نتائج البحث عن (يورث)

1-العربية المعاصرة (أثر)

أثَرَ يَأثُر، أَثْرًا وأَثَارةً، فهو آثِر، والمفعول مَأْثور.

* أثَر المجرمَ: تبع أثره.

* أثَر الحديثَ: نقله ورواه عن غيره (لم يُؤْثَر عنه مثل هذا القول- {إِنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [قرآن]: يُورث ويُنقل عن السلف).

أثِرَ/أثِرَ على يَأثَر، أثَرًا وأثَرةً وأُثْرةً وأُثْرى، فهو أثِر، والمفعول مَأْثور (للمتعدِّي).

* أثِر أن يدرُس: فضّل (أثِر أن يهاجر من بلاده:).

* أثِر عليه: فضَّل نفسه عليه في النصيب.

آثرَ يُؤثر، إيثارًا، فهو مُؤثِر، والمفعول مُؤثَر.

* آثر الشَّيءَ: فَضَّله واختاره (آثر البقاءَ بجوار والديه- {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [قرآن]).

* آثره بسِرِّه: اختصّه به.

* آثره على نفسه: قدَّمه واختصَّه بالخير {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [قرآن].

أثَّرَ ب/أثَّرَ على/أثَّرَ في يؤثِّر، تأثيرًا، فهو مُؤثِّر، والمفعول مُؤثَّر به.

* أثَّر الحادثُ بصحَّته/أثَّر الحادثُ على صحَّته/أثَّر الحادثُ في صحَّته: ترك أثرًا فيها (أثَّر الاستعمارُ في الشُّعوب- {فَأَثَّرْنَ بِهِ نَقْعًا} [قرآن]: أظهرن أثرًا).

ائتثرَ يأتثر، ائْتِثارًا، فهو مُؤتثِر، والمفعول مُؤتثَر.

* ائتثره: تتبّع أثره.

استأثرَ/استأثرَ ب يستأثر، استئثارًا، فهو مُستأثِر، والمفعول مُستأثَر.

* استأثر اللهُ فلانًا/استأثر اللهُ بفلان: توفّاه.

* استأثر بالشَّيء: خصّ به نفسه، استبدَّ وانفرد به (استأثر البخيلُ بماله- الاستئثار بالحكم أمر يتنافى ومبادئ الحرِّيَّة- استأثر الموضوع باهتمام كبير) (*) استأثر بالانتباه: استرعاه- استأثر بالسُّلطة: استبدَّ بها- استأثر بحصّة الأسد: أعطى لنفسه النصيب الأكبر.

* استأثره بالشّيء: أعطاه إيَّاه دون غيره من الناس (استأثره بعطفه وكرمه).

تأثَّرَ/تأثَّرَ ب/تأثَّرَ ل/تأثَّرَ من يتأثَّر، تأثُّرًا، فهو مُتأثِّر، والمفعول مُتأثَّر (للمتعدِّي).

* تأثَّر الشَّخصُ: ظهر عليه الأثر (تأثَّر نفسيًّا بوفاة صديقه).

* تأثَّر الشَّيءَ: تتبّع أثره.

* تأثَّر الشَّاعرُ بمن سبقه: سار على نهجه أو تطبَّع به، جعل منه أثرًا فيه (تأثَّر الكاتبُ بأساليب الأدب الغربيّ- رفض أن يتأثّر بالأحداث الجارية).

* تأثَّر بمصابنا/تأثَّر لمصابنا: حزن حزنًا شديدًا (ظهرت عليه علامات التأثُّر).

* تأثَّرَ من تحامل رئيسه عليه: غضب، انفعل معنويًّا.

أَثَارة [مفرد]:

1 - مصدر أثَرَ.

2 - بقيَّة؛ مابقي من الشّيء أو من أصوله {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [قرآن].

3 - علامة.

أثْر [مفرد]: مصدر أثَرَ.

أَثَر [مفرد]: جمعه آثار (لغير المصدر):

1 - مصدر أثِرَ/أثِرَ على.

2 - علامة، بقيَّة، رسم متخلِّف من شيء ما (آثار أقدام/ديار متهدّمة- يخفي آثار جريمته/العدوان- لا تطلب أَثَرًا بعد عين [مثل]: يُضرب لمن يطلب أثر الشّيء بعد فوات عينه- كيف أُعاوِدك وهذا أثر فأسك [مثل]: يُضرب لمن لا يَفِي بالعهد- {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [قرآن]) (*) أصبح أثرًا بعد عين/صار أثرًا بعد عين: غاب بعد أن كان حاضرًا، زال، اندثر واختفى- اقتفى أثره: تتبَّعه خطوة خطوة- على أَثَره/في أَثَره: في عقبه مباشرة، بعده.

3 - تأثير، انطباع (لا أثر له- كان للخبر أثر عميق في نفسي) (*) أبعد الأَثَر/أعمق الأَثَر/أكبر الأَثَر: تأثير عظيم- بَعيد الأَثَر: ذو أثر كبير.

4 - عمل {وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءَاثَارًا فِي الأَرْضِ} [قرآن]: فسِّرت الآثار هنا بالحصون والقصور والتقاليد الموروثة- {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَءَاثَارَهُمْ} [قرآن].

5 - ما خلّفه السَّابقون {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَءَاثَارَهُمْ} [قرآن].

6 - عمل أدبيّ أو فكريّ ونحوه، مؤلَّف أو كتاب (ترك العقَّاد آثارًا كثيرة).

7 - سبب أو نتيجة (تُوفّي من أَثَر الجرح الذي أُصيب به- آثار مترتّبة على حضوره المؤتمر).

8 - حديث، خبر مرويّ أو سُنّة باقية (جاء في الأَثَر- وجدت ذلك في الأَثَر).

9 - بقيّة قليلة، أو قدر ضئيل (أَثَر من المرارة).

* علم الآثار: العلم الخاصّ بدراسة القديم من تاريخ الحضارات الإنسانيّة، أو علم معرفة بقايا القوم من أبنية وتماثيل ونقود وفنون وحضارة (*) عالِم الآثار: من يدرس الآثار ويهتمّ بمعرفتها- دار الآثار: متحف يضم آثارًا معيَّنة.

* الأَثَر الرَّجعيّ: [في القانون] سريان قانون جديد على المدَّة التي سبقت صدوره.

أَثِر [مفرد]: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من أثِرَ/أثِرَ على.

إثْر [مفرد]: عقِب، بَعْد (يسير/خرج في إثْره- تساقطت الضحايا إثْر وقوع الانفجار- تُوفّي إثْر حادث أليم- {قَالَ هُمْ أُولاَءِ عَلَى إِثْرِي} [قرآن]) (*) في إثره: في عقبه مباشرة.

أَثَرة [مفرد]: جمعه أَثَرات (لغير المصدر):

1 - مصدر أثِرَ/أثِرَ على.

2 - أنانيّة، تفضيل الإنسان نفسه على غيره (سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً [حديث]: يستأثر أمراء الجور بالفيء).

3 - أثارة؛ بقيَّة {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَرَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [قرآن]).

4 - منزلة (لفلان عندي أَثَرة).

* الأَثَرة: [في علوم النفس] الأنانيَّة وحُبّ النَّفس، وتطلق على ما لا يهدف إلاّ إلى نفعه الخاصّ، عكسها الإيثار.

أُثْرة [مفرد]: مصدر أثِرَ/أثِرَ على.

أُثْرى [مفرد]: مصدر أثِرَ/أثِرَ على.

أَثَريّ [مفرد]:

1 - اسم منسوب إلى أَثَر: (اكتشاف أَثَريّ).

2 - عالم آثار، عالم متخصِّص في معرفة القديم من تاريخ الحضارات الإنسانيّة (لهذا الأَثَريّ الفضل في اكتشاف معظم منجزات الحضارة الإسلاميّة).

3 - قديم مأثور، خاصّ بآثار شيء لم يعد موجودًا (قطعة أَثَريّة: ذات قيمة- لُغة أَثَريّة: قديمة ميِّتة، غير مستعملة).

أَثير [مفرد]: مفضَّل على غيره (إنّه كاتب أَثير عندي).

* الأَثير:

1 - [في الطبيعة والفيزياء] وسط افتراضيّ يعمّ الكون ويتخلّل جميع أجزائه، وُضِعَ لتعليل انتقال الضَّوء أو الصَّوت أو الحرارة في الفراغ (نقلت وقائع المؤتمر عبر موجات الأَثير) (*) على جناح الأَثير: بواسطة المذياع أو الرَّاديو والموجات الكهربائيّة.

2 - [في الكيمياء والصيدلة] سائل عضويّ طيّار، لا لون له، يُستخدم مذيبًا في الصِّناعة، ومخدِّرًا في الطِّبّ.

* الأثير الملحيّ: [في الكيمياء والصيدلة] مركَّب عضويّ منتشر في الموادّ الدسمة والأزهار والثِّمار.

أثيريَّة [مفرد]:

1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى أَثير: (مادة أثيريّة).

2 - مصدر صناعيّ من أَثير: حالة من الخفة والنشاط والشفافيّة والنقاوة (إنها تتميّز بجمال خلاّب وأثيريّة شفّافة).

إيثار [مفرد]: مصدر آثرَ.

* الإيثار:

1 - [في علوم النفس] مذهب يرمي إلى تفضيل خير الآخرين على الخير الشخصيّ، وعكسه الأَثَرة.

2 - [في علوم النفس] اتِّجاه اهتمام الإنسان وميول الحبّ فيه نحو غيره وقبل ذاته، سواء أكان هذا عن فطرة أم عن اكتساب.

إيثاريَّة [مفرد]: مصدر صناعيّ من إيثار.

* الإيثاريَّة:

1 - [في الفلسفة والتصوُّف] مذهب يعارض الأَثَرة، ويرمي إلى تفضيل خير الآخرين على الخير الشَّخصيّ.

2 - [في علوم النفس] اتّجاه اهتمام الإنسان وميول الحبّ فيه نحو غيره وقبل ذاته سواء أكان هذا عن فطرة أم عن اكتساب.

استئثاريَّة [مفرد]:

1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى استئثار.

2 - مصدر صناعيّ من استئثار: أنانيَّة، حبّ النفس ورفض إشراك الآخرين في الشَّيء (تغلبه نزعته الاستئثاريَّة دائمًا).

تأثُّر [مفرد]:

1 - مصدر تأثَّرَ/تأثَّرَ ب/تأثَّرَ ل/تأثَّرَ من.

2 - رقَّة الحِسّ.

تأثُّريَّة [مفرد]: مصدر صناعيّ من تأثُّر: انفعاليَّة.

* التَّأثُّريَّة:

1 - [في البلاغة] الانطباعيّة، مذهب يرى أن النَّقد الأدبيّ لا يخضع لقواعد عقليّة بقدر ما يخضع للذّوق الشّخصيّ والتَّأثر الذّاتيّ.

2 - [في الآداب] حركة أدبيَّة تهتمّ باستخدام التَّفاصيل والأشياء المترابطة في الذِّهن وتصوّر انطباعات حسّيَّة وغير موضوعيَّة ولا تخضع لتصوير الواقع الموضوعيّ.

3 - [في الطب] القدرة على الاستجابة للمنبّهات.

4 - [في الثقافة والفنون] اتِّجاه يقوم على التَّعبير عن تأثّرات الفنَّان أكثر من التَّعبير عن ظاهر الأشياء.

تأثير [مفرد]:

1 - مصدر أثَّرَ ب/أثَّرَ على/أثَّرَ في (*) تأثير جانبيّ: مفعول سلبيّ لدواء ونحوه- دواء ذو تأثير سحريّ: قويّ المفعول.

2 - نفوذ، قدرة على إحداث أثر قويّ (فلان ذو تأثير كبير- تحت تأثير السُّكْر/المرض- وافق تحت تأثير والده).

3 - انفعال في العقل والقلب، تحرُّك المشاعر أو اهتزازها (تأثير الخوف).

* التَّأثير: [في علوم النفس] إحساس قويّ مُلْحَق بعواقب فعّالة.

تأثيريَّة [مفرد]:

1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى تأثير.

2 - مصدر صناعيّ من تأثير: قدرة العمل الفنِّيّ على تحريك مشاعر المتلقِّي والتأثير فيها.

3 - [في الأحياء] حساسية خاصَّة في الكائنات الحيَّة تجعلها مستجيبة للمنبهات (تأثيريّة خلويّة).

4 - [في الآداب] تأثير أديب أو تيار أدبيّ على آخر.

* التَّأثيريَّة: [في الطبيعة والفيزياء] خاصّيّة في الدَّائرة الكهربائيَّة تتميَّز بحثّ القوَّة الدَّافعة الكهربائيَّة في الدَّائرة نفسها أو المجاورة لها عند تغيُّر التيّار في أيّ من الدَّائرتين.

مُؤثِّر [مفرد]: جمعه مُؤثِّرات:

1 - اسم فاعل من أثَّرَ ب/أثَّرَ على/أثَّرَ في.

2 - فعَّال أو ذو أثر قويّ (ألقى خطبة مؤثِّرة- دواء مُؤثِّر- قوَّةٌ مُؤثِّرة للأمم المتّحدة).

3 - عامل (يخضع الوضع في المنطقة لمُؤثِّرات خارجيَّة وداخليَّة).

* المُؤثِّر: [في التشريح] منتهى عصبيّ يوصِّل التَّنبيه العصبيّ إلى العضلة أو الغدّة أو أيّ عضو كان.

* المُؤثِّرات الصَّوتيَّة: [في الثقافة والفنون] الأصوات المصاحبة التي يتمّ تسجيلها ومزجها على الحوار والتعليق أثناء الفيلم أو المسرحيّة عن طريق استخدام التسجيلات المحفوظة، كاستخدام الأصوات المقلِّدة لصوت الرَّعْد أو الانفجار أو غيرهما.

مآثِرُ [جمع]: مفرده مأثُرة: أعمال خيّرة، مكارم متوارَثة، أفعال حميدة (صاحب مآثِر حميدة في الجمعيّة- من مآثِر هذا العالم الجليل النزاهة والصدق).

مأثور [مفرد]: جمعه مأثورات: اسم مفعول من أثَرَ (*) قول مأثور/كلمة مأثورة: مثَل سائر أو حكمة تداولها الناس تميّزت بالدلالة مع الإيجاز، ولزمت صورة معيّنة لا تتغيّر في الاستعمال كلامًا وكتابة.

* المأثورات الشَّعبيَّة: (دب، فن) الإبداع الشفاهيّ للشعوب البدائيّة والمتحضِّرة على السّواء، ويشمل الكلمات المنظومة أو المنثورة، والملاحم والسِّيَر الشَّعبيّة والرّقصات والأغاني والأمثال والألغاز والحكايات الشعبيّة، وتدخل فيها أيضًا المعتقدات والعادات والتقاليد، وتضمّ إلى هذه العناصر: الفنون والحِرف اليدويّة التقليديّة.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


2-العربية المعاصرة (حبس)

حبَسَ يَحبِس، حَبْسًا، فهو حابِس، والمفعول مَحْبوس وحبيس.

* حبَسَ الشَّخصَ أو الشَّيءَ:

1 - منَعَه وأمسَكَه وأخّره، ضدّ خلاَّه (انطلقت تبكي لايحبس دمعها حابس- حبس الدمَ: قطَع سيلانَه وأوقفه- حبس عنه أجرَه: حرمه منه- {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ} [قرآن]: توقفونهما وتمنعونهما) (*) حبَس أنفاسَه: منعها وقطعها من دهشة أو خوف- حبَسَ نَفْسَه: انزوى في بيته- حبَسَ نَفْسَه على الأمر: كرَّس نفسَه له- حبَسَ يدَه عن الشَّيء: كفَّها عنه- يحبِسُ رأسَ المال: يستثمر أموالًا بطريقة لا يمكن تحويلها بسهولة إلى نَقْد.

2 - سجَنه، اعتقله (أصدر القاضي حكمًا بحَبْسه شهرًا).

3 - وقفه لا يُباع ولا يُورث وإنّما تُملك غلَّتُهُ ومنفعَتُه (حبَس فرسَه: وقفه للجهاد في سبيل الله).

احتبسَ/احتبسَ في يحتبس، احْتِباسًا، فهو مُحْتبِس، والمفعول مُحْتَبَس (للمتعدِّي).

* احتبس الشَّيءُ: امتنع وتعرقل (احتبس المطرُ: انقطع وتوقَّف- احتبس لسانُه: ثقُل فلم يُبِن- احتبس الدَّمعُ: امتنع نزوله).

* احتبس الشَّخصَ ونحوَه: حبَسه (إن احتبست الزَّيتَ داخل المصباح حوَّلته إلى ضياءٍ ونورٍ).

* احتبسَ في الكلام: توقَّف، اعتصم ولزِم (احتبس في صمت مطبق).

انحبسَ يَنحبِس، انْحِباسًا، فهو مُنْحبِس.

* انحبس الشَّخصُ: مُطاوع حبَسَ: سُجِنَ (انحبس الجاني).

* انحبس الشَّيءُ: تقيّد، حُصِرَ واستمسك (انحبس البولُ- انحبس المطرُ: لم يعد يسقط) (*) انحبست أنفاسُه: اختنق، أصابه الإرهاقُ.

تحبَّسَ على/تحبَّسَ في يَتحبَّس، تَحَبُّسًا، فهو مُتَحبِّس، والمفعول مُتَحبَّس عليه.

* تحبَّس على الأمر: أمسك نفسَه عليه (تحبَّستْ على تربية أولادها والعناية بمنزلها).

* تحبَّس في الكلام: توقَّف.

حبَّسَ يُحبِّس، تحْبيسًا، فهو مُحَبِّس، والمفعول مُحَبَّس.

* حبَّس الشَّيءَ: حبَسَه، وقفه، لا يُباع ولا يُورث وإنّما تُملك غلَّتُه ومنفعتُه (حبَّس مالَه على الفقراء).

احتباس [مفرد]:

1 - مصدر احتبسَ/احتبسَ في.

2 - [في الطب] حجز لاإراديّ للإفرازات التي يتمُّ التَّخلُّصُ منها بشكل طبيعيّ (أصيب باحتباس في البول).

حَبْس [مفرد]: جمعه حُبُوس (لغير المصدر):

1 - مصدر حبَسَ (*) حَبْسٌ احتياطيّ: على ذمّة التَّحقيق.

2 - سِجْن (*) حَبْسٌ انفراديّ: مكان يُحبَس فيه الشخص بمفرده- حَبْسٌ مع الشُّغل.

* أمر حبس: [في القانون] أمر رسميّ أو قضائيّ ينصُّ على احتجاز أو استبقاء الشَّخص الموضوع تحت الوصاية للبتِّ في أمره.

* حَبْس تحفُّظيّ: [في القانون] إيداع- بأمر من السُّلطة المختصّة- في مؤسّسة أو مكان لحماية المودَع من الأخطار أو الأضرار سواء من الآخرين أو من نفسه.

حُبْسَة [مفرد]: جمعه حُبُسات وحُبْسات:

1 - ثِقَل في اللِّسان يمنع من الإبانة، وهي خلاف الطَّلاقة (*) حُبْسة حركيّة: اختلال حركات النُّطق- حُبْسة حِسِّيَّة: العجز عن فهم الكلمات المكتوبة أو المنطوقة- حُبْسة صوتيّة: فَقْد الصَّوت.

2 - [في علوم النفس] فقد القدرة على صياغة الأفكار أو فهم اللُّغُة أو القدرة على الكلام جزئيًّا أو كُلِّيًّا، ناتج عن ضرر في الدِّماغ نتيجة مرض أو إصابة.

حَبِيس [مفرد]: جمعه حبيسون وحُبُس وحُبَساء، والمؤنث حبيسَة، والجمع المؤنث حبيسات وحبائِسُ:

1 - صفة ثابتة للمفعول من حبَسَ: محبوس (أموال/طبقة/أرض حبيسة).

2 - رجل منقطع عن النَّاس معتزل في الخَلاء أو في صومعة زُهْدًا في الدُّنيا، يعيش متعبِّدًا لله متقشِّفًا، ناسك، متوحِّد.

مَحْبِس [مفرد]: جمعه مَحَابِسُ:

1 - مصدر ميميّ من حبَسَ.

2 - خاتم خطبة أو زواج.

3 - اسم مكان من حبَسَ: مَعْلَف الدَّابة (زاره في مَحْبِسه).

مِحْبَس [مفرد]: جمعه مَحَابِسُ:

1 - اسم آلة من حبَسَ: خاتم خطبة أو زواج؛ حلقة من ذهب أو فضة.

2 - صمام يُحرَّك فيفتح أو يقفل متحكِّمًا في مرور غاز أو سائل.

* مِحْبَس الروائح: جهاز لسدّ فراغ أو مجرى لمنع مرور الغازات، وخاصّة في أنبوب يمنع إعادة تدفُّق غازات المجاري بحاجز مائيّ.

مُحتبَس [مفرد]: اسم مفعول من احتبسَ/احتبسَ في.

* الضَّريبة المُحتبسَة: [في الاقتصاد] جزء من راتب الموظّف مُحتبَس من قِبَل المستخدم كدفعة جزئيَّة من ضريبة دخل الموظَّف.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


3-العربية المعاصرة (حكم)

حكَمَ/حكَمَ ب/حكَمَ على/حكَمَ ل يَحكُم، حُكْمًا، فهو حاكم، والمفعول مَحْكوم (للمتعدِّي).

* حكَم اللهُ: شرَّع {إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [قرآن].

* حكَم ابنَه: منعه وردّه عن السّوء، أخذ على يديه (حكم أخاه عن مجاراة رفاق السُّوء).

* حكَم البلادَ: تولّى إدارة شئونها (شهد التَّاريخُ الإسلاميّ حُكّامًا عادلين حكموا البلادَ بالشُّورى- تسلّم مقاليد الحكم- يحكم بيدٍ من حديد).

* حكَم الفرسَ: جعل للجامه حَكَمةً، وهي حديدةٌ تُجعل في فمه تمنَعُ جماحَه.

* حكَم بالأمر: قضى به وفصل (حكم بينهم بالعدل- {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [قرآن]) (*) حكَمَ ببراءته: برّأه.

* حكَم على فلان: قضى ضدّه، أو في غير صالحه (حكَم على المتهم بالإعدام/بالسجن) - حَكَمَ اعتباطًا: بلا تبصُّر.

* حكَم لفلان: قضى في صالحه (حكم للزوّجة بحضانة رضيعها).

حكُمَ يحكُم، حُكْمًا وحِكْمةً، فهو حكيم.

* حكُم الشَّخصُ: صار حكيمًا، وهو أن تصدر أعمالُه وأقوالُه عن رويّة ورأي سديد (وأبغضْ بغيضَك بُغْضًا رويدًا.. إذا أنت حاولت أن تَحْكُما: إذا حاولت أن تكون حكيمًا).

أحكمَ يُحكم، إحكامًا، فهو مُحكِم، والمفعول مُحكَم.

* أحكمَ الشَّيءَ أو الأمرَ:

1 - أتقنه وضبطه (أحكَم إقفالَ البابِ- أحكم لغةً أجنبيّة- {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ} [قرآن]).

2 - أقرَّه، أثبته.

* أحكم الفرسَ: جعل في فمه حديدة لمنعه من مخالفة راكبه.

* أحكمته التَّجاربُ ونحوُها: جعلته حكيمًا تصدر أعماله وأقواله عن رويّة ورأي سليم.

احتكمَ/احتكمَ إلى/احتكمَ في يحتكم، احتكامًا، فهو مُحتكِم، والمفعول مُحتكَم إليه.

* احتكم الشَّيءُ أو الأمرُ: توثّق وصار مُحْكمًا وراسخًا.

* احتكم النَّاسُ إلى فلان: رفعوا خصومتَهم إليه ليقضي بينهم.

* احتكم في الشَّيء أو الأمر: تصرّف فيه كما يشاء، حكم فيه وفصل برأي نفسه (احتكم في نصيب مشترك بينه وبين آخر).

استحكمَ/استحكمَ على يستحكم، استحكامًا، فهو مُستحكِم، والمفعول مُستحكَم عليه.

* استحكم الأمرُ أو الشَّيءُ: تمكّن، احتكم، توثَّق وصار محكمًا (استحكم العملُ/إغلاقُ الباب) (*) استحكم المرضُ: صار مزمنًا- غباء مُسْتَحكَم.

* استحكم الشَّخصُ: صار حكيمًا تصدر أعمالُه وأقوالُه عن رويّة ورأي سليم وتناهى عمّا يضرُّه.

* استحكم عليه الشَّيءُ: التبس (استحكم عليه الكلامُ).

تحاكمَ إلى يتحاكم، تحاكُمًا، فهو مُتحاكِم، والمفعول مُتحاكَم إليه.

* تحاكم الطَّرفان إلى فلان: التجآ إليه، رفعا الأمرَ إليه ليقضي بينهما (تحاكم النَّاسُ إلى العقل- {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [قرآن]).

تحكَّمَ ب/تحكَّمَ في يتحكَّم، تحكُّمًا، فهو متحكِّم، والمفعول متحكَّم به.

* تحكَّم بالأمر/تحكَّم في الأمر:

1 - استبدَّ وتعنَّت (الحزم في الإدارة لا يعني التَّحكّم في إصدار القرارات والتّعليمات- تحكّم في الآخرين وتسلَّط).

2 - سيطر عليه (تحكَّم في إطلاق سفينة الفضاء- تحكَّم به الحزنُ).

* تحكَّمَ في الأمر: احتكم، تصرَّف فيه كما يشاء (يتحكَّم في عاطفته/الأمور- تحكَّم في إدارة المشروع).

حاكمَ يحاكم، مُحاكمةً، فهو محاكِم، والمفعول محاكَم.

* حاكمَ القاضي المذنبَ: قاضاه، حكم عليه بعد استجوابه فيما نُسب إليه.

* حاكمه إلى فلان: خاصمه إليه ليكون قاضيًا بينهما (حاكمه إلى القاضي- حاكمه إلى الله وإلى القرآن: دعاه إلى حكمه- وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ) [حديث].

حكَّمَ يحكِّم، تحكيمًا، فهو محكِّم، والمفعول محكَّم.

* حكَّم الشَّخصَ: ولاّه وأسند إليه مسئوليّةً ما (حكَّم الملِكُ أحدَ الأمراء).

* حكَّم فلانًا في الأمر: فوَّض إليه الفصلَ، القضاءَ فيه {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [قرآن] (*) أعماله محكَّمة- حكَّمَ العَقْل: فوّض إليه أمر التَّقرير- هيئة التَّحكيم/لجنة التَّحكيم: هيئة أو لجنة تقوم بالحكم في القضاء، وبين الأطراف المتنازعة، وفي المباريات الرياضيّة ونحوها.

استحكام [مفرد]: جمعه استحكامات (لغير المصدر):

1 - مصدر استحكمَ/استحكمَ على.

2 - تحصين (أقام الجيشُ استحكامات حول جبهة القتال).

* استحكام المرضِ: إذا تجاوز السَّنة فلا يزول إلاّ نادرًا.

تحكُّم [مفرد]: مصدر تحكَّمَ ب/تحكَّمَ في.

* جهاز التَّحَكُّم: آليّة يتمُّ عن طريقها نقل أو تحويل التَّنظيمات الخاصّة بتحكُّمات التَّوجيه إلى الدَّفّة أو العجلة أو أي جزء آخر يُوجِّه مسار المركبة.

تَحَكُّمِيّ [مفرد]:

1 - اسم منسوب إلى تحكُّم.

2 - اعتباطيّ، ما اتُّخذ وفق الإرادة والهوى (قراره تحكّميّ لا يستند إلى عقل أو منطق).

3 - استبداديّ.

تحكُّميَّة [مفرد]: مصدر صناعيّ من تحكُّم: استبداد (المجتمعات التي مُنِيت بالتَّحكُّميّة يكثر فيها الجهل والفساد).

تحكيم [مفرد]: جمعه تحكيمات (لغير المصدر):

1 - مصدر حكَّمَ (*) تحكيم قضائيّ- هيئة التَّحكيم: هيئة أو لجنة تقوم بالحكم في القضاء، وبين الأطراف المتنازعة، وفي المباريات الرياضيّة ونحوها.

2 - استحكام، تحصين (أقام الجيش تحكيمات حول جبهة القتال).

* التَّحكيم:

1 - شعار الحرورية من الخوارج الذين قالوا: (لا حُكم إلا لله) في الخلاف بين عليّ ومعاوية رضي الله عنهما.

2 - [في الفقه] تفويض القاضي إلى شخصَيْن عَدْلين للفصل بين الزَّوجين في حالة الشِّقاق (يفضِّل القاضي اللُّجوءَ إلى التّحكيم قبل النَّظر في الطّلاق).

3 - [في القانون] تسوية نِزاعٍ بين فريقين على يد فرد يكون حكمًا أو هيئة محكَّمة.

4 - [في القانون] ما يقوم به أطراف متنازعة من عرض مسألة النِّزاع؛ ليتمَّ الحكم فيها من فرد محايد أو مجموعة من الأفراد.

حاكم [مفرد]: جمعه حاكمون وحُكَّام:

1 - اسم فاعل من حكَمَ/حكَمَ ب/حكَمَ على/حكَمَ ل (*) أحكم الحاكمين: الله عزوجل.

2 - قاضٍ، من نُصِّب للحكم بين النَّاس (فساد الحكّام من فساد المحكومين- شرُّ الحكام من خافه البريء- إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ) [حديث].

3 - مَنْ يحكم النَّاس ويتولّى شئون إدارتهم، صاحِبُ السُّلطة (حاكم النَّاحية) (*) أُسْرة حاكمة/طبقة حاكمة/هيئة حاكمة: ينحصر رجال الحكم في أبنائها- الحزب الحاكم: الحزب الذي يحصل على الأغلبيّة وباسمه تُمارس الحكومةُ سلطتَها.

* الحاكم: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: المانع لأنّه يمنع الخصمين عن التَّظالم.

* حاكمٌ بأمره: من لا يُرَدُّ له أمر.

* حاكم أعلى: [في السياسة] مَن يمارس سلطة مطلقة دائمة، وعادة يكون في دولة أو مملكة: كالملك والملكة، أو شخص من النُّبلاء يقوم مقام الحاكم، أو مجلس أو لجنة حاكمة محليَّة.

* حاكم ذاتيّ: ممتلك القوَّة أو الحقَّ للحكم الذَّاتيّ المستقلّ.

* حاكم عام: مَن يحكم منطقة كبيرة جدًّا بما لديه من حُكَّام آخرين تحت حكمه.

* حاكم مطلق: من يملك سلطةً قضائيّةً مطلقةً على الحكومة وعلى الدَّولة.

حاكميَّة [مفرد]: مصدر صناعيّ من حاكم: منصب الحاكم أو وظيفته أو لقبُه الوظيفيّ (قضيَّة الحاكميَّة).

حَكَم [مفرد]: جمعه حُكَّام:

1 - حاكِم، من يُختار للفصل بين المتنازعين، وبين الحقّ والباطل {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [قرآن] - {أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [قرآن].

2 - [في الرياضة والتربية البدنية] خبير في قوانين الألعاب يتولَّى إدارة المباراة وتطبيق القوانين الخاصَّة بها (عُقِدَت دورةٌ لحكَّام كرة القدم العرب).

3 - شخص ترجع إليه الأمور لأخذ القرار أو المشورة أو إيجاد حلٍّ لها أو لتقييمها.

4 - قاضٍ.

* الحَكَم: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: الحاكم المُحْكِم.

حُكْم [مفرد]: جمعه أحكام (لغير المصدر):

1 - مصدر حكُمَ وحكَمَ/حكَمَ ب/حكَمَ على/حكَمَ ل (*) أحكام انتقاليَّة: نصوص تشريعيّة ترعى الأحوال ريثما يمكن تنفيذ الأحكام الدائمة- الحُكم الدِّكتاتوريّ: الحكم المستبدّ- الحُكم الوِجاهيّ: الحكم الصَّادر بحضور أطراف الدَّعوى- بحكم شيء: بمقتضاه/استنادًا إليه/بسببه- بحكم منصبه/بحكم عمله/بحكم وظيفته: باعتبار وظيفته التي يشغلها ومهامّه التي يتولاها- تعديل حكم قضائيّ: تحويره بواسطة السُّلطة التّشريعيّة- حُكْمٌ جائر: مائل عن الحقّ ومخالف للعدل- حُكْمٌ جماعيّ: يتَّبع إرادة جماعة من النَّاس- حُكْمٌ حضوريّ: حكم يُصدره القاضي في حضور المتّهم- حُكْمٌ صائب: مطابق للعقل والإنصاف- حُكْمٌ غيابيّ: صادر في غياب المحكوم عليه- حُكْمٌ فرديّ: تابع لإرادة رجل واحد، عكسه حكم جماعيّ- حُكْمٌ محلِّيّ: خاصّ بإدارة محليّة- حُكْمٌ مطلق/حُكْمٌ استبداديٌّ: فرديّ، غير ديمقراطي، حكم استبداديّ- حُكْمٌ نيابيّ: يعتمد النِّظام البرلمانيّ- في حكم العدم: كأنّه غير موجود- في حكم المقرَّر: أوشك أن يقرّر- للضَّرورة أحكام: هناك حالات استثنائيّة تقتضي تعليق القوانين العاديّة- مَنطِقة حكم: منطقة نفوذ- نزَل على حكمه: قبله- يترك زمامَ الحكم: يتنازل عنه لغيره.

2 - قرار (أصدرت المحكمةُ حكمَها).

3 - ممارسة السُّلطة الحاكمة (تولَّى فلان مقاليدَ الحكم).

4 - شكل محدّد لسياسة الحكومة (الحكم الديمُقراطيّ/الشموليّ).

5 - [في القانون] بيان رسميّ من المحكمة أو أيّة هيئة قضائيّة حول الأحكام والدّوافع التي صدر القرار بموجبها (لديّ صورةٌ من الحكم).

6 - علمٌ وتفقهٌ وحكمة {وَءَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [قرآن] (*) أحكام العبادات: قواعدها، كما تنصُّ عليها الشَّريعة- أحكام الله: أوامرُه وحدودُه- حُكْمٌ شرعيّ: مبني على الشَّريعة الإسلاميّة.

7 - قضاء {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [قرآن].

* نقْض الحُكْم: [في القانون] إبطال الحُكْم إذا كان قد صدر مبنيًّا على خطأ في تطبيق القانون أو تأويله، أو كان هناك خطأ جوهريّ في إجراءات الفَصْل أو بطلان في الحكم. والنَّقض قد يصيب الحكم المدنيّ والحكم الجنائيّ على السَّواء متى كان أحدهما قد صدر نهائيًّا من المحاكم الابتدائيّة.

* استشكل في تنفيذ الحُكْم: [في القانون] أورد ما يستدعي وقفَ التنفيذ حتى يُنظر في وجه الاستشكال.

* صُورة الحُكْم التَّنفيذيّة: [في القانون] صورة رسميّة من النُّسخة الأصليّة للحُكْم، يكون التنفيذ بموجبها، وهي تُخْتم بخاتم المحكمة، ويوقِّع عليها الكاتب المختصّ بذلك بعد أن يذيِّلها بالصيغة التنفيذية.

* حكم جمهوريّ: [في السياسة] أن يكون الحُكْم بيد أشخاص تنتخبهم الأمّة على نظام خاصّ، ويكون للأمّة رئيس ينتخب لمدّة محدودة.

* حكم الإرهاب: فترة تتميَّز بالقمع القاسي، وبالرعب والتهديد ممَّن في يده السُّلطة.

* حكم الغوغاء: عقاب الأشخاص المشتبه بهم دون اللّجوء للإجراءات القانونيَّة.

* حُكْم الملك: المدَّة التي يحكم فيها الملك.

* حُكْم سليمان: أحد كتب العهد القديم أو أسفاره.

* حُكْم ذاتيّ: فترة انتقاليَّة يمنحها المستعمرُ لمستعمراته؛ كي تباشر سيادتَها الداخليَّة قبل تمكينها من الاستقلال التامّ، أو حقُّ الشعب في حكم نفسِه بقوانينه.

* حكم عرفيّ/أحكام عرفيَّة: حكم مقيِّد للحرِّيّات يُعلَن عادة في حالات الطَّوارئ كالانقلابات أو الاضطرابات عندما تنهار السُّلطة، حكم لسلطات عسكريَّة مفروض على السُّكَّان المدنيِّين ويكون غالبًا وقتَ الحرب أو عند تعرُّض البلاد لخطر خارجيّ.

* فنّ الحكم: [في السياسة] فنّ إدارة شئون الدّولة.

حَكَمة [مفرد]: جمعه حَكَمات وحَكَم.

* حَكَمةُ اللِّجامِ: حديدته التي تكون في فم الفرس لإحكام جماحه.

حِكْمَة [مفرد]: جمعه حِكْمات (لغير المصدر) وحِكَم (لغير المصدر):

1 - مصدر حكُمَ.

2 - [في الفلسفة والتصوُّف] معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، أو معرفة الحقّ لذاته، ومعرفة الخير لأصل العمل به (رأس الحكمة مخافةُ الله- الصَّمت يورث الحكمةَ، والكلام يورث الندامةَ [مثل أجنبيّ]: يماثله في المعنى قول الشاعر: ما إن ندمت على سكوتي مرّة.. ولقد ندمت على الكلام مرارًا- الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ) [حديث].

3 - علمٌ، تفقّهٌ، إدراك (الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ [حديث] - إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً [حديث] - {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [قرآن]) (*) بَيْتُ الحكمة: معهد أسسه المأمون (198 - 202ه/813 - 817م) واشتهر بمكتبته ودوره في حركة الترجمة- علم الحِكْمة: الكيمياء والطبّ- كتب الحكمة: كتب الفلسفة والطبّ.

4 - صواب الأمر وسداده ووضع الشَّيء في موضعه (حكمة الحياة هي أثمن ما نفوز به من دنيانا- عصب الحكمة أن لا تسارع إلى التَّصديق).

5 - علّة (ما الحكمة في ذلك؟) (*) الحكمة الإلهيّة: علّة يلتمسها الناظرون في أحوال الموجودات الخارجيّة أو يبينها الله تعالى في القرآن الكريم، نحو {وما خلقت الجنَّ والإنس إلا ليعبدون} [قرآن].

6 - كلامٌ يقِلُّ لفظهُ ويجِلّ معناه كالأمثال وجوامع الكلم (*) الحِكْمِيّون: الفلاسفة أو الشُّعراء الذين يؤثرون التَّكلُّم بالحِكم- شعر حِكْمِيّ: ذو حِكَم.

* الحكمة:

1 - السُّنة النبويّة {أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} [قرآن].

2 - الإنجيل {قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} [قرآن].

* الحِكْمة المنزليَّة: [في الفلسفة والتصوُّف] علم يُبحث فيه عن مصالح جماعة مشتركة في المنزل كالولد والوالد والمالك والمملوك ونحو ذلك.

حكومة [مفرد]: جمعه حكومات:

1 - حُكْم وقضاء يصدر في قضيّة (قبلنا حكومتك بيننا).

2 - هيئة مؤلَّفة من أفراد يقومون بتدبير شئون الدَّولة كرئيس الدَّولة، ورئيس الوزراء، والوزراء، ومرءوسيهم (الحكومات ثلاث: حكومة جمهوريّة، وحكومة ملكيّة، وحكومة استبداديّة) (*) الحكومة الانتقاليّة: هي التي تتولَّى زمام الأمور خلال فترة إلى أن يتمَّ اعتمادُ نظامٍ ثابت- تشكّلت الحكومةُ: تألفت- توظّف في الحكومة- حكومة اتّحاديَّة: حكومة مركزيَّة لاتّحاد مجموعة ولايات أو أقطار- حكومة الظِّلّ: حكومة لا وجود لها في الواقع كالحكومة التي تؤلِّفها المعارضةُ لتتولَّى الحكمَ في حالة انتقاله إليها- حكومة مؤقَّتة- حكومة نيابيَّة: حكومة ديمقراطيّة- دوائر الحكومة- مُوظَّف الحكومة.

3 - [في السياسة] سلطات تنفيذيّة وتشريعيّة وقضائيّة.

* حكومة ائتلافيَّة: [في السياسة] حكومة أو مجلس وزراء مؤلَّف من ممثِّلي أكثر من حزب واحد، وذلك بقصد تأمين عدد كاف من الموالين والمؤيِّدين لها في مجلس النُّواب.

حكيم [مفرد]: جمعه حُكَماءُ، والمؤنث حكيمة، والجمع المؤنث حكيمات وحُكَماءُ:

1 - صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من حكُمَ.

2 - مَنْ تصدر أعمالُه وأقوالُه عن رويّة سديدة ورأي سليم، صاحب حكمة، متقن للأمور (رجلٌ حكيم- الراعي الحكيم يجزّ خرافه لا يسلخها: كناية عن حسن التصرُّف- يرى الحكيمُ عيوبَ الغير فيصلح عيوبَ نفسه) (*) الذِّكْر الحكيم: القرآن الكريم.

3 - فيلسوف (اشتهرت اليونانُ بحكمائها).

4 - طبيب.

5 - مُحْكَم {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [قرآن].

* الحكيم: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: الذي أحكم خلقَ الأشياء وأتقن التَّدبير فيها، العليم الذي يعرف أفضلَ المعلومات بأفضل العلوم، المُقدَّس عن فعل مالا ينبغي، الذي لا يقول ولا يفعل إلاّ الصّواب.

مُحَاكمة [مفرد]: مصدر حاكمَ.

* إعادة المُحَاكمة: [في القانون] سماع الدَّعوى ثانية أو من جديد أمام المحكمة ذاتها.

مُحكَم [مفرد]:

1 - اسم مفعول من أحكمَ.

2 - مُتقَن، دقيق، وثيق (عملٌ مُحكَمٌ).

* المُحكَم من القرآن: الظّاهر الذي لا شبهة فيه ولا يحتاج إلى تأويل {مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [قرآن].

مَحْكَمة [مفرد]: جمعه مَحْكمات ومحاكِمُ:

1 - هيئة تتولَّى الفصلَ في النِّزاعات بين الأفراد والجماعات وهي على أنواع حسب صلاحيَّتها، وهي تابعة للسُّلطة القضائيّة (محكمة القضاء الإداريّ- المحكمة الجنائية الدَّولية الدَّائمة- محاكم الأحوال الشّخصيّة: التي تتناولها وتنظر فيها) (*) أمر محكمة: أمر تصدره المحكمة يُكلِّف شخصًا بعمل ما أو بمنعه من آخر- المحاكم المختلطة- المحكمة الابتدائيّة: هي الصالحة للنظر بدرجة أولى في قضايا مدنيّة أو جنحيّة غير داخلة في اختصاص محاكم أخرى- المحكمة العُرفيّة: المحكمة العسكرية تتألف في ظروف استثنائية كحالة الحرب- المحكمة العسكريّة: هي التي تتألّف في ظروف استثنائيّة كحالة الحرب- كاتب المحكمة- محاكم أهليّة- محاكم جزئيّة- محاكم شرعيّة- مَحْكَمة الأحداث: مَحْكَمة مختَصَّة بقضايا صغار السِّنّ- مَحْكَمة القضاء العالي.

2 - مكان انعقاد هيئة القضاء.

* المحكمة العليا: [في القانون] المحكمة الفيدراليّة العليا في أمريكا والمكوّنة من تسعة قضاة، لها سلطة قضائيَّة على المحاكم الأخرى في البلد.

* صديق المحكمة: [في القانون] من ليس طرفًا في نزاع، إنّما يتطوّع لتقديم نصح للمحكمة في قضيّة تنظر فيها.

* محكمة الاستئناف: [في القانون] محكمة عليا تنظر في أحكام محكمة دُونها في جهاز قضائيّ، وهي التي تعيد النَّظر في أحكام المحكمة الابتدائيّة.

* محكمة العدْل الدَّوليَّة: [في القانون] محكمة تنظر في الخلافات بين الدُّول التي تحتكم إليها، مقرُّها في (لاهاي) بهولندا.

* محكمة النَّقض: [في القانون] هي المحكمة العليا في البلاد وتعدّ المبادئ المستمدة من أحكامها ملزمة للمحاكم الأخرى.

مُستحكَم [مفرد]: جمعه مُسْتَحكَمات:

1 - اسم مفعول من استحكمَ/استحكمَ على.

2 - موقعٌ دفاعيّ محصَّن.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


4-العربية المعاصرة (خبل)

خبَلَ يَخبُل ويَخبِل، خَبْلًا، فهو خابِل، والمفعول مَخْبول.

* خبَله الحزنُ وغيرُه: أفسد عقلَه وأذهب فؤادَه (خبَله الدَّهرَ/الشيطانَ/الحُبّ) (*) خبَل الحُبُّ قلبَه: فتنه- شابّ مخبول: مضطرب عقليًّا وعاطفيًّا.

* خبَل أعضاءَه: أفسدَها بقطع أو داءٍ فلا تؤدِّي عملها (خبل المرضُ يدَه: شَلّها).

* خبَله عن السَّفر وغيرِه: حبَسه عنه ومنعه (خبله عن الإضرار بنفسه).

خبِلَ يَخبَل، خَبَلًا وخَبالًا، فهو خَبِل وأخبلُ.

* خبِل فلانٌ:

1 - فسد عقلُه وجُنّ (هام بالفتاة حتى خبِل).

2 - فسد عضوٌ من جسده من داءٍ أو قطع (سقط من عُلُوٍّ فخبلت ساقُه) (*) خَبِلت يدُه: أصابها الشلل.

اختبلَ يختبل، اختبالًا، فهو مختبِل، والمفعول مختبَل (للمتعدِّي).

* اختبلَ فلانٌ: خبِل، جُنَّ.

* اختبله الحزنُ: أفسد عقلَه (اختبله داءٌ/هَمُّ- اختبلته بجمالها).

اخْتُبِلَ يُخْتَبَل، اختبالًا، والمفعول مُختبَل.

* اختُبِل الرَّجلُ: جُنَّ.

تخبَّلَ يتخبَّل، تخبُّلًا، فهو متخبِّل.

* تخبَّل الرَّجُلُ:

1 - مُطاوع خبَّلَ: خَبِل، فسد عقلَه وجُنّ.

2 - تبلبل، قلق، تكدَّر انزعج.

خبَّلَ يخبِّل، تخبيلًا، فهو مخبِّل، والمفعول مخبَّل.

* خبَّلَه الحزنُ/خبَّلَه الحبُّ/خبَّلَه الشيطانُ/خبَّلَه الداءُ/خبَّلَه الكِبَرُ: خبَله، أفسد عقلَه وأذهب فؤادَه (خبَّلته المِحَنُ) (*) خبّل الغرامُ قلبَه: فتنه.

أَخْبَلُ [مفرد]: جمعه خُبْل، والمؤنث خَبلاءُ، والجمع المؤنث خُبْل: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من خبِلَ.

خابلان [مثنى].

* الخابلان: الليل والنَّهار؛ لأنّهما يُفسدان الإنسانَ بالهَرَم (لا يسلم من الخابلين أي حيٍّ).

خَبَال [مفرد]:

1 - مصدر خبِلَ.

2 - هلاك وفساد وشرّ يورث الاضطراب (والناس همُّهم الحياة ولا أرى.. طول الحياة يزيد غير خَبَالِ- {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلاَّ خَبَالًا} [قرآن]).

3 - صديد أهل النار.

4 - [في التشريح] اختلال العقل.

خَبْل [مفرد]:

1 - مصدر خبَلَ.

2 - فساد وفتنة من جراح أو قتل (*) وقَع في خَبْلة: ندِم وتحيَّر.

3 - فالِج، فساد الأعضاء (أصابه خَبْلٌ فأُقعد في داره).

4 - [في العروض] حذف الثاني والرابع الساكنين من التَّفعيلة، ويدخل أربعة أبحر: البسيط، والرجز، والسريع، والمنسرح.

خَبَل [مفرد]:

1 - مصدر خبِلَ.

2 - [في الطب] ضَعْف عقليّ مزمن، من أخصّ ظواهره عدم تماسك التفكير وتدهور القدرات العقليّة كالذاكرة والتركيز وقدرة التمييز نتيجة مرض عضويّ، أو خلل في الدِّماغ، يصاحبه اضطراب نفسيّ وتغيرات في الشخصيّة واختلال في الحكم على الأشياء (عنده خبَل مبكِّر).

خَبِل [مفرد]:

1 - صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من خبِلَ.

2 - مشلول اليد.

خبلان [مفرد]: اختلاط، اضطراب، فوضى، تخبُّط.

مخبول [مفرد]: جمعه مخبولون ومخابيلُ: اسم مفعول من خبَلَ: معتوه فاسد العقل (هو مخبول بحبِّها).

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


5-العربية المعاصرة (ساس)

ساسَ يَسوس، سُسْ، سِياسةً، فهو سائِس، والمفعول مَسوس.

* ساس النَّاسَ: حَكَمهم، تولّى قيادتَهم وإدارةَ شئونهم (كان الخلفاء الرَّاشدون يسوسون النَّاسَ بالعدل).

* ساس الأمورَ: دبَّرها، أدارَها، قام بإصلاحها (لم يحسن سياسة الشُّئون الدّاخليّة- يسوسون الأمورَ بغير عقل.. فينفُذ أمرُهُم ويُقالُ ساسه).

* ساس الدَّوابَّ: روّضها واعْتَنَى بها (يسوس خيولَ الأمير).

سوِسَ يَسْوَس، سَوَسًا، فهو أَسْوَسُ.

* سوِسَ الحَبُّ والخشبُ وغيرُهما: وقع فيه السُّوس، نخِر، بلى وتفتَّت (سوِس الضِّرسُ- عودٌ أسوسُ).

تسوَّسَ يتسوّس، تسوُّسًا، فهو متسوِّس.

* تسوَّس الحَبُّ أو الخشبُ: سوِس، دبّ فيه السُّوسُ.

سوَّسَ يسوِّس، تسويسًا، فهو مُسوِّس، والمفعول مُسَوَّس (للمتعدِّي).

* سوَّس الحَبُّ أو الخشبُ ونحوُهما: سوِسَ، دبّ فيه السُّوس (سوّست أسنانُه) (*) سوّس عظُمه ودوّد لحمُه من كذا: إذا تهالك غمًّا.

* سوَّسه القومُ: ولَّوْهُ رياستَهم وقيادتَهم.

سيَّسَ يسيِّس، تسييسًا، فهو مُسيِّس، والمفعول مُسيَّس.

* سيَّس الجيشَ: أضفى طابعًا سياسيًّا عليه (سيَّس مناقشةً/الاجتماعَ- تسييس الجامعات).

أسْوسُ [مفرد]: جمعه سُوس، والمؤنث سَوْساءُ، والجمع المؤنث سُوس: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من سوِسَ.

تسوُّس [مفرد]:

1 - مصدر تسوَّسَ.

2 - [في الطب] مَرَضٌ يصيب عظم الأسنان بالتَّحاتِّ والتَّآكل والتَّفتُّت (تسَوّس الأسنان).

سائِس [مفرد]: جمعه ساسَة وسُوّاس وسُيَّاس:

1 - اسم فاعل من ساسَ (*) ساسة البلاد: قادتُها الذين يديرون شئون البلاد والعباد.

2 - رائِض الدوابّ ومدرِّبُها.

سَواسِيَة [جمع]: جمع سواء على غير قياس: متساوون، متشابهون (النَّاسُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ الْمُشْطِ) [حديث].

سَوَس [مفرد]:

1 - مصدر سوِسَ.

2 - [في الطب] داء يأخذ الدَّابَّة في قوائمها أو يكون في عَجُزِها بين الوَرِك والفَخِذ يورثُ ضعفَ الرِّجل.

سُوس [جمع]: مفرده سُوسة:

1 - [في الحيوان] عُثّ، نوع من الحشرات من فصيلة العنكبوتيَّات يأكل الحبَّ والخشبَ وغيرَهما (نخر السُّوسُ الخشبةَ) (*) العيال سوس المال: أي تفنيه قليلًا قليلًا كما يفعل السُّوس بالحبّ.

2 - [في النبات] نبات عشبيّ مخشوشب مُعَمَّر من فصيلة القرنيَّات، له أزهار زرقاء اللون، وأوراق مركَّبة ريشيّة الشَّكل طويل الجذور، يصنع من جذوره السُّكريّة شراب يعرف بعِرق السّوس، كما يُستعمل في الطِّبّ.

سِياسة [مفرد]:

1 - مصدر ساسَ.

2 - مبادئ معتمدة تُتّخذ الإجراءات بناءً عليها (تبنّت الشَّركة سياسة جديدة في تعيين موظَّفيها).

3 - [في السياسة] سلوك الحكومات والدّول ومواقفها تجاه القضايا الداخليّة والقضايا المتعلِّقة بالدُّول الأخرى (سياسة داخليَّة: إجراءات إداريَّة أو تدابير تنظيميّة- سياسة خارجيَّة- سياسة دوليّة: الدِّبلوماسيّة) (*) أسرار السِّياسة: خفاياها- سياسَةُ عدمِ التَّدخُّل: عدم تدخُّل أيّة دولة في الشئون الدَّاخلية لدولة أُخْرى، مبدأ الحياد.

* سياسة الضَّرائب: [في الاقتصاد] نظام تجبى الضَّرائب بمقتضاه.

* سياسة عمليَّة/سياسة واقعيَّة: سياسة مبنيّة على عوامل واقعيَّة وماديّة لا على عوامل نظريَّة أو أخلاقيّة (عمليّة إقامة أنظمة سياسيّة مستقرّة) - السِّياسة المدنيَّة: تدبير المعاش مع العموم على سنن العدل والاستقامة.

* سياسة السُّوق الحرَّة: [في الاقتصاد] منهج تتَّبعه البنوك المركزيَّة في بيع الأوراق الماليّة وشرائها لزيادة المتداول من النُّقود أو نقصه.

* لا سياسة: حالة من يضع نفسه خارج كلّ موقف أو مذهب سياسيّ، أو مَنْ لا يهتمّ بالسياسة (أنصار اللاّسياسة النِّقابيَّة).

* سياسة الباب المفتوح: سياسة تعتمد على إلغاء القيود، أسلوب سياسيّ يقوم على الحوار وعدم المواجهة.

سياسويَّة [مفرد]: اسم مؤنَّث منسوب إلى سِياسة: على غير قياس.

* نزعة سياسويَّة: [في السياسة] نزعة تعبر عن الغُلُوّ السياسيّ، أو تغالي في إضفاء وتغليب الطابع السياسيّ على الأمور (استبدَّت النزعة السياسويّة بالفكر القياديّ لدى بعض الحكّام).

سياسيّ [مفرد]: اسم منسوب إلى سِياسة: مَنْ يعمل في السِّياسة، متعلِّق بإدارة الشّئون العامّة وتنظيمها (سياسيّ محنّك/مخضرم- أعلن عفوًا عامًا عن السُّجناء السِّياسيين- حزب سياسيّ) (*) اجتماعيّ سياسيّ: ذو علاقة بالعوامل الاجتماعيّة والسِّياسيَّة معًا- حقوق سياسيَّة: حقوق كلّ مواطن في أن يشترك في إدارة بلاده أو ممارسة أعماله الوطنيَّة كالانتخاب وغيره- دوائر سياسيّة: أوساط، محافل سياسيّة تهتمّ بالسِّياسة- سلك سياسيّ: سلك دِبْلوماسيّ- شبه سياسيّ: مشابه له في بعض مظاهره أو نشاطاته- لا سياسيّ: لا يهتم بالسِّياسة، لا علاقة له بالسِّياسة.

* التَّنظيم السِّياسيّ: [في السياسة] مجموعة من النَّاس ذوي الاتِّجاه الواحد فيما يتعلَّق بالبرامج والمبادئ السِّياسيّة، ويرتبطون ببعضهم وفقًا لقواعد تنظيميَّة مقبولة من جانبهم تُحدِّد علاقاتهم وأسلوبهم ووسائلهم في العمل والنَّشاط.

* اللِّيبراليَّة السِّياسيَّة: [في السياسة] حركة سياسيّة تدعو إلى الحرِّيّة السِّياسيّة والمدنيّة غير الخاضعة لسلطة استبداديّة.

* علم الاقتصاد السِّياسيّ: [في الاقتصاد] علم موضوعه معرفة الظواهر المتعلِّقة بإنتاج الثروات، والخيرات الماديّة وتوزيعها واستهلاكها في مجتمعٍ بشريّ.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


6-العربية المعاصرة (قوي)

قوِيَ/قوِيَ ب/قوِيَ على يَقوَى، اقْوَ، قُوَّةً، فهو قَوِيّ، والمفعول مقويّ به.

* قوِي الشَّخصُ: خلا من المرض، وكان ذا طاقة على العمل، ضدّ ضعف (قوِي جسْمُه/قَوِيَتْ عزيمتُه- آفة القُوَّة استضعاف الخصم- الاتّحاد يورث القوّة- {اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [قرآن]).

* قوِي بمساعدة فلان: استمدّ قُوّتَه منه.

* قوِي على الأمْرِ: أطاقه، استطاع فِعله (قوِي على الاحتمال/الصُّعود إلى الجبل- يقوَى على مواصلة حياته في العمل- لا يقوى على شدٍّ ولا إرخاء).

أقوى يُقْوِي، أَقْوِ، إقواءً، فهو مُقْوٍ.

* أقوى الشَّخصُ: افتقر ({وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [قرآن]: المحتاجين أو المسافرين الذين لا زاد معهم ولا مال لهم).

* أقوتِ الدَّارُ: خَلَت.

* أقوى الشَّاعرُ: [في العروض] خالف حركة الرَّويّ من حركة ثقيلة كالكسرة إلى حركة أُخرى تشبهها في الثقل كالضمة.

استقوى/استقوى ب يستقوي، اسْتَقْوِ، استقواءً، فهو مُسْتَقْوٍ، والمفعول مُسْتقوًى به.

* استقوى فلانٌ:

1 - صار ذا قوَّة (طاقة).

2 - رأى نفسَه قويًّا (يستقوي الإنسانُ بين الضُّعفاء).

* استقوى بمساعدة فلان: صار قويًّا بمساعدته.

تقوَّى/تقوَّى ب يتقوَّى، تَقَوَّ، تقوّيًا، فهو مُتقوٍّ، والمفعول مُتقوًّى به.

* تقوَّى الشَّخصُ/تقوَّى الشَّخْصُ بالشَّيء: تشدَّد وكان ذا قُوَّة (تقوّى بأفراد عائلته: استمدّ منهم قدرتَه وشجاعتَه- تقوّى بالتمارين).

قوَّى يقوِّي، قَوِّ، تقويةً، فهو مُقَوٍّ، والمفعول مُقَوًّى.

* قوَّاه اللهُ: أبدل ضعفَه قُوَّة (قوَّى الحائطَ بالأسمنت- قوّى الصحّةَ/الحاميةَ- تخفيض النّفقات الخاصّة بتقوية النفوذ) (*) قوّى صوتَه: رفع من نبرته، علاّه- قوَّى عضدَه: شدّ من أزره.

* قوَّى أواصرَ الصداقة بينهم: عزّزها، شدَّدها (قوّى مركزَه بالإدارة- قوَّى من الرُّوح المعنويّة للجنود- الجيش قوَّى قدراته الهجوميّة- قوَّى من عزيمته).

* قوَّى نارًا: ذكّاها، قوّى من لهيبها.

إقواء [مفرد]:

1 - مصدر أقْوَى.

2 - [في العروض] اختلاف حركة الرَّويّ من حركة ثقيلة كالكسرة إلى حركة أخرى تشبهها في الثِّقل كالضّمّة (يُعَد الإقواء من عيوب الشِّعْر العربيّ).

أقْوَى [مفرد]: اسم تفضيل من قوِيَ/قوِيَ ب/قوِيَ على: (الأقوى من يقوى على نفسه- إنّ أقوى الأشجار ترتفع من بين الصّخور).

استقواء [مفرد]: مصدر استقوى/استقوى ب.

تقاوٍ [جمع]: [في الزراعة] بذور النباتات النّاضجة الجافّة التي تُبذَر في الأرض للزِّراعة كبذور القطن والقمح والفول.

تقوية [مفرد]: مصدر قوَّى.

قُوّات [جمع]: مفرده قُوّة: [في العلوم العسكرية] وحدات الجيش (قوّات بحريّة: قوى عسكرية في الدولة، وتشمل السُّفن والغَوَّاصات والمُدَمِّرات وحاملات الطائرات وغيرها- قُوّات بَرِّيَّة: جيوش محاربة في البرّ- قوّات جويَّة: طيران حربيّ- قوّات مُسلّحة: مجموعة جيوش بلد، وتشمل فيالق البَرّ والبحْر والجوّ- قوات الاحتياط: قسم من القوات العسكريّة التي لا تكون في الخدمة الفعليّة إنمّا يمكن استدعاؤها لهذه الخدمة).

قُوّة [مفرد]: جمعه قُوًى (لغير المصدر):

1 - مصدر قوِيَ/قوِيَ ب/قوِيَ على (*) القوّة الجاذبة: هي التي تدفع الشّيء نحو المركز- القوَّة النَّابذة: التي تدفع الشّيء للابتعاد عن المركز- بالقوّة: بالعنف، قهرًا، أو بالفعل- بقوّة السِّلاح: بالقوّة، بعمل حربيّ- قوى الأمن الداخليّ: رجال الشرطة والذين هم تحت تصرُّف الحكومة لتأمين احترام القانون والمحافظة على الأمن- لا حول له ولا قوّة: ضعيف عاجز.

2 - مبعث نشاط وحركة وطاقة، إقدام وشدّة (قوَّة مركزيّة جاذبة- قوة نوويّة إستراتيجيّة- قلب ميزان القوى في المنطقة) (*) القوّة العاملة: عدد القادرين على العمل في أمّة ما أو بلد أو مؤسّسة- تكافؤ القُوّة: مقدرة عضو أو جزء على أن يحلّ محلّ آخر فيما يتّصل بأداء وظيفة ما- قُوَّة الإرادة: المثابرة على القيام بعمل ما برغم العوائق والمصاعب التي تعترض القائم بهذا العمل- قوى الشرّ والطغيان: الظلم والاستبداد، مبعث الشر والطغيان.

3 - أنصار وأعوان {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ} [قرآن].

4 - سلاح {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [قرآن].

5 - [في الطبيعة والفيزياء] مؤثّر يغيّر حالة سكون الجسم، أو حالة حركته، أو يميل إلى تغييرها بسرعة منتظمة في خطّ مستقيم.

6 - قدرة فرد أو جماعة على تنفيذ رغبة أو سياسة ما، وعلى ضبط أو احتكار سلوك الآخرين، أو التأثير فيه سواء أرادوا التعاون أم رفضوه.

* القوَّة العظمى: دولة قويّة مسيطرة تمتلك من المقوِّمات كالأسلحة النوويّة ما لا تملكه بقيّة الأقطار.

* القوَّة المائيَّة: الطاقة الناتجة عن الماء الجاري أو السَّاقط والمستخدمة لإدارة الآلات، خاصَّة توليد الكهرباء.

* القوَّة المحرِّكة: مصدر من مصادر الطَّاقة المستخدمة لإنتاج الحركة.

* قُوَّة النُّقود الشِّرائيَّة: [في الاقتصاد] كميّة الخدمات أو السِّلع التي يمكن لوحدةٍ نقديَّة معيَّنة أن تشتريها.

* سياسة القوَّة: سياسة عالميّة تتبعها بعضُ الدول العظمى وذلك بالتهديد أو استعمال القوّة الاقتصاديّة أو الحربيّة لفرض نفوذها.

* ذو القوَّة: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: الكامل القدرة على الشّيء، الذي لا يستولي عليه العجزُ في حال من الأحوال.

* شديد القُوَى: جبريل عليه السلام {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [قرآن].

قُوّة [مفرد]: جمعه قُوَّات:

1 - [في العلوم العسكرية] فيلق من فيالق الجيش (القوّات المسلّحة/الجوّية/البريّة- تخفيض القوّة العسكريّة العاملة- قوات الصاعقة/الأمن/حفظ السلام: جيش للتدخل السريع).

2 - مجموعة من الضُّبَّاط والجنود مجهَّزون بالعتاد والمعدَّات (داهمت قوّة من الشرطة وكر المجرمين).

قَوِيّ [مفرد]: جمعه أقْوياءُ، والمؤنث قويّة، والجمع المؤنث أقْوياءُ:

1 - صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من قوِيَ/قوِيَ ب/قوِيَ على (*) قوِيّ البنية: مترابط.

2 - قادر، صاحب نفوذ وسلطان (سياسيّ قويّ على إسكات خُصُومِه- قويّ البنية/الشَّكيمة- نفس قويّة- {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [قرآن]) (*) قويّ الشكيمة: أنِف يثور على الظلم والقوَّة- قويّ الظَّهر: كثير الأنصار- قويّ العارضة: فصيح، بليغ، ذو جَلَد وصرامة.

* القويّ: اسم من أسماء الله الحُسْنَى، ومعناه: الكامل القدرة على الشَّيء الذي لا يستولي عليه العجز في حال من الأحوال {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [قرآن] - {إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [قرآن].

مُقَوٍّ [مفرد]: جمعه مقوِّيات:

1 - اسم فاعل من قوَّى.

2 - [في الطب] دواء أو علاج يجدِّد النشاطَ ويُنعش القُوى ويبْعث الحيويّة (تناول مُقوِّيات).

مُقَوًّى [مفرد]: اسم مفعول من قوَّى.

* ورق مقوًّى: ألواح الكرتون أو الورق المكوّن من طبقات متلاصقة أو كرتون تبنيّ يُستخدم في أغلفة الكتب.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


7-العربية المعاصرة (ندم)

ندِمَ/ندِمَ على يَندَم، نَدَمًا ونَدَامةً، فهو نادم وندمانُ/ندمانٌ، والمفعول مَنْدومٌ عليه.

* ندِم الشّخصُ على ما فعل: أسِف وحَزِن وتاب (ندِم على ارتكابه المعاصي- في العجلة الندامة- الصَّمت يورث الحكمة، والكلام يورث الندامة [مثل أجنبيّ]: يماثله في المعنى قول الشاعر: ما إن ندمت على سكوتي مرّة.. ولقد ندمت على الكلام مرارًا- النَّدَمُ تَوْبَةٌ [حديث] - {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} [قرآن]).

أندمَ يُندم، إندامًا، فهو مُندِم، والمفعول مُندَم.

* أندم الشَّخصَ: جعله يأسف، ويحزن ويكره ما فعله، حمله على التّوبة (أندمه صوتُ ضميره- أندم القاضي المدلِّسَ على فعلته بعد عقابه).

تنادمَ يتنادم، تنادُمًا، فهو مُتنادِم.

* تنادم القومُ: جلسوا مع بعضهم على شراب (يتنادمون في الليل ويتسامرون).

تندَّمَ/تندَّمَ على يتندَّم، تندُّمًا، فهو مُتندِّم، والمفعول مُتَندَّم عليه.

* تندَّم الشَّخصُ على الأمر: مُطاوع ندَّمَ: تحسَّر عليه، أو على فِعله إيّاه (تندَّمَت على شبابها الضائِع- لا ينفع التندُّم على ما فات).

نادمَ ينادم، مُنادَمةً ونِدامًا، فهو مُنادِم، والمفعول مُنادَم.

* نادَمه على الشّراب: جالسَه ورافَقه وشرِب معه (كان بعض الظرفاء من الشعراء ينادمون الملوك).

ندَّمَ يندِّم، تنديمًا، فهو مُندِّم، والمفعول مُندَّم.

* ندَّمَه على خطئه: أندمه، جعله يأسف ويحزن ويكره ما فعل.

مَنْدَم [مفرد]: مصدر ميميّ من ندِمَ/ندِمَ على: ندامة، أَسَفٌ على فعل شيء ما أو فواته (نَدِم البغاة ولاتَ ساعةَ مَنْدَمٍ- لا ينفعك اليوم مندَم).

نادِم [مفرد]: جمعه نادمون ونُدَّام، والمؤنث نادمة، والجمع المؤنث نادمات ونوادمُ: اسم فاعل من ندِمَ/ندِمَ على.

نَدامَة [مفرد]: مصدر ندِمَ/ندِمَ على (*) أمُّ النَّدامة: كنية العجلة.

نَدَم [مفرد]:

1 - مصدر ندِمَ/ندِمَ على (*) عضَّ بَنان النَّدم: أظهر الندمَ.

2 - [في علوم النفس] غمّ يصيب الإنسان يتمنَّى أنّ ما وقع منه لم يقع.

نَدْمانُ/نَدْمانٌ [مفرد]: جمعه نَدامَى/ندمانون، والمؤنث ندْمَى/ندمانة، والجمع المؤنث نَدامَى/ندمانات: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من ندِمَ/ندِمَ على (*) هو ندمان سدمان: نادِمٌ مهتمٌّ.

نَديم [مفرد]: جمعه نَدامَى ونُدَمَاءُ ونُدْمان، والمؤنث ندمانة، والجمع المؤنث نَدامَى:

1 - مُجالِسٌ على الشّراب وعلى المائدة عامَّةً (التقى النّدماءُ في بيته).

2 - رفيق وصاحب (ملأ كأسًا لنديمه- كلَّمناه فصار نديمًا).

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


8-العربية المعاصرة (ورث)

ورِثَ يرِث، رِثْ، وِرْثًا وإِرْثًا ووِراثةً، فهو وارث ووريث، والمفعول مَوْروث.

* ورِث فلانًا مالَه/ورِث عن فلانٍ مالَه/ورِث من فلانٍ مالَه: صار إليه مالُه بعد موته (ورِث من أبيه أراضي كثيرة- ورِث عن أستاذه العلمَ- {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [قرآن]) (*) شيء موروث: أي في دم المرء أو في طبعه- ورِث مجدَ آبائه/ورِث المجدَ كابرًا عن كابر: صار مَجْدُهم إليه.

أورثَ يُورث، إيراثًا، فهو مُورِث، والمفعول مُورَث.

* أورث الشَّخصَ:

1 - جعله من وَرَثته (وذلك بالوصيّة)، أي ممن يصير إليهم مالُه بعد موته (أورث أسرتَه عقاراتٍ كثيرة).

2 - ورّثه دون غيره، لم يُدْخِلْ أحدًا معه في ميراثه (أورث ولدَه).

* أورثه شيئًا:

1 - نقله إليه أو أكسبه إيّاه (أورثه خُلُقًا حسنًا- أورثه أستاذُه علمًا غزيرًا).

2 - أعقبه إيّاه (أورثه المرضُ ضعفًا- أورث المطرُ النَّباتَ نَعْمةً- أورثه الحزنُ همًّا: سبَّبه له).

3 - أعطاه إيّاه {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا} [قرآن].

توارثَ يتوارث، توارُثًا، فهو مُتوارِث، والمفعول مُتوارَث (للمتعدِّي).

* توارث القومُ: ورِث بعضُهم بعضًا.

* توارث القومُ المالَ: ورثه بعضُهم عن بعض (توارثوا تقاليدَ العائلة- توارثوا المجدَ كابرًا عن كابر- توارثت الأسرة عن الجدّ لوحةً فنيَّة ثمينة) (*) توارثته الحوادثُ/توارثته المصائبُ: أخذته هذه مرَّة وهذه مرّة، تداولته.

ورَّثَ يورِّث، تورِيثًا، فهو مُورِّث، والمفعول مُورَّث.

* ورَّث فلانًا:

1 - جعله من ورثته (وذلك بالوصيَّة) (ورَّث خالَه).

2 - أدخله في ماله على ورثته (مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ [حديث] - {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُوَرِّثُ كَلاَلَةً} [قرآن]).

* ورَّثه مالًا وغيرَه: جعله ميراثًا له (ورَّث العادات والتّقاليد من جيل إلى جيل).

* ورَّث فلانًا من فلانٍ: جعل ميراثَه له.

إِرْث [مفرد]:

1 - مصدر ورِثَ.

2 - ميراث، ما خلَّفه الميِّت لورثته من مال أو ممتلكات ومتاع، تَرِكة (حرمه الإِرْثَ: - بدَّد إِرْثَ أبيه- وُزِّع الإرْث على مستحقِّيه).

3 - أمر قديم متوارث؛ ما يتوارثه الناس عن آبائهم من تراث (حضارتنا مزيج من إرث قديم ومكتسبات ومبدعات حديثة- تعتزّ كُلُّ أمّة بإرْثها الحضاريّ- إِنَّكُمْ عَلَى إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ إِبْرَاهِيمَ) [حديث] (*) إرْث اجتماعيّ: ما انتقل إلينا من أسلافنا عن طريق اجتماعيّ، وليس عن طرق حيويَّة (بيولوجيّة).

4 - بقيَّة الشّيءِ.

* حَصْر الإِرْث: تعيين الأشخاص الذين يحقّ لهم وراثة المتوفَّى.

تُراث [مفرد]:

1 - ما يُخَلِّفه الميِّت لورثته ({وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا} [قرآن]: تضمُّون نصيبَ غيركم إلى نصيبكم).

2 - كُلُّ ما يُمْلَك (نقل تُراث الأسرة).

3 - كلّ ما خلّفه السَّلف من آثار علميّة وفنية وأدبيّة، سواء مادِّيَّة كالكتب والآثار وغيرها، أم معنوية كالآراء والأنماط والعادات الحضاريّة المنتقلة جيلًا بعد جيل، مما يعتبر نفيسًا بالنسبة لتقاليد العصر الحاضر وروحه (التُّراث الإسلاميّ/الثَّقافيّ/الشَّعبيّ) (*) إحياءُ التُّراث الأدبيّ: نشر الأدب العربيّ القديم واتّخاذه مثالًا رفيعًا في الإنتاج الأدبيّ وهو يُعَدّ في الأدب العربيّ الحديث مظهرًا من مظاهر النَّهضة في القرن التّاسع عشر.

* علم تحقيق التراث: علم يبحث فيما تركه السَّلف مكتوبًا وإعادة نشره بشكل واضح ومنظَّم وموثَّق.

تُراثيَّات [جمع]: مفرده تُراثيَّة: أعمال فنّيّة ذات قيمة عالية تصوِّر الآراء والأنماط والعادات الحضاريّة القديمة للأجداد، وتختلف هذه الأعمال باختلاف الشُّعوب والثَّقافات واللُّغات (احتشد معرض الفنّان بالتُّراثيّات الجماليّة الشَّعبيّة- تخلَّل الحفلَ عرضٌ للتُّراثيّات).

تُراثيَّة [مفرد]:

1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى تُراث: (تحظى الأعمال التراثيّة باهتمام شديد من قِبل الدولة).

2 - مصدر صناعيّ من تُراث: كون الشَّيء ذا حضارة عريقة وتقاليد موروثة (أوحى المكان بتراثيَّته وأسطوريّته).

توارُث [مفرد]:

1 - مصدر توارثَ.

2 - [في الأحياء] انتقال الصِّفات أو المزايا من السَّلف إلى الخَلَف (توارُث صفة الطُّول).

مُورِّث [مفرد]: اسم فاعل من ورَّثَ.

* الجين المورِّث: [في الأحياء] وحدة وراثيَّة موجودة في الكروموسوم تحدِّد خصائص معيَّنة للكائن الحيّ.

موروث [مفرد]:

1 - اسم مفعول من ورِثَ.

2 - مجموعة من العادات والأعراف يُنظر إليها كسوابق تشكِّل الجزء الأساسيّ المؤثِّر على الحاضر.

* خصائص موروثة: [في الأحياء] سمات طبيعيّة تنتقل من الوالدين إلى الذُّريّة بواسطة الجينات كالصَّلع ولون العين.

مِيراث [مفرد]: جمعه مَوَاريثُ: ما يُورَّث، تَرِكة الميِّت (قسَّموا ميراثَ أبيهم بالتَّساوي- {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [قرآن]: مُلْكُهما).

* علم المِيراث: [في الفقه] علم الفرائض، وهو علمٌ يُعرف به الوَرَثة وما يستحقُّون من الميراث وموانعه وكيفيَّة قسمته بينهم.

وارِث [مفرد]: جمعه وارثون ووَرَثَة ووُرَّاث:

1 - اسم فاعل من ورِثَ.

2 - أحد أقرباء الميِّت الذين يحقّ لهم شرعًا أخذ نصيب معيَّن من تركته (الوارث الوحيد لعمِّه- إعلان الوَرَثَة- {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [قرآن]).

3 - آخذٌ نصيبَ غيره ({وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [قرآن]: المعنى أدخلني الجنَّة، وأعطني نصيب أهل النَّار منها).

* الوَارث: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: الباقي بعد موت عباده وذهاب غيره، الذي ترجع إليه الأملاك بعد فناء المُلاَّك {رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [قرآن] - {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} [قرآن].

وِراثة [مفرد]: مصدر ورِثَ (*) إعلام وِراثة: بيان بحقوق الوَرَثة.

* علم الوِراثة: [في الأحياء] علم يبحث في انتقال صفات الكائن الحيّ من جيل إلى آخر، وتفسير الظَّواهر المتعلِّقة بطريقة هذا الانتقال.

وراثيَّة [مفرد]: اسم مؤنَّث منسوب إلى وِراثة: (أمراض/أموال/صفات/عوامل وراثيّة).

* سيادة القوَّة الوراثيَّة: [في الأحياء] قدرة أحد الوالدين أو النَّوع على نقل الخواصّ الفرديّة إلى النَّسل لدرجة استبعاد الطَّرف الآخر.

* الهندسة الوراثيّة: [في الأحياء] علم يبحث في تحسين السلالة أو النوع وتعديل خصائصها عن طريق التحكّم في الجينات الحاملة للصفات الوراثية، ويستفاد منه طبيًّا.

وِرْث [مفرد]:

1 - مصدر ورِثَ.

2 - إرث؛ ما وُرِث، تَرِكة، ما خلَّفه الميِّت لورثته من مال أو ممتلكات وضياع.

وَريث [مفرد]: جمعه وُرثاءُ:

1 - صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من ورِثَ.

2 - وارث؛ أحد أقرباء الميِّت الذين يحقّ لهم شرعًا أخذ نصيب معيَّن من تركته (هو الوَريث الوحيد لأبيه) (*) وريث غير مباشر: من الحواشي.

* الوَريث: صاحب حقّ العرش الملكيّ (وَريث عرش أبيه).

* الوَريث الافتراضيّ: [في القانون] وريث يمكن إسقاط حقّه في الوراثة لولادة قريب للمورِّث قبل وفاته.

* الوَريث الشَّرعيّ: [في القانون] وريث لا ينازعه أحدٌ على حقّه الشَّرعيّ إذا مات المورِّث قبله.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


9-المعجم الوسيط (الجُمَّارُ)

[الجُمَّارُ]: قلبُ النَّخْل، واحدته: جُمَّارة.

وفي المثل: " جُمَّارَةٌ تُؤْكلُ بالهُلاس ": يضرب في المالِ يُجْمعُ بكدٍّ ثم يُوَرَّثُ جاهِلًا.

و- (في علم النبات): لُبُّ النباتات، ويتأَلَّف من أَنْسِجَةٍ لَدْنَةٍ هَشَّةٍ.

(مما أقره مجمع اللغة العربية بالقاهرة).

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


10-المعجم الوسيط (الرَِّشدَةُ)

[الرَِّشدَةُ] - يقال: هو وَلَدُ رَِشْدَة؛ ولِرِشْدَة: صَحيح النَّسَب، أَو مِن نكاح صَحيح.

وفي الحديث: «من ادّعى ولَدًا لِغيرِ رَِشْدة فلا يَرِث ولا يُورث» [حديث نبوي].

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


11-المعجم الوسيط (السَّوَسُ)

[السَّوَسُ]: داءٌ يأخذُ الدابَّةَ في قوائمها.

و- داءٌ يكون في عجُز الدابَّةِ بين الوَرِك والفَخِذ يورِثُ ضعْفَ الرِّجْل.

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


12-المعجم الوسيط (حَبَسَهُ)

[حَبَسَهُ] -ِ حَبْسًا: منعه وأمسكه.

و- سَجَنه.

و- الشيءَ: وَقَفَه لا يُباع ولا يُورث، وإنما تُمْلَك غَلَّتُه ومنفعَتُه.

ويقال: حبا نفسه على كذا.

و- الشيءَ بالشيءِ: ستره وأحاطه به، فهو محبوسٌ، وحَبِس.

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


13-شمس العلوم (حَميل)

الكلمة: حَميل. الجذر: حمل. الوزن: فَعِيل.

[حَميل] السيل: ما يحمله من غثائه.

والحَمِيل: الذي يؤتى به من بلدٍ غريبًا.

والحَمِيل: الرجل الدعيُّ، وفي حديث عمر في الحميل: «لا يورّث إِلا ببيِّنة».

قيل: المراد بذلك أن يدعي المعتقُ ابنًا أو أخًا لا يصدق عليه إِلا ببيِّنة لأنه يدفع بذلك إِرث مولاه الذي أعتقه.

والحَميل: الكفيل، وفي حديث النبي عليه‌ السلام: «الحميل غارم».

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


14-شمس العلوم (الخُنْثى)

الكلمة: الخُنْثى. الجذر: خنث. الوزن: فُعْلَى.

[الخُنْثى]: الذي له فرج الرجل وفرج المرأة.

وفي الحديث «سئل النبي عليه‌ السلام عن مولود له قبل وذكر من أين يورث قال: من حيث يبول».

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


15-شمس العلوم (الزاووق)

الكلمة: الزاووق. الجذر: زوق. الوزن: فَاعُول.

[الزاووق] بالقاف: الزيبق، وهو يشبه الفضة الذائبة، وهو حار رطب في الدرجة الرابعة، إِذا خلط بخل وتُطُلِّيَ به نفع من الجَرَب والحكَّة، وهو مع الخل يقتل القمل والصيبان والقِردان لإِفراط حرارته.

ودخانه يورث الأسقام والعلل، وترابه يقتل الفأر إِذا ألقي لها في طعام.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


16-شمس العلوم (التسبيل)

الكلمة: التسبيل. الجذر: سبل. الوزن: التَّفْعِيل.

[التسبيل]: سَبَّل مالَه: أي جعله في سبيل الله، وفي الحديث عن عمر قال: «أَصَبْتُ أرضًا بخيبر ما أصبت مالًا أنفس منها عندي، فأتيت النبيَّ عليه‌ السلام فاستأمرته فقلت: إِني أريد أن أتقرب بها إِلى الله تعالى، فقال: حَبِّس الأصل، وسَبِّل الثمرَ» يعني بالتحبيس: الوقف.

قال: فتصدق بها عمر صدقةً لا يباع أصلها ولا يورث.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


17-شمس العلوم (الكَلالة)

الكلمة: الكَلالة. الجذر: كلل. الوزن: فَعَالَة.

[الكَلالة]: {قال الشعبي: قال أبو بكر، رضي ‌الله ‌عنه: «من مات وليس له ولد ولا والد فورثه كلالةٌ»، وضجَّ عليُّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه من قول أبي بكر رضي‌الله‌عنه، ثم رجع إِليه، قال الله تعالى: {وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} قال أبو عبيدة: الكلالة} مصدرٌ من «تكلَّله النسبُ»: أي أحاط به، والابن والأب طرفان، وإِذا مات ولم يخلفهما فقد مات عن ذهاب طرفيه، فسمي ذهاب الطرفين كلالة.

قال بعضهم: الكلالة: الرجال الورثة.

وقال بعضهم: الكلالة: بنو العم الأباعد.

وقال أعرابي: مالي كثير ويرثني كلالة متراخٍ نسبهم.

قال المبرد: الكلالة: ما تُكلِّل به من النسب وأطاف به من جوانبه، وسمي الإِكليل لإِطافته بالرأس، والولد خارج من ذلك.

ويقولون: لم يرثه كلالةً: أي لم يرثه عن بُعد، بل عن قرب، قال الفرزدق: ورثتم قناة المجد غير كلالةٍ عن ابني منافٍ عبدِ شمس وهاشم أي: ذا كلالة.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


18-شمس العلوم (نَفِسَ يَنْفَسُ)

الكلمة: نَفِسَ يَنْفَسُ. الجذر: نفس. الوزن: فَعِلَ/يَفْعَلُ.

[نَفِس]: النِّفاس: وِلادُ المرأة.

يقال: نَفِسَتْ نُفاسًا.

ونُفِست فهي نُفَساء ومنفوسة.

والمنفوس: المولود.

يقال: عرفت ذلك قَبْل أن يُنْفَس: أي يُوْلَد.

وفي حديث النبي عليه‌ السلام: «ما من نفسٍ منفوسة إِلا وقد كُتب أجلها ورزقها» وعن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: «إِن من السُّنَّة أن لا يرث المنفوس، ولا يُورث حتى يستهل صارخًا».

قال:

*كما سقط المنفوس بين القوابلِ*

ويقال: نَفِس عليه بالشيء نفاسًا: إِذا حَسَده.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


19-شمس العلوم (الأنيب)

الكلمة: الأنيب. الجذر: نيب. الوزن: أَفْعَل.

[الأنيب]: أنيب: اسم رجل كان جبانًا من يام حي من همدان فأراد قومه أن يُخصوه لكيلا يورِث فيهم الجبن فخافوا أن يعيروا بأن فيهم خصيًا فعزموا على قتله فقال لهم مَنْ والاهم من قبائل همدان: إِن لم تشركونا في قتله حُلنا بينكم وبينه، فرماه كل قبيلة من همدان بسهم حتى مات وهم يرتجزون ويقولون:

لله سهمٌ ما نبا عن أنيبِ *** حتى يوارى نصله في مَنْشَبِ

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


20-شمس العلوم (الاستهلال)

الكلمة: الاستهلال. الجذر: هلل. الوزن: الِاسْتِفْعَال.

[الاستهلال]: استهلّ الهلالُ: إِذا رُئي.

واستهلّ المولودُ: إِذا صاح عند الولادة.

وفي الحديث عن النبي عليه‌ السلام: «إِذا استهلّ المولود صُلي عليه وسمي وورِّث وإِن لم يستهلّ لم يصل عليه ولم يسمَّ ولم

يورث» وهذا قول أبي حنيفة ومن وافقه.

وقول الشافعي أيضًا: إِذا استهل، فإِن لم يستهل واستكمل أربعة أشهر فإِنه عنده يغسّل، وله في الصلاة عليه قولان.

واستهلّ المطرُ: إِذا ارتفع صوتُ وقعه واشتدّ ويقال: استهلّت السماءُ.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


21-مبادئ ومصطلحات علم الفرائض (الكلالة)

الكلالة: هو الميت الذي لم يخلف ولدا ولا والدا أو الوارث الذي ليس بولد ولا والد.

يدل على الأول قوله تعالى:) وإن كان رجل يورث كلالة ([النساء/12]، فجعل الميت المورث هو الكلالة.

ويدل عل الثاني قول جابر رضي الله عنه حين مرض مرضا أشرف منه على الموت: ((يا رسول الله كيف الميراث إنما يرثني كلالة)) فجعل الوارث هو الكلالة.

مبادئ ومصطلحات علم الفرائض-نصيرة دهينة-صدر حول: 1433هـ/2012م


22-معجم متن اللغة (أبده)

أبده: خلده.

ومنه الوقف المؤبد، وهو الحبيس مدة الأبد لا يباع ولا يورث.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


23-معجم متن اللغة (السعفة)

السعفة: قروح تخرج برأس الصبي ووجهه، أو هي داء الثعلب يورث القرع، وهو السعفة.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


24-جمهرة اللغة (بدك بكد دبك دكب كبد كدب)

الكَبِد: معروفة، ويقال: كَبْد أيضًا.

والكَبَد مصدرُ كَبِدَ يَكْبَد كَبَدًا، إذا اشتكى كَبِده.

والأكْبَد أيضًا: الواسع الجوف، فرس أكْبَدُ والأنثى كَبْداءُ، وقوس كَبْداءُ: يملأ عِجْسُها كفَّ الرامي إذا قبض عليه.

والكُبَاد: وجع الكَبِد.

وفي الحديث: (لا تَعُبُّوا عَبًّا فإنه يُورث الكبادَ).

وِكابَدْتُ الشيءَ مُكابدةً وكِبادًا، وهو مقاساتك إيّاه في مشقة.

والكَبَد: الشِّدَّة والمشقة؛ هكذا فسَّره أبو عُبيدة في التنزيل في قوله جلّ وعزّ: {لقد خَلَقْنا الإنسانَ في كَبد}، أي في شِدَّة.

وتكبَّدَ اللَّبَنُ وغيرُه من الشراب، إذا غَلُظَ وخَثُرَ.

وتكبدتِ الشمسُ في السماء، إذا توسَّطتْها.

وكل شيء توسَط شيئًا فقد تكبّده.

جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م


25-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (الشحر)

الشّحر

لها عدّة إطلاقات:

الأوّل: أنّها اسم لكلّ ما شمله حدّ حضرموت السّابق ذكره أوائل الكتاب.

الثّاني: أنّها اسم لساحل المشقاص بأسره، فما كان منه لبني ظنّة.. فهو داخل في حدّ حضرموت، وما كان منه للمهرة كبديعوت.. فهو شحر المهرة.

الثّالث: أنّها اسم لجميع ما بين عدن وعمان، كما ذكره ياقوت [3 / 327] عن الأصمعيّ.

وكثير من يقول: إنّ ظفار هي قاعدة بلاد الشّحر، وفي «الأصل» بسط ذلك.

الرّابع: اختصاص الاسم بالمدينة اليوم.

لكن نقل السّيّد أحمد بن حسن الحدّاد عن الباب السّابع من «نخبة الدّهر»: (إنّ لحضرموت فرضتين على ساحل البحر، يقال لإحداهما: شرمة، وهي الآتي ذكرها. وللأخرى: الشّحر، ولم تكن بمدينة، وإنّما كانوا ينزلون بها في خصاص، حتّى بنى بها الملك المظفّر ـ صاحب اليمن في زماننا هذا ـ مدينة حصينة بعد سنة سبعين وستّ مئة) اه

وفي «صبح الأعشى» (5 / 16): (والشّحر ـ قال ياقوت الحمويّ: هي بليدة صغيرة ـ ولم يزد على ذلك. والّذي يظهر: أنّ لها إقليما ينسب إليها) اه

وما استظهره هو الواقع، ولا سيّما في الأعراف القديمة، وكانت وفاة ياقوت في سنة (626 ه‍)؛ أي: قبيل أن يجعلها المظفّر مدينة بمدّة ليست بالطّويلة.

وما جاء في «صبح الأعشى» عن ياقوت لعلّه من غير مادة الشّحر، أمّا فيها من «معجمه».. فقد أطال القول عن الشّحر، وقال: (هو صقع على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن، وإليه ينسب العنبر الشّحريّ؛ لأنّه يوجد في سواحله، وهناك عدّة مدن يتناولها هذا الاسم، وإلى الشّحر ينسب جماعة منهم محمّد بن خويّ بن معاذ الشّحري) اه [3 / 327 ـ 328] باختصار.

وفي «مروج الذّهب» ذكر للنّسناس الّذي أفضت القول عنه ب «الأصل»، ثمّ قال المسعوديّ: ووجدت أهل الشّحر من بلاد حضرموت وساحلها ـ وهي تسعون مدينة على الشّاطىء من أرض الأحقاف، وهي أرض الرّمل وغيرها ممّا اتّصل بهذي الدّيار من أرض اليمن وغيرها، من عمان وأرض المهرة ـ يستظرفون أخبار النّسناس إذا ما حدّثوها، ويتعجّبون من وصفه، ويتوهّمون أنّه ببعض بقاع الأرض ممّا قد بعد عنهم؛ كسماع غيرهم من أهل البلاد بذلك عنهم، وهذا يدلّ على عدم كونه في العالم، وإنّما هو من هوس العامّة؛ كما وقع لهم من عنقاء مغرب، ونحن لا نحيل وجود النّسناس والعنقاء؛ لأنّ ذلك غير ممتنع في القدرة، غير أنّه لم يرد خبر قاطع للعذر بصحّة وجود ذلك في العالم.. فهذا داخل في حيّز الممكن الجائز... إلى آخر ما أطال به.

والذي يعنينا منه كون الشّحر فيما سلف من الزّمان تسعين مدينة، وكون هذه الأرض تسمّى كلّها أرض الأحقاف، وهو موافق لكثير ممّا سبق. والله أعلم.

وللشّحر ذكر في شعر سراقة بن مرداس البارقيّ، وذلك أنّه أخذ أسيرا يوم جبّانة السّبيع، فقدّم في الأسرى، فقال ـ كما عند الطّبريّ وغيره ـ [من الرّجز]:

«امنن عليّ اليوم يا خير معدّ *** وخير من حلّ بشحر والجند»

وخير من لبّى وصلّى وسجد

فعفا عنه المختار في قصّة طويلة تشهد لاستيلائه على الشّحر. وكانت دولة الشّحر لكندة إلى سنة (575 ه‍).. حيث هجم عليها الزّنجيليّ.

ثمّ تولّاها آل فارس المختلف في نسبهم: فقيل: إلى الأنصار، وهو أبعدها.

وقيل: إلى كندة، وهو أوسطها، ويؤيّده ما سبق في حجر أن لا تزال به طائفة من آل ابن دغّار الكنديّين، يقال لهم: آل فارس. وقيل: إلى المهرة، وهو الّذي رجّحته ودلّلت عليه.

وفي سنة (616 ه‍): انقضّ ابن مهديّ ـ وهو من صنائع آل رسول اليمانيّين ـ على آل فارس، وأخرجهم من الشّحر.

وفي سنة (621 ه‍): تولّى عليها عبد الرّحمن بن راشد، وكان يؤدّي الخراج لملوك الغزّ، فعزله نور الدّين الرّسوليّ برجل من الغزّ، وأضاف إليه نقيبا، فقتل الغزّيّ، واستولى على البلاد، وكان عبد الرّحمن بن راشد في ضيافة نور الدّين بتعز، فاستدعاه، وخلع عليه، وأمره أن يسير إلى الشّحر، فضبطها وبقيت تحت حكمه إلى سنة (678 ه‍) حيث دخلت الشّحر وحضرموت تحت حكم المظفّر الرّسوليّ، ولكنّه أبقى عبد الرّحمن بن راشد عليها نائبا عنه حتّى توفّي في سنة (664 ه‍)، ودفن بين تربة الشّيخ سعد الظّفاريّ وتربة عمرو، وقبره مشهور بها.

وخلفه أخوه راشد بن شجعنة، فبقي عليها إلى سنة (677 ه‍)، فتغيّر عليه المظفّر واعتقله بزبيد إلى أن مات.

وفي سنة (767 ه‍): وصل المظفّر بنفسه إلى الشّحر، فعمّرها ـ حسبما تقدّم ـ ثمّ لم يزل حكّامها من أسرته تحت أمر آل رسول حتّى ضعف أمرهم.

وصار النّفوذ بحضرموت لآل يمانيّ.

وفي سنة (812 ه‍): استولى دويس بن راصع على الشّحر، ثمّ عادت لآل فارس، حتّى انتزعها منهم آل كثير في سنة (867 ه‍)، وهي أوّل دولتهم بها.

ثمّ استردّها آل فارس منهم في سنة (894 ه‍).

ثمّ استرجعها آل كثير في سنة (901 ه‍)، وما زالت في أيديهم على مناوشات بينهم وبين أمراء العشائر حتّى استولى الإمام (المتوكّل على الله) على حضرموت وعليها في سنة (1070 ه‍).

وقال السّيّد أحمد بن حسن الحدّاد: (كان خروج الإمام أحمد بن حسن سنة «1072 ه‍»، وأقام بجيشه في حضرموت نصف شهر، ثمّ عاد طريق البحر من بندر الشّحر، واستخلف السّلطان بدر بن عمر الكثيريّ، وترك عنده جملة من عسكره الزيديّة، واستمرّ أمرهم نحو خمسين سنة إلى خروج يافع من الجبل سنة 1117 ه‍) اه

وقال السّيّد محمّد بن إسماعيل الكبسيّ في كتابه «المسالك اليمنيّة»: (وفي سنة «1064 ه‍»: خطب بدر بن عمر الكثيريّ للإمام، فقبض عليه ابن أخيه بدر بن عبد الله، فهمّ الإمام بالتّجهيز، وأمر بحشد الجنود إلى بني أرض، ومنعت بلاد الرّصّاص ويافع والعوالق والجرش والواحديّ والفضليّ عن المرور فيها، فجدّ الإمام في جهادهم، واجتمع لأولاد إخوته زهاء عشرة آلاف راجل وألف عنان، واشتدّ القتال بينهم وبين حسين الرّصّاصيّ حتّى قتل، وانهزم أخوه صالح إلى البيضاء، وانتهب العسكر جميع ما في مخيّمهم.

وكان محمّد بن الحسين لم يشهد الوقعة، ولكنّه حضر بعدها، فتقدّم إلى يافع يوم الإثنين (19) جمادى الآخرة من السّنة إلى ذيل جبل العرّ، فاستولى على الجبل، وعادوا إلى عند الإمام.

ولمّا انتهى خبر هذا النّصر العظيم إلى بدر بن عبد الله الكثيريّ.. أطلق عمّه، وخطب للإمام، فأرسل الإمام صالح بن حسين الجوفيّ إلى حضرموت، فألفى الأمر على حقيقته، فوجّه بدر بن عمر إلى ظفار واليا عليها.

وفي سنة «1068 ه‍»: غدر بدر بن عبد الله بعمّه بدر بن عمر، وأخرجه عن ظفار، فقدم على الإمام فأكرمه.

وفي جمادى الأوّلى من سنة «1069 ه‍»: اختار المتوكل الصّفيّ أحمد بن حسن لفتح حضرموت والشّحر وظفار.

وفي شعبان: توجّه الصّفيّ إلى وادي السّرّ بمخلاف خولان، ثمّ إلى فحوان ورغوان، ثمّ إلى مأرب وحبّان، ثمّ دخل أطراف بلاد العوالق فوصل بلدة واسط، ثمّ سار إلى وادي حجر، ثمّ تجرّد منها تجرّد الحسام.

وكان سلطان حضرموت قدّم عساكره إلى أعلى عقبة حجر فانهزموا من أحمد بن الحسن، وبانهزامهم.. انهزم من بعدهم، وهذا المحلّ يقال له: ريدة بامسدوس، ثمّ تقدّم إلى الهجرين، ثمّ التقوا بعسكر سلطان حضرموت فهزموهم واستولوا على حضرموت، وعاد الصّفيّ إلى حضرة الإمام بضوران، في أبّهة فاخرة، ودولة قاهرة، وفتح قريب، ونصر عجيب) اه باختصار.

وإنّما استوفيته مع عدم ملاءمته للإيجاز؛ لأنّ فيه ما ليس في «الأصل»، على أنّ في «الأصل» ما ليس فيه، فليضمّ إلى كلّ ما نقص.

أمّا استيلاء يافع على الشّحر وحضرموت: فكما ذكر السّيّد أحمد بن حسن الحدّاد: كان في سنة (1117 ه‍)، وقد سبق في المكلّا أنّ الشّيخ عمر بن صالح هرهرة أمير ذلك الجيش أقام بالشّحر ثلاثة أشهر، جبى فيها منها خمسة وثلاثين ألف ريال (35000).

وكان من يافع طائفة يقال لهم: آل عيّاش، سكن رئيسهم بحصن الشّحر الّذي كان يقال له: المصبّح، فأطلق عليه من ذلك اليوم: حصن ابن عيّاش.

وما زالت يافع على الشّحر حتّى أخذها الإمام المهديّ بالمهرة، ومعهم الأمير سعيد بن عليّ بن مطران، وحصل النّداء بالشّحر أنّ النّاس في أمان المهديّ.

واشترط يافع لأنفسهم أن يغادروا الشّحر بسلاحهم بعد ثمانية أيّام، فخرجوا منها إلى حضرموت، وانضمّوا إلى عسكر عمر بن جعفر.

وفي سنة (1118 ه‍): وصل السّلطان عمر بن جعفر من اليمن إلى الشّحر، وسلّمه النّقيب والعسكر حصن الشّحر، ونادى بالأمان، ثمّ كتب للعسكر بحضرموت: (إنّ سيّدي الإمام المهديّ وجّهني إلى حضرموت، فإن كنتم في الطّاعة.. سلّمتم النّاس من الضّرر، وإلّا.. فنحن واصلون بالجيش المنصور، وهو مؤلّف من ثلاث مئة من حاشد وبكيل، ونحو مئة من سائر عسكر الإمام، ونحو مئة من الحجاز، ونحو مئة وخمسين أخلاط من الخلق).

وكان السّلطان عيسى على سيئون وحضرموت، فانهزم.

ثمّ تغلّبت يافع على عمر بن جعفر، وعاد الأمر إليهم بالشّحر، إلى أن اختلفوا، فغلبهم آل بريك، وكانوا ولّوا رئيسهم بعض الأمر بالنّيابة عنهم، فلمّا اختلفوا.. استبدّ عليهم.

وأصل آل بريك من حريضة، وهم إمّا من بقايا بني ناعب الآتي ذكرهم في التّعريف بوادي عمد، وإمّا من بني جبر؛ قبيلة من يافع يسكنون جبلا في سرو حمير، يقال له: ذو ناخب، كما في «صفة جزيرة العرب» لابن الحائك الهمدانيّ [173].

وأوّل ما ابتدأ به آل بريك المصالحة بين الحموم، والتّحالف معهم، حتّى قرّبوا النّاس وعاملوهم بالإحسان حتّى أحبّوهم.

وأوّل أمير لهم هو: ناجي بن عمر، وكانت يافع جعلت إليه الماليّة في أيّام نفوذها؛ لأنّهم تنازعوها وكادوا أن يقتتلوا عليها، ولمّا استقلّ شيئا فشيئا على حساب اختلافهم وتفرّق آرائهم.. أفاقوا، فناوشهم، ولكنّه انتصر عليهم لأنّهم كانوا متحاسدين.

ولمّا مات ناجي بن عمر في سنة (1193 ه‍).. خلفه ولده عليّ بن ناجي بن عمر بن بريك، فخالفه محسن بن جابر بن همّام، وانضمّ إليه آل عمر باعمر، فجهز عليهم عليّ ناجي وأجلى آل همّام إلى المكلّا، وآل عمر باعمر إلى الرّيدة، واستنجد آل همّام بعبد الرّبّ بن صلاح الكساديّ، ولكنّه انهزم هو وإيّاهم كما سبق في المكلّا.

وفي أيّام عليّ ناجي هذا: ظهر أنّ القاضي سعيد بن عمر بن طاهر كان يعمل الأسحار، فأغرقه في بالوعة الأقذار، وكان آخر العهد به.

ولمّا مات عليّ بن ناجي سنة (1220 ه‍).. خلفه أخوه حسين بن ناجي، ثمّ ولده ناجي بن عليّ بن ناجي.

وفي أيّامه جاءت الوهّابيّة في خمس وعشرين سفينة تحت قيادة ابن قملة، بأمر الملك عبد العزيز بن سعود آل سعود، الّذي استفحل سلطانه لذلك العهد، فافتتح نجدا والحسا والعروض والقطيف والحجاز وغيرها، وكان أكثر فتوحه على يد القائد العظيم ابنه سعود المتوفّى سنة (1229 ه‍).. فامتلكوا البلاد، ولم يؤذوا أحدا في حال ولا مال، ولم يهلكوا حرثا ولا نسلا، وإنّما أخربوا القباب، وأبعدوا التّوابيت ـ وقد قرّرت في «الأصل» ما ذكره ابن قاسم العبّاديّ من حرمة التّوابيت.

وأمّا القباب: فإن كانت في مسبّلة.. فحرام، وإلّا.. فلا، بشرطه، ولم يعترضهم آل بريك.

وأقاموا بالشّحر أربعين يوما، ثمّ ركبوا سفائنهم وعادوا لطيّتهم.

وفي سنة (1227 ه‍): نشب الشّرّ ما بين الكساديّ ـ صاحب المكلّا ـ وآل بريك، وامتدّت المناوشات بينهم زمانا طويلا في البحر والبرّ.

وفي سنة (1242 ه‍): توفّي ناجي بن عليّ؛ وكان خادما للدّين، شديد الغيرة على شعائره، لا يخرج عن رأي الإمام الحبيب حسن بن صالح البحر في ذلك، حتّى لقد أمره أن لا يمكّن أحدا من البادية يدخل الشّحر ليمتار إلّا بعد أن يحلف اليمين على أن لا يقصّر في الصّلاة، فحصل بذلك نفع عظيم، وصلاح كبير، حتّى جاء العوابثة في قطار لهم، فلمّا أرادوا أن يدخلوا من سدّة العيدروس وهي باب الشّحر الشّماليّ.. عرضوهم على العهد، فأبوا، وصرفوا وجوه إبلهم إلى الغيل عند رفاقهم آل عمر باعمر، وارتجزوا بقول شاعرهم:

«قولوا لناجي بن عليّ *** كلّين يوخذ له ملاه »

«ماراس بن عوبث غلب *** ما بايعاهد عالصّلاه »

واختلفوا في تفسير هذا: فقوم يحملونه على العناد والمجاهرة بالفساد.

وآخرون يحملونه على أنّ الدّاعي إلى الصّلاة من الدّين، والسّائق لها من الضّمير، فلا تحتاج إلى عهد ولا إلى يمين. ولمّا مات ناجي بن عليّ.. خلفه ولده عليّ ناجي الثّاني.

وفي سنة (1267 ه‍): كانت حادثة مرير، وحاصلها: أنّ آل كثير أغاروا على الشّحر بعسكر مجر، وجاءتهم نجدة من الأتراك في البحر من مكّة المشرّفة، على رأسها شيخ العلويّين، السّيّد إسحاق بن عقيل بن يحيى، مؤلّفة تلك النّجدة من نحو خمس مئة جنديّ بعدّتهم وعتادهم، فبلغت العساكر البحريّة والبريّة نحوا من خمسة آلاف، إلّا أنّه لم يصحبها رفيق من التّوفيق، فكان عاقبتها الانهزام الشّامل، والفشل الشّائن، كما هو مفصّل ب «الأصل» [3 / 9 ـ 16].

وبعضهم يعلّل ذلك الانهزام بخيانة من سيبان الموجودين بكثرة في الجيش الكثيريّ؛ لأنّهم كانوا في طليعة الجيش المرابط بمرير، فلمّا هاجمتهم فرقة من عسكر الكساديّ جاءت من المكلّا لمساعدة آل بريك.. انهزموا وذهبوا بها عريضة وأكثروا من الأراجيف، فخلعوا قلوب الجيش الكثيريّ وملؤوا صدورهم رعبا، فركب كلّ منهم رأسه، وذهبوا عباديد لا يلوي أحدهم على شيء قطّ، وعادت النّجدة التّركيّة إلى أسطولها الرّاسي بشرمة؛ لأنّ مرسى الشّحر كان مكشوفا؛ وكان البحر هائجا، والوقت خريفا، وتفرّق الجيش الكثيريّ أيدي سبأ، وعاد بخيبة الرّجاء، ولم يبق بالمعسكر في اليوم الثّاني نافخ ضرم.

وكان من نتيجة ذلك الفشل: أنّ السّلطان عبد المجيد العثمانيّ أقال السّيّد إسحاق من مشيخة العلويّين بمكّة، وأبدله بالسّيّد محمّد بن محمّد السّقّاف.

وفي سنة (1283 ه‍): جهّز السّلطان غالب بن محسن الكثيريّ على الشّحر، فاستولى عليها، وهرب عليّ ناجي بمن معه وما قدر عليه، في خمس من السّفن أعدّها لذلك من يوم علم بالغزو، وكان هربه إلى المكلّا فلم يمكّنه الكساديّ من النّزول بها؛ معتذرا بأنّه لا يصلح سيفان في جفير، فأبحر إلى يشبم، وأذن له النّقيب أن يبقي نساءه وصغاره في خلف، ومات كثير منهم بالبرد.. فانتقل بعضهم إلى الحرشيات، أمّا المكلّا.. فلم يمكّنهم من دخولها، وأقام عليّ ناجي عند الشّيخ فريد بن محسن العولقيّ عاما، ثمّ ركب إلى عدن، وعاد منها إلى الشّحر.

وكان عليها الأمير عبد الله بن عمر القعيطيّ بعد جلاء غالب بن محسن عنها، فأكرم وفادته، وتحفّى به حتّى لقد دخل بين البحّارة الّذين حملوه من القارب إلى السّاحل، وأحسن مثواه، إلّا أنّ فكرة الإمارة عادت تتحرّك في صدره، وكلّما ذكر أيّامه عليها بالشّحر.. قال بلسان حاله:

«فوالهفة كم لي على الملك شهقة *** تذوب عليها قطعة من فؤاديا»

فعزم إلى الآستانة؛ ليستنجد بالخليفة العثمانيّ على الكساديّ بالمكلّا وعلى القعيطيّ بالشّحر، فسافر إلى عدن، ثمّ خرج إلى لحج، وبها فاجأته المنيّة، وعاد كثير من أعقابه إلى الشّحر، ولا يزال بها ناس منهم إلى اليوم.

أمّا غالب بن محسن: فلو قنع بالشّحر كما أشار عليه المخلصون.. لأوشك أن تطول بها مدّته، لكنّه طمع في أخذ المكلّا من الكساديّ، فانكسر دونها.

وفي آخر ذي الحجّة من نفس السّنة الّتي أخذ فيها الشّحر ـ أعني سنة (1283 ه‍) ـ: جهز القعيطيّ بمساعدة الكساديّ على الشّحر، وافتتحها بأسرع وقت، وتفرّق عسكر السّلطان غالب شذر مذر، بعدها أخذت السّيوف منهم كلّ مأخذ ولو لا أنّ أحد عبيده ـ وهو صنقور سليمان، وكان من أهل القوّة والأيد ـ احتمله على ظهره.. لذهب مع شفرات يافع، فما نجا إلّا بجريعة الذّقن وخيط الرّقبة.

وفي رجب من سنة (1284 ه‍): استأنف السّلطان غالب بن محسن التّجهيز على الشّحر؛ إذ بقي قلبه بحسرة عليها، ودخل أكثر جيشه من كوّة فتحوها في سور البلد، فانحصروا وانقطع عليهم خطّ الرّجعة، وأصلتهم يافع ومن لفّهم من عسكر القعيطيّ نارا حامية، فأثخنوا فيهم قتلا، وخرج الباقون لا يلوي آخرهم على أوّلهم.

ورسخت أقدام القعيطيّ بالشّحر، وجلس عليها الأمير عبد الله بن عمر القعيطيّ، كما عرف ممّا سبق.

وبعد وفاته في سنة (1306 ه‍): خلفه عليها ولده حسين بن عبد الله؛ لأنّ أكثر إقامة السّلطان عوض بن عمر كانت بحيدرآباد الدّكن في خدمة النّظام الآصفي، ثمّ نزغ الشّيطان بين السّلطان عوض وأولاد أخيه عبد الله، وهما: منصّر وحسين، وجرى بينهم ما فصّلناه ب «الأصل».

وكانت النّهاية تحكيم المنصب السّيّد أحمد بن سالم بن سقّاف، فحكم بأن لا حظّ لهم في الإمارة، وتمّ جلاؤهم عن الشّحر والغيل بمساعدة الحكومة الإنكليزيّة في سنة (1320 ه‍).

ومن العجب أنّ التّحكيم كان خاصّا بما بينهم من الدّعاوى الماليّة، ومع ذلك فقد كان الحكم شاملا للإمارة! !.

واستتبّ الأمر للسّلطان عوض بن عمر القعيطيّ، فحل حضرموت، وطلّاع نجادها، ومزلزل أوتادها.

«مدبّر ملك أيّ رأييه صارعوا *** به الخطب ردّ الخطب يدمى ويكلم »

«وظلّام أعداء إذا بدىء اعتدى *** بموجزة يرفضّ من وقعها الدّم »

«ولو بلغ الجاني أقاصي حلمه *** لأعقب بعد الحلم منه التّحلّم »

وقد أطلقنا عليه لقب السّلطان؛ لأنّه به حقيق في اتّساع ملكه، وامتداد نفوذه، وفي «الأصل» بسط الكلام عمّن يسمّى سلطانا ومن لا يسمّى.

ونزيد هنا قول الإمام الرّازيّ في تفسير قوله: (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) وهو أنّ: (من ملك بلدا صغيرا لا يحسن فيه أن يقال فيه: جلس على العرش، وإنّما يحسن ذلك فيمن ملك البلاد الشّاسعة، والأقطار الواسعة. فالعرش والكرسيّ لا يكونان إلّا عند عظمة الملك) اه

وهو لا يخرج عمّا هناك.

وللسّلطان عوض محاسن جمّة، ومناقب مهمّة، وقد حجّ في سنة (1317 ه‍)، وأظهر من التّواضع والخضوع ما يدلّ على قوّة دين، وصحّة إيمان، وأكرمه الشّريف عون الرّفيق، وأعاد له الزّيارة، فأدركته عنده نوبة صرع، فانزعج القعيطيّ، وظنّها القاضية، حتّى هدّأه أصحاب الشّريف، وقالوا له: إنّما هي عادة تعتاده من زمن قديم، وقدّم للشّريف هدايا طائلة.

ومع قرب سفره.. طلبوا منه معونة لإجراء سكّة الحديد بين الشّام والمدينة، فدفع لهم ثلاثين ألف ربيّة، فأرجعوها إليه استقلالا لها، فركب إلى المدينة على وعد الرّجوع إلى جدّة، ثمّ سار إلى الشّام، وكان آخر العهد به، وسلمت الثّلاثون ألف.

وقد سبق في حجر أنّه تعلّق بأستار الكعبة وتاب من كلّ سيّئة إلّا من فتح حجر وحضرموت.

توفّي بالهند آخر سنة (1328 ه‍)، ورثاه شيخنا العلّامة أبو بكر ابن شهاب بقصيدة حمينيّة ولكنّها مؤثّرة.

ووقع رداؤه على ولده السّلطان غالب بن عوض، وكان شهما كريما ليّن الجانب، دمث الشّمائل، وديع القلب، شريف الطّبع، وافر الحرمة، سعيد الحظّ، ميمون النّقيبة، مبسوط الكفّ، ينطبق عليه قول الطّائيّ [أبي تمّام في «ديوانه» 2 / 317 من الطّويل]:

«فتى سيط حبّ المكرمات بلحمه *** وخامره حقّ السّماح وباطله »

وقوله [في «ديوانه» 1 / 316 من الوافر]:

«له خلق نهى القرآن عنه *** وذاك عطاؤه السّرف البدار »

وقول البحتريّ [في «ديوانه» 2 / 339 من الطّويل]:

«تغطرس جود لم يملّكه وقفة *** فيختار فيها للصّنيعة موضعا»

وقوله [في «ديوانه» 1 / 63 من الطّويل]:

«إلى مسرف في الجود لو أنّ حاتما *** لديه.. لأمسى حاتم وهو عاذله »

وقول أبي الطّيّب [في «العكبريّ» 1 / 129 من الكامل]:

«ودعوه من فرط السّماح مبذّرا *** ودعوه من غصب النّفوس الغاصبا»

وفي أيّامه كانت حادثة الحموم في (27) ربيع الثّاني من سنة (1337 ه‍)، وحاصلها: أنّهم كانوا يخيفون السّابلة، والحكومة القعيطيّة تتوقّى شرّهم وتدفع لهم مواساة سنويّة يعتادونها من أيّام آل بريك.

وفي ذلك العهد انعقد الصّلح بين الحموم والحكومة القعيطيّة بدراهم بذلتها لهم الحكومة ـ لا يستهان بها ـ على العادة الجارية بينهم في ذلك، فبينا هم غارّون.. هاجمتهم سيبان، وكان لها عندهم ثار، فقتلت منهم عددا ليس بالقليل، فاتّهموا الحكومة بمساعدتهم، وظفروا بجماعة من يافع فقتلوهم، فما زال ناصر أحمد بريك أمير الشّحر يومئذ يداريهم ويستميلهم، ويظهر لهم أنّ قتلهم ليافع لم يثر حفاظه.. حتّى اجتمع منهم بالشّحر نحو من أربع مئة، وكانوا يعتدّون بأنفسهم وبهيبة الحكومة لهم.. فلم يبالوا بالدّخول من دون تجديد للصّلح الّذي وقع فيه ما وقع فألقى عليهم القبض أجمعين، وقتل سبعة وعشرين من رؤسائهم، ودفنهم في قبر واحد من غير غسل ولا صلاة ولا تكفين؛ منهم: سالم بن عليّ بن مجنّح، الملقّب (حبريش)، وحيمد بن عمرو بالفرج الغرابيّ، ومرضوح بن عوض اليمنيّ، وغيرهم. وأظهروا من الثّبات ساعة القتل ما أبقى لهم جميل الأحدوثة.

ومات في حبس القعيطيّ منهم مئة وسبعة، وأطلق بعد ذلك سراح الباقين، ولكن بعد ما وهن جانبهم، ونخرت عيدانهم، إلّا أنّ عليّ بن حبريش لم يزل يجمع جراميزه لأخذ الثّأر، ودار على حصون آل كثير فلم يجد عندهم منفعة، وإلّا.. فقد كانت بينهم وبين بعضهم أحلاف.

وبعد أن مضى لهذه الحادثة سبع سنين.. هجم على الدّيس فنهبها واستباحها، وقتل جماعة من عسكر القعيطيّ، وأسر ثمانية عشر منهم، ولم يقتل من أصحابه إلّا أربعة فقط، وطفق يتجاذب الحبال مع الدّولة القعيطيّة حتّى استعانوا عليه بالطّائرات الإنكليزيّة، فأضرّت بمكانه الواقع على مقربة من غيل ابن يمين، ولم يخضع مع ذلك.

وفي نحو سنة (1358 ه‍): كمن ولده في جماعة من الحموم بالمكان المسمّى حرو، فجاءتهم ثلّة من العساكر القعيطيّة في سيّارات، يتقدّمهم يافعيّ شجاع، يقال له: محمّد محسن السعديّ، فتبادلوا الرّصاص، لكن كانت يافع أثبت وأنفذ سلاحا، فاستأصلوهم قتلا، فانكسف بال عليّ بن حبريش، واستولى عليه الفراش، ومات غبنا.

وكان أهل الشّحر يلاقون عناء من قلّة الماء، فأجراه إليهم السّلطان غالب من تبالة، فاستراحوا بذلك.

وفي أيّامه انعقدت بينه وبين سلاطين آل كثير صاحب سيئون وصاحب تريم المعاهدة المشهورة ذات الإحدى عشرة مادّة، المحرّرة (27) شعبان سنة (1336 ه‍) وقد اعترفوا في المادّة الأولى منها بانسحاب حكم الحماية الإنكليزيّة عليهم.

ولقد بذلت جهدي في تحذير السّلاطين الكثيريّين ونصحهم عن الموافقة عليها، وذكرت لهم ما في ذلك من الوزر والخسر بما هو مبسوط في «الأصل»، ولكنّ السّيّد حسين بن حامد المحضار ألحّ في ذلك بسعي شديد، وجهد جهيد، وساعده ناس من أهل الثّروة.. فتمّ له ما أراد، ومعروف ومشهور ما لي في ذلك من المنظوم والمنثور.

وكانت بيني وبين السّلطان غالب هذا مودّة لو لا مكايدة السّيّد حسين بن حامد لها.. لكانت قويّة، وبيني وبينه مكاتبات ممتعة ذكرت بعضها في «الأصل»، ولي عليه عهود موثّقة بالنّصر على كلّ من عاداني، وبالإعفاء من الرّسوم عن ستّين طردا في كلّ عام، وبمرتّب سنويّ زهيد، ومع ذلك.. فقد كان وزيره المرحوم السّيّد حسين بن حامد المحضار يراوغني فيها، ويمانع العمل بها.

ولمّا توفّي.. أرسلتها إلى عند ولده السّيّد أبي بكر بن حسين أطالبه بإجرائها وتنفيذ ما فيها، فلم يردّها إليّ رأسا، وظنّها النّسخة الوحيدة، ولكن كانت عندي صورتها بإمضاء السّلطان غالب والسّيّد حسين، وشهادة السّيّد محمّد بن عبد الله بن هادون بن أحمد المحضار، والأمير عليّ بن صلاح، وطالما ذكّرت بها العلّامة السّلطان صالح بن غالب، فقلت له أمام الملأ: أهذه المعاهدات صحيحة معمول بها، أم تعتبر لاغية؟! فأجاب بصحّتها والتزام تنفيذها، وكان ذلك بمرأى ومسمع من وزيره المكرّم الفاضل سيف بن عليّ آل بو عليّ.

وقد تقدّمت إلى السّلطان صالح في سنة (1355 ه‍) بقصيدة [كما في «الدّيوان» ق / 167 ـ 169 من الطّويل] تزيد عن مئة وعشرين بيتا لم تعد فيها قافية، وأنشدتها له مرّات، أولاها بالمكلّا عامئذ، والثّانية بحورة في سنة (1360 ه‍)، والثّالثة بمنزلي في سنة (1365 ه‍). منها:

«وبين يدينا شرعة لا تزيدها *** تجاريب ذي عقل ولا عقد مؤتمر»

«هي القدّة المثلى العليّ منارها *** أتتنا بها غرّ الأحاديث والسّور »

«وحسبك بالإفرنج فالخطّة الّتي *** بها المشي فيما يحكمون به استمر»

«مدوّنة في الأصل من قول مالك *** وسائل تجدها في التّواريخ والسّير»

«ولكنّ أهل العلم والدّين داهنوا *** وباعوا حقوق الله بالماء والشّجر»

«فلن تلق منهم من نهى عن قبيحة *** ولا من بمعروف على مكره أمر»

«إذا انتهك الإسلام أغضى زعيمهم *** وإن أخذت شاة له اهتاج واستعر »

«فما شأنهم إلّا التّصنّع والرّيا *** وأعجب ما تلقى النّفاق لدى مضر»

«نفاق وأخلاق دقاق وذلّة *** بها شوّه الإدبار أيّامنا الأخر»

«تولّى الوفا والصّدق فاندكّ مجدهم *** وراحت عليهم كلّ مكرمة هدر»

«يقولون ما لا يعملون تصنّعا *** سواسية من قال شعرا ومن نثر»

«وقد كانت الآباء من قنّة العلا *** بشأو حثى في وجه كلّ من افتخر »

«تزلّ الوعول العصم عن قذفاتهم *** وكم من عقاب في مراقيهم انكسر »

«مضوا شهداء الحقّ في نصرة الهدى *** وما برحوا في هجرة وعلى سفر»

«ومن آل قحطان رجال على الوفا *** مضوا بسلام ذكرهم طاب واشتهر»

«إذا عاهدوا وفّوا العهود وإن دعوا *** أجابوا ولو كان الظّلام قد اعتكر»

«كرام يهابون الملام، ولذعة ال *** كلام لهم أشوى من الصّارم الذّكر »

«وجاءت خلوف سخنة العين بعدهم *** مشائيم قد ضمّوا إلى العجر البجر »

«مذاميم تطويل الإزار من العلا *** لديهم، وتصفيف الملابس والطّرر»

«إذا عقدوا عقدا وقالوا مقالة *** فلا عقدهم يرجى ولا القول يعتبر»

«فآه من الشّؤم الّذي مسّنا بهم! ! *** وآه على عقد الكرام الّذي انتثر! ! »

«ولمّا نصرت الحقّ بين بني أبي *** رأوا أنّه الذّنب الّذي ليس يغتفر»

«فدانوا ببغضي واستهانوا بحرمتي *** وكم قصدوني بالأذايا وبالضّرر»

«وكم حطّ من قدري حسود فلم ينل *** علاي لأنّي صنت نفسي عن القذر»

«فإن جاء عنّي فاسق بنميمة *** وألصق بي عيبا وأرجف وافتجر»

«فقولوا له: قابل، فذا هوّ حاضر *** وغبّ التّلاقي يعرف الصّفو والكدر»

«يعيبونني غيبا وأعلن ذمّهم *** وليس سواء من أسرّ ومن جهر»

«نناشدك الإسلام والحرمة الّتي *** نؤمّل فيها أن نلوذ إلى وزر»

«ولي بخصوصي في الذّمام وثائق *** أبوك بها ـ حيّاه مولاه ـ قد أقرّ»

«وأمضى بمرأى من رجال ومسمع *** عليها وعندي خطّه الآن مستطر»

«وأكّد إحداهنّ توقيعكم بها *** وشاع لدى أهل المدائن والوبر»

«فما بيّ من هضم يمسّ بمجدكم *** وأنت الحميّ الأنف والأمر قد ظهر»

«أترضى على هذا بواش يقول لي: *** كلام القعيطيّ الّذي قاله قصر؟! »

وكان الاقتصار أحقّ بالاختصار، لكن أخذ الكلام برقاب بعضه، واقتضاه سوق الحفيظة، والاستنجاز في هذا المعرض المناسب.

وقد توفّي السّلطان غالب بن عوض في سنة (1340 ه‍) ودفن بجانب أبيه بمقبرة أكبر شاه بحيدرآباد الدّكن.

وقد رثيته عن وجدان صحيح وودّ صادق، بقصيدة توجد بمكانها من «الدّيوان»

ورثاه شيخنا العلّامة ابن شهاب بأبيات، منها:

«جاء تاريخ موته *** عظّم الله أجركم »

وما سمعنا بسلطان بكته رعاياه بدموع حارّة، وأحزان متواصلة.. مثله، ولا جرم؛ فقد قال أبو الطّيّب [في «العكبريّ» 1 / 49 من الطّويل]:

«ومن سرّ أهل الأرض ثمّ بكى أسى *** بكى بعيون سرّها وقلوب »

وقال يزيد المهلّبيّ [من البسيط]:

«أشركتمونا جميعا في سروركم *** فلهونا إذ حزنتم غير إنصاف »

وخلفه أخوه السّلطان عمر بن عوض، وكان ثقة، حازما، صادقا، شجاعا، غيورا، وله وفادات مكرّرة إلى مكّة المعظّمة والمدينة المشرّفة، يتواتر عنه فيها ما يدلّ على صحّة الإيمان وقوّة الدّين، ولئن اتّهم بتقصير في العبادة، وانحراف في السّيرة.. فالنّدم أمارة صدق التّوبة.

وبقي على وزارته السّيّد حسين بن حامد المحضار، إلّا أنّه لم يكن في أيّامه وافر الحرمة نافذ الكلمة واسع الجاه، كما كان في أيّام السّلطان غالب الّذي لا يعترضه في أيّ أمر كان، بل يفوّض إليه الأمور تفويضا أعمى.

أمّا السّلطان عمر.. فقد أسمعه ما يكره، حتّى لقد أخبرني السّيّد محمّد بن عبد الله بن هادون بن أحمد المحضار: أنّ السّيّد حسين بن حامد قال لولده أبي بكر وهو على فراش الموت: (إنّني قتيل عمر بن عوض).

ولمّا مات السّيّد حسين في آخر سنة (1345 ه‍).. أبقى السّلطان عمر ولده أبا بكر، ثمّ عزله، ولم يثرّب عليه، ولم يؤذه في حال ولا مال.

واستوزر بعده المكرّم سالم بن أحمد القعيطيّ، وجعله موضع ثقته وأمانته.

توفّي السّلطان عمر بن عوض أواخر سنة (1354 ه‍) بحيدرآباد الدّكن، وخلفه العلّامة الجليل السّلطان صالح بن غالب، وكان غزير المادّة في العلم، كما تشهد له بذلك مؤلّفاته المنقطعة النّظير، وقد سبق في المكلّا شغفه بالعلم، وإنفاقه على المدارس ما يوازي ربع حاصلات البلاد بالتّقريب.

وقد تجدّدت بينه وبين الحكومة البريطانيّة معاهدة في الأخير ـ لعلّها في سنة (1358 ه‍) ـ قبل فيها أن يكون له مستشار إنكليزيّ، وعذره فيما يظهر: أنّ بعض آل حضرموت أكثروا الزّراية على وزارته، وتمضّغوها في الجرائد بحقّ وبغير حقّ، وأغدقوا العرائض في ذلك على دار الاعتماد بعدن، وعند ما أحسّ بالإصغاء إليها مع تردّد رجال الحكومة الإنكليزيّة إلى حضرموت ونزولهم على الرّحب والسّعة بأكثر ممّا يوافق هواهم، ويملأ رضاهم، ويوطّىء لهم المناكب، ويفتح لهم الأبواب.. لم يسعه ـ مع ما عرفه من الأحابيل المنصوبة له ولولده من بعده، مع حرصه على توثيق الأمر له ـ إلّا أن يقول بلسان حاله: (إذا سعيتم في موالاة الحكومة الإنكليزيّة برجل.. طرت فيها بجناح)، فكان ما كان، إلّا أنّه تنازل لهم عن أكثر ممّا التزمه.

ولقد كان السّلطان الكثيريّ ـ مع نزول درجته عنه وصغر مملكته بتفاوت عظيم ـ لا يزال ينازعهم، وقلّما يشتدّ في أمر إلّا وافقوه عليه، فتراه يتحمّل مع اتّساع ملكه ما لا يتحمّله الكثيريّ، والسّلطان صالح محبوب عند النّاس، مفدّى بالأرواح من سائر الأجناس:

«هو الملك الّذي جمعت عليه *** على قدر محبّات العباد»

«تولّته القلوب وبايعته *** بإخلاص النّصيحة والوداد »

وهو كآبائه، محبّ بنفسه للعدل، بعيد من الظّلم، إلّا أنّه يرخي الأعنّة للحكّام وللعمّال. وبما عرفوا من انبنائه على العفو الواسع، والحلم الشّامل.. أخذوا يتبسّطون في المظالم، ونخاف أن يخلقوا له بأعمالهم الّتي هو منها براء بغضا في القلوب من دون جناية فعلية، ولا نجاة من ذلك الخطر إلّا بأن يأخذ هو ووزيره بسيرة ابن الخطّاب في مراقبتهم وبثّ الأرصاد عليهم، حتّى إنّه ليصبح وكأنّما بات مع كلّ واحد في فراشه، تأتيه أخبارهم بدون غشّ في كلّ ممسى ومصبح، ويقول: (لو ضاعت ناقة بشاطىء الفرات.. لكان المسؤول عنها آل الخطّاب) وما يعني إلا نفسه، ويقول: (لو عثرت دابّة كانت التّبيعة عليّ)، قيل له: (ولم).. قال: (لأنّ من واجبي تعبيد الطّرقات) أو ما يقرب من هذا.

وتلك هي سيرة أزدشير بن بابك، وقد تقيّلها معاوية بن أبي سفيان، وزياد بن أبيه، فانتظمت الأمور، واندفعت الشّرور، وانعدم الجور، وإنّني لأتمنّى أن يتسمّتها هذا السّلطان ووزيره؛ لتثلج الصّدور، وتبرد الخواطر، وتبقى على انعقادها بمحبّتهم القلوب؛ إذ لا أنصر للسّلطان من أفئدة تمتلىء بودّه، وألسنة تهتف بشكره، وفّقنا الله وإيّاهم لما فيه خير الإسلام والمسلمين.

ولقد كانت الحكومة القعيطيّة في أيّام السّيّد حسين بن حامد أحبّ من جهة إلى النّاس منها اليوم، لا لأمن ينبسط، ولا لعدل ينتشر، ولا لخير يعمّ، ولا لشرّ يندفع، ولا لعطاء يرجى، ولا لسيوف تخشى، ولكن لخصلة واحدة، وهي: جبر القلوب، وأخذ الخواطر، وحلاوة اللّسان، والمقابلة بالتّرحيب والمعانقة، وإن زاد على ذلك شيئا.. فما هو إلّا كرم الضّيافة، حسبما قلت له في القصيدة الآتي خبرها في أحوال سيئون السّياسيّة [من البسيط]:

«ملكت قسرا قلوب النّاس قاطبة *** بخفّة الرّوح والأخلاق والحيل »

«وبالكلام الّذي نيط القبول به *** مع العناق لدى التّوديع والقبل »

وإنّما قلت: من جهة؛ لأنّ الجور في بعض الأماكن؛ كوادي الأيسر لعهده تكاد تنشقّ الأرض منه، وتخرّ الجبال هدّا، ومفاسد الاستبداد إذ ذاك فوق التّصوّر.

فإنكاري على عمّال الحكومة القعيطيّة جدّ شديد في جورهم وتنكّرهم للمناصب ولرؤساء يافع وآل تميم وآل كثير وغيرهم من حلفاء السّلطان القعيطيّ وأشياعه.

وقد كان السّبب الأكبر في سقوط دولة آل مروان: إدناء الأعداء، وإبعاد الأولياء؛ إذ صار الوليّ عدوّا بالإقصاء، ولم يعد العدوّ وليّا بالتّقريب.

وقد اتّفق أنّ بعض العمّال في سنة (1366 ه‍) أخذ أهل دوعن بالشّدّة والعنف، وحاول أن يضغط على سيبان وآل العموديّ والسّادة، ولم يدر أنّ الضّغط يورث الانفجار، فكانت النّتيجة أن تحالفت بطون سيبان من نوّح والحالكة والخامعة والمراشدة والقثم وآل باخشوين وآل باعمروش وآل نهيم، ودخلت معهم الدّيّن وناس من الحموم على إعلان الثّورة عندما يريد أحدهم عمّال الحكومة بالظّلم، وتعاقدوا أن لا يجيبوا باغي هضيمتهم إلّا بألسنة البنادق، وقالوا بلسان حالهم:

«إذا الملك الجبّار صعّر خدّه *** مشينا إليه بالسّيوف نخاطبه »

وعقدوا بينهم عهدا وثيقا وحلفا أكيدا، من قواعده: أن لا وفاء ولا بياض وجه لمن تأخّر عنه أو خاس به إلّا دفع ألف ريال وقتل أحد أقربائه على عوائدهم الجاهليّة.

وكان ذلك أواخر سنة (1366 ه‍) ببضه، وشهده الفاضل السّيّد علويّ بن محمّد بن أحمد المحضار، وأبو بكر بن حسين المحضار، وأحد السّادة آل البار.

فلم يكن من الحكومة إلّا أن عزلت ذلك وعملت بسياسة معاوية بن أبي سفيان؛ إذ يقول: (لو كانت بيني وبين النّاس شعرة.. لم تنقطع؛ لأنّهم إن شدّوا.. أرخيت، وإن أرخوا.. قبضت)، ونعمّا فعلت الحكومة بذلك؛ لأنّه إذا التقى السيفان.. ذهب الخيار، ولكن الصّيف ضيّعت اللّبن؛ إذ لم يكن إلّا بعد أن خسرت من الهيبة، وفقدت من الأبّهة ما لا يمكن تلافيه إلّا بتحمّل منّة تتفسّخ منها القوائم لحكومة عدن، مع أنّها كانت في غنى عن ذلك؛ لانعقاد القلوب على محبّة السّلطان، لعفّته عن أموال النّاس.. فلا يحتاج إلى العنف إلّا اللّثام الّذين لا يصلحهم غيره.

«ووضع النّدى في موضع السّيف بالعلا *** مضرّ كوضع السّيف في موضع النّدى »

ولو أنّ عمّال القعيطيّ سايسوا الكرام من سيبان والعموديّ بالرّفق.. لاستقام الحال، وانحلّ الإشكال؛ إذ الكرام كما قال الأوّل:

«قوم إذا شومسوا لجّ الشّماس بهم *** ذات العناد وإن ياسرتهم يسروا »

وقال سعيد بن ناسب [من الطّويل]:

«وما بي على من لان لي من فظاظة *** ولكنّني فظّ أبيّ على القسر»

هذا ما يحسن أن يعامل به الكرام، أمّا الرّذال.. فلا يصلحهم إلّا ضرب القذال وبمثل ذلك جاء القرآن العظيم، وسار عليه الشّارع الحكيم، ومعاذ الله أن يصلح آخر هذه الأمّة إلّا ما أصلح أوّلها، ولا معرفة لي تكفي اليوم للحكم بحال القوم، ولكنّ من يردني من آل العموديّ وآل العطّاس يحدّثني عن شهامتهم ونخوتهم بما يبعد معه أن تذلّل معاطسهم الخطم، وقد قال بعض شعرائهم المتأخّرين ـ واسمه سعيد بن سالم بانهيم المرشدي ـ:

«لا حق بامدّه ولا منقود *** ولا شريعه عند قاضي »

«لمّا يغلّق كسبي الموجود *** هفوه لهم والقلب راضي »

ولا أشنوعة عليه بالتّمدّح بالامتناع عن استدعاء القضاة؛ لأنّهم لصوص.. فله من جورهم مخرج عن هذا، وفيه شبه من قول بعض الأوائل [من الطّويل]:

«بني عمّنا لا تذكروا الشّعر بعدما *** دفنتم بصحراء الغميم القوافيا »

«فلسنا كمن كنتم تصيبون سلّة *** فنقبل ضيما أو نحكّم قاضيا »

«ولكنّ حكم السّيف فينا مسلّط *** فنرضى إذا ما أصبح السّيف راضيا »

ولا أذكر قائلها الآن، ولكنّني أعرف أنّ موسى بن المهديّ تمثّل بها لمّا جيء برأس الحسين بن عليّ بن الحسن المثنّى، وجعل يوبّخ من أسر من أصحابه ويقتلهم.

والحسين هذا هو الفخي نسبة إلى محلّ واقعته، وهو بمكّة أو قريب منها، أو هو وادي الزّاهر.. فكلّ ذلك قيل، وهي أقوال متقاربة.

ولطالما حدّثني الواردون عن شهامة أولئك، غير أنّ قياس المشاهدة على ما نعرف من قبائل بلادنا.. يجعل السّعي مهلا، والصّعب سهلا، والعسر إلى المياسرة.

وبعد أن فرغت من هذا الكتاب بشهور أخبرني غير واحد بأنّ أحد رؤساء آل ماضي ـ وكان يحطب في حبل الحكومة ـ ابتزّ امرأة رجل غائب بالهند، ولمّا حضر.. امتلأ غيظا ـ وفيما دون هذا يحمى أنف الكريم ـ فلم يبخل بالمال في سبيل غسل العار، فقتل ذلك الباغي في بلاده، واتّهم بقتله اثنان من آل باصليب، فجهّزت عليهم الحكومة نحو سبع مئة جنديّ بدبّاباتهم فما دونها من الآلات والأسلحة والعتاد، فصبر لهم رئيس آل باصليب، وكان شهما، وأبلى فيهم أحسن البلاء، ثمّ قتل، وأشبل عليه أخوه وابنه فأصيبا، ولكنّهما احتملاه، رحمة الله عليه، لقد مات شهيدا وأبقى ذكرا مجيدا:

«فتى مات بين الطّعن والضّرب ميتة *** تقوم مقام النّصر إن فاته النّصر »

«وقد كان فوت الموت سهلا فردّه *** إليه الحفاظ المرّ والخلق الوعر »

«ونفس تعاف العار حتّى كأنّما *** هو الكفر يوم الرّوع أو دونه الكفر»

وكان كلّ ذلك ـ حسبما يقال ـ بخيانة من بعض آل باصليب أنفسهم، ثمّ لم يكن من الحكومة إلّا إهانتهم، وأخذ أسلحتهم.

وبإثر هذه الحادثة تراخى أمر ذلك الحلف؛ إذ تقنّعت الأحلاف، ولم يلبّ صوت المقدّم سعيد باصليب إلّا المشاجرة، جاؤوا من يبعث ونواحيها في نحو سبع مئة رام، يتقدّمهم باشقير، ولكن بعد ما سبق السّيف العذل، وفرغوا من سعيد باصليب.. فعادوا أدارجهم.

وكان عند آل العموديّ بعض مأجوري الحكومة يشاغلونهم بالكلام، حتّى قضي الأمر، وما أظنّه إلّا يتساوى النّاس، ويصحّ القياس.

وقال الطّيّب بامخرمة في التّعريف بالشّحر: (سمّيت الشّحر بهذا الاسم لأنّ سكّانها كانوا جيلا من المهرة يسمّون: الشّحرات ـ بالفتح وسكون الحاء المهملة وفتح الرّاء، ثمّ ألف، فحذفوا الألف وكسروا الشّين، ومنهم من لم يكسرها، والكسر أكثر ـ وتسمّى: الأشحار أيضا؛ كالجمع. وتسمّى: الأشغاء؛ لأنّه كان بها واد يسمّى الأشغا، كان كثير الشّجر، وكان فيه آبار ونخيل، وكانت البلاد حوله من الجانب الشّرقيّ، والمقبرة القديمة في جانبه الغربيّ.

وتسمّى أيضا: سمعون؛ لأنّ بها واد يسمّى بذلك، والمدينة حوله من الشّرق والغرب، وشرب أهلها من آبار في سمعون. وتسمّى: الأحقاف أيضا.

وقد ذكر هذه الأسماء النّقيب أبو حنيفة، واسمه أحمد، كان من أولاد أحد تجّار عدن، ثمّ صار نقيبا لفقراء زاوية الشّيخ جوهر، ثمّ عزم إلى الشّحر، وامتدح سلطانها عبد الرّحمن بن راشد بأشعار كثيرة، معظمها على البال بال، وهو الّذي يسمّيه أهل حضرموت الدان دان.

وخرج من الشّحر جماعة من العلماء الفضلاء؛ كآل أبي شكيل، وآل السّبتيّ، وآل بن حاتم، وغيرهم. وإليها ينسب خلق كثير؛ منهم: محمّد بن معاذ الشّحريّ، سمع من أبي عبد الله الفزاريّ. والجمال محمّد بن عمر بن الأصفر الشّحريّ، سمع منه القواضي بماردين سنة «680 ه‍».

ومن شحر عمان: عمرو بن أبي عمر الشّحري، أنشد له الثّعالبيّ شعرا في «اليتيمة» اه

وقد أطلت القول على الأشحار ب «الأصل»، ومتى عرفنا أنّه من أسماء الشّحر.. انحلّ المشكل عليّ فيه، فهذا ممّا يستدرك على ما هناك.

وطالما استشكلت قولهم: (إنّ المظفّر هو الّذي جعل الشّحر مدينة)، مع عاديّ عمرانها، وتقادم أخبارها، والمفهوم: أنّها كانت مدينة عامرة ثمّ اندثرت حتّى عمّرها المظفّر، فهذا الجمع متعيّن.

ومرّ أوائل هذه المسوّدة عن ياقوت ذكر محمّد بن خويّ بن معاذ، ولكنّ الطّيّب بامخرمة نسبه إلى جدّه ولم يذكر أباه.

وقال الطّيّب أيضا في مادة (ذبحان)

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


26-التوقيف على مهمات التعاريف (الذهول)

الذهول: شغل يورث حزنا ونسيانا.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


27-التوقيف على مهمات التعاريف (العارية)

العارية: فعلية من المعاورة وهي الاستعارة. ولهذا يقال تعاورنا العواري. وقول الجوهيري إنها من العار لأن دفعها يورث المذمة والعار كما قيل في المثل قيل للعارية: أين تذهبين؟ قالت: أجلب إلى أهلي مذمة وعارا. قال الراغب إنه لا يصح من حيث الاشتقاق، فإن العارية من الواو بدلالة تعاورنا، والعار من الياء لقولهم عيرته بكذا. وفي المصباح: هو غلط لأن العارية من الواو.

وشرعا: إباحة لانتفاع من عين يمكن بقاؤها مدة استيفاء الانتفاع منها بإيجاب وقبول.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


28-التوقيف على مهمات التعاريف (المزدارية)

المزدارية: أتباع أبي موسى عيسى المزدار، قال: الناس قادرون على مثل القرآن وأحسن منه نظما وبلاغة، وكفر القائل بقدمه، وقال: من لازم السلطان كافر لا يرث ولا يورث.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


29-العباب الزاخر (حبس)

حبس

الحَبْسُ: ضِدُّ النَّخلِيَة، يقال: حَبَسْتُه أحْبِسُه حَبْسًا ومَحْبَسًا -بفتح الباء-.

والحَبْس -أيضًا-: الشجاعة.

والحَبْسُ -بالفتح؛ ويقال: بالكسر-: موضِعٌ، وقيل: جَبَلٌ، وبالوجهين يُروى قول الحارِث بن حِلزَة اليَشكُري:

«لِمن الدِّيارُ عَفَوْنَ بالحبْسِ *** آياتُها كمَهَارِقِ الفُرْسِ»

وكذلك بالوجهين يُروى قول بِشر بن أبي خازم الأسدي:

«وأصعَدَتِ الرِّبابُ فليسَ منها *** بصَاراتٍ ولا بالحبْسِ نارُ»

وقال أبو عمرو: الحَبْسُ: الجبل العظيم، وأنشَدَ:

«كأنَّه حَبْسُ بِلَيلٍ مُـظْـلِـمُ *** جَلّلَ عِطْفَيْهِ سَحابٌ مُرْهِمُ»

«عَجَنَّسٌ عُرَاهِمُ عَجَمْجَـمُ»

قال ثعلب: وقد يكون الجبل حَبْسًا: أي أسْوَدَ؛ وتكون فيه بقعة بيضاء.

وكلأٌ حابِس: إذا كان غامِرًا لا تتجاوزه راعية لاخضراره.

وحابِس بن سعد الطائي، وحابِس أبو حيّضة التَّميمي، والأقرع بن حابِس بن عقال الدّارِميُّ -رضي الله عنهم-: لهم صحبة، وكان الأقرع عالِم العَرَب في زمانه، قال عمرو بن الخُثارِم البَجَلِيُّ:

«يا أقرع بن حابِـسَ يا أقـرع *** إنّي أخوكَ فانُظرًا ما تَصْنَع»

«إنّك إن يُصرَعُ أخوك تُصرَع»

والحُبْسَة- بالضم-: الاسم من الإحتباس، يقال: الصمت حُبْسَة.

وقال المُبَرَّد: الحُبسَة: تعذُّر الكلام عند إرادته، والعُقلَة: التواء اللسان عند إرادة الكلام.

وحَبَسْتُ فَرَسًا في سبيل الله؛ فهو محبوس وحبيس.

وحَبيسٌ: موضِع بالرّقَّة فيه قبور قوم ممن شَهِدَ صِفِّين مع علّيٍ رضي الله عنهم-.

وذاةُ حَبيسٍ: موضع بمكَّة -حرسها الله تعالى- وهناك الجبل الأسود الذي يقال له: أظلم.

وفي النوادر: جعلني فلان رَبيطَة لكذا وحَبيسَة: أي يَذهَب فيفعل الشيء وأُوخَذُ به.

والحِبسُ -بالكسر-: خَشَبَة أو حجارة تُبنى في مجرى الماء لِتَحبِسَ الماء فيشرب القوم ويَسْقوا أموالَهم، قال:

«فَشِمْتُ فيها كَعَمودِ الحِبْسِ»

وقال أبو عمرو: الحِبْسُ: مثل المَصْنَعَة، وجمعُه أحْباس، يُجعَل للماء.

والحِبْسُ: الماء المستنقِع.

وقال ابنُ عبّاد: الحِبْسُ: الماء المجموع لا مادة له.

وقال ابن الأعرابي: الحِبْس: حجارة تكون في فُوَّهَة النهر تمنع طُغيان الماء. وقال العامري: الحِبْس: صِنعٌ يصنع للماء ويُدسُّ عَمود في شِعْبِه، قال: وقد يقال بالفتح.

وقال الليث: حَبَسْتُ الفِراشَ بالمِحبَسِ: وهو المِقرَمَة. وكذلك الحِبْسُ عن غَيره: للثوب الذي يُطرَح على ظهر الفراش للنَّوم.

والحِبْس- أيضًا-: نِطاق الهَودَج.

والحِبْس: سِوار من فِضَّة يٌجعل في وَسَطِ القِرام، وهو سِتر يُجمَع به ليضيء البيت.

وبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- أبا عبيدة بن الجرّاح- رضي الله عنه- يوم الفتحِ على الحُبُسِ -بضمَّتين- أو الحُبَّسِ -مثال رُكَّعٍ- أو الحُسَّرِ. وهم الرَّجَّالة عن القُتْبيّ قال: سُمُّوا بذلك لِتَحَبُّسِهِم عن الرُّكبانِ وتأخَّرهم، قال: وأحسِب الواحد حبيسًا، فَعيلٌ بمعنى مفعولٍ، ويجوز أن يكون واحِدُهُم حابِسًا؛ كأنَّهُ يحبِسُ من يسير من الرُّكبان بمَسيرِه.

وفي حديث شُرَيح بن الحارث: جاء محمد -صلى الله عليه وسلّم- بإطلاقِ الحُبُسِ. هي جَمْعُ حَبيسٍ، أراد ما كان أهل الجاهلية يحبِسونها من ظهور الحوامي والسوائِب والبَحائِر وما أشبهها، فنزل القرآن بإحلال ما حرَّموا منها فذلك إطلاقُها.

والحُبُسُ -في غير هذا-: كلُّ شيء وَقَفَه صاحبُه وّقفًا مؤبَّدًا من نخلٍ وكرم، يَحبِس أصله ويُسَبِّلُ غَلَّتَه. ومن ذلك ما رُوِيَ أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلَّم- ندب الناس إلى الصدقة، فقيل له: قد مَنَعَ أبو جَهَم وخالِد بن الوليد والعبّاس، فقال: أمّا أبو جَهْم فلم يَنتَقِم منّا إلاّ أنْ أغْناهُ الله ورسوله من فضلِه، وأمّا خالد بن الوليد فإن الناس يظلِمونَ خالدًا؛ إنَّ خالدًا قد جعل رَقيقَه وأمواله وأعْتُدَهُ حُبُسًا في سبيل الله، وأما العبّاس فإنَّها عليه ومثلُها مَعَها. المعنى: أنّه كان أخَّرَ عنهُ الصدقة عامين، وليس وجهُ ذلك إلاّ أن تكون حاجَةٌ بالعبّاس -رضي الله عنه- إليها. والأعتُدُ: جمع العتاد؛ وهو ما يُعِدُّه الإنسان من آلةِ الحرب.

والحبائسُ: الإبلُ التي كانت تُحبَسُ عند البيوت لكرمها، قال ذو الرمّة يصِفُ فَحلًا:

«سِبَحْلًا أبا شَرْخَيْنِ أحيا بناتِـهِ *** مَقَاليتُها فهيَ اللُّبابُ الحَبَائسُ»

وحُبسانُ -مثال عُثمان-: ماءٌ غربيَّ طريق الحاج من الكوفة.

وأحْبَسْتُ فَرَسًا في سبيل الله: أي وقَفتُ؛ فهو مُحبَس وحَبيس. قال ابنُ دُرَيد: وهذا أحدُ ما جاء على فَعيل من أفعَل.

وحبَّستُ الفِراشَ بالمِحْبَسِ تَحْبيسًا: أي سَتَرتُه به، مِثْلُ حَبَسْتُهُ حَبْسًا.

وتَحبيس الشيء: ألاّ يورَثَ ولا يُبَاع ولا يوهَبَ، لكن يُتْرَك أصلَهَ ويُجعَل ثَمَرُهُ في سبيل الله.

واحتَبَسَ الشيء، مثل حَبَسَهُ، واحْتَبَسَ -أيضًا- بنَفْسِه، يتعدّى ولا يتعدّى.

وتحبَّسَ على كذا: أي حَبَسَ نفسه على ذلك.

وحابَسَ الرجل صاحِبَه، قال العجّاج:

«إذا الولوعُ بالوَلُوعِ لَـبَّـسـا *** حَتْفَ الحمامِ والنُّحوسِ النُّحَّا»

«وحابَسَ الناسُ الأمورَ الحُبَّسا *** وجَدْتَنا أعزَّ مَنْ تَنَـفَّـسـا»

العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م


30-القاموس المحيط (جزع)

جَزَعَ الأرضَ والواديَ، كمنع: قَطَعَه، أو عَرْضًا.

والجَزْعُ، ويكسرُ: الخَرَزُ اليَمانِيُّ الصينيُّ، فيه سوادٌ وبَياضٌ، تُشْبَّهُ به الأعْيُنُ، والتَّخَتُّمُ به يورِثُ الهَمَّ والحُزْنَ والأَحْلامَ المُفَزِّعَةَ ومُخَاصَمَةَ الناسِ، وإن لُفَّ به شعَرُ مُعْسِرٍ وَلَدَتْ من ساعَتِها، وبالكسر ـ وقال أبو عُبَيْدَةَ: اللائِق به أن يكونَ مَفْتوحًا ـ: مُنْعَطَفُ الوادي، ووَسَطُهُ، أو مُنْقَطَعُه، أو مُنْحناهُ، أو لا يُسَمَّى جِزْعًا حتى تكونَ له سَعَةٌ تُنْبِتُ الشَّجَرَ، أو هو مكانٌ بالوادي لا شَجَرَ فيه، ورُبَّما كان رَمْلًا، ومَحِلَّةُ القومِ، والمُشْرِفُ من الأرض إلى جَنْبِه طُمَأنينَةٌ، وخَلِيَّةُ النَّحْلِ، ج: أجْزاعٌ،

وة عن يَمينِ الطائِفِ، وأخْرَى عن شِمالِها، وبالضم: المِحْوَرُ الذي تَدُورُ فيه المَحالَةُ، ويفتحُ، وصِبْغٌ أصْفَرُ يُسَمَّى الهُرْدَ والعُروقَ.

والجازِعُ: الخَشَبَةُ توضَعُ في العَريشِ عَرْضًا يُطْرَحُ عليه قُضْبانُ الكَرْمِ، وكُلُّ خَشَبَةٍ مَعْروضَةٍ بينَ شَيْئَيْنِ ليُحْمَلَ عليها شيءٌ.

والجِزْعَةُ، بالكسر: القليلُ من المالِ، ومن الماءِ، ويضمُّ، والقِطْعَةُ من الغَنَمِ، وطائفَةٌ من الليلِ ما دونَ النِّصْفِ من أوَّلِهِ أو من آخِرِهِ، ومُجْتَمَعُ الشجرِ، والخَرَزَةُ، ويفتحُ.

والجَزَعُ، محركةً: نَقيضُ الصَّبْرِ، وقد جَزِعَ، كَفرِحَ، جَزَعًا وجُزُوعًا، فهو جازِعٌ وجَزِعٌ، ككتِفٍ ورجُلٍ وصَبورٍ وغُرَابٍ. وأجْزَعَهُ غيرُهُ.

وأجْزَعَ جِزْعَةً، بالكسر والضم: أبْقَى بقِيَّةً.

وجُزْعَةُ السِكِّينِ، بالضم: جُزْأتُهُ.

وجَزَّعَ البُسْرُ تَجْزيعًا، فهو مُجَزَّعٌ، كمعظمٍ ومحدّثٍ: أرْطَبَ إلى نِصْفِهِ، ورُطَبَةٌ مُجَزَّعَةٌ،

وـ فلانًا: أزالَ جَزَعَهُ،

وـ الحوضُ فهو مُجَزِّعٌ، كمحدِّثٍ: لم يَبْقَ فيه إلاَّ جِزْعَةٌ.

ونَوًى مُجَزَّعٌ، ويكسر: حُكَّ بعضُهُ حتى ابْيَضَّ، وتُرِكَ الباقي على لَوْنِهِ،

وكُلُّ ما فيه سوادٌ وبياضٌ فهو: مُجَزَّعٌ ومُجَزِّعٌ.

وانْجَزَعَ الحَبْلُ: انْقَطَعَ، أو بِنِصْفَيْنِ،

وـ العَصا: انْكَسَرَتْ،

كتَجَزَّعَتْ.

واجْتَزَعَه: كَسَرَه، وقَطَعَه.

والهِجْزَعُ، كدِرْهَمٍ: الجَبانُ، هِفْعَلٌ من الجَزَعِ.

القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م


31-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (رسح)

(رسح) - في حَدِيثِ المُلاعَنَة: "إن جاءَت به أَرسَحَ فهو لِفُلان".

- وفي حَديثٍ آخَرَ: "لا تَسْتَرضِعُوا أَولادَكم الرُّسْحَ، ولا العُمْشَ، فإن اللَّبنَ يُورِث الرَّسحاءَ والرَّصعاءَ والزَّلَّاء ".

الرَّسْحاء: المَمْسُوحَة التي لا عَجِيزَة لها، أو هي صَغِيرة لَاصِقَة، والرَّجُلُ الأَرسَحُ، وقد رَسِحَ رَسَحًا، ومنه يُقالُ لِلذِّئبِ أَرسَح.

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


32-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (رشد)

(رشد) -وفي الحديث: "من ادَّعى ولدًا لغَيْر رِشْدة فلا يرِث ولا يُورَث".

يقال: هذا وَلَدُ رِشْدَة إذا وُلِد لِنِكاحٍ صَحِيحٍ. وفي ضِدَّه: ولد زِنْيَة وبِغْيَة.

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


33-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (سعف)

(سعف) - في حديث عَمَّار، رضي الله عنه: "لو ضَربُونا حتّى يَبلغُوا بنا سَعَفاتِ هَجَر".

هي موضِع يُباعَد، مِثْل حَوْضِ الثَّعلب ومَدَر الفُلفُل، وبَرْك الغِمَاد وذي بِلِّيانِ.

- في حديث سَعِيد بن جُبَير في صفة الجنّة ونَخِيلِها: "كَرَبُها ذَهَب، وسَعَفُها كُسوة أَهلِ الجَنَّة".

السَّعَف: أَغصان النَّخْل إذا يَبِس فإذا كانت رَطْبةً فهى الشَّطْب، الواحدة: شَطْبة، وقد سَعِفَ: أي يَبِس.

- في الحديث: "فَاطِمةُ بَضْعَة منّي يُسْعِفُني ما أَسعَفها".

قال الأصمعي: الإسعافُ: القُربُ، وقَضاءُ الحاجةِ. وقال غيره: أسعَفْتُه: أي أَعنْته. يقال: انطلِقْ مَعِي حتى أُسعِفَ بأهلى: أي أُلِمَّ بهم، فكأنّ معناه يُلِمُّ بي ما أَلَمَّ بها ويُصيِبُني ما أَصابَها، كما في الروايات الأخر.

- في الحديث: "أنه رأى جارِيَةً في بيت أُمَّ سَلَمة, رضي الله عنها، بها سَعْفة".

ساكنة العين.

قال الحَرْبِىُّ: هي قروح تَخرجُ على رَأسِ الصَّبِىِّ، وهو دَاءٌ يقال له داءُ الثَّعلب يُورِث القَرَع، فهو مسعوف، كذا رواه، والمحفوظ بتقديم الفاء، وحُكِى عن الأزهَرِيِّ أنه قال: سَعْفَةٌ: أي ضرْبَة.

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


34-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (عنا)

(عنا) - في الحديث: "أَنَّه دَخَل مَكّة عَنْوَة"

قال ثَعْلَب: يقال: أَخذتُ الشيءَ عَنْوةً: أي قَهْرًا في عُنْف، وأَخذْتُه عَنْوةً: أي صُلْحًا في رِفْق.

وما رُوي: أَنَّه صَالَح أَهلَ الحُدَيْبِيَة أن لا يدخُلُوا مكّة إلّا بجُلُبَّان السِّلاح"

فإنّما اشترطوا دخوله مكّةَ والسيوف في قُرُبها، ليكون عَلَمًا للسَّلْم والصُّلح؛ إذ كان دُخولُه صُلْحًا. كذا ذكره ثَعلَب. ودخوله بِجُلُبَّان السِّلاحِ كان في عُمْرة القَضاء بدَلًا من يوم الحُدَيْبِية. وما ذُكِر أنَّه دخلَها عَنْوةً، فيَومَ الفَتْح، على أنّه اختُلِف فيه أيضا، إلّا أنّ هَذَا غَيرُ ذاك.

- في حديثِ المِقْدام - رضي الله عنه -: "الخَالُ وارِثُ مَن لَا وَارِثَ له يَفُكُّ عَانَه"

: أي عَانِيَه، فحَذَف اليَاءَ. وفي روَايةٍ: "عُنِيَّه"

يقال: عَنَا يَعْنُو عُنُوًّا وعُنِيًّا، فهو عانٍ، والعَاني: الأَسِير، وفي لُغَة عِنىَ يَعْنَى، ومَعنَى الإسار - ها هنا: ما يَلزَمه وَيتَعلَّق به بِسبَبِ الجنَايَات التي سَبِيلُها أن تتَحَمَّلها العَاقِلَة.

وفي رواية: "يَعقِل عِنه"

وعند مَنْ لا يُوَرِّثُ الخَالَ يَكُونُ معناه: أنه طُعْمَة أُطْعِمُها الخَالُ، لا أن يَكُونَ وَارِثًا.

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


35-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (عيا)

(عيا) - في حَديثِ الزُّهْرِي: أَنَّ بَرِيدًا من بَعضِ المُلوكِ جَاءَه يَسْأَله عن رَجُل مَعَه ما مَع الرَّجُل، وما مَعِ المرأة، كيف يُورَّث؟ قال: من حَيثُ يَخْرج المَاءُ الدَّافِق. فقِيل فيه:

ومُهِمَّةٍ أَعيَا القُضاةَ عُياؤُها

تَذَرُ الفَقِيهَ يشُكُّ شَكَّ الجَاهِلِ

عجَّلتَ قَبلَ حَنِيذِها بشِوَائِها

وقَطَعْتَ مُحْرَدَها بحُكْمٍ فَاصِلِ

العُيَاءُ كالعقَام والعُضَال؛ من عَيِىَ بالأَمْر. والمُجْرَد: المُقَطَّع،

: أي لم تَسْتَأْن بالجَواب، ورَمَيتَ به بَدِيهَةً كَمَنْ نزل به ضيفٌ تَعجَّل قِرَاه بما افْتَلذَ من كَبِدها، واقْتَطع من سَنَامِها، ولم يَحْبِسْه على الحَنِيذِ والقَدِيرِ، وتَعْجِيلُ القِرَى مَحمودٌ عِنْدَهُم.

- في الحَدِيثِ: "شِفَاءُ العِيِّ السُّؤَالُ"

: أي الجَهْل. وقد عَيَّ وعَيِىَ به يَعْيَا عِيًّا.

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


36-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (فقر)

(فقر) - في حديث جابرٍ - رضي الله عنه -: "أَنَّه اشْتَرى منه بَعِيرًا وأَفقَره ظَهْرَه إلى المَدينةِ"

: أي أَعارَه رُكوبَه، مأخوذ من رُكوب فَقَار الظَّهر، والحَمْل عليه؛ وهو خَرزَات الظَّهْر المُتَّصِل بَعضُها بِبَعضِ، ومِثْلُه: أَجْنَبه جَملَه يَغزُو عليه، ومَنحَه شَاتَه يَحلُبُها، وأَقرضَه دَراهِمَ، وأَعمرَه دَارًا وأَعْرَاه نَخلةً، ثم يُسْتَعار بَعْضُه في غير ما وُضِع له.

- وفي حديث آخر: "ما يمنَع أَحدَكم أن يُفْقِر البَعِيرَ مِنْ إِبِله "

- وفي حديث "حُقوقُ المالِ إفْقَارُ الظَّهْرِ ".

- وفي حَديث الأَرضِ: "أَفقِرهَا أَخاكَ"

: أي أَعِرْه إيَّاها، يَعني الأرضَ للزراعةِ، وأصل ذلك في الظَّهْر.

- وفي حديث زَيد بن ثابتٍ - رضي الله عنه: "ما بَيْنَ عَجْب الذَّنَب إلى فِقْرَة القَفَا ثِنْتَان وثَلَاثُون فِقْرَة في كل فِقْرة أَحدٌ وثَلاثُونَ دِينارًا "

- في الحديث: قال لِسَلْمان - رَضي الله عنه -: "اذهَبْ ففَقِّر للفَسِيل، قال: فَقُمتُ في تَفْقِيري وأَعانَني أَصحابِي حتى فَقَّرنا شُربَها."

الفَقِير: الرّكيَّة يقال: فَقَّروا ما حَولَهم: أي حَفَروه. وإذا غُرِسَت الوَدِيُّ في أرضٍ صُلْبَة قيل إنها لا تَكْرُم حتى يُفَقَّر لها.

والتَّفْقِير: أن يُحفَر لها بِئْرٌ ثَلاثًا في ثلاثٍ في خَمْس، ثم تُكبَس بتَرْنُون المَسَايِل وبالدّمن

والتَّرْنُونُ: ما يَبقَى في أَصلِ الغَدِير من الطّين الّليِّن، إذا يَبِس تَكَسَّر، واسم تِلْك الحُفْرَة فُقْرَة، وفَقِير. والفَقِير: الذي يَشْتكي فَقَاره، وبه سُمِّي يَزِيدُ الفَقِيرُ صَاحِبُ جَابِر.

- في الحديث: "عاد البَرَاءُ بن مالك في فَقَارةٍ من أَصحابه"

- وفي حديث عُمَر: "ثَلاثٌ من الفَواقِر"

: أي الدَّواهِي، كأنها تَحطِم الفَقَار، كما يقال: قاصِمَةُ الظَّهْر؛ وقال المبرد: أي ما يُضارِع الفِقَر.

- في حديث عُثْمان: "كان يَشرَب من فَقير في دَارِه "

: أي بِئْر قَلِيلةِ الماءِ. والفِقْرَةُ مِثلُه، والفَقْر: الحَفْر.

- في حديث معاوية أنه أنشد:

لمَالُ المَرْء يُصْلِحُه فَيُغْني

مفَاقِرَه أَعفُّ من القُنُوعِ.

هو جمع فَقْر على غير قِياسٍ، كالمَشَابه والمَلامِح.

ويجوز أن يكون جمع مَفْقَر، مصدر من أَفقره أو مُفْتَقَر بمعنى الافْتِقار، أو مُفْقِر: وهو ما يُورِث الفَقْرَ.

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


37-المعجم الاشتقاقي المؤصل (حبس)

(حبس): {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106].

المحبِس -بكسر الباء، والحابسُ: مثلُ المَصْنعة يُجْعَل للماء (المصنعة ما يسمى الآن خَرَانًا)، حجارةٌ أو حشبٌ تبنَى في مجرى الماء (في واد أو نهر) لتحبسه كي يَشْرب القومْ ويُسْقُوا أموالهم. زِقٌّ حابس: ممسك للماء.

° المعنى المحوري

امتساك الشيء في حيّزٍ لا يتسيب أو ينفذ منه، لسدّ السُمُوم والمنافذ التي يمكن أن يتسرب منها. كإمساك تلك السدود المذكورة الماء. ومن الإمساك عن الانطلاق: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ}،

{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} [هود: 8] ومنه "حَبْس اللص، والمحبِس -بالكسر: مَعْلَفُ الدابة (يحبسها أو يمسك علفها فلا يتبدّد)، والمِقرمة- بالكسر: ثوب يطرح على ظهر الفراش للنوم عليه يحبس الزوائد) و (الحَبْسُ: ما وُقِف لا يورث ولا يباع ولا يوهب، (منع تصرف).

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


38-المعجم الاشتقاقي المؤصل (كلل كلكل)

(كلل - كلكل): {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} [آل عمران: 30]

الكَلّ - بالفتح: قفا السيف والسكين الذي ليس بحادّ. والكليل: السيف الذي لا حدّ له. "الكُلْكُل - بالضم وكتُماضِر: القصير الغليظ الشديد، وبالفتح: صَدْر البعير والفرس وكلِّ شيء.

° المعنى المحوري

تجمُّع الشيء على ذاته فيكثف بلا حِدّةِ حَدٍّ أو طرف دقيق (1) منه: كالسيف الموصوف، وقفا السكين والسيف، وكالقصير الغليظ

يُلْتَفَتُ إلى قصر بدنه وغلظه، لأن التميز بين الرجال يكون بطول القامة لا الأطراف، وكذلك صَدْر البعير والفرس يَنْتَأ قليلًا ثم يعرُض ويغلُظ ويستدير دون نتوء حدٍّ منه. ومن هذا النتوء مع الاستدارة جاء "الإكليل: ما أحاط بالظُفر من اللحم، وشِبْهُ عِصابة (تحيط بالرأس) مُزَيَّنةٍ بالجواهر. وروضةٌ مكَلَّلة كمُعَظَّمة: محفوفةٌ بالنَوْر. وغَمَام مُكَلَّل: محفوفٌ بِقطَعٍ من السحاب " (الاستدارة ارتدادٌ وانثناءٌ للشيء حتى يلتقي بذاته. فهي تجمُّع). وانَكلَّ الرجلُ والمرأة: تبسَّما (في التبسُّم يتقلّص - أي يتجمع - جانبا الفم، وتنفتح الشفتان قليلًا محيطتيْنِ بالأسنان)، والكِلَّة - بالكسر: السِتْر الرقيق يخاط كالبيت يُتَّقى بها من البعوض ". (تحيط بالفِراش فلا تدع شيئًا منه ينتشر عنها).

ومن هذا الأصل، أي من التجمع بلا حِدّة ولا امتداد، جاء الكَلال. "كَلَّ البعيرُ: أعيا من المشي (فتجمَّع - بَرَكَ أو وقف - بلا حدة أي بلا قوة، لا يمتدّ ولا يَذهب) والرجلُ: تَعِبَ. والكَلّ - بالفتح: المصيبة (تسمية بالمصدر)، والذي

هو عِيالٌ وثِقلٌ على صاحبه (عاجزٌ لا يمتد أو يتصرف، ولا قوة - حِدّة - له) {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} [النحل: 76] وكذا "الكَلُّ اليتيمُ ". (محمول على ذاك لفقد الحدّة). ومن ملحظ عدم الامتداد: "الموروث كلالةً لا والد له ولا ولد " (ذهاب أطرافه وامتداده) {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} [النساء: 12].

ومن تجمُّع الشيء على ذاته في الأصل. جاءت كُلّ "بمعنى جميع {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60]، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109]، {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} [البقرة: 20]. (أي كل مرة إضاءة). وكل (كلّ) في القرآن يئول معناها إلى معنى (جميع) هذا. فقوله تعالى {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116] {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 95] معناها كل واحد منهم، فهي أدل على الجمع لأنها تنص على عدم تخلف أي فرد عن الحكم.

ومن ذلك الأصل كلمة "كَلَّا "، ذكروا من معانيها التنبيه [تاج] إلى الكلام الآتي أو لخَطَر الموقف الحالي أي جدّيته. ففي حالة اللفت إلى الآتي يكون فيها معنى الإضراب عما سبق للانتقال إلى أمر آخر، أو لمجرد الانتهاء. وقد تكون للنفي وإبطال قول القائل. وفي حالة اللفت إلى خطر الموقف تُفَسَّرُ بالتحذير وبالإيقاف وبالزجر أي أنها ليست بالضرورة لتنبيه من هو مخطئ على خطئه - كما جاء في [بحر 6/ 201] عند {كَلَّا سَنَكْتُبُ} [مريم: 79]. وفي {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} [عبس: 11] قال [قر 19/ 215] أي لا تفعل بعدها مثلها: ثم أردف [قر] بما يناسب اختياره الجافي لمعنى كلمة (استغنى) قبلها. والذي أرى أن {كَلَّا} في [عبس: 11] للتنبيه إضرابا وهو توقف يؤخذ من الثقل، ونفْيٌ لتجشم مقتضى

الحرص البالغ على أن يقبل كلٌّ دعوته ولو كان من المعرضين المتجبرين. وذلك بدليل تكملة الآية {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} أي أن سور القرآن وآيات القرآن [بحر 8/ 419] للتذكير والتبصير وليست لتتجشم هذا الغضب من مقاطعة الأعمى إياك وأنت تدعوهم {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21] جاء في [الإتقان النوع 40] أن ابن هشام نقد قصرهم معنى (كَلّا) على الردع والزجر بأن هذا لا يصلح في ثلاث آيات ذكرها. وأن تأويلها فيهن بالردع تعسف. ووافقه آخرون قائلين إنه يصح الوقف قبل (كلا) وإنها تكون بمعنى حقا. وأقول إن هذا يتأتى في موضع (عبس) هذا، وحينئذ يتوجه معناها إلى ما بعدها استئنافا. وفي تفسير الرازي [الغد العربي 16/ 219] قال الحسن (البصري) إن جبريل لما تلا آيات أول السورة تغير وجهه - صلى الله عليه وسلم - "فلما قال "كلا "سُرِّي عنه "أقول: وهذا يرجح أنها بمعنى الإضراب والاستئناف، إذ لو كانت زجرًا لازداد تأسفا. والحق ثبوت يؤخذ من الثقل والكثافة في الأصل.

ومن مجيئها بمعنى التنبيه {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6]. لكنها تصلح للردع بناء على سبب النزول الذي ذكروه [بحر 8/ 489] وقد قدّروا مردوعا عنه. [وينظر معجم حروف المعاني 2/ 804، وأخالفه بشأن عبس 11].

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


39-معجم النحو (رب)

ربّ: حرف جر لا يجرّ إلّا النّكرة وهو في حكم الزّائد، فلا يتعلّق بشيء، وقد يدخل على ضمير الغيبة ملازما للإفراد والتّذكير، والتفسير بتمييز بعده مطابق للمعنى كقول الشّاعر:

«ربّه فتية دعوت إلى ما***يورث المجد دائبا فأجابوا»

وهذا قليل.

وإذا لحقتها «ما» الزّائدة كفّتها عن العمل فتدخل حينئذ على المعارف وعلى الأفعال فتقول «ربّما عليّ قادم» و «ربّما حضر أخوك وقد تعمل قليلا كقول عديّ الغساني «ربّما ضربة بسيف صقيل ***بين بصرى وطعنة نجلاء»

والغالب على «ربّ» المكفوفة أن تدخل على فعل ماض كقول جذيمة «ربّما أوفيت في علم»، وقد تدخل على مضارع منزّل منزلة الماضي لتحقق الوقوع نحو {رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} وندر دخولها على الجملة الاسميّة كقول أبي دؤاد الإيادي:

«ربّما الجامل المؤبّل فيهم ***ومعنى «ربّ» التكثير، وتأتي للتّقليل »

فالأوّل كقوله عليه‌السلام: «يا ربّ كاسية في الدّنيا عارية يوم القيامة» والثاني كقول رجل من أزد السّراة:

«ألا ربّ مولود وليس له أب ***وذي ولد لم يلده أبوان »

وقد تحذف «ربّ» ويبقى عملها بعد الفاء كثيرا كقول امرئ القيس:

«فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ***فألهيتها عن ذي تمائم محول »

وبعد الواو أكثر كقول امرئ القيس

«وليل كموج البحر أرخى سدوله ***عليّ بأنواع الهموم ليبتلي »

وبعد «بل» قليلا كقول رؤبة:

«بل بلد ملء الفجاج قتمه ***لا يشترى كتّانه وجهرمه »

وبدونهن أقل كقول جميل بن معمر:

«رسم دار وقفت في طلله ***كدت أقضي الحياة من جلله »

معجم النحو-عبدالغني الدقر-صدر: 1395هـ/1975م


40-معجم النحو (ما برح)

ما برح:

(1) أصل معنى «برح» من «برح المكان» زال عنه، فلما جاءت «ما» النافية أفادت معنى: بقي.

وهي من أخوات «كان» وأحكامها كأحكامها وهي ناقصة التّصرّف، فلا يستعمل منها أمر ولا مصدر، ولا تعمل إلّا بشرط أن يتقدّم عليها: «نفي أو نهي أو دعاء» مثالها بعد النّفي بالحرف {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ} ومنه قول امرئ القيس:

«فقلت يمين الله أبرح قاعدا***ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي »

ومثالها بعد النّفي بالفعل قوله:

«قلّما يبرح اللّبيب إلى ما***يورث الحمد داعيا أو مجيبا»

وتنفرد «ما برح» عن كان: بأنها لا يجوز تقديم خبرها عليها.

(2) وقد تأتي تامّة بمعنى ذهب نحو {وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ} أي لا أذهب (كان وأخواتها)

معجم النحو-عبدالغني الدقر-صدر: 1395هـ/1975م


41-المعجم المفصل في النحو العربي (حروف الجر)

حروف الجرّ

تعريفها: وتسمّى أيضا حروف الإضافة، إنها تضيف أو توصل معاني الأفعال قبلها إلى الأسماء التي بعدها، لأنّ بعض الأفعال توصل عملها مباشرة إلى مفعولها، وبعضها لا تستطيع ذلك فتلجأ الى حروف الجر للوصول اليه، مثل: «نمت في السّرير» وسميت حروف الجرّ بهذا الاسم لأنّها تجرّ الأسماء التي بعدها على لغة البصريين، أو تخفضها على لغة الكوفيين.

2 ـ عددها: حروف الجرّ عشرون وقد عدّدها ابن مالك في البيتين التاليين:

«هاك حروف الجرّ، وهي: من، إلى، ***حتّى، خلا، حاشا، عدا، في، عن، على “

«مذ، منذ، ربّ، اللّام، كي، واو، وتا***والكاف، والباء، ولعل، ومتى»

3 ـ أقسامها: كل هذه الحروف تختص بدخولها على الأسماء فتعمل فيها الجرّ، وهي على ثلاثة أقسام: قسم يلازم الحروف وهو: «من»، «إلى»، «حتى»، «الباء»، «اللام»، «ربّ»، «واو القسم»، «وتاء القسم»، وقسم يكون حرفا أو اسما وهو: «على»، «عن»، «الكاف»، «مذ»، «ومنذ»، وقسم يكون حرفا أو فعلا، وهو «حاشا»، «عدا»، «خلا»، وقلّ استعمال «كي» و «لعل»، و «متى» كحروف جر. ولكل من هذه الحروف معان متعدّدة وأحكام متعددة.

أقسامها من حيث العمل: تقسم حروف الجرّ الأصليّة من حيث العمل إلى قسمين:

الأول: يجر الاسم الظّاهر والضمير وهو سبعة أحرف هي: «من»، «إلى»، «عن»، «على»، «في»، «الباء»، «اللّام»، كقوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} وكقوله تعالى: {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا} وكقوله تعالى: {انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ} وكقوله تعالى: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} وكقوله تعالى: {رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وكقوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ} وكقوله تعالى: {قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} وكقوله تعالى: {وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ} (8) وكقوله تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} وكقوله تعالى: {وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ} وكقوله تعالى: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ} وكقوله تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} وكقوله تعالى: {وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} وكقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ}.

الثاني: يجرّ الظّاهر فقط وهو ينقسم بدوره إلى أربعة أقسام:

1 ـ ما لا يجرّ اسما خاصّا وهو: «حتّى»، «والكاف»، «والواو»، وقد تدخل «الكاف» على الضّمير، كقول الشاعر:

«خلّى الذّنابات شمالا كثبا***وأمّ أوعال كها أو أقربا»

فقد دخلت «الكاف» على الضّمير المتّصل «الهاء»، وهذا شاذ، وقد تجرّ الضمير المنفصل، كقول الشاعر:

«فلا ترى بعلا ولا حلائلا***كه ولا كهنّ إلّا حاظلا»

وفيه دخلت الكاف على الضمير المتصل في «كه» وعلى الضمير المنفصل في «كهنّ»، وكقول الشاعر:

«فلو لا المعافاة كنّا كهم ***ولو لا البلاء لكانوا كنا”

فدخلت الكاف على ضمير الغائبين في «كهم» وعلى ضمير المتكلم في «كنا» ومثل قول الشاعر:

«لا تلمني فإنني كك فيها***إنّنا في الملام مشتركان»

فقد دخلت «الكاف» على ضمير المخاطب في «كك» وهذا شاذ، أو للضرورة الشعرية.

2 ـ ما يختصّ بأسماء الزّمان، مثل: «مذ» و «منذ»، مثل: «ما كلّمته مذ يومان» أو منذ يومين، إذ يجوز في الاسم بعدها أن يكون مرفوعا على أنه فاعل لفعل محذوف تقديره: «مذ مضى يومان» والجملة: «مضى يومان» في محل جر بالإضافة، ويجوز فيه الجر باعتبار «مذ» «منذ» حرفي جر يشبهان بالزائد فتقول: «منذ يومين» فتكون «منذ» حرف جر. «يومين»: اسم مجرور بالياء لأنه مثنى.

ملاحظة: يجوز إعراب الاسم المرفوع بعد «مذ» أو منذ» على أنه مبتدأ محذوف خبره تقديره: يومان مضيا. والجملة في محل جر بالإضافة.

3 ـ ما يختصّ بدخوله على النّكرات وهو «ربّ» وقد تدخل «ربّ» على ضمير الغائب المفرد المذكّر، وبعده تمييز مطابق له في المعنى، كقول الشاعر:

«ربّه فتية دعوت إلى ما***يورث المجد دائبا فأجابوا»

حيث دخلت «ربّ» على ضمير الغائب المفرد المذكر مع أن تمييزه جمع غير مطابق له «والهاء» في محل جر بـ «ربّ» ولها محل آخر من الإعراب هو الرّفع على الابتداء.

4 ـ ما يجرّ الاسم الكريم «الله» وهو «التاء» كقوله تعالى: {وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَ} وتجر «ربّ» بعد إضافتها إلى كلمة «الكعبة» مثل: «تربّ الكعبة» وتضاف «ربّ» إلى ياء المتكلم، مثل: «تربّي لأجتهدنّ»؛ أو إلى «كاف» الخطاب مثل: «تربّك لأجتهدنّ» ومثل: «تحياتك لأجاهدنّ» فدخلت التاء على غير «ربّ» والكلمة مضاف إلى «كاف» الخطاب. وقد تدخل على غير «ربّ» بدون إضافة مثل: «تالرّحمن».

عملها:

1 ـ حروف الجرّ كلها تعمل الجرّ في الاسم الذي يليها مباشرة وقد يفصل بينهما «كان» الزائدة كقول الشاعر:

«جياد بني بكر تسامى ***على كان المسوّمة العراب»

وقد يفصل بينهما «لا» النافية مثل: سافرت بلا زاد. ومنهم من يعتبر «لا» في هذه الحالة اسما بمعنى «غير». والتقدير: بغير زاد. «وزاد»: اسم مجرور بالإضافة. ومنهم من يعتبر «لا» النافية لا عمل لها، وكلمة «زاد» اسم مجرور بالباء، وقد يفصل بينهما الظّرف أو الجارّ والمجرور، أو المفعول به، للضرورة الشعريّة، كقول الشاعر:

«إنّ عمرا لا خير في، اليوم، عمرو***إنّ عمرا مكثّر الأحزان»

ومثل:

«وإني لأضوي الكشح من دون ما انطوى ***وأقطع بالخرق الهبوع المراجم»

والتقدير: بالهبوع المراجم الخرق، الفاصل هو المفعول به «الخرق». والاسم بعد حرف الجر يكون مجرورا بكسرة ظاهرة أو مقدّرة كقول الشاعر: «إنّي نظرت إلى الشعوب فلم أجد***كالجهل داء للشعوب مبيدا»

ومثل: «ما من فتى يستجيب لنداء الانسانية إلا تكون استجابته خيرا وبركة» فكلمة «فتى» اسم مجرور بكسرة مقدّرة على الألف للتعذر. ومثل: «أتعجّب ممّن يسعى في الشقاق بين الأحبّة»؛ «من» اسم موصول مبنيّ على السكون في محل جر حيث قلبت «نون» حرف الجر «من» ميما للتخفيف ولتقارب مخرج نطق «الميم» من «النون» وأدغم المثلان. فهذا الجر محلّي.

2 ـ إذا دخلت حروف الجر على «ما» الاستفهاميّة تحذف منها الألف وجوبا في غير الوقف، كقوله تعالى: {عَمَّ يَتَساءَلُونَ} ومثل: «لم الكسل»، ومثل: «فيم السّعي بالذلّ» وقد لا تحذف الألف إذا دخل على «ما» الاستفهامية حرف الجر في غير الوقف. أمّا في الوقف فيجب حذف «الألف» من «ما» ووصلها بـ «هاء» السكت مثل: «فيمه»، «عمّه»، «لمه»، «كيمه». وقد لا تحذف الألف منها في غير الوقف للضرورة الشعريّة، كقول الشاعر:

«على ما قام يشتمني لئيم ***كخنزير تمرّغ في رماد»

حيث لم تحذف الألف من «ما» الاستفهامية رغم دخول حرف الجر «على» عليها، وذلك للضرورة الشعريّة.

ومن حذف «الألف» عند دخول حرف الجر على «ما» الاستفهامية، قول الشاعر:

«إلام الخلف بينكم إلام ***وهذي الضجّة الكبرى علام»

حيث حذفت الألف في «إلام» في الموضعين وكذلك حذفت من «علام». ومن حذفها في الوقف واتصال «ما» بهاء السّكت نقول: «الخصام كيمه» و «السؤال عمّه».

متعلّق حرف الجر: لا بدّ لحرف الجر الأصليّ من عامل يتعلّق به ويسمّى متعلّق حرف الجر.

وذلك لأن العلاقة بين المتعلّق به وبين الجارّ والمجرور هي علاقة ارتباط معنويّ؛ لذلك وجب عند تعلّق حرف الجرّ أن نميّز العامل، الذي يحتاج إلى الجارّ والمجرور لتكملة معناه، من غيره من العوامل. فقد يكون هذا المتعلّق متأخرا عن الجار والمجرور، كقول الشاعر:

«جهلت كجهل الناس حكمة خالق ***على الخلق طرّا بالتّعاسة حاكم»

فالجار والمجرور «على الخلق» متعلقان بـ «حاكم» المتأخر عنهما، وكذلك يتعلق بـ «حاكم» الجارّ والمجرور «بالتعاسة»، المتأخّر عنهما. وكقول الشاعر:

«عداتك منك في وجل وخوف ***يريدون المعاقل والحصون»

فالجار والمجرور «منك» متعلقان بـ «وجل» والتقدير: عداتك في وجل منك. وقد يكون المتعلّق به متقدّما على الجار والمجرور، كقوله تعالى: {أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} فحرف الجر «الباء» في «به» متعلق بالعامل المتقدم يؤمنون. وكذلك «الباء» في «به» الثانية متعلق بالعامل المتقدم «يكفر». وكذلك حرف الجر «من» متعلق بـ «يكفر» العامل المتقدم. وكقول الشاعر: «لئن لم أقم فيكم خطيبا فإنني ***بسيفي إذا جدّ الوغى لخطيب»

فالجار والمجرور «فيكم» متعلّق بـ «أقم». وأما في قول الشاعر:

«الغنى في يد اللئيم قبيح ***مثل قبح الكريم في الإملاق»

فقد تعلّق الجار والمجرور «في يد» بالعامل «قبيح» المتأخّر، وتعلق الجار والمجرور «في الاملاق» بالعامل المتقدّم «قبح الكريم». وكقول الشاعر:

«عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ***فكل قرين بالمقارن يقتدي»

فقد تعلّق الجارّ والمجرور «عن المرء» بالعامل المتأخّر «لا تسأل» والجار والمجرور «عن قرينه» متعلق بالعامل المتقدّم «سل». والجار والمجرور «بالمقارن» يتعلق بالمتأخر يقتدى. وكقول الشاعر:

«بالعلم والمال يبني النّاس ملكهمو***لم يبن ملك على جهل وإقلال»

فالجار والمجرور «بالعلم» يتعلّق بالعامل المتأخّر «يبني»، والجار والمجرور «على جهل» متعلق بالعامل المتقدّم «لم يبن».

وعند ما يؤلّف الجار والمجرور مع عاملهما معنى تاما في الجملة نسميهما شبه جملة وإن لم يكمل بهما المعنى نسمّيهما شبه الجملة الناقص ويكون التركيب فاسدا وناقصا.

13 ـ ملاحظات

1 ـ شبه الجملة نوعان: الظّرف، والجار والمجرور، ويعتبر الوصف الواقع صلة «أل» بمنزلة شبه الجملة، كقول الشاعر:

«الودّ أنت المستحقّة صفوه ***مني وإن لم أرج منك نوالا»

فالوصف «المستحقة» الواقع صلة «أل» هو بمنزلة شبه الجملة.

2 ـ شبه الجملة التام، أي: الظرف والجار والمجرور، إذا وقع بعد اسم نكرة محضة وجب أن يكون متعلّقه نعتا للاسم النّكرة، كقول الشاعر:

«ربّه فتية دعوت إلى ما***يورث المجد دائبا فأجابوا»

فجملة «دعوت» في محل نصب نعت «فتية».

وإذا وقع شبه الجملة التامّ بعد اسم معرفة وجب أن يكون متعلّقه حالا، كقوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} ومثل: «وقف اللّاعبون في الملعب بين رفاقهم». فالجار والمجرور «في زينته» متعلق بمحذوف حال، تقديره: مستقرّ، والجار والمجرور «في الملعب» متعلق بمحذوف حال تقديره: مستقرّين، وكذلك الظّرف شبه الجملة التامّ «بين» متعلق بمحذوف حال. ويصحّ الوجهان: الحال والنعت إذا كانت المعرفة غير محضة، مثل:

«ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني ***فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني»

فجملة «يسبني» في محل جر نعت «اللئيم» لأن هذا الاسم وإن كان معرفة في اللّفظ إلا أنه نكرة في المعنى، لأنه مقترن بـ «أل» الجنسيّة.

ويجوز أن تكون الجملة حالا باعتبار اللّفظ.

3 ـ حروف الجر كلّها أصليّة ما عدا أربعة هي: «من»، «الباء»، و «اللام»، و «الكاف»، فهي تارة أصليّة وتارة زائدة. أما «لعلّ» و «ربّ» فإنهما حرفان شبيهان بالزائد، ومثلهما «لو لا» كما

سبقت الإشارة. ومنهم من يعتبر «خلا» و «حاشا» و «عدا» من حروف الجر الشبيهة بالزائدة.

14 ـ أنواع العامل: عامل الجرّ في الجملة أو المتعلّق به عدة أنواع منها:

1 ـ الفعل، مثل: «مشيت من البيت إلى الجامعة»، وكقول الشاعر:

«انظر إلى ورق الغصون فإنها***مشحونة بأدلّة التّوحيد»

وفيه «إلى ورق» جار ومجرور متعلق بالفعل «انظر» وفيه «بأدلّة» جار ومجرور متعلّق باسم المفعول «مشحونة».

2 ـ اسم الفعل، مثل: «نزال في المدينة» أي: انزل في المدينة، ومثل: «حيّهل على داعي الجهاد»، أي: أقبل.

3 ـ المصدر، ويشمل المصدر الذي يدل على المرّة، أو الهيئة، والمصدر الميمي، والصناعي مثل: «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من دعائم الإصلاح في المجتمع» فالجار والمجرور «بالمعروف» متعلق بالمصدر الصّريح «الأمر» ومثله «عن المنكر» جار ومجرور متعلق بـ المصدر «النّهي». «في المجتمع» جار ومجرور متعلق بالمصدر «الإصلاح». وكقول الشّاعر:

«يموت المداوي للنّفوس ولا يرى ***لما فيه من داء النّفوس مداويا»

فالجار والمجرور «للنفوس» متعلق بالمصدر الميمي «المداوي» وكذلك الجار والمجرور «لما» و «من داء» متعلق بـ «مداويا».

4 ـ المشتق الذي يعمل عمل الفعل، مثل: «أنا فرح بك». فالجار والمجرور «بك» متعلق بالمشتق «فرح». ومثل: «أخي مرتاح في عمله».

«في عمله» جار ومجرور متعلق بـ «مرتاح»، ومثل:

«ترفّق أيّها المولى عليهم ***فإن الرّفق بالجاني عتاب»

فالجار والمجرور «بالجاني» متعلق بالمصدر الصّريح «الرفق» الذي يشبه الفعل في العمل.

5 ـ المشتق الذي لا يعمل ولكنّه لا يخلو من معنى الفعل كاسم الزمان واسم الآلة، مثل: «حدد الموعد لانعقاد جلسة مجلس الوزراء يوم الاثنين القادم». وقد يكون لفظا غير مشتق ولكنه في حكمه، مثل: «أنت سيبويه في لغتك».

والتقدير: أنت نحوي كسيبويه في لغتك.

فالجار والمجرور «لانعقاد» متعلق باسم الزّمان «الموعد». والجار والمجرور «في لغتك» متعلق بكلمة «سيبويه» الجامدة التي هي في حكم المشتق والتقدير: نحوي، ومثل:

«الصّدق في قوالنا أقوى لنا***والكذب في أفعالنا أفعى لنا»

فالجارّ والمجرور «في أقوالنا» متعلق بالاسم «الصدق». والجار والمجرور «لنا» الأول متعلق بكلمة «أقوى» وكذلك في «أفعالنا» متعلق بـ «الكذب» و «لنا» متعلق بـ «أفعى» وهي كلمة جامدة ومعناها «مؤلم»، «مر»، ومثل: «أنت معاوية في حلمك» فالجار والمجرور «في حلمك» متعلق بـ «معاوية» الاسم الجامد والتقدير: أنت حليم في...

15 ـ حذف العامل: قد يكون متعلّق الجار والمجرور مذكورا في الجملة كالامثلة السابقة، وقد يكون محذوفا. وقد يكون حذفه جائزا إما لوضوحه، أو لشهرته قبل الحذف، أو لوجود قرينة تدل عليه، مثل: «سأزورك يوم الجمعة أما سمير

ففي الاسبوع المقبل» والتقدير: أما سمير فسأزوره في... وكقول الشاعر:

«بأبي من وددته فافترقنا***وقضى الله بعد ذاك اجتماعا»

والتقدير: أفدي بأبي، ومثله قول الشاعر:

«بنفسي تلك الأرض، ما أطيب الرّبا! ***وما أحسن المصطاف والمتربّعا»

والتقدير: أفدي بنفسي.

وقد يكون حذفه واجبا إذا كان مما يدل على وجود مطلق وذلك في أماكن كثيرة أهمها:

1 ـ إذا كان العامل صفة، مثل: «هذا كتاب من تأليف عالم كبير». التقدير: مكتوب، مؤلّف...

2 ـ إذا كان حالا، مثل: «هذا الكتاب من تأليف عالم كبير». الجار والمجرور «من تأليف» متعلق بمحذوف حال تقديره مكتوبا مستقرا...

وذلك لأن الاسم قبلهما معرفة.

3 ـ إذا كان العامل صلة، مثل: «استمتعت بالأخبار المسرّة التي في الجرائد» والتقدير: التي توجد في الجرائد.

4 ـ إذا كان خبرا للمبتدأ، مثل قول الشاعر:

«جسمي معي غير أن الروح عندكمو***فالجسم في غربة والروح في وطن»

فالجار والمجرور «في غربة» متعلق بخبر المبتدأ «الجسم» تقديره موجود، ومثله الجار والمجرور «في وطن» متعلّق بمحذوف خبر المبتدأ «الروح» تقديره: موجود.

7 ـ إذا كان خبرا لناسخ، كقول الشاعر:

«فليعجب الناس منّي إنّ لي بدنا***لا روح فيه ولي روح بلا بدن»

فالجار والمجرور «لي» متعلق بمحذوف خبر «إن» تقديره: «موجود» وكذلك «فيه» جار ومجرور متعلق بخبر «لا» النافية للجنس المحذوف تقديره: «موجود». وكذلك الجار والمجرور «لي» متعلق بخبر مقدم للمبتدأ «روح» تقديره: «موجود».

8 ـ أو إذا كان محذوفا في أسلوب معيّن، كقولك لمن تهنئه بالزّواج: بالرّفاء والبنين والتقدير: تزوجت بالتّوافق... ولا يجوز ذكر العامل لأن هذا الأسلوب جرى مجرى الأمثال.

9 ـ إذا كان حرف الجرّ هو من أحرف الجرّ التي تفيد القسم ك «الواو» و «التاء»، كقول الشاعر:

«فو الله لا يبدي لساني حاجة***إلى أحد حتى أغيّب في القبر»

والتقدير: أقسم والله، ومثل: «تالله لأكيدنّ».

والتقدير: أقسم تالله.

10 ـ إذا كان الجارّ والمجرور مما يرفع الاسم الظاهر بعد الاستفهام، مثل: «أفي قولك شكّ»، فالهمزة للاستفهام. والجار والمجرور «في قولك» متعلق بخبر مقدم للمبتدأ المؤخر «شك». وعند حذف العامل يجوز تقديره فعلا، مثل: استقرّ، أو وصفا، مثل: مستقرّ، كائن. أما في القسم وفي الصلة لغير «أل» الموصولة فيجب تقديره فعلا، لأن جملتيهما لا تكونان إلّا فعليّتين.

حذف حرف الجرّ: قد يحذف حرف الجرّ ويبقى عمله، أمّا ملاحظة بقائه وحذفه فمرهون بالمحافظة على سلامة المعنى. وهذا الحذف له مواضع كثيرة أشهرها ما يأتي:

1 ـ أن يكون حرف الجر هو «ربّ» مسبوقا بـ «الواو»، أو «الفاء» أو «بل»، كقول الشاعر:

«وعامل بالحرام يأمر بال***برّ كهاد يخوض في الظّلم»

وكقول الشاعر:

«فحور قد لهوت بهنّ عين ***نواعم في المروط وفي الرّياط»

2 ـ أن يكون الاسم المجرور بالحرف مصدرا مؤوّلا من أنّ ومعموليها، أو من «أن» والفعل والفاعل، مثل: «علمت أنّك قادم». أنّ وما بعدها في تأويل مصدر مجرور «بالباء» المحذوفة والتقدير علمت بأنك قادم، أي: بقدومك.

ومثل: «أعلم أن قدم الزائر»، والتقدير: أعلم بقدوم الزّائر. والمعلوم أن الفعل «علم» متعد بنفسه لكن يجوز تقدير حرف الجر بعده، ومثل: «عجبت أنك فاشل»، أي: من أنك فاشل، أي عجبت من فشلك. ومثل، «أعجب أن تفشل» والتقدير: أعجب من أن تفشل، أو من فشلك.

3 ـ يحذف في القسم إذا كان الاسم المجرور هو لفظ الجلالة، مثل: «الله لأكيدنّ الحسّاد».

4 ـ يحذف بعد «كم» الاستفهاميّة المجرورة بحرف جرّ، مثل: «بكم درهم اشتريت»، أي: بكم من درهم.

5 ـ إذا كان حرف الجرّ مع مجروره جوابا عن سؤال يشتمل على مثل حرف الجر المحذوف، مثل: «إلى أي بلد تسافر غدا؟» فتجيب: «القاهرة»، أي: إلى القاهرة. ومثل: كيف أصبحت؟ فتجيب: «خير عافاك الله»، أي: على خير. ومثل: «بمن مررت؟» فتجيب: زيد أي: بزيد.

6 ـ في الاسم المعطوف على ما تضمّن حرف جر، مثل المحذوف، كقوله تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} والتقدير: وفي اختلاف، وكقول الشاعر:

«أخلق بذي الصّبر أن يحظى بحاجته ***ومدمن القرع للأبواب أن يلجا»

والتقدير: أخلق بمدمن القرع، حيث حذف حرف الجر «الباء» بعد «واو» العطف والمعطوف عليه مشتمل على مثل حرف الجرّ المحذوف.

7 ـ في الاسم المعطوف على ما تضمّن حرف جر مثل المحذوف مع وجود «لا» النافية فاصلة بين حرف العطف والحرف المحذوف، مثل قول الشّاعر:

«ما لمحبّ جلد أن يهجرا***ولا حبيب رأفة فيجبرا»

التقدير: ولا لحبيب حيث حذف حرف الجر «اللام» بعد «واو» العطف وفصل بينهما «لا».

8 ـ في الاسم المعطوف على ما تضمّن حرف جر مثل المحذوف مع وجود «لو» فاصلة بين حرف العطف والحرف المحذوف، كقول الشاعر:

«متى عذتم بنا ولو فئة منّا***كفيتم ولم تخشوا هوانا ولا وهنا»

والتقدير: ولو بفئة منّا. حيث حذف حرف الجر «الباء» بعد «واو» العطف وفصل بينهما «لو».

9 ـ إذا كان حرف الجر مع مجروره جوابا لسؤال بالهمزة مسبوقة بجملة تتضمّن حرف جرّ مماثل للمحذوف، مثل قولك: «أزين بن سمير؟» جوابا لمن سألك: «هل مررت بزين؟» والتقدير: أبزين بن سمير. حيث حذفت «الباء» بعد همزة الاستفهام والجملة قبله تشتمل على مثل الحرف المحذوف، أي: على حرف الجر «الباء».

10 ـ إذا كان الجارّ والمجرور بعد «هلّا» التي تفيد التّحضيض، والكلام قبلها يشتمل على حرف جر مماثل للمحذوف، مثل قولك: «هلّا دينار» جوابا لمن قال: «جئت بدرهم». والتقدير «هلا بدينار». حيث حذف حرف الجر بعد «هلا» والجملة قبله تشتمل على حرف جر مماثل ل «الباء».

11 ـ أن يكون حرف الجر مسبوقا بـ «إن» الشّرطيّة، والجملة قبله مشتملة على حرف جر مماثل للمحذوف، مثل: «سلّم على أصدقائك إن عمرو وإن زيد وإن سمير»... التقدير إن على عمرو وإن على زيد...

12 ـ إذا كان حرف الجر مسبوقا بفاء الجزاء قبلها جملة تتضمّن مثل الحرف المحذوف، مثل: «قرّرت القيام برحلة إن لم تكن طويلة فقصيرة»، والتقدير: فبرحلة قصيرة.

13 ـ إذا كان حرف الجر هو «لام التعليل» وقد دخل على «كي» المصدرية واللام مقدّرة قبلها أو على «كي» التعليليّة و «أن» مضمرة بعدها، مثل: «يجتهد الطالب كي ينجح» أي: لكي ينجح، أو كي لينجح والتقدير: كي أن ينجح.

14 ـ أن يكون حرف الجرّ داخلا على المعطوف على خبر «ليس» أو خبر «ما» الحجازيّة العاملة عمل «ليس»، مثل: «ليس الله بظالم لعباده ولا منقص حقّهم» والتقدير: ولا بمنقص حقهم؛ ويجوز أن يكون خبر «ليس» «بظالم» منصوبا، فتقول: «ليس الله ظالما عباده ولا منقص حقّهم». وهذا ما يسمّيه النحاة العطف على التّوهّم، وكقول الشاعر:

«بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى ***ولا سابق شيئا إذا كان جائيا»

حيث جر المعطوف «سابق» على توهّم دخول حرف الجر «الباء» على «مدرك»، ومثله:

«أحقّا عباد الله أن لست صاعدا***ولا هابطا إلّا عليّ رقيب»

«ولا سالك وحدي ولا في جماعة***من النّاس إلّا قيل أنت مريب»

حيث عطف «هابطا» على خبر «لست» وهو «صاعدا» ثم عطف «سالك» على «صاعدا» و «هابطا» على تقدير: ولا «بسالك» على توهّم حرف الجر في الخبرين الأولين، ثمّ حذف الخبر الثالث مع حرف الجر في العطف التالي، والتقدير: «ولا سالك في جماعة» وكقول الشاعر:

«مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة***ولا ناعب إلّا ببين غرابها»

حيث عطف «ولا ناعب» بتقدير: «ولا بناعب» على مصلحين على توهّم دخول حرف الجر «الباء» وكقول الشاعر:

«وما زرت ليلى أن تكون حبيبة***إليّ ولا دين بها أنا طالب»

والتّقدير ولا إلى دين.

15 ـ لا يجوز الفصل بين حرف الجر ومجروره في الاختيار وقد يفصل بينهما في الاضطرار بظرف مثل: «إنّ عمرا لا خير في اليوم عمرو» حيث فصل الظّرف «اليوم» بين حرف الجر «في» والاسم المجرور «عمرو»، أو بجار ومجرور، مثل: «وليس إلى منها النّزول سبيل» حيث فصل بين حرف الجر «إلى» والاسم المجرور «النزول» بالجار والمجرور «منها» وقد يفصل بينهما «كان» الزائدة بلفظ الماضي، كقول الشاعر:

«جياد بني بكر تسامى ***على كان المسوّمة العراب»

حيث فصل الفعل «كان» الزائد بين حرف الجر «على» والاسم المجرور «المسوّمة».

16 ـ قد يحذف حرف الجر مع الاسم المجرور إذا لم يتعلّق العرض بذكرهما، أو إذا دلّت عليهما قرينة تعيّن مكانهما وتمنع اللّبس، كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} والتقدير: لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا.

بدل حرف جر من حرف جر آخر: الأصل أن لكل حرف جر معنى خاصا يقفز إلى الذّهن لمجرد التّفوّه به، فإذا قلنا: «أمسكت بيد الأعمى» لتبادر إلى الذّهن أن المقصود بـ «الباء» الإلصاق وقول الشاعر:

«إن الذين اشتروا دنيا بآخرة***وشقوة بنعيم ساء ما فعلوا»

لعرفنا أن «الباء» تعني «البدليّة». وفي قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ} «الباء» تعني البعضيّة. ولكن قد يؤدي حرف الجر معنى آخر مجازيا أو تضمينيا غير معناه الأصلي، فقول القائل: «من الناس من إن تأمنه بدينار يؤدّه إليك ومنهم من إن تأمنه بذهب يخون الأمانة».

ف «الباء» هنا استعملت في غير معناها الحقيقي، وهي بمعنى «على»، فالمعنى مجازي، وقد يكون المعنى تضميني على تقدير فعل آخر يؤدي المعنى المراد، فتقول: «خبأت». فالمعنى المراد: «من الناس من إن خبّات عنده دينارا»...

ومثل قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ} فـ «الباء» هنا تعني «عن» فاستعملت مجازا بغير معناها الحقيقي، أما المعنى التضميني فعلى اختيار فعل آخر يؤدي المعنى المراد، والتقدير: تظهر الغيوم في السّماء. وكلّ هذا يتوقف على دلالة الحرف في المعنى بحيث يفهمه السّامع بغير غموض. ويمكن أن يقتصر الحرف على معناه الحقيقي وهذا الأغلب، لكن بما أن الحرف أحد أقسام الكلمة الثلاثة، وكلّ من الاسم والفعل يستعمل في معناه الحقيقي والمجازي، فجريا عليهما يستعمل الحرف في معناه المجازي أو التضمينيّ وفاقا لما يجري على نظائره، وذهب النحاة في نيابة حرف جر عن آخر مذهبين:

المذهبان في نيابة حرف جر عن آخر:

المذهب الأول: يقول إن لكل حرف جر معنى واحدا حقيقيا لا غير يؤدّيه على سبيل الحقيقة لا المجاز. فالحرف «عن» يفيد المجاوزة، مثل: «ذهبت عن البلد» وهذا معناه الحقيقي، والحرف «على» يفيد معنى حقيقيا هو الاستعلاء، و «اللّام» يفيد معنى حقيقيا هو الملك... فإذا أدى الحرف معنى غير معناه الأصلي كان ذلك على سبيل المجاز، أو على سبيل التضمين. فإذا قلنا: «رميت عن القوس» كان معنى «عن» مجازا المجاورة والاستعانة. وتكون بمعنى مجازي أيضا، في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} فمعناها المجازي هو البدليّة. ويأخذ الحرف «على» معنى «مجازيا» هو المجاوزة في قول الشاعر:

«إذا رضيت عليّ بنو قشير***لعمر الله أعجبني رضاها»

ظُلْمِهِمْ} أي: مع ظلمهم ويأخذ حرف «اللّام» معنى مجازيا هو البعديّة في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أي: بعد دلوك. كما يأخذ معنى مجازيا هو معنى «قبل» في مثل: «توفي والدي لليلة بقيت من شهر شوّال» أي: قبل انتهاء شهر شوال بليلة واحدة؛ هذا على سبيل المجاز.

أما على سبيل التّضمين أي: إيقاع لفظ موقع غيره ومعاملته معاملته لتضمنه معناه واشتماله عليه؛ كالتضمين في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ}، فكلمة الرّفث تتضمن كل ما يريد الرجل من امرأته على سبيل الاستمتاع بها من غير كناية، ومع ذلك عدّي هذا المصدر بـ «إلى» إيذانا بأنّ الرّفث بمعنى: «الإفضاء» برأي البصريين.

والمذهب الثاني هو أن الحرف ليس إلا كلمة كسائر الأسماء والأفعال وكلّ منها يؤدي معاني حقيقية كثيرة لذلك فإن قصر الحرف على معنى حقيقي واحد فيه الكثير من التّعسّف وعلى هذا الرّأي أكثر النحويين، ومنهم الكوفيّون، والمذهبان يتفقان في عدم جواز إحلال حرف محل آخر إلا في المواضع الدّاعية إليه والمسوّغة له. حيث «أتت» الكلمة «عليّ» بمعنى «عني» ويأخذ معنى مجازيّا آخر هو المصاحبة كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى

المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م


42-المعجم المفصل في النحو العربي (خبر المبتدأ)

خبر المبتدأ

1 ـ تعريفه اصطلاحا: هو اللفظ الذي يكمّل المعنى مع المبتدأ، ويتمّم معنى الجملة الأساسيّ، بشرط أن يكون المبتدأ غير وصف، مثل: «الغنى غنى النفس»، ومثل: «الشمس مشرقة» وكقول الشاعر: «الحرّ حرّ عزيز النفس حيث ثوى ***والشّمس في كلّ برج ذات أنوار»

وفيه «حرّ» خبر المبتدأ. «عزيز» خبر ثان والمبتدأ «الحرّ». «ذات»: خبر المبتدأ «الشمس».

2 ـ أقسام الخبر: هو ثلاثة أقسام: مفرد وجملة، وشبه جملة.

فالمفرد هو ما ليس جملة ولا شبه جملة، ويدخل فيه المثّنى والجمع مثل: «العلم نور» «الصديقان مهذّبان» و «الطلاب ناجحون» ويكون إما جامدا، فلا يرفع ضميرا مستترا فيه ولا ضميرا بارزا، ولا اسما ظاهرا مثل: «الشمس ضوء» «والنّيل نهر» وكقول الشاعر:

«ترتع ما رتعت حتى ادّكرت ***فإنما هي إقبال وإدبار»

أو يكون مشتقا فيرفع ضميرا أو اسما ظاهرا بعده، مثل: «البناء متكامل» أي: «هو» ومثل: «ما قادمان أنتما الى الجامعة» «أنتما» فاعل «قادمان»، ومثل: «سعيد مشرق وجهه».

3 ـ الخبر الجملة: ويقع الخبر جملة، وتكون إما فعليّة، مثل: «الربيع يحلو زهره» فجملة «يحلو زهره» فعلية واقعة خبر المبتدأ «الربيع» وإما اسمية، مثل: «الشتاء برده قارس» «الشتاء»: مبتدأ أول. «برده»: مبتدأ ثان. «قارس» خبر المبتدأ الثاني، والجملة الاسمية «برده قارس» خبر المبتدأ الأول. ومثل:

«البغي يصرع أهله ***والظّلم مرتعه وخيم»

اجتمعت في هذا البيت جملتان واقعتان خبرا: الأولى فعلية «يصرع أهله» هي خبر للمبتدأ «البغي». والثانية: اسمية «مرتعه وخيم» خبر المبتدأ «الظلم» ويشترط في الجملة، بنوعيها، الواقعة خبرا أن تشتمل على ضمير يربطها بالمبتدأ، إلا إن كانت بمعناه، وهذا الرّابط يكون: إما ضميرا ظاهرا، مثل: «الظلم مرتعه وخيم» أو مستترا، مثل: «العلم ينير الأمة»، والتقدير: هو. أو مقدّرا، مثل: «مخالفة الحكماء تورث النّدامة» أي: هي. أو محذوفا، مثل: «العنب الرطل بدينار» أي: منه. ويجب أن يكون هذا الرّابط مطابقا للمبتدأ في الإفراد والتذكير والتأنيث والتثنية والجمع، كما قد يكون اسم إشارة يدل على المبتدأ، مثل: «الاستقلال تلك أمنية المواطنين». «تلك»: اسم إشارة في محل رفع مبتدأ ثان. «أمنية»: خبر المبتدأ الثاني. والجملة الاسمية خبر للمبتدأ الأول، فالرابط بينهما «تلك» ومثل: «العلم ذلك مقصد الجيل» الرّابط هو اسم الإشارة «ذلك»، وكقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ} فالمبتدأ الأول «الذين» والجملة الخبرية الاسمية هي «أولئك أصحاب النار» والرابط اسم الاشارة «أولئك» وقد يكون الرّابط بإعادة المبتدأ السّابق بقصد التّضخيم، أو التّهويل، أو التّحقير، مثل: «العلم ما العلم» قصد التّفخيم. ومثل: «الجبان ما الجبان» قصد التّحقير، ومثل قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} قصد التّهويل، أو تكون إعادة المبتدأ بمعناه دون لفظه، مثل: «السّيف ما المهنّد».

أما إذا خلت الجملة الفعلية الخبريّة من الرّابط فيجب أن تعطف عليها جملة فعليّة ويكون العطف «بالواو»، أو «بالفاء»، أو بـ «ثمّ» مع اشتمال الثّانية على ضمير يعود على المبتدأ، مثل: «الطالب، ابتدأ الدّرس واستعدّ له». «الطالب»: مبتدأ مرفوع وجملة «ابتدأ الدرس» خبر المبتدأ. وهي خالية من الرّابط، والمسوّغ لها كونها معطوفة على جملة تشتمل على ضمير يعود إلى المبتدأ، وهو الضّمير المستتر في «استعدّ» أو يجب أن يقع بعدها أداة شرط حذف جوابه لدلالة الخبر عليه، وبقي فعل الشّرط مشتملا على ضمير يعود على المبتدأ، مثل: «الأب يخلد الأولاد إلى الهدوء إن حضر» «الأب»: مبتدأ «يخلد الأولاد إلى الهدوء» جملة فعلية هي خبر المبتدأ، وهي خالية من ضمير يربطها بالمبتدأ، وذلك لأنه أتى بعدها شرط حذف جوابه «إن حضر»، وفعل الشرط «حضر» يشتمل على ضمير يعود إلى المبتدأ.

4 ـ الخبر شبه جملة: ويكون الخبر شبه جملة. فقد يكون ظرف زمان، مثل: «الامتحان يوم الاثنين» «يوم»: ظرف زمان متعلق بخبر المبتدأ. أو ظرف مكان، مثل: «الحديقة قرب البيت» «قرب»: ظرف مكان متعلّق بخبر المبتدأ.

أو جارا ومجرورا، مثل: «القائد في المعركة» «في المعركة»: جار ومجرور متعلّق بخبر المبتدأ، وكقول الشاعر:

«للعيد يوم من الأيّام منتظر***والنّاس في كلّ يوم منك في عيد»

ويشترط في شبه الجملة الواقعة خبرا أن تتمّ الفائدة بذكرها، ويكمل بها المعنى، وتتحقق هذه الفائدة في ظرف المكان الذي يصح أن يكون خبرا للمبتدأ المعنى أي: الاسم غير المحسوس بآلة البصر، مثل: «العقل»، «العلم»، «الفهم»، «النّبل»، «الشّرف»، كما يصح أن يكون خبرا للمبتدأ الجثة أي: الاسم الذي هو جسم نحسّه بآلة من الحواس الخمس، مثل: «شجرة»، «كساء»، «قلم»، «كتاب»...، فتقول: «الصدق عندك» و «القلم أمامك» أما ظرف الزّمان الواقع خبرا، فيجب أن يكون خاصا لا عاما، ويختص الظرف إمّا بنعت، مثل: «أنا في يوم حار»، أو بالإضافة، مثل: «أنا في يوم العيد»، أو بالعلميّة، مثل: «أنا في رمضان»، ويجب أيضا أن يكون الظرف مجرورا بـ «في».

وتتحقّق الفائدة من شبه الجملة، إذا كان المبتدأ الذّات مما يتجدّد، فيكون شبيها بالمعنى، مثل: «العنب وقت الصيف»، أو أن يكون المبتدأ الذّات صالحا لتقدير مضاف إليه قبله تدلّ عليه القرائن، كأن يعرض عليك صديقك الصّيد صباحا فتجيب: «الدرس صباحا والصّيد مساء» أي: حفظ الدرس صباحا ومتعة الصيد عصرا أو مساء.

5 ـ إعراب الخبر الظرف: الأصل في الظرف أن يكون منصوبا إذا كان معربا، أو في محل نصب إذا كان مبنيّا، فالظرف المبنيّ هو الذي يكون مقطوعا عن الإضافة لفظا لا معنى بحيث يكون المضاف إليه في النيّة والتقدير، مثل: «حيث» أو المبني في بعض الحالات، مثل: «قبل، أو بعد، وعل» فإن وقع ظرف الزمان خبرا عن معنى ليس للزمان جاز رفعه على أنه هو الخبر مباشرة، أو نصبه أو جره في محل رفع، مثل: «العيد يوم، أو يوما، أو في يوم» «يوم»: خبر المبتدأ مرفوع هو في الأصل ظرف زمان. «يوما»: ظرف زمان منصوب في محل رفع خبر المبتدأ. «في يوم»: جار ومجرور في محل رفع خبر المبتدأ، أما إن كان ظرف الزّمان من أسماء الشهور وجب رفعه، مثل: «شهر الصوم رمضان» «رمضان»: خبر المبتدأ مرفوع، وهو في الأصل اسم شهر الصّيام.

وإن كان الظرف للمكان وهو خبر للمبتدأ الذّات، أو للمبتدأ المعنى، وكان متصرفا جاز رفعه أو نصبه، مثل: «البنات جانب أو جانبا

والصبيان جانب أو جانبا». «جانب» خبر المبتدأ المرفوع. «جانبا»: ظرف منصوب وهو خبر المبتدأ.

وإن كان ظرف المكان الواقع خبرا غير مقطوع وجب نصبه، مثل: «القلم فوق الطاولة» «فوق»: ظرف منصوب هو خبر المبتدأ، أو هو متعلق بمحذوف خبر المبتدأ تقديره موجود، وهو مضاف «الطاولة»: مضاف إليه.

6 ـ حذف الخبر: الأصل في الخبر أن يكون موجودا في الجملة لأنه متمم للفائدة، لكنّه قد يحذف، ويكون حذفه إما جائزا، وإما واجبا، فالحذف الجائز يكون عند ما يدلّ على الخبر دليل، وذلك في جواب عن سؤال: «زيد» ردا على من يسأل: «من في المكتبة؟». ويكون الحذف جائزا أيضا: إذا لم يكن المبتدأ نصّا في القسم، مثل: «أمر الدّين لا أؤذي أحدا» والتقدير: أمر الدين قسمي ويجوز ذكر الخبر، فتقول: «أمر الدين قسمي لا أؤذي أحدا» أو إذا كان المبتدأ غير مقرون بـ «لام» الابتداء، مثل: «عهد الله قسمي لا أبيتنّ على ضيم» «عهد»: مبتدأ مرفوع وهو مضاف «الله»: اسم الجلالة مضاف إليه. «قسمي»: خبر المبتدأ «وياء» المتكلّم مضاف إليه. فكلمة «عهد» مبتدأ يدل على التنصيص على القسم، لكنّه غير مقرون بـ «لام» الابتداء فجاز ذكر الخبر، ويجوز حذفه إذا دلّ الخبر على كون خاص والمبتدأ بعد «لو لا»، مثل: «لو لا القاعة واسعة ما ضمت مئات الطلاب»؛ فالمبتدأ «القاعة» يدل على كون خاص لذلك جاز ذكر الخبر.

ويحذف الخبر وجوبا في المواضع التالية:

1 ـ إذا دلّ على كون عام والمبتدأ بعد «لو لا»، مثل قول الشاعر:

«لو لا اصطبار لأودى كلّ ذي مقة***لمّا استقلّت مطاياهنّ للظّعن»

حيث ورد المبتدأ «اصطبار» نكرة أي: تدل على كون عام فيجب حذف الخبر بعد «لو لا».

والتقدير: لو لا اصطبار حاصل...

2 ـ إذا كان لفظ المبتدأ نصّا في القسم ومقرونا بـ «لام» الابتداء، مثل: «لعهد الله لأتمّمنّ واجباتي». فالمبتدأ «عهد» يدلّ على القسم ومقرون بـ «لام» الابتداء فحذف الخبر وجوبا والتقدير: لعهد الله قسمي ومثل:

«لعمرك ما بالموت عار على الفتى ***إذا لم تصبه في الحياة المعاير»

حيث ورد المبتدأ «عمر» مما يدل على القسم ومقرونا بـ «لام» الابتداء. فوجب حذف الخبر والتقدير: لعمرك قسمي.

3 ـ إذا وقع الخبر بعد «الواو» التي تدل على العطف والمعيّة معا، والتي تفيد المشاركة بين ما قبلها وما بعدها في أمر يجتمعان فيه، وعلامة هذه «الواو» أنه يصحّ حذفها، ووضع كلمة «مع» مكانها، فلا يتغيّر المعنى، بل يزداد وضوحا، مثال ذلك: إذا أقمت في قاعة المحاضرات تراقب كلّ من فيها فشاهدت الأستاذ يلازم شرحه والطالب يلازم إصغاءه فتقول: «شاهدت من في القاعة منصرفين لأعمالهم: الأستاذ وشرحه والطالب وإصغاؤه» «الاستاذ» مبتدأ «الواو» حرف عطف «شرحه» معطوف على الاستاذ. وخبر المبتدأ محذوف والتقدير: الأستاذ وشرحه متلازمان، ومثل ذلك القول: الطالب وإصغاؤه متلازمان، وهذه «الواو» هي غير «الواو» التي تدلّ على المعيّة فقط، مثل: «سرت والجبل» حيث تكون «الواو» للمعيّة، «الجبل» مفعول معه منصوب. وإذا لم تكن «الواو»

كذلك أي: مما تدل على العطف والمعية معا فيجب ذكر الخبر، مثل: «الأب وابنه متلازمان».

4 ـ إذا كان المبتدأ مصدرا، أو أفعل التفضيل مضافا إلى المصدر، والخبر الذي بعده حال تدلّ عليه، وتسدّ مسدّه من غير أن تصلح في المعنى أن تكون خبرا مثل: «احترامي القائد بطلا» «احترامي» مبتدأ مع «ياء» المتكلم مضاف إليه هو فاعل في المعنى. «القائد» مفعول به للمصدر «احترامي» «بطلا»: حال منصوب سدّ مسدّ الخبر، ومثل: «أحسن إنشادي الشعر رثاء» «أحسن» مبتدأ وهو مضاف «إنشادي» مضاف إليه، وياء المتكلم مضاف إليه فاعل في المعنى.

«الشعر» مفعول به. «رثاء» حال سدّ مسدّ الخبر.

والتقدير: احترامي القائد حاصل إذا كان بطلا.

وأحسن إنشادي الشعر حاصل إذا كان رثاء. أما إذا كانت الحال صالحة لتكون خبرا وجب رفعها على أنها هي الخبر، مثل: «احترامي الطالب كبير» إذ لا يصح أن نقول: احترامي الطالب كبيرا.

5 ـ ويحذف الخبر وجوبا في الأساليب المسموعة، مثل: «حسبك ينم الناس»، والتقدير: حسبك قول: ينم الناس.

تعدد الخبر: يجوز أن يكون للمبتدأ خبر واحد أو أكثر، مثل: «جبران أديب، رسّام، شاعر...» ويجوز تعدد الخبر ولو بعد حذف المبتدأ، كقول الشاعر:

«غريب، مشوق، مولع بادّكاركم ***وكلّ غريب الدّار بالشوق مولع»

أي: أنا غريب مشوق... «أنا» ضمير المتكلم مبتدأ «غريب» خبر أول... فإذا تعدّد الخبر لفظا ومعنى، بحيث يكون كلّ واحد مخالفا للآخر فيجوز العطف بين الخبر المتعدّد بحرف عطف مناسب، أي: «بالواو»، أو بغيرها، كقوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ، ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ، فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ} «هو»: ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ. «الغفور»: خبر أوّل.

«الودود»: خبر ثان. «ذو»: خبر ثالث. «فعّال»: خبر رابع. فقد تعدّد الخبر بدون عاطف لذلك فكلّ واحد منها هو خبر، أما عند إثبات العاطف فيعرب الخبر الثاني معطوفا على الأول، لا خبرا ثانيا، وعند حذف العاطف يعتبر خبرا ثانيا. ويجوز تقديم الأخبار كلّها أو بعضها على المبتدأ بغير عاطف، أما مع العاطف فيجوز تقديمها كلّها، أو تأخيرها كلّها.

وإذا كان تعدد الخبر مما تشترك فيه الألفاظ المتعدّدة في تأدية المعنى المطلوب بحيث يكون لكلّ لفظ من الألفاظ معنى خاص ولكنه غير مقصود لذاته، وإنّما المقصود هو المعنى الحاصل من انضمامها كلّها في معنى جديد، فتعرب كلّا منها خبرا وتحصل على ضمير مستتر يعود على المبتدأ ناشىء من اجتماعها كلها، ففي هذه الحالة وجب ترك العاطف، مثل: «سمير طويل قصير» أي: متوسط القامة.

وإذا تعدّد الخبر في لفظه ومعناه، والمبتدأ متعدّد حقيقة، أي: تكوّن من شخصين مستقلّين أو أكثر، وكل واحد مستقلّ عن الآخر. أو متعدّد حكما، أي: يتكون من أجزاء لا يمكن الاستغناء عن واحد منها حتى يتم تركيبه فيجب العطف «بالواو» دون غيره، ويعتبر الخبر الثّاني اسما معطوفا لا خبرا ثانيا، مثل: «الشّقيقان أستاذ وطبيب» «أستاذ»: خبر المبتدأ «طبيب»: اسم معطوف «بالواو» على «أستاذ» ومثل: «المتعلّمون نشيط وكسلان وذكي» المبتدأ «المتعلمون» متعدّد حقيقة لأنه يدل على ثلاثة فأكثر مستقل كل واحد عن الآخر، فتعدّد الخبر بالعطف «بالواو» «نشيط»: خبر المبتدأ. «كسلان»: اسم معطوف على «نشيط»، «ذكي»: اسم معطوف على «نشيط». ومثل: «الجسم لحم وعظم ودم» «الجسم»: مبتدأ متعدد حكما لأنه يدل على شيء واحد مركّب من لحم وعظم ودم، ولا يمكن الاستغناء عن واحد منها. «لحم»: خبر مرفوع، «عظم»: اسم معطوف «بالواو» على «لحم»، «دم»: اسم معطوف «بالواو» على «لحم».

ولا يقتصر تعدّد الخبر على الاسم المفرد بل يجوز أن يتعدّد الخبر الجملة، مثل: «العلم ينير العقول، يهدي الأمّة، يقود إلى الخير، يعود بالمنفعة على الجميع» ومثل: «الكتاب فوائده كثيرة، صفحاته مزيّنة، كلماته واضحة، سطوره مرتبة». فجملة «ينير العقول»: خبر أوّل. «يهدي الأمة»: خبر ثان. «يقود إلى الخير»: خبر ثالث «يعود بالمنفعة على الجميع»: خبر رابع. هذه الجمل كلها فعليّة. والجملة «فوائده كثيرة»: جملة اسمية خبر أوّل، «صفحاته مزيّنة»: خبر ثان «كلماته واضحة»: خبر ثالث. «سطوره مرتبة»: خبر رابع.

ويتعدّد الخبر شبه الجملة أيضا، مثل: «العصفور فوق الشجرة على الغصن أمامنا»...

«فوق»: ظرف مكان خبر أوّل، «على الغصن»: جار ومجرور خبر ثان، «أمامنا»: خبر ثالث. وقد يكون التعدّد مفردا وجملة، مثل: «القائد بطل يقود الجيوش» «القائد»: مبتدأ «بطل» خبر أول مفرد «يقود الجيوش»: خبر ثان جملة فعلية.

8 تقديم الخبر على المبتدأ وجوبا: الأصل في الخبر أن يتأخّر عن المبتدأ. لكنّه قد يتقدم عليه وهذا التقديم يكون واجبا في حالات عدّة منها:

1 ـ إذا كان له حقّ الصّدارة، مثل أسماء الشّرط والاستفهام فتقول: أين الطريق» و «متى الامتحان» و «كيف الطّقس» و «من الغائب» أو مضافا إلى ما له حقّ الصّدارة، مثل: «ربّ أيّ بيت أنت؟» «ربّ»: خبر المبتدأ مقدّم وجوبا لأنّه مضاف الى اسم الاستفهام «أي». «أنت»: ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ مؤخر. ومثل: «ربّ ما ذا هذا الصديق؟» «هذا» «الهاء» للتنبيه «ذا»: اسم اشارة في محل رفع مبتدأ مؤخر. «الصديق» نعت أو بدل، أو عطف بيان. «ربّ» خبر مقدّم وجوبا لأنّه أضيف الى اسم الاستفهام «ماذا».

ومما له حقّ الصّدارة «مذ» و «منذ» عند من يعربهما خبرين متقدّمين، مثل: «ما رأيته مذ أو منذ يومان»، «مذ»: خبر مقدّم أو «منذ» خبر مقدم، يومان: مبتدأ مؤخّر مرفوع بالألف لأنّه مثنى والتّقدير: يومان مذ أو منذ الانقطاع عن رؤيته، وقد تعربان مبتدأ خبره «يومان» والتقدير: زمن الانقطاع عن رؤيته يومان. ومنهم من يعربهما ظرفين مضافين الى جملة فعلية مؤلفة من فعل ماض «مضى» وفاعله «يومان» والتقدير: ما رأيته مذ، أو منذ مضى يومان.

2 ـ إذا كان المبتدأ نكرة محضة ولا مسوّغ للابتداء بها إلّا تقدّم الخبر الجملة، أو شبه الجملة، مثل: «عندك قلم». «عند»: ظرف هو خبر المبتدأ. «قلم»: مبتدأ مؤخر ومثل: «على الطاولة كتاب» «على الطاولة»: جار ومجرور خبر المبتدأ مقدّم. «كتاب»: مبتدأ مؤخر.

3 ـ إذا كان الخبر شبه جملة والمبتدأ يشتمل

على ضمير يعود على الخبر، مثل: «في الحديقة منسّقها» «في الحديقة»: جار ومجرور خبر مقدّم منسّقها: مبتدأ مؤخر.

4 ـ إذا كان الخبر محصورا في المبتدأ، بـ «إلّا» أو «إنما»، مثل: «ما في البيت إلّا الأمّ» «في البيت» جار ومجرور خبر مقدّم، «الأم» مبتدأ مؤخّر لأنّه حصر بـ «إلّا».

5 ـ إذا كان الخبر هو «كم» الخبرية، مثل: «كم ساعة درسك» «كم»: الخبرية خبر مقّدم وهو مضاف «ساعة» مضاف إليه، «درسك» مبتدأ مؤخّر ومضاف إليه. أو كان الخبر مضافا إلى «كم» الخبرية، مثل: «صاحب كم بيت أنت؟» «صاحب» خبر مقدم وهو مضاف «كم»: الخبرية في محل جر بالإضافة و «كم»: مضاف «بيت» مضاف إليه تمييز كم الخبرية، «أنت»: ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ.

6 ـ إذا كان المبتدأ مقرونا «بفاء» الجزاء، مثل: «أمّا أمامك فالعصفور». «العصفور»: مبتدأ مؤخّر وقع بعد فاء الجزاء. «أمامك» ظرف هو الخبر المقدّم و «الكاف» في محل جرّ بالإضافة ومثل: «أمّا في نفسك فالخير».

7 ـ إذا كان الخبر اسم إشارة ظرفا للمكان مسبوقا بـ «هاء» التنبيه، مثل: «ها هنا العلم» «الهاء» للتنبيه. «هنا»: ظرف مكان خبر مقدّم «العلم»: مبتدأ مؤخّر؛ أو إذا كان الخبر ظرف مكان هو «ثمّ»، مثل: «ثمّ العلم» «ثمّ»: ظرف مكان هو خبر مقدّم. «العلم»: مبتدأ مؤخّر.

8 ـ إذا كان تأخير الخبر يؤدي إلى خفاء المراد، مثل: «لله درّك فارسا». المراد هنا التعجّب. ولو تأخّر الخبر «لله» لما حصل التعجّب المقصود، أو لخفي علينا. «لله»: جار ومجرور خبر مقدّم. «درّك» مبتدأ مؤخّر و «الكاف» في محل جر بالإضافة. «فارسا»: تمييز منصوب. أو إذا كان تأخير الخبر يؤدّي إلى الوقوع في اللّبس، مثل: «عندي أنّك ناجح» فتقدّم الظرف يفسّر معنى «أنّ» وهو التّوكيد، وأنّها مفتوحة الهمزة، وأنّه خبر وليس معمولا ل «إنّ».

9 ـ إذا ورد الخبر متقدّما في أمثال العرب.

والأمثال لا تتغيّر مطلقا لا في حروفها، ولا في ضبطها، ولا في تركيب كلماتها، مثل: «في كلّ واد بنو سعد». «في كلّ»: جار ومجرور خبر مقدّم. «كل» مضاف «واد»: مضاف إليه. «بنو» مبتدأ مؤخر وهو مضاف «سعد»: مضاف إليه.

9 ـ مواضع اقتران الخبر بالفاء: يصح أن يقترن خبر المبتدأ «بالفاء» وجوبا أو جوازا.

وتدخل «الفاء» على خبر المبتدأ وجوبا بأربعة شروط:

1 ـ أن يدلّ المبتدأ على الإبهام والعموم.

2 ـ أن يكون زمن الخبر مستقبلا، ويجوز بقلّة أن يكون ماضيا.

3 ـ أن يكون الخبر شبيها بجواب الشرط، نتيجة لما قبله، خاليا من أداة الشّرط، مثل: «الذي يكرمني فمحبوب» «الذي»: اسم موصول يدلّ على العموم هو مبتدأ «فمحبوب» «الفاء»: للجزاء. «محبوب»: خبر المبتدأ يدل على المستقبل وهو شبيه بالشّرط، ونتيجة لما قبله، وخال من أداة الشّرط. والتقدير: «من يكرمنى فمحبوب» وصلة الموصول «يكرمني» جملة فعليّة مضارعيّة تدلّ على المستقبل. ومثل: «من يزورني فمحترم» ومثل: «رجل يزورني فمسرور». «رجل» مبتدأ نكرة يدل على العموم.

وجملة «يزورني»: صفة للنكرة وهي جملة

مستقبليّة «مسرور» خبر مقترن بالفاء شبيه بالشّرط وخال من أداته.

وتتحقق مشابهة الخبر بجواب الشرط في كلّ اسم موصول صلته جملة فعليّة تدلّ على المستقبل، أو صلته ظرف، أو صلته جار ومجرور، تتعلق بفعل يدلّ على المستقبل.

وتتحقّق المشابهة أيضا في كل نكرة عامّة موصوفة بجملة أو بشبه جملة دالتين على المستقبل.

وإذا اقترن الخبر «بالفاء» وجب تأخيره عن المبتدأ، وإذا تقدم وجب حذفها.

4 ـ ويجب اقتران الخبر «بالفاء» في حالة أخيرة هي عند ما يقع بعد «أمّا»، مثل: «أمّا الأمّ فعادلة». «أمّا» الشرطية. «الأمّ»: مبتدأ «فعادلة»: «الفاء»: رابطة للخبر. «عادلة» خبر المبتدأ.

ويجوز اقتران الخبر بـ «الفاء» في مواضع عدّة منها:

1 ـ أن يكون المبتدأ اسم موصول صلته جملة فعليّة مستقبليّة أو شبه جملة تتعلّق بفعل يدلّ على المستقبل، مثل: «من يكرمني فمسرور»، ومثل: «الذي عندنا فرجل» صلة الموصول ظرف «عندنا» يتعلق بفعل مستقبل الزمن تقديره يتكلم أو يتحدث... ومثل: «الذي في الجامعة فأستاذ».

صلة الموصول جار ومجرور متعلّق بفعل مستقبل الزمن تقديره يحاضر، يتكلم... أو أن يكون المبتدأ مضافا إلى اسم موصول، مثل: «صاحب من يكرمني فمسرور» «صاحب»: مبتدأ وهو مضاف «من»: اسم موصول في محل جر بالإضافة وجملة «يكرمني» مستقبليّة هي صلة الموصول.

«فمسرور» خبر مقترن بالفاء.

2 ـ أن يكون المبتدأ نكرة عامة موصوفة بجملة مستقبليّة، أو بشبه جملة تتعلّق بفعل مستقبل الزّمن، مثل: «انسان يساعد الفقير فمحسن».

«انسان» مبتدأ نكرة وجملة «يساعد الفقير» جملة مستقبليّة هي نعت للنكرة. «فمحسن» خبر المبتدأ مقترن «بالفاء». ومثل: «تلميذ مع رفاقه فمحبوب»، ومثل: «رجل في المصنع فمستفيد»، أو أن يكون المبتدأ مضافا إلى نكرة، مثل: «مرافق انسان يساعد الفقير فمحسن» ومثل: «صاحب تلميذ مع رفاقه فمحبوب»، ومثل: «غلام رجل في المصنع فمستفيد»

3 ـ أن يكون المبتدأ هو لفظ «كل» أو «جميع» مضافا إلى نكرة موصوفة بجملة مستقبليّة، أو بشبه جملة تتعلّق بفعل مستقبل الزّمن، كقول الشاعر:

«كلّ سعى سوى الذي يورث الفو***ز فعقباه حسرة وخسار»

ومثل: «كلّ تلميذ أمام الدرس فمثابر» ومثل: «كلّ عامل يهمل عمله فحقير» ومثل: «كلّ تلميذة في المدرسة فمجتهدة».

4 ـ أن يكون المبتدأ موصوفا باسم موصول صلته جملة فعليّة مستقبليّة أو شبه جملة متعلّقة بفعل مستقبل الزمن، مثل: «الرفيق الذي تصاحبه فمجتهد». «الرفيق»: مبتدأ. «الذي»: اسم موصول في محل رفع نعت «الرفيق»، وجملة «تصاحبه» المستقبلية صلة الموصول. «فمجتهد» خبر المبتدأ مقترن بالفاء؛ ومثل: «الرفيق الذي معك فمجتهد» ومثل: «الرفيق الذي في الصفّ فأمين» أو أن يكون هذا المبتدأ مضافا إلى اسم موصوف باسم الموصول المتقدم، مثل: «خادم الرفيق الذي ترافقه فمجتهد»، ومثل: «غلام الرفيق الذي في الصف فأمين» ومثل: «كاتب الفرض

الذي معك فقدير».

5 ـ وقد تدخل «الفاء» جوازا بقلّة على الخبر، إذا كان المبتدأ كلمة «كل» مضافة إلى نكرة غير موصوفة، مثل: «كلّ رفعة فمن الله» «كلّ»: مبتدأ وهو مضاف «رفعة»: مضاف إليه. «فمن الله»: شبه جملة هي خبر المبتدأ تتعلق بفعل مستقبل الزمن تقديره: تحصل من الله، أو تأتي من الله.

والنكرة الواقعة مضافا إليه غير موصوفة. ويجوز أن تكون موصوفة بأيّ وصف، مثل: «كلّ نعمة زائلة فنتيجة لما تقدّم من ذنب» «زائلة»: هي صفة للنكرة الواقعة مضافا إليه.

6 ـ ويجوز دخول «الفاء» على الخبر إذا كان المبتدأ هو «أل» الموصول مع صلتها صفة صريحة مستقبلية الزمن، مثل: «الدّارس والدّارسة فناجحان» أي: الذي يدرس. «الذي» مبتدأ.

«دارس» صلة «أل» وهما صفة صريحة مستقبليّة الزمن. ومنه قوله تعالى: {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما}.

المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م


43-المعجم المفصل في النحو العربي (رب)

ربّ

لغاتها: لكلمة «ربّ» لغات كثيرة أوصلها بعضهم إلى سبعة عشر لفظا، وأوصلها آخرون إلى العشرين، وهي: ربّ، ربّ، رب، رب، ربّت، ربت، ربت، ربّت، ربت، ربت، ربّت، رب، رب، رب، ربّ، ربّتما، ربت، وأضاف آخرون: ربّة، ربما ربما، فاكتمل العدد إلى العشرين، فقرأ بعضهم قوله تعالى: {رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا:} ربما، وربما، وقال الشاعر:

«رب أمر تتّقيه ***جرّ أمرا ترتضيه»

«خفي المحبوب منه ***وبدا المكروه فيه»

حكمها:

1 ـ «ربّ» حرف جر شبيه بالزائد، ولا يدخل إلا على النّكرة، ولا تعلق له، مثل:

«وربّ أسيلة الخدّين بكر***مهفهفة لها فرع وجيد»

حيث جرّ الاسم النكرة «أسيلة» بـ «ربّ» لفظا وهو مرفوع محلّا على أنه مبتدأ. وقد تدخل «ربّ» على ضمير الغائب بلفظ المفرد المذكّر، كقول الشاعر: «ربّه فتية دعوت إلى ما***يورث المجد دائبا فأجابوا»

حيث دخلت «ربّ» على الضمير «الهاء» وهو ضمير الغائب، وله محلّان من الإعراب: الجر، والرّفع، فهو مجرور بـ «ربّ» لفظا ومرفوع محلّا على أنه مبتدأ.

2 ـ تفيد «ربّ» التقليل أو التكثير، لقرينة تبيّن المراد، مثل: «ربّ تجارة نافعة تجلب المال» ومثل: «ربّ جاهل والعلم قد رفعه». وكقول الشاعر:

«يا ربّ مولود وليس له أب ***وذي ولد لم يلده أبوان»

«وربّ» في المثلين تفيد التّكثير وفي البيت تفيد التقليل، ومثل: «ربّ منيّة في أمنية تحقّقت» و «رب» تفيد القلّة، والقرينة الدّالة على الكثرة أو القلّة متروكة لأمر المتكلم أو السّامع.

3 ـ «ربّ» له حق الصّدارة في جملته ويجوز أن يتقدّم عليه «ألا» الاستفتاحيّة ومثله الحرف «لكن» المخفّف من «لكنّ» والذي يفيد الاستفتاح والاستدراك معا، مثل: «ألا ربّ منظر جميل يخفي وراءه قبحا ذميما»، وكقول الشاعر:

«نعمة الله لا تعاب ولكن ***ربّما استقبحت على أقوام»

وقد تتقدم على «ربّ» «يا» النداء، مثل «يا ربّ مخترع رفعه علمه»، وكقول الشاعر:

«فيا ربّ وجه كصافي النمير***تشابه حامله والنّمر»

فقد تقدم حرف النداء «يا» على «ربّ» وإذا تقدّم عليه غير ذلك فيكون من الشاذ، كقول الشاعر:

«وقبلك ربّ خصم قد تمالوا***عليّ فما هلعت ولا ذعرت»

وفيه تقدمت الكلمة «قبلك» على «ربّ» والتقدير: رب خصوم قد تمالؤا عليّ قبلك.

4 ـ إن النكرة المجرورة بـ «ربّ» تحتاج لنعت إما مفردا، أو جملة، أو شبه جملة وأكثر ما تكون الجملة فعلها ماض لفظا ومعنى، مثل: «رب طالب ذكيّ صادفته» ومثل: «رب ولد اجتهد عرفته»، أو معنى فقط كالمضارع المنفي بـ «لم» مثل: «رب طالب لم يتوان عن واجباته عرفته»، ففي المثل الأول النعت مفرد هو «ذكي» وفي الثاني فعل ماض هو «اجتهد» وفي الثالث فعل ماض معنى أي: مضارع مقرون بـ «لم» وهو الفعل «لم يتوان» وأما في مثل: «ربّ صديق عندك أحببته» و «ربّ صديق في العسرة وجدته» ومثل: «رب ملوم لا ذنب له» فالنعت في المثل الأول هو «عندك»، شبه جملة، وفي الثاني هو «في العسرة» شبه جملة، وفي الثالث النعت هو جملة اسمية هي «لا ذنب له»، وكقول الشاعر:

«ذلّ من يغبط الذّليل بعيش ***ربّ عيش أخفّ منه الحمام»

وفيه النعت هو الجملة الاسمية «أخفّ منه الحمام» وكقول الشاعر:

«ربّ ليل كأنّه الدّهر طولا***قد تناهى فليس فيه مزيد»

وفيه جملة النعت ماضوية وهي «قد تناهى».

وتحتاج «ربّ» مع الاسم المجرور إلى اتصال معنويّ ماض يكون متعلّق «ربّ» وهذا الفعل هو غير الجملة الواقعة صفة، ويكون غالبا محذوفا مع فاعله وتدل عليهما قرينة لفظية، مثل: «ما أحلى النجاح وما أبغض الفشل، فربّ نجاح

حسن وربّ فشل ضارّ» أي: ربّ نجاح استحسنته وربّ فشل كرهته. أو قرينة معنويّة، مثل قولك وأنت تمر على الطلاب المجتهدين: «ربّ اجتهاد نافع» والتقدير: ربّ اجتهاد نافع أحببته، وكقول الشاعر:

«ربّ حلم أضاعه عد***م المال وجهل غطى عليه النّعيم»

والتقدير: ربّ حلم أحببته أضاعه عدم المال، ويعتقد بعضهم أنها لا تتعلق بشيء.

9 ـ قد تدخل «ما» الزائدة على «ربّ» فتكفها عن عمل الجر، وتمنعها من الدخول على الأسماء فتدخل على الجملة الفعليّة، مثل: ربما قدم المحاضر. أو الاسمية، كقول الشاعر:

«ربّما الجامل المؤبّل فيهم ***وعناجيج بينهن المهار»

ومثل: «ربما المحاضر قادم»، ولا يتغيّر معناها، ومن العرب من يبقيها على حالها من العمل ومن الدخول على الأسماء المفردة التي تكون مجرورة بها، رغم اقترانها بـ «ما» الزائدة الكافّة. ومن دخولها على الجملة الفعليّة وبطلان عملها قول الشاعر:

«ربّما أوفيت في علم ***ترفعن ثوبي شمالات»

فقد دخلت «ربما» على الجملة الفعلية الماضوية.

ومن دخولها على الجملة المضارعيّة، قوله تعالى: {رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ} فقد دخلت «ربّما» على الجملة المضارعية لأنه بطل عملها. وقد تدخل عليها «ما» دون أن يبطل عملها، وعدم بطلان عملها ظاهر في قول الشاعر:

«ربّما ضربة بسيف ثقيل ***بين بصرى وطعنة نجلاء»

7 ـ قد تحذف «ربّ» لفظا بعد «الواو» أو «الفاء» أو «بل» ويبقى عملها، مثل:

«وجانب من الثّرى يدعى الوطن ***ملء العيون والقلوب والفطن»

فقد حذفت «ربّ» بعد «الواو» التي تسمّى «واو» ربّ «جانب» اسم مجرور لفظا مرفوع محلّا على أنه مبتدأ. وكقول الشاعر:

«فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ***فألهيتها عن ذي تمائم محول»

إذ حذفت «ربّ» بعد «الفاء»، «مثلك»: مثل: اسم مجرور لفظا منصوب محلّا على أنه مفعول به لفعل «طرقت» «حبلى»: تمييز.

وكقول الشاعر:

«بل بلد ملء الفجاج قتمه ***لا يشترى كتّانه وجهرمه»

فقد حذفت «ربّ» بعد «بل». «بلد»: اسم مجرور بـ «ربّ» لفظا مرفوع محلّا على أنه مبتدأ.

وقد تحذف بدون أن يأتي بعدها شيء يدل عليها، كقول الشاعر:

«رسم دار وقفت في طلله ***كدت أقضي الحياة من جلله»

8 ـ تخالف «رب» حروف الجر في أربعة أشياء:

أـ أنّها لا تقع إلا في صدر الكلام، لأن معناها التّقليل، وتقليل الشيء يقارب نفيه، فأشبهت حرف النفي الذي له صدر الكلام.

ب ـ أنّها لا تعمل إلا في النكرة لأنها تفيد التّقليل، والنكرة تفيد التّكثير، فتدخل عليها لتفيد التّقليل.

ج ـ لا تعمل إلّا في نكرة موصوفة لأنّ ذلك يكون عوضا عن الفعل المحذوف الذي تتعلق به، وقد يظهر ذلك الفعل في الضرورة الشعريّة.

د ـ لا يجوز أن يظهر الفعل الذي تتعلّق به للإيجاز والاختصار، فإذا قلنا: «ربّ رجل يعلم» كان التقدير: رب رجل يعلم أدركت أو لقيت، فحذف الفعل لدلالة الحال عليه، وهذا كثير في كلامهم.

ملاحظة: تسمّى «الواو» و «الفاء» و «بل» العوض عن «ربّ» لأنها تدلّ عليها، وكل منها مبني على الفتح و «بل» مبنيّة على السكون، والاسم المجرور بعدها له محلّان من الإعراب: الجرّ، والرّفع، على الابتداء كقول الشاعر:

«ومستعبد إخوانه بثرائه ***ليست له كبرا أبرّ على الكبر»

«الواو» هي بدل من «ربّ» مبنيّة على الفتح، لا محل لها من الإعراب «مستعبد» اسم مجرور بـ «ربّ» لفظا مرفوع محلّا على أنه مبتدأ.

«إخوانه» مفعول به لاسم الفاعل «مستعبد» و «الهاء» في محل جر بالإضافة وخبر المبتدأ هو الجملة المؤلّفة من «ليس» واسمها وخبرها.

المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م


44-المعجم المفصل في النحو العربي (العامل الشبيه بالزائد)

العامل الشّبيه بالزّائد

هو العامل الذي لا يمكن الاستغناء عنه في الجملة لأنه يؤدي معنى جديدا، وهو يشبه الزائد من ناحية عدم حاجته الى متعلّق، كبعض حروف الجر، مثل:

«ربّه فتية دعوت إلى ما***يورث المجد دائبا فأجابوا»

ربّ: حرف جر شبيه بالزائد «والهاء» في محل رفع مبتدأ. ومثل: «واو» «ربّ» في قول الشاعر:

«وليل كموج البحر أرخى سدوله ***عليّ بانواع الهموم ليبتلي»

المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م


45-المعجم المفصل في النحو العربي (عود الضمير)

عود الضمير

لا بدّ لضمير الغائب من اسم متقدّم عليه مذكور يفسّر غموضه ويزيل إبهامه يسمى عود الضمير؛ وضمائر المتكلّم والمخاطب لا تحتاج إلى هذا المرجع أو العائد، لأن المتكلم والمخاطب يفسران ضمائرهما في وقت الكلام، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُومًا لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ}. ويسمى أيضا: رجوع الضمير.

ملاحظة: عود الضمير علامة من علامات الاسم.

عود الضمير على متأخّر: قد يعود الضمير إلى مرجع متأخر لفظا ورتبة لغرض بلاغيّ كقصد التّفخيم بذكره مبهما، ثم تفسيره بعد ذلك، ويكون إدراكه وفهمه أوضح بسبب ذكره مرّتين مجملا ثم مفصلا. وذلك يكون في مواضع عدّة منها:

1 ـ فاعل «نعم» و «بئس» وبعدهما نكرة تزيل الإبهام وتبيّن المراد منه، مثل: «نعم رجلا زيد» نعم: فعل ماض جامد مبنيّ على الفتح والفاعل ضمير مستتر تقديره هو. «رجلا»: تمييز. «زيد» مبتدأ خبره «نعم رجلا» أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو.

2 ـ الضمير المجرور بـ «ربّ» المفرد المذكّر الذي يليه نكرة تزيل إبهامه، وتعرب تمييزا، كقول الشاعر:

«ربّه فتية دعوت إلى ما***يورث المجد دائبا فأجابوا»

حيث وردت: «ربّ»: حرف جر شبيه بالزائد.

و «الهاء»: ضمير متصل في محل رفع مبتدأ.

«فتية»: تمييز منصوب. وجملة «دعوت» في محل رفع خبر المبتدأ. فالضمير المجرور بـ «ربّ» هو مفرد مذكّر رغم عوده على «فتية».

3 ـ الضمير المرفوع في باب التنازع، مثل: «يقاتلون ولا يتأخر الجنود عن تقديم الواجب» «فالواو» في «يقاتلون» هي الفاعل. ويعود هذا الضمير إلى متأخّر في اللفظ «الجنود» الواقعة فاعل «يتأخّر» فلذلك اتصل الفعل الأول بضمير يعود إلى الاسم المتنازع فيه وهو «الجنود».

وأصل الكلام يحارب ولا يتأخر الجنود. فكل من الفعلين يطلب كلمة «الجنود» فاعلا له. فبقيت كلمة «الجنود» فاعلا للفعل الثاني الأقرب إليها.

4 ـ الضمير الذي يبدل منه اسم ظاهر يفسّره، مثل: «سأكمله... الفرض». «الفرض» بدل من «الهاء» في «سأكمله» منصوب لأن «الهاء» في محل نصب مفعول به ومثل: «سأسلّم عليه...

العائد من السّفر». «العائد»: بدل من «الهاء» في «عليه» وهو مجرور مثله.

5 ـ الضمير الواقع مبتدأ وخبره يوضّحه ويفسّر حقيقته، مثل: «هو المعلم الناجح». «هو»: ضمير منفصل مبنيّ على الفتح في محل رفع مبتدأ. «المعلم»: خبر المبتدأ مرفوع «الناجح»: نعت مرفوع. ومثل: «هو الله العليّ القادر».

«هو»: مبتدأ «الله»: خبره.

6 ـ ضمير الشأن والقصّة، مثل: «إنّه الصّبر مفتاح الفرج». «إنه»: حرف مشبه بالفعل.

و «الهاء»: ضمير الشأن اسمه. وخبره الجملة الاسمية «الصبر مفتاح الفرج».

تعدد مرجع الضمير: لضمير الغائب مرجع واحد في الأصل، لكن قد يتعدّد هذا المرجع ويكون مقتضى الكلام مقتصرا على واحد، فيرجع الضمير إلى الأقرب إليه في الكلام، مثل: «جاء سمير ورفيق فأكرمته». «فالهاء» في «أكرمته» تعود إلى «رفيق» لأنه الأقرب. وربّما لا يعود الضمير إلى الأقرب إذا دلّت على ذلك قرينة، مثل: «جاءت سميرة ورفيق فأكرمتها». «الهاء»: في «أكرمتها» تعود إلى «سميرة» لوجود قرينة تدل على ذلك وهي التأنيث، وربما يرجع الضمير على المضاف، والمضاف إليه هو الأقرب، مثل: «زارني والد صديقتي فأكرمته» «فالهاء» في «أكرمته» يعود إلى «والد» أي: إلى المضاف مع أن المضاف إليه هو الأقرب إلى الضمير. إلّا إن وجدت قرينة تدل على عود الضمير إلى المضاف إليه، مثل: «زارني والد صديقتي فأكرمتها».

«الهاء» في «أكرمتها» تعود إلى المضاف إليه لدلالة القرينة على ذلك وهي التأنيث. ومثل: «قرأت صفحات الكتاب ثم طويته» «الهاء» في «طويته» تعود إلى الكتاب لوجود قرينة تدلّ على ذلك، وهي التّذكير. أمّا إذا كان المضاف لفظة «كل» أو «جميع» فالأغلب عود الضمير على المضاف إليه، مثل: «كلّ المعلمات احترمتهنّ» الضمير «هنّ» في «احترمتهن» يعود على «المعلمات» بدليل وجود قرينة تدل على ذلك وهي «نون النسوة».

مطابقة الضمير مع مرجعه: الأصل في ضمير الغائب أن يطابق مرجعه في الإفراد والتّذكير والتّأنيث والتّثنية والجمع، مثل: «الأستاذ حضر» «الطالبان حضرا» «الأولاد ناموا»، «الأم جاءت»، «الفتاتان نامتا»، «الفتيات درسن».

أما إذا كان المرجع جمعا مؤنثا سالما لغير العاقل فيجوز أن يكون ضميره مفردا مؤنثا أو جمعا، أي: أن يكون ضمير جمع المؤنث السالم العاقل، مثل: «البنايات علت أو علون». فاعل «علت» ضمير مستتر تقديره: هي. وفاعل «علون» هو نون النسوة. أما إذا كان مرجع الضمير جمع تكسير للعاقل المؤنث فيكون ضميره نون النسوة أيضا، مثل: «الغواني رقصن» فاعل «رقصن» هو نون النسوة الذي يعود إلى «الغواني». وإذا كان المرجع جمع تكسير للعاقل المذكر فيكون ضميره إما «واو» الجماعة مراعاة للفظ، أو ضمير المفرد المؤنّث مع وجود تاء التأنيث متّصلة بالفعل، مثل: «الرجال حضروا أو حضرت». فاعل «حضروا» الضمير المتصل «واو» الجماعة الذي يعود على «الرجال». وفاعل «حضرت» ضمير

مستتر تقديره: هي. يعود إلى جمع التكسير العاقل المذكر: «الرجال»، ومثل ذلك يكون حال المرجع إذا كان جمع تكسير لغير العاقل فيكون ضميره «نون» النسوة، أو ضمير المفرد المؤنث، مثل: «المدن كبرت أو كبرن» فاعل «كبرت» ضمير مستتر يعود إلى «المدن» جمع تكسير لغير العاقل، ومفرده مؤنث هو «مدينة». وفاعل «كبرن» هو نون النسوة.

ومثل ذلك: «الليالي انصرمت أو انصرمن». ويجوز أن يكون الضمير للمفرد المؤنث إذا كان جمع التكسير يدل على الكثرة، أو أن يكون «نون» النسوة، إذا دلّ جمع التكسير على القلّة، مثل: «توفي والدي لأيام خلت من شهر ربيع الأول» أي: حصلت الوفاة في آخر شهر ربيع الأوّل فمضت أكثر أيّامه، ومثل: «غادرت لبنان لأيام خلون من شهر كانون الأول» أي: في بدء شهر كانون الأول فمضت أيام قلائل منه. وإذا كان مرجع الضمير اسم جمع للمذكر جاز أن يكون ضميره «واو» الجماعة أو ضمير المفرد المذكر، مثل: «القوم حضروا أو حضر». «القوم» اسم جمع للمذكر، ومثله: «الرّكب» فالضمير العائد عليه هو «واو» الجماعة، أو ضمير المفرد المذكر. ومثل: «الرّكب ظعنوا أو ظعن». وإذا كان المرجع اسم جمع للمؤنث كان ضميره نون النسوة، مثل: «النساء حضرن والجماعة أقبلن». «النساء» اسم جمع للمؤنث ومثله «الجماعة».

فالضمير العائد عليه هو «نون النسوة». وإذا كان المرجع اسم جنس جمعي جاز أن يكون ضميره مفردا مذكرا أو مؤنثا، كقوله تعالى: {أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} وكقوله تعالى: {أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ} وإن كان مرجع الضمير يختلف مع ما يتصل به اتصالا إعرابيا وثيقا في التّذكير والتّأنيث، جاز تذكير الضمير أو تأنيثه مراعاة للمتقدّم أو للمتأخّر، مثل: «السفينة هي نوع من وسائل النقل» أو هو نوع من وسائل النقل. «السفينة»: مبتدأ مرفوع. «نوع»: خبره وهو مخالف للمبتدأ في التّذكير والتأنيث لذلك يجوز في الضمير مراعاة المتقدّم «السفينة» فنقول: هي نوع... أو مراعاة المتأخر، فنقول هو وإذا كان مرجع الضمير هو لفظ «كم» فيجوز أن يعود الضمير إلى «كم»، ويراعى فيه ناحيتها اللّفظية، فيكون مفردا مذكرا كلفظها، أو يراعى فيه ناحيتها المعنويّة، إذا دلت على مثّنى أو جمع مؤنّث أو مذكّر، مثل: «كم طبيب دخل إلى غرفة العمليات». الضمير العائد على «كم» والمستتر في الفعل «دخل» هو مفرد مذكر مطابق للفظ «كم» ويجوز أن تقول: «كم طبيب دخلا أو دخلوا» الضمير العائد مثنّى مستتر في الفعل «دخلا» يراعي المعنى المقصود وكذلك في «دخلوا». ومثل: كم طبيبة دخلت أو دخلتا... أو دخلن إلى قاعة العمليات، و «كم طبيبة دخل» حيث الضمير العائد في «دخل» مفرد مذكر يراعى لفظ «كم». ويراعى في «كلا» و «كلتا» ما يراعى في «كم»، فتقول: «كلا الرجلين حضر أو حضرا» و «كلتا الفتاتين حضرت أو حضرتا»، ومثلها أيضا «من»، مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحًا نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ}. الضمير العائد في الفعل «يقنت» يراعي لفظ «من» والضمير العائد في الفعل «تعمل» يراعي المعنى، ومثلها أيضا، «ما» مثل: «راقني ما نجح أو نجحت، أو نجحوا، أو ما نجحن»، وكقول الشاعر:

«إذا لم أجد في بلدة ما أريده ***فعندي لأخرى عزمة وركاب»

فالضمير المتصل بالفعل «أريده» يراعي لفظ «ما». ومثلها أيضا «كل» و «بعض»، مثل: «كل فتاة سافرت أو سافر» و «كل طالبتين حضر أو حضرتا» ومثل: «بعض الفتيات حضر أو حضرن»، وكقول الشاعر:

«وكلّ قوم لهم رأي ومختبر***وليس في تغلب رأي ولا خبر»

حيث يعود الضمير في «لهم» على «قوم» فيراعى لفظ المضاف إليه. ومثلها أيضا «أيّ»، مثل: «أي معلمة حضرت» و «أي معلمتان حضر أو حضرتا» و «أيّ المعلمات حضر أو حضرن» و «أيّ الرجال حضر أو حضروا» و «أي رجلين حضر أو حضرا».

هذا ومطابقة الضمير مع مرجعه تعود لتقدير المتكلّم، وعلى حسب المناسبات التي تدعوه لتفضيل اللّفظ أو المعنى عند المطابقة. وإذا كان للضمير مرجعان روعي العود على الأقوى، أي: على درجة التعريف وشهرته، وتتدرّج المعارف وفقا لما يأتي مبتدئا بالأقوى: الضمير ثم العلم، فإن وجد ضمير مع علم روعيت مطابقة الضمير ثم اسم الإشارة، ثم اسم الموصول، ثم المعرّف بـ «أل»، ثم المضاف إلى معرفة، ثم النكرة المقصودة، مثل: «عليّ وأنا أكلت» وتتدرج الضمائر بحسب الأقوى أيضا، فأقواها ضمير المتكلم، ثم ضمير المخاطب، ثم ضمير الغائب، فإذا وجد ضمير الغائب مع ضمير المخاطب روعيت المطابقة مع ضمير المخاطب لأنه الأقوى، مثل: «هو وأنت قدمت». وإذا كان المرجع لفظا مشتركا بين المذكر والمؤنث جاز تذكير الضمير العائد عليه أو تأنيثه، مثل: «الروح علمها عند ربي» أو «الروح علمه عند ربي» فكلمة «الروح» يشترك فيها التّذكير والتّأنيث فيجوز أن يعود الضمير بالمؤنث كما في «علمها» أو بالمذكر كما في «علمه». وإذا عاد على هذا اللّفظ ضميران جاز تأنيث أحدهما وتذكير الآخر مثل: «الروح هو من أسرار الله لا تعرف حقيقتها» حيث يعود على اللفظ المشترك في التّذكير والتّأنيث «الروح» ضميران الأول منهما مذكر «هو» والثاني ضمير المفرد المؤنث هو «الهاء» المتصل بـ «حقيقتها».

وإن وقع الضمير العائد إلى مرجعه بعد «أو» التي تفيد الشك، فالأغلب أن يكون مفردا، مثل: «شاهدت الشمس أو القمر يضيء». فكلمة «أو» تفيد هنا الشك، فالضمير العائد المستتر في الفعل «يضيء» مفرد مذكّر. فإن أفادت «أو» التعيين للأنواع فالأغلب المطابقة، كقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلى بِهِما} «أو» تفيد أنواع من يكون الله أولى بهما لذلك أتى الضمير مثنى في «بهما».

المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م


46-المعجم المفصل في النحو العربي (المؤنث الحقيقي)

المؤنث الحقيقيّ

اصطلاحا: هو الذي يدلّ على مؤنث وله مذكّر من جنسه، مثل قوله تعالى: {وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} «امرأة» مؤنث حقيقي، المذكّر من جنسه كلمة «رجل». ومثله: «أخت» مؤنث «أخ» والمؤنّث الحقيقيّ قسمان: المؤنث الحقيقيّ اللّفظي. المؤنّث الحقيقيّ المعنويّ.

المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م


47-المعجم المفصل في النحو العربي (النكرة)

النكرة

1 ـ تعريف الاسم النكرة: الاسم النكرة هو الذي لا يحتاج في دلالته على المعنى الذي وضع له إلى قرينة، بخلاف الاسم المعرفة فإنه يحتاج إلى قرينة تدل عليه.

2 ـ علامة الاسم النكرة:

1 ـ علامة الاسم النكرة قبوله دخول «ربّ» عليه، مثل: «رجل» «كتاب»، «فرس»، فتقول: «ربّ رجل»، «ربّ كتاب»، «ربّ فرس»، مثل: «ربّ أخ لك لم تلده أمّك». «أخ» اسم نكرة لأنه قبل دخول «ربّ» عليه. ومثل:

«ربّ أسيلة الخدّين بكر***مهفهفة لها فرع وجيد»

«أسيلة»: اسم نكرة دخلت عليه «ربّ».

2 ـ وعلامة الاسم النكرة الثانية هي قبوله دخول «أل» عليه. فتقول: «الرجل» «الفرس» «الكتاب»، كقول الشاعر:

«لا تضيقنّ بالأمور فقد تك***شف غمّاؤها بغير احتيال»

«ربّما تكره النفوس من الأم***ر له فرجة كحلّ العقال»

وفيه: «الأمور» اسم نكرة قبل دخول «أل» فأصبح معرفة. ومثله النفوس. وفيه ربّما: دخلت «ربّ» على «ما» فدلّت على أنها نكرة. وتدخل على من. مثل:

«ربّ من أنضجت غيظا قلبه ***قد تمنّى لي موتا لم يطع»

فدخلت «ربّ» على «من» فدلّت على أنها نكرة وقد تدخل «رب» على المعرفة فتحوّلها إلى نكرة كدخولها على الضمير الذي هو أول المعارف كقول الشاعر:

«ربّه فتية دعوت إلى ما***يورث المجد دائبا فأجابوا»

حيث دخلت «ربّ» على الضّمير الذي يرجع إلى نكرة «فتية». والضمير إذا عاد إلى نكرة صار نكرة وجاز دخول «ربّ» عليه. ويقع هذا الضمير مبتدأ و «فتية». تمييز منصوب. وخبر المبتدأ هو جملة «دعوت».

و «ربّ» حرف جر شبيه بالزائد. والاسم بعده مجرور لفظا. وله محل آخر من الإعراب، فكلمة «أسيلة» في المثل الأول مجرورة لفظا مرفوعة محلّا على أنها مبتدأ وكذلك الهاء في المثل السابق. وكذلك «من» في البيت الأسبق. أما إذا دخلت «ما» على «ربّ» فتكفّها عن الجر وتدخل عندئد على الأفعال كالمثل الأسبق: ربّما تكره النفوس.... وقد يبقى عملها رغم دخول «ما» عليها، كقول الشاعر: «ربّما ضربة بسيف ثقيل ***بين بصرى وطعنة نجلاء»

فبقي عمل «ربّ» بدليل جرّ «طعنة» ووقوعها في محل رفع على الابتداء، وخبره محذوف.

أنواعها:

1 ـ ما يقبل «أل» التعريف مثل: «ولد الولد» و «كتاب الكتاب».

2 ـ ما لا يقبل «أل» التعريف بل يقبل ما يفيد معنى التعريف، مثل: «ذي» بمعنى صاحب فتقول: «سلّم على ذي خلق». ومثل: «من» فتقول: «يعجبني من هو متواضع» ومثل: «ما» بمعنى: شيء. فتقول: «سررت بما مفرح لك».

ومثل: اسم الفعل «صه» بالتنوين ومعناه «سكوتا». وكلمة «سكوت» تدخل عليها «أل».

3 ـ بعض أنواع النّكرة أعرف من بعض: فالأعمّ: الشيء. وأخصّ منه: «الجسم»، وأخصّ من الجسم: «الحيوان»، وأخص من الحيوان: «الإنسان» وأخصّ من الإنسان: «الرجل» وأخص من رجل: رجل لطيف.

اشتراك المعرفة والنّكرة: إذا اجتمع اسمان: أحدهما نكرة والثاني معرفة فإذا كانت الصّفة للمعرفة تكون حالا مثل: «هذا ولد وسمير منطلق». فإذن يجب أن نقول: «هذا ولد وسمير منطلقا» كما نقول: هذا سمير منطلقا. وإذا كانت الصّفة للنّكرة، فنقول: «هذا ولد وسمير منطلق».

«منطلق» نعت «ولد»، وإن كانت الصفة لهما جميعا فتقول: «هذا ولد وسمير منطلقين» فتكون الحال للاسمين: النكرة والمعرفة وبتغليب المعرفة تكون كلمة «منطلقين» حالا لهما.

المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م


48-المعجم المفصّل في الإعراب (رب)

ربّ ـ

حرف جرّ لا يجرّ إلّا النّكرة، وهو شبيه بالزائد، إذ لا يتعلّق بشيء، وقد يدخل على ضمير الغيبة، فيلازم الإفراد والتذكير، نحو قول الشاعر:

«ربّه فتية دعوت إلى ما***يورث المجد دائبا فأجابوا»

(«ربّه»: حرف جرّ شبيه بالزّائد مبنيّ على الفتح لا محلّ له من الإعراب. والهاء ضمير متّصل مبنيّ على الضمّ في محلّ رفع مبتدأ. «فتية»: تمييز منصوب بالفتحة الظاهرة.

«دعوت»: فعل ماض مبنيّ على السكون لاتّصاله بضمير رفع متحرّك. والتاء ضمير متّصل مبنيّ على الضمّ في محلّ رفع فاعل. وجملة «دعوت» الفعليّة في محلّ رفع خبر المبتدأ). وتفيد «ربّ» التكثير، ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يا ربّ كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة»، كما قد تفيد التقليل، نحو قول الشاعر:

«ألا ربّ مولود وليس له أب ***وذي ولد لم يلده أبوان..»

ول «ربّ» أحكام منها:

1 ـ حقّ الصدارة فلا يجوز أن يسبقها إلّا «ألا» الاستفتاحيّة و «يا» التنبيهيّة،

نحو: «ألا ربّ ضائقة أصابتني» ونحو: «يا ربّ تلميذ جدّ فوجد».

2 ـ لا تجرّ إلّا النّكرات، ولا يأتي بعدها إلّا الأسماء الظاهرة، كالأمثلة السابقة، أو ضمير الغائب، نحو: «ربّه بطلا صنديدا نازلت» و «ربّه بطلين صنديدين نازلت». («ربّه»: حرف جرّ شبيه بالزّائد مبنيّ على الفتح لا محلّ له من الإعراب. والهاء ضمير متّصل مبنيّ على الضمّ في محلّ رفع مبتدأ. «بطلين»: تمييز منصوب بالياء لأنّه مثنّى. «صنديدين»: نعت «بطلين» منصوب بالياء لأنّه مثنّى. «نازلت»: فعل ماض مبنيّ على السكون لاتّصاله بضمير رفع متحرّك. والتّاء ضمير متصل مبنيّ على الضمّ في محلّ رفع فاعل. وجملة «نازلت» الفعليّة في محلّ رفع خبر المبتدأ).

3 ـ فعلا تامّا، مضارعه «يروم» بمعنى «أراد»، نحو: «لا أروم الشرّ»، أي لا أريده بعده صفة قد تكون جملة ظاهرة، أو محذوفة يتعلّق بها الظرف أو حرف الجرّ، أو مفردا فنجرّها إتباعا للفظ منعوتها، أو نتبعها لمحلّ منعوتها فنرفعها أو ننصبها أو نجرّها، حسب موقع منعوتها من الإعراب، نحو: «يا ربّ كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة». («يا»: جرف تنبيه مبنيّ على السكون لا محلّ له من الإعراب. «ربّ»: حرف جرّ شبيه بالزّائد مبنيّ على الفتح لا محلّ له من الإعراب. «كاسية»: اسم مجرور لفظا مرفوع محلا على أنّه مبتدأ. «في»: حرف جرّ مبنيّ على السكون لا محلّ له من الإعراب، متعلّق بمحذوف صفة لـ «كاسية». «الدنيا»: اسم مجرور وعلامة جرّه الكسرة المقدّرة على الألف للتعذّر.

«عارية»: خبر «كاسية» مرفوع بالضمّة الظاهرة على آخره.

«يوم»: ظرف زمان منصوب بالفتحة الظاهرة، متعلّق بالخبر «عارية»، وهو مضاف. «القيامة»: مضاف إليه مجرور بالكسرة الظاهرة). ونحو: «ربّ طالب مذنب قاصصت».

(«ربّ»: حرف جرّ شبيه بالزائد مبنيّ على الفتح لا محلّ له من الإعراب. «طالب»: اسم مجرور لفظا منصوب محلا على أنّه مفعول به مقدّم لـ «قاصصت».

«مذنب»: نعت «طالب» مجرور على الإتباع وليس على المحلّ، بالكسرة الظاهرة.

«قاصصت»: فعل ماض مبنيّ على السكون لاتّصاله بضمير رفع متحرّك. والتّاء: ضمير متّصل مبنيّ على الضمّ في محلّ رفع فاعل. وجملة «قاصصت» لا محلّ لها من الإعراب لأنّها ابتدائيّة).

ونحو: «ربّ طالب أذنب قاصصت» («طالب»: اسم مجرور لفظا منصوب محلا على أنّه مفعول به مقدّم لـ «قاصصت».

«أذنب»: فعل ماض مبنيّ على الفتحة الظاهرة، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره: هو. وجملة «أذنب» الفعليّة في محل جرّ نعت طالب).

4 ـ قد تحذف ويبقى عملها:

أ ـ بعد الفاء كقول امرىء القيس:

«فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ***فألهيتها عن ذي تمائم محول» »

(«مثلك»: اسم مجرور لفظا منصوب محلا على أنّه مفعول به مقدّم للفعل «طرقت»).

ب ـ بعد الواو كقول امرىء القيس:

«وليل كموج البحر أرخى سدوله ***عليّ بأنواع الهموم ليبتلي» »

(«ليل»: اسم مجرور لفظا مرفوع محلا على أنّه مبتدأ).

ج ـ بعد «بل»، كقول رؤبة:

«بل بلد ملء الفجاج قتمه ***لا يشترى كتّانه وجهرمه» »

(«بلد»: اسم مجرور لفظا مرفوع محلا على أنّه مبتدأ). وبدونهنّ كقول جميل بن معمر:

«رسم دار وقفت في طلله ***كدت أقضي الحياة من جلله» »

(«رسم»: اسم مجرور لفظا مرفوع محلا على أنّه مبتدأ).

5 ـ قد تدخل عليها «ما» الزّائدة فتكفّها عن العمل، فتدخل حينئذ على المعارف، نحو: «ربّما الطقس جميل» وعلى الأفعال، نحو قوله تعالى: {رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ} («ربما»: حرف جرّ شبيه بالزّائد بطل عمله لدخول «ما» الكافّة عليه، مبنيّ على الفتح لا محلّ له من الإعراب. «ما»: حرف زائد مبنيّ على السكون لا محلّ له من الإعراب. «يودّ»: فعل مضارع مرفوع بالضمّة الظاهرة على آخره. «الذين»: اسم موصول مبنيّ على الفتح في محلّ رفع فاعل «يودّ». «كفروا»: فعل ماض مبنيّ على الضمّ لاتّصاله بواو الجماعة، والواو ضمير متّصل مبنيّ على السكون في محلّ رفع فاعل، وجملة «كفروا» الفعليّة لا محلّ لها من الإعراب لأنّها صلة الموصول).

المعجم المفصّل في الإعراب-طاهر يوسف الخطيب-صدر: 1412هـ/1991م


49-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (الوجودية-المذاهب الفلسفية والمدارس الأدبية)

الوجوديـة

التعريف:

الوجودية اتجاه فلسفي يغلو في قيمة الإنسان ويبالغ في التأكيد على تفرده وأنه صاحب تفكير وحرية وإرادة واختيار ولا يحتاج إلى موجه. وهي فلسفة عن الذات أكثر منها فلسفة عن الموضوع. وتعتبر جملة من الاتجاهات والأفكار المتباينة التي تتعلق بالحياة والموت والمعاناة والألم، وليست نظرية فلسفية واضحة المعالم. ونظرًا لهذا الاضطراب والتذبذب لم تستطع إلى الآن أن تأخذ مكانها بين العقائد والأفكار.

التأسيس وأبرز الشخصيات:

يرى رجال الفكر الغربي أن سورين كيركجورد 1813 – 1855م هو مؤسس المدرسة الوجودية. ومن مؤلفاته: رهبة واضطراب.

أشهر زعمائها المعاصرين: جان بول سارتر الفيلسوف الفرنسي المولود سنة 1905م وهو ملحد ويناصر الصهيونية له عدة كتب وروايات تمثل مذهبه منها: الوجودية مذهب إنساني، الوجود والعدم، الغثيان، الذباب، الباب المغلق.

ومن رجالها كذلك: القس كبرييل مارسيل وهو يعتقد أنه لا تناقض بين الوجودية والنصرانية.

كارل جاسبرز: فيلسوف ألماني.

بسكال بليز: مفكر وفيلسوف فرنسي.

وفي روسيا: بيرد يائيف، شيسوف، سولوفييف.

الأفكار والمعتقدات:

يكفرون بالله ورسله وكتبه وبكل الغيبيات وكل ما جاءت به الأديان ويعتبرونها عوائق أمام الإنسان نحو المستقبل. وقد اتخذوا الإلحاد مبدأ ووصلوا إلى ما يتبع ذلك من نتائج مدمرة.

يعاني الوجوديون من إحساس أليم بالضيق والقلق واليأس والشعور بالسقوط والإحباط لأن الوجودية لا تمنح شيئًا ثابتًا يساعد على التماسك والإيمان وتعتبر الإنسان قد أُلقي به في هذا العالم وسط مخاطر تؤدي به إلى الفناء.

يؤمنون إيمانًا مطلقًا بالوجود الإنساني وتخذونه منطلقًا لكل فكرة.

يعتقدون بأن الإنسان أقدم شيء في الوجود وما قبله كان عدمًا وأن وجود الإنسان سابق لماهيته.

يعتقدون أن الأديان والنظريات الفلسفية التي سادت خلال القرون الوسطى والحديثة لم تحل مشكلة الإنسان.

يقولون: إنهم يعملون لإعادة الاعتبار الكلي للإنسان ومراعاة تفكيره الشخصي وحريته وغرائزه ومشاعره.

يقولون بحرية الإنسان المطلقة وأن له أن يثبت وجوده كما يشاء وبأي وجه يريد دون أن يقيده شيء.

يقولون: إن على الإنسان أن يطرح الماضي وينكر كل القيود دينية كانت أم اجتماعية أم فلسفية أم منطقية.

يقول المؤمنون منهم إن الدين محله الضمير أمَّا الحياة بما فيها فمقودة لإرادة الشخص المطلقة.

لا يؤمنون بوجود قيم ثابتة توجه سلوك الناس وتضبطه إنما كل إنسان يفعل ما يريد وليس لأحد أن يفرض قيمًا أو أخلاقًا معينة على الآخرين.

أدى فكرهم إلى شيوع الفوضى الخلقية والإباحية الجنسية والتحلل والفساد.

رغم كل ما أعطوه للإنسان فإن فكرهم يتسم بالانطوائية الاجتماعية والانهزامية في مواجهة المشكلات المتنوعة.

الوجودي الحق عندهم هو الذي لا يقبل توجيهًا من الخارج إنما يسيِّر نفسه بنفسه ويلبي نداء شهواته وغرائزه دون قيود ولا حدود.

لها الآن مدرستان: واحدة مؤمنة والأخرى ملحدة وهي التي بيدها القيادة وهي المقصودة بمفهوم الوجودية المتداول على الألسنة فالوجودية إذًا قائمة على الإلحاد.

الوجودية في مفهومها تمرد على الواقع التاريخي وحرب على التراث الضخم الذي خلفته الإنسانية.

تمثل الوجودية اليوم واجهة من واجهات الصهيونية الكثيرة التي تعمل من خلالها وذلك بما تبثُّه من هدم للقيم والعقائد والأديان.

الجذور الفكرية والعقائدية:

إن الوجودية جاءت كردِّ فعل على تسلط الكنيسة وتحكمها في الإنسان بشكل متعسف باسم الدين.

تأثرت بالعلمانية وغيرها من الحركات التي صاحبت النهضة الأوروبية ورفضت الدين والكنيسة.

تأثرت بسقراط الذي وضع قاعدة "اعرف نفسك بنفسك".

تأثروا بالرواقيين الذين فرضوا سيادة النفس.

كما تأثروا بمختلف الحركات الداعية إلى الإلحاد والإباحية.

الانتشار ومواقع النفوذ:

ظهرت في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى ثم انتشرت في فرنسا وإيطاليا وغيرهما. وقد اتخذت من بشاعة الحروب وخطورتها على الإنسان مبررًا للانتشار السريع. وترى حرية الإنسان في عمل أي شيء متحللًا من كل الضوابط. وهذا المذهب يعد اتجاهًا إلحاديًّا يمسخ الوجود الإنساني ويلغي رصيد الإنسانية.

انتشرت أفكارهم المنحرفة المتحللة بين المراهقين والمراهقات في فرنسا وألمانيا والسويد والنمسا وإنجلترا وأمريكا وغيرها حيث أدت إلى الفوضى الخلقية والإباحية الجنسية واللامبالاة بالأعراف الاجتماعية والأديان.

ويتضح مما سبق:

أن الوجودية اتجاه إلحادي يمسخ الوجود الإنساني ويلغي رصيد الإنسانية من الأديان وقيمها الأخلاقية. وتختلف نظرة الإسلام تمامًا عن نظرية الوجودية حيث يقرر الإسلام أن هناك وجودًا زمنيًا بمعنى عالم الشهادة ووجودًا أبديًّا بمعنى عالم الغيب. والموت في نظر الإسلام هو النهاية الطبيعية للوجود الزمني ثم يكون البعث والحساب والجزاء والعقاب.

أما الفلسفة الوجودية فلا تسلم بوجود الروح ولا القوى الغيبية وتقوم على أساس القول بالعدمية والتعطيل فالعالم في نظرهم وجد بغير داع ويمضي لغير غاية والحياة كلها سخف يورث الضجر والقلق ولذا يتخلص بعضهم منها بالانتحار.

الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م


50-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (الفرويدية-المذاهب الفلسفية والمدارس الأدبية)

الفرويديـة

التعريف:

الفرويدية مدرسة في التحليل النفسي أسسها اليهودي سيجموند فرويد Sigmund Freud وهي تفسر السلوك الإنساني تفسيرًا جنسيًّا، وتجعل الجنس هو الدافع وراء كل شيء. كما أنها تعتبر القيم والعقائد حواجز وعوائق تقف أمام الإشباع الجنسي مما يورث الإنسان عقدًا وأمراضًا نفسية.

التأسيس وأبرز الشخصيات:

المؤسس وحياته:

ولد سيجموند فرويد في 6 مايو 1856م في مدينة فريبورج بمقاطعة مورافيا بتشيكوسلوفاكيا الحالية من والديْن يهوديين.

استقرت أسرة أبيه في كولونيا بألمانيا زمنًا طويلًا.

ولدت أمه بمدينة برودي في الجزء الشمالي من غاليسيا ولما شبت تزوجت من جاكوب فرويد والد سيجموند فرويد حيث أنجبت له سبعة أبناء.

وغاليسيا مدينة ببولندا جاء منها والد فرويد وكانت معقلًا رئيسيًّا ليهود شرق أوروبا، وبسبب ظروف الشغب رحلت الأسرة إلى برسلاو بألمانيا وعمر سيجموند حينها ثلاث سنوات، ثم رحلوا مرة أخرى إلى فيينا حيث أمضى معظم حياته وبقي فيها إلى سنة 1938م حيث غادرها إلى لندن ليقضي أيامه الأخيرة فيها مصابًا بسرطان في خده وقد أدركته الوفاة في 23 سبتمبر 1939م.

تلقى تربيته الأولى وهو صغير على يدي مربية كاثوليكية دميمة عجوز متشددة كانت تصحبه معها أحيانًا إلى الكنيسة مما شكل عنده عقدة ضدّ المسيحية فيما بعد.

نشأ يهوديًّا، وأصدقاؤه من غير اليهود نادرين إذ كان لا يأنس لغير اليهود ولا يطمئن إليهم.

دخل الجامعة عام 1873م وعقَّب على ذلك بأنه يرفض رفضًا قاطعًا أن يشعر بالدونية والخجل من يهوديته. لكن هذا الشعور الموهوم بالاضطهاد ظل يلاحقه على الرغم من احتلاله أرقى المناصب.

في سنة 1885م غادر فيينا إلى باريس وتتلمذ على شاركوت Charcot مدة عام حيث كان أستاذه هذا يقوم بالتنويم المغناطيسي لمعالجة الهستيريا وقد أعجب فرويد به عندما أكَّد له بأنه في حالة من حالات الأمراض العصبية لا بد من وجود اضطراب في الحياة الجنسية للمريض.

أخذ يتعاون مع جوزيف بروير 1842 – 1925م وهو طبيب نمساوي صديق لفرويد، وهو فيزيولوجي في الأصل لكنه انتقل إلى العمل الطبي إذ كان ممن يستعملون التنويم المغناطيسي أيضًا.

بدأ الاثنان باستعمال طريقة التحدث مع المرضى فنجحا بعض النجاح ونشرا أبحاثهما في عامي 1893 و1895م وصارت طريقتهما مزيجًا من التنويم والتحدث، ولم يمض وقت طويل حتى انصرف بروير عن الطريق كلها.

تابع فرويد عمله تاركًا طريقة التنويم معتمدًا على طريقة التحدث طالبًا من المريض أن يضطجع ويتحدث مفصحًا عن كل خواطره، وسماها طريقة (الترابط الحر) سالكًا طريق رفع الرقابة عن الأفكار والذكريات، وقد نجحت طريقته هذه أكثر من الطريقة الأولى.

أخذ يطلب من مريضه أن يسرد عليه حلمه الذي شاهده في الليلة الماضية، مستفيدًا منه في التحليل، وقد وضع كتاب تفسير الأحلام الذي نشره سنة 1900م، ثم كتاب علم النفس المرضي للحياة اليومية ثم توالت كتبه وصار للتحليل النفسي مدرسة سيكولوجية صريحة منذ ذلك الحين.

انضم عام 1895م إلى جمعية بناي برث أي أبناء العهد، وكان حينها في التاسعة والثلاثين من عمره، وهذه الجمعية لا تقبل بين أعضائها غير اليهود.

كان يعرف تيودور هرتزل الذي ولد عام 1860م، كما سعيا معًا لتحقيق أفكار واحدة لخدمة الصهيونية التي ينتميان إليها، مثل فكرة معاداة السامية التي ينشرها هرتزل سياسيًّا، ويحللها فرويد نفسيًّا.

من أصحابه وتلاميذه:

لارنست جونز، مؤرخ السيرة الفرويدية، مسيحي مولدًا، ملحد فكرًا، يهودي شعورًا ووجدانًا، حتى إنهم خلعوا عليه لقب: اليهودي الفخري.

أوتو رانك 1884 – 1939م قام بوضع نظرية تقوم أساسًا على أفكار فرويد الأصلية مع شيء من التعديل الهام.

الفرِد آدلر: ولد في فيينا 1870 – 1937م، وقد انضم إلى جماعة فرويد مبكرًا لكنه افترق عنه بعد ذلك مؤسسًا مدرسة سماها مدرسة علم النفس الفردي مستبدلًا بالدوافع الجنسية عند فرويد عددًا من الدوافع الاجتماعية مع التأكيد على الإرادة القوية والمجهودات الشعورية.

كارل جوستاف يونج 1875 – 1961م ولد في زيوريخ، وهو مسيحي، نصَّبه فرويد رئيسًا للجمعية العالمية للتحليل النفسي، لكنه خرج على أستاذه معتقدًا بأن هذه المدرسة التحليلية ذات جانب واحد وغير ناضجة، وكان لخروجه أثر بالغ على فرويد. وضع نظرية السيكولوجيا التحليلية مشيرًا إلى وجود قوة دافعة أكبر هي طاقة الحياة مؤكدًا على دور الخبرات اللاشعورية المتصلة بالعِرق أو العنصر.

الفرويديون المحدثون:

حدث انسلاخ كبير عن الفرويدية الأصلية، وذلك عندما تكونت الفرويدية الحديثة التي كان مركزها مدرسة واشنطن للطب العقلي، وكذلك معهد إليام ألانسون هوايت في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي مدرسة تتميز بالتأكيد على العوامل الاجتماعية معتقدة أن ملامح الإنسان الأساسية إيجابية، وهم يلحّون على نقل التحليل النفسي إلى علم الاجتماع للبحث عن أصول الحوافز البشرية في تلبية مطالب الوضع الاجتماعي، ومن أبرز شخصياتهم:

أريك فروم: ظهر بين 1941 – 1947م. كان ينظر إلى الإنسان على أنه مخلوق اجتماعي بالدرجة الأولى بينما ينظر إليه فرويد على أنه مخلوق مكتفٍ بذاته، تحركه عوامل غريزية.

كارن هروني: استعملت طريقة فرويد خمسة عشر عامًا في أوروبا وأمريكا إلا أنها أعادت النظر فيها إذ وضعت نظرية جديدة تحرر فيها التطبيق العلاجي من كثير من القيود التي تفرضها النظرية الفرويدية.

وعلى الرغم من ذلك فإن الفرويديين المحدثين ما يزالون متمسكين بأشياء كثيرة من نظرية فرويد الأصلية مثل:

1- أهمية القوى الانفعالية بوصفها مضادة للدفع العقلي والارتكاسات الاشتراطية وتكوين العادات.

2- التداعي اللاشعوري.

3- الكبت والمقاومة وأهمية ذك في التحليل أثناء العلاج.

4- الاهتمام بالنزاعات الداخلية وأثرها على التكوين النفسي.

5- التأثير المستمر للخبرات الطفولية المبكرة.

6- طريقة التداعي الحر، وتحليل الأحلام، واستعمال حقيقة النقل.

الأفكار والمعتقدات:

الأسس النظرية:

الأسس الثلاثة التي تركز عليها المدرسة التحليلية هي: الجنس – الطفولة – الكبت. فهي مفاتيح السيكولوجية الفرويدية.

نظرية الكبت: هي دعامة نظرية التحليل النفسي وهي أهم قسم فيه إذ إنه لا بد من الرجوع إلى الطفولة المبكرة وإلى الهجمات الخيالية التي يراد بها إخفاء فاعليات العشق الذاتي أيام الطفولة الأولى إذ تظهر كل الحياة الجنسية للطفل من وراء هذه الخيالات.

يعتبر فرويد مص الأصابع لدى الطفل نوعًا من السرور الجنسي الفمي ومثل ذلك عض الأشياء، فيما يعد التغوط والتبول نوعًا من السرور الجنسي الأستي كما أن الحركات المنتظمة للرجلين واليدين عند الطفل إنما هي تعبيرات جنسية طفولية.

اللبيدو Libido طاقة جنسية أو جوع جنسي، وهي نظرية تعتمد على أساس التكوين البيولوجي للإنسان الذي تعتبره حيوانًا بشريًا فهو يرى أن كل ما نصرح بحبه أو حب القيام به في أحاديثنا الدارجة يقع ضمن دائرة الدافع الجنسي. فالجنس عنده هو النشاط الذي يستهدف اللذة وهو يلازم الفرد منذ مولده إذ يصبح الأداة الرئيسية التي تربط الطفل بالعالم الخارجي في استجابته لمنبهاته.

الدفع: يقول بأن كل سلوك مدفوع، فإلى جانب الأفعال الإرادية التي توجهها الدوافع والتمنيات هناك الأفعال غير الإرادية أو العارضة. فكل هفوة مثلًا ترضي تمنيًا وكل نسيان دافعه رغبة في إبعاد ذلك الشيء.

الشلل أو العمى لديه قد يكون سببه الهروب من حالة صعبة يعجز الإنسان عن تحقيقها، وهذا يسمى انقلاب الرغبة إلى عرض جسدي.

الحلم عنده هو انحراف عن الرغبة الأصلية المستكنة في أعماق النفس وهي رغبة مكبوتة يقاومها صاحبها في مستوى الشعور ويعيدها إلى اللاشعور، وأثناء النوم عندما تضعف الرقابة تأخذ طريقها باحثة لها عن مخرج.

يتكلم فرويد عن تطبيق مبدأين هما اللذة والواقع، فالإنسان يتجه بطبيعته نحو مبدأ اللذة العاجلة لمباشرة الرغبة لكنه يواجه بحقائق الطبيعة المحيطة به فيتجنب هذه اللذة التي تجلب له آلامًا أكبر منها أو يؤجل تحقيقها.

يفترض فرويد وجود غريزتين ينطوي فيهما كل ما يصدر عن الإنسان من سلوك وهما غريزة الحياة وغريزة الموت. غريزة الحياة تتضمن مفهوم اللبيدو وجزءً من غريزة حفظ الذات، أما غريزة الموت فتمثل نظرية العدوان والهدم موجهة أساسًا إلى الذات ثم تنتقل إلى الآخرين.

الحرب لديه إنما هي محاولة جماعية للإبقاء على الذات نفسيًا، والذي لا يحارب إنما يعرض نفسه لاتجاه العدوان إلى الداخل فيفني نفسه بالصراعات الداخلية، فالأولى به أن يفني غيره إذن، والانتحار هو مثل واضح لفشل الفرد في حفظ حياته. وهذا المفهوم إنما يعطي تبريرًا يريح ضمائر اليهود أصحاب السلوك العدواني المدمر.

اللاشعور: هو مستودع الدوافع البدائية الجنسية وهو مقر الرغبات والحاجات الانفعالية المكبوتة التي تظهر في عثرات اللسان والأخطاء الصغيرة والهفوات وأثناء بعض المظاهر الغامضة لسلوك الإنسان. إنه مستودع ذو قوة ميكانيكية دافعة وليس مجرد مكان تلقى إليه الأفكار والذكريات غير الهامة.

الـ (هو): مجموعة من الدوافع الغريزية الموجودة لدى الطفل عند ولادته التي تحتاج إلى الشعور الموجه، وهي غرائز يشترك فيها الجنس البشري بكافة. إنها باطن النفس، وقد نتجت عن (الأنا) إلا أنها تبقى ممزوجة بها في الأعماق أي حينما تكون (الأنا) لا شعورية، وهي تشمل القوى الغريزية الدافعة، فإذا ما كبتت هذه الرغبات فإنها تعود إلى الـ (هو) (Ego).

(الأنا): بعد قليل من ميلاد الطفل يزداد شعورًا بالواقع الخارجي فينفصل جزء من مجموعة الدوافع الـ (هي) لتصبح ذاتًا ووظيفتها الرئيسية هي اختيار الواقع حتى يستطيع الطفل بذلك تحويل استجاباته إلى سلوك منظم يرتبط بحقائق الواقع ومقتضياته، إنها ظاهرة النفس التي ترتبط بالمحيط.

(الأنا العليا): هي الضمير الذي يوجه سلوك الفرد والجانب الأكبر منه لا شعوري وهو ما نسميه بالضمير أو الوجدان الأخلاقي، لها زواجر وأوامر تفرضها على (الأنا)، وهي سمة خاصة بالإنسان، إذ إنها أمور حتمية صادرة من العالم الداخلي.

النقل: وهي أن المريض قد ينقل حبَّه أو بغضه المكبوت في أعماق الذكريات إلى الطبيب مثلًا خلال عملية المعالجة. وقد تعرض بروير لحب واحدة من اللواتي كان يعالجهن إذ نقلت عواطفها المكبوتة إليه، فكان ذلك سببًا في انصرافه عن هذه الطريقة بينما تابع فرويد عمله بمعالجة الواحدة منهن بنقل عواطفها مرة أخرى والوصول بها إلى الواقع.

استفاد كثيرًا من عقدة أوديب تلك الأسطورة التي تقول بأن شخصًا قد قتل أباه وتزوج أمه وأنجب منها وهو لا دري. ولما علم بحقيقة ما فعل سمل عينيه، فقد استغلها فرويد في إسقاطات نفسية كثيرة واعتبرها مركزًا لتحليلاته المختلفة.

شخصية الإنسان هي حصيلة صراع بين قوى ثلاث: دوافع غريزية، واقع خارجي، ضمير، وهي أمور رئيسية تتحدد بشكل ثابت بانتهاء الموقف الأوديبي حوالي السنة الخامسة أو السادسة من العمر.

الآثار السلبية للفرويدية:

لم ترد في كتب وتحليلات فرويد أية دعوة صريحة إلى الانحلال – كما يتبادر إلى الذهن – وإنما كانت هناك إيماءات تحليلية كثيرة تتخلل المفاهيم الفرويدية تدعو إلى ذلك. وقد استفاد الإعلام الصهيوني من هذه المفاهيم لتقديمها على نحو يغري الناس بالتحلل من القيم وييسر لهم سبله بعيدًا عن تعذيب الضمير.

كان يتظاهر بالإلحاد ليعطي لتفكيره روحًا علمانية، ولكنه على الرغم من ذلك كان غارقًا في يهوديته من قمة رأسه إلى أخمص قدميه.

كان يناقش فكرة معاداة السامية وهي ظاهرة كراهية اليهود، هذه النغمة التي يعزف اليهود عليها لاستدرار العطف عليهم، وقد ردّ هذه الظاهرة نفسيًا إلى اللاشعور وذلك لعدة أسباب:

1- غيرة الشعوب الأخرى من اليهود لأنهم أكبر أبناء الله وآثرهم عنده حاشا لله.

2- تمسّك اليهود بطقس الختان الذي ينبه لدى الشعوب الأخرى خوف الخصاء ويقصد بذلك النصارى لأنهم لا يختتنون.

3- كراهية الشعوب لليهود هو في الأصل كراهية للنصارى المسيحيين، وذلك عن طريق النقل إذ أن الشعوب التي تُنزِل الاضطهاد النازي باليهود إنما كانت شعوبًا وثنية في الأصل، ثم تحولت إلى النصرانية بالقوة الدموية، فصارت هذه الشعوب بعد ذلك حاقدة على النصرانية لكنها بعد أن توحدت معها نقلت الحقد إلى الأصل الذي تعتمد عليه النصرانية ألا وهو اليهودية.

يركن إلى إشباع الرغبة الجنسية، وذلك لأن الإنسان صاحب الطاقة الجنسية القوية والذي لا تسمح له النصرانية إلا بزوجة واحدة؛ إما أن يرفض قيود المدنية ويتحرر منها بإشباع رغباته الجنسية وإما أن يكون ذا طبيعة ضعيفة لا يستطيع الخروج على هذه القيود فيسقط صاحبها فريسة للمرض النفسي ونهبًا للعقد النفسية.

يقول بأن الامتناع عن الاتصال الجنسي قبل الزواج قد يؤدي إلى تعطيل الغرائز عند الزواج.

عقد فصلًا عن تحريم العذرة وقال بأنها تحمل مشكلات وأمراضًا لكلا الطرفين، واستدل على ذلك بأن بعض الأقوام البدائية كانت تقوم بإسناد أمر فض البكارة لشخص آخر غير الزوج، وذلك ضمن احتفال وطقس رسمي.

لقد برَّر عشق المحارم لأن اليهود أكثر الشعوب ممارسة له بسبب انغلاق مجتمعهم الذي يحرم الزواج على أفراده خارج دائرة اليهود، وهو يرجع هذا التحريم إلى قيود شديدة كانت تغل الروح وتعطلها، وهو بذلك يساعد اليهود أولًا على التحرر من مشاعر الخطيئة كما يسهل للآخرين اقتحام هذا الباب الخطير بإسقاط كل التحريمات واعتبارها قيودًا وأغلالًا وهمية. وقد استغل اليهود هذه النظرية وقاموا بإنتاج عدد من الأفلام الجنسية الفاضحة التي تعرض نماذج من الزنى بالمحارم.

لم يعتبر التصعيد أو الإعلاء – كما يسميه – إلا طريقًا ضعيفًا للتخلص من ضغط الدافع الجنسي إذ أن هذا الطريق لن يتيسر خلال مرحلة الشباب إلا لقلَّة ضئيلة من الناس وفي فترات متقطعة وبأكبر قدر من العنت والمشقَّة، أما الباقون – وهم الغالبية العظمى – فليس أمامهم إلا المرض النفسي يقعون صرعاه. كما أن أصحاب التصعيد هؤلاء إنما هم ضعاف يضيعون في زحمة الجماهير التي تنزع إلى السير بإرادة مسلوبة وراء زعامة الأقوياء.

في كفاحه ضد القيود، والأوامر العليا الموجهة إلى النفس، صار إلى محاربة الدين واعتباره لونًا من العصاب النفسي الوسواسي.

تطورت فكرة الألوهية لديه على النحو التالي:

1- كان الأب هو السيد الذي يملك كل الإناث في القبيلة ويحرمها على ذكورها.

2- قام الأبناء بقتل الأب، ثم التهموا جزءً نيئًا من لحمه للتوحد معه لأنهم يحبونه.

3- صار هذا الأب موضع تبجيل وتقدير باعتباره أباهم أصلًا.

4- ومن ثم اختاروا حيوانًا مرهوبًا لينقلوا إليه هذا التبجيل فكان الحيوان هو الطوطم.

5- الطوطمية أول صورة للدين في التاريخ البشري.

6- كانت الخطوة الأولى بعد ذلك هي التطوُّر نحو الإله الفرد، فتطورت معها فكرة الموت الذي صار بهذا الاعتبار خطوة إلى حياة أخرى يلقى الإنسان فيها جزاء ما قدم.

7- الله – إذن – هو بديل الأب أو بعبارة أصح هو أب عظيم، أو هو صورة الأب كما عرفها المرء في طفولته.

نخلص من هذا إلى أن العقائد الدينية – في نظره – أوهام لا دليل عليها، فبعضها بعيد عن الاحتمال ولا يتفق مع حقائق الحياة، وهي تقارن بالهذيان، ومعظمها لا يمكن التحقق من صحته، ولابدّ من مجيء اليوم الذي يصغي فيه الإنسان لصوت العقل.

حديثه عن الكبت فيه إيحاءات قوية وصارخة بأن الوقاية منه تكمن في الانطلاق والتحرر من كل القيود، كما يحرم الإدانة الخلقية على أي عمل يأتيه المريض مركِّزًا على الآثار النفسية المترتبة على هذه الإدانة في توريثه العقد المختلفة مما يحرفه عن السلوك السوي.

مما ساعد على انتشار أفكاره ما يلي:

1- الفكر الدارويني الذي أرجع الإنسان إلى أصول حيوانية مادية.

2- الاتجاه العقلاني الذي ساد أوروبا حينذاك.

3- الفكر العلماني الذي صبغ الحياة بثورته ضد الكنيسة أولًا وضد المفاهيم الدينية ثانيًا.

4- اليهود الذين قدَّموا فكرة للإنسانية باستخدام مختلف الوسائل الإعلامية بغية نشر الرذيلة والفساد وتسهيل ذلك على ضمير البشرية ليسهل عليهم قيادة هذه الرعاع من الشعوب اللاهثة وراء الجنس، المتحللة من كل القيود والقيم.

من أكبر الآثار المدمرة لآراء فرويد، أن الإنسان حين كان يقع في الإثم كان يشعر بالذنب وتأنيب الضمير، فجاء فرويد ليريحه من ذلك، ويوهمه بأنه يقوم بعمل طبيعي لا غبار عليه، وبالتالي فهو ليس بحاجة إلى توبة، وبذلك أضفى على الفساد صفة أخلاقية إذا صح التعبير.

ألَّف نحو ثلاثين كتابًا في الدراسات النفسية من أشهرها: الذات والذات السفلى والطواطم والمحرمات وتفسير الأحلام، وثلاث مقالات في النظرية الحسية والأمراض النفسية المنتشرة في الحياة اليومية. وكلها تدور – من زوايا مختلفة- حول موضوع واحد مكرر فيها جميعًا هو التفسير الجنسي للسلوك البشري.

الجذور الفكرية والعقائدية:

لقد دخل التنويم المغناطيسي إلى حقل العلم والطب على يد مسمر Mesmer 1780م إلا أنه قد مزج بكثير من الدجل مما نزع بالأطباء إلى أن ينصرفوا عنه انصرافًا دام حتى أيام مدرستي باريس ونانسي.

لقد كان الدكتور شاركوت Charcot 1825 – 1893م أبرز شخصيات مدرسة باريس، إذ كان يعالج المصابين بالهستيريا عن طريق التنويم المغناطيسي.

من تلاميذ شاركوت بيير جانه Pierr Janet الذي اهتم بالأفعال العصبية غير الشعورية والتي سماها الآليات العقلية.

ساهمت مدرسة نانسي بفرنسا في التنويم المغناطيسي المعتدل وقالت إنه أمر يمكن أن يحدث لكل الأسوياء، ذلك لأنه ليس إلا حالة انفعال وتلقٍّ منشؤها الإيحاء، وقد استعملته هذه المدرسة في معالجة الحالات العصبية.

أما فرويد فقد أخذ الأسس النظرية ممن سبقه، وأدخل أفكاره في تحليل التنويم المغناطيسي باستخدام طريقة التداعي الحرّ. لكن لهذا الوجه العلميِّ الظاهر وجه آخر هو التراث اليهودي الذي استوحاه فرويد واستخلص منه معظم نظرياته التي قدمها للبشرية خدمة لأهداف صهيون.

الانتشار ومواقع النفوذ:

بدأت هذه الحركة في فيينا، وانتقلت إلى سويسرا، ومن ثم عمت أوروبا، وصارت لها مدارس في أمريكا.

وقد حملت الأيام هذه النظرية إلى العالم كله عن طريق الطلاب الذين يذهبون إلى هناك ويعودون لنشرها في بلادهم.

تلاقي هذه الحركة اعتراضات قوية من عدد من علماء النفس الغربيين اليوم.

ويتضح مما سبق:

أن الفرويدية تدعو إلى التحرر من كل القيود لأنها تسبب العقد النفسية والاضطرابات العصبية، وبذلك تريد للمجتمع أن يكون بلا دين ولا أخلاق ولا تقاليد فتتسع هوة الرذيلة والفساد وتسهل لليهود السيطرة على الشعوب المتحللة خدمة لأهداف الصهيونية. وبطبيعة الحال فإنها تنادي بأن الدين الذي يضع الضوابط لطاقة الجنس لا يستحق الإتباع ولا يستوجب الاحترام.

(page)

الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م


51-معجم البلدان (دير أكمن)

دَيرُ أكْمُنَ:

بالفتح ثم السكون، وضم الميم، وآخره نون، وقيل باللام عوضا عن النون: على رأس جبل بالقرب من الجوديّ، ينسب إليه الخمر الموصوف فهو النهاية في الجودة، وقيل إنه لا يورث الخمار، وحوله من المياه والشجر والبساتين كثير جدّا.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


52-معجم القواعد العربية (رب)

ربّ:

حرف جر لا يجرّ إلّا النّكرة، ولا يكون إلّا في أول الكلام، وهو في حكم الزّائد، فلا يتعلّق بشيء وقد يدخل على ضمير الغيبة ملازما للإفراد والتّذكير، والتّفسير بتمييز بعده مطابق للمعنى كقول الشّاعر:

«ربّه فتية دعوت إلى ما *** يورث المجد دائبا فأجابوا»

وهذا قليل.

وقد تدخل «ما» النكرة الموصوفة على «ربّ» وتوصف بالجملة التي بعدها، نحو قول أمية بن أبي الصّلت:

«ربّما تكره النّفوس من الأم *** ر له فرجة كحلّ العقال »

والتّقدير: ربّ شيء تكرهه النّفوس، وضمير له يعود على ما. وقد تلحق ربّ ما الزّائدة فتكفّها عن العمل فتدخل حينئذ على المعارف وعلى الأفعال فتقول: «ربّما عليّ قادم» و «ربّما حضر أخوك».

وقد تعمل قليلا كقول عديّ الغسّاني:

«ربّما ضربة بسيف صقيل *** بين بصرى وطعنة نجلاء»

والغالب على «ربّ» المكفوفة أن تدخل على فعل ماض كقول جذيمة: «ربما أوفيت في علم» وقد تدخل على مضارع منزّل منزلة الماضي لتحقّق الوقوع نحو قوله تعالى: {رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} وندر دخولها على الجملة الاسميّة كقول أبي دؤاد الإيادي:

«ربّما الجامل المؤبّل فيهم *** ومعنى «ربّ» التّكثير، وتأتي للتّقليل »

فالأوّل كقوله عليه الصلاة والسلام: (يا ربّ كاسية في الدّنيا عارية يوم القيامة).

والثاني كقول رجل من أزد السّراة:

«ألا ربّ مولود وليس له أب *** وذي ولد لم يلده أبوان »

وقد تحذف «ربّ» ويبقى عملها بعد الفاء كثيرا كقول امرىء القيس:

«فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع *** فألهيتها عن ذي تمائم محول »

وبعد الواو أكثر كقول امرىء القيس:

«وليل كموج البحر أرخى سدوله *** عليّ بأنواع الهموم ليبتلي »

وبعد «بل» قليلا كقول رؤبة:

«بل بلد ملء الفجاج قتمه *** لا يشترى كتّانه وجهرمه »

وبدونهن أقلّ كقول جميل بن معمر:

«رسم دار وقفت في طلله *** كدت أقضي الحياة من جلله »

ربّة: هي «ربّ» لا تختلف عنها معنى وإعرابا مع زيادة التاء لتأنيث لفظها فقط.

معجم القواعد العربية في النحو والتصريف وذُيّل بالإملاء-عبدالغني الدقر-صدر: 1404ه‍/1984م


53-معجم القواعد العربية (ما برح)

ما برح:

(1) أصل معنى «برح» من «برح المكان» زال عنه، فلما جاءت «ما» النافية أفادت معنى: بقي.

وهي من أخوات «كان» وأحكامها كأحكامها وهي ناقصة التّصرّف، فلا يستعمل منها أمر ولا مصدر، ولا تعمل إلّا بشرط أن يتقدّم عليها: «نفي أو نهي أو دعاء». مثالها بعد النّفي بالحرف {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ} ومنه قول امرىء القيس:

«فقلت يمين الله أبرح قاعدا *** ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي »

ومثالها بعد النّفي بالفعل قوله:

«قلّما يبرح اللّبيب إلى ما *** يورث الحمد داعيا أو مجيبا»

وتنفرد «ما برح» عن كان: بأنها لا يجوز تقديم خبرها عليها.

(2) وقد تأتي تامّة بمعنى ذهب نحو {وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ} أي لا أذهب.

(انظر كان وأخواتها).

معجم القواعد العربية في النحو والتصريف وذُيّل بالإملاء-عبدالغني الدقر-صدر: 1404ه‍/1984م


54-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (التكرير)

التّكرير:

كرّر الشيء: أعاده مرة بعد أخرى، وكررت عليه الحديث: اذا ردّدته عليه.

قال ابن الأثير عن الإطناب: «والذي يحدّه أن يقال: هو زيادة اللفظ عن المعنى لفائدة، فهذا حدّه الذي يميزه عن التطويل، إذ التطويل هو: زيادة اللفظ عن المعنى لغير فائدة، وأما التكرير فإنّه دلالة اللفظ على المعنى مرددا كقولك لمن تستدعيه: «أسرع أسرع» فان المعنى مردد واللفظ واحد... واذا كان التكرير هو إيراد المعنى مرددا فمنه ما يأتي لفائدة ومنه ما يأتي لغير فائدة، فاما الذي يأتي لفائدة فانّه جزء من الإطناب وهو أخصّ منه فيقال حينئذ: إنّ كل تكرير يأتي لفائدة فهو إطناب وليس كل إطناب تكريرا يأتي لفائده. وأما الذي يأتي من التكرير لغير فائدة فإنه جزء من التطويل وهو أخص منه فيقال حينئذ: إنّ كل تكرير يأتي لغير فائدة تطويل وليس كل تطويل تكريرا يأتي لغير فائدة ».

وقسّم ابن الأثير الحلبي التكرير قسمين:

الأوّل: يوجد في اللفظ والمعنى مثل: «أسرع أسرع».

الثاني: يوجد في المعنى دون اللفظ مثل: «أطعني ولا تعصني» فإنّ الأمر بالطاعة هو النهي عن المعصية.

وكلّ قسم من هذين القسمين ينقسم الى مفيد وغير مفيد، فالمفيد الذي يأتي في الكلام توكيدا له وتسديدا من أمره وإشعارا بعظم شأنه، وهو يأتي في اللفظ والمعنى، كقوله: قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ. قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ثم قال بعد ذلك: {قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} (الزّمر 14). والمقصود في هذا التكرير غرضان مختلفان، أما ما جاء في اللفظ والمعنى والمراد به غرض واحد فكقوله تعالى: {اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ}.

وأما القسم الذي هو غير مفيد فهو الذي يأتي في الكلام توكيدا له كقول المتنبي:

«ولم أر مثل جيراني ومثلي ***لمثلي عند مثلهم مقام »

وقال ابن شيث القرشي: «التكرير هو أن يأتي بثلاث أو أربع كلمات موزونات ثم يختم بأخرى تكون القافية إما على وزنهن أو خارجة عنهن، مثل أن يقال: «لا زال عالي المنار حامي الذمار عزيز الجار هامي النعم وافي المجد نامي الحمد جديد الجد وافر القسم». أو تتكرر اللفظة الواحدة مثل أن يقال: «باسم الأيام باسم الايادي باسم الخدام»... وفي الشعر:

«كأنّ المدام وصوب الغمام ***ونشر الخزامى وريح القطر »

وهذا نوع من التقطيع الذي يورث تكريرا.

معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م


55-موسوعة الفقه الكويتية (ابن العم)

ابْنُ الْعَمِّ

التَّعْرِيفُ:

1- ابْنُ الْعَمِّ لُغَةً هُوَ الذَّكَرُ مِنْ أَوْلَادِ أَخِي الْأَبِ فِي النَّسَبِ أَوِ الرَّضَاعِ. وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إِلَى ابْنِ الْعَمِّ النَّسَبِيِّ. وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كَذَلِكَ. وَهُوَ إِمَّا ابْنُ عَمٍّ شَقِيقٍ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

2- ابْنُ الْعَمِّ، شَقِيقًا كَانَ أَوْ لِأَبٍ، عَاصِبٌ بِنَفْسِهِ يَرِثُ جَمِيعَ الْمَالِ إِذَا انْفَرَدَ وَلَمْ يَكُنْ عَاصِبٌ أَوْلَى مِنْهُ، وَالْبَاقِيَ بَعْدَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ. وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ.

أَمَّا ابْنُ الْعَمِّ لِأُمٍّ فَهُوَ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَهُوَ يَرِثُ غَالِبًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، عَلَى اخْتِلَافٍ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي التَّوْرِيثِ، وَفِي كَيْفِيَّتِهِ.

وَابْنُ الْعَمِّ الْعَاصِبُ لَهُ حَقُّ وِلَايَةِ تَزْوِيجِ أَوْلَادِ عَمِّهِ، إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ. وَلَهُ أَيْضًا حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ إِنْ كَانَ وَارِثًا. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَمَنْ يُوَرِّثُ ابْنَ الْعَمِّ لِأُمٍّ- لِتَوْرِيثِهِ ذَوِي الْأَرْحَامِ- يُثْبِتُ لَهُ هَذَا الْحَقَّ بِاعْتِبَارِهِ وَارِثًا، لَكِنْ لَا حَقَّ لِابْنِ الْعَمِّ مُطْلَقًا فِي وِلَايَةِ الْمَالِ.

وَيَثْبُتُ لِابْنِ الْعَمِّ الْعَاصِبِ بِاتِّفَاقٍ حَقُّ حَضَانَةِ ابْنِ عَمِّهِ الذَّكَرِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ، وَلَا مِنَ الرِّجَالِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ.

أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْأُنْثَى فَهُوَ غَيْرُ مَحْرَمٍ لَهَا، فَإِذَا كَانَتْ مُشْتَهَاةً فَلَا تُدْفَعُ إِلَيْهِ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ بِرَضَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ.

وَمِثْلُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ خَاصَّةً ابْنَ الْعَمِّ لِأُمٍّ فَيُثْبِتُونَ لَهُ هَذَا الْحَقَّ، بَلْ إِنَّهُمْ يُقَدِّمُونَهُ عَلَى الَّذِي لِلْأَبِ.

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:

3- لِابْنِ الْعَمِّ أَحْكَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ يَذْكُرُهَا الْفُقَهَاءُ مُفَصَّلَةً بِأَحْكَامِ مَسَائِلِهَا فِي مَوَاطِنِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ: النِّكَاحُ وَالْحَضَانَةُ وَالنَّفَقَةُ وَالزَّكَاةُ وَالْإِرْثُ وَالْحَجْرُ وَالْقِصَاصُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


56-موسوعة الفقه الكويتية (إثبات 1)

إِثْبَات -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْإِثْبَاتُ لُغَةً مَصْدَرُ أَثْبَتَ، بِمَعْنَى اعْتَبَرَ الشَّيْءَ دَائِمًا مُسْتَقِرًّا أَوْ صَحِيحًا وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْإِثْبَاتَ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ أَمَامَ الْقَاضِي فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ عَلَى حَقٍّ أَوْ وَاقِعَةٍ مِنَ الْوَقَائِعِ.

الْقَصْدُ مِنَ الْإِثْبَاتِ:

2- الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِثْبَاتِ وُصُولُ الْمُدَّعِي إِلَى حَقِّهِ أَوْ مَنْعُ التَّعَرُّضِ لَهُ، فَإِذَا أَثْبَتَ دَعْوَاهُ لَدَى الْقَاضِي بِوَجْهِهَا الشَّرْعِيِّ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَانِعٌ حَقَّهُ، أَوْ مُتَعَرِّضٌ لَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، يَمْنَعُهُ الْقَاضِي عَنْ تَمَرُّدِهِ فِي مَنْعِ الْحَقِّ، وَيُوَصِّلُهُ إِلَى مُدَّعِيهِ.

مَنْ يُكَلَّفُ الْإِثْبَاتَ:

3- لَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي أَنَّ الْإِثْبَاتَ يُطْلَبُ مِنَ الْمُدَّعِي، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ». وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ «لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى أُنَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، لَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي».

وَلِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَدَّعِي أَمْرًا خَفِيًّا، فَيَحْتَاجُ إِلَى إِظْهَارٍ، وَلِلْبَيِّنَةِ قُوَّةُ إِظْهَارٍ؛ لِأَنَّهَا كَلَامُ مَنْ لَيْسَ بِخَصْمٍ، وَهُمُ الشُّهُودُ، فَجُعِلَتْ حُجَّةً لِلْمُدَّعِي. وَالْيَمِينُ وَإِنْ كَانَتْ مُؤَكَّدَةً بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنَّهَا كَلَامُ الْخَصْمِ، فَلَا تَصْلُحُ حُجَّةً مُظْهِرَةً لِلْحَقِّ، وَتَصْلُحُ حُجَّةً لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالظَّاهِرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْيَدِ، فَحَاجَتُهُ إِلَى اسْتِمْرَارِ حُكْمِ الظَّاهِرِ. وَالْيَمِينُ وَإِنْ كَانَتْ كَلَامًا فَهِيَ كَافِيَةٌ لِلِاسْتِمْرَارِ. فَكَانَ جَعْلُ الْبَيِّنَةِ حُجَّةَ الْمُدَّعِي، وَجَعْلُ الْيَمِينِ حُجَّةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَضْعَ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ، وَهُوَ غَايَةُ الْحِكْمَةِ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي (الْأَصْلِ): الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْمُنْكِرُ، وَالْآخَرُ هُوَ الْمُدَّعِي، غَيْرَ أَنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَهُمَا يَحْتَاجُ إِلَى فِقْهٍ وَدِقَّةٍ، إِذْ الْعِبْرَةُ لِلْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُوجَدُ الْكَلَامُ مِنْ شَخْصٍ فِي صُورَةِ الْمُدَّعِي، وَهُوَ إِنْكَارٌ فِي الْمَعْنَى، كَالْوَدِيعِ إِذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ، فَإِنَّهُ مُدَّعٍ لِلرَّدِّ صُورَةً، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِوُجُوبِ الرَّدِّ مَعْنًى. وَالْقَاعِدَةُ الْمَذْكُورَةُ إِنَّمَا هِيَ فِي الْمُتَخَاصِمَيْنِ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُدَّعِيًا مَعْنًى وَحَقِيقَةً. فَالْحُكْمُ فِيهَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.

هَلْ يَتَوَقَّفُ الْقَضَاءُ بِالْإِثْبَاتِ عَلَى الطَّلَبِ؟

4- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْحُكْمِ وَاعْتِبَارِهِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، الدَّعْوَى الصَّحِيحَةُ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنَ الْخُصُومَةِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَإِذَا صَحَّتِ الدَّعْوَى سَأَلَ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْهَا. فَإِنْ أَقَرَّ فَبِهَا، وَإِنْ أَنْكَرَ فَبَرْهَنَ الْمُدَّعِي، قُضِيَ عَلَيْهِ بِلَا طَلَبِ الْمُدَّعِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْحَالِ يَدُلُّ عَلَى إِرَادَتِهِ ذَلِكَ. وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلاَّ بِطَلَبِ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقٌّ لِلْمُدَّعِي، فَلَا يَسْتَوْفِيهِ إِلاَّ بِطَلَبِهِ.

طُرُقُ إِثْبَاتِ الدَّعْوَى:

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ وَالشَّهَادَةَ وَالْيَمِينَ وَالنُّكُولَ وَالْقَسَامَةَ- عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الْكَيْفِيَّةِ أَوِ الْأَثَرِ- حُجَجٌ شَرْعِيَّةٌ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا الْقَاضِي فِي قَضَائِهِ، وَيُعَوِّلُ عَلَيْهَا فِي حُكْمِهِ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ طُرُقِ الْإِثْبَاتِ الْآتِيَةِ، فَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ يَقْضِي بِالشَّاهِدِ مَعَ الْيَمِينِ فِي الْأَمْوَالِ أَوْ مَا يَئُولُ إِلَيْهَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَيْضًا أَبُو ثَوْرٍ وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ الْمَدَنِيُّونَ.

وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَقْضِي بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فِي شَيْءٍ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ اللَّيْثُ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ مَالِكٍ.

وَزَادَ ابْنُ الْغَرْسِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ الْقَرِينَةَ الْوَاضِحَةَ.

وَقَالَ الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ الْحَنَفِيُّ: لَا شَكَّ أَنَّ مَا زَادَهُ ابْنُ الْغَرْسِ غَرِيبٌ خَارِجٌ عَنِ الْجَادَّةِ. فَلَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُعَضِّدْهُ النَّقْلُ.

وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ لَمْ يَحْصُرِ الطُّرُقَ فِي أَنْوَاعٍ مُعَيَّنَةٍ، بَلْ قَالَ: إِنَّ كُلَّ مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَيُظْهِرُهُ يَكُونُ دَلِيلًا يَقْضِي بِهِ الْقَاضِي وَيَبْنِي عَلَيْهِ حُكْمَهُ. وَهَذَا مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ، وَتَبِعَهُ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ كَابْنِ فَرْحُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.

فَقَدْ جَاءَ فِي الطُّرُقِ الْحُكْمِيَّةِ: وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَيُظْهِرُهُ، وَهِيَ تَارَةً تَكُونُ أَرْبَعَةَ شُهُودٍ، وَتَارَةً ثَلَاثَةً، بِالنَّصِّ فِي بَيِّنَةِ الْمُفْلِسِ، وَتَارَةً تَكُونُ شَاهِدَيْنِ، وَشَاهِدًا وَاحِدًا وَامْرَأَةً وَاحِدَةً وَنُكُولًا، وَيَمِينًا، أَوْ خَمْسِينَ يَمِينًا، أَوْ أَرْبَعَةَ أَيْمَانٍ. وَتَكُونُ شَاهِدَ الْحَالِ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ. فَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» أَيْ عَلَيْهِ أَنْ يُظْهِرَ مَا يُبَيِّنُ صِحَّةَ دَعْوَاهُ.

فَإِذَا ظَهَرَ صِدْقُهُ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ حُكِمَ لَهُ.

وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي كُلِّ الطُّرُقِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الْفُقَهَاءُ لِلْحُكْمِ سَوَاءٌ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَوِ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ.

الْإِقْرَارُ:

6- الْإِقْرَارُ لُغَةً هُوَ الِاعْتِرَافُ. يُقَالُ: أَقَرَّ بِالْحَقِّ: إِذَا اعْتَرَفَ بِهِ، وَقَرَّرَهُ غَيْرُهُ بِالْحَقِّ حَتَّى أَقَرَّ بِهِ. وَشَرْعًا: إِخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ.

حُجِّيَّةُ الْإِقْرَارِ:

7- الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ:

فَمِنَ الْكِتَابِ قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}. إِذِ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْسِ إِقْرَارٌ عَلَيْهَا بِالْحَقِّ.

وَمِنَ السُّنَّةِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ بِنَاءً عَلَى إِقْرَارِهِمَا بِالزِّنَا».

وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْآنَ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُقِرِّ، يُؤْخَذُ بِهِ وَيُعَامَلُ بِمُقْتَضَاهُ.

وَدَلِيلُهُ مِنَ الْمَعْقُولِ: انْتِفَاءُ التُّهْمَةِ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ كَذِبًا.

مَرْتَبَةُ الْإِقْرَارِ بَيْنَ طُرُقِ الْإِثْبَاتِ.

8- الْفُقَهَاءُ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فِيهِ غَالِبًا.

فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ فَوْقَ الشَّهَادَةِ، بِنَاءً عَلَى انْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فِيهِ غَالِبًا، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّهُ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ عَلَى الْمُقِرِّ وَحْدَهُ، فِي حِينِ أَنَّ الشَّهَادَةَ حُجَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ؛ لِأَنَّ الْقُوَّةَ وَالضَّعْفَ وَرَاءَ التَّعَدِّيَةِ وَالِاقْتِصَارِ. فَاتِّصَافُ الْإِقْرَارِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى نَفْسِ الْمُقِرِّ، وَالشَّهَادَةِ بِالتَّعَدِّيَةِ إِلَى الْغَيْرِ، لَا يُنَافِي اتِّصَافَهُ بِالْقُوَّةِ وَاتِّصَافَهَا بِالضَّعْفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، بِنَاءً عَلَى انْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فِيهِ دُونَهَا.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ أَبْلَغُ مِنَ الشَّهَادَةِ.

قَالَ أَشْهَبُ: «قَوْلُ كُلِّ أَحَدٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْجَبُ مِنْ دَعْوَاهُ عَلَى غَيْرِهِ.» وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنَ الشَّهَادَةِ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ لَا تُسْمَعُ عَلَيْهِ الشَّهَادَةُ، وَإِنَّمَا تُسْمَعُ إِذَا أَنْكَرَ.

بِمَ يَكُونُ الْإِقْرَارُ؟

9- يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِاللَّفْظِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، كَالْإِشَارَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالسُّكُوتِ بِقَرِينَةٍ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِقْرَارِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (إِقْرَار).

الشَّهَادَةُ:

10- مِنْ مَعَانِي الشَّهَادَةِ فِي اللُّغَةِ الْبَيَانُ وَالْإِظْهَارُ لِمَا يَعْلَمُهُ، وَأَنَّهَا خَبَرٌ قَاطِعٌ. وَشَرْعًا: إِخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ. وَقَدِ اخْتَلَفَتْ صِيَغُهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ تَبَعًا لِتَضَمُّنِهَا شُرُوطًا فِي قَبُولِهَا كَلَفْظِ الشَّهَادَةِ وَمَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ.

حُكْمُهَا:

11- لِلشَّهَادَةِ حَالَتَانِ: حَالَةُ تَحَمُّلٍ، وَحَالَةُ أَدَاءٍ.

فَأَمَّا التَّحَمُّلُ، وَهُوَ أَنْ يُدْعَى الشَّخْصُ لِيَشْهَدَ وَيَحْفَظَ الشَّهَادَةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ. فَإِنْ تَعَيَّنَ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ غَيْرُهُ كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْأَدَاءُ، وَهُوَ أَنْ يُدْعَى الشَّخْصُ لِيَشْهَدَ بِمَا عَلِمَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، لقوله تعالى {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} وقوله تعالى {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}

دَلِيلُ مَشْرُوعِيَّتِهَا:

12- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ جَمِيعًا عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ طُرُقِ الْقَضَاءِ، لقوله تعالى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}

وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ». وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهَا حُجَّةٌ يُبْنَى عَلَيْهَا الْحُكْمُ.

مَدَى حُجِّيَّتِهَا:

13- الشَّهَادَةُ حُجَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ، أَيْ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ غَيْرُ مُقْتَصِرَةٍ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ، لَكِنَّهَا لَيْسَتْ حُجَّةً بِنَفْسِهَا إِذْ لَا تَكُونُ مُلْزِمَةً إِلاَّ إِذَا اتَّصَلَ بِهَا الْقَضَاءُ. وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِ الشَّهَادَةِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مَوْطِنِهِ فِي مُصْطَلَحِ (شَهَادَة).

الْقَضَاءُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ:

14- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ:

فَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ الْمَدَنِيُّونَ إِلَى أَنَّهُ يُقْضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فِي الْأَمْوَالِ وَمَا يَئُولُ إِلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا.

وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فِي شَيْءٍ.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَمَنْ مَعَهُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ».

15- وَالْقَائِلُونَ بِالْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ اخْتَلَفُوا فِي الْيَمِينِ مَعَ الْمَرْأَتَيْنِ:

فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ قَامَتَا مَقَامَ الْوَاحِدِ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ الْيَمِينُ مَعَ شَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَتَيْنِ إِنَّمَا اعْتُبِرَتْ فِيمَا لَوْ كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا مَعَ شَهَادَةِ رَجُلٍ. وَفِي الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فِي الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ حَقُّ النَّاسِ خَاصَّةً كَحَدِّ الْقَذْفِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ.

وَاسْتَدَلَّ الْمَانِعُونَ مِنَ الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ:

فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وقوله تعالى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} فَقَبُولُ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَالْيَمِينِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ إِلاَّ بِمُتَوَاتِرٍ أَوْ مَشْهُورٍ. وَلَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى أُنَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَقَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام- «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَمِنْ قَوْلِهِ لِمُدَّعٍ «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ»

فَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ جَعَلَ جِنْسَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُنْكِرِ. فَإِذَا قُبِلَتْ يَمِينٌ مِنَ الْمُدَّعِي، أَوْ وُجِّهَتْ إِلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ جَمِيعُ أَفْرَادِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُنْكِرِينَ.

وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الثَّانِي جَعَلَ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي، وَجَمِيعَ أَفْرَادِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُنْكِرِ. وَتَضَمَّنَ مَعَ هَذَا قِسْمَةً وَتَوْزِيعًا. وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي اشْتِرَاكَ الْخَصْمَيْنِ فِيمَا وَقَعَتْ فِيهِ الْقِسْمَةُ.

وَالْحَدِيثُ الثَّالِثُ خُيِّرَ الْمُدَّعِي بَيْنَ أَمْرَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا: إِمَّا بَيِّنَةٍ أَوْ يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ يَمْنَعُ تَجَاوُزَهُمَا وَالْجَمْعَ بَيْنَهُمَا.

الْيَمِينُ:

16- مِنْ مَعَانِي الْيَمِينِ فِي اللُّغَةِ الْقُوَّةُ وَالْقُدْرَةُ، ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى الْجَارِحَةِ وَالْحَلِفِ. وَسُمِّيَ الْحَلِفُ بِاللَّهِ يَمِينًا لِأَنَّ بِهِ يَتَقَوَّى أَحَدُ طَرَفَيِ الْخُصُومَةِ.

وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ مِنْ طُرُقِ الْقَضَاءِ، وَأَنَّهَا لَا تُوَجَّهُ إِلاَّ بَعْدَ دَعْوَى صَحِيحَةٍ، وَأَنَّهَا تَكُونُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلاَّ بِطَلَبٍ مِنَ الْخَصْمِ، إِلاَّ فِي مَسَائِلَ مُسْتَثْنَاةٍ، وَتَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ، وَعَلَى الْبَتِّ، وَأَنَّهَا لَا يَجْرِي فِيهَا الِاسْتِخْلَافُ إِلاَّ فِيمَا اسْتُثْنِيَ، وَأَنَّهَا تَقْطَعُ الْخُصُومَةَ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَنَّ صِيغَتَهَا وَاحِدَةٌ فِي الْجُمْلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِ وَغَيْرِ الْمُسْلِمِ، وَأَنَّهَا تُوَجَّهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ مِنَ الْقَاضِي وَالْمُحَكَّمِ.

17- وَمَوْضِعُ تَوْجِيهِ الْيَمِينِ هُوَ عِنْدَ إِنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْحَقَّ الْمُدَّعَى، وَعَدَمِ تَقْدِيمِ بَيِّنَةٍ. وَهُنَا تَفْصِيلٌ: فَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ يُرَتِّبُونَ طَلَبَ الْيَمِينِ عَلَى عَدَمِ وُجُودِ بَيِّنَةٍ حَاضِرَةٍ فِي الْمَجْلِسِ مَعْلُومَةٍ لَهُ. فَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً فَلَهُ طَلَبُ الْيَمِينِ.

أَمَّا إِذَا قَالَ الْمُدَّعِي: لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ فِي الْمِصْرِ، وَلَكِنْ أَطْلُبُ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ- فِيمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْهُ- يَرَيَانِ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي طَلَبِ الْيَمِينِ لِأَنَّ الْيَمِينَ بَدَلٌ عَنِ الْبَيِّنَةِ.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- فِيمَا رَوَاهُ الْخَصَّافُ عَنْهُ- إِلَى أَنَّ لِلْمُدَّعِي حَقَّ طَلَبِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّهُ فَإِذَا طَلَبَهُ يُجَابُ إِلَيْهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلْمُدَّعِي حَقَّ طَلَبِ الْيَمِينِ وَلَوْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ تَقْدِيمِ الْبَيِّنَةِ أَوْ طَلَبِ الْيَمِينِ. كَمَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ، لَا يُسْتَحْلَفُ، بَلْ يُحْبَسُ لِيُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ. وَكَذَا لَوْ لَزِمَ السُّكُوتَ بِلَا آفَةٍ، عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَنُقِلَ عَنِ الْبَدَائِعِ: الْأَشْبَهُ أَنَّهُ إِنْكَارٌ فَيُسْتَحْلَفُ.

وَتَوْجِيهُ الْيَمِينِ يَكُونُ مِنَ الْقَاضِي بِطَلَبِ الْمُدَّعِي.

وَاسْتَثْنَى الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ أَرْبَعَ مَسَائِلَ يُوَجِّهُ فِيهَا الْقَاضِي الْيَمِينَ بِلَا طَلَبِ الْمُدَّعِي.

أُولَاهَا: الرَّدُّ بِالْعَيْبِ، يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي بِاللَّهِ مَا رَضِيتُ بِالْعَيْبِ.

وَالثَّانِيَةُ: الشَّفِيعُ: بِاللَّهِ مَا أَبْطَلْتُ شُفْعَتَكَ.

وَثَالِثُهَا: الْمَرْأَةُ إِذَا طَلَبَتْ فَرْضَ النَّفَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا الْغَائِبِ: بِاللَّهِ مَا خَلَّفَ لَكِ زَوْجُكِ شَيْئًا وَلَا أَعْطَاكِ النَّفَقَةَ.

وَرَابِعُهَا: يَحْلِفُ الْمُسْتَحِقُّ: بِاللَّهِ مَا بَايَعْتُ.

18- وَفِي دَعْوَى الدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ: أَجْمَعَ أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ عَلَى تَحْلِيفِ الْمُدَّعِي مَعَ الْبَيِّنَةِ بِلَا طَلَبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، بِأَنْ يَقُولَ لَهُ الْقَاضِي: بِاللَّهِ مَا اسْتَوْفَيْتَ مِنَ الْمَدْيُونِ، وَلَا مِنْ أَحَدٍ أَدَّاهُ إِلَيْكَ عَنْهُ، وَلَا قَبَضَهُ لَهُ قَابِضٌ بِأَمْرِكَ، وَلَا أَبْرَأْتَهُ مِنْهُ، وَلَا شَيْئًا مِنْهُ، وَلَا أَحَلْتَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَحَدًا، وَلَا عِنْدَكَ مِنْهُ وَلَا بِشَيْءٍ مِنْهُ رَهْنٌ. وَتُسَمَّى هَذِهِ الْيَمِينُ يَمِينَ الِاسْتِظْهَارِ، وَيَمِينَ الْقَضَاءِ، وَالِاسْتِبْرَاءِ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الدَّعْوَى عَلَى الْغَائِبِ، أَوْ عَلَى الْيَتِيمِ أَوْ عَلَى الْأَحْبَاسِ أَوْ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَعَلَى كُلِّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ وَعَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَعَلَى مَنِ اسْتَحَقَّ شَيْئًا مِنَ الْحَيَوَانِ كَذَلِكَ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ لُزُومَ ذَلِكَ فِي الْعَقَارِ وَالرَّبَاعِ.

وَفُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ التَّحْلِيفَ يَكُونُ فِي الْمَالِ وَمَا يَئُولُ إِلَى الْمَالِ.

19- وَاخْتَلَفَ أَئِمَّةُ الْحَنَفِيَّةِ فِي التَّحْلِيفِ فِي النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ وَالْإِيلَاءِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالرِّقِّ وَالْوَلَاءِ وَالنَّسَبِ. فَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى عَدَمِ التَّحْلِيفِ فِي الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ. وَذَهَبَ الْإِمَامَانِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى التَّحْلِيفِ. وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا. وَيُسْتَحْلَفُ السَّارِقُ لِأَجْلِ الْمَالِ فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ وَلَمْ يُقْطَعْ. وَمَحَلُّ الْخِلَافِ بَيْنَ الْإِمَامِ وَصَاحِبَيْهِ فِيمَا ذُكِرَ إِذَا لَمْ يَتَضَمَّنِ الْحَقُّ الْمُدَّعَى مَالًا فَإِنْ تَضَمَّنَهُ حَلَفَ لِأَجْلِ الْمَالِ عِنْدَ الْجَمِيعِ.

وَسَبَبُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْإِمَامِ وَصَاحِبَيْهِ فِي التَّحْلِيفِ فِي النِّكَاحِ وَمَا تَلَاهُ أَنَّ مَنْ وُجِّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ قَدْ يَنْكُلُ عَنْ حَلِفِهَا فَيُقْضَى لِلْمُدَّعِي. وَالنُّكُولُ يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ وَالْبَذْلَ عِنْدَ الْإِمَامِ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يَتَأَتَّى فِيهَا الْبَذْلُ. وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ أَنَّ النُّكُولَ إِقْرَارٌ فَقَطْ.

20- وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ تَبْطُلُ بِهَا دَعْوَى الْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَيْ أَنَّهَا تَقْطَعُ الْخُصُومَةَ لِلْحَالِ.

لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي انْقِطَاعِ الْخُصُومَةِ مُطْلَقًا بِالْيَمِينِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إِذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْيَمِينَ هَلْ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَعُودَ إِلَى دَعْوَاهُ إِذَا وَجَدَ بَيِّنَةً؟ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تَقْطَعُ الْخُصُومَةَ فِي الْحَالِ فَقَطْ، فَإِذَا وَجَدَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً كَانَ لَهُ أَنْ يُعِيدَ الْخُصُومَةَ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ كَالْخُلْفِ عَنِ الْبَيِّنَةِ، فَإِذَا جَاءَ الْأَصْلُ انْتَهَى حُكْمُ الْخُلْفِ؛ إِذْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ تُفِيدُ قَطْعَ الْخُصُومَةِ فِي الْحَالِ، لَا بَرَاءَةً مِنَ الْحَقِّ، لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- «أَمَرَ حَالِفًا بِالْخُرُوجِ مِنْ حَقِّ صَاحِبِهِ» فَلَوْ حَلَّفَ الْمُدَّعِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقَامَ بَيِّنَةً بِمُدَّعَاهُ، أَوْ شَاهِدًا لِيَحْلِفَ مَعَهُ، حُكِمَ بِهَا.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْيَمِينَ تَقْطَعُ الْخُصُومَةَ مُطْلَقًا

21- التَّحْلِيفُ عَلَى فِعْلِ النَّفْسِ يَكُونُ عَلَى الْبَتَاتِ، أَيِ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ.

عَلَامَ يَحْلِفُ؟ وَالتَّحْلِيفُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ وَجَبَ فِيهِ الْيَمِينُ عَلَى الْعِلْمِ، فَحَلَفَ عَلَى الْبَتَاتِ، كَفَى وَسَقَطَتْ عَنْهُ، وَعَلَى عَكْسِهِ لَا.

حَقُّ الِاسْتِحْلَافِ (طَلَبُ الْحَلِفِ):

22- الْأَصْلُ فِي طَلَبِ الْيَمِينِ أَنْ يَكُونَ لِلْمُدَّعِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ وَكِيلُهُ أَوْ وَصِيُّهُ أَوْ وَلِيُّهُ أَوْ نَاظِرُ الْوَقْفِ. وَلَا تَجُوزُ الْإِنَابَةُ فِي الْحَلِفِ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَعْمَى أَخْرَسَ أَصَمَّ، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ عَنْهُ وَلِيُّهُ أَوْ وَصِيُّهُ.

وَلَوْ أَصَمَّ كَتَبَ الْقَاضِي لِيُجِيبَ بِخَطِّهِ إِنْ عَرَفَ الْكِتَابَةَ، وَإِلاَّ فَبِإِشَارَتِهِ.

مَا يَحْلِفُ بِهِ:

23- لَا يَحْلِفُ إِلاَّ بِاللَّهِ تَعَالَى، أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ لِحَدِيثِ «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ لِيَذَرْ».

فَلَوْ حَلَّفَهُ بِغَيْرِهِ، كَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ مِمَّا فِيهِ إِلْزَامٌ بِمَا لَا يَلْزَمُهُ لَوْلَا الْحَلِفُ، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا وَإِنْ أَلَحَّ الْخَصْمُ. وَقِيلَ: إِنْ مَسَّتِ الضَّرُورَةُ إِلَى الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ، فَوَّضَ إِلَى الْقَاضِي.

وَيَحْلِفُ الْيَهُودِيُّ: بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى. وَالنَّصْرَانِيُّ: بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى، وَالْمَجُوسِيُّ: بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّارَ. وَيَحْلِفُ الْوَثَنِيُّ: بِاللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ بِهِ تَعَالَى. وَيَحْلِفُ الْأَخْرَسُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ الْقَاضِي: عَلَيْكَ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ إِنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا. فَإِذَا أَوْمَأَ بِرَأْسِهِ: أَيْ نَعَمْ، صَارَ حَالِفًا. وَلَا يَقُولُ لَهُ الْقَاضِي: «وَاللَّهِ» وَإِلاَّ كَانَ الْقَاضِي هُوَ الْحَالِفَ.

مَا يُحْلَفُ عَلَيْهِ:

24- إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى بِمِلْكٍ أَوْ حَقٍّ مُطْلَقٍ فَالتَّحْلِيفُ يَكُونُ عَلَى الْحَاصِلِ، بِأَنْ يَحْلِفَ بِاللَّهِ: مَا لَهُ قِبَلِي كَذَا وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ. وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى بِمِلْكٍ أَوْ حَقٍّ مُبَيَّنِ السَّبَبِ فَهُنَاكَ اتِّجَاهَاتٌ ثَلَاثٌ:

أ- فَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَفْهُومِ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّ التَّحْلِيفَ عَلَى الْحَاصِلِ- لِأَنَّهُ أَحْوَطُ- فَيَحْلِفُ: لَيْسَ لِلْمُدَّعِي قِبَلِي شَيْءٌ.

ب- وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَمَفْهُومُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، أَنَّ التَّحْلِيفَ هُنَا عَلَى السَّبَبِ، فَيَقُولُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: بِاللَّهِ مَا اقْتَرَضْتُ، مَثَلًا.

وَاسْتَثْنَى أَبُو يُوسُفَ مَا لَوْ عَرَّضَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَأَنْ قَالَ: قَدْ يَبِيعُ الْإِنْسَانُ شَيْئًا ثُمَّ يُقِيلُ، فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ.

ج- وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ، أَنَّ التَّحْلِيفَ يُطَابِقُ الْإِنْكَارَ، فَإِنْ أَنْكَرَ الْحَاصِلَ يَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ، وَإِنْ أَنْكَرَ السَّبَبَ، وَهُوَ مَوْضُوعُ الدَّعْوَى- يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ. وَفِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا التَّحْلِيفُ عَلَى السَّبَبِ إِذَا حَلَفَ عَلَى الْحَاصِلِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ السَّبَبَ وَزِيَادَةً. وَهَذَا فِي الِاتِّفَاقِ.

افْتِدَاءُ الْيَمِينِ وَالْمُصَالَحَةُ عَلَيْهَا:

25- صَحَّ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ افْتِدَاءُ الْيَمِينِ، وَالصُّلْحُ عَنْهَا، لِحَدِيثِ «ذُبُّوا عَنْ أَعْرَاضِكُمْ بِأَمْوَالِكُمْ» وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- افْتَدَى يَمِينَهُ، وَقَالَ: خِفْتُ أَنْ تُصَادِفَ قَدَرًا، فَيُقَالُ: حَلَفَ فَعُوقِبَ، أَوْ هَذَا شُؤْمُ يَمِينِهِ

وَلَا يَحْلِفُ الْمُنْكِرُ بَعْدَهُ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْخُصُومَةِ. وَلِأَنَّ كِرَامَ النَّاسِ يَتَرَفَّعُونَ عَنِ الْحَلِفِ تَوَرُّعًا.

أَمَّا لَوْ أَسْقَطَ الْمُدَّعِي الْيَمِينَ قَصْدًا بِدُونِ مُصَالَحَةٍ أَوِ افْتِدَاءٍ بَعْدَ طَلَبِهَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِسْقَاطًا، وَلَهُ التَّحْلِيفُ؛ لِأَنَّ التَّحْلِيفَ حَقُّ الْقَاضِي.

تَغْلِيظُ الْيَمِينِ:

26- فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ تَغْلِيظِ الْيَمِينِ. لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا بِمَ يَكُونُ التَّغْلِيظُ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّ الْيَمِينَ تُغَلَّظُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْهَيْئَةِ. وَذَلِكَ فِيمَا فِيهِ خَطَرٌ، كَنِكَاحٍ وَطَلَاقٍ وَلِعَانٍ وَوَلَاءٍ وَوَكَالَةٍ وَمَالٍ يَبْلُغُ نِصَابَ زَكَاةٍ.

وَالتَّغْلِيظُ بِالزَّمَانِ كَبَعْدِ الْعَصْرِ أَوْ بَيْنَ أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَبِالْمَكَانِ لِأَهْلِ مَكَّةَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَلِأَهْلِ الْمَدِينَةِ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَفِي غَيْرِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ.

وَبِالنِّسْبَةِ لِلْهَيْئَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْلِفُ قَائِمًا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ.

وَلَمْ يُجَوِّزِ التَّغْلِيظَ أَكْثَرُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ، وَقِيلَ: لَا يُغَلَّظُ عَلَى الْمَعْرُوفِ بِالصَّلَاحِ.

وَعَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ التَّغْلِيظِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَدْ قَصَرَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى ذِكْرِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ: قُلْ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الَّذِي يَعْلَمُ مِنَ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنَ الْعَلَانِيَةِ، مَا لِفُلَانٍ هَذَا عَلَيْكَ وَلَا قِبَلَكَ هَذَا الْمَالُ الَّذِي ادَّعَاهُ، وَهُوَ كَذَا وَكَذَا، وَلَا شَيْءَ مِنْهُ. وَلِلْقَاضِي أَنْ يَزِيدَ عَلَى هَذَا فِي التَّغْلِيظِ وَيُنْقِصَ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمُ التَّغْلِيظُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِدُونِ ذَلِكَ. وَفِي إِيجَابِ التَّغْلِيظِ حَرَجٌ عَلَى الْقَاضِي. وَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ وُجِّهَتْ إِلَيْهِ الْيَمِينُ لَا يُعْتَبَرُ نَاكِلًا إِنْ أَبَى التَّغْلِيظَ.

التَّحَالُفُ:

27- مَصْدَرُ تَحَالَفَ، وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ كُلٍّ مِنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ يَمِينَ الْآخَرِ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُوَافِقُ لِلشَّرْعِ. غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ التَّحَالُفَ يَكُونُ أَمَامَ الْقَضَاءِ.

وَالْمُرَادُ هُنَا حَلِفُ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ.

إِذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ أَوِ الْمَبِيعِ أَوْ كِلَيْهِمَا، أَوْ فِي وَصْفِهِمَا أَوْ فِي جِنْسِهِمَا، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، تَحَالَفَا وَتَفَاسَخَا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، لِلْحَدِيثِ «إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَفَاسَخَا»

وَكَذَلِكَ كُلُّ اخْتِلَافٍ بَيْنَ مُتَخَاصِمَيْنِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ فَبِالتَّحَالُفِ تَنْتَهِي الْخُصُومَةُ.

وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ فِي الْمَذَاهِبِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي: (تَحَالُف).

رَدُّ الْيَمِينِ:

28- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ صَحِيحَةٌ قُضِيَ لَهُ بِهَا. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ أَصْلًا، أَوْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ غَيْرُ حَاضِرَةٍ، طَلَبَ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ بَعْدَ عَرْضِ الْقَاضِي الْيَمِينَ عَلَيْهِ رُفِضَتْ دَعْوَى الْمُدَّعِي، وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ بِلَا عُذْرٍ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى مَالًا، أَوِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالُ، قُضِيَ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ، وَلَمْ تُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَقَوْلُهُ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» فَحَصَرَهَا فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.

وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ رَدَّهَا عَلَى الْمُدَّعِي.

فَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعِي حُكِمَ لَهُ بِمَا ادَّعَاهُ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَقَدْ صَوَّبَهُ أَحْمَدُ، فَقَالَ: مَا هُوَ بِبَعِيدٍ، يَحْلِفُ وَيَسْتَحِقُّ. وَقَالَ: هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ، وَبِهِ قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْيَمِينَ تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعِي فِي جَمِيعِ الدَّعَاوَى، لِمَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَدَّ الْيَمِينَ عَلَى طَالِبِ الْحَقِّ» وَلِأَنَّهُ إِذَا نَكَلَ ظَهَرَ صِدْقُ الْمُدَّعِي وَقَوِيَ جَانِبُهُ، فَتُشْرَعُ فِي حَقِّهِ، كَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَبْلَ نُكُولِهِ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا أَدَعُهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ.

النُّكُولُ عَنِ الْيَمِينِ:

29- النُّكُولُ لُغَةً: الِامْتِنَاعُ. يُقَالُ: نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ؛ أَيِ امْتَنَعَ عَنْهَا. وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الِاصْطِلَاحِ إِذَا كَانَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ.

وَالنُّكُولُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَفِي أَحَدِ رَأْيَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا يَكُونُ حُجَّةً يُقْضَى بِهَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، بَلْ إِذَا نَكَلَ فِي دَعْوَى الْمَالِ أَوْ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي بِطَلَبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعِي قُضِيَ لَهُ بِمَا طَلَبَ وَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعِي رُفِضَتْ دَعْوَاهُ. فَقَدْ أَقَامُوا نُكُولَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَقَامَ الشَّاهِدِ، إِذْ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يُقْضَى لِلْمُدَّعِي بِحَقِّهِ إِذَا أَقَامَ شَاهِدًا وَحَلَفَ، فَكَذَلِكَ يُقْضَى لَهُ بِنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَحَلَفَ الْمُدَّعِي. فَالْحَقُّ عِنْدَهُمْ لَا يَثْبُتُ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ، كَمَا لَا يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ. فَإِنْ حَلَفَ اسْتَحَقَّ بِهِ وَإِلاَّ فَلَا شَيْءَ لَهُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ كُلَّ دَعْوَى لَا تَثْبُتُ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، كَالْقَتْلِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، فَلَا يَمِينَ تُوَجَّهُ مِنَ الْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، وَلَا بُدَّ لِتَوْجِيهِ الْيَمِينِ مِنْ إِقَامَةِ شَاهِدٍ عَلَى الدَّعْوَى، فَيَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِرَدِّ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ، وَلَا تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعِي، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي رَدِّهَا عَلَيْهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ الْمُوَجَّهَةِ إِلَيْهِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ لِكَوْنِهِ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا، إِذْ لَوْلَا ذَلِكَ لأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ لِيَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ. وَلَا وَجْهَ لِرَدِّ الْيَمِينِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ ذِكْرُهُ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ، وَهِيَ الَّتِي اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ إِنْ نَكَلَ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَيُحْكَمُ لَهُ بِمَا ادَّعَاهُ، كَمَا تَقَدَّمَ.

قَضَاءُ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ:

30- الْمُرَادُ بِعِلْمِ الْقَاضِي ظَنُّهُ الْمُؤَكَّدُ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ الشَّهَادَةُ مُسْتَنِدًا إِلَيْهِ.

وَلَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَضَاءُ بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ يُحْتَاطُ فِي دَرْئِهَا، وَلَيْسَ مِنَ الِاحْتِيَاطِ الِاكْتِفَاءُ بِعِلْمِ الْقَاضِي، وَلِأَنَّ الْحُدُودَ لَا تَثْبُتُ إِلاَّ بِالْإِقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ الْمَنْطُوقِ بِهَا، وَأَنَّهُ وَإِنْ وُجِدَ فِي عِلْمِ الْقَاضِي مَعْنَى الْبَيِّنَةِ، فَقَدْ فَاتَتْ صُورَتُهَا، وَهُوَ النُّطْقُ، وَفَوَاتُ الصُّورَةِ يُورِثُ شُبْهَةً، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.

وَأَمَّا قَضَاءُ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَمَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:

فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ عِلْمُهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا. وَهَذَا قَوْلُ شُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ». فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَقْضِي بِمَا يَسْمَعُ لَا بِمَا يَعْلَمُ، وَبِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي قَضِيَّةِ الْحَضْرَمِيِّ وَالْكِنْدِيِّ «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ، لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلاَّ ذَاكَ» وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ تَدَاعَى عِنْدَهُ رَجُلَانِ، فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا: أَنْتَ شَاهِدِي. فَقَالَ إِنْ شِئْتُمَا شَهِدْتُ وَلَمْ أَحْكُمْ أَوْ أَحْكُمُ وَلَا أَشْهَدُ

وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَذْهَبُ الْإِمَامَيْنِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ عِلْمُهُ قَبْلَ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ أَمْ بَعْدَهَا، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ الْقَاضِي مُجْتَهِدًا- وُجُوبًا- ظَاهِرَ التَّقْوَى وَالْوَرَعِ- نَدْبًا- وَاشْتَرَطُوا لِنَفَاذِ حُكْمِهِ أَنْ يُصَرِّحَ بِمُسْتَنَدِهِ، فَيَقُولُ: عَلِمْتُ أَنَّ لَهُ عَلَيْكَ مَا ادَّعَاهُ، وَقَضَيْتُ، أَوْ: حَكَمْتُ عَلَيْكَ بِعِلْمِي. فَإِنْ تَرَكَ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ.

وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ «بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا قَالَتْ لَهُ هِنْدُ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِنِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي، قَالَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» فَحَكَمَ لَهَا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا إِقْرَارٍ، لِعِلْمِهِ بِصِدْقِهَا، وَبِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِالْبَيِّنَةِ، فَيَجُوزُ الْقَضَاءُ بِعِلْمِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَيِّنَةِ لَيْسَ عَيْنَهَا، بَلْ حُصُولَ الْعِلْمِ بِحُكْمِ الْحَادِثَةِ. وَعِلْمُهُ الْحَاصِلُ بِالْمُعَايَنَةِ أَقْوَى مِنْ عِلْمِهِ الْحَاصِلِ بِالشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِالشَّهَادَةِ عِلْمُ غَالِبِ الرَّأْيِ وَأَكْبَرِ الظَّنِّ، وَالْحَاصِلُ بِالْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ عَلَى الْقَطْعِ وَالْيَقِينِ، فَهُوَ أَقْوَى، فَكَانَ الْقَضَاءُ بِهِ أَوْلَى.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


57-موسوعة الفقه الكويتية (اختصاص 1)

اخْتِصَاصٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الِاخْتِصَاصُ فِي اللُّغَةِ: الِانْفِرَادُ بِالشَّيْءِ دُونَ الْغَيْرِ، أَوْ إِفْرَادُ الشَّخْصِ دُونَ غَيْرِهِ بِشَيْءٍ مَا.

وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كَذَلِكَ، فَهُمْ يَقُولُونَ: هَذَا مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ مِمَّا اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِهِ، وَيَقُولُونَ فِيمَنْ وَضَعَ سِلْعَتَهُ فِي مَقْعَدٍ مِنْ مَقَاعِدِ السُّوقِ الْمُبَاحَةِ: إِنَّهُ اخْتَصَّ بِهَا دُونَ غَيْرِهِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مُزَاحَمَتُهُ حَتَّى يَدَعَ.

مَنْ لَهُ حَقُّ الِاخْتِصَاصِ

2- الِاخْتِصَاصُ إِمَّا لِلْمُشَرِّعِ أَوْ لِأَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ بِمَا لَهُ مِنْ وِلَايَةٍ أَوْ مِلْكٍ.

الِاخْتِصَاصُ مِنَ الْمُشَرِّعِ

3- الِاخْتِصَاصُ مِنَ الْمُشَرِّعِ لَا تُشْتَرَطُ لَهُ شُرُوطٌ؛ لِأَنَّهُ هُوَ وَاضِعُ الشُّرُوطِ وَالْأَحْكَامِ، وَهُوَ وَاجِبُ الطَّاعَةِ، كَاخْتِصَاصِهِ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِإِبَاحَةِ الزَّوَاجِ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسَاءٍ، وَاخْتِصَاصِهِ الْكَعْبَةَ بِوُجُوبِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ.وَمَحَلُّ الِاخْتِصَاصِ- فِي هَذَا الْبَحْثِ- قَدْ يَكُونُ شَخْصًا، أَوْ زَمَانًا، أَوْ مَكَانًا.

اخْتِصَاصَاتُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-

4- الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ فِي بَحْثِ اخْتِصَاصَاتِ الرَّسُولِ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْبَحْثِ فِي خَصَائِصِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-، فَأَجَازَهُ الْجُمْهُورُ وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ، وَقَالَ: الصَّوَابُ الْجَزْمُ بِجَوَازِ ذَلِكَ، بَلْ بِاسْتِحْبَابِهِ، بَلْ لَوْ قِيلَ بِوُجُوبِهِ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا؛ لِأَنَّ فِي الْبَحْثِ فِي الْخَصَائِصِ زِيَادَةَ الْعِلْمِ؛ وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا رَأَى جَاهِلٌ بَعْضَ الْخَصَائِصِ ثَابِتَةً فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، فَعَمِلَ بِهِ أَخْذًا بِأَصْلِ التَّأَسِّي بِالرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام-، فَوَجَبَ بَيَانُهَا لِتُعْرَفَ فَلَا يُعْمَلُ بِهَا.

وَأَمَّا مَا يَقَعُ فِي ضِمْنِ الْخَصَائِصِ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ الْيَوْمَ فَقَلِيلٌ، لَا تَخْلُو أَبْوَابُ الْفِقْهِ عَنْ مِثْلِهِ لِلتَّدَرُّبِ، وَمَعْرِفَةِ الْأَدِلَّةِ وَتَحْقِيقِ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ.وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيِّ.وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْخَصَائِصِ حُكْمٌ نَاجِزٌ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ.

أَنْوَاعُ اخْتِصَاصَاتِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-:

5- أ- الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الَّتِي لَا تَتَعَدَّاهُ إِلَى أُمَّتِهِ كَكَوْنِهِ لَا يُورَثُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

ب- الْمَزَايَا الْأُخْرَوِيَّةُ، كَإِعْطَائِهِ الشَّفَاعَةَ، وَكَوْنِهِ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

ج- الْفَضَائِلُ الدُّنْيَوِيَّةُ، كَكَوْنِهِ أَصْدَقَ النَّاسِ حَدِيثًا.

د- الْمُعْجِزَاتُ كَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَغَيْرِهِ.

هـ- الْأُمُورُ الْخُلُقِيَّةُ، كَكَوْنِهِ يَرَى مِنْ خَلْفِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَسَيَقْتَصِرُ الْبَحْثُ عَلَى النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ الِاخْتِصَاصَاتِ- اخْتِصَاصُهُ- صلى الله عليه وسلم- بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ.أَمَّا مَوْطِنُ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْخَصَائِصِ الْأُخْرَى فَهُوَ كُتُبُ الْعَقَائِدِ، وَكُتُبُ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَالْكُتُبُ الْمُؤَلَّفَةُ فِي خَصَائِصِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَفَضَائِلِهِ.

مَا اخْتُصَّ بِهِ- صلى الله عليه وسلم-

مِنَ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ:

6- هَذِهِ الِاخْتِصَاصَاتُ لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا وَاجِبَةً أَوْ مُحَرَّمَةً أَوْ مُبَاحَةً.

الِاخْتِصَاصَاتُ الْوَاجِبَةُ:

7- فَرَضَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- بَعْضَ مَا هُوَ مُبَاحٌ أَوْ مَنْدُوبٌ عَلَى أُمَّتِهِ، إِعْلَاءً لِمَقَامِهِ عِنْدَهُ وَإِجْزَالًا لِثَوَابِهِ؛ لِأَنَّ ثَوَابَ الْفَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ ثَوَابِ النَّفْلِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ» وَمِنْ ذَلِكَ.

أ- قِيَامُ اللَّيْلِ:

8- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، هَلْ كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى عَدَمِ فَرْضِيَّتِهِ عَلَى الْأُمَّةِ.فَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَدِ اخْتُصَّ بِافْتِرَاضِ قِيَامِ اللَّيْلِ عَلَيْهِ، وَتَابَعَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ.وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} أَيْ نَفْلًا لَكَ، أَيْ فَضْلًا: (زِيَادَةً) عَنْ فَرَائِضِكَ الَّتِي فَرَضْتُهَا عَلَيْكَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ}.قَالَ الطَّبَرِيُّ: «خَيَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى حِينَ فَرَضَ عَلَيْهِ قِيَامَ اللَّيْلِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَنَازِلِ».وَيُعَضِّدُ هَذَا وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «ثَلَاثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرَائِضُ وَلَكُمْ سُنَّةٌ، الْوِتْرُ وَالسِّوَاكُ وَقِيَامُ اللَّيْلِ».وَذَهَبَ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ إِلَى أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى، رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَلْ هُوَ نَافِلَةٌ، وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {نَافِلَةً لَكَ} مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَمَا عَمِلَ مَنْ عَمَلٍ سِوَى الْمَكْتُوبَةِ فَهُوَ نَافِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ ذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ الذُّنُوبِ، فَهِيَ نَافِلَةٌ وَزِيَادَةٌ، وَالنَّاسُ يَعْمَلُونَ مَا سِوَى الْمَكْتُوبَةِ لِتَكْفِيرِ ذُنُوبِهِمْ فَلَيْسَ لِلنَّاسِ- فِي الْحَقِيقَةِ- نَوَافِلُ.

وَتَبِعَ مُجَاهِدًا جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ، فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ قِيَامِ اللَّيْلِ قَدْ نُسِخَ فِي حَقِّ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَمَا نُسِخَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فَرَضَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ»،، خَاصَّةً أَنَّ الْآيَةَ مُحْتَمِلَةٌ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِفَرْضِيَّةِ قِيَامِ اللَّيْلِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حَدِيثٌ ضَعِيفٌ.

ب- صَلَاةُ الْوِتْرِ:

9- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اخْتِصَاصِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِافْتِرَاضِ صَلَاةِ الْوِتْرِ عَلَيْهِ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى أُمَّتِهِ.فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوِتْرَ كَانَ وَاجِبًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ وَالْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْغَزَالِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ هَذَا الْوُجُوبَ خَاصٌّ بِالْحَضَرِ دُونَ السَّفَرِ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي الْوِتْرَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَلَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ».وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَذْهَبُ أَنَّ صَلَاةَ الْوِتْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَلَكِنْ جَوَازُ صَلَاتِهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ خَاصٌّ بِهِ- عليه الصلاة والسلام-.

وَيَرَى الْعَيْنِيُّ الْحَنَفِيُّ فِي عُمْدَةِ الْقَارِي وَالْحَنَفِيَّةُ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ الْوِتْرِ- إِنَّ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْوِتْرَ عَلَى الرَّاحِلَةِ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُفْتَرَضَ عَلَيْهِ الْوِتْرُ.

ج- صَلَاةُ الضُّحَى:

10- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ صَلَاةِ الضُّحَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ.فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ الضُّحَى مَفْرُوضَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «ثَلَاثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرَائِضُ، وَلَكُمْ تَطَوُّعٌ: النَّحْرُ وَالْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الضُّحَى».

وَأَقَلُّ الْوَاجِبِ مِنْهَا عَلَيْهِ رَكْعَتَانِ لِحَدِيثِ: «أُمِرْتُ بِرَكْعَتَيِ الضُّحَى وَلَمْ تُؤْمَرُوا بِهَا».وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ الضُّحَى لَيْسَتْ مَفْرُوضَةً عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ بِالْوِتْرِ وَالْأَضْحَى وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيَّ».

د- سُنَّةُ الْفَجْرِ:

11- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فَرْضِيَّةِ سُنَّةِ الْفَجْرِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَى غَيْرِهِ.فَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ السَّلَفِ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا عَلَيْهِ- صلى الله عليه وسلم- وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَهُنَّ لَكُمْ تَطَوُّعٌ: الْوِتْرُ وَالنَّحْرُ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ».

هـ- السِّوَاكُ:

12- الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ السِّوَاكَ لِكُلِّ صَلَاةٍ مُفْتَرَضٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أُمِرَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، طَاهِرًا وَغَيْرَ طَاهِرٍ، فَلَمَّا شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ أُمِرَ بِالسِّوَاكِ لِكُلِّ صَلَاةٍ».وَفِي لَفْظٍ: «وُضِعَ عَنْهُ الْوُضُوءُ إِلاَّ مِنْ حَدَثٍ».

و- الْأُضْحِيَةُ:

13- الْأُضْحِيَةُ فَرْضٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دُونَ أُمَّتِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ: «ثَلَاثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرَائِضُ وَلَكُمْ تَطَوُّعٌ: النَّحْرُ وَالْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الضُّحَى».

