلُّها مُتَتابِعُ ""وَالْكَلِمَةُ يَائِيَّةٌ.

وَوَاوِيَّةٌ، والأَسماء الَّتِي رَفْعُهَا بِالْوَاوِ وَنَصْبُهَا بالأَلف وَخَفْضُهَا بِالْيَاءِ هِيَ فِي الرَّفْعِ: أَبُوكَ وأَخُوكَ وحَمُوكِ وفُوكَ وهَنُوكَ وَذُو مَالٍ، وَفِي النَّصْبِ: رأَيتُ أَباكَ وأَخاكَ وفاكَ وحماكِ وهَناكَ وَذَا مَالٍ، وَفِي الْخَفْضِ: مررتُ بأَبيكَ وأَخيكَ وحميكِ وفيكَ وهَنِيكَ وَذِي مالٍ؛ قَالَ النَّحْوِيُّونَ: يُقَالُ هَذَا هَنُوكَ لِلْوَاحِدِ فِي الرَّفْعِ، ورأَيت هَنَاكَ فِي النَّصْبِ، وَمَرَرْتُ بهَنِيك فِي مَوْضِعِ الْخَفْضِ، مِثْلُ تَصْريف أَخواتها كما تقدم.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


206-مقاييس اللغة (عبر)

(عَبَرَ) الْعَيْنُ وَالْبَاءُ وَالرَّاءُ أَصْلٌ صَحِيحٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى النُّفُوذِ وَالْمُضِيِّ فِي الشَّيْءِ.

يُقَالُ: عَبَرْتُ النَّهْرَ عُبُورًا.

وَعَبْرُ النَّهْرِ: شَطُّهُ.

وَيُقَالُ: نَاقَةٌ عُبْرُ أَسْفَارٍ: لَا يَزَالُ يُسَافَرُ عَلَيْهَا.

قَالَ الطِّرِمَّاحُ:

وَقَدْ تَبَطَّنْتُ بِهِلْوَاعَةٍ *** عُبْرِ أَسْفَارٍ كَتُومِ الْبُغَامْ

وَالْمَعْبَرُ: شَطُّ نَهْرٍ هُيِّئَ لِلْعُبُورِ.

وَالْمِعْبَرُ: سَفِينَةٌ يُعْبَرُ عَلَيْهَا النَّهْرُ.

وَرَجُلٌ عَابِرُ سَبِيلٍ، أَيْ مَارٌّ.

قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43]، وَمِنَ الْبَابِ الْعَبْرَةُ، قَالَ الْخَلِيلُ: عَبْرَةُ الدَّمْعِ: جَرْيُهُ.

قَالَ: وَالدَّمْعُ أَيْضًا نَفْسُهُ عَبْرَةٌ.

قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

وَإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ إِنْ سَفَحْتُهَا *** فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ

"وَهَذَا مِنَ الْقِيَاسِ; لِأَنَّ الدَّمْعَ يَعْبُرُ، أَيْ يَنْفُذُ وَيَجْرِي."

وَالَّذِي قَالَهُ الْخَلِيلُ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.

وَقَوْلُهُمْ: عَبِرَ فُلَانٌ يَعْبَرُ عَبَرًا مِنَ الْحُزْنِ، وَهُوَ عَبْرَانُ، وَالْمَرْأَةُ عَبْرَى وَعَبِرَةٌ، فَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا وَثَمَّ بُكَاءٌ.

وَيُقَالُ: اسْتَعْبَرَ، إِذَا جَرَتْ عَبْرَتُهُ.

وَيُقَالُ مِنْ هَذَا: امْرَأَةٌ عَابِرٌ، أَيْ بِهَا الْعَبَرُ.

وَقَالَ:

يَقُولُ لِي الْجَرْمِيُّ هَلْ أَنْتَ مُرْدِفِي *** وَكَيْفَ رِدَافُ الْفَلِّ أُمُّكَ عَابِرُ

فَهَذَا الْأَصْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.

ثُمَّ يُقَالُ لِضَرْبٍ مِنَ السِّدْرِ عُبْرِيٌّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِذَا نَبَتَ عَلَى شُطُوطِ الْأَنْهَارِ.

وَالشَّطُّ يُعْبَرُ وَيُعَبَرُ إِلَيْهِ.

قَالَ الْعَجَّاجُ:

لَاثٍ بِهَا الْأَشَاءُ وَالْعُبْرِيُّ.