ز- الْمُشَاوَرَةُ:

14- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فَرْضِيَّةِ الْمُشَاوَرَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى سُنِّيَّتِهَا عَلَى غَيْرِهِ.فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِفَرْضِيَّتِهَا عَلَيْهِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}.وَقَالَ هَؤُلَاءِ: إِنَّمَا وَجَبَ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَطْيِيبًا لِلْقُلُوبِ، وَتَعْلِيمًا لِلنَّاسِ لِيَسْتَنُّوا بِهِ- عليه الصلاة والسلام-.وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُشَاوَرَةَ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ لِفِقْدَانِ دَلِيلٍ يَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ الْفَرْضِيَّةِ.وَحَمَلُوا الْأَمْرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ عَلَى النَّدْبِ أَوِ الْإِرْشَادِ.ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا يُشَاوِرُ فِيهِ: بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشَاوِرُ فِيمَا نَزَلَ عَلَيْهِ فِيهِ وَحْيٌ.

فَقَالَ فَرِيقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: يُشَاوِرُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، كَالْحُرُوبِ وَمُكَايَدَةِ الْعَدُوِّ؛ لِأَنَّ اسْتِقْرَاءَ مَا شَاوَرَ فِيهِ الرَّسُولُ (ص) أَصْحَابَهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.

وَقَالَ فَرِيقٌ آخَرُ: يُشَاوِرُ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.أَمَّا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي أُمُورِ الدِّينِ فَإِنَّ اسْتِشَارَتَهُ لَهُمْ تَكُونُ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى عِلَلِ الْأَحْكَامِ وَطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ.

ح- مُصَابَرَةُ الْعَدُوِّ الزَّائِدِ عَلَى الضِّعْفِ:

15- مِمَّا فُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دُونَ أُمَّتِهِ مُصَابَرَةُ الْعَدُوِّ وَإِنْ كَثُرَ وَزَادَ عَلَى الضِّعْفِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- مَحْفُوظٌ بِحِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى.قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.

ط- تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ:

16- مِمَّا فُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ هَذَا لِلْخَوْفِ، بِخِلَافِ أُمَّتِهِ الَّتِي يَسْقُطُ عَنْهَا بِالْخَوْفِ.وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ رَسُولِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، كَمَا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ إِذَا كَانَ الْمُرْتَكِبُ يَزِيدُهُ الْإِنْكَارُ إِغْرَاءً، لِئَلاَّ يَتَوَهَّمَ إِبَاحَتَهُ بِخِلَافِ أُمَّتِهِ.وَإِذَا كَانَ إِنْكَارُ الْمُنْكَرِ فَرْضَ كِفَايَةٍ عَلَى أُمَّتِهِ فَإِنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَيْهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِعِدَّةِ أَحَادِيثَ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى.

ي- قَضَاءُ دَيْنِ مَنْ مَاتَ مُعْسِرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ:

17- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دَيْنَ الْمَيِّتِ الْمُعْسِرِ.فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَرْضًا عَلَيْهِ، بَلْ كَانَ مِنْهُ- عليه الصلاة والسلام- تَطَوُّعًا.ثُمَّ اخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلِ الْقَضَاءُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ أَمْ مِنْ مَالِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَهِيَ خُصُوصِيَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَتْ بِخُصُوصِيَّةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَلْ يُشَارِكُهُ فِيهَا جَمِيعُ وُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ.وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يُتَوَفَّى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَيَسْأَلُ: هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلًا، فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ لَهُ وَفَاءً صَلَّى عَلَيْهِ، وَإِلاَّ قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ قَالَ- عليه الصلاة والسلام-: أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ».

ك- وُجُوبُ تَخْيِيرِهِ نِسَاءَهُ وَإِمْسَاكُ مَنِ اخْتَارَتْهُ:

18- طَالَبَهُ أَزْوَاجُهُ- صلى الله عليه وسلم- بِالتَّوَسُّعِ فِي النَّفَقَةِ- كَمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ- حَتَّى تَأَذَّى مِنْ ذَلِكَ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ- عليه الصلاة والسلام- أَنْ يُخَيِّرَهُنَّ فَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْن َأُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}.

فَخَيَّرَهُنَّ، فَاخْتَرْنَهُ كُلُّهُنَّ إِلاَّ الْعَامِرِيَّةَ اخْتَارَتْ قَوْمَهَا، فَأُمِرَ- صلى الله عليه وسلم- بِإِمْسَاكِ مَنِ اخْتَارَتْهُ مِنْهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} وَذَلِكَ مُكَافَأَةٌ لَهُنَّ عَلَى إِيثَارِهِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.

الِاخْتِصَاصَاتُ الْمُحَرَّمَةُ- صلى الله عليه وسلم-

19- قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- بَعْضَ مَا أَحَلَّهُ لأُِمَّتِهِ، تَنْزِيهًا لَهُ- عليه الصلاة والسلام- عَنْ سَفَاسِفِ الْأُمُورِ، وَإِعْلَاءً لِشَأْنِهِ، وَلِأَنَّ أَجْرَ تَرْكِ الْمُحَرَّمِ أَكْبَرُ مِنْ أَجْرِ تَرْكِ الْمَكْرُوهِ، وَبِذَلِكَ يَزْدَادُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عُلُوًّا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.وَمِنْ ذَلِكَ:

أ- الصَّدَقَاتُ:

20- اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ عَلَى رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- أَخْذَ شَيْءٍ مِنْ صَدَقَاتِ النَّاسِ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَفْرُوضَةً أَوْ تَطَوُّعًا، كَالزَّكَاةِ، وَالْكَفَّارَةِ، وَالنَّذْرِ وَالتَّطَوُّعِ، صِيَانَةً لِمَنْصِبِهِ الشَّرِيفِ، وَلِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ ذُلِّ الْآخِذِ وَعِزِّ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ، وَقَدْ أَبْدَلَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِهَا الْفَيْءَ الَّذِي يُؤْخَذُ عَلَى سَبِيلِ الْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ، الْمُنْبِئِ عَنْ عِزِّ الْآخِذِ وَذُلِّ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ.

رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لآِلِ مُحَمَّدٍ».هَذَا، وَإِنَّ تَحْرِيمَ الصَّدَقَاتِ عَلَى آلِ الْبَيْتِ إِنَّمَا هُوَ لِقَرَابَتِهِمْ مِنْهُ- صلى الله عليه وسلم-.

ب- الْإِهْدَاءُ لِيَنَالَ أَكْثَرَ مِمَّا أَهْدَى:

21- حُرِّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُهْدِيَ لِيُعْطَى أَكْثَرَ مِمَّا أَهْدَى لقوله تعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ}؛ لِأَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- مَأْمُورٌ بِأَشْرَفِ الْآدَابِ وَأَجَلِّ الْأَخْلَاقِ، نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ.

ج- أَكْلُ مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ:

22- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْرِيمِ نَحْوِ الثُّومِ وَالْبَصَلِ وَمَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا.مِنَ الْبُقُولِ، فَقَالَ: قَرِّبُوهَا أَيْ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا قَالَ: كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي».

وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَكْرَهُ أَكْلَهُ لِتَعَرُّضِهِ لِنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَتَأَذَّى بِالرِّيحِ الْخَبِيثَةِ.وَقَدِ اسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ «أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ صَنَعَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- طَعَامًا فِيهِ ثُومٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَرْسَلَ إِلَيْهِ بِطَعَامٍ مِنْ خَضِرَةٍ فِيهِ بَصَلٌ وَكُرَّاثٌ، فَرَدَّهُ- عليه الصلاة والسلام- وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا فَقَالَ: أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ».

د- نَظْمُ الشِّعْرِ:

23- هُوَ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالِاتِّفَاقِ، لَكِنْ فَرَّقَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ بَيْنَ الرَّجَزِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْبُحُورِ، فَقَالَ: الرَّجَزُ جَائِزٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ، وَغَيْرُهُ لَا يَجُوزُ.وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا أَنْشَدَهُ- عليه الصلاة والسلام- مِنَ الرَّجَزِ وَهُوَ يُشَارِكُ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ، وَمَنْ قَالَ إِنَّ الرَّجَزَ مِنَ الشِّعْرِ قَالَ: إِنَّ هَذَا خَاصَّةٌ لَيْسَ بِشِعْرٍ؛ لِأَنَّ الشِّعْرَ لَا يَكُونُ شِعْرًا إِلاَّ إِنْ صَدَرَ عَنْ قَائِلِهِ بِقَصْدِ الْإِشْعَارِ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ فِي ذِكْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِهَذَا الرَّجَزِ الَّذِي قَالَهُ

هـ- نَزْعُ لَامَتِهِ إِذَا لَبِسَهَا لِلْقِتَالِ حَتَّى يُقَاتِلَ:

24- مِمَّا حُرِّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دُونَ أُمَّتِهِ أَنَّهُ إِذَا لَبِسَ لأَْمَةَ الْحَرْبِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْزِعَهَا حَتَّى يَلْقَى الْعَدُوَّ؛ لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا أَخَذَ لأَْمَةَ الْحَرْبِ وَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْعَدُوِّ أَنْ يَرْجِعَ حَتَّى يُقَاتِلَ».وَوَاضِحٌ أَنَّهُ يَشْتَرِكُ مَعَهُ فِي هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ.

و- خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ:

25- الْمُرَادُ بِهَا الْإِيمَاءُ بِمَا يَظْهَرُ خِلَافُهُ، وَهُوَ مِمَّا حُرِّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دُونَ أُمَّتِهِ إِلاَّ فِي مَحْظُورٍ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا التَّحْرِيمِ عَلَيْهِ هُوَ تَنَزُّهُ مَقَامِ النُّبُوَّةِ عَنْهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْفَتْحِ أَمَّنَ النَّاسَ إِلاَّ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَرْحٍ، فَاخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ، فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْبَيْعَةِ، جَاءَ بِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى، فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَمَا فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدَيَّ عَنْ بَيْعَتِهِ لِيَقْتُلَهُ؟ قَالُوا: مَا يُدْرِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِي نَفْسِكَ، هَلاَّ أَوْمَأْتَ بِعَيْنِكَ.قَالَ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لِنَبِيٍّ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ».وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا اخْتَصَّ بِهِ هُوَ وَالْأَنْبِيَاءُ دُونَ الْأُمَمِ.

ز- نِكَاحُ الْكَافِرَةِ وَالْأَمَةِ، وَالْمُمْتَنِعَةِ عَنِ الْهِجْرَةِ:

26- مِمَّا حُرِّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ، لِخَبَرِ: «سَأَلْتُ رَبِّي أَلاَّ أُزَوَّجَ إِلاَّ مَنْ كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ فَأَعْطَانِي»،، - أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ- وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَشْرَفُ مِنْ أَنْ يَضَعَ مَاءَهُ فِي رَحِمِ كَافِرَةٍ؛ وَلِأَنَّ الْكَافِرَةَ تَكْرَهُ صُحْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.

كَمَا حُرِّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَلَوْ كَانَتْ مُسْلِمَةً؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا مُعْتَبَرٌ لِخَوْفِ الْعَنَتِ (أَيِ الزِّنَا) وَهُوَ مَعْصُومٌ عَنْهُ، أَوْ لِفِقْدَانِ مَهْرِ الْحُرَّةِ، وَنِكَاحُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- غَنِيٌّ عَنِ الْمَهْرِ ابْتِدَاءً، إِذْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ بِغَيْرِ مَهْرٍ؛ وَلِأَنَّ نِكَاحَهَا يُؤَدِّي إِلَى رِقِّ الْوَلَدِ وَمَقَامُ النُّبُوَّةِ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذَا.

وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ نِكَاحُ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْهِجْرَةُ وَلَمْ تُهَاجِرْ، لقوله تعالى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: (وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ وَاللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ)، وَلِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «نُهِيَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَصْنَافِ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ»،، وَلِحَدِيثِ «أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: خَطَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ فَاعْتَذَرْتُ إِلَيْهِ، فَعَذَرَنِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} الْآيَةَ إِلَى قوله تعالى: {اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ}.قَالَتْ: فَلَمْ أَكُنْ أَحِلُّ لَهُ؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ مِمَّنْ هَاجَرَ مَعَهُ، كُنْتُ مِنَ الطُّلَقَاءِ».وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ: لَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللاَّتِي لَمْ يُهَاجِرْنَ كُنَّ مُحَرَّمَاتٍ عَلَيْهِ، لِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَنْفِي مَا عَدَاهُ.

ح- إِمْسَاكُ مَنْ كَرِهَتْهُ:

27- مِمَّا حُرِّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِمْسَاكُ كَارِهَتِهِ وَلَمْ يَحْرُمْ ذَلِكَ عَلَى أُمَّتِهِ، حِفْظًا لِمَقَامِ النُّبُوَّةِ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَدَنَا مِنْهَا قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ».وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ وُجُوبُ تَخْيِيرِهِ نِسَاءَهُ الَّذِي تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ عَنْهُ.

الِاخْتِصَاصَاتُ الْمُبَاحَةُ

أ- الصَّلَاةُ بَعْدَ الْعَصْرِ:

28- ذَهَبَ مَنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى أَنَّهُ أُبِيحَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَكَرِهَ ذَلِكَ لأُِمَّتِهِ، فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعَصْرِ وَيَنْهَى عَنْهَا». ب- الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ الْغَائِبِ:

29- مَنْ مَنَعَ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ الْغَائِبِ كَالْحَنَفِيَّةِ قَالَ: أُبِيحَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ الْغَائِبِ دُونَ أُمَّتِهِ لِأَمْرٍ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ.

ج- صِيَامُ الْوِصَالِ:

30- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى اخْتِصَاصِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِإِبَاحَةِ صِيَامِ الْوِصَالِ (لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَهُ دُونَ أُمَّتِهِ، لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ الْوِصَالِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، فَقَالَ: إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى».

د- الْقِتَالُ فِي الْحَرَمِ:

31- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِبَاحَةِ الْقِتَالِ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي مَكَّةَ دُونَ أُمَّتِهِ، لِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ».

هـ- دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ:

32- مَنْ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ لَا يَجُوزُ لِمُكَلَّفٍ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ قَالَ: إِنَّ دُخُولَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَكَّةَ يَوْمَ فَتْحِهَا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ كَانَ خَاصًّا بِهِ- عليه الصلاة والسلام-.

و- الْقَضَاءُ بِعِلْمِهِ:

33- مَنْ مَنَعَ الْقَاضِيَ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ جَعَلَ مَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِعِلْمِهِ لِهِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ وَقَوْلَهُ لَهَا: «خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيكِ» مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ- عليه الصلاة والسلام-.

ز- الْقَضَاءُ لِنَفْسِهِ:

34- خُصَّ- عليه الصلاة والسلام- بِإِبَاحَةِ الْقَضَاءِ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ لِلرِّيبَةِ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ عَنْهُ قَطْعًا وَمِثْلُ ذَلِكَ الْقَضَاءُ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ.

ح- أَخْذُ الْهَدِيَّةِ:

35- مِنْ خَصَائِصِهِ- عليه الصلاة والسلام- أَنَّ الْهَدِيَّةَ حَلَالٌ لَهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْحُكَّامِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ مِنْ رَعَايَاهُمْ.

ط- فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ:

36- أُبِيحَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- خُمُسُ الْغَنِيمَةِ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْوَقْعَةَ، لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}.وَأُبِيحَ لَهُ الصَّفِيُّ مِنَ الْمَغْنَمِ- صلى الله عليه وسلم-، وَهُوَ مَا يَخْتَارُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مِنَ الْغَنِيمَةِ، كَسَيْفٍ وَدِرْعٍ وَنَحْوِهِمَا، وَمِنْهُ صَفِيَّةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي اصْطَفَاهَا مِنَ الْمَغْنَمِ لِنَفْسِهِ.

ي- فِي النِّكَاحِ:

37- مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأُبِيحَ لَهُ دُونَ أُمَّتِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسَاءٍ، وَأَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَأَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا.وَيُبَاحُ لَهُ أَلاَّ يَقْسِمَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ عِنْدَ الْبَعْضِ، مَعَ أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- كَانَ حَرِيصًا عَلَى الْقَسْمِ، حَتَّى فِي السَّفَرِ، حَيْثُ كَانَ يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ، وَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْمَرَضُ اسْتَأْذَنَ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ.

الْخَصَائِصُ مِنَ الْفَضَائِلِ

38- هُنَاكَ أُمُورٌ اخْتَصَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِمَزِيدِ فَضْلٍ وَمِنْهَا: أ- اخْتِصَاصُ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ مِنَ الْأَحْكَامِ:

39- لَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مُشَرِّعًا لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَخُصَّ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ مِنَ الْأَحْكَامِ، كَجَعْلِهِ شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، وَإِجَازَتِهِ الْأُضْحِيَةَ بِالْعَنَاقِ (الْجِذْعِ) لِأَبِي بُرْدَةَ وَلِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَتَزْوِيجِهِ رَجُلًا عَلَى سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَتَزْوِيجِهِ أُمَّ سُلَيْمٍ أَبَا طَلْحَةَ عَلَى إِسْلَامِهِ.

ب- الرَّسُولُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ:

40- خُصَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دُونَ أَحَدٍ مِنْ أُمَّتِهِ بِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؛ لقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}.وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحْكَامِ: مِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ مَحَبَّتِهِ أَكْثَرَ مِنَ النَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ- صلى الله عليه وسلم-، لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ «عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ نَفْسِي الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ، فَقَالَ لَهُ- صلى الله عليه وسلم-: لَنْ يُؤْمِنَ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: الْآنَ يَا عُمَرُ».

وَمِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ فِدَائِهِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ- صلى الله عليه وسلم-.وَمِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ طَاعَتِهِ وَإِنْ خَالَفَتْ هَوَى النَّفْسِ- صلى الله عليه وسلم-، وَغَيْرُ ذَلِكَ.

ج- الْجَمْعُ بَيْنَ اسْمِ الرَّسُولِ وَكُنْيَتِهِ لِمَوْلُودٍ:

41- ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَابْنِ سِيرِينَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ التَّكَنِّي بِكُنْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي عَصْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ اسْمُهُ مُحَمَّدًا، أَوْ لَا، لِمَا رَوَاهُ جَابِرٌ قَالَ: «وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ غُلَامٌ فَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا فَغَضِبَ الْأَنْصَارُ وَقَالُوا: حَتَّى نَسْتَأْمِرَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: قَدْ أَحْسَنَتِ الْأَنْصَارُ، ثُمَّ قَالَ: تَسَمَّوْا بِاسْمِي وَلَا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي، فَإِنِّي أَبُو الْقَاسِمِ أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ»- أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

وَذَهَبَ الْبَعْضُ- مِنْهُمُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ- إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ اسْمِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَكُنْيَتِهِ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَسَمَّى بِاسْمِي فَلَا يَتَكَنَّى بِكُنْيَتِي، وَمَنْ تَكَنَّى بِكُنْيَتِي فَلَا يَتَسَمَّى بِاسْمِي».وَهَؤُلَاءِ الْمَانِعُونَ: مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْمَنْعَ مَنْعَ تَحْرِيمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْمَنْعَ مَنْعَ كَرَاهَةٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ اسْمِ رَسُولِ اللَّهِ وَكُنْيَتِهِ كَانَ مَمْنُوعًا ثُمَّ نُسِخَ الْمَنْعُ وَثَبَتَ الْحِلُّ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ وَلَدْتُ غُلَامًا فَسَمَّيْتُهُ مُحَمَّدًا وَكَنَّيْتُهُ أَبَا الْقَاسِمِ، فَذُكِرَ لِي أَنَّكَ تَكْرَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: مَا الَّذِي أَحَلَّ اسْمِي وَحَرَّمَ كُنْيَتِي، أَوْ مَا الَّذِي حَرَّمَ كُنْيَتِي وَأَحَلَّ اسْمِي»، وَلِذَلِكَ كَانَ الصَّحَابَةُ لَا يَرَوْنَ بَأْسًا فِي تَسْمِيَةِ أَوْلَادِهِمْ بِاسْمِ «مُحَمَّدٍ» وَتَكْنِيَتِهِمْ بِ «أَبِي الْقَاسِمِ» حَتَّى قَالَ رَاشِدُ بْنُ حَفْصٍ الزُّهْرِيُّ: أَدْرَكْتُ أَرْبَعَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كُلُّهُمْ يُسَمَّى مُحَمَّدًا وَيُكَنَّى أَبَا الْقَاسِمِ: مُحَمَّدَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَمُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَمُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَمُحَمَّدَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ كَانَ مَخْصُوصًا بِحَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَتُبَاحُ التَّسْمِيَةُ بِاسْمِهِ وَالتَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ.يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ سَبَبُ الْمَنْعِ، وَهُوَ أَنَّ الْيَهُودَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَكَانُوا يُنَادُونَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَإِذَا الْتَفَتَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- قَالُوا: لَمْ نَعْنِكَ، إِظْهَارًا لِلْإِيذَاءِ، وَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَنْعُ بِوَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ «أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ وُلِدَ لِي بَعْدَكَ وَلَدٌ أُسَمِّيهِ مُحَمَّدًا وَأُكَنِّيهِ بِكُنْيَتِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ». د- التَّقَدُّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِحَضْرَتِهِ:

42- خُصَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دُونَ أُمَّتِهِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّقَدُّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ- أَيْ سَبْقُهُ بِالِاقْتِرَاحِ عَلَيْهِ- لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مُسَدَّدٌ بِالْوَحْيِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} كَمَا لَا يَجُوزُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِحَضْرَتِهِ- عليه الصلاة والسلام- حَتَّى يَعْلُوَ صَوْتُ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى صَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ، لقوله تعالى فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}.

هـ- قَتْلُ مَنْ سَبَّهُ:

43- مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ مَنْ سَبَّهُ أَوْ قَذَفَهُ فَعُقُوبَتُهُ الْقَتْلُ.

و- إِجَابَةُ مَنْ دَعَاهُ:

44- مِنْ خَصَائِصِهِ- عليه الصلاة والسلام- أَنَّهُ إِذَا دَعَا أَحَدًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُ وَلَوْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ أَجَابَهُ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى الْأَنْصَارِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- دَعَاهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَصَلَّى ثُمَّ أَتَاهُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبَنِي؟ قَالَ: إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} ».

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


58-موسوعة الفقه الكويتية (اختصاص 2)

اخْتِصَاصٌ -2

ز- نَسَبُ أَوْلَادِ بَنَاتِهِ إِلَيْهِ:

45- مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دُونَ النَّاسِ جَمِيعًا أَنَّ أَوْلَادَ بَنَاتِهِ يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ فِي الْكَفَاءَةِ وَغَيْرِهَا.لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ»، وَلِمَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْخَصَائِصِ الصُّغْرَى مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا قَطُّ إِلاَّ جَعَلَ ذُرِّيَّتَهُ فِي صُلْبِهِ غَيْرِي، فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ ذُرِّيَّتِي مِنْ صُلْبِ عَلِيٍّ».

ح- لَا يُورَثُ:

46- مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ- عليه الصلاة والسلام- دُونَ أُمَّتِهِ أَنَّهُ لَا يُورَثُ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ».

وَمَا تَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُنْفَقُ مِنْهُ عَلَى عِيَالِهِ، وَمَا فَضَلَ فَهُوَ صَدَقَةٌ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ».وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأُمَّتِهِ، وَفِي الْوَاضِحِ مُشَارَكَةُ الْأَنْبِيَاءِ لَهُ فِي ذَلِكَ.

ط ـ أَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ:

47- مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ أَنَّ أَزْوَاجَهُ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، لَا يُنْكَحْنَ بَعْدَهُ، وَلَا تُرَى أَشْخَاصُهُنَّ لِغَيْرِ الْمَحَارِمِ، وَعَلَيْهِنَّ الْجُلُوسُ فِي بُيُوتِهِنَّ، لَا يَخْرُجْنَ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ بَعْدَ وَفَاتِهِ- عليه الصلاة والسلام-.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ «أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ».

الْفَصْلُ الثَّانِي

اخْتِصَاصُ الْأَزْمِنَةِ

هُنَاكَ أَزْمِنَةٌ اخْتُصَّتْ بِأَحْكَامٍ دُونَ غَيْرِهَا هِيَ:

أ- لَيْلَةُ الْقَدْرِ:

48- اخْتُصَّتْ هَذِهِ اللَّيْلَةُ بِاسْتِحْبَابِ تَحَرِّيهَا وَقِيَامِ لَيْلِهَا- كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي «لَيْلَةِ الْقَدْرِ» «وَقِيَامِ اللَّيْلِ».

ب- شَهْرُ رَمَضَانَ:

49- اخْتُصَّ شَهْرُ رَمَضَانَ بِافْتِرَاضِ صِيَامِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، وَسُنِّيَّةِ قِيَامِهِ بِصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

ج- يَوْمَا الْعِيدَيْنِ:

50- اخْتُصَّتْ لَيْلَتَا الْعِيدَيْنِ بِنَدْبِ إِحْيَائِهِمَا؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَامَ لَيْلَتَيِ الْعِيدِ مُحْتَسِبًا لِلَّهِ لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ»، كَمَا اخْتُصَّ يَوْمَاهُمَا بِصَلَاةٍ خَاصَّةٍ- هِيَ صَلَاةُ الْعِيدِ- وَحُرْمَةِ الصِّيَامِ فِيهِمَا، وَبِالتَّكْبِيرِ فِي صُبْحِيَّتِهِمَا.

د- أَيَّامُ التَّشْرِيقِ:

51- اخْتُصَّتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ بِالتَّكْبِيرِ عَقِبَ صَلَاةِ الْفَرَائِضِ وَجَوَازِ ذَبْحِ الْأُضْحِيَةِ، وَتَحْرِيمِ الصِّيَامِ كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي «أَيَّامِ التَّشْرِيقِ».

وَانْظُرْ كَذَلِكَ مُصْطَلَحَ «أُضْحِيَةٌ».

هـ- يَوْمُ الْجُمُعَةِ:

52- اخْتُصَّ يَوْمُ الْجُمُعَةِ بِوُجُوبِ صَلَاةٍ خَاصَّةٍ فِيهِ تَقُومُ مَقَامَ صَلَاةِ الظُّهْرِ هِيَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، وَاسْتِنَانِ الْغُسْلِ فِيهِ، وَاسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ فِيهِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ» وَكَرَاهَةِ إِفْرَادِهِ بِالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ.

و- الْيَوْمُ التَّاسِعُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ:

53- اخْتُصَّ يَوْمُ عَرَفَةَ بِوُجُوبِ وُقُوفِ الْحُجَّاجِ فِيهِ فِي عَرَفَةَ وَكَرَاهَةِ صَوْمِهِ لِلْحَاجِّ.

ز- يَوْمُ نِصْفِ شَعْبَانَ وَلَيْلَتُهُ:

54- اخْتُصَّتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ بِاسْتِحْبَابِ قِيَامِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لِمَا وَرَدَ مِنْ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ فِي فَضْلِهَا مِنْ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَقُومُوا لَيْلَهَا وَصُومُوا نَهَارَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ فِيهَا لِغُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: أَلَا مِنْ مُسْتَغْفِرٍ لِي فَأَغْفِرَ لَهُ، أَلَا مُسْتَرْزِقٍ فَأَرْزُقَهُ، أَلَا مُبْتَلًى فَأُعَافِيَهِ أَلَا كَذَا..أَلَا كَذَا..حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ».

ح- أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ:

55- اخْتُصَّتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي رَجَبٍ بِاسْتِحْبَابِ قِيَامِهَا، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنَ اللَّيَالِيِ الَّتِي لَا يُرَدُّ فِيهَا الدُّعَاءُ.

ط- يَوْمَا عَاشُورَاءَ وَتَاسُوعَاءَ:

56- اخْتُصَّ يَوْمَا تَاسُوعَاءَ وَعَاشُورَاءَ بِاسْتِحْبَابِ صِيَامِهِمَا، لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْقَابِلُ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- صُمْتُ الْيَوْمَ التَّاسِعَ، فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ».

وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى اسْتِحْبَابِ قِيَامِ لَيْلَةِ عَاشُورَاءَ.

ي- يَوْمُ الشَّكِّ:

57- يَوْمُ الشَّكِّ، وَهُوَ يَوْمُ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ إِذَا غُمَّ عَلَى النَّاسِ فَلَمْ يَرَوُا الْهِلَالَ اخْتُصَّ بِتَحْرِيمِ صِيَامِهِ، لِمَا رَوَاهُ صِلَةُ بْنُ زُفَرَ قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ عَمَّارٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَأَتَى بِشَاةٍ مَصْلِيَّةٍ، فَتَنَحَّى بَعْضُ الْقَوْمِ، فَقَالَ عَمَّارٌ: مَنْ صَامَ هَذَا الْيَوْمَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ».

ك- الْأَيَّامُ الْبِيضُ:

58- اخْتُصَّتِ الْأَيَّامُ الْبِيضُ بِاسْتِحْبَابِ صِيَامِهَا، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مِلْحَانَ الْقَيْسِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَأْمُرُنَا أَنْ نَصُومَ الْبِيضَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ قَالَ: وَقَالَ: هُنَّ كَهَيْئَةِ الدَّهْرِ».

ل- الْعَشْرُ الْأَوَائِلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ:

59- اخْتُصَّتْ بِاسْتِحْبَابِ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، يَعْدِلُ صِيَامُ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا بِصِيَامِ سَنَةٍ.وَقِيَامُ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ».هَذَا مَعَ مُرَاعَاةِ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ، لِمَا وَرَدَ مِنْ حُكْمٍ خَاصٍّ بِهِ.

م- شَهْرُ الْمُحَرَّمِ:

60- اخْتُصَّ شَهْرُ الْمُحَرَّمِ بِاسْتِحْبَابِ صَوْمِهِ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ».

ن- شَهْرُ شَعْبَانَ:

61- اخْتُصَّ شَعْبَانُ بِاسْتِحْبَابِ الصِّيَامِ فِيهِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلاَّ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ».وَاخْتُصَّ آخِرُهُ بِكَرَاهَةِ الصِّيَامِ فِيهِ.قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ».

س- وَقْتُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ:

62- اخْتُصَّ وَقْتُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِتَحْرِيمِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيهِ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}.

ع- أَوْقَاتٌ أُخْرَى:

63- وَقْتُ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَوَقْتُ اسْتِوَائِهَا، وَوَقْتُ غُرُوبِهَا وَبَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ: اخْتُصَّتْ هَذِهِ الْأَوْقَاتُ بِمَنْعِ الصَّلَاةِ فِيهَا، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَتَفْصِيلٍ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ مِنْهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ أَوْ عَدَمِ الصِّحَّةِ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُولَى مِنْهَا دُونَ غَيْرِهَا.

اخْتِصَاصُ الْأَمَاكِنِ

أ- الْكَعْبَةُ الْمُشَرَّفَةُ:

64- اخْتُصَّتِ الْكَعْبَةُ الْمُشَرَّفَةُ بِمَا يَلِي: أَوَّلًا- افْتِرَاضِ إِحْيَائِهَا بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَتَفْصِيلُهُ فِي «إِحْيَاءُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ».

ثَانِيًا- تَكُونُ تَحِيَّتُهَا بِالطَّوَافِ عِنْدَ الْبَعْضِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَالَ غَيْرُهُمْ كَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: الطَّوَافُ هُوَ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.

ثَالِثًا- الْمُصَلُّونَ حَوْلَهَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ مِنْهُمُ الْمَأْمُومُ عَلَى الْإِمَامِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي جَانِبِهِ، عَلَى أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ أَجَازُوا تَقَدُّمَ الْمَأْمُومِ عَلَى الْإِمَامِ مُطْلَقًا، وَكَرِهُوهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ.وَقَدْ فَصَّلَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.

رَابِعًا- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ وَعَلَى ظَهْرِهَا، فَلَمْ يُجِزْهَا ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَمَنَعَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الْفَرْضَ، وَأَجَازَ النَّفْلَ، وَمَنَعَ الْإِمَامُ مَالِكٌ الْفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ وَأَجَازَ التَّطَوُّعَ، وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الْفَرَائِضَ وَالنَّوَافِلَ جَمِيعًا وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ سَيَأْتِي فِي الصَّلَاةِ.فَإِنْ صَلَّى فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ أَوْ عَلَى ظَهْرِهَا اتَّجَهَ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ.

خَامِسًا- افْتِرَاضُ التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهَا قِبْلَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي صَلَاتِهِمْ، وَتَفْصِيلُهُ فِي «اسْتِقْبَالٌ».

سَادِسًا- كَرَاهَةُ اسْتِقْبَالِهَا فِي بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ (أَيْ حِينَ التَّخَلِّي).وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ «قَضَاءُ الْحَاجَةِ».

ب- حَرَمُ مَكَّةَ:

65- اخْتُصَّ حَرَمُ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ بِمَا يَلِي:

أَوَّلًا: عَدَمُ جَوَازِ دُخُولِ الْكُفَّارِ إِلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} وَقَدْ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ عَنْهُ، وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ لَهُمْ دُخُولَهُ دُونَ الْإِقَامَةِ فِيهِ كَالْحِجَازِ.ثَانِيًا: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ دُخُولِهِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ).

ثَالِثًا: إِنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ تَعْدِلُ مِائَةَ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي ثَوَابِهَا لَا فِي إِسْقَاطِ الْفَرَائِضِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» وَحَرَمُ مَكَّةَ كَمَسْجِدِهَا فِي مُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ.

رَابِعًا: عَدَمُ كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ؛ لِحَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ».

خَامِسًا: تَحْرِيمُ صَيْدِهِ، فَمَنْ صَادَ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ كَمَا Cهُوَ مُفَصَّلٌ فِي بَحْثِ «إِحْرَامٌ».

سَادِسًا: تَحْرِيمُ الْقِتَالِ فِيهِ، وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَحَمْلِ السِّلَاحِ وَكَذَلِكَ إِقَامَةُ الْحُدُودِ، عَلَى مَنِ ارْتَكَبَ مُوجِبَاتِهَا خَارِجَ الْحَرَمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ أَجَازُوا إِقَامَتَهَا فِيهِ مُطْلَقًا.أَمَّا مَنِ ارْتَكَبَ ذَلِكَ دَاخِلَ الْحَرَمِ فَيَجُوزُ إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا» وَقَوْلِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: «لَا يَحِلُّ لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَحْمِلَ السِّلَاحَ بِمَكَّةَ».

سَابِعًا: تَغْلِيظُ دِيَةِ الْجِنَايَةِ فِيهِ، فَقَدْ قَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فِيمَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ، بِالدِّيَةِ وَثُلُثِ الدِّيَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تُغَلَّظُ كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَةٌ).

ثَامِنًا: قَطْعُ أَشْجَارِهِ: وَلَا يَجُوزُ قَطْعُ شَيْءٍ مِنْ أَشْجَارِ حَرَمِ مَكَّةَ بِالِاتِّفَاقِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا وَلَا يَعْضِدَ فِيهَا شَجَرَةً».

تَاسِعًا: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي لُقَطَةِ الْحَرَمِ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا كَلُقَطَةِ الْحِلِّ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَنِ الْتَقَطَ لُقَطَةً مِنَ الْحَرَمِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعَرِّفَهَا أَبَدًا حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُهَا؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا».

عَاشِرًا: لَا يَصِحُّ ذَبْحُ الْهَدْيِ إِلاَّ فِيهِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي الْحَجِّ، وَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ تُرَابِهِ.

ج- مَسْجِدُ مَكَّةَ:

66- يَخْتَصُّ مَسْجِدُ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ حَرَمُهَا لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ حَرَمِهَا، وَيَزِيدُ عَلَيْهِ مَا يَلِي: أَوَّلًا: جَوَازُ قَصْدِهِ بِالزِّيَارَةِ وَشَدِّ الرِّحَالِ إِلَيْهِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى»

ثَانِيًا: تَقَدُّمُ الْمَأْمُومِ فِيهِ عَلَى الْإِمَامِ- وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيمَا تَخْتَصُّ بِهِ الْكَعْبَةُ الْمُشَرَّفَةُ، Cكَمَا اخْتَصَّتْ مَوَاطِنُ بِأَعْمَالٍ فِي الْحَجِّ تَتَعَيَّنُ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا، كَعَرَفَةَ، وَمِنًى، وَمُزْدَلِفَةَ، وَالْمَوَاقِيتِ الْمَكَانِيَّةِ لِلْإِحْرَامِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَيِ: (الْحَجُّ- وَالْإِحْرَامُ).

د- الْمَدِينَةُ الْمُنَوَّرَةُ:

67- أَوَّلًا: الْمَدِينَةُ الْمُنَوَّرَةُ حَرَمٌ، مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، لَا يَحِلُّ صَيْدُهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا كَمَا ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لِأَهْلِ مَكَّةَ».

خَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، فَقَالُوا: لَيْسَ لِلْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ حَرَمٌ، وَلَا يُمْنَعُ أَحَدٌ مِنْ أَخْذِ صَيْدِهَا وَشَجَرِهَا، وَمَا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِحَدِيثِهِ الْمُتَقَدِّمِ تَحْرِيمَهَا، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ بَقَاءَ زِينَتِهَا لِيَأْلَفَهَا النَّاسُ، لِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ وَالْبَزَّارُ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَهْدِمُوا الْآطَامَ فَإِنَّهَا زِينَةُ الْمَدِينَةِ» وَلِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟» وَالنُّغَيْرُ صَيْدٌ.

ثَانِيًا: يُمْنَعُ الذِّمِّيُّ مِنَ الِاسْتِيطَانِ بِهَا وَلَا يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِهَا.

ثَالِثًا: قَدَّمَ الْإِمَامُ مَالِكٌ الْعَمَلَ بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ فِي عَصْرِهِ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ.

رَابِعًا: الْإِقَامَةُ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ أَحَبُّ مِنَ الْإِقَامَةِ فِي غَيْرِهَا وَلَوْ كَانَتْ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهَا مُهَاجَرُ الْمُسْلِمِينَ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «تُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ، فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَتُفْتَحُ الشَّامُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ».

خَامِسًا: يُسْتَحَبُّ لِلْمُؤْمِنِ الِانْقِطَاعُ بِهَا لِيُحَصِّلَ الْمَوْتَ فِيهَا، فَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَدْعُو اللَّهَ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ مَوْتِي فِي Cبَلَدِ رَسُولِكَ وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا، فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا».

هـ- مَسْجِدُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-:

68- يَخْتَصُّ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ».وَيَخْتَصُّ بِجَوَازِ شَدِّ الرِّحَالِ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلَاثِ مَسَاجِدَ» وَذَكَرَ مِنْهَا مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.

و- مَسْجِدُ قُبَاءَ:

69- يَخْتَصُّ مَسْجِدُ قُبَاءٍ بِأَنَّ مَنْ أَتَاهُ فَصَلَّى فِيهِ كَانَتْ لَهُ كَعُمْرَةٍ، لِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ خَرَجَ حَتَّى يَأْتِيَ هَذَا الْمَسْجِدَ- مَسْجِدَ قُبَاءَ- فَصَلَّى فِيهِ كَانَ لَهُ عَدْلَ عُمْرَةٍ» وَفِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ ظُهَيْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ كَعُمْرَةٍ» وَلِذَلِكَ اسْتُحِبَّ إِتْيَانُ هَذَا الْمَسْجِدِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ.

ز- الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى:

70- يَخْتَصُّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى بِجَوَازِ شَدِّ الرِّحَالِ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.وَاخْتَلَفُوا فِي كَرَاهَةِ التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، فَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ كَانَ قِبْلَةً، وَأَبَاحَهُ آخَرُونَ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ عِنْدَ حَدِيثِهِمْ عَنْ آدَابِ الِاسْتِنْجَاءِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ.

ح- بِئْرُ زَمْزَمَ:

71- اخْتُصَّ مَاءُ زَمْزَمَ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمِيَاهِ بِأَنَّ لِشُرْبِهِ آدَابًا خَاصَّةً، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَوَاضِعِ الِامْتِهَانِ كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ «آبَارٌ» (ف 33- 35) (فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ).

الِاخْتِصَاصُ بِالْوِلَايَةِ أَوِ الْمِلْكِ

72- الْمُخَصِّصُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّرْعُ، وَقَدْ سَبَقَ Cبَيَانُهُ، أَوِ الشَّخْصُ بِمِلْكٍ أَوْ وِلَايَةٍ.وَهَذَا الْأَخِيرُ يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يَلِي:

شُرُوطُ الشَّخْصِ الْمُخَصِّصِ:

73- أ- أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ.

ب- أَنْ يَكُونَ ذَا وِلَايَةٍ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ وِلَايَةً عَامَّةً كَالْأَمِيرِ وَالْقَاضِي وَنَحْوِهِمَا، أَمْ وِلَايَةً خَاصَّةً كَالْأَبِ وَنَحْوِهِ.

ج- أَنْ يَكُونَ ذَا مِلْكٍ، إِذْ لِصَاحِبِ الْمِلْكِ أَنْ يَخْتَصَّ بِمِلْكِهِ مَنْ يَشَاءُ بِشُرُوطِهِ.

اخْتِصَاصُ ذِي الْوِلَايَةِ:

74- إِذَا كَانَ الْمُخَصِّصُ صَاحِبَ الْوِلَايَةِ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الِاخْتِصَاصِ أَنْ يَكُونَ مُحَقِّقًا لِمَصْلَحَةِ الْمُولَى عَلَيْهِ، وَمِنْ هُنَا قَالُوا: تَصَرُّفُ ذِي الْوِلَايَةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ أَمَانَةٌ، قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا».وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ: «إِنَّ وَصِيَّ الْيَتِيمِ وَنَاظِرَ الْوَقْفِ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ لَهُ بِالْأَصْلَحِ فَالْأَصْلَحِ».

وَمِنْ ذَلِكَ اخْتِصَاصُ بَعْضِ الْقُضَاةِ بِالْقَضَاءِ فِي بَلَدٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ فِي جَانِبٍ مُعَيَّنٍ مِنْ بَلَدٍ دُونَ الْجَوَانِبِ الْأُخْرَى، أَوْ فِي مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ، أَوِ النَّظَرِ فِي نَوْعٍ مِنَ الدَّعَاوَى دُونَ الْأَنْوَاعِ الْأُخْرَى كَالْمُنَاكَحَاتِ أَوِ الْحُدُودِ أَوِ الْمَظَالِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ، وَفِي كُتُبِ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ.وَيَجِبُ مُرَاعَاةُ الْمَصْلَحَةِ فِي اخْتِصَاصِ الرِّجَالِ، فِي الْوِلَايَاتِ أَوْ مَنْحِ الْأَمْوَالِ وَنَحْوِهَا، كَالْحِمَى، وَهُوَ فِي حَقِيقَتِهِ اخْتِصَاصُ أَرْضٍ مُعَيَّنَةٍ لِتَرْعَى فِيهَا أَنْعَامُ الصَّدَقَةِ، أَوْ خَيْلُ الْجِهَادِ، وَاخْتِصَاصُ بَعْضِ الْأَرَاضِي بِإِقْطَاعِهَا لِلْإِحْيَاءِ، وَاخْتِصَاصُ بَعْضِ الْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ بِإِقْطَاعِهَا إِقْطَاعَ إِرْفَاقٍ كَالطُّرُقَاتِ وَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَاخْتِصَاصُ بَعْضِ الْمَوَادِّ الضَّرُورِيَّةِ بِرَفْعِ الْعُشُورِ عَنْهَا، أَوْ تَخْفِيضِ الْعُشُورِ عَنْهَا؛ لِيَكْثُرَ جَلْبُهَا إِلَى أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ كَانَ عُمَرُ- رضي الله عنه- يَأْخُذُ مِنَ النَّبَطِ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالزَّيْتِ نِصْفَ الْعُشْرِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يُكْثِرَ الْحَمْلَ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ وَيَأْخُذُ مِنَ الْقُطْنِيَّةِ- الْحِمَّصَ وَالْعَدَسَ- الْعُشْرَ.

اخْتِصَاصُ الْمَالِكِ:

75- أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُخَصِّصُ صَاحِبَ مِلْكٍ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ لِاخْتِصَاصِهِ بَعْضَ مِلْكِهِ بِشَيْءٍ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ أَلاَّ يَنْشَأَ عَنِ اخْتِصَاصِهِ هَذَا ضَرَرٌ أَوْ مَفْسَدَةٌ وَلِذَلِكَ مُنِعَ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالْوَرَثَةِ، وَمُنِعَ مِنْ إِعْطَاءِ بَعْضِ أَوْلَادِهِ عَطِيَّتَهُ لِغَيْرِ سَبَبٍ مَشْرُوعٍ دُونَ بَاقِيهِمْ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيغَارِ صُدُورِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


59-موسوعة الفقه الكويتية (إرث 1)

إِرْثٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الْإِرْثِ فِي اللُّغَةِ: الْأَصْلُ، وَالْأَمْرُ الْقَدِيمُ تَوَارَثَهُ الْآخَرُ عَنِ الْأَوَّلِ، وَالْبَقِيَّةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.وَهَمْزَتُهُ أَصْلُهَا وَاوٌ.وَيُطْلَقُ الْإِرْثُ وَيُرَادُ مِنْهُ انْتِقَالُ الشَّيْءِ مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ.وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ مِنْهُ الْمَوْرُوثُ.وَيُقَارِبُهُ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ فِي الْمَعْنَى التَّرِكَةُ.وَعِلْمُ الْمِيرَاثِ- وَيُسَمَّى أَيْضًا عِلْمَ الْفَرَائِضِ- هُوَ عِلْمٌ بِأُصُولٍ مِنْ فِقْهٍ وَحِسَابٍ تُعَرِّفُ حَقَّ كُلٍّ فِي التَّرِكَةِ.وَالْإِرْثُ اصْطِلَاحًا: عَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي أَفْضَلُ الدِّينِ الْخُونَجِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ حَقٌّ قَابِلٌ لِلتَّجَزُّؤِ يَثْبُتُ لِمُسْتَحِقِّهِ بَعْدَ مَوْتِ مَنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِقَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا أَوْ نَحْوِهَا.

أَهَمِّيَّةُ الْإِرْثِ:

2- مَعْرِفَةُ الْفَرَائِضِ مِنْ أَهَمِّ الْعُلُومِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَرْكَانِ الدِّينِ.وَقَدْ حَثَّ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى تَعْلِيمِهَا وَتَعَلُّمِهَا.فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-.أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ، وَتَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ، فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ، وَسَيُقْبَضُ هَذَا الْعِلْمُ مِنْ بَعْدِي حَتَّى يَتَنَازَعَ الرَّجُلَانِ فِي فَرِيضَةٍ فَلَا يَجِدَانِ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا».

وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ مُذَاكَرَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا فِي عِلْمِ الْفَرَائِضِ وَمُدِحُوا عَلَى ذَلِكَ.

عَلَاقَةُ الْإِرْثِ بِالْفِقْهِ:

3- وَالْفُقَهَاءُ فِي الْمَذَاهِبِ الْإِسْلَامِيَّةِ حِينَ يَتَكَلَّمُونَ عَنِ الْمِيرَاثِ يُعَنْوِنَونَ لِذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ بِكِتَابِ الْفَرَائِضِ.وَقَدْ أَفْرَدَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِكُتُبٍ مُسْتَقِلَّةٍ عَنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.وَابْتَدَأَ ذَلِكَ مِنَ الْقَرْنِ الثَّانِي لِلْهِجْرَةِ مَعَ ابْتِدَاءِ تَدْوِينِ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ.

وَمِنْ أَوَّلِ مَنْ أَلَّفَ الْكُتُبَ الْخَاصَّةَ بِأَحْكَامِ الْفَرَائِضِ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو ثَوْرٍ.

وَكَانَتْ كُتُبُ الْفِقْهِ الْمُدَوَّنَةُ فِي هَذَيْنِ الْقَرْنَيْنِ خَالِيَةً مِنْ أَحْكَامِ الْفَرَائِضِ مِثْلَ الْمُدَوَّنَةِ لِسَحْنُونٍ وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَالْأُمِّ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ.

وَعَلَى الْخِلَافِ مِنْ ذَلِكَ كَانَتْ كُتُبُ السُّنَّةِ، فَقَدْ شَمِلَتْ أَحْكَامَ الْفَرَائِضِ مَعَ أَحْكَامِ الْفِقْهِ كَالْمُوَطَّأِ وَمُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَصَحِيحِ مُسْلِمٍ.

وَلَمْ تَبْدَأْ كُتُبُ الْفِقْهِ تَشْمَلُ أَحْكَامَ الْفَرَائِضِ إِلاَّ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ، مِثْلَ رِسَالَةِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَمُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.

دَلِيلُ مَشْرُوعِيَّتِهِ:

4- الْمِيرَاثُ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.

أَمَّا الْكِتَابُ فَآيَاتُ الْمَوَارِيثِ.وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَحَادِيثُ مِثْلُ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وَمِثْلُ ثُبُوتِ مِيرَاثِ الْجَدَّةِ لِأُمٍّ بِشَهَادَةِ الْمُغِيرَةِ وَابْنِ سَلَمَةَ لَدَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَرَّثَهَا، وَلَمْ يَرِدْ تَوْرِيثُهَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَمِثْلُ إِرْثِ الْجَدَّةِ لِأَبٍ بِاجْتِهَادِ عُمَرَ- رضي الله عنه- الدَّاخِلِ فِي عُمُومِ الْإِجْمَاعِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي ذَلِكَ.

التَّدَرُّجُ فِي تَشْرِيعِ الْمِيرَاثِ:

5- كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَوَارَثُونَ بِشَيْئَيْنِ: النَّسَبُ وَالسَّبَبُ.

فَأَمَّا مَا يَسْتَحِقُّ بِالنَّسَبِ فَلَمْ يَكُونُوا يُوَرِّثُونَ الصِّغَارَ وَلَا الْإِنَاثَ، وَإِنَّمَا يُوَرِّثُونَ مَنْ قَاتَلَ وَحَازَ الْغَنِيمَةَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَآخَرِينَ إِلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَسْتَفْتُونَك فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ}: إِلَى قوله تعالى: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}.

وَقَدْ كَانُوا بَعْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْمُنَاكَحَاتِ وَالطَّلَاقِ وَالْمِيرَاثِ إِلَى أَنْ نُقِلُوا عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ بِالشَّرِيعَةِ.

قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: «أَبَلَغَكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَقَرَّ النَّاسَ عَلَى مَا أَدْرَكَهُمْ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ مِيرَاثٍ؟، قَالَ: لَمْ يَبْلُغْنَا إِلاَّ ذَلِكَ».

وَرَوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم- وَالنَّاسُ عَلَى أَمْرِ جَاهِلِيَّتِهِمْ إِلَى أَنْ يُؤْمَرُوا بِشَيْءٍ أَوْ يُنْهَوْا عَنْهُ، وَإِلاَّ فَهُمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ جَاهِلِيَّتِهِمْ.

وَكَانَ السَّبَبُ الَّذِي يَتَوَارَثُونَ بِهِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْحَلِفُ وَالْمُعَاقَدَةُ، وَالْآخَرُ التَّبَنِّي.ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَتُرِكُوا بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ نُسِخَ.فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْحَلِفِ وَالْمُعَاقَدَةِ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ ثُمَّ نُسِخَ، وَقَالَ شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ فِي قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ عَقَدَت أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ: دَمِي دَمُكَ، وَهَدْمِي هَدْمُكَ، وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ، وَتُطْلَبُ بِي وَأُطْلَبُ بِكَ.قَالَ: فَوَرَّثُوا السُّدُسَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْوَالِ، ثُمَّ يَأْخُذُ أَهْلُ الْمِيرَاثِ مِيرَاثَهُمْ، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}.

الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّرِكَةِ وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَهَا:

6- مِنْ إِطْلَاقَاتِ الْإِرْثِ لُغَةً: التَّرِكَةُ.وَهِيَ فِي الِاصْطِلَاحِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: مَا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ مِنْ أَمْوَالٍ وَحُقُوقٍ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ مَا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ مِنَ الْأَمْوَالِ صَافِيًا عَنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِعَيْنٍ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَالْأَصْلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْحُقُوقَ لَا يُورَثُ مِنْهَا إِلاَّ مَا كَانَ تَابِعًا لِلْمَالِ أَوْ فِي مَعْنَى الْمَالِ، كَحَقِّ التَّعَلِّي وَحُقُوقِ الِارْتِفَاقِ، أَمَّا حَقُّ الْخِيَارِ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ وَحَقُّ الِانْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ الْمُوصَى بِهَا فَلَا تُورَثُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَيَدْخُلُ فِي التَّرِكَةِ اتِّفَاقًا الدِّيَةُ الْوَاجِبَةُ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ، أَوْ بِالصُّلْحِ عَنِ الْعَمْدِ، أَوْ بِانْقِلَابِ الْقِصَاصِ مَالًا بِعَفْوِ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ فَتُقْضَى مِنْهُ دُيُونُ الْمَيِّتِ وَتَنْفُذُ وَصَايَاهُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُبْدَأُ مِنَ التَّرِكَةِ بِالدُّيُونِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَعْيَانِهَا قَبْلَ الْوَفَاةِ كَالْأَعْيَانِ الْمَرْهُونَةِ، لِأَنَّ الْمُوَرِّثَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْأَعْيَانِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ، فَأَوْلَى أَلاَّ يَكُونَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ بَعْدَ وَفَاتِهِ.

فَإِذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ كُلُّهَا مَرْهُونَةً فِي دَيْنٍ فَإِنَّ الْمُوَرِّثَ (الْمَيِّتَ) لَا يُجَهَّزُ إِلاَّ بَعْدَ سَدَادِ الدَّيْنِ، أَوْ فِيمَا يَفْضُلُ بَعْدَ سَدَادِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ سَدَادِ الدَّيْنِ يَكُونُ تَجْهِيزُهُ عَلَى مَنْ كَانَتْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فِي حَيَاتِهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ بُدِئَ بِتَكْفِينِهِ وَتَجْهِيزِهِ مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا تُقَدَّمُ نَفَقَةُ الْمُفْلِسِ عَلَى دُيُونِ غُرَمَائِهِ، ثُمَّ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ تُقْضَى دُيُونُهُ مِنْ جَمِيعِ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ.

7- لَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي الدُّيُونِ الَّتِي تُقْضَى بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ:

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الدَّيْنَ إِنْ كَانَ لِلْعِبَادِ فَالْبَاقِي بَعْدَ تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ إِنْ وَفَى بِهِ فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَفِ فَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ وَاحِدًا يُعْطِي لَهُ الْبَاقِيَ.وَمَا بَقِيَ لَهُ عَلَى الْمَيِّتِ إِنْ شَاءَ عَفَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ.

وَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ مُتَعَدِّدًا، فَإِنْ كَانَ الْكُلُّ دَيْنَ الصِّحَّةِ- وَهُوَ مَا كَانَ ثَابِتًا بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الْإِقْرَارِ فِي زَمَانِ صِحَّةِ الْمَدِينِ- أَوْ كَانَ الْكُلُّ دَيْنَ الْمَرَضِ- وَهُوَ مَا كَانَ ثَابِتًا بِإِقْرَارِهِ فِي مَرَضِهِ- فَإِنَّهُ يُصْرَفُ الْبَاقِي إِلَيْهِمْ عَلَى حَسَبِ مَقَادِيرِ دُيُونِهِمْ.

وَإِنِ اجْتَمَعَ الدَّيْنَانِ مَعًا يُقَدَّمُ دَيْنُ الصِّحَّةِ لِكَوْنِهِ أَقْوَى، لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَنِ التَّبَرُّعِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، فَفِي إِقْرَارِهِ حِينَئِذٍ نَوْعُ ضَعْفٍ.

وَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ عُلِمَ ثُبُوتُهُ بِطَرِيقِ الْمُعَايَنَةِ، كَاَلَّذِي يَجِبُ بَدَلًا عَنْ مَالِ مِلْكِهِ أَوِ اسْتَهْلَكَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ دَيْنِ الصِّحَّةِ، إِذْ قَدْ عُلِمَ وُجُوبُهُ بِغَيْرِ إِقْرَارِهِ، فَلِذَلِكَ سَاوَاهُ فِي الْحُكْمِ.

وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ- تَعَالَى- كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَحِجَّةِ الْإِسْلَامِ وَالنَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ، فَإِنْ أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ وَجَبَ تَنْفِيذُهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ الْبَاقِي بَعْدَ دَيْنِ الْعِبَادِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ لَمْ يَجِبْ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ تُقْضَى دُيُونُ الْمَيِّتِ الَّتِي لآِدَمِيٍّ كَانَتْ بِضَامِنٍ أَمْ لَا.حَالَّةً كَانَتْ أَوْ مُؤَجَّلَةً لِأَنَّ الْمُؤَجَّلَةَ تَحِلُّ بِالْمَوْتِ، ثُمَّ هَدْيُ تَمَتُّعٍ إِنْ مَاتَ بَعْدَ رَمْيِ الْعَقَبَةِ أَوْصَى بِهِ أَمْ لَا، ثُمَّ زَكَاةُ فِطْرٍ فَرَّطَ فِيهَا، وَكَفَّارَاتٌ فَرَّطَ فِيهَا، مِثْلُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالصَّوْمِ وَالظِّهَارِ وَالْقَتْلِ إِذَا أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.سَوَاءٌ أَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا أَمْ لَمْ يُوصِ، لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ مَتَى أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ بِهَا خَرَجَتْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، أَوْصَى بِهَا أَمْ لَا، فَإِنْ أَوْصَى بِهَا، وَلَمْ يُشْهِدْ فَمِنَ الثُّلُثِ، وَمِثْلُ الْكَفَّارَاتِ عِنْدَهُمْ الَّتِي أَشْهَدَ بِهَا زَكَاةُ عَيْنٍ حَلَّتْ وَأَوْصَى بِهَا، وَزَكَاةُ مَاشِيَةٍ حَلَّتْ وَلَا سَاعِيَ، وَلَمْ تُوجَدِ السِّنُّ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا، فَإِنْ وُجِدَ فَهُوَ كَالدَّيْنِ الْمُتَعَلِّقِ بِحَقٍّ فَيَجِبُ إِخْرَاجُهُ قَبْلَ الْكَفَنِ وَالتَّجْهِيزِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ تُقْضَى الدُّيُونُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِذِمَّةِ الْمَيِّتِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ لِلَّهِ- تَعَالَى- أَمْ لآِدَمِيٍّ أَوْصَى بِهَا أَمْ لَا، لِأَنَّهَا حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَيُقَدَّمُ دَيْنُ اللَّهِ- تَعَالَى- كَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا عَلَى دَيْنِ الْآدَمِيِّ.وَذَلِكَ فِيمَا إِذَا تَلِفَ الْمَالُ.فَلَوْ كَانَ بَاقِيًا فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الزَّكَاةِ فَتَخْرُجُ قَبْلَ التَّجْهِيزِ كَمَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ، وَإِنْ كَانَتِ الدُّيُونُ مُتَعَلِّقَةً بِعَيْنٍ قُدِّمَتْ عَلَى التَّجْهِيزِ كَمَا سَبَقَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ يُوفَى حَقُّ مُرْتَهِنٍ لَدَيْهِ، ثُمَّ إِنْ فَضَلَ لِلْمُرْتَهِنِ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِهِ شَارَكَ الْغُرَمَاءَ، لِأَنَّهُ سَاوَاهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ رُدَّ عَلَى الْمَالِ لِيُقْسَمَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، ثُمَّ بَعْدَمَا سَبَقَ تُسَدَّدُ الدُّيُونُ غَيْرُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَعْيَانِ وَهِيَ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ.وَيَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالتَّرِكَةِ كُلِّهَا وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْرِقْهَا الدَّيْنُ سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ لِلَّهِ- تَعَالَى- كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحَجِّ الْوَاجِبِ، أَمْ كَانَ لآِدَمِيٍّ كَالْقَرْضِ وَالثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ، فَإِنْ زَادَتِ الدُّيُونُ عَنِ التَّرِكَةِ وَلَمْ تَفِ بِدَيْنِ اللَّهِ- تَعَالَى- وَدَيْنِ الْآدَمِيِّ يَتَحَاصُّونَ عَلَى نِسْبَةِ دُيُونِهِمْ كَمَالِ الْمُفْلِسِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الدُّيُونُ لِلَّهِ- تَعَالَى- أَمْ لِلْآدَمِيِّينَ أَمْ مُخْتَلِفَةً، ثُمَّ بَعْدَ الدَّيْنِ الْوَصِيَّةُ لِلْأَجْنَبِيِّ- وَهُوَ مَنْ لَيْسَ بِوَارِثٍ- مِنْ ثُلُثِ مَا يَفِي مِنَ الْمَالِ بَعْدَ الْحُقُوقِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ فَلَا بُدَّ مِنْ إِجَازَةِ بَاقِي الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لِأَجْنَبِيٍّ فَمَا يَزِيدُ عَنِ الثُّلُثِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ كُلِّ الْوَرَثَةِ.

8- وَالْفُقَهَاءُ مُجْمِعُونَ- كَمَا سَبَقَ- عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ، لِمَا قَالَهُ عَلِيٌّ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى أَنَّ الدَّيْنَ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ»، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ تَسْتَغْرِقُهُ حَاجَتُهُ فَقُدِّمَ كَمَئُونَةِ تَجْهِيزِهِ، ثُمَّ تَنْفُذُ وَصَايَاهُ. 9- وَإِنَّمَا قُدِّمَتْ الْوَصِيَّةُ فِي الذِّكْرِ عَلَى الدَّيْنِ فِي الْآيَةِ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْمِيرَاثَ، لِكَوْنِهَا مَأْخُوذَةً بِلَا عِوَضٍ، فَيَشُقُّ إِخْرَاجُهَا عَلَى الْوَرَثَةِ، فَكَانَتْ لِذَلِكَ مَظِنَّةً فِي التَّفْرِيطِ فِيهَا بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَإِنَّ نُفُوسَهُمْ مُطْمَئِنَّةٌ إِلَى أَدَائِهِ، فَقُدِّمَ ذِكْرُهَا حَثًّا عَلَى أَدَائِهَا، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا مِثْلُهُ فِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ، أَوِ الْمُسَارَعَةِ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ جِيءَ بَيْنَهُمَا بِكَلِمَةِ التَّسْوِيَةِ، وَأَيْضًا إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالتَّبَرُّعَاتِ وَلَيْسَ فِي التَّرِكَةِ وَفَاءٌ بِالْكُلِّ فَتَقْدِيمُهُ عَلَيْهَا ظَاهِرٌ، لِأَنَّ أَدَاءَ الدَّيْنِ فَرْضٌ عَلَيْهِ يُجْبَرُ عَلَى أَدَائِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَالْوَصِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ تَطَوُّعٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفَرْضَ أَقْوَى.

10- ثُمَّ بَعْدَ التَّكْفِينِ وَالدَّيْنِ تَنْفُذُ الْوَصَايَا مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ، وَذَلِكَ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ- عَدَا خُوَاهَرْ زَادَهْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- لَا مِنْ أَصْلِ الْمَالِ، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّكْفِينِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ قَدْ صَارَ مَصْرُوفًا فِي ضَرُورَاتِهِ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا، فَالْبَاقِي هُوَ مَالُهُ الَّذِي كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي ثُلُثِهِ، وَأَيْضًا رُبَّمَا اسْتَغْرَقَ ثُلُثُ الْأَصْلِ جَمِيعَ الْبَاقِي، فَيُؤَدِّي إِلَى حِرْمَانِ الْوَرَثَةِ بِسَبَبِ الْوَصِيَّةِ، وَهَذَا سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُطْلَقَةً أَمْ مُعَيَّنَةً، وَهُوَ الصَّحِيحُ.

11- وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُعَيَّنَةً كَانَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى الْإِرْثِ.وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً كَأَنْ يُوصِيَ بِثُلُثِ مَالِهِ أَوْ رُبُعِهِ كَانَتْ فِي مَعْنَى الْمِيرَاثِ لِشُيُوعِهَا فِي التَّرِكَةِ، فَيَكُونُ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكًا لِلْوَرَثَةِ لَا مُقَدَّمًا عَلَيْهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَى شُيُوعِهِ فِيهَا كَحَقِّ الْوَارِثِ أَنَّهُ إِذَا زَادَ الْمَالُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ زَادَ عَلَى الْحَقَّيْنِ، وَإِذَا نَقَصَ نَقَصَ عَنْهُمَا، حَتَّى إِذَا كَانَ مَالُهُ حَالَ الْوَصِيَّةِ أَلْفًا مَثَلًا فَصَارَ أَلْفَيْنِ، فَلَهُ ثُلُثُ الْأَلْفَيْنِ.وَإِنِ انْعَكَسَ فَلَهُ ثُلُثُ الْأَلْفِ.

ثُمَّ بَعْدَ التَّكْفِينِ وَالدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ يُقْسَمُ الْبَاقِي مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الَّذِينَ ثَبَتَ إِرْثُهُمْ بِالْكِتَابِ وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، أَوِ الَّذِينَ ثَبَتَ إِرْثُهُمْ بِالنِّسْبَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَطْعِمُوا الْجَدَّاتِ السُّدُسَ»، أَوِ الَّذِينَ ثَبَتَ إِرْثُهُمْ بِالْإِجْمَاعِ كَالْجَدِّ وَابْنِ الِابْنِ وَبِنْتِ الِابْنِ وَسَائِرِ مَنْ عُلِمَ تَوْرِيثُهُمْ بِالْإِجْمَاعِ.

أَرْكَانُ الْإِرْثِ:

12- الرُّكْنُ لُغَةً جَانِبُ الشَّيْءِ الْأَقْوَى، وَفِي الِاصْطِلَاحِ عِبَارَةٌ عَنْ جُزْءِ الْمَاهِيَّةِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِرْثَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِحْقَاقُ وَبِهَذَا الْإِطْلَاقِ لَهُ أَرْكَانٌ ثَلَاثَةٌ إِنْ وُجِدَتْ كُلُّهَا تَحَقَّقَتِ الْوِرَاثَةُ، وَإِنْ فُقِدَ رُكْنٌ مِنْهَا فَلَا إِرْثَ.

أَوَّلُهَا: الْمُورَثُ وَهُوَ الْمَيِّتُ أَوِ الْمُلْحَقُ بِالْأَمْوَاتِ.

وَثَانِيهَا: الْوَارِثُ وَهُوَ الْحَيُّ بَعْدَ الْمُورَثِ أَوِ الْمُلْحَقُ بِالْأَحْيَاءِ.

وَثَالِثُهَا: الْمَوْرُوثُ (أَيِ التَّرِكَةُ) وَهُوَ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَالِ، بَلْ يَشْمَلُ الْمَالَ وَغَيْرَهُ.

وَعَلَى هَذَا فَمَنْ مَاتَ وَلَهُ وَارِثٌ وَلَا مَالَ لَهُ فَلَا إِرْثَ وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ فَلَا إِرْثَ أَيْضًا عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى بَيْتَ الْمَالِ وَارِثًا، كَمَا سَيَأْتِي.

شُرُوطُ الْمِيرَاثِ:

13- الشُّرُوطُ جَمْعُ شَرْطٍ وَهُوَ لُغَةً الْعَلَامَةُ.وَاصْطِلَاحًا مَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ لِذَاتِهِ وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْمَاهِيَّةِ.

(وَلِلْإِرْثِ شُرُوطٌ ثَلَاثَةٌ):

أَوَّلُهَا: تَحَقُّقُ مَوْتِ الْمُورَثِ أَوْ إِلْحَاقُهُ بِالْمَوْتَى حُكْمًا كَمَا فِي الْمَفْقُودِ إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِمَوْتِهِ أَوْ تَقْدِيرًا كَمَا فِي الْجَنِينِ الَّذِي انْفَصَلَ بِجِنَايَةٍ عَلَى أُمِّهِ تُوجِبُ غُرَّةً.

ثَانِيهَا: تَحَقُّقُ حَيَاةِ الْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُورَثِ، أَوْ إِلْحَاقُهُ بِالْأَحْيَاءِ تَقْدِيرًا، كَحَمْلٍ انْفَصَلَ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً لِوَقْتٍ يَظْهَرُ مِنْهُ وُجُودُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَوْ نُطْفَةً عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي فِي مِيرَاثِ الْحَمْلِ.

ثَالِثُهَا: الْعِلْمُ بِالْجِهَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْإِرْثِ مِنْ زَوْجِيَّةٍ أَوْ قَرَابَةٍ أَوْ وَلَاءٍ، وَتَعَيُّنُ جِهَةِ الْقَرَابَةِ مِنْ بُنُوَّةٍ أَوْ أُبُوَّةٍ أَوْ أُمُومَةٍ أَوْ أُخُوَّةٍ أَوْ عُمُومَةٍ، وَالْعِلْمُ بِالدَّرَجَةِ الَّتِي اجْتَمَعَ الْمَيِّتُ وَالْوَارِثُ فِيهَا.

أَسْبَابُ الْإِرْثِ:

14- السَّبَبُ لُغَةً مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ.وَاصْطِلَاحًا: مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَمِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ لِذَاتِهِ.

أَسْبَابُ الْإِرْثِ أَرْبَعَةٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَالرَّابِعُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.

فَالثَّلَاثَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا: النِّكَاحُ، وَالْوَلَاءُ، وَالْقَرَابَةُ، وَيُعَبِّرُ عَنْهَا الْحَنَفِيَّةُ بِالرَّحِمِ، وَالرَّابِعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ هُوَ جِهَةُ الْإِسْلَامِ، وَاَلَّذِي يَرِثُ بِهَذَا السَّبَبِ- عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- هُوَ بَيْتُ الْمَالِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ.

وَكُلُّ سَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ يُفِيدُ الْإِرْثَ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ

مَوَانِعُ الْإِرْثِ:

15- الْمَانِعُ: مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْعَدَمُ.

وَمَوَانِعُ الْإِرْثِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ثَلَاثَةٌ: الرِّقُّ، وَالْقَتْلُ، وَاخْتِلَافُ الدِّينِ، وَاخْتَلَفُوا فِي ثَلَاثَةٍ أُخْرَى وَهِيَ: الرِّدَّةُ، وَاخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ، وَالدَّوْرُ الْحُكْمِيُّ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ الْمَوَانِعِ جَهْلُ تَأَخُّرِ مَوْتِ الْوَارِثِ عَنْ مَوْتِ الْمُورَثِ وَاللِّعَانُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذِهِ الْمَوَانِعِ كُلِّهَا. الرِّقُّ:

16- اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الرِّقَّ الْكَامِلَ يَمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ.وَذَلِكَ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ مِنَ الْمَالِ فَهُوَ لِمَوْلَاهُ.فَلَوْ وَرَّثْنَاهُ مِنْ أَقْرِبَائِهِ لَوَقَعَ الْمِلْكُ لِسَيِّدِهِ، فَيَكُونُ تَوْرِيثًا لِلْأَجْنَبِيِّ بِلَا سَبَبٍ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ إِجْمَاعًا.

الْقَتْلُ:

17- اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ يَمْنَعُ الْقَاتِلَ الْبَالِغَ الْعَاقِلَ مِنَ الْمِيرَاثِ إِذَا كَانَ الْقَتْلُ مُبَاشِرًا.وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْقَتْلِ الَّذِي يُوجِبُ الْقِصَاصَ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَاتِلُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ غَيْرَ مُبَاشِرٍ لِلْقَتْلِ أَوْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً.فَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْقَتْلَ الْعُدْوَانَ الْعَمْدَ الْمُوجِبَ لِلْقِصَاصِ: هُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْجَانِي مَنْ يَعْلَمُهُ آدَمِيًّا مَعْصُومًا فَيَقْتُلَهُ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مَوْتُهُ بِهِ.

وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ الَّذِي يُوجِبُ الْقِصَاصَ: مَا يَكُونُ بِضَرْبَةِ سِلَاحٍ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فِي تَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ كَالْمُحَدَّدِ مِنَ الْخَشَبِ أَوِ الْحَجَرِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْقَتْلَ شِبْهَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ يَمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَالْقَتْلُ شِبْهُ الْعَمْدِ: كَأَنْ يَتَعَمَّدَ الْقَاتِلُ ضَرْبَ الْمَقْتُولِ بِمَا لَا يُقْتَلُ بِهِ غَالِبًا، وَمُوجِبُهُ عِنْدَ جَمِيعِ الْحَنَفِيَّةِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَالْإِثْمُ وَالْكَفَّارَةُ.

وَالْخَطَأُ كَأَنْ رَمَى إِلَى الصَّيْدِ فَأَصَابَ إِنْسَانًا، أَوِ انْقَلَبَ عَلَيْهِ فِي النَّوْمِ فَقَتَلَهُ، أَوْ وَطِئَتْهُ دَابَّةٌ، وَهُوَ رَاكِبُهَا أَوْ سَقَطَ مِنْ سَطْحٍ عَلَيْهِ، أَوْ سَقَطَ عَلَيْهِ حَجَرٌ مِنْ يَدِهِ فَمَاتَ.وَمُوجِبُهُ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَا إِثْمَ فِيهِ.وَفِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ كُلِّهَا يُحْرَمُ الْقَاتِلُ مِنَ الْمِيرَاثِ عِنْدَهُمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ الْقَتْلُ بِحَقٍّ.

وَإِذَا كَانَ الْقَتْلُ بِالسَّبَبِ دُونَ الْمُبَاشَرَةِ كَحَافِرِ الْبِئْرِ أَوْ وَاضِعِ الْحَجَرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، أَوْ كَانَ الْقَاتِلُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَلَا حِرْمَانَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِالْقَتْلِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْأَرْجَحِ إِلَى أَنَّ الْقَاتِلَ عَمْدًا مُبَاشِرًا أَوْ مُتَسَبِّبًا يُمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ مِنَ الْمَالِ وَالدِّيَةِ وَلَوْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا، وَإِنْ أَتَى بِشُبْهَةٍ تَدْفَعُ الْقِصَاصَ كَرَمْيِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ بِحَجَرٍ فَمَاتَ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ رَأْيٌ آخَرُ هُوَ أَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَالْخَطَأِ، فَيَرِثُ مِنَ الْمَالِ دُونَ الدِّيَةِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُمْ.وَأَمَّا إِذَا قَتَلَ مُورَثُهُ قِصَاصًا أَوْ حَدًّا أَوْ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُحْرَمُ مِنَ الْمِيرَاثِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْقَتْلِ يُمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَلَوْ كَانَ الْقَتْلُ بِحَقٍّ كَمُقْتَصٍّ، وَإِمَامٍ، وَقَاضٍ، وَجَلاَّدٍ بِأَمْرِ الْإِمَامِ وَالْقَاضِي وَشَاهِدٍ وَمُزَكٍّ.وَيُحْرَمُ الْقَاتِلُ وَلَوْ قَتَلَ بِغَيْرِ قَصْدٍ كَنَائِمٍ وَمَجْنُونٍ وَطِفْلٍ وَلَوْ قَصَدَ بِهِ مَصْلَحَةً كَضَرْبِ الْأَبِ ابْنَهُ لِلتَّأْدِيبِ، وَفَتْحِهِ الْجَرْحَ لِلْمُعَالَجَةِ، وَقَالُوا: لَوْ قَالَ الْمَقْتُولُ: وَرِّثُوهُ فَهُوَ وَصِيَّةٌ.

وَلَوْ سَقَطَ مُتَوَارِثَانِ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ وَأَحَدُهُمَا فَوْقَ الْآخَرِ فَمَاتَ الْأَسْفَلُ لَمْ يَرِثْهُ الْأَعْلَى، لِأَنَّهُ قَاتِلٌ.وَإِنْ مَاتَ الْأَعْلَى وَرِثَهُ الْأَسْفَلُ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَاتِلٍ لَهُ.

اسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ عَدَمِ الْحِرْمَانِ بِالْقَتْلِ بِالتَّسَبُّبِ، وَمِنْ عَدَمِ حِرْمَانِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ بِأَنَّ الْقَاتِلَ بِالتَّسَبُّبِ لَيْسَ بِقَاتِلٍ حَقِيقَةً، لِأَنَّهُ لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ وَوَقَعَ فِيهَا مُورَثُهُ فَمَاتَ فَلَا يُؤَاخَذُ عَلَى ذَلِكَ بِشَيْءٍ.وَالْقَاتِلُ يُؤَاخَذُ بِفِعْلِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ فِي مِلْكِهِ أَمْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ كَالرَّامِي.وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقَتْلَ لَا يَتِمُّ إِلاَّ بِمَقْتُولٍ وَقَدِ انْعَدَمَ حَالَ التَّسَبُّبِ.فَإِنَّ حَفْرَهُ مَثَلًا قَدِ اتَّصَلَ بِالْأَرْضِ دُونَ الْحَيِّ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ قَاتِلًا حَالَ الْوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ؛ إِذْ رُبَّمَا كَانَ الْحَافِرُ حِينَئِذٍ مَيِّتًا.وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَاتِلًا حَقِيقَةً لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ جَزَاءُ الْقَتْلِ، وَهُوَ الْحِرْمَانُ مِنَ الْمِيرَاثِ وَالْكَفَّارَةِ.وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يُحْرَمَانِ مِنَ الْمِيرَاثِ بِالْقَتْلِ، لِأَنَّ الْحِرْمَانَ جَزَاءٌ لِلْقَتْلِ الْمَحْظُورِ، وَفِعْلُهُمَا مِمَّا لَا يَصْلُحُ أَنْ يُوصَفَ بِالْحَظْرِ شَرْعًا، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَجُّهُ خِطَابِ الشَّارِعِ إِلَيْهِمَا.وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحِرْمَانَ بِاعْتِبَارِ التَّقْصِيرِ فِي التَّحَرُّزِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ نِسْبَةُ التَّقْصِيرِ إِلَيْهِمَا.

وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِحَدِيثِ «لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِنَ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ» وَفَسَّرُوهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْقَتْلِ شَيْءٌ مِنَ الْإِرْثِ.

وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ خَوْفُ اسْتِعْجَالِ الْوَارِثِ لِلْإِرْثِ بِقَتْلِ مُورَثِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَهُوَ مَا إِذَا قَتَلَهُ عَمْدًا فَاقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ حِرْمَانَهُ مِنَ الْإِرْثِ، عَمَلًا بِقَاعِدَةِ: مَنَ اسْتَعْجَلَ بِشَيْءٍ قَبْلَ أَوَانِهِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِهِ، وَالِاسْتِعْجَالُ إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ ظَنِّهِ، وَبِالنَّظَرِ لِلظَّاهِرِ وَسَدِّ بَابِ الْقَتْلِ فِي بَاقِي الصُّوَرِ، وَهُوَ مَا إِذَا كَانَ الْقَتْلُ بِغَيْرِ قَصْدٍ كَمَا فِي النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَالطِّفْلِ.

وَلَا مَدْخَلَ لِلْمُفْتِي فِي الْقَتْلِ وَلَوْ أَخْطَأَ فِي الْإِفْتَاءِ وَإِنْ كَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ، لِأَنَّ إِفْتَاءَهُ غَيْرُ مُلْزِمٍ، وَلَا رَاوِي الْحَدِيثِ، وَلَا الْقَاتِلِ بِالْعَيْنِ، وَلَا مَنْ أَتَى لِامْرَأَتِهِ بِلَحْمٍ فَأَكَلَتْ مِنْهُ حَيَّةٌ ثُمَّ أَكَلَتْ مِنْهُ الزَّوْجَةُ فَمَاتَتْ.

وَأَمَّا مَنْ شَهِدَ عَلَى مُورَثٍ بِمُقْتَضَى جَلْدٍ فَجُلِدَ فَمَاتَ فَلِلنَّظَرِ فِيهِ مَجَالٌ، لَكِنْ ظَاهِرُ إِطْلَاقِهِمْ مَنْعُهُ بِذَلِكَ.

اخْتِلَافُ الدِّينَيْنِ:

18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلُ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَكْثَرِ الصَّحَابَةِ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ حَتَّى وَلَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ، لِأَنَّ الْمَوَارِيثَ قَدْ وَجَبَتْ لِأَهْلِهَا بِمَوْتِ الْمُورَثِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الِارْتِبَاطُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ بِالْقَرَابَةِ أَمْ بِالنِّكَاحِ أَمْ بِالْوَلَاءِ.

وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ قَبْلَ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ وَرِثَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ» وَلِأَنَّ فِي تَوْرِيثِهِ تَرْغِيبًا فِي الْإِسْلَامِ. كَمَا ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ يَرِثُ عَتِيقَهُ الْمُسْلِمَ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ.

وَذَهَبَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَالْحَسَنُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَمَسْرُوقٌ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْكَافِرَ.

اسْتَدَلَّ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى مَذْهَبِهِمْ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَلٍ شَتَّى» وَلِقَوْلِهِ- عليه السلام-: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ».

وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِتَوْرِيثِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ بِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى» وَمِنَ الْعُلُوِّ أَنْ يَرِثَ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ.

وَفَسَّرَ الْمَانِعُونَ الْحَدِيثَ بِأَنَّ نَفْسَ الْإِسْلَامِ هُوَ الَّذِي يَعْلُو، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ الْإِسْلَامُ عَلَى وَجْهٍ وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ وَيَعْلُو.أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ الْعُلُوُّ بِحَسَبِ الْحُجَّةِ أَوْ بِحَسَبِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ.أَيِ النُّصْرَةِ فِي الْعَاقِبَةِ لِلْمُسْلِمِينَ.

إِرْثُ الْمُرْتَدِّ:

19- لَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي أَنَّ الْمُرْتَدَّ- وَهُوَ مَنْ تَرَكَ الْإِسْلَامَ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ- لَا يَرِثُ أَحَدًا مِمَّنْ يَجْمَعُهُ وَإِيَّاهُمْ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْمِيرَاثِ، لَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ، أَوْ أَيِّ دِينٍ آخَرَ خِلَافُهُ، لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ.وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدَّةُ لَا تَرِثُ أَحَدًا، لِأَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُرْتَدِّ إِنْ كَانَ رَجُلًا هُوَ أَنْ يَتُوبَ وَيَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوْ يُقْتَلَ إِنْ أَصَرَّ عَلَى رِدَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَإِنَّهَا تُحْبَسُ حَتَّى تَتُوبَ أَوْ يُدْرِكَهَا الْمَوْتُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا مَعْنَى مُطْلَقًا لأَنْ يُقَالَ بِأَنَّهُ يَرِثُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ.

أَمَّا كَوْنُهُ يُورَثُ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- قَالَ الْقَاضِي: هِيَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ- أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرُهُمْ مِمَّنِ انْتَقَلَ إِلَى دِينِهِمْ بَلْ مَالُهُ كُلُّهُ- إِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ- يَكُونُ فَيْئًا وَحَقًّا لِبَيْتِ الْمَالِ.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالْحَسَنِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالشَّعْبِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَاسْتَدَلَّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِفِعْلِ الْخَلِيفَتَيْنِ الرَّاشِدَيْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَلِيٍّ، وَلِأَنَّ رِدَّتَهُ يَنْتَقِلُ بِهَا مَالُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا لَوِ انْتَقَلَ بِالْمَوْتِ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ، فَالْمُرْتَدَّةُ يَرِثُهَا أَقَارِبُهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَيَرِثُونَ كُلَّ مَالِهَا، سَوَاءٌ مَا اكْتَسَبَتْهُ حَالَ إِسْلَامِهَا أَوْ حَالَ رِدَّتِهَا.

أَمَّا الْمُرْتَدُّ فَإِنَّ وَرَثَتَهُ الْمُسْلِمِينَ يَرِثُونَ مِنْهُ مَا اكْتَسَبَهُ فِي زَمَانِ إِسْلَامِهِ.وَلَا يَرِثُونَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي زَمَانِ رِدَّتِهِ.وَيَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ لَكِنْ هَلْ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ وَقْتَ رِدَّتِهِ أَوْ وَقْتَ مَوْتِهِ أَوْ لَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ؟ أَوْ مَنْ كَانُوا مَوْجُودِينَ وَقْتَ رِدَّتِهِ وَوَقْتَ مَوْتِهِ؟

اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ.فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّ الْوَارِثَ لِلْمُرْتَدِّ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ وَقْتَ رِدَّتِهِ وَبَقِيَ إِلَى مَوْتِ الْمُرْتَدِّ، أَمَّا مَنْ حَدَثَتْ لَهُ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يَرِثُهُ، فَلَوْ أَسْلَمَ بَعْضُ قَرَابَتِهِ بَعْدَ رِدَّتِهِ أَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ رِدَّتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَرِثُهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، لِأَنَّ سَبَبَ التَّوْرِيثِ هُنَا الرِّدَّةُ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ ذَلِكَ لَمْ يَنْعَقِدْ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ، وَتَمَامُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْمَوْتِ، فَيُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْوَارِثِ إِلَى حِينِ تَمَامِ السَّبَبِ.

وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْوَارِثِ وَقْتَ الرِّدَّةِ، وَلَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُرْتَدِّ، لِأَنَّ الرِّدَّةَ فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ كَالْمَوْتِ، وَمَنْ مَاتَ مِنَ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُورَثِ قَبْلَ قِسْمَةِ مِيرَاثِهِ لَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ وَيَحِلُّ وَارِثُهُ مَحَلَّهُ.

وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَنْ يَكُونُ وَارِثًا لَهُ حِينَ مَاتَ أَوْ قُتِلَ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الرِّدَّةِ أَمْ حَدَثَ بَعْدَهُ، لِأَنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ قَبْلَ تَمَامِهِ يُعْتَبَرُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّبَبِ، مِثْلُ الزِّيَادَةِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ إِذْ تُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فَتَكُونُ مَعْقُودًا عَلَيْهَا بِالْقَبْضِ، وَيَكُونُ لَهَا حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ، فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ هُنَا.

وَاعْتَبَرَ الْإِمَامُ مُحَمَّدٌ لَحَاقَ الْمُرْتَدِّ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ، فَتُقْسَمُ تَرِكَتُهُ مِنْ حِينِ اللَّحَاقِ.وَاعْتَبَرَ الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ مَنْ يَكُونُ وَارِثًا لَهُ حِينَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ، وَتَرِثُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ إِنْ مَاتَ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ عَلَى رَأْيِ الصَّاحِبَيْنِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُرْتَدِّ وَإِنِ ارْتَفَعَ بِالرِّدَّةِ لَكِنَّهُ فَارٌّ عَنْ مِيرَاثِهَا.وَامْرَأَةُ الْفَارِّ تَرِثُ إِذَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ وَقْتَ مَوْتِهِ.

وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنِ الْإِمَامِ تَرِثُ وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ مَوْتِهِ مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ، لِأَنَّ سَبَبَ التَّوْرِيثِ كَانَ مَوْجُودًا فِي حَقِّهَا عِنْدَ رِدَّتِهِ؛ إِذْ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُعْتَبَرُ قِيَامُ السَّبَبِ عِنْدَ أَوَّلِ الرِّدَّةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


60-موسوعة الفقه الكويتية (إرث 2)

إِرْثٌ -2

اخْتِلَافُ الدِّينِ بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ:

20- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَتَوَارَثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، لِأَنَّهُمْ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَيَرِثُ الْيَهُودِيُّ النَّصْرَانِيَّ وَالْعَكْسُ، وَيَرِثُ الْمَجُوسِيُّ وَعَابِدُ الْوَثَنِ النَّصْرَانِيَّ وَالْيَهُودِيَّ وَيَرِثُهُمَا الْمَجُوسِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُمْ مِلَلٌ، فَلَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ الْمِلَلِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ فَلَا يَرِثُ الْيَهُودِيُّ النَّصْرَانِيَّ وَلَا الْعَكْسُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي قَوْلٍ مُرَجَّحٍ وَنُسِبَ إِلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْكُفْرَ ثَلَاثُ مِلَلٍ: النَّصَارَى مِلَّةٌ، وَالْيَهُودُ مِلَّةٌ، وَمَنْ عَدَاهُمَا مِلَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي شُرَيْحٍ وَعَطَاءٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالضَّحَّاكِ وَالْحَكَمِ وَشَرِيكِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَوَكِيعٍ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ رَأْيٌ آخَرُ مُرَجَّحٌ أَيْضًا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ، وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِلَّةٌ، وَأَنَّ مَا سِوَاهُمَا مِلَلٌ مُخْتَلِفَةٌ.وَذُكِرَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ.

وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يَتَوَارَثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلَا يَرِثُهُمُ الْمَجُوسُ وَلَا يَرِثُ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى الْمَجُوسَ.

وَاسْتَدَلَّ الْمَانِعُونَ مِنَ الْمِيرَاثِ فِيمَا بَيْنَ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى» وَهُمْ أَهْلُ مِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ بِدَلِيلِ قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى} فَقَدْ عَطَفَ النَّصَارَى عَلَى الَّذِينَ هَادُوا، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْك الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} وَالْيَهُودُ لَا تَرْضَى إِلاَّ بِاتِّبَاعِ الْيَهُودِيَّةِ مَعَهُمْ وَالنَّصَارَى كَذَلِكَ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مِلَّةً عَلَى حِدَةٍ، وَلِأَنَّ النَّصَارَى يُقِرُّونَ بِنُبُوَّةِ عِيسَى- عليه السلام- وَالْإِنْجِيلِ، وَالْيَهُودُ يَجْحَدُونَ ذَلِكَ.

وَاسْتَدَلَّ ابْنُ أَبِي لَيْلَى بِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّفَقُوا عَلَى دَعْوَى التَّوْحِيدِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ نِحَلُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى الْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ مُوسَى- عليه السلام- وَالتَّوْرَاةِ، بِخِلَافِ الْمَجُوسِ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ التَّوْحِيدَ وَلَا يُقِرُّونَ بِنُبُوَّةِ مُوسَى وَلَا بِكِتَابٍ مُنَزَّلٍ، وَلَا يُوَافِقُهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى ذَلِكَ فَكَانُوا أَهْلَ مِلَّتَيْنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ حِلُّ الذَّبِيحَةِ وَالْمُنَاكَحَةِ فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي ذَلِكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، إِذْ تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ الْمَجُوسِ.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ- تَعَالَى- جَعَلَ الدِّينَ دِينَيْنِ، الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينٌ} وَجَعَلَ النَّاسَ فَرِيقَيْنِ فَقَالَ: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}.وَفَرِيقُ الْجَنَّةِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَفَرِيقُ السَّعِيرِ هُمُ الْكُفَّارُ جَمِيعُهُمْ، وَجَعَلَ الْخَصْمَ خَصْمَيْنِ فَقَالَ تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} وَالْمُرَادُ الْكُفَّارُ جَمِيعًا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِلَلٌ مُخْتَلِفَةٌ وَلَكِنَّهُمْ عِنْدَ مُقَابَلَتِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يُقِرُّونَ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- وَبِالْقُرْآنِ وَجَمِيعُهُمْ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَبِإِنْكَارِهِمْ كَفَرُوا، فَكَانُوا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ مِلَّةً وَاحِدَةً فِي الشِّرْكِ.وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ» فَإِنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- فَسَّرَ الْمِلَّتَيْنِ قَوْلُهُ: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ»، إِذْ فِي التَّنْصِيصِ عَلَى الْوَصْفِ الْعَامِّ وَهُوَ الْكُفْرُ بَيَانُ أَنَّهُمْ فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ.

اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ:

21- يَقْصِدُ الْفُقَهَاءُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ اخْتِلَافَ الْمَنَعَةِ، وَفَسَّرُوا الْمَنَعَةَ بِالْعَسْكَرِ وَاخْتِلَافِ الْمَلِكِ وَالسُّلْطَانِ، كَأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا بِالْهِنْدِ وَلَهُ دَارٌ وَمَنَعَةٌ وَالْآخَرُ فِي التُّرْكِ وَلَهُ دَارٌ وَمَنَعَةٌ أُخْرَى، وَانْقَطَعَتْ بَيْنَهُمَا الْعِصْمَةُ حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمَا يَسْتَحِلُّ قَتْلَ الْآخَرِ.

وَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَتَوَارَثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَهْمَا اخْتَلَفَتْ دِيَارُهُمْ وَدُوَلُهُمْ وَجِنْسِيَّاتُهُمْ، لِأَنَّ دِيَارَ الْإِسْلَامِ كُلَّهَا دَارٌ وَاحِدَةٌ لقوله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ» وَلِأَنَّ وِلَايَةَ كُلِّ مُسْلِمٍ هِيَ لِلْإِسْلَامِ وَتَنَاصُرُهُمْ يَكُونُ بِهِ وَلَهُ.

وَالْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً، فَإِذَا مَاتَ الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَرِثَهُ أَقَارِبُهُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ وُجِدَ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي فِي دَارِ الْحَرْبِ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حُكْمًا، لِأَنَّهُ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ لِيَقْضِيَ غَرَضَهُ ثُمَّ يَعُودَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَوُجِدَ اتِّحَادُ الدَّارَيْنِ حُكْمًا.وَالِاخْتِلَافُ الْحَقِيقِيُّ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ إِذَا لَمْ يُعَارِضْهُ اخْتِلَافٌ حُكْمِيٌّ.

وَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ مِنَ الْمِيرَاثِ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَيَرِثُ غَيْرُ الْمُسْلِمِ قَرِيبَهُ غَيْرَ الْمُسْلِمِ مَهْمَا اخْتَلَفَتْ دُوَلُهُمْ وَجِنْسِيَّاتُهُمْ؛ إِذْ لَا يُوجَدُ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْمِيرَاثِ بَعْدَ تَحَقُّقِ سَبَبِهِ وَشَرْطِهِ.

وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الرَّاجِحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ يَمْنَعُ مِنَ التَّوَارُثِ بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِعَدَمِ وُجُودِ التَّنَاصُرِ وَالْمُوَالَاةِ بَيْنَهُمَا لِاخْتِلَافِ دَوْلَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْمُوَالَاةُ وَالتَّنَاصُرُ أَسَاسُ الْمِيرَاثِ.

22- وَهُنَاكَ مَوَانِعُ أُخْرَى فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ، وَهِيَ اللِّعَانُ وَالزِّنَى، وَلَكِنَّ هَذَيْنِ الْمَانِعَيْنِ يَدْخُلَانِ فِي عَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَفِي انْتِفَاءِ الزَّوْجِيَّةِ بِاللِّعَانِ.

الدَّوْرُ الْحُكْمِيُّ:

23- عِنْدَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ مِنْ مَوَانِعِ الْإِرْثِ، الدَّوْرُ الْحُكْمِيُّ، وَهُوَ أَنْ يَلْزَمَ مِنَ التَّوْرِيثِ عَدَمُهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقِرَّ حَائِزٌ لِلْمَالِ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ بِمَنْ يَحْجُبُهُ حِرْمَانًا، كَمَا إِذَا أَقَرَّ أَخٌ لِأَبٍ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِابْنٍ لِلْمُتَوَفَّى مَجْهُولِ النَّسَبِ؛ إِذْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَثْبُتُ نَسَبُ الْقَرَابَةِ وَلَكِنْ لَا يَرِثُ.إِذْ يَلْزَمُ مِنْ تَوْرِيثِهِ الدَّوْرُ الْحُكْمِيُّ، لِأَنَّهُ لَوْ وَرِثَ الِابْنُ لَحَجَبَ الْأَخَ.فَلَا يَكُونُ الْأَخُ وَارِثًا فَلَا يَصِحُّ إِقْرَارُهُ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إِقْرَارُهُ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ، لَمْ يَثْبُتِ الْإِرْثُ.فَإِثْبَاتُ الْإِرْثِ يُؤَدِّي إِلَى نَفْيِهِ، وَمَا أَدَّى بِإِثْبَاتِهِ إِلَى نَفْيِهِ انْتَفَى مِنْ أَصْلِهِ، وَلَا يَكُونُ الدَّوْرُ الْحُكْمِيُّ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمُقِرُّ حَائِزًا لِلْمَالِ، وَأَقَرَّ بِمَنْ يَحْجُبُهُ حِرْمَانًا وَإِلاَّ فَلَا، كَمَا إِذَا أَقَرَّ بَنُونَ بِابْنٍ آخَرَ أَوْ إِخْوَةٌ بِأَخٍ آخَرَ، أَوْ أَعْمَامٌ بِعَمٍّ آخَرَ، فَإِنَّ نَسَبَ الْمُقَرِّ بِهِ يَثْبُتُ، وَكَذَلِكَ إِرْثُهُ، لِأَنَّ الْإِرْثَ فَرْعُ النَّسَبِ وَقَدْ ثَبَتَ، وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الِابْنَيْنِ الْحَائِزَيْنِ بِابْنٍ ثَالِثٍ وَأَنْكَرَهُ الِابْنُ الْآخَرُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ الِابْنِ الثَّالِثِ الْمُقَرِّ بِهِ إِجْمَاعًا، وَلَا يَرِثُ ظَاهِرًا لِعَدَمِ النَّسَبِ، وَيُشَارِكُ الْمُقَرُّ بِهِ بَاطِنًا عَلَى الْأَظْهَرِ مِنْ قَوْلَيِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ- رحمه الله-، وَقَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: أَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: يُشَارِكُهُ ظَاهِرًا مُؤَاخَذَةً لَهُ بِإِقْرَارِهِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي مِنْ قَوْلَيِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ لَا يُشَارِكُهُ بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا، وَعَلَى الْأَظْهَرِ يُشَارِكُهُ فِي ثُلُثِ مَا فِي يَدِهِ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، لِأَنَّهُ الَّذِي اسْتَفْضَلَهُ.وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ يُشَارِكُهُ فِي نِصْفِ مَا فِي يَدِهِ، لِأَنَّ مُقْتَضَى إِقْرَارِهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.

24- الْمُسْتَحِقُّونَ لِلتَّرِكَةِ:

1- أَصْحَابُ الْفُرُوضِ.

2- الْعَصَبَاتُ النَّسَبِيَّةُ.ثُمَّ الْعَصَبَاتُ السَّبَبِيَّةُ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- عَلَى خِلَافٍ فِي التَّرْتِيبِ وَالتَّفْصِيلِ.

3- الْمُسْتَحِقُّونَ بِالرَّدِّ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِيمَنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ وَمَنْ لَا يُرَدُّ، وَفِي الرَّدِّ عَلَى أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ.

4- ذَوُو الْأَرْحَامِ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِي أَصْلِ تَوْرِيثِهِمْ وَكَيْفِيَّتِهِ. 5- مَوْلَى الْمُوَالَاةِ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِيهِ.

6- الْمُقَرُّ لَهُ بِالنَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ.

7- الْمُوصَى لَهُ بِمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ.

8- بَيْتُ الْمَالِ

الْفُرُوضُ الْمُقَدَّرَةُ:

25- الْفُرُوضُ الْمُقَدَّرَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى سِتَّةٌ هِيَ: النِّصْفُ، وَالرُّبُعُ، وَالثُّمُنُ، وَالثُّلُثَانِ، وَالثُّلُثُ، وَالسُّدُسُ.

الْأَوَّلُ: النِّصْفُ: وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: نَصِيبُ الْبِنْتِ فِي قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} وَنَصِيبُ الزَّوْجِ فِي قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} وَنَصِيبُ الْأُخْتِ فِي قوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ}.

الثَّانِي: الرُّبُعُ فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي قوله تعالى مِيرَاثِ الْأَزْوَاجِ: {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ} وَالزَّوْجَاتِ فِي قوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ}.

الثَّالِثُ: الثُّمُنُ: ذُكِرَ فِي قوله تعالى فِي نَصِيبِ الزَّوْجَاتِ: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ}.

الرَّابِعُ: الثُّلُثَانِ: ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي نَصِيبِ الْبَنَاتِ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}.

الْخَامِسُ: الثُّلُثُ: وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي قوله تعالى: {فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ} وَفِي أَوْلَادِ الْأُمِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}.

وَالسَّادِسُ: السُّدُسُ: وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِي قوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} وقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُِمِّهِ السُّدُسُ} وَفِي قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ}.

أَصْحَابُ الْفُرُوضِ:

26- يَسْتَحِقُّ الْفُرُوضَ السَّابِقَةَ اثْنَا عَشَرَ شَخْصًا، أَرْبَعَةٌ مِنَ الرِّجَالِ، وَثَمَانِيَةٌ مِنَ النِّسَاءِ.

فَالرِّجَالُ هُمْ: الْأَبُ، وَالْجَدُّ الصَّحِيحُ (أَبُو الْأَبِ) وَإِنْ عَلَا، وَالْأَخُ لأُِمٍّ، وَالزَّوْجُ.

وَالنِّسَاءُ هُنَّ: الزَّوْجَةُ، وَالْبِنْتُ، وَبِنْتُ الِابْنِ وَإِنْ نَزَلَتْ، وَالْأُخْتُ الشَّقِيقَةُ، وَالْأُخْتُ لِأَبٍ، وَالْأُخْتُ لأُِمٍّ، وَالْأُمُّ، وَالْجَدَّةُ الصَّحِيحَةُ، وَهِيَ الَّتِي لَا يَدْخُلُ فِي نِسْبَتِهَا إِلَى الْمَيِّتِ جَدٌّ فَاسِدٌ أَيْ: رَحِمِيٌّ، وَهُوَ مَنْ يُدْلِي إِلَى الْمَيِّتِ بِأُنْثَى.

وَيُسَمَّى الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ أَصْحَابَ الْفُرُوضِ السَّبَبِيَّةِ، إِذْ إِنَّ مِيرَاثَهُمَا بِسَبَبِ الزَّوَاجِ لَا بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ.وَيُسَمَّى مَنْ عَدَاهُمَا- وَهُمُ الْأَقَارِبُ- أَصْحَابَ الْفُرُوضِ النَّسَبِيَّةِ، لِأَنَّ الْقَرَابَةَ تُسَمَّى نَسَبًا.

وَقَدْ يَجْتَمِعُ الْإِرْثُ بِالْفَرْضِ مَعَ الْإِرْثِ بِالتَّعْصِيبِ.

وَأَصْحَابُ الْفُرُوضِ يَرِثُونَ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَحْجُبُهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ حَجْبَ حِرْمَانٍ.

أَحْوَالُ الْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ:

27- لِلْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ ثَلَاثُ حَالَاتٍ:

الْأُولَى: أَنْ يَرِثَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ فَقَطْ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ فَرْعٌ وَارِثٌ مُذَكَّرٌ، وَهُوَ الِابْنُ وَابْنُ الِابْنِ وَإِنْ نَزَلَ، وَمِيرَاثُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ السُّدُسُ.

الثَّانِيَةُ: أَنْ يَرِثَ بِالْفَرْضِ وَبِالتَّعْصِيبِ مَعًا، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ فَرْعٌ وَارِثٌ مُؤَنَّثٌ وَهُوَ الْبِنْتُ وَبِنْتُ الِابْنِ مَهْمَا نَزَلَ أَبُوهَا.

وَإِنَّمَا وَرِثَ الْأَبُ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ أَوَّلاً، ثُمَّ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ، لِأَنَّهُ لَوْ وَرِثَ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ فَقَطْ لَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، فَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَرِثَ أَوَّلاً بِطَرِيقِ الْفَرْضِ حَتَّى يَضْمَنَ السُّدُسَ.

الثَّالِثَةُ: أَنْ يَرِثَ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ فَقَطْ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ فَرْعٌ وَارِثٌ مُطْلَقًا، فَيَأْخُذُ التَّرِكَةَ كُلَّهَا، أَوِ الْبَاقِيَ مِنْهَا بَعْدَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذُكِرَ قوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُِمِّهِ السُّدُسُ}.

فَإِنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ نَصِيبَ كُلٍّ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ السُّدُسُ فِي تَرِكَةِ الْمُتَوَفَّى إِنْ كَانَ لَهُ مَعَهُمَا وَلَدٌ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْوَلَدُ ابْنًا كَانَ لَهُ الْبَاقِي بَعْدَ الْأَبَوَيْنِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْعَصَبَاتِ وَأَحَقُّهُمْ بِمِيرَاثِ الْبَاقِي بَعْدَ سِهَامِ.ذَوِي الْفُرُوضِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ مِيرَاثُ الْأَبِ هُوَ السُّدُسَ فَرْضًا، وَهَذِهِ هِيَ الْحَالَةُ الْأُولَى مِنْ حَالَاتِ الْأَبِ.

وَإِنْ كَانَ وَلَدُ الْمُتَوَفَّى بِنْتًا، أَوْ بِنْتَ ابْنٍ وَإِنْ نَزَلَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا فَرْعٌ ذَكَرٌ يُعَصِّبُهَا كَانَ الْبَاقِي- بَعْدَ نَصِيبِ الْبِنْتِ أَوْ بِنْتِ الِابْنِ- لِلْأَبِ مَعَ السُّدُسِ الَّذِي هُوَ فَرْضُهُ.وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِهِ أَقْرَبُ الْعَصَبَاتِ إِلَى الْمُتَوَفَّى، وَهَذِهِ هِيَ الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُتَوَفَّى وَلَدٌ مُطْلَقًا وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَقَطْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِخْوَةٌ كَانَ لأُِمِّهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الثُّلُثُ، وَيَكُونُ الْبَاقِي وَهُوَ الثُّلُثَانِ لِلْأَبِ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ وَهِيَ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ، لِأَنَّ الْآيَةَ ذَكَرَتْ فَرْضَ الْأُمِّ وَهُوَ الثُّلُثُ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ الْإِخْوَةِ، وَالسُّدُسَ عِنْدَ وُجُودِ الْإِخْوَةِ، وَلَمْ تَذْكُرْ فَرْضًا لِلْأَبِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِخْوَةِ، فَكَانَ مَدْلُولُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَبَ يَرِثُ الْبَاقِيَ بَعْدَ نَصِيبِ الْأُمِّ، لِأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ الْعَصَبَاتِ، وَالْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ. مِيرَاثُ الْأُمِّ:

28- لِلْأُمِّ فِي الْمِيرَاثِ ثَلَاثُ حَالَاتٍ:

أَوَّلُهَا: أَنْ تَرِثَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ وَيَكُونَ فَرْضُهَا السُّدُسَ.وَذَلِكَ إِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ فَرْعٌ يَرِثُ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ أَوِ التَّعْصِيبِ أَوْ جَمْعٌ مِنَ الْإِخْوَةِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} وَلَفْظُ الْوَلَدِ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَلَا قَرِينَةَ تُخَصِّصُهُ بِأَحَدِهِمَا، كَمَا يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ وَالْجَمْعَ، وَفِي حُكْمِ الْوَلَدِ وَلَدُ الِابْنِ، وَإِنْ نَزَلَ، لِأَنَّ لَفْظَ الْوَلَدِ يَتَنَاوَلُهُ، وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الِابْنِ يَقُومُ مَقَامَ وَلَدِ الصُّلْبِ فِي تَوْرِيثِ الْأُمِّ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْإِخْوَةِ الِاثْنَانِ مِنَ الْإِخْوَةِ أَوَ الْأَخَوَاتِ فَأَكْثَرُ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَا مِنْ جِهَةِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ وَلَوْ مَحْجُوبَيْنِ، لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُِمِّهِ السُّدُسُ} وَلَفْظُ الْإِخْوَةِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْأُخُوَّةِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، خِلَافًا لِابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الثَّلَاثَةَ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ حَاجِبَةً لِلْأُمِّ دُونَ الِاثْنَيْنِ، فَلَهَا مَعَهُمَا الثُّلُثُ عِنْدَهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَصَّتْ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَحْجُبُ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ هُمُ الْإِخْوَةُ وَهُوَ جَمْعٌ يُطْلَقُ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا وَلَا يُطْلَقُ عَلَى الِاثْنَيْنِ.وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ:

أَوَّلاً: أَنَّ حُكْمَ الِاثْنَيْنِ فِي الْمِيرَاثِ حُكْمُ الْجَمْعِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْبِنْتَيْنِ تَرِثَانِ الثُّلُثَيْنِ كَالْجَمْعِ مِنَ الْبَنَاتِ، وَالْأُخْتَيْنِ تَرِثَانِ الثُّلُثَيْنِ كَالْأَخَوَاتِ فَيَكُونُ الِاثْنَانِ مِنَ الْإِخْوَةِ كَالْجَمْعِ فِي الْحَجْبِ.

ثَانِيًا: أَنَّ الْجَمْعَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمُثَنَّى وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} فَقَدْ تَكَرَّرَ عَوْدُ الضَّمِيرِ- وَهُوَ جَمْعٌ- عَلَى الْمُثَنَّى وَهُمَا الْخَصْمَانِ.

وَكَذَلِكَ عَبَّرَ بِالْجَمْعِ عَنِ الْمُثَنَّى فِي قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُ: لِمَ صَارَ الْأَخَوَانِ يَرُدَّانِ الْأُمَّ إِلَى السُّدُسِ؟ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} وَالْأَخَوَانِ فِي لِسَانِ قَوْمِكَ لَيْسَا بِإِخْوَةٍ فَقَالَ عُثْمَانُ: هَلْ أَسْتَطِيعُ نَقْضَ أَمْرٍ كَانَ قَبْلِي وَتَوَارَثَهُ النَّاسُ وَمَضَى فِي الْأَمْصَارِ.وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ الْأُمَّ لَا تُحْجَبُ بِالْإِنَاثِ فَقَطْ، فَلَا تُحْجَبُ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ إِلاَّ بِالْإِخْوَةِ الذُّكُورِ أَوِ الذُّكُورِ مَعَ الْإِنَاثِ، لِأَنَّ (إِخْوَةٌ) فِي قوله تعالى {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} جَمْعُ ذُكُورٍ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْإِنَاثُ وَحْدَهُنَّ.وَقَالَ الْمُخَالِفُونَ: إِنَّ لَفْظَ الْإِخْوَةِ يَشْمَلُ الْأَخَوَاتِ الْمُنْفَرِدَاتِ مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَرِثَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ وَيَكُونَ فَرْضُهَا هُوَ ثُلُثَ التَّرِكَةِ كُلِّهَا، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ فَرْعٌ وَارِثٌ، وَلَا عَدَدٌ مِنَ الْإِخْوَةِ، وَلَيْسَ فِي الْوَرَثَةِ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا إِلاَّ الْأَبُ لقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ}.

الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَرِثَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ وَيَكُونَ فَرْضُهَا هُوَ ثُلُثَ الْبَاقِي مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ فَرْضِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ وَلَيْسَ ثُلُثَ التَّرِكَةِ كُلِّهَا، وَذَلِكَ إِذَا تُوُفِّيَ الْمَيِّتُ عَنِ الْأُمِّ وَالْأَبِ وَأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ جَمْعٌ مِنَ الْإِخْوَةِ.

وَتُسَمَّى الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ بِصُورَتَيْهَا بِالْمَسْأَلَتَيْنِ الْعُمَرِيَّتَيْنِ، لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ هُوَ الَّذِي قَضَى فِيهِمَا بِمَا سَبَقَ.

وَتُسَمَّى أَيْضًا الْغَرَّاوِيَّةَ أَيِ الْمَشْهُورَةَ.نَظَرًا لِشُهْرَتِهَا.

وَتُسَمَّى أَيْضًا بِالْغَرْبِيَّةِ.

حَالَاتُ الْجَدِّ الصَّحِيحِ:

أ- عِنْدَ عَدَمِ الْإِخْوَةِ:

29- الْجَدُّ الصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي لَا تَدْخُلُ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى الْمَيِّتِ أُمٌّ كَأَبِي الْأَبِ، وَأَبِي أَبِي الْأَبِ مَهْمَا عَلَا.وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ وَمِنَ الْعَصَبَاتِ.وَيُحْجَبُ بِالْأَبِ فَلَا يَرِثُ مَعَ وُجُودِهِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الْأَبُ حَلَّ الْجَدُّ مَحَلَّهُ، وَوَرِثَ بِاعْتِبَارِهِ أَبًا، وَكَانَ لَهُ نَفْسُ حَالَاتِ الْأَبِ الثَّلَاثِ السَّابِقَةِ: السُّدُسُ عِنْدَ وُجُودِ الْفَرْعِ الْمُذَكَّرِ فَرْضًا، وَالْفَرْضُ مَعَ التَّعْصِيبِ عِنْدَ وُجُودِ فَرْعٍ مُؤَنَّثٍ لِلْمُتَوَفَّى، وَالتَّعْصِيبُ فَقَطْ، فَيَأْخُذُ التَّرِكَةَ أَوْ مَا بَقِيَ مِنْهَا إِذَا لَمْ يُوجَدْ فَرْعٌ وَارِثٌ مُطْلَقًا.

وَالدَّلِيلُ عَلَى مِيرَاثِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ هُوَ نَفْسُ دَلِيلِ تَوْرِيثِ الْأَبِ.فَهُوَ أَبٌ فِي الْمِيرَاثِ وَفِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ الْأُخْرَى.وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَبًا فِي قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} وَهُمَا آدَم وَحَوَّاءُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ يُوسُفَ- عليه السلام-: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}.

وَمِثَالُ هَذَا مِنَ السُّنَّةِ «ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا».

وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ، إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَعَ الْجَدِّ إِخْوَةٌ لِلْمُتَوَفَّى.

30- ب- الْجَدُّ مَعَ الْإِخْوَةِ:

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ تَوْرِيثِ الْإِخْوَةِ أَوِ الْأَخَوَاتِ لأُِمٍّ مَعَ الْجَدِّ.أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْإِخْوَةِ الْأَشِقَّاءِ أَوْ لِأَبٍ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ: مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ وَأَحْمَدَ وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ ذَهَبُوا إِلَى تَوْرِيثِ الْإِخْوَةِ الْأَشِقَّاءِ أَوْ لِأَبٍ مَعَ الْجَدِّ.

وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْجَدَّ يَأْخُذُ حُكْمَ الْأَبِ فَيَحْجُبُ الْإِخْوَةَ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَالْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَاسْتَثْنَى الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ إِقَامَةِ الْجَدِّ مَقَامَ الْأَبِ مَسْأَلَتَيْنِ يَأْتِي ذِكْرُهُمَا (ف: 32).

وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ بِأَنَّ الْجَدَّ أَبٌ، فَيَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِهِ، وَيَحْجُبُ الْإِخْوَةَ كَمَا يَحْجُبُهُمْ الْأَبُ، وَقَدْ سُمِّيَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَبًا، وَهُوَ يَأْخُذُ حُكْمَ الْأَبِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ، وَلِأَنَّ الْجَدَّ الْمُبَاشِرَ فِي أَعْلَى عَمُودِ النَّسَبِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَيِّتِ، وَابْنَ الِابْنِ الْمُبَاشِرِ فِي أَسْفَلِ الْعَمُودِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُدْلِي إِلَى الْمَيِّتِ بِدَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ.وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ ابْنَ الِابْنِ يَحْجُبُ الْإِخْوَةَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْجَدُّ كَذَلِكَ.

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وَالْجَدُّ أَقْرَبُ إِلَى الْمَيِّتِ مِنَ الْأَخِ.إِذْ لَهُ قَرَابَةُ وَلَاءٍ وَجُزْئِيَّةٍ كَالْأَبِ، وَلَا يَحْجُبُهُ عَنِ الْإِرْثِ سِوَى الْأَبِ.بِخِلَافِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، فَإِنَّهُمْ يُحْجَبُونَ بِثَلَاثَةٍ: بِالْأَبِ وَالِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ، وَالْجَدُّ يَرِثُ بِالْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ كَالْأَبِ، وَالْإِخْوَةُ يَنْفَرِدُونَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا.

وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِتَوْرِيثِ الْإِخْوَةِ مَعَ الْجَدِّ بِأَدِلَّةٍ هِيَ:

أَوَّلاً: أَنَّ مِيرَاثَ الْإِخْوَةِ أَشِقَّاءَ أَوْ لِأَبٍ قَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ يَمْنَعُهُمُ الْإِرْثَ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ.

ثَانِيًا: أَنَّ الْجَدَّ وَالْإِخْوَةَ يَتَسَاوُونَ فِي دَرَجَةِ الْقُرْبِ مِنَ الْمَيِّتِ.فَإِنَّ كُلًّا مِنَ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ يُدْلِي إِلَى الْمَيِّتِ بِدَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا يَتَّصِلُ بِهِ عَنْ طَرِيقِ الْأَبِ، فَالْجَدُّ أَبُو الْأَبِ، وَالْأَخُ ابْنُ الْأَبِ، وَقَرَابَةُ الْبُنُوَّةِ لَا تَقِلُّ عَنْ قَرَابَةِ الْأُبُوَّةِ.

ثَالِثًا: أَنَّ الْجَدَّ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ فِي كُلِّ حَالٍ بَلْ يَخْتَلِفُ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، فَالصَّغِيرُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ الْجَدِّ.

نَصِيبُ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ:

31- لَمْ يَرِدْ نَصٌّ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ فِي مِقْدَارِ مِيرَاثِ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِاجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- .

فَمَذْهَبُ الْإِمَامِ عَلِيٍّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّ لِلْجَدِّ الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الْأَخَوَاتِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ أَخٌ مَا لَمْ يَنْقُصْ عَنِ السُّدُسِ، وَإِلاَّ قَاسَمَ مَا لَمْ تُنْقِصْهُ الْمُقَاسَمَةُ عَنِ السُّدُسِ وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ أَحَدٌ مِنَ الْبَنَاتِ أَوْ بَنَاتِ الِابْنِ.فَإِنْ نَقَصْنَهُ عَنْهُ أَوْ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الْأَخَوَاتِ أَقَلَّ مِنْهُ، أَوْ كَانَ مَعَهُ أَحَدٌ مِنَ الْبَنَاتِ أَوْ بَنَاتِ الِابْنِ فُرِضَ لَهُ السُّدُسُ.وَعَنْهُ أَنَّهُ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَبَدًا.

وَمَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ نَصِيبَ الْجَدِّ يَجِبُ إِلاَّ يَنْقُصَ عَنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ إِنْ كَانَ مِيرَاثُهُ بِالْمُقَاسَمَةِ بِاعْتِبَارِهِ عَاصِبًا مَعَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ؛ إِذْ عِنْدَهُ أَنَّ الْجَدَّ يُعَصِّبُ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانُوا ذُكُورًا فَقَطْ، أَمْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، أَمْ إِنَاثًا فَقَطْ.

فَإِنْ كَانَ مَعَ إِخْوَةٍ أَشِقَّاءَ قَاسَمَهُمْ عَلَى أَنَّهُ شَقِيقٌ، وَإِنْ كَانَ مَعَ إِخْوَةٍ لِأَبٍ قَاسَمَهُمْ عَلَى أَنَّهُ أَخٌ لِأَبٍ، عَلَى أَلاَّ يَقِلَّ نَصِيبُهُ فِي أَيِّ حَالٍ عَنِ الثُّلُثِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَئِمَّةُ: مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ صَاحِبُ فَرْضٍ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ صَاحِبُ فَرْضٍ، فَلَهُ خَيْرُ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إِمَّا الْمُقَاسَمَةُ، وَإِمَّا ثُلُثُ الْبَاقِي، وَإِمَّا ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ.

وَيَضْرِبُ ابْنُ قُدَامَةَ مَثَلاً لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ وَمَنْ مَعَهُمْ فَيَقُولُ: إِنْ كَانَ مَعَ الْجَدِّ اثْنَانِ مِنَ الْإِخْوَةِ أَوْ أَرْبَعُ أَخَوَاتٍ أَوْ أَخٌ وَأُخْتَانِ.فَإِنَّ الْجَدَّ يُعْطَى الثُّلُثَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّ الثُّلُثَ وَالْمُقَاسَمَةَ سَوَاءٌ.فَإِنْ نَقَصُوا عَنْ ذَلِكَ فَالثُّلُثُ أَحَظُّ لَهُ فَقَاسَمَ بِهِ لَا غَيْرُ، وَإِنْ زَادُوا فَالثُّلُثُ خَيْرٌ لَهُ، فَأَعْطِهِ إِيَّاهُ وَسَوَاءٌ أَكَانُوا مِنْ أَبٍ أَمْ أَبَوَيْنِ.

وَمَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ حُكْمَ الْجَدِّ مَعَ الْأَخَوَاتِ الْمُنْفَرِدَاتِ عَنْ أَخٍ أَوْ فَرْعٍ وَارِثٍ يُعَصِّبُهُنَّ أَنَّهُ يَرِثُ الْبَاقِيَ بِاعْتِبَارِهِ عَصَبَةً بَعْدَ أَنْصِبَةِ الْأَخَوَاتِ وَأَنْصِبَةِ مَنْ يُوجَدُ مَعَهُنَّ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، لَكِنْ عَلَى أَلاَّ يَقِلَّ نَصِيبُهُ عَنِ الثُّلُثِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ نَصِيبُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ أُعْطِيَ الثُّلُثَ.

وَحُجَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ نَصِيبَ الْجَدِّ مَعَ بَنَاتِ الْمُتَوَفَّى وَحْدَهُنَّ لَا يَقِلُّ عَنِ الثُّلُثِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْ جَدٍّ وَإِخْوَةٍ، لِأَنَّ قَرَابَةَ الْفَرْعِ لَهَا صِلَةٌ أَقْوَى مِنْ قَرَابَةِ الْأَخِ لِأَخِيهِ.

وَمَا دَامَ الْفَرْعُ لَا يُنْقِصُ نَصِيبَ الْجَدِّ عَنِ الثُّلُثِ فَبِالْأَوْلَى يَكُونُ الثُّلُثُ نَصِيبَهُ مَعَ الْإِخْوَةِ.

32- وَالْمَسْأَلَتَانِ اللَّتَانِ اسْتَثْنَاهُمَا الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ إِقَامَةِ الْجَدِّ مَقَامَ الْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ وَالْحَجْبِ هُمَا:

أُولَاهُمَا: زَوْجٌ وَأُمٌّ وَجَدٌّ.فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّ لِلْأُمِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ.وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْجَدِّ أَبٌ كَانَ لَهَا ثُلُثُ مَا بَقِيَ.

وَثَانِيَتُهُمَا: زَوْجَةٌ وَأُمٌّ وَجَدٌّ، فَلِلْأُمِّ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ.وَذَكَرَ أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِلْأُمِّ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ ثُلُثَ مَا بَقِيَ أَيْضًا.وَهَذَا مَا رَوَاهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.وَرَوَى أَهْلُ الْبَصْرَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُمِّ نِصْفَيْنِ.وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ هَارُونَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعَ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأُمِّ وَالْجَدِّ نِصْفَيْنِ، وَقَدْ غَلَّطَ الرُّوَاةُ كُلُّهُمْ زَيْدًا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، فَقَالُوا: إِنَّمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ هَذَا فِي: زَوْجٍ وَأُمٍّ وَجَدٍّ.

مِيرَاثُ الْجَدَّاتِ:

33- الْجَدَّاتُ نَوْعَانِ: جَدَّاتٌ صَحِيحَاتٌ، وَجَدَّاتٌ غَيْرُ صَحِيحَاتٍ.

فَالْجَدَّةُ الصَّحِيحَةُ: هِيَ الَّتِي لَا يَدْخُلُ فِي نِسْبَتِهَا إِلَى الْمَيِّتِ أَبٌ، أَوْ هِيَ الَّتِي تُدْلِي بِعَصَبَةٍ أَوْ صَاحِبَةِ فَرِيضَةٍ كَأُمِّ الْأُمِّ.

وَغَيْرُ الصَّحِيحَةِ: هِيَ الَّتِي تُدْلِي بِمَنْ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ، وَلَا صَاحِبَةِ فَرِيضَةٍ كَأُمِّ أَبِي الْأُمِّ.

وَمِيرَاثُ الْجَدَّةِ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَعْطَاهَا السُّدُسَ، كَمَا ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ وَالْخَلَفِ.

وَالْجَدَّةُ الصَّحِيحَةُ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ.وَالْجَدَّةُ غَيْرُ الصَّحِيحَةِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ.

34- وَلِلْجَدَّةِ الصَّحِيحَةُ فِي الْمِيرَاثِ حَالَتَانِ:

الْأُولَى: أَنْ تَرِثَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ، وَيَكُونَ فَرْضُهَا السُّدُسَ، تَسْتَقِلُّ بِهِ الْجَدَّةُ الْوَاحِدَةُ، وَتَشْتَرِكُ فِيهِ الْجَدَّاتُ الْمُتَعَدِّدَاتُ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجَدَّةُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ كَأُمِّ الْأُمِّ، أَمْ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ كَأُمِّ الْأَبِ، أَمْ مِنِ الْجِهَتَيْنِ مَعًا كَأُمِّ الْأُمِّ الَّتِي هِيَ أُمُّ أَبِي الْأَبِ أَيْضًا.

وَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْجَدَّةُ ذَاتُ الْقَرَابَتَيْنِ مَعَ الْجَدَّةِ ذَاتِ الْقَرَابَةِ الْوَاحِدَةِ اشْتَرَكَتَا فِي السُّدُسِ مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْقِيَاسُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ.لِأَنَّ تَعَدُّدَ جِهَةِ الْقَرَابَةِ فِي الْجَدَّةِ ذَاتِ الْقَرَابَتَيْنِ لَمْ يُكْسِبْهَا اسْمًا جَدِيدًا تَرِثُ بِهِ، بَلْ هِيَ فِي الْقَرَابَتَيْنِ جَدَّةٌ.

وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الصَّحِيحِ: إِلَى أَنَّ السُّدُسَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا: الثُّلُثَانِ لِذَاتِ الْقَرَابَتَيْنِ.وَثُلُثُهُ لِذَاتِ الْقَرَابَةِ الْوَاحِدَةِ، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْإِرْثِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى وُجُودِ سَبَبِهِ.فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي شَخْصٍ سَبَبَانِ، وَإِنْ كَانَا مُتَّفِقَيْنِ وَرِثَ بِهِمَا، كَالْجَدَّةِ ذَاتِ الْقَرَابَتَيْنِ، وَكَانَتِ الْجَدَّةُ الْوَاحِدَةُ كَأَنَّهَا جَدَّتَانِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فِي شَخْصِهَا حَقِيقَةً فَإِنَّهَا مُتَعَدِّدَةٌ حُكْمًا وَمَعْنَى، فَتَسْتَحِقُّ بِالسَّبَبَيْنِ بِمُقْتَضَى هَذَا التَّعَدُّدِ.وَهَذَا مِثْلُ مَا إِذَا اجْتَمَعَ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ سَبَبَانِ مُخْتَلِفَانِ لِلْإِرْثِ فَإِنَّهُ يَرِثُ بِهِمَا اتِّفَاقًا، كَمَا إِذَا تُوُفِّيَتْ امْرَأَةٌ عَنْ زَوْجٍ هُوَ ابْنُ عَمِّهَا الشَّقِيقِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ النِّصْفَ فَرْضًا بِاعْتِبَارِهِ زَوْجًا، وَالْبَاقِيَ تَعْصِيبًا بِاعْتِبَارِهِ ابْنَ عَمٍّ شَقِيقٍ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ لِلْجَدَّةِ: حَجْبُ الْجَدَّاتِ كُلِّهِنَّ بِالْأُمِّ، سَوَاءٌ أَكُنَّ لِأَبٍ أَمْ لأُِمٍّ، أَمَّا الْأُمِّيَّاتُ فَلِأَنَّهُنَّ يُدْلِينَ بِالْأُمِّ.وَأَمَّا الْأَبَوِيَّاتُ فَلِأَنَّهُنَّ مِثْلُ الْجَدَّاتِ لأُِمٍّ، بَلْ هُنَّ أَضْعَفُ، وَلِهَذَا تُقَدَّمُ الْجَدَّةُ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ عَلَى الْجَدَّةِ لِأَبٍ فِي الْحَضَانَةِ.

وَالْجَدَّاتُ الْأَبَوِيَّاتُ يَسْقُطْنَ بِالْأَبِ، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِمْ.وَنُقِلَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ: أَنَّ أُمَّ الْأَبِ تَرِثُ مَعَ الْأَبِ، وَاخْتَارَهُ شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ، لِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ مِنْ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- أَعْطَى أُمَّ الْأَبِ السُّدُسَ مَعَ وُجُودِ الْأَبِ».

وَالْجَدَّةُ الْقُرْبَى مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ الْبُعْدَى.وَهَذَا مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ زَيْدٍ: أَنَّ الْقُرْبَى إِنْ كَانَتْ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْبُعْدَى مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ فَهُمَا سَوَاءٌ، وَالْقَوْلَانِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِمَا فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ.وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْقُرْبَى مِنْ جِهَةِ الْأَبِ لَا تُسْقِطُ الْبُعْدَى مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ.وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى يَكُونُ الْحَجْبُ فِي أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ يَكُونُ الْحَجْبُ فِي ثَلَاثَةٍ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلَيْهِ، وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.

مِيرَاثُ الزَّوْجَيْنِ:

35- مِيرَاثُ الزَّوْجَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}. فَالْآيَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الزَّوْجَيْنِ لَا يَرِثُ إِلاَّ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ وَأَنَّ لِكُلٍّ حَالَتَيْنِ:

أَحْوَالُ الزَّوْجِ:

36- أ- يَرِثُ الزَّوْجُ نِصْفَ مِيرَاثِ زَوْجَتِهِ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا فَرْعٌ وَارِثٌ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ أَوِ التَّعْصِيبِ، وَهُوَ الِابْنُ وَابْنُ الِابْنِ وَإِنْ نَزَلَ، وَالْبِنْتُ وَبِنْتُ الِابْنِ وَإِنْ نَزَلَ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْفَرْعُ الْوَارِثُ مِنَ الزَّوْجِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ، وَتَشْمَلُ هَذِهِ الْحَالَةُ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجَةِ فَرْعٌ أَصْلاً وَمَا إِذَا كَانَ لَهَا فَرْعٌ غَيْرُ وَارِثٍ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ أَوِ التَّعْصِيبِ، وَهُوَ بِنْتُ الْبِنْتِ أَوِ ابْنُ الْبِنْتِ.

ب- أَنْ يَرِثَ الرُّبُعَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ لِلزَّوْجَةِ فَرْعٌ وَارِثٌ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ أَوِ التَّعْصِيبِ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْفَرْعُ الْوَارِثُ مِنْ هَذَا الزَّوْجِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


61-موسوعة الفقه الكويتية (إرث 5)

إِرْثٌ -5

83- وَإِنِ اسْتَوَتْ دَرَجَاتُهُمْ فِي الْقُرْبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ وَلَدٌ وَارِثٌ كَبِنْتِ ابْنِ الْبِنْتِ، وَابْنِ بِنْتِ الْبِنْتِ، أَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ يُدْلُونَ بِوَارِثٍ، كَابْنِ الْبِنْتِ وَبِنْتِ الْبِنْتِ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ يُعْتَبَرُ أَشْخَاصُ الْفُرُوعِ الْمُتَسَاوِيَةِ الدَّرَجَاتِ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ حَالِ ذُكُورَتِهِمْ وَأُنُوثَتِهِمْ، سَوَاءٌ أَكَانَ أُصُولُهُمْ مُتَّفِقِينَ فِي الذُّكُورَةِ أَوِ الْأُنُوثَةِ أَمْ لَا.فَإِنْ كَانَتِ الْفُرُوعُ ذُكُورًا فَقَطْ، أَوْ إِنَاثًا فَقَطْ تَسَاوَوْا فِي الْقِسْمَةِ.وَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ حَالُ أُصُولِهِمْ مِنَ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ.وَهُوَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَيَعْتَبِرُ مُحَمَّدٌ أَشْخَاصَ الْفُرُوعِ إِنِ اتَّفَقَتْ صِفَةُ الْأُصُولِ فِي الذُّكُورَةِ أَوِ الْأُنُوثَةِ، وَيَعْتَبِرُ الْأُصُولَ إِنِ اخْتَلَفَتْ صِفَاتُهُمْ، وَيُعْطِي الْفُرُوعَ مِيرَاثَ الْأُصُولِ.وَهُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِأَبِي يُوسُفَ وَأَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَجِهَةُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْفُرُوعِ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَعْنًى فِيهِمْ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ، لَا لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِمْ، فَقَدِ اتَّحَدَتِ الْجِهَةُ، وَهِيَ الْوِلَادَةُ، فَيَتَسَاوَى الِاسْتِحْقَاقُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الصِّفَةُ فِي الْأُصُولِ.وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنَّ صِفَةَ الْكُفْرِ أَوِ الرِّقِّ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْمُدْلَى بِهِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُعْتَبَرُ صِفَةُ الْمُدْلِي، فَكَذَا تُعْتَبَرُ فِيهِ صِفَةُ الذُّكُورَةِ أَوِ الْأُنُوثَةِ فَقَطْ.

وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ تَرَكَ عَمَّةً وَخَالَةً، فَإِنَّ لِلْعَمَّةِ الثُّلُثَيْنِ، وَلِلْخَالَةِ الثُّلُثَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ، وَلَوْ كَانَتِ الْعِبْرَةُ بِأَشْخَاصِ الْفُرُوعِ لَكَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ الْمُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ صِفَةَ الْأَصْلِ الْمُدْلَى بِهِ، وَهُوَ الْأَبُ فِي الْعَمَّةِ، وَالْأُمُّ فِي الْخَالَةِ.

84- وَلَوْ تَرَكَ بِنْتَ ابْنِ بِنْتٍ، وَابْنَ بِنْتِ بِنْتٍ فَالْمَالُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ أَثْلَاثًا: ثُلُثَاهُ لِابْنِ بِنْتِ الْبِنْتِ، لِكَوْنِهِ ذَكَرًا، وَثُلُثُهُ لِلْبِنْتِ.

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُ الْمَالُ بَيْنَ الْأُصُولِ (الْبَطْنُ الثَّانِي)، وَهُوَ أَوَّلُ مَا وَقَعَ فِيهِ الِاخْتِلَافُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، وَهُوَ بِنْتُ الْبِنْتِ وَابْنُ الْبِنْتِ أَثْلَاثًا: لِبِنْتِ ابْنِ الْبِنْتِ ثُلُثَاهُ، لِأَنَّهُ نَصِيبُ أَبِيهَا، وَثُلُثُهُ لِابْنِ بِنْتِ الْبِنْتِ، لِأَنَّهُ نَصِيبُ أُمِّهِ.وَكَمَا اُعْتُبِرَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ حَالُ الْأُصُولِ فِي الْبَطْنِ الثَّانِي، فَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ عِنْدَهُ حَالُ الْأُصُولِ الْمُتَعَدِّدَةِ، إِذَا كَانَ فِي أَوْلَادِ الْبَنَاتِ الْمُتَسَاوِيَةِ فِي الدَّرَجَةِ بُطُونٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَحِينَئِذٍ يُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى أَوَّلِ بَطْنٍ اخْتَلَفَ فِي الْأُصُولِ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، ثُمَّ يَجْعَلُ الذُّكُورَ مِنْ أَوَّلِ بَطْنٍ اخْتَلَفَ فِيهِ عَلَى حِدَةٍ، وَالْإِنَاثَ أَيْضًا طَائِفَةً أُخْرَى عَلَى حِدَةٍ، بَعْدَ الْقِسْمَةِ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، فَمَا أَصَابَ الذُّكُورَ مِنْ أَوَّلِ بَطْنٍ وَقَعَ فِيهِ الِاخْتِلَافُ يَجْمَعُ وَيُعْطِي فُرُوعَهُمْ بِحَسَبِ صِفَاتِهِمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ فُرُوعِهِمْ مِنَ الْأُصُولِ اخْتِلَافٌ فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، بِأَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا ذُكُورًا فَقَطْ أَوْ إِنَاثًا فَقَطْ.

85- وَإِنْ كَانَ مَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا فِيهِ اخْتِلَافٌ، بِأَنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا يَجْمَعُ مَا أَصَابَ الذُّكُورَ وَيُقْسَمُ عَلَى أَعْلَى أَوَّلِ دَرَجَةٍ اُخْتُلِفَ فِيهَا ذُكُورَةً وَأُنُوثَةً فِي أَوْلَادِهِمْ، وَيَجْعَلُ الذُّكُورَ طَائِفَةً وَالْإِنَاثَ طَائِفَةً أُخْرَى حَسْبَمَا سَبَقَ، وَكَذَلِكَ مَا أَصَابَ الْإِنَاثَ يُعْطِي فُرُوعَهُنَّ، إِنْ لَمْ تَخْتَلِفِ الْأُصُولُ الَّتِي بَيْنَهُمَا، فَإِنِ اخْتَلَفَتْ يَجْمَعُ مَا أَصَابَهُنَّ وَيُقْسَمُ عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ وَهَكَذَا يَكُونُ الْحَالُ.

هَذَا وَإِنَّ مَشَايِخَ بُخَارَى أَخَذُوا بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ- رحمه الله- (فِي مَسَائِلِ ذَوِي الْأَرْحَامِ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ.

الصِّنْفُ الثَّانِي:

86- وَهُمُ الرَّحِمِيُّونَ مِنَ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ، وَالْحُكْمُ فِي تَوْرِيثِهِمْ أَنَّ أَوْلَاهُمْ بِالْمِيرَاثِ أَقْرَبُهُمْ إِلَى الْمَيِّتِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ، مِنْ جِهَةِ الْأَبِ أَوِ الْأُمِّ، فَأَبُو الْأُمِّ أَوْلَى مِنْ أَبِي أُمِّ الْأُمِّ.

وَعِنْدَ الِاسْتِوَاءِ فِي دَرَجَاتِ الْقُرْبِ يُقَدَّمُ مَنْ يُدْلِي بِوَارِثٍ عَلَى مَنْ لَا يُدْلِي بِوَارِثٍ عِنْدَ أَبِي سَهْلٍ الْفَرْضِيِّ وَأَبِي فَضْلٍ الْخِفَافِ وَعَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْبَصْرِيِّ؛ إِذْ عِنْدَهُمْ يَكُونُ أَبُو أُمِّ الْأُمِّ أَوْلَى مِنْ أَبِي أَبِي الْأُمِّ، لِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي الدَّرَجَةِ، لَكِنَّ أَبَا أُمِّ الْأُمِّ يُدْلِي بِوَارِثٍ، وَهِيَ الْجَدَّةُ الصَّحِيحَةُ (أُمُّ الْأُمِّ) وَالثَّانِي يُدْلِي بِغَيْرِ وَارِثٍ، وَهُوَ الْجَدُّ الرَّحِمِيُّ أَبُو الْأُمِّ، وَهُوَ لَا يَرِثُ مَعَ الْأُمِّ.

وَعِنْدَ أَبِي سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيِّ وَأَبِي عَلِيٍّ الْبُسْتِيِّ لَا تَفْضِيلَ لِمَنْ يُدْلِي بِوَارِثٍ عَلَى مَنْ لَا يُدْلِي بِوَارِثٍ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ أَثْلَاثًا: ثُلُثَاهُ لِأَبِي أَبِي الْأُمِّ، وَثُلُثُهُ لِأَبِي أُمِّ الْأُمِّ، مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ التَّرْجِيحَ فِي هَؤُلَاءِ بِالْإِدْلَاءِ بِوَارِثٍ يُؤَدِّي إِلَى جَعْلِ الْأَصْلِ- وَهُوَ الْجَدُّ وَالْجَدَّةُ- تَابِعًا لِلْفَرْعِ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْقُولِ.

87- وَإِنِ اسْتَوَتْ دَرَجَاتُهُمْ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، وَلَيْسَ فِيهِمْ مَعَ ذَلِكَ مَنْ يُدْلِي بِوَارِثٍ كَأَبِي أَبِي أُمِّ الْأَبِ، وَأُمِّ أَبِي أُمِّ الْأَبِ، أَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ يُدْلُونَ بِوَارِثٍ، كَأَبِي أُمِّ أَبِي أَبِي الْأَبِ، وَأَبِي أُمِّ أُمِّ أُمِّ الْأَبِ، وَاتَّفَقَتْ صِفَةُ مَنْ يُدْلُونَ بِهِمْ فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، فَإِنَّ الْجَدَّ وَالْجَدَّةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُتَّحِدَانِ فِيمَنْ يُدْلِيَانِ بِهِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ اخْتِلَافٌ فِي صِفَةِ الْمُدْلَى بِهِ، فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ حِينَئِذٍ عَلَى أَشْخَاصِهِمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَيَكُونُ لِأَبِي أَبِي أُمِّ الْأَبِ الثُّلُثَانِ، وَلِأَبِي أَبِي أُمِّ الْأَبِ الثُّلُثُ.

وَإِنِ اسْتَوَتِ الدَّرَجَةُ وَاخْتَلَفَتْ صِفَةُ مَنْ يُدْلُونَ بِهِمْ فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، كَأَبِي أُمِّ أَبِي أَبِي الْأَبِ وَأَبِي أُمِّ أُمِّ أُمِّ الْأَبِ، يُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى أَوَّلِ بَطْنٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ، كَمَا فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ، فَيَجْعَلُ لِلذَّكَرِ مِثْلَ ضِعْفِ نَصِيبِ الْأُنْثَى، وَيَتْبَعُ مَا اتُّبَعَ فِي تَوْرِيثِ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ.

88- وَإِنِ اخْتَلَفَتْ قَرَابَتُهُمْ مَعَ اسْتِوَاءِ دَرَجَاتِهِمْ، كَمَا إِذَا تَرَكَ أُمَّ أَبِي أُمِّ أَبِي الْأَبِ، وَأُمَّ أَبِي أَبِي أَبِي الْأُمِّ، فَالثُّلُثَانِ لِقَرَابَةِ الْأَبِ وَهُوَ نَصِيبُ الْأَبِ، وَالثُّلُثُ لِقَرَابَةِ الْأُمِّ، لِأَنَّ الَّذِينَ يُدْلُونَ بِالْأَبِ يَقُومُونَ مَقَامَهُ، وَالَّذِينَ يُدْلُونَ بِالْأُمِّ يَقُومُونَ مَقَامَهَا، فَيَجْعَلُ الْمَالَ أَثْلَاثًا، كَأَنَّهُ تَرَكَ أَبًا وَأُمًّا.ثُمَّ مَا أَصَابَ كُلَّ فَرِيقٍ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ، كَمَا لَوِ اتَّحَدَتْ قَرَابَتُهُمْ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يُقْسَمُ الثُّلُثَانِ عَلَى قَرَابَةِ الْأَبِ، وَالثُّلُثُ عَلَى قَرَابَةِ الْأُمِّ.وَالضَّابِطُ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ اسْتِوَاءٌ فِي الدَّرَجَةِ أَوْ لَا.فَإِنْ لَمْ يَكُنِ اسْتِوَاءٌ فَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوْلَى بِالْمِيرَاثِ، وَإِنْ وُجِدَ اسْتِوَاءٌ فِي الدَّرَجَةِ فَإِمَّا أَنْ تَتَّحِدَ الْقَرَابَةُ أَوْ تَخْتَلِفَ، فَإِنِ اخْتَلَفَتْ يُقْسَمُ الْمَالُ أَثْلَاثًا.وَإِنِ اتَّحَدَتْ: فَإِنِ اتَّفَقَتْ صِفَةُ الْأُصُولِ فَالْقِسْمَةُ عَلَى أَشْخَاصِ الْفُرُوعِ.وَإِنْ لَمْ تَتَّفِقْ يُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى الْخِلَافِ كَمَا فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ.

الصِّنْفُ الثَّالِثُ:

89- وَهُمْ أَوْلَادُ الْأَخَوَاتِ، وَبَنَاتُ الْإِخْوَةِ مُطْلَقًا، وَبَنُو الْإِخْوَةِ لِأُمٍّ.

وَالْحُكْمُ فِيهِمْ أَنَّ أَوْلَاهُمْ بِالْمِيرَاثِ أَقْرَبُهُمْ دَرَجَةً إِلَى الْمَيِّتِ، فَبِنْتُ الْأُخْتِ أَوْلَى مِنِ ابْنِ بِنْتِ الْأَخِ، لِقُرْبِهَا، وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي دَرَجَةِ الْقُرْبِ فَوَلَدُ الْعَصَبَةِ أَوْلَى مِنْ وَلَدِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، كَبِنْتِ ابْنِ الْأَخِ، وَابْنِ بِنْتِ الْأُخْتِ، سَوَاءٌ أَكَانَ كِلَاهُمَا لِأَبٍ وَأُمٍّ، أَمْ لِأَبٍ، أَمْ مُخْتَلِفَيْنِ، فَالْمَالُ كُلُّهُ لِبِنْتِ ابْنِ الْأَخِ، لِأَنَّهَا وَلَدُ الْعَصَبَةِ.وَإِنْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِنْتَ ابْنِ الْأَخِ، وَابْنَ الْأَخِ لِأُمٍّ، كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِاعْتِبَارِ الْأَشْخَاصِ.لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَوَارِيثِ تَفْضِيلُ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى، وَإِنَّمَا تُرِكَ هَذَا الْأَصْلُ فِي أَوْلَادِ الْأُمِّ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَهُوَ قوله تعالى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} وَمَا كَانَ مَخْصُوصًا عَنِ الْقِيَاسِ لَا يَلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ.وَلَيْسَ أَوْلَادُ هَؤُلَاءِ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إِذْ لَا يَرِثُونَ بِالْفَرْضِيَّةِ شَيْئًا، فَيَجْرِي فِيهِمْ ذَلِكَ الْأَصْلُ وَهُوَ أَنَّ لِلذَّكَرِ ضِعْفَ الْأُنْثَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ تَوْرِيثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ بِمَعْنَى الْعُصُوبَةِ، فَيَفْضُلُ فِيهِ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى، كَمَا فِي حَقِيقَةِ الْعُصُوبَةِ.

وَعِنْدَ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ: الْمَالُ بَيْنَهُمَا مُنَاصَفَةً بِاعْتِبَارِ الْأُصُولِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمَا لِلْمِيرَاثِ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَا تَفْضِيلَ لِلذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى أَصْلاً، بَلْ رُبَّمَا تَفْضُلُ الْأُنْثَى عَلَيْهِ، فَإِنَّ أُمَّ الْأُمِّ صَاحِبَةُ فَرْضٍ بِخِلَافِ أَبِي الْأُمِّ، فَإِنْ لَمْ تَفْضُلِ الْأُنْثَى هُنَا فَلَا أَقَلَّ مِنَ التَّسَاوِي.

90- وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْقُرْبِ وَلَيْسَ بَعْضُهُمْ وَلَدَ الْعَصَبَةِ، وَبَعْضُهُمْ وَلَدُ ذَوِي الْأَرْحَامِ، كَأَنْ يَكُونَ الْكُلُّ أَوْلَادَ الْعَصَبَةِ، كَبِنْتِ أَخٍ شَقِيقٍ، وَبِنْتِ أَخٍ لِأَبٍ، أَوْ يَكُونَ الْكُلُّ أَوْلَادَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، كَثَلَاثَةِ أَوْلَادِ ثَلَاثِ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، أَوْ يَكُونَ الْكُلُّ أَوْلَادَ ذِي الرَّحِمِ كَبِنْتِ بِنْتِ أَخٍ، وَابْنِ بِنْتِ أَخٍ آخَرَ، أَوْ يَكُونَ الْبَعْضُ وَلَدَ الْعَصَبَةِ، وَالْبَعْضُ الْآخَرُ وَلَدَ صَاحِبِ الْفَرْضِ، كَثَلَاثِ بَنَاتِ ثَلَاثَةِ إِخْوَةٍ مُفْتَرِقِينَ، فَأَبُو يُوسُفَ- رحمه الله- (يَعْتَبِرُ الْأَقْوَى فِي الْقَرَابَةِ، فَعِنْدَهُ يَجْعَلُ الْمَالَ أَوَّلاً لِأَوْلَادِ بَنِي الْأَعْيَانِ، ثُمَّ لِأَوْلَادِ بَنِي الْعَلاَّتِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ أَوْلَادُ بَنِي الْأَعْيَانِ، ثُمَّ لِأَوْلَادِ بَنِي الْأَخْيَافِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ أَوْلَادُ بَنِي الْعَلاَّتِ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.

91- وَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الْأَقْوَى بِأَنْ يَتَسَاوَوْا فِي الْقُوَّةِ، يُقْسَمُ الْمَالُ بَيْنَ أَبْدَانِهِمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَمُحَمَّدٌ- رحمه الله- (يُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، كَمَا لَوْ كَانُوا هُمُ الْوَرَثَةَ دُونَ فُرُوعِهِمْ، مَعَ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْفُرُوعِ وَالْجِهَاتِ فِي الْأُصُولِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ- رحمه الله- (، ثُمَّ يُقْسَمُ مَا أَصَابَ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْ تِلْكَ الْأُصُولِ بَيْنَ فُرُوعِهِمْ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ، مِثَالُ ذَلِكَ: لَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنَاتِ إِخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ وَثَلَاثَ بَنِينَ وَثَلَاثَ بَنَاتٍ مِنْ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ بِهَذِهِ الصُّورَةِ:

مَيِّتٌ

1- بِنْتُ أَخٍ لِأَبَوَيْنِ

2- ابْنٌ وَبِنْتُ أُخْتٍ لِأَبَوَيْنِ

3- بِنْتُ أَخٍ لِأَبٍ

4- ابْنٌ وَبِنْتُ أُخْتٍ لِأَبٍ

5- بِنْتُ أَخٍ لِأُمٍّ

6- ابْنٌ وَبِنْتُ أُخْتٍ لِأُمٍّ

عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ- رحمه الله- (يُقْسَمُ كُلُّ الْمَالِ بَيْنَ فُرُوعِ بَنِي الْأَعْيَانِ، ثُمَّ بَيْنَ فُرُوعِ بَنِي الْعَلاَّتِ، ثُمَّ بَيْنَ فُرُوعِ بَنِي الْأَخْيَافِ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أَرْبَاعًا، بِاعْتِبَارِ أَبْدَانِ الْفُرُوعِ وَصِفَاتِهِمْ، فَيُعْطِي بِنْتَ الْأَخِ لِأَبَوَيْنِ النِّصْفَ، وَبِنْتَ الْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ الرُّبُعَ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فُرُوعُ بَنِي الْأَعْيَانِ، يُقْسَمُ عَلَى فُرُوعِ بَنِي الْعَلاَّتِ.أَرْبَاعًا أَيْضًا بِاعْتِبَارِ أَبْدَانِهِمْ، لِابْنِ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ النِّصْفُ، وَلِبِنْتِ الْأَخِ مِنَ الْأَبِ الرُّبُعُ، وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ الرُّبُعُ.فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فُرُوعُ بَنِي الْعَلاَّتِ يُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى فُرُوعِ بَنِي الْأَخْيَافِ أَرْبَاعًا أَيْضًا بِاعْتِبَارِ الْأَبْدَانِ، وَقَدَّمَ أَوْلَادَ بَنِي الْعَلاَّتِ عَلَى أَوْلَادِ بَنِي الْأَخْيَافِ، لِأَنَّ قَرَابَةَ الْأَبِ أَقْوَى مِنْ قَرَابَةِ الْأُمِّ، فَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى رَأْيِهِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَمِنْهَا تَصِحُّ.وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ- رحمه الله- (يُقْسَمُ ثُلُثُ الْمَالِ بَيْنَ فُرُوعِ بَنِي الْأَخْيَافِ عَلَى السَّوِيَّةِ أَثْلَاثًا، لِاسْتِوَاءِ أُصُولِهِمْ فِي الْقِسْمَةِ، فَإِذَا اُعْتُبِرَ عَدَدُ الْفُرُوعِ فِي الْأُخْتِ، صَارَتْ كَأَنَّهَا أُخْتَانِ لِأُمٍّ، فَتَأْخُذُ هِيَ ثُلُثَيِ الْمَالِ وَيَأْخُذُ الْأَخُ لِأُمٍّ ثُلُثَهُ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ مَا أَصَابَ الْأَخَ، وَهُوَ تُسْعُ الْمَالِ لِبِنْتِهِ، وَمَا أَصَابَ الْأُخْتَ وَهُوَ تُسْعُ الْمَالِ إِلَى ابْنِهَا وَابْنَتِهَا بِالسَّوِيَّةِ، وَثُلُثَا الْمَالِ يُقْسَمُ بَيْنَ بَنِي الْأَعْيَانِ أَنْصَافًا، بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الْفُرُوعِ فِي الْأُصُولِ، نِصْفُهُ لِبِنْتِ الْأَخِ نَصِيبُ أَبِيهَا، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ وَلَدَيِ الْأُخْتِ الْمُقَدَّرَةِ بِأُخْتَيْنِ أَثْلَاثًا، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، بِاعْتِبَارِ الْأَبْدَانِ، وَلَا شَيْءَ لِفُرُوعِ بَنِي الْعَلاَّتِ، لِأَنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ بِبَنِي الْأَعْيَانِ كَمَا سَبَقَ، فَتَصِحُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ- رحمه الله- (مِنْ تِسْعَةٍ، ثَلَاثَةٌ مِنْهَا لِفُرُوعِ بَنِي الْأَخْيَافِ الثَّلَاثَةِ بِالسَّوِيَّةِ، وَثَلَاثَةٌ لِبِنْتِ الْأَخِ لِأَبَوَيْنِ، وَثَلَاثَةٌ لِوَلَدَيِ الْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.

الصِّنْفُ الرَّابِعُ:

92- هُوَ الَّذِي يَنْتَسِبُ إِلَى أَحَدِ جَدَّيِ الْمَيِّتِ أَوْ جَدَّتَيْهِ، وَهُمُ الْعَمَّاتُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْأَعْمَامُ لِأُمٍّ، وَالْأَخْوَالُ وَالْخَالَاتُ مُطْلَقًا.

وَالْحُكْمُ فِيهِمْ: أَنَّهُ إِذَا انْفَرَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ اسْتَحَقَّ الْمَالَ كُلَّهُ، لِعَدَمِ الْمُزَاحِمِ.فَإِذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ عَمَّةً وَاحِدَةً، أَوْ عَمًّا وَاحِدًا لِأُمٍّ، أَوْ خَالاً وَاحِدًا، أَوْ خَالَةً وَاحِدَةً، كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْوَاحِدِ الْمُنْفَرِدِ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ الْأَصْنَافِ.

فَإِذَا اجْتَمَعُوا، وَكَانُوا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، كَالْأَعْمَامِ لِأُمٍّ، وَالْعَمَّاتِ (فَإِنَّهُمْ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ)، أَوِ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ (فَإِنَّهُمْ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ)، فَالْحُكْمُ فِيهِمْ: أَنَّ الْأَقْوَى مِنْهُمْ فِي الْقَرَابَةِ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ إِجْمَاعًا، فَمَنْ كَانَ شَقِيقًا فَهُوَ أَوْلَى مِمَّنْ كَانَ لِأَبٍ.وَمَنْ كَانَ لِأَبٍ فَهُوَ أَوْلَى مِمَّنْ كَانَ لِأُمٍّ.وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْأَقْرَبُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، فَعَمَّةٌ شَقِيقَةٌ أَوْلَى مِنْ عَمَّةٍ لِأَبٍ أَوْ عَمَّةٍ لِأُمٍّ أَوْ عَمٍّ لِأُمٍّ، لِقُوَّةِ قَرَابَتِهَا، وَكَذَا الْخَالُ أَوِ الْخَالَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ.

93- وَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَاتَّحَدَتْ جِهَةُ الْقَرَابَةِ، وَاسْتَوَتْ قَرَابَتُهُمْ فِي الْقُوَّةِ، بِأَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ أَشِقَّاءَ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ، كَانَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، كَعَمٍّ وَعَمَّةٍ كِلَاهُمَا لِأُمٍّ.أَوْ خَالٍ وَخَالَةٍ كِلَاهُمَا شَقِيقٌ، أَوْ لِأَبٍ، أَوْ لِأُمٍّ، لِأَنَّ الْعَمَّ وَالْعَمَّةَ مُتَّحِدَانِ فِي الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْأَبُ، وَكَذَلِكَ أَصْلُ الْخَالِ وَالْخَالَةِ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْأُمُّ.وَمَتَى اتَّفَقَ الْأَصْلُ فَالْعِبْرَةُ فِي الْقِسْمَةِ بِالْأَشْخَاصِ عِنْدَ الْجَمِيعِ.

94- وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَةُ قَرَابَتِهِمْ، بِأَنْ كَانَتْ قَرَابَةُ بَعْضِهِمْ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ، وَقَرَابَةُ بَعْضِهِمْ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ فَلَا اعْتِبَارَ لِقُوَّةِ الْقَرَابَةِ.فَإِذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ عَمَّةً شَقِيقَةً وَخَالَةً لِأُمٍّ، أَوْ خَالاً شَقِيقًا وَعَمَّةً لِأُمٍّ، فَالثُّلُثَانِ- وَهُوَ نَصِيبُ الْأَبِ- لِقَرَابَةِ الْأَبِ، وَالثُّلُثُ- وَهُوَ نَصِيبُ الْأُمِّ- لِقَرَابَةِ الْأُمِّ.

كَيْفِيَّةُ تَوْرِيثِ أَوْلَادِ الصِّنْفِ الرَّابِعِ:

95- الْحُكْمُ السَّابِقُ فِي تَوْرِيثِ الصِّنْفِ الرَّابِعِ لَا يَسْرِي عَلَى أَوْلَادِهِمْ، لِأَنَّ أَوْلَى الْأَوْلَادِ بِالْمِيرَاثِ أَقْرَبُهُمْ إِلَى الْمَيِّتِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ، فَبِنْتُ الْعَمَّةِ أَوِ ابْنُهَا أَوْلَى مِنْ بِنْتِ بِنْتِ الْعَمَّةِ وَابْنِ بِنْتِهَا، لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْمَيِّتِ.

وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْقُرْبِ إِلَى الْمَيِّتِ، وَكَانَتْ جِهَةُ قَرَابَتِهِمْ مُتَّحِدَةً، بِأَنْ تَكُونَ قَرَابَةُ الْكُلِّ مِنْ جَانِبِ أَبِي الْمَيِّتِ، أَوْ مِنْ جَانِبِ أُمِّهِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ قُوَّةُ الْقَرَابَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ قُوَّةُ الْقَرَابَةِ، فَإِذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ ثَلَاثَةَ أَوْلَادِ عَمَّاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ لِوَلَدِ الْعَمَّةِ الشَّقِيقَةِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَلِوَلَدِ الْعَمَّةِ لِأَبٍ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَلِوَلَدِ الْعَمَّةِ لِأُمٍّ، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي أَوْلَادِ أَخْوَالٍ مُتَفَرِّقِينَ، أَوْ خَالَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ.

96- وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْقَرَابَةِ بِحَسَبِ الدَّرَجَةِ وَقُوَّةِ الْقَرَابَةِ، وَكَانَتْ جِهَةُ الْقَرَابَةِ مُتَّحِدَةً، بِأَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مِنْ جِهَةِ أَبِي الْمَيِّتِ أَوْ جِهَةِ أُمِّهِ، فَوَلَدُ الْعَصَبَةِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، كَبِنْتِ الْعَمِّ وَابْنِ الْعَمَّةِ الشَّقِيقَةِ، أَوْ لِأَبٍ، أَوْ لِأُمٍّ، فَالْمَالُ كُلُّهُ لِبِنْتِ الْعَمِّ، لِأَنَّهَا وَلَدُ الْعَصَبَةِ، دُونَ ابْنِ الْعَمَّةِ، لِأَنَّهُ وَلَدُ رَحِمٍ.

وَإِنْ كَانَ الْعَمُّ أَوِ الْعَمَّةُ شَقِيقًا، وَالْآخَرُ لِأَبٍ، كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ لِبِنْتِ الْعَمِّ الشَّقِيقِ، لِقُوَّةِ الْقَرَابَةِ، فَلَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ ابْنَ عَمَّةٍ شَقِيقَةٍ، وَبِنْتَ عَمٍّ لِأَبٍ، فَالْمَالُ كُلُّهُ لِابْنِ الْعَمَّةِ الشَّقِيقَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِقُوَّةِ قَرَابَتِهِ دُونَ بِنْتِ الْعَمِّ، وَإِنْ كَانَتْ بِنْتَ وَارِثٍ.

وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ، بِنَاءً عَلَى رِوَايَةٍ غَيْرِ ظَاهِرَةٍ، الْمَالُ كُلُّهُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ لِبِنْتِ الْعَمِّ لِأَبٍ، لِأَنَّهَا وَلَدُ الْعَصَبَةِ، بِخِلَافِ ابْنِ الْعَمَّةِ، فَإِنَّهُ وَلَدُ ذَاتِ رَحِمٍ.

97- وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْقُرْبِ، وَاخْتَلَفَتْ جِهَةُ قَرَابَتِهِمْ، بِأَنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ، وَبَعْضُهُمْ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ، فَلَا اعْتِبَارَ لِقُوَّةِ الْقَرَابَةِ وَلَا لِوَلَدِ الْعَصَبَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَلَا يَكُونُ وَلَدُ الْعَمَّةِ الشَّقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ وَلَدِ الْخَالِ الشَّقِيقِ أَوِ الْخَالَةِ الشَّقِيقَةِ، لِعَدَمِ اعْتِبَارِ قُوَّةِ قَرَابَةِ وَلَدِ الْعَمَّةِ.وَكَذَا بِنْتُ الْعَمِّ الشَّقِيقِ لَيْسَتْ أَوْلَى مِنْ بِنْتِ الْخَالِ أَوِ الْخَالَةِ الشَّقِيقَةِ، لِعَدَمِ اعْتِبَارِ كَوْنِ بِنْتِ الْعَمِّ وَلَدَ عَصَبَةٍ، لَكِنْ يُقْسَمُ الْمِيرَاثُ بِاعْتِبَارِ الثُّلُثَيْنِ لِقَرَابَةِ الْأَبِ، وَالثُّلُثِ لِقَرَابَةِ الْأُمِّ، لِقِيَامِ قَرَابَةِ الْأَبِ مَقَامَهُ وَقَرَابَةِ الْأُمِّ مَقَامَهَا.

ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مَا أَصَابَ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ أَوْ جِهَةِ الْأُمِّ، يُقْسَمُ عَلَى أَشْخَاصِ فُرُوعِهِمْ مَعَ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْجِهَاتِ فِي الْفُرُوعِ.

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى أَوَّلِ بَطْنٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ، مَعَ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْفُرُوعِ وَالْجِهَاتِ فِي الْأُصُولِ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ وَهَكَذَا.

هَذِهِ هِيَ أَحْكَامُ تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ فِي مَذْهَبِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ

مَذْهَبُ أَهْلِ التَّنْزِيلِ:

98- مَعْنَى التَّنْزِيلِ:

أَنَّ مَنْ أَدْلَى مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ إِلَى الْمَيِّتِ بِوَارِثٍ قَامَ مَقَامَ ذَلِكَ الْوَارِثِ، فَوَلَدُ الْبَنَاتِ، وَوَلَدُ بَنَاتِ الِابْنِ، وَوَلَدُ الْأَخَوَاتِ مُطْلَقًا كَأُمَّهَاتِهِمْ.وَبَنَاتُ الْإِخْوَةِ، وَبَنَاتُ الْأَعْمَامِ الْأَشِقَّاءِ، أَوْ لِأَبٍ، وَبَنَاتُ بَنِيهِمْ، وَأَوْلَادُ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ، وَأَوْلَادُ الْأَعْمَامِ لِأُمٍّ كَآبَائِهِمْ.وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِهِ عَلْقَمَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ.

وَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ، وَاسْتَثْنَيَا مِنْ هَذَا الْأَصْلِ مَسْأَلَتَيْنِ:

1- أَنَّهُمَا نَزَّلَا الْخَالَ وَالْخَالَةَ وَلَوْ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ مَنْزِلَةَ الْأُمِّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَنَزَّلَا جَدَّ الْمَيِّتِ لِأُمٍّ مَنْزِلَةَ الْأُمِّ عَلَى الْأَصَحِّ.

2- نَزَّلَا الْأَعْمَامَ لِأُمٍّ وَالْعَمَّةَ مُطْلَقًا مَنْزِلَةَ الْأَبِ عَلَى الْأَصَحِّ.

وَقَدْ رَجَّحَ الْإِمَامَانِ مَذْهَبَ أَهْلِ التَّنْزِيلِ، لِأَنَّهُ مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْقَائِلِينَ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، فَلَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ بِنْتَ بِنْتٍ، وَبِنْتَ بِنْتِ ابْنٍ، فَعَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ الْمَالُ بَيْنَهُمَا: ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِبِنْتِ الْبِنْتِ، وَرُبُعُهُ لِبِنْتِ بِنْتِ الِابْنِ فَرْضًا وَرَدًّا. 99- وَمَذْهَبُ أَهْلِ التَّنْزِيلِ كَمَذْهَبِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ فِي أَنَّ مَنِ انْفَرَدَ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ يَأْخُذُ جَمِيعَ التَّرِكَةِ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى.

لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ يَظْهَرُ فِي اجْتِمَاعِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، فَأَهْلُ التَّنْزِيلِ حِينَئِذٍ يَجْعَلُونَ الْفُرُوعَ قَائِمِينَ مَقَامَ أُصُولِهِمْ، وَيَأْخُذُونَ أَنْصِبَتَهُمْ.فَإِنْ أَدْلَوْا بِعَاصِبٍ أَخَذُوا نَصِيبَهُ تَعْصِيبًا.وَإِنْ أَدْلَوْا بِذِي فَرْضٍ أَخَذُوا نَصِيبَهُ فَرْضًا وَرَدًّا، وَيُقْسَمُ عَلَى الْجَمِيعِ بِالتَّسَاوِي بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، لِأَنَّهُمْ يَرِثُونَ بِالرَّحِمِ الْمُجَرَّدِ، فَيَسْتَوُونَ كَأَوْلَادِ الْأُمِّ.وَذَهَبَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الذَّكَرَ يَأْخُذُ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.

فَفِي بِنْتِ بِنْتٍ، وَابْنٍ، وَبِنْتٍ مِنْ بِنْتٍ أُخْرَى، إِذَا رُفِعُوا دَرَجَةً صَارُوا فِي مَنْزِلَةِ بِنْتَيْنِ، فَتَكُونُ التَّرِكَةُ مُنَاصَفَةً، تَأْخُذُ بِنْتُ الْبِنْتِ نِصْفَهَا، وَيَأْخُذُ الِابْنُ وَالْبِنْتُ النِّصْفَ الْآخَرَ، فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.وَعِنْدَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ تَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ، لِأَنَّ أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةٌ.وَذَلِكَ فِي غَيْرِ أَوْلَادِ الْأُمِّ لِأَنَّهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي النَّصِيبِ بِالنَّصِّ.

مَذْهَبُ أَهْلِ الرَّحِمِ:

100- هُمُ الَّذِينَ يُسَوُّونَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ فِي التَّوْرِيثِ، فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ صِنْفٍ وَصِنْفٍ، وَلَا بَيْنَ دَرَجَةٍ وَدَرَجَةٍ، وَلَا بَيْنَ قَرَابَةٍ قَوِيَّةٍ وَأُخْرَى ضَعِيفَةٍ.

فَلَوْ كَانَ لِلْمُتَوَفَّى بِنْتُ أُخْتٍ، وَبِنْتُ بِنْتٍ، فَإِنَّ الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ، وَلَوْ تَرَكَ ابْنَ أُخْتٍ، وَبِنْتَ ابْنِ أَخٍ، فَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْمِيرَاثِ هُوَ الرَّحِمُ، وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْجَمِيعِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ، وَتَحَقُّقُهَا فِي الْجَمِيعِ بِقَدْرٍ مُشْتَرَكٍ، فَثَبَتَ الْمِيرَاثُ لِلْجَمِيعِ بِالتَّسَاوِي.وَلَقَدْ كَانَ مِنْ أَنْصَارِ هَذَا الرَّأْيِ حَسَنُ بْنُ مُيَسَّرٍ وَنُوحُ بْنُ ذُرَاحٍ، وَلَمْ يَأْخُذْ هَذَا الرَّأْيَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ.

إِرْثُ ذَوِي الْأَرْحَامِ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ:

101- لَا خِلَافَ بَيْنَ مَنْ وَرَّثُوا ذَوِي الْأَرْحَامِ فِي أَنَّهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا نَصِيبُهُ كَامِلاً، فَلَا يُحْجَبُ الزَّوْجُ مِنَ النِّصْفِ إِلَى الرُّبُعِ، وَلَا تُحْجَبُ الزَّوْجَةُ مِنَ الرُّبُعِ إِلَى الثُّمُنِ بِأَحَدٍ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ.وَذَلِكَ لِأَنَّ فَرْضَ الزَّوْجَيْنِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ، وَإِرْثُ ذَوِي الْأَرْحَامِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فَلَا يُعَارِضُهُ.وَمَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ يَكُونُ لِذَوِي الْأَرْحَامِ.

102- لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْرِيثِهِمْ: فَقَالَ أَهْلُ الْقَرَابَةِ: يُخْرَجُ نَصِيبُ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ أَوَّلاً، ثُمَّ يُقْسَمُ الْبَاقِي عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ، كَمَا يُقْسَمُ عَلَى الْجَمِيعِ لَوِ انْفَرَدُوا.

وَلِأَهْلِ التَّنْزِيلِ مَذْهَبَانِ: أَصَحُّهُمَا مَا قَالَهُ أَهْلُ الْقَرَابَةِ: رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُمْ يَرِثُونَ مَا فَضَلَ كَمَا يَرِثُونَ الْمَالَ إِذَا انْفَرَدُوا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيِّ وَعَامَّةِ مَنْ وَرَّثَهُمْ.

وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى نِسْبَةِ سِهَامِ الَّذِينَ يُدْلِي بِهِمْ ذَوُو الْأَرْحَامِ مِنَ الْوَرَثَةِ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ يَحْيَى بْنِ آدَمَ وَضِرَارٍ.وَيُعْرَفُ الْقَائِلُونَ بِالْأَوَّلِ بِأَصْحَابِ: (اعْتِبَارِ مَا بَقِيَ).وَالْقَائِلُونَ بِالثَّانِي بِأَصْحَابِ: (اعْتِبَارِ الْأَصْلِ).وَلَا خِلَافَ فِي التَّوْرِيثِ إِذَا كَانَ ذَوُو الْأَرْحَامِ يُدْلُونَ بِذِي فَرْضٍ فَقَطْ، أَوْ بِعَصَبَةٍ فَقَطْ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الْخِلَافُ إِذَا كَانَ بَعْضُهُمْ يُدْلِي بِعَصَبَةٍ، وَبَعْضُهُمْ يُدْلِي بِذِي فَرْضٍ.فَلَوْ مَاتَتِ امْرَأَةٌ، عَنْ زَوْجٍ، وَبِنْتِ بِنْتٍ، وَخَالَةٍ، وَبِنْتِ عَمٍّ شَقِيقٍ أَوْ لِأَبٍ.فَعِنْدَ أَهْلِ الْقَرَابَةِ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْبِنْتِ وَحْدَهَا.وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِبِنْتِ الْبِنْتِ نِصْفُ الْبَاقِي، وَلِلْخَالَةِ سُدُسُ الْبَاقِي، وَلِبِنْتِ الْعَمِّ الْبَاقِي.فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ: لِلزَّوْجِ مِنْهَا سِتَّةٌ، وَلِبِنْتِ الْبِنْتِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْخَالَةِ وَاحِدٌ، وَلِبِنْتِ الْعَمِّ اثْنَانِ.وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: إِذَا نَزَلُوا حَصَلَ مَعَ الزَّوْجِ أُمٌّ، وَعَمٌّ، وَبِنْتٌ بِالتَّنْزِيلِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ بِنْتُ ابْنٍ وَهِيَ كَالْبِنْتِ فِي التَّنْزِيلِ لَا فِي الْحَجْبِ، فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ.يَخْرُجُ نَصِيبُ الزَّوْجِ أَوَّلاً الرُّبُعُ، ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ يَخْرُجُ تَمَامُ نَصِيبِ النِّصْفِ لِلزَّوْجِ لِعَدَمِ الْحَجْبِ الْحَقِيقِيِّ، فَيَبْقَى سِتَّةٌ، تُقْسَمُ عَلَى التِّسْعَةِ، فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِلزَّوْجِ تِسْعَةٌ، وَلِبِنْتِ الْبِنْتِ سِتَّةٌ، وَلِلْخَالَةِ اثْنَانِ، وَلِبِنْتِ الْعَمِّ وَاحِدٌ.

الْمِيرَاثُ مِنْ جِهَتَيْنِ:

103- قَدْ يَكُونُ لِأَحَدِ الْوَرَثَةِ جِهَتَانِ لِلْمِيرَاثِ.فَإِذَا كَانَتِ الْجِهَتَانِ مَعًا مِنْ طَرِيقِ الْعُصُوبَةِ وَرِثَ بِأَقْوَاهِمَا.فَإِذَا مَاتَتِ امْرَأَةٌ عَنِ ابْنٍ، هُوَ ابْنُ ابْنِ عَمٍّ.فَإِنَّ التَّرِكَةَ تَكُونُ لَهُ بِاعْتِبَارِهِ ابْنًا وَلَا شَيْءَ لَهُ بِالْقَرَابَةِ الْأُخْرَى، لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْعُمُومَةِ.

فَإِذَا اخْتَلَفَتْ جِهَتَا إِرْثٍ تَقْتَضِي كُلٌّ مِنْهُمَا الْمِيرَاثَ، وَرِثَ بِالْجِهَتَيْنِ.فَإِذَا مَاتَ شَخْصٌ عَنْ أَخَوَيْنِ لِأُمٍّ، أَحَدُهُمَا ابْنُ عَمٍّ شَقِيقٍ.فَإِنَّ لِلْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثَ فَرْضًا مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا، وَالْبَاقِي يَنْفَرِدُ بِهِ الْأَخُ لِأُمٍّ الَّذِي هُوَ ابْنُ عَمٍّ شَقِيقٍ بِاعْتِبَارِهِ عَاصِبًا فَيَأْخُذُ الْبَاقِيَ.

وَقَدْ يُحْجَبُ الشَّخْصُ عَنِ الْمِيرَاثِ بِإِحْدَى الْجِهَتَيْنِ فَيَرِثُ بِالْأُخْرَى، لِعَدَمِ وُجُودِ حَاجِبٍ لَهُ فِيهَا، كَمَا إِذَا تُوُفِّيَ عَنْ بِنْتٍ، وَابْنَيْ عَمٍّ شَقِيقٍ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ، فَإِنَّ لِلْبِنْتِ النِّصْفَ فَرْضًا، وَالْبَاقِي لِابْنَيِ الْعَمِّ الشَّقِيقِ تَعْصِيبًا مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا، وَلَا شَيْءَ لِابْنِ الْعَمِّ الثَّانِي بِاعْتِبَارِهِ أَخًا لِأُمٍّ، لِأَنَّهُ مَحْجُوبٌ بِالْبِنْتِ.

مِيرَاثُ الْخُنْثَى:

104- الْخُنْثَى لُغَةً: مَنْ لَهُ مَا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا، جَمْعُهُ خَنَاثَى وَخَنَاثٌ.وَالْخَنِثُ كَكَتِفٍ مَنْ فِيهِ انْخِنَاثٌ، أَيْ تَكَسُّرٌ وَتَثَنٍّ.وَقَدْ خَنِثَ كَفَرِحَ وَانْخَنَثَ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: مَنْ لَهُ آلَةُ الرِّجَالِ وَآلَةُ النِّسَاءِ مَعًا.أَوْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْهُمَا أَصْلاً

، فَقَدْ سُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَنْ مِيرَاثِ مَوْلُودٍ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْآلَتَيْنِ وَيَخْرُجُ مِنْ سُرَّتِهِ شِبْهُ بَوْلٍ غَلِيظٍ، فَاعْتَبَرَهُ أُنْثَى. وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى مُشْكِلٍ وَغَيْرِ مُشْكِلٍ.فَاَلَّذِي يَتَبَيَّنُ فِيهِ عَلَامَاتُ الذُّكُورِيَّةِ أَوِ الْأُنُوثِيَّةِ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ فَلَيْسَ بِمُشْكِلٍ، إِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ فِيهِ خِلْقَةٌ زَائِدَةٌ، أَوِ امْرَأَةٌ فِيهَا خِلْقَةٌ زَائِدَةٌ.

105- وَحُكْمُهُ فِي إِرْثِهِ وَسَائِرِ أَحْكَامِهِ: حُكْمُ مَا ظَهَرَتْ عَلَامَاتُهُ فِيهِ.وَيُعْتَبَرُ بِمَبَالِهِ فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْخُنْثَى يُورَثُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ.فَإِنْ بَالَ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ الرَّجُلُ فَهُوَ رَجُلٌ، وَإِنْ بَالَ مِنْ حَيْثُ تَبُولُ الْمَرْأَةُ فَهُوَ امْرَأَةٌ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ: عَلِيٌّ وَمُعَاوِيَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ مَوْلُودٍ لَهُ قُبُلٌ وَذَكَرٌ: مِنْ أَيْنَ يُورَثُ؟ قَالَ: مِنْ حَيْثُ يَبُولُ».وَرُوِيَ أَنَّهُ- عليه السلام- «أُتِيَ بِخُنْثَى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: وَرِّثُوهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَبُولُ مِنْهُ».

وَلِأَنَّ خُرُوجَ الْبَوْلِ أَعَمُّ الْعَلَامَاتِ، لِوُجُودِهَا مِنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ.وَسَائِرُ الْعَلَامَاتِ إِنَّمَا تُوجَدُ بَعْدَ الْكِبَرِ مِثْلَ نَبَاتِ اللِّحْيَةِ، وَتَفَلُّكِ الثَّدْيِ (اسْتِدَارَتُهُ)، وَخُرُوجِ الْمَنِيِّ، وَالْحَيْضِ، وَالْحَبَلِ، وَإِنْ بَالَ مِنْهُمَا جَمِيعًا اُعْتُبِرَ أَسْبَقُهُمَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

فَإِنْ خَرَجَا مَعًا وَلَمْ يَسْبِقْ أَحَدُهُمَا، فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: يَرِثُ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي يَنْزِلُ مِنْهُ أَكْثَرُ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.وَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ.وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عَنْهُ، وَإِنِ اسْتَوَى الْمِقْدَارُ الْخَارِجُ مِنَ الْمَحَلَّيْنِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا عِلْمَ لَنَا بِذَلِكَ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ مُشْكِلاً.

106- فَإِنْ مَاتَ لَهُ مَنْ يَرِثُهُ.فَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: يُوقَفُ الْأَمْرُ حَتَّى يَبْلُغَ، فَيَتَبَيَّنَ فِيهِ عَلَامَاتُ الرِّجَالِ مِنْ نَبَاتِ اللِّحْيَةِ، وَخُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْ ذَكَرِهِ، وَكَوْنِهِ مَنِيَّ رَجُلٍ، أَوْ عَلَامَاتُ النِّسَاءِ مِنَ الْحَيْضِ، وَالْحَبَلِ، وَتَفَلُّكِ الثَّدْيَيْنِ.وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ.

فَإِنِ احْتِيجَ إِلَى قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ أُعْطِي هُوَ وَبَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ الْيَقِينَ، وَوُقِفَ الْبَاقِي إِلَى حِينِ بُلُوغِهِ، فَتَعْمَلُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّهُ ذَكَرٌ ثُمَّ عَلَى أَنَّهُ أُنْثَى، وَيَدْفَعُ إِلَى كُلِّ وَارِثٍ أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ، وَيُوقَفُ الْبَاقِي حَتَّى يَبْلُغَ.

107- وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ بُلُوغِهِ، أَوْ بَلَغَ مُشْكِلاً فَلَمْ تَظْهَرْ فِيهِ عَلَامَةٌ.وَرِثَ نِصْفَ مِيرَاثِ ذَكَرٍ، وَنِصْفَ مِيرَاثِ أُنْثَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالثَّوْرِيِّ وَاللُّؤْلُؤِيِّ وَشَرِيكٍ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَيَحْيَى بْنِ آدَمَ وَضِرَارِ بْنِ صُرَدٍ وَنُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ.وَوَرَّثَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَسْوَأِ حَالَاتِهِ، وَأَعْطَى الْبَاقِيَ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ، وَأَعْطَاهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ مَعَهُ الْيَقِينَ، وَوَقَفَ الْبَاقِي حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ أَوْ يَصْطَلِحَ الْوَرَثَةُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَابْنُ جَرِيرٍ.وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ شَاذَّةٌ غَيْرُ هَذِهِ.

108- وَإِذَا أَخْبَرَ الْخُنْثَى بِحَيْضٍ، أَوْ مَنِيٍّ، أَوْ مَيْلٍ إِلَى الرِّجَالِ أَوِ النِّسَاءِ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَظْهَرَ كَذِبُهُ يَقِينًا، مِثْلَ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّهُ رَجُلٌ، ثُمَّ تَلِدَ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُتْرَكُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ السَّابِقِ.

مِيرَاثُ الْحَمْلِ:

109- الْحَمْلُ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ إِذَا عُلِمَ بِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُورَثِ وَانْفَصَلَ حَيًّا.وَيُعْلَمُ وُجُودُهُ فِي الْبَطْنِ إِذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مُنْذُ مَوْتِ الْمُورَثِ، إِذَا كَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، لِأَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.

وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً، وَجَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ بَائِنٍ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.وَفِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُ أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ أَرْبَعُ سِنِينَ، وَذَلِكَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحَدُ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَهُمْ: أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ خَمْسُ سِنِينَ.وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: سَنَةٌ.

وَدَلِيلُ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَمْلِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فَإِنَّهَا قَالَتْ: «لَا يَبْقَى الْوَلَدُ فِي رَحِمِ أُمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، وَلَوْ بِفَلْكَةِ مِغْزَلٍ».وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْرَفُ قِيَاسًا بَلْ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-

وَدَلِيلُ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَقْصَى الْمُدَّةِ الِاسْتِقْرَاءُ، وَأَنَّ عُمَرَ قَالَ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ: تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ.وَسَبَبُ التَّقْدِيرِ بِالْأَرْبَعِ أَنَّهَا نِهَايَةُ مُدَّةِ الْحَمْلِ.

وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: (وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَرْجُوعٌ فِيهَا إِلَى الْعَادَةِ وَالتَّجْرِبَةِ.وَقَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَقْرَبُ إِلَى الْمُعْتَادِ.وَالْحُكْمُ إِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِالْمُعْتَادِ لَا بِالنَّادِرِ وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِيلاً).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


62-موسوعة الفقه الكويتية (إرث 7)

إِرْثٌ -7

144- ثَالِثًا: مَعْرِفَةُ عَدَدِ سِهَامِ كُلِّ وَارِثٍ مِنَ الْوَرَثَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلتَّرِكَةِ.فَإِذَا كَانَ الْوَارِثُ صَاحِبَ فَرْضٍ، فَعَدَدُ سِهَامِهِ مِنَ التَّرِكَةِ هُوَ النَّاتِجُ مِنْ ضَرْبِ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْكَسْرِ الدَّالِّ عَلَى فَرْضِهِ، فَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ أَبٌ وَأُمٌّ، فَإِنَّ الْأُمَّ تَسْتَحِقُّ الثُّلُثَ، وَيَكُونُ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ هُوَ ثَلَاثَةٌ، وَإِذَا كَانَ عَاصِبًا وَبَقِيَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ التَّرِكَةِ.فَعَدَدُ سِهَامِهِ هُوَ الْبَاقِي مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ طَرْحِ مَجْمُوعِ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ.فَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ زَوْجَةً وَأَبًا، فَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ يَكُونُ أَرْبَعَةً؛ لِأَنَّ الزَّوْجَةَ لَهَا الرُّبُعُ، فَيَكُونُ لَهَا سَهْمٌ، وَلِلْأَبِ الْبَاقِي ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ.

145- رَابِعًا: مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ السَّهْمِ الْوَاحِدِ مِنَ التَّرِكَةِ، وَهُوَ النَّاتِجُ مِنْ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ إِنْ كَانَ مَجْمُوعُ السِّهَامِ مُسَاوِيًا لِأَصْلِ الْمَسْأَلَةِ.فَفِي زَوْجٍ، وَابْنٍ، وَبِنْتٍ، يَكُونُ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَرْبَعَةٍ: لِلزَّوْجِ سَهْمٌ، وَلِلْبِنْتِ سَهْمٌ، وَلِلِابْنِ سَهْمَانِ.

146- خَامِسًا: مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ نَصِيبِ كُلِّ وَارِثٍ مِنَ التَّرِكَةِ، وَهُوَ النَّتِيجَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنَ التَّرِكَةِ.وَهُوَ النَّاتِجُ مِنْ ضَرْبِ مِقْدَارِ السَّهْمِ الْوَاحِدِ مِنَ التَّرِكَةِ فِي عَدَدِ سِهَامِ كُلِّ وَارِثٍ.

ثُمَّ إِذَا جَمَعْتَ سِهَامَ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ عَدَدِ سِهَامِ كُلِّ وَارِثٍ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ حَسَبَ الطَّرِيقَةِ السَّابِقَةِ، وَقَارَنْتَ مَجْمُوعَ تِلْكَ السِّهَامِ بِأَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، فَلَا يَخْلُو الْحَالُ مِنْ أَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ:

أ- أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ السِّهَامِ مُسَاوِيًا لِأَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْمَسْأَلَةُ عَادِلَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ يَأْخُذُ نَصِيبَهُ مِنَ التَّرِكَةِ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، كَمَا فِي زَوْجٍ، وَأُخْتٍ شَقِيقَةٍ.

ب- أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ أَكْثَرَ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْمَسْأَلَةُ عَائِلَةً، كَمَا فِي زَوْجٍ، وَأُخْتَيْنِ شَقِيقَتَيْنِ، أَوْ لِأَبٍ.

ج- أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ سِهَامِ الْفُرُوضِ أَقَلَّ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يُوجَدْ عَاصِبٌ نَسَبِيٌّ يَسْتَحِقُّ الْبَاقِيَ مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ سِهَامِ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، وَيُقَالُ لِلْمَسْأَلَةِ حِينَئِذٍ فِيهَا رَدٌّ.وَالْأَمْرَانِ: الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَهُمَا الْعَوْلُ وَالرَّدُّ، بَيَانُهُمَا فِيمَا سَبَقَ.

الْمُلَقَّبَاتُ مِنْ مَسَائِلِ الْمِيرَاثِ:

فِي الْفَرَائِضِ مَسَائِلُ اشْتُهِرَتْ بِأَلْقَابٍ خَاصَّةٍ لِمَا تَقَرَّرَ مِنَ الْقَوَاعِدِ وَالْأَحْكَامِ.مِنْهَا مَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُكْمِهَا، وَمِنْهَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ:

147- أَوَّلًا: الْمُشَرَّكَةُ، أَوِ الْحِمَارِيَّةُ، أَوِ الْحَجَرِيَّةُ، أَوِ الْيَمِّيَّةُ:

وَصُورَتُهَا: امْرَأَةٌ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ، أَوْ أُخْتَيْنِ لِأُمٍّ، أَوْ أَخًا وَأُخْتًا لِأُمٍّ، وَأَخَوَيْنِ شَقِيقَيْنِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهَا الصَّحَابَةُ وَفُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ.

فَمَذْهَبُ الْإِمَامِ عَلِيٍّ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسَ، وَلِلْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثَ، وَلَا شَيْءَ لِلْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ.وَهَذَا هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْأَصَحِّ عَنْهُ.

وَمَذْهَبُ عُثْمَانَ وَزَيْدٍ: أَنَّهُ يُشْرَكُ بَيْنَ الْإِخْوَةِ لِأُمٍّ وَالْأَشِقَّاءِ، فَيُقْسَمُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْجَمِيعِ بِالسَّوِيَّةِ، كَمَا يُسَوَّى بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فِي النَّصِيبِ.

وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ شُرَيْحٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ.

وَكَانَ عُمَرُ- رضي الله عنه- فِي رَأْيِهِ الْأَوَّلِ يَنْفِي التَّشْرِيكَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَتَانِ أَظْهَرُهُمَا التَّشْرِيكُ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رِوَايَتَانِ أَظْهَرُهُمَا عَدَمُ التَّشْرِيكِ.

148- وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةَ التَّشْرِيكِ؛ لِمُشَارَكَةِ أَوْلَادِ الْأَبِ وَالْأُمِّ لِأَوْلَادِ الْأُمِّ فِي الْمِيرَاثِ.كَمَا تُسَمَّى، الْحِمَارِيَّةُ وَالْحَجَرِيَّةُ وَالْيَمِّيَّةُ أَيْضًا.لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا اُسْتُفْتِيَ عُمَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ، أَفْتَى بِعَدَمِ مُشَارَكَةِ الْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِلْإِخْوَةِ لِأُمٍّ فِي الْمِيرَاثِ، فَقَالَ لَهُ الْإِخْوَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ: هَبْ أَنَّ أَبَانَا كَانَ حِمَارًا، وَفِي رِوَايَةٍ حَجَرًا مُلْقًى فِي الْيَمِّ.أَلَسْنَا مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ؟ فَرَجَعَ عَنْ رَأْيِهِ الْأَوَّلِ، وَأَفْتَى بِالتَّشْرِيكِ.وَقِيلَ لَهُ: لَقَدْ أَفْتَيْتَ سَابِقًا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ.فَقَالَ: تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا، وَهَذِهِ عَلَى مَا نَقْضِي.

قَالَ صَاحِبُ الْمَبْسُوطِ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ الرَّأْيَ بِالتَّشْرِيكِ: وَهُوَ «أَيِ الْقَوْلُ بِالتَّشْرِيكِ» الْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ.فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ بِاعْتِبَارِ الْقُرْبِ وَالْإِدْلَاءِ.وَقَدِ اسْتَوَوْا فِي الْإِدْلَاءِ إِلَى الْمَيِّتِ بِالْأُمِّ وَرَجَحَ الْإِخْوَةُ لِأُمٍّ وَأَب بِالْإِدْلَاءِ إِلَيْهِ بِالْأَبِ.فَإِنْ كَانُوا لَا يَتَقَدَّمُونَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَسْتَوُوا بِهِمْ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَقَدَّمُوا لِأَنَّ الْإِدْلَاءَ بِالْأَبِ بِسَبَبِ الْعُصُوبَةِ.وَاسْتِحْقَاقُ الْعَصَبَاتِ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْأَبِ فِي حَقِّهِمْ.وَإِنَّمَا يَبْقَى الْإِدْلَاءُ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.

وَالْقَائِلُونَ بِالتَّشْرِيكِ سَوَّوْا فِي الْمِيرَاثِ بِالنِّسْبَةِ لِأَوْلَادِ الْأُمِّ، وَلِأَوْلَادِ الْأَبِ وَالْأُمِّ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ ثَبَتَ لَهُمْ بِاعْتِبَارِهِمْ أَوْلَادَ أُمٍّ.وَالْحُكْمُ فِيهِمُ الْمُسَاوَاةُ.وَذَلِكَ بَعْدَ قِسْمَةِ الثُّلُثِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مُنَاصَفَةً.

149- وَاسْتَدَلُّوا لِلْقَوْلِ بِالتَّشْرِيكِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا:

أَوَّلًا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعْضُ وَلَدِ الْأُمِّ ابْنَ عَمٍّ يُشَارِكُ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ وَإِنْ سَقَطَتْ عُصُوبَتُهُ، فَبِالْأَوْلَى الْأَخُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ.

ثَانِيًا: أَنَّهَا فَرِيضَةٌ جَمَعَتْ وَلَدَ الْأَبَوَيْنِ وَوَلَدَ الْأُمِّ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ.فَإِذَا وَرِثَ وَلَدُ الْأُمِّ وَرِثَ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا زَوْجٌ.

ثَالِثًا: أَنَّ الْإِرْثَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَقْوَى عَلَى الْأَضْعَفِ.وَأَدْنَى أَحْوَالِ الْأَقْوَى مُشَارَكَتُهُ لِلْأَضْعَفِ، وَلَيْسَ فِي أُصُولِ الْمِيرَاثِ سُقُوطُ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ، وَوَلَدُ الْأَبِ وَالْأُمِّ أَقْوَى مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ.

150- وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ التَّشْرِيكِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: أَوَّلًا: قوله تعالى {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}.

إِذْ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ أَوْلَادُ الْأُمِّ عَلَى الْخُصُوصِ، كَمَا أَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ.وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمِّهِ.فَتَشْرِيكُ الْأَشِقَّاءِ مَعَ أَوْلَادِ الْأُمِّ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ الْآيَةِ الْأُخْرَى {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} إِذِ الْمُرَادُ مِنَ الْإِخْوَةِ فِي الْآيَةِ كُلُّ الْإِخْوَةِ، مَا عَدَا إِخْوَةَ الْأُمِّ.وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا حَظَّ الذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.وَلَكِنِ الْقَائِلِينَ بِالتَّشْرِيكِ يُسَوُّونَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَفِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لَهَا.

ثَانِيًا: قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وَإِلْحَاقُ الْفَرَائِضِ بِأَهْلِهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِأَوْلَادِ الْأُمِّ فِي الْمَسْأَلَةِ كُلُّ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، فَمُشَارَكَةُ الْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فِيهَا مُخَالَفَةٌ لِلْحَدِيثِ.

ثَالِثًا: أَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَاحِدٌ مِنْ أَوْلَادِ الْأُمِّ، وَعَدَدٌ كَثِيرٌ مِنَ الْإِخْوَةِ الْأَشِقَّاءِ، فَإِنَّ وَلَدَ الْأُمِّ يَأْخُذُ السُّدُسَ، وَكُلُّ الْإِخْوَةِ يَأْخُذُونَ الثُّلُثَ.

فَإِذَا كَانَ الْوَاحِدُ يَفْضُلُهُمْ هَذَا الْفَضْلَ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ لِلِاثْنَيْنِ إِسْقَاطُهُمْ.

الْغَرَّاوَانِ، أَوِ الْغَرِيمَتَانِ، أَوِ الْغَرِيبَتَانِ، أَوِ الْعُمَرِيَّتَانِ:

151- صُورَتُهَا امْرَأَةٌ تُوُفِّيَتْ عَنْ: زَوْجٍ وَأُمٍّ وَأَبٍ، أَوْ رَجُلٌ تُوُفِّيَ عَنْ: زَوْجَةٍ وَأُمٍّ وَأَبٍ.

فَقَدِ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ فِي الْأُولَى عَلَى: أَنَّ لِلزَّوْجِ نِصْفَ التَّرِكَةِ، وَلِلْأُمِّ ثُلُثَ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ.وَفِي الثَّانِيَةِ: لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعَ، وَلِلْأُمِّ ثُلُثَ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجَةِ، وَلِلْأَبِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا الْبَاقِيَ، بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ وَفَرْضِ الْأُمِّ.

وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى يَأْخُذَانِ الْمَالَ أَثْلَاثًا يَجِبُ أَنْ يَأْخُذَا الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِيَّةِ كَذَلِكَ، كَالْأَخِ وَالْأُخْتِ لِغَيْرِ أُمٍّ.وَبِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى مِنْ دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، أَنْ يَكُونَ لِلذَّكَرِ ضِعْفُ مَا لِلْأُنْثَى، فَلَوْ جَعَلَ لِلْأُمِّ ثُلُثَ كُلِّ التَّرِكَةِ مَعَ الزَّوْجِ، لَفَضَلَتْ عَلَى الْأَبِ، وَمَعَ الزَّوْجَةِ لَمْ يَكُنْ نَصِيبُ الْأَبِ ضِعْفَ نَصِيبِ الْأُمِّ، وَلَا يَرِدُ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمَا إِذَا اجْتَمَعَا مَعَ الِابْنِ تَسَاوَيَا؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا قَالُوا: الْأَصْلُ كَذَا.فَذَلِكَ لَا يُنَافِي خُرُوجَ فَرْضٍ عَنْهُ لِدَلِيلٍ، كَمَا خَرَجَ عَنْهُ الْإِخْوَةُ لِأُمٍّ فِي تَسَاوِي نَصِيبِ الذَّكَرِ بِنَصِيبِ الْأُنْثَى.

وَخَالَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لِلْأُمِّ فِي الصُّورَتَيْنِ الثُّلُثُ كَامِلًا.وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} وَبِقَوْلِهِ: - صلى الله عليه وسلم-: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وَالْأَبُ فِي الصُّورَةِ عَصَبَةٌ، فَلَهُ مَا بَقِيَ بَعْدَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ.قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي- كَمَا نَقَلَ عَنْهُ صَاحِبُ الْعَذْبِ الْفَائِضِ: وَالْحُجَّةُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَوْلَا انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِهِ فِيهِمَا.

152- وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْأَبِ فِي الصُّورَتَيْنِ جَدٌّ، لَكَانَ لِلْأُمِّ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ.

وَرَوَى ذَلِكَ أَهْلُ الْكُوفَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي صُورَةِ الزَّوْجِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنَّ لِلْأُمِّ مَعَ الْجَدِّ ثُلُثَ الْبَاقِي أَيْضًا، كَمَا مَعَ الْأَبِ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ.فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ جَعَلَ الْجَدَّ كَالْأَبِ.وَالْوَجْهُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى هُوَ تَرْكُ ظَاهِرِ قوله تعالى: {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} فِي حَقِّ الْأَبِ كَيْ لَا يَلْزَمَ تَفْضِيلُهَا عَلَيْهِ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي الْقُرْبِ.وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْجَدِّ فَأُبْقِيَ النَّصُّ عَلَى ظَاهِرِهِ {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} لِعَدَمِ تَسَاوِي الْأُمِّ وَالْجَدِّ فِي الْقُرْبِ.

153- وَتُسَمَّى الْمَسْأَلَةُ الْمَذْكُورَةُ بِالْغَرَّاوَيْنِ؛ لِشُهْرَتِهَا كَالْكَوْكَبِ الْأَغَرِّ «الْمُضِيءِ»، وَبِالْغَرِيمَتَيْنِ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الزَّوْجَيْنِ كَالْغَرِيمِ صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَالْأَبَوَانِ كَالْوَرَثَةِ يَأْخُذَانِ مَا فَضَلَ بَعْدَ فَرْضِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَبِالْغَرِيبَتَيْنِ لِغَرَابَتِهِمَا بَيْنَ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ، وَبِالْعُمَرِيَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَوَّلُ مَنْ قَضَى فِيهِمَا لِلْأُمِّ بِثُلُثِ الْبَاقِي، وَوَافَقَهُ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.وَهُنَاكَ مَسَائِلُ أُخْرَى مُسْتَثْنَاةٌ، تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ سَبَقَ ذِكْرُهُمَا أَيْضًا لَكِنْ بِغَيْرِ تَفْصِيلٍ، مِمَّا دَعَا إِلَى إِفْرَادِهِمَا وَلِأَهَمِّيَّتِهِمَا.

الْخَرْقَاءُ:

154- صُورَتُهَا: أُمٌّ وَجَدٌّ وَأُخْتٌ، سُمِّيَتْ خَرْقَاءَ لِأَنَّ أَقَاوِيلَ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهما- تَخَرَّقَتْهَا.قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ، وَقَالَ زَيْدٌ: لِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ أَثْلَاثًا.وَقَالَ عَلِيٌّ: لِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ.وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأُمِّ وَالْجَدِّ نِصْفَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ لِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ.

وَتُسَمَّى عُثْمَانِيَّةً، لِأَنَّ عُثْمَانَ انْفَرَدَ فِيهَا بِقَوْلٍ خَرَقَ الْإِجْمَاعَ فَقَالَ: لِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ نِصْفَانِ قَالُوا: وَبِهِ سُمِّيَتْ خَرْقَاءَ.

وَتُسَمَّى مُثَلَّثَةَ عُثْمَانَ، وَمُرَبَّعَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمُخَمَّسَةَ الشَّعْبِيِّ- رضي الله عنهما-، لِأَنَّ الْحَجَّاجَ سَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ: اخْتَلَفَ فِيهَا خَمْسَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَإِذَا أُضِيفَ إِلَيْهِمْ قَوْلُ الصِّدِّيقِ كَانَتْ مُسَدَّسَةً.

الْمَرْوَانِيَّةُ:

155- صُورَتُهَا: سِتُّ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ وَزَوْجٌ، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأَبَوَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ، وَسَقَطَ أَوْلَادُ الْأَبِ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ، وَتَعُولُ إِلَى تِسْعَةٍ، سُمِّيَتْ مَرْوَانِيَّةً؛ لِوُقُوعِهَا فِي زَمَنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَتُسَمَّى الْغَرَّاءَ؛ لِاشْتِهَارِهَا بَيْنَهُمْ. الْحَمْزِيَّةُ:

156- صُورَتُهَا: ثَلَاثُ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ، وَجَدٌّ، وَثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: لِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ.أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ.وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ: لِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ النِّصْفُ، وَمِنَ الْأَبِ السُّدُسُ تَكْمِلَةً لِلثُّلُثَيْنِ، وَلِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ.وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ: لِلْجَدَّةِ أُمُّ الْأُمِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ.وَقَالَ زَيْدٌ: لِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ وَالْأُخْتِ لِأَبٍ عَلَى أَرْبَعَةٍ، ثُمَّ تَرُدُّ الْأُخْتُ مِنَ الْأَبِ مَا أَخَذَتْ عَلَى الْأُخْتِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ، وَتَصِحُّ مِنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَتَعُودُ بِالِاخْتِصَارِ إِلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، لِلْجَدَّاتِ سِتَّةٌ، وَلِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ نَصِيبُهَا وَنَصِيبُ أُخْتِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ، وَلِلْجَدِّ خَمْسَةَ عَشَرَ.سُمِّيَتْ حَمْزِيَّةً؛ لِأَنَّ حَمْزَةَ الزَّيَّاتَ سُئِلَ عَنْهَا فَأَجَابَ بِهَذِهِ الْأَجْوِبَةِ.

الدِّينَارِيَّةُ:

157- صُورَتُهَا: زَوْجَةٌ، وَجَدَّةٌ وَبِنْتَانِ وَاثْنَا عَشَرَ أَخًا وَأُخْتٌ وَاحِدَةٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَالتَّرِكَةُ بَيْنَهُمْ سِتُّمِائَةِ دِينَارٍ، لِلْجَدَّةِ السُّدُسُ مِائَةُ دِينَارٍ، وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ، وَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِينَارًا، يَبْقَى خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا لِكُلِّ أَخٍ دِينَارَانِ، وَلِلْأُخْتِ دِينَارٌ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الدِّينَارِيَّةَ، وَتُسَمَّى الدَّاوُدِيَّةَ، لِأَنَّ دَاوُد الطَّائِيَّ سُئِلَ عَنْهَا، فَقَسَّمَهَا هَكَذَا، فَجَاءَتِ الْأُخْتُ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَتْ: إِنَّ أَخِي مَاتَ وَتَرَكَ سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ، فَمَا أُعْطِيتُ مِنْهَا إِلاَّ دِينَارًا وَاحِدًا، فَقَالَ: مَنْ قَسَمَ التَّرِكَةَ؟ فَقَالَتْ: تِلْمِيذُكَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ فَقَالَ: هُوَ لَا يَظْلِمُ، هَلْ تَرَكَ أَخُوكِ جَدَّةً؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ تَرَكَ بِنْتَيْنِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ تَرَكَ زَوْجَةً؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ تَرَكَ مَعَكِ اثْنَيْ عَشَرَ أَخًا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: إِذَنْ حَقُّكِ دِينَارٌ.وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنَ الْمُعَايَاةِ فَيُقَالُ: رَجُلٌ خَلَّفَ سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ وَارِثًا، ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَأَصَابَ أَحَدَهُمْ دِينَارٌ وَاحِدٌ.

الِامْتِحَانُ:

158- صُورَتُهَا: أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ، وَخَمْسُ جَدَّاتٍ، وَسَبْعُ بَنَاتٍ، وَتِسْعُ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ.أَصْلُهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، لِلزَّوْجَاتِ الثُّمُنُ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ أَرْبَعَةٌ، وَلِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَلِلْأَخَوَاتِ مَا بَقِيَ سَهْمٌ، وَلَا مُوَافَقَةَ بَيْنَ السِّهَامِ وَالرُّءُوسِ، وَلَا بَيْنَ الرُّءُوسِ وَالرُّءُوسِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى ضَرْبِ الرُّءُوسِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ، فَاضْرِبْ أَرْبَعَةً فِي خَمْسَةٍ يَكُنْ عِشْرِينَ، ثُمَّ اضْرِبْ عِشْرِينَ فِي سَبْعَةٍ يَكُنْ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ اضْرِبْ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ فِي تِسْعَةٍ يَكُنْ أَلْفًا وَمِائَةً وَسِتِّينَ، فَاضْرِبْهَا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَكُنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، مِنْهَا تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ.وَجْهُ الِامْتِحَانِ أَنْ يُقَالَ: رَجُلٌ خَلَفَ أَصْنَافًا، عَدَدُ كُلِّ صِنْفٍ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةٍ، وَلَا تَصِحُّ مَسْأَلَتُهُ إِلاَّ مِمَّا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِينَ أَلْفًا.

الْمَأْمُونِيَّةُ:

159- صُورَتُهَا: أَبَوَانِ وَبِنْتَانِ، مَاتَتْ إِحْدَى الْبِنْتَيْنِ وَخَلَّفَتْ مَنْ خَلَّفَتْ.سُمِّيَتِ الْمَأْمُونِيَّةَ لِأَنَّ الْمَأْمُونَ أَرَادَ أَنْ يُوَلِّيَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ أَحَدًا، فَأَحْضَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ فَاسْتَحْقَرَهُ (أَيْ لِصِغَرِ سِنِّهِ) فَسَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، فَعَلِمَ الْمَأْمُونُ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْمَسْأَلَةَ فَأَعْطَاهُ الْعَهْدَ، وَوَلاَّهُ الْقَضَاءَ.

وَالْجَوَابُ فِيهَا يَخْتَلِفُ بِكَوْنِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا، فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مِنْ سِتَّةٍ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ، فَإِذَا مَاتَتْ إِحْدَى الْبِنْتَيْنِ فَقَدْ خَلَّفَتْ أُخْتًا وَجَدًّا صَحِيحًا أَبَا أَبٍ، وَجَدَّةً صَحِيحَةً أُمَّ أَبٍ، فَالسُّدُسُ لِلْجَدَّةِ وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ، وَسَقَطَتِ الْأُخْتُ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ.وَقَالَ زَيْدٌ: لِلْجَدَّةِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ أَثْلَاثًا، وَصَحَّحَ الْمُنَاسَخَةَ.وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ الْأَوَّلُ أُنْثَى، فَقَدْ مَاتَتِ الْبِنْتُ عَنْ أُخْتٍ، وَجَدَّةٍ صَحِيحَةٍ أُمِّ أُمٍّ، وَجَدٍّ فَاسِدٍ أَبِي أُمٍّ، فَلِلْجَدَّةِ السُّدُسُ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي يُرَدُّ عَلَيْهِمَا، وَسَقَطَ الْجَدُّ الْفَاسِدُ بِالْإِجْمَاعِ.كَذَا فِي الِاخْتِيَارِ شَرْحِ الْمُخْتَارِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


63-موسوعة الفقه الكويتية (استرداد 2)

اسْتِرْدَادٌ -2

28- كَذَلِكَ لِلْإِمَامِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ، فَمَنْ أَقْطَعَهُ الْإِمَامُ شَيْئًا مِنَ الْمَوَاتِ لَمْ يَمْلِكْهُ بِذَلِكَ، لَكِنْ يَصِيرُ أَحَقَّ بِهِ، كَالْمُتَحَجِّرِ الشَّارِعِ فِي الْإِحْيَاءِ؛ لِمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ حَيْثُ اسْتَرْجَعَ عُمَرُ مِنْهُ مَا عَجَزَ عَنْ إِحْيَائِهِ، مِنَ الْعَقِيقِ الَّذِي أَقْطَعَهُ إِيَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَلَوْ مَلَكَهُ لَمْ يَجُزِ اسْتِرْجَاعُهُ.

وَكَذَلِكَ رَدُّ عُمَرَ قَطِيعَةَ أَبِي بَكْرٍ لِعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، فَسَأَلَ عُيَيْنَةُ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُجَدِّدَ لَهُ كِتَابًا فَقَالَ: لَا، وَاَللَّهِ لَا أُجَدِّدُ شَيْئًا رَدَّهُ عُمَرُ.لَكِنِ الْمُقْطَعُ يَصِيرُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ، وَأَوْلَى بِإِحْيَائِهِ، فَإِنْ أَحْيَاهُ وَإِلاَّ قَالَ لَهُ السُّلْطَانُ: ارْفَعْ يَدَكَ عَنْهُ.

مَوَانِعُ الِاسْتِرْدَادِ:

29- سُقُوطُ حَقِّ الْمَالِكِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الِاسْتِرْدَادِ لِمَانِعٍ مِنَ الْمَوَانِعِ يَشْمَلُ مَا يَأْتِي:

أ- سُقُوطُ الْحَقِّ فِي اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ مَعَ سُقُوطِ الضَّمَانِ.

ب- سُقُوطُ الْحَقِّ فِي اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ مَعَ بَقَاءِ الْحَقِّ فِي الضَّمَانِ.

ج- سُقُوطُ الْحَقِّ فِي اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ وَالضَّمَانُ قَضَاءً لَا دِيَانَةً.

أَوَّلًا: يَسْقُطُ الْحَقُّ فِي اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ وَالضَّمَانِ بِمَا يَأْتِي:

أ- حُكْمُ الشَّرْعِ:

30- وَذَلِكَ كَالصَّدَقَةِ، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ لِإِرَادَةِ الثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ قَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ- رضي الله عنه-: مَنْ وَهَبَ هِبَةً عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهَا.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ الرَّأْيَ الرَّاجِحَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الصَّدَقَةَ لِلتَّطَوُّعِ عَلَى الْوَلَدِ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا.

وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ لِغَيْرِ الْوَلَدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ أَحْمَدَ: لَا يَجُوزُ رُجُوعُ الْمَرْأَةِ فِيمَا وَهَبَتْهُ لِزَوْجِهَا.وَلِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَذَلِكَ هِبَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ عِنْدَهُمْ، وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً فَيَرْجِعَ فِيهَا إِلاَّ الْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ».

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الرَّجُلُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يَثِبْ مِنْهَا» أَيْ لَمْ يُعَوِّضْ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ عِوَضٌ مَعْنًى؛ لِأَنَّ التَّوَاصُلَ سَبَبُ الثَّوَابِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَكَانَ أَقْوَى مِنَ الْمَالِ.

وَكَذَلِكَ الْوَقْفُ إِذَا تَمَّ وَلَزِمَ، لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: «أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ قَطُّ مَالًا أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُنِي فِيهَا؟ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُبْتَاعُ، وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ».

وَالْخَمْرُ لَا تُسْتَرَدُّ؛ لِحُرْمَةِ تَمَلُّكِهَا لِلْمُسْلِمِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِرْدَادُهَا إِنْ غُصِبَتْ مِنْهُ، وَيَجِبُ إِرَاقَتُهَا؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ «سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا خَمْرًا، فَأَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا».

ب- التَّصَرُّفُ وَالْإِتْلَافُ:

31- الْهِبَةُ الَّتِي يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا سَوَاءٌ أَكَانَتْ لِلِابْنِ أَمْ لِلْأَجْنَبِيِّ- عَلَى اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ- إِذَا تَصَرَّفَ فِيهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ أَوْ أَتْلَفَهَا، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ حَقُّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ فِيهَا مَعَ سُقُوطِ الضَّمَانِ.

ج- التَّلَفُ:

32- مَا كَانَ أَمَانَةً، كَالْمَالِ تَحْتَ يَدِ الْوَكِيلِ وَعَامِلِ الْقِرَاضِ، وَكَالْوَدِيعَةِ، وَكَالْعَارِيَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ- إِذَا تَلِفَ دُونَ تَعَدٍّ أَوْ تَفْرِيطٍ- فَإِنَّهُ يَسْقُطُ حَقُّ الْمَالِكِ فِي الِاسْتِرْدَادِ مَعَ سُقُوطِ الضَّمَانِ.

ثَانِيًا: مَا يُسْقِطُ الْحَقَّ فِي اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ مَعَ بَقَاءِ الْحَقِّ فِي الضَّمَانِ:

33- اسْتِرْدَادُ الْعَيْنِ هُوَ الْأَصْلُ لِمَا يَجِبُ فِيهِ الرَّدُّ، كَالْمَغْصُوبِ، وَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا، فَمَا دَامَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ رَدُّهُ.

بَلْ إِنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ، فَيَجْتَمِعُ عَلَى السَّارِقِ: الْقَطْعُ وَضَمَانُ مَا سَرَقَهُ؛ لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ، فَجَازَ اجْتِمَاعُهُمَا، فَيَرُدُّ السَّارِقُ مَا سَرَقَهُ لِمَالِكِهِ إِنْ بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ.

وَقَدْ يَحْدُثُ فِي الْعَيْنِ مَا يَمْنَعُ رَدَّهَا وَذَلِكَ بِاسْتِهْلَاكِهَا، أَوْ تَلَفِهَا، أَوْ تَغَيُّرِهَا تَغَيُّرًا يُخْرِجُهَا عَنِ اسْمِهَا، وَعِنْدَئِذٍ يَثْبُتُ الْحَقُّ فِي الضَّمَانِ (الْمِثْلُ أَوِ الْقِيمَةُ) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (ضَمَان).

ثَالِثًا: سُقُوطُ الْحَقِّ فِي اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ وَالضَّمَانِ قَضَاءً لَا دِيَانَةً:

34- وَذَلِكَ كَمَا لَوْ أَنَّ مُسْلِمًا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، فَأَخَذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ لَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ وَلَا بِالضَّمَانِ، وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ.

عَوْدَةُ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ بَعْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ:

35- مَا وَجَبَ رَدُّهُ ثُمَّ بَطَلَ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ فِيهِ لِمَانِعٍ، فَإِنَّ هَذَا الْحَقَّ يَعُودُ إِذَا زَالَ الْمَانِعُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ إِذَا زَالَ عَادَ الْمَمْنُوعُ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:

الْبَيْعُ الْفَاسِدُ- حَيْثُ يَجِبُ فِيهِ الرَّدُّ- إِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ الْمُشْتَرِي بِبَيْعٍ سَقَطَ حَقُّ الرَّدِّ، فَإِنْ رُدَّ عَلَى الْمُشْتَرِي بِخِيَارِ شَرْطٍ، أَوْ رُؤْيَةٍ، أَوْ عَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ، وَعَادَ عَلَى حُكْمِ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ عَادَ حَقُّ الْفَسْخِ وَالرَّدِّ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ فَسْخٌ مَحْضٌ، فَكَانَ دَفْعًا لِلْعَقْدِ مِنَ الْأَصْلِ وَجَعْلًا لَهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ.أَمَّا لَوِ اشْتَرَاهُ ثَانِيًا، أَوْ عَادَ إِلَيْهِ بِسَبَبٍ مُبْتَدَأٍ لَا يَعُودُ حَقُّ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ اخْتَلَفَ لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ، فَكَانَ اخْتِلَافُ الْمِلْكَيْنِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْعَقْدَيْنِ.

هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَيُسَايِرُهُ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي عَوْدَةِ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ إِذَا زَالَ الْمَانِعُ، غَيْرَ أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي أَنَّهُ لَوْ عَادَ الْمَبِيعُ الْفَاسِدُ إِلَى الْمُشْتَرِي بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ- سَوَاءٌ كَانَ عَوْدُهُ اخْتِيَارِيًّا أَوْ ضَرُورِيًّا كَإِرْثٍ- فَإِنَّهُ يَعُودُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ، مَا لَمْ يَحْكُمْ حَاكِمٌ بِعَدَمِ الرَّدِّ، أَوْ كَانَ الْفَوَاتُ رَاجِعًا لِتَغَيُّرِ السُّوقِ، ثُمَّ عَادَ السُّوقُ إِلَى حَالَتِهِ الْأُولَى، فَلَا يَرْتَفِعُ حُكْمُ السَّبَبِ الْمَانِعِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي الرَّدُّ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: فَإِنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ عِنْدَهُمْ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي، وَلَا يَنْفُذُ فِيهِ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي بِبَيْعٍ وَلَا هِبَةٍ وَلَا عِتْقٍ وَلَا غَيْرِهِ، هُوَ وَاجِبُ الرَّدِّ مَا لَمْ يَتْلَفْ فَيَكُونُ فِيهِ الضَّمَانُ.

وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا وَجَبَتِ الدِّيَةُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَنَافِعِ الْأَعْضَاءِ، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى حَالَتِهَا الطَّبِيعِيَّةِ فَإِنَّ الدِّيَةَ تُسْتَرَدُّ.وَعَلَى ذَلِكَ: مَنْ جَنَى عَلَى سَمْعِ إِنْسَانٍ فَزَالَ السَّمْعُ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ الدِّيَةُ، ثُمَّ عَادَ السَّمْعُ، وَجَبَ رَدُّ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ السَّمْعَ لَمْ يَذْهَبْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ذَهَبَ لَمَا عَادَ.وَمَنْ جَنَى عَلَى عَيْنَيْنِ فَذَهَبَ ضَوْءُهُمَا وَجَبَتِ الدِّيَةُ، فَإِنْ أُخِذَتِ الدِّيَةُ، ثُمَّ عَادَ الضَّوْءُ وَجَبَ رَدُّ الدِّيَةِ.وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ. (ر: جِنَايَة- دِيَة).

أَثَرُ الِاسْتِرْدَادِ:

36- الِاسْتِرْدَادُ حَقٌّ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي تَثْبُتُ نَتِيجَةً لِبَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ، فَفِي الْغَصْبِ يَثْبُتُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ مِنَ الْغَاصِبِ، وَفِي الْعَارِيَّةِ يَثْبُتُ لِلْمُعِيرِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ، وَفِي الْوَدِيعَةِ يَثْبُتُ لِلْمُودِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ مِنَ الْمُودَعِ، وَفِي الرَّهْنِ يَثْبُتُ لِلرَّاهِنِ حَقُّ اسْتِرْدَادِ الْمَرْهُونِ مِنَ الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ وَفَاءِ الدَّيْنِ.

وَمَا وَجَبَ رَدُّهُ بِعَيْنِهِ كَالْمَغْصُوبِ، وَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا، وَالْأَمَانَاتِ حِينَ طَلَبِهَا إِذَا رُدَّتْ أَوِ اسْتَرَدَّهَا كُلَّهَا فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مَا يَأْتِي:

أ- الْبَرَاءَةُ مِنَ الضَّمَانِ، فَالْغَاصِبُ يَبْرَأُ بِرَدِّ الْمَغْصُوبِ، وَالْمُودَعُ يَبْرَأُ بِرَدِّ الْوَدِيعَةِ، وَهَكَذَا.

ب- يُعْتَبَرُ الرَّدُّ فَسْخًا لِلْعَقْدِ، فَرَدُّ الْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ وَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا يُعْتَبَرُ فَسْخًا لِلْعَقْدِ.

ج- تَرَتُّبُ بَعْضِ الْحُقُوقِ، كَثُبُوتِ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ لِمَنِ اسْتُحِقَّ بِيَدِهِ شَيْءٌ عَلَى مَنِ اشْتَرَاهَا مِنْهُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


64-موسوعة الفقه الكويتية (استهلال)

اسْتِهْلَال

التَّعْرِيفُ.

1- الِاسْتِهْلَالُ لُغَةً: مَصْدَرُ اسْتَهَلَّ، وَاسْتَهَلَّ الْهِلَالُ ظَهَرَ، وَاسْتِهْلَالُ الصَّبِيِّ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالْبُكَاءِ عِنْدَ وِلَادَتِهِ، وَالْإِهْلَالُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِقَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَهَلَّ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ: رَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ.

وَالْبَحْثُ هُنَا قَاصِرٌ عَلَى اسْتِهْلَالِ الْمَوْلُودِ.

وَيَخْتَلِفُ مُرَادُ الْفُقَهَاءِ بِالِاسْتِهْلَالِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَصَرَهُ عَلَى الصِّيَاحِ، وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَوْسَعَ مِنْ ذَلِكَ وَأَرَادَ بِهِ كُلَّ مَا يَدُلُّ عَلَى حَيَاةِ الْمَوْلُودِ، مِنْ رَفْعِ صَوْتٍ، أَوْ حَرَكَةِ عُضْوٍ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ.وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِأَنَّهُ كُلُّ صَوْتٍ يَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ مِنْ صِيَاحٍ، أَوْ عُطَاسٍ، أَوْ بُكَاءٍ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ.

وَاَلَّذِينَ قَصَرُوا الِاسْتِهْلَالَ عَلَى الصِّيَاحِ لَا يَمْنَعُونَ حُصُولَ حَيَاةِ الْمَوْلُودِ الَّذِي مَاتَ دُونَ صِيَاحٍ، وَإِنَّمَا يَحْكُمُونَ عَلَى حَيَاتِهِ بِبَعْضِ الْأَمَارَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ بِمُفْرَدِهَا أَوْ مَعَ غَيْرِهَا.

وَسَيَشْمَلُ هَذَا الْبَحْثُ أَحْكَامَ الِاسْتِهْلَالِ بِمَعْنَاهُ الْأَعَمِّ، وَهُوَ اصْطِلَاحُ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِتَعَدُّدِ أَمَارَاتِ الْحَيَاةِ.

أَمَارَاتُ الْحَيَاةِ:

أ- الصِّيَاحُ:

2- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصِّيَاحَ أَمَارَةٌ يَقِينِيَّةٌ عَلَى الْحَيَاةِ، لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الْحَالِ الَّتِي يُعْتَبَرُ الصِّيَاحُ فِيهَا مُؤَثِّرًا، وَقَدْ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ مِنْ مَوْطِنٍ لآِخَرَ فِي الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ.

ب- الْعُطَاسُ وَالِارْتِضَاعُ:

3- الْعُطَاسُ وَالِارْتِضَاعُ مِنْ أَمَارَاتِ الِاسْتِهْلَالِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُمَا فِي مَعْنَاهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَازِرِيُّ وَابْنُ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَحْمَدَ كَذَلِكَ، فَيَثْبُتُ بِهِمَا حُكْمُ الِاسْتِهْلَالِ عِنْدَهُمْ.

أَمَّا عِنْدَ مَالِكٍ فَلَا عِبْرَةَ بِالْعُطَاسِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنَ الرِّيحِ، وَكَذَلِكَ الرَّضَاعُ إِلاَّ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنَ الرَّضَاعِ مُعْتَبَرٌ، وَالْكَثِيرُ مَا تَقُولُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ: إِنَّهُ لَا يَقَعُ مِثْلُهُ إِلاَّ مِمَّنْ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ.

ج- التَّنَفُّسُ:

4- يَأْخُذُ التَّنَفُّسُ حُكْمَ الْعُطَاسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

د- الْحَرَكَةُ:

5- حَرَكَةُ الْمَوْلُودِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ طَوِيلَةً أَوْ يَسِيرَةً، وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ الِاخْتِلَاجِ، إِذْ الِاخْتِلَاجُ تَحَرُّكُ عُضْوٍ، وَالْحَرَكَةُ أَعَمُّ مِنْ تَحَرُّكِ عُضْوٍ أَوْ تَحَرُّكِ الْجُمْلَةِ.وَلِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ اتِّجَاهَاتٍ فِي الْحَرَكَةِ:

الْأَوَّلُ: الْأَخْذُ بِهَا مُطْلَقًا.

وَالثَّانِي: عَدَمُ الِاعْتِدَادِ بِهَا مُطْلَقًا.

وَالثَّالِثُ: الْأَخْذُ بِالْحَرَكَةِ الطَّوِيلَةِ دُونَ الْيَسِيرَةِ.

هـ- الْحَرَكَةُ الطَّوِيلَةُ:

6- الْحَرَكَةُ الطَّوِيلَةُ مِنْ الِاسْتِهْلَالِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، عَدَا ابْنِ عَابِدِينَ، وَفِي مَعْنَى الِاسْتِهْلَالِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَحَدُ رَأْيَيِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّهَا فِي حُكْمِ الِاسْتِهْلَالِ كَذَلِكَ.أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلِهِمُ الْآخَرِ، وَابْنُ عَابِدِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يُعْطُونَهَا حُكْمَ الِاسْتِهْلَالِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ طَوِيلَةً أَمْ يَسِيرَةً، لِأَنَّ حَرَكَتَهُ كَحَرَكَتِهِ فِي الْبَطْنِ، وَقَدْ يَتَحَرَّكُ الْمَقْتُولُ، وَقِيلَ بِهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

و- الْحَرَكَةُ الْيَسِيرَةُ:

7- تَأْخُذُ الْحَرَكَةُ الْيَسِيرَةُ حُكْمَ الِاسْتِهْلَالِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَا يُعْتَدُّ بِهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ اتِّفَاقًا، وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَمِنْهُمْ مَنْ وَافَقَ الْحَنَفِيَّةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَافَقَ الْمَالِكِيَّةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَدَّدَ، إِذْ لَمْ يُفَرِّقْ كَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ بَيْنَ الْحَرَكَةِ الطَّوِيلَةِ وَالْحَرَكَةِ الْيَسِيرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَ قُوَّةَ الْحَرَكَةِ وَلَمْ يَعْتَدَّ بِحَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، لِأَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ: ز- الِاخْتِلَاجُ:

8- يَأْخُذُ الِاخْتِلَاجُ حُكْمَ الْحَرَكَةِ الْيَسِيرَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ شَهَرُوا عَدَمَ إِعْطَائِهِ حُكْمَ الِاسْتِهْلَالِ.

إِثْبَاتُ الِاسْتِهْلَالِ:

9- مِمَّا يَثْبُتُ بِهِ الِاسْتِهْلَالُ الشَّهَادَةُ، وَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِأَقْوَالِ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَهُوَ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ.وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَدَدِ الْمُجْزِي وَالْمَوَاطِنِ الْمَقْبُولَةِ.

10- وَالِاسْتِهْلَالُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَطَّلِعُ عَلَيْهَا النِّسَاءُ غَالِبًا، لِذَلِكَ يَقْبَلُ الْفُقَهَاءُ- عَدَا الرَّبِيعِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ- شَهَادَتَهُنَّ عَلَيْهِ مُنْفَرِدَاتٍ عَنِ الرِّجَالِ.

إلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي نِصَابِهَا وَفِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ فِيهَا.

وَتَفْصِيلُ اتِّجَاهَاتِهِمْ فِي نِصَابِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ كَمَا يَلِي:

11- يَرَى الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ إِلاَّ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، وَخَبَرُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ.أَمَّا غَيْرُ الصَّلَاةِ كَالْمِيرَاثِ فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِهْلَالُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ، وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ يَكْفِي شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى الِاسْتِهْلَالِ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً مُسْلِمَةً عَدْلًا.لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ فِي الِاسْتِهْلَالِ.

وَالْعِلَّةُ فِيهِ- كَمَا فِي الْمَبْسُوطِ- أَنَّ اسْتِهْلَالَ الصَّبِيِّ يَكُونُ عِنْدَ الْوِلَادَةِ، وَتِلْكَ حَالَةٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ، وَفِي صَوْتِهِ مِنَ الضَّعْفِ عِنْدَ ذَلِكَ مَا لَا يَسْمَعُهُ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ تِلْكَ الْحَالَةَ، وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرَّجُلُ كَشَهَادَةِ الرِّجَالِ فِيمَا يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يُصَلَّى عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، فَكَذَلِكَ يَرِثُ.

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ حُذَيْفَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ» وَقَالَ: «شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ» وَالنِّسَاءُ جِنْسٌ فَيَدْخُلُ فِيهِ أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ.

وَإِنَّمَا فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَبَيْنَ الْمِيرَاثِ، لِأَنَّ الْمِيرَاثَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَلَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ.

12- وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ رَأَوْا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي الِاسْتِهْلَالِ أَقَلُّ مِنِ امْرَأَتَيْنِ، قَالُوا: لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الشَّهَادَةِ شَيْئَانِ: الْعَدَدُ وَالذُّكُورَةُ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الذُّكُورَةُ هُنَا، وَلَمْ يَتَعَذَّرِ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ فَبَقِيَ مُعْتَبَرًا كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ.

شَهَادَةُ الثَّلَاثِ:

13- يَرَى عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي الِاسْتِهْلَالِ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثِ نِسَاءٍ، وَالْوَجْهُ عِنْدَهُ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ قُبِلَتْ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ كَانَ الْعَدَدُ ثَلَاثَةً، وَهُوَ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ.

14- وَلَا يَقْبَلُ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَقَتَادَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الِاسْتِهْلَالِ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعٍ مِنَ النِّسْوَةِ، لِأَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ تَقُومَانِ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ».

15- أَمَّا شَهَادَةُ الرِّجَالِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ الرَّجُلَيْنِ عَلَى الِاسْتِهْلَالِ وَنَحْوِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ.

فَأَجَازَهَا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الرَّجُلَ أَكْمَلُ مِنَ الْمَرْأَةِ، فَإِذَا اُكْتُفِيَ بِهَا وَحْدَهَا فَلأَنْ يُكْتَفَى بِهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ مَا قُبِلَ فِيهِ قَوْلُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ كَالرِّوَايَةِ.

وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ فَيَمْنَعُونَهَا، لِمَا تَقَدَّمَ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ.

تَسْمِيَةُ الْمُسْتَهِلِّ:

16- يُسَمَّى الْمَوْلُودُ إِنْ اسْتَهَلَّ وَلَوْ مَاتَ عَقِبَ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَازِمَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَنْدُوبَةٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «سَمُّوا أَسْقَاطَكُمْ فَإِنَّهُمْ أَسْلَافُكُمْ» رَوَاهُ ابْنُ السَّمَّاكِ بِإِسْنَادِهِ، قِيلَ: إِنَّهُمْ يُسَمَّوْنَ لِيُدْعَوْا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ لِلسَّقْطِ ذُكُورَةٌ وَلَا أُنُوثَةٌ سُمِّيَ بِاسْمٍ يَصْلُحُ لَهُمَا، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ فِي تَسْمِيَةِ الْمُسْتَهَلِّ إِكْرَامًا لَهُ لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ يَحْتَاجُ أَبُوهُ إلَى أَنْ يَذْكُرَ اسْمَهُ عِنْدَ الدَّعْوَى بِهِ.

أَمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَنُسِبَ إِلَى مَالِكٍ فَهُوَ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَلَدُهُ قَبْلَ السَّابِعِ فَلَا تَسْمِيَةَ عَلَيْهِ.

غُسْلُ الْمُسْتَهِلِّ إِذَا مَاتَ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَدَفْنُهُ:

17- مَوْتُ الْمُسْتَهِلِّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الِانْفِصَالِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ فِيهِ مَا يَلْزَمُ فِي الْكَبِيرِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الطِّفْلَ إِذَا عُرِفَتْ حَيَاتُهُ وَاسْتَهَلَّ يُصَلَّى عَلَيْهِ.

أَمَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَإِنْ كَانَ خَرَجَ مُعْظَمُهُ، فَإِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَيَّدَهُ فِي شَرْحِ الدُّرِّ بِمَا إِذَا انْفَصَلَ تَامَّ الْأَعْضَاءِ.

وَيُصَلَّى عَلَيْهِ أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِنْ صَاحَ بَعْدَ الظُّهُورِ، وَكَذَلِكَ إِنْ ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْحَيَاةِ الْأُخْرَى غَيْرُ الصِّيَاحِ فِي الْأَظْهَرِ، وَلَا أَثَرَ لِلِاسْتِهْلَالِ وَعَدَمِهِ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِذْ يُوجِبُونَ غُسْلَ السَّقْطِ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ إِذَا نَزَلَ لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ سَوَاءٌ اسْتَهَلَّ أَمْ لَا.

وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ غُسْلَ الطِّفْلِ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَسْتَهِلَّ صَارِخًا بَعْدَ نُزُولِهِ.

وَأَمَّا الدَّفْنُ فَإِنَّ الْجَنِينَ إِذَا بَلَغَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَجِبُ دَفْنُهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَبْلُغْهَا يُسَنُّ سَتْرُهُ بِخِرْقَةٍ وَدَفْنُهُ.

اسْتِهْلَالُ الْمَوْلُودِ وَأَثَرُهُ فِي إِرْثِهِ:

18- الْجَنِينُ إِذَا اسْتَهَلَّ بَعْدَ تَمَّامِ انْفِصَالِهِ- عَلَى الِاخْتِلَافِ السَّابِقِ فِي الْمُرَادِ بِالِاسْتِهْلَالِ- فَإِنَّهُ يَرِثُ وَيُورَثُ بِالْإِجْمَاعِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ وَرِثَ».وَقَوْلِهِ: «الطِّفْلُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يَرِثُ، وَلَا يُورَثُ حَتَّى يَسْتَهِلَّ» وَكَذَا لَوْ خَرَجَ مَيِّتًا وَلَمْ يَسْتَهِلَّ فَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُورَثُ وَلَا يَرِثُ.

وَأَمَّا لَوِ اسْتَهَلَّ بَعْدَ خُرُوجِ بَعْضِهِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ تَمَامِ انْفِصَالِهِ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ لَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَرِثُ وَيُورَثُ إِنْ اسْتَهَلَّ بَعْدَ خُرُوجِ أَكْثَرِهِ، لِأَنَّ الْأَكْثَرَ لَهُ حُكْمُ الْكُلِّ، فَكَأَنَّهُ خَرَجَ كُلُّهُ حَيًّا.

وَقَالَ الْقَفَّالُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ خَرَجَ بَعْضُهُ حَيًّا وَرِثَ.

الْجِنَايَةُ عَلَى الْجَنِينِ إِذَا مَاتَ بَعْدَ اسْتِهْلَالِهِ:

19- الْجِنَايَةُ عَلَى الْمُسْتَهِلِّ إِمَّا أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الِانْفِصَالِ أَوْ بَعْدَهُ، وَاَلَّتِي قَبْلَهُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ قَبْلَ ظُهُورِهِ أَوْ بَعْدَهُ.

حُكْمُهَا قَبْلَ الظُّهُورِ:

20- إِنْ تَعَمَّدَ الْجَانِي ضَرْبَ الْأُمِّ فَخَرَجَ الْجَنِينُ مُسْتَهِلًّا، ثُمَّ مَاتَ بِسَبَبِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْأُمِّ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْأُمُّ حَيَّةً أَمْ مَيِّتَةً.وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا قَسَامَةَ أَوْلِيَائِهِ حَتَّى يَأْخُذُوا الدِّيَةَ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ فِي الْجَنِينِ يَسْقُطُ حَيًّا مِنَ الضَّرْبِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَكَذَلِكَ الْحَالُ إِنْ تَعَمَّدَ قَتْلَ الْجَنِينِ بِضَرْبِ أُمِّهِ عَلَى ظَهْرِهَا أَوْ بَطْنِهَا أَوْ رَأْسِهَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَاجِبِ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ، فَأَشْهَبُ قَالَ: لَا قَوَدَ فِيهِ، بَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْجَانِي بِقَسَامَةٍ، قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ.وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَسَامَةٍ، قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ.

حُكْمُهَا بَعْدَ الظُّهُورِ:

21- إِنْ ظَهَرَ الْجَنِينُ ثُمَّ صَاحَ، ثُمَّ جَنَى جَانٍ عَلَيْهِ عَمْدًا فَالْأَصَحُّ أَنَّ فِيهِ الْقِصَاصَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ ظَهَرَ أَغْلَبُهُ.وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: فَإِنْ كَانَ ذَبَحَهُ رَجُلٌ حَالِمًا يُخْرِجُ رَأْسَهُ فَعَلَيْهِ الْغُرَّةُ لِأَنَّهُ جَنِينٌ، وَإِنْ قَطَعَ أُذُنَهُ وَخَرَجَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ.

وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الِاعْتِبَارُ بِالِانْفِصَالِ التَّامِّ

الْجِنَايَةُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ:

22- قَتْلُ الْمُسْتَهِلِّ بَعْدَ الِانْفِصَالِ كَقَتْلِ الْكَبِيرِ، فِيهِ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ.وَكَذَلِكَ إِنْ انْفَصَلَ بِجِنَايَةٍ وَبِهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَقَتَلَهُ جَانٍ آخَرُ.

أَمَّا إِنْ نَزَلَ فِي حَالَةٍ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَعِيشَ مَعَهَا، وَقَتَلَهُ شَخْصٌ آخَرُ فَإِنَّ الضَّامِنَ هُوَ الْأَوَّلُ، وَيُعَزَّرُ الثَّانِي.

الِاخْتِلَافُ فِي اسْتِهْلَالِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ:

23- عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي خُرُوجِهِ حَيًّا يُرَاعَى قَوْلُ الضَّارِبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ وَهُوَ الْمَذْهَبُ لَكِنْ مَعَ الْيَمِينِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ نُزُولُ الْوَلَدِ غَيْرَ مُسْتَهِلٍّ، فَمُدَّعَى عَدَمَ الِاسْتِهْلَالِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِهِ، وَمُدَّعِيهِ يَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِهِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قَوْلُ الْوَلِيِّ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


65-موسوعة الفقه الكويتية (أسرى 3)

أَسْرَى -3

68- وَيَقُولُ الْجَمَلُ الشَّافِعِيُّ: وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ إِنْ عُلِمَ الْقَاتِلُ، لِأَنَّهُ قَتَلَ مَعْصُومًا، وَكَذَا الدِّيَةُ، لَا الْقِصَاصُ، لِأَنَّهُ مَعَ تَجْوِيزِ الرَّمْيِ لَا يَجْتَمِعَانِ.وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِأَنْ يَعْلَمَ بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي الْإِمْكَانِ تَوَقِّيهِ.

وَيَنْقُلُ الْبَابَرْتِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ قَصَدَهُ بِعَيْنِهِ لَزِمَهُ الدِّيَةُ، عَلِمَهُ مُسْلِمًا أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ، لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ.وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ بِعَيْنِهِ بَلْ رَمَى إِلَى الصَّفِّ فَأُصِيبَ فَلَا دِيَةَ عَلَيْهِ.

وَالتَّعْلِيلُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، وَتَرْكَ قَتْلِ الْكَافِرِ جَائِزٌ، لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ الْأُسَارَى لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ تَرْكُهُ لِعَدَمِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ مَفْسَدَةَ قَتْلِ الْمُسْلِمِ فَوْقَ مَصْلَحَةِ قَتْلِ الْكَافِرِ.

69- وَلَمْ نَقِفْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى شَيْءٍ فِي هَذَا إِلاَّ مَا قَالَهُ الدُّسُوقِيُّ عِنْدَ تَعْلِيقِهِ عَلَى قَوْلِ خَلِيلٍ: وَإِنْ تَتَرَّسُوا بِمُسْلِمٍ، فَقَالَ: وَإِنْ تَتَرَّسُوا بِأَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فَيُقَاتَلُونَ وَلَا يُتْرَكُونَ.وَيَنْبَغِي ضَمَانُ قِيمَتِهِ عَلَى مَنْ رَمَاهُمْ، قِيَاسًا عَلَى مَا يُرْمَى مِنَ السَّفِينَةِ لِلنَّجَاةِ مِنَ الْغَرَقِ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا إِتْلَافُ مَالٍ لِلنَّجَاةِ.

مَدَى تَطْبِيقِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ

حَقُّ الْأَسِيرِ فِي الْغَنِيمَةِ:

70- يَسْتَحِقُّ مَنْ أُسِرَ قَبْلَ إِحْرَازِ الْغَنِيمَةَ فِيمَا غُنِمَ قَبْلَ الْأَسْرِ، إِذَا عُلِمَ حَيَاتُهُ أَوِ انْفَلَتَ مِنَ الْأَسْرِ.لِأَنَّ حَقَّهُ ثَابِتٌ فِيهَا، وَبِالْأَسْرِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا، لِتَقَرُّرِ حَقِّهِ بِالْإِحْرَازِ.وَلَا شَيْءَ لَهُ فِيمَا غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ أَسْرِهِ، لِأَنَّ الْمَأْسُورَ فِي يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا يَكُونُ مَعَ الْجَيْشِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا، فَهُوَ لَمْ يُشَارِكْهُمْ فِي إِصَابَةِ هَذَا، وَلَا فِي إِحْرَازِهِ بِالدَّارِ.وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ مَصِيرُ هَذَا الْأَسِيرِ فِي يَدِ الْحَرْبِيِّينَ قُسِمَتِ الْغَنَائِمُ، وَلَمْ يُوقَفْ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ.وَإِنْ قُسِمَتِ الْغَنَائِمُ ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ حَيًّا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ، لِأَنَّ حَقَّ الَّذِينَ قُسِمَ بَيْنَهُمْ قَدْ تَأَكَّدَ بِالْقِسْمَةِ وَثَبَتَ مِلْكُهُمْ فِيهَا، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ إِبْطَالُ الْحَقِّ الضَّعِيفِ.وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِذَا هَرَبَ فَأَدْرَكَ الْحَرْبَ قَبْلَ تَقَضِّيهَا أُسْهِمَ لَهُ، وَفِي قَوْلٍ لَا شَيْءَ لَهُ.وَإِنْ جَاءَ بَعْدَ إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ فَلَا شَيْءَ لَهُ.

71- وَمَنْ أُسِرَ بَعْدَ إِخْرَاجِ الْغَنَائِمِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ أَوْ بَيْعِهَا، وَكَانَ قَدْ تَخَلَّفَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِحَاجَةِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يُوقَفُ نَصِيبُهُ حَتَّى يَجِيءَ فَيَأْخُذَهُ، أَوْ يَظْهَرَ مَوْتُهُ فَيَكُونَ لِوَرَثَتِهِ، لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ تَأَكَّدَ فِي الْمَالِ الْمُصَابِ بِالْإِحْرَازِ.

وَفِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ: أَنَّ الْغَنِيمَةَ إِنَّمَا تَجِبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِلْمُجَاهِدَيْنِ بِأَحَدِ شَرْطَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ حَضَرَ الْقِتَالَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رِدْءًا لِمَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ.وَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِي هَذَا مَوْضِعُهُ مُصْطَلَحُ (غَنِيمَة).

حَقُّ الْأَسِيرِ فِي الْإِرْثِ وَتَصَرُّفَاتُهُ الْمَالِيَّةُ:

72- أَسِيرُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي مَعَ الْعَدُوِّ يَرِثُ إِذَا عُلِمَتْ حَيَاتُهُ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَمْلِكْنَ الْأَحْرَارَ بِالْقَهْرِ، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى حُرِّيَّتِهِ، فَيَرِثُ كَغَيْرِهِ.وَكَذَلِكَ لَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَنْهُ، لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي مَالِهِ نَافِذٌ، وَلَا أَثَرَ لِاخْتِلَافِ الدَّارِ بِالنِّسْبَةِ لَهُ.فَقَدْ كَانَ شُرَيْحٌ يُوَرِّثُ الْأَسِيرَ فِي أَيْدِي الْعَدُوِّ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ...» فَهَذَا الْحَدِيثُ بِعُمُومِهِ يُؤَيِّدُ قَوْلَ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْأَسِيرَ إِذَا وَجَبَ لَهُ مِيرَاثٌ يُوقَفُ لَهُ.

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ لَمْ يُوَرِّثِ الْأَسِيرَ فِي أَيْدِي الْعَدُوِّ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّهُ يَرِثُ.

73- وَالْمُسْلِمُ الَّذِي أَسَرَهُ الْعَدُوُّ، وَلَا يُدْرَى أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ، مَعَ أَنَّ مَكَانَهُ مَعْلُومٌ وَهُوَ دَارُ الْحَرْبِ، لَهُ حُكْمٌ فِي الْحَالِ، فَيُعْتَبَرُ حَيًّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ، حَتَّى لَا يُورَثَ عَنْهُ مَالُهُ، وَلَا تُزَوَّجَ نِسَاؤُهُ، وَمَيِّتًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ حَتَّى لَا يَرِثَ مِنْ أَحَدٍ.وَلَهُ حُكْمٌ فِي الْمَآلِ، وَهُوَ الْحُكْمُ بِمَوْتِهِ بِمُضِيِّ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَفْقُودِ.اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (مَفْقُود).

74- وَيَسْرِي عَلَى الْأَسِيرِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ الْمَالِيَّةِ مَا يَسْرِي عَلَى غَيْرِهِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ مِنْ أَحْكَامٍ، فَبَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَصَدَقَتُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ جَائِزٌ، مَا دَامَ صَحِيحًا غَيْرَ مُكْرَهٍ.قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أُجِيزَ وَصِيَّةُ الْأَسِيرِ وَعَتَاقُهُ وَمَا صَنَعَ فِي مَالِهِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ دِينِهِ، فَإِنَّمَا هُوَ مَالُهُ يَصْنَعُ فِيهِ مَا يَشَاءُ.

أَمَّا إِنْ كَانَ الْأَسِيرُ فِي يَدِ مُشْرِكِينَ عُرِفُوا بِقَتْلِ أَسْرَاهُمْ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ حُكْمَ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ، لِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا، وَلَيْسَ يَخْلُو الْمَرَّةَ فِي حَالٍ أَبَدًا مِنْ رَجَاءِ الْحَيَاةِ وَخَوْفِ الْمَوْتِ، لَكِنْ إِذَا كَانَ الْأَغْلَبُ عِنْدَهُ وَعِنْدَ غَيْرِهِ الْخَوْفَ عَلَيْهِ، فَعَطِيَّتُهُ عَطِيَّةَ مَرِيضٍ، وَإِذَا كَانَ الْأَغْلَبُ الْأَمَانَ كَانَتْ عَطِيَّتُهُ عَطِيَّةَ الصَّحِيحِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مَرَضُ الْمَوْتِ).

جِنَايَةُ الْأَسِيرِ وَمَا يَجِبُ فِيهَا:

75- يَتَّجِهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا صَدَرَ مِنَ الْأَسِيرِ حَالَ الْأَسْرِ مَا يُوجِبُ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا وَجَبَ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُ لَا تَخْتَلِفُ الدَّارَانِ فِي تَحْرِيمِ الْفِعْلِ، فَلَمْ تَخْتَلِفْ فِيمَا يَجِبُ مِنَ الْعُقُوبَةِ.فَلَوْ قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَوْ قَذَفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَوْ شَرِبَ أَحَدُهُمْ خَمْرًا، فَإِنَّ الْحَدَّ يُقَامُ عَلَيْهِمْ إِذَا صَارُوا إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَمْنَعُ الدَّارُ حُكْمَ اللَّهِ.

وَيَقُولُ الْحَطَّابُ: إِذَا أَقَرَّ الْأَسِيرُ أَنَّهُ زَنَى، وَدَامَ عَلَى إِقْرَارِهِ وَلَمْ يَرْجِعْ، أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغُ: عَلَيْهِ الْحَدُّ.

وَإِذَا قَتَلَ الْأَسِيرُ أَحَدًا مِنْهُمْ خَطَأً، وَقَدْ كَانَ أَسْلَمَ، وَالْأَسِيرُ لَا يَعْلَمُ، فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ.وَقِيلَ الْكَفَّارَةُ فَقَطْ.وَإِذَا قَتَلَهُ عَمْدًا، وَهُوَ لَا يَعْلَمُهُ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ.وَإِنْ كَانَ قَتَلَهُ عَمْدًا وَهُوَ يَعْلَمُ بِإِسْلَامِهِ قُتِلَ بِهِ.وَإِذَا جَنَى الْأَسِيرُ عَلَى أَسِيرٍ مِثْلِهِ فَكَغَيْرِهِمَا.

76- وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ- وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، قَالَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ- فِي جَرِيمَةِ الزِّنَى- بِعَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ- عليه السلام- «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ» لِانْعِدَامِ الْمُسْتَوْفِي، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حِينَ بَاشَرَ السَّبَبَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالُوا: لَا حَدَّ عَلَى مَنْ زَنَى وَكَانَ أَسِيرًا فِي مُعَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ، لِأَنَّ يَدَ إِمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ لَا تَصِلُ إِلَيْهِمْ.وَقَالُوا: لَوْ قَتَلَ أَحَدُ الْأَسِيرَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ الْآخَرَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَى الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ بِالْأَسْرِ صَارَ تَبَعًا لَهُمْ، لِصَيْرُورَتِهِ مَقْهُورًا فِي أَيْدِيهِمْ، وَلِهَذَا يَصِيرُ مُقِيمًا بِإِقَامَتِهِمْ وَمُسَافِرًا بِسَفَرِهِمْ.وَخُصَّ الْخَطَأُ بِالْكَفَّارَةِ، لِأَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي الْعَمْدِ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ عِقَابُ الْآخِرَةِ.وَقَالَ الصَّاحِبَانِ بِلُزُومِ الدِّيَةِ أَيْضًا فِي الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ، لِأَنَّ الْعِصْمَةَ لَا تَبْطُلُ بِعَارِضِ الْأَسْرِ وَامْتِنَاعِ الْقِصَاصِ لِعَدَمِ الْمَنْفَعَةِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ الَّذِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.

أَنْكِحَةُ الْأَسْرَى:

77- ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ الْأَسِيرَ لَا يَحِلُّ لَهُ التَّزَوُّجُ مَا دَامَ أَسِيرًا، وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَكَرِهَ الْحَسَنُ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي أَرْضِ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الْأَسِيرَ إِذَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ كَانَ رَقِيقًا لَهُمْ، وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَطَأَ امْرَأَتَهُ غَيْرُهُ مِنْهُمْ، وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ أَسِيرٍ اُشْتُرِيَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ أَيَطَؤُهَا؟ فَقَالَ: كَيْفَ يَطَؤُهَا؟ فَلَعَلَّ غَيْرَهُ مِنْهُمْ يَطَؤُهَا، قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْتُ لَهُ: وَلَعَلَّهَا تَعْلَقُ بِوَلَدٍ فَيَكُونُ مَعَهُمْ، قَالَ: وَهَذَا أَيْضًا. وَيَقُولُ الْمَوَّاقُ: الْأَسِيرُ يُعْلَمُ تَنَصُّرُهُ فَلَا يُدْرَى أَطَوْعًا أَمْ كَرْهًا فَلْتَعْتَدَّ زَوْجَتُهُ، وَيُوقَفْ مَالُهُ، وَيُحْكَمُ فِيهِ بِحُكْمِ الْمُرْتَدِّ، وَإِنْ ثَبَتَ إِكْرَاهُهُ بِبَيِّنَةٍ كَانَ بِحَالِ الْمُسْلِمِ فِي نِسَائِهِ وَمَالِهِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ (إِكْرَاه) (وَرِدَّة).

إِكْرَاهُ الْأَسِيرِ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ:

78- الْأَسِيرُ إِنْ أَكْرَهَهُ الْكُفَّارُ عَلَى الْكُفْرِ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، لَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ، وَلَا يَحْرُمُ مِيرَاثُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُحْرَمُونَ مِيرَاثَهُمْ مِنْهُ، وَإِذَا مَا أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَوْ دُخُولِ الْكَنِيسَةِ فَفَعَلَ وَسِعَهُ ذَلِكَ لِقَاعِدَةِ الضَّرُورَاتِ.وَلَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى أَنْ يَقْتُلَ مُسْلِمًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، كَمَا لَا يُرَخَّصُ لَهُ فِي أَنْ يَدُلَّ عَلَى ثُغْرَةٍ يَنْفُذُ مِنْهَا الْعَدُوُّ إِلَى مُقَاتَلَتِنَا، وَلَا الِاشْتِرَاكِ مَعَ الْعَدُوِّ فِي الْقِتَالِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَجَازَ ذَلِكَ الْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَوْضِعُهُ مُصْطَلَحُ (إِكْرَاهٌ).

الْأَمَانُ مِنَ الْأَسِيرِ وَتَأْمِينُهُ:

79- لَا يَصِحُّ الْأَمَانُ مِنَ الْأَسِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّ الْأَمَانَ لَا يَقَعُ مِنْهُ بِصِفَةِ النَّظَرِ مِنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ، بَلْ لِنَفْسِهِ حَتَّى يَتَخَلَّصَ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ الْأَسِيرَ خَائِفٌ عَلَى نَفْسِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ إِنْ أَمِنُوهُ وَأَمِنَهُمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَفِيَ لَهُمْ كَمَا يَفُونَ لَهُ، وَلَا يَسْرِقَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَقَدْ شُرِطَ أَنْ يَفِيَ لَهُمْ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِهِمْ.وَهُوَ مَا قَالَهُ اللَّيْثُ.وَوَافَقَهُمْ كُلٌّ مِنَ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِذَا مَا كَانَ الْأَسِيرُ مَحْبُوسًا أَوْ مُقَيَّدًا، لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ، وَأَعْطَى الشَّافِعِيَّةُ مَنْ أَمَّنَ آسِرَهُ حُكْمَ الْمُكْرَهِ، وَقَالُوا: إِنَّ أَمَانَهُ فَاسِدٌ.أَمَّا إِذَا كَانَ مُطْلَقًا وَغَيْرَ مُكْرَهٍ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ أَسِيرَ الدَّارِ- وَهُوَ الْمُطْلَقُ بِبِلَادِ الْكُفَّارِ الْمَمْنُوعُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْهَا- يَصِحُّ أَمَانُهُ.قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا يَكُونُ مُؤَمَّنُهُ آمِنًا بِدَارِهِمْ لَا غَيْرُ، إِلاَّ أَنْ يُصَرِّحَ بِالْأَمَانِ فِي غَيْرِهَا.وَسُئِلَ أَشْهَبُ عَنْ رَجُلٍ شَذَّ عَنْ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَسَرَهُ الْعَدُوُّ، فَطَلَبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ الْعَدُوُّ لِلْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ: أَعْطِنَا الْأَمَانَ، فَأَعْطَاهُمْ الْأَمَانَ، فَقَالَ: إِذَا كَانَ أَمَّنَهُمْ، وَهُوَ آمِنٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ أَمَّنَهُمْ، وَهُوَ خَائِفٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِجَائِزٍ، وَقَوْلُ الْأَسِيرِ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ.

وَيُعَلِّلُ ابْنُ قُدَامَةَ لِصِحَّةِ أَمَانِ الْأَسِيرِ إِذَا عَقَدَهُ غَيْرَ مُكْرَهٍ، بِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِسَنَدِهِ مِنْ أَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ...» كَمَا أَنَّهُ مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ مُخْتَارٌ. صَلَاةُ الْأَسِيرِ فِي السَّفَرِ، وَالِانْفِلَاتِ، وَمَا يَنْتَهِي بِهِ الْأَسْرُ

80- الْأَسِيرُ الْمُسْلِمُ فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ إِنْ عَزَمَ عَلَى الْفِرَارِ مِنَ الْأَسْرِ عِنْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ الْكُفَّارُ أَقَامُوا بِهِ فِي مَوْضِعٍ يُرِيدُونَ الْمُقَامَ فِيهِ الْمُدَّةَ الَّتِي تُعْتَبَرُ إِقَامَةً، وَلَا تَقْصُرُ بَعْدَهَا الصَّلَاةُ، لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ، لِأَنَّهُ مَقْهُورٌ فِي أَيْدِيهِمْ، فَيَكُونُ الْمُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ نِيَّتَهُمْ فِي السَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ، لَا نِيَّتَهُ.وَإِنْ كَانَ الْأَسِيرُ انْفَلَتَ مِنْهُمْ، وَهُوَ مُسَافِرٌ، فَوَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى إِقَامَةِ شَهْرٍ فِي غَارٍ أَوْ غَيْرِهِ قَصَرَ الصَّلَاةَ، لِأَنَّهُ مُحَارِبٌ لَهُمْ، فَلَا تَكُونُ دَارُ الْحَرْبِ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ فِي حَقِّهِ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ (صَلَاةُ الْمُسَافِرِ).

81- وَالْأَسْرُ يَنْتَهِي بِمَا يُقَرِّرُ الْإِمَامُ، مِنْ قَتْلٍ أَوِ اسْتِرْقَاقٍ أَوْ مَنٍّ أَوْ فِدَاءٍ بِمَالٍ، أَوْ عَنْ طَرِيقِ تَبَادُلِ الْأَسْرَى عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ، كَمَا يَنْتَهِي الْأَسْرُ بِمَوْتِ الْأَسِيرِ قَبْلَ قَرَارِ الْإِمَامِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ يَنْتَهِي بِفِرَارِ الْأَسِيرِ، يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: لَوِ انْفَلَتَ أَسِيرٌ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَالْتَحَقَ بِمَنْعَتِهِمْ يَعُودُ حُرًّا، وَيَنْتَهِي أَسْرُهُ، وَلَمْ يَعُدْ فَيْئًا، لِأَنَّ حَقَّ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَتَأَكَّدُ إِلاَّ بِالْأَخْذِ حَقِيقَةً، وَلَمْ يُوجَدْ.

82- وَيُصَرِّحُ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ الْفِرَارُ إِنْ أَطَاقُوهُ، وَلَمْ يُرْجَ ظُهُورُ الْإِسْلَامِ بِبَقَائِهِمْ، لِلْخُلُوصِ مِنْ قَهْرِ الْأَسْرِ، وَقَيَّدَ بَعْضُهُمُ الْوُجُوبَ بِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ إِظْهَارِ الدِّينِ لَكِنْ جَاءَ فِي مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى: وَإِنْ أُسِرَ مُسْلِمٌ، فَأُطْلِقَ بِشَرْطِ أَنْ يُقِيمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً، وَرَضِيَ بِالشَّرْطِ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَهْرُبَ لِحَدِيثِ: «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» وَإِنْ أُطْلِقَ بِشَرْطِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ، إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِظْهَارِ دِينِهِ، إِلاَّ الْمَرْأَةَ فَلَا يَحِلُّ لَهَا الرُّجُوعُ.

وَاخْتَارَ ابْنُ رُشْدٍ- إِذَا ائْتَمَنَ الْعَدُوُّ الْأَسِيرَ طَائِعًا عَلَى أَلاَّ يَهْرُبَ، وَلَا يَخُونَهُمْ- أَنَّهُ يَهْرُبُ وَلَا يَخُونُهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ.

وَأَمَّا إِنِ ائْتَمَنُوهُ مُكْرَهًا، أَوْ لَمْ يَأْتَمِنُوهُ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَلَهُ أَنْ يَهْرُبَ بِنَفْسِهِ.وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: إِنْ عَاهَدُوهُ عَلَى أَلاَّ يَهْرُبَ فَلْيُوَفِّ بِالْعَهْدِ فَإِنْ تَبِعَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرُ بَعْدَ خُرُوجِهِ فَلْيَدْفَعْهُمْ حَتْمًا إِنْ حَارَبُوهُ وَكَانُوا مِثْلَيْهِ فَأَقَلَّ، وَإِلاَّ فَنَدْبًا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


66-موسوعة الفقه الكويتية (اشتباه 1)

اشْتِبَاه -1

التَّعْرِيفُ:

1- الِاشْتِبَاهُ مَصْدَرُ: اشْتَبَهَ، يُقَالُ اشْتَبَهَ الشَّيْئَانِ وَتَشَابَهَا: أَشْبَهَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ.وَالْمُشْتَبِهَاتُ مِنَ الْأُمُورِ: الْمُشْكِلَاتُ.وَالشُّبْهَةُ اسْمٌ مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَهُوَ الِالْتِبَاسُ.

وَالِاشْتِبَاهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْفِقْهِيِّ أَخَصُّ مِنْهُ فِي اللُّغَةِ، فَقَدْ عَرَّفَ الْجُرْجَانِيُّ الشُّبْهَةَ بِأَنَّهَا: مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ كَوْنُهُ حَرَامًا أَوْ حَلَالاً.وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: الشُّبْهَةُ مَا جُهِلَ تَحْلِيلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَتَحْرِيمُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ.وَيَقُولُ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: الشُّبْهَةُ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ، وَلَا بُدَّ مِنَ الظَّنِّ لِتَحَقُّقِ الِاشْتِبَاهِ.الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الِالْتِبَاسُ:

2- الِالْتِبَاسُ هُوَ: الْإِشْكَالُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاشْتِبَاهِ عَلَى مَا قَالَ الدُّسُوقِيُّ: أَنَّ الِاشْتِبَاهَ مَعَهُ دَلِيلٌ (يُرَجِّحُ أَحَدَ الِاحْتِمَالَيْنِ) وَالِالْتِبَاسُ لَا دَلِيلَ مَعَهُ ب- الشُّبْهَةُ:

3- يُقَالُ: اشْتَبَهَتِ الْأُمُورُ وَتَشَابَهَتِ: الْتَبَسَتْ فَلَمْ تَتَمَيَّزْ وَلَمْ تَظْهَرْ، وَمِنْهُ اشْتَبَهَتِ الْقِبْلَةُ وَنَحْوُهَا، وَالْجَمْعُ فِيهَا شُبَهٌ وَشُبُهَاتٌ.وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهَا مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ كَوْنُهُ حَرَامًا أَوْ حَلَالاً نَتِيجَةَ الِاشْتِبَاهِ.

وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَقْسِيمِهَا وَتَسْمِيَتِهَا اصْطِلَاحَاتٌ، فَجَعَلَهَا الْحَنَفِيَّةُ نَوْعَيْنِ:

الْأَوَّلُ: شُبْهَةٌ فِي الْفِعْلِ، وَتُسَمَّى شُبْهَةُ اشْتِبَاهٍ أَوْ شُبْهَةُ مُشَابَهَةٍ، أَيْ شُبْهَةٌ فِي حَقِّ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ فَقَطْ، بِأَنْ يَظُنَّ غَيْرَ الدَّلِيلِ دَلِيلاً، كَمَا إِذَا ظَنَّ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ تَحِلُّ لَهُ، فَمَعَ الظَّنِّ لَا يُحَدُّ، حَتَّى لَوْ قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيَّ حُدَّ.

النَّوْعُ الثَّانِي: شُبْهَةٌ فِي الْمَحَلِّ، وَتُسَمَّى شُبْهَةٌ حُكْمِيَّةٌ أَوْ شُبْهَةُ مِلْكٍ، أَيْ شُبْهَةٌ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ بِحِلِّ الْمَحَلِّ.وَهِيَ تَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ، وَلَوْ قَالَ عَلِمْتُ أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيَّ.وَتَتَحَقَّقُ بِقِيَامِ الدَّلِيلِ النَّافِي لِلْحُرْمَةِ فِي ذَاتِهِ، لَكِنْ لَا يَكُونُ الدَّلِيلُ عَامِلاً لِقِيَامِ الْمَانِعِ كَوَطْءِ أَمَةِ الِابْنِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ»،، وَلَا يَتَوَقَّفُ هَذَا النَّوْعُ عَلَى ظَنِّ الْجَانِي وَاعْتِقَادِهِ، إِذِ الشُّبْهَةُ بِثُبُوتِ الدَّلِيلِ قَائِمَةٌ.وَجَعَلَهَا الشَّافِعِيَّةُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:

(1) شُبْهَةٌ فِي الْمَحَلِّ، كَوَطْءِ الزَّوْجَةِ الْحَائِضِ أَوِ الصَّائِمَةِ، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِأَمْرٍ عَارِضٍ كَالْإِيذَاءِ وَإِفْسَادِ الْعِبَادَةِ.

(2) وَشُبْهَةٌ فِي الْفَاعِلِ، كَمَنْ يَجِدُ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ فَيَطَؤُهَا، ظَانًّا أَنَّهَا زَوْجَتُهُ.

(3) وَشُبْهَةٌ فِي الْجِهَةِ، كَالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ أَوْ بِلَا شُهُودٍ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ شُبْهَة.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ أَنَّ الشُّبْهَةَ أَعَمُّ مِنْ الِاشْتِبَاهِ، لِأَنَّهَا قَدْ تُنْتَجُ نَتِيجَةَ الِاشْتِبَاهِ، وَقَدْ تُنْتَجُ دُونَ اشْتِبَاهٍ.

ج- التَّعَارُضُ:

4- التَّعَارُضُ لُغَةً: الْمَنْعُ بِالِاعْتِرَاضِ عَنْ بُلُوغِ الْمُرَادِ.وَاصْطِلَاحًا: تَقَابُلُ الْحُجَّتَيْنِ الْمُتَسَاوِيَتَيْنِ عَلَى وَجْهٍ تُوجِبُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ضِدَّ مَا تُوجِبُهُ الْأُخْرَى.وَسَيَأْتِي أَنَّ التَّعَارُضَ أَحَدُ أَسْبَابِ الِاشْتِبَاهِ.

د- الشَّكُّ:

5- الشَّكُّ لُغَةً: خِلَافُ الْيَقِينِ، وَهُوَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، سَوَاءٌ اسْتَوَى طَرَفَاهُ، أَوْ رُجِّحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ.

وَهُوَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ: التَّرَدُّدُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ بِلَا تَرْجِيحٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ عِنْدَ الشَّاكِّ فَالشَّكُّ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الِاشْتِبَاهِ.

هـ- الظَّنُّ:

6- الظَّنُّ خِلَافُ الْيَقِينِ.وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْيَقِينِ كَمَا فِي، قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ}.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الِاعْتِقَادُ الرَّاجِحُ مَعَ احْتِمَالِ النَّقِيضِ وَهُوَ طَرِيقٌ لِحُدُوثِ الِاشْتِبَاهِ.-

و- الْوَهْمُ:

7- الْوَهْمُ: مَا سَبَقَ الْقَلْبُ إِلَيْهِ مَعَ إِرَادَةِ غَيْرِهِ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ إِدْرَاكُ الطَّرَفِ الْمَرْجُوحِ، أَوْ كَمَا قَالَ عَنْهُ ابْنُ نُجَيْمٍ: رُجْحَانُ جِهَةِ الْخَطَأِ فَهُوَ دُونَ كُلٍّ مِنَ الظَّنِّ وَالشَّكِّ، وَهُوَ لَا يَرْتَقِي إِلَى تَكْوِينِ اشْتِبَاهٍ.

أَسْبَابُ الِاشْتِبَاهِ:

8- قَدْ يَنْشَأُ الِاشْتِبَاهُ نَتِيجَةَ خَفَاءِ الدَّلِيلِ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، كَالْإِجْمَالِ فِي الْأَلْفَاظِ وَاحْتِمَالِهَا التَّأْوِيلَ، وَدَوَرَانِ الدَّلِيلِ بَيْنَ الِاسْتِقْلَالِ بِالْحُكْمِ وَعَدَمِهِ، وَدَوَرَانِهِ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَدِيثِ، وَكَالِاشْتِرَاكِ فِي اللَّفْظِ، أَوِ التَّخْصِيصِ فِي عَامِّهِ، أَوِ التَّقْيِيدِ فِي مُطْلَقِهِ، كَمَا يَنْشَأُ الِاشْتِبَاهُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ دُونَ مُرَجِّحٍ.كَمَا أَنَّ النُّصُوصَ فِي دَلَالَتِهَا لَيْسَتْ عَلَى وَضْعٍ وَاحِدٍ، فَمِنْهَا مَا دَلَالَتُهُ عَلَى الْأَحْكَامِ ظَنِّيَّةٌ، فَيَجْتَهِدُ الْفُقَهَاءُ لِلتَّعَرُّفِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّصُّ، وَقَدْ يَتَشَابَهُ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ نَتِيجَةَ ذَلِكَ، إِذْ مِنَ الْحَقَائِقِ الثَّابِتَةِ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِي تَفْكِيرِهِمْ، وَتَبَايُنُ وُجُهَاتِ نَظَرِهِمْ.

وَالِاشْتِبَاهُ النَّاشِئُ عَنْ خَفَاءٍ فِي الدَّلِيلِ يُعْذَرُ الْمُجْتَهِدُ فِيهِ، بَعْدَ بَذْلِهِ الْجَهْدَ وَاسْتِفْرَاغِهِ الْوُسْعَ، وَيَكُونُ فِيمَا انْتَهَى إِلَيْهِ مِنْ رَأْيٍ قَدِ اتَّبَعَ الدَّلِيلَ الْمُرْشِدَ إِلَى تَعَرُّفِ قَصْدِ الشَّارِعِ.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ- اخْتِلَافُ الْمُخْبِرِينَ:

9- وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ، وَأَخْبَرَهُ آخَرُ بِطَهَارَتِهِ.فَإِنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ تَعَارُضِ الْخَبَرَيْنِ وَتَسَاوِيهِمَا تَسَاقُطُهُمَا، وَحِينَئِذٍ يُعْمَلُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ، إِذْ الشَّيْءُ مَتَى شُكَّ فِي حُكْمِهِ رُدَّ إِلَى أَصْلِهِ، لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَاءِ الطَّهَارَةُ.

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا لَوْ أَخْبَرَ عَدْلٌ بِأَنَّ هَذَا اللَّحْمَ ذَبَحَهُ مَجُوسِيٌّ، وَأَخْبَرَ عَدْلٌ آخَرُ أَنَّهُ ذَكَّاهُ مُسْلِمٌ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِبَقَاءِ اللَّحْمِ عَلَى الْحُرْمَةِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ.إِذْ حِلُّ الْأَكْلِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى تَحَقُّقِ الذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ.وَبِتَعَارُضِ الْخَبَرَيْنِ لَمْ يَتَحَقَّقِ الْحِلُّ، فَبَقِيَتِ الذَّبِيحَةُ عَلَى الْحُرْمَةِ.

ب- الْإِخْبَارُ الْمُقْتَضِي لِلِاشْتِبَاهِ:

10- وَهُوَ الْإِخْبَارُ الَّذِي اقْتَرَنَتْ بِهِ قَرَائِنُ تُوقِعُ فِي الِاشْتِبَاهِ.مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَعْقِدَ عَلَى امْرَأَةٍ، ثُمَّ تُزَفُّ إِلَيْهِ أُخْرَى بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، وَيَدْخُلُ بِهَا عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ أَنَّهَا لَيْسَتِ الْمَرْأَةُ الَّتِي عَقَدَ عَلَيْهَا.فَإِنْ وَطِئَهَا فَإِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، لِأَنَّهُ اعْتَمَدَ دَلِيلاً شَرْعِيًّا فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ.وَقَدْ أَوْرَدَ الْفُقَهَاءُ فُرُوعًا كَثِيرَةً مِثْلَ هَذَا الْفَرْعِ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا الْأَسَاسِ.

ج- تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ ظَاهِرًا:

11- لَا يُوجَدُ بَيْنَ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي وَاقِعِ الْأَمْرِ تَعَارُضٌ، لِأَنَّهَا جَمِيعَهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى.أَمَّا مَا يَظْهَرُ مِنَ التَّعَارُضِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ فَلِعَدَمِ الْعِلْمِ بِظُرُوفِهِمَا وَشُرُوطِ تَطْبِيقِهِمَا، أَوْ بِمَا يُرَادُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ، أَوْ لِجَهْلِنَا بِزَمَنِ وُرُودِهِمَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَرْتَفِعُ بِهِ التَّعَارُضُ.

فَمِنْ الِاشْتِبَاهِ بِسَبَبِ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِي الظَّاهِرِ مَا إِذَا سَرَقَ الْوَالِدُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ، إِذْ أَنَّ نُصُوصَ الْعِقَابِ عَلَى السَّرِقَةِ تَشْمَلُ فِي عُمُومِهَا هَذِهِ الْوَاقِعَةَ.فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}.غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ مَا يُفِيدُ حِلَّ مَالِ الِابْنِ لِأَبِيهِ.فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» وَقَوْلُهُ: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» وَوُجُودُ مِثْلِ هَذَا يُنْتِجُ اشْتِبَاهًا فِي الْحُكْمِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِسْقَاطُ الْحَدِّ، لِأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الشُّبُهَاتِ أَخْذُ الرَّجُلِ مِنْ مَالٍ جَعَلَهُ الشَّرْعُ لَهُ، وَأَمَرَهُ بِأَخْذِهِ وَأَكْلِهِ.وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (سَرِقَة).

وَمِنْ الِاشْتِبَاهِ النَّاشِئِ عَنْ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِي الظَّاهِرِ مَا وَرَدَ بِالنِّسْبَةِ لِطَهَارَةِ سُؤْرِ الْحِمَارِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «الْحِمَارُ يُعْتَلَفُ الْقَتَّ وَالتِّبْنَ فَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ» وَعَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ: أَنَتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتِ الْحُمُرُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَبِمَا أَفْضَلَتِ السِّبَاعُ كُلُّهَا»،، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّهُ رِجْسٌ وَالتَّوَقُّفُ فِي الْحُكْمِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَاجِبٌ.فَلِذَلِكَ كَانَ مَشْكُوكًا فِيهِ، وَالْمُرَادُ بِالشَّكِّ التَّوَقُّفُ عَنْ إِعْطَاءِ حُكْمٍ قَاطِعٍ، لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الْأَصَحُّ أَنَّ سُؤْرَ الْحِمَارِ مَشْكُوكٌ فِي طَهُورِيَّتِهِ (أَيْ كَوْنُهُ مُطَهِّرًا، لَا فِي طَهَارَتِهِ فِي ذَاتِهِ) وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.وَسَبَبُهُ تَعَارُضُ الْأَخْبَارِ فِي لَحْمِهِ، وَقِيلَ: اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي سُؤْرِهِ، وَقَدِ اسْتَوَى مَا يُوجِبُ الطَّهَارَةَ وَالنَّجَاسَةَ فَتَسَاقَطَا لِلتَّعَارُضِ، فَيُصَارُ إِلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ هُنَا شَيْئَانِ: الطَّهَارَةُ فِي الْمَاءِ، وَالنَّجَاسَةُ فِي اللُّعَابِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، فَبَقِيَ الْأَمْرُ مُشْكِلاً، نَجِسًا مِنْ وَجْهٍ، طَاهِرًا مِنْ وَجْهٍ.

د- اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ:

12- مِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ بِالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، كَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ، فَالْحَنَفِيَّةُ يُجِيزُونَهُ.وَسُقُوطُ الْحَدِّ بِسَبَبِ ذَلِكَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي إِبَاحَةِ الْوَطْءِ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ إِلَى بَابِ (حَدِّ الزِّنَى).

وَمِنْ ذَلِكَ الْمُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ إِذَا رَأَى سَرَابًا، وَكَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ مَاءٌ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ، وَإِنِ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ لَا يَحِلُّ لَهُ قَطْعُ الصَّلَاةِ، وَإِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ، إِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مَاءً يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، وَإِلاَّ فَلَا.نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ.وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَيَمَّمَ لِفَقْدِ الْمَاءِ فَوَجَدَهُ أَوْ تَوَهَّمَهُ بَطَلَ تَيَمُّمُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ.وَيَحْصُلُ هَذَا التَّوَهُّمُ بِرُؤْيَةِ سَرَابٍ.وَمَحَلُّ بُطْلَانِهِ بِالتَّوَهُّمِ إِنْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ زَمَنٌ لَوْ سَعَى فِيهِ إِلَى ذَلِكَ لأَمْكَنَهُ التَّطَهُّرُ بِهِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ.وَإِذَا بَطَلَ التَّيَمُّمُ بِتَوَهُّمِ وُجُودِ الْمَاءِ فَإِنَّهُ بُطْلَانُهُ بِالظَّنِّ أَوِ الشَّكِّ أَوْلَى، سَوَاءٌ أَتَبَيَّنَ لَهُ خِلَافُ ظَنِّهِ أَمْ لَمْ يَتَبَيَّنْ، لِأَنَّ ظَنَّ وُجُودِ الْمَاءِ مُبْطِلٌ لِلتَّيَمُّمِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ وُجِدَ الْمَاءُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ إِذَا مَا طَلَبَ الْمَاءَ سَاغَ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَلَوْ كَانَ خَوْفُهُ بِسَبَبِ ظَنِّهِ فَتَبَيَّنَ عَدَمُ السَّبَبِ.مِثْلُ مَنْ رَأَى سَوَادًا بِاللَّيْلِ ظَنَّهُ عَدُوًّا، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَدُوٍّ بَعْدَ أَنْ تَيَمَّمَ وَصَلَّى لَمْ يُعِدْ لِكَثْرَةِ الْبَلْوَى.وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّهُ تَيَمَّمَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مُبِيحٍ لِلتَّيَمُّمِ.

هـ- الِاخْتِلَاطُ:

13- يُقْصَدُ بِهِ اخْتِلَاطُ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ وَعُسْرُ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا.كَمَا لَوِ اخْتَلَطَتِ الْأَوَانِي الَّتِي فِيهَا مَاءٌ طَاهِرٌ بِالْأَوَانِي الَّتِي فِيهَا مَاءٌ نَجِسٌ، وَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ، بِأَنْ لَمْ يُمْكِنِ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ، وَيَجِبُ التَّيَمُّمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا نَجِسٌ يَقِينًا، وَالْآخَرُ طَاهِرٌ يَقِينًا، لَكِنْ عَجَزَ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ فَيُصَارُ إِلَى الْبَدَلِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (مَاءٌ).وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا إِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ ثِيَابٌ طَاهِرَةٌ بِنَجِسَةٍ، وَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهَا، وَلَمْ يَجِدْ ثَوْبًا طَاهِرًا بِيَقِينٍ، وَلَيْسَ مَعَهُ مَا يُطَهِّرُهُمَا بِهِ، وَاحْتَاجَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَالْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ خِلَافًا لِلْمُزَنِيِّ، أَنَّهُ يَتَحَرَّى بَيْنَهَا، وَيُصَلِّي بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ طَهَارَتُهُ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يَجُوزُ التَّحَرِّي وَيُصَلِّي فِي ثِيَابِ مِنْهَا بِعَدَدِ النَّجِسِ مِنْهَا، وَيَزِيدُ صَلَاةً فِي ثَوْبٍ آخَرَ.وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ: لَا يُصَلِّي فِي شَيْءٍ مِنْهَا كَالْأَوَانِي.

وَإِنَّمَا يَتَحَرَّى- عِنْدَ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ- إِذَا لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا طَاهِرًا، أَوْ مَا يُطَهِّرُ بِهِ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مِنَ الثِّيَابِ.وَإِذَا تَحَرَّى فَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ صَلَّى فِي أَحَدِهِمَا.وَالْقَائِلُونَ بِالتَّحَرِّي هُنَا قَالُوا: لِأَنَّهُ لَا خُلْفَ لِلثَّوْبِ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ، بِخِلَافِ الِاشْتِبَاهِ فِي الْأَوَانِي، لِأَنَّ التَّطَهُّرَ بِالْمَاءِ لَهُ خُلْفٌ وَهُوَ التَّيَمُّمُ.

و- الشَّكُّ (بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ يَشْمَلُ أَيْضًا الظَّنَّ وَالْوَهْمَ):

14- وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالُوهُ فِيمَنْ أَيْقَنَ بِالْوُضُوءِ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ مِنْ أَنَّهُ لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ، إِذِ الْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ غَيْرَ أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَيْقَنَ بِالْوُضُوءِ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ ابْتَدَأَ الْوُضُوءَ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَتَوَضَّأَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ عِنْدَ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ اسْتِحْبَابٌ وَاحْتِيَاطٌ كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ أَيْقَنَ بِالْحَدَثِ وَشَكَّ فِي الْوُضُوءِ أَنَّ شَكَّهُ لَا يُعْتَبَرُ وَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ.وَالْمُرَادُ بِالشَّكِّ هُنَا مُطْلَقُ التَّرَدُّدِ سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى السَّوَاءِ أَمْ كَانَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ أَرْجَحَ.وَعَلَى هَذَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَحَدُهُمَا أَوْ يَتَسَاوَى الْأَمْرَانِ عِنْدَهُمَا، لِأَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَضْبُوطَةً بِضَابِطٍ شَرْعِيٍّ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا، وَلِأَنَّهُ إِذَا شَكَّ تَعَارَضَ عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ، فَيَجِبُ سُقُوطُهُمَا كَالْبَيِّنَتَيْنِ إِذَا تَعَارَضَتَا، وَيَرْجِعُ إِلَى الْيَقِينِ

وَقَالُوا: مَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَالْحَدَثَ مَعًا وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فَلَمْ يَعْلَمْ الْأَخِيرُ مِنْهُمَا وَالْأَسْبَقُ فَيُعْمَلُ بِضِدِّ مَا قَبْلَهُمَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْدِثًا فَهُوَ الْآنَ مُتَطَهِّرٌ، لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ بَعْدَ ذَلِكَ الْحَدَثِ وَشَكَّ فِي انْتِقَاضِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلِ الْحَدَثُ الثَّانِي قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا.وَإِنْ كَانَ مُتَطَهِّرًا وَكَانَ يَعْتَادُ التَّجْدِيدَ فَهُوَ الْآنَ مُحْدِثٌ، لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ حَدَثًا بَعْدَ تِلْكَ الطَّهَارَةِ وَشَكَّ فِي زَوَالِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلِ الطَّهَارَةُ الثَّانِيَةُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهُ أَمْ لَا.

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا قَالُوهُ فِي الصَّائِمِ لَوْ شَكَّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ مَعَ الشَّكِّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّهَارِ.وَلَوْ أَفْطَرَ وَهُوَ شَاكٌّ وَلَمْ يَتَبَيَّنِ الْحَالُ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ اتِّفَاقًا.

أَمَّا إِذَا شَكَّ الصَّائِمُ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَلاَّ يَأْكُلَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْفَجْرُ قَدْ طَلَعَ، فَيَكُونُ الْأَكْلُ إِفْسَادًا لِلصَّوْمِ فَيُتَحَرَّزُ عَنْهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ».وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ».وَلَوْ أَكَلَ وَهُوَ شَاكٌّ فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ فَسَادَ الصَّوْمِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، إِذِ الْأَصْلُ بَقَاءُ اللَّيْلِ فَلَا يَثْبُتُ النَّهَارُ بِالشَّكِّ، وَإِلَى هَذَا اتَّجَهَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ أَكَلَ شَاكًّا فِي الْفَجْرِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مَعَ الْحُرْمَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ بَقَاءَ اللَّيْلِ، هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِصَوْمِ الْفَرْضِ.وَقِيلَ: وَفِي النَّفْلِ أَيْضًا.كَمَا قِيلَ مَعَ الْكَرَاهَةِ لَا الْحُرْمَةِ.وَمَنْ أَكَلَ مُعْتَقِدًا بَقَاءَ اللَّيْلِ أَوْ حُصُولَ الْغُرُوبِ ثُمَّ طَرَأَ الشَّكُّ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِلَا حُرْمَةٍ.

ز- الْجَهْلُ:

15- وَمِنْ ذَلِكَ الْأَسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، إِذَا لَمْ يَعْرِفْ دُخُولَ رَمَضَانَ، وَأَرَادَ صَوْمَهُ، فَتَحَرَّى وَصَامَ شَهْرًا عَنْ رَمَضَانَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ.فَإِذَا كَانَ صَامَ قَبْلَ حُلُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِعْلاً لَمْ يُجْزِئْهُ، لِأَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ قَبْلَ وُجُوبِهِ وَوُجُودِ سَبَبِهِ، وَهُوَ مُشَاهَدَةُ الشَّهْرِ وَنَقَلَ الشِّيرَازِيُّ عَنِ الْأَصْحَابِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاً آخَرَ بِالْإِجْزَاءِ، لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تُفْعَلُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً، فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ فَرْضُهَا بِالْفِعْلِ قَبْلَ الْوَقْتِ عِنْدَ الْخَطَأِ، كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ إِذَا أَخْطَأَ النَّاسُ وَوَقَفُوا قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فِيمَا يُؤْمَنُ مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ، فَلَمْ يُعْتَدَّ بِمَا فَعَلَهُ، كَمَا لَوْ تَحَرَّى فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ فَصَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ.وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّهْرَ الَّذِي صَامَهُ كَانَ بَعْدَ رَمَضَانَ صَحَّ.

وَإِذَا كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي صَامَهُ نَاقِصًا، وَرَمَضَانَ الَّذِي صَامَهُ النَّاسُ تَامًّا صَامَ يَوْمًا، إِذْ لَا بُدَّ مِنْ مُوَافَقَةِ الْعَدَدِ، لِأَنَّ صَوْمَ شَهْرٍ آخَرَ بَعْدَهُ يَكُونُ قَضَاءً، وَالْقَضَاءُ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْفَائِتِ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ آخَرُ اخْتَارَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرايِينِيُّ بِالْإِجْزَاءِ، لِأَنَّ الشَّهْرَ يَقَعُ عَلَى مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ، وَلِهَذَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ، فَصَامَ شَهْرًا نِقَاصًا بِالْأَهِلَّةِ أَجْزَأَهُ.ثُمَّ قَالَ الشِّيرَازِيُّ: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ.وَمِنْ ذَلِكَ الِاشْتِبَاهُ فِي الْقِبْلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يَجْهَلُهَا.فَقَدْ نَصَّ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ جِهَةُ الْقِبْلَةِ، وَلَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا، سَأَلَ مَنْ بِحَضْرَتِهِ مِمَّنْ يَعْلَمُهَا مِنْ أَهْلِ الْمَكَانِ.وَحَدُّ الْحَضْرَةِ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَوْ صَاحَ بِهِ سَمِعَهُ.فَإِذَا تَحَرَّى بِنَفْسِهِ وَصَلَّى دُونَ سُؤَالٍ، وَتَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُصِبِ الْقِبْلَةَ، أَعَادَ الصَّلَاةَ، لِعَدَمِ إِجْزَاءِ التَّحَرِّي مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِخْبَارِ، لِأَنَّ التَّحَرِّي دُونَ الِاسْتِخْبَارِ، إِذِ الْخَبَرُ مُلْزِمٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، بَيْنَمَا التَّحَرِّي مُلْزِمٌ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَا يُصَارُ إِلَى الْأَدْنَى مَعَ إِمْكَانِ الْأَعْلَى، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، أَوْ كَانَ وَسَأَلَهُ وَلَمْ يُجِبْهُ، أَوْ لَمْ يَدُلَّهُ ثُمَّ تَحَرَّى، فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَصِحُّ، حَتَّى لَوْ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَخْطَأَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ، فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا عَلَى حِيَالِهِ- أَيْ قُبَالَتَهُ- فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَنَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}».

وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِالدَّلِيلِ الظَّاهِرِ وَاجِبٌ إِقَامَةً لِلْوَاجِبِ بِقَدْرِ الْوُسْعِ، وَإِقَامَةً لِلظَّنِّ مَقَامَ الْيَقِينِ لِتَعَذُّرِهِ.

وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّ قِبْلَةَ الْمُتَحَرِّي جِهَةُ قَصْدِهِ إِنْ تَحَرَّى ثُمَّ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَخْبَرَهُ عَدْلَانِ مِنْ أَهْلِ الْجِهَةِ أَنَّ الْقِبْلَةَ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى، أَخَذَ بِقَوْلِهِمَا وَلَا عِبْرَةَ بِالتَّحَرِّي.

ح- النِّسْيَانُ:

16- وَمِنْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ إِذَا نَسِيَتْ عَادَةَ حَيْضِهَا، وَاشْتَبَهَ عَلَيْهَا الْأَمْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، بِأَنْ لَمْ تَعْلَمْ عَدَدَ أَيَّامِ حَيْضِهَا الْمُعْتَادَةِ، وَلَا مَكَانَ هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنَ الشَّهْرِ فَإِنَّهَا تَتَحَرَّى، فَإِنْ وَقَعَ تَحَرِّيهَا عَلَى طُهْرٍ تُعْطَى حُكْمَ الطَّاهِرَاتِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى حَيْضٍ أُعْطِيَتْ حُكْمَهُ، لِأَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ مِنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَإِنْ تَرَدَّدَتْ وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهَا شَيْءٌ فَهِيَ الْمُحَيَّرَةُ، وَتُسَمَّى الْمُضَلَّلَةُ، لَا يُحْكَمُ لَهَا بِشَيْءٍ مِنَ الطُّهْرِ أَوِ الْحَيْضِ عَلَى التَّعْيِينِ، بَلْ تَأْخُذُ بِالْأَحْوَطِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ، لِاحْتِمَالِ كُلِّ زَمَانٍ يَمُرُّ عَلَيْهَا مِنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالِانْقِطَاعِ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا حَائِضًا دَائِمًا لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَلَا طَاهِرًا دَائِمًا لِقِيَامِ الدَّمِ، وَلَا التَّبْعِيضِ لِأَنَّهُ تَحَكُّمٌ، فَوَجَبَ الْأَخْذُ بِالْأَحْوَطِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ لِلضَّرُورَةِ.وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِهَا فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِحَاضَة).

ط- وُجُودُ دَلِيلٍ غَيْرِ قَوِيٍّ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ:

17- وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى فِي إِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ بِسَبَبِ الْجَوَازِ، أَوْ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ فِي مَرَافِقِ الْعَقَارِ، وَوَافَقَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّرِيكِ فِي مَمَرِّ الدَّارِ، بِأَنْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي طَرِيقٌ آخَرُ إِلَى الدَّارِ، أَوْ أَمْكَنَ فَتْحُ بَابٍ لَهَا إِلَى شَارِعٍ.

وَأَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فَيَقْصُرُونَهَا عَلَى الشَّرِكَةِ فِي نَفْسِ الْعَقَارِ الْمَبِيعِ فَقَطْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ، لِأَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، إِذْ هِيَ انْتِزَاعُ مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ رِضَاءٍ مِنْهُ، وَإِجْبَارٌ لَهُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ، وَلِمَا رَوَى جَابِرٌ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» وَبِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا قُسِمَتِ الْأَرْضُ وَحُدَّتْ فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا».

وَمُقْتَضَى الْأَصْلِ أَنْ لَا يَثْبُتَ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ أَصْلاً، لَكِنَّهَا ثَبَتَتْ فِيمَا لَا يُقْسَمُ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ غَيْرِ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِي الْمَقْسُومِ عَلَى الْأَصْلِ، أَوْ ثَبَتَ مَعْلُولاً بِدَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ وَهُوَ ضَرَرُ الْقِسْمَةِ.

وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ أَحَادِيثَ، فَإِنَّ فِي أَسَانِيدِهَا مَقَالاً.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: الثَّابِتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حَدِيثُ جَابِرٍ- السَّابِقُ ذِكْرُهُ- وَمَا عَدَاهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ، كَالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو رَافِعٍ «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ»، وَالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ سَمُرَةُ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ».فَإِنَّ فِيهَا مَقَالاً.عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْجَارِ الشَّرِيكَ، فَإِنَّهُ جَارٌ أَيْضًا.فَكُلُّ هَذَا أَوْرَثَ شُبْهَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ غَيْرُ قَوِيٍّ، وَجَاءَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَلِذَا لَمْ يُثْبِتُوا الشُّفْعَةَ بِسَبَبِ الْجِوَارِ وَالشَّرِكَةِ فِي مَرَافِقِ الْعَقَارِ، وَقَصَرُوهَا عَلَى الشَّرِكَةِ فِي الْعَقَارِ نَفْسِهِ.

وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الِاشْتِبَاهِ: لَوْ قَضَى قَاضٍ بِهَا لَا يُفْسَخُ قَضَاؤُهُ.

وَمِنْ الِاشْتِبَاهِ النَّاجِمِ عَنْ وُجُودِ دَلِيلٍ غَيْرِ قَوِيٍّ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ: مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ الَّذِي لَمْ يُخَصَّصْ قَطْعِيُّهُ، فَيَدُلُّ عَلَى جَمِيعِ الْأَفْرَادِ الَّتِي يَصْدُقُ عَلَيْهَا مَعْنَاهُ.فَإِذَا دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ كَانَتِ دَلَالَتُهُ ظَنِّيَّةً.

بَيْنَمَا يَرَى جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ ظَنِّيَّةٌ، إِذِ الْأَصْلُ أَنَّهُ مَا مِنْ عَامٍّ إِلاَّ وَخُصِّصَ.وَمَا دَامَ الْعَامُّ لَا يَكَادُ يَخْلُو مِنْ مُخَصِّصٍ، فَإِنَّ هَذَا يُورِثُ شُبْهَةً قَوِيَّةً تَمْنَعُ الْقَوْلَ بِقَطْعِيَّتِهِ فِي إِفَادَةِ الشُّمُولِ وَالِاسْتِغْرَاقِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَمْنَعُونَ تَخْصِيصَ عَامِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ ابْتِدَاءً بِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ، خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ.

وَعَلَى هَذَا فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ، إِذَا تَعَمَّدَ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ عَلَيْهَا، لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وَلَمْ يُخَصِّصُوا هَذَا الْعُمُومَ بِحَدِيثِ: «ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلَالٌ، ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ»، لِأَنَّهُ خَبَرُ آحَادٍ، وَقَدْ وَافَقَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي تَحْرِيمِ ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ إِذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا، بَيْنَمَا الشَّافِعِيَّةُ يُجِيزُونَ أَكْلَهَا، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ عِنْدَهُمْ ظَنِّيَّةٌ، فَيَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِمَا هُوَ ظَنِّيٌّ، وَإِنْ كَرِهُوا تَعَمُّدَ التَّرْكِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (تَذْكِيَة، وَتَسْمِيَة).

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا: اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي سَرِقَةِ مَا قِيمَتُهُ نِصَابٌ مِنَ الْمَاءِ الْمُحَرَّزِ، فَالْأَصْلُ فِي الْمَاءِ الْمُحَرَّزِ أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَأَنَّهُ مِلْكٌ لِمَنْ أَحْرَزَهُ، وَلَا شَرِكَةَ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ الشَّرِكَةِ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ «بَيْعِ الْمَاءِ إِلاَّ مَا حُمِلَ».وَلِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِوُجُوبِ الْقَطْعِ، يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي أَصْلُهَا مُبَاحٌ، هَلْ يَجِبُ فِي سَرِقَتِهَا الْقَطْعُ؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْقَطْعَ فِي كُلِّ مُتَمَوَّلٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَأَخْذُ الْعِوَضِ فِيهِ، وَعُمْدَتُهُمْ عُمُومُ الْآيَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَعُمُومُ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي اشْتِرَاطِ النِّصَابِ، وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ عَنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلاَّ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا».

وَيَقُولُ الدُّسُوقِيُّ: وَيَجِبُ الْقَطْعُ وَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ مُحَقَّرًا كَمَاءٍ وَحَطَبٍ، لِأَنَّهُ مُتَمَوَّلٌ مَا دَامَ مُحَرَّزًا، وَلَوْ كَانَ مُبَاحَ الْأَصْلِ.وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْقَوْلُ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.لَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ، وَالْحَنَابِلَةَ يَرَوْنَ عَدَمَ الْقَطْعِ، لِأَنَّهُ لَا يُتَمَوَّلُ عَادَةً، وَلِأَنَّ الْإِبَاحَةَ الْأَصْلِيَّةَ تُورِثُ شُبْهَةً بَعْدَ الْإِحْرَازِ، وَلِأَنَّ التَّافِهَ لَا يُحَرَّزُ عَادَةً، أَوْ لَا يُحَرَّزُ إِحْرَازَ الْخَطِيرِ، وَيَنْتَهُونَ إِلَى أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى مَعْنَى التَّفَاهَةِ دُونَ إِبَاحَةِ الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ السَّبَبَ شُبْهَةُ الشَّرِكَةِ.

ى- الْإِبْهَامُ مَعَ عَدَمِ إِمْكَانِ الْبَيَانِ:

18- وَمِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ، دُونَ تَعْيِينِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ، فَيَحْدُثُ الِاشْتِبَاهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِيمَنْ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ.

فَالْحَنَفِيَّةُ يُفَصِّلُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَحْكَامَ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى، وَحُكْمَ الْمِيرَاثِ، وَحُكْمَ الْعِدَّةِ.فَأَمَّا حُكْمُ الْمَهْرِ فَإِنْ كَانَتَا مَدْخُولاً بِهِمَا فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَمِيعُ الْمَهْرِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمَهْرِ، مَنْكُوحَةً كَانَتْ أَوْ مُطَلَّقَةً.وَإِنْ كَانَتَا غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهِمَا فَلَهُمَا مَهْرٌ وَنِصْفُ مَهْرٍ بَيْنَهُمَا، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ.مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَهْرِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً مُتَوَفَّى عَنْهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُطَلَّقَةً.فَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةً مُتَوَفَّى عَنْهَا تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمَهْرِ، لِأَنَّ الْمَوْتَ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً تَسْتَحِقُّ النِّصْفَ فَقَطْ، لِأَنَّ النِّصْفَ سَقَطَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كُلُّ الْمَهْرِ فِي حَالٍ، وَالنِّصْفُ فِي حَالٍ، وَلَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنَ الْأُخْرَى، فَيَتَنَصَّفُ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَهْرٍ.

وَأَمَّا حُكْمُ الْمِيرَاثِ، فَهُوَ أَنَّهُمَا يَرِثَانِ مِنْهُ مِيرَاثَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا مَنْكُوحَةٌ بِيَقِينٍ، وَلَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنَ الْأُخْرَى، فَيَكُونُ قَدْرُ مِيرَاثِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ.

وَأَمَّا حُكْمُ الْعِدَّةِ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَعِدَّةُ الطَّلَاقِ، أَيُّهُمَا أَطْوَلُ، لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا مَنْكُوحَةٌ وَالْأُخْرَى مُطَلَّقَةٌ، وَعَلَى الْمَنْكُوحَةِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ، وَعَلَى الْمُطَلَّقَةِ عِدَّةُ الطَّلَاقِ، فَدَارَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْعِدَّتَيْنِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَرْأَتَيْنِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَعَدَمِ الْوُجُوبِ، وَالْعِدَّةُ يُحْتَاطُ فِي إِيجَابِهَا، وَمِنْ الِاحْتِيَاطِ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهَا عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.

وَالْمَالِكِيَّةُ يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي حُكْمِ الْمِيرَاثِ وَالصَّدَاقِ.وَلَمْ نَقِفْ عَلَى نَصٍّ لَهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِدَّةِ.

وَلَهُمْ فِي الصَّدَاقِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (صَدَاق).

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِلْمِيرَاثِ يَرَوْنَ أَنَّهُ يُوقَفُ لِلزَّوْجَتَيْنِ مِنْ مَالِهِ نَصِيبُ زَوْجَةٍ إِلَى أَنْ يَصْطَلِحَا، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ إِرْثُ إِحْدَاهُمَا بِيَقِينٍ، وَلَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنَ الْأُخْرَى، فَإِنْ قَالَ وَارِثُ الزَّوْجِ: أَنَا أَعْرِفُ الزَّوْجَةَ مِنْهُمَا فَفِيهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: يُرْجَعُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَامَ مَقَامَهُ فِي اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ قَامَ مَقَامَهُ فِي تَعْيِينِ الزَّوْجَةِ.

وَالثَّانِي: لَا يُرْجَعُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا زَوْجَةٌ فِي الظَّاهِرِ، وَفِي الرُّجُوعِ إِلَى بَيَانِهِ إِسْقَاطُ وَارِثٍ مُشَارِكٍ، وَالْوَارِثُ لَا يَمْلِكُ إِسْقَاطَ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ.وَقِيلَ: إِنَّهُ فِي صُورَةِ مَا إِذَا طَلَّقَ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ دُونَ تَعْيِينٍ لَا يُرْجَعُ إِلَى الْوَارِثِ قَوْلاً وَاحِدًا، لِأَنَّهُ اخْتِيَارُ شَهْوَةٍ.

وَبِالنِّسْبَةِ لِلْعِدَّةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا اعْتَدَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الزَّوْجَةُ، فَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ عَلَيْهِمَا لِيَسْقُطَ الْفَرْضُ بِيَقِينٍ.

وَإِنْ دَخَلَ بِهِمَا، فَإِنْ كَانَتَا حَامِلَيْنِ اعْتَدَّتَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، لِأَنَّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ فِي الْحَمْلِ وَاحِدَةٌ.

وَإِنْ كَانَتَا مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ اعْتَدَّتَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، لِأَنَّهَا تَجْمَعُ عِدَّةَ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ، وَإِنْ كَانَتَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ اعْتَدَّتَا بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ.وَأَمَّا الْمَهْرُ فَلَمْ نَجِدْ نَصًّا فِي الْمَسْأَلَةِ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ، وَمَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ، أُخْرِجَتْ بِالْقُرْعَةِ، فَمَنْ تَقَعُ عَلَيْهَا الْقُرْعَةُ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا.وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، لِأَنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ عَنِ الْآدَمِيِّ فَتُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْقُرْعَةُ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، كَالْعِتْقِ.وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ تَسَاوَتْ عَلَى وَجْهٍ تَعَذَّرَ تَعَيُّنُ الْمُسْتَحِقِّ فِيهِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِيهِ الْقُرْعَةُ، كَالْقِسْمَةِ بَيْنَ النِّسَاءِ فِي السَّفَرِ.فَأَمَّا قِسْمَةُ الْمِيرَاثِ بَيْنَ الْجَمِيعِ فَفِيهِ إِعْطَاءُ مَنْ لَا تَسْتَحِقُّ وَإِنْقَاضُ الْمُسْتَحَقِّ، وَفِي وَقْفِ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ إِلَى غَيْرِ غَايَةٍ تَضْيِيعٌ لِحُقُوقِهِنَّ، وَحِرْمَانُ الْجَمِيعِ مَنْعُ الْحَقِّ عَنْ صَاحِبِهِ يَقِينًا.وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالُوهُ فِي مِيرَاثِ الْغَرْقَى وَالْهَدْمَى وَالْحَرْقَى، لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْإِرْثِ تَحَقُّقُ حَيَاةِ الْوَارِثِ وَقْتَ وَفَاةِ الْمُوَرِّثِ.وَبِالنِّسْبَةِ لِلْغَرْقَى وَالْهَدْمَى وَالْحَرْقَى الَّذِينَ بَيْنَهُمْ تَوَارُثٌ مَاتُوا مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبِينَ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمْ أَسْبَقُ مَوْتًا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ اشْتِبَاهٌ عِنْدَ التَّوْرِيثِ، إِذْ لَا يُدْرَى أَيُّهُمْ أَسْبَقُ مَوْتًا، وَلِذَا فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ قَالُوا: يَمْتَنِعُ التَّوَارُثُ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّمَا تُوَزَّعُ تَرِكَةُ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى وَرَثَتِهِ الْأَحْيَاءِ دُونَ اعْتِبَارٍ لِمَنْ مَاتَ مَعَهُ، إِذْ لَا تَوَارُثَ بِالشَّكِّ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، لِاحْتِمَالِ مَوْتِهِمْ مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبِينَ، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْأَحْيَاءِ مُتَيَقَّنٌ، وَالشَّكُّ لَا يُعَارِضُ الْيَقِينَ.وَتَفْصِيلُهُ فِي (إِرْثٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


67-موسوعة الفقه الكويتية (إطعام)

إِطْعَامٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْإِطْعَامُ لُغَةً- إِعْطَاءُ الطَّعَامِ لآِكِلِهِ وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّمْلِيكُ:

2- تَمْلِيكُ الشَّيْءِ جَعْلُهُ مِلْكًا لِلْغَيْرِ.وَعَلَى هَذَا قَدْ يَكُونُ الْإِطْعَامُ تَمْلِيكًا فَيَتَّفِقَانِ، وَقَدْ يَكُونُ الْإِطْعَامُ إِبَاحَةً فَيَفْتَرِقَانِ.كَمَا أَنَّ التَّمْلِيكَ قَدْ يَكُونُ تَمْلِيكًا لِلطَّعَامِ، وَقَدْ يَكُونُ تَمْلِيكًا لِغَيْرِهِ.

ب- الْإِبَاحَةُ:

3- الْإِبَاحَةُ لُغَةً: الْإِظْهَارُ وَالْإِعْلَانُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَبَاحَ السِّرَّ: أَعْلَنَهُ، وَقَدْ يَرِدُ بِمَعْنَى الْإِذْنِ وَالْإِطْلَاقِ يُقَالُ: أَبَحْتُهُ كَذَا إِذَا أَطْلَقْتُهُ.وَاصْطِلَاحًا، يُرَادُ بِهَا الْإِذْنُ بِإِتْيَانِ الْفِعْلِ أَوْ تَرْكِهِ.وَعَلَى هَذَا قَدْ يَكُونُ الْإِطْعَامُ إِبَاحَةً فَيَجْتَمِعَانِ فِي وَجْهٍ، وَقَدْ يَكُونُ تَمْلِيكًا فَيَفْتَرِقَانِ فِي وَجْهٍ آخَرَ، وَقَدْ تَكُونُ الْإِبَاحَةُ لِلطَّعَامِ أَوْ لِغَيْرِهِ.

حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:

4- يَجِبُ الْإِطْعَامُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَحَالَاتِ الضَّرُورَةِ، كَسَدِّ الرَّمَقِ وَيُنْدَبُ فِي الصَّدَقَاتِ وَالْقُرُبَاتِ، كَالْإِطْعَامِ فِي الْأُضْحِيَّةِ.وَيُسْتَحَبُّ فِي أُمُورٍ، مِنْهَا النِّكَاحُ وَالْعَقِيقَةُ وَالْخِتَانُ.وَتَحْرُمُ فِي أُمُورٍ: مِنْهَا إِطْعَامُ الظَّلَمَةِ وَالْعُصَاةِ لِلْمُسَاعَدَةِ عَلَى الظُّلْمِ وَالْعِصْيَانِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ.

أَسْبَابُ الْإِطْعَامِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا:

أ- الِاحْتِبَاسُ:

5- احْتِبَاسُ الزَّوْجَةِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ النَّفَقَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْإِطْعَامِ، لِلْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ: النَّفَقَةُ نَظِيرُ الِاحْتِبَاسِ وَكَذَا الْحُكْمُ فِي احْتِبَاسِ الْعَجْمَاوَاتِ، لِأَنَّ حَبْسَهَا بِدُونِ طَعَامٍ هَلَاكٌ يَسْتَوْجِبُ الْعِقَابَ، لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ».

أَمَّا إِطْعَامُ الْمَحْبُوسِ فِي التُّهْمَةِ، مِثْلُ حَبْسِ السَّارِقِ حَتَّى يَسْأَلَ الشُّهُودَ، وَالْمُرْتَدِّ حَتَّى يَتُوبَ، فَإِنَّهُ يُطْعَمُ مِنْ مَالِهِ، لَا خِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ، غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ أَجَازُوا الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إِذَا تَيَسَّرَ ذَلِكَ.وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وُجُوبًا كَمَا سَيَأْتِي.

ب- الِاضْطِرَارُ:

6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِطْعَامَ الْمُضْطَرِّ وَاجِبٌ، فَإِذَا أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ مِنَ الْجُوعِ أَوِ الْعَطَشِ، وَمَنَعَهُ مَانِعٌ فَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَ لِيَحْصُلَ عَلَى مَا يَحْفَظُ حَيَاتَهُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ الْهَيْثَمِ: أَنَّ قَوْمًا وَرَدُوا مَاءً فَسَأَلُوا أَهْلَهُ أَنْ يَدُلُّوهُمْ عَلَى بِئْرٍ فَأَبَوْا، فَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُعْطُوهُمْ دَلْوًا فَأَبَوْا، فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّ أَعْنَاقَنَا وَأَعْنَاقَ مَطَايَانَا قَدْ كَادَتْ أَنْ تَتَقَطَّعَ فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِعُمَرَ- رضي الله عنه-.فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: فَهَلاَّ وَضَعْتُمْ فِيهِمُ السِّلَاحَ.قَالَ الْفُقَهَاءُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَهُمْ فِي الْمَاءِ حَقَّ الشَّفَةِ وَكَذَلِكَ الطَّعَامُ.وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ (اضْطِرَارٌ) (وَضَرُورَةٌ).

ج- الْإِكْرَامُ:

7- يُنْدَبُ الْإِطْعَامُ لِإِكْرَامِ الضَّيْفِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَبِرِّ الْجَارِ وَإِضَافَةِ الصِّدِّيقِ، وَأَهْلِ الْخَيْرِ وَالْفَضْلِ وَالتَّقْوَى، لقوله تعالى فِي ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ».كَمَا يُسَنُّ فِي أُمُورٍ تَدْخُلُ فِي بَابِ الْإِكْرَامِ كَالْأُضْحِيَّةِ وَالْوَلِيمَةِ.

الْإِطْعَامُ فِي الْكَفَّارَاتِ

8- الْإِطْعَامُ نَوْعٌ مِنَ الْأَنْوَاعِ الْوَاجِبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ، يُقَدَّمُ تَارَةً كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ، وَيُؤَخَّرُ تَارَةً كَمَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَكَذَا الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ عَلَى خِلَافٍ لِلْمَالِكِيَّةِ فِيهِ.

الْكَفَّارَاتُ الَّتِي فِيهِمَا إِطْعَامٌ:

أ- كَفَّارَةُ الصَّوْمِ:

9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْفِطْرِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ أَدَاءً، غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ قَصَرُوهُ عَلَى مَنْ جَامَعَ فِي رَمَضَانَ عَامِدًا، دُونَ مَنْ أَفْطَرَ فِيهِ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي رُتْبَتِهِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا.

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِتَأْخِيرِهِ عَنِ الْإِعْتَاقِ وَالصِّيَامِ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ: الْإِعْتَاقِ وَالصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي الْكَفَّارَاتِ.

ب- كَفَّارَةُ الْيَمِينِ:

10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى إِذَا حَنِثَ فِيهَا عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكِسْوَةِ وَتَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ، فَإِنْ عَجَزَ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} ج- كَفَّارَةُ الظِّهَارِ:

11- إِذَا ظَاهَرَ الرَّجُلُ مِنِ امْرَأَتِهِ بِأَنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ كَظَهْرِ أُمِّي، لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ بِالْعَوْدِ.وَمِنْ أَنْوَاعِهَا الْإِطْعَامُ عِنْدَ عَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أَوْ صِيَامُ شَهْرَيْنِ، عَلَى هَذَا اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ، فَلَا يُجْزِئُ إِلاَّ هَذَا التَّرْتِيبُ لقوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}

مِقْدَارُ الْإِطْعَامِ الْوَاجِبِ فِي الْكَفَّارَةِ:

12- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَجِبُ لِكُلِّ فَقِيرٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعٌ كَامِلٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ.وَالدَّقِيقُ مِنَ الْبُرِّ أَوِ الشَّعِيرِ بِمَنْزِلَةِ أَصْلِهِ، وَكَذَا السَّوِيقُ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ تَمَامُ الْكَيْلِ أَوِ الْقِيمَةِ فِي كُلٍّ مِنَ الدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ؟.فِي ذَلِكَ رَأْيَانِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ لِكُلِّ فَقِيرٍ مُدٌّ مِنْ بُرٍّ، أَوْ مِقْدَارُ مَا يَصْلُحُ لِلْإِشْبَاعِ مِنْ بَقِيَّةِ الْأَقْوَاتِ التِّسْعَةِ، وَهِيَ الْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ وَالسُّلْتُ، وَالذُّرَةُ، وَالدُّخْنُ، وَالْأَرُزُّ، وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ، وَالْأَقِطُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ لِكُلِّ فَقِيرٍ مُدٌّ وَاحِدٌ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ مِمَّا ذُكِرَ مِنَ الْأَصْنَافِ السَّابِقَةِ أَوْ غَيْرِهَا.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ مِنْ بُرٍّ أَوْ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ أَوْ أَقِطٍ، وَيُجْزِئُ دَقِيقٌ وَسَوِيقٌ بِوَزْنِ الْحَبِّ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ قُوتِ الْبَلَدِ أَوْ لَا، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْهُمْ: يُجْزِئُ كُلُّ أَقْوَاتِ الْبَلَدِ، وَالْأَفْضَلُ عِنْدَهُمْ إِخْرَاجُ الْحَبِّ.

الْإِبَاحَةُ وَالتَّمْلِيكُ فِي الْكَفَّارَاتِ:

13- التَّمْلِيكُ هُوَ إِعْطَاءُ الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ فِي الْإِطْعَامِ، لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ الْمُسْتَحِقُّ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ.

وَالْإِبَاحَةُ هِيَ تَمْكِينُ الْمُسْتَحِقِّ مِنْ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ الْمُخْرَجِ فِي الْكَفَّارَةِ.كَأَنْ يُغَدِّيَهُمْ وَيُعَشِّيَهُمْ، أَوْ يُغَدِّيَهُمْ غَدَاءَيْنِ أَوْ يُعَشِّيَهُمْ عَشَاءَيْنِ.وَقَدْ أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ التَّمْلِيكَ وَالْإِبَاحَةَ فِي الْإِطْعَامِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ مُنْفَرِدِينَ الْجَمْعَ بَيْنَهَا، لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ جَائِزَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ سَدُّ الْخُلَّةِ، كَمَا أَجَازُوا دَفْعَ الْقِيمَةِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَالًا أَمْ غَيْرَهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَجِبُ التَّمْلِيكُ وَلَا تُجْزِئُ الْإِبَاحَةُ، فَلَوْ غَدَّى الْمَسَاكِينَ أَوْ عَشَّاهُمْ لَا يُجْزِئُ، لِأَنَّ الْمَنْقُولَ عَنِ الصَّحَابَةِ الْإِعْطَاءُ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ وَاجِبٌ لِلْفُقَرَاءِ شَرْعًا، فَوَجَبَ تَمْلِيكُهُمْ إِيَّاهُ كَالزَّكَاةِ.

الْإِطْعَامُ فِي الْفِدْيَةِ:

أ- فِدْيَةُ الصِّيَامِ:

14- اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ- عَلَى أَنَّهُ يُصَارُ إِلَى الْفِدْيَةِ فِي الصِّيَامِ عِنْدَ الْيَأْسِ مِنْ إِمْكَانِ قَضَاءِ الْأَيَّامِ الَّتِي أَفْطَرَهَا لِشَيْخُوخَةٍ لَا يَقْدِرُ مَعَهَا عَلَى الصِّيَامِ، أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، لقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} وَالْمُرَادُ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ.

وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ.

ب- الْإِطْعَامُ فِي فِدْيَةِ الصَّيْدِ:

15- يُخَيَّرُ الْمُحْرِمُ إِذَا قَتَلَ صَيْدًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إِمَّا شِرَاءُ هَدْيٍ بِالْقِيمَةِ وَذَبْحُهُ، أَوِ الْإِطْعَامُ بِالْقِيمَةِ، أَوِ الصِّيَامُ، لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةُ طَعَامِ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} وَمَنْ قَتَلَ مَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ أَوْ قِيمَةٌ كَالْجَرَادِ وَالْقَمْلِ، تَصَدَّقَ بِمَا شَاءَ كَحَفْنَةٍ مِنْ طَعَامٍ لِلْوَاحِدَةِ وَحَفْنَتَيْنِ لِلِاثْنَتَيْنِ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ- (إِحْرَامٌ) - (فِدْيَةٌ).

الْإِطْعَامُ فِي النَّفَقَاتِ:

الْإِطْعَامُ فِي حَالَاتِ الضَّرُورَةِ:

16- يَرَى الْفُقَهَاءُ وُجُوبَ إِطْعَامِ الْمُضْطَرِّ الْمُشْرِفِ عَلَى الْهَلَاكِ، لِأَنَّ فِيهِ إِحْيَاءً لِنَفْسٍ مَعْصُومَةٍ.فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مِمَّا يُبَاعُ أَعْطَاهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ جَازَ.وَضَمِنَهُ لَهُ، إِذِ الْقَاعِدَةُ الشَّرْعِيَّةُ: أَنَّ الِاضْطِرَارَ لَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ.

الِامْتِنَاعُ عَنْ إِطْعَامِ الْمُضْطَرِّ:

17- إِذَا فَقَدَ الْمُضْطَرُّ الطَّعَامَ وَأَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ وَلَمْ يَجِدْ إِلاَّ طَعَامًا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الطَّعَامِ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ سَاوَاهُ فِي الضَّرُورَةِ وَانْفَرَدَ بِالْمِلْكِ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ حَالِ الضَّرُورَةِ، وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْهُ أَحَدٌ فَمَاتَ أَثِمَ وَضَمِنَ دِيَتَهُ، لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَالِكُ مُضْطَرًّا إِلَى الطَّعَامِ لَزِمَهُ بَذْلُهُ لِلْمُضْطَرِّ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَحِلُّ لِأَحَدِنَا مِنْ مَالِ أَخِيهِ إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ؟ قَالَ: يَأْكُلُ وَلَا يَحْمِلْ، وَيَشْرَبُ وَلَا يَحْمِلْ».فَإِنْ مَنَعَهُ قَاتَلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ سِلَاحٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِسِلَاحٍ عِنْدَ غَيْرِهِمْ.فَإِنْ قُتِلَ الْمُضْطَرُّ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَعَلَى قَاتِلِهِ ضَمَانُهُ، وَإِنْ قَتَلَ صَاحِبَهُ فَهُوَ هَدَرٌ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (قِصَاصٌ).

تَحْدِيدُ الْإِطْعَامِ فِي النَّفَقَةِ:

18- النَّفَقَةُ الْوَاجِبَةُ قَدْ تَكُونُ عَيْنًا وَقَدْ تَكُونُ قِيمَةً، فَإِذَا كَانَتْ عَيْنًا فَالْوَاجِبُ مِنَ الْإِطْعَامِ- كَمَا فِي الْقِيمَةِ- يُعْتَبَرُ بِحَالِ الزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ فَإِطْعَامُ الْمُوسِرِينَ، وَإِنْ كَانَا مُتَوَسِّطَيْنِ فَإِطْعَامُ الْوَسَطِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُعْسِرًا وَالْآخَرُ مُوسِرًا فَالتَّوَسُّطُ، وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ فَنَفَقَةُ الْإِعْسَارِ، وَيُعْتَبَرُ الْعُرْفُ فِي ذَلِكَ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى اعْتِبَارِ حَالِ الزَّوْجِ فَقَطْ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} الْآيَةَ.

وَقَدْ أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ اسْتِبْدَالَ الْقِيمَةِ بِالْإِطْعَامِ.

التَّوْسِعَةُ فِي الْإِطْعَامِ:

19- يُنْدَبُ إِطْعَامُ الْأَقَارِبِ الْفُقَرَاءِ وَالْيَتَامَى وَالتَّوْسِعَةُ عَلَيْهِمْ، كَمَا يُنْدَبُ بَذْلُ الطَّعَامِ لِلْمَسَاكِينِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ وَقْتَ الْقَحْطِ وَالْجُوعِ وَالْحَاجَةِ، لقوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}.وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مِنْ مُوجِبَاتِ الرَّحْمَةِ إِطْعَامُ الْمُسْلِمِ السَّغْبَانِ».كَمَا يُنْدَبُ إِطْعَامُ الْغَرِيبِ إِذَا كَانَ ضَيْفًا أَوْ مُحْتَاجًا لِلْإِطْعَامِ، وَقَدِ اعْتَبَرَ الْقُرْآنُ عَدَمَ إِطْعَامِهِ لُؤْمًا فِي قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا}

إِطْعَامُ الْمَسْجُونِ:

20- لَا يُضَيَّقُ عَلَى الْمَحْبُوسِ بِالْجُوعِ أَوِ الْعَطَشِ، سَوَاءٌ أَكَانَ حَبْسُهُ لِرِدَّةٍ أَمْ دَيْنٍ أَمْ أَسْرٍ، لِقَوْلِ عُمَرَ فِي الْمَحْبُوسِ لِلرِّدَّةِ: فَهَلاَّ حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا فَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا وَاسْتَتَبْتُمُوهُ.وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِطْعَامَ أَهْلِ الْحُبُوسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَسَنٌ وَقُرْبَى إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يُطْعَمُ مِنْ مَالِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ.

إِطْعَامُ الْحَيَوَانِ الْمُحْتَبَسِ:

21- يَجُوزُ حَبْسُ حَيَوَانٍ لِنَفْعٍ، كَحِرَاسَةٍ وَسَمَاعِ صَوْتٍ وَزِينَةٍ، وَعَلَى حَابِسِهِ إِطْعَامُهُ وَسَقْيُهُ لِحُرْمَةِ الرُّوحِ وَيَقُومُ مَقَامَهُ التَّخْلِيَةُ لِلْحَيَوَانَاتِ لِتَرْعَى وَتَرِدُ الْمَاءَ إِنْ أَلِفَتْ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ تَأْلَفْهُ فُعِلَ بِهَا مَا تَأْلَفُهُ، لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ» فَإِنِ امْتَنَعَ أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ أَوْ عَلَفِهِ أَوْ ذَبْحِ مَا يُذْبَحُ مِنْهُ.فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ نَابَ الْحَاكِمُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا يَرَاهُ.وَهَذَا رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الرَّأْيُ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَجْرِي فِيهَا دَعْوَى الْحِسْبَةِ.

الْإِطْعَامُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ:

22- يَنْبَغِي لِلْمُضَحِّي أَنْ يُطْعِمَ الْأَغْنِيَاءَ الثُّلُثَ، وَالْفُقَرَاءَ الثُّلُثَ، وَيَأْكُلَ الثُّلُثَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ، هَذَا هُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.وَقِيلَ: الْأَفْضَلُ أَنْ يُطْعِمَهَا كُلَّهَا الْفُقَرَاءَ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَيُنْظَرُ (أُضْحِيَّةٌ).

وَهَدْيُ التَّطَوُّعِ وَالْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فِي الْحَجِّ كَالْأُضْحِيَّةِ، لَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَيُطْعِمَ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا لِجَوَازِ أَكْلِهِ مِنْهُ أَلاَّ يَكُونَ قَدْ نَوَاهُ لِلْمَسَاكِينِ.

وَأَمَّا هَدْيُ الْفِدْيَةِ، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ يُطْعِمُ الْفُقَرَاءَ فَقَطْ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ (ر: هَدْيٌ).

وَأَمَّا فِي النَّذْرِ فَإِذَا لَمْ يَنْوِهِ لِلْمَسَاكِينِ جَازَ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ لَا يَأْكُلُ مِنْهُ.

إِطْعَامُ أَهْلِ الْمَيِّتِ:

23- يُسْتَحَبُّ إِعْدَادُ طَعَامٍ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ، يُبْعَثُ بِهِ إِلَيْهِمْ إِعَانَةً لَهُمْ وَجَبْرًا لِقُلُوبِهِمْ، فَإِنَّهُمْ شُغِلُوا بِمُصِيبَتِهِمْ وَبِمَنْ يَأْتِي إِلَيْهِمْ عَنْ إِصْلَاحِ طَعَامٍ لِأَنْفُسِهِمْ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «اصْنَعُوا لِأَهْلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا.فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ».وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَنْ يُصْنَعُ لَهُمْ طَعَامٌ، أَلاَّ يَكُونُوا قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى نِيَاحَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَإِلاَّ حَرُمَ إِرْسَالُ طَعَامٍ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ عُصَاةٌ، وَكَرِهَ الْفُقَهَاءُ إِطْعَامَ أَهْلِ الْمَيِّتِ لِلنَّاسِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي السُّرُورِ لَا فِي الشُّرُورِ.

الْمُنَاسَبَاتُ الَّتِي يُسْتَحَبُّ الْإِطْعَامُ فِيهَا:

24- أ- النِّكَاحُ:

وَيُسَمَّى الْإِطْعَامُ فِيهِ وَفِي كُلِّ سُرُورٍ وَلِيمَةً، وَاسْتِعْمَالُ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ فِي الْعُرْسِ أَكْثَرُ.

ب- الْخِتَانُ:

وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِطْعَامِ فِيهِ، إِعْذَارٌ أَوْ عَذِيرَةٌ أَوْ عَذِيرٌ.

ج- الْوِلَادَةُ:

وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِطْعَامِ فِيهَا، الْخُرْسُ أَوِ الْخُرْسَةُ.

د- الْبِنَاءُ لِلدَّارِ:

وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِطْعَامِ فِيهِ: وَكِيرَةٌ.

هـ- قُدُومُ الْغَائِبِ:

قُدُومُ الْغَائِبِ مِنَ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِطْعَامِ فِيهِ: نَقِيعَةٌ.

و- لِأَجْلِ الْوَلَدِ:

وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِطْعَامِ لَهُ، عَقِيقَةٌ.وَيُسْتَحَبُّ فِي الْعُرْسِ، أَنْ يُطْعِمَ شَاةً إِنْ أَمْكَنَ، وَكَذَا يُسْتَحَبُّ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَذْبَحَ عَنِ الصَّبِيِّ شَاتَيْنِ إِنْ أَمْكَنَ، فَإِنْ أَوْلَمَ بِغَيْرِ الشَّاةِ جَازَ، فَقَدْ أَوْلَمَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِشَاةٍ، وَأَوْلَمَ عَلَى صَفِيَّةَ بِحَيْسٍ وَأَوْلَمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ.وَإِجَابَةُ طَعَامِ الْوَلِيمَةِ وَاجِبٌ لِمَنْ دُعِيَ إِلَيْهَا إِذَا لَمْ يُخَالِطْهَا حَرَامٌ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا».

الْقُدْرَةُ عَلَى الْإِطْعَامِ:

25- مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ إِطْعَامٌ فِي كَفَّارَةِ يَمِينٍ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ فِطْرٍ فِي رَمَضَانَ فَعَجَزَ عَنِ الْإِطْعَامِ، اسْتَقَرَّ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ، وَتَأَخَّرَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ إِلَى وَقْتِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ إِيجَابَ الْفِعْلِ عَلَى الْعَاجِزِ مُحَالٌ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فِي غَيْرِ كَفَّارَةِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ، إِذْ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ لِلشَّافِعِيَّةِ تَسْقُطُ كَفَّارَةُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ عَمَّنْ عَجَزَ عَنْهَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِلْأَعْرَابِيِّ: «خُذْهُ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَأَطْعِمْ أَهْلَكَ» فَقَدْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُطْعِمَهُ أَهْلَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِكَفَّارَةٍ أُخْرَى، وَلَا بَيَّنَ لَهُ بَقَاءَهَا فِي ذِمَّتِهِ.وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ، بِخِلَافِ الْكَفَّارَاتِ الْأُخْرَى، لِعُمُومِ أَدِلَّتِهَا لِلْوُجُوبِ حَالَ الْإِعْسَارِ، وَلِأَنَّهُ الْقِيَاسُ، وَقَدْ خُولِفَ فِي رَمَضَانَ لِلنَّصِّ. (ر- كَفَّارَةٌ).

26- وَيُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِطْعَامُ أَلاَّ يَكُونَ سَفِيهًا، لِأَنَّ السَّفِيهَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ وَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ، وَلَوْ صَدَرَ مِنْهُ مَا يُوجِبُ الْإِطْعَامَ فِي كَفَّارَةِ يَمِينٍ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ فِدْيَةٍ فِي الْحَجِّ.فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ وَلَا يُكَفِّرُ بِالْإِطْعَامِ، لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ مَالِهِ، وَرَأَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ الَّتِي لَا يُجْزِئُ فِيهَا الصَّوْمُ يَلْزَمُهُ فِيهَا الدَّمُ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ مِنَ التَّكْفِيرِ فِي الْحَالِ، بَلْ يُؤَخَّرُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ رَشِيدًا مُصْلِحًا لِمَالِهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفَقِيرِ الَّذِي لَا يَجِدُ مَالًا.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَلْزَمُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ إِطْعَامٍ فِي مَالِهِ.وَيَنْظُرُ وَلِيُّهُ فِيهِ بِوَجْهِ النَّظَرِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (سَفَهٌ، وَكَفَّارَةٌ).

الْإِطْعَامُ عَنِ الْغَيْرِ:

27- الْإِطْعَامُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ لِفِعْلٍ يُوجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ،

وَالْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ تَقْبَلُ النِّيَابَةَ عَنِ الْمُكَلَّفِ، وَلِذَلِكَ مَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يُطْعِمَ عَنْ ظِهَارِهِ فَفَعَلَ ذَلِكَ الْغَيْرُ صَحَّ.

وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَا لَوْ أَطْعَمَ إِنْسَانٌ عَنْ غَيْرِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ، حَيْثُ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ كَفَّرَ عَنِ الْحَانِثِ رَجُلٌ بِغَيْرِ أَمْرِهِ أَجْزَأَ عَنْهُ، لِأَنَّهَا مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي يُقْصَدُ مِنْهَا مَصْلَحَةٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ فَاعِلِهَا فَلَمْ تَتَوَقَّفْ عَلَى النِّيَّةِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَلاَّ يُكَفِّرَ إِلاَّ بِأَمْرِهِ.

إِطْعَامُ الزَّوْجَةِ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا:

28- أَجَازَ الْفُقَهَاءُ لِلزَّوْجَةِ التَّصَدُّقَ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ، لِحَدِيثِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- مَرْفُوعًا «إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ.بِمَا كَسَبَ» وَلِأَنَّ الْعَادَةَ السَّمَاحُ وَطِيبُ النَّفْسِ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَمْنَعَ رَبُّ الْبَيْتِ فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ.

الْحَلِفُ عَلَى الْإِطْعَامِ:

29- حَلَفَ عَلَى آخَرَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ فَهُوَ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ مَا يُطْعِمُ عَلَى وَجْهِ التَّطَعُّمِ كَجُبْنٍ وَفَاكِهَةٍ وَخُبْزٍ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْمَطْبُوخِ.

وَيُنْدَبُ إِبْرَارُ الْقَسَمِ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «أَمَرَ بِإِبْرَارِ الْقَسَمِ».فَإِنْ أَحْنَثَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مَعَهُ فَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْحَالِفِ، لِأَنَّ الْحَالِفَ هُوَ الْحَانِثُ، فَكَانَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الْفَاعِلُ.وَكَذَلِكَ إِنْ حَلَفَ أَنْ يُطْعِمَ غَيْرَهُ فَهُوَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ وَفَّى لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ لَمْ يُوفِ حَنِثَ.

الْوَصِيَّةُ بِالْإِطْعَامِ:

30- الْوَصِيَّةُ بِالْإِطْعَامِ إِذَا أَعَانَتْ عَلَى مُحَرَّمٍ فَهِيَ بَاطِلَةٌ فِي الْأَصَحِّ، كَالْوَصِيَّةِ بِالْإِطْعَامِ بَعْدَ الْمَوْتِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، حَيْثُ تَجْتَمِعُ النَّائِحَاتُ، لِأَنَّهَا مِنَ الْإِعَانَةِ عَلَى الْمُحَرَّمِ، فَإِذَا لَمْ تُعِنْ عَلَى حَرَامٍ جَازَتْ وَوَجَبَ إِخْرَاجُهَا مِنْ تَرِكَتِهِ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ، كَمَنْ أَوْصَى بِالْأُضْحِيَّةِ، أَوْ بِإِطْعَامِ الْفُقَرَاءِ، أَوْ بِفِطْرَةِ رَمَضَانَ أَوْ بِنَذْرٍ عَلَيْهِ.

الْوَقْفُ عَلَى الْإِطْعَامِ:

31- فِي وَقْفِ الطَّعَامِ عَلَى الْإِطْعَامِ إِنْ قَصَدَ بِوَقْفِهِ بَقَاءَ عَيْنِهِ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى فَسَادِ الطَّعَامِ وَذَلِكَ إِضَاعَةٌ لِلْمَالِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ وَقْفٌ لِلْقَرْضِ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ مُحْتَاجٌ ثُمَّ يَرُدُّ مِثْلَهُ، فَقَدْ رَأَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) جَوَازَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ أَرْضًا أَوْ شَجَرَةً ذَاتَ ثَمَرٍ لِإِطْعَامِ ثَمَرِهَا جَازَ، لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُبْتَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ وَفِي الْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالضَّيْفِ» فَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا مَلَكَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ صُوفَهُ وَلَبَنَهُ وَسَائِرَ مَنَافِعِهِ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ لِمَعْصِيَةٍ أَوْ لِأَهْلِ الْفِسْقِ فَالْأَرْجَحُ رَدُّهُ، لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


68-موسوعة الفقه الكويتية (اعتقاد)

اعْتِقَادٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الِاعْتِقَادُ لُغَةً: مَصْدَرُ اعْتَقَدَ.وَاعْتَقَدْتُ كَذَا: عَقَدْتُ عَلَيْهِ الْقَلْبَ وَالضَّمِيرَ، وَقِيلَ: الْعَقِيدَةُ، مَا يَدِينُ الْإِنْسَانُ بِهِ.

وَاصْطِلَاحًا: يُطْلَقُ الِاعْتِقَادُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:

الْأَوَّلُ: التَّصْدِيقُ مُطْلَقًا، أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ جَازِمًا أَوْ غَيْرَ جَازِمٍ، مُطَابِقًا أَوْ غَيْرَ مُطَابِقٍ، ثَابِتًا أَوْ غَيْرَ ثَابِتٍ.

الثَّانِي: أَحَدُ أَقْسَامِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الْيَقِينُ، وَسَيَأْتِي تَعْرِيفُهُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الِاعْتِنَاقُ:

2- مِنْ مَعَانِي الِاعْتِنَاقِ فِي اللُّغَةِ: جَعْلُ الرَّجُلِ يَدَيْهِ عَلَى عُنُقِ الْآخَرِ، وَمِنْهَا أَخْذُ الْأَمْرِ بِجِدٍّ، وَاسْتُعْمِلَ مُوَلَّدًا.فَقِيلَ اعْتَنَقَ دِينًا أَوْ نِحْلَةً.فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الِاعْتِقَادِ.

ب- الْعِلْمُ:

3- يُطْلَقُ الْعِلْمُ عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا الْإِدْرَاكُ مُطْلَقًا، تَصَوُّرًا كَانَ أَوْ تَصْدِيقًا، يَقِينِيًّا أَوْ غَيْرَ يَقِينِيٍّ.وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ الْعِلْمُ أَعَمَّ مِنَ الِاعْتِقَادِ مُطْلَقًا.

وَمِنْ مَعَانِي الْعِلْمِ الْيَقِينُ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ الْعِلْمُ أَخَصَّ مِنَ الِاعْتِقَادِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَمُسَاوِيًا لَهُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي، أَيِ الْيَقِينِ.

ج- الْيَقِينُ:

4- الْيَقِينُ هُوَ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ الثَّابِتِ، أَيِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّشْكِيكَ.وَيُعَرِّفُهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ عِلْمٌ يُورِثُ سُكُونَ النَّفْسِ وَثَلْجَ الصَّدْرِ بِمَا عَلِمَ، بَعْدَ حَيْرَةٍ وَشَكٍّ.وَالْيَقِينُ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ، وَمِنَ الِاعْتِقَادِ.

د- الظَّنُّ:

5- الظَّنُّ: هُوَ إِدْرَاكُ الطَّرَفِ الرَّاجِحِ مَعَ احْتِمَالِ النَّقِيضِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْيَقِينِ وَالشَّكِّ، تَجَوُّزًا.فَالظَّنُّ مُبَايِنٌ لِلِاعْتِقَادِ بِمَعْنَى الْيَقِينِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

6- يَعْرِضُ لِحُكْمِ الِاعْتِقَادِ وُجُوهٌ:

أ- بِالنِّسْبَةِ لِلصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ: يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ،

صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ.فَالِاعْتِقَادُ الصَّحِيحُ، هُوَ مَا طَابَقَ الْوَاقِعَ، كَاعْتِقَادِ أَنَّ صَلَاةَ الضُّحَى مَنْدُوبَةٌ.وَالِاعْتِقَادُ الْفَاسِدُ هُوَ غَيْرُ الْمُطَابِقِ لِلْوَاقِعِ، كَاعْتِقَادِ الْفَلَاسِفَةِ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ.

ب- بِالنِّسْبَةِ لِلْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ: لَا يَجُوزُ اعْتِقَادُ حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ عَلَى غَيْرِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ فَرْضِيَّةٍ أَوْ سُنِّيَّةٍ أَوْ إِبَاحَةٍ أَوْ كَرَاهَةٍ أَوْ تَحْرِيمٍ، فَاعْتِقَادُ إِبَاحَةِ الْمُبَاحِ وَاجِبٌ مَثَلًا، فَلَوِ اعْتَقَدَهُ عَلَى غَيْرِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فَذَلِكَ خَطَأٌ.وَيَتَعَلَّقُ الْإِثْمُ بِذَلِكَ الْخَطَأِ فِي الْأُمُورِ الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَمَا عَدَاهَا فَيُعْذَرُ بِالْجَهْلِ وَالْخَطَأِ فِيهَا، إِذَا أَخْطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ، أَوْ أَخْطَأَ مُقَلِّدُهُ تَبَعًا لَهُ.

أَثَرُ الِاعْتِقَادِ فِي التَّصَرُّفَاتِ:

7- مَا يَعْتَقِدُهُ الْمُكَلَّفُ قُرْبَةً أَوْ مُبَاحًا فَإِذَا هُوَ بِخِلَافِهِ، كَمَنْ فَعَلَ فِعْلًا يَظُنُّهُ قُرْبَةً أَوْ مُبَاحًا وَهُوَ مِنَ الْمَفَاسِدِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَكَالْحَاكِمِ إِذَا حَكَمَ بِمَا اعْتَقَدَهُ حَقًّا بِنَاءً عَلَى الْحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ كَمَنْ يُصَلِّي عَلَى مُرْتَدٍّ يَعْتَقِدُهُ مُسْلِمًا، فَهَذَا خَطَأٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، يُثَابُ فَاعِلُهُ عَلَى قَصْدِهِ، دُونَ فِعْلِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى.

أَمَّا إِذَا قَصَدَ إِغَاثَةَ الْجَائِعِ، فَأَعْطَاهُ طَعَامًا فَاسِدًا، مُعْتَقِدًا أَنَّهُ صَحِيحٌ، فَمَاتَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً يَعْتَقِدُهَا زَوْجَتَهُ فَإِنَّهُ لَا يَأْثَمُ، وَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَ، وَيَلْزَمُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْوَطْءِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ.وَتَخْتَلِفُ الْأُجُورُ بِاخْتِلَافِ رُتَبِ الْمَصَالِحِ، فَإِذَا تَحَقَّقَتِ الْأَسْبَابُ وَالشَّرَائِطُ وَالْأَرْكَانُ فِي الْبَاطِنِ، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا فِي الظَّاهِرِ- يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ ثَوَابُ الْآخِرَةِ، وَإِنْ ثَبَتَ فِي الظَّاهِرِ مَا يُخَالِفُ الْبَاطِنَ أُثِيبَ الْمُكَلَّفُ عَلَى قَصْدِ الْعَمَلِ الْحَقِّ، وَلَا يُثَابُ عَلَى عَمَلِهِ، لِأَنَّهُ خَطَأٌ، وَلَا ثَوَابَ عَلَى الْخَطَأِ، وَلِأَنَّهُ مَفْسَدَةٌ وَلَا ثَوَابَ عَلَى الْمَفَاسِدِ.

الْهَزْلُ وَالِاعْتِقَادُ:

8- الْهَازِلُ لَا يَدْخُلُ فِي اعْتِقَادٍ بِهَزْلِهِ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِهَذَا الْهَزْلِ.إِلاَّ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَكْفُرُ بِالْهَزْلِ بِالْكُفْرِ، لَا لِتَبَدُّلِ الِاعْتِقَادَاتِ، بَلْ لِأَنَّ الْهَزْلَ اسْتِخْفَافٌ بِالدِّينِ، لقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}

وَلِلتَّفْصِيلِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (اسْتِخْفَافٌ) (وَرِدَّةٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


69-موسوعة الفقه الكويتية (إقرار 3)

إِقْرَارٌ -3

و- تَعْقِيبُ الْإِقْرَارِ بِمَا يَرْفَعُهُ:

48- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ عَقَّبَ الْإِقْرَارَ بِمَا يَرْفَعُهُ بِأَنْ قَالَ: لَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، إِلاَّ أَنْ يَقُولَ الطَّالِبُ (الْمُقَرُّ لَهُ): هِيَ ثَمَنُ بُرٍّ أَوْ مَا يُشْبِهُهُ فَيَلْزَمُهُ مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ.وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ كَذَا ثُمَّ قَالَ: لَمْ أَقْبِضِ الْمَبِيعَ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَسَحْنُونٌ وَغَيْرُهُمَا: يَلْزَمُهُ الثَّمَنُ وَلَا يُصَدَّقُ فِي عَدَمِ الْقَبْضِ.وَقِيلَ: الْقَوْلُ قَوْلُهُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا وَصَلَ بِإِقْرَارِهِ مَا يُغَيِّرُهُ أَوْ يُسْقِطُهُ، كَأَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوِ اسْتَوْفَاهُ الدَّائِنُ أَوْ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ فَاسِدٍ لَمْ أَقْبِضْهُ لَزِمَهُ الْأَلْفُ، لِأَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالْأَلْفِ يُعْتَبَرُ رَفْعًا لَهُ فَلَا يُقْبَلُ، كَاسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ.

وَفِي قَوْلِهِ لَهُ: عَلَيَّ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَلْفٌ- لَا يَجِبُ.وَلَوْ قَالَ: كَانَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَقَضَيْتُهُ إِيَّاهُ، أَوْ أَبْرَأَنِي مِنْهُ، أَوْ قَضَيْتُ مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ، فَهُوَ مُنْكِرٌ، لِأَنَّهُ قَوْلٌ يُمْكِنُ صِدْقُهُ وَلَا تَنَاقُضَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، فَوَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِ بِيَمِينِهِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ.وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ كَاسْتِثْنَاءِ الْبَعْضِ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلاً، بِخِلَافِ اسْتِثْنَاءِ الْبَعْضِ الْمُنْفَصِلِ، لِأَنَّ الْحَقَّ قَدِ اسْتَقَرَّ بِسُكُوتِهِ فَلَا يَرْفَعُهُ اسْتِثْنَاءٌ وَلَا غَيْرُهُ.وَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ مَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ، وَيَصِحُّ فِي النِّصْفِ- عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ- فَمَا دُونَهُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ لِأَنَّهُ لُغَةُ الْعَرَبِ.

ز- تَقْيِيدُ الْإِقْرَارِ بِالْأَجَلِ:

49- إِذَا أَقَرَّ شَخْصٌ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ لآِخَرَ وَقَالَ: إِنَّهُ مُؤَجَّلٌ، وَادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ حُلُولَهُ وَلُزُومَهُ، أَيْ صِدْقَهُ فِي الدَّيْنِ وَكَذِبَهُ فِي التَّأْجِيلِ، فَإِنَّ الدَّيْنَ يَلْزَمُهُ حَالًّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَالٍ، وَادَّعَى حَقًّا لِنَفْسِهِ أَنْكَرَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، فَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ بِيَمِينِهِ.

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمُقِرَّ يَحْلِفُ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي التَّنْجِيمِ وَالتَّأْجِيلِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي يَمِينِ الْمُقِرِّ، وَهَذَا أَحْوَطُ، وَبِهِ كَانَ يَقْضِي مُتَقَدِّمُو قُضَاةِ مِصْرَ وَهُوَ مَذْهَبُ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

ح- الِاسْتِدْرَاكُ فِي الْإِقْرَارِ:

50- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ الِاسْتِدْرَاكُ فِي الْقَدْرِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْجِنْسِ كَأَنْ يَقُولَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ أَلْفَانِ، فَعَلَيْهِ أَلْفَانِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.وَقِيلَ: يَكُونُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَالْأَوَّلُ اسْتِحْسَانٌ.وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِقْرَارَ إِخْبَارٌ، وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ مَا يَجْرِي الْغَلَطُ فِي قَدْرِهِ أَوْ وَصْفِهِ عَادَةً، فَقُبِلَ الِاسْتِدْرَاكُ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا فِيهِ.بِخِلَافِ الِاسْتِدْرَاكِ فِي خِلَافِ الْجِنْسِ لِأَنَّ الْغَلَطَ لَا يَقَعُ فِيهِ عَادَةً.وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ قَوْلَهُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِقْرَارٌ بِأَلْفٍ وَهَذَا لَا رُجُوعَ فِيهِ، وَالِاسْتِدْرَاكُ صَحِيحٌ، فَأَشْبَهَ الِاسْتِدْرَاكَ فِي خِلَافِ الْجِنْسِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَلْ ثِنْتَيْنِ، إِذْ يَقَعُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ.

وَإِنْ كَانَ الِاسْتِدْرَاكُ فِي صِفَةِ الْمُقَرِّ بِهِ، فَعَلَيْهِ أَرْفَعُ الصِّفَتَيْنِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي ذَلِكَ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِأَنْقَصِهِمَا فَهُوَ مُتَّهَمٌ، فَكَانَ مُسْتَدْرِكًا فِي الزِّيَادَةِ رَاجِعًا فِي النُّقْصَانِ، فَيَصِحُّ اسْتِدْرَاكُهُ وَلَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ، وَإِنْ أَرْجَعَ الِاسْتِدْرَاكَ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ، بِأَنْ قَالَ: هَذِهِ الْأَلْفُ لِفُلَانٍ بَلْ لِفُلَانٍ، وَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَتْ لِمَنْ أَقَرَّ لَهُ أَوَّلاً، لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ لَهُ بِهَا صَحَّ إِقْرَارُهُ لَهُ، فَصَارَ وَاجِبَ الدَّفْعِ إِلَيْهِ، فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ رُجُوعٌ عَنِ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِ، وَصَحَّ إِقْرَارُهُ بِهَا لِلثَّانِي فِي حَقِّهِ- أَيِ الثَّانِي- لَكِنْ إِنْ دَفَعَهُ لِلْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ ضَمِنَ لِلثَّانِي، لِإِتْلَافِهَا عَلَيْهِ بِدَفْعِهَا لِلْأَوَّلِ.

هَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: غَصَبْتُ هَذَا الشَّيْءَ مِنْ فُلَانٍ لَا بَلْ مِنْ فُلَانٍ، فَإِنَّهُ يَدْفَعُهُ لِلْأَوَّلِ وَيَضْمَنُ لِلثَّانِي، سَوَاءٌ دَفَعَهُ لِلْأَوَّلِ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، لِأَنَّ الْغَصْبَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِهِ إِقْرَارًا بِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَهُوَ رَدُّ الْقِيمَةِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَقِيمَتِهَا عِنْدَ الْعَجْزِ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ رَدِّهَا إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ الثَّانِي، فَيَلْزَمُهُ رَدُّ قِيمَتِهَا.

عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ فِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ:

51- الْإِقْرَارُ لَيْسَ بِعَقْدٍ حَتَّى تَتَكَوَّنَ صِيغَتُهُ مِنْ إِيجَابٍ وَقَبُولٍ.وَإِنَّمَا هُوَ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ وَالْتِزَامٌ مِنْ جَانِبِ الْمُقِرِّ وَحْدَهُ، فَلَيْسَ الْقَبُولُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ، لَكِنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِلَا تَصْدِيقٍ وَقَبُولٍ، وَلَكِنْ يَبْطُلُ بِرَدِّهِ، فَالْإِقْرَارُ لِلْحَاضِرِ يَلْزَمُ مِنْ جَانِبِ الْمُقِرِّ حَتَّى لَا يَصِحَّ إِقْرَارُهُ لِغَيْرِهِ بِهِ قَبْلَ رَدِّهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَانِبِ الْمُقَرِّ لَهُ فَيَصِحُّ رَدُّهُ.أَمَّا الْإِقْرَارُ لِلْغَائِبِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ لُزُومُهُ عَلَى عَدَمِ الرَّدِّ، وَلِعَدَمِ لُزُومِهِ لِلْمُقِرِّ صَحَّ إِقْرَارُهُ لِغَيْرِهِ، كَمَا لَا يَلْزَمُ الْمُقَرَّ لَهُ فَيَصِحُّ لَهُ رَدُّهُ.وَكُلُّ مَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِمِلْكٍ فَكَذَّبَهُ بِهِ بَطَلَ إِقْرَارُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْإِنْسَانِ مِلْكٌ لَا يَعْتَرِفُ بِهِ، وَالْإِقْرَارُ بِمَا فِي الذِّمَّةِ لَيْسَ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ، وَفِي الْمَالِ وَجْهَانِ: يُتْرَكُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ لِأَنَّهُ كَانَ مَحْكُومًا لَهُ بِهِ فَإِذَا بَطَلَ إِقْرَارُهُ بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.وَقِيلَ: يُؤْخَذُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ مَالِكٌ.وَقِيلَ: يُؤْخَذُ فَيُحْفَظُ حَتَّى يَظْهَرَ مَالِكُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ.فَإِنْ عَادَ أَحَدُهُمَا فَكَذَّبَ نَفْسَهُ دُفِعَ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَدَّعِيهِ وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ.

الصُّورِيَّةُ فِي الْإِقْرَارِ:

52- لَمَّا كَانَ الْإِقْرَارُ إِخْبَارًا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ جَازَ تَخَلُّفُ مَدْلُولِهِ الْوَضْعِيِّ، بِمَعْنَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ كَاذِبًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ لُزُومًا.فَإِذَا ادَّعَى أَنَّ مُورَثَهُ أَقَرَّ تَلْجِئَةً، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَهُ تَحْلِيفُ الْمُقَرِّ لَهُ، وَلَوِ ادَّعَى أَنَّهُ أَقَرَّ كَاذِبًا لَا يُقْبَلُ.وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ فِي التَّلْجِئَةِ يَدَّعِي الْوَارِثُ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ فِعْلاً لَهُ، وَهُوَ تَوَاطُؤُهُ مَعَ الْمُقِرِّ فِي السِّرِّ، فَلِذَا يَحْلِفُ بِخِلَافِ دَعْوَى الْإِقْرَارِ كَاذِبًا كَمَا لَا يَخْفَى.

وَنَقَلَ الْمَوَّاقُ عَنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ وَابْنِ نَافِعٍ لَوْ سَأَلَ شَخْصٌ ابْنَ عَمِّهِ أَنْ يُسْكِنَهُ مَنْزِلاً فَقَالَ: هُوَ لِزَوْجَتِي، ثُمَّ قَالَ لِثَانٍ وَلِثَالِثٍ كَذَلِكَ، ثُمَّ طَلَبَتْ امْرَأَتُهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّمَا قُلْتُهُ اعْتِذَارًا لِنَمْنَعَهُ، فَلَا شَيْءَ لَهَا بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ.أَيْ لَا يُعْتَبَرُ كَلَامُهُ إِقْرَارًا.

وَيَقُولُ الشَّيْخُ مَنْصُورُ الْبُهُوتِيُّ الْحَنْبَلِيُّ: إِذَا خَافَ شَخْصٌ أَنْ يَأْخُذَ آخَرُ مَالَهُ ظُلْمًا جَازَ لَهُ الْإِقْرَارُ- صُورَةً- بِمَا يَدْفَعُ هَذَا الظُّلْمَ، وَيَحْفَظُ الْمَالَ لِصَاحِبِهِ، مِثْلَ أَنْ يُقِرَّ بِحَاضِرٍ أَنَّهُ ابْنُهُ أَوْ أَخُوهُ أَوْ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ كَذَا دَيْنًا، وَيَتَأَوَّلَ فِي إِقْرَارِهِ، بِأَنْ يَعْنِيَ بِكَوْنِهِ ابْنَهُ صِغَرَهُ، أَوْ بِقَوْلِهِ أَخِي أُخُوَّةَ الْإِسْلَامِ.وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ أَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ تَلْجِئَةٌ، تَفْسِيرُهُ كَذَا وَكَذَا.وَعَلَى هَذَا فَالْإِقْرَارُ لَا يُعْتَبَرُ مَا دَامَ قَدْ ثَبَتَتْ صُورِيَّتُهُ، وَقَوَاعِدُ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَأْبَى ذَلِكَ.

التَّوْكِيلُ فِي الْإِقْرَارِ:

53- الْأَصْلُ أَنَّ التَّوْكِيلَ يَجُوزُ فِي كُلِّ مَا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ، وَمِنْ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِذِ الْإِخْبَارُ مِنَ الْمُوَكِّلِ حَقِيقَةً، وَمِنَ الْوَكِيلِ حُكْمًا، لِأَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ كَفِعْلِ الْمُوَكِّلِ، فَكَأَنَّ الْإِقْرَارَ صَدَرَ مِمَّنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ.وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ إِقْرَارَ الْوَكِيلِ

بِالتَّصَرُّفِ إِذَا أَنْكَرَهُ الْمُوَكِّلُ لَا يَنْفُذُ، كَمَا صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ إِقْرَارَ الْوَكِيلِ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ إِنْ كَانَ مُفَوَّضًا أَوْ جَعَلَ لَهُ الْإِقْرَارَ.وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ التَّوْكِيلَ فِي الْإِقْرَارِ لَا يَجُوزُ.نَعَمْ يَكُونُ بِالتَّوْكِيلِ بِالْإِقْرَارِ مُقِرًّا لِثُبُوتِ الْحَقِّ عَلَيْهِ.وَبِالنِّسْبَةِ لِإِقْرَارِ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ إِلاَّ إِذَا كَانَ قَدْ فَوَّضَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مَعْنًى يَقْطَعُ الْخُصُومَةَ وَيُنَافِيهَا فَلَا يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ، وَلِأَنَّ الْإِذْنَ فِي الْخُصُومَةِ لَا يَقْتَضِي الْإِقْرَارَ، فَإِنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَيَكُونُ الْوَكِيلُ كَشَاهِدٍ.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ أَحَدُ جَوَابَيِ الدَّعْوَى، فَصَحَّ مِنَ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ كَمَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِنْكَارُ، لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ إِذَا نَصَّ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ لَيْسَ لَهُ الْإِقْرَارُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْإِقْرَارِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَلَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي لَا يَصِحُّ، وَخَرَجَ بِهِ عَنِ الْوَكَالَةِ، كَمَا نَصُّوا عَلَى أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْإِقْرَارِ يَصِحُّ، وَلَا يَصِيرُ الْمُوَكِّلُ بِمُجَرَّدِ التَّوْكِيلِ مُقِرًّا خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الطَّوَاوِيسِيِّ: مَعْنَاهُ أَنْ يُوَكَّلَ بِالْخُصُومَةِ وَيَقُولَ: خَاصِمْ، فَإِذَا رَأَيْتَ لُحُوقَ مَئُونَةٍ أَوْ خَوْفَ عَارٍ عَلَيَّ فَأَقِرَّ بِالْمُدَّعَى يَصِحُّ إِقْرَارُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ.وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَظْهَرُ مِنْهُ وَجْهُ عَدَمِ كَوْنِهِ إِقْرَارًا أَيْ بِمُجَرَّدِ الْوَكِيلِ.

أَثَرُ الشُّبْهَةِ فِي الْإِقْرَارِ:

54- الشُّبْهَةُ لُغَةً: الِالْتِبَاسُ، وَشَبَّهَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ: خَلَّطَ حَتَّى اشْتَبَهَ لِغَيْرِهِ وَعَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا: مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ فَهِيَ بِهَذَا تُؤَثِّرُ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَمِنْهُ الْإِقْرَارُ.فَلَوِ احْتَمَلَ الْإِقْرَارُ اللَّبْسَ أَوِ التَّأْوِيلَ أَوْ شَابَهُ شَيْءٌ مِنَ الْغُمُوضِ وَالْخَفَاءِ اعْتُبِرَ ذَلِكَ شُبْهَةً، وَالشَّيْءُ الْمُقَرُّ بِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ حَقًّا لِلْعِبَادِ.وَحُقُوقُ الْعِبَادِ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، بِخِلَافِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ مِنْهَا مَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ.عَلَى تَفْصِيلٍ يُبَيَّنُ فِي مَوْضِعِهِ، وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حَقّ، وَشُبْهَة).

55- وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِإِقْرَارِ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ غَيْرِ الْمُفْهِمَةِ، لِمَا فِيهَا مِنَ الشُّبْهَةِ.

يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَمَّا الْأَخْرَسُ فَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ إِشَارَتُهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ إِقْرَارٌ.وَإِنْ فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ، فَقَالَ الْقَاضِي: عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ.لِأَنَّ مَنْ صَحَّ إِقْرَارُهُ بِغَيْرِ الزِّنَا صَحَّ إِقْرَارُهُ بِهِ كَالنَّاطِقِ.وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يُحَدُّ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ تَحْتَمِلُ مَا فُهِمَ مِنْهَا وَغَيْرَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ، وَهُوَ احْتِمَالُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ.

56- وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَنْ إِقْرَارِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمُكْرَهِ وَأَثَرِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْإِقْرَارِ.كَمَا أَنَّ تَكْذِيبَ الْمُقَرِّ لَهُ لِلْمُقِرِّ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ، أَوْ ظُهُورَ كَذِبِ الْمُقِرِّ- كَمِنْ يُقِرُّ بِالزِّنَا فَظَهَرَ مَجْبُوبًا- مَانِعٌ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ، لِتَيَقُّنِ كَذِبِ الْإِقْرَارِ.

وَلَوْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ وَكَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، وَكَانَ أَهْلاً لِلتَّكْذِيبِ، فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ، وَالْقَوْلُ لَهُ، كَإِقْرَارِهِ بِدَيْنٍ بِسَبَبِ كَفَالَةٍ.وَيَقُولُ الشِّيرَازِيُّ: لَوْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِمَالٍ فِي يَدِهِ فَكَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ بَطَلَ الْإِقْرَارُ، لِأَنَّهُ رَدَّهُ، وَفِي الْمَالِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُحْفَظُ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ، وَالْمُقَرُّ لَهُ لَا يَدَّعِيهِ، فَوَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ حِفْظُهُ كَالْمَالِ الضَّائِعِ.

وَالثَّانِي: لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ لَهُ بِمِلْكِهِ، فَإِذَا رَدَّهُ الْمُقَرُّ لَهُ بَقِيَ فِي مِلْكِهِ.

وَفِي الْمُغْنِي: لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَكَذَّبَتْهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّهَا لَا يُبْطِلُ إِقْرَارَهُ، كَمَا لَوْ سَكَتَتْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّا صَدَّقْنَاهَا فِي إِنْكَارِهَا فَصَارَ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ.

وَيَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ لِإِبْطَالِ الْإِقْرَارِ بِتَكْذِيبِ الْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يَسْتَمِرَّ التَّكْذِيبُ، بِحَيْثُ إِذَا رَجَعَ الْمُقَرُّ لَهُ إِلَى تَصْدِيقِهِ صَحَّ الْإِقْرَارُ وَلَزِمَ، مَا لَمْ يَرْجِعِ الْمُقِرُّ.

كُلُّ هَذَا مِمَّا يُوجِدُ شُبْهَةً فِي الْإِقْرَارِ.فَوُجُودُ الشُّبْهَةِ فِيهِ أَوْ وُجُودُ مَا يُعَارِضُهُ أَوْلَى بِالِاعْتِدَادِ بِهِ مِنَ الْإِقْرَارِ نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَلَا يُعْدَلُ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ إِلاَّ بِدَلِيلٍ ثَابِتٍ يَقِينِيٍّ لَا يُوجَدُ مَا يُعَارِضُهُ أَوْ يُوهِنُ مِنْهُ.

الشُّبْهَةُ بِتَقَادُمِ الْإِقْرَارِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ:

57- جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ وَالْفَتْحِ: التَّقَادُمُ لَا يُبْطِلُ الْإِقْرَارَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا الَّذِي لَا يُبْطِلُ التَّقَادُمُ الْإِقْرَارَ بِهِ اتِّفَاقًا.وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَنَا أُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَإِنْ جَاءَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ عَامًا.وَعِنْدَهُمَا لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الشَّارِبِ إِلاَّ إِذَا أَقَرَّ بِهِ عِنْدَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ.فَالتَّقَادُمُ يُؤَثِّرُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالشُّرْبِ عِنْدَهُمَا فَيَسْقُطُ الْحَدُّ.

وَفِي الْهِدَايَةِ وَالْفَتْحِ وَالْبَحْرِ: التَّقَادُمُ يُؤَثِّرُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ عَدَا حَدَّ الْقَذْفِ، لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ، لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ، فَإِنَّ التَّقَادُمَ لَا يُؤَثِّرُ عَلَيْهِ، وَيُحَدُّ بِإِقْرَارِهِ مَعَ التَّقَادُمِ إِلاَّ فِي حَدِّ الشُّرْبِ فَقَطْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّ التَّقَادُمَ فِيهِ يُبْطِلُ الْإِقْرَارَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ.

58- أَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فَإِنَّ التَّقَادُمَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا، لَا فِي الْإِقْرَارِ بِهَا وَلَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا.وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ أَقَرَّ بِزِنًا قَدِيمٍ وَجَبَ الْحَدُّ، وَبِهَذَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ عَلَى الْفَوْرِ فَيَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَقْبَلُ بَيِّنَةً عَلَى زِنًا قَدِيمٍ وَأَحُدُّهُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ، وَأَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ، وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ.

الرُّجُوعُ عَنِ الْإِقْرَارِ:

59- الرُّجُوعُ قَدْ يَكُونُ صَرِيحًا كَأَنْ يَقُولَ: رَجَعْتُ عَنْ إِقْرَارِي، أَوْ كَذَبْتُ فِيهِ، أَوْ دَلَالَةً كَأَنْ يَهْرُبَ عِنْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، إِذِ الْهَرَبُ دَلِيلُ الرُّجُوعِ، فَإِنْ كَانَ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ كَالزِّنَا، فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةَ وَالْمَشْهُورَ عِنْدِ الْمَالِكِيَّةِ وَمَذْهَبَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ الرُّجُوعَ يُعْتَبَرُ، وَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي الرُّجُوعِ وَهُوَ الْإِنْكَارُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي الْإِنْكَارِ يَكُونُ كَاذِبًا فِي الْإِقْرَارِ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ يَكُونُ صَادِقًا فِي الْإِقْرَارِ، فَيُورِثُ شُبْهَةً فِي ظُهُورِ الْحَدِّ، وَالْحُدُودُ لَا تُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا أَقَرَّ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- بِالزِّنَا لَقَّنَهُ الرُّجُوعَ.فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلاً لِلسُّقُوطِ بِالرُّجُوعِ مَا كَانَ لِلتَّلْقِينِ مَعْنًى، سَوَاءٌ أَرَجَعَ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَمْ بَعْدَهُ، قَبْلَ الْإِمْضَاءِ أَمْ بَعْدَهُ.وَيَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ بِأَنْ يَهْرُبَ عِنْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَإِنْكَارُ الْإِقْرَارِ رُجُوعٌ، فَلَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِالزِّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَأَمَرَ الْقَاضِي بِرَجْمِهِ فَقَالَ: مَا أَقْرَرْتُ بِشَيْءٍ- يُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ.وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ إِقَامِةِ الْحَدِّ بِالْإِقْرَارِ الْبَقَاءَ عَلَيْهِ إِلَى تَمَامِ الْحَدِّ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ أَوْ هَرَبَ كَفَّ عَنْهُ، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَالزُّهْرِيُّ وَحَمَّادٌ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ.وَقَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَا يُتْرَكُ، لِأَنَّ مَاعِزًا هَرَبَ فَقَتَلُوهُ وَلَمْ يَتْرُكُوهُ، وَلَوْ قُبِلَ رُجُوعُهُ لَلَزِمَتْهُمُ الدِّيَةُ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ بِإِقْرَارِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.وَحُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ إِنْ رَجَعَ حُدَّ لِلْفِرْيَةِ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ رَجَعَ عَنِ السَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ ضُرِبَ دُونَ الْحَدِّ.

وَنَقَلَ الشِّيرَازِيُّ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ، لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالرُّجُوعِ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ.

وَاسْتَدَلَّ ابْنُ قُدَامَةَ لِلْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِاعْتِبَارِ الرُّجُوعِ بِأَنَّ « مَاعِزًا هَرَبَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: هَلاَّ تَرَكْتُمُوهُ يَتُوبُ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ »؟ فَفِي هَذَا أَوْضَحُ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ رُجُوعُهُ.

وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ إِحْدَى بَيِّنَتَيِ الْحَدِّ، فَيَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ كَالشُّهُودِ إِذَا رَجَعُوا قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ.وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ ضَمَانُ مَاعِزٍ عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوهُ بَعْدَ هَرَبِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الرُّجُوعِ.أَمَّا إِنْ رَجَعَ صَرَاحَةً بِأَنْ قَالَ: كَذَبْتُ فِي إِقْرَارِي أَوْ رَجَعْتُ عَنْهُ أَوْ لَمْ أَفْعَلْ مَا أَقْرَرْتُ بِهِ وَجَبَ تَرْكُهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَبَ ضَمَانُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ زَالَ إِقْرَارُهُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ فَصَارَ كَمَنْ لَمْ يُقِرَّ، وَلَا قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِلِ لِلِاخْتِلَافِ فِي صِحَّةِ الرُّجُوعِ فَكَانَ شُبْهَةً.

وَقَيَّدَ الْإِمَامُ مَالِكٌ فِي الرِّوَايَةِ غَيْرِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ قَبُولَ رُجُوعِ الْمُقِرِّ فِي حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ بِأَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ لِوُجُودِ شُبْهَةٍ، أَمَّا لَوْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ فَلَا يُعْتَدُّ بِرُجُوعِهِ، فَقَدْ نَصَّ أَشْهَبُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْذَرُ إِلاَّ إِذَا رَجَعَ بِشُبْهَةٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ.

وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ إِلاَّ الرُّجُوعَ الصَّرِيحَ.وَلَا يَرَوْنَ مِثْلَ الْهُرُوبِ عِنْدَ تَنْفِيذِ الْحَدِّ رُجُوعًا، فَلَوْ قَالَ الْمُقِرُّ: اتْرُكُونِي أَوْ لَا تَحُدُّونِي، أَوْ هَرَبَ قَبْلَ حَدِّهِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ لَا يَكُونُ رُجُوعًا فِي الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ يَجِبُ تَخْلِيَتُهُ حَالاً، فَإِنْ صَرَّحَ فَذَاكَ وَإِلاَّ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ لَمْ يُخَلَّ لَمْ يُضْمَنْ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِمْ شَيْئًا فِي خَبَرِ مَاعِزٍ.

60- أَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ أَوْ بِحَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ- كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَكَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ- ثُمَّ رَجَعَ فِي إِقْرَارِهِ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَمْلِكْ إِسْقَاطَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ بَعْدَ مَا ثَبَتَ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالرُّجُوعِ، وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُشَاحَّةِ، وَمَا دَامَ قَدْ ثَبَتَ لَهُ فَلَا يُمْكِنُ إِسْقَاطُهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ.

وَقَدْ وَضَّحَ الْقَرَافِيُّ الْإِقْرَارَ الَّذِي يُقْبَلُ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَاَلَّذِي لَا يُقْبَلُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، فَقَالَ: الْأَصْلُ فِي الْإِقْرَارِ اللُّزُومُ مِنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الطَّبْعِ.وَضَابِطُ مَا لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، هُوَ مَا لَيْسَ لَهُ فِيهِ عُذْرٌ عَادِيٌّ، وَضَابِطُ مَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ- أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الرُّجُوعِ عَنْهُ عُذْرٌ عَادِيٌّ، فَإِذَا أَقَرَّ الْوَارِثُ لِلْوَرَثَةِ أَنَّ مَا تَرَكَهُ أَبُوهُ مِيرَاثٌ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا عُهِدَ فِي الشَّرِيعَةِ، ثُمَّ جَاءَ شُهُودٌ أَخْبَرُوهُ أَنَّ أَبَاهُ أَشْهَدَهُمْ أَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ بِهَذِهِ الدَّارِ وَحَازَهَا لَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ مُعْتَذِرًا بِإِخْبَارِ الْبَيِّنَةِ لَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَعُذْرُهُ، وَيُقِيمُ بَيِّنَتَهُ، وَلَا يَكُونُ إِقْرَارُهُ السَّابِقُ مُكَذِّبًا لِلْبَيِّنَةِ وَقَادِحًا فِيهَا، فَيُقْبَلُ الرُّجُوعُ فِي الْإِقْرَارِ.

وَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إِنْ حَلَفَ- أَوْ مَعَ يَمِينِهِ- فَحَلَفَ الْمُقَرُّ لَهُ، فَرَجَعَ الْمُقِرُّ وَقَالَ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّهُ يَحْلِفُ، لَا يَلْزَمُ الْمُقِرَّ شَيْءٌ، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِأَنَّ هَذَا الِاشْتِرَاطَ يَقْضِي عَدَمَ اعْتِقَادِ لُزُومِ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَالْعَادَةُ جَرَتْ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِقْرَارٍ.وَيَقُولُ ابْنُ جُزَيٍّ: مَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ لِمَخْلُوقٍ لَمْ يَنْفَعْهُ الرُّجُوعُ، وَإِنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنْ رَجَعَ إِلَى شُبْهَةٍ قُبِلَ مِنْهُ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى غَيْرِ شُبْهَةٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ: قَوْلٌ يُقْبَلُ مِنْهُ وِفَاقًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ.وَقِيلَ: لَا يُقْبَلُ مِنْهُ وِفَاقًا لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.

هَلِ الْإِقْرَارُ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ؟

61- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ: عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِمَالٍ، وَالْمُقَرُّ لَهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي إِقْرَارِهِ، لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ عَنْ كَرْهٍ مِنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِلاَّ أَنْ يُسَلِّمَهُ بِطِيبٍ مِنْ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً عَلَى سَبِيلِ الْهِبَةِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ ابْنِ الْفَضْلِ: أَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلتَّمْلِيكِ، وَفِي الْهِدَايَةِ وَشُرُوحِهَا: وَالْمُقَرُّ لَهُ إِذَا صَدَّقَهُ ثُمَّ رَدَّهُ لَا يَصِحُّ رَدُّهُ.

وَحُكْمُهُ لُزُومُ مَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى الْمُقِرِّ، وَعَمَلُهُ إِظْهَارُ الْمُخْبَرِ بِهِ لِغَيْرِهِ لَا التَّمْلِيكُ بِهِ ابْتِدَاءً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَسَائِلُ:

أ- أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَقَرَّ بِعَيْنٍ لَا يَمْلِكُهَا يَصِحُّ إِقْرَارُهُ، حَتَّى لَوْ مَلَكَهَا الْمُقِرُّ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهَا إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ، وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَمْلِيكُ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِمُوَافَقَةِ الْحَنَفِيَّةِ فِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ، لَكِنْ لَمْ نَجِدْ فِي كَلَامِهِمْ أَنَّ الْمُقِرَّ إِذَا مَلَكَ الْعَيْنَ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهَا لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَمْ نَجِدْ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ذِكْرًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

ب- الْإِقْرَارُ بِالْخَمْرِ لِلْمُسْلِمِ يَصِحُّ حَتَّى يُؤْمَرَ بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمْ يَصِحَّ، لَكِنْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالْخَمْرِ، وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْخَمْرِ إِذَا كَانَ مُحْتَرَمًا أَوْ غَيْرَ مُحْتَرَمٍ، وَصَحَّحُوا الْإِقْرَارَ بِالْخَمْرِ الْمُحْتَرَمِ.

ج- الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ إِذَا أَقَرَّ بِجَمِيعِ مَالِهِ لِأَجْنَبِيٍّ صَحَّ إِقْرَارُهُ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمْ يَنْفُذْ إِلاَّ بِقَدْرِ الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ إِجَازَتِهِمْ، وَبِقَوْلِهِمْ مَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَوْلَانِ آخَرَانِ، قِيلَ: لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ إِلاَّ فِي الثُّلُثِ.

د- الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إِذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ صَحَّ إِقْرَارُهُ، وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ ابْتِدَاءً كَانَ تَبَرُّعًا مِنَ الْعَبْدِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ فِي الْكَثِيرِ.وَمِثْلُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلاَّ أَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. الْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ:

62- إِذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْوَرَثَةِ بِوَارِثٍ ثَالِثٍ مُشَارِكٍ لَهُمَا فِي الْمِيرَاثِ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَتَبَعَّضُ فَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ دُونَ الْمُنْكِرِ، وَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ فِي حَقِّهِمَا، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مُنْكِرٌ وَلَمْ تُوجَدْ شَهَادَةٌ يَثْبُتُ بِهَا النَّسَبُ.وَلَكِنَّهُ يُشَارِكُ الْمُقِرَّ فِي الْمِيرَاثِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ مَالٍ لَمْ يَحْكُمْ بِبُطْلَانِهِ فَلَزِمَهُ الْمَالُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِبَيْعٍ أَوْ بِدَيْنٍ فَأَنْكَرَ الْآخَرُ.وَيَجِبُ لَهُ فَضْلُ مَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ مِنْ مِيرَاثِهِ، وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَشَرِيكٌ، وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ.وَتُقْسَمُ حِصَّةُ الْمُقِرِّ أَثْلَاثًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُقَرُّ لَهُ مِمَّا فِي يَدِ الْمُقِرِّ إِلاَّ الثُّلُثَ (وَهُوَ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ) كَمَا لَوْ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِبَيِّنَةٍ، لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ بِحَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِحِصَّتِهِ وَحِصَّةِ أَخِيهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِمَّا يَخُصُّهُ، كَالْإِقْرَارِ بِالْوَصِيَّةِ، وَإِقْرَارِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى مَالِ الشَّرِكَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا كَانَ اثْنَانِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ لَزِمَهُ دَفْعُ نِصْفِ مَا فِي يَدِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِأُخْتٍ لَزِمَهُ ثُلُثُ مَا فِي يَدِهِ، لِأَنَّهُ أَخَذَ مَا لَا يَسْتَحِقُّ مِنَ التَّرِكَةِ، فَصَارَ كَالْغَاصِبِ، فَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ التَّرِكَةِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِهَا، فَإِذَا مَلَكَ بَعْضَهَا أَوْ غَصَبَ تَعَلَّقَ الْحَقُّ بِبَاقِيهَا، وَاَلَّذِي فِي يَدِ الْمُنْكِرِ كَالْمَغْصُوبِ فَيَقْتَسِمَانِ الْبَاقِيَ بِالسَّوِيَّةِ، كَمَا لَوْ غَصَبَهُ أَجْنَبِيٌّ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُشَارِكُ الْمُقِرُّ فِي الْمِيرَاثِ (قَضَاءً)، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يُقِرُّوا جَمِيعًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ فَلَا يَرِثُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِنَسَبِ مَعْرُوفِ النَّسَبِ.وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُقِرُّ صَادِقًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.هَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ نَصِيبَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ (دِيَانَةً) وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ أَوْ ثُلُثَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.

وَإِنْ أَقَرَّ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ بِنَسَبِ مَنْ يُشَارِكُهُمْ فِي الْمِيرَاثِ ثَبَتَ نَسَبُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَرَثَةُ وَاحِدًا أَمْ جَمَاعَةً، ذُكُورًا أَمْ إِنَاثًا، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مُقَامَ الْمَيِّتِ فِي مِيرَاثِهِ وَدُيُونِهِ...وَكَذَلِكَ فِي النَّسَبِ، وَقَدْ رَوَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ - رضي الله عنها- أَنَّ « سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه- اخْتَصَمَ هُوَ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِي ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ:

أَوْصَانِي أَخِي عُتْبَةُ إِذَا قَدِمْتُ مَكَّةَ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ وَأَقْبِضَهُ فَإِنَّهُ ابْنُهُ، فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ:

هُوَ أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- : هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ » وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْعَدَدُ، وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَالَةُ فَلَمْ يُعْتَبَرِ الْعَدَدُ فِيهِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِإِقْرَارِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِإِقْرَارِ اثْنَيْنِ، لِأَنَّهُ يَحْمِلُ النَّسَبَ عَلَى غَيْرِهِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْعَدَدُ كَالشَّهَادَةِ.

شُرُوطُ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ:

63- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ عَلَى الْمُقِرِّ نَفْسِهِ:

(1) أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مَجْهُولَ النَّسَبِ.

(2) أَلاَّ يُنَازِعَهُ فِيهِ مُنَازِعٌ، لِأَنَّهُ إِنْ نَازَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ تَعَارَضَا، فَلَمْ يَكُنْ إِلْحَاقُهُ بِأَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ.

(3) وَأَنْ يُمْكِنَ صِدْقُهُ بِأَنْ يُحْتَمَلَ أَنْ يُولَدَ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ.

(4) أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا قَوْلَ لَهُ كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ، أَوْ يُصَدِّقَ الْمُقِرَّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّصْدِيقِ.فَإِنْ كَبِرَ الصَّغِيرُ وَعَقَلَ الْمَجْنُونُ فَأَنْكَرَ لَمْ يُسْمَعْ إِنْكَارُهُ، لِأَنَّ نَسَبَهُ قَدْ ثَبَتَ فَلَا يَسْقُطُ، وَلِأَنَّ الْأَبَ لَوْ عَادَ فَجَحَدَ النَّسَبَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ.

64- وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ كَإِقْرَارٍ بِأَخٍ اعْتُبِرَ فِيهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ السَّابِقَةُ، وَشَرْطٌ خَامِسٌ، وَهُوَ كَوْنُ الْمُقِرِّ جَمِيعَ الْوَرَثَةِ.فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ بِنْتًا أَوْ أُخْتًا أَوْ أُمًّا أَوْ ذَا فَرْضٍ يَرِثُ جَمِيعَ الْمَالِ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ، ثَبَتَ النَّسَبُ بِقَوْلِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْقَائِلِينَ بِالرَّدِّ، وَعِنْدَ مَنْ لَا يَرَى الرَّدَّ كَالشَّافِعِيِّ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ النَّسَبُ، لِأَنَّهُ لَا يَرَى الرَّدَّ وَيُجْعَلُ الْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ، وَلَهُمْ فِيمَا إِذَا وَافَقَهُ الْإِمَامُ فِي الْإِقْرَارِ وَجْهَانِ، يَقُولُ الشِّيرَازِيُّ: وَإِنْ مَاتَ وَخَلَّفَ بِنْتًا فَأَقَرَّتْ بِنَسَبِ أَخٍ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ، لِأَنَّهَا لَا تَرِثُ جَمِيعَ الْمَالِ.فَإِنْ أَقَرَّ مَعَهَا الْإِمَامُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَثْبُتَ، لِأَنَّ الْإِمَامَ نَافِذُ الْإِقْرَارِ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمَالَ بِالْإِرْثِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ لَا يَتَبَيَّنُونَ، فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ.وَيَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِأَخٍ وَعَمٍّ لَمْ يَرِثْهُ إِنْ وُجِدَ وَارِثٌ، وَإِلاَّ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ أَصْلاً أَوْ وَارِثٌ غَيْرُ حَائِزٍ فَخِلَافٌ، وَالرَّاجِحُ: إِرْثُ الْمُقَرِّ بِهِ مِنَ الْمُقِرِّ جَمِيعُ الْمَالِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْإِقْرَارُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ أَمْ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ، وَفِي قَوْلٍ: يَحْلِفُ الْمُقِرُّ بِهِ أَنَّ الْإِقْرَارَ حَقٌّ.

65- وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْوَارِثِينَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَأَقَرَّ الْمُكَلَّفُ بِأَخٍ ثَالِثٍ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَحُوزُ الْمِيرَاثَ كُلَّهُ، فَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فَأَقَرَّا بِهِ أَيْضًا ثَبَتَ نَسَبُهُ لِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَا مُكَلَّفَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقِرِّ بِهِ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْإِقْرَارُ مِنْ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ، فَإِنَّ الْمُقِرَّ صَارَ جَمِيعَ الْوَرَثَةِ، هَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُقِرُّ يَحُوزُ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ بَعْدَ مَنْ مَاتَ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ سِوَاهُ أَوْ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ، وَيَقُومُ وَارِثُ الْمَيِّتِ مَقَامَهُ، فَإِذَا وَافَقَ الْمُقِرَّ فِي إِقْرَارِهِ ثَبَتَ النَّسَبُ، وَإِنْ خَالَفَهُ لَمْ يَثْبُتْ.وَإِذَا أَقَرَّ الْوَارِثُ بِمَنْ يَحْجُبُهُ كَأَخٍ أَقَرَّ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ وَوَرِثَ وَسَقَطَ الْمُقِرُّ...وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَقَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ.لِأَنَّهُ ابْنٌ ثَابِتُ النَّسَبِ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ أَحَدُ مَوَانِعِ الْإِرْثِ فَيَرِثُهُ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِبَيِّنَةٍ، وَلِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ سَبَبٌ لِلْمِيرَاثِ فَلَا يَجُوزُ قَطْعُ حُكْمِهِ عَنْهُ، وَلَا يُورَثُ مَحْجُوبٌ بِهِ مَعَ وُجُودِهِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ الْمَوَانِعِ.

وَقَالَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ: يَثْبُتُ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ وَلَا يَرِثُ، لِأَنَّ تَوْرِيثَهُ يُفْضِي إِلَى إِسْقَاطِ تَوْرِيثِ الْمُقِرِّ، فَيُبْطِلُ إِقْرَارُهُ، فَأَثْبَتْنَا النَّسَبَ دُونَ الْإِقْرَارِ.يَقُولُ الشِّيرَازِيُّ: إِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ يَحْجُبُ الْمُقِرَّ، مِثْلَ أَنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ وَيُخَلِّفَ أَخًا فَيُقِرَّ الْأَخُ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ يَثْبُتُ لَهُ النَّسَبُ وَلَا يَرِثُ، لِأَنَّا لَوْ أَثْبَتْنَا لَهُ الْإِرْثَ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى إِسْقَاطِ إِرْثِهِ، لِأَنَّ تَوْرِيثَهُ يُخْرِجُ الْمُقِرَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا فَيَبْطُلُ إِقْرَارُهُ، لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ مِنْ غَيْرِ وَارِثٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


70-موسوعة الفقه الكويتية (انتقال)

انْتِقَالٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الِانْتِقَالُ فِي اللُّغَةِ: التَّحَوُّلُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى آخَرَ.وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي التَّحَوُّلِ الْمَعْنَوِيِّ، فَيُقَالُ: انْتَقَلَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ.

وَيُطْلَقُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

2- الزَّوَالُ:

الزَّوَالُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى: التَّنَحِّي، وَمَعْنَى الْعَدَمِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِانْتِقَالِ وَالزَّوَالِ: أَنَّ الزَّوَالَ يَعْنِي الْعَدَمَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَالِانْتِقَالَ لَا يَعْنِي ذَلِكَ.وَأَيْضًا: أَنَّ الِانْتِقَالَ يَكُونُ فِي الْجِهَاتِ كُلِّهَا، أَمَّا الزَّوَالُ فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْجِهَاتِ دُونَ بَعْضٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ: زَالَ مِنْ سُفْلٍ إِلَى عُلْوٍ.وَيُقَالُ: انْتَقَلَ مِنْ سُفْلٍ إِلَى عُلْوٍ، وَثَمَّةَ فَرْقٌ ثَالِثٌ هُوَ أَنَّ الزَّوَالَ لَا يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ اسْتِقْرَارٍ وَثَبَاتٍ صَحِيحٍ أَوْ مُقَدَّرٍ، تَقُولُ: زَالَ مِلْكُ فُلَانٍ، وَلَا تَقُولُ ذَلِكَ إِلاَّ بَعْدَ ثَبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ، وَتَقُولُ: زَالَتِ الشَّمْسُ، وَهَذَا وَقْتُ الزَّوَالِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُقَدِّرُونَ أَنَّ الشَّمْسَ تَسْتَقِرُّ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ ثُمَّ تَزُولُ، وَذَلِكَ لِمَا يُظَنُّ مِنْ بُطْءِ حَرَكَتِهَا.وَلَيْسَ كَذَلِكَ الِانْتِقَالُ.فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِانْتِقَالُ أَتَمَّ مِنَ الزَّوَالِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

قَدْ يَكُونُ الِانْتِقَالُ وَاجِبًا، وَقَدْ يَكُونُ جَائِزًا.

أ- الِانْتِقَالُ الْوَاجِبُ:

3- إِذَا تَعَذَّرَ الْأَصْلُ وَجَبَ الِانْتِقَالُ إِلَى الْبَدَلِ، وَالْمُتَتَبِّعُ لِأَحْكَامِ الْفِقْهِ يَجِدُ كَثِيرًا مِنَ التَّطْبِيقَاتِ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا هَلَكَ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَجَبَ مِثْلُهُ أَوْ قِيمَتُهُ.وَأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْوُضُوءِ لِفَقْدِ الْمَاءِ وَجَبَ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ إِلَى التَّيَمُّمِ، وَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ انْتَقَلَ إِلَى الْقُعُودِ، وَمَنْ عَجَزَ عَنِ الصِّيَامِ لِشَيْخُوخَةٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَمَنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ، وَمَنْ أَتْلَفَ لآِخَرَ شَيْئًا لَا مِثْلَ لَهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَإِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُصَدِّقُ- جَابِي الصَّدَقَةِ- السِّنَّ الْمَطْلُوبَةَ مِنَ الْإِبِلِ أَخَذَ سِنًّا أَعْلَى مِنْهَا وَدَفَعَ الْفَرْقَ، أَوْ أَخَذَ سِنًّا أَدْنَى مِنْهَا وَأَخَذَ الْفَرْقَ، وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى خَمْرٍ وَجَبَ الِانْتِقَالُ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ.وَمَنْ عَجَزَ عَنْ خِصَالِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ انْتَقَلَ إِلَى الْبَدَلِ وَهُوَ الصِّيَامُ، وَهَكَذَا كُلُّ كَفَّارَةٍ لَهَا بَدَلٌ، يُصَارُ إِلَى الْبَدَلِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْأَصْلِ.

ب- الِانْتِقَالُ الْجَائِزُ:

4- الِانْتِقَالُ الْجَائِزُ قَدْ يَكُونُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَقَدْ يَكُونُ بِاتِّفَاقِ الطَّرَفَيْنِ، وَيَجُوزُ الِانْتِقَالُ مِنَ الْأَصْلِ إِلَى الْبَدَلِ إِذَا كَانَ فِي الْبَدَلِ مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ شَرْعًا، فَيَجُوزُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ دَفْعُ بَدَلِ الْوَاجِبِ فِي الزَّكَاةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَزَكَاةِ الْفِطْرِ، وَالنَّذْرِ، وَالْكَفَّارَةِ، وَالْعُشْرِ، وَالْخَرَاجِ.

كَمَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِ الْعَلَاقَةِ الِانْتِقَالُ مِنَ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَلِ فِي دَيْنِ الْقَرْضِ، وَبَدَلِ الْمُتْلَفَاتِ مَثَلًا وَقِيمَتِهِ، وَثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَالْأُجْرَةِ، وَالصَّدَاقِ، وَعِوَضِ الْخُلْعِ، وَبَدَلِ الدَّمِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي دَيْنِ السَّلَمِ.

أَنْوَاعُ الِانْتِقَالِ:

يَتَنَوَّعُ الِانْتِقَالُ إِلَى الْأَنْوَاعِ الْآتِيَةِ:

أ- الِانْتِقَالُ الْحِسِّيُّ:

5- إِذَا انْتَقَلَتِ الْحَاضِنَةُ مِنْ بَلَدِ الْوَلِيِّ إِلَى آخَرَ لِلِاسْتِيطَانِ سَقَطَ حَقُّهَا فِي الْحَضَانَةِ.

وَيَنْتَقِلُ الْقَاضِي أَوْ نَائِبُهُ أَوْ مَنْ يَنْدُبُهُ إِلَى الْمُخَدَّرَةِ (وَهِيَ مَنْ لَا تَخْرُجُ فِي الْعَادَةِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهَا) وَالْعَاجِزَةِ لِسَمَاعِ شَهَادَتِهَا، وَلَا تُكَلَّفُ هِيَ بِالْحُضُورِ إِلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ.

وَلَا تَنْتَقِلُ الْمُعْتَدَّةُ رَجْعِيًّا مِنْ بَيْعِهَا إِلاَّ لِضَرُورَةٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ

ب- انْتِقَالُ الدَّيْنِ:

6- يَنْتَقِلُ الدَّيْنُ الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ إِلَى ذِمَّةِ شَخْصٍ آخَرَ بِالْحَوَالَةِ.

ج- انْتِقَالُ النِّيَّةِ:

7- انْتِقَالُ النِّيَّةِ أَثْنَاءَ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَحْضَةِ يُفْسِدُ تِلْكَ الْعِبَادَةَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا تَفْسُدُ إِلاَّ إِذَا رَافَقَهَا شُرُوعٌ فِي غَيْرِهَا، فَفِي الصَّلَاةِ مَثَلًا؛ إِذَا انْتَقَلَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ نِيَّةِ الْفَرْضِ الَّذِي نَوَاهُ إِلَى نِيَّةِ فَرْضٍ آخَرَ، أَوْ إِلَى نَفْلٍ، فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا تَفْسُدُ إِلاَّ إِذَا كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ الْأُخْرَى.وَإِذَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، فَهَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ الْجَدِيدَةُ الَّتِي انْتَقَلَ إِلَيْهَا؟

قَالَ الْجُمْهُورُ: لَا تَصِحُّ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تَصِحُّ مُسْتَأْنَفَةً مِنْ حِينِ التَّكْبِيرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ نَقَلَ نِيَّةَ الْفَرْضِ إِلَى النَّفْلِ صَحَّ النَّفَلُ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا تَصِحُّ.

وَمِنْ صُوَرِ انْتِقَالِ النِّيَّةِ أَيْضًا نِيَّةُ الْمُقْتَدِي الِانْفِصَالَ عَنِ الْإِمَامِ، وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اقْتِدَاء).

د- انْتِقَالُ الْحُقُوقِ:

الْحُقُوقُ مِنْ حَيْثُ قَابِلِيَّتُهَا لِلِانْتِقَالِ عَلَى نَوْعَيْنِ: حُقُوقٍ تَقْبَلُ الِانْتِقَالَ، وَحُقُوقٍ لَا تَقْبَلُ الِانْتِقَالَ.

(1) الْحُقُوقُ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الِانْتِقَالَ:

8- أَوَّلًا: الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِشَخْصِ الْإِنْسَانِ، وَتَتَعَلَّقُ بِإِرَادَتِهِ، وَهِيَ حُقُوقٌ غَيْرُ مَالِيَّةٍ فِي الْغَالِبِ كَاللِّعَانِ، وَالْفَيْءِ بَعْدَ الْإِيلَاءِ، وَالْعَوْدِ فِي الظِّهَارِ، وَالِاخْتِيَارِ بَيْنَ النِّسْوَةِ اللاَّتِي أَسْلَمَ عَلَيْهِنَّ إِذَا كُنَّ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، وَاخْتِيَارِ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ الْأُخْتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَسْلَمَ عَلَيْهِنَّ، وَحَقِّ الزَّوْجَةِ فِي الطَّلَاقِ بِسَبَبِ الضَّرَرِ وَنَحْوِهِ، وَحَقِّ الْوَلِيِّ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ، وَمَا فُوِّضَ إِلَيْهِ مِنَ الْوِلَايَاتِ وَالْمَنَاصِبِ كَالْقَضَاءِ وَالتَّدْرِيسِ وَالْأَمَانَاتِ وَالْوَكَالَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَقَدْ تَكُونُ حُقُوقًا مَالِيَّةً، كَحَقِّ الْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ، وَحَقِّ الرُّجُوعِ بِالْهِبَةِ، وَحَقِّ الْخِيَارِ فِي قَبُولِ الْوَصِيَّةِ، إِذْ لَا تَنْتَقِلُ هَذِهِ الْحُقُوقُ إِلَى الْوَرَثَةِ بِالْمَوْتِ.عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُعْرَفُ فِي أَبْوَابِهَا

9- ثَانِيًا: حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْبَدَنِيَّةُ الْخَالِصَةُ الْمَفْرُوضَةُ فَرْضًا عَيْنِيًّا، كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحُدُودِ إِلاَّ الْقَذْفَ لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ.

(2) الْحُقُوقُ الَّتِي تَقْبَلُ الِانْتِقَالَ:

10- قَالَ الْقَرَافِيُّ: مِنَ الْحُقُوقِ مَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَنْتَقِلُ، فَمِنْ حَقِّ الْإِنْسَانِ أَنْ يُلَاعِنَ عِنْدَ سَبَبِ اللِّعَانِ، وَأَنْ يَفِيءَ بَعْدَ الْإِيلَاءِ، وَأَنْ يَعُودَ بَعْدَ الظِّهَارِ، وَأَنْ يَخْتَارَ مِنْ نِسْوَةٍ إِذَا أَسْلَمَ عَلَيْهِنَّ، وَهُنَّ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَأَنْ يَخْتَارَ إِحْدَى الْأُخْتَيْنِ إِذَا أَسْلَمَ عَلَيْهِنَّ، وَإِذَا حَمَلَ الْمُتَبَايِعَانِ لَهُ الْخِيَارَ فَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَمْلِكَ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ عَلَيْهِمَا وَفَسْخَهُ، وَمِنْ حَقِّهِ مَا فُوِّضَ إِلَيْهِ مِنَ الْوِلَايَاتِ وَالْمَنَاصِبِ، كَالْقِصَاصِ وَالْإِمَامَةِ وَالْخَطَابَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَالْأَمَانَةِ وَالْوَكَالَةِ، فَجَمِيعُ هَذِهِ الْحُقُوقِ لَا يَنْتَقِلُ لِلْوَارِثِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَتْ ثَابِتَةً لِلْمُورَثِ.بَلِ الضَّابِطُ لِمَا يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَالِ، أَوْ يَدْفَعُ ضَرَرًا عَنِ الْوَارِثِ فِي عِرْضِهِ بِتَخْفِيفِ أَلَمِهِ.وَمَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِنَفْسِ الْمُورَثِ وَعَقْلِهِ وَشَهَوَاتِهِ لَا يَنْتَقِلُ لِلْوَارِثِ.وَالسِّرُّ فِي الْفَرْقِ أَنَّ الْوَرَثَةَ يَرِثُونَ الْمَالَ فَيَرِثُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَبَعًا لَهُ، وَلَا يَرِثُونَ عَقْلَهُ وَلَا شَهْوَتَهُ وَلَا نَفْسَهُ، فَلَا يَرِثُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، وَمَا لَا يُورَثُ لَا يَرِثُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَاللِّعَانُ يَرْجِعُ إِلَى أَمْرٍ يَعْتَقِدُهُ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ غَالِبًا، وَالِاعْتِقَادَاتُ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْمَالِ، وَالْفَيْئَةُ شَهْوَتُهُ، وَالْعَوْدُ إِرَادَتُهُ، وَاخْتِيَارُ الْأُخْتَيْنِ وَالنِّسْوَةِ إِرْبُهُ وَمَيْلُهُ، وَقَضَاؤُهُ عَلَى الْمُتَبَايِعَيْنِ عَقْلُهُ وَفِكْرَتُهُ وَرَأْيُهُ وَمَنَاصِبُهُ وَوِلَايَاتُهُ وَآرَاؤُهُ وَاجْتِهَادَاتُهُ وَأَفْعَالُهُ الدِّينِيَّةُ فَهُوَ دِينُهُ، وَلَا يَنْتَقِلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِلْوَارِثِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرِثْ مُسْتَنَدَهُ وَأَصْلَهُ.

وَانْتَقَلَ لِلْوَارِثِ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي الْبَيْعَاتِ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رحمه الله- (، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ.وَيَنْتَقِلُ لِلْوَارِثِ خِيَارُ الشُّفْعَةِ عِنْدَنَا (عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ) وَخِيَارُ التَّعْيِينِ إِذَا اشْتَرَى مَوْرُوثُهُ عَبْدًا مِنْ عَبْدَيْنِ عَلَى أَنْ يَخْتَارَ، وَخِيَارُ الْوَصِيَّةِ إِذَا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَخِيَارُ الْإِقَالَةِ وَالْقَبُولِ إِذَا أَوْجَبَ الْبَيْعَ لِزَيْدٍ فَلِوَارِثِهِ الْقَبُولُ وَالرَّدُّ.وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: إِذَا قَالَ: مَنْ جَاءَنِي بِعَشَرَةٍ فَغُلَامِي لَهُ، فَمَتَى جَاءَ أَحَدٌ بِذَلِكَ إِلَى شَهْرَيْنِ لَزِمَهُ، وَخِيَارُ الْهِبَةِ وَفِيهِ خِلَافٌ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ خِيَارَ الشُّفْعَةِ، وَسَلَّمَ خِيَارَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَخِيَارَ تَعَدُّدِ الصَّفْقَةِ، وَحَقَّ الْقِصَاصِ، وَحَقَّ الرَّهْنِ، وَحَبْسِ الْمَبِيعِ، وَخِيَارَ مَا وُجِدَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْغَنِيمَةِ فَمَاتَ رَبُّهُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَهُ أَخَذَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَوَافَقْنَاهُ نَحْنُ عَلَى خِيَارِ الْهِبَةِ فِي الْأَبِ لِلِابْنِ بِالِاعْتِصَارِ، وَخِيَارُ الْعِتْقِ وَاللِّعَانِ وَالْكِتَابَةِ وَالطَّلَاقِ، بِأَنْ يَقُولَ: طَلَّقْتَ امْرَأَتِي مَتَى شِئْتَ، فَيَمُوتُ الْمَقُولُ لَهُ، وَسَلَّمَ الشَّافِعِيُّ جَمِيعَ مَا سَلَّمْنَاهُ، وَسَلَّمَ خِيَارَ الْإِقَالَةِ وَالْقَبُولِ.

هـ- انْتِقَالُ الْأَحْكَامِ:

11- أَوَّلًا: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ غَيْرَ الْحَامِلِ، ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا تَنْتَقِلُ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ فِي الْجُمْلَةِ.

وَإِذَا طَلَّقَهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ لَا تَحِيضُ، فَابْتَدَأَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَشْهُرِ ثُمَّ حَاضَتِ، انْتَقَلَتْ عِدَّتُهَا إِلَى الْحَيْضِ.

12- ثَانِيًا: حَجْبُ النُّقْصَانِ يَنْتَقِلُ فِيهِ الْوَارِثُ مِنْ فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ أَقَلَّ، فَالزَّوْجُ- مَثَلًا- يَنْتَقِلُ فَرْضُهُ مِنَ النِّصْفِ إِلَى الرُّبُعِ، عِنْدَ وُجُودِ الْفَرْعِ الْوَارِثِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


71-موسوعة الفقه الكويتية (انفساخ 1)

انْفِسَاخٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الِانْفِسَاخُ: مَصْدَرُ انْفَسَخَ، وَهُوَ مُطَاوِعُ فَسَخَ، وَمِنْ مَعْنَاهُ: النَّقْضُ وَالزَّوَالُ.يُقَالُ: فَسَخْتُ الشَّيْءَ فَانْفَسَخَ أَيْ: نَقَضْتُهُ فَانْتَقَضَ، وَفَسَخْتُ الْعَقْدَ أَيْ: رَفَعْتُهُ.

وَالِانْفِسَاخُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ انْحِلَالُ الْعَقْدِ إِمَّا بِنَفْسِهِ، وَإِمَّا بِإِرَادَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، أَوْ بِإِرَادَةِ أَحَدِهِمَا.

وَقَدْ يَكُونُ الِانْفِسَاخُ أَثَرًا لِلْفَسْخِ، فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُطَاوِعٌ لِلْفَسْخِ وَنَتِيجَةٌ لَهُ، كَمَا سَيَأْتِي فِي أَسْبَابِ الِانْفِسَاخِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْإِقَالَةُ:

2- الْإِقَالَةُ فِي اللُّغَةِ، عِبَارَةٌ عَنِ الرَّفْعِ، وَفِي الشَّرْعِ: رَفْعُ الْعَقْدِ وَإِزَالَتُهُ بِرِضَا الطَّرَفَيْنِ، وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي اعْتِبَارِهَا فَسْخًا أَوْ عَقْدًا جَدِيدًا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِقَالَةٌ).

ب- الِانْتِهَاءُ:

3- انْتِهَاءُ الشَّيْءِ: بُلُوغُهُ أَقْصَى مَدَاهُ، وَانْتَهَى الْأَمْرُ: بَلَغَ النِّهَايَةَ.وَانْتِهَاءُ الْعَقْدِ: مَعْنَاهُ بُلُوغُهُ نِهَايَتَهُ، وَهَذَا يَكُونُ بِتَمَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالِاسْتِئْجَارِ لِأَدَاءِ عَمَلٍ فَأَتَمَّهُ الْأَجِيرُ، أَوِ الْقَضَاءُ مُدَّةَ الْعَقْدِ كَاسْتِئْجَارِ مَسْكَنٍ أَوْ أَرْضٍ لِمُدَّةٍ مَحْدُودَةٍ.وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعُقُودِ الْمُسْتَمِرَّةِ كَانْتِهَاءِ عَقْدِ الزَّوَاجِ بِالْمَوْتِ أَوِ الطَّلَاقِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَالْفَرْقُ بَيْنَ الِانْفِسَاخِ وَالِانْتِهَاءِ، أَنَّ الِانْفِسَاخَ يُسْتَعْمَلُ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ، وَيَكُونُ فِي عُقُودِ الْمُدَّةِ قَبْلَ نِهَايَتِهَا أَيْضًا، بِخِلَافِ الِانْتِهَاءِ، وَبَعْضُهُمْ يَسْتَعْمِلُ الِانْفِسَاخَ مَكَانَ الِانْتِهَاءِ وَبِالْعَكْسِ.

ج- الْبُطْلَانُ:

4- الْبُطْلَانُ لُغَةً: فَسَادُ الشَّيْءِ وَزَوَالُهُ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى: النَّقْضِ وَالسُّقُوطِ.وَالْبُطْلَانُ يَطْرَأُ عَلَى الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ إِذَا وُجِدَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِهِ، وَيُرَادِفُ الْفَسَادَ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي الْعِبَادَاتِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ إِلاَّ فِي الْحَجِّ.

أَمَّا فِي الْعُقُودِ فَالْبَاطِلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، هُوَ مَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا لَا بِأَصْلِهِ وَلَا بِوَصْفِهِ، بِأَنْ فَقَدَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِهِ، أَوْ وَرَدَ الْعَقْدُ عَلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ مِنْ نَقْلِ الْمِلْكِيَّةِ أَوِ الضَّمَانِ أَوْ غَيْرِهِمَا.

وَعَلَى هَذَا يَخْتَلِفُ الِانْفِسَاخُ عَن الْبُطْلَانِ، بِأَنَّ الِانْفِسَاخَ يَرِدُ عَلَى الْمُعَامَلَاتِ دُونَ الْعِبَادَاتِ، وَيُعْتَبَرُ الْعَقْدُ قَبْلَ الِانْفِسَاخِ عَقْدًا مَوْجُودًا ذَا أَثَرٍ شَرْعِيٍّ، بِخِلَافِ الْبُطْلَانِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْبَاطِلَ فِي اصْطِلَاحِ الْحَنَفِيَّةِ لَا وُجُودَ لَهُ أَصْلًا، وَكَذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَاسِدِ.

د- الْفَسَادُ:

5- الْفَسَادُ نَقِيضُ الصَّلَاحِ، وَفَسَادُ الْعِبَادَةِ بُطْلَانُهَا إِلاَّ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الْحَجِّ كَمَا سَبَقَ، وَالْفَاسِدُ مِنَ الْعُقُودِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ: مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ دُونَ وَصْفِهِ، وَأَمَّا عِنْدَ غَيْرِهِمْ فَيُطْلَقُ الْفَاسِدُ وَالْبَاطِلُ عَلَى كُلِّ تَصَرُّفٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، وَالْفَاسِدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَدْ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَحْكَامِ، فَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ عِنْدَهُمْ إِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ أَفَادَ الْمِلْكَ، وَلَكِنَّهُ مِلْكٌ خَبِيثٌ، يَجِبُ فَسْخُ الْعَقْدِ مَا دَامَتِ الْعَيْنُ قَائِمَةً، لِحَقِّ الشَّارِعِ.

وَيُعْتَبَرُ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ عَقْدًا مَوْجُودًا ذَا أَثَرٍ، لَكِنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ، يَجِبُ شَرْعًا فَسْخُهُ رَفْعًا لِلْفَسَادِ.

هـ- الْفَسْخُ:

6- الْفَسْخُ: هُوَ حَلُّ ارْتِبَاطِ الْعَقْدِ، وَهَذَا يَكُونُ بِإِرَادَةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، أَوْ بِحُكْمِ الْقَاضِي، فَهُوَ عَمَلُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ غَالِبًا، أَوْ فِعْلُ الْحَاكِمِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ.

أَمَّا الِانْفِسَاخُ: فَهُوَ انْحِلَالُ ارْتِبَاطِ الْعَقْدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ أَثَرًا لِلْفَسْخِ، أَوْ نَتِيجَةً لِعَوَامِلَ غَيْرِ اخْتِيَارِيَّةٍ.فَإِذَا كَانَ الِانْحِلَالُ أَثَرًا لِلْفَسْخِ كَانَتِ الْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالِانْفِسَاخِ عَلَاقَةَ السَّبَبِ بِالْمُسَبَّبِ، كَمَا إِذَا فَسَخَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ عَقْدَ الْبَيْعِ بِسَبَبِ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ مَثَلًا، فَالِانْفِسَاخُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ نَتِيجَةُ الْفَسْخِ الَّذِي مَارَسَهُ الْعَاقِدُ اخْتِيَارًا.يَقُولُ الْقَرَافِيُّ: الْفَسْخُ قَلْبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعِوَضَيْنِ لِصَاحِبِهِ، وَالِانْفِسَاخُ انْقِلَابُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعِوَضَيْنِ لِصَاحِبِهِ، فَالْأَوَّلُ فِعْلُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إِذَا ظَفِرُوا بِالْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ، وَالثَّانِي صِفَةُ الْعِوَضَيْنِ، فَالْأَوَّلُ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ، وَالثَّانِي حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَهَذَانِ فَرْعَانِ: فَالْأَوَّلُ مِنْ جِهَةِ الْمَوْضُوعَاتِ، وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ.

وَمِثْلُهُ مَا جَاءَ فِي الْمَنْثُورِ لِلزَّرْكَشِيِّ، إِلاَّ أَنَّهُ أَطْلَقَ وَلَمْ يُقَيِّدِ الْفَسْخَ بِالْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ الْمُحَرَّمَةِ، وَذَلِكَ بِإِرَادَةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا كَمَا هُوَ الْحَالُ غَالِبًا.

أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الِانْفِسَاخُ أَثَرًا لِلْفَسْخِ، بَلْ نَتِيجَةً لِعَوَامِلَ خَارِجَةٍ عَنْ إِرَادَةِ الْعَاقِدَيْنِ، كَمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ مَثَلًا، فَلَا يُوجَدُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالِانْفِسَاخِ عَلَاقَةُ السَّبَبِيَّةِ الَّتِي قَرَّرَهَا الْقَرَافِيُّ.

7- وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا انْفِسَاخَ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ مَا يَأْتِي:

أ- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ، كَمَا إِذَا تَلِفَتِ الدَّابَّةُ الْمُعَيَّنَةُ، أَوِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ الْمُسْتَأْجَرَةُ.

ب- لَوْ غُصِبَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ مِنْ يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ سَقَطَ الْأَجْرُ لِزَوَالِ التَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ، وَتَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ قَالُوا: لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِنَفْسِهِ، بَلْ يَثْبُتُ خِيَارُ الْفَسْخِ لِلْمُسْتَأْجِرِ.

ج- إِذَا مَاتَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَاهُمَا فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ، كَالْعَارِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ.

د- يَنْفَسِخُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ، وَكَذَلِكَ تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِالْأَعْذَارِ عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي أَسْبَابِ الِانْفِسَاخِ.

وَسَوْفَ يَقْتَصِرُ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَحْثِ عَلَى الِانْفِسَاخِ الَّذِي لَا يَكُونُ أَثَرًا لِلْفَسْخِ.أَمَّا الِانْفِسَاخُ الَّذِي هُوَ أَثَرٌ لِلْفَسْخِ فَيُرْجَعُ إِلَيْهِ تَحْتَ عُنْوَانِ (فَسْخٌ).

مَا يَرِدُ عَلَيْهِ الِانْفِسَاخُ:

8- مَحَلُّ الِانْفِسَاخِ الْعَقْدُ لَا غَيْرُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ سَبَبُهُ الْفَسْخَ أَمْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُمْ عَرَّفُوا الِانْفِسَاخَ بِانْحِلَالِ ارْتِبَاطِ الْعَقْدِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُتَصَوَّرُ إِلاَّ إِذَا كَانَ هُنَاكَ ارْتِبَاطٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ بِوَاسِطَةِ الْعَقْدِ.

أَمَّا إِذَا أُرِيدَ مِنَ الِانْفِسَاخِ الْبُطْلَانُ وَالنَّقْضُ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَرِدَ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَنْشَأُ عَنْ إِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَلِكَ الْعُهُودُ وَالْوُعُودُ، كَمَا يُسْتَعْمَلُ أَحْيَانًا فِي الْعِبَادَاتِ وَيَرِدُ عَلَى النِّيَّاتِ، كَانْفِسَاخِ نِيَّةِ صَلَاةِ الْفَرْضِ إِلَى النَّفْلِ، وَكَذَلِكَ انْفِسَاخُ الْحَجِّ بِالْعُمْرَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَصَرَفَهُ إِلَى الْعُمْرَةِ يَنْفَسِخُ الْحَجُّ إِلَى الْعُمْرَةِ.

وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْسَخَ نِيَّةَ الْحَجِّ بَعْدَمَا أَحْرَمَ، وَيَقْطَعَ أَفْعَالَهُ، وَيَجْعَلَ إِحْرَامَهُ وَأَفْعَالَهُ لِلْعُمْرَةِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٌ).

أَسْبَابُ الِانْفِسَاخِ:

9- الِانْفِسَاخُ لَهُ أَسْبَابٌ مُخْتَلِفَةٌ: مِنْهَا مَا هُوَ اخْتِيَارِيٌّ، وَهُوَ مَا يَأْتِي بِإِرَادَةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ بِإِرَادَةِ كِلَيْهِمَا أَوْ بِحُكْمِ الْقَاضِي، وَمِنْهَا مَا هُوَ سَمَاوِيٌّ وَهُوَ مَا يَأْتِي بِدُونِ إِرَادَةِ الْعَاقِدَيْنِ أَوِ الْقَاضِي، بَلْ بِعَوَامِلَ خَارِجَةٍ عَنِ الْإِرَادَةِ لَا يُمْكِنُ اسْتِمْرَارُ الْعَقْدِ مَعَهَا.

يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: مَا يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ نَوْعَانِ: اخْتِيَارِيٌّ وَضَرُورِيٌّ، فَالِاخْتِيَارِيُّ هُوَ أَنْ يَقُولَ: فَسَخْتُ الْعَقْدَ أَوْ نَقَضْتُهُ وَنَحْوُهُ، وَالضَّرُورِيُّ: أَنْ يَهْلِكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ مَثَلًا.

الْأَسْبَابُ الِاخْتِيَارِيَّةُ:

أَوَّلًا: الْفَسْخُ:

10- الْمُرَادُ بِالْفَسْخِ هُنَا مَا يَرْفَعُ بِهِ حُكْمَ الْعَقْدِ بِإِرَادَةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، وَهَذَا يَكُونُ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ بِطَبِيعَتِهَا، كَعَقْدَيِ الْعَارِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ مَثَلًا، أَوْ مَا يَكُونُ فِيهِ أَحَدُ الْخِيَارَاتِ، أَوْ بِسَبَبِ الْأَعْذَارِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ بِهَا اسْتِمْرَارُ الْعَقْدِ، أَوْ بِسَبَبِ الْفَسَادِ.

وَيُنْظَرُ حُكْمُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مُصْطَلَحَيْ: (إِقَالَةٌ وَفَسْخٌ).

ثَانِيًا: الْإِقَالَةُ:

11- الْإِقَالَةُ رَفْعُ الْعَقْدِ وَإِزَالَتُهُ بِرِضَى الطَّرَفَيْنِ وَهِيَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الِانْفِسَاخِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَتَرِدُ عَلَى الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ.أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَقْدُ غَيْرَ لَازِمٍ كَالْعَارِيَّةِ، أَوْ لَازِمًا بِطَبِيعَتِهِ وَلَكِنْ فِيهِ أَحَدُ الْخِيَارَاتِ فَلَا حَاجَةَ فِيهِ لِلْإِقَالَةِ؛ لِجَوَازِ فَسْخِهِ بِطَرِيقٍ أُخْرَى، كَمَا تَقَدَّمَ.

وَيُنْظَرُ الْكَلَامُ فِيهِ تَحْتَ عُنْوَانِ: (إِقَالَةٌ).

أَسْبَابُ الِانْفِسَاخِ غَيْرُ الِاخْتِيَارِيَّةِ:

أَوَّلًا: تَلَفُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ:

تَلَفُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَهُ أَثَرٌ فِي انْفِسَاخِ بَعْضِ الْعُقُودِ، وَالْعُقُودُ نَوْعَانِ:

12- الْأَوَّلُ: الْعُقُودُ الْفَوْرِيَّةُ: وَهِيَ الَّتِي لَا يَحْتَاجُ تَنْفِيذُهَا إِلَى زَمَنٍ مُمْتَدٍّ يَشْغَلُهُ بِاسْتِمْرَارٍ، بَلْ يَتِمُّ تَنْفِيذُهَا فَوْرًا دَفْعَةً وَاحِدَةً فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَخْتَارُهُ الْعَاقِدَانِ، كَالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ وَالصُّلْحِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهَا.

وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعُقُودِ لَا يَنْفَسِخُ بِتَلَفِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إِذَا تَمَّ قَبْضُهُ.فَعَقْدُ الْبَيْعِ مَثَلًا يَتِمُّ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَإِذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ وَهَلَكَ بِيَدِهِ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْهَالِكَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي، وَالْمَالِكُ هُوَ الَّذِي يَتَحَمَّلُ تَبِعَةَ الْهَالِكِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

أَمَّا إِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ بَعْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَبَيَانٌ: فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ- وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْحَنَابِلَةِ- أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ لِمُشْتَرِيهِ، وَهُوَ الْمَالُ الْمِثْلِيُّ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ مَعْدُودٍ، يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالتَّلَفِ وَالضَّمَانِ عَلَى الْبَائِعِ.أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مُعَيَّنًا وَكَانَ عَقَارًا، أَوْ مِنَ الْأَمْوَالِ الْقِيَمِيَّةِ الَّتِي لَيْسَ لِمُشْتَرِيهَا حَقُّ تَوْفِيَةٍ فَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالتَّلَفِ، وَيَنْتَقِلُ الضَّمَانُ إِلَى الْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ اللاَّزِمِ.

وَأَطْلَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الْقَوْلَ بِانْفِسَاخِ الْبَيْعِ إِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ قَبْضِهِ.قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ: وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَالْهَلَاكُ يَكُونُ عَلَى الْبَائِعِ، يَعْنِي يَسْقُطُ الثَّمَنُ وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ.وَمِثْلُهُ مَا جَاءَ فِي الْقَلْيُوبِيِّ: الْمَبِيعُ قَبْلَ قَبْضِهِ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، فَإِنْ تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَسَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي.

13- وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ، أَمَّا إِذَا تَلِفَ الثَّمَنُ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ غَيْرَهُمَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَبِيعِ، لَوْ تَلِفَ انْفَسَخَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا هَلَكَ الثَّمَنُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَسْلِيمُ مِثْلِهِ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ وَلِلنَّاسِ أَغْرَاضٌ فِي الْأَعْيَانِ.أَمَّا إِنْ هَلَكَ الثَّمَنُ وَلَيْسَ لَهُ مِثْلٌ فِي الْحَالِ فَفِيهِ خِلَافٌ.وَلَا أَثَرَ لِتَلَفِ الثَّمَنِ فِي الِانْفِسَاخِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَيْنًا بِأَنْ كَانَ نَقْدًا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعَقْدِ.

هَذَا، وَأَمَّا إِتْلَافُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ إِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْبَائِعِ يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ بِلَا خِلَافٍ.وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي يُعْتَبَرُ قَبْضًا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ.

14- الثَّانِي: الْعُقُودُ الْمُسْتَمِرَّةُ: وَهِيَ الَّتِي يَسْتَغْرِقُ تَنْفِيذُهَا مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ وَتَمْتَدُّ بِامْتِدَادِ الزَّمَنِ حَسَبَ الشُّرُوطِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَالَّتِي تَقْتَضِيهَا طَبِيعَةُ هَذِهِ الْعُقُودِ، كَالْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْوَكَالَةِ وَأَمْثَالِهَا.

وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعُقُودِ يَنْفَسِخُ بِتَلَفِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَمْ بَعْدَهُ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ.

فَعَقْدُ الْإِجَارَةِ مَثَلًا يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ.فَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ عَقِيبَ الْقَبْضِ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ مِنْ أَصْلِهِ وَيَسْقُطُ الْأَجْرُ.وَإِنْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ بَعْدَ مُضِيِّ شَيْءٍ مِنَ الْمُدَّةِ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ، دُونَ مَا مَضَى، وَيَكُونُ لِلْمُؤَجِّرِ مِنَ الْأَجْرِ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى مِنَ الْمَنْفَعَةِ أَوْ بِقَدْرِ مَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ.

وَفِي إِجَارَةِ الدَّوَابِّ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ: أَنَّهُ إِذَا وَقَعَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى دَوَابَّ بِعَيْنِهَا لِحَمْلِ الْمَتَاعِ، فَمَاتَتِ انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا وَقَعَتْ عَلَى دَوَابَّ لَا بِعَيْنِهَا وَسَلَّمَ الْأَجْرَ إِلَيْهِ فَمَاتَتْ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، وَعَلَى الْمُؤَجِّرِ أَنْ يَأْتِيَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لِلْمُسْتَأْجِرِ.

وَكَذَلِكَ إِذَا وَقَعَ عَلَى الْعَيْنِ مَا يَمْنَعُ نَفْعَهَا بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا لَوْ أَصْبَحَتِ الدَّارُ الْمُسْتَأْجَرَةُ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلسُّكْنَى عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) وَذَلِكَ لِزَوَالِ الِاسْمِ بِفَوَاتِ السُّكْنَى؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا تَلِفَتْ فَانْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ، كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا فَزَمِنَتْ (أَيْ مَرِضَتْ مَرَضًا مُزْمِنًا) بِحَيْثُ لَا تَصْلُحُ إِلاَّ لِتَدُورَ فِي الرَّحَى.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ لَكِنْ لَهُ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَفُوتُ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْعَرْصَةِ (وَهِيَ أَرْضُ الْمَبْنَى) مُمْكِنٌ بِدُونِ الْبِنَاءِ، إِلاَّ أَنَّهُ نَاقِصٌ، فَصَارَ كَالْعَيْبِ

وَمِنَ الْعُقُودِ الْمُسْتَمِرَّةِ الَّتِي تَنْفَسِخُ بِتَلَفِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَقْدُ الشَّرِكَةِ وَعَقْدُ الْمُضَارَبَةِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِمَا.وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْعَارِيَّةِ بِتَلَفِ الْمُعَارِ، وَتَنْتَهِي الْوَكَالَةُ الْخَاصَّةُ بِفَوَاتِ مَحَلِّ الْوَكَالَةِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحَيْ (إِعَارَةٌ، وَوَكَالَةٌ).

أَمَّا إِذَا غُصِبَ الْمَحَلُّ وَحِيلَ بَيْنَ الشَّخْصِ الْمُنْتَفِعِ وَالْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا فَلَا يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ) بَلْ لِلْمُسْتَأْجِرِ حَقُّ الْفَسْخِ.وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْغَصْبَ أَيْضًا مُوجِبٌ لِلِانْفِسَاخِ؛ لِزَوَالِ التَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ، كَمَا سَيَأْتِي.

ثَانِيًا: مَوْتُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا:

15- لَا يُؤَثِّرُ الْمَوْتُ فِي انْفِسَاخِ جَمِيعِ الْعُقُودِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، فَبَعْضُ الْعُقُودِ يَتِمُّ الْغَرَضُ مِنْهَا بَعْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَوْرًا، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْعَاقِدَيْنِ وَأَهْلِيَّتِهِمَا بَعْدَ انْعِقَادِهَا، كَالْبَيْعِ الَّذِي يُفِيدُ تَمَلُّكَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ، وَتَمَلُّكَ الْبَائِعَ الثَّمَنَ فَوْرَ إِنْشَائِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْرُونًا بِالْخِيَارِ فَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَاهُمَا بَعْدَ إِتْمَامِ الْعَقْدِ وَانْتِقَالِ مِلْكِيَّةِ الْبَدَلَيْنِ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَعَلَى عَكْسِ ذَلِكَ يَنْتَهِي عَقْدُ النِّكَاحِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ دَوَامُ الْعِشْرَةِ وَقَدْ زَالَ بِالْمَوْتِ.

وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَيْهِ.

وَهُنَاكَ عُقُودٌ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْفِسَاخِهَا بِالْمَوْتِ، كَعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَعُقُودٌ أُخْرَى اتَّفَقُوا عَلَى انْفِسَاخِهَا بِالْمَوْتِ فِي الْجُمْلَةِ وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَكْيِيفِ انْفِسَاخِهَا وَتَعْلِيلِهِ، كَعُقُودِ الْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

أ- انْفِسَاخُ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ:

16- الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ هِيَ مَا لَا يَسْتَبِدُّ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ بِفَسْخِهَا، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالصُّلْحِ وَنَحْوِهَا.

وَبَعْضُ هَذِهِ الْعُقُودِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى امْتِدَادِ الزَّمَنِ، فَلَا أَثَرَ لِلْمَوْتِ فِي انْفِسَاخِهَا بَعْدَ تَمَامِهَا، كَعَقْدِ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ بِوَفَاةِ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ مَا تَمَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا، وَيَقُومُ الْوَرَثَةُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فِيمَا نَشَأَ مِنْ آثَارِ الْعَقْدِ.

وَهُنَاكَ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ يَتَوَقَّفُ آثَارُهَا عَلَى مُرُورِ الزَّمَنِ، كَعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَفِي انْفِسَاخِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:

فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) عَلَى أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، بَلْ تَبْقَى إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ، فَلَا يَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ، كَعَقْدِ الْبَيْعِ.وَيَخْلُفُ الْمُسْتَأْجَرَ وَارِثُهُ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ.

وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ مَعَ خِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ سَيَأْتِي ذِكْرُهُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ إِنْ عَقَدَهَا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَتَنْعَقِدُ الْإِجَارَةُ بِحُدُوثِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، فَلَا تَبْقَى بِدُونِ الْعَاقِدِ.وَإِنْ عَقَدَهَا لِغَيْرِهِ لَمْ تَنْفَسِخْ كَالْوَصِيِّ وَالْوَلِيِّ وَقَيِّمِ الْوَقْفِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمُؤَجِّرَ فَالْعَقْدُ يَقْتَضِي اسْتِيفَاءَ الْمَنَافِعِ مِنْ مِلْكِهِ، وَلَوْ بَقِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ لَاسْتُوفِيَتِ الْمَنَافِعُ مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ، وَهَذَا خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُسْتَأْجِرَ فَالْعَقْدُ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَ الْأُجْرَةِ مِنْ مَالِهِ، وَلَوْ بَقِيَ الْعَقْدُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَاسْتَحَقَّتِ الْأُجْرَةَ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ، وَهَذَا خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ.بِخِلَافِ مَا إِذَا مَاتَ مَنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ الْعَقْدُ كَالْوَكِيلِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَ الْمَنَافِعِ وَلَا اسْتِحْقَاقَ الْأُجْرَةِ مِنْ مِلْكِهِ، فَإِبْقَاءُ الْعَقْدِ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يُوجِبُ تَغْيِيرَ مُوجِبِ الْعَقْدِ.

وَأَصْلُ الْخِلَافِ 4 يَرْجِعُ إِلَى تَكْيِيفِ الْإِجَارَةِ فِي نَقْلِ الْمَنَافِعِ.فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ إِذَا تَمَّتْ وَكَانَتْ عَلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مَلَكَ الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنَافِعَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا إِلَى الْمُدَّةِ، وَيَكُونُ حُدُوثُهَا عَلَى مِلْكِهِ.وَكَذَلِكَ الْمُؤَجِّرُ يَمْلِكُ الْأُجْرَةَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا التَّأْجِيلُ، كَمَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ الثَّمَنَ بِالْبَيْعِ.فَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ وَقَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ يَقُومُ الْوَرَثَةُ مَقَامَ الْمُتَوَفَّى وَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ الْمَنْفَعَةُ، وَالْأُجْرَةُ تُسْتَحَقُّ بِاسْتِيفَائِهَا أَوْ بِاشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ.وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ لَدَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَهِيَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَتَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فَلَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، فَإِذَا اسْتَوْفَى الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ اسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ عَمَلًا بِالْمُسَاوَاةِ.

وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ بِعَدَمِ انْفِسَاخِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَعْنِي أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ فِي الِانْفِسَاخِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ.فَقَدْ صَرَّحُوا: أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْأَجِيرِ الْمُعَيَّنِ، وَبِمَوْتِ الْمُرْضِعَةِ، وَمَوْتِ الصَّبِيِّ الْمُسْتَأْجِرِ لِتَعْلِيمِهِ وَعَلَى رَضَاعِهِ.وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ فِي مَوْتِ الصَّبِيِّ الْمُتَعَلِّمِ أَوِ الْمُرْتَضِعِ قَوْلٌ آخَرُ بِعَدَمِ الِانْفِسَاخِ.

ب- الِانْفِسَاخُ بِالْمَوْتِ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ:

17- الْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ (الْجَائِزَةُ) هِيَ مَا يَسْتَبِدُّ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ بِفَسْخِهَا كَالْعَارِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ الْوَدِيعَةِ وَنَحْوِهَا.

وَهَذِهِ الْعُقُودُ تَنْفَسِخُ بِوَفَاةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهَا عُقُودٌ جَائِزَةٌ يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ فَسْخُهَا فِي حَيَاتِهِ، فَإِذَا مَا تُوُفِّيَ فَقَدْ ذَهَبَتْ إِرَادَتُهُ، وَانْتَهَتْ رَغْبَتُهُ، فَبَطَلَتْ آثَارُ هَذِهِ الْعُقُودِ الَّتِي كَانَتْ تَسْتَمِرُّ بِاسْتِمْرَارِ إِرَادَةِ الْعَاقِدَيْنِ، وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ.

فَعَقْدُ الْإِعَارَةِ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُعِيرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ)؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَهِيَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَيَتَجَدَّدُ الْعَقْدُ حَسَبَ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، كَمَا عَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ؛ وَلِأَنَّ الْعَارِيَّةَ إِبَاحَةُ الْمَنَافِعِ، وَهِيَ تَحْتَاجُ إِلَى الْإِذْنِ، وَقَدْ بَطَلَ بِالْمَوْتِ، فَانْفَسَخَتِ الْإِعَارَةُ، كَمَا عَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالْعَارِيَّةُ عِنْدَهُمْ عَقْدٌ لَازِمٌ، إِذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِأَجَلٍ أَوْ عَمَلٍ، فَلَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُعِيرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ، وَتَدُومُ إِلَى أَنْ تَتِمَّ الْمُدَّةُ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْعَارِيَّةُ مُطْلَقَةً فَفِي انْفِسَاخِهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ رِوَايَتَانِ ظَاهِرُهُمَا عَدَمُ الِانْفِسَاخِ إِلَى الْعَمَلِ أَوِ الزَّمَنِ الْمُعْتَادِ.

وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْوَكَالَةِ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْوَكِيلِ أَوِ الْمُوَكِّلِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ يَنْفَسِخُ Bبِالْعَزْلِ، وَالْمَوْتُ فِي حُكْمِ عَزْلِ الْوَكِيلِ.وَإِذَا مَاتَ الْوَكِيلُ زَالَتْ أَهْلِيَّتُهُ لِلتَّصَرُّفِ، وَإِذَا مَاتَ الْمُوَكِّلُ زَالَتْ صَلَاحِيَّتُهُ بِتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَى الْوَكِيلِ فَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ.

هَذَا وَلَا يَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي انْفِسَاخِ الْوَكَالَةِ عِلْمَ الْوَكِيلِ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ.وَاشْتَرَطَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ (وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) عِلْمَ الْوَكِيلِ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ فِي انْفِسَاخِ الْوَكَالَةِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ.

وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ كَعَقْدِ الشَّرِكَةِ، الْوَدِيعَةِ وَغَيْرِهِمَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَوَاضِعِهَا.

هَذَا، وَهُنَاكَ عُقُودٌ أُخْرَى تُعْتَبَرُ لَازِمَةً مِنْ جَانِبِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، جَائِزَةً مِنْ جَانِبِ الْعَاقِدِ الْآخَرِ، كَعَقْدِ الْكَفَالَةِ، فَهِيَ لَازِمَةٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْكَفِيلِ الَّذِي لَا يَسْتَبِدُّ بِفَسْخِهَا، دُونَ إِذْنِ الْمَكْفُولِ لَهُ، لَكِنَّهَا جَائِزَةٌ مِنْ جَانِبِ الْمَكْفُولِ لَهُ يَسْتَبِدُّ بِفَسْخِهَا.وَكَعَقْدِ الرَّهْنِ، فَهُوَ لَازِمٌ مِنْ قِبَلِ الرَّاهِنِ، جَائِزٌ مِنْ قِبَلِ الْمُرْتَهِنِ الَّذِي يَسْتَطِيعُ فَسْخَهُ بِدُونِ إِذْنِ الرَّاهِنِ.

وَفِيمَا يَلِي أَثَرُ الْمَوْتِ فِي انْفِسَاخِ هَذَيْنِ الْعَقْدَيْنِ:

أَثَرُ الْمَوْتِ فِي انْفِسَاخِ عَقْدِ الْكَفَالَةِ:

18- مَوْتُ الْكَفِيلِ أَوِ الْمَكْفُولِ لَا تَنْفَسِخُ بِهِ الْكَفَالَةُ، وَلَا يَمْنَعُ مُطَالَبَةَ الْمَكْفُولِ لَهُ بِالدَّيْنِ، فَإِذَا مَاتَ الْكَفِيلُ أَوِ الْمَكْفُولُ يَحِلُّ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ عَلَى الْمَيِّتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، تُحَصِّلُ الدَّيْنَ مِنْ تَرِكَةِ الْمُتَوَفَّى، وَلَوْ مَاتَا خُيِّرَ الطَّالِبُ فِي أَخْذِهِ مِنْ أَيِّ التَّرِكَتَيْنِ.وَلَوْ مَاتَ الْمَكْفُولُ لَهُ يَحِلُّ الْوَرَثَةُ مَحَلَّهُ فِي الْمُطَالَبَةِ.

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا يَحِلُّ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ بِمَوْتِ الْكَفِيلِ أَوِ الْمَكْفُولِ، وَيَبْقَى مُؤَجَّلًا كَمَا هُوَ..

أَثَرُ الْمَوْتِ فِي انْفِسَاخِ عَقْدِ الرَّهْنِ:

19- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ بَعْدَ قَبْضِ الْمَرْهُونِ، فَإِذَا مَاتَ الرَّاهِنُ أَوِ الْمُرْهِنُ يَقُومُ الْوَرَثَةُ مَقَامَ الْمُتَوَفَّى، وَتَبْقَى الْعَيْنُ الْمَرْهُونَةُ تَحْتَ يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ وَرَثَتِهِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى خَلَاصِ الرَّهْنِ إِلاَّ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ أَوْ إِبْرَاءِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ.وَالْمُرْتَهِنُ أَحَقُّ بِالرَّهْنِ وَبِثَمَنِهِ إِنْ بِيعَ فِي حَيَاةِ الرَّاهِنِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ.

وَعَقْدُ الرَّهْنِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَرْهُونِ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَكَانَ الْمَفْرُوضُ أَنْ يَنْفَسِخَ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي انْفِسَاخِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ:

فَقَالَ الْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ.فَإِنْ مَاتَ الْمُرْتَهِنُ قَامَ Bوَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْقَبْضِ، لَكِنْ إِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ لَمْ يَلْزَمْ وَرَثَتَهُ الْإِقْبَاضُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- إِنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ.أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَصَرَّحُوا بِأَنَّ الرَّهْنَ يَلْزَمُ بِالْعَقْدِ، وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى التَّسْلِيمِ، إِلاَّ أَنْ يَتَرَاخَى الْمُرْتَهِنُ عَنِ الْمُطَالَبَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يَنْفَسِخُ بِوَفَاةِ الْمُرْتَهِنِ، وَيَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَ مُوَرِّثِهِمْ فِي مُطَالَبَةِ الْمَدِينِ وَقَبْضِ الْمَرْهُونِ، لَكِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ وَفَلْسِهِ قَبْلَ حَوْزِهِ وَلَوْ جَدَّ فِيهِ.

أَثَرُ تَغَيُّرِ الْأَهْلِيَّةِ فِي انْفِسَاخِ الْعُقُودِ:

20- الْأَهْلِيَّةُ: صَلَاحِيَّةُ الْإِنْسَانِ لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَلِصُدُورِ الْفِعْلِ مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا.وَتَعْرِضُ لِلْأَهْلِيَّةِ أُمُورٌ تُغَيِّرُهَا وَتُحَدِّدُهَا فَتَتَغَيَّرُ بِهَا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

وَتَغَيُّرُ الْأَهْلِيَّةِ بِمَا يَعْرِضُ مِنْ بَعْضِ الْعَوَارِضِ، كَالْجُنُونِ أَوِ الْإِغْمَاءِ أَوِ الِارْتِدَادِ وَنَحْوِهَا، لَهُ أَثَرٌ فِي انْفِسَاخِ بَعْضِ الْعُقُودِ، فَقَدْ صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) أَنَّ الْعُقُودَ الْجَائِزَةَ: مِثْلُ الْمُضَارَبَةِ، وَالشَّرِكَةِ، وَالْوَكَالَةِ، الْوَدِيعَةِ، وَالْعَارِيَّةِ، تَنْفَسِخُ بِجُنُونِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعَقْدُ الْمُضَارَبَةِ عِنْدَهُمْ عَقْدٌ لَازِمٌ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ وَلِهَذَا يُورَثُ، وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْعَارِيَّةِ إِذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِأَجَلٍ أَوْ عَمَلٍ، فَلَا يَنْفَسِخَانِ بِالْجُنُونِ.

أَمَّا فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ جُنُونَ الْوَكِيلِ لَا يُوجِبُ عَزْلَهُ إِنْ بَرِأَ، وَكَذَا جُنُونُ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ، فَإِنْ طَالَ نَظَرَ السُّلْطَانُ فِي أَمْرِهِ.

وَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ حُكْمُ الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ يُعْتَبَرُ وَكِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا عَنْهُ، وَكِلَاهُمَا مِنَ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ (الْجَائِزَةِ).

أَمَّا الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، فَلَا تَنْفَسِخُ بِالْجُنُونِ بَعْدَ تَمَامِهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ.حَتَّى إِنَّ الْحَنَفِيَّةَ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِانْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ- وَهِيَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا- صَرَّحُوا بِعَدَمِ انْفِسَاخِهَا بِالْجُنُونِ، فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: الْإِجَارَةُ لَا تَنْفَسِخُ بِجُنُونِ الْآجِرِ أَوِ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَا بِارْتِدَادِهِمَا، وَإِذَا ارْتَدَّ الْآجِرُ أَوِ الْمُسْتَأْجِرُ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ عَادَ مُسْلِمًا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ عَادَتِ الْإِجَارَةُ.

وَلَعَلَّ دَلِيلَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ انْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ بِالْمَوْتِ وَعَدَمِ انْفِسَاخِهَا بِالْجُنُونِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ أَنَّ الْمَوْتَ سَبَبُ نَقْلِ الْمِلْكِيَّةِ، فَلَوْ أَبْقَيْنَا الْعَقْدَ لَاسْتُوفِيَتِ Bالْمَنَافِعُ أَوِ الْأُجْرَةُ مِنْ مِلْكِ الْغَيْرِ (الْوَرَثَةُ) وَهَذَا خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، بِخِلَافِ الْجُنُونِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ سَبَبًا لِانْتِقَالِ الْمِلْكِيَّةِ، فَبَقَاءُ الْإِجَارَةِ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَنَافِعِ وَالْأُجْرَةِ مِنْ مِلْكِ الْعَاقِدَيْنِ.

21- وَمِنَ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ الَّتِي لَا تَنْفَسِخُ تِلْقَائِيًّا بِالْجُنُونِ عَقْدُ النِّكَاحِ، لَكِنَّهُ يُعْتَبَرُ عَيْبًا يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) ر (نِكَاحٌ.فَسْخٌ).

22- وَرِدَّةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ مُوجِبَةٌ لِانْفِسَاخِ عَقْدِ النِّكَاحِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ.بِدَلِيلِ قوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}.

فَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ فِي الْحَالِ وَلَمْ يَرِثْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- حِيلَ بَيْنَهُمَا إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَالْعِصْمَةُ بَاقِيَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الْإِسْلَامِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ بِلَا طَلَاقٍ.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ ارْتِدَادَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَسْخٌ عَاجِلٌ بِلَا قَضَاءٍ فَلَا يُنْقِصُ عَدَدَ الطَّلَاقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَمْ بَعْدَهُ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ بِطَلَاقٍ بَائِنٍ.

أَمَّا إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَتَخَلَّفَ الْآخَرُ- مَا لَمْ يَكُنِ الْمُتَخَلِّفُ زَوْجَةً كِتَابِيَّةً- حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّةُ الْمَرْأَةِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، سَوَاءٌ أَكَانَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَمْ بِدَارِ الْحَرْبِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُتَخَلِّفُ عَنِ الْإِسْلَامِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ، أَمَّا إِنْ كَانَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلاَّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا.

وَهَلْ يُعْتَبَرُ هَذَا الِانْفِسَاخُ طَلَاقًا أَمْ لَا؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ- إِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنِ الْإِسْلَامِ يُعْتَبَرُ هَذَا التَّفْرِيقُ طَلَاقًا يُنْقِصُ الْعَدَدَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا امْتَنَعَتِ الْمَرْأَةُ عَنِ الْإِسْلَامِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ التَّفْرِيقُ فَسْخًا؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ.

وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ فَسْخٌ لَا طَلَاقٌ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


72-موسوعة الفقه الكويتية (بيت المال 1)

بَيْتُ الْمَالِ -1

التَّعْرِيفُ:

1- بَيْتُ الْمَالِ لُغَةً: هُوَ الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِحِفْظِ الْمَالِ، خَاصًّا كَانَ أَوْ عَامًّا.

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ: فَقَدِ اسْتُعْمِلَ لَفْظُ «بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ»، أَوْ «بَيْتِ مَالِ اللَّهِ» فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَبْنَى وَالْمَكَانِ الَّذِي تُحْفَظُ فِيهِ الْأَمْوَالُ الْعَامَّةُ لِلدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنَ الْمَنْقُولَاتِ، كَالْفَيْءِ وَخُمُسِ الْغَنَائِمِ وَنَحْوِهَا، إِلَى أَنْ تُصْرَفَ فِي وُجُوهِهَا.ثُمَّ اكْتُفِيَ بِكَلِمَةِ «بَيْتِ الْمَالِ» لِلدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى أَصْبَحَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ.

وَتَطَوَّرَ لَفْظُ «بَيْتِ الْمَالِ» فِي الْعُصُورِ الْإِسْلَامِيَّةِ اللاَّحِقَةِ إِلَى أَنْ أَصْبَحَ يُطْلَقُ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي تَمْلِكُ الْمَالَ الْعَامَّ لِلْمُسْلِمِينَ، مِنَ النُّقُودِ وَالْعُرُوضِ وَالْأَرَاضِي الْإِسْلَامِيَّةِ وَغَيْرِهَا.

وَالْمَالُ الْعَامُّ هُنَا: هُوَ كُلُّ مَالٍ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْيَدُ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُهُ، بَلْ هُوَ لَهُمْ جَمِيعًا.قَالَ الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: كُلُّ مَالٍ اسْتَحَقَّهُ الْمُسْلِمُونَ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُهُ مِنْهُمْ، فَهُوَ مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ.ثُمَّ قَالَ: وَبَيْتُ الْمَالِ عِبَارَةٌ عَنِ الْجِهَةِ لَا عَنِ الْمَكَانِ.

أَمَّا خَزَائِنُ الْأَمْوَالِ الْخَاصَّةِ لِلْخَلِيفَةِ أَوْ غَيْرِهِ فَكَانَتْ تُسَمَّى «بَيْتَ مَالِ الْخَاصَّةِ».

2- وَيَنْبَغِي عَدَمُ الْخَلْطِ بَيْنَ (دِيوَانِ بَيْتِ الْمَالِ) (وَبَيْتِ الْمَالِ) فَإِنَّ دِيوَانَ بَيْتِ الْمَالِ هُوَ الْإِدَارَةُ الْخَاصَّةُ بِتَسْجِيلِ الدَّخْلِ وَالْخَرْجِ وَالْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ.وَهُوَ عِنْدَ الْمَاوَرْدِيِّ وَأَبِي يَعْلَى: أَحَدُ دَوَاوِينِ الدَّوْلَةِ، فَقَدْ كَانَتْ فِي عَهْدِهِمَا أَرْبَعَةُ دَوَاوِينَ: دِيوَانٌ يَخْتَصُّ بِالْجَيْشِ.وَدِيوَانٌ يَخْتَصُّ بِالْأَعْمَالِ، وَدِيوَانٌ يَخْتَصُّ بِالْعُمَّالِ، وَدِيوَانٌ يَخْتَصُّ بِبَيْتِ الْمَالِ.وَلَيْسَ لِلدِّيوَانِ سُلْطَةُ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا عَمَلُهُ قَاصِرٌ عَلَى التَّسْجِيلِ فَقَطْ.

وَالدِّيوَانُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى (السِّجِلِّ) أَوِ (الدَّفْتَرِ) وَكَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عِبَارَةً عَنِ الدَّفْتَرِ الَّذِي تُثْبَتُ فِيهِ أَسْمَاءُ الْمُرْتَزِقَةِ (مَنْ لَهُمْ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ) ثُمَّ تَنَوَّعَ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا سَبَقَ.

وَمِنْ وَاجِبَاتِ كَاتِبِ الدِّيوَانِ أَنْ يَحْفَظَ قَوَانِينَ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الرُّسُومِ الْعَادِلَةِ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ تَتَحَيَّفُ بِهَا الرَّعِيَّةُ، أَوْ نُقْصَانٍ يَنْثَلِمُ بِهِ حَقُّ بَيْتِ الْمَالِ.

وَعَلَيْهِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِبَيْتِ الْمَالِ أَنْ يَحْفَظَ قَوَانِينَهُ وَرُسُومَهُ، وَقَدْ حَصَرَ الْقَاضِيَانِ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى أَعْمَالَهُ فِي سِتَّةِ أُمُورٍ، نَذْكُرُهَا بِاخْتِصَارٍ:

أ- تَحْدِيدُ الْعَمَلِ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَتَفْصِيلُ نَوَاحِيهِ الَّتِي تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا.

ب- أَنْ يَذْكُرَ حَالَ الْبَلَدِ، هَلْ فُتِحَتْ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا، وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُ أَرْضِهَا مِنْ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ بِالتَّفْصِيلِ.

ج- أَنْ يَذْكُرَ أَحْكَامَ خَرَاجِ الْبَلَدِ وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَى أَرَاضِيهِ، هَلْ هُوَ خَرَاجُ مُقَاسَمَةٍ، أَمْ خَرَاجُ وَظِيفَةٍ (دَرَاهِمُ مَعْلُومَةٌ مُوَظَّفَةٌ عَلَى الْأَرْضِ).

د- أَنْ يَذْكُرَ مَا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ.

هـ- إِنْ كَانَ الْبَلَدُ مِنْ بُلْدَانِ الْمَعَادِنِ، يَذْكُرُ أَجْنَاسَ مَعَادِنِهِ، وَعَدَدَ كُلِّ جِنْسٍ؛ لِيُعْلَمَ مَا يُؤْخَذُ مِمَّا يُنَالُ مِنْهُ.

و- إِنْ كَانَ الْبَلَدُ يُتَاخِمُ دَارَ الْحَرْبِ، وَكَانَتْ أَمْوَالُهُمْ إِذَا دَخَلَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ تُعَشَّرُ عَنْ صُلْحٍ اسْتَقَرَّ مَعَهُمْ، أَثْبَتَ فِي الدِّيوَانِ عَقْدَ صُلْحِهِمْ وَقَدْرَ الْمَأْخُوذِ مِنْهُمْ.

نَشْأَةُ بَيْتِ الْمَالِ فِي الْإِسْلَامِ:

3- تُشِيرُ بَعْضُ الْمَصَادِرِ إِلَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- كَانَ أَوَّلَ مَنِ اتَّخَذَ بَيْتَ الْمَالِ.نَقَلَ ذَلِكَ ابْنُ الْأَثِيرِ.

غَيْرَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَصَادِرِ تَذْكُرُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- كَانَ قَدِ اتَّخَذَ بَيْتَ مَالٍ لِلْمُسْلِمِينَ.

فَفِي الِاسْتِيعَابِ لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَتَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ لِابْنِ حَجَرٍ فِي تَرْجَمَةِ مُعَيْقِيبِ بْنِ أَبِي فَاطِمَةَ: اسْتَعْمَلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ.بَلْ ذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- كَانَ لَهُ بَيْتُ مَالٍ بِالسُّنْحِ (مِنْ ضَوَاحِي الْمَدِينَةِ) وَكَانَ يَسْكُنُهُ إِلَى أَنِ انْتَقَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ.فَقِيلَ لَهُ: أَلَا نَجْعَلُ عَلَيْهِ مَنْ يَحْرُسُهُ؟ قَالَ: لَا.فَكَانَ يُنْفِقُ مَا فِيهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَبْقَى فِيهِ شَيْءٌ، فَلَمَّا انْتَقَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ جَعَلَ بَيْتَ الْمَالِ فِي دَارِهِ.وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ جَمَعَ عُمَرُ الْأُمَنَاءَ، وَفَتَحَ بَيْتَ الْمَالِ، فَلَمْ يَجِدُوا فِيهِ غَيْرَ دِينَارٍ سَقَطَ مِنْ غِرَارَةٍ، فَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِ.

وَقَالَ: وَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يُرَدَّ جَمِيعُ مَا أَخَذَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِنَفَقَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ.

وَفِي كِتَابِ الْخَرَاجِ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ- فِي عَهْدِهِ لِأَهْلِ الْحِيرَةِ زَمَنَ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه- كَتَبَ لَهُمْ: وَجَعَلْتُ لَهُمْ أَيُّمَا شَيْخٍ ضَعُفَ عَنِ الْعَمَلِ، أَوْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ، أَوْ كَانَ غَنِيًّا فَافْتَقَرَ وَصَارَ أَهْلُ دِينِهِ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ، طُرِحَتْ جِزْيَتُهُ، وَعِيلَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَعِيَالُهُ مَا أَقَامَ بِدَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ...وَشَرَطْتُ عَلَيْهِمْ جِبَايَةَ مَا صَالَحْتُهُمْ عَلَيْهِ، حَتَّى يُؤَدُّوهُ إِلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ عَمَّا لَهُمْ مِنْهُمْ.

4- أَمَّا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَلَا تَذْكُرُ السُّنَّةُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْمَرَاجِعِ- فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ- اسْتِعْمَالَ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ «بَيْتِ الْمَالِ» فِي عَهْدِهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَلَكِنْ يَظْهَرُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ أَنَّ بَعْضَ وَظَائِفِ بَيْتِ الْمَالِ كَانَتْ قَائِمَةً، فَإِنَّ الْأَمْوَالَ الْعَامَّةَ مِنَ الْفَيْءِ، وَأَخْمَاسِ الْغَنَائِمِ، وَأَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ، وَمَا يُهَيَّأُ لِلْجَيْشِ مِنَ السِّلَاحِ وَالْعَتَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ يَضْبِطُهُ الْكُتَّابُ وَكَانَ يُخَزَّنُ إِلَى أَنْ يَحِينَ مَوْعِدُ إِخْرَاجِهِ.

أَمَّا فِيمَا بَعْدَ عَهْدِ عُمَرَ- رضي الله عنه- فَقَدِ اسْتَمَرَّ بَيْتُ الْمَالِ يُؤَدِّي دَوْرَهُ طِيلَةَ الْعُهُودِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى أَنْ جَاءَتِ النُّظُمُ الْمُعَاصِرَةُ، فَاقْتَصَرَ دَوْرُهُ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ- فِي بَعْضِ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ- عَلَى حِفْظِ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ وَمَالِ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، وَقَامَ بِدَوْرِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَزَارَاتُ الْمَالِيَّةِ وَالْخِزَانَةِ.

سُلْطَةُ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ:

5- سُلْطَةُ التَّصَرُّفِ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ لِلْخَلِيفَةِ وَحْدَهُ أَوْ مَنْ يُنِيبُهُ.وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِمَامَ نَائِبٌ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا لَمْ يَتَعَيَّنِ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِ مِنْهُمْ.وَكُلُّ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَمِدَّ سُلْطَتَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ سُلْطَةِ الْإِمَامِ.وَيَجِبُ- وَهُوَ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ الْعَادَةُ- أَنْ يُوَلِّيَ الْخَلِيفَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْأَمَانَةِ وَالْقُدْرَةِ.وَكَانَ الْمُتَصَرِّفُ فِي بَيْتِ الْمَالِ بِإِنَابَةِ الْخَلِيفَةِ يُسَمَّى «صَاحِبُ بَيْتِ الْمَالِ» وَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ طِبْقًا لِمَا يُحَدِّدُهُ الْخَلِيفَةُ مِنْ طُرُقِ الصَّرْفِ.

وَكَوْنُ الْحَقِّ فِي التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ لِلْخَلِيفَةِ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا طِبْقًا لِمَا يَشْتَهِي، كَمَا يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهِ الْخَاصِّ، فَإِنْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ بَيْتَ الْمَالِ قَدْ فَسَدَ، أَوْ أَصْبَحَ غَيْرَ مُنْتَظِمٍ، وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ أَحْكَامًا خَاصَّةً يَأْتِي بَيَانُهَا، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُهُ فِي تِلْكَ الْأَمْوَالِ كَتَصَرُّفِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-: إِنِّي أَنْزَلْتُ نَفْسِي مِنْ هَذَا الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ، إِنِ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ، وَإِنِ افْتَقَرْتُ أَكَلْتُ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِذَا أَيْسَرْتُ قَضَيْتُ.

وَيَعْنِي ذَلِكَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْمَالِ بِالَّذِي يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَصْلَحُ لِأَمْرِهِمْ، دُونَ التَّصَرُّفِ بِالتَّشَهِّي وَالْهَوَى وَالْأَثَرَةِ.

وَبَيَّنَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى أَنَّ مَا يَلْزَمُ الْإِمَامَ مِنْ أُمُورِ الْأُمَّةِ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ، مِنْهَا: جِبَايَةُ الْفَيْءِ Cوَالصَّدَقَاتِ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ.وَمِنْهَا تَقْدِيرُ الْعَطَاءِ وَمَا يُسْتَحَقُّ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا تَقْصِيرٍ، وَدَفْعُهُ فِي وَقْتٍ لَا تَقْدِيمَ فِيهِ وَلَا تَأْخِيرَ.وَلَهُ أَنْ يُعْطِيَ الْجَوَائِزَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِمَنْ كَانَ فِيهِ نَفْعٌ ظَاهِرٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَقُوَّةٌ عَلَى الْعَدُوِّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ.

وَقَدْ كَانَتِ الْعَادَةُ فِي صَدْرِ الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَنَّ الْعَامِلَ (أَيِ الْوَالِي) عَلَى بَلَدٍ أَوْ إِقْلِيمٍ، يَنُوبُ عَنِ الْإِمَامِ بِتَفْوِيضٍ مِنْهُ فِي الْجِبَايَةِ لِبَيْتِ الْمَالِ وَالْإِنْفَاقِ مِنْهُ، وَكَانَ الْمُفْتَرَضُ فِيهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ الْمُعْتَبَرِ.وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِلْقُضَاةِ.وَرُبَّمَا كَانَ صَاحِبُ بَيْتِ الْمَالِ فِي بَعْضِ الْأَمْصَارِ يَتَّبِعُ الْخَلِيفَةَ مُبَاشَرَةً، مُسْتَقِلًّا عَنْ عَامِلِ الْمِصْرِ.

مَوَارِدُ بَيْتِ الْمَالِ:

6- مَوَارِدُ بَيْتِ الْمَالِ الْأَصْنَافُ التَّالِيَةُ، وَأَمَّا صِفَةُ الْيَدِ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا فَإِنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِيمَا بَعْدُ.

أ- الزَّكَاةُ بِأَنْوَاعِهَا، الَّتِي يَأْخُذُهَا الْإِمَامُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ زَكَاةَ أَمْوَالٍ ظَاهِرَةٍ أَمْ بَاطِنَةٍ، مِنَ السَّوَائِمِ وَالزُّرُوعِ وَالنُّقُودِ وَالْعُرُوضِ، وَمِنْهَا عُشُورُ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا مَرُّوا بِتِجَارَتِهِمْ عَلَى الْعَاشِرِ. ب- خُمُسُ الْغَنَائِمِ الْمَنْقُولَةِ.وَالْغَنِيمَةُ هِيَ كُلُّ مَالٍ أُخِذَ مِنَ الْكُفَّارِ بِالْقِتَالِ، مَا عَدَا الْأَرَاضِيَ وَالْعَقَارَاتِ، فَيُورَدُ خُمُسُهَا لِبَيْتِ الْمَالِ، لِيُصْرَفَ فِي مَصَارِفِهِ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} الْآيَةَ.

ج- خُمُسُ الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ مِنَ الْمَعَادِنِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَغَيْرِهَا وَقِيلَ: مِثْلُهَا الْمُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَعَنْبَرٍ وَسِوَاهُمَا.

د- خُمُسُ الرِّكَازِ (الْكُنُوزِ) وَهُوَ كُلُّ مَالٍ دُفِنَ فِي الْأَرْضِ بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ، وَالْمُرَادُ هُنَا كُنُوزُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْكُفْرِ إِذَا وَجَدَهُ مُسْلِمٌ، فَخُمُسُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَبَاقِيهِ بَعْدَ الْخُمُسِ لِوَاجِدِهِ.

هـ- الْفَيْءُ: وَهُوَ كُلُّ مَالٍ مَنْقُولٍ أُخِذَ مِنَ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَبِلَا إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ.

وَالْفَيْءُ أَنْوَاعٌ:

(1) مَا جَلَا عَنْهُ الْكُفَّارُ خَوْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَرَاضِي وَالْعَقَارَاتِ، وَهِيَ تُوقَفُ كَالْأَرَاضِيِ الْمَغْنُومَةِ بِالْقِتَالِ، وَتُقَسَّمُ غَلاَّتُهَا كُلَّ سَنَةٍ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ.وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ (انْظُرْ: فَيْء).

(2) مَا تَرَكُوهُ وَجَلَوْا عَنْهُ مِنَ الْمَنْقُولَاتِ.وَهُوَ يُقَسَّمُ فِي الْحَالِ وَلَا يُوقَفُ.

(3) مَا أُخِذَ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ خَرَاجٍ أَوْ أُجْرَةٍ عَنِ الْأَرَاضِي الَّتِي مَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَدُفِعَتْ بِالْإِجَارَةِ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، أَوْ عَنِ الْأَرَاضِي الَّتِي أُقِرَّتْ بِأَيْدِي أَصْحَابِهَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً عَلَى أَنَّهَا لَهُمْ، وَلَنَا عَلَيْهَا الْخَرَاجُ.

(4) الْجِزْيَةُ وَهِيَ: مَا يُضْرَبُ عَلَى رِقَابِ الْكُفَّارِ لِإِقَامَتِهِمْ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.فَيُفْرَضُ عَلَى كُلِّ رَأْسٍ مِنَ الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ الْقَادِرِينَ مَبْلَغٌ مِنَ الْمَالِ، أَوْ يُضْرَبُ عَلَى الْبَلَدِ كُلِّهَا أَنْ تُؤَدِّيَ مَبْلَغًا مَعْلُومًا.وَلَوْ أَدَّاهَا مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَانَتْ هِبَةً لَا جِزْيَةً.

(5) عُشُورُ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَهِيَ: ضَرِيبَةٌ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَنْ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي يَتَرَدَّدُونَ بِهَا مُتَاجِرِينَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ يَدْخُلُونَ بِهَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ يَنْتَقِلُونَ بِهَا مِنْ بَلَدٍ فِي دَارِ الْإِسْلَام إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، تُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي السَّنَةِ مَرَّةً، مَا لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يَعُودُوا إِلَيْهَا.

وَمِثْلُهَا عُشُورُ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنَ التُّجَّارِ كَذَلِكَ، إِذَا دَخَلُوا بِتِجَارَتِهِمْ إِلَيْنَا مُسْتَأْمَنِينَ.

(6) مَا صُولِحَ عَلَيْهِ الْحَرْبِيُّونَ مِنْ مَالٍ يُؤَدُّونَهُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ.

(7) مَالُ الْمُرْتَدِّ إِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ، وَمَالُ الزِّنْدِيقِ إِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ، فَلَا يُورَثُ مَالُهُمَا بَلْ هُوَ فَيْءٌ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي مَالِ الْمُرْتَدِّ تَفْصِيلٌ.

(8) مَالُ الذِّمِّيِّ إِنْ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ، وَمَا فَضَلَ مِنْ مَالِهِ عَنْ وَارِثِهِ فَهُوَ فَيْءٌ كَذَلِكَ.

(9) الْأَرَاضِي الْمَغْنُومَةُ بِالْقِتَالِ، وَهِيَ الْأَرَاضِي الزِّرَاعِيَّةُ عِنْدَ مَنْ يَرَى عَدَمَ تَقْسِيمِهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ.

و- غَلاَّتُ أَرَاضِي بَيْتِ الْمَالِ وَأَمْلَاكِهِ وَنِتَاجُ الْمُتَاجَرَةِ وَالْمُعَامَلَةِ.

ز- الْهِبَاتُ وَالتَّبَرُّعَاتُ وَالْوَصَايَا الَّتِي تُقَدَّمُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِلْجِهَادِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ.

ح- الْهَدَايَا الَّتِي تُقَدَّمُ إِلَى الْقُضَاةِ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ يُهْدَى لَهُمْ قَبْلَ الْوِلَايَةِ، أَوْ كَانَ يُهْدَى لَهُمْ لَكِنْ لَهُ عِنْدَ الْقَاضِي خُصُومَةٌ، فَإِنَّهَا إِنْ لَمْ تُرَدَّ إِلَى مُهْدِيهَا تُرَدُّ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ.لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ مِنَ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ مَا أُهْدِيَ إِلَيْهِ».

وَكَذَلِكَ الْهَدَايَا الَّتِي تُقَدَّمُ إِلَى الْإِمَامِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَالْهَدَايَا الَّتِي تُقَدَّمُ إِلَى عُمَّالِ الدَّوْلَةِ، وَهَذَا إِنْ لَمْ يُعْطِ الْآخِذُ مُقَابِلَهَا مِنْ مَالِهِ الْخَاصِّ.

ط- الضَّرَائِبُ الْمُوَظَّفَةُ عَلَى الرَّعِيَّةِ لِمَصْلَحَتِهِمْ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ لِلْجِهَادِ أَمْ لِغَيْرِهِ، وَلَا تُضْرَبُ عَلَيْهِمْ إِلاَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَا يَكْفِي لِذَلِكَ، وَكَانَ لِضَرُورَةٍ، وَإِلاَّ كَانَتْ مَوْرِدًا غَيْرَ شَرْعِيٍّ. ي- الْأَمْوَالُ الضَّائِعَةُ، وَهِيَ مَالٌ وُجِدَ وَلَمْ يُمْكِنْ مَعْرِفَةُ صَاحِبِهِ، مِنْ لُقَطَةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ رَهْنٍ، وَمِنْهُ مَا يُوجَدُ مَعَ اللُّصُوصِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّا لَا طَالِبَ لَهُ، فَيُوَرَّدُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ.

ك- مَوَارِيثُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِلَا وَارِثٍ، أَوْ لَهُ وَارِثٌ لَا يَرِثُ كُلَّ الْمَالِ- عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى الرَّدَّ- وَمَنْ قُتِلَ وَكَانَ بِلَا وَارِثٍ فَإِنَّ دِيَتَهُ تُوَرَّدُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَيُصْرَفُ هَذَا فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ.

وَحَقُّ بَيْتِ الْمَالِ فِي هَذَا النَّوْعِ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمِيرَاثِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَيْ عَلَى سَبِيلِ الْعُصُوبَةِ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: يُرَدُّ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ فَيْئًا لَا إِرْثًا (ر: إِرْث).

ل- الْغَرَامَاتُ وَالْمُصَادَرَاتُ: وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ تَغْرِيمُ مَانِعِ الزَّكَاةِ بِأَخْذِ شَطْرِ مَالِهِ، وَبِهَذَا يَقُولُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَوَرَدَ تَغْرِيمُ مَنْ أَخَذَ مِنَ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ وَخَرَجَ بِهِ ضِعْفَ قِيمَتِهِ، وَبِهَذَا يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْغَرَامَاتِ إِذَا Cأُخِذَتْ تُنْفَقُ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَتَكُونُ بِذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ.

وَوَرَدَ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- صَادَرَ شَطْرَ أَمْوَالِ بَعْضِ الْوُلَاةِ، لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهِمُ الْإِثْرَاءُ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمْ، فَيَرْجِعُ مِثْلُ ذَلِكَ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ أَيْضًا.

أَقْسَامُ بَيْتِ الْمَالِ وَمَصَارِفُ كُلِّ قِسْمٍ:

7- الْأَمْوَالُ الَّتِي تَدْخُلُ بَيْتَ الْمَالِ مُتَنَوِّعَةُ الْمَصَارِفِ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْنَافِهَا لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي تُصْرَفُ فِيهَا الْأَصْنَافُ الْأُخْرَى.

وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ احْتِيجَ إِلَى فَصْلِ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ بِحَسَبِ مَصَارِفِهَا؛ لِأَجْلِ سُهُولَةِ التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَقَدْ نَصَّ أَبُو يُوسُفَ عَلَى فَصْلِ الزَّكَاةِ عَنِ الْخَرَاجِ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَقَالَ: مَالُ الصَّدَقَةِ وَالْعُشُورِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْمَعَ إِلَى مَالِ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ فَيْءٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَالصَّدَقَاتُ لِمَنْ سَمَّى اللَّهُ فِي كِتَابِهِ.

وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ تَوْزِيعُ مَوْجُودَاتِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى أَرْبَعَةِ بُيُوتٍ، وَلَا تَأْبَى قَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى التَّقْسِيمَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.وَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْ أَحَدِ الْبُيُوتِ الْأَرْبَعَةِ لِيَصْرِفَهُ فِي مَصَارِفِ الْبُيُوتِ الْأُخْرَى، وَيَجِبُ رَدُّهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمُسْتَقْرَضِ مِنْهُ، مَا لَمْ يَكُنْ مَا صَرَفَهُ إِلَيْهِ يَجُوزُ صَرْفُهُ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ الْآخَرِ.

وَالْبُيُوتُ الْأَرْبَعَةُ هِيَ:

الْبَيْتُ الْأَوَّلُ: بَيْتُ الزَّكَاةِ:

8- مِنْ حُقُوقِهِ: زَكَاةُ السَّوَائِمِ، وَعُشُورِ الْأَرَاضِي الزَّكَوِيَّةِ، وَالْعُشُورِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنَ التُّجَّارِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا مَرُّوا عَلَى الْعَاشِرِ، وَزَكَاةُ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ إِنْ أَخَذَهَا الْإِمَامُ.

وَمَصْرِفُ هَذَا النَّوْعِ الْمَصَارِفُ الثَّمَانِيَةُ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ.وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاة).

وَقَدْ نَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِفَةِ الْيَدِ عَلَى هَذِهِ الْأَمْوَالِ، فَنَقَلَ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّهَا مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ، أَيْ أَمْلَاكِهِ الَّتِي يَرْجِعُ التَّصَرُّفُ فِيهَا إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ، كَمَالِ الْفَيْءِ.وَلِذَا يَجُوزُ صَرْفُهُ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَالْفَيْءِ، وَإِنْ رَأَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ مُجَرَّدُ حِرْزٍ لِلزَّكَاةِ يُحَرِّزُهَا لِأَصْحَابِهَا، فَإِنْ وُجِدُوا وَجَبَ الدَّفْعُ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا أَحْرَزَهَا لِبَيْتِ الْمَالِ، وُجُوبًا عَلَى مَذْهَبِهِ الْقَدِيمِ، وَجَوَازًا عَلَى مَذْهَبِهِ الْجَدِيدِ، بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ دَفْعِ الزَّكَاةِ إِلَى الْإِمَامِ، أَوْ جَوَازِ ذَلِكَ.

وَنَقَلَ أَبُو يَعْلَى الْحَنْبَلِيُّ أَنَّ قَوْلَ أَحْمَدَ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ وَخَرَّجَ وَجْهًا فِي زَكَاةِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.

الْبَيْتُ الثَّانِي: بَيْتُ الْأَخْمَاسِ:

9- وَالْمُرَادُ بِالْأَخْمَاسِ:

أ- خُمُسُ الْغَنَائِمِ الْمَنْقُولَةِ، وَقِيلَ: وَخُمُسُ الْعَقَارَاتِ الَّتِي غُنِمَتْ أَيْضًا.

ب- خُمُسُ مَا يُوجَدُ مِنْ كُنُوزِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقِيلَ هُوَ زَكَاةٌ.

ج- خُمُسُ أَمْوَالِ الْفَيْءِ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَإِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ.وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: لَا يُخَمَّسُ الْفَيْءُ.

وَمَصْرِفُ هَذَا النَّوْعِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَسَهْمٌ لِذَوِي الْقُرْبَى، وَسَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ، عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} وَكَانَ السَّهْمُ الْأَوَّلُ يَأْخُذُهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَيَاتِهِ، وَبَعْدَهُ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، فَيُنْقَلُ لِبَيْتِ مَالِ الْفَيْءِ الْآتِي ذِكْرُهُ.

وَسَائِرُ الْأَسْهُمِ الْأَرْبَعَةِ تُحَرَّزُ لِأَصْحَابِهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، حَتَّى تُقَسَّمَ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَصْرِفَهَا فِي الْمَصَالِحِ.

الْبَيْتُ الثَّالِثُ: بَيْتُ الضَّوَائِعِ:

10- وَهِيَ الْأَمْوَالُ الضَّائِعَةُ وَنَحْوُهَا مِنْ لُقَطَةٍ لَا يُعْرَفُ صَاحِبُهَا، أَوْ مَسْرُوقٍ لَا يُعْلَمُ صَاحِبُهُ وَنَحْوِهِمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَتُحْفَظُ فِي هَذَا الْبَيْتِ مُحَرَّزَةً لِأَصْحَابِهَا، فَإِنْ حَصَلَ الْيَأْسُ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ صُرِفَ فِي وَجْهِهِ.وَمَصْرِفُ أَمْوَالِ هَذَا الْبَيْتِ- عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الزَّيْلَعِيِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- هُوَ اللَّقِيطُ الْفَقِيرُ، وَالْفُقَرَاءُ الَّذِينَ لَا أَوْلِيَاءَ لَهُمْ، فَيُعْطَوْنَ مِنْهُ نَفَقَتَهُمْ وَأَدْوِيَتَهُمْ وَتَكَالِيفَ أَكْفَانِهِمْ وَدِيَةَ جِنَايَاتِهِمْ.وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُصْرَفُ لِهَؤُلَاءِ صَدَقَةٌ عَمَّنِ الْمَالُ لَهُ، أَوْ مَنْ خَلَّفَ الْمَالَ.

وَلَمْ نَعْثُرْ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى تَخْصِيصِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْأَمْوَالِ بِمَصْرِفٍ خَاصٍّ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا عِنْدَهُمْ تُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَالْفَيْءِ، وَهُوَ Cمَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو يَعْلَى وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي مَالِ مَنْ مَاتَ بِلَا وَارِثٍ وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ تَكُونُ الْبُيُوتُ عِنْدَهُمْ ثَلَاثَةً لَا أَرْبَعَةً.

الْبَيْتُ الرَّابِعُ: وَهُوَ بَيْتُ مَالِ الْفَيْءِ:

11- أَهَمُّ مَوَارِدِ هَذَا الْبَيْتِ مَا يَلِي:

أ- أَنْوَاعُ الْفَيْءِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا.

ب- سَهْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنَ الْأَخْمَاسِ.

ج- الْأَرَاضِي الَّتِي غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا لَا تُقَسَّمُ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْوَقْفِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ.

د- خَرَاجُ الْأَرْضِ الَّتِي غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ، سَوَاءٌ اعْتُبِرَتْ وَقْفًا أَمْ غَيْرَ وَقْفٍ.

هـ- خُمُسُ الْكُنُوزِ الَّتِي لَمْ يُعْلَمْ صَاحِبُهَا، أَوْ تَطَاوَلَ عَلَيْهَا الزَّمَنُ.

و- خُمُسُ الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ مَعْدِنٍ أَوْ نِفْطٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.وَقِيلَ: مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ زَكَاةٌ مِقْدَارُهَا رُبُعُ الْعُشْرِ، وَيُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الزَّكَاةِ.

ز- مَالُ مَنْ مَاتَ بِلَا وَارِثٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ دِيَتُهُ.

ح- الضَّرَائِبُ الْمُوَظَّفَةُ عَلَى الرَّعِيَّةِ، الَّتِي لَمْ تُوَظَّفْ لِغَرَضٍ مُعَيَّنٍ. ط- الْهَدَايَا إِلَى الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ وَالْإِمَامِ.

ى- أَمْوَالُ الْبَيْتِ السَّابِقِ عَلَى قَوْلِ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ.

مَصَارِفُ بَيْتِ مَالِ الْفَيْءِ:

12- مَصْرِفُ أَمْوَالِ هَذَا الْبَيْتِ الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ تَحْتَ يَدِ الْإِمَامِ، وَيَصْرِفُ مِنْهُ بِحَسَبِ نَظَرِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ.

وَالْفُقَهَاءُ إِذَا أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِأَنَّ نَفَقَةَ كَذَا هِيَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، يَقْصِدُونَ هَذَا الْبَيْتَ الرَّابِعَ؛ لِأَنَّهُ وَحْدَهُ الْمُخَصَّصُ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، بِخِلَافِ مَا عَدَاهُ، فَالْحَقُّ فِيهِ لِجِهَاتٍ مُحَدَّدَةٍ، يُصْرَفُ لَهَا لَا لِغَيْرِهَا.وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ بَعْضِ الْمَصَالِحِ الَّتِي تُصْرَفُ فِيهَا أَمْوَالُ هَذَا الْبَيْتِ مِمَّا وَرَدَ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ وَالِاسْتِقْصَاءِ، فَإِنَّ أَبْوَابَ الْمَصَالِحِ لَا تَنْحَصِرُ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ مِنْ عَصْرٍ إِلَى عَصْرٍ، وَمِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ.

13- وَمِنْ أَهَمِّ الْمَصَالِحِ الَّتِي تُصْرَفُ فِيهَا أَمْوَالُ هَذَا الْبَيْتِ مَا يَلِي:

أ- الْعَطَاءُ، وَهُوَ نَصِيبٌ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ يُعْطَى لِكُلِّ مُسْلِمٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ أَمْ لَمْ يَكُنْ.وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْحَنَابِلَةِ قَدَّمَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي، وَهُوَ كَذَلِكَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ هُوَ خِلَافُ الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ.قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: فِي الْفَيْءِ حَقٌّ لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ.

وَمِنَ الْحُجَّةِ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} الْآيَةَ.ثُمَّ قَالَ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} فَاسْتَوْعَبَ كُلَّ الْمُسْلِمِينَ.وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- بَعْدَ أَنْ قَرَأَ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ الْحَشْرِ: هَذِهِ- يَعْنِي الْآيَةَ الْأَخِيرَةَ- اسْتَوْعَبَتِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، وَلَإِنْ عِشْتُ لَيَأْتِيَنَّ الرَّاعِي بِسَرْوِ حِمْيَرَ نَصِيبَهُ مِنْهَا، لَمْ يَعْرَقْ فِيهِ جَبِينُهُ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ أَهْلَ الْفَيْءِ هُمْ أَهْلُ الْجِهَادِ الْمُرَابِطُونَ فِي الثُّغُورِ، وَجُنْدُ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ- أَيْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَبْوَابِ الْمَصَالِحِ الْآتِي بَيَانُهَا.

وَأَمَّا الْأَعْرَابُ وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ لَا يُعِدُّ نَفْسَهُ لِلْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ، مَا لَمْ يُجَاهِدُوا فِعْلًا.وَمِنَ الْحُجَّةِ لِهَذَا الْقَوْلِ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ...» إِلَى أَنْ قَالَ: «ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ.فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ، إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ»

وَقِيلَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْفَيْءَ كُلَّهُ يَجِبُ قَسْمُهُ بَيْنَ مَنْ لَهُ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ فِي عَامِهِ، وَلَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يُوَفَّرُ شَيْءٌ لِلْمَصَالِحِ مَا عَدَا خُمُسِ الْخُمُسِ (أَيِ الَّذِي لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) وَالتَّحْقِيقُ عِنْدَهُمْ: إِعْطَاءُ مَنْ لَهُمْ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ كِفَايَتَهُمْ، وَصَرْفُ مَا يَتَبَقَّى مِنْ مَالِ الْفَيْءِ Cلِلْمَصَالِحِ.

ب- الْأَسْلِحَةُ وَالْمُعِدَّاتُ وَالتَّحْصِينَاتُ وَتَكَالِيفُ الْجِهَادِ وَالدِّفَاعِ عَنْ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ.

ج- رَوَاتِبُ الْمُوَظَّفِينَ الَّذِينَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ فِي أُمُورِهِمُ الْعَامَّةِ، مِنَ الْقُضَاةِ وَالْمُحْتَسِبِينَ، وَمَنْ يُنَفِّذُونَ الْحُدُودَ، وَالْمُفْتِينَ وَالْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَالْمُدَرِّسِينَ، وَنَحْوِهِمْ مِنْ كُلِّ مَنْ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَسْتَحِقُّ الْكِفَايَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لَهُ وَلِمَنْ يَعُولُهُ.وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْبُلْدَانِ لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَسْعَارِ.

وَلَيْسَتْ هَذِهِ الرَّوَاتِبُ أُجْرَةً لِلْمُوَظَّفِينَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بَلْ هِيَ كَالْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَنَحْوَهُ مِنَ الطَّاعَاتِ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ أَصْلًا.

ثُمَّ إِنْ سُمِّيَ لِلْمُوَظَّفِ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ اسْتَحَقَّهُ، وَإِلاَّ اسْتَحَقَّ مَا يَجْرِي لِأَمْثَالِهِ إِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَعْمَلُ إِلاَّ بِمُرَتَّبٍ.

وَأَرْزَاقُ هَؤُلَاءِ، وَأَرْزَاقُ الْجُنْدِ إِنْ لَمْ تُوجَدْ فِي بَيْتِ الْمَالِ، تَبْقَى دَيْنًا عَلَيْهِ، وَوَجَبَ إِنْظَارُهُ، كَالدُّيُونِ مَعَ الْإِعْسَارِ.بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَصَالِحِ فَلَا يَجِبُ الْقِيَامُ بِهَا إِلاَّ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَتَسْقُطُ بِعَدَمِهَا.

وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ، كَالْقَاضِي وَالْمُفْتِي وَالْمُدَرِّسِ وَنَحْوِهِمْ قَبْلَ انْتِهَاءِ الْعَامِ، يُعْطَى حِصَّتَهُ مِنَ الْعَامِ، أَمَّا مَنْ مَاتَ فِي آخِرِهِ أَوْ بَعْدَ تَمَامِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِعْطَاءُ إِلَى وَارِثِهِ.

د- الْقِيَامُ بِشُئُونِ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَجَزَةِ وَاللُّقَطَاءِ وَالْمَسَاجِينِ الْفُقَرَاءِ، الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مَا يُنْفَقُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ، وَلَا أَقَارِبَ تَلْزَمُهُمْ نَفَقَتُهُمْ، فَيَتَحَمَّلُ بَيْتُ الْمَالِ نَفَقَاتِهِمْ وَكِسْوَتَهُمْ وَمَا يُصْلِحُهُمْ مِنْ دَوَاءٍ وَأُجْرَةِ عِلَاجٍ وَتَجْهِيزِ مَيِّتٍ، وَكَذَا دِيَةُ جِنَايَةِ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ كَانَ لَهُ عَاقِلَةٌ فَعَجَزُوا عَنِ الْكُلِّ أَوِ الْبَعْضِ، فَإِنَّ بَيْتَ الْمَالِ يَتَحَمَّلُ بَاقِي الدِّيَةِ، وَلَا تُعْقَلُ عَنْ كَافِرٍ.وَنَبَّهَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ إِقْرَارَ الْجَانِي لَا يُقْبَلُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، كَمَا لَا يُقْبَلُ عَلَى الْعَاقِلَةِ.

هـ- الْإِنْفَاقُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ: لَيْسَ لِكَافِرٍ ذِمِّيٍّ أَوْ غَيْرِهِ حَقٌّ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ.لَكِنَّ الذِّمِّيَّ إِنِ احْتَاجَ لِضَعْفِهِ يُعْطَى مَا يَسُدُّ جَوْعَتَهُ.وَفِي كِتَابِ الْخَرَاجِ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مِمَّا أَعْطَاهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ- رضي الله عنه- فِي عَهْدِهِ لِأَهْلِ الْحِيرَةِ: أَيُّمَا شَيْخٍ ضَعُفَ عَنِ الْعَمَلِ، أَوْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ مِنَ الْآفَاتِ، أَوْ كَانَ غَنِيًّا فَافْتَقَرَ، وَصَارَ أَهْلُ دِينِهِ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ طُرِحَتْ جِزْيَتُهُ، وَعِيلَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَعِيَالُهُ مَا أَقَامَ بِدَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ.وَنَقَلَ مِثْلَ ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ.

و- وَمِنْ مَصَارِفِ بَيْتِ مَالِ الْفَيْءِ أَيْضًا: فِكَاكُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ، وَنَقَلَ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ قَوْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-: كُلُّ أَسِيرٍ كَانَ فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَفِكَاكُهُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ.وَهُنَاكَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ فِكَاكَهُ فِي مَالِهِ هُوَ (ر: أَسْرَى).

وَشَبِيهٌ بِهَذَا مَا قَالَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَالِكَ الدَّوَابِّ- غَيْرِ الْمَأْكُولَةِ- لَوِ امْتَنَعَ مِنْ عَلْفِهَا، وَلَمْ يُمْكِنْ إِجْبَارُهُ لِفَقْرِهِ مَثَلًا يُنْفَقُ عَلَيْهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَجَّانًا، وَكَذَلِكَ الدَّابَّةُ الْمَوْقُوفَةُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَخْذُ النَّفَقَةِ مِنْ كَسْبِهَا.

ز- الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ لِبُلْدَانِ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ إِنْشَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالطُّرُقِ وَالْجُسُورِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْأَنْهَارِ وَالْمَدَارِسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِصْلَاحِ مَا تَلِفَ مِنْهَا.

ح- ضَمَانُ مَا يَتْلَفُ بِأَخْطَاءِ أَعْضَاءِ الْإِدَارَةِ الْحُكُومِيَّةِ:

مِنْ ذَلِكَ أَخْطَاءُ وَلِيِّ الْأَمْرِ وَالْقَاضِي وَنَحْوِهِمْ مِنْ سَائِرِ مَنْ يَقُومُ بِالْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ، إِذَا أَخْطَئُوا فِي عَمَلِهِمُ الَّذِي كُلِّفُوا بِهِ، فَتَلِفَ بِذَلِكَ نَفْسٌ أَوْ عُضْوٌ أَوْ مَالٌ، كَدِيَةِ مَنْ مَاتَ بِالتَّجَاوُزِ فِي التَّعْزِيرِ، فَحَيْثُ وَجَبَ ضَمَانُ ذَلِكَ يَضْمَنُ بَيْتُ الْمَالِ.

فَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ الْمُكَلَّفُ بِهِ لِشَأْنٍ خَاصٍّ لِلْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَسْئُولِينَ فَالضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، أَوْ فِي مَالِهِ الْخَاصِّ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ.وَذَلِكَ لِأَنَّ أَخْطَاءَهُمْ قَدْ تَكْثُرُ، فَلَوْ حَمَلُوهَا هُمْ أَوْ عَاقِلَتُهُمْ لأَجْحَفَ بِهِمْ.

هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْقَوْلُ غَيْرُ الْأَظْهَرِ لِلشَّافِعِيَّةِ.أَمَّا الْأَظْهَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ Cفَهُوَ أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ.أَمَّا ضَمَانُ الْعَمْدِ فَيَتَحَمَّلُهُ فَاعِلُهُ اتِّفَاقًا.

ط- تَحَمُّلُ الْحُقُوقِ الَّتِي أَقَرَّهَا الشَّرْعُ لِأَصْحَابِهَا، وَاقْتَضَتْ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ أَنْ لَا يَحْمِلَهَا أَحَدٌ مُعَيَّنٌ:

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا لَوْ قُتِلَ شَخْصٌ فِي زِحَامِ طَوَافٍ أَوْ مَسْجِدٍ عَامٍّ أَوِ الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ، وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، فَتَكُونُ دِيَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: لَا يُطَلُّ فِي الْإِسْلَامِ دَمٌ وَقَدْ «تَحَمَّلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- دِيَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيِّ حِينَ قُتِلَ فِي خَيْبَرَ، لَمَّا لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، وَأَبَى الْأَنْصَارُ أَنْ يَحْلِفُوا الْقَسَامَةَ، وَلَمْ يَقْبَلُوا أَيْمَانَ الْيَهُودِ، فَوْدَاهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ عِنْدِهِ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ».. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أُجْرَةُ تَعْرِيفِ اللُّقَطَةِ، فَلِلْقَاضِي أَنْ يُرَتِّبَ أُجْرَةَ تَعْرِيفِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، عَلَى أَنْ تَكُونَ قَرْضًا عَلَى صَاحِبِهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


73-موسوعة الفقه الكويتية (بيع منهي عنه 4)

بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ -4

بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ:

63- وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ- رضي الله عنه-، «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، فَقَالَ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا جَفَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَلَا إِذًا» وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُبَاعُ رُطَبٌ بِيَابِسٍ» وَلَا يَسْتَجِيزُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ هَذَا الْبَيْعَ، وَنَحْوَهُ: كَالْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ، وَاللَّبَنِ بِالْجُبْنِ، وَالْحِنْطَةِ الرَّطْبَةِ بِالْيَابِسَةِ، وَذَلِكَ:

لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، قَالُوا: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ تُعْتَبَرُ عِنْدَ الْجَفَافِ، وَإِلاَّ فَالنَّقْصُ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ، وَهِيَ مَجْهُولَةٌ الْآنَ.

وَلِأَنَّهُ جِنْسٌ فِيهِ الرِّبَا، بِيعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، عَلَى وَجْهٍ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالنُّقْصَانِ، فَلَمْ يَجُزْ.

وَعِبَارَةُ الْخِرَقِيِّ وَلَا يُبَاعُ شَيْءٌ مِنَ الرَّطْبِ بِيَابِسٍ مِنْ جِنْسِهِ، إِلاَّ الْعَرَايَا.

وَرُبَّمَا اعْتَبَرَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ الْمُزَابَنَةِ، وَهِيَ- بِتَفْسِيرِ ابْنِ جُزَيٍّ- بَيْعُ شَيْءٍ رَطْبٍ بِيَابِسٍ مِنْ جِنْسِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ رِبَوِيًّا أَمْ غَيْرَ رِبَوِيٍّ، فَتَمْتَنِعُ فِي الرِّبَوِيِّ، لِتَوَقُّعِ التَّفَاضُلِ وَالْغَرَرِ، وَتَمْتَنِعُ فِي غَيْرِ الرِّبَوِيِّ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْهَا فِي الْحَدِيثِ، وَلِلْغَرَرِ.

64- وَتَفَرَّدَ أَبُو حَنِيفَةَ- رحمه الله- (- بِالْقَوْلِ بِالْجَوَازِ- كَمَا يَقُولُ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ وَمُتُونُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَيْهِ.

وَنَصَّ الْحَصْكَفِيُّ عَلَى أَنَّهُ: يَجُوزُ بَيْعُ رُطَبٍ بِرُطَبٍ، أَوْ بِتَمْرٍ مُتَمَاثِلًا..فِي الْحَالِ لَا الْمَآلِ، خِلَافًا لَهُمَا، فَلَوْ بَاعَ مُجَازَفَةً لَمْ يَجُزِ اتِّفَاقًا.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ- رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ».

فَفِي وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ:

الرُّطَبُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَمْرًا، أَوْ لَا يَكُونَ.فَإِنْ كَانَ تَمْرًا، جَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ: «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ»، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ تَمْرٍ، جَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ أَيْضًا، لِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: «إِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ».وَلَمْ يَأْخُذْ بِحَدِيثِ النَّهْيِ السَّابِقِ لِأَنَّهُ دَائِرٌ عَلَى زَيْدِ بْنِ عَيَّاشٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَيَّاشٍ مِمَّنْ لَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ وَهُوَ مَجْهُولٌ

وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ، فَقَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ نَسِيئَةً» وَهَذِهِ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا.

وَلِاسْتِكْمَالِ مَبْحَثِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنَ التَّفَاصِيلِ وَالْأَحْكَامِ.يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ (رِبا).

بَيْعٌ وَسَلَفٌ:

65- وَرَدَ فِيهِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» وَفِي رِوَايَةٍ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّا نَسْمَعُ مِنْكَ أَحَادِيثَ، أَفَتَأْذَنُ لَنَا بِكِتَابَتِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ.فَكَانَ أَوَّلَ مَا كَتَبَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ: لَا يَجُوزُ شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَاحِدٍ، وَلَا بَيْعٌ وَسَلَفٌ جَمِيعًا، وَلَا بَيْعُ مَا لَمْ يُضْمَنْ»...الْحَدِيثَ.

وَقَدْ فَسَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ- رحمه الله- (السَّلَفَ وَالْبَيْعَ بِأَنَّهُ قَوْلُ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ: أَبِيعُكَ دَارِي هَذِهِ بِكَذَا وَكَذَا، عَلَى أَنْ تُقْرِضَنِي كَذَا وَكَذَا.

وَبِهَذَا تَئُولُ الْمَسْأَلَةُ إِلَى مَوْضُوعِ الْبَيْعِ بِشَرْطٍ، وَلَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي فَسَادِ الْبَيْعِ بِذَلِكَ، فِي الْجُمْلَةِ.

وَصَرَّحَ ابْنُ جُزَيٍّ بِأَنَّ الْبَيْعَ بِاشْتِرَاطِ السَّلَفِ مِنْ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ لَا يَجُوزُ بِإِجْمَاعٍ، وَإِنْ يَكُنْ بُطْلَانُ الشَّرْطِ وَحْدَهُ رِوَايَةً وَاحْتِمَالًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَالْمَالِكِيَّةِ، حِينَمَا تَحَدَّثُوا عَنْ بُيُوعِ الْآجَالِ- وَهِيَ بُيُوعٌ ظَاهِرُهَا الْجَوَازُ، لَكِنَّهَا تُؤَدِّي إِلَى مَمْنُوعٍ- مَنَعُوا بَيْعَ مَا كَثُرَ قَصْدُ النَّاسِ إِلَيْهِ، تَوَصُّلًا إِلَى الرِّبَا الْمَمْنُوعِ، كَأَنْ كَانَ جَائِزًا فِي الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ لِلتُّهْمَةِ، وَسَدِّ الذَّرِيعَةِ، وَمَثَّلُوا لَهَا: بِاجْتِمَاعِ بَيْعٍ وَسَلَفٍ، أَوْ سَلَفٍ جَرَّ مَنْفَعَةً، أَوْ ضَمَانٍ بِجُعْلٍ.

وَصَوَّرُوا الْبَيْعَ وَالسَّلَفَ بِصُوَرٍ ثَلَاثٍ:

الْأُولَى: بَيْعٌ جَائِزٌ فِي الظَّاهِرِ يُؤَدِّي- كَمَا يَقُولُ الدَّرْدِيرُ- إِلَى بَيْعٍ وَسَلَفٍ، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ لِلتُّهْمَةِ، عَلَى أَنَّهُمَا قَصَدَا الْبَيْعَ وَالسَّلَفَ الْمَمْنُوعَ.

وَذَلِكَ كَأَنْ يَبِيعَ سِلْعَتَيْنِ بِدِينَارَيْنِ لِشَهْرٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ نَقْدًا، فَآلَ الْأَمْرُ إِلَى أَنَّ الْبَائِعَ أَخْرَجَ مِنْ يَدِهِ سِلْعَةً وَدِينَارًا نَقْدًا؛ لِأَنَّ السِّلْعَةَ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْ يَدِهِ ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهَا مُلْغَاةٌ كَمَا يَقُولُ الدُّسُوقِيُّ ثُمَّ أَخَذَ عَنْهُمَا عِنْدَ الْأَجَلِ دِينَارَيْنِ، أَحَدُهُمَا عَنِ السِّلْعَةِ وَهُوَ بَيْعٌ، وَالْآخَرُ عَنِ الدِّينَارِ وَهُوَ سَلَفٌ.

فَهَذِهِ الصُّورَةُ تُؤَدِّي إِلَى بَيْعٍ وَسَلَفٍ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي ظَاهِرِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ فِي مَنْعِهِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ بَشِيرٍ وَتَابِعُوهُ، وَغَيْرُهُمْ.

وَحَيْثُ تَكَرَّرَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْبَيْعُ، مُنِعَتْ عِنْدَهُمْ، لِتُهْمَةِ قَصْدِ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ.

الثَّانِيَةُ: بَيْعٌ وَسَلَفٌ بِشَرْطٍ مِنَ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي.وَهَذِهِ الصُّورَةُ مَمْنُوعَةٌ غَيْرُ جَائِزَةٍ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْقَرْضِ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَنِ، إِنْ كَانَ شَرْطُ السَّلَفِ صَادِرًا مِنَ الْبَائِعِ، أَوْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُثَمَّنِ- أَيِ الْمَبِيعِ- إِنْ كَانَ شَرْطُ السَّلَفِ صَادِرًا مِنَ الْمُشْتَرِي، فَفِيهِ سَلَفٌ جَرَّ نَفْعًا.

الثَّالِثَةُ: بَيْعٌ وَسَلَفٌ بِلَا شَرْطٍ، لَا صَرَاحَةً وَلَا حُكْمًا، وَهِيَ جَائِزَةٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ.

بَيْعٌ وَشَرْطٌ:

66- وَرَدَ النَّهْيُ فِي السُّنَّةِ عَنْ (بَيْعٍ وَشَرْطٍ) وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ».وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْع، وَشَرْط)

أَسْبَابُ النَّهْيِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْغَرَرِ

67- هَذَا هُوَ السَّبَبُ الثَّانِي مِنْ أَسْبَابِ النَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ، مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِلَازِمِ الْعَقْدِ، وَكَانَ الْأَوَّلُ هُوَ الرِّبَا.

وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ، فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» وَغَيْرِهِ مِمَّا سَيَأْتِي.

وَالْغَرَرُ فِي اللُّغَةِ هُوَ: الْخَطَرُ.

وَلَهُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ تَعْرِيفَاتٌ شَتَّى.

فَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: مَا طُوِيَ عَنْكَ عِلْمُهُ.

وَعِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ: التَّرَدُّدُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَلَى الْغَرَضِ، وَالثَّانِي عَلَى خِلَافِهِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: مَا انْطَوَتْ عَنَّا عَاقِبَتُهُ، أَوْ: مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَغْلَبِهِمَا أَخْوَفُهُمَا.

وَيَرَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْغَرَرَ وَالْخَطَرَ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ مَا جُهِلَتْ عَيْنُهُ.

وَيَرَى الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ أَنَّهُمَا مُتَبَايِنَانِ: فَالْخَطَرُ: مَا لَمْ يُتَيَقَّنْ وُجُودُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْنِي فَرَسَكَ بِمَا أَرْبَحُ غَدًا.

وَالْغَرَرُ: مَا يُتَيَقَّنُ وُجُودُهُ، وَيُشَكُّ فِي تَمَامِهِ، كَبَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا.

68- وَقَدْ تَقَدَّمَتْ صُوَرٌ يَنْطَبِقُ عَلَيْهَا الْغَرَرُ، عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ شُرُوطِ انْعِقَادِ الْبَيْعِ، مِنْهَا: كَوْنُ الْمَبِيعِ مَالًا مَوْجُودًا مَمْلُوكًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْحَمْلِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَلَا مَا سَيُخْرِجُهُ الصَّيَّادُ فِي شَبَكَتِهِ، وَلَا الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَلَا الْجَمَلِ الشَّارِدِ.إِلَخْ.

وَالْغَرَرُ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا يَرْجِعُ إِلَى أَصْلِ وُجُودِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، أَوْ مِلْكِيَّةِ الْبَائِعِ لَهُ، أَوْ قُدْرَتِهِ عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَهَذَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْبَيْعِ، فَلَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ اتِّفَاقًا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

وَالْآخَرُ: مَا يَرْجِعُ إِلَى وَصْفٍ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ مِقْدَارِهِ، أَوْ يُورِثُ فِيهِ أَوْ فِي الثَّمَنِ أَوْ فِي الْأَجَلِ جَهَالَةً.

فَهَذَا مَحَلُّ خِلَافٍ.تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (غَرَر).

وَفِيمَا يَلِي صُوَرُ الْغَرَرِ الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ فِيهَا بِخُصُوصِهَا، وَالْحُكْمُ الْفِقْهِيُّ فِيهَا، مِنَ الْبُطْلَانِ أَوِ الْفَسَادِ.إِذِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ- كَمَا يَقُولُ النَّوَوِيُّ- أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ، يَدْخُلُ تَحْتَهُ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ جِدًّا.مِنْهَا: بَيْعُ الْحَصَاةِ وَبَيْعُ الْمُلَامَسَةِ وَبَيْعُ الْمُنَابَذَةِ.وَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.

وَمِنْهَا مَا يَلِي:

أ- بَيْعُ الْجَنِينِ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ:

69- وَهُوَ بَيْعُ الْحَمْلِ، كَمَا عَبَّرَتْ بَعْضُ الْمَرَاجِعِ الْفِقْهِيَّةِ.

وَالْجَنِينُ هُوَ: الْوَلَدُ مَا دَامَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَجِنَّةً، كَدَلِيلٍ وَأَدِلَّةٍ.وَمِثْلُ الْجَنِينِ أَيْضًا: الْمَلْقُوحُ وَالْمَلْقُوحَةُ، وَجَمْعُهُمَا مَلَاقِيحُ، وَهِيَ: مَا فِي الْأَرْحَامِ وَالْبُطُونِ مِنَ الْأَجِنَّةِ، بِتَفْسِيرِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ الْمَلَاقِيحِ بِمَا فِي ظُهُورِ الْفُحُولِ.

وَوَرَدَ النَّهْيُ فِي الْحَدِيثِ عَنْ بَيْعِ الْجَنِينِ مَا دَامَ مُجْتَنًّا حَتَّى يُولَدَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ- رضي الله عنه-، قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ شِرَاءِ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ حَتَّى تَضَعَ».

وَتَقَدَّمَ الْإِجْمَاعُ- كَمَا صَرَّحَ ابْنُ الْمُنْذِرِ- عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْبَيْعِ (ر: ف 5) لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ وَلِلْغَرَرِ، فَعَسَى أَنْ لَا يُولَدَ، وَلِأَنَّ فِيهِ جَهَالَةً فِي صِفَتِهِ وَحَيَاتِهِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ.

وَذِكْرُهُ هُنَا لِلْغَرَرِ فَقَطْ، لَكِنَّهُ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنْهُ، وَهُوَ الْغَرَرُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ نَفْسِهِ، مِنْ حَيْثُ أَصْلُ وُجُودِهِ، وَلِهَذَا كَانَ النَّهْيُ عَنْهُ مُسْتَوْجِبًا لِلْبُطْلَانِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، حَتَّى فِي اصْطِلَاحِ الْحَنَفِيَّةِ، الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبُطْلَانِ- وَبَيْنَ الْفَسَادِ.

ب- بَيْعُ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهُ:

70- وَيُسَمَّى أَيْضًا الْمُخَاضَرَةَ، كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ النُّصُوصِ.

وَوَرَدَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ»

وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ، وَعَنْ بَيْعِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ».

وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «لَا تَبْتَاعُوا الثِّمَارَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا».

وَجَاءَ مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، وَعَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ، قِيلَ: مَا يَزْهُو؟ قَالَ: يَحْمَارُّ أَوْ يَصْفَارُّ».وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَنَسٍ حَتَّى تُزْهَى، فَقِيلَ لَهُ: وَمَا تُزْهَى؟ قَالَ: تَحْمَرُّ..

كَمَا جَاءَ بُدُوُّ الصَّلَاحِ مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-، قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا».«وَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلَاحِهَا، قَالَ: حَتَّى تَذْهَبَ عَاهَتُهَا».

وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَعَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ».

وَوَرَدَ فِي الصَّحِيحِ التَّعْبِيرُ بِلَفْظٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ: التَّشْقِيحُ، وَهَذَا فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما- قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ حَتَّى تُشَقِّحَ فَقِيلَ: مَا تُشَقِّحُ؟.قَالَ: تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ، وَيُؤْكَلُ مِنْهَا».

مَعْنَى بُدُوِّ الصَّلَاحِ:

71- فَسَّرَ الْفُقَهَاءُ بُدُوَّ الصَّلَاحِ بِمَعَانٍ شَتَّى: فَالْحَنَفِيَّةُ قَالُوا فِي تَفْسِيرِهِ: أَنْ تُؤْمَنَ الْعَاهَةُ وَالْفَسَادُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ- كَالْكَرْلَانِيِّ- فَسَّرَهُ بِأَنْ تَصْلُحَ الثَّمَرَةُ لِتَنَاوُلِ بَنِي آدَمَ، وَعَلَفِ الدَّوَابِّ.

وَالْمَالِكِيَّةُ فَسَّرُوهُ تَفْسِيرًا مُخْتَلِفًا نِسْبِيًّا: فَهُوَ فِي التَّمْرِ: أَنْ يَحْمَرَّ وَيَصْفَرَّ وَيَزْهُوَ، وَفِي الْعِنَبِ: أَنْ يَسْوَدَّ وَتَبْدُوَ الْحَلَاوَةُ فِيهِ، وَفِي غَيْرِهِمَا مِنَ الثِّمَارِ: حُصُولُ الْحَلَاوَةِ، وَفِي الْخَسِّ وَالْعُصْفُرِ: أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِمَا، وَفِي سَائِرِ الْبُقُولِ: أَنْ تَطِيبَ لِلْأَكْلِ، وَفِي الزَّرْعِ وَالْحَبِّ: أَنْ يَيْبَسَ وَيَشْتَدَّ.

وَأَرْجَعَ الشَّافِعِيَّةُ بُدُوَّ الصَّلَاحِ فِي الثَّمَرِ وَغَيْرِهِ كَالزَّرْعِ، إِلَى ظُهُورِ مَبَادِئِ النُّضْجِ وَالْحَلَاوَةِ، فِيمَا لَا يَتَلَوَّنُ مِنْهُ، أَمَّا فِيمَا يَتَلَوَّنُ فَبِأَنْ يَأْخُذَ فِي الْحُمْرَةِ أَوِ السَّوَادِ أَوِ الصُّفْرَةِ.وَذَكَرُوا ثَمَانِي عَلَامَاتٍ يُعْرَفُ بِهَا بُدُوُّ الصَّلَاحِ.أَحَدُهَا: اللَّوْنُ، فِي كُلِّ ثَمَرٍ مَأْكُولٍ مُلَوَّنٍ، إِذَا أَخَذَ فِي حُمْرَةٍ، أَوْ سَوَادٍ أَوْ صُفْرَةٍ، كَالْبَلَحِ وَالْعُنَّابِ وَالْمِشْمِشِ وَالْإِجَّاصِ.

ثَانِيهَا: الطَّعْمُ، كَحَلَاوَةِ الْقَصَبِ وَحُمُوضَةِ الرُّمَّانِ.

ثَالِثُهَا: النُّضْجُ وَاللِّينُ، كَالتِّينِ وَالْبِطِّيخِ.

رَابِعُهَا: بِالْقُوَّةِ وَالِاشْتِدَادِ، كَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ.

خَامِسُهَا: بِالطُّولِ وَالِامْتِلَاءِ، كَالْعَلَفِ وَالْبُقُولِ.

سَادِسُهَا: الْكِبَرُ كَالْقِثَّاءِ، بِحَيْثُ يُؤْكَلُ.

سَابِعُهَا: انْشِقَاقُ أَكْمَامِهِ، كَالْقُطْنِ وَالْجَوْزِ.

ثَامِنُهَا: الِانْفِتَاحُ، كَالْوَرْدِ.وَمَا لَا أَكْمَامَ لَهُ كَالْيَاسَمِينِ، فَظُهُورُهُ، وَيُمْكِنُ دُخُولُهُ فِي الْأَخِيرِ.وَوَضَعَ لَهُ الْقَلْيُوبِيُّ هَذَا الضَّابِطَ، وَهُوَ: بُلُوغُ الشَّيْءِ إِلَى صِفَةٍ أَيْ حَالَةٍ يُطْلَبُ فِيهَا غَالِبًا.

وَوَضَعَ الْحَنَابِلَةُ هَذَا الضَّابِطَ: مَا كَانَ مِنَ الثَّمَرَةِ يَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ عِنْدَ صَلَاحِهِ، كَثَمَرَةِ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ الْأَسْوَدِ وَالْإِجَّاصِ، فَبُدُوُّ صَلَاحِهِ بِتَغَيُّرِ لَوْنِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعِنَبُ أَبْيَضَ فَصَلَاحُهُ بِتَمَوُّهِهِ، وَهُوَ: أَنْ يَبْدُوَ فِيهِ الْمَاءُ الْحُلْوُ وَيَلِينَ وَيَصْفَرَّ لَوْنُهُ.

وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَلَوَّنُ كَالتُّفَّاحِ وَنَحْوِهِ، فَبِأَنْ يَحْلُوَ وَيَطِيبَ.وَإِنْ كَانَ بِطِّيخًا أَوْ نَحْوِهِ، فَبِأَنْ يَبْدُوَ فِيهِ النُّضْجُ.وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ، وَيُؤْكَلُ طَيِّبًا صِغَارًا وَكِبَارًا، كَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ، فَصَلَاحُهُ بُلُوغُهُ أَنْ يُؤْكَلَ عَادَةً.

وَحِكْمَةُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ: هِيَ خَوْفُ تَلَفِ الثَّمَرَةِ، وَحُدُوثُ الْعَاهَةِ عَلَيْهَا قَبْلَ أَخْذِهَا.

وَثَبَتَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ- رضي الله عنه- «أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟»

حُكْمُ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ:

72- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- بِوَجْهٍ عَامٍّ- عَلَى أَنَّ بَيْعَ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، غَيْرُ جَائِزٍ وَلَا صَحِيحٍ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِجُمْلَةِ هَذَا الْحَدِيثِ

وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ فَصَّلُوا فِيهِ الْقَوْلَ، تَبَعًا لِتَقْيِيدِ الْعَقْدِ بِشَرْطٍ وَإِطْلَاقِهِ، وَلَا يَخْلُو بَيْعُ الثَّمَرَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ:

الْأُولَى: أَنْ يَبِيعَهَا قَبْلَ الظُّهُورِ وَالْبُرُوزِ، أَيْ قَبْلَ انْفِرَاكِ الزَّهْرِ عَنْهَا وَانْعِقَادِهَا ثَمَرَةً، فَهَذَا الْبَيْعُ لَا يَصِحُّ اتِّفَاقًا.

الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ الظُّهُورِ، قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، بِشَرْطِ التَّرْكِ وَالتَّبْقِيَةِ عَلَى الشَّجَرِ حَتَّى تَنْضَجَ، فَلَا يَصِحُّ هَذَا الْبَيْعُ إِجْمَاعًا، لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَهُوَ شَغْلُ مِلْكِ الْغَيْرِ.

أَوْ هُوَ صَفْقَةٌ فِي صَفْقَةٍ أَوْ هُوَ إِعَارَةٌ أَوْ إِجَارَةٌ فِي بَيْعٍ.

وَعَلَّلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ.

قَالُوا: وَمِثْلُ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ بِشَرْطِ التَّرْكِ، بَيْعُ الزَّرْعِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ.

الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ الظُّهُورِ، قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَالِ، فَهَذَا الْبَيْعُ صَحِيحٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ وَعَلَّلَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْبَيْعِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، إِنَّمَا كَانَ خَوْفًا مِنْ تَلَفِ الثَّمَرَةِ، وَحُدُوثِ الْعَاهَةِ عَلَيْهَا قَبْلَ أَخْذِهَا، بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَارِّ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِيهِ: «أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟» وَهَذَا مَأْمُونٌ فِيمَا يُقْطَعُ، فَصَحَّ بَيْعُهُ كَمَا لَوْ بَدَا صَلَاحُهُ.

قَالُوا: وَالْإِجْمَاعُ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ الْمَنْعِ فِي مَفْهُومِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ.وَفَارَقَ مَا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، لِأَمْنِ الْعَاهَةِ فِيهِ غَالِبًا، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَبِهَذَا الْفَارِقِ يُشْعِرُ الْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ وَهُوَ: «لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا، فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ- أَيْ آفَةٌ أَهْلَكَتِ الثَّمَرَةَ- فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ».

73- غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَيَّدُوا هَذَا الْحُكْمَ، وَهُوَ جَوَازُ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَالِ، بِقُيُودٍ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا انْفَرَدَ بِهِ فَرِيقٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، نُشِيرُ إِلَيْهَا فِيمَا يَلِي:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الثَّمَرُ مُنْتَفَعًا بِهِ:

أ- فَالْحَنَفِيَّةُ- فِي الْأَصَحِّ مِنْ مَذْهَبِهِمْ- وَكَذَا الْمَالِكِيَّةُ عَلَى إِطْلَاقِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِشُمُولِ الِانْتِفَاعِ لِمَا هُوَ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَآلُ، أَوْ فِي ثَانِي الْحَالِ- كَمَا يُعَبِّرُونَ.

فَمِثْلُ الْقَصِيلِ (وَهُوَ الْفَصْفَصَةُ الَّتِي يُعْلَفُ بِهَا الْحَيَوَانُ) وَالْحِصْرِمِ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ، لِانْتِفَاعِ الْحَيَوَانِ وَانْتِفَاعِ الْإِنْسَانِ بِهِ.

ب- وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، قَيَّدُوا الْجَوَازَ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ فِي الْحَالِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ تَقْيِيدَ الْمَنْفَعَةِ بِأَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْوَجْهِ الَّذِي يُرَادُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْهُ كَمَا فِي الْحِصْرِمِ، بِخِلَافِ الْكُمَّثْرَى؛ لِأَنَّ قَطْعَهُ فِي الْحَالِ إِضَاعَةُ مَالٍ- كَمَا عَلَّلَهُ الْمَالِكِيَّةُ- وَبِخِلَافِ ثَمَرَةِ الْجَوْزِ، وَزَرْعِ التُّرْمُسِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ نَفْسِهِ، لِعَدَمِ النَّفْعِ بِالْمَبِيعِ- كَمَا عَلَّلَهُ الْحَنَابِلَةُ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَحْتَاجَ إِلَيْهِ الْمُتَبَايِعَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكْثُرَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا يَتَمَالَئُوا عَلَيْهِ.

وَهَذَانِ الشَّرْطَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا الْمَالِكِيَّةُ، فَإِنْ تَخَلَّفَ وَاحِدٌ، مُنِعَ الْبَيْعُ كَمَا يُمْنَعُ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ الْمَارِّ أَوِ الْإِطْلَاقِ، كَمَا يَأْتِي.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ مَا بِيعَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ مُشَاعًا، بِأَنْ يَشْتَرِيَ نِصْفَ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مُشَاعًا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ قَطْعُ مَا يَمْلِكُهُ، إِلاَّ بِقَطْعِ مَا لَا يَمْلِكُهُ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.

74- وَقَدْ أَجَازَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا، إِضَافَةً إِلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الْجَائِزَةِ، وَهِيَ بَيْعُ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَالِ، هَذِهِ الصُّوَرَ:

(1) أَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَةَ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا مَعَ الشَّجَرِ، أَوِ الزَّرْعِ الْأَخْضَرِ مَعَ الْأَرْضِ، وَلَا يَخْتَلِفُ فِيهَا الْفُقَهَاءُ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَ فِيهَا وَالزَّرْعَ تَابِعَانِ لِلشَّجَرِ وَالْأَرْضِ، اللَّذَيْنِ لَا تَعْرِضُ لَهُمَا عَاهَةٌ، كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ.

(2) أَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَةَ لِمَالِكِ الْأَصْلِ وَهُوَ الشَّجَرُ، أَوْ يَبِيعَ الزَّرْعَ لِمَالِكِ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ إِذَا بِيعَ مَعَ أَصْلٍ دَخَلَ تَبَعًا فِي الْبَيْعِ، فَلَمْ يَضَعِ احْتِمَالَ الْغَرَرِ فِيهِ، كَمَا احْتُمِلَتِ الْجَهَالَةُ فِي بَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ مَعَ الشَّاةِ.

نَصَّ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الْحَنَابِلَةُ، كَمَا نَصَّ عَلَى الْأُولَى الْجَمِيعُ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ الصُّورَةَ التَّالِيَةَ:

(3) أَنْ يَبِيعَ الْأَصْلَ، وَهُوَ الشَّجَرُ أَوِ الْأَرْضُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِفَتْرَةٍ مَا، قَرُبَتْ أَوْ بَعُدَتْ، وَقَبْلَ خُرُوجِهِمَا مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي، يَلْحَقُ الثَّمَرُ أَوِ الزَّرْعُ بِالْأَصْلِ الْمَبِيعِ قَبْلَهُ.

75- الرَّابِعَةُ مِنْ أَحْوَالِ بَيْعِ الثَّمَرَةِ:

أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ- عَلَى الْخِلَافِ فِي تَفْسِيرِهِ: بِظُهُورِ النُّضْجِ وَالْحَلَاوَةِ وَالتَّمَوُّهِ وَنَحْوِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ.وَبِأَمْنِ الْعَاهَةِ وَالْفَسَادِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَمَا هُوَ نَصُّ ابْنِ الْهُمَامِ، وَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ أَيْضًا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ.

وَسَيَأْتِي بَعْضُ التَّفْصِيلِ الْمَذْهَبِيِّ فِيمَا إِذَا تَنَاهَى عِظَمُ الثَّمَرَةِ أَوْ لَمْ يَتَنَاهَ.

غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا الْجَوَازَ فِي هَذِهِ الْحَالِ- زِيَادَةً عَلَى بُدُوِّ الصَّلَاحِ بِتَفْسِيرِهِ عِنْدَهُمْ- بِأَنْ لَا يَسْتَتِرَ بِأَكْمَامِهِ، كَالْبَلَحِ وَالتِّينِ وَالْعِنَبِ، وَالْفُجْلِ وَالْكَرَّاتِ وَالْجَزَرِ وَالْبَصَلِ.فَهَذَا النَّوْعُ يَجُوزُ بَيْعُهُ جُزَافًا، وَوَزْنًا بِالْأَوْلَى.

أَمَّا مَا اسْتَتَرَ بِأَكْمَامِهِ- أَيْ بِغِلَافِهِ- كَالْقَمْحِ فِي سُنْبُلِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَحْدَهُ جُزَافًا، وَيَجُوزُ كَيْلًا.وَإِنْ بِيعَ بِقِشْرِهِ أَيْ تِبْنِهِ، جَازَ جُزَافًا وَكَذَا كَيْلًا بِالْأَوْلَى.

أَمَّا مَا اسْتَتَرَ بِوَرَقِهِ كَالْفُولِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ جُزَافًا، لَا مُنْفَرِدًا وَلَا مَعَ وَرَقِهِ، وَيَجُوزُ كَيْلًا.

76- الْخَامِسَةُ: أَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَةَ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ مُطْلَقًا، فَلَا يَشْتَرِطُ قَطْعًا وَلَا تَبْقِيَةً، وَهَذِهِ الصُّورَةُ مَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:

(أ) فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْقَوْلُ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ- وَإِنْ صَرَّحَ ابْنُ جُزَيٍّ بِأَنَّ فِيهِ قَوْلَيْنِ- أَنَّ بَيْعَهَا كَذَلِكَ بَاطِلٌ: لِإِطْلَاقِ النَّهْيِ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَلِأَنَّ الْعَاهَةَ تُسْرِعُ إِلَيْهِ حِينَئِذٍ، لِضَعْفِهِ، فَيَفُوتُ بِتَلَفِهِ الثَّمَنُ، مِنْ غَيْرِ مُقَابِلٍ.

(ب) وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَرَّرُوا أَنَّهُ:

إِنْ كَانَ الثَّمَرُ بِحَالٍ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْأَكْلِ وَلَا فِي عَلَفِ الدَّوَابِّ، فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْمَشَايِخِ: قِيلَ: لَا يَجُوزُ، وَنَسَبَهُ قَاضِيخَانُ لِعَامَّةِ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ لِلنَّهْيِ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ يَخْتَصُّ بِمَالٍ مُتَقَوَّمٍ، وَالثَّمَرُ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ لَيْسَ كَذَلِكَ.

وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَجُوزُ، لِأَنَّهُ مَالٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ فِي ثَانِي الْحَالِ (أَيِ الْمَآلِ) إِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي الْحَالِ.

وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَلَوْ عَلَفًا لِلدَّوَابِّ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، إِذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ، أَوْ مُطْلَقًا.

وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ السَّابِقَةِ.وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، كَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، هَذِهِ الصُّورَةَ أَيْضًا.

77- السَّادِسَةُ: إِذَا اشْتَرَى الثَّمَرَةَ، وَقَدْ بَدَا صَلَاحُهَا وَنُضْجُهَا، وَلَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهَا، وَشَرَطَ التَّرْكَ وَالتَّبْقِيَةَ إِلَى أَنْ يَتَنَاهَى عِظَمُهَا:

(أ) فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ- كَمَا يَنُصُّ ابْنُ قُدَامَةَ- جَوَازُ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، بَلْ جَوَازُهُ بِإِطْلَاقٍ.

- لِأَنَّ الْحَدِيثَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، فَمَفْهُومُهُ إِبَاحَةُ بَيْعِهَا بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ عِنْدَهُمُ الْبَيْعُ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَائِزًا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَإِلاَّ لَمْ يَكُنْ لِبُدُوِّ الصَّلَاحِ غَايَةٌ، وَلَا فَائِدَةٌ فِي ذِكْرِهِ.

- «وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، وَتَأْمَنَ الْعَاهَةَ» وَتَعْلِيلُهُ بِأَمْنِ الْعَاهَةِ يَدُلُّ عَلَى التَّبْقِيَةِ؛ لِأَنَّ مَا يُقْطَعُ فِي الْحَالِ لَا يُخَافُ الْعَاهَةُ عَلَيْهِ، وَإِذَا بَدَا الصَّلَاحُ فَقَدْ أُمِنَتِ الْعَاهَةُ، فَيَجِبُ أَنْ يَجُوزَ بَيْعُهُ مُبْقًى، لِزَوَالِ عِلَّةِ الْمَنْعِ.

وَلِأَنَّ النَّقْلَ وَالتَّحْوِيلَ يَجِبُ فِي الْمَبِيعِ بِحُكْمِ الْعُرْفِ، فَإِذَا شَرَطَهُ جَازَ، كَمَا لَوْ شَرَطَ نَقْلَ الطَّعَامِ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ.

(ب) وَالْحَنَفِيَّةُ قَرَّرُوا مُفَصِّلِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ:

إِذَا شَرَطَ التَّرْكَ، وَلَمْ يَتَنَاهَ الْعِظَمُ وَالنُّضْجُ، فَقَدْ شَرَطَ فِيهِ الْجُزْءَ الْمَعْدُومَ، وَهُوَ الَّذِي يَزِيدُ بِمَعْنًى مِنَ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تَحْدُثُ بَعْدَ الْبَيْعِ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ، فَكَأَنَّهُ ضَمَّ الْمَعْدُومَ إِلَى الْمَوْجُودِ، وَاشْتَرَاهُمَا، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ.

وَإِذَا شَرَطَ التَّرْكَ، وَقَدْ تَنَاهَى عِظَمُهَا، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَفْسُدُ الْعَقْدُ أَيْضًا، وَهُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَهُوَ شَغْلُ مِلْكِ غَيْرِهِ، وَلِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ، وَمِثْلُهُ يُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَهَذَا لِأَنَّهُ يَحْصُلُ فِي الْمَبِيعِ زِيَادَةُ جَوْدَةٍ وَطَرَاوَةٍ، وَلِلْمُشْتَرِي فِيهِ نَفْعٌ.

وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَقَدِ اسْتَحْسَنَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَقَالَ كَمَا قَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: لَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ، لِتَعَارُفِ النَّاسِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهَا، لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي الْجُزْءِ الْمَعْدُومِ.

وَمَعَ أَنَّ الْبَابَرْتِيَّ وَالْكَرْلَانِيَّ، مِنْ شُرَّاحِ الْهِدَايَةِ، لَمْ يُسَلِّمَا بِالتَّعَامُلِ فِي اشْتِرَاطِ التَّرْكِ، بَلْ قَرَّرَا أَنَّ الْمُعْتَادَ هُوَ التَّرْكُ بِلَا شَرْطٍ، وَالْإِذْنُ فِي تَرْكِهِ بِلَا شَرْطٍ فِي الْعَقْدِ، لَا شَرْطِ التَّرْكِ.فَفِي نَقْلِ الْكَرْلَانِيِّ عَنِ الْأَسْرَارِ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ، لِعُمُومِ الْبَلْوَى.

78- وَإِذَا اشْتَرَى الثَّمَرَةَ مُطْلَقًا، فَلَمْ يَشْتَرِطِ التَّرْكَ وَلَا الْقَطْعَ، وَلَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهَا، ثُمَّ تَرَكَهَا: فَإِنْ كَانَ التَّرْكُ بِإِذْنٍ مُجَرَّدٍ مِنَ الْبَائِعِ، طَابَ لَهُ الْفَضْلُ وَالْأَكْلُ.وَإِنْ كَانَ التَّرْكُ بِإِذْنٍ فِي ضِمْنِ الْإِجَارَةِ، بِأَنِ اسْتَأْجَرَ الْأَشْجَارَ إِلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ، طَابَ لَهُ الْفَضْلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَاطِلَةٌ، لِعَدَمِ التَّعَارُفِ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى اسْتِئْجَارِ الْأَشْجَارِ، وَلِعَدَمِ حَاجَةِ الْمُشْتَرِي إِلَى اسْتِئْجَارِ الْأَشْجَارِ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ شِرَاءُ الثِّمَارِ مَعَ أُصُولِهَا، وَالْأَصْلُ فِي الْقِيَاسِ بُطْلَانُ الْإِجَارَةِ، وَأُجِيزَتْ شَرْعًا لِلْحَاجَةِ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ، وَلَا تَعَامُلَ فِي إِجَارَةِ الْأَشْجَارِ الْمُجَرَّدَةِ، فَبَقِيَ الْإِذْنُ.

أَمَّا لَوْ تَرَكَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِمَا زَادَ فِي ذَاتِهِ، لِحُصُولِهِ بِجِهَةِ مَحْظُورِهِ، وَهِيَ حُصُولُهَا بِقُوَّةِ الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، فَيُقَوَّمُ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ وَبَعْدَهُ، وَيَتَصَدَّقُ بِفَضْلِ مَا بَيْنَهُمَا.

أَمَّا إِذَا اشْتَرَى الثَّمَرَةَ بَعْدَمَا تَنَاهَى عِظَمُهَا، وَتَرَكَهَا، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ هَذَا تَغَيُّرُ حَالَةٍ، لَا تَحَقُّقُ زِيَادَةٍ.

هَلْ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ بَيْعِ الثَّمَرِ بُدُوُّ صَلَاحِ كُلِّهِ؟

79- يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِوَجْهٍ عَامٍّ، أَنَّهُ يَكْفِي لِصِحَّةِ الْبَيْعِ بُدُوُّ صَلَاحِ بَعْضِهِ- وَإِنْ قَلَّ- لِبَيْعِ كُلِّهِ، بِشَرْطِ اتِّحَادِ الْعَقْدِ وَالْجِنْسِ وَالْبُسْتَانِ، وَالْحَمْلِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ- كَالشَّافِعِيَّةِ- أَوِ الْجِنْسِ عِنْدَ آخَرِينَ- كَالْمَالِكِيَّةِ- وَإِنْ شَرَطَ بَعْضُهُمْ خِلَافًا لآِخَرِينَ صَلَاحَ كُلِّهِ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ إِلاَّ بَيْعُ مَا بَدَا صَلَاحُهُ.وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا: إِنْ كَانَتْ شَجَرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَبَدَا الصَّلَاحُ فِي بَعْضِ ثَمَرِهَا، جَازَ بَيْعُ جَمِيعِهَا بِذَلِكَ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ اخْتِلَافًا.

ثَانِيًا: وَإِنْ بَدَا الصَّلَاحُ فِي شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُ سَائِرِ مَا فِي الْبُسْتَانِ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:

الْأَوَّلُ: مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَمِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ جَمِيعِ الثَّمَرِ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ، وَوَجْهُهُ: - أَنَّهُ بَدَا الصَّلَاحُ مِنْ نَوْعِهِ مِنَ الْبُسْتَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَجَازَ بَيْعُ جَمِيعِهِ، كَالشَّجَرَةِ الْوَاحِدَةِ.

- وَأَنَّ اعْتِبَارَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ فِي جَمِيعِهِ يَشُقُّ، وَيُؤَدِّي إِلَى الِاشْتِرَاكِ وَاخْتِلَافِ الْأَيْدِي، فَوَجَبَ أَنْ يَتْبَعَ الَّذِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ مَا بَدَا صَلَاحُهُ.

وَالْمَالِكِيَّةُ شَرَطُوا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، أَنْ لَا تَكُونَ النَّخْلَةُ بَاكُورَةً، وَهِيَ الَّتِي تَسْبِقُ بِالزَّمَنِ الطَّوِيلِ، بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ مَعَهُ تَتَابُعُ الطَّيِّبِ، فَإِنْ كَانَتْ بَاكُورَةً لَمْ يَجُزْ بَيْعُ ثِمَارِ الْبُسْتَانِ بِطَيِّبِهَا، وَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَحْدَهَا.

الْآخَرُ: هُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ (وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلاَّ بَيْعُ مَا بَدَا صَلَاحُهُ.

لِأَنَّ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ النَّهْيِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ، فَأَشْبَهَ الْجِنْسَ الْآخَرَ، وَأَشْبَهَ الْجِنْسَ الَّذِي فِي الْبُسْتَانِ الْآخَرِ- كَمَا سَيَأْتِي –

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


74-موسوعة الفقه الكويتية (بيع وشرط 1)

بَيْعٌ وَشَرْطٌ -1

1- وَرَدَتْ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ نُصُوصٌ شَرْعِيَّةٌ تُقَرِّرُ لِلْعُقُودِ آثَارَهَا، وَوَرَدَتْ فِيهَا نُصُوصٌ أُخْرَى، بَعْضُهَا عَامٌّ، وَبَعْضُهَا خَاصٌّ، فِيمَا يَتَّصِلُ بِمَبْلَغِ حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي تَعْدِيلِ آثَارِ الْعُقُودِ، بِالْإِضَافَةِ عَلَيْهَا، أَوِ النَّقْصِ مِنْهَا، وَذَلِكَ بِشُرُوطٍ يَشْتَرِطَانِهَا فِي عُقُودِهِمَا.

فَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَرَدَ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}.

وَفِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَرَدَ حَدِيثُ: «...الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إِلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا» وَفِي رِوَايَةٍ: «عِنْدَ شُرُوطِهِمْ»، وَحَدِيثُ: «مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ»، وَحَدِيثُ: «مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ» أَيْ لَيْسَ فِيمَا كَتَبَهُ اللَّهُ وَأَوْجَبَهُ فِي شَرِيعَتِهِ الَّتِي شَرَعَهَا.وَحَدِيثُ: عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، «عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ: نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ».

فَهَذِهِ النُّصُوصُ- فِي مَجْمُوعِهَا- تُشِيرُ إِلَى أَنَّ هُنَاكَ: شُرُوطًا مُبَاحَةً لِلْمُتَعَاقِدِينَ، يَتَخَيَّرُونَ مِنْهَا مَا يَشَاءُونَ لِلِالْتِزَامِ بِهَا فِي عُقُودِهِمَا، وَشُرُوطًا مَحْظُورَةً، لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي اشْتِرَاطِهَا فِي عُقُودِهِمَا، لِمَا أَنَّهَا تُنَاقِضُ الْمَقْصُودَ، أَوْ تُخَالِفُ الْقَوَاعِدَ الْعَامَّةَ الشَّرْعِيَّةَ، أَوْ تُصَادِمُ مَقْصِدًا مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ.

وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ فِي الْبَيْعِ وَالشَّرْطِ، كُلُّ مَذْهَبٍ عَلَى حِدَةٍ لِلِاخْتِلَافِ الشَّدِيدِ بَيْنَهَا فِي ذَلِكَ.

أَوَّلًا: مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:

2- وَضَعَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الضَّابِطَ لِلشَّرْطِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، الَّذِي يُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَهُوَ: كُلُّ شَرْطٍ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَلَا يُلَائِمُهُ وَفِيهِ نَفْعٌ لِأَحَدِهِمَا، أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ، أَوْ لِمَبِيعٍ هُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَمْ يَجْرِ الْعُرْفُ بِهِ.وَلَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِجَوَازِهِ.

3- أَمَّا إِذَا كَانَ الشَّرْطُ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، أَيْ يَجِبُ بِالْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، فَإِنَّهُ يَقَعُ صَحِيحًا، وَلَا يُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ.كَمَا إِذَا اشْتَرَى بِشَرْطِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْمَبِيعَ، أَوْ بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الثَّمَنَ، أَوْ بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، أَوِ اشْتَرَى عَلَى أَنْ يُسَلَّمَ إِلَيْهِ الْمَبِيعُ، أَوِ اشْتَرَى دَابَّةً عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا، أَوْ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَلْبَسَهُ، أَوْ حِنْطَةً فِي سُنْبُلِهَا وَشَرَطَ الْحَصَادَ عَلَى الْبَائِعِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، فَكَانَ ذِكْرُهَا فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ تَقْرِيرًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَلَا تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ.

4- وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الشَّرْطُ مُلَائِمًا لِلْعَقْدِ، بِأَنْ يُؤَكِّدَ مُوجَبَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَلَوْ كَانَ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، لِأَنَّهُ يُقَرِّرُ حُكْمَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَيُؤَكِّدُهُ، فَيُلْتَحَقُ بِالشَّرْطِ الَّذِي هُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ، كَشَرْطِ رَهْنٍ مَعْلُومٍ بِالْإِشَارَةِ أَوِ التَّسْمِيَةِ، وَشَرْطِ كَفِيلٍ حَاضِرٍ قَبْلَ الْكَفَالَةِ، أَوْ غَائِبٍ فَحَضَرَ وَقَبِلَهَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ.

وَاشْتِرَاطُ الْحَوَالَةِ كَالْكَفَالَةِ، فَلَوْ بَاعَ عَلَى أَنْ يُحِيلَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ عَلَى غَيْرِهِ بِالثَّمَنِ، قَالُوا: فَسَدَ قِيَاسًا، وَجَازَ اسْتِحْسَانًا.

لَكِنَّ الْكَاسَانِيَّ اعْتَبَرَ شَرْطَ الْحَوَالَةِ مُفْسِدًا، لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَلَا يُقَرِّرُ مُوجَبَهُ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إِبْرَاءٌ عَنِ الثَّمَنِ وَإِسْقَاطٌ لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ مُلَائِمًا لِلْعَقْدِ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ وَالرَّهْنِ.

5- وَيَشْمَلُ شَرْطُ الْمَنْفَعَةِ عِنْدَهُمْ مَا يَأْتِي:

أ- أَنْ يَكُونَ شَرْطُ الْمَنْفَعَةِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ: كَمَا إِذَا بَاعَ دَارًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا الْبَائِعُ شَهْرًا، ثُمَّ يُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ، أَوْ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا سَنَةً، أَوْ دَابَّةً عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا شَهْرًا، أَوْ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَلْبَسَهُ أُسْبُوعًا، أَوْ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ الْمُشْتَرِي قَرْضًا، أَوْ عَلَى أَنْ يَهَبَهُ هِبَةً، أَوْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ، أَوْ يَبِيعَ مِنْهُ كَذَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ، أَوِ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَخِيطَهُ الْبَائِعُ قَمِيصًا، أَوْ حِنْطَةً عَلَى أَنْ يَطْحَنَهَا، أَوْ ثَمَرَةً عَلَى أَنْ يَجُذَّهَا، أَوْ شَيْئًا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ عَلَى أَنْ يَحْمِلَهُ الْبَائِعُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.

فَالْبَيْعُ فِي هَذَا كُلِّهِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ مَنْفَعَةٍ مَشْرُوطَةٍ فِي الْبَيْعِ تَكُونُ رِبًا، لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الرِّبَا، وَالْبَيْعُ الَّذِي فِيهِ الرِّبَا فَاسِدٌ، أَوْ فِيهِ شُبْهَةُ الرِّبَا، وَإِنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْبَيْعِ، كَحَقِيقَةِ الرِّبَا.

ب- وَيَشْمَلُ مَا إِذَا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ لِأَجْنَبِيٍّ، كَمَا إِذَا بَاعَ سَاحَةً عَلَى أَنْ يَبْنِيَ فِيهَا مَسْجِدًا، أَوْ طَعَامًا عَلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، فَهُوَ فَاسِدٌ، وَإِنْ يَكُنْ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلَانِ فِي اشْتِرَاطِ الْقَرْضِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ لِأَجْنَبِيٍّ.

ج- وَيَشْمَلُ مَا إِذَا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ بَاعَ جَارِيَةً عَلَى أَنْ يُوصِيَ الْمُشْتَرِي بِعِتْقِهَا، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْمَبِيعِ، وَإِنَّهُ مُفْسِدٌ.وَكَذَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.وَكَذَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبِيعَهَا أَوْ لَا يَهَبَهَا، لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ يَسُرُّهُ أَنْ لَا تَتَدَاوَلَهُ الْأَيْدِي.وَرَوَى الْحَسَنُ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ جَوَازَ اشْتِرَاطِ الْإِعْتَاقِ عَلَى الْمُشْتَرِي.

أَمَّا مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِأَحَدٍ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ، وَلَا يُوجِبُ الْفَسَادَ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ، أَوْ لَا يَهَبَهُ، أَوْ بَاعَهُ دَابَّةً عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَهَا، أَوْ طَعَامًا عَلَى أَنْ يَأْكُلَهُ وَلَا يَبِيعَهُ، فَهَذَا شَرْطٌ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِأَحَدٍ، فَلَا يُوجِبُ فِي الصَّحِيحِ الْفَسَادَ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الشُّرُوطِ- كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ- لِتَضَمُّنِهَا الرِّبَا بِزِيَادَةِ مَنْفَعَةٍ مَشْرُوطَةٍ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي هَذَا الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِأَحَدٍ، وَلَا مَطَالِبَ لَهُ بِهِ، فَلَا يُؤَدِّي إِلَى الرِّبَا، وَلَا إِلَى الْمُنَازَعَةِ، فَالْعَقْدُ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ.

6- أَمَّا مَا فِيهِ مَضَرَّةٌ لِأَحَدِهِمَا، كَمَا لَوْ بَاعَ الثَّوْبَ بِشَرْطِ أَنْ يَخْرِقَهُ الْمُشْتَرِي، أَوِ الدَّارَ عَلَى أَنْ يُخَرِّبَهَا، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْمَضَرَّةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ.وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ.وَمَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ هُوَ فَسَادُ الْبَيْعِ.

وَمَا لَا مَضَرَّةَ وَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِأَحَدٍ، فَهُوَ جَائِزٌ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى طَعَامًا بِشَرْطِ أَكْلِهِ، أَوْ ثَوْبًا بِشَرْطِ لُبْسِهِ.

7- وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ شَرْطِ الْمَنْفَعَةِ الْمُفْسِدِ، مَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ، وَتَعَامَلَ بِهِ النَّاسُ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِشِرَاءِ حِذَاءٍ بِشَرْطِ أَنْ يَضَعَ لَهُ الْبَائِعُ نَعْلًا (أَوْ كَعْبًا) أَوِ الْقَبْقَابَ بِشَرْطِ أَنْ يُسَمِّرَ لَهُ الْبَائِعُ سَيْرًا، أَوْ صُوفًا مَنْسُوجًا لِيَجْعَلَهُ لَهُ الْبَائِعُ قَلَنْسُوَةً (أَوْ مِعْطَفًا) أَوِ اشْتَرَى قَلَنْسُوَةً بِشَرْطِ أَنْ يَجْعَلَ لَهَا الْبَائِعُ بِطَانَةً مِنْ عِنْدِهِ، أَوْ خُفًّا أَوْ ثَوْبًا خَلَقًا عَلَى أَنْ يُرَقِّعَهُ أَوْ يَرْفُوَهُ لَهُ الْبَائِعُ.

فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنَ الشُّرُوطِ الْجَائِزَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ بِهَا، وَيَلْزَمُ الشَّرْطُ اسْتِحْسَانًا، لِلتَّعَامُلِ الَّذِي جَرَى بِهِ عُرْفُ النَّاسِ.

وَالْقِيَاسُ فَسَادُهُ- كَمَا يَقُولُ زُفَرُ- لِأَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ لَا يَقْتَضِيهَا الْعَقْدُ، وَفِيهَا نَفْعٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَهُوَ الْمُشْتَرِي هُنَا، لَكِنَّ النَّاسَ تَعَامَلُوهَا، وَبِمِثْلِهِ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ.

8- وَنَصَّ ابْنُ عَابِدِينَ- رحمه الله- عَلَى اعْتِبَارِ الْعُرْفِ الْحَادِثِ.فَلَوْ حَدَثَ عُرْفٌ فِي غَيْرِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فِي بَيْعِ الثَّوْبِ بِشَرْطِ رَفْوِهِ، وَالنَّعْلِ بِشَرْطِ حَذْوِهِ، يَكُونُ مُعْتَبَرًا، إِذَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى الْمُنَازَعَةِ.

وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ- رحمه الله- عَنِ الْمِنَحِ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ اعْتِبَارِ الْعُرْفِ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا عَلَى حَدِيثِ: «نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ» لِأَنَّ الْحَدِيثَ مُعَلَّلٌ بِوُقُوعِ النِّزَاعِ الْمُخْرِجِ لِلْعَقْدِ عَنِ الْمَقْصُودِ بِهِ، وَهُوَ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ، وَالْعُرْفُ يَنْفِي النِّزَاعَ، فَكَانَ مُوَافِقًا لِمَعْنَى الْحَدِيثِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنَ الْمَوَانِعِ إِلاَّ الْقِيَاسُ، وَالْعُرْفُ قَاضٍ عَلَيْهِ.

9- كَمَا يُسْتَثْنَى مِنْ شَرْطِ مُخَالَفَةِ اقْتِضَاءِ الْعَقْدِ، مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، وَهَذَا كَشَرْطِ الْأَجَلِ فِي دَفْعِ الثَّمَنِ، لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَى ذَلِكَ، لَكِنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِئَلاَّ يُفْضِيَ إِلَى النِّزَاعِ.وَكَذَا شَرْطُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ- رضي الله عنه- الْمَعْرُوفِ: «إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ ثُمَّ أَنْتَ بِالْخِيَارِ فِي كُلِّ سِلْعَةٍ ابْتَعْتَهَا ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَإِنْ رَضِيتَ فَأَمْسِكْ، وَإِنْ سَخِطْتَ فَارْدُدْ».

وَقَدْ عَدَّدَ الْحَنَفِيَّةُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ مَوْضِعًا لَا يَفْسُدُ فِيهَا الْبَيْعُ بِالشَّرْطِ.

10- وَهَلْ يُشْتَرَطُ اقْتِرَانُ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ بِالْعَقْدِ؟ وَمَا حُكْمُ التَّنْصِيصِ عَلَى الشَّرْطِ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَمَا حُكْمُ ابْتِنَاءِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ؟

أ- أَمَّا الْتِحَاقُهُ بِالْعَقْدِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عَنِ الْمَجْلِسِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ مُصَحَّحَتَانِ فِي الْمَذْهَبِ: إِحْدَاهُمَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يُلْتَحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَالْأُخْرَى عَنِ الصَّاحِبِينَ- وَهِيَ الْأَصَحُّ- أَنَّهُ لَا يُلْتَحَقُ.

وَأُيِّدَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ: بِمَا لَوْ بَاعَ مُطْلَقًا، ثُمَّ أَجَّلَ الثَّمَنَ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ التَّأْجِيلُ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَبِمَا لَوْ بَاعَا بِلَا شَرْطٍ، ثُمَّ ذَكَرَا الشَّرْطَ عَلَى وَجْهِ الْوَعْدِ، جَازَ الْبَيْعُ، وَلَزِمَ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ، إِذِ الْمَوَاعِيدُ قَدْ تَكُونُ لَازِمَةً، فَيُجْعَلُ لَازِمًا لِحَاجَةِ النَّاسِ.وَبِمَا لَوْ تَبَايَعَا بِلَا ذِكْرِ شَرْطِ (الْوَفَاءِ) ثُمَّ شَرَطَاهُ، يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ بَيْعِ الْوَفَاءِ، إِذِ الشَّرْطُ اللاَّحِقُ يُلْتَحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا عِنْدَ صَاحِبَيْهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِالْتِحَاقِهِ مَجْلِسَ الْعَقْدِ.

ب- وَأَمَّا ابْتِنَاءُ الْعَقْدِ عَلَى الشَّرْطِ الْفَاسِدِ، كَمَا لَوْ شَرَطَا شَرْطًا فَاسِدًا قَبْلَ الْعَقْدِ، ثُمَّ عَقَدَا الْعَقْدَ، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ عَدَمَ فَسَادِ الْعَقْدِ، لَكِنَّهُ حَقَّقَ ابْتِنَاءَ الْفَسَادِ لَوِ اتَّفَقَا عَلَى بِنَاءِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ: بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي بَيْعِ الْهَزْلِ.

وَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ الرَّمْلِيُّ- نَقْلًا عَنْ كُتُبِ الْمَذْهَبِ- فِي رَجُلَيْنِ تَوَاضَعَا عَلَى بَيْعِ الْوَفَاءِ قَبْلَ عَقْدِهِ، وَعَقَدَا الْبَيْعَ خَالِيًا عَنِ الشَّرْطِ: بِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَى مَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ.

ثَانِيًا: مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:

11- فَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الشَّرْطِ الَّذِي يُتَصَوَّرُ حُصُولُهُ عِنْدَ الْبَيْعِ، فَقَالُوا: إِنَّهُ إِمَّا أَنْ لَا يَقْتَضِيَهُ الْعَقْدُ وَيُنَافِيَ الْمَقْصُودَ مِنْهُ.وَإِمَّا أَنْ يُخِلَّ بِالثَّمَنِ.

وَإِمَّا أَنْ يَقْتَضِيَهُ الْعَقْدُ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَقْتَضِيَهُ وَلَا يُنَافِيَهُ.

فَالَّذِي يَضُرُّ بِالْعَقْدِ وَيُبْطِلُهُ هُوَ الشَّرْطُ الَّذِي فِيهِ مُنَاقَضَةُ الْمَقْصُودِ مِنَ الْبَيْعِ، أَوْ إِخْلَالٌ بِالثَّمَنِ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ مَحْمَلُ حَدِيثِ «نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ»، دُونَ الْأَخِيرَيْنِ.

فَمِثَالُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَيُنَافِي الْمَقْصُودَ مِنْهُ- وَوَصَفَهُ ابْنُ جُزَيٍّ: بِاَلَّذِي يَقْتَضِي التَّحْجِيرَ عَلَى الْمُشْتَرِي- أَنْ يَشْتَرِطَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ لَا يَبِيعَ السِّلْعَةَ لِأَحَدٍ أَصْلًا، أَوْ إِلاَّ مِنْ نَفَرٍ قَلِيلٍ، أَوْ لَا يَهَبَهَا، أَوْ لَا يَرْكَبَهَا، أَوْ لَا يَلْبَسَهَا، أَوْ لَا يَسْكُنَهَا، أَوْ لَا يُؤَاجِرَهَا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ إِنْ بَاعَهَا مِنْ أَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِالثَّمَنِ.أَوْ يَشْتَرِطَ الْخِيَارَ إِلَى أَمَدٍ بَعِيدٍ.

فَفِي هَذِهِ الْأَحْوَلِ كُلِّهَا يَبْطُلُ الشَّرْطُ وَالْبَيْعُ.

12- وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ مُنَافَاةِ الشَّرْطِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ بَعْضَ الصُّوَرِ:

الْأُولَى: أَنَّهُ لَوْ طَلَبَ الْبَائِعُ مِنَ الْمُشْتَرِي الْإِقَالَةَ، فَقَالَ لَهُ الْمُشْتَرِي: عَلَى شَرْطٍ إِنْ بِعْتَهَا غَيْرِي فَأَنَا أَحَقُّ بِهَا بِالثَّمَنِ.فَهَذِهِ الصُّورَةُ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ عَدَمِ الْبَيْعِ مِنْ أَحَدٍ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ جَائِزَةٌ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي الْإِقَالَةِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي غَيْرِهَا

الثَّانِيَةُ: أَنْ يَشْتَرِطَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَقِفَ الْمَبِيعَ، أَوْ أَنْ يَهَبَهُ، أَوْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَهَذِهِ مِنَ الْجَائِزَاتِ، لِأَنَّهَا مِنْ أَلْوَانِ الْبِرِّ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّرْعُ.

الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبِيعَ أَمَةً بِشَرْطِ تَنْجِيزِ عِتْقِهَا، فَإِنَّهُ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ مُنَافِيًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَهَذَا لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إِلَى الْحُرِّيَّةِ، بِخِلَافِ اشْتِرَاطِ التَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ، وَاتِّخَاذِ الْأَمَةِ أُمَّ وَلَدٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّضْيِيقِ عَلَى الْمُشْتَرِي.

13- أَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي، وَهُوَ الْإِخْلَالُ بِالثَّمَنِ، فَهُوَ مُصَوَّرٌ بِأَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: الْجَهْلُ بِالثَّمَنِ، وَهَذَا يَتَمَثَّلُ بِالْبَيْعِ بِشَرْطِ السَّلَفِ، أَيِ الْقَرْضِ مِنْ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ.

فَإِنْ كَانَ شَرْطُ السَّلَفِ صَادِرًا مِنَ الْمُشْتَرِي، أَخَلَّ ذَلِكَ بِالثَّمَنِ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى جَهْلٍ فِي الثَّمَنِ، بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ انْتِفَاعَهُ بِالسَّلَفِ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَنِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ.وَإِنْ كَانَ شَرْطُ السَّلَفِ صَادِرًا مِنَ الْبَائِعِ، أَخَلَّ ذَلِكَ بِالثَّمَنِ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى جَهْلٍ فِي الثَّمَنِ، بِسَبَبِ النَّقْصِ؛ لِأَنَّ انْتِفَاعَهُ بِالسَّلَفِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُثَمَّنِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ.

الْآخَرُ: شُبْهَةُ الرِّبَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ السَّلَفِ، يُعْتَبَرُ قَرْضًا جَرَّ نَفْعًا:

فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الْمُقْتَرِضَ، صَارَ الْمُقْرِضُ لَهُ هُوَ الْبَائِعَ، فَيَنْتَفِعُ الْبَائِعُ بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ- وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الْمُقْتَرِضَ، صَارَ الْمُقْرِضُ لَهُ هُوَ الْمُشْتَرِيَ، فَيَنْتَفِعُ الْمُشْتَرِي بِنَقْصِ الثَّمَنِ.

وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ جُزَيٍّ فِي هَذَا الصَّدَدِ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ السَّلَفِ مِنْ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ لَا يَجُوزُ بِإِجْمَاعٍ.

14- أَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، فَهُوَ كَشَرْطِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَالْقِيَامِ بِالْعَيْبِ، وَرَدِّ الْعِوَضِ عِنْدَ انْتِقَاضِ الْبَيْعِ، فَهَذِهِ الْأُمُورُ لَازِمَةٌ دُونَ شَرْطٍ، لِاقْتِضَاءِ الْعَقْدِ إِيَّاهَا، فَشَرْطُهَا تَأْكِيدٌ- كَمَا يَقُولُ الدُّسُوقِيُّ.

15- وَأَمَّا الرَّابِعُ مِنَ الشُّرُوطِ، فَهُوَ كَشَرْطِ الْأَجَلِ الْمَعْلُومِ، وَالرَّهْنِ، وَالْخِيَارِ، وَالْحَمِيلِ (أَيِ الْكَفِيلِ) فَهَذِهِ الشُّرُوطُ لَا تُنَافِي الْعَقْدَ، وَلَا يَقْتَضِيهَا، بَلْ هِيَ مِمَّا تَعُودُ عَلَيْهِ بِمَصْلَحَةٍ، فَإِنْ شُرِطَتْ عُمِلَ بِهَا، وَإِلاَّ فَلَا.

وَصَحَّحُوا اشْتِرَاطَ الرَّهْنِ، وَلَوْ كَانَ غَائِبًا، وَتَوَقُّفَ السِّلْعَةِ حَتَّى يُقْبَضَ الرَّهْنُ الْغَائِبُ.

أَمَّا اشْتِرَاطُ الْكَفِيلِ الْغَائِبِ فَجَائِزٌ إِنْ قَرُبَتْ غَيْبَتُهُ، لَا إِنْ بَعُدَتْ، لِأَنَّهُ قَدْ يَرْضَى وَقَدْ يَأْبَى، فَاشْتُرِطَ فِيهِ الْقُرْبُ.

16- وَقَدْ عَرَضَ ابْنُ جُزَيٍّ لِصُوَرٍ مِنَ الشَّرْطِ، تُعْتَبَرُ اسْتِثْنَاءً، أَوْ ذَاتَ حُكْمٍ خَاصٍّ، مِنْهَا هَذِهِ الصُّورَةُ، وَهِيَ: مَا إِذَا شَرَطَ الْبَائِعُ مَنْفَعَةً لِنَفْسِهِ، كَرُكُوبِ الدَّابَّةِ أَوْ سُكْنَى الدَّارِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، فَإِنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ، وَالشَّرْطَ صَحِيحٌ.

فَيَبْدُو أَنَّ هَذَا كَالِاسْتِثْنَاءِ مِنَ التَّفْصِيلِ الرُّبَاعِيِّ الْمُتَقَدِّمِ.وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ الْمَعْرُوفُ وَهُوَ: «أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ، قَدْ أَعْيَا، فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ.قَالَ: وَلَحِقَنِي النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَدَعَا لِي، وَضَرَبَهُ، فَسَارَ سَيْرًا لَمْ يَسِرْ مِثْلَهُ، فَقَالَ: بِعْنِيهِ، فَقُلْتُ: لَا.ثُمَّ قَالَ: بِعْنِيهِ، فَبِعْتُهُ، وَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلَانَهُ إِلَى أَهْلِي» وَفِي رِوَايَةٍ: «وَشَرَطْتُ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ».

وَيَبْدُو أَنَّ هَذَا شَرْطٌ جَائِزٌ عِنْدَ كَثِيرِينَ، فَقَدْ عَلَّقَ الشَّوْكَانِيُّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ الرُّكُوبِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَجَوَّزَهُ مَالِكٌ إِذَا كَانَتْ مَسَافَةُ السَّفَرِ قَرِيبَةً، وَحَدَّهَا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَقَلَّتِ الْمَسَافَةُ أَمْ كَثُرَتْ.

وَالْحَدِيثُ- وَإِنْ كَانَ فِي الِانْتِفَاعِ الْيَسِيرِ بِالْمَبِيعِ إِذَا كَانَ مِمَّا يُرْكَبُ مِنَ الْحَيَوَانِ- لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَاسُوا عَلَيْهِ الِانْتِفَاعَ الْيَسِيرَ بِكُلِّ مَبِيعٍ بَعْدَ بَيْعِهِ، عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِمْرَارِ، تَيْسِيرًا، نَظَرًا لِحَاجَةِ الْبَائِعِينَ.

17- وَالْجَدِيرُ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، هُوَ أَنَّهُ: إِنْ أُسْقِطَ الشَّرْطُ الْمُخِلُّ بِالْعَقْدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ شَرْطًا يُنَاقِضُ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَيْعِ كَاشْتِرَاطِ عَدَمِ بَيْعِ الْمَبِيعِ، أَمْ كَانَ شَرْطًا يُخِلُّ بِالثَّمَنِ كَاشْتِرَاطِ السَّلَفِ مِنْ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْبَيْعُ.

وَلَا يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الْحَالِ سِوَى أَنْ يَكُونَ الْإِسْقَاطُ مَعَ قِيَامِ السِّلْعَةِ.

فَقَدْ عَلَّلَ الْخَرَشِيُّ صِحَّةَ الْبَيْعِ هُنَا، بِحَذْفِ شَرْطِ السَّلَفِ، بِقَوْلِهِ: لِزَوَالِ الْمَانِعِ.

18- وَهَلْ يَسْتَوِي الْحُكْمُ فِي الْإِسْقَاطِ، فِي مِثْلِ شَرْطِ الْقَرْضِ، بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ؟ قَوْلَانِ لَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ:

أ- فَمَشْهُورُ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ، أَنَّهُ: إِذَا رُدَّ الْقَرْضُ عَلَى الْمُقْرِضِ، وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ، صَحَّ الْبَيْعُ، وَلَوْ بَعْدَ غَيْبَةِ الْمُقْتَرِضِ عَلَى الْقَرْضِ غَيْبَةً يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ.

ب- وَقَوْلُ سَحْنُونٍ وَابْنِ حَبِيبٍ، هُوَ: أَنَّ الْبَيْعَ يُنْقَضُ مَعَ الْغَيْبَةِ عَلَى الْقَرْضِ، وَلَوْ أُسْقِطَ شَرْطُ الْقَرْضِ، لِوُجُودِ مُوجِبِ الرِّبَا بَيْنَهُمَا، أَوْ لِتَمَامِ الرِّبَا بَيْنَهُمَا- كَمَا عَبَّرَ الشَّيْخُ الدَّرْدِيرُ- فَلَا يَنْفَعُ الْإِسْقَاطُ.

وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ عِنْدَ الدَّرْدِيرِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ، وَمَالَ الدُّسُوقِيُّ إِلَى الْآخَرِ، كَمَا يَبْدُو مِنْ كَلَامِهِ وَنَقَلَهُ الْآخَرُ، فَقَدْ حَكَى تَشْهِيرَهُ، وَكَذَا الَّذِي يَبْدُو مِنْ كَلَامِ الْعَدَوِيِّ.

وَهُنَا سُؤَالَانِ يُطْرَحَانِ:

19- السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الَّذِي يَلْزَمُ لَوْ وَقَعَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْقَرْضِ، وَهُوَ الشَّرْطُ الْمُخِلُّ بِالثَّمَنِ، وَفَاتَتِ السِّلْعَةُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، بِمُفَوِّتِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ (كَمَا لَوْ هَلَكَتْ) سَوَاءٌ أَسْقَطَ مُشْتَرِطُ الشَّرْطِ شَرْطَهُ، أَمْ لَمْ يُسْقِطْهُ؟ وَفِي الْجَوَابِ أَقْوَالٌ:

الْأَوَّلُ: وَهَذَا فِي الْمُدَوَّنَةِ- إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُقْرِضُ هُوَ الْمُشْتَرِيَ أَوِ الْبَائِعَ:

أ- فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي أَقْرَضَ الْبَائِعَ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَلْزَمُهُ الْأَكْثَرُ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ، وَمِنَ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْقَبْضِ.فَإِذَا اشْتَرَاهَا بِعِشْرِينَ وَالْقِيمَةُ ثَلَاثُونَ، لَزِمَهُ ثَلَاثُونَ.

ب- وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي أَقْرَضَ الْمُشْتَرِيَ، فَعَلَى الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ الْأَقَلُّ مِنَ الثَّمَنِ وَمِنَ الْقِيمَةِ، فَيَلْزَمُهُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ عِشْرُونَ، لِأَنَّهُ أَقْرَضَ لِيَزْدَادَ، فَعُومِلَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ.

الثَّانِي: يُقَابِلُ الَّذِي فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَهُوَ لُزُومُ الْقِيمَةِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُسَلِّفُ هُوَ الْبَائِعَ أَمِ الْمُشْتَرِيَ.

الثَّالِثُ: أَنَّ تَغْرِيمَ الْمُشْتَرِي الْأَقَلَّ، إِذَا اقْتَرَضَ مِنَ الْبَائِعِ مَحَلُّهُ إِذَا لَمْ يَغِبْ عَلَى مَا اقْتَرَضَهُ، وَإِلاَّ لَزِمَهُ الْقِيمَةُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ.

وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ قِيَمِيًّا، فَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، فَإِنَّمَا يَجِبُ فِيهِ الْمِثْلُ، لِأَنَّهُ كَعَيْنِهِ، فَلَا كَلَامَ لِوَاحِدٍ، فَهُوَ بِمَثَابَةِ مَا لَوْ كَانَ قَائِمًا، وَرُدَّ.بِعَيْنِهِ.

السُّؤَالُ الثَّانِي:

20- مَا الَّذِي يَلْزَمُ، لَوْ وَقَعَ الْبَيْعُ بِشَرْطٍ مُنَاقِضٍ لِلْمَقْصُودِ، وَفَاتَتِ السِّلْعَةُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، سَوَاءٌ أَأُسْقِطَ ذَلِكَ الشَّرْطُ، أَمْ لَمْ يُسْقَطْ؟

قَالُوا: الْحُكْمُ هُوَ: أَنَّ لِلْبَائِعِ الْأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا يَوْمَ الْقَبْضِ وَمِنَ الثَّمَنِ، لِوُقُوعِ الْبَيْعِ بِأَنْقَصَ مِنَ الثَّمَنِ الْمُعْتَادِ، لِأَجْلِ الشَّرْطِ.

ثَالِثًا: مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ:

21- الْتَزَمَ الشَّافِعِيَّةُ نَهْيَ الشَّارِعِ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ.وَالْتَزَمُوا حَدِيثَ ابْنِ عَمْرٍو- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» وَلَمْ يَسْتَثْنُوا إِلاَّ مَا ثَبَتَ اسْتِثْنَاؤُهُ بِالشَّرْعِ، وَقَلِيلًا مِمَّا رَأَوْا أَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ أَوْ مَصَالِحِهِ، فَكَانَ مَذْهَبُهُمْ بِذَلِكَ أَضْيَقَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ.

وَمَعَ ذَلِكَ، فَقَدْ قَسَّمَ بَعْضُهُمُ الشَّرْطَ، فَقَالَ:

الشَّرْطُ إِمَّا أَنْ يَقْتَضِيَهُ مُطْلَقُ الْعَقْدِ، كَالْقَبْضِ وَالِانْتِفَاعِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، أَوْ لَا.

فَالْأَوَّلُ: لَا يَضُرُّ بِالْعَقْدِ.

وَالثَّانِي- وَهُوَ الَّذِي لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ- إِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَصْلَحَةِ الْعَقْدِ، كَشَرْطِ الرَّهْنِ، وَالْإِشْهَادِ وَالْأَوْصَافِ الْمَقْصُودَةِ- مِنَ الْكِتَابَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَالْخِيَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ- أَوْ لَا.

فَالْأَوَّلُ: لَا يُفْسِدُهُ، وَيَصِحُّ الشَّرْطُ نَفْسُهُ.

وَالثَّانِي: - وَهُوَ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِمَصْلَحَةِ الْعَقْدِ- إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ غَرَضٌ يُورِثُ تَنَازُعًا، كَشَرْطِ أَنْ لَا تَأْكُلَ الدَّابَّةُ الْمَبِيعَةُ إِلاَّ كَذَا، فَهُوَ لَاغٍ، وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ.وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ غَرَضٌ يُورِثُ تَنَازُعًا، فَهَذَا هُوَ الْفَاسِدُ الْمُفْسِدُ، كَالْأُمُورِ الَّتِي تُنَافِي مُقْتَضَاهُ، نَحْوِ عَدَمِ الْقَبْضِ، وَعَدَمِ التَّصَرُّفِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَخُلَاصَةُ هَذَا التَّقْسِيمِ:

(1) أَنَّ اشْتِرَاطَ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، أَوْ يَتَعَلَّقُ بِمَصْلَحَتِهِ أَوْ بِصِحَّتِهِ، صَحِيحٌ.

(2) وَأَنَّ اشْتِرَاطَ مَا لَا غَرَضَ فِيهِ لَاغٍ، وَلَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ.

(3) وَأَمَّا اشْتِرَاطُ مَا فِيهِ غَرَضٌ يُورِثُ تَنَازُعًا، فَهُوَ الشَّرْطُ الْمُفْسِدُ، وَذَلِكَ كَاشْتِرَاطِ مَا يُخَالِفُ مُقْتَضَاهُ.

22- وَمِنْ أَهَمِّ مَا نَصُّوا عَلَيْهِ تَطْبِيقًا لِلْحَدِيثَيْنِ وَلِهَذَا التَّقْسِيمِ:

(1) الْبَيْعُ بِشَرْطِ بَيْعٍ، كَأَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الْأَرْضَ بِأَلْفٍ، عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي دَارَكَ بِكَذَا، أَوْ تَشْتَرِيَ مِنِّي دَارِي بِكَذَا، فَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ مُفْسِدٌ، لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ.

(2) الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْقَرْضِ، كَأَنْ يَبِيعَهُ أَرْضَهُ بِأَلْفٍ، بِشَرْطِ أَنْ يُقْرِضَهُ مِائَةً، وَمِثْلُ الْقَرْضِ الْإِجَارَةُ، وَالتَّزْوِيجُ، وَالْإِعَارَةُ.

(3) شِرَاءُ زَرْعٍ بِشَرْطِ أَنْ يَحْصُدَهُ الْبَائِعُ، أَوْ ثَوْبٍ بِشَرْطِ أَنْ يَخِيطَهُ، وَمِنْهُ كَمَا يَقُولُ عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ: شِرَاءُ حَطَبٍ بِشَرْطِ أَنْ يَحْمِلَهُ إِلَى بَيْتِهِ، فَالْمَذْهَبُ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ بُطْلَانُ الشِّرَاءِ، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى شَرْطِ عَمَلٍ فِيمَا لَمْ يَمْلِكْهُ بَعْدُ، وَذَلِكَ فَاسِدٌ، وَلِأَنَّهُ- كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيُّ- شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَالشَّرْطُ فِي الْأَصَحِّ.وَإِنْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ قَوْلَانِ آخَرَانِ فِي هَذِهِ الْجُزْئِيَّةِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَيَلْزَمُ الشَّرْطُ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى بَيْعٌ وَإِجَارَةٌ، وَيُوَزَّعُ الْمُسَمَّى عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ.

وَثَانِيهِمَا: يَبْطُلُ الشَّرْطُ، وَيَصِحُّ الْبَيْعُ بِمَا يُقَابِلُ الْمَبِيعَ مِنَ الْمُسَمَّى.

23- وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مَسَائِلَ مَعْدُودَةً مِنَ النَّهْيِ صَحَّحُوهَا مَعَ الشَّرْطِ وَهِيَ:

أ- الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْأَجَلِ الْمُعَيَّنِ، لقوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}

ب- الْبَيْعُ بِشَرْطِ الرَّهْنِ، وَقَيَّدُوهُ بِالْمَعْلُومِيَّةِ.

ج- الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْكَفِيلِ الْمَعْلُومِ أَيْضًا، لِعِوَضٍ مَا، مِنْ مَبِيعٍ أَوْ ثَمَنٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ، وَذَلِكَ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِمَا فِي مُعَامَلَةِ مَنْ لَا يَرْضَى إِلاَّ بِهِمَا.

د- الْإِشْهَادُ عَلَى جَرَيَانِ الْبَيْعِ، لِلْأَمْرِ بِهِ فِي الْآيَةِ قَالَ تَعَالَى: {وَأُشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}.

هـ- الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، لِثُبُوتِهِ بِحَدِيثِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ، الْمَعْرُوفِ.

24- الْبَيْعُ بِشَرْطِ عِتْقِ الْمَبِيعِ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ عِنْدَ

هُمْ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَصَحُّهَا، أَنَّ الشَّرْطَ صَحِيحٌ، وَالْبَيْعَ صَحِيحٌ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ «عَائِشَةَ- رضي الله عنها-، أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ لِلْعِتْقِ، فَاشْتَرَطُوا وَلَاءَهَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَلَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ شَرْطَ الْوَلَاءِ لَهُمْ، إِذْ قَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ»

وَلِأَنَّ اسْتِعْقَابَ الْبَيْعِ الْعِتْقَ عَهْدٌ فِي شِرَاءِ الْقَرِيبِ، فَاحْتُمِلَ شَرْطُهُ.وَلِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ لِلْعِتْقِ.

عَلَى أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْمُشْتَرِي، دُنْيَا بِالْوَلَاءِ، وَأُخْرَى بِالثَّوَابِ، وَلِلْبَائِعِ بِالتَّسَبُّبِ فِيهِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ وَالْبَيْعَ بَاطِلٌ، كَمَا لَوْ شَرَطَ بَيْعَهُ أَوْ هِبَتَهُ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ.

25- وَمِمَّا اسْتَثْنَاهُ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا مِنَ النَّهْيِ: شَرْطُ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُشْتَرِي مَعَ الْعِتْقِ، فِي أَضْعَفِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَهُمْ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ، لِظَاهِرِ حَدِيثِ بَرِيرَةَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ، «وَقَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام- لِعَائِشَةَ- رضي الله عنها-: وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ».

لَكِنَّ الْأَصَحَّ بُطْلَانُ الشَّرْطِ وَالْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، لِمَا تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ، مِنْ أَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ.

فَأَجَابَ هَؤُلَاءِ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ «وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ» بِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَقَعْ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، وَبِأَنَّهُ خَاصٌّ بِقَضِيَّةِ عَائِشَةَ، وَبِأَنَّ قَوْلَهُ: «لَهُمْ» بِمَعْنَى: عَلَيْهِمْ

26- وَمِمَّا اسْتَثْنَوْهُ أَيْضًا: شَرْطُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعُيُوبِ فِي الْمَبِيعِ، لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ الْبَائِعُ فِيهِ إِلَى شَرْطِ الْبَرَاءَةِ، لِيَثِقَ بِلُزُومِ الْبَيْعِ فِيمَا لَا يَعْلَمُهُ مِنَ الْخَفِيِّ، دُونَ مَا يَعْلَمُهُ، مُطْلَقًا فِي حَيَوَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَالْبَيْعُ مَعَ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ صَحِيحٌ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَصَحَّ الشَّرْطُ أَمْ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُؤَكِّدُ الْعَقْدَ، وَيُوَافِقُ ظَاهِرَ الْحَالِ، وَهُوَ السَّلَامَةُ مِنَ الْعُيُوبِ.

وَتَأَيَّدَ هَذَا بِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: بَاعَ عَبْدًا لَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، بِالْبَرَاءَةِ فَقَالَ لَهُ الْمُشْتَرِي: بِهِ دَاءٌ لَمْ تُسَمِّهِ لِي.فَاخْتَصَمَا إِلَى عُثْمَانَ- رضي الله عنه- فَقَضَى عَلَى ابْنِ عُمَرَ أَنْ يَحْلِفَ: لَقَدْ بَاعَهُ الْعَبْدَ وَمَا بِهِ دَاءٌ يَعْلَمُهُ، فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ، وَارْتَجَعَ الْعَبْدَ، فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ.

قَالُوا: فَدَلَّ قَضَاءُ عُثْمَانَ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ عَلَى جَوَازِ اشْتِرَاطِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعَيْبِ، وَهُوَ مَشْهُورٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، فَصَارَ مِنَ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ.

27- وَمِمَّا اسْتَثْنَوْهُ أَيْضًا:

أ- شَرْطُ نَقْلِ الْمَبِيعِ مِنْ مَكَانِ الْبَائِعِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ.

ب- شَرْطُ قَطْعِ الثِّمَارِ أَوْ تَبْقِيَتِهَا بَعْدَ صَلَاحِهَا وَنُضْجِهَا، فَهُوَ جَائِزٌ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، كَمَا أَنَّهُ جَائِزٌ بَيْعُهَا بَعْدَ النُّضْجِ مُطْلَقًا مِنَ الشَّرْطِ.لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-، «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا».وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَا تَتَبَايَعُوا الثِّمَارَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا»

فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الثَّمَرِ بَعْدَ بَدْوِ صَلَاحِهِ، وَهُوَ صَادِقٌ بِكُلِّ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ: بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَبِشَرْطِ قَطْعِهِ، وَبِشَرْطِ إِبْقَائِهِ.

ج- شَرْطُ أَنْ يَعْمَلَ الْبَائِعُ عَمَلًا مَعْلُومًا فِي الْمَبِيعِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِشَرْطِ أَنْ يَخِيطَهُ الْبَائِعُ، فِي أَضْعَفِ أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ.

د- اشْتِرَاطُ وَصْفٍ مَقْصُودٍ فِي الْمَبِيعِ عُرْفًا، كَكَوْنِ الدَّابَّةِ حَامِلًا أَوْ ذَاتَ لَبَنٍ، فَالشَّرْطُ صَحِيحٌ، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ إِنْ تَخَلَّفَ الشَّرْطُ.قَالُوا: وَوَجْهُ الصِّحَّةِ: أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَتَعَلَّقُ بِمَصْلَحَةِ الْعَقْدِ.

وَلِأَنَّهُ الْتِزَامٌ مَوْجُودٌ عِنْدَ الْعَقْدِ وَلَا يَتَوَقَّفُ الْتِزَامُهُ عَلَى إِنْشَاءِ أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ، ذَاكَ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ الشَّرْطِ، فَلَمْ يَشْمَلْهُ النَّهْيُ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ.

هـ- اشْتِرَاطُ أَنْ لَا يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ.

و- شَرْطُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، لِأَنَّهُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ.

ز- خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِيمَا إِذَا بَاعَ مَا لَمْ يَرَهُ، عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّتِهِ، لِلْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


75-موسوعة الفقه الكويتية (تبرع)

تَبَرُّعٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّبَرُّعُ لُغَةً: مَأْخُوذٌ مِنْ بَرَعَ الرَّجُلُ وَبَرُعَ بِالضَّمِّ أَيْضًا بَرَاعَةً، أَيْ: فَاقَ أَصْحَابَهُ فِي الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ فَهُوَ بَارِعٌ، وَفَعَلْتُ كَذَا مُتَبَرِّعًا أَيْ: مُتَطَوِّعًا، وَتَبَرَّعَ بِالْأَمْرِ: فَعَلَهُ غَيْرَ طَالِبٍ عِوَضًا.

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ، فَلَمْ يَضَعِ الْفُقَهَاءُ تَعْرِيفًا لِلتَّبَرُّعِ، وَإِنَّمَا عَرَّفُوا أَنْوَاعَهُ كَالْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهَا، وَكُلُّ تَعْرِيفٍ لِنَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ يُحَدِّدُ مَاهِيَّتَهُ فَقَطْ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ مَعْنَى التَّبَرُّعِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ تَعْرِيفِهِمْ لِهَذِهِ الْأَنْوَاعِ، لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِ التَّبَرُّعِ بَذْلَ الْمُكَلَّفِ مَالًا أَوْ مَنْفَعَةً لِغَيْرِهِ فِي الْحَالِ أَوِ الْمَآلِ بِلَا عِوَضٍ بِقَصْدِ الْبِرِّ وَالْمَعْرُوفِ غَالِبًا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

التَّطَوُّعُ:

2- التَّطَوُّعُ: اسْمٌ لِمَا شُرِعَ زِيَادَةً عَلَى الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَهُوَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ التَّبَرُّعِ، فَالتَّبَرُّعُ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، وَقَدْ لَا يَكُونُ وَاجِبًا، وَيَكُونُ التَّطَوُّعُ أَيْضًا فِي الْعِبَادَاتِ، وَهِيَ النَّوَافِلُ كُلُّهَا الزَّائِدَةُ عَنِ الْفُرُوضِ وَالْوَاجِبَاتِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلتَّبَرُّعِ:

3- حَثَّ الْإِسْلَامُ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَتَقْدِيمِ الْمَعْرُوفِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَالتَّبَرُّعِ بِأَنْوَاعِهِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنَ الْخَيْرِ، فَيَكُونُ مَشْرُوعًا بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ.

أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ، وَهُوَ كُلُّ مَعْرُوفٍ يُقَدَّمُ لِلْغَيْرِ سَوَاءٌ أَكَانَ بِتَقْدِيمِ الْمَالِ أَمِ الْمَنْفَعَةِ.

وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}

وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى أَعْمَالِ الْخَيْرِ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا.قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ: أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُبْتَاعُ، وَلَا يُورَثُ، وَلَا يُوهَبُ.قَالَ: فَتَصَدَّقَ عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ، وَفِي الْقُرْبَى، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا، غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ.قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مُحَمَّدًا.فَلَمَّا بَلَغْتُ هَذَا الْمَكَانَ: غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ، قَالَ مُحَمَّدٌ: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا».

قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: وَأَنْبَأَنِي مَنْ قَرَأَ هَذَا الْكِتَابَ، أَنَّ فِيهِ: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا.

وَمِنْهَا قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً فِي حَيَاتِكُمْ؛ لِيَجْعَلَهَا لَكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ».

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدِ اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّبَرُّعِ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ.

4- وَالتَّبَرُّعَاتُ أَنْوَاعٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا: تَبَرُّعٌ بِالْعَيْنِ، وَمِنْهَا تَبَرُّعٌ بِالْمَنْفَعَةِ، وَتَكُونُ التَّبَرُّعَاتُ، حَالَّةً أَوْ مُؤَجَّلَةً، أَوْ مُضَافَةً إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالتَّبَرُّعُ بِأَنْوَاعِهِ يَدُورُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ بِأَقْسَامِهِ.

5- وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّبَرُّعَ لَيْسَ لَهُ حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا تَعْتَرِيهِ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ: فَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا، وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا، وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا؛ تَبَعًا، لِحَالَةِ التَّبَرُّعِ وَالْمُتَبَرَّعِ لَهُ وَالْمُتَبَرَّعِ بِهِ.

فَإِنْ كَانَ التَّبَرُّعُ وَصِيَّةً، فَتَكُونُ وَاجِبَةً لِتَدَارُكِ قُرْبَةٍ فَاتَتْهُ كَزَكَاةٍ أَوْ حَجٍّ، وَتَكُونُ مَنْدُوبَةً إِذَا كَانَ وَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءَ وَهِيَ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ، وَتَكُونُ حَرَامًا إِذَا أَوْصَى لِمَعْصِيَةٍ أَوْ بِمُحَرَّمٍ، وَتَكُونُ مَكْرُوهَةً إِذَا أَوْصَى لِفَقِيرٍ أَجْنَبِيٍّ وَلَهُ فَقِيرٌ قَرِيبٌ، وَتَكُونُ مُبَاحَةً إِذَا أَوْصَى بِأَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ لِغَنِيٍّ أَجْنَبِيٍّ وَوَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءُ.

وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي بَاقِي التَّبَرُّعَاتِ كَالْوَقْفِ وَالْهِبَةِ.

أَرْكَانُ التَّبَرُّعِ:

6- التَّبَرُّعُ أَسَاسُهُ الْعَقْدُ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَوَافُرِ أَرْكَانِ الْعَقْدِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَدَدِ هَذِهِ الْأَرْكَانِ.

فَالْجُمْهُورُ يَرَوْنَ أَنَّ لِلتَّبَرُّعِ أَرْبَعَةَ أَرْكَانٍ: مُتَبَرِّعٌ، وَمُتَبَرَّعٌ لَهُ، وَمُتَبَرَّعٌ بِهِ، وَصِيغَةٌ.فَالْمُتَبَرِّعُ هُوَ الْمُوصِي أَوِ الْوَاهِبُ أَوِ الْوَاقِفُ أَوِ الْمُعِيرُ.وَالْمُتَبَرَّعُ لَهُ قَدْ يَكُونُ الْمُوصَى لَهُ أَوِ الْمَوْهُوبَ لَهُ أَوِ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ أَوِ الْمُسْتَعِيرَ.وَالْمُتَبَرَّعُ بِهِ قَدْ يَكُونُ مُوصًى بِهِ أَوْ مَوْهُوبًا أَوْ مَوْقُوفًا أَوْ مُعَارًا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.وَالصِّيغَةُ هِيَ الَّتِي تُنْشِئُ التَّبَرُّعَ وَتُبَيِّنُ إِرَادَةَ الْمُتَبَرِّعِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلِلتَّبَرُّعِ عِنْدَهُمْ رُكْنٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الصِّيغَةُ، وَالْخِلَافُ عِنْدَهُمْ فِيمَا تَتَحَقَّقُ بِهِ هَذِهِ الصِّيغَةُ، وَهَذَا يَخْتَلِفُ تَبَعًا لِنَوْعِ التَّبَرُّعِ.

شُرُوطُ التَّبَرُّعِ:

7- لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ شُرُوطٌ إِذَا تَحَقَّقَتْ كَانَ التَّبَرُّعُ صَحِيحًا.وَإِذَا لَمْ تَتَحَقَّقْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ كَثِيرَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ، فَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُتَبَرِّعِ، وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُتَبَرَّعِ لَهُ، وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُتَبَرَّعِ بِهِ، وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّيغَةِ، وَتَفْصِيلُ شُرُوطِ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ فِي مُصْطَلَحِهِ.

آثَارُ التَّبَرُّعِ:

8- التَّبَرُّعُ إِذَا تَمَّ بِشُرُوطِهِ الشَّرْعِيَّةِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ انْتِقَالُ الْمُتَبَرَّعِ بِهِ إِلَى الْمُتَبَرَّعِ لَهُ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْمُتَبَرَّعِ بِهِ.

فَفِي الْوَصِيَّةِ مَثَلًا يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ مِنَ الْمُوصِي بَعْدَ وَفَاتِهِ إِلَى الْمُوصَى لَهُ بِقَبُولِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُوصَى بِهِ أَعْيَانًا أَمْ مَنَافِعَ، وَفِي الْهِبَةِ يَنْتَقِلُ مِلْكُ الْمَوْهُوبِ مِنَ الْوَاهِبِ إِلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ إِذَا قَبَضَهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَيَتَوَقَّفُ انْتِقَالُهُ عَلَى الْقَبْضِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.وَفِي الْعَارِيَّةِ يَنْتَقِلُ حَقُّ الِانْتِفَاعِ إِلَى الْمُسْتَعِيرِ انْتِقَالًا مُؤَقَّتًا، وَأَمَّا الْوَقْفُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي انْتِقَالِ الْمِلْكِ وَعَدَمِهِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَنَّ الْوَقْفَ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَيَبْقَى عَلَى مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَبْقَى عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ «عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- لَمَّا وَقَفَ أَسْهُمًا لَهُ بِخَيْبَرَ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ- عليه الصلاة والسلام-: حَبِّسْ أَصْلَهَا» فَاسْتَنْبَطُوا مِنْ ذَلِكَ النَّصِّ بَقَاءَ الْمَوْقُوفِ عَلَى مِلْكِ وَاقِفِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ التَّبَرُّعَ يُنْتِجُ أَثَرًا شَرْعِيًّا، وَهُوَ انْتِقَالُ الْمِلْكِ فِي الْعَيْنِ أَوِ الْمَنْفَعَةِ مِنَ الْمُتَبَرِّعِ إِلَى الْمُتَبَرَّعِ لَهُ إِذَا تَمَّ الْعَقْدُ بِشُرُوطِهِ.وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلَاتٌ وَاخْتِلَافٌ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي (عَارِيَّةٌ.هِبَةٌ.وَقْفٌ.وَصِيَّةٌ.إِلَخْ).

مَا يَنْتَهِي بِهِ التَّبَرُّعُ:

9- انْتِهَاءُ التَّبَرُّعِ قَدْ يَكُونُ بِبُطْلَانِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنْ أَحَدٍ، وَقَدْ يَكُونُ بِفِعْلِ التَّبَرُّعِ أَوْ غَيْرِهِ.وَالْأَصْلُ فِي التَّبَرُّعِ عَدَمُ انْتِهَائِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْبِرِّ وَالْمَعْرُوفِ، بِاسْتِثْنَاءِ الْإِعَارَةِ لِأَنَّهَا مُؤَقَّتَةٌ.وَبِاسْتِعْرَاضِ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ فِي انْتِهَاءِ التَّبَرُّعِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الِانْتِهَاءَ يَتَّسِعُ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ التَّبَرُّعِ، وَيَضِيقُ فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ، وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى فَقَدْ يَكُونُ إِنْهَاءُ بَعْضِ التَّبَرُّعَاتِ غَيْرَ مُمْكِنٍ كَالْوَقْفِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ أَمْرًا حَتْمِيًّا كَالْإِعَارَةِ.

وَتَفْصِيلُ مَا يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِهِ.

- رحمهم الله-

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


76-موسوعة الفقه الكويتية (تخدير)

تَخْدِيرٌ

التَّعْرِيفُ

1- الْخَدَرُ- بِالتَّحْرِيكِ- اسْتِرْخَاءٌ يَغْشَى بَعْضَ الْأَعْضَاءِ أَوِ الْجَسَدَ كُلَّهُ.وَالْخَدَرُ: الْكَسَلُ وَالْفُتُورُ.

وَخَدَّرَ الْعُضْوَ تَخْدِيرًا: جَعَلَهُ خَدِرًا، وَحَقَنَهُ بِمُخَدِّرٍ لِإِزَالَةِ إِحْسَاسِهِ

وَيُقَالُ: خَدَّرَهُ الشَّرَابُ وَخَدَّرَهُ الْمَرَضُ

وَالْمُخَدِّرُ: مَادَّةٌ تُسَبِّبُ فِي الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ فِقْدَانَ الْوَعْيِ بِدَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ، كَالْبَنْجِ وَالْحَشِيشِ وَالْأَفْيُونِ، وَالْجَمْعُ مُخَدِّرَاتٌ، وَهِيَ مُحْدَثَةٌ.وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِلتَّخْدِيرِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّفْتِيرُ:

2- فَتَرَ عَنِ الْعَمَلِ فُتُورًا: انْكَسَرَتْ حِدَّتُهُ وَلَانَ بَعْدَ شِدَّتِهِ، وَمِنْهُ: فَتَرَ الْحَرُّ إِذَا انْكَسَرَ، فَيَكُونُ التَّفْتِيرُ تَكْسِيرًا لِلْحِدَةِ، وَتَلْيِينًا بَعْدَ الشِّدَّةِ.وَعَلَى هَذَا فَالتَّفْتِيرُ أَعَمُّ مِنَ التَّخْدِيرِ؛ إِذِ التَّخْدِيرُ نَوْعٌ مِنَ التَّفْتِيرِ.

ب- الْإِغْمَاءُ:

3- أُغْمِيَ عَلَيْهِ: عَرَضَ لَهُ مَا أَفْقَدَهُ الْحِسَّ وَالْحَرَكَةَ.وَالْإِغْمَاءُ: فُتُورٌ غَيْرُ أَصْلِيٍّ يُزِيلُ عَمَلَ الْقُوَى لَا بِمُخَدِّرٍ.

فَالتَّخْدِيرُ مُبَايِنٌ لِلْإِغْمَاءِ.

ج- الْإِسْكَارُ:

4- أَسْكَرَهُ الشَّرَابُ أَزَالَ عَقْلَهُ، فَالْإِسْكَارُ: إِزَالَةُ الشَّرَابِ لِلْعَقْلِ دُونَ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ، فَيَكُونُ التَّخْدِيرُ أَعَمَّ مِنَ الْإِسْكَارِ.

وَهُنَاكَ أَلْفَاظٌ أُخْرَى لَهَا صِلَةٌ بِالتَّخْدِيرِ كَالْمُفْسِدِ

وَالْمُرَقِّدِ.قَالَ الْحَطَّابُ: فَائِدَةٌ تَنْفَعُ الْفَقِيهَ، يَعْرِفُ بِهَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُسْكِرِ وَالْمُفْسِدِ وَالْمُرَقِّدِ، فَالْمُسْكِرُ: مَا غَيَّبَ الْعَقْلَ دُونَ الْحَوَاسِّ مَعَ نَشْوَةٍ وَفَرَحٍ، وَالْمُفْسِدُ: مَا غَيَّبَ الْعَقْلَ دُونَ الْحَوَاسِّ لَا مَعَ نَشْوَةٍ وَفَرَحٍ كَعَسَلِ الْبَلَادِرِ، وَالْمُرَقِّدُ: مَا غَيَّبَ الْعَقْلَ وَالْحَوَاسَّ كَالسَّكْرَانِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

5- الْمُخَدِّرَاتُ أَنْوَاعٌ مُتَعَدِّدَةٌ تَخْتَلِفُ لِاخْتِلَافِ أُصُولِهَا الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنْهَا.

وَتَنَاوُلُ الْمُخَدِّرَاتِ كَالْحَشِيشَةِ وَالْأَفْيُونِ وَالْقَاتِّ وَالْكُوكَايِينِ وَالْبَنْجِ وَالْكُفْتَةِ وَجَوْزَةِ الطِّيبِ وَالْبُرْشِ وَغَيْرِهَا بِالْمَضْغِ أَوِ التَّدْخِينِ أَوْ غَيْرِهِمَا يَنْتُجُ عَنْهُ تَغْيِيبُ الْعَقْلِ، وَقَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْإِدْمَانِ، مِمَّا يُسَبِّبُ تَدَهْوُرًا فِي عَقْلِيَّةِ الْمُدْمِنِينَ وَصِحَّتِهِمْ، وَتَغَيُّرِ الْحَالِ الْمُعْتَدِلَةِ فِي الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ.

قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: كُلُّ مَا يُغَيِّبُ الْعَقْلَ فَإِنَّهُ حَرَامٌ، وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ بِهِ نَشْوَةٌ وَلَا طَرَبٌ، فَإِنَّ تَغْيِيبَ الْعَقْلِ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ إِلاَّ لِغَرَضٍ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا.

6- وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى حُرْمَةِ تَنَاوُلِ الْمُخَدِّرَاتِ الَّتِي تَغْشَى الْعَقْلَ، وَلَوْ كَانَتْ لَا تُحْدِثُ الشِّدَّةَ الْمُطْرِبَةَ الَّتِي لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا الْمُسْكِرُ الْمَائِعُ.

وَكَمَا أَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ حَرُمَ قَلِيلُهُ مِنَ الْمَائِعَاتِ، كَذَلِكَ يَحْرُمُ مُطْلَقًا مَا يُخَدِّرُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْجَامِدَةِ الْمُضِرَّةِ بِالْعَقْلِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ.

وَذَلِكَ إِذَا تَنَاوَلَ قَدْرًا مُضِرًّا مِنْهَا.دُونَ مَا يُؤْخَذُ مِنْهَا مِنْ أَجْلِ الْمُدَاوَاةِ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا لَيْسَتْ لِعَيْنِهَا، بَلْ لِضَرَرِهَا.

7- وَعَلَى هَذَا يَحْرُمُ تَنَاوُلُ الْبَنْجِ وَالْحَشِيشَةِ وَالْأَفْيُونِ فِي غَيْرِ حَالَةِ التَّدَاوِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُفْسِدٌ لِلْعَقْلِ، فَيُحْدِثُ لِمُتَنَاوِلِهِ فَسَادًا، وَيَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ.لَكِنْ تَحْرِيمُ ذَلِكَ لَيْسَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِنَتَائِجِهِ.

8- وَيَحْرُمُ الْقَدْرُ الْمُسْكِرُ الْمُؤْذِي مِنْ جَوْزَةِ الطِّيبِ، فَإِنَّهَا مُخَدِّرَةٌ، لَكِنْ حُرْمَتُهَا دُونَ حُرْمَةِ الْحَشِيشَةِ.

9- وَذَهَبَ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِيُّ الْحَرَازِيُّ الشَّافِعِيُّ إِلَى تَحْرِيمِ الْقَاتِّ فِي مُؤَلَّفِهِ فِي تَحْرِيمِ الْقَاتِّ.حَيْثُ يَقُولُ: إِنِّي رَأَيْتُ مِنْ أَكْلِهَا الضَّرَرَ فِي بَدَنِي وَدِينِي فَتَرَكْتُ لَهَا، فَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ: أَنَّ الْمُضِرَّاتِ مِنْ أَشْهَرِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَمِنْ ضَرَرِهَا أَنَّ آكِلَهَا يَرْتَاحُ وَيَطْرَبُ وَتَطِيبُ نَفْسُهُ وَيَذْهَبُ حُزْنُهُ، ثُمَّ يَعْتَرِيهِ بَعْدَ سَاعَتَيْنِ مِنْ أَكْلِهِ هُمُومٌ مُتَرَاكِمَةٌ وَغُمُومٌ مُتَزَاحِمَةٌ وَسُوءُ أَخْلَاقٍ.وَكَذَلِكَ ذَهَبَ الْفَقِيهُ حَمْزَةُ النَّاشِرِيُّ إِلَى تَحْرِيمِهِ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفْتِرٍ».

أَدِلَّةُ تَحْرِيمِ الْمُخَدِّرَاتِ:

10- الْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِهَا مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفْتِرٍ».

قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْمُفْتِرُ: كُلُّ مَا يُورِثُ الْفُتُورَ وَالْخَدَرَ فِي الْأَطْرَافِ.قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَشِيشِ بِخُصُوصِهِ، فَإِنَّهَا تُسْكِرُ وَتُخَدِّرُ وَتُفْتِرُ.

وَحَكَى الْقَرَافِيُّ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَشِيشَةِ، قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَمَنِ اسْتَحَلَّهَا فَقَدْ كَفَرَ، وَإِنَّمَا لَمْ تَتَكَلَّمْ فِيهَا الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ- رضي الله عنهم-؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي زَمَنِهِمْ، وَإِنَّمَا ظَهَرَتْ فِي آخِرِ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ وَأَوَّلِ الْمِائَةِ السَّابِعَةِ حِينَ ظَهَرَتْ دَوْلَةُ التَّتَارِ.

طَهَارَةُ الْمُخَدِّرَاتِ وَنَجَاسَتُهَا:

11- الْمُخَدِّرَاتُ الْجَامِدَةُ كُلُّهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ طَاهِرَةٌ غَيْرُ نَجِسَةٍ وَإِنْ حَرُمَ تَعَاطِيهَا، وَلَا تَصِيرُ نَجِسَةً بِمُجَرَّدِ إِذَابَتِهَا فِي الْمَاءِ وَلَوْ قَصَدَ شُرْبَهَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْفِقْهِيَّ أَنَّ نَجَاسَةَ الْمُسْكِرَاتِ مَخْصُوصَةٌ بِالْمَائِعَاتِ مِنْهَا، وَهِيَ الْخَمْرُ الَّتِي سُمِّيَتْ رِجْسًا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَمَا يُلْحَقُ بِهَا مِنْ سَائِرِ الْمُسْكِرَاتِ الْمَائِعَةِ.

بَلْ قَدْ حَكَى ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ الْإِجْمَاعَ عَلَى طَهَارَةِ الْمُخَدِّرَاتِ.

عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْحَنَابِلَةِ رَجَّحَ الْحُكْمَ بِنَجَاسَةِ هَذِهِ الْمُخَدِّرَاتِ الْجَامِدَةِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَوْضُوعِ النَّجَاسَاتِ.

عِلَاجُ مُدْمِنِي الْمُخَدِّرَاتِ:

12- سُئِلَ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ الشَّافِعِيُّ عَمَّنِ ابْتُلِيَ بِأَكْلِ الْأَفْيُونِ وَالْحَشِيشِ وَنَحْوِهِمَا، وَصَارَ إِنْ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ هَلَكَ.فَأَجَابَ: إِنْ عُلِمَ أَنَّهُ يَهْلَكُ قَطْعًا حَلَّ لَهُ، بَلْ وَجَبَ، لِاضْطِرَارِهِ إِلَى إِبْقَاءِ رُوحِهِ، كَالْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّدَرُّجُ فِي تَقْلِيلِ الْكَمِّيَّةِ الَّتِي يَتَنَاوَلُهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، حَتَّى يَزُولَ تَوَلُّعُ الْمَعِدَةِ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَشْعُرَ، قَالَ الرَّمْلِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: وَقَوَاعِدُنَا لَا تُخَالِفُهُ فِي ذَلِكَ.

بَيْعُ الْمُخَدِّرَاتِ وَضَمَانُ إِتْلَافِهَا:

13- لَمَّا كَانَتِ الْمُخَدِّرَاتُ طَاهِرَةً- كَمَا سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ- وَأَنَّهَا قَدْ تَنْفَعُ فِي التَّدَاوِي بِهَا جَازَ بَيْعُهَا لِلتَّدَاوِي عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَضَمِنَ مُتْلِفُهَا، وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْحَشِيشَةَ، فَقَالُوا بِحُرْمَةِ بَيْعِهَا كَابْنِ نُجَيْمٍ الْحَنَفِيِّ، وَذَلِكَ لِقِيَامِ الْمَعْصِيَةِ بِذَاتِهَا، وَذَكَرَ ابْنُ الشِّحْنَةِ أَنَّهُ يُعَاقَبُ بَائِعُهَا، وَصَحَّحَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ نَجَاسَتَهَا وَأَنَّهَا كَالْخَمْرِ، وَبَيْعُ الْخَمْرِ لَا يَصِحُّ فَكَذَا الْحَشِيشَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ.

أَمَّا إِذَا كَانَ بَيْعُهَا لَا لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ كَالتَّدَاوِي، فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الْمُخَدِّرَاتِ لِمَنْ يَعْلَمُ أَوْ يَظُنُّ تَنَاوُلَهُ لَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُحَرَّمِ، وَلَا يَضْمَنُ مُتْلِفُهَا، خِلَافًا لِلشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَيِ الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ أَنَّ الْبَيْعَ مَكْرُوهٌ وَيَضْمَنُ مُتْلِفُهَا.

تَصَرُّفَاتُ مُتَنَاوِلِ الْمُخَدِّرَاتِ:

14- إِنَّ مُتَنَاوِلَ الْقَدْرِ الْمُزِيلِ لِلْعَقْلِ مِنَ الْمُخَدِّرَاتِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلتَّدَاوِي أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ لِلتَّدَاوِي فَإِنَّ تَصَرُّفَاتِهِ لَا تَصِحُّ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ زَوَالُ الْعَقْلِ بِتَنَاوُلِ الْمُخَدِّرَاتِ لَا لِلتَّدَاوِي، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ مُخْتَلِفُونَ فِيمَا يَصِحُّ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ وَمَا لَا يَصِحُّ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ صَحِيحَةٌ إِذَا اسْتَعْمَلَ الْأَفْيُونَ لِلَّهْوِ؛ لِكَوْنِهِ مَعْصِيَةً، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الرِّدَّةَ وَالْإِقْرَارَ بِالْحُدُودِ وَالْإِشْهَادَ عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ الْأَرْضَ مِنَ السَّمَاءِ، أَمَّا إِذَا كَانَ يَعْرِفُ ذَلِكَ فَهُوَ كَالصَّاحِي، فَكُفْرُهُ صَحِيحٌ، وَكَذَلِكَ طَلَاقُهُ وَعَتَاقُهُ وَخُلْعُهُ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي الْحَشِيشَةِ وَالسُّكْرِ بِهَا: فَلَمَّا ظَهَرَ مِنْ أَمْرِهَا- أَيِ الْحَشِيشَةِ- مِنَ الْفَسَادِ كَثِيرٌ وَفَشَا، عَادَ مَشَايِخُ الْمَذْهَبَيْنِ- الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ- إِلَى تَحْرِيمِهَا وَأَفْتَوْا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَا.

وَزَادَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ زَوَالَ الْعَقْلِ إِذَا كَانَ بِالْبَنْجِ وَالْأَفْيُونِ، وَكَانَ لِلتَّدَاوِي- أَيْ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ- أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ زَجْرًا وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ طَلَاقِهِ وَعِتْقِهِ وَتَلْزَمُهُ الْحُدُودُ وَالْجِنَايَاتُ عَلَى نَفْسٍ وَمَالٍ، بِخِلَافِ عُقُودِهِ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَإِجَارَةٍ وَنِكَاحٍ وَإِقْرَارَاتٍ فَلَا تَصِحُّ وَلَا تَلْزَمُ عَلَى الْمَشْهُورِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ جَمِيعِ تَصَرُّفَاتِهِ؛ لِعِصْيَانِهِ بِسَبَبِ زَوَالِ عَقْلِهِ، فَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ.

وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ تَنَاوُلَ الْبَنْجِ وَنَحْوِهِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ- إِذَا زَالَ الْعَقْلُ بِهِ كَالْمَجْنُونِ- لَا يَقَعُ طَلَاقُ مَنْ تَنَاوَلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا لَذَّةَ فِيهِ، وَفَرَّقَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّكْرَانِ فَأَلْحَقَهُ بِالْمَجْنُونِ، وَقَدَّمَهُ فِي «النَّظْمِ» «وَالْفُرُوعِ» وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: وَطَلَاقُ الزَّائِلِ الْعَقْلِ بِلَا سُكْرٍ لَا يَقَعُ.قَالَ الزَّرْكَشِيُّ- مِنَ الْحَنَابِلَةِ- وَمِمَّا يُلْحَقُ بِالْبَنْجِ الْحَشِيشَةُ الْخَبِيثَةُ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ يَرَى أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الشَّرَابِ الْمُسْكِرِ حَتَّى فِي إِيجَابِ الْحَدِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ أَسْكَرَتْ، أَوْ أَسْكَرَ كَثِيرُهَا وَإِلاَّ حَرُمَتْ، وَعُزِّرَ فَقَطْ فِيهَا.

عُقُوبَةُ مُتَنَاوِلِ الْمُخَدِّرَاتِ:

15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مُتَنَاوِلَ الْمُخَدِّرَاتِ لِلتَّدَاوِي وَلَوْ زَالَ عَقْلُهُ لَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِ، مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ.أَمَّا إِذَا تَنَاوَلَ الْقَدْرَ الْمُزِيلَ لِلْعَقْلِ بِدُونِ عُذْرٍ فَإِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ أَيْضًا عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ- إِلاَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي إِيجَابِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ سَكِرَ مِنَ الْحَشِيشَةِ، مُفَرِّقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْمُخَدِّرَاتِ.بِأَنَّ الْحَشِيشَةَ تُشْتَهَى وَتُطْلَبُ بِخِلَافِ الْبَنْجِ، فَالْحُكْمُ عِنْدَهُ مَنُوطٌ بِاشْتِهَاءِ النَّفْسِ.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا عَلَى تَعْزِيرِ مُتَنَاوِلِ الْمُخَدِّرَاتِ بِدُونِ عُذْرٍ، لَكِنْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأَفْيُونَ وَغَيْرَهُ إِذَا أُذِيبَ وَاشْتَدَّ وَقُذِفَ بِالزُّبْدِ، فَإِنَّهُ يُلْحَقُ بِالْخَمْرِ فِي النَّجَاسَةِ وَالْحَدِّ، كَالْخُبْزِ إِذَا أُذِيبَ وَصَارَ كَذَلِكَ، بَلْ أَوْلَى.

وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ عُقُوبَةَ مُتَنَاوِلِ الْمُخَدِّرَاتِ بِمَا إِذَا لَمْ يَصِلْ إِلَى حَالَةٍ تُلْجِئُهُ إِلَى ذَلِكَ كَمَا سَبَقَ، فَإِنْ وَصَلَ إِلَى تِلْكَ الْحَالَةِ لَا يُعَزَّرُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِقْلَاعُ عَنْهُ إِمَّا بِاسْتِعْمَالِ ضِدِّهِ أَوْ تَقْلِيلِهِ تَدْرِيجِيًّا.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


77-موسوعة الفقه الكويتية (تصحيح 1)

تَصْحِيحٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- التَّصْحِيحُ لُغَةً: مَصْدَرُ صَحَّحَ، يُقَالُ: صَحَّحْتُ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ تَصْحِيحًا: إِذَا أَصْلَحْتَ خَطَأَهُ، وَصَحَّحْتَهُ فَصَحَّ.

وَالتَّصْحِيحُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ هُوَ: الْحُكْمُ عَلَى الْحَدِيثِ بِالصِّحَّةِ، إِذَا اسْتَوْفَى شَرَائِطَ الصِّحَّةِ الَّتِي وَضَعَهَا الْمُحَدِّثُونَ.

وَيُطْلَقُ التَّصْحِيحُ أَيْضًا عِنْدَهُمْ عَلَى كِتَابَةِ (صَحَّ) عَلَى كَلَامٍ يَحْتَمِلُ الشَّكَّ بِأَنْ كُرِّرَ لَفْظٌ مَثَلًا لَا يُخِلُّ تَرْكُهُ.

وَالتَّصْحِيحُ عِنْدَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ: إِزَالَةُ الْكُسُورِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ السِّهَامِ وَالرُّءُوسِ.

وَالتَّصْحِيحُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ: رَفْعُ أَوْ حَذْفُ مَا يُفْسِدُ الْعِبَادَةَ أَوِ الْعَقْدَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّعْدِيلُ:

2- التَّعْدِيلُ: مَصْدَرُ عَدَّلَ، يُقَالُ: عَدَّلْتُ الشَّيْءَ تَعْدِيلًا فَاعْتَدَلَ: إِذَا سَوَّيْتَهُ فَاسْتَوَى.وَمِنْهُ قِسْمَةُ التَّعْدِيلِ.وَعَدَّلْتُ الشَّاهِدَ: نَسَبْتَهُ إِلَى الْعَدَالَةِ.وَتَعْدِيلُ الشَّيْءِ: تَقْوِيمُهُ.

ب- التَّصْوِيبُ:

3- التَّصْوِيبُ: مَصْدَرُ صَوَّبَ مِنَ الصَّوَابِ، الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْخَطَأِ، وَالتَّصْوِيبُ بِهَذَا الْمَعْنَى يُرَادِفُ التَّصْحِيحَ، وَصَوَّبْتَ قَوْلَهُ: قُلْتَ: إِنَّهُ صَوَابٌ.

ج- التَّهْذِيبُ:

4- التَّهْذِيبُ كَالتَّنْقِيَةِ، يُقَالُ: هَذَّبَ الشَّيْءَ، إِذَا نَقَّاهُ وَأَخْلَصَهُ.وَقِيلَ: أَصْلَحَهُ.

د- الْإِصْلَاحُ:

5- الْإِصْلَاحُ ضِدُّ الْإِفْسَادِ، وَأَصْلَحَ الشَّيْءَ بَعْدَ فَسَادِهِ: أَقَامَهُ، وَأَصْلَحَ الدَّابَّةَ: أَحْسَنَ إِلَيْهَا.

هـ- التَّحْرِيرُ:

6- تَحْرِيرُ الْكِتَابَةِ: إِقَامَةُ حُرُوفِهَا وَإِصْلَاحُ السَّقْطِ وَتَحْرِيرُ الْحِسَابِ: إِثْبَاتُهُ مُسْتَوِيًا لَا غَلَتَ فِيهِ، وَلَا سَقْطَ وَلَا مَحْوَ.وَتَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ: عِتْقُهَا.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

7- تَصْحِيحُ الْفَسَادِ وَالْخَطَأِ أَمْرٌ وَاجِبٌ شَرْعًا مَتَى عَرَفَهُ الْإِنْسَانُ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ: كَمَنْ اجْتَهَدَ فِي مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ وَصَلَّى، ثُمَّ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ، فَيَجِبُ تَصْحِيحُ هَذَا الْخَطَأِ بِالِاتِّجَاهِ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَإِلاَّ فَسَدَتِ الصَّلَاةُ.أَمْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمُعَامَلَاتِ: كَالْبَيْعِ بِشَرْطٍ مُفْسِدٍ لِلْعَقْدِ، فَيَجِبُ إِسْقَاطُ هَذَا الشَّرْطِ لِيَصِحَّ الْبَيْعُ، وَإِلاَّ وَجَبَ فَسْخُ الْبَيْعِ دَفْعًا لِلْفَسَادِ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّصْحِيحِ مِنْ أَحْكَامٍ:

أَوَّلًا: تَصْحِيحُ الْحَدِيثِ:

8- تَصْحِيحُ الْحَدِيثِ هُوَ: الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ لِتَوَافُرِ شُرُوطٍ خَاصَّةٍ اشْتَرَطَهَا عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ.وَقَدْ يَخْتَلِفُ الْمُحَدِّثُونَ فِي صِحَّةِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ، وَفِي تَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ.

فَقَدْ قَرَّرَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُ يُحْكَمُ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ الْمُسْنَدِ الَّذِي يَتَّصِلُ إِسْنَادُهُ بِنَقْلِ الْعَدْلِ الضَّابِطِ عَنِ الْعَدْلِ الضَّابِطِ إِلَى مُنْتَهَاهُ، وَلَا يَكُونُ شَاذًّا وَلَا مُعَلَّلًا.

قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: فَهَذَا هُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي يُحْكَمُ لَهُ بِالصِّحَّةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ.فَإِذَا وُجِدَتِ الشُّرُوطُ الْمَذْكُورَةُ حُكِمَ لِلْحَدِيثِ بِالصِّحَّةِ، مَا لَمْ يَظْهَرْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِ شُذُوذًا.وَالْحُكْمُ بِتَوَاتُرِ الْحَدِيثِ حُكْمٌ بِصِحَّتِهِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ: يُحْكَمُ لِلْحَدِيثِ بِالصِّحَّةِ إِذَا تَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالْقَبُولِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ- لَمَّا حَكَى عَنِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ صَحَّحَ حَدِيثَ الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَأَهْلُ الْحَدِيثِ لَا يُصَحِّحُونَ مِثْلَ إِسْنَادِهِ- لَكِنَّ الْحَدِيثَ عِنْدِي صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرايِينِيُّ: تُعْرَفُ صِحَّةِ الْحَدِيثِ إِذَا اشْتَهَرَ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ بِغَيْرِ

نَكِيرٍ مِنْهُمْ.وَقَالَ نَحْوَهُ ابْنُ فُورَكٍ.

عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَنِ اشْتَرَطَ غَيْرَ ذَلِكَ لِلْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، كَاشْتِرَاطِ الْحَاكِمِ أَنْ يَكُونَ رَاوِي الْحَدِيثِ مَشْهُورًا بِالطَّلَبِ (أَيْ طَلَبِ الْحَدِيثِ وَتَتَبُّعِ رِوَايَاتِهِ) وَعَنْ مَالِكٍ نَحْوُهُ، وَكَاشْتِرَاطِ أَبِي حَنِيفَةَ فِقْهَ الرَّاوِي، وَكَاشْتِرَاطِ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ الْعِلْمَ بِمَعَانِي الْحَدِيثِ، حَيْثُ يُرْوَى بِالْمَعْنَى، قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَهُوَ شَرْطٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، لَكِنَّهُ دَاخِلٌ فِي الضَّبْطِ، وَكَاشْتِرَاطِ الْبُخَارِيِّ ثُبُوتَ السَّمَاعِ لِكُلِّ رَاوٍ مِنْ شَيْخِهِ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِإِمْكَانِ اللِّقَاءِ وَالْمُعَاصَرَةِ.

أَثَرُ عَمَلِ الْعَالِمِ وَفُتْيَاهُ فِي التَّصْحِيحِ:

9- قَالَ النَّوَوِيُّ وَالسُّيُوطِيُّ: عَمَلُ الْعَالِمِ وَفُتْيَاهُ عَلَى وَفْقِ حَدِيثٍ رَوَاهُ لَيْسَ حُكْمًا مِنْهُ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ وَلَا بِتَعْدِيلِ رُوَاتِهِ، لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ احْتِيَاطًا، أَوْ لِدَلِيلٍ آخَرَ وَافَقَ ذَلِكَ الْخَبَرَ.وَصَحَّحَ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ حُكْمٌ بِذَلِكَ.

وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَسَالِكِ الِاحْتِيَاطِ (أَيْ لَمْ تَكُنِ الْفُتْيَا بِمُقْتَضَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ، بَلْ لِلِاحْتِيَاطِ).وَفَرَّقَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بَيْنَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ فِي التَّرْغِيبِ وَغَيْرِهِ.

كَمَا أَنَّ مُخَالَفَةَ الْعَالِمِ لِلْحَدِيثِ لَا تُعْتَبَرُ قَدْحًا مِنْهُ فِي صِحَّتِهِ وَلَا فِي رُوَاتِهِ، لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِمَانِعٍ مِنْ مُعَارِضٍ أَوْ غَيْرِهِ.

وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ مَالِكٌ حَدِيثَ الْخِيَارِ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ لِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِخِلَافِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَدْحًا فِي نَافِعٍ رَاوِيهِ.

وَمِمَّا لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ أَيْضًا- كَمَا ذَكَرَ أَهْلُ الْأُصُولِ- مُوَافَقَةُ الْإِجْمَاعِ لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَنَدُ غَيْرَهُ.وَقِيلَ: يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ.

تَصْحِيحُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ:

10- يَرَى الشَّيْخُ ابْنُ الصَّلَاحِ أَنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ التَّصْحِيحُ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَحِّحَ، بَلْ يَقْتَصِرُ فِي الْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ عَلَى مَا اعْتَمَدَهُ السَّابِقُونَ، كَمَا يَرَى عَدَمَ اعْتِبَارِ الْحَدِيثِ صَحِيحًا بِمُجَرَّدِ صِحَّةِ إِسْنَادِهِ مَا لَمْ يُوجَدْ فِي مُصَنَّفَاتِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ الْمُعْتَمَدَةِ الْمَشْهُورَةِ، فَأَغْلَبُ الظَّنِّ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ عِنْدَهُمْ لِمَا أَهْمَلُوهُ لِشِدَّةِ فَحْصِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ.

وَقَدْ خَالَفَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ ابْنَ الصَّلَاحِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي جَوَازُهُ لِمَنْ تَمَكَّنَ وَقَوِيَتْ مَعْرِفَتُهُ.

قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِ الْحَدِيثِ.

وَقَدْ صَحَّحَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَحَادِيثَ لَمْ يُعْرَفْ تَصْحِيحُهُمَا عَنِ الْأَقْدَمِينَ.

ثَانِيًا: تَصْحِيحُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ:

11- الْفُقَهَاءُ عَدَا الْحَنَفِيَّةَ لَا يُفَرِّقُونَ فِي الْجُمْلَةِ بَيْنَ الْعَقْدِ الْبَاطِلِ وَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، فَالْحُكْمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ.فَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ حَذَفَ الْعَاقِدَانِ الْمُفْسِدَ لِلْعَقْدِ- وَلَوْ فِي مَجْلِسِ الْخِيَارِ- لَمْ يَنْقَلِبِ الْعَقْدُ صَحِيحًا، إِذْ لَا عِبْرَةَ بِالْفَاسِدِ.

وَفِي الْمُغْنِي لِابْنِ قُدَامَةَ: لَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ يُسْلِفَهُ أَوْ يُقْرِضَهُ، أَوْ شَرَطَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ وَالْعَقْدُ بَاطِلٌ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَعَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، وَعَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ، وَعَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ».وَلِأَنَّهُ اشْتَرَطَ عَقْدًا فِي عَقْدٍ فَفَسَدَ كَبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا اشْتَرَطَ الْقَرْضَ زَادَ فِي الثَّمَنِ لِأَجْلِهِ، فَتَصِيرُ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ عِوَضًا عَنِ الْقَرْضِ وَرِبْحًا لَهُ، وَذَلِكَ رِبًا مُحَرَّمٌ، فَفَسَدَ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ فَلَا يَعُودُ صَحِيحًا كَمَا لَوْ بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ ثُمَّ تَرَكَ أَحَدَهُمَا.

وَفِي بَابِ الرَّهْنِ قَالَ: لَوْ بَطَلَ الْعَقْدُ لَمَا عَادَ صَحِيحًا.

وَفِي شَرْحِ منتهى الإرادات: الْعَقْدُ الْفَاسِدُ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَصِحُّ الْعَقْدُ إِذَا حُذِفَ الشَّرْطُ الْمُفْسِدُ لِلْعَقْدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ شَرْطًا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، أَمْ كَانَ شَرْطًا يُخِلُّ بِالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، إِلاَّ أَرْبَعَةَ شُرُوطٍ فَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ مَعَهَا وَلَوْ حُذِفَ الشَّرْطُ، وَهِيَ:

أ- مَنِ ابْتَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ عَلَى أَنَّهُ إِنْ مَاتَ فَالثَّمَنُ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَفْسَخُ الْبَيْعَ وَلَوْ أَسْقَطَ هَذَا الشَّرْطَ لِأَنَّهُ غَرَرٌ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ: إِنْ مَاتَ فَلَا يُطَالِبُ الْبَائِعُ وَرَثَتَهُ بِالثَّمَنِ.

ب- شَرْطُ مَا لَا يَجُوزُ مِنْ أَمَدِ الْخِيَارِ، فَيَلْزَمُ فَسْخُهُ وَإِنْ أَسْقَطَ لِجَوَازِ كَوْنِ إِسْقَاطِهِ أَخْذًا بِهِ.

ج- مَنْ بَاعَ أَمَةً وَشَرَطَ عَلَى الْمُبْتَاعِ أَنْ لَا يَطَأَهَا، وَأَنَّهُ إِنْ فَعَلَ فَهِيَ حُرَّةٌ، أَوْ عَلَيْهِ دِينَارٌ مَثَلًا، فَيُفْسَخُ وَلَوْ أَسْقَطَ الشَّرْطَ لِأَنَّهُ يَمِينٌ.

د- شَرْطُ الثُّنْيَا يُفْسِدُ الْبَيْعَ وَلَوْ أَسْقَطَ الشَّرْطَ.

وَزَادَ ابْنُ الْحَاجِبِ شَرْطًا خَامِسًا وَهُوَ:

هـ- شَرْطُ النَّقْدِ (أَيْ تَعْجِيلُ الثَّمَنِ) فِي بَيْعِ الْخِيَارِ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: لَوْ أَسْقَطَ شَرْطَ النَّقْدِ فَلَا يَصِحُّ.

وَفِي الْإِجَارَةِ جَاءَ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: تَفْسُدُ الْإِجَارَةُ بِالشَّرْطِ الَّذِي يُنَاقِضُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَمَحَلُّ الْفَسَادِ إِنْ لَمْ يُسْقِطَ الشَّرْطَ، فَإِنْ أَسْقَطَ الشَّرْطَ صَحَّتْ.

وَيُوَضِّحُ ابْنُ رُشْدٍ سَبَبَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ بِارْتِفَاعِ الْمُفْسِدِ أَوْ عَدَمِ صِحَّتِهِ.فَيَقُولُ: هَلْ إِذَا لَحِقَ الْفَسَادُ بِالْبَيْعِ مِنْ قِبَلِ الشَّرْطِ يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ إِذَا ارْتَفَعَ الشَّرْطُ، أَوْ لَا يَرْتَفِعُ؟ كَمَا لَا يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ اللاَّحِقُ لِلْبَيْعِ الْحَلَالِ مِنْ أَجْلِ اقْتِرَانِ الْمُحَرَّمِ الْعَيْنَ بِهِ، كَمَنْ بَاعَ غُلَامًا بِمِائَةِ دِينَارٍ وَزِقِّ خَمْرٍ، فَلَمَّا عَقَدَ الْبَيْعَ قَالَ: أَدَّعِ الزِّقَّ.وَهَذَا الْبَيْعُ مَفْسُوخٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِإِجْمَاعٍ.

وَهَذَا أَيْضًا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ آخَرَ.هُوَ: هَلْ هَذَا الْفَسَادُ مَعْقُولُ الْمَعْنَى أَوْ غَيْرُ مَعْقُولٍ؟ فَإِنْ قُلْنَا: هُوَ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، لَمْ يَرْتَفِعِ الْفَسَادُ بِارْتِفَاعِ الشَّرْطِ.وَإِنْ قُلْنَا: مَعْقُولٌ، ارْتَفَعَ الْفَسَادُ بِارْتِفَاعِ الشَّرْطِ.

فَمَالِكٌ رَآهُ مَعْقُولًا، وَالْجُمْهُورُ رَأَوْهُ غَيْرَ مَعْقُولٍ، وَالْفَسَادُ الَّذِي يُوجَدُ فِي بُيُوعِ الرِّبَا وَالْغَرَرِ هُوَ أَكْثَرُ ذَلِكَ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ لَيْسَ يَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ أَصْلًا، وَإِنْ تُرِكَ الرِّبَا بَعْدَ الْبَيْعِ وَارْتَفَعَ الْغَرَرُ.

12- وَيُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْعَقْدِ الْبَاطِلِ وَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَيَصِحُّ عِنْدَهُمْ- خِلَافًا لِزُفَرَ- تَصْحِيحُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، بِارْتِفَاعِ الْمُفْسِدِ دُونَ الْبَاطِلِ، وَيَقُولُونَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ: إِنَّ ارْتِفَاعَ الْمُفْسِدِ فِي الْفَاسِدِ يَرُدُّهُ صَحِيحًا، لِأَنَّ الْبَيْعَ قَائِمٌ مَعَ الْفَسَادِ، وَمَعَ الْبُطْلَانِ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا بِصِفَةِ الْبُطْلَانِ، بَلْ كَانَ مَعْدُومًا.

وَعِنْدَ زُفَرَ: الْعَقْدُ الْفَاسِدُ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ.

لَكِنَّ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا كَانَ الْفَسَادُ ضَعِيفًا.يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: الْأَصْلُ عِنْدَنَا أَنَّهُ يُنْظَرُ إِلَى الْفَسَادِ، فَإِنْ كَانَ قَوِيًّا بِأَنْ دَخَلَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ- وَهُوَ الْبَدَلُ أَوِ الْمُبْدَلُ- لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ، كَمَا إِذَا بَاعَ عَبْدًا بأَلْفِ دِرْهَمٍ وَرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ، فَحَطَّ الْخَمْرَ عَنِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ فَاسِدٌ وَلَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا.

وَإِنْ كَانَ الْفَسَادُ ضَعِيفًا، وَهُوَ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، بَلْ فِي شَرْطٍ جَائِزٍ يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ خِيَارٍ لَمْ يُوَقَّتْ، أَوْ وُقِّتَ إِلَى وَقْتٍ مَجْهُولٍ كَالْحَصَادِ، أَوْ لَمْ يُذْكُرِ الْوَقْتُ، وَكَمَا فِي الْبَيْعِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ، فَإِذَا أَسْقَطَ الْأَجَلَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِيهِ قَبْلَ حُلُولِهِ وَقَبْلَ فَسْخِهِ جَازَ الْبَيْعُ لِزَوَالِ الْمُفْسِدِ، وَلَوْ كَانَ إِسْقَاطُ الْأَجَلِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عَلَى مَا حَرَّرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ.

وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ بِسَبَبِ ضَرَرٍ يَلْحَقُ بِالْبَائِعِ فِي التَّسْلِيمِ إِذَا سَلَّمَ الْبَائِعَ بِرِضَاهُ وَاخْتِيَارِهِ- كَمَا إِذَا بَاعَ جِذْعًا لَهُ فِي سَقْفٍ، أَوْ آجُرًّا لَهُ فِي حَائِطٍ، أَوْ ذِرَاعًا فِي دِيبَاجٍ- أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ إِلاَّ بِالنَّزْعِ وَالْقَطْعِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْبَائِعِ، وَالضَّرَرُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ، فَكَانَ هَذَا عَلَى التَّقْدِيرِ بَيْعُ مَا لَا يَجِبُ تَسْلِيمُهُ شَرْعًا، فَيَكُونُ فَاسِدًا.فَإِنْ نَزَعَهُ الْبَائِعُ أَوْ قَطَعَهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَفْسَخَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنَ الْجَوَازِ ضَرَرُ الْبَائِعِ بِالتَّسْلِيمِ، فَإِذَا سَلَّمَ بِاخْتِيَارِهِ وَرِضَاهُ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ، فَجَازَ الْبَيْعُ وَلَزِمَ.

وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ طِبْقًا لِقَاعِدَةِ: إِذَا زَالَ الْمَانِعُ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي عَادَ الْحُكْمُ.

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ فَاسِدَةٌ، فَإِنْ قَسَّمَهُ وَسَلَّمَهُ جَازَ.وَاللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَالصُّوفُ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ، وَالزَّرْعُ وَالنَّخْلُ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّمْرُ فِي النَّخِيلِ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاعِ؛ لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ، وَامْتِنَاعُ الْجَوَازِ لِلِاتِّصَالِ، فَإِذَا فَصَّلَهَا وَسَلَّمَهَا جَازَ لِزَوَالِ الْمَانِعِ.

وَمِثْلُ ذَلِكَ: إِذَا رَهَنَ الْأَرْضَ بِدُونِ الْبِنَاءِ، أَوْ بِدُونِ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ، أَوْ رَهَنَ الزَّرْعَ وَالشَّجَرَ بِدُونِ الْأَرْضِ، أَوْ رَهَنَ الشَّجَرَ بِدُونِ الثَّمَرِ، أَوْ رَهَنَ الثَّمَرَ بِدُونِ الشَّجَرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَرْهُونٍ، وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ.وَلَوْ جُذَّ الثَّمَرُ وَحُصِدَ الزَّرْعُ وَسُلِّمَ مُنْفَصِلًا جَازَ لِزَوَالِ الْمَانِعِ.

تَصْحِيحُ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِهِ عَقْدًا آخَرَ:

13- هَذَا، وَيُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ إِذَا أَمْكَنَ تَحْوِيلُهُ إِلَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ لِتَوَافُرِ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ فِيهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الصِّحَّةُ عَنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، أَمْ عَنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ عِنْدَ الْبَعْضِ الْآخَرِ نَظَرًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِي قَاعِدَةِ (هَلِ الْعِبْرَةُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ مَعَانِيهَا).وَنُوَضِّحُ ذَلِكَ بِالْأَمْثِلَةِ الْآتِيَةِ:

14- فِي الْأَشْبَاهِ لِابْنِ نُجَيْمٍ: الِاعْتِبَارُ لِلْمَعْنَى لَا لِلْأَلْفَاظِ، صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا: الْكَفَالَةُ، فَهِيَ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ حَوَالَةً، وَهِيَ بِشَرْطِ عَدَمِ بَرَاءَتِهِ كَفَالَةً.

وَفِي الِاخْتِيَارِ: شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ يَتَسَاوَى الشَّرِيكَانِ فِي التَّصَرُّفِ وَالدَّيْنِ وَالْمَالِ الَّذِي تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَةُ..فَلَا تَنْعَقِدُ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَإِذَا عَقَدَ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ الْمُفَاوَضَةَ صَارَتْ عِنَانًا عِنْدَهُمَا، لِفَوَاتِ شَرْطِ الْمُفَاوَضَةِ وَوُجُودِ شَرْطِ الْعِنَانِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا فَاتَ مِنْ شَرَائِطِ الْمُفَاوَضَةِ يُجْعَلُ عِنَانًا إِذَا أَمْكَنَ، تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.

وَفِي الِاخْتِيَارِ أَيْضًا: عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ، إِنْ شُرِطَ فِيهِ الرِّبْحُ لِلْمُضَارِبِ فَهُوَ قَرْضٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ رِبْحٍ لَا يُمْلَكُ إِلاَّ بِمِلْكِ رَأْسِ الْمَالِ، فَلَمَّا شُرِطَ لَهُ جَمِيعُ الرِّبْحِ فَقَدْ مَلَّكَهُ رَأْسَ الْمَالِ، وَإِنْ شُرِطَ الرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَالِ كَانَ إِبْضَاعًا، وَهَذَا مَعْنَاهُ عُرْفًا وَشَرْعًا.

وَجَاءَ فِي مِنَحِ الْجَلِيلِ: مَنْ أَحَالَ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَأَعْلَمَ الْمُحَالَ، صَحَّ عَقْدُ الْحَوَالَةِ، فَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ لَمْ تَصِحَّ، وَتَنْقَلِبُ حَمَالَةً أَيْ كَفَالَةً.

وَفِي أَشْبَاهِ السُّيُوطِيِّ: هَلِ الْعِبْرَةُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ مَعَانِيهَا؟ خِلَافٌ.التَّرْجِيحُ مُخْتَلِفٌ فِي الْفُرُوعِ.

وَمِنْ ذَلِكَ: إِذَا قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ غَدًا عَلَى أَلْفٍ.إِنْ قُلْنَا: بَيْعٌ فَسَدَ وَلَا تَجِبُ قِيمَةُ الْعَبْدِ، وَإِنْ قُلْنَا: عِتْقٌ بِعِوَضٍ، صَحَّ وَوَجَبَ الْمُسَمَّى.وَمِنْهَا: لَوْ بَاعَ الْمَبِيعَ لِلْبَائِعِ قَبْلَ قَبْضِهِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ إِقَالَةٌ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَخَرَّجَهُ السُّبْكِيُّ عَلَى الْقَاعِدَةِ، وَالتَّخْرِيجُ لِلْقَاضِي حُسَيْنٍ قَالَ: إِنِ اعْتَبَرْنَا اللَّفْظَ لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا الْمَعْنَى فَإِقَالَةٌ.

ثَالِثًا- تَصْحِيحُ الْعِبَادَةِ إِذَا طَرَأَ عَلَيْهَا مَا يُفْسِدُهَا:

15- مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَطْرَأُ عَلَى الْعِبَادَةِ مَا لَا يُمْكِنُ إِزَالَتُهُ أَوْ تَلَافِيهِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْكَلَامِ وَالْحَدَثِ وَالْجِمَاعِ، فَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يُمْكِنُ تَلَافِيهَا، وَهِيَ تُعْتَبَرُ مِنْ مُفْسِدَاتِ الْعِبَادَةِ فِي الْجُمْلَةِ.هَذَا مَعَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي التَّفْصِيلِ فِيهَا بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَبَيْنَ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ وَالْجَهْلِ، وَمَا هُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ أَوْ غَيْرُ مَعْفُوٍّ عَنْهُ.

فَإِذَا طَرَأَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْعِبَادَةِ فَفَسَدَتْ فِعْلًا- عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ ذَلِكَ مُفْسِدًا- فَلَا مَجَالَ لِتَصْحِيحِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَيَلْزَمُ إِعَادَتُهَا إِنِ اتَّسَعَ وَقْتُهَا، أَوْ قَضَاؤُهَا إِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (إِعَادَةٌ- قَضَاءٌ).

وَالْكَلَامُ هُنَا إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَطْرَأُ عَلَى الْعِبَادَةِ مِمَّا يُعْتَبَرُ مِنَ الْمُفْسِدَاتِ مَعَ إِمْكَانِ إِزَالَةِ الْمُفْسِدِ أَوْ تَلَافِيهِ لِتَصِحَّ الْعِبَادَةُ، مِثْلُ طُرُوءِ النَّجَاسَةِ أَوْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ.

وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى: أَنَّهُ إِذَا طَرَأَ عَلَى الْعِبَادَةِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُفْسِدَهَا لَوِ اسْتَمَرَّ وَأَمْكَنَ تَلَافِيهِ وَإِزَالَتُهُ وَجَبَ فِعْلُ ذَلِكَ لِتَصْحِيحِ الْعِبَادَةِ.

وَنَظَرًا لِتَعَذُّرِ حَصْرِ مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لِكَثْرَةِ فُرُوعِهَا فِي أَبْوَابِ الْعِبَادَةِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَيُكْتَفَى بِذِكْرِ بَعْضِ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي تُوَضِّحُ ذَلِكَ:

16- مَنِ اجْتَهَدَ فِي مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ، وَتَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ اسْتَدَارَ إِلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهَا، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ.

وَكَذَلِكَ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ، وَبَانَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، بِمُشَاهَدَةٍ أَوْ خَبَرٍ عَنْ يَقِينٍ فَإِنَّهُ يَسْتَدِيرُ إِلَى جِهَةِ الصَّوَابِ وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى.

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ لَمَّا بَلَغَهُمْ نَسْخُ الْقِبْلَةِ وَهُمْ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ اسْتَدَارُوا إِلَيْهَا، وَاسْتَحْسَنَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِعْلَ أَهْلِ قُبَاءَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (اسْتِقْبَالٌ- قِبْلَةٌ- صَلَاةٌ).

17- مَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ يَابِسَةٌ- وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ- فَأَزَالَهَا سَرِيعًا صَحَّتْ صَلَاتُهُ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ، إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ ذَلِكَ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- صَلَاتَهُ قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ؟.قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا.فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي، فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا».

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (نَجَاسَةٌ- صَلَاةٌ).

18- مَنِ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ- بِأَنْ أَطَارَتِ الرِّيحُ سُتْرَتَهُ فَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ- فَإِنْ أَعَادَهَا سَرِيعًا صَحَّتْ صَلَاتُهُ.

وَلَوْ صَلَّى عُرْيَانًا لِعَدَمِ وُجُودِ سُتْرَةٍ، ثُمَّ وَجَدَ سُتْرَةً قَرِيبَةً مِنْهُ سَتَرَ بِهَا مَا وَجَبَ سَتْرُهُ، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ، قِيَاسًا عَلَى أَهْلِ قُبَاءَ لَمَّا عَلِمُوا بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ اسْتَدَارُوا إِلَيْهَا وَأَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (عَوْرَةٌ- صَلَاةٌ).

19- إِنْ خَفَّ فِي الصَّلَاةِ مَعْذُورٌ بِعُذْرٍ مُسَوِّغٍ لِلِاسْتِنَادِ أَوِ الْجُلُوسِ أَوِ الِاضْطِجَاعِ انْتَقَلَ لِلْأَعْلَى، كَمُسْتَنِدٍ قَدَرَ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، وَجَالِسٍ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ انْتَقَلَ وُجُوبًا، فَإِنْ تَرَكَهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (عُذْرٌ- صَلَاةٌ).

20- مَنْ عَلِمَ فِي أَثْنَاءِ طَوَافِهِ بِنَجَسٍ فِي بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ طَرَحَهُ أَوْ غَسَلَهُمَا، وَبَنَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ طَوَافِهِ إِنْ لَمْ يُطِلْ، وَإِلاَّ بَطَلَ طَوَافُهُ لِعَدَمِ الْمُوَالَاةِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (طَوَافٌ).

21- هَذَا، وَمِنْ تَصْحِيحِ الْعِبَادَةِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ قَاعِدَةِ: بُطْلَانُ الْخُصُوصِ لَا يُبْطِلُ الْعُمُومَ.

جَاءَ فِي الْمَنْثُورِ: لَوْ تَحَرَّمَ بِالْفَرْضِ مُنْفَرِدًا فَحَضَرَتْ جَمَاعَةٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَحْبَبْتُ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ وَتَكُونُ نَافِلَةً، وَيُصَلِّي الْفَرْضَ، فَصَحَّحَ النَّفَلَ مَعَ إِبْطَالِ الْفَرْضِ.

وَإِذَا تَحَرَّمَ بِالصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا ظَانًّا دُخُولَهُ بَطَلَ خُصُوصُ كَوْنِهَا ظُهْرًا، وَيَبْقَى عُمُومُ كَوْنِهَا نَفْلًا فِي الْأَصَحِّ.

وَإِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ فَفِي انْعِقَادِهِ عُمْرَةً قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ.وَحَكَاهُ فِي الْمُهَذَّبِ قَوْلًا وَاحِدًا، قَالَ: لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، فَإِذَا عَقَدَهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا انْعَقَدَ غَيْرُهَا مِنْ جِنْسِهَا، كَصَلَاةِ الظُّهْرِ إِذَا أَحْرَمَ بِهَا قَبْلَ الزَّوَالِ، فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ بِالنَّفْلِ.

22- وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَكَادُ تَكُونُ مُطَّرِدَةً فِي بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ فِي الْجُمْلَةِ، فَفِي شَرْحِ منتهى الإرادات: مَنْ أَتَى بِمَا يُفْسِدُ الْفَرْضَ فِي الصَّلَاةِ- كَتَرْكِ الْقِيَامِ بِلَا عُذْرٍ- انْقَلَبَ فَرْضُهُ نَفْلًا؛ لِأَنَّهُ كَقَطْعِ نِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ، فَتَبْقَى نِيَّةُ الصَّلَاةِ.وَيَنْقَلِبُ نَفْلًا كَذَلِكَ مَنْ أَحْرَمَ بِفَرْضٍ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهُ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ لَمْ يَصِحَّ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُبْطِلُ النَّفَلَ.

23- وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ قَبِيلِ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّهُ: لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ بُطْلَانِ الْوَصْفِ بُطْلَانُ الْأَصْلِ.

جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ: مَنْ صَلَّى الْعَصْرَ وَهُوَ ذَاكِرٌ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الظُّهْرَ فَهِيَ فَاسِدَةٌ، إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ التَّرْتِيبِ.

وَإِذَا فَسَدَتِ الْفَرْضِيَّةُ لَا يَبْطُلُ أَصْلُ الصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ عُقِدَتْ لِأَصْلِ الصَّلَاةِ بِوَصْفِ الْفَرْضِيَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَةِ بُطْلَانِ الْوَصْفِ بُطْلَانُ الْأَصْلِ.

وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ فِي بَابِ الزَّكَاةِ: حُكْمُ الْمُعَجَّلِ مِنَ الزَّكَاةِ، إِذَا لَمْ يَقَعْ زَكَاةً أَنَّهُ إِنْ وَصَلَ إِلَى يَدِ الْفَقِيرِ يَكُونُ تَطَوُّعًا، سَوَاءٌ وَصَلَ إِلَى يَدِهِ مِنْ يَدِ رَبِّ الْمَالِ، أَوْ مِنْ يَدِ الْإِمَامِ، أَوْ نَائِبِهِ وَهُوَ السَّاعِي؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ أَصْلُ الْقُرْبَةِ، وَصَدَقَةُ التَّطَوُّعِ لَا يُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ فِيهَا بَعْدَ وُصُولِهَا إِلَى يَدِ الْفَقِيرِ.

رَابِعًا- تَصْحِيحُ الْمَسَائِلِ فِي الْمِيرَاثِ:

24- تَصْحِيحُ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ: أَنْ تُؤْخَذَ السِّهَامُ مِنْ أَقَلِّ عَدَدٍ يُمْكِنُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقَعُ الْكَسْرُ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِدُونِ الضَّرْبِ- كَمَا فِي صُورَةِ الِاسْتِقَامَةِ- أَوْ بَعْدَ ضَرْبِ بَعْضِ الرُّءُوسِ- كَمَا فِي صُورَةِ الْمُوَافَقَةِ- أَوْ فِي كُلِّ الرُّءُوسِ- كَمَا فِي صُورَةِ الْمُبَايَنَةِ.

مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي تَصْحِيحِ الْمَسَائِلِ الْفَرْضِيَّةِ:

25- لِتَصْحِيحِ الْمَسَائِلِ الْفَرْضِيَّةِ قَوَاعِدُ يُكْتَفَى مِنْهَا بِمَا أَوْرَدَهُ عَنْهَا شَارِحُ السِّرَاجِيَّةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ: يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى سَبْعَةِ أُصُولٍ:

ثَلَاثَةٍ مِنْهَا بَيْنَ السِّهَامِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ مَخَارِجِهَا وَبَيْنَ الرُّءُوسِ مِنَ الْوَرَثَةِ.وَأَرْبَعَةٍ مِنْهَا بَيْنَ الرُّءُوسِ وَالرُّءُوسِ.

أَمَّا الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ:

26- فَأَحَدُهَا: إِنْ كَانَتْ سِهَامُ كُلِّ فَرِيقٍ مِنَ الْوَرَثَةِ مُنْقَسِمَةً عَلَيْهِمْ بِلَا كَسْرٍ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الضَّرْبِ، كَأَبَوَيْنِ وَبِنْتَيْنِ.فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ حِينَئِذٍ مِنْ سِتَّةٍ، فَلِكُلٍّ مِنَ الْأَبَوَيْنِ سُدُسُهَا وَهُوَ وَاحِدٌ، وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَعْنِي أَرْبَعَةً، فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا اثْنَانِ، فَاسْتَقَامَتِ السِّهَامُ عَلَى رُءُوسِ الْوَرَثَةِ بِلَا انْكِسَارٍ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّصْحِيحِ، إِذِ التَّصْحِيحُ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا انْكَسَرَتِ السِّهَامُ بِقِسْمَتِهَا عَلَى الرُّءُوسِ.

27- وَالثَّانِي مِنَ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ:

أَنْ يَكُونَ الْكَسْرُ عَلَى طَائِفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنْ بَيْنَ سِهَامِهِمْ وَرُءُوسِهِمْ مُوَافَقَةً بِكَسْرٍ مِنَ الْكُسُورِ، فَيُضْرَبُ وَفْقَ عَدَدِ رُءُوسِهِمْ- أَيْ عَدَدِ رُءُوسِ مَنِ انْكَسَرَتْ عَلَيْهِمُ السِّهَامُ، وَهُمْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ الْوَاحِدَةُ- فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَائِلَةً، وَفِي أَصْلِهَا وَعَوْلِهَا مَعًا إِنْ كَانَتْ عَائِلَةً، كَأَبَوَيْنِ وَعَشْرِ بَنَاتٍ، أَوْ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ وَسِتِّ بَنَاتٍ.

فَالْأَوَّلُ: مِثَالُ مَا لَيْسَ فِيهَا عَوْلٌ.إِذْ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ سِتَّةٍ.السُّدُسَانِ وَهُمَا اثْنَانِ لِلْأَبَوَيْنِ وَيَسْتَقِيمَانِ عَلَيْهِمَا، وَالثُّلُثَانِ وَهُمَا أَرْبَعَةٌ لِلْبَنَاتِ الْعَشَرَةِ وَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِنَّ، لَكِنْ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ وَالْعَشَرَةِ مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ، فَإِنَّ الْعَدَدَ الْعَادَّ لَهُمَا هُوَ الِاثْنَانِ، فَرَدَدْنَا عَدَدَ الرُّءُوسِ أَعْنِي الْعَشَرَةَ إِلَى نِصْفِهَا وَهُوَ خَمْسَةٌ، وَضَرَبْنَاهَا فِي السِّتَّةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فَصَارَ الْحَاصِلُ ثَلَاثِينَ، وَمِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ.

إِذْ قَدْ كَانَ لِلْأَبَوَيْنِ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ سَهْمَانِ، وَقَدْ ضَرَبْنَاهُمَا فِي الْمَضْرُوبِ الَّذِي هُوَ خَمْسَةٌ فَصَارَ عَشْرَةً، لِكُلٍّ مِنْهُمَا خَمْسَةٌ، وَكَانَ لِلْبَنَاتِ الْعَشْرِ، مِنْهُ أَرْبَعَةٌ، وَقَدْ ضَرَبْنَاهَا أَيْضًا فِي خَمْسَةٍ فَصَارَ عِشْرِينَ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ اثْنَانِ.

وَالثَّانِي: مِثَالُ مَا فِيهَا عَوْلٌ.فَإِنَّ أَصْلَهَا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ لِاجْتِمَاعِ الرُّبُعِ وَالسُّدُسَيْنِ وَالثُّلُثَيْنِ.فَلِلزَّوْجِ رُبُعُهَا وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأَبَوَيْنِ سُدُسَاهَا وَهُمَا أَرْبَعَةٌ، وَلِلْبَنَاتِ السِّتِّ ثُلُثَاهَا وَهُمَا ثَمَانِيَةٌ.فَقَدْ عَالَتِ الْمَسْأَلَةُ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، وَانْكَسَرَتْ سِهَامُ الْبَنَاتِ- أَعْنِي الثَّمَانِيَةَ- عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ فَقَطْ.لَكِنْ بَيْنَ عَدَدِ السِّهَامِ وَعَدَدِ الرُّءُوسِ تَوَافُقٌ بِالنِّصْفِ، فَرَدَدْنَا عَدَدَ رُءُوسِهِنَّ إِلَى نِصْفِهِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ ضَرَبْنَاهَا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ عَوْلِهَا وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَحَصَلَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ، فَاسْتَقَامَتْ مِنْهَا الْمَسْأَلَةُ.

إِذْ قَدْ كَانَ لِلزَّوْجِ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةٌ،

وَقَدْ ضَرَبْنَاهَا فِي الْمَضْرُوبِ الَّذِي هُوَ ثَلَاثَةٌ فَصَارَ تِسْعَةً فَهِيَ لَهُ، وَكَانَ لِلْأَبَوَيْنِ أَرْبَعَةٌ وَقَدْ ضَرَبْنَاهَا فِي ثَلَاثَةٍ فَصَارَ اثْنَيْ عَشَرَ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا سِتَّةٌ، وَكَانَ لِلْبَنَاتِ ثَمَانِيَةٌ فَضَرَبْنَاهَا فِي ثَلَاثَةٍ فَحَصَلَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَرْبَعَةٌ.

28- وَالثَّالِثُ مِنَ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ:

أَنْ تَنْكَسِرَ السِّهَامُ أَيْضًا عَلَى طَائِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَ سِهَامِهِمْ وَعَدَدِ رُءُوسِهِمْ مُوَافَقَةً، بَلْ مُبَايَنَةً، فَيُضْرَبُ حِينَئِذٍ عَدَدُ رُءُوسِ مَنِ انْكَسَرَتْ عَلَيْهِمُ السِّهَامُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَائِلَةً، وَفِي أَصْلِهَا مَعَ عَوْلِهَا إِنْ كَانَتْ عَائِلَةً، كَزَوْجٍ وَخَمْسِ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ سِتَّةٍ: النِّصْفُ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ لِلزَّوْجِ، وَالثُّلُثَانِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ لِلْأَخَوَاتِ، فَقَدْ عَالَتْ إِلَى سَبْعَةٍ، وَانْكَسَرَتْ سِهَامُ الْأَخَوَاتِ فَقَطْ عَلَيْهِنَّ، وَبَيْنَ عَدَدِ سِهَامِهِنَّ وَعَدَدِ رُءُوسِهِنَّ مُبَايَنَةً، فَضَرَبْنَا عَدَدَ رُءُوسِهِنَّ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ عَوْلِهَا وَهُوَ سَبْعَةٌ، فَصَارَ الْحَاصِلُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ، وَمِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ.

وَقَدْ كَانَ لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ، وَقَدْ ضَرَبْنَاهَا فِي الْمَضْرُوبِ وَهُوَ خَمْسَةٌ فَصَارَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَهِيَ لَهُ، وَكَانَ لِلْأَخَوَاتِ الْخَمْسِ أَرْبَعَةٌ، وَقَدْ ضَرَبْنَاهَا أَيْضًا فِي خَمْسَةٍ فَصَارَ عِشْرِينَ، فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَرْبَعَةٌ.

وَمِثَالُ غَيْرِ الْمَسَائِلِ الْعَائِلَةِ: زَوْجٌ وَجَدَّةٌ وَثَلَاثُ أَخَوَاتٍ لأُِمٍّ.فَالْمَسْأَلَةُ مِنْ سِتَّةٍ، لِلزَّوْجِ مِنْهَا نِصْفُهَا وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْجَدَّةِ سُدُسُهَا وَهُوَ وَاحِدٌ، وَلِلْأَخَوَاتِ لأُِمٍّ ثُلُثُهَا وَهُوَ اثْنَانِ، وَلَا يَسْتَقِيمَانِ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ، بَلْ بَيْنَهُمَا تَبَايُنُ، فَضَرَبْنَا عَدَدَ رُءُوسِ الْأَخَوَاتِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ فَصَارَ الْحَاصِلُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْهَا.

وَقَدْ كَانَ لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ فَضَرَبْنَاهَا فِي الْمَضْرُوبِ الَّذِي هُوَ ثَلَاثَةٌ فَصَارَ تِسْعَةً، وَضَرَبْنَا نَصِيبَ الْجَدَّةِ فِي الْمَضْرُوبِ أَيْضًا فَكَانَ ثَلَاثَةً، وَضَرَبْنَا نَصِيبَ الْأَخَوَاتِ لأُِمٍّ فِي الْمَضْرُوبِ فَصَارَ سِتَّةً، فَأَعْطَيْنَا كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ اثْنَيْنِ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ مَتَى كَانَتِ الطَّائِفَةُ الْمُنْكَسِرَةُ عَلَيْهِمْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا- مِمَّنْ يَكُونُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، كَالْبَنَاتِ وَبَنَاتِ الِابْنِ الْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ- يَنْبَغِي أَنْ يُضَعَّفَ عَدَدُ الذُّكُورِ، وَيُضَمَّ إِلَى عَدَدِ الْإِنَاثِ، ثُمَّ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ، كَزَوْجٍ وَابْنٍ وَثَلَاثِ بَنَاتٍ.أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَرْبَعَةٍ: لِلزَّوْجِ سَهْمٌ عَلَيْهِ يَسْتَقِيمُ، وَالْبَاقِي ثَلَاثَةٌ، لِلْأَوْلَادِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَيُجْعَلُ عَدَدُ رُءُوسِهِمْ خَمْسَةً بِأَنْ يُنَزَّلَ الِابْنُ مَنْزِلَةَ بِنْتَيْنِ، وَلَا تَسْتَقِيمُ الثَّلَاثَةُ عَلَى الْخَمْسَةِ، فَتُضْرَبُ الْخَمْسَةُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، فَتَبْلُغُ عِشْرِينَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ.

وَأَمَّا الْأُصُولُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي بَيْنَ الرُّءُوسِ وَالرُّءُوسِ:

29- فَأَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ انْكِسَارُ السِّهَامِ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْوَرَثَةِ أَوْ أَكْثَرَ، وَلَكِنْ بَيْنَ أَعْدَادِ رُءُوسِ مَنِ انْكَسَرَ عَلَيْهِمْ مُمَاثَلَةٌ، فَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنْ يُضْرَبَ أَحَدُ الْأَعْدَادِ الْمُمَاثَلَةِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، فَيَحْصُلُ مَا تَصِحُّ بِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى جَمِيعِ الْفِرَقِ.مِثْلُ: سِتُّ بَنَاتٍ، وَثَلَاثُ جَدَّاتٍ: أُمُّ أُمِّ أُمٍّ، وَأُمُّ أُمِّ أَبٍ، وَأُمُّ أَبِ أَبٍ مَثَلًا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُوَرِّثُ أَكْثَرَ مِنْ جَدَّتَيْنِ، وَثَلَاثَةِ أَعْمَامٍ.الْمَسْأَلَةُ مِنْ سِتَّةٍ: لِلْبَنَاتِ السِّتِّ الثُّلُثَانِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، وَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِنَّ، لَكِنْ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ وَعَدَدِ رُءُوسِهِنَّ مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ، فَأَخَذْنَا نِصْفَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ.وَلِلْجَدَّاتِ الثَّلَاثِ السُّدُسُ وَهُوَ وَاحِدٌ، فَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِنَّ وَلَا مُوَافَقَةَ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَعَدَدِ رُءُوسِهِنَّ، فَأَخَذْنَا جَمِيعَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ وَهُوَ أَيْضًا ثَلَاثَةٌ.وَلِلْأَعْمَامِ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِي وَهُوَ وَاحِدٌ أَيْضًا، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدَدِ رُءُوسِهِمْ مُبَايَنَةٌ، فَأَخَذْنَا جَمِيعَ عَدَدِ رُءُوسِهِمْ.ثُمَّ نَسَبْنَا هَذِهِ الْأَعْدَادَ الْمَأْخُوذَةَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ فَوَجَدْنَاهَا مُتَمَاثِلَةً، فَضَرَبْنَا أَحَدَهَا وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ- أَعْنِي السِّتَّةَ- فَصَارَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَمِنْهَا تَسْتَقِيمُ الْمَسْأَلَةُ.وَكَانَ لِلْبَنَاتِ أَرْبَعَةُ سِهَامٍ ضَرَبْنَاهَا فِي الْمَضْرُوبِ الَّذِي هُوَ ثَلَاثَةٌ، فَصَارَ اثْنَيْ عَشَرَ، فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ اثْنَانِ.وَلِلْجَدَّاتِ سَهْمٌ وَاحِدٌ ضَرَبْنَاهُ أَيْضًا فِي ثَلَاثَةٍ فَكَانَ ثَلَاثَةً، فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ وَاحِدٌ.وَلِلْأَعْمَامِ وَاحِدٌ أَيْضًا ضَرَبْنَاهُ أَيْضًا فِي الثَّلَاثَةِ، وَأَعْطَيْنَا كُلَّ وَاحِدٍ سَهْمًا وَاحِدًا.

وَلَوْ فَرَضْنَا فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ عَمًّا وَاحِدًا بَدَلَ الْأَعْمَامِ الثَّلَاثَةِ، كَانَ الِانْكِسَارُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ فَقَطْ، وَكَانَ وَفْقُ عَدَدِ رُءُوسِ الْبَنَاتِ مُمَاثِلًا لِعَدَدِ رُءُوسِ الْجَدَّاتِ، إِذْ كُلٌّ مِنْهُمَا ثَلَاثَةٌ، فَيُضْرَبُ الثَّلَاثَةُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، فَيَصِيرُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَتَصِحُّ السِّهَامُ عَلَى الْكُلِّ كَمَا مَرَّ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


78-موسوعة الفقه الكويتية (تعلي)

تَعَلِّي

التَّعْرِيفُ:

1- التَّعَلِّي فِي اللُّغَةِ لَهُ مَعَانٍ، مِنْهَا: أَنَّهُ مِنَ الْعُلُوِّ، وَهُوَ: الِارْتِفَاعُ وَعُلُوُّ كُلِّ شَيْءٍ وَعُلْوُهُ وَعِلْوُهُ: أَرْفَعُهُ.وَعَلَا الشَّيْءُ عُلُوًّا فَهُوَ عَلِيٌّ: ارْتَفَعَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: فَإِذَا هُوَ يَتَعَلَّى عَنِّي: أَيْ يَتَرَفَّعُ عَلَيَّ.وَتَعَالَى: تَرَفَّعَ.وَتَعَلَّى: أَيْ عَلَا فِي مُهْلَةٍ.

وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا، إِذْ يُرَادُ بِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: رَفْعُ بِنَاءٍ فَوْقَ بِنَاءٍ آخَرَ.

أَحْكَامُ حَقِّ التَّعَلِّي:

2- حَقُّ التَّعَلِّي: إِمَّا أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ صَاحِبُهُ لِنَفْسِهِ، وَإِمَّا يَبِيعُهُ لِغَيْرِهِ.

أَمَّا اسْتِعْمَالُهُ لِنَفْسِهِ: فَقَدْ نَصَّتِ الْمَادَّةُ (1198) مِنْ مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ عَلَى أَنَّ: كُلَّ أَحَدٍ لَهُ التَّعَلِّي عَلَى حَائِطِهِ الْمِلْكِ، وَبِنَاءُ مَا يُرِيدُ، وَلَيْسَ لِجَارِهِ مَنْعُهُ مَا لَمْ يَكُنْ ضَرَرًا فَاحِشًا.

وَقَالَ الْأَتَاسِيُّ فِي شَرْحِ الْمَادَّةِ: وَلَا عِبْرَةَ بِزَعْمِهِ أَنَّهُ يَسُدُّ عَنْهُ الرِّيحَ وَالشَّمْسَ، كَمَا أَفْتَى بِهِ فِي الْحَامِدِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الضَّرَرِ الْفَاحِشِ.وَفِي الْأَنْقِرَوِيَّةِ: لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى حَائِطِ نَفْسِهِ أَزْيَدَ مِمَّا كَانَ، وَلَيْسَ لِجَارِهِ مَنْعُهُ وَإِنْ بَلَغَ عَنَانَ السَّمَاءِ.

وَأَمَّا بَيْعُهُ لِغَيْرِهِ فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ): إِلَى جَوَازِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:

أَجَازَهُ الْمَالِكِيَّةُ مَتَى كَانَ الْمَبِيعُ قَدْرًا مُعَيَّنًا، كَعَشْرَةِ أَذْرُعٍ مَثَلًا مِنْ مَحَلِّ هَوَاءٍ، فَوْقَ مَحَلٍّ مُتَّصِلٍ بِأَرْضٍ أَوْ بِنَاءٍ، بِأَنْ كَانَ لِشَخْصٍ أَرْضٌ خَالِيَةٌ مِنَ الْبِنَاءِ أَرَادَ الْبِنَاءَ بِهَا، أَوْ كَانَ لَهُ بِنَاءٌ أَرَادَ الْبِنَاءَ عَلَيْهِ، فَيَشْتَرِي شَخْصٌ مِنْهُ قَدْرًا مُعَيَّنًا مِنَ الْفَرَاغِ الَّذِي يَكُونُ فَوْقَ الْبِنَاءِ الَّذِي أَرَادَ إِحْدَاثَهُ، فَيَجُوزُ مَتَى وَصَفَ الْبِنَاءَ الَّذِي أُرِيدَ إِحْدَاثُهُ أَسْفَل وَأَعْلَى، لِيَقِلَّ الضَّرَرُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَسْفَلِ رَغْبَتُهُ فِي خِفَّةِ الْأَعْلَى، وَصَاحِبُ الْأَعْلَى رَغْبَتُهُ فِي مَتَانَةِ الْأَسْفَلِ، وَلِصَاحِبِ الْبِنَاءِ الْأَعْلَى الِانْتِفَاعُ بِمَا فَوْقَ بِنَائِهِ بِغَيْرِ الْبِنَاءِ، إِذْ يَمْلِكُ جَمِيعَ الْهَوَاءِ الَّذِي فَوْقَ بِنَاءِ الْأَسْفَلِ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَسْفَلِ الِانْتِفَاعُ بِمَا فَوْقَ بِنَاءِ الْأَعْلَى، لَا بِالْبِنَاءِ وَلَا بِغَيْرِهِ.

وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ، مَتَى كَانَ الْمَبِيعُ حَقَّ الْبِنَاءِ

أَوِ الْعُلْوِ: بِأَنْ قَالَ لَهُ: بِعْتُكَ حَقَّ الْبِنَاءِ أَوِ الْعُلْوِ لِلْبِنَاءِ عَلَيْهِ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا بَاعَهُ وَشَرَطَ أَنْ لَا يَبْنِيَ عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْبِنَاءِ عَلَيْهِ.لَكِنْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَا عَدَا الْبِنَاءَ مِنْ مُكْثٍ وَغَيْرِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ السُّبْكِيُّ، تَبَعًا لِلْمَاوَرْدِيِّ.

وَأَجَازَهُ الْحَنَابِلَةُ، وَلَوْ قَبْلَ بِنَاءِ الْبَيْتِ الَّذِي اشْتَرَى عُلْوَهُ، إِذَا وَصَفَ الْعُلْوَ وَالسُّفْلَ لِيَكُونَا مَعْلُومَيْنِ، لِيَبْنِيَ الْمُشْتَرِي أَوْ يَضَعُ عَلَيْهِ بُنْيَانًا أَوْ خَشَبًا مَوْصُوفَيْنِ، وَإِنَّمَا صَحَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعُلْوَ مِلْكٌ لِلْبَائِعِ، فَكَانَ لَهُ بَيْعُهُ، وَالِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، كَالْقَرَارِ.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ بَيْعَ حَقِّ التَّعَلِّي غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا هُوَ حَقٌّ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَالِ، بَلْ حَقٌّ مُتَعَلِّقٌ بِالْهَوَاءِ (أَيِ الْفَرَاغِ) وَلَيْسَ الْهَوَاءُ مَا لَا يُبَاعُ، إِذِ الْمَالُ مَا يُمْكِنُ قَبْضُهُ وَإِحْرَازُهُ.وَصُورَتُهُ: أَنْ يَكُونَ السُّفْلُ لِرَجُلٍ، وَعُلْوُهُ لآِخَرَ، فَسَقَطَا أَوْ سَقَطَ الْعُلْوُ وَحْدَهُ فَبَاعَ صَاحِبُ الْعُلْوِ عُلْوَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ حِينَئِذٍ لَيْسَ إِلاَّ حَقُّ التَّعَلِّي.

وَعَلَى هَذَا: فَلَوْ بَاعَ الْعُلْوَ قَبْلَ سُقُوطِهِ جَازَ، فَإِنْ سَقَطَ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ، لِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهُوَ بَعْدَ سُقُوطِهِ بَيْعٌ لِحَقِّ التَّعَلِّي، وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ.فَلَوْ كَانَ الْعُلْوُ لِصَاحِبِ السُّفْلِ فَقَالَ: بِعْتُك عُلْوَ هَذَا السُّفْلِ بِكَذَا صَحَّ، وَيَكُونُ سَطْحُ السُّفْلِ لِصَاحِبِ السُّفْلِ، وَلِلْمُشْتَرِي حَقُّ الْقَرَارِ، حَتَّى لَوِ انْهَدَمَ الْعُلْوُ كَانَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ عُلْوًا آخَرَ، مِثْلُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ السُّفْلَ اسْمٌ لِمَبْنًى مُسَقَّفٍ، فَكَانَ سَطْحُ السُّفْلِ سَقْفًا لِلسُّفْلِ.

أَحْكَامُ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ فِي الِانْهِدَامِ وَالْبِنَاءِ:

3- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ السُّفْلَ إِنِ انْهَدَمَ بِنَفْسِهِ بِلَا صُنْعِ صَاحِبِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْبِنَاءِ، لِعَدَمِ التَّعَدِّي، فَلَوْ هَدَمَهُ يُجْبَرُ عَلَى بِنَائِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى عَلَى صَاحِبِ الْعُلْوِ، وَهُوَ قَرَارُ الْعُلْوِ، وَلِذِي الْعُلْوِ أَنْ يَبْنِيَ السُّفْلَ ثُمَّ يَرْجِعَ بِمَا أَنْفَقَ إِنْ بَنَى بِإِذْنِهِ أَوْ إِذْنِ قَاضٍ، وَإِلاَّ فَبِقِيمَةِ الْبِنَاءِ يَوْمَ بَنَى.

وَمَتَى بَنَى صَاحِبُ الْعُلْوِ السُّفْلَ: كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ صَاحِبَ السُّفْلِ مِنَ السُّكْنَى، حَتَّى يَدْفَعَ إِلَيْهِ مِثْلَ مَا أَنْفَقَهُ فِي بِنَاءِ سُفْلِهِ لِكَوْنِهِ مُضْطَرًّا.

فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقٌّ فِي مِلْكِ الْآخَرِ: لِذِي الْعُلْوِ حَقُّ قَرَارِهِ، وَلِذِي السُّفْلِ حَقُّ دَفْعِ الْمَطَرِ وَالشَّمْسِ عَنِ السُّفْلِ، وَلَوْ هَدَمَ ذُو السُّفْلِ سُفْلَهُ وَذُو الْعُلْوِ عُلْوَهُ، أُلْزِمَ ذُو السُّفْلِ بِبِنَاءِ سُفْلِهِ، إِذْ فَوَّتَ عَلَى صَاحِبِ الْعُلْوِ حَقًّا أُلْحِقَ بِالْمِلْكِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ فَوَّتَ عَلَيْهِ مِلْكًا.

فَإِذَا بَنَى ذُو السُّفْلِ سُفْلَهُ وَطَلَب مِنْ ذِي الْعُلْوِ بِنَاءَ عُلْوِهِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ؛ لِأَنَّ لِذِي السُّفْلِ حَقًّا فِي الْعُلْوِ، وَأَمَّا لَوِ انْهَدَمَ الْعُلْوُ بِلَا صُنْعِهِ فَلَا يُجْبَرُ لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ، كَمَا لَوِ انْهَدَمَ السُّفْلُ بِلَا تَعَدٍّ، وَسَقْفُ السُّفْلِ لِذِي السُّفْلِ.

4- وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ السُّفْلَ إِنْ وَهَى وَأَشْرَفَ عَلَى السُّقُوطِ وَخِيفَ سُقُوطُ بِنَاءٍ عَلَيْهِ لآِخَرَ غَيْرِ صَاحِبِ السُّفْلِ- فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَى صَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يُعَمِّرَ سُفْلَهُ فَإِنْ أَبَى قُضِيَ عَلَيْهِ بِبَيْعِهِ لِمَنْ يُعَمِّرُهُ، فَإِنْ سَقَطَ الْأَعْلَى عَلَى الْأَسْفَلِ فَهَدَمَهُ أُجْبِرَ رَبُّ الْأَسْفَلِ عَلَى الْبِنَاءِ، أَوِ الْبَيْعِ مِمَّنْ يَبْنِي، لِيَبْنِيَ رَبُّ الْعُلْوِ عُلْوَهُ عَلَيْهِ.وَعَلَى ذِي السُّفْلِ التَّعْلِيقُ لِلْأَعْلَى- أَيْ حَمْلُهُ عَلَى خَشَبٍ وَنَحْوِهِ- حَتَّى يَبْنِيَ السُّفْلَ، وَعَلَيْهِ السَّقْفُ السَّاتِرُ لِسُفْلِهِ، إِذْ لَا يُسَمَّى السُّفْلُ بَيْتًا إِلاَّ بِهِ، وَلِذَا فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهِ لِصَاحِبِ السُّفْلِ عِنْدَ التَّنَازُعِ.وَأَمَّا الْبَلَاطُ الَّذِي فَوْقَهُ: فَهُوَ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى.

وَيُقْضَى عَلَى ذِي الْعُلْوِ بِعَدَمِ زِيَادَةِ بِنَاءِ الْعُلْوِ عَلَى السُّفْلِ؛ لِأَنَّهَا تَضُرُّ السُّفْلَ، إِلاَّ الشَّيْءَ الْخَفِيفَ الَّذِي لَا يَضُرُّ السُّفْلَ حَالًا وَمَآلًا، وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ لِأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ.

5- وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ لَوِ انْهَدَمَ حِيطَانُ السُّفْلِ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُجْبِرَ صَاحِبَ الْعُلْوِ عَلَى الْبِنَاءِ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ حِيطَانَ السُّفْلِ لِصَاحِبِ السُّفْلِ، فَلَا يُجْبَرُ صَاحِبُ الْعُلْوِ عَلَى بِنَائِهِ.

وَهَلْ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ إِجْبَارُ صَاحِبِ السُّفْلِ عَلَى الْبِنَاءِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، فَإِنْ قِيلَ: يُجْبَرُ، أَلْزَمَهُ الْحَاكِمُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ- وَلَهُ مَالٌ- بَاعَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مَالَهُ، وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اقْتَرَضَ عَلَيْهِ.فَإِذَا بَنَى الْحَائِطَ كَانَ الْحَائِطُ مِلْكًا لِصَاحِبِ السُّفْلِ؛ لِأَنَّهُ بُنِيَ لَهُ، وَتَكُونُ النَّفَقَةُ فِي ذِمَّتِهِ، وَيُعِيدُ صَاحِبُ الْعُلْوِ غُرْفَتَهُ عَلَيْهِ، وَتَكُونُ نَفَقَةُ الْغُرْفَةِ وَحِيطَانُهَا مِنْ مِلْكِ صَاحِبِ الْعُلْوِ دُونَ صَاحِبِ السُّفْلِ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُهُ، لَا حَقَّ لِصَاحِبِ السُّفْلِ فِيهِ.

وَأَمَّا السَّقْفُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا، وَمَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ مَالِهِمَا، فَإِنْ تَبَرَّعَ صَاحِبُ الْعُلْوِ، وَبَنَى مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ، لَمْ يَرْجِعْ صَاحِبُ الْعُلْوِ عَلَى صَاحِبِ السُّفْلِ بِشَيْءٍ.ثُمَّ يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ قَدْ بَنَاهَا بِآلَتِهَا كَانَتِ الْحِيطَانُ لِصَاحِبِ السُّفْلِ، لِأَنَّ الْآلَةَ كُلَّهَا لَهُ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ مَنْعُهُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَلَا يَمْلِكُ نَقْضُهَا؛ لِأَنَّهَا لِصَاحِبِ السُّفْلِ، وَلَهُ أَنْ يُعِيدَ حَقَّهُ مِنَ الْغُرْفَةِ.وَإِنْ بَنَاهَا بِغَيْرِ آلَتِهَا كَانَتِ الْحِيطَانُ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا مِنْ غَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِ الْعُلْوِ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَسْكُنَ فِي قَرَارِ السُّفْلِ؛ لِأَنَّ الْقَرَارَ لَهُ، وَلِصَاحِبِ الْعُلْوِ أَنْ يَنْقُضَ مَا بَنَاهُ مِنَ الْحِيطَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِغَيْرِهِ فِيهَا، فَإِنْ بَذَلَ صَاحِبُ السُّفْلِ الْقِيمَةَ لِيَتْرُكَ نَقْضَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بِنَاؤُهَا قَوْلًا وَاحِدًا، فَلَا يَلْزَمُهُ تَبْقِيَتُهَا بِبَذْلِ الْعِوَضِ.

6- وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ كَانَ السُّفْلُ لِرَجُلٍ وَالْعُلْوُ لآِخَرَ، فَانْهَدَمَ السَّقْفُ الَّذِي بَيْنَهُمَا، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْمُبَانَاةَ مِنَ الْآخَرِ، فَامْتَنَعَ، فَهَلْ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى ذَلِكَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.كَالْحَائِطِ بَيْنَ الْبَيْتَيْنِ.

وَإِنِ انْهَدَمَتْ حِيطَانُ السُّفْلِ فَطَالَبَهُ صَاحِبُ الْعُلْوِ بِإِعَادَتِهَا، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ:

إِحْدَاهُمَا: يُجْبَرُ.فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُجْبَرُ عَلَى الْبِنَاءِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ خَاصَّةً.

وَالثَّانِيَةُ: لَا يُجْبَرُ، وَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْعُلْوِ بِنَاءَهُ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا، فَإِنْ بَنَاهُ بِآلَتِهِ فَهُوَ عَلَى مَا كَانَ، وَإِنْ بَنَاهُ بِآلَةٍ مِنْ عِنْدِهِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: لَا يَنْتَفِعُ بِهِ صَاحِبُ السُّفْلِ، يَعْنِي حَتَّى يُؤَدِّيَ الْقِيمَةَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَسْكُنَ، لِأَنَّ الْبَيْتَ إِنَّمَا يُبْنَى لِلسَّكَنِ فَلَمْ يَمْلِكْهُ كَغَيْرِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ الِانْتِفَاعَ بِالْحِيطَانِ خَاصَّةً مِنْ طَرْحِ الْخَشَبِ وَسَمْرِ الْوَتَدِ وَفَتْحِ الطَّاقِ، وَيَكُونُ لَهُ السُّكْنَى مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى إِنَّمَا هِيَ إِقَامَتُهُ فِي الْفِنَاءِ بَيْنَ الْحِيطَانِ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ فِيهَا، فَأَشْبَهَ الِاسْتِظْلَالَ بِهَا مِنْ خَارِجٍ.

فَأَمَّا إِنْ طَالَبَ صَاحِبُ السُّفْلِ بِالْبِنَاءِ، وَأَبَى صَاحِبُ الْعُلْوِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: لَا يُجْبَرُ عَلَى بِنَائِهِ، وَلَا مُسَاعَدَتِهِ لِأَنَّ الْحَائِطَ مِلْكُ صَاحِبِ السُّفْلِ مُخْتَصٌّ بِهِ، فَلَمْ يُجْبَرْ غَيْرُهُ عَلَى بِنَائِهِ وَلَا الْمُسَاعَدَةِ فِيهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عُلْوٌ.

وَالثَّانِيَةُ: يُجْبَرُ عَلَى مُسَاعَدَتِهِ وَالْبِنَاءِ مَعَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ؛ لِأَنَّهُ حَائِطٌ يَشْتَرِكَانِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ، أَشْبَهَ الْحَائِطَ بَيْنَ الدَّارَيْنِ.

جَعْلُ عُلْوِ الدَّارِ مَسْجِدًا:

7- أَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ جَعْلَ عُلْوِ الدَّارِ مَسْجِدًا، دُونَ سُفْلِهَا، وَالْعَكْسُ؛ لِأَنَّهُمَا عَيْنَانِ يَجُوزُ وَقْفُهُمَا، فَجَازَ وَقْفُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، كَالْعَبْدَيْنِ.

وَمَنْ جَعَلَ مَسْجِدًا تَحْتَهُ سِرْدَابٌ أَوْ فَوْقَهُ بَيْتٌ، وَجَعَلَ بَابَ الْمَسْجِدِ إِلَى الطَّرِيقِ، وَعَزْلُهُ عَنْ مِلْكِهِ، فَلَا يَكُونُ مَسْجِدًا، فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَإِنْ مَاتَ يُورَثُ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ تَعَالَى، لِبَقَاءِ حَقِّ الْعَبْدِ مُتَعَلِّقًا بِهِ وَلَوْ كَانَ السِّرْدَابُ لِمَصَالِحِ الْمَسْجِدِ جَازَ، كَمَا فِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.

هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، خِلَافًا لِصَاحِبَيْهِ.وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يَجُوزُ جَعْلُ السُّفْلِ مَسْجِدًا وَعَلَيْهِ مَسْكَنٌ، وَلَا يَجُوزُ الْعَكْسُ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مِمَّا يَتَأَبَّدُ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ: عَكْسُ هَذَا؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُعَظَّمٌ، وَإِذَا كَانَ فَوْقَهُ مَسْكَنٌ أَوْ مُسْتَغِلٌّ فَيَتَعَذَّرُ تَعْظِيمُهُ.وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ جَوَّزَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ حِينَ قَدِمَ بَغْدَادَ، وَرَأَى ضِيقَ الْمَنَازِلِ، فَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ الضَّرُورَةَ.

أَمَّا لَوْ تَمَّتِ الْمَسْجِدِيَّةُ ثُمَّ أَرَادَ الْبِنَاءَ مُنِعَ.

نَقْبُ كُوَّةِ الْعُلْوِ أَوِ السُّفْلِ:

8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِصَاحِبِ عُلْوٍ تَحْتَهُ سُفْلٌ لآِخَرَ أَنْ يَنْقُبَ كُوَّةً فِي عُلْوِهِ، وَكَذَا الْعَكْسُ، إِلاَّ بِرِضَا الْآخَرِ.وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ: إِلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فِعْلُ مَا لَا يَضُرُّ بِالْآخَرِ، فَإِنْ أَضَرَّ بِهِ مُنِعَ مِنْهُ، كَأَنْ يُشْرِفَ مِنَ الْكُوَّةِ عَلَى جَارِهِ وَعِيَالِهِ فَيَضُرُّ بِهِمْ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إِذَا أَشْكَلَ أَنَّهُ يَضُرُّ أَمْ لَا؟ لَا يَمْلِكُ فَتْحَهَا، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ يَمْلِكُ فَتْحَهَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ يُقْضَى عَلَى مَنْ أَحْدَث فَتْحَهَا بِسَدِّهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ عَالِيَةً، وَيُشْرِفُ مِنْهَا عَلَى جَارِهِ.وَأَمَّا الْقَدِيمَةُ فَلَا يُقْضَى بِسَدِّهَا، وَيُقَالُ لِلْجَارِ: اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ إِنْ شِئْت، فَقَدْ قَالَ الدُّسُوقِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْكُوَّةَ الَّتِي أُحْدِثَ فَتْحُهَا يُقْضَى بِسَدِّهَا، وَإِنْ أُرِيدَ سَدُّ خَلْفِهَا فَقَطْ بَعْدَ الْأَمْرِ بِسَدِّهَا فَإِنَّهُ يُقْضَى بِسَدِّ جَمِيعِهَا، وَيُزَالُ كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا.

وَهَذَا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ عَالِيَةٍ لَا يَحْتَاجُ فِي كَشْفِ الْجَارِ مِنْهَا إِلَى صُعُودٍ عَلَى سُلَّمٍ وَنَحْوِهِ، وَإِلاَّ فَلَا يُقْضَى بِسَدِّهَا.

وَإِذَا سَكَتَ مَنْ حَدَثَ عَلَيْهِ فَتْحُ الْكُوَّةِ وَنَحْوِهَا عَشْرَ سِنِينَ- وَلَمْ يُنْكِرْ- جُبِرَ عَلَيْهِ، وَلَا مَقَالَ لَهُ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ (الِادِّعَاءِ) وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَبِهِ الْقَضَاءُ.

تَعَلِّي الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي الْبِنَاءِ:

9- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ: فِي أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ مَمْنُوعُونَ مِنْ أَنْ تَعْلُوَ أَبْنِيَتُهُمْ عَلَى أَبْنِيَةِ جِيرَانِهِمُ الْمُسْلِمِينَ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: أَنَّهُ قَالَ «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ رُتْبَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ مَمْنُوعُونَ مِنْ ذَلِكَ.عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْحَنَفِيَّةِ قَدْ ذَهَبَ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّعَلِّي لِلْحِفْظِ مِنَ اللُّصُوصِ فَإِنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ مُقَيَّدَةٌ بِالتَّعَلِّي فِي الْبِنَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ- بَلْ لِلتَّحَفُّظِ- فَلَا يُمْنَعُونَ.

10- وَأَمَّا مُسَاوَاتُهُمْ فِي الْبِنَاءِ، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ:

مَنَعَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ.فَقَدْ أَجَازَهُ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ اسْتِطَالَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.وَمَنَعَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ» وَلِأَنَّهُمْ مُنِعُوا مِنْ مُسَاوَاةِ الْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ وَشُعُورِهِمْ وَرُكُوبِهِمْ، كَذَلِكَ فِي بِنَائِهِمْ.

وَأَصَحُّ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ: الْمَنْعُ، تَمْيِيزًا بَيْنَهُمْ؛ وَلِأَنَّ الْقَصْدَ أَنْ يَعْلُوَ الْإِسْلَامُ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مَعَ الْمُسَاوَاةِ.

11- أَمَّا لَوِ اشْتَرَى الذِّمِّيُّ دَارًا عَالِيَةً مُجَاوِرَةً لِدَارِ مُسْلِمٍ دُونَهَا فِي الْعُلْوِ، فَلِلذِّمِّيِّ سُكْنَى دَارِهِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُهُ هَدْمُ مَا عَلَا دَارَ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلُ عَلَيْهِ شَيْئًا، إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْإِشْرَافُ مِنْهَا عَلَى دَارِ الْمُسْلِمِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ صِبْيَانَهُ مِنْ طُلُوعِ سَطْحِهَا إِلاَّ بَعْدَ تَحْجِيرِهِ.أَيْ بِنَاءِ مَا يَمْنَعُ مِنَ الرُّؤْيَةِ.

فَإِنِ انْهَدَمَتْ دَارُ الذِّمِّيِّ الْعَالِيَةِ ثُمَّ جَدَّدَ بِنَاءَهَا، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُعَلِّيَ بِنَاءَهَا عَلَى بِنَاءِ الْمُسْلِمِ.وَإِنِ انْهَدَمَ مَا عَلَا مِنْهَا لَمْ تَكُنْ لَهُ إِعَادَتُهُ.هَذَا مَا عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ: الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

12- وَأَمَّا تَعْلِيَةُ بِنَائِهِ عَلَى مَنْ لَيْسَ مُجَاوِرًا لَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ- فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ عُلْوَهُ إِنَّمَا يَكُونُ ضَرَرًا عَلَى الْمُجَاوِرِ لِبِنَائِهِ دُونَ غَيْرِهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، مَا لَمْ يُشْرِفْ مِنْهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: عَدَمُ الْمَنْعِ، وَهُوَ أَصَحُّهُمَا؛ لِأَنَّهُ يُؤْمَنُ مَعَ الْبُعْدِ بَيْنَ الْبِنَاءَيْنِ أَنْ يَعْلُوَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ.

وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّجَمُّلِ وَالشَّرَفِ؛ وَلِأَنَّهُمْ بِذَلِكَ يَتَطَاوَلُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


79-موسوعة الفقه الكويتية (تواتر)

تَوَاتُرٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّوَاتُرُ فِي اللُّغَةِ: التَّتَابُعُ، وَقِيلَ: هُوَ تَتَابُعُ الْأَشْيَاءِ، وَبَيْنَهَا فَجَوَاتٌ وَفَتَرَاتٌ.وَالْمُتَوَاتِرُ: الشَّيْءُ يَكُونُ هُنَيْهَةً ثُمَّ يَجِيءُ الْآخَرُ، فَإِذَا تَتَابَعَتْ فَلَيْسَتْ مُتَوَاتِرَةً إِنَّمَا هِيَ مُتَدَارِكَةٌ وَمُتَتَابِعَةٌ.وَالْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ لُغَةً: أَنْ يُحَدِّثَهُ وَاحِدٌ عَنْ وَاحِدٍ.

وَلِلْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ عِدَّةُ تَعَارِيفَ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي الْأَلْفَاظِ إِلاَّ أَنَّهَا مُتَّفِقَةً فِي الْمَعْنَى.

فَعَرَّفَهُ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ بِأَنَّهُ: خَبَرُ أَقْوَامٍ بَلَغُوا فِي الْكَثْرَةِ إِلَى حَيْثُ حَصَلَ الْعِلْمُ بِقَوْلِهِمْ.وَقَالَ صَاحِبُ كَشْفِ الْأَسْرَارِ: هُوَ خَبَرُ جَمَاعَةٍ مُفِيدٌ بِنَفْسِهِ الْعِلْمَ بِصِدْقِهِ.وَعَرَّفَهُ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ بِأَنَّهُ: خَبَرُ جَمَاعَةٍ يُفِيدُ الْعِلْمَ، لَا بِالْقَرَائِنِ الْمُنْفَصِلَةِ.

وَقَالَ صَاحِبُ دُسْتُورِ الْعُلَمَاءِ: التَّوَاتُرُ هُوَ إِخْبَارُ قَوْمٍ دَفْعَةً أَوْ مُتَفَرِّقًا بِأَمْرٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَادَةً تَوَاطُؤُهُمْ وَتَوَافُقُهُمْ عَلَيْهِ بِالْكَذِبِ.

وَالْفُقَهَاءُ لَا يَقْصُرُونَ اسْتِعْمَالَهُ عَلَى الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ بَلْ قَدْ يَعُدُّونَهُ إِلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ كَمَا سَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْآحَادُ:

2- الْآحَادُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ أَحَدٍ.وَالْأَحَدُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى: وَهُوَ الْفَرْدُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَحْدَهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ آخَرُ.وَالْأَحَدُ: بِمَعْنَى الْوَاحِدِ، وَهُوَ أَوَّلُ الْعَدَدِ.وَخَبَرُ الْآحَادِ فِي الِاصْطِلَاحِ: خَبَرٌ لَا يُفِيدُ بِنَفْسِهِ الْعِلْمَ».وَقِيلَ «مَا يُفِيدُ الظَّنَّ».فَالنِّسْبَةُ بَيْنَ التَّوَاتُرِ وَالْآحَادِ التَّضَادُّ وَخَبَرُ الْآحَادِ يَشْمَلُ الْم شْهُورَ، وَالْعَزِيزَ وَالْغَرِيبَ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي عِلْمِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

3- اتَّفَقَ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّ التَّوَاتُرَ يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَالْجُمْهُورُ مِنْهُمْ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ ضَرُورِيٌّ، وَذَهَبَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ وَالْكَعْبِيُّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالدَّقَّاقُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهُ نَظَرِيٌّ، وَتَوَقَّفَ الْآمِدِيُّ وَفَصَّلَ الْغَزَالِيُّ فَقَالَ: هُوَ ضَرُورِيٌّ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ فِي حُصُولِهِ إِلَى الشُّعُورِ بِتَوَسُّطِ وَاسِطَةٍ مُفْضِيَةٍ إِلَيْهِ، مَعَ أَنَّ الْوَاسِطَةَ حَاضِرَةٌ فِي الذِّهْنِ، وَلَيْسَ ضَرُورِيًّا بِمَعْنَى أَنَّهُ حَاصِلٌ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ.

وَحَتَّى يُفِيدَ التَّوَاتُرُ الْعِلْمَ لَا بُدَّ أَنْ تَتَوَفَّرَ فِيهِ شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ، بَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبِرِينَ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُسْتَمِعِينَ، وَبَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَفِيمَا يَلِي الشُّرُوطُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا، أَمَّا الشُّرُوطُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا وَمُنَاقَشَتُهَا فَتَفْصِيلُهَا فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ وَعِلْمِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ.

4- فَالشُّرُوطُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبِرِينَ وَهِيَ مَحَلُّ اتِّفَاقِ الْأُصُولِيِّينَ أَرْبَعَةٌ:

أَوَّلُهَا: أَنْ يُخْبِرُوا عَنْ عِلْمٍ لَا عَنْ ظَنٍّ.

ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُمْ ضَرُورِيًّا مُسْتَنِدًا إِلَى مَحْسُوسٍ.

ثَالِثُهَا: أَنْ يَسْتَوِيَ طَرَفَاهُ وَوَسَطُهُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَفِي كَمَالِ الْعَدَدِ.

رَابِعُهَا: الْعَدَدُ الْكَامِلُ الَّذِي يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَالْمَقْصُودُ بِالْكَامِلِ هُوَ أَقَلُّ عَدَدٍ يُورِثُ الْعِلْمَ أَوْ هُوَ تَعَدُّدُ النَّقَلَةِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ التَّوَاطُؤَ عَادَةً عَلَى الْكَذِبِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَدَدِ فَقِيلَ: أَقَلُّهُ خَمْسَةٌ، وَقِيلَ: اثْنَا عَشَرَ، وَقِيلَ: عِشْرُونَ.وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ، وَقِيلَ: سَبْعُونَ، وَقِيلَ: ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ عَدَدُ أَهْلِ بَدْرٍ، وَقِيلَ: عَدَدُ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ (أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ).

وَقِيلَ: لَيْسَ مَعْلُومًا لَنَا لَكِنَّا بِحُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ نَتَبَيَّنُ كَمَالَ الْعَدَدِ، لَا أَنَّا بِكَمَالِ الْعَدَدِ نَسْتَدِلُّ عَلَى حُصُولِ الْعِلْمِ.

وَضَابِطُهُ: مَا حَصَلَ الْعِلْمُ عِنْدَهُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ مِنْهُمُ الْغَزَالِيُّ، وَالرَّازِيُّ، وَابْنُ الْهُمَامِ وَأَمِيرُ بَادْشَاهْ شَارِحُ التَّحْرِيرِ، وَسَعْدُ الدِّينِ التَّفْتَازَانِيُّ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ الْبُخَارِيُّ صَاحِبُ (كَشْفِ الْأَسْرَارِ).

وَأَمَّا الشُّرُوطُ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمُسْتَمِعِينَ فَشَرْطَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ السَّامِعُ عَالِمًا بِمَا أُخْبِرَ بِهِ.

ثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِقَبُولِ الْعِلْمِ بِمَا أُخْبِرَ بِهِ.

أَقْسَامُ التَّوَاتُرِ:

5- التَّوَاتُرُ يَنْقَسِمُ إِلَى لَفْظِيٍّ وَمَعْنَوِيٍّ، فَاللَّفْظِيُّ: هُوَ مَا تَوَاتَرَ لَفْظُهُ كَحَدِيثِ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا».

وَالْمَعْنَوِيُّ: هُوَ نَقْلُ رُوَاةِ الْخَبَرِ قَضَايَا مُتَعَدِّدَةً بَيْنَهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ عَلَى جِهَةِ التَّضَمُّنِ أَوِ الِالْتِزَامِ.

أَوْ هُوَ نَقْلُ جَمَاعَةٍ يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ وَقَائِعَ مُخْتَلِفَةً تَشْتَرِكُ فِي أَمْرٍ يَتَوَاتَرُ ذَلِكَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ، كَمَا نُقِلَ عَنْ شَجَاعَةِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-، وَكَرَمِ حَاتِمٍ، وَكَأَحَادِيثِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.

ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا كَانَ الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ فَلَا يَنْسَخُهُ إِلاَّ مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ مِثْلَهُ.وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ نَسْخِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى مَنْعِهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُتَوَاتِرَ قَطْعِيٌّ وَخَبَرُ الْآحَادِ ظَنِّيٌّ فَلَا يُبْطِلُهُ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُبْطِلُ أَقْوَى مِنْهُ، وَنَقَلَ صَاحِبُ الْبُرْهَانِ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ، وَنَقَلَ صَاحِبُ تَيْسِيرِ التَّحْرِيرِ جَوَازَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ.

وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي الْمَحْصُولِ: هُوَ جَائِزٌ فِي الْعَقْلِ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي السَّمْعِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ.

وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ عَقْلًا لَوْ تَعَبَّدَ بِهِ، وَوُقُوعُهُ سَمْعًا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلَكِنْ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ بَعْدَ وَفَاتِهِ.

وَذَهَبَ صَاحِبُ التَّوْضِيحِ إِلَى جَوَازِ نَسْخِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْمَشْهُورِ مِنَ الْآحَادِ فَقَطْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بَيَانٌ يَجُوزُ بِالْآحَادِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَبْدِيلٌ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّوَاتُرُ فَيَجُوزُ بِمَا هُوَ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ.

6- ثُمَّ إِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ مِنَ الْقُرْآنِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا فِي أَصْلِهِ وَأَجْزَائِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ التَّوَاتُرِ فِي مَحَلِّهِ وَوَضْعِهِ وَتَرْتِيبِهِ.

فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ التَّوَاتُرَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي مَحَلِّهِ وَوَضْعِهِ وَتَرْتِيبِهِ، بَلْ يَكْثُرُ فِيهَا نَقْلُ الْآحَادِ.قَالَ السُّيُوطِيّ: الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ التَّوَاتُرِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا.

(وَلِلتَّفْصِيلِ رَاجِعِ الْمُلْحَقَ الْأُصُولِيَّ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


80-موسوعة الفقه الكويتية (ثول)

ثَوَلٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الثَّوَلُ دَاءٌ يُشْبِهُ الْجُنُونَ، قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: الثَّوَلُ اسْتِرْخَاءٌ فِي أَعْضَاءِ الشَّاءِ خَاصَّةً، أَوْ كَالْجُنُونِ يُصِيبُهَا فَلَا تَتْبَعُ الْغَنَمَ وَتَسْتَدِيرُ فِي مَرْتَعِهَا.

وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: هُوَ دَاءٌ يَأْخُذُ الْغَنَمَ كَالْجُنُونِ يَلْتَوِي مَعَهُ عُنُقُهَا، وَقِيلَ هُوَ دَاءٌ يَأْخُذُ فِي ظُهُورِهَا وَرُءُوسِهَا فَتَخِرُّ مِنْهُ، وَالثَّوْلَاءُ مِنَ الشَّاءِ، وَغَيْرِهَا الْمَجْنُونَةُ، وَالذَّكَرُ أَثَوْلُ.

وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

قَالَ الرَّمْلِيُّ: الثَّوْلَاءُ هِيَ الْمَجْنُونَةُ الَّتِي تَسْتَدْبِرُ الرَّعْيَ وَلَا تَرْعَى إِلاَّ الْقَلِيلَ، وَذَلِكَ يُورِثُ الْهُزَالَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْهُيَامُ:

2- مِنْ مَعَانِي الْهُيَامِ أَنَّهُ دَاءٌ يُصِيبُ الْإِبِلَ مِنْ مَاءٍ تَشْرَبُهُ مُسْتَنْقَعًا، أَوْ هُوَ عَطَشٌ شَدِيدٌ لَا تَرْتَوِي مَعَهُ بِالْمَاءِ، فَتَهِيمُ فِي الْأَرْضِ وَلَا تَرْعَى.وَالْوَاحِدُ هَيْمَانُ، وَالْأُنْثَى هَيْمَى

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهَيْمَاءِ وَالثَّوْلَاءِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُصَابَةٌ بِآفَةٍ تَمْنَعُهَا مِنَ السَّوْمِ وَالرَّعْيِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

3- يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ عَدَمَ إِجْزَاءِ الثَّوْلَاءِ فِي الْأُضْحِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ خَصُّوا عَدَمَ الْإِجْزَاءِ بِالشَّاةِ دَائِمَةِ الْجُنُونِ الَّتِي فَقَدَتِ التَّمْيِيزَ بِحَيْثُ لَا تَهْتَدِي لِمَا يَنْفَعُهَا وَلَا تُجَانِبُ مَا يَضُرُّهَا، أَمَّا الْجُنُونُ غَيْرُ الدَّائِمِ فَلَا يَضُرُّ عِنْدَهُمْ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى جَوَازِ التَّضْحِيَةِ بِالثَّوْلَاءِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَيَّدُوا جَوَازَ التَّضْحِيَةِ بِهَا بِمَا إِذَا كَانَتْ تَعْتَلِفُ، أَمَّا إِذَا كَانَ الثَّوَلُ يَمْنَعُهَا مِنَ الرَّعْيِ وَالِاعْتِلَافِ فَلَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى هَلَاكِهَا فَكَانَ عَيْبًا فَاحِشًا.

كَمَا قَيَّدَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ جَوَازَ التَّضْحِيَةِ بِالثَّوْلَاءِ بِكَوْنِهَا سَمِينَةً.وَلَمْ نَرَ نَصًّا فِي ذَلِكَ لِلْحَنَابِلَةِ.وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: أُضْحِيَّةٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


81-موسوعة الفقه الكويتية (جب)

جَبٌّ

التَّعْرِيفُ:

1- الْجَبُّ لُغَةً الْقَطْعُ، وَمِنْهُ الْمَجْبُوبُ، وَهُوَ الَّذِي اسْتُؤْصِلَ ذَكَرُهُ وَخُصْيَاهُ.

وَالْجَبُّ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: قَطْعُ الذَّكَرِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مِنْهُ مَا يَتَأَتَّى بِهِ الْوَطْءُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْعُنَّةُ:

2- الْعُنَّةُ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى إِتْيَانِ النِّسَاءِ مَعَ وُجُودِ الْآلَةِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ ظَاهِرٌ فَإِنَّ عَدَمَ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي الْجَبِّ يَكُونُ لِقَطْعِ الْمَذَاكِيرِ.وَالْعَجْزُ عَنْ إِتْيَانِ الزَّوْجَةِ فِي الْعُنَّةِ يَكُونُ لِدَاءٍ يَمْنَعُ مِنْ الِانْتِشَارِ.

ب- الْخِصَاءُ:

3- الْخِصَاءُ: هُوَ فَقْدُ الْخُصْيَتَيْنِ خِلْقَةً، أَوْ بِقَطْعٍ، أَوْ سَلٍّ لَهُمَا.وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَبِّ وَالْخِصَاءِ وَاضِحٌ.

ج- الْوِجَاءُ:

4- الْوِجَاءُ: هُوَ اسْمُ مَصْدَرِ وَجَأَ يَجَأُ: أَيْ ضَرَبَ وَدَقَّ وَهُوَ أَنْ تُرَضَّ خُصْيَتَا الْفَحْلِ رَضًّا شَدِيدًا يُذْهِبُ شَهْوَةَ الْجِمَاعِ.فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَبِّ وَاضِحٌ إِذِ الْمَوْجُوءُ لَمْ يُقْطَعْ ذَكَرُهُ، بَلْ هُوَ شَبِيهٌ بِالْخَصِيِّ.إِلاَّ أَنَّ خُصْيَتَيْهِ لَا أَثَرَ لَهُمَا مَعَ وُجُودِهِمَا.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

5- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ الْجَبَّ مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي تُثْبِتُ لِلزَّوْجَةِ الْخِيَارَ بَيْنَ التَّفْرِيقِ وَالْبَقَاءِ مَتَى عَلِمَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجَبَّ يَمْنَعُ الْمَقْصُودَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَهُوَ الْوَطْءُ إِلاَّ أَنَّ هُنَاكَ اخْتِلَافًا وَتَفْصِيلًا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْجَبِّ أَهَمُّهَا مَا يَلِي:

الْجَبُّ الْحَادِثُ بَعْدَ الدُّخُولِ:

6- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ حُدُوثَ الْجَبِّ بَعْدَ الدُّخُولِ لَا يُثْبِتُ لِلزَّوْجَةِ الْخِيَارَ بَيْنَ التَّفْرِيقِ وَالْبَقَاءِ، لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجَةِ فِي وَطْأَةٍ وَاحِدَةٍ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهَا مِنْ تَأَكُّدِ الْمَهْرِ وَالْإِحْصَانِ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا لَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ حُكْمًا وَيَجِبُ عَلَيْهِ دِيَانَةً.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ آخَرَ إِلَى تَخْيِيرِ الزَّوْجَةِ بَيْنَ فَسْخِ النِّكَاحِ وَإِدَامَتِهِ بِالْجَبِّ مُطْلَقًا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ وَلَوْ بِفِعْلِهَا فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُوَرِّثُ الْيَأْسَ مِنَ الْوَطْءِ.

كَيْفِيَّةُ التَّفْرِيقِ لِلْجَبِّ:

7- إِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الزَّوْجَ مَجْبُوبٌ إِمَّا بِإِقْرَارِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ تُخَيَّرُ الزَّوْجَةُ لِلْحَالِّ وَلَا يُؤَجَّلُ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لِرَجَاءِ الْوُصُولِ إِلَيْهَا وَلَا يُرْجَى مِنْهُ الْوُصُولُ فَلَمْ يَكُنْ التَّأْجِيلُ مُفِيدًا.

وَالْفُرْقَةُ لِلْجَبِّ لَا تَقَعُ بِلَا حُكْمِ حَاكِمٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ أَمْرٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَيَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ وَتَحَرٍّ وَبَذْلِ جَهْدٍ فِي تَحْرِيرِ سَبَبِهِ وَذَلِكَ كَالطَّلَاقِ بِالْإِعْسَارِ وَالطَّلَاقِ بِالْإِضْرَارِ.

بِهَذَا قَالَ عَامَّةُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ- أَنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بِنَفْسِ اخْتِيَارِ الزَّوْجَةِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْقَضَاءِ كَخِيَارِ مَنْ خَيَّرَهَا زَوْجُهَا.

صِفَةُ الْفُرْقَةِ لِلْجَبِّ:

8- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْفُرْقَةَ بِالْجَبِّ طَلَاقٌ بَائِنٌ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الزَّوْجِ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِذَا فَاتَ وَجَبَ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ، فَإِنْ سَرَّحَهَا الزَّوْجُ وَإِلاَّ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ، فَكَانَ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إِلَى الزَّوْجِ، فَكَانَ طَلَاقًا بَائِنًا لِيَتَحَقَّقَ دَفْعُ الظُّلْمِ عَنْهَا، وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ النَّافِذُ اللاَّزِمُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَلِهَذَا لَا يَنْفَسِخُ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ فَسْخٌ لَا طَلَاقٌ؛ لِأَنَّهُ رَدٌّ لِعَيْبٍ فَكَانَ فَسْخًا كَرَدِّ الْمُشْتَرِي.

نَسَبُ وَلَدِ امْرَأَةِ الْمَجْبُوبِ:

9- ذَهَبَ أَبُو سُلَيْمَانَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْإِصْطَخْرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمَجْبُوبَ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ، وَيُحْكَى ذَلِكَ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ كَمَا أَنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ- وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- أَنَّ الْمَجْبُوبَ لَا يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْزِلُ وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنْ يُخْلَقَ لَهُ وَلَدٌ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ- وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ التُّمُرْتَاشِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ-: يُسْأَلُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ يُولَدُ لِمِثْلِهِ لَزِمَهُ الْوَلَدُ، وَإِلاَّ لَمْ يَلْزَمْهُ.

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي شُرُوطِ التَّفْرِيقِ لِلْجَبِّ، وَأَثَرِ التَّفْرِيقِ بِالْجَبِّ عَلَى الْمَهْرِ وَعِدَّةِ امْرَأَةِ الْمَجْبُوبِ (ر: طَلَاقٌ، عِدَّةٌ، عَيْبٌ، مَهْرٌ، نَسَبٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


82-موسوعة الفقه الكويتية (حجب)

حَجَبَ

التَّعْرِيفُ:

1- الْحَجْبُ لُغَةً مَصْدَرُ حَجَبَ يُقَالُ: حَجَبَ الشَّيْءَ يَحْجُبُهُ حَجْبًا إِذَا سَتَرَهُ، وَقَدِ احْتَجَبَ وَتَحَجَّبَ إِذَا اكْتَنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ.

وَحَجَبَهُ مَنَعَهُ عَنِ الدُّخُولِ، وَكُلُّ مَا حَالَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فَهُوَ حِجَابٌ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ}.

وَكُلُّ شَيْءٍ مَنَعَ شَيْئًا فَقَدْ حَجَبَهُ، وَسُمِّيَ الْبَوَّابُ حَاجِبًا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ.

وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ الْحَجْبُ فِي الْمِيرَاثِ وَهُوَ اصْطِلَاحًا: مَنْعُ مَنْ قَامَ بِهِ سَبَبُ الْإِرْثِ مِنَ الْإِرْثِ بِالْكُلِّيَّةِ وَيُسَمَّى حَجْبَ حِرْمَانٍ، أَوْ مِنْ أَوْفَرِ حَظَّيْهِ وَيُسَمَّى حَجْبَ نُقْصَانٍ.

وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْحَضَانَةِ وَالْوِلَايَةِ بِمَعْنَى مَنْعِ الشَّخْصِ مِنْ دُونِهِ مِنْ ذَلِكَ الْحَقِّ كَمَا يُقَالُ: الْأُمُّ تَحْجُبُ كُلَّ حَاضِنَةٍ سِوَاهَا، مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ بِمَحْرَمٍ مِنَ الصَّغِيرِ، وَفِي الْوِلَايَةِ يُقَالُ: إِنَّ الْوَلِيَّ الْأَقْرَبَ يَحْجُبُ الْوَلِيَّ الْأَبْعَدَ.وَتَفْصِيلُهُ فِي الْحَضَانَةِ وَالْوِلَايَةِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْمَنْعُ:

2- مِنْ مَعَانِي الْمَنْعِ فِي اللُّغَةِ: الْحِرْمَانُ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ تَعْطِيلُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ، كَامْتِنَاعِ الْمِيرَاثِ مَعَ وُجُودِ الْقَرَابَةِ الْمُوجِبَةِ لَهُ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الدِّينِ- مَثَلًا- وَالْمَنْعُ فِي الْإِرْثِ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْحَجْبِ بِالْوَصْفِ، أَمَّا الْحَجْبُ فَيُسْتَعْمَلُ فِي الْحَجْبِ بِالشَّخْصِ.

الْحَجْبُ فِي الْمِيرَاثِ:

3- الْحَجْبُ مُطْلَقًا قِسْمَانِ:

حَجْبٌ بِوَصْفٍ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَانِعِ، وَحَجْبٌ بِشَخْصٍ، وَهُوَ قِسْمَانِ: حَجْبُ حِرْمَانٍ، وَهُوَ أَنْ يُسْقِطَ الْوَارِثُ غَيْرَهُ بِالْكُلِّيَّةِ.

وَهُوَ لَا يَدْخُلُ عَلَى سِتَّةٍ مِنَ الْوَرَثَةِ إِجْمَاعًا، وَهُمُ: الْأَبَوَانِ وَالزَّوْجَانِ وَالِابْنُ وَالْبِنْتُ وَضَابِطُهُ: كُلُّ مَنْ أَدْلَى بِنَفْسِهِ إِلَى الْمَيِّتِ إِلاَّ الْمُعْتَقَ.

وَالثَّانِي: حَجْبُ نُقْصَانٍ: وَهُوَ حَجْبٌ عَنْ نَصِيبٍ أَكْثَرَ إِلَى نَصِيبٍ أَقَلَّ.وَهُوَ لِخَمْسَةٍ مِنَ الْوَرَثَةِ: الزَّوْجَيْنِ، وَالْأُمِّ، وَبِنْتِ الِابْنِ، وَالْأُخْتِ لِأَبٍ، وَالْإِخْوَةِ لِأُمٍّ.

وَلِلْحَجْبِ مُطْلَقًا قَوَاعِدُ يَقُومُ عَلَيْهَا، وَهِيَ: الْأُولَى: أَنَّ مَنْ يُدْلِي إِلَى الْمَيِّتِ بِوَارِثٍ يُحْجَبُ حَجْبَ حِرْمَانٍ عِنْدَ وُجُودِ ذَلِكَ الْوَارِثِ إِلاَّ الْإِخْوَةَ لِأُمٍّ مَعَ وُجُودِ الْأُمِّ.

الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْأَقْرَبَ يَحْجُبُ الْأَبْعَدَ إِذَا كَانَ يَسْتَحِقُّ بِوَصْفِهِ وَنَوْعِهِ.

الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْأَقْوَى قَرَابَةً يَحْجُبُ الْأَضْعَفَ مِنْهُ.

وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ إرْثٍ (ج 3 ص 45 فِقْرَةُ 45) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ.

وَفِي تَطْبِيقِ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ التَّفْصِيلُ التَّالِي:

فَابْنُ الِابْنِ يَحْجُبُهُ الِابْنُ أَوِ ابْنُ ابْنٍ أَقْرَبُ مِنْهُ لِإِدْلَائِهِ بِهِ إِنْ كَانَ أَبَاهُ، أَوْ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ أَقْرَبُ مِنْهُ، وَيَحْجُبُهُ كَذَلِكَ أَبَوَانِ وَبِنْتَانِ لِلصُّلْبِ بِاسْتِغْرَاقِهِمْ لِلتَّرِكَةِ.

وَالْجَدُّ أَبُو الْأَبِ وَإِنْ عَلَا لَا يَحْجُبُهُ إِلاَّ الْأَبُ أَوْ جَدٌّ أَقْرَبُ مِنْهُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ تَطْبِيقًا لِقَاعِدَةِ أَنَّ مَنْ أَدْلَى بِشَخْصٍ لَا يَرِثُ مَعَ وُجُودِهِ إِلاَّ أَوْلَادُ الْأُمِّ، وَالْأَخُ الشَّقِيقُ يَحْجُبُهُ الْأَبُ وَالِابْنُ وَابْنُ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ لقوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

4- وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ الْإِخْوَةُ الْأَشِقَّاءُ وَالْإِخْوَةُ لِلْأَبِ يُحْجَبُونَ بِالْجَدِّ أَبِي الْأَبِ وَإِنْ عَلَا: فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْجَدَّ يَحْجُبُ الْإِخْوَةَ سَوَاءٌ أَكَانُوا أَشِقَّاءَ أَوْ لِأَبٍ لِلْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ حَيْثُ إِنَّ الْكَلَالَةَ- سَوَاءٌ كَانَتِ اسْمًا لِلْمَيِّتِ الَّذِي لَا وَلَدَ وَلَا وَالِدَ لَهُ حَسَبَ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِهَا- لَا تَشْمَلُ الْجَدَّ لِأَنَّهُ وَالِدٌ لِلْمَيِّتِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم-.

5- وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْجَدَّ لَا يَحْجُبُ الْأَخَ الشَّقِيقَ أَوْ لِأَبٍ بَلْ يَرِثُ مَعَهُ

وَالْأَخُ لِأَبٍ يَحْجُبُهُ هَؤُلَاءِ وَالْأَخُ الشَّقِيقُ.

وَابْنُ الْأَخِ لِأَبَوَيْنِ، يَحْجُبُهُ سِتَّةٌ وَهُمُ الْأَبُ، وَالْجَدُّ أَبُو الْأَبِ وَإِنْ عَلَا، وَالِابْنُ وَابْنُ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ وَالْأَخُ لِأَبَوَيْنِ، وَالْأَخُ لِأَبٍ.

وَابْنُ الْأَخِ لِأَبٍ يَحْجُبُهُ سَبْعَةٌ وَهُمْ هَؤُلَاءِ السِّتَّةُ وَابْنُ الْأَخِ لِأَبَوَيْنِ.

وَالْعَمُّ لِأَبَوَيْنِ يَحْجُبُهُ ثَمَانِيَةٌ وَهُمُ الْأَبُ وَالْجَدُّ وَإِنْ عَلَا وَالِابْنُ وَابْنُ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ وَالْأَخُ لِأَبَوَيْنِ وَالْأَخُ لِأَبٍ وَابْنُ الْأَخِ لِأَبَوَيْنِ وَابْنُ الْأَخِ لِأَبٍ.

وَالْعَمُّ لِأَبٍ يَحْجُبُهُ تِسْعَةٌ وَهُمْ هَؤُلَاءِ الثَّمَانِيَةُ وَالْعَمُّ الشَّقِيقُ.

وَابْنُ الْعَمِّ الشَّقِيقِ يَحْجُبُهُ عَشَرَةٌ وَهُمُ الْأَبُ وَالْجَدُّ أَبُو الْأَبِ وَإِنْ عَلَا وَالِابْنُ وَابْنُ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ وَالْأَخُ الشَّقِيقُ وَالْأَخُ لِأَبٍ وَابْنُ الْأَخِ الشَّقِيقِ وَابْنُ الْأَخِ لِأَبٍ وَالْعَمُّ الشَّقِيقُ وَالْعَمُّ لِأَبٍ.

وَابْنُ الْعَمِّ لِأَبٍ يَحْجُبُهُ هَؤُلَاءِ الْعَشَرَةُ، وَابْنُ الْعَمِّ الشَّقِيقِ.

وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

6- وَبِنْتُ الِابْنِ يَحْجُبُهَا الِابْنُ لِأَنَّهُ أَبُوهَا أَوْ عَمُّهَا وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَبِيهَا وَتَحْجُبُهَا بِنْتَانِ لِأَنَّ الثُّلُثَيْنِ فَرْضُ الْبَنَاتِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ إِلاَّ إِذَا كَانَ مَعَهَا ابْنُ ابْنٍ يُعَصِّبُهَا فَحِينَئِذٍ تَشْتَرِكُ مَعَهُ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ ثُلُثَيِ الْبِنْتَيْنِ {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}

وَالْأَخَوَاتُ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ كَالْإِخْوَةِ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ فِي الْحَجْبِ إِلاَّ أَنَّ الْأَخَ الشَّقِيقَ يَحْجُبُ الْأُخُوَّةَ لِأَبٍ وَإِنْ كَثُرُوا.

وَالْأُخْتُ لِأَبٍ فَأَكْثَرُ يَحْجُبُهُنَّ أُخْتَانِ لِأَبَوَيْنِ، لِأَنَّ الثُّلُثَيْنِ فَرْضُ الْأَخَوَاتِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ.

وَأَوْلَادُ الْأُمِّ يَحْجُبُهُمْ أَرْبَعَةٌ وَهُمُ الْأَبُ وَالْجَدُّ أَبُو الْأَبِ وَإِنْ عَلَا، وَالْوَلَدُ لِلصُّلْبِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَوَلَدُ الِابْنِ كُلُّ ذَلِكَ وَإِنْ سَفَلَ.وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}.

وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجَدَّةَ تُحْجَبُ بِالْأُمِّ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ أَمْ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ لِأَنَّ الْجَدَّاتِ يَرِثْنَ بِالْوِلَادَةِ فَالْأُمُّ أَوْلَى لِمُبَاشَرَتِهَا الْوِلَادَةَ، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْقُرْبَى مِنْ كُلِّ جِهَةٍ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لِقُرْبِهَا إِلَى الْمَيِّتِ.

7- وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَتَيْنِ مِنْ مَسَائِلِ حَجْبِ الْجَدَّةِ:

أُولَاهُمَا: فِيمَنْ تَحْجُبُ الْجَدَّةَ الَّتِي مِنْ جِهَةِ الْأَبِ غَيْرُ الْأُمِّ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأَبَ يَحْجُبُ الْجَدَّةَ الَّتِي مِنْ جِهَتِهِ لِأَنَّهَا تُدْلِي بِهِ إِلَى الْمَيِّتِ وَمَنْ أَدْلَى بِشَخْصٍ لَا يَرِثُ مَعَهُ إِلاَّ أَوْلَادُ الْأُمِّ كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْأَبَ لَا يَحْجُبُ هَذِهِ الْجَدَّةَ بَلْ تَرِثُ مَعَهُ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «أَوَّلُ جَدَّةٍ أَطْعَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- السُّدُسَ أُمُّ أَبٍ مَعَ ابْنِهَا وَابْنُهَا حَيٌّ».وَلِأَنَّ الْجَدَّاتِ أُمَّهَاتٌ يَرِثْنَ مِيرَاثَ الْأُمِّ لَا مِيرَاثَ الْأَبِ فَلَا يُحْجَبْنَ بِهِ كَأُمَّهَاتِ الْأُمِّ.

وَثَانِيَتُهُمَا: هَلْ الْقُرْبَى مِنَ الْجَدَّاتِ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنَ الْجِهَةِ الْأُخْرَى؟

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقُرْبَى مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ جِهَةِ الْأَبِ، وَأَنَّ الْقُرْبَى مِنْ جِهَةِ الْأَبِ لَا تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ، لِأَنَّ الْأَبَ لَا يَحْجُبُهَا فَالْجَدَّةُ الَّتِي تُدْلِي بِهِ أَوْلَى أَنْ لَا تَحْجُبَهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقُرْبَى مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ كَذَلِكَ لِقُوَّةِ الْقَرَابَةِ.

8- وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ وَمَنْ سَبَقَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يَرِثُ لِمَانِعٍ فِيهِ كَالْقَتْلِ أَوِ الرِّقِّ لَا يَحْجُبُ غَيْرَهُ لَا حِرْمَانًا وَلَا نُقْصَانًا بَلْ وُجُودُهُ كَالْعَدَمِ.

وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- فَقَالَ: إِنَّ الْمَحْرُومَ مِنَ الْإِرْثِ يَحْجُبُ غَيْرَهُ حِرْمَانًا وَنُقْصَانًا.

كَمَا اتَّفَقَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَحْجُوبَ بِشَخْصٍ يَحْجُبُ غَيْرَهُ حَجْبَ نُقْصَانٍ.

وَأَجْمَعُوا كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَقَ يَحْجُبُهُ عَصَبَةُ النَّسَبِ، لِأَنَّ النَّسَبَ أَقْوَى مِنَ الْوَلَاءِ.

أَمَّا مَا يَتَّصِلُ بِحَجْبِ النُّقْصَانِ فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (إِرْثٌ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


83-موسوعة الفقه الكويتية (حدود 1)

حُدُودٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْحُدُودُ جَمْعُ حَدٍّ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ كُلٌّ مِنَ الْبَوَّابِ وَالسَّجَّانِ حَدَّادًا، لِمَنْعِ الْأَوَّلِ مِنَ الدُّخُولِ، وَالثَّانِي مِنَ الْخُرُوجِ.وَسُمِّيَ الْمُعَرِّفُ لِلْمَاهِيَّةِ حَدًّا، لِمَنْعِهِ مِنَ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ.وَحُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى مَحَارِمُهُ، لقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}.

وَالْحَدُّ فِي الِاصْطِلَاحِ: عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلَى ذَنْبٍ وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي الزِّنَى، أَوِ اجْتَمَعَ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ كَالْقَذْفِ فَلَيْسَ مِنْهُ التَّعْزِيرُ لِعَدَمِ تَقْدِيرِهِ، وَلَا الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ حَقٌّ خَالِصٌ لآِدَمِيٍّ.وَعِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِتَقْدِيرِ الشَّارِعِ، فَيَدْخُلُ الْقِصَاصُ.

وَيُطْلَقُ لَفْظُ الْحَدِّ عَلَى جَرَائِمِ الْحُدُودِ مَجَازًا، فَيُقَالُ: ارْتَكَبَ الْجَانِي حَدًّا، وَيُقْصَدُ أَنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً ذَاتَ عُقُوبَةٍ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْقِصَاصُ:

2- الْقِصَاصُ لُغَةً الْمُمَاثَلَةُ، وَاصْطِلَاحًا: أَنْ يُوقَعَ عَلَى الْجَانِي مِثْلُ مَا جَنَى كَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ وَالْجُرْحِ بِالْجُرْحِ.وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} وقوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ}.فَالْقِصَاصُ غَيْرُ الْحَدِّ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَجَبَتْ حَقًّا لِلْعِبَادِ.

ب- التَّعْزِيرُ:

3- أَصْلُهُ مِنَ الْعَزْرِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الرَّدِّ وَالْمَنْعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ مُعَاوَدَةِ الْقَبِيحِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ، وَمِنْهُ

قوله تعالى {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} فَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ.

وَشَرْعًا: تَأْدِيبٌ دُونَ الْحَدِّ، فَالتَّعْزِيرُ فِي بَعْضِ إِطْلَاقَاتِهِ اللُّغَوِيَّةِ حَدٌّ.وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَلَيْسَ بِحَدٍّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ.

ج- الْعُقُوبَةُ:

4- الْعُقُوبَةُ مِنْ عَاقَبْتُ اللِّصَّ مُعَاقَبَةً وَعِقَابًا، وَالِاسْمُ الْعُقُوبَةُ، وَهِيَ الْأَلَمُ الَّذِي يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ مُسْتَحِقًّا عَلَى الْجِنَايَةِ، وَيَكُونُ بِالضَّرْبِ، أَوِ الْقَطْعِ، أَوِ الرَّجْمِ، أَوِ الْقَتْلِ، سُمِّيَ بِهَا لِأَنَّهَا تَتْلُو الذَّنْبَ مِنْ تَعَقَّبَهُ إِذَا تَبِعَهُ، فَالْعُقُوبَةُ أَعَمُّ مِنَ الْحُدُودِ.

د- الْجِنَايَةُ:

5- الْجِنَايَةُ لُغَةً: اسْمٌ لِمَا يُكْتَسَبُ مِنَ الشَّرِّ، وَشَرْعًا: اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ وَقَعَ عَلَى مَالٍ أَوْ نَفْسٍ.فَبَيْنَ الْجِنَايَةِ وَالْحَدِّ عَلَى الْإِطْلَاقِ الْمَجَازِيِّ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ إِذْ كُلُّ حَدٍّ جِنَايَةٌ وَلَيْسَ كُلُّ جِنَايَةٍ حَدًّا، وَأَمَّا عَلَى الْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ فَبَيْنَهُمَا تَبَايُنٌ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

6- إِقَامَةُ الْحُدُودِ فَرْضٌ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَدَلِيلُ ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، وَالْمَعْقُولُ.

أَمَّا الْكِتَابُ فَمِنْهُ قوله تعالى فِي الزِّنَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}.

وَفِي السَّرِقَةِ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} الْآيَةَ وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدً} وَفِي قَطْعِ الطَّرِيقِ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} الْآيَةَ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَحَدِيثُ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ، وَالْعَسِيفِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ.

وَقَدْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ إِقَامَةِ الْحُدُودِ.

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ الطِّبَاعَ الْبَشَرِيَّةَ، وَالشَّهْوَةَ النَّفْسَانِيَّةَ مَائِلَةٌ إِلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَاقْتِنَاصِ الْمَلَاذِ، وَتَحْصِيلِ مَقْصُودِهَا وَمَحْبُوبِهَا مِنَ الشُّرْبِ وَالزِّنَى وَالتَّشَفِّي بِالْقَتْلِ وَأَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ، وَالِاسْتِطَالَةِ عَلَى الْغَيْرِ بِالشَّتْمِ وَالضَّرْبِ، فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ شَرْعَ هَذِهِ الْحُدُودِ حَسْمًا لِهَذَا الْفَسَادِ، وَزَجْرًا عَنِ ارْتِكَابِهِ، لِيَبْقَى الْعَالَمُ عَلَى نَظْمِ الِاسْتِقَامَةِ، فَإِنَّ إِخْلَاءَ الْعَالَمِ عَنْ إِقَامَةِ الزَّاجِرِ يُؤَدِّي إِلَى انْحِرَافِهِ، وَفِيهِ مِنَ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى.

وَلِذَا قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَالْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ مِنْ شَرْعِهِ الِانْزِجَارُ عَمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْعِبَادُ.

أَنْوَاعُ الْحُدُودِ:

7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يُطَبَّقُ عَلَى جَرِيمَةِ كُلٍّ مِنَ الزِّنَى وَالْقَذْفِ، وَالسُّكْرِ، وَالسَّرِقَةِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ يُعْتَبَرُ حَدًّا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا سِتَّةٌ، وَذَلِكَ بِإِضَافَةِ حَدِّ الشُّرْبِ لِلْخَمْرِ خَاصَّةً.وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْحُدُودَ سَبْعَةٌ، فَيُضِيفُونَ إِلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الرِّدَّةَ وَالْبَغْيَ، فِي حِينِ يَعْتَبِرُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الْقِصَاصَ أَيْضًا مِنَ الْحُدُودِ، حَيْثُ قَالُوا: الْحُدُودُ ثَمَانِيَةٌ وَعَدُّوهُ بَيْنَهَا.وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ قَتْلَ تَارِكِ الصَّلَاةِ عَمْدًا مِنَ الْحُدُودِ

أَوْجُهُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ:

8- أ- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُودِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ.

ب- لَا تُورَثُ الْحُدُودُ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا الْقِصَاصُ فَيُورَثُ.وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ خِلَافٌ يُنْظَرُ فِي (الْقَذْفُ).

ج- لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ فِي الْحُدُودِ فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ.

د- التَّقَادُمُ لَا يَمْنَعُ مِنَ الشَّهَادَةِ بِالْقَتْلِ فِي الْقِصَاصِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، سِوَى حَدِّ الْقَذْفِ.

هـ- يَثْبُتُ الْقِصَاصُ بِالْإِشَارَةِ وَالْكِتَابَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ.

و- لَا تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ فِي الْحُدُودِ، وَتَجُوزُ فِي الْقِصَاصِ.

ز- لَا تَتَوَقَّفُ الْحُدُودُ- مَا عَدَا حَدَّ الْقَذْفِ- عَلَى الدَّعْوَى بِخِلَافِ الْقِصَاصِ.

ح- يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنِ الْإِقْرَارِ فِي الْحُدُودِ وَلَا تَجُوزُ فِي الْقِصَاصِ.

وَمَرَدُّ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الْحُدُودَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ حَقٌّ لِلْعَبْدِ،

وَالتَّفْصِيلُ فِي أَبْوَابِ الْحُدُودِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَ (ر: قِصَاصٌ).

أَوْجُهُ الْخِلَافِ بَيْنَ التَّعْزِيرِ وَالْحُدُودِ:

9- يَخْتَلِفُ التَّعْزِيرُ عَنِ الْحُدُودِ فِي أُمُورٍ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ: (تَعْزِيرٌ).

تَدَاخُلُ الْحُدُودِ:

10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ مِنَ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ، وَالْقَذْفِ (إِذَا وَقَعَ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ) وَشُرْبِ الْخَمْرِ إِذَا تَكَرَّرَ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، أَجْزَأَ حَدٌّ وَاحِدٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

أَمَّا إِذَا وَقَعَ الْقَذْفُ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ وَاحِدٍ فَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَذْفٌ).وَالْأَصْلُ قَاعِدَةُ: إِذَا اجْتَمَعَ أَمْرَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ مَقْصُودُهُمَا، دَخَلَ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ غَالِبًا، وَعَلَى هَذَا فَيُكْتَفَى بِحَدٍّ وَاحِدٍ لِجِنَايَاتٍ اتَّحَدَ جِنْسُهَا بِخِلَافِ مَا اخْتَلَفَ جِنْسُهَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ هُوَ الزَّجْرُ وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِحَدٍّ وَاحِدٍ.

وَإِنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، ثُمَّ حَدَثَتْ مِنْهُ جِنَايَةٌ أُخْرَى فَفِيهَا حَدُّهَا، لِعُمُومِ النُّصُوصِ وَلِوُجُودِ الْمُوجِبِ، وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ الْأَمَةِ تَزْنِي قَبْلَ أَنْ تُحْصَنَ قَالَ: إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا».

وَلِأَنَّ تَدَاخُلَ الْحُدُودِ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ اجْتِمَاعِهَا، وَهَذَا الْحَدُّ الثَّانِي وَجَبَ بَعْدَ سُقُوطِ الْأَوَّلِ بِاسْتِيفَائِهِ.

وَفِي حَالَةِ اجْتِمَاعِ الْحُدُودِ الْمُخْتَلِفَةِ كَمَا لَوْ زَنَى، وَسَرَقَ وَشَرِبَ الْخَمْرَ، أَوِ اجْتِمَاعِهَا مَعَ الْقِصَاصِ وَالتَّعْزِيرِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (تَدَاخُلٌ) (وَتَعْزِيرٌ).

عَدَمُ جَوَازِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ:

11- لَا خِلَافَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ فِي الْحُدُودِ بَعْدَ وُصُولِهَا لِلْحَاكِمِ، وَالثُّبُوتِ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ طَلَبُ تَرْكِ الْوَاجِبِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «أَنْكَرَ عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ حِينَ شَفَعَ فِي الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى».وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي خَلْقِهِ.

وَأَمَّا قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَ الرَّافِعِ لَهُ إِلَى الْحَاكِمِ لِيُطْلِقَهُ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ.فَالْوُجُوبُ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ.

وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ عُرِفَ بِشَرٍّ وَفَسَادٍ فَلَا أُحِبُّ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ أَحَدٌ، وَلَكِنْ يُتْرَكُ لِيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

أَثَرُ التَّوْبَةِ عَلَى الْحُدُودِ:

12- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ حَدَّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالرِّدَّةِ يَسْقُطَانِ بِالتَّوْبَةِ إِذَا تَحَقَّقَتْ تَوْبَةُ الْقَاطِعِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ حَدُّ تَرْكِ الصَّلَاةِ عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَهُ حَدًّا، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ بَقِيَّةَ الْحُدُودِ بَعْدَ رَفْعِهَا إِلَى الْحَاكِمِ لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ وَلَوْ كَانَ قَبْلَ الرَّفْعِ إِلَى الْإِمَامِ.لِئَلاَّ يُتَّخَذَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى إِسْقَاطِ الْحُدُودِ وَالزَّوَاجِرِ.

سُقُوطُ الْحُدُودِ بِالشُّبْهَةِ:

13- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.وَالشُّبْهَةُ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْفَاعِلِ: كَمَنْ وَطِئَ امْرَأَةً ظَنَّهَا حَلِيلَتَهُ.أَوْ فِي الْمَحَلِّ: بِأَنْ يَكُونَ لِلْوَاطِئِ فِيهَا مِلْكٌ أَوْ شُبْهَةُ مِلْكٍ كَالْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ.أَوْ فِي الطَّرِيقِ: بِأَنْ يَكُونَ حَرَامًا عِنْدَ قَوْمٍ، حَلَالًا عِنْدَ آخَرَ.وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَى «شُبْهَةٌ».

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ».وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَتَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ.

سُقُوطُ الْحُدُودِ بِالرُّجُوعِ عَنِ الْإِقْرَارِ:

14- إِذَا ثَبَتَتِ الْحُدُودُ بِالْإِقْرَارِ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهَا تَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ، إِذَا كَانَ الْحَدُّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى.

وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا أَقَرَّ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالزِّنَى، لَقَّنَهُ الرُّجُوعَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلسُّقُوطِ بِالرُّجُوعِ مَا كَانَ لِلتَّلْقِينِ فَائِدَةٌ.وَلِأَنَّهُ يُورِثُ الشُّبْهَةَ، وَالرُّجُوعُ عَنِ الْإِقْرَارِ قَدْ يَكُونُ نَصًّا، وَقَدْ يَكُونُ دَلَالَةً، بِأَنْ يَأْخُذَ النَّاسُ فِي رَجْمِهِ، فَيَهْرُبَ وَلَا يَرْجِعُ، أَوْ يَأْخُذَ الْجَلاَّدُ فِي الْجَلْدِ فَيَهْرُبَ، وَلَا يَرْجِعُ، فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ، لِأَنَّ الْهَرَبَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ دَلَالَةُ الرُّجُوعِ.

وَاسْتَثْنَوْا حَدَّ الْقَذْفِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ، لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ، وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالرُّجُوعِ بَعْدَمَا ثَبَتَ كَالْقِصَاصِ.

وَإِذَا ثَبَتَ الْحَدُّ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الْحَمْلِ فِي الزِّنَى- عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ- لَمْ يَسْقُطْ بِالرُّجُوعِ.

وَيَسْقُطُ الْحَدُّ بِرُجُوعِ الشُّهُودِ كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ إِذَا كَانَ الْبَاقِي أَقَلُّ مِنَ النِّصَابِ بَعْدَ الْقَضَاءِ، قَبْلَ الْإِمْضَاءِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي «كِتَابُ الشَّهَادَاتِ» مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.

سُقُوطُ الْحُدُودِ بِمَوْتِ الشُّهُودِ:

15- يَسْقُطُ حَدُّ الرَّجْمِ خَاصَّةً بِمَوْتِ الشُّهُودِ- عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُونَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ الْبِدَايَةَ بِالشُّهُودِ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ- لِأَنَّ بِالْمَوْتِ قَدْ فَاتَتِ الْبِدَايَةُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ، فَسَقَطَ الْحَدُّ ضَرُورَةً.

سُقُوطُ الْحُدُودِ بِالتَّكْذِيبِ وَغَيْرِهِ:

16- تَكْذِيبُ الْمَزْنِيِّ بِهَا لِلْمُقِرِّ بِالزِّنَى قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَتَكْذِيبُ الْمَقْذُوفِ شُهُودَهُ عَلَى الْقَذْفِ، وَهِيَ الْبَيِّنَةُ بِأَنْ يَقُولَ: شُهُودِي زُورٌ، وَادِّعَاءُ النِّكَاحِ وَالْمَهْرِ قَبْلَ إِقَامَةِ حَدِّ الزِّنَى تُعْتَبَرُ مِنْ مُسْقِطَاتِ الْحُدُودِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ فُصِّلَتْ فِي أَبْوَابِهَا.وَ (ر: زِنًى، قَذْفٌ).

عَدَمُ إِرْثِ الْحُدُودِ:

17- لَا خِلَافَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحُدُودَ لَا تُورَثُ، وَكَذَا لَا يُؤْخَذُ عَنْهَا عِوَضٌ، وَلَا صُلْحَ فِيهَا وَلَا عَفْوَ، لِأَنَّهَا حَقُّ الشَّرْعِ.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ حَدَّ الْقَذْفِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ عِنْدَهُمْ حَقُّ الْعَبْدِ فَيُورَثُ وَيَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ.

وَالْحَنَابِلَةُ مَعَ الشَّافِعِيَّةِ فِي جَوَازِ الْعَفْوِ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ.

وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ: فَقَالَ فِي رِوَايَةٍ: لَهُ الْعَفْوُ مَا لَمْ يَبْلُغِ الْإِمَامَ، فَإِنْ بَلَغَهُ فَلَا عَفْوَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: قَالَ: لَهُ الْعَفْوُ مُطْلَقًا، بَلَغَ ذَلِكَ الْإِمَامَ أَوْ لَمْ يَبْلُغْ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (قَذْفٌ).

التَّلَفُ بِسَبَبِ الْحَدِّ:

18- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحُدُودَ إِذَا أُتِيَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ أَنَّهُ لَا يُضْمَنُ مَنْ تَلِفَ بِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فَعَلَهَا بِأَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ، وَلِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَأْمُورٌ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ.وَإِنْ زَادَ عَلَى الْحَدِّ فَتَلِفَ وَجَبَ الضَّمَانُ بِغَيْرِ خِلَافٍ.

الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِلذُّنُوبِ:

19- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْحَدَّ الْمُقَدَّرَ فِي ذَنْبٍ كَفَّارَةٌ لِذَلِكَ الذَّنْبِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، الْحَدُّ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، بَلِ الْمُطَهِّرُ التَّوْبَةُ، فَإِذَا حُدَّ وَلَمْ يَتُبْ يَبْقَى عَلَيْهِ إِثْمُ الْمَعْصِيَةِ عِنْدَهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَدِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

الْإِثْبَاتُ فِي الْحُدُودِ:

20- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحُدُودَ تَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الْإِقْرَارِ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِمَا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ كَعِلْمِ الْإِمَامِ وَقَرِينَةِ الْحَبَلِ وَغَيْرِهِمَا:

أَوَّلًا- الْبَيِّنَةُ وَشُرُوطُهَا فِي الْحُدُودِ:

تَنْقَسِمُ شُرُوطُ الْبَيِّنَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ:

1- مَا يَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا:

21- وَهِيَ الذُّكُورَةُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ.وَالْأَصَالَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَذْهَبُ لَدَى الْحَنَابِلَةِ، فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلَا كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي، لِتَمَكُّنِ زِيَادَةِ شُبْهَةٍ فِيهَا، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ عَدَمَ اشْتِرَاطِ الْأَصَالَةِ، وَهَذَا إِذَا تَعَذَّرَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ مِنَ الشَّاهِدِ الْأَوَّلِ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْبَةٍ أَوْ مَوْتٍ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَةٌ). مَا تَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُ الْحُدُودِ:

أ- عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ:

22- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ لَا يَقِلَّ عَدَدُ الشُّهُودِ عَنْ أَرْبَعَةٍ لقوله تعالى: {وَاَللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}.

«وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟، قَالَ: نَعَمْ».

ب- اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ:

23- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ مُجْتَمِعِينَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَإِنْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ يَشْهَدُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَيُحَدُّونَ وَإِنْ كَثُرُوا.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ لقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَجَالِسَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَتِّيُّ.

ج- عَدَمُ التَّقَادُمِ:

24- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّ الشُّهُودَ لَوْ شَهِدُوا بِزِنًى قَدِيمٍ، وَجَبَ الْحَدُّ، لِعُمُومِ الْآيَةِ.وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْبَةٍ، وَالْحَدُّ لَا يَسْقُطُ بِمُطْلَقِ الِاحْتِمَالِ، فَإِنَّهُ لَوْ سَقَطَ بِكُلِّ احْتِمَالٍ لَمْ يَجِبْ حَدٌّ أَصْلًا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ عَدَمَ التَّقَادُمِ فِي الْبَيِّنَةِ شَرْطٌ، وَذَلِكَ فِي حَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ مَذْهَبٌ لِأَحْمَد.

وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الشَّاهِدَ إِذَا عَايَنَ الْجَرِيمَةَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} وَبَيْنَ السَّتْرِ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَلَمَّا لَمْ يَشْهَدْ عَلَى فَوْرِ الْمُعَايَنَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِيَارِ جِهَةِ السَّتْرِ، فَإِذَا شَهِدَ بَعْدَ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الضَّغِينَةَ حَمَلَتْهُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: أَيُّمَا قَوْمٍ شَهِدُوا عَلَى حَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا عِنْدَ حَضْرَتِهِ، فَإِنَّمَا شَهِدُوا عَنْ ضِغْنٍ، وَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا.وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ يُورِثُ تُهْمَةً، وَلَا شَهَادَةَ لِلْمُتَّهَمِ.

وَهُنَاكَ تَفْصِيلَاتٌ وَشُرُوطٌ فِيهَا خِلَافٌ يُنْظَرُ فِي (شَهَادَةٌ) (وَزِنًى).

ثَانِيًا- الْإِقْرَارُ:

25- شُرُوطُ الْإِقْرَارِ فِي الْحُدُودِ قِسْمَانِ:

شُرُوطٌ تَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا: وَهِيَ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالنُّطْقُ، فَلَا يَصِحُّ إِقْرَارُ الصَّبِيِّ، لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْحَدِّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جِنَايَةً، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ جِنَايَةً.

وَكَذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ بِالْخِطَابِ وَالْعِبَارَةِ دُونَ الْكِتَابِ وَالْإِشَارَةِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالْبَيَانِ الْمُتَنَاهِي، وَلِذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالزِّنَى.

وَيُقْبَلُ إِقْرَارُ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَلَا تُقْبَلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ احْتِمَالٌ لِلْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَتَفْصِيلُهُ فِي: (إِقْرَارٌ).

شُرُوطٌ تَخُصُّ بَعْضَ الْحُدُودِ مِنْهَا:

أ- تَكْرَارُ الْإِقْرَارِ:

26- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يُقِرَّ الزَّانِي أَوِ الزَّانِيَةُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَبِهَذَا قَالَ الْحَكَمُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقُ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ تَكْرَارَ الْإِقْرَارِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيُكْتَفَى بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَحَمَّادُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالطَّبَرِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَجَمَاعَةٌ.لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إِنَّمَا صَارَ حُجَّةً فِي الشَّرْعِ لِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ، وَهَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ التَّكْرَارِ وَالتَّوْحِيدِ سَوَاءٌ، وَلِأَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «اغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» فَعَلَّقَ الرَّجْمَ عَلَى مُجَرَّدِ الِاعْتِرَافِ. وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ مَاعِزًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَقَرَّ بِالزِّنَى، فَأَعْرَض عَنْهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ إِلَى الْأَرْبَعِ» فَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ مَرَّةً مُوجِبًا لِلْحَدِّ لَمَا أَخَّرَهُ إِلَى الْأَرْبَعِ.