الْأَشَاءُ: الْفَسِيلُ، الْوَاحِدَةُ أَشَاءَةٌ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.

وَيُقَالُ إِنَّ الْعُبْرَيَّ لَا يَكُونُ إِلَّا طَوِيلًا، وَمَا كَانَ أَصْغَرَ مِنْهُ فَهُوَ الضَّالُ.

قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

قَطَعْتُ إِذَا تَجَوَّفَتِ الْعَوَاطِي *** ضَرُوبَ السِّدْرِ عُبْرِيًّا وَضَالَا

وَيُقَالُ: بَلِ الضَّالُ مَا كَانَ فِي الْبَرِّ.

وَمِنَ الْبَابِ: عَبَرَ الرُّؤْيَا يَعْبُرُهَا عَبْرًا وَعِبَارَةً، وَيُعَبِّرُهَا تَعْبِيرًا، إِذَا فَسَّرَهَا.

"وَوَجْهُ الْقِيَاسِ فِي هَذَا عُبُورُ النَّهْرِ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِنْ عِبْرٍ إِلَى عَبْرٍ."

كَذَلِكَ مُفَسِّرُ الرُّؤْيَا يَأْخُذُ بِهَا مِنْ وَجْهٍ إِلَى وَجْهٍ، كَأَنْ يُسْأَلَ عَنِ الْمَاءِ، فَيَقُولُ: حَيَاةٌ.

أَلَا تَرَاهُ قَدْ عَبَرَ فِي هَذَا مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ.

وَمِمَّا حُمِلَ عَلَى هَذِهِ: الْعِبَارَةُ، قَالَ الْخَلِيلُ: تَقُولُ: عَبَّرْتَ عَنْ فُلَانٍ تَعْبِيرًا، إِذَا عَيَّ بِحُجَّتِهِ فَتَكَلَّمْتَ بِهَا عَنْهُ.

"وَهَذَا قِيَاسُ مَا ذَكَرْنَاهُ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى النُّفُوذِ فِي كَلَامِهِ فَنَفَذَ الْآخَرُ بِهَا عَنْهُ."

"فَأَمَّا الِاعْتِبَارُ وَالْعِبْرَةُ فَعِنْدَنَا مِقْيَسَانِ مِنْ عَبْرِيِّ النَّهْرِ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا."

عِبْرٌ مُسَاوٍ لِصَاحِبِهِ فَذَاكَ عِبْرٌ لِهَذَا، وَهَذَا عِبْرٌ لِذَاكَ.

فَإِذَا قُلْتَ اعْتَبَرْتُ الشَّيْءَ، فَكَأَنَّكَ نَظَرْتَ إِلَى الشَّيْءِ فَجَعَلْتَ مَا يَعْنِيكَ عِبْرًا لِذَاكَ: فَتَسَاوَيَا عِنْدَكَ.

هَذَا عِنْدَنَا اشْتِقَاقُ الِاعْتِبَارِ.

قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، كَأَنَّهُ قَالَ: انْظُرُوا إِلَى مَنْ فَعَلَ مَا فَعَلَ فَعُوقِبَ بِمَا عُوقِبَ بِهِ، فَتَجَنَّبُوا مِثْلَ صَنِيعِهِمْ لِئَلَّا يَنْزِلَ بِكُمْ مِثْلُ مَا نَزَلَ بِأُولَئِكَ.

وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقِيَاسِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، قَوْلٌ الْخَلِيلِ: عَبَّرْتَ الدَّنَانِيرَ تَعْبِيرًا، إِذَا وَزَنْتَهَا دِينَارًا [دِينَارًا].

قَالَ: وَالْعِبْرَةُ: الِاعْتِبَارُ بِمَا مَضَى.

وَمِمَّا شَذَّ عَنِ الْأَصْلِ: الْمُعْبَرُ مِنَ الْجِمَالِ: الْكَثِيرُ الْوَبَرِ.

وَالْمُعْبَرُ مِنَ الْغِلْمَانِ: الَّذِي لَمْ يُخْتَنْ.

وَمَا أَدْرِي مَا وَجْهُ الْقِيَاسِ فِي هَذَا.

وَقَالَ فِي الْمُعْبَرِ الَّذِي لَمْ يُخْتَنْ بِشْرُ بْنُ [أَبِي] خَازِمٍ:

وَارِمُ الْعَفْلِ مُعْبَرُ.