ب- اشْتِرَاطُ عَدَدِ الْمَجَالِسِ:

27- اخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِ عَدَدِ مَجَالِسِ الْإِقْرَارِ عِنْدَ مَنِ اشْتَرَطَ تَكْرَارَهُ، وَكَوْنِ الْإِقْرَارِ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ، وَكَوْنِ الزَّانِي وَالْمَزْنِيِّ بِهَا مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى دَعْوَى الشُّبْهَةِ، وَكَوْنِ الزَّانِي مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ وُجُودُ الزِّنَى، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ ذُكِرَ فِي كُلِّ حَدٍّ مِنَ الْحُدُودِ وَفِي مُصْطَلَحِ: (إِقْرَارٌ).

أَثَرُ عِلْمِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ فِي الْحُدُودِ:

28- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ: إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ إِقَامَةُ الْحَدِّ بِعِلْمِهِ، لقوله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وَقَالَ أَيْضًا: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ- رضي الله عنه-.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ: لَهُ إِقَامَتُهُ

بِعِلْمِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ.لِأَنَّهُ إِذَا جَازَتْ لَهُ إِقَامَتُهُ بِالْبَيِّنَةِ وَالِاعْتِرَافِ الَّذِي لَا يُفِيدُ إِلاَّ الظَّنَّ، فَمَا يُفِيدُ الْعِلْمُ هُوَ أَوْلَى.

مَدَى ثُبُوتِ الْحُدُودِ بِالْقَرَائِنِ:

29- تَخْتَلِفُ الْقَرَائِنُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْحُدُودِ- عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهَا- مِنْ حَدٍّ لآِخَرَ.

فَالْقَرِينَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الزِّنَى: هِيَ ظُهُورُ الْحَمْلِ فِي امْرَأَةٍ غَيْرِ مُتَزَوِّجَةٍ أَوْ لَا يُعْرَفُ لَهَا زَوْجٌ.

وَالْقَرِينَةُ فِي الشُّرْبِ: الرَّائِحَةُ، وَالْقَيْءُ، وَالسُّكْرُ، وَوُجُودُ الْخَمْرِ عِنْدَ الْمُتَّهَمِ، وَفِي السَّرِقَةِ وُجُودُ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ عِنْدَ الْمُتَّهَمِ، وَوُجُودُ أَثَرٍ لِلْمُتَّهَمِ فِي مَوْضِعِ السَّرِقَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَفِي كُلٍّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَقْوَالٍ فُصِّلَتْ فِي مَوَاطِنِهَا وَتُنْظَرُ فِي كُلِّ حَدٍّ مِنَ الْحُدُودِ وَفِي مُصْطَلَحِ: (قَرِينَةٌ). أَنْوَاعُ الْحُدُودِ:

الْحُدُودُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ:

أ- الرَّجْمُ:

30- الرَّجْمُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّانِي إِذَا كَانَ مُحْصَنًا وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (زِنًى وَرَجْمٌ).

ب- الْجَلْدُ:

31- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ الزَّانِي الْبِكْرِ مِائَةُ جَلْدَةٍ، لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ فِي عُقُوبَةِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْجَلْدَ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الرَّجْمِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ وَغَيْرَهُمَا، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّهُ جَلَدَ وَاحِدًا مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا وُضِعَ لِلزَّجْرِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلزَّجْرِ بِالضَّرْبِ مَعَ الرَّجْمِ، وَاخْتَارَ هَذَا مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ الْجَلْدَ يَجْتَمِعُ مَعَ الرَّجْمِ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِسْحَاقُ، فَيُجْلَدُ الزَّانِي الْمُحْصَنُ أَوَّلًا، ثُمَّ يُرْجَمُ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عُبَادَةَ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ».وَبِفِعْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-، وَهُوَ أَنَّهُ جَلَدَ شُرَاحَةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثُمَّ رَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَالَ جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْجَلْدَ عُقُوبَةُ الْقَذْفِ وَالشُّرْبِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ فِي الشُّرْبِ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي أَبْوَابِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَ (ر: قَذْفٌ) وَ (شُرْبٌ).

ج- التَّغْرِيبُ:

32- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجْتَمِعُ مَعَ الْجَلْدِ تَغْرِيبُ الزَّانِي الْبِكْرِ، فَالتَّغْرِيبُ عِنْدَهُمْ يُعْتَبَرُ حَدًّا كَالْجَلْدِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْبِكْرُ

بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ» وَرُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ.

إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَيَقُولُونَ بِتَغْرِيبِ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مُحْتَاجَةٌ إِلَى حِفْظٍ وَصِيَانَةٍ، فَلَا يَجُوزُ تَغْرِيبُهَا إِلاَّ بِمَحْرَمٍ، وَهُوَ يُفْضِي إِلَى تَغْرِيبِ مَنْ لَيْسَ بِزَانٍ، وَنَفْيِ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَلِأَنَّهَا عَوْرَةٌ، وَفِي نَفْيِهَا تَضْيِيعٌ لَهَا وَتَعْرِيضُهَا لِلْفِتْنَةِ، وَلِهَذَا نُهِيَتْ عَنِ السَّفَرِ مَعَ غَيْرِ مَحْرَمٍ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ التَّغْرِيبَ لَيْسَ وَاجِبًا، وَلَيْسَ حَدًّا كَالْجَلْدِ، وَإِنَّمَا هِيَ عُقُوبَةٌ تَعْزِيرِيَّةٌ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَلْدِ إِنْ رَأَى فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً، لِأَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- قَالَ: حَسْبُهُمَا مِنَ الْفِتْنَةِ أَنْ يُنْفَيَا.

وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- غَرَّبَ رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ فِي الْخَمْرِ إِلَى خَيْبَرَ، فَلَحِقَ بِهِرَقْلَ فَتَنَصَّرَ، فَقَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه- لَا أُغَرِّبُ مُسْلِمًا بَعْدَ هَذَا أَبَدًا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْجَلْدِ دُونَ التَّغْرِيبِ، فَإِيجَابُ التَّغْرِيبِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ.وَيُرْجَعُ لِتَفْصِيلِ ذَلِكَ إِلَى مَوْطِنِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.وَ (ر: زِنًى) و (تَغْرِيبٌ).

د- الْقَطْعُ:

33- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ السَّرِقَةَ مُوجِبَةٌ لِلْقَطْعِ بِالنَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ.

أَمَّا النَّصُّ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ}.

وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا».

وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ قَطْعِ السَّارِقِ فِي الْجُمْلَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّ الْقَطْعِ وَمَوْضِعِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالتَّفْصِيلُ فِي «سَرِقَةٌ».

وَكَذَلِكَ يُقْطَعُ الْمُحَارِبُ مِنْ خِلَافٍ إِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِي عِقَابِهِ بِأَيَّةِ عُقُوبَةٍ جَاءَتْ بِهَا آيَةُ الْمُحَارَبَةِ مَا عَدَا النَّفْيَ، فَلَا تَخْيِيرَ فِيهِ وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي (حِرَابَةٌ).

هـ- الْقَتْلُ وَالصُّلْبُ:

34- إِذَا قَتَلَ الْمُحَارِبُ وَأَخَذَ الْمَالَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ وَيُصْلَبُ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ، وَبِهِ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى الزُّهْرِيُّ.

وَإِذَا قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ وَلَا يُصْلَبُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ يُصْلَبُ، لِأَنَّهُ مُحَارِبٌ يَجِبُ قَتْلُهُ، فَيُصْلَبُ كَاَلَّذِي أَخَذَ الْمَالَ.وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي (تَصْلِيبٌ).

وَالْقَتْلُ كَذَلِكَ عُقُوبَةٌ حَدِّيَّةٌ لِلرِّدَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُلِ.وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهما-، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَحَمَّادٌ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُقْتَلُ بِالرِّدَّةِ، بَلْ تُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى عَنْ قَتْلِ الْمَرْأَةِ الْكَافِرَةِ».

وَلِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ بِالْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ، فَلَا تُقْتَلُ بِالطَّارِئِ كَالصَّبِيِّ.

وَفِي قَتْلِ الْبُغَاةِ، وَهُمُ الْمُحَارِبُونَ عَلَى التَّأْوِيلِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَغْيٌ).

شُرُوطُ وُجُوبِ الْحَدِّ:

35- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إِلاَّ عَلَى مُكَلَّفٍ، وَهُوَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ، لِأَنَّهُ إِذَا سَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنْ غَيْرِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ فِي الْعِبَادَاتِ، وَسَقَطَ الْإِثْمُ عَنْهُ فِي الْمَعَاصِي، فَالْحَدُّ الْمَبْنِيُّ عَلَى الدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ أَوْلَى.

وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحُدُودَ تُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّينَ وَلَا تُقَامُ عَلَى مُسْتَأْمَنٍ، إِلاَّ حَدُّ الْقَذْفِ فَيُقَامُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ.وَلَا يُقَامُ عَلَى الْكَافِرِ حَدُّ الشُّرْبِ عِنْدَهُمْ.

وَفِي حَدِّ الزِّنَى تَفْصِيلٌ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ (الْمُسْتَأْمَنُ) بِذِمِّيَّةٍ تُحَدُّ الذِّمِّيَّةُ وَلَا يُحَدُّ الْحَرْبِيُّ.وَإِذَا زَنَى ذِمِّيٌّ بِمُسْتَأْمَنَةٍ يُحَدُّ الذِّمِّيُّ وَلَا تُحَدُّ الْمُسْتَأْمَنَةُ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ كِلَاهُمَا يُحَدَّانِ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى: لَا تُحَدُّ الذِّمِّيَّةُ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَابِعَةٌ لِلرَّجُلِ فَامْتِنَاعُ الْحَدِّ فِي حَقِّ الْأَصْلِ يُوجِبُ امْتِنَاعَهُ فِي حَقِّ الْفَرْعِ.

وَتَفْصِيلُ كُلِّ حَدٍّ فِي مُصْطَلَحِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِإِسْلَامِهِ.

أَمَّا حَدُّ الزِّنَى فَإِنَّهُ يُؤَدَّبُ فِيهِ فَقَطْ وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِلاَّ إِذَا اغْتَصَبَ امْرَأَةً مُسْلِمَةً فَإِنَّهُ يُقْتَلُ لِنَقْضِهِ الْعَهْدَ.وَكَذَلِكَ لَوِ ارْتَكَبَ جَرِيمَةَ اللِّوَاطِ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ.وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَوْفَى مِنَ الذِّمِّيِّ مَا ثَبَتَ وَلَوْ حَدَّ زِنًى أَوْ قَطْعَ سَرِقَةٍ، وَلَا يُحَدُّ بِشُرْبِ خَمْرٍ لِقُوَّةِ أَدِلَّةِ حِلِّهِ فِي عَقِيدَتِهِمْ.وَلَا يُشْتَرَطُ فِي إِحْصَانِ الرَّجْمِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا.

وَلَا يُقَامُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَيُحَدُّ الْكَافِرُ حَدَّ الْقَذْفِ ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ مُعَاهَدًا.

وَتَفْصِيلُ كُلِّ حَدٍّ فِي مُصْطَلَحِهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا رُفِعَ إِلَى الْحَاكِمِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا يُوجِبُ عُقُوبَةً مِمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ وَالْقَتْلِ فَعَلَيْهِ إِقَامَةُ حَدِّهِ عَلَيْهِ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِيَهُودِيَّيْنِ فَجَرَا بَعْدَ إِحْصَانِهِمَا فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا».

وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ إِبَاحَتَهُ كَشُرْبِ خَمْرٍ لَمْ يُحَدَّ، وَإِنْ تَحَاكَمَ مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ وَجَبَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ بِغَيْرِ خِلَافٍ.وَيُقْطَعُ الذِّمِّيُّ بِالسَّرِقَةِ.وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ.وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا يُقْطَعُ الْمُسْتَأْمَنُ.

وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ.

وَدَلِيلُ وُجُوبِ الْقَطْعِ أَنَّهُ حَدٌّ يُطَالَبُ بِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ كَحَدِّ الْقَذْفِ.

وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ إِلاَّ عَلَى مَنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ، وَبِهَذَا قَالَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِقَوْلِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهم-: لَا حَدَّ إِلاَّ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ.فَإِنِ ادَّعَى الزَّانِي الْجَهْلَ بِالتَّحْرِيمِ وَكَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَجْهَلَهُ كَحَدِيثِ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ، قُبِلَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ كَالْمُسْلِمِ النَّاشِئِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الزِّنَى لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ هُوَ كَذَلِكَ (كَمَا أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مُكْرَهَةٍ).وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ لقوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».

وَعَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ امْرَأَةً اسْتُكْرِهَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ».

وَفِي حَدِّ الْمُكْرَهِ عَلَى الزِّنَى خِلَافٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (إِكْرَاهٌ) وَ (ر: زِنًى) وَهُنَاكَ شُرُوطٌ أُخْرَى لِوُجُوبِ كُلِّ حَدٍّ فُصِّلَ، الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي أَبْوَابِهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


84-موسوعة الفقه الكويتية (حق 1)

حَقٌّ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْحَقُّ فِي اللُّغَةِ خِلَافُ الْبَاطِلِ، وَهُوَ مَصْدَرُ، حَقَّ الشَّيْءُ يَحِقُّ إِذَا ثَبَتَ وَوَجَبَ.وَجَاءَ فِي الْقَامُوسِ أَنَّ الْحَقَّ يُطْلَقُ عَلَى الْمَالِ وَالْمِلْكِ وَالْمَوْجُودِ الثَّابِتِ.وَمَعْنَى حَقَّ الْأَمْرُ وَجَبَ وَوَقَعَ بِلَا شَكٍّ، وَعَرَّفَهُ الْجُرْجَانِيُّ بِأَنَّهُ الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَسُوغُ إِنْكَارُهُ.

وَالْحَقُّ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ مِنْ صِفَاتِهِ.

وَمِنْ مَعَانِي الْحَقِّ فِي اللُّغَةِ: النَّصِيبُ، وَالْوَاجِبُ، وَالْيَقِينُ، وَحُقُوقُ الْعَقَارِ مَرَافِقُهُ.

وَالْحَقُّ فِي الِاصْطِلَاحِ يَأْتِي بِمَعْنَيَيْنِ:

الْأَوَّلُ: هُوَ الْحُكْمُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْأَقْوَالِ وَالْعَقَائِدِ وَالْأَدْيَانِ وَالْمَذَاهِبِ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهَا عَلَى ذَلِكَ وَيُقَابِلُهُ الْبَاطِلُ.

وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْوَاجِبِ الثَّابِتِ.وَهُوَ قِسْمَانِ: حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعِبَادِ.

فَأَمَّا حَقُّ اللَّهِ، فَقَدْ عَرَّفَهُ التَّفْتَازَانِيُّ: بِأَنَّهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ لِلْعَالَمِ مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ بِأَحَدٍ، فَيُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِعِظَمِ خَطَرِهِ، وَشُمُولِ نَفْعِهِ، أَوْ كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: حَقُّ اللَّهِ مَا لَا مَدْخَلَ لِلصُّلْحِ فِيهِ، كَالْحُدُودِ وَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِهَا.

وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ لَهُ، كَحُرْمَةِ مَالِهِ، أَوْ كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ، فَهِيَ الَّتِي تَقْبَلُ الصُّلْحَ وَالْإِسْقَاطَ وَالْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهَا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْحُكْمُ:

2- الْحُكْمُ هُوَ خِطَابُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِالِاقْتِضَاءِ، أَوِ التَّخْيِيرِ، أَوِ الْوَضْعِ، وَالْحَقُّ أَثَرٌ لِلْحُكْمِ لِأَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ.

فَبَيْنَ الْحَقِّ وَالْحُكْمِ عَلَاقَةُ الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ.

الْحَقُّ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ:

3- الْمُرَادُ بِالْحَقِّ عِنْدَ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ:

اتَّجَهَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ الَّذِينَ ذَكَرُوا الْحَقَّ اتِّجَاهَيْنِ:

الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْحُكْمُ، وَهُوَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِالِاقْتِضَاءِ أَوِ التَّخْيِيرِ أَوِ الْوَضْعِ.

قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ أَمَّا الْأَحْكَامُ فَأَنْوَاعٌ: الْأَوَّلُ: حُقُوقُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَالِصَةً.وَالثَّانِي: حُقُوقُ الْعِبَادِ خَالِصَةً.وَالثَّالِثُ: مَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْحَقَّانِ، وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى غَالِبٌ.وَالرَّابِعُ: مَا اجْتَمَعَا مَعًا وَحَقُّ الْعَبْدِ فِيهِ غَالِبٌ.

ثُمَّ قَالَ عَلَاءُ الدِّينِ الْبُخَارِيُّ فِي شَرْحِهِ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ- رحمه الله- فِي أُصُولِ الْفِقْهِ: الْحَقُّ: الْمَوْجُودُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ الَّذِي لَا رَيْبَ فِي وُجُودِهِ، وَمِنْهُ: «السِّحْرُ حَقٌّ، وَالْعَيْنُ حَقٌّ»، أَيْ مَوْجُودٌ بِأَثَرِهِ، وَهَذَا الدِّينُ حَقٌّ، أَيْ مَوْجُودٌ صُورَةً وَمَعْنًى، وَلِفُلَانٍ حَقٌّ فِي ذِمَّةِ فُلَانٍ، أَيْ شَيْءٌ مَوْجُودٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.

وَقَالَ أَيْضًا: حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى: مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ لِلْعَالَمِ، فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدٌ.وَيُنْسَبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا، أَوْ لِئَلاَّ يَخْتَصَّ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، مِثْلُ: حُرْمَةِ الْبَيْتِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةُ الْعَالَمِ، بِاِتِّخَاذِهِ قِبْلَةً لِصَلَوَاتِهِمْ، وَمَثَابَةً لَهُمْ.وَكَحُرْمَةِ الزِّنَى لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ عُمُومِ النَّفْعِ فِي سَلَامَةِ الْأَنْسَابِ، وَصِيَانَةِ الْفِرَاشِ، وَإِنَّمَا الْحَقُّ يُنْسَبُ إلَيْهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا، لِأَنَّهُ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ حَقًّا لَهُ بِهَذَا الْوَجْهِ.وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا لَهُ بِجِهَةِ التَّخْلِيقِ، لِأَنَّ الْكُلَّ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ.بَلِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِ لِتَشْرِيفِ مَا عَظُمَ خَطَرُهُ، وَقَوِيَ نَفْعُهُ، وَشَاعَ فَضْلُهُ، بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ النَّاسُ كَافَّةً.

وَحَقُّ الْعَبْدِ: مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ لَهُ، مِثْلُ: حُرْمَةِ مَالِهِ، فَإِنَّهَا حَقُّ الْعَبْدِ، لِيَتَعَلَّقَ صِيَانَةُ مَالِهِ بِهَا.فَلِهَذَا يُبَاحُ مَالُ الْغَيْرِ بِإِبَاحَةِ الْمَالِكِ، وَلَا يُبَاحُ الزِّنَى بِإِبَاحَةِ الْمَرْأَةِ، وَلَا بِإِبَاحَةِ أَهْلِهَا.

وَقَالَ صَاحِبُ تَيْسِيرِ التَّحْرِيرِ: وَيَرِدُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ، وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: يَعْنِي بِحَقِّ اللَّهِ مَا يَكُونُ الْمُسْتَحِقُّ هُوَ اللَّهَ، وَبِحَقِّ الْعَبْدِ مَا يَكُونُ الْمُسْتَحِقُّ هُوَ الْعَبْدَ.

وَقَالَ الْكِنْدِيُّ: الْحَقُّ: الْمَوْجُودُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: حُكْمٌ يَثْبُتُ.

وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: حَقُّ اللَّهِ: أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ.وَحَقُّ الْعَبْدِ: مَصَالِحُهُ.وَالتَّكَالِيفُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ، كَالْإِيمَانِ وَتَحْرِيمِ الْكُفْرِ.وَالثَّانِي: حَقُّ الْعِبَادِ فَقَطْ، كَالدُّيُونِ وَالْأَثْمَانِ.

وَالثَّالِثُ: قِسْمٌ اخْتُلِفَ فِيهِ، هَلْ يَغْلِبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ، أَوْ يَغْلِبُ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ، كَحَدِّ الْقَذْفِ، وَنَعْنِي بِحَقِّ الْعَبْدِ الْمَحْضِ: أَنَّهُ لَوْ أَسْقَطَهُ لَسَقَطَ، وَإِلاَّ فَمَا مِنْ حَقٍّ لِلْعَبْدِ إِلاَّ وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَمْرُهُ بِإِيصَالِ ذَلِكَ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ.

ثُمَّ قَالَ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ، مُشْكِلٌ بِمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» فَيَقْتَضِي أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ نَفْسُ الْفِعْلِ، لَا الْأَمْرُ بِهِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا نَقَلْتُهُ قَبْلَ هَذَا.وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَدِيثَ مُئَوَّلٌ، وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْأَمْرِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ، فَظَاهِرُهُ مُعَارِضٌ لِمَا حَرَّرَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِنَا: الصَّلَاةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ أَمْرُهُ بِهَا، إِذْ لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهَا لَمْ يَصْدُقْ أَنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَنَجْزِمُ بِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ نَفْسُ الْأَمْرِ، لَا الْفِعْلُ، وَمَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ مُئَوَّلٌ.

الِاتِّجَاهُ الثَّانِي:

4- الْحَقُّ هُوَ الْفِعْلُ: ذَكَرَ سَعْدٌ التَّفْتَازَانِيُّ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْفِعْلُ فَقَالَ: الْمَحْكُومُ بِهِ (وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ بَعْضُهُمُ الْمَحْكُومَ فِيهِ) هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ خِطَابُ الشَّارِعِ.فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهِ حِسًّا، أَيْ مِنْ وُجُودِهِ فِي الْوَاقِعِ، بِحَيْثُ يُدْرَكُ بِالْحِسِّ أَوْ بِالْعَقْلِ، إِذِ الْخِطَابُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا لَا يَكُونُ لَهُ وُجُودٌ أَصْلًا.

وَأَكَّدَ صَاحِبُ تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْفِعْلُ، فَقَالَ: حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى: هُوَ مُتَعَلَّقُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، الَّذِي هُوَ عَيْنُ عِبَادَتِهِ، لَا نَفْسُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا، لِأَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} وَقَوْلُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا».

الثَّانِي: أَنَّ الْحَقَّ مَعْنَاهُ: اللاَّزِمُ لَهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَاللاَّزِمُ عَلَى الْعِبَادِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُكْتَسَبًا لَهُمْ، وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْكَسْبُ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَهُوَ كَلَامُهُ، وَكَلَامُهُ صِفَتُهُ الْقَدِيمَةُ.

وَحَقُّ الْعَبْدِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: حَقُّهُ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ مَلْزُومُ عِبَادَتِهِ إِيَّاهُ بِوَعْدِهِ، وَهُوَ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَيُخَلِّصَهُ مِنَ النَّارِ.وَالثَّانِي: حَقُّهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي تَسْتَقِيمُ بِهِ أُولَاهُ وَأُخْرَاهُ مِنْ مَصَالِحِهِ.وَالثَّالِثُ: حَقُّهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادِ، وَهُوَ مَا لَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الذِّمَمِ وَالْمَظَالِمِ.

وَفِي هَذَا تَأْيِيدٌ لِابْنِ الشَّاطِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ قَالَ: الْحَقُّ وَالصَّوَابُ مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، مِنْ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ عَيْنُ الْعِبَادَةِ.لَا الْأَمْرُ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا.

5- وَقَسَّمَ ابْنُ رَجَبٍ حُقُوقَ الْعِبَادِ إِلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ:

1- حَقُّ الْمِلْكِ

2- حَقُّ التَّمَلُّكِ كَحَقِّ الْوَالِدِ فِي مَالِ وَلَدِهِ وَحَقِّ الشَّفِيعِ فِي الشُّفْعَةِ.

3- حَقُّ الِانْتِفَاعِ كَوَضْعِ الْجَارِ خَشَبَةً عَلَى جِدَارِ جَارِهِ إِذَا لَمْ يَضُرُّهُ.

4- حَقُّ الِاخْتِصَاصِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا يُخْتَصُّ مُسْتَحِقُّهُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مُزَاحَمَتَهُ فِيهِ، وَهُوَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلشُّمُولِ وَالْمُعَاوَضَاتِ مِثْلُ مَرَافِقِ الْأَسْوَاقِ، وَالْجُلُوسِ فِي الْمَسَاجِدِ.

5- حَقُّ التَّعَلُّقِ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِثْلُ تَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالرَّهْنِ.

الْمُرَادُ بِالْحَقِّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:

6- الْمُرَادُ بِالْحَقِّ غَالِبًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: مَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّجُلُ. وَإِطْلَاقَاتُ الْفُقَهَاءِ لِلْحَقِّ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً وَمُتَعَدِّدَةً، مِنْهَا:

1- إِطْلَاقُ الْحَقِّ عَلَى مَا يَشْمَلِ الْحُقُوقَ الْمَالِيَّةَ وَغَيْرَ الْمَالِيَّةِ، مِثْلُ قَوْلِهِمْ: مَنْ بَاعَ بِثَمَنٍ حَالٍّ ثُمَّ أَجَّلَهُ صَحَّ، لِأَنَّهُ حَقُّهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ إِسْقَاطَهُ، فَيَمْلِكُ تَأْجِيلَهُ.

2- الِالْتِزَامَاتُ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَقْدِ- غَيْرُ حُكْمِهِ- وَتَتَّصِلُ بِتَنْفِيذِ أَحْكَامِهِ.

مِثْلُ: تَسْلِيمِ الثَّمَنِ الْحَالِّ أَوَّلًا ثُمَّ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ: وَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ سَلَّمَهُ أَوَّلًا، تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، لِأَنَّ الْمَبِيعَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَالثَّمَنُ لَا يَتَعَيَّنُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، فَلِهَذَا اشْتُرِطَ تَسْلِيمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا، لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِالتَّأْجِيلِ، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْآخَرِ.

3- الْأَرْزَاقُ الَّتِي تُمْنَحُ لِلْقُضَاةِ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ نُجَيْمٍ: مَنْ لَهُ حَقٌّ فِي دِيوَانِ الْخَرَاجِ كَالْمُقَاتِلَةِ وَالْعُلَمَاءِ وَطَلَبَتِهِمْ وَالْمُفْتِينَ وَالْفُقَهَاءِ يُفْرَضُ لِأَوْلَادِهِمْ تَبَعًا، وَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ الْأَصْلِ تَرْغِيبًا.

4- مَرَافِقُ الْعَقَارِ، مِثْلُ: حَقِّ الطَّرِيقِ، وَحَقِّ الْمَسِيلِ، وَحَقِّ الشُّرْبِ. 5- الْحُقُوقُ الْمُجَرَّدَةُ، وَهِيَ الْمُبَاحَاتُ، مِثْلُ: حَقِّ التَّمَلُّكِ، وَحَقِّ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي، وَحَقِّ الطَّلَاقِ لِلزَّوْجِ.

مَصْدَرُ الْحَقِّ:

7- مَصْدَرُ الْحَقِّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِتَنْظِيمِ حَيَاةِ الْخَلْقِ، حَتَّى يَكُونُوا سُعَدَاءَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.وَكَانَ يُمْكِنُ أَلاَّ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْعَبْدِ حَقًّا أَصْلًا، وَلَكِنَّهُ تَفَضَّلَ عَلَى عِبَادِهِ فَجَعَلَ لِلشَّخْصِ حُقُوقًا تُؤَدَّى لَهُ، وَكَلَّفَهُ بِأَدَاءِ حُقُوقٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلْآخَرِينَ، ثُمَّ أَعْلَمَهُ وَبَلَّغَهُ مَا لَهُ مِنْ حُقُوقٍ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ وَاجِبَاتٍ عَنْ طَرِيقِ الشَّرَائِعِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي خُتِمَتْ بِالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَكَانَتْ نَاسِخَةً لِمَا قَبْلَهَا وَعَامَّةً لِجَمِيعِ الْخَلْقِ.

فَمَا أَثْبَتَتْهُ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ حَقًّا فَهُوَ حَقٌّ، وَمَا عَدَاهُ فَلَيْسَ بِحَقٍّ، فَالْحَاكِمُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} وَعَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْحُقُوقُ هِيَ أَثَرُ خِطَابِ الشَّرْعِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، قَالَ الشَّاطِبِيُّ إِنَّ كُلَّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَيْسَ بِخَالٍ عَنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ جِهَةُ التَّعَبُّدِ، فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَعِبَادَتُهُ امْتِثَالُ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ بِإِطْلَاقٍ. فَإِنْ جَاءَ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ حَقٌّ لِلْعَبْدِ مُجَرَّدًا فَلَيْسَ كَذَلِكَ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ جَاءَ عَلَى تَغْلِيبِ حَقِّ الْعَبْدِ فِي الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ.كَمَا أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَفِيهِ حَقٌّ لِلْعِبَادِ، إِمَّا عَاجِلًا وَإِمَّا آجِلًا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا وُضِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَلاَّ يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا».

ثُمَّ ذَكَرَ الشَّاطِبِيُّ أَنَّ كُلَّ الْحُقُوقِ حَتَّى حَقَّ الْعَبْدِ هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ وَحْدَهُ بَادِئَ ذِي بَدْءٍ، فَقَالَ: كُلُّ تَكْلِيفٍ حَقُّ اللَّهِ، فَإِنَّ مَا هُوَ لِلَّهِ فَهُوَ لِلَّهِ، وَمَا كَانَ لِلْعَبْدِ فَرَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أ- مِنْ جِهَةِ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ.

ب- وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِ حَقِّ الْعَبْدِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، إِذْ كَانَ لِلَّهِ أَلاَّ يَجْعَلَ لِلْعَبْدِ حَقًّا أَصْلًا، إِذِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَضْعِهَا الْأَوَّلِ مُتَسَاوِيَةٌ، لَا قَضَاءَ لِلْعَقْلِ فِيهَا بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ، فَإِذَنْ كَوْنُ الْمَصْلَحَةِ مَصْلَحَةً هُوَ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ، بِحَيْثُ يُصَدِّقُهُ الْعَقْلُ، وَتَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ النَّفْسُ. 8- أَرْكَانُ الْحَقِّ هِيَ:

أ- صَاحِبُ الْحَقِّ، وَهُوَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ الشَّخْصُ الَّذِي ثَبَتَ لَهُ الْحَقُّ، كَالزَّوْجِ بِاعْتِبَارِهِ صَاحِبَ حَقٍّ عَلَى الزَّوْجَةِ بِالنِّسْبَةِ لِطَاعَتِهِ.

أَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَإِنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ فِيهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ وَلَا يُشَارِكُهُ فِي هَذَا الْحَقِّ أَحَدٌ غَيْرَهُ، وَلِذَا لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ إِسْقَاطَ حَقِّهِ تَعَالَى.

ب- مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَهُوَ الشَّخْصُ الْمُكَلَّفُ بِالْأَدَاءِ، فَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الْحَقِّ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى، فَيَكُونُ الْمُكَلَّفُ بِأَدَاءِ الْحَقِّ هُوَ مَنْ عَلَيْهِ هَذَا الْحَقُّ، سَوَاءٌ أَكَانَ فَرْدًا كَمَا فِي فَرْضِ الْعَيْنِ، أَمْ جَمَاعَةً كَمَا فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ مَثَلًا.

ج- مَحِلُّ الْحَقِّ أَيْ الشَّيْءُ الْمُسْتَحَقُّ، كَالْفَرَائِضِ الْخَمْسِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.وَالْمَالُ حَقِيقَةٌ، كَالْقَدْرِ الْمَقْبُوضِ مِنَ الْمَهْرِ، وَهُوَ مُعَجَّلُ الصَّدَاقِ أَوْ حُكْمًا، كَالْقَدْرِ الْمُؤَخَّرِ مِنَ الْمَهْرِ لِأَقْرَبِ الْأَجَلَيْنِ، وَكَذَا سَائِرُ الدُّيُونِ.وَالِانْتِفَاعُ، كَحِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِعَقْدِ الزَّوَاجِ.وَالْعَمَلُ، مِثْلُ: مَا تَقُومُ بِهِ الزَّوْجَةُ مِنْ أَعْمَالٍ، وَتَمْكِينِ الزَّوْجِ مِنْ نَفْسِهَا.وَالِامْتِنَاعُ عَنْ عَمَلٍ، مِثْلُ: عَدَمِ فِعْلِ الزَّوْجَةِ مَا يُغْضِبُ اللَّهَ أَوْ يُغْضِبُ الزَّوْجَ.

وَيُشْتَرَطُ فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَحَقِّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَمْنُوعٍ شَرْعًا، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ شَرْعًا إِلاَّ مَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ فَلَا يَكُونُ حَقًّا، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ الْمُطَالَبَةُ بِمَا هُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، مِثْلُ: تَمْكِينِ الزَّوْجِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ فَإِنَّهُ حَقٌّ مَشْرُوعٌ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مَشْرُوعًا دَائِمًا فِي كُلِّ وَقْتٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَشْرُوعًا فِي حَالِ الْحَيْضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزَلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}.

أَقْسَامُ الْحَقِّ:

9- يُقَسَّمُ الْحَقُّ إِلَى تَقْسِيمَاتٍ عِدَّةٍ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ.

بِاعْتِبَارِ اللُّزُومِ وَعَدَمِهِ، بِاعْتِبَارِ عُمُومِ النَّفْعِ وَخُصُوصِهِ، وَبِاعْتِبَارِ وُجُودِ حَقِّ الْعَبْدِ وَعَدَمِهِ، بِاعْتِبَارِ إِسْقَاطِ الْعَبْدِ لِلْحَقِّ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَقِّ، وَبِاعْتِبَارِ إِسْقَاطِ الْإِسْلَامِ لِلْحَقِّ وَعَدَمِ إِسْقَاطِهِ لَهُ، وَبِاعْتِبَارِ مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى وَعَدَمِ مَعْقُولِيَّتِهِ، وَبِاعْتِبَارِ عَدَمِ خُلُوِّ كُلِّ حَقٍّ مِنْ حَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى وَحَقٍّ لِلْعَبْدِ، وَبِاعْتِبَارِ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ التَّامِّ وَالْحَقِّ الْمُخَفَّفِ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ الْمُحَدَّدِ وَغَيْرِ الْمُحَدَّدِ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ الْمُعَيَّنِ وَالْمُخَيَّرِ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ الْعَيْنِيِّ وَالْكِفَائِيِّ، وَبِاعْتِبَارِ مَا يُورَثُ مِنَ الْحُقُوقِ وَمَا لَا يُورَثُ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ الْمَالِيِّ وَغَيْرِ الْمَالِيِّ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ الدِّيَانِيِّ وَالْقَضَائِيِّ، أَوِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَمَرْجِعُ هَذِهِ التَّقْسِيمَاتِ، إِمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى صَاحِبِ الْحَقِّ، أَوْ بِالنَّظَرِ إِلَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، أَوْ بِالنَّظَرِ إِلَى الشَّيْءِ الْمُسْتَحَقِّ، أَوْ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَقُّ.

أَوَّلًا: بِاعْتِبَارِ اللُّزُومِ وَعَدَمِهِ:

10- يُقَسَّمُ الْحَقُّ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى قِسْمَيْنِ: لَازِمٌ، وَجَائِزٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ.

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الْحَقُّ اللاَّزِمُ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يُقَرِّرُهُ الشَّرْعُ عَلَى جِهَةِ الْحَتْمِ، فَإِذَا قَرَّرَهُ الشَّرْعُ أَوْجَدَ فِي مُقَابِلِهِ وَاجِبًا، وَقَرَّرَ هَذَا الْوَاجِبَ عَلَى الْآخَرِينَ فِي نَفْسِ الْوَقْتِ، فَالْحَقُّ وَالْوَاجِبُ فِي الْمُقَابِلِ قَدْ وُجِدَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، دُونَ تَخَلُّفِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ وَإِنِ اخْتَلَفَ مَعْنَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ، كَحَقِّ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ يَجِبُ، فَمِثْلًا: حَقُّ الْحَيَاةِ حَقٌّ لِكُلِّ شَخْصٍ، وَيَجِبُ عَلَى الْآخَرِينَ- أَفْرَادًا وَمُجْتَمَعًا- أَنْ يَحْتَرِمُوا هَذَا الْحَقَّ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمُ الِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِ، أَوْ حِرْمَانُهُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فَلَا يُسْتَعْبَدُ الْحُرُّ، وَكَذَلِكَ حَقُّ الْمِلْكِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُقُوقِ. وَإِذَا كَانَ لِأَصْحَابِ هَذِهِ الْحُقُوقِ حَقٌّ، وَيَجِبُ عَلَى الْآخَرِينَ عَدَمُ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ لِهَؤُلَاءِ الْآخَرِينَ حَقًّا فِي عَدَمِ الْإِضْرَارِ بِهِمْ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْحُقُوقِ وَالتَّمَتُّعِ بِهَا.

النَّوْعُ الثَّانِي: الْحَقُّ الْجَائِزُ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يُقَرِّرُهُ الشَّرْعُ مِنْ غَيْرِ حَتْمٍ، وَإِنَّمَا يُقَرِّرُهُ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ أَوِ الْإِبَاحَةِ.مِثَالُهُ أَمْرُ الْمُحْتَسِبِ بِصَلَاةِ الْعِيدِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَلْ يَكُونُ الْأَمْرُ بِهَا مِنَ الْحُقُوقِ اللاَّزِمَةِ أَوْ مِنَ الْحُقُوقِ الْجَائِزَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهَا، هَلْ هِيَ مَسْنُونَةٌ أَوْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا مَسْنُونَةٌ كَانَ الْأَمْرُ بِهَا نَدْبًا، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ كَانَ الْأَمْرُ بِهَا حَتْمًا.ثَانِيًا: تَقْسِيمُ الْحُقُوقِ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ النَّفْعِ وَخُصُوصِهِ:

11- قَسَّمَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ الْحُقُوقَ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ النَّفْعِ وَخُصُوصِهِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:

حُقُوقُ اللَّهِ الْخَالِصَةُ، حُقُوقُ الْعِبَادِ الْخَالِصَةُ، مَا اجْتَمَعَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ لَكِنْ حَقُّ اللَّهِ غَالِبٌ، وَمَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْحَقَّانِ لَكِنْ حَقُّ الْعَبْدِ غَالِبٌ.

الْقَسَمُ الْأَوَّلُ: حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْخَالِصَةُ:

12- حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى: مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ لِلْعَالَمِ، فَلَا يُخْتَصُّ بِهِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ عَلَى مَجْمُوعِ الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَإِنَّمَا يُنْسَبُ هَذَا الْحَقُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا، أَوْ لِئَلاَّ يُخْتَصَّ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، كَحُرْمَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةُ الْعَالَمِ، وَذَلِكَ بِاِتِّخَاذِهِ قِبْلَةً لِصَلَوَاتِهِمْ، وَمَثَابَةً لَهُمْ، وَكَحُرْمَةِ الزِّنَى لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ عُمُومِ النَّفْعِ فِي سَلَامَةِ الْأَنْسَابِ، وَصِيَانَةِ الْفِرَاشِ وَإِنَّمَا يُنْسَبُ الْحَقُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ حَقًّا لَهُ بِهَذَا الْوَجْهِ، لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ التَّضَرُّرِ أَوِ الِانْتِفَاعِ هُوَ مُتَعَالٍ عَنِ الْكُلِّ.

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا لَهُ بِجِهَةِ التَّخْلِيقِ، لِأَنَّ الْكُلَّ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ، بَلِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِ لِتَشْرِيفِ مَا عَظُمَ خَطَرُهُ، وَقَوِيَ نَفْعُهُ، وَشَاعَ فَضْلُهُ، بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ النَّاسُ كَافَّةً، فَبِاعْتِبَارِ التَّخْلِيقِ الْكُلُّ سَوَاءٌ فِي الْإِضَافَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أَنْوَاعُ حُقُوقِ اللَّهِ الْخَالِصَةِ:

13- حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْخَالِصَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا ثَمَانِيَةُ أَنْوَاعٍ:

أ- عِبَادَةٌ خَالِصَةٌ، مِثْلُ: الْإِيمَانِ، وَالصَّلَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ.وَكَذَلِكَ زَكَاةُ الْمَالِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- عِبَادَةٌ خَالِصَةٌ، لِأَنَّهَا قُرِنَتْ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَعُدَّتْ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ».

ب- عِبَادَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْمَئُونَةِ، مِثْلُ: صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَكَذَلِكَ زَكَاةُ الْمَالِ- عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَالْمَئُونَةُ هِيَ الْوَظِيفَةُ الَّتِي تَعُودُ بِالنَّفْعِ الْعَامِّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ}

وَإِنَّمَا كَانَتْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فِيهَا مَعْنَى الْمَئُونَةِ، لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْإِنْسَانِ بِسَبَبِ نَفْسِهِ وَبِسَبَبِ غَيْرِهِ، وَهُمُ الْأَشْخَاصُ الَّذِينَ يُمَوِّنُهُمْ وَيَلِي عَلَيْهِمْ.

وَلِكَوْنِهَا وَجَبَتْ عَلَى الْمُخْرِجِ بِسَبَبِ الْغَيْرِ لَمْ تَكُنْ عِبَادَةً خَالِصَةً، وَإِنَّمَا كَانَ فِيهَا مَعْنَى الْمَئُونَةِ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ الْخَالِصَةَ لَا تَجِبُ بِسَبَبِ الْغَيْرِ.

أَمَّا زَكَاةُ الْمَالِ- عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- فَفِيهَا مَعْنَى الْمَئُونَةِ، لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الشَّخْصِ بِسَبَبٍ خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهِ، وَهُوَ مَلَكِيَّتُهُ لِلْمَالِ الْمُسْتَوْفِي لِشُرُوطِ الزَّكَاةِ، وَشُكْرًا لِلَّهِ عَلَى بَقَائِهِ زَائِدًا عَنْ حَاجَتِهِ، وَعَدَمِ هَلَاكِهِ.

كَمَا أَنَّ كُلًّا مِنْ زَكَاةِ الْمَالِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ مُسَاعِدَةٌ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ. ج- مَئُونَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، مِثْلُ: زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ الْمُقَدَّرَةِ بِالْعُشْرِ أَوْ نِصْفِ الْعَشْرِ عَلَى الزَّارِعِ حَسَبَ شُرُوطِهَا.وَإِنَّمَا كَانَتْ مَئُونَةً، لِأَنَّهَا وَظِيفَةٌ مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا عَلَى نَمَاءِ الْأَرْضِ مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَتَجِبُ بِسَبَبِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، اعْتِرَافًا بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُنْبِتُ وَالرَّازِقُ، حَيْثُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا}.

وَإِنَّمَا كَانَ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ لأُِمُورٍ: مِنْهَا:

1- أَنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً عَلَى الْمُسْلِمِ فَقَطْ، وَلَمْ تَجِبُ ابْتِدَاءً عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ مِنَ الزُّرَّاعِ، وَالْعِبَادَةُ لَا يُكَلَّفُ بِهَا غَيْرُ الْمُسْلِمِ.

2- أَنَّهَا تُعْطَى لِفِئَاتٍ مُعَيَّنَةٍ مِمَّنْ تَسْتَحِقُّ الْأَخْذَ مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَلَا يَجُوزُ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُعْطِيَهَا لِلْأَغْنِيَاءِ.

د- مَئُونَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ، مِثْلُ: الْخَرَاجِ عَلَى الْأَرْضِ الزِّرَاعِيَّةِ.

وَهُوَ الْوَظِيفَةُ الْمُبَيَّنَةُ الْمَوْضُوعَةُ عَلَى الْأَرْضِ بِسَبَبِ التَّمَكُّنِ مِنْ زِرَاعَةِ الْأَرْضِ، وَبَقَائِهَا تَحْتَ أَيْدِي أَصْحَابِهَا مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ.

أَمَّا الْمَئُونَةُ فَلِتَعَلُّقِ بَقَاءِ الْأَرْضِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ بِالْمُقَاتِلِينَ الَّذِينَ هُمْ مَصَارِفُ الْخَرَاجِ.وَالْعُقُوبَةُ لِلِانْقِطَاعِ بِالزِّرَاعَةِ عِنْدَ الْجِهَادِ، لِأَنَّ الْخَرَاجَ يَتَعَلَّقُ بِالْأَرْضِ بِصِفَةِ التَّمَكُّنِ مِنَ الزِّرَاعَةِ، وَالِاشْتِغَالُ بِهَا عُمَارَةٌ لِلدُّنْيَا، وَإِعْرَاضٌ عَنِ الْجِهَادِ.وَهُوَ سَبَبُ الذُّلِّ شَرْعًا، فَكَانَ الْخَرَاجُ فِي الْأَصْلِ صَغَارًا.

هـ- حُقُوقٌ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ وَهِيَ الْكَفَّارَاتُ، مِثْلُ: كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَكَفَّارَةِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ عَمْدًا، وَكَفَّارَةِ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ، وَالْكَفَّارَةُ عُقُوبَةٌ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ جَزَاءً عَلَى الْفِعْلِ الْمَحْظُورِ شَرْعًا، فَالْعُقُوبَةُ فِي الْكَفَّارَةِ مِنْ جِهَةِ الْوُجُوبِ.

وَأَمَّا الْعِبَادَةُ فِي الْكَفَّارَاتِ فَهِيَ مِنْ جِهَةِ الْأَدَاءِ، لِأَنَّهَا تُؤَدَّى بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، مِثْلُ: الصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ وَالْعِتْقِ.

أَمَّا كَفَّارَةُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ عَمْدًا فَإِنَّ جِهَةَ الْعُقُوبَةِ فِيهَا غَالِبَةٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْإِفْطَارِ عَمْدًا شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ بِوَجْهٍ مَا، وَلَمَّا كَانَتْ جِنَايَةُ الْمُفْطِرِ عَمْدًا كَامِلَةً، كَانَ الْمَفْرُوضُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ، وَلَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ لِقُصُورِ الْجِنَايَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُفْطِرَ لَيْسَ مُبْطِلًا لِحَقِّ اللَّهِ الثَّابِتِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَانِعٌ مِنْ تَسْلِيمِ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ.وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الزَّجْرُ عُقُوبَةً مَحْضَةً، لِأَنَّ تَقْصِيرَهُ كَانَ لِضَعْفِهِ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مَعَ التَّسْلِيمِ بِخَطَئِهِ وَقُبْحِ فِعْلِهِ.

أَمَّا بَقِيَّةُ الْكَفَّارَاتِ فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ فِيهَا تَبَعٌ.

و- عُقُوبَةٌ خَالِصَةٌ وَهِيَ الْحُدُودُ، مِثْلُ: حَدِّ السَّرِقَةِ، وَحَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَحَدِّ الزِّنَى.

ز- عُقُوبَةٌ قَاصِرَةٌ وَهِيَ حِرْمَانُ الْقَاتِلِ مِنَ الْإِرْثِ، إِذَا قَتَلَ الْوَارِثُ الْبَالِغُ مُورِثَهُ.وَإِنَّمَا كَانَتْ قَاصِرَةً لِأَنَّهُ لَمْ يَلْحَقِ الْقَاتِلَ أَلَمٌ فِي بَدَنِهِ وَلَا نُقْصَانٌ فِي مَالِهِ، بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ مَنْعٍ لِثُبُوتِ مِلْكِهِ فِي التَّرِكَةِ، فَهِيَ لَيْسَتْ عُقُوبَةً كَامِلَةً أَصْلِيَّةً، وَإِنَّمَا هِيَ عُقُوبَةٌ إِضَافِيَّةٌ لِلْعُقُوبَةِ الْأَصْلِيَّةِ لِلْقَتْلِ سَوَاءٌ أَكَانَ عَمْدًا أَمْ غَيْرَ عَمْدٍ، لِأَنَّهُ قَصَدَ حِرْمَانَ هَذَا الْقَاتِلِ مِنْ تَحْقِيقِ هَدَفِهِ، وَهُوَ تَعَجُّلُ الْمِيرَاثِ، وَلِذَلِكَ حُرِمَ مِنَ الْمِيرَاثِ الَّذِي يَأْتِي إِلَيْهِ عَنْ طَرِيقِ الْمَقْتُولِ، لِأَنَّ مَنِ اسْتَعْجَلَ الشَّيْءَ قَبْلَ أَوَانِهِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِهِ.

ح- حَقٌّ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ ثَبَتَ لِلَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً، مِثْلُ: الْخُمْسِ فِي الْغَنَائِمِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

وَمِثْلُ: خُمُسِ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْأَرْضِ وَالْبِحَارِ مِنْ مَعَادِنَ وَنِفْطٍ وَفَحْمٍ حَجَرِيٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ.وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْحَقُّ قَائِمًا بِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذِمَّةِ شَخْصٍ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكٍ شَخْصٍ ثُمَّ أَخْرَجَهُ زَكَاةً أَوْ صَدَقَةً تَبَرُّعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِهَادَ وَالْقِتَالَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ إِعْلَاءٌ لِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَنَشْرٌ لِدِينِهِ، وَذَلِكَ بِإِزَالَةِ الْعَوَائِقِ أَيًّا كَانَتْ أَمَامَ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَ النَّاصِرُ لِلْمُسْلِمِينَ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى، حَيْثُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} فَالْغَنَائِمُ كُلُّهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لِلْمُحَارِبِينَ حَقًّا فِي الْغَنِيمَةِ، حَيْثُ مَنَحَهُمْ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ، وَبَقِيَ الْخُمُسُ عَلَى مِلْكِ اللَّهِ، حَقًّا لَهُ، فَيَكُونُ طَاهِرًا فِي ذَاتِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَدَاةً لِلتَّطْهِيرِ وَالتَّزْكِيَةِ، فَلَا يَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهِ دَنَسًا أَوْ وِزْرًا، وَلِذَلِكَ جَازَ لِلرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- وَآلِهِ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ، بِخِلَافِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ فَلَا تَحِلُّ لَهُمْ.

وَلِذَلِكَ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ إِعْطَاءُ الْمَعْدِنِ وَالنِّفْطِ لِلَّذِي وَجَدَهُ وَاسْتَخْرَجَهُ مِنَ الْأَرْضِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا وَمُسْتَحَقًّا لِلصَّدَقَةِ كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ إِعْطَاءُ الْخُمُسِ لِغَيْرِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ صَدَقَةً وَلَا عِبَادَةً وَلَا مَئُونَةً وَلَا عُقُوبَةً، لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ حَتَّى يَأْخُذَ صِفَةً مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَاقٍ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، حَقِيقَةً وَحُكْمًا.

الْقِسْمُ الثَّانِي: حَقُّ الْعَبْدِ الْخَالِصُ

14- حَقُّ الْعَبْدِ الْخَالِصُ هُوَ: مَا كَانَ نَفْعُهُ مُخْتَصًّا بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ، مِثْلُ: حُقُوقِ الْأَشْخَاصِ الْمَالِيَّةِ أَوِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَالِ، كَحَقِّ الدِّيَةِ، وَحَقِّ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، وَحَقِّ اسْتِرْدَادِ الْمَغْصُوبِ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا، أَوْ حَقِّ اسْتِرْدَادِ مِثْلِهِ أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ هَالِكًا.

فَتَحْرِيمُ مَالِ الشَّخْصِ عَلَى غَيْرِهِ حَقٌّ لِهَذَا الشَّخْصِ.حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ حِمَايَةِ مَالِهِ وَصِيَانَتِهِ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ أَنْ يُحِلَّ مَالَهُ لِغَيْرِهِ بِالْإِبَاحَةِ وَالتَّمْلِيكِ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اجْتَمَعَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ وَلَكِنَّ حَقَّ اللَّهِ غَالِبٌ:

15- مِثَالُهُ: حَدُّ الْقَذْفِ بَعْدَ تَبْلِيغِ الْمَقْذُوفِ، وَثُبُوتُ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ. فَلِلْعَبْدِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ حَقٌّ، لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ بِالزِّنَى قَدِ اتُّهِمَ فِي عِرْضِهِ وَدِينِهِ، وَلِلَّهِ فِيهِ حَقٌّ، لِأَنَّ الْقَذْفَ بِالزِّنَى مِسَاسٌ بِالْأَعْرَاضِ عَلَنًا، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى شُيُوعِ الْفَاحِشَةِ، وَانْتِشَارِ الْأَلْفَاظِ الْمُخِلَّةِ بِالْآدَابِ.وَغَلَبَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لِكَيْ يَتَحَتَّمَ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ، لِاعْتِدَائِهِ عَلَى الْمُجْتَمَعِ وَعَلَى الْمَقْذُوفِ، وَلِكَيْ يَمْنَعَ الْمَقْذُوفَ مِنَ التَّنَازُلِ عَنْ حَقِّهِ، أَوِ الصُّلْحِ عَلَيْهِ، أَوْ تَوَلِّي تَنْفِيذِ الْحَدِّ بِنَفْسِهِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَغْلِيبِ حَقِّ اللَّهِ مَا يَأْتِي:

أ- تَدَاخُلُ الْعُقُوبَةِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ أَوْ كَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ، لَا يُقَامُ عَلَيْهِ إِلاَّ حَدٌّ وَاحِدٌ فَقَطْ.

ب- لَا يَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ.

ج- لَا يَسْقُطُ بِعَفْوِ الْمَقْذُوفِ.

د- تَتَنَصَّفُ الْعُقُوبَةُ بِالرِّقِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}.

هـ- يُفَوَّضُ تَنْفِيذُ الْحَدِّ لِلْإِمَامِ.

الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا اجْتَمَعَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ لَكِنَّ حَقَّ الْعَبْدِ غَالِبٌ:

16- مِثْلُ: الْقِصَاصِ مِنَ الْقَاتِلِ عَمْدًا عُدْوَانًا.

فَلِلَّهِ فِيهِ حَقٌّ، لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى الْمُجْتَمَعِ، وَاعْتِدَاءٌ عَلَى مَخْلُوقِ اللَّهِ وَعَبْدِهِ الَّذِي حَرَّمَ دَمَهُ إِلاَّ بِحَقٍّ، وَلِلَّهِ فِي نَفْسِ الْعَبْدِ حَقُّ الِاسْتِعْبَادِ، حَيْثُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}

وَلِلْعَبْدِ فِي الْقِصَاصِ حَقٌّ، لِأَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ اعْتِدَاءٌ عَلَى شَخْصِهِ، لِأَنَّ لِلْعَبْدِ الْمَقْتُولِ فِي نَفْسِهِ حَقَّ الْحَيَاةِ، وَحَقَّ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَحَرَمَهُ الْقَاتِلُ مِنْ حَقِّهِ، وَهُوَ اعْتِدَاءٌ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ، لِأَنَّهُ حَرَمَهُمْ مِنْ رِعَايَةِ مُورَثِهِمْ، وَاسْتِمْتَاعِهِمْ بِحَيَاتِهِ.فَكَانَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ اعْتِدَاءً عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ، وَلِذَلِكَ كَانَ فِي شَرْعِيَّةِ الْقِصَاصِ إِبْقَاءٌ لِلْحَقَّيْنِ، وَإِخْلَاءٌ لِلْعَالَمِ مِنَ الْفَسَادِ.تَصْدِيقًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

وَغَلَبَ حَقُّ الْعَبْدِ، لِأَنَّ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ يَمْلِكُ رَفْعَ دَعْوَى الْقِصَاصِ أَوْ عَدَمَ رَفْعِهَا، وَبَعْدُ الْمُطَالَبَةِ بِالْقِصَاصِ وَالْحُكْمِ عَلَى الْجَانِي الْقَاتِلِ يَمْلِكُ التَّنَازُلَ عَنْهُ وَالصُّلْحَ عَلَى مَالٍ أَوِ الصُّلْحَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، كَمَا يَمْلِكُ تَنْفِيذَ حُكْمِ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَاتِلِ إِنْ أَرَادَ ذَلِكَ وَكَانَ يُتْقِنُ التَّنْفِيذَ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، لِئَلاَّ يُفْتَاتَ عَلَيْهِ، فَلَوْ فَعَلَ وَقَعَ الْقِصَاصُ مَوْقِعَهُ وَاسْتَحَقَّ التَّعْزِيرَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


85-موسوعة الفقه الكويتية (حق 3)

حَقٌّ -3

تَقْسِيمُ الْحُقُوقِ بِاعْتِبَارِ مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى:

27- قَسَّمَ الشَّاطِبِيُّ الْحُقُوقَ بِاعْتِبَارِ مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى وَعَدَمِ مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى (التَّعَبُّدِيِّ) إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا هُوَ حَقُّ اللَّهِ خَالِصًا.

مِثْلُ: الْعِبَادَاتِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي تَنْفِيذِ حَقِّ اللَّهِ هُوَ التَّعَبُّدُ.

حُكْمُهُ: إِذَا طَابَقَ الْفِعْلُ الْأَمْرَ صَحَّ الْفِعْلُ، وَإِذَا لَمْ يُطَابِقِ الْفِعْلُ الْأَمْرَ لَا يَصِحُّ الْفِعْلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّعَبُّدِ رُجُوعُهُ إِلَى عَدَمِ مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى، بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ فِيهِ إِجْرَاءُ الْقِيَاسِ، وَإِذَا لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ فِيهِ هُوَ الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا حَدَّهُ الشَّارِعُ، بِحَيْثُ لَا يَتَعَدَّاهُ.مِثْلُ بَعْضِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ.وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَعَبُّدِيٌّ).

الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ، وَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ، وَالْأَصْلُ فِي حَقِّ اللَّهِ عَدَمُ مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى.

مِثْلُ: قَتْلِ النَّفْسِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّخْصِ خِيَرَةٌ أَوْ حَقٌّ فِي أَنْ يُسْلِمَ نَفْسَهُ لِلْقَتْلِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ كَالْفِتَنِ وَنَحْوِهَا، كَمَا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الِاعْتِدَاءَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَتْلِ، لِحَقِّ اللَّهِ أَوِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ.

وَحَقُّ اللَّهِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ وَالْمُغَلَّبُ.

حُكْمُهُ: مِثْلُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَرَاجِعٌ لَهُ فِي أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ عَدَمُ مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْحَقَّيْنِ هُوَ حَقُّ اللَّهِ، فَصَارَ حَقُّ الْعَبْدِ مُطْرَحًا شَرْعًا، فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا تَغَلَّبَ حَقُّهُ، وَالْمَفْرُوضُ: أَنَّ حَقَّ اللَّهِ هُوَ الْمُغَلَّبُ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اشْتَرَكَ فِيهِ الْحَقَّانِ وَحَقُّ الْعَبْدِ هُوَ الْمُغَلَّبُ.وَأَصْلُهُ مَعْقُولِيَّةُ الْمَعْنَى.فَإِذَا طَابَقَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الصِّحَّةِ، لِحُصُولِ مَصْلَحَةِ الْعَبْدِ بِذَلِكَ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا حَسْبَمَا يَتَهَيَّأُ لَهُ.وَإِنْ وَقَعَتِ الْمُخَالَفَةُ فَهُنَا نَظَرٌ، أَصْلُهُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الْعَبْدِ.فَإِمَّا أَنْ يَحْصُلَ مَعَ ذَلِكَ حَقُّ الْعَبْدِ وَلَوْ بَعْدَ الْوُقُوعِ، عَلَى حَدِّ مَا كَانَ يَحْصُلُ عِنْدَ الْمُطَابَقَةِ أَوْ أَبْلَغُ، أَوْ لَا.فَإِنْ فُرِضَ غَيْرُ حَاصِلٍ فَالْعَمَلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ لَمْ يَحْصُلْ.وَإِنْ حَصَلَ- وَلَا يَكُونُ حُصُولُهُ إِلاَّ مُسَبَّبًا عَنْ سَبَبٍ آخَرَ غَيْرَ السَّبَبِ الْمُخَالِفِ- صَحَّ وَارْتَفَعَ مُقْتَضَى النَّهْيِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَقِّ الْعَبْدِ.وَلِذَلِكَ يُصَحِّحُ مَالِكٌ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ إِذَا أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّ النَّهْيَ لِأَجْلِ فَوْتِ الْعِتْقِ.فَإِذَا حَصَلَ فَلَا مَعْنَى لِلْفَسْخِ عِنْدَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَقِّ الْمَمْلُوكِ.وَكَذَلِكَ يُصَحَّحُ الْعَقْدُ فِيمَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ إِذَا أَسْقَطَ ذُو الْحَقِّ حَقَّهُ، لِأَنَّ النَّهْيَ قَدْ فَرَضْنَاهُ لِحَقِّ الْعَبْدِ، فَإِذَا رَضِيَ بِإِسْقَاطِهِ فَلَهُ ذَلِكَ.وَأَمْثِلَةُ هَذَا الْقِسْمِ كَثِيرَةٌ.فَإِذَا رَأَيْتَ مَنْ يُصَحِّحُ الْعَمَلَ الْمُخَالِفَ بَعْدَ الْوُقُوعِ، فَذَلِكَ لِأَحَدِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ.

أَمَّا الْعِبَادَاتُ فَمِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ، فَهِيَ مَصْرُوفَةٌ إِلَيْهِ.

وَأَمَّا الْعَادَاتُ فَهِيَ أَيْضًا مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى النَّظَرِ الْكُلِّيِّ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}.فَنَهَى عَنِ التَّحْرِيمِ وَجَعَلَهُ تَعَدِّيًا عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.وَلَمَّا هَمَّ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِتَحْرِيمِ بَعْضِ الْمُحَلَّلَاتِ قَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وَذَمُّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا وَضَعَهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} وَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ}.فَذَمَّهُمْ عَلَى أَشْيَاءَ فِي الْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ اخْتَرَعُوهَا، مِنْهَا التَّحْرِيمُ.وَهُوَ الْمَقْصُودُ هَاهُنَا.

وَأَيْضًا فَفِي الْعَادَاتِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ وَجْهِ الْكَسْبِ وَوَجْهِ الِانْتِفَاعِ، لِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ مُحَافَظٌ عَلَيْهِ شَرْعًا أَيْضًا، وَلَا خِيرَةَ فِيهِ لِلْعَبْدِ، فَهُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى صَرْفًا فِي حَقِّ الْغَيْرِ، حَتَّى يَسْقُطَ حَقُّهُ بِاخْتِيَارِهِ فِي بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ، لَا فِي الْأَمْرِ الْكُلِّيِّ.وَنَفْسُ الْمُكَلَّفِ أَيْضًا دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْحَقِّ، إِذْ لَيْسَ لَهُ التَّسْلِيطُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ بِالْإِتْلَافِ.

فَإِذًا الْعَادِيَّاتُ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ اللَّهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ الْكُلِّيِّ الدَّاخِلِ تَحْتَ الضَّرُورِيَّاتِ، «الثَّانِي» مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ التَّفْصِيلِيِّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ بَيْنَ الْخَلْقِ، وَإِجْرَاءِ الْمَصْلَحَةِ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، فَصَارَ الْجَمِيعُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ، وَفِي الْعَادِيَّاتِ أَيْضًا حَقٌّ لِلْعَبْدِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا «جِهَةُ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُجَازًى عَلَيْهِ بِالنَّعِيمِ، مُوقًى بِسَبَبِهِ عَذَابَ الْجَحِيمِ» وَالثَّانِي جِهَةُ أَخْذِهِ لِلنِّعْمَةِ عَلَى أَقْصَى كَمَالِهَا فِيمَا يَلِيقُ بِالدُّنْيَا لَكِنْ بِحَسَبِهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.

الْحَقُّ الْمَحْدُودُ الْمِقْدَارِ وَالْحَقُّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ:

28- تَنْقَسِمُ الْحُقُوقُ بِاعْتِبَارِ التَّحْدِيدِ وَالتَّقْدِيرِ وَعَدَمِهِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: حَقٌّ مَحْدُودٌ، وَحَقٌّ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَحَقٌّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْحَقُّ الْمَحْدُودُ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي بَيَّنَ الشَّرْعُ أَوِ الِالْتِزَامُ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ.مِثْلُ: الْفَرَائِضِ الْخَمْسِ فِي الصَّلَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَالْمَقَادِيرِ الْوَاجِبِ إِخْرَاجُهَا فِي الزَّكَاةِ حَسَبَ أَنْوَاعِهَا، وَذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ.أَمَّا فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ، فَمِثْلُ: أَثْمَانِ الْمُشْتَرَيَاتِ فِي الْعُقُودِ، وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ.

حُكْمُ الْحَقِّ الْمَحْدُودِ:

29- لِلْحَقِّ الْمَحْدُودِ الْمِقْدَارِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

1- أَنَّهُ مَطْلُوبُ الْأَدَاءِ.

2- يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْحَقِّ، وَذَلِكَ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ سَبَبِهِ، وَيَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ.

3- لَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ مِنْهُ إِلاَّ بِأَدَاءِ الْمِقْدَارِ الْمُحَدَّدِ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي عَيَّنَهُ الشَّرْعُ أَوِ الِالْتِزَامُ وَبَيَّنَهُ، لِأَنَّ التَّحْدِيدَ مُشْعِرٌ بِقَصْدِ الشَّارِعِ أَوِ الِالْتِزَامِ.

4- لَا يَسْقُطُ عِنْدَ عَدَمِ الْأَدَاءِ بِالسُّكُوتِ أَوْ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ.

5- يُؤَدَّى عَنِ الْمُدَّةِ السَّابِقَةِ.

6- لَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ عَلَى الرِّضَا أَوْ حُكْمِ الْقَاضِي أَوِ الْمُصَالَحَةِ، لِأَنَّهُ مُحَدَّدٌ مِنْ قَبْلُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ أَوِ الِالْتِزَامِ.

7- حُكْمُ الْقَاضِي بِهِ مُظْهِرٌ لِلْحَقِّ لَا مُثْبِتٌ لَهُ، لِأَنَّهُ ثَابِتٌ مِنْ وَقْتِ تَحْدِيدِهِ عَلَى الْمُكَلَّفِ.

8- لَا يَسْقُطُ هَذَا الْحَقُّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَدَاءِ إِلاَّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فِي حَقِّ اللَّهِ، مِثْلُ: سُقُوطِ الصَّلَاةِ عَنِ الْحَائِضِ، أَمَّا فِي حَقِّ الشَّخْصِ فَيَسْقُطُ بِإِبْرَاءِ الذِّمَّةِ.وَحَقُّ اللَّهِ الْمَحْدُودُ لَاحِقٌ بِضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: الْحَقُّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ:

29 م- هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَمْ يُعَيِّنِ الشَّرْعُ أَوِ الِالْتِزَامُ مِقْدَارَهُ، مَعَ وُجُودِ التَّكْلِيفِ بِهِ.مِثْلُ: الصَّدَقَاتِ، وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَى الْأَقَارِبِ، وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ، وَسَدِّ حَاجَةِ الْمُحْتَاجِينَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي لَمْ تُحَدَّدْ، وَذَلِكَ لِتَعَذُّرِ تَحْدِيدِ هَذِهِ الْحُقُوقِ بِالنِّسْبَةِ لِظُرُوفِ كُلِّ حَقٍّ، حَيْثُ تَخْتَلِفُ الْمَقَادِيرُ الْمَطْلُوبَةُ حَسَبَ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَكَذَلِكَ الْحَالُ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَشْخَاصِ- الْمُؤَدَّى لَهُ الْحَقُّ وَالْمُؤَدِّي- وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ أَدَاءُ الْحَقِّ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ كُلِّ حَقٍّ، فَتَرَكَ التَّحْدِيدَ بَادِئَ ذِي بَدْءٍ لِيَتَحَدَّدَ قَدْرُ الْمَطْلُوبِ حَسَبَ كُلِّ حَالَةٍ عَلَى حِدَةٍ.

حُكْمُ الْحَقِّ غَيْرِ الْمَحْدُودِ:

30- لِلْحَقِّ غَيْرِ الْمَحْدُودِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

1- أَنَّهُ مَطْلُوبُ الْأَدَاءِ. 2- لَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ السَّبَبِ، وَلِذَلِكَ لَا يَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، لِأَنَّ الذِّمَمَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا غَيْرُ الْمَحْدُودِ مِنَ الْحُقُوقِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ الْحَقُّ الْمَحْدُودُ وَالْمُقَدَّرُ، لِيَتَيَسَّرَ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْأَدَاءُ.

3- الْحَقُّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ إِلاَّ بَعْدَ التَّحْدِيدِ، وَالتَّحْدِيدُ يَكُونُ بِالتَّرَاضِي، أَوْ بِالصُّلْحِ، أَوْ بِحُكْمِ الْقَاضِي، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَلِذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ إِلاَّ مِنْ وَقْتِ التَّحْدِيدِ.

4- لَا يَجُوزُ الْمُطَالَبَةُ بِالْحَقِّ غَيْرِ الْمَحْدُودِ عَنِ الْمُدَّةِ السَّابِقَةِ لِلتَّحْدِيدِ، لِأَنَّ الذِّمَّةَ لَمْ تَكُنْ مَشْغُولَةً بِهِ.

5- يَسْقُطُ الْحَقُّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ وَالسُّكُوتِ عَنِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ.

6- حَقُّ اللَّهِ غَيْرُ الْمَحْدُودِ لَاحِقٌ بِقَاعِدَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّزْيِينِ، وَلِذَلِكَ تَرَكَ تَحْدِيدَهُ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ وَنَظَرِ الْقَاضِي، لِتَقْدِيرِ كُلِّ حَالَةٍ حَسَبَ الْحَاجَةِ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْحَقُّ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ:

31- هُوَ الْحَقُّ الَّذِي أُخِذَ بِشَبَهٍ مِنَ الْحَقِّ الْمَحْدُودِ، وَبِشَبَهٍ مِنَ الْحَقِّ غَيْرِ الْمَحْدُودِ.مِثْلُ: نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، حَيْثُ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الْحَقِّ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ- إِلَى أَنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فَلَا تَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ لِأَنَّهَا تَجِبُ صِلَةً وَمَوَدَّةً مَا لَمْ يَفْرِضْهَا الْحَاكِمُ، وَإِذَا فَرَضَهَا الْحَاكِمُ تَكُونُ مُحَدَّدَةً فَتَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ.

أَنْوَاعُ التَّحْدِيدِ وَعَدَمِ التَّحْدِيدِ

32- تَحْدِيدُ الْحَقِّ وَعَدَمُ تَحْدِيدِهِ قَدْ يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ لِصَاحِبِ الْحَقِّ، وَقَدْ يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَحَقِّ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَكَانِ، أَوِ الزَّمَانِ، أَوِ الِاتِّجَاهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

أ- الْحَقُّ الْمَحْدُودُ صَاحِبُهُ: كَالْبَائِعِ فِي ثَمَنِ مَا بَاعَهُ، وَالْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ، وَالزَّوْجَةِ فِي النَّفَقَةِ.أَمَّا الْحَقُّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ صَاحِبُهُ، فَمِثْلُ: الْمُنْتَفِعِ بِالْمُبَاحَاتِ وَالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ.

ب- الْحَقُّ الْمَحْدُودُ مَنْ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ- الْمُكَلَّفُ- مِثْلُ: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى الْبَالِغِ الْعَاقِلِ، وَالزَّكَاةِ عَلَى مَالِكِ النِّصَابِ، وَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ، وَنَفَقَةِ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْأَبِ، وَالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي.

أَمَّا الْحَقُّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ مَنْ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ- الْمُكَلَّفُ- فَمِثْلُ: صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَرَدِّ السَّلَامِ، وَتَعَلُّمِ الْفِقْهِ وَالطِّبِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وَسُنَنِهَا.

ج- الْحَقُّ الْمَحْدُودُ فِي الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ، مِثْلُ: الْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْحِسَابِ، وَمِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي وَخُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ بِمُجَرَّدِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ النَّافِذِ، وَحِلِّ الزَّوْجَةِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ.

أَمَّا الْحَقُّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ فِي الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ، فَمِثْلُ: دَفْعِ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ.

د- الْحَقُّ الْمَحْدُودُ الْقَدْرِ، مِثْلُ: الْقَدْرِ الْمَحْدُودُ فِي الزَّكَاةِ، وَالثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ.

أَمَّا الْحَقُّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ الْقَدْرِ، فَمِثْلُ: الصَّدَقَاتِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمُسَاعِدَةِ الْمُحْتَاجِينَ.

هـ- الْحَقُّ الْمَحْدُودُ الْمَكَانِ، مِثْلُ: الْوُقُوفِ بِجَبَلِ عَرَفَاتٍ فِي الْحَجِّ، وَمَكَانُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ أَوِ الْمُسْلَمِ فِيهِ الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ.

أَمَّا الْحَقُّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ الْمَكَانِ، فَمِثْلُ: الصَّلَاةِ، وَالتَّعَاقُدِ فِي الْبَيْعِ وَالزَّوَاجِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُودِ.

و- الْحَقُّ الْمَحْدُودُ الزَّمَنِ وَالْوَقْتِ، مِثْلُ: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْحَجِّ.

أَمَّا الْحَقُّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ الزَّمَنِ وَالْوَقْتِ، فَمِثْلُ: السَّنَةِ الَّتِي يُؤَدِّي فِيهَا الشَّخْصُ فَرِيضَةَ الْحَجِّ عِنْدَ مَنْ يَرَى مِنَ الْفُقَهَاءِ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى التَّرَاخِي، وَسَدَادِ الدُّيُونِ الَّتِي لَمْ يُحَدَّدْ لَهَا وَقْتٌ لِلْأَدَاءِ.

ز- الْحَقُّ الْمَحْدُودُ الِاتِّجَاهِ، مِثْلُ: عَيْنِ الْكَعْبَةِ لِمَنْ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.

أَمَّا الْحَقُّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ الِاتِّجَاهِ، فَمِثْلُ: الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ.

ح- الْحَقُّ الْمَحْدُودُ الْعَدَدِ، مِثْلُ: أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةِ، وَفَرَائِضِ الصَّلَاةِ الْخَمْسِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ، وَطَرَفَيِ الْعَقْدِ وَهُمَا: الْمُوجِبُ وَالْقَابِلُ.

أَمَّا الْحَقُّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ الْعَدَدِ، فَمِثْلُ عَدَدِ أَيَّامِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَقَدْ يَتِمُّ الشَّهْرُ وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَأَيَّامُ السَّفَرِ الشَّرْعِيِّ بِالنِّسْبَةِ لِقَصْرِ الصَّلَاةِ.

الْحَقُّ التَّامُّ وَالْمُخَفَّفُ:

33- تَنْقَسِمُ الْحُقُوقُ بِاعْتِبَارِ حَالِ التَّكْلِيفِ مِنْ حَيْثُ وُجُودُ أَعْذَارٍ مُعْتَبَرَةٍ تَقْتَضِي التَّخْفِيفَ أَوْ عَدَمِ وُجُودِهَا إِلَى قِسْمَيْنِ: تَامٌّ وَمُخَفَّفٌ. الْحَقُّ التَّامُّ: هُوَ مَا وَجَبَ أَصْلًا فِي الْحَالَةِ الطَّبِيعِيَّةِ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ.مِثْلُ: أَدَاءِ الصَّلَاةِ كَامِلَةً لِلْمُقِيمِ الصَّحِيحِ، وَأَدَاءِ الدَّيْنِ كَامِلًا وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَالْحَقُّ الْمُخَفَّفُ: هُوَ مَا شُرِعَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، بِسَبَبِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ لِتَيْسِيرِ الْأَدَاءِ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِهَا.

وَالتَّخْفِيفُ قَدْ يَكُونُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ يَكُونُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ: تَخْفِيفُ إِسْقَاطٍ، وَتَخْفِيفُ نَقْصٍ، وَتَخْفِيفُ تَقْدِيمٍ، وَتَخْفِيفُ تَأْخِيرٍ، وَتَخْفِيفُ تَرْخِيصٍ، وَتَخْفِيفُ تَغْيِيرٍ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَيْسِيرٌ).

تَقْسِيمُ الْحُقُوقِ بِاعْتِبَارِ انْتِقَالِهَا لِلْوَرَثَةِ وَعَدَمِ انْتِقَالِهَا:

34- تَنْقَسِمُ الْحُقُوقُ بِاعْتِبَارِ انْتِقَالِهَا لِلْوَرَثَةِ عَنْ طَرِيقِ الْخِلَافَةِ أَوِ الْوِرَاثَةِ، وَعَدَمِ انْتِقَالِهَا أَصْلًا إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.

أَوَّلًا: الْحُقُوقُ الَّتِي تُورَثُ، وَهِيَ:

1- الْحُقُوقُ الْمَالِيَّةُ، مِثْلُ: الْعَقَارِ، وَالْمَنْقُولِ، وَالنَّقْدَيْنِ، وَالدُّيُونِ، وَالدِّيَةِ، وَالْغُرَّةِ.

2- الْحُقُوقُ الْمُقَرَّرَةُ عَلَى عَقَارٍ، مِثْلُ: حَقِّ الشُّرْبِ، وَحَقِّ الْمَجْرَى، وَحَقِّ الْمَسِيلِ، وَحَقِّ الْمُرُورِ.

3- بَعْضُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ مِنْ حُقُوقٍ، مِثْلُ: حَقِّ حَبْسِ الرَّهْنِ إِلَى سَدَادِ الدَّيْنِ، وَحَبْسُ الْمَبِيعِ حَتَّى دَفْعِ الثَّمَنِ.

ثَانِيًا: الْحُقُوقُ الَّتِي تَثْبُتُ بِالْخِلَافَةِ وَلَا تُورَثُ:

35- هِيَ الْحُقُوقُ الَّتِي تَثْبُتُ لِلْخَلَفِ ابْتِدَاءً، وَلَا تَنْتَقِلُ إِلَيْهِ عَنْ طَرِيقِ الْإِرْثِ، وَهَذِهِ الْحُقُوقُ قَدْ تَثْبُتُ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ، كَمَا فِي بَعْضِ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَالِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، مِثْلُ: خِيَارِ التَّعْيِينِ، وَقَدْ ثَبَتَ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ دُونَ الْبَعْضِ الْآخَرِ، مِثْلُ أَنْ تَثْبُتَ لِمَنْ صِلَتُهُ عَنْ طَرِيقِ النَّسَبِ كَالْأَوْلَادِ، وَلَا تَثْبُتُ لِمَنْ صِلَتُهُ عَنْ طَرِيقِ السَّبَبِ كَأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، وَذَلِكَ فِي الْحُقُوقِ غَيْرِ الْمَالِيَّةِ كَالْقِصَاصِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، فَهُوَ حَقٌّ عِنْدَهُمْ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ بِالنَّسَبِ فَقَطْ، وَثَبَتَ لَهُمُ ابْتِدَاءً.

وَقَدْ تَثْبُتُ الْحُقُوقُ لِمَنْ قَرَابَتُهُ عَنْ طَرِيقِ الْعُصْبَةِ الذُّكُورِ، وَلَا تَثْبُتُ لِمَنْ عَدَاهُمْ، مِثْلُ: وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ.

وَقَدْ تَثْبُتُ الْحُقُوقُ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ دُونَ الْبَعْضِ الْآخَرِ وَلِمُدَّةٍ مَحْدُودَةٍ، وَذَلِكَ حَسَبَ النِّظَامِ الَّذِي يَضَعُهُ الْمُوصِي أَوِ الْوَاقِفُ فِي شُرُوطِ صَرْفِ غَلَّةِ الْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ، أَوِ الَّذِي يَضَعُهُ الْإِمَامُ لِصَرْفِ هَذِهِ الْحُقُوقِ، وَذَلِكَ كَالْحَقِّ الثَّابِتِ فِي دِيوَانِ الْخَرَاجِ لِلْمُقَاتِلِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِمْ كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ حَسَبَ النِّظَامِ الْمَوْضُوعِ لِذَلِكَ فَمَنْ مَاتَ وَلَهُ حَقٌّ فِي بَيْتِ الْمَالِ عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْمَنْحِ كَالْعَطَاءِ، فَإِنَّ هَذَا الْحَقَّ لَا يُورَثُ عَنْهُ، وَلَا يَثْبُتُ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْبَعْضِ أَوِ الْكُلِّ، لَا بِاعْتِبَارِهِمْ وَرَثَةً، وَإِنَّمَا بِاعْتِبَارِهِمْ خَلَفًا عَنِ الْمَيِّتِ، فَكَانَ حَقُّ الْوَرَثَةِ فِي الْعَطَاءِ عَنْ طَرِيقِ الْخِلَافَةِ، وَمَنْحِ الْإِمَامِ لَهُمْ ذَلِكَ الْعَطَاءَ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَوِ الْحَاكِمِ مَنْعُ هَذَا الْحَقِّ، أَوْ حِرْمَانُهُمْ مِنْهُ، وَإِذَا مَنَعَهُمْ فَقَدْ ظَلَمَ.

ثَالِثًا: الْحُقُوقُ الَّتِي لَا تُورَثُ وَلَا تُنْقَلُ بِالْخِلَافَةِ:

36- هِيَ كُلُّ مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِنَفْسِ الْمُورِثِ، وَيَنْتَهِي بِمَوْتِهِ، وَلَا يَبْقَى لَهُ فِيهِ حَقٌّ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ لَا يَرِثُونَ فِكْرَ مُورَثِهِمْ وَلَا شَهْوَتَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ لَا يَرِثُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، ضَرُورَةَ أَنَّ مَا لَا يُورَثُ بِذَاتِهِ لَا يُورَثُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ.

وَالْحُقُوقُ الَّتِي لَا تُورَثُ هِيَ حُقُوقٌ شَخْصِيَّةٌ، ارْتَبَطَتْ بِالشَّخْصِ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ لِصِفَاتٍ مُعَيَّنَةٍ فِيهِ، مِثْلُ: الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَالْوِلَايَةِ عَلَى النَّفْسِ، وَالْوِلَايَةِ عَلَى الْمَالِ، وَالْمَنَاصِبِ وَالْوَظَائِفِ.مِثْلُ: الْأَمَانَةِ وَالْوَكَالَةِ، وَاخْتِيَارِ إِحْدَى الْأُخْتَيْنِ، وَكَذَلِكَ اخْتِيَارُ الْأَرْبَعِ مِنْ زَوْجَاتِهِ، وَذَلِكَ إِذَا أَسْلَمَ وَهُوَ مُتَزَوِّجٌ أُخْتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ لَا يَنْتَقِلُ هَذَا الْحَقُّ إِلَى الْوَرَثَةِ.

37- وَهُنَاكَ حُقُوقٌ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا، فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّهَا تُورَثُ، وَقَالَ الْبَعْضُ: إِنَّهَا تَنْتَقِلُ بِالْخِلَافَةِ، وَقَالَ الْبَعْضُ الْآخَرُ: إِنَّهَا لَا تُورَثُ، وَيَرْجِعُ اخْتِلَافُهُمْ إِلَى عِدَّةِ أَسْبَابٍ، وَهِيَ أَنْوَاعٌ، مِنْهَا مَا يَأْتِي:

بَعْضُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ مِنْ حُقُوقٍ، مِثْلُ: خِيَارِ الشَّرْطِ، وَخِيَارِ التَّعْيِينِ، وَخِيَارِ الْعَيْبِ، وَخِيَارِ الْقَبُولِ.

وَمِنْهَا: الْمَنَافِعُ، مِثْلُ: السُّكْنَى، وَالْمَنْفَعَةِ بِالْوَصِيَّةِ.

وَمِنْهَا: الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، وَحَدُّ الْقَذْفِ.

فَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا أَحْكَامَهُمْ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ اخْتِلَافُهُمْ، نَجِدُ أَنَّهَا تَتَنَوَّعُ، إِلَى مَا يَلِي:

أ- خِيَارُ الشَّرْطِ:

38- ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى انْتِقَالِهِ لِلْوَرَثَةِ، لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ صِفَةٌ لِلْعَقْدِ، وَأَثَرٌ مِنْ آثَارِهِ، فَيُورَثُ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِلَى عَدَمِ انْتِقَالِ خِيَارِ الشَّرْطِ لِلْوَرَثَةِ، لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِمَوْتِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ وَيَتِمُّ الْبَيْعُ، وَذَلِكَ لِثَلَاثَةِ وُجُوهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ صِفَةٌ لِلْعَاقِدِ، لِأَنَّ الْخِيَارَ مَشِيئَتُهُ وَاخْتِيَارُهُ، فَتَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، كَسَائِرِ صِفَاتِهِ.

الثَّانِي: أَنَّ الْأَجَلَ فِي الثَّمَنِ لَا يُورَثُ، فَكَذَلِكَ فِي الْخِيَارِ.

الثَّالِثُ: أَنَّ الْبَائِعَ رَضِيَ بِخِيَارٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، فَكَيْفَ يَثْبُتُ لِأَشْخَاصٍ آخَرِينَ لَمْ يُشْرَطْ لَهُمْ، وَلَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِمْ فِي الْعَقْدِ، وَهُمُ الْوَرَثَةُ، وَالْوَاجِبُ عَدَمُ تَعَدِّي الْخِيَارِ مَنِ اشْتُرِطَ لَهُ، كَمَا لَا يَتَعَدَّى الْأَجَلُ مَنِ اشْتُرِطَ لَهُ.

ب- خِيَارُ التَّعْيِينِ:

39- هُوَ أَنْ يَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ مِثْلُ: أَنْ يَشْتَرِيَ شَخْصٌ ثَوْبَيْنِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي تَعْيِينِهِ وَأَخْذِ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِي مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ وَيُعَيِّنَ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ.

فَخِيَارُ التَّعْيِينِ وَإِنْ ثَبَتَ حَقًّا لِلْوَارِثِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي التَّعْلِيلِ: فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ انْتَقَلَ لِلْوَارِثِ عَنْ طَرِيقِ الْمِيرَاثِ، لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِلْعَقْدِ كَخِيَارِ الشَّرْطِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: خِيَارُ التَّعْيِينِ لَا يُورَثُ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ لِلْوَرَثَةِ عَنْ طَرِيقِ الْخِلَافَةِ، لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً، لِأَنَّ الْوَارِثَ انْتَقَلَ إِلَيْهِ الْمِلْكُ مُخْتَلِطًا بِمِلْكِ الْغَيْرِ، وَهُوَ يَحْتَاجُ إِلَى قَبْضِهِ وَتَعْيِينِهِ، فَثَبَتَ لَهُ خِيَارُ التَّعْيِينِ ابْتِدَاءً- عَنْ طَرِيقِ الْخِلَافَةِ- لِإِنْهَاءِ هَذَا الِاخْتِلَاطِ.وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ بِالْمِيرَاثِ.وَهَذَا الْخِيَارُ الَّذِي ثَبَتَ لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً خِلَافُ خِيَارِ التَّعْيِينِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لِلْمُورَثِ الْمُتَعَاقِدِ، حَيْثُ كَانَ خِيَارُ التَّعْيِينِ ثَابِتًا لِلْمُورَثِ عَنْ طَرِيقِ الْعَقْدِ، أَمَّا خِيَارُ التَّعْيِينِ الثَّابِتُ لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً فَهُوَ لِإِنْهَاءِ اخْتِلَاطِ مِلْكِهِمْ بِمِلْكِ الْغَيْرِ، حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْوَرَثَةُ مِنْ تَسَلُّمِ مِلْكِهِمْ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ.

ج- خِيَارُ الْعَيْبِ:

40- الْمُشْتَرِي اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ سَلِيمًا مِنَ الْعَيْبِ، فَكَذَلِكَ الْوَارِثُ يَسْتَحِقُّهُ سَلِيمًا، فَيَنْتَقِلُ إِلَيْهِ حَقُّ السَّلَامَةِ ابْتِدَاءً عَنْ طَرِيقِ الْخِلَافَةِ.

وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ عَنْ طَرِيقِ الْإِرْثِ.

د- خِيَارُ الْقَبُولِ:

41- هُوَ حَقُّ يَثْبُتُ لِلطَّرَفِ الثَّانِي عِنْدَ التَّعَاقُدِ، وَذَلِكَ بَعْدَ صُدُورِ الْإِيجَابِ مِنَ الطَّرَفِ الْأَوَّلِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَالِهِ إِلَى الْوَرَثَةِ: فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ حَقٌّ يُورَثُ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُوجِبِ الرُّجُوعُ عَنْ إِيجَابِهِ، لِأَنَّهُ أَلْزَمَ نَفْسَهُ بِهِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ خِيَارَ الْقَبُولِ لَا يُورَثُ، لِأَنَّ الْإِيجَابَ غَيْرُ مُلْزَمٍ لِلْمُوجِبِ، وَلَهُ خِيَارُ الرُّجُوعِ، وَيَبْطُلُ الْإِيجَابُ بِانْفِضَاضِ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يُنْهِي الْمَجْلِسَ فَيَنْحَلُّ الْإِيجَابُ، فَلَا يَكُونُ بَعْدَهُ خِيَارُ الْقَبُولِ قَائِمًا، وَمَا دَامَ خِيَارُ الْقَبُولِ أَصْبَحَ غَيْرَ مَوْجُودٍ فَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ لِبُطْلَانِهِ تَبَعًا لِبُطْلَانِ الْإِيجَابِ بِانْفِضَاضِ الْمَجْلِسِ بِتَفَرُّقِ الْأَرْوَاحِ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَاتِ الْخِيَارِ الْمُتَعَدِّدَةِ.

هـ- الْمَنَافِعُ:

42- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَالِيَّتِهَا، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مَالًا، وَلِذَلِكَ لَا تَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ عَنْ طَرِيقِ الْمِيرَاثِ.

وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّهَا تُورَثُ مِثْلُ بَقِيَّةِ الْأَمْوَالِ الْمَمْلُوكَةِ لِلْمُورِثِ.

و- الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ:

43- هَذَا الْحَقُّ ثَابِتٌ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ، وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ ثُبُوتِهِ لَهُمْ: فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إِنَّ الْقِصَاصَ طَرِيقَةُ الْخِلَافَةِ دُونَ الْوِرَاثَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِصَاصَ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْمَيِّتُ لَيْسَ صَالِحًا لِلْمُطَالَبَةِ بِالْقِصَاصِ لِفَقْدِهِ الْحَيَاةَ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ الدَّيْنِ وَالْهِبَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْوَالِ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فِي الْأَمْوَالِ، وَيُتَجَاوَزُ فِي الْأَمْوَالِ مَا لَا يُتَجَاوَزُ فِي غَيْرِهَا، وَلِذَلِكَ إِذَا نَصَبَ شَخْصٌ مِصْيَدَةً فَوَقَعَ بِهَا الصَّيْدُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنَّ الْمَيِّتَ يَمْلِكُهُ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ عَنْ طَرِيقِ الْإِرْثِ.أَمَّا الْقِصَاصُ فَيَثْبُتُ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ ابْتِدَاءً لَا عَنْ طَرِيقِ الْمِيرَاثِ، وَلِذَلِكَ لَا يَثْبُتُ الْقِصَاصُ لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِأَنَّ الْخِلَافَةَ بِالنَّسَبِ فَقَطْ، دُونَ السَّبَبِ وَهُوَ الزَّوْجِيَّةُ، لِانْقِطَاعِ الزَّوْجِيَّةِ بِالْمَوْتِ.

وَقَالُوا أَيْضًا: لَمْ يَثْبُتْ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قِصَاصُ النَّفْسِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْقِصَاصُ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْقِصَاصِ فَرْعُ زَهُوقِ الرُّوحِ، وَمُرَتَّبٌ عَلَى خُرُوجِ الرُّوحِ، فَلَمْ يَكُنْ قِصَاصُ النَّفْسِ ثَابِتًا لِلْمَقْتُولِ قَبْلَ مَوْتِهِ، حَتَّى يَكُونَ الْقِصَاصُ مِمَّا يَنْتَقِلُ لِلْوَارِثِ، لِأَنَّ حَقَّ الْقِصَاصِ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَلَا يَقَعُ إِلاَّ لِلْوَارِثِ.

تَقْسِيمُ الْحُقُوقِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ وَعَدَمِهَا:

44- تَنْقَسِمُ الْحُقُوقُ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّعَلُّقِ بِالْأَمْوَالِ وَعَدَمِ الْمَالِيَّةِ إِلَى مَا يَأْتِي:

1- حَقٌّ مَالِيٌّ، يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْوَالِ، وَيُسْتَعَاضُ عَنْهُ بِمَالٍ، مِثْلُ: الْأَعْيَانِ الْمَالِيَّةِ حَيْثُ يُمْكِنُ بَيْعُهَا وَالِاسْتِعَاضَةُ عَنْهَا بِمَالٍ.

2- حَقٌّ مَالِيٌّ، لَيْسَ فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ، مِثْلُ: الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، حَيْثُ يَتَعَلَّقُ الْمَهْرُ بِالزَّوَاجِ وَالدُّخُولِ، وَكِلَاهُمَا لَيْسَ مَالًا، وَكَذَلِكَ النَّفَقَةُ تَسْتَحِقُّهَا الزَّوْجَةُ مُقَابِلَ احْتِبَاسِهَا لِحَقِّ الزَّوْجِ.

3- حَقٌّ غَيْرُ مَالِيٍّ، يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْوَالِ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ الِاسْتِعَاضَةُ عَنْهُ بِمَالٍ، مِثْلُ: الشُّفْعَةِ، حَيْثُ إِنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ قَبْلَ بَيْعِ الشَّرِيكِ حَقٌّ مُجَرَّدٌ، وَبَعْدَ الْبَيْعِ حَقٌّ ثَابِتٌ، وَهُوَ أَيْضًا حَقٌّ مُجَرَّدٌ، وَهُوَ حَقٌّ ضَعِيفٌ لَا يَصِحُّ الِاسْتِعَاضَةُ عَنْهُ بِمَالٍ.إِلاَّ أَنَّ الشُّفْعَةَ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَارِ، وَهُوَ مَالٌ بِالْإِجْمَاعِ.

4- حَقٌّ غَيْرُ مَالِيٍّ، لَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْوَالِ، وَلَكِنْ يَجُوزُ الِاسْتِعَاضَةُ عَنْهُ بِمَالٍ، مِثْلُ: الْقِصَاصِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ غَيْرُ مَالِيٍّ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْوَالِ، لِأَنَّهُ عُقُوبَةُ الْقَتْلِ الْعَمْدِ، وَهَذَا لَيْسَ مَالًا، وَلَكِنْ يَجُوزُ الِاسْتِعَاضَةُ عَنِ الْقِصَاصِ بِمَالٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ الصُّلْحِ عَلَى مَالٍ.

5- حَقٌّ غَيْرُ مَالِيٍّ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْوَالِ، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِعَاضَةُ عَنْهُ بِمَالٍ، وَلَكِنْ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُقُوقٌ مَالِيَّةٌ، مِثْلُ: الْأُبُوَّةِ، وَالْأُمُومَةِ، وَالْبُنُوَّةِ.

6- حَقٌّ مُخْتَلَفٌ فِي مَالِيَّتِهِ، مِثْلُ: الْمَنَافِعِ.

حَيْثُ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ مَالٌ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مَالًا، وَذَكَرَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ أَنَّ الْمَنَافِعَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا الْمَالُ مَجَازًا.

الْحَقُّ الْوَاجِبُ دِيَانَةً، وَالْحَقُّ الْوَاجِبُ قَضَاءً:

45- الْحَقُّ الْوَاجِبُ دِيَانَةً: هُوَ مَا كَانَ وَاجِبَ الْأَدَاءِ فِي الذِّمَّةِ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَوْ بِالِالْتِزَامِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ دَلِيلٌ يُثْبِتُهُ عِنْدَ التَّقَاضِي، مِثْلُ: الطَّلَاقِ بِغَيْرِ شُهُودٍ أَوْ بِطَرِيقٍ غَيْرِ رَسْمِيٍّ، وَقَدْ يَكُونُ حَقًّا لَيْسَ لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ، وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ، كَالْحَجِّ وَالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ.

وَالْحَقُّ الْوَاجِبُ قَضَاءً: هُوَ مَا كَانَ وَاجِبَ الْأَدَاءِ وَأَمْكَنَ إِثْبَاتُهُ بِالدَّلِيلِ، مِثْلُ: الطَّلَاقِ أَمَامَ الشُّهُودِ أَوْ بِوَثِيقَةٍ رَسْمِيَّةٍ، فَإِنْ رَاجَعَهَا الزَّوْجُ بِطَرِيقٍ غَيْرِ رَسْمِيٍّ أَوْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَحُكْمُ الطَّلَاقِ مَا زَالَ قَائِمًا قَضَاءً فَقَطْ لَا دِيَانَةً.

وَالْحَقُّ الْوَاجِبُ دِيَانَةً وَقَضَاءً: هُوَ مَا كَانَ وَاجِبَ الْأَدَاءِ فِي الذِّمَّةِ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَوِ الْتِزَامٍ، وَيُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ بِالدَّلِيلِ، مِثْلُ: الطَّلَاقِ بِوَثِيقَةٍ رَسْمِيَّةٍ أَوْ أَمَامَ الشُّهُودِ، وَلَمْ يُرَاجِعْهَا الزَّوْجُ فَهِيَ مُطَلَّقَةٌ دِيَانَةً وَقَضَاءً.

حَقُّ التَّمَلُّكِ وَالْحَقُّ الْمُبَاحِ:

46- حَقُّ التَّمَلُّكِ: هُوَ مُجَرَّدُ الْإِمْكَانِ وَالصَّلَاحِيَّةِ لِلْمِلْكِ شَرْعًا.

وَالْمُبَاحُ: هُوَ مَا خُيِّرَ فِيهِ الشَّخْصُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَكَانَ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ سَوَاءً شَرْعًا.

فَالْحَقُّ الْمُبَاحُ وَحَقُّ التَّمَلُّكِ كِلَاهُمَا حَقٌّ لَيْسَ لَهُ مَحَلٌّ مُعَيَّنٌ- وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ- يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ وُجُودِ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ بِمَحَلٍّ مُعَيَّنٍ يُوجِبُهُ وَيُثْبِتُهُ فِيهِ.وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ هُوَ صَالِحٌ لِانْتِقَالِهِ وَتَرْكِهِ إِلَى حَقٍّ آخَرَ أَقْوَى مِنْهُ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ.

وَحَقُّ التَّمَلُّكِ وَالْحَقُّ الْمُبَاحُ كِلَاهُمَا مِنَ الْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ الضَّعِيفَةِ، الَّتِي لَا تَتَرَقَّى وَلَا تَنْتَقِلُ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْحُقُوقِ بِالْقَوْلِ الصَّادِرِ مِنْ صَاحِبِهِ تَعْبِيرًا عَنْ إِرَادَتِهِ وَحْدَهُ.

وَالْحَقُّ الْمُبَاحُ يَثْبُتُ بِالْأَصْلِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَهُ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا».

فَإِذَا كَانَ نَقْلُ الْمِلْكِ عَنْ طَرِيقِ التَّرَاضِي كَمَا فِي الْعُقُودِ، فَمَنْ لَهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ لِلْعَقَارِ أَوِ الْمَنْقُولِ الْمَمْلُوكِ لِلْغَيْرِ- قَبْلَ التَّعَاقُدِ- فَإِنَّ حَقَّهُ حَقُّ تَمَلُّكٍ فَقَطْ، وَهُوَ حَقٌّ مُبَاحٌ، وَهَذَا الْحَقُّ لَا يُفِيدُ مِلْكًا مُطْلَقًا، وَلَا مِلْكًا فِي الْجُمْلَةِ.وَلِذَلِكَ لَا يَتَعَارَضُ حَقُّ التَّمَلُّكِ مَعَ حَقِّ الْمَالِكِ، وَيَسْتَمِرُّ الْحَقُّ الْمُبَاحُ فِي التَّمَلُّكِ إِلَى أَنْ يَصْدُرَ مِنَ الْمَالِكِ لِلْعَقَارِ أَوِ الْمَنْقُولِ إِيجَابٌ بِالْبَيْعِ لِصَاحِبِ حَقِّ التَّمَلُّكِ.

فَإِذَا أَوْجَبَ صَاحِبُ الْمَالِ عَلَى نَفْسِهِ بَيْعَ الْمَنْقُولِ لِصَاحِبِ حَقِّ التَّمَلُّكِ، بِأَنْ صَدَرَ مِنْهُ إِيجَابٌ بِالْبَيْعِ، تَرَقَّى هَذَا الْحَقُّ- حَقُّ التَّمَلُّكِ- إِلَى مَرْحَلَةٍ وَسَطٍ بَيْنَ حَقِّ التَّمَلُّكِ وَالْمِلْكِ، وَهُوَ حَقٌّ وَاحِدٌ يُسَمَّى: الْحَقَّ الثَّابِتَ أَوِ الْحَقَّ الْوَاجِبَ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْوُصُولُ إِلَى الْمِلْكِ عَنْ طَرِيقٍ آخَرَ غَيْرِ التَّرَاضِي، بِأَنْ كَانَ عَنْ طَرِيقِ الْإِجْبَارِ، مِثْلُ: الشُّفْعَةِ وَالْغَنِيمَةِ، فَحَقُّ التَّمَلُّكِ مَوْجُودٌ أَيْضًا إِذَا وُجِدَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ، وَقَدْ أَكَّدَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَقَّ التَّمَلُّكِ أَوِ الْمُبَاحِ لَا يُعْتَبَرُ مِلْكًا مُطْلَقًا.

هَذَا كُلُّهُ فِي الْأَمْوَالِ الْمَمْلُوكَةِ لِلْغَيْرِ:

47- أَمَّا غَيْرُ الْمَمْلُوكِ لِلْغَيْرِ، مِثْلُ: الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَالسَّمَكِ فِي مِيَاهِ الْأَنْهَارِ وَالْبِحَارِ، وَالنَّبَاتِ وَالْأَشْجَارِ فِي الصَّحَارِيِ وَالْغَابَاتِ، وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانَاتُ الْبَرِّيَّةُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ شَخْصٍ أَنْ يَسْعَى لِتَمَلُّكِهَا، وَذَلِكَ بِالْوَسَائِلِ الْمَشْرُوعَةِ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ لَهُمْ حَقُّ تَمَلُّكِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَمْثَالِهَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ صَالِحٌ لأَنْ يَكُونَ مَالِكًا لَهَا، فَحَقُّ تَمَلُّكِهَا مُسْتَمِرٌّ إِلَى أَنْ يُوجَدَ أَحَدُ الْأَشْخَاصِ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


86-موسوعة الفقه الكويتية (حق 4)

حَقٌّ -4

الْحَقُّ الثَّابِتُ أَوِ الْحَقُّ الْوَاجِبُ:

48- الْحَقُّ الثَّابِتُ- وَيُسَمَّى الْحَقَّ الْوَاجِبَ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ-: هُوَ حَقُّ الشَّخْصِ فِي أَنْ يَتَمَلَّكَ شَيْئًا مُحَدَّدًا- وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ- بِإِرَادَتِهِ وَحْدَهُ، بَعْدَ وُجُودِ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ، وَقَبْلَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ.وَهَذَا الْحَقُّ لَمْ يَصِلْ إِلَى دَرَجَةِ حَقِّ الْمِلْكِ، لِأَنَّهُ أَدْنَى مِنْهُ، وَلَا يُفِيدُ مِلْكًا كَمَا أَنَّهُ أَعْلَى دَرَجَةً مِنَ الْمُبَاحِ وَحَقُّ التَّمَلُّكِ، حَيْثُ إِنَّ الْحَقَّ الثَّابِتَ يُعْطِي حُقُوقًا أَكْثَرَ مِنْ حَقِّ التَّمَلُّكِ، وَلَهُ آثَارٌ أَقْوَى، لِأَنَّ صَاحِبَ حَقِّ التَّمَلُّكِ إِذَا تَحَقَّقَ لَهُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ كَالْإِيجَابِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، تَرَقَّى حَقُّهُ إِلَى حَقٍّ ثَابِتٍ، وَلَكِنَّهُ مُجَرَّدٌ عَنِ الْمِلْكِ.وَيُمْكِنُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ الثَّابِتِ- بِإِرَادَتِهِ وَحْدَهُ- أَنْ يَتَرَقَّى بِهَذَا الْحَقِّ الثَّابِتِ إِلَى حَقِّ الْمِلْكِ، لِأَنَّهُ أَصْبَحَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَبُولِ الْإِيجَابِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ فَيُصْبِحُ مَالِكًا، أَوْ رَفْضِ الْإِيجَابِ، وَهَذَا الْأَمْرُ لَا يَتَوَفَّرُ لِصَاحِبِ حَقِّ التَّمَلُّكِ، وَهُوَ أَهَمُّ فَرْقٍ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَقَّيْنِ.وَهَذَا فِي التَّمَلُّكِ الِاخْتِيَارِيِّ بِإِرَادَةِ الْمَالِكِ وَإِيجَابِهِ، فَالْحَقُّ الْوَسَطُ هُوَ الْحَقُّ الثَّابِتُ فَقَطْ، وَيُسَمَّى الْحَقَّ الْوَاجِبَ.

أَمَّا فِي التَّمَلُّكِ الْجَبْرِيِّ بِغَيْرِ إِرَادَةِ الْمَالِكِ، مِثْلُ: الْغَنِيمَةِ وَالشُّفْعَةِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي شَأْنِ الْغَنِيمَةِ: (وَالْحَاصِلُ كَمَا فِي الْفَتْحِ عَنِ الْمَبْسُوطِ: أَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ عِنْدَنَا بِنَفْسِ الْأَخْذِ، وَيَتَأَكَّدُ بِالْإِحْرَازِ، وَيُمْلَكُ بِالْقِسْمَةِ، وَمَا دَامَ الْحَقُّ ضَعِيفًا لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ.قُلْتُ: وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ عَسْكَرُنَا عَلَى الْبَلَدِ، فَلَوْ ظَهَرُوا عَلَيْهَا، وَصَارَتْ بَلَدَ إِسْلَامٍ، وَصَارَتِ الْغَنِيمَةُ مُحْرَزَةً بِدَارِنَا، وَيَتَأَكَّدُ الْحَقُّ، فَتَصِحُّ الْقِسْمَةُ).

وَيَسْتَوِي الْحَقُّ الْمُبَاحُ (أَيْ: حَقُّ التَّمَلُّكِ) وَالْحَقُّ الثَّابِتُ فِيمَا يَلِي: 1- أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حَقٌّ مُجَرَّدٌ عَنِ الْمِلْكِ، وَمَعْنَى مُجَرَّدٌ عَنِ الْمِلْكِ، أَنَّهَا لَيْسَتْ مِلْكًا، وَسُمِّيَتْ فِي الْبَدَائِعِ الْحُقُوقُ الْمُفْرَدَةُ، وَهِيَ لَا تُمْلَكُ وَلَا تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ، وَلَا يُسْتَعَاضُ عَنْهَا بِمَالٍ، لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ حَقٍّ فَقَطْ.

2- أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حَقٌّ ضَعِيفٌ، وَلِذَلِكَ لَا تَجُوزُ قِسْمَتُهُ أَوِ الصُّلْحُ عَنْهُ.

3- أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يُبَاعُ، وَلَا يُورَثُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

4- أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَيْسَ حَقَّ مِلْكٍ، وَلَا نَوْعَ مِلْكٍ كَالْحَقِّ الْمُؤَكَّدِ.

5- أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يُضْمَنُ عِنْدَ الْإِتْلَافِ.

وَيَفْتَرِقُ الْحَقُّ الْمُبَاحُ- حَقُّ التَّمَلُّكِ- عَنِ الْحَقِّ الثَّابِتِ فِيمَ يَأْتِي:

1- أَنَّ الْحَقَّ الثَّابِتَ تَعَلَّقَ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ.

أَمَّا الْحَقُّ الْمُبَاحُ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ.

2- أَنَّ الْحَقَّ الثَّابِتَ تَحَقَّقَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ.أَمَّا الْحَقُّ الْمُبَاحُ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ.

3- أَنَّ الْحَقَّ الثَّابِتَ فِي مَقْدُورِ صَاحِبِهِ وَسُلْطَتِهِ أَنْ يَرْتَقِيَ بِهَذَا الْحَقِّ وَيَجْعَلَهُ حَقًّا مُؤَكَّدًا، أَوْ حَقَّ مِلْكٍ، وَذَلِكَ بِإِرَادَتِهِ وَقَبُولِهِ وَحْدَهُ، أَمَّا الْحَقُّ الْمُبَاحُ فَصَاحِبُهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَرَقَّى بِهِ وَيُحَوِّلَهُ إِلَى حَقٍّ مُؤَكَّدٍ، أَوْ حَقِّ مِلْكٍ، بِقَبُولِهِ وَعِبَارَتِهِ وَحْدَهُ.

4- أَنَّ الْحَقَّ الثَّابِتَ يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، كَمَا فِي خِيَارِ الْقَبُولِ، أَمَّا الْحَقُّ الْمُبَاحُ فَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ.

الْحَقُّ الْمُؤَكَّدُ:

49- الْحَقُّ الْمُؤَكَّدُ حَقٌّ اسْتَقَرَّ فِي عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ لَمْ تُمْلَكْ بَعْدُ، وَإِنْ كَانَتْ لِصَاحِبِهِ نَوْعَ مِلْكٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالْقِسْمَةِ.

وَيُسَمَّى: الْحَقَّ الْمُسْتَمِرَّ، لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِبْطَالِ الْحَقِّ الْمُؤَكَّدِ مِنْ جَانِبِهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ بِالْحَقِّ الْمُؤَكَّدِ لِصَاحِبِهِ، وَإِذَا امْتَنَعَ أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ.

مِثَالُهُ فِي الْغَنِيمَةِ: الْحَقُّ الْمُؤَكَّدُ فِيهَا يَكُونُ بَعْدَ إِحْرَازِ الْمُسْلِمِينَ لِلْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا قَدْ تَأَكَّدَ وَاسْتَقَرَّ بَعْدَ هَذَا الْإِحْرَازِ، لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ وَالْمَعَارِكِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ كَانَتْ مُجَرَّدَ حَقٍّ لَمْ يَتَأَكَّدْ بَعْدُ، حَيْثُ كَانَ هَذَا الْحَقُّ مُهَدَّدًا بِاسْتِرْدَادِ الْأَعْدَاءِ لِأَمْوَالِهِمْ، وَبَعْدَ الْإِحْرَازِ لِلْغَنَائِمِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ زَالَ الْخَطَرُ، وَتَأَكَّدَ الْحَقُّ، وَلَمْ يَبْقَ مُجَرَّدَ حَقٍّ، أَوْ حَقًّا مُجَرَّدًا.

قَالَ فِي الدُّرِّ الْمُنْتَقَى: (وَالَّذِي قَرَّرَهُ فِي الْمِنَحِ كَغَيْرِهِ: أَنَّهُ لَا مِلْكَ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِنَا أَيْضًا إِلاَّ بِالْقِسْمَةِ، فَلَا يَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ مِلْكٌ لِأَحَدٍ، بَلْ يَتَأَكَّدُ الْحَقُّ، وَلِهَذَا لَوْ أَعْتَقَ وَاحِدٌ مِنَ الْغَانِمِينَ عَبْدًا بَعْدَ الْإِحْرَازِ لَا يَعْتِقُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مِلْكٌ وَلَوْ بِشَرِكَةٍ لِعِتْقٍ.

نَعَمَ لَوْ قُسِّمَتِ الْغَنِيمَةُ عَلَى الرَّايَاتِ فَوَقَعَ عَبْدٌ بَيْنَ أَهْلِ رَايَةٍ صَحَّ عِتْقُ أَحَدِهِمْ لِلشَّرِكَةِ الْخَاصَّةِ، حَيْثُ كَانُوا قَلِيلًا كَمِائَةٍ فَأَقَلَّ، وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ.

وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِ الْغَانِمِينَ شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَمْ بَعْدَ الْإِحْرَازِ فِي دَارِنَا، لِأَنَّهَا لَا تُمْلَكُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ كَمَا عَلِمْتَ، قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي بَيْعِ الْغُزَاةِ، وَأَمَّا بَيْعُ الْإِمَامِ لَهَا فَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ: أَنَّهُ يَصِحُّ، لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، يَعْنِي أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ).

حُكْمُ الْحَقِّ الْمُؤَكَّدِ:

50- أ- يُضْمَنُ عِنْدَ الْإِتْلَافِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: (إِذَا فَوَّتَ حَقًّا مُؤَكَّدًا فَإِنَّهُ يَلْحَقُ بِتَفْوِيتِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ كَحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَلِذَا لَا يَضْمَنُ بِإِتْلَافِ شَيْءٍ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ، لِأَنَّ الْفَائِتَ مُجَرَّدُ الْحَقِّ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ، وَبَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ- وَلَوْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ- يَضْمَنُ، لِتَفْوِيتِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ فِي «إِتْلَافِهِ شَيْئًا» مِنَ الْغَنِيمَةِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: لِتَفْوِيتِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ الْحَقَّ الْمُؤَكَّدَ، إِذْ لَا تَحْصُلُ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ إِلاَّ بَعْدَ الْقِسْمَةِ كَمَا مَرَّ)

ب- لَا يُعْتَبَرُ دَاخِلًا فِي مِلْكِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ، قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ: (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْغَنَائِمِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا قَبْلَ ذَلِكَ)

ج- يُورَثُ الْحَقُّ الْمُؤَكَّدُ إِذَا مَاتَ صَاحِبُهُ بَعْدَ التَّأَكُّدِ وَقَبْلَ الْمِلْكِ، مِثْلُ: التَّحْجِيرِ.

وَالْغَنِيمَةُ إِذَا أُحْرِزَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: (بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِنَا يُورَثُ نَصِيبُ الْغَازِي إِذَا مَاتَ فِي دَارِنَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، لِلتَّأَكُّدِ لَا الْمِلْكِ، لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَقَّ الْمُتَأَكِّدَ يُورَثُ، كَحَقِّ الرَّهْنِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، بِخِلَافِ الْحَقِّ الضَّعِيفِ) كَالشُّفْعَةِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ.

د- يُعْتَبَرُ الْحَقُّ الْمُؤَكَّدُ مَمْلُوكًا لِصَاحِبِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِهِ بَعْدُ، إِلاَّ أَنَّهُ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبٌ يُرَتِّبُ لَهُ حَقًّا فِي الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ لِمَا يَأْتِي.

1- أَنَّ هَذَا الْحَقَّ قَدِ اسْتَقَرَّ وَتَحَدَّدَ وَتَعَيَّنَ الْمُسْتَحِقُّونَ لَهُ، وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ نَقْلُ الْمِلْكِيَّةِ، وَيَتِمُّ ذَلِكَ فِي الْغَنِيمَةِ الْمُحْرَزَةِ بِقِسْمَتِهَا.

2- أَنَّهُ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَانِمِينَ بِهِ، وَتَحَقُّقِ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِ الْأَعْدَاءِ، وَانْتِهَاءِ الْإِبَاحَةِ الَّتِي لَحِقَتْ بِالْغَنِيمَةِ وَقْتَ الْمَعْرَكَةِ إِلَى قُبَيْلِ الْإِحْرَازِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: (وَبَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ مِمَّا يَجُوزُ لِلْغَانِمِينَ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، لِزَوَالِ الْمُبِيحِ، وَلِأَنَّ حَقَّهُمْ قَدْ تَأَكَّدَ حَتَّى يُورَثَ نَصِيبُهُمْ).

3- أَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ الْمُؤَكَّدِ فِي الْغَنِيمَةِ لَهُ الْحَقُّ فِي الْمُطَالَبَةِ بِقِسْمَتِهَا وَتَمْلِيكِهَا، حَتَّى يَتَحَقَّقَ دُخُولُ نَصِيبِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ فِي مِلْكِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ الْحَقِّ الْمُؤَكَّدِ صَاحِبَ اخْتِصَاصٍ أَوْ لَهُ نَوْعُ مِلْكٍ لَمَا كَانَ لَهُ الْحَقُّ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْقِسْمَةِ وَالتَّمْلِيكِ.

قَالَ الْقَرَافِيُّ: (إِذَا حِيزَتِ الْغَنِيمَةُ فَقَدِ انْعَقَدَ لِلْمُجَاهِدِينَ سَبَبُ الْمُطَالَبَةِ بِالْقِسْمَةِ وَالتَّمْلِيكِ، فَهَلْ يُعَدُّونَ مَالِكِينَ لِذَلِكَ أَمْ لَا؟ قَوْلَانِ: فَقِيلَ: يَمْلِكُونَ بِالْحَوْزِ وَالْأَخْذِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقِيلَ: لَا يَمْلِكُونَ إِلاَّ بِالْقِسْمَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ) - وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- كَمَا قَالَهُ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ. ثُمَّ قَالَ الْقَرَافِيُّ: (إِذَا قُلْنَا انْعَقَدَ لَهُ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْمُطَالَبَةَ بِالتَّمْلِيكِ، فَهُوَ مُنَاسِبٌ لأَنْ يُعَدَّ مَالِكًا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، تَنْزِيلًا لِسَبَبِ السَّبَبِ مَنْزِلَةَ السَّبَبِ، وَإِقَامَةً لِلسَّبَبِ الْبَعِيدِ مَقَامَ السَّبَبِ الْقَرِيبِ، فَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَخَيَّلَ وُقُوعُهُ قَاعِدَةً فِي الشَّرِيعَةِ، وَيَجْرِي فِيهَا الْخِلَافُ فِي بَعْضِ فُرُوعِهَا لَا فِي كُلِّهَا)

4- أَنَّ الْحَقَّ الْمُؤَكَّدَ إِذَا مَاتَ صَاحِبُهُ انْتَقَلَ إِلَى وَرَثَتِهِ كَمَا فِي الْغَنِيمَةِ إِذَا حِيزَتْ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ نَوْعُ مِلْكٍ لِمَا انْتَقَلَ إِلَى الْوَرَثَةِ، كَالْحَقِّ الثَّابِتِ حَيْثُ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ خَالِيًا عَنِ الْمِلْكِ أَصْلًا، وَلَيْسَ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمِلْكِ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى الْوَرَثَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ الْمُؤَكَّدَ فِيهِ نَوْعُ مِلْكٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَلِذَلِكَ انْتَقَلَ إِلَى الْوَرَثَةِ.

51- وَيَفْتَرِقُ الْحَقُّ الْمُؤَكَّدُ عَنِ الْحَقِّ الثَّابِتِ- وَكِلَاهُمَا حَقٌّ وَسَطٌ بَيْنَ التَّمَلُّكِ وَالْمِلْكِ- فِيمَا يَأْتِي: -

1- أَنَّ الْحَقَّ الْمُؤَكَّدَ يُضْمَنُ عِنْدَ الْإِتْلَافِ.أَمَّا الْحَقُّ الثَّابِتُ فَلَا يُضْمَنُ عِنْدَ الْإِتْلَافِ.

2- أَنَّ الْحَقَّ الْمُؤَكَّدَ يُورَثُ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا الْحَقُّ الثَّابِتُ فَلَا يُورَثُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ.

3- أَنَّ الْحَقَّ الْمُؤَكَّدَ يُعْتَبَرُ مَمْلُوكًا فِي الْجُمْلَةِ، فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ.

أَمَّا الْحَقُّ الثَّابِتُ فَلَا يُعْتَبَرُ مَمْلُوكًا.

4- أَنَّ الْحَقَّ الْمُؤَكَّدَ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ إِلَى حَقِّ الْمِلْكِ، لِوُجُودِ الشَّبَهِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ.

أَمَّا الْحَقُّ الثَّابِتُ فَأَبْعَدُ مَا يَكُونُ عَنْ حَقِّ الْمِلْكِ، لِعَدَمِ وُجُودِ الشَّبَهِ فِي أَكْثَرِ الْأُمُورِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كُلِّهَا.

5- أَنَّ الْحَقَّ الْمُؤَكَّدَ أَبْعَدُ مَا يَكُونُ عَنْ حَقِّ التَّمَلُّكِ.

أَمَّا الْحَقُّ الثَّابِتُ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ حَقِّ التَّمَلُّكِ، لِوُجُودِ الشَّبَهِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ.

وَيَخْتَلِفُ الْحَقُّ الْمُؤَكَّدُ عَنِ الْمِلْكِ فِيمَا يَأْتِي:

أَنَّ الْحَقَّ الْمُؤَكَّدَ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ الْمُؤَكَّدِ.

أَمَّا حَقُّ الْمِلْكِ، فَإِنَّ لِصَاحِبِهِ حَقَّ الْمَبِيعِ وَالتَّصَرُّفَ فِيهِ وَالِانْتِفَاعَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ.

اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ:

52- تَنْقَسِمُ الْحُقُوقُ مِنْ حَيْثُ اسْتِيفَاؤُهَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

الْأَوَّلُ: مَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الرَّفْعِ إِلَى الْقَضَاءِ، بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، كَتَحْصِيلِ الْعُقُوبَاتِ وَمَا يُخَافُ مِنَ اسْتِيفَائِهِ الْفِتْنَةُ، كَالْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّكَاحِ وَاللِّعَانِ وَالطَّلَاقِ بِالْإِعْسَارِ وَالْإِضْرَارِ وَذَلِكَ لِخَطَرِهَا وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنَ الْحُقُوقِ مُخْتَلَفًا فِي أَصْلِ ثُبُوتِهِ.

الثَّانِي: مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْقَضَاءِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِتَحْصِيلِ الْأَعْيَانِ الْمُسْتَحَقَّةِ، وَتَحْصِيلِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ.

الثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ تَحْصِيلِهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ، كَاسْتِيفَاءِ الدُّيُونِ.وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (اسْتِيفَاءٌ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


87-موسوعة الفقه الكويتية (خال)

خَالٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْخَالُ فِي اللُّغَةِ: أَخُو الْأُمِّ وَإِنْ عَلَتْ، وَجَمْعُهُ أَخْوَالٌ، وَأُخْتُ الْأُمِّ خَالَةٌ، وَالْجَمْعُ خَالَاتٌ، يُقَالُ: أَخْوَلَ الرَّجُلُ، فَهُوَ مُخْوِلٌ: أَيْ كَرِيمُ الْأَخْوَالِ، وَيُقَالُ أَيْضًا: أُخْوِلَ بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْعَمُّ:

2- الْعَمُّ فِي اللُّغَةِ أَخُو الْأَبِ، أَوْ أَخُو الْجَدِّ، وَإِنْ عَلَا، وَجَمْعُهُ أَعْمَامٌ وَالْمَصْدَرُ عُمُومَةٌ، يُقَالُ: أَعَمَّ الرَّجُلُ، إِذَا كَرُمَ أَعْمَامُهُ، يُسْتَعْمَلُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَلِلْمَفْعُولِ

تَوْرِيثُ الْخَالِ:

3- الْخَالُ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَذُو الرَّحِمِ، هُوَ كُلُّ قَرِيبٍ لَيْسَ بِذِي فَرْضٍ، وَلَا عَصَبَةٍ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوْرِيثِ الْخَالِ كَسَائِرِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْخَالَ يُوَرَّثُ عِنْدَ فَقْدِ الْعَصَبَةِ وَذَوِي الْفَرْضِ غَيْرِ الزَّوْجَيْنِ، فَيَأْخُذُ الْمُنْفَرِدُ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ جَمِيعَ الْمَالِ، بِالْقَرَابَةِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ عَصَبَةٌ، وَلَا ذُو فَرْضٍ مُطْلَقًا، وَيَأْخُذُ مَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، إِنْ وُجِدَ لِعَدَمِ الرَّدِّ عَلَيْهِمَا

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} أَيْ أَحَقُّ بِالتَّوَارُثِ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِحَدِيثِ: « الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ » وَقَالُوا: رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ: عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ.وَغَيْرُهُمْ.

وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْخَالَ لَا يَرِثُ كَسَائِرِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، بَلْ يَكُونُ الْمَالُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَقَالُوا: « إِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا نَزَلَتْ آيَاتُ الْمَوَارِيثِ: قَالَ إِنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ » وَلَيْسَ فِي الْآيَاتِ ذِكْرٌ لِلْخَالِ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِخَبَرِ: « أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: رَكِبَ إِلَى قُبَاءٍ يَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِي مِيرَاثِ الْعَمَّةِ، وَالْخَالَةِ، فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ لَا مِيرَاثَ لَهُمَا » وَقَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَارِثًا بِالْقَرَابَةِ، لَقُدِّمَ عَلَى الْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْإِرْثِ بِالْوَلَاءِ.وَلَكِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبَيْنِ أَفْتَوْا: بِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَنْتَظِمْ أَمْرُ بَيْتِ الْمَالِ، رُدَّ الْبَاقِي مِنَ الْمَالِ عَلَى أَهْلِ الْفَرْضِ غَيْرِ الزَّوْجَيْنِ إِرْثًا، فَإِنْ فُقِدُوا صُرِفَ لِذَوِي الْأَرْحَامِ.التَّفْصِيلُ فِي (إِرْثٌ ف 15).

وِلَايَةُ الْخَالِ عَلَى الصَّغِيرَةِ:

4- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وِلَايَةِ الْخَالِ عَلَى الصَّغِيرَةِ بِالتَّزْوِيجِ:

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْخَالِ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ عَلَى الصَّغِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَصَبَةً، فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْأَجْنَبِيِّ وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (وِلَايَةٌ).

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْخَالَ يُزَوِّجُ الصَّغِيرَةَ عِنْدَ فَقْدِ الْعَصَبَةِ وَفَقْدِ ذِي الرَّحِمِ الْأَقْرَبِ مِنْهُ، وَأَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى السُّلْطَانِ فِي الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا.

نَفَقَةُ الْخَالِ:

5- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ الْخَالِ.فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْخَالَ لَا تَجِبُ لَهُ نَفَقَةٌ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تَجِبُ نَفَقَةُ الْخَالِ كَكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي إِنْفَاقِ الْخَالِ عَلَى وَلَدِ أُخْتِهِ

حَضَانَةُ الْخَالِ:

6- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنْ لَا حَضَانَةَ لِلْخَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَحْرَمًا وَارِثًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَلَيْسَ عَصَبَةً عِنْدَ آخَرِينَ.وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْوَجْهُ الْمُقَدَّمُ لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْخَالَ لَهُ حَقُّ الْحَضَانَةِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي: (حَضَانَةٌ).

تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْخَالِ:

7- الْخَالُ قَرِيبٌ مَحْرَمٌ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ ابْنَةِ أُخْتِهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمِلَّةِ، لقوله تعالى فِي الْمُحَرَّمَاتِ: {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} -

وِلَايَةُ الْخَالِ عَلَى مَالِ الصَّغِيرِ:

8- لَيْسَ لِلْخَالِ وِلَايَةٌ عَلَى مَالِ الصَّغِيرِ، وَلَمْ نَقِفْ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ.وَالتَّفْصِيلُ فِي: (وِلَايَةٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


88-موسوعة الفقه الكويتية (خلو 1)

خُلُوٌّ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْخُلُوُّ لُغَةً مَصْدَرُ خَلَا، يُقَالُ خَلَا الْمَكَانُ أَوِ الْإِنَاءُ خُلُوًّا وَخَلَاءً إِذَا فَرَغَ مِمَّا بِهِ، وَخَلَا الْمَكَانُ مِنْ أَهْلِهِ وَعَنْ أَهْلِهِ، وَخَلَا فُلَانٌ مِنَ الْعَيْبِ: بَرِئَ مِنْهُ.وَخَلَا بِصَاحِبِهِ خَلْوًا، وَخَلْوَةً وَخُلُوًّا وَخَلَاءً انْفَرَدَ بِهِ فِي خَلْوَةٍ، وَأَخْلَى لَهُ الشَّيْءَ: فَرَغَ لَهُ عَنْهُ، وَأَخْلَى الْمَكَانَ وَالْإِنَاءَ وَغَيْرَهُمَا: جَعَلَهُ خَالِيًا.

وَالْخُلُوُّ فِي الِاصْطِلَاحِ يَكُونُ بِمَعْنَيَيْنِ:

الْأَوَّلُ: الْخُلُوُّ بِمَعْنَى الِانْفِرَادِ يُقَالُ: خَلَوْتُ بِنَفْسِي أَوْ خَلَوْتُ بِفُلَانٍ وَالْخُلُوُّ أَيْضًا: الِانْفِرَادُ بِالزَّوْجَةِ، بِأَنْ يُغْلِقَ الرَّجُلُ الْبَابَ عَلَى زَوْجَتِهِ وَيَنْفَرِدَ بِهَا.وَأَكْثَرُ مَا يُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ خَلْوَةً، وَلِذَا تُنْظَرُ أَحْكَامُهُ تَحْتَ عِنْوَانِ: (خَلْوَةٌ).

وَالثَّانِي: وَلَيْسَ مَعْرُوفًا فِي كُتُبِ اللُّغَةِ، وَلَكِنْ يُوجَدُ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي كُتُبِ مُتَأَخِّرِي الْفُقَهَاءِ، فَإِنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَهُ بِمَعْنَى الْمَنْفَعَةِ الَّتِي يَمْلِكُهَا الْمُسْتَأْجِرُ لِعَقَارِ الْوَقْفِ مُقَابِلُ مَالٍ يَدْفَعُهُ إِلَى النَّاظِرِ لِتَعْمِيرِ الْوَقْفِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَا يُعَمِّرُ بِهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ جُزْءٌ مِنْ مَنْفَعَةِ الْوَقْفِ، مَعْلُومٌ بِالنِّسْبَةِ كَنِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ، وَيُؤَدِّي الْأُجْرَةَ لِحَظِّ الْمُسْتَحِقِّينَ عَنِ الْجُزْءِ الْبَاقِي مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَيَنْشَأُ ذَلِكَ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ سَيَأْتِي بَيَانُ بَعْضِهَا.

وَعَرَّفَهُ الزُّرْقَانِيُّ بِتَعْرِيفٍ أَعَمَّ فَقَالَ: هُوَ اسْمٌ لِمَا يَمْلِكُهُ دَافِعُ الدَّرَاهِمِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي دَفَعَ فِي مُقَابَلَتِهَا الدَّرَاهِمَ.

وَأُطْلِقَ الْخُلُوُّ أَيْضًا عَلَى حَقِّ مُسْتَأْجِرِ الْأَرْضِ الْأَمِيرِيَّةِ فِي التَّمَسُّكِ بِهَا إِنْ كَانَ لَهُ فِيهَا أَثَرٌ مِنْ غِرَاسٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ كَبْسٍ بِالتُّرَابِ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُقُوقِ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَهَذَا النَّوْعُ الثَّانِي سَمَّاهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ خُلُوًّا، وَفِي أَكْثَرِ كَلَامِ الشَّيْخِ عُلَيْشٍ قَالَ: هُوَ مُلْحَقٌ بِالْخُلُوِّ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: يَكُونُ خُلُوًّا.وَوَقَعَ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ إِطْلَاقُ الْخُلُوِّ عَلَى نَفْسِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَنَحْوِهِمَا، الَّذِي يُقِيمُهُ مَنْ بِيَدِهِ عَقَارُ وَقْفٍ أَوْ أَرْضٍ أَمِيرِيَّةٍ.

وَفِي كَلَامِ الدُّسُوقِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ.وَيَكُونُ الْخُلُوُّ فِي الْعَقَارَاتِ الْمَمْلُوكَةِ أَيْضًا.

وَلَعَلَّ أَصْلَ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْخُلُوِّ بِهَذَا الِاصْطِلَاحِ أَنَّهُ أُطْلِقَ أَوَّلًا عَلَى خُلُوِّ الْعَقَارِ أَيْ إِفْرَاغِهِ وَالتَّخَلِّي عَنْهُ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ.وَأُطْلِقَ عَلَى الْبَدَلِ النَّقْدِيِّ الَّذِي يَأْخُذُهُ مَالِكُ هَذَا الْحَقِّ مُقَابِلَ التَّخَلِّي عَنْهُ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ الْمُتَخَلَّى عَنْهَا نَفْسِهَا.وَقَدْ وَقَعَ بِهَذِهِ الْمَعَانِي كُلِّهَا فِي كَلَامِ الشَّيْخِ عُلَيْشٍ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْبُنَانِيِّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الزُّرْقَانِيِّ أَنَّ الْخُلُوَّ فِي الْأَوْقَافِ سَمَّاهُ شُيُوخُ الْمَغَارِبَةِ فِي فَاسَ بِالْجِلْسَةِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْحَكْرُ:

2- الْحَكْرُ بِفَتْحِ الْحَاءِ قَالَ فِي اللِّسَانِ هُوَ ادِّخَارُ الطَّعَامِ لِلتَّرَبُّصِ.وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الِاحْتِكَارُ جَمْعُ الطَّعَامِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُؤْكَلُ وَاحْتِبَاسُهُ انْتِظَارَ وَقْتِ الْغَلَاءِ بِهِ.

وَالِاحْتِكَارُ أَيْضًا، وَالِاسْتِحْكَارُ عَقْدُ إِجَارَةٍ يُقْصَدُ بِهَا اسْتِبْقَاءُ الْأَرْضِ مُقَرَّرَةً لِلْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ أَوْ أَحَدِهِمَا.

أَمَّا الْحِكْرُ بِكَسْرِ الْحَاءِ فَلَمْ نَجِدْهُ فِي مَعَاجِمِ اللُّغَةِ الْقَدِيمَةِ، وَفِي الْمُعْجَمِ الْوَسِيطِ هُوَ الْعَقَارُ الْمَحْبُوسُ، وَيَرِدُ فِي كَلَامِ مُتَأَخِّرِي الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَى الْأُجْرَةِ الْمُقَرَّرَةِ عَلَى عَقَارِ الْوَقْفِ وَنَحْوِهِ تُؤْخَذُ مِمَّنْ لَهُ فِيهِ بِنَاءٌ أَوْ غِرَاسٌ، وَإِذَا انْتَقَلَ الْعَقَارُ مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ انْتَقَلَ الْحِكْرُ مَعَهُ يُدْفَعُ لِحَظِّ مُسْتَحَقِّي الْوَقْفِ.

قَالَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: مَنِ اسْتَوْلَى عَلَى الْخُلُوِّ يَكُونُ عَلَيْهِ لِجِهَةِ الْوَقْفِ أُجْرَةٌ لِلَّذِي يَئُولُ إِلَيْهِ الْوَقْفُ يُسَمَّى عِنْدَنَا بِمِصْرَ حِكْرًا لِئَلاَّ يَذْهَبَ الْوَقْفُ بَاطِلًا، وَلَا يَصِحُّ الِاحْتِكَارُ إِلاَّ إِذَا كَانَ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ وَلَا تَبْقَى عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ بَلْ تَزِيدُ الْأُجْرَةُ وَتَنْقُصُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ.

ب- الْفَرَاغُ وَالْإِفْرَاغُ:

3- يَظْهَرُ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ لِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا التَّنَازُلُ عَنْ حَقٍّ مِنْ مِثْلِ وَظِيفَةٍ لَهَا رَاتِبٌ مِنْ وَقْفٍ وَنَحْوِهِ.أَوِ التَّنَازُلُ عَنِ الْخُلُوِّ مِنْ مَالِكِهِ لِغَيْرِهِ بِعِوَضٍ، فَهُوَ بَيْعٌ لِلْمَنْفَعَةِ الْمَذْكُورَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ خُصَّ بِاسْمِ الْإِفْرَاغِ تَمْيِيزًا لَهُ عَنِ الْبَيْعِ الَّذِي يَنْصَرِفُ عَنْهُ الْإِطْلَاقُ إِلَى بَيْعِ الرَّقَبَةِ، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ فَرَاغًا لِأَنَّ مَالِكَهُ لَا يَمْلِكُ رَقَبَةَ الْأَرْضِ بَلْ يَمْلِكُ حَقَّ التَّمَسُّكِ بِالْعَقَارِ أَوْ بَعْضِ الْمَنْفَعَةِ.وَقَدْ وَقَعَ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي كَلَامِ الشَّيْخِ عُلَيْشٍ.

وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ بِذَلِكَ أَنَّ الْفَرَاغَ الْخَلَاءُ، وَالْإِفْرَاغُ الْإِخْلَاءُ، فَالْمُتَنَازِلُ يُفَرِّغُ الْمَحَلَّ مِنْ حَقِّهِ لِيَكُونَ الْحَقُّ لِغَيْرِهِ.

ج- الْجَدَكُ أَوِ الْكَدَكُ:

4- 1- أَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ عَلَى مَا يَضَعُهُ فِي الْحَانُوتِ مُسْتَأْجِرٌ مِنَ الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ الْمُتَّصِلَةِ بِمَبْنَى الْحَانُوتِ اتِّصَالَ قَرَارٍ، أَيْ « وُضِعَ لَا لِيُفْصَلَ » كَالْبِنَاءِ، وَسُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ فِي بَعْضِ الْفَتَاوَى بِالسُّكْنَى.

2- وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُوضَعُ فِي الْحَانُوتِ مُتَّصِلًا لَا عَلَى سَبِيلِ الْقَرَارِ، وَذَلِكَ كَالرُّفُوفِ الَّتِي تُرَكَّبُ فِي الْحَانُوتِ لِوَضْعِ عِدَّةِ الْحَلاَّقِ مَثَلًا فَإِنَّهَا مُتَّصِلَةٌ لَا عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ.

3- وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ الْمُقَابِلَةِ لِلدَّرَاهِمِ الَّتِي يَدْفَعُهَا صَاحِبُهَا إِلَى الْمَالِكِ أَوْ نَاظِرِ الْوَقْفِ لِتُسْتَعْمَلَ فِي مَرَمَّةِ الْوَقْفِ أَوْ بِنَاءِ الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ مَا يُرَمُّ بِهِ أَوْ يُبْنَى، وَيَشْتَرِطُ دَافِعُهَا أَنْ تَكُونَ لَهُ حَقُّ الْقَرَارِ فِي الْمَحَلِّ الْمُسْتَأْجَرِ وَجُزْءٌ مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ الَّتِي سَبَقَ تَسْمِيَتُهَا بِالْخُلُوِّ.

4- وَيُطْلَقُ عَلَى الْأَعْيَانِ الَّتِي تُوضَعُ لِلِاسْتِعْمَالِ فِي الْحَانُوتِ دُونَ اتِّصَالٍ أَصْلًا كَالْبَكَارِجِ وَالْفَنَاجِينِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَقَاهِي، وَالْفُوَطِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَمَّامِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَدَكِ وَبَيْنَ الْخُلُوِّ، أَنَّ صَاحِبَ الْخُلُوِّ يَمْلِكُ جُزْءًا مِنْ مَنْفَعَةِ الْوَقْفِ وَلَا يَمْلِكُ الْأَعْيَانَ الَّتِي أُقِيمَتْ فِي حَوَانِيتِ الْوَقْفِ بِمَالِ الْمُسْتَأْجِرِ فَإِنَّهَا قَدْ أُقِيمَتْ فِيهِ عَلَى أَنَّهَا وَقْفٌ، أَمَّا الْجَدَكُ فَهُوَ أَعْيَانٌ مَمْلُوكَةٌ لِمُسْتَأْجِرِ الْحَانُوتِ.

د- الْكِرْدَارُ:

5- هُوَ مَا يُحْدِثُهُ الْمُزَارِعُ وَالْمُسْتَأْجِرُ فِي الْأَرَاضِي الْمَوْقُوفَةِ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ غِرَاسٍ أَوْ كَبْسٍ بِالتُّرَابِ بِإِذْنِ الْوَاقِفِ أَوِ النَّاظِرِ فَتَبْقَى فِي يَدِهِ وَالْمُرَادُ بِكَبْسِ التُّرَابِ مَا يَنْقُلُهُ مِنَ التُّرَابِ إِلَى تِلْكَ الْأَرْضِ لِإِصْلَاحِهَا إِذَا أَتَى بِهِ مِنْ خَارِجِهَا فَالْكِرْدَارُ أَعْيَانٌ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي الْأَرْضِ الزِّرَاعِيَّةِ.

هـ- الْمُرْصَدُ:

6- هُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ رَجُلٌ عَقَارَ الْوَقْفِ مِنْ دَارٍ أَوْ حَانُوتٍ مَثَلًا وَيَأْذَنَ لَهُ الْمُتَوَلِّي بِعِمَارَتِهِ أَوْ مَرَمَّتِهِ الضَّرُورِيَّةِ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ عَدَمِ مَالٍ حَاصِلٍ فِي الْوَقْفِ، وَعَدَمِ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ بِأُجْرَةٍ مُعَجَّلَةٍ يُمْكِنُ تَعْمِيرُهُ أَوْ مَرَمَّتُهُ بِهَا، فَيُعَمِّرُهُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ مَالِهِ عَلَى قَصْدِ الرُّجُوعِ بِذَلِكَ فِي مَالِ الْوَقْفِ عِنْدَ حُصُولِهِ أَوِ اقْتِطَاعِهِ مِنَ الْأَجْرِ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَوْ شَهْرٍ مَثَلًا، وَهَذِهِ الْعِمَارَةُ لَيْسَتْ مِلْكًا لِلْمُسْتَأْجِرِ بَلْ هِيَ وَقْفٌ، فَلَا تُبَاعُ وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمُسْتَأْجِرِ لِذَلِكَ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ.

وَلَكِنْ إِذَا أَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ الْخُرُوجَ مِنَ الدُّكَّانِ يَجُوزُ لَهُ قَبْضُ دَيْنِهِ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ الْجَدِيدِ وَيَصِيرُ ذَلِكَ لَهُ كَمَا كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ السَّابِقِ.

وَالْمُرْصَدُ هُوَ ذَلِكَ الدَّيْنُ الْمُسْتَقِرُّ عَلَى الْوَقْفِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ.

فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخُلُوِّ أَنَّ صَاحِبَ الْخُلُوِّ يَكُونُ حَقُّهُ مِلْكًا فِي مَنْفَعَةِ الْوَقْفِ، وَصَاحِبُ الْمُرْصَدِ يَكُونُ لَهُ دَيْنٌ مَعْلُومٌ عَلَى الْوَقْفِ.

و- مِشَدُّ الْمَسْكَةِ:

7- مِشَدُّ الْمَسْكَةِ اصْطِلَاحٌ لِلْحَنَفِيَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقْصِدُونَ بِهِ اسْتِحْقَاقَ الزِّرَاعَةِ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ، وَهُوَ مِنَ الْمَسْكَةِ لُغَةً وَهِيَ مَا يُتَمَسَّكُ بِهِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: فَكَأَنَّ الْمُسْلِمَ لِلْأَرْضِ (أَيِ الْأَرْضِ الْمَمْلُوكَةِ لِبَيْتِ الْمَالِ غَالِبًا) الْمَأْذُونَ لَهُ مِنْ صَاحِبِهَا فِي الْحَرْثِ صَارَ لَهُ مَسْكَةٌ يَتَمَسَّكُ بِهَا فِي الْحَرْثِ فِيهَا.قَالَ: وَحُكْمُهَا أَنَّهَا لَا تَقُومُ، فَلَا تُمْلَكُ وَلَا تُبَاعُ وَلَا تُورَثُ.

حَقِيقَةُ مِلْكِ الْخُلُوِّ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ:

8- قَالَ الْعَدَوِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: اعْلَمْ أَنَّ الْخُلُوَّ مِنْ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ لَا مِنْ مِلْكِ الِانْتِفَاعِ إِذْ مَالِكُ الِانْتِفَاعِ يَنْتَفِعُ بِنَفْسِهِ وَلَا يُؤَجِّرُ وَلَا يَهَبُ وَلَا يُعِيرُ.وَمَالِكُ الْمَنْفَعَةِ لَهُ تِلْكَ الثَّلَاثَةُ مَعَ انْتِفَاعِهِ بِنَفْسِهِ.قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَالِكَ الِانْتِفَاعِ يَقْصِدُ ذَاتَهُ مَعَ وَصْفِهِ، كَإِمَامٍ وَخَطِيبٍ وَمُدَرِّسٍ وُقِفَ عَلَيْهِ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ، بِخِلَافِ مَالِكِ الْمَنْفَعَةِ.ثُمَّ إِنَّ مَنْ مَلَكَ الِانْتِفَاعَ وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَفِعَ غَيْرُهُ بِهِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْهُ وَيَأْخُذُهُ الْغَيْرُ عَلَى أَنَّهُ أَهْلُهُ حَيْثُ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ، وَالْخُلُوُّ مِنْ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ فَلِذَلِكَ يُورَثُ.

وَصَرَّحَ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ كَذَلِكَ بِأَنَّ الْخُلُوَّ الْمُشْتَرَى بِالْمَالِ يَكُونُ مِنْ بَابِ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ.

أَحْكَامُ الْخُلُوِّ:

9- تَنْقَسِمُ الْعَقَارَاتُ مِنْ حَيْثُ اخْتِلَافُ أَحْكَامِ الْخُلُوِّ فِيهَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: 1- عَقَارَاتُ الْأَوْقَافِ.

2- الْأَرَاضِي الْأَمِيرِيَّةُ- أَرَاضِي بَيْتِ الْمَالِ -

3- الْعَقَارَاتُ الْمَمْلُوكَةُ مِلْكًا خَاصًّا.

وَيُقَسَّمُ الْبَحْثُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ تَبَعًا لِذَلِكَ.

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ- الْخُلُوُّ فِي عَقَارَاتِ الْأَوْقَافِ:

أَحْوَالُ نُشُوءِ الْخُلُوِّ فِي عَقَارَاتِ الْأَوْقَافِ: يَنْشَأُ الْخُلُوُّ فِي عَقَارَاتِ الْأَوْقَافِ فِي أَحْوَالٍ مِنْهَا:

10- الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَنْشَأَ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ الْوَاقِفِ أَوِ النَّاظِرِ وَبَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ.

وَهَذِهِ الْحَالُ لَمْ نَجِدْ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيَّةِ تَعَرُّضًا لَهَا، وَقَدْ قَالَ بِهَا مُتَأَخِّرُو الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَابِلَةِ وَنَقَلَهَا عَنِ الْمَالِكِيَّةِ مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ.

قَالَ الْعَدَوِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: اعْلَمْ أَنَّ الْخُلُوَّ يُصَوَّرُ بِصُوَرٍ مِنْهَا:

11- الصُّورَةُ الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ آيِلًا لِلْخَرَابِ، فَيُؤَجِّرُهُ نَاظِرُ الْوَقْفِ لِمَنْ يُعَمِّرُهُ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْحَانُوتُ مَثَلًا يُكْرَى بِثَلَاثِينَ دِينَارًا فِي السَّنَةِ، وَيُجْعَلُ عَلَيْهِ لِجِهَةِ الْوَصْفِ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَتَصِيرُ الْمَنْفَعَةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُكْتَرِي وَبَيْنَ جِهَةِ الْوَقْفِ.وَمَا قَابَلَ الدَّرَاهِمَ الْمَصْرُوفَةَ فِي التَّعْمِيرِ هُوَ الْخُلُوُّ.قَالَ: وَشَرْطُ جَوَازِهِ أَنْ لَا يُوجَدَ لِلْوَقْفِ رِيعٌ يُعَمَّرُ بِهِ الْوَقْفُ.

12- الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ لِمَسْجِدٍ مَثَلًا حَوَانِيتُ مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ، وَاحْتَاجَ الْمَسْجِدُ لِلتَّكْمِيلِ أَوِ الْعِمَارَةِ، وَلَا يَكُونُ الرِّيعُ كَافِيًا لِلتَّكْمِيلِ أَوِ الْعِمَارَةِ، فَيَعْمِدُ النَّاظِرُ إِلَى مُكْتَرِي الْحَوَانِيتِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ قَدْرًا مِنَ الْمَالِ يُعَمِّرُ بِهِ الْمَسْجِدَ، وَيُنْقِصُ عَنْهُ مِنْ أُجْرَةِ الْحَوَانِيتِ مُقَابِلَ ذَلِكَ، بِأَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ فِي الْأَصْلِ ثَلَاثِينَ دِينَارًا فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَيَجْعَلَهَا خَمْسَةَ عَشَرَ فَقَطْ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَتَكُونُ مَنْفَعَةُ الْحَوَانِيتِ الْمَذْكُورَةُ شَرِكَةً بَيْنَ ذَلِكَ الْمُكْتَرِي وَبَيْنَ جِهَةِ الْوَقْفِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا لِذَلِكَ الْمُكْتَرِي هُوَ الْخُلُوُّ، وَالشَّرِكَةُ بِحَسَبِ مَا يَتَّفِقُ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْخُلُوِّ وَنَاظِرُ الْوَقْفِ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ.

13- الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ أَرْضٌ مَوْقُوفَةٌ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ رِيعٌ تُعَمَّرُ بِهِ وَتَعَطَّلَتْ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الدَّرْدِيرُ فَيَسْتَأْجِرُهَا مِنَ النَّاظِرِ وَيَبْنِي فِيهَا أَيْ لِلْوَقْفِ، دَارًا مَثَلًا عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ لِجِهَةِ الْوَقْفِ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، وَلَكِنَّ الدَّارَ بَعْدَ بِنَائِهَا تُكْرَى بِسِتِّينَ دِرْهَمًا.فَالْمَنْفَعَةُ الَّتِي تُقَابِلُ الثَّلَاثِينَ الْأُخْرَى يُقَالُ لَهَا الْخُلُوُّ.

قَالَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ فِي الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ: هَذَا الَّذِي أَفْتَى بِهِ عُلَمَاؤُنَا وَوَقَعَ الْعَمَلُ بِهِ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ.قَالَ: وَيَجِبُ تَقْيِيدُ هَذَا بِمَا إِذَا بَيَّنَ الْمِلْكِيَّةَ (أَيْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّهُ يَنْوِي أَنَّهُ يَمْلِكُ مَا يُقَابِلُ الْبِنَاءَ أَوِ الْغَرْسَ وَهُوَ حَقُّ الْخُلُوِّ وَأَنَّهُ لَمْ يَبْنِهِ مُتَبَرِّعًا بِهِ لِلْوَقْفِ) قَالَ: أَمَّا إِنْ بَيَّنَ التَّحْبِيسَ، أَوْ لَمْ يُبَيِّنْ شَيْئًا فَالْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ وَقْفٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، لَا حَقَّ فِيهِمَا لِوَرَثَةِ الْبَانِي وَالْغَارِسِ؛ لِأَنَّ الْمُحْبَسَ عَلَيْهِ إِنَّمَا بَنَى لِلْوَقْفِ، وَمِلْكُهُ فَهُوَ مَحُوزٌ بِحَوْزِ الْأَصْلِ.

وَهَذِهِ الصُّورَةُ هِيَ فِي حَالِ بِنَاءِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَنَحْوِهِ أَوْ غَرْسِهِ فِي الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ، أَمَّا لَوْ بَنَى الْأَجْنَبِيُّ فِي الْوَقْفِ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَكُونُ مِلْكًا، وَالْغَرْسُ كَالْبِنَاءِ، وَإِذَا كَانَ مِلْكًا فَلَهُ نَقْضُهُ أَوْ قِيمَتُهُ مَنْقُوضًا إِنْ كَانَ فِي الْوَقْفِ مَا يُدْفَعُ مِنْهُ ذَلِكَ، هَذَا إِنْ كَانَ مَا بَنَاهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْوَقْفُ، وَإِلاَّ فَيُوَفَّى ثَمَنُهُ مِنَ الْغَلَّةِ قَطْعًا، بِمَنْزِلَةِ مَا إِذَا بَنَاهُ النَّاظِرُ.

14- الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُرِيدَ الْوَاقِفُ بِنَاءَ مَحَلاَّتٍ لِلْوَقْفِ، فَيَأْتِيَ لَهُ أَشْخَاصٌ يَدْفَعُونَ لَهُ دَرَاهِمَ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ شَخْصٍ مَحَلٌّ مِنْ تِلْكَ الْمَحَلاَّتِ يَسْكُنُهَا بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ يَدْفَعُهَا كُلَّ شَهْرٍ، فَكَأَنَّ الْوَاقِفَ بَاعَهُمْ حِصَّةً مِنْ تِلْكَ الْمَحَلاَّتِ قَبْلَ التَّحْبِيسِ وَحُبِسَ الْبَاقِي، فَلَيْسَ لِلْوَاقِفِ تَصَرُّفٌ فِي تِلْكَ الْمَحَلاَّتِ، لَكِنْ لَهُ الْأُجْرَةُ الْمَعْلُومَةُ كُلَّ شَهْرٍ أَوْ كُلَّ سَنَةٍ، وَكَأَنَّ دَافِعَ الدَّرَاهِمِ شَرِيكٌ لِلْوَاقِفِ بِتِلْكَ الْحِصَّةِ.

وَقَالَ خَيْرُ الدِّينِ الرَّمْلِيُّ الْحَنَفِيُّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ الرَّابِعَةِ: « رُبَّمَا بِفِعْلِهِ تَكْثُرُ الْأَوْقَافُ، وَمِمَّا بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْمُلُوكِ عَمَّرَ مِثْلَ ذَلِكَ بِأَمْوَالِ التُّجَّارِ، وَلَمْ يَصْرِفْ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ الدِّرْهَمَ وَالدِّينَارَ، بَلْ فَازَ بِقُرْبَةِ الْوَقْفِ، وَفَازَ التُّجَّارُ بِالْمَنْفَعَةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم-: يُحِبُّ مَا خَفَّفَ عَلَى أُمَّتِهِ وَالدِّينُ يُسْرٌ وَلَا مَفْسَدَةَ فِي ذَلِكَ فِي الدِّينِ ».ا.هـ

15- صُورَةٌ خَامِسَةٌ: تُضَافُ إِلَى الصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْعَدَوِيُّ: وَهِيَ أَنْ يَشْتَرِيَ حَقَّ الْخُلُوِّ شِرَاءً مِنَ النَّاظِرِ وَلَوْ لِمَصْلَحَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ النَّفْعُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْوَقْفُ نَفْسُهُ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْعَدَوِيِّ نَفْسِهِ وَكَلَامِ غَيْرِهِ عَدَمُ صِحَّةِ ذَلِكَ فِي الْوَقْفِ كَمَا يَأْتِي فِي شُرُوطِ صِحَّةِ الْخُلُوِّ.وَوَجْهُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ يَكُونُ كَبَيْعِ جُزْءٍ مِنَ الْعَقَارِ الْمَوْقُوفِ، إِذْ أَنَّ قِيمَتَهُ إِذَا كَانَ مُحَمَّلًا بِحَقِّ الْخُلُوِّ تَنْقُصُ عَنْ قِيمَتِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُحَمَّلًا بِذَلِكَ الْحَقِّ، وَجَازَ فِي الصُّوَرِ الْأَرْبَعِ السَّابِقَةِ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَدْ نَقُصَ مِنَ الْوَقْفِ لِيُعِيدَهُ فِيهِ مَعَ حَاجَةِ الْوَقْفِ إِلَى ذَلِكَ.وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْحَنَابِلَةَ لَمَّا أَجَازُوا بَيْعَ الْوَقْفِ إِذَا خَرِبَ وَتَعَطَّلَ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: الْخُلُوَّاتُ الْمَشْهُورَةُ مُمْكِنٌ تَخْرِيجُهَا عِنْدَنَا مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ- أَيْ مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْوَقْفِ الْخَرِبِ- مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ الْمَنْفَعَةِ مُفْرَدَةً عَنِ الْعَيْنِ كَعُلُوِّ بَيْتٍ يُبْنَى عَلَيْهِ، إِذِ الْعِوَضُ فِيهَا مَبْذُولٌ فِي مُقَابَلَةِ جُزْءٍ مِنَ الْمَنْفَعَةِ، فَإِذَا كَانَتْ أُجْرَةُ الدَّارِ عِشْرِينَ مَثَلًا، وَدَفَعَ لِجِهَةِ الْوَقْفِ شَيْئًا مَعْلُومًا عَلَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ عَشَرَةٌ فَقَطْ فَقَدِ اشْتَرَى نِصْفَ الْمَنْفَعَةِ وَبَقِيَ لِلْوَقْفِ نِصْفُهَا، فَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْحَالَةِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا بَيْعُ الْوَقْفِ، بَلْ هَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِيهِ بَقَاءَ عَيْنِ الْوَقْفِ فِي الْجُمْلَةِ.

وَنَقَلَ هَذَا صَاحِبُ مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ.

وَوَاضِحٌ أَنَّ الْبُهُوتِيَّ لَا يَرَى جَوَازَ إِنْشَاءِ الْخُلُوِّ بِمَالٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلْ حَيْثُ يَجُوزُ بَيْعُ الْوَقْفِ لِإِصْلَاحِ بَاقِيهِ، وَحَاصِلُ شُرُوطِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُ بَعْضِ الْوَقْفِ لِإِصْلَاحِ بَاقِيهِ إِذَا لَمْ تُمْكِنْ إِجَارَتُهُ وَأَنْ يَتَّحِدَ الْوَاقِفُ وَالْجِهَةُ إِنْ كَانَا عَيْنَيْنِ فَتُبَاعُ إِحْدَاهُمَا لِإِصْلَاحِ الْأُخْرَى، أَوْ كَانَ عَيْنًا وَاحِدَةً يُمْكِنُ بَيْعُ بَعْضِهَا لِإِصْلَاحِ بَاقِيهَا.

وَكَذَلِكَ صُورَةُ مَا لَوِ اسْتَقَرَّ فِي عَقَارِ الْوَقْفِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ لَا يُعْطِيهِ ذَلِكَ حَقَّ الْخُلُوِّ، وَلَا يَلْزَمُ النَّاظِرَ أَنْ يُؤَجِّرَهُ لَهُ بَلْ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ إِنْ شَاءَ مَتَى انْتَهَتْ إِجَارَتُهُ، لَكِنْ إِنْ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ بِنَاءٌ وَنَحْوُهُ مِمَّا يُسَمَّى الْجَدَكَ أَوِ الْكِرْدَارَ فِي الْأَرْضِ فَإِذَا لَمْ يَدْفَعْ أُجْرَةَ الْمِثْلِ يُؤْمَرُ بِرَفْعِهِ وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا بِإِذْنِ الْوَاقِفِ أَوْ إِذْنِ أَحَدِ النُّظَّارِ.

وَلَوْ تَلَقَّى الْمُسْتَأْجِرُ الْعَقَارَ عَنْ مُسْتَأْجِرٍ قَبْلَهُ بِمَالٍ فَلَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ حَقُّ الْخُلُوِّ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: أَمَّا مَا يَتَمَسَّكُ بِهِ صَاحِبُ الْخُلُوِّ مِنْ أَنَّهُ اشْتَرَى خُلُوَّهُ بِمَالٍ كَثِيرٍ وَأَنَّهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ (يَنْبَغِي أَنْ) تَصِيرَ أُجْرَةُ الْوَقْفِ شَيْئًا قَلِيلًا، فَهُوَ تَمَسُّكٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ صَاحِبُ الْخُلُوِّ الْأَوَّلِ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ نَفْعٌ لِلْوَقْفِ، فَيَكُونُ الدَّافِعُ هُوَ الْمُضَيِّعُ لِمَالِهِ، فَكَيْفَ يَحِلُّ لَهُ ظُلْمُ الْوَقْفِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ أُجْرَةِ مِثْلِهِ.

الْحُكْمُ فِي لُزُومِ الْخُلُوِّ فِي الْحَالِ الْأُولَى بِصُوَرِهَا الْأَرْبَعِ أَوْ عَدَمُ لُزُومِهِ:

16- الْخُلُوُّ الَّذِي يَنْشَأُ لِلْمُسْتَأْجِرِ مُقَابِلَ مَالٍ يَدْفَعُهُ إِلَى نَاظِرِ الْوَقْفِ اعْتَبَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ نَوْعًا مِنْ بَيْعِ الْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ، وَالْحُقُوقُ الْمُجَرَّدَةُ كَحَقِّ الشُّفْعَةِ وَالْوَظَائِفِ فِي الْأَوْقَافِ مِنْ إِمَامَةٍ وَخَطَابَةٍ وَتَدْرِيسٍ فِي جَوَازِ النُّزُولِ عَنْهَا بِمَالٍ قَوْلَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اعْتِبَارِ الْعُرْفِ الْخَاصِّ أَوْ عَدَمِ اعْتِبَارِهِ.فَمَنْ قَالَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِهِ، وَعَلَيْهِ

الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ وَمِنْهَا الْخُلُوُّ.قَالَ الشَّهِيدُ: لَا نَأْخُذُ بِاسْتِحْسَانِ مَشَايِخِ بَلْخٍ بَلْ نَأْخُذُ بِقَوْلِ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ لِأَنَّ التَّعَامُلَ فِي بَلَدٍ لَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَقْرِيرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- إِيَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ شَرْعًا مِنْهُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِعْلُهُمْ حُجَّةً إِلاَّ إِذَا كَانَ مِنَ النَّاسِ كَافَّةً فِي الْبُلْدَانِ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا.وَلَيْسَ كَذَلِكَ شَأْنُ الْخُلُوِّ.ا.هـ.

قَالَ الشُّرُنْبُلَالِيُّ وَأَقَرَّهُ ابْنُ عَابِدِينَ: وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ إِخْرَاجِ صَاحِبِ الْحَانُوتِ لِصَاحِبِ الْخُلُوِّ حَجْرُ الْحُرِّ الْمُكَلَّفِ عَنْ مِلْكِهِ وَإِتْلَافُ مَالِهِ.وَفِي مَنْعِ النَّاظِرِ مِنْ إِخْرَاجِهِ تَفْوِيتُ نَفْعِ الْوَقْفِ وَتَعْطِيلُ مَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ مِنْ إِقَامَةِ شَعَائِرِ مَسْجِدٍ وَنَحْوِهِ.

وَقَالَ الْحَصْكَفِيُّ: لَكِنْ أَفْتَى كَثِيرُونَ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ الْخَاصِّ، وَبِنَاءً عَلَيْهِ يُفْتَى بِجَوَازِ النُّزُولِ عَنِ الْوَظَائِفِ بِمَالٍ، وَبِلُزُومِ خُلُوِّ الْحَوَانِيتِ، فَيَصِيرُ الْخُلُوُّ فِي الْحَانُوتِ حَقًّا لَهُ، فَلَيْسَ لِرَبِّ الْحَانُوتِ إِخْرَاجُهُ مِنْهَا وَلَا إِجَارَتُهُ لِغَيْرِهِ، قَالَ: وَقَدْ وَقَعَ فِي حَوَانِيتِ الْجَمَلُونِ فِي الْغُورِيَّةِ أَنَّ السُّلْطَانَ الْغُورِيَّ لَمَّا بَنَاهَا أَسْكَنَهَا لِلتُّجَّارِ بِالْخُلُوِّ، وَجَعَلَ لِكُلِّ حَانُوتٍ قَدْرًا أَخَذَهُ مِنْهُمْ، وَكَتَبَ ذَلِكَ بِمَكْتُوبِ الْوَقْفِ.

وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي بِنَاءِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْعُرْفِ الْخَاصِّ.

وَقَدْ مَالَ الْحَمَوِيُّ إِلَى عَدَمِ إِثْبَاتِ الْخُلُوِّ وَعَدَمِ صِحَّةِ بَيْعِهِ وَنَقَلَهُ عَنْ شَيْخِهِ وَأَنَّهُ أَلَّفَ فِي ذَلِكَ رِسَالَةً سَمَّاهَا « مُفِيدَةُ الْحُسْنَى فِي مَنْعِ ظَنِّ الْخُلُوِّ بِالسُّكْنَى ».

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَمِمَّنْ أَفْتَى بِلُزُومِ الْخُلُوِّ الَّذِي يَكُونُ مُقَابِلَ مَالٍ يَدْفَعُهُ لِلْمَالِكِ أَوْ مُتَوَلِّي الْوَقْفِ الْعَلاَّمَةُ الْمُحَقِّقُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْعِمَادِيُّ قَالَ: فَلَا يَمْلِكُ صَاحِبُ الْحَانُوتِ إِخْرَاجَهُ مِنْهَا وَلَا إِجَارَتَهَا لِغَيْرِهِ مَا لَمْ يَدْفَعْ لَهُ الْمَبْلَغَ الْمَرْقُومَ، فَيُفْتَى بِجَوَازِ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ قِيَاسًا عَلَى بَيْعِ الْوَفَاءِ الَّذِي تَعَارَفَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ.ا.هـ

وَفِي الْفَتَاوَى الْخَيْرِيَّةِ لِلرَّمْلِيِّ الْحَنَفِيِّ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُعْتَبَرٌ- يَعْنِي خِلَافَ الَّذِي أَفْتَى بِهِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الشَّيْخُ نَاصِرٌ اللَّقَانِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ، قَالَ: فَيَقَعُ الْيَقِينُ بِارْتِفَاعِ الْخِلَافِ بِالْحُكْمِ (أَيْ حُكْمِ الْقَاضِي) حَيْثُ اسْتَوْفَى شَرَائِطَهُ مِنْ مَالِكِيٍّ يَرَاهُ، أَوْ غَيْرِهِ، فَيَصِحُّ الْحُكْمُ وَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ،

خُصُوصًا فِيمَا لِلنَّاسِ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ وَلَا سِيَّمَا فِي الْمُدُنِ الْمَشْهُورَةِ كَمِصْرَ وَمَدِينَةِ الْمُلْكِ- يَعْنِي إِسْتَانْبُولَ- فَإِنَّهُمْ يَتَعَاطَوْنَهُ وَلَهُمْ فِيهِ نَفْعٌ كُلِّيٌّ يَضُرُّ بِهِمْ نَقْصُهُ وَإِعْدَامُهُ.هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّ أَوَّلَ فُتْيَا مَنْقُولَةٍ عِنْدَهُمْ هِيَ مَا أَفْتَى بِهِ الشَّيْخُ نَاصِرُ الدِّينِ اللَّقَانِيُّ فِي إِنْشَاءِ الْخُلُوِّ وَتَمَلُّكِهِ وَجَرَيَانِ الْإِرْثِ فِيهِ، وَنَصُّهَا مَا أَوْرَدَهُ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ كَمَا يَلِي: (سُئِلَ الْعَلاَّمَةُ النَّاصِرُ اللَّقَانِيُّ) بِمَا نَصُّهُ: مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ - رضي الله عنهم- أَجْمَعِينَ فِي خُلُوَّاتِ الْحَوَانِيتِ الَّتِي صَارَتْ عُرْفًا بَيْنَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ وَغَيْرِهَا، وَبَذَلَتِ النَّاسُ فِي ذَلِكَ مَالًا كَثِيرًا حَتَّى وَصَلَ الْحَانُوتُ فِي بَعْضِ الْأَسْوَاقِ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ ذَهَبًا فَهَلْ إِذَا مَاتَ شَخْصٌ وَلَهُ وَارِثٌ شَرْعِيٌّ يَسْتَحِقُّ خُلُوَّ حَانُوتِهِ عَمَلًا بِمَا عَلَيْهِ النَّاسُ أَمْ لَا، وَهَلْ إِذَا مَاتَ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ بَيْتُ الْمَالِ أَمْ لَا، وَهَلْ إِذَا مَاتَ شَخْصٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يُخَلِّفْ مَا يَفِي بِدَيْنِهِ يُوَفَّى ذَلِكَ مِنْ خُلُوِّ حَانُوتِهِ؟

أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.

فَأَجَابَ بِمَا نَصُّهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: نَعَمْ إِذَا مَاتَ شَخْصٌ وَلَهُ وَارِثٌ شَرْعِيٌّ يَسْتَحِقُّ خُلُوَّ حَانُوتِهِ عَمَلًا بِمَا عَلَيْهِ النَّاسُ، وَإِذَا مَاتَ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ بَيْتُ الْمَالِ، وَإِذَا مَاتَ شَخْصٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يُخَلِّفْ مَا يَفِي بِدَيْنِهِ فَإِنَّهُ يُوَفَّى مِنْ خُلُوِّ حَانُوتِهِ.وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ كَتَبَهُ النَّاصِرُ اللَّقَانِيُّ الْمَالِكِيُّ حَامِدًا مُصَلِّيًا مُسْلِمًا.

وَأَوْرَدَهَا الزُّرْقَانِيُّ وَنُقِلَ أَنَّ التَّعْوِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى هَذِهِ الْفُتْيَا.

وَقَالَ الْحَمَوِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَالتَّعْوِيلُ فِيهَا عَلَى فَتْوَى اللَّقَانِيِّ وَالْقَبُولُ الَّذِي حَظِيَتْ بِهِ وَجَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ.

وَقَالَ الْغَرْقَاوِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ فَتْوَى النَّاصِرِ اللَّقَانِيِّ مُخَرَّجَةٌ عَلَى النُّصُوصِ، وَقَدْ أُجْمِعَ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا وَاشْتَهَرَتْ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ وَانْحَطَّ الْعَمَلُ عَلَيْهَا وَوَافَقَهُ عَلَيْهَا مَنْ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ كَأَخِيهِ الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ اللَّقَانِيِّ

حَقُّ مَالِكِ الْخُلُوِّ فِي الِاسْتِمْرَارِ فِي الْعَقَارِ إِنْ كَانَ

مُقَابِلَ مَالٍ (أَيْ فِي الْحَالِ الْأُولَى):

17- حَيْثُ جَرَى الْعُرْفُ عِنْدَ إِنْشَاءِ الْخُلُوِّ عَلَى اسْتِمْرَارِ حَقِّ صَاحِبِهِ يُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، قَالَ الْعَدَوِيُّ: جَرَى الْعُرْفُ عِنْدَنَا بِمِصْرَ أَنَّ الْأَحْكَارَ مُسْتَمِرَّةٌ لِلْأَبَدِ، وَإِنْ عَيَّنَ فِيهَا وَقْتَ الْإِجَارَةِ مُدَّةً، فَهُمْ لَا يَقْصِدُونَ خُصُوصَ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَالْعُرْفُ عِنْدَنَا كَالشَّرْطِ، فَمَنِ احْتَكَرَ أَرْضًا مُدَّةً وَمَضَتْ فَلَهُ أَنْ يَبْقَى وَلَيْسَ لِلْمُتَوَلِّي أَمْرَ الْوَقْفِ إِخْرَاجُهُ، نَعَمْ إِنْ حَصَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِ الْإِخْرَاجِ بَعْدَ الْمُدَّةِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى الْأَبَدِ فَإِنَّهُ يُعْمَلُ بِذَلِكَ.

لَكِنْ قَالَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ ضَرْبَ الْأَجَلِ يَصِيرُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، إِلاَّ أَنْ يُقَالَ: ضَرَبَهُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَقْبُوضِ وَمَعَهُ تَأْبِيدُ الْحَكْرِ، فَتَكُونُ الدَّرَاهِمُ عُجِّلَتْ فِي نَظِيرِ شَيْئَيْنِ: الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ، وَالتَّأْبِيدِ بِالْحَكْرِ، وَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ.

وَإِنَّمَا تَصِحُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْبَلَدُ قَدْ جَرَى فِيهَا ذَلِكَ الْعُرْفُ، فَيَقُومُ مَقَامَ الشَّرْطِ، وَإِلاَّ فَلَا، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ شَيْءٍ مُؤَجَّرٍ مُدَّةً تَلِي مُدَّةَ الْإِجَارَةِ الْأَوْلَى لِلْمُسْتَأْجِرِ نَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، مَا لَمْ يَجْرِ عُرْفٌ بِعَدَمِ إِيجَارِهَا إِلاَّ لِلْأَوَّلِ، كَالْأَحْكَارِ بِمِصْرَ، وَإِلاَّ عُمِلَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ كَالشَّرْطِ، وَصُورَةُ ذَلِكَ إِذَا اسْتَأْجَرَ إِنْسَانٌ دَارًا مَوْقُوفَةً مُدَّةً مُعَيَّنَةً وَأَذِنَ لَهُ النَّاظِرُ بِالْبِنَاءِ فِيهَا لِيَكُونَ لَهُ خُلُوًّا وَجَعَلَ لَهُ حَكْرًا كُلَّ سَنَةٍ لِجِهَةِ الْوَقْفِ فَلَيْسَ لِلنَّاظِرِ أَنْ يُؤَاجِرَهَا لِغَيْرِ مُسْتَأْجِرِهَا مُدَّةَ إِيجَارِ الْأَوَّلِ لِجَرَيَانِ الْعُرْفِ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَأْجِرُهَا إِلاَّ الْأَوَّلُ، وَالْعُرْفُ كَالشَّرْطِ، فَكَأَنَّهُ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ.

وَقَدْ بَيَّنَ الدُّسُوقِيُّ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ مَالِكِ الْخُلُوِّ فِي اسْتِئْجَارِ عَقَارِ الْوَقْفِ لِمُدَّةٍ لَاحِقَةٍ لَا يَصِحُّ إِلاَّ إِنْ كَانَ يَدْفَعُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَا يَدْفَعُ غَيْرُهُ وَإِلاَّ جَازَ إِيجَارُهَا لِلْغَيْرِ.وَقَالَ مِثْلُ ذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ قَالَ: وَهُوَ مُقَيَّدٌ أَيْضًا بِمَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنْ يَدْفَعَ أَجْرَ الْمِثْلِ، وَإِلاَّ كَانَتْ سُكْنَاهُ بِمُقَابَلَةِ مَا دَفَعَهُ مِنَ الدَّرَاهِمِ عَيْنُ الرِّبَا، كَمَا قَالُوا فِيمَنْ دَفَعَ لِلْمُقْرِضِ دَارًا لِيَسْكُنَهَا إِلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ قَرْضَهُ: يَلْزَمُهُ أُجْرَةُ مِثْلِ الدَّارِ.

وَقَدْ بَيَّنَ الزُّرْقَانِيُّ أَنَّ الِاسْتِمْرَارَ فِي الْمَأْجُورِ هُوَ الْفَائِدَةُ فِي الْخُلُوِّ إِذْ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِجَارَةِ الْمُعْتَادَةِ، قَالَ: « الْمُسْتَأْجِرُ مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ فَمَا مَعْنَى الْخُلُوِّ وَمَا فَائِدَتُهُ، إِلاَّ أَنْ يُقَالَ فِي فَائِدَتِهِ إِنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَنْفَعَةِ الَّتِي اسْتَأْجَرَهَا سَوَاءٌ كَانَ مَالِكًا أَوْ نَاظِرًا أَنْ يُخْرِجَهَا عَنْهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ مُشَاهَرَةً، فَتَأَمَّلْهُ »

وَفِي حَاشِيَةِ الْبُنَانِيِّ أَنَّ مُسْتَنَدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ حَقِّ الِاسْتِمْرَارِ إِنَّمَا هُوَ الْمَصْلَحَةُ قَالَ: وَقَعَتِ الْفَتْوَى مِنْ شُيُوخِ فَاسَ الْمُتَأَخِّرِينَ كَالشَّيْخِ الْقَصَّارِ، وَابْنِ عَاشِرٍ، وَأَبِي زَيْدٍ الْفَاسِيِّ وَعَبْدِ الْقَادِرِ الْفَاسِيِّ، وَأَضْرَابِهِمْ بِمِثْلِ فَتْوَى النَّاصِرِ اللَّقَانِيِّ وَأَخِيهِ شَمْسِ الدِّينِ جَرَى الْعُرْفُ بِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ فَهِيَ عِنْدَهُمْ كِرَاءٌ عَلَى التَّبْقِيَةِ.

مِقْدَارُ الْأُجْرَةِ (الْحَكْرِ) الَّتِي يَدْفَعُهَا صَاحِبُ الْخُلُوِّ:

18- لَا يَخْفَى أَنَّ الْوَقْفَ إِنَّمَا يُؤَجَّرُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ عَنْ أَجْرِ الْمِثْلِ إِلاَّ بِالْقَدْرِ الَّذِي يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ عَادَةً، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا تُؤَجَّرُ دَارُ الْوَقْفِ أَوْ دُكَّانُهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ، وَأَرْضُ الْوَقْفِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ، وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مَبَاحِثِ الْإِجَارَةِ

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ زَادَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ زِيَادَةً مُعْتَبَرَةً وَجَبَ فَسْخُ الْعَقْدِ وَإِجَارَتُهُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ مَا لَمْ يَقْبَلِ الْمُسْتَأْجِرُ الزِّيَادَةَ.أَمَّا إِذَا انْتَهَتِ الْمُدَّةُ فَلِلنَّاظِرِ إِجَارَتُهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ أَوْ إِخْرَاجُهُ عَنْهُ وَإِجَارَتُهُ لِغَيْرِهِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ.قَالَ الرَّمْلِيُّ الْحَنَفِيُّ: وَهِيَ مَسْأَلَةٌ إِجْمَاعِيَّةٌ. (عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ)، وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْمَكَانِ خُلُوٌّ صَحِيحٌ، أَوْ لَهُ فِيهِ حَقُّ الْقَرَارِ كَمَا يَأْتِي فَلَا يَمْلِكُ إِخْرَاجَهُ.

فَإِنْ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ حَقُّ الْخُلُوِّ بِمَالٍ دَفَعَهُ لِلْوَاقِفِ أَوِ النَّاظِرِ لِمَصْلَحَةِ الْوَقْفِ طِبْقًا لِلصُّوَرِ وَالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَقَدْ بَيَّنَ الدُّسُوقِيُّ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ مَالِكِ الْخُلُوِّ الِاسْتِئْجَارَ لِمُدَّةٍ لَاحِقَةٍ لَا يَصِحُّ إِلاَّ إِنْ كَانَ يَدْفَعُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَا يَدْفَعُ غَيْرُهُ، وَإِلاَّ جَازَ إِيجَارُهُ لِلْغَيْرِ.وَالْمُرَادُ مِثْلُ إِيجَارِ الْمَكَانِ خَالِيًا عَنِ الْإِضَافَةِ الَّتِي قَابَلَتِ الْمَالَ الْمَدْفُوعَ إِلَى الْوَاقِفِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ لَمْ يَلْزَمْ صَاحِبَ الْخُلُوِّ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِلْمُسْتَحِقِّينَ يَلْزَمُ ضَيَاعُ حَقِّهِمْ.اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَا قَبَضَهُ الْمُتَوَلِّي صَرَفَهُ فِي عِمَارَةِ الْوَقْفِ حَيْثُ تَعَيَّنَ ذَلِكَ طَرِيقًا إِلَى عِمَارَتِهِ وَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ مَعَ دَفْعِ ذَلِكَ الْمَبْلَغِ اللاَّزِمِ لِلْعِمَارَةِ.وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ أَجْرِ الْمِثْلِ أَنْ نَنْظُرَ إِلَى مَا دَفَعَهُ صَاحِبُ الْخُلُوِّ لِلْوَاقِفِ أَوِ الْمُتَوَلِّي عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَإِلَى مَا يُنْفِقُهُ فِي مَرَمَّةِ الدُّكَّانِ وَنَحْوِهَا، فَإِذَا كَانَ النَّاسُ يَرْغَبُونَ فِي دَفْعِ جَمِيعِ ذَلِكَ إِلَى صَاحِبِ الْخُلُوِّ وَمَعَ ذَلِكَ يَسْتَأْجِرُونَ الدُّكَّانَ بِمِائَةٍ مَثَلًا فَالْمِائَةُ هِيَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى مَا دَفَعَهُ هُوَ لِصَاحِبِ الْخُلُوِّ السَّابِقِ مِنْ مَالٍ كَثِيرٍ طَمَعًا فِي أَنَّ أُجْرَةَ هَذَا الدُّكَّانِ عَشَرَةُ مَثَلًا؛ لِأَنَّ مَا دَفَعَهُ مِنْ مَالٍ كَثِيرٍ لَمْ يَرْجِعْ مِنْهُ نَفْعٌ لِلْوَقْفِ أَصْلًا بَلْ هُوَ مَحْضُ ضَرَرٍ بِالْوَقْفِ حَيْثُ لَزِمَ مِنْهُ اسْتِئْجَارُ الدُّكَّانِ بِدُونِ أُجْرَتِهَا بِغَبْنٍ فَاحِشٍ.وَإِنَّمَا يُنْظَرُ إِلَى مَا يَعُودُ نَفْعُهُ لِلْوَقْفِ فَقَطْ.

الشُّرُوطُ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا مِلْكُ الْخُلُوِّ فِي عَقَارِ الْوَقْفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:

19- قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْخُلُوِّ أَنْ تَكُونَ الدَّرَاهِمُ الْمَدْفُوعَةُ (أَيْ مِنَ السَّاكِنِ الْأَوَّلِ) عَائِدَةً عَلَى جِهَةِ الْوَقْفِ يَصْرِفُهَا فِي مَصَالِحِهِ.

قَالَ: فَمَا يُفْعَلُ الْآنَ مِنْ أَخْذِ النَّاظِرِ الدَّرَاهِمَ مِمَّنْ يُرِيدُ الْخُلُوَّ، وَيَصْرِفُهَا فِي مَصَالِحِ نَفْسِهِ وَيَجْعَلُ لِدَافِعِهَا خُلُوًّا فِي الْوَقْفِ فَهَذَا الْخُلُوُّ غَيْرُ صَحِيحٍ وَيَرْجِعُ دَافِعُ الدَّرَاهِمِ بِهَا عَلَى النَّاظِرِ.

قَالَ: وَمِنَ الشُّرُوطِ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْوَقْفِ رِيعٌ يُعَمَّرُ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ رِيعٌ يُعَمَّرُ بِهِ مِثْلُ أَوْقَافِ الْمُلُوكِ الْكَثِيرَةِ فَيُصْرَفُ عَلَيْهَا مِنْهُ، وَلَا يَصِحُّ فِيهِ خُلُوٌّ، وَيَرْجِعُ دَافِعُ الدَّرَاهِمِ بِهَا عَلَى النَّاظِرِ.

لِأَنَّهُ يُنْزَعُ مِنْهُ عَلَى شَرْطٍ لَمْ يَتِمَّ، لِظُهُورِ عَدَمِ صِحَّةِ خُلُوِّهِ.

وَمِنْهَا ثُبُوتُ الصَّرْفِ فِي مَنَافِعِ الْوَقْفِ بِالْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ، فَلَوْ صَدَّقَهُ النَّاظِرُ عَلَى الصَّرْفِ مِنْ غَيْرِ ثُبُوتٍ، وَلَا ظُهُورِ عِمَارَةٍ إِنْ كَانَتْ هِيَ الْمَنْفَعَةُ، لَمْ يُعْتَبَرْ لِأَنَّ النَّاظِرَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي مَصْرِفِ الْوَقْفِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


89-موسوعة الفقه الكويتية (خلو 2)

خُلُوٌّ -2

بَيْعُ صَاحِبِ الْخُلُوِّ خُلُوَّهُ وَتَصَرُّفُهُ فِيهِ:

20- إِذَا أَنْشَأَ الْمُسْتَأْجِرُ خُلُوَّهُ بِمَالٍ دَفَعَهُ إِلَى نَاظِرِ الْوَقْفِ بِشُرُوطِهِ الْمُبَيَّنَةِ سَابِقًا صَارَ الْخُلُوُّ مِلْكًا لَهُ، وَأَصْبَحَ مِنْ حَقِّهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالرَّهْنِ، وَالْهِبَةِ، وَالْعَارِيَّةِ، وَالْوَصِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي كَلَامِ مَنْ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَوَاضِحٌ أَنَّهُ إِذَا بَاعَ صَاحِبُ الْخُلُوِّ خُلُوَّهُ بَعْدَ أَنْ مَلَكَهُ بِالْوَجْهِ الصَّحِيحِ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ أَوْصَى بِهِ فَلِمَنْ صَارَ إِلَيْهِ الْخُلُوُّ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا كَانَ لِمَنْ قَبْلَهُ.

وَصَرَّحَ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ الْخُلُوَّاتِ إِذَا اشْتُرِيَتْ بِالْمَالِ مِنَ الْمَالِكِ تَكُونُ مَمْلُوكَةً لِمُشْتَرِيهَا مُشَاعًا لِأَنَّهُ يَكُونُ قَدِ اشْتَرَى نِصْفَ الْمَنْفَعَةِ مَثَلًا وَعَلَى هَذَا لَا تَصِحُّ إِجَارَةُ الْخُلُوِّ وَيَصِحُّ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَوَفَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَلَمْ نَجِدِ التَّصْرِيحَ عِنْدَهُمْ فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ بِجَوَازِ بَيْعِ الْخُلُوِّ لَكِنْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِهِ قَاضٍ يَرَاهُ مِنْ مَالِكِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ جَازَ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ أَخْرَجَ النَّاظِرُ الْمُسْتَأْجِرَ مِنَ الْمَكَانِ أَوْ آجَرَهُ لِغَيْرِهِ فَفِي فَتْوَى الْعِمَادِيِّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَدْفَعْ لَهُ الْمَبْلَغَ الْمَرْقُومَ.

شُفْعَةُ صَاحِبِ الْخُلُوِّ:

21- مِنْ صُوَرِ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْعَدَوِيُّ أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْجَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ نَاظِرِ الْوَقْفِ أَرْضًا بِثَلَاثِينَ دِينَارًا فِي كُلِّ عَامٍ مَثَلًا وَبَنَوْا عَلَيْهَا دَارًا وَلَكِنَّ الدَّارَ تُكْرَى بِسِتِّينَ، فَحَقُّهُمْ يُقَالُ لَهُ الْخُلُوُّ، فَلَوْ بَاعَ أَحَدُهُمْ حِصَّتَهُ فِي الْبِنَاءِ فَلِشُرَكَائِهِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ.

وَمِنْ صُوَرِهِ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ أَبُو السُّعُودِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ مِنْ أَنَّ مَنْ لَهُ خُلُوٌّ فِي أَرْضٍ مُحْتَكَرَةٍ وَكَانَ خُلُوُّهُ عِبَارَةً عَنْ غِرَاسٍ أَوْ بِنَاءٍ فَإِنَّهُ يَجْرِي فِيهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اتَّصَلَ بِالْأَرْضِ اتِّصَالَ قَرَارٍ الْتَحَقَ بِالْعَقَارِ.وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: هَذَا سَهْوٌ ظَاهِرٌ لِمُخَالَفَتِهِ الْمَنْصُوصَ فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ أَيْ مِنْ أَنَّ الْوَقْفَ لَا شُفْعَةَ لَهُ وَلَا شُفْعَةَ فِيهِ.

وَقْفُ الْخُلُوِّ:

22- رَجَّحَ جُمْهُورُ مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْخُلُوَّ يَجُوزُ وَقْفُهُ، فَإِنَّ مَنْفَعَةَ الْعَقَارِ الْمَوْقُوفِ بَعْضُهَا مَوْقُوفٌ وَبَعْضُهَا غَيْرُ مَوْقُوفٍ، وَهَذَا الْبَعْضُ الثَّانِي هُوَ الْخُلُوُّ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْوَقْفُ.وَبِمِثْلِهِ قَالَ الرَّحِيبَانِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ خَرَّجَهُ مِنْ قَوْلِ أَحْمَدَ بِصِحَّةِ وَقْفِ الْمَاءِ إِنْ كَانُوا قَدِ اعْتَادُوهُ.ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا مَا ظَهَرَ لِي وَلَمْ أَجِدْهُ مَسْطُورًا، لَكِنَّ الْقِيَاسَ لَا يَأْبَاهُ وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِمْ مَا يُخَالِفُهُ.

قَالَ الْعَدَوِيُّ: عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْخُلُوُّ لِكِتَابِيٍّ فِي وَقْفِ مَسْجِدٍ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ وَقْفِهِ عَلَى كَنِيسَةٍ مَثَلًا.

وَالرَّأْيُ الْآخَرُ لَدَى كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَصَرَّحَ بِهِ الشِّرْوَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّ الْخُلُوَّاتِ لَا يَجُوزُ وَقْفُهَا؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةُ وَقْفٍ، وَمَا تَعَلَّقَ الْوَقْفُ بِهِ لَا يُوقَفُ.

وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ أَحْمَدُ السَّنْهُورِيُّ وَعَلِيٌّ الْأُجْهُورِيُّ، قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: مَحَلُّ صِحَّةِ وَقْفِ الْمَنْفَعَةِ إِنْ لَمْ تَكُنْ مَنْفَعَةَ حَبْسٍ، لِتَعَلُّقِ الْحَبْسِ بِهَا، وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْحَبْسُ لَا يُحْبَسُ، وَلَوْ صَحَّ وَقْفُ مَنْفَعَةِ الْوَقْفِ لَصَحَّ وَقْفُ الْوَقْفِ، وَاللاَّزِمُ بَاطِلٌ شَرْعًا وَعَقْلًا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ ذَاتٍ وُقِفَتْ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ الْوَقْفُ بِمَنْفَعَتِهَا وَأَنَّ ذَاتَهَا مَمْلُوكَةٌ لِلْوَاقِفِ.قَالَ: وَبِهَذَا تَعْلَمُ بُطْلَانَ تَحْبِيسِ الْخُلُوِّ.وَوَافَقَ الْأُجْهُورِيُّ عَلَى فُتْيَاهُ هَذِهِ الشَّيْخُ عَبْدُ الْبَاقِي، ثُمَّ لَمَّا رُوجِعَ بِفَتْوَى اللَّقَانِيِّ بِجَوَازِ بَيْعِهَا وَإِرْثِهَا أَفْتَى بِجَوَازِ وَقْفِهَا قَالَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: وَالْعَمَلُ عَلَى الْفَتْوَى بِجَوَازِ وَقْفِ الْخُلُوِّ، وَبِهِ جَرَى الْعَمَلُ فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَلَمْ يُخَالِفِ الْأُجْهُورِيُّ فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، كَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْإِعَارَةِ وَالرَّهْنِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ تَعَرُّضًا لِمَسْأَلَةِ وَقْفِ مَنْفَعَةِ الْخُلُوِّ.وَلَكِنَّهُمْ يَتَعَرَّضُونَ لِمَسْأَلَةِ وَقْفِ مَا بَنَاهُ الْمُسْتَأْجِرُ فِي الْأَرْضِ الْمُحْتَكَرَةِ أَوْ غَرْسِهِ فِيهَا.مِمَّا هُوَ مَمْلُوكٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ.

وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَقْفُ الْبِنَاءِ بِدُونِ الْأَرْضِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْأَرْضُ مَمْلُوكَةً أَوْ مَوْقُوفَةً عَلَى جِهَةٍ أُخْرَى.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: أَفْتَى بِذَلِكَ الْعَلاَّمَةُ قَاسِمٌ، وَعَزَاهُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَإِلَى هِلَالٍ وَالْخَصَّافِ، وَعَلَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: فَحَيْثُ تُعُورِفَ وَقْفُهُ جَازَ.وَقَالَ ابْنُ الشِّحْنَةِ: إِنَّ النَّاسَ مُنْذُ زَمَنٍ قَدِيمٍ نَحْوِ مِائَتَيْ سَنَةٍ عَلَى جَوَازِهِ، وَالْأَحْكَامُ بِهِ مِنَ الْقُضَاةِ الْعُلَمَاءِ مُتَوَاتِرَةٌ، وَالْعُرْفُ جَارٍ بِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ فِيهِ ا.هـ.وَأَمَّا إِذَا وَقَفَهُ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي كَانَتِ الْبُقْعَةُ وَقْفًا عَلَيْهَا جَازَ اتِّفَاقًا تَبَعًا لِلْبُقْعَةِ، وَحَرَّرَ صَاحِبُ الْبَحْرِ الرَّائِقِ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَوَافَقَهُ ابْنُ عَابِدِينَ.قَالَ: لِأَنَّ شَرْطَ الْوَقْفِ التَّأْبِيدُ، وَالْأَرْضُ إِذَا كَانَتْ مِلْكًا لِغَيْرِهِ فَلِلْمَالِكِ اسْتِرْدَادُهَا وَأَمْرُهُ بِنَقْضِ الْبِنَاءِ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ، فَإِنَّ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَهُ ذَلِكَ، فَلَا يَكُونُ الْوَقْفُ مُؤَبَّدًا.قَالَ: فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ مُعَدَّةً لِلِاحْتِكَارِ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ يَبْقَى فِيهَا كَمَا إِذَا كَانَ وَقْفُ الْبِنَاءِ عَلَى جِهَةِ وَقْفِ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ لَا مُطَالِبَ لِنَقْضِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا وَجْهُ جَوَازِ وَقْفِهِ إِذَا كَانَ مُتَعَارَفًا.

وَنَقَلَ صَاحِبُ الدُّرِّ أَنَّ ابْنَ نُجَيْمٍ سُئِلَ عَنِ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ فِي الْأَرْضِ الْمُحْتَكَرَةِ، هَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَوَقْفُهُ؟ فَأَجَابَ: نَعَمْ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَوَقْفُ الشَّجَرِ كَوَقْفِ الْبِنَاءِ.أَمَّا مُجَرَّدُ الْكَبْسِ بِالتُّرَابِ أَيْ وَنَحْوِهِ مِمَّا هُوَ مُسْتَهْلَكٌ كَالسَّمَادِ فَلَا يَصِحُّ وَقْفُهُ، وَنُقِلَ عَنِ الْإِسْعَافِ فِي أَحْكَامِ الْأَوْقَافِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَقْفُ مَا بُنِيَ فِي الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ مَا لَمْ تَكُنْ مُتَقَرِّرَةً لِلِاحْتِكَارِ.وَمَا يُسَمَّى الْكَدَكَ أَوِ الْجَدَكَ فِي حَوَانِيتِ الْوَقْفِ وَنَحْوِهَا مِنْ رُفُوفٍ مُرَكَّبَةٍ فِي الْحَانُوتِ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَقْفُهُ لِعَدَمِ الْعُرْفِ الشَّائِعِ بِخِلَافِ وَقْفِ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ.

إِرْثُ الْخُلُوَّاتِ:

23- الَّذِينَ قَالُوا مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنَّ الْخُلُوَّ يُمْلَكُ وَيُبَاعُ وَيُرْهَنُ ذَهَبُوا كَذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ يُورَثُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ فُتْيَا اللَّقَانِيِّ فِي ذَلِكَ وَذَكَرَ مَنْ وَافَقُوهُ عَلَيْهَا. (ف 16).

وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْخُلُوَّ فِي الْأَوْقَافِ عِنْدَ مَنْ أَفْتَى بِأَنَّهُ يُمْلَكُ، يُورَثُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى.

تَكَالِيفُ الْإِصْلَاحَاتِ:

24- عَلَى صَاحِبِ الْخُلُوِّ أَوْ أَصْحَابِهِ مَا يَقُومُونَ بِهِ مِنَ الْإِصْلَاحَاتِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ مِلْكِهِمْ فِيهِ، وَلَيْسَ عَلَى نَاظِرِ الْوَقْفِ مِنْهُ شَيْءٌ، كَمَا لَوِ اشْتَرَكُوا فِي بِنَاءٍ فِي أَرْضِ وَقْفٍ اكْتَرَوْهُ مِنْ نَاظِرِهِ لِذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى النَّاظِرِ بِالنِّسْبَةِ، كَمَا لَوْ عَمَّرَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ مَالِهِ حَانُوتَ الْوَقْفِ إِذَا تَخَرَّبَ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ خُلُوًّا.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ أَحْوَالِ نُشُوءِ حَقِّ الْخُلُوِّ فِي عَقَارَاتِ الْأَوْقَافِ:

25- أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي عَقَارِ الْوَقْفِ حَقُّ الْقَرَارِ بِسَبَبِ مَا يُنْشِئُهُ فِي أَرْضِ الْوَقْفِ إِذَا أَنْشَأَهُ بِإِذْنِ النَّاظِرِ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لَهُ، وَخُلُوًّا يَنْتَفِعُ بِهِ، مِنْ بِنَاءٍ أَوْ غِرَاسٍ أَوْ كَبْسٍ بِالتُّرَابِ وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (الْكِرْدَارَ) أَوْ مَا يُنْشِئُهُ كَذَلِكَ فِي مَبْنَى الْوَقْفِ، مِنْ بِنَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ مُتَّصِلٍ اتِّصَالَ قَرَارٍ، وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ (الْجَدَكَ) قَالَ صَاحِبُ الْفَتَاوَى الْخَيْرِيَّةِ: صَرَّحَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ لِصَاحِبِ الْكِرْدَارِ حَقَّ الْقَرَارِ، فَتَبْقَى فِي يَدِهِ.وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنِ الْقُنْيَةِ وَالزَّاهِدِيِّ، قَالَ الزَّاهِدِيُّ: اسْتَأْجَرَ أَرْضًا وَقْفًا وَغَرَسَ فِيهَا أَوْ بَنَى ثُمَّ مَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَسْتَبْقِيَهَا بِأَجْرِ الْمِثْلِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ، وَلَوْ أَبَى الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ إِلاَّ الْقَلْعَ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ.ا.هـ.

لَكِنْ لَوْ كَانَ فِي الْبَقَاءِ ضَرَرٌ لَمْ يَجِبِ الِاسْتِبْقَاءُ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ وَارِثُهُ مُفَلِّسًا، أَوْ سَيِّئَ الْمُعَامَلَةِ، أَوْ مُتَغَلِّبًا يُخْشَى مِنْهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ قَالَ الرَّمْلِيُّ: أَصْلُ ذَلِكَ فِي أَوْقَافِ الْخَصَّافِ حَيْثُ قَالَ: « حَانُوتٌ أَصْلُهُ وَقْفٌ وَعِمَارَتُهُ لِرَجُلٍ، وَهُوَ لَا يَرْضَى أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْأَرْضَ بِأَجْرِ الْمِثْلِ »، قَالُوا: « إِنْ كَانَتِ الْعِمَارَةُ بِحَيْثُ لَوْ رُفِعَتْ يَسْتَأْجِرُ الْأَصْلَ بِأَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَأْجِرُ صَاحِبُ الْبِنَاءِ كُلِّفَ رَفْعَهُ وَيُؤَجِّرُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا يُتْرَكُ فِي يَدِهِ بِذَلِكَ الْأَجْرِ ».

وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِجَارَةِ أَنَّهُ إِذَا انْتَهَتِ الْمُدَّةُ فَالنَّاظِرُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُجَدِّدَ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ أَوْ لَا يُجَدِّدَهُ بَلْ تَنْتَهِي الْإِجَارَةُ، وَلَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ لِغَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ.قَالَ الرَّمْلِيُّ: وَهِيَ مَسْأَلَةٌ إِجْمَاعِيَّةٌ.لَكِنَّ اسْتِبْقَاءَ الْأَرْضِ الْوَقْفِيَّةِ الْمُؤَجَّرَةِ عِنْدَ مَنْ أَفْتَى بِهِ إِنْ بَنَى عَلَيْهَا مُسْتَأْجِرُهَا عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ وَجْهُهُ أَنَّهُ أَوْلَوِيٌّ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ، لَا سِيَّمَا مَعَ مَا ابْتُلِيَ بِهِ النَّاسُ كَثِيرًا.

وَيُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عِنْدَ كُلِّ مَنْ أَفْتَى بِثُبُوتِ هَذَا الْحَقِّ أَنْ لَا تُجَدَّدَ الْإِجَارَةُ بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ مَنْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْوَقْفِ، كَمَا أَنَّ حَقَّ الِاسْتِبْقَاءِ لِلْمُسْتَأْجِرِ إِنَّمَا ثَبَتَ لَهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ لَوْ طُولِبَ بِرَفْعِ جَدَكَةٍ أَوْ كِرْدَارَةٍ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ يَجُوزُ إِيجَارُ الْوَقْفِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، فَلَوْ زَادَ أَجْرُهُ عَلَى أَجْرِ الْمِثْلِ أَثْنَاءَ الْمُدَّةِ زِيَادَةً فَاحِشَةً، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجِبُ تَجْدِيدُ الْعَقْدِ بِالْأُجْرَةِ الزَّائِدَةِ، وَقَبُولُ الْمُسْتَأْجِرِ الزِّيَادَةَ يَكْفِي عَنْ تَجْدِيدِ الْعَقْدِ. وَالْمُرَادُ أَنْ تَزِيدَ أُجْرَةُ الْوَقْفِ فِي نَفْسِهِ لِزِيَادَةِ الرَّغْبَةِ، لَا زِيَادَةَ مُتَعَنِّتٍ، وَلَا بِمَا يَزِيدُ بِعِمَارَةِ الْمُسْتَأْجِرِ.فَإِنْ قَبِلَ الْمُسْتَأْجِرُ بِالزِّيَادَةِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَزُولُ الْمُسَوِّغُ لِلْفَسْخِ فَلَا يَكُونُ لَهُ دَاعٍ.فَإِنْ لَمْ يَقْبَلِ الْمُسْتَأْجِرُ الِالْتِزَامَ بِالزِّيَادَةِ فَلِلْمُتَوَلِّي فَسْخُ الْإِجَارَةِ، فَإِنِ امْتَنَعَ فَسَخَهَا الْقَاضِي، وَيُؤَجِّرُهَا الْمُتَوَلِّي مِنْ غَيْرِهِ.

وَهَذَا إِنْ زَادَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ الْعَقْدِ، فَبَعْدَ انْتِهَائِهَا أَوْلَى.

هَذَا وَيُشْتَرَطُ لِثُبُوتِ حَقِّ الْقَرَارِ عِنْدَ مَنْ أَفْتَى بِهِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مَا صَنَعَهُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ وَضْعِ غِرَاسِهِ، أَوْ بِنَائِهِ، أَوْ جَدَكَةٍ بِإِذْنِ النَّاظِرِ لِيَكُونَ لِلْمُسْتَأْجِرِ مِلْكًا وَخُلُوًّا، فَإِنْ وَضَعَهُ دُونَ إِذْنٍ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ، وَلَا يَجِبُ تَجْدِيدُ الْإِجَارَةِ لَهُ.

أَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي مَحَلِّ الْإِجَارَةِ جَدَكٌ وَلَا كِرْدَارٌ فَلَا يَكُونُ لَهُ فِيهِ حَقُّ الْقَرَارِ فَلَا يَكُونُ أَحَقَّ بِالِاسْتِئْجَارِ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ اسْتِئْجَارِهِ، سَوَاءٌ أَزَادَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ قَبِلَ الزِّيَادَةَ أَمْ لَا، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَمَنْ أَفْتَى بِأَنَّهُ إِنَّ قَبْلَ الزِّيَادَةِ الْعَارِضَةِ يَكُونُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، فَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَا أَطْبَقَتْ عَلَيْهِ كُتُبُ الْمَذْهَبِ مِنْ مُتُونٍ، وَشُرُوحٍ، وَحَوَاشٍ، وَفِيهِ الْفَسَادُ وَضَيَاعُ الْأَوْقَافِ، حَيْثُ إِنَّ بَقَاءَ أَرْضِ الْوَقْفِ بِيَدِ مُسْتَأْجِرٍ وَاحِدٍ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ يُؤَدِّي بِهِ إِلَى دَعْوَى تَمَلُّكِهَا، مَعَ أَنَّهُمْ مُنِعُوا مِنْ تَطْوِيلِ الْإِجَارَةِ فِي الْوَقْفِ خَوْفًا مِنْ ذَلِكَ.ا.هـ إِذِ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يُؤَجَّرُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ لِلْبِنَاءِ، وَثَلَاثَ سِنِينَ لِلْأَرْضِ.

وَلَوْ كَانَ لِإِنْسَانٍ حَقُّ الْقَرَارِ فِي عَقَارٍ وُقِفَ بِسَبَبِ كِرْدَارَهِ، ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ الْكِرْدَارُ زَالَ حَقُّهُ فِي الْقَرَارِ.قَالَ الرَّمْلِيُّ: فِي أَرْضٍ فَنِيَتْ أَشْجَارُهَا، وَذَهَبَ كِرْدَارُهَا وَيُرِيدُ مُحْتَكِرُهَا أَنْ تَسْتَمِرَّ تَحْتَ يَدِهِ بِالْحَكْرِ السَّابِقِ وَهُوَ دُونَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ: قَالَ: لَا يُحْكَمُ لَهُ بِذَلِكَ، بَلِ النَّاظِرُ يَتَصَرَّفُ بِمَا فِيهِ الْحَظُّ لِجَانِبِ الْوَقْفِ مِنْ دَفْعِهَا بِطَرِيقِ الْمُزَارَعَةِ، أَوْ إِجَارَتِهَا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَالْحَكْرُ لَا يُوجِبُ لِلْمُسْتَحْكِرِ اسْتِبْقَاءَ الْأَرْضِ فِي يَدِهِ أَبَدًا عَلَى مَا يُرِيدُ وَيَشْتَهِي.

ثُمَّ قَدْ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ هَذَا الْجَدَكَ الْمُتَّصِلَ اتِّصَالَ قَرَارٍ الْمَوْضُوعَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبِينِ قَالَ فِيهِ أَبُو السُّعُودِ: إِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خُلُوٌّ وَاسْتَظْهَرَ أَنَّهُ كَالْخُلُوِّ، وَيُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِهِ بِجَامِعِ الْعُرْفِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا.

وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْفَتَاوَى الْمَهْدِيَّةِ وَقَالَ: إِنَّ الْحَقَّ الْمَذْكُورَ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ إِذَا بَنَى الْمُسْتَأْجِرُ فِعْلًا، أَوْ غَرَسَ فِعْلًا، فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَبْنِيَ أَوْ يَغْرِسَ انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ وَفَاتَ الْوَرَثَةَ ذَلِكَ الْحَقُّ.

بَيْعُ الْخُلُوِّ الثَّابِتِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُبَيَّنَةِ:

26- إِذَا ثَبَتَ حَقُّ الْقَرَارِ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي أَرْضِ الْوَقْفِ، أَوْ حَوَانِيتِهِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُبَيَّنَةِ سَابِقًا وَوَضَعَ أَبْنِيَةً أَوْ جَدَكًا ثَابِتًا، أَوْ أَشْجَارًا فِي أَرْضِ الْوَقْفِ، فَإِنَّ مَا يَضَعُهُ يَكُونُ مِلْكًا لَهُ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ، وَيَكُونُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ أَوْ بَعْدَهَا بَيْعُ مَا أَحْدَثَهُ مِنَ الْأَعْيَانِ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَنْتَقِلُ حَقُّ الْقَرَارِ لِلْمُشْتَرِي، وَيَكُونُ عَلَى الْمُشْتَرِي مِثْلُ أَجْرِ الْأَرْضِ خَالِيَةً عَمَّا أَحْدَثَهُ فِيهَا، وَكَذَا الْحَانُوتُ.

أَمَّا الْأَرْضُ الْمَوْقُوفَةُ إِذَا اسْتَأْجَرَهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَثْبُتُ بِهِ حَقُّ الْقَرَارِ كَمَا تَقَدَّمَ، أَوْ كَانَ اسْتِئْجَارُهَا عَلَى وَجْهٍ يَثْبُتُ بِهِ حَقُّ الْقَرَارِ لَكِنْ لَمْ يَبْنِ فِعْلًا، أَوْ بَنَى شَيْئًا فَفَنِيَ وَزَالَ فَلَا يُبَاعُ ذَلِكَ الْحَقُّ فِيهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِأَنَّهُ مُجَرَّدٌ.وَقَدْ تَعَرَّضَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ لِلْفَرَاغِ عَنْ ذَلِكَ مُقَابِلَ عِوَضٍ مَالِيٍّ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْبَيْعِ بَلْ مِنْ قَبِيلِ التَّنَازُلِ عَنِ الْحَقِّ الْمُجَرَّدِ بِمَالٍ.فَفِي تَنْقِيحِ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَصْلًا، وَنُقِلَ فِي وَاقِعَةٍ: حَكَمَ بِصِحَّتِهِ قَاضٍ حَنْبَلِيٌّ نَفَذَ لَوْ كَانَ مُوَافِقًا لِمَذْهَبِ أَحْمَدَ، لَكِنْ قَالَ إِنَّهُ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ (لَا يَصِحُّ الْفَرَاغُ فِي الْأَوْقَافِ الْأَهْلِيَّةِ، وَأَوْقَافِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِهَا، سَوَاءٌ أَذِنَ فِي ذَلِكَ النَّاظِرُ أَمْ لَمْ يَأْذَنْ، بَلْ لِلنَّاظِرِ إِيجَارُهَا وَصَرْفُ أُجْرَتِهَا فِي جِهَاتِ الْوَقْفِ، وَلَا يَصِحُّ الْفَرَاغُ إِلاَّ فِي مَا فُتِحَ عَنْوَةً وَلَمْ يُقْسَمْ وَضُرِبَ عَلَيْهِ خَرَاجٌ يُؤْخَذُ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ).

وَفِي الْفَتَاوَى الْخَيْرِيَّةِ: سُئِلَ فِي أَرْضِ وَقْفٍ دَفَعَهَا النَّاظِرُ لِمُزَارِعٍ يَزْرَعُهَا بِالْحِصَّةِ هَلْ يَمْلِكُ الْمُزَارِعُ دَفْعَهَا لِمُزَارِعٍ آخَرَ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ لِنَفْسِهِ فِي مُقَابِلِهَا، أَمْ لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ.فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَلَا فَرَاغُهُ، وَيَرْجِعُ الْمُزَارِعُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِمَا دَفَعَهُ مِنْ مَالٍ؟

فَأَجَابَ: أَرْضُ الْوَقْفِ لَا يَمْلِكُهَا الْمُزَارِعُ وَلَا تَصَرُّفَ لَهُ فِيهَا بِالْفَرَاغِ عَنْ مَنْفَعَتِهَا بِمَالٍ يَدْفَعُهُ لَهُ مُزَارِعٌ آخَرُ لِيَزْرَعَهَا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ انْتِفَاعَ الْأَوَّلِ بِهَا مُجَرَّدُ حَقٍّ، لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ بِمَالٍ، فَإِذَا أَخَذَ مَالًا فِي مُقَابَلَةِ الِاعْتِيَاضِ عَنْهُ يَسْتَرِدُّهُ مِنْهُ صَاحِبُهُ شَرْعًا.وَالْوَقْفُ مُحَرَّمٌ بِحُرُمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْفَتَاوَى الْمَهْدِيَّةِ فِي أَرْضِ الْوَقْفِ.وَنَقَلَهُ عَنِ ابْنِ عَابِدِينَ فِي رِسَالَتِهِ الْمُسَمَّاةِ (تَحْرِيرُ الْعِبَارَةِ فِيمَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْإِجَارَةِ) وَقَالَ: لَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ إِسْقَاطُ حَقِّهِ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ يَأْخُذُهُ، ثُمَّ يَسْتَأْجِرُ الْمُسْقَطَ لَهُ مِنَ النَّاظِرِ إِذْ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ.

ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ الْمُسْتَأْجِرَ أَنْ يُؤَجِّرَ لِغَيْرِهِ إِلَى بَاقِي الْمُدَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا حَقُّ الْقَرَارِ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلْمَنْفَعَةِ إِلَى نِهَايَةِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَلَهُ بَيْعُهَا بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ.

أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَلَمْ نَجِدِ التَّصْرِيحَ مِنْهُمْ بِحُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرَ أَنَّ الشَّيْخَ عُلَيْشًا ذَكَرَ أَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنَ إِنْ آجَرَ الْوَقْفَ وَأَذِنَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي الْبِنَاءِ فِيهِ ثُمَّ مَاتَ الْمُؤَجِّرُ تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ، وَالْبِنَاءُ مِلْكٌ لِلْبَانِي فَلَهُ نَقْضُهُ أَوْ قِيمَتُهُ مَنْقُوضًا إِنْ كَانَ لِلْوَقْفِ رِيعٌ يَدْفَعُ مِنْهُ ذَلِكَ، وَهَذَا إِنْ كَانَ الْوَقْفُ لَا يَحْتَاجُ لِمَا بَنَاهُ وَإِلاَّ فَيُوَفَّى لَهُ مِنَ الْغَلَّةِ قَطْعًا.قَالَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: أَفَادَ ذَلِكَ الشَّيْخُ الْخَرَشِيُّ - رحمه الله-.

وَلَمْ نَجِدْ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَا فِيهِ النَّصُّ عَلَى ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ قَاعِدَةَ الْإِجَارَةِ تَقْتَضِي إِنْهَاءَ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ بِانْتِهَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ.قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: غِرَاسُ الْمُسْتَأْجِرِ وَبِنَاؤُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إِذَا لَمْ يُقْلِعْهُ الْمَالِكُ، فَلِلْمُؤَجِّرِ تَمَلُّكُهُ بِالْقِيمَةِ وَيُجْبَرُ الْمَالِكُ عَلَى الْقَبُولِ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ فَصْلُهُ بِدُونِ ضَرَرٍ يَلْحَقُ مَالِكَ الْأَصْلِ، فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَمَلُّكُهُ قَهْرًا.وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ مِنْ صَاحِبِ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ أَنَّ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْفَرَاغُ مُقَابِلَ مَالٍ فِي الْأَوْقَافِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي:

الْخُلُوُّ فِي أَرَاضِي بَيْتِ الْمَالِ:

26 م- الْأَرَاضِي الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً وَأُبْقِيَتْ بِأَيْدِي أَرْبَابِهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ بِالْخَرَاجِ هِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِلْكٌ لِأَهْلِهَا يَجْرِي فِيهَا الْبَيْعُ، وَالشِّرَاءُ، وَالرَّهْنُ وَالْهِبَةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.

أَمَّا أَرَاضِي بَيْتِ الْمَالِ وَهِيَ الَّتِي آلَتْ إِلَيْهِ بِمَوْتِ أَرْبَابِهَا، أَوْ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَأَبْقَاهَا الْإِمَامُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى (أَرْضَ الْحَوْزِ) فَإِذَا دَفَعَهَا الْإِمَامُ إِلَى الرَّعِيَّةِ كَانَتْ بِأَيْدِيهِمْ وَلَيْسَ لَهُمْ بَيْعُهَا، وَلَا اسْتِبْدَالُهَا إِلاَّ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَلَا تَكُونُ مِلْكًا لِأَحَدٍ إِلاَّ بِتَمْلِيكِ السُّلْطَانِ لَهُ.ثُمَّ إِنَّ مَنْ هِيَ تَحْتَ يَدِهِ مِنَ الرَّعَايَا إِنْ تَسَلَّمَهَا بِوَجْهِ حَقٍّ فَهُوَ أَوْلَى بِهَا مِنْ غَيْرِهِ مَا دَامَ يَدْفَعُ أَجْرَ الْمِثْلِ، فَيَكُونُ لَهُ فِيهَا (مِشَدُّ مَسْكَةٍ) يَتَمَسَّكُ بِهَا مَا دَامَ حَيًّا فِي الْحَرْثِ وَغَيْرِهِ، وَحُكْمُهَا أَنَّهَا لَا تُقَوَّمُ، وَلَا تُمَلَّكُ، وَلَا تُبَاعُ. وَكَذَا إِنْ أَجْرَى فِيهَا كِرَابًا أَيْ حَرْثًا، أَوْ كَرَى أَنْهَارَهَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَالًا وَلَا بِمَعْنَى الْمَالِ، وَهُوَ مُجَرَّدُ الْفِلَاحَةِ فَلَيْسَ ذَلِكَ مُتَقَوِّمًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْوَصْفِ فَلَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ.وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُبَاعُ حَتَّى يَزُولَ وُجُودُهُ مِنَ الْأَرْضِ فَتَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ.أَمَّا إِنْ كَانَ لَهُ كِرْدَارٌ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ أَشْجَارٍ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُورَثُ دُونَ الْأَرْضِ، وَلَمْ يُسَمُّوهُ خُلُوًّا.وَإِنْ كَانَ الْمَالِكِيَّةُ سَمَّوْهُ خُلُوًّا أَوْ أَلْحَقُوهُ بِالْخُلُوِّ كَمَا يَأْتِي، عَلَى أَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مِشَدُّ مَسْكَةٍ- وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ كِرْدَارٌ- فَلِصَاحِبِهَا تَفْوِيضُهَا لِغَيْرِهِ وَتَكُونُ فِي يَدِ الْمُفَوَّضِ إِلَيْهِ عَارِيَّةً وَالْأَوَّلُ أَحَقُّ بِهَا، وَلَهُ إِجَارَتُهَا، وَلَهُ أَيْضًا الْفَرَاغُ عَنْهَا لِغَيْرِهِ بِمَالٍ، جَاءَ فِي الْوَلْوَالِجِيَّة: عِمَارَةٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ بِيعَتْ فَإِنْ بِنَاءً أَوْ أَشْجَارًا جَازَ، وَإِنْ كِرَابًا أَوْ كَرْيَ أَنْهَارٍ لَمْ يَجُزْ، قَالُوا: وَمُفَادُهُ أَنَّ بَيْعَ الْمَسْكَةِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا رَهْنُهَا، وَلِذَا جَعَلُوهُ الْآنَ (فَرَاغًا) أَيْ كَالنُّزُولِ عَنِ الْوَظَائِفِ بِمَالٍ.فَإِذَا فَرَغَ عَنْهَا لِأَحَدٍ لَمْ يَنْتَقِلِ الْحَقُّ فِيهَا إِلاَّ إِذَا اقْتَرَنَ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ.عَلَى أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ مَالًا مُقَابِلَ الْفَرَاغِ ثُمَّ لَمْ يَأْذَنِ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ بِنَقْلِهَا يَكُونُ لِدَافِعِ الْمَالِ حَقُّ الرُّجُوعِ فِيهِ.

أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: فَإِنَّ الْأَرْضَ الصَّالِحَةَ لِلزَّرْعِ، وَأَرْضَ الدُّورِ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً فِي الشَّامِ وَمِصْرَ، وَالْعِرَاقِ، هِيَ وَقْفٌ وُقِفَتْ بِمُجَرَّدِ فَتْحِهَا عَنْوَةً، وَيَقْطَعُهَا الْإِمَامُ أَوْ يُكْرِيهَا لِمَنْ شَاءَ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَيَنْتَهِي إِقْطَاعُهَا بِمَوْتِ الْمُقْطِعِ مَعَ بَقَائِهَا عَلَى وَقْفِيَّتِهَا، فَلَا تُبَاعُ، وَلَا تُرْهَنُ وَلَا تُورَثُ.

لَكِنْ قَدِ اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: قَدْ أَفْتَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهُ يُورَثُ، فَإِنَّهُمْ أَلْحَقُوهُ بِالْخُلُوَّاتِ وَالْخَرَاجِ كَالْكِرَاءِ.قَالَ: وَإِنَّمَا يُلْحَقُ بِهَا إِنْ حَصَلَ مِنْ وَاضِعِ الْيَدِ عَلَى الْأَرْضِ أَثَرٌ فِيهَا كَإِصْلَاحٍ: بِإِزَالَةِ شَوْكِهَا، أَوْ حَرْثِهَا، أَوْ نَصْبِ جِسْرٍ عَلَيْهَا، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُلْحَقُ بِالْبِنَاءِ فِي الْأَوْقَافِ، فَيَكُونُ الْأَثَرُ الَّذِي عَمِلَهُ فِي الْأَرْضِ خُلُوًّا يَنْتَفِعُ بِهِ وَيُمْلَكُ.فَكَأَنَّ الَّذِينَ أَفْتَوْا بِذَلِكَ نَظَرُوا إِلَى أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ الْأَمْرُ مِنْ وُقُوعِ شَيْءٍ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، أَوْ مِنْ دَفْعِ مَغَارِمَ لِلْمُلْتَزِمِ (وَهُوَ الَّذِي يَتَقَبَّلُ الْأَرَاضِيَ مِنَ السُّلْطَانِ مُقَابِلَ مَالٍ يَدْفَعُهُ لَهُ، وَيَأْخُذُ الْمُلْتَزِمُ الْمَالَ مِنَ الْفَلاَّحِينَ لِتَمْكِينِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ) قَالَ: فَالَّذِي يَنْبَغِي فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ الْإِفْتَاءُ بِالْإِرْثِ؛ وَلِأَنَّهُ أَدْفَعُ لِلنِّزَاعِ وَالْفِتَنِ بَيْنَ الْفَلاَّحِينَ، وَلِلْمُلْتَزِمِ الْخَرَاجُ عَلَى الْأَرْضِ لَا أَكْثَرَ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عَزْلُ الْفَلَاحِ عَنْ أَثَرٍ لَهُ فِي الْأَرْضِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: ذَهَبَ الدَّرْدِيرُ إِلَى أَنَّ الْفَتْوَى السَّابِقَ بَيَانُهَا.مَكْذُوبَةٌ عَلَى مَنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِ.

قَالَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: مُرَاعَاةُ مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ تَقْتَضِي عَدَمَ التَّوْرِيثِ فِيمَا فُتِحَ عَنْوَةً بَلْ يَفْعَلُ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، وَلَا تُورَثُ، بَلِ الْحَقُّ لِمَنْ يُقَرِّرُهُ فِيهَا نَائِبُ السُّلْطَانِ لِأَنَّهَا مُكْتَرَاةٌ، وَالْخَرَاجُ كِرَاؤُهَا وَلَا حَقَّ لِلْمُكْتَرِي فِي مِثْلِ هَذَا ثُمَّ إِنَّهُ إِذَا تَنَازَلَ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ لِغَيْرِهِ مُقَابِلَ عِوَضٍ مَالِيٍّ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْخَرَاجُ عَلَى الْمُسْقَطِ لَهُ، فَقَدْ أَفْتَى الشَّيْخُ عُلَيْشٌ بِجَوَازِ ذَلِكَ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْأَرْضُ الْمَذْكُورَةُ قُسِمَتْ عَلَى الْغَانِمِينَ ثُمَّ طَلَبَهَا عُمَرُ مِنْهُمْ فَبَذَلُوهَا فَوَقَفَهَا عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَآجَرَهَا لِأَهْلِهَا إِجَارَةً مُؤَبَّدَةً بِالْخَرَاجِ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ لِكَوْنِهَا وَقْفًا بَيْعُهَا وَرَهْنُهَا وَهِبَتُهَا، وَلَهُمْ إِجَارَتُهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً لَا مُؤَبَّدَةً.وَهَذَا حُكْمُ الْأَرْضِ نَفْسِهَا، أَمَّا الْبِنَاءُ وَالْأَشْجَارُ الَّتِي يُحْدِثُهَا فِي الْأَرْضِ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ مِنَ الرَّعَايَا فَهُوَ مِلْكٌ لَهُ، وَلَهُ أَنْ يَقِفَهُ كَمَا هُوَ الْأَصَحُّ فِيمَا يَبْنِيهِ فِي الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، وَيُرْهَنُ وَيُبَاعُ.

أَمَّا النُّزُولُ عَنِ الْأَرْضِ الْمَذْكُورَةِ مِمَّنْ هِيَ بِيَدِهِ إِلَى غَيْرِهِ مُقَابِلَ عِوَضٍ مَالِيٍّ فَلَمْ نَجِدْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَعَرُّضًا لَهُ.

وَلَكِنَّهُمْ فِي الْمُتَحَجِّرِ قَالُوا إِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ لِمَا تَحَجَّرَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي يَصِحُّ، وَكَأَنَّهُ يَبِيعُ حَقَّ الِاخْتِصَاصِ.قَالَ الْمَحَلِّيُّ: كَذَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلُهَا، وَفِي الْمُحَرَّرِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ هَذَا الْحَقَّ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَمَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يُسَمُّوا مِثْلَ هَذَا الْحَقِّ خُلُوًّا فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ مَنَافِعَ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ يَجُوزُ نَقْلُهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَمَنْ نَزَلَ عَنْ أَرْضٍ خَرَاجِيَّةٍ بِيَدِهِ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّ الْمَتْرُوكَ لَهُ أَحَقُّ بِهَا، فَيَجُوزُ نَقْلُهَا بِلَا عِوَضٍ، وَأَجَازَ أَحْمَدُ دَفْعَهَا عِوَضًا عَمَّا تَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجَةُ مِنَ الْمَهْرِ، وَأَمَّا الْبَيْعُ فَقَدْ كَرِهَهُ أَحْمَدُ وَنَهَى عَنْهُ.وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي بَيْعِ الْعِمَارَةِ الَّتِي فِيهَا لِئَلاَّ تُتَّخَذَ طَرِيقًا إِلَى بَيْعِ رَقَبَةِ الْأَرْضِ الَّتِي لَا تُمْلَكُ، بَلْ هِيَ إِمَّا وَقْفٌ، وَإِمَّا فَيْءٌ.

وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَلَى أَنَّهُ يَبِيعُ آلَاتِ عِمَارَتِهِ بِمَا تُسَاوِي أَيْ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، وَكَرِهَ أَنْ يَبِيعَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَنَقَلَ عَنْهُ ابْنُ هَانِئٍ: يُقَوَّمُ دُكَّانُهُ وَمَا فِيهِ وَكُلُّ شَيْءٍ يُحْدِثُهُ فِيهِ فَيُعْطَى ذَلِكَ، وَلَا أَرَى أَنْ يَبِيعَ سُكْنَى دَارٍ وَلَا دُكَّانٍ.وَبَيَّنَ ابْنُ رَجَبٍ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَحْمَدَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ إِلَى بَيْعِ الْأَرْضِ نَفْسِهَا بِدَعْوَى بَيْعِ مَا فِيهَا مِنَ الْعِمَارَةِ.قَالَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ أَحْمَدَ إِنَّمَا أَرَادَ النَّهْيَ عَنْ أَخْذِ الْعِوَضِ عَنْ رَقَبَةِ الْأَرْضِ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ، وَبِهَذَا قَالَ: هَذَا خِدَاعٌ.وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ آلَاتِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا.وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ تَجْوِيزُ بَيْعِهَا فَتَنْتَقِلُ بِخَرَاجِهَا بِخِلَافِ بَيْعِ الْوَقْفِ عَلَى مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ يُبْطِلُ حَقَّ الْبَطْنِ الثَّانِي.ا.هـ

وَقَالَ فِي الْإِقْنَاعِ وَشَرْحِهِ: إِنْ آثَرَ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ بِهَا أَحَدًا بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ صَارَ الثَّانِي أَحَقَّ بِهَا.وَمَعْنَى الْبَيْعِ هُنَا بَذْلُهَا بِمَا عَلَيْهَا مِنْ خَرَاجٍ إِنْ مَنَعْنَا بَيْعَهَا الْحَقِيقِيَّ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ، لِأَنَّ عُمَرَ وَقَفَهَا وَالْوَقْفُ لَا يُبَاعُ.

كَيْفِيَّةُ تَوَارُثِ الْخُلُوِّ فِي أَرَاضِي بَيْتِ الْمَالِ:

27- إِذَا مَاتَ مَنْ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَرَاضِي الْأَمِيرِيَّةِ فَإِنَّهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا تُورَثُ عَنْهُ لِأَنَّ رَقَبَتَهَا لِبَيْتِ الْمَالِ فَتَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ انْتِقَالُهَا إِلَى وَرَثَتِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ إِلاَّ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ.وَهَذَا بِخِلَافِ مَا عَلَيْهَا مِنْ غِرَاسٍ أَوْ بِنَاءٍ فَإِنَّهُ يُورَثُ طِبْقًا لِلْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ.أَمَّا مِشَدُّ الْمَسْكَةِ نَفْسُهُ فَإِنَّهُ لَا يُورَثُ أَصْلًا لِأَنَّهُ حَقٌّ مُجَرَّدٌ.لَكِنْ جَرَتْ فَتْوَى مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى الْأَبْنَاءِ الذُّكُورِ انْتِقَالًا لَا عَلَى سَبِيلِ الْمِيرَاثِ، بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يَكُونُونَ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَيَنْتَقِلُ مَجَّانًا.وَجَرَى الرَّسْمُ عَلَى ذَلِكَ فِي الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالْأَرَاضِي الْأَمِيرِيَّةُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ عِنْدَهُمْ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الْخُلُوِّ فِيهَا، وَأَنَّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا لَا تُورَثُ وَذَلِكَ مُقْتَضَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ بِأَنَّهَا وَقْفٌ، وَأَنَّ السُّلْطَانَ أَحَقُّ بِتَوْجِيهِهَا مِمَّنْ هِيَ بِيَدِهِ، وَمِنْ وَرَثَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بِأَنَّهَا تُورَثُ، وَأَنَّ الْإِرْثَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ لِرَقَبَتِهَا بَلْ لِمَنْفَعَتِهَا مَا دَامَ يُؤَدِّي مَا عَلَيْهَا مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي هُوَ كَالْأُجْرَةِ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَئُولُ إِلَيْهِ الْأَرْضُ إِذَا مَاتَ مَنْ هِيَ تَحْتَ يَدِهِ، فَالَّذِينَ قَالُوا بِعَدَمِ التَّوْرِيثِ قَالُوا: السُّلْطَانُ أَحَقُّ بِتَوْجِيهِهَا إِلَى مَنْ شَاءَ، لَكِنْ إِنْ كَانَتِ الْعَادَةُ قَدْ جَرَتْ بِنَقْلِهَا إِلَى وَرَثَتِهِ جَمِيعًا، أَوْ لِأَوْلَادِهِ الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ يَعْمَلُ بِذَلِكَ، قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ فِي بَعْضِ قُرَى الصَّعِيدِ أَنْ يَخْتَصَّ الذُّكُورُ بِالْأَرْضِ دُونَ الْإِنَاثِ، فَيَجِبُ إِجْرَاؤُهُمْ عَلَى عَادَتِهِمْ عَلَى مَا يَظْهَرُ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَادَةَ وَالْعُرْفَ صَارَتْ كَالْإِذْنِ مِنَ السُّلْطَانِ فِي ذَلِكَ.

أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ مَنْفَعَةَ الْخُلُوِّ فِيهَا تُورَثُ قَالُوا: إِنَّهَا تُورَثُ طِبْقًا لِمَا تُوجِبُهُ أَحْكَامُ التَّوْرِيثِ فَهِيَ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ مِنَ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ وَالْأَبَوَيْنِ وَالْعَصَبَاتِ وَالْأَوْلَادِ الذُّكُورُ مِنْهُمْ وَالْإِنَاثُ طِبْقًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.قَالَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: الْحَقُّ فِيهَا يُورَثُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ الذُّكُورِ لِأَنَّهَا خَصْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ لَا تَحِلُّ فِي الْإِسْلَامِ وَإِنِ اسْتَظْهَرَ ذَلِكَ الدَّرْدِيرُ.وَقَالَ أَيْضًا: تَوْرِيثُ الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ عُرْفٌ فَاسِدٌ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ.وَفِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ قَالَ الدَّرْدِيرُ: مُقْتَضَى الْمَذْهَبِ أَنَّ لِلسُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ أَنْ يَمْنَعَ الْوَرَثَةَ مِنْ وَضْعِ يَدِهِمْ عَلَيْهَا وَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا لِمَنْ شَاءَ.ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ فَتْحِ بَابٍ يُؤَدِّي إِلَى الْهَرَجِ وَالْفَسَادِ، وَأَنَّ لِمُوَرِّثِهِمْ نَوْعَ اسْتِحْقَاقٍ، وَأَيْضًا الْعَادَةُ تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ حُكْمِ السَّلَاطِينِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَنْ بِيَدِهِ شَيْءٌ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ أَوْ لِأَوْلَادِهِ الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ رِعَايَةً لِحَقِّ الْمَصْلَحَةِ.نَعَمْ إِذَا مَاتَ شَخْصٌ وَتَحْتَ يَدِهِ أَرْضٌ يُؤَدِّي خَرَاجَهَا عَنْ غَيْرِ وَارِثٍ فَالْأَمْرُ لِلسُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ، أَيْ يُقَرِّرُ فِي الْأَرْضِ مَنْ يَشَاءُ، وَلَا تُورَثُ عَنِ الْمَيِّتِ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: نَعَمْ وَارِثُهُ أَوْلَى وَأَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ.وَلَمْ يَتَّضِحْ لَنَا قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ.أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَالْوَرَثَةُ أَحَقُّ بِالتَّمَسُّكِ بِالْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ فَتَنْتَقِلُ إِلَيْهِمْ بِوَفَاةِ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ نَزْعُهَا مِنْهُمْ مَا دَامُوا يُؤَدُّونَ الْخَرَاجَ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: مَنْ بِيَدِهِ أَرْضٌ خَرَاجِيَّةٌ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا وَتَرِثُهَا وَرَثَتُهُ كَذَلِكَ فَيَمْلِكُونَ مَنَافِعَهَا بِالْخَرَاجِ الَّذِي يَبْذُلُونَهُ.وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ تَوَارُثَ هَذَا الْحَقِّ يُسْتَحَقُّ طِبْقًا لِأَنْصِبَةِ الْمِيرَاثِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ الْمَوْرُوثُ مَالًا.

وَقْفُ مَا يُنْشِئُهُ فِي أَرْضِ بَيْتِ الْمَالِ:

28- نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْخَصَّافِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ وَقْفَ حَوَانِيتِ الْأَسْوَاقِ يَجُوزُ إِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ بِأَيْدِي الَّذِينَ بَنَوْهَا بِإِجَارَةٍ لَا يُخْرِجُهُمُ السُّلْطَانُ عَنْهَا مِنْ قِبَلِ أَنَّا رَأَيْنَاهَا فِي أَيْدِي أَصْحَابِ الْبِنَاءِ تَوَارَثُوهَا وَتُقْسَمُ بَيْنَهُمْ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُمُ السُّلْطَانُ فِيهَا وَلَا يُزْعِجُهُمْ مِنْهَا، وَإِنَّمَا لَهُ غَلَّةٌ يَأْخُذُهَا مِنْهُمْ وَتَدَاوَلَهَا خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ، وَمَضَى عَلَيْهَا الدُّهُورُ وَهِيَ فِي أَيْدِيهمْ يَتَبَايَعُونَهَا، وَيُؤَجِّرُونَهَا، وَتَجُوزُ فِي وَصَايَاهُمْ، وَيَهْدِمُونَ بِنَاءَهَا، وَيُعِيدُونَهُ، وَيَبْنُونَ غَيْرَهُ، فَكَذَلِكَ الْوَقْفُ جَائِزٌ.ا.هـ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَأَقَرَّهُ فِي الْفَتْحِ وَوَجْهُهُ بَقَاءُ التَّأْبِيدِ.

وَإِنْ كَانَ مَا جَعَلَهُ فِي الْأَرْضِ غِرَاسًا فَالْحُكْمُ فِي وَقْفِهَا حُكْمُ الْبِنَاءِ.أَمَّا إِنْ كَانَ مَا عَمِلَهُ فِي الْأَرْضِ مُجَرَّدَ كَبْسٍ بِالتُّرَابِ أَوِ السَّمَادِ فَلَا يَصِحُّ وَقْفُهُ.

وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى كَلَامٍ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


90-موسوعة الفقه الكويتية (خلو 3)

خُلُوٌّ -3

الْقِسْمُ الثَّالِثُ:

الْخُلُوُّ فِي الْأَمْلَاكِ الْخَاصَّةِ:

29- فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْمِلْكِ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الْقَرَارِ فَأَثْبَتُوهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي عَقَارَاتِ الْأَوْقَافِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَنَفَوْهُ فِي الْأَمْلَاكِ الْخَاصَّةِ الْمُؤَجَّرَةِ، وَبَيَّنُوا أَنَّ الْفَرْقَ فِي ذَلِكَ هُوَ أَنَّ الْمَالِكَ أَحَقُّ بِمِلْكِهِ إِذَا انْتَهَى عَقْدُ الْإِجَارَةِ، ثُمَّ هُوَ قَدْ يَرْغَبُ فِي تَجْدِيدِ إِيجَارِهِ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ بِنَفْسِ الْأَجْرِ، أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ، وَقَدْ لَا يَرْغَبُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ يُرِيدُ أَنْ يَسْكُنَهُ بِنَفْسِهِ، أَوْ يَبِيعَهُ، أَوْ يُعَطِّلَهُ، بِخِلَافِ الْمَوْقُوفِ الْمُعَدِّ لِلْإِيجَارِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلنَّاظِرِ إِلاَّ أَنْ يُؤَجِّرَهُ، فَإِيجَارُهُ مِنْ ذِي الْيَدِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ أَوْلَى مِنْ إِيجَارِهِ لِأَجْنَبِيٍّ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ النَّظَرِ لِلْوَقْفِ وَلِذِي الْيَدِ.وَلِمَالِكِ الْحَانُوتِ أَنْ يُكَلِّفَ الْمُسْتَأْجِرَ رَفْعَ جَدَكَةٍ وَإِفْرَاغَ الْمَحَلِّ لِمَالِكِهِ.وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لَا يَثْبُتَ حَقُّ الْقَرَارِ فِي الْأَمْلَاكِ الْخَاصَّةِ حَتَّى عِنْدَ مَنْ سَمَّاهُ فِي عَقَارَاتِ الْوَقْفِ خُلُوًّا؛ وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ إِخْرَاجِ صَاحِبِ الْحَانُوتِ لِصَاحِبِ الْخُلُوِّ حَجْرُ الْحُرِّ الْمُكَلَّفِ عَنْ مِلْكِهِ وَإِتْلَافُ مَالِهِ.وَهِيَ مَسْأَلَةٌ إِجْمَاعِيَّةٌ كَمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْفَتَاوَى الْخَيْرِيَّةِ وَكَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَحْكَامِ الْإِجَارَةِ فَإِنْ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْإِجَارَةِ فِي الْأَرْضِ بِنَاءٌ أَوْ أَشْجَارٌ، أَوْ فِي الْحَانُوتِ بِنَاءٌ، يَلْزَمُهُ رَفْعُهُ عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي أَحْكَامِ الْإِجَارَةِ.

أَمَّا إِنْشَاءُ الْخُلُوِّ قَصْدًا بِتَعَاقُدٍ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمَالِكِ مُقَابِلَ دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ لِيُمَكِّنَهُ مِنْ وَضْعِ بِنَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ فِي الْأَرْضِ أَوِ الْحَانُوتِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْخُلُوُّ، فَقَدْ أَفْتَى بِصِحَّتِهِ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: مِمَّنْ أَفْتَى بِلُزُومِ الْخُلُوِّ بِمُقَابَلَةِ دَرَاهِمَ يَدْفَعُهَا إِلَى الْمَالِكِ الْعَلاَّمَةُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْعِمَادِيُّ وَقَالَ: فَلَا يَمْلِكُ صَاحِبُ الْحَانُوتِ إِخْرَاجَهُ مِنْهَا وَلَا إِجَارَتَهَا لِغَيْرِهِ فَيُفْتَى بِجَوَازِ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ.

وَسُئِلَ الْمَهْدِيُّ الْعَبَّاسِيُّ فِي رَجُلٍ لَهُ حَانُوتٌ مُتَخَرِّبٌ اسْتَأْجَرَهُ مِنْهُ رَجُلٌ سَنَةً، وَأَذِنَ لَهُ بِالْبِنَاءِ وَالْعِمَارَةِ فِيهِ لِيَكُونَ مَا عَمَّرَهُ وَبَنَاهُ وَأَنْشَأَهُ خُلُوًّا لَهُ وَمِلْكًا مُسْتَحَقَّ الْبَقَاءِ وَالْقَرَارِ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ أُجْرَةً لِلْأَرْضِ مِقْدَارًا مَعْلُومًا مِنَ الدَّرَاهِمِ مُسَانَهَةً (سَنَوِيًّا) فَهَلْ إِذَا بَنَى وَعَمَّرَ وَأَنْشَأَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ ذَلِكَ مِلْكًا لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَإِذَا مَاتَ الْآذِنُ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ أُجْرَةُ الْأَرْضِ فَقَطْ؟ فَأَجَابَ: مَا بَنَاهُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ مَالِهِ لِنَفْسِهِ بِإِذْنِ الْمَالِكِ فِي حَيَاتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ مَمْلُوكٌ لِبَانِيهِ يُورَثُ عَنْهُ إِذَا مَاتَ، وَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ الْمُقَرَّرَةُ عَلَى الْأَرْضِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ قَرَّرَ أَنَّ الْخُلُوَّ فِي هَذِهِ الْحَالِ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ أَعْيَانٍ مَمْلُوكَةٍ لِصَاحِبِهَا مُسْتَحَقٌّ قَرَارُهَا فِي الْمَحَلِّ.

وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: الْخُلُوُّ رُبَّمَا يُقَاسُ عَلَيْهِ الْجَدَكُ الْمُتَعَارَفُ فِي حَوَانِيتِ مِصْرَ، فَإِنَّ الْخُلُوَّ إِذَا صَحَّ فِي الْوَقْفِ فَفِي الْمِلْكِ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَالِكَ يَفْعَلُ فِي مِلْكِهِ مَا يَشَاءُ.لَكِنَّ بَعْضَ الْجَدَكَاتِ بِنَاءٌ، أَوْ إِصْلَاحُ أَخْشَابٍ فِي الْحَانُوتِ مَثَلًا بِإِذْنٍ، وَهَذَا قِيَاسُهُ عَلَى الْخُلُوِّ ظَاهِرٌ خُصُوصًا وَقَدِ اسْتَنَدُوا فِي تَأْبِيدِ الْحَكْرِ لِلْعُرْفِ، وَالْعُرْفُ حَاصِلٌ فِي الْجَدَكِ.وَالْبَعْضُ الْآخَرُ مِنَ الْجَدَكَاتِ وَضْعُ أَشْيَاءَ مُسْتَقِلَّةٍ فِي الْمَحَلِّ (أَيْ مُنْفَصِلَةٍ) غَيْرِ مُسَمَّرَةٍ فِيهِ كَمَا يَقَعُ فِي الْحَمَّامَاتِ، وَحَوَانِيتِ الْقَهْوَةِ بِمِصْرَ، فَهَذِهِ بَعِيدَةٌ عَنِ الْخُلُوَّاتِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ لِلْمَالِكِ إِخْرَاجَهَا.ا.هـ.

وَظَاهِرٌ أَنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: « إِنَّ الْخُلُوَّ إِذَا صَحَّ فِي الْوَقْفِ فَفِي الْمِلْكِ أَوْلَى »، أَنْ يَتَعَاقَدَ الْمَالِكُ وَمُسْتَأْجِرُ الْحَانُوتِ عَلَى إِنْشَاءِ الْخُلُوِّ وَتَأْبِيدِهِ لَا إِنْ حَصَلَ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ وَيُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ (لِأَنَّ الْمَالِكَ يَفْعَلُ فِي مِلْكِهِ مَا يَشَاءُ).

وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الَّذِينَ أَجَازُوا بَيْعَ الْمَنْفَعَةِ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ عَلَى مَا خَرَّجَهُ الْبُهُوتِيُّ إِنْشَاءُ الْخُلُوِّ بِمَالٍ يُدْفَعُ إِلَى نَاظِرِ الْوَقْفِ بِشُرُوطِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.

أَخْذُ الْمُسْتَأْجِرِ بَدَلَ الْخُلُوِّ مِنْ مُسْتَأْجِرٍ لَاحِقٍ:

30- يَدُورُ حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ الْأَوَّلَ إِنْ كَانَ يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ إِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ بِإِجَارَةٍ صَحِيحَةٍ مَعَ الْمَالِكِ، أَوْ نَاظِرِ الْوَقْفِ، فَتَخَلَّى عَنِ الْحَانُوتِ أَثْنَاءَ الْمُدَّةِ لِمُسْتَأْجِرٍ آخَرَ يَحِلُّ مَحَلَّهُ وَأَخَذَ عَلَى ذَلِكَ عِوَضًا مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ الَّذِي يَحِلُّ مَحَلَّهُ جَازَ ذَلِكَ، وَمِنْ شَرْطِ ذَلِكَ فِي حَوَانِيتِ الْوَقْفِ أَنْ تَكُونَ الْإِجَارَةُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ، قَالَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ فِي فَتَاوِيهِ: إِنَّ حَوَانِيتَ الْأَوْقَافِ بِمِصْرَ جَرَتْ عَادَةُ سُكَّانِهَا أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمُ الْخُرُوجَ مِنَ الدُّكَّانِ أَخَذَ مِنَ الْآخَرِ مَالًا عَلَى أَنْ يَنْتَفِعَ بِالسُّكْنَى فِيهِ، وَيُسَمُّونَهُ خُلُوًّا وَجَدَكًا، وَيَتَدَاوَلُونَ ذَلِكَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ يَعُودُ عَلَى تِلْكَ الْأَوْقَافِ نَفْعٌ أَصْلًا غَيْرَ أُجْرَةِ الْحَانُوتِ، بَلِ الْغَالِبُ أَنَّ أُجْرَةَ الْحَانُوتِ أَقَلُّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ بِسَبَبِ مَا دَفَعَهُ الْآخِذُ مِنْ مَالٍ.ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي يَدُورُ عَلَيْهِ الْجَوَابُ فِي ذَلِكَ أَنَّ السَّاكِنَ الَّذِي أَخَذَ الْخُلُوَّ إِنْ كَانَ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ الْحَانُوتِ مُدَّةً فَأَسْكَنَهَا غَيْرَهُ وَأَخَذَ عَلَى ذَلِكَ مَالًا فَإِنْ كَانَ الْآخِذُ بِيَدِهِ إِجَارَةٌ صَحِيحَةٌ مِنَ النَّاظِرِ أَوِ الْوَكِيلِ بِشُرُوطِهَا بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فَهُوَ سَائِغٌ لَهُ الْأَخْذُ عَلَى تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي يَمْلِكُهَا، وَلَا ضَرَرَ عَلَى الْوَقْفِ لِصُدُورِ الْأُجْرَةِ مُوَافَقَةً لِأُجْرَةِ الْمِثْلِ.وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلْمَنْفَعَةِ بِإِجَارَةٍ صَحِيحَةٍ فَلَا عِبْرَةَ بِخُلُوِّهِ وَيُؤَجِّرُهُ النَّاظِرُ لِمَنْ يَشَاءُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ.وَيَرْجِعُ دَافِعُ الدَّرَاهِمِ عَلَى مَنْ دَفَعَهَا لَهُ.ا.هـ

وَأَمَّا بَعْدَ انْتِهَاءِ مُدَّةِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَالْمَالِكُ أَحَقُّ بِمِلْكِهِ كَمَا تَقَدَّمَ (ف 29) مَا لَمْ يَكُنِ الْمُسْتَأْجِرُ قَدِ اتَّفَقَ مَعَهُ عَلَى إِنْشَاءِ الْخُلُوِّ بِمَالٍ دَفَعَهُ إِلَيْهِ فَلَهُ بَيْعُ الْخُلُوِّ إِلَى مُسْتَأْجِرٍ يَأْتِي بَعْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَحْثِ؛ لِأَنَّ الْخُلُوَّ الصَّحِيحَ يَجُوزُ بَيْعُهُ إِنْ تَمَّتْ شُرُوطُهُ عِنْدَ مَنْ أَخَذَ بِذَلِكَ.

خُلُوُّ عَقْدِ النِّكَاحِ عَنِ الْمَهْرِ:

31- إِذَا عُقِدَ النِّكَاحُ بِلَا تَسْمِيَةِ مَهْرٍ فَإِنَّهُ يُسَمَّى (التَّفْوِيضَ فِي النِّكَاحِ) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَفْوِيضٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


91-موسوعة الفقه الكويتية (خنثى)

خُنْثَى

التَّعْرِيفُ:

1- الْخُنْثَى فِي اللُّغَةِ: الَّذِي لَا يَخْلُصُ لِذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى، أَوِ الَّذِي لَهُ مَا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا مِنَ الْخَنَثِ، وَهُوَ اللِّينُ وَالتَّكَسُّرُ، يُقَالُ: خَنَّثْتُ الشَّيْءَ فَتَخَنَّثَ، أَيْ: عَطَّفْتُهُ فَتَعَطَّفَ، وَالِاسْمُ الْخُنْثُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: مَنْ لَهُ آلَتَا الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، أَوْ مَنْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْهُمَا أَصْلًا، وَلَهُ ثُقْبٌ يَخْرُجُ مِنْهُ الْبَوْلُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْمُخَنَّثُ:

2- الْمُخَنَّثُ بِفَتْحِ النُّونِ: هُوَ الَّذِي يُشْبِهُ الْمَرْأَةَ فِي اللِّينِ وَالْكَلَامِ وَالنَّظَرِ وَالْحَرَكَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهُوَ ضَرْبَانِ.

أَحَدُهُمَا: مَنْ خُلِقَ كَذَلِكَ، فَهَذَا لَا إِثْمَ عَلَيْهِ.

وَالثَّانِي: مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ خِلْقَةً، بَلْ يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ فِي حَرَكَاتِهِنَّ وَكَلَامِهِنَّ فَهَذَا هُوَ الَّذِي جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِلَعْنِهِ.فَالْمُخَنَّثُ لَا خَفَاءَ فِي ذُكُورِيَّتِهِ بِخِلَافِ الْخُنْثَى.

أَقْسَامُ الْخُنْثَى:

يَنْقَسِمُ الْخُنْثَى إِلَى مُشْكِلٍ وَغَيْرِ مُشْكِلٍ:

أ- الْخُنْثَى غَيْرُ الْمُشْكِلِ:

3- مَنْ يَتَبَيَّنُ فِيهِ عَلَامَاتُ الذُّكُورَةِ أَوِ الْأُنُوثَةِ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ رَجُلٌ، أَوِ امْرَأَةٌ، فَهَذَا لَيْسَ بِمُشْكِلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ فِيهِ خِلْقَةٌ زَائِدَةٌ، أَوِ امْرَأَةٌ فِيهَا خِلْقَةٌ زَائِدَةٌ، وَحُكْمُهُ فِي إِرْثِهِ وَسَائِرِ أَحْكَامِهِ حُكْمُ مَا ظَهَرَتْ عَلَامَاتُهُ فِيهِ.

ب- الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ:

4- هُوَ مَنْ لَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ عَلَامَاتُ الذُّكُورَةِ أَوِ الْأُنُوثَةِ، وَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ، أَوْ تَعَارَضَتْ فِيهِ الْعَلَامَاتُ، فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُشْكِلَ نَوْعَانِ:

نَوْعٌ لَهُ آلَتَانِ، وَاسْتَوَتْ فِيهِ الْعَلَامَاتُ، وَنَوْعٌ لَيْسَ لَهُ وَاحِدَةٌ مِنَ الْآلَتَيْنِ وَإِنَّمَا لَهُ ثُقْبٌ.

مَا يَتَحَدَّدُ بِهِ نَوْعُ الْخُنْثَى:

5- يَتَبَيَّنُ أَمْرُ الْخُنْثَى قَبْلَ الْبُلُوغِ بِالْمَبَالِ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي:

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى قَبْلَ الْبُلُوغِ إِنْ بَالَ مِنَ الذَّكَرِ فَغُلَامٌ، وَإِنْ بَالَ مِنَ الْفَرْجِ فَأُنْثَى، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ الْمَوْلُودِ لَهُ قُبُلٌ وَذَكَرٌ، مِنْ أَيْنَ يُورَثُ؟ قَالَ يُورَثُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ» وَرُوِيَ- عليه الصلاة والسلام- «أُتِيَ بِخُنْثَى مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: وَرِّثُوهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَبُولُ مِنْهُ».وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْآلَةِ عِنْدَ الِانْفِصَالِ مِنَ الْأُمِّ خُرُوجُ الْبَوْلِ، وَمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَنَافِعِ يَحْدُثُ بَعْدَهَا، وَإِنْ بَالَ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَالْحُكْمُ لِلْأَسْبَقِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَسَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَإِنِ اسْتَوَيَا فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى اعْتِبَارِ الْكَثْرَةِ، وَحُكِيَ هَذَا عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، لِأَنَّ الْكَثْرَةَ مَزِيَّةٌ لِإِحْدَى الْعَلَامَتَيْنِ، فَيُعْتَبَرُ بِهَا كَالسَّبْقِ، فَإِنِ اسْتَوَيَا فَهُوَ حِينَئِذٍ مُشْكِلٌ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ قَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْكَثْرَةِ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا، فَإِذَا بَالَ مَرَّتَيْنِ مِنَ الْفَرْجِ وَمَرَّةً مِنَ الذَّكَرِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أُنْثَى، وَلَوْ كَانَ الَّذِي نَزَلَ مِنَ الذَّكَرِ أَكْثَر كَيْلًا أَوْ وَزْنًا.

وَيَرَى بَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالْكَثْرَةِ، لِأَنَّ الْكَثْرَةَ لَيْسَتْ بِدَلِيلٍ عَلَى الْقُوَّةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لِاتِّسَاعِ الْمَخْرَجِ وَضِيقِهِ، لَا لِأَنَّهُ هُوَ الْعُضْوُ الْأَصْلِيُّ، وَلِأَنَّ نَفْسَ الْخُرُوجِ دَلِيلٌ بِنَفْسِهِ، فَالْكَثِيرُ مِنْ جِنْسِهِ لَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ كَالشَّاهِدَيْنِ وَالْأَرْبَعَةِ، وَقَدِ اسْتَقْبَحَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَلِكَ فَقَالَ: وَهَلْ رَأَيْتَ قَاضِيًا يَكِيلُ الْبَوْلَ بِالْأَوَاقِي؟

6- وَأَمَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَيَتَبَيَّنُ أَمْرُهُ بِأَحَدِ الْأَسْبَابِ الْآتِيَةِ:

إِنْ خَرَجَتْ لِحْيَتُهُ، أَوْ أَمْنَى بِالذَّكَرِ، أَوْ أَحْبَلَ امْرَأَةً، أَوْ وَصَلَ إِلَيْهَا، فَرَجُلٌ، وَكَذَلِكَ ظُهُورُ الشَّجَاعَةِ وَالْفُرُوسِيَّةِ، وَمُصَابَرَةِ الْعَدُوِّ دَلِيلٌ عَلَى رُجُولِيَّتِهِ كَمَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ نَقْلًا عَنِ الْإِسْنَوِيِّ.

وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ ثَدْيٌ وَنَزَلَ مِنْهُ لَبَنٌ أَوْ حَاضَ، أَوْ أَمْكَنَ وَطْؤُهُ، فَامْرَأَةٌ، وَأَمَّا الْوِلَادَةُ فَهِيَ تُفِيدُ الْقَطْعَ بِأُنُوثَتِهِ، وَتُقَدَّمُ عَلَى جَمِيعِ الْعَلَامَاتِ الْمُعَارِضَةِ لَهَا.

وَأَمَّا الْمَيْلُ، فَإِنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْإِمَارَاتِ السَّابِقَةِ، فَإِنْ مَالَ إِلَى الرِّجَالِ فَامْرَأَةٌ، وَإِنْ مَالَ إِلَى النِّسَاءِ فَرَجُلٌ، وَإِنْ قَالَ أَمِيلُ إِلَيْهِمَا مَيْلًا وَاحِدًا، أَوْ لَا أَمِيلُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَمُشْكِلٌ.

قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَحَيْثُ أُطْلِقَ الْخُنْثَى فِي الْفِقْهِ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُشْكِلُ.

أَحْكَامُ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ:

7- الضَّابِطُ الْعَامُّ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ فِيهِ بِالْأَحْوَطِ وَالْأَوْثَقِ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَلَا يُحْكَمُ بِثُبُوتِ حُكْمٍ وَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِهِ.

وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ بَعْضِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْخُنْثَى.

عَوْرَتُهُ:

8- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ عَوْرَةَ الْخُنْثَى كَعَوْرَةِ الْمَرْأَةِ حَتَّى شَعْرُهَا النَّازِلُ عَنِ الرَّأْسِ خَلَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ، وَلَا يَكْشِفُ الْخُنْثَى لِلِاسْتِنْجَاءِ وَلَا لِلْغُسْلِ عِنْدَ أَحَدٍ أَصْلًا، لِأَنَّهَا إِنْ كَشَفَتْ عِنْدَ رَجُلٍ احْتَمَلَ أَنَّهَا أُنْثَى، وَإِنْ كَشَفَتْ عِنْدَ أُنْثَى، احْتَمَلَ أَنَّهُ ذَكَرٌ.وَأَمَّا ظَهْرُ الْكَفِّ فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهَا عَوْرَةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَالْقَدَمَانِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَصَوْتُهَا عَلَى الرَّاجِحِ، وَذِرَاعَاهَا عَلَى الْمَرْجُوحِ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يَسْتَتِرُ سَتْرَ النِّسَاءِ فِي الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ بِالْأَحْوَطِ، فَيَلْبَسُ مَا تَلْبَسُ الْمَرْأَةُ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَالْخُنْثَى عِنْدَهُمْ كَالرَّجُلِ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ سَتْرَ مَا زَادَ عَلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ مُحْتَمَلٌ، فَلَا يُوجَبُ عَلَيْهِ أَمْرٌ مُحْتَمَلٌ وَمُتَرَدِّدٌ.

نَقْضُ وُضُوئِهِ بِلَمْسِ فَرْجِهِ:

9- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى عَدَمِ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ الْفَرْجِ مُطْلَقًا

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْوُضُوءَ يُنْقَضُ بِلَمْسِ الْخُنْثَى فَرْجَهُ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ فَرْجَيْهِ جَمِيعًا.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ فَصَّلُوا الْكَلَامَ فِيهِ وَقَالُوا: إِنَّ الْخُنْثَى لَوْ لَمَسَ أَحَدَ فَرْجَيْهِ لَمْ يُنْتَقَضْ وُضُوءُهُ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَلْمُوسُ خِلْقَةً زَائِدَةً، وَإِنْ لَمَسَهَا جَمِيعًا فَعَلَى قَوْلِ عَدَمِ نَقْضِ وُضُوءِ الْمَرْأَةِ بِمَسِّ فَرْجِهَا لَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً مَسَّتْ فَرْجَهَا، أَوْ خِلْقَةً زَائِدَةً، وَيُنْقَضُ عَلَى قَوْلِ نَقْضِ وُضُوءِ الْمَرْأَةِ بِمَسِّ فَرْجِهَا، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا فَرْجًا.وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (حَدَثٌ) (وَوُضُوءٌ).

وُجُوبُ الْغُسْلِ عَلَى الْخُنْثَى:

10- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ- إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْغُسْلُ عَلَى الْخُنْثَى بِإِيلَاجٍ بِلَا إِنْزَالٍ لِعَدَمِ تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ الْأَصْلِيَّةِ بِيَقِينٍ.

أَذَانُهُ:

11- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَذَانُ الْخُنْثَى وَأَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ رَجُلًا.وَلِأَنَّهُ إِنْ كَانَ أُنْثَى خَرَجَ الْأَذَانُ عَنْ كَوْنِهِ قُرْبَةً، وَلَمْ يَصِحَّ.

وُقُوفُهُ فِي الصَّفِّ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ:

12- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ رِجَالٌ، وَصِبْيَانٌ، وَخَنَاثَى، وَنِسَاءٌ، فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، تَقَدَّمَ الرِّجَالُ، ثُمَّ الصِّبْيَانُ، ثُمَّ الْخَنَاثَى، ثُمَّ النِّسَاءُ، وَلَوْ كَانَ مَعَ الْإِمَامِ خُنْثَى وَحْدَهُ، فَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْإِمَامَ يَقِفُهُ عَنْ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَجُلًا، فَقَدْ وَقَفَ فِي مَوْقِفِهِ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهَا بِوُقُوفِهَا مَعَ الْإِمَامِ، كَمَا لَا تَبْطُلُ بِوُقُوفِهَا مَعَ الرِّجَالِ.

وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مُحَاذَاتَهُ لِلرَّجُلِ مُفْسِدَةٌ لِلصَّلَاةِ.

إِمَامَتُهُ:

13- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْخُنْثَى لَا تَصِحُّ إِمَامَتُهُ لِرَجُلٍ وَلَا لِمِثْلِهِ، لِاحْتِمَالِ أُنُوثَتِهِ، وَذُكُورَةِ الْمُقْتَدِي، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَتَصِحُّ إِمَامَةُ الْخُنْثَى لَهُنَّ مَعَ الْكَرَاهَةِ أَوْ بِدُونِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، وَإِمَامَتُهَا بِالنِّسَاءِ صَحِيحَةٌ.

وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّتِهَا: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مَا عَدَا ابْنَ عَقِيلٍ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى إِذَا أَمَّ النِّسَاءَ قَامَ أَمَامَهُنَّ لَا وَسَطَهُنَّ، لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ رَجُلًا، فَيُؤَدِّي وُقُوفُهُ وَسَطَهُنَّ إِلَى مُحَاذَاةِ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ.

ثُمَّ يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْخُنْثَى لَوْ صَلَّى وَسَطَهُنَّ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ بِمُحَاذَاتِهِنَّ عَلَى تَقْدِيرِ ذُكُورَتِهِ، وَتَفْسُدُ صَلَاتُهُنَّ عَلَى هَذَا الْأَسَاسِ، وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ التَّقَدُّمَ عَلَيْهِنَّ مُسْتَحَبٌّ، وَمُخَالَفَتُهُ لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ.

وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَقُومُ وَسَطَهُنَّ وَلَا يَتَقَدَّمُهُنَّ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالتَّرَاوِيحِ وَغَيْرِهَا.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ تَصِحُّ فِي التَّرَاوِيحِ إِذَا كَانَ الْخُنْثَى قَارِئًا وَالرِّجَالُ أُمِّيُّونَ وَيَقِفُونَ خَلْفَهُ.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّ الذُّكُورَةَ شَرْطٌ عِنْدَهُمْ فِي صِحَّةِ الْإِمَامَةِ، فَلَا تَجُوزُ إِمَامَةُ الْخُنْثَى وَلَوْ لِمِثْلِهِ فِي نَفْلٍ، وَلَمْ يُوجَدْ رَجُلٌ يُؤْتَمُّ بِهِ.

وَلِأَبِي حَفْصٍ الْبَرْمَكِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْخُنْثَى لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ فِي جَمَاعَةٍ، لِأَنَّهُ إِنْ قَامَ مَعَ الرِّجَالِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، وَإِنْ قَامَ مَعَ النِّسَاءِ أَوْ وَحْدَهُ، أَوِ ائْتَمَّ بِامْرَأَةٍ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا، وَإِنْ أَمَّ الرِّجَالَ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، وَإِنْ أَمَّ النِّسَاءَ فَقَامَ وَسَطَهُنَّ احْتَمَلَ أَنَّهُ رَجُلٌ، إِنْ قَامَ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ احْتَمَلَ أَنَّهُ امْرَأَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَفِي صُورَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ فِي صَفِّ الرِّجَالِ مَأْمُومًا، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا قَامَتْ فِي صَفِّ الرِّجَالِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهَا وَلَا صَلَاةُ مَنْ يَلِيهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

حَجُّهُ وَإِحْرَامُهُ:

14- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى كَالْأُنْثَى فِي شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ، وَفِي لُبْسِ الْمَخِيطِ، وَالْقُرْبِ مِنَ الْبَيْتِ، وَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ، وَالِاضْطِبَاعِ، وَالرَّمَلِ بَيْنَ الْمِيلَيْنِ فِي السَّعْيِ، وَالْوُقُوفِ، وَالتَّقْدِيمِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ، وَلَا يَحُجُّ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ لَا مَعَ جَمَاعَةِ رِجَالٍ فَقَطْ، وَلَا مَعَ نِسَاءٍ فَقَطْ، إِلاَّ أَنْ يَكُونُوا مِنْ مَحَارِمِهِ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْخُنْثَى إِذَا أَحْرَمَ لَمْ يَلْزَمْهُ اجْتِنَابُ الْمَخِيطِ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ إِنْ غَطَّى رَأْسَهُ، لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ امْرَأَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ غَطَّى وَجْهَهُ مِنْ غَيْرِ لُبْسٍ لِلْمَخِيطِ، لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ رَجُلًا، فَإِنْ غَطَّى وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ مَعًا فَدَى، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ أُنْثَى فَقَدْ غَطَّى وَجْهَهُ، وَإِنْ كَانَ رَجُلًا فَقَدْ غَطَّى رَأْسَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَطَّى وَجْهَهُ وَلَبِسَ الْمَخِيطَ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ أُنْثَى فَلِتَغْطِيَةِ وَجْهِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَلِلُبْسِهِ الْمَخِيطَ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَا عِلْمَ لِي فِي لِبَاسِهِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ ذَكَرًا يُكْرَهُ لَهُ لُبْسُ الْمَخِيطِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى يُكْرَهُ لَهُ تَرْكُهُ.وَيُنْظَرُ: «حَجٌّ».

النَّظَرُ وَالْخَلْوَةُ:

15- صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ الْخُنْثَى لَا يَخْلُو بِهِ غَيْرُ مَحْرَمٍ مِنْ رَجُلٍ وَلَا امْرَأَةٍ، وَلَا يُسَافِرُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ مِنَ الرِّجَالِ احْتِيَاطًا، وَتَوَقِّيًا عَنِ احْتِمَالِ الْحَرَامِ، وَكَذَلِكَ لَا يَتَكَشَّفُ الْخُنْثَى الْمُرَاهِقُ لِلنِّسَاءِ، لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ رَجُلًا، وَلَا لِلرِّجَالِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ امْرَأَةً، وَالْمُرَادُ بِالِانْكِشَافِ هُوَ أَنْ يَكُونَ فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ، لَا إِبْدَاءَ مَوْضِعِ الْعَوْرَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِ الْأُنْثَى أَيْضًا.

وَقَالَ الْقَفَّالُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: بِالْجَوَازِ اسْتِصْحَابًا لِحُكْمِ الصِّغَرِ، وَبِهِ قَطَعَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ.

نِكَاحُهُ:

16- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى إِنْ زَوَّجَهُ أَبُوهُ رَجُلًا فَوَصَلَ إِلَيْهِ جَازَ، وَكَذَلِكَ إِنْ زَوَّجَهُ امْرَأَةً فَوَصَلَ إِلَيْهَا، وَإِلاَّ أُجِّلَ كَالْعِنِّينِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ النِّكَاحُ فِي حَقِّهِ مِنَ الْجِهَتَيْنِ، أَيْ لَا يَنْكِحُ وَلَا يُنْكَحُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ يَنْكِحُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، ثُمَّ لَا يُنْقَلُ عَمَّا اخْتَارَهُ، قَالَ الْعُقْبَانِيُّ: وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ: إِذَا اخْتَارَ وَاحِدًا، وَفَعَلَهُ، أَمَّا مُجَرَّدُ الِاخْتِيَارِ دُونَ فِعْلٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَهُ مِنِ اخْتِيَارِ الطَّرَفِ الْآخَرِ.

وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي نِكَاحِهِ: فَذَكَرَ الْخِرَقِيُّ: أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ رَجُلٌ، وَأَنَّهُ يَمِيلُ طَبْعُهُ إِلَى نِكَاحِ النِّسَاءِ، فَلَهُ نِكَاحُهُنَّ، إِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ امْرَأَةٌ يَمِيلُ طَبْعُهَا إِلَى الرِّجَالِ زُوِّجَ رَجُلًا، لِأَنَّهُ مَعْنًى لَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ إِلاَّ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ إِيجَابُ حَقٍّ عَلَى غَيْرِهِ، فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ، كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي حَيْضَتِهَا وَعِدَّتِهَا، وَقَدْ يَعْرِفُ نَفْسَهُ بِمَيْلِ طَبْعِهِ إِلَى أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ وَشَهْوَتِهِ لَهُ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ حَتَّى يَبِينَ أَمْرُهُ.وَأَوْرَدَهُ نَصًّا عَنْ أَحْمَدَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ وُجُودُ مَا يُبِيحُ لَهُ النِّكَاحَ، فَلَمْ يُبَحْ لَهُ كَمَا لَوِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ أُخْتُهُ بِنِسْوَةٍ، وَلِأَنَّهُ قَدِ اشْتَبَهَ الْمُبَاحُ بِالْمَحْظُورِ فِي حَقِّهِ فَحَرُمَ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي «نِكَاحٌ»

رَضَاعُهُ:

17- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِنْ ثَابَ (اجْتَمَعَ) لِخُنْثَى لَبَنٌ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ التَّحْرِيمُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ امْرَأَةً، فَلَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ مَعَ الشَّكِّ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ فِي لَبَنِ الْخُنْثَى، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ كَمَا قَالَ بَعْضُ فُقَهَائِهِمْ: إِنَّهُ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ قِيَاسًا عَلَى مَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ، فَتَيَقُّنُ حُصُولِ لَبَنِهِ بِجَوْفِ رَضِيعٍ كَتَيَقُّنِ الطَّهَارَةِ، وَالشَّكُّ فِي كَوْنِهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى كَالشَّكِّ فِي الْحَدَثِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُوقَفُ الْأَمْرُ حَتَّى يَنْكَشِفَ أَمْرُ الْخُنْثَى، فَإِنْ بَانَ أُنْثَى حَرُمَ، وَإِلاَّ فَلَا، وَلَكِنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ نِكَاحُ مَنِ ارْتَضَعَ بِلَبَنِهِ.

إِقْرَارُ الْخُنْثَى:

18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا يُقَلِّلُ مِيرَاثَهُ أَوْ دِيَتَهُ قُبِلَ مِنْهُ، وَإِنِ ادَّعَى مَا يَزِيدُ ذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِيهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ عِبَادَاتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِيهِ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي سُقُوطِ الْمَهْرِ عَنْهُ.

شَهَادَةُ الْخُنْثَى وَقَضَاؤُهُ:

19- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى كَالْأُنْثَى فِي الشَّهَادَةِ، فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مَعَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ فِي غَيْرِ حَدٍّ وَقَوَدٍ، وَيُعَدُّ فِي شَهَادَتِهِ امْرَأَةً.قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَيُحْكَمُ فِيهِ بِالْأَحْوَطِ، وَسُلُوكُ الْأَحْوَطِ فِي شَهَادَتِهِ أَنْ لَا تُقْبَلَ إِلاَّ فِي الْأَمْوَالِ وَيُعَدُّ فِي شَهَادَتِهِ امْرَأَةً.

وَأَمَّا قَضَاؤُهُ، فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَوْلِيَةُ الْخُنْثَى، وَلَا يَنْفُذُ، لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ ذَكَرًا.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْخُنْثَى كَالْأُنْثَى يَصِحُّ قَضَاؤُهُ فِي غَيْرِ حَدٍّ وَقَوَدٍ بِالْأَوْلَى، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِشُبْهَةِ الْأُنُوثَةِ.

الِاقْتِصَاصُ لِلْخُنْثَى، وَالِاقْتِصَاصُ مِنْهُ:

20- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُقْتَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِالْخُنْثَى، وَيُقْتَلُ بِهِمَا، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى.وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ سَوَاءٌ قَطَعَهَا رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى قَاطِعِ يَدِ الْخُنْثَى وَلَوْ عَمْدًا، وَلَوْ كَانَ الْقَاطِعُ امْرَأَةً، وَلَا تُقْطَعُ يَدُهُ إِذَا قَطَعَ يَدَ غَيْرِهِ عَمْدًا لِاحْتِمَالِ عَدَمِ التَّكَافُؤِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ

دِيَةُ الْخُنْثَى:

21- إِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ خُنْثَى فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِيهِ نِصْفَ دِيَةِ ذَكَرٍ وَنِصْفَ دِيَةِ أُنْثَى، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ احْتِمَالًا وَاحِدًا، وَقَدْ يُئِسَ مِنِ احْتِمَالِ انْكِشَافِ حَالِهِ، فَيَجِبُ التَّوَسُّطُ بَيْنَهُمَا، وَالْعَمَلُ بِكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْوَاجِبَ دِيَةُ أُنْثَى، لِأَنَّهُ الْيَقِينُ، فَلَا يَجِبُ الزَّائِدُ بِالشَّكِّ.

وَأَمَّا دِيَةُ جِرَاحِهِ وَأَطْرَافِهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا نِصْفُ ذَلِكَ مِنَ الرَّجُلِ.

وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ لَدَى الْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ يُسَاوِي الرَّجُلَ فِي الْأَطْرَافِ إِلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ، فَإِذَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ صَارَتْ عَلَى النِّصْفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَى ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ دِيَةِ الذَّكَرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الدِّيَاتِ.

وُجُوبُ الْعَقْلِ (الدِّيَةِ) عَلَى الْخُنْثَى:

22- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، بِأَنَّهُ لَا تَدْخُلُ الْخُنْثَى فِي الْعَاقِلَةِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، ثُمَّ إِنْ بَانَ ذَكَرًا، فَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَغْرَمَ حِصَّتَهُ الَّتِي أَدَّاهَا غَيْرُهُ.

دُخُولُهُ فِي الْقَسَامَةِ:

23- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْخُنْثَى لَا يَدْخُلُ فِي الْقَسَامَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَاقِلَةِ، وَلَا يَثْبُتُ الْقَتْلُ بِشَهَادَتِهِ أَشْبَهَ الْمَرْأَةَ.وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْخُنْثَى يُقْسِمُ، لِأَنَّ سَبَبَ الْقَسَامَةِ وُجِدَ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُسْتَحِقًّا لِلدَّمِ، وَلَمْ يَتَحَقَّقِ الْمَانِعُ مِنْ يَمِينِهِ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يَحْلِفُ الْخُنْثَى الْأَكْثَرَ، وَيَأْخُذُ الْأَقَلَّ لِلشَّكِّ، وَيُوقَفُ الْبَاقِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلَى الْبَيَانِ أَوِ الصُّلْحِ، وَلَا تُعَادُ الْقِسْمَةُ بَعْدَ الْبَيَانِ فَيُعْطَى الْبَاقِي لِمَنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَهُ بِلَا يَمِينٍ.

حَدُّ قَاذِفِهِ:

24- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ كَلَامِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَنْ قَذَفَ الْخُنْثَى بِفِعْلٍ يُحَدُّ بِهِ الْخُنْثَى يَجِبُ فِيهِ حَدُّ الْقَذْفِ، فَإِذَا رَمَاهُ شَخْصٌ بِالزِّنَى بِفَرْجِهِ الذَّكَرِ، أَوْ فِي فَرْجِهِ الَّذِي لِلنِّسَاءِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِذَا زَنَى بِأَحَدِهِمَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُحَدُّ قَاذِفُ الْخُنْثَى، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَجُلًا فَهُوَ كَالْمَجْبُوبِ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَهِيَ كَالرَّتْقَاءِ، وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُمَا، لِأَنَّ الْحَدَّ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ عَنْهُمَا، وَلَكِنْ فِي ذَلِكَ التَّعْزِيرُ.

خِتَانُهُ:

25- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ خِتَانِ الْخُنْثَى عَلَى أَقْوَالٍ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى الصَّغِيرَ الَّذِي لَا يُشْتَهَى يَجُوزُ أَنْ يَخْتِنَهُ الرَّجُلُ أَوِ الْمَرْأَةُ.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالَ بَعْضُ فُقَهَائِهِمْ: لَا يُوجَدُ نَصٌّ فِي ذَلِكَ، وَيَرَى ابْنُ نَاجِي كَمَا نَقَلَهُ الْخَطَّابُ: أَنَّ الْخُنْثَى لَا يُخْتَتَنُ تَطْبِيقًا لِقَاعِدَةِ: تَغْلِيبِ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ.وَمَسَائِلُهُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْخُنْثَى لَا يُخْتَنُ فِي صِغَرِهِ، فَإِذَا بَلَغَ فَوَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَشْهُورُ يَجِبُ خِتَانُ فَرْجَيْهِ.وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْجَرْحَ لَا يَجُوزُ بِالشَّكِّ، فَعَلَى الْأَوَّلِ، إِنْ أَحْسَنَ الْخِتَانَ، خَتَنَ نَفْسَهُ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَوَلاَّهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ لِلضَّرُورَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَخْتِنُ فَرْجَيِ الْخُنْثَى احْتِيَاطًا.

لُبْسُهُ الْفِضَّةَ وَالْحَرِيرَ:

26- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْخُنْثَى فِي الْجُمْلَةِ لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى يُكْرَهُ لَهُ لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالْحُلِيِّ، لِأَنَّهُ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ وَحَالُهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ بَعْدُ، فَيُؤْخَذُ بِالِاحْتِيَاطِ، فَإِنَّ اجْتِنَابَ الْحَرَامِ فَرْضٌ، وَالْإِقْدَامَ عَلَى الْمُبَاحِ مُبَاحٌ، فَيُكْرَهُ حَذَرًا عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ.

غُسْلُهُ وَتَكْفِينُهُ وَدَفْنُهُ:

27- إِذَا مَاتَ الْخُنْثَى فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي غُسْلِهِ عَلَى أَقْوَالٍ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى إِنْ مَاتَ لَمْ يُغَسِّلْهُ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ، لِأَنَّ غَسْلَ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ، وَعَكْسَهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الشَّرْعِ، فَإِنَّ النَّظَرَ إِلَى الْعَوْرَةِ حَرَامٌ، وَالْحُرْمَةُ لَمْ تَزُلْ بِالْمَوْتِ فَيُيَمَّمُ بِالصَّعِيدِ، لِتَعَذُّرِ الْغُسْلِ، وَيُيَمِّمُهُ بِخِرْقَةٍ إِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا، وَيَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنْ ذِرَاعَيْهِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ امْرَأَةً، وَبِغَيْرِ خِرْقَةٍ إِنْ يَمَّمَهُ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ.

وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ الْقَوْلَ فِيهِ: فَقَالُوا: إِذَا مَاتَ الْخُنْثَى وَلَيْسَ هُنَاكَ مَحْرَمٌ لَهُ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ النِّسَاءِ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ حَدًّا يُشْتَهَى مِثْلُهُ جَازَ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ غَسْلُهُ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَوَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: يُيَمَّمُ وَيُدْفَنُ.وَالثَّانِي: يُغَسَّلُ، وَفِيمَنْ يَغْسِلُهُ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا وَبِهِ قَالَ أَبُو زَيْدٍ: يَجُوزُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا غَسْلُهُ لِلضَّرُورَةِ وَاسْتِصْحَابًا بِحُكْمِ الصِّغَرِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ كَالْمَرْأَةِ، وَفِي حَقِّ النِّسَاءِ كَالرَّجُلِ أَخْذًا بِالْأَحْوَطِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْخُنْثَى إِذَا كَانَ لَهُ سَبْعُ سِنِينَ فَأَكْثَرُ يُيَمَّمُ بِحَائِلٍ مِنْ خِرْقَةٍ وَنَحْوِهَا، وَالرَّجُلُ أَوْلَى بِتَيْمِيمِ الْخُنْثَى مِنَ الْمَرْأَةِ.

28- وَيُكَفَّنُ الْخُنْثَى كَمَا تُكَفَّنُ الْجَارِيَةُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ أُنْثَى فَقَدْ أُقِيمَتِ السُّنَّةُ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَقَدْ زَادُوا عَلَى الثَّلَاثِ، وَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ.فَإِنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَلْبَسَ فِي حَيَاتِهِ أَزْيَدَ عَلَى الثَّلَاثَةِ.وَأَمَّا إِذَا كَانَ أُنْثَى كَانَ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الثَّلَاثَةِ تَرْكُ السُّنَّةِ.

وَإِذَا صُلِّيَ عَلَيْهِ، وَعَلَى رَجُلٍ، وَعَلَى امْرَأَةٍ، وُضِعَ الْخُنْثَى بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْحَيَاةِ، لِأَنَّهُ يَقُومُ بَيْنَ صَفِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الصَّلَاةِ.

وَلَوْ دُفِنَ مَعَ رَجُلٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ مِنْ عُذْرٍ جُعِلَ الْخُنْثَى خَلْفَ الرَّجُلِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ، وَيُجْعَلُ بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ مِنْ صَعِيدٍ فَيَصِيرُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ قَبْرَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ امْرَأَةٍ قُدِّمَ الْخُنْثَى، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ.

وَتُسْتَحَبُّ تَسْجِيَةُ قَبْرِهِ عِنْدَ دَفْنِهِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ أُنْثَى أُقِيمَ الْوَاجِبُ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَالتَّسْجِيَةُ لَا تَضُرُّهُ.

إِرْثُهُ:

29- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى يَرِثُ نِصْفَ مِيرَاثِ ذَكَرٍ، وَنِصْفَ مِيرَاثِ أُنْثَى عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَمَكَّةَ، وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ.

وَوَرَّثَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ احْتِيَاطًا، وَيُعْطِيهِ الشَّافِعِيَّةُ الْيَقِينَ، وَيُوقَفُ الْبَاقِي حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ أَوْ يَصْطَلِحُوا، وَلَوْ مَاتَ الْخُنْثَى قَبْلَ اتِّضَاحِهِ لَمْ يَبْقَ إِلاَّ الصُّلْحُ فِي الْقَدْرِ الْمَوْقُوفِ (الْمَحْجُوزِ)، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَابْنُ جَرِيرٍ.

وَفِي كَيْفِيَّةِ إِرْثِهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ «إِرْثٌ»

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


92-موسوعة الفقه الكويتية (خيار الشرط 3)

خِيَارُ الشَّرْطِ -3

الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ:

36- إِذَا كَانَتْ زَوَائِدُ مَحَلِّ الْخِيَارِ مِنْ نَوْعِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الْأَصْلِ، فَفِيهَا يَجْرِي الْخِلَافُ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ.وَهَذَا الْخِلَافُ لَا مَجَالَ لَهُ إِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي إِمْضَاءَ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَمَلَّكُ الْأَصْلَ وَالزَّوَائِدَ اتِّفَاقًا، لِأَنَّهُ بِالْإِمْضَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ الزَّوَائِدَ كَسْبُ مِلْكِهِ فَكَانَتْ مِلْكًا لَهُ، أَمَّا إِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الْفَسْخَ وَإِعَادَةَ مَحَلِّ الْخِيَارِ إِلَى الْبَائِعِ فَهَلْ يُعِيدُ مَعَهَا الزَّوَائِدَ أَمْ لَا؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَرُدُّ الْأَصْلَ مَعَ الزَّوَائِدِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ كَانَ مَوْقُوفًا، فَإِذَا حَصَلَ الْفَسْخُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَالزِّيَادَةُ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَتُرَدُّ إِلَيْهِ مَعَ الْأَصْلِ.وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ: الْمَبِيعُ دَخَلَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَكَانَتِ الزَّوَائِدُ حَاصِلَةً عَلَى مِلْكِهِ، فَيَظْهَرُ أَثَرُ الْفَسْخِ فِي الْأَصْلِ لَا فِي الزَّوَائِدِ لِأَنَّهَا بَقِيَتْ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَيَأْخُذُهَا هُوَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْخِلَافِ الْكَبِيرِ السَّابِقِ.

الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ:

37- ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ الْخِيَارَ يَسْقُطُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ.وَقَدْ عَرَفْنَا أَنَّهُ حَيْثُ يَمْتَنِعُ الرَّدُّ يَتَمَلَّكُ صَاحِبُ الْخِيَارِ الْأَصْلَ وَالزِّيَادَةَ، لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِإِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَنَّهُ الْمَالِكُ لِمَحَلِّ الْخِيَارِ فَيَمْلِكُ زَوَائِدَهُ مَهْمَا كَانَ وَصْفُهَا.وَعِنْدَ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ لَا يَبْطُلُ الْخِيَارُ فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ بَيْنَ الْإِمْضَاءِ وَالْفَسْخِ،.

وَيَكُونُ مَصِيرُ هَذِهِ الصُّورَةِ مُمَاثِلًا لِلصُّورَةِ السَّابِقَةِ (صُورَةِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ) حَيْثُ يَظَلُّ صَاحِبُ الْخِيَارِ مُتَمَكِّنًا مِنَ اسْتِعْمَالِ خِيَارِهِ.

أَحْكَامُ الزَّوَائِدِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ:

لِلْمَالِكِيَّةِ مَنْحًى آخَرُ فِي شَأْنِ الزَّوَائِدِ، فَهُمْ لَمْ يَنْظُرُوا إِلَى الِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ، كَمَا لَمْ يَعْتَبِرُوا التَّوَلُّدَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلْ خَصُّوا مَا يُعْتَبَرُ جُزْءًا بَاقِيًا مِنَ الْمَبِيعِ فَاعْتَبَرُوهُ لَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ فِي الْعَقْدِ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِالْوَلَدِ وَالصُّوفِ، فَالْوَلَدُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَلَّةٍ- وَمِثْلُهُ الصُّوفُ- تَمَّ أَمْ لَا «لِأَنَّهُمَا كَجُزْءِ الْمَبِيعِ، أَيْ أَنَّ الْوَلَدَ كَالْجُزْءِ الْبَاقِي، بِخِلَافِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ كَجُزْءٍ فَاتَ وَهُوَ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ» يَكُونُ مَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي، وَمَا عَدَاهُ فَهُوَ لِلْبَائِعِ، لِأَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْأَصْلِ- زَمَنَ الْخِيَارِ- يَظَلُّ لِلْبَائِعِ حَتَّى يَسْتَعْمِلَ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ.وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ الزَّوَائِدُ كُلُّهَا- عَدَا الْوَلَدِ وَالصُّوفِ- لِلْبَائِعِ.

وَمِنْ ذَلِكَ:

1- الْغَلَّةُ الْحَادِثَةُ زَمَنَ الْخِيَ

"رِ مِنْ لَبَنٍ وَسَمْنٍ وَبَيْضٍ، لِلْبَائِعِ أَيْضًا.

2- أَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَبِيعِ بِالْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَيْضًا.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَتْ زَوَائِدُ مُنْفَصِلَةٌ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، كَاللَّبَنِ وَالْبَيْضِ وَالثَّمَرِ، فَهِيَ لِمَنْ لَهُ الْمِلْكُ وَهُوَ مَنِ انْفَرَدَ بِالْخِيَارِ، فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ كَحُكْمِ الْبَيْعِ نَفْسِهِ، فَإِنْ فُسِخَ الْبَيْعُ فَهِيَ لِلْبَائِعِ وَإِلاَّ فَلِلْمُشْتَرِي.أَمَّا الزَّوَائِدُ الْمُتَّصِلَةُ فَتَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ.

وَالْحَمْلُ الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْبَيْعِ كَالْأَصْلِ فِي أَنَّهُ مَبِيعٌ لِمُقَابَلَتِهِ بِقِسْطٍ مِنَ الثَّمَنِ، كَمَا لَوْ بِيعَ مَعَهُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ لَا كَالزَّوَائِدِ.أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَالزَّوَائِدُ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا، وَيَشْتَمِلُ ذَلِكَ عَلَى الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ كَالْكَسْبِ وَالْأُجْرَةِ بَلْ لَوْ كَانَتْ نَمَاءً مُنْفَصِلًا مُتَوَلِّدًا مِنْ عَيْنِ الْمَبِيعِ كَالثَّمَرَةِ وَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ (وَفِي هَذِهِ الْحَالِ تُعْتَبَرُ الزَّوَائِدُ أَمَانَةً عِنْدَ الْبَائِعِ فَلَا يَضْمَنُهَا لِلْمُشْتَرِي إِنْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَعَدٍّ وَلَا تَفْرِيطٍ خِلَافًا لِحُكْمِ الْمَبِيعِ نَفْسِهِ فَهُوَ مَضْمُونٌ قَبْلَ قَبْضِهِ) وَسَوَاءٌ تَمَخَّضَ الْخِيَارُ عَنْ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ قُدَامَةَ لِلْمَذْهَبِ بِحَدِيثِ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ».وَهَذَا مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَاسْتَدَلَّ لَهُ أَيْضًا بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ إِلَى الْمُشْتَرِي، أَيْ فَهِيَ تَتْبَعُهُ فِي الِانْتِقَالِ.

رَابِعًا: أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلَيْنِ

38- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُ الْبَدَلَيْنِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فِي حَالِ الْإِطْلَاقِ وَعَدَمِ اشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ، فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ ابْتِدَاءً، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي تَسْلِيمُ الثَّمَنِ ابْتِدَاءً لِاحْتِمَالِ الْفَسْخِ مَا لَمْ تَمْضِ مُدَّةُ الْخِيَارِ، أَوْ يُسْقِطُ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ.

أَمَّا التَّسْلِيمُ لِلثَّمَنِ أَوِ الْمَبِيعِ اخْتِيَارًا وَطَوَاعِيَةً فَلَا مَانِعَ مِنْهُ عِنْدَهُمْ أَيْ لَا يَبْطُلُ الْخِيَارُ فَإِذَا بَادَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا إِلَى تَسْلِيمِ مَا بِيَدِهِ- فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ- فَهُوَ جَائِزٌ، لِأَيٍّ مِنْهُمَا كَانَ الْخِيَارُ، وَلَا أَثَرَ لِلتَّسْلِيمِ عَلَى الْخِيَارِ فَنَقْدُ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ أَوْ دَفْعُ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي لَا يُبْطِلُ الْخِيَارَ شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ تَسْلِيمُ الْبَائِعِ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهِ الِاخْتِبَارِ وَالنَّظَرِ فِي صُلُوحِهِ أَوْ عَدَمِهِ، أَمَّا إِنْ سَلَّمَهُ الْمَبِيعَ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ- وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ- فَإِنَّ خِيَارَهُ يَبْطُلُ،.

وَإِذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمَا تَطَوُّعًا فَامْتَنَعَ الْآخَرُ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، فَأَبُو حَنِيفَةَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ الْآخَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ أَيًّا كَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ وَلَهُ اسْتِرْدَادُهُ.وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ إِجْبَارِ الْآخَرِ أَيْضًا وَهُمْ يَقُولُونَ: بِأَنَّ لِمَنْ سَلَّمَ مُؤَمِّلًا التَّسْلِيمَ مِنْ صَاحِبِهِ فَلَمْ يَحْدُثْ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ.

سُقُوطُ الْخِيَارِ:

39- يَسْقُطُ الْخِيَارُ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ بِعَدَدٍ مِنَ الْأَسْبَابِ هِيَ: الْبُلُوغُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ الَّذِي عَقَدَ عَنْهُ وَلِيُّهُ أَوْ وَصِيُّهُ، وَالْجُنُونُ وَنَحْوُهُ، وَمَوْتُ صَاحِبِ الْخِيَارِ عَلَى خِلَافٍ فِي هَذَا السَّبَبِ الْأَخِيرِ:

أ- بُلُوغُ الصَّبِيِّ مُسْتَحِقِّ الْخِيَارِ:

40- يَرَى الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ دُخُولَ الصَّغِيرِ صَاحِبِ الْخِيَارِ فِي طَوْرِ الْبُلُوغِ، فِي مُدَّةِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْخِيَارَاتِ الْمُحَدَّدَةِ بِوَقْتٍ يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ لِلْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ سَعْيًا مِنْهُمَا لِمَصْلَحَةِ الصَّبِيِّ، وَيَلْزَمُ بِهِ الْعَقْدُ.أَمَّا الْإِمَامُ مُحَمَّدٌ، فَقَدْ جَزَمَ بِأَنَّ الْخِيَارَ لَا يَسْقُطُ، ثُمَّ تَعَدَّدَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ فِي مَصِيرِ الْخِيَارِ بَعْدَئِذٍ هَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى الصَّغِيرِ فِي الْمُدَّةِ أَوْ بِدُونِ تَحْدِيدِ مُدَّةٍ، أَوْ يَبْقَى لِلْوَصِيِّ أَوِ الْوَلِيِّ؟

وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ كَلَامًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

ب- طُرُوءُ الْجُنُونِ وَنَحْوِهِ:

41- قَدْ يَطْرَأُ الْجُنُونُ عَلَى الْعَاقِدِ صَاحِبِ الْخِيَارِ، وَمِثْلُهُ (مَا هُوَ فِي حُكْمِهِ مِنْ حَيْثُ ذَهَابُ الْعَقْلِ وَعَجْزُ الْإِنْسَانِ عَنْ إِظْهَارِ مَوْقِفِهِ، كَالْإِغْمَاءِ وَالنَّوْمِ أَوِ السَّكْتَةِ) فَإِذَا بَقِيَ ذَلِكَ حَتَّى اسْتَغْرَقَ وَقْتَ الْخِيَارِ مِنْ حَالَةِ تَوْقِيتِهِ سَقَطَ الْخِيَارُ.لَكِنَّ سُقُوطَهُ لَيْسَ لِكَوْنِ الْجُنُونِ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْخِيَارِ، بَلْ لِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ دُونَ صُدُورِ فَسْخٍ مِنْهُ، فَالْجُنُونُ نَفْسُهُ لَيْسَ مُسْقِطًا بَلِ اسْتِغْرَاقُ الْوَقْتِ كُلِّهِ دُونَ فَسْخٍ، وَلِذَا لَوْ أَفَاقَ خِلَالَ الْمُدَّةِ كَانَ عَلَى خِيَارِهِ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا فِي الْأَصَحِّ لَدَى الْحَنَفِيَّةِ.قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْإِغْمَاءَ وَالْجُنُونَ لَا يُسْقِطَانِ الْخِيَارَ وَإِنَّمَا الْمُسْقِطُ لَهُ مُضِيُّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ.وَاخْتُلِفَ فِي السُّكْرِ هَلْ هُوَ فِي حُكْمِ الْجُنُونِ أَمْ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ بِالْبَنْجِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْوَسَائِلِ الْمُسْتَخْدَمَةِ فِي الطِّبِّ، وَبَيْنَ السُّكْرِ بِالْمُحَرَّمِ.وَيُنْظَرُ فِي الْمُطَوَّلَاتِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ جُنَّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ وَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَفِيقُ أَوْ يَفِيقُ بَعْدَ طُولٍ يَضُرُّ الصَّبْرُ إِلَيْهِ بِالْآخَرِ، نَظَرَ السُّلْطَانُ فِي الْأَصْلَحِ لَهُ، أَيْ لَا يَسْقُطُ الْخِيَارُ.وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي انْتِقَالِ الْخِيَارِ.

ج- تَغَيُّرُ مَحَلِّ الْخِيَارِ:

42- إِذَا كَانَ تَغَيُّرُ مَحَلِّ الْخِيَارِ بِالْهَلَاكِ وَالتَّعَيُّبِ أَوِ النُّقْصَانِ، فَإِنَّ الْخِيَارَ يَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أُسْوَةً بِالْعَقْدِ الْبَاتِّ، فَهَذَا أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْهُ لِوُجُودِ شَرْطِ الْخِيَارِ.أَمَّا إِنْ كَانَ الْهَلَاكُ بَعْدَ الْقَبْضِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْمَذَاهِبُ، فَهُوَ مُسْقِطٌ لِلْخِيَارِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مُطْلَقًا.وَهُوَ بِمَثَابَةِ الْفَسْخِ لِلْعَقْدِ وَسُقُوطِ الْخِيَارِ تَبَعًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَيَرْبِطُونَهُ بِمَسْأَلَةِ انْتِقَالِ الْمِلْكِ، فَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَفْتَرِقُ بَيْنَ كَوْنِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ أَوْ لَهُ وَلِلْمُشْتَرِي- فَالْمِلْكُ لِلْبَائِعِ- فَإِذَا هَلَكَ لَمْ تُمْكِنُ الْمُبَادَلَةُ عَلَيْهِ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَيَبْطُلُ الْخِيَارُ.أَمَّا إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَالْهَلَاكُ فِي عِدَادِ مُسْقِطَاتِ الْخِيَارِ الَّتِي يَلْزَمُ بِهَا الْعَقْدُ لِأَنَّهُ عَجْزٌ عَنِ التَّصَرُّفِ بِحُكْمِ الْخِيَارِ حِينَ أَشْرَفَتِ السِّلْعَةُ عَلَى الْهَلَاكِ.وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْبَائِعِ وَتَعَذَّرَ نَقْلُهُ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لَهُمَا مَعًا، فَلَا أَثَرَ لِلْهَلَاكِ عَلَى الْعَقْدِ أَوِ الْخِيَارِ إِنَّمَا تَتَأَثَّرُ تَصْفِيَةُ هَذَا الْعَقْدِ، فَإِنِ اخْتَارَ صَاحِبُ الْخِيَارِ الْإِمْضَاءَ فَالْوَاجِبُ هُوَ الثَّمَنُ وَإِنِ اخْتَارَ الْفَسْخَ فَالْوَاجِبُ رَدُّ الْمِثْلِ أَوِ الْقِيمَةِ بَدَلًا مِنَ الْمَبِيعِ. وَمِثْلُ الْهَلَاكِ النُّقْصَانُ بِالتَّعَيُّبِ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ أَوْ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ مَهْمَا كَانَ قَدْرُهُ أَوْ فَاعِلُهُ، لِإِخْلَالِ النُّقْصَانِ بِشَرْطِ رَدِّ الْمَبِيعِ كَمَا قُبِضَ.أَمَّا لَوْ كَانَ يُرْجَى زَوَالُهُ كَالْمَرَضِ فَالْخِيَارُ بَاقٍ وَلَا يُرَدُّ حَتَّى يَبْرَأَ فِي الْمُدَّةِ فَإِنْ مَضَتْ وَلَمْ يَبْرَأْ لَزِمَ الْبَيْعُ.

43- وَإِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ بِالزِّيَادَةِ: إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا لَا أَثَرَ لَهَا فِي سُقُوطِ الْخِيَارِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَلَا أَثَرَ لَهَا أَيْضًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَهْمَا كَانَ نَوْعُهَا وَكَذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ، أَوِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ، أَمَّا الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنَ الْأَصْلِ فَإِنَّهَا تُسْقِطُ الْخِيَارَ لِتَعَذُّرِ وُرُودِ الْفَسْخِ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا غَيْرُ مَبِيعٍ، فَالرَّدُّ بِدُونِهَا مُؤَدٍّ لِشُبْهَةِ الرِّبَا، وَإِنْ رَدَّهَا مَعَ الْأَصْلِ كَانَ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ.

د- إِمْضَاءُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ

44- إِذَا تَعَاقَدَ شَرِيكَانِ مَعَ آخَرَ عَلَى أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ فَأَجَازَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ سَقَطَ الْخِيَارُ بِالنِّسْبَةِ لَهُمَا جَمِيعًا وَلَزِمَ الْعَقْدُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ الشَّرِيكُ الْآخَرُ الْفَسْخَ، أَمَّا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ فَالْخِيَارُ لَا يَسْقُطُ عَمَّنْ لَمْ يُجِزِ الْعَقْدَ بَلْ يَبْقَى خِيَارُهُ عَلَى حَالِهِ.

وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ كَلَامًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

هـ- مَوْتُ صَاحِبِ الْخِيَارِ

45- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى سُقُوطِ الْخِيَارِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَمْ لِلْمُشْتَرِي، وَسَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ أَصِيلًا أَمْ نَائِبًا (وَكِيلًا، أَوْ وَصِيًّا، أَوْ وَلِيًّا) فَبِمَوْتِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ يَسْقُطُ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى بَقَاءِ الْخِيَارِ لِلْوَرَثَةِ، فَمَوْتُ صَاحِبِ الْخِيَارِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ لَيْسَ مُسْقِطًا، بَلْ هُوَ نَاقِلٌ فَقَطْ.

أَمَّا وَفَاةُ مَنْ عَلَيْهِ الْخِيَارُ فَلَا يَسْقُطُ بِهَا الْخِيَارُ، بَلْ يَبْقَى الْخِيَارُ لِصَاحِبِهِ وَيَكُونُ رَدُّهُ إِنْ شَاءَ الرَّدَّ فِي مُوَاجِهَةِ الْوَرَثَةِ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَأَجْمَعُوا (أَيِ الْحَنَفِيَّةُ) أَنَّهُ إِذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْخِيَارُ فَإِنَّ الْخِيَارَ بَاقٍ.

انْتِهَاءُ الْخِيَارِ:

46- يَنْتَهِي خِيَارُ الشَّرْطِ بِأَحَدِ سَبَبَيْنِ: الْأَوَّلُ: إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِإِجَازَتِهِ أَوْ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ دُونَ فَسْخٍ،

وَالثَّانِي: فَسْخُ الْعَقْدِ.

السَّبَبُ الْأَوَّلُ: إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ أَوْ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ دُونَ فَسْخٍ:

47- يَنْتَهِي الْخِيَارُ بِإِمْضَاءِ الْعَقْدِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ إِمَّا بِإِجَازَتِهِ، وَإِمَّا بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ.

إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ:

48- إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ يُنْهِي الْخِيَارَ بِالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَقْدِ اللُّزُومُ وَالِامْتِنَاعُ يُعَارِضُ الْخِيَارَ وَقَدْ بَطَلَ بِالْإِجَازَةِ فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ.

أَنْوَاعُ الْإِجَازَةِ:

49- قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْإِجَازَةَ إِلَى نَوْعَيْنِ: صَرِيحٍ أَوْ شِبْهِ الصَّرِيحِ، وَدَلَالَةٍ.

فَالصَّرِيحُ، بِالنِّسْبَةِ لِلْبَائِعِ، أَنْ يَقُولَ: أَجَزْتُ الْعَقْدَ- أَوِ الْبَيْعَ مَثَلًا- أَوْ أَمْضَيْتُهُ أَوْ أَوْجَبْتُهُ، أَوْ أَلْزَمْتُهُ، أَوْ رَضِيتُهُ، أَوْ أَسْقَطْتُ الْخِيَارَ، أَوْ أَبْطَلْتُهُ.وَشِبْهُ الصَّرِيحِ مَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَعَلِمَ الْمُشْتَرِي الْإِجَازَةَ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ.وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ صَاحِبَ الْخِيَارِ لَوْ قَالَ: هَوِيتُ أَخْذَهُ، أَوْ أَحْبَبْتُ، أَوْ أَعْجَبَنِي، أَوْ وَافَقَنِي لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ.

أَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَتَصَرَّفَ صَاحِبُ الْخِيَارِ فِي مَحَلِّ الْخِيَارِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ، كَالْبَيْعِ، وَالْمُسَاوَمَةِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْهِبَةِ، وَالرَّهْنِ، سَلَّمَ أَوْ لَمْ يُسَلِّمْ.لِأَنَّ جَوَازَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ، فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهَا يَكُونُ دَلِيلَ قَصْدِ التَّمَلُّكِ، أَوْ تَقَرُّرِ الْمِلْكِ- عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ- وَذَلِكَ دَلِيلُ الْإِمْضَاءِ.هَذَا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَإِذَا كَانَ لِلْبَائِعِ فَالدَّلَالَةُ عَلَى الْإِمْضَاءِ فِي حَقِّهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ قَبْضِهِ بِالْبَيْعِ أَوْ نَحْوِهِ، إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.

هَذَا وَلَا يُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْمَحَلِّ لِلْإِجَازَةِ، ذَلِكَ أَنَّهُ فِي الْإِجَازَةِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ، وَلَيْسَ الْإِنْشَاءِ، فَبِالْإِجَازَةِ يَظْهَرُ أَنَّ الْعَقْدَ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ انْعَقَدَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، وَالْمَحَلُّ كَانَ قَابِلًا وَقْتَ الْعَقْدِ فَهَلَاكُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْإِجَازَةَ.

كَمَا لَا يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْعَاقِدِ الْآخَرِ بِالْإِجَازَةِ.فَلَوْ أَجَازَ الْعَقْدَ فَإِنَّهُ لَازِمٌ مُنْذُ الْإِجَازَةِ سَوَاءٌ أَبْلَغَ الْعَاقِدُ الْآخَرَ ذَلِكَ أَمْ لَا.

وَنَحْوُ هَذَا التَّقْسِيمِ جَاءَ فِي الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى.

إِنْهَاءُ الْخِيَارِ بِعِوَضٍ:

50- جَاءَ فِي فَتَاوَى قَاضِيخَانْ أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ صَاحِبَ الْخِيَارِ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ، أَوْ عَلَى عَرَضٍ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنْ يُسْقِطَ الْخِيَارَ وَيُمْضِيَ الْبَيْعَ جَازَ ذَلِكَ وَيَكُونُ زِيَادَةً فِي الثَّمَنِ.وَكَذَا لَوْ كَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ هُوَ الْمُشْتَرِي فَصَالَحَهُ الْبَائِعُ عَلَى أَنْ يُسْقِطَ الْخِيَارَ فَيَحُطَّ عَنْهُ مِنَ الثَّمَنِ كَذَا أَوْ يَزِيدَهُ هَذَا الْعَرَضَ بِعَيْنِهِ فِي الْبَيْعِ جَازَ ذَلِكَ أَيْضًا.

ثَانِيًا- انْتِهَاءُ الْخِيَارِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ:

51- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ- فِي الْجُمْلَةِ- عَلَى أَنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ يَنْتَهِي بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ، ذَلِكَ لِأَنَّهُ خِيَارٌ مُؤَقَّتٌ بِمُدَّةٍ (سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِتَحْدِيدِ الْعَاقِدِ، أَمْ بِتَقْدِيرِ الشَّارِعِ فِي حَالِ الْإِطْلَاقِ)، فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ الَّتِي وُقِّتَ بِهَا الْخِيَارُ فَمِنَ الْبَدَهِيِّ أَنْ يَنْتَهِيَ بِمُضِيِّهَا «لِأَنَّ الْمُؤَقَّتَ إِلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ».وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ مَنَعَ مِنْ لُزُومِ الْعَقْدِ تِلْكَ الْمُدَّةَ- وَالْأَصْلُ هُوَ اللُّزُومُ- فَبِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ يَثْبُتُ مُوجِبُ الْعَقْدِ، وَتَرْكُ صَاحِبِ الْخِيَارِ الْفَسْخَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ رِضًا مِنْهُ بِالْعَقْدِ.

عَلَى ذَلِكَ تَوَارَدَتْ نُصُوصُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، خِلَافًا لِلْقَاضِي أَبِي يَعْلَى مِنْهُمْ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ قَائِلُونَ بِأَنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ يُنْهِي الْخِيَارَ، غَيْرَ أَنَّ لَهُمُ اتِّجَاهًا خَاصًّا فِيمَا يُنْتَجُ عَنْ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَإِذَا كَانَ الْحَالُ عِنْدَ غَيْرِهِمُ اعْتِبَارَهُ إِمْضَاءً لِلْعَقْدِ مِنْ صَاحِبِ الْخِيَارِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ انْتِهَاءٌ لِلْخِيَارِ وَلَيْسَ إِمْضَاءً لِلْعَقْدِ إِلاَّ حَيْثُ تَنْقَضِي الْمُدَّةُ، وَالْمَبِيعُ بِيَدِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، فَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي (مَثَلًا) كَانَ تَرْكُ الْمَبِيعِ فِي يَدِهِ بِمَثَابَةِ الْإِمْضَاءِ وَلُزُومِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَانْقَضَى الْأَمَدُ- وَالْمَبِيعُ فِي يَدِهِ- فَذَلِكَ بِمَثَابَةِ الْفَسْخِ مِنَ الْبَائِعِ.هَذَا مِنْ حَيْثُ أَدَاؤُهُ إِلَى إِمْضَاءِ الْعَقْدِ.أَمَّا اعْتِبَارُ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَسْخًا أَوْ إِجَازَةً فَيُنْظَرُ إِلَى مَنْ يَنْقَضِي زَمَنُ الْخِيَارِ وَالْمَبِيعُ بِيَدِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبَ الْخِيَارِ أَمْ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ بِيَدِ الْبَائِعِ آنَئِذٍ فَهُوَ فَسْخٌ، وَإِنْ كَانَ بِيَدِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ إِمْضَاءٌ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: يَلْزَمُ الْمَبِيعُ بِالْخِيَارِ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ مِنْهُمَا كَانَ صَاحِبَ الْخِيَارِ أَوْ غَيْرَهُ بِانْقِضَاءِ زَمَنِ الْخِيَارِ وَمَا أُلْحِقَ بِهِ وَهُوَ الْيَوْمُ وَالْيَوْمَانِ.وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلَاتٌ تُنْظَرُ فِي كُتُبِهِمْ.

السَّبَبُ الثَّانِي: انْتِهَاءُ الْخِيَارِ بِفَسْخِ الْعَقْدِ

52- يَنْقَسِمُ الْفَسْخُ إِلَى صَرِيحٍ وَدَلَالَةٍ، أَوْ بِنَظْرَةٍ أُخْرَى إِلَى فَسْخٍ قَوْلِيٍّ، وَفَسْخٍ فِعْلِيٍّ، فَالْفَسْخُ الْقَوْلِيُّ أَوِ الصَّرِيحُ يَقَعُ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: فَسَخْتُ الْبَيْعَ، أَوِ اسْتَرْجَعْتُ الْمَبِيعَ، أَوْ رَدَدْتُهُ، أَوْ رَدَدْتُ الثَّمَنَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَكُلُّ هَذَا فَسْخٌ صَرِيحٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْبَائِعِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ: لَا أَبِيعُ حَتَّى تَزِيدَ فِي الثَّمَنِ، مَعَ قَوْلِ الْمُشْتَرِي لَا أَفْعَلُ، وَكَذَلِكَ مِنْهُ عَكْسُ هَذِهِ الصُّورَةِ بِأَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي: لَا أَشْتَرِي حَتَّى يُنْقِصَ عَنِّي مِنَ الثَّمَنِ، عَلَى قَوْلِ الْبَائِعِ لَا أَفْعَلُ.وَكَذَا مِنْهُ طَلَبُ الْبَائِعِ حُلُولَ الثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ، وَطَلَبُ الْمُشْتَرِي تَأْجِيلَ الثَّمَنِ الْحَالِّ فَكُلُّ هَذَا فَسْخٌ.

وَصُورَةُ الْفَسْخِ دَلَالَةً- وَيُسَمَّى الْفَسْخَ الْفِعْلِيَّ- (أَوِ الْفَسْخَ بِالْفِعْلِ كَمَا سَمَّاهُ ابْنُ الْهُمَامِ): أَنْ يَتَصَرَّفَ صَاحِبُ الْخِيَارِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي الْمَبِيعِ.هَذَا إِذَا كَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ هُوَ الْبَائِعُ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُشْتَرِي فَبِأَنْ يَتَصَرَّفَ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي الثَّمَنِ، شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ عَيْنًا.أَمَّا إِنْ كَانَ دَيْنًا فَلَا يُتَصَوَّرُ الْفَسْخُ دَلَالَةً فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَلِذَلِكَ أَغْفَلَهُ ابْنُ الْهُمَامِ مُقْتَصِرًا عَلَى تَصْوِيرِهِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُ لَوْ تَصَرَّفَ الْبَائِعُ فِي الثَّمَنِ- وَهُوَ دَيْنٌ- يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ الْخَاصِّ لَا فِي الثَّمَنِ «لِأَنَّ الْأَثْمَانَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ».

وَالسَّبَبُ فِي الِاعْتِدَادِ بِالتَّصَرُّفِ كَالْمُلاَّكِ فِي إِسْقَاطِ الْخِيَارِ أَنَّ الْخِيَارَ إِذَا كَانَ لِلْبَائِعِ فَتَصَرُّفُهُ فِي الْمَبِيعِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ دَلِيلُ اسْتِبْقَاءِ مِلْكِهِ فِيهِ.إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَتَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي الثَّمَنِ إِذَا كَانَ عَيْنًا دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى اسْتِبْقَاءِ مِلْكِهِ فِيهِ.وَاسْتِبْقَاءُ مِلْكِ كُلٍّ مِنْهُمَا لَا يَكُونُ إِلاَّ بِالْفَسْخِ، فَالْإِقْدَامُ عَلَى التَّصَرُّفِ الْمَذْكُورِ يَكُونُ فَسْخًا لِلْعَقْدِ دَلَالَةً، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ، وَمِنْ قَبْلِهِ الْكَاسَانِيُّ: «وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا وُجِدَ مِنَ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ لَوْ وُجِدَ مِنْهُ فِي الثَّمَنِ لَكَانَ إِجَازَةً لِلْبَيْعِ: يَكُونُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ دَلَالَةً». وَالْفَسْخُ دَلَالَةً مُتَّفَقٌ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْآخَرِ بِهِ، أَمَّا فِي الْفَسْخِ الصَّرِيحِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ.

ثُمَّ إِنَّ لِلْفَسْخِ دَلَالَةً بَعْدَ هَذَا الضَّابِطِ تَفَارِيعَ مِنْهَا:

- أَكْلُ الْمَبِيعِ وَشُرْبُهُ وَلُبْسُهُ، يُسْقِطُ الْخِيَارَ.وَفِي فَتَاوَى قَاضِيخَانْ: إِذَا لَبِسَهُ مَرَّةً لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ.

- النَّسْخُ مِنَ الْكِتَابِ، لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، لَا يُسْقِطُ الْخِيَارَ، وَلَوْ دَرَسَ فِيهِ يَسْقُطُ.

- رُكُوبُ الدَّابَّةِ لِيَسْقِيَهَا، أَوْ يَرُدَّهَا، وَيَعْلِفَهَا، إِجَازَةٌ.وَقِيلَ: إِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِدُونِ الرُّكُوبِ لَا يَكُونُ إِجَازَةً.وَأَطْلَقَ قَاضِيخَانْ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ فَقَالَ: وَرُكُوبُهَا لِيَسْقِيَهَا أَوْ يَرُدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ لَا يُبْطِلُ خِيَارَهُ اسْتِحْسَانًا، فَجَعَلَهُ مِنَ الِاسْتِحْسَانِ.

- بَيْعُ مَحَلِّ الْخِيَارِ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ هِبَتُهُ أَوْ رَهْنُهُ- مَعَ التَّسْلِيمِ- مُسْقِطٌ لِلْخِيَارِ، أَمَّا لَوْ وَهَبَهُ أَوْ رَهَنَهُ وَلَمْ يُسَلِّمْ لَا يَنْفَسِخُ.

- إِيجَارُ مَحَلِّ الْخِيَارِ فَسْخٌ وَلَوْ لَمْ يُسَلِّمْ، وَقِيلَ: لَيْسَ فَسْخًا مَا لَمْ يُسَلِّمْ.

- تَسْلِيمُ مَحَلِّ الْخِيَارِ إِلَى الْمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَفَرَّقَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْفَضْلِ بَيْنَ التَّسْلِيمِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِيَارِ فَلَا يُبْطِلُ خِيَارَهُ وَلَا يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي، وَالتَّسْلِيمُ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ فَيَبْطُلُ خِيَارُهُ.

قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: وَكَذَا كُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يَحِلُّ إِلاَّ فِي الْمِلْكِ، وَكَذَا كُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يَنْفُذُ إِلاَّ فِي الْمِلْكِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ.

شَرَائِطُ الْفَسْخِ:

53- يُشْتَرَطُ لِاعْتِبَارِ الْفَسْخِ نَافِذًا الشَّرَائِطُ التَّالِيَةُ:

1- قِيَامُ الْخِيَارِ، لِأَنَّ الْخِيَارَ إِذَا زَالَ، بِالسُّقُوطِ مَثَلًا، يَلْزَمُ الْعَقْدُ، فَلَا أَثَرَ لِلْفَسْخِ حِينَئِذٍ.

2- عِلْمُ الْعَاقِدِ الْآخَرِ بِالْفَسْخِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْمَرَاجِعِ الْفِقْهِيَّةِ بِعِبَارَةِ الْفَسْخِ بِحَضْرَةِ الْعَاقِدِ، وَعَكْسُهُ الْفَسْخُ فِي غَيْبَتِهِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْحَضْرَةِ، الْعِلْمُ لَا الْحُضُورُ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَإِنْ جَرَى الْفَسْخُ مِنْ صَاحِبِ الْخِيَارِ دُونَ عِلْمِ الْعَاقِدِ الْآخَرِ فَالْفَسْخُ مَوْقُوفٌ: إِنْ عَلِمَ بِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ نَفَذَ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ حَتَّى مَضَتِ الْمُدَّةُ لَزِمَ الْعَقْدُ لِعَدَمِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ الْفَسْخِ.وَفِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ- حَيْثُ يُعْتَبَرُ مَوْقُوفًا- لَوْ عَادَ الْعَاقِدُ عَنْ فَسْخِهِ فَأَمْضَى الْعَقْدَ قَبْلَ عِلْمِ الْآخَرِ فَذَلِكَ مِنْهُ مُعْتَبَرٌ فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ وَيَبْطُلُ فَسْخُهُ السَّابِقُ.

أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ نُقِلَتْ عَنْهُ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ مِثْلُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ، وَقَوْلٌ آخَرُ لَهُ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الْآخَرِ، وَقَوْلٌ ثَالِثٌ بِالنَّظَرِ إِلَى صَاحِبِ الْخِيَارِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْبَائِعُ فَلَا يُشْتَرَطُ بَلْ يَقْتَصِرُ اشْتِرَاطُ الْعِلْمِ فِي خِيَارِ الْمُشْتَرِي لَكِنَّ الْقَوْلَ الْمَشْهُورَ عَنْهُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الْآخَرِ بِالْفَسْخِ وَرَجَّحَ ابْنُ الْهُمَامِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا، وَبَيَّنَ أَنَّ الْفَسْخَ بِالْقَوْلِ هُوَ الَّذِي وَقَعَ الْخِلَافُ فِي جَوَازِهِ بِغَيْرِ عِلْمِ الْآخَرِ، وَأَمَّا الْفَسْخُ بِالْفِعْلِ فَيَجُوزُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ اتِّفَاقًا بَيْنَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ.

وَعَدَمُ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الْآخَرِ بِالْفَسْخِ هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالرِّوَايَاتُ السَّابِقَةُ لِبَعْضِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، عَلَى مَا ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْفَاسِخَ مِنْهَا مُسَلَّطٌ عَلَى الْفَسْخِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ الَّذِي لَا خِيَارَ لَهُ فَلَا يَتَوَقَّفُ فَسْخُهُ عَلَى عِلْمِهِ، فَهُوَ كَبَيْعِ الْوَكِيلِ مَعَ عَدَمِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ وَهُوَ جَائِزٌ، فَلَا يُشْتَرَطُ الرِّضَا هُنَا وَلَا هُنَاكَ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ، مِنْهَا: أَنَّ الْفَسْخَ كَالْإِجَازَةِ فِي هَذَا، لِأَنَّهُمَا شَقِيقَانِ كِلَاهُمَا لِاسْتِعْمَالِ الْخِيَارِ فَهُوَ- كَمَا قَالَ الْبَابَرْتِيُّ- قِيَاسٌ لِأَحَدِ شِطْرَيِ الْعَقْدِ عَلَى الْآخَرِ.

3- أَنْ لَا يَنْشَأَ عَنِ الْفَسْخِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ، أَيْ أَنْ يَقَعَ الْفَسْخُ عَلَى جَمِيعِ الصَّفْقَةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْضِيَ الْعَقْدَ فِي بَعْضِ الصَّفْقَةِ وَيَفْسَخَ فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ.

وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي الْإِجَازَةِ فِي الْبَعْضِ، فَيَنْشَأُ عَنْهُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فِي اللُّزُومِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا.

وَالْمَالِكِيَّةُ يُجْبِرُونَ الْعَاقِدَ عَلَى رَدِّ الْجَمِيعِ إِنْ أَجَازَ الْعَقْدَ فِي الْبَعْضِ وَرَدَّ الْبَعْضَ حَيْثُ لَمْ يَرْضَ الْعَاقِدُ الشَّرِكَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَرَادَ الْفَسْخَ فِي أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنِ فِيهِمَا الْخِيَارُ فَالْأَصَحُّ لَا يَجُوزُ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، أَمَّا لَوِ اشْتَرَى اثْنَانِ شَيْئًا مِنْ وَاحِدٍ صَفْقَةً وَاحِدَةً بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَلِأَحَدِهِمَا الْفَسْخُ فِي نَصِيبِهِ.

الْأَدِلَّةُ: لِكُلٍّ مِنَ الْقَائِلِينَ بِاشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الْآخَرِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ أَدِلَّةٌ تَدُورُ بَيْنَ وُجُوهٍ مِنَ الْمَعْقُولِ وَالِاسْتِشْهَادِ بِالنَّظَائِرِ الْفِقْهِيَّةِ. انْتِقَالُ خِيَارِ الشَّرْطِ:

أَوَّلًا- انْتِقَالُ الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ:

54- ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِ الْمَوْرُوثِ، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَجْهًا بِإِرْثِ خِيَارِ الشَّرْطِ مُطْلَقًا.

وَقَدْ عَلَّلَ الْقَائِلُونَ بِانْتِقَالِ الْخِيَارِ لِلْوَارِثِ بِاعْتِبَارِ الْخِيَارِ مِنْ مُشْتَمِلَاتِ التَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِإِصْلَاحِ الْمَالِ، كَالرَّهْنِ وَحَبْسِ الْمَبِيعِ عَلَى تَحْصِيلِ الثَّمَنِ.وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنَ السُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ.فَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَرَكَ مَالًا أَوْ حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ»،، وَخِيَارُ الشَّرْطِ حَقٌّ لِلْمَوْرُوثِ فَيَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِهِ كَمَا يَقْضِي الْحَدِيثُ.

ثُمَّ قَاسُوا خِيَارَ الشَّرْطِ عَلَى خِيَارَيِ الْعَيْبِ وَالتَّعْيِينِ الْمُتَّفَقِ عَلَى انْتِقَالِهِمَا لِلْوَارِثِ بِالْمَوْتِ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْ تِلْكَ الْخِيَارَاتِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ فَيَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ بِمُجَرَّدِ انْتِقَالِهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لَا يُورَثُ، وَمِنْ عِبَارَاتِهِمْ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ قَوْلُ الزَّيْلَعِيِّ: الْخِيَارُ صِفَةٌ لِلْمَيِّتِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِلاَّ مَشِيئَةً وَإِرَادَةً فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ كَسَائِرِ أَوْصَافِهِ. وَاسْتَدَلُّوا لِمَذْهَبِهِمْ بِأَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ لَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ فَلَمْ يُورَثْ، نَظِيرُ حَقِّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ إِذَا مَاتَ الْوَاهِبُ لَمْ يُورَثْ عَنْهُ.وَقَالُوا أَيْضًا: خِيَارُ الشَّرْطِ لَيْسَ وَصْفًا بِالْمَبِيعِ حَتَّى يُورَثَ بِإِرْثِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَشِيئَةٌ وَإِرَادَةٌ، فَهُوَ وَصْفٌ قَائِمٌ بِشَخْصِ مَنْ ثَبَتَ لَهُ فَلَا يُورَثُ عَنْهُ، لِأَنَّ الْإِرْثَ يَجْرِي فِيمَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ، وَالْوَصْفُ الشَّخْصِيُّ لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ بِحَالٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَحْدَهُمْ إِلَى التَّفْصِيلِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الْمَيِّتِ بِالْخِيَارِ قَبْلَ مَوْتِهِ أَوْ عَدَمِ الْمُطَالَبَةِ، فَإِنْ مَاتَ صَاحِبُ الْخِيَارِ دُونَ أَنْ يُطَالِبَ بِحَقِّهِ فِي الْخِيَارِ، بَطَلَ الْخِيَارُ وَلَمْ يُورَثْ، أَمَّا إِنْ طَالَبَ بِذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ يُورَثُ عَنْهُ.فَالْأَصْلُ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ غَيْرُ مَوْرُوثٍ إِلاَّ بِالْمُطَالَبَةِ مِنَ الْمُشْتَرِطِ.

وَقَدْ صَوَّرَهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ نَقْلٌ، وَتَوْرِيثٌ مِنَ الْمُوَرِّثِ لِوَرَثَتِهِ بِإِرَادَاتِهِ، حَيْثُ جَاءَ فِي الْفَوَاكِهِ الْعَدِيدَةِ قَوْلُ الْفَقِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَهْلَانَ- شَيْخِ الْمُؤَلِّفِ -: «إِذَا مَاتَ وَوَرِثَ خِيَارَهُ وَرَثَتُهُ، لِشَرْطِهِ لَهُمْ فَأَسْقَطَهُ أَحَدُ الْوَرَثَةِ سَقَطَ خِيَارُ الْجَمِيعِ».وَقَدْ جَاءَتْ تِلْكَ الْعِبَارَةُ إِيضَاحًا وَتَقْيِيدًا لِعِبَارَةِ أَحَدِ الْكُتُبِ الَّتِي جَاءَتْ مُوهِمَةً أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يُورَثُ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ يُشْتَرَطُ لِذَلِكَ مُطَالَبَةُ الْمُوَرِّثِ بِحَقِّ الْخِيَارِ.

وَأَمَّا ابْنُ قُدَامَةَ فَقَالَ: الْمَذْهَبُ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَيِّتِ مِنْهُمَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، وَيَبْقَى خِيَارُ الْآخَرِ بِحَالِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ قَدْ طَالَبَ بِالْفَسْخِ قَبْلَ مَوْتِهِ فِيهِ فَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ.

ثَانِيًا: انْتِقَالُ الْخِيَارِ بِالْجُنُونِ وَحَالَاتِ الْغَيْبُوبَةِ:

55- سَبَقَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ الْجُنُونَ يُسْقِطُ الْخِيَارَ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي فِقْرَةِ 41

وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا طَرَأَ الْجُنُونُ- أَوِ الْإِغْمَاءُ- عَلَى صَاحِبِ الْخِيَارِ لَمْ يَنْقَطِعْ خِيَارُهُ، بَلْ يَقُومُ وَلِيُّهُ أَوِ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فَيَفْعَلُ مَا فِيهِ الْأَحَظُّ مِنَ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ وَكَذَلِكَ إِذَا أَصَابَهُ خَرَسٌ- وَلَمْ تَكُنْ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ أَوْ كِتَابَةٌ- نَصَّبَ الْحَاكِمُ نَائِبًا عَنْهُ.

وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَابِلَةِ كَلَامًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ: أ- فَفِي الْجُنُونِ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَفِيقُ، أَوْ يَفِيقُ بَعْدَ وَقْتٍ طَوِيلٍ يَضُرُّ الِانْتِظَارُ إِلَيْهِ بِالْعَاقِدِ الْآخَرِ، يَنْظُرُ السُّلْطَانُ أَوْ نُوَّابُهُ فِي الْأَصْلَحِ لَهُ مِنْ إِمْضَاءٍ أَوْ رَدٍّ، وَلَوْ لَمْ يَنْظُرِ السُّلْطَانُ حَتَّى مَضَى جُزْءٌ مِنَ الْمُدَّةِ فَزَالَ الْجُنُونُ يُحْتَسَبُ مَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَلَوْ لَمْ يُنْظَرْ حَتَّى أَفَاقَ بَعْدَ أَمَدِ الْخِيَارِ لَا يُسْتَأْنَفُ لَهُ أَجَلٌ عَلَى الظَّاهِرِ، وَالْمَبِيعُ لَازِمٌ لِمَنْ هُوَ بِيَدِهِ.وَمِثْلُ الْمَجْنُونِ- فِي الْحُكْمِ- الْمَفْقُودُ، عَلَى الرَّاجِحِ، وَقِيلَ: هُوَ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.

ب- وَفِي الْإِغْمَاءِ يُنْتَظَرُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ لِكَيْ يَفِيقَ وَيَخْتَارَ لِنَفْسِهِ، إِلاَّ إِذَا مَضَى زَمَنُ الْخِيَارِ وَطَالَ إِغْمَاؤُهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ الضَّرَرُ لِلْآخَرِ فَيُفْسَخُ.وَلَا يَنْظُرُ لَهُ السُّلْطَانُ.

فَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ حَتَّى أَفَاقَ بَعْدَ أَيَّامِ الْخِيَارِ اسْتُؤْنِفَ لَهُ الْأَجَلُ، وَهَذَا الْحُكْمُ خِلَافُ مَا مَرَّ فِي الْمَجْنُونِ.

هَذَا وَقَدْ يَزُولُ الطَّارِئُ الَّذِي نُقِلَ الْخِيَارُ بِسَبَبِهِ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَى غَيْرِهِ، كَالْجُنُونِ النَّاقِلِ لِلْخِيَارِ إِلَى السُّلْطَانِ، لَوْ أَفَاقَ بَعْدَهُ لَا عِبْرَةَ بِمَا يَخْتَارُهُ بَلِ الْمُعْتَبَرُ بِمَا نَظَرَهُ السُّلْطَانُ.

هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَخَالَفَهُمْ فِيهِ الشَّافِعِيَّةُ، فَفِي هَذِهِ الْحَالِ: لَوْ أَفَاقَ الْعَاقِدُ وَادَّعَى أَنَّ الْغِبْطَةَ خِلَافُ مَا فَعَلَهُ الْقَيِّمُ عَنْهُ يَنْظُرُ الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ وَجَدَ الْأَمْرَ كَمَا يَقُولُ الْمُفِيقُ مَكَّنَهُ مِنَ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ وَنَقَضَ فِعْلَ الْقَيِّمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا ادَّعَاهُ الْمُفِيقُ ظَاهِرًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَيِّمِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا فَعَلَهُ إِلاَّ أَنْ يُقِيمَ الْمُفِيقُ بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


93-موسوعة الفقه الكويتية (خيار العيب 1)

خِيَارُ الْعَيْبِ -1

التَّعْرِيفُ:

1- (خِيَارُ الْعَيْبِ) مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ مِنَ الْكَلِمَتَيْنِ (خِيَارٌ) (وَعَيْبٌ).أَمَّا كَلِمَةُ «خِيَارٌ» فَقَدْ سَبَقَ عِنْدَ تَعْرِيفِ الْخِيَارِ بِوَجْهٍ عَامٍّ بَيَانُ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ وَالِاصْطِلَاحِيِّ أَيْضًا.

أَمَّا كَلِمَةُ عَيْبٍ، فَهِيَ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ الْفِعْلِ عَابَ، يُقَالُ: عَابَ الْمَتَاعَ يَعِيبُ عَيْبًا: أَيْ صَارَ ذَا عَيْبٍ، وَجَمْعُهُ عُيُوبٌ وَأَعْيَابٌ.قَالَ الْفَيُّومِيُّ: اسْتُعْمِلَ الْعَيْبُ اسْمًا وَجُمِعَ عَلَى عُيُوبٍ.وَالْمَعِيبُ مَكَانُ الْعَيْبِ وَزَمَانُهُ.

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَلِلْفُقَهَاءِ تَعَارِيفُ مُتَعَدِّدَةٌ لِلْعَيْبِ، مِنْهَا: مَا عَرَّفَهُ بِهِ ابْنُ نُجَيْمٍ وَابْنُ الْهُمَامِ بِأَنَّهُ: مَا يَخْلُو عَنْهُ أَصْلُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ مِمَّا يُعَدُّ بِهِ نَاقِصًا.وَعَرَّفَهُ ابْنُ رُشْدٍ بِأَنَّهُ: مَا نَقَصَ عَنِ الْخِلْقَةِ الطَّبِيعِيَّةِ أَوْ عَنِ الْخَلْقِ الشَّرْعِيِّ نُقْصَانًا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ.

وَعَرَّفَهُ الْغَزَالِيُّ بِأَنَّهُ: كُلُّ وَصْفٍ مَذْمُومٍ اقْتَضَى الْعُرْفُ سَلَامَةَ الْمَبِيعِ عَنْهُ غَالِبًا.

مَشْرُوعِيَّةُ خِيَارِ الْعَيْبِ:

2- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فِي الْجُمْلَةِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ: فَمِنَ الْكِتَابِ: اسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَالْوَجْهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ مُنَافٍ لِلرِّضَا الْمَشْرُوطِ فِي الْعُقُودِ، فَالْعَقْدُ الْمُلْتَبِسُ بِالْعَيْبِ تِجَارَةٌ عَنْ غَيْرِ تَرَاضٍ.

فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَاقِدَ لَا يَلْزَمُهُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْمَعِيبُ، بَلْ لَهُ رَدُّهُ وَالِاعْتِرَاضُ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ طَرِيقَةِ الرَّدِّ وَالْإِصْلَاحِ لِذَلِكَ الْخَلَلِ فِي تَكَافُؤِ الْمُبَادَلَةِ.

وَمِنَ السُّنَّةِ: عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ رَجُلًا ابْتَاعَ غُلَامًا، فَاسْتَغَلَّهُ، ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ بِالْعَيْبِ، فَقَالَ الْبَائِعُ: غَلَّةُ عَبْدِي، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْغَلَّةُ بِالضَّمَانِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ».وَاسْتَدَلَّ الْكَاسَانِيُّ بِحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ خِيَارِ الْعَيْبِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْخِيَارِ فِي الْمُصَرَّاةِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا عَدَمُ حُصُولِ الْمَبِيعِ السَّلِيمِ، لِأَنَّهُ بَذَلَ الثَّمَنَ لِيُسَلَّمَ لَهُ مَبِيعٌ سَلِيمٌ وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِثْبَاتُ النَّبِيِّ الْخِيَارَ بِالتَّصْرِيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى ثُبُوتِهِ بِالْعَيْبِ.

وُجُوبُ الْإِعْلَامِ بِالْعَيْبِ، وَأَدِلَّتُهُ:

3- وُجُوبُهُ عَلَى الْعَاقِدِ:

ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ عَلَى الْبَائِعِ إِعْلَامَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ الَّذِي فِي مَبِيعِهِ، وَذَلِكَ فِيمَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارٌ، أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسَبِّبًا لِلْخِيَارِ فَتَرْكُ التَّعَرُّضِ لَهُ لَيْسَ مِنَ التَّدْلِيسِ الْمُحَرَّمِ كَمَا قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَقَدْ صَرَّحَ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ الْإِعْلَامَ بِالْعَيْبِ مَطْلُوبٌ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، فَإِذَا لَمْ يُبَيِّنْهُ فَهُوَ آثِمٌ عَاصٍ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ- عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ وَالسُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُمَا- وَجَعَلَهُ ابْنُ رُشْدٍ الْجَدُّ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَتَحْرِيمُهُ مَعْرُوفٌ.

وَدَلَّ عَلَى هَذَا عِدَّةُ أَحَادِيثَ، مِنْهَا:

حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا وَفِيهِ عَيْبٌ إِلاَّ بَيَّنَهُ لَهُ».

وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يَبِيعُ شَيْئًا إِلاَّ يُبَيِّنُ مَا فِيهِ، وَلَا يَحِلُّ لِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلاَّ بَيَّنَهُ».

وَهُنَاكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى تَشْهَدُ لِلْمَعْنَى السَّابِقِ لِوُرُودِهَا بِتَحْرِيمِ الْغِشِّ، وَكِتْمَانُ الْعَيْبِ غِشٌّ- كَمَا صَرَّحَ السُّبْكِيُّ- وَذَلِكَ كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَهُوَ وَارِدٌ فِي قِصَّةٍ هِيَ: أَنَّهُ «- صلى الله عليه وسلم- مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَعْنِي الْمَطَرَ قَالَ: أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي».وَهَذَا الْحَدِيثُ يُشِيرُ إِلَى الْإِعْلَامِ بِالْعَيْبِ بِالْفِعْلِ الْمُجْزِئِ عَنْ صَرِيحِ الْقَوْلِ:

وَهَلْ يَظَلُّ الْإِثْمُ لَوْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ بَعْدَ ظُهُورِهِ، ذَلِكَ مَا جَزَمَ بِهِ الشَّوْكَانِيُّ فِي الدُّرَرِ الْبَهِيَّةِ قَائِلًا: (إِنْ رَضِيَهُ فَقَدْ أَثِمَ الْبَائِعُ، وَصَحَّ الْبَيْعُ).

حُكْمُ الْبَيْعِ مَعَ الْكِتْمَانِ:

4- الْبَيْعُ دُونَ بَيَانِ الْعَيْبِ الْمُسَبِّبِ لِلْخِيَارِ صَحِيحٌ مَعَ الْمَعْصِيَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ الْمُثْبِتِ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ، وَالتَّصْرِيَةُ عَيْبٌ، وَهَاهُنَا التَّدْلِيسُ لِلْعَيْبِ وَكِتْمَانُهُ لَا يُبْطِلُ الْبَيْعَ، لِأَنَّ النَّهْيَ لِمَعْنًى فِي الْعَقْدِ، فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِمَعْنًى فِيهِ، أَوْ لِاسْتِلْزَامِهِ أَمْرًا مَمْنُوعًا، أَمَّا هُنَا فَالْعَقْدُ لَيْسَ مَنْهِيًّا عَنْهُ أَصْلًا (لَا لِمَعْنًى فِيهِ وَلَا لِاسْتِلْزَامِهِ مَمْنُوعًا) بَلْ قَدْ تَحَقَّقَ بِكِتْمَانِ الْعَيْبِ مَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَهُوَ الْغِشُّ، وَتِلْكَ أَدْنَى مَرَاتِبِ النَّهْيِ الثَّلَاثِ فَلَا إِثْمَ فِي الْعَقْدِ، بَلِ الْإِثْمُ فِي الْكِتْمَانِ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْكِتْمَانِ لَا عَنِ الْعَقْدِ.

وَمِمَّا هُوَ صَرِيحٌ فِي الْبَابِ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اشْتَرَى إِبِلًا هِيمًا فَلَمَّا أُخْبِرَ بِعَيْبِهَا رَضِيَهَا وَأَمْضَى الْعَقْدَ.

وُجُوبُهُ عَلَى غَيْرِ الْعَاقِدِ:

5- وُجُوبُ الْإِعْلَامِ بِالْعَيْبِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْبَائِعِ، بَلْ يَمْتَدُّ إِلَى كُلِّ مَنْ عَلِمَ بِالْعَيْبِ لِحَدِيثِ وَاثِلَةَ- وَالْقِصَّةِ الْمَرْوِيَّةِ بِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ حِينَ كَتَمَ الْبَائِعُ الْعَيْبَ- وَالْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى الْعَدِيدَةِ فِي وُجُوبِ النُّصْحِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى هَذَا مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ، وَالنَّوَوِيُّ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ: وَذَلِكَ مِمَّا لَا أَظُنُّ فِيهِ خِلَافًا.

وَيَتَأَكَّدُ الْوُجُوبُ حَيْثُ يَنْفَرِدُ الْأَجْنَبِيُّ بِعِلْمِ الْعَيْبِ دُونَ الْبَائِعِ نَفْسِهِ، أَمَّا إِنْ كَانَا يَعْلَمَانِهِ فَالْوُجُوبُ حَيْثُ يَعْلَمُ، أَوْ يَظُنُّ، أَوْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يُعْلِمْهُ بِهِ، أَمَّا إِنْ عَلِمَ قِيَامَ الْبَائِعِ بِذَلِكَ- أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَقُومُ بِذَلِكَ لِتَدَيُّنِهِ- فَهُنَاكَ احْتِمَالَانِ

أَحَدُهُمَا: عَدَمُ الْوُجُوبِ خَشْيَةَ إِيغَارِ صَدْرِ الْبَائِعِ لِتَوَهُّمِهِ سُوءَ الظَّنِّ بِهِ، وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وُجُوبُ الِاسْتِفْسَارِ مِنَ الْمُشْتَرِي هَلْ أَعْلَمَهُ الْبَائِعُ بِالْعَيْبِ.

وَوَقْتُ الْإِعْلَامِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَالْأَجْنَبِيِّ قَبْلَ الْبَيْعِ، لِيَكُفَّ عَنِ الشِّرَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَجْنَبِيُّ حَاضِرًا، أَوْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ فَبَعْدَهُ، لِيَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ.

حِكْمَةُ تَشْرِيعِ خِيَارِ الْعَيْبِ:

الْحِكْمَةُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ خِيَارِ الْعَيْبِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ الْعَاقِدِ (الْمُشْتَرِي) لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْمُبَادَلَةِ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْمَبِيعِ عَنِ الْعَيْبِ، وَوَصْفُ السَّلَامَةِ يَفُوتُ بِوُجُودِ الْعَيْبِ، فَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَتَخَيَّرُ، لِأَنَّ الرِّضَا دَاخِلٌ فِي حَقِيقَةِ الْبَيْعِ، وَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَنْتَفِي الرِّضَا، فَيَتَضَرَّرُ بِلُزُومِ مَا لَا يَرْضَى بِهِ.

شَرَائِطُ خِيَارِ الْعَيْبِ:

6- يَثْبُتُ خِيَارُ الْعَيْبِ لِلْمُشْتَرِي بِشَرَائِطَ ثَلَاثٍ:

1- ظُهُورُ عَيْبٍ مُعْتَبَرٍ.

2- أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ بِالْعَيْبِ عِنْدَ الْعَقْدِ.

3- أَنْ لَا يَكُونَ الْبَائِعُ قَدِ اشْتَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْعَيْبِ.

(الشَّرِيطَةُ الْأُولَى) ظُهُورُ عَيْبٍ مُعْتَبَرٍ:

7- الْمُرَادُ بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ بُرُوزُ الْعَيْبِ وَانْكِشَافُهُ بَعْدَمَا كَانَ خَفِيًّا عَنِ الْمُشْتَرِي، فَلَا حُكْمَ لِلْعَيْبِ قَبْلَ ظُهُورِهِ، لِأَنَّ الْمُفْتَرَضَ أَنَّهُ خَفِيٌّ وَمَجْهُولٌ لِلْمُشْتَرِي فَكَأَنَّ الْمَبِيعَ كَانَ سَالِمًا- فِي نَظَرِهِ- حَتَّى وَجَدَ فِيهِ عَيْبًا.

وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِ مُعْتَبَرًا أَنْ يَكُونَ عَيْبًا بِالْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِقْهًا- لَا مُطْلَقَ الْعَيْبِ لُغَةً- وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلاَّ بِأَنْ يَتَحَقَّقَ فِيهِ أَمْرَانِ هُمَا:

1- كَوْنُ الْعَيْبِ مُؤَثِّرًا فِي نَقْصِ الْقِيمَةِ أَوْ فَوَاتِ غَرَضٍ صَحِيحٍ.

2- كَوْنُ الْأَصْلِ فِي جِنْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ السَّلَامَةُ مِنَ الْعَيْبِ. الْأَمْرُ الْأَوَّلُ- نَقْصُ الْقِيمَةِ، أَوْ فَوَاتُ غَرَضٍ صَحِيحٍ:

8- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الضَّابِطَ لِلْعَيْبِ: هُوَ كُلُّ مَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الْقِيمَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْخِبْرَةِ سَوَاءٌ نَقَّصَ الْعَيْنَ أَمْ لَمْ يُنَقِّصْهَا.

وَقَدْ يُعَبِّرُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ- وَغَيْرُهُمْ- بِالثَّمَنِ بَدَلَ الْقِيمَةِ، وَهِيَ الْمُرَادَةُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَمَّا كَانَ الثَّمَنُ فِي الْغَالِبِ مُسَاوِيًا لِلْقِيمَةِ عَبَّرُوا بِهِ عَنْهَا.

وَالْعَيْبُ الْفَاحِشُ فِي الْمَهْرِ كُلُّ مَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْجَيِّدِ إِلَى الْوَسَطِ، وَمِنَ الْوَسَطِ إِلَى الرَّدِيءِ.

وَإِنَّمَا لَا يُرَدُّ الْمَهْرُ بِيَسِيرِ الْعَيْبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَيْلِيًّا أَوْ وَزْنِيًّا، وَأَمَّا الْكَيْلِيُّ وَالْوَزْنِيُّ فَيُرَدُّ بِيَسِيرِهِ أَيْضًا.

قَالَ فِي «مُخْتَارِ الْفَتَاوَى»: وَالْحَدُّ الْفَاصِلُ فِيهِ: كُلُّ عَيْبٍ يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، بِأَنْ يُقَوِّمَهُ مُقَوِّمٌ صَحِيحًا بِأَلْفٍ، وَمَعَ الْعَيْبِ بِأَقَلَّ، وَيُقَوِّمَهُ مُقَوِّمٌ آخَرُ مَعَ هَذَا الْعَيْبِ بِأَلْفٍ فَهُوَ يَسِيرٌ، وَمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ بِأَنِ اتَّفَقَ الْمُقَوِّمُونَ فِي تَقْوِيمِهِ صَحِيحًا بِأَلْفٍ، وَاتَّفَقُوا فِي تَقْوِيمِهِ مَعَ هَذَا بِأَقَلَّ فَهُوَ فَاحِشٌ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ لَا يَدْخُلُ فِي الزَّوَاجِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لِلْمَرْأَةِ حَقُّ الْفَسْخِ بِعُيُوبٍ ثَلَاثَةٍ: الْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُطِيقُ الْمُقَامَ مَعَ زَوْجٍ فِيهِ أَحَدُهَا، وَجَاءَ فِي الزَّيْلَعِيِّ وَالْبَدَائِعِ أَنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، وَأَنَّ كُلَّ عَيْبٍ تَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَرْأَةُ تَسْتَحِقُّ بِهِ فَسْخَ الْعَقْدِ.وَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ إِلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ بِسَبَبِ الْعَيْبِ، وَلَكِنْ بِعُيُوبٍ تُخِلُّ بِمَقْصِدِ الزَّوَاجِ كَالْعُيُوبِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: «نِكَاحٌ».

وَضَابِطُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الْمُنْقِصُ لِلْقِيمَةِ أَوِ الْعَيْنِ نُقْصَانًا يَفُوتُ بِهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ فِي أَمْثَالِ الْمَبِيعِ عَدَمَهُ.وَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا الضَّابِطُ عَلَى الْعُنْصُرَيْنِ الْمُقَوِّمَيْنِ لَهُ فِي حِينِ خَلَا مِنْهُ تَعْرِيفُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ: إِنَّ هَذَا الضَّابِطَ يُرَجَّحُ عَنْ ضَوَابِطَ كَثِيرَةٍ أُحِيلَ فِيهَا عَلَى الْعُرْفِ دُونَ ضَبْطِ الْعَيْبِ، وَمُجَرَّدُ الْإِحَالَةِ عَلَى الْعُرْفِ قَدْ يَقَعُ مِنْهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ إِلْبَاسٌ.وَأَنَّ اشْتِرَاطَ فَوَاتِ غَرَضٍ صَحِيحٍ هُوَ لِلِاحْتِرَازِ عَنِ النَّقْصِ الْيَسِيرِ فِي فَخِذِ شَاةٍ أَوْ سَاقِهَا بِشَكْلٍ لَا يُورِثُ شَيْئًا، وَلَا يَفُوتُ بِهِ غَرَضُ صِحَّةِ الْأُضْحِيَّةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قُطِعَ مِنْ أُذُنِهَا مَا يَمْنَعُ التَّضْحِيَةَ بِهَا.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ نَقْصَ الْعَيْنِ وَحْدَهُ كَافٍ وَلَوْ لَمْ تَنْقُصْ بِهِ الْقِيمَةُ، بَلْ زَادَتْ، وَبِالْمُقَابِلِ إِنَّ مِنَ الْعَيْبِ نَقْصَ الْقِيمَةِ (أَوِ الْمَالِيَّةِ بِعِبَارَةِ ابْنِ قُدَامَةَ) عَادَةً فِي عُرْفِ التُّجَّارِ وَإِنْ لَمْ تَنْقُصْ عَيْنُهُ، عَلَى أَنْ تَكُونَ تِلْكَ نَقِيصَةً يَقْتَضِي الْعُرْفُ سَلَامَةَ الْمَبِيعِ عَنْهَا غَالِبًا، لِأَنَّ الْمَبِيعَ إِنَّمَا صَارَ مَحَلًّا لِلْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ فَمَا يُوجِبُ نَقْصًا فِيهَا يَكُونُ عَيْبًا.

وَقَدْ ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مِمَّا يُعَدُّ عَيْبًا، الْبَيْتُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ إِنْسَانٌ وَأَصْبَحَ يُوحِشُ سَاكِنِيهِ وَتَنْفِرُ نُفُوسُهُمْ عَنْهُ، وَيَأْبَى الْعِيَالُ وَالْأَوْلَادُ سُكْنَاهُ وَتَتَرَاءَى لَهُمْ بِسَبَبِ تِلْكَ الْوَحْشَةِ خَيَالَاتٌ شَيْطَانِيَّةٌ مُفْزِعَةٌ مُقْلِقَةٌ.وَقَدْ جَعَلُوهُ مِمَّا يَنْفِرُ النَّاسُ عَنْهُ، وَتَقِلُّ الرَّغْبَةُ فِيهِ، فَيُبْخَسُ ثَمَنُهُ، فَهُوَ مِنْ تَطْبِيقَاتِ نَقْصِ الْقِيمَةِ.

الْأَمْرُ الثَّانِي- كَوْنُ الْأَصْلِ سَلَامَةَ أَمْثَالِ الْمَبِيعِ.مِنَ الْعَيْبِ:

9- الْمُرَادُ أَنَّ السَّلَامَةَ مِنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ الْعَارِضِ هِيَ الْأَصْلُ فِي نَوْعِ الْمَبِيعِ وَأَمْثَالِهِ، أَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمَأْلُوفِ وُجُودُهُ فِي أَمْثَالِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ عَيْبًا مُعْتَبَرًا.وَقَدِ اخْتَلَفَتْ تَعَابِيرُ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ.وَقَدِ اسْتَدْرَكَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى ضَابِطِ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ قَائِلًا: وَقَوَاعِدُنَا لَا تَأْبَاهُ.وَضَرَبُوا لِذَلِكَ مَثَلًا بِوُجُودِ الثُّفْلِ فِي الزَّيْتِ بِالْحَدِّ الْمُعْتَادِ، فَمِنْ تَعَابِيرِ الْفُقَهَاءِ فِي اعْتِمَادِ هَذَا الْأَمْرِ، لِيَكُونَ الْعَيْبُ مُعْتَبَرًا، التَّعْبِيرُ بِكَوْنِ الْغَالِبِ فِي جِنْسِ الْمَبِيعِ عَدَمُهُ، أَوِ اقْتِضَاءُ الْعُرْفِ سَلَامَةَ الْمَبِيعِ عَنْهُ غَالِبًا، أَوْ مَا خَالَفَ الْخِلْقَةَ الْأَصْلِيَّةَ، أَوْ أَصْلَ الْخِلْقَةِ، أَوِ الْخُرُوجُ عَنِ الْمَجْرَى الطَّبِيعِيِّ، أَوْ مَا نَقَصَ عَنِ الْخِلْقَةِ الْأَصْلِيَّةِ أَوِ الْخَلْقِ الشَّرْعِيِّ (كَمَا يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ)، أَوْ مَا خَالَفَ الْمُعْتَادَ، أَوْ مَا تَخْلُو عَنْهُ أَصْلُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ.

الرُّجُوعُ لِلْعُرْفِ فِي تَحَقُّقِ ضَابِطِ الْعَيْبِ

10- تَوَارَدَتْ نُصُوصُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي كَوْنِ الْعَيْبِ مُؤَثِّرًا (أَيْ مُؤَدِّيًا إِلَى نُقْصَانِ الْقِيمَةِ، وَكَوْنِ الْأَصْلِ فِي جِنْسِ الْمَبِيعِ عَدَمَهُ) إِلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِذَلِكَ.قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهُمُ التُّجَّارُ، أَوْ أَرْبَابُ الصَّنَائِعِ إِنْ كَانَ الشَّيْءُ مِنَ الْمَصْنُوعَاتِ، وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: التَّعْوِيلُ فِي الْبَابِ عَلَى عُرْفِ التُّجَّارِ، فَمَا نَقَّصَ الثَّمَنَ (أَيِ الْقِيمَةَ) فِي عُرْفِهِمْ فَهُوَ عَيْبٌ يُوجِبُ الْخِيَارَ.

وَقَالَ الْحَطَّابُ: التَّعْوِيلُ فِي اعْتِبَارِ الشَّيْءِ عَيْبًا أَوْ عَدَمَهُ هُوَ عَلَى عُرْفِ التُّجَّارِ..وَإِنْ كَانَ عَامَّةُ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ التُّجَّارِ يَرَوْنَهُ، أَوْ لَا يَرَوْنَهُ.وَلَا شَكَّ أَنَّ ذِكْرَ التُّجَّارِ لَيْسَ تَخْصِيصًا، بَلِ الْمُرَادُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ.

وَهَلْ يُشْتَرَطُ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْخِبْرَةِ عَلَى الْحُكْمِ بِكَوْنِ الشَّيْءِ عَيْبًا؟ هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ التُّجَّارُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ عَيْبٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِعَيْبٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ، إِذْ لَمْ يَكُنْ عَيْبًا بَيِّنًا عِنْدَ الْكُلِّ.

وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ لَا يُطْلَبُ هَذَا الْإِجْمَاعُ بَلِ التَّعَدُّدُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ عَلَى مَا نَقَلَ السُّبْكِيُّ عَنْ صَاحِبَيِ التَّهْذِيبِ وَالْعُدَّةِ، وَالِاكْتِفَاءُ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ، وَعَنْ صَاحِبِ التَّتِمَّةِ لَا بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ.ثُمَّ قَالَ: لَوِ اخْتَلَفَا هَلْ هُوَ عَيْبٌ وَلَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ.

شَرَائِطُ تَأْثِيرِ الْعَيْبِ:

1- أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ فِي مَحَلِّ الْعَقْدِ نَفْسِهِ:

11- فَفِي الْبَيْعِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ، وَهَذَا طَبِيعِيٌّ، فَالْعُيُوبُ فِي غَيْرِ الْمَبِيعِ لَا أَثَرَ لَهَا كَالْعُيُوبِ فِي شَخْصِ الْعَاقِدِ الْآخَرِ، أَوِ الْعَيْبِ فِي الرَّهْنِ الْمُقَدَّمِ، أَوِ الْكَفِيلِ وَنَحْوِهِ..وَضَرَبَ لَهُ ابْنُ عَابِدِينَ مَثَلًا بِمَا إِذَا بَاعَ حَقَّ الْكَدَكِ (مِنْ حُقُوقِ الِارْتِفَاقِ فِي الْعَقَارِ) فِي حَانُوتٍ لِغَيْرِهِ فَأَخْبَرَ الْمُشْتَرِي أَنَّ أُجْرَةَ الْحَانُوتِ كَذَا فَظَهَرَ أَنَّهَا أَكْثَرُ، فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ بِهَذَا السَّبَبِ، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْمَبِيعِ.

2- أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ قَدِيمًا:

12- وَالْمُرَادُ بِالْقَدِيمِ مَا قَارَنَ الْعَقْدَ أَوْ حَدَثَ قَبْلَ الْقَبْضِ.فَالْمُقَارِنُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَدَلِيلُ مَا وُجِدَ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَنَّ الْمَبِيعَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ فَكَذَا جُزْؤُهُ وَصِفَتُهُ.

أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَيْبُ قَدِيمًا بَلْ حَدَثَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ لِفَوَاتِ صِفَةِ السَّلَامَةِ الْمَشْرُوطَةِ دَلَالَةً فِي الْعَقْدِ، وَقَدْ حَصَلَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ سَلِيمًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، إِذِ الْعَيْبُ لَمْ يَحْدُثْ إِلاَّ بَعْدَ التَّسْلِيمِ.

قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ: الْعَيْبُ قَدْ يَحْدُثُ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ يُوجِبُ الرَّدَّ.

وَقَدْ خَالَفَ فِي هَذَا الْمَالِكِيَّةُ فَأَخَذُوا بِقَضِيَّةِ الْعُهْدَةِ: وَهِيَ عُهْدَتَانِ، الْأُولَى فِي عُيُوبِ الرَّقِيقِ وَيَقُولُونَ فِيهَا بِعُهْدَةِ الثَّلَاثِ، وَالثَّانِيَةُ فِي عُيُوبِ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ، وَيَقُولُونَ فِيهَا بِعُهْدَةِ السُّنَّةِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (عُهْدَةٌ).

وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهَا تُفْسَخُ بِعَيْبٍ حَادِثٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَهِيَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَوُجُودُ الْعَيْبِ يَحُولُ دُونَ الِانْتِفَاعِ فَيُعْتَبَرُ وَلَوْ كَانَ حَادِثًا.

3- أَنْ لَا يَكُونَ الْعَيْبُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ:

13- يُعْتَبَرُ فِي مَنْزِلَةِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي مَا لَوْ كَانَ الْعَيْبُ قَدِيمًا (حَصَلَ قَبْلَ الْقَبْضِ) وَلَكِنَّهُ وُجِدَ بِفِعْلٍ وَقَعَ عَلَى الْمَبِيعِ مِنَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ.وَهَذَا الْقَيْدُ كَالِاسْتِثْنَاءِ عَلَى مَا قَبْلَهُ.وَيَدُلُّ عَلَيْهِ جُمْلَةٌ مِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيَّةُ- وَقَوَاعِدُ غَيْرِهِمْ لَا تَأْبَاهُ- وَقَدْ صَرَّحَ الشِّيرَازِيُّ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَفْقِدُ الْعَيْبُ أَثَرَهُ.

4- أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ بَاقِيًا بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَمُسْتَمِرًّا حَتَّى الرَّدِّ:

14- وَالْمُرَادُ مِنْ بَقَائِهِ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ التَّسْلِيمِ، إِمَّا بِأَنْ يَظَلَّ مَوْجُودًا فِي مَحَلِّ الْعَقْدِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَإِمَّا بِأَنْ يَخْفَى عِنْدَ التَّسْلِيمِ ثُمَّ يَظْهَرَ ثَانِيَةً فَلَا يُكْتَفَى بِثُبُوتِ قِدَمِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَظُهُورِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ عِنْدَهُ فَقَطْ، كَمَا لَا يُكْتَفَى بِظُهُورِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ ثُمَّ خَفَائِهِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعُودَ لِلظُّهُورِ ثَانِيَةً عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَيَسْتَمِرَّ بَاقِيًا إِلَى حِينِ الرَّدِّ.

فَفِي شَرِيطَةِ الْبَقَاءِ- أَوِ الْمُعَاوَدَةِ- احْتِرَازٌ عَنِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ إِذَا ظَهَرَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ التَّسْلِيمِ، وَعَزَمَ عَلَى الرَّدِّ، ثُمَّ زَالَ الْعَيْبُ قَبْلَ الرَّدِّ.لِأَنَّ الرَّدَّ إِنَّمَا هُوَ لِلْعَيْبِ- فَهُوَ سَبَبُهُ- وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَضْحَى سَلِيمًا فَلَا قِيَامَ لِلْخِيَارِ مَعَ سَلَامَتِهِ.هَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ صَرَّحَ الْكَاسَانِيُّ بِأَنَّ الْعَيْبَ الثَّابِتَ عِنْدَ الْبَائِعِ مُحْتَمِلُ الزَّوَالَ قَابِلُ الِارْتِفَاعِ، فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ بِالِاحْتِمَالِ، فَلَا بُدَّ فِي صِفَةِ الْعَيْبِ مِنْ ثُبُوتِهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي لِيُعْلَمَ أَنَّهَا قَائِمَةٌ.وَذَكَرَ الشِّرْوَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْعَيْبَ الْمُعْتَبَرَ هُوَ مَا قَارَنَ الْعَقْدَ، أَوْ حَدَثَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَقَدْ بَقِيَ إِلَى الْفَسْخِ.

5- أَنْ لَا تُمْكِنَ إِزَالَةُ الْعَيْبِ بِلَا مَشَقَّةٍ:

15- أَمَّا لَوْ أَمْكَنَ ذَلِكَ فَلَا يَقُومُ حَقُّ الْخِيَارِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى الْقُمَاشِ طَابَعُ الْمَصْنَعِ مَثَلًا، وَكَانَ مِمَّا لَا يَضُرُّهُ الْغَسْلُ، أَوْ يُمْكِنُ جَعْلُهُ مِنْ جِهَةِ الْبِطَانَةِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ بِالثَّوْبِ نَجَاسَةٌ وَهُوَ مِمَّا لَا يَفْسُدُ بِالْغَسْلِ وَلَا يُنْتَقَصُ، لِلتَّمَكُّنِ مِنْ غَسْلِهِ.

وَكَثِيرًا مَا يُهَوِّنُ الْبَائِعُ مِنْ شَأْنِ الْعَيْبِ وَأَنَّهُ سَهْلُ الْإِزَالَةِ، أَوْ لَا يُكَلِّفُ إِلاَّ قَلِيلًا لِإِصْلَاحِهِ ثُمَّ يَظْهَرُ الْعَكْسُ فَمَا مَصِيرُ خِيَارِ الْعَيْبِ بَعْدَ الرِّضَا مِنَ الْمُشْتَرِي؟ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى ثُبُوتِ خِيَارِ الرَّدِّ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَئِذٍ مَا لَمْ يَحْدُثْ لَدَيْهِ عَيْبٌ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ الرَّدِّ وَالْأَرْشِ، جَاءَ فِي نَوَازِلِ الْوَنْشَرِيسِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ اشْتَرَى دَابَّةً وَبِهَا جُرْحُ رُمْحٍ، فَرَضِيَ بَعْدَمَا قَالَ الْبَائِعُ لَهُ هُوَ جُرْحٌ لَا يَضُرُّهَا،، فَتَغَيَّبَ هَذَا الْمُشْتَرِي نَحْوًا مِنْ سَنَةٍ ثُمَّ ظَهَرَ الْجُرْحُ فَادِحًا.

(فَأَجَابَ) إِنْ لَمْ يَحْدُثْ بِهَا عِنْدَهُ عَيْبٌ مُفْسِدٌ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّهَا أَوْ يَتَمَاسَكَ وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ قِيمَةِ الْعَيْبِ، فَإِنْ حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَيْبٌ بَعْدُ، فَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَقِيمَةَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا وَأَخَذَ قِيمَةَ الْعَيْبِ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالدَّاءِ.

طُرُقُ إِثْبَاتِ الْعَيْبِ:

16- إِثْبَاتُ الْعَيْبِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَيْبِ مِنْ حَيْثُ دَرَجَةُ الظُّهُورِ.وَالْعَيْبُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:

1- عَيْبٌ ظَاهِرٌ مُشَاهَدٌ.

2- عَيْبٌ بَاطِنٌ خَفِيٌّ، لَا يَعْرِفُهُ إِلاَّ أَهْلُ الْخِبْرَةِ.

3- عَيْبٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلاَّ النِّسَاءُ.

4- عَيْبٌ لَا يُعْرَفُ بِالْمُشَاهَدَةِ الْمُجَرَّدَةِ بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى التَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ.

1- الْعَيْبُ الْمُشَاهَدُ: لَا حَاجَةَ لِتَكْلِيفِ الْمُشْتَرِي إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى وُجُودِ الْعَيْبِ عِنْدَهُ؛ لِكَوْنِهِ ثَابِتًا بِالْعِيَانِ وَالْمُشَاهَدَةِ، وَلِلْمُشْتَرِي حَقُّ خُصُومَةِ الْبَائِعِ بِسَبَبِ هَذَا الْعَيْبِ، وَلِلْقَاضِي حِينَئِذٍ النَّظَرُ فِي الْأَمْرِ.

فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ عَادَةً فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، كَالْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ يُرَدُّ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَا يُكَلَّفُ الْمُشْتَرِي بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ثُبُوتِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ لِتَيَقُّنِ ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ، إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ الْبَائِعُ الرِّضَا بِهِ وَالْإِبْرَاءَ عَنْهُ، فَتُطْلَبُ الْبَيِّنَةُ مِنْهُ.

فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ قُضِيَ بِذَلِكَ، وَإِلاَّ اسْتُحْلِفَ الْمُشْتَرِي عَلَى دَعْوَاهُ، فَإِنْ نَكَلَ (أَحْجَمَ عَنِ الْيَمِينِ) لَمْ يُرَدَّ الْمَبِيعُ الْمَعِيبُ عَلَى الْبَائِعِ، وَإِنْ حَلَفَ رُدَّ عَلَى الْبَائِعِ.وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْعَيْبُ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ مِثْلُهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يُسْتَحْلَفُ بِاللَّهِ عَلَى الْبَتَاتِ، أَيْ بِشَكْلٍ بَاتٍّ قَاطِعٍ جَازِمٍ، لَا عَلَى مُجَرَّدِ نَفْيِ الْعِلْمِ: «لَقَدْ بِعْتُهُ وَسَلَّمْتُهُ، وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ، لَا عِنْدَ الْبَيْعِ وَلَا عِنْدَ التَّسْلِيمِ».

2- الْعَيْبُ إِذَا كَانَ بَاطِنًا خَفِيًّا لَا يَعْرِفُهُ إِلاَّ الْمُخْتَصُّونَ كَالْأَطِبَّاءِ وَالْبَيَاطِرَةِ مِثْلُ وَجَعِ الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِمُمَارَسَةِ حَقِّ الْخُصُومَةِ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ عَدْلٍ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ. 3- الْعَيْبُ الَّذِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلاَّ النِّسَاءُ: يَرْجِعُ الْقَاضِي فِيهِ إِلَى قَوْلِ النِّسَاءِ بَعْدَ أَنْ يَرَيْنَ الْعَيْبَ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِيهِنَّ، بَلْ يَكْفِي قَوْلُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ عَدْلٍ، وَالثِّنْتَانِ أَحْوَطُ، لِأَنَّ قَوْلَ الْمَرْأَةِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ حُجَّةٌ فِي الشَّرْعِ، كَشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ فِي النَّسَبِ.

فَإِذَا شَهِدَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى الْعَيْبِ، فَهُنَاكَ رِوَايَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَصِّلُهَا أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ أَوِ الثِّنْتَيْنِ يَثْبُتُ بِهَا الْعَيْبُ الَّذِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فِي حَقِّ تَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ، لَا فِي حَقِّ الرَّدِّ.

4- الْعَيْبُ الَّذِي لَيْسَ بِمُشَاهَدٍ عِنْدَ الْخُصُومَةِ وَلَا يُعْرَفُ إِلاَّ بِالتَّجْرِبَةِ: كَالْإِبَاقِ: فَلَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ.

وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْمُشْتَرِي إِثْبَاتَ الْعَيْبِ عِنْدَهُ، هَلْ يَسْتَحْلِفُ الْقَاضِي الْبَائِعَ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا؟

قَالَ الصَّاحِبَانِ: يَسْتَحْلِفُ.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَسْتَحْلِفُ.

وَكَيْفِيَّةُ اسْتِحْلَافِ الْبَائِعِ: هِيَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْعِلْمِ، لَا عَلَى الْبَتَاتِ أَيِ الْجَزْمِ وَالْقَطْعِ فَيَقُولَ: بِاللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْعَيْبَ مَوْجُودٌ فِي هَذَا الشَّيْءِ الْآنَ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ: هُوَ أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى غَيْرِ فِعْلِهِ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِ فِعْلِهِ، يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَا لَيْسَ بِفِعْلِهِ، أَمَّا مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فَيَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ (أَيْ بِصِيغَةِ الْبَتِّ وَالْجَزْمِ)، فَإِنْ نَكَلَ- أَيِ الْبَائِعُ- عَنِ الْيَمِينِ، ثَبَتَ الْعَيْبُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ، وَإِنْ حَلَفَ بُرِّئَ.

(الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ) الْجَهْلُ بِالْعَيْبِ:

17- فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ بِالْعَيْبِ، قَالَ السُّبْكِيُّ: «عِنْدَ الْعِلْمِ لَا خِيَارَ».

وَسَوَاءٌ فِي الْعِلْمِ الْمُحْتَرَزِ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْعَقْدِ، أَوْ بَعْدَهُ عِنْدَ الْقَبْضِ، فَلَوِ اشْتَرَى شَيْئًا وَهُوَ عَالِمٌ بِعَيْبِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، أَوِ اشْتَرَاهُ جَاهِلًا بِعَيْبِهِ ثُمَّ عَلِمَ بِهِ عِنْدَ الْقَبْضِ فَقَبَضَهُ عَالِمًا بِعَيْبِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْخِيَارِ، لِأَنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى الشِّرَاءِ مَعَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ رِضًا بِهِ دَلَالَةً، وَكَذَلِكَ عِلْمُهُ عِنْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَبْضِ، فَكَانَ الْعِلْمُ عِنْدَهُ كَالْعِلْمِ عِنْدَ الْعَقْدِ، فَكَانَ عَلَيْهِ لِبَقَاءِ حَقِّهِ فِي الْخِيَارِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ الْقَبْضِ عِنْدَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ كَانَ رَاضِيًا بِهِ.قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: (الْعِلْمُ بِالْعَيْبِ عِنْدَ الْبَيْعِ أَوِ الْقَبْضِ مُسْقِطٌ لِلرَّدِّ وَالْأَرْشِ). 18- وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ إِنَّمَا هُوَ لِلْعُيُوبِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي لَا تُدْرَكُ بِالنَّظَرِ، أَمَّا لَوْ كَانَ الْعَيْبُ بَارِزًا لَا يَخْفَى عِنْدَ الرُّؤْيَةِ غَالِبًا فَيُعْتَبَرُ الْمُتَعَاقِدُ عَالِمًا بِهِ.وَمِثْلُهُ مَا لَوْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى مَزِيدِ تَأَمُّلٍ فَدَلَّ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى مَوْضِعِ الْعَيْبِ أَوْ صِفَتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَحُولُ دُونَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُتَعَاقِدِ الْآخَرِ الَّذِي تَعَامَى عَنْ إِبْصَارِ الْعَيْبِ الْوَاضِحِ.كَمَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لَمْ أَرَهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْعَيْبُ لَا يُعَايَنُ، فَهُوَ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ قِيَامِ الْخِيَارِ بِشَرَائِطِهِ.

وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ كَانَ الْعَيْبُ خَفِيًّا، لَكِنَّ الْمُتَعَاقِدَ صَرَّحَ بِهِ وَذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ اشْتِرَاطِ أَنَّهُ مَوْجُودٌ ظَاهِرٌ.كَمَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ ثَوْرًا بَاعَهُ عَلَى شَرْطِ أَنَّهُ يَرْقُدُ فِي الْمِحْرَاثِ أَوْ يَعْصِي فِي الطَّاحُونِ، أَوْ بَاعَ فَرَسًا عَلَى شَرْطِ أَنَّهَا جَمُوحٌ، ثُمَّ تَبَيَّنَ كَذَلِكَ، فَالْبَائِعُ بَرِيءٌ.

وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى خِبْرَةٍ خَاصَّةٍ، وَمَثَّلُوا لِذَلِكَ بِمَا إِذَا أَقْبَضَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ، وَقَالَ لِلْبَائِعِ اسْتَنْقِذْهُ فَإِنَّ فِيهِ زَيْفًا، فَقَالَ: رَضِيتُ بِزَيْفِهِ فَطَلَعَ فِيهِ زَيْفٌ، ذَكَرَ ابْنُ حَجَرِ الْهَيْتَمِيُّ: أَنَّ بَعْضَهُمْ أَفْتَى بِأَنَّهُ لَا رَدَّ لَهُ بِهِ، وَلَمْ يَرْتَضِهِ قَائِلًا: وَوَجْهُ رَدِّهِ أَنَّ الزَّيْفَ لَا يُعْرَفُ قَدْرُهُ فِي الدِّرْهَمِ بِمُجَرَّدِ مُشَاهَدَتِهِ فَلَمْ يُؤَثِّرَ الرِّضَا بِهِ.وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْإِعْلَامَ بِالْعَيْبِ- الَّذِي يَنْتَفِي بِهِ الْخِيَارُ- هُوَ الْإِعْلَامُ الْمُفِيدُ، وَهُنَا لَمْ يَسْتَفِدْ إِلاَّ وُجُودَ زَيْفٍ فِي الثَّمَنِ، أَمَّا كَمْ هُوَ؟ فَلَمْ يُحَدِّدْ.

19- وَقَدْ تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ إِلَى صُورَةٍ رُبَّمَا كَانَتْ نَادِرَةً فِي السَّابِقِ، إِلاَّ أَنَّهَا أَصْبَحَتِ الْآنَ مُحْتَمِلَةَ الْوُقُوعِ كَثِيرًا لِتَنَوُّعِ خَصَائِصِ الْأَشْيَاءِ وَخَفَاءِ عِلَلِهَا، بِحَيْثُ يَرَى الْمَرْءُ الْأَمْرَ الَّذِي يُلَابِسُهُ الْعَيْبُ وَلَكِنَّهُ يَظُنُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَيْبٍ، أَوْ يَعْلَمُهُ عَيْبًا وَلَكِنْ يَحْسِبُهُ لَا يُنْقِصُ الْقِيمَةَ وَهُوَ بِخِلَافِ ذَلِكَ.فَإِذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِالْأَمْرِ الْمُعْتَبَرِ عَيْبًا دُونَ أَنْ يَدْرِيَ أَنَّهُ عَيْبٌ وَقَبَضَهُ، ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ الْقَبْضِ أَنَّهُ عَيْبٌ، فَالْحُكْمُ هُنَا أَنْ يُنْظَرَ: إِنْ كَانَ عَيْبًا بَيِّنًا لَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ، وَإِنْ كَانَ يَخْفَى وَلَا يَعْرِفُهُ إِلاَّ ذَوُو الْخِبْرَةِ أَوِ الْمُخْتَصُّونَ بِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ فَلَهُ الرَّدُّ.

(الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ) عَدَمُ الْبَرَاءَةِ:

20- يُشْتَرَطُ لِقِيَامِ الْخِيَارِ أَنْ لَا يَكُونَ الْبَائِعُ قَدِ اشْتَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْعَيْبِ أَوِ الْعُيُوبِ الَّتِي فِي الْمَبِيعِ.وَلِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ تَفَاصِيلُ وَافِيَةٌ، بَلِ اقْتِرَانُهَا بِالْبَيْعِ يَجْعَلُ مِنْهُ نَوْعًا خَاصًّا مِنْ أَنْوَاعِ الْبُيُوعِ يُدْعَى بَيْعَ الْبَرَاءَةِ. مَسَائِلُ الْبَرَاءَةِ:

21- حُكْمُهَا وَمَجَالُهَا: اشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعَيْبِ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَيْبُ مَعْلُومًا لِلْمُشْتَرِطِ أَمْ مَجْهُولًا لَهُ، وَمَهْمَا كَانَ مَحَلُّ الْعَقْدِ، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْحَيَوَانِ وَحْدَهُ.لِأَنَّ الْحَيَوَانَ قَلَّمَا يَنْفَكُّ عَنْ عَيْبٍ خَفِيٍّ أَوْ ظَاهِرٍ فَيَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى شَرْطِ الْبَرَاءَةِ لِيَثِقَ بِلُزُومِ الْبَيْعِ فِيمَا لَا يَعْلَمُهُ مِنَ الْخَفِيِّ دُونَ مَا يَعْلَمُهُ.

وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعَيْبِ أَثَرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- حِينَ بَاعَ غُلَامًا لَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَبَاعَهُ بِالْبَرَاءَةِ، فَقَالَ الَّذِي ابْتَاعَهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: بِالْغُلَامِ دَاءٌ لَمْ تُسَمِّهِ لِي.فَاخْتَصَمَا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: بَاعَنِي عَبْدًا وَبِهِ دَاءٌ لَمْ يُسَمِّهِ.وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: بِعْتُهُ بِالْبَرَاءَةِ.فَقَضَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ: لَقَدْ بَاعَهُ الْعَبْدَ وَمَا بِهِ دَاءٌ يَعْلَمُهُ.فَأَبَى عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَحْلِفَ، وَارْتَجَعَ الْعَبْدَ، فَصَحَّ عِنْدَهُ، فَبَاعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ.

تَلْخِيصُ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي اشْتِرَاطِ الْبَرَاءَةِ:

22- الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُبَرَّأَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، عَلِمَهُ الْبَائِعُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ.وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَزَيْدٍ.

الثَّانِي: لَا يُبَرَّأُ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْعُيُوبِ حَتَّى يُسَمِّيَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَيْبُ مِمَّا يُعَايَنُ أَمْ لَا، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ.

الثَّالِثُ: لَا يُبَرَّأُ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْعُيُوبِ حَتَّى يَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِوَضْعِ الْيَدِ، إِمَّا الْمُعَايَنَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ فِيمَا يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ، وَإِمَّا حَقِيقَةُ وَضْعِ الْيَدِ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّقْلِ عَنْ شُرَيْحٍ وَعَطَاءٍ وَرِوَايَةٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَمَذْهَبِ إِسْحَاقَ.

الرَّابِعُ: لَا يُبَرَّأُ إِلاَّ مِنَ الْعَيْبِ الْبَاطِنِ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فِي الْحَيَوَانِ خَاصَّةً، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْمُوَطَّأِ وَالْقَوْلُ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.

الْخَامِسُ: أَنَّ الْبَرَاءَةَ إِنَّمَا هِيَ فِي بَيْعِ السُّلْطَانِ لِلْمَغْنَمِ، أَوْ عَلَى مُفْلِسٍ، أَوْ فِي دُيُونِ الْمَيِّتِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ.

السَّادِسُ: بُطْلَانُ الْبَيْعِ أَصْلًا وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


94-موسوعة الفقه الكويتية (خيار فوات الوصف)

خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّعْرِيفُ الْمُخْتَارُ لِخِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ مُسْتَمَدًّا مِنْ مَاهِيَّةِ هَذَا الْخِيَارِ، هُوَ (حَقُّ الْفَسْخِ لِتَخَلُّفِ وَصْفٍ مَرْغُوبٍ اشْتَرَطَهُ الْعَاقِدُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ).

وَمِثَالُهُ: أَنْ يَشْتَرِيَ إِنْسَانٌ شَيْئًا وَيَشْتَرِطَ فِيهِ وَصْفًا مَرْغُوبًا لَهُ، كَمَنِ اشْتَرَى حِصَانًا عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ أَصِيلٌ فَإِذَا هُوَ هَجِينٌ، أَوِ اشْتَرَى جَوَادًا عَلَى أَنَّهُ هِمْلَاجٌ (سَرِيعُ الْمَشْيِ فِي سُهُولَةٍ) فَإِذَا هُوَ بَطِيءٌ، أَوْ سَرِيعٌ فِي اضْطِرَابٍ وَعُسْرٍ، وَكَذَلِكَ شِرَاءُ الْبَقَرَةِ عَلَى أَنَّهَا حَلُوبٌ (كَثِيرَةُ اللَّبَنِ زِيَادَةً عَنِ الْمُعْتَادِ فِي أَمْثَالِهَا).

وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الْعَمَلِيَّةِ: اشْتِرَاطُ كَوْنِ الْكَلْبِ صَائِدًا، وَشَرْطُ كَوْنِ الثَّمَنِ مَكْفُولًا بِهِ.

تَسْمِيَتُهُ:

2- يُسَمَّى هَذَا الْخِيَارُ أَيْضًا بِخِيَارِ خُلْفِ الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ، وَقَدْ يَقْتَصِرُ عَلَى (خِيَارِ الْخُلْفِ) أَوْ يُدْعَى (تَخَلُّفُ الصِّفَةِ)، وَأَحْيَانًا يُسَمِّيهِ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ (خِيَارَ الْوَصْفِ) لَكِنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ مُوهِمَةٌ لِأَنَّ خِيَارَ الْوَصْفِ يُطْلَقُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ عَلَى مُطَابَقَةِ الْمَبِيعِ الْغَائِبِ لِلْوَصْفِ إِذَا بِيعَ عَلَى الصِّفَةِ، وَهُوَ مِمَّا يَنْتَفِي بِهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ إِلاَّ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ لِلتَّرَوِّي وَلَوْ طَابَقَ، كَمَا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَبْحَثُهُ مُسْتَقِلًّا، وَآخَرُونَ يُلْحِقُونَهُ بِخِيَارِ الْعَيْبِ أَوْ خِيَارِ الشَّرْطِ.

مَشْرُوعِيَّةُ اشْتِرَاطِ الْوَصْفِ فِي الْبَيْعِ:

3- لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِ مَشْرُوعِيَّةِ هَذَا الْخِيَارِ إِلاَّ بِإِثْبَاتِ مَوْضُوعِهِ وَهُوَ (اشْتِرَاطُ صِفَةٍ مَرْغُوبَةٍ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَوْلَا الِاشْتِرَاطُ لَمْ تَثْبُتْ)، وَمُسْتَنَدُ صِحَّةِ هَذَا الِاشْتِرَاطِ هُوَ تَسْوِيغُ الشُّرُوطِ الْعَقْدِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ لِلْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ النَّظَرِيَّةِ مَوَاقِفُ مُخْتَلِفَةٌ مَعَ صَعِيدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمْ هُوَ الصِّحَّةُ، بَعْدَ تَوَافُرِ مَا يَتَطَلَّبُهُ كُلُّ مَذْهَبٍ مِنْ شَرَائِطَ.وَهَذَا الْمَوْضُوعُ وَاقِعٌ فِي النِّطَاقِ الَّذِي لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ (الشَّرْطُ الَّذِي يُعْتَبَرُ مِنْ مَصَالِحِ الْعَقْدِ) كَاشْتِرَاطِ الرَّهْنِ أَوِ الْكَفِيلِ، أَمَّا اشْتِرَاطُ صِفَةٍ زَائِدَةٍ فَهُوَ مَقِيسٌ عَلَيْهِ.

وَسَبَبُ اعْتِبَارِ الْحَنَفِيَّةِ اشْتِرَاطَ الْوُصُوفِ سَائِغًا أَنَّهُمْ أَنْزَلُوهُ مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ إِذَا كَانَ لَا غَرَرَ فِيهِ، ذَلِكَ أَنَّ الْوَصْفَ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْبَيْعِ، دُونَ الْتِفَاتٍ إِلَى اشْتِرَاطِ الْمُشْتَرِي لَهُ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ وَيَكُونُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ، فَكَانَ اشْتِرَاطُهُ صَحِيحًا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَرَرٌ.

ثُمَّ إِنَّ الْوَصْفَ الْمَرْغُوبَ فِيهِ يَرْجِعُ إِلَى صِفَةِ الثَّمَنِ أَوِ الْمُثَمَّنِ، فَهُوَ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ.

3 م- وَلَمَّا كَانَ الْمُهِمُّ فِي تَسْوِيغِ اشْتِرَاطِ الصِّفَةِ الْأَثَرَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى الْإِخْلَالِ بِالشَّرْطِ هَلْ هُوَ الْفَسَادُ- كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي الِاشْتِرَاطِ فِي غَيْرِ الصِّفَاتِ- أَمِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا الرَّدُّ؟

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْأَثَرَ هُوَ التَّخْيِيرُ، وَلَمْ يَقُولُوا بِفَسَادِ الْعَقْدِ حِينَ تَخَلَّفَ الْوَصْفُ؛ لِأَنَّ تَخَلُّفَهُ لَا يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَذَلِكَ حَيْثُ يَقَعُ فِيهِ الْعَقْدُ عَلَى جِنْسٍ فَيَظْهَرُ أَنَّ الْمَبِيعَ جِنْسٌ آخَرُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ هُنَا؛ لِأَنَّ فَوَاتَ الْوَصْفِ رَاجِعٌ إِلَى اخْتِلَافِ النَّوْعِ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ فِي الْأَغْرَاضِ، فَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِفَوَاتِهِ.وَصَارَ كَفَوَاتِ وَصْفِ السَّلَامَةِ الَّذِي فِيهِ خِيَارُ الْعَيْبِ، فَيَكُونُ فِي هَذَا خِيَارُ الْوَصْفِ بِالْقِيَاسِ.

مَشْرُوعِيَّةُ خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ:

4- ذَهَبَ إِلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْخِيَارِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ.

وَيَسْتَنِدُ ثُبُوتُهُ عَلَى ثُبُوتِ خِيَارِ الْعَيْبِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ فَوَاتَ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ بَعْدَ أَنْ حَصَلَ فِي الْعَقْدِ الِالْتِزَامُ مِنَ الْبَائِعِ بِهِ، هُوَ فِي مَعْنَى فَوَاتِ وَصْفِ السَّلَامَةِ فِي الْمَبِيعِ إِذَا ظَهَرَ فِيهِ عَيْبٌ، فَكَمَا يَثْبُتُ فِي الصُّورَةِ الْأَخِيرَةِ خِيَارُ الْعَيْبِ يَثْبُتُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى خِيَارُ الْوَصْفِ.وَكُلٌّ مِنَ الْخِيَارَيْنِ ثَبَتَ لِتَخَلُّفِ شَرْطٍ فِي الْحِلِّ، غَيْرَ أَنَّ الشَّرْطَ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ ثَابِتٌ دَلَالَةً، كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ، أَمَّا فِي خِيَارِ الْوَصْفِ فَهُوَ ثَابِتٌ نَصًّا.

وَلِهَذَا أَوْرَدَ الشَّافِعِيَّةُ خِيَارَ فَوَاتِ الْوَصْفِ تَالِيًا لِخِيَارِ الْعَيْبِ أَوْ مُخْتَلِطًا بِهِ، كَمَا فَعَلَ الشِّيرَازِيُّ، وَقَدْ عَلَّلَ حَقَّ الْخِيَارِ فِيهِ بِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنْقَصَ مِمَّا شَرَطَ، وَأَضَافَ السُّبْكِيُّ: فَصَارَ كَالْمَعِيبِ الَّذِي يَخْرُجُ أَنْقَصَ مِمَّا اقْتَضَاهُ الْعُرْفُ.

شَرَائِطُ قِيَامِ خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ:

5- هَذِهِ الشَّرَائِطُ بَعْضُهَا يَنْبَغِي وُجُودُهُ فِي الْوَصْفِ لِيَكُونَ مُعْتَبَرًا اشْتِرَاطُهُ، وَبَعْضُهَا يَتَّصِلُ بِتَخَلُّفِ الْوَصْفِ أَوْ فَوَاتِهِ لِيَنْشَأَ عَنْ ذَلِكَ صِحَّةُ الْبَيْعِ مَعَ الْخِيَارِ بَدَلًا مِنَ الْفَسَادِ أَوِ الْبُطْلَانِ.

شَرَائِطُ الْوَصْفِ الْمُعْتَبَرِ:

6- يُشْتَرَطُ لِكَوْنِ الْوَصْفِ مُعْتَبَرًا:

1- أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ وُجُودَهُ وَصْفًا: أَمَّا لَوْ كَانَ مِلْكِيَّةَ عَيْنٍ أُخْرَى أَوْ مَنْفَعَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْأَوْصَافِ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ فَوَاتِ الْوَصْفِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الشُّرُوطِ.وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى فَسَادِ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الشَّاةِ حَامِلًا، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَصْفٍ بَلِ اشْتِرَاطُ مِقْدَارٍ مِنَ الْمَبِيعِ مَجْهُولٍ، وَضَمُّ الْمَعْلُومِ إِلَى الْمَجْهُولِ يَجْعَلُ الْكُلَّ مَجْهُولًا، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ الْوَصْفَ، مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمَبِيعِ بِلَا ذِكْرٍ، كَالْجَوْدَةِ، وَالْأَشْجَارِ، وَالْبِنَاءِ وَالْأَطْرَافِ.

2- أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْمَرْغُوبُ مُبَاحًا فِي الشَّرْعِ، (أَوْ مُقَرَّرًا مِنْهُ): فَاشْتِرَاطُ الْمَحْظُورِ مِنَ الْأَوْصَافِ لَاغٍ، كَاشْتِرَاطِهِ فِي الْكَبْشِ كَوْنَهُ نَطَّاحًا، أَوِ الدِّيكِ صَائِلًا (لِاسْتِعْمَالِهِ فِي صُوَرٍ مِنَ اللَّهْوِ مَحْظُورَةٍ) لِأَنَّ مَا لَا يُقِرُّهُ الشَّارِعُ يَمْتَنِعُ الِالْتِزَامُ بِهِ.

3- أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مُنْضَبِطًا (لَيْسَ فِيهِ غَرَرٌ): وَذَلِكَ بِحَيْثُ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ وَالْحُكْمُ بِوُجُودِهِ وَعَدَمِهِ.

4- أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مَرْغُوبًا فِيهِ: وَذَلِكَ بِحَسَبِ الْعَادَةِ، فَلَوِ اشْتَرَطَ مَا لَيْسَ بِمَرْغُوبٍ أَصْلًا، كَأَنْ يَكُونَ مَعِيبًا فَإِذَا هُوَ سَلِيمٌ فَلَا خِيَارَ لَهُ.وَيَتَّصِلُ بِالْكَلَامِ عَنْ مَرْغُوبِيَّةِ الْوَصْفِ أَنْ يَتَحَقَّقَ فِي الْمَبِيعِ وَصْفٌ أَفْضَلُ مِنَ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَصْفَ خَيْرٌ مِمَّا اشْتَرَطَهُ فَالْعَقْدُ لَازِمٌ وَلَا خِيَارَ لَهُ، وَذَكَرُوا مِنْ أَمْثِلَتِهِ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي الْجَمَلِ أَنَّهُ بَعِيرٌ فَإِذَا هُوَ نَاقَةٌ، وَالْمُشْتَرِي مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ مَا فِيهِ الدَّرُّ وَالنَّسْلُ.وَلِأَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ تَفْصِيلٌ فِي ضَبْطِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ، فَالْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّهُ مَا فِيهِ غَرَضٌ لِلْعَاقِدِ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ مَالِيَّةٌ أَمْ لَا، لِأَنَّ الْغَرَضَ أَعَمُّ مِنَ الْمَالِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّهُ مَا فِيهِ مَالِيَّةٌ لِاخْتِلَافِ الْقِيَمِ بِوُجُودِهِ وَعَدَمِهِ، وَأَوْجَزَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ: أَنَّهُ كُلُّ وَصْفٍ مَقْصُودٍ مُنْضَبِطٍ فِيهِ مَالِيَّةٌ.وَذَكَرَ السُّبْكِيُّ تَقْسِيمَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ وَالرَّافِعِيِّ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةَ إِلَى ثَلَاثَةٍ:

1- أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا زِيَادَةٌ مَالِيَّةٌ يَصِحُّ الْتِزَامُهَا وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ بِتَخَلُّفِهَا.

2- أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا غَرَضٌ صَحِيحٌ غَيْرُ الْمَالِ وَتَخَلُّفُهَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ عَلَى خِلَافٍ.

3- أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهَا مَالِيَّةٌ وَلَا غَرَضٌ مَقْصُودٌ، وَاشْتِرَاطُهَا لَغْوٌ لَا خِيَارَ بِفَقْدِهِ، ثُمَّ اسْتُحْسِنَ مِنَ النَّوَوِيِّ جَعْلُهَا قِسْمَيْنِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ أَوْ عَدَمِهِ.

5- أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُشْتَرِي الْوَصْفَ الْمَرْغُوبَ، وَيُوَافِقَ عَلَى ذَلِكَ الْبَائِعُ فِي الْعَقْدِ، فَلَا يُعْتَبَرُ حَالُ الْمُشْتَرِي قَرِينَةً كَافِيَةً عَنِ الِاشْتِرَاطِ.

وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ يَسْتَحِقُّ فِي الْعَقْدِ بِالشَّرْطِ- لَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ- فَلَوْلَاهُ لَمَا اسْتُحِقَّ.

عَلَى أَنَّهُ تُعْتَبَرُ حَالُ الْمُشْتَرِي فِي تَفْسِيرِ الْوَصْفِ فِيمَا إِذَا حَصَلَ اشْتِرَاطُهُ بِصُورَةٍ مُقْتَضِبَةٍ.وَكَذَلِكَ يُؤْخَذُ حَالُ الْمُشْتَرِي بِالِاعْتِبَارِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمَوْجُودِ فِي الْبَيْعِ، هَلْ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ فَيَسْقُطُ خِيَارُهُ أَمْ دُونَهُ.وَلَوِ اشْتَرَى كَلْبًا مَعْرُوفًا بِأَنَّهُ صَائِدٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ نِسْيَانُهُ، يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْوَصْفِ وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ صَرَاحَةً، كَكَوْنِ الْكَلْبِ صَائِدًا، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ رَغْبَةً فِي هَذِهِ الصِّفَةِ، فَصَارَتْ مَشْرُوطَةً دَلَالَةً.

وَفِي مَنْزِلَةِ الشَّرْطِ الصَّادِرِ مِنَ الْمُشْتَرِي مَا يَصْدُرُ مِنَ الْبَائِعِ مِنَ الْمُنَادَاةِ عَلَى السِّلْعَةِ حَالَ الْبَيْعِ أَنَّهَا كَذَا وَكَذَا، فَتُرَدُّ بِعَدَمِ هَذَا الْوَصْفِ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَلَا يُعَدُّ مَا يَقَعُ فِي الْمُنَادَاةِ مِنْ تَلْفِيقِ السِّمْسَارِ حَيْثُ كَانَتْ الْعَادَةُ أَنَّهُمْ يُلَفِّقُونَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَا رَدَّ عِنْدَ عَدَمِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمُنَادَاةِ عَلَى الظَّاهِرِ لِدُخُولِ الْمُشْتَرِي عَلَى عَدَمِ ذَلِكَ.

شَرَائِطُ تَخَلُّفِ الْوَصْفِ (أَوْ فَوَاتِهِ):

7- يُشْتَرَطُ فِي تَخَلُّفِ الْوَصْفِ (لِبَقَاءِ الْعَقْدِ صَحِيحًا وَاسْتِلْزَامِهِ الْخِيَارَ):

1- أَنْ يَكُونَ التَّخَلُّفُ دَاخِلًا تَحْتَ جِنْسِ الْمَبِيعِ، أَمَّا لَوِ اشْتَرَطَ أَنَّ الثَّوْبَ قُطْنٌ فَإِذَا هُوَ كَتَّانٌ فَالْعَقْدُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ.وَلَمَّا كَانَ فَوَاتُ الْوَصْفِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَافِ حَالِ الْمَبِيعِ عَنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ غَامِضًا، وَضَعَ الْفُقَهَاءُ لَهُ ضَابِطًا يُرَاعَى لِإِعْطَاءِ كُلِّ حَالَةٍ حُكْمَهَا الْمُنَاسِبَ مِنْ بَيْنِ الْأَحْكَامِ التَّالِيَةِ: الْفَسَادِ، الصِّحَّةِ وَثُبُوتِ الْخِيَارِ، الصِّحَّةِ دُونَ خِيَارٍ.

وَالضَّابِطُ هُوَ فُحْشُ التَّفَاوُتِ فِي الْأَغْرَاضِ وَعَدَمُهُ وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَارِنَ الْمَبِيعَ بِالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ وَيَرَى مَدَى الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى وَالِاخْتِلَافُ فِي النَّوْعِ فَحَسْبُ، فَفِيهِ الْخِيَارُ، أَمَّا إِنْ كَانَ التَّفَاوُتُ فِي الْجِنْسِ فَحُكْمُهُ الْفَسَادُ.

وَلِهَذَا تَفْصِيلٌ جَيِّدٌ أَوْرَدَهُ ابْنُ الْهُمَامِ وَهُوَ مِثَالٌ يُحْتَذَى لِلتَّمْيِيزِ فِي غَيْرِ الذَّوَاتِ الَّتِي اتَّخَذَهَا مَوْضُوعًا لِلتَّوْضِيحِ، فَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ ضَابِطَ اخْتِلَافِ الْمَوْجُودِ عَنِ الْمَشْرُوطِ هُوَ إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى فَفِيهِ الْخِيَارُ وَذَكَرَ أَنَّ مَا فَحُشَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ أَغْرَاضِهِ فَهُوَ أَجْنَاسٌ، وَمَا لَمْ يَفْحُشُ فَهُوَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَأَوْرَدَ فِيمَا يُعْتَبَرُ مِنَ الثِّيَابِ أَجْنَاسًا كَالْكَتَّانِ، وَالْقُطْنِ.وَأَنَّ الذَّكَرَ مَعَ الْأُنْثَى.

وَأَمَّا اخْتِلَافُ النَّوْعِ دُونَ الْجِنْسِ فَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: شِرَاءُ لَحْمٍ عَلَى أَنَّهُ لَحْمُ مَعْزٍ فَإِذَا هُوَ لَحْمُ ضَأْنٍ، وَعَكْسُهُ.

حَدُّ الْفَوَاتِ:

8- إِذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ قَبْضِهِ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَطِ فَلَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ، أَمَّا إِنْ لَمْ يَجِدَ الْوَصْفَ أَصْلًا أَوْ وَجَدَ مِنْهُ شَيْئًا يَسِيرًا نَاقِصًا بِحَيْثُ لَا يَنْطَلِقُ الِاسْمُ عَلَيْهِ فَلَهُ حَقُّ الرَّدِّ.

وَمِثَالُهُ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي شِرَاءِ الْكَلْبِ أَنْ يَكُونَ كَلْبًا صَائِدًا، فَوَصْفُ الصَّيْدِ لَهُ مَفْهُومٌ وَهُوَ الِاسْتِجَابَةُ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الِانْقِضَاضِ عَلَى الصَّيْدِ.وَالِائْتِمَارُ بِأَمْرِ مُرْسِلِهِ بِحَيْثُ يَرْجِعُ إِنِ اسْتَدْعَاهُ أَوْ يَنْطَلِقُ إِنْ أَغْرَاهُ، فَمَتَى وُجِدَ هَذَا الْوَصْفُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بِالصُّورَةِ الْمُثْلَى الَّتِي يَنْدُرُ مَعَهَا إِفْلَاتُ الْفَرِيسَةِ مِنْهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ.أَمَّا إِذَا كَانَ لَا يَصِيدُ أَصْلًا، أَوْ يَصِيدُ بِصُورَةٍ نَاقِصَةٍ لَا يَسْتَحِقُّ مَعَهَا أَنْ يُسَمَّى (صَائِدًا) فَلَهُ حَقُّ الرَّدِّ.

2- أَنْ يَكُونَ فَوَاتُ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَطِ لَيْسَ عَيْبًا:

9- وَقَدْ تَوَارَدَتْ عِبَارَاتُ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْمُثْبِتِينَ لِهَذَا الْخِيَارِ عَلَى أَنَّ الصِّفَةَ الْمَقْصُودَةَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِمَّا لَا يُعَدُّ فَقْدُهَا عَيْبًا، وَإِلاَّ كَانَتِ الْقَضِيَّةُ مِنْ بَابِ خِيَارِ الْعَيْبِ.

مُوجِبُ خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ:

10- إِذَا تَحَقَّقَ فَوَاتُ الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ- كَمَا سَبَقَ- وَكَانَ مُسْتَوْفِيًا الشَّرَائِطَ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ.وَمَاهِيَّةُ هَذَا الْخِيَارِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقُّ رَدِّ الْمَبِيعِ، أَوْ أَخْذِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ دُونَ أَرْشٍ لِلْوَصْفِ الْفَائِتِ.

هَذَا، إِذَا لَمْ يَمْتَنِعَ الرَّدُّ، فَإِنِ امْتَنَعَ الرَّدُّ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّةِ الْوَصْفِ الْفَائِتِ مِنَ الثَّمَنِ.وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَوَّمَ الْمَبِيعُ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ.الْوَصْفِ وَغَيْرَ مُتَّصِفٍ بِهِ، وَيَرْجِعَ بِالتَّفَاوُتِ.

وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي بِالشَّرْطِ لَا بِالْعَقْدِ، وَتَعَذُّرُ الرَّدِّ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ لَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ عَلَى الْبَائِعِ، فَكَذَا هَذَا، وَالصَّحِيحُ الرِّوَايَةُ السَّابِقَةُ- وَهِيَ مِنْ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.لِأَنَّ الْبَائِعَ عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِهِ وَصْفَ السَّلَامَةِ، كَمَا فِي الْعَيْبِ.

أَمَّا انْحِصَارُ الْخِيَارِ فِي أَمْرَيْنِ، هُمَا الرَّدُّ أَوِ الْأَخْذُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَعَدَمُ تَخْوِيلِ الْمُشْتَرِي الرُّجُوعَ بِحِصَّةِ الْفَوَاتِ إِلاَّ عِنْدَ امْتِنَاعِ الرَّدِّ، فَهُوَ أَنَّ الْفَائِتَ وَصْفٌ، وَالْأَوْصَافُ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، لِكَوْنِهَا تَابِعَةً فِي الْعَقْدِ تَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ، وَلَوْ فَاتَتْ بِيَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَمْ يَنْقُصْ مِنَ الثَّمَنِ شَيْءٌ. الْعُقُودُ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ:

11- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ مَجَالَ هَذَا الْخِيَارِ هُوَ مَجَالُ خِيَارِ الْعَيْبِ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ عَلَى مَا يَتَعَيَّنُ، فَلَا يَثْبُتُ فِي الْمَبِيعِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ بِالتَّعْيِينِ، وَهُوَ الْمَبِيعُ الَّذِي يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ عَلَى طِبْقِ الْوَصْفِ فَهُوَ غَيْرُ الْمَبِيعِ.

وَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ فِي الْمَبِيعِ الْغَائِبِ، لِأَنَّ لِلْمَبِيعِ الْغَائِبِ خِيَارًا خَاصًّا بِهِ وَهُوَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ.

تَوْقِيتُ خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ:

12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ عَلَى التَّرَاخِي وَلَا يَتَوَقَّتُ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ إِلَى أَنْ يُوجَدَ مَا يُسْقِطُهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا.وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ تَوْقِيتَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَهُوَ عِنْدَهُمْ عَلَى الْفَوْرِ.وَذَلِكَ كُلُّهُ مُنْسَجِمٌ مَعَ اعْتِبَارِ خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ بِخِيَارِ الْعَيْبِ وَابْتِنَائِهِ عَلَيْهِ.

انْتِقَالُهُ بِالْمَوْتِ:

13- هَذَا الْخِيَارُ يُورَثُ بِمَوْتِ مُسْتَحِقِّهِ، فَيَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، لِأَنَّهُ فِي ضِمْنِ مِلْكِ الْعَيْنِ، هَكَذَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَالِانْتِقَالُ عِنْدَهُمْ مُقَرَّرٌ فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ مِنَ الْخِيَارَاتِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْعَيْنِ.

سُقُوطُهُ:

14- يَسْقُطُ بِمَا يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الْعَيْبِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (خِيَارُ الْعَيْبِ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


95-موسوعة الفقه الكويتية (خيار المجلس)

خِيَارُ الْمَجْلِسِ

التَّعْرِيفُ:

1- سَبَقَ الْكَلَامُ عَنْ كَلِمَةِ (خِيَارٌ) فِي مُصْطَلَحِ خِيَارٌ بِوَجْهٍ عَامٍّ، وَأَمَّا كَلِمَةُ (الْمَجْلِسِ) - بِكَسْرِ اللاَّمِ- فَهِيَ تَرِدُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرًا مِيمِيًّا، وَاسْمًا لِلزَّمَانِ، وَاسْمًا لِلْمَكَانِ، مِنْ مَادَّةِ (الْجُلُوسِ) وَاسْتِعْمَالُهُ الْمُنَاسِبُ هُنَا هُوَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ، أَيْ مَوْضِعِ الْجُلُوسِ.وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ كَلِمَةَ (الْمَجْلِسِ) تَحْمِلُ مَعْنَى (مَجْلِسِ الْعَقْدِ) فَهِيَ لَيْسَتْ لِمُطْلَقِ مَجْلِسٍ، بَلْ لِمَجْلِسِ الْعَقْدِ خَاصَّةً، وَهَذَا التَّقْيِيدُ تُشِيرُ إِلَيْهِ (أَلْ) فَهِيَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْهُودِ فِي الذِّهْنِ.وَالْمُرَادُ مَكَانُ التَّبَايُعِ أَوِ التَّعَاقُدِ.فَمَا دَامَ الْمَكَانُ الَّذِي يَضُمُّ كِلَا الْعَاقِدَيْنِ وَاحِدًا، فَلَهُمَا الْخِيَارُ فِي إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ، إِلَى أَنْ يَتَفَرَّقَا وَيَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجْلِسُهُ الْمُسْتَقِلُّ.

وَمَجْلِسُ الْعَقْدِ: هُوَ الْوِحْدَةُ الزَّمَنِيَّةُ الَّتِي تَبْدَأُ مِنْ وَقْتِ صُدُورِ الْإِيجَابِ، وَتَسْتَمِرُّ طِوَالَ الْمُدَّةِ الَّتِي يَظَلُّ فِيهَا الْعَاقِدَانِ مُنْصَرِفَيْنِ إِلَى التَّعَاقُدِ، دُونَ ظُهُورِ إِعْرَاضٍ مِنْ أَحَدِهِمَا عَنِ التَّعَاقُدِ، وَتَنْتَهِي بِالتَّفَرُّقِ، وَهُوَ مُغَادَرَةُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ لِلْمَكَانِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ الْعَقْدُ.

وَفِي حُكْمِ التَّفَرُّقِ حُصُولُ التَّخَايُرِ.وَهُوَ أَنْ يُخَيِّرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فِي إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ رَدِّهِ.

لَكِنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ لَا يَبْدَأُ مِنْ صُدُورِ الْإِيجَابِ بَلْ مِنْ لَحَاقِ الْقَبُولِ بِهِ مُطَابِقًا لَهُ، أَمَّا قَبْلَ وُقُوعِ الْقَبُولِ فَإِنَّ الْعَاقِدَيْنِ يَمْلِكَانِ خِيَارًا فِي إِجْرَاءِ الْعَقْدِ أَوْ عَدَمِهِ، لَكِنَّهُ خِيَارٌ يُدْعَى خِيَارُ الْقَبُولِ، وَهُوَ يَسْبِقُ تَمَامَ التَّعَاقُدِ.هَذَا، وَإِنَّ حَقِيقَةَ الْجُلُوسِ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً فِي هَذَا الْخِيَارِ الْمُسَمَّى (بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ)، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْفَتْرَةُ الزَّمَنِيَّةُ الَّتِي تَعْقُبُ عَمَلِيَّةَ التَّعَاقُدِ دُونَ طُرُوءِ التَّفَرُّقِ مِنْ مَكَانِ التَّعَاقُدِ.فَالْجُلُوسُ ذَاتُهُ لَيْسَ مُعْتَبَرًا فِي ثُبُوتِهِ، وَلَا تَرْكُ الْمَجْلِسِ مُعْتَبَرٌ فِي انْقِضَائِهِ، بَلِ الْعِبْرَةُ لِلْحَالِ الَّتِي يَتَلَبَّسُ بِهَا الْعَاقِدَانِ، وَهِيَ الِانْهِمَاكُ فِي التَّعَاقُدِ.

فَخِيَارُ الْمَجْلِسِ هُوَ: حَقُّ الْعَاقِدِ فِي إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ رَدِّهِ، مُنْذُ التَّعَاقُدِ إِلَى التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ.

وَمُعْظَمُ الْمُؤَلِّفِينَ يَدْعُونَ هَذَا الْخِيَارَ (خِيَارَ الْمَجْلِسِ) غَيْرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ دَعَاهُ (خِيَارَ الْمُتَبَايِعَيْنِ) وَلَعَلَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُثْبِتِ لِهَذَا الْخِيَارِ، وَهُوَ «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا».فَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ الْمَرْوِيَّةِ: «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ».وَبَعْضُ مَنْ لَا يَأْخُذُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ قَدْ يَسْتَعْمِلُونَ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ أَيْضًا لَكِنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَهُ، بَلْ يَقْصِدُونَ حَالَاتِ تَخْيِيرٍ أُخْرَى نَاشِئَةً بِأَسْبَابٍ شَرْعِيَّةٍ، تَتَقَيَّدُ مُدَّتُهَا بِمَجْلِسِ نُشُوءِ الْخِيَارِ الَّذِي ثَبَتَ لِمُدَّةٍ لَا تُجَاوِزُ زَمَنَ الْمَجْلِسِ، نَحْوُ تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ لِلزَّوْجَةِ، حَيْثُ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهَا مَا لَمْ تَقُمْ فَتُبَدِّلُ مَجْلِسُهَا، أَوْ تَعْمَلُ مَا يَقْطَعُ الْمَجْلِسَ.

مَشْرُوعِيَّةُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ:

2- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ، فَذَهَبَ مُعْظَمُهُمْ إِلَى الْقَوْلِ بِهِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى إِنْكَارِهِ وَاعْتِبَارِ الْعَقْدِ لَازِمًا مِنْ فَوْرِ انْعِقَادِهِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.

فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، ذَهَبُوا إِلَى إِثْبَاتِهِ، فَلَا يَلْزَمُ الْعَقْدُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ إِلاَّ بِالتَّفَرُّقِ عَنِ الْمَجْلِسِ أَوِ التَّخَايُرِ وَاخْتِيَارِ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ فُقَهَاءِ السَّلَفِ إِلَى نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ.كَمَا نَفَاهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ لَمْ تُدَوَّنْ مَذَاهِبُهُمْ، الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالْعَنْبَرِيُّ.

وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ مِنَ السُّنَّةِ الْقَوْلِيَّةِ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ» وَفِي رِوَايَةٍ «مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَكُونُ الْبَيْعُ خِيَارًا» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ».وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ إِثْبَاتُ الْخِيَارِ مِنَ الشَّرْعِ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ، وَهُمَا مُتَبَايِعَانِ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَهُمَا مُتَسَاوِمَانِ.وَالْحَدِيثُ وَإِنْ جَاءَ بِلَفْظِ (الْمُتَبَايِعَيْنِ) يَشْمَلُ مَا فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ.وَوَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَوْلُهُ: «كَانَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا».وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِي أُصُولِ الْحَدِيثِ، وَأُصُولِ الْفِقْهِ، أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا، لَهُ حُكْمُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ.

وَاسْتَدَلُّوا مِنَ السُّنَّةِ الْفِعْلِيَّةِ بِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- خَيَّرَ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ الْبَيْعِ، أَيْ قَالَ لَهُ: «اخْتَرْ»، لِكَيْ يَنْبَرِمَ الْعَقْدُ، وَذَلِكَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْحَدِيثِ بِرِوَايَتِهِ الْأُخْرَى، «أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- بَايَعَ رَجُلًا فَلَمَّا بَايَعَهُ قَالَ لَهُ: اخْتَرْ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا الْبَيْعُ».

وَهُنَاكَ آثَارٌ لِلصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَظَانِّهَا.

وَاسْتَدَلُّوا لَهُ أَيْضًا بِالْمَعْقُولِ، كَحَاجَةِ النَّاسِ الدَّاعِيَةِ إِلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بَعْدَ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا قَدْ يَبْدُو لَهُ فَيَنْدَمُ، فَبِالْخِيَارِ الثَّابِتِ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ.

وَاحْتَجَّ النُّفَاةُ بِدَلَائِلَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ:

فَمِنَ الْكِتَابِ قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فَهَذِهِ الْآيَةُ أَبَاحَتْ أَكْلَ الْمَالِ بِالتِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ، مُطْلَقًا عَنْ قَيْدِ التَّفَرُّقِ عَنْ مَكَانِ الْعَقْدِ.وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جَوَازُ الْأَكْلِ فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ، وَعِنْدَ الْقَائِلِينَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، إِذَا فَسَخَ أَحَدُهُمَا الْعَقْدَ فِي الْمَجْلِسِ لَا يُبَاحُ لَهُ الْأَكْلُ، فَكَانَ ظَاهِرُ النَّصِّ حُجَّةً عَلَيْهِمْ.

وقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} فَإِذَا لَمْ يَقَعِ الْعَقْدُ لَازِمًا لَمْ يَتَحَقَّقْ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِهِ، وَهُوَ مَا تَقْضِي بِهِ الْآيَةُ.

وَاحْتَجُّوا مِنَ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَقْيِيدَ بِالتَّفَرُّقِ، فَلَوْ كَانَ قَيْدًا لَذَكَرَهُ، كَمَا ذَكَرَ قَيْدَ الِاسْتِيفَاءِ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ.

كَمَا أَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِإِحْدَى رِوَايَاتِ حَدِيثِ الْمُتَبَايِعَيْنِ الَّتِي فِيهَا: «فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ»،، حَيْثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ إِلاَّ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِقَالَةِ.

وَحَدِيثِ: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» وَفِي رِوَايَةٍ: «عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» وَالْقَوْلُ بِالْخِيَارِ بَعْدَ الْعَقْدِ يُفْسِدُ الشَّرْطَ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ يَعْتَبِرُ الشُّرُوطَ.

وَقَاسُوا الْبَيْعَ وَنَحْوَهُ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ فِي هَذَا عَلَى النِّكَاحِ، وَالْخُلْعِ، وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ، وَالْكِتَابَةِ، وَكُلٌّ مِنْهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَتِمُّ بِلَا خِيَارِ الْمَجْلِسِ، بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الرِّضَا، فَكَذَلِكَ الْبَيْعُ.

كَمَا قَاسُوا مَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ عَلَى مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قِيَاسٌ جَلِيٌّ.

وَمِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ قَالُوا: إِنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ خِيَارٌ بِمَجْهُولٍ، فَإِنَّ مُدَّةَ الْمَجْلِسِ مَجْهُولَةٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَا خِيَارًا مَجْهُولًا، وَهَذِهِ جَهَالَةٌ فَاحِشَةٌ مَمْنُوعَةٌ فِي الشَّرْعِ.

وَكَذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ الْبَيْعَ صَدَرَ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطٍ، وَالْعَقْدُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ فِي الْحَالِ.فَالْفَسْخُ مِنْ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ يَكُونُ تَصَرُّفًا فِي الْعَقْدِ الثَّابِتِ بِتَرَاضِيهِمَا، أَوْ تَصَرُّفًا فِي حُكْمِهِ بِالرَّفْعِ وَالْإِبْطَالِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْآخَرِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، كَمَا لَمْ تَجُزِ الْإِقَالَةُ أَوِ الْفَسْخُ مِنْ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ.

زَمَنُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ:

3- الزَّمَنُ الَّذِي يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، هُوَ الْفَتْرَةُ الَّتِي أَوَّلُهَا لَحْظَةُ انْبِرَامِ الْعَقْدِ، أَيْ بَعْدَ صُدُورِ الْقَبُولِ مُوَافِقًا لِلْإِيجَابِ.

أَمَدُ الْخِيَارِ:

4- أَمَدُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ لَا يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ، لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ لِإِرَادَةِ كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَيَطُولُ بِرَغْبَتِهِمَا فِي زِيَادَةِ التَّرَوِّي، وَيَقْصُرُ بِإِرَادَةِ الْمُسْتَعْجِلِ مِنْهُمَا حِينَ يُخَايِرُ صَاحِبَهُ أَوْ يُفَارِقُهُ.فَهُوَ يُخَالِفُ فِي هَذَا خِيَارَ الشَّرْطِ الْقَائِمَ عَلَى تَعْيِينِ الْأَمَدِ بِصُورَةٍ مُحَدَّدَةٍ.فَانْتِهَاءُ الْخِيَارِ عَلَى هَذَا غَيْرُ مُنْضَبِطٍ لِارْتِبَاطِهِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ.وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ زَمَنُ حُصُولِهِ.

وَلَكِنَّ هُنَاكَ وَجْهًا فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَصَفَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ، مُفَادُهُ: أَنَّ لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ أَمَدًا أَقْصَى هُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ كَيْ لَا يَزِيدَ عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ.

وَهُنَاكَ وَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّ مِنْ مُسْقِطَاتِهِ شُرُوعَ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي أَمْرٍ آخَرَ، وَإِعْرَاضَهُ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقْدِ مَعَ طُولِ الْفَصْلِ.فَهَذَا الْمُسْقِطُ يُقَصِّرُ مِنْ أَجَلِ الْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنَ التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ.لِأَنَّهُ يَحْصُرُهُ فِي حَالَةِ التَّعَاقُدِ الْجَادَّةِ وَهِيَ بُرْهَةٌ يَسِيرَةٌ.وَالرَّاجِحُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ الْقَائِلُ بِأَنَّهُ ثَابِتٌ حَتَّى التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ.

انْتِهَاءُ الْخِيَارِ:

5- أَسْبَابُ انْتِهَاءِ الْخِيَارِ مُنْحَصِرَةٌ فِي التَّفَرُّقِ، وَالتَّخَايُرِ (اخْتِيَارِ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ).وَهُنَاكَ سَبَبٌ ثَالِثٌ يَنْتَهِي بِهِ الْخِيَارُ تَبَعًا لِانْتِهَاءِ الْعَقْدِ، أَصْلًا، وَهُوَ فَسْخُ الْعَقْدِ، ذَلِكَ أَنَّ الْفَسْخَ هُوَ الَّذِي شُرِعَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ لِإِتَاحَتِهِ، لَكِنَّهُ يَأْتِي عَلَى الْعَقْدِ وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ.وَكَذَلِكَ يَسْقُطُ الْخِيَارُ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ، وَبِالْمَوْتِ، عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الْقَائِلَةِ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ.

أَوَّلًا: التَّفَرُّقُ:

6- يَنْتَهِي خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِالتَّفَرُّقِ، وَهُوَ سَبَبٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُثْبِتِينَ لَهُ، وَيُرَاعَى فِيهِ عُرْفُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.

ثَانِيًا- التَّخَايُرُ:

اخْتِيَارُ لُزُومِ الْعَقْدِ:

7- مِنْ أَسْبَابِ انْتِهَاءِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ اخْتِيَارُ لُزُومِ الْعَقْدِ، عَلَى أَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَيَسْقُطَ بِهِ الْخِيَارُ، وَسَبِيلُهُ أَنْ يَقُولَا: اخْتَرْنَا لُزُومَ الْعَقْدِ، أَوْ أَمْضَيْنَاهُ، أَوْ أَلْزَمْنَاهُ، أَوْ أَجَزْنَاهُ أَوْ نَحْوَهُ.وَاجْتِمَاعُهُمَا عَلَى اخْتِيَارِ اللُّزُومِ يُسَمَّى: التَّخَايُرُ وَلَهُ نَظِيرُ الْأَثَرِ الَّذِي يَحْدُثُ بِالتَّفَرُّقِ.

الْخِلَافُ فِي التَّخَايُرِ:

8- اخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ فِي انْتِهَائِهِ بِالتَّخَايُرِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَصَفَهَا ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّهَا أَصَحُّ إِلَى انْتِهَاءِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِالتَّخَايُرِ.

وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى عَدَمِ انْتِهَاءِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِالتَّخَايُرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ.مُسْتَنَدُ الرِّوَايَةِ الْمُقْتَصِرَةِ عَلَى التَّفَرُّقِ أَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ وَلَا تَخْصِيصٍ، وَهِيَ رِوَايَةُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَأَبِي بَرْزَةَ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

أَمَّا مُسْتَنَدُ الرِّوَايَةِ الْمُصَحَّحَةِ الَّتِي تَجْعَلُ الْمُسْقِطَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ: التَّفَرُّقَ أَوِ التَّخَايُرَ، فَهُوَ الرِّوَايَاتُ الْأُخْرَى الْمُتَضَمَّنَةُ لِذَيْنِكَ الْأَمْرَيْنِ، كَرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ الْمَرْفُوعَةِ: «فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ» أَيْ لَزِمَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا: «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ كَانَ عَنْ خِيَارٍ فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ عَنْ خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ» قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى.

أَحْكَامُ التَّخَايُرِ:

9- التَّخَايُرُ إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ صَرَاحَةً بِنَحْوِ عِبَارَةِ: اخْتَرْنَا إِمْضَاءَ الْعَقْدِ، وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ ضِمْنًا، وَمِثَالُهُ: أَنْ يَتَبَايَعَ الْعَاقِدَانِ الْعِوَضَيْنِ (اللَّذَيْنِ جَرَى عَلَيْهِمَا الْعَقْدُ الْأَوَّلُ) بَعْدَ قَبْضِهِمَا فِي الْمَجْلِسِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُتَضَمِّنٌ لِلرِّضَا بِلُزُومِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ.بَلْ يَكْفِي تَصَرُّفُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ مَعَ الْآخَرِ بِالْعِوَضِ الَّذِي لَهُ، أَيْ لَا يُشْتَرَطُ تَبَايُعُ الْعِوَضَيْنِ، بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ تَصْوِيرٍ، وَيَكْفِي بَيْعُ أَحَدِهِمَا لِسُقُوطِ الْخِيَارِ وَإِمْضَاءِ الْعَقْدِ.

وَانْتِهَاءُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِالتَّخَايُرِ، إِنَّمَا هُوَ إِذَا وَقَعَ اخْتِيَارُ الْفَسْخِ أَوِ الْإِمْضَاءِ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ، أَوْ قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ: اخْتَرْ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ لِسُقُوطِ الْخِيَارِ.أَمَّا إِذَا قَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: اخْتَرْ، فَسَكَتَ وَلَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ، فَمَا حُكْمُ خِيَارِ السَّاكِتِ؟ وَمَا حُكْمُ خِيَارِ الْقَائِلِ؟ خِيَارُ السَّاكِتِ بَعْدَ التَّخْيِيرِ:

ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ السَّاكِتَ لَا يَنْقَطِعُ خِيَارُهُ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ: سُقُوطُ خِيَارِهِ.وَاسْتُدِلَّ لِلِاتِّجَاهِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُبْطِلُ خِيَارَهُ فَلَمْ يَحْصُلِ الرِّضَا، إِنَّمَا سَكَتَ عَنِ الْفَسْخِ أَوِ الْإِمْضَاءِ.فَإِسْقَاطُ خِيَارِهِ يَتَنَافَى مَعَ حَقِّهِ فِي الْخِيَارِ وَالِاخْتِيَارِ بِنَفْسِهِ.

وَاسْتُدِلَّ لِلِاتِّجَاهِ الثَّانِي بِقِيَاسِ السُّقُوطِ عَلَى الثُّبُوتِ، فَكَمَا أَنَّ ثُبُوتَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ لَا يَتَجَزَّأُ فَلَا يَثْبُتُ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَكَذَلِكَ سُقُوطُهُ، لِيَتَسَاوَيَا فِي انْتِهَاءِ الْعَقْدِ، كَمَا تَسَاوَيَا فِي قِيَامِهِ وَنُشُوئِهِ.

خِيَارُ الْمُنْفَرِدِ بِالتَّخْيِيرِ:

أَمَّا خِيَارُ الَّذِي بَادَرَ إِلَى تَخْيِيرِ صَاحِبِهِ فَلَمْ يُجِبْهُ هَذَا بِشَيْءٍ، فَفِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ رَأْيَانِ:

الْأَوَّلُ: سُقُوطُ خِيَارِهِ- وَهُوَ الْأَصَحُّ- بِدَلَالَةِ تَعْلِيقِ الْحَدِيثِ مَصِيرَ خِيَارِ الْعَاقِدِ عَلَى صُدُورِ التَّخْيِيرِ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ جَعَلَ لِصَاحِبِهِ مَا مَلَكَهُ مِنَ الْخِيَارِ فَسَقَطَ خِيَارُهُ.

الرَّأْيُ الثَّانِي: لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ، لِأَنَّهُ خَيَّرَ صَاحِبَهُ فَلَمْ يَخْتَرْ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ، لِأَنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى التَّخْيِيرِ كَانَ بِقَصْدِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ لَهُمَا، فَلَمَّا لَمْ يَحْصُلْ بَقِيَ لَهُ خِيَارُهُ.

اخْتِيَارُ فَسْخِ الْعَقْدِ:

10- سَوَاءٌ حَصَلَ الْفَسْخُ لِلْعَقْدِ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ جَمِيعًا، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ بِصُدُورِهِ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَلَوْ تَمَسَّكَ الْآخَرُ بِإِجَازَةِ الْعَقْدِ، ذَلِكَ أَنَّ الْفَسْخَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِجَازَةِ حِينَ اخْتِلَافِ رَغْبَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْخِيَارِ إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ التَّمَكُّنُ مِنَ الْفَسْخِ دُونَ الْإِجَازَةِ لِأَصَالَتِهَا.وَالْفَسْخُ- كَمَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ- مَقْصُودُ الْخِيَارِ.

وَفَسْخُ الْعَقْدِ مُسْقِطٌ لِلْخِيَارِ تَبَعًا، لِأَنَّ سُقُوطَهُ كَانَ لِسُقُوطِ الْعَقْدِ أَصْلًا، فَيَسْقُطُ الْخِيَارُ أَيْضًا لِابْتِنَائِهِ عَلَيْهِ، وَحَسَبَ الْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ «إِذَا بَطَلَ الشَّيْءُ بَطَلَ مَا فِي ضِمْنِهِ».

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ حُصُولِ الْفَسْخِ مُبَاشَرَةً، أَوْ عَقِبَ تَخْيِيرِ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ، فَالْأَثَرُ لِلْفَسْخِ، لِأَنَّهُ هُوَ مَقْصُودُ الْخِيَارِ.

ثَالِثًا- التَّصَرُّفُ:

11- يَفْتَرِقُ الشَّافِعِيَّةُ عَنِ الْحَنَابِلَةِ فِي هَذَا الْمُسْقِطِ، فَفِي حِينِ يَأْبَاهُ الْأَوَّلُونَ، وَيُصَرِّحُونَ بِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ لَا يُسْقِطُ خِيَارَ الْمَجْلِسِ فِي غَيْرِ صُورَةِ الْبَيْعِ كَمَا سَبَقَ، يَذْهَبُ الْحَنَابِلَةُ إِلَى التَّفْصِيلِ، فَفِي عِدَّةِ صُوَرٍ يَسْقُطُ بِالتَّصَرُّفِ مِنَ الْمُشْتَرِي- أَوِ الْبَائِعِ- خِيَارُهُمَا جَمِيعًا، أَوْ خِيَارُ أَحَدِهِمَا.

وَتَجْدُرُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ أَكْثَرَ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ اكْتَفَوْا بِالْبَيَانِ دَلَالَةً دُونَ التَّصْرِيحِ بِعَدَمِ الْأَثَرِ لِلتَّصَرُّفِ فِي إِسْقَاطِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، حَيْثُ نَصُّوا فِي بَابِ خِيَارِ الشَّرْطِ عَلَى إِسْقَاطِهِ إِيَّاهُ، وَسَكَتُوا فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ عَنِ اعْتِبَارِهِ مُسْقِطًا، لَكِنَّ بَعْضَهُمْ عَزَّزَ هَذَا الْبَيَانَ بِالتَّصْرِيحِ، فَفِي شَرْحِ الْقَاضِي زَكَرِيَّا لِمُخْتَصَرِهِ «الْمَنْهَجِ» عِنْدَمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْمُسْقِطَيْنِ: التَّخَايُرِ وَالتَّفَرُّقِ، أَضَافَ مُحَشِّيهِ سُلَيْمَانُ الْجَمَلُ قَائِلًا مِنْ طَرِيقِ الْحَاشِيَةِ عَلَى نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ عَنْ شَرْحِ الْعُبَابِ: إِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ حَصْرِهِ لِقَاطِعِ الْخِيَارِ فِيهِمَا، أَنَّ رُكُوبَ الْمُشْتَرِي الدَّابَّةَ الْمَبِيعَةَ لَا يَقْطَعُ، وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِاخْتِبَارِهَا، وَالثَّانِي يَقْطَعُ، لِتَصَرُّفِهِ، وَالَّذِي يُتَّجَهُ تَرْجِيحُهُ الْأَوَّلُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّصَرُّفِ يَقْطَعُهُ، وَيُقَاسُ بِالْمَذْكُورِ مَا فِي مَعْنَاهُ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا بِأَنَّهُ مِنَ الْفُرُوقِ بَيْنَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ، فَلَدَيْهِمْ صُوَرٌ يَسْقُطُ بِهَا خِيَارُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَهَمُّهَا: تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ لَهُ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ، فَإِنَّهُ مُسْقِطٌ لِخِيَارِهِمَا، وَالتَّصَرُّفُ صَحِيحٌ، وَذَلِكَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى تَرَاضِيهِمَا بِإِمْضَائِهِ، فَلَيْسَ أَقَلَّ أَثَرًا مِنَ التَّخَايُرِ.أَمَّا تَصَرُّفُ الْبَائِعِ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي، فَالرَّاجِحُ أَنَّهُ مُمَاثِلٌ فِي الْحُكْمِ لِتَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمُغْنِي أَنَّ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ، وَأَنَّ الْوَجْهَ فِي احْتِمَالِ عَدَمِ إِسْقَاطِهِ لِلْخِيَارِ، أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِذْنِ، فَتَصَرُّفُهُ كَمَا لَوْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنٍ.

أَمَّا تَصَرُّفُ أَحَدِهِمَا بِتَصَرُّفٍ نَاقِلٍ، كَالْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ، أَوِ الْوَقْفِ، أَوْ بِتَصَرُّفٍ شَاغِلٍ كَالْإِجَارَةِ، أَوِ الرَّهْنِ..فَلَا يُسْقِطُ الْخِيَارَ، لِأَنَّ الْبَائِعَ تَصَرَّفَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ- بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَهُمْ- وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يُسْقِطُ حَقَّ الْبَائِعِ مِنَ الْخِيَارِ، وَاسْتِرْجَاعِ الْمَبِيعِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْبَائِعِ بِهِ تَعَلُّقًا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّصَرُّفِ فَمَنَعَ صِحَّتَهُ أَيْضًا.

رَابِعًا: إِسْقَاطُ الْخِيَارِ ابْتِدَاءً:

12- الْمُرَادُ هُنَا بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ: التَّنَازُلُ عَنْهُ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ التَّعَاقُدِ، أَوْ فِي بِدَايَةِ الْعَقْدِ قَبْلَ إِبْرَامِهِ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ: التَّبَايُعُ بِشَرْطِ نَفْيِ الْخِيَارِ.وَعَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ لَا يُعْتَبَرُ مِنْهُ التَّخَلِّي عَنِ الْخِيَارِ بَعْدَ التَّعَاقُدِ، أَثَرُ اسْتِحْقَاقِ الْعَاقِدَيْنِ لَهُ وَسَرَيَانُ الْمَجْلِسِ، فَالتَّخَلِّي عَنْهُ حِينَئِذٍ بِالتَّخَايُرِ يَسْتَحِقُّ اسْمَ (الِانْتِهَاءِ) لِلْخِيَارِ، لَا الْإِسْقَاطِ لَهُ.أَمَّا حُكْمُ هَذَا الْإِسْقَاطِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْقَائِلُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، فَكَانَ لَهُمْ فِيهِ الْآرَاءُ التَّالِيَةُ:

الْأَوَّلُ: صِحَّةُ الْإِسْقَاطِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهٌ لَيْسَ بِالْمُصَحَّحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

الثَّانِي: امْتِنَاعُ الْإِسْقَاطِ وَبُطْلَانُ الْبَيْعِ أَيْضًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْبُوَيْطِيِّ، وَكُتُبِ الْمَذْهَبِ الْقَدِيمِ.

الثَّالِثُ: امْتِنَاعُ الْإِسْقَاطِ وَصِحَّةُ الْبَيْعِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ غَيْرُ مُصَحَّحٍ.

وَسَوَاءٌ فِي إِسْقَاطِ الْخِيَارِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ أَنْ يُسْقِطَاهُ كِلَاهُمَا، أَوْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِإِسْقَاطِ خِيَارِهِ، أَوْ يَشْتَرِطَا سُقُوطَ خِيَارِ أَحَدِهِمَا بِمُفْرَدِهِ.فَفِي إِسْقَاطِ خِيَارَيْهِمَا يَلْزَمُ الْعَقْدُ، وَفِي إِسْقَاطِ خِيَارِ أَحَدِهِمَا يَبْقَى خِيَارُ الْآخَرِ.

وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ صَحَّحَ إِسْقَاطَ الْخِيَارِ قَبْلَ الْعَقْدِ بِحَدِيثِ الْخِيَارِ نَفْسِهِ، حَيْثُ جَاءَ فِي إِحْدَى رِوَايَاتِهِ: «فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ» وَفِي رِوَايَةٍ: «إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ كَانَ عَنْ خِيَارٍ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ عَنْ خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ».وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا التَّخَايُرَ فِي الْمَجْلِسِ، فَهِيَ عَامَّةٌ تَشْمَلُهُ وَتَشْمَلُ التَّخَايُرَ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، فَهُمَا فِي الْحُكْمِ شَيْءٌ وَاحِدٌ.وَلِأَنَّ مَا أَثَّرَ فِي الْخِيَارِ فِي الْمَجْلِسِ، أَثَّرَ فِيهِ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ، فَكَمَا يَكُونُ لِلْعَاقِدِ التَّنَازُلُ عَنِ الْخِيَارِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ لَهُ ذَلِكَ قُبَيْلَ التَّعَاقُدِ، وَتَشْبِيهُهُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ فِي جَوَازِ إِخْلَاءِ الْعَقْدِ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ.

وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الَّذِينَ نَحَوْا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَنْحَى الْحَنَابِلَةِ، أَنَّ الْخِيَارَ جُعِلَ رِفْقًا بِالْمُتَعَاقِدِينَ، فَجَازَ لَهُمَا تَرْكُهُ.وَلِأَنَّ الْخِيَارَ غَرَرٌ فَجَازَ إِسْقَاطُهُ.

أَمَّا دَلِيلُ الْمَنْعِ- وَهُوَ الْأَصَحُّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ- فَهُوَ أَنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ قَبْلَ ثُبُوتِ سَبَبِهِ، إِذْ هُوَ خِيَارٌ يَثْبُتُ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ فَلَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُهُ قَبْلَ تَمَامِهِ، وَلَهُ نَظِيرٌ هُوَ (خِيَارُ الشُّفْعَةِ) فَإِنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ فِي ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِسْقَاطُهُ قَبْلَ ثُبُوتِهِ.

وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ إِسْقَاطَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ يُنَافِي مُقْتَضَى الْبَيْعِ لِثُبُوتِهِ شَرْعًا مَصْحُوبًا بِالْخِيَارِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ.

أَمَّا دَلِيلُ جَوَازِ إِسْقَاطِ الشَّرْطِ فَقَطْ وَصِحَّةُ الْبَيْعِ، فَهُوَ مَا فِي الشَّرْطِ مِنْ مُخَالَفَةِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةٍ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ، يَبْطُلُ وَحْدَهُ وَلَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ.

أَسْبَابُ انْتِقَالِ الْخِيَارِ:

أَوَّلًا: الْمَوْتُ:

13- اخْتَلَفَتِ الْآرَاءُ فِي أَثَرِ الْمَوْتِ عَلَى خِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى الصُّورَةِ التَّالِيَةِ: الْأَوَّلُ: انْتِقَالُ الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ إِلَى الْوَارِثِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.

الثَّانِي: سُقُوطُ الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ.

الثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ وُقُوعِ الْمُطَالَبَةِ مِنَ الْمَيِّتِ بِهِ فِي وَصِيَّتِهِ، وَعَدَمِ تِلْكَ الْمُطَالَبَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ.

اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِانْتِقَالِ الْخِيَارِ- بِالْمَوْتِ- إِلَى الْوَرَثَةِ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَالْأَحَادِيثِ، فِي انْتِقَالِ مَا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ مِنْ حَقٍّ إِلَى الْوَرَثَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ: «مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ».وَخِيَارُ الْمَجْلِسِ خِيَارٌ ثَابِتٌ لِفَسْخِ الْبَيْعِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِالْمَوْتِ كَخِيَارِ الشَّرْطِ.

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِقِيَاسِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى خِيَارِ الْعَيْبِ، فَكِلَاهُمَا حَقٌّ لَازِمٌ ثَابِتٌ فِي الْبَيْعِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَلَا خِلَافَ فِي انْتِقَالِ خِيَارِ الْعَيْبِ بِالْمَوْتِ، فَكَذَلِكَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ.وَيُقَاسُ أَيْضًا عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ، وَهُمْ يَقُولُونَ بِأَنَّهُ مِمَّا يُورَثُ.

وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِإِبْطَالِ الْخِيَارِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، بِأَنَّهُ إِرَادَةٌ وَمَشِيئَةٌ، تَتَّصِلُ بِشَخْصِ الْعَاقِدِ، وَانْتِقَالُ ذَلِكَ إِلَى الْوَارِثِ لَا يُتَصَوَّرُ.

ثَانِيًا: الْجُنُونُ وَنَحْوُهُ:

14- إِذَا أُصِيبَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ بِالْجُنُونِ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، انْتَقَلَ الْخِيَارُ- فِي الْأَصَحِّ- إِلَى الْوَلِيِّ، مِنْ حَاكِمٍ أَوْ غَيْرِهِ: كَالْمُوَكِّلِ عِنْدَ مَوْتِ الْوَكِيلِ، وَقَدِ ارْتَأَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ ذَلِكَ حَيْثُ يُئِسَ مِنْ إِفَاقَتِهِ أَوْ طَالَتْ مُدَّتُهُ، لَكِنَّ الرَّاجِحَ عَدَمُ الِانْتِظَارِ مُطْلَقًا.

وَكَذَلِكَ إِنْ خَرِسَ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ تُفْهَمْ إِشَارَتُهُ، وَلَا كِتَابَةَ لَهُ، نَصَّبَ الْحَاكِمُ نَائِبًا عَنْهُ، وَإِنْ أَمْكَنَتِ الْإِجَازَةُ مِنْهُ بِالتَّفَرُّقِ، وَلَيْسَ هُوَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا الْحَاكِمُ نَابَ عَنْهُ فِيمَا تَعَذَّرَ مِنْهُ بِالْقَوْلِ، أَمَّا إِذَا فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ، أَوْ كَانَ لَهُ كِتَابَةٌ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ.

وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ بِسُقُوطِ الْخِيَارِ فِي الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ، لِأَنَّ مُفَارَقَةَ الْعَقْلِ لَيْسَتْ أَوْلَى مِنْ مُفَارَقَةِ الْمَكَانِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجُنُونَ لَا يُبْطِلُهُ، فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ إِذَا أَفَاقَ، أَمَّا فِي مُطْبِقِ الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ، فَيَقُومُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ أَوِ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ، بِخِلَافِ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْفُرْقَتَيْنِ.

آثَارُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ:

15- لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ آثَارٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْعَقْدِ، لَكِنَّ أَحَدَهَا يُعْتَبَرُ الْأَثَرَ الْأَصْلِيَّ لِلْخِيَارِ، فِي حِينِ تَكُونُ الْأُخْرَى آثَارًا فَرْعِيَّةً، هَذَا الْأَثَرُ الْأَصْلِيُّ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخِيَارِ مِنْ كُلِّ الْخِيَارَاتِ.وَلِذَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَمَّى (الْأَثَرُ الْعَامُّ)، وَهُوَ مَنْعُ لُزُومِ الْعَقْدِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى امْتِنَاعِ لُزُومِ الْعَقْدِ آثَارٌ مُتَفَرِّعَةٌ عَنْهُ تَتَّصِلُ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ وَغَيْرِهِ.

أَوَّلًا: الْأَثَرُ الْأَصْلِيُّ:

مَنْعُ لُزُومِ الْعَقْدِ:

16- مُفَادُ ذَلِكَ اعْتِبَارُ الْعَقْدِ غَيْرَ لَازِمٍ إِلَى أَنْ يَحْصُلَ التَّفَرُّقُ عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، أَوِ اخْتِيَارُ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ.فَيَكُونُ لِكُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ قَبْلَ ذَلِكَ.

وَهَذَا الْأَثَرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، ذَلِكَ أَنَّ مَقْصُودَ الْخِيَارِ الْفَسْخُ وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَقْصُودُ إِلاَّ بِتَقَاصُرِ الْعَقْدِ عَنْ مَرْتَبَةِ الْقُوَّةِ، وَالِاسْتِعْصَاءِ عَنِ الْفَسْخِ.وَهَذَا التَّقَاصُرُ سَبِيلُهُ أَنْ يَظَلَّ الْعَقْدُ غَيْرَ لَازِمٍ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْخِيَارُ.

ثَانِيًا: الْآثَارُ الْفَرْعِيَّةُ:

انْتِقَالُ الْمِلْكِ

17- هَذَا الْأَثَرُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى رَأْيَيْنِ:

الرَّأْيُ الْأَوَّلُ: فِقْدَانُ الْأَثَرِ:

وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ- فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ- (وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ).وَعَلَى هَذَا يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إِلَى الْمُشْتَرِي مَعَ وُجُودِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ.وَلَا أَثَرَ لَهُ عَلَى نَفَاذِ الْعَقْدِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ، كَمَا لَا أَثَرَ لَهُ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ، فَهُوَ يُنْتِجُ أَحْكَامَهُ كُلَّهَا- مَعَ بَقَائِهِ قَابِلًا لِلْفَسْخِ- خِلَالَ الْمَجْلِسِ إِلَى حُصُولِ مَا يُنْهِي الْخِيَارَ مِنْ تَفَرُّقٍ أَوْ تَخَايُرٍ.

الرَّأْيُ الثَّانِي: تَقْيِيدُ النَّفَاذِ:

وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ- فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ- أَنَّ لِلْخِيَارِ أَثَرًا فِي نَفَاذِ أَحْكَامِ الْعَقْدِ، فَهُوَ يُعْتَبَرُ مَوْقُوفًا مُرَاعًى مِنْ حَيْثُ انْتِقَالُ الْمِلْكِ، فَلَا يُحْكَمُ بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِلْمُشْتَرِي وَلَا لِلْبَائِعِ، بَلْ يُنْتَظَرُ، فَإِنْ تَمَّ الْعَقْدُ، حُكِمَ بِأَنَّهُ كَانَ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَإِلاَّ فَقَدْ بَانَ أَنَّهُ مِلْكُ الْبَائِعِ لَمْ يَزُلْ عَنْ مِلْكِهِ.وَهَكَذَا يَكُونُ الثَّمَنُ مَوْقُوفًا.

وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ الرَّأْيِ الْأَوَّلِ (الْقَائِلِ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ) بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ، أَهَمُّهَا الِاسْتِدْلَالُ بِالسُّنَّةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ» وَحَدِيثُ: «مَنْ بَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ، فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ».وَجْهُ الدَّلَالَةِ فِيهِمَا: أَنَّهُ جَعَلَ الْمَالَ الْمُصَاحِبَ لِلْعَبْدِ، وَالثَّمَرَةَ لِلْمُبْتَاعِ بِمُجَرَّدِ اشْتِرَاطِهِ، وَاسْتَدَلُّوا مِنْ وُجُوهِ الْمَعْقُولِ، بِأَنَّ الْبَيْعَ مَعَ وُجُودِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بَيْعٌ صَحِيحٌ، فَيَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِي أَثَرِهِ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ، فَيَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ فِيهِ لَا يُنَافِيهِ.

أَمَّا أَصْحَابُ الرَّأْيِ الثَّانِي (الْقَائِلِ بِأَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْخِيَارُ، فَيُعْرَفُ كَيْفَ كَانَ عِنْدَ الْعَقْدِ) وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ الْخِيَارَ (كَخِيَارِ الشَّرْطِ مَثَلًا) إِذَا ثَبَتَ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ لَمْ يَنْتَقِلَ الْمِلْكُ فِي الْعِوَضَيْنِ، وَإِذَا ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ انْتَقَلَ الْمِلْكُ فِيهِمَا، فَإِذَا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْعَاقِدَيْنِ (وَذَلِكَ مَا يَحْصُلُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ) فَإِنَّ مُقْتَضَى ثُبُوتِهِ لِلْبَائِعِ عَدَمُ انْتِقَالِ الْمِلْكِ، وَمُقْتَضَى ثُبُوتِهِ لِلْمُشْتَرِي انْتِقَالُهُ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّوَقُّفِ وَالْمُرَاعَاةِ (التَّرَقُّبِ) إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْخِيَارُ بِالتَّفَرُّقِ، أَوِ التَّخَايُرِ، أَوْ غَيْرِهِمَا.

أَثَرُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى الْعَقْدِ بِخِيَارِ شَرْطٍ:

18- لَا أَثَرَ لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ، فَإِنَّ مُدَّةَ خِيَارِ الشَّرْطِ تُحْسَبُ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ الْوَاقِعِ فِيهِ الشَّرْطُ.هَذَا إِذَا كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ قَدِ اشْتُرِطَ فِي الْعَقْدِ، أَمَّا إِنِ اشْتُرِطَ فِي الْمَجْلِسِ فَإِنَّ الْمُدَّةَ تُحْسَبُ مِنْ حِينِ الشَّرْطِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


96-موسوعة الفقه الكويتية (خيار النقد)

خِيَارُ النَّقْدِ

التَّعْرِيفُ

1- سَبَقَ تَعْرِيفُ الْخِيَارِ.أَمَّا النَّقْدُ فَمِنْ مَعَانِيهِ لُغَةً: الْإِعْطَاءُ وَالْقَبْضُ، يُقَالُ: نَقَدْتُ الرَّجُلَ الدَّرَاهِمَ، فَانْتَقَدَهَا بِمَعْنَى أَعْطَيْتُهُ إِيَّاهَا فَقَبَضَهَا.

وَخِيَارُ النَّقْدِ اصْطِلَاحًا هُوَ: (حَقٌّ يَشْتَرِطُهُ الْعَاقِدُ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الْفَسْخِ لِعَدَمِ النَّقْدِ).

وَلَهُ صُورَتَانِ:

1- التَّعَاقُدُ وَاشْتِرَاطُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا لَمْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ إِلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ فَلَا عَقْدَ بَيْنَهُمَا.وَمُسْتَعْمِلُ الْخِيَارِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ هُوَ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَتْ فَائِدَتُهُ الْكُبْرَى لِلْبَائِعِ.وَقَدْ وَصَفُوا هَذِهِ الصُّورَةَ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ (خِيَارِ الشَّرْطِ) لِلْمُشْتَرِي.

2- التَّعَاقُدُ ثُمَّ قِيَامُ الْمُشْتَرِي بِالنَّقْدِ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ إِذَا رَدَّ الْعِوَضَ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ فَلَا عَقْدَ بَيْنَهُمَا.وَمُسْتَعْمِلُ الْخِيَارِ هُنَا هُوَ الْبَائِعُ، وَهُوَ وَحْدَهُ الْمُنْتَفِعُ بِالْخِيَارِ.وَهَذِهِ الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ ذَاتُ شَبَهٍ تَامٍّ بِبَيْعِ الْوَفَاءِ مِمَّا جَعَلَ بَعْضَهُمْ يُدْخِلُ بَيْعَ الْوَفَاءِ فِي خِيَارِ النَّقْدِ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي: بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ بِكَذَا بِشَرْطِ أَنِّي مَتَى رَدَدْتُ إِلَيْكَ الثَّمَنَ فِي مَوْعِدِ كَذَا تَرُدَّ إِلَيَّ الْمَبِيعَ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ (خِيَارِ الشَّرْطِ) لِلْبَائِعِ.

مَشْرُوعِيَّتُهُ:

2- أَثْبَتَ هَذَا الْخِيَارَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ، إِلاَّ زُفَرَ بْنَ الْهُذَيْلِ.وَقَالَ بِهِ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ بِهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ مُحْتَجًّا بِأَثَرِ عُمَرَ فِيهِ.

وَخَالَفَ فِي هَذَا الْخِيَارِ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ، وَزُفَرُ.

وَاسْتَدَلَّ مُثْبِتُو هَذَا الْخِيَارِ بِالْقِيَاسِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَوُجُوهٍ مِنَ الْمَعْقُولِ.

أَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ مَقِيسٌ عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ لِاتِّحَادِ الْعِلَّةِ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ التَّرَوِّي.فَهَاهُنَا يَتَرَوَّى الْبَائِعُ أَيَحْصُلُ لَهُ الثَّمَنُ أَمْ لَا.وَكَذَلِكَ يَتَرَوَّى الْمُشْتَرِي أَيُنَاسِبُهُ الْبَيْعُ أَمْ لَا، فَيَسْتَرِدُّ مَا نَقَدَ (بِاشْتِرَاطِ ذَلِكَ مَعَ الْبَائِعِ).

وَأَمَّا آثَارُ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ رُوِيَ الْأَخْذُ بِهِ عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ، وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ أَنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ أَثْبَتَهُ، وَقَضَى بِهِ شُرَيْحٌ فِي وَاقِعَةٍ، وَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ جَاءَ بِالثَّمَنِ مِنَ الْغَدِ فَاخْتَصَمَا إِلَى شُرَيْحٍ فَقَالَ: أَنْتَ أَخْلَفْتَهُ.وَاحْتَجُّوا لَهُ مِنْ وُجُوهِ الْمَعْقُولِ بِدَاعِي الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، كَالْحَاجَةِ إِلَى خِيَارِ الشَّرْطِ، لِلتَّرَوِّي مِنَ الْمُشْتَرِي فِي مَعْرِفَةِ قُدْرَتِهِ عَلَى النَّقْدِ، وَمِنَ الْبَائِعِ لِيَتَأَمَّلَ هَلْ يَصِلُ إِلَيْهِ الثَّمَنُ فِي الْمُدَّةِ تَحَرُّزًا عَنِ الْمُمَاطَلَةِ مِنَ الْعَاقِدِ الْآخَرِ.

وَاسْتَدَلَّ مَنْ لَمْ يُثْبِتْ هَذَا الْخِيَارَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطِ خِيَارٍ، بَلْ هُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، لِأَنَّهُ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ شَرْطًا مُطْلَقًا وَعَلَّقَ فَسْخَهُ عَلَى غَرَرٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَقَدَ بَيْعًا مَثَلًا بِشَرْطِ أَنَّهُ إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ الْيَوْمَ فَلَا بَيْعَ بَيْنَنَا.وَاحْتَجَّ زُفَرُ لِنَفْيِهِ بِقِيَاسٍ آخَرَ هُوَ أَنَّهُ بَيْعٌ شُرِطَتْ فِيهِ إِقَالَةٌ فَاسِدَةٌ لِتَعَلُّقِهَا بِالشَّرْطِ، وَاشْتِرَاطُ الْإِقَالَةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْبَيْعِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فَكَيْفَ بِاشْتِرَاطِ الْفَاسِدَةِ؟ وَمَا ذَكَرَهُ زُفَرُ هُوَ الْقِيَاسُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّ ثُبُوتَ خِيَارِ النَّقْدِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَهُوَ جَائِزٌ بِالِاسْتِحْسَانِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْبَيْعَ الَّذِي فِيهِ خِيَارُ النَّقْدِ هُوَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ بِجَامِعِ التَّعْلِيقِ فِي كِلَيْهِمَا، كُلُّ مَا فِي الْأَمْرِ اخْتِلَافُ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ بَيْنَ كَوْنِهِ مُرُورَ الْمُدَّةِ دُونَ فَسْخٍ أَوْ مُرُورَهَا دُونَ نَقْدٍ.وَلَا يُمْنَعُ ثُبُوتُهُ بِالْقِيَاسِ (أَوْ بِالدَّلَالَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنْهُ) أَنَّهُ ثَبَتَ اسْتِحْسَانًا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَالْمُرَادُ قِيَاسُهُ عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ وَكِلَاهُمَا ثَبَتَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، أَيْ مُخَالِفَيْنِ لِلْأُصُولِ الْعَامَّةِ الْقَاضِيَةِ بِلُزُومِ الْعَقْدِ كَأَصْلٍ ثَابِتٍ.

صَاحِبُ الْخِيَارِ:

3- يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْخِيَارِ الْمُشْتَرِيَ أَوِ الْبَائِعَ بِحَسَبِ الصُّورَةِ الَّتِي اشْتُرِطَ فِيهَا، فَإِذَا ظَهَرَ بِعِبَارَةٍ (عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا نَقَدَ فِي الْمُدَّةِ، وَإِلاَّ فَلَا بَيْعَ) فَصَاحِبُهُ هُوَ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَمَكِّنُ مِنَ الْفَسْخِ بِعَدَمِ النَّقْدِ.وَأَمَّا إِنْ ظَهَرَ بِعِبَارَةِ (إِنْ رَدَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ خِلَالَ الْمُدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ فَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ) فَصَاحِبُ الْخِيَارِ هُوَ الْبَائِعُ، وَرَدُّهُ الثَّمَنَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ بِالْفَسْخِ.

وَفَائِدَةُ الْبَائِعِ مِنْ هَذَا الْخِيَارِ أَكْثَرُ مِنَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُ مِنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، أَمْ كَانَ الْبَائِعُ صَاحِبَ الْخِيَارِ، لِانْتِفَاعِهِ بِحُصُولِ الْفَسْخِ إِذَا مَطَلَ الْمُشْتَرِي.

مُدَّةُ خِيَارِ النَّقْدِ:

4- لَمْ تَتَّفِقَ الْآرَاءُ الْفِقْهِيَّةُ فِي مُدَّتِهِ، بَلِ اخْتَلَفَتْ، أُسْوَةً بِالْخِلَافِ الْوَاقِعِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، مَعَ بَعْضِ الْمُغَايَرَةِ نَظَرًا لِثُبُوتِ خِيَارِ الشَّرْطِ بِالنَّصِّ وَثُبُوتِ هَذَا الْخِيَارِ بِالِاجْتِهَادِ، وَالْآرَاءُ فِي مُدَّتِهِ هِيَ:

1- التَّفْوِيضُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ: فَلَهُمَا أَنْ يُحَدِّدَا الْأَمَدَ الَّذِي يَرَيَانِ فِيهِ مَصْلَحَتَهُمَا، وَلَوْ زَادَ عَنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَحْدَهُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ جَرَى عَلَى مُوجِبِ قَوْلِهِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، وَعَلَيْهِ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ.

2- التَّحْدِيدُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ مَا يُقَارِبُهَا: وَلَيْسَ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ أَنْ يَشْتَرِطَا مُدَّةً زَائِدَةً.فَالتَّحْدِيدُ بِالثَّلَاثِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبِهِ أَبِي يُوسُفَ (وَقَدْ خَالَفَ صَنِيعَهُ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ لِتَفْرِيقِهِ بَيْنَهُمَا، لِوُرُودِ آثَارٍ فِيهِ بِمَا فَوْقَ الثَّلَاثِ، وَبَقِيَ خِيَارُ النَّقْدِ عَلَى أَصْلِ الْمَنْعِ) وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.وَأَمَّا التَّحْدِيدُ بِمَا يُقَارِبُ الثَّلَاثَ عَلَى أَنْ لَا يُجَاوِزَ الْعِشْرِينَ يَوْمًا فَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.

هَذَا، وَإِنِ اشْتُرِطَ مَا يَزِيدُ عَنِ الثَّلَاثِ، عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، يُنْظَرُ إِنْ نَقَدَ فِي الثَّلَاثِ جَازَ، وَإِلاَّ فَسَدَ الْبَيْعُ وَلَمْ يَنْفَسِخْ، كَمَا حَقَّقَهُ ظَهِيرُ الدِّينِ، وَأَقَرَّ ذَلِكَ ابْنُ الْهُمَامِ وَابْنُ عَابِدِينَ.وَقَدْ جَعَلُوا ذَلِكَ قَيْدًا مُوَضِّحًا لِلْمُرَادِ مِنْ عِبَارَةِ (فَلَا بَيْعَ بَيْنَنَا) فِي صُورَتَيْ خِيَارِ النَّقْدِ، فَإِنَّهَا بِظَاهِرِهَا تَقْتَضِي الِانْفِسَاخَ بَعْدَ النَّقْدِ أَوْ بِالرَّدِّ بَعْدَ النَّقْدِ، لَكِنَّهُمْ حَمَلُوا الْمُرَادَ عَلَى أَنَّهُ لِلْفَسَادِ، أَيْ يَسْتَحِقُّ الْفَسْخَ وَيُمْكِنُ انْقِلَابُهُ صَحِيحًا إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ فَسَادُهُ، كَمَا فِي النَّقْدِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ.

سُقُوطُهُ وَانْتِقَالُهُ:

5- خِيَارُ النَّقْدِ يُمَاثِلُ خِيَارَ الشَّرْطِ فِي أَسْبَابِ السُّقُوطِ وَأَحْكَامِهِ، وَكَذَلِكَ انْتِقَالُهُ، فَهُوَ لَا يُورَثُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أُسْوَةً بِخِيَارِ الشَّرْطِ (أَصْلُهُ) وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (خِيَارُ الشَّرْطِ).

صُورَةٌ مَشْهُورَةٌ مِنْ خِيَارِ النَّقْدِ (بَيْعُ الْوَفَاءِ).

6- جَعَلَ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ الْمَكَانَ الْأَنْسَبَ لِبَحْثِ بَيْعِ الْوَفَاءِ هُوَ خِيَارُ النَّقْدِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ بَيْعَ الْوَفَاءِ مِنْ أَفْرَادِ مَسْأَلَةِ خِيَارِ النَّقْدِ.لَكِنَّ صَاحِبَ الْحَاشِيَةِ عَلَى كِتَابِهِ ابْنَ عَابِدِينَ لَمْ يَرْتَضِ ذَلِكَ التَّعْلِيلَ حَيْثُ نَقَلَ عَنِ «النَّهْرِ» أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ أَفْرَادِهِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِفَسَادِ بَيْعِ الْوَفَاءِ إِنْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ، لَا عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّتِهِ، إِذْ خِيَارُ النَّقْدِ مُقَيَّدٌ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَبَيْعُ الْوَفَاءِ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِهَا، فَأَنَّى يَكُونُ مِنْ أَفْرَادِهِ؟ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْوَفَاءِ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


97-موسوعة الفقه الكويتية (دار الحرب)

دَارُ الْحَرْبِ

التَّعْرِيفُ:

1- دَارُ الْحَرْبِ: هِيَ كُلُّ بُقْعَةٍ تَكُونُ أَحْكَامُ الْكُفْرِ فِيهَا ظَاهِرَةً.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِدَارِ الْحَرْبِ:

الْهِجْرَةُ:

2- قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ النَّاسَ فِي شَأْنِ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:

أ- مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ، وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَلَا يُمْكِنُهُ إِظْهَارُ دِينِهِ مَعَ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى لَا تَجِدُ مَحْرَمًا، إِنْ كَانَتْ تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا فِي الطَّرِيقِ، أَوْ كَانَ خَوْفُ الطَّرِيقِ أَقَلَّ مِنْ خَوْفِ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ.لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.

وَفِي الْآيَةِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ، وَالْوَعِيدُ الشَّدِيدُ لَا يَكُونُ إِلاَّ فِي ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ وَتَرْكِ الْوَاجِبِ.

وَلِحَدِيثِ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا» وَحَدِيثِ: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا دَامَ الْعَدُوُّ يُقَاتِلُ» أَمَّا حَدِيثُ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» فَمَعْنَاهُ لَا هِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ فَتْحِهَا، لِصَيْرُورَةِ مَكَّةَ دَارَ إِسْلَامٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

ب- مَنْ لَا هِجْرَةَ عَلَيْهِ: وَهُوَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْهَا، إِمَّا لِمَرَضٍ، أَوْ إِكْرَاهٍ عَلَى الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْكُفْرِ، أَوْ ضَعْفٍ كَالنِّسَاءِ، وَالْوِلْدَانِ.لقوله تعالى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}.

ج- مَنْ تُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ: مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْهِجْرَةِ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَهَذَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْجِهَادِ، وَتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ.

د- وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ قِسْمًا رَابِعًا: وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ دِينِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَيَقْدِرُ عَلَى الِاعْتِزَالِ فِي مَكَانٍ خَاصٍّ، وَالِامْتِنَاعِ مِنَ الْكُفَّارِ، فَهَذَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ، لِأَنَّ مَكَانَ اعْتِزَالِهِ صَارَ دَارَ إِسْلَامٍ بِامْتِنَاعِهِ، فَيَعُودُ بِهِجْرَتِهِ إِلَى حَوْزَةِ الْكُفَّارِ، وَهُوَ أَمْرٌ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ كُلَّ مَحَلٍّ قَدَرَ أَهْلُهُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْكُفَّارِ صَارَ دَارَ إِسْلَامٍ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا تَجِبُ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لِخَبَرِ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ».

أَمَّا حَدِيثُ: «ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ».فَمَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ».

التَّزَوُّجُ فِي دَارِ الْحَرْبِ:

3- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّزَوُّجِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِمَنْ دَخَلَ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِأَمَانٍ، لِتِجَارَةٍ، أَوْ لِغَيْرِهَا، وَلَوْ بِمُسْلِمَةٍ، وَتَشْتَدُّ الْكَرَاهَةُ إِذَا كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْكَرَاهَةُ تَحْرِيمِيَّةٌ فِي الْحَرْبِيَّةِ لِافْتِتَاحِ بَابِ الْفِتْنَةِ، وَتَنْزِيهِيَّةٌ فِي غَيْرِهَا، لِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضًا لِلذُّرِّيَّةِ لِفَسَادٍ عَظِيمٍ، إِذْ أَنَّ الْوَلَدَ إِذَا نَشَأَ فِي دَارِهِمْ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَنْشَأَ عَلَى دِينِهِمْ، وَإِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ مِنْهُمْ فَقَدْ تَغْلِبُ عَلَى وَلَدِهَا فَيَتْبَعُهَا عَلَى دِينِهَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ أَسِيرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ التَّزَوُّجُ مَا دَامَ أَسِيرًا، لِأَنَّهُ إِذَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ كَانَ لَهُمْ رَقِيقًا

الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ:

4- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّ الرِّبَا حَرَامٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَحُرْمَتِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَمَا كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، سَوَاءٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ، أَوْ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ لَمْ يُهَاجِرَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالُوا: إِنَّ النُّصُوصَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا عَامَّةٌ، وَلَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ دَارٍ وَدَارٍ، وَلَا بَيْنَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ. (رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: رِبًا).

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَحْرُمُ الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ، وَلَا بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ لَمْ يُهَاجِرَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ.لِحَدِيثِ: «لَا رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ» وَلِأَنَّ مَالَهُمْ مُبَاحٌ فِي دَارِهِمْ، فَبِأَيِّ طَرِيقٍ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُ أَخَذَ مَالًا مُبَاحًا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَدْرٌ، وَلِأَنَّ مَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ مُبَاحٌ بِغَيْرِ عَقْدٍ، فَبِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ أَوْلَى.

وَلِأَنَّ «أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- خَاطَرَ قُرَيْشًا قَبْلَ الْهِجْرَةِ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: أَتَرَوْنَ أَنَّ الرُّومَ تَغْلِبُ؟ قَالَ: نَعَمْ.فَقَالُوا: هَلْ لَكَ أَنْ تُخَاطِرَنَا فِي ذَلِكَ؟ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: اذْهَبْ إِلَيْهِمْ فَزِدْ فِي الْخَطَرِ وَزِدْ فِي الْأَجَلِ فَفَعَلَ، وَغَلَبَتِ الرُّومُ فَارِسًا فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ خَطَرَهُ، فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ الْقِمَارُ بِعَيْنِهِ».

وَكَانَتْ مَكَّةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دَارَ حَرْبٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لِلْمُسْلِمِ أَخْذَ مَالِ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَا لَمْ يَكُنْ غَدْرًا.

إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ:

5- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ زَنَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ سَرَقَ، أَوْ قَذَفَ مُسْلِمًا، أَوْ شَرِبَ خَمْرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ.

فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ فَرْضٌ كَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ، وَلَا تُسْقِطُ دَارُ الْحَرْبِ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.

إِذَا قَتَلَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ يَسْتَوْفِي مِنْهُ الْقِصَاصَ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ كَمَا لَوْ كَانُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَوْ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: {لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ».وَقَوْلِهِ: «مَنْ زَنَى أَوْ سَرَقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَصَابَ بِهَا حَدًّا ثُمَّ هَرَبَ فَخَرَجَ إِلَيْنَا فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ» وَلِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ، وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا أَصْلًا، وَكَذَلِكَ إِذَا قَتَلَ مُسْلِمًا فِيهَا لَا يُؤْخَذُ بِالْقِصَاصِ وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ، وَلِأَنَّ كَوْنَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْرَثَ شُبْهَةً فِي الْوُجُوبِ، وَالْقِصَاصُ لَا يَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَيَضْمَنُ الدِّيَةَ وَتَكُونُ فِي مَالِهِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ ابْتِدَاءً، ثُمَّ الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ لِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ التَّنَاصُرِ، وَلَا تَنَاصُرَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدَّارِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا: تَجِبُ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ، وَلَكِنَّهَا لَا تُقَامُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَتُقَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ.وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ، أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- كَتَبَ إِلَى النَّاسِ لَا يَجْلِدَنَّ أَمِيرُ جَيْشٍ وَلَا سَرِيَّةٍ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَدًّا وَهُوَ غَازٍ حَتَّى يَقْطَعَ الدَّرْبَ قَافِلًا لِئَلاَّ يَلْحَقَهُ حَمِيَّةُ الشَّيْطَانِ، فَيَلْحَقَ، بِالْكُفَّارِ.

حَدُّ مَنْ أَصَابَ حَدًّا مِنْ أَفْرَادِ الْجَيْشِ:

6- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَصَابَ أَحَدُ أَفْرَادِ الْجَيْشِ حَدًّا، أَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً أَوْ عَمْدًا فِي دَارِ الْحَرْبِ خَارِجَ الْمُعَسْكَرِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَوِ الْقِصَاصُ، أَمَّا إِذَا زَنَى أَحَدُهُمْ فِي مُعَسْكَرِ الْجَيْشِ لَمْ يَأْخُذْهُ أَمِيرُ الْجَيْشِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْإِمَامُ لَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِ إِقَامَةَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُضَمِّنُهُ الْمَسْرُوقَ وَالدِّيَةَ فِي الْقَتْلِ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ ضَمَانِ الْمَالِ.

أَمَّا إِذَا غَزَا مَنْ لَهُ وِلَايَةُ إِقَامَةِ الْحُدُودِ، سَوَاءٌ غَزَا الْخَلِيفَةُ بِنَفْسِهِ، أَوْ أَمِيرُ مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ، فَفَعَلَ رَجُلٌ مِنَ الْجَيْشِ ذَلِكَ فِي مُعَسْكَرِهِ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَاقْتَصَّ مِنْهُ فِي الْعَمْدِ، وَضَمَّنَهُ الدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ فِي مَالِهِ، لِأَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ إِلَى الْإِمَامِ، وَبِمَا لَهُ مِنَ الشَّوْكَةِ، وَانْقِيَادِ الْجُيُوشِ لَهُ يَكُونُ لِعَسْكَرِهِ حُكْمُ دَارِ الْإِسْلَامِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِذَا أَصَابَ الرَّجُلُ حَدًّا وَهُوَ مُحَاصِرٌ لِلْعَدُوِّ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ.وَقَالُوا: وَلَا يَمْنَعُنَا الْخَوْفُ عَلَيْهِ مِنَ اللُّحُوقِ بِالْمُشْرِكِينَ أَنْ نُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ.وَلَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ تَوَقِّيًا مِنْ أَنْ يَغْضَبَ مَا أَقَمْنَا الْحَدَّ أَبَدًا، لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَيُعَطَّلَ حُكْمُ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ أَقَامَ الْحُدُودَ بِالْمَدِينَةِ وَالشِّرْكُ قَرِيبٌ مِنْهَا، وَفِيهَا مُشْرِكُونَ مُوَادَعُونَ.

وَضَرَبَ الشَّارِبَ بِحُنَيْنٍ.وَالشِّرْكُ قَرِيبٌ مِنْهَا.

حُصُولُ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ:

7- اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي انْقِطَاعِ عِصْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ.

فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدَّارِ، فَإِنْ أَسْلَمَ زَوْجُ كِتَابِيَّةٍ، وَهَاجَرَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَبَقِيَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، لِأَنَّ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّةِ يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُ فَالِاسْتِمْرَارُ أَوْلَى، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ بَعْدَهُ.وَإِنْ أَسْلَمَتْ كِتَابِيَّةٌ تَحْتَ كِتَابِيٍّ، أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ غَيْرَ الْكِتَابِيِّينَ، قَبْلَ الدُّخُولِ حَصَلَتِ الْفُرْقَةُ، لقوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ، وَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى انْتِهَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْآخَرُ فِي الْعِدَّةِ بَقِيَ نِكَاحُهُمَا، وَإِلاَّ تَبَيَّنَّا فَسْخَهُ مُنْذُ أَسْلَمَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ اخْتِلَافُ الدِّينِ لَا اخْتِلَافُ الدَّارِ.وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ شُبْرُمَةَ قَالَ: «كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُسْلِمُ الرَّجُلُ قَبْلَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ قَبْلَهُ، فَأَيُّهُمَا أَسْلَمَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْعِدَّةِ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا»، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَثَرِ دَارَ حَرْبٍ، وَلَا دَارَ إِسْلَامٍ، فَسَبَبُ الْفُرْقَةِ إِذًا اخْتِلَافُ الدِّينِ.

فَكَوْنُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُوجِبُ فُرْقَةً.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ تَحْصُلُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ، فَإِنْ خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَتَرَكَ الْآخَرَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ يَخْرُجُ الْمِلْكُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ، لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ عَادَةً، فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَائِهِ فَائِدَةٌ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (اخْتِلَافُ الدَّارِ).

قِسْمَةُ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ:

8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ قَسْمِ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ قِسْمَتُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَتَبَايُعُهَا فِيهَا، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ قَالَ: قُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ: هَلْ قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا مِنَ الْغَنَائِمِ بِالْمَدِينَةِ؟ فَقَالَ: لَا أَعْلَمُهُ، إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يَتَّبِعُونَ غَنَائِمَهُمْ، وَيَقْسِمُونَهَا فِي أَرْضِ عَدُوِّهِمْ، وَلَمْ يَغْفُلْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ غَزَاةٍ قَطُّ أَصَابَ فِيهَا غُنَيْمَةً إِلاَّ خَمَّسَهَا وَقَسَّمَهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَغْفُلَ، مِنْ ذَلِكَ غُزَاةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَهَوَازِنَ، وَخَيْبَرَ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيهَا بِالْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ فَصَحَّتْ قِسْمَتُهُ، وَلِأَنَّ قِسْمَةَ أَمْوَالِهِمْ فِي دَارِهِمْ أَنْكَى لَهُمْ، وَأَطْيَبُ لِقُلُوبِ الْمُجَاهِدِينَ، وَأَحْفَظُ لِلْغَنِيمَةِ، وَأَرْفَقُ بِهِمْ فِي التَّصَرُّفِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْقِسْمَةُ نَوْعَانِ:

1- قِسْمَةُ حَمْلٍ وَنَقْلٍ.

2- وَقِسْمَةُ مِلْكٍ.

أَمَّا قِسْمَةُ الْحَمْلِ، فَهِيَ إِنْ عَزَّتِ الدَّوَابُّ، وَلَمْ يَجِدِ الْإِمَامُ حَمُولَةً يُفَرِّقُ الْغَنَائِمَ عَلَى الْغُزَاةِ فَيَحْمِلُ كُلُّ رَجُلٍ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يَسْتَرِدُّهَا مِنْهُمْ، فَيَقْسِمُهَا قِسْمَةَ مِلْكٍ.

أَمَّا قِسْمَةُ الْمِلْكِ فَلَا تَجُوزُ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى يُخْرِجُوهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَيُحْرِزُوهَا، وَقَالُوا: إِنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ، وَيَتَأَكَّدُ بِالْإِحْرَازِ، وَيَتَمَكَّنُ بِالْقِسْمَةِ كَحَقِّ الشَّفِيعِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ، وَيَتَأَكَّدُ بِالطَّلَبِ، وَيَتِمُّ الْمِلْكُ بِالْأَخْذِ، وَمَا دَامَ الْحَقُّ ضَعِيفًا لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ لِأَنَّهُ دُونَ الْمِلْكِ الضَّعِيفِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْقَهْرُ، وَقَبْلَ الْإِحْرَازِ هُمْ قَاهِرُونَ يَدًا مَقْهُورُونَ دَارًا، وَالثَّابِتُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ يَكُونُ ضَعِيفًا.

9- وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْجُمْهُورِ أَحْكَامٌ.

مِنْهَا: أَنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُ الْغَانِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُورَثُ مِنَ الْغَنِيمَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يُورَثُ.

وَمِنْهَا: إِذَا لَحِقَ الْجَيْشَ أَحَدٌ بَعْدَ الْحِيَازَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُشَارِكُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُشَارِكُهُمْ إِذَا لَحِقَ قَبْلَ الْحِيَازَةِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ.

وَإِذَا أَتْلَفَ أَحَدُ الْغَانِمِينَ شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَضْمَنُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَا يَضْمَنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. اسْتِيلَاءُ الْكُفَّارِ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَثَرُ الدَّارِ فِي ذَلِكَ:

10- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَمَلُّكِ أَهْلِ الْحَرْبِ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهَا وَإِنْ أَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ، لِأَنَّهُ مَالٌ مَعْصُومٌ طَرَأَتْ عَلَيْهِ يَدٌ عَادِيَةٌ، فَلَمْ يَمْلِكْ بِهَا كَالْغَصْبِ.

وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ لَا يَمْلِكُ مَالَ الْمُسْلِمِ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ بِغَصْبٍ، فَالْمُشْرِكُ أَوْلَى أَلاَّ يَمْلِكَ.

وَخَبَرُ «عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي الْأَنْصَارِيَّةِ الَّتِي أُسِرَتْ، ثُمَّ امْتَطَتْ نَاقَةَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَأَعْجَزَتْ مَنْ طَلَبَهَا، فَنَذَرَتِ الْأَنْصَارِيَّةُ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَلَمَّا قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ رَآهَا النَّاسُ، فَقَالُوا: الْعَضْبَاءُ، نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.فَقَالَتْ: إِنَّهَا نَذَرَتْ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، بِئْسَمَا جَزَتْهَا، نَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ».

وَلَوْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَمْلِكُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَمْوَالَهُمْ لَمَلَكَتِ الْأَنْصَارِيَّةُ النَّاقَةَ.لِأَنَّهَا تَكُونُ أَخَذَتْ مَالًا غَيْرَ مَعْصُومٍ فِي دَارِ حَرْبٍ وَأَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ، وَلَكِنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- أَخْبَرَ أَنَّهَا نَذَرَتْ فِيمَا لَا تَمْلِكُ وَأَخَذَ نَاقَتَهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، قَالَ: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ أَهْلَ دَارِ الْحَرْبِ إِذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُحْرِزُوهَا بِدَارِهِمْ لَا يَمْلِكُونَهَا، أَمَّا إِذَا أَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَهَا.وَقَالُوا: لِأَنَّ مِلْكَ الْمُسْلِمِ يَزُولُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَتَزُولُ الْعِصْمَةُ، فَكَأَنَّهُمُ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، لِأَنَّ الْمِلْكَ هُوَ: الِاخْتِصَاصُ بِالْمَحَلِّ فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ، أَوْ شُرِعَ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَحَلِّ، وَقَدْ زَالَ بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ.فَإِذَا زَالَ مَعْنَى الْمِلْكِ أَوْ مَا شُرِعَ لَهُ الْمِلْكُ، يَزُولُ الْمِلْكُ ضَرُورَةً.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ: يَمْلِكُونَهَا بِالِاسْتِيلَاءِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.وَقَالُوا: لِأَنَّ الْقَهْرَ سَبَبٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمُسْلِمُ مَالَ الْكَافِرِ، فَمَلَكَ بِهِ الْكَافِرُ مَالَ الْمُسْلِمِ كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ سَبَبُ الْمِلْكِ فَيَثْبُتُ قَبْلَ الْحِيَازَةِ إِلَى الدَّارِ، كَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَالِ الْكُفَّارِ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ سَبَبًا لِلْمِلْكِ أَثْبَتَ الْمِلْكَ حَيْثُ وُجِدَ، كَالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ.

وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، اخْتِلَافُهُمْ فِي حُكْمِ مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ أَهْلُ دَارِ الْحَرْبِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ الْمُسْلِمُونَ، فَمَنْ رَأَى أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ: يَرَى أَنَّهُ إِذَا وَجَدَهُ مَالِكُهُ الْمُسْلِمُ أَوِ الذِّمِّيُّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِدُونِ رَدِّ قِيمَتِهِ، أَمَّا إِذَا وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ.وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهُ: يَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا وَجَدَ مَالَهُ فِي الْغَنِيمَةِ أَخَذَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِلَا رَدِّ شَيْءٍ.

قَضَاءُ الْقَاضِي الْمُسْلِمِ فِي مُنَازَعَاتٍ حَدَثَتْ أَسْبَابُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ:

11- إِذَا دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، وَأَخَذَ مَالًا مِنْ حَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُضَارَبَةً، أَوْ وَدِيعَةً، أَوْ بِشِرَاءٍ أَوْ بِبَيْعٍ فِي الذِّمَّةِ أَوْ قَرْضٍ، فَالثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ، عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ إِلَيْهِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَإِذَا خَرَجَ الْحَرْبِيُّ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْتَأْمَنًا قَضَى الْقَاضِي عَلَى الْمُسْلِمِ بِمَالِهِ كَمَا يَقْضِي بِهِ لِلْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ جَارٍ عَلَى الْمُسْلِمِ حَيْثُ كَانَ، لَا نُزِيلُ الْحَقَّ عَنْهُ بِأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ.كَمَا لَا تَزُولُ الصَّلَاةُ عَنْهُ بِأَنْ يَكُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَكَذَلِكَ إِنِ اقْتَرَضَ حَرْبِيٌّ مِنْ حَرْبِيٍّ أَوْ مُسْلِمٍ مَالًا ثُمَّ دَخَلَ إِلَيْنَا فَأَسْلَمَ، فَعَلَيْهِ الْبَدَلُ وَيُقْضَى عَلَيْهِ لِالْتِزَامِهِ بِعَقْدٍ.

أَمَّا إِنْ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَالَهُ أَوْ غَصَبَهُ مِنْهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَقَدِمَا إِلَيْنَا بِإِسْلَامٍ، أَوْ أَمَانٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا، وَالْإِتْلَافُ لَيْسَ عَقْدًا يُسْتَدَامُ، وَلِأَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ لَا يَزِيدُ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْحَرْبِيِّ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَضْمَنَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَيْسَ لِلْقَاضِي الْمُسْلِمِ الْقَضَاءُ مِنْ حَرْبِيَّيْنِ إِذَا خَرَجَا إِلَيْنَا مُسْتَأْمَنَيْنِ، لِأَنَّ الْمُدَايَنَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَعَتْ هَدَرًا لِانْعِدَامِ وِلَايَتِنَا عَلَيْهِمْ.أَمَّا لَوْ خَرَجَا إِلَيْنَا مُسْلِمَيْنِ فَإِنَّهُ يَقْضِي بَيْنَهُمَا لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ، أَمَّا فِي الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ فَلَا يَقْضِي، وَإِنْ خَرَجَا إِلَيْنَا مُسْلِمَيْنِ.

عِصْمَةُ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ فِي دَارِ الْحَرْبِ:

12- الْأَصْلُ أَنَّ أَمْوَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَدِمَاءَهُمْ مُبَاحَةٌ لَا عِصْمَةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلِلْمُسْلِمِينَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِشَتَّى الطُّرُقِ، لِأَنَّهُمْ يَسْتَبِيحُونَ دِمَاءَنَا وَأَمْوَالَنَا، وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَلَكِنْ ذَكَرُوا حَالَاتٍ تُثْبِتُ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِأَمْوَالِهِمُ الْعِصْمَةَ وَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، مِنْهَا:

13- أ- إِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ أَوْ بِأَسْرٍ، وَائْتَمَنُوهُ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ خِيَانَتُهُمْ فِي شَيْءٍ، لِأَنَّهُمْ أَعْطَوْهُ الْأَمَانَ مَشْرُوطًا بِتَرْكِهِ خِيَانَتَهُمْ، وَأَمْنِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي اللَّفْظِ، فَهُوَ مَعْلُومٌ فِي الْمَعْنَى، فَلَمْ يَحِلَّ لَهُ خِيَانَتُهُمْ، لِأَنَّهُ غَدْرٌ، وَلَا يَصْلُحُ الْغَدْرُ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنْ سَرَقَ مِنْهُمْ شَيْئًا أَوْ غَصَبَ، وَجَبَ رَدُّهُ إِلَى أَرْبَابِهِ، فَإِنْ جَاءَ أَرْبَابُهُ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ، وَإِلاَّ بَعَثَ بِهِ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهٍ مُحَرَّمٍ فَلَزِمَهُ رَدُّهُ، كَمَا لَوْ أَخَذَ مَالَ مُسْلِمٍ.

وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ حُقِنَ دَمُهُ، وَأَحْرَزَ مَالَهُ وَأَوْلَادَهُ الصِّغَارَ مِنَ السَّبْيِ، فَإِذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا اقْتُصَّ مِنْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ قَتَلَهُ خَطَأً فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ فِي عِصْمَةِ دَمِ الْمُسْلِمِ وَمَالِهِ أَيْنَمَا كَانَ وَحَيْثُ وُجِدَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ خَطَأً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِلاَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْخَطَأِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وَلَمْ يَذْكُرِ الدِّيَةَ.وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (قَتْلُ عَمْدٍ).

أَمَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ فَأَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ تَبَعًا لَهُ أَمَّا مَالُهُ فَمَا كَانَ بِيَدِهِ مِنْ مَنْقُولٍ فَهُوَ لَهُ.

وَكَذَلِكَ مَا كَانَ بِيَدِ مُسْلِمٍ وَدِيعَةً، أَوْ بِيَدِ ذِمِّيٍّ فَهُوَ لَهُ، لِأَنَّ يَدَ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمَالِكِ فَكَانَ مَعْصُومًا.

أَمَّا الْعَقَارُ مِنْ مَالِهِ فَإِنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى دَارِ الْحَرْبِ فَهِيَ غَنِيمَةٌ، لِأَنَّهَا بُقْعَةٌ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَجَازَ اغْتِنَامُهَا.

14- ب- وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ خَرَجَ إِلَيْهَا، وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ صَارُوا مُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَجُزْ سَبْيُهُمْ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.وَقَالُوا: إِنَّهُمْ أَوْلَادُ مُسْلِمٍ، فَيَجِبُ أَنْ يَتْبَعُوهُ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا لَوْ كَانُوا مَعَهُ فِي الدَّارِ، وَلِأَنَّ مَالَهُ مَالُ مُسْلِمٍ فَلَا يَجُوزُ اغْتِنَامُهُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَهَاجَرَ إِلَيْنَا ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ، فَأَمْوَالُهُ فَيْءٌ، إِلاَّ مَا كَانَ فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ وَدِيعَةً.

وَإِنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَجَمِيعُ أَمْوَالِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ فَيْءٌ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارِ يَمْنَعُ التَّبَعِيَّةَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ فَأَصَابَ مَالًا، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إِلَيْنَا.

التِّجَارَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ:

15- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلتَّاجِرِ أَنْ يَحْمِلَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَى الْحَرْبِ، كَالسِّلَاحِ بِأَنْوَاعِهِ، وَالسُّرُوجِ، وَالنُّحَاسِ، وَالْحَدِيدِ، وَكُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ تَقْوِيَتِهِمْ فِي الْحَرْبِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِمْدَادَهُمْ وَإِعَانَتَهُمْ عَلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لِلْحَرْبِيِّ إِذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ أَنْ يَشْتَرِيَ سِلَاحًا، وَإِذَا اشْتَرَى لَا يُمَكَّنُ مِنْ إِدْخَالِهِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ.

أَمَّا الِاتِّجَارُ بِغَيْرِ السِّلَاحِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يُسْتَخْدَمُ فِي الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، كَالثِّيَابِ، وَالطَّعَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لِانْعِدَامِ عِلَّةِ الْمَنْعِ مِنَ الْبَيْعِ.إِلاَّ أَنْ يَحْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلْعَةِ فَلَا يُحْمَلُ إِلَيْهِمْ، وَجَرَتِ الْعَادَةُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ التُّجَّارِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَدْخُلُونَ دَارَ الْحَرْبِ لِلتِّجَارَةِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ الْمَنْعِ وَلَا إِنْكَارَ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ يَسْتَخِفُّونَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَكَانَ الْكَفُّ وَالْإِمْسَاكُ عَنِ الدُّخُولِ فِي دَارِهِمْ مِنْ بَابِ صِيَانَةِ النَّفْسِ عَنِ الْهَوَانِ، وَالدِّينِ عَنِ الزَّوَالِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ الْمُتَاجَرَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى بِلَادِهِمْ حَيْثُ تَجْرِي أَحْكَامُ الْكُفْرِ عَلَيْهِ.

أَثَرُ اخْتِلَافِ الدَّارِ فِي أَحْكَامِ الْأُسْرَةِ وَالتَّوَارُثِ:

16- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْمُسْلِمَ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالْآخَرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَوَارُثِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الدَّارِ.

(ر: اخْتِلَافُ الدَّارِ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


98-موسوعة الفقه الكويتية (دعوى 3)

دَعْوَى -3

شَرْطُ الصِّفَةِ:

41- الْمَقْصُودُ بِهِ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَا شَأْنٍ فِي الْقَضِيَّةِ الَّتِي أُثِيرَتْ حَوْلَهَا الدَّعْوَى، وَأَنْ يَعْتَرِفَ الشَّارِعُ بِهَذَا الشَّأْنِ وَيَعْتَبِرَهُ كَافِيًا لِتَخْوِيلِ الْمُدَّعِي حَقَّ الِادِّعَاءِ، وَلِتَكْلِيفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْجَوَابِ وَالْمُخَاصَمَةِ.

وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْمُدَّعِي إِذَا كَانَ يَطْلُبُ الْحَقَّ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِمَنْ يُمَثِّلُهُ.وَيَحِقُّ لِلدَّائِنِ أَنْ يَرْفَعَ دَعْوَى لِمَدِينِهِ يُطَالِبُ فِيهِ بِحُقُوقِهِ إِذَا أَحَاطَ الدَّيْنُ بِأَمْوَالِهِ وَأُشْهِرَ إِفْلَاسُهُ.

وَالْقَاعِدَةُ فِي هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ مَنْ يَدَّعِي حَقًّا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَقُّ مُنْتَقِلًا إِلَيْهِ صَحَّتْ دَعْوَاهُ، وَإِلاَّ فَلَا، فَتَصِحُّ الدَّعْوَى مِنَ الْوَارِثِ فِيمَا يَدَّعِيهِ لِمُورِثِهِ، وَلَا تَصِحُّ مِنَ الدَّائِنِ الَّذِي يَرْفَعُ دَعْوَى لِمَدِينِهِ إِذَا لَمْ يُشْهَرْ إِفْلَاسُهُ.وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَيْضًا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَا صِفَةٍ، فَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى إِلاَّ إِذَا رُفِعَتْ فِي وَجْهِ مَنْ يَعْتَبِرُهُ الْمُشَرِّعُ خَصْمًا، وَيُجْبِرُهُ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْقَضِيَّةِ، لِيُجِيبَ بِالِاعْتِرَافِ أَوْ بِالْإِنْكَارِ.

وَالْقَاعِدَةُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ مَنِ ادَّعَى عَلَى إِنْسَانٍ شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَوْ أَقَرَّ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بِإِنْكَارِهِ خَصْمًا فِي الدَّعْوَى، وَتَصِحُّ بِتَوْجِيهِهَا إِلَيْهِ.أَمَّا إِذَا كَانَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إِقْرَارِهِ حُكْمٌ لَمْ يَكُنْ خَصْمًا بِإِنْكَارِهِ، وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ حَدَّدَ الْفُقَهَاءُ الْخَصْمَ فِي مُخْتَلَفِ أَنْوَاعِ الدَّعَاوَى:

أ- فَفِي دَعَاوَى الْعَيْنِ يَكُونُ الْخَصْمُ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ.وَذَلِكَ لِأَنَّ أَيَّ شَخْصٍ لَيْسَتِ الْعَيْنُ الْمُدَّعَاةُ فِي يَدِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا، وَالْحَائِزُ لَهَا هُوَ الَّذِي يَمْلِكُ أَنْ يَقْرَبَهَا، فَهُوَ إِذَنِ الْخَصْمُ فِي دَعْوَاهَا.

وَالْيَدُ الَّتِي يَكُونُ صَاحِبُهَا خَصْمًا فِي الدَّعْوَى هِيَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ فِي الظَّاهِرِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ بِأَنْ كَانَتْ يَدًا طَارِئَةً، كَيَدِ مُسْتَأْجِرٍ، أَوْ مُسْتَعِيرٍ، أَوْ مُرْتَهِنٍ، لَمْ يَصِحَّ تَوْجِيهُ الدَّعْوَى إِلَى صَاحِبِهَا مُنْفَرِدًا، وَلَكِنْ يُطْلَبُ مِنَ الْحَائِزِ الْعَرَضِيِّ الْحُضُورُ إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لِيُؤْمَرَ بِتَسْلِيمِ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى عِنْدَ إِثْبَاتِ الدَّعْوَى.وَإِذَا وَجَّهَهَا الْمُدَّعِي إِلَيْهِ، كَانَ لِهَذَا الْحَائِزِ الْعَرَضِيِّ أَنْ يَدْفَعَ الدَّعْوَى بِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ يَدَ مِلْكٍ، وَإِنَّمَا هِيَ يَدٌ عَارِضَةٌ، بِشَرْطِ أَنْ يُبَرْهِنَ عَلَى دَفْعِهِ، وَعِنْدَئِذٍ تُرَدُّ دَعْوَى الْمُدَّعِي.وَيُطْلَبُ مِنْهُ رَفْعُهَا فِي مُوَاجَهَةِ الْمَالِكِ.

وَهَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ مُخْتَصٌّ بِدَعَاوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ عَنِ السَّبَبِ، أَمَّا إِذَا ادَّعَى الْمدَّعِي أَنَّ فُلَانًا غَصَبَ مِنْهُ مَالَهُ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ دَفْعُ هَذِهِ الدَّعْوَى بِحُجَّةِ أَنَّ الْعَيْنَ الْمُدَّعَاةَ لَيْسَتْ فِي يَدِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي دَعْوَى الْفِعْلِ- كَمَا سَيَأْتِي- أَنَّهَا يَصِحُّ تَوْجِيهُهَا ضِدَّ الْفَاعِلِ.

42- وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَا يَأْتِي:

1- إِذَا بَاعَ رَجُلٌ مِلْكَ غَيْرِهِ، وَسَلَّمَهُ بِدُونِ إِذْنِهِ، كَانَ الْخَصْمُ هُوَ الْمُشْتَرِي، وَلَكِنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ إِذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي اسْتِرْدَادَ الْعَيْنِ، أَمَّا إِذَا أَرَادَ التَّضْمِينَ سُمِعَتِ الدَّعْوَى عَلَى الْبَائِعِ الْغَاصِبِ وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِ غَيْرِهِ، لِأَنَّهَا تَكُونُ دَعْوَى فِعْلٍ عِنْدَئِذٍ.

2- إِذَا تُوُفِّيَ شَخْصٌ عَنْ تَرِكَةٍ فِيهَا أَعْيَانٌ وَلَهُ وَرَثَةٌ، وَأَرَادَ شَخْصٌ الِادِّعَاءَ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِهَا كَانَ الْخَصْمُ لَهُ هُوَ الْوَارِثُ الَّذِي فِي يَدِهِ تِلْكَ الْعَيْنُ، وَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى بِهَا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْوَرَثَةِ.

3- إِذَا بِيعَ عَقَارٌ، فَطَلَبَ الشَّفِيعُ أَخْذَهُ بِالشُّفْعَةِ، فَإِنْ تَسَلَّمْهُ الْمُشْتَرِي كَانَ هُوَ الْخَصْمُ لِلشَّفِيعِ، وَإِنْ لَمْ يَتَسَلَّمْهُ كَانَ الْخَصْمُ لَهُ كُلًّا مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَاضِعُ الْيَدِ، فَيَحْضُرُ مِنْ أَجْلِ التَّسْلِيمِ، وَالْآخَرُ مَالِكٌ، فَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى إِلاَّ بِحُضُورِهِمَا جَمِيعًا.

4- إِذَا بَاعَ شَخْصٌ لِغَيْرِهِ عَيْنًا، وَلَمْ يُسَلِّمْهَا إِلَيْهِ، فَأَرَادَ آخَرُ ادِّعَاءَ مِلْكِيَّتِهَا، كَانَ الْخَصْمُ لَهُ كُلًّا مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَاضِعُ الْيَدِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ لِيُؤْمَرَ بِالتَّسْلِيمِ عِنْدَ ثُبُوتِ الدَّعْوَى، وَأَمَّا إِذَا سَلَّمَهَا الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي كَانَ الْخَصْمُ هُوَ الْمُشْتَرِي.فَفِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا الْعَيْنُ الْمُدَّعَاةُ فِي يَدِ غَيْرِ الْمَالِكِ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى بِالْمِلْكِ حُضُورُ الِاثْنَيْنِ.

وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْمَالِكُ لِلْعَيْنِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ يَدُهُ عَلَى الْمُدَّعَى بِهِ فِعْلًا، وَلَكِنَّهَا عَلَيْهِ حُكْمًا، وَالْآخَرُ حِيَازَتُهُ لَهَا عَرَضِيَّةٌ وَمُؤَقَّتَةٌ، وَلِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى إِقْرَارِهِ حُكْمٌ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ حُضُورُ الْآخَرِينَ لِغَايَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ لِلْمُدَّعِي عِنْدَ ثُبُوتِ الدَّعْوَى.

5- وَفِي دَعَاوَى الدَّيْنِ، الْخَصْمُ هُوَ مَنْ كَانَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ أَوْ نَائِبُهُ، لِأَنَّ الْمَدِينَ هُوَ الَّذِي إِذَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ حَمَلَ نَتِيجَةَ إِقْرَارِهِ وَأُلْزِمَ بِهِ.وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ لَا تُوَجَّهُ الدَّعْوَى ضِدُّ حَائِزِ الْعَيْنِ الَّتِي يَتَمَلَّكُهَا الْمَدِينُ، كَالْمُسْتَأْجَرِ مِنْهُ، وَلَا الْغَاصِبِ مِنْهُ، وَلَا الْمُسْتَعِيرِ مِنْهُ.

6- وَفِي دَعْوَى الْفِعْلِ كَالْغَصْبِ وَغَيْرِهِ، الْخَصْمُ هُوَ الْفَاعِلُ، أَيِ الَّذِي يُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَامَ بِالْفِعْلِ.

7- وَفِي دَعْوَى الْقَوْلِ، الْخَصْمُ هُوَ الْقَائِلُ، أَيِ الَّذِي يُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ الْقَوْلَ، فَدَعْوَى الطَّلَاقِ تُقِيمُهَا الزَّوْجَةُ عَلَى زَوْجِهَا، وَكَذَلِكَ دَعْوَى الْقَذْفِ أَوِ الشَّتْمِ.

8- وَفِي دَعْوَى الْعَقْدِ، الْخَصْمُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لَهُ، أَوْ مَنْ قَامَ مَقَامَهُ، كَالْوَكِيلِ، أَوِ الْوَارِثِ، أَوِ الْوَصِيِّ.

9- وَفِي دَعْوَى الْحَقِّ، كَحَقِّ الْحَضَانَةِ وَالرَّضَاعِ، الْخَصْمُ هُوَ كُلُّ شَخْصٍ لَهُ شَأْنٌ فِي الدَّعْوَى، وَهُوَ الَّذِي يُنَازِعُ الْمُدَّعِيَ فِي ذَلِكَ الْحَقِّ، وَيَمْنَعُهُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِهِ.

دَعْوَى الْحِسْبَةِ:

43- الدَّعْوَى هِيَ طَلَبُ شَخْصٍ حَقَّهُ مِنْ آخَرَ فِي حُضُورِ الْحَاكِمِ كَمَا سَبَقَ، فَهِيَ أَصْلًا تَحْتَاجُ إِلَى طَالِبٍ (الْمُدَّعِي) وَمَطْلُوبٍ (الْمُدَّعَى) وَمَطْلُوبٍ مِنْهُ (الْمُدَّعَى عَلَيْهِ).

وَإِذَا كَانَ الْمُدَّعَى مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الدَّعْوَى بِغَيْرِ الطَّلَبِ مِنْ مُدَّعٍ مُعَيَّنٍ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ.أَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالْحُدُودِ وَالتَّعَدِّي عَلَى مَا يَرْجِعُ مَنَافِعُهُ لِلْعَامَّةِ، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى مُدَّعٍ خَاصٍّ، وَتُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ. (أَيْ: لِلْأَجْرِ لَا لِإِجَابَةِ مُدَّعٍ) مَعَ مُرَاعَاةِ طُرُقِ الْإِثْبَاتِ الْخَاصَّةِ بِهَا حَسَبَ تَنَوُّعِ مَوْضُوعَاتِهَا.

فَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَجَلَّةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ سَبْقُ الدَّعْوَى فِي الشَّهَادَةِ بِحُقُوقِ النَّاسِ.

قَالَ الْأَتَاسِيُّ: لِأَنَّ ثُبُوتَ حُقُوقِهِمْ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُطَالَبَتِهِمْ، وَلَوْ بِالتَّوْكِيلِ.بِخِلَافِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، حَيْثُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الدَّعْوَى، لِأَنَّ إِقَامَةَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَكُلُّ أَحَدٍ خَصْمٌ فِي إِثْبَاتِهَا، فَصَارَ كَأَنَّ الدَّعْوَى مَوْجُودَةٌ.

وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ: يَنْتَصِبُ أَحَدُ الْعَامَّةِ خَصْمًا عَنِ الْبَاقِينَ مِنَ الْعَامَّةِ فِي الْمَحَالِّ الَّتِي مَنْفَعَتُهَا عَائِدَةٌ إِلَى الْعُمُومِ.ثُمَّ قَالَ نَقْلًا عَنْ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ: بَنَى حَائِطًا عَلَى الْفُرَاتِ وَاتَّخَذَ عَلَيْهِ رَحًى، أَوْ بَنَى فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ، فَخَاصَمَهُ أَحَدٌ يُقْضَى عَلَيْهِ بِهَدْمِهِ.

وَذَكَرَ فِي الدُّرِّ فِي بَحْثِ الشَّهَادَةِ: وَالَّذِي تُقْبَلُ فِيهِ الشَّهَادَةُ حِسْبَةً بِدُونِ الدَّعْوَى أَرْبَعَةَ عَشْرَ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: هِيَ الْوَقْفُ لِلْفُقَرَاءِ أَوْ لِلْمَسْجِدِ وَنَحْوِهِ (أَيْ لِلْعَامَّةِ)، وَطَلَاقُ الزَّوْجَةِ، وَتَعْلِيقُ طَلَاقِهَا، وَحُرِّيَّةُ الْأَمَةِ وَتَدْبِيرُهَا، وَالْخُلْعُ، وَهِلَالُ رَمَضَانَ، وَالنَّسَبُ، وَحَدُّ الزِّنَى، وَحَدُّ الشُّرْبِ، وَالْإِيلَاءُ، وَالظِّهَارُ، وَحُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ، وَدَعْوَى الْمَوْلَى نَسَبَ الْعَبْدِ، وَالشَّهَادَةُ بِالرَّضَاعِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَخْفَى أَنَّ شَاهِدَ الْحِسْبَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَدَّعِيَ مَا يَشْهَدُ بِهِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ مُدَّعٍ آخَرُ.وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ مَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الشَّهَادَةُ حِسْبَةً يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تُقْبَلُ فِيهِ الدَّعْوَى حِسْبَةً.

ثُمَّ عَلَّقَ عَلَى كَلَامِ الدُّرِّ نَقْلًا عَنِ الْأَشْبَاهِ: وَلَيْسَ لَنَا مُدَّعٍ حِسْبَةً إِلاَّ فِي دَعْوَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُدَّعِيًا، أَوْ أَنَّ مُدَّعِيَ الْحِسْبَةَ لَا يَحْلِفُ لَهُ الْخَصْمُ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الشَّهَادَةِ.

وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ فِي بَحْثِ الشَّهَادَةِ أَنَّهُ تَجِبُ الْمُبَادَرَةُ فِي حَقِّ اللَّهِ بِالرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ إِنِ اسْتُدِيمَ ارْتِكَابُ التَّحْرِيمِ عِنْدَ عَدَمِ الرَّفْعِ، كَعِتْقٍ لِرَقِيقٍ، مَعَ كَوْنِ السَّيِّدِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ مِنِ اسْتِخْدَامٍ وَبَيْعٍ وَوَطْءٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَطَلَاقٍ لِزَوْجَةٍ مَعَ كَوْنِ الْمُطَلِّقِ لَمْ يَنْكَفَّ عَنْهَا فَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ بِالرَّفْعِ، وَكَوَقْفٍ عَلَى مُعَيَّنٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مَسْجِدًا أَوْ رِبَاطًا أَوْ مَدْرَسَةً، وَوَاضِعُ الْيَدِ يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ، فَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ بِالرَّفْعِ لِرَدِّهِ إِلَى أَصْلِهِ.وَكَرَضَاعٍ بَيْنَ زَوْجَيْنِ.وَإِنْ لَمْ يَسْتَلْزِمِ ارْتِكَابَ التَّحْرِيمِ بِأَنْ كَانَ التَّحْرِيمُ يَنْقَضِي بِالْفَرَاغِ مِنْ مُتَعَلَّقِهِ كَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ، خُيِّرَ فِي الرَّفْعِ وَعَدَمِهِ، وَالتَّرْكُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنَ السَّتْرِ الْمَطْلُوبِ فِي غَيْرِ الْمُجَاهِرِ، وَإِلاَّ فَالرَّفْعُ أَوْلَى.

وَمِثْلُهُ مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، بِأَنْ يَشْهَدَ بِتَرْكِهَا، وَفِيمَا لَهُ حَقٌّ مُؤَكَّدٌ، كَطَلَاقٍ، وَعِتْقٍ، وَعَفْوٍ عَنْ قِصَاصٍ، وَبَقَاءِ عِدَّةٍ وَانْقِضَائِهَا، بِأَنْ يَشْهَدَ بِمَا ذُكِرَ لِيَمْنَعَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ.وَكَذَلِكَ فِي حَدٍّ لِلَّهِ تَعَالَى، بِأَنْ يَشْهَدَ بِمُوجَبِهِ، كَحَدِّ الزِّنَى، وَالسَّرِقَةِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ.

وَالْأَفْضَلُ فِيهِ السَّتْرُ إِذَا رَأَى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ، وَكَذَا النَّسَبُ عَلَى الصَّحِيحِ.كَمَا ذَكَرُوا مِنْهَا الرَّضَاعَ.

قَالَ الشِّرْبِينِيُّ: تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ أُمِّ الزَّوْجَةِ وَبِنْتِهَا مَعَ غَيْرِهِمَا حِسْبَةً بِلَا تَقَدُّمِ دَعْوَى، لِأَنَّ الرَّضَاعَ تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَبُوهَا وَابْنُهَا، أَوِ ابْنَاهَا بِطَلَاقِهَا مِنْ زَوْجِهَا حِسْبَةً.

وَقَالَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ: وَمَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ هَلْ تُسْمَعُ فِيهِ دَعْوَاهَا؟ وَجْهَانِ: أَوْجَهُهُمَا: «تُسْمَعُ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمُدَّعِي فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُسْمَعُ فِي غَيْرِ حُدُودِ اللَّهِ». وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا فِي بَابِ الشَّهَادَةِ أَنَّهَا تُقْبَلُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ الْخَالِصَةِ حِسْبَةً، كَمَا تُقْبَلُ فِيمَا كَانَ حَقًّا لآِدَمِيٍّ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَلَا تَفْتَقِرُ إِلَى تَقَدُّمِ الدَّعْوَى.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: الْحُقُوقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:

44- أَحَدُهُمَا: حَقٌّ لآِدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ، كَالْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُقُودِ، وَالْعُقُوبَاتِ كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَالْوَقْفِ عَلَى آدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ، فَلَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ فِيهِ إِلاَّ بَعْدَ الدَّعْوَى، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِيهِ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ، فَلَا تُسْتَوْفَى إِلاَّ بَعْدَ مُطَالَبَتِهِ وَإِذْنِهِ، وَلِأَنَّهَا حُجَّةٌ عَلَى الدَّعْوَى وَدَلِيلٌ لَهَا فَلَا يَجُوزُ تَقَدُّمُهَا عَلَيْهَا.

45- الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ حَقًّا لآِدَمِيٍّ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، أَوْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ عَلَى مَسْجِدٍ، أَوْ سِقَايَةٍ، أَوْ مَقْبَرَةٍ مُسَبَّلَةٍ، أَوِ الْوَصِيَّةِ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَنَحْوِ هَذَا، أَوْ مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوِ الزَّكَاةِ، أَوِ الْكَفَّارَةِ، فَلَا تَفْتَقِرُ الشَّهَادَةُ بِهِ إِلَى تَقَدُّمِ الدَّعْوَى، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ مُسْتَحِقٌّ مُعَيَّنٌ مِنَ الْآدَمِيِّينَ يَدَّعِيهِ وَيُطَالِبُ بِهِ.وَلِذَلِكَ شَهِدَ أَبُو بَكْرَةَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْمُغِيرَةِ، وَشَهِدَ الْجَارُودُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَشَهِدَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ دَعْوَى فَأُجِيزَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ قَبُولٌ مِنْ أَحَدٍ وَلَا رِضًى مِنْهُ، وَكَذَلِكَ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ أَحَدِ الْغَرِيمَيْنِ كَتَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ بِالطَّلَاقِ، أَوِ الظِّهَارِ، أَوْ إِعْتَاقِ الرَّقِيقِ، تَجُوزُ الْحِسْبَةُ بِهِ وَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ دَعْوَى.

هَذَا وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ كُلَّ مَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الشَّهَادَةُ حِسْبَةً يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تُقْبَلُ فِيهِ الدَّعْوَى حِسْبَةً.

ثَالِثًا: شُرُوطُ الْمُدَّعَى بِهِ:

46- الشَّرْطُ الْأَوَّلُ- يُشْتَرَطُ فِي الْمُدَّعَى بِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَالْمُرَادُ بِعِلْمِ الْمُدَّعَى بِهِ تَصَوُّرُهُ، أَيْ تَمَيُّزُهُ فِي ذِهْنِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالْقَاضِي.وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالدَّعْوَى هُوَ إِصْدَارُ الْحُكْمِ فِيهَا، وَالْمَقْصُودُ بِالْحُكْمِ فَصْلُ الْخُصُومَةِ بِإِلْزَامِ الْمَحْقُوقِ بِرَدِّ الْحَقِّ إِلَى صَاحِبِهِ، وَلَا إِلْزَامَ مَعَ الْجَهَالَةِ.

وَبِنَاءً عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ الْحُكْمُ بِمَا لَا إِلْزَامَ فِيهِ، وَهَكَذَا لَا يَتَحَصَّلُ مَقْصُودُ الدَّعْوَى بِدُونِ الْعِلْمِ فَوَجَبَ اشْتِرَاطُهُ لِصِحَّتِهَا.وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ صِحَّةَ الشَّهَادَةِ مَرْهُونَةٌ بِمُطَابِقَتِهَا لِلدَّعْوَى، فَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى مَجْهُولَةَ الْمُدَّعَى بِهِ لَمْ تَصِحَّ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ عَلَى الْمَجْهُولِ، فَتَكُونُ الدَّعْوَى مَرْفُوضَةً لِعَدَمِ إِمْكَانِ إِثْبَاتِهَا.

حُدُودُ هَذَا الشَّرْطِ:

47- لِلْمُدَّعَى بِهِ جَوَانِبُ مُتَعَدِّدَةٌ: فَهُنَاكَ ذَاتُ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى، وَهَذَا يَخْتَلِفُ حُدُودُهُ حَسَبَ الْأَحْوَالِ، فَيُفْصَلُ فِيهِ بَيْنَ مَا يَكُونُ عَيْنًا وَمَا يَكُونُ دَيْنًا، وَالْأَوَّلُ يُفْصَلُ فِيهِ بَيْنَ مَا هُوَ عَقَارٌ وَمَا هُوَ مَنْقُولٌ.كَمَا أَنَّ الدَّعَاوَى الْأُخْرَى الَّتِي يُطْلَبُ بِهَا غَيْرُ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ، كَدَعْوَى النَّسَبِ لَهَا قَوَاعِدُ تَخْتَلِفُ فِي تَحْدِيدِ الْمُدَّعَى بِهِ.وَهُنَاكَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْمُدَّعَى بِهِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَاقِعَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا الْمُدَّعِي فِي اسْتِحْقَاقِ مَا يَدَّعِيهِ، وَهُنَاكَ أَيْضًا شُرُوطُ هَذَا السَّبَبِ، وَقَدْ وَضَعَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ قَاعِدَةً عَامَّةً فِي كَيْفِيَّةِ الْعِلْمِ بِالْمُدَّعَى بِهِ، فَقَالُوا: (إِنَّمَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى جَهَالَةٌ تَمْنَعُ مِنِ اسْتِيفَاءِ الْمَحْكُومِ بِهِ، وَتَوْجِيهِ الْمُطَالَبَةِ نَحْوَهُ، حَيْثُ يَكُونُ الْمُدَّعَى بِهِ مَجْهُولًا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَوْ ذَاكَ، أَمَّا إِذَا سَلِمَ الْمُدَّعَى بِهِ مِنْ هَذَا، وَكَانَ مَحْصُورًا بِمَا يُضْبَطُ بِهِ فَلَا) وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ هَذَا الشَّرْطِ حَسَبَ أَنْوَاعِ الدَّعَاوَى الْمُخْتَلِفَةِ:

كَيْفِيَّةُ الْعِلْمِ بِالْمُدَّعَى بِهِ فِي دَعَاوَى الْعَيْنِ:

الْمُدَّعَى بِهِ فِي دَعْوَى الْعَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَقَارًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا، وَلِكُلٍّ طَرِيقَةٌ خَاصَّةٌ فِي التَّعْرِيفِ بِهِ:

48- فِي دَعْوَى الْعَقَارِ: يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى ذِكْرُ مَا يُمَيِّزُ الْعَقَارَ الْمُدَّعَى عَنْ غَيْرِهِ، وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِذِكْرِ حُدُودِهِ، وَنَاحِيَتِهِ مِنَ الْبَلَدِ الْمَوْجُودِ فِيهَا.

لَكِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ اشْتَرَطُوا تَخْصِيصَهُ بِقُيُودٍ أَكْثَرَ مِنْ تِلْكَ، فَاشْتَرَطُوا ذِكْرَ الْمَحَلَّةِ وَالسِّكَّةِ الَّتِي يَنْتَمِي إِلَيْهَا ذَلِكَ الْعَقَارُ، مَعَ ذِكْرِ جِهَةِ الْبَابِ الَّتِي يُفْتَحُ عَلَيْهَا.

هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا، وَأَمَّا فِي الْعَقَارِ الْمَشْهُورِ فَلَا يُشْتَرَطُ لِتَحْدِيدِهِ غَيْرُ ذِكْرِ اسْمِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالصَّاحِبَيْنِ.

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْحُدُودِ فِي تَعْرِيفِ الْعَقَارِ سَوَاءٌ أَكَانَ مَشْهُورًا أَمْ غَيْرَ مَشْهُورٍ.

وَيُشْتَرَطُ فِي تَعْرِيفِ الْحُدُودِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يُذْكَرَ أَسْمَاءُ أَصْحَابِهَا وَأَنْسَابُهُمْ إِلاَّ الْمَشْهُورِينَ مِنْهُمْ، فَيُكْتَفَى بِأَسْمَائِهِمْ، وَيُكْتَفَى عِنْدَهُمْ بِذِكْرِ ثَلَاثَةِ حُدُودٍ لِلْعَقَارِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ الدَّعْوَى بِذِكْرِ ثَلَاثَةِ حُدُودٍ بِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ غَالِبًا، وَاشْتَرَطَ زُفَرُ أَنْ تُذْكَرَ جَمِيعُ الْحُدُودِ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الِاكْتِفَاءُ بِالْحَدَّيْنِ وَالْحَدِّ الْوَاحِدِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الْخَطَأَ فِي ذِكْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْحُدُودِ الْأَرْبَعَةِ يَجْعَلُ الدَّعْوَى غَيْرَ مَقْبُولَةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُورِثُ الشَّكَّ فِي مَعْرِفَةِ الْمُدَّعِي لِمَا يَدَّعِيهِ، وَلِعَدَمِ انْطِبَاقِ الدَّعْوَى عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَلَا يُقَاسُ عَلَى حَالَةِ الِابْتِدَاءِ.

وَأَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَقَدِ اشْتَرَطُوا ذِكْرَ جَمِيعِ الْحُدُودِ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لَا يَتِمُّ إِلاَّ بِذِكْرِ الْحُدُودِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَضَافَ عُلَمَاءُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ قَدْ يُكْتَفَى بِثَلَاثَةٍ وَأَقَلِّ مِنْهَا إِذَا عُرِفَ الْعَقَارُ بِهَا.وَقَالُوا: إِنَّ الْمَعْرِفَةَ فِي الْعَقَارِ لَا تَتَقَيَّدُ بِالْحُدُودِ الْأَرْبَعَةِ، فَقَدْ يُعْرَفُ بِالشُّهْرَةِ الْعَامَّةِ فَلَا تَحْتَاجُ لِذِكْرِ حَدٍّ وَلَا غَيْرِهِ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ دَعْوَى الْعَقَارِ ذِكْرُ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِ.

وَذَهَبَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى صِحَّةِ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي لَمْ يَقْدُمْ بِنَاؤُهَا، أَيْ حَدِيثَةُ الْعَهْدِ فِي تَأْسِيسِهَا، فَلَا يُسْأَلُ فِيهَا عَنْ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ تَمَلَّكَهُ بِسَبَبِ الْخُطَّةِ، أَيْ: أَنَّهُ يَمْلِكُهُ مِنَ الْأَصْلِ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى مِلْكِهِ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ النَّاقِلَةِ لِلْمِلْكِيَّةِ كَالْبَيْعِ، وَذَلِكَ لِقُرْبِ عَهْدِ تَأْسِيسِهِ، وَأَمَّا دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي قَدُمَ بِنَاؤُهَا، وَطَالَ الْعَهْدُ عَلَى تَأْسِيسِهَا فَلَا تَصِحُّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قِدَمَ الْبِنَاءِ قَرِينَةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَدَّعِيهِ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ النَّاقِلَةِ لِلْمِلْكِيَّةِ، لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ تَمَلَّكَهُ بِسَبَبِ الْخُطَّةِ لِبُعْدِ عَهْدِهَا، فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ السَّبَبِ، إِذْ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْمِلْكِ بِسَبَبٍ مَجْهُولٍ، وَمَا دَامَ حُدُوثُ السَّبَبِ مُتَيَقَّنًا، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُدَّعِي بَاطِلٌ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِلْكٌ.

وَصَرَّحَ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ بِوُجُوبِ ذِكْرِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَمْ يُمَيِّزُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ دَعْوَى الْعَقَارِ وَغَيْرِهَا.بَلْ رَأَى بَعْضُ عُلَمَائِهِمْ أَنَّ الْقَاضِيَ إِنْ لَمْ يَسْأَلْ عَنْهُ وَقَبِلَ الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ كَانَ كَالْخَابِطِ خَبْطَ عَشْوَاءَ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ يَكُونُ فَاسِدًا، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ لِيُعْرَفَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَوِ ادَّعَى الْمُدَّعِي نِسْيَانَ السَّبَبِ لَمْ يُكَلَّفْ بِبَيَانِهِ.

فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ:

49- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الطَّرِيقَةِ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا الْمُدَّعَى بِهِ الْمَنْقُولُ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَنْقُولِ الْقَائِمِ وَالْهَالِكِ، وَبَيْنَ الْمَنْقُولِ الْغَائِبِ عَنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَالْحَاضِرِ فِيهِ:

فَأَمَّا الْمَنْقُولُ الْقَائِمُ الْحَاضِرُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَيُعْلَمُ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ لِأَنَّ هَذِهِ الْوَسِيلَةَ مُمْكِنَةٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَلَا يُصَارُ إِلَى أَقَلٍّ مِنْهَا.

فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْعَيْنُ الْمَنْقُولَةُ حَاضِرَةً فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي: فَإِنْ كَانَ إِحْضَارُهَا إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ مُيَسَّرًا بِحَيْثُ لَا يُكَلِّفُ نَفَقَةً، طُلِبَ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِحْضَارُهَا لِيُشَارَ إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ إِحْضَارُهَا يُكَلِّفُ نَفَقَةً، فَيَذْهَبُ الْقَاضِي أَوْ أَمِينُهُ إِلَى مَكَانِ وُجُودِهَا لِيُشَارَ إِلَيْهَا.

وَأَمَّا الْمَنْقُولُ الْهَالِكُ فَيُعْرَفُ بِذِكْرِ الْقِيمَةِ فَقَطْ، لِأَنَّ عَيْنَ الْمُدَّعَى بِهِ تَعَذَّرَ مُشَاهَدَتُهَا، وَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا بِالْوَصْفِ، إِذِ الْعَيْنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا تُعْرَفُ بِالْوَصْفِ، فَاشْتُرِطَ بَيَانُ الْقِيمَةِ، حَيْثُ تُعْرَفُ بِهَا الْعَيْنُ الْهَالِكَةُ.وَهَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَنْقُولِ الْقِيَمِيِّ، وَأَمَّا الْمِثْلِيُّ فَإِنَّ دَعْوَاهُ تُعْتَبَرُ دَعْوَى دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ، فَيُشْتَرَطُ فِي تَعْرِيفِهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الدَّيْنِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ قَرِيبًا.

وَأَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَلَمْ يَقْصِرُوا طَرِيقَةَ الْعِلْمِ بِالْمَنْقُولِ عَلَى الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، أَوْ كَانَ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَمَّا إِذَا كَانَ غَائِبًا: فَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَجَبَ عَلَى الْمُدَّعِي ذِكْرُ وَصْفِهِ الْمَشْرُوطِ فِي عَقْدِ السَّلَمِ.وَإِنْ كَانَ قِيَمِيًّا: فَإِنْ كَانَ مُنْضَبِطًا بِالْوَصْفِ، فَيَجِبُ وَصْفُهُ بِمَا يَنْضَبِطُ بِهِ، وَإِلاَّ فَيَجِبُ ذِكْرُ قِيمَتِهِ.

وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَنَّ الْأَعْيَانَ الْقِيَمِيَّةَ، هَلْ تَنْضَبِطُ بِالْوَصْفِ أَوْ لَا تَنْضَبِطُ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقِيَمِيَّ لَا يَنْضَبِطُ بِالْوَصْفِ، لِأَنَّ الْعَيْنَ قَدْ تَشْتَرِكُ مَعَ عَيْنٍ أُخْرَى فِي الْوَصْفِ وَالْحِلْيَةِ، وَبِنَاءً عَلَيْهِ قَالُوا: لَا بُدَّ مِنَ الْإِشَارَةِ فِي تَعْرِيفِ الْقِيَمِيِّ، لِأَنَّ الشَّكَّ لَا يَنْقَطِعُ إِلاَّ بِهَا.

وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَعْيَانِ الْقِيَمِيَّةِ يُمْكِنُ أَنْ تَنْضَبِطَ بِالْوَصْفِ.

وَبِنَاءً عَلَيْهِ ذَهَبُوا إِلَى الِاكْتِفَاءِ بِوَصْفِ مِثْلِ هَذِهِ الْأَعْيَانِ فِي الدَّعْوَى، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا إِحْضَارَهَا لِيُشَارَ إِلَيْهَا.

الْعِلْمُ بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ:

50- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ ذِكْرِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ عَلَى الْآرَاءِ التَّالِيَةِ:

أ- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ دَعْوَى الْمِثْلِيِّ وَدَعْوَى الْقِيَمِيِّ: فَاشْتَرَطُوا ذِكْرَ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِ الْأَسْبَابِ الْمُرَتِّبَةِ لِلدُّيُونِ فِي الذِّمَمِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَمِ مِنَ الدُّيُونِ، فَلَا بُدَّ لِصِحَّةِ دَعْوَى اشْتِغَالِهَا مِنْ بَيَانِ سَبَبِ هَذَا الِاشْتِغَالِ.

ب- وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ ذِكْرِ السَّبَبِ فِي دَعَاوَى الْعَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِثْلِيَّةً أَمْ قِيَمِيَّةً، وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ الْمُدَّعِيَ عَنْ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِ لِلْمُدَّعَى بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْطَنْ لِذَلِكَ كَانَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يُوَجِّهَ هَذَا السُّؤَالَ، فَإِنِ امْتَنَعَ الْمُدَّعِي عَنْ ذِكْرِهِ لَمْ يُكَلَّفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْجَوَابِ عَنِ الدَّعْوَى، وَبِذَلِكَ لَا تُنْتِجُ أَثَرَهَا، وَهُوَ وُجُوبُ الْجَوَابِ عَلَى الْخَصْمِ.وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ يَكُونُ مُعْتَمِدًا فِي دَعْوَاهُ عَلَى سَبَبٍ فَاسِدٍ، كَأَنْ يَكُونَ ثَمَنَ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَيْتَةٍ، فَإِنَّ كُلَّ هَذَا وَنَحْوَهُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ.

ج- وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذِكْرِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ، سَوَاءٌ أَكَانَ قِيَمِيًّا أَمْ مِثْلِيًّا، لِتَعَدُّدِ الْأَسْبَابِ وَكَثْرَتِهَا، وَفِي إِيجَابِ ذِكْرِهَا عَلَى الْمُدَّعِي حَرَجٌ كَبِيرٌ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ ضَيَاعُ حُقُوقِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَوَجَبَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ.

وَفِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي مِنْهَا ذُكُورٌ وَمِنْهَا إِنَاثٌ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ صِفَةِ الْأُنُوثَةِ أَوِ الذُّكُورَةِ فِي الدَّعْوَى.

كَيْفِيَّةُ الْعِلْمِ بِالْمُدَّعَى بِهِ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ:

51- إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ نَقْدًا، فَإِنَّهُ يُعْلَمُ بِبَيَانِ جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ وَوَصْفِهِ وَقَدْرِهِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ النَّقْدُ مُتَعَارَفًا عَلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ لِذِكْرِ غَيْرِ قَدْرِهِ.وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مِثْلِيًّا، فَإِنَّهُ يُعْلَمُ بِمِثْلِ مَا يُعْلَمُ بِهِ النَّقْدُ.وَإِذْ كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ عَيْنًا قِيَمِيَّةً، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا تَكُونُ فِي الدَّعْوَى فِي هَذِهِ الْحَالِ دَعْوَى دَيْنٍ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ هَالِكَةً، فَإِذَا كَانَتْ هَالِكَةً تُعْلَمُ بِذِكْرِ قِيمَتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِلاَّ فَلَا تُعْلَمُ إِلاَّ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا.

وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ تَثْبُتُ الْأَعْيَانُ الْقِيَمِيَّةُ فِي الذِّمَّةِ إِذَا كَانَتْ مِمَّا يَنْضَبِطُ بِالْوَصْفِ، وَعِنْدَئِذٍ تُعْلَمُ عِنْدَهُمْ بِذِكْرِ أَوْصَافِهَا الَّتِي تَنْضَبِطُ بِهَا، وَهِيَ الْأَوْصَافُ الَّتِي يُشْتَرَطُ ذِكْرُهَا فِي عَقْدِ السَّلَمِ.

الْعِلْمُ بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ:

52- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ ذِكْرِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ عَلَى الْآرَاءِ الْآتِيَةِ:

أ- فَذَهَبَ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ ذِكْرِ السَّبَبِ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ، وَإِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُدَّعِي أَنْ يُبَيِّنَ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ تَرَتَّبَ لَهُ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهَلْ هُوَ مِنْ قَرْضٍ أَوْ عَقْدٍ أَوْ إِتْلَافٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ.وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ كُلَّ دَيْنٍ لَا بُدَّ لِتَرَتُّبِهِ فِي الذِّمَّةِ مِنْ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَمِ مِنِ اشْتِغَالِهَا بِالدُّيُونِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ لِكُلِّ دَيْنٍ فَيَجِبُ عَلَى مُدَّعِي الدَّيْنِ بَيَانُ سَبَبِهِ، لِأَنَّ الْأَسْبَابَ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا، فَإِنْ كَانَ سَبَبُ الدَّيْنِ عَقْدَ السَّلَمِ مَثَلًا، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ ثَمَنَ مَبِيعٍ، حَيْثُ يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ.وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى قَدْ يَكُونُ السَّبَبُ بَاطِلًا كَأَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ ثَمَنَ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ نَتِيجَةَ مُقَامَرَةٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَيَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِهِ لِيُعْرَفَ ذَلِكَ.وَمِنْ جِهَةٍ ثَالِثَةٍ فَإِنَّ بَعْضَ الْأَسْبَابِ لَا يَصِحُّ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا فِي دَعْوَى الدَّيْنِ، كَمَا لَوِ ادَّعَى دَيْنًا عَلَى شَخْصٍ وَقَالَ: إِنَّهُ نَتِيجَةٌ لِحِسَابٍ بَيْنَهُمَا، أَوْ أَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِهِ، فَيَدَّعِي عَلَيْهِ بِسَبَبِ هَذَا الْإِقْرَارِ.

ب- وَذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذِكْرُ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ إِلاَّ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مِنَ النُّقُودِ الَّتِي انْقَطَعَ التَّعَامُلُ بِهَا وَفِي الْمِثْلِيَّاتِ.

وَفِي حَالَةِ دَعْوَى الْمَرْأَةِ الدَّيْنَ فِي تَرِكَةِ زَوْجِهَا، لِأَنَّهَا قَدْ تَظُنُّ أَنَّ النَّفَقَةَ تَصْلُحُ سَبَبًا لِإِيجَادِ الدَّيْنِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ مَعَ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ الزَّوْجِ.وَعَلَّلُوا عَدَمَ اشْتِرَاطِ ذِكْرِ السَّبَبِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَاتِ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ يَسْتَحْيِي مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْحَرَجِ، وَبِأَنَّ هُنَاكَ بَعْضَ الْأَسْبَابِ لَا يُمْكِنُ بَيَانُهَا، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا انْتَقَلَ إِلَى الْمُدَّعِي سَنَدُ دَيْنٍ مِنْ مُورِثِهِ، وَكَانَ سَبَبُ الدَّيْنِ غَيْرَ مَذْكُورٍ فِي السَّنَدِ، وَالْمُدَّعِي لَا يَعْرِفُهُ.

ج- وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دَعْوَى الدَّيْنِ تَكُونُ صَحِيحَةً وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى.وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ أَسْبَابَ الْمِلْكِ تَكُونُ مِنْ جِهَاتٍ شَتَّى يَكْثُرُ عَدَدُهَا، كَالْإِرْثِ وَالِابْتِيَاعِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَسَقَطَ وُجُوبُ الْكَشْفِ عَنْ سَبَبِهَا لِكَثْرَتِهَا وَاخْتِلَافِهَا.

كَيْفِيَّةُ الْعِلْمِ بِالْمُدَّعَى بِهِ فِي دَعْوَى الْعَقْدِ:

53- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ ذِكْرِ شُرُوطِ الْعَقْدِ لِصِحَّةِ دَعْوَاهُ عَلَى أَقْوَالٍ:

أ- فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الدَّعْوَى بَيَانُ شُرُوطِ كُلِّ سَبَبٍ لَهُ شُرُوطٌ كَثِيرَةٌ وَمُعَقَّدَةٌ، فَلَا تَصِحُّ دَعْوَى النِّكَاحِ وَالسَّلَمِ إِلاَّ بِذِكْرِ شُرُوطِهِمَا مُفَصَّلَةً.وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ ذِكْرَ الطَّوْعِ وَالرَّغْبَةِ فِي دَعْوَى الْعَقْدِ، وَخَالَفَ آخَرُونَ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ بَيْنَ النَّاسِ هُوَ الطَّوْعُ، وَالْإِكْرَاهُ نَادِرٌ لَا حُكْمَ لَهُ.

ب- وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذِكْرُ شُرُوطِ الْعَقْدِ فِي دَعْوَاهُ، لِأَنَّ ظَاهِرَ عُقُودِ الْمُسْلِمِينَ الصِّحَّةُ، فَتُحْمَلُ الدَّعْوَى عَلَى الصَّحِيحِ.

ج- وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذِكْرُ شُرُوطِ الْعَقْدِ فِي دَعْوَاهُ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْعَقْدُ عَقْدَ نِكَاحٍ، حَيْثُ اشْتَرَطُوا ذِكْرَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ بِشَاهِدَيْنِ وَوَلِيٍّ وَرِضَاهَا.وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْفَائِتَ فِي الزَّوَاجِ بِالْحُكْمِ الْخَاطِئِ لَا يُعَوَّضُ، خِلَافًا لِلْعُقُودِ الْأُخْرَى، فَإِنَّهَا أَقَلُّ خَطَرًا، فَأَشْبَهَتْ دَعْوَاهُ دَعْوَى الْقَتْلِ، حَيْثُ اتُّفِقَ عَلَى وُجُوبِ ذِكْرِ شُرُوطِهِ.وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي أَيِّ عَقْدٍ آخَرَ، وَبِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- خَصَّهُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْعُقُودِ فَقَالَ: «لَا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ».وَلَوْلَا هَذَا التَّخْصِيصُ لَكَانَ كَغَيْرِهِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ حَمَلُوهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ.

د- وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ ذِكْرِ شُرُوطِ الْعَقْدِ فِي دَعْوَاهُ مَهْمَا كَانَ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ عَقْدِ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ، وَلَا بَيْنَ مَا هُوَ كَثِيرُ الشُّرُوطِ وَقَلِيلُهَا.

ذِكْرُ السَّبَبِ فِي الدَّعَاوَى الْجِنَائِيَّةِ:

54- لَمْ يَخْتَلِفِ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ ذِكْرِ السَّبَبِ فِي الدَّعْوَى الْجِنَائِيَّةِ، فَفِي دَعْوَى الْقَتْلِ مَثَلًا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ الْقَتْلِ وَهَلْ هُوَ عَنْ عَمْدٍ أَوْ عَنْ خَطَإٍ، وَإِلاَّ فَإِنَّ الدَّعْوَى لَا تَكُونُ صَحِيحَةً حَتَّى يُصَحِّحَهَا صَاحِبُهَا، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْفَائِتَ بِالْقَتْلِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْجِنَايَاتِ لَا يُعَوَّضُ، وَقَدْ يُحْكَمُ بِشَيْءٍ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ بَعْدَ الْحُكْمِ، وَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ الصَّادِرَةَ فِي هَذِهِ الدَّعَاوَى تَتَعَلَّقُ بِالْأُصُولِ الَّتِي جَاءَ الْإِسْلَامُ لِحِفْظِهَا، وَهِيَ الدِّيْنُ وَالنَّفْسُ وَالْعَقْلُ وَالنَّسْلُ وَالْمَالُ، فَلَا يَجُوزُ التَّهَاوُنُ فِي أَمْرِهَا، وَلِأَنَّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ تُدْفَعُ بِالشُّبُهَاتِ، وَعَدَمُ التَّفْصِيلِ فِي دَعْوَاهَا يُورِثُ شُبْهَةً، فَلَا تُقْبَلُ.

وَلَا بُدَّ فِي دَعْوَى الْإِرْثِ مِنْ ذِكْرِ سَبَبِهِ، فَيَذْكُرُ مِنْ أَيَّةِ جِهَةٍ اسْتَحَقَّ الْإِرْثَ مِنَ الْمَيِّتِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


99-موسوعة الفقه الكويتية (ذكر 4)

ذِكْرٌ -4

الْحِرْصُ عَلَى جَوَامِعِ الذِّكْرِ:

49- الْمُرَادُ بِجَوَامِعِ الذِّكْرِ مَا يُقَيِّدُ فِيهِ الذَّاكِرُ لَفْظَ الذِّكْرِ بِعَدَدٍ كَبِيرٍ أَوْ مِقْدَارٍ عَظِيمٍ.

وَقَدْ وَرَدَ فِي الْإِرْشَادِ إِلَى ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الْمُتَقَدِّمُ، وَمِنْهَا حَدِيثُ جُوَيْرِيَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَمَا أَضْحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ: مَا زِلْتُ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ».

وَنَحْوُ مَا وَرَدَ «رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِكَ وَعَظِيمِ سُلْطَانِكَ».وَ «الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى».

قَالَ الْأَبِيُّ: يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ الْجَامِعَ يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ.وَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَحِبُّ الْجَوَامِعَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَيَدَعُ مَا سِوَى ذَلِكَ.ثُمَّ قَالَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الْكَثْرَةِ لَا أَنَّهَا مِثْلُ كَلِمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعَدَدِ؛ لِأَنَّ كَلِمَاتِهِ تَعَالَى غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ.

وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ: عَدَدَ كَذَا، وَزِنَةَ كَذَا كُتِبَ لَهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ، وَفَضْلُ اللَّهِ يَمُنُّ بِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.قَالَ: وَلَا يُتَّجَهُ هُنَا أَنْ يُقَالَ إِنَّ مَشَقَّةَ مَنْ قَالَ هَذَا أَخَفُّ مِنْ مَشَقَّةِ مَنْ كَرَّرَ اللَّفْظَ كَثِيرًا، فَإِنَّ هَذَا بَابٌ مَنَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعِبَادِ اللَّهِ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ، وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ، تَخْفِيفًا عَلَيْهِمْ، وَتَكْثِيرًا لِأُجُورِهِمْ دُونَ تَعَبٍ وَلَا نَصَبٍ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

وَنَقَلَ ابْنُ عَلاَّنَ عَنِ الشَّيْخِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ النُّوَيْرِيِّ قَوْلَهُ: قَدْ يَكُونُ الْعَمَلُ الْقَلِيلُ أَفْضَلَ مِنَ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ كَقَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنَ الْإِتْمَامِ، لَكِنْ لَوْ نَذَرَ إِنْسَانٌ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَشْرَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ نَذْرِهِ لِأَنَّ الْعَدَدَ هُنَا مَقْصُودٌ.وَجَعَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ نَظِيرَ ذَلِكَ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ أَلْفَ صَلَاةٍ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ صَلَاةً وَاحِدَةً، أَوْ نَذَرَ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَقَرَأَ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ.

كِتَابَةُ ذِكْرِ اللَّهِ وَأَحْكَامُ الذِّكْرِ الْمَكْتُوبِ:

50- صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَحْرُمُ كِتَابَةُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِشَيْءٍ نَجَسٍ أَوْ عَلَى شَيْءٍ نَجَسٍ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَصْدًا لِلْإِهَانَةِ اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ؛ لِأَنَّهُ رِدَّةٌ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا.

وَحَيْثُ كُتِبَ بِنَجَسٍ وَجَبَ غَسْلُهُ بِطَاهِرٍ أَوْ حَرْقُهُ لِصِيَانَتِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ طَاهِرًا فَتَنَجَّسَ، أَمَّا إِنْ لَمْ يُوجَدْ إِلاَّ مَاءٌ نَجَسٌ أَوْ نَارٌ نَجِسَةٌ فَلَا يَجُوزُ الْغَسْلُ وَالتَّحْرِيقُ بِهِمَا وَيُعْدَلُ إِلَى دَفْنِ الذِّكْرِ فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ لَا تَطَؤُهُ الْأَقْدَامُ.وَلَا تُكْرَهُ فِي الذِّكْرِ كِتَابَتُهُ فِي السُّتُورِ أَوْ غَيْرِهَا بِغَيْرِ مَسْجِدٍ إِذَا لَمْ تَكُنْ تُدَاسُ، فَإِنْ كَانَتْ تُدَاسُ كُرِهَ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَيَحْرُمُ دَوْسُ الذِّكْرِ.قَالُوا: وَيُكْرَهُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَى حِيطَانِ الْمَسَاجِدِ ذِكْرٌ أَوْ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُلْهِي الْمُصَلِّي.

وَكَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ شِرَاءَ ثَوْبٍ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ يُجْلَسُ عَلَيْهِ وَيُدَاسُ وَكَرِهَ بَيْعَ الثِّيَابِ الَّتِي عَلَيْهَا ذِكْرُ اللَّهِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ.وَفِي الْفُرُوعِ: يَحْرُمُ مَسُّ ذِكْرِ اللَّهِ بِنَجَسٍ.وَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ الذِّكْرُ أَوْ مَسُّ مَا فِيهِ ذِكْرٌ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَدَثُ أَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ لَوْ كَانَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ.

وَفِي تَعْلِيقِ الذِّكْرِ الْمَكْتُوبِ لِدَفْعِ ضَرَرٍ وَاقِعٍ خِلَافٌ. (ر: تَعْوِيذ ف 23).

الْأَذْكَارُ الَّتِي رَتَّبَهَا الشَّارِعُ:

51- رَتَّبَ الشَّارِعُ كَثِيرًا مِنَ الْأَذْكَارِ، فِي أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ.

فَمِنْهَا أَذْكَارٌ مُرَتَّبَةٌ بِحَسَبِ الزَّمَانِ كَأَذْكَارِ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ وَالظَّهِيرَةِ وَدُخُولِ الشَّهْرِ وَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ.

وَمِنْهَا أَذْكَارٌ بِحَسَبِ الْمَكَانِ.

وَمِنْهَا أَذْكَارٌ فِي الْعِبَادَاتِ، كَأَذْكَارِ الصَّلَاةِ وَمَا قَبْلَهَا، وَأَذْكَارُ الصَّوْمِ وَالْإِفْطَارِ مِنْهُ وَالْحَجِّ.وَمِنْهَا أَذْكَارٌ مُرَتَّبَةٌ لِلْأَفْعَالِ وَالْأَحْوَالِ، كَأَذْكَارِ النَّوْمِ وَالِاسْتِيقَاظِ مِنْهُ، وَأَذْكَارِ الْمَلْبَسِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالذَّبْحِ.وَأَذْكَارِ عَقْدِ النِّكَاحِ وَالْمُعَاشَرَةِ، وَأَذْكَارِ الْعُطَاسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَأَذْكَارٍ تُقَالُ عِنْدَ التَّطَيُّرِ وَالتَّشَاؤُمِ، وَعِنْدَ الْكَرْبِ وَالشِّدَّةِ، وَعِنْدَ السَّفَرِ وَالنُّزُولِ، وَالرُّكُوبِ وَالْعَوْدَةِ، وَأَذْكَارِ الْمَجَالِسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.وَقَدْ أَلَّفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ تَآلِيفَ مَشْهُورَةً.وَيُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا بِالرُّجُوعِ إِلَى مَوَاضِعِهَا فِي هَذِهِ الْمَوْسُوعَةِ أَوْ فِي الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي الْأَذْكَارِ.

أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الذِّكْرِ:

52- مَا كَانَ مِنَ الْأَذْكَارِ وَاجِبًا لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ.

قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: مَا كَانَ عَلَى مَسْنُونٍ كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ الْقُرْآنِ تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَيْهَا وَأَخْذُ الْأُجْرَةِ حَيْثُ كَانَ فِي ذَلِكَ كُلْفَةٌ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازُ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى الْأَذَانِ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي عَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ: أَنَّهُ يُكْرَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الْأَذَانِ.

ثَانِيًا: الذِّكْرُ بِمَعْنَى النُّطْقِ بِاسْمِ الشَّخْصِ أَوِ الشَّيْءِ:

53- وَهُوَ بِمَعْنَى الْقَوْلِ أَوِ الْحِكَايَةِ.

وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِحَسَبِ الشَّيْءِ الْمَذْكُورِ أَوِ الشَّخْصِ الْمَذْكُورِ، وَبِحَسَبِ مَا يَقُولُهُ عَنْهُ.وَالْأَصْلُ أَنَّ الذِّكْرَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُبَاحٌ، وَتَعْرِضُ لَهُ الْأَحْكَامُ الْأُخْرَى: فَمِنْهُ مَا يَكُونُ وَاجِبًا كَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ بِحَقٍّ.فَإِنَّهَا ذِكْرٌ لِلْمَشْهُودِ بِهِ.

وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، كَذِكْرِ مَا يَكُونُ فِيهِ الْخَيْرُ، كَإِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَدَلَالَتِهِمْ عَلَى الْمَعْرُوفِ، وَكَذِكْرِ الْفَاسِقِ الْمُجَاهِرِ بِمَا فِيهِ لِيُعْرَفَ، وَذِكْرِ أَهْلِ الْبِدَعِ لِئَلاَّ يُغْتَرَّ بِهِمْ.

وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مَكْرُوهًا كَالنُّطْقِ بِأَمْرٍ فِيهِ شُبْهَةُ التَّحْرِيمِ أَوِ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ.

وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مُحَرَّمًا كَالْغِيبَةِ وَهِيَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ» وَقَدْ يَكُونُ مُكَفِّرًا كَمَنْ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ رَسُولَهُ أَوْ كِتَابَهُ بِاسْتِهْزَاءٍ أَوِ اسْتِخْفَافٍ فَيَسْتَحِقُّ قَائِلُهُ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الرِّدَّةِ إِنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَيُنْتَقَضُ عَهْدُهُ إِنْ كَانَ ذِمِّيًّا.وَانْظُرْ: (غِيبَة، رِدَّة، اسْتِخْفَاف).

ثَالِثًا: الذِّكْرُ بِمَعْنَى اسْتِحْضَارِ الشَّيْءِ فِي الْقَلْبِ:

54- وَهُوَ يُقَابِلُ النِّسْيَانَ.وَالذَّاكِرُ فِي حَالِ الْمُخَالَفَةِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ أَوْ فِعْلِ الْمُحَرَّمِ مُسْتَحِقٌّ لِلْإِثْمِ، وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ سَوَاءٌ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.

أَمَّا النِّسْيَانُ فَهُوَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَهْلِيَّةِ، وَهُوَ عَدَمُ الِاسْتِحْضَارِ وَقْتَ الْحَاجَةِ.قَالَ شَارِحُ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: النِّسْيَانُ عُذْرٌ فِي حَقِّ الْإِثْمِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ.وَأَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ مَعَ مُذَكِّرٍ فَلَا عُذْرَ، كَأَكْلِ النَّاسِي فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا إِذْ هَيْئَاتُهَا مُذَكِّرَةٌ، وَصَيْدِ الْمُحْرِمِ نَاسِيًا إِذِ الْإِحْرَامُ مُذَكِّرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُذَكِّرٌ فَيَكُونُ عُذْرًا، كَالْأَكْلِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ نَاسِيًا، وَسَلَامِ الْمُصَلِّي فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى نَاسِيًا وَتَرْكِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ نَاسِيًا.

وَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ تَفْصِيلِ ذَلِكَ وَالْخِلَافِ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (نِسْيَان).

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلتَّذَكُّرِ:

55- الذِّكْرُ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا يَطْرَأُ فِي الْغَالِبِ عَلَى الْإِنْسَانِ دُونَ إِرَادَتِهِ، لَكِنْ قَدْ يَتَكَلَّفُ التَّذَكُّرَ فَيَتَذَكَّرُ، وَمِنْ هُنَا فَقَدْ يَكُونُ مُكَلَّفًا بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصَالِحِ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِتَذَكُّرِ نِعَمِهِ لِيُشْكَرَ وَلِيَعْرِفَ الْإِنْسَانُ حَقَّ رَبِّهِ تَعَالَى مِنْ تَوْحِيدِهِ وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} وَأَمَرَ تَعَالَى بِذِكْرِ الْآخِرَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْهَوْلِ وَالْحِسَابِ وَنَعِيمِ الْجَنَّةِ وَعَذَابِ النَّارِ وَمَصَارِعِ الظَّالِمِينَ مِمَّنْ سَاقَ ذِكْرَهُمْ فِي كِتَابِهِ.وَمِنْ ذَلِكَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ».

وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ».وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ صَحِيحًا كَانَ أَوْ مَرِيضًا ذِكْرُ الْمَوْتِ، بِأَنْ يَجْعَلَهُ نَصْبَ عَيْنَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَزْجَرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَأَدْعَى لِلطَّاعَةِ.

رَابِعًا: الذِّكْرُ بِمَعْنَى الصِّيتِ وَالشَّرَفِ:

56- امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} وَامْتَنَّ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ بِقَوْلِهِ: {لَقَدْأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} وَقَالَ: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا الشَّرَفُ.وَأَخْبَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ دَعَا اللَّهَ تَعَالَى فَقَالَ: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ الثَّنَاءُ وَخُلْدُ الْمَكَانَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ.وَقَدْ أَجَابَ اللَّهُ دَعَوْتَهُ فَكُلُّ أُمَّةٍ تَتَمَسَّكُ بِهِ وَتُعَظِّمُهُ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَمِنْ هُنَا رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ أَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ صَالِحًا، وَيُرَى فِي عَمَلِ الصَّالِحِينَ إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى.وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} أَيْ حُبًّا فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَثَنَاءً حَسَنًا.فَنَبَّهَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} عَلَى اسْتِحْبَابِ اكْتِسَابِ مَا يُورِثُ الذِّكْرَ الْجَمِيلَ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُكْسِبُ الثَّنَاءَ الْحَسَنَ.

وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُثْنِي عَلَى مَنْ تَمَيَّزَ بِفِعْلٍ أَوْ فَضْلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَيَحْمَدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانُوا يُظْهِرُونَ سُرُورَهُمْ بِذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: «إِنِّي أَكِلُ قَوْمًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْغِنَى مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ قَالَ عَمْرٌو: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حُمْرَ النَّعَمِ».«وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: مُلِئَ عَمَّارٌ إِيمَانًا إِلَى مُشَاشِهِ».

لَكِنْ عَلَى الْمُؤْمِنِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يَتَجَنَّبَ أُمُورًا:

الْأَوَّلُ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَطْلُبَ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ بِمَا لَيْسَ حَقًّا وَمَا لَمْ يَفْعَلْ، بِأَنْ يُرَائِيَ فَيُظْهِرَ لِلنَّاسِ مَا لَيْسَ فِيهِ مِنَ الْفَضَائِلِ، أَوْ يَدَّعِيَ بِأَفْعَالِ خَيْرٍ لَمْ يَفْعَلْهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} وَقَوْلُهُ: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَقُولُونَ جَاهَدْنَا وَأَبْلَيْنَا وَلَمْ يُجَاهِدُوا، وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا غَيْرُ ذَلِكَ.

الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ قَصْدُهُ مِنَ الْعَمَلِ مُجَرَّدَ الثَّنَاءِ وَالذِّكْرِ الْجَمِيلِ، بَلْ يَعْمَلُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَسُرُّهُ أَنْ يَظْهَرَ لِيُقْتَدَى بِهِ فِيهِ، أَوْ يَعْلَمَ مَكَانَهُ مِنَ الْفَضْلِ سُرُورًا بِالْخَيْرِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يُحِبُّ أَنْ يَلْقَى فِي طَرِيقِهِ الْمَجْدَ، وَيَكْرَهُ أَنْ يَلْقَى فِي طَرِيقِهِ السُّوءَ.فَأَمَّا رَبِيعَةُ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَالَ: إِذَا كَانَ أَوَّلُ أَمْرِهِ ذَلِكَ وَأَصْلُهُ لِلَّهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي}.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} قَالَ مَالِكٌ: فَأَيُّ شَيْءٍ هَذَا إِلاَّ هَذَا؟ فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ يَكُونُ فِي الْقَلْبِ لَا يَمْلِكُهُ، هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَمْنَعَهُ الْعَمَلَ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ مَنْ صَلَّى صَلَاةً لِيَرَاهَا النَّاسُ وَيَرَوْهُ فِيهَا فَيَشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ، أَوْ أَرَادَ طَلَبَ الْمَنْزِلَةِ وَالظُّهُورِ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ وَجَوَازِ الْإِمَامَةِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِالرِّيَاءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا الرِّيَاءُ الْمَعْصِيَةُ: أَنْ يُظْهِرَهَا صَيْدًا لِلنَّاسِ وَطَرِيقًا لِلْأَكْلِ.وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَنْ طَلَبَ بِالْعِبَادَةِ فَضْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ بِدُخُولِ جَنَّتِهِ وَالْخَلَاصِ مِنْ نَارِهِ لَا يَكُونُ فِعْلُهُ مُنَافِيًا لِلْإِخْلَاصِ.

فَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مُجَرَّدَ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ الْعَاجِلَةِ وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ الْأَوَّلُ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ ذَلِكَ مُحْبِطًا لِأَجْرِهِ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا وَفِيهِ «فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ» وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا فَعَلَ الْعِبَادَةَ لِطَلَبِ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ فَهُوَ الرِّيَاءُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ.

قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: فَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يَكُونُ الدِّينُ مَقْصُودَهُ وَالدُّنْيَا وَسِيلَةً، وَبَيْنَ مَنْ تَكُونُ الدُّنْيَا مَقْصُودَهُ وَالدِّينُ وَسِيلَةً، وَالْأَشْبَهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ خَلَاقٌ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ.

وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (نِيَّة).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


100-موسوعة الفقه الكويتية (رجوع 2)

رُجُوعٌ -2

6- الرُّجُوعُ بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ:

19- الِاسْتِحْقَاقُ- بِمَعْنَاهُ الْأَعَمِّ- ظُهُورُ كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا وَاجِبًا لِلْغَيْرِ، وَالِاسْتِحْقَاقُ يَرِدُ فِي الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَالْمَسْرُوقُ مِنْهُ يَثْبُتُ لَهُمَا حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ وَيَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ رَدُّ الْمَغْصُوبِ وَالْمَسْرُوقِ لِرَبِّهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ».

وَيَشْمَلُ كَذَلِكَ اسْتِحْقَاقَ الْمَبِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي، أَوِ الْمَوْهُوبِ عَلَى الْمُتَّهَبِ، فَيَتَبَيَّنُ فَسَادُ الْعَقْدِ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيَتَوَقَّفُ نَفَاذُ الْعَقْدِ عَلَى الْإِجَازَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَيَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي فِي الْجُمْلَةِ حَقُّ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ ثُبُوتُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِحْقَاق).

7- الرُّجُوعُ بِسَبَبِ الْأَدَاءِ وَوُجُودِ الْإِذْنِ:

20- أَدَاءُ الدَّيْنِ بِإِذْنِ الْمَدِينِ فِي الْأَدَاءِ أَوْ فِي الضَّمَانِ مِنْ أَسْبَابِ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَدِينِ، فَمَنْ أَذِنَ لِغَيْرِهِ بِضَمَانِ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ أَذِنَ لَهُ بِأَدَائِهِ فَأَدَّاهُ قَاصِدًا الرُّجُوعَ بِهِ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَدِينِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، مَعَ مُرَاعَاةِ تَوَافُرِ شُرُوطِ صِحَّةِ الضَّمَانِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ، كَكَوْنِ الضَّامِنِ أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ، وَكَكَوْنِ الدَّيْنِ ثَابِتًا عِنْدَ الضَّمَانِ، وَكَوْنِهِ مَعْلُومًا عِنْدَ مَنْ لَا يُجِيزُ ضَمَانَ الْمَجْهُولِ، وَكَأَنْ يُضِيفَ الْمَضْمُونُ الضَّمَانَ إِلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يَقُولَ: اضْمَنْ عَنِّي.كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ وَالِاسْتِثْنَاءَاتِ.

لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الرُّجُوعِ وَعَدَمِهِ عِنْدَ ضَمَانِ الدَّيْنِ وَأَدَائِهِ دُونَ إِذْنِ الْمَدِينِ فِي الضَّمَانِ أَوْ فِي الْأَدَاءِ.فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ أَدَّى دَيْنَ غَيْرِهِ دُونَ إِذْنِهِ فَلَا يَحِقُّ لَهُ الرُّجُوعُ بِمَا أَدَّى؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَدِينِ تَبَرُّعٌ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْغَيْرِ فَلَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ.

أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ لِصِحَّةِ الضَّمَانِ وَالْأَدَاءِ دُونَ إِذْنِ الْمَدِينِ، وَهَذَا إِذَا ضَمِنَ أَوْ أَدَّى عَلَى سَبِيلِ الرِّفْقِ بِالْمَدِينِ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْغَرَضُ إِضْرَارَهُ بِسُوءِ طَلَبِهِ وَحَبْسِهِ لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمَدِينِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ الَّذِي أَدَّاهُ لَهُ.

وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: إِنِ انْتَفَى الْإِذْنُ فِي الْأَدَاءِ وَالضَّمَانِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ رُجُوعٌ لَمَا صَلَّى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْمَيِّتِ بِضَمَانِ أَبِي قَتَادَةَ.

وَإِنْ أَذِنَ الْمَدِينُ فِي الضَّمَانِ فَقَطْ وَسَكَتَ عَنِ الْأَدَاءِ رَجَعَ فِي الْأَصَحِّ لِأَنَّهُ أَذِنَ فِي سَبَبِ الْأَدَاءِ، وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ لِانْتِفَاءِ الْإِذْنِ فِي الْأَدَاءِ.

21- وَيُسْتَثْنَى مِنْ أَحَقِّيَّةِ الرُّجُوعِ- إِذَا وُجِدَ الْإِذْنُ فِي الضَّمَانِ- مَا إِذَا ثَبَتَ الضَّمَانُ بِبَيِّنَةٍ وَهُوَ مُنْكِرٌ، كَأَنِ ادَّعَى عَلَى زَيْدٍ وَغَائِبٍ أَلْفًا، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ضَمِنَ مَا عَلَى الْآخَرِ بِإِذْنِهِ، فَأَنْكَرَ زَيْدٌ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً وَغَرَّمَهُ، لَمْ يَرْجِعْ زَيْدٌ عَلَى الْغَائِبِ بِالنِّصْفِ؛ لِكَوْنِهِ مُكَذِّبًا بِالْبَيِّنَةِ، فَهُوَ مَظْلُومٌ بِزَعْمِهِ، فَلَا يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِ ظَالِمِهِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ الضَّامِنُ بِالْإِذْنِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُؤَدِّيَ دَيْنَ فُلَانٍ وَلَا أَرْجِعَ بِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَدَّى لَا يَرْجِعُ.

وَإِنْ أَذِنَ الْمَدِينُ فِي الْأَدَاءِ وَانْتَفَى الْإِذْنُ فِي الضَّمَانِ فَضَمِنَ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَأَدَّى بِالْإِذْنِ، فَلَا رُجُوعَ لَهُ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَلَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ: يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ الدَّيْنَ عَنِ الْأَصِيلِ بِإِذْنِهِ،

وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ أَدَّى وَشَرَطَ الرُّجُوعَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ بَنَوْا ثُبُوتَ الْحَقِّ فِي الرُّجُوعِ وَعَدَمِهِ عَلَى النِّيَّةِ.قَالُوا: إِنْ قَضَى الضَّامِنُ الدَّيْنَ وَلَمْ يَنْوِ رُجُوعًا عَلَى مَضْمُونٍ عَنْهُ بِمَا قَضَاهُ لَمْ يَرْجِعْ؛ لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ سَوَاءٌ ضَمِنَ بِإِذْنِهِ أَمْ لَا، وَإِنْ نَوَى الرُّجُوعَ رَجَعَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الضَّمَانُ أَوِ الْقَضَاءُ بِإِذْنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ أَمْ بِدُونِ إِذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ مُبَرِّئٌ مِنْ دَيْنٍ وَاجِبٍ فَكَانَ مِنْ ضَمَانِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، كَالْحَاكِمِ إِذَا قَضَاهُ عَنْهُ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ، وَلَوْ لَمْ يَأْذَنْ فِي قَضَاءٍ وَلَا ضَمَانٍ، وَأَمَّا قَضَاءُ عَلِيٍّ وَأَبِي قَتَادَةَ فَكَانَ تَبَرُّعًا؛ لِقَصْدِ بَرَاءَةِ ذِمَّةِ الْمَدِينِ الْمُتَوَفَّى لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-.

وَالْكَلَامُ فِيمَنْ نَوَى الرُّجُوعَ لَا فِيمَنْ تَبَرَّعَ،

هَكَذَا جَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ وَشَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ، لَكِنَّ ابْنَ قُدَامَةَ ذَكَرَ رِوَايَةً فِي أَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَقَضَى بِغَيْرِ إِذْنٍ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ وَلَوْ نَوَى الرُّجُوعَ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَأَبِي قَتَادَةَ فَإِنَّهُمَا لَوْ كَانَا يَسْتَحِقَّانِ الرُّجُوعَ عَلَى الْمَيِّتِ صَارَ الدَّيْنُ لَهُمَا فَكَانَتْ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ مَشْغُولَةً بِدَيْنِهِمَا كَاشْتِغَالِهَا بِدَيْنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-؛ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِذَلِكَ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَلَفَ دَوَابَّهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا: إِنْ قَضَى الدَّيْنَ وَلَمْ يَنْوِ رُجُوعًا وَلَا تَبَرُّعًا بَلْ ذَهِلَ عَنْ قَصْدِهِ الرُّجُوعَ وَعَدَمَهُ لَمْ يَرْجِعْ كَالْمُتَبَرِّعِ لِعَدَمِ قَصْدِهِ الرُّجُوعَ.

22- هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِدَيْنِ الْآدَمِيِّ، أَمَّا دَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ فَإِنَّ مَنْ أَدَّى زَكَاةَ غَيْرِهِ دُونَ إِذْنِهِ فَلَا يُجْزِئُ مَا أَدَّاهُ عَنِ الزَّكَاةِ لِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهَا وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِمَا أَدَّى، إِلاَّ أَنَّ الزَّكَاةَ إِنْ أَخْرَجَهَا أَحَدٌ بِغَيْرِ عِلْمِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ الْإِمَامِ فَمُقْتَضَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي الْأُضْحِيَّةِ يَذْبَحُهَا غَيْرُ رَبِّهَا بِغَيْرِ عِلْمِهِ وَإِذْنِهِ إِنْ كَانَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ صَدِيقَهُ وَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ عِنْدَهُ لِتَمَكُّنِ الصَّدَاقَةِ بَيْنَهُمَا، أَجْزَأَتْهُ الْأُضْحِيَّةُ إِنْ كَانَ مُخْرِجَ الزَّكَاةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَمُقْتَضَى قَوْلِهِمْ فِي الْأُضْحِيَّةِ أَنَّ الزَّكَاةَ تُجْزِئُهُ، لِأَنَّ كِلَيْهِمَا عِبَادَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا مُفْتَقِرَةٌ لِلنِّيَّةِ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لَا تُجْزِئُ عَنْ رَبِّهَا لِافْتِقَارِهَا لِلنِّيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ لِأَجْلِ شَائِبَةِ الْعِبَادَةِ.

وَإِنْ أَمَرَ شَخْصٌ غَيْرَهُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ عَنْهُ أَجْزَأَتْ، وَكَانَ لِلْمُؤَدِّي حَقُّ الرُّجُوعِ بِاتِّفَاقٍ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اشْتَرَطُوا ضَمَانَ الْآمِرِ بِأَنْ يَقُولَ: عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ فِي بَابِ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ يَثْبُتُ لِلْقَابِضِ مِلْكٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْمِثْلِ، حَتَّى لَوْ ظَهَرَ أَنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ لَا يَسْتَرِدُّ مِنَ الْفَقِيرِ مَا قَبَضَ، فَيَثْبُتُ لِلْآمِرِ مِلْكُ مِثْلِ ذَلِكَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِلاَّ بِالشَّرْطِ.قَالَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ:

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْكَفَالَةِ تَضَمَّنَ طَلَبَ الْقَرْضِ إِذَا ذَكَرَ لَفْظَةَ «عَنِّي»، وَفِي قَضَاءِ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ طَلَبُ اتِّهَابٍ، وَلَوْ ذَكَرَ لَفْظَةَ «عَنِّي».

ثَانِيًا: الرُّجُوعُ مِنَ الْمَكَانِ وَإِلَيْهِ:

23- مِنْ أَسْبَابِ الرُّجُوعِ مِنَ الْمَكَانِ أَوْ إِلَيْهِ النُّزُولُ عَلَى حُكْمِ الشَّرْعِ، وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي أَمَاكِنَ مُتَفَرِّقَةٍ وَمِنْ ذَلِكَ.

أ- رُجُوعُ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ الْمَكَانِيَّ لِلْحَجِّ دُونَ إِحْرَامٍ:

24- لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مِيقَاتٌ مَكَانِيٌّ حَدَّدَهُ الشَّرْعُ، وَالْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ الْمُحَدَّدِ لِمُرِيدِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ مَرَّ بِهِ، وَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ لِيُحْرِمَ مِنْهُ إِنْ أَمْكَنَهُ، فَإِنْ رَجَعَ إِلَيْهِ فَأَحْرَمَ مِنْهُ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَتَجَاوَزْهُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ الَّذِي أُمِرَ بِالْإِحْرَامِ مِنْهُ.

وَإِنْ تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ وَأَحْرَمَ فَعَلَيْهِ دَمٌ، سَوَاءٌ رَجَعَ إِلَى الْمِيقَاتِ أَوْ لَمْ يَرْجِعْ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ يَتَلَبَّسَ بِنُسُكٍ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ عَادَ فَلَبَّى سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ لَمْ يَسْقُطْ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ لِلَّذِي أَحْرَمَ بَعْدَ الْمِيقَاتِ: ارْجِعْ إِلَى الْمِيقَاتِ فَلَبِّ وَإِلاَّ فَلَا حَجَّ لَكَ، فَأَوْجَبَ التَّلْبِيَةَ مِنَ الْمِيقَاتِ فَلَزِمَ اعْتِبَارُهَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَسْقُطُ الدَّمُ، لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الدَّمِ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ بِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ مِنْ غَيْرِ إِحْرَامٍ فَلَا تَنْعَدِمُ الْجِنَايَةُ بِعَوْدِهِ فَلَا يَسْقُطُ الدَّمُ، وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ مَا تَلَبَّسَ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ طَوَافٍ وَغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ بِاتِّفَاقٍ.

ب- رُجُوعُ الْمُعْتَدَّةِ إِلَى مَنْزِلِ الْعِدَّةِ:

25- يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ خَرَجَتْ لِحَجٍّ أَوْ زِيَارَةٍ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا مُوجِبُ الْعِدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ مَوْتِ زَوْجِهَا هَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ إِلَى مَنْزِلِهَا لِتَعْتَدَّ فِيهِ لِوُجُوبِ ذَلِكَ شَرْعًا عَلَيْهَا حَيْثُ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُعْتَدَّاتِ عَنِ الْخُرُوجِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} أَمْ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ؟ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ لَزِمَتْهَا عِدَّةُ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ عِدَّةُ وَفَاةٍ بَعْدَمَا خَرَجَتْ لِلْحَجِّ فَإِنْ كَانَ إِلَى مَنْزِلِهَا أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ سَفَرٍ وَإِلَى مَكَّةَ مُدَّةُ سَفَرٍ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى مَنْزِلِهَا لِتَعْتَدَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِنْشَاءُ سَفَرٍ فَصَارَ كَأَنَّهَا فِي بَلَدِهَا.

وَإِنْ كَانَ إِلَى مَكَّةَ أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ سَفَرٍ وَإِلَى مَنْزِلِهَا مُدَّةُ سَفَرٍ مَضَتْ إِلَى مَكَّةَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى الْمَحْرَمِ فِي أَقَلَّ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ سَفَرٍ فَهِيَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَتْ مَضَتْ وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ إِلَى مَنْزِلِهَا، وَالرُّجُوعُ أَوْلَى لِيَكُونَ الِاعْتِدَادُ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِيَّةِ، وَهُوَ أَوْجَهُ.نَقَلَ هَذَا ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ، وَفِي الْعِنَايَةِ وَالنِّهَايَةِ يَتَعَيَّنُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهَا إِذَا رَجَعَتْ صَارَتْ مُقِيمَةً، وَإِذَا مَضَتْ كَانَتْ مُسَافِرَةً.

وَإِنْ كَانَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مُدَّةُ سَفَرٍ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مِصْرَ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ وَجَدَتْ مَحْرَمًا.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إِذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِلَا مَحْرَمٍ بِلَا خِلَافٍ.وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَفَازَةِ أَوْ فِي بَعْضِ الْقُرَى بِحَيْثُ لَا تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا فَلَهَا أَنْ تَمْضِيَ فَتَدْخُلَ مَوْضِعَ الْأَمْنِ، ثُمَّ لَا تَخْرُجُ مِنْهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، سَوَاءٌ وَجَدَتْ مَحْرَمًا أَمْ لَمْ تَجِدْ.

وَعِنْدَهُمَا تَخْرُجُ إِذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: عَلَى الْمُعْتَدَّةِ أَنْ تُمْضِيَ مُدَّةَ الْعِدَّةِ فِي بَيْتِهَا الَّذِي كَانَتْ فِيهِ قَبْلَ طُرُوءِ الْعِدَّةِ، وَلَوْ كَانَتْ قَدْ نَقَلَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الْمَوْتِ أَوِ الطَّلَاقِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، وَاتُّهِمَ أَنَّهُ نَقَلَهَا لِيُسْقِطَ سُكْنَاهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ مُقِيمَةً بِغَيْرِ مَسْكَنِهَا وَقْتَ الْمَوْتِ أَوِ الطَّلَاقِ فَيَجِبُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ لِمَنْزِلِهَا لِتَعْتَدَّ فِيهِ. وَلَوْ خَرَجَتْ لِحَجِّ الصَّرُورَةِ مَعَ زَوْجِهَا وَمَاتَ الزَّوْجُ أَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ سَيْرِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَرْجِعَ لِتَعْتَدَّ بِمَنْزِلِهَا إِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنَ الْعِدَّةِ بَعْدَ رُجُوعِهَا وَلَوْ يَوْمًا وَاحِدًا.لَكِنَّ الرُّجُوعَ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا كَانَتْ لَمْ تُحْرِمِ بِالْحَجِّ، فَإِنْ كَانَتْ دَخَلَتْ فِي الْإِحْرَامِ وَلَوْ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ سَفَرِهَا فَلَا تَرْجِعُ.

وَلَوْ خَرَجَتْ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ أَوْ لِزِيَارَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقُرَبِ فَيَجِبُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ وَلَوْ وَصَلَتْ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي تُرِيدُهُ وَلَوْ بَعْدَ إِقَامَتِهَا نَحْوَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ.

وَلَوْ خَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا لِلْإِقَامَةِ فِي مَكَانٍ آخَرَ بَعْدَ رَفْضِ السُّكْنَى فِي الْمَسْكَنِ الْأَوَّلِ فَطُلِّقَتْ أَوْ مَاتَ زَوْجُهَا فَهِيَ بِالْخِيَارِ فِي الِاعْتِدَادِ بِأَيِّ مَكَانٍ شَاءَتْ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ انْتَقَلَتِ الزَّوْجَةُ بِإِذْنِ الزَّوْجِ إِلَى مَسْكَنٍ آخَرَ فِي الْبَلَدِ فَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ قَبْلَ وُصُولِهَا إِلَى الْمَسْكَنِ الْآخَرِ فَلَا تَرْجِعُ إِلَى مَسْكَنِهَا الْأَوَّلِ، بَلْ تَعْتَدُّ فِي الثَّانِي عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِالْقِيَامِ فِيهِ، وَقِيلَ: تَعْتَدُّ فِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعِدَّةِ لَمْ يَحْصُلْ وَقْتَ الْفِرَاقِ فِي الثَّانِي، وَقِيلَ: تَتَخَيَّرُ لِتَعَلُّقِهَا بِكُلٍّ مِنْهُمَا.

أَمَّا إِذَا وَجَبَتِ الْعِدَّةُ بَعْدَ وُصُولِهَا لِلثَّانِي اعْتَدَّتْ فِيهِ جَزْمًا.وَإِنْ كَانَ الِانْتِقَالُ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ وَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ رَجَعَتْ إِلَى الْأَوَّلِ وَلَوْ بَعْدَ وُصُولِهَا لِلثَّانِي لِعِصْيَانِهَا بِذَلِكَ، إِلاَّ إِذَا أَذِنَ لَهَا بَعْدَ الْوُصُولِ.

وَإِنْ أَذِنَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ فِي سَفَرِ حَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ تِجَارَةٍ، أَوِ اسْتِحْلَالِ مَظْلِمَةٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَسَفَرٍ لِحَاجَتِهَا، ثُمَّ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، فَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُفَارِقْ عُمْرَانَ الْبَلَدِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَشْرَعْ فِي السَّفَرِ.

وَإِنْ فَارَقَتْ عُمْرَانَ الْبَلَدِ وَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَلَهَا الرُّجُوعُ وَلَهَا الْمُضِيُّ فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّ فِي قَطْعِهَا عَنِ السَّفَرِ مَشَقَّةً، لَا سِيَّمَا إِذَا بَعُدَتْ عَنِ الْبَلَدِ، أَوْ خَافَتْ الِانْقِطَاعَ عَنِ الرُّفْقَةِ، وَالْأَفْضَلُ الرُّجُوعُ.وَإِذَا اخْتَارَتِ الْمُضِيَّ وَمَضَتْ لِمَقْصِدِهَا أَوْ بَلَغَتْهُ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ بَعْدَ قَضَاءِ حَاجَتِهَا دُونَ تَقَيُّدٍ بِمُدَّةِ السَّفَرِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ.وَيَجِبُ الرُّجُوعُ بَعْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ لِتَعْتَدَّ مَا بَقِيَ مِنَ الْعِدَّةِ فِي مَسْكَنِهَا.

وَإِذَا سَافَرَتْ لِنُزْهَةٍ أَوْ زِيَارَةٍ أَوْ سَافَرَ بِهَا الزَّوْجُ لِحَاجَتِهِ وَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ فَلَا تَزِيدُ عَلَى مُدَّةِ إِقَامَةِ الْمُسَافِرِينَ ثُمَّ تَعُودُ.

وَإِنْ قَدَّرَ لَهَا الزَّوْجُ مُدَّةً فِي نُقْلَةٍ أَوْ سَفَرِ حَاجَةٍ أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ كَاعْتِكَافٍ، اسْتَوْفَتْهَا وَعَادَتْ لِتَمَامِ الْعِدَّةِ. وَلَوْ أَحْرَمَتْ بِحَجٍّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ، فَإِنْ خَافَتْ فَوَاتَ الْحَجِّ لِضِيقِ الْوَقْتِ وَجَبَ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ مُعْتَدَّةً لِتَقَدُّمِ الْإِحْرَامِ، وَإِنْ لَمْ تَخَفْ فَوَاتَ الْحَجِّ لِسَعَةِ الْوَقْتِ جَازَ لَهَا الْخُرُوجُ إِلَى ذَلِكَ لِمَا فِي تَعْيِينِ الصَّبْرِ مِنْ مَشَقَّةِ الْمُصَابَرَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ سَافَرَتْ بِإِذْنِ زَوْجِهَا أَوْ مَعَهُ لِنُقْلَةٍ مِنْ بَلَدٍ إِلَى آخَرَ فَمَاتَ قَبْلَ مُفَارَقَةِ الْبُنْيَانِ رَجَعَتْ وَاعْتَدَّتْ بِمَنْزِلِهَا؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْمُقِيمَةِ، وَلَوْ سَافَرَتْ لِغَيْرِ نُقْلَةٍ كَتِجَارَةٍ وَزِيَارَةٍ وَلَوْ لِحَجٍّ وَلَمْ تُحْرِمْ وَمَاتَ زَوْجُهَا قَبْلَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ رَجَعَتْ وَاعْتَدَّتْ بِمَنْزِلِهَا، لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: تُوُفِّيَ أَزْوَاجُ نِسَاءٍ وَهُنَّ حَاجَّاتٌ أَوْ مُعْتَمِرَاتٌ فَرَدَّهُنَّ عُمَرُ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ حَتَّى يَعْتَدِدْنَ فِي بُيُوتِهِنَّ وَلِأَنَّهَا أَمْكَنَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي مَنْزِلِهَا قَبْلَ أَنْ تَبْعُدَ فَلَزِمَهَا كَمَا لَوْ لَمْ تُفَارِقِ الْبُنْيَانَ.

وَإِنْ مَاتَ زَوْجُهَا بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبُنْيَانِ، فَإِنْ كَانَ سَفَرُهَا لِنُقْلَةٍ، أَوْ بَعْدَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ إِنْ كَانَ لِغَيْرِ نُقْلَةٍ، فَإِنَّهَا تُخَيَّرُ بَيْنَ الرُّجُوعِ فَتَعْتَدُّ فِي مَنْزِلِهَا وَبَيْنَ الْمُضِيِّ إِلَى مَقْصِدِهَا؛ لِأَنَّ كِلَا الْبَلَدَيْنِ سَوَاءٌ.وَحَيْثُ مَضَتْ أَقَامَتْ لِقَضَاءِ حَاجَتِهَا، فَإِنْ كَانَ لِنُزْهَةٍ أَوْ زِيَارَةٍ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدَّرَ لَهَا مُدَّةَ إِقَامَتِهَا أَقَامَتْهَا، وَإِلاَّ أَقَامَتْ ثَلَاثًا، فَإِذَا مَضَتِ الْمُدَّةُ أَوْ قَضَتْ حَاجَتَهَا، فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ وَنَحْوُهُ أَتَمَّتِ الْعِدَّةَ بِمَكَانِهَا، وَكَذَا إِنْ كَانَتْ لَا تَصِلُ إِلَى مَنْزِلِهَا إِلاَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَإِلاَّ لَزِمَهَا الْعَوْدُ لِتُتِمَّ الْعِدَّةَ بِمَنْزِلِهَا.

وَمَنْ أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ بِإِذْنِ الزَّوْجِ ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ، فَإِنْ كَانَتْ سَارَتْ مَسَافَةً أَقَلَّ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ اعْتِدَادِهَا بِمَنْزِلِهَا وَبَيْنَ الْحَجِّ بِأَنِ اتَّسَعَ الْوَقْتُ لَهُمَا، عَادَتْ لِمَنْزِلِهَا فَاعْتَدَّتْ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهَا الْجَمْعُ، بِأَنْ كَانَ الْوَقْتُ لَا يَتَّسِعُ لَهُمَا، قَدَّمَتِ الْحَجَّ إِنْ كَانَتْ بَعُدَتْ عَنْ بَلَدِهَا بِأَنْ كَانَتْ سَافَرَتْ مَسَافَةَ قَصْرٍ، وَإِنْ لَمْ تَبْعُدْ مَسَافَةَ قَصْرٍ وَقَدْ أَحْرَمَتْ قَدَّمَتِ الْعِدَّةَ وَرَجَعَتْ وَتَتَحَلَّلُ بِعُمْرَةٍ.ج- الرُّجُوعُ عِنْدَ عَدَمِ الْإِذْنِ:

26- لَا يَجُوزُ لِإِنْسَانٍ دُخُولُ بَيْتِ غَيْرِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، مَالِكًا كَانَ مَنْ بِالْمَنْزِلِ، أَوْ مُسْتَأْجِرًا، أَوْ مُسْتَعِيرًا، إِذَا كَانَ الدَّاخِلُ أَجْنَبِيًّا أَوْ قَرِيبًا غَيْرَ مَحْرَمٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا أَوْ مَفْتُوحًا.

وَالْوَاجِبُ الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثًا، فَإِنْ أُذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ دَخَلَ، وَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ أَوْ قِيلَ لَهُ: ارْجِعْ، رَجَعَ وُجُوبًا دُونَ إِلْحَاحٍ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَأَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}

أَيْ إِذَا رَدُّوكُمْ مِنَ الْبَابِ قَبْلَ الْإِذْنِ أَوْ بَعْدَهُ فَرُجُوعُكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ.

د- الرُّجُوعُ مِنَ السَّفَرِ لِحَقِّ الزَّوْجَةِ:

27- لِلزَّوْجَةِ حَقٌّ فِي الْوَطْءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَفِي مُؤَانَسَةِ زَوْجِهَا لَهَا، وَلِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ كَانَ مُسَافِرًا التَّعْجِيلُ بِالرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِهِ بَعْدَ قَضَاءِ حَاجَتِهِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَلْيُعَجِّلِ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ».

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي الْحَدِيثِ: كَرَاهَةُ التَّغَرُّبِ عَنِ الْأَهْلِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَاسْتِحْبَابُ اسْتِعْجَالِ الرُّجُوعِ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ يَخْشَى عَلَيْهِمُ الضَّيْعَةَ بِالْغَيْبَةِ، وَلِذَلِكَ يُكْرَهُ أَنْ يَغِيبَ الرَّجُلُ فِي سَفَرِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ (أَيْ أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ) وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- سَأَلَ حَفْصَةَ: كَمْ تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنِ الرَّجُلِ؟ فَقَالَتْ: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَأَمَرَ أُمَرَاءَ الْأَجْنَادِ أَنْ لَا يَتَخَلَّفَ الْمُتَزَوِّجُ عَنْ أَهْلِهِ أَكْثَرَ مِنْهَا عَنْهَا، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ زِيَادَةُ مُضَارَّةٍ بِهَا لَمَا شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْفِرَاقَ بِالْإِيلَاءِ مِنْهَا، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ: خَمْسَةَ أَشْهُرٍ أَوْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَأَنَّ عُمَرَ وَقَّتَ لِلنَّاسِ فِي مَغَازِيهِمْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَرْجِعُونَ بَعْدَهَا.

هـ- الرُّجُوعُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُنْكَرِ:

28- وُجُودُ الْمُنْكَرِ فِي أَيِّ مَكَانٍ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الرُّجُوعِ عَنْهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِزَالَتِهِ.

فَمَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ فَعَلَيْهِ الْإِجَابَةُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُنْكَرٌ كَخَمْرٍ وَنَحْوِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي، فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ الْإِنْكَارُ وَإِزَالَةُ الْمُنْكَرِ لَزِمَهُ الْحُضُورُ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِنْكَارِ لَا يَلْزَمْهُ الْحُضُورُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِوُجُودِ الْمُنْكَرِ حَتَّى حَضَرَ أَزَالَهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ رَجَعَ، وَقِيلَ: يَصْبِرُ مَعَ الْإِنْكَارِ بِقَلْبِهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ.

وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (مُنْكَر، دَعْوَة).

ثَالِثًا: امْتِنَاعُ الرُّجُوعِ:

29- يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ لِأَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا:

أ- حُكْمُ الشَّرْعِ:

30- بَعْضُ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَتِمُّ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا نُزُولًا عَلَى حُكْمِ الشَّرْعِ، وَذَلِكَ كَالصَّدَقَةِ، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ لِإِرَادَةِ الثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.وَقَدْ قَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: مَنْ وَهَبَ هِبَةً عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهَا وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، إِذِ الرَّأْيُ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ عَلَى الْوَلَدِ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا.وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ لِغَيْرِ الْوَلَدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ- الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً ثُمَّ يَرْجِعَ فِيهَا إِلاَّ الْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ».وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَلَا فِي هِبَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الرَّجُلُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا» أَيْ لَمْ يُعَوَّضْ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ عِوَضٌ مَعْنًى؛ لِأَنَّ التَّوَاصُلَ سَبَبُ التَّنَاصُرِ وَالتَّعَاوُنِ فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ وَسِيلَةً إِلَى اسْتِيفَاءِ النُّصْرَةِ، وَسَبَبِ الثَّوَابِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَكَانَ أَقْوَى مِنَ الْمَالِ، وَأَمَّا امْتِنَاعُ الرُّجُوعِ بِالنِّسْبَةِ لِهِبَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ؛ فَلِأَنَّ صِلَةَ الزَّوْجِيَّةِ تَجْرِي مَجْرَى صِلَةِ الْقَرَابَةِ الْكَامِلَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ التَّوَارُثِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ.

وَكَذَلِكَ يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ إِلَى الْفَقِيرِ بَعْدَ قَبْضِهَا؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ إِلَى الْفَقِيرِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَطْلُبُ بِهَا الثَّوَابَ كَالصَّدَقَةِ وَلَا رُجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى الْفَقِيرِ بَعْدَ قَبْضِهَا لِحُصُولِ الثَّوَابِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْعِوَضِ بِوَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَالْوَقْفُ إِذَا تَمَّ وَلَزِمَ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ لِأَنَّهُ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: «أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا

قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ».

انْظُرْ: مُصْطَلَحَاتِ: (صَدَقَة، وَقْف، هِبَة)

ب- الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ:

31- الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ إِذَا تَمَّتْ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَخَلَتْ مِنَ الْخِيَارَاتِ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ- إِلاَّ بِرِضَاهُمَا مَعًا كَمَا فِي الْإِقَالَةِ- وَذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ إِذَا لَزِمَ وَتَمَّ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ بِلَا مُوجِبٍ؛ لِأَنَّهَا أَوْجَبَتْ حَقًّا لَازِمًا أَوْ مِلْكًا لَازِمًا لِلْغَيْرِ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ (بَيْع، إِجَارَة).

ج- تَعَذُّرُ الرُّجُوعِ:

32- تَعَذُّرُ الرُّجُوعِ فِيمَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ قَدْ يَمْنَعُ حَقَّ الرُّجُوعِ وَيُسْقِطُهُ.وَمِنْ ذَلِكَ تَعَذُّرُ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ الَّتِي يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا، وَذَلِكَ كَخُرُوجِ الْمَوْهُوبِ مِنْ مِلْكِ الْوَاهِبِ، وَمَوْتِ الْوَاهِبِ أَوِ الْمَوْهُوبِ لَهُ.وَالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ، عَلَى مَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، أَوِ الْمُنْفَصِلَةِ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ.أَوْ كَانَ الِابْنُ تَزَوَّجَ لِأَجْلِ الْهِبَةِ كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (هِبَة).

د- الْإِسْقَاطُ:

33- مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ السَّاقِطَ يُصْبِحُ كَالْمَعْدُومِ لَا سَبِيلَ إِلَى إِعَادَتِهِ إِلاَّ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ يَصِيرُ مِثْلَهُ لَا عَيْنَهُ.

وَمِنَ الْحُقُوقِ مَا يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ فِيهَا بَعْدَ إِسْقَاطِهَا. وَمِنْ ذَلِكَ: إِذَا أَبْرَأَ الدَّائِنُ الْمَدِينَ فَقَدْ سَقَطَ الدَّيْنُ وَلَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ إِلَى مُطَالَبَةِ الْمَدِينِ إِلاَّ إِذَا وُجِدَ سَبَبٌ جَدِيدٌ، وَمِنْ ذَلِكَ حَقُّ الْقِصَاصِ لَوْ عُفِيَ عَنْهُ فَقَدْ سَقَطَ وَسَلِمَتْ نَفْسُ الْقَاتِلِ وَلَا تُسْتَبَاحُ إِلاَّ بِجِنَايَةٍ أُخْرَى وَكَمَنْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الشُّفْعَةِ فَلَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ إِلَى الْمُطَالَبَةِ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ بَطَلَ فَلَا يَعُودُ إِلاَّ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ؛

وَكَذَلِكَ الرِّضَا بِالْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ وَالتَّصَرُّفُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُسْقِطُ حَقَّ الْمُشْتَرِي وَلَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ بِالْعَيْبِ أَوْ بِفَسْخِ الْبَيْعِ.

وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي: (إِسْقَاط، شُفْعَة، قِصَاص، خِيَار).

رَابِعًا: مَا يَكُونُ بِهِ الرُّجُوعُ:

34- الرُّجُوعُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْلِ كَقَوْلِ الْمُوصِي: رَجَعْتُ فِي الْوَصِيَّةِ أَوْ فَسَخْتُهَا، أَوْ رَدَدْتُهَا، أَوْ أَبْطَلْتُهَا، أَوْ نَقَضْتُهَا.

وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْهِبَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُودِ الَّتِي يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا.

وَكَقَوْلِ الرَّاجِعِ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَى: كَذَبْتُ، أَوْ رَجَعْتُ عَمَّا أَقْرَرْتُ بِهِ، أَوْ مَا زَنَيْتُ.

وَقَدْ يَكُونُ الرُّجُوعُ بِالتَّصَرُّفِ كَأَنْ يَفْعَلَ فِي الْمُوصَى بِهِ فِعْلًا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الرُّجُوعِ، فَلَوْ أَنَّ الْمُوصِيَ فَعَلَ فِي الْمُوصَى بِهِ فِعْلًا لَوْ فَعَلَهُ فِي الْمَغْصُوبِ لَانْقَطَعَ بِهِ مِلْكُ الْمَالِكِ كَانَ رُجُوعًا كَمَا لَوْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ، وَكَمَا إِذَا أَوْصَى بِثَوْبٍ ثُمَّ قَطَعَهُ وَخَاطَهُ قَمِيصًا، أَوْ بِقُطْنٍ ثُمَّ غَزَلَهُ، أَوْ بِحَدِيدَةٍ ثُمَّ صَنَعَ مِنْهَا إِنَاءً؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَمَّا أَوْجَبَتْ حُكْمَ الثَّابِتِ فِي الْمَحَلِّ وَهُوَ الْمِلْكُ فَلأَنْ تُوجِبَ بُطْلَانَ مُجَرَّدِ كَلَامٍ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ أَصْلًا أَوْلَى؛ وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ تُبَدِّلُ الْعَيْنَ وَتُصَيِّرُهَا شَيْئًا آخَرَ اسْمًا وَمَعْنًى فَكَانَ اسْتِهْلَاكًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَكَانَ دَلِيلَ الرُّجُوعِ.

لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْجُحُودِ أَوِ الْإِنْكَارِ هَلْ يَكُونُ رُجُوعًا؟.

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجَحْدَ لَا يَكُونُ رُجُوعًا.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ رِوَايَتَانِ، جَاءَ فِي بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ: لَوْ أَوْصَى ثُمَّ جَحَدَ الْوَصِيَّةَ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَكُونُ رُجُوعًا وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الرُّجُوعِ عَنِ الْوَصِيَّةِ هُوَ فَسْخُهَا وَإِبْطَالُهَا، وَفَسْخُ الْعَقْدِ كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرِّضَا بِالْعَقْدِ السَّابِقِ وَبِثُبُوتِ حُكْمِهِ، وَالْجُحُودُ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْجَاحِدَ لِتَصَرُّفٍ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ غَيْرُ رَاضٍ بِهِ وَبِثُبُوتِ حُكْمِهِ، فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْفَسْخِ، فَحَصَلَ مَعْنَى الرُّجُوعِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ ثُمَّ عُرِضَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ، قَالَ: هَذَا رُجُوعٌ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَمْ أُوصِ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَكُونُ الْجَحْدُ رُجُوعًا، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ: إِذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: اشْهَدُوا أَنِّي لَمْ أُوصِ لِفُلَانٍ بِقَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا رُجُوعًا مِنْهُ عَنْ وَصِيَّةِ فُلَانٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنِ الْوَصِيَّةِ يَسْتَدْعِي سَابِقِيَّةَ وُجُودِ الْوَصِيَّةِ، وَالْجُحُودُ إِنْكَارُ وُجُودِهَا أَصْلًا، فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الرُّجُوعِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ رُجُوعًا.قَالَ الْكَاسَانِيُّ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ وَمَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ قَوْلَ مُحَمَّدٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ.

وَمِمَّا يُعْتَبَرُ رُجُوعًا عَنِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَى هُرُوبُ الزَّانِي وَلَوْ فِي أَثْنَاءِ إِقَامَةِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ الْهَرَبَ دَلِيلُ الرُّجُوعِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ «لَمَّا هَرَبَ مَاعِزٌ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: هَلاَّ تَرَكْتُمُوهُ وَجِئْتُمُونِي بِهِ» وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَلَا يُعْتَبَرُ الْهَرَبُ رُجُوعًا، إِلاَّ أَنْ يُصَرِّحَ بِالرُّجُوعِ، وَالْهَرَبُ فَقَطْ لَا يُعْتَبَرُ رُجُوعًا، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِالْإِقْرَارِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالرُّجُوعِ، وَلَكِنْ يُكَفُّ عَنْهُ فَإِنْ رَجَعَ فَذَاكَ، وَإِلاَّ حُدَّ.

خَامِسًا: ارْتِجَاعُ الزَّوْجَةِ:

35- ارْتِجَاعُ الزَّوْجَةِ الْمُطَلَّقَةِ يُسَمَّى رَجْعَةً، وَهِيَ لُغَةً- بِفَتْحِ الرَّاءِ- الْمَرَّةُ مِنَ الرُّجُوعِ، وَشَرْعًا: رَدُّ الْمَرْأَةِ إِلَى النِّكَاحِ مِنْ طَلَاقٍ غَيْرِ بَائِنٍ فِي الْعِدَّةِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} أَيْ رَجْعَتِهِنَّ، وَلَمَّا «طَلَّقَ النَّبِيُّ حَفْصَةَ- رضي الله عنها- جَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ: رَاجِعْ حَفْصَةَ فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ فَرَاجَعَهَا».وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَمَسُّ إِلَى الرَّجْعَةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُطَلِّقُ ثُمَّ يَنْدَمُ فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّدَارُكِ، وَالرَّجْعَةُ تَكُونُ بِالْقَوْلِ بِاتِّفَاقٍ كَقَوْلِ الزَّوْجِ: رَاجَعْتُ زَوْجَتِي، أَوِ ارْتَجَعْتُهَا، أَوْ رَدَدْتُهَا.

وَتَكُونُ بِالْوَطْءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ)، وَتَكُونُ بِالْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ بِشَهْوَةٍ، وَالنَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} سَمَّى الرَّجْعَةَ رَدًّا، وَالرَّدُّ لَا يَخْتَصُّ بِالْقَوْلِ كَرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى- لَا تَحْصُلُ الرَّجْعَةُ بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِبَاحَةُ بُضْعٍ مَقْصُودٍ أُمِرَ بِالْإِشْهَادِ فِيهِ فَلَمْ يَحْصُلْ مِنَ الْقَادِرِ بِغَيْرِ قَوْلٍ كَالنِّكَاحِ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.

وَفِي بَيَانِ أَرْكَانِ الرَّجْعَةِ وَشُرُوطِهَا يُنْظَرُ: (رَجْعَة).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


101-موسوعة الفقه الكويتية (رق 4)

رِقّ -4

التَّصَرُّفُ فِي الرَّقِيقِ الْمُوصَى بِنَفْعِهِ:

45- اخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي بَيْعِ الرَّقِيقِ الْمُوصَى بِنَفْعِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي كُلٍّ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ: فَقِيلَ: لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالْبَيْعِ، فَإِنْ بِيعَ بَقِيَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ فِي الْمَنْفَعَةِ.

فَيُبَاعُ مَسْلُوبُ الْمَنْفَعَةِ إِلَى نِهَايَةِ الْمُدَّةِ الْمُوصَى بِهَا، وَيَقُومُ الْمُشْتَرِي مَقَامَ الْبَائِعِ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ بِيعَ مِنْ مَالِكِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْبَيْعِ؛ وَلِأَنَّ مُشْتَرِيَهُ يُمْكِنُ أَنْ يَعْتِقَهُ فَيَحْصُلَ لَهُ أَجْرُهُ وَوَلَاؤُهُ.

وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ مَالِكِ مَنْفَعَتِهِ؛ لِأَنَّ مَا لَا نَفْعَ فِيهِ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ كَالْحَشَرَاتِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ مَالِكِ مَنْفَعَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مَالِكَ مَنْفَعَتِهِ يَجْتَمِعُ لَهُ الرَّقَبَةُ وَالْمَنْفَعَةُ، فَيَنْتَفِعُ بِذَلِكَ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ.

46- وَلِمَالِكِ الرَّقَبَةِ أَنْ يَعْتِقَ الرَّقِيقَ الْمُوصَى بِنَفْعِهِ، وَتَبْقَى الْمَنْفَعَةُ لِمَنْ أُوصِيَ لَهُ بِهَا، وَلَا يَرْجِعُ الرَّقِيقُ عَلَى مُعْتِقِهِ بِشَيْءٍ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ.وَفِي رُجُوعِ الْمُوصَى لَهُ عَلَى الْمُعْتِقِ بِقِيمَةِ الْمَنَافِعِ وَجْهَانِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: لَعَلَّ أَصَحَّهُمَا الرُّجُوعُ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ إِعْتَاقَ الْمُوصَى بِنَفْعِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ لَا يُجْزِئُ.

47- وَأَمَّا التَّصَرُّفُ فِي مَنْفَعَةِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِنَفْعِهِ فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ بِهَا، فَلَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ الْعَبْدَ الْمُدَّةَ الَّتِي أُوصِيَ لَهُ بِالنَّفْعِ فِيهَا، وَلَهُ أَنْ يَهَبَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ بِوَجْهٍ صَحِيحٍ مِلْكًا تَامًّا، فَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا كَمَا لَوْ مَلَكَهَا بِالْإِجَارَةِ.وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُوصَى لَهُ إِجَارَةُ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ عَلَى أَصْلِ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِذَا مَلَكَهَا بِعِوَضٍ كَانَ مُمَلَّكًا أَكْثَرَ مِمَّا مَلَكَهُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.

وَلِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يُثْبِتَ يَدَهُ عَلَى الْعَبْدِ الْمُوصَى بِنَفْعِهِ لَهُ، وَلَهُ مَنَافِعُهُ، وَأَكْسَابُهُ الْمُعْتَادَةُ، وَأُجْرَةُ الْحِرْفَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَارِثِ وَلَا لِلْمُوصَى لَهُ بِنَفْعِهَا الْوَطْءُ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ لَا يَمْلِكُ نَفْعَهَا مِلْكًا تَامًّا يَحِلُّ لَهُ بِهِ الْوَطْءُ، وَالْمُوصَى لَهُ لَيْسَتْ هِيَ مِنْ مِلْكِ يَمِينِهِ حَتَّى يَجُوزَ لَهُ الْوَطْءُ.

وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمَا تَزْوِيجُهَا إِلاَّ بِرِضَا الْآخَرِ.لَكِنْ إِنِ احْتَاجَتْ إِلَى التَّزْوِيجِ وَطَلَبَتْهُ وَجَبَ تَزْوِيجُهَا، وَيَتَوَلَّى تَزْوِيجَهَا مَالِكُ الرَّقَبَةِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بِنَفْعِ الْعَبْدِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ، وَإِذَا مَاتَ بَعْدَ وَفَاتِهِ يَعُودُ الْعَبْدُ إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي بِحُكْمِ مِلْكِهِمْ لِلرَّقَبَةِ.

قَالُوا: لِأَنَّ الْمُوصِيَ أَوْجَبَ الْحَقَّ لِلْمُوصَى لَهُ لِيَسْتَوْفِيَ الْمَنَافِعَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ، وَلَوِ انْتَقَلَ إِلَى وَارِثِ الْمُوصَى لَهُ اسْتَحَقَّهَا ابْتِدَاءً مِنْ مِلْكِ الْمُوصِي مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ: بَلْ تَكُونُ مَنَافِعُهُ لِوَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَدَّدَ الْوَصِيَّةَ بِزَمَنٍ، وَإِنْ كَانَ حَدَّدَهَا بِزَمَنٍ فَيَكُونُ كَالْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ يُورَثُ مَا بَقِيَ مِنْ زَمَانِ الْإِجَارَةِ وَيُؤَاجَرُ فِيهَا.

الرَّقِيقُ وَالتَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ، وَأَحْكَامُ التَّصَرُّفَاتِ:

48- الْأَصْلُ فِي الرَّقِيقِ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ كَسَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ مَتَى كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا، رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً، وَلِذَا فَهُوَ مَجْزِيٌّ عَلَى أَعْمَالِهِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا فِي الْآخِرَةِ، وَيُؤَاخَذُ بِهَا فِي الدُّنْيَا.

قَالَ الشَّيْخُ عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ: الرَّقِيقُ يُشْبِهُ الْحُرَّ فِي التَّكَالِيفِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، كَإِيجَابِ الْقِصَاصِ، وَالْفِطْرَةِ، وَالتَّحْلِيفِ، وَالْحُدُودِ، وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


102-موسوعة الفقه الكويتية (رق 5)

رِقّ -5

وَتَنْبَنِي غَالِبُ أَحْكَامِ أَفْعَالِ الرَّقِيقِ عَلَى الْأُصُولِ التَّالِيَةِ:

الْأَصْلُ الْأَوَّلُ: أَهْلِيَّةُ الرَّقِيقِ:

48 م- عَرَضَ الْأُصُولِيُّونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لِأَهْلِيَّةِ الرَّقِيقِ، فَبَيَّنُوا أَنَّ الرِّقَّ عَارِضٌ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ يُنْقِصُهَا، فَالرَّقِيقُ مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ هُوَ عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ، فَتَصِحُّ أَقَارِيرُهُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَلَهُ التَّزَوُّجُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَإِنَّمَا احْتَاجَ فِيهِ لِلْإِذْنِ لِأَنَّهُ يَجِبُ بِهِ الْمَالُ فِي الذِّمَّةِ، وَهُوَ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ هُوَ بِصِحَّةِ الْعَقْلِ وَالذِّمَّةِ.أَمَّا الْعَقْلُ فَهُوَ لَا يَخْتَلُّ بِالرِّقِّ، وَلِذَا كَانَتْ رِوَايَةُ الرَّقِيقِ صَحِيحَةً مُلْزِمَةً لِلْعَمَلِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ مُعْتَبَرًا لَمْ تُعْتَبَرْ رِوَايَتُهُ، وَأَمَّا الذِّمَّةُ فَإِنَّمَا تَكُونُ بِأَهْلِيَّةِ الْإِيجَابِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِحْبَابِ لَهُ، وَلِتَحَقُّقِهِمَا خُوطِبَ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَتَجِبُ لَهُ النَّفَقَةُ عَلَى سَيِّدِهِ، وَإِنَّمَا حُجِرَ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ لِمَانِعٍ هُوَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى حَقِّ السَّيِّدِ، وَسَقَطَ عَنْهُ بَعْضُ الْوَاجِبَاتِ كَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ، مُحَافَظَةً عَلَى حَقِّ السَّيِّدِ فِي مَنَافِعِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ يَمْنَعُ كَوْنَ الرَّقِيقِ مَالِكًا لِمَنَافِعِ نَفْسِهِ، كَمَا أَنَّهُ هُوَ بِذَاتِهِ مَمْلُوكٌ لِلسَّيِّدِ.فَإِذْنُ السَّيِّدِ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ رَفْعٌ لِلْمَانِعِ، لَا إِثْبَاتٌ لِلْأَهْلِيَّةِ،

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الرَّقِيقُ غَيْرُ أَهْلٍ لِلتَّصَرُّفِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ تَثْبُتُ الْأَهْلِيَّةُ.

وَالرِّقُّ يَمْنَعُ الْوِلَايَاتِ، فَلَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ مِنْهُ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا قَضَاؤُهُ، وَلَا تَحْكِيمُهُ، وَلَا إِمَارَتُهُ، وَالرِّقُّ يُنْقِصُ الذِّمَّةَ، وَمِنْ هُنَا تُضَمُّ رَقَبَتُهُ إِلَى ذِمَّتِهِ، فِي مِثْلِ غَرَامَاتِ الْجِنَايَاتِ، فَتُبَاعُ رَقَبَتُهُ فِيهَا، إِلاَّ أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى.

الْأَصْلُ الثَّانِي:

هَلْ يَمْلِكُ الرَّقِيقُ الْمَالَ أَمْ لَا يَمْلِكُ؟

49- إِذَا لَمْ يُمَلِّكِ السَّيِّدُ عَبْدَهُ الْمَالَ فَلَا يَمْلِكُهُ اتِّفَاقًا.وَذَلِكَ لِأَنَّ سَيِّدَهُ يَمْلِكُ عَيْنَهُ وَمَنَافِعَهُ، فَمَا حَصَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِسَيِّدِهِ لِأَنَّهُ ثَمَرَةُ مِلْكِهِ، كَثَمَرَةِ شَجَرَتِهِ، فَأَمَّا إِنْ مَلَّكَهُ سَيِّدُهُ مَالًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي ذَلِكَ: فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، إِلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بِحَالٍ، لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلَا يَمْلِكُ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُ مِلْكَيْنِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْكَمَالِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ.

وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى- وَرَجَّحَهَا ابْنُ قُدَامَةَ- إِلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ إِذَا مَلَّكَهُ سَيِّدُهُ؛ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ حَيٌّ حُجِرَ عَلَيْهِ لِحَقِّ سَيِّدِهِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي التَّمَلُّكِ مَلَكَ، لِثُبُوتِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ الْآدَمِيَّةُ مَعَ الْحَيَاةِ وَزَوَالِ الْمَانِعِ، وَقِيَاسًا عَلَى مِلْكِهِ لِلنِّكَاحِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ؛ وَلِأَنَّهُ بِالْآدَمِيَّةِ يَتَمَهَّدُ لِلْمِلْكِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْمَالَ لِبَنِي آدَمَ لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ، وَأَحْكَامِ التَّكَالِيفِ، وَالرَّقِيقُ آدَمِيٌّ فَتَمَهَّدَ لِلْمِلْكِ، وَصَلَحَ لَهُ، كَمَا تَمَهَّدَ لِلتَّكْلِيفِ وَالْعِبَادَةِ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ مَلَّكَهُ غَيْرُ سَيِّدِهِ مَالًا لَا يَمْلِكُ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَمْلِكُ فَلِلسَّيِّدِ الرُّجُوعُ فِي الْمَالِ الَّذِي مَلَّكَهُ إِيَّاهُ مَتَى شَاءَ السَّيِّدُ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ التَّصَرُّفُ فِيمَا مَلَّكَهُ إِيَّاهُ سَيِّدُهُ إِلاَّ بِإِذْنِ السَّيِّدِ.

50- وَإِذَا مَاتَ الرَّقِيقُ الْمُمَلَّكُ ارْتَفَعَ مِلْكُهُ عَنِ الْمَالِ، وَلَا يُورَثُ عَنْهُ، بَلْ يَكُونُ لِسَيِّدِهِ.وَإِذَا أَتْلَفَ إِنْسَانٌ الْمَالَ الَّذِي مَلَّكَهُ السَّيِّدُ لِرَقِيقِهِ يَنْقَطِعُ مِلْكُ الْعَبْدِ عَنْهُ وَيَكُونُ لِلسَّيِّدِ، وَالْمُطَالَبَةُ لَهُ دُونَ الْعَبْدِ.

وَتَنْبَنِي عَلَى قَاعِدَةِ الْمِلْكِ هَذِهِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَحْكَامِ الرَّقِيقِ مِنْهَا: أَنَّهُ هَلْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ، وَهَلْ يُضَحِّي، وَهَلْ يُكَفِّرُ بِالْإِطْعَامِ، وَهَلْ يَتَسَرَّى؟ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَأْتِي بَيَانُهُ.

الْأَصْلُ الثَّالِثُ: الْأَمْوَالُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرَّقِيقِ:

قَسَّمَ السُّيُوطِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الْأَمْوَالَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالرَّقِيقِ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ:

51- الْأَوَّلُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ، فَيُبَاعُ فِيهِ، وَهُوَ أَرْشُ جِنَايَاتِهِ وَبَدَلُ مَا يُتْلِفُهُ، سَوَاءٌ كَانَ فِعْلُهُ بِإِذْنِ السَّيِّدِ أَمْ لَا، لِوُجُوبِهِ بِغَيْرِ رِضَا الْمُسْتَحِقِّ، وَهَذَا إِنْ كَانَ فِعْلُهُ مُعْتَبَرًا بِأَنْ كَانَ عَاقِلًا مُمَيِّزًا، فَلَوْ كَانَ صَغِيرًا غَيْرَ مُمَيِّزٍ أَوْ مَجْنُونًا، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ ضَمَانٌ عَلَى الْأَصَحِّ.

52- الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ، فَلَا يُبَاعُ فِيهِ، وَلَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ أَدَاؤُهُ، بَلْ يُطَالَبُ بِهِ مَتَى عَتَقَ، وَهُوَ مَا وَجَبَ بِرِضَا الْمُسْتَحِقِّ كَبَدَلِ الْمَبِيعِ وَالْقَرْضِ إِذَا أَتْلَفَهُمَا.وَلَوْ نَكَحَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ وَوَطِئَ تَعَلَّقَ مَهْرُ الْمِثْلِ بِذِمَّتِهِ، لِكَوْنِهِ وَجَبَ بِرِضَا الْمُسْتَحِقِّ، وَقِيلَ بِرَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ، وَلَوْ أَفْطَرَتِ الْجَارِيَةُ فِي رَمَضَانَ لِحَمْلٍ أَوْ رَضَاعٍ خَوْفًا عَلَى الْوَلَدِ فَالْفِدْيَةُ فِي ذِمَّتِهَا.

53- الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِ الْعَبْدِ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ بِرِضَا الْعَبْدِ وَالسَّيِّدِ، وَهُوَ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ، إِذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي النِّكَاحِ فَنَكَحَ، وَهُوَ كَسُوبٌ، أَوْ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، أَوْ ضَمِنَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، أَوْ لَزِمَهُ دَيْنُ تِجَارَةٍ.وَالْمُعْتَبَرُ مَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِذْنِ لَا قَبْلَهُ.

وَحَيْثُ لَمْ يُوفِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، يَتَعَلَّقُ الْفَاضِلُ بِذِمَّتِهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ.

وَفِي وَجْهٍ: أَنَّ الْمَالَ فِي الضَّمَانِ مُتَعَلِّقٌ بِذِمَّتِهِ وَفِي وَجْهٍ آخَرَ: بِرَقَبَتِهِ.

54- الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّيِّدِ، وَهُوَ مَا يُتْلِفُهُ الْعَبْدُ الْمَجْنُونُ، وَالصَّغِيرُ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ، كَمَا تَقَدَّمَ.

أَحْكَامُ أَفْعَالِ الرَّقِيقِ:

أَوَّلًا: عِبَادَاتُ الرَّقِيقِ:

الْأَصْلُ فِي الرَّقِيقِ أَنَّهُ فِي الْعِبَادَاتِ كَالْحُرِّ سَوَاءٌ، وَيَخْتَلِفُ عَنْهُ فِي أُمُورٍ مِنْهَا:

55- أ- عَوْرَةُ الْمَمْلُوكَةِ فِي الصَّلَاةِ- وَفِي خَارِجِهَا أَيْضًا- أَخَفُّ مِنْ عَوْرَةِ الْحُرَّةِ، فَهِيَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَفِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، مِنَ السُّرَّةِ إِلَى الرُّكْبَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ مَرْفُوعًا: «إِذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ خَادِمَهُ عَبْدَهُ أَوْ أَجِيرَهُ، فَلَا يَنْظُرُ إِلَى مَا دُونَ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ».وَيَزِيدُ الْحَنَفِيَّةُ: الْبَطْنَ وَالظَّهْرَ، وَفِي كَلَامِهِمْ مَا يُفِيدُ أَنَّ أَعْلَى صَدْرِهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا تُطَالَبُ الْأَمَةُ بِتَغْطِيَةِ رَأْسِهَا فِي الصَّلَاةِ لَا وُجُوبًا وَلَا نَدْبًا بَلْ هُوَ جَائِزٌ.وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْأَمَةَ إِنْ صَلَّتْ مَكْشُوفَةَ شَيْءٍ مِمَّا عَدَا الْعَوْرَةَ الْمَذْكُورَةَ أَعْلَاهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهَا، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهَا لَوْ صَلَّتْ مَكْشُوفَةَ الْفَخِذِ أَعَادَتْ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُسْتَحَبُّ لِلْأَمَةِ أَنْ تَسْتَتِرَ فِي الصَّلَاةِ كَسَتْرِ الْحُرَّةِ احْتِيَاطًا.

ب- الْأَذَانُ، وَالْإِقَامَةُ، وَالْإِمَامَةُ:

56- يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ وَالْمُقِيمُ عَبْدًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.ثُمَّ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْذِنَ سَيِّدَهُ.

وَذَكَرَ ابْنُ هُبَيْرَةَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ حُرًّا.

57- وَإِمَامَةُ الْعَبْدِ أَيْضًا جَائِزَةٌ لِلْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ عَلَى السَّوَاءِ.وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ.

وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَكُونُ الْعَبْدُ إِمَامًا فِي مَسَاجِدِ الْقَبَائِلِ، وَلَا مَسَاجِدِ الْجَمَاعَةِ، وَلَا الْأَعْيَادِ، وَلَا يُصَلِّي بِالْقَوْمِ الْجُمُعَةَ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَؤُمَّ فِي السَّفَرِ إِنْ كَانَ أَقْرَأَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُتَّخَذَ إِمَامًا رَاتِبًا، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَؤُمَّ فِي رَمَضَانَ فِي النَّافِلَةِ.

وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدٍ قَالَ: تَزَوَّجْتُ وَأَنَا عَبْدٌ، فَدَعَوْتُ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَجَابُونِي، فَكَانَ فِيهِمْ أَبُو ذَرٍّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةُ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ...إِلَى أَنْ قَالَ: فَقَدَّمُونِي وَأَنَا عَبْدٌ فَصَلَّيْتُ بِهِمْ.

ثُمَّ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ تَنْزِيهًا تَقْدِيمُ الْعَبْدِ لِلْإِمَامَةِ.قَالُوا: وَلَوِ اجْتَمَعَ الْحُرُّ وَالْمُعْتَقُ، فَالْحُرُّ الْأَصْلِيُّ أَوْلَى.

ثُمَّ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْحُرُّ أَوْلَى مِنَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ إِمَامَ الْمَسْجِدِ فَالْحَقُّ لَهُ فِي التَّقَدُّمِ، وَكَذَا لَوْ كَانَتِ الصَّلَاةُ بِبَيْتِهِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ بِالْإِمَامَةِ مَا عَدَا سَيِّدَهُ.

ج- صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ:

58- صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَحْرَارِ اتِّفَاقًا.

وَصَلَاةُ الْجَمَاعَةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ إِلاَّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

فَقَدْ قِيلَ- وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَقِيلَ: شَرْطٌ.

وَلَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى الْعَبِيدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَاهُ طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ: «الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِلاَّ أَرْبَعَةً: عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، أَوِ امْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَرِيضٌ»،، وَرُوِيَ نَحْوُهُ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ يَجِبُ السَّعْيُ إِلَيْهَا وَلَوْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الْعَبْدِ كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ، وَلِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ مَمْلُوكَةٌ مَحْبُوسَةٌ عَلَى السَّيِّدِ فَأَشْبَهَ الْمَحْبُوسَ فِي الدَّيْنِ، وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَجَازَ لَهُ الْمُضِيُّ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، وَلَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِهِ مَنْعُهُ مِنْهَا كَسَائِرِ الْفَرَائِضِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى إِلَى أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ، وَلَكِنْ لَا يَذْهَبُ إِلَيْهَا إِلاَّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، فَإِنْ مَنَعَهُ سَيِّدُهُ تَرَكَهَا.

وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّ الْعَبْدَ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ ضَرِيبَةٌ مَعْلُومَةٌ يُؤَدِّيهَا إِلَى سَيِّدِهِ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ؛ لِأَنَّ حَقَّ سَيِّدِهِ عَلَيْهِ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْعَبْدِ حُضُورُ الْجُمُعَةِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ.

وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحُضُورُ.وَقِيلَ: لَا؛ لِأَنَّ لَهَا بَدَلًا وَهُوَ الظُّهْرُ، بِخِلَافِ صَلَاةِ الْعِيدِ، فَتَجِبُ؛ لِأَنَّهَا لَا بَدَلَ لَهَا.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَوْ حَضَرَ الْجُمُعَةَ بِدُونِ إِذْنِ السَّيِّدِ أَجْزَأَتْ عَنْهُ.

ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ بِالْعَبْدِ، أَيْ فِي إِتْمَامِ الْعَدَدِ اللاَّزِمِ لِانْعِقَادِ الْجُمُعَةِ.

د- الرَّقِيقُ وَالزَّكَاةُ:

59- لَا زَكَاةَ عَلَى الرَّقِيقِ فِيمَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ تَامِّ الْمِلْكِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا إِلاَّ مَا وَرَدَ عَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي ثَوْرٍ، مِنْ أَنَّ عَلَى الْعَبْدِ زَكَاةَ مَالِهِ.

60- ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ زَكَاةُ مَالِ الْعَبْدِ أَمْ لَا.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ عَلَيْهَا الْمَذْهَبُ، وَسُفْيَانُ وَإِسْحَاقُ: إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُزَكِّيَ الْمَالَ الَّذِي بِيَدِ عَبْدِهِ.

قَالُوا: لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ وَلَوْ مَلَّكَهُ سَيِّدُهُ.

فَمَا بِيَدِهِ مِنَ الْمَالِ مَمْلُوكٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْكَمَالِ لِلسَّيِّدِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاتُهُ.

وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: إِلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي مَالِ الرَّقِيقِ وَلَا عَلَى سَيِّدِهِ.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهَذَا مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ.

وَوَجْهُهُ أَنَّ الرَّقِيقَ آدَمِيٌّ يَمْلِكُ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَا تَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ زَكَاةُ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لِلْعَبْدِ وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ، وَلَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لِمَالِهِ نَاقِصٌ، إِذْ يَسْتَطِيعُ السَّيِّدُ انْتِزَاعَ مَالِ رَقِيقِهِ مَتَى شَاءَ، وَالزَّكَاةُ لَا تَجِبُ إِلاَّ فِيمَا هُوَ مَمْلُوكٌ مِلْكًا تَامًّا؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ تَمَامَ التَّصَرُّفِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ.

هـ- زَكَاةُ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ:

61- تَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ إِجْمَاعًا فِي الرَّقِيقِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، ذَكَرٍ وَأُنْثَى، مِنَ الْمُسْلِمِينَ».

وَالْمُطَالَبُ بِالزَّكَاةِ هُوَ السَّيِّدُ، وَلَيْسَ الرَّقِيقُ نَفْسُهُ.فَلَيْسَ عَلَى الرَّقِيقِ فِطْرَةُ نَفْسِهِ.وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ، بِأَنَّ الْعَبْدَ لَوْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ عَنْ نَفْسِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مَالِ سَيِّدِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.

و- تَطَوُّعَاتُ الرَّقِيقِ:

62- لَيْسَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُ رَقِيقِهِ مِنْ صَلَاةِ النَّفْلِ وَالرَّوَاتِبِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْخِدْمَةِ، وَلَا مِنْ صَوْمِ التَّطَوُّعِ، أَوِ الذِّكْرِ، أَوْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، إِذْ لَا ضَرَرَ عَلَى السَّيِّدِ فِي ذَلِكَ، إِلاَّ أَنْ يُضْعِفَهُمْ ذَلِكَ عَنِ الْعَمَلِ وَالْخِدْمَةِ.

وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ هَذَا السُّرِّيَّةَ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا سَيِّدُهَا.

ز- صَوْمُ الرَّقِيقِ:

63- يَجِبُ عَلَى الرَّقِيقِ صَوْمُ رَمَضَانَ، كَالْأَحْرَارِ، اتِّفَاقًا، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ.وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ قَضَاءَ رَمَضَانَ كَذَلِكَ.

وَأَمَّا الصَّوْمُ الَّذِي وَجَبَ بِالنَّذْرِ فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يَصُومُ الْعَبْدُ غَيْرَ فَرْضٍ إِلاَّ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، وَلَا فَرْضًا وَجَبَ بِإِيجَابِ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ.

64- وَأَمَّا صَوْمُ التَّطَوُّعِ، فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتٍ لَا يَضُرُّ بِالسَّيِّدِ فَلَيْسَ لَهُ الْمَنْعُ، وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِهِ فَلَهُ الْمَنْعُ.وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ السُّرِّيَّةَ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا سَيِّدُهَا، فَلَا تَصُومُ تَطَوُّعًا إِلاَّ بِإِذْنِهِ، قِيَاسًا عَلَى الزَّوْجَةِ.

ح- اعْتِكَافُ الرَّقِيقِ:

65- يَصِحُّ اعْتِكَافُ الرَّقِيقِ، وَلَا يَجُوزُ اعْتِكَافُهُ إِلاَّ بِإِذْنِ السَّيِّدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) لِأَنَّ مَنَافِعَهُ مَمْلُوكَةٌ لِلسَّيِّدِ، وَالِاعْتِكَافُ يُفَوِّتُهَا وَيَمْنَعُ اسْتِيفَاءَهَا، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ بِالشَّرْعِ، فَإِنِ اعْتَكَفَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ لِلسَّيِّدِ إِخْرَاجَهُ مِنِ اعْتِكَافِهِ.وَإِنْ أَذِنَ لَهُ ثُمَّ أَرَادَ إِخْرَاجَهُ، فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَلَهُ إِخْرَاجُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ النَّذْرِ عَلَى مَا يَأْتِي.

ط- حَجُّ الرَّقِيقِ:

66- لَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الرَّقِيقِ.

فَإِنْ حَجَّ فِي رِقِّهِ فَحَجَّتُهُ تَطَوُّعٌ.فَإِنْ عَتَقَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ إِجْمَاعًا، إِذَا تَمَّتْ شَرَائِطُ الْوُجُوبِ، لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَسْمِعُونِي مَا تَقُولُونَ، وَلَا تَخْرُجُوا تَقُولُونَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَيُّمَا غُلَامٍ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ فَمَاتَ فَقَدْ قَضَى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَدْرَكَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ فَمَاتَ، فَقَدْ قَضَى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَعْتَقَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَجِّ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ لَا يَتَأَتَّى إِلاَّ بِالْمَالِ غَالِبًا، بِخِلَافِهِمَا، وَلَا مِلْكَ لِلْعَبْدِ، فَلَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى يَفُوتُ فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَحَقَّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ بِإِذْنِ الشَّرْعِ لِافْتِقَارِ الْعَبْدِ وَغِنَى اللَّهِ تَعَالَى، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا يُحْرِجُ الْمَوْلَى فِي اسْتِثْنَاءِ مُدَّتِهِمَا.

وَلَا يُحْرِمُ الْعَبْدُ بِالْحَجِّ إِلاَّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، فَإِنْ فَعَلَ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ صَحِيحًا، لَكِنْ يَكُونُ لِسَيِّدِهِ تَحْلِيلُهُ مِنْ إِحْرَامِهِ؛ لِأَنَّ فِي بَقَائِهِ عَلَى الْإِحْرَامِ تَفْوِيتًا لِحَقِّهِ مِنْ مَنَافِعِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.فَإِنْ حَلَّلَهُ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُحْصَرِ.

أَمَّا إِنْ أَحْرَمَ بِإِذْنِهِ فَلَيْسَ لَهُ تَحْلِيلُهُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ ذَلِكَ.

فَإِنْ عَتَقَ الْعَبْدُ وَكَانَ بِعَرَفَةَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، ثُمَّ أَحْرَمَ وَحَجَّ أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا.

وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ثُمَّ عَتَقَ بِعَرَفَةَ أَوْ قَبْلَهَا وَأَتَمَّ مَنَاسِكَهُ أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ؛ لِكَوْنِهِ أَتَى بِأَرْكَانِ الْحَجِّ كُلِّهَا.

وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ السَّعْيِ إِنْ كَانَ قَدْ سَعَى بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لَا يُجْزِئُهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ.وَحُكْمُهُ فِي حَالِ إِتْيَانِهِ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ كَحُكْمِهِ فِي الْكَفَّارَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَفْدِي بِالصَّوْمِ لَا غَيْرُ، وَيَصُومُ عَنِ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ، وَفِي دَمِ الْإِحْصَارِ خِلَافٌ.

ثَانِيًا: الرَّقِيقُ وَأَحْكَامُ الْأُسْرَةِ:

الرَّقِيقُ وَالِاسْتِمْتَاعُ:

67- الِاسْتِمْتَاعُ بِالْجَوَارِي لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِ يَمِينٍ أَوْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَمَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ مُحَرَّمٌ يَأْثَمُ فَاعِلُهُ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، لقوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَىوَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}.

الِاسْتِمْتَاعُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ:

68- لَيْسَ لِلْمَالِكِ الذَّكَرِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمَمْلُوكِهِ الذَّكَرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ دَاخِلًا فِيمَا أَبَاحَتْهُ الْآيَةُ السَّابِقَةُ، بَلْ هُوَ لِوَاطَةٌ مُحَرَّمَةٌ تَدْخُلُ فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ الَّذِي عُذِّبُوا بِهِ عَلَى مَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ.

وَكَذَا إِنْ كَانَ الْمَالِكُ امْرَأَةً وَالْمُسْتَمْتَعُ بِهِ الْمَمْلُوكَةَ الْأُنْثَى لَا يَدْخُلُ فِيمَا أَبَاحَتْهُ الْآيَةُ السَّابِقَةُ، بَلْ هُوَ مِنَ السِّحَاقِ الْمُحَرَّمِ.

وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْمَالِكُ امْرَأَةً وَالْمَمْلُوكُ ذَكَرًا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَسْتَمْتِعَ بِهِ، أَوْ أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَلَا لَهُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ عَلَيْهَا حَرَامٌ، وَهِيَ عَلَيْهِ حَرَامٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ خَلِيَّةً، أَوْ ذَاتَ زَوْجٍ.قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَعَلَى هَذَا إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ.ا.هـ.

وَكَمَا لَوْ أَرَادَتْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَإِنَّهَا حَرَامٌ عَلَيْهِ حُرْمَةً مُؤَقَّتَةً، أَيْ مَا دَامَ رَقِيقًا لَهَا، فَإِنْ أَعْتَقَتْهُ أَوْ بَاعَتْهُ جَازَ لَهَا النِّكَاحُ بِشُرُوطِهِ.وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ الْمَرْأَةِ عَبْدَهَا بَاطِلٌ.

وَسَوَاءٌ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ السَّابِقَةِ الْوَطْءُ وَمُقَدِّمَاتُهُ مِنَ التَّقْبِيلِ، وَالْمُبَاشَرَةِ، وَاللَّمْسِ، وَالنَّظَرِ بِشَهْوَةٍ، كُلُّهَا مُحَرَّمَةٌ بِحَسَبِهَا.

وَوَجْهُ خُرُوجِ هَذِهِ الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ (اسْتِمْتَاعُ الْمَالِكَةِ بِمَمْلُوكِهَا) مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ، أَنَّ الْآيَةَ خَاطَبَتِ الْأَزْوَاجَ مِنَ الرِّجَالِ.قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مِنْ غَرِيبِ الْقُرْآنِ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الْعَشْرِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ عَامَّةٌ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِلاَّ قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} فَإِنَّمَا خَاطَبَ بِهَا الرِّجَالَ خَاصَّةً دُونَ الزَّوْجَاتِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وَإِنَّمَا عُرِفَ حِفْظُ الْمَرْأَةِ فَرْجَهَا مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى، كَآيَاتِ الْإِحْصَانِ عُمُومًا وَخُصُوصًا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ.وَنَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ امْرَأَةً اتَّخَذَتْ مَمْلُوكَهَا، وَقَالَتْ: تَأَوَّلْتُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} قَالَ: فَأُتِيَ بِهَا عُمَرَ- رضي الله عنه-، فَضَرَبَ الْعَبْدَ، وَجَزَّ رَأْسَهُ وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى عُمَرَ بِالْجَابِيَةِ وَقَدْ نَكَحَتْ عَبْدَهَا، فَانْتَهَرَهَا عُمَرُ، وَهَمَّ أَنْ يَرْجُمَهَا، وَقَالَ: لَا يَحِلُّ لَكِ.

فَالْوَطْءُ الْجَائِزُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، هُوَ وَطْءُ الْمَالِكِ الذَّكَرِ لِمَمْلُوكَتِهِ الْأُنْثَى خَاصَّةً، وَفِي هَذَا وَرَدَتِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ.

وَطْءُ الرَّجُلِ الْحُرِّ لِمَمْلُوكَتِهِ:

69- يَحِلُّ لِلرَّجُلِ الْحُرِّ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِجَارِيَتِهِ بِالْوَطْءِ، أَوْ بِمُقَدِّمَاتِهِ، بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لَهُ مِلْكًا كَامِلًا، وَهِيَ الَّتِي لَيْسَ لَهُ فِيهَا شَرِيكٌ، وَلَا لِأَحَدٍ فِيهَا شَرْطٌ أَوْ خِيَارٌ، وَبِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا مَانِعٌ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا عَلَيْهِ، كَأَنْ تَكُونَ أُخْتَهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَوْ بِنْتَ زَوْجَتِهِ، أَوْ مَوْطُوءَةَ فَرْعِهِ، أَوْ أَصْلِهِ.أَوْ تَكُونَ مُزَوَّجَةً، أَوْ مُشْرِكَةً.وَالْجَارِيَةُ الَّتِي يَتَّخِذُهَا سَيِّدُهَا لِلْوَطْءِ تُسَمَّى سَرِيَّةً، وَاِتِّخَاذُهَا لِذَلِكَ يُسَمَّى التَّسَرِّيَ.وَتُنْظَرُ الْأَحْكَامُ التَّفْصِيلِيَّةُ لِذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَسَرٍّ).

وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ الْأَحْكَامِ الَّتِي أُغْفِلَ ذِكْرُهَا هُنَاكَ، أَوْ ذُكِرَتْ بِإِيجَازٍ، نَظَرًا إِلَى أَنَّ تَعَلُّقَهَا بِمُصْطَلَحِ (رِقّ) أَظْهَرُ.

طَلَاقُ السُّرِّيَّةِ وَالظِّهَارُ مِنْهَا، وَتَحْرِيمُهَا، وَالْإِيلَاءُ مِنْهَا:

70- الطَّلَاقُ لَا يَلْحَقُ السُّرِّيَّةَ وَلَا أَثَرَ لَهُ اتِّفَاقًا.

وَأَمَّا الظِّهَارُ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لَوْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِمَّا قَالَهُ، فَإِنَّهُ كَذِبٌ وَزُورٌ.لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} فَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي الزَّوْجَاتِ، وَالْأَمَةُ وَإِنْ صَحَّ إِطْلَاقُ لَفْظِ «نِسَائِنَا» عَلَيْهَا لُغَةً لَكِنَّ صِحَّةَ الْإِطْلَاقِ لَا تَسْتَلْزِمُ الْحَقِيقَةَ، بَلْ يُقَالُ: هَؤُلَاءِ «جَوَارِيهِ لَا نِسَاؤُهُ».وَلِأَنَّ الْحِلَّ فِي الْأَمَةِ تَابِعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنَ الْعَقْدِ بَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ، وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ مَعَ عَدَمِ حِلِّ الْوَطْءِ، كَمَا فِي شِرَاءِ الْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ.وَنُقِلَ هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمُجَاهِدٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأَمَةَ يَلْحَقُهَا ظِهَارُ سَيِّدِهَا، فَلَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةً تَامَّةً، لِأَنَّهَا مُحَلَّلَةٌ لَهُ حِلًّا أَصْلِيًّا فَيَصِحُّ الظِّهَارُ مِنْهَا كَالزَّوْجَةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ.

وَعَنِ الْحَسَنِ وَالْأَوْزَاعِيِّ إِنْ كَانَ يَطَؤُهَا فَهُوَ ظِهَارٌ وَإِلاَّ فَلَا.

وَقَالَ عَطَاءٌ: عَلَيْهِ نِصْفُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مِنَ الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الْحُرَّةِ فِي الْأَحْكَامِ.

وَلَوْ آلَى مِنْ أَمَتِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ إِيلَاءً، فَلَا يُطَالَبُ بِالْفَيْئَةِ، أَوِ التَّطْلِيقِ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إِنْ حَنِثَ.

وَكَذَا إِنْ حَرَّمَ أَمَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: «هِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ» فَلَيْسَ فِيهِ إِلاَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، لِأَنَّهُ كَتَحْرِيمِ الطَّعَامِ، وَقَدْ وَرَدَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ أَمَتَهُ فَنَزَلَ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إِلَى قَوْلِهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} ».

اسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ إِذَا دَخَلَتْ فِي الْمِلْكِ:

71- مَنِ اشْتَرَى أَمَةً فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا إِنْ كَانَتْ حَامِلًا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا إِجْمَاعًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا حَمْلٌ بَيِّنٌ، فَلَا يَطَؤُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، بِأَنْ تَحِيضَ عِنْدَهُ حَيْضَةً؛ لِيَتَيَقَّنَ بَرَاءَةَ رَحِمِهَا مِنْ حَمْلِ غَيْرِهِ، وَكَذَا مَنْ دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ بِأَيِّ سَبَبٍ، كَهِبَةٍ، أَوْ مِيرَاثٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً» وَقَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ».وَالتَّسَرِّي فِي هَذَا يَخْتَلِفُ عَنِ النِّكَاحِ، فَمَنْ نَكَحَ حُرَّةً حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا دُونَ اسْتِبْرَاءٍ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا إِلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ أَمَةً كَانَ يَطَؤُهَا، أَوْ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا، فَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِبْرَائِهَا قَبْلَ ذَلِكَ.وَالْعِلَّةُ فِي الِاسْتِبْرَاءِ، أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ حَامِلًا مِنْ سَيِّدِهَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ إِذَا وَلَدَتْ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ بَيْعُهَا، وَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَلَا تَحِلُّ لِلْمُشْتَرِي؛ وَلِئَلاَّ يُفْضِيَ إِلَى اشْتِبَاهِ الْأَنْسَابِ.وَهَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ هُوَ فِي الْوَطْءِ.أَمَّا دَوَاعِيهِ وَمُقَدِّمَاتُهُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا.وَتَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَأَحْوَالِهِ يُنْظَرُ تَحْتَ عُنْوَانِ (اسْتِبْرَاء).

آثَارُ وَطْءِ الْأَمَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ:

72- الْآثَارُ اللاَّحِقَةُ بِالْوَطْءِ مِنْ وُجُوبِ الْغُسْلِ وَإِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ بِالصِّهْرِ، لَاحِقَةٌ بِالْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَيَفْتَرِقُ عَنِ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ بِأُمُورٍ مِنْهَا:

أَنَّ وَطْءَ الْحُرِّ الْحُرَّةَ فِي النِّكَاحِ يُحْصِنُ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ، بِحَيْثُ لَوْ زَنَى أَحَدُهُمَا يَكُونُ حَدُّهُ الرَّجْمَ.أَمَّا مَنْ وَطِئَ فِي مِلْكِ يَمِينٍ ثُمَّ زَنَى فَحَدُّهُ الْجَلْدُ لَا غَيْرُ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا.

نِكَاحُ الرَّقِيقِ:

73- يَجُوزُ لِلرَّقِيقِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى أَنْ يَتَزَوَّجَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِذْنِ السَّيِّدِ إِجْمَاعًا؛ لِأَنَّ رَقِيقَهُ مَالُهُ.وَقَدْ حَثَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى السَّادَةَ عَلَى تَزْوِيجِ الْمَمَالِيكِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الصِّيَانَةِ وَالْإِعْفَافِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاَللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الصَّلَاحُ هُنَا الْإِيمَانُ.وَالْأَمْرُ فِي الْآيَةِ لِلتَّرْغِيبِ وَالِاسْتِحْبَابِ.

وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يُجْبِرَ الْأَمَةَ عَلَى التَّزْوِيجِ بِمَنْ شَاءَ السَّيِّدُ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مَعِيبًا بِعَيْبٍ يُرَدُّ بِهِ فِي النِّكَاحِ فَلَا يَجْبُرُهَا عَلَيْهِ، وَأَمَّا إِجْبَارُهُ الْعَبْدَ عَلَى النِّكَاحِ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَصْلَحَتَهُ مَوْكُولَةٌ إِلَى السَّيِّدِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْجَدِيدِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجْبُرُهُ؛ لِأَنَّ تَكْلِيفَهُ كَامِلٌ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْفَعَةُ بُضْعِهِ.وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ وَلَا لِلْأَمَةِ التَّزَوُّجُ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ.وَنِكَاحُ الرَّقِيقِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ كُلُّهَا جَائِزَةٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.

الْأَوَّلُ: أَنْ يَنْكِحَ الْحُرُّ أَمَةً.

الثَّانِي: أَنْ يَنْكِحَ الْعَبْدُ أَمَةً.

الثَّالِثُ: أَنْ يَنْكِحَ الْعَبْدُ حُرَّةً.

وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ ذَلِكَ:

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: نِكَاحُ الْحُرِّ لِلْأَمَةِ:

74- ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى زَوَاجَ الْأَحْرَارِ بِالْإِمَاءِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ لِمَنْخَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.وَقَدْ أَخَذَ الْأَئِمَّةُ أَكْثَرَ أَحْكَامِ هَذَا النِّكَاحِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ.

فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الزَّوَاجِ وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ، وَالْعَقْدُ فَاسِدٌ مَا لَمْ تَجْتَمِعْ شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ تُفِيدُهَا الْآيَةُ.وَأَنَّ الْجَوَازَ إِذَا اجْتَمَعَتِ الشُّرُوطُ هُوَ مِنْ بَابِ الرُّخْصَةِ.

وَقَالُوا فِي حِكْمَةِ هَذَا التَّحْرِيمِ: إِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الزَّوَاجِ يُؤَدِّي إِلَى رِقِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ تَبَعٌ لأُِمِّهِ حُرِّيَّةً وَرِقًّا، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْغَضَاضَةِ عَلَى الْحُرِّ بِكَوْنِ زَوْجَتِهِ أَمَةً تُمْتَهَنُ فِي حَوَائِجِ سَيِّدِهَا وَحَوَائِجِ أَهْلِهِ.وَلِذَا قَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: أَيُّمَا حُرٍّ تَزَوَّجَ أَمَةً فَقَدْ أَرَقَّ نِصْفَهُ.

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَلِي:

1- أَنَّ الْآيَةَ جَعَلَتْ إِبَاحَةَ هَذَا النِّكَاحِ لِمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ طَوْلَ حُرَّةٍ، وَلِمَنْ خَافَ الْعَنَتَ، فَدَلَّتْ بِمَفْهُومِهَا عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ هَذَانِ الشَّرْطَانِ فِيهِ، فَلَا يَكُونُ مُبَاحًا لَهُ.

2- قوله تعالى فِي آيَةٍ لَاحِقَةٍ مُشِيرًا إِلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ النِّكَاحِ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ رُخْصَةٌ، وَالْأَصْلُ التَّحْرِيمُ.

فَأَمَّا إِنْ وُجِدَتِ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فَإِنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ جَائِزٌ إِجْمَاعًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


103-موسوعة الفقه الكويتية (رق 7)

رِقّ -7

اللِّعَانُ:

101- إِنْ قَذَفَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا وَأَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا رَقِيقٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا:

فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَنْصُوصَةِ عَنْهُ الَّتِي رَوَاهَا الْجَمَاعَةُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى صِحَّةِ اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا، سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الزَّوْجَةُ حُرَّةً أَوْ مَمْلُوكَةً.

وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَالْحَسَنِ، وَرَبِيعَةَ، وَإِسْحَاقَ.وَيُسْتَدَلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِعُمُومِ آيَاتِ اللِّعَانِ؛ وَلِأَنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ؛ وَلِأَنَّ الزَّوْجَ إِذَا كَانَ عَبْدًا يَحْتَاجُ إِلَى نَفْيِ الْوَلَدِ، فَيُشْرَعُ اللِّعَانُ طَرِيقًا لَهُ إِلَى نَفْيِ الْوَلَدِ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ أَوْ كِلَاهُمَا مَمْلُوكًا فَلَا لِعَانَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنِ الزُّهْرِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَحَمَّادٍ، قَالُوا: لِأَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، وَالرَّقِيقُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا.

وَفِي قَوْلٍ لِلْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْمَقْذُوفَةُ أَمَةً فَيَصِحُّ اللِّعَانُ لِنَفْيِ الْوَلَدِ خَاصَّةً، وَلَيْسَ لَهُ لِعَانُهَا لِإِسْقَاطِ الْقَذْفِ وَالتَّعْزِيرِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ، وَاللِّعَانُ إِنَّمَا يُشْرَعُ لِإِسْقَاطِ حَدٍّ أَوْ نَفْيِ وَلَدٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ امْتَنَعَ اللِّعَانُ.

النَّسَبُ:

102- وَلَدُ الْحُرَّةِ مَنْسُوبٌ إِلَى زَوْجِهَا وَإِنْ كَانَ عَبْدًا إِذَا أَتَتْ بِهِ تَامًّا لِأَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ مِنْ حِينَ عَقَدَ عَلَيْهَا وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرُ، مَا لَمْ يَزِدْ عَنْ أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَمْلِ مُنْذُ فَارَقَهَا.

وَوَلَدُ الْأَمَةِ إِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ لَاحِقٌ بِزَوْجِهَا، عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْحُرَّةِ.

فَإِنْ كَانَتِ الْأَمَةُ غَيْرَ ذَاتِ زَوْجٍ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِمُدَّةِ الْإِمْكَانِ، فَإِنْ كَانَ سَيِّدُهَا وَطِئَهَا وَثَبَتَ ذَلِكَ بِاعْتِرَافِهِ، أَوْ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، فَأَتَتْ بِالْوَلَدِ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْئِهِ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ غَيْرِ اسْتِلْحَاقٍ وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَلَوْ لَمْ يَسْتَلْحِقْهُ، وَلَوْ نَفَاهُ وَأَنْكَرَهُ مَا دَامَ مُقِرًّا بِالْوَطْءِ أَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ.فَإِنْ نَفَاهُ لَمْ يَنْتِفْ عَنْهُ، إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ اسْتَبْرَأَهَا بِحَيْضَةٍ فَأَتَتْ بِالْوَلَدِ بَعْدَ أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنِ اسْتِبْرَائِهِ لَهَا.وَلَا لِعَانَ بَيْنَ الْأَمَةِ وَسَيِّدِهَا، وَقِيلَ: لَهُ اللِّعَانُ لِلنَّفْيِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» وَقَدْ صَارَتِ الْأَمَةُ بِالْوَطْءِ فِرَاشًا.وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: «حَصِّنُوا هَذِهِ الْوَلَائِدَ فَلَا يَطَأُ رَجُلٌ وَلِيدَتَهُ ثُمَّ يُنْكِرُ وَلَدَهَا إِلاَّ أَلْزَمْتُهُ إيَّاهُ» وَقَالَ: «مَا بَالُ رِجَالٍ يَطَئُونَ وَلَائِدَهُمْ ثُمَّ يَعْزِلُونَهُنَّ، لَا تَأْتِينِي وَلِيدَةٌ يَعْتَرِفُ سَيِّدُهَا أَنَّهُ أَتَاهَا إِلاَّ أَلْحَقْتُ بِهِ وَلَدَهَا فَاعْزِلُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَوِ اتْرُكُوا».

ثُمَّ إِنْ أَقَرَّ بِالْوَلَدِ فَلَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَا إِنْ هَنِئَ بِهِ فَسَكَتَ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: لَا تَصِيرُ الْأَمَةُ بِالْوَطْءِ فِرَاشًا، وَلَا يَلْحَقُهُ وَلَدُهَا إِذَا تَرَكَ الِاعْتِرَافَ بِهِ أَوْ سَكَتَ مَا لَمْ يُقِرَّ بِوَلَدِهَا، فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ لَحِقَهُ ذَلِكَ الْوَلَدُ وَسَائِرُ أَوْلَادِهَا بَعْدَ ذَلِكَ.

وَلَوْ وَطِئَهَا فِي الْفَرْجِ فَعَزَلَ عَنْهَا أَوْ وَطِئَهَا دُونَ الْفَرْجِ لَمْ تَكُنْ بِذَلِكَ فِرَاشًا، وَلَا يَلْحَقُهُ وَلَدُهَا وَقِيلَ: بَلَى.وَلَوْ أَتَتْ بِوَلَدٍ مِنْ زِنًا لَمْ يَلْحَقْهُ.

وَحَيْثُ لَا يَلْحَقُ الْوَلَدُ سَيِّدَهَا يَكُونُ عَبْدًا لَهُ، مَا لَمْ يَكُنِ الْوَطْءُ بِشُبْهَةٍ.

الْحَضَانَةُ:

103- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الْحَضَانَةَ لَا تَثْبُتُ لِلرَّقِيقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَنَافِعَ نَفْسِهِ، وَالْحَضَانَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِتِلْكَ الْمَنَافِعِ.وَلِأَنَّ الْحَضَانَةَ وِلَايَةٌ، وَلَا وِلَايَةَ لِرَقِيقٍ.وَعَلَى هَذَا فَلَوْ كَانَتْ أُمُّ الطِّفْلِ مَمْلُوكَةً وَكَانَ وَلَدُهَا حُرًّا فَحَضَانَتُهُ لِمَنْ يَلِي الْأُمَّ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَضَانَةِ إِنْ كَانَ حُرًّا، وَكَذَا إِنْ كَانَ الْأَبُ عَبْدًا فَلَا حَضَانَةَ لَهُ.قَالَ صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ: فَإِنْ أَذِنَ السَّيِّدُ جَازَ؛ لِانْتِفَاءِ الْمَانِعِ.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ صُورَةً: وَهِيَ أَنْ تُسَلَّمَ أَمَةٌ لِكَافِرٍ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ، فَحَضَانَتُهُ لَهَا، لِأَنَّهَا فَارِغَةٌ إِذْ يُمْنَعُ سَيِّدُهَا مِنْ قُرْبَانِهَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأُمَّ الرَّقِيقَةَ أَحَقُّ بِوَلَدِهَا الْحُرِّ؛ لِأَنَّهَا أُمٌّ مُشْفِقَةٌ فَأَشْبَهَتِ الْحُرَّةَ.

قَالُوا: فَإِنْ بِيعَتِ الْأَمَةُ فَنُقِلَتْ كَانَ الْأَبُ أَحَقَّ بِهِ.لَكِنْ قَالُوا: إِنْ تَسَرَّرَ بِهَا الزَّوْجُ بَعْدَ طَلَاقِهَا تَسْقُطُ حَضَانَتُهَا، لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ تَتَزَوَّجُ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْوَلَدُ رَقِيقًا فَسَيِّدُهُ أَحَقُّ بِحَضَانَتِهِ مِنْ أُمِّهِ وَأَبِيهِ وَلَوْ كَانَا حُرَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَصُوَرُ رِقِّهِ مَعَ حُرِّيَّةِ الْأُمِّ مُتَعَدِّدَةٌ، مِنْهَا: أَنْ يُولَدَ مِنْ رَقِيقَةٍ فَتَعْتِقُ هِيَ دُونَ وَلَدِهَا.لَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّهِ، لِمَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا.

الرَّضَاعُ:

104- لِلْأَمَةِ إِرْضَاعُ وَلَدِهَا حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، وَيَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ تَمْكِينُهَا مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ أَنْ لَا يَسْتَرْضِعَ الْأَمَةَ لِغَيْرِ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ إِضْرَارًا بِالْوَلَدِ لِلنَّقْصِ مِنْ كِفَايَتِهِ وَصَرْفِ اللَّبَنِ الْمَخْلُوقِ لَهُ إِلَى غَيْرِهِ مَعَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ كَنَقْصِ الْكَبِيرِ عَنْ كِفَايَتِهِ.

فَإِنْ كَانَ فِي لَبَنِهَا فَضْلٌ عَنْ كِفَايَةِ وَلَدِهَا فَلِسَيِّدِهَا التَّصَرُّفُ فِيهِ بِإِجَارَتِهَا لِلْإِرْضَاعِ، كَمَا لَوْ مَاتَ وَلَدُهَا وَبَقِيَ لَبَنُهَا.

الرَّقِيقُ وَالْوَصَايَا:

أ- وَصِيَّةُ الرَّقِيقِ:

105- إِنْ وَصَّى الْعَبْدُ بِمَالٍ ثُمَّ مَاتَ عَلَى الرِّقِّ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ بَلْ مَا بِيَدِهِ لِسَيِّدِهِ.

أَمَّا إِنْ أُعْتِقَ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُغَيِّرْ وَصِيَّتَهُ فَإِنَّهَا تَكُونُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ صَحِيحَةً لِأَنَّ قَوْلَهُ صَحِيحٌ وَأَهْلِيَّتَهُ تَامَّةٌ؛ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ يَصِحُّ صُدُورُهَا مِمَّنْ لَا مَالَ لَهُ، كَمَا لَوْ وَصَّى، الْفَقِيرُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ ثُمَّ اسْتَغْنَى.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ: تَكُونُ بَاطِلَةً أَيْضًا وَلَوْ أَذِنَ السَّيِّدُ؛ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ فِيهِ.

ب- الْوَصِيَّةُ لِلرَّقِيقِ:

106- إِنْ أَوْصَى السَّيِّدُ بِعِتْقِ عَبْدِهِ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ إِجْمَاعًا، بِشَرْطِهَا، وَيَكُونُ تَدْبِيرًا (ر: تَدْبِير) وَإِنْ أَوْصَى السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ مَالِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِذَلِكَ صَحِيحَةٌ، وَتُصْرَفُ جَمِيعُهَا إِلَى عِتْقِ الْعَبْدِ، فَإِنْ خَرَجَ الْعَبْدُ مِنَ الْوَصِيَّةِ عَتَقَ وَاسْتَحَقَّ بَاقِيَهَا بَعْدَ قِيمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ الْوَصِيَّةِ.ثُمَّ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُسْتَسْعَى بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ عَلَى الرِّقِّ.

وَوَجْهُ الصِّحَّةِ: أَنَّ الْجُزْءَ الشَّائِعَ يَتَنَاوَلُ الْعَبْدَ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الثُّلُثِ الشَّائِعِ.وَالْوَصِيَّةُ لَهُ بِنَفْسِهِ تَصِحُّ وَيَعْتِقُ، وَمَا فَضَلَ يَسْتَحِقُّهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حُرًّا فَيَمْلِكُ بِالْوَصِيَّةِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَعْتِقُوا عَبْدِي مِنْ ثُلُثِي وَأَعْطُوهُ مَا فَضَلَ مِنْهُ.

وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَكُونُ لَهُ بِنِسْبَةِ ذَلِكَ الْجُزْءِ مِنْ رَقَبَتِهِ وَمِنْ سَائِرِ التَّرِكَةِ.

وَإِنْ أَوْصَى لَهُ بِمُعَيَّنٍ كَثَوْبٍ أَوْ دَارٍ، أَوْ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ مَثَلًا، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ، فَمَا وَصَّى لَهُ بِهِ يَكُونُ مِلْكًا لَهُمْ، فَكَأَنَّهُ أَوْصَى لِلْوَرَثَةِ بِمَا يَرِثُونَهُ.

وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: تَصِحُّ.

وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: الْوَصِيَّةُ لِلرَّقِيقِ بَاطِلَةٌ بِكُلِّ حَالٍ إِلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِعِتْقِهِ.

أَمَّا إِنْ أَوْصَى بِمَالٍ لِعَبْدِ غَيْرِهِ فَيَصِحُّ اتِّفَاقًا. ثُمَّ إِنْ عَتَقَ فَالْمَالُ لَهُ.وَإِنْ بَقِيَ عَلَى الرِّقِّ فَلِلسَّيِّدِ.وَلَا يُشْتَرَطُ إِذْنُ السَّيِّدِ فِي الْقَبُولِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِأَنَّهُ كَسْبٌ، كَالِاحْتِطَابِ.وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ خِلَافِ الْأَصَحِّ: يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ سَيِّدِهِ، كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.

ج- الْإِيصَاءُ إِلَى الرَّقِيقِ:

107- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِيصَاءِ إِلَى الرَّقِيقِ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ الْإِيصَاءِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ أَكَانَ عَبْدَهُ أَمْ عَبْدَ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَصِحُّ اسْتِنَابَتُهُ فِي الْحَيَاةِ فَصَحَّ أَنْ يُوصِيَ إِلَيْهِ كَالْحُرِّ.ثُمَّ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِعَبْدِ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَتْ بِإِذْنِ السَّيِّدِ فِي الْقَبُولِ فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ التَّصَرُّفُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إِلَى الرَّقِيقِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ وَلِيًّا عَلَى ابْنِهِ بِالنَّسَبِ فَلَا يَكُونُ وَصِيًّا عَلَى أَوْلَادِ غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ فِي الْإِيصَاءِ إِلَيْهِ عَلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي إِثْبَاتَ الْوِلَايَةِ لِلْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ، وَهُوَ قَلْبٌ لِلْمَشْرُوعِ.

وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ: يَصِحُّ الْإِيصَاءُ إِلَى عَبْدِ نَفْسِهِ وَلَا يَصِحُّ إِلَى عَبْدِ غَيْرِهِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ الْإِيصَاءُ إِلَى الرَّقِيقِ عَلَى أَوْلَادِ الْمُوصِي إِنْ كَانُوا صِغَارًا وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ رَشِيدٌ.فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ كَبِيرٌ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ لِلْكَبِيرِ بَيْعَهُ أَوْ بَيْعَ نَصِيبِهِ مِنْهُ فَيَعْجِزُ عَنِ الْقِيَامِ بِالْوِصَايَةِ.أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ كَبِيرٌ فَتَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُكَلَّفًا مُسْتَبِدًّا بِالتَّصَرُّفِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ، فَإِنَّ الصِّغَارَ وَإِنْ كَانُوا مَالِكِينَ لَهُ لَكِنْ لَمَّا أَقَامَهُ أَبُوهُمْ مَقَامَ نَفْسِهِ صَارَ مُسْتَبِدًّا بِالتَّصَرُّفِ مِثْلَهُ بِلَا وِلَايَةٍ لَهُمْ عَلَيْهِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَيْضًا: لَا يَصِحُّ الْإِيصَاءُ إِلَى عَبْدِ الْغَيْرِ أَصْلًا، فَلَوْ أَوْصَى إِلَيْهِ ثُمَّ أُعْتِقَ لَمْ يُخْرِجْهُ الْقَاضِي عَنِ الْوِصَايَةِ.أَمَّا إِنْ لَمْ يُعْتِقْ فَيُخْرِجُهُ وَيُبَدِّلُهُ بِغَيْرِهِ.

إِرْثُ الرَّقِيقِ:

107 م- الرِّقُّ أَحَدُ مَوَانِعِ الْإِرْثِ، فَالرَّقِيقُ لَا يَرِثُ أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ، لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ يُورَثُ عَنْ مَالِكِهِ فَلَا يَرِثُ، وَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وطَاوُسٍ أَنَّهُ يَرِثُ، وَيَكُونُ مَا يَرِثُهُ لِسَيِّدِهِ كَسَائِرِ كَسْبِهِ، وَالْمَمْلُوكُ لَا يُورَثُ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَمْلِكُ مِلْكًا ضَعِيفًا فَإِنَّ مَالَهُ يَئُولُ لِسَيِّدِهِ اتِّفَاقًا.

الرَّقِيقُ وَالتَّبَرُّعَاتُ:

108- تَجُوزُ الْهِبَةُ مِنَ الرَّقِيقِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِحَقِّ سَيِّدِهِ، فَإِنْ أَذِنَهُ فِي الْهِبَةِ انْفَكَّ حَجْرُهُ فِيهَا.فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ لَمْ يَجُزْ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيُّ وَهُوَ الْمُقَدَّمُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّقِيقِ أَنْ يَضْمَنَ أَحَدًا بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ وَلَوْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَتَضَمَّنُ إِيجَابَ مَالِكٍ فَلَمْ يَصِحَّ بِغَيْرِ إِذْنٍ كَالنِّكَاحِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ فِي احْتِمَالٍ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى السَّيِّدِ، وَيُتَّبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ.

فَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ أَنْ يَضْمَنَ لِيَكُونَ الْقَضَاءُ مِنَ الْمَالِ الَّذِي بِيَدِهِ صَحَّ.

قَبُولُ الرَّقِيقِ لِلتَّبَرُّعَاتِ:

109- لِلرَّقِيقِ أَنْ يَقْبَلَ التَّبَرُّعَاتِ مِنْ هِبَةٍ أَوْ هَدِيَّةٍ أَوْ عَطِيَّةٍ وَلَوْ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ مَنْفَعَةٍ كَالِاحْتِشَاشِ وَالِاصْطِيَادِ، وَتَكُونُ لِسَيِّدِهِ لَا لَهُ.

وَلَوْ أَبَى الْعَبْدُ قَبُولَ الْهِبَةِ فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَجْبُرَهُ عَلَى قَبُولِهَا.

الْحَجْرُ عَلَى الرَّقِيقِ:

110- الرَّقِيقُ فِي الْأَصْلِ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ شَرْعًا لِحَظِّ سَيِّدِهِ.فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ أَوْ يَشْتَرِيَ بِعَيْنِ الْمَالِ، أَوْ يَتَّجِرَ أَوْ يَسْتَأْجِرَ أَوْ يُؤَجِّرَ، وَلَوْ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ إِلاَّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، فَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ دُونَ إِذْنٍ كَانَ تَصَرُّفُهُ بَاطِلًا أَوْ مَوْقُوفًا، عَلَى الْخِلَافِ فِي تَصَرُّفِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ.وَقِيلَ: يَصِحُّ الشِّرَاءُ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ.

وَإِذَا لَزِمَ الرَّقِيقَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِغَيْرِ رِضَا سَيِّدِهِ، كَأَنِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ أَوِ اقْتَرَضَ، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ يَتَّبِعُهُ الْغَرِيمُ بِهِ إِذَا عَتَقَ وَأَيْسَرَ، كَالْحُرِّ، وَكَالْأَمَةِ إِذَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ.

وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِرَقَبَتِهِ كَأَرْشِ جِنَايَتِهِ، فَإِنْ شَاءَ سَيِّدُهُ فَدَاهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ فِدَاؤُهُ بِمَا يَزِيدُ عَنْ قِيمَتِهِ، وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَهُ لِلدَّائِنِ عِوَضَ دَيْنِهِ.

الرَّقِيقُ الْمَأْذُونُ:

111- يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَأْذَنَ لِرَقِيقِهِ فِي التَّصَرُّفِ وَالْمُتَاجَرَةِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ كَانَ لِحَقِّ سَيِّدِهِ، فَجَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ بِإِذْنِهِ.

ثُمَّ قَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْإِذْنَ يَتَحَدَّدُ بِقَدْرِ مَا أَذِنَ السَّيِّدُ، وَيَنْفَكُّ عَنْهُ حَجْرُهُ بِقَدْرِ مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ، وَيَسْتَمِرُّ الْحَجْرُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ، فَإِنْ دَفَعَ إِلَيْهِ مَالًا يَتَّجِرُ بِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ وَيَتَّجِرَ فِيهِ، إِنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ فِي ذِمَّتِهِ جَازَ.وَإِنْ عَيَّنَ لَهُ نَوْعًا مِنَ الْمَالِ يَتَّجِرُ فِيهِ جَازَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الِاتِّجَارُ فِي غَيْرِهِ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ، وَلَا أَنْ يُؤَجِّرَ مَالَ التِّجَارَةِ كَدَوَابِّهَا، وَلَا أَنْ يَتَوَكَّلَ لِإِنْسَانٍ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ.وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَتَصَرَّفُ الرَّقِيقُ الْمَأْذُونُ بِالْوَكَالَةِ وَالنِّيَابَةِ عَنْ سَيِّدِهِ.

وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ- وَلَوْ يَسِيرًا- مَا لَمْ يَعْلَمْ بِرِضَا سَيِّدِهِ بِذَلِكَ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي هَذَا مِثْلَ قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا يَأْتِي.

قَالَ الْجُمْهُورُ: وَلَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ بِالْقَوْلِ، فَلَوْ رَأَى السَّيِّدُ عَبْدَهُ يَتَّجِرُ فَلَمْ يَنْهَهُ لَمْ يَصِرْ بِذَلِكَ مَأْذُونًا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرَّقِيقَ الْمَأْذُونَ يَنْفَكُّ عَنْهُ الْحَجْرُ فِي مَا هُوَ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ.

قَالُوا: وَالْإِذْنُ هُنَا إِنَّمَا هُوَ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ، وَلَيْسَ تَوْكِيلًا أَوْ إِنَابَةً، ثُمَّ يَتَصَرَّفُ الرَّقِيقُ لِنَفْسِهِ بِمُقْتَضَى أَهْلِيَّتِهِ، فَلَا يَتَوَقَّتُ بِوَقْتٍ وَلَا يَتَخَصَّصُ بِنَوْعٍ، فَلَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا صَارَ مَأْذُونًا مُطْلَقًا حَتَّى يُعِيدَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ لَا يَتَوَقَّتُ.وَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي نَوْعٍ عَمَّ إِذْنُهُ الْأَنْوَاعَ كُلَّهَا وَلَوْ نَهَاهُ عَنْهَا صَرِيحًا، كَأَنْ قَالَ: اشْتَرِ الْبَزَّ وَلَا تَشْتَرِ غَيْرَهُ، فَتَصِحُّ مِنْهُ كُلُّ تِجَارَةٍ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَيَثْبُتُ الْإِذْنُ لِلْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ دَلَالَةً، فَلَوْ رَأَى السَّيِّدُ عَبْدَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي مَا أَرَادَ فَسَكَتَ السَّيِّدُ صَارَ الْعَبْدُ بِذَلِكَ مَأْذُونًا، إِلاَّ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا قُصِدَ بِهِ مِنَ الْإِذْنِ الِاسْتِخْدَامُ، كَأَنْ يَطْلُبَ مِنْ عَبْدِهِ شِرَاءَ شَيْءٍ لِحَاجَتِهِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِذْنًا فِي التِّجَارَةِ، وَبَيْنَ مَا قُصِدَ بِهِ فَكُّ الْحَجْرِ.

قَالُوا: وَلِلْمَأْذُونِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ، وَيُوَكِّلَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَيَرْهَنَ وَيَرْتَهِنَ، وَيُعِيرَ الثَّوْبَ وَالدَّابَّةَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ، وَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْ قِصَاصٍ وَجَبَ عَلَى عَبْدِهِ، وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إِنْ لَمْ يَحْضُرْ مَوْلَاهُ.وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ إِجَارَةً أَوْ مُسَاقَاةً أَوْ مُزَارَعَةً، وَيُشَارِكَ عِنَانًا لَا مُفَاوَضَةً، وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ وَيُؤَجِّرَ، وَلَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ وَيُقِرَّ بِنَحْوِ وَدِيعَةٍ أَوْ غَصْبٍ، وَيُهْدِي طَعَامًا يَسِيرًا بِمَا لَا يُعَدُّ سَرَفًا، وَأَنْ يُضِيفَ الضِّيَافَةَ الْيَسِيرَةَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ وَلَوْ عَلَى مَالٍ، وَلَا أَنْ يُقْرِضَ أَوْ يَهَبَ وَلَوْ بِعِوَضٍ، وَلَا يَكْفُلُ بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ، وَلَا يُصَالِحَ عَنْ قِصَاصٍ وَجَبَ عَلَيْهِ.وَفِي الْهِدَايَةِ: لَا بَأْسَ بِقَبُولِ هَدِيَّةِ الْعَبْدِ التَّاجِرِ وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ وَاسْتِعَارَةِ دَابَّتِهِ بِخِلَافِ هَدِيَّتِهِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ بُطْلَانُهُ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَبِلَ هَدِيَّةَ سَلْمَانَ- رضي الله عنه- حِينَ كَانَ عَبْدًا»،، «وَقَبِلَ هَدِيَّةَ بَرِيرَةَ- رضي الله عنها- ».وَأَجَابَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ دَعْوَةَ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدٍ وَكَانَ عَبْدًا؛ وَلِأَنَّ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ضَرُورَةً لَا يَجِدُ التَّاجِرُ مِنْهَا بُدًّا، بِخِلَافِ نَحْوِ الْكِسْوَةِ وَإِهْدَاءِ الدَّنَانِيرِ فَلَا ضَرُورَةَ فِيهَا.

وَقَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ السَّيِّدَ إِنْ أَذِنَ لِلْعَبْدِ فِي نَوْعٍ مِنَ التِّجَارَةِ، كَالْبُرِّ مَثَلًا كَانَ كَوَكِيلٍ مُفَوَّضٍ فِيمَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ بَاقِي الْأَنْوَاعِ لِأَنَّهُ أَقْعَدَهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَدْرُونَ لِأَيِّ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ أَقْعَدَهُ.غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَسُوغُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى غَيْرِ مَا عَيَّنَهُ لَهُ.فَإِنْ صَرَّحَ لَهُ بِمَنْعِهِ مِنْ غَيْرِ النَّوْعِ مُنِعَ مِنْهُ أَيْضًا، ثُمَّ إِنْ أَشْهَرَ الْمَنْعَ رَدَّ مَا أَجْرَاهُ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيمَا أَشْهَرَهُ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِرْهُ مَضَى وَلَمْ يَرُدَّ.

قَالُوا: وَكَمَا يَحْصُلُ الْإِذْنُ بِقَوْلِهِ: «أَذِنْتُكَ» وَيَكُونُ إِذْنًا لَهُ مُطْلَقًا، كَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْإِذْنِ الْحُكْمِيِّ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى لَهُ بِضَاعَةً وَوَضَعَهَا بِحَانُوتٍ وَأَقْعَدَهُ فِيهِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.

قَالُوا: وَلِلْمَأْذُونِ أَنْ يَضَعَ مِنْ دَيْنٍ لَهُ عَلَى شَخْصٍ، أَوْ يُؤَخِّرَ دَيْنَهُ الْحَالَّ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ إِنْ لَمْ تَكْثُرِ الْوَضِيعَةُ، وَلَهُ أَنْ يُضِيفَ الضَّيْفَ لِلِاسْتِئْلَافِ عَلَى التِّجَارَةِ، وَلَهُ نَحْوُ الضِّيَافَةِ كَالْعَقِيقَةِ لِوَلَدِهِ إِنِ اتَّسَعَ الْمَالُ وَلَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ سَيِّدُهُ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ غَيْرِهِ مَالًا مُضَارَبَةً لِيَعْمَلَ فِيهِ لِأَنَّهُ مِنَ التِّجَارَةِ، وَلَهُ أَنْ يَتَسَرَّى وَيَقْبَلَ الْوَدِيعَةَ وَلَا يَقْبَلَ التَّوْكِيلَ، وَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا يُوهَبُ لَهُ بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ لَا بِصَدَقَةٍ وَنَحْوِهَا وَلَا بِهِبَةٍ إِلاَّ هِبَةَ الثَّوَابِ (الْهِبَةُ بِعِوَضٍ).وَيَجُوزُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ لِلْإِفْلَاسِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَالْحُرِّ.

اكْتِسَابُ الرَّقِيقِ مِنَ الْمُبَاحَاتِ وَالْتِقَاطُهُ:

112- لِلرَّقِيقِ الِاكْتِسَابُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ كَالِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِطَابِ، وَيَكُونُ مَا يُحَصِّلُهُ لِسَيِّدِهِ.وَكَذَا لَوْ وَجَدَ رِكَازًا.

وَإِنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلَهُ أَخْذُهَا وَهُوَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، وَالْتِقَاطُهُ صَحِيحٌ، وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ اللُّقَطَةِ.وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ.بِدَلَالَةِ عُمُومِ أَحَادِيثِ اللُّقَطَةِ، وَقِيَاسًا عَلَى الْتِقَاطِ الصَّبِيِّ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ؛ وَلِأَنَّ الِالْتِقَاطَ تَخْلِيصُ مَالٍ مِنَ الْهَلَاكِ فَجَازَ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، كَإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ وَالْمَغْصُوبِ.وَإِذَا الْتَقَطَ كَانَتِ اللُّقَطَةُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، وَإِنْ عَرَّفَهَا حَوْلًا صَحَّ تَعْرِيفُهُ فَإِذَا تَمَّ الْحَوْلُ مَلَكَهَا سَيِّدُهُ، وَلِلسَّيِّدِ انْتِزَاعُهَا مِنْهُ أَثْنَاءَ الْحَوْلِ وَيُتَمِّمُ تَعْرِيفَهَا.

وَإِنْ تَمَلَّكَهَا الْعَبْدُ أَثْنَاءَ الْحَوْلِ أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا ضَمِنَهَا لِصَاحِبِهَا فِي رَقَبَتِهِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، لَا يَصِحُّ الْتِقَاطُ الْعَبْدِ لِأَنَّ اللُّقَطَةَ فِي الْحَوْلِ أَمَانَةٌ وَوِلَايَةٌ وَبَعْدَهُ تَمَلُّكٌ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ وَلَا مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ.

الرَّقِيقُ وَالْجِنَايَاتُ:

الْقِصَاصُ بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالرَّقِيقِ:

113- أ- إِذَا قَتَلَ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ رَقِيقًا فَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ بَلْ يُعَزَّرُ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاتِلُ سَيِّدًا لِلرَّقِيقِ أَوْ أَجْنَبِيًّا، لِمَا رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يُقَادُ مَمْلُوكٌ مِنْ مَالِكٍ».وَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ».

وَيُجْلَدُ الْحُرُّ إِذَا قَتَلَ عَبْدًا مِائَةً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لِمَا رَوَى عَلِيٌّ- رضي الله عنه-: «أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ عَبْدَهُ فَجَلَدَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مِائَةَ جَلْدَةٍ وَنَفَاهُ عَامًا وَمَحَا اسْمَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَيْ مِنَ الْعَطَاءِ».وَلِمَفْهُومِ ( (: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} وَلِأَنَّ الْعَبْدَ مَنْقُوصٌ بِالرِّقِّ فَلَا يُكَافِئُ الْحُرَّ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحُرَّ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ- إِلاَّ عَبْدَ نَفْسِهِ فَلَا يُقْتَلُ بِهِ، وَكَذَا عَبْدُ وَلَدِهِ- لِعُمُومِ آيَاتِ الْقِصَاصِ نَحْوِ قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وَقَوْلِهِ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وَلِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ نَحْوِ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ».وَقَوْلِهِ «النَّفْسُ بِالنَّفْسِ».

وَنَقَلَ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ النَّخَعِيَّ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْحُرَّ يُقْتَلُ بِعَبْدِ نَفْسِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ».

وَأَمَّا فِي الْأَطْرَافِ فَلَا يُقْتَصُّ مِنَ الْحُرِّ إِذَا قَطَعَ طَرَفَ رَقِيقٍ.وَنَقَلَ ابْنُ رُشْدٍ فِي ذَلِكَ خِلَافًا.

وَحَيْثُ وَجَبَ الْقِصَاصُ فَالْحَقُّ لِلسَّيِّدِ، لَهُ طَلَبُهُ، وَلَهُ الْعَفْوُ عَنْهُ.

وَحَيْثُ لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ، يَجِبُ التَّعْزِيرُ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ.

114- ب- وَأَمَّا إِذَا قَتَلَ الرَّقِيقُ حُرًّا سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْتُولُ سَيِّدَهُ أَوْ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ اتِّفَاقًا إِذَا تَمَّتْ شُرُوطُ الْقِصَاصِ، وَذَلِكَ لِعُمُومِ آيَاتِ الْقِصَاصِ، وَلِأَنَّهُ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ لقوله تعالى: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} فَقَتْلُهُ بِالْحُرِّ أَوْلَى لِأَنَّ الْحُرَّ أَكْمَلُ مِنَ الْعَبْدِ.

وَكَذَا يُؤْخَذُ طَرَفُ الْعَبْدِ بِطَرَفِ الْحُرِّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنَ الْعَبْدِ لِلْحُرِّ فِي الْجِرَاحِ وَالْأَعْضَاءِ، قَالَ الزَّرْقَانِيُّ: لِأَنَّهُ كَجِنَايَةِ الْيَدِ الشَّلاَّءِ عَلَى الْيَدِ الصَّحِيحَةِ.وَنَقَلَ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ فِي ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَيْنِ. 115- ج- وَكَذَلِكَ يُقْتَلُ الرَّقِيقُ بِالرَّقِيقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، سَوَاءٌ اتَّحَدَتْ قِيمَةُ الْقَاتِلِ وَقِيمَةُ الْمَقْتُولِ أَوِ اخْتَلَفَتَا، وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ آيَاتِ الْقِصَاصِ، وَبِالنَّصِّ عَلَيْهِ فِي قوله تعالى: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} وَلِأَنَّ تَفَاوُتَ الْقِيمَةِ فِي الرَّقِيقِ كَتَفَاوُتِ الْفَضَائِلِ فِي الْأَحْرَارِ، كَالْعِلْمِ وَالشَّرَفِ وَالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، فَكَمَا أُهْدِرَ هَذَا التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْأَحْرَارِ فَوَجَبَ الْقِصَاصُ مَعَ وُجُودِهِ، فَكَذَا تَفَاوُتُ الْقِيَمِ فِي الرَّقِيقِ.

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِصَاصِ أَنْ لَا تَكُونَ قِيمَةُ الْقَاتِلِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْمَقْتُولِ.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَ بَيْنَ الْعَبِيدِ قِصَاصٌ فِي نَفْسٍ وَلَا جُرْحٍ لِأَنَّهُمْ أَمْوَالٌ، وَنَقَلَهُ ابْنُ رُشْدٍ عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَجَمَاعَةٍ.

وَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الْعَبِيدِ فِي الْأَطْرَافِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- نَقَلَهُ ابْنُ رُشْدٍ- وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ} الْآيَةَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَهُمْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ.وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ مِنَ الْعَبِيدِ مَالٌ فَلَا يَجْرِي الْقِصَاصُ فِيهَا؛ وَلِأَنَّ التَّسَاوِيَ فِي الْأَطْرَافِ مُعْتَبَرٌ، فَلَا تُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بِالشَّلاَّءِ، وَلَا كَامِلَةُ الْأَصَابِعِ بِنَاقِصَتِهَا، وَأَطْرَافُ الْعَبِيدِ لَا تَتَسَاوَى.

وَحَيْثُ يَجْرِي الْقِصَاصُ فِي طَرَفِ الْعَبْدِ فَاسْتِيفَاؤُهُ لَهُ وَلَهُ الْعَفْوُ عَنْهُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


104-موسوعة الفقه الكويتية (رق 9)

رِقّ -9

الْكَفَّارَةُ فِي قَتْلِ الرَّقِيقِ:

121- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِي قَتْلِ الرَّقِيقِ- بِالْإِضَافَةِ إِلَى قِيمَتِهِ الْوَاجِبَةِ لِسَيِّدِهِ- الْكَفَّارَةَ وَلَوْ قَتَلَ عَبْدَ نَفْسِهِ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ كَذَلِكَ، لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}.الْآيَةَ، وَلِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَأَشْبَهَ الْحُرَّ، وَهِيَ كَكَفَّارَةِ قَتْلِ الْحُرِّ سَوَاءٌ، عَلَى التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ فِي ذَلِكَ (ر: كَفَّارَة).

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ كَفَّارَةٌ فِي قَتْلِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ مَالٌ، وَيُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ، فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ، كَمَا لَا كَفَّارَةَ فِي إِتْلَافِ سَائِرِ الْمُمْتَلَكَاتِ.وَالتَّكْفِيرُ مَعَ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ.قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَحُكْمُ الرَّقِيقِ فِي التَّكْفِيرِ إِذَا قَتَلَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا حُكْمُ الْحُرِّ مِنْ حَيْثُ أَصْلِ التَّكْفِيرِ.

وَأَمَّا مَا يُكَفِّرُ بِهِ الْعَبْدُ فَقَدْ ذُكِرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.

غَصْبُ الرَّقِيقِ:

122- مَنْ غَصَبَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْغَصْبِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ (ر: غَصْب).

وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّقِيقَ مَالٌ فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ غَصْبِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَمَنْ غَصَبَ جَارِيَةً لَمْ تَثْبُتْ يَدُهُ عَلَى بُضْعِهَا وَهُوَ الْجِمَاعُ، فَيَصِحُّ تَزْوِيجُ السَّيِّدِ لَهَا، وَلَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ مَهْرَهَا لَوْ حَبَسَهَا عَنِ النِّكَاحِ حَتَّى فَاتَ نِكَاحُهَا بِالْكِبَرِ.

وَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ الْغَصْبِ فَهُوَ زِنًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَتَهُ وَلَا مِلْكَ يَمِينِهِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِشُرُوطِهِ، وَيَلْزَمُهُ مَهْرُ مِثْلِهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ مُطَاوِعَةً اتِّفَاقًا.

أَمَّا إِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ إِلَى أَنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ».وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَلَيْسَ فِي الْأَمَةِ الثَّيِّبِ فِي قَضَاءِ الْأَئِمَّةِ غُرْمٌ وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ الْمَهْرُ وَيَكُونُ لِسَيِّدِهَا لِأَنَّهُ حَقُّهُ، فَلَا يَسْقُطُ بِمُطَاوَعَتِهَا كَأَجْرِ مَنَافِعِهَا.

الرَّقِيقُ وَالْحُدُودُ:

حَدُّ الزِّنَا:

123- إِذَا زَنَى الرَّقِيقُ يُجْلَدُ خَمْسِينَ جَلْدَةً ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَلَا يُرْجَمُ، اتِّفَاقًا، لقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} فَيَنْصَرِفُ التَّنْصِيفُ إِلَى الْجَلْدِ دُونَ الرَّجْمِ لِوَجْهَيْنِ: أَنَّ الْجَلْدَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ دُونَ الرَّجْمِ، وَأَنَّ الرَّجْمَ لَا يَتَنَصَّفُ بَلِ الَّذِي يَتَنَصَّفُ هُوَ الْجَلْدُ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنُ فَقَالَ إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ» وَالْعَبْدُ كَالْأَمَةِ لِعَدَمِ الْفَرْقِ.قَالَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه-: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمُ الْحَدَّ، مَنْ أُحْصِنَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُحْصَنْ».

السَّرِقَةُ:

الْمَمْلُوكُ السَّارِقُ:

124- ذَهَبَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ سَرَقَ الْمَمْلُوكُ مَا فِيهِ الْحَدُّ وَتَمَّتْ شُرُوطُ الْحَدِّ وَجَبَ قَطْعُهُ، لِعُمُومِ آيَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ رَقِيقًا لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ سَرَقُوا نَاقَةً لِرَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ فَنَحَرُوهَا، فَأَمَرَ بِهِمْ عُمَرُ- رضي الله عنه- أَنْ تُقْطَعَ أَيْدِيهِمْ.ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: وَاَللَّهِ إِنِّي لأَرَاكَ تُجِيعُهُمْ، وَلَكِنْ لأُغَرِّمَنَّكَ غُرْمًا يَشُقُّ عَلَيْكَ.ثُمَّ قَالَ لِلْمُزَنِيِّ: كَمْ ثَمَنُ نَاقَتِكَ؟ قَالَ: أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ.قَالَ: أَعْطِهِ ثَمَانَمِائَةِ دِرْهَمٍ.وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدًا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ عِنْدَ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- فَقَطَعَهُ.

وَإِنْ سَرَقَ الرَّقِيقُ مَالَ سَيِّدِهِ أَوْ مَالَ رَقِيقٍ آخَرَ لِسَيِّدِهِ لَمْ يُقْطَعْ لِخَبَرِ عُمَرَ: عَبْدُكُمْ سَرَقَ مَتَاعَكُمْ؛ وَلِشُبْهَةِ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَا مَلَكَتْ يَدَاهُ لِسَيِّدِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ حِرْزِهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَا يُقْطَعُ الْعَبْدُ بِسَرِقَتِهِ مِمَّنْ لَوْ سَرَقَ مِنْهُ السَّيِّدُ لَمْ يُقْطَعْ، وَذَلِكَ كَزَوْجِ السَّيِّدَةِ أَوْ زَوْجَةِ السَّيِّدِ، أَوْ أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ أَوِ ابْنِهِ أَوْ بِنْتِهِ.

حَدُّ الْقَذْفِ:

أ- إِيقَاعُ الْحَدِّ عَلَى الرَّقِيقِ إِذَا قَذَفَ مُحْصَنًا أَوْ مُحْصَنَةً:

125- إِذَا قَذَفَ الرَّقِيقُ الْمُكَلَّفُ مُحْصَنًا أَوْ مُحْصَنَةً بِالزِّنَا وَلَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِجْمَاعًا إِذَا تَمَّتْ شُرُوطُهُ لِعُمُومِ آيَةِ الْقَذْفِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ حَدُّ الْقَذْفِ الْجَلْدَ فَهُوَ يَتَنَصَّفُ، فَوَجَبَ تَنْصِيفُهُ، كَحَدِّ الْجَلْدِ فِي الزِّنَا، وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ: أَدْرَكْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْخُلَفَاءِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَضْرِبُونَ الْمَمْلُوكَ إِذَا قَذَفَ إِلاَّ أَرْبَعِينَ.

ب- قَذْفُ الرَّقِيقِ:

126- مَنْ قَذَفَ رَقِيقًا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاذِفُ سَيِّدَ الرَّقِيقِ أَوْ غَيْرَ سَيِّدِهِ.

وَاسْتَثْنَى مَالِكٌ مَنْ قَذَفَ أَمَةً حَامِلًا مِنْ سَيِّدِهَا الْحُرِّ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَنَّهَا حَامِلٌ مِنْ زِنًا.وَدَلِيلُ عَدَمِ حَدِّ قَاذِفِ الرَّقِيقِ قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْيَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} فَجَعَلَتِ الْآيَةُ: الْحَدَّ لِقَاذِفِ الْمُحْصَنَةِ، وَشَرْطُ الْإِحْصَانِ الْحُرِّيَّةُ.وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا قَالَ جُلِدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ».وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ كَانَ لِلَّهِ فِي ظَهْرِهِ حَدٌّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَى السَّيِّدِ الْحَدُّ فِي الدُّنْيَا لَذَكَرَهُ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْآخِرَةِ.

وَحَيْثُ انْتَفَى الْحَدُّ شُرِعَ التَّعْزِيرُ وَلِلْعَبْدِ إِنْ قَذَفَهُ سَيِّدُهُ أَوْ غَيْرُهُ أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَى الْحَاكِمِ لِيُعَزِّرَهُ، وَالْحَقُّ فِي الْعَفْوِ لِلْعَبْدِ لَا لِلسَّيِّدِ، فَإِنْ مَاتَ فَلِلسَّيِّدِ الْمُطَالَبَةُ.

حَدُّ شُرْبِ الْمُسْكِرِ:

127- يُحَدُّ الرَّقِيقُ إِذَا شَرِبَ الْمُسْكِرَ بِالتَّفْصِيلِ الَّذِي يُذْكَرُ فِي حَدِّ الْحُرِّ، إِلاَّ أَنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْحُرَّ يُحَدُّ ثَمَانِينَ جَلْدَةً جَعَلَ حَدَّ الْعَبْدِ أَرْبَعِينَ، وَمَنْ قَالَ حَدُّ الْحُرِّ أَرْبَعُونَ قَالَ: إِنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ عِشْرُونَ جَلْدَةً.

الرَّقِيقُ وَالْوِلَايَاتُ:

128- الرَّقِيقُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ، مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ عَجْزٌ حُكْمِيٌّ سَبَبُهُ فِي الْأَصْلِ الْكُفْرُ؛ وَلِأَنَّ الرَّقِيقَ مُوَلًّى عَلَيْهِ مَشْغُولٌ بِحُقُوقِ سَيِّدِهِ وَتَلْزَمُهُ طَاعَتُهُ فَلَا يَكُونُ وَالِيًا.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ الْعُظْمَى لَا تَكُونُ فِي الْعَبِيدِ إِذَا كَانَ بِطَرِيقِ الِاخْتِيَارِ.قَالَ ابْنُ حَجَرٍ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ ذَلِكَ: أَمَّا لَوْ تَغَلَّبَ عَبْدٌ حَقِيقَةً بِطَرِيقِ الشَّوْكَةِ فَإِنَّ طَاعَتَهُ تَجِبُ إِخْمَادًا لِلْفِتْنَةِ مَا لَمْ يَأْمُرْ بِمَعْصِيَةٍ.ا هـ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَمَّا لَوِ اسْتُعْمِلَ الْعَبْدُ عَلَى إِمَارَةِ بَلَدٍ مَثَلًا وَجَبَتْ طَاعَتُهُ.

وَحُمِلَ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ».

وَفُسِّرَ اسْتِعْمَالُ الْعَبْدِ فِي الْحَدِيثِ بِأَنْ يُجْعَلَ عَامِلًا فَيُؤَمَّرُ إِمَارَةً عَامَّةً عَلَى بَلَدٍ مَثَلًا، أَوْ يُوَلَّى فِيهَا وِلَايَةً خَاصَّةً كَإِمَامَةِ الصَّلَاةِ، أَوْ جِبَايَةِ الْخَرَاجِ أَوْ مُبَاشَرَةِ الْحَرْبِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْعَبْدُ لَا يَلِي أَمْرًا عَامًّا، إِلاَّ نِيَابَةً عَنِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ فَلَهُ نَصْبُ الْقَاضِي نِيَابَةً عَنِ السُّلْطَانِ وَلَكِنْ لَا يَقْضِي هُوَ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُوَلَّى تَقْرِيرَ الْفَيْءِ وَلَا جِبَايَةَ أَمْوَالِهِ بَعْدَ تَقْرِيرِهَا.

وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجُوزُ شَرْعًا أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا لِنَقْصِهِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: الْعَبْدُ لَا يَكُونُ قَاضِيًا، وَلَا قَاسِمًا، وَلَا مُقَوِّمًا، وَلَا قَائِفًا وَلَا مُتَرْجِمًا، وَلَا كَاتِبَ حَاكِمٍ، وَلَا أَمِينًا لِحَاكِمٍ، وَلَا وَلِيًّا فِي نِكَاحٍ أَوْ قَوَدٍ، وَأَضَافَ ابْنُ نُجَيْمٍ: وَلَا مُزَكِّيًا عَلَانِيَةً، وَلَا عَاشِرًا، وَأَضَافَ السُّيُوطِيُّ: وَلَا خَارِصًا، وَلَا يَكُونُ عَامِلًا فِي الزَّكَاةِ إِلاَّ إِذَا عَيَّنَ لَهُ الْإِمَامُ قَوْمًا يَأْخُذُ مِنْهُمْ قَدْرًا مُعَيَّنًا.

شَهَادَةُ الرَّقِيقِ:

128 م- مِنْ شَرْطِ الشَّاهِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ.قَالَ عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ: لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالْآيَةِ (يَعْنِي آيَةَ الدَّيْنِ) الْأَحْرَارَ، بِدَلِيلِ قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ} لقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وَإِنَّمَا يُرْتَضَى الْأَحْرَارُ، قَالَ: وَأَيْضًا نُفُوذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ نَوْعُ وِلَايَةٍ.يَعْنِي وَالرَّقِيقُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَمَالَ ابْنُ الْهُمَامِ إِلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ لِأَنَّ عَدَمَ وِلَايَتِهِ هُوَ لِحَقِّ الْمَوْلَى لَا لِنَقْصٍ فِي الْعَبْدِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ عَلَى الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ وَابْنُ الْهُمَامِ عَنْ أَنَسٍ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهما-، إِلاَّ أَنَّ ابْنَ الْهُمَامِ قَالَ إِنَّ عَلِيًّا كَانَ يَقُولُ: تُقْبَلُ عَلَى الْعَبِيدِ دُونَ الْأَحْرَارِ.

وَمِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ قَبُولُ شَهَادَةِ الْعَبِيدِ عُرْوَةُ وَشُرَيْحٌ وَإِيَاسٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

قَالَ أَنَسٌ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَدَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ.وَوَجَّهَهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّ الْعَبِيدَ مِنْ رِجَالِنَا فَدَخَلَ فِي عُمُومِ قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وَلِأَنَّهُ إِنْ كَانَ عَدْلًا غَيْرَ مُتَّهَمٍ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَفُتْيَاهُ وَأَخْبَارُهُ الدِّينِيَّةُ، فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَالْحُرِّ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَعْتَمِدُ الْمُرُوءَةَ، وَالْعَبِيدُ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ مُرُوءَةٌ وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالصَّالِحُونَ وَالْأَتْقِيَاءُ.وَلِأَنَّ مَنْ أُعْتِقَ مِنْهُمْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ اتِّفَاقًا، وَالْحُرِّيَّةُ لَا تُغَيِّرُ طَبْعًا وَلَا تُحْدِثُ عِلْمًا وَلَا مُرُوءَةً.

وَأَمَّا شَهَادَةُ الْعَبْدِ فِي الْحُدُودِ فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي قَبُولِ رِوَايَتِهِ فِي الْأَمْوَالِ يُورِثُ شُبْهَةً.

وَأَمَّا فِي الْقِصَاصِ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَهُمْ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ فَأَشْبَهَ الْأَمْوَالَ.

قَالُوا: وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَمَةِ فِيمَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْحُرَّةِ، وَذَلِكَ فِي الْمَالِ.

وَهَذَا إِنْ شَهِدَ الْعَبْدُ أَوِ الْأَمَةُ لِغَيْرِ سَيِّدِهِ.أَمَّا لَوْ شَهِدَ لِسَيِّدِهِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ يَتَبَسَّطُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ، وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ، وَتَجِبُ نَفَقَتُهُ مِنْهُ، وَلَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ مِنْهُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، كَالِابْنِ مَعَ أَبِيهِ.

وَكَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ اتِّفَاقًا كَمَا لَا يُقْبَلُ قَضَاؤُهُ لَهُ لِأَنَّ مَالَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، فَشَهَادَتُهُ لَهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ فِي الْمَالِ.وَكَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ بِنِكَاحٍ، وَلَا لِأَمَتِهِ بِطَلَاقٍ لِأَنَّ فِي طَلَاقِ أَمَتِهِ تَخْلِيصَهَا مِنْ زَوْجِهَا وَإِبَاحَتَهَا لِلسَّيِّدِ، وَفِي نِكَاحِ الْعَبْدِ نَفْعٌ لَهُ.

وَبَعْضُ الَّذِينَ لَمْ يَقْبَلُوا شَهَادَةَ الْعَبْدِ اسْتَثْنَوْا الشَّهَادَةَ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ مِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.فَقَالُوا: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ عَلَى ذَلِكَ كَالْأَحْرَارِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ دِينِيٌّ فَأَشْبَهَ رِوَايَةَ الْأَخْبَارِ، وَلِهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ.

رِوَايَةُ الْعَبْدِ وَأَخْبَارُهُ:

129- رِوَايَةُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ لِلْحَدِيثِ وَأَخْبَارُهُمَا مَقْبُولَةٌ اتِّفَاقًا حَتَّى فِي أُمُورِ الدِّينِ كَالْقِبْلَةِ، وَالطَّهَارَةِ، أَوِ النَّجَاسَةِ، وَكَحِلِّ اللَّحْمِ وَحُرْمَتِهِ إِنْ كَانَا عَدْلَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَابَ الرِّوَايَةِ وَاسِعٌ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ.وَيُقْبَلُ قَوْلُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ فِي الْهَدِيَّةِ وَالْإِذْنِ، لِأَنَّ الْهَدَايَا تُبْعَثُ عَادَةً عَلَى أَيْدِي هَؤُلَاءِ، فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْحَرَجِ، حَتَّى لَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَالَتْ جَارِيَةٌ لِرَجُلٍ: بَعَثَنِي مَوْلَايَ هَدِيَّةً إِلَيْكَ، وَسِعَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إِذَا أَخْبَرَتْ بِإِهْدَاءِ الْمَوْلَى غَيْرَهَا أَوْ نَفْسَهَا.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي التَّقْرِيبِ: يُقْبَلُ تَعْدِيلُ الْعَبْدِ الْعَارِفِ.وَنَقَلَ السُّيُوطِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ عَنِ الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ وَالرَّازِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيِّ.

الرَّقِيقُ وَالْجِهَادُ:

130- الْجِهَادُ لَا يَجِبُ عَلَى الرَّقِيقِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «كَانَ يُبَايِعُ الْحُرَّ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ، وَيُبَايِعُ الْعَبْدَ عَلَى الْإِسْلَامِ دُونَ الْجِهَادِ».وَلِأَنَّ الْجِهَادَ عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الْعَبْدِ كَالْحَجِّ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: لَا جِهَادَ عَلَى رَقِيقٍ وَإِنْ أَمَرَهُ سَيِّدُهُ، إِذْ لَيْسَ الْقِتَالُ مِنْ الِاسْتِخْدَامِ الْمُسْتَحَقِّ لِلسَّيِّدِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الذَّبُّ عَنْ سَيِّدِهِ عِنْدَ خَوْفِهِ عَلَى رُوحِهِ إِذَا لَمْ نُوجِبِ الدَّفْعَ عَنِ الْغَيْرِ، بَلِ السَّيِّدُ فِي ذَلِكَ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلِلسَّيِّدِ اسْتِصْحَابُهُ فِي سَفَرِ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ لِيَخْدُمَهُ وَيَسُوسَ دَوَابَّهُ.ا هـ.

لَكِنْ إِنْ فَاجَأَ الْعَدُوُّ بَلَدًا بِنُزُولِهِ عَلَيْهَا بَغْتَةً، فَيَلْزَمُ كُلَّ أَحَدٍ بِهِ طَاقَةٌ عَلَى الْقِتَالِ الْخُرُوجُ لِدَفْعِ الْعَدُوِّ حَتَّى الْمَرْأَةَ وَالْعَبْدَ، وَلَوْ لَمْ يَأْذَنِ الزَّوْجُ أَوِ السَّيِّدُ، وَكَذَا يَلْزَمُ الْخُرُوجُ الصَّبِيَّ وَالْمُطِيقَ لِلْقِتَالِ، وَمِنْ هُنَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُسْهَمُ لِهَؤُلَاءِ مِمَّا يُغْنَمُ مِنَ الْعَدُوِّ فِي هَذِهِ الْحَالِ، لِكَوْنِ الْقِتَالِ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ.

وَلَا يُسْهَمُ لِلْعَبْدِ إِذَا حَضَرَ الْوَقْعَةَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، لِمَا رَوَى عُمَيْرٌ مَوْلَى أَبِي اللَّحْمِ أَنَّهُ قَالَ: «شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي، فَكَلَّمُوا فِيَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَمَرَنِي، فَقُلِّدْتُ سَيْفًا، فَإِذَا أَنَا أَجُرُّهُ، فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ».وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَمْلُوكُ وَالْمَرْأَةُ يَحْذِيَانِ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ سَهْمٌ.

وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: يُسْهَمُ لِلْعَبِيدِ كَالْأَحْرَارِ، لِمَا رَوَى الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّهُ شَهِدَ فَتْحَ الْقَادِسِيَّةِ عَبِيدٌ فَضُرِبَتْ لَهُمْ سِهَامُهُمْ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْعَبْدِ فِي الدِّينِ كَحُرْمَةِ الْحُرِّ.

وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَوِ انْفَرَدَ الْعَبِيدُ بِالِاغْتِنَامِ قُسِمَتْ عَلَيْهِمُ الْغَنِيمَةُ بَعْدَ تَخْمِيسِهَا.

وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَلَوْ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ رَقِيقِ الْكُفَّارِ الْحَرْبِيِّينَ إِلَيْنَا مُسْلِمًا مُرَاغِمًا لَهُمْ فَهُوَ حُرٌّ إِنْ فَارَقَهُمْ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَإِنْ كَانَتْ رَقِيقَةً لَمْ تُرَدَّ عَلَى سَيِّدِهَا وَلَا زَوْجِهَا وَتَكُونُ حُرَّةً؛ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ نَفْسَهَا بِقَهْرِهَا لَهُمْ عَلَى نَفْسِهَا. حَقُّ الْعَبِيدِ فِي الْفَيْءِ:

131- قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ الْيَوْمَ خِلَافًا فِي أَنَّ الْعَبِيدَ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ.ا هـ.وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ عُمَرَ- رضي الله عنه- فِي ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ لَهُ فِي هَذَا الْمَالِ نَصِيبٌ إِلاَّ الْعَبِيدَ فَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ شَيْءٌ.

وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- سَوَّى بَيْنَ النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ وَأَدْخَلَ فِيهِ الْعَبِيدَ..فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ- رضي الله عنه- فَاضَلَ بَيْنَهُمْ وَأَخْرَجَ الْعَبِيدَ، فَلَمَّا وَلِيَ عَلِيٌّ سَوَّى بَيْنَهُمْ وَأَخْرَجَ الْعَبِيدَ.

وَمِنْ هُنَا قَالَ النَّوَوِيُّ: لَا تُثْبَتُ فِي الدِّيوَانِ أَسْمَاءُ الْعَبِيدِ، وَإِنَّمَا هُمْ تَبَعٌ لِلْمُقَاتِلِ، يُعْطِي لَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يُثْبَتُ فِي الدِّيوَانِ أَسْمَاءُ الرِّجَالِ الْمُكَلَّفِينَ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلْغَزْوِ.

نَظَرُ الْعَبْدِ إِلَى سَيِّدَتِهِ:

132- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ عَوْرَةَ الْحُرَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَبْدِهَا لَا تَخْتَلِفُ عَنْ عَوْرَتِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ، وَهِيَ مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ، وَلَكِنْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَدْخُلُ الْعَبْدُ عَلَى مَوْلَاتِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: عَبْدُ الْمَرْأَةِ مَحْرَمٌ لَهَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَعْنِي قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}.وَحَدِيثَ: «إِنَّمَا هُوَ أَبُوكِ وَغُلَامُكِ».

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لِلْعَبْدِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ مَوْلَاتِهِ الرَّأْسَ وَالرَّقَبَةَ وَالذِّرَاعَ وَالسَّاقَ، وَلَا يَكُونُ مَحْرَمًا لَهَا فِي السَّفَرِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «سَفَرُ الْمَرْأَةِ مَعَ عَبْدِهَا ضَيْعَةٌ».

وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ: فَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَهُ مَنْظَرٌ، كُرِهَ لَهُ أَنْ يَرَى مِنْ سَيِّدَتِهِ مَا عَدَا وَجْهَهَا، فَإِنْ كَانَ وَغْدًا (أَيْ بِخِلَافِ ذَلِكَ) جَازَ أَنْ يَرَى مِنْهَا مَا يَرَاهُ الْمَحْرَمُ.وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا. ذَبِيحَةُ الرَّقِيقِ وَتَضْحِيَتُهُ:

133- يَمْلِكُ الرَّقِيقُ أَنْ يَذْبَحَ، وَذَبِيحَتُهُ حَلَالٌ، لِمَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِسِلَعٍ، فَأُصِيبَتْ شَاةٌ مِنْهَا، فَأَدْرَكَتْهَا فَذَبَحَتْهَا بِحَجَرٍ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: كُلُوهَا».

قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ رَاوِي الْحَدِيثِ: فَيُعْجِبُنِي أَنَّهَا أَمَةٌ وَأَنَّهَا ذَبَحَتْ.

وَنَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ رَوَى عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَتَهُ أَيْ مِنْ حَيْثُ هِيَ امْرَأَةٌ، وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ يُكْرَهُ ذَبْحُ الْمَرْأَةِ الْأُضْحِيَّةَ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ مَالِكٍ جَوَازُهُ.

(ر: ذَبَائِح).

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْعَبْدُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّضْحِيَةُ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ فَإِنْ أَذِنَ السَّيِّدُ، وَقَعَتِ التَّضْحِيَةُ عَنِ السَّيِّدِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمْ يَمْلِكُونَ بِالتَّمْلِيكِ وَإِذْنِ السَّيِّدِ وَقَعَتِ التَّضْحِيَةُ عَنِ الْعَبْدِ.وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ مَسْأَلَةِ مِلْكِ الْعَبْدِ بِالتَّمْلِيكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ.

النَّوْعُ الثَّانِي

أَحْكَامُ الرَّقِيقِ الْقِنِّ الْمُشْتَرَكِ

134- قَدْ يَكُونُ الرَّقِيقُ مَمْلُوكًا لِأَكْثَرَ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ.وَيَنْشَأُ الِاشْتِرَاكُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ، نَحْوُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدَ شَخْصَانِ فَأَكْثَرُ، أَوْ يَرِثَاهُ أَوْ يَقْبَلَاهُ هِبَةً أَوْ وَصِيَّةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، أَوْ أَنْ يَبِيعَ السَّيِّدُ جُزْءًا شَائِعًا مِنْ عَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ.

وَقَدْ يَشْتَرِي الشُّرَكَاءُ فِي شَرِكَةِ الْعُقُودِ عَبْدًا لِلتِّجَارَةِ، فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا أَيْضًا.

وَأَحْكَامُ الرَّقِيقِ الْمُشْتَرَكِ هِيَ أَحْكَامُ الرَّقِيقِ غَيْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، لِأَنَّهُ قِنٌّ مِثْلُهُ، لَكِنْ يَخْتَصُّ الرَّقِيقُ الْمُشْتَرَكُ بِأَحْكَامٍ تَقْتَضِيهَا الشَّرِكَةُ مِنْهَا:

135- لَيْسَ لِأَيِّ الشَّرِيكَيْنِ أَوِ الشُّرَكَاءِ وَطْءُ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَحِلُّ إِلاَّ أَنْ يَمْلِكَهَا الْوَاطِئُ مِلْكًا تَامًّا (ر: تَسَرٍّ) لَكِنْ إِنْ وَطِئَهَا أَحَدُ الشُّرَكَاءِ فَيُعَزَّرُ وَلَا يُحَدُّ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ إِجْمَاعًا، إِلاَّ مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، فَإِنْ لَمْ تَلِدْ مِنْهُ كَانَ لَهُمْ بِقَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ فِيهَا مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَأَرْشِ الْبَكَارَةِ إِنْ كَانَتْ بِكْرًا عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنْ وَلَدَتْ مِنْهُ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَيَضْمَنُ لِشُرَكَائِهِ قِيمَةَ أَنْصِبَائِهِمْ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهَا عَنْ مِلْكِهِمْ، فَلَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا. وَيَكُونُ وَلَدُهُ حُرًّا، وَاخْتُلِفَ هَلْ يَلْزَمُهُ لِشُرَكَائِهِ قِيمَةُ نَصِيبِهِمْ مِنْهُ أَمْ لَا.

وَأَمَّا فِي النَّظَرِ وَالْعَوْرَةِ فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، بِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُشْتَرَكَ مَعَ سَيِّدَتِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَالْأَمَةَ الْمُشْتَرَكَةَ مَعَ سَيِّدِهَا كَالْمَحْرَمِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا.

136- وَمِنْهَا أَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الرَّقِيقِ الْمُشْتَرَكِ وَاجِبٌ عَلَى الشُّرَكَاءِ جَمِيعًا بِنِسْبَةِ أَنْصِبَائِهِمْ فِي مِلْكِيَّتِهِ، وَكَذَا فِطْرَتُهُ.

137- وَمِنْهَا الْوِلَايَةُ عَلَى الرَّقِيقِ الْمُشْتَرَكِ، وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْمَالِكِينَ، فَإِنْ كَانَ الرَّقِيقُ أَمَةً فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْآخَرِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى تَزْوِيجُ نَصِيبِهِ وَحْدَهُ.

ثُمَّ إِنِ اشْتَجَرَ الْمَالِكُونَ فِي تَزْوِيجِهَا لَمْ يَكُنْ لِلسُّلْطَانِ وِلَايَةُ تَزْوِيجِهَا؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِمُكَلَّفٍ رَشِيدٍ بَالِغٍ حَاضِرٍ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ أَوْلِيَاءِ الْحُرَّةِ إِنِ اشْتَجَرُوا.

وَالِاشْتِجَارُ فِي شُؤُونِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ فِي تَزْوِيجِهِ، أَوِ الْإِذْنِ لَهُ بِتِجَارَةٍ، أَوْ عَمَلٍ، أَوْ سَفَرٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يَجْعَلُهُ فِي نَصَبٍ وَلَا يَرْضَى مِنْهُ الْمُشْتَرِكُونَ غَالِبًا، لِاخْتِلَافِ أَهْوَائِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ، وَلِذَا ضَرَبَ اللَّهُ الْمَثَلَ بِهِ لِلْمُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ فَقَالَ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}.وَقُرِئَ فِي السَّبْعِ (سَالِمًا لِرَجُلٍ).

وَالْمُهَايَأَةُ طَرِيقَةٌ لِتَقْلِيلِ نِزَاعِ الشُّرَكَاءِ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ كَمَا يَأْتِي.

138- وَمِنْهَا الِانْتِفَاعُ بِالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ وَاسْتِخْدَامُهُ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِطُرُقٍ مِنْهَا، الْمُهَايَأَةُ عَلَى الِاسْتِخْدَامِ فِي الزَّمَانِ، بِأَنْ يَسْتَخْدِمَهُ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ أَنْصِبَائِهِمْ فِيهِ، فَإِذَا تَهَايَآهُ اخْتَصَّ كُلٌّ مِنَ الشُّرَكَاءِ بِنَفَقَتِهِ الْعَامَّةِ وَكَسْبِهِ الْعَامِّ فِي مُدَّتِهِ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُ الْقِسْمَةِ.

أَمَّا النَّفَقَاتُ النَّادِرَةُ كَأُجْرَةِ الْحَجَّامِ وَالطَّبِيبِ وَالْأَكْسَابِ النَّادِرَةِ كَاللُّقَطَةِ وَالْهِبَةِ وَالرِّكَازِ، أَيْ إِذَا وَجَدَهُ الْعَبْدُ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ مَنْ هُوَ فِي نَوْبَتِهِ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ تَكُونُ مُشْتَرَكَةً كَالنَّفَقَةِ الْعَامَّةِ وَالْكَسْبِ الْعَامِّ.

وَكَذَا تَجُوزُ الْمُهَايَأَةُ فِي خِدْمَةِ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الزَّمَانِ اتِّفَاقًا لِلضَّرُورَةِ، وَقَالُوا: يُقْرَعُ فِي الْبِدَايَةِ، أَيْ يُعَيَّنُ بِالْقُرْعَةِ مِنْ يَكُونُ لَهُ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنَ الْخِدْمَةِ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ.قَالُوا: وَلَوْ كَانَ عَبْدَانِ بَيْنَ اثْنَيْنِ جَازَ أَنْ يَتَهَايَآ عَلَى الْخِدْمَةِ فِيهِمَا، عَلَى أَنْ يَخْدُمَ هَذَا الشَّرِيكَ هَذَا الْعَبْدُ، وَالْآخَرَ الْآخَرُ.وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَبْرًا إِذَا طَلَبَهُ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ قَلَّمَا تَتَفَاوَتُ بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ.قَالُوا: وَلَوْ تَهَايَآ فِيهِمَا عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ كُلِّ عَبْدٍ عَلَى مَنْ يَأْخُذُهُ جَازَ اسْتِحْسَانًا لِلْمُسَامَحَةِ فِي إِطْعَامِ الْمَمَالِيكِ بِخِلَافِ شَرْطِ الْكِسْوَةِ فَإِنَّهَا لَا يُسَامَحُ فِيهَا.

وَأَمَّا التَّهَايُؤُ فِي اسْتِغْلَالِ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ فَقَدْ مَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ، بِخِلَافِ التَّهَايُؤِ فِي اسْتِغْلَالِ الدَّارِ مَثَلًا، قَالُوا: لِأَنَّ الِاسْتِغْلَالَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالِاسْتِعْمَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَمَلَهُ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي لَا يَكُونُ كَمَا كَانَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ.فَلَوْ فَعَلَا فَزَادَتِ الْغَلَّةُ لِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ يَشْتَرِكَانِ فِي الزِّيَادَةِ لِيَتَحَقَّقَ التَّعْدِيلُ، وَلِأَنَّ الْغَلَّةَ يُمْكِنُ بِهِ قِسْمَتُهَا فَلَا ضَرُورَةَ إِلَى التَّهَايُؤِ فِيهَا، بِخِلَافِ الْخِدْمَةِ، وَأَمَّا فِي الْعَبْدَيْنِ فِي الِاسْتِغْلَالِ فَجَائِزٌ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الْإِفْرَازِ وَالتَّمْيِيزِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي رَأَى أَنَّ الْمَنْعَ فِي صُورَةِ الْعَبْدَيْنِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ فِي صُورَةِ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ، وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الِاسْتِغْلَالِ يَكْثُرُ؛ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ التَّسَامُحُ فِي الْخِدْمَةِ وَالِاسْتِقْصَاءُ فِي الِاسْتِغْلَالِ.

وَكَذَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ تَهَايُؤُ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ وَتَهَايُؤُ الْعَبْدَيْنِ (عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) عَلَى سَبِيلِ الِانْتِفَاعِ وَالِاسْتِخْدَامِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ وَالْعَبْدَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغْلَالِ.وَحَيْثُ جَازَ قَيَّدُوا بِأَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عِنْدَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ يَوْمًا فَأَكْثَرَ إِلَى شَهْرٍ لَا أَكْثَرَ، ثُمَّ يَكُونُ عِنْدَ الْآخَرِ كَذَلِكَ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ

الرَّقِيقُ الْمُبَعَّضُ

وَهُوَ الَّذِي بَعْضُهُ رَقِيقٌ وَبَعْضُهُ حُرٌّ.

وَيَنْشَأُ التَّبْعِيضُ فِي الرَّقِيقِ فِي صُوَرٍ، مِنْهَا:

139- أ- أَنْ يُعْتِقَ مَالِكُ الرَّقِيقِ جُزْءًا مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ شَائِعًا كَرُبُعِهِ، أَوْ مُعَيَّنًا كَيَدِهِ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ مَا أَعْتَقَهُ يَكُونُ حُرًّا، وَمَا لَمْ يُعْتِقْهُ يَبْقَى عَلَى الرِّقِّ، وَيُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَةِ جُزْئِهِ الَّذِي لَمْ يُعْتَقْ، كَالْمُكَاتَبِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَا يُرَدُّ إِلَى الرِّقِّ لَوْ عَجَزَ عَنِ الْأَدَاءِ، وَمَا لَمْ يُؤَدِّ فَهُوَ مُبَعَّضٌ، فَإِنْ أَدَّى عَتَقَ.

وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ جُزْءًا مِنْ عَبْدِهِ مُعَيَّنًا كَيَدِهِ أَوْ شَائِعًا كَرُبُعِهِ سَرَى الْعِتْقُ إِلَى بَاقِيهِ فَيَعْتِقُ كُلُّهُ، قَالُوا: لِأَنَّ زَوَالَ الرِّقِّ لَا يَتَجَزَّأُ، وَقِيَاسًا عَلَى سِرَايَةِ الْعِتْقِ فِيمَا لَوْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي الْعَبْدِ، كَمَا يَأْتِي (وَانْظُرْ: تَبْعِيض ف 40).

وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ الْمُعْتِقُ غَيْرَ سَفِيهٍ.

ب- أَنْ يَكُونَ الرَّقِيقُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ مَالِكَيْنِ فَأَكْثَرَ، فَيُعْتِقُ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ، فَإِنَّ بَاقِيَهُ يَبْقَى رَقِيقًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا، وَلِشَرِيكِ الْمُعْتِقِ إِمَّا أَنْ يُحَرِّرَ نَصِيبَهُ، أَوْ يُدَبِّرَهُ، أَوْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ إِنْ كَانَ الْعِتْقُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَوْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ فِي تَحْصِيلِ قِيمَةِ بَاقِيهِ لِيَتَحَرَّرَ، فَإِنِ امْتَنَعَ آجَرَهُ جَبْرًا.

وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمُ الصَّاحِبَانِ، إِلَى أَنَّ الشَّرِيكَ إِنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَكَانَ مُوسِرًا سَرَى الْعِتْقُ إِلَى الْبَاقِي فَصَارَ كُلُّ الْعَبْدِ حُرًّا، وَيَكُونُ عَلَى مَنْ بَدَأَ بِالْعِتْقِ قِيمَةُ أَنْصِبَاءِ شُرَكَائِهِ، وَالْوَلَاءُ لَهُ دُونَهُمْ، فَإِنْ أَعْتَقَ الثَّانِيَ بَعْدَ الْأَوَّلِ وَقَبْلَ أَخْذِ الْقِيمَةِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلثَّانِي عِتْقٌ، لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ صَارَ حُرًّا بِعِتْقِ الْأَوَّلِ.وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ آخَرَ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِعِتْقِ الْأَوَّلِ مَا لَمْ يَأْخُذِ الْقِيمَةَ، أَمَّا قَبْلَ أَخْذِ الْقِيمَةِ فَبَاقِي الْعَبْدِ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهِ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِالْعِتْقِ، وَلَا يَنْفُذُ بِغَيْرِهِ.

وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لِلشَّافِعِيِّ: إِنَّ الْعِتْقَ مُرَاعًى، فَإِنْ دَفَعَ الْقِيمَةَ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ عَتَقَ مِنْ حِينَ أَعْتَقَ الْأَوَّلُ نَصِيبَهُ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَتَقَ.

أَمَّا إِنْ كَانَ مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مُعْسِرًا فَلَا يَسْرِي الْعِتْقُ، وَيَكُونُ الْعَبْدُ مُبَعَّضًا.

وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ».وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ. (وَانْظُرْ تَبْعِيض ف 41).

وَعَلَى مِثْلِ هَذَا التَّفْصِيلِ مَا لَوْ عَتَقَ عَلَى الْمَالِكِ سَهْمُهُ مِنْ عَبْدٍ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، كَمَنْ مَلَكَ سَهْمًا مِنْ ذِي مَحْرَمٍ بِاخْتِيَارِهِ، أَمَّا إِنْ مَلَكَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، كَمَنْ وَرِثَ جُزْءًا مِنِ ابْنِهِ، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ وَلَا يَسْرِي إِلَى بَاقِيهِ اتِّفَاقًا، بَلْ يَبْقَى مُبَعَّضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ مَا يُتْلِفُ بِهِ نَصِيبَ شَرِيكِهِ.

ج- أَنْ تَلِدَ الْمُبَعَّضَةُ وَلَدًا مِنْ زَوْجٍ أَوْ زِنًا، فَمُقْتَضَى تَبَعِيَّةِ الْوَلَدِ لأُِمِّهِ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهَا مُبَعَّضًا كَذَلِكَ.

د- وَلَدُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ مِنْ وَطْءِ الشَّرِيكِ الْمُعْسِرِ، فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ

هـ- أَنْ يَضْرِبَ الْإِمَامُ الرِّقَّ عَلَى بَعْضِ الْأَسِيرِ لِعِتْقِ بَعْضِهِ، فَيَكُونُ مُبَعَّضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَذَلِكَ.

وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ صُوَرًا أُخْرَى نَادِرَةً.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


105-موسوعة الفقه الكويتية (رق 1)

رِقّ -1

أَحْكَامُ الرَّقِيقِ الْمُبَعَّضِ:

140- لَمَّا كَانَ الْمُبَعَّضُ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ مَمْلُوكٌ، فَإِنَّهُ يَكُونُ شَبِيهًا بِالرَّقِيقِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ سَيِّدَهُ لَا يَمْلِكُ كُلَّهُ بَلْ يَمْلِكُ جُزْءًا مِنْهُ، وَشَبِيهًا بِالْحُرِّ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لِأَحَدٍ عَلَى ذَلِكَ الْجُزْءِ الْحُرِّ مِنْهُ.

وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ أَحْكَامَ الْمُبَعَّضِ كَأَحْكَامِ الْقِنِّ فِيمَا عَدَا وَطْءَ السَّيِّدِ أَمَتَهُ الْمُبَعَّضَةَ فَلَا يَجُوزُ.

وَفِي تُحْفَةِ الطُّلاَّبِ لِزَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُبَعَّضَ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ كَالْقِنِّ، وَفِي بَعْضِهَا كَالْحُرِّ، وَفِي بَعْضٍ آخَرَ هُوَ كَالْحُرِّ وَكَالْعَبْدِ بِاعْتِبَارَيْنِ.

وَبِاسْتِقْرَاءِ كَلَامِ الْحَنَابِلَةِ فِي فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ كَالشَّافِعِيَّةِ وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ.

التَّصَرُّفُ فِيهِ:

141- لِلسَّيِّدِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْجُزْءِ الْمَمْلُوكِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ كَالْمُشْتَرَكِ، فَلَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ، أَوْ يَقِفَهُ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ رَهْنَ الْمَشَاعِ أَوْ وَقْفَهُ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يُبَاعُ الْمُبَعَّضُ، وَلَكِنْ يَجُوزُ لِسَيِّدِهِ أَنْ يُؤَجِّرَهُ لِيَأْخُذَ قِيمَةَ بَاقِيهِ مِنْ أُجْرَتِهِ.

كَسْبُ الْمُبَعَّضِ

142- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُبَعَّضَ لَوْ كَسَبَ شَيْئًا مِنَ الْمُبَاحَاتِ كَالِاحْتِشَاشِ وَالِاحْتِطَابِ وَالِالْتِقَاطِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ، فَلِسَيِّدِهِ نِسْبَةُ مِلْكِهِ فِيهِ، وَالْبَاقِي لَهُ، كَمَا فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ، وَهَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ مُهَايَأَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ فَلِصَاحِبِ النَّوْبَةِ مِنْهُ أَوْ مِنْ سَيِّدِهِ، عَلَى التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ فِي مَسَائِلِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُبَعَّضَ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ كُلِّهِ إِلَى أَنْ يُؤَدِّيَ قِيمَةَ بَاقِيهِ الْمَمْلُوكِ مِنْ مَكَاسِبِهِ أَوْ يَعْتِقَ.

الْحُدُودُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُبَعَّضِ:

143- لَا يُرْجَمُ الْمُبَعَّضُ فِي الزِّنَا لِعَدَمِ تَمَامِ إِحْصَانِهِ، وَحَدُّ الْمُبَعَّضِ كَحَدِّ الرَّقِيقِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ، فَهُوَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ فِي الزِّنَا، وَالْقَذْفِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُحَدُّ بِنِسْبَةِ حُرِّيَّتِهِ وَرِقِّهِ، فَالْمُنَصَّفُ يُجْلَدُ فِي الزِّنَا خَمْسًا وَسَبْعِينَ جَلْدَةً، وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُ الْمُبَعَّضِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كَمَا لَا يُحَدُّ قَاذِفُ الرَّقِيقِ، بَلْ يُعَزَّرُ.

وَلَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ مَالَ سَيِّدِهِ، كَمَا لَا يُقْطَعُ سَيِّدُهُ بِسَرِقَتِهِ مِنْ مَالِ الْمُبَعَّضِ، وَلَوْ كَانَ الْمَسْرُوقُ مِمَّا مَلَكَهُ الْمُبَعَّضُ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

جِنَايَاتُ الْمُبَعَّضِ:

144- لَوْ قَتَلَ الْمُبَعَّضُ حُرًّا فَيَجِبُ الْقِصَاصُ إِذَا تَمَّتْ شُرُوطُهُ؛ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ الْحُرُّ الْكَامِلُ الْحُرِّيَّةِ، فَلأَنْ يُقْتَلَ بِهِ الْمُبَعَّضُ الَّذِي حُرِّيَّتُهُ نَاقِصَةٌ أَوْلَى.

وَلَوْ قَتَلَ الْمُبَعَّضُ مُبَعَّضًا آخَرَ فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْقَوْلِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ جُزْءُ الرِّقِّ بِجُزْءِ الرِّقِّ، بَلْ يُقْتَلُ جَمِيعُهُ بِجَمِيعِهِ حُرِّيَّةً وَرِقًّا شَائِعًا، فَلَوْ قُتِلَ بِهِ يَلْزَمُ قَتْلُ جُزْءِ حُرِّيَّةٍ بِجُزْءِ رِقٍّ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ إِنْ لَمْ تَزِدْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِلِ عَلَى حُرِّيَّةِ الْمَقْتُولِ، بِأَنْ كَانَتْ بِقَدْرِهَا أَوْ أَقَلَّ؛ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ حِينَئِذٍ مُسَاوٍ لِلْقَاتِلِ أَوْ يَزِيدُ عَنْهُ حُرِّيَّةً، فَلَمْ يَفْضُلِ الْقَاتِلُ الْمَقْتُولَ بِشَيْءٍ، فَلَا يَمْتَنِعُ الْقِصَاصُ.

وَلَوْ قَتَلَ الْحُرُّ مُبَعَّضًا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ عِنْدَ مَنْ لَا يَقْتُلُ الْحُرَّ بِالْعَبْدِ- وَهُمْ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ- لِنَقْصِهِ بِرِقِّ بَعْضِهِ، وَكَذَا لَوْ قَتَلَ الْمُبَعَّضُ قِنًّا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ، وَلَوْ قَتَلَ الْقِنُّ مُبَعَّضًا قُتِلَ بِهِ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَلَوْ قَتَلَ الْمُبَعَّضُ عَمْدًا، فَإِنْ كَانَ تَرَكَ مَالًا يَفِي بِبَاقِي قِيمَتِهِ فَهُوَ حُرٌّ وَيَثْبُتُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَلَا قِصَاصَ لِلِاخْتِلَافِ فِي أَنَّهُ يَعْتِقُ كُلُّهُ أَوْ لَا، فَالسَّبَبُ فِي عَدَمِ ثُبُوتِ الْقِصَاصِ جَهْلُ الْمُسْتَحِقِّ، إِذْ هُوَ دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ السَّيِّدَ أَوِ الْقَرِيبَ.

الدِّيَاتُ:

145- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُبَعَّضَ إِذَا قَتَلَ وَوَجَبَ ضَمَانُهُ، فَإِنَّ فِيهِ مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ بِنِسْبَةِ حُرِّيَّتِهِ، وَمِنْ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ كُلُّهُ رَقِيقًا بِنِسْبَةِ رِقِّهِ.فَمُبَعَّضٌ نِصْفُهُ حُرٌّ نِصْفُ دِيَةِ حُرٍّ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَنِصْفُ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ عَبْدًا، فِي مَالِ الْجَانِي.وَإِنْ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ فَرُبُعُ الدِّيَةِ وَرُبُعُ الْقِيمَةِ، وَكُلُّهَا فِي مَالِ الْجَانِي.وَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ مِمَّا لَا مُقَدَّرَ لَهُ يُقَوَّمُ كُلُّهُ رَقِيقًا سَلِيمًا بِلَا جُرْحٍ، ثُمَّ رَقِيقًا وَبِهِ الْجُرْحُ، وَيَضْمَنُ الْجَانِي النَّقْصَ، لَكِنْ يَكُونُ نِصْفُ ذَلِكَ النَّقْصِ (أَيْ فِي الرَّقِيقِ الْمُنَصَّفِ) دِيَةً (أَيْ أَرْشًا) لِجُزْئِهِ الْحُرِّ.

وَالنِّصْفُ الْآخَرُ قِيمَةً لِمَا نَقَصَ مِنْ جُزْئِهِ الرَّقِيقِ.

إِرْثُ مَالِ الْمُبَعَّضِ عَنْهُ:

146- ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ الْمُبَعَّضَ لَا يُورَثُ عَنْهُ مَالُهُ بَلْ يَكُونُ كُلُّ مَا تَرَكَهُ لِمَالِكِ جُزْئِهِ الْمَمْلُوكِ.وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْقَدِيمِ: يَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- عَلَى الْجَدِيدِ- وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ مَا كَسَبَهُ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ وَبَيْنَ غَيْرِهِ.وَاَلَّذِي كَسَبَهُ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَرِثَ شَيْئًا عَنْ قَرِيبٍ لَهُ مَثَلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ إِلاَّ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ، أَوْ يَكُونَ قَدْ هَايَأَ سَيِّدَهُ فَكَسَبَ ذَلِكَ الْمَالَ فِي الْأَيَّامِ الْمُخَصَّصَةِ لَهُ (أَيْ لِلْمُبَعَّضِ) أَوْ كَانَ قَدْ قَاسَمَ سَيِّدَهُ قَبْلَ الْمَوْتِ وَأَخَذَ السَّيِّدُ حَقَّهُ، فَيَكُونُ الَّذِي بَقِيَ لِجُزْئِهِ الْحُرِّ.قَالُوا: فَيُورَثُ عَنْهُ ذَلِكَ، يَرِثُهُ قَرِيبُهُ وَزَوْجَتُهُ وَمُعْتَقُهُ.وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ كَسَبَهُ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ، وَلَا قَاسَمَ سَيِّدَهُ فِي حَيَاتِهِ، فَمَا تَرَكَهُ مِنَ الْمَالِ يَكُونُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ، فَلِسَيِّدِهِ بِنِسْبَةِ مِلْكِهِ.وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ.

إِرْثُ الْمُبَعَّضِ مِنْ غَيْرِهِ:

147- ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، إِلَى أَنَّ الْمُبَعَّضَ كَالْقِنِّ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ، فَلَا يَرِثُ، كَمَا لَا يُورَثُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ- رضي الله عنه-.

وَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ: لَا يَرِثُ الْمُبَعَّضُ مِنْ أَقَارِبِهِ وَغَيْرِهِمْ شَيْئًا، وَلَا يَحْجُبُ أَحَدًا مِنَ الْوَرَثَةِ.

وَقَالَ أَحْمَدُ، وَالْمُزَنِيُّ، وَابْنُ سُرَيْجٍ، مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ: يَرِثُ، وَيَحْجُبُ بِقَدْرِ جُزْئِهِ الْحُرِّ، فَجُزْؤُهُ الْحُرُّ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْأَحْرَارِ، وَجُزْؤُهُ الْمَمْلُوكُ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْعَبِيدِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ «فِي الْعَبْدِ يَعْتِقُ بَعْضُهُ: يَرِثُ وَيُورَثُ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ».

وَمَثَّلَ لَهُ فِي الْعَذْبِ الْفَائِضِ بِامْرَأَةٍ مَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ، وَأَخٍ شَقِيقٍ حُرَّيْنِ، وَابْنٍ لَهَا نِصْفُهُ حُرٌّ، فَيَكُونُ لِلِابْنِ الرُّبُعُ وَالثُّمُنُ، وَهُوَ نِصْفُ مَا يَأْخُذُهُ لَوْ كَانَ كَامِلَ الْحُرِّيَّةِ، وَلِلزَّوْجِ الرُّبُعُ وَالثُّمُنُ كَذَلِكَ، وَلِلْأَخِ الرُّبُعُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الِابْنُ رَقِيقًا كَانَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأَخِ النِّصْفُ وَلَا شَيْءَ لِلِابْنِ، وَلَوْ كَانَ كَامِلَ الْحُرِّيَّةِ كَانَ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ وَهُوَ نِصْفٌ وَرُبُعٌ، وَلَا شَيْءَ لِلْأَخِ، فَيَأْخُذُ كُلٌّ مِنْهُمْ نِصْفَ مَا يَأْخُذُهُ فِي مَجْمُوعِ الْمَسْأَلَتَيْنِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْحَسَنُ وَجَابِرٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَالثَّوْرِيُّ: هُوَ كَالْحُرِّ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ فَيَرِثُ وَيَحْجُبُ كَالْحُرِّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: هُوَ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ حُرٌّ مَدْيُونٌ- أَيْ لِأَنَّهُ يُسْتَسْعَى فِي فِكَاكِ بَاقِيهِ- فَيَرِثُ وَيَحْجُبُ.

انْقِضَاءُ الرِّقِّ:

148- يَنْقَضِي الرِّقُّ فِي الرَّقِيقِ بِأُمُورٍ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يُعْتِقَهُ مَالِكُهُ، سَوَاءٌ بَادَرَ بِعِتْقِهِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، أَوْ أَعْتَقَهُ عَنْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ، أَوْ ظِهَارٍ، أَوْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ كَانَ عِتْقُهُ عَلَى مَالٍ يَلْتَزِمُهُ الْعَبْدُ كَمَا فِي الْكِتَابَةِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ (ر: عِتْق).

الثَّانِي: أَنْ يَعْتِقَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ السَّيِّدُ، أَوْ خَصَاهُ، أَوْ ضَرَبَهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ، وَكَمَا لَوْ وَلَدَتِ الْأَمَةُ مِنْ سَيِّدِهَا ثُمَّ مَاتَ السَّيِّدُ (ر: اسْتِيلَاد) وَكَمَا لَوِ اشْتَرَى الرَّجُلُ قَرِيبَهُ.

الثَّالِثُ: أَنْ يُوصِيَ بِعِتْقِهِ يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ وَقَدْ تَقَدَّمَ.

الرَّابِعُ: أَنْ يُدَبِّرَهُ: أَيْ يُعَلِّقَ السَّيِّدُ عِتْقَ الْعَبْدِ عَلَى مَوْتِهِ أَيْ مَوْتِ السَّيِّدِ، فَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ يَكُونُ الْعَبْدُ عَتِيقًا، وَكَذَا لَوْ كَاتَبَهُ وَأَدَّى الْكِتَابَةَ (ر: تَدْبِير، عِتْق).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


106-موسوعة الفقه الكويتية (ريبة)

رِيبَة

التَّعْرِيفُ:

1- الرِّيبَةُ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّيْبِ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ الشَّكُّ وَالتُّهْمَةُ، وَجَمْعُهَا رِيَبٌ كَسِدْرَةٍ وَسِدَرٍ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لِلرِّيبَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

2- يُنْدَبُ تَرْكُ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُوقِعَ فِي الرِّيبَةِ، وَالْأَخْذُ بِمَا لَا يُوقِعُ فِيهَا، لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ- رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ».فَإِنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلنَّدْبِ؛ لِأَنَّ تَوَقِّيَ الشُّبُهَاتِ مَنْدُوبٌ لَا وَاجِبٌ عَلَى الْأَصَحِّ.وَمَعْنَى الْحَدِيثِ اتْرُكْ مَا تَشُكُّ فِيهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَاعْدِلْ إِلَى مَا لَا تَشُكُّ فِيهِ مِنَ الْحَلَالِ، لِأَنَّ «مَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ».كَمَا فِي الْحَدِيثِ.

فَمَنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَالْتَبَسَ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ مِنْ أَيِّ الْقَبِيلَيْنِ هُوَ، فَلْيَتَأَمَّلْ فِيهِ فَإِنْ وَجَدَ مَا تَسْكُنُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ وَيَطْمَئِنُّ بِهِ قَلْبُهُ وَيَنْشَرِحُ لَهُ صَدْرُهُ فَلْيَأْخُذْ بِهِ وَإِلاَّ فَلْيَدَعْهُ، وَلْيَأْخُذْ بِمَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَلَا رِيبَةَ، وَيَسْأَلِ الْمُجْتَهِدِينَ إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ وَهَذَا هُوَ طَرِيقُ الْوَرَعِ وَالِاحْتِيَاطِ.

وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ اجْتِنَابُ الرِّيبَةِ فِي الرَّعِيَّةِ، وَعَدَمُ تَتَبُّعِ الْعَوْرَاتِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَفْسَدَهُمْ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْأَمِيرَ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ فِي النَّاسِ أَفْسَدَهُمْ».

وَمَقْصُودُ الْحَدِيثِ حَثُّ الْإِمَامِ عَلَى التَّغَافُلِ، وَعَدَمِ تَتَبُّعِ الْعَوْرَاتِ.فَإِنَّ بِذَلِكَ يَقُومُ النِّظَامُ وَيَحْصُلُ الِانْتِظَامُ.وَالْإِنْسَانُ قَلَّمَا يَسْلَمُ مِنْ عَيْبِهِ فَلَوْ عَامَلَهُمْ بِكُلِّ مَا قَالُوهُ أَوْ فَعَلُوهُ اشْتَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْأَوْجَاعُ وَاتَّسَعَ الْمَجَالُ، بَلْ يَسْتُرُ عُيُوبَهُمْ وَيَتَغَافَلُ وَيَصْفَحُ وَلَا يَتَّبِعُ عَوْرَاتِهِمْ وَلَا يَتَجَسَّسُ عَلَيْهِمْ.

وَأَمَّا ظَنُّ السُّوءِ وَالْخِيَانَةُ بِمَنْ شُوهِدَ مِنْهُ السَّتْرُ وَالصَّلَاحُ فَحَرَامٌ شَرْعًا، بِخِلَافِ مَنِ اشْتُهِرَ بَيْنَ النَّاسِ بِتَعَاطِي الرِّيَبِ وَالْمُجَاهَرَةِ بِالْخَبَائِثِ، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}.وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ».

وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ».

وَالظَّنُّ فِي الشَّرِيعَةِ قِسْمَانِ: مَحْمُودٌ وَمَذْمُومٌ، فَالْمَحْمُودُ مِنْهُ مَا سَلِمَ مَعَهُ دِينُ الظَّانِّ، وَسَلِمَ أَيْضًا الْمَظْنُونُ بِهِ عِنْدَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ الظَّنِّ.

وَالْمَذْمُومُ ضِدُّهُ بِدَلَالَةِ قوله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}، وقوله تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} وَقَوْلُهُ: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا}.

وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسَبُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يَرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَاَللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلَا يُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا».وَقَالَ: «إِذَا حَسَدْتَ فَاسْتَغْفِرْ، وَإِذَا ظَنَنْتَ فَلَا تُحَقِّقْ، وَإِذَا تَطَيَّرْتَ فَامْضِ».

قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الظَّنَّ الْقَبِيحَ بِمَنْ ظَاهِرُهُ الْخَيْرُ لَا يَجُوزُ، وَأَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي الظَّنِّ الْقَبِيحِ بِمَنْ ظَاهِرُهُ الْقُبْحُ.

آثَارُ الرِّيبَةِ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:

3- يَظْهَرُ أَثَرُ الرِّيبَةِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ، فَيَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ كَمَا لَوْ كَانَ ظَاهِرُ مَنْ يَدَّعِي ذَلِكَ مُخَالِفًا لِدَعْوَاهُمَا فَتِلْكَ رِيبَةٌ تُكَذِّبُ دَعْوَاهُمَا فَلَا تُقْبَلُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ.

- وَيَظْهَرُ أَثَرُهَا أَيْضًا فِي الْوَصِيَّةِ بِمَعْنَى الْإِيصَاءِ كَمَا لَوْ ظَهَرَ لِلْحَاكِمِ رِيبَةٌ فِي الْوَصِيِّ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ مُعَيَّنًا بِمُجَرَّدِ الرِّيبَةِ كَمَا أَفْتَى السُّبْكِيُّ.