وَمِنْ هَذَا الشَّاذِّ: الْعَبِيرُ، قَالَ قَوْمٌ: هُوَ الزَّعْفَرَانُ.

وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ أَخْلَاطُ طِيبٍ.

وَقَالَ الْأَعْشَى:

وَتَبْرُدُ بَرْدَ رِدَاءِ الْعَرُوسِ *** بِالصَّيْفِ رَقْرَقَتْ فِيهِ الْعَبِيرَا

مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م


207-مقاييس اللغة (نعم)

(نَعِمَ) النُّونُ وَالْعَيْنُ وَالْمِيمُ فُرُوعُهُ كَثِيرَةٌ، وَعِنْدَنَا أَنَّهَا عَلَى كَثْرَتِهَا رَاجِعَةٌ إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ يَدُلُّ عَلَى تَرَفُّهٍ وَطِيبِ عَيْشٍ وَصَلَاحٍ.

مِنْهُ النِّعْمَةُ: مَا يُنْعِمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ بِهِ مِنْ مَالٍ وَعَيْشٍ.

يُقَالُ: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ نِعْمَةٌ.

وَالنِّعْمَةُ: الْمِنَّةُ، وَكَذَا النَّعْمَاءُ.

وَالنَّعْمَةُ: التَّنَعُّمُ وَطِيبُ الْعَيْشِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان: 27].

وَالنُّعَامَى: الرِّيحُ اللَّيِّنَةُ.

وَالنَّعَمُ: الْإِبِلُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالنِّعْمَةِ.

"قَالَ الْفَرَّاءُ: النَّعَمُ ذَكَرٌ لَا يُؤَنَّثُ فَيَقُولُونَ: هَذَا نَعَمٌ وَارِدٌ ; وَتُجْمَعُ أَنْعَامًا."

وَالْأَنْعَامُ: الْبَهَائِمُ، وَهُوَ ذَلِكَ الْقِيَاسُ.

وَالنَّعَامَةُ مَعْرُوفَةٌ.

لِنَعْمَةِ رِيشِهَا.

وَعَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ النَّعَامَةُ، وَهِيَ كَالظُّلَّةِ تُجْعَلُ عَلَى رُءُوسِ الْجَبَلِ، يُسْتَظَلُّ بِهَا.

قَالَ:

لَا شَيْءَ فِي رَيْدِهَا إِلَّا نَعَامَتُهَا *** مِنْهَا هَزِيمٌ وَمِنْهَا قَائِمٌ بِاقِ

وَيَقُولُونَ: نَعَمْ وَنُعْمَى عَيْنٍ، وَنُعْمَةَ عَيْنٍ، أَيْ قُرَّةَ عَيْنٍ.

وَنَعِمَ الشَّيْءُ مِنَ النَّعْمَةِ.

وَقَدْ نَعَّمَ فُلَانٌ أَوْلَادَهُ: تَرَّفَهُمْ.

وَيَقُولُونَ: ابْنُ النَّعَامَةِ: صَدْرُ الْقَدَمِ.

قَالَ:

فَيَكُونُ مَرْكَبُكَ الْقَعُودَ وَرَحْلَهُ *** وَابْنُ النَّعَامَةِ يَوْمَ ذَلِكَ مَرْكَبِي

وَسُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ مَكَانٌ لَيِّنٌ نَاعِمٌ.

وَتَنَعَّمَ الرَّجُلُ: مَشَى حَافِيًا.

وَيُعَبَّرُ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِالنَّعَامَةِ فَيُقَالُ: شَالَتْ نَعَامَتُهُمْ، إِذَا تَفَرَّقُوا.

وَهَذَا عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ، أَيْ كَمَا تَطِيرُ النَّعَامَةُ فَقَدْ تَفَرَّقُوا هَؤُلَاءِ.

وَيَقُولُونَ: أَتَيْتُ أَرْضَ بَنِي فُلَانٍ فَتَنَعَّمَتْنِي.

إِذَا وَافَقَتْهُ.

وَنِعْمَ: ضِدُّ بِئْسَ.

وَيَقُولُونَ: إِنْ فَعَلْتَ ذَاكَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، أَيْ نِعْمَتِ الْخَصْلَةُ هِيَ.