- وَتُؤَثِّرُ الرِّيبَةُ أَيْضًا فِي الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا أَيِ الْعِدَّةَ تَثْبُتُ بِالشَّكِّ كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ إِذَا لَمْ تُمَيِّزْ دَمَ الْمَرَضِ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ، أَوْ تَأَخَّرَ الْحَيْضُ بِلَا سَبَبٍ ظَاهِرٍ مِنْ رَضَاعٍ أَوِ اسْتِحَاضَةٍ، أَوْ مَرِضَتِ الْمُطَلَّقَةُ فَتَأَخَّرَ حَيْضُهَا بِسَبَبِهِ قَبْلَ الطَّلَاقِ أَوْ بَعْدَهُ، تَرَبَّصَتْ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ اسْتِبْرَاءً عَلَى الْمَشْهُورِ لِزَوَالِ الرِّيبَةِ لِأَنَّهَا مُدَّةُ الْحَمْلِ غَالِبًا.وَفِي كَوْنِهَا تُعْتَبَرُ مِنْ يَوْمِ الطَّلَاقِ أَوْ مِنْ يَوْمِ ارْتِفَاعِ حَيْضِهَا قَوْلَانِ، وَقَالُوا فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ إِنِ ارْتَابَتْ فِي الْحَمْلِ، أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ إِلَى أَقْصَى أَمَدِ الْحَمْلِ، وَفِي كَوْنِهَا تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ أَوْ خَمْسًا خِلَافٌ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ- كَمَا جَاءَ فِي الْمِنْهَاجِ- أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ فِي عِدَّةِ أَقْرَاءٍ أَوْ أَشْهُرٍ حَمْلٌ مِنَ الزَّوْجِ اعْتَدَّتْ بِوَضْعِهِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا مَضَى مِنَ الْأَقْرَاءِ أَوِ الْأَشْهُرِ لِوُجُودِ الْحَمْلِ، وَلَوِ ارْتَابَتْ فِي الْعِدَّةِ الْمَذْكُورَةِ لِثِقَلٍ وَحَرَكَةٍ تَجِدُهُمَا، لَمْ تَنْكِحْ آخَرَ بَعْدَ تَمَامِهَا حَتَّى تَزُولَ الرِّيبَةُ.

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ إِذَا ارْتَابَتْ بِأَنْ تَرَى أَمَارَاتِ الْحَمْلِ مِنْ حَرَكَةٍ أَوْ نَفْخَةٍ وَنَحْوِهِمَا وَشَكَّتْ.هَلْ هُوَ حَمْلٌ أَمْ لَا؟ فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثِهِ أَحْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ تَحْدُثَ بِهَا الرِّيبَةُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَبْقَى فِي حُكْمِ الِاعْتِدَادِ حَتَّى تَزُولَ الرِّيبَةُ، فَإِنْ بَانَ حَمْلًا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ، فَإِنْ زَالَتْ وَبَانَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَمْلٍ تَبَيَّنَّا أَنَّ عِدَّتَهَا انْقَضَتْ بِالْقُرُوءِ أَوِ الْأَشْهُرِ، فَإِنْ زُوِّجَتْ قَبْلَ زَوَالِ الرِّيبَةِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا تَزَوَّجَتْ وَهِيَ فِي حُكْمِ الْمُعْتَدَّاتِ فِي الظَّاهِرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إِذَا تَبَيَّنَ عَدَمُ الْحَمْلِ أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ، لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا.

الثَّانِي: أَنْ تَظْهَرَ بِهَا الرِّيبَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَزَوَاجِهَا، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ لِوُجُودِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ظَاهِرًا، وَالْحَمْلُ مَعَ الرِّيبَةِ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا يَزُولُ بِهِ مَا حُكِمَ بِصِحَّتِهِ، لَكِنْ لَا يَحِلُّ لِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا لِلشَّكِّ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ.ثُمَّ نَنْظُرُ فَإِنْ وَضَعَتِ الْوَلَدَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوُّجِهَا الثَّانِيَ وَوَطْئِهَا فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ نَكَحَهَا وَهِيَ حَامِلٌ، وَإِنْ أَتَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ وَنِكَاحُهُ صَحِيحٌ.

الثَّالِثُ: أَنْ تَحْدُثَ بِهَا الرِّيبَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَقَبْلَ النِّكَاحِ فَفِي حِلِّ النِّكَاحِ لَهَا وَجْهَانِ

أَحَدُهُمَا: عَدَمُ الْحِلِّ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ لِأَنَّهَا تَتَزَوَّجُ مَعَ الشَّكِّ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ وُجِدَتِ الرِّيبَةُ فِي الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّنَا لَوْ صَحَّحْنَا النِّكَاحَ لَوَقَعَ مَوْقُوفًا، وَلَا يَجُوزُ كَوْنُ النِّكَاحِ مَوْقُوفًا.

وَالثَّانِي: يَحِلُّ لَهَا النِّكَاحُ وَيَصِحُّ لِأَنَّنَا حَكَمْنَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَحِلِّ النِّكَاحِ، وَسُقُوطِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى، فَلَا يَجُوزُ زَوَالُ مَا حُكِمَ بِهِ لِلشَّكِّ الطَّارِئِ، وَلِهَذَا لَا يَنْقُضُ الْحَاكِمُ مَا حَكَمَ بِهِ بِتَغَيُّرِ اجْتِهَادِهِ وَرُجُوعِ الشُّهُودِ.

وَتُؤَثِّرُ الرِّيبَةُ أَيْضًا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الدَّمِ، كَمَا لَوِ ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَى رَجُلَيْنِ، وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ فَبَادَرَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِمَا وَشَهِدَا عَلَى الشَّاهِدَيْنِ بِأَنَّهُمَا الْقَاتِلَانِ، وَذَلِكَ يُورِثُ رِيبَةً لِلْحَاكِمِ فَيُرَاجِعُ الْوَلِيَّ وَيَسْأَلُهُ احْتِيَاطًا.

- وَيُنْدَبُ لِلْحَاكِمِ تَفْرِقَةُ الشُّهُودِ عِنْدَ ارْتِيَابِهِ فِيهِمْ، كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَيَسْأَلُ كُلًّا وَيَسْتَقْصِي، ثُمَّ يَسْأَلُ الثَّانِيَ كَذَلِكَ قَبْلَ اجْتِمَاعِهِ بِالْأَوَّلِ وَيَعْمَلُ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ.

وَالْأَوْلَى كَوْنُ ذَلِكَ قَبْلَ التَّزْكِيَةِ.ثُمَّ إِنَّ أَصْلَ الرَّدِّ فِي الشَّهَادَةِ مَبْنَاهُ التُّهْمَةُ.

هَذَا، وَيُبْحَثُ عَنِ الْمَسَائِلِ الْخَاصَّةِ بِمُصْطَلَحِ رِيبَةٍ فِي: الزَّكَاةِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالْعِدَّةِ، وَالْقَضَاءِ، وَالشَّهَادَةِ، وَيُبْحَثُ عَنْهَا أَيْضًا فِي مُصْطَلَحِ: (شَكّ) وَمُصْطَلَحِ: (تُهْمَة).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


107-موسوعة الفقه الكويتية (ريع)

رِيع

التَّعْرِيفُ:

1- الرِّيعُ لُغَةً: النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ، وَرَيَّعَ: زَكَا وَزَادَ وَيُقَالُ: أَرَاعَتِ الشَّجَرَةُ: كَثُرَ حَمْلُهَا.

وَيُقَالُ: أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ الْمَرْهُونَةُ رِيعًا، أَيْ غَلَّةً لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ.

وَالْفُقَهَاءُ يُفَسِّرُونَ الرِّيعَ بِالْغَلَّةِ وَيُفَسِّرُونَ الْغَلَّةَ بِالرِّيعِ، وَيَسْتَعْمِلُونَ اللَّفْظَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فَيُعَبِّرُونَ تَارَةً بِالرِّيعِ وَتَارَةً بِالْغَلَّةِ، وَالْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ وَهُوَ الزِّيَادَةُ وَالْفَائِدَةُ وَالدَّخْلُ الَّذِي يَحْصُلُ كَالزَّرْعِ وَالثَّمَرِ وَاللَّبَنِ وَكِرَاءِ الْأَرْضِ وَأُجْرَةِ الدَّابَّةِ وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الرِّبْحُ:

2- الرِّبْحُ نَمَاءُ الْمَالِ نَتِيجَةَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.

وَالْمُرَابَحَةُ بَيْعُ السِّلْعَةِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةٍ.أَمَّا الرِّيعُ فَهُوَ مَا يَكُونُ مِمَّا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ مِنْ زَرْعٍ، أَوِ الشَّجَرُ مِنْ ثَمَرٍ، أَوْ مَا يَكُونُ مِنْ كِرَاءِ الْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالرِّيعِ مِنْ أَحْكَامٍ:

3- يَتَعَلَّقُ بِالرِّيعِ بَعْضُ الْأَحْكَامِ وَمِنْ ذَلِكَ:

أَوَّلًا: إِيرَادُ بَعْضِ الْعُقُودِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَكَانَ مَوْجُودًا أَمْ مَعْدُومًا وَذَلِكَ كَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

أ- الْوَقْفُ:

4- الْوَقْفُ عِبَارَةٌ عَنْ تَحْبِيسِ الْأَصْلِ وَالتَّصَدُّقِ بِالرِّيعِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-.قَالَ: «أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا.قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُبْتَاعُ، وَلَا يُورَثُ، وَلَا يُوهَبُ.قَالَ: فَتَصَدَّقَ عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ، وَفِي الْقُرْبَى، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا، غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ».وَإِذَا لَزِمَ الْوَقْفُ أَصْبَحَ رِيعُهُ- إِنْ كَانَ لَهُ رِيعٌ- مِنْ حَقِّ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ وَمِلْكًا لَهُمْ، سَوَاءٌ أَكَانُوا مُعَيَّنِينَ، أَمْ غَيْرَ مُعَيَّنِينَ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.وَيُتَّبَعُ فِي صَرْفِ الرِّيعِ لِلْمُسْتَحِقِّينَ شَرْطُ الْوَاقِفِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْف).

اشْتِرَاطُ الْوَاقِفِ الْغَلَّةَ لِنَفْسِهِ:

5- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْوَاقِفِ الْغَلَّةَ أَوْ بَعْضَهَا لِنَفْسِهِ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ يَقْتَضِي حَبْسَ الْعَيْنِ وَتَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ، وَالْعَيْنُ مَحْبُوسَةٌ وَمَنْفَعَتُهَا تَكُونُ مَمْلُوكَةً لَهُ فَلَمْ يَكُنْ لِلْوَقْفِ مَعْنًى.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَالصَّوَابُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ غَلَّةَ الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ، أَوْ أَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ لِمَا رَوَى أَحْمَدُ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَجَرٍ الْمَدَرِيِّ «أَنَّ فِي صَدَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا أَهْلُهُ بِالْمَعْرُوفِ غَيْرِ الْمُنْكَرِ»،، وَلَا يَحِلُّ ذَلِكَ إِلاَّ بِالشَّرْطِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِهِ؛ وَلِأَنَّ الْوَقْفَ إِزَالَةُ الْمِلْكِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، وَلِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- لَمَّا وَقَفَ قَالَ: وَلَا بَأْسَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ، وَكَانَ الْوَقْفُ فِي يَدِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَلِأَنَّهُ إِذَا وَقَفَ وَقْفًا عَامًّا كَالْمَسَاجِدِ وَالسِّقَايَاتِ وَالرِّبَاطَاتِ وَالْمَقَابِرِ كَانَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْف).

هَلْ يُزَكَّى رِيعُ الْوَقْفِ وَعَلَى مَنْ تَجِبُ زَكَاتُهُ؟

6- غَلَّةُ الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ وَثِمَارُ الْبَسَاتِينِ، إِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ فَحَصَلَ لِبَعْضِهِمْ مِنَ الثَّمَرَةِ أَوِ الْحَبِّ نِصَابٌ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، لِأَنَّهُ اسْتَغَلَّ مِنْ أَرْضِ الْوَقْفِ أَوْ شَجَرِهِ نِصَابًا فَلَزِمَتْهُ زَكَاتُهُ كَغَيْرِ الْوَقْفِ، وَالْمِلْكُ فِيهَا تَامٌّ وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ وَتُورَثُ عَنْهُ.وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَمَكْحُولٍ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَرْضَ لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لَهُمْ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ زَكَاةٌ فِي الْخَارِجِ مِنْهَا كَالْمَسَاكِينِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ تَقْدِيمَ الْعُشْرِ أَوِ الْخَرَاجِ وَسَائِرِ الْمُؤَنِ، وَجَعَلَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْفَاضِلَ، عُمِلَ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَجِّرَهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ كَانَ كُلُّ الْأَجْرِ لَهُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ فَيَفُوتُ شَرْطُ الْوَاقِفِ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ شَيْئًا كَانَ الْعُشُرُ أَوِ الْخَرَاجُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ.

وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ كَالْمَسَاجِدِ وَالرُّبُطِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَلَا فِيمَا يَحْصُلُ فِي أَيْدِي الْمَسَاكِينِ، سَوَاءٌ حَصَلَ فِي يَدِ بَعْضِهِمْ نِصَابٌ مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْمَسَاكِينِ لَا يَتَعَيَّنُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، بِدَلِيلِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ حِرْمَانُهُ وَالدَّفْعُ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْمِلْكُ فِيهِ بِالدَّفْعِ وَالْقَبْضِ لِمَا أُعْطِيَهُ مِنْ غَلَّتِهِ مِلْكًا مُسْتَأْنَفًا، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ فِيهِ زَكَاةٌ كَاَلَّذِي يُدْفَعُ إِلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ.وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ تَجِبُ الزَّكَاةُ إِذَا بَلَغَتْ نِصَابًا؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لِلْأَرْضِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْعُشْرِ وَالثِّمَارِ كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ.وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الزَّكَاةَ تُخْرَجُ أَوَّلًا بِمَعْرِفَةِ مَنْ يَلِي الْوَقْفَ، ثُمَّ يُفَرَّقُ الْبَاقِي عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ بِالِاجْتِهَادِ كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ.

وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ مَاشِيَةً لِتَفْرِقَةِ لَبَنِهَا أَوْ صُوفِهَا أَوْ نَسْلِهَا، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ مُعَيَّنِينَ أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنِينَ.وَلَا زَكَاةَ فِيهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَتْ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى مُعَيَّنٍ فَفِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ لِضَعْفِ الْمِلْكِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (وَقْف).

ب- الْوَصِيَّةُ:

7- تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِغَلَّةِ الْعَبْدِ وَالدَّارِ وَالْأَرْضِ وَالشَّجَرِ لِمُعَيَّنٍ أَوْ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَسَوَاءٌ أَوْصَى بِذَلِكَ مَعَ الرَّقَبَةِ أَوْ أَوْصَى بِالْغَلَّةِ فَقَطْ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْغَلَّةُ مَوْجُودَةً وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، أَوْ كَانَتْ مَعْدُومَةً كَالْوَصِيَّةِ بِمَا تَحْمِلُ الشَّجَرَةُ مِنْ ثِمَارٍ، لِأَنَّ الْمَعْدُومَ يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ بِعَقْدِ السَّلَمِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْإِجَارَةِ وَالْوَقْفِ، فَكَذَا يَجُوزُ بِالْوَصِيَّةِ.وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَصِيَّة).

ج- الْمُسَاقَاةُ:

8- الْمُسَاقَاةُ هِيَ أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ شَجَرَهُ إِلَى آخَرَ لِيَقُومَ بِسَقْيِهِ وَعَمَلِ سَائِرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ لَهُ مِنْ ثَمَرِهِ.

وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِهَا مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: «عَامَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ».

وَأَجَازَهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ اسْتِدْلَالًا بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فَلَمْ يُجِزْهَا، وَاسْتَدَلَّ بِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: «وَطَوَاعِيَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْفَعُ لَنَا، نَهَانَا أَنْ نُحَاقِلَ بِالْأَرْضِ فَنُكْرِيهَا عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالطَّعَامِ الْمُسَمَّى.وَأَمَرَ رَبَّ الْأَرْضِ أَنْ يَزْرَعَهَا أَوْ يُزْرِعَهَا وَكَرِهَ كِرَاءَهَا، وَمَا سِوَى ذَلِكَ».

وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ فَلْيُزْرِعْهَا أَخَاهُ، وَلَا يُكَارِيهَا بِثُلُثٍ وَلَا بِرُبُعٍ، وَلَا بِطَعَامٍ مُسَمًّى».

وَهَذَا مُتَأَخِّرٌ عَمَّا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ مِنَ الْإِبَاحَةِ وَيَعْمَلُونَهُ فَاقْتَضَى نَسْخَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ مَعْدُومَةٍ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ؛ وَلِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ مَا يَحْصُلُ مِنْ عَمَلِهِ فَلَا يَجُوزُ كَقَفِيزِ الطَّحَّانِ.

لَكِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ اخْتَلَفُوا فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (مُسَاقَاة)

د- الْمُزَارَعَةُ:

9- الْمُزَارَعَةُ عَقْدٌ عَلَى الزَّرْعِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ غَيْرِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالِاسْتِدْلَالُ فِيهَا كَالِاسْتِدْلَالِ فِي الْمُسَاقَاةِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (مُزَارَعَة).

ضَمَانُ الرِّيعِ:

10- يَظْهَرُ ضَمَانُ الرِّيعِ فِي حَالَةِ الْغَصْبِ، وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْتَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}

.وَيَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ الْمَغْصُوبِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ».

كَمَا أَنَّ غَلَّةَ الْمَغْصُوبِ مِنْ ثَمَرِ نَخْلٍ أَوْ شَجَرٍ، أَوْ تَنَاسُلِ حَيَوَانٍ أَوْ صُوفٍ جُزَّ، أَوْ لَبَنٍ حُلِبَ يَجِبُ رَدُّ ذَلِكَ كُلِّهِ مَعَ الْمَغْصُوبِ، فَإِنْ أَكَلَهُ الْغَاصِبُ أَوْ تَلِفَ مِنْهُ شَيْءٌ عِنْدَهُ ضَمِنَهُ، لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَكَانَ عَلَى الْغَاصِبِ رَدُّهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، وَبَدَلُهُ إِنْ كَانَ تَالِفًا.وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ).

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: زَوَائِدُ الْغَصْبِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَا تُضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوْ بِالْمَنْعِ بَعْدَ الطَّلَبِ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (غَصْب).

زَكَاةُ الرِّيعِ:

11- مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ مِنْ زَرْعٍ وَمَا تَحْمِلُهُ الْأَشْجَارُ مِنْ ثِمَارٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ.

وَزَكَاةُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ فَرْضٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} وقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «فِيمَا سَقَتِ الْأَنْهَارُ وَالْغَيْمُ الْعُشُورُ وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّانِيَةِ نِصْفُ الْعُشْرِ».

وَسَبَبُ فَرْضِيَّةِ الزَّكَاةِ فِي الزُّرُوعِ: الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ حَقِيقَةً، حَتَّى إِنَّ الْأَرْضَ لَوْ لَمْ تُخْرِجْ شَيْئًا لَمْ تَجِبْ زَكَاةٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنَ الْخَارِجِ، وَإِيجَابُ جُزْءٍ مِنَ الْخَارِجِ وَلَا خَارِجَ مُحَالٌ، كَمَا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ مِنَ الْأَرْضِ مِمَّا يُقْصَدُ بِزِرَاعَتِهِ نَمَاءُ الْأَرْضِ وَتُسْتَغَلُّ بِهِ الْأَرْضُ عَادَةً، فَلَا عُشْرَ فِي الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُسْتَنْمَى بِهَا الْأَرْضُ وَلَا تُسْتَغَلُّ بِهَا عَادَةً؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَنْمُو بِهَا، بَلْ تَفْسُدُ، فَلَمْ تَكُنْ نَمَاءَ الْأَرْضِ.

وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاة).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


108-موسوعة الفقه الكويتية (زكاة 1)

زَكَاة -1

التَّعْرِيفُ:

1- الزَّكَاةُ لُغَةً: النَّمَاءُ وَالرِّيعُ وَالزِّيَادَةُ، مِنْ زَكَا يَزْكُو زَكَاةً وَزَكَاءً، وَمِنْهُ قَوْلُ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: الْعِلْمُ يَزْكُو بِالْإِنْفَاقِ.

وَالزَّكَاةُ أَيْضًا الصَّلَاحُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً}.قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ صَلَاحًا، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} أَيْ مَا صَلُحَ مِنْكُمْ {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} أَيْ يُصْلِحُ مَنْ يَشَاءُ.وَقِيلَ لِمَا يُخْرَجُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِي الْمَالِ «زَكَاةٌ»، لِأَنَّهُ تَطْهِيرٌ لِلْمَالِ مِمَّا فِيهِ مِنْ حَقٍّ، وَتَثْمِيرٌ لَهُ، وَإِصْلَاحٌ وَنَمَاءٌ بِالْإِخْلَافِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.وَزَكَاةُ الْفِطْرِ طُهْرَةٌ لَلْأَبْدَانِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: يُطْلَقُ عَلَى أَدَاءِ حَقٍّ يَجِبُ فِي أَمْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ، عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ وَيُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِهِ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ.وَتُطْلَقُ الزَّكَاةُ أَيْضًا عَلَى الْمَالِ الْمُخْرَجِ نَفْسِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: عَزَلَ زَكَاةَ مَالِهِ، وَالسَّاعِي يَقْبِضُ الزَّكَاةَ.وَيُقَالُ: زَكَّى مَالَهُ أَيْ أَخْرَجَ زَكَاتَهُ، وَالْمُزَكِّي: مَنْ يُخْرِجُ عَنْ مَالِهِ الزَّكَاةَ.وَالْمُزَكِّي أَيْضًا: مَنْ لَهُ وِلَايَةُ جَمْعِ الزَّكَاةِ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ الزَّكَاةَ تُطْلَقُ عَلَى الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ، وَالنَّفَقَةِ وَالْحَقِّ، وَالْعَفْوِ.ثُمَّ ذَكَرَ تَعْرِيفَهَا فِي الشَّرْعِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الصَّدَقَةُ:

2- الصَّدَقَةُ: تُطْلَقُ بِمَعْنَيَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا أَعْطَيْتَهُ مِنَ الْمَالِ قَاصِدًا بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَشْمَلُ مَا كَانَ وَاجِبًا وَهُوَ الزَّكَاةُ، وَمَا كَانَ تَطَوُّعًا.

وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الزَّكَاةِ، أَيْ فِي الْحَقِّ الْوَاجِبِ خَاصَّةً، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ».

وَالْمُصَدِّقُ- بِفَتْحِ الصَّادِ مُخَفَّفَةً- هُوَ السَّاعِي الَّذِي يَأْخُذُ الْحَقَّ الْوَاجِبَ فِي الْأَنْعَامِ، يُقَالُ: جَاءَ السَّاعِي فَصَدَقَ الْقَوْمَ، أَيْ أَخَذَ مِنْهُمْ زَكَاةَ أَنْعَامِهِمْ.

وَالْمُتَصَدِّقُ وَالْمُصَّدِّقُ- بِتَشْدِيدِ الصَّادِ- هُوَ مُعْطِي الصَّدَقَةِ.

ب- الْعَطِيَّةُ:

3- الْعَطِيَّةُ: هِيَ مَا أَعْطَاهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِهِ لِغَيْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ يُرِيدُ بِهِ التَّوَدُّدَ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَهِيَ أَعَمُّ مِنْ كُلٍّ مِنَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

4- الزَّكَاةُ فَرِيضَةٌ مِنْ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ، وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ.وَقَدْ دَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ.

فَمِنَ الْكِتَابِ قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}.وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَوَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} وَقَوْلُهُ: {وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}.وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ»

وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» وَذَكَرَ مِنْهَا إِيتَاءَ الزَّكَاةِ «وَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يُرْسِلُ السُّعَاةَ لِيَقْبِضُوا الصَّدَقَاتِ، وَأَرْسَلَ مُعَاذًا إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ، وَقَالَ لَهُ: أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ».وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ، يُطَوِّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ- يَعْنِي شِدْقَيْهِ- ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ».

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ عَلَى وُجُوبِهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ- رضي الله عنهم- عَلَى قِتَالِ مَانِعِيهَا.

فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه-، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ».

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاَللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ.وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا قَالَ عُمَرُ: فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه-، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.

أَطْوَارُ فَرْضِيَّةِ الزَّكَاةِ:

5- إِيتَاءُ الزَّكَاةِ كَانَ مَشْرُوعًا فِي مِلَلِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ وَآلِهِ ((: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}.

وَشُرِعَ لِلْمُسْلِمِينَ إِيتَاءُ الصَّدَقَةِ لِلْفُقَرَاءِ، مُنْذُ الْعَهْدِ الْمَكِّيِّ، كَمَا فِي قوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَاأَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} وَبَعْضُ الْآيَاتِ الْمَكِّيَّةِ جَعَلَتْ لِلْفُقَرَاءِ فِي أَمْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا مَعْلُومًا، كَمَا فِي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌلِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: اخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ فَرْضِ الزَّكَاةِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَادَّعَى ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ فَرْضَهَا كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ.وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ جَعْفَرٍ لِلنَّجَاشِيِّ: «وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ» وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هَذِهِ الزَّكَاةَ الْمَخْصُوصَةَ ذَاتَ النِّصَابِ وَالْحَوْلِ.

قَالَ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الزَّكَاةِ وَقَعَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ صِيَامَ رَمَضَانَ إِنَّمَا فُرِضَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ الدَّالَّةَ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ مَدَنِيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ، ثُمَّ نَزَلَتْ فَرِيضَةُ الزَّكَاةِ فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا، وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ».

فَضْلُ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ:

6- يَظْهَرُ فَضْلُ الزَّكَاةِ مِنْ أَوْجُهٍ:

1- اقْتِرَانُهَا بِالصَّلَاةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَحَيْثُمَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ اقْتَرَنَ بِهِ الْأَمْرُ بِالزَّكَاةِ، مِنْ ذَلِكَ قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ}.وَمِنْ هُنَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ: وَاَللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، إِنَّهَا لَقَرِينَتُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ.

2- أَنَّهَا ثَالِثُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةِ، لِمَا فِي الْحَدِيثِ «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ».

3- أَنَّهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ فَرِيضَةٌ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الصَّدَقَاتِ لِأَنَّهَا تَطَوُّعِيَّةٌ، وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ «مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ».

أَمَّا فَضْلُ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ فَيَأْتِي فِي مَبَاحِثِ: (صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ).

حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الزَّكَاةِ:

7- أ- أَنَّ الصَّدَقَةَ وَإِنْفَاقَ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُطَهِّرَانِ النَّفْسَ مِنَ الشُّحِّ وَالْبُخْلِ، وَسَيْطَرَةِ حُبِّ الْمَالِ عَلَى مَشَاعِرِ الْإِنْسَانِ، وَيُزَكِّيهِ بِتَوْلِيدِ مَشَاعِرِ الْمُوَادَّةِ، وَالْمُشَارَكَةِ فِي إِقَالَةِ الْعَثَرَاتِ، وَدَفْعِ حَاجَةِ الْمُحْتَاجِينَ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى.

{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وَفِيهَا مِنَ الْمَصَالِحِ لِلْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ مَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ، فَفَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الصَّدَقَاتِ حَدًّا أَدْنَى أَلْزَمَ الْعِبَادَ بِهِ، وَبَيَّنَ مَقَادِيرَهُ، قَالَ الدَّهْلَوِيُّ: إِذْ لَوْلَا التَّقْدِيرُ لَفَرَّطَ الْمُفْرِطُ وَلَاعْتَدَى الْمُعْتَدِي.

ب- الزَّكَاةُ تَدْفَعُ أَصْحَابَ الْأَمْوَالِ الْمَكْنُوزَةِ دَفْعًا إِلَى إِخْرَاجِهَا لِتَشْتَرِكَ فِي زِيَادَةِ الْحَرَكَةِ الِاقْتِصَادِيَّةِ، يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَلَا مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ، وَلَا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ».

ج- الزَّكَاةُ تَسُدُّ حَاجَةَ جِهَاتِ الْمَصَارِفِ الثَّمَانِيَةِ وَبِذَلِكَ تَنْتَفِي الْمَفَاسِدُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ وَالْخُلُقِيَّةُ النَّاشِئَةُ عَنْ بَقَاءِ هَذِهِ الْحَاجَاتِ دُونَ كِفَايَةٍ.

أَحْكَامُ مَانِعِ الزَّكَاةِ:

إِثْمُ مَانِعِ الزَّكَاةِ:

8- مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ فَقَدِ ارْتَكَبَ مُحَرَّمًا هُوَ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَوَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مَا يُفِيدُ أَنَّ عُقُوبَتَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَوْعٍ خَاصٍّ، كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ إِلاَّ أُحْمِيَ عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُجْعَلُ صَفَائِحَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبَاهُ وَجَبِينُهُ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ، وَمَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إِلاَّ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ كَأَوْفَرَ مَا كَانَتْ تَسْتَنُّ عَلَيْهِ، كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ، وَمَا مِنْ صَاحِبِ غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا، إِلاَّ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، كَأَوْفَرَ مَا كَانَتْ، فَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ وَلَا جَلْحَاءُ، كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ».

الْعُقُوبَةُ لِمَانِعِ الزَّكَاةِ:

9- مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ وَهُوَ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ تُؤْخَذُ مِنْهُ قَهْرًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» وَمِنْ حَقِّهَا الزَّكَاةُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه- بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ: الزَّكَاةُ حَقُّ الْمَالِ وَقَالَ- رضي الله عنه-: وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ.وَأَقَرَّهُ الصَّحَابَةُ عَلَى ذَلِكَ.

وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَانِعَ الزَّكَاةِ إِذَا أُخِذَتْ مِنْهُ قَهْرًا لَا يُؤْخَذُ مَعَهَا مِنْ مَالِهِ شَيْءٌ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ مَانِعَ الزَّكَاةِ يُؤْخَذُ شَطْرُ مَالِهِ عُقُوبَةً لَهُ، مَعَ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُ.

وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «فِي كُلِّ سَائِمَةِ إِبِلٍ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، لَا تُفَرَّقُ إِبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا، مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أَجْرُهَا، وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا، لَا يَحِلُّ لآِلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ».

وَيُسْتَدَلُّ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ».

وَبِأَنَّ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهم- لَمْ يَأْخُذُوا نِصْفَ أَمْوَالِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ مَنَعُوا الزَّكَاةَ.

فَأَمَّا مَنْ كَانَ خَارِجًا عَنْ قَبْضَةِ الْإِمَامِ وَمَنَعَ الزَّكَاةَ، فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُقَاتِلَهُ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَاتَلُوا الْمُمْتَنِعِينَ مِنْ أَدَائِهَا، فَإِنْ ظَفِرَ بِهِ أَخَذَهَا مِنْهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَهَذَا فِيمَنْ كَانَ مُقِرًّا بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ لَكِنْ مَنَعَهَا بُخْلًا أَوْ تَأَوُّلًا، وَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، وَلِذَا فَإِنْ مَاتَ فِي قِتَالِهِ عَلَيْهَا وَرِثَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَقَارِبِهِ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ.وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا قَاتَلَ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَعَضَّتْهُمُ الْحَرْبُ قَالُوا: نُؤَدِّيهَا، قَالَ: لَا أَقْبَلُهَا حَتَّى تَشْهَدُوا أَنَّ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ، وَوَافَقَهُ عُمَرُ.وَلَمْ يُنْقَلْ إِنْكَارُ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَدَلَّ عَلَى كُفْرِهِمْ.

وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ مُنْكِرًا لِوُجُوبِهَا، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا وَمِثْلُهُ يَجْهَلُ ذَلِكَ لِحَدَاثَةِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ لِأَنَّهُ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْأَمْصَارِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُعَرَّفُ وُجُوبَهَا وَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا نَاشِئًا بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فَيُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، وَيَكُونُ مُرْتَدًّا، وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ، لِكَوْنِهِ أَنْكَرَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.

مَنْ تَجِبُ فِي مَالِهِ الزَّكَاةُ:

10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْبَالِغَ الْعَاقِلَ الْمُسْلِمَ الْحُرَّ الْعَالِمَ بِكَوْنِ الزَّكَاةِ فَرِيضَةً، رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً تَجِبُ فِي مَالِهِ الزَّكَاةُ إِذَا بَلَغَ نِصَابًا، وَكَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَتَمَّتِ الشُّرُوطُ فِي الْمَالِ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ كَمَا يَلِي:

أ- الزَّكَاةُ فِي مَالِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ:

11- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي مَالِ كُلٍّ مِنَ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِهِ، وَعَلِيٍّ وَابْنِهِ الْحَسَنِ، وَعَائِشَةَ، وَجَابِرٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٌ، وَرَبِيعَةُ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ.وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَلَا مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ، وَلَا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ» وَالْمُرَادُ بِالصَّدَقَةِ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ؛ لِأَنَّ الْيَتِيمَ لَا يَخْرُجُ مِنْ مَالِهِ صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ، إِذْ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَتَبَرَّعَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ بِشَيْءٍ؛ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تُرَادُ لِثَوَابِ الْمُزَكِّي وَمُوَاسَاةِ الْفَقِيرِ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ وَأَهْلِ الْمُوَاسَاةِ عَلَى مَا قَالَ الشِّيرَازِيُّ، وَبِأَنَّ الزَّكَاةَ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ، فَأَشْبَهَ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ وَأُرُوشَ الْجِنَايَاتِ وَقِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ.

وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: إِنَّمَا وَجَبَتْ فِي مَالِهِمَا لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ.

وَيَتَوَلَّى الْوَلِيُّ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ مِنْ مَالِهِمَا؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَقُومُ مَقَامَهُمَا فِي أَدَاءِ مَا عَلَيْهِمَا مِنَ الْحُقُوقِ، كَنَفَقَةِ الْقَرِيبِ، وَعَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهَا زَكَاةٌ، فَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهَا الْوَلِيُّ وَجَبَ عَلَى الصَّبِيِّ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَالْمَجْنُونِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ، إِخْرَاجُ زَكَاةِ مَا مَضَى.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: تَجِبُ الزَّكَاةُ، وَلَا تُخْرَجُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ، أَوْ يُفِيقَ الْمَجْنُونُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْوَلِيَّ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْأَدَاءِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: احْصِ مَا يَجِبُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مِنَ الزَّكَاةِ، فَإِذَا بَلَغَ فَأَعْلِمْهُ، فَإِنْ شَاءَ زَكَّى وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُزَكِّ، أَيْ لَا إِثْمَ عَلَى الْوَلِيِّ بَعْدَئِذٍ إِنْ لَمْ يُزَكِّ الصَّبِيُّ.وَذَهَبَ ابْنُ شُبْرُمَةَ إِلَى أَنَّ أَمْوَالَهُ الظَّاهِرَةَ مِنْ نَعَمٍ وَزَرْعٍ وَثَمَرٍ يُزَكَّى، وَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَلَا.

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: لَا يُزَكِّي حَتَّى يُصَلِّيَ وَيَصُومَ، وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا زَكَاةَ فِي مَالِ الصَّبِيِّ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِي مَالِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ، إِلاَّ أَنَّهُ يَجِبُ الْعُشْرُ فِي زُرُوعِهِمَا وَثِمَارِهِمَا، وَزَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْهُمَا.

وَاسْتُدِلَّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ».

وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ، فَلَا تَتَأَدَّى إِلاَّ بِالِاخْتِيَارِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الِابْتِلَاءِ، وَلَا اخْتِيَارَ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِعَدَمِ الْعَقْلِ، وَقِيَاسًا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَى الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْعُشْرُ فِيمَا يَخْرُجُ مِنْ أَرْضِهِمَا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مُؤْنَةِ الْأَرْضِ، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهِ تَابِعٌ.وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِهَذَا زَكَاةُ مَالِ الْجَنِينِ مِنْ إِرْثٍ أَوْ غَيْرِهِ، ذَكَرَ فِيهِ النَّوَوِيُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ طَرِيقَيْنِ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا لَا تَجِبُ، قَالَ: وَبِذَلِكَ قَطَعَ الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّ الْجَنِينَ لَا يُتَيَقَّنُ حَيَاتُهُ وَلَا يَوْثُقُ بِهَا، فَلَا يَحْصُلُ تَمَامُ الْمِلْكِ وَاسْتِقْرَارُهُ، قَالَ: فَعَلَى هَذَا يَبْتَدِئُ حَوْلُ مَالِهِ مِنْ حِينِ يَنْفَصِلُ.

ب- الزَّكَاةُ فِي مَالِ الْكَافِرِ:

12- لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ اتِّفَاقًا، حَرْبِيًّا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَمْ يَلْتَزِمْهُ؛ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ طُهْرَةً لِلْمُزَكِّي، وَالْكَافِرُ لَا طُهْرَةَ لَهُ مَا دَامَ عَلَى كُفْرِهِ.

وَأَخَذَ عُمَرُ- رضي الله عنه- الزَّكَاةَ مُضَاعَفَةً مِنْ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ عِنْدَمَا رَفَضُوا دَفْعَ الْجِزْيَةِ وَرَضُوا بِدَفْعِ الزَّكَاةِ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ يُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِيقَتِهِ جِزْيَةٌ، وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الزَّكَاةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.

أَمَّا الْمُرْتَدُّ، فَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ فِي إِسْلَامِهِ، وَذَلِكَ إِذَا ارْتَدَّ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ عَلَى النِّصَابِ لَا يَسْقُطُ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ فَلَا يَسْقُطُ بِالرِّدَّةِ كَالدَّيْنِ، فَيَأْخُذُهُ الْإِمَامُ مِنْ مَالِهِ كَمَا يَأْخُذُ الزَّكَاةَ مِنَ الْمُسْلِمِ الْمُمْتَنِعِ، فَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَدَاؤُهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ تَسْقُطُ بِالرِّدَّةِ الزَّكَاةُ الَّتِي وَجَبَتْ فِي مَالِ الْمُرْتَدِّ قَبْلَ الرِّدَّةِ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا النِّيَّةَ عِنْدَ الْأَدَاءِ، وَنِيَّتُهُ الْعِبَادَةَ وَهُوَ كَافِرٌ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، فَتَسْقُطُ بِالرِّدَّةِ كَالصَّلَاةِ، حَتَّى مَا كَانَ مِنْهَا زَكَاةَ الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ.

وَأَمَّا إِذَا ارْتَدَّ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ عَلَى النِّصَابِ فَلَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مِلْكَهُ لِمَالِهِ مَوْقُوفٌ فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ تَبَيَّنَ بَقَاءُ مِلْكِهِ وَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِلاَّ فَلَا.

ج- مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِفَرْضِيَّةِ الزَّكَاةِ:

13- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الزَّكَاةِ مَفْرُوضَةً لَيْسَ شَرْطًا لِوُجُوبِهَا، فَتَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الْحَرْبِيِّ إِذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَهُ سَوَائِمُ وَمَكَثَ هُنَاكَ سِنِينَ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَيُخَاطَبُ بِأَدَائِهَا إِذَا خَرَجَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ إِلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الزَّكَاةِ فَرِيضَةً شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الْحَرْبِيِّ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ.

د- مَنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْأَدَاءِ:

14- ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنَ الْأَدَاءِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَلَوْ حَالَ الْحَوْلُ ثُمَّ تَلِفَ الْمَالُ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ صَاحِبُهُ مِنَ الْأَدَاءِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، حَتَّى لَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ الْمَالِكَ لَوْ أَتْلَفَ الْمَالَ بَعْدَ الْحَوْلِ قَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَقْصِدِ الْفِرَارَ مِنَ الزَّكَاةِ.

وَاحْتَجَّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ فَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهَا إِمْكَانُ أَدَائِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنَ الْأَدَاءِ لَيْسَ شَرْطًا لِوُجُوبِهَا، لِمَفْهُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ».فَمَفْهُومُهُ وُجُوبُهَا عَلَيْهِ إِذَا حَالَ الْحَوْلُ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ، فَيَثْبُتُ وُجُوبُهَا فِي الذِّمَّةِ مَعَ عَدَمِ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ، كَثُبُوتِ الدُّيُونِ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ.

الزَّكَاةُ فِي الْمَالِ الْعَامِّ (أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ):

14 م- نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَالَ الْفَيْءِ، وَخُمُسَ الْغَنِيمَةِ، وَكُلَّ مَا هُوَ تَحْتَ يَدِ الْإِمَامِ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى الصَّرْفِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لَا زَكَاةَ فِيهِ.

وَلَمْ نَجِدْ لَدَى غَيْرِهِمْ تَعَرُّضًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ مُرَاعَاتِهَا فِي التَّطْبِيقِ، إِذْ لَمْ يُعْهَدْ عِلْمًا وَلَا عَمَلًا أَخْذُ الزَّكَاةِ مِنَ الْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ.

الزَّكَاةُ فِي الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالْأَمْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْأَمْوَالِ الْمُتَفَرِّقَةِ:

15- الَّذِي يُكَلَّفُ بِالزَّكَاةِ هُوَ الشَّخْصُ الْمُسْلِمُ بِالنِّسْبَةِ لِمَالِهِ، فَإِنْ كَانَ مَا يَمْلِكُهُ نِصَابًا وَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَتَمَّتِ الشُّرُوطُ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ شَرِكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَكَانَ الْمَالُ نِصَابًا فَأَكْثَرَ فَلَا زَكَاةَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حَتَّى يَكُونَ نَصِيبُهُ نِصَابًا، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ شَيْءٌ، وَيُسْتَثْنَى عِنْدَ الْجُمْهُورِ- وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ- السَّائِمَةُ الْمُشْتَرَكَةُ فَإِنَّهَا تُعَامَلُ مُعَامَلَةَ مَالِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ وَفِي النِّصَابِ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ، وَكَذَا السَّائِمَةُ الْمُخْتَلِطَةُ- أَيِ الَّتِي يَتَمَيَّزُ حَقُّ كُلٍّ مِنَ الْخَلِيطَيْنِ فِيهَا لَكِنَّهَا تَشْتَرِكُ فِي الْمَرْعَى وَنَحْوِهِ مِنَ الْمَرَافِقِ- وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْأَظْهَرِ إِلَى أَنَّ الْمَالَ الْمُشْتَرَكَ وَالْمَالَ الْمُخْتَلِطَ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ مَالِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي النِّصَابِ وَالْقَدْرِ الْوَاجِبِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رَجَّحَ الْعَمَلَ بِهَا بَعْضُهُمْ كَابْنِ عَقِيلٍ وَالْآجُرِّيِّ.وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ».وَلِمَعْرِفَةِ تَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ وَالْخِلَافِ فِيهِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (خُلْطَة).

هَذَا إِذَا كَانَ الْمَالُ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، أَمَّا إِنْ كَانَ مَالُ الرَّجُلِ مُفَرَّقًا بَيْن بَلَدَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْمَوَاشِي فَلَا أَثَرَ لِتَفَرُّقِهِ، بَلْ يُزَكَّى زَكَاةَ مَالٍ وَاحِدٍ.

وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَوَاشِي وَكَانَ بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ مَسَافَةُ قَصْرٍ فَأَكْثَرُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ رَجَّحَهَا صَاحِبُ الْمُغْنِي.وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ كُلَّ مَالٍ مِنْهَا يُزَكَّى مُنْفَرِدًا عَمَّا سِوَاهُ، فَإِنْ كَانَ كِلَا الْمَالَيْنِ نِصَابًا زَكَّاهُمَا كَنِصَابَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا نِصَابًا وَالْآخَرُ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ زَكَّى مَا تَمَّ نِصَابًا دُونَ الْآخَرِ.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ غَيْرِ أَحْمَدَ.وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا بِأَنَّهُ لَمَّا أَثَّرَ اجْتِمَاعُ مَالِ الْجَمَاعَةِ حَالَ الْخُلْطَةِ فِي مَرَافِقِ الْمِلْكِ وَمَقَاصِدِهِ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ حَتَّى جَعَلَهُ كَمَالٍ وَاحِدٍ وَجَبَ تَأْثِيرُ الِافْتِرَاقِ الْفَاحِشِ فِي الْمَالِ الْوَاحِدِ حَتَّى يَجْعَلَهُ كَمَالَيْنِ.وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ» وَلِأَنَّ كُلَّ مَالٍ تُخْرَجُ زَكَاتُهُ بِبَلَدِهِ.

شُرُوطُ الْمَالِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ:

16- يُشْتَرَطُ فِي الْمَالِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ شُرُوطٌ:

1- كَوْنُهُ مَمْلُوكًا لِمُعَيَّنٍ.

2- وَكَوْنُ مَمْلُوكِيَّتِهِ مُطْلَقَةً (أَيْ كَوْنُهُ مَمْلُوكًا رَقَبَةً وَيَدًا).

3- وَكَوْنُهُ نَامِيًا.

4- وَأَنْ يَكُونَ زَائِدًا عَلَى الْحَاجَاتِ الْأَصْلِيَّةِ.

5- حَوَلَانُ الْحَوْلِ.

6- وَبُلُوغُهُ نِصَابًا، وَالنِّصَابُ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْمَالِ بِحَسَبِهِ.

7- وَأَنْ يَسْلَمَ مِنْ وُجُودِ الْمَانِعِ، وَالْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَالِكِ دَيْنٌ يُنْقِصُ النِّصَابَ.

17- الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: كَوْنُ الْمَالِ مَمْلُوكًا لِمُعَيَّنٍ:

فَلَا زَكَاةَ فِيمَا لَيْسَ لَهُ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ، وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِي سَوَائِمِ الْوَقْفِ، وَالْخَيْلِ الْمُسَبَّلَةِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ.

قَالُوا: لِأَنَّ فِي الزَّكَاةِ تَمْلِيكًا، وَالتَّمْلِيكُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يُتَصَوَّرُ، قَالُوا: وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْعَدُوُّ، وَأَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهُ بِالْإِحْرَازِ، فَزَالَ مِلْكُ الْمُسْلِمِ عَنْهُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا زَكَاةَ فِي الْمُوصَى بِهِ لِغَيْرِ مُعَيَّنِينَ.وَتَجِبُ فِي الْمَوْقُوفِ وَلَوْ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَمَسَاجِدَ، أَوْ بَنِي تَمِيمٍ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ عِنْدَهُمْ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ، فَلَوْ وَقَفَ نُقُودًا لِلسَّلَفِ يُزَكِّيهَا الْوَاقِفُ أَوِ الْمُتَوَلِّي عَلَيْهَا مِنْهَا كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهَا حَوْلٌ مِنْ يَوْمِ مِلْكِهَا، أَوْ زَكَّاهَا إِنْ كَانَتْ نِصَابًا، وَهَذَا إِنْ لَمْ يَتَسَلَّفْهَا أَحَدٌ، فَإِنْ تَسَلَّفَهَا أَحَدٌ زُكِّيَتْ بَعْدَ قَبْضِهَا مِنْهُ لِعَامٍ وَاحِدٍ.

وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: إِذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَالْفُقَرَاءِ، أَوْ كَانَ عَلَى مَسْجِدٍ، أَوْ مَدْرَسَةٍ، أَوْ رِبَاطٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ مَالِكٌ لَا زَكَاةَ فِيهِ.وَكَذَا النَّقْدُ الْمُوصَى بِهِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ، أَوْ لِيُشْتَرَى بِهِ وَقْفٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، بِخِلَافِ الْمَوْقُوفِ عَلَى مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ فَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقِيلَ عِنْدَهُمْ: لَا تَجِبُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ يَنْتَقِلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ.

18- الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِلْكِيَّةُ الْمَالِ مُطْلَقَةً:

وَهَذِهِ عِبَارَةُ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَبَّرَ غَيْرُهُمْ بِالْمِلْكِ التَّامِّ: وَهُوَ مَا كَانَ فِي يَدِ مَالِكِهِ يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ.

وَالْمِلْكُ النَّاقِصُ يَكُونُ فِي أَنْوَاعٍ مِنَ الْمَالِ مُعَيَّنَةٍ، مِنْهَا:

1- مَالُ الضِّمَارِ: وَهُوَ كُلُّ مَالٍ مَالِكُهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ لِكَوْنِ يَدِهِ لَيْسَتْ عَلَيْهِ، فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَيْهِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ، كَالْبَعِيرِ الضَّالِّ، وَالْمَالِ الْمَفْقُودِ، وَالْمَالِ السَّاقِطِ فِي الْبَحْرِ، وَالْمَالِ الَّذِي أَخَذَهُ السُّلْطَانُ مُصَادَرَةً، وَالدَّيْنِ الْمَجْحُودِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِكِ بَيِّنَةٌ، وَالْمَالِ الْمَغْصُوبِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ صَاحِبُهُ عَلَى أَخْذِهِ، وَالْمَسْرُوقِ الَّذِي لَا يَدْرِي مَنْ سَرَقَهُ، وَالْمَالِ الْمَدْفُونِ فِي الصَّحْرَاءِ إِذَا خَفِيَ عَلَى الْمَالِكِ مَكَانُهُ، فَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا فِي الْبَيْتِ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَيْ لِأَنَّهُ فِي مَكَانٍ مَحْدُودٍ.

وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي مَالِ الضِّمَارِ زَكَاةٌ

وَلِأَنَّ الْمَالَ إِذَا لَمْ يَكُنْ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ مَقْدُورًا لَا يَكُونُ الْمَالِكُ بِهِ غَنِيًّا.قَالُوا:

وَهَذَا بِخِلَافِ ابْنِ السَّبِيلِ (أَيِ الْمُسَافِرِ عَنْ وَطَنِهِ) فَإِنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ مَالِكَهُ يَقْدِرُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَكَذَا الدَّيْنُ الْمُقَرُّ بِهِ إِذَا كَانَ عَلَى مَلِيءٍ.

وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الْمَالَ الضَّائِعَ وَنَحْوَهُ كَالْمَدْفُونِ فِي صَحْرَاءَ إِذَا ضَلَّ صَاحِبُهُ عَنْهُ أَوْ كَانَ بِمَحَلٍّ لَا يُحَاطُ بِهِ، فَإِنَّهُ يُزَكَّى لِعَامٍ وَاحِدٍ إِذَا وَجَدَهُ صَاحِبُهُ وَلَوْ بَقِيَ غَائِبًا عَنْهُ سِنِينَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الْمَالِ الضَّائِعِ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ دَفْعُهَا حَتَّى يَعُودَ الْمَالُ.فَإِنْ عَادَ يُخْرِجُهَا صَاحِبُهُ عَنِ السَّنَوَاتِ الْمَاضِيَةِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمِلْكُ، وَهُوَ ثَابِتٌ.قَالُوا: لَكِنْ لَوْ تَلِفَ الْمَالُ، أَوْ ذَهَبَ وَلَمْ يَعُدْ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ.وَكَذَا عِنْدَهُمُ الْمَالُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ لِانْقِطَاعِ خَبَرِهِ، أَوِ انْقِطَاعِ الطَّرِيقِ إِلَيْهِ.

وَالْمَالُ الْمَوْرُوثُ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ إِلاَّ بَعْدَ قَبْضِهِ، يَسْتَقْبِلُ بِهِ الْوَارِثُ حَوْلًا، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَقَامَ سِنِينَ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ الْوَارِثُ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ.

الزَّكَاةُ فِي مَالِ الْأَسِيرِ، وَالْمَسْجُونِ وَنَحْوِهِ:

19- مَنْ كَانَ مَأْسُورًا أَوْ مَسْجُونًا قَدْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَصَرَّفَ فِي مَالِهِ بِبَيْعٍ وَهِبَةٍ وَنَحْوِهِمَا نَفَذَ، وَكَذَا لَوْ وَكَّلَ فِي مَالِهِ نَفَذَتِ الْوَكَالَةُ.

أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ كَوْنَ الرَّجُلِ مَفْقُودًا أَوْ أَسِيرًا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ فِي حَقِّهِ مِنْ أَمْوَالِهِ الْبَاطِنَةِ، لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَكُونُ مَغْلُوبًا عَلَى عَدَمِ التَّنْمِيَةِ فَيَكُونُ مَالُهُ حِينَئِذٍ كَالْمَالِ الضَّائِعِ، وَلِذَا يُزَكِّيهَا إِذَا أُطْلِقَ لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ.وَفِي قَوْلِ الْأُجْهُورِيِّ وَالزَّرْقَانِيِّ: لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا أَصْلًا.وَفِي قَوْلِ الْبُنَانِيِّ: لَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَنِ الْأَسِيرِ وَالْمَفْقُودِ، بَلْ تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَيْهِمَا كُلَّ عَامٍ، لَكِنْ لَا يَجِبُ الْإِخْرَاجُ مِنْ مَالِهِمَا بَلْ يَتَوَقَّفُ مَخَافَةَ حُدُوثِ الْمَوْتِ.

أَمَّا الْمَالُ الظَّاهِرُ فَقَدِ اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْفَقْدَ وَالْأَسْرَ لَا يُسْقِطَانِ زَكَاتَهُ؛ لِأَنَّهُمَا مَحْمُولَانِ عَلَى الْحَيَاةِ، وَيَجُوزُ أَخْذُ الزَّكَاةِ مِنْ مَالِهِمَا الظَّاهِرِ وَتُجْزِئُ، وَلَا يَضُرُّ عَدَمُ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْمُخْرِجِ تَقُومُ مَقَامَ نِيَّتِهِ.

وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ مَنْ ذُكِرَ تَعَرُّضًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


109-موسوعة الفقه الكويتية (زنى 3)

زِنَى -3

شَهَادَةُ الزَّوْجِ عَلَى الزِّنَى:

36- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ بِالزِّنَى لِلتُّهْمَةِ، إِذْ أَنَّهُ بِشَهَادَتِهِ عَلَيْهَا مُقِرٌّ بِعَدَاوَتِهِ؛ وَلِأَنَّهَا دَعْوَى خِيَانَتِهَا فِرَاشَهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ مَا تُوجِبُ جَرَّ نَفْعٍ، وَالزَّوْجُ مُدْخِلٌ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ لُحُوقَ الْعَارِ وَخُلُوَّ الْفِرَاشِ، خُصُوصًا إِذَا كَانَ لَهُ مِنْهَا أَوْلَادٌ صِغَارٌ.

وَانْظُرِ الشَّهَادَةَ بِالزِّنَى الْقَدِيمِ، فِي مُصْطَلَحِ (حُدُودٍ ف 24) الْمَوْسُوعَةُ 17/ 137.

وَأَمَّا بَقِيَّةُ مَسَائِلِ الشَّهَادَةِ كَرُجُوعِ الشُّهُودِ، وَظُهُورِ عَدَمِ أَهْلِيَّةِ الشُّهُودِ، وَاخْتِلَافِ الشُّهُودِ فِي الشَّهَادَةِ، وَتَعَارُضِ الشَّهَادَاتِ، وَأَثَرِ تَعَهُّدِ النَّظَرِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ، فَتَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَةٍ).

ب- الْإِقْرَارُ:

37- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ الزِّنَى بِالْإِقْرَارِ، لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ بِإِقْرَارَيْهِمَا».وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَا يُكْتَفَى بِالْإِقْرَارِ مُرَّةً وَاحِدَةً، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ اشْتِرَاطَ كَوْنِهَا فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ مِنْ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ دُونَ مَجْلِسِ الْقَاضِي، وَذَلِكَ بِأَنْ يَرُدَّهُ الْقَاضِي كُلَّمَا أَقَرَّ فَيَذْهَبَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ ثُمَّ يَجِيءَ فَيُقِرَّ، وَيَسْتَوِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ تَكُونَ الْأَقَارِيرُ الْأَرْبَعَةُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، أَوْ مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- اكْتَفَى مِنَ الْغَامِدِيَّةِ بِإِقْرَارِهَا مُرَّةً وَاحِدَةً.

وَيُشْتَرَطُ فِي الْإِقْرَارِ أَنْ يَكُونَ مُفَصِّلًا مُبَيِّنًا لِحَقِيقَةِ الْوَطْءِ لِتَزُولَ التُّهْمَةُ وَالشُّبْهَةُ.«وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِمَاعِزٍ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ؟ قَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَنِكْتَهَا؟» لَا يُكَنِّي فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ.وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: «حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْكَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ.قَالَ: فَهَلْ تَدْرِي مَا الزِّنَى؟ قَالَ: نَعَمْ أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنَ امْرَأَتِهِ حَلَالًا».

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (حُدُودٍ) ف 26 الْمَوْسُوعَةُ 17/ 138، وَمُصْطَلَحَ: (إِقْرَارٍ) ف 12 وَمَا بَعْدَهَا، 6/ 49، وَانْظُرْ أَيْضًا الشُّبْهَةَ بِتَقَادُمِ الْإِقْرَارِ، وَالرُّجُوعَ فِي الْإِقْرَارِ فِي مُصْطَلَحِ: (إِقْرَارٍ) ف 57 وَمَا بَعْدَهَا الْمَوْسُوعَةُ 6/ 71

الْبَيِّنَةُ عَلَى الْإِقْرَارِ:

38- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِالْبَيِّنَةِ- الشَّهَادَةِ- عَلَى الْإِقْرَارِ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى إِقْرَارِهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَلَا يُحَدُّ، مِثْلُ الرُّجُوعِ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالزِّنَى أَرْبَعًا، يَثْبُتُ الزِّنَى لِوُجُودِ الْإِقْرَارِ بِهِ أَرْبَعًا، وَلَا يَثْبُتُ الْإِقْرَارُ بِالزِّنَى بِدُونِ أَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ مِنَ الرِّجَالِ.فَإِنْ أَنْكَرَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الْإِقْرَارَ، أَوْ صَدَّقَهُمْ دُونَ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ إِنْكَارَهُ وَتَصْدِيقَهُ دُونَ أَرْبَعٍ رُجُوعٌ عَنْ إِقْرَارِهِ، وَهُوَ مَقْبُولٌ مِنْهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِالشَّهَادَةِ عَلَى إِقْرَارِهِ.قَالُوا: لَوْ شَهِدُوا عَلَى إِقْرَارِهِ بِالزِّنَى فَقَالَ: مَا أَقْرَرْتُ، أَوْ قَالَ بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِإِقْرَارِهِ: مَا أَقْرَرْتُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ تَكْذِيبٌ لِلشُّهُودِ وَالْقَاضِي.

ج- الْقَرَائِنُ:

39- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِعِلْمِ الْإِمَامِ وَالْقَاضِي، فَلَا يُقِيمَانِهِ بِعِلْمِهِمَا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ مَرْجُوحٍ وَأَبُو ثَوْرٍ: إِلَى ثُبُوتِهِ بِعِلْمِهِ.وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُودٍ) ف 28 الْمَوْسُوعَةُ 17/ 139

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِظُهُورِ الْحَمْلِ وَاللِّعَانِ وَتَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي:

1- ظُهُورُ الْحَمْلِ:

40- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِظُهُورِ الْحَمْلِ فِي امْرَأَةٍ لَا زَوْجَ لَهَا وَأَنْكَرَتِ الزِّنَى؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ إِكْرَاهٍ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ أَنَّ امْرَأَةً رَفَعَتْ إِلَى عُمَرَ لَيْسَ لَهَا زَوْجٌ وَقَدْ حَمَلَتْ، وَسَأَلَهَا عُمَرُ، فَقَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةُ الرَّأْسِ وَقَعَ عَلَيَّ رَجُلٌ وَأَنَا نَائِمَةٌ، فَمَا اسْتَيْقَظْتُ حَتَّى نَزَعَ فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا: إِذَا كَانَ فِي الْحَدِّ «لَعَلَّ» «وَعَسَى» فَهُوَ مُعَطَّلٌ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا تُسْأَلُ، وَلَا يَجِبُ سُؤَالُهَا.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِظُهُورِ حَمْلِ امْرَأَةٍ لَا زَوْجَ لَهَا، فَتُحَدُّ وَلَا يُقْبَلُ دَعْوَاهَا الْغَصْبَ عَلَى ذَلِكَ بِلَا قَرِينَةٍ تَشْهَدُ لَهَا بِذَلِكَ، أَمَّا مَعَ قَرِينَةٍ تُصَدِّقُهَا فَتُقْبَلُ دَعْوَاهَا وَلَا تُحَدُّ، كَأَنْ تَأْتِيَ مُسْتَغِيثَةً مِنْهُ، أَوْ تَأْتِيَ الْبِكْرُ تَدَّعِي عَقِبَ الْوَطْءِ، وَكَذَا لَا تُقْبَلُ دَعْوَاهَا أَنَّ هَذَا الْحَمْلَ مِنْ مَنِيٍّ شَرِبَهُ فَرْجُهَا فِي الْحَمَّامِ، وَلَا مِنْ وَطْءِ جِنِّيٍّ إِلاَّ لِقَرِينَةٍ مِثْلُ كَوْنِهَا عَذْرَاءَ وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْعِفَّةِ.وَالْمُرَادُ بِالزَّوْجِ زَوْجٌ يُلْحَقُ بِهِ الْحَمْلُ فَيَخْرُجُ الْمَجْبُوبُ وَالصَّغِيرُ، أَوْ أَتَتْ بِهِ كَامِلًا لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ الْعَقْدِ فَتُحَدُّ.وَمِثْلُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا الْأَمَةُ الَّتِي أَنْكَرَ سَيِّدُهَا وَطْأَهَا فَتُحَدُّ.

2- اللِّعَانُ:

41- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِاللِّعَانِ إِذَا لَاعَنَ الزَّوْجُ وَامْتَنَعَتِ الْمَرْأَةُ عَنْهُ، فَيَثْبُتُ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَى حِينَئِذٍ وَتُحَدُّ، أَمَّا إِذَا لَاعَنَتْ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا امْتَنَعَتْ عَنِ اللِّعَانِ لَا حَدَّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ زِنَاهَا لَمْ يَثْبُتْ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، وَيَحْبِسُهَا الْحَاكِمُ حَتَّى تُلَاعِنَ أَوْ تُصَدِّقَهُ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (لِعَانٍ).

إِقَامَةُ حَدِّ الزِّنَى:

1- مَنْ يُقِيمُ حَدَّ الزِّنَى:

42- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقِيمُ حَدَّ الزِّنَى عَلَى الْحُرِّ إِلاَّ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُودٍ) ف 36 الْمَوْسُوعَةُ 17/ 144

2- عَلَانِيَةُ الْحَدِّ:

43- اسْتَحَبَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنْ يُسْتَوْفَى حَدُّ الزِّنَى بِحُضُورِ جَمَاعَةٍ.قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: أَقَلُّهُمْ أَرْبَعَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْحُدُودِ الزَّجْرُ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلاَّ بِالْحُضُورِ.

وَأَوْجَبَ الْحَنَابِلَةُ حُضُورَ طَائِفَةٍ لِيَشْهَدُوا حَدَّ الزِّنَى.لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.

3- كَيْفِيَّةُ إِقَامِهِ الْحَدِّ:

44- سَبَقَ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْجَلْدِ وَالْأَعْضَاءِ الَّتِي لَا تُجْلَدُ، وَبَيَانُ إِذَا كَانَ الْمَحْدُودُ مَرِيضًا لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ أَوْ ضَعِيفًا لَا يَحْتَمِلُ الْجَلْدَ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (جَلْدٍ) ف 12 الْمَوْسُوعَةُ الْفِقْهِيَّةُ 15/ 247

كَمَا أَنَّ تَفْصِيلَ كَيْفِيَّةِ الرَّجْمِ فِي مُصْطَلَحِ: (رَجْمٍ) ثُمَّ إِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدْ صَرَّحُوا بِأَنْ تَكُونَ الْحِجَارَةُ فِي الرَّجْمِ مُتَوَسِّطَةً كَالْكَفِّ- تَمْلأُ الْكَفَّ- فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْجَمَ بِصَخَرَاتٍ تُذَفِّفُهُ (أَيْ تُجْهِزُ عَلَيْهِ فَوْرًا) فَيَفُوتُ التَّنْكِيلُ الْمَقْصُودُ، وَلَا بِحَصَيَاتٍ خَفِيفَةٍ لِئَلاَّ يَطُولَ تَعْذِيبُهُ، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَيَخُصُّ بِالرَّجْمِ الْمَوَاضِعَ الَّتِي هِيَ مَقَاتِلُ مِنَ الظَّهْرِ وَغَيْرِهِ مِنَ السُّرَّةِ إِلَى مَا فَوْقُ، وَيُتَّقَى الْوَجْهُ وَالْفَرْجُ.

وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنْ يَتَّقِيَ الرَّاجِمُ الْوَجْهَ لِشَرَفِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِكَيْفِيَّةِ وُقُوفِ الرَّاجِمِينَ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يُصَفُّوا عِنْدَ الرَّجْمِ كَصُفُوفِ الصَّلَاةِ، كُلَّمَا رَجَمَ قَوْمٌ تَأَخَّرُوا وَتَقَدَّمَ غَيْرُهُمْ فَرَجَمُوا.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُسَنُّ أَنْ يَدُورَ النَّاسُ حَوْلَ الْمَرْجُومِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَالدَّائِرَةِ إِنْ كَانَ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى تَمْكِينِهِ مِنَ الْهَرَبِ، وَلَا يُسَنُّ ذَلِكَ إِنْ كَانَ زِنَاهُ ثَبَتَ بِإِقْرَارٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَهْرُبَ فَيُتْرَكَ وَلَا يُتَمَّمُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُحِيطُ النَّاسُ بِهِ.

مُسْقِطَاتُ حَدِّ الزِّنَى:

45- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي سُقُوطِ حَدِّ الزِّنَى بِالشُّبْهَةِ، إِذِ الْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ».وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى الشُّبْهَةِ ف 14 كَمَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي سُقُوطِ حَدِّ الزِّنَى بِالرُّجُوعِ عَنِ الْإِقْرَارِ إِذَا كَانَ ثُبُوتُهُ بِالْإِقْرَارِ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُودٍ ف 14) الْمَوْسُوعَةُ 17/ 134

كَمَا يَسْقُطُ حَدُّ الزِّنَى بِرُجُوعِ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَةٍ).

46- وَيَسْقُطُ حَدُّ الزِّنَى أَيْضًا بِتَكْذِيبِ أَحَدِ الزَّانِيَيْنِ لِلْآخَرِ لِلْمُقِرِّ بِالزِّنَى مِنْهُمَا، فَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَنِ الْمُكَذِّبِ فَقَطْ دُونَ الْمُقِرِّ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ مُؤَاخَذَةً بِإِقْرَارِهِ.

وَلَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَى بِامْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَكَذَّبَتْهُ لَمْ يَسْقُطِ الْحَدُّ عَنِ الْمُقِرِّ مُؤَاخَذَةً لَهُ بِإِقْرَارِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا الْحَدُّ أَيْضًا لَوْ سَكَتَتْ، أَوْ لَمْ تُسْأَلْ عَنْ ذَلِكَ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ الْحَدِّ عَنِ الْمُقِرِّ أَيْضًا، لِانْتِفَاءِ الْحَدِّ عَنِ الْمُنْكِرِ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلنَّفْيِ عَنْهُ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، لِأَنَّ الزِّنَى فِعْلٌ وَاحِدٌ يَتِمُّ بِهِمَا.فَإِذَا تَمَكَّنَتْ فِيهِ شُبْهَةٌ تَعَدَّتْ إِلَى طَرَفَيْهِ لِأَنَّهُ مَا أُطْلِقَ، بَلْ أَقَرَّ بِالزِّنَى بِمَنْ دَرَأَ الشَّرْعُ الْحَدَّ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَطْلَقَ وَقَالَ: زَنَيْتُ، فَإِنَّهُ لَا مُوجِبَ شَرْعًا يَدْفَعُهُ. وَبَقَاءُ الْبَكَارَةِ مُسْقِطٌ لِحَدِّ الزِّنَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، فَإِذَا شَهِدُوا عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَى فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا عَذْرَاءُ لَمْ تُحَدَّ بِشُبْهَةِ بَقَاءِ الْبَكَارَةِ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، حَيْثُ إِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهَا أَنَّهَا لَمْ تُوطَأْ، وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ تَكْفِي شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ بِعُذْرَتِهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ أَوْ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ.

47- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا لَوِ ادَّعَى أَحَدُ الزَّانِيَيْنِ الزَّوْجِيَّةَ، كَأَنْ يُقِرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ حَتَّى كَانَ إِقْرَارُهُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، وَقَالَتْ هِيَ: بَلْ تَزَوَّجَنِي، أَوْ أَقَرَّتْ هِيَ كَذَلِكَ بِالزِّنَى مَعَ فُلَانٍ، وَقَالَ الرَّجُلُ: بَلْ تَزَوَّجْتُهَا.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ دَعْوَى النِّكَاحِ تَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَهُوَ يَقُومُ بِالطَّرَفَيْنِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً.ثُمَّ إِنَّهُ إِذَا سَقَطَ الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ تَعْظِيمًا لِخَطَرِ الْبُضْعِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْبَيِّنَةِ حِينَئِذٍ عَلَى النِّكَاحِ.فَلَوْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ: زَنَيْتُ مَعَ هَذَا الرَّجُلِ، فَأَقَرَّ بِوَطْئِهَا وَادَّعَى أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَكَذَّبَتْهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ فَإِنَّهُمَا يُحَدَّانِ، أَمَّا حَدُّهَا فَظَاهِرٌ لِإِقْرَارِهَا بِالزِّنَى، وَأَمَّا حَدُّهُ فَإِنَّهَا لَمْ تُوَافِقْهُ عَلَى النِّكَاحِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ السَّبَبِ الْمُبِيحِ.قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَا طَارِئَيْنِ وَلَوْ حَصَلَ فُشُوٌّ، وَمِثْلُهُ فِيمَا لَوِ ادَّعَى الرَّجُلُ وَطْءَ امْرَأَةٍ وَأَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ وَوَلِيُّهَا عَلَى الزَّوْجِيَّةِ، وَلَمَّا طُلِبَتْ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةُ قَالَا: عَقَدْنَا النِّكَاحَ وَلَمْ نُشْهِدْ وَنَحْنُ نُشْهِدُ الْآنَ- وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فُشُوٌّ يَقُومُ مَقَامَ الْإِشْهَادِ- فَإِنَّ الزَّوْجَيْنِ يُحَدَّانِ لِدُخُولِهِمَا بِلَا إِشْهَادٍ.

وَكَذَا لَوْ وُجِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فِي بَيْتٍ أَوْ طَرِيقٍ- وَالْحَالُ أَنَّهُمَا غَيْرُ طَارِئَيْنِ- وَأَقَرَّا بِالْوَطْءِ وَادَّعَيَا النِّكَاحَ وَالْإِشْهَادَ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَا بَيِّنَةَ لَهُمَا بِذَلِكَ وَلَا فُشُوَّ يَقُومُ مَقَامَهَا، فَإِنَّهُمَا يُحَدَّانِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ السَّبَبِ الْمُبِيحِ لِلْوَطْءِ، فَإِنْ حَصَلَ فُشُوٌّ أَوْ كَانَا طَارِئَيْنِ، قُبِلَ قَوْلُهُمَا وَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَدَّعِيَا شَيْئًا مُخَالِفًا لِلْعُرْفِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَى عَلَى الْمُقِرِّ فَقَطْ دُونَ مَنِ ادَّعَى الزَّوْجِيَّةَ فَلَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ ذَلِكَ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنْهُ؛ وَلِاحْتِمَالِ صِدْقِهِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- مَرْفُوعًا «ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ» فَإِذَا أَقَرَّتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ زَنَى بِهَا مُطَاوَعَةً عَالِمَةً بِتَحْرِيمِهِ حُدَّتْ وَحْدَهَا، وَلَا مَهْرَ لَهَا مُؤَاخَذَةً لَهَا بِإِقْرَارِهَا.

وَأَوْجَبَ الشَّافِعِيَّةُ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى الْمُقِرِّ أَيْضًا.فَلَوْ قَالَ: زَنَيْتُ بِفُلَانَةَ، فَقَالَتْ: كَانَ تَزَوَّجَنِي، صَارَ مُقِرًّا بِالزِّنَى وَقَاذِفًا لَهَا، فَيَلْزَمُهُ حَدُّ الزِّنَى وَحَدُّ الْقَذْفِ.

وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ اعْتِرَاضَ مِلْكِ النِّكَاحِ أَوْ مِلْكِ الْيَمِينِ مُسْقِطٌ لِحَدِّ الزِّنَى، بِأَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَوْ بِجَارِيَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا- وَهِيَ إِحْدَى ثَلَاثِ رِوَايَاتٍ عَنْهُ- وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ بُضْعَ الْمَرْأَةِ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ فِي حَقِّ الِاسْتِمَاعِ، فَحَصَلَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ فَيَصِيرُ شُبْهَةً، كَالسَّارِقِ إِذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهِيَ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَهِيَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَطْءَ حَصَلَ زِنًى مَحْضًا لِمُصَادَفَتِهِ مَحَلًّا غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَهُ فَحَصَلَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، وَالْعَارِضُ وَهُوَ الْمِلْكُ لَا يَصْلُحُ مُسْقِطًا لِاقْتِصَارِهِ عَلَى حَالَةِ ثُبُوتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ وَالشِّرَاءِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُجِدَ لِلْحَالِ، فَلَا يَسْتَنِدُ الْمِلْكُ الثَّابِتُ بِهِ إِلَى وَقْتِ وُجُودِ الْوَطْءِ، فَبَقِيَ الْوَطْءُ خَالِيًا عَنِ الْمِلْكِ فَبَقِيَ زِنًى مَحْضًا لِلْحَدِّ، بِخِلَافِ السَّارِقِ إِذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ لِأَنَّ هُنَاكَ وُجِدَ الْمُسْقِطُ وَهُوَ بُطْلَانُ وِلَايَةِ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ هُنَاكَ شَرْطٌ، وَقَدْ خَرَجَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا بِمِلْكِ الْمَسْرُوقِ، لِذَلِكَ افْتَرَقَا.

وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهِيَ أَنَّ اعْتِرَاضَ الشِّرَاءِ يُسْقِطُ وَاعْتِرَاضَ النِّكَاحِ لَا يُسْقِطُ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْبُضْعَ لَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا إِذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْعُقْرُ لَهَا، وَالْعُقْرُ بَدَلُ الْبُضْعِ، وَالْبَدَلُ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ كَانَ لَهُ الْمُبْدَلُ فَلَمْ يَحْصُلِ اسْتِيفَاءُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ مِنْ مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ فَلَا يُورِثُ شُبْهَةً، وَبُضْعُ الْأَمَةِ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى بِالشِّرَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْعُقْرُ لِلْمَوْلَى فَحَصَلَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ فَيُورِثُ شُبْهَةً، فَصَارَ كَالسَّارِقِ إِذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ.

48- كَمَا يَسْقُطُ حَدُّ الزِّنَى فِي الرَّجْمِ خَاصَّةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَطْ بِمَوْتِ الشُّهُودِ أَوْ غَيْبَتِهِمْ أَوْ مَرَضِهِمْ بَعْدَ الشَّهَادَةِ أَوْ قَطْعِ أَيْدِيهِمْ؛ لِأَنَّ الْبِدَايَةَ بِالشُّهُودِ شَرْطُ جَوَازِ الْإِقَامَةِ وَقَدْ فَاتَ بِالْمَوْتِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ، فَسَقَطَ الْحَدُّ ضَرُورَةً.وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُودٍ ف 38) الْمَوْسُوعَةِ الْفِقْهِيَّةِ 17/ 145.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


110-موسوعة الفقه الكويتية (سرقة 1)

سَرِقَةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- فِي اللُّغَةِ: السَّرِقَةُ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنَ الْغَيْرِ خُفْيَةً.يُقَالُ: سَرَقَ مِنْهُ مَالًا، وَسَرَقَهُ مَالًا يَسْرِقُهُ سَرَقًا وَسَرِقَةً: أَخَذَ مَالَهُ خُفْيَةً، فَهُوَ سَارِقٌ.وَيُقَالُ: سَرَقَ أَوِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ وَالنَّظَرَ: سَمِعَ أَوْ نَظَرَ مُسْتَخْفِيًا.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هِيَ أَخْذُ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ نِصَابًا مُحْرَزًا، أَوْ مَا قِيمَتُهُ نِصَابٌ، مِلْكًا لِلْغَيْرِ، لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ.

وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: أَخْذُ مُكَلَّفٍ طِفْلًا حُرًّا لَا يَعْقِلُ لِصِغَرِهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الِاخْتِلَاسُ:

2- يُقَالُ خَلَسَ الشَّيْءَ أَوِ اخْتَلَسَهُ، أَيْ: اسْتَلَبَهُ فِي نُهْزَةٍ وَمُخَاتَلَةٍ.

وَالْمُخْتَلِسُ: هُوَ الَّذِي يَأْخُذُ الْمَالَ جَهْرَةً مُعْتَمِدًا عَلَى السُّرْعَةِ فِي الْهَرَبِ.

فَالْفَرْقُ بَيْنَ السَّرِقَةِ وَالِاخْتِلَاسِ: أَنَّ الْأُولَى عِمَادُهَا الْخُفْيَةُ، وَالِاخْتِلَاسُ يَعْتَمِدُ الْمُجَاهَرَةَ.

وَلِذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ».

انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (اخْتِلَاسٍ).

ب- جَحْدُ الْأَمَانَةِ، أَوْ خِيَانَتُهَا:

3- الْجَحْدُ أَوِ الْجُحُودُ: الْإِنْكَارُ، وَلَا يَكُونُ إِلاَّ عَلَى عِلْمٍ مِنَ الْجَاحِدِ بِهِ.وَالْجَاحِدُ أَوِ الْخَائِنُ: هُوَ الَّذِي يُؤْتَمَنُ عَلَى شَيْءٍ بِطَرِيقِ الْعَارِيَّةِ أَوِ الْوَدِيعَةِ فَيَأْخُذُهُ وَيَدَّعِي ضَيَاعَهُ، أَوْ يُنْكِرُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ أَوْ عَارِيَّةٌ.

فَالْفَرْقُ بَيْنَ السَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ يَرْجِعُ إِلَى قُصُورٍ فِي الْحِرْزِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِنْكَارٍ).

ج- الْحِرَابَةُ:

4- الْحِرَابَةُ: الْبُرُوزُ لِأَخْذِ مَالٍ أَوْ لِقَتْلٍ أَوْ لِإِرْعَابٍ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ مُكَابَرَةً اعْتِمَادًا عَلَى الْقُوَّةِ مَعَ الْبُعْدِ عَنِ الْغَوْثِ، وَتُسَمَّى قَطْعَ الطَّرِيقِ، وَالسَّرِقَةَ الْكُبْرَى.

وَيُفَرَّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّرِقَةِ بِأَنَّ الْحِرَابَةَ هِيَ الْبُرُوزُ لِأَخْذِ مَالٍ أَوْ لِقَتْلٍ أَوْ إِرْعَابٍ مُكَابَرَةً اعْتِمَادًا عَلَى الشَّوْكَةِ مَعَ الْبُعْدِ عَنِ الْغَوْثِ، أَمَّا السَّرِقَةُ فَهِيَ أَخْذُ الْمَالِ خُفْيَةً.فَالْحِرَابَةُ تَكْتَمِلُ بِالْخُرُوجِ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ وَإِنْ لَمْ يُؤْخَذْ مَالٌ، أَمَّا السَّرِقَةُ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ أَخْذِ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (حِرَابَةٍ).

د- الْغَصْبُ:

5- الْغَصْبُ فِي اللُّغَةِ: أَخْذُ الشَّيْءِ ظُلْمًا مُجَاهَرَةً.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ عُدْوَانًا.فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ: أَنَّ الْأَوَّلَ يَتَحَقَّقُ بِالْمُجَاهَرَةِ، فِي حِينِ يُشْتَرَطُ فِي السَّرِقَةِ أَنْ يَكُونَ الْأَخْذُ سِرًّا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (غَصْبٍ).

هـ- النَّبْشُ:

6- يُقَالُ: نَبَشْتُهُ نَبْشًا، أَيِ اسْتَخْرَجْتُهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَنَبَشْتُ الْأَرْضَ: كَشَفْتُهَا.وَمِنْهُ: نَبَشَ الرَّجُلُ الْقَبْرَ.

وَالنَّبَّاشُ: هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ أَكْفَانَ الْمَوْتَى بَعْدَ دَفْنِهِمْ فِي قُبُورِهِمْ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ وَفِي اعْتِبَارِهِ سَارِقًا، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ) مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى اعْتِبَارِ النَّبَّاشِ سَارِقًا؛ لِانْطِبَاقِ حَدِّ السَّرِقَةِ عَلَيْهِ، وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ نَبَشَ قَطَّعْنَاهُ».

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ النَّبَّاشِ سَارِقًا لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مَا لَا مَالِكَ لَهُ وَلَيْسَ مَرْغُوبًا فِيهِ، وَاشْتِرَاطُ الْخُفْيَةِ وَالْحِرْزِ لَا يَجْعَلُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْأَخْذِ سَرِقَةً.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (نَبْشٍ).

- وَالنَّشْلُ:

7- نَشَلَ الشَّيْءَ نَشْلًا: أَسْرَعَ نَزْعَهُ.يُقَالُ: نَشَلَ اللَّحْمَ مِنَ الْقِدْرِ، وَنَشَلَ الْخَاتَمَ مِنَ الْيَدِ.وَالنَّشَّالُ: الْمُخْتَلِسُ الْخَفِيفُ الْيَدِ مِنَ اللُّصُوصِ، يَشُقُّ ثَوْبَ الرَّجُلِ وَيَسُلُّ مَا فِيهِ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْ صَاحِبِهِ.وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالطَّرَّارِ، مِنْ طَرَرْتُهُ طَرًّا: إِذَا شَقَقْتُهُ.

وَلَا يَخْتَلِفُ اصْطِلَاحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَالطَّرَّارُ أَوِ النَّشَّالُ هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ النَّاسَ فِي يَقَظَتِهِمْ بِنَوْعٍ مِنَ الْمَهَارَةِ وَخِفَّةِ الْيَدِ.

فَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّشْلِ أَوِ الطَّرِّ بَيْنَ السَّرِقَةِ يَتَمَثَّلُ فِي تَمَامِ الْحِرْزِ.وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَطْبِيقِ حَدِّ السَّرِقَةِ عَلَى النَّشَّالِ فَجُمْهُورُهُمْ يُسَوِّي بَيْنَ السَّارِقِ وَالطَّرَّارِ سَوَاءٌ شَقَّ الْكُمَّ أَوِ الْقَمِيصَ

وَأَخَذَ مِنْهَا مَا يَبْلُغُ النِّصَابَ، أَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ فَأَخَذَ دُونَ شَقٍّ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُعْتَبَرُ حِرْزًا لِكُلِّ مَا يَلْبَسُهُ أَوْ يَحْمِلُهُ مِنْ نُقُودٍ وَغَيْرِهَا.وَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّهُ إِذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْكُمِّ أَوْ فِي الْجَيْبِ فَأَخَذَ مِنْ غَيْرِ شَقٍّ، أَوْ شَقَّ غَيْرَهُمَا مِثْلَ الصُّرَّةِ، فَلَا يُطَبَّقُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ؛ لِعَدَمِ اكْتِمَالِ الْأَخْذِ مِنَ الْحِرْزِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (نَشْلٍ).

ز- النَّهْبُ:

8- نَهَبَ الشَّيْءَ نَهْبًا: أَخَذَهُ قَهْرًا.وَالنَّهْبُ: الْغَارَةُ وَالْغَنِيمَةُ وَالشَّيْءُ الْمَنْهُوبُ وَهُوَ الْغَلَبَةُ عَلَى الْمَالِ وَالْقَهْرُ.قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَالنَّهْبُ مَا انْتُهِبَ مِنَ الْمَالِ بِلَا عِوَضٍ، يُقَالُ: أَنْهَبَ فُلَانٌ مَالَهُ: إِذَا أَبَاحَهُ لِمَنْ أَخَذَهُ، وَلَا يَكُونُ نَهْبًا حَتَّى تَنْتَهِبَهُ الْجَمَاعَةُ، فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ شَيْئًا، وَهِيَ النُّهْبَةُ.

وَمِنْ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّهْبِ وَالسَّرِقَةِ يَعُودُ إِلَى شِبْهِ الْخُفْيَةِ، وَهُوَ لَا يَتَوَافَرُ فِي النَّهْبِ وَلِهَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ».

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (نَهْبٍ).

أَرْكَانُ السَّرِقَةِ:

9- لِلسَّرِقَةِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ: السَّارِقُ، وَالْمَسْرُوقُ مِنْهُ، وَالْمَالُ الْمَسْرُوقُ، وَالْأَخْذُ خُفْيَةً.

الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: السَّارِقُ:

10- يَجِبُ- لِإِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ- أَنْ تَتَوَافَرَ فِي السَّارِقِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا، وَأَنْ يَقْصِدَ فِعْلَ السَّرِقَةِ، وَأَلاَّ يَكُونَ مُضْطَرًّا إِلَى الْأَخْذِ، وَأَنْ تَنْتَفِيَ الْجُزْئِيَّةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَأَلاَّ تَكُونَ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ فِي اسْتِحْقَاقِهِ مَا أَخَذَ.

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: التَّكْلِيفُ:

11- لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى إِلاَّ إِذَا كَانَ مُكَلَّفًا، أَوْ بَالِغًا عَاقِلًا.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (تَكْلِيفٍ).

أ- وَيُعْتَبَرُ الشَّخْصُ بَالِغًا إِذَا تَوَافَرَتْ فِيهِ إِحْدَى عَلَامَاتِ الْبُلُوغِ.

يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (بُلُوغٍ).

أَمَّا مَنْ كَانَ دُونَ الْبُلُوغِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَبْرَأَ وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ».وَلِذَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الِاحْتِلَامَ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ يَلْزَمُ بِهِ الْعِبَادَاتُ وَالْحُدُودُ وَسَائِرُ الْأَحْكَامِ.

ب- وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَقْلِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ، إِذْ أَنَّهُ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: «وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ».هَذَا إِنْ كَانَ الْمَجْنُونُ مُطْبَقًا، فَأَمَّا إِنْ كَانَ غَيْرَ مُطْبَقٍ وَجَبَ الْحَدُّ إِنْ سَرَقَ فِي حَالِ الْإِفَاقَةِ، وَلَا يَجِبُ إِنْ سَرَقَ فِي حَالِ الْجُنُونِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (جُنُونٍ).

ج- وَقَدْ أَلْحَقَ الْفُقَهَاءُ الْمَعْتُوهَ بِالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّ الْعَتَهَ نَوْعُ جُنُونٍ فَيَمْنَعُ أَدَاءَ الْحُقُوقِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (عَتَهٍ).

د- وَلَا يَجِبُ إِقَامَةُ الْحَدِّ إِذَا صَدَرَتِ السَّرِقَةُ مِنَ النَّائِمِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: «وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ».انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (نَوْمٍ).

هـ- كَذَلِكَ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ إِذَا سَرَقَ حَالَ إِغْمَائِهِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِغْمَاءٍ).

و- أَمَّا مَنْ يَسْرِقُ وَهُوَ سَكْرَانُ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِي حُكْمِهِ أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ:

فَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّ عَقْلَهُ غَيْرُ حَاضِرٍ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مُطْلَقًا إِلاَّ حَدَّ السُّكْرِ.سَوَاءٌ أَكَانَ مُتَعَدِّيًا بِسُكْرِهِ أَمْ كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِهِ.غَيْرَ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ يُفَرِّقُ بَيْنَ حَالَتَيْنِ: إِذَا كَانَ السَّكْرَانُ قَدْ تَعَدَّى بِسُكْرِهِ، فَإِنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ يُقَامُ عَلَيْهِ، سَدًّا لِلذَّرَائِعِ، حَتَّى لَا يَقْصِدَ مَنْ يُرِيدُ ارْتِكَابَ جَرِيمَةٍ إِلَى الشُّرْبِ دَرْءًا لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ.أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا بِالسُّكْرِ فَيَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لِقِيَامِ عُذْرِهِ وَانْتِفَاءِ قَصْدِهِ.

انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (سُكْرٍ).

ز- وَمِمَّا يَلْتَحِقُ بِمَسْأَلَةِ التَّكْلِيفِ: اشْتِرَاطُ كَوْنِ السَّارِقِ مُلْتَزِمًا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ حَتَّى تَثْبُتَ وِلَايَةُ الْإِمَامِ عَلَيْهِ.وَلِذَا لَا يُقَامُ حَدُّ السَّرِقَةِ عَلَى الْحَرْبِيِّ غَيْرِ الْمُسْتَأْمَنِ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ يَلْتَزِمُ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَتَثْبُتُ وِلَايَةُ الْإِمَامِ عَلَيْهِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَيْ: (أَهْلِ الْحَرْبِ، وَأَهْلِ الذِّمَّةِ).

12- أَمَّا الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ: فَإِنْ سَرَقَ مِنْ مُسْتَأْمَنٍ آخَرَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعَدَمِ الْتِزَامِ أَيٍّ مِنْهُمَا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ.وَإِنْ سَرَقَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَفِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ:

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ) إِلَى وُجُوبِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ دُخُولَهُ فِي الْأَمَانِ يَجْعَلُهُ مُلْتَزِمًا الْأَحْكَامَ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ}.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَظْهَرُهَا: أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ كَالْحَرْبِيِّ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ كَالذِّمِّيِّ.وَالثَّالِثُ: يُفَصَّلُ بِالنَّظَرِ إِلَى عَقْدِ الْأَمَانِ: فَإِنْ شَرَطَ فِيهِ إِقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَيْهِ وَجَبَ الْقَطْعُ، وَإِلاَّ فَلَا حَدَّ وَلَا قَطْعَ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: الْقَصْدُ:

13- لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ إِلاَّ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ بِتَحْرِيمِ السَّرِقَةِ، وَأَنَّهُ يَأْخُذُ مَالًا مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ دُونَ عِلْمِ مَالِكِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَأَنْ تَنْصَرِفَ نِيَّتُهُ إِلَى تَمَلُّكِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا فِيمَا فَعَلَ، وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ.

أ- أَنْ يَعْلَمَ السَّارِقُ بِتَحْرِيمِ الْفِعْلِ الَّذِي اقْتَرَفَهُ، فَالْجَهَالَةُ بِالتَّحْرِيمِ مِمَّنْ يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ.وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ- رضي الله عنهما-: لَا حَدَّ إِلاَّ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ.أَمَّا عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْعُقُوبَةِ فَلَا يُعَدُّ مِنَ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تَدْرَأُ الْحَدَّ.

ب- أَنْ يَعْلَمَ السَّارِقُ أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ مَمْلُوكٌ لِغَيْرِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ أَخَذَهُ دُونَ عِلْمِ مَالِكِهِ وَدُونَ رِضَاهُ.وَعَلَى ذَلِكَ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ أَخَذَ مَالًا وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ أَوْ مَتْرُوكٌ.وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمُؤَجِّرِ الَّذِي يَأْخُذُ الْعَيْنَ الَّتِي آجَرَهَا، وَلَا عَلَى الْمُودِعِ الَّذِي يَأْخُذُ الْوَدِيعَةَ دُونَ رِضَا الْوَدِيعِ.

ج- أَنْ تَنْصَرِفَ نِيَّةُ الْآخِذِ إِلَى تَمَلُّكِ مَا أَخَذَهُ، وَلِهَذَا لَا يُقَامُ حَدُّ السَّرِقَةِ عَلَى مَنْ أَخَذَ مَالًا مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ دُونَ أَنْ يَقْصِدَ تَمَلُّكَهُ، كَأَنْ أَخَذَهُ لِيَسْتَعْمِلَهُ ثُمَّ يَرُدَّهُ، أَوْ أَخَذَهُ عَلَى سَبِيلِ الدُّعَابَةِ، أَوْ أَخَذَهُ لِمُجَرَّدِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، أَوْ أَخَذَهُ مُعْتَقِدًا أَنَّ مَالِكَهُ يَرْضَى بِأَخْذِهِ، مَا دَامَتِ الْقَرَائِنُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنَ الْقَرَائِنِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى نِيَّةِ التَّمَلُّكِ، إِخْرَاجُ الْمَالِ مِنَ الْحِرْزِ لِغَيْرِ مَا سَبَقَ، بِحَيْثُ يُعْتَبَرُ سَارِقًا لِتَوَافُرِ قَصْدِ التَّمَلُّكِ حِينَئِذٍ وَلَوْ أَتْلَفَهُ بِمُجَرَّدِ إِخْرَاجِهِ- أَمَّا لَوْ أُتْلِفَ دَاخِلَ الْحِرْزِ فَلَا تَظْهَرُ نِيَّةُ التَّمَلُّكِ، وَلِهَذَا لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

د- لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ إِلاَّ إِذَا كَانَ مُخْتَارًا فِيمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا انْعَدَمَ الْقَصْدُ وَسَقَطَ الْحَدُّ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ السَّرِقَةَ تُبَاحُ بِالْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ الَّذِي يَرْفَعُ الْإِثْمَ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ هُوَ مَا يَكُونُ فِي جَانِبِ الْأَقْوَالِ وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى الْأَفْعَالِ فَفِي حُكْمِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِكْرَاهٍ) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ 6 98- 112

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: عَدَمُ الِاضْطِرَارِ أَوِ الْحَاجَةِ:

14- أ- الِاضْطِرَارُ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ، وَالضَّرُورَةُ تُبِيحُ لِلْآدَمِيِّ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ لِيَدْفَعَ الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ فَمَنْ سَرَقَ لِيَرُدَّ جُوعًا أَوْ عَطَشًا مُهْلِكًا فَلَا عِقَابَ عَلَيْهِ، لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَاعَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا قَطْعَ فِي زَمَنِ الْمَجَاعِ».

ب- وَالْحَاجَةُ أَقَلُّ مِنَ الضَّرُورَةِ، فَهِيَ كُلُّ حَالَةٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حَرَجٌ شَدِيدٌ وَضِيقٌ بَيِّنٌ، وَلِذَا فَإِنَّهَا تَصْلُحُ شُبْهَةً لِدَرْءِ الْحَدِّ، وَلَكِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الضَّمَانَ وَالتَّعْزِيرَ.

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ بِالسَّرِقَةِ عَامَ الْمَجَاعَةِ وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: «وَهَذِهِ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنِ الْمُحْتَاجِ، وَهِيَ أَقْوَى مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الشُّبَهِ الَّتِي يَذْكُرُهَا كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي مُغَالَبَةِ صَاحِبِ الْمَالِ عَلَى أَخْذِ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ.وَعَامُ الْمَجَاعَةِ يَكْثُرُ فِيهِ الْمَحَاوِيجُ وَالْمُضْطَرُّونَ، وَلَا يَتَمَيَّزُ الْمُسْتَغْنِي مِنْهُمْ وَالسَّارِقُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ مِنْ غَيْرِهِ، فَاشْتَبَهَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَدُرِئَ».

وَقَدْ حَدَّدَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْمِقْدَارَ الَّذِي يَكْفِي حَاجَةَ الْمُضْطَرِّ بِقَوْلِهِ: «كُلْ وَلَا تَحْمِلْ، وَاشْرَبْ وَلَا تَحْمِلْ»، وَذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الرَّدِّ عَلَى مَنْ سَأَلَ أَرَأَيْتَ إِنِ احْتَجَّنَا إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؟

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: انْتِفَاءُ الْقَرَابَةِ بَيْنَ السَّارِقِ وَالْمَسْرُوقِ مِنْهُ:

15- قَدْ يَكُونُ السَّارِقُ أَصْلًا لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ، كَمَا قَدْ يَكُونُ فَرْعًا لَهُ، وَقَدْ تَقُومُ بَيْنَهُمَا صِلَةُ قَرَابَةٍ أُخْرَى، وَقَدْ تَرْبِطُ بَيْنَهُمَا رَابِطَةُ الزَّوْجِيَّةِ، وَحُكْمُ إِقَامَةِ الْحَدِّ يَخْتَلِفُ فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْحَالَاتِ:

أ- سَرِقَةُ الْأَصْلِ مِنَ الْفَرْعِ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْوَالِدِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ؛ لِأَنَّ لِلسَّارِقِ شُبْهَةَ حَقٍّ فِي مَالِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَدُرِئَ الْحَدُّ.وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِمَنْ جَاءَ يَشْتَكِي أَبَاهُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالَهُ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ»، وَاللاَّمُ هُنَا لِلْإِبَاحَةِ لَا لِلتَّمْلِيكِ.فَإِنَّ مَالَ الْوَلَدِ لَهُ، وَزَكَاتَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَوْرُوثٌ عَنْهُ.

ب- سَرِقَةُ الْفَرْعِ مِنَ الْأَصْلِ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْوَلَدِ مِنْ مَالِ أَبِيهِ وَإِنْ عَلَا، لِوُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ فِي مَالِ وَالِدِهِ؛ وَلِأَنَّهُ يَرِثُ مَالَهُ، وَلَهُ حَقُّ دُخُولِ بَيْتِهِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا شُبُهَاتٌ تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ.أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ فِي عَلَاقَةِ الِابْنِ بِأَبِيهِ شُبْهَةً تَدْرَأُ عَنْهُ حَدَّ السَّرِقَةِ، وَلِذَلِكَ يُوجِبُونَ إِقَامَةَ الْحَدِّ فِي سَرِقَةِ الْفُرُوعِ مِنَ الْأُصُولِ.

ج- سَرِقَةُ الْأَقَارِبِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ:

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ سَرِقَةَ الْأَقَارِبِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ لَيْسَتْ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنِ السَّارِقِ، وَلِهَذَا أَوْجَبُوا الْقَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ مَالِ أَخِيهِ أَوْ أُخْتِهِ أَوْ عَمِّهِ أَوْ عَمَّتِهِ أَوْ خَالِهِ أَوْ خَالَتِهِ، أَوِ ابْنِ أَوْ بِنْتِ أَحَدِهِمْ، أَوْ أُمِّهِ أَوْ أُخْتِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَوِ امْرَأَةِ أَبِيهِ أَوْ زَوْجِ أُمِّهِ، أَوِ ابْنِ امْرَأَتِهِ أَوْ بِنْتِهَا أَوْ أُمِّهَا، حَيْثُ لَا يُبَاحُ الِاطِّلَاعُ عَلَى الْحِرْزِ، وَلَا تُرَدُّ شَهَادَةُ بَعْضِ هَؤُلَاءِ لِلْبَعْضِ الْآخَرِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، كَالْأَخِ وَالْأُخْتِ وَالْعَمِّ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ؛ لِأَنَّ دُخُولَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ دُونَ إِذْنٍ عَادَةً يُعْتَبَرُ شُبْهَةً تُسْقِطُ الْحَدَّ؛ وَلِأَنَّ قَطْعَ أَحَدِهِمْ بِسَبَبِ سَرِقَتِهِ مِنَ الْآخَرِ يُفْضِي إِلَى قَطْعِ الرَّحِمِ وَهُوَ حَرَامٌ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ: مَا أَفْضَى إِلَى الْحَرَامِ فَهُوَ حَرَامٌ.أَمَّا مَنْ سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ غَيْرِ مَحْرَمٍ كَابْنِ الْعَمِّ أَوْ بِنْتِ الْعَمِّ، وَابْنِ الْعَمَّةِ أَوْ بِنْتِ الْعَمَّةِ، وَابْنِ الْخَالِ أَوْ بِنْتِ الْخَالِ، وَابْنِ الْخَالَةِ أَوْ بِنْتِ الْخَالَةِ، فَيُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ لِأَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ عَادَةً، فَالْحِرْزُ كَامِلٌ فِي حَقِّهِمْ.وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي سَرِقَةِ الْمَحَارِمِ غَيْرِ ذَوِي الرَّحِمِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ كَالْأُمِّ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَالْأُخْتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ، أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَلَا يَرَى أَنْ يُقَامَ الْحَدُّ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ مَالِ أُمِّهِ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ بَيْتَهَا دُونَ إِذْنٍ عَادَةً، فَلَمْ يَكْتَمِلِ الْحِرْزُ.

د- السَّرِقَةُ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ: اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ إِذَا سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ مَالِ الْآخَرِ وَكَانَتِ السَّرِقَةُ مِنْ حِرْزٍ قَدِ اشْتَرَكَا فِي سُكْنَاهُ، لِاخْتِلَالِ شَرْطِ الْحِرْزِ، وَلِلِانْبِسَاطِ بَيْنَهُمَا فِي الْأَمْوَالِ عَادَةً؛ وَلِأَنَّ بَيْنَهُمَا سَبَبًا يُوجِبُ التَّوَارُثَ بِغَيْرِ حَجْبٍ.

16- أَمَّا إِذَا كَانَتِ السَّرِقَةُ مِنْ حِرْزٍ لَمْ يَشْتَرِكَا فِي سُكْنَاهُ، أَوِ اشْتَرَكَا فِي سُكْنَاهُ وَلَكِنَّ أَحَدَهُمَا مَنَعَ مِنَ الْآخَرِ مَالًا أَوْ حَجَبَهُ عَنْهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ السَّرِقَةِ مِنْهُ: فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الرَّاجِحَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِمَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الِانْبِسَاطِ فِي الْأَمْوَالِ عَادَةً وَدَلَالَةً، وَقِيَاسًا عَلَى الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا سَبَبًا يُوجِبُ التَّوَارُثَ مِنْ غَيْرِ حَجْبٍ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَإِنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْحَدَّ عَلَى السَّارِقِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لِعُمُومِ آيَةِ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ الْحِرْزَ هُنَا تَامٌّ، وَرُبَّمَا لَا يَبْسُطُ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ فِي مَالِهِ، فَأَشْبَهَ سَرِقَةَ الْأَجْنَبِيِّ.

وَهُنَاكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ: وُجُوبُ قَطْعِ الزَّوْجِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ زَوْجَتِهِ مَا هُوَ مُحْرَزٌ عَنْهُ وَلَا تُقْطَعُ الزَّوْجَةُ إِذَا سَرَقَتْ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا وَلَوْ كَانَ مُحْرَزًا عَنْهَا، لِأَنَّ الزَّوْجَةَ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ عَلَى زَوْجِهَا، فَصَارَ لَهَا شُبْهَةٌ تَدْرَأُ عَنْهَا الْحَدَّ، بِخِلَافِ الزَّوْجِ فَلَا تَقُومُ بِهِ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِهَا الْمُحْرَزِ عَنْهُ.

17- هَذَا هُوَ حُكْمُ السَّرِقَةِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ مَا دَامَتِ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً.فَلَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَانْقَضَتِ الْعِدَّةُ صَارَا أَجْنَبِيَّيْنِ وَوَجَبَ قَطْعُ السَّارِقِ.أَمَّا السَّرِقَةُ أَثْنَاءَ الْعِدَّةِ مِنَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فَتَأْخُذُ حُكْمَ السَّرِقَةِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ؛ لِبَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ الْعِدَّةُ.فَإِنْ وَقَعَتِ السَّرِقَةُ أَثْنَاءَ الْعِدَّةِ مِنَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ أُقِيمَ الْحَدُّ، عَلَى رَأْيِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِانْتِهَاءِ الزَّوْجِيَّةِ.وَلَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَذْهَبُ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى أَيٍّ مِنْهُمَا بِسَرِقَةِ مَالِ الْآخَرِ؛ لِبَقَاءِ الْحَبْسِ فِي الْعِدَّةِ وَوُجُوبِ السُّكْنَى، فَبَقِيَ أَثَرُ النِّكَاحِ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ.

وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ قِيَامَ الزَّوْجِيَّةِ بَعْدَ السَّرِقَةِ لَا أَثَرَ لَهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَدِّ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ تَمَّتْ بَيْنَ أَجْنَبِيَّيْنِ.وَلَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ إِلاَّ الْحَنَفِيَّةُ، فَعِنْدَهُمْ: لَوْ سَرَقَ مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الزَّوَاجَ مَانِعٌ طَرَأَ عَلَى الْحَدِّ، وَالْمَانِعُ الطَّارِئُ لَهُ حُكْمُ الْمَانِعِ الْمُقَارِنِ.وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْحَدِّ وَقَبْلَ تَنْفِيذِهِ؛ لِأَنَّ الْإِمْضَاءَ فِي الْحُدُودِ مِنْ تَمَامِ الْقَضَاءِ، فَكَانَتِ الشُّبْهَةُ مَانِعَةً مِنَ الْإِمْضَاءِ.

الشَّرْطُ الْخَامِسُ: انْتِفَاءُ شُبْهَةِ اسْتِحْقَاقِهِ الْمَالَ:

18- إِذَا كَانَ لِلسَّارِقِ شُبْهَةُ مِلْكٍ أَوِ اسْتِحْقَاقٍ فِي الْمَالِ الْمَسْرُوقِ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ كَانَ شَرِيكًا فِي الْمَالِ الْمَسْرُوقِ، أَوْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ مِنْ مَالٍ مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، أَوْ سَرَقَ مِنْ مَالِ مَدِينِهِ، أَوْ مَا شَابَهَ ذَلِكَ.

19- أ- سَرِقَةُ الشَّرِيكِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ سَرِقَةِ الشَّرِيكِ مِنَ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ لِلسَّارِقِ حَقًّا فِي هَذَا الْمَالِ، فَكَانَ هَذَا الْحَقُّ شُبْهَةً تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى إِيجَابِ الْقَطْعِ إِنْ تَحَقَّقَ شَرْطَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَالُ فِي غَيْرِ الْحِرْزِ الْمُشْتَرَكِ، كَأَنْ يَكُونَ الشَّرِيكَانِ قَدْ أَوْدَعَاهُ عِنْدَ غَيْرِهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَالُ مَحْجُوبًا عَنْهُمَا وَسَرَقَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ الْقَطْعُ.

وَالشَّرْطُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ فِيمَا سَرَقَ مِنْ حِصَّةِ صَاحِبِهِ فَضْلٌ عَنْ جَمِيعِ حِصَّتِهِ رُبُعُ دِينَارٍ فَصَاعِدًا.

وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي سَرِقَةِ الشَّرِيكِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ قَوْلَانِ: الرَّاجِحُ مِنْهُمَا أَنْ لَا قَطْعَ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ إِيجَابُ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلشَّرِيكِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ، فَإِذَا سَرَقَ نِصْفَ دِينَارٍ مِنَ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ كَانَ سَارِقًا لِنِصَابٍ مِنْ مَالِ شَرِيكِهِ فَيُقْطَعُ بِهِ.

20- ب- السَّرِقَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، إِذَا كَانَ السَّارِقُ مُسْلِمًا، غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ حَقًّا فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَيَكُونُ هَذَا الْحَقُّ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنْهُ، كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ مَالٍ لَهُ فِيهِ شَرِكَةٌ.وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَسْأَلُهُ عَمَّنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَقَالَ: أَرْسِلْهُ، فَمَا مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ.

وَيُوجِبُ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الرَّأْيُ الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِعُمُومِ نَصِّ الْآيَةِ، وَضَعْفِ الشُّبْهَةِ، لِأَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ فِي عَيْنِهِ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ قَبْلَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ.

وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ لِلسَّرِقَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بَيْنَ أَنْوَاعٍ ثَلَاثَةٍ 1- إِنْ كَانَ الْمَالُ مُحْرَزًا لِطَائِفَةٍ هُوَ مِنْهَا أَوْ أَحَدُ أُصُولِهِ أَوْ فُرُوعِهِ مِنْهَا، فَلَا قَطْعَ لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ، حَتَّى وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سَهْمٌ مُقَدَّرٌ.

2- وَإِنْ كَانَ الْمَالُ مُحْرَزًا لِطَائِفَةٍ لَيْسَ هُوَ وَلَا أَحَدُ أُصُولِهِ أَوْ فُرُوعِهِ مِنْهَا، وَجَبَ قَطْعُهُ لِعَدَمِ الشُّبْهَةِ الدَّارِئَةِ لِلْحَدِّ.

3- وَإِنْ كَانَ الْمَالُ غَيْرَ مُحْرَزٍ لِطَائِفَةٍ بِعَيْنِهَا، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ فِي الْمَسْرُوقِ، كَمَالِ الْمُصَالِحِ وَمَالِ الصَّدَقَةِ وَهُوَ فَقِيرٌ أَوْ فِي حُكْمِهِ كَالْغَارِمِ وَالْغَازِي وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، فَلَا قَطْعَ لِلشُّبْهَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ قُطِعَ؛ لِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ.

21- ج- السَّرِقَةُ مِنَ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ سَرِقَةِ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنَ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ وَقْفًا عَامًّا فَإِنَّهُ يَأْخُذُ حُكْمَ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ وَقْفًا خَاصًّا عَلَى قَوْمٍ مَحْصُورِينَ فَلِعَدَمِ الْمَالِكِ حَقِيقَةً، سَوَاءٌ كَانَ السَّارِقُ مِنْهُمْ أَوْ لَا.وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ السَّارِقَ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِيمَنْ وُقِفَ الْمَالُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بِطَلَبِ مُتَوَلِّي الْوَقْفِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ الْوَقْفَ يَبْقَى عِنْدَهُمْ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ حَقِيقَةً.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنَ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَقْفُ عَامًّا أَوْ خَاصًّا، سَوَاءٌ أَكَانَ السَّارِقُ مِمَّنْ وُقِفَ الْمَالُ عَلَيْهِمْ أَمْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ بَيْعِ مَالِ الْوَقْفِ يُقَوِّي جَانِبَ الْمِلْكِ فِيهِ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْوَقْفِ الْعَامِّ فَلَا يُقْطَعُ سَارِقُهُ، وَبَيْنَ الْوَقْفِ الْخَاصِّ، فَلَا يُقْطَعُ سَارِقُهُ إِنْ كَانَ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِهِ.

وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ فَعِنْدَهُمْ آرَاءٌ ثَلَاثَةٌ

1- ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ بَيْعِهِ يُقَوِّي جَانِبَ الْمِلْكِ فِيهِ.

2- لَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ هَذَا الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالِكَ لَهُ.

3- إِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمَوْقُوفَ مَمْلُوكُ الرَّقَبَةِ، قُطِعَ سَارِقُهُ.وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا لَا تُمْلَكُ، فَلَا قَطْعَ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُمْلَكُ فِي حُكْمِ الْمُبَاحِ وَإِنْ لَمْ يُسْتَبَحْ.

وَيَذْهَبُ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنَ الْوَقْفِ الْعَامِّ، أَوْ مَنْ يَسْرِقُ مِنَ الْوَقْفِ الْخَاصِّ إِذَا كَانَ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِهِ، لِوُجُودِ شُبْهَةٍ تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنْهُ.أَمَّا مَنْ يَسْرِقُ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ الْخَاصِّ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ، فَفِي حُكْمِهِ رِوَايَتَانِ: أَشْهَرُهُمَا: إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ لِبَقَاءِ الْوَقْفِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ.وَالْأُخْرَى: لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْمٍ مَحْصُورِينَ لَيْسَ لَهُ مَالِكٌ حَقِيقَةً.

22- د- السَّرِقَةُ مِنْ مَالِ الْمَدِينِ: إِذَا سَرَقَ الدَّائِنُ مِنْ مَالِ مَدِينِهِ فَفِي وُجُوبِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

يُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ حَالَتَيْنِ: أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ.

1- فَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ؛ لِأَنَّ لِلدَّائِنِ أَنْ يَأْخُذَ جِنْسَ دَيْنِهِ مِنْ مَالِ الْمَدِينِ، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا أَمْ مُؤَجَّلًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَدِينُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ بَاذِلًا لَهُ، أَمْ كَانَ جَاحِدًا لَهُ مُمَاطِلًا فِيهِ.وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، إِذْ أَطْلَقَ الْقَطْعَ بِسَرِقَةِ مَالِ الْغَرِيمِ؛ لِأَنَّ السَّارِقَ يَأْخُذُ مَالًا لَا يَمْلِكُهُ، وَالْغَرِيمُ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.

2- وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسْرُوقُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، بِأَنْ كَانَ الدَّيْنُ دَنَانِيرَ فَسَرَقَ عُرُوضًا، وَجَبَ إِقَامَةُ الْحَدِّ؛ لِضَرُورَةِ التَّرَاضِي فِي الْمُعَاوَضَاتِ؛ وَلِاخْتِلَافِ الْقِيَمِ بِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ.إِلاَّ إِذَا ادَّعَى السَّارِقُ أَنَّهُ أَخَذَهُ رَهْنًا بِحَقِّهِ، فَلَا يُقْطَعُ، لِوُجُودِ شُبْهَةٍ تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ، حَيْثُ إِنَّهُ اعْتَبَرَ الْمَعْنَى- وَهِيَ الْمَالِيَّةُ لَا الصُّورَةُ- وَالْأَمْوَالُ كُلُّهَا فِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ مُتَجَانِسَةً، فَكَانَ أَخْذًا عَنْ تَأْوِيلٍ فَلَا يُقْطَعُ.

وَيُفَرِّقُ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ حَالَتَيْنِ:

1- أَنْ يَكُونَ الْمَدِينُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ عَنْ أَدَائِهِ مَتَى حَلَّ أَجَلُهُ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الدَّائِنِ إِذَا سَرَقَ مِقْدَارَ دَيْنِهِ أَوْ أَكْثَرَ لِعَدَمِ وُجُودِ شُبْهَةٍ، إِذْ إِنَّهُ يَسْتَطِيعُ الْحُصُولَ عَلَى حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْرِقَ.

2- أَنْ يَكُونَ الْمَدِينُ جَاحِدًا لِلدَّيْنِ أَوْ مُمَاطِلًا فِيهِ: فَلَا قَطْعَ عَلَى الدَّائِنِ إِنْ سَرَقَ قَدْرَ دَيْنِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ جِنْسِهِ أَمْ لَا.فَإِنْ أَخَذَ أَكْثَرَ مِنْ دَيْنِهِ بِمَا يَبْلُغُ نِصَابًا، قُطِعَ لِتَعَدِّيهِ بِأَخْذِ مَا لَيْسَ مِنْ حَقِّهِ.

وَيَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ:

1- إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ إِذَا كَانَ الْمَدِينُ مَلِيئًا غَيْرَ جَاحِدٍ لِلدَّيْنِ، أَوْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا وَلَمْ يَحِلَّ أَجَلُهُ، إِذْ لَا شُبْهَةَ لَهُ حِينَئِذٍ.

2- عَدَمُ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الدَّائِنِ إِذَا كَانَ الْمَدِينُ جَاحِدًا أَوْ مُمَاطِلًا وَالدَّيْنُ حَالٌّ، سَوَاءٌ أَخَذَ الدَّائِنُ مِقْدَارَ دَيْنِهِ أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ إِنْ أَخَذَ مِقْدَارَ دَيْنِهِ فَهُوَ مَأْذُونٌ فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، وَإِنْ أَخَذَ أَكْثَرَ لَا يَقْطَعُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَمْ يَبْقَ مُحْرَزًا عَنْهُ مَا دَامَ قَدْ أُبِيحَ لَهُ الدُّخُولُ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ.

وَيُفَرِّقُ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ ثَلَاثِ حَالَاتٍ:

1- إِنْ كَانَ الْمَدِينُ بَاذِلًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ عَنْ أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ، ثُمَّ تَرَكَ الدَّائِنُ مُطَالَبَتَهُ، وَعَمَدَ إِلَى سَرِقَةِ حَقِّهِ، وَجَبَ قَطْعُهُ إِنْ بَلَغَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا، إِذْ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِي الْأَخْذِ مَا دَامَ الْوُصُولُ إِلَى حَقِّهِ مَيْسُورًا.

2- وَإِنْ عَجَزَ الدَّائِنُ عَنِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فَسَرَقَ قَدْرَ دَيْنِهِ فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِي إِبَاحَةِ أَخْذِهِ حَقَّهُ يُورِثُ شُبْهَةً تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ، كَالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ.

3- وَإِنْ عَجَزَ رَبُّ الدَّيْنِ عَنِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فَأَخَذَ مِنْ مَالِ مَدِينِهِ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ، وَبَلَغَتِ الزِّيَادَةُ نِصَابًا: فَإِنْ أَخَذَ الزَّائِدَ مِنْ نَفْسِ الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ مَالُهُ، فَلَا قَطْعَ؛ لِأَنَّ هَتْكَ الْحِرْزِ لِأَخْذِ مَالِهِ جَعَلَ الْمَكَانَ غَيْرَ مُحْرَزٍ بِالنِّسْبَةِ لِكُلِّ مَا فِيهِ.وَإِنْ أَخَذَ الزَّائِدَ مِنْ غَيْرِ الْحِرْزِ الَّذِي فِيهِ مَالُهُ وَجَبَ الْقَطْعُ؛ لِعَدَمِ الشُّبْهَةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


111-موسوعة الفقه الكويتية (سرقة 2)

سَرِقَةٌ -2

الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمَسْرُوقُ مِنْهُ:

23- الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ السَّرِقَةِ وُجُودُ مَسْرُوقٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا، بِأَنْ كَانَ مُبَاحًا أَوْ مَتْرُوكًا، فَلَا يُعَاقَبُ مَنْ يَأْخُذُهُ.وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يَشْتَرِطُونَ فِي الْمَسْرُوقِ مِنْهُ لِكَيْ تَكْتَمِلَ السَّرِقَةُ: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وَأَنْ تَكُونَ يَدُهُ صَحِيحَةً عَلَى الْمَالِ الْمَسْرُوقِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْصُومَ الْمَالِ، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ هَذِهِ الشُّرُوطِ:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مَعْلُومًا:

23 م- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى دَرْءِ الْحَدِّ عَنِ السَّارِقِ إِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مَجْهُولًا، بِأَنْ ثَبَتَتِ السَّرِقَةُ وَلَمْ يُعْرَفْ مَنْ هُوَ صَاحِبُ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ؛ لِأَنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ تَتَوَقَّفُ عَلَى دَعْوَى الْمَالِكِ أَوْ مَنْ فِي حُكْمِهِ، وَلَا تَتَحَقَّقُ الدَّعْوَى مَعَ الْجَهَالَةِ.غَيْرَ أَنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ حَبْسِ السَّارِقِ حَتَّى يَحْضُرَ مَنْ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ وَيَدَّعِيَ مِلْكِيَّةَ الْمَالِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ مَتَى ثَبَتَتِ السَّرِقَةُ، دُونَ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا؛ لِأَنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ عِنْدَهُمْ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى خُصُومَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ عَلَى الْمَسْرُوقِ:

24- بِأَنْ يَكُونَ مَالِكًا لَهُ أَوْ وَكِيلَ الْمَالِكِ أَوْ مُضَارِبًا أَوْ مُودِعًا أَوْ مُسْتَعِيرًا أَوْ دَائِنًا مُرْتَهِنًا أَوْ مُسْتَأْجِرًا أَوْ عَامِلَ قِرَاضٍ أَوْ قَابِضًا عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَنُوبُونَ مَنَابَ الْمَالِكِ فِي حِفْظِ الْمَالِ وَإِحْرَازِهِ، وَأَيْدِيهِمْ كَيَدِهِ.

فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ يَدُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ غَيْرَ صَحِيحَةٍ عَلَى الْمَالِ الْمَسْرُوقِ، كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ غَاصِبٍ أَوْ سَارِقٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ السَّارِقِ مِنَ الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ مِنَ السَّارِقِ.فَقَالُوا بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ مِنَ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ ضَمَانٍ، فَهِيَ يَدٌ صَحِيحَةٌ، وَعَدَمُ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ مِنَ السَّارِقِ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ يَدَ مِلْكٍ وَلَا يَدَ أَمَانَةٍ وَلَا يَدَ ضَمَانٍ، فَلَا تَكُونُ يَدًا صَحِيحَةً.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ- وَهُوَ رَأْيٌ مَرْجُوحٌ لِلشَّافِعِيَّةِ- إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ مِنَ الْغَاصِبِ أَوِ السَّارِقِ مِنَ السَّارِقِ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مُحْرَزًا لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، ذَلِكَ أَنَّ يَدَ الْمَالِكِ لِهَذَا الْمَالِ لَا تَزَالُ بَاقِيَةً عَلَيْهِ رَغْمَ سَرِقَتِهِ أَوْ غَصْبِهِ، أَمَّا يَدُ السَّارِقِ الْأَوَّلِ وَيَدُ الْغَاصِبِ فَلَيْسَ لَهُمَا أَيُّ أَثَرٍ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ مِنَ الْغَاصِبِ، وَلَا عَلَى السَّارِقِ مِنَ السَّارِقِ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ لِتَمَامِ السَّرِقَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمَسْرُوقُ بِيَدِ الْمَالِكِ أَوْ نَائِبِهِ، وَمَنْ يَأْخُذُ مِنْ يَدٍ أُخْرَى فَكَأَنَّهُ وَجَدَ مَالًا ضَائِعًا فَأَخَذَهُ.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مَعْصُومَ الْمَالِ:

25- بِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مُسْتَأْمَنًا أَوْ حَرْبِيًّا فَلَا يُقْطَعُ سَارِقُهُ وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي:

1- سَرِقَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَالَ الْمُسْلِمِ مَعْصُومٌ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْءٌ إِلاَّ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ».وَلِهَذَا وَجَبَ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى سَارِقِ مَالِ الْمُسْلِمِ سَوَاءٌ أَكَانَ السَّارِقُ مُسْلِمًا أَمْ ذِمِّيًّا.وَأَمَّا إِذَا كَانَ السَّارِقُ مُسْتَأْمَنًا فَفِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ آرَاءٌ سَبَقَ عَرْضُهَا.

2- سَرِقَةُ مَالِ الذِّمِّيِّ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الذِّمِّيِّ الَّذِي يَسْرِقُ مَالَ ذِمِّيٍّ آخَرَ؛ لِأَنَّ مَالَهُ مَعْصُومٌ إِزَاءَهُ.وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِقَامَةَ الْحَدِّ كَذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ الذِّمِّيِّ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَهُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْنَا»

أَمَّا إِذَا كَانَ السَّارِقُ مُسْتَأْمَنًا فَفِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ آرَاءٌ سَبَقَ عَرْضُهَا.

3- سَرِقَةُ مَالِ الْمُسْتَأْمَنِ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- عَدَا زُفَرَ- وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْمُسْلِمِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ الْمُسْتَأْمَنِ؛ لِأَنَّ فِي مَالِهِ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَتِ الْعِصْمَةُ بِعَارِضِ أَمَانٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ، أَيْ مُشْرِفٍ عَلَى الزَّوَالِ بِانْتِهَاءِ الْأَمَانِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِلَى أَنَّ مَالَ الْمُسْتَأْمَنِ مَعْصُومٌ، فَإِذَا سَرَقَ مِنْهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

4- سَرِقَةُ مَالِ الْحَرْبِيِّ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ هَدَرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، وَلِهَذَا لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى أَيٍّ مِنْهُمَا إِذَا سَرَقَ مِنْ هَذَا الْمَالِ.

الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمَالُ الْمَسْرُوقُ:

26- لَا يُقَامُ حَدُّ السَّرِقَةِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمَسْرُوقُ مُتَقَوِّمًا، وَأَنْ يَبْلُغَ نِصَابًا، وَأَنْ يَكُونَ مُحْرَزًا.

1- أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا:

27- لِلْفُقَهَاءِ فِي تَحْدِيدِ مَالِيَّةِ الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ آرَاءٌ تَتَّضِحُ فِيمَا يَأْتِي:

أ- الْحَنَفِيَّةُ:

28- يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ، لِإِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَالًا، مُتَقَوَّمًا، مُتَمَوَّلًا، غَيْرَ مُبْاحِ الْأَصْلِ.

1- أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَالًا: فَلَوْ سَرَقَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، كَالْإِنْسَانِ الْحُرِّ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَسْرُوقُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا،

حَتَّى لَوْ كَانَ يَرْتَدِي ثِيَابًا غَالِيَةَ الثَّمَنِ أَوْ يَحْمِلُ حِلْيَةً تُسَاوِي نِصَابًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَابِعٌ لِلصَّبِيِّ وَلَا يَنْفَرِدُ بِحُكْمٍ خَاصٍّ.

وَخَالَفَ فِي هَذَا الْحُكْمِ أَبُو يُوسُفَ: فَإِنَّهُ يَرَى إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى سَارِقِ الصَّبِيِّ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ حُلِيٌّ أَوْ ثِيَابٌ تَبْلُغُ نِصَابًا؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ بِسَرِقَةِ النِّصَابِ مُنْفَرِدًا، فَكَذَا إِذَا كَانَ مَعَ غَيْرِهِ.

2- أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مُتَقَوِّمًا، أَيْ لَهُ قِيمَةٌ يَضْمَنُهَا مَنْ يُتْلِفُهُ: فَلَوْ سَرَقَ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ، كَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَآلَاتِ اللَّهْوِ وَالْكُتُبِ الْمُحَرَّمَةِ وَالصَّلِيبِ وَالصَّنَمِ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ.وَخَالَفَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَرَى إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَنْ سَرَقَ صَلِيبًا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصَابًا إِذَا كَانَ فِي حِرْزِهِ كَمَا يَرَى إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَنْ سَرَقَ آنِيَةً فِيهَا خَمْرٌ، إِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الْإِنَاءِ وَحْدَهُ نِصَابًا.

3- أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مُتَمَوَّلًا، بِأَنْ يَكُونَ غَيْرَ تَافِهٍ وَيُمْكِنُ ادِّخَارُهُ: فَأَمَّا إِنْ كَانَ تَافِهًا لَا يَتَمَوَّلُهُ النَّاسُ لِعَدَمِ عِزَّتِهِ وَقِلَّةِ خَطَرِهِ، كَالتُّرَابِ وَالطِّينِ وَالتِّبْنِ وَالْقَصَبِ وَالْحَطَبِ وَنَحْوِهَا، فَلَا قَطْعَ فِيهِ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَضَنُّونَ بِهِ عَادَةً، إِلاَّ إِذَا أَخْرَجَتْهُ الصِّنَاعَةُ عَنْ تَفَاهَتِهِ، كَالْقَصَبِ يُصْنَعُ مِنْهُ النُّشَّابُ، فَفِي سَرِقَتِهِ الْقَطْعُ.

وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ، فَإِنَّهُ يَرَى إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَنْ سَرَقَ مَالًا مُحْرَزًا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصَابًا، سَوَاءٌ أَكَانَ تَافِهًا أَمْ عَزِيزًا، إِلاَّ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ وَالطِّينَ وَالْجِصَّ وَالْمَعَازِفَ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ وَوَجَبَ ضَمَانُ غَصْبِهِ يُقْطَعُ سَارِقُهُ.

وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ كَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ ادِّخَارُهُ، بِأَنْ كَانَ مِمَّا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ.

وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ فَأَوْجَبَ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، قِيَاسًا لِمَا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ عَلَى مَا لَا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُتَمَوَّلُ عَادَةً وَيُرْغَبُ فِيهِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَا حَدَّ فِي سَرِقَةِ الثِّمَارِ الْمُعَلَّقَةِ فِي أَشْجَارِهَا، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْجَارُ مُحَاطَةً بِمَا يَحْفَظُهَا مِنْ أَيْدِي الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَ مَا دَامَ فِي شَجَرِهِ يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ.

أَمَّا إِذَا قُطِعَ الثَّمَرُ وَوُضِعَ فِي جَرِينٍ، ثُمَّ سُرِقَ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَحْكَمَ جَفَافُهُ فَفِيهِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُدَّخَرًا وَلَا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدِ اسْتَحْكَمَ جَفَافُهُ فَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ سَرَقَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الِادِّخَارَ حَيْثُ يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ. وَلَا يَجِبُ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْمُصْحَفَ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ حِلْيَةٌ تَبْلُغُ النِّصَابَ، وَلَا عَلَى مَنْ يَسْرِقُ كُتُبَ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ؛ لِأَنَّ آخِذَهَا يَتَأَوَّلُ فِي أَخْذِهِ الْقِرَاءَةَ وَالتَّعَلُّمَ.وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى قَطْعِ سَارِقِ الْمُصْحَفِ أَوْ أَيِّ كِتَابٍ نَافِعٍ، إِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَعُدُّونَهُ مِنْ نَفَائِسِ الْأَمْوَالِ.

4- أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ غَيْرَ مُبَاحِ الْأَصْلِ بِأَلاَّ يَكُونَ جِنْسُهُ مُبَاحًا: فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى سَارِقِ الْمَاءِ أَوِ الْكَلأَِ أَوِ النَّارِ أَوِ الصَّيْدِ، بَرِّيًّا كَانَ أَوْ بَحْرِيًّا، وَلَوْ دَخَلَتْ فِي مِلْكِ مَالِكٍ وَأَحْرَزَهَا؛ لِأَنَّهَا: إِمَّا شَرِكَةٌ بَيْنَ النَّاسِ وَإِمَّا تَافِهَةٌ أَوْ عَلَى وَشْكِ الِانْفِلَاتِ.وَخَالَفَهُمْ أَبُو يُوسُفَ فَأَوْجَبَ الْحَدَّ فِي كُلِّ ذَلِكَ.

عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُبَاحَ الْأَصْلِ ذَا قِيمَةٍ تَدْعُو مَنْ أَحْرَزَهَا إِلَى الْحِفَاظِ عَلَيْهَا وَالتَّعَلُّقِ بِهَا، فَإِنَّ الْحَدَّ يُقَامُ عَلَى سَارِقِهَا مَتَى بَلَغَتْ نِصَابًا، وَذَلِكَ مِثْلُ: الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْأَبَنُوسِ وَالصَّنْدَلِ وَالزَّبَرْجَدِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ وَنَحْوِهَا.

ب- الْمَالِكِيَّةُ:

29- يَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَالًا مُحْتَرَمًا شَرْعًا.

وَرَغْمَ اشْتِرَاطِهِمُ الْمَالِيَّةَ، فَقَدْ أَوْجَبُوا الْقَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ حُرًّا صَغِيرًا غَيْرَ مُمَيَّزٍ، إِذَا أَخَذَهُ مِنْ حِرْزٍ، بِأَنْ كَانَ فِي بَيْتٍ مُغْلَقٍ مَثَلًا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ ثِيَابُهُ رَثَّةً أَمْ جَدِيدَةً، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ عَلَيْهِ حُلْمِيَّةً أَمْ لَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «أُتِيَ بِرَجُلٍ يَسْرِقُ الصِّبْيَانَ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيَبِيعُهُمْ فِي أَرْضٍ أُخْرَى، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقُطِعَتْ يَدُهُ».

وَلِاشْتِرَاطِهِمْ فِي الْمَالِ الْمَسْرُوقِ أَنْ يَكُونَ مُحْتَرَمًا شَرْعًا، لَا يُقِيمُونَ الْحَدَّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْخَمْرَ أَوِ الْخِنْزِيرَ، وَلَوْ كَانَا لِغَيْرِ مُسْلِمٍ، وَلَا عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْكَلْبَ وَلَوْ مُعَلَّمًا، أَوْ كَلْبَ حِرَاسَةٍ، لِنَهْيِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ ثَمَنِهِ.وَلَا عَلَى مَنْ يَسْرِقُ آلَاتِ اللَّهْوِ كَالدُّفِّ وَالطَّبْلِ وَالْمِزْمَارِ، أَوْ أَدَوَاتِ الْقِمَارِ كَالنَّرْدِ أَوْ مَا يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ كَالصَّلِيبِ وَالصَّنَمِ وَنَحْوِهَا.وَلَكِنَّهُ لَوْ كَسَرَهَا دَاخِلَ الْحِرْزِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ مَكْسِرِهَا مَا قِيمَتُهُ نِصَابٌ، أُقِمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِسَرِقَتِهِ نِصَابًا مُحْرَزًا. وَلَوْ سَرَقَ آنِيَةً فِيهَا خَمْرٌ، وَكَانَتْ قِيمَةُ الْآنِيَةِ بِدُونِ الْخَمْرِ تَبْلُغُ النِّصَابَ، أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَكِنَّهُ لَوْ سَرَقَ كُتُبًا غَيْرَ مُحْتَرَمَةٍ شَرْعًا، كَكُتُبِ السِّحْرِ وَالزَّنْدَقَةِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْوَرَقِ وَالْجِلْدِ تَبْلُغُ نِصَابًا.

وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَدَّ يُقَامُ عَلَى مَنْ سَرَقَ مَالًا مُحْتَرَمًا شَرْعًا، سَوَاءٌ أَكَانَ تَافِهًا أَمْ ثَمِينًا، يُمْكِنُ ادِّخَارُهُ أَوْ لَا، مُبَاحَ الْأَصْلِ أَوْ غَيْرَ مُبَاحٍ.كَمَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ سَرَقَ الْمُصْحَفَ أَوِ الْكُتُبَ النَّافِعَةَ، مَا دَامَتْ قِيمَتُهَا تَبْلُغُ النِّصَابَ.

وَلَا يَرَى الْمَالِكِيَّةُ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنَ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فِي شَجَرِهِ، أَوْ مِنَ الزَّرْعِ قَبْلَ حَصْدِهِ، فَإِذَا قُطِعَ الثَّمَرُ وَحُصِدَ الزَّرْعُ وَلَمْ يَصِلْ إِلَى الْجَرِينِ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: الْقَطْعُ سَوَاءٌ ضُمَّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ أَمْ لَا.

الثَّانِي: لَا يُقْطَعُ مُطْلَقًا.

الثَّالِثُ: إِذَا سُرِقَ قَبْلَ ضَمِّ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ لَا يُقْطَعُ فَإِذَا ضُمَّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ قُطِعَ.

وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَحَلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَارِسٌ وَإِلاَّ فَلَا خِلَافَ فِي قَطْعِ سَارِقِهِ وَكَذَا إِذَا وَصَلَ إِلَى الْجَرِينِ.وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ، فَإِذَا آوَاهُ الْجَرِينُ قُطِعَ».وَإِذَا كَانَتِ الثِّمَارُ مُعَلَّقَةً فِي أَشْجَارِهَا، وَالزَّرْعُ لَمْ يُحْصَدْ، وَلَكِنَّهُ فِي بُسْتَانٍ عَلَيْهِ حَائِطٌ وَلَهُ غَلْقٌ، أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنْهُ نِصَابًا- فِي رَأْيٍ- وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي رَأْيٍ آخَرَ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ.أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْأَشْجَارُ الْمُثْمِرَةُ دَاخِلَ الدَّارِ، فَلَا خِلَافَ عِنْدَهُمْ فِي قَطْعِ مَنْ يَسْرِقُ مِنْهَا مَا قِيمَتُهُ نِصَابٌ، لِتَمَامِ الْحِرْزِ.

ج- الشَّافِعِيَّةُ:

30- يَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ، لِإِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ، أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَالًا مُحْتَرَمًا شَرْعًا.وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا يُقِيمُونَ الْحَدَّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْحُرَّ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ.فَأَمَّا إِنْ سَرَقَ صَغِيرًا لَا يُمَيِّزُ أَوْ مَجْنُونًا أَوْ أَعْجَمِيًّا أَوْ أَعْمَى، وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ أَوْ حِلْيَةٌ أَوْ مَعَهُ مَالٌ يَلِيقُ بِمِثْلِهِ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ- فِي الْأَصَحِّ- لِأَنَّ لِلْحُرِّ يَدًا عَلَى مَا مَعَهُ فَصَارَ كَمَنْ سَرَقَ جَمَلًا وَصَاحِبُهُ رَاكِبُهُ، وَالرَّأْيُ الْآخَرُ فِي الْمَذْهَبِ يَرَى إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ إِنْ بَلَغَ مَا مَعَهُ نِصَابًا؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ لِأَجْلِ مَا مَعَهُ.فَإِنْ كَانَ مَا مَعَهُ مِنْ مَالٍ أَوْ مَا عَلَيْهِ مِنْ ثِيَابٍ أَوْ حِلْيَةٍ فَوْقَ مَا يَلِيقُ بِهِ.وَأَخَذَ السَّارِقُ مِنْهُ نِصَابًا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ، أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِلَا خِلَافٍ.

وَلِاشْتِرَاطِهِمْ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمَسْرُوقُ مُحْتَرَمًا شَرْعًا، لَا يُقِيمُونَ الْحَدَّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْخَمْرَ أَوِ الْخِنْزِيرَ أَوِ الْكَلْبَ أَوْ جِلْدَ الْمَيْتَةِ قَبْلَ دَبْغِهِ.فَأَمَّا إِذَا سَرَقَ آلَاتِ اللَّهْوِ أَوْ أَدَوَاتِ الْقِمَارِ أَوْ آنِيَةِ.الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَوِ الصَّنَمَ أَوِ الصَّلِيبَ أَوِ الْكُتُبَ غَيْرَ الْمُحْتَرَمَةِ شَرْعًا، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِلاَّ إِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ مَا سَرَقَهُ نِصَابًا بَعْدَ كَسْرِهِ أَوْ إِفْسَادِهِ.

وَيُقَامُ الْحَدُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْمُصْحَفَ أَوِ الْكُتُبَ الْمُبَاحَةَ إِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا وَيُقَامُ الْحَدُّ أَيْضًا إِذَا سَرَقَ مَالًا قَطَعَ فِيهِ، وَكَانَ مُتَّصِلًا بِمَا فِيهِ الْقَطْعُ، كَإِنَاءٍ فِيهِ خَمْرٌ أَوْ آلَةِ لَهْوٍ عَلَيْهَا حِلْيَةٌ، مَا دَامَتْ قِيمَةُ مَا فِيهِ الْقَطْعُ تَبْلُغُ النِّصَابَ.

وَلَا حَدَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي سَرِقَةِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فِي شَجَرِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَارِسٌ، وَلَمْ يَتَّصِلْ بِجِيرَانٍ يُلَاحِظُونَهُ، فَإِذَا آوَاهُ الْجَرِينُ أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنْهُ نِصَابًا.

وَإِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ نِصَابًا مُحْرَزًا مِنْ مَالٍ مُحْتَرَمٍ شَرْعًا، لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى صِفَةِ الْمَالِ، فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ التَّافِهِ وَغَيْرِهِ، وَلَا بَيْنَ مَا يُمْكِنُ ادِّخَارُهُ أَوْ لَا، وَلَا بَيْنَ مُبَاحِ الْأَصْلِ أَوْ غَيْرِ مُبَاحِهِ.

د- الْحَنَابِلَةُ:

31- يَشْتَرِطُ الْحَنَابِلَةُ، لِإِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ، أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَالًا مُحْتَرَمًا شَرْعًا، وَعَلَى ذَلِكَ: فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى سَارِقِ الْحُرِّ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ.فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَالٌ أَوْ عَلَيْهِ ثِيَابٌ أَوْ حِلْيَةٌ تَبْلُغُ النِّصَابَ، فَعِنْدَهُمْ رِوَايَتَانِ: الْأُولَى: إِيجَابُ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْمَالَ، وَالْأُخْرَى: عَدَمُ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا مَعَهُ تَابِعٌ لِمَا لَا قَطْعَ فِيهِ.

وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عِنْدَهُمْ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ شَيْئًا مُحَرَّمًا، كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْلِمًا أَمْ ذِمِّيًّا، وَلَا عَلَى مَنْ يَسْرِقُ آلَاتِ اللَّهْوِ أَوْ أَدَوَاتِ الْقِمَارِ وَإِنْ بَلَغَتْ بَعْدَ إِتْلَافِهَا نِصَابًا؛ لِأَنَّهَا تُعِينُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَكَانَ لَهُ الْحَقُّ فِي أَخْذِهَا وَكَسْرِهَا، وَفِي ذَلِكَ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ، أَمَّا إِذَا كَانَ عَلَيْهَا حِلْيَةٌ تَبْلُغُ نِصَابًا فَفِي إِقَامَةِ الْحَدِّ بِسَرِقَتِهَا رِوَايَتَانِ.وَإِذَا سَرَقَ صَلِيبًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةٍ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يُقَامُ الْحَدُّ إِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا بَعْدَ كَسْرِهِ.وَمَنْ يَسْرِقُ آنِيَةَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهَا نِصَابًا بَعْدَ كَسْرِهَا.وَإِذَا اتَّصَلَ مَا لَا قَطْعَ فِيهِ بِمَا فِيهِ الْقَطْعُ، كَإِنَاءٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ النِّصَابَ وَفِيهِ خَمْرٌ، فَفِي الْمَذْهَبِ رِوَايَتَانِ، الْأُولَى: لَا قَطْعَ لِتَبَعِيَّتِهِ، وَالْأُخْرَى: وُجُوبُ إِقَامَةِ الْحَدِّ.

وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ يُوجِبُونَ إِقَامَةَ الْحَدِّ فِي سَرِقَةِ الْمُصْحَفِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ.وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ بِسَرِقَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَا فِيهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مِمَّا لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، وَالْمُصْحَفُ الْمُحَلَّى بِحِلْيَةٍ تَبْلُغُ نِصَابًا فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ؛ لِاتِّصَالِ الْحِلْيَةِ بِمَا لَا قَطْعَ فِيهِ، وَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ، كَمَا لَوْ سَرَقَ الْحِلْيَةَ وَحْدَهَا.وَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ بِسَرِقَةِ كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، إِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا.

وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى سَرِقَةِ الثِّمَارِ الْمُعَلَّقَةِ أَوِ الْكَثَرِ، وَلَوْ كَانَتْ فِي بُسْتَانٍ مُحَاطٍ بِسُوَرٍ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا فِي كَثَرٍ».فَأَمَّا إِذَا كَانَ النَّخْلُ أَوِ الشَّجَرُ دَاخِلَ دَارٍ مُحْرَزَةٍ، فَفِيمَا يُسْرَقُ الْقَطْعُ إِنْ بَلَغَ نِصَابًا.

وَإِقَامَةُ الْحَدِّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى صِفَةِ الْمَالِ مِنْ كَوْنِهِ تَافِهًا أَوْ لَا، مُبَاحَ الْأَصْلِ أَوْ غَيْرَ مُبَاحٍ، مُعَرَّضًا لِلتَّلَفِ أَوْ لَيْسَ مُعَرَّضًا.وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَسْتَثْنُونَ الْمَاءَ وَالْمِلْحَ وَالْكَلأَ وَالثَّلْجَ وَالسِّرْجِينَ، فَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَتِهَا؛ لِاشْتِرَاكِ النَّاسِ فِي بَعْضِهَا بِنَصِّ الْحَدِيثِ وَلِعَدَمِ تَمَوُّلِ الْبَعْضِ الْآخَرِ عَادَةً.

2- أَنْ يَبْلُغَ الْمَسْرُوقُ نِصَابًا.

32- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ إِلاَّ إِذَا بَلَغَ الْمَالُ الْمَسْرُوقُ نِصَابًا.

وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ مِقْدَارِ النِّصَابِ،

وَفِي وَقْتِ هَذَا التَّحْدِيدِ، وَفِي أَثَرِ اخْتِلَافِ الْمُقَوِّمِينَ لِمَا يُسْرَقُ، وَفِي وُجُوبِ عِلْمِ السَّارِقِ بِقِيمَةِ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ.

أ- الْحَنَفِيَّةُ:

1- تَحْدِيدُ مِقْدَارِ النِّصَابِ:

33- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ النِّصَابَ الَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ هُوَ عَشْرَةُ دَارَهُمْ مَضْرُوبَةً، أَوْ مَا قِيمَتُهُ عَشْرَةٌ، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عِنْدَهُمْ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى لَوْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ رُبُعَ دِينَارٍ.وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إِلاَّ فِي دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ».وَلِقَوْلِهِ أَيْضًا: {لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِيمَا دُونَ ثَمَنِ الْمِجَنِّ».

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ ثَمَنِ الْمِجَنِّ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِأَرْبَعَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِخَمْسَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِعَشْرَةٍ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَكْثَرِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِي الْأَقَلِّ احْتِمَالًا يُورِثُ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ.

2- وَقْتُ تَحْدِيدِ النِّصَابِ:

الْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ.فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، ثُمَّ زَادَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا عِبْرَةَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَمِنْ ثَمَّ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ.أَمَّا إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ نَقَصَتْ هَذِهِ الْقِيمَةُ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ فَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ: إِنْ كَانَ النُّقْصَانُ فِي عَيْنِ الْمَسْرُوقِ بِأَنْ هَلَكَ بَعْضُهُ فِي يَدِ السَّارِقِ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ، فَلَا عِبْرَةَ بِهَذَا النَّقْصِ؛ لِأَنَّ هَلَاكَ الْكُلِّ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ، فَهَلَاكُ الْبَعْضِ أَوْلَى بِأَلاَّ يَمْنَعَ مِنْ إِقَامَتِهِ، وَلِذَلِكَ تُطَبَّقُ قَاعِدَةُ: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ.أَمَّا إِنْ كَانَ سَبَبُ نُقْصَانِ الْقِيمَةِ يَرْجِعُ إِلَى تَغَيُّرِ سِعْرِهِ، فَفِي الْمَذْهَبِ رِوَايَتَانِ: رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرَجَّحَهَا الطَّحَاوِيُّ، أَنَّ الِاعْتِبَارَ لَقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ، فَتُطَبَّقُ الْقَاعِدَةُ السَّابِقَةُ.وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَمَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ، وَقْتَ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْحِرْزِ وَوَقْتَ الْحُكْمِ مَعًا، فَإِذَا تَغَيَّرَتِ الْأَسْعَارُ، بِأَنْ نَقَصَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ عَنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ قَبْلَ الْحُكْمِ، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ لَا دَخْلَ لِلسَّارِقِ فِي ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ النَّقْصَ عِنْدَ الْحُكْمِ يُورِثُ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ.

وَإِذَا وَقَعَتِ السَّرِقَةُ فِي مَكَانٍ، وَضُبِطَ الْمَسْرُوقُ فِي مَكَانٍ آخَرَ، كَانَتِ الْعِبْرَةُ- فِي رَأْيٍ- بِقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ فِي مَحَلِّ السَّرِقَةِ، وَفِي رَأْيٍ آخَرَ: تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي مَحَلِّ ضَبْطِهِ.

3- اخْتِلَافُ الْمُقَوِّمِينَ فِي تَحْدِيدِ قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ الْمُقَوِّمُونَ فِي تَحْدِيدِ قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ، فَقَدَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَقَدَّرَهَا الْبَعْضُ الْآخَرُ بِأَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ تَكُونُ بِالْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ يُورِثُ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- هَمَّ بِقَطْعِ يَدِ سَارِقٍ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ- رضي الله عنه-: إِنَّ مَا سَرَقَهُ لَا يُسَاوِي نِصَابًا، فَدَرَأَ عَنْهُ الْحَدَّ.

4- عِلْمُ السَّارِقِ بِقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ:

ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى الِاكْتِفَاءِ بِقَصْدِ السَّرِقَةِ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ، مَا دَامَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ تَبْلُغُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ حَتَّى وَلَوْ كَانَ السَّارِقُ يَعْتَقِدُ أَنَّ قِيمَتَهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، بِأَنْ سَرَقَ ثَوْبًا لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ النِّصَابَ، فَوَجَدَ فِي جَيْبِهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ.

وَذَهَبَ الْبَعْضُ الْآخَرُ إِلَى اشْتِرَاطِ عِلْمِ السَّارِقِ بِقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ، بِأَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ فِي جَيْبِ الثَّوْبِ نِصَابًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ سَرِقَةَ الثَّوْبِ وَحْدَهُ وَهُوَ لَا يَبْلُغُ النِّصَابَ.بِخِلَافِ مَا لَوْ سَرَقَ جِرَابًا أَوْ صُنْدُوقًا، وَكَانَ بِهِ مَالٌ كَثِيرٌ لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَتَهُ، فَلَا خِلَافَ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْمَظْرُوفَ لَا الظَّرْفَ. ب- الْمَالِكِيَّةُ:

1- تَحْدِيدُ مِقْدَارِ النِّصَابِ:

34- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ النِّصَابَ الَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ هُوَ رُبُعُ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ شَرْعِيَّةً خَالِصَةً مِنَ الْغِشِّ أَوْ نَاقِصَةً تَرُوجُ رَوَاجَ الْكَامِلَةِ، أَوْ مَا قِيمَتُهُ ذَلِكَ.فَالْقَاعِدَةُ عِنْدَهُمْ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ قُوِّمَ بِالدَّرَاهِمِ، فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَلَمْ تَبْلُغْ رُبُعَ دِينَارٍ أُقِيمَ الْحَدُّ، أَمَّا إِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ رُبُعَ دِينَارٍ وَلَمْ تَبْلُغْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فَلَا حَدَّ.

وَدَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم-: «قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ».وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلاَّ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا».فَأَخَذُوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنَ الذَّهَبِ، وَبِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ فِضَّةً أَوْ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.

2- وَقْتُ تَحْدِيدِ النِّصَابِ: الْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قِيمَةُ النِّصَابِ وَوَقْتُ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ حِينَ السَّرِقَةِ ثُمَّ بَلَغَتِ الثَّلَاثَةُ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ.وَعَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ: إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ نَقَصَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أُقِيمَ الْحَدُّ، سَوَاءٌ أَكَانَ النَّقْصُ فِي عَيْنِ الْمَسْرُوقِ أَمْ كَانَ بِسَبَبِ تَغَيُّرِ الْأَسْعَارِ.

وَإِذَا وَقَعَتِ السَّرِقَةُ بِمَكَانٍ، وَضُبِطَ الْمَسْرُوقُ فِي مَكَانٍ آخَرَ، فَالْعِبْرَةُ بِمَحَلِّ السَّرِقَةِ.

3- اخْتِلَافُ الْمُقَوِّمِينَ فِي تَحْدِيدِ قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ: الْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَقْدِيمُ الْمُثْبَتِ عَلَى النَّافِي، فَإِذَا شَهِدَ عَدْلَانِ بِأَنَّ قِيمَةَ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا، أُخِذَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَأُقِيمَ الْحَدُّ، وَلَوْ عَارَضَتْهَا شَهَادَاتٌ أُخْرَى.

4- عِلْمُ السَّارِقِ بِقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ: يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِقَصْدِ السَّرِقَةِ، لَا بِظَنِّ السَّارِقِ، إِلاَّ إِذَا صَدَّقَ الْعُرْفُ ظَنَّهُ.فَلَوْ سَرَقَ ثَوْبًا لَا يُسَاوِي نِصَابًا، وَلَكِنْ كَانَ فِي جَيْبِهِ مَالٌ يَبْلُغُ النِّصَابَ، أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ بِمَا فِي الْجَيْبِ، لِأَنَّ الْعُرْفَ جَرَى عَلَى وَضْعِ النُّقُودِ فِي جُيُوبِ الثِّيَابِ.أَمَّا إِذَا سَرَقَ قِطْعَةَ خَشَبٍ، لَا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهَا، فَوَجَدَهَا مُجَوَّفَةً وَبِهَا مَالٌ يَبْلُغُ النِّصَابَ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِأَنَّ الْعُرْفَ لَمْ يَجْرِ عَلَى حِفْظِ النُّقُودِ بِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ.

ج- الشَّافِعِيَّةُ:

1- تَحْدِيدُ مِقْدَارِ النِّصَابِ:

35- ذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى تَحْدِيدِ مِقْدَارِ النِّصَابِ بِرُبُعِ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ، أَوْ مَا قِيمَتُهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي تَقْوِيمِ الْأَشْيَاءِ: الذَّهَبُ.وَعَلَى ذَلِكَ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ أَوْ مَا قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، إِذَا قَلَّتْ قِيمَتُهَا عَنْ رُبُعِ دِينَارٍ مِنْ غَالِبِ الدَّنَانِيرِ الْجَيِّدَةِ.

وَدَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلاَّ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا».

2- وَقْتُ تَحْدِيدِ النِّصَابِ: يَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قِيمَةُ النِّصَابِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ تَقِلُّ عَنْ رُبُعِ دِينَارٍ حِينَ السَّرِقَةِ، ثُمَّ بَلَغَتْ رُبُعَ دِينَارٍ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ.أَمَّا إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ رُبُعَ دِينَارٍ، ثُمَّ نَقَصَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أُقِيمَ الْحَدُّ، سَوَاءٌ أَكَانَ النَّقْصُ بِفِعْلِ السَّارِقِ، كَأَنْ أَكَلَ بَعْضَهُ، أَمْ كَانَ السَّبَبُ تَغَيُّرَ الْأَسْعَارِ.وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ فِي مَكَانِ السَّرِقَةِ، لَا فِي مَكَانٍ آخَرَ.

3- اخْتِلَافُ الْمُقَوِّمِينَ فِي تَحْدِيدِ قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ: الْقَاعِدَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ شَهَادَةَ الْمُقَوِّمِينَ إِنْ قَامَتْ عَلَى أَسَاسِ الْقَطْعِ أُخِذَ بِهَا، وَإِنْ قَامَتْ عَلَى أَسَاسِ الظَّنِّ أُخِذَ بِالتَّحْدِيدِ الْأَقَلِّ، وَذَلِكَ لِتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ.

4- عِلْمُ السَّارِقِ بِقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ: لَا يَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَعْلَمَ السَّارِقُ قِيمَةَ مَا سَرَقَ، بَلْ يَكْفِي عِنْدَهُمْ أَنْ يَقْصِدَ السَّرِقَةَ.وَعَلَى ذَلِكَ: لَوْ قَصَدَ سَرِقَةَ ثَوْبٍ لَا يُسَاوِي رُبُعَ دِينَارٍ، وَكَانَ فِي جَيْبِهِ مَا قِيمَتُهُ رُبُعُ دِينَارٍ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ.وَلَكِنَّهُ لَوْ قَصَدَ سَرِقَةَ صُنْدُوقٍ بِهِ دَنَانِيرُ، فَوَجَدَهُ فَارِغًا، وَالصُّنْدُوقُ لَا يُسَاوِي رُبُعَ دِينَارٍ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

د- الْحَنَابِلَةُ:

1- تَحْدِيدُ مِقْدَارِ النِّصَابِ:

36- اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَحْمَدَ فِي مِقْدَارِ النِّصَابِ الَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ.فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى تَحْدِيدِهِ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ رُبُعِ دِينَارٍ، أَوْ عَرْضٍ قِيمَتُهُ كَأَحَدِهِمَا.

وَتُحَدِّدُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى النِّصَابَ بِرُبُعِ دِينَارٍ، إِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ ذَهَبًا، وَبِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ إِنْ كَانَ: الْمَسْرُوقُ مِنَ الْفِضَّةِ، وَبِمَا قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، إِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْ غَيْرِهِمَا.

2- وَقْتُ تَحْدِيدِ النِّصَابِ: الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ وَفِي مَكَانِ السَّرِقَةِ، وَلَا عِبْرَةَ بِتَغَيُّرِ هَذِهِ الْقِيمَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ.

3- اخْتِلَافُ الْمُقَوِّمِينَ فِي تَحْدِيدِ قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ: إِذَا قَدَّرَ بَعْضُ الْمُقَوِّمِينَ قِيمَةَ الْمَسْرُوقِ بِنِصَابٍ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِأَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالَةِ تَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ فِي الْقِيمَةِ يُؤْخَذُ بِالْأَقَلِّ.

4- عِلْمُ السَّارِقِ بِقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ: يَشْتَرِطُ الْحَنَابِلَةُ، لِإِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ، أَنْ يَعْلَمَ السَّارِقُ بِأَنَّ مَا سَرَقَهُ يُسَاوِي نِصَابًا.وَعَلَى ذَلِكَ: لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْدِيلًا، لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ النِّصَابَ، وَقَدْ شُدَّ عَلَيْهِ دِينَارٌ، مَا دَامَ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ.فَأَمَّا إِنْ عَلِمَ بِوُجُودِ الدِّينَارِ، أُقِيمَ عَلَيْهِ.حَدُّ السَّرِقَةِ.

3- أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مُحْرَزًا:

37- الْحِرْزُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: الْمَوْضِعُ الْحَصِينُ الَّذِي يُحْفَظُ فِيهِ الْمَالُ عَادَةً، بِحَيْثُ لَا يُعَدُّ صَاحِبُهُ مُضَيِّعًا لَهُ بِوَضْعِهِ فِيهِ.

وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لَا يُقَامُ إِلاَّ إِذَا أَخَذَ السَّارِقُ النِّصَابَ مِنْ حِرْزِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ غَيْرُ الْمُحْرِزِ ضَائِعٌ بِتَقْصِيرٍ مِنْ صَاحِبِهِ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ يَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْحَرِيسَةِ الَّتِي تُوجَدُ فِي مَرَاتِعِهَا، فَقَالَ: فِيهَا ثَمَنُهَا مَرَّتَيْنِ، وَضَرْبُ نَكَالٍ، وَمَا أُخِذَ مِنْ عَطَنِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ إِذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَالثِّمَارُ وَمَا أُخِذَ مِنْهَا فِي أَكْمَامِهَا؟ قَالَ: مَنْ أَخَذَ بِفَمِهِ وَلَمْ يَتَّخِذْ خُبْنَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَمَنِ احْتَمَلَ فَعَلَيْهِ ثَمَنُهُ مَرَّتَيْنِ، وَضَرْبُ نَكَالٍ، وَمَا أُخِذَ مِنْ أَجْرَانِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ، إِذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ» وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْحِرْزِ لِإِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ، لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


112-موسوعة الفقه الكويتية (سرقة 4)

سَرِقَةٌ -4

الِاشْتِرَاكُ فِي الْأَخْذِ:

50- يُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ فِي مَسَائِلِ الِاشْتِرَاكِ فِي السَّرِقَةِ بَيْنَ الشَّرِيكِ الْمُبَاشِرِ وَالشَّرِيكِ بِالتَّسَبُّبِ فَأَمَّا الشَّرِيكُ الْمُبَاشِرُ فَهُوَ الَّذِي يُبَاشِرُ أَحَدَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُكَوِّنُ الْأَخْذَ التَّامَّ، وَهِيَ: إِخْرَاجُ الْمَسْرُوقِ مِنْ حِرْزِهِ وَمِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَإِدْخَالُهُ فِي حِيَازَةِ السَّارِقِ.

وَأَمَّا الشَّرِيكُ بِالتَّسَبُّبِ فَهُوَ الَّذِي لَا يُبَاشِرُ أَحَدَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمُكَوِّنَةِ لِلْأَخْذِ الْمُتَكَامِلِ، وَإِنَّمَا تَقْتَصِرُ فِعْلُهُ عَلَى مَدِّ يَدِ الْعَوْنِ لِلسَّارِقِ، بِأَنْ يُرْشِدَهُ إِلَى مَكَانِ الْمَسْرُوقَاتِ، أَوْ بِأَنْ يَقِفَ خَارِجَ الْحِرْزِ لِيَمْنَعَ اسْتِغَاثَةَ الْجِيرَانِ، أَوْ لِيَنْقُلَ الْمَسْرُوقَاتِ بَعْدَ أَنْ يُخْرِجَهَا السَّارِقُ مِنَ الْحِرْزِ.

وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ إِلاَّ عَلَى الْمُبَاشِرِ، أَمَّا الْمُتَسَبِّبُ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ.

وَيَبْدُو مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فِي الِاشْتِرَاكِ: أَنَّهُمْ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الشَّرِيكِ وَالْمُعَيَّنِ فَيَعْتَبِرُونَ الشَّرِيكَ هُوَ الَّذِي يَقُومُ مَعَ غَيْرِهِ بِعَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُكَوِّنَةِ لِلسَّرِقَةِ، وَخَاصَّةً: هَتْكُ الْحِرْزِ، وَإِخْرَاجُ الْمَسْرُوقِ مِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَإِدْخَالُهُ فِي حِيَازَةِ السَّارِقِ، أَمَّا الْمُعَيَّنُ فَهُوَ مَنْ يُسَاعِدُ السَّارِقَ، فِي دَاخِلِ الْحِرْزِ أَوْ فِي خَارِجِهِ، وَلَكِنْ عَمَلُهُ لَا يَصِلُ إِلَى دَرَجَةٍ يُمْكِنُ مَعَهَا نِسْبَةُ السَّرِقَةِ إِلَيْهِ

وَكَانَ هَذَا أَسَاسَ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَطْبِيقِ الْحَدِّ عَلَى بَعْضِ الشُّرَكَاءِ دُونَ الْبَعْضِ، وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي:

1- الْحَنَفِيَّةُ:

51- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ كُلَّ مَنْ دَخَلَ الْحِرْزَ يُعْتَبَرُ شَرِيكًا فِي السَّرِقَةِ سَوَاءٌ قَامَ بِعَمَلٍ مَادِّيٍّ، كَأَنْ وَضَعَ الْمَسْرُوقَ عَلَى ظَهْرِ زَمِيلِهِ فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحِرْزِ، أَوْ قَامَ بِعَمَلٍ مَعْنَوِيٍّ، كَأَنْ وَقَفَ لِلْمُرَاقَبَةِ أَوْ لِلْإِشْرَافِ عَلَى نَقْلِ الْمَسْرُوقِ مِنَ الْحِرْزِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْجَمِيعِ إِذَا بَلَغَ نَصِيبُ كُلٍّ مِنْهُمْ نِصَابًا، أَمَّا إِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ لَا تَكْفِي لِيُصِيبَ كُلُّ وَاحِدٍ نِصَابًا، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ، بَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى التَّعْزِيرِ.وَيَنْطَبِقُ نَفْسُ الْحُكْمِ عَلَى الشُّرَكَاءِ إِذَا أَخْرَجَ بَعْضُهُمْ مَا قِيمَتُهُ نِصَابًا فَأَكْثَرَ، وَأَخْرَجَ الْبَعْضُ الْآخَرُ مَا قِيمَتُهُ دُونَ النِّصَابِ، فَإِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ مَا يَكْفِي لأَنْ يَخُصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابٌ، قُطِعُوا جَمِيعًا، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ حَظُّ كُلِّ وَاحِدٍ نِصَابًا، قُطِعَ مَنْ أَخْرَجَ نِصَابًا، وَعُزِّرَ الْآخَرُونَ.

أَمَّا إِذَا دَخَلَ الْحِرْزَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، وَبَقِيَ الْآخَرُ خَارِجَهُ، ثُمَّ أَخْرَجَ مَنْ بِالدَّاخِلِ يَدَهُ بِالْمَسْرُوقِ إِلَى خَارِجِ الْحِرْزِ فَتَنَاوَلَهَا شَرِيكُهُ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى أَنَّ الْأَخْذَ غَيْرُ تَامٍّ بِالنِّسْبَةِ لِلدَّاخِلِ، لِأَنَّهُ أَخْرَجَ الْمَسْرُوقَ مِنَ الْحِرْزِ وَمِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُدْخِلْهُ فِي حِيَازَةِ نَفْسِهِ، بَلْ فِي حِيَازَةِ الْخَارِجِ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.وَيَرَى كَذَلِكَ أَنَّ الْأَخْذَ غَيْرُ تَامٍّ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ دَخَلَ فِي حِيَازَتِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ لَا مِنْ حِرْزِهِ وَلَا مِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَيْضًا.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الْأَخْذَ تَامٌّ بِالنِّسْبَةِ لِلدَّاخِلِ دُونَ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ دَخَلَ فِي حِيَازَتِهِ، حَيْثُ أَقَامَ شَرِيكَهُ الْخَارِجَ مَقَامَهُ عِنْدَمَا سَلَّمَهُ الْمَسْرُوقَ.وَتَفْصِيلُ الْحُكْمِ فِي الصُّوَرِ الَّتِي يُمْكِنُ حُدُوثُهَا يُبْنَى عَلَى مَسْأَلَةِ الْهَتْكِ الْمُتَكَامِلِ وَمَسْأَلَةِ «الْيَدِ الْمُعْتَرِضَةِ» الَّتِي سَبَقَ بَيَانُهُمَا.فِي ف 43، 47.

2- الْمَالِكِيَّةُ:

52- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ صِفَةَ الشَّرِيكِ تُطْلَقُ عَلَى مَنْ يُعِينُ السَّارِقَ إِذَا قَامَ بِعَمَلٍ مَادِّيٍّ لَا بُدَّ مِنْهُ لِإِخْرَاجِ الْمَسْرُوقِ مِنَ الْحِرْزِ، سَوَاءٌ حَدَثَتِ الْإِعَانَةُ وَهُوَ فِي دَاخِلِ الْحِرْزِ، بِأَنْ وَضَعَ الْمَسْرُوقَ عَلَى ظَهْرِ زَمِيلِهِ، فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحِرْزِ، أَوْ حَدَثَتْ وَهُوَ فِي خَارِجِ الْحِرْزِ، بِأَنْ مَدَّ يَدَهُ دَاخِلَ الْحِرْزِ وَأَخَذَ الْمَسْرُوقَ مِنْ يَدِ زَمِيلِهِ الَّذِي فِي الدَّاخِلِ، بِحَيْثُ تُصَاحِبُ فِعْلَاهُمَا فِي حَالِ الْإِخْرَاجِ، أَوْ بِأَنْ يَرْبِطَ الدَّاخِلُ الْمَسْرُوقَ بِحَبْلٍ وَنَحْوِهِ فَيَجُرُّهُ الْخَارِجُ، بِحَيْثُ لَا يُعْتَبَرُ الدَّاخِلُ مُسْتَقِلًّا بِالْإِخْرَاجِ.أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْإِعَانَةُ بِأَمْرٍ مَعْنَوِيٍّ كَأَنْ يَدْخُلَ الْحِرْزَ أَوْ يَبْقَى خَارِجَهُ لِيَحْمِيَ السَّارِقَ أَوْ يُرْشِدَهُ إِلَى مَكَانِ الْمَسْرُوقِ، فَلَا يُعْتَبَرُ شَرِيكًا فِي السَّرِقَةِ، وَمِنْ ثَمَّ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، بَلْ يُعَزَّرُ.

فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَسْرُوقَ لَمْ يَخْرُجْ إِلاَّ بِعَمَلٍ جَمَاعِيٍّ، وَجَبَ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى كُلِّ مَنْ شَارَكَ فِي هَذَا الْعَمَلِ، إِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا وَاحِدًا، سَوَاءٌ بَاشَرَ السَّرِقَةَ، بِأَنْ تَعَاوَنَ مَعَ زَمِيلِهِ فِي حَمْلِ الْمَسْرُوقِ حَتَّى خَرَجَا بِهِ مِنَ الْحِرْزِ، أَوْ لَمْ يُبَاشِرِ السَّرِقَةَ، بِأَنْ وَضَعَ الْمَسْرُوقَ عَلَى ظَهْرِ صَاحِبِهِ فَخَرَجَ بِهِ وَحْدَهُ، مَا دَامَ كُلُّ وَاحِدٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِإِخْرَاجِ الْمَسْرُوقِ.أَمَّا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ تَعَاوُنٌ بِأَنِ اسْتَقَلَّ كُلُّ وَاحِدٍ بِإِخْرَاجِ بَعْضِ الْمَسْرُوقِ، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ إِلاَّ عَلَى مَنْ أَخْرَجَ نِصَابًا كَامِلاً، وَذَلِكَ لِعَدَمِ ظُهُورِ التَّعَاوُنِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ لِإِثْبَاتِ الِاشْتِرَاكِ فِي السَّرِقَةِ.

3- الشَّافِعِيَّةُ:

53- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ صِفَةَ الشَّرِيكِ لَا تُطْلَقُ إِلاَّ عَلَى مَنْ قَامَ بِفِعْلٍ مُبَاشِرٍ مَعَ غَيْرِهِ، تَرَتَّبَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ الْمَسْرُوقِ مِنَ الْحِرْزِ، كَأَنْ يَتَعَاوَنَ السَّارِقُونَ فِي حَمْلِ شَيْءٍ ثَقِيلٍ وَيُخْرِجُونَهُ مِنَ الْحِرْزِ، أَوْ يَحْمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا وَيَخْرُجَ بِهِ.وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَنْطَبِقُ وَصْفُ السَّارِقِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ يَظْهَرُ أَثَرُ الِاشْتِرَاكِ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا إِذَا خَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابٌ مِنْ قِيمَةِ مَا أَخْرَجُوهُ، دُونَ نَظَرٍ إِلَى قِيمَةِ مَا أَخْرَجَهُ كُلٌّ مِنْهُمْ.أَمَّا إِذَا كَانَ كُلُّ سَارِقٍ يَسْتَقِلُّ بِفِعْلِهِ وَقَصْدِهِ عَنِ الْآخَرِينَ، فَلَا اشْتَرَاكَ بَيْنَهُمْ، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ إِلاَّ عَلَى مَنْ يَخْرُجُ نِصَابًا كَامِلاً، وَيُعَزَّرُ الْآخَرُونَ.

وَلَا يُعْتَبَرُ شَرِيكًا- عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- مَنْ يُعِينُ السَّارِقَ، سَوَاءٌ قَامَ بِعَمَلٍ مَادِّيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ، وَسَوَاءٌ حَدَثَتِ الْإِعَانَةُ مِنْ دَاخِلِ الْحِرْزِ أَوْ مِنْ خَارِجِهِ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ، بَلْ يُعَزَّرُ.

4- الْحَنَابِلَةُ:

54- يَرَى الْحَنَابِلَةُ إِطْلَاقَ صِفَةِ الشَّرِيكِ عَلَى مَنْ يُعِينُ السَّارِقَ بِفِعْلٍ مَادِّيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ، قَامَ بِهِ وَهُوَ دَاخِلُ الْحِرْزِ أَوْ كَانَ خَارِجَهُ، فَإِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا وَاحِدًا، أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى كُلِّ مَنِ اشْتَرَكَ فِي السَّرِقَةِ، سَوَاءٌ كَانَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْإِخْرَاجِ، أَوْ كَانَ بِإِخْرَاجِ الْبَعْضِ وَإِعَانَةِ الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَسَوَاءٌ حَدَثَتِ الْإِعَانَةُ مِنَ الدَّاخِلِ أَوْ مِنَ الْخَارِجِ، بِفِعْلٍ مَادِّيٍّ كَالْإِعَانَةِ عَلَى حَمْلِ الْمَسْرُوقِ، أَوْ بِفِعْلٍ مَعْنَوِيٍّ كَالْإِرْشَادِ إِلَى مَكَانِ الْمَسْرُوقِ، أَوْ لَمْ يَأْتِ بِعَمَلٍ مَا، كَمَنْ دَخَلَ الْحِرْزَ مَعَ السَّارِقِ لِتَنْبِيهِهِ إِذَا انْكَشَفَ أَمْرُهُ.لِأَنَّ فِعْلَ السَّرِقَةِ يُضَافُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.

إِثْبَاتُ السَّرِقَةِ:

55- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السَّرِقَةَ تَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ.وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ أَنَّ السَّرِقَةَ تَثْبُتُ بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ يَجُوزُ إِثْبَاتُهَا بِالْقَرَائِنِ.

أَوَّلاً- الْإِقْرَارُ:

56- تَثْبُتُ السَّرِقَةُ بِإِقْرَارِ السَّارِقِ إِذَا كَانَ مُكَلَّفًا بِأَنْ كَانَ بَالِغًا عَاقِلاً، عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي سَبَقَ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ السَّارِقَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا فِي إِقْرَارِهِ، فَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِحَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، فَلَا يُعْتَدُّ بِهَذَا الْإِقْرَارِ.وَقَدْ أَفْتَى بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ بِصِحَّةِ إِقْرَارِ السَّارِقِ مَعَ الْإِكْرَاهِ لِأَنَّ السُّرَّاقَ قَدْ غَدَوْا لَا يُقِرُّونَ طَائِعِينَ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُعْمَلُ بِإِقْرَارِ الْمُتَّهَمِ مَعَ الْإِكْرَاهِ إِنْ ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التُّهَمِ.

وَيَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ بِالسَّرِقَةِ نَاطِقًا، وَلِهَذَا فَإِنَّهُمْ لَا يَعْتَدُّونَ بِإِشَارَةِ الْأَخْرَسِ، وَلَوْ كَانَتْ مُفْهِمَةً؛ لِاحْتِمَالِ إِشَارَتِهِ الْإِقْرَارَ وَغَيْرَهُ، وَهَذَا يُورِثُ شُبْهَةً تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ.وَيَرَى الْجُمْهُورُ صِحَّةَ إِقْرَارِهِ، إِنْ كَانَتْ إِشَارَتُهُ مُفْهِمَةً قَبْلَ هَذَا الْإِقْرَارِ.

وَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ كَافِيًا لِإِقَامَةِ الْحَدِّ، إِلاَّ إِذَا كَانَ صَرِيحًا وَتَبَيَّنَ الْقَاضِي مِنْهُ تَوَافُرَ أَرْكَانِ السَّرِقَةِ، بِحَيْثُ لَا تَبْقَى مَعَهُ أَيُّ شُبْهَةٍ.

وَاشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَصْدُرَ الْإِقْرَارُ عِنْدَ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ إِقَامَةِ الْحَدِّ، فَلَا يُعْتَدُّ بِالْإِقْرَارِ الصَّادِرِ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَلَا بِالْإِقْرَارِ قَبْلَ الدَّعْوَى. 57- وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَدَدِ مَرَّاتِ الْإِقْرَارِ الَّتِي تُوجِبُ إِقَامَةَ حَدِّ السَّرِقَةِ: فَالْحَنَفِيَّةُ- مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ- وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، يَكْتَفُونَ بِإِقْرَارِ السَّارِقِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- «قَطَعَ سَارِقَ خَمِيصَةِ صَفْوَانَ وَسَارِقَ الْمِجَنِّ»، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدَهُمَا تَكَرَّرَ مِنْهُ الْإِقْرَارُ؛ وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْحُقُوقِ يَكْتَفِي بِإِيرَادِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ إِخْبَارٌ تَرَجَّحَ فِيهِ جَانِبُ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ، فَلَنْ يَزِيدَهُ التَّكْرَارُ رُجْحَانًا.أَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ، وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَالْحَنَابِلَةُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، فَإِنَّهُمْ يُوجِبُونَ صُدُورَ الْإِقْرَارِ مَرَّتَيْنِ، فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَإِنْ أَقَرَّ السَّارِقُ مَرَّةً وَاحِدَةً، لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنَّمَا يُعَزَّرُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ.لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِلِصٍّ قَدِ اعْتَرَفَ، وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- : مَا أَخَالُكَ سَرَقْتَ فَقَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم- مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَلَمْ يَقْطَعْهُ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ تَكَرَّرَ إِقْرَارُهُ»، فَلَوْ كَانَ الْقَطْعُ يَجِبُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً لَمَا أَخَّرَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- .

58- وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْخُصُومَةِ مَعَ الْإِقْرَارِ: فَالْحَنَفِيَّةُ- مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ- وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، يَشْتَرِطُونَ لِقَبُولِ الْإِقْرَارِ مُطَالَبَةَ مَنْ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالْمَسْرُوقِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ مُطَالَبَتِهِ يُورِثُ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مَالٍ مِنْ مَجْهُولٍ أَوْ مِنْ غَائِبٍ.

وَيَرَى أَبُو يُوسُفَ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى عَدَمَ تَوَقُّفِ إِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ عَلَى دَعْوَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، لِعُمُومِ آيَةِ السَّرِقَةِ، وَعَدَمِ وُجُودِ مَا يَصْلُحُ مُخَصِّصًا لِهَذَا الْعُمُومِ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يُقِرُّ بِسَرِقَةِ نِصَابٍ مِنْ مَجْهُولٍ أَوْ غَائِبٍ إِذَا ثَبَتَتِ السَّرِقَةُ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ لَا يُتَّهَمُ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ.

ثَانِيًا- الْبَيِّنَةُ:

59- تَثْبُتُ السَّرِقَةُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ تَتَوَافَرُ فِيهِمَا شُرُوطُ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَشُرُوطُ أَدَائِهَا. وَعَلَى ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ وَقْتَ الْأَدَاءِ ذَكَرًا، مُسْلِمًا، بَالِغًا، عَاقِلاً، حُرًّا بَصِيرًا، عَدْلاً، مُخْتَارًا.

فَلَا يُقَامُ حَدُّ السَّرِقَةِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ أَوْ مَعَ رِجَالٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَلَوْ مَعَ يَمِينِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَة).

إِذَا تَوَافَرَتِ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ، أَدَّى الشَّاهِدُ شَهَادَتَهُ عَلَى السَّرِقَةِ بِدُونِ يَمِينٍ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الشَّهَادَةِ يَتَضَمَّنُ الْيَمِينَ؛ وَلِأَنَّ تَحْلِيفَ الشَّاهِدِ يَتَنَافَى مَعَ إِكْرَامِهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- فِي قَوْلِهِ: «أَكْرِمُوا الشُّهُودَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِي بِهِمُ الْحُقُوقَ».وَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ضَرُورَةَ تَحْلِيفِ الشَّاهِدِ الْيَمِينَ لِلتَّأَكُّدِ مِنْ صِدْقِهِ؛ وَلِمَا فِيهِ مِنْ عُمُومِ الْمَصْلَحَةِ، وَتَحْلِيفُ الشَّاهِدِ لَا يَتَعَارَضُ مَعَ أَمْرِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم- بِإِكْرَامِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْطَوِي عَلَى إِهَانَةٍ لَهُ.

ثَالِثًا: الْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ:

60- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لَا يُقَامُ بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ، فَإِنِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ سَرِقَةً يَجِبُ فِيهَا الْقَطْعُ، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ السَّرِقَةَ، فَطَلَبَ الْمُدَّعِي مِنْهُ أَنْ يَحْلِفَ لِإِثْبَاتِ بَرَاءَتِهِ، فَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ، رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِنْ حَلَفَ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَرَقَ مَا ادَّعَاهُ، ثَبَتَ الْمَالُ الْمَسْرُوقُ بِهَذِهِ الْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ إِلاَّ بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّ السَّرِقَةَ تَثْبُتُ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي الْمَرْدُودَةِ، فَيَثْبُتُ الْمَالُ وَيُقَامُ الْحَدُّ، لِأَنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ كَالْبَيِّنَةِ أَوْ كَإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِلَا خِلَافٍ.وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ: أَنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ يَثْبُتُ بِهَا الْمَالُ، وَلَا يُقَامُ بِهَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِالْإِقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ.وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ، كَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ وَالرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ وَصَاحِبُ الْحَاوِي الصَّغِيرِ، وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ: إِنَّهُ الْمَذْهَبُ وَالصَّوَابُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ.وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ: إِنَّهُ الْمُعْتَمَدُ، لِنَصِّ الْأُمِّ، وَفِي الْمُخْتَصَرِ: لَا يَثْبُتُ الْقَطْعُ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ أَوْ إِقْرَارِ السَّارِقِ.

رَابِعًا- الْقَرَائِنُ:

61- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِالْإِقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ.وَيَرَى بَعْضُهُمْ جَوَازَ ثُبُوتِ السَّرِقَةِ، وَمِنْ ثَمَّ إِقَامَةُ الْحَدِّ وَضَمَانُ الْمَالِ، بِالْقَرَائِنِ وَالْأَمَارَاتِ إِذَا كَانَتْ ظَاهِرَةَ الدَّلَالَةِ بِاعْتِبَارِهَا مِنَ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ، الَّتِي تُخْرِجُ الْحَقَّ مِنَ الظَّالِمِ الْفَاجِرِ.قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ «لَمْ يَزَلِ الْأَئِمَّةُ وَالْخُلَفَاءُ يَحْكُمُونَ بِالْقَطْعِ إِذَا وُجِدَ الْمَالُ الْمَسْرُوقُ مَعَ الْمُتَّهَمِ، وَهَذِهِ الْقَرِينَةُ أَقْوَى مِنَ الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ فَإِنَّهُمَا خَبَرَانِ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمَا الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ وَوُجُودُ الْمَالِ مَعَهُ نَصٌّ صَرِيحٌ لَا تَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ شُبْهَةٌ».

حَدُّ السَّرِقَةِ:

62- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ السَّارِقِ قَطْعُ يَدِهِ لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.وَهُوَ الْحَدُّ الَّذِي أَقَامَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- عَلَى مَنْ سَرَقَ فِي عَهْدِهِ، كَمَا تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ.وَجَرَى عَلَيْهِ عَمَلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ دُونَ اعْتِرَاضٍ عَلَيْهِمْ.وَأَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أُمُورٍ تَتَعَلَّقُ بِمَحَلِّ الْقَطْعِ، وَمِقْدَارِهِ، وَكَيْفِيَّتِهِ، وَتَكَرُّرِهِ، مَعَ تَكَرُّرِ السَّرِقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

1- مَحَلُّ الْقَطْعِ:

63- مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ- عِنْدَ الْفُقَهَاءِ- وُجُوبُ قَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى، إِذَا ثَبَتَتِ السَّرِقَةُ الْأُولَى.لِمَا رُوِيَ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَطَعَ الْيَدَ الْيُمْنَى»، وَكَذَلِكَ فَعَلَ الْأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ، وَلِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا.وَهِيَ قِرَاءَةٌ مَشْهُورَةٌ عَنْهُ، وَلَمْ يُجْمَعْ عَلَى أَنَّهَا قُرْآنٌ لِمُخَالَفَتِهَا لِلْمُصْحَفِ الْإِمَامِ، فَكَانَتْ خَبَرًا مَشْهُورًا، فَيُقَيِّدُ إِطْلَاقَ النَّصِّ.وَلَوْ كَانَ الْإِطْلَاقُ مُرَادًا، وَالِامْتِثَالُ لِلْأَمْرِ فِي الْآيَةِ يَحْصُلُ بِقَطْعِ الْيَمِينِ أَوِ الشِّمَالِ، لَمَا قَطَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- إِلاَّ الْيَسَارَ عَلَى عَادَتِهِ مِنْ طَلَبِ الْأَيْسَرِ لَهُمْ مَا أَمْكَنَ جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِ - صلى الله عليه وسلم- فِي: «أَنَّهُ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا».

فَإِذَا كَانَتْ يَدُ السَّارِقِ الْيُمْنَى غَيْرَ صَحِيحَةٍ، بِأَنْ كَانَتْ شَلاَّءَ أَوْ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصَابِعِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَحَلِّ الْقَطْعِ.

فَالْحَنَفِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ الْقَطْعَ يَتَعَلَّقُ أَوَّلاً بِالْيَدِ الْيُمْنَى، لِعُمُومِ آيَةِ السَّرِقَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ الصَّحِيحَةِ وَغَيْرِهَا.لِأَنَّهُ إِذَا تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالسَّلِيمَةِ فَإِنَّهَا تُقْطَعُ، فَلأَنْ تُقْطَعَ الْمَعِيبَةُ مِنْ بَابِ أَوْلَى.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ قَطْعَ الْمَعِيبَةِ لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْحَدِّ إِزَالَةُ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى السَّرِقَةِ، وَالشَّلاَّءُ وَمَا فِي حُكْمِهَا لَا نَفْعَ فِيهَا فَلَا يَتَحَقَّقُ مَقْصُودُ الشَّرْعِ بِقَطْعِهَا؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهَا الَّتِي يُرَادُ إِبْطَالُهَا بَاطِلَةٌ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ.وَلِذَلِكَ يَنْتَقِلُ الْقَطْعُ إِلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يُفَصِّلُونَ الْقَوْلَ فِي قَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى إِذَا كَانَتْ مَعِيبَةً عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

يُجْزِئُ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ قَطْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى إِذَا كَانَتْ شَلاَّءَ إِلاَّ إِذَا خِيفَ مِنْ قَطْعِهَا أَلاَّ يَكُفَّ الدَّمُ، فَلَوْ قَرَّرَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّ عُرُوقَهَا لَنْ تَنْسَدَّ وَأَنَّ دَمَهَا لَنْ يَجِفَّ فَلَا تُقْطَعُ، وَيُنْتَقَلُ بِالْقَطْعِ إِلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْيَدُ الْيُمْنَى قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَصَابِعِهَا، فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ قَطْعُهَا، وَلَوْ كَانَ بِهَا أُصْبُعٌ وَاحِدٌ.فَإِذَا نَقَصَتِ الْأَصَابِعُ كُلُّهَا، فَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ: الِاكْتِفَاءُ بِقَطْعِهَا؛ لِأَنَّ اسْمَ الْيَدِ يُطْلَقُ عَلَيْهَا مَعَ نُقْصَانِ الْأَصَابِعِ كُلِّهَا.وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي نَاقِصَةِ الْخَمْسِ: أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ فِي تَمَامِ الْحَدِّ، فَلَا تُقْطَعُ، وَيُنْتَقَلُ إِلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ: تَكْتَفِي أُولَاهُمَا بِقَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى وَلَوْ كَانَتْ شَلاَّءَ، إِذَا رَأَى أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّهَا لَوْ قُطِعَتْ رَقَأَ دَمُهَا وَانْحَسَمَتْ عُرُوقُهَا.وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: يُمْنَعُ قَطْعُ الْيَدِ الشَّلاَّءِ؛ لِأَنَّهَا لَا نَفْعَ فِيهَا وَلَا جَمَالَ لَهَا، وَيَنْتَقِلُ الْقَطْعُ إِلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى.وَإِذَا كَانَتِ الْيَدُ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةَ الْأَصَابِعِ فَفِي الْمَذْهَبِ رَأْيَانِ

أُوَلُهُمَا: الِاكْتِفَاءُ بِقَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى وَلَوْ ذَهَبَتْ كُلُّ أَصَابِعِهَا.

وَالثَّانِي: عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ بِقَطْعِ الْيُمْنَى إِذَا ذَهَبَ مُعْظَمُ نَفْعِهَا، لِأَنَّهَا تَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومَةِ وَيَنْتَقِلُ الْقَطْعُ إِلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى.

64- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا لَوْ تَعَلَّقَ الْقَطْعُ بِالْيَدِ الْيُمْنَى، وَكَانَتِ الْيَدُ الْيُسْرَى قَدْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهَا، أَوْ كَانَتْ مَقْطُوعَةً فِي قِصَاصٍ أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا تُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ قَطْعَهَا يُؤَدِّي إِلَى تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ كُلِّيَّةً، وَالْحَدُّ إِنَّمَا شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُهْلِكًا.وَبِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى تَتَّفِقُ مَعَ مَا قَالَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ الْيُسْرَى مَحَلٌّ لِلْقَطْعِ أَيْضًا إِذَا تَكَرَّرَتِ السَّرِقَةُ.وَلَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ إِذَا تَعَلَّقَ الْقَطْعُ بِالرِّجْلِ الْيُسْرَى، وَكَانَتِ الرِّجْلُ الْيُمْنَى قَدْ قُطِعَتْ أَوْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهَا.

65- وَاخْتَلَفُوا كَذَلِكَ فِيمَا لَوْ تَعَلَّقَ الْقَطْعُ بِالْيَدِ الْيُمْنَى، وَكَانَتْ مَقْطُوعَةً: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى انْتِقَالِ الْقَطْعِ إِلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى إِذَا كَانَ ذَهَابُ الْيَدِ الْيُمْنَى قَدْ حَدَثَ قَبْلَ السَّرِقَةِ، أَوْ بَعْدَهَا وَقَبْلَ الْمُخَاصَمَةِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْعُضْوِ الذَّاهِبِ، فَلَا يَسْقُطُ بِذَهَابِهِ.بِخِلَافِ مَا لَوْ ذَهَبَتِ الْيَدُ الْيُمْنَى بَعْدَ الْمُخَاصَمَةِ وَقَبْلَ الْقَضَاءِ، أَوْ بَعْدَ الْمُخَاصَمَةِ وَالْقَضَاءِ، فَلَا يَنْتَقِلُ الْحَدُّ إِلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى، بَلْ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْمُخَاصَمَةَ تُؤَدِّي إِلَى تَعَلُّقِ الْقَطْعِ بِالْيَدِ الْيُمْنَى، فَإِذَا ذَهَبَتْ سَقَطَ الْحَدُّ لِذَهَابِ مَحَلِّهِ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى انْتِقَالِ الْقَطْعِ إِلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى إِذَا ذَهَبَتِ الْيَدُ الْيُمْنَى قَبْلَ السَّرِقَةِ.وَإِلَى سُقُوطِ الْحَدِّ إِذَا ذَهَبَتْ بَعْدَ السَّرِقَةِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَهَابُهَا قَبْلَ الْخُصُومَةِ أَوْ بَعْدَهَا، وَقَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ، بِآفَةٍ أَوْ جِنَايَةٍ، أَوْ قِصَاصٍ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ السَّرِقَةِ تَعَلَّقَ الْقَطْعُ بِالْيَدِ الْيُمْنَى، فَإِذَا ذَهَبَتْ زَالَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْقَطْعُ فَسَقَطَ.

2- مَوْضِعُ الْقَطْعِ وَمِقْدَارُهُ:

66- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّ قَطْعَ الْيَدِ يَكُونُ مِنَ الْكُوعِ، وَهُوَ مَفْصِلُ الْكَفِّ، لِأَنَّ {النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ مِنَ الْكُوعِ».وَلِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رضي الله عنهما- : إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَمِينَهُ مِنَ الْكُوعِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ مِنَ الْيَدِ: الْمَنْكِبُ؛ لِأَنَّ الْيَدَ اسْمٌ لِلْعُضْوِ مِنْ أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ إِلَى الْمَنْكِبِ.وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ: مَفَاصِلُ الْأَصَابِعِ الَّتِي تَلِي الْكَفَّ.

وَمَوْضِعُ قَطْعِ الرِّجْلِ هُوَ مَفْصِلُ الْكَعْبِ مِنَ السَّاقِ، فَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ - رضي الله عنه- ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُ أَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ: أُصُولُ أَصَابِعِ الرِّجْلِ وَبِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ عَلِيًّا - رضي الله عنه- كَانَ يَقْطَعُ مِنْ شَطْرِ الْقَدَمِ، وَيَتْرُكُ لِلسَّارِقِ عَقِبَهُ يَمْشِي عَلَيْهَا.

كَيْفِيَّةُ الْقَطْعِ.

67- مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ مُرَاعَاةُ الْإِحْسَانِ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم- : «لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ» وَعَلَى ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَخَيَّرَ الْحَاكِمُ الْوَقْتَ الْمُلَائِمَ لِلْقَطْعِ، بِحَيْثُ يَجْتَنِبُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ الشَّدِيدَيْنِ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْإِضْرَارِ بِالسَّارِقِ، وَلَا يُقِيمُ الْحَدَّ أَثْنَاءَ مَرَضٍ يُرْجَى زَوَالُهُ، وَلَا يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى الْحَامِلِ أَوِ النُّفَسَاءِ، وَلَا عَلَى الْعَائِدِ فِي السَّرِقَةِ قَبْلَ أَنْ يَنْدَمِلَ الْجُرْحُ السَّابِقُ.كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَاقَ السَّارِقُ إِلَى مَكَانِ الْقَطْعِ سُوقًا رَفِيقًا، فَلَا يُعَنَّفُ بِهِ، وَلَا يُعَيَّرُ، وَلَا يُسَبُّ.فَإِذَا وَصَلَ إِلَى مَكَانِ الْقَطْعِ (يَجْلِسُ، وَيُضْبَطُ لِئَلاَّ يَتَحَرَّكَ فَيَجْنِي عَلَى نَفْسِهِ، وَتُشَدُّ يَدُهُ بِحَبْلٍ وَيُجَرُّ حَتَّى يَبِينَ مَفْصِلُ الذِّرَاعِ، ثُمَّ تُوضَعُ بَيْنَهُمَا سِكِّينٌ حَادَّةٌ، وَيُدَقُّ فَوْقَهَا بِقُوَّةٍ لِيَقْطَعَ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ تُوضَعُ عَلَى الْمَفْصِلِ وَتُمَدُّ مَدَّةً وَاحِدَةً، وَإِنْ عَلِمَ قَطْعَ أَوْحَى مِنْ ذَلِكَ- أَيْ أَسْرَعَ- قَطَعَ بِهِ).

وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ عَلَى حَسْمِ مَوْضِعِ الْقَطْعِ، وَذَلِكَ بِاسْتِعْمَالِ مَا يَسُدُّ الْعُرُوقَ وَيُوقِفُ نَزْفَ الدَّمِ، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم- فِيمَنْ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ السَّرِقَةُ: {اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ، ثُمَّ احْسِمُوهُ».وَلَكِنَّ الْخِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي حُكْمِ الْحَسْمِ: فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَيْنِيٌّ عَلَى مَنْ قَامَ بِالْقَطْعِ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ فِي الْحَدِيثِ تُفِيدُ الْوُجُوبَ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ- فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمْ- إِلَى أَنَّ الْحَسْمَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَلَا يَلْزَمُ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ، فَإِذَا قَامَ بِهِ الْقَاطِعُ أَوِ الْمَقْطُوعُ أَوْ غَيْرُهُمَا فَقَدْ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ.وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَسْمِ يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ، لَا الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلْمَقْطُوعِ، لَا لِتَمَامِ الْحَدِّ، فَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتْرُكَهُ.وَحِينَئِذٍ يُنْدَبُ لِلْإِمَامِ وَلِغَيْرِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ السَّارِقِ وَحِفْظُهُ مِنَ الْهَلَاكِ.وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوبِهِ عَلَى السَّارِقِ إِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ أَحَدٌ، فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْمَقْطُوعِ فِعْلُ الْحَسْمِ، لِإِغْمَاءٍ وَنَحْوِهِ وَتَرَتَّبَ عَلَى تَرْكِهِ تَلَفٌ مُحَقَّقٌ، فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إِهْمَالُهُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ، كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ.وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الْحَسْمَ تَتِمَّةٌ لِلْحَدِّ، فَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ فِعْلُهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُهْمِلَهُ.

68- وَيُسَنُّ- عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- تَعْلِيقُ الْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ فِي عُنُقِ السَّارِقِ، رَدْعًا لِلنَّاسِ، اسْتِنَادًا إِلَى مَا رُوِيَ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُلِّقَتْ فِي عُنُقِهِ».وَقَدْ حَدَّدَ الشَّافِعِيَّةُ مُدَّةَ التَّعْلِيقِ بِسَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَمْ يُحَدِّدُوا مُدَّةَ التَّعْلِيقِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الْيَدِ لَا يُسَنُّ، بَلْ يُتْرَكُ الْأَمْرُ لِلْإِمَامِ، إِنْ رَأَى فِيهِ مَصْلَحَةً فَعَلَهُ، وَإِلاَّ فَلَا.وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَالِكِيَّةُ شَيْئًا عَنْ تَعْلِيقِ الْيَدِ.

4- تَكَرُّرُ الْقَطْعِ بِتَكَرُّرِ السَّرِقَةِ:

تَدَاخُلُ الْحَدِّ:

69- مِنَ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ الَّتِي اسْتَقَرَّتْ فِي الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِ: أَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ عَلَى التَّدَاخُلِ، إِذَا اتَّحَدَ مُوجِبُهَا وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْحَدِّ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ.وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: إِذَا تَكَرَّرَتِ السَّرِقَةُ، قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَكَانَتْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ تُوجِبُ الْقَطْعَ، قُطِعَ السَّارِقُ لِجَمِيعِهَا قَطْعًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ فَيَتَدَاخَلُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ الْوَاحِدِ.

السَّرِقَةُ بَعْدَ الْقَطْعِ:

70- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ السَّارِقِ، إِذَا قُطِعَتْ يَمِينُهُ ثُمَّ عَادَ لِلسَّرِقَةِ، عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

ذَهَبَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ إِلَى أَنَّ: مَنْ قُطِعَتْ يَمِينُهُ فِي السَّرِقَةِ الْأُولَى، ثُمَّ سَرَقَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُضْرَبُ وَيُحْبَسُ، إِذْ لَا قَطْعَ إِلاَّ فِي السَّرِقَةِ الْأُولَى.لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} أَيِ الْيَدَ الْيُمْنَى، كَمَا جَاءَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَمَرَ بِقَطْعِ الرِّجْلِ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}

وَذَهَبَ رَبِيعَةُ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ: مَنْ قُطِعَتْ يَمِينُهُ فِي السَّرِقَةِ الْأُولَى، ثُمَّ سَرَقَ مَرَّةً ثَانِيَةً، تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ عَادَ إِلَى السَّرِقَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ، بَلْ يُعَزَّرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِقَطْعِ الْأَيْدِي، وَهِيَ تَشْمَلُ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى، وَإِدْخَالُ الْأَرْجُلِ فِي الْقَطْعِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهِيَ الْمَذْهَبُ إِلَى أَنَّ مَنْ سَرَقَ بَعْدَ أَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى، تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى.فَإِنْ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ، بَلْ يُحْبَسُ وَيُضْرَبُ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ أَوْ يَمُوتَ.وَنُقِلَ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رضي الله عنهما- وَالشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَحَمَّادٍ لِمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: إِذَا سَرَقَ الرَّجُلُ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى، فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ عَادَ ضَمَّنْتُهُ السِّجْنَ حَتَّى يُحْدِثَ خَيْرًا.إِنِّي لأَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ أَنْ أَدَعَهُ لَيْسَ لَهُ يَدٌ يَأْكُلُ بِهَا وَيَسْتَنْجِيَ بِهَا، وَرِجْلٌ يَمْشِي عَلَيْهَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: إِلَى أَنَّ مَنْ سَرَقَ، بَعْدَ أَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى فِي السَّرِقَةِ الْأُولَى، تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ عَادَ لِلْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ سَرَقَ مَرَّةً رَابِعَةً قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى، فَإِنْ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ حُبِسَ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ أَوْ يَمُوتَ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ».

وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رضي الله عنهما- ، وَقَالَ بِهِ إِسْحَاقُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ.

رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضي الله عنهما- وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ: أَنَّ مَنْ سَرَقَ- بَعْدَ قَطْعِ أَطْرَافِهِ الْأَرْبَعَةِ- يُقْتَلُ حَدًّا، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ.وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- «أَمَرَ بِقَتْلِ سَارِقٍ- فِي الْمَرَّةِ الْخَامِسَةِ- قَالَ جَابِرٌ: فَانْطَلَقْنَا بِهِ، ثُمَّ اجْتَرَرْنَاهُ، فَأَلْقَيْنَاهُ فِي بِئْرٍ، وَرَمَيْنَا عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ».

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ وَقَدْ عَارَضَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ وَزِنًى بَعْدَ إِحْصَانٍ أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ».قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْفُقَهَاءِ يُبِيحُ دَمَ السَّارِقِ.

سُقُوطُ الْحَدِّ.

71- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ مَا يُسْقِطُ الْحَدَّ، سَوَاءٌ مَا يَتَّصِلُ بِالْمَسْرُوقِ مِنْهُ أَمْ بِغَيْرِهِ: كَالْعَفْوِ وَالشَّفَاعَةِ.وَمِنْهَا مَا يَتَّصِلُ بِالسَّارِقِ: كَالتَّوْبَةِ، وَالرُّجُوعِ عَنِ الْإِقْرَارِ، وَاشْتِرَاكِهِ مَعَ مَنْ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْرُوقِ: كَطُرُوءِ مِلْكِ السَّارِقِ عَلَى مَا سَرَقَ.وَقَدْ يَسْقُطُ الْحَدُّ نَتِيجَةً لِلتَّقَادُمِ.

1- الشَّفَاعَةُ وَالْعَفْوُ:

72- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِجَازَةِ الشَّفَاعَةِ بَعْدَ السَّرِقَةِ وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْأَمْرُ إِلَى الْحَاكِمِ، إِذَا كَانَ السَّارِقُ لَمْ يُعْرَفْ بِشَرٍّ، سِتْرًا لَهُ وَإِعَانَةً عَلَى التَّوْبَةِ.فَأَمَّا إِذَا وَصَلَ الْأَمْرُ إِلَى الْحَاكِمِ، فَالشَّفَاعَةُ فِيهِ حَرَامٌ، «لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم- لأُِسَامَةَ- حِينَمَا شَفَعَ فِي الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ - : أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ - رضي الله عنه- لَقِيَ رَجُلاً قَدْ أَخَذَ سَارِقًا، فَشَفَعَ فِيهِ، فَقَالَ: لَا، حَتَّى أَبْلُغَ بِهِ الْإِمَامُ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: إِذَا بَلَغَ الْإِمَامَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفِّعَ.

وَيَنْطَبِقُ نَفْسُ الْحُكْمِ عَلَى الْعَفْوِ عَنِ السَّارِقِ: فَإِنَّهُ يَجُوزُ إِذَا لَمْ يُرْفَعِ الْأَمْرُ إِلَى الْحَاكِمِ، فَإِنْ رُفِعَ إِلَيْهِ، لَا يُقْبَلُ فِيهِ الْعَفْوُ.وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم- : «تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ».

«وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم- لِصَفْوَانَ- لَمَّا تَصَدَّقَ بِرِدَائِهِ عَلَى سَارِقِهِ - : فَهَلاَّ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ».

2- التَّوْبَةُ:

73- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ، أَيِ النَّدَمَ الَّذِي يُورِثُ عَزْمًا عَلَى إِرَادَةِ التَّرْكِ تُسْقِطُ عَذَابَ الْآخِرَةِ عَنِ السَّارِقِ وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أَثَرِ التَّوْبَةِ عَلَى إِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَعَطَاءٌ، وَجَمَاعَةٌ: إِلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُسْقِطُ حَدَّ السَّرِقَةِ، لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} مِنْ غَيْرِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ تَائِبٍ وَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى عَمْرِو بْنِ سَمُرَةَ، حِينَ أَتَاهُ تَائِبًا يَطْلُبُ التَّطْهِيرَ مِنْ سَرِقَتِهِ جَمَلاً».

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ- وَالْحَنَابِلَةُ- فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى- إِلَى أَنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ حَدَّ السَّرِقَةِ، لقوله تعالى- بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ جَزَاءَ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ - : {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِوَأَصْلَحَ فَإِنَّا للَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّائِبَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، إِذْ لَوْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بَعْدَ التَّوْبَةِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِهَا

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


113-موسوعة الفقه الكويتية (سرقة 5)

سَرِقَةٌ -5

3- الرُّجُوعُ عَنِ الْإِقْرَارِ:

74- اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ السَّارِقَ إِذَا رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ، قَبْلَ الْقَطْعِ، سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنِ الْإِقْرَارِ يُورِثُ شُبْهَةً.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ رُجُوعَ السَّارِقِ فِي إِقْرَارِهِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ، وَلَا يُسْقِطُ عَنْهُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لآِدَمِيٍّ بِقِصَاصٍ أَوْ بِحَقٍّ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ عَنْهُمَا، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ.

4- الِاشْتِرَاكُ مَعَ مَنْ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ:

75- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- إِلاَّ أَبَا يُوسُفَ- وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ إِلَى أَنَّهُ: إِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي سَرِقَةٍ وَكَانَ بَيْنَهُمْ مَنْ لَا يَتَعَلَّقُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ، كَصَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ، فَإِنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ عَنِ الشُّرَكَاءِ كُلِّهِمْ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ حَصَلَتْ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ وَمِمَّنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَيَسْقُطُ الْقَطْعُ عَنِ الْجَمِيعِ، قِيَاسًا عَلَى اشْتَرَاكِ الْعَامِدِ مَعَ الْمُخْطِئِ فِي الْقَتْلِ، فَإِنَّ الْقِصَاصَ يَسْقُطُ عَنْهُمَا.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ إِلاَّ إِذَا كَانَ الصَّبِيُّ أَوِ الْمَجْنُونُ هُوَ الَّذِي وَلِيَ الْأَخْذَ وَالْإِخْرَاجَ؛ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ أَصْلٌ وَالْإِعَانَةَ كَالتَّابِعِ، فَإِذَا سَقَطَ الْقَطْعُ عَنِ الْأَصْلِ وَجَبَ سُقُوطُهُ عَنِ التَّابِعِ.أَمَّا إِذَا كَانَ الْآخِذُ وَالْمُخْرِجُ مُكَلَّفًا فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ قَامَ بِالْأَصْلِ، فَلَا يَسْقُطُ الْقَطْعُ عَنْهُ، وَإِنْ سَقَطَ عَنِ الصَّبِيِّ أَوِ الْمَجْنُونِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- فِي الْوَجْهِ الْآخَرِ- إِلَى أَنَّ اشْتِرَاكَ مَنْ لَا يَجِبُ قَطْعُهُ فِي السَّرِقَةِ لَا يَسْقُطُ عَنْ سَائِرِ الشُّرَكَاءِ لِأَنَّ سَبَبَ امْتِنَاعِ قَطْعِهِ خَاصٌّ بِهِ، فَلَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ.

5- طُرُوءُ الْمِلْكِ قَبْلَ الْحُكْمِ:

76- إِذَا تَمَلَّكَ السَّارِقُ الْمَسْرُوقَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِأَنِ اشْتَرَاهُ أَوْ وُهِبَ لَهُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْقَطْعَ يَسْقُطُ عَنْهُ- عِنْدَ الْجُمْهُورِ- لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ شَرْطٌ لِلْحُكْمِ بِالْقَطْعِ، فَإِذَا تَمَلَّكَهُ السَّارِقُ قَبْلَ الْقَضَاءِ امْتَنَعَتِ الْمُطَالَبَةُ، وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي هَذَا الْحُكْمِ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِمْ الْمُطَالَبَةَ، فَالْعِبْرَةُ بِوُجُوبِ الْحَدِّ أَوْ سُقُوطِهِ بِحَالِ السَّرِقَةِ، دُونَ انْتِقَالِ الْمِلْكِ بَعْدَهَا.

فَأَمَّا إِذَا حَدَثَ الْمِلْكُ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَقَبْلَ الْقَطْعِ، فَإِنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ وَزُفَرَ-: (لِأَنَّ الْقَضَاءَ فِي بَابِ الْحُدُودِ إِمْضَاؤُهَا فَمَا لَمْ تَمْضِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْضِ)، وَلِأَنَّ (الْمُعْتَرِضَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، كَالْمُقْتَرِنِ بِأَصْلِ السَّبَبِ)؛ وَلِأَنَّ (التَّمَلُّكَ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ حَقًّا وَقْتَ السَّرِقَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ أَوْجَدَ شُبْهَةً عِنْدَ التَّنْفِيذِ وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ تَمْنَعُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ).

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِتَمَلُّكِ الْمَسْرُوقِ بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَى وُجُوبِ الْقَطْعِ، (لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ حُكْمٌ مُعَلَّقٌ بِوُجُودِ السَّرِقَةِ، وَقَدْ تَمَّتِ السَّرِقَةُ، وَوَقَعَتْ مُوجِبَةً لِلْقَطْعِ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، فَطُرُوءُ الْمِلْكِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي السَّرِقَةِ الْمَوْجُودَةِ، فَبَقِيَ الْقَطْعُ وَاجِبًا)، وَلِأَنَّ مَا حَدَثَ- بَعْدَ وُجُوبِ الْحَدِّ – لَمْ

يُوجَدْ شُبْهَةٌ فِي الْوُجُوبِ، (فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْحَدِّ)، وَلَوْ كَانَ حُدُوثُ الْمِلْكِ- بَعْدَ الْقَضَاءِ- يُسْقِطُ الْحَدَّ، لَمَا قَطَعَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- سَارِقَ رِدَاءِ صَفْوَانَ، بَعْدَ أَنْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ، بَلْ قَالَ لَهُ: «فَهَلاَّ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ».

6- تَقَادُمُ الْحَدِّ:

77- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ بِالتَّقَادُمِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَصْدُرْ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَتِ السَّرِقَةُ، فَوَجَبَ تَنْفِيذُهُ مَهْمَا طَالَ الزَّمَنُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُرُوبُ الْجَانِي أَوْ تَرَاخِي التَّنْفِيذِ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْحَدِّ، وَإِلاَّ كَانَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى تَعْطِيلِ حُدُودِ اللَّهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- مَا عَدَا زُفَرَ- إِلَى أَنَّ تَقَادُمَ التَّنْفِيذِ بَعْدَ الْقَضَاءِ، يُسْقِطُ الْقَطْعَ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ فِي بَابِ الْحُدُودِ إِمْضَاؤُهَا، فَمَا لَمْ تَمْضِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْضِ، وَلِأَنَّ التَّقَادُمَ فِي التَّنْفِيذِ كَالتَّقَادُمِ فِي الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِذَا حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ بِشُهُودٍ فِي السَّرِقَةِ، ثُمَّ انْفَلَتَ، فَأُخِذَ بَعْدَ زَمَانٍ، لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لَا يُقَامُ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ، وَالْعَارِضُ فِي الْحُدُودِ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَالْعَارِضِ قَبْلَ الْقَضَاءِ.

التَّعْزِيرُ:

78- تَجُوزُ الْعُقُوبَةُ بِالتَّعْزِيرِ عَلَى كُلِّ سَرِقَةٍ لَمْ تَكْتَمِلْ أَرْكَانُهَا، أَوْ لَمْ تَسْتَوْفِ شُرُوطُهَا؛ لِعَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ فِيهَا.وَعَلَى كُلِّ سَرِقَةٍ دَرْءُ الْحَدِّ فِيهَا لِوُجُودِ شُبْهَةٍ.وَكَذَلِكَ تَجُوزُ الْعُقُوبَةُ بِالتَّعْزِيرِ عَلَى السَّرِقَةِ الَّتِي سَقَطَ فِيهَا الْقَطْعُ، عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي سَبَقَ بَيَانُهُ.

الضَّمَانُ:

79- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ رَدِّ الْمَسْرُوقِ إِنْ كَانَ قَائِمًا، إِلَى مَنْ سُرِقَ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ السَّارِقُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا، وَسَوَاءٌ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَوْ لَمْ يُقَمْ، وَسَوَاءٌ وُجِدَ الْمَسْرُوقُ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ مِنْ «أَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- رَدَّ عَلَى صَفْوَانَ رِدَاءَهُ، وَقَطَعَ سَارِقَهُ»، وَقَدْ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ»، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ كَذَلِكَ فِي وُجُوبِ ضَمَانِ الْمَسْرُوقِ إِذَا تَلِفَ، وَلَمْ يُقَمِ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ، لِسَبَبٍ يَمْنَعُ الْقَطْعَ، كَأَخْذِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، أَوْ كَانَ دُونَ النِّصَابِ، أَوْ قَامَتْ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى السَّارِقِ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ الْمَسْرُوقِ- إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا- وَقِيمَتَهُ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا.

80- وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ، إِذَا تَلِفَ الْمَسْرُوقُ وَقَدْ قُطِعَ فِيهِ سَارِقُهُ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ تَلِفَ الْمَسْرُوقُ بِهَلَاكٍ أَوْ بِاسْتِهْلَاكٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَغَيْرُهُمْ.

لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} فَقَدْ سَمَّى «الْقَطْعَ» جَزَاءً، وَالْجَزَاءُ يُبْنَى عَلَى الْكِفَايَةِ، فَلَوْ ضُمَّ إِلَيْهِ الضَّمَانُ لَمْ يَكُنِ الْقَطْعُ كَافِيًا، فَلَمْ يَكُنْ جَزَاءً، وَقَدْ جَعَلَ الْقَطْعَ كُلَّ الْجَزَاءِ، لِأَنَّهُ- عَزَّ شَأْنُهُ- ذَكَرَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ لَصَارَ الْقَطْعُ بَعْضَ الْجَزَاءِ.وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يُغَرَّمُ صَاحِبُ سَرِقَةٍ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ»، فَالْحَدِيثُ يَنُصُّ صَرَاحَةً عَلَى نَفْيِ الضَّمَانِ إِذَا قَطَعَ السَّارِقُ.وَمِنْ هُنَا قَالُوا: لَا يَجْتَمِعُ حَدٌّ وَضَمَانٌ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالضَّمَانِ يَجْعَلُ الْمَسْرُوقَ مَمْلُوكًا لِلسَّارِقِ، مُسْتَنِدًا إِلَى وَقْتِ الْأَخْذِ، فَلَا يَجُوزُ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْطَعُ أَحَدٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ.

وَالثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى ضَمَانِ الْمَسْرُوقِ- إِنْ تَلِفَ- بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ السَّارِقُ مُوسِرًا، مِنْ وَقْتِ السَّرِقَةِ إِلَى وَقْتِ الْقَطْعِ، لِأَنَّ الْيَسَارَ الْمُتَّصِلَ كَالْمَالِ الْقَائِمِ بِعَيْنِهِ، فَلَا تَجْتَمِعُ عَلَى السَّارِقِ عُقُوبَتَانِ.فَإِنْ كَانَ السَّارِقُ مُوسِرًا وَقْتَ السَّرِقَةِ، ثُمَّ أَعْسَرَ بَعْدَهَا، أَوْ كَانَ مُعْسِرًا وَقْتَ السَّرِقَةِ، ثُمَّ أَيْسَرَ بَعْدَهَا، فَلَا ضَمَانَ؛ لِئَلاَّ تَجْتَمِعَ عَلَيْهِ عُقُوبَتَانِ: قَطْعُ يَدِهِ وَإِتْبَاعُ ذِمَّتِهِ.

وَالثَّالِثُ: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَالْبَتِّيُّ وَاللَّيْثُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَإِسْحَاقُ إِلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ السَّارِقُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا، وَسَوَاءٌ تَلِفَ الْمَسْرُوقُ بِهَلَاكٍ أَوِ اسْتِهْلَاكٍ، وَسَوَاءٌ أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ أَوْ لَمْ يُقَمْ، فَالْقَطْعُ وَالضَّمَانُ يَجْتَمِعَانِ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالضَّمَانَ لِحَقِّ الْعَبْدِ، وَقَدْ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ».

أَمَّا وَقْتُ تَقْدِيرِ الْقِيمَةِ- إِذَا حَكَمَ بِضَمَانِ الْمَسْرُوقِ- فَيُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَمَان).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


114-موسوعة الفقه الكويتية (سعاية)

سِعَايَة

التَّعْرِيفُ:

1- السِّعَايَةُ فِي الْأَصْلِ مِنَ السَّعْيِ، وَهُوَ التَّصَرُّفُ فِي كُلِّ عَمَلٍ، خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا، وَفِي التَّنْزِيلِ: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}.فَيُقَالُ: سَعَى عَلَى الصَّدَقَةِ سَعْيًا وَسِعَايَةً: عَمِلَ فِي أَخْذِهَا، وَسَعَى الْعَبْدُ فِي فَكِّ رَقَبَتِهِ سِعَايَةً.وَسَعَى بِهِ سِعَايَةً إِلَى الْوَالِي: وَشَى.

وَمَعْنَاهَا الِاصْطِلَاحِيُّ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْعِتْقُ:

2- الْعِتْقُ فِي الِاصْطِلَاحِ إِزَالَةُ الرِّقِّ عَنْ الْآدَمِيِّ لَا إِلَى مَالِكٍ، بَلْ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَوَجْهُ الصِّلَةِ أَنَّ السِّعَايَةَ مِنَ الْوَسَائِلِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْعِتْقِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسِّعَايَةِ:

السِّعَايَةُ إِلَى الْوَالِي:

3- السِّعَايَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَالسِّعَايَةُ بِحَقٍّ كَمَنْ يَسْعَى إِلَى السُّلْطَانِ بِمَنْ يُؤْذِيهِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا يُدْفَعُ بِلَا رَفْعٍ إِلَى السُّلْطَانِ، أَوْ سَعَى بِمَنْ يُبَاشِرُ الْفِسْقَ وَلَا يَمْتَنِعُ بِنَهْيِهِ، فَهَذَا لَا شَيْءَ فِيهِ وَلَوْ غَرَّمَ السُّلْطَانُ الْمَسْعِيَّ بِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّاعِي.

وَأَمَّا السِّعَايَةُ بِالنَّاسِ إِلَى الْوَالِي بِغَيْرِ حَقٍّ أَيِ الْوِشَايَةُ بِهِمْ فَهِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ الْمُفَسِّقَةِ الَّتِي تُرَدُّ بِهَا شَهَادَةُ صَاحِبِهَا، وَلَا تُقْبَلُ عِنْدَ الْقَاضِي، وَيُعَزَّرُ السَّاعِي بِهَا زَجْرًا لَهُ وَدَفْعًا لِلْفَسَادِ، وَإِذَا غَرَّمَهُ السُّلْطَانُ شَيْئًا ضَمِنَ السَّاعِي.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي (ضَمَان).

السِّعَايَةُ فِي أَخْذِ الصَّدَقَةِ:

4- يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ بَعْثُ السُّعَاةِ لِأَخْذِ الزَّكَاةِ وَتَفْرِيقِهَا وَهُمُ الْعَامِلُونَ عَلَى الزَّكَاةِ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ؛ وَلِمَا فِي ذَلِكَ السَّعْيِ مِنْ إِيصَالِ الْحُقُوقِ إِلَى أَهْلِهَا؛ وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَا يَعْرِفُونَ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ فِي الزَّكَاةِ.

وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ السَّاعِي عَدْلًا فَقِيهًا بِأَبْوَابِ الزَّكَاةِ يَعْرِفُ مَا يَأْخُذُهُ وَمَنْ يَدْفَعُ إِلَيْهِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاة).

السِّعَايَةُ فِي الْعِتْقِ:

5- وَهُوَ: أَنْ يَعْتِقَ بَعْضُ عَبْدٍ، وَيَبْقَى بَعْضُهُ الْآخَرُ فِي الرِّقِّ، فَيَعْمَلَ الْعَبْدُ وَيَكْسِبَ، وَيَصْرِفَ ثَمَنَ كَسْبِهِ إِلَى مَوْلَاهُ فَسُمِّيَ كَسْبُهُ لِهَذَا الْغَرَضِ سِعَايَةً.وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ السِّعَايَةِ: فَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِذَا أَعْتَقَ بَعْضَ مَمْلُوكِهِ فَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِهِ غَيْرَ مُشْتَرَكٍ عَتَقَ الْبَعْضُ الْمُعْتَقِ، ثُمَّ يَسْرِي إِلَى بَاقِيهِ وَلَوْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِقِيمَةِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهُ، عَتَقَ نَصِيبُهُ ثُمَّ سَرَى الْعِتْقُ إِلَى بَاقِيهِ، وَعَلَيْهِ لِشَرِيكِهِ قِيمَةُ مَا أَعْتَقَ مِنْ نَصِيبِهِ يَوْمَ الْإِعْتَاقِ.وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بَقِيَ نَصِيبُ الشَّرِيكِ فِي الرِّقِّ، وَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ سِعَايَةٌ، وَلَا لِلشَّرِيكِ اسْتِسْعَاءُ الْعَبْدِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِخَبَرِ: «مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا مِنْ مَمْلُوكِهِ فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ فِي مَالِهِ» وَخَبَرِ: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» وَخَبَرِ: «إِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا يُقَوَّمُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ ثُمَّ يَعْتِقُ».

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: كُلٌّ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ يُبْطِلُ الِاسْتِسْعَاءَ فِي كُلِّ حَالٍ، وَيَتَّفِقَانِ فِي ثَلَاثَةِ مَعَانٍ:

(1) إِبْطَالُ الِاسْتِسْعَاءِ.

(2) ثُبُوتُ الرِّقِّ فِي حَالِ عُسْرِ الْمُعْتِقِ.

(3) نَفَاذُ الْعِتْقُ إِنْ كَانَ مُوسِرًا.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ السِّعَايَةَ ثَابِتَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَاسْتَدَلُّوا لِثُبُوتِهَا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا مِنْ مَمْلُوكِهِ فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ فِي مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ قُوِّمَ الْمَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ اسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ».

وَقَالُوا: فَقَدْ دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ السِّعَايَةَ ثَابِتَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَضَمَانُ السِّعَايَةِ لَيْسَ ضَمَانَ إِتْلَافٍ، وَلَا ضَمَانَ فِي تَمَلُّكٍ بَلْ ضَمَانُ احْتِبَاسٍ، وَضَمَانُ سَلَامَةِ النَّفْسِ وَالرَّقَبَةِ حُصُولُ الْمَنْفَعَةِ.

ثُمَّ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِيمَنْ يَحِقُّ لَهُ خِيَارُ الِاسْتِسْعَاءِ، وَمَتَى؟.

فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَثْبُتُ حَقُّ خِيَارِ الِاسْتِسْعَاءِ لِمَنْ أَعْتَقَ جُزْءًا مِنْ مَمْلُوكِهِ أَوْ شِقْصًا مِنْ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ.

فَإِنْ أَعْتَقَ بَعْضَ مَمْلُوكِهِ صَحَّ، وَيَسْعَى فِيمَا بَقِيَ وَإِنْ شَاءَ حَرَّرَهُ.

وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: عَتَقَ كُلُّهُ.

وَإِنْ أَعْتَقَ شَرِيكٌ نَصِيبَهُ، فَلِشَرِيكِهِ خِيَارَاتٌ ثَلَاثَةٌ:

أَنْ يُحَرِّرَ نَصِيبَهُ أَيْضًا، أَوْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ الْأَوَّلَ وَيَرْجِعَ الْمُعْتِقُ عَلَى الْعَبْدِ، أَوْ أَنْ يُسْتَسْعَى الْعَبْدُ، وَالِاسْتِسْعَاءُ أَنْ يُؤَجِّرَهُ حَتَّى يَأْخُذَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ إِتْلَافًا لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ، بَلْ بَقِيَ مُحْتَبِسًا عِنْدَ الْعَبْدِ بِحَقِّهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ اسْتِخْلَاصُهُ مِنْهُ، وَهُوَ يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي الْفَصْلَ بَيْنَ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَيَثْبُتُ خِيَارُ السِّعَايَةِ فِي الْحَالَتَيْنِ.

وَقَالَ صَاحِبَاهُ: لَا يَثْبُتُ الِاسْتِسْعَاءُ إِلاَّ فِي حَالَةِ إِعْسَارِ الشَّرِيكِ الْمُعْتِقِ نَصِيبَهُ.

أَمَّا إِنْ أَعْتَقَ جُزْءًا مِنْ مَمْلُوكِهِ غَيْرِ الْمُشْتَرَكِ أَوْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ فِي مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَهُوَ مُوسِرٌ فَلَا سِعَايَةَ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ فَكَانَ الْمُعْتِقُ مُتْلِفًا نَصِيبَ شَرِيكِهِ، فَوَجَبَ الضَّمَانُ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتْلِفِ يَمْنَعُ السِّعَايَةَ، وَكَانَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَلاَّ تَجِبَ السِّعَايَةُ حَالَ الْإِعْسَارِ أَيْضًا، وَأَلاَّ يَكُونَ الْوَاجِبُ إِلاَّ الضَّمَانَ فِي الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُتْلَفَاتِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْإِعْسَارِ وَالْيَسَارِ، وَلَكِنْ عُدِلَ عَنْهَا لِلنَّصِّ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي حَالِ الْإِعْسَارِ.قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ فِي الْعَبْدِ الْمُسْتَسْعَى التَّصَرُّفَاتُ النَّاقِلَةُ لِلْمِلْكِ، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَلَا يُورَثُ، وَهُوَ أَحَقُّ بِمَكَاسِبِهِ، وَيَخْرُجُ إِلَى الْحُرِّيَّةِ بِالسِّعَايَةِ أَوْ الْإِعْتَاقِ، وَلَا يَعُودُ إِلَى الْعُبُودِيَّةِ مُطْلَقًا وَإِنْ عَجَزَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


115-موسوعة الفقه الكويتية (سعر)

سِعْر

التَّعْرِيفُ:

1- السِّعْرُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الَّذِي يُقَوَّمُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، وَجَمْعُهُ أَسْعَارٌ، وَقَدْ أَسْعَرُوا وَسَعَّرُوا: اتَّفَقُوا عَلَى سِعْرٍ.

يُقَالُ: شَيْءٌ لَهُ سِعْرٌ: إِذَا زَادَتْ قِيمَتُهُ، وَلَيْسَ لَهُ سِعْرٌ: إِذَا أَفْرَطَ رُخْصُهُ.

وَسِعْرُ السُّوقِ: مَا يُمْكِنُ أَنْ تُشْتَرَى بِهَا الْوَحْدَةُ أَوْ مَا شَابَهَهَا فِي وَقْتٍ مَا.

وَالتَّسْعِيرُ: تَقْدِيرُ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ لِلنَّاسِ سِعْرًا، وَإِجْبَارُهُمْ عَلَى التَّبَايُعِ بِمَا قَدَّرَهُ.وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَسْعِير).

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الثَّمَنُ:

2- الثَّمَنُ لُغَةً: مَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الشَّيْءُ.وَاصْطِلَاحًا: هُوَ مَا يَكُونُ بَدَلًا لِلْمَبِيعِ وَيَتَعَيَّنُ فِي الذِّمَّةِ.ر: مُصْطَلَحَ (ثَمَن).

وَتَقَدَّمَ فِي مُصْطَلَحِ (ثَمَن) أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الثَّمَنِ وَالسِّعْرِ: أَنَّ السِّعْرَ هُوَ مَا يَطْلُبُهُ الْبَائِعُ.أَمَّا الثَّمَنُ فَهُوَ مَا يَتَرَاضَى عَلَيْهِ الْعَاقِدَانِ.

ب- الْقِيمَةُ

3- الْقِيمَةُ لُغَةً: الثَّمَنُ الَّذِي يُقَوَّمُ بِهِ الْمَتَاعُ؛ أَيْ: يَقُومُ مَقَامَهُ، وَالْجَمْعُ: الْقِيَمُ.

وَاصْطِلَاحًا: هِيَ الثَّمَنُ الْحَقِيقِيُّ لِلشَّيْءِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ السِّعْرِ: أَنَّ السِّعْرَ مَا يَطْلُبُهُ الْبَائِعُ ثَمَنًا لِسِلْعَتِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُسَاوِيًا لِلثَّمَنِ الْحَقِيقِيِّ أَوْ أَزْيَدَ مِنْهُ أَوْ أَقَلَّ.

أَحْكَامُ السِّعْرِ:

الْبَيْعُ بِمَا يَنْقَطِعُ بِهِ السِّعْرُ:

4- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- كَمَا قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ- وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ بِسِعْرِ السُّوقِ الْيَوْمَ أَوْ بِمَا يَنْقَطِعُ بِهِ السِّعْرُ لَا يَصِحُّ لِلْجَهَالَةِ، كَأَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ بِمَا يَظْهَرُ مِنَ السِّعْرِ بَيْنَ النَّاسِ الْيَوْمَ.

ثُمَّ قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ: وَعَنْ أَحْمَدَ يَصِحُّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ وَقَالَ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ بِمَا يَنْقَطِعُ بِهِ السِّعْرُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ الثَّمَنِ وَقْتَ الْعَقْدِ، وَصُورَتُهَا: الْبَيْعُ مِمَّنْ يُعَامِلُهُ مِنْ خَبَّازٍ أَوْ لَحَّامٍ أَوْ سَمَّانٍ أَوْ غَيْرِهِمْ.يَأْخُذُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ شَيْئًا مَعْلُومًا، ثُمَّ يُحَاسِبُهُ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ أَوْ السَّنَةِ عَلَى الْجَمِيعِ وَيُعْطِيهِ ثَمَنَهُ، فَمَنَعَهُ الْأَكْثَرُونَ وَجَعَلُوا الْقَبْضَ بِهِ غَيْرَ نَاقِلٍ لِلْمِلْكِ، وَهُوَ قَبْضٌ فَاسِدٌ يَجْرِي مَجْرَى الْمَقْبُوضِ بِالْغَصْبِ؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جَوَازُ الْبَيْعِ بِمَا يَنْقَطِعُ بِهِ السِّعْرُ، وَهُوَ مَنْصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: هُوَ أَطْيَبُ لِقَلْبِ الْمُشْتَرَى مِنَ الْمُسَاوَمَةِ، يَقُولُ: لِي أُسْوَةٌ بِالنَّاسِ آخُذُ بِمَا يَأْخُذُ بِهِ غَيْرِي.

قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَأَكْثَرُهُمْ يُجَوِّزُونَ عَقْدَ الْإِجَارَةِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، كَالْغَسَّالِ وَالْخَبَّازِ وَالْمَلاَّحِ وَقَيِّمِ الْحَمَّامِ وَالْمُكَارِي، وَالْبَيْعَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ كَبَيْعِ مَاءِ الْحَمَّامِ.

فَغَايَةُ الْبَيْعِ بِالسِّعْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ فَيَجُوزُ.قَالَ: وَهُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ وَهُوَ عَمَلُ النَّاسِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ.

وَرَاجِعْ مُصْطَلَحَ (بَيْع الِاسْتِجْرَارِ).

زِيَادَةُ السِّعْرِ بَعْدَ إِخْبَارِ الرُّكْبَانِ بِهِ:

5- لَوِ اشْتَرَى شَخْصٌ مِنَ الرُّكْبَانِ بِغَيْرِ طَلَبِهِمْ مَتَاعًا قَبْلَ قُدُومِهِمُ الْبَلَدَ وَمَعْرِفَتِهِمُ السِّعْرَ بِأَقَلَّ مِنْ سِعْرِ الْبَلَدِ، فَإِنَّهُمْ يُخَيَّرُونَ فَوْرًا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ لِلْغَبْنِ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَلَقَّوُا الْجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ- أَيْ صَاحِبُهُ- السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ».ر: مُصْطَلَحَ (بَيْع مَنْهِيّ عَنْهُ ف 130 وَمَا بَعْدَهَا).

الْإِخْبَارُ بِالسِّعْرِ:

6- قَالَ فِي مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى: يَجِبُ عَلَى عَارِفٍ بِالسِّعْرِ إِخْبَارُ مُسْتَخْبِرٍ جَاهِلٍ بِهِ عَنْ سِعْرٍ جَهِلَهُ؛ لِوُجُوبِ نُصْحِ الْمُسْتَنْصِحِ لِحَدِيثِ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ».

نَقْصُ سِعْرِ الْمَغْصُوبِ:

7- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ نَقْصِ قِيمَةِ الْعَيْنِ بِسَبَبِ تَغَيُّرِ الْأَسْعَارِ.وَحُكِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ يَضْمَنُ النَّقْصَ؛ لِأَنَّهُ يَضْمَنُ النَّقْصَ إِذَا تَلِفَتِ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ.فَكَذَلِكَ يَضْمَنُهُ إِذَا رَدَّ الْعَيْنَ الْمَغْصُوبَةَ بَعْدَمَا نَقَصَ سِعْرُهَا.وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (غَصْب).

أَثَرُ غَلَاءِ الْأَسْعَارِ عَلَى نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ:

8- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ فُرِضَتِ النَّفَقَةُ لِلزَّوْجَةِ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ وَحَالِهَا ثُمَّ غَلَا السِّعْرُ كَانَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِأَنْ يَزِيدَ فِي الْفَرْضِ، وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُنْقِصَ النَّفَقَةَ إِذَا رَخُصَتِ الْأَسْعَارُ.

نُقْصَانُ سِعْرِ الْمَسْرُوقِ:

9- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ذَكَرَهَا الطَّحَاوِيُّ، إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ بِقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ حِينَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ، وَبُلُوغِهِ نِصَابًا، فَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَسْقُطِ الْقَطْعُ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ وَقْتَ السَّرِقَةِ وَوَقْتَ الْقَطْعِ وَمَكَانَهُ، بِتَقْوِيمِ عَدْلَيْنِ لَهُمَا مَعْرِفَةٌ بِالْقِيمَةِ، وَلَا قَطْعَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُقَوِّمِينَ.

وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ نُقْصَانَ السِّعْرِ يُورِثُ شُبْهَةَ نُقْصَانٍ فِي الْمَسْرُوقِ وَقْتَ السَّرِقَةِ، لِأَنَّ الْعَيْنَ بِحَالِهَا قَائِمَةٌ لَمْ تَتَغَيَّرْ، وَتَغَيُّرُ السِّعْرِ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ عَلَى السَّارِقِ أَصْلًا، فَيُجْعَلُ النُّقْصَانُ الطَّارِئُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ السَّرِقَةِ.

الْبَيْعُ بِالسِّعْرِ الْمَكْتُوبِ عَلَى السِّلْعَةِ:

10- ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى مَنْعِ الْبَيْعِ بِالسِّعْرِ الْمَكْتُوبِ عَلَى السِّلْعَةِ إِذَا جَهِلَهُ الْعَاقِدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا.وَأَجَازَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رَقْم).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


116-موسوعة الفقه الكويتية (شبع)

شِبَع

التَّعْرِيفُ:

1- الشِّبَعُ: مَعْرُوفٌ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْبِطْنَةُ:

2- الْبِطْنَةُ لُغَةً: الِامْتِلَاءُ الشَّدِيدُ مِنَ الطَّعَامِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشِّبَعِ:

الْأَكْلُ مِنَ الطَّعَامِ الْحَلَالِ فَوْقَ الشِّبَعِ:

3- مِنْ آدَابِ الْأَكْلِ الِاعْتِدَالُ فِي الطَّعَامِ وَعَدَمُ مِلْءِ الْبَطْنِ، وَأَكْثَرُ مَا يَسُوغُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَجْعَلَ الْمُسْلِمُ بَطْنَهُ أَثْلَاثًا: ثُلُثًا لِلطَّعَامِ وَثُلُثًا لِلشَّرَابِ وَثُلُثًا لِلنَّفَسِ؛ لِحَدِيثِ: «مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ».وَلِاعْتِدَالِ الْجَسَدِ وَخِفَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى الشِّبَعِ ثِقَلُ الْبَدَنِ، وَهُوَ يُورِثُ الْكَسَلَ عَنِ الْعِبَادَةِ وَالْعَمَلِ، وَيُعْرَفُ الثُّلُثُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى ثُلُثِ مَا كَانَ يَشْبَعُ بِهِ، وَقِيلَ يُعْرَفُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى نِصْفِ الْمُدِّ، وَاسْتَظْهَرَ النَّفْرَاوِيُّ الْأَوَّلَ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ.وَهَذَا كُلُّهُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُضْعِفُهُ قِلَّةُ الشِّبَعِ، وَإِلاَّ فَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ اسْتِعْمَالُ مَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ النَّشَاطُ لِلْعِبَادَةِ، وَاعْتِدَالُ الْبَدَنِ.

وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: الْأَكْلُ عَلَى مَرَاتِبَ: فَرْضٍ: وَهُوَ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْهَلَاكُ، فَإِنْ تَرَكَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ حَتَّى هَلَكَ فَقَدْ عَصَى.

وَمَأْجُورٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَيْهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الصَّلَاةِ قَائِمًا، وَيُسَهِّلَ عَلَيْهِ الصَّوْمَ.

وَمُبَاحٌ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إِلَى الشِّبَعِ لِتَزْدَادَ قُوَّةُ الْبَدَنِ وَلَا أَجْرَ فِيهِ وَلَا وِزْرَ وَيُحَاسَبُ عَلَيْهِ حِسَابًا يَسِيرًا إِنْ كَانَ مِنْ حِلٍّ.

وَحَرَامٌ، وَهُوَ الْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ إِلاَّ إِذَا قَصَدَ بِهِ التَّقَوِّيَ عَلَى صَوْمِ الْغَدِ، أَوْ لِئَلاَّ يَسْتَحْيِ الضَّيْفُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ فَوْقَ الشِّبَعِ.

وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِّ: الْأَكْلُ فِي نَفْسِهِ عَلَى مَرَاتِبَ، وَاجِبٌ، وَمَنْدُوبٌ، وَمُبَاحٌ، وَمَكْرُوهٌ.وَمُحَرَّمٌ.فَالْوَاجِبُ: مَا يُقِيمُ بِهِ صُلْبَهُ لِأَدَاءِ فَرْضِ رَبِّهِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى الْوَاجِبِ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.

وَالْمَنْدُوبُ: مَا يُعِينُهُ عَلَى تَحْصِيلِ النَّوَافِلِ وَعَلَى تَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الطَّاعَاتِ.

وَالْمُبَاحُ: الشِّبَعُ الشَّرْعِيُّ.وَالْمَكْرُوهُ: مَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ قَلِيلًا وَلَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ، وَالْمُحَرَّمُ: الْبِطْنَةُ.وَهُوَ الْأَكْلُ الْكَثِيرُ الْمُضِرُّ لِلْبَدَنِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يُكْرَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الطَّعَامِ الْحَلَالِ فَوْقَ شِبَعِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ أَكْلُهُ كَثِيرًا بِحَيْثُ لَا يُؤْذِيهِ.

وَفِي الْفُتْيَةِ: يُكْرَهُ مَعَ خَوْفِ تُخَمَةٍ.وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ كَرَاهَةُ الْأَكْلِ الْمُؤَدِّي إِلَى التُّخَمَةِ كَمَا نُقِلَ عَنْهُ تَحْرِيمُهُ.

شِبَعُ الْمُضْطَرِّ مِنَ الْمَيْتَةِ:

4- إِذَا كَانَتِ الضَّرُورَةُ مَرْجُوَّةَ الزَّوَالِ، فَيُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمَيْتَةِ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ وَيَأْمَنُ مَعَهُ الْمَوْتَ، بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ، وَيَحْرُمُ مَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ بِالْإِجْمَاعِ.

وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الشِّبَعِ عَلَى النَّحْوِ الْآتِي:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَابْنُ حَبِيبٍ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلَ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ فَقَطْ.وَلَيْسَ لَهُ الشِّبَعُ لِأَنَّهُ بَعْدَ سَدِّ الرَّمَقِ غَيْرُ مُضْطَرٍّ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْأَكْلِ وَهُوَ غَيْرُ مُضْطَرٍّ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ- وَاخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ- أَنَّ الْمُضْطَرَّ يَجُوزُ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ حَتَّى يَشْبَعَ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَرْفَعُ التَّحْرِيمَ فَيَعُودُ مُبَاحًا، وَمِقْدَارُ الضَّرُورَةِ هُوَ مِنْ حَالَةِ عَدَمِ الْقُوتِ إِلَى حَالَةِ وُجُودِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ إِنْ تَوَقَّعَ حَلَالًا قَرِيبًا لَمْ يَجُزْ غَيْرُ سَدِّ الرَّمَقِ، وَإِلاَّ فَفِي قَوْلٍ: يَشْبَعُ، وَالْأَظْهَرُ سَدُّ الرَّمَقِ إِلاَّ أَنْ يَخَافَ تَلَفًا إِنِ اقْتَصَرَ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ فَتُبَاحُ لَهُ الزِّيَادَةُ بَلْ تَلْزَمُهُ لِئَلاَّ يُهْلِكَ نَفْسَهُ.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ: (أَكْل، سَدُّ الرَّمَقِ، ضَرُورَة).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


117-موسوعة الفقه الكويتية (شفعة 4)

شُفْعَةٌ -4

الْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ فِي الْمَالِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ:

48- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي فِي الْأَرْضِ الْمَشْفُوعِ فِيهَا أَوْ غَرَسَ فِيهَا، ثُمَّ قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ، وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ هُوَ تَرَدُّدُ تَصَرُّفِ الْمَشْفُوعِ عَلَيْهِ الْعَالِمِ بِوُجُوبِ الشُّفْعَةِ عَلَيْهِ بَيْنَ شُبْهَةِ تَصَرُّفِ الْغَاصِبِ وَتَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي الَّذِي يَطْرَأُ عَلَيْهِ الِاسْتِحْقَاقُ وَقَدْ بَنَى فِي الْأَرْضِ وَغَرَسَ وَذَلِكَ أَنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَهُمَا.

فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شَبَهُ الِاسْتِحْقَاقِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْقِيمَةَ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شَبَهُ التَّعَدِّي كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِنَقْضِهِ أَوْ يُعْطِيَهُ قِيمَتَهُ مَنْقُوضًا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي فِي الْأَرْضِ الْمَشْفُوعِ فِيهَا أَوْ غَرَسَ، ثُمَّ قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِالثَّمَنِ وَالْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ بِقِيمَتِهِ مَقْلُوعًا، وَإِنْ شَاءَ أَجْبَرَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى قَلْعِهِمَا، فَيَأْخُذُ الْأَرْضَ فَارِغَةً.وَهَذَا هُوَ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.

وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.أَنَّهُ بَنَى فِي مَحَلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ مُتَأَكِّدٌ لِلْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فَيُنْقَضُ كَالرَّاهِنِ إِذَا بَنَى فِي الْمَرْهُونِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّهُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يُنْقَضُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَتَصَرُّفَاتُهُ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْقَلْعِ وَيُخَيَّرُ الشَّفِيعُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الدَّارَ مِلْكُهُ، وَالتَّكْلِيفُ بِالْقَلْعِ مِنْ أَحْكَامِ الْعُدْوَانِ وَصَارَ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا، وَكَمَا إِذَا زَرَعَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الْقَلْعَ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي إِيجَابِ الْقِيمَةِ دَفْعَ أَعْلَى الضَّرَرَيْنِ بِتَحَمُّلِ الْأَدْنَى فَيُصَارُ إِلَيْهِ.

أَمَّا الزَّرْعُ فَالْقِيَاسُ قَلْعُهُ وَلَكِنَّ الِاسْتِحْسَانَ عَدَمُ قَلْعِهِ، لِأَنَّ لَهُ نِهَايَةً مَعْلُومَةً وَيَبْقَى بِالْأَجْرِ وَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَحْدَثَ الْمُشْتَرِي بِنَاءً أَوْ غَرْسًا أَوْ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ فِي الشِّقْصِ قَبْلَ قِيَامِ الشَّفِيعِ، ثُمَّ قَامَ الشَّفِيعُ بِطَلَبِ شُفْعَتِهِ فَلَا شُفْعَةَ إِلاَّ أَنْ يُعْطَى الْمُشْتَرِي قِيمَةَ مَا بَنَى وَمَا غَرَسَ.

وَلِلْمُشْتَرِي الْغَلَّةُ إِلَى وَقْتِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّهُ فِي ضَمَانِهِ قَبْلَ الْأَخْذِ بِهَا وَالْغَلَّةُ بِالضَّمَانِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي أَوْ غَرَسَ أَوْ زَرَعَ فِي الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ ثُمَّ عَلِمَ الشَّفِيعُ فَلَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ وَقَلْعُ بِنَائِهِ وَغَرْسِهِ وَزَرْعِهِ مَجَّانًا لَا بِحَقِّ الشُّفْعَةِ، وَلَكِنْ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إِذَا انْفَرَدَ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فِي الْأَرْضِ الْمُشْتَرَكَةِ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَقْلَعَ مَجَّانًا.

وَإِنْ بَنَى الْمُشْتَرِي وَغَرَسَ فِي نَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَالتَّمْيِيزِ ثُمَّ عَلِمَ الشَّفِيعُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَلْعُهُ مَجَّانًا، لِأَنَّهُ بَنَى فِي مِلْكِهِ الَّذِي يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ فَلَا يُقْلَعُ مَجَّانًا.

فَإِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي قَلْعَ الْبِنَاءِ أَوِ الْغِرَاسِ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَا يُكَلَّفُ تَسْوِيَةَ الْأَرْضِ.لِأَنَّهُ كَانَ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِهِ، فَإِنْ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ نَقْصٌ فَالشَّفِيعُ إِمَّا أَنْ يَأْخُذَهُ عَلَى صِفَتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَرِ الْمُشْتَرِي الْقَلْعَ، فَلِلشَّفِيعِ الْخِيَارُ بَيْنَ إِبْقَاءِ مِلْكِهِ فِي الْأَرْضِ بِأُجْرَةٍ وَبَيْنَ تَمَلُّكِهِ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ الْأَخْذِ، وَبَيْنَ أَنْ يَنْقُضَهُ وَيَغْرَمَ أَرْشَ النَّقْصِ.

وَلَوْ كَانَ قَدْ زَرَعَ فَيَبْقَى زَرْعُهُ إِلَى أَنْ يُدْرِكَ فَيَحْصُدَهُ، وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْأُجْرَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي أَوْ غَرَسَ أَعْطَاهُ الشَّفِيعُ قِيمَةَ بِنَائِهِ أَوْ غَرْسِهِ، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ بِنَاءَهُ وَغِرَاسَهُ، فَلَهُ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي أَخْذِهِ ضَرَرٌ.لِأَنَّهُ مَلَكَهُ، فَإِذَا قَلَعَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الْحُفَرِ وَلَا نَقْصُ الْأَرْضِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ غَرَسَ وَبَنَى فِي مِلْكِهِ، وَمَا حَدَثَ مِنَ النَّقْصِ إِنَّمَا حَدَثَ فِي مِلْكِهِ، وَذَلِكَ لَا يُقَابِلُهُ ثَمَنٌ.

وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ عَلَيْهِ ضَمَانَ النَّقْصِ الْحَاصِلِ بِالْقَلْعِ؛ لِأَنَّهُ اشْتُرِطَ فِي قَلْعِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ عَدَمُ الضَّرَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ نَقْصٌ دَخَلَ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ لِأَجْلِ تَخْلِيصِ مِلْكِهِ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ الْحَاصِلَ بِالْقَلْعِ إِنَّمَا هُوَ فِي مِلْكِ الشَّفِيعِ.فَأَمَّا نَقْصُ الْأَرْضِ الْحَاصِلُ بِالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ فَلَا يَضْمَنُهُ.

فَإِنْ لَمْ يَخْتَرِ الْمُشْتَرِي الْقَلْعَ فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:

أ- تَرْكِ الشُّفْعَةِ.

ب- دَفْعِ قِيمَةِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ فَيَمْلِكُهُ مَعَ الْأَرْضِ.

ج- قَلْعِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ وَيَضْمَنُ لَهُ مَا نَقَصَ بِالْقَلْعِ.

وَإِنْ زَرَعَ فِي الْأَرْضِ فَلِلشَّفِيعِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ وَيَبْقَى زَرْعُ الْمُشْتَرِي إِلَى أَوَانِ الْحَصَادِ، لِأَنَّ ضَرَرَهُ لَا يَبْقَى وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ زَرَعَهُ فِي مِلْكِهِ؛ وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ اشْتَرَى الْأَرْضَ وَفِيهَا زَرْعٌ لِلْبَائِعِ مُبْقًى إِلَى الْحَصَادِ بِلَا أُجْرَةٍ كَغَيْرِ الْمَشْفُوعِ، وَإِنْ كَانَ فِي الشَّجَرِ ثَمَرٌ ظَاهِرٌ أَثْمَرَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ لَهُ مُبْقًى إِلَى الْجُذَاذِ كَالزَّرْعِ.

اسْتِحْقَاقُ الْمَشْفُوعِ فِيهِ لِلْغَيْرِ:

49- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عُهْدَةِ الشَّفِيعِ أَهِيَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَمْ عَلَى الْبَائِعِ.يَعْنِي إِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ فَظَهَرَ مُسْتَحَقًّا، فَعَلَى مَنْ يَرْجِعُ الثَّمَنُ؟

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ فَظَهَرَ مُسْتَحَقًّا فَرُجُوعُهُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِهِ.

وَإِنْ وَجَدَهُ مَعِيبًا فَلَهُ رَدُّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ أَخْذُ أَرْشِهِ مِنْهُ، وَالْمُشْتَرِي يَرُدُّ عَلَى الْبَائِعِ أَوْ يَأْخُذُ الْأَرْشَ مِنْهُ سَوَاءٌ قَبَضَ الشِّقْصَ مِنَ الْمُشْتَرِي أَوْ مِنَ الْبَائِعِ فَالْعُهْدَةُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْمُشْتَرِي.

وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، أَنَّ الشُّفْعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَحُصُولِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ يَزُولُ الْمِلْكُ مِنَ الْمُشْتَرِي إِلَى الشَّفِيعِ بِالثَّمَنِ فَكَانَتِ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ فَمَلَكَ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ كَالْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ الْأَوَّلِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِالْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ فَأَدَّى ثَمَنَهُ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ، فَإِنْ أَدَّاهُ لِلْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ سَوَاءٌ اسْتُحِقَّ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ إِلَيْهِ أَوْ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ أَدَّاهُ لِلْبَائِعِ وَاسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ وَهُوَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الثَّمَنِ لِلشَّفِيعِ.

وَيَرْجِعُ الشَّفِيعُ بِالثَّمَنِ فَقَطْ إِنْ بَنَى أَوْ غَرَسَ ثُمَّ اسْتُحِقَّتِ الْعَيْنُ، وَلَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ عَلَى أَحَدٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُقَرَّرًا بِهِ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: الْعُهْدَةُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ لَهُ بِإِيجَابِ الْبَائِعِ فَكَانَ رُجُوعُهُ عَلَيْهِ كَالْمُشْتَرِي.

تَبِعَةُ الْهَلَاكِ:

50- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا هَدَمَ الْمُشْتَرِي بِنَاءَ الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ أَوْ هَدَمَهُ غَيْرُهُ أَوْ قَلَعَ الْأَشْجَارَ الَّتِي كَانَتْ مَغْرُوسَةً فِي الْأَرْضِ الْمَشْفُوعَةِ فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الْعَرْصَةَ أَوِ الْأَرْضَ بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ بِأَنْ يُقْسَمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْعَرْصَةِ أَوِ الْأَرْضِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ أَوِ الشَّجَرِ وَمَا خَصَّ الْعَرْصَةَ أَوِ الْأَرْضَ مِنْهُ يَدْفَعُهُ الشَّفِيعُ وَتَكُونُ الْأَنْقَاضُ وَالْأَخْشَابُ لِلْمُشْتَرِي.وَإِذَا تَخَرَّبَتِ الدَّارُ الْمَشْفُوعَةُ أَوْ جَفَّتْ أَشْجَارُ الْبُسْتَانِ الْمَشْفُوعِ بِلَا تَعَدِّي أَحَدٍ عَلَيْهَا يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى، فَإِنْ كَانَ بِهَا أَنْقَاضٌ أَوْ خَشَبٌ وَأَخَذَهُ الْمُشْتَرِي تَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنَ الثَّمَنِ بِأَنْ يُقْسَمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الدَّارِ أَوِ الْبُسْتَانِ يَوْمَ الْعَقْدِ وَقِيمَةِ الْأَنْقَاضِ وَالْخَشَبِ يَوْمَ الْأَخْذِ، وَإِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْأَرْضِ الْمَشْفُوعَةِ بِغَرَقٍ أَوْ نَحْوِهِ سَقَطَتْ حِصَّةُ التَّالِفِ مِنْ أَصْلِ الثَّمَنِ، وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ مَعَ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ إِذَا كَانَ مُتَّصِلًا، فَأَمَّا إِذَا زَالَ الِاتِّصَالُ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَلَا سَبِيلَ لِلشَّفِيعِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُهُ قَائِمَةً سَوَاءٌ أَكَانَ الزَّوَالُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَمْ بِصُنْعِ الْمُشْتَرِي أَوِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنِ الْقِيَاسِ مَعْلُولًا بِالتَّبَعِيَّةِ وَقَدْ زَالَتِ التَّبَعِيَّةُ بِزَوَالِ الِاتِّصَالِ فَيُرَدُّ الْحُكْمُ فِيهِ إِلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْمُشْتَرِي نَقْصَ الشِّقْصِ إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِلَا سَبَبٍ مِنْهُ وَإِنَّمَا بِسَبَبٍ سَمَاوِيٍّ أَوْ تَغَيُّرِ سُوقٍ أَوْ كَانَ بِسَبَبٍ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ فَعَلَهُ لِمَصْلَحَةٍ كَهَدْمٍ لِمَصْلَحَةٍ مِنْ غَيْرِ بِنَاءٍ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّ لَهُ شَفِيعًا أَمْ لَا.فَإِنْ هَدَمَ لَا لِمَصْلَحَةٍ ضَمِنَ، فَإِنْ هَدَمَ وَبَنَى فَلَهُ قِيمَتُهُ عَلَى الشَّفِيعِ قَائِمًا لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ وَتُعْتَبَرُ يَوْمَ الْمُطَالَبَةِ وَلَهُ قِيمَةُ النَّقْصِ الْأَوَّلِ مَنْقُوضًا يَوْمَ الشِّرَاءِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَعَيَّبَتِ الدَّارُ الْمُشْتَرَى بَعْضُهَا أَخَذَ الشَّفِيعُ بِكُلِّ الثَّمَنِ أَوْ تَرَكَ كَتَعَيُّبِهَا بِيَدِ الْبَائِعِ، وَكَذَا لَوِ انْهَدَمَتْ بِلَا تَلَفٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا، فَإِنْ وَقَعَ تَلَفٌ لِبَعْضِهَا فَبِالْحِصَّةِ مِنَ الثَّمَنِ يَأْخُذُ الْبَاقِيَ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَلِفَ الشِّقْصُ أَوْ بَعْضُهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ.لِأَنَّهُ مِلْكُهُ تَلِفَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ إِنْ أَرَادَ الشَّفِيعُ الْأَخْذَ بَعْدَ تَلَفِ بَعْضِهِ أَخَذَ الْمَوْجُودَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ سَوَاءٌ أَكَانَ التَّلَفُ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ، وَسَوَاءٌ أَتَلِفَ بِاخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي كَنَقْضِهِ لِلْبِنَاءِ أَمْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ مِثْلَ أَنِ انْهَدَمَ.

ثُمَّ إِنْ كَانَتِ الْأَنْقَاضُ مَوْجُودَةً أَخَذَهَا مَعَ الْعَرْصَةِ بِالْحِصَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً أَخَذَ الْعَرْصَةَ وَمَا بَقِيَ مِنَ الْبِنَاءِ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْعَنْبَرِيِّ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَى الشَّفِيعِ أَخْذُ الْجَمِيعِ وَقَدَرَ عَلَى أَخْذِ الْبَعْضِ فَكَانَ لَهُ بِالْحِصَّةِ مِنَ الثَّمَنِ كَمَا لَوْ تَلِفَ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ سِوَاهُ أَوْ لَوْ كَانَ لَهُ شَفِيعٌ آخَرُ.أَوْ نَقُولُ: أَخَذَ بَعْضَ مَا دَخَلَ مَعَهُ فِي الْعَقْدِ، فَأَخَذَهُ بِالْحِصَّةِ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ سَيْفٌ.

وَأَمَّا الضَّرَرُ فَإِنَّمَا حَصَلَ بِالتَّلَفِ وَلَا صُنْعَ لِلشَّفِيعِ فِيهِ وَالَّذِي يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ يُؤَدِّي ثَمَنَهُ فَلَا يَتَضَرَّرُ الْمُشْتَرِي بِأَخْذِهِ.

وَإِنَّمَا قَالُوا بِأَخْذِ الْأَنْقَاضِ وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لِلشُّفْعَةِ كَانَ حَالَ عَقْدِ الْبَيْعِ وَفِي تِلْكَ الْحَالِ كَانَ مُتَّصِلًا اتِّصَالًا لَيْسَ مَآلُهُ إِلَى الِانْفِصَالِ وَانْفِصَالُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ حَقَّ الشُّفْعَةِ.وَإِنْ نُقِضَتِ الْقِيمَةُ مَعَ بَقَاءِ صُورَةِ الْمَبِيعِ مِثْلَ انْشِقَاقِ الْحَائِطِ وَانْهِدَامِ الْبِنَاءِ، وَشُعْثِ الشَّجَرِ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ الْأَخْذُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوِ التَّرْكُ.لِأَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ لَا يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ.

مِيرَاثُ الشُّفْعَةِ:

51- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِيرَاثِ حَقِّ الشُّفْعَةِ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ يُورَثُ، فَإِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ يَنْتَقِلُ حَقُّ الشُّفْعَةِ إِلَى وَرَثَتِهِ.

وَقَيَّدَهُ الْحَنَابِلَةُ بِمَا إِذَا كَانَ الشَّفِيعُ قَدْ طَالَبَ بِالشُّفْعَةِ قَبْلَ مَوْتِهِ.

وَوَجْهُ الِانْتِقَالِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ خِيَارٌ ثَابِتٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمَالِ فَوُرِثَ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ الْبَيْعِ وَقَبْلَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ حَقُّ الْأَخْذِ بِهَا، فَتَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِمَوْتِ الشَّفِيعِ وَلَا تَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَيْسَ بِمَالٍ وَإِنَّمَا مُجَرَّدُ الرَّأْيِ وَالْمَشِيئَةِ وَهُمَا لَا يَبْقَيَانِ بَعْدَ مَوْتِ الشَّفِيعِ وَلِأَنَّ مِلْكَ الشَّفِيعِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ قَدْ زَالَ بِمَوْتِهِ.أَمَّا إِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ بِالشُّفْعَةِ أَوْ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمُشْتَرِي لَهُ بِهَا فَلِوَرَثَتِهِ أَخْذُهَا بِالشُّفْعَةِ.

وَإِذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعُ حَيٌّ فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ بَاقٍ، وَبِمَوْتِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ لَمْ يَتَغَيَّرِ الِاسْتِحْقَاقُ.

مُسْقِطَاتُ الشُّفْعَةِ:

52- تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِمَا يَلِي:

أَوَّلًا: تَرْكُ أَحَدِ الطَّلَبَاتِ الثَّلَاثَةِ فِي وَقْتِهِ وَهِيَ طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ، وَطَلَبُ التَّقْرِيرِ وَالْإِشْهَادِ، وَطَلَبُ الْخُصُومَةِ وَالتَّمَلُّكِ إِذَا تُرِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ.

ثَانِيًا: إِذَا طَلَبَ الشَّفِيعُ بَعْضَ الْعَقَارِ الْمَبِيعِ وَكَانَ قِطْعَةً وَاحِدَةً وَالْمُشْتَرِي وَاحِدًا، لِأَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ.

ثَالِثًا: مَوْتُ الشَّفِيعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَبْلَ الْأَخْذِ بِهَا رِضَاءً أَوْ قَضَاءً سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَفَاةُ قَبْلَ الطَّلَبِ أَمْ بَعْدَهُ.وَلَا تُورَثُ عَنْهُ عِنْدَهُمْ.

رَابِعًا: الْإِبْرَاءُ وَالتَّنَازُلُ عَنِ الشُّفْعَةِ: فَالْإِبْرَاءُ الْعَامُّ مِنَ الشَّفِيعِ يُبْطِلُهَا قَضَاءً مُطْلَقًا لَا دِيَانَةً إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا.

وَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّنَازُلِ عَنِ الشُّفْعَةِ بِالتَّفْصِيلِ كَالتَّالِي:

53- إِذَا تَنَازَلَ الشَّفِيعُ عَنْ حَقِّهِ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ سَقَطَ حَقُّهُ فِي طَلَبِهَا، وَالتَّنَازُلُ هَذَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ ضِمْنِيًّا.

فَالتَّنَازُلُ الصَّرِيحُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ الشَّفِيعُ: أَبْطَلْتُ الشُّفْعَةَ أَوْ أَسْقَطْتُهَا أَوْ أَبْرَأْتُكَ عَنْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ خَالِصُ حَقِّهِ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهَا اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا كَالْإِبْرَاءِ عَنِ الدَّيْنِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ سَوَاءٌ عَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْبَيْعِ.

أَمَّا التَّنَازُلُ الضِّمْنِيُّ فَهُوَ أَنْ يُوجَدَ مِنَ الشَّفِيعِ مَا يَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِالْبَيْعِ وَثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ إِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمُشْتَرِي فَإِذَا رَضِيَ بِالشِّرَاءِ أَوْ بِحُكْمِهِ فَقَدْ رَضِيَ بِضَرَرِ جِوَارِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الدَّفْعَ بِالشُّفْعَةِ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِسْقَاطٌ).

التَّنَازُلُ عَنِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ:

54- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَازَلَ الشَّفِيعُ عَنْ حَقِّهِ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ بَيْعِ الْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ فِي طَلَبِهَا بَعْدَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّنَازُلَ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ قَبْلَ وُجُوبِهِ وَوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ مُحَالٌ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ تَسْقُطُ بِالتَّنَازُلِ عَنْهَا قَبْلَ الْبَيْعِ- فَإِنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ سَعِيدٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: مَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ رَبْعَةٌ فَأَرَادَ بَيْعَهَا فَلْيَعْرِضْهَا عَلَيْهِ».

وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَلَا يَحِلُّ لَهُ إِلاَّ أَنْ يَعْرِضَهَا عَلَيْهِ» إِذَا كَانَتِ الشُّفْعَةُ ثَابِتَةً لَهُ؟ فَقَالَ.مَا هُوَ بِبَعِيدٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى ذَلِكَ وَأَلاَّ تَكُونَ لَهُ الشُّفْعَةُ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَكَمِ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي خَيْثَمَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ.

وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي رَبْعَةٍ أَوْ نَخْلٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَإِنْ رَضِيَ أَخَذَ وَإِنْ كَرِهَ تَرَكَ» وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم-: «فَإِذَا بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ»،، فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِذَا بَاعَهُ بِإِذْنِهِ لَا حَقَّ لَهُ.

وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ فِي مَوْضِعِ الْوِفَاقِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ يَأْخُذُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ رِضَائِهِ، وَيُجْبِرُهُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ بِهِ لِدُخُولِهِ مَعَ الْبَائِعِ فِي الْعَقْدِ الَّذِي أَسَاءَ فِيهِ بِإِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى شَرِيكِهِ، وَتَرْكِهِ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِ فِي عَرْضِهِ عَلَيْهِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ هَاهُنَا فَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَهُ عَلَيْهِ، وَامْتِنَاعُهُ مِنْ أَخْذِهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الضَّرَرِ فِي حَقِّهِ بِبَيْعِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَهُوَ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ كَمَا لَوْ أَخَّرَ الْمُطَالَبَةَ بَعْدَ الْبَيْعِ.

التَّنَازُلُ عَنِ الشُّفْعَةِ مُقَابِلَ تَعْوِيضٍ أَوْ صُلْحٍ عَنْهَا:

55- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ التَّنَازُلِ عَنِ الشُّفْعَةِ مُقَابِلَ تَعْوِيضٍ يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ.

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَنِ الشُّفْعَةِ عَلَى مَالٍ، فَلَوْ صَالَحَ الْمُشْتَرِي الشَّفِيعَ عَنِ الشُّفْعَةِ عَلَى مَالٍ لَمْ يَجُزِ الصُّلْحُ وَلَمْ يَثْبُتِ الْعِوَضُ وَيَبْطُلُ حَقُّ الشُّفْعَةِ.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ إِنْ عَلِمَ بِفَسَادِهِ.

أَمَّا بُطْلَانُ الصُّلْحِ فَلِانْعِدَامِ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي الْمَحَلِّ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ التَّمَلُّكِ، وَأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ وِلَايَةِ التَّمَلُّكِ وَأَنَّهَا مَعْنًى قَائِمٌ بِالشَّفِيعِ فَلَمْ يَصِحَّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ فَبَطَلَ الصُّلْحُ وَلَمْ يَجِبِ الْعِوَضُ.

وَأَمَّا بُطْلَانُ حَقِّ الشَّفِيعِ فِي الشُّفْعَةِ؛ فَلِأَنَّهُ أَسْقَطَهُ بِالصُّلْحِ فَالصُّلْحُ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَإِسْقَاطُ حَقِّ الشُّفْعَةِ صَحِيحٌ، لِأَنَّ صِحَّتَهُ لَا تَقِفُ عَلَى الْعِوَضِ بَلْ هُوَ شَيْءٌ مِنَ الْأَمْوَالِ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا عَنْهُ فَالْتُحِقَ ذِكْرُ الْعِوَضِ بِالْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنَّهُ سَلَّمَ بِلَا عِوَضٍ.

وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى جَوَازِ الصُّلْحِ عَنِ الشُّفْعَةِ بِعِوَضٍ، لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ إِزَالَةِ الْمِلْكِ فَجَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ.

وَقَالَ الْقَاضِي: مِنَ الْحَنَابِلَةِ.لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ وَلَكِنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَسْقُطُ.لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِإِسْقَاطِهَا وَإِنَّمَا رَضِيَ بِالْمُعَاوَضَةِ عَنْهَا وَلَمْ تَثْبُتِ الْمُعَاوَضَةُ فَبَقِيَتِ الشُّفْعَةُ.

التَّنَازُلُ عَنِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ طَلَبِهَا:

56- يَجُوزُ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَتَنَازَلَ عَنْ حَقِّهِ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ أَنْ طَلَبَهَا وَقَبْلَ رِضَى الْمُشْتَرِي أَوْ حُكْمِ الْحَاكِمِ لَهُ بِهَا، فَإِنْ تَرَكَ الشَّفِيعُ طَلَبَ الشُّفْعَةِ أَوْ بَاعَ حِصَّتَهُ الَّتِي يَشْفَعُ بِهَا بَعْدَ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَقَبْلَ تَمَلُّكِهِ الْمَشْفُوعَ فِيهِ بِالْقَضَاءِ أَوِ الرِّضَا يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الشُّفْعَةِ لِأَنَّهُ يُعَدُّ تَنَازُلًا مِنْهُ عَنْ حَقِّهِ فِي طَلَبِهَا قَبْلَ الْحُكْمِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ التَّنَازُلُ بَعْدَ الْحُكْمِ لَهُ بِهَا أَوْ بَعْدَ رِضَاءِ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ فَلَيْسَ لَهُ التَّنَازُلُ؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَكُونُ مِلْكَ الْمَشْفُوعِ فِيهِ وَالْمِلْكُ لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ.

مُسَاوَمَةُ الشَّفِيعِ لِلْمُشْتَرِي:

57- الْمُسَاوَمَةُ تُعْتَبَرُ تَنَازُلًا عَنِ الشُّفْعَةِ فَإِذَا سَامَ الشَّفِيعُ الدَّارَ مِنَ الْمُشْتَرِي سَقَطَ حَقُّهُ فِي الشُّفْعَةِ لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ طَلَبُ تَمْلِيكٍ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ وَهُوَ دَلِيلُ الرِّضَا بِمِلْكِ الْمُتَمَلِّكِ.

وَلِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مِمَّا يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الرِّضَا فَيَبْطُلُ بِدَلَالَةِ الرِّضَا أَيْضًا، وَالْمُسَاوَمَةُ تُعْتَبَرُ تَنَازُلًا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


118-موسوعة الفقه الكويتية (شيوع)

شُيُوعٌ

التَّعْرِيفُ

1- الشُّيُوعُ مَصْدَرُ شَاعَ- يُقَالُ: شَاعَ يَشِيعُ شَيْعًا، وَشَيَعَانًا وَشُيُوعًا: إِذَا ظَهَرَ وَانْتَشَرَ.يُقَالُ: شَاعَ الْخَبَرُ شُيُوعًا فَهُوَ شَائِعٌ إِذَا: ذَاعَ، وَانْتَشَرَ، وَأَشَاعَهُ إِشَاعَةً أَطَارَهُ وَأَذَاعَهُ وَأَظْهَرَهُ.

وَفِي هَذَا قَوْلُهُمْ: نَصِيبُ فُلَانٍ شَائِعٌ فِي جَمِيعِ الدَّارِ، أَيْ: مُتَّصِلٌ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا وَمُشَاعٌ فِيهَا لَيْسَ بِمَقْسُومٍ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

(1) الْخَلْطُ:

2- الْخَلْطُ: تَدَاخُلُ الْأَشْيَاءِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ، وَقَدْ يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَعْدَ ذَلِكَ كَالْحَيَوَانِ، وَقَدْ لَا يُمْكِنُ كَالْمَائِعَاتِ فَيَكُونُ مَزْجًا.

(2) الشَّرِكَةُ:

3- وَهِيَ لُغَةً: الِاخْتِلَاطُ عَلَى الشُّيُوعِ، وَشَرْعًا: ثُبُوتُ الْحَقِّ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ لِشَخْصَيْنِ فَأَكْثَرَ عَلَى وَجْهِ الشُّيُوعِ.وَعَبَّرَ عَنْهَا صَاحِبُ الْمُغْنِي بِأَنَّهَا اجْتِمَاعٌ فِي اسْتِحْقَاقٍ أَوْ تَصَرُّفٍ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

4- أ- يَحْرُمُ إِشَاعَةُ أَسْرَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَأُمُورِهِمُ الدَّاخِلِيَّةِ مِمَّا يَمَسُّ أَمْنَهُمْ وَاسْتِقْرَارَهُمْ، حَتَّى لَا يَعْلَمَ الْأَعْدَاءُ مَوَاضِعَ الضَّعْفِ فِيهِمْ، فَيَسْتَغِلُّوهَا أَوْ قُوَّتِهِمْ فَيَتَحَصَّنُوا مِنْهُمْ.

ب- كَمَا يَحْرُمُ إِشَاعَةُ مَا يَمَسُّ أَعْرَاضَ النَّاسِ وَأَسْرَارَهُمْ الْخَاصَّةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}.

انْظُرْ: (إِشَاعَةٌ، وَإِفْشَاءُ السِّرِّ).

حُكْمُ ثُبُوتِ الْجَرِيمَةِ بِالشُّيُوعِ فِي النَّاسِ:

5- إِنْ شَاعَ فِي النَّاسِ: أَنَّ فُلَانًا سَرَقَ مَتَاعَ فُلَانٍ، أَوْ زَنَى بِفُلَانَةٍ، لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الشُّيُوعِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْإِثْبَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي: (حُدُودٌ، وَإِثْبَاتٌ).

الشُّيُوعُ فِي اللَّوْثِ:

6- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الشُّيُوعَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، بِأَنَّ فُلَانًا الَّذِي جُهِلَ قَاتِلُهُ، قَتَلَهُ فُلَانٌ هُوَ لَوْثٌ، فَيَجُوزُ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَحْلِفُوا أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَ مُوَرِّثَهُمُ اسْتِنَادًا إِلَى شُيُوعِ ذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ.

بَيْعُ الْمُشَاعِ:

7- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ بَيْعِ جُزْءٍ مُشَاعٍ فِي دَارٍ كَالثُّلُثِ وَنَحْوِهِ، وَبَيْعِ صَاعٍ مِنْ صُبْرَةٍ مُتَسَاوِيَةِ الْأَجْزَاءِ، وَبَيْعِ عَشَرَةِ أَسْهُمٍ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٌ).

قِسْمَةُ الْمُشَاعِ:

8- يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ قِسْمَةُ الْمِلْكِ الْمُشَاعِ بِطَلَبِ الشُّرَكَاءِ، أَوْ بِطَلَبِ بَعْضِهِمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ مُنْتَفِعٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِنَصِيبِ غَيْرِهِ، فَإِذَا طَلَبَ مِنَ الْحَاكِمِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ، وَيَمْنَعَ الْغَيْرَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ إِجَابَةُ طَلَبِهِ، إِلاَّ إِذَا بَطَلَتِ الْمَنْفَعَةُ الْمَقْصُودَةُ فِي الْمَقْسُومِ بِالْقِسْمَةِ.

فَإِنْ كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهُ تَفُوتُ بِالْقِسْمَةِ، فَلَا يُجَابُ طَلَبُهُمُ الْقِسْمَةَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ تَرَاضَيَا عَلَيْهِ إِذَا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ تَبْطُلُ كُلِّيَّةً؛ لِأَنَّهُ سَفَهٌ، وَإِتْلَافُ مَالٍ بِلَا ضَرُورَةٍ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنِ اقْتَسَمُوا بِالتَّرَاضِي لَا يَمْنَعُ الْقَاضِي مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَمْنَعُ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى إِتْلَافِ مَالِهِ بِالْحُكْمِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِسْمَةٌ).

زَكَاةُ الْمُشَاعِ:

9- إِذَا مَلَكَ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ نِصَابَ مَالٍ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِلْكًا مُشَاعًا كَأَنْ وَرِثَاهُ، أَوِ اشْتَرَيَاهُ، زَكَّيَاهُ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي: (خُلْطَةٌ، زَكَاةٌ).

رَهْنُ الْمُشَاعِ:

10- يَصِحُّ رَهْنُ الْمُشَاعِ، مِنْ عَقَارٍ وَحَيَوَانٍ، كَمَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَهِبَتُهُ، وَوَقْفُهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَاقِي لِلرَّاهِنِ أَوْ لِغَيْرِهِ، إِذْ لَا ضَرَرَ عَلَى الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَامَلُ مَعَ الْمُرْتَهِنِ كَمَا كَانَ يَتَعَامَلُ مَعَ الرَّاهِنِ، وَقَبْضُهُ بِقَبْضِ الْجَمِيعِ، فَيَكُونُ بِالتَّخْلِيَةِ فِي غَيْرِ الْمَنْقُولِ، وَبِالنَّقْلِ فِي الْمَنْقُولِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يَصِحُّ رَهْنُ الْمُشَاعِ، لِعَدَمِ كَوْنِهِ مُمَيَّزًا، وَمُوجِبُ الرَّهْنِ: الْحَبْسُ الدَّائِمُ مَا بَقِيَ الدَّيْنُ، وَبِالْمُشَاعِ يَفُوتُ الدَّوَامُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمُهَايَأَةِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: رَهَنْتُكَ يَوْمًا دُونَ يَوْمٍ.وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الشُّيُوعُ مُقَارِنًا أَوْ طَارِئًا، رَهَنَ مِنْ شَرِيكِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ يُمْسِكُهُ يَوْمًا رَهْنًا، وَيَوْمًا يَسْتَخْدِمُهُ.انْظُرْ: (رَهْنٌ).

هِبَةُ الْمُشَاعِ:

11- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى جَوَازِ هِبَةِ الْمُشَاعِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا أَمْكَنَ قِسْمَتُهُ، وَمَا لَمْ يُمْكِنْ قِسْمَتُهُ، وَسَوَاءٌ وَهَبَهُ لِشَرِيكِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يَجُوزُ هِبَةُ مُشَاعٍ شُيُوعًا مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ فِيمَا يَنْقَسِمُ وَلِأَنَّهُ مَا مِنْ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمُشَاعِ إِلاَّ وَلِلشَّرِيكِ فِيهِ مِلْكٌ، فَلَا تَصِحُّ هِبَتُهُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ الْكَامِلَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَقِيلَ يَجُوزُ هِبَتُهُ لِشَرِيكِهِ.أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُشَاعُ غَيْرَ قَابِلٍ لِلْقِسْمَةِ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مُنْتَفَعًا بِهِ إِذَا قُسِمَ تَجُوزُ هِبَتُهُ.وَانْظُرْ: (هِبَةٌ).

إِجَارَةُ الْمُشَاعِ:

12- يَجُوزُ إِجَارَةُ الْمُشَاعِ لِلشَّرِيكِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، أَمَّا إِجَارَتُهُ لِغَيْرِ الشَّرِيكِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّتِهِ.فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِلَى صِحَّةِ إِجَارَةِ الْمُشَاعِ، وَهُوَ قَوْلُ الصَّاحِبَيْنِ: (أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ)، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ أَحَدُ نَوْعَيِ الْبَيْعِ، فَتَجُوزُ فِي الْمُشَاعِ، كَمَا تَجُوزُ فِي بَيْعِ الْأَعْيَانِ، وَالْمُشَاعُ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ بِالْمُهَايَأَةِ؛ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ فِي مِلْكِهِ، يَجُوزُ مَعَ شَرِيكِهِ فَجَازَ مَعَ غَيْرِهِ كَالْبَيْعِ؛ وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ إِذَا فَعَلَهُ الشَّرِيكَانِ مَعًا فَجَازَ لِأَحَدِهِمَا فِعْلُهُ فِي نَصِيبِهِ مُنْفَرِدًا كَالْبَيْعِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ، وَهُوَ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا تَجُوزُ إِجَارَةُ الْمُشَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَمْ تَصِحَّ إِجَارَتُهُ كَالْمَغْصُوبِ.

وَلِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إِلاَّ بِتَسْلِيمِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ.

وَانْظُرْ: (إِجَارَةٌ).

وَقْفُ الْمُشَاعِ:

13- يَجُوزُ وَقْفُ الْمُشَاعِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرِ، فَأَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا.قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ» أَنَّهُ لَا يُبَاعُ، وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ، وَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ، وَفِي الْقُرْبَى، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ.

وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَجُوزُ عَلَى بَعْضِ الْجُمْلَةِ مُفْرِزًا فَجَازَ عَلَيْهِ مُشَاعًا كَالْبَيْعِ، وَكَالْعَرْصَةِ يَجُوزُ بَيْعُهَا فَجَازَ وَقْفُهَا كَالْمُفْرَزَةِ؛ وَلِأَنَّ الْوَقْفَ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ، وَتَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ، وَهَذَا يَحْصُلُ فِي الْمُشَاعِ كَحُصُولِهِ فِي الْمُفْرَزِ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يَصِحُّ وَقْفُ الْمُشَاعِ فِيمَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ، أَمَّا مَا لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ فَيَصِحُّ وَقْفُهُ اتِّفَاقًا.

انْظُرْ: (وَقْفٌ).

الْمِلْكُ الْمُشَاعُ فِي عَقَارٍ:

14- إِذَا مَلَكَ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ عَقَارًا مِلْكًا مُشَاعًا، وَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ لِأَجْنَبِيٍّ، ثَبَتَ لِلْآخَرِ حَقُّ الشُّفْعَةِ، وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

انْظُرْ: (شُفْعَةٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


119-موسوعة الفقه الكويتية (صدقة 1)

صَدَقَةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الصَّدَقَةُ بِفَتْحِ الدَّالِ لُغَةً: مَا يُعْطَى عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَى وَجْهِ الْمَكْرُمَةِ.

وَيَشْمَلُ هَذَا الْمَعْنَى الزَّكَاةَ وَصَدَقَةَ التَّطَوُّعِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ تُسْتَعْمَلُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الشَّامِلِ، فَيُقَالُ لِلزَّكَاةِ: صَدَقَةٌ، كَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الْآيَةَ.

وَيُقَالُ لِلتَّطَوُّعِ: صَدَقَةٌ كَمَا وَرَدَ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ وَتَحِلُّ لِغَنِيٍّ، أَيْ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ

يَقُولُ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ: الصَّدَقَةُ: مَا يُخْرِجُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ كَالزَّكَاةِ.لَكِنَّ الصَّدَقَةَ فِي الْأَصْلِ تُقَالُ: لِلْمُتَطَوَّعِ بِهِ، وَالزَّكَاةُ تُقَالُ: لِلْوَاجِبِ

وَالْغَالِبُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: اسْتِعْمَالُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ خَاصَّةً.

يَقُولُ الشِّرْبِينِيُّ: صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ هِيَ الْمُرَادَةُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ غَالِبًا وَيُفْهَمُ هَذَا مِنْ كَلَامِ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا، يَقُولُ الْحَطَّابُ: الْهِبَةُ إِنْ تَمَحَّضَتْ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ فَهِيَ الصَّدَقَةُ وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ الْبَعْلِيُّ الْحَنْبَلِيُّ فِي الْمُطْلِعِ عَلَى أَبْوَابِ الْمُقْنِعِ.

وَفِي وَجْهِ تَسْمِيَتِهَا صَدَقَةً يَقُولُ الْقَلْيُوبِيُّ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِإِشْعَارِهَا بِصِدْقِ نِيَّةِ بَاذِلِهَا وَهَذَا الْمَعْنَى الْأَخِيرُ أَيْ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْبَحْثِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ.

2- وَقَدْ تُطْلَقُ الصَّدَقَةُ عَلَى الْوَقْفِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ: أَنَّ «عُمَرَ تَصَدَّقَ بِمَالٍ لَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: ثَمْغٌ...فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ، وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ».

3- وَقَدْ تُطْلَقُ الصَّدَقَةُ: عَلَى كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ».

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْهِبَةُ، الْهَدِيَّةُ، الْعَطِيَّةُ:

4- الْهِبَةُ، وَالْهَدِيَّةُ، وَالْعَطِيَّةُ، كُلٌّ مِنْهَا تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا كَانَ هَذَا التَّمْلِيكُ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ فَصَدَقَةٌ، وَإِذَا كَانَ لِلْمُوَاصَلَةِ وَالْوِدَادِ فَهِبَةٌ، وَإِنْ قُصِدَ بِهِ الْإِكْرَامُ فَهَدِيَّةٌ.فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ قَسِيمٌ لِلْآخَرِ.وَالْعَطِيَّةُ شَامِلَةٌ لِلْجَمِيعِ.

ب- الْعَارِيَّةُ:

5- الْعَارِيَّةُ: إِبَاحَةٌ أَوْ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةِ عَيْنٍ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ لِصَاحِبِهَا بِشُرُوطٍ مَخْصُوصَةٍ.

وَعَلَى هَذَا فَكُلٌّ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالْعَارِيَّةِ تَبَرُّعٌ لَكِنَّ الصَّدَقَةَ تَمْلِيكُ عَيْنٍ، وَالْعَارِيَّةَ إِبَاحَةٌ أَوْ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَالصَّدَقَةُ يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ فِيهَا.كَمَا سَيَأْتِي.وَالْعَارِيَّةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ رَدِّ الْعَيْنِ لِمَالِكِهَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ مَنَافِعِهَا، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي مُصْطَلَحِ: (إِعَارَةٌ).

حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الصَّدَقَةِ وَفَضْلِهَا:

6- إِنَّ أَدَاءَ الصَّدَقَةِ مِنْ بَابِ إِعَانَةِ الضَّعِيفِ، وَإِغَاثَةِ اللَّهِيفِ، وَإِقْدَارِ الْعَاجِزِ، وَتَقْوِيَتِهِ عَلَى أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَاتِ.

وَالصَّدَقَةُ شُكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ، وَهِيَ دَلِيلٌ لِصِحَّةِ إِيمَانِ مُؤَدِّيهَا وَتَصْدِيقِهِ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ صَدَقَةً.

وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ الصَّدَقَةِ أَحَادِيثُ مِنْهَا:

1- مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ...» فَذَكَرَ مِنْهُمْ: «رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ».

2- مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ، إِلاَّ أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً تَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ».

أَقْسَامُ الصَّدَقَةِ:

7- الصَّدَقَةُ أَنْوَاعٌ:

أ- صَدَقَةٌ مَفْرُوضَةٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ عَلَى الْأَمْوَالِ، وَهِيَ زَكَاةُ الْمَالِ، وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ).

ب- صَدَقَةٌ عَلَى الْأَبْدَانِ، وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةُ الْفِطْرِ).

ج- صَدَقَةٌ يَفْرِضُهَا الشَّخْصُ عَلَى نَفْسِهِ، وَهِيَ الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ بِالنَّذْرِ، وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي (نَذْرٌ).

د- الصَّدَقَاتُ الْمَفْرُوضَةُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، كَالْفِدْيَةِ، وَالْكَفَّارَةِ، وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (فِدْيَةٌ وَكَفَّارَةٌ).

هـ- صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، وَنُبَيِّنُ أَحْكَامَهَا فِيمَا يَلِي: الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

8- الصَّدَقَةُ مَسْنُونَةٌ، وَرَدَ النَّدْبُ إِلَيْهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الشَّرِيفَةِ.

أَمَّا مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.

يَقُولُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: جَاءَ هَذَا الْكَلَامُ فِي مَعْرِضِ النَّدْبِ وَالتَّحْضِيضِ عَلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنُصْرَةِ الدِّينِ.وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}.

وَأَمَّا مِنَ الْأَحَادِيثِ فَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، «أَنَّ أَبَا الدَّحْدَاحِ لَمَّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَلَا أَرَى رَبَّنَا يَسْتَقْرِضُ مِمَّا أَعْطَانَا لِأَنْفُسِنَا، وَلِي أَرْضَانِ: أَرْضٌ بِالْعَالِيَةِ وَأَرْضٌ بِالسَّافِلَةِ، وَقَدْ جَعَلْتُ خَيْرَهُمَا صَدَقَةً.فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: كَمْ عِذْقٍ مُذَلَّلٍ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الْجَنَّةِ» وَمِنْهَا قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَطْعَمَ مُؤْمِنًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَقَى مُؤْمِنًا عَلَى ظَمَأٍ سَقَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ كَسَا مُؤْمِنًا عَلَى عُرْيٍ، كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ».

قَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّدَقَةُ مُسْتَحَبَّةٌ، وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ آكَدُ، وَكَذَا عِنْدَ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، وَعِنْدَ الْكُسُوفِ، وَعِنْدَ الْمَرَضِ، وَالسَّفَرِ، وَبِمَكَّةَ، وَالْمَدِينَةِ، وَفِي الْغَزْوِ وَالْحَجِّ، وَالْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ، كَعَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَيَّامِ الْعِيدِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْبُهُوتِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّدَقَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:

9- الْكَلَامُ عَنِ الصَّدَقَةِ يَسْتَوْجِبُ التَّطَرُّقَ لِلْأُمُورِ التَّالِيَةِ:

(1) - الْمُتَصَدِّقُ: وَهُوَ، مَنْ يَدْفَعُ الصَّدَقَةَ وَيُخْرِجُهَا مِنْ مَالِهِ

(2) - الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ.وَهُوَ مَنْ يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ مِنَ الْغَيْرِ.

(3) - الْمُتَصَدَّقُ بِهِ: وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي يُتَطَوَّعُ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ.

(4) - النِّيَّةُ: وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا: الْمُتَصَدِّقُ:

10- صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ: تَبَرُّعٌ، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا:

أ- أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَدِّقُ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، أَيْ: عَاقِلًا بَالِغًا رَشِيدًا، ذَا وِلَايَةٍ فِي التَّصَرُّفِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا تَصِحُّ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ مِنَ الصَّغِيرِ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَسْبَابِ الْحَجْرِ، أَمَّا الصَّغِيرُ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ أَصْلًا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ.

وَأَمَّا الصَّغِيرُ الْمُمَيِّزُ: فَإِنَّ الصَّدَقَةَ مِنْهُ تُعْتَبَرُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ ضَرَرًا مَحْضًا، وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةَ ضَرَرًا دُنْيَوِيًّا، وَالَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ مُقَابِلٍ، كَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْوَقْفِ، وَسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ لَا تَصِحُّ، بَلْ تَقَعُ بَاطِلَةً، حَتَّى لَوْ أَذِنَ الْوَلِيُّ أَوِ الْوَصِيُّ؛ لِأَنَّ إِجَازَتَهُمَا فِي التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ لَاغِيَةٌ، وَقَدِ اسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَصِيَّةَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ الَّذِي يَعْقِلُ الْوَصِيَّةَ.

وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِمْ لِلسَّفَهِ، أَوِ الْإِفْلَاسِ، أَوْ غَيْرِهِمَا فَهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنَ التَّصَرُّفِ فَلَا تَصِحُّ مِنْهُمُ الصَّدَقَةُ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (حَجْرٌ)

وَكَمَا لَا تَصِحُّ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ مِنَ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، لَا تَصِحُّ الصَّدَقَةُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مِنْ قِبَلِ أَوْلِيَائِهِمْ نِيَابَةً عَنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ التَّبَرُّعَ مِنْ أَمْوَالِ مَنْ تَحْتَ وِلَايَتِهِمْ

ب- أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلْمَالِ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ، أَوْ وَكِيلًا عَنْهُ، فَلَا تَصِحُّ الصَّدَقَةُ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ بِلَا وَكَالَةٍ.وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ يَضْمَنُ مَا تَصَدَّقَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّعَ مَالَ الْغَيْرِ عَلَى صَاحِبِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، يَقُولُ التُّمُرْتَاشِيُّ: شَرَائِطُ صِحَّةِ الْهِبَةِ فِي الْوَاهِبِ: الْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْمِلْكُ.ثُمَّ قَالَ: وَالصَّدَقَةُ كَالْهِبَةِ بِجَامِعِ التَّبَرُّعِ

وَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ مِنَ الْقُرُبَاتِ فَتُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ فِيمَا إِذَا تَصَدَّقَ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ دُونَ إِذْنِهِ.

صَدَقَةُ الْمَرْأَةِ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا:

11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا لِلسَّائِلِ وَغَيْرِهِ بِمَا أَذِنَ الزَّوْجُ صَرِيحًا.كَمَا يَجُوزُ التَّصَدُّقُ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ بِمَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ إِذَا كَانَ يَسِيرًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ).

وَيَسْتَدِلُّ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْجَوَازِ بِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا وَلَهُ مِثْلُهُ بِمَا اكْتَسَبَ، وَلَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا» وَلَمْ يَذْكُرْ إِذْنًا.

وَعَنْ «أَسْمَاءَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا جَاءَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَيْسَ لِي شَيْءٌ إِلاَّ مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أَرْضَخَ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ، وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكَ».

وَلِأَنَّ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْهُ فِي الْعَادَةِ كَمَا عَلَّلَهُ الْمَرْغِينَانِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ.

قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ مِنْ مَنْزِلِ زَوْجِهَا بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ، كَالرَّغِيفِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْهُ فِي الْعَادَةِ وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْحَصْكَفِيُّ

وَيَقُولُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِصَحِيحِ مُسْلِمٍ: الْإِذْنُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: الْإِذْنُ الصَّرِيحُ فِي النَّفَقَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَالثَّانِي: الْإِذْنُ الْمَفْهُومُ مِنَ اطِّرَادِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، كَإِعْطَاءِ السَّائِلِ كَعُمْرَةٍ وَنَحْوِهَا مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ، وَاطَّرَدَ الْعُرْفُ فِيهِ، وَعُلِمَ بِالْعُرْفِ رِضَا الزَّوْجِ وَالْمَالِكِ بِهِ، فَإِذْنُهُ فِي ذَلِكَ حَاصِلٌ وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ.

وَمِثْلُهُ مَا حَرَّرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ حَيْثُ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْعَادَةِ.وَأَنَّهَا إِذَا عَلِمَتْ مِنْهُ، أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ الْعَطَاءَ وَالصَّدَقَةَ فَعَلَتْ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يُجْحِفْ، وَعَلَى ذَلِكَ عَادَةُ النَّاسِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «غَيْرَ مُفْسِدَةٍ»

وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: الْإِذْنُ الْعُرْفِيُّ يَقُومُ مَقَامَ الْإِذْنِ الْحَقِيقِيِّ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: افْعَلِي هَذَا

وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ التَّصَدُّقُ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا، لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لَا تُنْفِقُ امْرَأَةٌ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَلَا الطَّعَامَ؟ قَالَ: ذَاكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَا».

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَالْأَوَّلُ- أَيِ الْجَوَازُ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ- أَصَحُّ، لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ فِيهَا خَاصَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ.

أَمَّا إِذَا مَنَعَهَا مِنَ الصَّدَقَةِ مِنْ مَالِهِ، وَلَمْ يَكُنِ الْعُرْفُ جَارِيًا بِذَلِكَ، أَوِ اضْطَرَبَ الْعُرْفُ، أَوْ شَكَّتْ فِي رِضَاهُ، أَوْ كَانَ شَخْصًا يَشُحُّ بِذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ لِلْمَرْأَةِ وَغَيْرِهَا التَّصَدُّقُ مِنْ مَالِهِ إِلاَّ بِصَرِيحِ إِذْنِهِ، كَمَا حَقَّقَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ.

12- وَمَا ذُكِرَ مِنْ حُكْمِ تَصَدُّقِ الْمَرْأَةِ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا يُطَبَّقُ عَلَى تَصَدُّقِ الْخَازِنِ مِنْ مَالِ الْمَالِكِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ: «وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ» أَيْ: مِنَ الْأَجْرِ أَيْ: إِنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْمَثُوبَةِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ أَجْرٌ كَامِلٌ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، أَوْ مَعْنَاهُ الْمُشَارَكَةُ فِي الْأَجْرِ مُطْلَقًا، لِأَنَّ الْمُشَارِكَ فِي الطَّاعَةِ مُشَارِكٌ فِي الْأَجْرِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ، كَمَا حَقَّقَهُ النَّوَوِيُّ.

تَصَدُّقُ الزَّوْجَةِ مِنْ مَالِهَا بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ:

13- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْبَالِغَةَ الرَّشِيدَةَ لَهَا حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهَا، بِالتَّبَرُّعِ، أَوِ الْمُعَاوَضَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُتَزَوِّجَةً، أَمْ غَيْرَ مُتَزَوِّجَةٍ.وَعَلَى ذَلِكَ فَالزَّوْجَةُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ زَوْجِهَا فِي التَّصَدُّقِ مِنْ مَالِهَا وَلَوْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ لِلنِّسَاءِ: «تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ، فَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ» وَلَمْ يَسْأَلْ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ، فَلَوْ كَانَ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُنَّ بِغَيْرِ إِذْنِ أَزْوَاجِهِنَّ لَمَا أَمَرَهُنَّ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِالصَّدَقَةِ، وَلَا مَحَالَةَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِنَّ مَنْ لَهَا زَوْجٌ وَمَنْ لَا زَوْجَ لَهَا، كَمَا حَرَّرَهُ السُّبْكِيُّ.

وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ، وَلَا حَقَّ لِزَوْجِهَا فِي مَالِهَا، فَلَمْ يَمْلِكِ الْحَجْرَ عَلَيْهَا فِي التَّصَرُّفِ بِجَمِيعِهِ، كَمَا عَلَّلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يُحْجَرُ عَلَى الزَّوْجَةِ الْحُرَّةِ الرَّشِيدَةِ لِزَوْجِهَا الْبَالِغِ الرَّشِيدِ فِي تَبَرُّعٍ زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ «أَنَّ امْرَأَةَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَتَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- بِحُلِيٍّ لَهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ عَطِيَّةٌ حَتَّى يَأْذَنَ زَوْجُهَا، فَهَلِ اسْتَأْذَنْتِ كَعْبًا؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى كَعْبٍ، فَقَالَ: هَلْ أَذِنْتَ لَهَا أَنْ تَتَصَدَّقَ بِحُلِيِّهَا؟ قَالَ: نَعَمْ.فَقَبِلَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ».وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ مَالِهَا التَّجَمُّلُ بِهِ لِزَوْجِهَا، وَالْمَالُ مَقْصُودٌ فِي زَوَاجِهَا، حَيْثُ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا»

وَالْعَادَةُ أَنَّ الزَّوْجَ يَزِيدُ فِي مَهْرِهَا مِنْ أَجْلِ مَالِهَا وَيَتَبَسَّطُ فِيهِ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ، فَتَعَلَّقَ حَقُّ الزَّوْجِ فِي مَالِهَا وَمَحَلُّ الْحَجْرِ عَلَيْهَا فِي تَبَرُّعِهَا بِزَائِدٍ عَنِ الثُّلُثِ مِنْ مَالِهَا إِذَا كَانَ التَّبَرُّعُ لِغَيْرِ زَوْجِهَا.وَأَمَّا لَهُ فَلَهَا أَنْ تَهَبَ جَمِيعَ مَالِهَا لَهُ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ.

هَذَا، وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ مَالِهِ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ (ر: مَرَضُ الْمَوْتِ).

ثَانِيًا: الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ:

14- لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَصَدِّقِ، مِنَ الْعَقْلِ، وَالْبُلُوغِ، وَالرُّشْدِ، وَأَهْلِيَّةِ التَّبَرُّعِ، فَيَصِحُّ التَّصَدُّقُ عَلَى الصَّغِيرِ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، أَوْ إِفْلَاسٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِمْ نَفْعٌ مَحْضٌ لَهُمْ، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ الْأَوْلِيَاءِ.

وَحَيْثُ إِنَّ الصَّدَقَةَ تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ، فَهُنَاكَ أَشْخَاصٌ لَا تَصِحُّ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ، وَآخَرُونَ تَصِحُّ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ هَذَا الْمَوْضُوعَ كَالتَّالِي:

أ- الصَّدَقَةُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-:

15- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مِثْلَ صَدَقَةِ الْفَرِيضَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَى حُرْمَتِهَا، وَذَلِكَ صِيَانَةً لِمَنْصِبِهِ الشَّرِيفِ

وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ، فَإِنْ قِيلَ: صَدَقَةٌ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا، وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ لَهُ: هَدِيَّةٌ ضَرَبَ بِيَدِهِ فَأَكَلَ مَعَهُمْ».

وَعَلَى ذَلِكَ: فَالصَّدَقَةُ بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.وَقَدْ أَبْدَلَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِهَا الْفَيْءَ الَّذِي يُؤْخَذُ عَلَى سَبِيلِ الْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ الْمَبْنِيِّ عَلَى عِزِّ الْآخِذِ، وَذُلِّ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ.

ب- الصَّدَقَةُ عَلَى آلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-:

16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ: عَلَى عَدَمِ جَوَازِ صَدَقَةِ الْفَرِيضَةِ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم-، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لآِلِ مُحَمَّدٍ، إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ».

أَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِهَا عَلَيْهِمْ.وَالْبَعْضُ يَقُولُونَ: بِعَدَمِ الْجَوَازِ وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (آلٌ 4 وَ 10)

ج- التَّصَدُّقُ عَلَى ذَوِي الْقَرَابَةِ وَالْأَزْوَاجِ:

17- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي جَوَازِ التَّصَدُّقِ عَلَى الْأَقْرِبَاءِ، وَالْأَزْوَاجِ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، بَلْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ: بِأَنَّهُ يُسَنُّ التَّصَدُّقُ عَلَيْهِمْ، وَلَهُمْ أَخْذُهَا، وَلَوْ كَانُوا مِمَّنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى الْمُتَصَدِّقِ فَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ» وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ».

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: دَفْعُ الصَّدَقَةِ لِقَرِيبِ أَقْرَبَ فَأَقْرَبَ رَحِمًا وَلَوْ كَانَ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ أَفْضَلُ مِنْ دَفْعِهَا لِغَيْرِ الْقَرِيبِ، وَلِلْقَرِيبِ غَيْرِ الْأَقْرَبِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ امْرَأَتَيْنِ أَتَيَتَا رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتَا لِبِلَالٍ: سَلْ لَنَا رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- هَلْ يُجْزِئُ أَنْ نَتَصَدَّقَ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَيَتَامَى فِي حُجُورِنَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ لَهُمَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ».

هَذَا وَقَدْ رَتَّبَ الشَّافِعِيَّةُ مَنْ يُفَضَّلُ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ فَقَالُوا: هِيَ فِي الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، وَفِي الْأَشَدِّ مِنْهُمْ عَدَاوَةً أَفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِيُتَأَلَّفَ قَلْبُهُ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ مُجَانَبَةِ الرِّيَاءِ وَكَسْرِ النَّفْسِ، وَأُلْحِقَ بِهِمُ الْأَزْوَاجُ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، ثُمَّ الرَّحِمِ غَيْرِ الْمَحْرَمِ، كَأَوْلَادِ الْعَمِّ وَالْخَالِ.ثُمَّ فِي الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ رَضَاعًا، ثُمَّ مُصَاهَرَةً، ثُمَّ وَلَاءً، ثُمَّ جِوَارًا، وَقُدِّمَ الْجَارُ الْأَجْنَبِيُّ عَلَى قَرِيبٍ بَعِيدٍ عَنْ دَارِ الْمُتَصَدِّقِ، بِحَيْثُ لَا تُنْقَلُ إِلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَلَوْ كَانَ بِبَادِيَةٍ.وَمِثْلُهُ مَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

د- التَّصَدُّقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ:

18- الْأَصْلُ أَنَّ الصَّدَقَةَ تُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ، وَهَذَا هُوَ الْأَفْضَلُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ.وَذَلِكَ لقوله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا تَحِلُّ لِلْغَنِيِّ؛ لِأَنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ كَالْهِبَةِ فَتَصِحُّ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ.قَالَ السَّرَخْسِيُّ: ثُمَّ التَّصَدُّقُ عَلَى الْغَنِيِّ يَكُونُ قُرْبَةً يُسْتَحَقُّ بِهَا الثَّوَابُ، فَقَدْ يَكُونُ غَنِيًّا يَمْلِكُ النِّصَابَ، وَلَهُ عِيَالٌ كَثِيرَةٌ، وَالنَّاسُ يَتَصَدَّقُونَ عَلَى مِثْلِ هَذَا لِنَيْلِ الثَّوَابِ.لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِلْغَنِيِّ التَّنَزُّهُ عَنْهَا، وَيُكْرَهُ لَهُ التَّعَرُّضُ لِأَخْذِهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ الْمُتَعَفِّفِينَ عَنِ السُّؤَالِ مَعَ وُجُودِ حَاجَتِهِمْ، فَقَالَ: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} وَيُكْرَهُ لَهُ أَخْذُهَا وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا.وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُهَا إِنْ أَظْهَرَ الْفَاقَةَ، كَمَا يَحْرُمُ أَنْ يَسْأَلَ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْغَنِيُّ بِالْمَالِ، وَالْغَنِيُّ بِالْكَسْبِ، لِحَدِيثِ: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» أَيْ: يُعَذَّبُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

لَكِنْ نَقَلَ الرَّمْلِيُّ عَنِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: جَوَازُ طَلَبِهَا لِلْغَنِيِّ، وَيُحْمَلُ الذَّمُّ الْوَارِدُ فِي الْأَخْبَارِ عَلَى الطَّلَبِ مِنَ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ.

هـ- الصَّدَقَةُ عَلَى الْكَافِرِ:

19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الْكَافِرِ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هُوَ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَمْلِيكٌ لِأَجْلِ الثَّوَابِ، وَهَلْ يُثَابُ الشَّخْصُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْكُفَّارِ؟.

فَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَنْقُولُ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ: إِنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ لِلْكُفَّارِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَمْ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ؟ مُسْتَأْمَنِينَ أَمْ غَيْرَ مُسْتَأْمَنِينَ، وَذَلِكَ لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَمْ يَكُنِ الْأَسِيرُ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ كَافِرًا وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ «أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنهما- قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قُلْتُ: إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ» وَلِأَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحْمُودَةٌ فِي كُلِّ دِينٍ، وَالْإِهْدَاءُ إِلَى الْغَيْرِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.

وَفَرَّقَ الْحَصْكَفِيُّ فِي الدُّرِّ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَغَيْرِهِ فَقَالَ: وَجَازَ دَفْعُ غَيْرِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ إِلَى الذِّمِّيِّ- وَلَوْ وَاجِبًا- كَنَذْرٍ وَكَفَّارَةٍ وَفِطْرَةٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.

وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ وَلَوْ مُسْتَأْمَنًا فَجَمِيعُ الصَّدَقَاتِ لَا تَجُوزُ لَهُ.

وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ الشِّرْبِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالَ: قَضِيَّةُ إِطْلَاقِ حِلِّ الصَّدَقَةِ لِلْكَافِرِ.أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَرْبِيِّ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَا فِي الْبَيَانِ عَنِ الصَّيْمَرِيِّ وَالْأَوْجَهُ مَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ مِنْ أَنَّ: هَذَا فِيمَنْ لَهُ عَهْدٌ، أَوْ ذِمَّةٌ أَوْ قَرَابَةٌ أَوْ يُرْجَى إِسْلَامُهُ، أَوْ كَانَ بِأَيْدِينَا بِأَسْرٍ وَنَحْوِهِ.فَإِنْ كَانَ حَرْبِيًّا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ فَلَا.

ثَالِثًا: الْمُتَصَدَّقُ بِهِ:

20- الْمُتَصَدَّقُ بِهِ هُوَ: الْمَالُ الَّذِي يُعْطَى لِلْفَقِيرِ وَذِي الْحَاجَةِ، وَحَيْثُ إِنَّ الصَّدَقَةَ تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ لِأَجْلِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، فَيَنْبَغِي فِي الْمَالِ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ، وَلَا يَكُونَ مِنَ الْحَرَامِ أَوْ مِمَّا فِيهِ شُبْهَةٌ، كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَدَّقُ بِهِ مَالًا جَيِّدًا، لَا رَدِيئًا، حَتَّى يَحْصُلَ عَلَى خَيْرِ الْبِرِّ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ.

وَقَدْ بَحَثَ الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الْأَحْكَامَ، وَحُكْمُ التَّصَدُّقِ مِنَ الْأَمْوَالِ الرَّدِيئَةِ وَالْحَرَامِ كَالتَّالِي:

التَّصَدُّقُ بِالْمَالِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْمَالِ الْمُشْتَبَهِ فِيهِ:

21- لَقَدْ حَثَّ الْإِسْلَامُ أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ مِنَ الْمَالِ الْحَلَالِ وَالطَّيِّبِ، وَأَنْ تَكُونَ مِمَّا يُحِبُّهُ الْمُتَصَدِّقُ.فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ، إِلاَّ أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلَوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ» وَالْمُرَادُ بِالطَّيِّبِ هُنَا الْحَلَالُ، كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ.

وَعَنْهُ أَيْضًا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}.وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ».

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي هِيَ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ وَمَبَانِي الْأَحْكَامِ...وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الْإِنْفَاقِ مِنَ الْحَلَالِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْإِنْفَاقِ مِنْ غَيْرِهِ.وَفِيهِ أَنَّ الْمَشْرُوبَ وَالْمَأْكُولَ وَالْمَلْبُوسَ وَنَحْوَ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَلَالًا خَالِصًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ.

وَحَذَّرَ الْحُسَيْنِيُّ فِي كِفَايَةِ الْأَخْيَارِ مِنْ أَخْذِ مَالٍ فِيهِ شُبْهَةٌ لِلتَّصَدُّقِ بِهِ، وَنَقَلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَوْلَهُ: لأَنْ أَرُدَّ دِرْهَمًا مِنْ حَرَامٍ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ حَتَّى بَلَغَ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ.

وَعَلَى هَذَا فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْتَارَ الرَّجُلُ أَحَلَّ مَالِهِ، وَأَبْعَدَهُ عَنِ الْحَرَامِ وَالشُّبْهَةِ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ، كَمَا حَرَّرَهُ النَّوَوِيُّ.

وَإِذَا كَانَ فِي عُهْدَةِ الْمُكَلَّفِ مَالٌ حَرَامٌ، فَإِنْ عَلِمَ أَصْحَابُهُ وَجَبَ رَدُّهُ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَصْحَابُهُ يَتَصَدَّقْ بِهِ.

أَمَّا الْآخِذُ أَيْ: الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ فَإِنْ عَرَفَ أَنَّ الْمَالَ الْمُتَصَدَّقَ بِهِ مِنَ النَّجِسِ أَوِ الْحَرَامِ كَالْغَصْبِ، أَوِ السَّرِقَةِ، أَوِ الْغَدْرِ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَا يَأْخُذَهُ وَلَا يَأْكُلَ مِنْهُ.وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَجَازَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ أَخْذَهُ لَهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ.

يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا كَانَ عَلَيْهِ دُيُونٌ وَمَظَالِمُ لَا يَعْرِفُ أَرْبَابَهَا، وَأَيِسَ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ، فَعَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِقَدْرِهَا مِنْ مَالِهِ، وَإِنِ اسْتَغْرَقَتْ جَمِيعَ مَالِهِ.

وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يُؤْمَرُ بِالتَّصَدُّقِ بِالْأَمْوَالِ الَّتِي حَصَلَتْ بِالْغَدْرِ، كَالْمَالِ الْمَغْصُوبِ.

قَالَ الْجَمَلُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ تَصَدَّقَ أَوْ وَهَبَ أَوْ أَوْصَى بِالنَّجِسِ صَحَّ عَلَى مَعْنَى نَقْلِ الْيَدِ، لَا التَّمْلِيكِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّ مَنْ بِيَدِهِ نَحْوُ غُصُوبٍ، أَوْ رُهُونٍ، أَوْ أَمَانَاتٍ، لَا يَعْرِفُ أَرْبَابَهَا، وَأَيِسَ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ، فَلَهُ الصَّدَقَةُ بِهَا مِنْهُمْ- أَيْ: مِنْ قِبَلِهِمْ.وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ.

وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الدُّيُونِ الَّتِي جُهِلَ أَرْبَابُهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

أَمَّا الْأَمْوَالُ الَّتِي فِيهَا شُبْهَةٌ فَالْأَوْلَى الِابْتِعَادُ عَنْهَا، وَلِهَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي التَّصَدُّقِ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ: إِنَّهُ مَكْرُوهٌ.

قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ».

التَّصَدُّقُ بِالْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ:

22- يُسْتَحَبُّ فِي الصَّدَقَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَدَّقُ بِهِ أَيِ: الْمَالُ الْمُعْطَى مِنْ أَجْوَدِ مَالِ الْمُتَصَدِّقِ وَأَحَبِّهِ إِلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْمَعْنَى لَنْ تَكُونُوا أَبْرَارًا حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، أَيْ: نَفَائِسِ الْأَمْوَالِ وَكَرَائِمِهَا، وَكَانَ السَّلَفُ- رضي الله عنهم- إِذَا أَحَبُّوا شَيْئًا جَعَلُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى.فَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ «أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَانَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرَحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ رَاوِي الْحَدِيثِ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرَحَاءُ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ».

وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَشْتَرِي أَعْدَالًا مِنْ سُكَّرٍ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا، فَقِيلَ لَهُ: هَلاَّ تَصَدَّقْتَ بِقِيمَتِهَا؟ قَالَ: لِأَنَّ السُّكَّرَ أَحَبُّ إِلَيَّ فَأَرَدْتُ أَنْ أُنْفِقَ مِمَّا أُحِبُّ.

وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ حُصُولُ كَثْرَةِ الثَّوَابِ بِالتَّصَدُّقِ مِمَّا يُحِبُّهُ.وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمُتَصَدَّقُ بِهِ كَثِيرًا، وَيُسْتَحَبُّ التَّصَدُّقُ وَلَوْ بِشَيْءٍ نَزْرٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ».

وَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنِ التَّصَدُّقِ بِالرَّدِيءِ مِنَ الْمَالِ.قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} أَيْ: لَا تَتَصَدَّقُوا بِالصَّدَقَةِ مِنَ الْمَالِ الْخَبِيثِ، وَلَا تَفْعَلُوا مَعَ اللَّهِ مَا لَا تَرْضَوْنَهُ لِأَنْفُسِكُمْ.

وَرَجَّحَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَنَّ الْآيَةَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ حَيْثُ قَالَ: لَوْ كَانَتْ فِي الْفَرِيضَةِ لَمَا قَالَ: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} لِأَنَّ الرَّدِيءَ وَالْخَبِيثَ لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ فِي الْفَرْضِ بِحَالٍ، لَا مَعَ تَقْدِيرِ الْإِغْمَاضِ وَلَا مَعَ عَدَمِهِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مَعَ عَدَمِ الْإِغْمَاضِ فِي النَّفْلِ

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ بَرَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، أَنَّ الْآيَةَ فِي التَّطَوُّعِ، نُدِبُوا إِلَيْهِ أَنْ لَا يَتَطَوَّعُوا إِلاَّ بِمُمْتَازٍ جَيِّدٍ وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي رَجُلٍ عَلَّقَ قِنْوَ حَشَفٍ فِي الْمَسْجِدِ: لَوْ شَاءَ رَبُّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ تَصَدَّقَ بِأَطْيَبَ مِنْهَا» وَقَالَ: «إِنَّ رَبَّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ يَأْكُلُ الْحَشَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


120-موسوعة الفقه الكويتية (طهارة 1)

طَهَارَةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ: النَّظَافَةُ، يُقَالُ: طَهُرَ الشَّيْءُ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَضَمِّهَا يَطْهُرُ بِالضَّمِّ طَهَارَةً فِيهِمَا، وَالِاسْمُ: الطُّهْرُ بِالضَّمِّ، وَطَهَّرَهُ تَطْهِيرًا، وَتَطَهَّرَ بِالْمَاءِ، وَهُمْ قَوْمٌ يَتَطَهَّرُونَ أَيْ: يَتَنَزَّهُونَ مِنَ الْأَدْنَاسِ، وَرَجُلٌ طَاهِرُ الثِّيَابِ، أَيْ: مُنَزَّهٌ.

وَفِي الشَّرْعِ: هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ غَسْلِ أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ.

وَعُرِفَتْ أَيْضًا بِأَنَّهَا: زَوَالُ حَدَثٍ أَوْ خَبَثٍ، أَوْ رَفْعُ الْحَدَثِ أَوْ إِزَالَةُ النَّجِسِ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُمَا أَوْ عَلَى صُورَتِهِمَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهَا صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِلْمَوْصُوفِ بِهَا جَوَازَ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ بِهِ، أَوْ فِيهِ، أَوْ لَهُ.فَالْأَوَّلَانِ يَرْجِعَانِ لِلثَّوْبِ وَالْمَكَانِ، وَالْأَخِيرُ لِلشَّخْصِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْغَسْلُ:

2- الْغَسْلُ بِالْفَتْحِ: مَصْدَرُ غَسَلَ، وَالْغُسْلُ بِالضَّمِّ: اسْمٌ مِنَ الْغَسْلِ- بِالْفَتْحِ- وَمِنْ الِاغْتِسَالِ، وَأَكْثَرُ مَا يَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ الِاغْتِسَالِ.

وَيُعَرِّفُونَهُ لُغَةً: بِأَنَّهُ سَيَلَانُ الْمَاءِ عَلَى الشَّيْءِ مُطْلَقًا.

وَشَرْعًا: بِأَنَّهُ سَيَلَانُهُ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ بِنِيَّةٍ.

وَالطَّهَارَةُ أَعَمُّ مِنَ الْغَسْلِ.

ب- التَّيَمُّمُ:

3- التَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ: مُطْلَقُ الْقَصْدِ، وَفِي الشَّرْعِ: قَصْدُ الصَّعِيدِ الطَّاهِرِ وَاسْتِعْمَالُهُ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ لِإِزَالَةِ الْحَدَثِ.

وَالتَّيَمُّمُ أَخَصُّ مِنَ الطَّهَارَةِ.

ج- الْوُضُوءُ:

4- الْوُضُوءُ بِضَمِّ الْوَاوِ: اسْمٌ لِلْفِعْلِ، وَهُوَ: اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِي أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَبِفَتْحِهَا: اسْمٌ لِلْمَاءِ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَضَاءَةِ، وَهِيَ الْحُسْنُ وَالنَّظَافَةُ وَالضِّيَاءُ مِنْ ظُلْمَةِ الذُّنُوبِ.

وَفِي الشَّرْعِ: أَفْعَالٌ مَخْصُوصَةٌ مُفْتَتَحَةٌ بِالنِّيَّةِ.

وَالطَّهَارَةُ أَعَمُّ مِنْهُ.

تَقْسِيمُ الطَّهَارَةِ:

5- الطَّهَارَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: طَهَارَةٌ مِنَ الْحَدَثِ، وَطَهَارَةٌ مِنَ النَّجِسِ، أَيْ: حُكْمِيَّةٌ وَحَقِيقِيَّةٌ.

فَالْحَدَثُ هُوَ: الْحَالَةُ النَّاقِضَةُ لِلطَّهَارَةِ شَرْعًا، بِمَعْنَى أَنَّ الْحَدَثَ إِنْ صَادَفَ طَهَارَةً نَقَضَهَا، وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ طَهَارَةً فَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ.

وَيَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: الْأَكْبَرُ وَالْأَصْغَرُ؛ أَمَّا الْأَكْبَرُ فَهُوَ: الْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ، وَأَمَّا الْأَصْغَرُ فَمِنْهُ: الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ وَالرِّيحُ وَالْمَذْيُ وَالْوَدْيُ وَخُرُوجُ الْمَنِيِّ بِغَيْرِ لَذَّةٍ، وَالْهَادِي وَهُوَ: الْمَاءُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ عِنْدَ وِلَادَتِهَا.

وَأَمَّا النَّجِسُ (وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْخَبَثِ أَيْضًا) فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّجَاسَةِ الْقَائِمَةِ بِالشَّخْصِ أَوِ الثَّوْبِ أَوِ الْمَكَانِ.

وَالْأُولَى مِنْهُمَا- وَهِيَ الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرِ- شُرِعَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} الْآيَةَ، وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طَهُورٍ».

وَالثَّانِيَةُ مِنْهُمَا- وَهِيَ طَهَارَةُ الْجَسَدِ وَالثَّوْبِ وَالْمَكَانِ الَّذِي يُصَلَّى عَلَيْهِ مِنَ النَّجِسِ- شُرِعَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وقوله تعالى {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وَبِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «اغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي».

وَالطَّهَارَةُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ.

وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِ الطَّهَارَةِ الْحُكْمِيَّةِ- وَهِيَ الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ- إِلَى مَوَاطِنِهَا فِي مُصْطَلَحَاتِ: (حَدَث، وُضُوء، جَنَابَة، حَيْض، نِفَاس).

مَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ:

6- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ طَهَارَةُ بَدَنِ الْمُصَلِّي وَثَوْبِهِ وَمَكَانِهِ مِنَ النَّجَاسَةِ.لِمَا مَرَّ فِي الْفِقْرَةِ السَّابِقَةِ.

وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ: «صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ».

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ، وَسُنَّةٌ مَعَ النِّسْيَانِ وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ.

وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّ مَنْ صَلَّى بِالنَّجَاسَةِ مُتَعَمِّدًا عَالِمًا بِحُكْمِهَا، أَوْ جَاهِلاً وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِزَالَتِهَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ أَبَدًا، وَمَنْ صَلَّى بِهَا نَاسِيًا أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ بِهَا أَوْ عَاجِزًا عَنْ إِزَالَتِهَا يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ.

وَأَيْضًا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَهِيَ شَرْطٌ فِي الْمَيِّتِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمُصَلِّي.

وَتُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ كَذَلِكَ فِي سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي الطَّوَافِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى اشْتِرَاطِهَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ فِيهِ الْمَنْطِقَ، فَمَنْ نَطَقَ فَلَا يَنْطِقْ إِلاَّ بِخَيْرٍ».

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي الطَّوَافِ.

قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ.

وَانْفَرَدَ الشَّافِعِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ.

تَطْهِيرُ النَّجَاسَاتِ:

7- النَّجَاسَاتُ الْعَيْنِيَّةُ لَا تَطْهُرُ بِحَالٍ، إِذْ أَنَّ ذَاتَهَا نَجِسَةٌ، بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ الْمُتَنَجِّسَةِ، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ طَاهِرَةً فِي الْأَصْلِ وَطَرَأَتْ عَلَيْهَا النَّجَاسَةُ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهَا.

وَالْأَعْيَانُ مِنْهَا مَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَمِنْهَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ.

وَمِمَّا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَتِهِ: الدَّمُ الْمَسْفُوحُ، وَالْمَيْتَةُ، وَالْبَوْلُ وَالْعَذِرَةُ مِنَ الْآدَمِيِّ.

وَمِمَّا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ: الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ، حَيْثُ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى الْقَوْلِ بِنَجَاسَةِ الْخِنْزِيرِ كَمَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى نَجَاسَةِ الْكَلْبِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ: إِنَّ الْكَلْبَ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا لَحْمُهُ نَجِسٌ.

وَلِمَعْرِفَةِ مَا يُعْتَبَرُ نَجِسًا أَوْ غَيْرَ نَجِسٍ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (نَجَاسَة).

النِّيَّةُ فِي التَّطْهِيرِ مِنَ النَّجَاسَاتِ:

8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّطْهِيرَ مِنَ النَّجَاسَةِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ، فَلَيْسَتِ النِّيَّةُ بِشَرْطٍ فِي طَهَارَةِ الْخَبَثِ، وَيَطْهُرُ مَحَلُّ النَّجَاسَةِ بِغَسْلِهِ بِلَا نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ عَنِ النَّجَاسَةِ مِنْ بَابِ التُّرُوكِ، فَلَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى النِّيَّةِ كَمَا عَلَّلَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَلِأَنَّ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ تَعَبُّدٌ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى.

وَقَالَ الْبَابَرْتِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الْمَاءُ طَهُورٌ بِطَبْعِهِ، فَإِذَا لَاقَى النَّجِسَ طَهَّرَهُ قَصَدَ الْمُسْتَعْمِلُ ذَلِكَ أَوْ لَا، كَالثَّوْبِ النَّجِسِ.

مَا تَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ:

9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُطْلَقَ رَافِعٌ لِلْحَدَثِ مُزِيلٌ لِلْخَبَثِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} وَلِحَدِيثِ أَسْمَاءَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: إِحْدَانَا يُصِيبُ ثَوْبَهَا مِنْ دَمِ الْحَيْضَةِ، كَيْفَ تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ تَنْضَحُهُ، ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ».

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَطْهِيرُ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَبِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ قَالِعٍ، كَالْخَلِّ وَمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ مِمَّا إِذَا عُصِرَ انْعَصَرَ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: (مَا كَانَ لِإِحْدَانَا إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ تَحِيضُ فِيهِ، فَإِذَا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ قَالَتْ بِرِيقِهَا، فَقَصَعَتْهُ بِظُفْرِهَا) أَيْ حَكَّتْهُ.وَلِأَنَّهُ مُزِيلٌ بِطَبْعِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُفِيدَ الطَّهَارَةَ كَالْمَاءِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقْلَعُ لَهَا، وَلِأَنَّا نُشَاهِدُ وَنَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمَائِعَ يُزِيلُ شَيْئًا مِنَ النَّجَاسَةِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَلِهَذَا يَتَغَيَّرُ لَوْنُ الْمَاءِ بِهِ، وَالنَّجَاسَةُ مُتَنَاهِيَةٌ، لِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ جَوَاهِرَ مُتَنَاهِيَةٍ، فَإِذَا انْتَهَتْ أَجْزَاؤُهَا بَقِيَ الْمَحَلُّ طَاهِرًا لِعَدَمِ الْمُجَاوَرَةِ.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَهَارَةِ الْخَمْرِ بِالِاسْتِحَالَةِ، فَإِذَا انْقَلَبَتِ الْخَمْرُ خَلًّا بِنَفْسِهَا فَإِنَّهَا تَطْهُرُ، لِأَنَّ نَجَاسَتَهَا لِشِدَّتِهَا الْمُسْكِرَةِ الْحَادِثَةِ لَهَا، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَجَاسَةٍ خَلَفَتْهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَطْهُرَ، كَالْمَاءِ الَّذِي تَنَجَّسَ بِالتَّغَيُّرِ إِذَا زَالَ تَغَيُّرُهُ بِنَفْسِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ».

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ طَهَارَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغِ.لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: «أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِأَرْضِ جُهَيْنَةَ، قَالَ: وَأَنَا غُلَامٌ- قَبْلَ وَفَاتِهِ بِشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ: أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ».

وَعَدَّ الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْمُطَهِّرَاتِ: الدَّلْكَ، وَالْفَرْكَ، وَالْمَسْحَ، وَالْيُبْسَ، وَانْقِلَابَ الْعَيْنِ، فَيَطْهُرُ الْخُفُّ وَالنَّعْلُ إِذَا تَنَجَّسَ بِذِي جِرْمٍ بِالدَّلْكِ، وَالْمَنِيُّ الْيَابِسُ بِالْفَرْكِ، وَيَطْهُرُ الصَّقِيلُ كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ بِالْمَسْحِ، وَالْأَرْضُ الْمُتَنَجِّسَةُ بِالْيُبْسِ، وَالْخِنْزِيرُ وَالْحِمَارُ بِانْقِلَابِ الْعَيْنِ، كَمَا لَوْ وَقَعَا فِي الْمَمْلَحَةِ فَصَارَا مِلْحًا.

الْمِيَاهُ الَّتِي يَجُوزُ التَّطْهِيرُ بِهَا، وَاَلَّتِي لَا يَجُوزُ:

10- قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْمَاءَ مِنْ حَيْثُ جَوَازُ التَّطْهِيرِ بِهِ وَرَفْعُهُ لِلْحَدَثِ وَالْخَبَثِ، أَوْ عَدَمُ ذَلِكَ، إِلَى عِدَّةِ أَقْسَامٍ:

أ- مَاءٌ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَهُوَ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ، وَهُوَ الْمَاءُ الْبَاقِي عَلَى خِلْقَتِهِ، أَوْ هُوَ الَّذِي لَمْ يُخَالِطْهُ مَا يَصِيرُ بِهِ مُقَيَّدًا.

وَالْمَاءُ الْمُطْلَقُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَالْخَبَثَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.وَيُلْحَقُ بِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مَا تَغَيَّرَ بِطُولِ مُكْثِهِ، أَوْ بِمَا هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْهُ كَالطُّحْلُبِ.

ب- مَاءٌ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ مَكْرُوهٌ، وَخَصَّ كُلُّ مَذْهَبٍ هَذَا الْقِسْمَ بِنَوْعٍ مِنَ الْمِيَاهِ: فَخَصَّ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِالْمَاءِ الَّذِي شَرِبَ مِنْهُ حَيَوَانٌ مِثْلُ الْهِرَّةِ الْأَهْلِيَّةِ وَالدَّجَاجَةِ الْمُخْلَاةِ وَسِبَاعِ الطَّيْرِ وَالْحَيَّةِ وَالْفَأْرَةِ، وَكَانَ قَلِيلاً، وَالْكَرَاهَةُ تَنْزِيهِيَّةٌ عَلَى الْأَصَحُّ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكَرْخِيُّ مُعَلِّلاً ذَلِكَ بِعَدَمِ تَحَامِيهَا النَّجَاسَةَ، ثُمَّ إِنَّ الْكَرَاهَةَ إِنَّمَا هِيَ عِنْدَ وُجُودِ الْمُطْلَقِ، وَإِلاَّ فَلَا كَرَاهَةَ أَصْلاً.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي رَفْعِ حَدَثٍ أَوْ فِي إِزَالَةِ حُكْمِ خَبَثٍ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي طَهَارَةِ حَدَثٍ كَوُضُوءٍ أَوِ اغْتِسَالٍ مَنْدُوبٍ لَا فِي إِزَالَةِ حُكْمِ خَبَثٍ، وَالْكَرَاهَةُ مُقَيَّدَةٌ بِأَمْرَيْنِ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ قَلِيلاً كَآنِيَةِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَأَنْ يُوجَدَ غَيْرُهُ، وَإِلاَّ فَلَا كَرَاهَةَ، كَمَا يُكْرَهُ عِنْدَهُمُ الْمَاءُ الْيَسِيرُ- وَهُوَ مَا كَانَ قَدْرَ آنِيَةِ الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ فَمَا دُونَهَا- إِذَا حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ قَلِيلَةٌ كَالْقَطْرَةِ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: الْكَرَاهَةُ مُقَيَّدَةٌ بِقُيُودٍ سَبْعَةٍ: أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الَّذِي حَلَّتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ يَسِيرًا، وَأَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ الَّتِي حَلَّتْ فِيهِ قَطْرَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، وَأَنْ لَا تُغَيِّرَهُ، وَأَنْ يُوجَدَ غَيْرُهُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَادَّةٌ كَبِئْرٍ، وَأَنْ لَا يَكُونَ جَارِيًا، وَأَنْ يُرَادَ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى طَهُورٍ، كَرَفْعِ حَدَثٍ حُكْمَ خَبَثٍ وَوُضُوءٍ أَوْ غُسْلٍ مَنْدُوبٍ، فَإِنِ انْتَفَى قَيْدٌ مِنْهَا فَلَا كَرَاهَةَ.

وَمِنَ الْمَكْرُوهِ أَيْضًا: الْمَاءُ الْيَسِيرُ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ كَلْبٌ وَلَوْ تَحَقَّقَتْ سَلَامَةٌ فِيهِ مِنَ النَّجَاسَةِ، وَسُؤْرُ شَارِبِ الْخَمْرِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْمَاءُ الْمَكْرُوهُ ثَمَانِيَةٌ: الْمُشَمَّسُ، وَشَدِيدُ الْحَرَارَةِ، وَشَدِيدُ الْبُرُودَةِ، وَمَاءُ دِيَارِ ثَمُودَ إِلاَّ بِئْرُ النَّاقَةِ، وَمَاءُ دِيَارِ قَوْمِ لُوطٍ، وَمَاءُ بِئْرِ بَرَهُوتَ، وَمَاءُ أَرْضِ بَابِلَ، وَمَاءُ بِئْرِ ذَرْوَانَ.

وَالْمَكْرُوهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الْمَاءُ الْمُتَغَيِّرُ بِغَيْرِ مُمَازِجٍ، كَدُهْنٍ وَقَطِرَانٍ وَقِطَعِ كَافُورٍ، أَوْ مَاءٍ سُخِّنَ بِمَغْصُوبٍ أَوْ بِنَجَاسَةٍ، أَوِ الْمَاءُ الَّذِي اشْتَدَّ حَرُّهُ أَوْ بَرْدُهُ، وَالْكَرَاهَةُ مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، فَإِنْ احْتِيجَ إِلَيْهِ تَعَيَّنَ وَزَالَتِ الْكَرَاهَةُ.

وَكَذَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ مَاءِ الْبِئْرِ الَّذِي فِي الْمَقْبَرَةِ، وَمَاءٌ فِي بِئْرٍ فِي مَوْضِعِ غَصْبٍ، وَمَا ظُنَّ تَنَجُّسُهُ، كَمَا نَصُّوا عَلَى كَرَاهَةِ اسْتِعْمَالِ مَاءِ زَمْزَم فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ دُونَ طَهَارَةِ الْحَدَثِ تَشْرِيفًا لَهُ.

ج- مَاءٌ طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ، وَعَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ: مَا أُزِيلَ بِهِ حَدَثٌ أَوِ اسْتُعْمِلَ فِي الْبَدَنِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي طَهَارَةِ الْأَحْدَاثِ، بِخِلَافِ الْخَبَثِ، وَيَصِيرُ مُسْتَعْمَلاً عِنْدَهُمْ بِمُجَرَّدِ انْفِصَالِهِ عَنِ الْجَسَدِ وَلَوْ لَمْ يَسْتَقِرَّ بِمَحَلٍّ.

وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- هُوَ: الْمَاءُ الْمُغَيَّرُ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ أَوْ رِيحُهُ بِمَا خَالَطَهُ مِنَ الْأَعْيَانِ الطَّاهِرَةِ تَغَيُّرًا يَمْنَعُ إِطْلَاقَ اسْمِ الْمَاءِ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي فَرْضِ الطَّهَارَةِ وَنَفْلِهَا عَلَى الْجَدِيدِ.

وَصَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- بِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ لَا يَرْفَعُ حُكْمَ الْخَبَثِ أَيْضًا، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَرْفَعُ حُكْمَ الْخَبَثِ.

د- مَاءٌ نَجِسٌ، وَهُوَ: الْمَاءُ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ وَكَانَ قَلِيلاً، أَوْ كَانَ كَثِيرًا وَغَيَّرَتْهُ، وَهَذَا لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَلَا النَّجِسَ بِالِاتِّفَاقِ.

هـ- مَاءٌ مَشْكُوكٌ فِي طَهُورِيَّتِهِ، وَانْفَرَدَ بِهَذَا الْقِسْمِ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ: مَا شَرِبَ مِنْهُ بَغْلٌ أَوْ حِمَارٌ.

و- مَاءٌ مُحَرَّمٌ لَا تَصِحُّ الطَّهَارَةُ بِهِ، وَانْفَرَدَ بِهِ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ: مَاءُ آبَارِ دِيَارِ ثَمُودَ- غَيْرِ بِئْرِ النَّاقَةِ- وَالْمَاءُ الْمَغْصُوبُ، وَمَاءٌ ثَمَنُهُ الْمُعَيَّنُ حَرَامٌ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مِيَاه).

تَطْهِيرُ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ:

11- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَا يَحْصُلُ بِهِ طَهَارَةُ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ النَّجَاسَةِ الْمَرْئِيَّةِ وَغَيْرِ الْمَرْئِيَّةِ.

فَإِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَرْئِيَّةً فَإِنَّهُ يَطْهُرُ الْمَحَلُّ الْمُتَنَجِّسُ بِهَا بِزَوَالِ عَيْنِهَا وَلَوْ بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ وَلَوْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ غَلِيظَةً، وَلَا يُشْتَرَطُ تَكْرَارُ الْغُسْلِ، لِأَنَّ النَّجَاسَةَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ عَيْنِهَا، فَتَزُولُ بِزَوَالِهَا.

وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ: أَنَّهُ يُغْسَلُ مَرَّتَيْنِ بَعْدَ زَوَالِ الْعَيْنِ، وَعَنْ فَخْرِ الْإِسْلَامِ: ثَلَاثًا بَعْدَهُ، وَيُشْتَرَطُ زَوَالُ الطَّعْمِ فِي النَّجَاسَةِ، لِأَنَّ بَقَاءَهُ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ، وَلَا يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنِ النَّجَاسَةِ الَّذِي يَشُقُّ زَوَالُهُ، وَكَذَا الرِّيحُ وَإِنْ لَمْ يَشُقَّ زَوَالُهُ.

وَهَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إِذَا صَبَّ الْمَاءَ عَلَى النَّجَاسَةِ، أَوْ غَسَلَهَا فِي الْمَاءِ الْجَارِي.

أَمَّا لَوْ غَسَلَهَا فِي إِجَّانَةٍ فَيَطْهُرُ بِالثَّلَاثِ إِذَا عُصِرَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ.

وَإِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ الْمَحَلُّ بِغَسْلِهَا ثَلَاثًا وُجُوبًا، وَالْعَصْرُ كُلَّ مَرَّةٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، تَقْدِيرًا لِغَلَبَةِ الظَّنِّ فِي اسْتِخْرَاجِهَا.

قَالَ الطَّحْطَاوِيّ: وَيُبَالِغُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ حَتَّى يَنْقَطِعَ التَّقَاطُرُ، وَالْمُعْتَبَرُ قُوَّةُ كُلِّ عَاصِرٍ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَوْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ عَصَرَ غَيْرَهُ قَطَّرَ طَهُرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ دُونَ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَلَوْ لَمْ يَصْرِفْ قُوَّتَهُ لِرِقَّةِ الثَّوْبِ قِيلَ: يَطْهُرُ لِلضَّرُورَةِ.وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَقِيلَ: لَا يَطْهُرُ وَهُوَ اخْتِيَارُ قَاضِيخَانْ.

وَفِي رِوَايَةٍ: يُكْتَفَى بِالْعَصْرِ مَرَّةً.

ثُمَّ إِنَّ اشْتِرَاطَ الْغَسْلِ وَالْعَصْرِ ثَلَاثًا إِنَّمَا هُوَ إِذَا غَمَسَهُ فِي إِجَّانَةٍ، أَمَّا إِذَا غَمَسَهُ فِي مَاءٍ جَارٍ حَتَّى جَرَى عَلَيْهِ الْمَاءُ أَوْ صُبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ كَثِيرٌ، بِحَيْثُ يَخْرُجُ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْمَاءِ وَيَخْلُفُ غَيْرُهُ ثَلَاثًا، فَقَدْ طَهُرَ مُطْلَقًا بِلَا اشْتِرَاطِ عَصْرٍ وَتَكْرَارِ غَمْسٍ.

وَيُقْصَدُ بِالنَّجَاسَةِ الْمَرْئِيَّةِ عِنْدَهُمْ: مَا يُرَى بَعْدَ الْجَفَافِ، وَغَيْرُ الْمَرْئِيَّةِ: مَا لَا يُرَى بَعْدَهُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَطْهُرُ مَحَلُّ النَّجَاسَةِ بِغَسْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدِ عَدَدٍ، بِشَرْطِ زَوَالِ طَعْمِ النَّجَاسَةِ وَلَوْ عَسُرَ، لِأَنَّ بَقَاءَ الطَّعْمِ دَلِيلٌ عَلَى تَمَكُّنِ النَّجَاسَةِ مِنَ الْمَحَلِّ فَيُشْتَرَطُ زَوَالُهُ، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ زَوَالُ اللَّوْنِ وَالرِّيحِ إِنْ تَيَسَّرَ.ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَعَسَّرَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ عَيْنًا أَوْ لَيْسَتْ بِعَيْنٍ.

فَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ عَيْنًا فَإِنَّهُ يَجِبُ إِزَالَةُ الطَّعْمِ، وَمُحَاوَلَةُ إِزَالَةِ اللَّوْنِ وَالرِّيحِ، فَإِنْ عَسِرَ زَوَالُ الطَّعْمِ، بِأَنْ لَمْ يَزُلْ بِحَتٍّ أَوْ قَرْصٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عُفِيَ عَنْهُ مَا دَامَ الْعُسْرُ، وَيَجِبُ إِزَالَتُهُ إِذَا قَدَرَ، وَلَا يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنٍ أَوْ رِيحٍ عَسُرَ زَوَالُهُ فَيُعْفَى عَنْهُ، فَإِنْ بَقِيَا مَعًا ضَرَّ عَلَى الصَّحِيحِ، لِقُوَّةِ دَلَالَتِهِمَا عَلَى بَقَاءِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ.

وَإِنْ لَمْ تَكُنِ النَّجَاسَةُ عَيْنًا- وَهِيَ مَا لَا يُدْرَكُ لَهَا عَيْنٌ وَلَا وَصْفٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَدَمُ الْإِدْرَاكِ لِخَفَاءِ أَثَرِهَا بِالْجَفَافِ، كَبَوْلٍ جَفَّ فَذَهَبَتْ عَيْنُهُ وَلَا أَثَرَ لَهُ وَلَا رِيحَ، فَذَهَبَ وَصْفُهُ، أَمْ لَا، لِكَوْنِ الْمَحَلِّ صَقِيلاً لَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ كَالْمِرْآةِ وَالسَّيْفِ- فَإِنَّهُ يَكْفِي جَرْيُ الْمَاءِ عَلَيْهِ مَرَّةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِفِعْلِ فَاعِلٍ كَمَطَرٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تَطْهُرُ الْمُتَنَجِّسَاتُ بِسَبْعِ غَسَلَاتٍ مُنَقِّيَةٍ، لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: «أُمِرْنَا أَنْ نَغْسِلَ الْأَنْجَاسَ سَبْعًا» وَقَدْ أُمِرَ بِهِ فِي نَجَاسَةِ الْكَلْبِ، فَيُلْحَقُ بِهِ سَائِرُ النَّجَاسَاتِ، لِأَنَّهَا فِي مَعْنَاهَا، وَالْحُكْمُ لَا يَخْتَصُّ بِمَوْرِدِ النَّصِّ، بِدَلِيلِ إِلْحَاقِ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ بِهِ.

قَالَ الْبُهُوتِيُّ: فَعَلَى هَذَا يُغْسَلُ مَحَلُّ الِاسْتِنْجَاءِ سَبْعًا كَغَيْرِهِ، صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي وَالشِّيرَازِيُّ وَابْنُ عَقِيلٍ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ، لَكِنْ نَصَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَاخْتَارَهُ فِي الْمُغْنِي: أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ عَدَدٌ، اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، لَا فِي قَوْلِهِ وَلَا فِعْلِهِ.

وَيَضُرُّ عِنْدَهُمْ بَقَاءُ الطَّعْمِ، لِدَلَالَتِهِ عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ وَلِسُهُولَةِ إِزَالَتِهِ وَيَضُرُّ كَذَلِكَ بَقَاءُ اللَّوْنِ أَوِ الرِّيحِ أَوْ هُمَا مَعًا إِنْ تَيَسَّرَ إِزَالَتُهُمَا، فَإِنْ عَسُرَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّ.

وَهَذَا فِي غَيْرِ نَجَاسَةِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، أَمَّا نَجَاسَتُهُمَا فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهَا تَفْصِيلٌ آخَرُ سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

تَطْهِيرُ مَا تُصِيبُهُ الْغُسَالَةُ قَبْلَ طَهَارَةِ الْمَغْسُولِ:

12- الْغُسَالَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ بِأَحَدِ أَوْصَافِ النَّجَاسَةِ نَجِسَةٌ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَلَوْنِهِ وَطَعْمِهِ».قَالَ الْخَرَشِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: سَوَاءٌ كَانَ تَغَيُّرُهَا بِالطَّعْمِ أَوِ اللَّوْنِ وَالرِّيحِ وَلَوِ الْمُتَعَسِّرَيْنِ، وَمِنْ ثَمَّ يَنْجُسُ الْمَحَلُّ الَّذِي تُصِيبُهُ الْغُسَالَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ، وَيَكُونُ تَطْهِيرُهُ كَتَطْهِيرِ أَيِّ مَحَلٍّ مُتَنَجِّسٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

لَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا يَطْهُرُ الْمَحَلُّ الْمُتَنَجِّسُ إِلاَّ بِغُسْلِهِ سَبْعًا، فَيُغْسَلُ عِنْدَهُمْ مَا نَجِسَ بِبَعْضِ الْغَسَلَاتِ بِعَدَدِ مَا بَقِيَ بَعْدَ تِلْكَ الْغَسْلَةِ، فَلَوْ تَنَجَّسَ بِالْغَسْلَةِ الرَّابِعَةِ مَثَلاً غُسِلَ ثَلَاثَ غَسَلَاتٍ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ تَطْهُرُ فِي مَحَلِّهَا بِمَا بَقِيَ مِنَ الْغَسَلَاتِ، فَطَهُرَتْ بِهِ فِي مِثْلِهِ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْغُسَالَةَ غَيْرَ الْمُتَغَيِّرَةِ طَاهِرَةٌ، قَالَ الدَّرْدِيرُ: لَوْ غُسِلَتْ قَطْرَةُ بَوْلٍ مَثَلاً فِي جَسَدٍ أَوْ ثَوْبٍ وَسَالَتْ غَيْرَ مُتَغَيِّرَةٍ فِي سَائِرِهِ وَلَمْ تَنْفَصِلْ عَنْهُ كَانَ طَاهِرًا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الْغُسَالَةُ غَيْرُ الْمُتَغَيِّرَةِ إِنْ كَانَتْ قُلَّتَيْنِ فَطَاهِرَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَهُمَا فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَظْهَرُهَا: أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْمَحَلِّ بَعْدَ الْغَسْلِ، إِنْ كَانَ نَجِسًا بَعْدُ فَنَجِسَةٌ، وَإِلاَّ فَطَاهِرَةٌ غَيْرُ مُطَهِّرَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ غُسِلَتْ بِالطَّهُورِ نَجَاسَةٌ فَانْفَصَلَ مُتَغَيِّرًا بِهَا، أَوِ انْفَصَلَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ قَبْلَ زَوَالِ النَّجَاسَةِ، كَالْمُنْفَصِلِ مِنَ الْغَسْلَةِ السَّادِسَةِ فَمَا دُونَهَا وَهُوَ يَسِيرٌ فَنَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ مُلَاقٍ لِنَجَاسَةٍ لَمْ يُطَهِّرْهَا.

وَإِنِ انْفَصَلَ الْقَلِيلُ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ بَعْدَ زَوَالِ النَّجَاسَةِ، كَالْمُنْفَصِلِ عَنْ مَحَلٍّ طَهُرَ أَرْضًا كَانَ الْمَحَلُّ أَوْ غَيْرُهَا، فَطَهُورٌ إِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَإِنْ كَانَ دُونَ قُلَّتَيْنِ فَطَاهِرٌ.

تَطْهِيرُ الْآبَارِ:

13- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَ مَاءُ الْبِئْرِ، فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِالتَّكْثِيرِ إِلَى أَنْ يَزُولَ التَّغَيُّرُ، وَيَكُونُ التَّكْثِيرُ بِالتَّرْكِ حَتَّى يَزِيدَ الْمَاءُ وَيَصِلَ إِلَى حَدِّ الْكَثْرَةِ، أَوْ بِصَبِّ مَاءٍ طَاهِرٍ فِيهِ حَتَّى يَصِلَ هَذَا الْحَدَّ.

كَمَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اعْتِبَارِ النَّزْحِ طَرِيقًا لِلتَّطْهِيرِ أَيْضًا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَ مَاءُ الْبِئْرِ فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِالنَّزَحِ فَقَطْ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (آبَار ف 21 وَمَا بَعْدَهَا).

الْوُضُوءُ وَالِاغْتِسَالُ فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ:

14- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الْوُضُوءَ وَالِاغْتِسَالَ فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ مَكْرُوهٌ خَشْيَةَ أَنْ يَتَنَجَّسَ بِهِ الْمُتَوَضِّئُ أَوِ الْمُغْتَسِلُ، وَتَوَقِّي ذَلِكَ كُلِّهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ يُورِثُ الْوَسْوَسَةَ فَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي مُسْتَحَمِّهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ أَوْ يَتَوَضَّأُ فِيهِ، فَإِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ».

تَطْهِيرُ الْجَامِدَاتِ وَالْمَائِعَاتِ:

15- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَتْ النَّجَاسَةُ فِي جَامِدٍ، كَالسَّمْنِ الْجَامِدِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِرَفْعِ النَّجَاسَةِ وَتَقْوِيرِ مَا حَوْلَهَا وَطَرْحِهِ، وَيَكُونُ الْبَاقِي طَاهِرًا، لِمَا رَوَتْ مَيْمُونَةُ- رضي الله عنها- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: أَلْقُوهَا، وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ، وَكُلُوا سَمْنَكُمْ».

وَإِذَا وَقَعَتِ النَّجَاسَةُ فِي مَائِعٍ فَإِنَّهُ يُنَجَّسُ، وَلَا يَطْهُرُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَيُرَاقُ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ» وَفِي رِوَايَةٍ «وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ».

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى إِمْكَانِ تَطْهِيرِهِ بِالْغَلْيِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُوضَعَ فِي مَاءٍ وَيَغْلِي، فَيَعْلُو الدُّهْنُ الْمَاءَ، فَيُرْفَعُ بِشَيْءٍ، وَهَكَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَوْسَعُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ.

وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ مَا يَتَأَتَّى تَطْهِيرُهُ بِالْغَلْيِ- كَالزَّيْتِ- يَطْهُرُ بِهِ كَالْجَامِدِ، وَطَرِيقَةُ ذَلِكَ: جَعْلُهُ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ يُخَاضُ فِيهِ، حَتَّى يُصِيبَ الْمَاءُ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ، ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَعْلُوَ عَلَى الْمَاءِ، فَيُؤْخَذُ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا يَطْهُرُ غَيْرُ الْمَاءِ مِنَ الْمَائِعَاتِ بِالتَّطْهِيرِ فِي قَوْلِ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إِلاَّ الزِّئْبَقَ، فَإِنَّهُ لِقُوَّتِهِ وَتَمَاسُكِهِ يَجْرِي مَجْرَى الْجَامِدِ.وَاسْتَدَلَّ ابْنُ قُدَامَةَ «بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ السَّمْنِ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ، وَلَوْ كَانَ إِلَى تَطْهِيرِهِ طَرِيقٌ لَمْ يَأْمُرْ بِإِرَاقَتِهِ».

تَطْهِيرُ الْمِيَاهِ النَّجِسَةِ:

16- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَطْهِيرَ الْمِيَاهِ النَّجِسَةِ يَكُونُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا وَمُكَاثَرَتِهَا حَتَّى يَزُولَ التَّغَيُّرُ.

وَلَوْ زَالَ التَّغَيُّرُ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِنَزْحِ بَعْضِهِ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلَانِ، قِيلَ: إِنَّ الْمَاءَ يَعُودُ طَهُورًا، وَقِيلَ: بِاسْتِمْرَارِ نَجَاسَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَرْجَحُ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تُزَالُ إِلاَّ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَلَيْسَ حَاصِلاً، وَحِينَئِذٍ فَيَسْتَمِرُّ بَقَاءُ النَّجَاسَةِ.

وَمَحَلُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ الَّذِي زَالَ تَغَيُّرُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَزْحِ بَعْضِهِ، أَمَّا الْقَلِيلُ فَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَى تَنَجُّسِهِ بِلَا خِلَافٍ.

كَمَا يَطْهُرُ الْمَاءُ النَّجِسُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَوْ زَالَ تَغَيُّرُهُ بِإِضَافَةِ طَاهِرٍ، وَبِإِلْقَاءِ طِينٍ أَوْ تُرَابٍ إِنْ زَالَ أَثَرُهُمَا، أَيْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ أَوْصَافِهِمَا فِيمَا أُلْقِيَا فِيهِ، أَمَّا إِنْ وُجِدَ فَلَا يَطْهُرُ، لِاحْتِمَالِ بَقَاءِ النَّجَاسَةِ مَعَ بَقَاءِ أَثَرِهِمَا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّ الْمَاءَ إِنْ بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَنْجُسُ إِلاَّ إِذَا غَيَّرَتْهُ النَّجَاسَةُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ» وَتَطْهِيرُهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِزَوَالِ التَّغَيُّرِ، سَوَاءٌ زَالَ التَّغَيُّرُ بِنَفْسِهِ: كَأَنْ زَالَ بِطُولِ الْمُكْثِ، أَوْ بِإِضَافَةِ مَاءٍ إِلَيْهِ.

قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: وَهَذَا فِي التَّغَيُّرِ الْحِسِّيِّ، وَأَمَّا التَّقْدِيرِيُّ: كَمَا لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ نَجِسٌ لَا وَصْفَ لَهُ فَيُقَدَّرُ مُخَالِفًا أَشَدَّ، كَلَوْنِ الْحِبْرِ وَطَعْمِ الْخَلِّ وَرِيحِ الْمِسْكِ، فَإِنْ غَيَّرَهُ فَنَجِسٌ، وَيُعْتَبَرُ الْوَصْفُ الْمُوَافِقُ لِلْوَاقِعِ، وَيُعْرَفُ زَوَالُ التَّغَيُّرِ مِنْهُ بِزَوَالِ نَظِيرِهِ مِنْ مَاءٍ آخَرَ، أَوْ بِضَمِّ مَاءٍ إِلَيْهِ لَوْ ضُمَّ لِلْمُتَغَيِّرِ حِسًّا لَزَالَ، أَوْ بَقِيَ زَمَنًا ذَكَرَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّهُ يَزُولُ بِهِ الْحِسِّيُّ.

وَلَا يَطْهُرُ الْمَاءُ إِنْ زَالَ التَّغَيُّرُ بِمِسْكٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ أَوْ خَلٍّ، لِلشَّكِّ فِي أَنَّ التَّغَيُّرَ زَالَ أَوِ اسْتَتَرَ، وَالظَّاهِرُ الِاسْتِتَارُ، مِثْلُ ذَلِكَ زَوَالُ التَّغَيُّرِ بِالتُّرَابِ وَالْجِصِّ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ نُزِحَ مِنَ الْمَاءِ الْمُتَنَجِّسِ الْكَثِيرُ، وَبَقِيَ بَعْدَ الْمَنْزُوحِ كَثِيرٌ غَيْرُ مُتَغَيِّرٍ، فَإِنَّهُ يَطْهُرُ لِزَوَالِ عِلَّةِ تَنَجُّسِهِ، وَهِيَ التَّغَيُّرُ.وَكَذَا الْمَنْزُوحُ الَّذِي زَالَ مَعَ نَزْحِهِ التَّغَيُّرُ طَهُورٌ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ فِيهِ.

وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ وَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْهُ، وَتَطْهِيرُهُ يَكُونُ بِإِضَافَةِ الْمَاءِ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْقُلَّتَيْنِ وَلَا تُغَيَّرُ بِهِ وَلَوْ كُوثِرَ بِإِيرَادِ طَهُورٍ فَلَمْ يَبْلُغْ الْقُلَّتَيْنِ لَمْ يَطْهُرْ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (مِيَاه).

تَطْهِيرُ الْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةِ مِنْ عِظَامِ الْمَيْتَاتِ:

17- الْآنِيَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ عَظْمِ حَيَوَانٍ مَأْكُولِ اللَّحْمِ مُذَكًّى يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهَا.

وَأَمَّا الْآنِيَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ حَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَفِيهَا خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (آنِيَة) ج 1 ف 10 وَمَا بَعْدَهَا.

تَطْهِيرُ مَا كَانَ أَمْلَسَ السَّطْحِ:

18- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَصَابَتِ النَّجَاسَةُ شَيْئًا صَقِيلاً- كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ- فَإِنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ، وَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ، لِعُمُومِ الْأَمْرِ بِغَسْلِ الْأَنْجَاسِ، وَالْمَسْحُ لَيْسَ غَسْلاً.

قَالَ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ قُطِعَ بِالسَّيْفِ الْمُتَنَجِّسِ وَنَحْوِهِ بَعْدَ مَسْحِهِ وَقَبْلَ غَسْلِهِ مَا فِيهِ بَلَلٌ كَبِطِّيخٍ وَنَحْوِهِ نَجَّسَهُ، لِمُلَاقَاةِ الْبَلَلِ لِلنَّجَاسَةِ، فَإِنْ كَانَ مَا قَطَعَهُ بِهِ رَطْبًا لَا بَلَلَ فِيهِ كَجُبْنٍ وَنَحْوِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، كَمَا لَوْ قُطِعَ بِهِ يَابِسًا لِعَدَمِ تَعَدِّي النَّجَاسَةِ إِلَيْهِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: لَوْ سُقِيَتْ سِكِّينٌ مَاءً نَجِسًا، ثُمَّ غَسَلَهَا طَهُرَ ظَاهِرُهَا، وَهَلْ يَطْهُرُ بَاطِنُهَا بِمُجَرَّدِ الْغَسْلِ أَمْ لَا يَطْهُرُ حَتَّى يَسْقِيَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً بِمَاءٍ طَهُورٍ؟ وَجْهَانِ: قَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي بِأَنَّهُ يَجِبُ سَقْيُهَا مَرَّةً ثَانِيَةً وَاخْتَارَ الشَّاشِيُّ الِاكْتِفَاءَ بِالْغَسْلِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنِ الشَّافِعِيِّ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا كَانَ أَمْلَسَ السَّطْحِ، كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ وَنَحْوِهِمَا، إِنْ أَصَابَهُ نَجِسٌ فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِالْمَسْحِ بِحَيْثُ يَزُولُ أَثَرُ النَّجَاسَةِ، لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانُوا يَقْتُلُونَ الْكُفَّارَ بِسُيُوفِهِمْ ثُمَّ يَمْسَحُونَهَا وَيُصَلُّونَ وَهُمْ يَحْمِلُونَهَا، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ، وَمَا عَلَى ظَاهِرِهِ يَزُولُ بِالْمَسْحِ.

قَالَ الْكَمَالُ: وَعَلَيْهِ فَلَوْ كَانَ عَلَى ظُفْرِهِ نَجَاسَةٌ فَمَسَحَهَا طَهُرَتْ.

فَإِنْ كَانَ بِالصَّقِيلِ صَدَأٌ يَتَشَرَّبُ مَعَهُ النَّجَاسَةَ، أَوْ كَانَ ذَا مَسَامَّ تَتَشَرَّبُهَا، فَإِنَّهُ لَا يَطْهُرُ إِلاَّ بِالْمَاءِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا كَانَ صُلْبًا صَقِيلاً، وَكَانَ يُخْشَى فَسَادُهُ بِالْغَسْلِ كَالسَّيْفِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يُعْفَى عَمَّا أَصَابَهُ مِنَ الدَّمِ الْمُبَاحِ وَلَوْ كَانَ كَثِيرًا، خَوْفًا مِنْ إِفْسَادِ الْغَسْلِ لَهُ.

قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَسَوَاءٌ مَسَحَهُ مِنَ الدَّمِ أَمْ لَا عَلَى الْمُعْتَمَدِ، أَيْ خِلَافًا لِمَنْ عَلَّلَهُ بِانْتِفَاءِ النَّجَاسَةِ بِالْمَسْحِ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: فَهَذَا التَّعْلِيلُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُعْفَى عَمَّا أَصَابَ السَّيْفَ وَنَحْوَهُ مِنَ الدَّمِ الْمُبَاحِ إِلاَّ إِذَا مُسِحَ، وَإِلاَّ فَلَا، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: لَا يُعْفَى عَمَّا أَصَابَ الظُّفْرَ وَالْجَسَدَ مِنَ الدَّمِ الْمُبَاحِ لِعَدَمِ فَسَادِهِمَا بِالْغَسْلِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: يُعْفَى عَمَّا أَصَابَهَا مِنْهُ إِذَا مُسِحَ.

وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ الْعَفْوَ بِأَنْ يَكُونَ الدَّمُ مُبَاحًا، أَمَّا الدَّمُ الْعُدْوَانُ فَيَجِبُ الْغَسْلُ مِنْهُ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: قَالَ الْعَدَوِيُّ: وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُبَاحِ غَيْرُ الْمُحَرَّمِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ دَمٌ مَكْرُوهُ الْأَكْلِ إِذَا ذَكَّاهُ بِالسَّيْفِ، وَالْمُرَادُ: الْمُبَاحُ أَصَالَةً، فَلَا يَضُرُّ حُرْمَتُهُ لِعَارِضٍ كَقَتْلِ مُرْتَدٍّ بِهِ، وَقَتْلِ زَانٍ أَحْصَنَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ.

كَمَا قَيَّدُوا الْعَفْوَ بِأَنْ يَكُونَ مَصْقُولاً لَا خَرْبَشَةَ فِيهِ، وَإِلاَّ فَلَا عَفْوَ.

تَطْهِيرُ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ مِنَ الْمَنِيِّ

19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى نَجَاسَتِهِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ طَاهِرٌ.

وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي كَيْفِيَّةِ تَطْهِيرِهِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَطْهِيرَ مَحَلِّ الْمَنِيِّ يَكُونُ بِغَسْلِهِ إِنْ كَانَ رَطْبًا، وَفَرْكِهِ إِنْ كَانَ يَابِسًا، لِحَدِيثِ «عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَانَ يَابِسًا، وَأَغْسِلُهُ إِذَا كَانَ رَطْبًا».

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ بِعِلْمِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- خُصُوصًا إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهَا مَعَ الْتِفَاتِهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى طَهَارَةِ ثَوْبِهِ وَفَحْصِهِ عَنْ حَالِهِ.

وَلَا فَرْقَ فِي طَهَارَةِ مَحَلِّهِ بِفَرْكِهِ يَابِسًا وَغَسْلِهِ طَرِيًّا بَيْنَ مَنِيِّ الرَّجُلِ وَمَنِيِّ الْمَرْأَةِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا صَحَّ «عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا كَانَتْ تَحُتُّ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يُصَلِّي»، وَلَا خَفَاءَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ جِمَاعٍ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا تَحْتَلِمُ، فَيَلْزَمُ اخْتِلَاطُ مَنِيِّ الْمَرْأَةِ بِهِ، فَيَدُلُّ عَلَى طَهَارَةِ مَنِيِّهَا بِالْفَرْكِ بِالْأَثَرِ، لَا بِالْإِلْحَاقِ.

كَمَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنَ الْمَذْهَبِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَطْهِيرَ مَحَلِّ الْمَنِيِّ يَكُونُ بِالْغَسْلِ لَا غَيْرُ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (مَنِيّ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


121-موسوعة الفقه الكويتية (عقد 2)

عَقْد -2

مُوَافَقَةُ الْقَبُولِ لِلْإِيجَابِ.

17- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ مِنْ تَوَافُقِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً يُشْتَرَطُ أَنْ يَقْبَلَ الْمُشْتَرِي مَا أَوْجَبَهُ الْبَائِعُ بِمَا أَوْجَبَهُ، فَإِنْ خَالَفَهُ بِأَنْ قَبِلَ غَيْرَ مَا أَوْجَبَهُ أَوْ بَعْضَ مَا أَوْجَبَهُ، أَوْ بِغَيْرِ مَا أَوْجَبَهُ أَوْ بِبَعْضِ مَا أَوْجَبَهُ لَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ مُبْتَدَأٍ مُوَافِقٍ.

قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: إِذَا أَوْجَبَ الْبَيْعَ فِي الثَّوْبِ فَقَبِلَ فِي ثَوْبٍ آخَرَ لَا يَنْعَقِدُ، وَكَذَا إِذَا أَوْجَبَ فِي الثَّوْبَيْنِ فَقَبِلَ فِي أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقَبُولَ فِي أَحَدِهِمَا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ؛ وَلِأَنَّ الْقَبُولَ فِي أَحَدِهِمَا يَكُونُ إِعْرَاضًا عَنِ الْجَوَابِ بِمَنْزِلَةِ الْقِيَامِ عَنِ الْمَجْلِسِ.

وَكَذَا لَوْ أَوْجَبَ الْبَيْعَ فِي كُلِّ الثَّوْبِ فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي فِي نِصْفِهِ لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَتَضَرَّرُ بِالتَّفْرِيقِ.وَكَذَا إِذَا أَوْجَبَ الْبَيْعَ فِي شَيْءٍ بِأَلْفٍ فَقَبِلَ فِيهِ بِخَمْسِمِائَةٍ لَا يَنْعَقِدُ، أَوْ أَوْجَبَ بِجِنْسِ ثَمَنٍ فَقَبِلَ بِجِنْسٍ آخَرَ.

وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَيُشْتَرَطُ لِانْعِقَادِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ عَلَى وَفْقِ الْإِيجَابِ فِي الْقَدْرِ، فَلَوْ خَالَفَ كَأَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ بِعَشَرَةٍ، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُهُ بِثَمَانِيَةٍ، لَمْ يَنْعَقِدْ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى وَفْقِهِ فِي النَّقْدِ وَصِفَتِهِ وَالْحُلُولِ وَالْأَجَلِ، فَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ، أَوْ قَالَ: بِعْتُكَ بِأَلْفٍ صَحِيحَةٍ، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ بِأَلْفٍ مُكَسَّرَةٍ وَنَحْوِهِ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ رَدٌّ لِلْإِيجَابِ لَا قَبُولٌ لَهُ.

وَمِثْلُهُ فِي كُتُبِ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ.

وَيَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ.لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ تَوَافُقَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي الْمَعْنَى، وَلِهَذَا ذَكَرُوا أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْتُكَهُ بِأَلْفٍ فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ بِأَلْفَيْنِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْقَابِلَ بِالْأَكْثَرِ قَابِلٌ بِالْأَقَلِّ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِنْ قَبِلَ الْبَائِعُ الزِّيَادَةَ تَمَّ الْعَقْدُ بِأَلْفَيْنِ، وَإِلاَّ صَحَّ بِأَلْفٍ فَقَطْ، إِذْ لَيْسَ لِلْقَابِلِ وِلَايَةُ إِدْخَالِ الزِّيَادَةِ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ بِلَا رِضَاهُ كَمَا عَلَّلَهُ ابْنُ الْهُمَامِ وَغَيْرُهُ.

اتِّصَالُ الْقَبُولِ بِالْإِيجَابِ:

18- يُشْتَرَطُ لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ مُتَّصِلاً بِالْإِيجَابِ، وَيَحْصُلُ هَذَا الِاتِّصَالُ بِاتِّحَادِ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، بِأَنْ يَقَعَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ مَعًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا كَانَ الْعَاقِدَانِ حَاضِرَيْنِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَحْصُلَ الْقَبُولُ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي صَدَرَ فِيهِ الْإِيجَابُ، وَإِذَا كَانَ مَنْ وُجِّهَ إِلَيْهِ الْإِيجَابُ غَائِبًا يُشْتَرَطُ أَنْ يَحْصُلَ الْقَبُولُ فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ بِالْإِيجَابِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الْعُقُودِ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ، كَعَقْدِ الْوَكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ.

وَمُقْتَضَى هَذَا الشَّرْطِ: أَنْ يَكُونَ الْمُوجِبُ بَاقِيًا عَلَى إِيجَابِهِ إِلَى أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ الْقَبُولُ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَا يَرْجِعَ عَنِ الْإِيجَابِ قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَبُولِ بِهِ، وَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ أَوْ مِمَّنْ وُجِّهَ إِلَيْهِ الْإِيجَابُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ وَلَا يَنْفَضَّ مَجْلِسُ الْعَقْدِ قَبْلَ تَمَامِ الْعَقْدِ وَلَا يَعْنِي هَذَا بِالضَّرُورَةِ أَنْ يَحْصُلَ الْقَبُولُ فَوْرَ صُدُورِ الْإِيجَابِ، فَالْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ لَا يَشْتَرِطُونَ الْفَوْرِيَّةَ فِي الْقَبُولِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَتَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي:

أ- رُجُوعُ الْمُوجِبِ عَنِ الْإِيجَابِ.

19- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الْإِيجَابَ غَيْرُ مُلْزِمٍ، وَلِلْمُوجِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ إِيجَابِهِ قَبْلَ قَبُولِ الطَّرَفِ الْآخَرِ، سَوَاءٌ ذَلِكَ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا، أَمْ فِي عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ، كَالْهِبَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَمِثْلِهِمَا، قَالَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَلِلْمُوجِبِ أَيًّا كَانَ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ وَفِي الْبَدَائِعِ: لَوْ خَاطَبَ ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ صَحَّ رُجُوعُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَتَبَ شَطْرَ الْعَقْدِ ثُمَّ رَجَعَ وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى صِحَّةِ الرُّجُوعِ بِأَنَّ الْمُوجِبَ هُوَ الَّذِي أَثْبَتَ لِلْمُخَاطَبِ وِلَايَةَ الْقَبُولِ، فَلَهُ أَنْ يَرْفَعَهَا كَعَزْلِ الْوَكِيلِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزِ الرُّجُوعُ لَزِمَ تَعْطِيلُ حَقِّ الْمِلْكِ بِحَقِّ التَّمَلُّكِ، فَالْبَائِعُ مَثَلاً مَالِكٌ لِلسِّلْعَةِ، وَالْمُشْتَرِي يَتَمَلَّكُهَا بِالْعَقْدِ، وَلَا يُعَارِضُ حَقُّ التَّمَلُّكِ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ.

وَعَلَى ذَلِكَ إِذَا رَجَعَ الْمُوجِبُ قَبْلَ الْقَبُولِ ثُمَّ قَبِلَ الْمُخَاطَبُ لَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ؛ لِبُطْلَانِ الْإِيجَابِ بِالرُّجُوعِ وَعَدَمِ اتِّصَالِ الْقَبُولِ بِالْإِيجَابِ.

قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ فِي شُرُوطِ الِانْعِقَادِ: وَأَنْ يُصِرَّ الْبَادِي عَلَى مَا أَتَى بِهِ مِنَ الْإِيجَابِ إِلَى الْقَبُولِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ نَقَلَ الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ رُشْدٍ الْجَدِّ: أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَمَّا أَوْجَبَهُ لِصَاحِبِهِ قَبْلَ أَنْ يُجِيبَهُ الْآخَرُ لَمْ يُفِدْهُ رُجُوعُهُ إِذَا أَجَابَهُ صَاحِبُهُ بَعْدُ بِالْقَبُولِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رُجُوعَ الْمُوجِبِ عَنِ الْإِيجَابِ لَا يُبْطِلُ الْإِيجَابَ، بَلْ يَبْقَى إِلَى أَنْ يَقْبَلَهُ الطَّرَفُ الْآخَرُ فَيَتَّصِلُ بِهِ الْقَبُولُ، وَيَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، أَوْ يَرُدُّهُ فَلَا يَنْعَقِدُ، وَيَرَى الدُّسُوقِيُّ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ رُشْدٍ هَذَا إِنَّمَا هُوَ فِيمَا تَكُونُ فِيهِ الصِّيغَةُ مُلْزِمَةً كَصِيغَةِ الْمَاضِي.

وَهَلْ لِلْقَابِلِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ قَبُولِهِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ؟ فِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يَأْتِي بَيَانُهُ

ب- صُدُورُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ مِنْ قِبَلِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا.

20- يُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ أَنْ لَا يَصْدُرَ مِنَ الْمُوجِبِ أَوِ الطَّرَفِ الْآخَرِ أَوْ كِلَيْهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِي مَوْضُوعِ الْعَقْدِ، وَلَا يَتَخَلَّلَهُ فَصْلٌ يُعَدُّ قَرِينَةً عَلَى الِانْصِرَافِ عَنِ الْعَقْدِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْبَحْرِ: الْإِيجَابُ يَبْطُلُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ.

وَقَالَ الْحَطَّابُ: لَوْ حَصَلَ فَاصِلٌ يَقْتَضِي الْإِعْرَاضَ عَمَّا كَانَا فِيهِ حَتَّى لَا يَكُونَ كَلَامُهُ جَوَابًا لِلْكَلَامِ السَّابِقِ فِي الْعُرْفِ لَمْ يَنْعَقِدِ الْبَيْعُ، وَمَثَّلَ لِلْإِعْرَاضِ بِقَوْلِهِ: إِذَا أَمْسَكَ الْبَائِعُ السِّلْعَةَ الَّتِي نَادَى عَلَيْهَا وَبَاعَ بَعْدَهَا أُخْرَى لَمْ يَلْزَمِ الْمُشْتَرِيَ الْبَيْعُ.

وَشَدَّدَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَتَخَلَّلَ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ لَفْظٌ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْعَقْدِ وَلَوْ يَسِيرًا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي مَعْرِضِ شُرُوطِ الِانْعِقَادِ: أَنْ لَا يَتَشَاغَلَا بِمَا يَقْطَعُهُ عُرْفًا، وَإِلاَّ فَلَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إِعْرَاضٌ عَنِ الْعَقْدِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَرَّحَا بِالرَّدِّ.

وَأَسَاسُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا يُعْتَبَرُ إِقْبَالاً عَلَى الْعَقْدِ أَوْ إِعْرَاضًا عَنْهُ هُوَ الْعُرْفُ، كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ.

ج- وَفَاةُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ:

21- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ وَفَاةَ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ بَعْدَ الْإِيجَابِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ يُبْطِلُ الْإِيجَابَ، فَلَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بَعْدَ الْوَفَاةِ بِقَبُولِ مَنْ وُجِّهَ إِلَيْهِ الْإِيجَابُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوجِبِ، وَلَا بِقَبُولِ وَرَثَةِ الْمُخَاطَبِ بَعْدَ وَفَاتِهِ.

وَدَلِيلُ عَدَمِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ هُوَ أَنَّ الْقَبُولَ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوجِبِ لَا يَجِدُ مَا يَلْتَقِي مَعَهُ مِنَ الْإِيجَابِ لِبُطْلَانِهِ بِالْوَفَاةِ؛ وَلِأَنَّ مَجْلِسَ الْعَقْدِ انْفَضَّ بِالْوَفَاةِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الِانْعِقَادِ، وَهُوَ اتِّصَالُ الْقَبُولِ بِالْإِيجَابِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالظَّاهِرُ مِنْ نُصُوصِهِمْ أَنَّ الْإِيجَابَ لَا يَبْطُلُ عِنْدَهُمْ بِمَوْتِ الْمُخَاطَبِ، وَأَنَّ حَقَّ الْقَبُولِ يُورَثُ بَعْدَ وَفَاةِ مَنْ وُجِّهَ إِلَيْهِ الْإِيجَابُ، يَقُولُ الْقَرَافِيُّ: إِذَا أَوْجَبَ لِزَيْدٍ فَلِوَارِثِهِ الْقَبُولُ وَالرَّدُّ وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ الْمَجْلِسَ لَا يَنْفَضُّ بِوَفَاةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدَّمْنَا أَنَّ الْمُوجِبَ لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ عِنْدَهُمْ قَبْلَ قَبُولِ أَوْ رَدِّ الْمُخَاطَبِ أَمَّا بَقَاءُ الْإِيجَابِ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوجِبِ أَوْ بُطْلَانِهِ بِوَفَاتِهِ فَلَمْ نَعْثُرْ لَهُمْ عَلَى نَصٍّ فِي الْمَوْضُوعِ.

هَذَا، وَقَدْ أَلْحَقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْجُنُونَ وَالْإِغْمَاءَ بِالْوَفَاةِ فِي بُطْلَانِ الْإِيجَابِ بِهِمَا.

د- اتِّحَادُ مَجْلِسِ الْعَقْدِ.

22- يُشْتَرَطُ لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ لَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، وَيَخْتَلِفُ مَجْلِسُ الْعَقْدِ بِاخْتِلَافِ حَالَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَطَبِيعَةِ الْعَقْدِ وَكَيْفِيَّةِ التَّعَاقُدِ، فَمَجْلِسُ الْعَقْدِ فِي حَالَةِ حُضُورِ الْعَاقِدَيْنِ غَيْرُ مَجْلِسِ الْعَقْدِ فِي حَالِ غِيَابِهِمَا، كَمَا أَنَّ مَجْلِسَ الْعَقْدِ فِي حَالَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِالْأَلْفَاظِ وَالْعِبَارَةِ يَخْتَلِفُ عَنْهُمَا بِالْكِتَابَةِ وَالرِّسَالَةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

1- مَجْلِسُ الْعَقْدِ فِي حَالَةِ حُضُورِ الْعَاقِدَيْنِ.

23- تَدُلُّ نُصُوصُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ مَجْلِسَ الْعَقْدِ فِي حَالَةِ حُضُورِ الْعَاقِدَيْنِ يَتَكَوَّنُ مِنْ ثَلَاثَةِ عَنَاصِرَ: أَحَدُهَا: الْمَكَانُ، وَثَانِيهَا: الْفَتْرَةُ الزَّمَنِيَّةُ، وَثَالِثُهَا: حَالَةُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مِنَ الِاجْتِمَاعِ وَالِانْصِرَافِ عَلَى الْعَقْدِ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إِلَى مَكَانِ الْعَقْدِ فَوَاحِدٌ، وَهُوَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ، بِأَنْ كَانَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ لَا يَنْعَقِدُ، حَتَّى لَوْ أَوْجَبَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ، فَقَامَ الْآخَرُ عَنِ الْمَجْلِسِ قَبْلَ الْقَبُولِ أَوِ اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ آخَرَ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَجْلِسِ، ثُمَّ قَبِلَ، لَا يَنْعَقِدُ.

وَوَرَدَ فِي مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ أَنَّ مَجْلِسَ الْعَقْدِ: هُوَ الِاجْتِمَاعُ الْوَاقِعُ لِلْعَقْدِ وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَجْلِسِ جَامِعًا لِلْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ هُوَ: الضَّرُورَةُ دَفْعًا لِلْعُسْرِ وَتَحْقِيقًا لِلْيُسْرِ، وَإِلاَّ فَالْإِيجَابُ يَزُولُ بِزَوَالِ الْوَقْتِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ فَلَا يَلْحَقُهُ الْقَبُولُ حَقِيقَةً، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ عَنِ الْآخَرِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا انْعَدَمَ فِي الثَّانِي مِنْ زَمَانِ وُجُودِهِ، فَوُجِدَ الثَّانِي، وَالْأَوَّلُ مُنْعَدِمٌ فَلَا يَنْتَظِمُ الرُّكْنُ، إِلاَّ أَنَّ اعْتِبَارَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى انْسِدَادِ بَابِ التَّعَاقُدِ، فَاعْتُبِرَ الْمَجْلِسُ جَامِعًا لِلشَّطْرَيْنِ حُكْمًا لِلضَّرُورَةِ قَالَ الْبَابَرْتِيُّ: وَلِأَنَّ فِي إِبْطَالِ الْإِيجَابِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمَجْلِسِ عُسْرًا بِالْمُشْتَرِي، وَفِي إِبْقَائِهِ فِي مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ عُسْرًا بِالْبَائِعِ، وَفِي التَّوَقُّفِ بِالْمَجْلِسِ يُسْرًا بِهِمَا جَمِيعًا، وَالْمَجْلِسُ جَامِعٌ لِلْمُتَفَرِّقَاتِ، فَجُعِلَتْ سَاعَاتُهُ سَاعَةً وَاحِدَةً دَفْعًا لِلْعُسْرِ وَتَحْقِيقًا لِلْيُسْرِ.

هَذِهِ هِيَ عِبَارَاتُ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَا تَخْتَلِفُ عَنْهَا كَثِيرًا عِبَارَاتُ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ مِنِ اشْتِرَاطِ الْفَوْرِيَّةِ فِي الْقَبُولِ كَمَا سَيَأْتِي.

يَقُولُ الْحَطَّابُ: وَالَّذِي تَحَصَّلَ عِنْدِي مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إِذَا أَجَابَهُ فِي الْمَجْلِسِ بِمَا يَقْتَضِي الْإِمْضَاءَ وَالْقَبُولَ مِنْ غَيْرِ فَاصِلٍ لَزِمَهُ الْبَيْعُ اتِّفَاقًا، وَإِنْ تَرَاخَى الْقَبُولُ عَنِ الْإِيجَابِ حَتَّى انْقَضَى الْمَجْلِسُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْبَيْعُ اتِّفَاقًا، وَكَذَا لَوْ حَصَلَ فَاصِلٌ يَقْتَضِي الْإِعْرَاضَ عَمَّا كَانَا فِيهِ، حَتَّى لَا يَكُونَ كَلَامُهُ جَوَابًا لِلْكَلَامِ السَّابِقِ فِي الْعُرْفِ لَمْ يَنْعَقِدْ.

وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا قَالَهُ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ حَيْثُ صَرَّحَ بِأَنَّهُ: إِنْ تَرَاخَى الْقَبُولُ عَنِ الْإِيجَابِ صَحَّ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ وَلَمْ يَتَشَاغَلَا بِمَا يَقْطَعُهُ، وَإِلاَّ فَلَا؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْمَجْلِسِ كَحَالَةِ الْعَقْدِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِالْقَبْضِ فِيهِ لِمَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ.

وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُمْ لَا يُخَالِفُونَ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ وَأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى هَذِهِ الْعَنَاصِرِ الثَّلَاثَةِ، لَكِنَّهُمْ يُخَالِفُونَ الْجُمْهُورَ فِي اشْتِرَاطِ الْفَوْرِيَّةِ فِي الْقَبُولِ

التَّرَاخِي أَوِ الْفَوْرِيَّةُ فِي الْقَبُولِ.

24- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْفَوْرِيَّةُ فِي الْقَبُولِ، فَمَا دَامَ الْمُتَعَاقِدَانِ فِي الْمَجْلِسِ، وَصَدَرَ الْإِيجَابُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَلَمْ يَصْدُرِ الْقَبُولُ إِلاَّ فِي آخِرِ الْمَجْلِسِ تَمَّ الْعَقْدُ عِنْدَهُمْ، فَلَا يَضُرُّ التَّرَاخِي بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ إِذَا صَدَرَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ فِي تَرْكِ الْفَوْرِ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ الْقَابِلَ يَحْتَاجُ إِلَى التَّأَمُّلِ، وَلَوِ اقْتُصِرَ عَلَى الْفَوْرِ لَا يُمْكِنُهُ التَّأَمُّلُ.

وَقَالَ الْحَطَّابُ: وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَحْصُلَ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَصْلٌ بِكَلَامِ أَجْنَبِيٍّ عَنِ الْعَقْدِ وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا، فَإِنْ أَجَابَهُ صَاحِبُهُ فِي الْمَجْلِسِ صَحَّ. وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَإِنْ تَرَاخَى الْقَبُولُ عَنِ الْإِيجَابِ صَحَّ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ.

وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمَجْلِسَ جَامِعٌ لِلْمُتَفَرِّقَاتِ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَطُولَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِسُكُوتٍ وَلَوْ سَهْوًا أَوْ جَهْلاً عَلَى الْمُعْتَمَدِ؛ لِأَنَّ طُولَ الْفَصْلِ يُخْرِجُ الثَّانِيَ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنِ الْأَوَّلِ كَمَا عَلَّلَهُ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ وَقَالُوا: يَضُرُّ تَخَلُّلُ كَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ عَنِ الْعَقْدِ- وَلَوْ يَسِيرًا- بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا عَنِ الْمَجْلِسِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَجْنَبِيِّ مَا لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ وَلَا مِنْ مَصَالِحِهِ وَلَا مِنْ مُسْتَحَبَّاتِهِ.

عِلْمُ الْمُوجِبِ بِالْقَبُولِ:

25- صَرَّحَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ سَمَاعَ كُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ كَلَامَ الْآخَرِ شَرْطٌ لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ، وَهَذَا يَعْنِي اشْتِرَاطَ عِلْمِ الْمُوجِبِ بِقَبُولِ الْقَابِلِ فِي حَالَةِ التَّعَاقُدِ بَيْنَ الْحَاضِرَيْنِ.

وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: سَمَاعُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَلَامَهُمَا شَرْطُ انْعِقَادِ الْبَيْعِ بِالْإِجْمَاعِ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَيَشْتَرِطُونَ سَمَاعَ مَنْ يَقْرَبُ مِنَ الْعَاقِدِ لَا سَمَاعَ نَفْسِ الْعَاقِدِ، قَالَ الْأَنْصَارِيُّ فِي شَرْحِ الْمَنْهَجِ: وَأَنْ يَتَلَفَّظَ بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ مَنْ بِقُرْبِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ صَاحِبُهُ.

وَهَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْعَقْدُ بَيْنَ حَاضِرَيْنِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَوْجَبَ لِغَائِبٍ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ لِلْغَائِبِ لَفْظًا كَالْإِيجَابِ لَهُ كِتَابَةً، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ الْعَقْدِ بَيْنَ الْغَائِبَيْنِ.

2- مَجْلِسُ الْعَقْدِ فِي حَالَةِ غِيَابِ الْعَاقِدَيْنِ:

26- لَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْعَقْدَ كَمَا يَصِحُّ انْعِقَادُهُ بَيْنَ الْحَاضِرَيْنِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِالْعِبَارَةِ كَذَلِكَ يَصِحُّ بَيْنَ الْغَائِبَيْنِ بِالْكِتَابَةِ أَوْ إِرْسَالِ رَسُولٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، فَإِذَا كَتَبَ شَخْصٌ لآِخَرَ مَثَلاً: بِعْتُك دَارِيَ بِكَذَا، فَوَصَلَ الْكِتَابُ لَهُ فَقَبِلَ انْعَقَدَ الْعَقْدُ.

وَالظَّاهِرُ مِنْ نُصُوصِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ مَجْلِسَ الْعَقْدِ حَالَةَ غِيَابِ الْعَاقِدَيْنِ هُوَ مَجْلِسُ قَبُولِ مَنْ وُجِّهَ لَهُ الْكِتَابُ، أَوْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ.

قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ: وَالْكِتَابُ كَالْخِطَابِ، وَكَذَا الْإِرْسَالُ، حَتَّى اعْتُبِرَ مَجْلِسُ بُلُوغِ الْكِتَابِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَقَالَ الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ بَاعَ مِنْ غَائِبٍ، كَبِعْتُ دَارِيَ مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ غَائِبٌ، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ قَالَ: قَبِلْت انْعَقَدَ الْبَيْعُ، كَمَا لَوْ كَاتَبَهُ.

وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي غَائِبًا عَنِ الْمَجْلِسِ، فَكَاتَبَهُ الْبَائِعُ أَوْ رَاسَلَهُ: إِنِّي بِعْتُك دَارِيَ بِكَذَا، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ قَبِلَ الْبَيْعَ صَحَّ الْعَقْدُ.

وَحَيْثُ إِنَّ مَجْلِسَ الْعَقْدِ فِي حَالَةِ التَّعَاقُدِ بَيْنَ الْغَائِبَيْنِ هُوَ مَجْلِسُ الْقَبُولِ كَمَا قُلْنَا، فَالْمُعْتَبَرُ فِي اتِّصَالِ الْقَبُولِ بِالْإِيجَابِ هُوَ هَذَا الْمَجْلِسُ، فَإِذَا وَصَلَ الْإِيجَابُ إِلَى الْمُخَاطَبِ، فَكَأَنَّ الْمُوجِبَ حَضَرَ بِنَفْسِهِ وَأَوْجَبَ الْعَقْدَ، فَإِذَا قَبِلَهُ الْمُخَاطَبُ فِي مَجْلِسِهِ دُونَ إِعْرَاضٍ انْعَقَدَ الْعَقْدُ، وَإِذَا انْفَضَّ الْمَجْلِسُ أَوْ صَدَرَ مِمَّنْ وُجِّهَ لَهُ الْإِيجَابُ مَا يَدُلُّ عَلَى إِعْرَاضِهِ عَنِ الْقَبُولِ عُرْفًا لَا يَنْعَقِدُ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي التَّرَاخِي هُوَ مَا بَيْنَ وُصُولِ الْإِيجَابِ وَصُدُورِ الْقَبُولِ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ.

وَلَا يُشْتَرَطُ فِي حَالَةِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ بَيْنَ الْغَائِبَيْنِ عِلْمُ الْمُوجِبِ بِقَبُولِ الْقَابِلِ، فَعِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ صَرِيحَةٌ بِأَنَّ الْعَقْدَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ قَبُولِ الْقَابِلِ فِي الْمَجْلِسِ عُقُودٌ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ:

27- طَبِيعَةُ بَعْضِ الْعُقُودِ تَقْتَضِي أَنْ لَا يُشْتَرَطَ فِيهَا اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، بَلْ إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْعُقُودِ لَا يَصِحُّ فِيهِ الْقَبُولُ فِي الْمَجْلِسِ، وَمِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ:

أ- عَقْدُ الْوَصِيَّةِ، فَإِنَّهَا تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيَصْدُرُ الْإِيجَابُ فِيهَا حَالَ حَيَاةِ الْمُوصِي، لَكِنْ لَا يُعْتَبَرُ الْقَبُولُ مِنَ الْمُوصَى لَهُ إِلاَّ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوصِي، فَإِذَا قَبِلَهَا الْمُوصَى لَهُ فِي مَجْلِسِ الْإِيجَابِ أَوْ بَعْدَهُ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي لَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْوَصِيَّةُ.ر: (وَصِيَّة)

ب- عَقْدُ الْوِصَايَةِ: (الْإِيصَاءُ) فَهِيَ إِقَامَةُ شَخْصٍ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي التَّصَرُّفِ أَوْ فِي تَدْبِيرِ شُئُونِ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ فِي مَجْلِسِ الْإِيجَابِ، بَلْ يَمْتَدُّ زَمَنُهُ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَالْوِصَايَةُ خِلَافَةٌ تَظْهَرُ آثَارُهَا بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوصِي.

ج- عَقْدُ الْوَكَالَةِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ إِقَامَةَ الشَّخْصِ الْغَيْرَ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي تَصَرُّفٍ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ فِي الْحَيَاةِ، لَكِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّيْسِيرِ، فَإِذَا قَبِلَهَا الْوَكِيلُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْإِيجَابِ صَحَّتِ الْوَكَالَةُ، وَلَا يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ الْوَكِيلُ بِسَبَبِ غِيَابِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ الرَّدَّ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ، حَيْثُ إِنَّ الْوَكَالَةَ مِنَ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ.ر: (وَكَالَة)

ثَانِيًا- الْعَاقِدَانِ.

28- الْمُرَادُ بِالْعَاقِدَيْنِ: كُلُّ مَنْ يَتَوَلَّى الْعَقْدَ، إِمَّا أَصَالَةً كَأَنْ يَبِيعَ أَوْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ، أَوْ وَكَالَةً كَأَنْ يَعْقِدَ نِيَابَةً عَنِ الْغَيْرِ بِتَفْوِيضٍ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ، أَوْ وِصَايَةً كَمَنْ يَتَصَرَّفُ خِلَافَةً عَنِ الْغَيْرِ فِي شُئُونِ صِغَارِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِإِذْنٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْحَاكِمِ.

وَحَيْثُ إِنَّ الْعَقْدَ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ مِنْ غَيْرِ عَاقِدٍ فَقَدْ جَعَلَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَرْكَانِ الْعَقْدِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَلِكَيْ يَنْعَقِدَ الْعَقْدُ صَحِيحًا نَافِذًا يُشْتَرَطُ فِي الْعَاقِدَيْنِ مَا يَأْتِي:

الْأَوَّلُ- الْأَهْلِيَّةُ:

29- وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدُ أَهْلاً لِلتَّصَرُّفِ، وَهُوَ: الْبَالِغُ الرَّشِيدُ فَلَا يَصِحُّ مِنْ صَغِيرٍ غَيْرِ مُمَيِّزٍ وَمَجْنُونٍ وَمُبَرْسَمٍ.

أَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَتَصِحُّ عُقُودُهُ وَتَصَرُّفَاتُهُ النَّافِعَةُ نَفْعًا مَحْضًا، كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى إِذْنِ الْوَلِيِّ، وَلَا تَصِحُّ عُقُودُهُ وَتَصَرُّفَاتُهُ الضَّارَّةُ ضَرَرًا مَحْضًا، كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ لِلْغَيْرِ وَالطَّلَاقِ وَالْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ وَنَحْوِهَا، وَلَوْ أَجَازَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَلِيُّهُ أَوْ وَصِيُّهُ.أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الدَّائِرَةُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا فَتَصِحُّ مِنَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ بِإِجَازَةِ الْوَلِيِّ، وَلَا تَصِحُّ بِدُونِهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ فِي الْعَاقِدِ الرُّشْدُ ر: (أَهْلِيَّة ف 18).

الثَّانِي- الْوِلَايَةُ.

30- الْوِلَايَةُ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْوَلْيِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: بِمَعْنَى الْقُرْبِ، وَالْوِلَايَةُ: النُّصْرَةُ وَفِي الِاصْطِلَاحِ: تَنْفِيذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ الْغَيْرُ أَوْ لَا.

وَلِكَيْ يَنْعَقِدَ الْعَقْدُ صَحِيحًا نَافِذًا تَظْهَرُ آثَارُهُ شَرْعًا لَا بُدَّ فِي الْعَاقِدِ- بِجَانِبِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ- أَنْ تَكُونَ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ لِيَعْقِدَ الْعَقْدَ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وِلَايَة).

الثَّالِثُ- الرِّضَا وَالِاخْتِيَارُ:

31- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّضَا أَسَاسُ الْعُقُودِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}.

وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم- : «إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ».

وَالرِّضَا: سُرُورُ الْقَلْبِ وَطِيبُ النَّفْسِ.وَهُوَ ضِدُّ السَّخَطِ وَالْكَرَاهَةِ.

وَعَرَّفَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: بِأَنَّهُ قَصْدُ الْفِعْلِ دُونَ أَنْ يَشُوبَهُ إِكْرَاهٌ

وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ: بِأَنَّهُ امْتِلَاءُ الِاخْتِيَارِ، أَيْ بُلُوغُهُ نِهَايَتَهُ، بِحَيْثُ يُفْضِي أَثَرُهُ إِلَى الظَّاهِرِ مِنَ الْبَشَاشَةِ فِي الْوَجْهِ، أَوْ إِيثَارِ الشَّيْءِ وَاسْتِحْسَانِهِ.

ر: (رِضًا ف 2)

أَمَّا الِاخْتِيَارُ: فَهُوَ الْقَصْدُ إِلَى أَمْرٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ دَاخِلٍ فِي قُدْرَةِ الْفَاعِلِ بِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ

ر: (اخْتِيَار ف 1).

وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ التَّفْرِقَةِ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الرِّضَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعُقُودِ الَّتِي تَقْبَلُ الْفَسْخَ وَهِيَ الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ مِنْ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ وَنَحْوِهِمَا، فَهِيَ لَا تَصِحُّ إِلاَّ مَعَ التَّرَاضِي، وَقَدْ تَنْعَقِدُ الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ لَكِنَّهَا تَكُونُ فَاسِدَةً، كَمَا فِي بَيْعِ الْمُكْرَهِ وَنَحْوِهِ، يَقُولُ الْمَرْغِينَانِيُّ:...لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ هَذِهِ الْعُقُودِ التَّرَاضِي.

فَأَصْلُ الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ بِدُونِ الرِّضَا، لَكِنَّهَا لَا تَكُونُ صَحِيحَةً، فَيَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمُخْطِئِ نَظَرًا إِلَى أَصْلِ الِاخْتِيَارِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ صَدَرَ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِ، أَوْ بِإِقَامَةِ الْبُلُوغِ مَقَامَ الْقَصْدِ، لَكِنْ يَكُونُ فَاسِدًا لِعَدَمِ الرِّضَا حَقِيقَةً، أَمَّا الْعُقُودُ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْفَسْخَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَالرِّضَا لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّتِهَا، فَيَصِحُّ عِنْدَهُمُ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالرَّجْعَةُ وَنَحْوُهَا حَتَّى مَعَ الْإِكْرَاهِ.

أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فَتَدُورُ عِبَارَاتُهُمْ بَيْنَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ الرِّضَا أَصْلٌ أَوْ أَسَاسٌ أَوْ شَرْطٌ لِلْعُقُودِ كُلِّهَا، فَلَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الرِّضَا سَوَاءٌ أَكَانَ مَالِيًّا أَوْ غَيْرَ مَالِيٍّ.

ر: (رِضًا ف 13)

عُيُوبُ الرِّضَا.

32- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي عُيُوبِ الرِّضَا: الْإِكْرَاهَ وَالْجَهْلَ، وَالْغَلَطَ، وَالتَّدْلِيسَ، وَالْغَبْنَ، وَالتَّغْرِيرَ، وَالْهَزْلَ، وَالْخِلَابَةَ، وَنَحْوَهَا، فَإِذَا وُجِدَ عَيْبٌ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ فِي عَقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ يَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلاً أَوْ فَاسِدًا فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالْحَنَفِيَّةِ، أَوْ غَيْرَ لَازِمٍ يَكُونُ لِكِلَا الْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِهِ فِي حَالَاتٍ أُخْرَى.

وَتَعْرِيفُ هَذِهِ الْعُيُوبِ وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِهَا وَأَثَرُهَا عَلَى الرِّضَا وَخِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا مِنَ الْمَوْسُوعَةِ.

ثَالِثًا- مَحَلُّ الْعَقْدِ.

33- الْمُرَادُ بِمَحَلِّ الْعَقْدِ: مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ وَتَظْهَرُ فِيهِ أَحْكَامُهُ وَآثَارُهُ، وَيَخْتَلِفُ الْمَحَلُّ بِاخْتِلَافِ الْعُقُودِ، فَقَدْ يَكُونُ الْمَحَلُّ عَيْنًا مَالِيَّةً، كَالْمَبِيعِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، وَالْمَوْهُوبِ فِي عَقْدِ الْهِبَةِ، وَالْمَرْهُونِ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ، وَقَدْ يَكُونُ عَمَلاً مِنَ الْأَعْمَالِ، كَعَمَلِ الْأَجِيرِ فِي الْإِجَارَةِ، وَعَمَلِ الزَّارِعِ فِي الْمُزَارَعَةِ، وَعَمَلِ الْوَكِيلِ فِي الْوَكَالَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْفَعَةَ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، كَمَنْفَعَةِ الْمَأْجُورِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَمَنْفَعَةِ الْمُسْتَعَارِ فِي عَقْدِ الْإِعَارَةِ، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ كَمَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَالْكَفَالَةِ وَنَحْوِهِمَا.

وَلِهَذَا فَقَدِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي مَحَلِّ الْعَقْدِ شُرُوطًا تَكَلَّمُوا عَنْهَا فِي كُلِّ عَقْدٍ وَذَكَرُوا بَعْضَ الشُّرُوطِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَجِبُ تَوَافُرُهَا فِي الْعُقُودِ عَامَّةً أَوْ فِي مَجْمُوعَةٍ مِنَ الْعُقُودِ، مِنْهَا: أ- وُجُودُ الْمَحَلِّ:

34- يَخْتَلِفُ اشْتِرَاطُ هَذَا الشَّرْطِ بِاخْتِلَافِ الْعُقُودِ: فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى وُجُودِ الْمَحَلِّ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَمْ يُوجَدْ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم- : «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ»؛ وَلِأَنَّ فِي بَيْعِ مَا لَمْ يُوجَدْ غَرَرًا وَجَهَالَةً فَيُمْنَعُ، لِحَدِيثِ: أَنَّ «النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» وَعَلَى ذَلِكَ صَرَّحُوا بِبُطْلَانِ بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ وَحَبَلِ الْحُبْلَةِ.

وَمَنَعُوا مِنْ بَيْعِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ قَبْلَ ظُهُورِهَا، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم- : «أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟».

وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ عَقْدَ السَّلَمِ وَذَلِكَ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ

كَمَا اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ عَقْدَ الِاسْتِصْنَاعِ لِلدَّلِيلِ نَفْسِهِ ر: (اسْتِصْنَاع ف 7).

أَمَّا بَيْعُ الزَّرْعِ أَوِ الثَّمَرِ قَبْلَ ظُهُورِهِمَا فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ وَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى الْمَعْدُومِ، أَمَّا بَعْدَ الظُّهُورِ وَقَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ فَإِنْ كَانَ الثَّمَرُ أَوِ الزَّرْعُ بِحَالٍ يُنْتَفَعُ بِهِمَا فَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَالِ اتِّفَاقًا لِعَدَمِ الْغَرَرِ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي بَيْعِ الثِّمَارِ الْمُتَلَاحِقَةِ الظُّهُورِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (ثِمَار ف 11- 13).

وَفِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ اعْتَبَرَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَنَافِعَ أَمْوَالاً، وَاعْتَبَرَهَا كَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مَوْجُودَةً حِينَ الْعَقْدِ تَقْدِيرًا، فَيَصِحُّ التَّعَاقُدُ عَلَيْهَا بِنَاءً عَلَى وُجُودِ الْمَنَافِعِ حِينَ الْعَقْدِ عِنْدَهُمْ، وَلِهَذَا يَقُولُونَ بِنَقْلِ مِلْكِيَّةِ الْمَنَافِعِ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَالْأُجْرَةِ لِلْمُؤَجِّرِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فِي الْإِجَارَةِ الْمُطْلَقَةِ.

وَعَلَّلَ الْمَالِكِيَّةُ جَوَازَ الْإِجَارَةِ بِأَنَّ الْمَنَافِعَ وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً فِي حَالِ الْعَقْدِ لَكِنَّهَا مُسْتَوْفَاةٌ فِي الْغَالِبِ، وَالشَّرْعُ إِنَّمَا لَحَظَ مِنَ الْمَنَافِعِ مَا يُسْتَوْفَى فِي الْغَالِبِ أَوْ يَكُونُ اسْتِيفَاؤُهُ وَعَدَمُ اسْتِيفَائِهِ سَوَاءً.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ أَجَازُوا عَقْدَ الْإِجَارَةِ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْقَاعِدَةِ؛ لِوُرُودِ النُّصُوصِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي جَوَازِ الْإِجَارَةِ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: الْإِجَارَةُ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ، وَالْمَنَافِعُ لِلْحَالِ مَعْدُومَةٌ، وَالْمَعْدُومُ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ، فَلَا تَجُوزُ إِضَافَةُ الْبَيْعِ إِلَى مَا يُؤْخَذُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، لَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: جَوَازُ الْإِجَارَةِ مُوَافِقَةٌ لِلْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْعَقْدِ إِذَا أَمْكَنَ التَّعَاقُدُ عَلَيْهِ فِي حَالِ وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ- كَالْأَعْيَانِ- فَالْأَصْلُ فِيهِ عَدَمُ جَوَازِ الْعَقْدِ حَالَ عَدَمِهِ لِلْغَرَرِ، مَعَ ذَلِكَ جَازَ الْعَقْدُ عَلَى مَا لَمْ يُوجَدْ إِذَا دَعَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ.

أَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلاَّ حَالٌ وَاحِدَةٌ، وَالْغَالِبُ فِيهِ السَّلَامَةُ- كَالْمَنَافِعِ- فَلَيْسَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ مُخَاطَرَةً وَلَا قِمَارًا فَيَجُوزُ، وَقِيَاسُهُ عَلَى بَيْعِ الْأَعْيَانِ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ.

35- وَفَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الشَّرْطِ بَيْنَ عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ وَعُقُودِ التَّبَرُّعِ، فَقَالُوا بِعَدَمِ جَوَازِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنَ الْعُقُودِ فِي حَالِ عَدَمِ وُجُودِ مَحَلِّهَا، وَأَجَازُوا النَّوْعَ الثَّانِيَ فِي حَالَةِ وُجُودِ الْمَحَلِّ وَعَدَمِهِ.

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ مَا يَخْتَصُّ بِعُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ كَالْهِبَةِ مَثَلاً يَجُوزُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعُ الْعَقْدِ (الْمَوْهُوبُ) غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ، بَلْ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، أَوْ غَيْرَ مَعْلُومٍ فِعْلاً، فَالْغَرَرُ فِي الْهِبَةِ لِغَيْرِ الثَّوَابِ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ، وَلِهَذَا صَرَّحُوا بِأَنَّ مَنْ وَهَبَ لِرَجُلٍ مَا يَرِثُهُ مِنْ فُلَانٍ- وَهُوَ لَا يَدْرِي كَمْ هُوَ؟ أَسُدُسٌ أَوْ رُبُعٌ فَذَلِكَ جَائِزٌ.

وَفِي الرَّهْنِ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعُ الْعَقْدِ (الْمَرْهُونُ) غَيْرَ مَوْجُودٍ حِينَ الْعَقْدِ، كَثَمَرَةٍ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا، فَشَيْءٌ يُوثَقُ بِهِ خَيْرٌ مِنْ عَدَمِهِ، كَمَا يَقُولُونَ

وَهَذَا بِخِلَافِ عَقْدِ الْبَيْعِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ.

ب- قَابِلِيَّةُ الْمَحَلِّ لِحُكْمِ الْعَقْدِ:

36- يُشْتَرَطُ فِي مَحَلِّ الْعَقْدِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ قَابِلاً لِحُكْمِ الْعَقْدِ.

وَالْمُرَادُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ: الْأَثَرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الْعَقْدِ، وَيَخْتَلِفُ هَذَا حَسْبَ اخْتِلَافِ الْعُقُودِ، فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً أَثَرُ الْعَقْدِ هُوَ انْتِقَالُ مِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ مِنَ الْبَائِعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَالاً مُتَقَوِّمًا مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ، فَمَا لَمْ يَكُنْ مَالاً بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ: وَهُوَ مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ الطَّبْعُ وَيَجْرِي فِيهِ الْبَذْلُ وَالْمَنْعُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ مَثَلاً عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ.وَكَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا، أَيْ: مُنْتَفَعًا بِهِ شَرْعًا، كَبَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَإِنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا مَالاً عِنْدَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنَّهُمَا لَيْسَا مُتَقَوِّمَيْنِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، فَحَرُمَ بَيْعُهُمَا كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ - رضي الله عنه- : «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَا بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ»

وَفِي عُقُودِ الْمَنْفَعَةِ كَعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَنَحْوِهِمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْعَقْدِ- أَيِ الْمَنْفَعَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا- مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً مُبَاحَةً، فَلَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى الْمَنَافِعِ الْمُحَرَّمَةِ كَالزِّنَا وَالنَّوْحِ وَنَحْوِهِمَا كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَارَة ف 108).

وَكَمَا لَا يَجُوزُ إِجَارَةُ الْمَنَافِعِ الْمُحَرَّمَةِ لَا يَجُوزُ إِعَارَتُهَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْعَارِيَّةِ إِمْكَانُ الِانْتِفَاعِ بِمَحَلِّ الْعَقْدِ (الْمُعَارِ أَوِ الْمُسْتَعَارِ) انْتِفَاعًا مُبَاحًا شَرْعًا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، كَالدَّارِ لِلسُّكْنَى، وَالدَّابَّةِ لِلرُّكُوبِ، مَثَلاً فَلَا يَجُوزُ إِعَارَةُ الْفُرُوجِ لِلِاسْتِمْتَاعِ، وَلَا آلَاتِ الْمَلَاهِي لِلَّهْوِ، كَمَا لَا تَصِحُّ الْإِعَارَةُ لِلْغِنَاءِ أَوِ الزَّمْرِ أَوْ نَحْوِهِمَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، فَالْإِعَارَةُ لَا تُبِيحُ مَا لَا يُبِيحُهُ الشَّرْعُ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَارِيَّةً).

وَفِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ يُشْتَرَطُ فِي الْمَحَلِّ (الْمُوَكَّلِ بِهِ) أَنْ يَكُونَ قَابِلاً لِلِانْتِقَالِ لِلْغَيْرِ وَالتَّفْوِيضِ فِيهِ، وَلَا يَكُونَ خَاصًّا بِشَخْصِ الْمُوَكِّلِ، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي مُصْطَلَحِ: (وَكَالَة).

ج- مَعْلُومِيَّةُ الْمَحَلِّ لِلْعَاقِدَيْنِ:

37- يُشْتَرَطُ فِي الْمَحَلِّ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا وَمَعْرُوفًا لِلْعَاقِدَيْنِ، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهِ جَهَالَةٌ تُؤَدِّي إِلَى النِّزَاعِ وَالْغَرَرِ.

وَيَحْصُلُ الْعِلْمُ بِمَحَلِّ الْعَقْدِ بِكُلِّ مَا يُمَيِّزُهُ عَنِ الْغَيْرِ مِنْ رُؤْيَتِهِ أَوْ رُؤْيَةِ بَعْضِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، أَوْ بِوَصْفِهِ وَصْفًا يَكْشِفُ عَنْهُ تَمَامًا، أَوْ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ.

وَهَذَا الشَّرْطُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ فِي الْجُمْلَةِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَاةٍ مِنَ الْقَطِيعِ مَثَلاً وَلَا إِجَارَةُ إِحْدَى هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي مَحَلِّ الْعَقْدِ: (الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ) تُسَبِّبُ الْغَرَرَ وَتُفْضِي إِلَى النِّزَاعِ.

وَفَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ- وَهِيَ الَّتِي تُفْضِي إِلَى النِّزَاعِ- وَبَيْنَ الْجَهَالَةِ الْيَسِيرَةِ- وَهِيَ: الَّتِي لَا تُفْضِي إِلَى النِّزَاعِ- فَمَنَعُوا الْأُولَى وَأَجَازُوا الثَّانِيَةَ.

وَجَعَلَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْعُرْفَ حَكَمًا فِي تَعْيِينِ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الْإِجَارَةُ مِنْ مَنْفَعَةٍ، وَتَمْيِيزِ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ عَنِ الْجَهَالَةِ الْيَسِيرَةِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (بَيْع ف 32) (وَالْإِجَارَةُ ف 34).

وَفِي عَقْدِ السَّلَمِ يُشْتَرَطُ فِي الْمَحَلِّ: (الْمُسْلَمِ فِيهِ) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ، كَيْلاً أَوْ وَزْنًا أَوْ عَدًّا أَوْ ذَرْعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي كُلٍّ مِنْهَا تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ».

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (سَلَم).

هَذَا فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


122-موسوعة الفقه الكويتية (غسل 2)

غُسْلٌ -2

وَهُنَاكَ مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِتَعْمِيمِ الْبَشَرَةِ وَالشَّعْرِ بِالْمَاءِ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:

أ- الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ:

25- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي الْغُسْلِ، قَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْفَمُ وَالْأَنْفُ مِنَ الْوَجْهِ لِدُخُولِهِمَا فِي حَدِّهِ، فَتَجِبُ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى فَلَا يَسْقُطُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ مِنَ الْوُضُوءِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ».

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «أَمَرَ بِالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ».وَلِأَنَّ الْفَمَ وَالْأَنْفَ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّائِمَ لَا يُفْطِرُ بِوُصُولِ شَيْءٍ إِلَيْهِمَا، وَيُفْطِرُ بِعَوْدِ الْقَيْءِ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَيْهِمَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي الْغُسْلِ، لِأَنَّ الْفَمَ وَالْأَنْفَ لَيْسَا مِنْ ظَاهِرِ الْجَسَدِ فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُمَا، وَاعْتَبَرُوا غَسْلَهُمَا مِنْ سُنَنِ الْغُسْلِ.

ب- نَقْضُ الضَّفَائِرِ:

26- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ نَقْضُ الضَّفَائِرِ فِي الْغُسْلِ إِذَا كَانَ الْمَاءُ يَصِلُ إِلَى أُصُولِهَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي فَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ؟ قَالَ: لَا، إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ» فَإِذَا لَمْ يَصِلِ الْمَاءُ إِلَى أُصُولِ الضَّفَائِرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ نَقْضُهَا فِي الْجُمْلَةِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَإِذَا لَمْ يَبْتَلَّ أَصْلُهَا، بِأَنْ كَانَ مُتَلَبِّدًا أَوْ غَزِيرًا أَوْ مَضْفُورًا ضَفْرًا شَدِيدًا لَا يَنْفُذُ فِيهِ الْمَاءُ يَجِبُ نَقْضُهَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَجِبُ نَقْضُ الضَّفَائِرِ مَا لَمْ يَشْتَدَّ بِنَفْسِهِ أَوْ ضُفِّرَ بِخُيُوطٍ كَثِيرَةٍ، سَوَاءٌ اشْتَدَّ الضَّفْرُ أَمْ لَا.وَالْمُرَادُ بِهَا مَا زَادَ عَلَى الِاثْنَيْنِ فِي الضَّفِيرَةِ، وَكَذَا مَا ضُفِرَ بِخَيْطٍ أَوْ خَيْطَيْنِ مَعَ الِاشْتِدَادِ، وَصَرَّحُوا بِوُجُوبِ ضَغْثِ مَضْفُورِ الشَّعْرِ- أَيْ جَمْعِهِ وَضَمِّهِ وَتَحْرِيكِهِ- لِيُدَاخِلَهُ الْمَاءُ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَإِنْ كَانَتْ عَرُوسًا تُزَيِّنُ شَعْرَهَا، وَفِي الْبُنَانِيِّ وَغَيْرِهِ: أَنَّ الْعَرُوسَ الَّتِي تُزَيِّنُ شَعْرَهَا لَيْسَ عَلَيْهَا غُسْلُ رَأْسِهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِتْلَافِ الْمَالِ، وَيَكْفِيهَا الْمَسْحُ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ نَقْضُ الضَّفَائِرِ إِنْ لَمْ يَصِلِ الْمَاءُ إِلَى بَاطِنِهَا إِلاَّ بِالنَّقْضِ، بِخِلَافِ مَا تَعَقَّدَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَجِبُ نَقْضُهُ وَإِنْ كَثُرَ، فَإِنْ كَانَ بِفِعْلٍ عُفِيَ عَنْ قَلِيلِهِ، وَلَوْ بَقِيَ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَثَلًا شَيْءٌ وَلَوْ وَاحِدَةٌ بِلَا غُسْلٍ، ثُمَّ أَزَالَهَا بِقَصٍّ أَوْ نَتْفٍ مَثَلًا لَمْ يَكْفِ، فَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِ مَوْضِعِهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَزَالَهُ بَعْدَ غَسْلِهَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعْرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يَغْسِلْهَا فُعِلَ بِهِ كَذَا وَكَذَا مِنَ النَّارِ» قَالَ عَلِيٌّ: فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْتُ شَعْرَ رَأْسِي.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ كَالْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يَكْفِي لِلرَّجُلِ بَلُّ ضَفِيرَتِهِ، فَيَنْقُضُهَا وُجُوبًا لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ وَلِلِاحْتِيَاطِ وَلِإِمْكَانِ حَلْقِهِ.وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يَجِبُ؛ نَظَرًا إِلَى الْعَادَةِ.

وَوَافَقَ الْحَنَابِلَةُ الْجُمْهُورَ فِي عَدَمِ وُجُوبِ نَقْضِ الشَّعْرِ الْمَضْفُورِ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ إِذَا رُوَتْ أُصُولُهُ، وَخَالَفُوهُمْ فِي غُسْلِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ حَيْثُ قَالُوا بِوُجُوبِ النَّقْضِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهَا: «انْقُضِي شَعْرَكَ وَامْتَشِطِي» وَلَا يَكُونُ الْمَشْطُ إِلاَّ فِي شَعْرٍ غَيْرِ مَضْفُورٍ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ نَقْضِ الشَّعْرِ لِتَحَقُّقِ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى مَا يَجِبُ غَسْلُهُ.فَعُفِيَ عَنْهُ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ؛ لِأَنَّهُ يَكْثُرُ، فَشَقَّ ذَلِكَ فِيهِ، وَالْحَيْضُ بِخِلَافِهِ، فَبَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ فِي الْوُجُوبِ، وَالنِّفَاسُ فِي مَعْنَى الْحَيْضِ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هَذَا مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ: - صلى الله عليه وسلم- «إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي فَأَنْقُضُهُ لِلْحَيْضَةِ وَالْجَنَابَةِ؟ فَقَالَ: لَا، إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ» وَهِيَ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ.

الثَّالِثَةُ- الْمُوَالَاةُ:

27- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُوَالَاةِ هَلْ هِيَ مِنْ فَرَائِضِ الْغُسْلِ أَوْ مِنْ سُنَنِهِ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى سُنِّيَّةِ الْمُوَالَاةِ فِي غَسْلِ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ لِفِعْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا فَاتَتِ الْمُوَالَاةُ قَبْلَ إِتْمَامِ الْغُسْلِ، بِأَنْ جَفَّ مَا غَسَلَهُ مِنْ بَدَنِهِ بِزَمَنٍ مُعْتَدِلٍ وَأَرَادَ أَنْ يُتِمَّ غُسْلَهُ- جَدَّدَ لِإِتْمَامِهِ نِيَّةً وُجُوبًا، لِانْقِطَاعِ النِّيَّةِ بِفَوَاتِ الْمُوَالَاةِ، فَيَقَعُ غَسْلُ مَا بَقِيَ بِدُونِ نِيَّةٍ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَالَاةَ مِنْ فَرَائِضِ الْغُسْلِ.

الرَّابِعَةُ- الدَّلْكُ:

28- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دَلْكَ الْأَعْضَاءِ فِي الْغُسْلِ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ؛ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِأَبِي ذَرٍّ- رضي الله عنه-: فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ جِلْدَكَ» وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِزِيَادَةٍ.وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِأُمِّ سَلَمَةَ «إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ».وَلِأَنَّهُ غُسْلٌ فَلَا يَجِبُ إِمْرَارُ الْيَدِ فِيهِ.كَغُسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْمُزَنِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الدَّلْكَ فَرِيضَةٌ مِنْ فَرَائِضِ الْغُسْلِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْغُسْلَ هُوَ إِمْرَارُ الْيَدِ.وَلَا يُقَالُ لِوَاقِفٍ فِي الْمَطَرِ اغْتَسَلَ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ يُشْتَرَطُ فِيهِ إِمْرَارُ الْيَدِ فَكَذَا هُنَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: هُوَ وَاجِبٌ لِنَفْسِهِ لَا لِإِيصَالِ الْمَاءِ لِلْبَشَرَةِ، فَيُعِيدُ تَارِكُهُ أَبَدًا، وَلَوْ تَحَقَّقَ وُصُولُ الْمَاءِ لِلْبَشَرَةِ لِطُولِ مُكْثِهِ مَثَلًا فِي الْمَاءِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ وَاجِبٌ لِإِيصَالِ الْمَاءِ لِلْبَشَرَةِ، وَاخْتَارَهُ عَلِيٌّ الْأُجْهُورِيُّ لِقُوَّةِ مُدْرَكِهِ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مُقَارَنَةُ الدَّلْكِ لِلْمَاءِ، بَلْ يُجْزِئُ وَلَوْ بَعْدَ صَبِّ الْمَاءِ وَانْفِصَالِهِ مَا لَمْ يَجِفَّ الْجَسَدُ، فَلَا يُجْزِئُ الدَّلْكُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِأَنَّهُ صَارَ مَسْحًا لَا غُسْلًا، وَصَرَّحُوا بِجَوَازِ الدَّلْكِ بِالْخِرْقَةِ، يُمْسِكُ طَرَفَهَا بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَالطَّرَفَ الْآخَرَ بِالْيُسْرَى وَيُدَلِّكُ بِوَسَطِهَا، فَإِنَّهُ يَكْفِي ذَلِكَ وَلَوْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الدَّلْكِ بِالْيَدِ.وَكَذَا لَوْ لَفَّ الْخِرْقَةَ عَلَى يَدِهِ أَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي كِيسٍ فَدَلَّكَ بِهِ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ مَتَى تَعَذَّرَ الدَّلْكُ بِالْيَدِ سَقَطَ عَنْهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّلْكُ بِالْخِرْقَةِ وَلَا الِاسْتِنَابَةُ.

سُنَنُ الْغُسْلِ:

أ- التَّسْمِيَةُ:

29- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْغُسْلِ، وَعَدَّهَا الْمَالِكِيَّةُ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ، لِعُمُومِ حَدِيثِ: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَقْطَعُ»

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ وَجْهٌ حَكَاهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُ لَا تُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ لِلْجُنُبِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ ذِكْرٌ، وَلَا يَكُونُ قُرْآنًا إِلاَّ بِالْقَصْدِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ التَّسْمِيَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُذْكَرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» قِيَاسًا لِإِحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ مَسْنُونَةٌ فِي طَهَارَةِ الْأَحْدَاثِ كُلِّهَا، وَعَنْهُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فِيهَا كُلِّهَا: الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ.

وَقَالَ الْخَلاَّلُ: الَّذِي اسْتَقَرَّتِ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ.

وَلَفْظُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِاسْمِ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: الْأَفْضَلُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: صِفَةُ التَّسْمِيَةِ بِسْمِ اللَّهِ، فَإِذَا زَادَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ جَازَ، وَلَا يُقْصَدُ بِهَا الْقُرْآنُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: صِفَتُهَا بِسْمِ اللَّهِ، وَلَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، فَلَوْ قَالَ: بِسْمِ الرَّحْمَنِ، أَوِ الْقُدُّوسِ، أَوْ نَحْوِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ، لَكِنْ قَالَ الْبُهُوتِيُّ: الظَّاهِرُ إِجْزَاؤُهَا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَلَوْ مِمَّنْ يُحْسِنُهَا- كَمَا فِي التَّذْكِيَةِ- إِذْ لَا فَرْقَ.

وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَبْتَدِئَ النِّيَّةَ مَعَ التَّسْمِيَةِ، وَمُصَاحِبَةً لَهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

قَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَقْتُهَا عِنْدَ أَوَّلِ الْوَاجِبَاتِ وُجُوبًا، وَأَوَّلِ الْمَسْنُونَاتِ اسْتِحْبَابًا.

ب- غُسْلُ الْكَفَّيْنِ:

30- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ فِي الْغُسْلِ غُسْلُ الْيَدَيْنِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ ثَلَاثًا ابْتِدَاءً قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ.لِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «وَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مَاءً لِلْغُسْلِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا».

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: هَذَا إِذَا كَانَ الْمَاءُ غَيْرَ جَارٍ وَكَانَ يَسِيرًا وَأَمْكَنَ الْإِفْرَاغُ مِنْهُ، وَإِلاَّ فَلَا تَتَوَقَّفُ سُنِّيَّةُ غُسْلِهِمَا عَلَى الْأَوَّلِيَّةِ. ج- إِزَالَةُ الْأَذَى:

31- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَكْمَلُ الْغُسْلِ إِزَالَةُ الْقَذِرِ طَاهِرًا كَانَ كَالْمَنِيِّ، أَوْ نَجَسًا كَوَدْيٍ اسْتِظْهَارًا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ بَعْدَ غَسْلِ الْيَدَيْنِ الْبَدْءُ بِإِزَالَةِ الْخَبَثِ عَنْ جَسَدِهِ، سَوَاءٌ كَانَ بِفَرْجٍ أَوْ غَيْرِهِ، لِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ- رضي الله عنها- فِي صِفَةِ غُسْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ» قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: السُّنَّةُ نَفْسُ الْبُدَاءَةِ بِغُسْلِ النَّجَاسَةِ.وَأَمَّا نَفْسُ غُسْلِهَا فَلَا بُدَّ مِنْهُ وَلَوْ قَلِيلَةً.

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُسَنُّ غُسْلُ الْفَرْجِ مَعَ الْبُدَاءَةِ بِغُسْلِ الْيَدَيْنِ.وَذَلِكَ بِأَنْ يُفِيضَ الْمَاءَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَيْهِ فَيَغْسِلَهُ بِالْيُسْرَى، ثُمَّ يُنَقِّيَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ خَبَثٌ اتِّبَاعًا لِلْحَدِيثِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ يُنْدَبُ الْبَدْءُ بِإِزَالَةِ الْأَذَى أَيِ النَّجَاسَةِ فِي الْغُسْلِ. د- الْوُضُوءُ:

32- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ فِي الْغُسْلِ الْوُضُوءُ كَامِلًا، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ».وَعَدَّهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَحَلِّ غُسْلِ الرِّجْلَيْنِ، هَلْ يَغْسِلُهُمَا فِي وُضُوئِهِ أَوْ فِي آخِرِ غُسْلِهِ؟

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ.وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُؤَخِّرُ غَسْلَ قَدَمَيْهِ إِلَى آخِرِ الْغُسْلِ، بَلْ يُكْمِلُ الْوُضُوءَ بِغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ كَانَ وَاقِفًا فِي مَحَلٍّ يَجْتَمِعُ فِيهِ مَاءُ الْغُسْلِ، وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلٌ إِنَّهُ يُؤَخِّرُ غُسْلَ قَدَمَيْهِ مُطْلَقًا، وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهُوَ ظَاهِرُ إِطْلَاقِ الْأَكْثَرِ، وَإِطْلَاقِ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ، قَالَ النَّوَوِيُّ عَنْ قَوْلَيْ الشَّافِعِيَّةِ: وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ إِنَّمَا هُمَا فِي الْأَفْضَلِ، وَإِلاَّ فَكَيْفَ فَعَلَ حَصَلَ الْوُضُوءُ، وَقَدْ ثَبَتَ الْأَمْرَانِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ إِنْ كَانَ فِي مَكَانٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ فَيُؤَخِّرُ غُسْلَ قَدَمَيْهِ.وَإِلاَّ غَسَلَهُمَا فِي الْوُضُوءِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ.صَحَّحَهُ فِي الْمُجْتَبَى، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْهِدَايَةِ وَالْمَبْسُوطِ وَالْكَافِي.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِأَنَّ غُسْلَ رِجْلَيْهِ مَعَ الْوُضُوءِ وَتَأْخِيرَ غُسْلِهِمَا حَتَّى يَغْتَسِلَ سَوَاءٌ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ إِلَى نَدْبِ تَأْخِيرِ غُسْلِ الرِّجْلَيْنِ بَعْدَ فَرَاغِ الْغُسْلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ بِتَأْخِيرِ غُسْلِهِمَا فِي الْأَحَادِيثِ كَحَدِيثِ مَيْمُونَةَ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْإِطْلَاقُ، وَالْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ.

هـ- الْبَدْءُ بِالْيَمِينِ:

33- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْبَدْءِ بِالْيَمِينِ عِنْدَ غُسْلِ الْجَسَدِ، وَهُوَ مِنْ مَنْدُوبَاتِ الْغُسْلِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِحَدِيثِ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- «كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي طَهُورِهِ» وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ دَعَا بِشَيْءٍ نَحْوَ الْحِلَابِ، فَأَخَذَ بِكَفِّهِ، ثُمَّ بَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ الْأَيْسَرِ».

و- الْبَدْءُ بِأَعْلَى الْبَدَنِ:

34- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ عِنْدَ غُسْلِ الْجَسَدِ الْبَدْءُ بِأَعْلَاهُ.

وَوَافَقَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ، لَكِنَّهُمْ عَدُّوهُ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ.

ز- تَثْلِيثُ الْغُسْلِ:

35- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ تَثْلِيثَ غُسْلِ الْأَعْضَاءِ فِي الْغُسْلِ سُنَّةٌ، لِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ- رضي الله عنها-: «ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ» وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ فَيُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي أُصُولِ الشَّعْرِ، حَتَّى إِذَا رَأَى أَنْ قَدِ اسْتَبْرَأَ، حَفَنَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ» وَأَمَّا بَاقِي أَعْضَاءِ الْجَسَدِ فَقِيَاسًا عَلَى الْوُضُوءِ.

قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: إِنْ كَانَ الْمَاءُ جَارِيًا كَفَى فِي التَّثْلِيثِ أَنْ يُمِرَّ عَلَيْهِ ثَلَاثًا جِرْيَاتٍ، وَإِنْ كَانَ رَاكِدًا انْغَمَسَ فِيهِ ثَلَاثًا، بِأَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ مِنْهُ وَيَنْقُلَ قَدَمَيْهِ، أَوْ يَنْتَقِلَ فِيهِ مِنْ مَقَامِهِ إِلَى آخَرَ ثَلَاثًا، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى انْفِصَالِ جُمْلَتِهِ وَلَا رَأْسِهِ، فَإِنَّ حَرَكَتَهُ تَحْتَ الْمَاءِ كَجَرْيِ الْمَاءِ عَلَيْهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى نَدْبِ تَثْلِيثِ غُسْلِ الرَّأْسِ فَقَطْ، وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْأَعْضَاءِ فَاعْتَمَدَ الدَّرْدِيرُ كَرَاهَةَ غُسْلِهَا أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَاعْتَمَدَ الْبُنَانِيُّ تَكْرَارَ غُسْلِ الْأَعْضَاءِ.

36- وَهُنَاكَ سُنَنٌ أُخْرَى مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْرُ الْمَاءِ الْمُغْتَسَلِ بِهِ صَاعًا لِحَدِيثِ سَفِينَةَ- رضي الله عنه-: «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُغَسِّلُهُ الصَّاعُ مِنَ الْمَاءِ مِنَ الْجَنَابَةِ وَيُوَضِّئُهُ الْمُدُّ».

وَقَدَّرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِالصَّاعِ الْعِرَاقِيِّ وَهُوَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ، وَقَدَّرَهُ صَاحِبَاهُ بِالصَّاعِ الْحِجَازِيِّ وَهُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٍ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: نَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مَا يُجْزِئُ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِمِقْدَارٍ، وَمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْ أَنَّ أَدْنَى مَا يَكْفِي فِي الْغُسْلِ صَاعٌ وَفِي الْوُضُوءِ مُدٌّ لِحَدِيثِ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ، وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ» لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ، بَلْ هُوَ بَيَانُ أَدْنَى الْقَدْرِ الْمَسْنُونِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ أَسْبَغَ بِدُونِ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكْفِهِ زَادَ عَلَيْهِ.لِأَنَّ طِبَاعَ النَّاسِ وَأَحْوَالَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ.

وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: الْمَدَارُ عَلَى الْإِحْكَامِ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَجْسَامِ.

وَبَعْدَ أَنْ قَرَّرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ مَاءُ الْغُسْلِ عَنْ صَاعٍ، قَالُوا: وَلَا حَدَّ لَهُ فَلَوْ نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ وَأَسْبَغَ كَفَى.

37- وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ سُنَنَ الْغُسْلِ كَسُنَنِ الْوُضُوءِ سِوَى التَّرْتِيبِ وَالدُّعَاءِ، وَآدَابَهُ كَآدَابِ الْوُضُوءِ.

وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يَبْتَدِئَ فِي حَالِ صَبِّ الْمَاءِ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ عَلَى مَيَامِنِهِ، ثُمَّ عَلَى مَيَاسِرِهِ كَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-، وَيُسَنُّ السِّوَاكُ أَيْضًا فِي الْغُسْلِ.

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ مُطْلَقًا، أَمَّا كَلَامُ النَّاسِ فَلِكَرَاهَتِهِ حَالَ الْكَشْفِ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ فَلِأَنَّهُ فِي مَصَبِّ الْمُسْتَعْمَلِ وَمَحَلِّ الْأَقْذَارِ وَالْأَوْحَالِ.

وَصَرَّحُوا بِأَنَّ مِنْ آدَابِ الْغُسْلِ: أَنْ يَغْتَسِلَ بِمَكَانٍ لَا يَرَاهُ فِيهِ أَحَدٌ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ لِعَوْرَتِهِ؛ لِاحْتِمَالِ ظُهُورِهَا فِي حَالِ الْغُسْلِ أَوْ لُبْسِ الثِّيَابِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسِّتْرَ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ».

وَيُسْتَحَبُّ أَيْضًا أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ سُبْحَةً بَعْدَ الْغُسْلِ كَالْوُضُوءِ لِأَنَّهُ يَشْمَلُهُ.

38- وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ مَسْحُ صِمَاخِ (ثَقْبِ) الْأُذُنَيْنِ فِي الْغُسْلِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَحْمِلَ الْمَاءَ فِي يَدَيْهِ وَإِمَالَةِ رَأْسِهِ حَتَّى يُصِيبَ الْمَاءُ بَاطِنَ أُذُنَيْهِ وَلَا يَصُبُّ الْمَاءَ فِي أُذُنَيْهِ صَبًّا؛ لِأَنَّهُ يُورِثُ الضَّرَرَ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: السُّنَّةُ هُنَا مَسْحُ الثَّقْبِ الَّذِي هُوَ الصِّمَاخُ، وَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَيَجِبُ غُسْلُهُ.

39- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مِنَ السُّنَنِ اسْتِصْحَابُ النِّيَّةِ إِلَى آخِرِ الْغُسْلِ، وَأَنْ لَا يَغْتَسِلَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ وَلَوْ كَثُرَ، وَأَنْ يَكُونَ اغْتِسَالُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ بَعْدَ بَوْلٍ لِئَلاَّ يَخْرُجَ بَعْدَهُ مَنِيٌّ.

وَيُسَنُّ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ فَرَاغِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ وَيَتْرُكَ الِاسْتِعَانَةَ وَالتَّنْشِيفَ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُخَلِّلَ أُصُولَ شَعْرِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ بِمَاءٍ قَبْلَ إِفَاضَتِهِ عَلَيْهِ. مَكْرُوهَاتُ الْغُسْلِ:

40- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مِنْ مَكْرُوهَاتِ الْغُسْلِ الْإِسْرَافُ فِي الْمَاءِ.

وَمِنَ الْمَكْرُوهَاتِ ضَرْبُ الْوَجْهِ بِالْمَاءِ، وَالتَّكَلُّمُ بِكَلَامِ النَّاسِ، وَالِاسْتِعَانَةُ بِالْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَرَجَّحَ الطَّحْطَاوِيُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالِاسْتِعَانَةِ، وَتَنْكِيسِ الْفِعْلِ، وَتَكْرَارِ الْغُسْلِ بَعْدَ الْإِسْبَاغِ، وَالْغُسْلِ فِي الْخَلَاءِ وَفِي مَوَاضِعِ الْأَقْذَارِ، وَتَرْكِ الْوُضُوءِ أَوِ الْمَضْمَضَةِ أَوِ الِاسْتِنْشَاقِ وَالِاغْتِسَالِ دَاخِلَ مَاءٍ كَثِيرٍ كَالْبَحْرِ خَشْيَةَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ الْمَوْجُ فَيُغْرِقَهُ.

صِفَةُ الْغُسْلِ:

41- لِلْغُسْلِ صِفَتَانِ: صِفَةُ إِجْزَاءٍ وَصِفَةُ كَمَالٍ.

فَصِفَةُ الْإِجْزَاءِ تَحْصُلُ بِالنِّيَّةِ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُهَا، وَتَعْمِيمِ جَمِيعِ الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةِ بِالْمَاءِ.

وَصِفَةُ الْكَمَالِ تَحْصُلُ بِذَلِكَ وَبِمُرَاعَاةِ وَاجِبَاتِ الْغُسْلِ وَسُنَنِهِ وَآدَابِهِ الَّتِي سَبَقَ بَيَانُهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


123-موسوعة الفقه الكويتية (قذف 2)

قَذْفٌ -2

حُكْمُ مَنْ قَذَفَ مَنْ وَطِئَ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ:

31- لَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِ مَنْ وَطِئَ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْمِلْكِ، وَالْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فِي مَعْنَى الزِّنَا فَيَسْقُطُ إِحْصَانُهُ، فَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ.

وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ فَلَمْ يَسْقُطِ الْإِحْصَانُ، فَيُحَدُّ قَاذِفُهُ.

حُكْمُ قَذْفِ اللَّقِيطِ:

32- وَمَنْ قَذَفَ اللَّقِيطَ بَعْدَ بُلُوغِهِ مُحْصَنًا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ قَذْفَ الْمُحْصَنِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ.

وَمَنْ قَالَ لَهُ: يَا ابْنَ الزِّنَا، فَفِيهِ قَوْلَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الْأَوَّلُ: يُحَدُّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ نُبِذَ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ رُشْدٍ وَهُوَ الرَّاجِحُ.الثَّانِي: لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْمَنْبُوذِ أَنْ يَكُونَ ابْنَ زِنًا، وَهُوَ قَوْلُ اللَّخْمِيِّ.

وَأَمَّا لَوْ قَالَ لَهُ: يَا ابْنَ الزَّانِي، أَوْ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ، فَهَذَا قَذْفٌ بِزِنَا أَبَوَيْهِ، لَا بِنَفْيِ نَسَبٍ، فَلَا حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ اتِّفَاقًا، وَعَلَّلَهُ ابْنُ رُشْدٍ بِجَهْلِ أَبَوَيْهِ.

قَذْفُ الْمَحْدُودِ فِي الزِّنَا:

33- وَمَنْ ثَبَتَ زِنَاهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ سَوَاءٌ قَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ، أَوْ بِزِنًا آخَرَ أَوْ مُبْهَمًا؛ لِأَنَّهُ رَمَى غَيْرَ مُحْصَنٍ؛ لِأَنَّ الْمُحْصَنَ لَا يَكُونُ زَانِيًا، وَمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعَدَمِ إِحْصَانِ الْمَقْذُوفِ يُعَزَّرُ؛ لِأَنَّهُ آذَى مَنْ لَا يَجُوزُ أَذَاهُ.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ وَلَوْ تَابَ بَعْدَ زِنَاهُ وَصَلُحَ حَالُهُ، فَلَمْ يَعُدْ مُحْصَنًا أَبَدًا، وَلَوْ لَازَمَ الْعَدَالَةَ وَصَارَ مِنْ أَوْرَعِ خَلْقِ اللَّهِ وَأَزْهَدِهِمْ، فَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ، سَوَاءٌ أَقَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا أَمْ بِزِنًا بَعْدَهُ أَمْ أَطْلَقَ؛ لِأَنَّ الْعِرْضَ إِذَا انْخَرَمَ بِالزِّنَا لَمْ يَزُلْ خَلَلُهُ بِمَا يَطْرَأُ مِنَ الْعِفَّةِ، وَلَا يَرِدُ حَدِيثُ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» لِأَنَّ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخِرَةِ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ: مِنْ شُرُوطِ الْمَقْذُوفِ أَنْ يَكُونَ عَفِيفًا عَنِ الزِّنَا فِي ظَاهِرِ حَالِهِ، وَلَوْ كَانَ تَائِبًا مِنْهُ؛ لِأَنَّ التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، ثُمَّ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْمَقْذُوفَ إِذَا أَقَرَّ بِالزِّنَا، وَلَوْ دُونَ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ أَوْ حُدَّ لِلزِّنَا، فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ وَيُعَزَّرُ.

وَحُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى: أَنَّهُ إِنْ قَذَفَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ الزِّنَا، أَوْ بِالزِّنَا مُبْهَمًا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الرَّامِي صَادِقًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ صَادِقًا إِذَا نَسَبَهُ إِلَى ذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ، فَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ كَاذِبٌ مُلْحِقٌ لِلشَّيْنِ بِهِ.

قَذْفُ الْمَرْأَةِ الْمُلَاعَنَةِ:

34- وَمَنْ قَذَفَ الْمُلَاعَنَةَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ؛ لِأَنَّ إِحْصَانَهَا لَمْ يَسْقُطْ بِاللِّعَانِ، وَلَا يَثْبُتُ الزِّنَا بِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهَا بِهِ حَدٌّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى فِي الْمُلَاعَنَةِ أَنْ لَا تُرْمَى وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا، وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ».

وَاتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ مَعَ الْجُمْهُورِ إِذَا كَانَتِ الْمُلَاعَنَةُ بِغَيْرِ وَلَدٍ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ بِوَلَدٍ فَلَا حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِقِيَامِ أَمَارَةِ الزِّنَا مِنْهَا، وَهِيَ وِلَادَةُ وَلَدٍ لَا أَبَ لَهُ، فَفَاتَتِ الْعِفَّةُ نَظَرًا إِلَيْهَا، وَالْعِفَّةُ شَرْطُ الْإِحْصَانِ.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّ قَاذِفَ الْمُلَاعَنَةِ إِذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا، أَوْ كَانَ زَوْجًا وَقَذَفَهَا فِي غَيْرِ مَا لَاعَنَهَا فِيهِ حُدَّ مُطْلَقًا فَإِذَا كَانَ الْمُلَاعِنُ نَفْسُهُ وَقَذَفَهَا فِيمَا لَاعَنَهَا فِيهِ لَمْ يُحَدَّ، وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ وَلَكِنْ يُعَزَّرُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَطْلَقَ الْقَذْفَ.

قَذْفُ الْمَيِّتِ:

35- أَوْجَبَ الْجُمْهُورُ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا مُحْصَنًا، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى إِذَا طَالَبَ بِالْحَدِّ مَنْ لَهُ الْحَقُّ مِنَ الْوَرَثَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِاعْتِبَارِ إِحْصَانِ الْمَقْذُوفِ، وَالْمَوْتُ يُقَرِّرُ الْإِحْصَانَ وَلَا يَنْفِيهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ أُنْثَى، وَكَانَ لَهَا ابْنٌ مُحْصَنٌ فَإِنَّ لَهُ الْحَقَّ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْحَدِّ؛ لِأَنَّ قَذْفَ أُمِّهِ قَذْفٌ لَهُ لِنَفْيِ نَسَبِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ إِحْصَانُ الْمَقْذُوفِ وَاعْتُبِرَ إِحْصَانُ الْوَلَدِ، وَمَتَى كَانَ الْمَقْذُوفُ مِنْ غَيْرِ أُمَّهَاتِهِ لَمْ يَتَضَمَّنْ نَفْيَ نَسَبِهِ فَلَا يُحَدُّ.

قَذْفُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ بِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ:

36- مَنْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا بِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَقَدْ قَذَفَهُمَا جَمِيعًا، فَإِنْ لَاعَنَهَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ لَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُلَاعِنْ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمُطَالَبَةُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَأَيُّهُمَا طَالَبَ حُدَّ لَهُ وَمَنْ لَمْ يُطَالِبْ فَلَا يُحَدَّ لَهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَذْفَ لِلزَّوْجَةِ وَحْدَهَا، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهَا حَقٌّ فِي الْمُطَالَبَةِ وَلَا الْحَدُّ.

حُكْمُ مَنْ قَذَفَ الْأَجْنَبِيَّةَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا:

37- مَنْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَا يُلَاعِنُ، لِأَنَّهُ قَذَفَهَا فِي حَالِ كَوْنِهَا أَجْنَبِيَّةً فَوَجَبَ الْحَدُّ، وَلَا يَمْلِكُ اللِّعَانَ لِأَنَّهُ قَاذِفٌ غَيْرَ زَوْجَةٍ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ.

مَنْ قَذَفَ امْرَأَةً لَهَا أَوْلَادٌ لَا يُعْرَفُ لَهُمْ أَبٌ:

38- مَنْ قَذَفَ امْرَأَةً لَهَا أَوْلَادٌ لَا يُعْرَفُ لَهُمْ أَبٌ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِقِيَامِ أَمَارَةِ الزِّنَا، وَهِيَ وِلَادَةُ وَلَدٍ لَا أَبَ لَهُ فَفَاتَتِ الْعِفَّةُ نَظَرًا إِلَيْهَا، وَهِيَ شَرْطُ الْإِحْصَانِ وَيُعَزَّرُ لِلْإِيذَاءِ.

قَذْفُ وَاحِدٍ لِجَمَاعَةٍ:

39- مَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بِكَلِمَاتٍ فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، سَوَاءٌ طَالَبُوهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ طَالَبُوهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ.فَإِنْ حُدَّ لِلْأَوَّلِ لَمْ يُحَدَّ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ حُضُورَ بَعْضِهِمْ لِلْخُصُومَةِ كَحُضُورِ كُلِّهِمْ، فَلَا يُحَدُّ ثَانِيًا إِلاَّ إِذَا كَانَ بِقَذْفٍ آخَرَ مُسْتَأْنَفٍ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ، وَطَاوُسٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ.

وَعِنْدَ عَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ: إِذَا قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَاتٍ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ؛ لِأَنَّهَا حُقُوقٌ لآِدَمِيِّينَ، فَلَمْ تَتَدَاخَلْ كَالدُّيُونِ.

وَأَمَّا إِذَا قَذَفَهُمْ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَرَجَّحَهَا فِي الْمُغْنِي لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ قَذْفِ وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ؛ وَلِأَنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ قَذَفُوا امْرَأَةً، فَلَمْ يَحُدَّهُمْ عُمَرُ- رضي الله عنه- إِلاَّ حَدًّا وَاحِدًا؛ وَلِأَنَّهُ قَذْفٌ وَاحِدٌ فَلَمْ يَجِبْ إِلاَّ حَدٌّ وَاحِدٌ كَمَا لَوْ قَذَفَ وَاحِدًا؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا وَجَبَ بِإِدْخَالِ الْمَعَرَّةِ عَلَى الْمَقْذُوفِ بِقَذْفِهِ، وَبِحَدٍّ وَاحِدٍ يَظْهَرُ كَذِبُ هَذَا الْقَاذِفِ وَتَزُولُ الْمَعَرَّةُ فَوَجَبَ أَنْ يُكْتَفَى بِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ قَذْفًا مُفْرَدًا فَإِنَّ كَذِبَهُ فِي قَذْفٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَذِبُهُ فِي آخَرَ، وَلَا تَزُولُ الْمَعَرَّةُ عَنْ أَحَدِ الْمَقْذُوفَيْنِ بِحَدِّهِ لِلْآخَرِ.

وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ: يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدٌّ، لِأَنَّهُ أَلْحَقَ الْعَارَ بِقَذْفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَلَزِمَهُ لِكُلِّ وَاحِدِ مِنْهُمْ حَدٌّ، كَمَا لَوِ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْقَذْفِ.

وَاخْتَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ فِيمَا إِذَا قَذَفَ إِنْسَانًا فَحُدَّ لَهُ وَفِي أَثْنَاءِ إِقَامَةِ الْحَدِّ قَذَفَ إِنْسَانًا آخَرَ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُقَامُ إِلاَّ حَدٌّ وَاحِدٌ وَلَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الضَّرْبِ إِلاَّ سَوْطٌ وَاحِدٌ، فَلَا يُضْرَبُ إِلاَّ ذَلِكَ السَّوْطَ لِلتَّدَاخُلِ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ حَدَّانِ؛ وَلِأَنَّ كَمَالَ الْحَدِّ الْأَوَّلِ بِالسَّوْطِ الَّذِي بَقِيَ.

وَعِنْدَ مَالِكٍ: إِنْ كَرَّرَ أَثْنَاءَ الْجَلْدِ فَإِنْ كَانَ مَا مَضَى مِنَ الْجَلْدِ أَقَلَّهُ أُلْغِيَ مَا مَضَى، وَابْتُدِئَ الْعَدَدُ وَبِذَلِكَ يُسْتَوْفَى الثَّانِي.وَإِنْ كَانَ مَا بَقِيَ قَلِيلًا فَيَكْمُلُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ لِلثَّانِي.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذَا قَذَفَ جَمَاعَةً لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ زُنَاةً عَادَةً لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا يَجِبُ لِنَفْيِ الْعَارِ، وَلَا عَارَ عَلَى الْمَقْذُوفِ لِأَنَّا نَقْطَعُ بِكَذِبِهِ وَيُعَزَّرُ لِلْكَذِبِ.

قَذْفُ الرَّجُلِ نَفْسَهُ:

40- مَنْ قَذَفَ نَفْسَهُ بِأَنْ قَالَ: أَنَا وَلَدُ زِنًا، حُدَّ لِأَنَّهُ قَذْفٌ لأُِمِّهِ.

حُكْمُ قَذْفِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَأُمِّهِ:

41- قَذْفُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- وَقَذْفُ أُمِّهِ رِدَّةٌ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَخُرُوجٌ عَنِ الْمِلَّةِ، وَمَنْ قَذَفَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَفَرَ وَقُتِلَ وَلَوْ تَابَ أَوْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ، لَا إِنْ سَبَّهُ بِغَيْرِ الْقَذْفِ ثُمَّ أَسْلَمَ.

قَذْفُ زَوْجَةٍ مِنْ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-:

42- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- فَقَدْ كَذَّبَ صَرِيحَ الْقُرْآنِ الَّذِي نَزَلَ بِحَقِّهَا، وَهُوَ بِذَلِكَ كَافِرٌ بَعْدَ أَنْ بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ فِي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبَرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} إِلَى قوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

أَمَّا سَائِرُ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّهُنَّ مِثْلُ عَائِشَةَ فِي الْحُكْمِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} وَقَذْفُهُنَّ طَعْنٌ بِالرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- وَعَارٌ عَلَيْهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- سِوَى عَائِشَةَ كَسَائِرِ الصَّحَابَةِ، وَسَابُّهُنَّ يُجْلَدُ؛ لِأَنَّهُ قَاذِفٌ.

وَلِلتَّفْصِيلِ ر: (رِدَّة ف 18، وَسَبّ ف 18)

حُكْمُ قَذْفِ الْأَنْبِيَاءِ:

43- يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ مَنْ قَذَفَ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يُقْتَلُ، وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ.

انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رَسُول ف 3)،

وَمُصْطَلَحَ: (سَبّ ف 11- 13)

حَقُّ الْوَرَثَةِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحَدِّ الْقَذْفِ:

44- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: لَا يُطَالَبُ بِحَدِّ الْقَذْفِ لِلْمَيِّتِ إِلاَّ مَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِ بِقَذْفِهِ، وَهُوَ الْوَالِدُ وَإِنْ عَلَا وَالْوَلَدُ وَإِنْ سَفَلَ؛ لِأَنَّ الْعَارَ يُلْتَحَقُ بِهِمَا لِلْجُزْئِيَّةِ، فَيَكُونُ الْقَذْفُ مُتَنَاوِلًا مَعْنًى لَهُمَا، فَلِذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُمَا حَقُّ الْمُطَالَبَةِ، لَكِنَّ لُحُوقَهُ لَهُمَا بِوَاسِطَةِ لُحُوقِ الْمَقْذُوفِ بِالذَّاتِ فَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ الْعَارَ يَلْحَقُهُ مَقْصُودًا، فَلَا يُطَالَبُ غَيْرُهُ بِمُوجِبِهِ إِلاَّ عِنْدَ الْيَأْسِ عَنْ مُطَالَبَتِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَيِّتًا، فَلِذَا لَوْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِهِ وَلَا لِوَالِدِهِ الْمُطَالَبَةُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَدِّقَهُ الْغَائِبُ،

وَيَثْبُتَ لِلْأَبْعَدِ مَعَ وُجُوبِ الْأَقْرَبِ، وَكَذَا يَثْبُتُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ، وَلَوْ عَفَا بَعْضُهُمْ كَانَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لِلدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ.

وَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مُحْصَنًا جَازَ لِابْنِهِ الْكَافِرِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْحَدِّ خِلَافًا لِزُفَرَ، إِذْ يَقُولُ: الْقَذْفُ يَتَنَاوَلُهُ مَعْنًى لِرُجُوعِ الْعَارِ إِلَيْهِ وَلَيْسَ طَرِيقُهُ الْإِرْثَ عِنْدَنَا، كَمَا إِذَا كَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُ صُورَةً وَمَعْنًى، بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْقَذْفِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ لِعَدَمِ إِحْصَانِهِ، فَكَذَا إِذَا كَانَ مَقْذُوفًا مَعْنًى فَقَطْ.

وَلَكِنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ عَيَّرَهُ بِقَذْفِ مُحْصَنٍ، فَيَأْخُذُهُ بِالْحَدِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِحْصَانَ فِي الَّذِي يُنْسَبُ إِلَى الزِّنَا شَرْطٌ لِيَقَعَ تَعْيِيرًا عَلَى الْكَمَالِ، ثُمَّ يَرْجِعُ هَذَا التَّعْيِيرُ الْكَامِلُ إِلَى وَلَدِهِ، وَالْكُفْرُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَنَاوَلَ الْقَذْفُ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ تَعْيِيرٌ عَلَى الْكَمَالِ، لِفَقْدِ الْإِحْصَانِ فِي الْمَنْسُوبِ إِلَى الزِّنَا.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّبَبَ التَّعْيِيرُ الْكَامِلُ، وَهُوَ بِإِحْصَانِ الْمَقْذُوفِ، فَإِنْ كَانَ حَيًّا كَانَتِ الْمُطَالَبَةُ لَهُ، أَوْ مَيِّتًا طَالَبَ بِهِ أَصْلُهُ أَوْ فَرْعُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا لَمْ يَتَحَقَّقِ التَّعْيِيرُ الْكَامِلُ فِي حَقِّهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ: لِلْوَارِثِ حَقَّ الْقِيَامِ بِحَقِّ مُوَرِّثِهِ الْمَقْذُوفِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ، وَهُوَ وَلَدٌ وَوَلَدُهُ وَإِنْ سَفَلَ، وَأَبٌ وَأَبُوهُ وَإِنْ عَلَا، ثُمَّ الْأَخُ فَابْنُهُ.فَعَمٌّ فَابْنُهُ، وَهَكَذَا وَلِكُلٍّ مِنَ الْوَرَثَةِ الْقِيَامُ بِحَقِّ الْمُوَرِّثِ وَإِنْ وُجِدَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ.كَابْنِ الِابْنِ مَعَ وُجُودِ الِابْنِ؛ لِأَنَّ الْمَعَرَّةَ تَلْحَقُ الْجَمِيعَ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ أُنْثَى خِلَافًا لِأَشْهَبَ الْقَائِلِ: يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ فِي الْقِيَامِ بِحَقِّ الْمُوَرِّثِ الْمَقْذُوفِ كَالْقِيَامِ بِالدَّمِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: إِذَا مَاتَ مَنْ لَهُ الْحَدُّ أَوِ التَّعْزِيرُ وَهُوَ مِمَّنْ يُورَثُ انْتَقَلَ ذَلِكَ إِلَى الْوَارِثِ، وَفِيمَنْ يَرِثُهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَرِثُهُ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ، لِأَنَّهُ مَوْرُوثٌ فَكَانَ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ كَالْمَالِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ.

الثَّانِي: أَنَّهُ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ إِلاَّ لِمَنْ يَرِثُ بِالزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ لِدَفْعِ الْعَارِ، وَلَا يَلْحَقُ الزَّوْجَ عَارٌ بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ لَا تَبْقَى زَوْجِيَّةٌ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَرِثُهُ الْعَصَبَاتُ دُونَ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لِدَفْعِ الْعَارِ، فَاخْتَصَّ بِهِ الْعَصَبَاتُ كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثَانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا ثَبَتَ لِلْآخَرِ الْحَدُّ لِأَنَّهُ جُعِلَ لِلرَّدْعِ، وَلَا يَحْصُلُ الرَّدْعُ إِلاَّ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلرَّدْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ فَهُوَ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَسْتَوْفِيهِ السُّلْطَانُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ قُذِفَتْ أُمُّهُ وَهِيَ مَيِّتَةٌ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً، حُرَّةً أَوْ أَمَةً حُدَّ الْقَاذِفُ إِذَا طَالَبَ الِابْنُ وَكَانَ حُرًّا مُسْلِمًا.

أَمَّا إِذَا قُذِفَتْ وَهِيَ فِي الْحَيَاةِ فَلَيْسَ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةُ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا فَلَا يُطَالِبُ بِهِ غَيْرُهَا، وَلَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْجُورًا عَلَيْهَا أَوْ غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ لِلتَّشَفِّي فَلَا يَقُومُ غَيْرُ الْمُسْتَحِقِّ مَقَامَهُ كَالْقِصَاصِ، وَتُعْتَبَرُ حَصَانَتُهَا لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا، فَتُعْتَبَرُ حَصَانَتُهَا كَأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ، وَأَمَّا إِذَا قُذِفَتْ وَهِيَ مَيِّتَةٌ، فَإِنَّ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةَ لِأَنَّهُ قَدْحٌ فِي نَسَبِهِ؛ وَلِأَنَّهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ يَنْسُبُهُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ زِنًا، وَلَا يُسْتَحَقُّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ، وَلِذَلِكَ لَا تُعْتَبَرُ الْحَصَانَةُ فِي أُمِّهِ لِأَنَّ الْقَذْفَ لَهُ.

فَأَمَّا إِنْ قُذِفَتْ أُمُّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا وَهُوَ مُشْرِكٌ أَوْ عَبْدٌ فَلَا حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْأُمُّ حُرَّةً مُسْلِمَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَإِنْ قُذِفَتْ جَدَّتُهُ فَهُوَ كَقَذْفِ أُمِّهِ.

فَأَمَّا إِنْ قَذَفَ أَحَدٌ أَبَاهُ أَوْ جَدَّهُ أَوْ أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ غَيْرَ أُمَّهَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ بِقَذْفِ أُمِّهِ حَقًّا لَهُ لِنَفْيِ نَسَبِهِ لَاحِقًا لِلْمَيِّتِ، وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ إِحْصَانُ الْمَقْذُوفَةِ وَاعْتُبِرَ إِحْصَانُ الْوَلَدِ، وَمَتَى كَانَ الْمَقْذُوفُ مِنْ غَيْرِ أُمَّهَاتِهِ لَمْ يَتَضَمَّنْ نَفْيَ نَسَبِهِ فَلَمْ يَجِبِ الْحَدُّ.

قَذْفُ الْمَجْهُولِ:

45- مَنْ قَذَفَ مَجْهُولًا لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِعَدَمِ تَعْيِينِ الْمَعَرَّةِ، إِذْ لَا يُعْرَفُ مَنْ أَرَادَ وَالْحَدُّ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَعَرَّةِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ رَجُلَانِ فِي شَيْءٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: الْكَاذِبُ هُوَ ابْنُ زَانِيَةٍ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا بِالْقَذْفِ، وَإِذَا سَمِعَ السُّلْطَانُ رَجُلًا يَقُولُ: زَنَى رَجُلٌ، لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ مَجْهُولٌ، وَلَا يُطَالِبُهُ بِتَعْيِينِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وَلِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، وَلِهَذَا قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «يَا هُزَالُ، لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ»، وَإِنْ قَالَ سَمِعْتُ رَجُلًا يَقُولُ: إِنَّ فُلَانًا زَنَى، لَمْ يُحَدَّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَاذِفٍ وَإِنَّمَا هُوَ حَاكٍ، وَلَا يَسْأَلُهُ عَنِ الْقَاذِفِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، وَإِنْ قَالَ لِجَمَاعَةٍ: أَحَدُكُمْ زَانٍ أَوِ ابْنُ زَانِيَةٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَامُوا كُلُّهُمْ لِعَدَمِ تَعْيِينِهِ الْمَعَرَّةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ إِذْ لَا يُعْرَفُ مَنْ أَرَادَ، وَهَذَا إِذَا كَثُرَتِ الْجَمَاعَةُ بِأَنْ زَادُوا عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً أَوِ اثْنَيْنِ حُدَّ إِنْ قَامُوا أَوْ قَامَ بَعْضُهُمْ وَعَفَا الْبَعْضُ الْبَاقِي، إِلاَّ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْقَائِمَ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ حُدَّ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ قَامَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: لَمْ أُرِدِ الْقَائِمَ لَمْ يُحَدَّ سَوَاءٌ عَفَا الْبَعْضُ أَوْ لَمْ يَعْفُ، وَسَوَاءٌ حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْقَائِمَ أَوْ لَمْ يَحْلِفْ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ وَقَعَ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ، حَيْثُ لَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا بِالْقَذْفِ.

قَذْفُ الْمُرْتَدِّ وَالْكَافِرِ وَالذِّمِّيِّ وَالْفَاسِقِ:

46- مَنْ قَذَفَ مُرْتَدًّا لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ غَيْرُ مُحْصَنٍ بِأَنْ خَرَجَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَإِنِ ارْتَدَّ الْمَقْذُوفُ بَعْدَ قَذْفِهِ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ وَلَوْ تَابَ بِأَنْ رَجَعَ لِلْإِسْلَامِ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: إِنِ ارْتَدَّ الْمَقْذُوفُ بَعْدَ قَذْفِهِ فَإِنَّ رِدَّتَهُ لَا تُسْقِطُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهَا أَمْرٌ طَرَأَ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَدِّ فَلَا يَسْقُطُ مَا وَجَبَ مِنَ الْحَدِّ.

وَمَنْ قَذَفَ كَافِرًا وَلَوْ ذِمِّيًّا لَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيُعَزَّرُ لِلْإِيذَاءِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ»، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: عَلَيْهِ الْحَدُّ إِذَا كَانَ لَهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَجُلُّ الْعُلَمَاءِ مُجْمِعُونَ وَقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ أُدْرِكْ أَحَدًا وَلَا لَقِيتُهُ يُخَالِفُ ذَلِكَ.

وَيُحَدُّ قَاذِفُ الْفَاسِقِ إِذَا كَانَ فِسْقُهُ بِغَيْرِ الزِّنَا؛ لِكَوْنِهِ عَفِيفًا عَنِ الزِّنَا فَهُوَ مُحْصَنٌ وَقَذْفُ الْمُحْصَنِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} الْآيَةَ.

قَذْفُ الْخَصِيِّ وَالْمَجْبُوبِ وَالْمَرِيضِ مَرَضًا مُدْنِفًا وَالرَّتْقَاءِ:

47- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْمَجْبُوبِ، وَكَذَلِكَ الرَّتْقَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِفِقْدَانِ آلَةِ الزِّنَا وَلِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُمَا الشَّيْنُ، فَإِنَّ الزِّنَا مِنْهُمَا لَا يَتَحَقَّقُ وَيَلْحَقُ الشَّيْنُ الْقَاذِفَ فِي هَذَا الْقَذْفِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ قَذَفَ خَصِيًّا أَوْ مَجْبُوبًا أَوْ مَرِيضًا مُدْنِفًا أَوْ رَتْقَاءَ، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} فَهُمْ دَاخِلُونَ فِي عُمُومِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّهُ قَاذِفٌ لِمُحْصَنٍ فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ كَقَذْفِ الْقَادِرِ عَلَى الْوَطْءِ؛ وَلِأَنَّ إِمْكَانَ الْوَطْءِ أَمْرٌ خَفِيٌّ لَا يَعْلَمُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَلَا يَنْتَفِي الْعَارُ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْهُ بِدُونِ الْحَدِّ فَيَجِبُ كَقَذْفِ الْمَرِيضِ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْخَصِيِّ؛ لِأَنَّ الْعَارَ مُنْتَفٍ عَنِ الْمَقْذُوفِ بِدُونِ الْحَدِّ لِلْعِلْمِ بِكَذِبِ الْقَاذِفِ، وَالْحَدُّ إِنَّمَا يَجِبُ لِنَفْيِ الْعَارِ.

حُكْمُ مَنْ قَذَفَ وَلَدَهُ:

48- إِذَا قَذَفَ وَلَدَهُ وَإِنْ نَزَلَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ سَوَاءٌ كَانَ الْقَاذِفُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِقَذْفِ الِابْنِ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ لِإِطْلَاقِ آيَةِ {فَاجْلِدُوهُمْ} وَلِأَنَّهُ حَدٌّ هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ إِقَامَتِهِ قَرَابَةُ الْوِلَادَةِ كَالزِّنَا.

وَالْجَوَابُ عَلَى مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْحَدِّ: أَنَّ الْإِطْلَاقَ أَوِ الْعُمُومَ مُخْرَجٌ مِنْهُ الْوَلَدُ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَارَضَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} وَالْمَانِعُ مُقَدَّمٌ، وَلِهَذَا لَا يُقَادُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ، وَإِهْدَارُ جِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِ الْوَلَدِ تُوجِبُ إِهْدَارَهَا فِي عِرْضِهِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَذْفِ وَالزِّنَا أَنَّ حَدَّ الزِّنَا خَالِصٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا حَقَّ لِلْآدَمِيِّ فِيهِ، وَحَدُّ الْقَذْفِ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ، فَلَا يَثْبُتُ لِلِابْنِ عَلَى أَبِيهِ كَالْقِصَاصِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


124-موسوعة الفقه الكويتية (قربة 2)

قُرْبَة -2

مَرَاتِبُ الْقُرُبَاتِ:

13- أ- أَفْضَلُ الْقُرُبَاتِ هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ»، جَعَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْإِيمَانَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ، لِجَلْبِهِ لِأَحْسَنِ الْمَصَالِحِ وَدَرْئِهِ لِأَقْبَحِ الْمَفَاسِدِ مَعَ شَرَفِهِ فِي نَفْسِهِ وَشَرَفِ مُتَعَلَّقِهِ، وَثَوَابُهُ الْخُلُودُ فِي الْجِنَانِ، وَالْخُلُوصُ مِنَ النِّيرَانِ وَغَضَبِ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ.

ب- ثُمَّ يَلِي ذَلِكَ الْفَرَائِضُ الَّتِي افْتَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَ بِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ».

جَاءَ فِي فَتْحِ الْبَارِي: يُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ أَدَاءَ الْفَرَائِضِ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ، وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْفَرَائِضِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ امْتِثَالُ الْأَمْرِ وَاحْتِرَامُ الْآمِرِ، وَتَعْظِيمُهُ بِالِانْقِيَادِ إِلَيْهِ، وَإِظْهَارُ عَظَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ فَكَانَ التَّقَرُّبُ بِذَلِكَ أَعْظَمَ الْعَمَلِ.

ج- وَبَعْدَ مَنْزِلَةِ الْفَرَائِضِ فِي الْقُرْبَةِ تَكُونُ مَنْزِلَةُ النَّوَافِلِ، بِدَلِيلِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: إِذَا أَدَّى الْعَبْدُ الْفَرَائِضَ وَدَاوَمَ عَلَى إِتْيَانِ النَّوَافِلِ، نَالَ مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّ فَرِيضَةٍ تُقَدَّمُ عَلَى نَوْعِهَا مِنَ النَّوَافِلِ كَتَقْدِيمِ فَرَائِضِ الصَّلَوَاتِ عَلَى نَوَافِلِهَا، وَفَرَائِضِ الصِّيَامِ عَلَى نَوَافِلِهِ وَتَقْدِيمِ فَرَائِضِ الصَّدَقَاتِ عَلَى نَوَافِلِهَا، وَهَكَذَا.

د- وَإِذَا كَانَتْ قُرَبُ الْفَرَائِضِ تَأْتِي فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الْإِيمَانِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَفْضَلِ هَذِهِ الْفَرَائِضِ، فَقِيلَ: إِنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «اعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ» وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ: إِنَّ أَهَمَّ أُمُورِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ، وَقِيلَ: إِنَّ الصِّيَامَ أَفْضَلُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» وَقِيلَ: إِنَّ الْحَجَّ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ.

هـ- وَالْقُرَبُ فِي فَرْضِ الْعَيْنِ تُقَدَّمُ عَلَى الْقُرَبِ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْفِعْلِ مِنْ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ يَقْتَضِي أَرْجَحِيَّتَهُ عَلَى مَا طُلِبَ مِنَ الْبَعْضِ فَقَطْ؛ وَلِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ يَعْتَمِدُ عَدَمَ تَكْرَارِ الْمَصْلَحَةِ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ، وَفَرْضُ الْأَعْيَانِ يَعْتَمِدُ تَكَرُّرَ الْمَصْلَحَةِ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ، وَالْفِعْلُ الَّذِي تَتَكَرَّرُ مَصْلَحَتُهُ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ أَقْوَى فِي اسْتِلْزَامِ الْمَصْلَحَةِ مِنَ الَّذِي لَا تُوجَدُ الْمَصْلَحَةُ مَعَهُ إِلاَّ فِي بَعْضِ صُوَرِهِ.

و- عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ بَعْضِ الْقُرَبِ عَلَى بَعْضٍ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ حَالِ الْإِنْسَانِ، فَقَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا، وَسُئِلَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَسُئِلَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ»، وَهَذَا جَوَابٌ لِسُؤَالِ السَّائِلِ، فَيَخْتَصُّ بِمَا يَلِيقُ بِالسَّائِلِ مِنَ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهما- مَا كَانُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْأَفْضَلِ إِلاَّ لِيَتَقَرَّبُوا بِهِ إِلَى ذِي الْجَلَالِ، فَكَأَنَّ السَّائِلَ قَالَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ لِي فَقَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ»، لِمَنْ لَهُ وَالِدَانِ يَشْتَغِلُ بِبِرِّهِمَا، وَقَالَ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْجِهَادِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَقَالَ لِمَنْ يَعْجِزُ عَنِ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ: «الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا».

ز- وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي مَرَاتِبِ النَّوَافِلِ مِنَ الْعِبَادَاتِ، فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ: إِنَّ نَوَافِلَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ تَطَوُّعِ غَيْرِهَا لِأَنَّهَا أَعْظَمُ الْقُرُبَاتِ، لِجَمْعِهَا أَنْوَاعًا مِنَ الْعِبَادَاتِ لَا تُجْمَعُ فِي غَيْرِهَا.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَفْضَلُ تَطَوُّعَاتِ الْبَدَنِ الْجِهَادُ لقوله تعالى {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} ثُمَّ تَعَلُّمُ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمُهُ، ثُمَّ الصَّلَاةُ.

ح- أَمَّا الْقُرَبُ مِنْ غَيْرِ الْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، فَمَرْتَبَتُهَا تَكُونُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ النَّاشِئَةِ عَنْهَا، فَقَدْ جَاءَ فِي الْمَنْثُورِ: مَرَاتِبُ الْقُرَبِ تَتَفَاوَتُ، فَالْقُرْبَةُ فِي الْهِبَةِ أَتَمُّ مِنْهَا فِي الْقَرْضِ، وَفِي الْوَقْفِ أَتَمُّ مِنْهَا فِي الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ نَفْعَهُ دَائِمٌ يَتَكَرَّرُ، وَالصَّدَقَةُ أَتَمُّ مِنَ الْكُلِّ، لِأَنَّ قَطْعَ حَظِّهِ مِنَ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ فِي الْحَالِ وَقِيلَ: إِنَّ الْقَرْضَ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «رَأَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ: دِرْهَمُ الْقَرْضِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ دِرْهَمٍ، وَدِرْهَمُ الصَّدَقَةِ بِعَشْرٍ، فَسَأَلَ جِبْرِيلَ: مَا بَالُ الْقَرْضِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: لِأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ أَيْ مَا يَكْفِيهِ وَالْمُسْتَقْرِضُ لَا يَسْتَقْرِضُ إِلاَّ مِنْ حَاجَةٍ»

وَتَكَسُّبُ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ- لِمُوَاسَاةِ الْفَقِيرِ أَوْ مُجَازَاةِ الْقَرِيبِ- أَفْضَلُ مِنَ التَّخَلِّي لِنَفْلِ الْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ النَّفْلِ تَخُصُّهُ وَمَنْفَعَةَ الْكَسْبِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ».

وَفِي الْأَشْبَاهِ لِابْنِ نُجَيْمٍ: بِنَاءُ الرِّبَاطِ بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ أَفْضَلُ مِنَ الْحَجَّةِ الثَّانِيَةِ.

وَاخْتَارَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ فِي الْإِحْيَاءِ: أَنَّ فَضْلَ الطَّاعَاتِ عَلَى قَدْرِ الْمَصَالِحِ النَّاشِئَةِ عَنْهَا، فَتَصَدُّقُ الْبَخِيلِ بِدِرْهَمٍ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ وَصِيَامِ أَيَّامٍ.

نَذْرُ الْقُرْبَةِ:

14- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ نَذْرِ مَا يُعْتَبَرُ قُرْبَةً مِمَّا لَهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ بِالشَّرْعِ، كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي شُرِعَتْ لِلتَّقَرُّبِ بِهَا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَعُلِمَ مِنَ الشَّارِعِ الِاهْتِمَامُ بِتَكْلِيفِ الْخَلْقِ إِيقَاعَهَا عِبَادَةً، فَهَذَا النَّذْرُ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقُرْبَةِ الْمَنْذُورَةِ أَنْ لَا تَكُونَ وَاجِبَةً عَلَى الْإِنْسَانِ ابْتِدَاءً، كَالصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ الْتِزَامٌ، وَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُ مَا هُوَ لَازِمٌ لَهُ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ مُوَضِّحًا مَذْهَبَ الْحَنَابِلَةِ: قَالَ أَصْحَابُنَا: نَذْرُ الْوَاجِبِ كَالصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ لَا يَنْعَقِدُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْعَقِدَ نَذْرُهُ مُوجِبًا كَفَّارَةَ يَمِينٍ إِنْ تَرَكَهُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ، فَإِنَّ النَّذْرَ كَالْيَمِينِ.

لَكِنْ جَاءَ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: يَنْعَقِدُ النَّذْرُ فِي الْوَاجِبِ، كَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ رَمَضَانَ وَنَحْوُهُ كَصَلَاةِ الظُّهْرِ، ثُمَّ قَالَ: وَعِنْدَ الْأَكْثَرِ لَا يَنْعَقِدُ النَّذْرُ فِي وَاجِبٍ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَذْرِ الْقُرَبِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا فِي الْفُرُوضِ كَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ، وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي رَغَّبَ الشَّارِعُ فِيهَا.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ نَذْرِ هَذِهِ الْقُرَبِ وَلُزُومِ الْوَفَاءِ بِهَا.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَصِحُّ هَذَا النَّذْرُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُمْ أَنَّ مَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْفُرُوضِ لَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِهِ.

وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِ مِثْلِ هَذِهِ الْقُرَبِ.

الْوَصِيَّةُ بِالْقُرْبَةِ:

15- تُسْتَحَبُّ الْوَصِيَّةُ بِالْقُرْبَةِ بِاتِّفَاقٍ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَكُونَ خَتْمُ عَمَلِهِ بِالْقُرْبَةِ زِيَادَةً عَلَى الْقُرَبِ السَّابِقَةِ، فَتَزِيدُ بِهَا حَسَنَاتُهُ، وَقَدْ تَكُونُ تَدَارُكًا لِمَا فَرَّطَ فِيهِ فِي حَيَاتِهِ فَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ لِيُدْرِكَ بِهَا مَا فَاتَ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنَّ اللَّهَ أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ»، وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِمَا لَا قُرْبَةَ فِيهِ كَوَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ لِلْكَنِيسَةِ.

وَقَدْ تَجِبُ الْوَصِيَّةُ إِذَا كَانَ عَلَى الْإِنْسَانِ قُرَبٌ وَاجِبَةٌ كَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ.

وَرَغْمَ أَنَّ التَّبَرُّعَاتِ لَا تَصِحُّ مِنَ الصَّبِيِّ إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَجَازُوا وَصِيَّةَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ بِالْقُرَبِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ تَمَحَّضَ نَفْعًا لِلصَّبِيِّ، فَصَحَّ مِنْهُ كَالْإِسْلَامِ وَالصَّلَاةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ صَدَقَةٌ يَحْصُلُ ثَوَابُهَا لَهُ بَعْدَ غِنَاهُ عَنْ مِلْكِهِ وَمَالِهِ، فَلَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ فِي عَاجِلِ دُنْيَاهُ وَلَا أُخْرَاهُ.

وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْدِيمِ بَعْضِ الْقُرَبِ عَلَى بَعْضٍ فِي الْوَصِيَّةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ أَوْصَى بِوَصَايَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى قُدِّمَتِ الْفَرَائِضُ مِنْهَا، سَوَاءٌ قَدَّمَهَا الْمُوصِي أَوْ أَخَّرَهَا مِثْلَ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ؛ لِأَنَّ الْفَرِيضَةَ أَهَمُّ مِنَ النَّافِلَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْبُدَاءَةُ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ، فَإِنْ تَسَاوَتْ فِي الْقُوَّةِ بُدِئَ بِمَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي إِذَا ضَاقَ عَنْهَا الثُّلُثُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْأَهَمِّ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالزَّكَاةِ وَيُقَدِّمُهَا عَلَى الْحَجِّ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْحَجَّ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ تُقَدَّمُ الزَّكَاةُ وَالْحَجُّ عَلَى الْكَفَّارَاتِ لِمَزِيَّتِهِمَا عَلَيْهَا فِي الْقُوَّةِ، وَالْكَفَّارَةُ فِي الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّهُ عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالْقُرْآنِ دُونَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ حَيْثُ ثَبَتَ وُجُوبُهَا بِالسُّنَّةِ، وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يُقَدَّمُ بَعْضُ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْبَعْضِ، وَيُقَسَّمُ الثُّلُثُ عَلَى جَمِيعِ الْوَصَايَا.

فَمَا أَصَابَ الْقُرَبَ صُرِفَ إِلَيْهَا عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي ذُكِرَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَمَّا أَوْصَى بِهِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ فَكُّ أَسِيرٍ، ثُمَّ مُدَبَّرٍ فِي حَالِ الصِّحَّةِ، ثُمَّ صَدَاقُ مَرِيضٍ، ثُمَّ زَكَاةٌ أَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا مِنْ مَالِهِ فَتَخْرُجُ مِنْ بَاقِي ثُلُثِهِ بَعْدَ إِخْرَاجِ مَا تَقَدَّمَ، إِلاَّ أَنْ يَعْتَرِفَ بِحُلُولِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ بِتَمَامِ الْحَوْلِ فَتَخْرُجَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، كَزَكَاةِ الْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ إِنْ مَاتَ الْمَالِكُ بَعْدَ إِفْرَاكِ الْحَبِّ وَطِيبِ الثَّمَرِ وَمَجِيءِ السَّاعِي، فَتَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، ثُمَّ يُخْرِجُ مِنْ بَاقِي الثُّلُثِ زَكَاةَ الْفِطْرِ الَّتِي فَرَّطَ فِي إِخْرَاجِهَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ وَقَتْلِ خَطَأٍ، ثُمَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، ثُمَّ كَفَّارَةُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ وَصَّى بِشَيْءٍ فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ صُرِفَ فِي الْقُرَبِ جَمِيعِهَا، لِعُمُومِ اللَّفْظِ وَعَدَمِ الْمُخَصِّصِ، وَيَبْدَأُ مِنْهَا بِالْغَزْوِ نَصًّا، لِقَوْلِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: إِنَّهُ أَفْضَلُ الْقُرَبِ، وَلَوْ قَالَ الْمُوصِي لِوَصِيِّهِ: ضَعْ ثُلُثِي حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ حَيْثُ يُرِيكَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَهُ صَرْفُهُ فِي أَيِّ جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْقُرَبِ رَأَى وَضْعَهُ فِيهَا عَمَلًا بِمُقْتَضَى الْوَصِيَّةِ، وَالْأَفْضَلُ صَرْفُهُ إِلَى فُقَرَاءِ أَقَارِبِ الْمُوصِي غَيْرِ الْوَارِثِينَ؛ لِأَنَّهُ فِيهِمْ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ.

الْقُرْبَةُ فِي الْوَقْفِ:

16- الْأَصْلُ فِي الْوَقْفِ أَنَّهُ مِنَ الْقُرَبِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهَا، إِذْ هُوَ حَبْسُ الْأَصْلِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-، قَالَ «أَصَابَ عُمَرُ بِخَيْبَرَ أَرْضًا، فَأَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ؟ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَالرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوَّلٍ فِيهِ».

وَوَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ».

وَالصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ مَحْمُولَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْوَقْفِ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ، فَإِنَّ غَيْرَهُ مِنَ الصَّدَقَاتِ لَيْسَتْ جَارِيَةً.

وَالْوَقْفُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ هُوَ مَا تَحَقَّقَتْ فِيهِ الْقُرْبَةُ، وَالْقُرْبَةُ تَتَحَقَّقُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْوِيَ بِوَقْفِهِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: الْوَقْفُ لَيْسَ مَوْضُوعًا لِلتَّعَبُّدِ بِهِ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ أَصْلًا، بَلِ التَّقَرُّبُ بِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى نِيَّةِ الْقُرْبَةِ، فَهُوَ بِدُونِهَا مُبَاحٌ.

وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: الْوَقْفُ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ فِي وَقْفٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَقِفُ عَلَى غَيْرِهِ تَوَدُّدًا، أَوْ عَلَى أَوْلَادِهِ خَشْيَةَ بَيْعِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِتْلَافِ ثَمَنِهِ، أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ فَيُبَاعَ فِي دَيْنِهِ، أَوْ رِيَاءً وَنَحْوَهُ، فَهَذَا وَقْفٌ لَازِمٌ لَا ثَوَابَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْتَغِ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ جِهَةَ بِرٍّ وَمَعْرُوفٍ، كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ صَحِيحٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَلَكِنَّهُ لَا قُرْبَةَ فِيهِ، جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: إِنْ وَقَفَ عَلَى جِهَةٍ لَا تَظْهَرُ فِيهَا الْقُرْبَةُ كَالْأَغْنِيَاءِ صَحَّ فِي الْأَصَحِّ، نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكٌ.وَالثَّانِي: لَا، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْفُسَّاقِ.

وَيَقُولُ الْحَصْكَفِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ: يُشْتَرَطُ فِي مَحَلِّ الْوَقْفِ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً فِي ذَاتِهِ، أَيْ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ إِلَى ذَاتِهِ وَصُورَتِهِ قُرْبَةً، وَالْمُرَادُ أَنْ يَحْكُمَ الشَّرْعُ بِأَنَّهُ لَوْ صَدَرَ مِنْ مُسْلِمٍ يَكُونُ قُرْبَةً حَمْلًا عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ الْقُرْبَةَ، وَهَذَا شَرْطٌ فِي وَقْفِ الْمُسْلِمِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


125-موسوعة الفقه الكويتية (قسم بين الزوجات 2)

قَسْمٌ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ -2

الْخُرُوجُ فِي نَوْبَةِ زَوْجَةٍ وَالدُّخُولُ عَلَى غَيْرِهَا:

20- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجَةٍ عَلَيْهِ أَنْ يُوفِيَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ قَسْمَهَا دُونَ نَقْصٍ أَوْ تَأْخِيرٍ، لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْعَدْلِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِي الْقَسْمِ بَيْنَهُنَّ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي خُرُوجِ الزَّوْجِ فِي نَوْبَةِ إِحْدَى زَوْجَاتِهِ- لَيْلًا أَوْ نَهَارًا- وَدُخُولِهِ عَلَى غَيْرِهَا كَذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ خَرَجَ الزَّوْجُ الَّذِي عِمَادُ قَسْمِهِ اللَّيْلُ مِنْ عِنْدِ بَعْضِ نِسَائِهِ فِي زَمَانِهَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي النَّهَارِ أَوْ أَوَّلِ اللَّيْلِ أَوْ آخِرِهِ مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ بِالِانْتِشَارِ فِيهِ وَالْخُرُوجِ إِلَى الصَّلَاةِ جَازَ، وَإِنْ خَرَجَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ اللَّيْلِ وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ عَادَ لَمْ يَقْضِ لِمَنْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا هَذَا الْوَقْتَ لِلْمُسَامَحَةِ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي قَضَائِهِ لِقِصَرِهِ، وَإِنْ طَالَ زَمَنُ خُرُوجِهِ قَضَاهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ لِعُذْرٍ أَمْ لِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لِأَنَّهُ مَعَ طُولِ الزَّمَنِ لَا يُسْمَحُ بِهِ عَادَةً، فَيَكُونُ حَقُّهَا قَدْ فَاتَ بِغَيْبَتِهِ عَنْهَا، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ لَا يَسْقُطُ وَلَوْ بِعُذْرٍ إِلاَّ بِإِسْقَاطِ صَاحِبِهِ..فَوَجَبَ الْقَضَاءُ.

وَلَيْسَ لِهَذَا الزَّوْجِ دُخُولٌ فِي نَوْبَةِ زَوْجَةٍ عَلَى غَيْرِهَا لَيْلًا، لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ حَقِّ صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ، إِلاَّ لِضَرُورَةٍ كَمَرَضِهَا الْمَخُوفِ وَشِدَّةِ الطَّلْقِ وَخَوْفِ النَّهْبِ وَالْحَرْقِ، وَحِينَئِذٍ إِنْ طَالَ مُكْثُهُ عُرْفًا قَضَى لِصَاحِبَةِ النَّوْبَةِ مِنْ نَوْبَةِ الْمَدْخُولِ عَلَيْهَا مِثْلَ مُكْثِهِ، وَإِنْ لَمْ يَطُلْ مُكْثُهُ فَلَا يَقْضِي، وَإِذَا تَعَدَّى بِالدُّخُولِ قَضَى إِنْ طَالَ مُكْثُهُ وَإِلاَّ فَلَا قَضَاءَ، وَأَثِمَ.

وَإِنْ دَخَلَ الزَّوْجُ فِي نَوْبَةِ إِحْدَى زَوْجَاتِهِ عَلَى غَيْرِهَا نَهَارًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِحَاجَةٍ؛ لِأَنَّهُ يُتَسَامَحُ فِيهِ مَا لَا يُتَسَامَحُ فِي اللَّيْلِ، فَيَدْخُلُ لِوَضْعِ مَتَاعٍ وَنَحْوِهِ كَتَسْلِيمِ نَفَقَةٍ وَتَعَرُّفِ خَبَرٍ وَعِيَادَةٍ.لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَلَّ يَوْمٌ إِلاَّ وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا، فَيَدْنُو مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ، حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا فَيَبِيتُ عِنْدَهَا» فَإِذَا دَخَلَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَطُلْ مُكْثُهُ عَنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ وَلَمْ يُجَامِعْ.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَطُولَ مُكْثُهُ، أَيْ يَجُوزُ لَهُ تَطْوِيلُ الْمُكْثِ لَكِنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى وُجُوبِ عَدَمِ تَطْوِيلِ الْمُكْثِ لِأَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْحَاجَةِ كَابْتِدَاءِ دُخُولٍ لِغَيْرِهَا وَهُوَ حَرَامٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَقْضِي إِذَا دَخَلَ لِحَاجَةٍ وَإِنْ طَالَ الزَّمَنُ؛ لِأَنَّ النَّهَارَ تَابِعٌ مَعَ وُجُودِ الْحَاجَةِ.

وَفِي مُقَابِلِ الصَّحِيحِ يَجِبُ قَضَاءُ الْمُدَّةِ- إِنْ طَالَتْ- دُونَ الْجِمَاعِ، وَوَفَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِحَمْلِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا إِذَا طَالَتْ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَالثَّانِي عَلَى مَا إِذَا طَالَتْ فَوْقَ الْحَاجَةِ.

وَالصَّحِيحُ- عِنْدَهُمْ- أَيْضًا أَنَّ لَهُ مَا سِوَى الْوَطْءِ مِنِ اسْتِمْتَاعٍ.لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ؛ وَلِأَنَّ النَّهَارَ تَابِعٌ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ، أَمَّا الْوَطْءُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ لَيْلًا أَمْ نَهَارًا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَطَالَ الْمَقَامَ عِنْدَ غَيْرِ صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ قَضَاهُ، وَإِنِ اسْتَمْتَعَ بِهَا بِمَا دُونَ الْفَرْجِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَجُوزُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-، وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهَا بِهِ السَّكَنُ، وَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهَا فَجَامَعَهَا فِي الزَّمَنِ الْيَسِيرِ- لَيْلًا أَوْ نَهَارًا- فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ، لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يُسْتَحَقُّ فِي الْقَسْمِ، وَالزَّمَنُ الْيَسِيرُ لَا يُقْضَى.وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْضِيَهُ وَهُوَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى الْمَظْلُومَةِ فِي لَيْلَةِ الْمُجَامَعَةِ فَيُجَامِعَهَا فَيَعْدِلَ بَيْنَهُمَا.وَلِأَنَّ الْيَسِيرَ مَعَ الْجِمَاعِ يَحْصُلُ بِهِ السَّكَنُ فَأَشْبَهَ الْكَثِيرَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَلْزَمُ الزَّوْجَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ فِي اللَّيْلِ، حَتَّى لَوْ جَاءَ لِلْأُولَى بَعْدَ الْغُرُوبِ وَلِلثَّانِيَةِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَقَدْ تَرَكَ الْقَسْمَ، وَلَا يُجَامِعُهَا فِي غَيْرِ نَوْبَتِهَا، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا إِلاَّ لِعِيَادَتِهَا، وَلَوِ اشْتَدَّ مَرَضُهَا- فَفِي الْجَوْهَرَةِ- لَا بَأْسَ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا حَتَّى تُشْفَى أَوْ تَمُوتَ، يَعْنِي إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا مَنْ يُؤْنِسُهَا.

وَالنَّوْبَةُ لَا تَمْنَعُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْأُخْرَى لِيَنْظُرَ فِي حَاجَتِهَا وَيُمَهِّدَ أُمُورَهَا، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُنَّ كُنَّ يَجْتَمِعْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي بَيْتِ الَّتِي يَأْتِيهَا وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ بِرِضَاءِ صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ إِذْ قَدْ تَتَضِيقُ لِذَلِكَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَدْخُلُ الزَّوْجُ فِي يَوْمِ إِحْدَى زَوْجَاتِهِ عَلَى ضَرَّتِهَا، أَيْ يُمْنَعُ، إِلاَّ لِحَاجَةٍ غَيْرِ الِاسْتِمْتَاعِ كَمُنَاوَلَةِ ثَوْبٍ وَنَحْوِهِ فَيَجُوزُ لَهُ وَلَوْ أَمْكَنَهُ الِاسْتِنَابَةُ فِيهَا عَلَى الْأَشْبَهِ بِالْمَذْهَبِ.وَلِمَالِكٍ لَا بُدَّ مِنْ عُسْرِ الِاسْتِنَابَةِ فِيهَا، وَعَمَّمَ ابْنُ نَاجِي دُخُولَهُ لِحَاجَةٍ فِي النَّهَارِ وَاللَّيْلِ مُخَالِفًا لِشَيْخِهِ فِي تَخْصِيصِ الْجَوَازِ بِالنَّهَارِ، وَلِلزَّوْجِ وَضْعُ ثِيَابِهِ عِنْدَ وَاحِدَةٍ دُونَ الْأُخْرَى لِغَيْرِ مَيْلٍ وَلَا إِضْرَارٍ، وَلَا يُقِيمُ عِنْدَ مَنْ دَخَلَ عِنْدَهَا إِلاَّ لِعُذْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَجَازَ فِي يَوْمِهَا وَطْءُ ضَرَّتِهَا بِإِذْنِهَا، وَيَجُوزُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ السَّلَامُ بِالْبَابِ مِنْ خَارِجِهِ فِي غَيْرِ يَوْمِهَا، وَتَفَقُّدُ شَأْنِهَا مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ إِلَيْهَا وَلَا جُلُوسٍ عِنْدَهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ مَا بَعَثَتْ إِلَيْهِ بِالْبَابِ لَا فِي بَيْتِ الْأُخْرَى لِمَا فِيهِ مِنْ أَذِيَّتِهَا.

ذَهَابُ الزَّوْجِ إِلَى زَوْجَاتِهِ وَدَعْوَتُهُنَّ إِلَيْهِ:

21- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ- فِي الْجُمْلَةِ- عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى فِي حَالَةِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُنَّ مَسْكَنٌ يَأْتِيهَا الزَّوْجُ فِيهِ اقْتِدَاءً بِفِعْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- حَيْثُ كَانَ يَقْسِمُ لِنِسَائِهِ فِي بُيُوتِهِنَّ؛ وَلِأَنَّهُ أَصْوَنُ وَأَسْتَرُ حَتَّى لَا تَخْرُجَ النِّسَاءُ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، وَيَجُوزُ لِلزَّوْجِ- إِنِ انْفَرَدَ بِمَسْكَنٍ- أَنْ يَدْعُوَ إِلَيْهِ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ زَوْجَاتِهِ فِي لَيْلَتِهَا لِيُوفِيَهَا حَقَّهَا مِنَ الْقَسْمِ.

لَكِنَّ لِلْفُقَهَاءِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ تَفْصِيلًا يَحْسُنُ عَرْضُهُ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ مَرِضَ الزَّوْجُ فِي بَيْتِهِ دَعَا كُلَّ وَاحِدَةٍ فِي نَوْبَتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا وَأَرَادَ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: جَازَ لِلزَّوْجِ بِرِضَاءِ زَوْجَاتِهِ طَلَبُهُ مِنْهُنَّ الْإِتْيَانَ لِلْبَيَاتِ مَعَهُ بِمَحَلِّهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ هَذَا إِذِ السُّنَّةُ دَوَرَانُهُ هُوَ عَلَيْهِنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ لِفِعْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَإِنْ رَضِيَ بَعْضُهُنَّ لَمْ يَلْزَمْ بَاقِيَهُنَّ، بَلْ نَصَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ يُقْضَى عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَدُورَ عَلَيْهِنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَأْتِينَهُ إِلاَّ أَنْ يَرْضَيْنَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ لَمْ يَنْفَرِدِ الزَّوْجُ بِمَسْكَنٍ وَأَرَادَ الْقَسْمَ دَارَ عَلَيْهِنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ تَوْفِيَةً لِحَقِّهِنَّ، وَإِنِ انْفَرَدَ بِمَسْكَنٍ فَالْأَفْضَلُ الْمُضِيُّ إِلَيْهِنَّ صَوْنًا لَهُنَّ، وَلَهُ دُعَاؤُهُنَّ بِمَسْكَنِهِ، وَعَلَيْهِنَّ الْإِجَابَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّهُ، فَمَنِ امْتَنَعَتْ وَقَدْ لَاقَ مَسْكَنُهُ بِهَا فِيمَا يَظْهَرُ فَهِيَ نَاشِزَةٌ إِلاَّ ذَاتُ خَفَرٍ- قَالَ الشَّبْرَامِلْسِيُّ: أَيْ شَرَفٍ- لَمْ تَعْتَدِ الْبُرُوزَ فَيَذْهَبُ لَهَا كَمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَاسْتَحْسَنَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَإِلاَّ نَحْوُ مَعْذُورَةٍ بِمَرَضٍ فَيَذْهَبُ أَوْ يُرْسِلُ لَهَا مَرْكَبًا إِنْ أَطَاقَتْ مَعَ مَا يَقِيهَا مِنْ نَحْوِ مَطَرٍ.

وَالْأَصَحُّ تَحْرِيمُ ذَهَابِهِ إِلَى بَعْضِهِنَّ وَدُعَاءُ غَيْرِهِنَّ إِلَى مَسْكَنِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيحَاشِ، وَلِمَا فِي تَفْضِيلِ بَعْضِهِنَّ عَلَى بَعْضٍ، مِنْ تَرْكِ الْعَدْلِ، إِلاَّ لِغَرَضٍ كَقُرْبِ مَسْكَنِ مَنْ مَضَى إِلَيْهَا، أَوْ خَوْفٍ عَلَيْهَا لِنَحْوِ شَبَابٍ دُونَ غَيْرِهَا فَلَا يَحْرُمُ.وَالضَّابِطُ أَنْ لَا يَظْهَرَ مِنْهُ التَّفْضِيلُ وَالتَّخْصِيصُ، وَيَحْرُمُ أَنْ يُقِيمَ بِمَسْكَنِ وَاحِدَةٍ وَيَدْعُوَ الْبَاقِيَاتِ إِلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاهُنَّ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ هِيَ فِيهِ حَالَ دُعَائِهِنَّ، فَإِنْ أَجَبْنَ فَلَهَا الْمَنْعُ، وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ مِلْكَ الزَّوْجِ لِأَنَّ حَقَّ السُّكْنَى فِيهِ لَهَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنِ اتَّخَذَ الزَّوْجُ لِنَفْسِهِ مَسْكَنًا غَيْرَ مَسَاكِنِ زَوْجَاتِهِ يَدْعُو إِلَيْهِ كُلَّ وَاحِدَةٍ فِي لَيْلَتِهَا وَيَوْمِهَا وَيُخْلِيهِ مِنْ ضَرَّتِهَا جَازَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ لَهُ نَقْلَ زَوْجَتِهِ حَيْثُ شَاءَ بِمَسْكَنٍ يَلِيقُ بِهَا، وَلَهُ دُعَاءُ بَعْضِ الزَّوْجَاتِ إِلَى مَسْكَنِهِ وَالذَّهَابُ إِلَى مَسْكَنِ غَيْرِهِنَّ مِنَ الزَّوْجَاتِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُسْكِنَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَيْثُ شَاءَ، وَإِنِ امْتَنَعَتْ مَنْ دَعَاهَا عَنْ إِجَابَتِهِ وَكَانَ مَا دَعَاهَا إِلَيْهِ مَسْكَنَ مِثْلِهَا سَقَطَ حَقُّهَا مِنَ الْقَسْمِ لِنُشُوزِهَا، وَإِنْ أَقَامَ عِنْدَ وَاحِدَةٍ وَدَعَا الْبَاقِيَاتِ إِلَى بَيْتِهَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِنَّ الْإِجَابَةُ لِمَا بَيْنَهُنَّ مِنْ غَيْرَةٍ وَالِاجْتِمَاعُ يُزِيدُهَا.

الْقُرْعَةُ لِلسَّفَرِ:

22- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الرَّجُلِ يُرِيدُ السَّفَرَ بِإِحْدَى زَوْجَاتِهِ هَلْ لَهُ ذَلِكَ، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ رِضَا سَائِرِ الزَّوْجَاتِ أَوِ الْقُرْعَةِ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ السَّفَرَ بِمَنْ شَاءَ مِنْ زَوْجَاتِهِ دُونَ قُرْعَةٍ أَوْ رِضَا سَائِرِ الزَّوْجَاتِ، لَكِنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمْ تَفْصِيلًا: فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا حَقَّ لِلزَّوْجَاتِ فِي الْقَسْمِ حَالَةَ السَّفَرِ، فَيُسَافِرُ الزَّوْجُ بِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ.

وَالْأَوْلَى أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ فَيُسَافِرَ بِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهَا، تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَثِقُ بِإِحْدَى الزَّوْجَاتِ فِي السَّفَرِ وَبِالْأُخْرَى فِي الْحَضَرِ وَالْقَرَارُ فِي الْمَنْزِلِ لِحِفْظِ الْأَمْتِعَةِ أَوْ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ، وَقَدْ يَمْنَعُ مِنْ سَفَرِ إِحْدَاهُنَّ كَثْرَةُ سِمَنِهَا مَثَلًا، فَتَعْيِينُ مَنْ يَخَافُ صُحْبَتَهَا فِي السَّفَرِ لِلسَّفَرِ لِخُرُوجِ قُرْعَتِهَا إِلْزَامٌ لِلضَّرَرِ الشَّدِيدِ وَهُوَ مُنْدَفِعٌ بِالنَّافِي لِلْحَرَجِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يُسَافِرَ بِإِحْدَى زَوْجَتَيْهِ أَوْ زَوْجَاتِهِ اخْتَارَ مَنْ تَصْلُحُ لِإِطَاقَتِهَا السَّفَرَ أَوْ لِخِفَّةِ جِسْمِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَا لِمَيْلِهِ إِلَيْهَا، إِلاَّ فِي سَفَرِ الْحَجِّ وَالْغَزْوِ فَيُقْرِعُ بَيْنَهُمَا أَوْ بَيْنَهُنَّ لِأَنَّ الْمُشَاحَّةَ تَعْظُمُ فِي سَفَرِ الْقُرُبَاتِ، وَشَرْطُ الْإِقْرَاعِ صَلَاحُ جَمِيعِهِنَّ لِلسَّفَرِ، وَمَنِ اخْتَارَ سَفَرَهَا أَوْ تَعَيَّنَ بِالْقُرْعَةِ أُجْبِرَتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهَا أَوْ يَكُونُ سَفَرُهَا مَعَرَّةً عَلَيْهَا، وَمَنْ أَبَتْ لِغَيْرِ عُذْرٍ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا.

وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِبَعْضِ زَوْجَاتِهِ- وَاحِدَةً أَوْ أَكْثَرَ- إِلاَّ بِرِضَاءِ سَائِرِهِنَّ أَوْ بِالْقُرْعَةِ، وَذَلِكَ فِي الْأَسْفَارِ الطَّوِيلَةِ الْمُبِيحَةِ لِقَصْرِ الصَّلَاةِ، وَكَذَا فِي الْأَسْفَارِ الْقَصِيرَةِ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَالُوا: لَا فَرْقَ بَيْنَ السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ لِعُمُومِ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ بَعْضَ زَوْجَاتِهِ بِالْقُرْعَةِ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ، وَلَيْسَ لِلْمُقِيمِ تَخْصِيصُ بَعْضِهِنَّ بِالْقُرْعَةِ، فَإِنْ فَعَلَ قَضَى لِلْبَوَاقِي.

وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى وُجُوبِ الْقُرْعَةِ لِتَعْيِينِ إِحْدَى الزَّوْجَاتِ لِلسَّفَرِ مَعَ الزَّوْجِ بِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، وَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ»، كَمَا اسْتَدَلُّوا عَلَى الْقُرْعَةِ لِتَعْيِينِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ لِلسَّفَرِ مَعَ الزَّوْجِ إِنْ أَرَادَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا خَرَجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَصَارَتِ الْقُرْعَةُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ» وَقَالُوا: إِنَّ الْمُسَافَرَةَ بِبَعْضِ الزَّوْجَاتِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ تَفْضِيلٌ لِمَنْ سَافَرَ بِهَا فَلَمْ يَجُزْ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ.

وَقَالُوا: إِذَا سَافَرَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ سَوَّى بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ فِي السَّفَرِ كَمَا يُسَوِّي بَيْنَهُنَّ فِي الْحَضَرِ.

وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِإِحْدَى الزَّوْجَاتِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الزَّوْجِ السَّفَرُ بِهَا، وَلَهُ تَرْكُهَا وَالسَّفَرُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ لَا تُوجِبُ وَإِنَّمَا تُعَيِّنُ مَنْ تَسْتَحِقُّ التَّقْدِيمَ، وَإِنْ أَرَادَ السَّفَرَ بِغَيْرِهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهَا تَعَيَّنَتْ بِالْقُرْعَةِ فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَإِنِ امْتَنَعَتْ مِنَ السَّفَرِ مَعَ الزَّوْجِ سَقَطَ حَقُّهَا إِذَا رَضِيَ الزَّوْجُ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الزَّوْجُ بِامْتِنَاعِهَا فَلَهُ إِكْرَاهُهَا عَلَى السَّفَرِ مَعَهُ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا إِجَابَتُهُ، فَإِنْ رَضِيَ بِامْتِنَاعِهَا اسْتَأْنَفَ الْقُرْعَةَ بَيْنَ الْبَوَاقِي لِتَعْيِينِ مَنْ تُسَافِرُ مَعَهُ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ خَرَجَتْ لَهَا الْقُرْعَةُ إِنْ وَهَبَتْ حَقَّهَا مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِهَا مِنَ الزَّوْجَاتِ جَازَ إِنْ رَضِيَ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا فَصَحَّتْ هِبَتُهَا لَهُ كَمَا لَوْ وَهَبَتْ لَيْلَتَهَا فِي الْحَضَرِ، وَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِ رِضَا الزَّوْجِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا لَا يَسْقُطُ إِلاَّ بِرِضَاهُ، وَإِنْ وَهَبَتْهُ لِلزَّوْجِ أَوْ لِسَائِرِ الزَّوْجَاتِ جَازَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ رَضِيَتِ الزَّوْجَاتُ كُلُّهُنَّ بِسَفَرِ وَاحِدَةٍ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُنَّ إِلاَّ أَنْ لَا يَرْضَى الزَّوْجُ بِهَا فَيُصَارُ إِلَى الْقُرْعَةِ، وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَاتِ إِنْ رَضِينَ بِوَاحِدَةٍ فَلَهُنَّ الرُّجُوعُ قَبْلَ سَفَرِهَا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَكَذَا بَعْدَهُ مَا لَمْ يُجَاوِزْ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، أَيْ يَصِلُ إِلَيْهَا.

وَقَالُوا: لَوْ أَقْرَعَ الزَّوْجُ بَيْنَ نِسَائِهِ عَلَى سَفَرٍ فَخَرَجَ سَهْمُ وَاحِدَةٍ فَخَرَجَ بِهَا، ثُمَّ أَرَادَ سَفَرًا آخَرَ قَبْلَ رُجُوعِهِ مِنْ ذَلِكَ السَّفَرِ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ كَالسَّفَرِ الْوَاحِدِ، مَا لَمْ يَرْجِعْ، فَإِذَا رَجَعَ فَأَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ.

وَقَالُوا: لَوْ سَافَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ أَوْ أَكْثَرَ بِقُرْعَةٍ أَوْ بِرِضَاهُنَّ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِلْحَاضِرَاتِ، سَوَاءٌ طَالَ سَفَرُهُ أَوْ قَصُرَ؛ لِأَنَّ الَّتِي سَافَرَ بِهَا يَلْحَقُهَا مِنْ مَشَقَّةِ السَّفَرِ بِإِزَاءِ مَا حَصَلَ لَهَا مِنَ السَّكَنِ، وَلَا يَحْصُلُ لَهَا مِنَ السَّكَنِ مِثْلُ مَا يَحْصُلُ لِمَنْ فِي الْحَضَرِ، أَيْ أَنَّ الْمُقِيمَةَ فِي الْحَضَرِ الَّتِي لَمْ تُسَافِرْ مَعَ زَوْجِهَا وَإِنْ فَاتَهَا حَظُّهَا مِنْ زَوْجِهَا أَثْنَاءَ سَفَرِهِ مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الزَّوْجَاتِ، فَقَدْ تَرَفَّهَتْ بِالدَّعَةِ وَالْإِقَامَةِ فَتَقَابَلَ الْأَمْرَانِ فَاسْتَوَيَا، وَلَوْ سَافَرَ الزَّوْجُ بِوَاحِدَةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ زَوْجَاتِهِ دُونَ رِضَاهُنَّ أَوِ الْقُرْعَةِ أَثِمَ، وَقَضَى لِلْأُخْرَيَاتِ مُدَّةَ السَّفَرِ.

وَقَالُوا: إِنْ خَرَجَ بِإِحْدَاهُنَّ بِقُرْعَةٍ ثُمَّ أَقَامَ قَضَى مُدَّةَ الْإِقَامَةِ لِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ السَّفَرِ، وَذَلِكَ إِذَا سَاكَنَ الْمَصْحُوبَةَ، أَمَّا إِذَا اعْتَزَلَهَا مُدَّةَ الْإِقَامَةِ فَلَا يَقْضِي.

وَقَالُوا: مَنْ سَافَرَ لِنُقْلَةٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ بَعْضَهُنَّ دُونَ بَعْضٍ وَلَوْ بِقُرْعَةٍ، بَلْ يَنْقُلَهُنَّ أَوْ يُطَلِّقَهُنَّ، وَإِنْ أَرَادَ الِانْتِقَالَ بِنِسَائِهِ فَأَمْكَنَهُ اسْتِصْحَابُهُنَّ كُلُّهُنَّ فِي سَفَرِهِ فَعَلَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِفْرَادُ إِحْدَاهُنَّ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا السَّفَرَ لَا يَخْتَصُّ بِوَاحِدَةٍ بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلِ جَمِيعِهِنَّ، فَإِنْ خَصَّ إِحْدَاهُنَّ بِالسَّفَرِ مَعَهُ قَضَى لِلْبَاقِيَاتِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ صُحْبَةُ جَمِيعِهِنَّ أَوْ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَبَعَثَ بِهِنَّ جَمِيعًا مَعَ غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ مَحْرَمٌ لَهُنَّ جَازَ، وَلَا يَقْضِي لِأَحَدٍ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى قُرْعَةٍ لِأَنَّهُ سَوَّى بَيْنَهُنَّ، وَإِنْ أَرَادَ إِفْرَادَ بَعْضِهِنَّ بِالسَّفَرِ مَعَهُ لَمْ يَجُزْ إِلاَّ بِقُرْعَةٍ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ فَأَقَامَتْ مَعَهُ فِيهِ قَضَى لِلْبَاقِيَاتِ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ هَذِهِ الْأَحْكَامُ هُوَ السَّفَرُ الْمُبَاحُ، أَمَّا غَيْرُهُ فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ فِيهِ بَعْضَهُنَّ بِقُرْعَةٍ وَلَا بِغَيْرِهَا، فَإِنْ فَعَلَ عَصَى وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ لِلزَّوْجَاتِ الْبَاقِيَاتِ.

قَضَاءُ مَا فَاتَ مِنَ الْقَسْمِ:

23- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَدْلَ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَاجِبٌ عَلَى الزَّوْجِ، فَإِنْ جَارَ الزَّوْجُ وَفَوَّتَ عَلَى إِحْدَاهُنَّ قَسْمَهَا فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي قَضَاءِ مَا فَاتَ مِنَ الْقَسْمِ: فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: لَا يَقْضِي الزَّوْجُ الْمَبِيتَ الَّذِي كَانَ مُسْتَحَقًّا لِإِحْدَى زَوْجَاتِهِ وَلَمْ يُوفِهِ لَهَا؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْمَبِيتِ دَفْعُ الضَّرَرِ وَتَحْصِينُ الْمَرْأَةِ وَإِذْهَابُ الْوَحْشَةِ، وَهَذَا يَفُوتُ بِفَوَاتِ زَمَنِهِ، فَلَا يُجْعَلُ لِمَنْ فَاتَتْ لَيْلَتُهَا لَيْلَةً عِوَضًا عَنْهَا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَظْلِمُ صَاحِبَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ الَّتِي جَعَلَهَا عِوَضًا؛ وَلِأَنَّ الْمَبِيتَ لَا يَزِيدُ عَلَى النَّفَقَةِ وَهِيَ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَقْضِيَ مَا فَاتَ مِنَ الْقَسْمِ لِلزَّوْجَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِسَبَبٍ مِنْ جَانِبِهَا كَنُشُوزِهَا أَوْ إِغْلَاقِهَا بَابَهَا دُونَهُ وَمَنْعِهَا إِيَّاهُ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهَا فِي نَوْبَتِهَا.

وَأَسْبَابُ فَوَاتِ الْقَسْمِ مُتَعَدِّدَةٌ: فَقَدْ يُسَافِرُ الزَّوْجُ بِإِحْدَى الزَّوْجَاتِ فَيَفُوتُ الْقَسْمُ لِسَائِرِهِنَّ.وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ حُكْمِ الْقَضَاءِ لَهُنَّ تَفْصِيلًا.

وَقَدْ يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ أَثْنَاءَ دَوْرَةِ الْقَسْمِ لِزَوْجَاتِهِ وَقَبْلَ أَنْ يُوفِيَ نَوْبَاتِ الْقَسْمِ الْمُسْتَحَقَّةِ لَهُنَّ، فَيَقْطَعَ الدَّوْرَةَ لِيَخْتَصَّ الزَّوْجَةَ الْجَدِيدَةَ بِقَسْمِ النِّكَاحِ، مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَوَاتُ نَوْبَةِ مَنْ لَمْ يَأْتِ دَوْرُهَا فَيَجِبُ الْقَضَاءُ لَهَا.وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ.

وَقَدْ يَفُوتُ قَسْمُ إِحْدَى الزَّوْجَاتِ بِسَفَرِهَا، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: قَالُوا: إِنْ سَافَرَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لِحَاجَتِهَا أَوْ حَاجَتِهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا قَسْمَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْقَسْمَ لِلْأُنْسِ وَقَدِ امْتَنَعَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا فَسَقَطَ، وَإِنْ سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ لِغَرَضِهِ أَوْ حَاجَتِهِ فَإِنَّهُ يَقْضِي لَهَا مَا فَاتَهَا بِحَسَبِ مَا أَقَامَ عِنْدَ ضَرَّتِهَا لِأَنَّهَا سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ وَلِغَرَضِهِ، فَهِيَ كَمَنْ عِنْدَهُ وَفِي قَبْضَتِهِ وَهُوَ الْمَانِعُ نَفْسَهُ بِإِرْسَالِهَا، وَإِنْ سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ لِغَرَضِهَا أَوْ حَاجَتِهَا لَا يَقْضِي لَهَا (عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) لِأَنَّهَا فَوَّتَتْ حَقَّهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا وَلَمْ تَكُنْ فِي قَبْضَتِهِ، وَإِذْنُهُ لَهَا بِالسَّفَرِ رَافِعٌ لِلْإِثْمِ خَاصَّةً.

وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ سَافَرَتْ لِحَاجَةِ ثَالِثٍ- غَيْرِهَا وَغَيْرِ الزَّوْجِ- قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: فَيَظْهَرُ أَنَّهُ كَحَاجَةِ نَفْسِهَا، وَهُوَ- كَمَا قَالَ غَيْرُهُ- ظَاهِرٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ خُرُوجُهَا بِسُؤَالِ الزَّوْجِ لَهَا فِيهِ، وَإِلاَّ فَيُلْحَقُ بِخُرُوجِهَا لِحَاجَتِهِ بِإِذْنِهِ، وَلَوْ سَافَرَتْ وَحْدَهَا بِإِذْنِهِ لِحَاجَتِهِمَا مَعًا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهَا كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّفَقَةِ وَمِثْلُهَا الْقَسْمُ، خِلَافًا لِمَا بَحَثَهُ ابْنُ الْعِمَادِ مِنَ السُّقُوطِ

وَقَدْ يَفُوتُ قَسْمُ إِحْدَى الزَّوْجَاتِ بِتَخَلُّفِ الزَّوْجِ عَنِ الْمَبِيتِ عِنْدَهَا فِي نَوْبَتِهَا أَوْ بِخُرُوجِهِ أَثْنَاءَ نَوْبَتِهَا، فَإِنْ كَانَ الْفَوَاتُ لِلنَّوْبَةِ بِكَامِلِهَا وَجَبَ قَضَاؤُهَا كَامِلَةً، وَإِنْ كَانَ الْفَوَاتُ لِبَعْضِ النَّوْبَةِ كَأَنْ خَرَجَ لَيْلًا- فِيمَنْ عِمَادُ قَسْمِهِ اللَّيْلُ- وَطَالَ زَمَنُ خُرُوجِهِ وَلَوْ لِغَيْرِ بَيْتِ الضَّرَّةِ.فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْخُرُوجِ.

تَنَازُلُ الزَّوْجَةِ عَنْ قَسْمِهَا:

24- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِإِحْدَى زَوْجَاتِ الرَّجُلِ أَنْ تَتَنَازَلَ عَنْ قَسْمِهَا، أَوْ تَهَبَ حَقَّهَا مِنَ الْقَسْمِ لِزَوْجِهَا أَوْ لِبَعْضِ ضَرَائِرِهَا أَوْ لَهُنَّ جَمِيعًا، وَذَلِكَ بِرِضَا الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا لَا يَسْقُطُ إِلاَّ بِرِضَاهُ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ إِسْقَاطَ حَقِّهِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَإِذَا رَضِيَتْ هِيَ وَالزَّوْجُ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ لَهُمَا لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا، فَإِنْ أَبَتِ الْمَوْهُوبَةُ قَبُولَ الْهِبَةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ ثَابِتٌ وَإِنَّمَا مَنَعَتْهُ الْمُزَاحَمَةُ بِحَقِّ صَاحِبَتِهَا، فَإِنْ زَالَتِ الْمُزَاحَمَةُ بِهِبَتِهَا ثَبَتَ حَقُّهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا وَإِنْ كَرِهَتْ كَمَا لَوْ كَانَتْ مُنْفَرِدَةً وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ- رضي الله عنها- وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ- رضي الله عنها-، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ بِيَوْمِهَا وَيَوْمِ سَوْدَةَ».

وَيُعَلِّقُ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى هَذِهِ الْهِبَةِ بِقَوْلِهِمْ: هَذِهِ الْهِبَةُ لَيْسَتْ عَلَى قَوَاعِدِ الْهِبَاتِ، وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ قَبُولُ الْمَوْهُوبِ لَهَا أَوْ رِضَاهَا، بَلْ يَكْفِي رِضَا الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوَاهِبَةِ وَبَيْنِهِ، إِذْ لَيْسَ لَنَا هِبَةٌ يُقْبَلُ فِيهَا غَيْرُ الْمَوْهُوبِ لَهُ مَعَ تَأَهُّلِهِ لِلْقَبُولِ إِلاَّ هَذِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ وَهَبَتْ لَيْلَتَهَا لِجَمِيعِ ضَرَائِرِهَا، وَوَافَقَ الزَّوْجُ، صَارَ الْقَسْمُ بَيْنَهُنَّ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ الْوَاهِبَةَ، وَإِنْ وَهَبَتْهَا لِلزَّوْجِ فَلَهُ جَعْلُهَا لِمَنْ شَاءَ: إِنْ أَرَادَ جَعْلَهَا لِلْجَمِيعِ، أَوْ خَصَّ بِهَا وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، أَوْ جَعَلَ لِبَعْضِهِنَّ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ.

وَقِيلَ- عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّيْلَةَ الْمَوْهُوبَةَ لَهُ حَيْثُ شَاءَ مِنْ بَقِيَّةِ الزَّوْجَاتِ، بَلْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُنَّ وَلَا يُخَصِّصُ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ يُورِثُ الْوَحْشَةَ وَالْحِقْدَ، فَتُجْعَلُ الْوَاهِبَةُ كَالْمَعْدُومَةِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَذَلِكَ أَنَّ إِحْدَى الزَّوْجَاتِ لَوْ وَهَبَتْ لَيْلَتَهَا لِلزَّوْجِ وَلِبَعْضِ الزَّوْجَاتِ، أَوْ لَهُ وَلِلْجَمِيعِ، فَإِنَّ حَقَّهَا يُقْسَمُ عَلَى الرُّءُوسِ، كَمَا لَوْ وَهَبَ شَخْصٌ عَيْنًا لِجَمَاعَةٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ وَهَبَتْ إِحْدَى الزَّوْجَاتِ لَيْلَتَهَا لِوَاحِدَةٍ جَازَ، ثُمَّ إِنْ كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ تَلِي لَيْلَةَ الْمَوْهُوبَةِ وَالَى بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَلِيهَا لَمْ يَجُزِ الْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِرِضَاءِ الْبَاقِيَاتِ، وَيَجْعَلُهَا لَهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ لِلْوَاهِبَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَةَ قَامَتْ مَقَامَ الْوَاهِبَةِ فِي لَيْلَتِهَا فَلَمْ يَجُزْ تَغْيِيرُهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً لِلْوَاهِبَةِ؛ وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَأْخِيرَ حَقِّ غَيْرِهَا وَتَغْيِيرًا لِلَيْلَتِهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا فَلَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا وَهَبَتْهَا لِلزَّوْجِ فَآثَرَ بِهَا امْرَأَةً مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَوَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُوَالِيَ بَيْنَ اللَّيْلَتَيْنِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي التَّفْرِيقِ.

وَلِلزَّوْجَةِ الْوَاهِبَةِ الرُّجُوعُ مَتَى شَاءَتْ فَإِذَا رَجَعَتِ انْصَرَفَ الرُّجُوعُ مِنْ حِينِهِ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّهَا هِبَةٌ لَمْ تُقْبَضْ فَلَهَا الرُّجُوعُ فِيهَا، وَلَيْسَ لَهَا الرُّجُوعُ فِيمَا مَضَى لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ، وَلَوْ رَجَعَتْ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ كَانَ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى أَتَمَّ اللَّيْلَةَ لَمْ يَقْضِ لَهَا شَيْئًا لِأَنَّ التَّفْرِيطَ مِنْهَا.

وَنَصَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا يُوَافِقُ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ فِي الْمَسَائِلِ السَّابِقَةِ.

الْعِوَضُ لِلتَّنَازُلِ عَنِ الْقَسْمِ:

25- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَخْذِ الزَّوْجَةِ الْمُتَنَازِلَةِ عَنْ قَسْمِهَا عِوَضًا عَلَى ذَلِكَ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ، لَا مِنَ الزَّوْجِ وَلَا مِنَ الضَّرَائِرِ، فَإِنْ أَخَذَتْ لَزِمَهَا رَدُّهُ وَاسْتَحَقَّتِ الْقَضَاءَ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ لَمْ يُسَلَّمْ لَهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْ قَسْمِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَيْنٍ وَلَا مَنْفَعَةٍ؛ وَلِأَنَّ مَقَامَ الزَّوْجِ عِنْدَهَا لَيْسَ بِمَنْفَعَةٍ مَلَكَتْهَا.

وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الْعِوَضُ غَيْرَ الْمَالِ مِثْلَ إِرْضَاءِ زَوْجِهَا وَغَيْرِهِ عَنْهَا جَازَ فَإِنَّ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَرْضَتْ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ صَفِيَّةَ- رضي الله عنها- وَأَخَذَتْ يَوْمَهَا، وَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يُنْكِرْهُ.

قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ أَخْذِ الْعِوَضِ عَنْ سَائِرِ حُقُوقِهَا مِنَ الْقَسْمِ وَغَيْرِهِ وَوَقَعَ فِي كَلَامِ الْقَاضِي مَا يَقْتَضِي جَوَازَهُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَخْذَ الْعِوَضِ عَلَى ذَلِكَ جَائِزٌ، فَقَالُوا: جَازَ لِلزَّوْجِ إِيثَارُ إِحْدَى الضَّرَّتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى بِرِضَاهَا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ تَأْخُذُهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ ضَرَّتِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا، أَوْ لَا، بَلْ رَضِيَتْ مَجَّانًا، وَجَازَ لِلزَّوْجِ أَوِ الضَّرَّةِ شِرَاءُ يَوْمِهَا مِنْهَا بِعِوَضٍ، وَتَخْتَصُّ الضَّرَّةُ بِمَا اشْتَرَتْ، وَيَخُصُّ الزَّوْجُ مَنْ شَاءَ بِمَا اشْتَرَى، وَعَقَّبَ الدُّسُوقِيُّ بِقَوْلِهِ: وَتَسْمِيَةُ هَذَا شِرَاءً مُسَامَحَةٌ، بَلْ هَذَا إِسْقَاطُ حَقٍّ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَمَوَّلًا.

مَا يَسْقُطُ بِهِ الْقَسْمُ:

26- يَسْقُطُ حَقُّ الزَّوْجَةِ فِي الْقَسْمِ بِإِسْقَاطِهَا وَيَسْقُطُ بِالنُّشُوزِ كَمَا تَسْقُطُ بِهِ النَّفَقَةُ.وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَمِنَ النُّشُوزِ أَنْ تَخْرُجَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَوْ تَمْنَعَهُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِهَا.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ بِنَحْوِ قُبْلَةٍ وَإِنْ مَكَّنَتْهُ مِنَ الْجِمَاعِ حَيْثُ لَا عُذْرَ فِي امْتِنَاعِهَا مِنْهُ، فَإِنْ عُذِرَتْ كَأَنْ كَانَ بِهِ صُنَانٌ مُسْتَحْكِمٌ- مَثَلًا- وَتَأَذَّتْ بِهِ تَأَذِّيًا لَا يُحْتَمَلُ عَادَةً لَمْ تُعَدَّ نَاشِزَةً، وَتُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إِنْ لَمْ تَدُلَّ قَرِينَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى كَذِبِهَا.وَسُقُوطُ حَقِّ النَّاشِزَةِ فِي الْقَسْمِ لِأَنَّهَا بِخُرُوجِهَا عَلَى طَاعَةِ زَوْجِهَا وَامْتِنَاعِهَا مِنْهُ رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ حَقِّهَا فِي الْقَسْمِ.

وَلَا تَسْتَحِقُّ الْقَسْمَ زَوْجَةٌ صَغِيرَةٌ لَا تُطِيقُ الْوَطْءَ، وَكَذَا الْمَجْنُونَةُ غَيْرُ الْمَأْمُونَةِ، وَالْمَحْبُوسَةُ؛ لِأَنَّ فِي إِلْزَامِ زَوْجِهَا بِالْقَسْمِ لَهَا إِضْرَارًا بِهِ حَيْثُ يَدْخُلُ الْحَبْسَ مَعَهَا لِيُوفِيَهَا قَسْمَهَا، وَالزَّوْجَةُ الْمُسَافِرَةُ لِحَاجَتِهَا وَحْدَهَا بِإِذْنِ زَوْجِهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


126-موسوعة الفقه الكويتية (قضاء 4)

قَضَاء -4

انْتِهَاءُ وِلَايَةِ الْقَاضِي:

62- تَنْتَهِي وِلَايَةُ الْقَاضِي بِعَزْلِهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى صِحَّةَ عَزْلِهِ، أَوِ اعْتِزَالِهِ الْقَضَاءَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، أَوْ بِمَوْتِهِ.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الْإِمَامِ وَلَا بِمَوْتِهِ، وَعَلَّلَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقَاضِيَ يَخْرُجُ مِنَ الْقَضَاءِ بِكُلِّ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عَنِ الْوَكَالَةِ، لَا يَخْتَلِفَانِ إِلاَّ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ إِذَا مَاتَ أَوْ خُلِعَ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ، وَالْخَلِيفَةُ إِذَا مَاتَ أَوْ خَلُعَ لَا تَنْعَزِلُ قُضَاتُهُ وَوُلَاتُهُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ الْوَكِيلَ يَعْمَلُ بِوِلَايَةِ الْمُوَكِّلِ وَفِي خَالِصِ حَقِّهِ وَقَدْ بَطَلَتْ أَهْلِيَّةُ الْوِلَايَةِ فَيَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ، وَالْقَاضِي لَا يَعْمَلُ بِوِلَايَةِ الْخَلِيفَةِ وَفِي حَقِّهِ، بَلْ بِوِلَايَةِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي حُقُوقِهِمْ، وَإِنَّمَا الْخَلِيفَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ عَنْهُمْ لِهَذَا لَمْ تَلْحَقْهُ الْعُهْدَةُ، وَوِلَايَةُ الْمُسْلِمِينَ- بَعْدَ مَوْتِ الْخَلِيفَةِ- بَاقِيَةٌ، فَيَبْقَى الْقَاضِي عَلَى وِلَايَتِهِ.

وَعَلَّلَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ نَائِبًا عَنِ الْإِمَامِ فَلَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِهِ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يَسْتَنِيبُ الْقُضَاةَ فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَنْعَزِلُوا، وَلِأَنَّ الْخُلَفَاءَ- رضي الله عنهم- وَلَّوْا حُكَّامًا فِي زَمَنِهِمْ فَلَمْ يَنْعَزِلُوا بِمَوْتِهِمْ؛ وَلِأَنَّ فِي عَزْلِهِ بِمَوْتِ الْإِمَامِ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْبُلْدَانَ تَتَعَطَّلُ مِنَ الْحُكَّامِ، وَتَقِفُ أَحْكَامُ النَّاسِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ.

عَزْلُ الْقَاضِي:

63- لَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَعْزِلَ الْقَاضِيَ إِذَا ظَهَرَ مِنْهُ خَلَلٌ كَفِسْقٍ أَوْ مَرَضٍ يَمْنَعُهُ مِنَ الْقَضَاءِ، أَوِ اخْتَلَّ فِيهِ بَعْضُ شُرُوطِهِ، لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي حُكْمِ عَزْلِهِ لِلْقَاضِي دُونَ مُوجِبٍ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا عَزَلَ الْقَاضِيَ وَقَعَ الْعَزْلُ، لَكِنَّ الْأَوْلَى عَدَمُ عَزْلِهِ إِلاَّ لِعُذْرٍ، فَلَوْ عَزَلَهُ دُونَ عُذْرٍ فَإِنَّهُ يَتَعَرَّضُ لِإِثْمٍ عَظِيمٍ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ الْعَزْلِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: لأَعْزِلَنَّ أَبَا مَرْيَمَ، وَأُوَلِّيَنَّ رَجُلًا إِذَا رَآهُ الْفَاجِرُ فَرِقَهُ فَعَزَلَهُ عَنْ قَضَاءِ الْبَصْرَةِ، وَوَلَّى كَعْبَ بْنَ سَوَّارٍ مَكَانَهُ، وَوَلَّى عَلِيٌّ- رضي الله عنه- أَبَا الْأَسْوَدِ ثُمَّ عَزَلَهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّ عَزْلَ الْإِمَامِ لِلْقَاضِي لَيْسَ بِعَزْلٍ لَهُ حَقِيقَةً، بَلْ بِعَزْلِ الْعَامَّةِ لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ تَوْلِيَتَهُ بِتَوْلِيَةِ الْعَامَّةِ، وَالْعَامَّةُ وَلَّوْهُ الِاسْتِبْدَالَ دَلَالَةً لِتَعَلُّقِ مَصْلَحَتِهِمْ بِذَلِكَ، فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ مِنْهُمْ مَعْنًى فِي الْعَزْلِ أَيْضًا فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَزْلِ وَالْمَوْتِ، وَلَا يَمْلِكُ الْقَاضِي عَزْلَ نَائِبِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي تَعْيِينِهِ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْإِمَامِ، فَلَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ مَا لَمْ يَكُنِ الْإِمَامُ قَدْ أَذِنَ لَهُ بِاسْتِبْدَالِ مَنْ يَشَاءُ فَيَمْلِكُ عَزْلَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَزْلًا مِنَ الْخَلِيفَةِ لَا مِنَ الْقَاضِي.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ مِنْهُ خَلَلٌ فَلِلْإِمَامِ عَزْلُهُ، قَالَ فِي الْوَسِيطِ: وَيَكْفِي فِيهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ خَلَلٌ نُظِرَ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، لَمْ يَجُزْ عَزْلُهُ، وَلَوْ عَزَلَهُ لَمْ يَنْعَزِلْ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ صَالِحٌ نُظِرَ إِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ جَازَ عَزْلُهُ وَانْعَزَلَ الْمَفْضُولُ بِالْعَزْلِ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ دُونَهُ، فَإِنْ كَانَ فِي الْعُزْلَةِ بِهِ مَصْلَحَةٌ مِنْ تَسْكِينِ فِتْنَةٍ وَنَحْوِهَا، فَلِلْإِمَامِ عَزْلُهُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَمْ يَجُزْ، فَلَوْ عَزَلَهُ نَفَذَ عَلَى الْأَصَحِّ مُرَاعَاةً لِطَاعَةِ السُّلْطَانِ، وَمَتَى كَانَ الْعَزْلُ فِي مَحَلِّ النَّظَرِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى الْإِمَامِ فِيهِ، وَيُحْكَمُ بِنُفُوذِهِ، وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ تَوْلِيَةَ قَاضٍ بَعْدَ قَاضٍ هَلْ هِيَ عَزْلٌ لِلْأَوَّلِ؟ وَجْهَانِ وَلِيَكُونَا مَبْنِيَّيْنِ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ قَاضِيَانِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الْإِمَامِ دُونَ مُوجِبٍ لِأَنَّ عَقْدَهُ كَانَ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَمْلِكُ عَزْلَهُ مَعَ سَدَادِ حَالِهِ، وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ لَهُ عَزْلُ الْقَاضِي مَا كَانَ مُقِيمًا عَلَى الشَّرَائِطِ لِأَنَّهُ بِالْوِلَايَةِ يَصِيرُ نَاظِرًا لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى سَبِيلِ الْمَصْلَحَةِ لَا عَنِ الْإِمَامِ، وَيُفَارِقُ الْمُوَكِّلَ، فَإِنَّ لَهُ عَزْلَ وَكِيلِهِ لِأَنَّهُ يَنْظُرُ فِي حَقِّ مُوَكِّلِهِ خَاصَّةً.

وَهَلْ يَنْعَزِلُ الْقَاضِي إِذَا كَثُرَتِ الشَّكْوَى عَلَيْهِ؟

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ إِلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:

الْأَوَّلُ: وُجُوبُ عَزْلِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ مُتَعَيِّنًا لِلْقَضَاءِ، وَهُوَ مَا قَالَ بِهِ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ.

الثَّانِي: جَوَازُ عَزْلِهِ، فَإِذَا حَصَلَ ظَنٌّ غَالِبٌ لِلْإِمَامِ بِصِحَّةِ الشَّكَاوَى جَازَ لَهُ عَزْلُهُ وَهُوَ رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: «عَزَلَ إِمَامًا يُصَلِّي بِقَوْمٍ بَصَقَ فِي الْقِبْلَةِ وَقَالَ: لَا يُصَلِّي لَكُمْ».

وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ هُوَ أَنَّهُ إِذَا جَازَ عَزْلُ إِمَامِ الصَّلَاةِ لِخَلَلٍ جَازَ عَزْلُ الْقَاضِي مِنْ بَابٍ أَوْلَى.

الثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ، وَهُوَ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ، إِنِ اشْتَهَرَ بِالْعَدَالَةِ، قَالَ مُطَرِّفٌ: لَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ عَزْلُهُ وَإِنْ وَجَدَ عِوَضًا مِنْهُ فَإِنَّ فِي عَزْلِهِ إِفْسَادًا لِلنَّاسِ عَلَى قُضَاتِهِمْ، وَقَالَ أَصْبَغُ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَعْزِلَهُ وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِالْعَدَالَةِ وَالرِّضَا إِذَا وَجَدَ مِنْهُ بَدَلًا؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِصْلَاحًا لِلنَّاسِ، يَعْنِي لِمَا ظَهَرَ مِنِ اسْتِيلَاءِ الْقُضَاةِ وَقَهْرِهِمْ فَفِي ذَلِكَ كَفٌّ لَهُمْ.

وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَشْهُورٍ فَلْيَعْزِلْهُ إِذَا وَجَدَ بَدَلًا مِنْهُ وَتَضَافَرَ عَلَيْهِ الشَّكِيَّةُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ بَدَلًا مِنْهُ كَشَفَ عَنْ حَالِهِ وَصِحَّةِ الشَّكَاوَى عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ رِجَالٍ ثِقَاتٍ يَسْتَفْسِرُونَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ فَإِنْ صَدَّقُوا ذَلِكَ عَزْلَهُ، وَإِنْ قَالَ أَهْلُ بَلَدِهِ: مَا نَعْلَمُ مِنْهُ إِلاَّ خَيْرًا، أَبْقَاهُ وَنَظَرَ فِي أَحْكَامِهِ الصَّادِرَةِ فَمَا وَافَقَ السُّنَّةَ أَمْضَاهُ، وَمَا خَالَفَ رَدَّهُ وَأَوَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ صَدَرَ عَنْهُ خَطَأً لَا جَوْرًا.

إِنْكَارُ كَوْنِهِ قَاضِيًا:

64- وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَقَعَ مِنَ الْقَاضِي نَفْسِهِ أَوْ مِنَ الْإِمَامِ.

فَإِنْ وَقَعَ مِنَ الْقَاضِي وَلَمْ يَكُنْ تَعَمَّدَهُ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ أَوْ لِحِكْمَةٍ فِي إِخْفَاءِ شَخْصِيَّتِهِ فَقَدْ نَقَلَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ عَنِ الْبَحْرِ أَنَّهُ يَنْعَزِلُ عَنِ الْقَضَاءِ، وَإِنْ وَقَعَ الْإِنْكَارُ مِنَ الْإِمَامِ لَمْ يَنْعَزِلْ.

طُرُوءُ مَا يُوجِبُ الْعَزْلَ:

65- إِذَا طَرَأَ عَلَى الْقَاضِي مِنَ الْأَحْوَالِ مَا يَفْقِدُهُ صِفَةً مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي لَوْ كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ تَعْيِينِهِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَتَوَلَّى الْحُكْمَ- كَالْجُنُونِ وَالْخَرَسِ وَالْفِسْقِ- فَهَلْ تَبْطُلُ وِلَايَتُهُ؟ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ عَزْلِ الْإِمَامِ لَهُ؟.

لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ، قَوْلٌ: يَنْعَزِلُ بِمُجَرَّدِ طُرُوءِ مَا يُوجِبُ الْعَزْلَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَقَوْلٌ آخَرُ: لَا يَنْعَزِلُ حَتَّى يَعْزِلَهُ الْإِمَامُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَا يَمْنَعُ التَّوْلِيَةَ ابْتِدَاءً كَالْجُنُونِ وَالْفِسْقِ يَمْنَعُهَا دَوَامًا.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ الْأَعْمَى الَّذِي عَادَ بَصَرُهُ وَقَالُوا: لَا يَنْعَزِلُ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِعَوْدَةِ بَصَرِهِ أَنَّهُ لَمْ يَنْعَزِلْ.

وَأَمَّا غَيْرُ الْأَعْمَى فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ إِلَى قَوْلَيْنِ، الْأَصَحُّ مِنْهُمَا لَمْ تَعُدْ وِلَايَتُهُ بِلَا تَوْلِيَةٍ كَالْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا بَطَلَ لَمْ يَنْقَلِبْ إِلَى الصِّحَّةِ بِنَفْسِهِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَعُودُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ تَوْلِيَةٍ.

وَقَطَعَ السَّرَخْسِيُّ بِعَوْدِهَا فِي صُورَةِ الْإِغْمَاءِ.

نَفَاذُ الْعَزْلِ:

66- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا عَزَلَ الْقَاضِيَ فَأَحْكَامُهُ نَافِذَةٌ، وَقَضَايَاهُ مَاضِيَةٌ حَتَّى يَعْلَمَ بِالْعَزْلِ، فَعِلْمُهُ بِذَلِكَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ عَزْلِهِ- عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِ عَزْلِهِ- وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِ قَضَايَا النَّاسِ وَأَحْكَامِهِ بِهِ وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ مِنْ وُجُوبِ نَفَاذِ أَحْكَامِهِ حَتَّى يَصِلَهُ عِلْمُ الْعَزْلِ، وَلِعِظَمِ الضَّرَرِ فِي نَقْضِ أَقْضِيَتِهِ.

عَزْلُ الْقَاضِي نَفْسَهُ:

67- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَنْعَزِلُ إِذَا عَزَلَ نَفْسَهُ عَنِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِعَزْلِ الْوَكِيلِ، وَقَيَّدَ صَاحِبُ الرِّعَايَةِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ الْقَاضِي لَمْ يُلْزَمْ بِقَبُولِ الْقَضَاءِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا عَزَلَ نَفْسَهُ اخْتِيَارًا لَا عَجْزًا وَلَا لِعُذْرٍ فَالظَّاهِرُ عِنْدَ الْبَعْضِ أَنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَفَتَ فِي عَزْلِهِ نَفْسَهُ إِلَى النَّظَرِ فِيمَا إِذَا كَانَ قَدْ تَعَلَّقَ لِأَحَدٍ حَقٌّ بِقَضَائِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ انْعِزَالُهُ ضَرَرًا لِمَنِ الْتَزَمَ الْقَضَاءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ.

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَعْتَزِلُ الْقَاضِي الْقَضَاءَ إِلاَّ لِعُذْرٍ وَلَوْ عَزَلَ الْقَاضِي نَفْسَهُ إِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ لَمْ يَنْ عَزِلْ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ هَلْ يَنْ عَزِلُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا نَعَمْ، قَالَ النَّوَوِيُّ: لِلْقَاضِي أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ كَالْوَكِيلِ، وَنَقَلَ عَنِ الْإِقْنَاعِ لِلْمَاوَرْدِيِّ: أَنَّهُ إِذَا عَزَلَ نَفْسَهُ لَا يَنْعَزِلُ إِلاَّ بِعِلْمِ مَنْ قَلَّدَهُ.

مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَوْتِ الْقَاضِي وَعَزْلِهِ وَاعْتِزَالِهِ:

68- تَتَرَتَّبُ عَلَى مَوْتِ الْقَاضِي وَعَزْلِهِ وَاعْتِزَالِهِ الْأُمُورُ التَّالِيَةُ:

أ- انْتِهَاءُ وِلَايَتِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ إِذَا بَلَغَهُ الْخَبَرُ- عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِصِحَّةِ عَزْلِهِ- أَنْ يَنْظُرَ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْقَضَاءِ وَكَذَلِكَ إِذَا عَزَلَ نَفْسَهُ، أَمَّا أَحْكَامُهُ الَّتِي صَدَرَتْ أَثْنَاءَ وِلَايَتِهِ فَهِيَ صَحِيحَةٌ نَافِذَةٌ إِذَا كَانَتْ مُوَثَّقَةً فِي سِجِلٍّ أَوْ قَامَتْ عَلَيْهَا بَيِّنَةٌ.

ب- انْعِزَالُ كُلِّ مَأْذُونٍ لَهُ فِي شُغْلٍ مُعَيَّنٍ كَبَيْعٍ عَلَى مَيِّتٍ أَوْ غَائِبٍ وَسَمَاعِ شَهَادَةٍ فِي حَادِثَةٍ مُعَيَّنَةٍ.

وَأَمَّا مَنِ اسْتَخْلَفَهُ فِي الْقَضَاءِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: يَنْعَزِلُ كَالْوَكِيلِ، وَالثَّانِي: لَا، لِلْحَاجَةِ، وَأَصَحُّهَا: يَنْعَزِلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْقَاضِي مَأْذُونًا لَهُ فِي الِاسْتِخْلَافِ، لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ فِي هَذَا لِحَاجَتِهِ، وَقَدْ زَالَتْ بِزَوَالِ وِلَايَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِيهِ لَمْ يَنْعَزِلْ.

ج- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْقُوَّامَ عَلَى الْأَيْتَامِ وَالْأَوْقَافِ لَا يَنْعَزِلُونَ بِمَوْتِ الْقَاضِي وَانْعِزَالِهِ لِئَلاَّ تَتَعَطَّلَ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ خِلَافًا لِلْغَزَالِيِّ الَّذِي جَعَلَهُمْ كَالْخُلَفَاءِ.

د- فِي حَالَةِ عَزْلِهِ أَوِ اسْتِقَالَتِهِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: إِنَّنِي كُنْتُ قَدْ حَكَمْتُ لِفُلَانٍ بِكَذَا، إِلاَّ إِذَا قَامَتْ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِذَلِكَ إِلاَّ مَعَ آخَرَ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ قَبُولَ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ أَخْبَرَ بِمَا حَكَمَ بِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فَيَجِبُ قَبُولُهُ كَحَالِ وِلَايَتِهِ.

هـ- أَنْ يَقُومَ الْقَاضِي الَّذِي عُزِلَ أَوِ اعْتَزَلَ بِتَسْلِيمِ مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ سِجِلاَّتٍ وَمَحَاضِرَ وَصُكُوكٍ وَوَدَائِعَ وَأَمْوَالٍ لِلْأَيْتَامِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي يَدِهِ بِحُكْمِ عَمَلِهِ، فَلَزِمَ تَسْلِيمُهَا لِلْقَاضِي الْمُعَيَّنِ بَدَلًا عَنْهُ.

ثَانِيًا: الْمَقْضِيُّ بِهِ:

69- يَتَعَيَّنُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ تُنْسَخْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَضَى بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ قَاسَهُ عَلَى مَا يُشْبِهُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَاجْتَهَدَ رَأْيَهُ وَتَحَرَّى الصَّوَابَ ثُمَّ قَضَى بِرَأْيِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَفْتِيَ فِي ذَلِكَ فَيَأْخُذَ بِفَتْوَى الْمُفْتِي وَلَا يَقْضِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلَا يَسْتَحْيِيَ مِنَ السُّؤَالِ لِئَلاَّ يَلْحَقَهُ الْوَعِيدُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ».

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ).

وَأَمَّا مَا يَقَعُ الْقَضَاءُ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ كَالْبَيِّنَةِ وَعِلْمِ الْقَاضِي وَالْإِقْرَارِ وَالْيَمِينِ فَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا وَمُصْطَلَحِ (إِثْبَات ف 4 وَمَا بَعْدَهَا).

ثَالِثًا: الْمَقْضِيُّ لَهُ:

70- لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ لِنَفْسِهِ وَلَوْ رَضِيَ خَصْمُهُ بِذَلِكَ، فَإِنْ حَكَمَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ كَالْإِقْرَارِ مِنْهُ بِمَا ادَّعَى خَصْمُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْكُمُ لِشَرِيكِهِ فِي الْمُشْتَرَكِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لِلْإِمَامِ الَّذِي قَلَّدَهُ، أَوْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ، فَقَدْ قَلَّدَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- شُرَيْحًا وَخَاصَمَ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَائِبٌ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ نَائِبًا عَنِ الْإِمَامِ.

وَلَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ لِمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْقَضَاءِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلَا يَصِحُّ شَاهِدًا لِمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، فَلَا يَصِحُّ قَاضِيًا لَهُ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِمْ لَجَازَ فَكَذَا الْقَضَاءُ، وَلَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ لِوَالِدِهِ وَإِنْ عَلَا وَلَا لِوَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَخَالَفَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فَقَالُوا: يَنْفُذُ حُكْمُهُ لِأَنَّهُ حَكَمَ لِغَيْرِهِ فَأَشْبَهَ الْأَجَانِبَ، وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْكُمُ لِعَدُوِّهِ وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ فِيمَا عَدَا الْمَاوَرْدِيَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَدْ جَوَّزَهُ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ وَصِيَّ الْيَتِيمِ إِذَا وُلِّيَ الْقَضَاءَ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَقْضِي لَهُ كَوَلَدِهِ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: يَقْضِي لَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ قَاضٍ وَلِيُّ الْأَيْتَامِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْأَصْحَابِ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ لِامْرَأَتِهِ وَأُمِّهَا وَإِنْ كَانَتَا قَدْ مَاتَتَا إِذَا كَانَتِ امْرَأَتُهُ تَرِثُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَلَا لِأَجِيرِهِ الْخَاصِّ وَمَنْ يَتَعَيَّشُ بِنَفَقَتِهِ.

وَفِي قَضَاءِ الْقَاضِي لِأَقَارِبِهِ الَّذِينَ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُمْ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الْمَنْعُ لِمُحَمَّدٍ وَمُطَرِّفٍ، وَالْجَوَازُ لِأَصْبَغَ، فِي حَالَةِ مَا إِذَا كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الْقِيَامِ بِالْحَقِّ، وَاسْتَثْنَى مِنَ الْجَوَازِ الزَّوْجَةَ وَوَلَدَهُ الصَّغِيرَ وَيَتِيمَهُ الَّذِي يَلِي مَالَهُ، وَعِنْدَ ابْنِ يُونُسَ لَا يَحْكُمُ لِعَمِّهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُبَرَّزًا فِي الْعَدَالَةِ، وَالرَّابِعُ التَّفْرِقَةُ، فَإِنْ قَالَ: ثَبَتَ عِنْدِي، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ حَضَرَ الشُّهُودُ وَكَانَتِ الشَّهَادَةُ ظَاهِرَةً جَازَ إِلاَّ لِزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَيَتِيمِهِ، وَعِنْدَ ابْنِ يُونُسَ كَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ وَبَيْنَ خَصْمِهِ.

رَابِعًا: الْمَقْضِيُّ فِيهِ:

71- وَهُوَ جَمِيعُ الْحُقُوقِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضُ كَحَدِّ الزِّنَى أَوِ الْخَمْرِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ الْمَحْضِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَمَا فِيهِ الْحَقَّانِ وَغَلَبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الْقَذْفِ أَوِ السَّرِقَةِ، أَوْ غَلَبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ كَالْقِصَاصِ وَالتَّعْزِيرِ، فَيَكُونُ لِلْقَاضِي النَّظَرُ فِي تِلْكَ الْحُقُوقِ، وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: لِلْقَاضِي النَّظَرُ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ إِلاَّ فِي قَبْضِ الْخَرَاجِ، وَقَالَ الْقَاضِي ابْنُ سَهْلٍ: يَخْتَصُّ الْقَاضِي بِوُجُوهٍ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ مِنَ الْحُكَّامِ وَهِيَ النَّظَرُ فِي الْوَصَايَا وَالْأَحْبَاسِ وَالتَّرْشِيدِ وَالتَّحْجِيرِ وَالتَّسْفِيهِ وَالْقَسْمِ وَالْمَوَارِيثِ وَالنَّظَرُ لِلْأَيْتَامِ، وَالنَّظَرُ فِي أَمْوَالِ الْغَائِبِ وَالنَّظَرُ فِي الْأَنْسَابِ وَالْجِرَاحَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا وَالْإِثْبَاتِ وَالتَّسْجِيلِ وَلَا يُخِلُّ ذَلِكَ بِأَنَّ لِلْإِمَامِ حَقَّ تَقْيِيدِ الْقَاضِي زَمَانًا أَوْ مَكَانًا أَوْ مَوْضُوعًا كَمَا سَبَقَ فِي (سُلْطَةُ الْقَاضِي وَاخْتِصَاصُهُ ف 26).

خَامِسًا: الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ:

72- الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ هُوَ كُلُّ مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِحُكْمِ الْقَاضِي، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَاضِرَ فِي الْبَلَدِ أَوِ الْقَرِيبَ مِنْهُ إِذَا لَمْ يُمْنَعْ مِنَ الْحُضُورِ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ فِي غِيَابِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ سُؤَالُهُ فَلَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ عَلَيْهِ قَبْلَ سُؤَالِهِ كَحَاضِرِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (دَعْوَى ف 59- 61).

وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ فَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِجَوَازِهِ بِشُرُوطٍ، وَمَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلِلْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي:

أ- الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ فِي الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ:

73- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يُقْضَى عَلَى غَائِبٍ وَلَا لَهُ إِلاَّ بِحُضُورِ نَائِبِهِ حَقِيقَةً أَوْ شَرْعًا.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَا يُقْضَى عَلَى غَائِبٍ- أَيْ بِالْبَيِّنَةِ- سَوَاءٌ أَكَانَ غَائِبًا وَقْتَ الشَّهَادَةِ أَمْ بَعْدَهَا وَبَعْدَ التَّزْكِيَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ غَائِبًا عَنِ الْمَجْلِسِ أَمْ عَنِ الْبَلَدِ.

أَمَّا إِذَا أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي فَيُقْضَى عَلَيْهِ وَهُوَ غَائِبٌ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَطْعَنَ فِي الْبَيِّنَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ؛ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْإِقْرَارِ قَضَاءُ إِعَانَةٍ، وَاذَا أَنْفَذَ الْقَاضِي إِقْرَارَهُ سَلَّمَ إِلَى الْمُدَّعِي حَقَّهُ، عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا أَوْ عَقَارًا، إِلاَّ أَنَّهُ فِي الدَّيْنِ يُسَلِّمُ إِلَيْهِ جِنْسَ حَقِّهِ إِذَا وُجِدَ فِي يَدِ مَنْ يَكُونُ مُقِرًّا بِأَنَّهُ مَالُ الْغَائِبِ الْمُقِرِّ، وَلَا يَبِيعُ فِي ذَلِكَ الْعَرْضَ وَالْعَقَارَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ فَلَا يَجُوزُ.

وَمِثْلُهُ مَا وَرَدَ فِي مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْخَصْمَيْنِ حِينَ الْحُكْمِ..وَلَكِنْ لَوِ ادَّعَى وَاحِدٌ عَلَى الْآخَرِ شَيْئًا فَأَقَرَّ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ثُمَّ غَابَ عَنِ الْمَجْلِسِ قَبْلَ الْحُكْمِ كَانَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ فِي غِيَابِهِ بِنَاءً عَلَى إِقْرَارِهِ.

وَاسْتَثْنَوْا مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ مَا إِذَا كَانَ نَائِبُهُ حَاضِرًا فَيَقُومُ مَقَامَ الْغَائِبِ، وَالنَّائِبُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً كَوَكِيلِهِ وَوَصِيِّهِ وَمُتَوَلِّي الْوَقْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَأَحَدِ الْوَرَثَةِ فَيَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنِ الْبَاقِينَ وَكَذَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّيْنِ كَمَا ذَكَرَهُ الْحَصْكَفِيُّ.

وَكَمَا يَصِحُّ الْحُكْمُ عَلَى الْغَائِبِ فِي حُضُورِ نَائِبِهِ حَقِيقَةً يَصِحُّ فِي حُضُورِ نَائِبِهِ شَرْعًا كَوَصِيٍّ نَصَبَهُ الْقَاضِي، أَوْ حُكْمًا بِأَنْ يَكُونَ مَا يَدَّعِي عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لِمَا يَدَّعِي عَلَى الْحَاضِرِ، كَمَا إِذَا بَرْهَنَ عَلَى ذِي الْيَدِ أَنَّهُ اشْتَرَى الدَّارَ مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ عَلَى ذِي الْيَدِ الْحَاضِرِ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا عَلَى الْغَائِبِ أَيْضًا.

وَصَرَّحُوا بِأَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي أُقِيمَتْ فِي مُوَاجَهَةِ وَكِيلِهِ إِذَا حَضَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَجْلِسَ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ.

وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْحُكْمَ عَلَى الْغَائِبِ الْبَعِيدِ جِدًّا بَعْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ وَتَزْكِيَتِهَا، وَذَلِكَ بِيَمِينِ الْقَضَاءِ مِنَ الْمُدَّعِي، أَمَّا قَرِيبُ الْغَيْبَةِ فَكَالْحَاضِرِ عِنْدَهُمْ، قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَقَرِيبُ الْغَيْبَةِ كَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ مَعَ الْأَمْنِ حُكْمُهُ كَالْحَاضِرِ فِي سَمَاعِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ وَالْبَيِّنَةِ، وَالْغَائِبُ الْبَعِيدُ جِدًّا يُقْضَى عَلَيْهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بَعْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ وَتَزْكِيَتِهَا بِيَمِينِ الْقَضَاءِ مِنَ الْمُدَّعِي، أَنَّ حَقَّهُ هَذَا ثَابِتٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَنَّهُ مَا أَبْرَأَهُ، وَلَا وَكَّلَ الْغَائِبُ مَنْ يَقْضِيهِ عَنْهُ، وَلَا أَحَالَهُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ فِي الْكُلِّ وَلَا الْبَعْضِ.

وَالْعَشَرَةُ الْأَيَّامُ مَعَ الْأَمْنِ وَالْيَوْمَانِ مَعَ الْخَوْفِ كَذَلِكَ، أَيْ يُقْضَى عَلَيْهِ فِيهَا مَعَ يَمِينِ الْقَضَاءِ فِي غَيْرِ اسْتِحْقَاقِ الْعَقَارِ، وَأَمَّا فِي دَعْوَى اسْتِحْقَاقِ الْعَقَارِ فَلَا يُقْضَى بِهِ بَلْ تُؤَخَّرُ الدَّعْوَى حَتَّى يَقْدَمَ لِقُوَّةِ الْمُشَاحَّةِ فِي الْعَقَارِ، وَيَمِينُ الْقَضَاءِ وَاجِبَةٌ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ لَا يَتِمُّ الْحُكْمُ إِلاَّ بِهَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ جَائِزٌ إِنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ وَادَّعَى جُحُودَهُ، فَإِنْ قَالَ: هُوَ- أَيِ الْغَائِبُ- مُقِرٌّ، لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَالْأَصَحُّ أَنَّهَا تُسْمَعُ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَعْلَمُ جُحُودَهُ فِي غَيْبَتِهِ وَيَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ حَقِّهِ فَتُجْعَلُ غَيْبَتُهُ كَسُكُوتِهِ، وَالثَّانِي لَا تُسْمَعُ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا عِنْدَ الْجُحُودِ.

وَيَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُحَلِّفَهُ بَعْدَ الْبَيِّنَةِ: أَنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ، وَلَوِ ادَّعَى وَكِيلٌ عَلَى غَائِبٍ فَلَا تَحْلِيفَ عَلَى الْوَكِيلِ بَلْ يَحْكُمُ بِالْبَيِّنَةِ وَيُعْطِي الْمَالَ الْمُدَّعَى بِهِ إِنْ كَانَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُنَاكَ مَالٌ.

ثُمَّ قَالُوا: الْغَائِبُ الَّذِي تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ بِمَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، وَهِيَ الَّتِي لَا يَرْجِعُ مِنْهَا مُبَكِّرًا إِلَى مَوْضِعِهِ لَيْلًا، وَقِيلَ: مَسَافَةُ قَصْرٍ، وَأَمَّا مَنْ هُوَ بِمَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ فَكَحَاضِرٍ لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ عَلَيْهِ وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حُضُورِهِ إِلاَّ لِتَوَارِيهِ أَوْ تَعَزُّزِهِ، وَعَجَزَ الْقَاضِي عَنْ إِحْضَارِهِ فَيَحْكُمُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حُضُورِهِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ مَنِ ادَّعَى حَقًّا عَلَى غَائِبٍ فِي بَلَدٍ آخَرَ وَطَلَبَ مِنَ الْحَاكِمِ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ وَالْحُكْمَ بِهَا عَلَيْهِ، فَعَلَى الْحَاكِمِ إِجَابَتُهُ إِذَا كَمُلَتِ الشَّرَائِطُ وَذَلِكَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ لِحَدِيثِ زَوْجَةِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي، فَقَالَ: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» فَقَضَى لَهَا وَلَمْ يَكُنْ أَبُو سُفْيَانَ حَاضِرًا.

وَقَالُوا: إِنْ قَدِمَ الْغَائِبُ قَبْلَ الْحُكْمِ وُقِفَ الْحُكْمُ عَلَى حُضُورِهِ، فَإِنْ خَرَجَ الشُّهُودُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُدَّعِيَ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ بَيِّنَتِهِ الثَّابِتَةِ أَنَّ حَقَّهُ بَاقٍ، وَالِاحْتِيَاطُ تَحْلِيفُهُ، وَإِذَا قَضَى عَلَى الْغَائِبِ بِعَيْنٍ سُلِّمَتْ إِلَى الْمُدَّعِي، وَإِنْ قَضَى عَلَيْهِ بِدَيْنٍ وَوُجِدَ لَهُ مَالٌ وَفَّى مِنْهُ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُدْفَعَ إِلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى يُقِيمَ كَفِيلًا أَنَّهُ مَتَى حَضَرَ خَصْمُهُ وَأَبْطَلَ دَعْوَاهُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا أَخَذَهُ

ب- الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ:

74- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ فِي الْحُدُودِ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ بِجَوَازِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ.

وَعَلَّلَ الْحَنَفِيَّةُ عَدَمَ جَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِأَنَّهُمَا لَا يَثْبُتَانِ إِلاَّ بِالْإِقْرَارِ أَوِ الشَّهَادَةِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْإِقْرَارِ خَارِجَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْغَائِبِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، حَتَّى إِنَّ الطَّرَفَيْنِ- أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدًا- اشْتَرَطَا حُضُورَ الشُّهُودِ فِي اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْحُدُودِ وَالْبِدَايَةِ مِنْهُمْ أَيْضًا كَحَدِّ الرَّجْمِ احْتِيَاطًا فِي دَرْءِ الْحَدِّ، فَإِذَا غَابَ الشُّهُودُ أَوْ غَابَ أَحَدُهُمْ سَقَطَ الْحَدُّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ وَلِأَنَّ الشُّهُودَ إِذَا بَدَءُوا بِالرَّجْمِ رُبَّمَا اسْتَعْظَمُوا فِعْلَهُ فَحَمَلَهُمْ ذَلِكَ عَلَى الرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَةِ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَنِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.

وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمُ الْقَضَاءَ عَلَى غَائِبٍ فِي قِصَاصٍ وَحَدِّ قَذْفٍ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ فَأَشْبَهَ الْمَالَ، وَمَنَعُوهُ فِي حَدٍّ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ تَعْزِيرٍ لَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالدَّرْءِ؛ لِاسْتِغْنَائِهِ تَعَالَى، بِخِلَافِ حَقِّ الْآدَمِيِّ.

الْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَهُمُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْعَى فِي دَفْعِهِ وَلَا يُوَسَّعُ بَابُهُ، وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ الْجَوَازُ مُطْلَقًا كَالْأَمْوَالِ وَمَا اجْتَمَعَ فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَلآِدَمِيٍّ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: لَا يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ لَكِنْ يُقْضَى فِي السَّرِقَةِ بِالْمَالِ فَقَطْ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ.

سَادِسًا: الْحُكْمُ:

75- الْحُكْمُ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ قَطْعِ الْحَاكِمِ الْمُخَاصَمَةَ وَحَسْمِهِ إِيَّاهَا.وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: فَصْلُ الْخُصُومَةِ وَفِي تَعْرِيفٍ آخَرَ: الْإِعْلَامُ عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ.

وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: إِنْشَاءٌ لِلْإِلْزَامِ الشَّرْعِيِّ وَفَصْلُ الْخُصُومَاتِ.

اشْتِرَاطُ سَبْقِ الدَّعْوَى لِلْحُكْمِ:

76- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْحُكْمِ أَنْ تَتَقَدَّمَهُ دَعْوَى صَحِيحَةٌ خَاصَّةً فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ النَّاسِ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْحُكْمَ الْقَوْلِيَّ يَحْتَاجُ إِلَى الدَّعْوَى، وَالْحُكْمَ الْفِعْلِيَّ لَا يَحْتَاجُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْفِعْلِيَّ لَا يَكُونُ حُكْمًا، بِدَلِيلِ ثُبُوتِ خِيَارِ الْبُلُوغِ لِلصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ بِتَزْوِيجِ الْقَاضِي عَلَى الْأَصَحِّ.

وَلَا تُشْتَرَطُ الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةُ فِي الْقَضَاءِ الضِّمْنِيِّ، فَإِذَا شَهِدَا عَلَى خَصْمٍ بِحَقٍّ وَذَكَرَا اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، وَقَضَى بِذَلِكَ الْحَقِّ كَانَ قَضَاءً بِنَسَبِهِ ضِمْنًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَادِثَةِ النَّسَبِ.

سِيرَةُ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ:

77- يَلْزَمُ الْقَاضِيَ أَنْ لَا يَحْكُمَ فِي الْقَضِيَّةِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ شَكٌّ فِي فَهْمِهِ لِمَوْضُوعِهَا، فَإِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ أَمْرٌ تَرَكَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بَأْسَ أَنْ يَأْمُرَ فِيهِ بِصُلْحٍ، فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ وَجْهُ الْحُكْمِ فَلَا يَعْدِلُ إِلَى الصُّلْحِ وَيَقْضِي بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِهِ، فَإِنْ خَشِيَ مِنْ تَفَاقُمِ الْأَمْرِ بِإِنْفَاذِ الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ أَوْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ أَوْ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ، أَقَامَهُمَا وَأَمَرَهُمَا بِالصُّلْحِ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-: رُدُّوا الْقَضَاءَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ حَتَّى يَصْطَلِحُوا، فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُوَرِّثُ الضَّغَائِنَ.

اسْتِشَارَةُ الْفُقَهَاءِ:

78- يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ عِنْدَ اخْتِلَافِ وُجُوهُ النَّظَرِ وَتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِي حُكْمٍ، يُنْدَبُ لِلْقَاضِي أَنْ يُشَاوِرَ الْفُقَهَاءَ لقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مُسْتَغْنِيًا عَنْهَا، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ تَصِيرَ سُنَّةً لِلْحُكَّامِ، وَرُوِيَ «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ مُشَاوَرَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- » وَقَدْ شَاوَرَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه- النَّاسَ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ، وَشَاوَرَ عُمَرُ- رضي الله عنه- فِي دِيَةِ الْجَنِينِ، وَشَاوَرَ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهم- فِي حَدِّ الْخَمْرِ، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- كَانَ يَكُونُ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، مِنْهُمْ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ- رضي الله عنهم-، إِذَا نَزَلَ بِهِ الْأَمْرُ شَاوَرَهُمْ فِيهِ، وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهُ لَا مُخَالِفَ فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مَعْلُومًا بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ جَلِيٍّ لَمْ يَحْتَجِ الْقَاضِي إِلَى رَأْيِ غَيْرِهِ.

قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا أَشْكَلَ الْحُكْمُ فَالْمُشَاوَرَةُ وَاجِبَةٌ وَإِلاَّ فَمُسْتَحَبَّةٌ.

وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُشَاوِرَهُمْ بِحَضْرَةِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَذْهَبُ بِمَهَابَةِ الْمَجْلِسِ وَالنَّاسُ يَتَّهِمُونَهُ بِالْجَهْلِ، وَلَكِنْ يُقِيمُ النَّاسَ عَنِ الْمَجْلِسِ ثُمَّ يُشَاوِرُهُمْ، وَإِذَا كَانَ الْقَاضِي يَدْخُلُهُ حَصْرٌ بِإِجْلَاسِهِمْ عِنْدَهُ وَيُعْجِزُهُ الْكَلَامُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَلَا يُجْلِسُهُمْ، بَلْ يَبْعَثُ إِلَيْهِمْ وَيَسْأَلُهُمْ إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ.

وَالْأَمْرُ الَّذِي يُؤْمَرُ بِالْمُشَاوَرَةِ فِيهِ هُوَ النَّوَازِلُ الْحَادِثَةُ الَّتِي لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا قَوْلٌ لِمَتْبُوعٍ، أَوْ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، لِيَتَنَبَّهَ بِمُذَاكَرَتِهِمْ وَمُنَاظَرَتِهِمْ عَلَى مَا يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ، حَتَّى يَسْتَوْضِحَ بِهِمْ طَرِيقَ الِاجْتِهَادِ، فَيَحْكُمَ بِاجْتِهَادِهِ دُونَ اجْتِهَادِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُشَاوِرْ وَحَكَمَ نَفَذَ حُكْمُهُ إِذَا لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا غَيْرَ مُحْتَمَلٍ.

وَيُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُشَاوِرُهُ الْقَاضِي: أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَأَقَاوِيلِ النَّاسِ وَالْقِيَاسِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ.

وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ مَنْ صَحَّ أَنْ يُفْتِيَ فِي الشَّرْعِ جَازَ أَنْ يُشَاوِرَهُ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ، فَتُعْتَبَرُ فِيهِ شُرُوطُ الْمُفْتِي وَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ شُرُوطُ الْقَاضِي.

وَلِمَعْرِفَةِ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْمُفْتِي يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (فَتْوَى ف 11- 20).

صِيغَةُ الْحُكْمِ:

79- لَا يَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَلْفَاظًا مَخْصُوصَةً وَصِيَغًا مُعَيَّنَةً لِلْحُكْمِ بَلْ كُلُّ مَا دَلَّ عَلَى الْإِلْزَامِ فَهُوَ حُكْمٌ، كَقَوْلِهِ: مَلَّكْتُ الْمُدَّعِيَ الدَّارَ الْمَحْدُودَةَ، أَوْ فَسَخْتُ هَذَا الْعَقْدَ، أَوْ أَبْطَلْتُهُ أَوْ رَدَدْتُهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى نَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ بَعْدَ حُصُولِ مَا يَجِبُ فِي شَأْنِ الْحُكْمِ مِنْ تَقَدُّمِ دَعْوَى صَحِيحَةٍ.

وَذَهَبَ شَمْسُ الْإِسْلَامِ مَحْمُودٌ الْأُوزْجَنْدِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ الْقَاضِي: قَضَيْتُ أَوْ حَكَمْتُ أَوْ أَنْفَذْتُ عَلَيْكَ الْقَضَاءَ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ مَا يَقُولُ بِهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَأَنَّ قَوْلَ الْقَاضِي: حَكَمْتُ أَوْ قَضَيْتُ، لَيْسَ بِشَرْطٍ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ صِيغَةَ الْحُكْمِ الصَّحِيحِ: حَكَمْتُ أَوْ قَضَيْتُ بِكَذَا، أَوْ أَنْفَذْتُ الْحُكْمَ بِهِ، أَوْ أَلْزَمْتُ الْخَصْمَ بِهِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا قَالَ الْقَاضِي:

ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّ لِهَذَا عَلَى هَذَا كَذَا وَكَذَا، هَلْ يَكُونُ حُكْمًا؟ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُعَدُّ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِلْزَامٍ، وَالْحُكْمُ إِلْزَامٌ.

وَذَهَبَ أَبُو عَاصِمٍ الْعَامِرِيُّ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ وَاخْتِيَارُ الصَّدْرِ الشَّهِيدِ- مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- وَفِي الْخَانِيَّةِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا قَالَ: ثَبَتَ عِنْدِي، يَكْفِي، وَكَذَا: ظَهَرَ عِنْدِي، أَوْ: صَحَّ عِنْدِي، أَوْ قَالَ: عَلِمْتُ، فَهَذَا كُلُّهُ حُكْمٌ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا سُئِلَ الْقَاضِي عَنْ حُكْمٍ فَأَفْتَى بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَوْ لَا يَصِحُّ فَلَا يَكُونُ إِفْتَاؤُهُ حُكْمًا يَرْفَعُ الْخِلَافَ؛ لِأَنَّ الْإِفْتَاءَ إِخْبَارٌ بِالْحُكْمِ لَا إِلْزَامٌ، أَمَّا إِذَا حَكَمَ بِفَسْخٍ أَوْ إِمْضَاءٍ فَيَكُونُ حُكْمًا.

سِجِلُّ الْحُكْمِ:

80- إِذَا انْتَهَى الْقَاضِي مِنْ نَظَرِ الدَّعْوَى وَأَصْدَرَ حُكْمَهُ، فَيُسَنُّ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ حُكْمَهُ فِي سِجِلٍّ مِنْ نُسْخَتَيْنِ يُبَيِّنُ فِيهِ مَا وَقَعَ بَيْنَ ذِي الْحَقِّ وَخَصْمِهِ، وَمُسْتَنَدَ الدَّعْوَى مِنَ الْأَدِلَّةِ وَمَا حَكَمَ بِهِ الْقَاضِي فِيهَا، وَتُسَلَّمُ إِحْدَى النُّسَخِ لِلْمَحْكُومِ لَهُ وَالْأُخْرَى تُحْفَظُ بِدِيوَانِ الْحُكْمِ مَخْتُومَةً مَكْتُوبًا عَلَيْهَا اسْمُ كُلٍّ مِنَ الْخَصْمَيْنِ، وَذَلِكَ دُونَ طَلَبٍ فَإِنْ طَلَبَ الْخَصْمُ أَنْ يُسَجَّلَ لَهُ الْحُكْمُ، فَيَجِبُ عَلَى الْقَاضِي إِجَابَتُهُ وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِ السِّجِلِّ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (سِجِلّ ف 8 وَمَا بَعْدَهَا).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


127-موسوعة الفقه الكويتية (كدك)

كَدِك

التَّعْرِيفُ:

1- لَمْ يَرِدْ ذِكْرُ كَلِمَةِ الْكَدِكِ أَوِ الْجَدِكِ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ.

وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ يُطْلَقُ الْكَدِكُ عَلَى مَا يَثْبُتُ فِي الْحَانُوتِ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ مِمَّا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ، كَالْبِنَاءِ وَالرُّفُوفِ الْمُرَكَّبَةِ وَالْأَغْلَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا مَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ سُكْنَى.

كَمَا يُطْلَقُ عَلَى مَا يُوضَعُ فِي الْحَانُوتِ مُتَّصِلًا لَا عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ، كَالْخَشَبِ الَّذِي يُرَكَّبُ بِالْحَانُوتِ لِوَضْعِ عِدَّةِ الْحَلاَّقِ مَثَلًا، فَإِنَّ الِاتِّصَالَ وُجِدَ لَكِنْ لَا عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ.

وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْعَيْنِ غَيْرِ الْمُتَّصِلَةِ أَصْلًا، كَالْبَكَارِجِ وَالْفَنَاجِينِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَهْوَةِ، وَالْفُوَطِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَمَّامِ.

وَيُطْلَقُ عَلَى مُجَرَّدِ الْمَنْفَعَةِ الْمُقَابِلَةِ لِلدَّرَاهِمِ، وَهَذَا مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ الْفُقَهَاءُ بِالْخُلُوِّ.

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَحْكَامِ الْكَدِكِ بِهَذَا الْمَعْنَى يُنْظَرُ (خُلُوٌّ).

قَالَ مُحَمَّدٌ قَدْرِي بَاشَا: يُطْلَقُ الْكَدِكُ عَلَى الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْحَانُوتِ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ، كَالْبِنَاءِ، أَوْ لَا عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ، كَآلَاتِ الصِّنَاعَةِ الْمُرَكَّبَةِ بِهِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْكِرْدَارِ فِي الْأَرَاضِي، كَالْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ فِيهَا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْكِرْدَارُ:

2- الْكِرْدَارُ هُوَ أَنْ يُحْدِثَ الْمُزَارِعُ وَالْمُسْتَأْجِرُ فِي الْأَرْضِ بِنَاءً أَوْ غِرَاسًا أَوْ كَبْسًا بِالتُّرَابِ بِإِذْنِ الْوَاقِفِ أَوْ بِإِذْنِ النَّاظِرِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَمِنَ الْكِرْدَارِ مَا يُسَمَّى الْآنَ كَدِكًا فِي حَوَانِيتِ الْوَقْفِ وَنَحْوِهَا، مِنْ رُفُوفٍ مُرَكَّبَةٍ فِي الْحَانُوتِ، وَأَغْلَاقٍ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ، وَمِنْهُ مَا يُسَمَّى قِيمَةً فِي الْبَسَاتِينِ وَفِي الْحَمَّامَاتِ فَالْكِرْدَارُ أَعَمُّ مِنَ الْكَدِكِ.

ب- الْمَرْصَدُ:

3- الْمَرْصَدُ هُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ رَجُلٌ عَقَارَ الْوَقْفِ مِنْ دَارٍ أَوْ حَانُوتٍ مَثَلًا وَيَأْذَنُ لَهُ الْمُتَوَلِّي بِعِمَارَتِهِ أَوْ مَرَمَّتِهِ بِهَا، فَيُعَمِّرُهُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ مَالِهِ عَلَى قَصْدِ الرُّجُوعِ بِذَلِكَ فِي مَالِ الْوَقْفِ عِنْدَ حُصُولِهِ، أَوِ اقْتِطَاعِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ.

وَالْمَرْصَدُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ دَيْنٌ مُسْتَقِرٌّ عَلَى جِهَةِ الْوَقْفِ لِلْمُسْتَأْجِرِ الَّذِي عَمَّرَ مِنْ مَالِهِ عِمَارَةً ضَرُورِيَّةً فِي مُسْتَغَلٍّ مِنْ مُسْتَغَلاَّتِ الْوَقْفِ لِلْوَقْفِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَدِكِ وَبَيْنَ الْمَرْصَدِ، أَنَّ صَاحِبَ الْمَرْصَدِ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ دَيْنٌ مَعْلُومٌ عَلَى الْوَقْفِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَلَا يَبِيعَ الْبِنَاءَ الَّذِي بَنَاهُ لِلْوَقْفِ، وَإِنَّمَا لَهُ مُطَالَبَةُ الْمُتَوَلِّي بِالدَّيْنِ الَّذِي لَهُ إِنْ لَمْ يُرِدِ اسْتِقْطَاعَهُ مِنْ أَصْلِ أَجْرِ الْمِثْلِ وَأَمَّا الْكَدِكُ، فَهُوَ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ تُبَاعُ وَتُورَثُ، وَلِأَصْحَابِهَا حَقُّ الْقَرَارِ.

ج- الْمَسْكَةُ:

4- الْمَسْكَةُ هِيَ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِحْقَاقِ الْحِرَاثَةِ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ، مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمَسْكَةِ لُغَةً، وَهِيَ مَا يُتَمَسَّكُ بِهِ، فَكَأَنَّ الْمُتَسَلِّمَ لِلْأَرْضِ الْمَأْذُونَ لَهُ مِنْ صَاحِبِهَا فِي الْحَرْثِ صَارَ لَهُ مَسْكَةٌ يَتَمَسَّكُ بِهَا فِي الْحَرْثِ فِيهَا، وَحُكْمُهَا أَنَّهَا لَا تُقَوَّمُ، فَلَا تُمْلَكُ وَلَا تُبَاعُ وَلَا تُورَثُ، وَقَدْ جَرَى فِي عُرْفِ الْفَلاَّحِينَ إِطْلَاقُ الْفِلَاحَةِ عَلَى الْمَسْكَةِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: فَرَغْتُ عَنْ فِلَاحَتِي أَوْ مَسْكَتِي أَوْ مَشَدِّي، وَيُرِيدُ مَعْنًى وَاحِدًا وَهِيَ اسْتِحْقَاقُ الْحَرْثِ.

وَالْمَسْكَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى تَكُونُ فِي الْأَرَاضِي الْجَرْدَاءِ، وَقَدْ تَكُونُ فِي الْبَسَاتِينِ وَتُسَمَّى بِالْقِيمَةِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْكَدِكِ وَبَيْنَ الْمَسْكَةِ، أَنَّ صَاحِبَ الْمَسْكَةِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الِاسْتِمْسَاكِ بِالْأَرْضِ كَمَا أَنَّ صَاحِبَ الْكَدِكِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْقَرَارِ فِي الْحَانُوتِ، فَالْمَسْكَةُ خَاصَّةٌ بِالْأَرَاضِيِ أَمَّا الْكَدِكُ فَخَاصٌّ بِالْحَوَانِيتِ.

د- الْخُلُوُّ:

5- يُطْلَقُ الْخُلُوُّ عَلَى مَعَانٍ مِنْهَا:

أَنَّهُ اسْمٌ لِلْمَنْفَعَةِ الَّتِي جُعِلَ فِي مُقَابَلَتِهَا الدَّرَاهِمُ وَيُطْلَقُ كَذَلِكَ عَلَى حَقِّ مُسْتَأْجِرِ الْأَرْضِ الْأَمِيرِيَّةِ فِي التَّمَسُّكِ بِهَا إِنْ كَانَ لَهُ فِيهَا أَثَرٌ مِنْ غِرَاسٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ كَبْسٍ بِالتُّرَابِ، عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُقُوقِ لِبَيْتِ الْمَالِ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَنَحْوِهِمَا الَّذِي يُقَيِّمُهُ مَنْ بِيَدِهِ عَقَارُ وَقْفٍ أَوْ أَرْضٌ أَمِيرِيَّةٌ (ر: خُلُوٌّ ف 1).

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْخُلُوِّ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَالْكَدِكِ، أَنَّ صَاحِبَ الْخُلُوِّ يَمْلِكُ جُزْءًا مِنْ مَنْفَعَةِ الْوَقْفِ وَلَا يَمْلِكُ الْأَعْيَانَ، أَمَّا الْكَدِكُ فَهُوَ أَعْيَانٌ مَمْلُوكَةٌ لِمُسْتَأْجِرِ الْحَانُوتِ. (ر: خُلُوٌّ ف 1).

وَأَمَّا الصِّلَةُ بِالْمَعْنَيَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، فَهِيَ أَنَّ الْخُلُوَّ مُرَادِفٌ لِلْكَدِكِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْكَدِكِ:

ثُبُوتُ حَقِّ الْقَرَارِ لِصَاحِبِ الْكَدِكِ:

أَوَّلًا: وَضْعُ الْكَدِكِ فِي الْمَبَانِي الْوَقْفِيَّةِ الْمُؤَجَّرَةِ:

6- يَثْبُتُ لِصَاحِبِ الْكَدِكِ حَقُّ الْقَرَارِ بِسَبَبِ مَا يُنْشِئُهُ فِي مَبْنَى الْوَقْفِ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ مُتَّصِلٍ اتِّصَالَ قَرَارٍ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي تَنْقِيحِ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ: يَثْبُتُ لَهُ (أَيْ لِصَاحِبِ الْكَدِكِ) حَقُّ الْقَرَارِ مَا دَامَ يَدْفَعُ أُجْرَةَ مِثْلِ الْحَانُوتِ خَالِيَةً عَنْ جَدَكِهِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِذَا كَانَ هَذَا الْجَدِكُ الْمُسَمَّى بِالسُّكْنَى قَائِمًا فِي أَرْضِ وَقْفٍ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَسْأَلَةِ الْبِنَاءِ أَوِ الْغَرْسِ فِي الْأَرْضِ الْمُحْتَكَرَةِ، لِصَاحِبِهِ الِاسْتِبْقَاءُ بِأُجْرَةِ مِثْلِ الْأَرْضِ حَيْثُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْوَقْفِ وَإِنْ أَبَى النَّاظِرُ، نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ.

وَجَاءَ فِي الْمَادَّةِ (707) مِنْ مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ: الْكَدِكُ الْمُتَّصِلُ بِالْأَرْضِ بِنَاءً أَوْ غِرَاسًا أَوْ تَرْكِيبًا عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ هُوَ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ تُبَاعُ وَتُورَثُ، وَلِأَصْحَابِهَا حَقُّ الْقَرَارِ، وَلَهُمُ اسْتِبْقَاؤُهَا بِأَجْرِ الْمِثْلِ.

هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِهِ يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ، فَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: الْخُلُوُّ مِنَ الْمَنْفَعَةِ، فَلِذَلِكَ يُورَثُ، وَلَيْسَ لِلنَّاظِرِ أَنْ يُخْرِجَهَا عَنْهُ وَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ مُشَاهَرَةً، وَلَا الْإِجَارَةُ لِغَيْرِهِ.

كَمَا قَالَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: الْخُلُوُّ رُبَّمَا يُقَاسُ عَلَيْهِ الْجَدِكُ الْمُتَعَارَفُ فِي حَوَانِيتِ مِصْرَ..نَعَمْ بَعْضُ الْجَدِكَاتِ بِنَاءٌ أَوْ إِصْلَاحُ أَخْشَابٍ فِي الْحَانُوتِ مَثَلًا بِإِذْنٍ، وَهَذَا قِيَاسُهُ عَلَى الْخُلُوِّ ظَاهِرٌ، خُصُوصًا وَقَدِ اسْتَنَدُوا فِي تَأْبِيدِ الْحَكْرِ لِلْعُرْفِ، وَالْعُرْفُ حَاصِلٌ فِي الْجَدِكِ.

وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: إِذَا اسْتَأْجَرَ إِنْسَانٌ دَارًا مَوْقُوفَةً مُدَّةً مُعَيَّنَةً، وَأَذِنَ لَهُ النَّاظِرُ بِالْبِنَاءِ فِيهَا لِيَكُونَ لَهُ خُلُوًّا، وَجَعَلَ عَلَيْهَا حَكْرًا كُلَّ سَنَةٍ لِجِهَةِ الْوَقْفِ، فَلَيْسَ لِلنَّاظِرِ أَنْ يُؤَاجِرَهَا لِغَيْرِ مُسْتَأْجِرِهَا مُدَّةً تَلِي مُدَّةَ إِيجَارِ الْأَوَّلِ، لِجَرَيَانِ الْعُرْفِ بِأَنْ لَا يَسْتَأْجِرَهَا إِلاَّ الْأَوَّلُ، وَالْعُرْفُ كَالشَّرْطِ، فَكَأَنَّهُ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، وَمَحَلُّهُ إِذَا دَفَعَ الْأَوَّلُ مِنَ الْأُجْرَةِ مَا يَدْفَعُهُ غَيْرُهُ، وَإِلاَّ جَازَ إِيجَارُهَا لِلْغَيْرِ.

وَمُسْتَنَدُ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي إِثْبَاتِ حَقِّ الْقَرَارِ لِصَاحِبِ الْكَدِكِ هُوَ الْمَصْلَحَةُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ وَمِثْلُ ذَلِكَ أَصْحَابُ الْكِرْدَارِ فِي الْبَسَاتِينِ وَنَحْوِهَا، وَكَذَا أَصْحَابُ الْكَدِكِ فِي الْحَوَانِيتِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّ إِبْقَاءَهَا فِي أَيْدِيهِمْ سَبَبٌ لِعِمَارَتِهَا وَدَوَامِ اسْتِغْلَالِهَا، فَفِي ذَلِكَ نَفْعٌ لِلْأَوْقَافِ وَبَيْتِ الْمَالِ، وَلَكِنْ كُلُّ ذَلِكَ بَعْدَ كَوْنِهِمْ يُؤَدُّونَ أُجْرَةَ مِثْلِهَا بِلَا نُقْصَانٍ فَاحِشٍ.

وَقَالَ الْبُنَانِيُّ: وَقَعَتِ الْفَتْوَى مِنْ شُيُوخِ فَاسَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، كَالشَّيْخِ الْقَصَّارِ، وَابْنِ عَاشِرٍ، وَأَبِي زَيْدٍ الْفَاسِيِّ، وَسَيِّدِي عَبْدِ الْقَادِرِ الْفَاسِيِّ، وَأَضْرَابِهِمْ، وَيُعَبِّرُونَ عَنِ الْخُلُوِّ الْمَذْكُورِ بِالْجِلْسَةِ جَرَى بِهَا الْعُرْفُ، لِمَا رَأَوْهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِيهَا، فَهِيَ عِنْدَهُمْ كِرَاءٌ عَلَى التَّبْقِيَةِ.

7- وَيُشْتَرَطُ لِثُبُوتِ حَقِّ الْقَرَارِ لِصَاحِبِ الْكَدِكِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءِ مَا يَلِي:

أ- إِذْنُ النَّاظِرِ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي وَضْعِ كَدِكِهِ أَوْ كِرْدَارِهِ، فَإِنْ وَضَعَهُ دُونَ إِذْنٍ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ، وَلَا يَجِبُ تَجْدِيدُ الْإِجَارَةِ لَهُ.

قَالَ الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ: صَرَّحَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ لِصَاحِبِ الْكِرْدَارِ حَقَّ الْقَرَارِ، وَهُوَ أَنْ يُحْدِثَ الْمُزَارِعُ وَالْمُسْتَأْجِرُ فِي الْأَرْضِ بِنَاءً، أَوْ غِرَاسًا، أَوْ كَبْسًا بِالتُّرَابِ، بِإِذْنِ الْوَاقِفِ، أَوْ بِإِذْنِ النَّاظِرِ، فَتَبْقَى فِي يَدِهِ.

قَالَ الْحَصْكَفِيُّ نَقْلًا عَنْ مُؤَيَّدْ زَادَهْ: حَانُوتُ وَقْفٍ بَنَى فِيهِ سَاكِنُهُ بِلَا إِذْنِ مُتَوَلِّيهِ، إِنْ لَمْ يَضُرَّ رَفْعُهُ رَفَعَهُ، وَإِنْ ضَرَّ فَهُوَ الْمُضَيِّعُ مَالَهُ، فَلْيَتَرَبَّصْ إِلَى أَنْ يَتَخَلَّصَ مَالُهُ مِنَ الْبِنَاءِ ثُمَّ يَأْخُذُهُ، وَلَا يَكُونُ بِنَاؤُهُ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الْإِجَارَةِ لِغَيْرِهِ، إِذْ لَا يَدَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْبِنَاءِ، حَيْثُ لَا يَمْلِكُ رَفْعَهُ.

ب- دَفْعُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ مَنْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْوَقْفِ، إِذْ لَا يَصِحُّ إِيجَارُ الْوَقْفِ بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ إِلاَّ عَنْ ضَرُورَةٍ

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: يَثْبُتُ لَهُ بِذَلِكَ (الْكَدِكِ) حَقُّ الْقَرَارِ مَا دَامَ يَدْفَعُ أُجْرَةَ مِثْلِ الْحَانُوتِ خَالِيَةً عَنْ كَدِكِهِ.

وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَمْلُوكِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْمَوْقُوفِ: أَمَّا الْمَوْقُوفُ الْمُعَدُّ لِلْإِيجَارِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلنَّاظِرِ إِلاَّ أَنْ يُؤَجِّرَهُ، فَإِيجَارُهُ مِنْ ذِي الْيَدِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ أَوْلَى مِنْ إِيجَارِهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ النَّظَرِ لِلْوَقْفِ وَلِذِي الْيَدِ، وَالْمُرَادُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ أَنْ يَنْظُرَ بِكَمْ يُسْتَأْجَرُ إِذَا كَانَ خَالِيًا عَنْ ذَلِكَ الْجَدِكِ بِلَا زِيَادَةِ ضَرَرٍ وَلَا زِيَادَةِ رَغْبَةٍ مِنْ شَخْصٍ خَاصٍّ، بَلِ الْعِبْرَةُ بِالْأُجْرَةِ الَّتِي يَرْضَاهَا الْأَكْثَرُ.

فَلَوْ زَادَ أَجْرُ الْمِثْلِ بَعْدَ الْعَقْدِ زِيَادَةً فَاحِشَةً، فَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ تَجْدِيدُ الْعَقْدِ بِالْأُجْرَةِ الزَّائِدَةِ، وَقَبُولُ الْمُسْتَأْجِرِ الزِّيَادَةَ يَكْفِي عَنْ تَجْدِيدِ الْعَقْدِ وَالْمُرَادُ زِيَادَةُ أَجْرِ مِثْلِ الْوَقْفِ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ الْكُلِّ بِلَا زِيَادَةِ أَحَدٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ زِيَادَةَ تَعَنُّتٍ أَيْ إِضْرَارٍ مِنْ وَاحِدٍ أَوِ اثْنَيْنِ، فَإِنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَلَا الزِّيَادَةُ بِعِمَارَةِ الْمُسْتَأْجِرِ بِمَالِهِ لِنَفْسِهِ.

ج- عَدَمُ الضَّرَرِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْقُنْيَةِ: اسْتَأْجَرَ أَرْضًا وَقْفًا وَغَرَسَ فِيهَا وَبَنَى ثُمَّ مَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَسْتَبْقِيَهَا بِأَجْرِ الْمِثْلِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْخَيْرِ الرَّمْلِيِّ: لَوْ حَصَلَ ضَرَرٌ مَا، بِأَنْ كَانَ هُوَ أَوْ وَارِثُهُ مُفْلِسًا أَوْ سَيِّئَ الْمُعَامَلَةِ أَوْ مُتَغَلِّبًا يُخْشَى عَلَى الْوَقْفِ مِنْهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ، لَا يُجْبَرُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ.ا هـ.وَأَضَافَ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْإِسْعَافِ وَغَيْرِهِ، مِنْ أَنَّهُ لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَخَافُ مِنْهُ عَلَى رَقَبَةِ الْوَقْفِ يَفْسَخُ الْقَاضِي الْإِجَارَةَ وَيُخْرِجُهُ مِنْ يَدِهِ.

وَقَالَ الْعَلاَّمَةُ قَنْلِي زَادَهْ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ قَاضٍ عَادِلٍ عَالِمٍ، وَعَلَى كُلِّ قَيِّمٍ أَمِينٍ غَيْرِ ظَالِمٍ، أَنْ يَنْظُرَ فِي الْأَوْقَافِ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ رُفِعَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ تُسْتَأْجَرُ بِأَكْثَرَ، أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ، وَيَرْفَعَ بِنَاءَهُ وَغَرْسَهُ، أَوْ يَقْبَلَهَا بِهَذِهِ الْأُجْرَةِ، وَقَلَّمَا يَضُرُّ الرَّفْعُ بِالْأَرْضِ.

وَفِي أَوْقَافِ الْخَصَّافِ: حَانُوتٌ أَصْلُهُ وَقْفٌ، وَعِمَارَتُهُ لِرَجُلٍ، وَهُوَ لَا يَرْضَى أَنْ يَسْتَأْجِرَ أَرْضَهُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ، قَالُوا: إِنْ كَانَتِ الْعِمَارَةُ بِحَيْثُ لَوْ رُفِعَتْ يُسْتَأْجَرُ الْأَصْلُ بِأَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَأْجِرُ صَاحِبُ الْبِنَاءِ كُلِّفَ رَفْعَهُ، وَيُؤَجَّرُ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِلاَّ يُتْرَكْ فِي يَدِهِ بِذَلِكَ الْأَجْرِ.

ثَانِيًا: وَضْعُ الْكَدِكِ فِي الْأَمْلَاكِ الْخَاصَّةِ:

8- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْكَدِكُ الْمُسَمَّى بِالسُّكْنَى قَائِمًا فِي أَرْضِ وَقْفٍ، فَلِصَاحِبِهِ اسْتِبْقَاؤُهُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْكَدِكُ فِي الْحَانُوتِ الْمِلْكِ، فَلِصَاحِبِ الْحَانُوتِ أَنْ يُكَلِّفَ الْمُسْتَأْجِرَ بِرَفْعِ الْكَدِكِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْتَهِي بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَلَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ إِجْمَاعًا.

وَالْفَرْقُ- كَمَا قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ- أَنَّ الْمِلْكَ قَدْ يَمْتَنِعُ صَاحِبُهُ عَنْ إِيجَارِهِ وَيُرِيدُ أَنْ يَسْكُنَهُ بِنَفْسِهِ، أَوْ يَبِيعَهُ أَوْ يُعَطِّلَهُ، بِخِلَافِ الْمَوْقُوفِ الْمُعَدِّ لِلْإِيجَارِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلنَّاظِرِ إِلاَّ أَنْ يُؤَجِّرَهُ، فَإِيجَارُهُ مِنْ ذِي الْيَدِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ أَوْلَى مِنْ إِيجَارِهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، لِمَا فِيهِ مِنَ النَّظَرِ لِلْوَقْفِ وَلِذِي الْيَدِ.

قَالَ خَيْرُ الدِّينِ الرَّمْلِيُّ: إِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مِلْكًا لَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَسْتَبْقِيَهَا كَذَلِكَ إِنْ أَبَى الْمَالِكُ إِلاَّ الْقَلْعَ، بَلْ يُكَلِّفُهُ عَلَى ذَلِكَ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْأَغْرَاسِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْأَرْضِ فَإِذَنْ لَا يُكَلِّفُهُ عَلَيْهِ بَلْ يَضْمَنُ الْمُسْتَأْجِرُ قِيمَةَ الْأَرْضِ لِلْمَالِكِ، فَتَكُونُ الْأَغْرَاسُ وَالْأَرْضُ لِلْغَارِسِ، وَفِي الْعَكْسِ يَضْمَنُ الْمَالِكُ لِلْغَارِسِ قِيمَةَ الْأَغْرَاسِ فَتَكُونُ الْأَرْضُ وَالْأَشْجَارُ لَهُ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْعَارِيَّةِ.

قَالَ الْأَتَاسِيُّ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا الْقَوْلِ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا إِذَا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ بَنَى أَوْ غَرَسَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ..وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْبِنَاءُ أَوِ الْغَرْسُ بِدُونِ إِذْنِ مَالِكِ الْأَرْضِ، فَلَيْسَ إِلاَّ الْقَلْعُ أَوْ تَخْيِيرُ الْمَالِكِ بَيْنَ تَكْلِيفِهِ بِهِ أَوْ تَمَلُّكِهِ بِقِيمَتِهِ مُسْتَحَقَّ الْقَلْعِ، إِنْ كَانَ الْقَلْعُ يَضُرُّ بِالْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ.

أَمَّا وَضْعُ الْكَدِكِ الْمُتَّصِلِ اتِّصَالَ قَرَارٍ قَصْدًا بِتَعَاقُدٍ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَصَاحِبِ الْحَانُوتِ، فَإِنَّهُ يُثْبِتُ حَقَّ الْقَرَارِ لِلْمُسْتَأْجِرِ عِنْدَ بَعْضِ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ، فَلَا يَمْلِكُ صَاحِبُ الْحَانُوتِ إِخْرَاجَ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْهُ وَلَا إِجَارَتَهُ لِغَيْرِهِ.

وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ قَالَ عُلَيْشٌ: إِنَّ الْخُلُوَّ رُبَّمَا يُقَاسُ عَلَيْهِ الْجَدِكُ الْمُتَعَارَفُ فِي حَوَانِيتِ مِصْرَ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْخُلُوُّ إِنَّمَا هُوَ فِي الْوَقْفِ لِمَصْلَحَةٍ وَهَذَا يَكُونُ فِي الْمِلْكِ، قِيلَ لَهُ: إِذَا صَحَّ فِي وَقْفٍ فَالْمِلْكُ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَالِكَ يَفْعَلُ فِي مِلْكِهِ مَا يَشَاءُ، نَعَمْ بَعْضُ الْجَدِكَاتِ بِنَاءٌ أَوْ إِصْلَاحُ أَخْشَابٍ فِي الْحَانُوتِ مَثَلًا بِإِذْنٍ وَهَذَا قِيَاسُهُ عَلَى الْخُلُوِّ ظَاهِرٌ، خُصُوصًا وَقَدِ اسْتَنَدُوا فِي تَأْبِيدِ الْحَكْرِ لِلْعُرْفِ، وَالْعُرْفُ حَاصِلٌ فِي الْجَدِكِ، وَبَعْضُ الْجَدِكَاتِ أُمُورٌ مُسْتَقِلَّةٌ فِي الْمَكَانِ غَيْرُ مُسْتَمِرَّةٍ فِيهِ، كَمَا يَقَعُ فِي الْحَمَّامَاتِ وَحَوَانِيتِ الْقَهْوَةِ بِمِصْرَ، فَهَذِهِ بَعِيدَةُ الْخَلَوَاتِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ لِلْمَالِكِ إِخْرَاجَهَا.

وَلَمْ يُسْتَدَلَّ عَلَى نَصٍّ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِخُصُوصِ إِقَامَةِ الْمُسْتَأْجِرِ الْجَدِكَ فِي الْحَانُوتِ الْمِلْكِ، وَيُفْهَمُ مِمَّا ذَكَرُوهُ فِي اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ لِلْبِنَاءِ أَوِ الْغِرَاسِ، أَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغِرَاسَ مِلْكٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَالْأَرْضَ مِلْكٌ لِصَاحِبِهَا.

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: غِرَاسُ الْمُسْتَأْجِرِ وَبِنَاؤُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إِذَا لَمْ يَقْلَعْهُ الْمَالِكُ فَلِلْمُؤَجِّرِ تَمَلُّكُهُ بِالْقِيمَةِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ قَلْعَهُ بِدُونِ ضَمَانِ نَقْصِهِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اسْتَأْجَرَ لِلْبِنَاءِ أَوِ الْغِرَاسِ، فَإِنْ شَرَطَ الْقَلْعَ صَحَّ الْعَقْدُ وَلَزِمَ الْمُسْتَأْجِرَ الْقَلْعُ بَعْدَ الْمُدَّةِ، وَلَيْسَ عَلَى الْمَالِكِ أَرْشُ النُّقْصَانِ، وَلَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ، وَلَا أَرْشُ نَقْصِهَا، لِتَرَاضِيهِمَا بِالْقَلْعِ، وَلَوْ شَرَطَا الْإِبْقَاءَ بَعْدَ الْمُدَّةِ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْعَقْدُ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْمُدَّةِ، وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْبَغَوِيِّ، وَالثَّانِي: يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يَقْتَضِي الْإِبْقَاءَ، فَلَا يَضُرُّ شَرْطُهُ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ أَوْ جُمْهُورُهُمْ، وَيَتَأَيَّدُ بِهِ كَلَامُ السَّرَخْسِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الزَّرْعِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْفَسَادِ، لَزِمَ الْمُسْتَأْجِرَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِلْمُدَّةِ..أَمَّا إِذَا أَطْلَقَا، فَالْمَذْهَبُ صِحَّةُ الْعَقْدِ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ يَنْظُرُ بَعْدَ الْمُدَّةِ، فَإِنْ أَمْكَنَ الْقَلْعُ وَالرَّفْعُ بِلَا نَقْصٍ فُعِلَ، وَإِلاَّ، فَإِنِ اخْتَارَ الْمُسْتَأْجِرُ الْقَلْعَ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ..وَإِنْ لَمْ يَخْتَرِ الْقَلْعَ، فَهَلْ لِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يَقْلَعَهُ مَجَّانًا؟ فِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ، وَالثَّانِي عَلَى وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا هَذَا؛ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ مُحْتَرَمٌ، وَالثَّانِي: نَعَمْ..، وَإِذَا انْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى الْقَلْعِ، فَمُبَاشَرَةُ الْقَلْعِ، أَوْ بَدَلُ مَئُونَتِهِ هَلْ هِيَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ لِأَنَّهُ الَّذِي اخْتَارَهُ، أَمْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّهُ شَغَلَ الْأَرْضَ فَلْيُفْرِغْهَا؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا الثَّانِي.

وَقْفُ الْكَدِكِ:

9- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِعَدَمِ جَوَازِ وَقْفِ الْكَدِكِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: مَا يُسَمَّى الْآنَ كَدِكًا فِي حَوَانِيتِ الْوَقْفِ وَنَحْوِهَا، مِنْ رُفُوفٍ مُرَكَّبَةٍ فِي الْحَانُوتِ، وَأَغْلَاقٍ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَقْفُهُ، لِعَدَمِ الْعُرْفِ الشَّائِعِ، بِخِلَافِ وَقْفِ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ، فَإِنَّهُ مِمَّا شَاعَ وَذَاعَ فِي عَامَّةِ الْبِقَاعِ.

وَيُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ صِحَّةُ وَقْفِ الْكَدِكِ الَّذِي يُقِيمُهُ الْمُسْتَأْجِرُ فِي الْحَانُوتِ. قَالَ الْغَرْقَاوِيُّ الْمَالِكِيُّ: إِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ مَا أَفْتَى بِهِ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ السَّنْهُورِيُّ مِنْ صِحَّةِ وَقْفِ الْخُلُوِّ وَجَرَى بِهِ الْعَمَلُ كَثِيرًا فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.

وَصَرَّحَ عُلَيْشٌ بِأَنَّ الْخُلُوَّ رُبَّمَا يُقَاسُ عَلَيْهِ.الْجَدِكُ الْمُتَعَارَفُ فِي حَوَانِيتِ مِصْرَ.

وَلَمْ نَجِدْ نَصًّا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِخُصُوصِ وَقْفِ الْكَدِكِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يُجِيزُونَ وَقْفَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ وَهَذَا لَيْسَ مَحَلَّ خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

بَيْعُ الْكَدِكِ:

10- إِذَا ثَبَتَ لِلْمُسْتَأْجِرِ حَقُّ الْقَرَارِ فِي حَانُوتِ الْوَقْفِ، فَالْكَدِكُ الَّذِي يَضَعُهُ فِيهِ يَكُونُ مِلْكًا لَهُ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ، وَيَكُونُ لِهَذَا الْمُسْتَأْجِرِ بَيْعُ مَا وَضَعَهُ، وَيَنْتَقِلُ حَقُّ الْقَرَارِ لِلْمُشْتَرِي فَقَدْ قَالَ الْمَهْدِيُّ الْعَبَّاسِيُّ: فَإِنْ أَحْدَثَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ إِذْنِ النَّاظِرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَحِينَئِذٍ لَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ الْإِسْقَاطِ فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ إِجَارَتِهِ أَوْ بَعْدَهَا، وَلَا إِلَى اسْتِئْجَارِ الْأَجْنَبِيِّ مِنَ النَّاظِرِ، بَلْ يَكُونُ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْمَذْكُورِ بَيْعُ مَا أَحْدَثَهُ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ، فَيَنْتَقِلُ حَقُّ الْقَرَارِ لِلْمُشْتَرِي، وَيَكُونُ عَلَى الْمُشْتَرِي الْمَذْكُورِ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ خَالِيَةً عَمَّا أَحْدَثَ فِيهَا.

وَجَاءَ فِي مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ: الْكَدِكُ الْمُتَّصِلُ بِالْأَرْضِ بِنَاءً وَغِرَاسًا أَوْ تَرْكِيبًا عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ هُوَ أَمْوَالٌ مُتَقَوَّمَةٌ، تُبَاعُ وَتُورَثُ، وَلِأَصْحَابِهَا حَقُّ الْقَرَارِ، وَلَهُمُ اسْتِبْقَاؤُهَا بِأَجْرِ الْمِثْلِ.

هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا إِذْ إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقِيسُونَ الْجَدِكَ الْمُتَّصِلَ اتِّصَالَ قَرَارٍ عَلَى الْخُلُوِّ، قَالَ عُلَيْشٌ: بَعْضُ الْجَدِكَاتِ بِنَاءٌ أَوْ إِصْلَاحُ أَخْشَابٍ فِي الْحَانُوتِ مَثَلًا بِإِذْنٍ وَهَذَا قِيَاسُهُ عَلَى الْخُلُوِّ ظَاهِرٌ.

وَالْخُلُوُّ يَصِيرُ كَالْمِلْكِ يَجْرِي عَلَيْهِ الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ وَالْهِبَةُ وَالرَّهْنُ وَوَفَاءُ الدَّيْنِ وَالْإِرْثُ.

الشُّفْعَةُ فِي الْكَدِكِ:

11- لَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي بَيْعِ الْبِنَاءِ بِدُونِ الْأَرْضِ إِلاَّ أَنَّهُ ذَكَرَ السَّيِّدُ مُحَمَّدٌ أَبُو السُّعُودِ الْحَنَفِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْأَشْبَاهِ: لَوْ كَانَ الْخُلُوُّ بِنَاءً أَوْ غِرَاسًا بِالْأَرْضِ الْمُحْتَكَرَةِ أَوِ الْمَمْلُوكَةِ يَجْرِي فِيهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اتَّصَلَ بِالْأَرْضِ اتِّصَالَ قَرَارٍ الْتَحَقَ بِالْعَقَارِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ عَابِدِينَ بِقَوْلِهِ: مَا ذَكَرَهُ (السَّيِّدُ مُحَمَّدُ أَبُو السُّعُودِ) مِنْ جَرَيَانِ الشُّفْعَةِ فِيهِ سَهْوٌ ظَاهِرٌ، لِمُخَالَفَتِهِ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَكُونُ لِمَنِ اشْتَرَكَ فِي الْبِنَاءِ فِي أَرْضِ الْوَقْفِ الْمُحْتَكَرَةِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ، قَالَ الْعَدَوِيُّ عِنْدَ بَيَانِ صُوَرِ الْخُلُوِّ: أَنْ تَكُونَ أَرْضٌ مُحْبَسَةٌ فَيَسْتَأْجِرَهَا مِنَ النَّاظِرِ وَيَبْنِيَ فِيهَا دَارًا مَثَلًا عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ فِي كُلِّ شَهْرٍ لِجِهَةِ الْوَقْفِ ثَلَاثِينَ نِصْفًا فِضَّةً، وَلَكِنَّ الدَّارَ تُكْرَى بِسِتِّينَ نِصْفَ فِضَّةٍ مَثَلًا، فَالْمَنْفَعَةُ الَّتِي تُقَابِلُ الثَّلَاثِينَ الْأُخْرَى يُقَالُ لَهَا خُلُوٌّ، وَإِذَا اشْتَرَكَ فِي الْبِنَاءِ الْمَذْكُورِ جَمَاعَةٌ وَأَرَادَ بَعْضُهُمْ بَيْعَ حِصَّتِهِ فِي الْبَاءِ، فَلِشُرَكَائِهِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


128-موسوعة الفقه الكويتية (كلالة)

كَلَالَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْكَلَالَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْكَلَالِ: وَهُوَ التَّعَبُ وَذَهَابُ الْقُوَّةِ مِنَ الْإِعْيَاءِ، أَوْ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِكْلِيلِ: بِمَعْنَى.الْإِحَاطَةِ: مِنْ تَكَلَّلَهُ أَحَاطَ بِهِ.

أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْكَلَالَةِ فَقِيلَ: الْكَلَالَةُ اسْمٌ لِلْوَرَثَةِ: مَا عَدَا الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْكَلَالَةُ اسْمٌ لِلْمَيِّتِ الَّذِي لَا وَالِدَ لَهُ وَلَا وَلَدَ، فَالْأَبُ وَالِابْنُ طَرَفَانِ لِلْمَيِّتِ فَإِذَا ذَهَبَا تَكَلَّلَهُ النَّسَبُ أَيْ أَطَافُوا بِالْمَيِّتِ مِنْ جَوَانِبِهِ، وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ الْكَلَالَةِ، فَقَالَ: مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ».

قَالَ الرَّاغِبُ فَجَعَلَهُ اسْمًا لِلْمَيِّتِ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ.

2- وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْكَلَالَةَ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: أَحَدُهُمَا قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} إِلَخْ الْآيَةِ.

وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.

مِيرَاثُ الْكَلَالَةِ:

3- الَّذِينَ يَرِثُونَ كَلَالَةً أَصْنَافٌ مِنَ الْوَرَثَةِ يَجْمَعُهُمْ أَنَّهُمْ مَنْ عَدَا وَالِدِ الْمَيِّتِ وَوَلَدِهِ، وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمُ: الْإِخْوَةُ الْأَشِقَّاءُ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْوَرَثَةِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ مَا يَسْتَحِقُّهُ كُلٌّ مِنْهُمْ مِنَ التَّرِكَةِ فِي مُصْطَلَحِ (إِرْثٌ ف 42- 45 وَمَا بَعْدَهَا).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


129-موسوعة الفقه الكويتية (لزوم)

لُزُومٌ

التَّعْرِيفُ

1- اللُّزُومُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرٌ، فِعْلُهُ لَزِمَ يَلْزَمُ.يُقَالُ: لَزِمَ فُلَانٌ فُلَانًا أَيْ: كَانَ مَعَهُ فَلَمْ يُفَارِقْهُ، وَمِثْلُهُ فِي الْمَعْنَى لَازَمَهُ مُلَازَمَةً وَلِزَامًا، وَالْتَزَمَهُ بِمَعْنَى: اعْتَنَقَهُ، وَاللُّزُومُ أَيْضًا: الْمُلَازَمَةُ لِلشَّيْءِ وَالتَّمَسُّكُ بِهِ أَوِ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا: كَانَتْ إِذَا عَمِلَتِ الْعَمَلَ لَزِمَتْهُ.

وَلَزِمَهُ الْمَالُ: وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ وَجَبَ حُكْمُهُ وَهُوَ قَطْعُ الزَّوْجِيَّةِ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْجَوَازُ:

2- مِنْ مَعَانِي الْجِوَازِ فِي اللُّغَةِ: الصِّحَّةُ وَالنَّفَاذُ يُقَالُ: جَازَ الْعَقْدُ: نَفَذَ وَمَضَى عَلَى الصِّحَّةِ، وَأَجَزْتُ الْعَقْدَ: جَعَلْتَهُ جَائِزًا نَافِذًا.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: يُطْلَقُ عَلَى أُمُورٍ:

أَحَدُهَا: عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ، أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا أَوْ مَكْرُوهًا.

الثَّانِي: عَلَى مُسْتَوَى الطَّرَفَيْنِ، وَهُوَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ.

الثَّالِثُ: عَلَى مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَهُوَ اصْطِلَاحُ الْفُقَهَاءِ فِي الْعُقُودِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ اللُّزُومِ وَالْجَوَازِ أَنَّ الْجَوَازَ فِي بَعْضِ مَعَانِيهِ يُضَادُّ اللُّزُومَ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللُّزُومِ:

لُزُومُ الْأَمْرِ وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ

3- مِنْهُ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ (لُزُومِ الْجَمَاعَةِ) فِي الْفِتَنِ، كَمَا فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهُ فِي شَأْنِ الْفِتَنِ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا» قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ حُجَّةٌ لِجَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ لُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَرْكِ الْخُرُوجِ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- فِي خُطْبَتِهِ بِالْجَابِيَةِ: «عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ».

وَمِنْهُ (لُزُومُ الْعَمَلِ) بِمَعْنَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فِي التَّطَوُّعَاتِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ»،، وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا عَمِلَتْ عَمَلًا لَزِمَتْهُ.

لَكِنْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ الْمُكَلَّفُ عَلَى نِيَّةِ الِالْتِزَامِ لَهُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَشَقَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ، أَوْ يُورِثُ مَلَلًا، فَقَدْ ذَكَرَ الشَّاطِبِيُّ أَنَّهُ يَكُونُ مَكْرُوهًا ابْتِدَاءً، لِأَنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلِخَوْفِ التَّقْصِيرِ أَوِ الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِمَا هُوَ أَوْلَى وَآكَدُ فِي الشَّرْعِ.

وَقَدْ نَبَّهَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى هَذَا، فَفِي الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهُ: «أَلَمْ أُخْبِرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ».

وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَلْزَمَ طَرِيقَةً وَاحِدَةً مُخْتَرَعَةً فِي الْعِبَادَةِ بِحَيْثُ يَرَاهَا لَازِمَةً كَلُزُومِ الْفَرَائِضِ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْهَا، وَيَقْدَحُ فِيمَنْ خَرَجَ عَنْهَا وَيَذُمُّهُ، أَوْ يَلْزَمُ مَكَانًا فِي الْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ لَا يُصَلِّي إِلاَّ فِيهِ وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ: «نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُوَطِّنَ الرَّجُلُ الْمَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا يُوَطِّنُ الْبَعِيرَ».

لُزُومُ الْغَرِيمِ:

4- لُزُومُ الْغَرِيمِ نَوْعٌ مِنَ الْعُقُوبَةِ ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، فَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ- رضي الله عنه- «أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيُّ دَيْنٌ فَلَقِيَهُ فَلَزِمَهُ فَتَكَلَّمَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَمَرَّ بِهِمَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا كَعْبُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: النِّصْفُ، فَأَخَذَ نِصْفَ مَا عَلَيْهِ وَتَرَكَ نِصْفًا».

وَيَأْخُذُ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ بِعُقُوبَةِ الْمُلَازَمَةِ، وَجَعَلُوهَا حَقًّا لِصَاحِبِ الدَّيْنِ، وَقَدْ تَعَرَّضَ الْحَنَفِيَّةُ لِذَلِكَ فِي أَبْوَابِ الْحَبْسِ مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ، فَلِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يُلْزِمَ غَرِيمَهُ حَتَّى يَقْضِيَهُ حَقَّهُ، وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ لَهُ مُلَازَمَتَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَلِطَالِبِ الْحَقِّ أَنْ يُلَازِمَ الْغَرِيمَ، وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ الْقَاضِي بِمُلَازَمَتِهِ، وَلَا فَلَّسَهُ، وَهَذَا إِنْ كَانَ مُقِرًّا بِالْحَقِّ، أَوْ ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي وَأَطْلَقَهُ لِإِعْسَارِهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ قَاضٍ، وَالرَّأْيُ فِي الْمُلَازَمَةِ لِصَاحِبِ الْحَقِّ، إِنْ شَاءَ لَازَمَ الْمَدِينَ بِنَفْسِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمَدِينُ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ وَكَّلَ غَيْرَهُ بِمُلَازَمَتِهِ، فَإِنْ وَكَّلَ أَحَدًا بِمُلَازَمَتِهِ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا بِالْقَبْضِ وَلَا بِالْخُصُومَةِ، مَا لَمْ يَجْعَلْ إِلَيْهِ ذَلِكَ.

وَصِفَةُ الْمُلَازَمَةِ عَلَى مَا يَذْكُرُهُ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ فِي قِيَامِهِ وَقُعُودِهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنَ الدُّخُولِ إِلَى أَهْلِهِ، أَوْ دُخُولِ بَيْتِهِ لِطَعَامٍ وَنَحْوِهِ.قَالُوا: وَلَا يُلَازِمُهُ فِي الْمَسْجِدِ، عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَا يُقِيمُهُ فِي الشَّمْسِ، أَوْ عَلَى الثَّلْجِ، أَوْ فِي مَوْضِعٍ يَضُرُّ بِهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ عَمَلٍ يَكْتَسِبُ مِنْهُ رِزْقَهُ، بَلْ يُلَازِمُهُ وَهُوَ يَعْمَلُ، أَوْ يُعْطِيهِ نَفَقَتَهُ وَنَفَقَةَ عِيَالِهِ وَيَمْنَعُهُ مِنَ الْعَمَلِ.

قَالُوا: وَإِنْ كَانَ الْمَدِينُ امْرَأَةً وَالطَّالِبُ رَجُلًا فَلَهُ أَنْ يُلَازِمَهَا حَيْثُ لَا تُخْشَى الْفِتْنَةُ، كَالسُّوقِ وَنَحْوِهِ، أَمَّا حَيْثُ تُخْشَى الْفِتْنَةُ فَإِنَّهُ يُوَكِّلُ امْرَأَةً بِمُلَازَمَتِهَا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ أَرَادَ مُسْتَحِقُّ الدَّيْنِ لُزُومَ الْمَدِينِ بَدَلًا عَنِ الْحَبْسِ مُكِّنَ مَا لَمْ يَقُلْ تَشُقُّ عَلَيَّ الطَّهَارَةُ وَالصَّلَاةُ مَعَ مُلَازَمَتِهِ، وَيَخْتَارُ الْحَبْسَ، فَيُجِيبُهُ الْقَاضِي إِلَى ذَلِكَ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَحْرُمُ مُطَالَبَةُ الْمُعْسِرِ وَمُلَازَمَتُهُ وَيَجُوزُ مُلَازَمَةُ الْمُوسِرِ الْمُمَاطِلِ إِنْ خِيفَ هُرُوبُهُ.

وَكَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَحْرُمُ مُلَازَمَةُ الْمُعْسِرِ، قَالُوا: يَحْرُمُ مُلَازَمَتُهُ بِحَيْثُ كُلَّمَا يَأْتِيهِ شَيْءٌ يَأْخُذُ مِنْهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ إِنْظَارَ الْمُعْسِرِ إِلَى الْمَيْسَرَةِ.

اللُّزُومُ بِمَعْنَى الْوُجُوبِ وَالتَّحَتُّمِ

5- يَأْتِي اللُّزُومُ بِمَعْنَى الْوُجُوبِ وَالتَّحَتُّمِ، قَالَ الطُّوفِيُّ: الْوَاجِبُ هُوَ اللاَّزِمُ الْمُسْتَحَقُّ.

مَصَادِرُ اللُّزُومِ:

اللُّزُومُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِلْزَامِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ إِلْزَامِ الْغَيْرِ، أَوْ إِلْزَامِ الْمَرْءِ نَفْسِهِ.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

اللُّزُومُ بِإِلْزَامِ اللَّهِ تَعَالَى

6- يَلْزَمُ الْعَبْدَ فِعْلُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ مِنَ الْعِبَادَاتِ عِنْدَ وُجُودِ أَسْبَابِهَا، وَتَحَقُّقِ شُرُوطِ الْوُجُوبِ، وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ، وَإِذَا فَسَدَتْ لَزِمَ قَضَاؤُهَا.

وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ إِلْزَامَهُ بِكُلِّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ، مِمَّا هُوَ مَقْدُورٌ لَهُ، كَالسَّفَرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَجِّ، وَالطَّهَارَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلَاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي قَاعِدَةِ «مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ».

وَيَلْزَمُ الْمُكَلَّفَ الْكَفُّ عَنْ كُلِّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَفْعَالِ.

اللُّزُومُ بِإِلْزَامِ الْغَيْرِ.

7- مِمَّنْ تَلْزَمُ طَاعَتُهُ شَرْعًا، وَتَلْزَمُ تَصَرُّفَاتُهُ عَلَى الْغَيْرِ، مَنْ يَلِي:

أ- وَلِيُّ الْأَمْرِ، وَهُوَ الْإِمَامُ الَّذِي صَحَّتْ وِلَايَتُهُ شَرْعًا، فَتَلْزَمُ طَاعَتُهُ الرَّعِيَّةَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وَنُوَّابُ الْإِمَامِ تَلْزَمُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا أَنَابَهُمُ الْإِمَامُ فِيهِ، كَأَمِيرِ الْجَيْشِ، وَالْوَالِي، وَالْمُتَوَلِّي جِبَايَةَ الزَّكَاةِ.

وَالطَّاعَةُ اللاَّزِمَةُ هُنَا هِيَ مَا كَانَ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أَمَرَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا طَاعَةَ لَهُ، لِأَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ أَلْزَمَ، وَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ. (ر: أُولُو الْأَمْرِ ف 5).

ب- الْقَاضِي الَّذِي وَلاَّهُ الْإِمَامُ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ، فَمَا حَكَمَ بِهِ عَلَى إِنْسَانٍ فِي خُصُومَةٍ لَزِمَهُ الْحُكْمُ، وَكَذَا إِذَا حَجَرَ عَلَى سَفِيهٍ أَوْ مُفْلِسٍ لَزِمَتْهُ أَحْكَامُ الْحَجْرِ وَإِذَا تَصَرَّفَ فِي مَالٍ ضَالٍّ بِبَيْعِ أَوْ نَحْوِهِ لَزِمَ تَصَرُّفُهُ وَلِلْقَاضِي إِلْزَامُ النَّاسِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، كَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ.

(ر: قَضَاءٌ ف 27).

ج- الزَّوْجُ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ زَوْجَتَهُ مِنَ الْمَعْرُوفِ.

(ر: طَاعَةٌ ف 10).

د- التَّصَرُّفُ بِالْوِلَايَةِ الشَّرْعِيَّةِ، كَتَصَرُّفِ الْأَبِ فِي مَالِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوِ الْمَجْنُونِ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُمَا، وَتَصَرُّفِ الْوَصِيِّ كَذَلِكَ. (ر: وِلَايَةٌ).

هـ- التَّصَرُّفُ بِالْوَكَالَةِ، فَتَصَرُّفَاتُ الْوَكِيلِ لَازِمَةٌ لِلْمُوَكِّلِ فِيمَا وَكَّلَهُ فِيهِ. (ر: وَكَالَةٌ).

اللُّزُومُ بِإِلْزَامِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ

8- قَدْ يُلْزِمُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ بِأَمْرٍ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ شَرْعًا إِنْ لَمْ يُخَالِفِ الشَّرْعَ، بِمَعْنَى أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْتِزَامَهُ سَبَبًا لِلُّزُومِ، وَمِنْ ذَلِكَ:

أ- الْعَقْدُ، فَإِذَا عَقَدَا بَيْنَهُمَا عَقْدًا لَزِمَهُمَا حُكْمُهُ، كَعَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلًا يَلْزَمُ بِهِ انْتِقَالُ مِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَمِلْكِيَّةِ الثَّمَنِ إِلَى الْبَائِعِ، وَكَعَقْدِ الْإِجَارَةِ يَلْزَمُ بِهِ الْأَجِيرَ الْعَمَلُ، وَيَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ الْأُجْرَةُ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا كُلُّ شَرْطٍ صَحِيحٍ الْتَزَمَهُ الْعَاقِدُ فِي الْعَقْدِ، فَيَلْزَمُهُ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ»،، عَلَى أَنَّ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ اخْتِلَافًا وَتَفْصِيلًا فِيمَا يَصِحُّ مِنَ الشُّرُوطِ وَمَا لَا يَصِحُّ، وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اشْتِرَاطٌ ف 11 وَمَا بَعْدَهَا). ب- تَصَرُّفَاتٌ فَرْدِيَّةٌ قَوْلِيَّةٌ تَلْزَمُ الْمُتَصَرِّفَ أَحْكَامُهَا بِمُجَرَّدِ صُدُورِ الْقَوْلِ عَنْهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْفُ وَالْكَفَالَةُ وَالْعَهْدُ وَالنَّذْرُ وَالْيَمِينُ وَالْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ، وَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ كُلٍّ مِنْهَا إِلَى مُصْطَلَحِهِ.

وَدُخُولُ الْكَافِرِ فِي الْإِسْلَامِ الْتِزَامٌ إِجْمَالِيٌّ لِأَحْكَامِهِ.

لُزُومُ الْعُقُودِ وَجِوَازُهَا

9- يُقْصَدُ بِلُزُومِ الْعَقْدِ عَدَمُ جَوَازِ فَسْخِهِ مِنْ قِبَلِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ إِلاَّ بِرِضَا الْعَاقِدِ الْآخَرِ، وَمَا جَازَ لِلْعَاقِدِ فَسْخُهُ بِغَيْرِ رِضَا الْعَاقِدِ الْآخَرِ يُسَمَّى عَقْدًا جَائِزًا.

فَالْبَيْعُ وَالسَّلَمُ وَالْإِجَارَةُ عُقُودٌ لَازِمَةٌ، إِذْ إِنَّهَا مَتَى صَحَّتْ لَا يَجُوزُ فَسْخُهَا بِغَيْرِ التَّقَايُلِ، وَلَوِ امْتَنَعَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ عَنِ الْوَفَاءِ بِهَا أُجْبِرَ.

وَعَقْدُ النِّكَاحِ لَازِمٌ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ بِالتَّرَاضِي أَصْلًا، دُونَ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ، لِأَنَّهُ وُضِعَ عَلَى الدَّوَامِ وَالتَّأْبِيدِ، وَإِنَّمَا يُفْسَخُ لِضَرُورَةٍ عَظِيمَةٍ، وَفِي قَوْلٍ: يَقْبَلُ الْفَسْخَ بِالتَّرَاضِي.

وَالْوَدِيعَةُ وَالشَّرِكَةُ وَالْوَكَالَةُ عُقُودٌ جَائِزَةٌ، لِكُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ فَسْخُهَا وَلَوْ بِغَيْرِ رِضَا الْعَاقِدِ الْآخَرِ، وَمِثْلُهَا الْمُسَاقَاةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَالْمُسَابَقَةُ وَالْعَارِيَةُ وَالْقَرْضُ وَالِاسْتِصْنَاعُ.

وَقَدْ يَكُونُ الْعَقْدُ لَازِمًا مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ جَائِزًا بِالنِّسْبَةِ لِلْآخَرِ، كَالرَّهْنِ فَلِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُهُ دُونَ الرَّاهِنِ.

وَقَدْ يَعْرِضُ لِلْعَقْدِ اللاَّزِمِ مَا يَجْعَلُهُ جَائِزًا كَالْبَيْعِ إِذَا اشْتُرِطَ فِيهِ خِيَارٌ، أَوْ تَبَيَّنَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ، فَيَكُونُ لِمَنْ لَهُ الْخِيَارُ الْفَسْخُ، كَالْإِجَارَةِ إِذَا طَرَأَ عُذْرٌ كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَ مُرْضِعًا لِطِفْلِهِ فَمَاتَ الطِّفْلُ.

وَقَدْ يَعْرِضُ لِلْعَقْدِ الْجَائِزِ مَا يَجْعَلُهُ لَازِمًا وَمِثَالُ ذَلِكَ الْوَكَالَةُ، فَهِيَ فِي الْأَصْلِ جَائِزَةٌ، فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَفْسَخَهَا وَيَعْزِلَ نَفْسَهُ عَنْهَا، كَمَا أَنَّ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَهُ، لَكِنْ إِنْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَكِيلِ بِمَا وَكَّلَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَهُ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ الْمُسْتَقْرِضُ الْمُقْرِضَ بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ لِيَكُونَ وَفَاءً لِلْقَرْضِ فَلَا يَكُونُ لِلْمُسْتَقْرِضِ عَزْلُهُ، وَكَالرَّهْنِ الْمُشْتَرَطِ فِيهِ تَوْكِيلُ الْمَدِينِ لِلْمُرْتَهِنِ فِي بَيْعِ الْمَرْهُونِ، فَلَا يَكُونُ لِلرَّاهِنِ عَزْلُهُ لِمَا فِي عَزْلِهِ مِنْ إِبْطَالِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَكَالْمُضَارَبَةِ إِذَا شَرَعَ الْعَامِلُ فِي الْعَمَلِ تَلْزَمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَا تَلْزَمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ أَثْبَتَ خِيَارَ الْمَجْلِسِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلًا، وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، فَإِنَّ الْعَقْدَ فِي مُدَّةِ الْمَجْلِسِ يَكُونُ جَائِزًا، فَإِنِ انْفَضَّ الْمَجْلِسُ دُونَ أَنْ يَخْتَارَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ الْفَسْخَ، ابْتَدَأَ لُزُومُ الْعَقْدِ مِنْ حِينَئِذٍ.

وَقَدْ يَكُونُ الْعَقْدُ مُخْتَلِفًا فِي مَدَى لُزُومِهِ أَوْ جَوَازِهِ كَالْهِبَةِ مَثَلًا، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهَا تَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّهَا لَا تَلْزَمُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزَةٌ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لَا غَيْرُ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا جَائِزَةٌ بَعْدَ الْقَبْضِ أَيْضًا، فَلِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِيهَا، مَا لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ، كَأَنْ يَكُونَ الْوَاهِبُ زَوْجًا أَوْ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا أَوْ قَضَاءِ قَاضٍ.

وَفِي كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ تَفْصِيلَاتٌ فِي مَدَى لُزُومِهَا أَوْ جِوَازِهَا، فَيُرْجَعُ فِي كُلٍّ مِنْهَا إِلَى مُصْطَلَحِهِ.

الْعَقْدُ الْفَاسِدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ غَيْرُ لَازِمٍ

10- الْعَقْدُ الْفَاسِدُ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ بِمَعْنَى الْبَاطِلِ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ مُنْعَقِدٌ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ لِصُدُورِهِ عَنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ وَتَمَامِ رُكْنِهِ وَهُوَ الصِّيغَةُ، لَكِنْ فَسَدَ لِوَصْفِهِ أَيْ لِفَقْدِهِ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ، كَاشْتِمَالِ الْبَيْعِ عَلَى جَهَالَةِ الْمَبِيعِ أَوِ الْأَجَلِ، أَوْ عَلَى شَرْطٍ مُفْسِدٍ، أَوْ رِبًا.

وَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ لَا يَكُونُ لَازِمًا، لِأَنَّهُ مُسْتَحَقُّ الْفَسْخِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى: لِمُخَالَفَتِهِ الشَّرْعَ، لَكِنْ قَدْ يَصِحُّ وَيَلْزَمُ إِنْ قَامَ الْعَاقِدَانِ بِإِزَالَةِ الْوَصْفِ الْمُفْسِدِ.كَإِسْقَاطِ الْأَجَلِ الْمَجْهُولِ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ فِيهِ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَاهُ فَاسِدًا أَوْ رَهَنَهُ، فَإِنَّ شِرَاءَهُ يَلْزَمُ، فَلَوْ عَادَ إِلَيْهِ بِفَسْخٍ أَوْ إِقَالَةٍ، عَادَ الْجَوَازُ.

(ر: بُطْلَانٌ ف 10).

حُكْمُ الْوَعْدِ مِنْ حَيْثُ الْجَوَازُ أَوِ اللُّزُومُ

11- الْوَعْدُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ غَيْرُ لَازِمٍ، وَقِيلَ يَلْزَمُ الْوَاعِدَ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ دِيَانَةً وَلَا يَلْزَمُ قَضَاءً، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، ثَالِثُهَا: يَلْزَمُ إِنْ كَانَ عَلَى سَبَبٍ، وَرَابِعُهَا: يَلْزَمُ إِنْ كَانَ عَلَى سَبَبٍ وَدَخَلَ الْمَوْعُودُ بِنَاءً عَلَى الْوَعْدِ فِي شَيْءٍ، كَأَنْ قَالَ: تَزَوَّجْ وَأَنَا أُعْطِيكَ مَا تَدْفَعُهُ مَهْرًا، أَوِ: اهْدِمْ دَارَكَ وَأَنَا أُسَلِّفُكَ مَا تَبْنِيهَا بِهِ، فَتَزَوَّجَ أَوْ هَدَمَ دَارَهُ بِنَاءً عَلَى الْوَعْدِ. (انْظُرِ: الْتِزَامٌ ف 43، وَوَعْدٌ).

اللُّزُومُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ

12- اللُّزُومُ أَنْ يَثْبُتَ أَمْرًا عِنْدَ ثُبُوتِ أَمْرٍ آخَرَ، كَلُزُومِ الْمُسَبَّبِ لِلسَّبَبِ أَوِ الْمَعْلُولِ لِلْعِلَّةِ، فَالْأَوَّلُ اللاَّزِمُ، وَالثَّانِي الْمَلْزُومُ.

وَالتَّعْبِيرُ بِاللاَّزِمِ عَنِ الْمَلْزُومِ أَوْ عَكْسُهُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ، أَمَّا إِنِ اسْتُعْمِلَ اللَّفْظُ فِي حَقِيقَتِهِ وَأُرِيدَ لَازِمُ الْمَعْنَى فَهُوَ كِنَايَةٌ، كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَدَلَالَةُ الْكَلَامِ عَلَى مَعْنًى غَيْرِ مَقْصُودٍ مِنْ سِيَاقِهِ، وَلَكِنَّهُ لَازِمٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِهِ هُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّلَالَاتِ اللَّفْظِيَّةِ يُسَمِّيهِ الْحَنَفِيَّةُ إِشَارَةَ النَّصِّ، كَدَلَالَةِ {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} مَعَ {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ.

وَلَازِمُ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ، فَمَنْ قَالَ كَلَامًا يَلْزَمُ مِنْهُ الْكُفْرُ، وَلَيْسَ كُفْرًا فِي ذَاتِهِ، لَمْ يُحْكَمْ بِتَكْفِيرِهِ إِنْ لَمْ يَقْصِدْ هَذَا اللاَّزِمَ. وَحُكْمُ الْقَاضِي بِشَيْءٍ هَلْ هُوَ حُكْمٌ بِلَازِمِهِ؟ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: نَعَمْ، فَلَا يَحْكُمُ قَاضٍ آخَرُ بِخِلَافِ اللاَّزِمِ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ نَقْضًا لِحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِحُكْمِهِ بِبَيْعِ عَبْدٍ أَعْتَقَهُ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ حُكْمًا بِبُطْلَانِ الْعِتْقِ، فَلَا يَحْكُمُ قَاضٍ آخَرُ فِيهِ بِخِلَافِهِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ نَقْضًا لِحُكْمِ الْأَوَّلِ بِالِاجْتِهَادِ، وَالِاجْتِهَادُ لَا يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


130-موسوعة الفقه الكويتية (مداعبة)

مُدَاعَبَةٌ

التَّعْرِيفُ:

ا- الْمُدَاعَبَةُ لُغَةً: الْمُمَازَحَةُ، وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِجَابِرٍ- رضي الله عنه- وَقَدْ تَزَوَّجَ: «أَبِكْرًا تَزَوَّجْتَ أَمْ ثَيِّبًا؟ فَقَالَ: بَلْ ثَيِّبًا، قَالَ: فَهَلاَّ بِكْرًا تُدَاعِبُهَا وَتُدَاعِبُكَ».

وَالْمُدَاعَبَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: هِيَ الْمُلَاطَفَةُ فِي الْقَوْلِ بِالْمِزَاحِ وَغَيْرِهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْمُلَاعَبَةُ:

2- الْمُلَاعَبَةُ مَصْدَرُ لَاعَبَ، يُقَالُ: لَاعَبَهُ مُلَاعَبَةً وَلِعَابًا: لَعِبَ مَعَهُ، وَمِنْ مَعَانِي اللَّعِبِ: اللَّهْوُ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} وَيُقَالُ: لَعِبَ بِالشَّيْءِ: اتَّخَذَهُ لِعْبَةً، وَيُقَالُ: لَعِبَ فِي الدِّينِ، اتَّخَذَهُ سُخْرِيَّةً، وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا}.

وَمِنْ مَعَانِيهِ: عَمِلَ عَمَلًا لَا يُجْدِي عَلَيْهِ نَفْعًا، ضِدُّ جَدَّ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُدَاعَبَةِ وَالْمُلَاعَبَةِ هِيَ أَنَّ الْمُلَاعَبَةَ أَعَمُّ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

3- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ- كَمَا قَالَ الزُّبَيْدِيُّ- فِي حُكْمِ الْمُدَاعَبَةِ وَالْمِزَاحِ

فَاسْتَبْعَدَ بَعْضُهُمْ وُقُوعَ الْمِزَاحِ مِنْهُ- صلى الله عليه وسلم- لِجَلِيلِ مَكَانَتِهِ وَعَظِيمِ مَرْتَبَتِهِ، فَكَأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ حِكْمَتِهِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «إِنِّي لَا أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا».

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَلِ الْمُدَاعَبَةُ مِنْ خَوَاصِّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَلَا يَتَأَسَّوْنَ بِهِ فِيهَا؟ فَبَيَّنَ- صلى الله عليه وسلم- لَهُمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ خَوَاصِّهِ.

وَالْمُدَاعَبَةُ لَا تُنَافِي الْكَمَالَ، بَلْ هِيَ مِنْ تَوَابِعِهِ وَمُتَمِّمَاتِهِ إِذَا كَانَتْ جَارِيَةً عَلَى الْقَانُونِ الشَّرْعِيِّ، بِأَنْ تَكُونَ عَلَى وَفْقِ الصِّدْقِ، وَبِقَصْدِ تَآلُفِ قُلُوبِ الضُّعَفَاءِ وَجَبْرِهِمْ وَإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ وَالرِّفْقِ بِهِمْ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُمَارِ أَخَاكَ وَلَا تُمَازِحْهُ» إِنَّمَا هُوَ الْإِفْرَاطُ فِيهَا وَالدَّوَامُ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ يُورِثُ آفَاتٍ كَثِيرَةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً مِنَ الْقَسْوَةِ وَالْغَفْلَةِ وَالْإِيذَاءِ وَالْحِقْدِ وَإِسْقَاطِ الْمَهَابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَمِزَاحُهُ- صلى الله عليه وسلم- سَالِمٌ مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ، يَقَعُ مِنْهُ عَلَى جِهَةِ النُّدْرَةِ لِمَصْلَحَةٍ تَامَّةٍ مِنْ مُؤَانَسَةِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَهُوَ بِهَذَا الْقَصْدِ سُنَّةٌ، إِذِ الْأَصْلُ مِنْ أَفْعَالِهِ- صلى الله عليه وسلم- وُجُوبُ التَّأَسِّي بِهِ فِيهَا أَوْ نَدْبُهُ، إِلاَّ لِدَلِيلٍ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا دَلِيلَ هُنَا يَمْنَعُ مِنْهُ، فَتَعَيَّنَ النَّدْبُ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ.

مُدَاعَبَةُ الْأَزْوَاجِ:

4- قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ: وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى احْتِمَالِ الْأَذَى مِنِ امْرَأَتِهِ بِالْمُدَاعَبَةِ وَالْمِزَاحِ وَالْمُلَاعَبَةِ، فَهِيَ الَّتِي تُطَيِّبُ قُلُوبَ النِّسَاءِ، وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ لَا يُوَافِقَهَا بِاتِّبَاعِ هَوَاهَا إِلَى حَدٍّ يُفْسِدُ خُلُقَهَا وَيُسْقِطُ بِالْكُلِّيَّةِ هَيْبَتَهُ عِنْدَهَا.

(ر: عِشْرَةٌ ف 8).

وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما-: «أَفَلَا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «وَتُدَاعِبُهَا وَتُدَاعِبُكَ» وَفِي رِوَايَةٍ: «وَتُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ».

مُدَاعَبَةُ الْأَطْفَالِ:

5- جَاءَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ- قَالَ: أَحْسَبُهُ فَطِيمًا- وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ».

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الْمُمَازَحَةِ وَتَكْرِيرُ الْمِزَاحِ، وَأَنَّهَا إِبَاحَةٌ سُنَّةٍ لَا رُخْصَةٍ، وَأَنَّ مُمَازَحَةَ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يُمَيِّزْ جَائِزَةٌ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


131-موسوعة الفقه الكويتية (مدح)

مَدْحٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمَدْحُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الثَّنَاءُ بِذِكْرِ أَوْصَافِ الْكَمَالِ وَالْأَفْضَالِ خُلُقِيَّةً كَانَتْ أَوِ اخْتِيَارِيَّةً،.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

التَّقْرِيظُ:

2- التَّقْرِيظُ فِي اللُّغَةِ: الْمَدْحُ وَالثَّنَاءُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْقَرْظِ، وَهُوَ شَيْءٌ يُدْبَغُ بِهِ الْأَدِيمُ، وَإِذَا دُبِغَ بِهِ حَسُنَ وَصَلُحَ وَزَادَتْ قِيمَتُهُ، فَشُبِّهَ مَدْحُكَ لِلْإِنْسَانِ الْحَيِّ بِذَلِكَ، كَأَنَّكَ تَزِيدُ فِي قِيمَتِهِ بِمَدْحِكَ إِيَّاهُ.وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدْحِ: أَنَّ الْمَدْحَ يَكُونُ لِلْحَيِّ وَالْمَيِّتِ، وَالتَّقْرِيظَ لَا يَكُونُ إِلاَّ لِلْحَيِّ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَدْحِ:

مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَدْحِ مَا يَأْتِي:

مَدْحُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ:

3- وَرَدَ فِي مَدْحِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ اللَّهِ» وَالْمِدْحَةُ- كَمَا قَالَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ- مَا يُمْدَحُ بِهِ وَنَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ عَنِ ابْنِ بَطَّالٍ قَوْلَهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ: أَرَادَ بِهِ الْمَدْحَ مِنْ عِبَادِهِ- أَيْ عِبَادِ اللَّهِ- بِطَاعَتِهِ وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِنِعَمِهِ لِيُجَازِيَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.

مَدْحُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-:

4- دَأَبَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَدْحِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِعَظِيمِ قَدْرِهِ عِنْدَ رَبِّهِ وَمَنْزِلَتِهِ وَمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ فِي الدَّارَيْنِ مِنْ كَرَامَتِهِ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- أَكْرَمُ الْبَشَرِ وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَأَفْضَلُ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأَعْلَاهُمْ دَرَجَةً وَأَقْرَبُهُمْ زُلْفَى، ثُمَّ سَاقَ أَحَادِيثَ فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ مَكَانَتِهِ- صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ رَبِّهِ وَالِاصْطِفَاءِ وَرِفْعَةِ الذِّكْرِ وَالتَّفْضِيلِ وَسِيَادَةِ وَلَدِ آدَمَ وَمَا خَصَّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَزَايَا الرُّتَبِ وَبَرَكَةِ اسْمِهِ الطَّيِّبِ فَرَوَى عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ- رضي الله عنه-

: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمَ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمَ».

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي نَبِيِّهِ الْمُصْطَفَى- صلى الله عليه وسلم-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} وَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: لَا ذُكِرْتُ إِلاَّ ذُكِرْتَ مَعِي فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالتَّشَهُّدِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمَنَابِرِ وَيَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ الْأَضْحَى وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ وَعِنْدَ الْجِمَارِ، وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَفِي خُطْبَةِ النِّكَاحِ، وَفِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا.

وَكَانَ- صلى الله عليه وسلم- لَهُ شُعَرَاءُ يُصْغِي إِلَيْهِمْ مِنْهُمْ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَقَدْ مَدَحَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ- رضي الله عنه- النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- بِقَصِيدَتِهِ الَّتِي مَطْلَعُهَا «بَانَتْ سُعَادُ...» فَأَثَابَهُ عَلَى مَدْحِهِ بِبُرْدَتِهِ- صلى الله عليه وسلم-.

إِلاَّ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَصِلُ مَدْحُهُ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى حَدِّ الْإِطْرَاءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ».

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي مَعْنَاهُ: لَا تَصِفُونِي بِمَا لَيْسَ فِيَّ مِنَ الصِّفَاتِ، تَلْتَمِسُونَ بِذَلِكَ مَدْحِي، كَمَا وَصَفَتِ النَّصَارَى عِيسَى بِمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ، فَنَسَبُوهُ إِلَى أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ فَكَفَرُوا بِذَلِكَ وَضَلُّوا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ رَفَعَ أَمْرًا فَوْقَ حَدِّهِ وَتَجَاوَزَ مِقْدَارَهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَمُعْتَدٍ آثِمٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ جَازَ فِي أَحَدٍ لَكَانَ أَوْلَى الْخَلْقِ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.

مَدْحُ النَّاسِ:

5- الْأَصْلُ أَنَّ مَدْحَ الْغَيْرِ- كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ- لَيْسَ فِي نَفْسِهِ بِمَحْمُودٍ وَلَا مَذْمُومٍ، وَإِنَّمَا يُحْمَدُ وَيُذَمُّ بِحَسَبِ الْمَقَاصِدِ، فَمَنْ قَصْدُهُ طَلَبُ مَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الثَّنَاءُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُسْتَحَبُّ فَذَلِكَ مَحْمُودٌ، وَالْمَذْمُومُ مِنْهُ: أَنْ يَمِيلَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَحَرِّيهِ لِفِعْلٍ مَا يَقْتَضِيهِ، وَقَدْ تَوَعَّدَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ طَلَبَ الْمَحْمَدَةَ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ حَسَنَةٍ تَقْتَضِيهَا فَقَالَ تَعَالَى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ}.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالْمَدْحُ تَدْخُلُهُ سِتُّ آفَاتٍ: أَرْبَعٌ فِي الْمَادِحِ، وَاثْنَتَانِ فِي الْمَمْدُوحِ.

فَأَمَّا الْمَادِحُ فَالْأُولَى: أَنَّهُ قَدْ يُفْرِطُ فَيَنْتَهِي بِهِ إِلَى الْكَذِبِ، قَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانٍ: مَنْ مَدَحَ إِمَامًا أَوْ أَحَدًا بِمَا لَيْسَ فِيهِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ بَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَعَثَّرُ بِلِسَانِهِ.

وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ، فَإِنَّهُ بِالْمَدْحِ مُظْهِرٌ لِلْحُبِّ، وَقَدْ لَا يَكُونُ مُضْمِرًا لَهُ وَلَا مُعْتَقِدًا لِجَمِيعِ مَا يَقُولُهُ، فَيَصِيرُ بِهِ مُرَائِيًا مُنَافِقًا.

وَالثَّالِثَةُ: أَنَّهُ قَدْ يَقُولُ مَا لَا يَتَحَقَّقُهُ وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ.

رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا مَدَحَ رَجُلًا عِنْدَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ- عليه الصلاة والسلام-: وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ ثُمَّ قَالَ: إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أَحَسُبَ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ يَرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلَا يُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا».

وَهَذِهِ الْآفَةُ تَتَطَرَّقُ إِلَى الْمَدْحِ بِالْأَوْصَافِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي تُعْرَفُ بِالْأَدِلَّةِ كَقَوْلِهِ: إِنَّهُ مُتَّقٍ وَوَرِعٌ وَزَاهِدٌ وَخَيِّرٌ وَمَا يُجْرَى مُجْرَاهُ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: رَأَيْتُهُ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَيَتَصَدَّقُ، وَيَحُجُّ فَهَذِهِ أُمُورٌ مُسْتَيْقَنَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّهُ عَدْلٌ رِضًا، فَإِنَّ ذَلِكَ خَفِيٌّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْزِمَ الْقَوْلَ فِيهِ إِلاَّ بَعْدَ خَبِرَةٍ بَاطِنَةٍ، سَمِعَ عُمَرُ- رضي الله عنه- رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ فَقَالَ: أَسَافَرْتَ مَعَهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَخَالَطْتُهُ فِي الْمُبَايَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَأَنْتَ جَارُهُ صَبَاحَهُ وَمَسَاءَهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَا أَرَاكَ تَعْرِفُهُ.

الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ قَدْ يَفْرَحُ الْمَمْدُوحُ وَهُوَ ظَالِمٌ أَوْ فَاسِقٌ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَغْضَبُ إِذَا مُدِحَ الْفَاسِقُ».

وَقَالَ الْحَسَنُ: مَنْ دَعَا لِظَالِمٍ بِطُولِ الْبَقَاءِ فَقَدْ أَحَبَّ أَنْ يُعْصَى اللَّهُ تَعَالَى فِي أَرْضِهِ.

وَالظَّالِمُ الْفَاسِقُ يَنْبَغِي أَنْ يُذَمَّ لِيَغْتَمَّ، وَلَا يُمْدَحَ لِيَفْرَحَ.

وَأَمَّا الْمَمْدُوحُ فَيَضُرُّهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يُحْدِثُ فِيهِ كِبْرًا وَإِعْجَابًا وَهُمَا مُهْلِكَانِ، قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ عُمَرُ- رضي الله عنه- جَالِسًا وَمَعَهُ الدِّرَّةُ وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، إِذْ أَقْبَلَ الْجَارُودُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَقَالَ رَجُلٌ: هَذَا سَيِّدُ رَبِيعَةَ، فَسَمِعَهَا عُمَرُ- رضي الله عنه- وَمَنْ حَوْلَهُ وَسَمِعَهَا الْجَارُودُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ خَفَقَهُ بِالدِّرَّةِ فَقَالَ: مَالِي وَلَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: مَالِي وَلَكَ أَمَا لَقَدْ سَمِعْتُهَا؟ قَالَ: سَمِعْتُهَا فَمَهْ قَالَ: خَشِيتُ أَنْ يُخَالِطَ قَلْبَكَ مِنْهَا شَيْءٌ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُطَاطِئَ مِنْكَ.

الثَّانِي: هُوَ أَنَّهُ إِذَا أَثْنَى عَلَيْهِ بِالْخَيْرِ فَرِحَ بِهِ وَفَتَرَ وَرَضِيَ عَنْ نَفْسِهِ، وَمِنْ أُعْجِبَ بِنَفْسِهِ قَلَّ تَشَمُّرُهُ، وَإِنَّمَا يَتَشَمَّرُ لِلْعَمَلِ مَنْ يَرَى نَفْسَهُ مُقَصِّرًا، فَأَمَّا إِذَا انْطَلَقَتِ الْأَلْسُنُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ.

أَمَّا إِذَا سَلِمَ الْمَدْحُ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ فِي حَقِّ الْمَادِحِ وَالْمَمْدُوحِ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ.

وَقَالَ الْخَادِمِي: مِنَ السِّتَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِآفَاتِ اللِّسَانِ- فِيمَا الْأَصْلُ فِيهِ الْإِذْنُ وَالْإِبَاحَةُ مِنْ جَانِبِ الشَّرْعِ- الْمَدْحُ، وَهُوَ جَائِزٌ تَارَةً وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ تَارَةً عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ، فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَنَحْوِهِمَا مِمَّنْ يَجِبُ تَعْظِيمُهُ فَهُوَ مِنَ الْقُرْبِ وَأَعْلَى Cالرُّتَبِ، وَجَازَ الْمَدْحُ- أَيْ لِغَيْرِهِمْ كَمَا صَرَّحَ ابْنُ أَحْمَدَ- لِأَنَّهُ يُورِثُ زِيَادَةَ الْمَحَبَّةِ وَالْأُلْفَةِ وَاجْتِمَاعَ الْقُلُوبِ.

ثُمَّ قَالَ الْخَادِمِي: لَكِنْ جَوَازُهُ بِشُرُوطٍ خَمْسَةٍ:

الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَدْحُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ تَزْكِيَةَ النَّفْسِ لَا تَجُوزُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} لَكِنْ إِنْ كَانَ يَقْصِدُ التَّحْدِيثَ بِالنِّعْمَةِ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ جَائِزٌ بَلْ قَدْ يُسْتَحَبُّ، وَفِي حُكْمِ مَدْحِ النَّفْسِ مَدْحُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَوْلَادِ وَالْآبَاءِ وَالتَّلَامِذَةِ وَالتَّصَانِيفِ وَنَحْوِهَا بِحَيْثُ يَسْتَلْزِمُ مَدْحَ الْمَادِحِ.

وَالثَّانِي: الِاحْتِرَازُ عَنِ الْإِفْرَاطِ فِي الْمَدْحِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْكَذِبِ وَالرِّيَاءِ، وَعَنِ الْقَوْلِ بِمَا لَا يَتَحَقَّقُهُ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ كَالتَّقْوَى وَالْوَرَعِ وَالزُّهْدِ لِكَوْنِهَا مِنْ أَحْوَالِ الْقُلُوبِ، فَلَا يَجْزِمُ الْقَوْلَ بِمِثْلِهَا بَلْ يَقُولُ: أَحْسَبُ وَنَحْوُهُ.

وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَمْدُوحُ فَاسِقًا، فَعَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَغْضَبُ إِذَا مُدِحَ الْفَاسِقُ» وَإِنَّمَا يَغْضَبُ اللَّهُ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِمُجَانَبَتِهِ وَإِبْعَادِهِ، فَمَنْ مَدَحَهُ فَقَدْ وَصَلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُقْطَعَ وَوَادَّ مَنْ حَادَّ اللَّهَ، مَعَ مَا فِي مَدْحِهِ مِنِ اسْتِحْسَانِ فِسْقِهِ وَإِغْرَائِهِ عَلَى إِدَامَتِهِ.

وَالرَّابِعُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمَدْحَ لَا يُحْدِثُ فِي الْمَمْدُوحِ كِبْرًا أَوْ عُجْبًا أَوْ غُرُورًا، فَإِنَّ لِلْوَسَائِلِ حُكْمَ الْمَقَاصِدِ، وَمَا يُفْضِي إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ.

وَأَمَّا إِذَا أَحْدَثَ فِي الْمَمْدُوحِ كَمَالًا وَزِيَادَةَ مُجَاهَدَةٍ وَسَعَى طَاعَةً فَلَا مَنْعَ بَلْ لَهُ اسْتِحْبَابٌ.

وَالْخَامِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَدْحُ لِغَرَضٍ حَرَامٍ، أَوْ مُفْضِيًا إِلَى فَسَادٍ، مِثْلَ مَدْحِ الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى الْمَالِ الْحَرَامِ الْمُجَازَى بِهِ مِنْهُمْ أَوِ التَّسَلُّطِ عَلَى النَّاسِ وَظُلْمِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَقَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: لَا يُكْثِرُ مِنَ الْمَدْحِ الْمُبَاحِ، وَلَا يَتَقَاعَدُ عَنِ الْيَسِيرِ مِنْهُ عِنْدَ مَسِيسِ الْحَاجَةِ، تَرْغِيبًا لِلْمَمْدُوحِ فِي الْإِكْثَارِ مِمَّا مُدِحَ بِهِ، أَوْ تَذْكِيرًا لَهُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ لِيَشْكُرَهَا وَلِيَذْكُرَهَا بِشَرْطِ الْأَمِنِ عَلَى الْمَمْدُوحِ مِنَ الْفِتْنَةِ.

وَقَدْ عَقَدَ النَّوَوِيُّ بَابًا فِي كِتَابِهِ (رِيَاضِ الصَّالِحِينَ) بِعِنْوَانِ (كَرَاهَةُ الْمَدْحِ فِي الْوَجْهِ لِمَنْ خِيفَ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ مِنْ إِعْجَابٍ وَنَحْوِهِ، وَجَوَازُهُ- أَيْ بِلَا كَرَاهَةٍ- لِمَنْ أُمِنَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ) أَوْرَدَ فِيهِ أَحَادِيثَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْمَدْحِ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ Cأَبُو مُوسَى- رضي الله عنه- قَالَ: «سَمِعَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِي الْمِدْحَةِ فَقَالَ: أَهْلَكْتُمْ أَوْ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ» وَمَا رَوَاهُ هَمَّامُ بْنُ الْحَارِثِ عَنِ الْمِقْدَادِ- رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ يَمْدَحُ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- فَعَمَدَ الْمِقْدَادُ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَجَعَلَ يَحْثُو فِي وَجْهِهِ الْحَصْبَاءَ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: مَا شَأْنُكَ، فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ» وَوَرَدَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِعُمَرَ: «مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ إِلاَّ سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ» ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ- أَيْ فِي النَّهْيِ وَالْإِبَاحَةِ- أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ الْمَمْدُوحُ عِنْدَهُ كَمَالُ إِيمَانٍ وَيَقِينٌ وَرِيَاضَةُ نَفْسٍ وَمَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ بِحَيْثُ لَا يُفْتَتَنُ وَلَا يَغْتَرُّ بِذَلِكَ وَلَا تَلْعَبُ بِهِ نَفْسُهُ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا مَكْرُوهٍ، وَإِنْ خِيفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ كُرِهَ مَدْحُهُ فِي وَجْهِهِ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ تَنْزِلُ الْأَحَادِيثُ الْمُخْتَلِفَةُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: تَأَوَّلَ الْعُلَمَاءُ قَوْلَهُ- صلى الله عليه وسلم- «احْثُوا التُّرَابَ فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ» أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَدَّاحُونَ فِي وُجُوهِهِمْ بِالْبَاطِلِ وَبِمَا لَيْسَ فِيهِمْ حَتَّى يَجْعَلُوا ذَلِكَ بِضَاعَةً يَسْتَأْكِلُونَ بِهِ الْمَمْدُوحَ وَيَفْتِنُونَهُ.

مَا يَفْعَلُهُ الْمَمْدُوحُ:

6- قَالَ الْغَزَالِيُّ: عَلَى الْمَمْدُوحِ أَنْ يَكُونَ شَدِيدَ الِاحْتِرَازِ عَنْ آفَةِ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَآفَةِ الْفُتُورِ، وَلَا يَنْجُو مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ بِأَنْ يَعْرِفَ نَفْسَهُ، وَيَتَأَمَّلَ مَا فِي خَطَرِ الْخَاتِمَةِ، وَدَقَائِقِ الرِّيَاءِ وَآفَاتِ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّهُ يَعْرِفُ مِنْ نَفْسِهِ مَا لَا يَعْرِفُهُ الْمَادِحُ، وَلَوِ انْكَشَفَ لَهُ جَمِيعُ أَسْرَارِهِ وَمَا يَجْرِي عَلَى خَوَاطِرِهِ لِكَفِّ الْمَادِحُ عَنْ مَدْحِهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُظْهِرَ كَرَاهَةَ الْمَدْحِ بِإِذْلَالِ الْمَادِحِ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ».

وَنَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ إِذَا مُدِحَ الرَّجُلُ فِي وَجْهِهِ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَاجْعَلْنِي خَيْرًا مِمَّا يَظُنُّونَ.

مَدْحُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ وَذِكْرُ مَحَاسِنِهِ:

7- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ فِي الْجُمْلَةِ أَنْ يَمْدَحَ نَفْسَهُ وَأَنْ يُزْكِيَهَا قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَمَدْحُكَ نَفْسَكَ أَقْبَحُ مِنْ مَدْحِكَ غَيْرِكَ، فَإِنَّ غَلَطَ الْإِنْسَانِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَكْثَرُ مِنْ غَلَطِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَإِنَّ حُبَّكَ الشَّيْءَ يَعْمِي وَيَصُمُّ، وَلَا شَيْءَ أَحَبُّ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ يَرَى عُيُوبَ غَيْرِهِ وَلَا يَرَى عُيُوبَ نَفْسِهِ، وَيَعْذِرُ بِهِ نَفْسَهُ بِمَا لَا يَعْذِرُ بِهِ غَيْرَهُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} وَقَالَ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ}.وَلَا يَمْدَحُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ إِلاَّ إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ خَاطِبًا إِلَى قَوْمٍ فَيُرَغِّبَهُمْ فِي نِكَاحِهِ، أَوْ لِيُعَرِّفَ أَهْلِيَّتَهُ لِلْوِلَايَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ، لِيَقُومَ بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنًا أَوْ كِفَايَةً كَقَوْلِ يُوسُفَ- عليه السلام-: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}.

وَقَدْ يَمْدَحُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ لِيُقْتَدَى بِهِ فِيمَا مَدَحَ نَفْسَهُ بِهِ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالْأَقْوِيَاءِ الَّذِينَ يَأْمَنُونَ التَّسْمِيعَ وَيُقْتَدَى بِأَمْثَالِهِمْ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «أَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّي وَلَا فَخْرَ».

وَقَوْلُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَاللَّهِ مَا آيَةٌ إِلاَّ وَأَنَا أَعْلَمُ بِلَيْلٍ نَزَلَتْ أَمْ بِنَهَارٍ وَقَوْلُ عُثْمَانَ- رضي الله عنه-: مَا تَعَنَّيْتُ وَلَا تَمَنَّيْتُ وَلَا مَسِسْتُ ذَكَرِي بِيَمِينِي مُنْذُ بَايَعْتُ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.

قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: التَّعَنِّي: التَّطَلِّي بِالْعِينَةِ، وَهُوَ بَوْلٌ فِيهِ أَخْلَاطٌ تُطْلَى بِهَا الْإِبِلُ الْجَرْبَى وَالتَّمَنِّي: التَّكَذُّبُ، تَفَعُّلٌ مِنْ مَنَى يَمْنِي إِذَا قَدَرَ، لِأَنَّ الْكَاذِبَ يَقْدِرُ الْحَدِيثَ فِي نَفْسِهِ ثُمَّ يَقُولُهُ.

قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ خَرَجَتْ مَخْرَجَ الشُّكْرِ لِلَّهِ وَتَعْرِيفُ الْمُسْتَفِيدِ مَا عِنْدَ الْمَفِيدِ.

وَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَ مَحَاسِنِ نَفْسِهِ ضَرْبَانِ: مَذْمُومٌ وَمَحْبُوبٌ، فَالْمَذْمُومُ: أَنْ يَذْكُرَهُ Cلِلِافْتِخَارِ وَإِظْهَارِ الِارْتِفَاعِ وَالتَّمَيُّزِ عَلَى الْأَقْرَانِ وَشِبْهُ ذَلِكَ، وَالْمَحْبُوبُ: أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ آمِرًا بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَاهِيًا عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ نَاصِحًا، أَوْ مُشِيرًا بِمَصْلَحَةٍ، أَوْ مُعَلِّمًا، أَوْ مُؤَدِّبًا، أَوْ وَاعِظًا، أَوْ مُذَكِّرًا، أَوْ مُصْلِحًا بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَوْ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ شَرًّا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَيَذْكُرُ مَحَاسِنَهُ نَاوِيًا بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَقْرَبَ إِلَى قَبُولِ قَوْلِهِ وَاعْتِمَادِ مَا يَذْكُرُهُ، أَوْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي أَقُولُهُ لَا تَجِدُونَهُ عِنْدَ غَيْرِي فَاحْتُفِظُوا بِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

مَدْحُ الْمَيِّتِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ:

8- نَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ عَنِ الزَّيْنِ بْنِ الْمُنِيرِ: أَنَّ ثَنَاءَ النَّاسِ عَلَى الْمَيِّتِ مَشْرُوعٌ وَجَائِزٌ مُطْلَقًا، بِخِلَافِ الْحَيِّ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إِذَا أَفْضَى إِلَى الْإِطْرَاءِ خَشْيَةً عَلَيْهِ مِنَ الزَّهْوِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ الثَّنَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ وَذِكْرُ مَحَاسِنِهِ.

وَقَالَ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ مَرَّ بِهِ جِنَازَةٌ أَوْ رَآهَا أَنْ يَدْعُوَ لَهَا وَيُثْنِيَ عَلَيْهَا بِالْخَيْرِ إِنْ كَانَتْ أَهْلًا لِلثَّنَاءِ، وَلَا يُجَازِفُ فِي الثَّنَاءِ.

وَنَقَلَ فِي الْمَجْمُوعِ عَنِ الْبَنْدَنِيجِيِّ نَحْوَ ذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى أَنَسٌ- رضي الله عنه- قَالَ: «مَرُّوا بِجِنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: وَجَبَتْ ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ: وَجَبَتْ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-: مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ».

قَالَ الدَّاوُدِيُّ: الْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالصِّدْقِ، لَا الْفَسَقَةُ لِأَنَّهُمْ قَدْ يُثْنُونَ عَلَى مَنْ يَكُونُ مِثْلَهُمْ، وَلَا مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ عَدَاوَةٌ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الْعَدُوِّ لَا تُقْبَلُ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ الثَّنَاءَ بِالْخَيْرِ لِمَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ أَهْلُ الْفَضْلِ- وَكَانَ ذَلِكَ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ- فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ فَلَا، وَكَذَا عَكْسُهُ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى عُمُومِهِ وَأَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَأَلْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى النَّاسَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ بِخَيْرٍ كَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ أَفْعَالُهُ تَقْتَضِي ذَلِكَ أَمْ لَا، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، وَهَذَا إِلْهَامٌ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَعْيِينِهَا، وَبِهَذَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ Cالثَّنَاءِ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَهَذَا فِي جَانِبِ الْخَيْرِ وَاضِحٌ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَشْهَدُ لَهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ جِيرَانِهِ الْأَدْنَيْنَ» وَفِي رِوَايَةٍ: «ثَلَاثَةٌ مِنْ جِيرَانِهِ الْأَدْنَيْنَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنْهُ إِلاَّ خَيْرًا إِلاَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ قَبِلْتُ قَوْلَكُمْ وَغَفَرْتُ لَهُ مَا لَا تَعْلَمُونَ» وَأَمَّا جَانِبُ الشَّرِّ فَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ كَذَلِكَ، لَكِنْ إِنَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ غَلَبَ شَرُّهُ عَلَى خَيْرِهِ لِحَدِيثِ: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً تَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَةِ بَنِي آدَمَ بِمَا فِي الْمَرْءِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ».

قَالَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَكَرِهَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْإِفْرَاطِ فِي مَدْحِ الْمَيِّتِ عِنْدَ جِنَازَتِهِ حَتَّى كَانُوا يَذْكُرُونَ مَا هُوَ يُشْبِهُ الْمُحَالَ، وَأَصْلُ الثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ عَلَى الْمَيِّتِ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، وَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ بِمَا لَيْسَ فِيهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


132-موسوعة الفقه الكويتية (مزاح)

مُزَاحُ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمُزَاحُ بِالضَّمِّ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنْ مَزَحَ يَمْزَحُ، وَالْمَزْحُ: الدُّعَابَةُ، وَالْمِزَاحُ- بِالْكَسْرِ- مَصْدَرُ مَازَحَهُ، وَهُمَا مُتَمَازِحَانِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْمُزَاحُ بِالضَّمِّ الْمُبَاسَطَةُ إِلَى الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ التَّلَطُّفِ وَالِاسْتِعْطَافِ دُونَ أَذِيَّةٍ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

2- لَا بَأْسَ بِالْمُزَاحِ إِذَا رَاعَى الْمَازِحُ فِيهِ الْحَقَّ وَتَحَرَّى الصِّدْقَ فِيمَا يَقُولُهُ فِي مُزَاحِهِ، وَتَحَاشَى عَنْ فُحْشِ الْقَوْلِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنِّي لأَمْزَحُ وَلَا أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا».

قَالَ الْبَرَكَوِيُّ وَالْخَادِمِيُّ: شَرْطُ جِوَازِ الْمُزَاحِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ كَذِبٌ وَلَا رَوْعُ مُسْلِمٍ وَإِلاَّ فَيَحْرُمُ.

وَرَوَى الْخَلاَّلُ عَنْ أَحْمَدَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ الْمُمَازَحَةَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: الْمُزَاحُ بِمَا يَحْسُنُ مُبَاحٌ «وَقَدْ مَزَحَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يَقُلْ إِلاَّ حَقًّا».

وَالْآثَارُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْمُزَاحِ كَثِيرَةٌ.

وَقَدْ كَرِهَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْخَوْضَ فِي الْمُزَاحِ لِمَا فِيهِ مِنْ ذَمِيمِ الْعَاقِبَةِ، وَمِنَ التَّوَصُّلِ إِلَى أَعْرَاضِ النَّاسِ وَاسْتِجْلَابِ الضَّغَائِنِ وَإِفْسَادِ الْإِخَاءِ، وَقَالُوا: لِكُلِّ شَيْءٍ بَدْءٌ، وَبَدْءُ الْعَدَاوَةِ الْمُزَاحُ، وَكَانَ يُقَالُ: لَوْ كَانَ الْمُزَاحُ فَحْلًا مَا لَقَّحَ إِلاَّ الشَّرَّ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ: لَا تُمَازِحِ الشَّرِيفَ فَيَحْقِدَ، وَلَا الدَّنِيءَ فَيَجْتَرِئَ عَلَيْكَ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ الْإِفْرَاطُ فِي الْمُزَاحِ أَوِ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ، أَمَّا الْمُدَاوَمَةُ فَلِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِاللَّعِبِ وَالْهَزْلِ فِيهِ، وَاللَّعِبُ مُبَاحٌ وَلَكِنَّ الْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهِ مَذْمُومَةٌ، وَأَمَّا الْإِفْرَاطُ فِيهِ فَإِنَّهُ يُورِثُ كَثْرَةَ الضَّحِكِ، وَكَثْرَةُ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ، وَتُورِثُ الضَّغِينَةَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَتُسْقِطُ الْمَهَابَةَ وَالْوَقَارَ، فَمَا يَخْلُو عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فَلَا يُذَمُّ.

مُزَاحُ الْقَاضِي

3- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ كَمَا جَاءَ فِي رَوْضَةِ الْقُضَاةِ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي إِذَا أَرَادَ الْجُلُوسَ لِلْقَضَاءِ أَنْ يَخْرُجَ وَهُوَ عَلَى أَعْدَلِ الْأَحْوَالِ: لَا جَائِعٌ وَلَا عَطْشَانُ وَلَا كَضِيضٌ مِنَ الطَّعَامِ وَلَا كَسْلَانُ وَلَا يَقْضِي وَهُوَ غَضْبَانُ وَلَا يَمْزَحُ مَعَ خَصْمٍ، وَلَا يُسَارُّهُ وَلَا يَضْحَكُ فِي وَجْهِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ وَلَا يُؤْثِرَ أَحَدَهُمَا بِشَيْءٍ مِنَ الْإِكْرَامِ وَلَا يُمَازِحَهُ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْقَاضِي أَنْ لَا يَهْزِلَ وَلَا يَمْجُنَ أَيْ يَمْزَحَ لِأَنَّ ذَلِكَ يُخِلُّ بِهَيْبَتِهِ.

تَصَرُّفَاتُ الْمَازِحِ

4- تَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُ الْمَازِحِ (الْهَازِلِ) الْقَوْلِيَّةُ فَيَقَعُ طَلَاقُهُ وَسَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِحَدِيثِ: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ الطَّلَاقُ وَالنِّكَاحُ وَالرَّجْعَةُ»، وَفِي رِوَايَةٍ: الْعِتْقُ.

وَخُصَّ الثَّلَاثَةُ بِالذِّكْرِ فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ، لِتَأَكُّدِ أَمْرِ الْأَبْضَاعِ وَلِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ بِالْعِتْقِ.

وَإِلاَّ فَكُلُّ التَّصَرُّفَاتِ كَذَلِكَ.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: كُلُّ التَّصَرُّفَاتِ تَنْعَقِدُ بِالْهَزْلِ فِي الْأَصَحِّ.

ادِّعَاءُ الْمُزَاحِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ

5- نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ شَخْصٌ لِرَجُلٍ بِحَقٍّ، ثُمَّ قَالَ مَزَحْتُ فَإِنْ صَدَّقَهُ بِأَنَّهُ مُزَاحٌ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَخْذُهُ، وَإِنْ كَذَّبَهُ وَكَانَ صَادِقًا بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ عِنْدَهُ وَسِعَهُ أَخْذُ مَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ، وَإِنْ شَكَّ أَحْبَبْتُ لَهُ الْوُقُوفَ فِيهِ.

ادِّعَاءُ الْمُزَاحِ بِالْبَيْعِ

6- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ قَالَ الْبَائِعُ أَبَيْعُكَ سِلْعَتِي بِكَذَا أَوْ أُعْطِيكَهَا بِكَذَا، فَأَجَابَهُ الْمُشْتَرِي بِمَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، فَقَالَ الْبَائِعُ لَمْ أُرِدِ الْبَيْعَ إِنَّمَا أَرَدْتُ اخْتِبَارَ ثَمَنِهَا، أَوْ قَالَ كُنْتُ مَازِحًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ أَبِيعُكَهَا إِيجَابَ الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَا ذَكَرَهُ مِنِ اخْتِبَارِ الثَّمَنِ وَالْمَزْحِ، فَإِنْ حَلَفَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْبَيْعُ، وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ يَلْزَمُهُ الْبَيْعُ، أَمَا إِذَا أَتَى بِصِيغَةِ الْمَاضِي بِأَنْ قَالَ بِعْتُكَهَا بِكَذَا، أَوْ قَدْ أَعْطَيْتُكَهَا بِكَذَا، أَوْ قَالَ قَدْ أَخَذْتُهَا بِكَذَا- كُلُّ ذَلِكَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي- فَرَضِيَ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ أَبَى الْبَائِعُ وَقَالَ مَا أَرَدْتُ الْبَيْعَ بَلْ كَانَ مَزْحًا لَمْ يَنْفَعْهُ وَلَزِمَهُ الْبَيْعُ

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


133-موسوعة الفقه الكويتية (مسجد 3)

مَسْجِدٌ -3

وَقْفُ الْمَسْجِدِ وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ

38- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ وَقْفِ الْمَسْجِدِ وَالْوَقْفِ عَلَيْهِ مِمَّنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ وَعَلَى جِهَةِ بِرٍّ، إِلاَّ أَنَّهُمْ وَضَعُوا قَوَاعِدَ لِزَوَالِ مِلْكِ وَاقِفِهِ عَنْهُ وَلُزُومِهِ.

وَفِي هَذَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لَمْ يَزَلْ مِلْكُهُ عَنْهُ حَتَّى يُفْرِزَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِطَرِيقِهِ، وَيَأْذَنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ، فَإِذَا صَلَّى فِيهِ وَاحِدٌ زَالَ عَنْ مِلْكِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا، وَفِي الْأُخْرَى: لَا يَزُولُ إِلاَّ بِصَلَاةِ جَمَاعَةٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ: جَعَلْتُهُ مَسْجِدًا، لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، كَمَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ وَالْمَسْجِدُ جُعِلَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ مُحَرَّرًا عَنْ أَنْ يَمْلِكَ الْعِبَادُ فِيهِ شَيْئًا غَيْرَ الْعِبَادَةِ فِيهِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ.

وَمَتَى زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ وَلَزِمَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَلَا يَبِيعَهُ وَلَا يُورَثَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ تَجَرَّدَ عَنْ حَقِّ الْعِبَادِ وَصَارَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لِلَّهِ وَإِذَا أَسْقَطَ الْعَبْدُ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنَ الْحَقِّ رَجَعَ إِلَى أَصْلِهِ فَانْقَطَعَ تَصَرُّفُهُ عَنْهُ كَمَا فِي الْإِعْتَاقِ.

وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا، وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ صَحَّ وَقْفُهُ وَلَزِمَ، فَإِذَا لَمْ يُخَلِّ الْوَاقِفُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ بَطَلَ وَقْفُهُ، كَمَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا وَصَلَّى فِيهِ، أَوْ أَذِنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ، وَقَالَ: وَقَفْتُهُ مَسْجِدًا لِلصَّلَاةِ فِيهِ صَحَّ وَقْفُهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لَمْ يَصِرْ مَسْجِدًا، لِأَنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ مَعَ الْقُدْرَةِ كَالْعِتْقِ.

فَإِذَا صَحَّ لَزِمَ وَانْقَطَعَ تَصَرُّفُ الْوَاقِفِ فِيهِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِعُمَرَ- رضي الله عنه-: «إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا قَالَ فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، إِنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ»،، وَيَزُولُ مِلْكُهُ عَنِ الْعَيْنِ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ.

وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ إِذْنًا عَامًّا كَانَ لَازِمًا وَمُؤَبَّدًا لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ).

الْوَصِيَّةُ لِلْمَسْجِدِ

39- الْوَصِيَّةُ لِلْمَسْجِدِ أَجَازَهَا الْفُقَهَاءُ وَيُصْرَفُ الْمُوصَى بِهِ فِي مَصَالِحِهِ كَوُقُودِهِ وَعِمَارَتِهِ، لِأَنَّهُ مَقْصُودُ النَّاسِ بِالْوَصِيَّةِ لَهُ.

وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: إِنِ اقْتَضَى الْعُرْفُ صَرْفَهَا لِلْمُجَاوِرِينَ كَالْجَامِعِ الْأَزْهَرِ صُرِفَ لَهُمْ لَا لِمَرَمَّتِهِ وَحُصْرِهِ، وَنَحْوِهِمَا.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (وَصِيَّةٌ).

دُخُولُ الذِّمِّيِّ الْمَسْجِدَ

40- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِدُخُولِ الذِّمِّيِّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانُوا كُفَّارًا وَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَنْجَاسِ النَّاسِ شَيْءٌ إِنَّمَا أَنْجَاسُ النَّاسِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ»،، وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ مُسْتَوْلِينَ أَوْ طَائِفِينَ عُرَاةً كَمَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ.

وَمَنَعَ الْمَالِكِيَّةُ دُخُولَ الذِّمِّيِّ الْمَسْجِدَ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي الدُّخُولِ مَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ لِدُخُولِهِ كَعِمَارَةِ وَإِلاَّ فَلَا.

وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: يُمَكَّنُ الْكَافِرُ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَاللُّبْثِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ جُنُبًا، فَإِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَدْخُلُونَ مَسْجِدَهُ- صلى الله عليه وسلم- وَلَا شَكَّ أَنَّ فِيهِمُ الْجُنُبَ.

وَأَطْلَقَ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ يَدْخُلَ مَسَاجِدَ غَيْرَ الْحَرَمِ بِإِذْنِ الْمُسْلِمِ، فَإِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمُسْلِمُ فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ الدُّخُولُ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِنْ دَخَلَ بِغَيْرِ إِذْنٍ عُزِّرَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِتَوَقُّفِهِ عَلَى الْإِذْنِ فَلَا يُعَزَّرُ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ لَيْسَ لِلذِّمِّيِّ دُخُولُ مَسَاجِدِ الْحِلِّ (وَهِيَ كُلُّ مَسْجِدٍ خَارِجِ نِطَاقِ حَرَمِ مَكَّةَ) بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لَهُمْ دُخُولُهُ.

وَقْفُ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمَسْجِدِ

41- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْفِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمَسْجِدِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى صِحَّتِهِ لِعُمُومِ أَدِلَّةِ الْوَقْفِ، وَمَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْفٌ).

الزَّكَاةُ لِلْمَسْجِدِ

42- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، لِانْعِدَامِ التَّمْلِيكِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (زَكَاةٌ ف).

وَنَقَلَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ عَنِ الْقَفَّالِ فِي تَفْسِيرِهِ آيَةَ الزَّكَاةِ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ أَجَازُوا صَرْفَ الصَّدَقَاتِ إِلَى جَمِيعِ وُجُوهِ الْخَيْرِ مِنْ تَكْفِينِ الْمَوْتَى وَبِنَاءِ الْحُصُونِ وَعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} عَامٌّ فِي الْكُلِّ.

الصَّدَقَةُ عَلَى السَّائِلِينَ فِي الْمَسْجِدِ

43- قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطَى السَّائِلُ فِي الْمَسْجِدِ شَيْئًا لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-: «هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَطْعَمَ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا أَنَا بِسَائِلٍ يَسْأَلُ فَوَجَدْتُ كِسْرَةَ خُبْزٍ فِي يَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَأَخَذْتُهَا مِنْهُ فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ».

وَنَقَلَ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ كِتَابِ الْكَسْبِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْمُخْتَارَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ السَّائِلُ لَا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَلَا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي، وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا فَلَا بَأْسَ بِالسُّؤَالِ وَالْإِعْطَاءِ، لِأَنَّ السُّؤَّالَ كَانُوا يَسْأَلُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يُرْوَى أَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- تَصَدَّقَ بِخَاتَمِهِ وَهُوَ فِي الرُّكُوعِ.فَمَدَحَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} وَإِنْ كَانَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَيَمُرُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي فَيُكْرَهُ إِعْطَاؤُهُ، لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ لَهُ عَلَى أَذَى النَّاسِ حَتَّى قِيلَ: هَذَا فَلْسٌ وَاحِدٌ يَحْتَاجُ إِلَى سَبْعِينَ فَلْسًا لِكَفَّارَتِهِ.

وَقَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُكْرَهُ السُّؤَالُ وَالتَّصَدُّقُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَمُرَادُهُمْ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- التَّصَدُّقُ عَلَى السُّؤَّالِ لَا مُطْلَقًا، وَقَطَعَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ، وَأَكْثَرُهُمْ لَمْ يَذْكُرِ الْكَرَاهَةَ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ- رحمه الله- عَلَى أَنَّ مَنْ سَأَلَ قَبْلَ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ جَلَسَ لَهَا تَجُوزُ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ تَصَدَّقَ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْأَلْ أَوْ سَأَلَ الْخَطِيبُ الصَّدَقَةَ عَلَى إِنْسَانٍ جَازَ.

وَنَقَلَ ابْنُ مُفْلِحٍ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ بَدْرٍ قَالَ: صَلَّيْتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِذَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِقُرْبٍ مِنِّي، فَقَامَ سَائِلٌ فَسَأَلَ فَأَعْطَاهُ أَحْمَدُ قِطْعَةً.

وَكَرِهَ الْحَنَفِيَّةُ التَّخَطِّيَ لِلسُّؤَالِ فَلَا يَمُرُّ السَّائِلُ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي وَلَا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا إِلاَّ إِذَا كَانَ لِأَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ.

اسْتِبْدَالُ الْمَسْجِدِ

44- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ اسْتِبْدَالِ الْمَسْجِدِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ بَاعَ كَرْمًا فِيهِ مَسْجِدٌ قَدِيمٌ إِنْ كَانَ عَامِرًا يَفْسُدُ الْبَيْعُ وَإِلاَّ لَا، وَلَوِ اشْتَرَى دَارًا بِطَرِيقِهَا ثُمَّ اسْتُحِقَّ الطَّرِيقُ: إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا بِحِصَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا إِنْ كَانَ الطَّرِيقُ مُخْتَلِطًا بِهَا، وَإِنْ كَانَ مُتَمَيِّزًا لَزِمَهُ الدَّارُ بِحِصَّتِهَا، وَمَعْنَى اخْتِلَاطِهِ كَوْنُهُ لَمْ يَذْكُرْ لَهُ الْحُدُودَ، وَفِي الْمُنْتَقَى: إِذَا لَمْ يَكُنِ الطَّرِيقُ مَحْدُودًا فَسَدَ الْبَيْعُ، وَالْمَسْجِدُ الْخَاصُّ كَالطَّرِيقِ الْمَعْلُومِ وَلَوْ كَانَ مَسْجِدُ جَمَاعَةٍ فَسَدَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَلَوْ كَانَ مَسْجِدٌ جَامِعٌ فَسَدَ فِي الْكُلِّ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَهْدُومًا أَوْ أَرْضًا سَاحَةً لَا بِنَاءَ فِيهَا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ مَسْجِدًا جَامِعًا كَذَا فِي الْمُجْتَبَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُتَفَرِّعٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمَسْجِدِ: إِلاَّ إِنْ كَانَ مِنْ رِيعِهِ مَعْلُومٌ يُعَادُ بِهِ، وَلَوْ بَاعَ قَرْيَةً وَفِيهَا مَسْجِدٌ وَاسْتُثْنِيَ الْمَسْجِدُ جَازَ الْبَيْعُ.

وَفِي هَذَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: أَمَّا الْمَسْجِدُ فَلَا خِلَافَ فِي عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ خَرِبَ أَمْ لَا، وَإِنِ انْتَقَلَتِ الْعِمَارَةُ عَنْ مَحَلِّهِ، وَمِثْلُ عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْمَسْجِدِ نَقْضُهُ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ نَقْضِ الْمَسْجِدِ بِمَعْنَى أَنْقَاضِهِ.

وَإِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ مَحْفُوفًا بِوُقُوفِ فَافْتَقَرَ إِلَى تَوْسِعَةٍ جَازَ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْهَا مَا يُوَسِّعُ بِهِ، يَعْنِي أَنَّ الْمَسْجِدَ إِذَا كَانَ مَحْفُوفًا بِوُقُوفِ وَكَانَ هَذَا الْمَسْجِدُ فِي حَاجَةٍ إِلَى تَوْسِعَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُوَسِّعُهُ إِلاَّ بِبَيْعِ بَعْضِ تِلْكَ الْأَوْقَافِ أَوْ كُلِّهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُبَاعَ لِتَوْسِعَةِ الْمَسْجِدِ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحَبْسِ وَلَوْ صَارَ خَرِبًا إِلاَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهِيَ مَا إِذَا ضَاقَ الْمَسْجِدُ بِأَهْلِهِ، أَوِ احْتَاجَ إِلَى تَوْسِعَةٍ، وَبِجَانِبِهِ عَقَارُ حَبْسٍ أَوْ مِلْكٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْحَبْسِ لِأَجْلِ تَوْسِعَةِ الْمَسْجِدِ، وَإِنْ أَبَى صَاحِبُ الْحَبْسِ أَوْ صَاحِبُ الْمِلْكِ بَيْعَ ذَلِكَ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا يُجْبَرَانِ عَلَى بَيْعِ ذَلِكَ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِ الْحَبْسِ مَا يُجْعَلُ حَبْسًا كَالْأَوَّلِ، وَمِثْلُ تَوْسِعَةِ الْمَسْجِدِ تَوْسِعَةُ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَقْبَرَتِهِمْ.

وَفِي الْمَوَّاقِ: قَالَ سَحْنُونٌ: لَمْ يُجِزْ أَصْحَابُنَا بَيْعَ الْحَبْسِ بِحَالٍ إِلاَّ دَارًا بِجِوَارِ مَسْجِدٍ احْتِيجَ أَنْ تُضَافَ إِلَيْهِ لِيَتَوَسَّعَ بِهَا، فَأَجَازُوا بَيْعَ ذَلِكَ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهَا دَارٌ تَكُونُ حَبْسًا، وَقَدْ أُدْخِلَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- دُورٌ مُحَبَّسَةٌ كَانَتْ تَلِيهِ، وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَجُوزُ فِي مَسَاجِدِ الْجَوَامِعِ إِنِ احْتِيجَ إِلَى ذَلِكَ لَا فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ، إِذْ لَيْسَتِ الضَّرُورَةُ فِيهَا كَالْجَوَامِعِ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ انْهَدَمَ مَسْجِدٌ وَتَعَذَّرَتْ إِعَادَتُهُ لَمْ يُبَعْ بِحَالٍ لِإِمْكَانِ الصَّلَاةِ فِيهِ فِي الْحَالِ، وَيَقُولُ الْقَلْيُوبِيُّ تَعْلِيقًا عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الْمِنْهَاجِ (وَتَعَذَّرَتْ إِعَادَتُهُ): أَيْ بِنَقْضِهِ، ثُمَّ إِنْ رُجِيَ عَوْدُهُ حُفِظَ نَقْضُهُ وُجُوبًا- وَلَوْ بِنَقْلِهِ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ إِنْ خِيفَ عَلَيْهِ لَوْ بَقِيَ- وَلِلْحَاكِمِ هَدْمُهُ وَنَقْلُ نَقْضِهِ إِلَى مَحَلٍّ أَمِينٍ إِنْ خِيفَ عَلَى أَخْذِهِ لَوْ لَمْ يُهْدَمْ، فَإِنْ لَمْ يُرْجَ عَوْدُهُ بُنِيَ بِهِ مَسْجِدٌ آخَرُ لَا نَحْوُ مَدْرَسَةٍ، وَكَوْنُهُ بِقُرْبِهِ أَوْلَى، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْمَسْجِدُ بُنِيَ بِهِ غَيْرُهُ.

وَأَمَّا غَلَّتُهُ الَّتِي لَيْسَ لِأَرْبَابِ الْوَظَائِفِ وَحُصْرُهُ وَقَنَادِيلُهُ فَكَنَقْضِهِ وَإِلاَّ فَهِيَ لِأَرْبَابِهَا، وَإِنْ تَعَذَّرَتْ، لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِمْ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُ الْمَسْجِدِ بِخَرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ، كَخَشَبٍ تَشَعَّثَ وَخِيفَ سُقُوطُهُ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُعْمَرُ بِهِ، فَيُبَاعُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ أَوْ بَعْضِ مِثْلِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ قَالَ: وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ خَشَبَاتٌ لَا قِيمَةَ لَهَا جَازَ بَيْعُهَا وَصَرْفُ ثَمَنِهَا عَلَيْهِ، وَقَالَ: يُحَوَّلُ الْمَسْجِدُ خَوْفًا مِنَ اللُّصُوصِ وَإِذَا كَانَ مَوْضِعُهُ قَذِرًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْمَعْرُوفُ بِالْخَلاَّلِ: وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْمَسَاجِدَ لَا تُبَاعُ إِنَّمَا تُنْقَلُ آلَتُهَا، قَالَ: وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَقُولُ، لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْفَرَسِ الْحَبِيسِ إِذَا لَمْ يَصْلُحْ لِلْغَزْوِ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ثَمَنَ الْفَرَسِ أُعِينَ بِهِ فِي فَرَسٍ حَبِيسٍ، لِأَنَّ الْوَقْفَ مُؤَبَّدٌ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَأْبِيدُهُ بِعَيْنِهِ اسْتَبْقَيْنَا الْفَرَسَ- وَهُوَ الِانْتِفَاعُ عَلَى الدَّوَامِ- فِي عَيْنٍ أُخْرَى وَاتِّصَالُ الْأَبْدَالِ يَجْرِي مَجْرَى الْأَعْيَانِ وَجُمُودُنَا عَلَى الْعَيْنِ مَعَ تَعَطُّلِهَا تَضْيِيعٌ لِلْغَرَضِ كَذَبْحِ الْهَدْيِ إِذَا أَعْطَبَ فِي مَوْضِعِهِ مَعَ اخْتِصَاصِهِ بِمَوْضِعٍ آخَرَ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ تَحْصِيلُ الْغَرَضِ بِالْكُلِّيَّةِ اسْتَوْفَى مِنْهُ مَا أَمْكَنَ، قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ.

وَبِمُجَرَّدِ شِرَاءِ الْبَدَلِ يَصِيرُ وَقْفًا، وَكَذَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ لَوْ ضَاقَ عَلَى أَهْلِهِ وَلَمْ تُمْكِنْ تَوْسِعَتُهُ فِي مَوْضِعِهِ، أَوْ خَرِبَتْ مَحَلَّتُهُ أَوِ اسْتُقْذِرَ مَوْضِعُهُ، قَالَ الْقَاضِي: يَعْنِي إِذَا كَانَ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ فَيُبَاعُ.

وَيَجُوزُ نَقْلُ آلَتِهِ وَحِجَارَتِهِ لِمَسْجِدٍ آخَرَ احْتَاجَ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ بَيْعِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- كَتَبَ إِلَى سَعْدٍ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ الَّذِي فِي الْكُوفَةِ نُقِبَ، أَنِ انْقُلِ الْمَسْجِدَ الَّذِي بِالتَّمَّارِينَ وَاجْعَلْ بَيْتَ الْمَالِ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ فِي الْمَسْجِدِ مُصَلٍّ، وَكَانَ هَذَا بِمَشْهَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ فَكَانَ كَالْإِجْمَاعِ.

بَيْعُ الْمَسْجِدِ أَوْ أَنْقَاضِهِ دُونَ أَرْضِهِ

45- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ لَا يُبَاعُ، وَفِي هَذَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: مَنِ اتَّخَذَ أَرْضَهُ مَسْجِدًا وَاسْتَوْفَى شُرُوطَ صِحَّةِ وَقْفِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَلَا يَبِيعَهُ وَلَا يُورَثَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ تَجَرَّدَ عَنْ حَقِّ الْعِبَادِ وَصَارَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِذَا أَسْقَطَ الْعَبْدُ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنَ الْحَقِّ رَجَعَ إِلَى أَصْلِهِ فَانْقَطَعَ تَصَرُّفُهُ عَنْهُ كَمَا فِي الْإِعْتَاقِ.

وَلَوْ خَرِبَ مَا حَوْلَ الْمَسْجِدِ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ يَبْقَى مَسْجِدًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ مِنْهُ فَلَا يَعُودُ إِلَى مِلْكِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَعُودُ إِلَى مِلْكِ الْبَانِي (الْوَاقِفِ) إِنْ كَانَ حَيًّا أَوْ إِلَى وَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ بَانِيهِ وَلَا وَرَثَتُهُ كَانَ لَهُمْ بَيْعُهُ وَالِاسْتِعَانَةُ بِثَمَنِهِ فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ آخَرَ لِأَنَّهُ عَيَّنَهُ لِنَوْعِ قُرْبَةٍ، وَقَدِ انْقَطَعَتْ، فَصَارَ كَحَصِيرِ الْمَسْجِدِ وَحَشِيشِهِ إِذَا اسْتُغْنِيَ عَنْهُ، إِلاَّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ فِي الْحُصْرِ وَالْحَشِيشِ إِنَّهُ يُنْقَلُ إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ.

وَلَوْ ضَاقَ الْمَسْجِدُ وَبِجَنْبِهِ أَرْضٌ وَقْفٌ عَلَيْهِ أَوْ حَانُوتٌ جَازَ أَنْ يُؤْخَذَ وَيَدْخُلَ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ مِلْكَ رَجُلٍ أُخِذَ بِالْقِيمَةِ كَرْهًا، فَلَوْ كَانَ طَرِيقًا لِلْعَامَّةِ أُدْخِلَ بَعْضُهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَضُرَّ بِالطَّرِيقِ.

وَفِي كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ مِنَ الْخُلَاصَةِ عَنِ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ شَيْءٌ مِنَ الطَّرِيقِ مَسْجِدًا، أَوْ يُجْعَلَ شَيْءٌ مِنَ الْمَسْجِدِ طَرِيقًا لِلْعَامَّةِ، يَعْنِي إِذَا احْتَاجُوا إِلَى ذَلِكَ.

وَلِأَهْلِ الْمَسْجِدِ أَنْ يَجْعَلُوا الرَّحْبَةَ مَسْجِدًا وَكَذَا عَلَى الْقُلُبِ، وَيُحَوِّلُوا الْبَابَ أَوْ يُحْدِثُوا لَهُ بَابًا آخَرَ، وَلَوِ اخْتَلَفُوا يُنْظَرُ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ وِلَايَةً لَهُ ذَلِكَ.

وَلَهُمْ أَنْ يَهْدِمُوهُ وَيُجَدِّدُوهُ، وَلَيْسَ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ذَلِكَ، وَكَذَا لَهُمْ أَنْ يَضَعُوا الْحَبَابَ وَيُعَلِّقُوا الْقَنَادِيلَ وَيَفْرِشُوا الْحُصْرَ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ، وَأَمَّا مِنْ مَالِ الْوَقْفِ فَلَا يَفْعَلُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّي إِلاَّ بِإِذْنِ الْقَاضِي.

وَمِنْ كِتَابِ التَّجْنِيسِ: قَيِّمُ الْمَسْجِدِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ حَوَانِيتَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي فِنَائِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ، لِأَنَّهُ إِذَا جَعَلَ الْمَسْجِدَ سَكَنًا تَسْقُطُ حُرْمَةُ الْمَسْجِدِ، وَأَمَّا الْفِنَاءُ فَلِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْمَسْجِدِ، وَلَوْ خَرِبَ مَا حَوْلَ الْمَسْجِدِ وَاسْتَغْنَى عَنْهُ أَيِ اسْتَغْنَى عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ أَهْلُ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ أَوِ الْقَرْيَةِ بِأَنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ فَخَرِبَتْ وَحُوِّلَتْ مَزَارِعَ يَبْقَى مَسْجِدًا عَلَى حَالِهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ خَرِبَ أَمْ لَا وَلَوِ انْتَقَلَتِ الْعِمَارَةُ عَنْ مَحَلِّهِ، وَمِثْلُ عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْمَسْجِدِ نَقْضُهُ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ نَقْضِ الْمَسْجِدِ بِمَعْنَى أَنْقَاضِهِ.

وَفِي الْقُرْطُبِيِّ: لَا يَجُوزُ نَقْضُ الْمَسْجِدِ وَلَا بَيْعُهُ وَلَا تَعْطِيلُهُ وَإِنْ خَرِبَتِ الْمَحَلَّةُ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ وَقَفَ مَسْجِدًا فَخَرِبَ الْمَكَانُ وَانْقَطَعَتِ الصَّلَاةُ فِيهِ لَمْ يَعُدْ إِلَى الْمِلْكِ وَلَمْ يَجُزِ التَّصَرُّفُ فِيهِ، لِأَنَّ مَا زَالَ الْمِلْكُ فِيهِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَعُودُ إِلَى الْمِلْكِ بِالِاخْتِلَالِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا ثُمَّ زَمِنَ.

وَإِنْ وَقَفَ جُذُوعًا عَلَى مَسْجِدٍ فَتَكَسَّرَتْ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَالثَّانِي: يَجُوزُ بَيْعُهُ، لِأَنَّهُ لَا يُرْجَى مَنْفَعَتُهُ، فَكَانَ بَيْعُهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ الْمَسْجِدَ يُمْكِنُ الصَّلَاةُ فِيهِ مَعَ خَرَابِهِ، وَقَدْ يُعْمَرُ الْمَوْضِعُ فَيُصَلَّى فِيهِ.

وَإِنْ وَقَفَ شَيْئًا عَلَى مَسْجِدٍ فَاخْتَلَّ الْمَكَانُ حُفِظَ الِارْتِفَاعُ (الْغَلَّةُ) وَلَا يُصْرَفُ إِلَى غَيْرِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَرْجِعَ كَمَا كَانَ.

وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ بِتَحْرِيمِ بَيْعِ الْمَسْجِدِ إِلاَّ أَنْ تَتَعَطَّلَ مَنَافِعُهُ بِخَرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ كَخَشَبٍ تَشَعَّثَ وَخِيفَ سُقُوطُهُ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُعْمَرُ بِهِ، فَيُبَاعُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ أَوْ بَعْضِ مِثْلِهِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، قَالَ: وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ خَشَبَاتٌ لَهَا قِيمَةٌ جَازَ بَيْعُهَا وَصَرْفُ ثَمَنِهَا عَلَيْهِ.

غَرْسُ الشَّجَرِ فِي الْمَسْجِدِ وَالزَّرْعُ فِيهِ وَحَفْرُ بِئْرٍ فِيهِ

46- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ غَرْسُ الْأَشْجَارِ فِي الْمَسْجِدِ إِلاَّ إِذَا كَانَ ذَا نَزٍّ، والأُسْطُوَانَاتُ لَا تَسْتَقِرُّ بِهِ، فَيَجُوزُ لِتَشْرَبَ ذَلِكَ الْمَاءَ فَيَحْصُلُ بِهَا النَّفْعُ، وَلَا يُحْفَرُ فِيهِ بِئْرٌ، وَلَوْ كَانَتْ قَدِيمَةً- كَبِئْرِ زَمْزَمَ- تُرِكَتْ، وَلَوْ حَفَرَ فَتَلِفَ فِيهِ شَيْءٌ إِنْ حَفَرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرُهُمْ بِإِذْنِهِمْ لَا يُضْمَنُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ ضُمِنَ أَضَرَّ ذَلِكَ بِأَهْلِهِ أَوْ لَا.

وَحَرَّمَ الْحَنَابِلَةُ حَفْرَ الْبِئْرِ وَغَرْسَ الشَّجَرِ بِالْمَسَاجِدِ لِأَنَّ الْبُقْعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ لِلصَّلَاةِ فَتَعْطِيلُهَا عُدْوَانٌ، فَإِنْ فَعَلَ طُمَّتِ الْبِئْرُ وَقُلِعَتِ الشَّجَرَةُ، نَصَّ عَلَيْهِ، قَالَ: هَذِهِ غُرِسَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالَّذِي غَرَسَهَا ظَالِمٌ غَرَسَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ.

وَتَحْرِيمُ حَفْرِ الْبِئْرِ فِي الْمَسْجِدِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، فَإِنْ كَانَ فِي حَفْرِهِ مَصْلَحَةٌ وَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ ضِيقٌ لَمْ يَكْرَهْ أَحْمَدُ حَفْرَهَا فِيهِ، وَالزَّرْعُ فِيهِ مَكْرُوهٌ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُغْرَسَ فِي الْمَسْجِدِ شَجَرَةٌ وَإِنْ كَانَتِ النَّخْلَةُ فِي أَرْضٍ فَجَعَلَهَا صَاحِبُهَا مَسْجِدًا وَالنَّخْلَةُ فِيهَا فَلَا بَأْسَ وَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهَا مِنَ الْجِيرَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَا تُبَاعُ وَتُجْعَلُ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الدَّرْبِ يَأْكُلُونَهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَسْجِدَ إِذَا احْتَاجَ إِلَى ثَمَنِ ثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ بِيعَتْ وَصُرِفَ ثَمَنُهَا فِي عِمَارَتِهِ، أَمَّا إِنْ قَالَ صَاحِبُهَا: هَذِهِ وَقْفٌ عَلَى الْمَسْجِدِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَاعَ ثَمَرُهَا وَيُصْرَفَ إِلَيْهِ.

وَالْمَالِكِيَّةُ لَا يُجِيزُونَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنْ وَقَعَ قُلِعَ.

وَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا بِكَرَاهَةِ غَرْسِ الشَّجَرِ وَالنَّخْلِ وَحَفْرِ الْآبَارِ فِي الْمَسَاجِدِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّضْيِيقِ عَلَى الْمُصَلِّينَ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ، وَالصَّحِيحُ تَحْرِيمُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْجِيرِ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ وَالتَّضْيِيقِ وَجَلْبِ النَّجَاسَاتِ مِنْ ذَرْقِ الطُّيُورِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: لَا يَجُوزُ الزَّرْعُ فِيهِ، وَإِنْ غَرَسَ غَرْسًا يَسْتَظِلُّ بِهِ فَهَلَكَ بِهِ إِنْسَانٌ فَلَا ضَمَانَ.

وَقَالَ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُغْرَسَ فِي الْمَسْجِدِ شَجَرٌ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْمُصَلِّينَ، قَالَ فِي الرَّوْضَةِ فِي بَابِ السَّجَدَاتِ: فَإِنْ غُرِسَ قَلَعَهُ الْإِمَامُ، وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ فِي الصَّلَاةِ: لَا يَجُوزُ الْغَرْسُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا الْحَفْرُ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَشْغَلُ الْمُصَلِّيَ.

وَقَالَ فِي آخِرِ كِتَابِ الْوَقْفِ: سُئِلَ أَبُو عَلِيٍّ عَبْدُ اللَّهِ الْحَنَّاطِيُّ عَنْ رَجُلٍ غَرَسَ شَجَرَةً فِي الْمَسْجِدِ كَيْفَ يَصْنَعُ بِثِمَارِهَا؟ فَقَالَ: إنْ جَعَلَهَا لِلْمَسْجِدِ لَمْ يَجُزْ أَكْلُهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَيَجِبُ صَرْفُهَا إِلَى مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُغْرَسَ فِي الْمَسَاجِدِ الْأَشْجَارُ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ الصَّلَاةَ، فَإِنْ غَرَسَهَا مُسَبَّلَةً لِلْأَكْلِ جَازَ أَكْلُهَا بِلَا عِوَضٍ وَكَذَا إِنْ جُهِلَتْ نِيَّتُهُ حَيْثُ جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ.

انْتِفَاعُ جَارِ الْمَسْجِدِ بِوَضْعِ خَشَبَةٍ عَلَى جِدَارِهِ

47- لِلْمَالِكِيَّةِ قَوْلَانِ فِي أَنَّهُ هَلْ لِنَاظِرِ وَقْفِ الْمَسْجِدِ أَنْ يُعِيرَ جَارَ الْمَسْجِدِ مَوْضِعًا لِغَرْزِ خَشَبَةٍ فِيهِ أَوْ لَيْسَ لَهُ هَذَا الْحَقُّ؟ أَحَدُهُمَا بِإِعْطَائِهِ هَذَا الْحَقَّ، وَالْآخَرُ بِمَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ.

وَيَشْتَرِطُ الْحَنَابِلَةُ لِجَوَازِ وَضْعِ تِلْكَ الْخَشَبَةِ عَلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ أَنْ لَا تَضُرَّ بِحَائِطِهِ فَيَضْعُفَ عَنْ حَمْلِهَا، وَأَنْ لَا يُمْكِنَ التَّسْقِيفُ بِدُونِ وَضْعِهَا وَأَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَ صَاحِبِهَا غَنَاءٌ بِوَضْعِهَا عَلَى غَيْرِ جِدَارِ الْمَسْجِدِ، وَأَنْ تَكُونَ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إِلَى وَضْعِ تِلْكَ الْخَشَبَةِ عَلَى جِدَارِهِ، فَمَتَى كَانَ ذَلِكَ جَازَ وَضْعُ تِلْكَ الْخَشَبَةِ عَلَى جِدَارِهِ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ لِلْجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَلَاثَةُ حِيطَانٍ وَلِجَارِهِ حَائِطٌ وَاحِدٌ.

فَإِنْ كَانَ غَرْزُهَا فِي جِدَارِ الْمَسْجِدِ يَضُرُّ بِحَائِطِهِ فَيُضْعِفُهُ عَنْ حَمْلِهَا، أَوْ أَمْكَنَ التَّسْقِيفُ بِدُونِ وَضْعِهَا عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ عِنْدَهُ غَنَاءٌ بِوَضْعِهَا عَلَى غَيْرِ جِدَارِهِ، أَوْ لَمْ تَدْعُ الْحَاجَةُ إِلَى وَضْعِهَا عَلَى جِدَارِهِ لَمْ يَجُزْ وَضْعُهَا عَلَيْهِ.

إِغْلَاقُ الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ

48- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِغْلَاقِ الْمَسَاجِدِ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، صِيَانَةً لَهَا وَحِفْظًا لِمَا فِيهَا مِنْ مَتَاعٍ، وَتَحَرُّزًا عَنْ نَقْبِ بُيُوتِ الْجِيرَانِ مِنْهَا، وَخَوْفًا مِنْ سَرِقَةِ مَا فِيهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا إِغْلَاقُ بَابِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَنْعَ مِنَ الصَّلَاةِ وَالْمَنْعُ مِنَ الصَّلَاةِ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا}.

تَعْطِيلُ الْمَسَاجِدِ

49- قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: إِذَا تَعَطَّلَ الْمَسْجِدُ بِتَفَرُّقِ النَّاسِ عَنِ الْبَلَدِ أَوْ خَرَابِهَا أَوْ بِخَرَابِ الْمَسْجِدِ فَلَا يَعُودُ مَمْلُوكًا وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِحَالٍ وَلَا التَّصَرُّفُ فِيهِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا ثُمَّ زَمِنَ لَا يَعُودُ مَمْلُوكًا.

ثُمَّ إِنْ خِيفَ أَنْ تَنْقُضَهُ الشَّيَاطِينُ، نُقِضَ وَحُفِظَ، وَإِنْ رَأَى الْقَاضِي أَنْ يَبْنِيَ بِنَقْضِهِ مَسْجِدًا آخَرَ، قَالَ الْقَاضِي وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمُتَوَلِّي: يَجُوزُ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: الْأَوْلَى أَنْ يُنْقَلَ إِلَى أَقْرَبِ الْجِهَاتِ إِلَيْهِ، فَإِنْ نُقِلَ إِلَى الْبَعِيدِ جَازَ، وَلَا يُصْرَفُ النَّقْضُ إِلَى غَيْرِ الْمَسْجِدِ كَالرِّبَاطَاتِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْآبَارِ، كَمَا لَا يَجُوزُ عَكْسُهُ، لِأَنَّ الْوَقْفَ لَازِمٌ، وَقَدْ دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى تَبْدِيلِ الْمَحَلِّ دُونَ الْجِهَةِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا يَجُوزُ نَقْضُ الْمَسْجِدِ وَلَا بَيْعُهُ وَلَا تَعْطِيلُهُ وَإِنْ خَرِبَتِ الْمَحَلَّةُ.

وَإِذَا تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُ الْمَسْجِدِ بِخَرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ كَخَشَبٍ تَشَعَّثَ وَخِيفَ سُقُوطُهُ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُعْمَرُ بِهِ فَيُبَاعُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ أَوْ بَعْضِ مِثْلِهِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، قَالَ: إِذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ خَشَبَاتٌ لَهَا قِيمَةٌ جَازَ بَيْعُهَا وَصَرْفُ ثَمَنِهَا عَلَيْهِ، وَقَالَ يُحَوَّلُ الْمَسْجِدُ خَوْفًا مِنَ اللُّصُوصِ، وَإِذَا كَانَ مَوْضِعُهُ قَذِرًا.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


134-موسوعة الفقه الكويتية (مصحف 1)

مُصْحَفٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْمُصْحَفُ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَيَجُوزُ الْمِصْحَفُ بِكَسْرِهَا، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَهُوَ لُغَةً: اسْمٌ لِكُلِّ مَجْمُوعَةٍ مِنَ الصُّحُفِ الْمَكْتُوبَةِ ضُمَّتْ بَيْنَ دَفَّتَيْنِ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمُصْحَفُ مُصْحَفًا لِأَنَّهُ أُصْحِفَ، أَيْ جُعِلَ جَامِعًا لِلصُّحُفِ الْمَكْتُوبَةِ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ.

وَالْمُصْحَفُ فِي الِاصْطِلَاحِ: اسْمٌ لِلْمَكْتُوبِ فِيهِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ.

وَيَصْدُقُ الْمُصْحَفُ عَلَى مَا كَانَ حَاوِيًا لِلْقُرْآنِ كُلِّهِ، أَوْ كَانَ مِمَّا يُسَمَّى مُصْحَفًا عُرْفًا وَلَوْ قَلِيلًا كَحِزْبٍ، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْقَلْيُوبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يَشْمَلُ مَا كَانَ مُصْحَفًا جَامِعًا أَوْ جُزْءًا أَوْ وَرَقَةً فِيهَا بَعْضُ سُورَةٍ أَوْ لَوْحًا أَوْ كَتِفًا مَكْتُوبَةً.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْقُرْآنُ:

2- الْقُرْآنُ لُغَةً: الْقِرَاءَةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}.

وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: اسْمٌ لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلِ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمِّدٍ- صلى الله عليه وسلم- الْمُتَعَبَّدِ بِتِلَاوَتِهِ، الْمَكْتُوبِ فِي الْمَصَاحِفِ الْمَنْقُولِ إِلَيْنَا نَقْلًا مُتَوَاتَرًا.

فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُصْحَفِ: أَنَّ الْمُصْحَفَ اسْمٌ لِلْمَكْتُوبِ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ الْمَجْمُوعِ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ وَالْجِلْدِ، وَالْقُرْآنُ اسْمٌ لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَكْتُوبِ فِيهِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُصْحَفِ:

تَتَعَلَّقُ بِالْمُصْحَفِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

لَمْسُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ لِلْمُصْحَفِ

3- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمِّدٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا نَعْلَمُ مُخَالِفًا فِي ذَلِكَ إِلاَّ دَاوُدَ.

وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ، فَلَا يَجُوزُ لأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الْأَحْدَاثِ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ حَتَّى يَتَطَهَّرَ، إِلاَّ مَا يَأْتِي اسْتِثْنَاؤُهُ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}.

وَبِمَا فِي كِتَابِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ- رضي الله عنه- إِلَى أَهْلِ الْيُمْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ «لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ» وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ».

لَمْسُ الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ لِلْمُصْحَفِ

4- ذَهَبَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ، وَجَعَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مِمَّا لَا يَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا عَنْ غَيْرِ دَاوُدَ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقِيلَ: يَجُوزُ مَسُّهُ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَحَكَى ابْنُ الصَّلَاحِ قَوْلًا غَرِيبًا بِعَدِمِ حُرْمَةِ مَسِّهِ مُطْلَقًا.

وَلَا يُبَاحُ لِلْمُحْدِثِ مَسُّ الْمُصْحَفِ إِلاَّ إِذَا أَتَمَّ طَهَارَتَهُ، فَلَوْ غَسَلَ بَعْضَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ لَمْ يَجُزْ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ وُضُوءَهُ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَجُوزُ مَسُّهُ بِالْعُضْوِ الَّذِي تَمَّ غَسْلُهُ.

مَسُّ الْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ لِلْمُصْحَفِ بِغَيْرِ بَاطِنِ الْيَدِ

5- يُسَوِّي عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ مَسِّ الْمُصْحَفِ بِبَاطِنِ الْيَدِ، وَبَيْنَ مَسِّهِ بِغَيْرِهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَاقَى شَيْئًا، فَقَدْ مَسَّهُ إِلاَّ الْحَكَمَ وَحَمَّادًا، فَقَدْ قَالَا: يَجُوزُ مَسُّهُ بِظَاهِرِ الْيَدِ وَبِغَيْرِ الْيَدِ مِنَ الْأَعْضَاءِ، لِأَنَّ آلَةَ الْمَسِّ الْيَدُ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يُمْنَعُ مَسُّهُ بِأَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ وَلَا يُمْنَعُ مَسُّهُ بِغَيْرِهَا، وَنُقِلَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ عَنِ الزَّاهِدِيَّ أَنَّ الْمَنْعَ أَصَحُّ.

مَسُّ جِلْدِ الْمُصْحَفِ وَمَا لَا كِتَابَةَ فِيهِ مِنْ وَرَقِهِ:

6- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَى غَيْرِ الْمُتَطَهِّرُ مَسُّ جِلْدِ الْمُصْحَفِ الْمُتَّصِلِ، وَالْحَوَاشِي الَّتِي لَا كِتَابَةَ فِيهَا مِنْ أَوْرَاقِ الْمُصْحَفِ، وَالْبَيَاضِ بَيْنَ السُّطُورِ، وَكَذَا مَا فِيهِ مِنْ صَحَائِفَ خَالِيَةٍ مِنَ الْكِتَابَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْمَكْتُوبِ وَحَرِيمٌ لَهُ، وَحَرِيمُ الشَّيْءِ تَبَعٌ لَهُ وَيَأْخُذُ حُكْمَهُ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ.

حَمْلُ غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ لِلْمُصْحَفِ وَتَقْلِيبُهُ لِأَوْرَاقِهِ وَكِتَابَتُهُ لَهُ

7- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْقَاسِمِ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ، إِلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يَحْمِلَ الْجُنُبُ أَوِ الْمُحْدِثُ الْمُصْحَفَ بِعِلَاقَةٍ، أَوْ مَعَ حَائِلٍ غَيْرِ تَابِعٍ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَاسًّا لَهُ فَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ كَمَا لَوْ حَمَلَهُ فِي مَتَاعِهِ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ الْوَارِدَ إِنَّمَا هُوَ عَنِ الْمَسِّ وَلَا مَسَّ هُنَا، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: فَلَوْ حَمَلَهُ بِغِلَافِ غَيْرِ مَخِيطٍ بِهِ، أَوْ فِي خَرِيطَةٍ- وَهِيَ الْكِيسُ- أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، لَمْ يُكْرَهْ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ خَرَّجَهَا الْقَاضِي عَنْ أَحَمْدَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَلَا يَحْمِلْهُ غَيْرُ الطَّاهِرِ وَلَوْ عَلَى وِسَادَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، كَكُرْسِيِّ الْمُصْحَفِ، أَوْ فِي غِلَافٍ أَوْ بِعِلَاقَةِ، وَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ: لَا يَجُوزُ لَهُ حَمْلُ وَمَسُّ خَرِيطَةٍ أَوْ صُنْدُوقٍ فِيهِمَا مُصْحَفٌ، أَيْ إِنْ أُعِدَّا لَهُ، وَلَا يَمْتَنِعُ مَسُّ أَوْ حَمْلُ صُنْدُوقٍ أُعِدَّ لِلْأَمْتِعَةِ وَفِيهِ مُصْحَفٌ.

وَلَوْ قَلَّبَ غَيْرُ الْمُتَطَهِّرِ أَوْرَاقَ الْمُصْحَفِ بِعُودٍ فِي يَدِهِ جَازَ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الرَّاجِحِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ صَحَّحَ النَّوَوِيُّ جَوَازَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَسٍّ وَلَا حَمْلٍ، قَالَ: وَبَهْ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.

وَقَالَ التَّتَائِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَكْتُبُ الْقُرْآنَ عَلَى طَهَارَةٍ لِمَشَقَّةِ الْوُضُوءِ كُلَّ سَاعَةٍ.

وَنُقِلَ عَنْ مُحَمِّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَكْتُبَ الْمُصْحَفَ الْمُحْدِثُ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ مَسٍّ بِالْيَدِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ مَاسًّا بِالْقَلَمِ.

وَفِي تَقْلِيبِ الْقَارِئِ غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ أَوْرَاقَ الْمُصْحَفِ بِكُمِّهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الثِّيَابِ الَّتِي هُوَ لَابِسُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اخْتِلَافٌ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْمَنْعُ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَلْبُوسَ تَابِعٌ لِلَابِسِهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ وَضَعَ عَلَى يَدِهِ مِنْدِيلًا أَوْ نَحْوَهُ مِنْ حَائِلٍ لَيْسَ تَابِعًا لِلْمُصْحَفِ وَلَا هُوَ مِنْ مُلَابَسِ الْمَاسِّ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَمَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَلَوِ اسْتَخْدَمَ لِذَلِكَ وِسَادَةً أَوْ نَحْوَهَا.

عَلَى أَنَّهُ يُبَاحُ لِغَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ عِنْدَ الْمَانِعِينَ حَمْلُ الْمُصْحَفِ وَمَسُّهُ لِلضَّرُورَةِ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ حَمْلُهُ لِخَوْفِ حَرْقٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ تَنَجُّسٍ أَوْ خِيفَ وُقُوعُهُ فِي يَدِ كَافِرٍ أَوْ خِيفَ ضَيَاعُهُ أَوْ سَرِقَتُهُ، وَيَجِبُ عِنْدَ إِرَادَةِ حَمْلِهِ التَّيَمُّمُ أَيْ حَيْثُ لَا يَجِدُ الْمَاءَ، وَصَرَّحَ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ.

مَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ تَحْرِيمِ مَسِّ الْمُصْحَفِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ

أ- الصَّغِيرُ:

8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلصَّغِيرِ غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ، قَالُوا: لِمَا فِي مَنْعِ الصِّبْيَانِ مِنْ مَسِّهِ إِلاَّ بِالطَّهَارَةِ مِنَ الْحَرَجِ، لِمَشَقَّةِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ لأَدَّى إِلَى تَنْفِيرِهِمْ مِنْ حِفْظِ الْقُرْآنِ وَتَعَلُّمِهِ، وَتَعَلُّمُهُ فِي حَالِ الصِّغَرِ أَرْسَخُ وَأَثْبَتُ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلَا بَأْسَ لِلْكَبِيرِ الْمُتَطَهِّرِ أَنْ يَدْفَعَ الْمُصْحَفَ إِلَى صَبِيٍّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الصَّغِيرَ لَا يَمَسُّ الْمُصْحَفَ إِلاَّ بِالطَّهَارَةِ، كَالْبَالِغِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يُمْنَعُ الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ الْمُحْدِثُ وَلَوْ حَدَثًا أَكْبَرَ مِنْ مَسِّ وَلَا مِنْ حَمْلِ لَوْحٍ وَلَا مُصْحَفٍ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ، أَيْ لَا يَجِبُ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ لِحَاجَةِ تَعَلُّمِهِ وَمَشَقَّةِ اسْتِمْرَارِهِ مُتَطَهِّرًا، بَلْ يُسْتَحَبُّ.

قَالُوا: وَذَلِكَ فِي الْحَمْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِالدِّرَاسَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِغَرَضٍ، أَوْ كَانَ لِغَرَضٍ آخَرَ مُنِعَ مِنْهُ جَزْمًا.

أَمَّا الصَّبِيُّ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ فَيَحْرُمُ تَمْكِينُهُ مِنْ ذَلِكَ لِئَلاَّ يَنْتَهِكَهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلصَّبِيِّ مَسُّ الْمُصْحَفِ، أَيْ لَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ تَمْكِينُهُ مِنْ مَسِّهِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي رِوَايَةً بِالْجَوَازِ وَهُوَ وَجْهٌ فِي الرِّعَايَةِ وَغَيْرِهَا.

وَأَمَّا الْأَلْوَاحُ الْمَكْتُوبُ فِيهَا الْقُرْآنُ فَلَا يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ مَسُّ الصَّبِيِّ الْمَكْتُوبِ فِي الْأَلْوَاحِ، وَعَنْهُ يَجُوزُ، وَأَطْلَقَهُمَا فِي التَّلْخِيصِ.

وَأَمَّا مَسُّ الصَّبِيِّ اللَّوْحَ أَوْ حَمْلُهُ فَيَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ.

ب- الْمُتَعَلِّمُ وَالْمُعَلِّمُ وَنَحْوُهُمَا:

9- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الْحَائِضِ الَّتِي تَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ، أَوْ تُعَلِّمُهُ حَالَ التَّعْلِيمِ مَسَّ الْمُصْحَفِ سَوَاءٌ كَانَ كَامِلًا أَوْ جُزْءًا مِنْهُ أَوِ اللَّوْحِ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ الْقُرْآنُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْجُنُبِ، لِأَنَّ رَفْعَ حَدَثِهِ بِيَدِهِ وَلَا يَشُقُّ، كَالْوُضُوءِ، بِخِلَافِ الْحَائِضِ فَإِنَّ رَفْعَ حَدَثِهَا لَيْسَ بِيَدِهَا، لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْجُنُبَ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً، صَغِيرًا كَانَ أَوْ بَالِغًا يَجُوزُ لَهُ الْمَسُّ وَالْحَمْلُ حَالَ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ لِلْمَشَقَّةِ.

وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْمُصْحَفِ لِلْمُطَالَعَةِ، أَوْ كَانَتْ لِلتَّذَكُّرِ بِنِيَّةِ الْحِفْظِ.

مَسُّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ التَّفْسِيرِ وَنَحْوَهَا مِمَّا فِيهِ قُرْآنٌ

10- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَسِّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ التَّفْسِيرِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى حُرْمَةِ ذَلِكَ، وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إِلَى الْجَوَازِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلِحِ (مَسٌّ ف 7).

مَسُّ غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ الْمُصْحَفَ الْمَكْتُوبَ بِحُرُوفٍ أَعْجَمِيَّةٍ وَكُتُبَ تَرْجَمَةِ مَعَانِي الْقُرْآنِ

11- الْمُصْحَفُ إِنْ كُتِبَ عَلَى لَفْظِهِ الْعَرَبِيِّ بِحُرُوفِ غَيْرِ عَرَبِيَّةٍ فَهُوَ مُصْحَفٌ وَلَهُ أَحْكَامُ الْمُصْحَفِ، وَبِهَذَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ وَتَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ: يُكْرَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِغَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ مَسُّ الْمُصْحَفِ وَلَوْ مَكْتُوبًا بِالْفَارِسِيَّةِ، وَكَذَا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مِثْلُ ذَلِكَ، قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ:

تَجُوزُ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لَا قِرَاءَتُهُ بِهَا، وَلَهَا حُكْمُ الْمُصْحَفِ فِي الْمَسِّ وَالْحَمْلِ.

أَمَّا تَرْجَمَةُ مَعَانِي الْقُرْآنِ بِاللُّغَاتِ الْأَعْجَمِيَّةِ فَلَيْسَتْ قُرْآنًا، بَلْ هِيَ نَوْعٌ مِنَ التَّفْسِيرِ عَلَى مَا صَرَّحَّ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَعَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَمَسَّهَا الْمُحْدِثُ، عِنْدَ مَنْ لَا يَمْنَعُ مَسَّ الْمُحْدِثِ لِكُتُبِ التَّفْسِيرِ.

صِيَانَةُ الْمُصْحَفِ عَنِ الِاتِّصَالِ بِالنَّجَاسَاتِ

12- يَحْرُمُ تَنْجِيسُ الْمُصْحَفِ، فَمَنْ أَلْقَى الْمُصْحَفَ فِي النَّجَاسَاتِ أَوِ الْقَاذُورَاتِ مُتَعَمِّدًا مُخْتَارًا يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَحْرُمُ وَضْعُ أَوْرَاقِ الْمُصْحَفِ عَلَى نَجِسٍ، وَمَسُّهَا بِشَيْءٍ نَجِسٍ وَلَوْ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ، وَيَجِبُ غَسْلُ الْمُصْحَفِ إِنْ تَنَجَّسَ وَلَوْ أَدَّى غَسْلُهُ إِلَى تَلَفِهِ، وَلَوْ كَانَ لِمَحْجُورٍ عَلَيْهِ، وَيَحْرُمُ كِتَابَتُهُ بِشَيْءِ نَجِسٍ، وَصَرَّحَ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَحْرُمُ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِعُضْوٍ نَجِسٍ قِيَاسًا عَلَى مَسِّهِ مَعَ الْحَدَثِ، أَمَّا إِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ عَلَى عُضْوٍ وَمَسَّهُ بِعُضْوٍ آخَرَ طَاهِرٍ فَلَا يَحْرُمُ، وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا أَنَّهُ يَحْرُمُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِحَيْثُ يَتَنَجَّسُ بِبَوْلِ حَيَوَانٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

وَيَحْرُمُ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ فِي وَرَقٍ نَجِسٍ أَوْ بِمِدَادٍ نَجِسٍ.

دُخُولُ الْخَلَاءِ بِمُصْحَفٍ

13- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ- وَلَا يَحْرُمُ- أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ وَمَعَهُ خَاتَمٌ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ تَعْظِيمًا لَهُ، قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: هُوَ مَكْرُوهٌ وَإِنْ حَرُمَ مِنْ حَيْثُ الْحَدَثُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْحَنَابِلَةِ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: «كَانَ إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ»، قَالَ فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى: وَجَزَمَ بَعْضُهُمْ بِتَحْرِيمِهِ فِي الْمُصْحَفِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْإِنْصَافِ: لَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ قَطْعًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ دُخُولُ الْخَلَاءِ سَوَاءٌ أَكَانَ كَنِيفًا أَوْ غَيْرَهُ بِمُصْحَفٍ، كَامِلٍ أَوْ بَعْضِ مُصْحَفٍ، قَالُوا: لَكِنْ إِنْ دَخَلَهُ بِمَا فِيهِ بَعْضٌ مِنَ الْآيَاتِ لَا بَالَ لَهُ- أَيْ مِنْ حَيْثُ الْكَثْرَةُ- فَالْحُكْمُ الْكَرَاهَةُ لَا التَّحْرِيمُ.

قَالُوا: وَإِنْ خَافَ ضَيَاعَهُ جَازَ أَنْ يَدْخُلَ بِهِ مَعَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فِي سَاتِرٍ يَمْنَعُ وُصُولَ الرَّائِحَةِ إِلَيْهِ، وَلَا يَكْفِي وَضْعُهُ فِي جَيْبِهِ، لِأَنَّهُ ظَرْفٌ مُتَّسِعٌ.

جَعْلُ الْمُصْحَفِ فِي قِبْلَةِ الصَّلَاةِ

14- يُكْرَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ جَعْلُ الْمُصْحَفِ فِي قِبْلَةِ الْمُصَلِّي لِأَنَّهُ يُلْهِيهِ، قَالَ أَحَمْدُ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَجْعَلُوا فِي الْقِبْلَةِ شَيْئًا حَتَّى الْمُصْحَفَ، لَكِنَّ الْمَكْرُوهَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَعَمُّدُ جَعْلِهِ فِي الْقِبْلَةِ لِيُصَلِّيَ إِلَيْهِ، وَلَا يُكْرَهُ إِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ ذَاكَ مَوْضِعَهُ الَّذِي يُعَلَّقُ فِيهِ عَادَةً.

وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ جَعَلَهُ لِيَقْرَأَ مِنْهُ، قَالُوا: لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِيمَا يُكْرَهُ اسْتِقْبَالُهُ فِي الصَّلَاةِ بِاعْتِبَارِ التَّشَبُّهِ بِعُبَّادِهَا، وَالْمُصْحَفُ لَمْ يَعْبُدْهُ أَحَدٌ، وَاسْتِقْبَالُ أَهْلُ الْكِتَابِ مَصَاحِفَهُمْ لِلْقِرَاءَةِ مِنْهَا لَا لِعِبَادَتِهَا، وَمِنْ هُنَا كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الْمُصْحَفِ.

الْقِرَاءَةُ مِنَ الْمُصْحَفِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا

15- ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقْرَأَ مِنَ الْمُصْحَفِ، فَإِنْ قَرَأَ بِالنَّظَرِ فِي الْمُصْحَفِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ مُطْلَقًا، أَيْ قَلِيلًا كَانَ مَا قَرَأَهُ أَوْ كَثِيرًا، إِمَامًا كَانَ أَوْ مُنْفَرِدًا، وَكَذَا لَوْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُهُ الْقِرَاءَةُ إِلاَّ مِنْهُ لِكَوْنِهِ غَيْرَ حَافِظٍ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ، فَقِيلَ: لِأَنَّ حَمْلَ الْمُصْحَفِ وَالنَّظَرَ فِيهِ وَتَقْلِيبَ الْأَوْرَاقِ عَمَلٌ كَثِيرٌ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ تَلَقَّنَ مِنَ الْمُصْحَفِ، فَصَارَ كَمَا إِذَا تَلَقَّنَ مِنْ غَيْرِهِ، وَصَحَّحَ هَذَا الْوَجْهَ فِي الْكَافِي تَبَعًا لِتَصْحِيحِ السَّرَخْسِيِّ، وَعَلَيْهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الْقِرَاءَةِ إِلاَّ مِنَ الْمُصْحَفِ فَصَلَّى بِلَا قِرَاءَةٍ فَإِنَّهَا تُجْزِئُهُ.

وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِلَى تَجْوِيزِ الْقِرَاءَةِ لِلْمُصَلِّي مِنَ الْمُصْحَفِ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي الْقِرَاءَةُ مِنَ الْمُصْحَفِ فِي فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ لِكَثْرَةِ الشَّغْلِ بِذَلِكَ، لَكِنَّ كَرَاهَتَهُ عِنْدَهُمْ فِي النَّفْلِ إِنْ قَرَأَ فِي أَثْنَائِهِ، وَلَا يُكْرَهُ إِنْ قَرَأَ فِي أَوَّلِهِ، لِأَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي النَّفْلِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الْفَرْضِ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَرُوِيَتِ الْكَرَاهِيَةُ فِي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ.

وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ الْقِرَاءَةَ فِي الْمُصْحَفِ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَافِظًا، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- فِي مَوْلًى لَهَا اسْمُهُ ذَكْوَانُ كَانَ يَؤُمُّهَا مِنَ الْمُصْحَفِ وَيُكْرَهُ فِي الْفَرْضِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِيهِ، وَيُكْرَهُ لِلْحَافِظِ حَتَّى فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، لِأَنَّهُ يُشْغَلُ عَنِ الْخُشُوعِ وَعَنِ النَّظَرِ إِلَى مَوْضِعِ السُّجُودِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَوْ قَرَأَ فِي مُصْحَفٍ وَلَوْ قَلَّبَ أَوْرَاقَهُ أَحْيَانًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَسِيرٌ أَوْ غَيْرُ مُتَوَالٍ لَا يُشْعِرُ بِالْإِعْرَاضِ.

أَمَّا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ مِنَ الْمُصْحَفِ مُسْتَحَبَّةٌ لِاشْتِغَالِ الْبَصَرِ بِالْعِبَادَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَفْضِيلِ الْقِرَاءَةِ مِنَ الْمُصْحَفِ عَلَى الْقِرَاءَةِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، لِأَنَّهُ يَجْمَعُ مَعَ الْقِرَاءَةِ النَّظَرَ فِي الْمُصْحَفِ، وَهُوَ عِبَادَةٌ أُخْرَى، لَكِنْ قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنْ زَادَ خُشُوعُهُ وَحُضُورُ قَلْبِهِ فِي الْقِرَاءَةِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ فَهُوَ أَفَضْلُ فِي حَقِّهِ.

اتِّبَاعُ رَسْمِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ:

16- ذَهَبَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأُمَّةِ إِلَى وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ فِي رَسْمِ الْمَصَاحِفِ بِرَسْمِ مُصْحَفِ عُثْمَانَ- رضي الله عنه-، لِكَوْنِهِ قَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ.

سُئِلَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: أَرَأَيْتَ مَنِ اسْتُكْتِبَ مُصْحَفًا الْيَوْمَ، أَتَرَى أَنْ يَكْتُبَ عَلَى مَا أَحْدَثَ النَّاسُ مِنَ الْهِجَاءِ الْيَوْمَ؟ فَقَالَ: لَا أَرَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ يُكْتَبُ عَلَى الْكِتْبَةِ الْأُولَى، وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْحُرُوفِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ الْوَاوِ وَالْأَلِفِ، أَتَرَى أَنْ تُغَيَّرَ مِنَ الْمُصْحَفِ إِذَا وُجِدَتْ فِيهِ كَذَلِكَ؟ فَقَالَ: لَا، قَالَ الدَّانِيُّ: يَعْنِي الْوَاوَ وَالْأَلِفَ الزَّائِدَتَيْنِ فِي الرَّسْمِ الْمَعْدُومَتَيْنِ فِي اللَّفْظِ قَالَ: وَلَا مُخَالِفَ لِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: تَحْرُمُ مُخَالَفَةُ مُصْحَفِ الْإِمَامِ فِي وَاوٍ أَوْ يَاءٍ أَوْ أَلِفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ: مَنْ كَتَبَ مُصْحَفًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْهِجَاءِ الَّذِي كَتَبُوا بِهِ هَذِهِ الْمَصَاحِفَ وَلَا يُخَالِفَهُمْ فِيهِ، وَلَا يُغَيِّرَ مِمَّا كَتَبُوا شَيْئًا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ عِلْمًا وَأَصْدَقَ لِسَانًا وَأَعْظَمَ أَمَانَةً مِنَّا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ نَظُنَّ بِأَنْفُسِنَا اسْتِدْرَاكًا عَلَيْهِمْ.

وَمِنْ هُنَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْرَأَ فِي الصَّلَاةِ بِمَا يَخْرُجُ عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ كَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- وَغَيْرِهَا، لِأَنَّ الْقُرْآنَ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ، وَهَذِهِ لَمْ يَثْبُتِ التَّوَاتُرُ بِهَا، فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهَا قُرْآنًا، وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ إِذَا قَرَأَ بِشَيْءٍ مِنْهَا مِمَّا صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَةُ، كَبَعْضِ مَا رُوِيَ مِنْ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-.

وَصَحَّحَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ بِأَنَّ الْقِرَاءَةَ الصَّحِيحَةَ لَا بُدَّ أَنْ تُوَافِقَ رَسْمَ مُصْحَفِ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- وَلَوِ احْتِمَالًا.

وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَنْقُولٌ عَنْ عِزِّ الدِّينِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ الزَّرْكَشِيُّ قَوْلَهُ: لَا تَجُوزُ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ الْآنَ عَلَى الرُّسُومِ الْأُولَى بِاصْطِلَاحِ الْأَئِمَّةِ لِئَلاَّ يُوقَعَ فِي تَغْيِيرِ الْجُهَّالِ.وَتَعَقَّبَهُ الزَّرْكَشِيُّ بِقَوْلِهِ: لَا يَنْبَغِي إِجْرَاءُ هَذَا عَلَى إِطْلَاقِهِ لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ إِلَى دُرُوسِ الْعِلْمِ، وَشَيْءٍ أَحْكَمَتْهُ الْقُدَمَاءُ لَا يُتْرَكُ مُرَاعَاةً لِجَهْلِ الْجَاهِلِينَ، وَلَنْ تَخْلُوَ الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِالْحُجَّةِ.

وَنُقِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيِّ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ.

آدَابُ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ

17- اسْتَحَبَّ الْعُلَمَاءُ كِتَابَةَ الْمَصَاحِفِ، وَتَحْسِينَ كِتَابَتِهَا وَتَجْوِيدَهَا، وَالتَّأَنُّقَ فِيهَا.