وَمِنَ الْبَابِ قَوْلُهُمْ: نَعَمْ، جَوَابُ الْوَاجِبِ، ضِدُّ لَا، وَهِيَ أَيْضًا مِنَ النِّعْمَةِ.

وَعَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ النَّعَائِمُ: كَوْكَبٌ.

وَالنَّعَائِمُ، خَشَبَاتٌ يُنْصَبْنَ عَلَى الرَّكِيِّ تُعَلَّقُ إِلَيْهِنَّ الْقَامَةُ، إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلرَّكِيِّ زَرَانِيقُ.

وَيُقَالُ: إِنَّ شَقَائِقَ النُّعْمَانِ حَمَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ فَنُسِبَ إِلَيْهِ.

وَيُقَالُ: بَلِ النُّعْمَانُ هَاهُنَا: الدَّمُ.

وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ.

قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: تَنَعَّمْتُ زَيْدًا: طَلَبْتُهُ، كَأَنَّهُ أَرَادَ: أَعْمَلَ إِلَيْهِ نَعَامَتَهُ، وَهِيَ بَاطِنُ قَدَمِهِ.

وَيَقُولُونَ: نَعِمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا، [وَنَعِمَكَ عَيْنًا]، بِمَعْنَى.

مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م


208-مقاييس اللغة (وطس)

(وَطَسَ) الْوَاوُ وَالطَّاءُ وَالسِّينُ: كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تَدُلُّ عَلَى وَطْءِ شَيْءٍ حَتَّى يَنْهَزِمَ.

وَيُقَالُ: وَطَسْتُ الْأَرْضَ بِرِجْلِي أَطِسُهَا وَطْسًا، أَيْ هَزَمْتُ فِيهَا هَزْمَةً.

وَالْوَطِيسُ: التَّنُّورُ، مِنْهُ لِأَنَّهُ كَالْهَزْمِ فِي الْأَرْضِ.

وَيُعَبَّرُ [بِهِ] عَنِ الْأَمْرِ الشَّدِيدِ.

مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م


209-منتخب الصحاح (جشر)

جَشَرَ الصبح يَجْشُرُ جُشورًا: انفلق.

واصطبَحْنا الجاشريَّة، وهو شربٌ يكون مع الصُبح.

ولا يتصرَّف له فِعل.

وقال الفرزدق:

إذا ما شرِبْنا الجاشِريَّةَ لم نُبَلْ *** أميرًا وإن كان الأميرُ من الأَزْدِ

قال الأصمعيّ: يقال أصبح بنو فلان جَشَرًا، إذا كانوا يبيتون مكانَهم في الإبل لا يرجِعون إلى بيوتهم.

قال: يقال جَشَرْنا دوابَّنا: أخرجْناها إلى الرعي نَجْشُرها جَشْرًا بالإسكان، ولا تَروح.

وخيل مُجَشَّرةٌ بالحِمى، أي مرعيَّةٌ.

ويقال: به جُشْرَةٌ بالضم، أي سعال أو خشونةٌ في الصدر.

ويعبر مَجْشورٌ: به سُعالٌ حازٌّ.

وقد جُشِرَ يُجْشَرُ، على ما لم يسمَّ فاعله.

والجَشير: الجُوالقُ الضخم.

والجَشيرُ: الوَفْضَةُ.

وجَشِرَ الساحل بالكسر يَجْشَرُ جَشَرًا، إذا خَشُنَ طينه ويَبِسَ كالحجَر.

والجَشَرُ: وسخ الوَطْبِ من اللبن.

يقال: وَطْبٌ جَشِرٌ، أي وسخ.

منتخب الصحاح-أبونصر الجوهري-توفي: 393هـ/1003م


210-تهذيب اللغة (عم)

قال أبو عبيد: العُمُ: التامّة في طولها والتفافها، واحدتها عميمة.

قال: ومنه قيل للمرأة عميمة إذا كانت وثيرة.

وأنشد للبيد في صفة نخيل طالت:

سُحُق يمتِّعها الصَّفا وسَرِيُّه *** عُمٌ نواعم بينهنَّ كروم

الصَّفا: نهر بالبحرَين.

والسريّ: خليجٌ ينخلج منه.

ويقال: اعتمَّ النبتُ اعتمامًا، إذا التفّ وطال.

ونبتٌ عميم.

وقال الأعشى:

مؤزَّرٌ بعَميمِ النبت مُكتهِلُ

وأخبرني المنذري عن الحراني عن ابن السكيت قال: العَمُّ الجماعة من الحيّ.

والعمّ: أخ الأب.

والعَمَم: الجِسم التامّ، يقال: إنّ جسمَه لعَممٌ، وإنّه لعَمَمُ الجِسم.

ويقال استوى شبابُ فلانٍ على عَمَمه وعُمُمِه، أي على طوله وتمامه.

أبو عبيد عن أبي عمر قال: العماعم: الجماعات، واحدها عَمٌّ على غير قياس.

قال أبو عبيد: وقال الكسائيّ: استعمَّ الرجلُ عَمًّا، إذا اتخذَ عَمًّا.

قال: وقال أبو زيد: يقال تعمَّمتُ الرجل، إذا دعوته عَمًّا.

ومثله تخوَّلتُ خالًا.

ويجمع العمّ أعمامًا وعُمومًا وعُمومة.

وأخبرني المنذري عن ثعلب عن ابن الأعرابي أنه أنشدَهُ:

عَلَامَ بنَتْ أختُ اليرابيع بيتَها *** عليَّ وقالت لي بليلٍ تعمَّمِ

معناه أنّه لما رأت الشيبَ برأسه قالت له: لا تأتنا خِلْمًا ولكن ائتِنا عَمًّا

الحرّاني عن ابن السكيت: يقال هما ابنا عَم ولا يقال هما ابنا خال، ويقال هما ابنًا خالة ولا يقال ابنا عمة.

وفي حديث عروة بن الزُّبير أنه ذكر أُحَيحةَ بن الجُلَاح وقولَ أخواله فيه: «كنّا أهلَ ثُمِّهِ ورُمِّه، حتى استوى على عُمُمِّه» قال: قال أبو عبيد: قوله «حتى استوى على عُممِّه» أراد على طوله واعتدال شبابه، يقال للنبات إذا طال: قد اعتمّ.

وقال شمر: قال أبو منجوف: يقال قد عَمَّمناك أمرنا، أي ألزمناك.

قال شمر: والمعمَّم: السيّد الذي يقلّده القومُ أمورَهم، ويلجأ إليه عوامُّهم.

وقال أبو ذؤيب الهذليّ:

ومن خير ما جمع الناشىء ال *** معمَّم خِيرٌ وزندٌ وَرِيُ

قال: والعَمَمُ من الرجال: الكافي الذي يعمُّهم بالخير.

وقال الكميت:

بحر جريرُ [بن شقٍ] من أرومته *** وخالدٌ من بنيه المِدره العممُ

قال: والعمم أيضًا في الطُّول والتمام.

وقال أبو النجم:

وقَصَب رؤد الشبابِ عَمَمُه

وقال ابن الأعرابيّ: خَلْق عَمَمٌ، أي تامّ.

وفي حديث عطاء: «إذا توضَأتَ فلم تعمُمْ فتيمَّم»، قال شمر: قوله «فلم تعمُمْ»، يقول: إذا لم يكن في الماء وضوءٌ تامٌّ فتيمَّم.

وأصله من العموم.

ثعلب عن ابن الأعرابي: عُمَّ، إذا طُوّل.

وعَمَّ، إذا طال.

قال: وعمعم الرجُل، إذا كثُر جيشُه بعد قلّة.

ومن أمثالهم: «عَمَّ ثؤباءُ الناعسِ»، يضرب للحدَث يحدُث ببلدة ثم يتعدّاه إلى سائر البُلدان.

وأصله أن الناعسَ يتثاءب في المجلس فيُعدى ثؤباؤه أهلَ مجلسِه.

ويقال رجل عُمِّيّ ورجلٌ قُصريّ.

فالعُمّيّ:

العامّ، والقُصريّ: الخاصّ.

والعِمامة من لباس الرأس معروفة، وجمعها العمائم.

وقد تعممّها الرجل واعتمّ بها.

وإنه لحسَن العِمَّة.

وقال ذو الرمة:

واعتمَّ بالزَّبد الجَعْد الخراطيمُ

والعرب تقول للرجل إذا سُوِّد: قد عُمِّم.

وذلك أنَّ العمائم تيجانُ العرب.

وكانوا إذا سوّدوا رجلًا عمَّموه عمامةً حمراء.

ومنه قول الشاعر:

رأيتُك هرَّيتَ العمامةَ بعدما *** رأيتكَ دهرًا فاصعًا لم تعصَّبِ

وكانت الفرسُ إذا ملّكت رجلًا توّجوه، فكانوا يقولون للملك مَتوّج.

وقال أبو عبيدة: فرسٌ معمَّم، إذا انحدرَ بياض ناصيته إلى منبتها، وما حولها من الرأس والناصية معمَّم أيضًا.

قال: ومن شيات الخيل: أدرعُ معمَّم، وهو الذي يكون بياضُه في هامته دون عنقه.

والعرب تقول رجلٌ مُعَمٌّ مُخْوَلٌ، إذا كان كريم الأعمام والأخوال، ومنه قول امرىء القيس:

بجيدِ مُعَمٍّ في العشيرة مُخْوَلِ

وقال الليث: يقال فيه مُعِمٌّ مُخْوِل أيضًا.

قلت: ولم أسمعه لغيره، ولكن يقال رجل مِعَمٌّ مِلَمٌّ، إذا كان يعمُّ الناسَ فضلُه ومعروفُه ويَلُمّهم، أي يجمعهم ويصلح أمورَهم.

وقال الليث: العامّة: عيدانٌ يُشَدُّ بعضُها إلى بعض ويُعبَر عليها.

قلت: خفّف ابنُ الأعرابي الميم من العامَة بمعنى المِعْبَر، وجعله مثل هامة الرأس وقامَة العَلَق، في حروفٍ مخفّفة الميم، وهو الصواب.

وقوله الله عزوجل: {عَمَّ يَتَساءَلُونَ} [النّبَإِ: 1] أصله عن ما يتساءلون، فأدغمت النون من عن في الميم من ما وشُدِّدتَا ميمًا، وحذفت الألف فرقًا بين الاستفهام والخبر في هذا الباب.

والخبرُ كقولك: عما أمرتك به، المعنى عن الذي أمرتك به.

وأما قول ذي الرّمّة:

بَراهنّ عما هنّ إما بَوادىءٌ *** لحاجٍ وإما راجعاتٌ عوائدُ

فإن الفراء قال: ما صلة، والعين مبدلة من ألف أنْ.

المعنى براهنّ يعني الركاب أنْ هن إمّا بَوادىءُ لحاجة في سفر مبتدأ، وإما أن عُدْن راجعات من السفر، وهي لغة تميم، يقولون عن هُنّ.

وأما قول الآخر يخاطب امرأة اسمها عَمَّى:

فقِعدَكِ عَمَّى الله هلَّا نعيتِهِ *** إلى أهل حيٍّ بالقنافذ أوردوا

فإنّ عَمَّى اسم امرأة، أراد يا عَمَّى.

وقِعدَكِ والله يمينان.

وقال المسيّب بن علَس يصف ناقة:

ولها إذا لحِقتْ ثمائلها *** جَوزٌ أعمُّ ومِشفَرٌ خَفِقُ

قال أبو عمرو: الجَوز الأعمّ: الغليظ التامّ.

والجوز: الوسط.

قال: ومِشفَرٌ خَفِق: أهدَلُ، فهو يضطرب إذا عَدَتْ.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


211-تهذيب اللغة (جابان)

جابان: اسم جمَل، والمطاف، موضعُ الطواف حولَ الكعبة.

وقال الليث: الطوف قِرَبٌ ينفخ فيها ثم يشد بعضها إلى بعض كهيئة سطح فوقَ الماء يُحمل عليها الميرة، ويُعبَر عليها.

قلتُ: الطَّوْف الّذي يُعبَر عليه في الأنْهار الكبار تُسَوَّى من القَصَب والعِيدان يُشَدّ بعضُها فوقَ بعض، ثم تُقَمَّطُ بالقمُط حتّى يُؤمَنَ انحلالها، ثم تُركَبُ ويُعْبَرُ عليها، وربّما حُمِل عليها الجَمَل على قَدْر قُوّته، وثَخانته، وهو الرِّمْثُ أيضا، وتَسمَّى العَامَة بتخفيف الميم.

وقال الفرّاء: في قول الله جلّ وعزّ: {فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ} [القلم: 19] لا يكون الطائف إلا لَيْلا، ولا يكون نهارا، وقد تتكلّم به العرب فيقولون: أطفْتُ به نهارا، وليس موضعُه بالنهار، ولكنه بمنزلة قولِك: لو تُرِك القَطَا لَيْلا لَنَام، لأنَّ القطا لا يَسْرِي لَيْلا، أنشدني أبو الجرّاح:

أطفْتُ بها نَهارا غيرَ لَيْلٍ *** وألْهَى رَبَّها طَلبُ الرِّجالِ

وقال الليث: الطَّيَاف: سوادُ اللّيل، وأنشد:

* عِقْبَان دَجْنٍ بادَرَتْ طِيافَا*

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


212-معجم العين (طوف)

طوف: الطَّوْف: قِرَبٌ يُنْفَخُ فيها، ثمَّ يُشَدُّ بَعْضُها إلى بَعْضٍ كهيئة سَطْحٍ فوق الماء، يُحْمَل عليها المِيرةُ، ويُعْبَرُ عليها.

والطُّوفانُ: الماءُ الذّي يَغْشَى كلَّ مكانٍ، ويُشَبَّهُ به الظَّلامُ، قال العجّاج:

وعمَّ طُوفانُ الظَّلام الأَثْأَبا

الأَثأَبُ: شَجَرٌ مثل الطَّرْفاء، أكبر منه.

والطَّوَفان: مَصْدَر طافَ يَطُوفُ.

فأمّا طاف بالبيت يطوف فالمصدر: طَوَافٌ.

وأطاف بهذا الأمرِ، أي: أحاط به، فهو مُطِيفٌ.

وطائفةٌ من النّاسِ واللَّيْل، أي: قِطعةٌ، والطّائفُ الذي بالغور سُمِّي به الحائط الذّي بَنَوا حولها في الجاهليّة، حصّنُوها به، قال

نحن بَنَيْنا طائفًا حَصِينا *** نقارعُ الأعداءَ عن بنينا

والطّائف: العاسُّ بالليل.

والطوافون: المماليك.

العين-الخليل بن أحمد الفراهيدي-توفي: 170هـ/940م


213-الإدارة (تحليل فعالية التكلفة)

تحليل فعالية التكلفة: هو: نوع من التحليل تجري فيه مقارنة فعالية التدخلات المختلفة من خلال مقارنة تكاليفها ونتائجها مقدرة بوحدات مادية (ومن ذلك مثلًا عدد الأطفال الذين تم تحصينهم أو عدد الوفيات التي أمكن تفاديها) بدلًا من تقديرها بقيمة نقدية.

وتُحسب فعالية التكلفة بقسمة التكلفة الإجمالية للبرنامج على وحدات النتائج التي حققها البرنامج (ومن ذلك مثلًا عدد الوفيات التي أمكن تفاديها أو عدد الإصابات بفيروس نقص المناعة البشرية التي نجحت الوقاية منها) ويُعبَّر عنها من حيث التكلفة بالنسبة لكل حالة وفاة تم تفاديها أو بالنسبة لكل إصابة بفيروس نقص المناعة البشرية تحققت الوقاية منها، مثلًا.

ولا يمكن تطبيق هذا النوع من التحليل إلا على البرامج التي تكون لها نفس الأهداف أو نفس النتائج.

فمن الممكن مثلًا مقارنة الاستراتيجيات المختلفة للحد من معدلات وفيات النفاس.

ويُعتبر البرنامج الذي تكون تكلفته أقل بالنسبة لكل وحدة من وحدات النتائج ذا فعالية تكلفة أكبر.

وعلى النقيض من تحليل الجدوى مقارنة بالتكاليف لا يقيس تحليل فعالية التكلفة الجدوى المطلقة لبرنامج ما.

فالافتراض الضمني هو أن من المجدي تحقيق نتائج تدخل ما وأن القضية هي تحديد أكثر وسيلة فعّالة من حيث التكلفة لتحقيق تلك النتائج.


214-التجارة (أولوية (المهمة))

أولوية (المهمة): تعد الأولوية مقياسا لحيوية المهمة.، ويعبر عنها بحاصل ضرب الأهمية في الصعوبة.

وهى مقياس مدرج من 1-5 ويعنى الرقم 1 أن المهمة منخفضة الأولوية.


215-التقنيات الاستراتيجية والمتقدمة (تدفّق جسيميّ)

تدفّق جسيميّ: عدد الجسيمات المارّة في واحدة السطوح - ويعبّر بشكل خاصّ عن شدّة حقل الإشعاع.


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com