وَاسْتَحَبُّوا تَبْيِينَ الْحُرُوفِ وَإِيضَاحَهَا وَتَفْخِيمَهَا، وَالتَّفْرِيجَ بَيْنَ السُّطُورِ، وَتَحْقِيقَ الْخَطِّ وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَكْرَهُ أَنْ تُمَدَّ الْبَاءُ مِنْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِلَى الْمِيمِ حَتَّى تُكْتَبَ السِّينُ، قَالَ: لِأَنَّ فِي ذَلِكَ نَقْصًا.

وَنُقِلَتْ: كَرَاهَةُ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ بِخَطِّ دَقِيقٍ، وَتَصْغِيرِ حَجْمِ الْمُصْحَفِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنهما-.

وَيَحْرُمُ أَنْ يُكْتَبَ الْمُصْحَفُ بِمِدَادٍ نَجِسٍ أَوْ فِي وَرَقٍ أَوْ شَيْءٍ نَجِسٍ.

وَنَقَلَ أَبُو عُبَيْدٍ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي ذَرٍّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ- رضي الله عنهم- أَنَّهُمْ كَرِهُوا كِتَابَتَهُ بِالذَّهَبِ، وَنَقَلَ السُّيُوطِيُّ عَنِ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ كِتَابَتَهُ بِالذَّهَبِ، وَأَجَازَ الْبُرْزُلِيُّ وَالْعَدَوِيُّ وَالْأُجْهُورِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ ذَلِكَ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَرَاهَةُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَشْغَلُ الْقَارِئَ عَنِ التَّدَبُّرِ.

إِصْلَاحُ مَا قَدْ يَقَعُ فِي كِتَابَةِ بَعْضِ الْمَصَاحِفِ مِنَ الْخَطَأِ

18- يَنُصُّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ إِصْلَاحَ مَا قَدْ يَقَعُ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ مِنَ الْخَطَأِ فِي كِتَابَتِهَا وَاجِبٌ، وَإِنْ تَرَكَ إِصْلَاحَهُ أَثِمَ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُصْحَفُ لَيْسَ لَهُ بَلْ كَانَ عَارِيَّةً عِنْدَهُ، فَعَلَيْهِ إِصْلَاحُهُ وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ رِضَا صَاحِبِهِ بِذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلاَّ بِرِضَا مَالِكِهِ، وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: مَحَلُّ الْجَوَازِ إِذَا كَانَ بِخَطٍّ مُنَاسِبٍ وَإِلاَّ فَلَا.

النَّقْطُ وَالشَّكْلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي الْمَصَاحِفِ

19- نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَرَاهَةُ إِدْخَالِ شَيْءٍ مِنَ النَّقْطِ وَنَحْوِهِ، وَأَمَرُوا بِتَجْرِيدِ الْمُصْحَفِ مِنْ ذَلِكَ، فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: جَرِّدُوا الْمُصْحَفَ وَلَا تَخْلِطُوهُ بِشَيْءِ، وَكَرِهَ النَّخَعِيُّ نَقْطَ الْمَصَاحِفِ، وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ النَّقْطَ وَالْفَوَاتِحَ وَالْخَوَاتِمَ.

وَكَانَ الْمُصْحَفُ الْعُثْمَانِيُّ خَالِيًا مِنَ النَّقْطِ حَتَّى إِنَّ الْبَاءَ وَالتَّاءَ وَالِثَاءَ مَثَلًا كَانَتْ بِصُورَةٍ وَاحِدَةٍ لَا تَتَمَيَّزُ فِي الْكِتَابَةِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُهَا الْقَارِئُ بِالْمَعْنَى.

وَالنَّقْطُ كَانَ أَوَّلًا لِبَيَانِ إِعْرَابِ الْحُرُوفِ، أَيْ حَرَكَاتِهَا، وَهُوَ الَّذِي عَمِلَهُ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ عَلَامَاتُ الشَّكْلِ الَّتِي اخْتَرَعَهَا الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، وَاسْتُخْدِمَ النَّقْطُ لِتَمْيِيزِ الْحُرُوفِ الْمُتَشَابِهَةِ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ كَالْبَاءِ وَالتَّاءِ وَالثَّاءِ.

وَوَرَدَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمُ التَّرْخِيصُ فِي ذَلِكَ، قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَا بَأْسَ بِشَكْلِهِ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِالنَّقْطِ فِي الْمَصَاحِفِ الَّتِي تَتَعَلَّمُ فِيهَا الْعُلَمَاءُ، أَمَّا الْأُمَّهَاتُ فَلَا.

وَقَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ وَالدَّانِيُّ: لَا يُشْكَلُ إِلاَّ مَا يُشْكِلُ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: نَقْطُ الْمُصْحَفِ وَشَكْلُهُ مُسْتَحَبٌّ لِأَنَّهُ صِيَانَةٌ لَهُ مِنَ اللَّحْنِ وَالتَّحْرِيفِ، قَالَ: وَأَمَّا كَرَاهَةُ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ النَّقْطَ فَإِنَّمَا كَرِهَاهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ خَوْفًا مِنَ التَّغْيِيرِ فِيهِ، وَقَدْ أُمِنَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَلَا مَنْعَ.

وَعَلَى هَذَا اسْتَقَرَّ الْعَمَلُ مُنْذُ أَمَدٍ طَوِيلٍ فِي الْمَصَاحِفِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَالْعَمَلُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ مُجَاهِدٍ وَالدَّانِيِّ.

التَّعْشِيرُ وَالتَّحْزِيبُ وَالْعَلَامَاتُ الْأُخْرَى فِي الْمَصَاحِفِ

20- التَّعْشِيرُ: أَنْ يُجْعَلَ عَلَامَةٌ عِنْدَ انْتِهَاءِ كُلِّ عَشْرِ آيَاتٍ، وَالتَّخْمِيسُ: أَنْ يُجْعَلَ عَلَامَةٌ عِنْدَ انْتِهَاءِ كُلِّ خَمْسٍ، وَالتَّحْزِيبُ أَنْ يُجْعَلَ عَلَامَةٌ عِنْدَ مُبْتَدَإِ كُلِّ حِزْبٍ.

وَمِنْ أَوَّلِ الْعَلَامَاتِ الَّتِي أُدْخِلَتْ فِي الْمَصَاحِفِ جَعْلُ ثَلَاثِ نِقَاطٍ عِنْدَ رُءُوسِ الْآيِ، قَالَ يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ: مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِمَّا أُحْدِثَ فِي الْمَصَاحِفِ إِلاَّ النُّقَطَ الثَّلَاثَ عِنْدَ رُءُوسِ الْآيِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَوَّلُ مَا أَحْدَثُوا النُّقَطُ عِنْدَ آخِرِ الْآيِ، ثُمَّ الْفَوَاتِحُ وَالْخَوَاتِمُ، أَيْ فَوَاتِحُ السُّوَرِ وَخَوَاتِمُهَا، وَقَدْ أَنْكَرَهُ بَعْضُ السَّلَفِ (انْظُرْ: تَعْشِيرٌ ف 3)، وَرَخَّصَ فِيهِ غَيْرُهُمْ وَاسْتَقَرَّ الْعَمَلُ عَلَى إِدْخَالِ تِلْكَ الْعَلَامَاتِ لِنَفْعِهَا لِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَأُدْخِلَتْ أَيْضًا عَلَامَاتُ السَّجَدَاتِ وَالْوُقُوفِ وَأَسْمَاءُ السُّوَرِ وَعَدَدُ الْأَجْزَاءِ وَعَدَدُ الْآيَاتِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، لَكِنْ بِوَضْعٍ يُمَيِّزُهَا عَمَّا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى.

أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَى كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ

21- اخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنِ السَّلَفِ فِي أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ كَرِهَ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ، وَمِثْلُهُ عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ.

وَأَخْرَجَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ.

وَإِلَى هَذَا الْأَخِيرِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: لَوِ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَكْتُبَ لَهُ مُصْحَفًا وَبَيَّنَ الْخَطَّ جَازَ.

تَحْلِيَةُ الْمَصَاحِفِ

22- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ تَحْلِيَةِ الْمَصَاحِفِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ لِلرِّجَالِ أَوِ النِّسَاءِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ، لَكِنْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الَّذِي يَجُوزُ تَحْلِيَتُهُ جِلْدُهُ مِنْ خَارِجٍ لَا كِتَابَتُهُ بِالذَّهَبِ، وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ، وَأَجَازُوا أَيْضًا كِتَابَتَهُ فِي الْحَرِيرِ وَتَحْلِيَتَهُ بِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى جَوَازِ تَحْلِيَةِ الْمُصْحَفِ بِالْفِضَّةِ مُطْلَقًا، وَبِالذَّهَبِ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَتَحْرِيمِهِ بِالذَّهَبِ فِي مَصَاحِفِ الرِّجَالِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ تَحْلِيَتِهِ بِشَيْءِ مِنَ النَّقْدَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى تَحْرِيمِ تَحْلِيَةِ الْقُرْآنِ بِالذَّهَبِ، وَقَالَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَحْرُمُ سَوَاءٌ حَلاَّهُ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ.

بَيْعُ الْمُصْحَفِ وَشِرَاؤُهُ

23- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ سَلَفًا وَخَلَفًا فِي بَيْعِ الْمَصَاحِفِ وَشِرَائِهَا، فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى كَرَاهَةِ بَيْعِهَا وَشِرَائِهَا تَعْظِيمًا لَهَا وَتَكْرِيمًا، لِمَا فِي تَدَاوُلِهَا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنَ الِابْتِذَالِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَرُوِيَتْ كَرَاهِيَةُ بَيْعِهَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم- وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِسْحَاقَ وَالنَّخَعِيِّ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَدِدْتُ أَنَّ الْأَيْدِيَ تُقْطَعُ فِي بَيْعِهَا، وَوَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- يُشَدِّدُونَ فِي بَيْعِ الْمَصَاحِفِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى إِجَازَةِ بَيْعِهَا، مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ عَلَى الْوَرَقِ وَالْجِلْدِ وَبَدَلَ عَمَلِ يَدِ الْكَاتِبِ، وَبَيْعُ ذَلِكَ مُبَاحٌ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْمُصْحَفِ، إِنَّمَا يَبِيعُ الْوَرَقَ وَعَمَلَ يَدَيْهِ.

وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ- وَنَقَلُوهُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ- وَالْحَنَابِلَةُ فِي مُعْتَمَدِهِمْ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَكَرِهُوا الْبَيْعَ- وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَحْرُمُ وَيَصِحُّ- وَأَجَازُوا الشِّرَاءَ وَالِاسْتِبْدَالَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اشْتَرِ الْمَصَاحِفَ وَلَا تَبِعْهَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ فِي الْبَيْعِ ابْتِذَالًا بِخِلَافِ الشِّرَاءِ، فَفِيهِ اسْتِنْقَاذُ الْمُصْحَفِ وَبَذْلٌ لِلْمَالِ فِي سَبِيلِ اقْتِنَائِهِ وَذَلِكَ إِكْرَامٌ، قَالُوا: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَرَاهَةِ الْبَيْعِ كَرَاهَةُ الشِّرَاءِ، كَشِرَاءِ دُورِ مَكَّةَ وَرِبَاعِهَا، وَشِرَاءِ أَرْضِ السَّوَادِ، لَا يُكْرَهُ، وَيُكْرَهُ لِلْبَائِعِ.

إِجَارَةُ الْمُصْحَفِ

24- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ إِجَارَةِ الْمُصْحَفِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَعِلَّةُ الْمَنْعِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الْمُصْحَفِ أَكْثَرُ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَلَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ لِمِثْلِ ذَلِكَ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ سَقْفًا لِيَنْظُرَ إِلَى مَا فِيهِ مِنَ النُّقُوشِ أَوِ التَّصَاوِيرِ، أَوْ يَسْتَأْجِرَ كَرْمًا لِيَنْظُرَ فِيهِ لِلِاسْتِئْنَاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَهُ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَا تَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا إِجَارَةُ سَائِرِ الْكُتُبِ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فِي الْوَجْهِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ فَقَدْ بَنَوْا تَحْرِيمَ إِجَارَتِهِ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِهِ، قَالُوا: وَلِمَا فِي إِجَارَتِهِ مِنَ الِابْتِذَالِ لَهُ.

وَأَمَّا ابْنُ حَبِيبٍ فَقَدْ مَنَعَ إِجَارَتَهُ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّهُ يَرَى جَوَازَ بَيْعِهِ، لِأَنَّ الْأُجْرَةَ تَكُونُ كَالثَّمَنِ لِلْقُرْآنِ، أَمَّا بَيْعُهُ فَهُوَ ثَمَنٌ لِلْوَرَقِ وَالْجِلْدِ وَالْخَطِّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ إِجَارَةِ الْمُصْحَفِ لِلْقِرَاءَةِ فِيهِ، قَالُوا: مَا لَمْ يَقْصِدْ بِإِجَارَتِهِ التِّجَارَةَ، وَإِلاَّ كُرِهَتْ.

وَوَجْهُ الْجَوَازِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ نَفْعٌ مُبَاحٌ تَجُوزُ الْإِعَارَةُ فِيهِ، فَجَازَتْ فِيهِ الْإِجَارَةُ كَسَائِرِ الْكُتُبِ الَّتِي يَجُوزُ بَيْعُهَا.

رَهْنُ الْمُصْحَفِ

25- الْقَاعِدَةُ: أَنَّ مَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ، وَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ، وَلِذَا يَصِحُّ رَهْنُ الْمُصْحَفِ عِنْدَ كُلِّ مَنْ جَوَّزَ بَيْعَهُ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ بَيْعُهُ وَاسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ بَيْعَهُ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ رَهْنُهُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ.

وَقْفُ الْمُصْحَفِ

26- يَجُوزُ وَقْفُ الْمَصَاحِفِ لِلْقِرَاءَةِ فِيهَا عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، اسْتِثْنَاءً مِنْ عَدَمِ جَوَازِ وَقْفِ الْمَنْقُولَاتِ لِجَرَيَانِ التَّعَارُفِ بِوَقْفِ الْمَصَاحِفِ، وَإِلَى قَوْلِهِ هَذَا ذَهَبَ عَامَّةُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ غَيْرِهِمْ بِجِوَازِ وَقْفِ الْمَنْقُولَاتِ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ وَقْفِهَا كَسَائِرِ الْمَنْقُولَاتِ غَيْرِ آلَاتِ الْجِهَادِ.

ثُمَّ إِنْ وَقَفَهُ عَلَى مَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ يَجُوزُ، وَيَقْرَأُ بِهِ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ خَاصَّةً، نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: لَا يَكُونُ مَقْصُورًا عَلَى هَذَا الْمَسْجِدِ بِعَيْنِهِ.

إِرْثُ الْمُصْحَفِ

27- يُورَّثُ الْمُصْحَفُ عَلَى الْقَوْلِ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَمْلُوكٍ يُورَّثُ عَنْ مَالِكِهِ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدً الْحَنَفِيَّةِ: لَا يُورَّثُ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، فَلَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدَانِ أَحَدُهُمَا قَارِئٌ وَالْآخَرُ غَيْرُ قَارِئٍ، يُعْطَى الْمُصْحَفُ لِلْقَارِئِ.

الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ الْمُصْحَفِ

28- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ سَارِقَ الْمُصْحَفِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لِأَنَّ آخُذَهُ يَتَأَوَّلُ فِي أَخْذِهِ الْقِرَاءَةَ وَالنَّظَرَ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَا مَالِيَّةَ لَهُ لِاعْتِبَارِ الْمَكْتُوبِ فِيهِ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يُقْتَنَى الْمُصْحَفُ لِأَجْلِهِ، لَا لِأَجْلِ أَوْرَاقِهِ أَوْ جِلْدِهِ.

وَيَسْرِي ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا عَلَى الْمُصْحَفِ مِنَ الْحِلْيَةِ لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ التَّابِعِ لَهُ، وَلِلتَّابِعِ حُكْمُ الْمَتْبُوعِ، كَمَنْ سَرَقَ صَبِيًّا عَلَيْهِ ثِيَابٌ قِيمَتُهَا أَكْثَرَ مِنْ نِصَابٍ فَلَا يُقْطَعُ بِهَا، لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلصَّبِيِّ وَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَتِهِ، وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ نَقَلَ عَنِ السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ: لَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْمُصْحَفِ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ حِلْيَةٌ تُسَاوِي أَلْفَ دِينَارٍ.

وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ، وَهُوَ مَا اسْتَظْهَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ الْمُصْحَفِ، لِعُمُومِ آيَةِ السَّرِقَةِ، وَلِأَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصَابًا فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ، كَكُتُبِ الْفِقْهِ وَالتَّارِيخِ وَغَيْرِهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


135-موسوعة الفقه الكويتية (معابد)

مَعَابِدُ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمَعَابِدُ فِي اللُّغَةِ جَمْعُ مَعْبَدٍ- بِفَتْحِ الْبَاءِ- وَهُوَ مَكَانُ الْعِبَادَةِ وَمَحَلُّهَا.

وَالْعِبَادَةُ مَصْدَرُ عَبَدَ- بِفَتْحِ الْبَاءِ- يُقَالُ: عَبَدَ اللَّهَ عِبَادَةً وَعُبُودِيَّةً: انْقَادَ لَهُ وَخَضَعَ وَذَلَّ، وَالْمُتَعَبَّدُ: مَكَانُ التَّعَبُّدِ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْمَسْجِدُ:

2- الْمَسْجِدُ لُغَةً مَفْعِلٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ: اسْمٌ لِمَكَانِ السُّجُودِ، وَبِالْفَتْحِ اسْمٌ لِلْمَصْدَرِ.

وَالْمَسْجِدُ شَرْعًا: كُلُّ مَوْضِعٍ مِنَ الْأَرْضِ، لِقَوْلِه- صلى الله عليه وسلم-: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا»، وَخَصَّصَهُ الْعُرْفُ بِالْمَكَانِ الْمُهَيَّأِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَالْمَعَابِدِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ.

أَقْسَامُ الْمَعَابِدِ:

مَكَانُ عِبَادَةِ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الْمَسْجِدُ وَالْجَامِعُ وَالْمُصَلَّى وَالزَّاوِيَةُ.

وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مَسْجِدٌ ف 1- 4).

وَأَمَّا مَكَانُ عِبَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَهُ أَقْسَامٌ وَتَسْمِيَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أ- الْكَنِيسَةُ:

3- تُطْلَقُ الْكَنِيسَةُ عِنْدَ بَعْضِ اللُّغَوِيِّينَ عَلَى مُتَعَبَّدِ الْيَهُودِ، وَتُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى مُتَعَبَّدِ النَّصَارَى، وَهِيَ مُعَرَّبَةٌ.

وَنَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ كَقَاضِي زَادَهْ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ الْكَنِيسَةَ اسْمٌ لِمَعْبَدِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مُطْلَقًا فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْكَنِيسَةِ لِمَعْبَدِ الْيَهُودِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَأَهْلُ مِصْرَ يُطْلِقُونَ الْكَنِيسَةَ عَلَى مُتَعَبَّدِهِمَا.

وَأَوْرَدَ الْبَرْكَتِيُّ أَوْجُهًا أَرْبَعَةً فَقَالَ:

الْكَنِيسَةُ: مُتَعَبَّدُ الْيَهُودِ أَوِ النَّصَارَى، أَوِ الْكُفَّارِ، أَوْ مَوْضِعُ صَلَاةِ الْيَهُودِ فَقَطْ.

وَنَصَّ زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْكَنِيسَةَ مُتَعَبَّدُ النَّصَارَى.

وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: الْكَنِيسَةُ: مُتَعَبَّدُ الْكُفَّارِ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِيعَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ.

ب- الْبِيعَةُ:

4- الْبِيعَةُ- بِكَسْرِ الْبَاءِ- مُفْرَدٌ جَمْعُهُ بِيَعٌ- بِكَسْرِ الْبَاءِ- مِثْلُ سِدْرَةٍ وَسِدَرٍ، وَهِيَ مُتَعَبَّدُ النَّصَارَى وَزَادَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فَقَالَ: وَهِيَ الَّتِي يَبْنُونَهَا فِي الْبَلَدِ.

وَقَالَ قَاضِي زَادَهْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْبِيعَةَ اسْمٌ لِمَعْبَدِ الْيَهُودِ مُطْلَقًا، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْبِيعَةِ لِمَعْبَدِ النَّصَارَى.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الْبِيعَةَ مَعْبَدُ النَّصَارَى إِلاَّ مَا حَكَيْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: الْبِيَعُ مَسَاجِدُ الْيَهُودِ.

ج- الصَّوْمَعَةُ:

5- قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الصَّوْمَعَةُ بَيْتٌ يُبْنَى بِرَأْسٍ طَوِيلٍ لِيُتَعَبَّدَ فِيهِ بِالِانْقِطَاعِ عَنِ النَّاسِ وَذَكَرَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: أَنَّ الصَّوَامِعَ لِلنَّصَارَى وَهِيَ الَّتِي بَنَوْهَا فِي الصَّحَارِي وَقِيلَ: الصَّوَامِعُ لِلصَّابِئِينَ.

د- الدَّيْرُ

6- الدَّيْرُ مُقَامُ الرُّهْبَانِ وَالرَّاهِبَاتِ مِنَ النَّصَارَى، وَيَجْتَمِعُونَ فِيهِ لِلرَّهْبَانِيَّةِ وَالتَّفَرُّدِ عَنِ النَّاسِ، وَيُجْمَعُ عَلَى دُيُورَةٍ مِثْلَ: بَعْلٍ وَبُعُولَةٍ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَأَهْلُ مِصْرَ وَالشَّامِ يَخُصُّونَ الدَّيْرَ بِمَعْبَدِ النَّصَارَى.

هـ- الْفُهُرُ

7- الْفُهُرُ بِضَمِّ الْفَاءِ وَالْهَاءِ جَمْعٌ، وَمُفْرَدُهَا فُهْرٌ، لِلْيَهُودِ خَاصَّةً، وَهُوَ بَيْتُ الْمِدْرَاسِ الَّذِي يَتَدَارَسُونَ فِيهِ الْعِلْمَ، وَفِيهِ قَوْلُ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: «وَكَأَنَّهُمُ الْيَهُودُ حِينَ خَرَجُوا مِنْ فُهُرِهِمْ».

و- الصَّلَوَاتُ

8- الصَّلَوَاتُ كَنَائِسُ الْيَهُودِ، قَالَ الزَّجَّاجُ وَهِيَ بِالْعِبْرِيَّةِ (صِلْوَتَا)، وَقِيلَ: لِلنَّصَارَى، وَقِيلَ: لِلصَّابِئِينَ.

ز- بَيْتُ النَّارِ وَالنَّاوُوسُ

9- بَيْتُ النَّارِ: هُوَ مَوْضِعُ عِبَادَةِ الْمَجُوسِ.وَأَمَّا النَّاوُوسُ فَقَالَ اللُّغَوِيُّونَ: النَّاوُوسُ مَقَابِرُ النَّصَارَى، أَوْ صُنْدُوقٌ مِنْ خَشَبٍ أَوْ نَحْوِهِ يَضَعُ فِيهِ النَّصَارَى جُثَّةَ الْمَيِّتِ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: النَّاوُوسُ لِلْمَجُوسِ كَالْكَنِيسَةِ لِلنَّصَارَى، وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ دِينِهِمُ الْبَاطِلِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَعَابِدِ

10- لَا يُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْكَنِيسَةِ وَالْبِيعَةِ، وَالصَّوْمَعَةِ، وَبَيْتِ النَّارِ، وَالدَّيْرِ وَغَيْرِهَا فِي الْأَحْكَامِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا وَرَدَ فِي كِتَابِ عُمَرَ- رضي الله عنه- لَمَّا صَالَحَ نَصَارَى الشَّامِ كَتَبَ إِلَيْهِمْ كِتَابًا: «إِنَّهُمْ لَا يَبْنُونَ فِي بِلَادِهِمْ وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلَا كَنِيسَةً وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ..».

وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ فِي كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِيهَا: وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ بِمُتَعَبَّدِ الْكُفَّارِ سَوَاءٌ كَانَ كَنِيسَةً أَوْ بِيعَةً، أَوْ بَيْتَ نَارٍ.

وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ وَابْنُ قُدَامَةَ فِي الْوَقْفِ: وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى كَنَائِسَ، وَبُيُوتِ نَارٍ، وَبِيَعٍ وَصَوَامِعَ، وَدُيُورَةٍ وَمَصَالِحِهَا.

وَنَصَّ ابْنُ الْقَيِّمِ بَعْدَ ذِكْرِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَعَابِدِ عَلَى أَنَّ: حُكْمَ هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ كُلِّهَا حُكْمُ الْكَنِيسَةِ، وَيَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا.

وَتَفْصِيلُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَعَابِدِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

إِحْدَاثُ الْمَعَابِدِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ

11- يَخْتَلِفُ حُكْمُ إِحْدَاثِ الْمَعَابِدِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ بِاخْتِلَافِ الْأَمْصَارِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أ- مَا اخْتَطَّهُ الْمُسْلِمُونَ كَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، فَلَا يَجُوزُ فِيهَا إِحْدَاثُ كَنِيسَةٍ وَلَا بِيعَةٍ وَلَا مُجْتَمَعٍ لِصَلَاتِهِمْ وَلَا صَوْمَعَةٍ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

ب- مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عِنْوَةً، فَلَا يَجُوزُ فِيهِ إِحْدَاثُ شَيْءٍ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَدْمِ مَا كَانَ فِيهِ كَمَا يَأْتِي فِيمَا بَعْدُ.

ج- مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ صُلْحًا: فَإِنْ صَالَحُوهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ وَالْخَرَاجَ لَنَا جَازَ الْإِحْدَاثُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنْ صَالَحُوهُمْ عَلَى أَنَّ الدَّارَ لَنَا وَيُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ فَلَا يَجُوزُ الْإِحْدَاثُ إِلاَّ إِذَا شَرَطُوا ذَلِكَ، وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا لَا يَجُوزُ الْإِحْدَاثُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (أَهْلُ الذِّمَّةِ ف 24- 25).

هَدْمُ الْمَعَابِدِ الْقَدِيمَةِ

12- الْمُرَادُ مِنَ الْمَعَابِدِ الْقَدِيمَةِ مَا كَانَتْ قَبْلَ فَتْحِ الْإِمَامِ بَلَدَ الْكُفَّارِ وَمُصَالَحَتِهِمْ عَلَى إِقْرَارِهِمْ عَلَى بَلَدِهِمْ وَعَلَى دِينِهِمْ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهما- أَوِ التَّابِعِينَ لَا مَحَالَةَ.

وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمَعَابِدِ الْقَدِيمَةِ بِاخْتِلَافِ مَوَاقِعِهَا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أ- الْمَعَابِدُ الْقَدِيمَةُ فِي الْمُدُنِ الَّتِي أَحْدَثَهَا الْمُسْلِمُونَ

13- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْبِيَعَ وَالْكَنَائِسَ الْقَدِيمَةَ فِي السَّوَادِ وَالْقُرَى لَا يُتَعَرَّضُ لَهَا وَلَا يُهْدَمُ شَيْءٌ مِنْهَا، قَالَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: إِنَّ الْبِيَعَ وَالْكَنَائِسَ فِي السَّوَادِ لَا تُهْدَمُ عَلَى الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا، وَأَمَّا فِي الْأَمْصَارِ فَاخْتَلَفَ كَلَامُ مُحَمَّدٍ، فَذَكَرَ فِي الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ: تُهْدَمُ الْقَدِيمَةُ، وَذَكَرَ فِي الْإِجَارَةِ: لَا تُهْدَمُ: وَعَمَلُ النَّاسِ عَلَى هَذَا، فَإِنَّا رَأَيْنَا كَثِيرًا مِنْهَا تَوَالَتْ عَلَيْهَا أَئِمَّةٌ وَأَزْمَانٌ وَهِيَ بَاقِيَةٌ لَمْ يَأْمُرْ إِمَامٌ بِهَدْمِهَا، فَكَانَ مُتَوَارَثًا مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهما-.

وَعَلَى هَذَا لَوْ مَصَّرْنَا بَرِّيَةً فِيهَا دَيْرٌ أَوْ كَنِيسَةٌ فَوَقَعَ دَاخِلَ السُّوَرِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُهْدَمَ، لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْأَمَانِ قَبْلَ وَضْعِ السُّورِ، فَيُحْمَلُ مَا فِي جَوْفِ الْقَاهِرَةِ مِنَ الْكَنَائِسِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ فَضَاءً فَأَدَارَ الْعُبَيْدِيُّونَ عَلَيْهَا السُّورَ، ثُمَّ فِيهَا الْآنَ كَنَائِسُ، وَيَبْعُدُ مِنْ إِمَامٍ تَمْكِينِ الْكُفَّارِ مِنْ إِحْدَاثِهَا جَهَارًا فِي جَوْفِ الْمُدُنِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الضَّوَاحِي، فَأُدِيرَ السُّورُ عَلَيْهَا فَأَحَاطَ بِهَا، وَعَلَى هَذَا فَالْكَنَائِسُ الْمَوْضُوعَةُ الْآنَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ- غَيْرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ- كُلُّهَا يَنْبَغِي أَنْ لَا تُهْدَمَ، لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ فِي أَمْصَارٍ قَدِيمَةٍ، فَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَوِ التَّابِعِينَ حِينَ فَتَحُوا الْمَدِينَةَ عَلِمُوا بِهَا وَأَبْقَوْهَا، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَتِ الْبَلْدَةُ فُتِحَتْ عَنْوَةً حَكَمْنَا بِأَنَّهَا بَقَّوْهَا مَسَاكِنَ لَا مَعَابِدَ فَلَا تُهْدَمُ، وَلَكِنْ يُمْنَعُونَ مِنَ الِاجْتِمَاعِ فِيهَا لِلتَّقَرُّبِ، وَإِنْ عُرِفَ أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا حَكَمْنَا بِأَنَّهُمْ أَقَرُّوهَا مَعَابِدَ فَلَا يُمْنَعُونَ مِنَ الِاجْتِمَاعِ فِيهَا بَلْ مِنَ الْإِظْهَارِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْكَنَائِسَ الْقَدِيمَةَ تُتْرَكُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِيمَا اخْتَطَّهُ الْمُسْلِمُونَ فَسَكَنُوهُ مَعَهُمْ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لَا يَجُوزُ الْإِحْدَاثُ مُطْلَقًا وَلَا يُتْرَكُ لَهُمْ كَنِيسَةً.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الَّذِي يُوجَدُ فِي الْبِلَادِ الَّتِي أَحْدَثَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ وَبُيُوتِ النَّارِ وَجُهِلَ أَصْلُهُ لَا يُنْقَضُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا كَانَتْ قَرْيَةً أَوْ بَرِّيَةً فَاتَّصَلَ بِهَا عُمْرَانُ مَا أُحْدِثَ مِنَّا، بِخِلَافِ مَا لَوْ عُلِمَ إِحْدَاثُ شَيْءٍ مِنْهَا بَعْدَ بِنَائِهَا فَإِنَّهُ يَلْزَمُنَا هَدْمُهُ إِذَا بُنِيَ لِلتَّعَبُّدِ، وَإِنْ بُنِيَ لِنُزُولِ الْمَارَّةِ: فَإِنْ كَانَ لِعُمُومِ النَّاسِ جَازَ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَطْ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الصَّبَّاغِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْكَنَائِسُ الَّتِي فِي الْبِلَادِ الَّتِي مَصَّرَهَا الْمُسْلِمُونَ وَأُحْدِثَتْ بَعْدَ تَمْصِيرِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا تُزَالُ، وَمَا كَانَ مَوْجُودًا بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ ثُمَّ مَصَّرَ الْمُسْلِمُونَ حَوْلَهَا الْمِصْرَ فَهَذِهِ لَا تُزَالُ.

ب- الْمَعَابِدُ الْقَدِيمَةُ فِيمَا فُتِحَ عَنْوَةً

14- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ إِلَى أَنَّ الْمَعَابِدَ الْقَدِيمَةَ فِيمَا فُتِحَ عَنْوَةً لَا يَجِبُ هَدْمُهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ هَدْمُهُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا تُهْدَمُ وَلَكِنْ تَبْقَى بِأَيْدِيهِمْ مَسَاكِنَ، وَيُمْنَعُونَ مِنَ الِاجْتِمَاعِ فِيهَا لِلتَّقَرُّبِ. ج- الْمَعَابِدُ الْقَدِيمَةُ فِيمَا فُتِحَ صُلْحًا

15- الْأَرَاضِي الْمَفْتُوحَةُ صُلْحًا ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُصَالِحَهُمُ الْإِمَامُ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ لَنَا فَالْحُكْمُ فِي الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ عَلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ.

النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يُصَالِحَهُمُ الْإِمَامُ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ لَهُمْ وَيُؤَدُّوا عَنْهَا خَرَاجًا، فَهَذَا مِمَّا لَا يُتَعَرَّضُ لِلْمَعَابِدِ الْقَدِيمَةِ فِيهَا دُونَ خِلَافٍ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقَعَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا:

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُتَعَرَّضُ لِلْقَدِيمَةِ وَهَذَا لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا فِي عِبَادَتِهِمْ كَمَا عَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ إِلَى أَنَّهَا لَا تَبْقَى، لِأَنَّ إِطْلَاقَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي ضَرُورَةَ جَمِيعِ الْبَلَدِ لَنَا.

إِعَادَةُ الْمُنْهَدِمِ:

16- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْأَصَحِّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا انْهَدَمَتِ الْكَنِيسَةُ (الَّتِي أُقِرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا) فَلِلذِّمِّيِّينَ إِعَادَتُهَا، لِأَنَّ الْأَبْنِيَةَ لَا تَبْقَى دَائِمًا، وَلَمَّا أَقَرَّهُمُ الْإِمَامُ عَلَى إِبْقَائِهَا قَبْلَ الظُّهُورِ عَلَيْهِمْ وَصَالَحَهُمْ عَلَيْهِ فَقَدْ عَهِدَ إِلَيْهِمُ الْإِعَادَةَ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِحْدَاثِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِعَادَةِ أَنْ تَكُونَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَى الْبِنَاءِ الْأَوَّلِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ أَيْ: لَا يَبْنُونَ مَا كَانَ بِاللَّبِنِ بِالْآجُرِّ، وَلَا مَا كَانَ بِالْآجُرِّ بِالْحَجَرِ وَلَا مَا كَانَ بِالْجَرِيدِ وَخَشَبِ النَّخْلِ بِالنَّقَى وَالسَّاجِ، وَلَا بَيَاضًا لَمْ يَكُنْ.

قَالُوا: وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُخَرِّبَهَا إِذَا وَقَفَ عَلَى بِيعَةٍ جَدِيدَةٍ، أَوْ بُنِيَ مِنْهَا فَوْقَ مَا كَانَ فِي الْقَدِيمِ، وَكَذَا مَا زَادَ فِي عِمَارَتِهَا الْعَتِيقَةِ.

وَإِذَا جَازَ لَهُمْ إِعَادَةُ بِنَائِهَا فَإِنَّ لَهُمْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَوْسِيعٍ عَلَى خُطَّتِهَا، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي حُكْمِ كَنِيسَةٍ مُحْدَثَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِالْأُولَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِعَادَةِ الْإِعَادَةُ لِمَا تَهَدَّمَ مِنْهَا لَا بِآلَاتِ جَدِيدَةٍ وَالْمُرَادُ بِالْمُهْدَمِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْأَشْبَاهِ: مَا انْهَدَمَ، وَلَيْسَ مَا هَدَمَهُ الْإِمَامُ، لِأَنَّ فِي إِعَادَتِهَا بَعْدَ هَدْمِ الْمُسْلِمِينَ اسْتِخْفَافًا بِهِمْ وَبِالْإِسْلَامِ، وَإِخْمَادًا لَهُمْ وَكَسْرًا لِشَوْكَتِهِمْ، وَنَصْرًا لِلْكُفْرِ وَأَهْلِهِ، وَلِأَنَّ فِيهِ افْتِيَاتًا عَلَى الْإِمَامِ فَيَلْزَمُ فَاعِلَهُ التَّعْزِيرُ، وَبِخِلَافِ مَا إِذَا هَدَمُوهَا بِأَنْفُسِهِمْ فَإِنَّهَا تُعَادُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَالْإِصْطَخْرِيُّ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَعَلَّلَهُ الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: لِأَنَّهُ كَبِنَاءِ كَنِيسَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.

تَرْمِيمُ الْمَعَابِدِ

17- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ رَمِّ مَا تَشَعَّثَ مِنَ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ وَنَحْوِهَا الَّتِي أُقِرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا وَإِصْلَاحِهَا، لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى خَرَابِهَا وَذَهَابِهَا، فَجَرَى مَجْرَى هَدْمِهَا.

وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ: بِأَنَّهُ يَجِبُ إِخْفَاءُ الْعِمَارَةِ لِأَنَّ إِظْهَارَهَا زِينَةٌ تُشْبِهُ الِاسْتِحْدَاثَ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِخْفَاءُ الْعِمَارَةِ فَيَجُوزُ تَطْيِينُهَا مِنَ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ.

وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ رَمِّ الْمُنْهَدِمِ فِي الْعَنْوِيِّ (مَا فُتِحَ عَنْوَةً) وَفِي الصُّلْحِيِّ عِنْدَ بَعْضِهِمْ.

نَقْلُ الْمَعْبَدِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ

18- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْلِ الْمَعْبَدِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ عَلَى أَقْوَالٍ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يُحَوِّلُوا مَعَابِدَهُمْ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، لِأَنَّ التَّحْوِيلَ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فِي حُكْمِ إِحْدَاثِ كَنِيسَةٍ أُخْرَى.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَوْ شَرَطُوا النَّقْلَ فِي الْعَقْدِ يَجُوزُ وَإِلاَّ فَلَا.

وَفَصَّلَ ابْنُ الْقَيِّمِ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَالَّذِي يُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ مَنَعْنَا إِعَادَةَ الْكَنِيسَةِ إِذَا انْهَدَمَتْ، مَنَعْنَا نَقْلَهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَإِنَّهَا إِذَا لَمْ تَعُدْ إِلَى مَكَانِهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ فَكَيْفَ تَنْشَأُ فِي غَيْرِهِ؟ وَإِنْ جَوَّزْنَا إِعَادَتَهَا فَكَانَ نَقْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَصْلَحَ لِلْمُسْلِمِينَ، لِكَوْنِهِمْ يَنْقُلُونَهَا إِلَى مَوْضِعٍ خَفِيٍّ لَا يُجَاوِرُهُ مُسْلِمٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ جَائِزٌ بِلَا رَيْبٍ، فَإِنَّ هَذَا مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ فَلَا مَعْنَى لِلتَّوَقُّفِ فِيهِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ النَّقْلُ لِمُجَرَّدِ مَنْفَعَتِهِمْ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ إِشْغَالُ رَقَبَةِ أَرْضِ الْإِسْلَامِ بِجَعْلِهَا دَارَ كُفْرٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَرَادُوا جَعْلَهَا خَمَّارَةً أَوْ بَيْتَ فِسْقٍ.

فَلَوِ انْتَقَلَ الْكُفَّارُ عَنْ مَحَلَّتِهِمْ وَأَخْلَوْهَا إِلَى مَحَلَّةٍ أُخْرَى فَأَرَادُوا نَقْلَ الْكَنِيسَةِ إِلَى تِلْكَ الْمَحَلَّةِ، وَإِعْطَاءَ الْقَدِيمَةِ لِلْمُسْلِمِينَ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا نَقَلَ الْإِمَامُ النَّصَارَى الْمُعَاهَدِينَ مِنْ مَكَانِهِمْ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ يُبَاحُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بُنْيَانُ بِيعَةٍ وَاحِدَةٍ لِإِقَامَةِ شَرْعِهِمْ وَيُمْنَعُونَ مِنْ ضَرْبِ النَّوَاقِيسِ فِيهَا.

اعْتِقَادُ الْكَنِيسَةِ بَيْتَ اللَّهِ وَاعْتِقَادُ زِيَارَتَهَا قُرْبَةً

19- نَصَّ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْكَنَائِسَ بُيُوتُ اللَّهِ أَوْ أَنَّهُ يُعْبَدُ فِيهَا، أَوْ أَنَّهُ يُحِبُّ ذَلِكَ وَيَرْضَاهُ فَهُوَ كَافِرٌ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ اعْتِقَادَ صِحَّةِ دِينِهِمْ، وَذَلِكَ كُفْرٌ، أَوْ أَعَانَهُمْ عَلَى فَتْحِ الْكَنَائِسِ وَإِقَامَةِ دِينِهِمْ، وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ قُرْبَةً أَوْ طَاعَةً، وَكَذَلِكَ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ زِيَارَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَنَائِسَهُمْ قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ.

الصَّلَاةُ فِي مَعَابِدِ الْكُفَّارِ

20- نَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي مَعَابِدِ الْكُفَّارِ إِذَا دَخَلَهَا مُخْتَارًا، أَمَّا إِنْ دَخَلَهَا مُضْطَرًّا فَلَا كَرَاهَةَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ تُكْرَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ مَعَ الصُّوَرِ وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يُمْنَعُ الْمُسْلِمُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْكَنِيسَةِ مِنْ غَيْرِ جَمَاعَةٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَهَاوُنٌ بِالْمُسْلِمِينَ وَلَا اسْتِخْفَافٌ بِهِمْ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاةٌ ف 105، دُخُولٌ ف 12)

النُّزُولُ فِي الْكَنَائِسِ

21- نَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ مَنْزِلَ الضِّيفَانِ مِنْ كَنِيسَةٍ، كَمَا صَالَحَ عُمَرُ أَهْلَ الشَّامِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ وَرَدَ فِي صُلْحِهِ: «وَلَا نَمْنَعُ كَنَائِسَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْزِلُوهَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنْ نُوَسِّعَ أَبْوَابَهَا لِلْمَارَّةِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَلَا نُؤْوِيَ فِيهَا وَلَا فِي مَنَازِلِنَا جَاسُوسًا».

دُخُولُ الْمُسْلِمِ مَعَابِدَ الْكُفَّارِ

22- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ دُخُولِ الْمُسْلِمِ مَعَابِدَ الْكُفَّارِ عَلَى أَقْوَالٍ:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ دُخُولُ الْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ، لِأَنَّهُ مَجْمَعُ الشَّيَاطِينِ، لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الدُّخُولِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ لِلْمُسْلِمِ دُخُولَ بِيعَةٍ وَكَنِيسَةٍ وَنَحْوِهِمَا.

وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي رَأْيٍ آخَرَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ دُخُولُهَا إِلاَّ بِإِذْنِهِمْ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (دُخُولٌ ف 12).

الْإِذْنُ فِي دُخُولِ الْكَنِيسَةِ وَالْإِعَانَةُ عَلَيْهِ

23- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ مَنْعَ زَوْجَتِهِ الذِّمِّيَّةِ مِنْ دُخُولِ الْكَنِيسَةِ وَنَحْوِهَا.

وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنْ لَا يُعِينَهَا عَلَى أَسْبَابِ الْكُفْرِ وَشَعَائِرِهِ وَلَا يَأْذَنَ لَهَا فِيهِ.

وَعَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ مَنْعُ الْمُسْلِمَةِ مِنْ إِتْيَانِ الْمَسَاجِدِ فَمَنْعُ الذِّمِّيَّةِ مِنَ الْكَنِيسَةِ أَوْلَى.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلَانِ كَمَا ذَكَرَهُمَا الْحَطَّابُ: قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ: لَهُ مَنْعُهَا مِنَ الْكَنِيسَةِ إِلاَّ فِي الْفَرْضِ.

وَأَمَّا الْجَارِيَةُ النَّصْرَانِيَّةُ فَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ سَأَلَتِ الْخُرُوجَ إِلَى أَعْيَادِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ وَجُمُوعِهِمْ لَا يَأْذَنُ لَهَا فِي ذَلِكَ.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَمْنَعُ مُكَاتَبَهُ النَّصْرَانِيَّ مِنْ إِتْيَانِ الْكَنِيسَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ دِينُهُمْ، إِذْ لَا تَحْجِيرَ لَهُ عَلَيْهِ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَأَلَ ذِمِّيٌّ مُسْلِمًا عَلَى طَرِيقِ الْبِيعَةِ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَأَيْضًا: مُسْلِمٌ لَهُ أُمٌّ ذِمِّيَّةٌ أَوْ أَبٌ ذِمِّيٌّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُودَهُ إِلَى الْبِيعَةِ، وَلَهُ أَنْ يَقُودَهُ مِنَ الْبِيعَةِ إِلَى الْمَنْزِلِ.

مُلَاعَنَةُ الذِّمِّيِّينَ فِي الْمَعَابِدِ

24- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِعَانُ الذِّمِّيَّةِ فِي كَنِيسَتِهَا، وَالْيَهُودِيَّةِ فِي بِيعَتِهَا، وَالْمَجُوسِيَّةِ فِي بَيْتِ النَّارِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِاسْتِحْبَابِ لِعَانِ الزَّوْجَةِ الْكِتَابِيَّةِ فِي الْكَنِيسَةِ وَحَيْثُ تُعَظِّمُ، وَإِذَا كَانَ الزَّوْجَانِ كِتَابِيَّيْنِ لَاعَنَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا فِي الْكَنِيسَةِ وَحَيْثُ يُعَظِّمَانِ.

وَقَالَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يُسْتَحَبُّ التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ الْإِسْلَامَ فِي اللِّعَانِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (لِعَانٌ ف 32 وَمَا بَعْدَهَا).

وُقُوعُ اسْمِ الْبَيْتِ عَلَى الْمَعَابِدِ

25- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ حَلَفَ شَخْصٌ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا فَدَخَلَ كَنِيسَةً أَوْ بِيعَةً لَا يَحْنَثُ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ لِعَدَمِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْبَيْتِ عُرْفًا لِأَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمَا يُبَاتُ فِيهِ، وَأُعِدَّ لِلْبَيْتُوتَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِي الْكَنِيسَةِ.

بَيْعُ عَرْصَةِ كَنِيسَةٍ

26- قَالَ ابْنُ شَاسٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ بَاعَ أُسْقُفُ الْكَنِيسَةِ عَرْصَةً مِنَ الْكَنِيسَةِ أَوْ حَائِطًا جَازَ ذَلِكَ إِنْ كَانَ الْبَلَدُ صُلْحًا، وَلَمْ يَجُزْ إِنْ كَانَ الْبَلَدُ عَنْوَةً، لِأَنَّهَا وَقْفٌ بِالْفَتْحِ، وَعَلَّلَهُ ابْنُ رُشْدٍ فَقَالَ: لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُ أَرْضِ الْعَنْوَةِ، لِأَنَّ جَمِيعَهَا فَيْءٌ لِلَّهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ: الْكَنَائِسِ وَغَيْرِهَا.

وَأَمَّا أَرْضُ الصُّلْحِ فَاخْتَلَفَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي أَرْضِ الْكَنِيسَةِ تَكُونُ عَرْصَةَ الْكَنِيسَةِ أَوْ حَائِطًا فَيَبِيعُ ذَلِكَ أُسْقُفُ أَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ هَلْ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَعَمَّدَ الشِّرَاءَ، فَأَجَازَ شِرَاءَ ذَلِكَ فِي سَمَاعِ عِيسَى، وَمَنَعَهُ فِي سَمَاعِ أَصْبُغَ.

بَيْعُ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ لِتُتَّخَذَ كَنِيسَةً

27- نَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُمْنَعُ الْمُسْلِمُ مِنْ بَيْعِ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ لِتُتَّخَذَ كَنِيسَةً:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنِ اشْتَرَوْا دُورًا فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَأَرَادُوا أَنْ يَتَّخِذُوا دَارًا مِنْهَا كَنِيسَةً أَوْ بِيعَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ فِي ذَلِكَ لِصَلَوَاتِهِمْ مُنِعُوا عَنْ ذَلِكَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُمْنَعُ أَيْ يَحْرُمُ بَيْعُ أَرْضٍ لِتُتَّخَذَ كَنِيسَةً وَأُجْبِرَ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ لِلْبَيْعِ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ مِلْكِهِ بِبَيْعِ أَوْ نَحْوِهِ.

رَوَى الْخَلاَّلُ عَنِ الْمَرُّوذِيِّ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ بَاعَ دَارَهُ مِنْ ذِمِّيٍّ وَفِيهَا مَحَارِيبُ فَاسْتَعْظَمَ ذَلِكَ وَقَالَ: نَصْرَانِيٌّ؟! ! لَا تُبَاعُ.يَضْرِبُ فِيهَا النَّاقُوسَ وَيَنْصِبُ فِيهَا الصُّلْبَانَ؟ وَقَالَ: لَا تُبَاعُ مِنَ الْكَافِرِ وَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ.

وَعَنْ أَبِي الْحَارِثِ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَبِيعُ دَارَهُ وَقَدْ جَاءَ نَصْرَانِيٌّ فَأَرْغَبَهُ وَزَادَهُ فِي ثَمَنِ الدَّارِ، تَرَى أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ أَوْ يَهُودِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ، قَالَ: لَا أَرَى لَهُ ذَلِكَ، قَالَ وَلَا أَرَى أَنْ يَبِيعَ دَارَهُ مِنْ كَافِرٍ يَكْفُرُ فِيهَا بِاللَّهِ تَعَالَى.

اسْتِئْجَارُ أَهْلِ الذِّمَّةِ دَارًا لِاتِّخَاذِهَا كَنِيسَةً

28- إِذَا اشْتَرَى أَوِ اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ دَارًا عَلَى أَنَّهُ سَيَتَّخِذُهَا كَنِيسَةً فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ، أَمَّا إِذَا اسْتَأْجَرَهَا لِلسُّكْنَى ثُمَّ اتَّخَذَهَا مَعْبَدًا فَالْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ، وَلَكِنْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً مَنْعُهُ حِسْبَةً.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (إِجَارَةٌ ف 98).

جَعْلُ الذِّمِّيٍّ بَيْتَهُ كَنِيسَةً فِي حَيَاتِهِ

29- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ ذِمِّيٌّ دَارَهُ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ فِي صِحَّتِهِ، فَمَاتَ فَهُوَ مِيرَاثٌ اتِّفَاقًا بَيْنَ الْإِمَامِ وَصَاحِبَيْهِ وَاخْتَلَفُوا فِي التَّخْرِيجِ: فَعِنْدَهُ لِأَنَّهُ كَوَقْفٍ لَمْ يُسَجَّلْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يُورَّثُ كَالْوَقْفِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا سُجِّلَ لَزِمَ كَالْوَقْفِ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ. عَمَلُ الْمُسْلِمِ فِي الْكَنِيسَةِ

30- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَعْمَلَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْكَنِيسَةِ نَجَّارًا أَوْ بَنَّاءً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَمِنْ خَصَائِصِ دِينِهِمُ الْبَاطِلِ، وَلِأَنَّهُ إِجَارَةٌ تَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ دِينِهِمْ وَشَعَائِرِهِمْ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يُؤَدَّبُ الْمُسْلِمُ إِلاَّ أَنَّ يَعْتَذِرَ بِجَهَالَةٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ آجَرَ نَفْسَهُ لِيَعْمَلَ فِي الْكَنِيسَةِ وَيَعْمُرَهَا لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ لَا مَعْصِيَةَ فِي عَيْنِ الْعَمَلِ.

ضَرْبُ النَّاقُوسِ فِي الْمَعَابِدِ

31- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ إِظْهَارِ ضَرْبِ النَّوَاقِيسِ فِي مَعَابِدِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِخْفَائِهَا وَضَرْبِهَا فِي جَوْفِ الْكَنَائِسِ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفَاصِيلِ:

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ ضَرَبُوا النَّاقُوسَ فِي جَوْفِ كَنَائِسِهِمُ الْقَدِيمَةِ لَمْ يُتَعَرَّضْ لِذَلِكَ لِأَنَّ إِظْهَارَ الشَّعَائِرِ لَمْ يَتَحَقَّقْ، فَإِنْ ضَرَبُوا بِهِ خَارِجًا مِنْهَا لَمْ يُمَكَّنُوا لِمَا فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ الشَّعَائِرِ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ ضَرْبِ النَّاقُوسِ فِي قَرْيَةٍ أَوْ مَوْضِعٍ لَيْسَ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَهِيَ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْجُمَعُ وَالْأَعْيَادُ وَالْحُدُودُ.

وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي إِظْهَارِ صَلِيبِهِمْ، لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي كَنَائِسِهِمْ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ ضَرْبِ النَّوَاقِيسِ فِيهَا.

قَالَ ابْنُ جُزَيٍّ: عَلَيْهِمْ إِخْفَاءُ نَوَاقِيسِهِمْ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ يُمْنَعُونَ مِنْ ضَرْبِ النَّاقُوسِ فِي الْكَنِيسَةِ، وَقِيلَ: لَا يُمْنَعُونَ تَبَعًا لِكَنِيسَةٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْخِلَافُ فِي كَنِيسَةِ بَلَدٍ صَالَحْنَاهُمْ عَلَى أَنَّ أَرْضَهُ لَنَا، فَإِنْ صَالَحْنَاهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ فَلَا مَنْعَ قَطْعًا، قَالَ: وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَأَمَّا نَاقُوسُ الْمَجُوسِ فَلَسْتُ أَرَى فِيهِ مَا يُوجِبُ الْمَنْعَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُحَوَّطٌ وَبُيُوتٌ يَجْمَعُ فِيهَا الْمَجُوسُ جِيَفَهُمْ، وَلَيْسَ كَالْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالشِّعَارِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ أَهْلَ الذِّمَّةِ الْكَفُّ عَنْ إِظْهَارِ ضَرْبِ النَّوَاقِيسِ، سَوَاءٌ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَوْ لَمْ يَشْرِطْ.وَأَجَازُوا الضَّرْبَ الْخَفِيفَ فِي جَوْفِ الْكَنَائِسِ.

الْوَقْفُ عَلَى الْمَعَابِدِ

32- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْمَعَابِدِ عَلَى أَقْوَالٍ كَمَا يَلِي:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَقْفُ الْمُسْلِمِ عَلَى بِيعَةٍ لِعَدَمِ كَوْنِهِ قُرْبَةً فِي ذَاتِهِ، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ وَقْفُ الذِّمِّيِّ لِعَدَمِ كَوْنِهِ قُرْبَةً عِنْدَنَا.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْفَتْحِ: هَذَا إِذَا لَمْ يَجْعَلْ آخِرَهُ لِلْفُقَرَاءِ، فَلَوْ وَقَفَ الذِّمِّيُّ عَلَى بِيعَةٍ مَثَلًا فَإِذَا خَرِبَتْ تَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ، كَانَ لِلْفُقَرَاءِ ابْتِدَاءً، وَلَوْ لَمْ يَجْعَلْ آخِرَهُ لِلْفُقَرَاءِ كَانَ مِيرَاثًا عَنْهُ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْخَصَّافُ وَلَمْ يَحْكِ فِيهِ خِلَافًا.

وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

فَفِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ وَقْفُ الذِّمِّيِّ عَلَى الْكَنِيسَةِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ لِعُبَّادِهَا أَوْ لِمَرَمَّتِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَاقِفُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا.

وَفَصَّلَ ابْنُ رُشْدٍ فَقَالَ: إِنَّ وَقْفَ الْكَافِرِ عَلَى الْكَنِيسَةِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ، أَمَّا الْوَقْفُ عَلَى مَرَمَّتِهَا أَوْ عَلَى الْجَرْحَى أَوِ الْمَرْضَى الَّذِينَ فِيهَا فَالْوَقْفُ صَحِيحٌ مَعْمُولٌ بِهِ.

وَهُنَاكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ قَالَ بِهِ عِيَاضٌ وَهُوَ: أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْكَنِيسَةِ مُطْلَقًا صَحِيحٌ غَيْرُ لَازِمٍ، سَوَاءٌ أَشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ خَرَجَ الْمَوْقُوفُ مِنْ تَحْتِ يَدِ الْوَاقِفِ أَمْ لَا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْكَنَائِسِ الَّتِي لِلتَّعَبُّدِ، وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ مِنْ ذِمِّيٍّ، وَسَوَاءٌ فِيهِ إِنْشَاءُ الْكَنَائِسِ وَتَرْمِيمُهَا، مَنَعْنَا التَّرْمِيمَ أَوْ لَمْ نَمْنَعْهُ، لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى حُصْرِهَا، أَوِ الْوَقُودِ بِهَا أَوْ عَلَى ذِمِّيٍّ خَادِمٍ لِكَنِيسَةٍ لِلتَّعَبُّدِ.

وَيَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى كَنِيسَةٍ تَنْزِلُهَا الْمَارَّةُ، أَوْ مَوْقُوفَةٌ عَلَى قَوْمٍ يَسْكُنُونَهَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى كَنَائِسَ وَبُيُوتِ نَارٍ، وَصَوَامِعَ، وَدُيُورَةٍ وَمَصَالِحِهَا كَقَنَادِيلِهَا وَفُرُشِهَا وَوَقُودِهَا وَسَدَنَتِهَا، لِأَنَّهُ مَعُونَةٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ مِنْ ذِمِّيٍّ.

وَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ يَنْزِلُهَا مِنْ مَارٍّ وَمُجْتَازٍ بِهَا فَقَطْ، لِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَيْهِمْ لَا عَلَى الْبُقْعَةِ، وَالصَّدَقَةُ عَلَيْهِمْ جَائِزَةٌ.

الْوَصِيَّةُ لِبِنَاءِ الْمَعَابِدِ وَتَعْمِيرِهَا

33- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِبِنَاءِ الْكَنِيسَةِ أَوْ تَعْمِيرِهَا أَوْ نَحْوِهِمَا عَلَى أَقْوَالٍ كَمَا يَلِي:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى الذِّمِّيُّ أَنْ تُبْنَى دَارُهُ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً فَإِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِمُعَيَّنِينَ أَيْ: مَعْلُومِينَ يُحْصَى عَدَدُهُمْ فَهُوَ جَائِزٌ مِنَ الثُّلُثِ اتِّفَاقًا بَيْنَهُمْ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِيهَا مَعْنَى الِاسْتِخْلَافِ وَمَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَلِلذِّمِّيِّ وِلَايَةُ ذَلِكَ فَأَمْكَنَ تَصْحِيحَهُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُمْ جَعْلُهَا كَنِيسَةً وَيُجْعَلُ تَمْلِيكًا، وَلَهُمْ أَنْ يَصْنَعُوا بِهِ مَا شَاءُوا.

وَأَمَّا إِنْ أَوْصَى لِقَوْمٍ غَيْرِ مُسَمَّينَ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُمْ يُتْرَكُونَ وَمَا يَدِينُونَ، فَتَصِحُّ لِأَنَّ هَذَا قُرْبَةٌ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَلَا يَصِحُّ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ، لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَعَاصِي لَا تَصِحُّ لِمَا فِي تَنْفِيذِهَا مِنْ تَقْرِيرِهَا.

وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا أَوْصَى بِبِنَاءِ بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ فِي الْقُرَى، فَأَمَّا فِي الْمِصْرِ فَلَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ إِحْدَاثِ ذَلِكَ فِي الْأَمْصَارِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَوْصَى نَصْرَانِيٌّ بِمَالِهِ لِكَنِيسَةٍ وَلَا وَارِثَ لَهُ دُفِعَ الثُّلُثُ إِلَى الْأُسْقُفِ يَجْعَلُهُ حَيْثُ ذَكَرَهُ، وَالثُّلُثَانِ لِلْمُسْلِمِينَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِكَنِيسَةٍ وَلَا لِحُصْرِهَا، وَلَا لِقَنَادِيلِهَا وَنَحْوِهِ، وَلَا لِبَيْتِ نَارٍ وَلَا لِبِيعَةِ وَلَا صَوْمَعَةٍ وَلَا لِدَيْرٍ وَلَا لِإِصْلَاحِهَا وَشُغْلِهَا وَخِدْمَتِهَا، وَلَا لِعَمَارَتِهَا وَلَوْ مِنْ ذِمِّيٍّ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِعَانَةٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِ الْوَصِيَّةِ تَدَارُكُ مَا فَاتَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ مِنَ الْإِحْسَانِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي جِهَةِ مَعْصِيَةٍ.

وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِمَا إِذَا كَانَتِ الْكَنِيسَةُ لِلتَّعَبُّدِ فِيهَا، بِخِلَافِ الْكَنِيسَةِ الَّتِي تَنْزِلُهَا الْمَارَّةُ أَوْ مَوْقُوفَةً عَلَى قَوْمٍ يَسْكُنُونَهَا، أَوْ جَعْلِ كِرَاءِهَا لِلنَّصَارَى أَوْ لِلْمُسْلِمِينَ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي بُنْيَانِ الْكَنِيسَةِ مَعْصِيَةٌ إِلاَّ أَنْ تُتَّخَذَ لِمُصَلَّى النَّصَارَى الَّذِينَ اجْتِمَاعُهُمْ فِيهَا عَلَى الشِّرْكِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَعَدُّوا مِنَ الْوَصِيَّةِ بِالْمَعْصِيَةِ مَا إِذَا أَوْصَى لِدُهْنِ سِرَاجِ الْكَنِيسَةِ، لَكِنْ قَيَّدَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: الْمَنْعَ بِمَا إِذَا قَصَدَ تَعْظِيمَ الْكَنِيسَةِ، أَمَّا إِذَا قَصَدَ تَعْظِيمَ الْمُقِيمِينَ أَوِ الْمُجَاوِرِينَ بِضَوْئِهَا فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِشَيْءِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ. حُكْمُ الْمَعَابِدِ بَعْدَ انْتِقَاضِ الْعَهْدِ

34- قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: مَتَى انْتُقِضَ عَهْدُ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَازَ أَخْذُ كَنَائِسِ الصُّلْحِ مِنْهُمْ فَضْلًا عَنْ كَنَائِسِ الْعَنْوَةِ، كَمَا أَخَذَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مَا كَانَ لِقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ لَمَّا نَقَضُوا الْعَهْدَ، فَإِنَّ نَاقِضَ الْعَهْدِ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمُحَارَبِ الْأَصْلِيِّ، وَلِذَلِكَ لَوِ انْقَرَضَ أَهْلُ مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ وَلَمْ يَبْقَ مَنْ دَخَلَ فِي عَهْدِهِمْ فَإِنَّهُ يَصِيرُ جَمِيعُ عَقَارِهِمْ وَمَنْقُولِهِمْ مِنَ الْمَعَابِدِ وَغَيْرِهَا فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


136-موسوعة الفقه الكويتية (معصية)

مَعْصِيَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمَعْصِيَةِ فِي اللُّغَةِ: الْخُرُوجُ مِنَ الطَّاعَةِ يُقَالُ عَصَاهُ مَعْصِيَةً وَعِصْيَانًا: خَرَجَ مِنْ طَاعَتِهِ وَخَالَفَ أَمْرَهُ فَهُوَ عَاصٍ وَعَصَّاءٌ وَعَصِيٌّ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: قَالَ الْبَزْدَوِيُّ: الْمَعْصِيَةُ اسْمٌ لِفِعْلِ حَرَامٍ مَقْصُودٍ بِعَيْنِهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

1- الزَّلَّةُ:

2- مِنْ مَعَانِي الزَّلَّةِ فِي اللُّغَةِ: السَّقْطَةُ وَالْخَطِيئَةُ.

وَالزَّلَّةُ فِي الِاصْطِلَاحِ اسْمٌ لِفِعْلٍ غَيْرِ مَقْصُودٍ فِي عَيْنِهِ لَكِنَّهُ اتَّصَلَ الْفَاعِلُ بِهِ عَنْ فِعْلٍ مُبَاحٍ قَصَدَهُ فَزَلَّ بِشُغْلِهِ عَنْهُ إِلَى مَا هُوَ حَرَامٌ لَمْ يَقْصِدْهُ أَصْلًا.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْصِيَةِ وَالزَّلَّةِ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِعَيْنِهِ فِي الْمَعْصِيَةِ بِخِلَافِ الزَّلَّةِ.

أَقْسَامُ الْمَعَاصِي بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ عُقُوبَةٍ:

3- لِلْعُلَمَاءِ فِي تَقْسِيمِ الْمَعَاصِي بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ عُقُوبَةٍ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:

الْأَوَّلُ: قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْمَعَاصِيَ تَنْقَسِمُ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ، لقوله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَعَاصِيَ رُتَبًا ثَلَاثَةً وَسَمَّى بَعْضَ الْمَعَاصِيَ فَسُوقًا دُونَ بَعْضٍ، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} وَفِي الْحَدِيثِ: «الْكَبَائِرُ سَبْعٌ» وَفِي رِوَايَةٍ «تِسْعٌ وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: » وَمِنْ كَذَا إِلَى كَذَا مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ فَخَصَّ الْكَبَائِرَ بِبَعْضِ الذُّنُوبِ، وَلَوْ كَانَتِ الذُّنُوبُ كُلُّهَا كَبَائِرَ لَمْ يَسُغْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ مَا عَظُمَتْ مَفْسَدَتُهُ أَحَقُّ بِاسْمِ الْكَبِيرَةِ عَلَى أَنَّ قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} صَرِيحٌ فِي انْقِسَامِ الذُّنُوبِ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ.

قَالَ الْغَزَالِيُّ: لَا يَلِيقُ إِنْكَارُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ وَقَدْ عُرِفَا مِنْ مَدَارِكِ الشَّرْعَ.

الثَّانِي: أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ فِي الذُّنُوبِ صَغِيرَةً وَقَالُوا: بَلْ سَائِرُ الْمَعَاصِي كَبَائِرُ، مِنْهُمُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَائِينِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْإِرْشَادِ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيُّ فِي الْمُرْشِدِ بَلْ حَكَاهُ ابْنُ فُورَكٍ عَنِ الْأَشَاعِرَةِ وَاخْتَارَهُ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ: مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا كُلُّهَا كَبَائِرُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِبَعْضِهَا صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا، كَمَا يُقَالُ: الزِّنَا صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُفْرِ، وَالْقُبْلَةُ الْمُحَرَّمَةُ صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزِّنَا، وَكُلُّهَا كَبَائِرُ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لَعَلَّ أَصْحَابَ هَذَا الْوَجْهِ كَرِهُوا تَسْمِيَةَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ صَغِيرَةً إِجْلَالًا لِلَّهِ وَتَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ مَعَ أَنَّهُمْ وَافَقُوا فِي الْجَرْحِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِمُطْلَقِ الْمَعْصِيَةِ.

الثَّالِثُ: قَسَمَ الْحَلِيمِيُّ الْمَعَاصِيَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ وَفَاحِشَةٌ، فَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَبِيرَةٌ، فَإِنْ قَتَلَ ذَا رَحِمٍ فَفَاحِشَةٌ، فَأَمَّا الْخَدْشَةُ وَالضَّرْبَةُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَصَغِيرَةٌ.

أَقْسَامُ الْمَعَاصِي بِاعْتِبَارِ مَيْلِ النَّفْسِ إِلَيْهَا

4- قَسَّمَ الْمَاوَرْدِيُّ الْمَعَاصِيَ الَّتِي يَمْنَعُ الشَّرْعُ مِنْهَا وَاسْتَقَرَّ التَّكْلِيفُ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا بِالنَّهْيِ عَنْهَا إِلَى قِسْمَيْنِ:

أ- مَا تَكُونُ النَّفُوسُ دَاعِيَةً إِلَيْهَا وَالشَّهَوَاتُ بَاعِثَةً عَلَيْهَا كَالسِّفَاحِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَقَدْ زَجَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا لِقُوَّةِ الْبَاعِثِ عَلَيْهَا وَشِدَّةِ الْمَيْلِ إِلَيْهَا بِنَوْعَيْنِ مِنَ الزَّجْرِ:

أَحَدُهُمَا: حَدٌّ عَاجِلٌ يَرْتَدِعُ بِهِ الْجَرِيءُ.

وَالثَّانِي: وَعِيدٌ آجِلٌ يَزْدَجِرُ بِهِ التَّقِيُّ.

ب- مَا تَكُونُ النَّفُوسُ نَافِرَةً مِنْهَا، وَالشَّهَوَاتُ مَصْرُوفَةً عَنْهَا كَأَكْلِ الْخَبَائِثِ وَالْمُسْتَقْذَرَاتِ وَشُرْبِ السَّمُومِ الْمُتْلِفَاتِ فَاقْتَصَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الزَّجْرِ عَنْهَا بِالْوَعِيدِ وَحْدَهُ دُونَ الْحَدِّ، لِأَنَّ النَّفُوسَ مُسْعَدَةٌ فِي الزَّجْرِ عَنْهَا، وَالشَّهَوَاتُ مَصْرُوفَةٌ عَنْ رُكُوبِ الْمَحْظُورِ مِنْهَا.

قَالَ الْهَيْتَمِيُّ: إِنَّ أَعْظَمَ زَاجِرٍ عَنِ الذُّنُوبِ هُوَ خَوْفُ اللَّهِ تَعَالَى وَخَشْيَةُ انْتِقَامِهِ وَسَطْوَتِهِ وَحَذَرُ عِقَابِهِ وَغَضَبِهِ وَبَطْشِهِ، قَالَ تَعَالَى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، إِنَّ السَّمَاءَ أَطَّتْ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا أَوْ مَا مِنْهَا مَوْضِعٌ أَرْبَعُ أَصَابِعَ إِلاَّ وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ- أَيِ الْجِبَالِ- تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ».

آثَارُ الْمَعَاصِي

5- أَوَجَبَ الْمُشَرِّعُ الْحَكِيمُ عَلَى مُرْتَكِبِ الْمَعْصِيَةِ عُقُوبَاتٍ دُنْيَوِيَّةً وَأُخْرَوِيَّةً.

فَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الْأُخْرَوِيَّةُ فَتَتَمَثَّلُ فِيمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مِنْ تَوَعُّدٍ عَلَى اقْتِرَافِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا قِي النَّارِ».

وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الدُّنْيَوِيَّةُ فَمِنْهَا مَا هُوَ حِسِّيٌّ وَمِنْهَا مَا هُوَ مَعْنَوِيٌّ، فَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الْحِسِّيَّةُ فَيَظْهَرُ أَثَرُهَا فِيمَا أَوَجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عُقُوبَاتٍ كَالْحُدُودِ فِيمَا يُوجِبُ حَدًّا كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَكَالْعُقُوبَاتِ الْمُقَرَّرَةِ عَلَى الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ أَوْ مَا دُونَهَا، وَكَالتَّعْزِيرِ فِيمَا لَمْ يُوجِبِ الشَّرْعُ فِيهِ عُقُوبَةً مُقَدَّرَةٌ كَمُبَاشَرَةِ أَجْنَبِيَّةٍ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَسَرِقَةِ مَا دُونَ النِّصَابِ.

وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الْمَعْنَوِيَّةُ فَكَثِيرَةٌ:

مِنْهَا: حِرْمَانُ الْعِلْمَ فَإِنَّ الْعِلْمَ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ، وَالْمَعْصِيَةُ تُطْفِئُ ذَلِكَ النُّورَ.

وَمِنْهَا: حِرْمَانُ الرِّزْقَ، وَفِي الْمُسْنَدِ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» وَكَمَا أَنَّ تَقْوَى اللَّهِ مَجْلَبَةٌ لِلرِّزْقِ، فَتَرْكُ التَّقْوَى مَجْلَبَةٌ لِلْفَقْرِ فَمَا اسْتُجْلِبَ رِزْقٌ بِمِثْلِ تَرْكِ الْمَعَاصِي.

وَمِنْهَا: وَحْشَةٌ يَجِدُهَا الْعَاصِي فِي قَلْبِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ لَا تُوَازِنُهَا وَلَا تُقَارِنُهَا لَذَّةٌ أَصْلًا، وَلَوِ اجْتَمَعَتْ لَهُ لَذَّاتُ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا لَمْ تَفِ بِتِلْكَ الْوَحْشَةِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُحِسُّ بِهِ إِلاَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ حَيَاةٌ، وَمَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامُ فَلَوْ لَمْ تُتْرُكِ الذُّنُوبُ إِلاَّ حَذَرًا مِنْ وُقُوعِ تِلْكَ الْوَحْشَةِ لَكَانَ الْعَاقِلُ حَرِيًّا بِتَرْكِهَا.

وَمِنْهَا: تَعْسِيرُ أُمُورِهِ عَلَيْهِ، فَلَا يَتَوَجَّهُ لِأَمْرٍ إِلاَّ يَجِدُهُ مُغْلَقًا دُونَهُ أَوْ مُتَعَسِّرًا عَلَيْهِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ جَعَلَ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا، فَمَنْ عَطَّلَ التَّقْوَى جَعَلَ لَهُ مَنْ أَمْرِهِ عُسْرًا.

وَمِنْهَا: ظُلْمَةٌ يَجِدُهَا فِي قَلْبِهِ حَقِيقَةً يُحِسُّ بِهَا كَمَا يُحِسُّ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ الْبَهِيمِ إِذَا ادْلَهَمَّ، فَتَصِيرُ ظُلْمَةُ الْمَعْصِيَةِ لِقَلْبِهِ كَالظُّلْمَةِ الْحِسِّيَّةِ لِبَصَرِهِ، فَإِنَّ الطَّاعَةَ نُورٌ، وَالْمَعْصِيَةَ ظُلْمَةٌ وَكُلَّمَا قَوِيَتِ الظُّلْمَةُ ازْدَادَتْ حِيرَتُهُ حَتَّى يَقَعَ فِي الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ وَالْأُمُورِ الْمُهْلِكَةِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ.

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: إِنَّ لِلْحَسَنَةِ ضِيَاءً فِي الْوَجْهِ وَنُورًا فِي الْقَلْبِ وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، وَإِنَّ لِلسَّيِّئَةِ سَوَادًا فِي الْوَجْهِ وَظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ وَوَهَنًا فِي الْبَدَنِ وَنَقْصًا فِي الرِّزْقِ وَبِغْضَةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعَاصِيَ تُقَصِّرُ الْعُمْرَ وَتَمْحَقُ بَرَكَتَهُ وَلَا بُدَّ، فَإِنَّ الْبِرَّ كَمَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ فَالْفُجُورُ يُقَصِّرُ فِي الْعُمْرِ.وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعَاصِيَ تَزْرَعُ أَمْثَالَهَا وَيُوَلِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا حَتَّى يَعِزَّ عَلَى الْعَبْدِ مُفَارِقَتُهَا وَالْخُرُوجُ مِنْهَا، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ مِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا، وَإِنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةُ بَعْدَهَا، فَالْعَبْدُ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً قَالَتْ أُخْرَى إِلَى جَنْبِهَا: اعْمَلْنِي أَيْضًا، فَإِذَا عَمِلَهَا قَالَتِ الثَّالِثَةُ كَذَلِكَ وَهَلُمَّ جَرَّا، فَتَضَاعَفَ الرِّبْحُ وَتَزَايَدَتِ الْحَسَنَاتُ وَكَذَلِكَ جَانِبُ السَّيِّئَاتِ أَيْضًا حَتَّى تَصِيرَ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي هَيْئَاتٍ رَاسِخَةً وَصِفَاتٍ لَازِمَةً.

وَمِنْهَا: وَهُوَ مِنْ أَخْوَفِهَا عَلَى الْعَبْدِ، أَنَّهَا تُضْعِفُ الْقَلْبَ عَنْ إِرَادَتِهِ فَتَقْوَى إِرَادَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَتَضْعُفُ إِرَادَةُ التَّوْبَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا إِلَى أَنْ تَنْسَلِخَ مِنْ قَلْبِهِ إِرَادَةُ التَّوْبَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَوْ مَاتَ نِصْفُهُ لَمَا تَابَ إِلَى اللَّهِ، فَيَأْتِي مِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَتَوْبَةِ الْكَذَّابِينَ بِاللِّسَانِ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ وَقَلْبُهُ مَعْقُودٌ بِالْمَعْصِيَةِ مُصِرٌّ عَلَيْهَا عَازِمٌ عَلَى مُوَاقَعَتِهَا مَتَى أَمْكَنَهُ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَمْرَاضِ وَأَقْرَبِهَا إِلَى الْهَلَاكِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعْصِيَةَ سَبَبٌ لِهَوَانِ الْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ وَسُقُوطِهِ مِنْ عَيْنِهِ.

قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هَانُوا عَلَيْهِ فَعَصَوْهُ وَلَوْ عَزُّوا عَلَيْهِ لَعَصَمَهُمْ، وَإِذَا هَانَ الْعَبْدُ عَلَى اللَّهِ لَمْ يُكْرِمْهُ أَحَدٌ.

وَمِنْهَا: إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَزَالُ يَرْتَكِبُ الذَّنْبَ حَتَّى يَهُونَ عَلَيْهِ وَيَصْغُرَ فِي قَلْبِهِ وَذَلِكَ عَلَامَةُ الْهَلَاكِ فَإِنَّ الذَّنْبَ كُلَّمَا صَغُرَ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ عَظُمَ عِنْدَ اللَّهِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا».

وَمِنْهَا: أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ النَّاسِ يَعُودُ عَلَيْهِ شُؤْمُ ذَنْبِهِ فَيَحْتَرِقُ هُوَ وَغَيْرُهُ بِشُؤْمِ الذُّنُوبِ وَالظُّلْمِ قَالَ مُجَاهَدٌ: إِنَّ الْبَهَائِمَ تَلْعَنُ عُصَاةَ بَنِي آدَمَ إِذَا اشْتَدَّ السَّنَةُ وَأَمْسَكَ الْمَطَرُ وَتَقُولُ هَذَا بِشُؤْمِ مَعْصِيَةِ ابْنِ آدَمَ.

فَلَا يَكْفِيهِ عِقَابُ نَفْسِهِ حَتَّى يَلْعَنَهُ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعْصِيَةَ تُورِثُ الذُّلَّ وَلَا بُدَّ، فَإِنَّ الْعِزَّ كُلَّ الْعِزِّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} أَيْ فَلْيَطْلُبْهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَجِدُهَا إِلاَّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ

وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ بَعْضِ السَّلَفِ: اللَّهُمَّ أَعِزَّنِي بِطَاعَتِكَ وَلَا تُذِلَّنِي بِمَعْصِيَتِكَ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الذُّنُوبَ إِذَا تَكَاثَرَتْ طُبِعَ عَلَى قَلْبِ صَاحِبِهَا فَكَانَ مِنَ الْغَافِلِينَ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي قوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} قَالَ: هُوَ الذَّنْبُ بَعْدَ الذَّنْبِ.

قَالَ الْمُحَاسِبِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الذُّنُوبَ تُورِثُ الْغَفْلَةَ وَالْغَفْلَةُ تُورِثُ الْقَسْوَةَ وَالْقَسْوَةُ تُورِثُ الْبُعْدَ مِنَ اللَّهِ وَالْبُعْدُ مِنَ اللَّهِ يُورِثُ النَّارَ، وَإِنَّمَا يَتَفَكَّرُ فِي هَذَا الْأَحْيَاءُ، وَأَمَّا الْأَمْوَاتُ فَقَدْ أَمَاتُوا أَنَفْسَهُمْ بِحُبِّ الدُّنْيَا.

وَمِنْهَا: أَنَّهَا تُحْدِثُ فِي الْأَرْضِ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَسَادِ فِي الْمِيَاهِ وَالْهَوَاءِ وَالزَّرْعِ وَالثِّمَارِ وَالْمَسَاكِنِ، قَالَ تَعَالَى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.

قَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا وَلِيَ الظَّالِمُ سَعَى بِالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ فَيَحْبِسُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْقَطْرَ فَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، ثُمَّ قَرَأَ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بَحْرُكُمْ هَذَا وَلَكِنْ كُلُّ قَرْيَةٍ عَلَى مَاءٍ جَارٍ فَهُوَ بَحْرٌ.

اسْتِدْرَاجُ أَهْلِ الْمَعَاصِي بِالنِّعَمِ

6- قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَيْسَ وَإِنْ نَالَ أَهْلُ الْمَعَاصِي لَذَّةً مِنْ عَيْشٍ أَوْ أَدْرَكُوا أَمُنْيَةً مِنْ دُنْيَا كَانَتْ عَلَيْهِمْ نِعْمَةً بَلْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجًا وَنِقْمَةً وَوَرَدَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} ».

أَحْوَالُ النَّاسِ فِي فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي

7- قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَيْسَ يَخْلُو حَالُ النَّاسِ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ:

فَمِنْهُمْ: مَنْ يَسْتَجِيبُ إِلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَيَكُفُّ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، وَهَذَا أَكْمَلُ أَحْوَالِ أَهْلِ الدِّينِ، وَأَفْضَلُ صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ، فَهَذَا يَسْتَحِقُّ جَزَاءَ الْعَامِلِينَ وَثَوَابَ الْمُطِيعِينَ.وَمِنْهُمْ: مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَيَقْدَمُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، وَهِيَ أَخْبَثُ أَحْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ، وَشَرُّ صِفَاتِ الْمُتَعَبِّدِينَ، فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ اللاَّهِي عَنْ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَعَذَابَ الْمُجْتَرِئِ عَلَى مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ مِنْ مَعَاصِيهِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: عَجِبْتُ لَمِنْ يَحْتَمِي مِنَ الطَّيِّبَاتِ مَخَافَةَ الدَّاءِ كَيْفَ لَا يَحْتَمِي مِنَ الْمَعَاصِي مَخَافَةَ النَّارِ؟

وَمِنْهُمْ: مَنْ يَسْتَجِيبُ إِلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَيُقْدَمُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ الْمُجْتَرِئِ لِأَنَّهُ تَوَرَّطَ بِغَلَبِةِ الشَّهْوَةِ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَإِنْ سَلِمَ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي فِعْلِ الطَّاعَةِ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَفَضْلُ النَّاسِ مَنْ لَمْ تُفْسِدُ الشَّهْوَةُ دِينَهُ وَلَمْ تُزِلِ الشُّبْهَةُ يَقِينَهُ.

قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ: فِي كِتَابِ اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْمَعْصِيَةِ أَفَضْلُ مِنْ أَعْمَالِ الطَّاعَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اشْتَرَطَ فِي الْحَسَنَةِ الْمَجِيءَ بِهَا إِلَى الْآخِرَةِ، وَفِي تَرْكِ الذُّنُوبِ لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا سِوَى التَّرْكِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}

وَمِنْهُمْ: مَنْ يَمْتَنِعُ عَنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَيَكُفُّ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عِقَابَ اللاَّهِي عَنْ دِينِهِ الْمُنْذِرِ بِقِلَّةِ يَقِينِهِ.

التَّوْبَةُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ:

8- التَّوْبَةُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فَرِيضَةٌ عَلَى الْفَوْرِ صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً، فَتَجِبُ التَّوْبَةُ عَنْ تَأْخِيرِ التَّوْبَةِ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ الْمُهِمَّةِ وَأَوَّلُ مَنَازِلِ السَّالِكِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَمَّا وُجُوبُ التَّوْبَةِ عَلَى الْفَوْرِ فَلَا يُسْتَرَابُ فِيهِ إِذْ مُعْرِفَةُ كَوْنِ الْمَعَاصِي مُهْلِكَاتٍ مِنْ نَفْسِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: تَوْبَةٌ ف 10).

الْإِصْرَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ

9- الْإِصْرَارُ هُوَ الثَّبَاتُ عَلَى الْأَمْرِ وَلُزُومُهُ وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْآثَامِ. قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: حَدُّ الْإِصْرَارِ: أَنْ تَتَكَرَّرَ مِنْهُ تَكَرُّرًا يُشْعِرُ بِقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِدِينِهِ إِشْعَارَ ارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ بِذَلِكَ.

وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: هُوَ الْإِقَامَةُ عَلَى الذَّنْبِ وَالْعَزْمُ عَلَى فِعْلِ مِثْلِهِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْإِصْرَارُ هُوَ أَنْ يَنْوِيَ أَنْ لَا يَتُوبَ، فَإِنْ نَوَى التَّوْبَةَ خَرَجَ عَنِ الْإِصْرَارِ.

وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: الصَّغِيرَةُ تَكْبُرُ بِأَسْبَابٍ مِنْهَا: الْإِصْرَارُ وَالْمُوَاظَبَةُ.

وَلِذَلِكَ قِيلَ: لَا صَغِيرَةَ مَعَ إِصْرَارٍ وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ.

فَكَبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ تَنْصَرِمُ وَلَا يَتْبَعُهَا مِثْلُهَا لَوْ تُصُوِّرَ ذَلِكَ كَانَ الْعَفْوُ عَنْهَا أَرْجَى مِنْ صَغِيرَةٍ يُوَاظِبُ الْعَبْدُ عَلَيْهَا، وَمِثَالُ ذَلِكَ قَطَرَاتٌ مِنَ الْمَاءِ تَقَعُ عَلَى الْحَجَرِ عَلَى تَوَالٍ فَتُؤَثِّرُ فِيهِ وَذَلِكَ الْقَدْرُ لَوْ صُبَّ عَلَيْهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْقَلِيلُ مِنَ السَّيِّئَاتِ إِذَا دَامَ عُظِمَ تَأْثِيرُهُ فِي إِظْلَامِ الْقَلْبِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الْإِصْرَارُ حُكْمُهُ حُكْمُ مَا أَصَرَّ عَلَيْهِ، فَالْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ صَغِيرَةٌ وَالْإِصْرَارُ عَلَى الْكَبِيرَةِ كَبِيرَةٌ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (كَبَائِرُ ف 12).

التَّصَدُّقُ عَقِبَ الْمَعْصِيَةِ

10- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُنْدَبُ التَّصَدُّقُ عَقِبَ كُلِّ مَعْصِيَةٍ، قَالُوا: مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ بِلَا عُذْرٍ يُنْدَبُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِينَارِ أَوْ نِصْفِهِ وَعَمَّمَهُ بَعْضُهُمْ فِي إِتْيَانِ كُلِّ مَعْصِيَةٍ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقِ حَسَنٍ» وَقَالَ شُرَّاحُ الْحَدِيثِ: الْمُرَادُ بِالْحَسَنَةِ: صَلَاةٌ أَوْ صَدَقَةٌ أَوِ اسْتِغْفَارٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ لَمِنْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ فِي الْحَيْضِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِينَارٍ إِنْ كَانَ الْوَطْءُ فِي أَوَّلِ الْحَيْضِ وَبِنِصْفِ دِينَارٍ إِنْ كَانَ الْوَطْءُ فِي آخِرِهِ، أَوْ وَسَطِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ كَفَّارَةً لَمِنْ وَطِئَ فِي الْحَيْضِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ عِنْدَهُمْ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَيْضٌ ف 43).

سَتْرُ الْمَعْصِيَةِ

11- إِذَا تَعَلَّقَ بِالْمَعْصِيَةِ حَدُّ اللَّهِ كَحَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ يُنْدَبُ لِلْمُسْلِمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَسْتُرَ عَلَى نَفْسِهِ لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ، فَمَنْ أَلَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ وَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ»، وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحِيَاءَ وَالسَّتْرَ».فَإِنْ أَظَهَرَهُ، فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَمْ يَأْثَمْ، لِأَنَّ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ اعْتَرَفَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالزِّنَا فَرَجَمَهُمَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِظْهَارُ الْمَعْصِيَةِ لِيُحَدَّ أَوْ يُعَزَّرَ خِلَافُ الْمُسْتَحَبِّ.

وَأَمَّا التَّحَدُّثُ بِالْمَعْصِيَةِ تَفَكُّهًا فَحَرَامٌ قَطْعًا لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَأْمُورٌ بِالسَّتْرِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ فَمَنْ أَلَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ» قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّتْرَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ إِذَا أَتَى فَاحِشَةً وَوَاجِبٌ ذَلِكَ أَيْضًا فِي غَيْرِهِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي مُعْرِفَةِ أَحْكَامِ سَتْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَعْصِيَةِ غَيْرِهِ، وَسَتْرِ السُّلْطَانِ عَلَى الْمَعَاصِي (ر: سَتْرٌ ف 2- 4).

الْمُجَاهَرَةُ بِالْمَعَاصِي:

12- الْمُجَاهَرَةُ بِالْمَعَاصِي مَنْهِيٌّ عَنْهَا، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهَرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحُ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ اللَّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ»

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُجَاهَرَةِ بِالْمَعَاصِي (ر: مُجَاهَرَةٌ ف 4 وَمَا بَعْدَهَا).

سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ

13- يَشْتَرِطُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي السَّفَرِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْكَامُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُسَافِرُ عَاصِيًا بِسَفَرِهِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ السَّفَرَ الَّذِي يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهُ فِعْلًا هُوَ مَعْصِيَةٌ كَسَفَرِ الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ لَا يَمْنَعُ الرُّخْصَةَ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (سَفَرٌ ف 10).

أَثَرُ مُقَارَنَةِ الْمَعَاصِي لِأَسْبَابِ الرُّخَصِ:

14- قَالَ الْقَرَافِيُّ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ كَوْنِ الْمَعَاصِي أَسْبَابًا لِلرُّخَصِ وَبَيْنَ مُقَارَنَةِ الْمَعَاصِي لِأَسْبَابِ الرُّخَصِ الْمَعَاصِي لَا تَكُونُ أَسْبَابًا لِلرُّخَصِ وَلِذَلِكَ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ لَا يَقْصُرُ وَلَا يُفْطِرُ، لِأَنَّ سَبَبَ هَذَيْنِ السَّفَرُ وَهُوَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَعْصِيَةٌ فَلَا يُنَاسِبُ الرُّخْصَةَ لِأَنَّ تَرْتِيبَ التَّرَخُّصِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ سَعْيٌ فِي تَكْثِيرِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ بِالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِسَبَبِهَا، وَأَمَّا مُقَارَنَةُ الْمَعَاصِي لِأَسْبَابِ الرُّخَصِ فَلَا تَمْنَعُ إِجْمَاعًا، كَمَا يَجُوزُ لِأَفْسَقِ النَّاسِ وَأَعْصَاهُمُ التَّيَمُّمُ إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ وَهُوَ رُخْصَةٌ، وَكَذَلِكَ الْفِطْرُ إِذَا أَضَرَّ بِهِ الصَّوْمُ، وَالْجُلُوسُ إِذَا أَضَرَّ بِهِ الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ، وَيُقَارِضُ وَيُسَاقِي وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الرُّخَصِ، وَلَا تَمْنَعُ الْمَعَاصِي مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ أَسِبَابَ هَذِهِ الْأُمُورِ غَيْرُ مَعْصِيَةٍ، بَلْ هِيَ عَجْزُهُ عَنِ الصَّوْمِ وَنَحْوِهِ، وَالْعَجْزُ لَيْسَ مَعْصِيَةً، فَالْمَعْصِيَةُ هَاهُنَا مُقَارِنَةٌ لِلسَّبَبِ لَا سَبَبٌ.

إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ لِابْنِ السَّبِيلِ الْمُسَافِرِ فِي مَعْصِيَةٍ

15- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ لَا يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ إِنْ خَرَجَ فِي مَعْصِيَةٍ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ.وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَا يَشْتَرِطُونَ لِإِعْطَاءِ الزَّكَاةِ ابْنَ السَّبِيلِ عَدَمِ الْمَعْصِيَةِ بِسَفَرِهِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (زَكَاةٌ ف 175). إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ لِلْغَارِمِ الْمُسْتَدِينِ فِي مَعْصِيَةٍ:

16- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ لِلْمُسْتَدِينِ فِي مَعْصِيَةٍ كَالْخَمْرِ وَالْقِمَارِ قَبْلَ التَّوْبَةِ لِأَنَّ فِي إِعْطَائِهِ إِعَانَةً لَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَا يَشْتَرِطُونَ فِي دَفْعِ الزَّكَاةِ إِلَى الْغَارِمِ أَنْ يَكُونَ دَيْنُهُ لِطَاعَةٍ أَوْ مُبَاحٍ.

وَتُعْطَى الزَّكَاةُ لَمِنْ تَابَ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا، وَمُقَابِلُهُ لَا تُعْطَى لِأَنَّهُ رُبَّمَا اتَّخَذَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً ثُمَّ يَعُودُ.

إِجَابَةُ دَعْوَةٍ مُقْتَرِنَةٍ بِمَعَاصٍ

17- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ وَعَلِمَ قَبْلَ حُضُورِهَا بِوُجُودِ مَعَاصٍ فِيهَا لَا يَحْضُرُهَا لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ، لِأَنَّ إِجَابَتَهَا إِنَّمَا تَلْزَمُ إِذَا كَانَتْ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَدْعُوُّ مُقْتَدًى بِهِ أَوْ لَا.

وَأَمَّا مَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ فَوَجَدَ بَعْدَ الْحُضُورِ ثَمَّةَ لَعِبًا أَوْ غِنَاءً فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْعُدَ وَيَأْكُلَ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْمَنْعِ يَمْنَعُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ يَصْبِرُ وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُقْتَدًى بِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَنْعِهِمْ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ وَلَا يَقْعُدُ.

وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (دَعْوَةٌ ف 27، عُرْسٌ ف 4، وَلِيمَةٌ).

الْوَقْفُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ:

18- يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ كَوْنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ جِهَةَ بِرٍّ فَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى مَعْصِيَةٍ لِأَنَّ الْوَقْفَ طَاعَةٌ تُنَافِي الْمَعْصِيَةَ فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقِفَهَا عَلَى الزُّنَاةِ أَوِ السُّرَّاقِ، أَوْ شُرَّابِ الْخَمْرِ، أَوِ الْمُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ الْوَقْفُ فِي هَذِهِ الْجِهَاتِ بَاطِلًا لِأَنَّهَا مَعَاصٍ يَجِبُ الْكَفُّ عَنْهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَانَ عَلَيْهَا.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: وَقْفٌ).

الْوَصِيَّةُ لِجِهَةِ الْمَعْصِيَةِ

19- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى الْمُسْلِمُ لِجِهَةٍ عَامَّةٍ فَالشَّرْطُ أَنْ لَا تَكُونَ الْجِهَةُ مَعْصِيَةً فَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِكَنِيسَةٍ وَلِحُصْرِهَا وَقَنَادِيلِهَا وَنَحْوِهِ وَلَا لِبَيْتِ نَارٍ وَلَا لِبِيعَةٍ وَصَوْمَعَةٍ وَلَا دَيْرٍ وَلَا لِإِصْلَاحِهَا وَشَعْلِهَا وَخِدْمَتِهَا وَلَا لِعَمَارَتِهَا.وَلَوْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ بِثُلُثِ مَالِهِ لِبِيعَةٍ أَوْ لِكَنِيسَةٍ أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهَا فِي إِصْلَاحِهَا أَوْ أَوْصَى لِبَيْتِ النَّارِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَجَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: وَصِيَّةٌ).

نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ

20- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ لِحَدِيثِ: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ».وَلِخَبَرِ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِ» وَلِأَنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ لَا تَحِلُّ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَذْرٌ).

طَاعَةُ الْمَخْلُوقِ فِي الْمَعْصِيَةِ:

21- لَا طَاعَةَ لِأَحَدِ الْمَخْلُوقِينَ كَائِنًا مَنْ كَانَ وَلَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوْ زَوْجًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ كُلُّ حَقٍّ وَإِنْ عَظُمَ سَاقِطٌ إِذَا جَاءَ حَقُّ اللَّهِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ».وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَحْكَامِ حُدُودِ طَاعَةِ الْمَخْلُوقِينَ مِمَّنْ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ (ر: طَاعَةٌ ف 11)

الْإِجَارَةُ عَلَى الْمَعَاصِي:

22- لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْمَعَاصِي لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا يُتَصَوَّرُ اسْتِحْقَاقُهَا بِالْعَقْدِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَحِقَّ هُوَ عَلَى الْأَجِيرِ شَيْئًا، إِذِ الْمُبَادَلَةُ لَا تَكُونُ إِلاَّ بِاسْتِحْقَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَلَوِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ لِلْمَعْصِيَةِ لَكَانَ ذَلِكَ مُضَافًا إِلَى الشَّارِعِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ شَرَعَ عَقْدًا مُوجِبًا لِلْمَعْصِيَةِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا،

وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ: لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ وَالْمَزَامِيرِ وَشَيْءٍ مِنَ اللَّهْوِ، وَلَا إِجَارَةُ الدَّارِ لِتُجْعَلَ كَنِيسَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ، أَوْ لِبَيْعِ الْخَمْرِ أَوْ لِلْقِمَارِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: إِجَارَةٌ ف 108).

عِصْمَةُ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْمَعَاصِي

23- الْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ عَنِ الْكَبَائِرِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ.

وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْعِصْمَةِ عَنِ الصَّغِيرَةِ الْمُفْضِيَةِ لِلْخَسَّةِ وَسُقُوطِ الْمُرُوءَةِ وَالْحِشْمَةِ.

وَمَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ صُدُورَ الصَّغَائِرِ غَيْرِ الْخَسِيسَةِ أَيْضًا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نُبُوَّةٌ، وَنَبِيٌّ وَالْمُلْحَقُ الْأُصُولِيِّ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


137-موسوعة الفقه الكويتية (موت 2)

مَوْتٌ -2

ثَانِيًا- الدِّيَةُ وَأَرْشُ الْأَطْرَافِ:

20- الدِّيَةُ وَالْأَرْشُ كِلَاهُمَا حَقٌّ مَالِيٌّ يَجِبُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بَدَلَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ.

وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الدِّيَةَ عَلَى الْمَالِ الَّذِي هُوَ بَدَلُ النَّفْسِ، وَالْأَرْشَ عَلَى الْمَالِ الْوَاجِبِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الْأَطْرَافِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَاتٌ ف 4 وَمَا بَعْدَهَا، أَرْشٌ ف 1).

وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِقْهًا أَنَّ الدِّيَةَ وَالْأَرْشَ تَكُونَانِ عَلَى الْجَانِي فِي جِنَايَةِ الْعَمْدِ، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ فِي الْخَطَأِ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَثَ أَنْ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ أَوْ تُوُفِّيَ بَعْدَ مَا وَجَبَ لَهُ الْحَقُّ فِي الْأَرْشِ، فَمَا هُوَ مُصِيرُ هَذَا الْحَقِّ هَلْ يُعْتَبَرُ مِلْكًا لَهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ أَمْوَالِهِ، بِحَيْثُ تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ مِنْهُ وَصَايَاهُ، وَمَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، أَمْ أَنَّهُ يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي تَمَلُّكِهِ، وَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ دُونَهُ، بِحَيْثُ لَا تُوَفَّى مِنْهُ دُيُونُهُ وَلَا يُنَفَّذُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ وَصَايَاهُ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَهُوَ أَنَّ دِيَةَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ مَالٌ يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّهَا بَدَلُ نَفْسِهِ، وَنَفْسُهُ لَهُ، فَكَذَلِكَ بَدَلُهَا، وَلِأَنَّ بَدَلَ أَطْرَافِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لَهُ، فَكَذَلِكَ بَدَلُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَيَجُوزُ تَجَدُّدُ الْمِلْكِ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، كَمَنْ نَصَبَ شَبَكَةً وَنَحْوَهَا فَسَقَطَ بِهَا صَيْدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ...وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِنَّهُ تُسَدَّدُ مِنْهَا دُيُونُهُ، وَتُنَفَّذُ مِنْهَا وَصَايَاهُ، وَتُقْضَى مِنْهَا سَائِرُ حَوَائِجِهِ مِنْ تَجْهِيزٍ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ مَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ حَسَبَ قَوَاعِدِ الْإِرْثِ.

وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- نَشَدَ النَّاسَ بِمِنًى: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الدِّيَةِ أَنْ يُخْبِرَنِي، فَقَامَ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيُّ فَقَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ أُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا...فَقَضَى عُمَرُ بِذَلِكَ».قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ أَشْيَمُ قُتِلَ خَطَأً.

قَالَ الْبَاجِيُّ: اقْتَضَى ذَلِكَ تَعَلُّقَ هَذَا الْحُكْمِ بِقَتْلِ الْخَطَأِ، إِلاَّ أَنَّ دِيَةَ الْعَمْدِ مَحْمُولَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلِمْنَاهُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ دِيَةِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَأَنَّهَا كَسَائِرِ مَالِ الْمَيِّتِ، يَرِثُ مِنْهَا الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ وَالْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ وَغَيْرُهُمْ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَشُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ.

وَعَلَّقَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَثَرِ عُمَرَ وَقَضَائِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَحَدٍ فِي أَنْ يَرِثَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ مَنْ وَرِثَ مَا سِوَاهَا مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّهَا تُمْلَكُ عَنِ الْمَيِّتِ، وَبِهَذَا نَأْخُذُ، فَنُوَرِّثُ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ مَنْ وَرِثَ مَا سِوَاهَا مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، وَإِذَا مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَقَدْ وَجَبَتْ دِيَتُهُ، فَمَنْ مَاتَ مِنْ وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَتْ لَهُ حِصَّتُهُ مِنْ دِيَتِهِ، كَأَنَّ رَجُلًا جَنَى عَلَيْهِ فِي صَدْرِ النَّهَارِ فَمَاتَ، وَمَاتَ ابْنٌ لَهُ فِي آخِرِ النَّهَارِ، فَأُخِذَتْ دِيَةُ أَبِيهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، فَمِيرَاثُ الِابْنِ الَّذِي عَاشَ بَعْدَهُ سَاعَةً قَائِمٌ فِي دِيَتِهِ، كَمَا يَثْبُتُ فِي دَيْنٍ لَوْ كَانَ لِأَبِيهِ، وَكَذَلِكَ امْرَأَتُهُ وَغَيْرُهَا مِمَّنْ يَرِثُهُ إِذَا مَاتَ.

وَالثَّانِي: لِإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ وَشَرِيكٍ وَهُوَ أَنَّ الدِّيَةَ تَثْبُتُ لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً، وَلَا تَكُونُ مِلْكًا لِلْمَيِّتِ أَصْلًا، إِذِ الْمَقْتُولُ لَا تَجِبُ دِيَتُهُ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِذَا مَاتَ فَقَدْ بَطَلَ مِلْكُهُ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ تُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ، وَلَا أَنْ تُنَفَّذَ مِنْهَا وَصَايَاهُ.

وَقَدْ جَاءَ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ: أَنَّ الدِّيَةَ مَالٌ حَدَثَ لِلْأَهْلِ بَعْدَ مَوْتِ مُوَرِّثِهِمْ، وَلَمْ يَرِثُوهُ عَنْهُ قَطُّ، إِذْ لَمْ يَجِبْ لَهُ شَيْءٌ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ، فَكَانَ مِنَ الْبَاطِلِ أَنْ يُقْضَى دَيْنُهُ مِنْ مَالِ الْوَرَثَةِ الَّذِي لَمْ يَمْلِكْهُ هُوَ قَطُّ فِي حَيَاتِهِ، وَأَنْ تُنَفَّذَ مِنْهُ وَصِيَّتُهُ...ثُمَّ إِنَّهُ بِالْمَوْتِ تَزُولُ أَمْلَاكُ الْمَيِّتِ الثَّابِتَةُ لَهُ، فَكَيْفَ يَتَجَدَّدُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِلْكٌ؟ وَلِهَذَا لَا تُنَفَّذُ وَصِيَّتُهُ مِنْ مَالِ الدِّيَةِ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ إِنَّمَا يُوصِي بِجُزْءٍ مِنْ مَالٍ لَا بِمَالِ وَرَثَتِهِ.

ثَالِثًا- حُقُوقُ الِارْتِفَاقِ

21- حَقُّ الِارْتِفَاقِ عِبَارَةٌ عَنْ حَقٍّ مُقَرَّرٍ عَلَى عَقَارٍ لِمَنْفَعَةِ عَقَارٍ آخَرَ مَمْلُوكٍ لِغَيْرِ مَالِكِ الْعَقَارِ الْأَوَّلِ، وَتَشْمَلُ حُقُوقُ الِارْتِفَاقِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: حَقَّ الشُّرْبِ، وَحَقَّ الْمَجْرَى، وَحَقَّ الْمَسِيلِ، وَحَقَّ الْمُرُورِ، وَحَقَّ التَّعَلِّي، وَحَقَّ الْجِوَارِ.

وَحُقُوقُ الِارْتِفَاقِ لَيْسَتْ بِمُفْرَدِهَا مَالًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّهَا أُمُورٌ لَا يُمْكِنُ حَوْزُهَا وَادِّخَارُهَا، وَلِذَلِكَ قَالُوا بِعَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهَا وَإِجَارَتِهَا وَهِبَتِهَا اسْتِقْلَالًا، وَلَكِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَهَا حُقُوقًا مَالِيَّةً لِتَعَلُّقِهَا بِأَعْيَانٍ مَالِيَّةٍ، وَمِنْ هُنَا أَجَازُوا بَيْعَهَا تَبَعًا لِلْعَقَارِ الَّذِي ثَبَتَتْ لِمَنْفَعَتِهِ.

أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَقَدِ اعْتَبَرُوهَا مِنْ قَبِيلِ الْأَمْوَالِ، وَأَجَازُوا- فِي الْجُمْلَةِ- بَيْعَهَا وَهِبَتَهَا اسْتِقْلَالًا.

وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ صَاحِبِ الْحَقِّ، بَلْ تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ تَبَعًا لِلْعَقَارِ الَّذِي ثَبَتَتْ لِمَصْلَحَتِهِ، لِأَنَّهُ حُقُوقٌ مَالِيَّةٌ، فِيهَا مَعْنَى الْمَالِ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَعْيَانٍ مَالِيَّةٍ، وَلِهَذَا فَلَا تَأْثِيرَ لِلْمَوْتِ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهَا أَمْوَالٌ ذَاتُهَا أَوْ حُقُوقٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَعْيَانٍ مَالِيَّةٍ.

رَابِعًا- حُقُوقُ الْمُرْتَهِنِ:

22- الرَّهْنُ هُوَ الْمَالُ الَّذِي يُجْعَلُ وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ، لِيُسْتَوْفَى مِنْ ثَمَنِهِ إِنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ.وَبِهَذِهِ الْوَثِيقَةِ يَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِالرَّهْنِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ بِحَيْثُ إِذَا كَانَ عَلَى الرَّاهِنِ دُيُونٌ أُخْرَى لَا تَفِي بِهَا أَمْوَالُهُ، وَبِيعَ الرَّهْنُ لِسَدَادِ مَا عَلَيْهِ، كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ مِنْ ثَمَنِهِ أَوَّلًا، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ فَهُوَ لِبَقِيَّةِ الْغُرَمَاءِ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ حُقُوقَ الْمُرْتَهِنِ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، بَلْ تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ: فَالْمَيِّتُ الَّذِي لَهُ دَيْنٌ بِهِ رَهْنٌ، فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ بِرَهْنِهِ، وَتَبْقَى الْعَيْنُ رَهْنًا عِنْدَهُمْ، وَتَتَعَلَّقُ بِهَا سَائِرُ حُقُوقِ الْمُرْتَهِنِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.

23- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ الْمَوْتِ عَلَى حُقُوقِ الْمُرْتَهِنِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ قَبْضِ الرَّهْنِ، هَلْ تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ أَمْ تَسْقُطُ بِوَفَاتِهِ؟ وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الرَّهْنَ يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُرْتَهِنِ قَبْلَ قَبْضِ الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَلْزَمُ عِنْدَهُمْ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، فَإِنْ مَاتَ الْمُرْتَهِنُ قَبْلَ أَنْ يَلْزَمَ عَقْدُ الرَّهْنِ، فَإِنَّهُ يَبْطُلُ.

وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ حُقُوقَ الْمُرْتَهِنِ تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى إِقْبَاضِهِمُ الْعَيْنَ الْمَرْهُونَةَ مَتَى طَلَبُوا ذَلِكَ، إِلاَّ أَنْ يَتَرَاخَى الْإِقْبَاضُ حَتَّى يُفْلِسَ الرَّاهِنُ أَوْ يَمْرَضَ أَوْ يَمُوتَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّهْنَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى قَبْضٍ.

خَامِسًا- حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ

24- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ لِلْبَائِعِ حَقَّ حَبْسِ الْمَبِيعِ وَالِامْتِنَاعَ عَنْ تَسْلِيمِهِ لِلْمُشْتَرِي حَتَّى يَسْتَوْفِيَ ثَمَنَهُ إِذَا كَانَ حَالًّا، أَوِ الْقَدْرَ الْحَالَّ مِنْهُ إِذَا كَانَ بَعْضُهُ مُؤَجَّلًا أَمَّا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا، فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الْحَبْسِ، اعْتِبَارًا لِتَرَاضِيهِمَا عَلَى تَأْخِيرِهِ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ ثَمَنَهُ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا حَالًّا، أَيْ مَالًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَلَا مُؤَجَّلٍ، وَكَانَ حَاضِرًا مَعَهُ فِي الْمَجْلِسِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ غَائِبًا عَنِ الْمَجْلِسِ، فَلِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ لِقَبْضِ الثَّمَنِ.

وَلَمَّا كَانَ حَقُّ الْبَائِعِ فِي حَبْسِ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، أَيِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَالِ، فَقَدْ نَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْحَقِّ إِذَا مَاتَ، فَإِنَّ حَقَّهُ فِي ذَلِكَ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ بَعْدَ تَقَرُّرِهِ، بَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ- كَسَائِرِ أَعْيَانِهِ الْمَالِيَّةِ- وَلَا يَكُونُ لِلْمَوْتِ تَأْثِيرٌ فِي سُقُوطِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ.

أَثَرُ الْمَوْتِ عَلَى الْحُقُوقِ الشَّخْصِيَّةِ الْمَحْضَةِ

25- الْحُقُوقُ الشَّخْصِيَّةُ الْمَحْضَةُ هِيَ الَّتِي تَثْبُتُ لِلْإِنْسَانِ بِاعْتِبَارِ شَخْصِهِ وَذَاتِهِ وَمَا يَتَوَفَّرُ فِيهِ مِنْ صِفَاتٍ وَمَعَانٍ تُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ، مِثْلُ حَقِّ الْحَضَانَةِ، وَحَقِّ الْوِلَايَةِ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَحَقِّ الْمُظَاهِرِ فِي الْعَوْدِ، وَحَقِّ الْفَيْءِ بَعْدَ الْإِيلَاءِ، وَحَقِّ أَرْبَابِ الْوَظَائِفِ فِي وَظَائِفِهِمْ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ ذَوِيهَا أَوْ أَصْحَابِهَا وَلَا تُورَثُ عَنْهُمْ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَرِكَةٌ ف 3 وَمَا بَعْدَهَا، وَظِيفَةٌ).

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحَدِّ الْقَذْفِ وَبَيَانِ تَأْثِيرِ مَوْتِ الْمَقْذُوفِ عَلَى هَذَا الْحَقِّ

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (قَذْفٌ ف 44).

أَثَرُ الْمَوْتِ عَلَى الْحُقُوقِ الشَّبِيهَةِ بِالْحَقَّيْنِ الْمَالِيِّ وَالشَّخْصِيِّ

26- نَظَرًا إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ تَجْمَعُ بَيْنَ شَبَهَيْنِ، شَبَهٌ بِالْحَقِّ الْمَالِيِّ، وَشَبَهٌ بِالْحَقِّ الشَّخْصِيِّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَغْلِيبِ أَحَدِ الشَّبَهَيْنِ عَلَى الْآخَرِ حَتَّى تَلْحَقَ بِهِ، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ أَثَرِ الْمَوْتِ عَلَى هَذِهِ الْحُقُوقِ.

أَوَّلًا- حَقُّ الْخِيَارِ:

27- يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُ الْمَوْتِ عَلَى حُقُوقِ الْخِيَارَاتِ بِحَسَبِ نَوْعِ الْخِيَارِ الثَّابِتِ لِلْعَاقِدِ وَطَبِيعَتِهِ وَاجْتِهَادِ الْفُقَهَاءِ فِي تَغْلِيبِ شَبَهِهِ بِالْحَقِّ الْمَالِيِّ أَوِ الْحَقِّ الشَّخْصِيِّ، وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أ- خِيَارُ الْمَجْلِسِ:

28- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ فِي أَثَرِ الْمَوْتِ عَلَى هَذَا الْخِيَارِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ وَهُوَ انْتِقَالُ الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ إِلَى الْوَارِثِ.

وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ فِي 92 الْمَذْهَبِ، 92 وَهُوَ سُقُوطُ الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ.

وَالثَّالِثُ: لِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ وُقُوعِ الْمُطَالَبَةِ مِنَ الْمَيِّتِ بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَيْنَ عَدَمِ تِلْكَ الْمُطَالَبَةِ، حَيْثُ يَنْتَقِلُ الْخِيَارُ إِلَى الْوَارِثِ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (خِيَارٌ ف 13).

ب- خِيَارُ الْقَبُولِ:

29- خِيَارُ الْقَبُولِ: هُوَ حَقُّ الْعَاقِدِ فِي الْقَبُولِ أَوْ عَدَمِهِ فِي الْمَجْلِسِ بَعْدَ صُدُورِ الْإِيجَابِ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ الْمَوْتِ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ سُقُوطُ خِيَارِ الْقَبُولِ وَانْتِهَاؤُهُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، لِأَنَّ مَوْتَ الْمُوجِبِ يُسْقِطُ إِيجَابَهُ، وَأَمَّا مَوْتُ الَّذِي خُوطِبَ بِالْإِيجَابِ، فَلِأَنَّ حَقَّ الْقَبُولِ لَا يُورَثُ.

وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ خِيَارَ الْقَبُولِ يُورَثُ وَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ.

ج- خِيَارُ الْعَيْبِ:

30- خِيَارُ الْعَيْبِ: وَهُوَ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي رَدِّ الْمَبِيعِ بِسَبَبِ وُجُودِ وَصْفٍ مَذْمُومٍ فِيهِ يَنْقُصُ الْعَيْنَ أَوِ الْقِيمَةَ نُقْصَانًا يَفُوتُ بِهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَيَغْلِبُ فِي جَنْسِهِ عَدَمُهُ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِ مُسْتَحِقِّهِ، وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِهِ بِالْأَعْيَانِ الْمَالِيَّةِ وَلُصُوقِهِ بِهَا.

قَالَ الشِّيرَازِيُّ: انْتَقَلَ إِلَى وَارِثِهِ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَازِمٌ يَخْتَصُّ بِالْعَيْنِ فَانْتَقَلَ بِالْمَوْتِ إِلَى الْوَارِثِ كَحَبْسِ الْمَبِيعِ إِلَى أَنْ يَحْضُرَ الثَّمَنُ.

د- خِيَارُ الشَّرْطِ:

31- خِيَارُ الشَّرْطِ: هُوَ حَقٌّ يَثْبُتُ بِالِاشْتِرَاطِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا يُخَوِّلُ صَاحِبَهُ فَسْخَ الْعَقْدِ خِلَالَ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِهِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ.

أَحَدُهَا: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، بِاعْتِبَارِهِ مِنْ مُشْتَمِلَاتِ التَّرِكَةِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِإِصْلَاحِ الْمَالِ، كَالرَّهْنِ وَحَبْسِ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ ثَمَنِهِ.

وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَمْ لِلْمُشْتَرِي، وَسَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ أَصِيلًا أَمْ نَائِبًا، قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: لِأَنَّ الْخِيَارَ صِفَةٌ لِلْمَيِّتِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِلاَّ مَشِيئَةٌ وَإِرَادَةٌ، فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ كَسَائِرِ أَوْصَافِهِ.

وَالثَّالِثُ: لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مُطَالَبَةِ صَاحِبِهِ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَبَيْنَ عَدَمِهَا، قَالُوا: فَإِذَا مَاتَ صَاحِبُ الْخِيَارِ دُونَ أَنْ يُطَالِبَ بِحَقِّهِ فِي الْخِيَارِ بَطَلَ الْخِيَارُ وَلَمْ يُورَثْ عَنْهُ، أَمَّا إِذَا طَالَبَ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ يُورَثُ عَنْهُ، فَالْأَصْلُ عِنْدَهُمْ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ غَيْرُ مَوْرُوثٍ إِلاَّ بِالْمُطَالَبَةِ مِنَ الْمُشْتَرِطِ فِي حَيَاتِهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (خِيَارُ الشَّرْطِ ف 54).

هـ- خِيَارُ الرُّؤْيَةِ:

32- خِيَارُ الرُّؤْيَةِ: هُوَ حَقٌّ يُثْبِتُ لِلْمُتَمَلِّكِ الْفَسْخَ أَوِ الْإِمْضَاءَ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَحَلِّ الْعَقْدِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي عَقَدَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرَهُ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِهِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، بِاعْتِبَارِهِ لِمُطْلَقِ التَّرَوِّي لَا لِتَحَاشِي الضَّرَرِ أَوِ الْخُلْفِ فِي الْوَصْفِ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَنْظُرَ الْمُشْتَرِي: هَلْ يَصْلُحُ لَهُ الْمَبِيعُ أَمْ لَا؟ وَمَعَ اعْتِبَارِهِمْ إِيَّاهُ خِيَارًا حُكْمِيًّا مِنْ جِهَةِ الثُّبُوتِ، فَقَدْ قَالُوا: إِنَّهُ مُرْتَبِطٌ بِالْإِرَادَةِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِعْمَالُ، وَالْحُقُوقُ الْمُرْتَبِطَةُ بِمَشِيئَةِ الْعَاقِدِ لَا تُورَثُ، لِأَنَّ انْتِقَالَهَا إِلَى الْوَارِثِ يَعْنِي نَقْلَ الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ.

وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، بَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى وَارِثِهِ.

و- خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ:

33- خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ هُوَ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي فَسْخِ الْعَقْدِ لِتَخَلُّفِ وَصْفٍ مَرْغُوبٍ اشْتَرَطَهُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.

وَهَذَا الْخِيَارُ يُورَثُ بِمَوْتِ مُسْتَحِقِّهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، فَيَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ ف 13).

ز- خِيَارُ التَّعْيِينِ:

34- خِيَارُ التَّعْيِينِ: وَهُوَ حَقُّ الْعَاقِدِ فِي تَعْيِينِ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى أَحَدِهَا شَائِعًا خِلَالَ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ.

وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، بَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى وَارِثِهِ، فَيَقُومُ مَقَامَهُ فِي تَعْيِينِ مَا يَخْتَارُهُ مِنْ مَحَلِّ الْخِيَارِ، ذَلِكَ أَنَّ لِمُوَرِّثِهِ مَالًا ثَابِتًا ضِمْنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْخِيَارِ، فَوَجَبَ عَلَى الْوَارِثِ أَنْ يُعَيِّنَ مَا يَخْتَارُهُ وَيَرُدَّ مَا لَيْسَ لَهُ إِلَى مَالِكِهِ.

ح- خِيَارُ التَّغْرِيرِ:

35- خِيَارُ التَّغْرِيرِ هُوَ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي الْفَسْخِ لِتَعَرُّضِهِ لِأَقْوَالٍ مُوهِمَةٍ مِنَ الْبَائِعِ دَفَعَتْهُ لِلتَّعَاقُدِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي كَوْنِهِ مَوْرُوثًا، فَاسْتَظْهَرَ التُّمُرْتَاشِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- وَأَقَرَّهُ الْحَصْكَفِيُّ- أَنَّ خِيَارَ التَّغْرِيرِ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ، وَهِيَ لَا تُورَثُ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا بَحَثَهُ فِي الْبَحْرِ مِنْ أَنَّ خِيَارَ ظُهُورِ الْخِيَانَةِ لَا يُورَثُ، لِتَعْلِيلِهِمْ بِأَنَّهُ مُجَرَّدُ خِيَارٍ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، بَلْ هُنَاكَ مَا يَجْعَلُ نَفْيَ تَوْرِيثِهِ بِالْأَوْلَى، لِأَنَّهُ خِيَارٌ لِدَفْعِ الْخِدَاعِ، فَإِذَا كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ الْمَلْفُوظِ بِهِ لَا يُورَثُ، فَكَيْفَ يُورَثُ غَيْرُ الْمَلْفُوظِ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ مُخْتَلَفًا فِيهِ.

وَفِي رَأْيٍ أَنَّهُ يُورَثُ كَخِيَارِ الْعَيْبِ.

ط- خِيَارُ النَّقْدِ:

36- خِيَارُ النَّقْدِ: هُوَ حَقٌّ يَشْتَرِطُهُ الْعَاقِدُ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الْفَسْخِ عِنْدَ عَدَمِ نَقْدِ الْبَدَلِ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُورَثُ، بَلْ يَسْقُطُ بِمَوْتِ صَاحِبِ الْخِيَارِ، لِأَنَّهُ وَصْفٌ لَهُ، وَالْأَوْصَافُ لَا تُورَثُ، وَأُسْوَةٌ بِأَصْلِهِ وَهُوَ خِيَارُ الشَّرْطِ، حَيْثُ إِنَّهُ لَا يُورَثُ عِنْدَهُمْ.

وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى سُقُوطِهِ أَوْ إِرْثِهِ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَهُمْ أَصْلًا.

ثَانِيًا- حَقُّ الشُّفْعَةِ:

37- الشُّفْعَةُ عِبَارَةٌ عَنْ حَقِّ التَّمَلُّكِ فِي الْعَقَارِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجِوَارِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا مَاتَ صَاحِبُ حَقِّ الشُّفْعَةِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ بِهَا، هَلْ يَنْتَقِلُ ذَلِكَ الْحَقُّ لِوَرَثَتِهِ، أَمْ يَسْقُطُ وَيَنْتَهِي بِمَوْتِهِ؟ وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ حَقٌّ مَالِيٌّ، فَيُورَثُ عَنِ الْمَيِّتِ كَمَا تُورَثُ أَمْوَالُهُ، وَيَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِهِ.

الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّفِيعَ إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، سَوَاءٌ كَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ الطَّلَبِ أَوْ بَعْدَهُ، لِأَنَّ الشُّفْعَةَ مُجَرَّدُ خِيَارٍ فِي التَّمَلُّكِ، وَهِيَ إِرَادَةٌ وَمَشِيئَةٌ فِي الْأَخْذِ أَوِ التَّرْكِ، وَذَلِكَ لَا يُورَثُ إِلاَّ إِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِهَا أَوْ تَسْلِيمِ الْمُشْتَرِي لَهُ بِهَا.

الثَّالِثُ: لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا إِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ قَبْلَ الطَّلَبِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، لِأَنَّهُ نَوْعُ خِيَارٍ شُرِعَ لِلتَّمْلِيكِ، أَشْبَهَ الْإِيجَابَ قَبْلَ قَبُولِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ بَقَاؤُهُ عَلَى الشُّفْعَةِ، لِاحْتِمَالِ رَغْبَتِهِ عَنْهَا، فَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ مَا شُكَّ فِي ثُبُوتِهِ، أَمَّا إِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ طَلَبِهِ، فَإِنَّ الشُّفْعَةَ تَنْتَقِلُ لِوَرَثَتِهِ، لِأَنَّ الطَّلَبَ يَنْتَقِلُ بِهِ الْمِلْكُ لِلشَّفِيعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَوْرُوثًا.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (شُفْعَةٌ ف 51).

ثَالِثًا- حَقُّ الْمَالِكِ فِي إِجَازَةِ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ

38- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَالِكَ إِذَا مَاتَ قَبْلَ إِجَازَتِهِ لِعَقْدِ الْفُضُولِيِّ الْمَوْقُوفِ عَلَى إِجَازَتِهِ، فَإِنَّ حَقَّهُ فِي الْإِجَازَةِ يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إِنَّمَا تَصِحُّ مِنَ الْمَالِكِ لَا مِنْ وَارِثِهِ وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ تَصَرُّفَ الْفُضُولِيِّ فِي الْقِسْمَةِ، فَمَعَ كَوْنِهِ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، فَإِنَّ حَقَّهُ فِي الْإِجَازَةِ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، بَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى وَارِثِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ اسْتِحْسَانًا، لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي نَقْضِ الْقِسْمَةِ بَعْدَ تَمَامِهَا ثُمَّ إِعَادَتِهَا مَرَّةً أُخْرَى، وَالْقِيَاسُ بُطْلَانُ الْقِسْمَةِ بِمَوْتِهِ، وَعَدَمُ انْتِقَالِهَا لِلْوَارِثِ، وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مُبَادَلَةٌ كَالْبَيْعِ.

رَابِعًا- اسْتِحْقَاقُ الْمَنَافِعِ بِمُوجِبِ الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ

39- الْمَنْفَعَةُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ هِيَ الْفَائِدَةُ الْعَرَضِيَّةُ الَّتِي تُنَالُ مِنَ الْأَعْيَانِ بِطَرِيقِ اسْتِعْمَالِهَا.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ الْمَوْتِ عَلَى الْمَنَافِعِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا الشَّخْصُ فِي- عَيْنٍ مِنَ الْأَعْيَانِ بِمُوجِبِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ أَوِ الْإِعَارَةِ أَوِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ، هَلْ يَبْطُلُ حَقُّهُ فِيهَا بِالْمَوْتِ أَمْ أَنَّهَا تُورَثُ عَنْهُ؟ وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أ- الْإِجَارَةُ:

40- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ الْمَوْتِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمَنَافِعِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْأَوَّلُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَإِسْحَاقَ وَالْبَتِّيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إِذَا مَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ أَمَدِ الْإِجَارَةِ، فَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِمَوْتِهِ، بَلْ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ إِلَى نِهَايَةِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ، فَلَا يَنْفَسِخُ مَوْتُ الْعَاقِدِ مَعَ سَلَامَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَلَكَ الْمَنَافِعَ بِالْعَقْدِ، وَهِيَ مَالٌ، فَيَنْتَقِلُ إِلَى وَارِثِهِ.

الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَهُوَ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ قَبْلَ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، فَيَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الْمَنَافِعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ إِلاَّ فِيمَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ، لِيَكُونَ مِلْكُ الْمُوَرِّثِ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ، وَيَخْلُفُهُ الْوَارِثُ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي، وَالْمَنْفَعَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي حَيَاةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا تَبْقَى لِتُورَثَ، وَالَّتِي تَحْدُثُ بَعْدَهَا لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لَهُ لِيَخْلُفَهُ الْوَارِثُ فِيهَا، إِذِ الْمِلْكُ لَا يَسْبِقُ الْوُجُودَ، وَإِذَا ثَبَتَ انْتِفَاءُ الْإِرْثِ تَعَيَّنَ بُطْلَانُ الْعَقْدِ.

ب- الْإِعَارَةُ:

41- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ مَوْتِ الْمُسْتَعِيرِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمَنَافِعِ فِي الْعَارِيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الْمُسْتَعِيرِ بِمَنَافِعِ الْعَيْنِ الْمُعَارَةِ حَقٌّ شَخْصِيٌّ، يَنْتَهِي بِوَفَاةِ صَاحِبِهِ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْإِعَارَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُسْتَعِيرِ، وَيَجِبُ عَلَى وَرَثَتِهِ رَدُّ الْعَارِيَةِ فَوْرًا إِلَى صَاحِبِهَا، وَلَوْ لَمْ يَطْلُبْهَا.

وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِعَارَةَ سَوَاءٌ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ مُطْلَقَةً، فَإِنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَسْتَحِقُّ الِانْتِفَاعَ بِهَا فِي الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ أَوِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا النَّاسُ عَادَةً عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَإِنْ مَاتَ الْمُسْتَعِيرُ قَبْلَ انْتِهَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَإِنَّ حَقَّهُ فِي الْمَنْفَعَةِ فِي الْمُدَّةِ الْمُتَبَقِّيَةِ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، بَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، إِلاَّ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ مَا إِذَا اشْتَرَطَ الْمُعِيرُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا بِنَفْسِهِ فَقَطْ، فَحِينَئِذٍ لَا تُورَثُ عَنْهُ الْمُدَّةَ الْمُتَبَقِّيَةَ، لِأَنَّ فِيهَا يُعْتَبَرُ حَقًّا شَخْصِيًّا.

ج- الْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ:

42- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ أَمَدِهَا، هَلْ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ بِمَوْتِهِ، أَمْ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ حَتَّى نِهَايَةِ مُدَّتِهَا؟ وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ مَا تَبَقَّى مِنْ مُدَّةِ الْمَنْفَعَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصَى لَهُ بِهَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، وَلَا يُورَثُ عَنْهُ، بَلْ تَعُودُ الْعَيْنُ إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي بِحُكْمِ الْمِلْكِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُوصِي قَدْ أَوْجَبَ الْحَقَّ لِلْمُوصَى لَهُ لِيَسْتَوْفِيَ الْمَنْفَعَةَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ، فَإِذَا انْتَقَلَ هَذَا الْحَقُّ إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيَكُونُ كَأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوهُ ابْتِدَاءً مِنْ مِلْكِ الْمُوصِي مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ عَرَضٌ، وَالْعَرَضُ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ حَتَّى يَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّوَارُثِ.

وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ يَمْلِكُ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ، وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِذَا مَاتَ، فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، بَلْ تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ فِيمَا بَقِيَ لَهُ مِنَ الْمُدَّةِ إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُقَيَّدَةً بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ أَوْ كَانَتْ عَلَى التَّأْبِيدِ لِأَنَّهَا مَالٌ، فَتُورَثُ عَنْهُ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ.

وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ حَالَةَ مَا إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ مُقَيَّدَةً بِحَيَاةِ الْمُوصَى لَهُ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُعْتَبَرُ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِهَا حَقًّا شَخْصِيًّا، فَيَسْقُطُ بِوَفَاتِهِ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ.

خَامِسًا- أَجَلُ الدُّيُونِ:

43- الْأَجَلُ فِي الدُّيُونِ حَقٌّ لِلْمَدِينِ، وَمَنْ ثَبَتَ لَهُ هَذَا الْحَقُّ فَلَيْسَ لِلدَّائِنِ مُطَالَبَتُهُ بِالدَّيْنِ قَبْلَ حُلُولِهِ، فَإِذَا مَاتَ فَهَلْ يَبْطُلُ الْأَجَلُ وَيَحِلُّ الدَّيْنُ بِمَوْتِهِ، أَمْ يَبْقَى ثَابِتًا كَمَا هُوَ وَيَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى وَرَثَتِهِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَجَلَ يَسْقُطُ، وَيَحِلُّ الدَّيْنُ بِمَوْتِ الْمَدِينِ، وَتَنْقَلِبُ جَمِيعُ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ الَّتِي عَلَيْهِ مَهْمَا اخْتَلَفَتْ آجَالُهَا حَالَّةً بِمَوْتِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَسوَّارٌ وَالثَّوْرِيُّ.

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُبِحِ التَّوَارُثَ إِلاَّ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، فَالْوَرَثَةُ فِي ذَلِكَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ لَا يُرِيدُوا أَنْ يُؤَخِّرُوا حُقُوقَهُمْ فِي الْمَوَارِيثِ إِلَى مَحِلِّ أَجَلِ الدَّيْنِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يُجْعَلَ الدَّيْنُ حَالًّا، وَإِمَّا أَنْ يَرْضَوْا بِتَأْخِيرِ مِيرَاثِهِمْ حَتَّى تَحِلَّ الدُّيُونُ، فَتَكُونُ الدُّيُونُ حِينَئِذٍ مَضْمُونَةً فِي التَّرِكَةِ خَاصَّةً لَا فِي ذِمَمِهِمْ وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَبْقَى فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ، أَوِ الْوَرَثَةِ، أَوْ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ، وَلَا يَجُوزُ بَقَاؤُهُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ لِخَرَابِهَا وَتَعَذُّرِ مُطَالَبَتِهِ بِهَا، وَلَا ذِمَّةِ الْوَرَثَةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوهُ، وَلَا رَضِيَ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِذِمَمِهِمْ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ مُتَبَايِنَةٌ، وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ عَلَى الْأَعْيَانِ وَتَأْجِيلُهُ، لِأَنَّهُ ضَرَرٌ بِالْمَيِّتِ وَصَاحِبِ الدَّيْنِ وَلَا نَفْعَ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ.

وَقَدِ اسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ حَالَتَيْنِ، وَقَالُوا: إِنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ لَا يَحِلُّ بِالْمَوْتِ فِيهِمَا، وَهِيَ:

أ- إِذَا قُتِلَ إِلَى الدَّائِنِ الْمَدِينُ، فَإِنَّ دَيْنَهُ لَا يَحِلُّ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَعْجَلَهُ قَبْلَ أَوَانِهِ فَعُوقِبَ بِالْحِرْمَانِ.

ب- إِذَا اشْتَرَطَ الْمَدِينُ عَلَى الدَّائِنِ أَنْ لَا يَحِلَّ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ الَّذِي عَلَيْهِ بِمَوْتِهِ، فَيُعْمَلُ بِالشَّرْطِ.

وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ لَا يَحِلُّ بِمَوْتِ الْمَدِينِ إِذَا وَثَّقَهُ الْوَرَثَةُ أَوْ غَيْرُهُمْ بِرَهْنٍ أَوْ كَفِيلٍ مَلِيءٍ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَةِ التَّرِكَةِ أَوِ الدَّيْنِ، فَإِنْ لَمْ يُوَثَّقْ بِذَلِكَ حَلَّ، لِأَنَّ الْوَرَثَةَ قَدْ لَا يَكُونُونَ أَمْلِيَاءَ، وَلَمْ يَرْضَ بِهِمُ الْغَرِيمُ، فَيُؤَدِّي إِلَى فَوَاتِ الْحَقِّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ.

وَحُجَّتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَوْتَ مَا جُعِلَ مُبْطِلًا لِلْحُقُوقِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِيقَاتٌ لِلْخِلَافَةِ، وَعَلَامَةٌ عَلَى الْوَرَثَةِ، وَعَلَى هَذَا يَبْقَى الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ كَمَا كَانَ، وَيَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ مَالِهِ كَتَعَلُّقِ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ بِمَالِ الْمُفْلِسِ عِنْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحَبَّ الْوَرَثَةُ الْتِزَامَ الدَّيْنِ وَأَدَاءَهُ لِلْغَرِيمِ عَلَى أَنْ يَتَصَرَّفُوا فِي الْمَالِ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَرْضَى الْغَرِيمُ، أَوْ يُوَثِّقُوا الْحَقَّ بِضَمِينٍ مَلِيءٍ أَوْ رَهْنٍ يَثِقُ بِهِ لِوَفَاءِ حَقِّهِ.

وَالثَّالِثُ: رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْزِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَجَلَ لَا يَحِلُّ بِالْمَوْتِ مُطْلَقًا، وَإِنْ لَمْ يُوَثِّقِ الْوَرَثَةُ أَوْ غَيْرُهُمُ الدَّيْنَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقٌّ لِلْمَيِّتِ، فَيُورَثُ عَنْهُ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالزُّهْرِيُّ وَسَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ.

سَادِسًا- حَقُّ التَّحْجِيرِ:

44- وَهُوَ حَقٌّ يَثْبُتُ لِمَنْ قَامَ بِوَضَعِ عَلَامَاتٍ فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ- سَوَاءٌ بِنَصْبِ أَحْجَارٍ أَوْ غَرْزِ أَخْشَابٍ عَلَيْهَا أَوْ حَصَادِ مَا فِيهَا مِنَ الْحَشِيشِ وَالشَّوْكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ- لِيَصِيرَ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا لِسَبْقِ يَدِهِ عَلَيْهَا، وَقَدْ حَدَّدَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لَهُ أَمَدًا مُعَيَّنًا يَنْتَهِي فِيهِ، بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مُزَاحَمَتَهُ خِلَالَهُ، وَهُوَ ثَلَاثُ سَنَوَاتٍ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ تَحْدِيدَ الْمُدَّةِ لِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ.

وَالْمُتَحَجِّرُ إِذَا مَاتَ قَبْلَ نِهَايَةِ الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ لِاحْتِجَارِهِ، فَهَلْ يَسْقُطُ حَقُّهُ بِمَوْتِهِ، أَمْ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ إِلَى وَرَثَتِهِ؟

نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَقَّ يُورَثُ، وَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ الْمُتَحَجِّرِ، وَيَكُونُ وَرَثَتُهُ أَحَقَّ بِالْأَرْضِ مِنْ غَيْرِهِمْ.وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، إِذِ الْأَصْلُ عِنْدَهُمْ أَنْ تُورَثَ الْحُقُوقُ كَالْأَمْوَالِ، إِلاَّ إِذَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى مُفَارَقَةِ الْحَقِّ لِمَعْنَى الْمَالِ، وَحَقُّ التَّحْجِيرِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَالِ، لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، فَكَانَ مَوْرُوثًا.

سَابِعًا- حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرَاضِيِ الْخَرَاجِيَّةِ:

45- الْأَرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ: هِيَ الَّتِي فُرِضَ الْخَرَاجُ عَلَى الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهَا، سَوَاءٌ كَانُوا مُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرَ مُسْلِمِينَ، وَالْخَرَاجُ: هُوَ مَا يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ غَيْرِ الْعُشْرِيَّةِ مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ.

وَيَعْتَبِرُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْأَرَاضِي الْخَرَاجِيَّةَ مَوْقُوفَةً عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجُمْلَةِ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَقُولُونَ: هِيَ مِلْكٌ لِأَصْحَابِهَا، وَلَهُمْ أَنْ يَتَصَرَّفُوا فِيهَا بِسَائِرِ وُجُوهِ التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهَا تُورَثُ عَنْهُمْ بِالْمَوْتِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِمْ، إِذْ لَيْسَ حَقُّ انْتِفَاعِهِمْ بِهَا إِلاَّ أَثَرًا مِنْ آثَارِ ثُبُوتِ مَلَكِيَّتِهِمْ عَلَيْهَا.

وَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بِوَقْفِهَا عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمُنْتَفِعِينَ بِالْأَرَاضِيِ الْخَرَاجِيَّةِ مِنَ الْفَلاَّحِينَ وَنَحْوِهِمْ لَا يَمْلِكُونَهَا، وَلَكِنْ لَهُمْ حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي مُقَابِلِ دَفْعِ خَرَاجِهَا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ إِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي انْتِقَالِ هَذَا الْحَقِّ لِوَرَثَتِهِمْ بِالْمَوْتِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الْمَنْفَعَةِ بِالْأَرَاضِيِ الْخَرَاجِيَّةِ يُورَثُ عَنْ صَاحِبِهِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُنْتَفِعُ بِهَا انْتَقَلَ الْحَقُّ إِلَى وَرَثَتِهِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ مَالِيٌّ مَوْرُوثٌ.

وَالثَّانِي: لِمُتَقَدِّمِي فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُنْتَفِعَ بِالْأَرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ إِذَا مَاتَ سَقَطَ حَقُّهُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَلَا تُورَثُ عَنْهُ، وَيَكُونُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ بَعْدِهِ لِمَنْ يَشَاءُ، بِحَسَبِ مُقْتَضَيَاتِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


138-موسوعة الفقه الكويتية (موت 3)

مَوْتٌ -3

ثَامِنًا- حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِالْإِقْطَاعِ:

46- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقْطِعَ الْأَرْضَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ لِرَقَبَتِهَا كَمَا يُعْطِي الْمَالَ لِمُسْتَحِقِّهِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُقْطَعُ، فَإِنَّهَا تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ، سَوَاءٌ عَمَّرَهَا وَأَحْيَاهَا أَمْ لَا.

أَمَّا إِقْطَاعُ الْأَرَاضِي الْمَوَاتِ لِإِحْيَائِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ وَفِي انْتِقَالِ الْحَقِّ فِيهِ إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ لِلْمُقْطَعِ إِلاَّ بِالْإِحْيَاءِ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ أَحَقَّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ قَبْلَ الْإِحْيَاءِ، وَهَذَا الْحَقُّ يَنْتَقِلُ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ.

وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَ كُلَّ مَوَاتٍ وَكُلَّ مَا لَيْسَ فِيهِ مِلْكٌ لِأَحَدٍ، فَإِنْ عَمَّرَهَا الْمُقْطَعَ وَأَحْيَاهَا صَارَتْ مِلْكًا لَهُ، وَتُورَثُ عَنْهُ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُحْيِهَا وَلَمْ يُعَمِّرْهَا طِيلَةَ ثَلَاثَةِ سَنَوَاتٍ، فَإِنَّ حَقَّهُ فِيهَا يَبْطُلُ، وَتَعُودُ إِلَى حَالِهَا مَوَاتًا، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهَا غَيْرَهُ.

وَالثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ إِقْطَاعَ الْمَوَاتِ تَمْلِيكٌ مُجَرَّدٌ، فَمَنْ أَقْطَعَهُ الْإِمَامُ شَيْئًا صَارَ مِلْكًا لَهُ وَإِنْ لَمْ يُحْيِهِ وَيُعَمِّرْهُ، وَبِالْمَوْتِ يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ.

أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِإِقْطَاعِ الِاسْتِغْلَالِ الَّذِي يَقَعُ عَلَى أَرَاضِي بَيْتِ الْمَالِ لِمَنْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ، عَلَى سَبِيلِ اسْتِغْلَالِهَا لَا تَمْلِيكِهَا فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ الْأَرْضَ التَّابِعَةَ لِبَيْتِ الْمَالِ مَنْفَعَةً، بِحَيْثُ يَكُونُ الْمُعْطَى مُسْتَحِقًّا لِمَنْفَعَتِهَا دُونَ رِقْبَتِهَا وَحَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهَا يُعْتَبَرُ حَقًّا شَخْصِيًّا، فَيَسْقُطُ بِوَفَاةِ صَاحِبِهِ وَلَا يُورَثُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ عُرْفًا بِحَيَاةِ الْمُقْطَعِ، وَتَرْجِعُ الْأَرْضُ الْمُقْطَعَةُ بِمَوْتِهِ لِبَيْتِ الْمَالِ وَقْفًا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ.

تَاسِعًا- الِاخْتِصَاصُ بِالِانْتِفَاعِ بِالْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ:

47- الِاخْتِصَاصُ هُوَ حَقٌّ فِي شَيْءٍ، يَخْتَصُّ مُسْتَحِقُّهُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ، وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مُزَاحَمَتَهُ فِيهِ، وَهُوَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلشُّمُولِ وَالْمُعَاوَضَاتِ.

وَمِنْ صُوَرِ الِاخْتِصَاصِ بِالْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: الْكَلْبُ الْمُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ كَكَلْبِ الْحِرَاسَةِ وَالصَّيْدِ وَالزُّيُوتِ وَالْأَدْهَانِ الْمُتَنَجِّسَةِ الَّتِي يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِالِاسْتِصْبَاحِ أَوْ بِتَحْوِيلِهَا إِلَى صَابُونٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالِاخْتِصَاصُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَنَحْوِهَا لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَهُمْ، وَلَكِنَّهُ يُعْطِي صَاحِبَهُ حَقَّ الِانْتِفَاعِ الْمَحْدُودِ بِهَا فِي الْوُجُوهِ السَّائِغَةِ شَرْعًا.وَهَذَا الْحَقُّ يَنْتَقِلُ بِالْمَوْتِ إِلَى وَرَثَةِ صَاحِبِ الِاخْتِصَاصِ وَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ الْأَعْيَانَ النَّجِسَةَ أَوِ الْمُتَنَجِّسَةَ الَّتِي أُبِيحَ الِانْتِفَاعُ بِهَا شَرْعًا مَالًا مُتَقَوِّمًا، كَالسِّرْجِينِ وَالْبَعْرِ وَكِلَابِ الْمَاشِيَةِ وَالصَّيْدِ وَنَحْوِهَا، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهَا تُورَثُ عَنْ صَاحِبِهَا بِمَوْتِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ.

عَاشِرًا- حَقُّ الْقِصَاصِ وَالْعَفْوُ عَنْهُ:

48- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْقَوَدَ لَا يَجِبُ إِلاَّ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ بَعْدَ اجْتِمَاعِ شُرُوطِهِ، وَأَنَّهُ حَقُّ الْوَرَثَةِ (أَوْلِيَاءِ الدَّمِ)، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْحَقِّ هَلْ يَثْبُتُ لَهُمُ ابْتِدَاءً أَمْ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ عَنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؟ وَمَنْ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَهُ مِنْهُمْ؟ وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: لِلْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الْقِصَاصِ يَثْبُتُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوَّلًا بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ جَمِيعِهِمْ، الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ، كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ وَأَمْلَاكِهِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَالثَّوْرِيِّ.

وَعَلَى ذَلِكَ، فَمَتَى انْتَقَلَ الْحَقُّ لِلْوَرَثَةِ، فَهُمْ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءُوا اقْتَصُّوا، وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا، وَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمْ عَنْ حَقِّهِ فِي الْقِصَاصِ سَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ، وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْبَاقِينَ مَالًا، وَلَا يَكُونُ لِلْعَافِي شَيْءٌ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ مَجَّانًا بِرِضَاهُ.

وَإِذَا انْقَلَبَ الْقِصَاصُ إِلَى مَالٍ بِعَفْوِ الْوَرَثَةِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَالَ يَكُونُ لِلْمَوْرُوثِ أَوَّلًا، فَتُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ، وَتَنْفُذُ مِنْهُ وَصَايَاهُ، وَمَا بَقِيَ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ.

وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ اخْتَارَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَهُوَ أَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْعَصَبَاتِ الذُّكُورِ مِنْ وَرَثَتِهِ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِدَفْعِ الْعَارِ، فَاخْتَصَّ بِهِ الْعَصَبَاتُ، كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ.

وَالثَّالِثُ: لِأَبِي حَنيِفَةَ وَهُوَ أَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ مَوْرُوثًا عَنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ ثَابِتٌ ابْتِدَاءً لِلْوَرَثَةِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ التَّشَفِّي وَدَرْكُ الثَّأْرِ، وَالْمَيِّتُ لَا يَجِبُ لَهُ إِلاَّ مَا يَصْلُحُ لِحَاجَتِهِ مِنْ تَجْهِيزِهِ وَقَضَاءِ دَيْنِهِ وَتَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِ، وَالْقِصَاصُ لَا يَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ الْجِنَايَةَ قَدْ وَقَعَتْ عَلَى وَرَثَتِهِ مِنْ وَجْهٍ، لِانْتِفَاعِهِمْ بِحَيَاتِهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَأْنِسُونَ بِهِ وَيَنْتَصِرُونَ، وَيَنْتَفِعُونَ بِمَالِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلِذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً، لِحُصُولِ التَّشَفِّي لَهُمْ وَلِوُقُوعِ الْجِنَايَةِ عَلَى حَقِّهِمْ، لَا أَنْ يَثْبُتَ لِلْمَيِّتِ ثُمَّ يَنْتَقِلَ إِلَيْهِمْ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ التَّوَارُثُ كَمَا فِي سَائِرِ حُقُوقِهِ، وَلَكِنْ إِذَا انْقَلَبَ ذَلِكَ الْحَقُّ مَالًا، فَإِنَّهُ يَصِيرُ عِنْدَئِذٍ مَوْرُوثًا، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْقِصَاصِ حَقًّا لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً إِنَّمَا كَانَ لِضَرُورَةِ عَدَمِ صُلُوحِهِ لِحَاجَةِ الْمَيِّتِ، فَإِذَا انْقَلَبَ مَالًا بِالصُّلْحِ عَلَيْهِ أَوِ الْعَفْوِ إِلَى الدِّيَةِ- وَالْمَالُ يَصْلُحُ لِحَوَائِجِ الْمَيِّتِ مِنَ التَّجْهِيزِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ وَتَنْفِيذِ الْوَصَايَا- ارْتَفَعَتِ الضَّرُورَةُ، وَصَارَ الْوَاجِبُ كَأَنَّهُ هُوَ الْمَالُ، إِذِ الْخُلْفُ إِنَّمَا يَجِبُ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْأَصْلُ، فَيَثْبُتُ الْفَاضِلُ عَنْ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ لِوَرَثَتِهِ خِلَافَةً لَا أَصَالَةً.

أَمَّا حَقُّ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُورَثُ عَنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَلَا يَسْقُطُ بِوَفَاتِهِ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ، وَثُبُوتُهُ لِوَرَثَتِهِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمِيرَاثِ عَنْهُ لَا ابْتِدَاءً وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ حَقَّ الْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ إِلاَّ إِذَا طَالَبَ بِهِ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُطَالِبْ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ وَيَنْتَهِي بِوَفَاتِهِ.

حَادِيَ عَشَرَ- حَقُّ الْمُوصَى لَهُ فِي قَبُولِ الْوَصِيَّةِ:

49- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ قَبُولَ الْوَصِيَّةِ مِنَ الْمُوصَى لَهُ الْمُعَيَّنِ شَرْطٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ، وَأَنَّ لَهُ الْحَقَّ فِي قَبُولِهِ أَوْ رَدِّهَا بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ.

وَلَكِنْ إِذَا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ الْمُوصِي وَقَبْلَ صُدُورِ الْقَبُولِ أَوِ الرَّدِّ مِنْهُ، فَهَلْ يَنْتَقِلُ ذَلِكَ الْحَقُّ لِوَرَثَتِهِ أَمْ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الْقَبُولِ أَوِ الرَّدِّ فِي الْوَصِيَّةِ يَنْتَقِلُ لِوَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ إِذَا مَاتَ بَعْدَ الْمُوصِي مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ أَوْ رَدٍّ، لِأَنَّهُ حَقٌّ مَوْرُوثٌ، فَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، بَلْ يَثْبُتُ لِلْوَرَثَةِ، فَإِنْ شَاءُوا قَبِلُوا وَإِنْ شَاءُوا رَدُّوا.

وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِعَيْنِهِ وَشَخْصِهِ، فَحِينَئِذٍ تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، وَلَا يَنْتَقِلُ ذَلِكَ الْحَقُّ إِلَى وَرَثَتِهِ.

الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْقَبُولِ أَوِ الرَّدِّ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوصِي، فَإِنَّ الْمُوصَى بِهِ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى قَبُولِ الْوَرَثَةِ، لِأَنَّ الْقَبُولَ عِنْدَهُمْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الرَّدِّ، فَمَتَى وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ رَدِّ الْمُوصَى لَهُ اعْتُبِرَ قَابِلًا حُكْمًا.

الثَّالِثُ: لِلأْبْهَرِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَخَذَ بِهَا ابْنُ حَامِدٍ وَوَصَفَهَا الْقَاضِي بِأَنَّهَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ، وَهِيَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ قَبُولِهِ، لِأَنَّهَا عَقْدٌ يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ، فَإِذَا مَاتَ مَنْ لَهُ حَقُّ الْقَبُولِ قَبْلَهُ بَطَلَ الْعَقْدُ، كَالْهِبَةِ، وَلِأَنَّهُ خِيَارٌ لَا يُعْتَاضُ عَنْهُ، فَيَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، كَخِيَارِ الْمَجْلِسِ وَالشَّرْطِ وَخِيَارِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ.

ثَانِيَ عَشَرَ- حَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي قَبُولِ الْهِبَةِ وَقَبْضِهَا:

50- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ، هَلْ تَبْطُلُ الْهِبَةُ بِمَوْتِهِ، أَمْ أَنَّ حَقَّ الْقَبُولِ يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ؟ وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْقَبُولِ بَطَلَتِ الْهِبَةُ، وَلَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ حَقُّ الْقَبُولِ مِنْ بَعْدِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَوْجَبَ الْبَيْعَ فَمَاتَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبُولِ.

وَإِذَا مَاتَ بَعْدَ الْقَبُولِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِنَّ الْهِبَةَ تَبْطُلُ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، لِأَنَّهَا لَا تَلْزَمُ وَلَا يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِيهَا إِلاَّ بِالْقَبْضِ، وَقَدِ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِمَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ قَبْلَهُ، وَلِأَنَّ الْهِبَةَ صِلَةٌ، وَالصِّلَاتُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلِأَنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ قَبْلَهُ، فَبَطَلَ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ.

وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ، حَيْثُ نَصُّوا عَلَى عَدَمِ انْفِسَاخِ الْهِبَةِ بِمَوْتِ الْمُتَّهِبِ قَبْلَ الْقَبْضِ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَئُولُ إِلَى اللُّزُومِ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِالْمَوْتِ، كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَيَقُومُ وَارِثُ الْمُتَّهِبِ مَقَامَ مُوَرِّثِهِ فِي الْقَبْضِ.

وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ إِذَا مَاتَ وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ بِالْهِبَةِ، فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ، وَيَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ فِي الْقَبُولِ أَوِ الرَّدِّ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْوَاهِبُ يَقْصِدُ شَخْصَ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَذَاتَهُ لَفْظًا أَوْ بِدَلَالَةِ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، فَحِينَئِذٍ تَبْطُلُ الْهِبَةُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ الْقَبُولِ، لِأَنَّ الْحَقَّ هَاهُنَا شَخْصِيٌّ، فَيَنْتَهِي بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ.

أَمَّا إِذَا مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْهِبَةِ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ رَدٌّ حَتَّى مَاتَ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ قَابِلًا حُكْمًا، وَيَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ فِي الْقَبْضِ، وَكَذَا إِذَا قَبِلَ صَرَاحَةً، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقْبِضِ الْهِبَةَ حَتَّى وَافَتْهُ الْمَنِيَّةُ، فَيُورَثُ عَنْهُ حَقُّ قَبْضِهَا.

ثَالِثَ عَشَرَ- حَقُّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ

51- ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّ حَقَّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ لِأَنَّ الْخِيَارَ فِي الرُّجُوعِ فِيهَا حَقٌّ شَخْصِيٌّ لِلْوَاهِبِ، ثَبَتَ لَهُ لِمَعَانٍ وَأَوْصَافٍ ذَاتِيَّةٍ فِيهِ، وَالْحَقُّ الشَّخْصِيُّ لَا يُورَثُ.

ثُمَّ إِنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا أَوْجَبَ هَذَا الْحَقَّ لِلْوَاهِبِ، وَالْوَارِثُ لَيْسَ بِوَاهِبٍ.

وَأَيْضًا هُوَ حَقٌّ مُجَرَّدٌ، وَالْحُقُوقُ الْمُجَرَّدَةُ لَا تُورَثُ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا تُورَثُ تَبَعًا لِلْمَالِ، وَوَرَثَةُ الْوَاهِبِ لَا يَرِثُونَ الْعَيْنَ الْمَوْهُوبَةَ الَّتِي هِيَ مَالٌ، فَلَا يَرِثُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَقِّ الرُّجُوعِ. أَثَرُ الْمَوْتِ عَلَى الْتِزَامَاتِ الْمُتَوَفَّى:

أَثَرُ الْمَوْتِ عَلَى الِالْتِزَامَاتِ الْمُفْتَرَضَةِ بِنَصِّ الشَّارِعِ:

هُنَاكَ الْتِزَامَاتٌ مَالِيَّةٌ وَغَيْرُ مَالِيَّةٍ، وَسَنَعْرِضُ فِيمَا يَلِي أَثَرَ الْمَوْتِ عَلَى كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الِالْتِزَامَاتِ:

أَوَّلًا- الِالْتِزَامَاتُ الْمَالِيَّةُ:

أ- الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ:

52- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ الْمَوْتِ عَلَى سُقُوطِ دَيْنِ الزَّكَاةِ إِذَا تُوُفِّيَ مَنْ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِي مَالِهِ قَبْلَ أَدَائِهَا، وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَائِهَا، وَلَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى مَاتَ، فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، وَيَلْزَمُ إِخْرَاجُهَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ دَيْنَ الزَّكَاةِ حَقٌّ مَالِيٌّ وَاجِبٌ لَزِمَهُ حَالَ الْحَيَاةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِهِ، كَدَيْنِ الْعَبْدِ.وَيُفَارِقُ الصَّلَاةَ، فَإِنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهَا وَلَا النِّيَابَةُ فِيهَا وَبِعُمُومِ قوله تعالى فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} حَيْثُ عَمَّمَ سُبْحَانَهُ الدُّيُونَ كُلَّهَا، وَالزَّكَاةُ دَيْنٌ قَائِمٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلْمَسَاكِينِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْغَارِمِينَ وَسَائِرِ مَنْ فَرَضَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْمُبِينِ.

وَبِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما- قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ قَالَ - صلى الله عليه وسلم-: نَعَمْ.قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى».فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى أَحَقُّ أَنْ تُقْضَى، وَدَيْنُ الزَّكَاةِ مِنْهَا.

الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ مَاتَ، وَعَلَيْهِ دَيْنُ زَكَاةٍ لَمْ يُؤَدِّهِ فِي حَيَاتِهِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَلَا يُلْزَمُ الْوَرَثَةُ بِإِخْرَاجِهَا مِنْ تَرِكَتِهِ مَا لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ، فَإِنْ أَوْصَى بِأَدَائِهَا مِنْ تَرِكَتِهِ، فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهَا كَسَائِرِ الْوَصَايَا، وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لَا يَنْفُذُ إِلاَّ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ.

وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَحُمَيْدٍ الطَّوِيلِ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ الْأَفْعَالُ، إِذْ بِهَا تَظْهَرُ الطَّاعَةُ وَالِامْتِثَالُ، وَمَا كَانَ مَالِيًّا مِنْهَا، فَالْمَالُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَقْصُودِ، وَهُوَ الْفِعْلُ، وَقَدْ سَقَطَتِ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا بِالْمَوْتِ، لِتَعَذُّرِ ظُهُورِ طَاعَتِهِ بِهَا فِي دَارِ التَّكْلِيفِ، فَكَانَ الْإِيصَاءُ بِالْمَالِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُهَا تَبَرُّعًا مِنَ الْمَيِّتِ ابْتِدَاءً، فَاعْتُبِرَ مِنَ الثُّلُثِ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ مَالِيٌّ، وَالصِّلَاتُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ.

وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ زَكَاةَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، فَقَالُوا بِعَدَمِ سُقُوطِهَا بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْأَدَاءِ إِذَا كَانَ الْخَارِجُ، قَائِمًا، فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهِ.

الثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ زَكَاةٌ لَمْ تُؤَدَّ فِي حَيَاتِهِ، فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الزَّكَاةُ حَالَّةً فِي الْعَامِ الْحَاضِرِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ عَنْ سِنِينَ مَاضِيَةٍ فَرَّطَ فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ فِيهَا.

الْحَالَةُ الْأُولَى: فَإِنْ كَانَتِ الزَّكَاةُ حَالَّةً فِي الْعَامِ الْحَاضِرِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَإِنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ زَكَاةَ حَرْثٍ وَثَمَرٍ وَمَاشِيَةٍ، أَوْ زَكَاةَ عَيْنٍ (ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ).

فَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ أَمْوَالٍ ظَاهِرَةٍ كَحَرْثٍ وَمَاشِيَةٍ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، بَلْ تَخْرَجُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ مُقَدَّمَةً عَلَى الْكَفَنِ وَالتَّجْهِيزِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهَا أَوْ لَا، لِأَنَّهَا مِنَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ.

أَمَّا إِذَا كَانَتْ زَكَاةَ عَيْنٍ حَاضِرَةً (مِنَ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ) فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ جَبْرًا عَنِ الْوَرَثَةِ، إِنِ اعْتَرَفَ بِحُلُولِهَا وَبَقَائِهَا فِي ذِمَّتِهِ وَأَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا، أَمَّا إِذَا اعْتَرَفَ بِحُلُولِهَا، وَلَمْ يَعْتَرِفْ بِبَقَائِهَا، وَلَمْ يُوصِ بِإِخْرَاجِهَا، فَلَا يُجْبَرُ الْوَرَثَةُ عَلَى إِخْرَاجِهَا لَا مِنْ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ وَلَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُونَ فِي غَيْرِ جَبْرٍ، إِلاَّ أَنْ يَتَحَقَّقَ الْوَرَثَةُ مِنْ عَدَمِ إِخْرَاجِهَا، فَحِينَئِذٍ تَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ جَبْرًا.

وَإِذَا اعْتَرَفَ بِبَقَائِهَا، وَأَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا، أُخْرِجَتْ مِنَ الثُّلُثِ جَبْرًا.

وَإِنِ اعْتَرَفَ بِبَقَائِهَا وَلَمْ يُوصِ بِإِخْرَاجِهَا، لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِمْ بِإِخْرَاجِهَا، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُونَ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِجْبَارٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْرَجَهَا قَبْلَ مَوْتِهِ، فَإِنْ عَلِمُوا عَدَمَ إِخْرَاجِهَا أُجْبِرُوا عَلَى الْإِخْرَاجِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: وَإِذَا كَانَتِ الزَّكَاةُ عَنْ مُدَّةٍ مَاضِيَةٍ، وَفَرَّطَ فِي أَدَائِهَا سَوَاءٌ أَكَانَتْ زَكَاةَ عَيْنٍ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ حَرْثٍ فَيَلْزَمُ إِخْرَاجُهَا مِنَ الثُّلُثِ إِنْ أَوْصَى بِهَا أَوِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي ذِمَّتِهِ.

أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْتَرِفْ بِذَلِكَ وَلَمْ يُوصِ بِهَا، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْوَرَثَةَ إِخْرَاجُهَا لَا مِنَ الثُّلُثِ وَلَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.

وَلَوْ أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا فِي ذِمَّتِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّطْ، فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.

وَإِذَا أَشْهَدَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَلَى ذَلِكَ تَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ، وَتَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ.

ب- صَدَقَةُ الْفِطْرِ:

53- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ الْمَوْتِ عَلَى سُقُوطِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهَا، وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَائِهَا، وَلَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى مَاتَ، لَمْ تَسْقُطْ بِمَوْتِهِ، بَلْ يَجِبُ إِخْرَاجُهَا مِنْ تَرِكَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا.

الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهَا فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَلَا يَلْزَمُ وَرَثَتَهُ إِخْرَاجُهَا مِنْ تَرِكَتِهِ مَا لَمْ يُوصِ بِهَا.

فَإِنْ أَوْصَى بِهَا، فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَجَبَتْ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ مَالِيٌّ، وَالصِّلَاتُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ.

الثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ الْحَاضِرَةَ إِذَا مَاتَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ إِخْرَاجِهَا، فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ كَزَكَاةِ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ إِنْ أَوْصَى بِهَا.

أَمَّا إِذَا لَمْ يُوصِ بِهَا، فَإِنَّ الْوَرَثَةَ يُؤْمَرُونَ بِإِخْرَاجِهَا، لَكِنَّهُمْ لَا يُجْبَرُونَ عَلَى ذَلِكَ.

وَإِذَا كَانَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْ سِنِينَ مَاضِيَةٍ فَرَّطَ فِيهَا، ثُمَّ أَوْصَى بِأَدَائِهَا قَبْلَ مَوْتِهِ، فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ.

وَلَوْ أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ، فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهَا أَمْ لَمْ يُوصِ. ج- الْخَرَاجُ وَالْعُشْرُ:

54- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أَنَّ أَرْضًا مِنْ أَرَاضِي الْخَرَاجِ مَاتَ رَبُّهَا قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ الْخَرَاجُ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ، لِأَنَّ الْخَرَاجَ فِي مَعْنَى الصِّلَةِ، فَيَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، وَلَا يَتَحَوَّلُ إِلَى التَّرِكَةِ كَالزَّكَاةِ، ثُمَّ إِنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ مُعْتَبَرٌ بِخَرَاجِ الرَّأْسِ، فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْنَى الصَّغَارِ، وَكَمَا أَنَّ خَرَاجَ الرَّأْسِ يَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ عَلَيْهِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، فَكَذَلِكَ خَرَاجُ الْأَرْضِ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الْوَرَثَةِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ.

وَلَوْ مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ، وَفِيهَا زَرْعٌ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ عَلَى حَالِهِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ، وَقَالَ: يَسْقُطُ بِمَوْتِ رَبِّ الْأَرْضِ، وَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَالزَّرْعُ الْقَائِمُ يَصِيرُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَرَبِّ الْأَرْضِ، عُشْرُهُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ، وَتِسْعَةُ أَعْشَارِهِ حَقُّ رَبِّ الْأَرْضِ، وَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ فِي إِيجَابِ الْعُشْرِ الْمَالِكُ، حَتَّى يَجِبَ فِي أَرْضِ الْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ وَالْمَدِينِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَبِمَوْتِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْآخَرِ، وَلَكِنْ يَبْقَى مَحِلُّهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْخَرَاجِ، حَيْثُ إِنَّ مَحَلَّهُ الذِّمَّةُ، وَبِمَوْتِهِ خَرَجَتْ ذِمَّتُهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً لِالْتِزَامِ الْحُقُوقِ، وَالْمَالُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الذِّمَّةِ فِيمَا طَرِيقُهُ طَرِيقُ الصِّلَةِ.

د- الْجِزْيَةُ:

55- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِ الْجِزْيَةِ عَنِ الذِّمِّيِّ إِذَا مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْجِزْيَةَ إِذَا وَجَبَتْ عَلَى الذِّمِّيِّ، فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ أَدَائِهَا، سَوَاءٌ مَاتَ بَعْدَ الْحَوْلِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ كَالْحُدُودِ، وَلِأَنَّهَا تَسْقُطُ أَيْضًا بِإِسْلَامِهِ، فَتَسْقُطُ كَذَلِك بِمَوْتِهِ.

إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: إِذَا أَوْصَى بِهَا فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا.

وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الذِّمِّيَّ إِذَا مَاتَ بَعْدَ الْحَوْلِ، فَإِنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ، لِأَنَّهَا دَيْنٌ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِمَوْتِهِ، بَلْ تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ الْمَالِيَّةِ. أَمَّا إِذَا مَاتَ فِي أَثَنَاء الْحَوْلِ، فَلَا تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا تَسْقُطُ، وَيُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ قِسْطُ مَا مَضَى، لِأَنَّهَا كَالْأُجْرَةِ.

هـ- الْكَفَّارَاتُ الْوَاجِبَةُ وَفِدْيَةُ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَجَزَاءُ الصَّيْدِ:

56- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ الْمَوْتِ عَلَى الْكَفَّارَاتِ الْمَالِيَّةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهَا، كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ الْخَطَأِ وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَكَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ عَمْدًا، وَكَذَا مَا يَلْزَمُهُ مِنْ فَدِيَةِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ إِخْرَاجِهَا وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ، الْكَفَّارَاتِ وَنَحْوَهَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ كَفِدْيَةِ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ أَدَائِهَا وَتَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، أَوْصَى بِهَا أَوْ لَمْ يُوصِ.

وَكَذَلِكَ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِدْيَةُ الصَّوْمِ وَهُوَ مُوسِرٌ، فَمَاتَ قَبْلَ أَدَائِهَا فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إِذَا مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْحَجِّ أَوْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ، وَهُوَ وَاجِدٌ لِلْهَدْيِ، وَلَمْ يَكُنْ أَخْرَجَهُ بَعْدُ، فَيَجِبُ إِخْرَاجُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي الْمَذْهَبِ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ الْمُسْتَقِرَّةِ.

الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْكَفَّارَاتِ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِهَا قَبْلَ وَفَاتِهِ، فَحِينَئِذٍ تَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا، وَمَا زَادَ مِنْهَا عَلَى الثُّلُثِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازُوهُ نَفَذَ وَإِنْ رَدُّوهُ بَطَلَ.

وَكَذَا الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ لِفِدْيَةِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ.

الثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّخْصَ إِذَا أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ عَلَى الْكَفَّارَاتِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَدَائِهَا، فَإِنَّهَا بِمَوْتِهِ تَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهَا أَوْ لَمْ يُوصِ.

وَأَمَّا إِذَا فَرَّطَ فِي أَدَائِهَا حَتَّى مَاتَ، وَلَمْ يُشْهِدْ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ، وَلَكِنَّهُ أَوْصَى بِهَا، فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي فِدْيَةِ الْحَجِّ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ.

أَمَّا إِذَا لَمْ يُوصِ بِهَا، وَلَمْ يُشْهِدْ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ، فَلَا يُجْبَرُ الْوَرَثَةُ عَلَى إِخْرَاجِهَا مِنَ التَّرِكَةِ أَصْلًا.

وَأَمَّا الْهَدْيُ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ فِي الْحَجِّ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ إِذَا مَاتَ الْمُتَمَتِّعُ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِذَلِكَ أَمْ لَا.وَإِذَا مَاتَ قَبْلَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِلاَّ إِذَا قَلَّدَ الْهَدْيَ، فَيَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ ذَبْحُهُ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ.

و- نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ

57- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا مَتَى سَلَّمَتْ نَفْسَهَا إِلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا وَلَمْ تَكُنْ نَاشِزًا.

وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِهَا دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ إِنْ لَمْ يُؤَدِّهَا إِلَيْهَا، وَوُجُوبِهَا فِي تَرِكَتِهِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ، أَوْ سُقُوطِهَا بِالْمَوْتِ قَبْلَهُ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ تَكُونُ عَلَى زَوْجِهَا- حَتَّى لَوْ كَانَ مُعْسِرًا- إِذَا لَمْ تَمْنَعْهُ تَمَتُّعًا مُبَاحًا، وَتَجِبُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَهَا إِذَا لَمْ يَقُمْ بِوَاجِبِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَصْدُرْ بِهَا قَضَاءُ قَاضٍ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ الزَّوْجِ قَبْلَ الْأَدَاءِ إِلَيْهَا، بَلْ تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ الْمُسْتَقِرَّةِ.

الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ لَا تَصِيرُ دَيْنًا وَاجِبًا فِي ذِمَّتِهِ إِلاَّ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي.

وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنْ قَضَى بِهَا الْقَاضِي وَأَمَرَ الزَّوْجَةَ بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَى الزَّوْجِ، فَفَعَلَتْ، فَإِنَّ دَيْنَ النَّفَقَةِ هَذَا لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ الزَّوْجِ قَبْلَ أَدَائِهِ إِلَيْهَا.

أَمَّا إِذَا قَضَى بِهَا، وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالِاسْتِدَانَةِ، فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، لِأَنَّهَا صِلَةٌ، وَالصِّلَاتُ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ.

الثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ لَا تَلْزَمُهُ فِي حَالِ إِعْسَارِهِ، وَمَا أَنْفَقَتْهُ الزَّوْجَةُ عَلَى نَفْسِهَا فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ لَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَإِذَا مَاتَ الزَّوْجُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، فَلَا يَجِبُ لَهَا فِي تَرِكَتِهِ شَيْءٌ مِنَ النَّفَقَةِ عَنْ تِلْكَ الْمُدَّةِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ سَاقِطَةً عَنْهُ خِلَالَهَا.

أَمَّا إِذَا كَانَ مُوسِرًا، فَإِنَّ مَا تَجَمَّدَ عَلَيْهِ مِنْ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ فِي زَمَنِ الْيَسَارِ، يَكُونُ ثَابِتًا فِي ذِمَّتِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَلَوْ لَمْ يَفْرِضْهُ قَاضٍ، وَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ أَدَائِهِ، بَلْ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ كَسَائِرِ دُيُونِ الْعِبَادِ، وَتُحَاصِصُ الزَّوْجَةُ فِيهِ سَائِرَ الْغُرَمَاءِ.

ز- نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ:

58- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لِمَنْ ثَبَتَتْ لَهُ، وَوُجُوبِهَا فِي تَرِكَتِهِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهَا لِمُسْتَحِقِّهَا، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ تَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ أَدَائِهَا لِمُسْتَحِقِّهَا، لِأَنَّهَا صِلَةٌ، وَالصِّلَاتُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، إِلاَّ إِذَا فَرَضَهَا الْقَاضِي وَأَمَرَ بِاسْتِدَانَتِهَا عَلَيْهِ، فَفَعَلَ الْمُسْتَحِقُّ، فَعِنْدَئِذٍ تَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ مَنْ لَزِمَتْهُ، وَلَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ الْأَدَاءِ، بَلْ تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ كَسَائِرِ دُيُونِ الْعِبَادِ، حَيْثُ إِنَّهَا تَأَكَّدَتْ بِفَرْضِ الْحَاكِمِ وَأَمْرِهِ بِالِاسْتِدَانَةِ.

الثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ مُتَجَمِّدَ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ يَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ لَزِمَتْهُ قَبْلَ أَدَائِهَا إِلاَّ إِذَا حَكَمَ بِهَا حَاكِمٌ، أَوْ أَنْفَقَ شَخْصٌ عَلَى مَنْ وَجَبَتْ لَهُ غَيْرَ قَاصِدٍ التَّبَرُّعَ عَلَيْهَا بِهَا، وَكَانَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ مُوسِرًا، فَعِنْدَئِذٍ تَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ الْأَدَاءِ، بَلْ تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ الثَّابِتَةِ لِلْآدَمِيِّينَ.

ح- الدِّيَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ:

59- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْقَتْلِ الْخَطَأِ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُنَجَّمَةً عَلَى ثَلَاثِ سِنِينَ.

وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا مَاتَ أَحَدٌ مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَاقِلَةِ قَبْلَ الْأَدَاءِ، فَهَلْ تَسْقُطُ عَنْهُ، أَمْ تَكُونُ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنَ الْعَاقِلَةِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَكَانَ مُوسِرًا، اسْتَقَرَّتِ الدِّيَةُ عَلَيْهِ، وَأُخِذَتْ مِنْ تَرِكَتِهِ مُقَدَّمَةً عَلَى الْوَصَايَا وَالْمِيرَاثِ، وَأَمَّا إِذَا مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، أَوْ مَاتَ مُعْسِرًا، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْهَا.الثَّانِي: لِأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنَ الْعَاقِلَةِ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ، فَلَا يَجِبُ فِي تَرِكَتِهِ شَيْءٌ مِمَّا ضُرِبَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنْ مَاتَ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، إِذْ هِيَ مَالٌ يَجِبُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ، فَأَشْبَهَ الزَّكَاةَ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْحَوْلِ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ أَيْضًا، لِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ.

الثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ مَا ضُرِبَ عَلَى فَرْدٍ مِنَ الْعَاقِلَةِ، وَكَانَ مُسْتَوْفِيًا لِشُرُوطِهِ حِينَ لَزِمَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، بَلْ يَكُونُ دَيْنًا يُقْضَى مِنْ تَرِكَتِهِ، وَحَتَّى مَا كَانَ مُؤَجَّلًا مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ بِمَوْتِهِ.

ط- الْفِعْلُ الضَّارُّ:

60- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ أَلْحَقَ بِغَيْرِهِ ضَرَرًا يَسْتَوْجِبُ ضَمَانًا مَالِيًّا، فَإِنَّهُ يَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ تَأْدِيَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِوَفَاتِهِ، بَلْ يَجِبُ فِي تَرِكَتِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْوَصَايَا وَالْمَوَارِيثِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أَوْ لَمْ يُوصِ، كَسَائِرِ دُيُونِ الْآدَمِيِّينَ.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (دَيْنٌ ف 20).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


139-موسوعة الفقه الكويتية (موقوف)

مَوْقُوفٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمَوْقُوفُ لُغَةً: اسْمُ مَفْعُولٍ لِفِعْلِ: وَقَفَ، بِمَعْنَى: سَكَنَ وَحُبِسَ وَمُنِعَ، يُقَالُ: وَقَفَتِ الدَّابَّةُ: سَكَنَتْ، وَوَقَفْتُهَا أَنَا: مَنَعْتُهَا مِنَ السَّيْرِ وَنَحْوِهِ، وَوَقَفْتُ الدَّارَ: حَبَسْتُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ.

وَيُطْلَقُ عَلَى عَكْسِ الْجُلُوسِ، يُقَالُ: وَقَفَ الرَّجُلُ: قَامَ عَنْ مَجْلِسِهِ، وَعَلَى الْمَنْعِ: وَقَفْتُهُ عَنِ الْكَلَامِ: مَنَعْتُهُ عَنْهُ.

وَالْمَوْقُوفُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:

الْمَعْنَى الْأَوَّلُ: يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ عَيْنٍ مَحْبُوسَةٍ فِي سَبِيلِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ بِشُرُوطٍ.

وَالْمَعْنَى الثَّانِي: يُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ، وَهُوَ مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ، وَيُفِيدُ الْمِلْكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَقُّفِ، وَلَا يُفِيدُ تَمَامَهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ.

وَالْمَوْقُوفُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ: مَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَتَجَاوَزُ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الصَّدَقَةُ:

2- الصَّدَقَةُ فِي اللُّغَةِ: مَا يُعْطَى عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هِيَ الْعَطِيَّةُ تَبْتَغِي بِهَا الْمَثُوبَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَوْقُوفِ وَالصَّدَقَةِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، فَلَيْسَ كُلُّ مَوْقُوفٍ صَدَقَةً، وَلَيْسَ كُلُّ صَدَقَةٍ مَوْقُوفًا.

ب- الْمُوصَى بِهِ:

3- الْمُوصَى بِهِ اسْمٌ لِمَا يَتَبَرَّعُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالٍ فِي حَالِ حَيَاتِهِ تَبَرُّعًا مُضَافًا لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَوْقُوفِ وَالْمُوصَى بِهِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بَذْلُ مَالٍ بِلَا عِوَضٍ ابْتِغَاءَ الْمَثُوبَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَوْقُوفِ:

أَوَّلًا- الْمَوْقُوفُ بِمَعْنَى الْعَيْنِ الْمَحْبُوسَةِ:

أ- مَا يَجُوزُ وَقْفُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ

4- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ أَحْكَامِ الْمَوْقُوفِ:

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ وَقْفُ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ، كَحَيَوَانٍ وَسِلَاحٍ وَأَثَاثٍ وَنَحْوِ ذَلِك، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا فَإِنَّهُ احْتَبَسَ أَدْرُعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ اتَّفَقَتْ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ وَالْأَزْمَانِ عَلَى وَقْفِ الْحُصُرِ وَالْقَنَادِيلِ وَالزَّلَالِيِّ فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حَبْسِ الْعَيْنِ لِلْبِرِّ أَنْ تَكُونَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ كَالْعَقَارِ، فَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ وَقْفُ الْمَنْقُولِ مَقْصُودًا، لِأَنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطُ جَوَازِهِ، وَوَقْفُ الْمَنْقُولِ لَا يَتَأَبَّدُ لِكَوْنِهِ عَلَى شُرَفِ الْهَلَاكِ، فَلَا يَجُوزُ وَقْفُهُ مَقْصُودًا.

وَيَجُوزُ إِنْ كَانَ تَبَعًا لِمَا لَا يُنْقَلُ كَالْعَقَارِ.

وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِي وَقْفِ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ وَالْمَنْفَعَةِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ).

ب- انْتِقَالُ مِلْكِيَّةِ الْمَوْقُوفِ مِنَ الْوَاقِفِ بِالْوَقْفِ

5- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَالِ مِلْكِيَّةِ الْمَوْقُوفِ بِالْوَقْفِ عَلَى ثَلَاثَةِ آرَاءٍ:

الرَّأْيُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَظْهَرِ أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ لَهُمْ، وَأَبُو يُوْسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ مِلْكَ رَقَبَةِ الْمَوْقُوفِ تَنْتَقِلُ مِنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

وَمَعْنَى انْتِقَالِهِ إِلَى اللَّهِ: أَنَّ الْمِلْكَ يَنْفَكُّ مِنِ اخْتِصَاصِ الْآدَمِيِّ، وَإِلاَّ فَجَمِيعُ الْأَشْيَاءِ مِلْكٌ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَا تَكُونُ لِلْوَاقِفِ وَلَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ.

غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبِيْ يُوْسُفَ أَنَّ الْمِلْكِيَّةَ تَنْتَقِلُ بِمُجَرَّدِ التَّلَفُّظِ بِصِيغَةِ صَحِيحَةٍ مِنْ صِيَغِ الْوَقْفِ.

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بْنِ الْحَسَنِ لَا تَنْتَقِلُ بِالْقَوْلِ حَتَّى يَجْعَلَ لِلْمَوْقُوفِ وَلِيًّا يُسَلِّمُهُ إِلَيْهِ.

وَلَا فَرْقَ فِي انْتِقَالِ الْمِلْكِ إِلَى اللَّهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ جِهَةً عَامَّةً كَالرِّبَاطِ وَالْمَدَارِسِ وَالْغُزَاةِ وَالْفُقَرَاءِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: «أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا.فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْت حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُبْتَاعُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ.قَالَ: فَتَصَدَّقَ عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ وَفِي الْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالضَّيْفِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ».

وَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا قَدْ تَعَامَلُوهُ فَكَانَ إِجْمَاعًا وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إِلَى أَنْ يَلْزَمَ الْوَقْفُ لِيَصِلَ ثَوَابُهُ إِلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ، وَأَمْكَنَ دَفْعُ هَذِهِ الْحَاجَةِ بِإِسْقَاطِ الْمِلْكِ وَجَعْلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي الْمَسْجِدِ، وَيَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ كَمَا يَخْرُجُ الْمَسْجِدُ.

وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ بِزَوَالِ الْمِلْكِ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ- كَمَا سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ- لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ لِلَّهِ فَصَارَ كَالْعِتْقِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَزُولُ الْمِلْكُ حَتَّى يُسَلِّمَهُ إِلَى الْمُتَوَلِّي لِأَنَّهُ صَدَقَةٌ، فَيَكُونُ التَّسْلِيمُ مِنْ شَرْطِهِ كَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ، وَلِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَحَقَّقُ قَصْدًا لِأَنَّهُ مَالِكُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَلَكِنَّهُ يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ التَّسْلِيمِ إِلَى الْعَبْدِ.

الرَّأْيُ الثَّانِي: ذَهَبَ أَبَو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الْمَوْقُوفَ يَبْقَى عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ إِذَا لَمْ يَجْعَلْهُ مَسْجِدًا، وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ بَيَانُهُ كَالْآتِي:

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَزُولُ الْمِلْكُ إِلاَّ بِقَضَاءِ قَاضٍ يَرَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، فَيَنْفُذُ قَضَاؤُهُ.

وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ: «لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ» وَلِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ بَاقٍ، إِذْ غَرَضُهُ التَّصَدُّقُ بِغَلَّتِهِ، وَهُوَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلاَّ إِذَا بَقِيَ الْأَصْلُ عَلَى مِلْكِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام- لِعُمَرِ- رضي الله عنه-: «احْبِسْ أَصْلَهَا وَسَبِّلْ ثَمَرَتَهَا» أَيْ: احْبِسْهُ عَلَى مِلْكِك وَتَصَدَّقْ بِثَمَرَتِهَا، وَإِلاَّ كَانَ مُسَبِّلًا جَمِيعَهَا، وَلِأَنَّ خُرُوجَ الْمِلْكِ لَا إِلَى مَالِكٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَانَا عَنِ السَّائِبَةِ، وَهِيَ الَّتِي يُسَيِّبُهَا مَالِكُهَا وَيُخْرِجُهَا عَنْ مِلْكِهِ بِزَعْمِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ}.

وَفَرَّقُوا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ جَعْلِ الْبُقْعَةِ مَسْجِدًا أَوِ الْوَقْفِ عَلَيْهِ وَالْعِتْقِ، حَيْثُ يَزُولُ الْمِلْكُ بِهِمَا، لِأَنَّهُ يُحْرَزُ عَنْ حَقِّ الْعَبْدِ حَتَّى لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ، وَلِهَذَا لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُ حَقُّ الْعَبْدِ حَتَّى كَانَ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِصَرْفِ غَلاَّتِهِ إِلَى مَصَارِفِهِ، وَنَصْبِ الْقَيِّمِ، وَلِأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِالْغَلَّةِ أَوِ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْدُومَةِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ إِلاَّ فِي الْوَصِيَّةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ: إِنَّ مِلْكَ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ ثَابِتٌ لِلْوَاقِفِ، لِأَنَّ الْوَقْفَ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِسْقَاطِ فَلَا يَزُولُ بِهِ الْمِلْكُ، بَلْ يَبْقَى فِي مِلْكِ الْوَاقِفِ، وَلِلْوَاقِفِ فِي حَيَاتِهِ مَنْعُ مَنْ يُرِيدُ إِصْلَاحَهُ لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ الْإِصْلَاحُ إِلَى تَغْيِيرِ مَعَالِمِهِ، وَلِوَارِثِهِ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَمْنَعِ الْوَارِثُ فَلِلْإِمَامِ ذَلِكَ، هَذَا إِذَا قَامَ الْوَرَثَةُ بِإِصْلَاحِهِ، وَإِلاَّ فَلِغَيْرِهِمْ إِصْلَاحُهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي: يَبْقَى مِلْكُ رَقَبَةِ الْمَوْقُوفِ لِلْوَاقِفِ، لِأَنَّهُ حَبَسَ الْأَصْلَ وَسَبَّلَ الثَّمَرَةَ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِهِ.

الرَّأْيُ الثَّالِثُ: ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا يُوقَفُ عَلَى شَخْصٍ أَوْ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَبَيْنَ مَا يُوقَفُ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ، حَيْثُ يَبْقَى الْأَوَّلُ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ، وَالثَّانِي يَنْتَقِلُ إِلَى مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ.

قَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ جِهَةً عَامَّةً، كَالْمَدَارِسِ وَالرِّبَاطِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْغُزَاةِ، فَإِنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ يَنْتَقِلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا عِنْدَهُمْ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ آدَمِيًّا مُعَيَّنًا أَوْ عَدَدًا مِنَ الْآدَمِيِّينَ مَحْصُورِينَ كَأَوْلَادِهِ أَوْ أَوْلَادِ زَيْدٍ: يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، فَيَمْلِكُهُ كَالْهِبَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ لَهُمْ: يَنْتَقِلُ الْمَوْقُوفُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إِلْحَاقًا بِالصَّدَقَةِ وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا وُقِفَ عَلَى شَخْصٍ أَوْ جِهَةٍ عَامَّةٍ، أَمَّا إِذَا جَعَلَ الْبُقْعَةَ مَسْجِدًا أَوْ مَقْبَرَةً فَهُوَ فَكٌّ عَنِ الْمِلْكِ، فَيَنْقَطِعُ مِنْهُ اخْتِصَاصُ الْآدَمِيِّينَ قَطْعًا.

ج- الِانْتِفَاعُ بِمَنَافِعِ الْمَوْقُوفِ

6- مَنَافِعُ الْمَوْقُوفِ عَلَى مُعَيَّنٍ مِلْكٌ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ يَسْتَوْفِيهَا بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، بِإِعَارَةٍ وَإِجَارَةٍ كَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ، وَلَكِنْ لَا يُؤَجِّرُ إِلاَّ إِذَا كَانَ نَاظِرًا أَوْ أَذِنَ لَهُ النَّاظِرُ فِي تَأْجِيرِهَا.

وَكَذَلِكَ يَمْلِكُ فَوَائِدَ الْمَوْقُوفِ الْحَاصِلَةَ بَعْدَ الْوَقْفِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَوْ شَرْطِ أَنَّهَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ كَأُجْرَةِ الْعَقَارِ وَنَحْوِهَا، وَزَوَائِدُ الْمَوْقُوفِ كَثَمَرَةِ، وَصُوفٍ، وَلَبَنٍ، وَكَذَا الْوَلَدُ الْحَادِثُ بَعْدَ الْوَقْفِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، أَوْ شَرْطُ الْوَلَدِ لَهُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيَمْلِكُهُ كَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ وَقْفًا تَبَعًا لأُِمِّهِ، وَلَوْ كَانَتْ حَامِلًا عِنْدَ الْوَقْفِ فَوَلَدُهَا وَقْفٌ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَكَذَا عَلَى الْأَوَّلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ يُعْلَمُ، وَهَذَا الْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ.

وَإِنْ مَاتَتِ الْبَهِيمَةُ اخْتَصَّ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بِجِلْدِهَا، لِأَنَّهُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ.

وَكُلُّ هَذَا مَا لَمْ يُعَيِّنِ الْوَاقِفُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهِ الِانْتِفَاعِ.

د- حُكْمُ بَدَلِ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ إِذَا تَلِفَتْ

7- لَا يَمْلِكُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بَدَلَ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةَ إِنْ تَلِفَتْ تَحْتَ يَدٍ ضَامِنَةٍ، بَلْ يَشْتَرِي بِهَا مِثْلَهَا لِتَكُونَ وَقْفًا مَكَانَهَا مُرَاعَاةً لِغَرَضِ الْوَاقِفِ فِي اسْتِمْرَارِ الثَّوَابِ.

وَاَلَّذِي يَتَوَلَّى الشِّرَاءَ وَالْوَقْفَ هُوَ الْحَاكِمُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَوْقُوفَ مِلْكٌ لِلَّهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لِلْوَقْفِ نَاظِرٌ خَاصٌّ أَوْ لَا.

أَمَّا مَا اشْتَرَاهُ النَّاظِرُ مِنْ مَالِهِ أَوْ مِنْ رِيعِ الْمَوْقُوفِ أَوْ يَعْمُرُهُ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا لِجِهَةِ الْوَقْفِ فَالْمُنْشِئُ هُوَ النَّاظِرُ، وَكَذَا مَا يَشْتَرِيهِ الْحَاكِمُ بِبَدَلِ الْمُتْلَفِ لَا يَصِيرُ مَوْقُوفًا حَتَّى يَقِفَهُ الْحَاكِمُ.

أَمَّا مَا يَقُومُ النَّاظِرُ أَوِ الْحَاكِمُ مِنْ تَرْمِيمِ الْمَوْقُوفِ وَإِصْلَاحِ جُدْرَانِهِ فَلَيْسَ وَقْفًا مُنْشِئًا، لِأَنَّ الْعَيْنَ فِي مَسْأَلَةِ شِرَاءِ بَدَلِ الْعَيْنِ التَّالِفَةِ بِمِثْلِهَا فَاتَتْ بِالْكُلِّيَّةِ، أَمَّا الْأَرَاضِي الْمَوْقُوفَةُ فَهِيَ بَاقِيَةٌ، وَالطِّينُ وَالْحَجَرُ الْمَبْنِيُّ بِهِمَا كَالْوَصْفِ التَّابِعِ لِلْمَوْقُوفِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَصِيرُ الْبَدَلُ وَقْفًا بِلَا حَاجَةٍ إِلَى إِنْشَاءِ وَقْفٍ جَدِيدٍ.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَصِيرُ وَقْفًا إِذَا أَمْكَنَ وَإِلاَّ تَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ.

هـ- الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ الْمَوْقُوفِ وَجِنَايَتُهُ

8- إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ قِنًّا وَكَانَ قَتْلُهُ عَمْدًا فَلَيْسَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ عَفْوٌ مَجَّانًا وَلَا قَوَدٌ، لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ كَعَبْدٍ مُشْتَرَكٍ، فَيُشْتَرَى بِقِيمَتِهِ بَدَلُهُ: أَيْ مِثْلُهُ.

وَاعْتِبَارُ الْمِثْلِيَّةِ فِي الْبَدَلِ الْمُشْتَرَى مَعْنَاهُ: وُجُوبُ الذَّكَرِ فِي الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى فِي الْأُنْثَى، وَالْكَبِيرِ فِي الْكَبِيرِ، وَسَائِرِ الْأَوْصَافِ الَّتِي تَتَفَاوَتُ الْأَعْيَانُ بِتَفَاوُتِهَا، وَلَا سِيَّمَا الصِّنَاعِيَةُ الْمَقْصُودَةُ فِي الْوَقْفِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ جُبْرَانُ مَا فَاتَ وَلَا يَحْصُلُ بِدُونِ ذَلِكَ.

وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ قَطْعَ بَعْضِ أَطْرَافِهِ عَمْدًا فَلِلْقِنِّ الْمَوْقُوفِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ حَقُّهُ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ.

وَإِنْ عَفَا الْقِنُّ الْمَوْقُوفُ عَنِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ أَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ لَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ لِعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ أَوْ لِكَوْنِهَا خَطَأً وَجَبَ نِصْفُ قِيمَتِهِ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ قَطْعَ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ مِمَّا فِيهِ نِصْفُ دِيَةٍ فِي الْحُرِّ وَإِلاَّ فَبِحِسَابِهِ وَيُشْتَرَى بِالْأَرْشِ مِثْلُهُ أَوْ شِقْصُ بَدَلِهِ.

وَإِنْ جَنَى الْعَبْدُ الْمَوْقُوفُ خَطَأً فَالْأَرْشُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ.

وَلَمْ يَلْزَمِ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ فَيَجِبُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْقِيمَةِ أَوْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ.

9- وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَالْمَسَاكِينِ وَجَنَى فَأَرْشُ الْجِنَايَةِ فِي كَسْبِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مُسْتَحِقٌّ مُعَيَّنٌ يُمْكِنُ إِيجَابُ الْأَرْشِ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ تَعَلُّقُهَا بِرَقَبَتِهِ فَتَعَيَّنَ فِي كَسْبِهِ.

وَإِنْ جَنَى الْمَوْقُوفُ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقِصَاصَ وَجَبَ الْقِصَاصُ لِعُمُومِ قوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}.

فَإِنْ قُتِلَ قِصَاصًا بَطَلَ الْوَقْفُ كَمَا لَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، وَإِنْ قُطِعَ كَانَ بَاقِيهِ وَقْفًا.

و- عَطَبُ الْمَوْقُوفِ بِسَبَبٍ غَيْرِ مَضْمُونٍ

10- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا تَعَطَّلَتْ مَنْفَعَةُ الْمَوْقُوفِ، كَأَنْ جَفَّتِ الشَّجَرَةُ أَوْ قَلَعَهَا رِيحٌ أَوْ سَيْلٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ وَلَمْ يُمْكِنْ إِعَادَتُهَا إِلَى مَغْرَزِهَا قَبْلَ جَفَافِهَا لَمْ يَنْقَطِعِ الْوَقْفُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَإِنِ امْتَنَعَ وَقْفُهَا ابْتِدَاءً لَقُوَّةِ الدَّوَامِ بَلْ يُنْتَفَعُ بِهَا جِذْعًا بِإِجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا إِدَامَةً لِلْوَقْفِ فِي عَيْنِهَا، وَلَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ، وَقِيلَ: تُبَاعُ لِتَعَذُّرِ الِانْتِفَاعِ كَمَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ، وَالثَّمَنُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ حُكْمُهُ كَقِيمَةِ الْمُتْلَفِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ بَيْعُ شَجَرَةٍ مَوْقُوفَةٍ يَبِسَتْ وَبَيْعُ جِذْعٍ مَوْقُوفٍ إِنِ انْكَسَرَ أَوْ بَلِيَ أَوْ خِيفَ الْكَسْرُ أَوِ الْهَدْمُ، وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ نَقْلًا عَنْ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ: إِذَا أَشْرَفَ الْجِذْعُ الْمَوْقُوفُ عَلَى الِانْكِسَارِ أَوْ دَارُهُ عَلَى الِانْهِدَامِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ أُخِّرَ لَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ رِعَايَةً لِلْمَالِيَّةِ، أَوْ يُنْقَضُ تَحْصِيلًا لِلْمَصْلَحَةِ.

وَالْمَدَارِسُ وَالرُّبُطُ وَالْخَانَاتُ الْمُسَبَّلَةُ وَنَحْوُهَا جَازَ بَيْعُهَا عِنْدَ خَرَابِهَا، وَيَصِحُّ بَيْعُ مَا فَضَلَ مِنْ نِجَارَةِ خَشَبِ الْمَوْقُوفِ وَنُحَاتَتِهِ وَإِنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ عَدَمَ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ لِخَبَرِ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ».

وَإِنْ بِيعَ الْمَوْقُوفُ يُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ أَوْ بَعْضِ مِثْلِهِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ فِي مِثْلِهِ، لِأَنَّ فِي إِقَامَةِ الْبَدَلِ مَقَامَهُ تَأْبِيدًا لَهُ وَتَحْقِيقًا لِلْمَقْصُودِ فَتَعَيَّنَ وُجُوبُهُ، وَيُصْرَفُ فِي جِهَتِهِ وَهِيَ مَصْرِفُهُ، لِامْتِنَاعِ تَغْيِيرِ الْمَصْرِفِ مَعَ إِمْكَانِ مُرَاعَاتِهِ.

وَإِنْ تَعَطَّلَتِ الْجِهَةُ الَّتِي عَيَّنَهَا الْوَاقِفُ صُرِفَ فِي جِهَةٍ مِثْلِهَا، فَإِذَا وَقَفَ عَلَى الْغُزَاةِ فِي مَكَانٍ فَتَعَطَّلَ الْغَزْوُ فِيهِ، صُرِفَ الْبَدَلُ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْغُزَاةِ فِي مَكَانٍ آخَرَ تَحْصِيلًا لِغَرَضِ الْوَاقِفِ فِي الْجُمْلَةِ حَسْبَ الْإِمْكَانِ.

ز- عِمَارَةُ الْمَوْقُوفِ

11- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ عِمَارَةُ الْمَوْقُوفِ حَتَّى لَا يَضِيعَ الْوَقْفُ وَتَتَعَطَّلَ أَغْرَاضُهُ.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْجِهَةِ الَّتِي يُنْفَقُ مِنْهَا عَلَى الْعِمَارَةِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّ الْعِمَارَةَ تَكُونُ مِنْ غَلَّةِ الْمَوْقُوفِ، سَوَاءٌ شَرَطَ الْوَاقِفُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشْرِطْ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَتْبَعُ شَرْطَ الْوَاقِفِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ).

ج- نَقْضُ الْمَوْقُوفِ

12- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا انْهَدَمَ الْبِنَاءُ الْمَوْقُوفُ يُصْرَفُ نَقْضُهُ إِلَى عِمَارَتِهِ إِنِ احْتَاجَ، وَإِلاَّ حَفِظَهُ إِلَى الِاحْتِيَاجِ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْعِمَارَةِ، لِأَنَّ الْمَوْقُوفَ لَا يَبْقَى بِدُونِهَا فَلَا يَحْصُلُ صَرْفُ الْغَلَّةِ إِلَى الْمَصْرِفِ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَيَبْطُلُ غَرَضُ الْوَاقِفِ إِلَى الْمَصْرِفِ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَيَصْرِفُهُ لِلْحَالِ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ.

وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ يُمْسِكُهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَيْهِ كَيْ لَا يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَوَانَ الْحَاجَةِ.

وَلَا يُقْسَمُ النَّقْضُ عَلَى مُسْتَحِقِّي غَلَّةِ الْمَوْقُوفِ لِأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ حَقٌّ فِي الْعَيْنِ وَلَا فِي جُزْءٍ مِنْهُ وَإِنَّمَا حَقُّهُمْ فِي الْمَنَافِعِ، فَلَا يُصْرَفُ إِلَيْهِمْ غَيْرُ حَقِّهِمْ، وَإِنْ تَعَذَّرَ إِعَادَةُ عَيْنِهِ بِيعَ وَصُرِفَ ثَمَنُهُ إِلَى الْعِمَارَةِ، لِأَنَّ الْبَدَلَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ فَيُصْرَفُ مَصْرِفَ الْبَدَلِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَنَقْضُ الْحَبْسِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبْدَلَ رِيعٌ خَرِبٌ بِرِيعٍ غَيْرِ خَرِبٍ إِلاَّ لِتَوْسِعَةِ مَسْجِدٍ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ انْهَدَمَ مَسْجِدٌ وَتَعَذَّرَتْ إِعَادَتُهُ لَمْ يُبَعْ بِحَالٍ لِإِمْكَانِ الِانْتِفَاعِ بِهِ حَالًا بِالصَّلَاةِ فِي أَرْضِهِ، نَعَمْ لَوْ خِيفَ عَلَى نَقْضِهِ نُقِضَ وَحُفِظَ لَيُعْمِرَ بِهِ مَسْجِدًا آخَرَ إِنْ رَآهُ الْحَاكِمُ، وَالْمَسْجِدُ الْأَقْرَبُ أَوْلَى، وَبَحَثَ الْأَذْرَعِيُّ تَعَيُّنَ مَسْجِدٍ خُصَّ بِطَائِفَةٍ خُصَّ بِهَا الْمُنْهَدِمُ إِنْ وُجِدَ وَإِنْ بَعُدَ.

ثَانِيًا- الْمَوْقُوفُ بِمَعْنَى التَّصَرُّفِ الْمَوْقُوفُ:

13- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْهُ تَمْلِيكًا كَانَ كَبَيْعٍ وَتَزْوِيجٍ، أَوْ إِسْقَاطًا كَطَلَاقٍ وَإِعْتَاقٍ وَلَهُ مُجِيزٌ: أَيْ لَهُ مَنْ لَهُ حَقُّ الْإِجَازَةِ حَالَ وُقُوعِهِ انْعَقَدَ مَوْقُوفًا.

أَمَّا مَا لَا مُجِيزَ لَهُ لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا.

فَإِنْ بَاعَ صَبِيٌّ مَثَلًا ثُمَّ بَلَغَ قَبْلَ إِجَازَةِ وَلِيِّهِ فَأَجَازَ بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ جَازَ، لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ مُجِيزٌ فِي حَالَةِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْوَلِيُّ، أَمَّا إِنْ طَلَّقَ الصَّبِيُّ زَوْجَتَهُ مَثَلًا قَبْلَ الْبُلُوغِ فَأَجَازَهُ بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْإِسْقَاطِ مُجِيزٌ فِي وَقْتِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَمْلِكُ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ عَلَى زَوْجَةِ مُوَلِّيهِ فَلَا يَمْلِكُ إِجَازَتَهُ.

(ر: الْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ).

أَقْسَامُ الْمَوْقُوفِ:

14- قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ التَّصَرُّفَ الْمَوْقُوفَ إِلَى: مَوْقُوفٍ قَابِلٍ لِلصِّحَّةِ، وَمَوْقُوفٍ فَاسِدٍ.

وَالْمَوْقُوفُ الْقَابِلُ لِلصِّحَّةِ: هُوَ مَا كَانَ صَحِيحًا فِي أَصْلِ وَصْفِهِ وَيُفِيدُ الْمِلْكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَقُّفِ وَلَا يُفِيدُ تَمَامَهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ وَيَتَنَاوَلُ كُلَّ تَصَرُّفٍ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْهُ تَمْلِيكًا كَانَ التَّصَرُّفُ كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَالصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَحْجُورَيْنِ، أَمْ إِسْقَاطًا كَالطَّلَاقِ وَالْإِعْتَاقِ.

وَالتَّمْلِيكُ يَشْمَلُ الْحَقِيقِيَّ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَنْقُلُ الْمِلْكَ، وَالْحُكْمِيُّ كَالتَّزْوِيجِ، وَهَذَا مِنْ قِسْمِ الصَّحِيحِ.

وَالْفَاسِدُ الْمَوْقُوفُ مَا كَانَ مَشْرُوعًا فِي أَصْلِهِ لَا فِي وَصْفِهِ كَبَيْعِ الْمُكْرَهِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الْفَاسِدَةِ.

وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمُّونَهُ: مَوْقُوفًا فَاسِدًا فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ عِنْدَ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ فَإِذَا بَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ مُكْرَهًا ثَبَتَ فِيهِ الْمِلْكُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.

وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالتَّسْلِيمِ مُكْرَهًا لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِجَازَةِ فَلَا يُفِيدُ الْمِلْكَ قَبْلَهَا، وَقَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ- أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ- إِنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إِلَى مَحَلِّهِ، وَالْفَسَادُ لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَهُوَ الرِّضَا، فَصَارَ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالْقَبْضِ، حَتَّى لَوْ قَبَضَهُ وَأَعْتَقَ أَوْ تَصَرَّفَ بِهِ أَيَّ تَصَرُّفٍ- لَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ- جَازَ، وَيَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ.

وَبِإِجَازَةِ الْمَالِكِ يَرْتَفِعُ الْمُفْسِدُ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ وَعَدَمُ الرِّضَا فَيَجُوزُ إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ اسْتِرْدَادِ الْبَائِعِ بِالْإِكْرَاهِ وَإِنْ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي وَلَمْ يَرْضَ الْبَائِعُ بِذَلِكَ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا تَصَرَّفَ إِنْسَانٌ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ نَفَاذُ هَذَا التَّصَرُّفِ عَلَى إِجَازَةِ مَنْ لَهُ حَقُّ الْإِجَازَةِ وَذَلِكَ كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ مِلْكَ غَيْرِهِ فَإِنَّ نَفَاذَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ مَالِكِهِ.

وَكَبَيْعِ الْغَاصِبِ الشَّيْءَ الْمَغْصُوبَ لِغَيْرِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ.

وَكَطَلَاقِ الْفُضُولِيِّ، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ مُتَوَقِّفٌ عَلَى إِجَازَةِ الزَّوْجِ.

15- وَالْوَقْفُ يُطْلِقُهُ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ لِبَيَانِ مَا يَحْدُثُ فِي الْعِبَادَاتِ وَفِي الْعُقُودِ، فَمِنَ الْأَوَّلِ حَجُّ الصَّبِيِّ، فَإِنْ دَامَ صَبِيًّا إِلَى آخِرِ أَعْمَالِ الْحَجِّ كَانَ نَفْلًا، وَإِنْ بَلَغَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ انْقَلَبَ فَرْضًا.

وَمِنْهَا: إِذَا كَانَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ فَسَلَّمَ سَاهِيًا قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِسُجُودِ السَّهْوِ فَتَذَكَّرَ قَرِيبًا فَفِي صِحَّةِ سَلَامِهِ وَجْهَانِ: فَإِنْ صَحَّحْنَاهُ فَقَدْ فَاتَ مَحَلُّ السُّجُودِ، وَإِنْ أَبْطَلْنَاهُ فَإِنْ سَجَدَ فَهُوَ بَاقٍ فِي الصَّلَاةِ وَلَوْ أَحْدَثَ لَبَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ تَرَكَ السُّجُودَ فَقَالَ الْإِمَامُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا بُدَّ مِنَ السَّلَامِ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: السَّلَامُ مَوْقُوفٌ فَإِنْ سَجَدَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ وَإِنْ تَرَكَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَدْ تَحَلَّلَ.

أَمَّا فِي الْعُقُودِ فَالْوَقْفُ فِيهَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ ثَلَاثِ مَسَائِلَ:

الْأُولَى: بَيْعُ الْفُضُولِيِّ فِي الْقَوْلِ الْقَدِيمِ لِلشَّافِعِيِّ: وَهُوَ وَقْفُ صِحَّةٍ بِمَعْنَى أَنَّ الصِّحةَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْإِجَازَةِ فَلَا تَحْصُلُ إِلاَّ بَعْدَهَا، هَذَا مَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الْأَكْثَرِينَ، وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ عَنِ الْإِمَامِ: أَنَّ الصِّحةَ نَاجِزَةٌ وَالْمُتَوَقِّفَ عَلَى الْإِجَازَةِ هُوَ الْمِلْكُ.

الثَّانِيَةُ: بَيْعُ مَالِ مُوَرِّثِهِ ظَانًّا حَيَاتَهُ، وَهُوَ وَقْفُ تَبَيُّنٍ بِمَعْنَى أَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ صَحِيحٌ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ فِي ثَانِي الْحَالِ فَهُوَ وَقْفٌ عَلَى ظُهُورِ أَمْرٍ كَانَ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَالْمِلْكُ فِيهِ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ وَلَا خِيَارَ فِيهِ.

الثَّالِثَةُ: تَصَرُّفَاتُ الْغَاصِبِ وَهِيَ مَا إِذَا غَصَبَ أَمْوَالًا وَبَاعَهَا وَتَصَرَّفَ فِي أَثْمَانِهَا بِحَيْثُ يَعْسُرُ أَوْ يَتَعَذَّرُ تَتَبُّعُهَا بِالنَّقْضِ فَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: لِلْمَالِكِ أَنْ يُجِيزَ وَيَأْخُذَ الْحَاصِلَ مِنْ أَثْمَانِهَا.

16- وَتَنْحَصِرُ التَّصَرُّفَاتُ الْمَوْقُوفَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي سِتَّةِ أَنْوَاعٍ:

وَضَبَطَ الْإِمَامُ الْوَقْفَ الْبَاطِلَ فِي الْعُقُودِ بِتَوَقُّفِ الْعَقْدِ عَلَى وُجُودِ شَرْطٍ قَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ، كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ.

وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ السِّتَّةُ هِيَ:

الْأَوَّلُ: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ شَرْطٍ بَعْدَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ فِي الْقَوْلِ الْجَدِيدِ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ.

الثَّانِي: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَبْيِينٍ وَانْكِشَافٍ سَابِقٍ عَلَى الْعَقْدِ فَهُوَ صَحِيحٌ كَبَيْعِ مَالِ أَبِيهِ ظَانًّا حَيَاتَهُ.

وَأَلْحَقَ بِهِ الرَّافِعِيُّ: مَا إِذَا بَاعَ الْعَبْدَ عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُ آبِقٌ أَوْ مُكَاتَبٌ وَكَانَ قَدْ عَجَّزَ نَفْسَهُ، أَوْ فَسَخَ الْكِتَابَةَ، وَكَذَلِكَ لَوِ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُ فُضُولِيٌّ فَبَانَ أَنَّهُ قَدْ وَكَّلَهُ فِي ذَلِكَ يَصِحُّ فِي الْأَصَحِّ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ: أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ وَأَنَّهُ يَكُونُ وَكِيلًا قَبْلَ بُلُوغِ الْخَبَرِ إِلَيْهِ.

الثَّالِثُ: مَا تَوَقَّفَ عَلَى انْقِطَاعِ تَعَدِّي فَقَوْلَانِ: الْأَصَحُّ الْإِبْطَالُ كَبَيْعِ الْمُفْلِسِ مَالَهُ ثُمَّ يُفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْفَكِّ إِنْ وُجِدَ نَفَذَ وَإِلاَّ فَلَا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَهُوَ وَقْفُ تَبْيِينٍ.

وَالرَّابِعُ: مَا تَوَقَّفَ عَلَى ارْتِفَاعِ حَجْرٍ حُكْمِيٍّ خَاصٍّ كَأَنْ يُقِيمَ الْعَبْدُ شَاهِدَيْنِ عَلَى عِتْقِهِ وَلَمْ يُعَدَّلَا، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَحْجُرُ عَلَى السَّيِّدِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ إِلَى التَّعْدِيلِ، فَلَوْ بَاعَهُ السَّيِّدُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ثُمَّ تَبَيَّنَ عَدَمُ عَدَالَتِهِمْ فَعَلَى قَوْلِ الْوَقْفِ فِي صُورَةِ الْمُفْلِسِ كَمَا سَبَقَ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَخَصُّ مِنْهَا لِوُجُودِ الْحَجْرِ هُنَا عَلَى الْعَيْنِ خَاصَّةً، وَهُنَاكَ عَلَى الْعُمُومِ.

الْخَامِسُ: مَا تَوَقَّفَ لِأَجْلِ حَجْرٍ شَرْعِيٍّ مِنْ غَيْرِ الْحَاكِمِ وَفِيهِ صُورَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: تَصَرُّفُ الْمَرِيضِ بِالْمُحَابَاةِ فِيمَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الثُّلُثِ فِيهَا، وَفِيهَا قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بَاطِلَةٌ وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازَهَا الْوَارِثُ صَحَّتْ وَإِلاَّ بَطَلَتْ.

ثَانِيَتُهَا: إِذَا أَوْصَى بِعَيْنٍ حَاضِرَةٍ هِيَ ثُلُثُ مَالِهِ وَبَاقِي الْمَالِ غَائِبٌ فَتَصَرَّفَ الْوَرَثَةُ فِي ثُلُثَيِ الْحَاضِرِ ثُمَّ بَانَ تَلَفُ الْغَائِبِ فَأَلْحَقهَا الرَّافِعِيُّ بِبَيْعِ الْفُضُولِيِّ، وَخَالَفَهُ النَّوَوِيُّ فَأَلْحَقَهَا بِبَيْعِ مَالِ مُوَرِّثِهِ يَظُنُّ حَيَاتَهُ، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهَذَا أَشْبَهُ، لِأَنَّ التَّصَرُّفَ هُنَا صَادَفَ مِلْكَهُ فَهِيَ بِبَيْعِ الِابْنِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْفُضُولِيِّ.

السَّادِسُ: مَا تَوَقَّفَ لِأَجْلِ حَجْرٍ وَضْعِيٍّ أَيْ بِاخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ كَالرَّاهِنِ يَبِيعُ الْمَرْهُونَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَهُوَ بَاطِلٌ عَلَى الْجَدِيدِ، وَعَلَى الْقَدِيمِ الَّذِي يُجِيزُ وَقْفَ التَّصَرُّفَاتِ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى الِانْفِكَاكِ وَعَدَمِهِ، وَأَلْحَقَهُ الْإِمَامُ بِبَيْعِ الْمُفْلِسِ مَالَهُ.

هَذَا وَأَنَّ الْوَقْفَ الْمُمْتَنِعَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ فِي الِابْتِدَاءِ دُونَ الِاسْتِدَامَةِ، لِهَذَا قَالُوا: لَوِ ارْتَدَّتِ الْمَرْأَةُ كَانَ اسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ مَوْقُوفًا، فَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ دَامَ النِّكَاحُ، وَإِلاَّ بَانَتْ، وَلَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِ مُرْتَدَّةٍ

وَقَدْ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَبْقَى الْمِلْكُ مَوْقُوفًا فِي مِلْكِ الْمَبِيعِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا عَلَى الْأَصَحِّ.

وَمِلْكُ الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، إِنْ قَبِلَ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ مَلَكَ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، وَإِلاَّ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ عَلَى مِلْكِ الْوَارِثِ.

وَكَذَلِكَ مِلْكُ الْمُرْتَدِّ مَالَهُ، فَإِنْ تَابَ تَبَيَّنَ أَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ وَإِنْ قُتِلَ حَدًّا أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ تَبَيَّنَّا أَنَّ مِلْكَهُ زَالَ مِنْ حِينِ الِارْتِدَادِ.

ثَالِثًا- الْمَوْقُوفُ مِنَ الْأَحَادِيثِ

17- وَهُوَ مَا يُرْوَى عَنِ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- مِنْ أَقْوَالِهِمْ أَوْ أَفْعَالِهِمْ وَنَحْوِهَا فَيُوقَفُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُتَجَاوَزُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.

ثُمَّ إِنَّ مِنْهُ مَا يَتَّصِلُ الْإِسْنَادُ فِيهِ إِلَى الصَّحَابِيِّ فَيَكُونُ مِنَ الْمَوْقُوفِ الْمَوْصُولِ، وَمِنْهُ مَا لَا يَتَّصِلُ إِسْنَادُهُ فَيَكُونُ مِنَ الْمَوْقُوفِ غَيْرِ الْمَوْصُولِ عَلَى حَسَبِ مَا عُرِفَ مِثْلُهُ فِي الْمَرْفُوعِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.

وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


140-موسوعة الفقه الكويتية (مولى العتاقة)

مَوْلَى الْعَتَاقَةِ

التَّعْرِيفُ:

1- مَوْلَى الْعَتَاقَةِ مُرَكَّبٌ مِنْ لَفْظَيْنِ: مَوْلًى، وَالْعَتَاقَةُ.

وَالْمَوْلَى: يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ: يُطْلَقُ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ، وَعَلَى الْعَصَبَةِ عَامَّةً، وَالْحَلِيفِ: وَهُوَ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ، وَعَلَى مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، وَعَلَى الْعَتِيقِ، وَعَلَى مَنْ أَسْلَمَ بِيَدِهِ شَخْصٌ.

أَمَّا الْعَتَاقَةُ لُغَةً: فَهِيَ مِنْ عَتَقَ الْعَبْدُ عَتَاقَةً، مِنْ بَابِ ضَرَبَ: خَرَجَ مِنَ الْمَمْلُوكِيَّةِ.

وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ فِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الْمُعْتِقُ، وَهُوَ مَنْ لَهُ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ عَتَقَ عَلَيْهِ رَقِيقٌ أَوْ مُبَعَّضٌ، بِإِعْتَاقٍ مُنَجَّزٍ اسْتِقْلَالًا، أَوْ بِعِوَضٍ كَبَيْعِ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ، أَوْ ضِمْنًا كَقَوْلِهِ لِغَيْرِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي فَأَجَابَهُ، أَوْ كِتَابَةً مِنْهُ وَتَدْبِيرًا وَاسْتِيلَادًا أَوْ قَرَابَةً كَأَنْ يَمْلِكَ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ مِنْ أَقَارِبِهِ بِإِرْثٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ.

وَوَلَاءُ الْعَتَاقَةِ يُسَمَّى أَيْضًا وَلَاءَ نِعْمَةٍ، لِأَنَّ الْمُعْتِقَ أَنْعَمَ عَلَى الْمُعْتَقِ حَيْثُ أَحْيَاهُ حُكْمًا.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} أَيْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْهُدَى، وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بِالْإِعْتَاقِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

مَوْلَى الْمُوَالَاةِ:

2- مَوْلَى الْمُوَالَاةِ هُوَ شَخْصٌ مَجْهُولُ النَّسَبِ آخَى مَعْرُوفَ النَّسَبِ وَوَالَاهُ، فَقَالَ: إِنْ جَنَتْ يَدِيَّ جِنَايَةً تَجِبُ دِيَتُهَا عَلَى عَاقِلَتِك، وَإِنْ حَصَلَ لِي مَالٌ فَهُوَ لَك بَعْدَ مَوْتِي.

وَيُسَمَّى هَذَا الْعَقْدُ: مُوَالَاةً، وَالشَّخْصُ الْمَعْرُوفُ النَّسَبِ: مَوْلَى الْمُوَالَاةِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ:

ثُبُوتُ الْوَلَاءِ بِالْعِتْقِ

3- لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ مَنْ عَتَقَ عَلَيْهِ رَقِيقٌ بِإِعْتَاقٍ مُنَجَّرٍ، إِمَّا اسْتِقْلَالًا أَوْ بِعِوَضٍ كَبَيْعِ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ، أَوْ بِفَرْعٍ مِنَ الْإِعْتَاقِ كَكِتَابَةٍ، وَتَدْبِيرٍ وَاسْتِيلَادٍ، أَوْ بِمِلْكِ قَرِيبٍ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، فَلَهُ وَلَاؤُهُ، وَيُسَمَّى مَوْلَى الْعَتَاقَةِ.

وَإِنْ أَعْتَقَهُ عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ كَكَفَّارَةٍ عَنْ قَتْلٍ، أَوْ ظِهَارٍ، أَوْ إِفْطَارٍ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ، أَوْ بِغَيْرِهِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، أَوْ عَنْ إِيلَاءٍ، أَوْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ أَوْ عَنْ نَذْرٍ، فَلَهُ وَلَاؤُهُ أَيْضًا.لِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمِيرَاثُ لِلْعَصَبَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةٌ فَالْوَلَاءُ» وَوَرَدَ: «أَنَّ رَجُلًا مَاتَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا إِلاَّ عَبْدًا هُوَ أَعْتَقَهُ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مِيرَاثَهُ».وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ يَرِثُ عَتِيْقَهُ، إِنْ مَاتَ وَلَمْ يُخَلِّفْ وَارِثًا سِوَاهُ.

تَرْتِيبُ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ فِي الْإِرْثِ

4- مَوْلَى الْعَتَاقَةِ مُقَدَّمٌ فِي التَّوْرِيثِ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَمُقَدَّمٌ عَلَى الرَّدِّ عَلَى أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، إِذَا بَقِيَ بَعْدَ الْفُرُوضِ شَيْءٌ مِنَ التَّرِكَةِ وَلَمْ تُوجَدْ عَصَبَةُ النَّسَبِ عِنْدَ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَمُؤَخَّرٌ عَنِ الْعَصَبَةِ النَّسَبِيَّةِ.

فَإِذَا مَاتَ رَجُلٌ وَخَلَّفَ بِنْتَهُ وَمَوْلَاهُ: فَلِبِنْتِهِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِمَوْلَاهُ، وَإِنْ خَلَّفَ ذَا رَحِمٍ وَمَوْلَاهُ: فَالْمَالُ لِمَوْلَاهُ دُونَ ذِي رَحِمِهِ.

وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهما-: يُقَدَّمُ الرَّدُّ عَلَى مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، وَعَنْهُمَا وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنهم-: تَقْدِيمُ ذَوِي الْأَرْحَامِ عَلَى مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، قَالَ ابن قُدَامَةَ: وَلَعَلَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}.

وَإِنْ كَانَ لِلْمُعْتِقِ عَصَبَةٌ مِنْ نَسَبِهِ، أَوْ ذُو فَرْضٍ يَسْتَغْرِقُ التَّرِكَةَ، فَلَا شَيْءَ لِلْمَوْلَى.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ».

وَالْعَصَبَةُ مِنَ الْقَرَابَةِ أَوْلَى مِنْ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، لِأَنَّهُ مُشَبَّهٌ بِالْقَرَابَةِ، وَالْمُشَبَّهُ بِهِ أَقْوَى مِنَ الْمُشَبَّهِ، وَلِأَنَّ النَّسَبَ أَقْوَى مِنَ الْوَلَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ وَالنَّفَقَةُ وَسُقُوطُ الْقِصَاصِ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالْوَلَاءِ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِرْثٌ ف 63 وَمَا بَعْدَهَا).

ثُبُوتُ الْوَلَاءِ لِلْكَافِرِ

5- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوَلَاءَ يَثْبُتُ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ كَعَكْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَارَثَا.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ التَّوَارُثِ فِي حَالَةِ اخْتِلَافِ دِينِهِمَا بِحَدِيثِ: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» وَلِأَنَّهُ مِيرَاثٌ فَيَمْنَعُهُ اخْتِلَافُ الدِّينِ كَمِيرَاثِ النَّسَبِ، وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ مَانِعٌ مِنَ الْمِيرَاثِ بِالنَّسَبِ فَمَنَعَ الْمِيرَاثَ بِالْوَلَاءِ كَالْقَتْلِ وَالرِّقِّ، يُحَقِّقُهُ: أَنَّ الْمِيرَاثَ بِالنَّسَبِ أَقْوَى، فَإِذَا مَنَعَ الْأَقْوَى فَالْأَضْعَفُ أَوْلَى، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَلْحَقَ الْوَلَاءَ بِالنَّسَبِ بِقَوْلِهِ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» فَكَمَا يَمْنَعُ اخْتِلَافُ الدِّينِ التَّوَارُثَ مَعَ صِحَّةِ النَّسَبِ وَثُبُوتِهِ كَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مَعَ صِحَّةِ الْوَلَاءِ وَثُبُوتِهِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا عَلَى الْإِسْلَامِ تَوَارَثَا كَالْمُتَنَاسِبَينِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَ الْكَافِرُ مُسْلِمًا- سَوَاءٌ مَلَكَهُ مُسْلِمًا أَوْ أَسْلَمَ عِنْدَهُ- أَوْ أَعْتَقَ عَنْهُ فَلَا وَلَاءَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ، بَلْ وَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَعُودُ لَهُ إِنْ أَسْلَمَ عَلَى الْمَذْهَبِ.

وَإِنْ أَعْتَقَ الْمُسْلِمُ كَافِرًا فَمَالُهُ لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِ قَرَابَةٌ عَلَى دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ قَرَابَةٌ كُفَّارٌ فَالْوَلَاءُ لَهُمْ، فَإِنْ أَسْلَمَ عَادَ الْوَلَاءُ لِسَيِّدِهِ الْمُسْلِمِ.

وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- وَعُمَرَ بْنِ عَبْدٍ الْعَزِيزِ أَنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِرْثٌ ف 18).

انْتِقَالُ الْوَلَاءِ

6- لَا يَصِحُّ مِنْ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ نَقْلُ الْوَلَاءِ بِالْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ، وَلَا أَنْ يَأْذَنَ لِعَتِيقِهِ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ يَشَاءُ، وَلَا يَنْتَقِلُ الْوَلَاءُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى، وَلَا يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ، وَإِنَّمَا يَرِثُونَ الْمَالَ بِالْوَلَاءِ مَعَ بَقَائِهِ لِلْمَوْلَى.لِحَدِيثِ: «نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ» وَقَالَ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» وَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ» وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُورَثُ بِهِ فَلَا يَنْتَقِلُ كَالْقَرَابَةِ.

عِتْقُ الْعَبْدِ بِشَرْطِ أَنْ لَا وَلَاءَ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ

7- لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى أَنْ لَا وَلَاءَ لَهُ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى أَنْ يَكُونَ سَائِبَةً، أَوْ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لِغَيْرِهِ لَمْ يَبْطُلْ وَلَاؤُهُ وَلَمْ يَنْتَقِلْ كَنَسَبِهِ لِخَبَرِ: «مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ» وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَقَوْلِهِ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ».

فَكَمَا لَا يَزُولُ نَسَبُ الْإِنْسَانِ وَلَا يَنْتَقِلُ كَذَلِكَ لَا يَزُولُ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَرَادَ أَهْلُ بَرِيرَةَ اشْتِرَاطَ وَلَائِهَا عَلَى عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ» يَعْنِي: أَنَّ اشْتِرَاطَ تَحْوِيلِ الْوَلَاءِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا، وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنه- فَقَالَ: إِنِّي أَعْتَقْتُ غُلَامًا لِي وَجَعَلْتُهُ سَائِبَةً، فَمَاتَ وَتَرَكَ مَالًا.فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَهْلَ الْإِسْلَامِ لَا يُسَيِّبُونَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تُسَيِّبُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنْتَ وَارِثُهُ وَوَلِيُّ نِعْمَتِهِ، فَإِنْ تَحَرَّجْتَ مِنْ شَيْءٍ فَأَدْنَاهُ نَجْعَلُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ.

وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ: إِنْ أَعْتَقَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ سَائِبَةً، كَأَنْ يَقُولَ: قَدْ أَعْتَقْتُكَ سَائِبَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ وَلَاءٌ، وَكَأَنَّهُ جَعَلَهُ لِلَّهِ وَسَلَّمَهُ، وَقَالَ أَحْمَدُ: قَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: السَّائِبَةُ وَالصَّدَقَةُ لِيَوْمِهَا وَمَتَى قَالَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ: أَعْتَقْتُكَ سَائِبَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ وَلَاءٌ، فَإِنْ مَاتَ وَخَلَّفَ مَالًا وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا اشْتُرِيَ بِمَالِهِ رِقَابٌ فَأُعْتِقُوا فِي الْمَنْصُوصِ عَنْ أَحْمَدَ قَالَ: أَعْتَقَ ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- عَبْدًا سَائِبَةً، فَمَاتَ، فَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ بِمَالِهِ رِقَابًا فَأَعْتَقَهُمْ وَوَلَاؤُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (سَائِبَةٌ ف 3).

الْمِيرَاثُ بِالْوَلَاءِ

8- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ لَا عَصَبَةَ لَهُ بِنَسَبٍ وَلَهُ مُعْتِقٌ فَمَالُهُ وَمَا لَحِقَ بِهِ- أَوِ الْفَاضِلُ مِنْهُ بَعْدَ الْفُرُوضِ أَوِ الْفَرْضِ- لَهُ، رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً، لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ».وَلِأَنَّ الْإِنْعَامَ بِالْإِعْتَاقِ مَوْجُودٌ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَاسْتَوَيَا فِي الْإِرْثِ بِهِ.

فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مُعْتِقٌ فَلِعَصَبَتِهِ: أَيِ الْمُعْتِقِ.

وَتَرْتِيبُهُمْ كَتَرْتِيبِهِمْ فِي النَّسَبِ، فَيُقَدَّمُ ابْنُ الْمُعْتِقِ، ثُمَّ ابْنُهُ وَإِنْ سَفَلَ، ثُمَّ أَبُوهُ، ثُمَّ جَدُّهُ وَإِنْ عَلَا.

وَلَكِنْ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ أَخَا الْمُعْتِقِ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ وَابْنَ أَخِيهِ يُقَدَّمَانِ عَلَى جَدِّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ جَرْيًا عَلَى الْقِيَاسِ فِي أَنَّ الْبُنُوَّةَ أَقْوَى مِنَ الْأُبُوَّةِ.

وَإِنَّمَا خَالَفُوا فِي النَّسَبِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- عَلَى أَنَّ الْأَخَ لَا يُسْقِطُ الْجَدَّ، وَلَا إِجْمَاعَ فِي الْوَلَاءِ فَصَارُوا إِلَى الْقِيَاسِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِرْثٌ ف 51).

إِرْثُ النِّسَاءِ بِالْوَلَاءِ

9- لَا يَرِثُ النِّسَاءُ بِالْوَلَاءِ إِلاَّ مَنْ أَعْتَقْنَ بِالْمُبَاشَرَةِ، أَوْ مُنْتَمِيًا إِلَيْهِ بِنَسَبٍ أَوْ وَلَاءٍ لِحَدِيثِ: «لَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنَ الْوَلَاءِ إِلاَّ مَا أَعْتَقْنَ، أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ، أَوْ كَاتَبْنَ أَوْ كَاتَبَ مَنْ كَاتَبْنَ، أَوْ دَبَّرْنَ أَوْ دَبَّرَ مَنْ دَبَّرْنَ، أَوْ جَرَّ وَلَاءَ مُعْتَقِهِنَّ».

وَلِأَنَّ ثُبُوتَ صِفَةِ الْمِلْكِيَّةِ وَالْقُوَّةِ لِلْمُعْتِقِ حَصَلَ مِنْ جِهَتِهَا، فَكَانَتْ مُحْيِيَةً لَهُ فَيُنْسَبُ الْمُعْتَقُ بِالْوَلَاءِ إِلَيْهَا.

فَإِنْ مَاتَ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَهُ عَتِيقُهُ وَلَمْ يُخَلِّفْ عَاصِبًا ذَكَرًا فَإِرْثُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا حَقَّ لِبَنَاتِهِ وَلَا لِأَخَوَاتِهِ انْفَرَدْنَ أَوِ اجْتَمَعْنَ، فَلَوْ مَاتَ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ عَنِ ابْنٍ وَبِنْتٍ، ثُمَّ مَاتَ الْعَتِيقُ وَلَمْ يُخَلِّفْ وَارِثًا فَمَا تَرَكَهُ الْعَتِيقُ لَابْن مَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَلَا شَيْءَ لِلْبِنْتِ.

وَكَذَا إِنْ تَرَكَ ابْنَ عَمٍّ وَبِنْتَ صُلْبٍ أَخَذَ ابْنُ الْعَمِّ الْمَالَ وَلَا شَيْءَ لِبِنْتِ الصُّلْبِ.

حُقُوقٌ أُخْرَى تَثْبُتُ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ:

10- يَثْبُتُ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ وِلَايَةُ الصَّلَاةِ عَلَى عَتِيقِهِ، وَوِلَايَةُ النِّكَاحِ عَلَى أَوْلَادِهِ الْقُصَّرِ، وَعَلَيْهِ الْعَقْلُ عَنْهُ

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


141-موسوعة الفقه الكويتية (مياه 1)

مِيَاهٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْمِيَاهُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ مَاءٍ، وَالْمَاءُ مَعْرُوفٌ، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْهَاءِ وَأَصْلُهُ مَوَهَ بِالتَّحْرِيكِ تَحَوَّلَتِ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ أَلِفًا ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْهَاءُ هَمْزَةً.

وَيُجْمَعُ عَلَى أَمْوَاهٍ جَمْعَ قِلَّةٍ، وَعَلَى مِيَاهٍ جَمْعَ كَثْرَةٍ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْمَاءُ جِسْمٌ لَطِيفٌ سَيَّالٌ بِهِ حَيَاةُ كُلِّ نَامٍ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الطَّهَارَةُ

2- الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ: النَّظَافَةُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عِبَارَةٌ عَنْ غَسْلِ أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ بِصِفَّةٍ مَخْصُوصَةٍ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمِيَاهِ وَالطَّهَارَةِ أَنَّ الْمِيَاهَ تَكُونُ وَسِيلَةً لِلطَّهَارَةِ.

أَقْسَامُ الْمِيَاهِ

يُمْكِنُ تَقْسِيمُ الْمِيَاهِ بِاعْتِبَارِ وَصْفِهَا إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:

مُطْلَقٍ، وَمُسْتَعْمَلٍ، وَمُسَخَّنٍ، وَمُخْتَلَطٍ.

الْمَاءُ الْمُطْلَقُ:

3- الْمَاءُ الْمُطْلَقُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ مَاءٍ بِلَا قَيْدٍ.

وَقِيلَ: الْمَاءُ الْمُطْلَقُ هُوَ الْبَاقِي عَلَى وَصْفِ خِلْقَتِهِ.

وَقَدْ أَجَمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُطْلَقَ طَاهِرٌ فِي ذَاتِهِ مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ.

وَعَبَّرَ الْفُقَهَاءُ عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمَاءِ بِالطَّهُورِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالطَّهُورِ.

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ الطَّاهِرُ الْمُطَهِّرُ.

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَلِي:

أَوْلًا: أَنَّ لَفْظَةَ طَهُورٍ جَاءَتْ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ لِلْمُطَهِّرِ، وَمِنْ هَذَا:

أ- قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}.فَقَوْلُهُ: (طَهُورًا) يُرَادُ بِهِ مَا يُتَطَهَّرُ بِهِ، يُفَسِّرُ ذَلِكَ قوله تعالى {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} فَهَذِهِ الْآيَةُ مُفَسِّرَةٌ لِلْمُرَادِ بِالْأُولَى.

ب- وَمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحَلَّ لِأَحَدِ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً».

فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ظَاهِرَةٌ، إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالطَّهُورِ الطَّاهِرُ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِزْيَةٌ، لِأَنَّهُ طَاهِرٌ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، وَالْحَدِيثُ إِنَّمَا سِيقَ لِإِثْبَاتِ الْخُصُوصِيَّةِ، فَقَدِ اخْتَصَّ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- وَأُمَّتُهُ بِالتَّطَهُّرِ بِالتُّرَابِ.

ج- وَمَا رَوَاهُ أَنَسٌ مَرْفُوعًا: «جُعِلَتْ لِي كُلُّ أَرْضٍ طَيِّبَةً مَسْجِدًا وَطَهُورًا».

فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِأَنَّ كُلَّ أَرْضٍ طَيِّبَةٍ جُعِلَتْ لَهُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَالطَّيِّبَةُ الطَّاهِرَةُ، فَلَوْ كَانَ مَعْنَى طَهُورًا: طَاهِرًا لَلَزِمَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَتَحْصِيلُ الْحَاصِلِ بِالنِّسْبَةِ لَهُ مُحَالٌ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ.

د- وَمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».

فَقَدْ أَجَابَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِقَوْلِهِ هَذَا عَنْ سُؤَالِهِمْ عَنْ حُكْمِ التَّطَهُّرِ بِمَاءِ الْبَحْرِ، فَلَوْلَا أَنَّهُمْ يَفْهَمُونَ مِنَ الطَّهُورِ أَنَّهُ الْمُطَهِّرُ، لَمْ يَحْصُلْ لَهُمُ الْجَوَابُ.

ثَانِيًا: أَنَّ الْعَرَبَ فَرَّقَتْ بَيْنَ اسْمِ الْفَاعِلِ وَصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فَقَالَتْ: قَاعِدٌ لِمَنْ وُجِدَ مِنْهُ الْقُعُودُ، وَقُعُودٌ: لِمَنْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الطَّهُورِ وَالطَّاهِرِ مِنْ حَيْثُ التَّعَدِّي وَاللُّزُومِ، فَالطَّهُورُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَهُوَ الَّذِي يُطَهِّرُ غَيْرَهُ، وَالطَّاهِرُ مِنَ الْأَسْمَاءِ اللاَّزِمَةِ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الطَّهُورَ هُوَ الطَّاهِرُ وَهُوَ مَا حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْريِّ وَسُفْيَانَ وَأَبِي بَكْرِ الْأَصَمِّ وَابْنِ دَاوُدَ.

وَاحْتَجُّوا بِمَا يَلِي:

أَوَّلًا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى التَّطْهِيرِ مِنْ حَدَثٍ وَلَا نَجَسٍ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّهُورِ هُوَ الطَّاهِرُ.

ثَانِيًا: قَوْلُ جَرِيرٍ فِي وَصْفِ النِّسَاءِ:

عِذَابُ الثَّنَايَا رِيقُهُنَّ طَهُورٌ

وَالرِّيقُ لَا يُتَطَهَّرُ بِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الطَّاهِرَ.

ثَالِثًا: وَالطَّهُورُ يُفِيدُ التَّطْهِيرَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لِلْمُبَالَغَةِ، فَإِنَّ فِي الشَّكُورِ وَالْغَفُورِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا لَيْسَ فِي الْغَافِرِ وَالشَّاكِرِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الطَّهُورِ مَعْنًى زَائِدٌ لَيْسَ فِي الطَّاهِرِ، وَلَا تَكُونُ تِلْكَ الْمُبَالَغَةُ فِي طَهَارَةِ الْمَاءِ إِلاَّ بِاعْتِبَارِ التَّطْهِيرِ لِأَنَّ فِي نَفْسِ الطَّهَارَةِ كِلْتَا الصِّفَّتَيْنِ سَوَاءٌ، فَتَكُونُ صِفَّةُ التَّطْهِيرِ لَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، لَا أَنَّ الطَّهُورَ بِمَعْنَى الْمُطَهَّر.

أَنْوَاعُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ

4- أَنْوَاعُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ كَمَا ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ هِيَ:

الْأَوَّلُ: مَاءُ السَّمَاءِ: أَيِ النَّازِلُ مِنْهَا، يَعْنِي الْمَطَرَ، وَمِنْهُ النَّدَى، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}.

وَالثَّانِي: مَاءُ الْبَحْرِ: وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرِيرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».

وَالثَّالِثُ: مَاءُ النَّهْرِ

وَالرَّابِعُ: مَاءُ الْبِئْرِ: وَالْأَصْلُ فِيهِ: مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ» وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتِنُ (أَيْ كَانَتْ تَجْرُفُهَا إِلَيْهَا السُّيُولُ مِنَ الطُّرُقِ وَالْأَفْنِيَةِ وَلَا تُطْرَحُ فِيهَا قَصْدًا وَلَا عَمْدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ».

الْخَامِسُ: مَاءُ الْعَيْنِ وَهُوَ مَا يَنْبُعُ مِنَ الْأَرْضِ.

السَّادِسُ: مَاءُ الثَّلْجِ وَهُوَ مَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَائِعًا ثُمَّ جَمَدَ أَوْ مَا يَتِمُّ تَجْمِيدُهُ بِالْوَسَائِلِ الصِّنَاعِيَةِ الْحَدِيثَةِ.

السَّابِعُ: مَاءُ الْبَرَدِ وَهُوَ مَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ جَامِدًا ثُمَّ مَاعَ عَلَى الْأَرْضِ، وَيُسمَّى حَبُّ الْغَمَامِ وَحَبُّ الْمُزْنِ.

وَالْأَصْلُ فِي مَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ: حَدِيثُ أَبِي هُرِيرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً- قَالَ: أَحْسِبُهُ قَالَ: هُنَيَّةً-، فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرَ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ».

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِعْمَالِ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، فَمِنْ قَائِلٍ بِالْكَرَاهَةِ، وَآخَرُ بِعَدِمِهَا، وَمِنْ قَائِلٍ بِصِحَّتِهَا وَآخَرُ بِعَدِمِ صِحَّتِهَا، وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ تَتَمَثَّلُ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا- مَاءُ الْبَحْرِ

5- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جِوَازِ اسْتِعْمَالِ مَاءِ الْبَحْرِ فِي الطَّهَارَةِ مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالْأَنْجَاسِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.

يَقُولُ التِّرْمِذِيُّ: أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَرَوْا بَأْسًا بِمَاءِ الْبَحْرِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَلِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْمَاءِ يُطْلَقُ عَلَى مَاءِ الْبَحْرِ فَيَقَعُ التَّطَهُّرُ بِهِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْد اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ الْعَاصِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ كَرَاهَةُ التَّطَهُّرِ بِهِ.

ثَانِيًا- مَاءُ الثَّلْجِ

6- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جِوَازِ التَّطَهُّرِ بِمَاءِ الثَّلْجِ إِذَا ذَابَ.

وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي اسْتِعْمَالِهِ قَبْلَ الْإِذَابَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدِمِ جِوَازِ التَّطَهُّرِ بِالثَّلْجِ قَبْلَ الْإِذَابَةِ مَا لَمْ يَتَقَاطَرْ وَيَسِلْ عَلَى الْعُضْوِ.

يَقُولُ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: «يُرْفَعُ الْحَدَثُ مُطْلَقًا بِمَاءٍ مُطْلَقٍ، وَهُوَ مَا يَتَبَادَرُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ كَمَاءِ سَمَاءٍ وَأَوْدِيَةٍ وَعُيُونٍ وَآبَارٍ وَبِحَارٍ وَثَلْجٍ مُذَابٍ بِحَيْثُ يَتَقَاطَرُ».

وَيَقُولُ صَاحِبُ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: وَهُوَ- أَيِ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ- مَا صَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ مَاءٍ بِلَا قَيْدٍ وَإِنْ جُمِعَ مِنْ نَدًى أَوْ ذَابَ أَيْ تَمَيَّعَ بَعْدَ جُمُودِهِ كَالثَّلْجِ وَهُوَ مَا يَنْزِلُ مَائِعًا ثُمَّ يَجْمُدُ عَلَى الْأَرْضِ.

وَيَقُولُ صَاحِبُ الْمُغْنِي الذَّائِبُ مِنَ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ طَهُورٌ، لِأَنَّهُ مَاءٌ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، وَفِي دُعَاءِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ».

فَإِنْ أَخَذَ الثَّلْجَ فَمَرَّرَهُ عَلَى أَعْضَائِهِ لَمْ تَحْصُلِ الطَّهَارَةُ بِهِ، وَلَوِ ابْتَلَّ بِهِ الْعُضْوُ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْغُسْلُ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يَجْرِيَ الْمَاءُ عَلَى الْعُضْوِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا فَيَذُوبُ، وَيَجْرِي مَاؤُهُ عَلَى الْأَعْضَاءِ فَيَحْصُلُ بِهِ الْغَسْلُ، فَيُجْزِئُهُ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْأَوْزَاعِيُّ إِلَى جِوَازِ التَّطَهُّرِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَاطَرْ.

يَقُولُ الطَّحْطَاوِيُّ: قَوْلُهُ (بِحَيْثُ يَتَقَاطَرُ) هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَتَقَاطَرْ.

وَيَقُولُ النَّوَوِيُّ: وَحَكَى أَصْحَابُنَا عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ جَوَازُ الْوُضُوءِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَسِلْ وَيُجْزِيهِ فِي الْمَغْسُولِ وَالْمَمْسُوحِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ إِنْ صَحَّ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى غَسْلًا وَلَا فِي مَعْنَاهُ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: فَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ سَيْلِ الثَّلْجِ عَلَى الْعُضْوِ لِشِدَّةِ حَرِّ وَحَرَارَةِ الْجِسْمِ وَرَخَاوَةِ الثَّلْجِ، وَبَيْنَ عَدَمِ سَيْلِهِ.فَإِنْ سَالَ عَلَى الْعُضْوِ صَحَّ الْوُضُوءُ عَلَى الصَّحِيحِ لِحُصُولِ جَرَيَانِ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى غَسْلًا، حَكَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَإِنْ لَمْ يَسِلْ لَمْ يَصِحَّ بِلَا خِلَافٍ فِي الْمَغْسُولِ، وَيَصِحُّ مَسْحُ الْمَمْسُوحِ مِنْهُ وَهُوَ الرَّأْسُ وَالْخُفُّ وَالْجَبِيرَةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ.

ثَالِثًا- مَاءُ زَمْزَمَ

7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ اسْتِعْمَالِ مَاءِ زَمْزَمَ فِي الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ أَوْ إِزَالَةِ النَّجَسِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَابْنُ شَعْبَانَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى جِوَازِ اسْتِعْمَالِ مَاءِ زَمْزَمَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ فِي إِزَالَةِ الْأَحْدَاثِ، أَمَا فِي إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ فَيُكْرَهُ تَشْرِيفًا لَهُ وَإِكْرَامًا.

الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جِوَازِ اسْتِعْمَالِ مَاءِ زَمْزَمَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ أَكَانَ الِاسْتِعْمَالُ فِي الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ أَمْ فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: ذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى كَرَاهَةِ اسْتِعْمَالِهِ مُطْلَقًا أَيْ فِي إِزَالَةِ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه-: «لَا أُحِلُّهَا لِمُغْتَسَلٍ يَغْتَسِلُ فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ لِشَارِبٍ وَمُتَوَضِّئٍ حِلٌّ وَبِلٌّ».

رَابِعًا- الْمَاءُ الْآجِنُ

8- وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي تَغَيَّرَ بِطُولِ مُكْثِهِ فِي الْمَكَانِ مِنْ غَيْرِ مُخَالَطَةِ شَيْء وَيَقْرُبُ مِنْهُ الْمَاءُ الْآسِنُ.

(ر: مُصْطَلَحُ آجِنٌ فِقْرَة 1، وَمُصْطَلَحُ طَهَارَةٍ فِقْرَة 10).

وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جِوَازِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْآجِنِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ.

يَقُولُ صَاحِبُ مُلْتَقَى الْأَبْحُرِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: وَتَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ كَمَاءِ السَّمَاءِ وَالْعَيْنِ وَالْبِئْرِ وَالْأَوْدِيَةِ وَالْبِحَارِ، وَإِنْ غَيَّرَ طَاهِرٌ بَعْضَ أَوْصَافِهِ كَالتُّرَابِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالْأُشْنَانِ وَالصَّابُونِ أَوْ أَنْتَنَ بِالْمُكْثِ.

وَيَقُولُ صَاحِبُ أَقْرَبِ الْمَسَالِكِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَلَا يَضُرُّ تَغَيُّرُ الْمَاءِ بِشَيْءِ تَوَلَّدَ مِنْهُ كَالسَّمَكِ وَالَدُودِ وَالطُّحْلُبِ (بِفَتْحِ اللاَّمِ وَضَمِّهَا)، وَكَذَا إِذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِطُولِ مُكْثِهِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أُلْقِيَ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ.

وَيَقُولُ الرَّمْلِيُّ الْكَبِيرُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَلَا يُقَالُ الْمُتَغَيِّرُ كَثِيرًا بِطُولِ الْمُكْثِ أَوْ بِمُجَاوَرٍ أَوْ بِمَا يَعْسُرُ صَوْنُ الْمَاءِ عَنْهُ غَيْرَ مُطْلَقٍ، بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الْمُطْلَقَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَأَشْبَهَ بِمَا يُتَعَذَّرُ صَوْنُهُ عَنْهُ.

وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ الْقَوْلُ بِكَرَاهَةِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْآجِنِ.

يَقُولُ صَاحِبُ بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُغَيِّرُ الْمَاءَ مِمَّا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا أَنَّهُ لَا يَسْلُبُهُ صِفَةَ الطَّهَارَةِ وَالتَّطْهِيرِ، إِلاَّ خِلَافًا شَاذًّا رُوِيَ فِي الْمَاءِ الْآجِنِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ.

وَيَقُولُ النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا الْمُتَغَيِّرُ بِالْمُكْثِ فَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ، إِلاَّ ابْنَ سِيرِينَ فَكَرِهَهُ.

الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَحُكْمِهِ وَذَلِك عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي:

الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:

9- الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: هُوَ الْمَاءُ الَّذِي أُزِيلَ بِهِ حَدَثٌ أَوِ اسْتُعْمِلَ فِي الْبَدَنِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، كَالْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ أَوْ لِإِسْقَاطِ فَرْضٍ.

وَعِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: هُوَ الْمَاءُ الَّذِي اسْتُعْمِلَ لِإِقَامَةِ قُرْبَةٍ.

وَعِنْدَ زُفَرَ: هُوَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ لِإِزَالَةِ الْحَدَثِ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْمَاءَ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِمُجَرَّدِ انْفِصَالِهِ عَنِ الْبَدَنِ.

وَيَظْهَرُ أَثَرُ هَذَا الْخِلَافِ عِنْدَهُمْ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِيمَا يَلِي:

أ- إِذَا تَوَضَّأَ بِنِيَّةِ إِقَامَةِ الْقُرْبَةِ نَحْوَ الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهَا.

فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِلَا خِلَافٍ لِوُجُودِ السَّبَبَيْنِ، وَهُمَا: إِزَالَةُ الْحَدَثِ وَإِقَامَةُ الْقُرْبَةِ.

وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْدِثٍ يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ الثَّلَاثَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وُمُحَمَّدٍ لِوُجُودِ إِقَامَةِ الْقُرْبَةِ، لِكَوْنِ الْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ نُورٌ عَلَى نُورٍ، وَعِنْدَ زُفَرَ: لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِانْعِدَامِ إِزَالَةِ الْحَدَثِ.

ب- إِذَا تَوَضَّأَ أَوِ اغْتَسَلَ لِلتَّبَرُّدِ، فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ لِوُجُودِ إِزَالَةِ الْحَدَثِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِعَدَمِ إِقَامَةِ الْقُرْبَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالِاتِّفَاقِ.

ج- إِذَا تَوَضَّأَ بِالْمَاءِ الْمُقَيَّدِ كَمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ التَّوَضُّؤَ بِهِ مُخَيَّرٌ جَائِزٌ، فَلَمْ يُوجَدْ إِزَالَةُ الْحَدَثِ وَلَا إِقَامَةُ الْقُرْبَةِ.

د- إِذَا غَسَلَ الْأَشْيَاءَ الطَّاهِرَةَ مِنَ النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ وَالْأَوَانِي وَالْأَحْجَارِ وَنَحْوِهِ، أَوْ غَسَلَتِ الْمَرْأَةُ يَدَهَا مِنَ الْعَجِينِ أَوِ الْحِنَّاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَا يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا.

وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَيْسَ بِطَهُورٍ لِحَدَثٍ بَلْ لِخَبَثٍ عَلَى الرَّاجِحِ الْمُعْتَمَدِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ بِهِ.

الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:

10- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ:

هُوَ مَا اسْتُعْمِلَ فِي رَفْعِ حَدَثٍ أَوْ فِي إِزَالَةِ حُكْمِ خَبَثٍ، وَأَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ فِي رَفْعِ حَدَثٍ: هُوَ مَا تَقَاطَرَ مِنَ الْأَعْضَاءِ أَوِ اتَّصَلَ بِهَا أَوِ انْفَصَلَ عَنْهَا- وَكَانَ الْمُنْفَصِلُ يَسِيرًا- أَوْ غَسَلَ عُضْوَهُ فِيهِ.

وَحُكْمُهُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ لَكِنْ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي رَفْعِ حَدَثٍ أَوِ اغْتِسَالَاتٍ مَنْدُوبَةٍ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ إِذَا كَانَ يَسِيرًا، وَلَا يُكْرَهُ عَلَى الْأَرْجَحِ اسْتِعْمَالُهُ مَرَّةً أُخْرَى فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ أَوْ غَسْلِ إِنَاءٍ وَنَحْوِهِ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَالْكَرَاهَةُ مُقَيَّدَةٌ بِأَمْرَيْنِ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ قَلِيلًا كَآنِيَّةِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَأَنْ يُوجَدَ غَيْرُهُ، وَإِلاَّ فَلَا كَرَاهَةَ، كَمَا أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ إِذَا صُبَّ عَلَى الْمَاءِ الْيَسِيرِ الْمُسْتَعْمَلِ مَاءٌ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ، فَإِنْ صُبَّ عَلَيْهِ مُسْتَعْمَلٌ مِثْلُهُ حَتَّى كَثُرَ لَمْ تَنْتَفِ الْكَرَاهَةُ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ لِلْأَجْزَاءِ يَثْبُتُ لِلْكُلِّ، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ نَفْيَهَا.

وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: الْمَاءُ الْيَسِيرُ الَّذِي هُوَ قَدْرُ آنِيَةِ الْغَسْلِ فَأَقَلُّ الْمُسْتَعْمَلِ فِي حَدَثٍ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَدَثٍ بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا، وَأَنْ يَكُونَ اسْتُعْمِلَ فِي رَفْعِ حَدَثٍ لَا حُكْمَ خَبَثٍ، وَأَنْ يَكُونَ الِاسْتِعْمَالُ الثَّانِي فِي رَفْعِ حَدَثٍ.

وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي حُكْمِ خَبَثٍ لَا يُكْرَهُ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ، وَأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي حَدَثٍ لَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حُكْمِ خَبَثٍ، وَالرَّاجِحُ فِي تَعْلِيلِ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي طَهُورِيَّتِهِ.

الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:

11- الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: هُوَ الْمَاءُ الْقَلِيلُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي فَرْضِ الطَّهَارَةِ عَنْ حَدَثٍ كَالْغَسْلَةِ الْأُولَى فِيهِ، أَوْ فِي إِزَالَةِ نَجَسٍ عَنِ الْبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ، أَمَّا نَفْلُ الطَّهَارَةِ كَالْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةِ فَالْأَصَحُّ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ طَهُورٌ.

وَيُفَرِّقُ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ قُلَّتَيْنِ، وَبَيْنَ الْكَثِيرِ الَّذِي يَبْلُغُ قُلَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ.

فَيَرَوْنَ فِي الْمَذْهَبِ الْجَدِيدِ: أَنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ، فَلَا يَرْفَعُ حَدَثًا وَلَا يُزِيلُ نَجَسًا لِأَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا لَا يَحْتَرِزُونَ عَنْهُ وَلَا عَمَّا يَتَقَاطَرُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ.

فَعَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَعُودُنِي وَأَنَا مَرِيضٌ لَا أَعْقِلُ فَتَوَضَّأَ وَصَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ فَعَقَلْتُ».

وَلِأَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ- مَعَ قِلَّةِ مِيَاهِهِمْ- لَمْ يَجْمَعُوا الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ لِلِاسْتِعْمَالِ ثَانِيًا بَلِ انْتَقَلُوا إِلَى التَّيَمُّمِ، كَمَا لَمْ يَجْمَعُوهُ لِلشُّرْبِ لِأَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ.

فَإِنْ جُمِعَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فَبَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَطَهُورٌ عَلَى الْأَصَحِّ.

وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ مَنْعِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ: لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطْلَقٍ كَمَا صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ.

فَإِنْ جُمِعَ الْمُسْتَعْمَلُ عَلَى الْجَدِيدِ فَبَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَطَهُورٌ فِي الْأَصَحِّ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ أَشَدُّ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ، وَالْمَاءُ الْمُتَنَجِّسُ لَوْ جُمِعَ حَتَّى بَلَغَ قُلَّتَيْنِ أَيْ وَلَا تَغَيُّرَ بِهِ صَارَ طَهُورًا قَطْعًا، فَالْمُسْتَعْمَلُ أَوْلَى، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ لَا يَعُودُ طَهُورًا لِأَنَّ قَوَّتَهُ صَارَتْ مُسْتَوْفَاةً بِالِاسْتِعْمَالِ فَالْتَحَقَ بِمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنُ سُرَيْجٍ.

وَيَقُولُ الشِّيرَازِيُّ: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ ضَرْبَانِ: مُسْتَعْمَلٌ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ، وَمُسْتَعْمَلٌ فِي طَهَارَةِ النَّجَسِ.

فَأَمَّا الْمُسْتَعْمَلُ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ فَيُنْظَرُ فِيهِ: فَإِنِ اسْتُعْمِلَ فِي رَفْعِ حَدَثٍ فَهُوَ طَاهِرٌ، لِأَنَّهُ مَاءٌ طَاهِرٌ لَاقَى مَحَلًّا طَاهِرًا، فَكَانَ طَاهِرًا، كَمَا لَوْ غُسِلَ بِهِ ثَوْبٌ طَاهِرٌ.

ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الْمُسْتَعْمَلُ فِي النَّجَسِ فَيُنْظَرُ فِيهِ: فَإِنِ انْفَصَلَ مِنَ الْمَحَلِّ وَتَغَيَّرَ فَهُوَ نَجِسٌ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ».

وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ وَأَبِي إِسْحَاقَ لِأَنَّهُ مَاءٌ لَا يُمْكِنُ حِفْظُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ فَلَمْ يَنْجُسْ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ كَالْمَاءِ الْكَثِيرِ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَنْجُسُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ لِأَنَّهُ مَاءٌ قَلِيلٌ لَاقَى نَجَاسَةً، فَأَشْبَهَ مَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنِ انْفَصَلَ وَالْمَحَلُّ طَاهِرٌ فَهُوَ طَاهِرٌ، وَإِنِ انْفَصَلَ وَالْمَحَلُّ نَجِسٌ، فَهُوَ نَجِسٌ.وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْقَاصِّ لِأَنَّ الْمُنْفَصِلَ مِنْ جُمْلَةِ الْبَاقِي فِي الْمَحَلِّ: فَكَانَ حُكْمُهُ فِي النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ حُكْمَهُ.

الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:

12- قَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْمَاءُ الَّذِي اسْتُعْمِلَ فِي رَفْعِ حَدَثٍ أَوْ إِزَالَةِ نَجَسٍ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ أَحَدُ أَوْصَافِهِ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ لَا يَرْفَعُ حَدَثًا وَلَا يُزِيلُ نَجِسًا وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ.

وَعِنْدَ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ.

أَمَا الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي طَهَارَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ كَتَجْدِيدِ الْوُضُوءِ وَالْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فِيهِ وَالْغُسْلِ لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ كَالْمُسْتَعْمَلِ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ مَشْرُوعَةٌ أَشَبَهَ مَا لَوِ اغْتَسَلَ بِهِ مِنْ جَنَابَةٍ.

وَالثَّانِيَةُ: لَا يَمْنَعُ الطُّهُورِيَّةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَانِعًا مِنَ الصَّلَاةِ أَشَبَهَ مَا لَوْ تَبَرَّدَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الطَّهَارَةُ مَشْرُوعَةً لَمْ يُؤَثِّرِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِيهَا شَيْئًا كَالْغَسْلَةِ الرَّابِعَةِ فِي الْوُضُوءِ لَمْ يُؤَثِّرِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِيهَا شَيْئًا وَكَانَ كَمَا لَوْ تَبَرَّدَ أَوْ غَسَلَ بِهِ ثَوْبَهُ، وَلَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ أَنَّ مَا اسْتُعْمِلَ فِي التَّبَرُّدِ وَالتَّنْظِيفِ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.

وَأَمَّا الْمُسْتَعْمَلُ فِي تَعَبُّدٍ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ كَغَسْلِ الْيَدَيْنِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ، فَإِنْ قُلْنَا لَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ لَمْ يُؤَثِّرِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَاءِ، وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِهِ فَقَالَ القْاضِي: هُوَ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ إِطْلَاقِهِ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَهَارَةِ تَعَبُّدٍ أَشَبَهَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى أَنْ يَغْمِسَ الْقَائِمُ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ غَسْلِهَا»،، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُفِيدُ مَنْعًا.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْفَعْ حَدَثًا، أَشَبَهَ الْمُتَبَرَّدَ بِهِ.

الْمَاءُ الْمُسَخَّنُ

وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَخَّنًا بِتَأْثِيرِ الشَّمْسِ فِيهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَخَّنًا بِتَأْثِيرِ غَيْرِهَا.

أ- الْمَاءُ الْمُسَخَّنُ بِتَأْثِيرِ الشَّمْسِ فِيهِ (الْمُشَمَّسُ):

13- يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْمَاءِ الْمُسَخَّنِ بِتَأْثِيرِ الشَّمْسِ فِيهِ اسْمَ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ

وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: جِوَازُ اسْتِعْمَالِهِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ فِي الْبَدَنِ أَمْ فِي الثَّوْبِ.

وَبِهَذَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ كَالنَّوَوِيِّ وَالرُّويَانِيِّ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: كَرَاهَةُ اسْتِعْمَالِهِ: وَذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ.

يَقُولُ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيِّ: وَيُكْرَهُ شَرْعًا تَنْزِيهًا الْمَاءُ الْمُشَمَّسُ أَيْ مَا سَخَّنَتْهُ الشَّمْسُ، أَيْ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْبَدَنِ فِي الطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا كَأَكْلٍ وَشُرْبٍ، لِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ: كَانَ يَكْرَهُ الِاغْتِسَالَ بِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ، وَقَالَ: يُورِثُ الْبَرَصَ.

لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بِبِلَادٍ حَارَّةٍ أَيْ تَقْلِبُهُ الشَّمْسُ عَنْ حَالَتِهِ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى، كَمَا نَقَلَهُ فِي الْبَحْرِ عَنِ الْأَصْحَابِ فِي آنِيةٍ مُنْطَبِعَةٍ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ وَهِيَ كُلُّ مَا طُرِقَ كَالنُّحَاسِ وَنَحْوِهِ، وَأَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي حَالِ حَرَارَتِهِ، لِأَنَّ الشَّمْسَ بِحِدَّتِهَا تَفْصِلُ مِنْهُ زُهُومَةً تَعْلُو الْمَاءَ، فَإِذَا لَاقَتِ الْبَدَنَ بِسُخُونَتِهَا خِيفَ أَنْ تَقْبِضَ عَلَيْهِ فَيَحْتَبِسَ الدَّمُ فَيَحْصُلُ الْبَرَصُ.

وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: يُكْرَهُ الْمُشَمَّسُ أَيِ الْمُسَخَّنُ بِالشَّمْسِ فِي الْأَقْطَارِ الْحَارَّةِ كَأَرْضِ الْحِجَازِ لَا فِي نَحْوِ مِصْرَ وَالرُّومِ.

وَعَقَّبَ الدُّسُوقِيُّ عَلَى قَوْلِ الدَّرْدِيرِ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ «وَالْمُعْتَمَدُ الْكَرَاهَةُ» بِقَوْلِهِ: هُوَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْفُرَاتِ عَنْ مَالِكٍ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ.

وَهَذِهِ الْكَرَاهَةُ طِبِّيَّةٌ لَا شَرْعِيَّةٌ لِأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ مِنْ إِكْمَالِ الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ كَرَاهَتُهُ لِشِدَّةِ حَرَارَتِهِ فَإِنَّهَا شَرْعِيَّةٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَرَاهَتَيْنِ: أَنَّ الشَّرْعِيَّةَ يُثَابُ تَارِكُهَا بِخِلَافِ الطِّبِّيَّةِ.

وَيَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: قَدَّمْنَا فِي مَنْدُوبَاتِ الْوُضُوءِ أَنَّ مِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ بِمَاءٍ مُشَمَّسٍ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْحِلْيَةِ مُسْتَدِلًّا بِمَا صَحَّ عَنْ عُمَرَ مِنَ النَّهْيِ عَنْهُ، وَلِذَا صَرَّحَ فِي الْفَتْحِ بِكَرَاهَتِهِ، وَمِثْلُهُ فِي الْبَحْرِ.

وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَفِي الْقُنْيَةِ: وَتُكْرَهُ الطَّهَارَةُ بِالْمُشَمَّسِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَائِشَةَ- رضي الله عنها- حِينَ سَخَّنَتِ الْمَاءَ بِالشَّمْسِ: «لَا تَفْعَلِي يَا حُمَيْرَاءُ فَإِنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ»،، وَفِي الْغَايَةِ: يُكْرَهُ بِالْمُشَمَّسِ فِي قُطْرٍ حَارٍّ فِي أَوَانٍ مُنْطَبِعَةٍ.

ب- الْمَاءُ الْمُسَخَّنُ بِغَيْرِ الشَّمْسِ

14- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسَخَّنَ بِالنَّارِ لَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ لِعَدَمِ ثُبُوتِ نَهْيٍ عَنْهُ وَلِذَهَابِ الزُّهُومَةِ لِقُوَّةِ تَأْثِيرِهَا، وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ كَانَ التَّسْخِينُ بِنَجَاسَةٍ مُغَلَّظَةٍ وَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ وَقْفَةٌ.

وَأَمَّا شَدِيدُ السُّخُونَةِ أَوِ الْبُرُودَةِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي الطَّهَارَةِ لِمَنْعِهِ الْإِسْبَاغَ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسَخَّنَ بِالنَّجَاسَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُتَحَقَّقَ وُصُولُ شَيْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ إِلَى الْمَاءِ فَيُنَجِّسَهُ إِذَا كَانَ يَسِيرًا.

وَالثَّانِي: أَلاَّ يُتَحَقَّقَ وُصُولُ شَيْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ إِلَى الْمَاءِ، وَالْحَائِلُ غَيْرُ حَصِينٍ فَالْمَاءُ عَلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ وَيُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ.

الثَّالِثُ: إِذَا كَانَ الْحَائِلُ حَصِينًا فَقَالَ الْقَاضٍي يُكْرَهُ، وَاخْتَارَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَقِيلُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَرَدَّدٍ فِي نَجَاسَتِهِ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا.

وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي كَرَاهَةِ الْمُسَخَّنِ بِالنَّجَاسَةِ رِوَايَتَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.

الْمَاءُ الْمُخْتَلِطُ:

وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْتَلِطًا بِطَاهِرٍ، أَوْ يَكُونَ مُخْتَلِطًا بِنَجَسٍ.

أَوَّلًا- حُكْمُ الْمَاءِ الْمُخْتَلِطِ بِطَاهِرٍ

15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا اخْتَلَطَ بِهِ شَيْءٌ طَاهِرٌ- وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ لِقِلَّتِهِ- لَمْ يَمْنَعِ الطَّهَارَةَ بِهِ، لِأَنَّ الْمَاءَ بَاقٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ.

كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا خَالَطَهُ طَاهِرٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ- كَالطُّحْلُبِ وَالْخَزِّ وَسَائِرِ مَا يَنْبُتُ فِي الْمَاءِ، وَكَذَا أَوْرَاقُ الشَّجَرِ الَّذِي يَسْقُطُ فِي الْمَاءِ أَوْ تَحْمِلُهُ الرِّيحُ فَتُلْقِيهِ فِيهِ، وَمَا تَجْذِبُهُ السُّيُولُ مِنَ الْعِيدَانِ وَالتِّبْنِ وَنَحْوِهِ كَالْكِبْرِيتِ وَغَيْرِهِ- فَتَغَيَّرَ بِهِ يَجُوزُ التَّطْهِيرُ بِهِ، لِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ.

أَمَّا الْمَاءُ الَّذِي خَالَطَهُ طَاهِرٌ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ- كَزَعْفَرَانٍ وَصَابُونٍ وَنَحْوِهِمَا- فَتَغَيَّرَ بِهِ أَحَدُ أَوْصَافِهِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ إِلَى فَرِيقَيْنِ:

الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ: وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: يَرَوْنَ أَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَشْتَرِطُونَ أَنْ لَا يَكُونَ التَّغْيِيرُ عَنْ طَبْخٍ، أَوْ عَنْ غَلَبَةِ أَجْزَاءِ الْمُخَالِطِ حَتَّى يَصِيرَ ثَخِينًا.قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَتَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِمَاءٍ خَالَطَهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ فَغَيَّرَ أَحَدَ أَوْصَافِهِ، كَمَاءِ الْمَدِّ، وَالْمَاءِ الَّذِي اخْتَلَطَ بِهِ اللَّبَنُ أَوِ الزَّعْفَرَانُ أَوِ الصَّابُونُ أَوِ الْأُشْنَانُ...إِلَى أَنْ يَقُولَ:

وَلَا يَجُوزُ- أَيِ التَّطَهُّرُ- بِمَاءٍ غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَأَخْرَجَهُ عَنْ طَبْعِ الْمَاءِ، كَالْأَشْرِبَةِ وَالْخَلِّ وَمَاءِ الْبَاقِلاَّ، لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مَاءً مُطْلَقًا، وَالْمُرَادُ بِمَاءِ الْبَاقِلاَّ وَغَيْرِهِ: مَا تَغَيَّرَ بِالطَّبْخِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ بِدُونِ الطَّبْخِ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَنَقَلَ عَنْ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ أَبُو الْحَارِثِ وَالْمَيْمُونِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ جَوَازَ الْوُضُوءِ بِهِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}.فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ- مُنَكَّرًا- عِنْدَ إِرَادَةِ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يُبِحِ التَّيَمُّمَ إِلاَّ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى طَهُورِيَّتِهِ وَعَدَمِ جَوَازِ التَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَاقِعُ فِيهِ مِسْكًا أَمْ عَسَلًا أَمْ نَحْوَ ذَلِكَ.

وَبِمَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- اغْتَسَلَ هُوَ وَمَيْمُونَةُ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ فِي قَصْعَةٍ فِيهَا أَثَرُ الْعَجِينِ».

فَهَذَا الْحَدِيثُ وَاضِحُ الدَّلَالَةِ فِي جَوَازِ التَّطَهُّرِ بِالْمَاءِ إِذَا خَالَطَهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اخْتِلَاطٌ يَمْنَعُ التَّطَهُّرَ لَمَا اغْتَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِمَاءٍ فِيهِ أَثَرُ الْعَجِينِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى طُهُورِيَّتِهِ وَلِأَنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ بِأَصْلِ خِلْقَتِهِ، وَقَدْ خَالَطَهُ طَاهِرٌ لَمْ يَسْلُبْهُ اسْمَ الْمَاءِ وَلَا رِقَّتَهُ وَلَا جَرَيَانَهُ، فَأَشْبَهَ الْمُتَغَيِّرَ بِالدُّهْنِ، أَوِ الْمُخْتَلَطَ بِالطُّحْلُبِ وَشِبْهَهُ.

وَالْفَرِيقُ الثَّانِي: وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٌ.قَالَ صَاحِبُ أَسْهَلِ الْمَدَارِكِ: وَالْمُتَغَيِّرُ بِالطَّاهِرِ كَاللَّبَنِ طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ طَهُورٍ، يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَادَاتِ كَالطَّبْخِ وَالشُّرْبِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْعِبَادَاتِ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَنْعُ الطَّهَارَةِ بِالْمُتَغَيِّرِ بِمُخَالَطَةِ مَا لَيْسَ بِمُطَهِّرٍ وَالْمَاءُ يَسْتَغْنِي عَنْهُ هُوَ مَذْهَبُنَا.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: مَا خَالَطَهُ طَاهِرٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ فَغَيَّرَ إِحْدَى صِفَاتِهِ- طَعْمَهُ أَوْ لَوْنَهُ أَوْ رِيحَهُ- كَمَاءِ الْبَاقِلاَّ وَمَاءِ الْحِمَّصِ وَمَاءِ الزَّعْفَرَانِ، اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْوُضُوءِ بِهِ، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ إِمَامِنَا- رحمه الله- فِي ذَلِكَ.فَرُوِيَ عَنْهُ: لَا تَحْصُلُ الطَّهَارَةُ بِهِ...قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَهِيَ الْأَصَحُّ وَهِيَ الْمَنْصُورَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فِي الْخِلَافِ وَقَالَ الْمِرْدَاوِيُّ وَهِيَ الْمَذْهَبُ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ مَاءٌ تَغَيَّرَ بِمُخَالَطَةِ مَا لَيْسَ بِطَهُورٍ، وَيُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، فَلَمْ يَجُزِ الْوُضُوءُ بِهِ كَمَاءِ الْبَاقِلاَّ الْمَغْلِيِّ، وَبِأَنَّ اخْتِلَاطَ الْمَاءِ بِطَاهِرٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ يَمْنَعُهُ الْإِطْلَاقُ، وَلِهَذَا لَا يَحْنَثُ بِشُرْبِهِ الْحَالِفُ عَلَى أَلاَّ يَشْرَبَ مَاءً، وَلِقِيَاسِهِ عَلَى مَاءِ الْوَرْدِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


142-موسوعة الفقه الكويتية (نبي 2)

نَبِيّ -2

وَتَتَعَلَّقُ بِهِ وَلِأَفْعَالِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَبِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

أ- التَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم-:

25- مَا كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مُكَلَّفًا بِهِ بِمُقْتَضَى عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَالْأُمَّةُ مُكَلَّفَةٌ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ مِمَّا اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى اقْتِدَاءِ الْأُمَّةِ بِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَالتَّأَسِّي بِأَفْعَالِهِ، مَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَقَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» وَقَوْلِهِ: «لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغَبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».

وَالدَّلِيلُ كَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}.

وَكَانَ الصَّحَابَةُ ((يَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه-: إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَدَعُ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَصْنَعُهُ فِي هَذَا الْمَالِ إِلاَّ صَنَعْتُهُ، إِنِّي أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ.

وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَكَبَّ عَلَى الرُّكْنِ فَقَالَ: إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ حَبِيبِي- صلى الله عليه وسلم- يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَمِنْهُ حَدِيثُ «ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: أَنَّ أَحَدَ أَصْحَابِهِ نَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَأَوْتَرَ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ، فَقَالَ: أَيْنَ كُنْتَ؟ قَالَ: خَشِيتُ الْفَجْرَ فَنَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ.فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَلَيْسَ لَكَ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟ قَالَ: بَلَى وَاللَّهِ.قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ.».

ب- خَصَائِصُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم-:

26- اخْتَصَّ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِخَصَائِصَ وَمَقَامَاتٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَيْسَتْ لِسَائِرِ النَّاسِ، وَهَذِهِ الْخَصَائِصُ أَنْوَاعٌ:

أَوَّلًا: الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الَّتِي لَا تَتَعَدَّاهُ إِلَى أُمَّتِهِ كَكَوْنِهِ لَا يُورَثُ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

ثَانِيًا: الْمَزَايَا الْأُخْرَوِيَّةُ كَإِعْطَائِهِ الشَّفَاعَةَ وَكَوْنِهِ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

ثَالِثًا: الْفَضَائِلُ الدُّنْيَوِيَّةُ كَكَوْنِهِ أَصْدَقَ النَّاسِ حَدِيثًا.

رَابِعًا: الْمُعْجِزَاتُ كَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَالْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الَّتِي اخْتَصَّ بِهَا- صلى الله عليه وسلم- لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا وَاجِبَةً أَوْ مُحَرَّمَةً أَوْ مُبَاحَةً.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (اخْتِصَاص ف 7 وَمَا بَعْدَهَا).

ج- الْإِيمَانُ بِهِ- صلى الله عليه وسلم-:

27- يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ تَصْدِيقُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلاَّ بِهِ.

كَمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ الشَّهَادَةُ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَلَهُ- صلى الله عليه وسلم- بِالرِّسَالَةِ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ؛ لقوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ».

وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِسْلَام ف 16- 20).

د ـ مَحَبَّتُهُ- صلى الله عليه وسلم-:

28- يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُحِبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَكْثَرَ مِمَّا يُحِبُّ أَحَدًا أَوْ شَيْئًا سِوَاهُمَا، لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: فِي هَذَا حَضٌّ وَتَنْبِيهٌ وَدَلَالَةٌ وَحُجَّةٌ عَلَى إِلْزَامِ مَحَبَّتِهِ، وَوُجُوبِ فَرْضِهَا، وَعِظَمِ خَطَرِهَا، وَاسْتِحْقَاقِهِ لَهَا- صلى الله عليه وسلم-، إِذْ قَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ كَانَ مَالُهُ وَوَلَدُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَوْعَدَهُمْ بِقَوْلِهِ: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} ثُمَّ فَسَّقَهُمْ بِتَمَامِ الْآيَةِ.

وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» «وَقَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه- لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ».فَقَالَ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الْآنَ وَاللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْآنَ يَا عُمَرُ».

وَمِنْ حُبِّهِ- صلى الله عليه وسلم- حُبُّ سُنَّتِهِ وَاتِّبَاعُهَا وَالْحِرْصُ عَلَيْهَا وَالْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِهَا، وَمِنْهُ حُبُّ آلِهِ الْأَتْقِيَاءِ الْأَبْرَارِ، وَحُبُّ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَمَا فِي حَدِيثِهِ فِي الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ- رضي الله عنهما-: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا» وَقَالَ: «اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ».

وَمِمَّا يُنْشِئُ مَحَبَّتَهُ- صلى الله عليه وسلم- كَمَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ إِحْسَانُهُ وَإِنْعَامُهُ عَلَى أُمَّتِهِ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَهِدَايَتُهُمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَشَفَقَتُهُ عَلَيْهِمْ وَاسْتِنْقَاذُ اللَّهِ لَهُمْ بِهِ مِنَ النَّارِ.

هـ- النَّصِيحَةُ لَهُ- صلى الله عليه وسلم-:

29- يَجِبُ النُّصْحُ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ.قَالُوا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» قَالَ الْخَطَّابِيُّ: النَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةِ إِرَادَةِ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ، وَالنَّصِيحَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- التَّصْدِيقُ بِنُبُوَّتِهِ، وَبَذْلُ الطَّاعَةِ لَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، وَمُؤَازَرَتُهُ وَنُصْرَتُهُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَفَّافُ: النَّصِيحَةُ لَهُ حِمَايَتُهُ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَإِحْيَاءُ سُنَّتِهِ بِالطَّلَبِ، وَالذَّبُّ عَنْهَا وَنَشْرُهَا.أ هـ، وَقَالَ مِثْلُهُ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ، وَأَضَافَ: النَّصِيحَةُ لَهُ الْتِزَامُ التَّوْقِيرِ وَالْإِجْلَالِ، وَشِدَّةُ الْمَحَبَّةِ، وَالْمُثَابَرَةُ عَلَى تَعَلُّمِ سُنَّتِهِ وَمَحَبَّةِ آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمُجَانَبَةُ مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِهِ وَانْحَرَفَ عَنْهَا وَبُغْضُهُ وَالتَّحْذِيرُ مِنْهُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَصِيحَة).

و- تَعْظِيمُ حُرْمَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَتَوْقِيرُهُ:

30- تَعْظِيمُ حُرْمَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَاجِبٌ، لِعُلُوِّ مَقَامِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، الَّذِي هُوَ أَعْلَى مَقَامٍ يُمْكِنُ أَنْ يَبْلُغَهُ بَشَرٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: تُعَزِّرُوهُ: أَيْ تُعَظِّمُوهُ وَتُفَخِّمُوهُ، وَالتَّعْزِيرُ: التَّفْخِيمُ وَالتَّوْقِيرُ، وَقِيلَ: تُعَزِّرُوهُ: تَنْصُرُوهُ وَتَمْنَعُوا مِنْهُ.ثُمَّ قَالَ: وَتُوَقِّرُوهُ: أَيْ تُسَوِّدُوهُ.وَالْهَاءُ فِيهِمَا لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.

وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: التَّعْزِيرُ اسْمٌ جَامِعٌ لِنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ وَمَنْعِهِ مِنْ كُلِّ مَا يُؤْذِيهِ، وَالتَّوْقِيرُ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا فِيهِ طُمَأْنِينَةٌ وَسَكِينَةٌ مِنَ الْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَأَنْ يُعَامَلَ مِنَ التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ بِمَا يَصُونُهُ عَنْ كُلِّ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ الْوَقَارِ.

وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ أَهَمَّ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِتَوْقِيرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.

تَوْقِيرُهُ فِي نِدَائِهِ وَتَسْمِيَتِهِ- صلى الله عليه وسلم-:

31- أُمِرَ الصَّحَابَةُ ((بِتَوْقِيرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- حَالَ نِدَائِهِمْ لَهُ فَقَالَ تَعَالَى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} أَيْ لَا تَقُولُوا: يَا مُحَمَّدُ، كَمَا يَدْعُو بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِاسْمِهِ، وَلَكِنْ قُولُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ.

وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: نَهَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَقُولُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَوْ يَا أَحْمَدُ، أَوْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَلَكِنْ يَقُولُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ: وَكَيْفَ لَا يُخَاطِبُونَهُ بِذَلِكَ وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَكْرَمَهُ فِي مُخَاطَبَتِهِ إِيَّاهُ بِمَا لَمْ يُكْرِمْ بِهِ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَمْ يَدْعُهُ بِاسْمِهِ فِي الْقُرْآنِ قَطُّ بَلْ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّه، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْك} مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِك} {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذاَ} {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاس} {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِك}.

وَتَوْقِيرُهُ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّنَا عِنْدَ ذِكْرِهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَلَا يَنْبَغِي ذِكْرُهُ بِاسْمِهِ مُجَرَّدًا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ قَرْنِهِ بِالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ.

(انْظُرِ الصَّلَاة عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- ف 3 وَمَا بَعْدَهَا).

غَضُّ الصَّوْتِ عِنْدَهُ وَتَوْقِيرُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ- صلى الله عليه وسلم-:

32- ذَهَبَ مَالِكٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَابْنُ سِيرِينَ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قُرِئَ كَلَامُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَجَبَ عَلَى كُلِّ حَاضِرٍ أَلاَّ يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ وَلَا يُعْرِضَ عَنْهُ، كَمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهِ عِنْدَ تَلَفُّظِهِ بِهِ، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: حُرْمَةُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مَيِّتًا كَحُرْمَتِهِ حَيَّا، وَكَلَامُهُ الْمَأْثُورُ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الرِّفْعَةِ مِثَالُ كَلَامِهِ الْمَسْمُوعِ مِنْ لَفْظِهِ، فَإِذَا قُرِئَ كَلَامُهُ وَجَبَ عَلَى كُلِّ حَاضِرٍ أَنْ لَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ وَلَا يُعْرِضَ عَنْهُ كَمَا كَانَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهِ عِنْدَ تَلَفُّظِهِ بِهِ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: تَوْقِيرُهُ وَتَعْظِيمُهُ لَازِمٌ بَعْدَ مَوْتِهِ كَمَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَذِكْرِ حَدِيثِهِ وَسُنَّتِهِ وَسَمَاعِ اسْمِهِ وَسِيرَتِهِ، وَمُعَامَلَةِ آلِهِ وَعِتْرَتِهِ، وَتَعْظِيمِ أَهْلِ بَيْتِهِ وَصَحَابَتِهِ- رضي الله عنهم-.قَالَ: وَيَنْبَغِي مُرَاعَاةُ ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ قَبْرِهِ.

تَوْقِيرُ آلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابِهِ- رضي الله عنهم- وَبِرُّهُمْ وَحُبُّهُمْ:

33- قَالَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه-: «ارْقُبُوا مُحَمَّدًا فِي أَهْلِ بَيْتِهِ» وَقَالَ أَيْضًا: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي».

وَأَمَّا أَصْحَابُهُ- صلى الله عليه وسلم- فَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِإِيمَانِهِمْ وَإِحْسَانِهِمْ وَجِهَادِهِمْ فَقَالَ تَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} وَقَالَ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} وَقَالَ: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ- رضي الله عنهم- وَرَضُوا عَنْهُ} وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْأَنْصَارِ: إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَنِي وَاخْتَارَ لِي أَصْحَابًا، فَجَعَلَ لِي مِنْهُمْ وُزَرَاءَ وَأَنْصَارًا وَأَصْهَارًا، فَمَنْ سَبَّهُمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: مِنْ تَوْقِيرِهِ وَبِرِّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَوْقِيرُ أَصْحَابِهِ وَبِرُّهُمْ وَمَعْرِفَةُ حَقِّهِمْ وَحُسْنُ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ، وَالْإِمْسَاكُ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَمُعَادَاةُ مَنْ عَادَاهُمْ، وَالْإِضْرَابُ عَنْ أَخْبَارِ الْمُؤَرِّخِينَ الْقَادِحَةِ فِي أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا يُذْكَرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِسُوءٍ.

ز- الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ:

34- الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مَشْرُوعَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي مُوَاطِنَ وَاسْتِحْبَابِهَا فِي مَوَاطِنَ أُخْرَى.

وَفِي صِيغَةِ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ وَأَوْقَاتِهَا وَأَحْكَامِهَا تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (الصَّلَاة عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- ف 3 وَمَا بَعْدَهَا).

ح- سُؤَالُ الْوَسِيلَةِ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-:

35- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُسْلِمِ الدُّعَاءُ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِرِفْعَةِ مَقَامِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ بِسُؤَالِ الْوَسِيلَةِ لَهُ، وَمَوْضِعُ ذَلِكَ بَعْدَ تَمَامِ الْأَذَانِ وَإِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- رضي الله عنهما- مَرْفُوعًا: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ».

وَالصِّيغَةُ الْمَنْدُوبَةُ لِذَلِكَ وَرَدَتْ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: وَيُسَنُّ الدُّعَاءُ الْمَذْكُورُ عِنْدَ الْإِقَامَةِ أَيْضًا.

ط- التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-:

36- لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى مَعْنَى الْإِيمَانِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَذَلِكَ كَأَنْ يَقُولَ: أَسْأَلُكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ، وَيُرِيدُ: أَنِّي أَسْأَلُكَ بِإِيمَانِي بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَأَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِإِيمَانِي بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَوَسُّل ف 8- 14).

ي- طَلَبُ شَفَاعَتِهِ- صلى الله عليه وسلم-:

37- طَلَبُ الشَّفَاعَةِ مِنْهُ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَيَاتِهِ جَائِزٌ، كَمَا شَفَعَ- صلى الله عليه وسلم- لِمُغِيثٍ زَوْجِ بَرِيرَةَ عِنْدَمَا خُيِّرَتْ لَمَّا عَتَقَتْ بَيْنَ الْبَقَاءِ مَعَهُ وَبَيْنَ مُفَارَقَتِهِ، فَشَفَعَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لَهُ لِتَرْضَى بِالْبَقَاءِ مَعَهُ، فَقَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ.

وَكَذَلِكَ يَتَشَفَّعُ بِهِ بَنُو آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لِتَعْجِيلِ الْحِسَابِ، كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ.

وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ- صلى الله عليه وسلم- فَإِنَّ طَلَبَ الشَّفَاعَةِ مِنْهُ لَا بَأْسَ بِهِ، بِأَنْ يَتَوَجَّهَ الْعَبْدُ بِالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَقُولَ: اللَّهُمَّ شَفِّعْ فِينَا نَبِيَّكَ مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم-.

وَانْظُرْ (شَفَاعَة ف 6- 8)

ك- الْحَلِفُ بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ:

38- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحَلِفِ بِالْأَنْبِيَاءِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى كَرَاهَةِ الْحَلِفِ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَيْمَان ف 47- 51).

ل- التَّبَرُّكُ بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَبِآثَارِهِ:

39- اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّبَرُّكِ بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَبِآثَارِهِ، وَأَوْرَدَ عُلَمَاءُ السِّيرَةِ وَالشَّمَائِلِ وَالْحَدِيثِ أَخْبَارًا كَثِيرَةً تُمَثِّلُ تَبَرُّكَ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- بِصُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَآثَارِهِ. قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَالتَّبَرُّكُ بِالْآثَارِ إِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُهُ الصَّحَابَةُ- رضي الله عنهم- مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَهُ مَعَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَلَا يَفْعَلُهُ التَّابِعُونَ مَعَ الصَّحَابَةِ مَعَ عُلُوِّ قَدْرِهِمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يُفْعَلُ إِلاَّ مَعَ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- مِثْلُ التَّبَرُّكِ بِالْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَالنَّوَوِيُّ: يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (تَبَرُّك ف 6 وَمَا بَعْدَهَا).

م- التَّسَمِّي بِاسْمِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَالتَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ:

40- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّسْمِيَةِ بِاسْمِهِ وَالتَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ عَلَى أَقْوَالٍ:

مِنْهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ التَّسَمِّي بِاسْمِهِ، وَلَا يَجُوزُ التَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ.

وَمِنْهَا: الْجَوَازُ مُطْلَقًا فِي الْأَمْرَيْنِ.

وَمِنْهَا: تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ اسْمِهِ «مُحَمَّدٍ» وَكُنْيَتِهِ «أَبِي الْقَاسِمِ».

وَمِنْهَا: تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْكُنْيَةِ وَالِاسْمِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ- صلى الله عليه وسلم-.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ (تَسْمِيَة ف 11، وَكُنْيَة ف 4 وَمَا بَعْدَهَا).

ن- وُجُوبُ طَاعَتِهِ- صلى الله عليه وسلم-:

41- أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ طَاعَةَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} وَقَالَ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (طَاعَة ف 6).

س- اتِّبَاعُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي أَفْعَالِهِ الْجِبِلِّيَّةِ:

42- يَجِبُ اتِّبَاعُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي أُمُورِ الدِّينِ، وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مُجْتَهِدُهُمْ وَمُقَلِّدُهُمْ.

أَمَّا أَفْعَالُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- الْجِبِلِّيَّةُ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (اتِّبَاع ف 3- 4) وَفِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

ع- اجْتِهَادُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-:

43- الْأَحْكَامُ الَّتِي صَدَرَتْ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- اخْتَلَفَ فِيهَا الْأُصُولِيُّونَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهَا كُلُّهَا مُوحَى بِهَا إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، بِدَلَالَةِ قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}.

الثَّانِي: أَنَّ مِنْهَا- وَهُوَ الْأَكْثَرُ- مَا هُوَ وَحْيٌ، سَوَاءٌ كَانَ قُرْآنًا أَوْ غَيْرَهُ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ- صلى الله عليه وسلم-

وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

ف- حُكْمُ مَنْ تَنَقَّصَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَوِ اسْتَخَفَّ بِهِ أَوْ آذَاهُ:

44- وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ تَعْظِيمُ جُرْمِ تَنَقُّصِ النَّبِيِّ أَوِ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ، وَلَعْنُ فَاعِلِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى تَكْفِيرِ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّة ف 15 وَمَا بَعْدَهَا، سَب ف 11- 18، اسْتِخْفَاف 5- 7).

ص- حُكْمُ مَنْ تَرَكَ التَّأَدُّبَ فِي الْكَلَامِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-:

45- قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: مَنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَمًّا وَلَا عَيْبًا وَلَا سَبًّا وَلَا تَكْذِيبًا، وَلَكِنْ أَتَى مِنَ الْكَلَامِ بِمُجْمَلٍ أَوْ أَتَى بِلَفْظٍ مُشْكِلٍ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ يَتَرَدَّدُ فِي الْمُرَادِ بِهِ أَهُوَ السَّلَامَةُ أَمِ الشَّرُّ، فَقَدِ اخُتِلَفَ فِيهِ فَقِيلَ: يُقْتَلُ تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، وَقِيلَ: يُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ، لِكَوْنِ قَوْلِهِ مُحْتَمَلًا، وَيُؤَدَّبُ فَاعِلُهُ إِنْ لَمْ يَتُبْ.

وَكَذَا لَوْ أَتَى بِلَفْظٍ عَامٍّ يَدْخُلُ فِيهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- كَمَا لَوْ سَبَّ بَنِي هَاشِمٍ.

ق- حُكْمُ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-:

46- مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مُتَعَمِّدًا فَقَدِ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً مِنَ الْكَبَائِرِ، وَقَدْ جَاءَ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» وَسَوَاءٌ قَصَدَ بِذَلِكَ السُّوءَ أَوْ قَصَدَ خَيْرًا كَمَنْ يَضَعُ الْأَحَادِيثَ لِلتَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَاتِ.

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِكُفْرِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، مِنْهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ، وَوَجَّهَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بِأَنَّ الْكَذِبَ عَلَيْهِ- صلى الله عليه وسلم- هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ، وَإِفْسَادٌ لِلدِّينِ مِنَ الدَّاخِلِ.

وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْكَذِبَ عَلَيْهِ فِي دَعْوَى السَّمَاعِ مِنْهُ فِي الْمَنَامِ يَشْمَلُهُ التَّحْرِيمُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


143-موسوعة الفقه الكويتية (نسب 2)

نَسَبٌ -2

25- وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِوَارِثٍ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي حَقِّ ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَالثَّانِي فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ.أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَمْرُ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَارِثُ وَاحِدًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ بِأَنْ مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنًا فَأَقَرَّ بِأَخٍ هَلْ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنَ الْمَيِّتِ؟ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِ وَارِثٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْأُخُوَّةِ إِقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ حَمْلِ نَسَبِ غَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَكَانَ شَهَادَةً وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ.وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ وَبِهِ أَخَذَ الْكَرْخِيُّ، لِأَنَّ إِقْرَارَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ فَيَكُونُ مَقْبُولًا فِي حَقِّ النَّسَبِ كَإِقْرَارِ الْجَمَاعَةِ.

أَمَّا إِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ بِأَنْ كَانَا رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ فَصَاعِدًا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِمْ بِإِجْمَاعِ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي النَّسَبِ مَقْبُولَةٌ.وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ فَإِقْرَارُ الْوَارِثِ الْوَاحِدِ بِوَارِثٍ يَصِحُّ وَيَصْدُقُ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ بِأَنْ أَقَرَّ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ بِأَخٍ، وَحُكْمُهُ أَنَّهُ يُشَارِكُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنَ الْمِيرَاثِ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْأُخُوَّةِ إِقْرَارٌ بِشَيْئَيْنِ: النَّسَبِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ، وَالْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ إِقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ، لِأَنَّهُ دَعْوَى فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ شَهَادَةٌ، وَالْإِقْرَارُ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ إِقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّهُ مَقْبُولٌ، وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ الْوَاحِدُ مَقْبُولًا بِجِهَةٍ غَيْرَ مَقْبُولٍ بِجِهَةٍ أُخْرَى.

وَلَوْ أَقَرَّ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ بِأُخْتٍ أَخَذَتْ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ، لِأَنَّ إِقْرَارَهُ قَدْ صَحَّ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ وَلَهَا مَعَ الْأَخِ ثُلُثُ الْمِيرَاثِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِامْرَأَةٍ أَنَّهَا زَوْجَةُ أَبِيهِ فَلَهَا ثُمُنُ مَا فِي يَدِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِجَدَّةٍ هِيَ أُمُّ الْمَيِّتِ فَلَهَا سُدُسُ مَا فِي يَدِهِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُقِرَّ فِيمَا فِي يَدِهِ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ مَا لَوْ ثَبَتَ النَّسَبُ.

وَلَوْ أَقَرَّ ابْنُ الْمَيِّتِ بِابْنِ ابْنٍ لِلْمَيِّتِ وَصَدَّقَهُ، لَكِنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ ابْنَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ وَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ اسْتِحْسَانًا، لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ إِنَّمَا اسْتَفَادَ الْمِيرَاثَ مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ فَلَوْ بَطَلَ إِقْرَارُهُ لَبَطَلَتْ وِرَاثَتُهُ، وَفِي بُطْلَانِ وِرَاثَتِهِ بُطْلَانُ وِرَاثَةِ الْمُقَرِّ لَهُ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُقَرِّ لَهُ وَالْمَالُ كُلُّهُ لَهُ مَا لَمْ يُقِمِ الْبَيِّنَةَ عَلَى النَّسَبِ، لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى إِثْبَاتِ وِرَاثَةِ الْمُقَرِّ لَهُ، وَاخْتَلَفَا فِي وِرَاثَةِ الْمُقِرِّ، فَيَثْبُتُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ وَيَقِفُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ عَلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ

26- وَالْمَالِكِيَّةُ يُسَمُّونَ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ بِالِاسْتِلْحَاقِ فَقَالُوا: إِنَّمَا يَسْتَلْحِقُ الْأَبُ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِذَا أَقَرَّ رَجُلٌ بِابْنٍ جَازَ إِقْرَارُهُ وَلَحِقَ بِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، أَنْكَرَ الِابْنُ أَوْ أَقَرَّ.وَإِنَّمَا يَسْتَلْحِقُ الْأَبَ مَجْهُولُ النَّسَبِ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ لِمَالِكٍ: مَنِ ادَّعَى وَلَدًا لَا يُعْرَفُ كَذِبُهُ فِيهِ لَحِقَ بِهِ إِنْ لَمْ يُكَذِّبْهُ الْعَقْلُ أَوِ الْحِسُّ أَوِ الْعَادَةُ أَوِ الشَّرْعُ صَغِيرًا كَانَ الْمُسْتَلْحَقُ أَوْ كَبِيرًا، حَيًّا أَوْ مَيِّتًا.وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: مَنْ نَفَى وَلَدًا بِلِعَانٍ ثُمَّ ادَّعَاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَنْ مَالٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ضُرِبَ الْحَدَّ وَلَحِقَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ فِي مِيرَاثِهِ وَيُحَدُّ وَلَا يَرِثُهُ.

27- وَإِذَا اسْتَلْحَقَ مَيِّتًا وَرِثَ الْمُسْتَلْحِقُ- بِالْكَسْرِ- الْمُسْتَلْحَقَ- بِالْفَتْحِ- إِنْ وَرِثَهُ أَيِ الْمُسْتَلْحَقَ- بِالْفَتْحِ- ابْنٌ، قَالَ الْحَطَّابُ: ظَاهِرُهُ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ إِنَّمَا هُوَ فِي إِرْثِهِ مِنْهُ.وَأَمَّا نَسَبُهُ فَلَاحِقٌ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرِثْهُ ابْنٌ، وَهُوَ كَذَلِكَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو الْحَسَنِ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ.وَإِنِ اسْتَلْحَقَ شَخْصٌ شَخْصًا وَارِثًا غَيْرَ وَلَدٍ لِمُسْتَلْحِقِهِ- بِالْكَسْرِ- كَأَخٍ وَعَمٍّ وَأَبٍ وَأُمٍّ، فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ لَهُ، وَلَا يَرِثُ الْمُسْتَلْحَقُ- بِالْفَتْحِ- الْمُسْتَلْحِقَ- بِالْكَسْرِ- إِنْ وُجِدَ وَارِثٌ لِلْمُسْتَلْحِقِ- بِالْكَسْرِ-، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَارِثٌ فَفِي إِرْثِهِ خِلَافٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ ابْنِ يُونُسَ لَا إِرْثَ بِإِقْرَارٍ، وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ الْإِرْثُ بِالْإِقْرَارِ، وَعَزَاهُ الْبَاجِيُّ لِمَالِكٍ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ.

وَخَصَّ الْخِلَافَ فِي إِرْثِ الْمُقَرِّ بِهِ مِنَ الْمُقِرِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مَعْرُوفٌ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ اللَّخْمِيِّ بِمَا إِذَا لَمْ يَطُلِ الْإِقْرَارُ بِالْوَارِثِ، وَأَمَّا مَعَ الطُّولِ فَلَا خِلَافَ عِنْدَهُ فِي الْإِرْثِ بِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى صِدْقِهِ، قَالَ اللَّخْمِيُّ، إِنْ قَالَ: هَذَا أَخِي، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذُو نَسَبٍ ثَابِتٍ يَرِثُهُ فَقِيلَ: الْمَالُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَقِيلَ: الْمُقَرُّ لَهُ أَوْلَى وَهَذَا أَحْسَنُ، لِأَنَّ لَهُ بِذَلِكَ شُبْهَةٌ.

وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ فِي الصِّحَّةِ وَطَالَتِ الْمُدَّةُ وَهُمَا عَلَى ذَلِكَ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ: أَخِي، أَوْ يَقُولُ: هَذَا عَمِّي، وَيَقُولُ الْآخَرُ: ابْنُ أَخِي، وَمَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ السُّنُونَ وَلَا أَحَدَ يَدَّعِي بُطْلَانَ ذَلِكَ لَكَانَ حَوْزًا.

وَإِنْ أَقَرَّ عَدْلَانِ مِنْ وَرَثَةِ مَيِّتٍ- كَابْنَيْنِ أَوْ أَخَوَيْنِ أَوْ عَمَّيْنِ- بِثَالِثٍ مُسَاوٍ لَهُمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَابْنٍ أَوْ أَخٍ أَوْ عَمٍّ ثَبَتَ النَّسَبُ وَالْمِيرَاثُ مِنَ الْمَيِّتِ، وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ غَيْرُ عَدْلَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ، وَهُوَ كَذَلِكَ إِجْمَاعًا.

وَإِنْ أَقَرَّ عَدْلٌ وَاحِدٌ يَحْلِفُ الْمُقَرُّ بِهِ مَعَهُ أَيِ الْعَدْلُ الْمُقِرُّ، وَيَرِثُ الْمَيِّتُ مَعَ الْمُقِرِّ، وَالْحَالُ لَا نَسَبَ ثَابِتٌ لَهُ بِإِقْرَارِ الْعَدْلِ وَحَلِفِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُقِرُّ عَدْلًا فَحِصَّةُ الشَّخْصِ الْمُقِرِّ بِوَارِثٍ كَالْمَالِ الْمَتْرُوكِ أَيْ كَأَنَّهَا جَمِيعُ التَّرِكَةِ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى الْمُقِرِّ وَالْمُقَرِّ بِهِ، فَإِنْ كَانَا وَلَدَيْنِ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِثَالِثٍ وَكَذَّبَهُ أَخُوهُ فَحِصَّةُ الْمُقِرِّ النِّصْفُ فَيُقَدَّرُ أَنَّهُ جَمِيعُ التَّرِكَةِ وَيُقْسَمُ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَيَنُوبُ الْمُقَرُّ بِهِ ثُلُثَهُ فَيَأْخُذُهُ وَثُلُثَاهُ لِلْمُقِرِّ، وَإِنْ قَالَ أَحَدُ عَاصِبِي مَيِّتٍ لِشَخْصٍ ثَالِثٍ: هَذَا أَخِي وَأَنْكَرَهُ أَخُوهُ ثُمَّ أَضْرَبَ الْمُقِرُّ عَنْ إِقْرَارِهِ لِهَذَا الثَّالِثِ وَقَالَ لِشَخْصٍ آخَرَ رَابِعٍ: بَلْ هَذَا أَخِي، فَلِلْمُقَرِّ بِهِ الْأَوَّلِ نِصْفُ إِرْثِ أَبِ الْمُقِرِّ لِاعْتِرَافِهِ لَهُ بِهِ، وَإِضْرَابُهُ عَنْهُ لَا يُسْقِطُهُ لِأَنَّهُ يَعُدُّ نَدَمًا، وَلِلْمُقَرِّ بِهِ الثَّانِي نِصْفُ مَا بَقِيَ بِيَدِ الْمُقِرِّ لِاعْتِرَافِهِ لَهُ بِهِ

28- وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ مُكَلَّفٌ بِنَسَبِ صَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ مَجْهُولِ النَّسَبِ بِأَنْ قَالَ: إِنَّهُ ابْنُهُ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُولَدَ لِمِثْلِ الْمُقِرِّ بِأَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ أَكْبَرَ مِنْهُ بِعَشْرِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ كَمَا نَصَّ الْحَنَابِلَةُ، وَلَمْ يُنَازِعْهُ مُنَازِعٌ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّخْصَ لَا يَلْحَقُ بِهِ مَنْ لَيْسَ مِنْهُ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ.

وَإِنْ كَانَ الصَّغِيرُ أَوِ الْمَجْنُونُ الْمُقَرُّ بِهِ مَيِّتًا وَرِثَهُ وَثَبَتَ نَسَبُهُ، لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ النَّسَبِ مَعَ الْحَيَاةِ الْإِقْرَارُ وَهُوَ مَوْجُودٌ هُنَا، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ لَا، لِفَوَاتِ التَّصْدِيقِ.

وَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ كَبِيرًا عَاقِلًا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنَ الْمُقِرِّ حَتَّى يُصَدِّقَهُ، لِأَنَّ لَهُ قَوْلًا صَحِيحًا فَاعْتُبِرَ تَصْدِيقُهُ كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِمَالٍ، وَلِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي نَسَبِهِ، فَإِنْ كَذَّبَهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ حَلَّفَهُ، فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَتْ دَعْوَاهُ، وَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعِي وَثَبَتَ نَسَبُهُ، وَلَوْ سَكَتَ عَنِ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ قَضِيَّةُ اعْتِبَارِ التَّصْدِيقِ.

وَإِنْ كَانَ الْكَبِيرُ الْعَاقِلُ الْمُقَرُّ بِهِ مَيِّتًا ثَبَتَ إِرْثُهُ وَنَسَبُهُ، لِأَنَّهُ لَا قَوْلَ لَهُ أَشْبَهَ الصَّغِيرَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ لَا، لِفَوَاتِ التَّصْدِيقِ.

وَعَلَى الْأَوَّلِ يَرِثُ الْمَيِّتَ الْمُسْتَلْحِقُ وَلَا يُنْظَرُ إِلَى التُّهْمَةِ.

وَإِنِ ادَّعَى نَسَبَ مُكَلَّفٍ فِي حَيَاتِهِ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ حَتَّى مَاتَ الْمُقِرُّ ثُمَّ صَدَّقَهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ، لِأَنَّ بِتَصْدِيقِهِ حَصَلَ اتِّفَاقُهُمَا عَلَى التَّوَارُثِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ جَمِيعًا.

وَإِنِ اسْتَلْحَقَ صَغِيرًا أَثْبَتَ نَسَبَهُ فَلَوْ بَلَغَ وَكَذَّبَهُ لَمْ يَبْطُلْ نَسَبُهُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِأَنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لَهُ فَلَا يَنْدَفِعُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ يَبْطُلُ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ أَهْلٍ لِلْإِنْكَارِ وَقَدْ صَارَ أَهْلًا لَهُ وَأَنْكَرَ.

وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا اسْتَلْحَقَ مَجْنُونًا فَأَفَاقَ وَأَنْكَرَ.

وَلَوِ اسْتَلْحَقَ اثْنَانِ بَالِغًا ثَبَتَ نَسَبُهُ لِمَنْ صَدَّقَهُ مِنْهُمَا، فَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْ وَاحِدًا مِنْهُمَا عُرِضَ عَلَى الْقَائِفِ 29- وَمَنْ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَلَهُ أُمٌّ فَجَاءَتْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُقِرِّ تَدَّعِي زَوْجِيَّتَهُ لَمْ تَثْبُتِ الزَّوْجِيَّةُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَقَرَّ بِنَسَبِ صَغِيرٍ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِزَوْجِيَّةِ أُمِّهِ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ.

وَكَذَا لَوِ ادَّعَتْ أُخْتُهُ الْبُنُوَّةَ، ذَكَرَهُ فِي التَّبْصِرَةِ، قَالَ فِي الِاخْتِيَارَاتِ: وَمَنْ أَنْكَرَ زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا كَانَ لَهَا طَلَبُهُ بِحَقِّهَا

30- وَإِنْ قَدِمَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ وَمَعَهَا طِفْلٌ، فَأَقَرَّ بِهِ رَجُلٌ أَنَّهُ ابْنُهُ مَعَ إِمْكَانِهِ وَلَا مُنَازِعَ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ لِوُجُودِ الْإِمْكَانِ وَعَدَمِ الْمُنَازِعِ، وَالنَّسَبُ يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِهِ، وَلِهَذَا لَوْ وَلَدَتِ امْرَأَةُ رَجُلٍ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ غَيْبَتِهِ لَحِقَهُ الْوَلَدُ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لِلرَّجُلِ قُدُومٌ إِلَيْهَا وَلَا عُرِفَ لَهَا خُرُوجٌ مِنْ بَلَدِهَا

31- وَإِنْ أَقَرَّ بِنَسَبِ أَخٍ أَوْ عَمٍّ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ لَمْ يُقْبَلْ لِأَنَّ إِقْرَارَ الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ.

وَإِنْ كَانَ إِقْرَارُهُ بِنَسَبِ الْأَخِ أَوِ الْعَمِّ بَعْدَ مَوْتِهِمَا، وَالْمُقِرُّ هُوَ الْوَارِثُ وَحْدَهُ صَحَّ إِقْرَارُهُ وَثَبَتَ النَّسَبُ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» وَلِأَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ مُورِثِهِ فِي حُقُوقِهِ وَهَذَا مِنْهَا

وَلَا يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَكُونَ نَفَاهُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيَجُوزُ إِلْحَاقُهُ بِهِ بَعْدَ نَفْيِهِ إِيَّاهُ كَمَا لَوِ اسْتَلْحَقَهُ هُوَ بَعْدَ أَنْ نَفَاهُ بِلِعَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَكُونَ الْمَيِّتُ قَدْ نَفَاهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، لِأَنَّ فِي إِلْحَاقِ مَنْ نَفَاهُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلْحَاقَ عَارٍ بِنَسَبِهِ

32- وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُقِرِّ فِي إِلْحَاقِ النَّسَبِ بِغَيْرِهِ وَارِثًا حَائِزًا لِتَرِكَةِ الْمُلْحَقِ بِهِ، وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ، كَابْنَيْنِ أَقَرَّا بِثَالِثٍ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ وَيَرِثُ مَعَهُمَا، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيمَا إِذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْحَائِزَيْنِ بِثَالِثٍ وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ أَنَّ الْمُسْتَلْحِقَ لَا يَرِثُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ وَلَا يُشَارِكُ الْمُقِرَّ فِي حِصَّتِهِ، وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ يَرِثُ بِأَنْ يُشَارِكَ الْمُقِرَّ فِي حِصَّتِهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ عَدَمُ الْمُشَارَكَةِ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، أَمَّا فِي الْبَاطِنِ إِذَا كَانَ الْمُقِرُّ صَادِقًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُشْرِكَهُ فِيمَا يَرِثُهُ فِي الْأَصَحِّ بِثُلُثِهِ، وَقِيلَ: بِنِصْفِهِ. وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْبَالِغَ مِنَ الْوَرَثَةِ لَا يَنْفَرِدُ بِالْإِقْرَارِ، بَلْ يَنْتَظِرُ بُلُوغَ الصَّبِيِّ، وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ يَنْفَرِدُ بِهِ وَيُحْكَمُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ خَطِيرٌ لَا يُجَاوِزُ فِيهِ.

وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الْوَارِثَيْنِ الْحَائِزَيْنِ بِثَالِثٍ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ وَمَاتَ وَلَمْ يَرِثْهُ إِلاَّ الْمُقِرُّ ثَبَتَ النَّسَبُ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ صَارَ لَهُ.

وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ لَا يَثْبُتُ نَظَرًا إِلَى إِنْكَارِ الْمُورِثِ الْأَصْلَ.

وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ ابْنٌ حَائِزٌ بِأُخُوَّةِ مَجْهُولٍ فَأَنْكَرَ الْمَجْهُولُ نَسَبَ الْمُقِرِّ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ إِنْكَارُهُ، وَيَثْبُتُ أَيْضًا نَسَبُ الْمَجْهُولِ، وَالثَّانِي: يُؤَثِّرُ الْإِنْكَارُ فَيَحْتَاجُ الْمُقِرُّ إِلَى الْبَيِّنَةِ عَلَى نَسَبِهِ، وَالثَّالِثُ: لَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْمَجْهُولِ لِزَعْمِهِ أَنَّ الْمُقِرَّ لَيْسَ بِوَارِثٍ.

وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَارِثُ الظَّاهِرُ يَحْجُبُهُ الْمُسْتَلْحِقُ كَأَخٍ أَقَرَّ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ ثَبَتَ النَّسَبُ لِلِابْنِ وَلَا إِرْثَ لَهُ.

وَالثَّانِي: لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَثَبَتَ الْإِرْثُ، وَلَوْ وَرِثَ الِابْنُ لَحَجَبَ الْأَخَ فَيَخْرُجُ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْإِقْرَارِ، فَيَنْتَفِي نَسَبُ الِابْنِ وَالْمِيرَاثُ.

وَالثَّالِثُ: يَثْبُتَانِ، وَلَا يَخْرُجُ الْأَخُ بِالْحَجْبِ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْإِقْرَارِ، فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ كَوْنُ الْمُقِرِّ حَائِزًا لِلتَّرِكَةِ لَوْلَا إِقْرَارُهُ

33- وَإِنْ أَقَرَّ بِأَبٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ زَوْجٍ أَوْ مَوْلًى أَعْتَقَهُ قَبْلَ إِقْرَارِهِ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، وَلَوْ أَسْقَطَ بِهِ وَارِثًا مَعْرُوفًا، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْوَارِثِ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْإِرْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ بِشُرُوطٍ:

أَوَّلُهَا: خُلُوُّهُ مِنْ مُسْقِطٍ، إِذَا أَمْكَنَ صِدْقُ الْمُقِرِّ بِأَنْ لَا يُكَذِّبَهُ فِيهِ ظَاهِرُ حَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ صِدْقُهُ كَإِقْرَارِ الْإِنْسَانِ بِمَنْ فِي سِنِّهِ أَوْ أَكْبَرَ مِنْهُ لَمْ يُقْبَلْ.

وَثَانِيهَا: أَنْ لَا يَدْفَعَ بِإِقْرَارِهِ نَسَبًا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ دَفَعَ بِهِ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ.

وَثَالِثُهَا: أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُقِرُّ بِهِ الْمُكَلَّفُ وَإِلاَّ لَمْ يُقْبَلْ، أَوْ كَانَ الْمُقِرُّ بِهِ مَيِّتًا، إِلاَّ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ وَالْمَجْنُونَ فَلَا يُشْتَرَطُ تَصْدِيقُهُمَا لِمَا مَرَّ، فَإِنْ كَبِرَا وَعَقَلَا وَأَنْكَرَا النَّسَبَ لَمْ يُسْمَعْ إِنْكَارُهُمَا لِأَنَّهُ نَسَبٌ حُكِمَ بِثُبُوتِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِرَدِّهِ كَمَا لَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ، وَلَوْ طَلَبَا إِحْلَافَ الْمُقِرِّ لَمْ يُسْتَحْلَفْ، لِأَنَّ الْأَبَ لَوْ عَادَ فَجَحَدَ النَّسَبَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ لِأَنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لَهُ بِخِلَافِ الْمَالِ.

وَيَكْفِي فِي تَصْدِيقِ وَالِدٍ بِوَلَدِهِ وَعَكْسِهِ كَتَصْدِيقِ وَلَدٍ بِوَالِدِهِ، سُكُوتُهُ إِذَا أَقَرَّ بِهِ، لِأَنَّهُ يَغْلِبُ فِي ذَلِكَ ظَنُّ التَّصْدِيقِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي تَصْدِيقِ أَحَدِهِمَا أَيِ الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ وَعَكْسِهِ تَكْرَارُ التَّصْدِيقِ، فَيَشْهَدُ الشَّاهِدُ بِنَسَبِهِمَا بِدُونِ تَكْرَارِ التَّصْدِيقِ وَمَعَ السُّكُوتِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ سَكَتَ عَنِ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ، وَفَارِقُ السُّكُوتِ فِي الْأَمْوَالِ بِالِاحْتِيَاطِ فِي النَّسَبِ.نَعَمْ إِنْ مَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ التَّصْدِيقِ ثَبَتَ النَّسَبُ

34- وَلَا يَصِحُّ إِقْرَارُ مَنْ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ بِغَيْرِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَهُمُ: الْأَبُ وَالِابْنُ وَالزَّوْجُ وَالْمَوْلَى، وَكَجَدٍّ يُقِرُّ بِابْنِ ابْنِهِ وَعَكْسِهِ، وَكَأَخٍ يُقِرُّ بِأَخٍ، وَالْعَمِّ يُقِرُّ بِابْنِ أَخٍ، لِأَنَّهُ يَحْمِلُ عَلَى غَيْرِهِ نَسَبًا فَلَمْ يُقْبَلْ، إِلاَّ وَرَثَةً أَقَرُّوا لِمَنْ لَوْ أَقَرَّ بِهِ مُورِثُهُمْ ثَبَتَ نَسَبُهُ فَيَصِحُّ لِقِيَامِهِمْ مَقَامَهُ.

وَإِنْ خَلَّفَ ابْنَيْنِ مُكَلَّفَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ صَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ ثُمَّ مَاتَ الْمُنْكِرُ وَالْمُقِرُّ وَحْدَهُ وَارِثٌ لِلْمُنْكِرِ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ مِنْهُمَا لِانْحِصَارِ الْإِرْثِ فِيهِ، فَلَوْ مَاتَ الْمُقِرُّ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ بَنِي عَمٍّ وَعَنِ الْأَخِ الْمُقَرِّ بِهِ وَرِثَهُ الْأَخُ الْمُقَرُّ بِهِ دُونَ بَنِي الْعَمِّ، لِأَنَّ الْأَخَ يَحْجُبُهُمْ وَقَدْ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِإِقْرَارِ الْمَيِّتِ وَلَوْ أَقَرَّتْ زَوْجَةٌ بِوَلَدٍ لَحِقَهَا لِإِقْرَارِهَا دُونَ زَوْجِهَا لِعَدَمِ إِقْرَارِهِ بِهِ، وَكَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَإِنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِامْرَأَتِهِ

ثُبُوتُ نَسَبِ الشَّخْصِ بِإِقْرَارِهِ:

35- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: نَسَبُ الشَّخْصِ لَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ، وَقِيلَ: يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ، لِقَوْلِهِمْ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ فِيمَا إِذَا شَهِدَ شُهُودُ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسَمَّى فِيهِ لَا عَلَى عَيْنِهِ، فَاعْتَرَفَ الْمُحْضَرُ بِأَنَّ ذَلِكَ اسْمُهُ وَنَسَبُهُ أَوْ أَنْكَرَ وَنَكَلَ، فَحَلَفَ الْمُدَّعِي عَلَى ذَلِكَ تَوَجَّهَ لَهُ الْحُكْمُ، وَلِأَنَّ مَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ يُسْأَلُ عَنِ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ، وَيُجْعَلُ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ النَّاسَ مُؤْتَمَنُونَ عَلَى أَنْسَابِهِمْ، وَمَنِ اؤْتُمِنَ عَلَى شَيْءٍ رُجِعَ إِلَيْهِ فِيمَا عَلَيْهِ لَا فِيمَا لَهُ.

إِقْرَارُ السَّفِيهِ بِالنَّسَبِ:

36- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَقَرَّ السَّفِيهُ بِنَسَبٍ صَحَّ إِقْرَارُهُ بِذَلِكَ وَأُخِذَ بِهِ فِي الْحَالِ.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهُوَ إِجْمَاعُ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي نَفْسِهِ وَالْحَجْرُ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ. وَيُنْفَقُ عَلَى وَلَدِهِ الْمُسْتَلْحَقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.

الرُّجُوعُ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ:

37- الْإِقْرَارُ الصَّحِيحُ بِالْبُنُوَّةِ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ؛ إِذْ لَا يَجُوزُ إِلْغَاءُ كَلَامِ الْمُكَلَّفِ بِلَا مُقْتَضٍ وَانْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي (إِقْرَار ف 67).

نَسَبُ اللَّقِيطِ:

38- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى اللَّقِيطَ شَخْصٌ وَاحِدٌ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْمُلْتَقِطَ أَوْ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ رَجُلًا مُسْلِمًا حُرًّا لَحِقَ نَسَبُهُ بِهِ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بِأَنْ تَتَحَقَّقَ فِيهِ شُرُوطُ الِاسْتِلْحَاقِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مَحْضُ نَفْعٍ لِلطِّفْلِ لِاتِّصَالِ نَسَبِهِ، وَلَا مَضَرَّةَ عَلَى غَيْرِهِ فِيهِ، فَقُبِلَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِمَالٍ.وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (لَقِيط ف 11- 14).

ز- الْقُرْعَةُ:

39- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى عَدَمِ اسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ فِي إِثْبَاتِ النَّسَبِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (قُرْعَة ف 19).

ح- السَّمَاعُ:

40- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ بِالسَّمَاعِ لِلضَّرُورَةِ.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَمَّا النَّسَبُ فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنَعَ مِنْهُ، وَلَوْ مُنِعَ ذَلِكَ لَاسْتَحَالَتْ مَعْرِفَةُ الشَّهَادَةِ بِهِ؛ إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ قَطْعًا بِغَيْرِهِ، وَلَا تَمْكُنُ الْمُشَاهَدَةُ فِيهِ، وَلَوِ اعْتُبِرَتِ الْمُشَاهَدَةُ لَمَا عَرَفَ أَحَدٌ أَبَاهُ وَلَا أُمَّهُ وَلَا أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ

وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ أَنْ يَكُونَ النَّسَبُ مَشْهُورًا، جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: الشَّهَادَةُ بِالشُّهْرَةِ فِي النَّسَبِ وَغَيْرِهِ بِطَرِيقَتَيْنِ: الْحَقِيقَةُ وَالْحُكْمِيَّةُ.فَالْحَقِيقَةُ: أَنْ تُشْتَهَرَ وَتُسْمَعَ مِنْ قَوْمٍ كَثِيرٍ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَلَا تُشْتَرَطُ فِي

هَذِهِ الْعَدَالَةُ، وَلَا لَفْظُ الشَّهَادَةِ بَلْ يُشْتَرَطُ التَّوَاتُرُ.

وَالْحُكْمِيَّةُ أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَهُ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عُدُولٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ، هَذَا إِذَا شَهِدَا عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِشْهَادِ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ أَنَّهُ إِذَا لَقِيَ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَهُ عَلَى نَسَبِهِ وَعَرَفَا حَالَهُ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَلَوْ أَقَامَ هَذَا الرَّجُلُ عِنْدَهُ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى نَسَبِهِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَشْهَدَ.

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ بَيْنَ ظَهَرَانَيْ قَوْمٍ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ وَقَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَسَعُهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى نَسَبِهِ حَتَّى يَلْقَوْا مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ فَيَشْهَدَانِ عِنْدَهُمْ عَلَى نَسَبِهِ، قَالَ الْجَصَّاصُ فِي شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ كَذَا فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي لِلصَّدْرِ الشَّهِيدِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا: وَلَا يَشْهَدُ أَحَدٌ بِمَا لَمْ يُعَايِنْهُ بِالْإِجْمَالِ إِلاَّ فِي عَشَرَةٍ مِنْهَا النَّسَبُ، فَلَهُ الشَّهَادَةُ بِهِ إِذَا أَخْبَرَهُ بِهِ مَنْ يَثِقُ الشَّاهِدُ بِهِ مِنْ خَبَرِ جَمَاعَةٍ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ بِلَا شَرْطِ عَدَالَةٍ أَوْ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ.

41- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الشَّهَادَةُ عَلَى السَّمَاعِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ جَائِزَةٌ فِي النَّسَبِ الْمَشْهُورِ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يَثْبُتُ بِذَلِكَ نَسَبٌ، إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمَالُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مُشْتَهَرًا مِثْلَ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ.

42- وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ الِاسْتِفَاضَةَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ النَّسَبَ أَمْرٌ لَا مَدْخَلَ لِلرُّؤْيَةِ فِيهِ، وَغَايَةُ الْمُمْكِنِ رُؤْيَةُ الْوِلَادَةِ عَلَى الْفِرَاشِ، لَكِنَّ النَّسَبَ إِلَى الْأَجْدَادِ الْمُتَوَفَّيْنَ وَالْقَبَائِلِ الْقَدِيمَةِ لَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ الرُّؤْيَةُ، فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى اعْتِمَادِ الِاسْتِفَاضَةِ، وَلَوْ مِنَ الْأُمِّ قِيَاسًا عَلَى الْأَبِ.

وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ مِمَّا تَجُوزُ فِيهِ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ- وَهُوَ الِاسْتِفَاضَةُ- النَّسَبُ، وَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِالتَّسَامُعِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ ابْنُ فُلَانٍ، أَوْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ- إِذَا عَرَفَهَا بِعَيْنِهَا- بِنْتُ فُلَانٍ، أَوْ أَنَّهُمَا مِنْ قَبِيلَةِ كَذَا.وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنَ الْأُمِّ بِالتَّسَامُعِ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: قَطْعًا كَالْأَبِ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ إِمْكَانُ رُؤْيَةِ الْوِلَادَةِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ فِي صِفَةِ التَّسَامُعِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَسْمَعَ الشَّاهِدُ الْمَشْهُودَ بِنَسَبِهِ، فَيُنْسَبُ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ أَوِ الْقَبِيلَةِ، وَالنَّاسُ يَنْسُبُونَهُ إِلَيْهِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ التَّكْرَارُ وَامْتِدَادُ مُدَّةِ السَّمَاعِ؟ قَالَ كَثِيرُونَ: نَعَمْ، وَبِهَذَا أَجَابَ الصَّيْمَرِيُّ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا، بَلْ لَوْ سَمِعَ انْتِسَابَ الشَّخْصِ وَحَضَرَ جَمَاعَةً لَا يَرْتَابُ فِي صِدْقِهِمْ فَأَخْبَرُوهُ بِنَسَبِهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، جَازَ لَهُ الشَّهَادَةُ، وَرَأَى ابْنُ كَجٍّ الْقَطْعَ بِهَذَا، وَبِهِ أَجَابَ الْبَغَوِيُّ فِي انْتِسَابِهِ.

وَيُعْتَبَرُ مَعَ انْتِسَابِ الشَّخْصِ وَنِسْبَةِ النَّاسِ أَلاَّ يُعَارِضَهُمَا مَا يُورِثُ تُهْمَةً وَرِيبَةً، فَلَوْ كَانَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ حَيًّا وَأَنْكَرَ لَمْ تَجُزِ الشَّهَادَةُ، وَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا جَازَتْ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا لَوْ كَانَ مَيِّتًا.وَلَوْ طَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ النَّسَبِ، هَلْ يُمْنَعُ جَوَازُ الشَّهَادَةِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِاخْتِلَافِ الظَّنِّ.

وَالْمُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِفَاضَةِ أَوْجُهٌ:

الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَصَحُّهَا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَسْمَعَهُ مِنْ جَمْعٍ كَثِيرٍ يَقَعُ الْعِلْمُ أَوِ الظَّنُّ الْقَوِيُّ بِخَبَرِهِمْ وَيُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْغَزَالِيُّ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِكَلَامِ الشَّافِعِيِّ.

وَالثَّانِي: يَكْفِي عَدْلَانِ، اخْتَارَهُ أَبُو حَامِدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَمَالَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ.

وَالثَّالِثُ: يَكْفِي خَبَرُ وَاحِدٍ إِذَا سَكَنَ الْقَلْبُ إِلَيْهِ، حَكَاهُ السَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُ.فَعَلَى الْأُولَى يَنْبَغِي أَلاَّ يُشْتَرَطَ الْعَدَالَةُ وَلَا الْحُرِّيَّةُ وَلَا الذُّكُورَةُ.

وَلَوْ سَمِعَ رَجُلًا لآِخَرَ: هَذَا ابْنِي وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ أَوْ قَالَ: أَنَا ابْنُ فُلَانٍ، وَصَدَّقَهُ فُلَانٌ، قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَصْحَابِ: يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ عَلَى النَّسَبِ، وَكَذَا لَوِ اسْتَلْحَقَ صَبِيًّا أَوْ بَالِغًا وَسَكَتَ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ فِي النَّسَبِ كَالْإِقْرَارِ، وَفِي الْمُهَذَّبِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ عِنْدَ السُّكُوتِ إِلاَّ إِذَا تَكَرَّرَ عِنْدَهُ الْإِقْرَارُ وَالسُّكُوتُ، وَالَّذِي أَجَابَ بِهِ الْغَزَالِيُّ: أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّسَبِ بِذَلِكَ، بَلْ يَشْهَدُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَهَذَا قِيَاسٌ ظَاهِرٌ.

43- وَيُوَافِقُ الْحَنَابِلَةُ الشَّافِعِيَّةَ كَذَلِكَ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ أَوِ الِاسْتِفَاضَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّسَبِ.جَاءَ فِي الْمُغْنِي: وَمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ وَاسْتَقَرَّتْ مَعْرِفَتُهُ فِي قَلْبِهِ شَهِدَ بِهِ، وَهُوَ مَا يَعْلَمُهُ بِالِاسْتِفَاضَةِ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّةِ الشَّهَادَةِ بِهَا فِي النَّسَبِ وَالْوِلَادَةِ.

وَكَلَامُ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ يَقْتَضِي أَلاَّ يَشْهَدَ بِالِاسْتِفَاضَةِ حَتَّى تَكْثُرَ بِهِ الْأَخْبَارُ وَيَسْمَعَهُ مِنْ عَدَدٍ كَثِيرٍ يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ، يَقُولُ الْخِرَقِيُّ: فِيمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ وَاسْتَقَرَّتْ مَعْرِفَتُهُ فِي الْقَلْبِ، يَعْنِي حَصَلَ الْعِلْمُ بِهِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي «الْمُجَرَّدِ» أَنَّهُ يَكْفِي أَنْ يَسْمَعَ مِنَ اثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ وَيَسْكُنَ قَلْبُهُ إِلَى خَبَرِهِمَا؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ تَثْبُتُ بِقَوْلِ اثْنَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الِاسْتِفَاضَةِ، فَإِنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ فَيْضِ الْمَاءِ لِكَثْرَتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوِ اكْتَفَى فِيهِ بِقَوْلِ اثْنَيْنِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا اكْتَفَى فِيهِ بِمُجَرَّدِ السَّمَاعِ، وَإِذَا سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لِصَبِيٍّ: هَذَا ابْنِي، جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِنَسَبِهِ، وَإِنْ سَمِعَ الصَّبِيَّ يَقُولُ: هَذَا أَبِي، وَالرَّجُلُ يَسْمَعُهُ فَسَكَتَ جَازَ أَنْ يَشْهَدَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ سُكُوتَ الْأَبِ إِقْرَارٌ لَهُ، وَالْإِقْرَارُ يُثْبِتُ النَّسَبَ فَجَازَتِ الشَّهَادَةُ، وَإِنَّمَا أُقِيمَ السُّكُوتُ هَهُنَا مَقَامَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ عَلَى الِانْتِسَابِ الْبَاطِلِ جَائِزٌ بِخِلَافِ سَائِرِ الدَّعَاوِي، وَلِأَنَّ النَّسَبَ يَغْلِبُ فِيهِ الْإِثْبَاتُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ فِي النِّكَاحِ؟ وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَلاَّ يَشْهَدَ مَعَ السُّكُوتِ حَتَّى يَتَكَرَّرَ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ حَقِيقِيٍّ، وَإِنَّمَا أُقِيمَ مَقَامَهُ، فَاعْتُبِرَتْ تَقْوِيَتُهُ بِالتَّكْرَارِ، كَمَا اعْتُبِرَتْ تَقْوِيَةُ الْيَدِ فِي الْعَقَارِ بِالِاسْتِمْرَارِ.

ط- حُكْمُ الْقَاضِي:

44- يُعَدُّ حُكْمُ الْقَاضِي بِالنَّسَبِ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ لَا يُذْكَرُ فِيهِ مُسْتَنَدُ الْحُكْمِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي حُكْمِهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ، وَأَصْلُهُ قَوْلُ سُحْنُونٍ: يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَاضِي فِيمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مَجْلِسُ حُكْمِهِ، وَلِأَنَّ مُسْتَنَدَهُ قَدْ يَكُونُ مُخْتَلِفًا فِي اعْتِبَارِهِ مُسْتَنَدًا، فَإِذَا حَكَمَ بِمُقْتَضَاهُ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ فِيهِ، وَكَانَ الْحُكْمُ طَرِيقَ الثُّبُوتِ.

وَفِي الْفِقْهِ الْمَالِكِيِّ يَكْثُرُ التَّنْبِيهُ فِي نَوَازِلِ النَّسَبِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي بِالْإِرْثِ لِمُدَّعِي النَّسَبِ فِي الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا يُمْضَى، فَإِذَا وَقَعَ الِاسْتِظْهَارُ بِحُكْمِ قَاضٍ بِثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدٍ غَيْرِهِ مَذْكُورٍ فِيهِ مُسْتَنَدُ الْحَاكِمِ لَمْ يَسَعِ الْقَاضِي- الْمُسْتَظْهَرُ لَدَيْهِ بِذَلِكَ الْحُكْمِ- إِلاَّ أَنْ يَقُولَ: ثَبَتَ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْقَاضِي فُلَانٍ.

قَالَ الْجَزِيرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا انْصَرَمَتِ الْآجَالُ وَعَجَزَ الطَّالِبُ عَجَّزَهُ الْقَاضِي وَأَشْهَدَ بِذَلِكَ، وَيَصِحُّ التَّعْجِيزُ فِي كُلِّ شَيْءٍ يُدْعَى فِيهِ إِلاَّ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ: الدِّمَاءَ، وَالْأَحْبَاسَ، وَالْعِتْقَ، وَالطَّلَاقَ، وَالنَّسَبَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَابْنُ وَهْبٍ.

وَضَابِطُهُ كُلُّ حَقٍّ لَيْسَ لِمُدَّعِيهِ إِسْقَاطُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَمِنْهَا دَعْوَى نَسَبٍ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِبَيِّنَةٍ، وَلَمْ يَأْتِ بِهَا بَعْدَ التَّلَوُّمِ، فَلَا يُعَجَّزُ، فَمَتَى أَقَامَهَا

حُكِمَ عَلَى مُقْتَضَاهَا وَفَصَّلَ الدُّسُوقِيُّ فَقَالَ: فَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُعَجِّزَ طَالِبَ إِثْبَاتِ النَّسَبِ سَوَاءٌ اعْتَرَفَ بِالْعَجْزِ أَوِ ادَّعَى أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً، وَطَلَبَ الْإِمْهَالَ لَهَا وَأُنْظِرَ فَلَمْ يَأْتِ بِهَا، فَإِنْ عَجَّزَهُ كَانَ حُكْمُهُ بِالتَّعْجِيزِ غَيْرَ مَاضٍ، فَإِذَا قَالَ مُدَّعِي النَّسَبِ: لِي بَيِّنَةٌ بِذَلِكَ، وَأُمْهِلَ لِلْإِتْيَانِ بِهَا فَتَبَيَّنَ لَدَدُهُ، حَكَمَ الْحَاكِمُ بِعَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَلَا يَحْكُمُ بِتَعْجِيزِ ذَلِكَ الْمُدَّعِي، فَإِنْ حَكَمَ بِعَجْزِهِ كَانَ حُكْمُهُ غَيْرَ مَاضٍ، وَأَمَّا طَالِبُ نَفْيِ النَّسَبِ فَإِنَّهُ يُمْضِي حُكْمَهُ بِتَعْجِيزِهِ فِي النَّسَبِ، فَإِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ لِمُدَّعِي النَّسَبِ فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: عِنْدِي بَيِّنَةٌ تَجْرَحُ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي، فَإِذَا أُمْهِلَ وَتَبَيَّنَ لَدَدُهُ حَكَمَ الْقَاضِي بِثُبُوتِ النَّسَبِ وَتَعْجِيزِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِذَا عَجَّزَهُ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ مَا أَتَى بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَذَا قَالَ الْجِيزِيُّ وَارْتَضَاهُ الْبُنَانِيُّ، وَقَالَ عَلِيٌّ الْأَجْهُورِيُّ: إِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَالْمُدَّعِي فِي النَّسَبِ لَيْسَ لِلْقَاضِي تَعْجِيزُهُ أَصْلًا فِيهَا.

وَحُكْمُ الْقَاضِي بِثُبُوتِ النَّسَبِ يَنْفُذُ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الْحَاضِرِ حُكْمٌ عَلَى الْغَائِبِ فِي مَسَائِلَ مِنْهَا النَّسَبُ.

وَالْمُرَادُ بِالْغَائِبِ: مَنْ لَمْ يُخَاصِمْ فِي النَّازِلَةِ الْمَقْضِيِّ فِيهَا أَصْلًا، أَوْ لَمْ يَحْضُرْ عِنْدَ صُدُورِ الْحُكْمِ مِنَ الْقَاضِي، وَفَسَّرُوهُ بِأَنَّهُ مَنْ ثَبَتَتْ غَيْبَتُهُ بِالْبَيِّنَةِ، سَوَاءٌ كَانَ غَائِبًا وَقْتَ إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ أَوْ بَعْدَهَا وَبَعْدَ التَّزْكِيَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ غَائِبًا عَنِ الْمَجْلِسِ أَوْ عَنِ الْبَلَدِ، وَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ وَهُوَ غَائِبٌ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَطْعَنَ فِي الْبَيِّنَةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطْعَنَ فِي الْإِقْرَارِ عِنْدَ الْقَاضِي.

ي- ثُبُوتُ النَّسَبِ بِدَعْوَى الْحِسْبَةِ:

45- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ بِدَعْوَى الْحِسْبَةِ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النَّسَبِ لَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ النَّسَبَ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ، وَحَقُّهُ لَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ صَغِيرًا فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ مَا لَمْ يُنَصِّبِ الْقَاضِي خَصْمًا عَنِ الصَّغِيرِ لِيَدَّعِيَ النَّسَبَ لَهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ شَرْعًا؛ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ الْعَاجِزِ عَنْ إِحْيَاءِ حَقِّ نَفْسِهِ، وَالْقَاضِي نُصِبَ نَاظِرًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ شَهَادَةً عَلَى خَصْمٍ أَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى نَسَبِ صَبِيٍّ صَغِيرٍ مِنْ رَجُلٍ وَأَنْكَرَ الرَّجُلُ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْهَا النَّسَبُ؛ لِأَنَّ فِي وَصْلِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى.

التَّحْكِيمُ فِي النَّسَبِ:

46- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي نَسَبٍ لِأَبٍ؛ لِخَطَرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَعَلُّقِ حَقِّ غَيْرِ الْخَصْمَيْنِ بِهَا وَهُوَ الْآدَمِيُّ، لَكِنَّهُ إِنْ حَكَمَ فِي نَسَبٍ مَضَى حُكْمُهُ إِنْ كَانَ صَوَابًا، فَلَا يَنْقُضُهُ الْإِمَامُ وَلَا الْقَاضِي قَالَ أَصْبَغُ: وَلَا يَنْبَغِي التَّحْكِيمُ فِي النَّسَبِ لِأَنَّهُ لِلْإِمَامِ، زَادَ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَصْبَغَ: فَإِنْ حَكَّمَاهُ فِي ذَلِكَ نَفَذَ حُكْمُهُ.

التَّحْلِيفُ فِي دَعْوَى النَّسَبِ:

47- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، أَنَّهُ لَا تَحْلِيفَ فِي نَسَبٍ، بِأَنِ ادَّعَى عَلَى مَجْهُولٍ أَنَّهُ ابْنُهُ وَبِالْعَكْسِ.وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُسْتَحْلَفُ فِي النَّسَبِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.

وَقِيلَ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ فِي حَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ رَآهُ مُتَعَنِّتًا يُحَلِّفُهُ وَيَأْخُذُهُ بِقَوْلِهِمَا، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا لَا يُحَلِّفُهُ أَخْذًا بِقَوْلِهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


144-موسوعة الفقه الكويتية (نشوز 2)

نُشُوزٌ -2

ب- الْهَجْرُ:

15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِمَّا يُؤَدِّبُ الرَّجُلُ بِهِ امْرَأَتَهُ إِذَا نَشَزَتِ الْهَجْرَ، لقوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَكُونُ بِهِ الْهَجْرُ الْمَشْرُوعُ، وَفِي غَايَتِهِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَعَظَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، فَإِنْ نَجَعَتْ فِيهَا الْمَوْعِظَةُ وَتَرَكَتِ النُّشُوزَ وَإِلاَّ هَجَرَهَا، وَقِيلَ: يُخَوِّفُهَا بِالْهَجْرِ أَوَّلًا وَالِاعْتِزَالِ عَنْهَا وَتَرْكِ الْجِمَاعِ وَالْمُضَاجَعَةِ، فَإِنْ تَرَكَتْ وَإِلاَّ هَجَرَهَا، لَعَلَّ نَفْسَهَا لَا تَحْتَمِلُ الْهَجْرَ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْهَجْرِ، قِيلَ: يَهْجُرُهَا بِأَنْ لَا يُجَامِعَهَا وَلَا يُضَاجِعَهَا عَلَى فِرَاشِهِ، وَقِيلَ: يَهْجُرُهَا بِأَنْ لَا يُكَلِّمَهَا فِي حَالِ مُضَاجَعَتِهِ إِيَّاهَا، لَا أَنْ يَتْرُكَ جِمَاعَهَا وَمُضَاجَعَتَهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ مِنَ الضَّرَرِ مَا عَلَيْهَا، فَلَا يُؤَدِّبُهَا بِمَا يَضُرُّ بِنَفْسِهِ وَيُبْطِلُ حَقَّهُ، وَقِيلَ: يَهْجُرُهَا بِأَنْ يُفَارِقَهَا فِي الْمَضْجَعِ وَيُضَاجِعَ أُخْرَى فِي حَقِّهَا وَقَسْمِهَا، لِأَنَّ حَقَّهَا عَلَيْهِ فِي الْقَسْمِ فِي حَالِ الْمُوَافَقَةِ وَحِفْظِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي حَالِ التَّضْيِيعِ، وَقِيلَ: يَهْجُرُهَا بِتَرْكِ مُضَاجَعَتِهَا وَجِمَاعِهَا لِوَقْتِ غَلَبَةِ شَهْوَتِهَا وَحَاجَتِهَا لَا فِي وَقْتِ حَاجَتِهِ إِلَيْهَا، لِأَنَّ هَذَا لِلتَّأْدِيبِ وَالزَّجْرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَدِّبَهَا لَا أَنْ يُؤَدِّبَ نَفْسَهُ بِامْتِنَاعِهِ عَنِ الْمُضَاجَعَةِ فِي حَالِ حَاجَتِهِ إِلَيْهَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْهَجْرُ أَنْ يَتْرُكَ مَضْجَعَهَا، أَيْ يَتَجَنَّبَهَا فِي الْمَضْجَعِ فَلَا يَنَامُ مَعَهَا فِي فِرَاشٍ، لَعَلَّهَا أَنْ تَرْجِعَ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ، وَهَذَا مَا رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَحَسَّنَهُ الْقُرْطُبِيُّ.

وَغَايَةُ الْهَجْرِ الْمُسْتَحْسَنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ شَهْرٌ، وَلَا يَبْلُغُ بِهِ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ الَّتِي ضَرَبَ اللَّهُ أَجَلًا عُذْرًا لِلْمُولِي.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ نَشَزَتِ الزَّوْجَةُ وَعَظَهَا زَوْجُهَا، ثُمَّ هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ لِأَنَّ لَهُ أَثَرًا ظَاهِرًا فِي تَأْدِيبِ النِّسَاءِ، أَمَّا الْهُجْرَانُ فِي الْكَلَامِ فَلَا يَجُوزُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِحَدِيثِ: «لَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» إِلاَّ إِنْ قَصَدَ رَدَّهَا أَوْ إِصْلَاحَ دِينِهَا، إِذِ الْهَجْرُ- وَلَوْ دَائِمًا وَلِغَيْرِ الزَّوْجَيْنِ- جَائِزٌ لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ كَفِسْقٍ وَابْتِدَاعٍ وَإِيذَاءٍ وَزَجْرٍ وَإِصْلَاحٍ.

وَالْمُرَادُ بِالْهَجْرِ أَنْ يَهْجُرَ فِرَاشَهَا فَلَا يُضَاجِعَهَا فِيهِ، وَقِيلَ: هُوَ تَرْكُ الْوَطْءِ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَقُولَ لَهَا هُجْرًا أَيْ إِغْلَاظًا فِي الْقَوْلِ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: لَا غَايَةَ لَهُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا، لِأَنَّهُ لِحَاجَةِ صَلَاحِهَا، فَمَتَى لَمْ تَصْلُحْ تُهْجَرْ وَإِنْ بَلَغَ سِنِينَ وَمَتَى صَلَحَتْ فَلَا هَجْرَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَظْهَرَتِ الْمَرْأَةُ النُّشُوزَ هَجَرَهَا زَوْجُهَا فِي الْمَضْجَعِ مَا شَاءَ، لقوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تُضَاجِعُهَا فِي فِرَاشِكَ، وَقَدْ «هَجَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- نِسَاءَهُ فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا» وَهَجْرُهَا فِي الْكَلَامِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لَا فَوْقَهَا لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- السَّابِقِ وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: هَجْر.

ج- الضَّرْبُ:

16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِمَّا يُؤَدِّبُ بِهِ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ عِنْدَ نُشُوزِهَا الضَّرْبَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}.

وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الضَّرْبِ وَمَا يَلْزَمُ تَوَافُرُهُ لِمُبَاشَرَتِهِ.

فَاشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَرْبِ التَّأْدِيبِ الْمَشْرُوعِ إِنْ نَشَزَتِ الزَّوْجَةُ: أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ غَيْرَ مُدْمٍ وَلَا مُبَرِّحٍ وَلَا شَائِنٍ وَلَا مُخَوِّفٍ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَكْسِرُ عَظْمًا وَلَا يَشِينُ جَارِحَةً كَاللَّكْزَةِ وَنَحْوِهَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الصَّلَاحُ لَا غَيْرَ.

وَقَالُوا: الضَّرْبُ الْمُبَرِّحُ هُوَ مَا يَعْظُمُ أَلَمُهُ عُرْفًا، أَوْ مَا يُخْشَى مِنْهُ تَلَفُ نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ، أَوْ مَا يُورِثُ شَيْئًا فَاحِشًا، أَوِ الشَّدِيدُ، أَوِ الْمُؤَثِّرُ الشَّاقُّ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَعَلَّهُ مِنْ بَرِحَ الْخَفَاءُ إِذَا ظَهَرَ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «اتَّقَوُا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ».

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ النَّاشِزَةَ إِنْ لَمْ تَنْزَجِرْ وَتَدَعِ النُّشُوزَ إِلاَّ بِالضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ أَوِ الْخَوْفِ لَمْ يَجُزْ لِزَوْجِهَا تَعْزِيرُهَا لَا بِالضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ وَلَا بِغَيْرِهِ، قَالَ الدَّرْدِيرُ: لَا يَجُوزُ الضَّرْبُ الْمُبَرِّحُ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهَا لَا تَتْرُكُ النُّشُوزَ إِلاَّ بِهِ، فَإِنْ وَقَعَ فَلَهَا التَّطْلِيقُ عَلَيْهِ وَالْقِصَاصُ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي هَيْئَةِ الضَّرْبِ:

فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يَضْرِبُ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ الَّتِي تَحَقَّقَ نُشُوزَهَا عَلَى الْوَجْهِ وَالْمَهَالِكِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: فِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ ضَرْبِ الْوَجْهِ، فَعَنْ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ أَوِ اكْتَسَبْتَ وَلَا تَضْرِبَ الْوَجْهَ وَلَا تُقَبِّحَ، وَلَا تَهْجُرَ إِلاَّ فِي الْبَيْتِ» وَقَالَ الْهَيْتَمِيُّ: لَا تَضْرِبْ إِلاَّ فِي الْبَيْتِ، وَيُفَرِّقُهُ عَلَى بَدَنِهَا، وَلَا يُوَالِيِهِ فِي مَوْضِعٍ لِئَلاَّ يَعْظُمَ ضَرَرُهُ، وَقَالُوا: لَا يَبْلُغُ ضَرْبُ حُرَّةٍ أَرْبَعِينَ وَغَيْرِهَا عِشْرِينَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجْتَنِبُ الْوَجْهَ تَكْرِمَةً لَهُ، وَالْبَطْنَ وَالْمَوَاضِعَ الْمَخُوفَةَ خَشْيَةَ الْقَتْلِ، وَالْمَوَاضِعَ الْمُسْتَحْسَنَةَ لِئَلاَّ يُشَوِّهَهَا، وَيَكُونُ الضَّرْبُ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ فَأَقَلَّ.

لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ».

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَوْجُهِ الْمُعْتَمَدَةِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ: إِنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُؤَدِّبَ زَوْجَتَهُ إِنْ نَشَزَتْ بِضَرْبِهَا بِسَوْطٍ أَوْ عَصًا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَا مُدْمٍ وَلَا شَائِنٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ: يُؤَدِّبُهَا بِضَرْبِهَا بِالسِّوَاكِ وَنَحْوِهِ أَوْ بِمِنْدِيلٍ مَلْفُوفٍ أَوْ بِيَدِهِ، لَا بِسَوْطٍ وَلَا بِعَصًا وَلَا بِخَشَبٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّأْدِيبُ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ- إِنْ جَازَ لَهُ الضَّرْبُ لِتَأْدِيبِ امْرَأَتِهِ لِنُشُوزِهَا- فَالْأَوْلَى لَهُ الْعَفْوُ لِأَنَّ الْحَقَّ لِنَفْسِهِ وَلِمَصْلَحَتِهِ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تَرْكُ الضَّرْبِ بِالْكُلِّيَّةِ أَفْضَلُ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْأَوْلَى تَرْكُ ضَرْبِهَا إِبْقَاءً لِلْمَوَدَّةِ.

وَفِي ضَرْبِ الْمَرْأَةِ لِلنُّشُوزِ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي شَيْءٍ مِنْ كِتَابِهِ بِالضَّرْبِ صَرَاحَةً إِلاَّ هُنَا- أَيِ الضَّرْبِ لِلتَّعْزِيرِ عَلَى النُّشُوزِ- وَفِي الْحُدُودِ الْعِظَامِ، فَسَاوَى مَعْصِيَتَهُنَّ بِأَزْوَاجِهِنَّ بِمَعْصِيَةِ الْكَبَائِرِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ لَنَا مَوْضِعٌ يَضْرِبُ الْمُسْتَحِقُّ فِيهِ مَنْ مَنَعَهُ حَقَّهُ غَيْرَ هَذَا، وَالرَّقِيقُ يَمْتَنِعُ مِنْ حَقِّ سَيِّدِهِ.

هَلْ يُشْتَرَطُ تَكْرَارُ النُّشُوزِ حَتَّى يُشْرَعَ الضَّرْبُ:

17- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ تَكْرَارِ نُشُوزِ الْمَرْأَةِ لِضَرْبِهَا: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الضَّرْبَ لِتَأْدِيبِ الزَّوْجَةِ النَّاشِزَةِ مَشْرُوعٌ بِتَحَقُّقِ نُشُوزِهَا وَلَوْ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ دُونَ أَنْ يَتَكَرَّرَ النُّشُوزُ، لِظَاهِرِ قوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} فَتَقْدِيرُهُ: وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ، فَإِنْ نَشَزْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ، وَالْخَوْفُ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ كَمَا فِي قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} وَالْأَوْلَى بَقَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ صَرَّحَتْ بِنُشُوزِهَا فَكَانَ لِزَوْجِهَا ضَرْبُهَا كَمَا لَوْ أَصَرَّتْ، وَلِأَنَّ عُقُوبَاتِ الْمَعَاصِي لَا تَخْتَلِفُ بِالتَّكْرَارِ وَعَدَمِهِ كَالْحُدُودِ.

وَرَجَّحَ الرَّافِعِيُّ وَأَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِنْ تَحَقَّقَ نُشُوزُ الزَّوْجَةِ وَلَمْ يَتَكَرَّرْ وَلَمْ يَظْهَرْ إِصْرَارُهَا عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ ضَرْبُهَا، لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَمْ تَتَأَكَّدْ بِالتَّكْرَارِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ زَجْرُهَا عَنِ الْمَعْصِيَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ يُبْدَأُ فِيهِ بِالْأَسْهَلِ.

وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِمَشْرُوعِيَّةِ ضَرْبِ النَّاشِزَةِ أَنْ يَعْلَمَ الزَّوْجُ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَوْ يَظُنَّ أَنَّ الضَّرْبَ يُفِيدُ فِي تَأْدِيبِهَا وَرَدْعِهَا عَنِ النُّشُوزِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ لَمْ يَجُزْ لَهُ ضَرْبُهَا وَيَحْرُمُ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ مُسْتَغْنًى عَنْهَا.

وَقَيَّدَ الزَّرْكَشِيُّ ضَرْبَ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ النَّاشِزَةَ بِنَفْسِهِ لِكَفِّهَا عَنِ النُّشُوزِ وَتَأْدِيبِهَا بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ، وَإِلاَّ فَيَتَعَيَّنُ الرَّفْعُ إِلَى الْقَاضِي لِتَأْدِيبِهَا.

الضَّمَانُ بِضَرْبِ التَّأْدِيبِ:

18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ ضَرْبَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِنُشُوزِهَا- بِالْقُيُودِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ- هُوَ ضَرْبُ تَأْدِيبٍ يُقْصَدُ مِنْهُ الصَّلَاحُ لَا غَيْرَ، فَإِنْ أَفْضَى إِلَى تَلَفٍ أَوْ هَلَاكٍ وَجَبَ الْغُرْمُ وَالضَّمَانُ، لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ضَرْبُ إِتْلَافٍ لَا إِصْلَاحٍ، وَيَضْمَنُ الزَّوْجُ مَا تَلِفَ بِالضَّرْبِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، لِأَنَّ ضَرْبَ التَّأْدِيبِ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ النَّاشِزَةَ إِنْ تَلِفَتْ مِنْ ضَرْبِ زَوْجِهَا الْمَشْرُوعِ لِلتَّأْدِيبِ عَلَى نُشُوزِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الزَّوْجِ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا.

التَّرْتِيبُ فِي التَّأْدِيبِ:

19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْتِزَامِ الزَّوْجِ التَّرْتِيبَ فِي تَأْدِيبِ الزَّوْجَةِ حَسَبَ وُرُودِهِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ أَيْضًا رَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ تَأْدِيبَ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ لِنُشُوزِهَا يَكُونُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْوَارِدِ فِي الْآيَةِ، فَيَبْدَأُ بِالْوَعْظِ ثُمَّ الْهَجْرِ ثُمَّ الضَّرْبِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لِلزَّوْجِ وِلَايَةُ تَأْدِيبِ امْرَأَتِهِ لِنُشُوزِهَا لَكِنْ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَيَعِظُهَا أَوَّلًا عَلَى الرِّفْقِ وَاللِّينِ، فَإِنْ نَجَعَتْ فِيهَا الْمَوْعِظَةُ وَإِلاَّ هَجَرَهَا، وَقِيلَ: يُخَوِّفُهَا بِالْهَجْرِ أَوَّلًا وَالِاعْتِزَالِ عَنْهَا وَتَرْكِ الْجِمَاعِ وَالْمُضَاجَعَةِ، فَإِنْ تَرَكَتْ وَإِلاَّ هَجَرَهَا لَعَلَّ نَفْسَهَا لَا تَحْتَمِلُ الْهَجْرَ، فَإِنْ تَرَكَتِ النُّشُوزَ وَإِلاَّ ضَرَبَهَا، فَإِنْ نَفَعَ الضَّرْبُ وَإِلاَّ رَفَعَ إِلَى الْقَاضِي.

وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} فَظَاهِرُ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَ بِحَرْفِ الْوَاوِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْجَمْعِ لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْجَمْعُ عَلَى سَبِيلِ التَّرْتِيبِ، وَالْوَاوُ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ.

وَقَالُوا: وَسَبِيلُ هَذَا سَبِيلُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ: أَنَّ الْآمِرَ يَبْدَأُ بِالْمَوْعِظَةِ عَلَى الرِّفْقِ وَاللِّينِ دُونَ التَّغْلِيظِ فِي الْقَوْلِ، فَإِنْ قَبِلَتْ وَإِلاَّ غَلَّظَ الْقَوْلَ بِهِ، فَإِنْ قَبِلَتْ وَإِلاَّ بَسَطَ يَدَهُ فِيهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَعِظُ الزَّوْجُ مَنْ نَشَزَتْ، ثُمَّ إِذَا لَمْ يُفِدِ الْوَعْظُ هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ، ثُمَّ إِذَا لَمْ يُفِدِ الْهَجْرُ جَازَ لَهُ ضَرْبُهَا، وَلَا يَنْتَقِلُ لِحَالَةٍ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا لَا تُفِيدُ، وَيَفْعَلُ مَا عَدَا الضَّرْبَ وَلَوْ لَمْ يَظُنَّ إِفَادَتَهُ- بِأَنْ شَكَّ فِيهِ لَعَلَّهُ يُفِيدُ- لَا إِنْ عَلِمَ عَدَمَ الْإِفَادَةِ، وَأَمَّا الضَّرْبُ فَلَا يَجُوزُ إِلاَّ إِذَا ظَنَّ إِفَادَتَهُ لِشِدَّتِهِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ الزَّوْجَ يَعِظُ زَوْجَتَهُ إِنْ جَزَمَ بِالْإِفَادَةِ أَوْ ظَنَّهَا أَوْ شَكَّ فِيهَا، فَإِنْ جَزَمَ أَوْ ظَنَّ عَدَمَهَا هَجَرَهَا إِنْ جَزَمَ بِالْإِفَادَةِ أَوْ ظَنَّهَا أَوْ شَكَّ فِيهَا، فَإِنْ جَزَمَ أَوْ ظَنَّ عَدَمَهَا ضَرَبَهَا إِنْ جَزَمَ بِالْإِفَادَةِ أَوْ ظَنَّهَا، لَا إِنْ شَكَّ فِيهَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ: إِذَا ظَهَرَ مِنَ الزَّوْجَةِ أَمَارَاتُ النُّشُوزِ وَعَظَهَا، فَإِنْ رَجَعَتْ إِلَى الطَّاعَةِ وَالْأَدَبِ حَرُمَ الْهَجْرُ وَالضَّرْبُ لِزَوَالِ مُبِيحِهِمَا، وَإِنْ أَصَرَّتْ هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ مَا شَاءَ، وَهَجَرَهَا فِي الْكَلَامِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا فَوْقَهَا، فَإِنْ أَصَرَّتْ وَلَمْ تَرْتَدِعْ بِالْهَجْرِ فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا بَعْدَ الْهَجْرِ فِي الْفِرَاشِ وَتَرْكِهَا مِنَ الْكَلَامِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُؤَدِّبَ زَوْجَتَهُ بِمَا يَرَاهُ مِنْ طُرُقِ التَّأْدِيبِ الْوَارِدَةِ فِي الْآيَةِ دُونَ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ.قَالَ النَّوَوِيُّ: مَرَاتِبُ تَأْدِيبِ الزَّوْجَةِ ثَلَاثٌ:

إِحْدَاهَا: أَنْ يُوجَدَ مِنْهَا أَمَارَاتُ النُّشُوزِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا، بِأَنْ تُجِيبَهُ بِكَلَامٍ خَشِنٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَيِّنًا، أَوْ يَجِدَ مِنْهَا إِعْرَاضًا وَعُبُوسًا بَعْدَ طَلَاقَةٍ وَلُطْفٍ، فَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، يَعِظُهَا وَلَا يَضْرِبُهَا وَلَا يَهْجُرُهَا.

الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَحَقَّقَ نُشُوزُهَا، لَكِنْ لَا يَتَكَرَّرُ، وَلَا يَظْهَرُ إِصْرَارُهَا عَلَيْهِ، فَيَعِظُهَا وَيَهْجُرُهَا، وَفِي جَوَازِ الضَّرْبِ قَوْلَانِ، رَجَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ الْمَنْعَ، وَرَجَّحَ صَاحِبَا الْمُهَذَّبِ وَالشَّامِلِ الْجَوَازَ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: رَجَّحَ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» الْمَنْعَ، وَالْمُوَافِقُ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ الْجَوَازُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ.

الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَكَرَّرَ وَتُصِرَّ عَلَيْهِ، فَلَهُ الْهِجْرَانُ وَالضَّرْبُ بِلَا خِلَافٍ، هَذِهِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُعْتَمَدَةُ فِي الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ.وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ ابْنُ كَجٍّ قَوْلًا فِي جَوَازِ الْهِجْرَانِ وَالضَّرْبِ عِنْدَ خَوْفِ النُّشُوزِ، لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ فِي حَالَةِ ظُهُورِ النُّشُوزِ، ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ.

أَحَدُهَا: لَهُ الْوَعْظُ وَالْهِجْرَانُ وَالضَّرْبُ، وَالثَّانِي: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهَا وَلَا يَجْمَعُ.وَالثَّالِثُ: يَعِظُهَا، فَإِنْ لَمْ تَتَّعِظْ هَجَرَهَا، فَإِنْ لَمْ تَنْزَجِرْ ضَرَبَهَا.

اخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ فِي النُّشُوزِ:

20- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ مِنْهُمَا عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا فِي وُقُوعِ النُّشُوزِ.

فَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ الرَّجُلُ وَامْرَأَتُهُ فِي وُقُوعِ النُّشُوزِ أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ، فَادَّعَاهُ الرَّجُلُ وَأَنْكَرَتْهُ الْمَرْأَةُ، فَالْقَوْلُ لَهَا فِي عَدَمِ النُّشُوزِ بِيَمِينِهَا حَيْثُ لَا بَيِّنَةَ لَهُ وَكَانَتْ فِي بَيْتِهِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا ظَاهِرٌ لَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي نُشُوزٍ فِي الْحَالِ، أَمَّا لَوِ ادَّعَى عَلَيْهَا سُقُوطَ النَّفَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ فِي شَهْرٍ مَاضٍ- مَثَلًا- لِنُشُوزِهَا فِيهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَوْلَ لَهَا أَيْضًا لِإِنْكَارِهَا مُوجِبَ الرُّجُوعِ عَلَيْهَا، وَلَوِ ادَّعَتْ أَنَّ خُرُوجَهَا إِلَى بَيْتِ أَهْلِهَا كَانَ بِإِذْنِهِ وَأَنْكَرَ، أَوْ ثَبَتَ نُشُوزُهَا ثُمَّ ادَّعَتْ أَنَّهُ بَعْدَهُ بِشَهْرٍ- مَثَلًا- أَذِنَ لَهَا بِالْمُكْثِ هُنَاكَ هَلْ يَكُونُ الْقَوْلُ لَهَا أَمْ لَا؟ لَمْ أَرَهُ، وَالظَّاهِرُ الثَّانِي لِتَحَقُّقِ الْمُسْقِطِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ مَنْعَ الْوَطْءِ أَوْ الِاسْتِمْتَاعِ لِعُذْرٍ وَأَكْذَبَهَا الزَّوْجُ أَثْبَتَتْهُ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ، وَهَذَا فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، وَأَمَّا مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَلَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ كَخُرُوجِهَا بِلَا إِذْنٍ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الزَّوْجِ: هِيَ تَمْنَعُنِي مِنْ وَطْئِهَا حَيْثُ قَالَتْ: لَمْ أَمْنَعْهُ وَإِنَّمَا الْمَانِعُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ عَلَى إِسْقَاطِ حَقِّهَا فِي النَّفَقَةِ.

وَقَالُوا: إِنْ ضَرَبَهَا، فَادَّعَتِ الْعَدَاءَ وَادَّعَى الْأَدَبَ فَإِنَّهَا تُصَدَّقُ، وَحِينَئِذٍ يُعَزِّرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى ذَلِكَ الْعَدَاءِ مَا لَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ مَعْرُوفًا بِالصَّلَاحِ، وَإِلاَّ قُبِلَ قَوْلُهُ.

وَقَالَ صَاحِبُ مُغْنِي الْمُحْتَاجِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ ضَرَبَهَا وَادَّعَى أَنَّهُ بِسَبَبِ نُشُوزٍ وَادَّعَتْ عَدَمَهُ، فَفِيهِ احْتِمَالَانِ فِي الْمَطْلَبِ قَالَ: وَالَّذِي يَقْوَى فِي ظَنِّي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ، لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَهُ وَلِيًّا فِي ذَلِكَ، وَالْوَلِيُّ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِسُقُوطِ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهَا فَلَا، وَهَذَا إِذَا لَمْ تَعْلَمْ جَرَاءَتَهُ وَتَعَدِّيَهُ، وَإِلاَّ لَمْ يُصَدَّقْ وَصُدِّقَتْ هِيَ، وَقَيَّدَ الشَّرْقَاوِيُّ تَصْدِيقَهُ بِيَمِينِهِ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ: إِنِ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي نُشُوزِهَا بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بِالتَّسْلِيمِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ذَلِكَ.

نُشُوزُ الزَّوْجِ أَوْ إِعْرَاضُهُ:

21- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِنْ خَافَتْ مِنْ زَوْجِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا لِرَغْبَتِهِ عَنْهَا، إِمَّا لِمَرَضٍ بِهَا أَوْ كِبَرٍ أَوْ دَمَامَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا بَأْسَ أَنْ تَضَعَ عَنْهُ بَعْضَ حُقُوقِهَا تَسْتَرْضِيَهُ بِذَلِكَ، لقوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا} وَلِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَتِ: «الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا، فَتَقُولُ: أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِي فِي حِلٍّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ».

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَسْمِ بَيْنَ النِّسَاءِ إِذَا كَانَتْ تَحْتَهُ جَمَاعَةٌ، وَعَلَى وُجُوبِ الْكَوْنِ عِنْدَهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ إِلاَّ وَاحِدَةٌ وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ كَعْبَ بْنَ سُورٍ قَضَى بِأَنَّ لَهَا يَوْمًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِحَضْرَةِ عُمَرَ- رضي الله عنه- فَاسْتَحْسَنَهُ وَوَلاَّهُ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ، وَأَبَاحَ اللَّهُ أَنْ تَتْرُكَ حَقَّهَا مِنَ الْقَسْمِ وَأَنْ تَجْعَلَهُ لِغَيْرِهَا مِنْ نِسَائِهِ، وَعُمُومُ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ اصْطِلَاحِهِمَا عَلَى تَرْكِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالْقَسْمِ وَسَائِرِ مَا يَجِبُ لَهَا بِحَقِّ الزَّوْجِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُ إِنَّمَا يَجُوزُ لَهَا إِسْقَاطُ مَا وَجَبَ مِنَ النَّفَقَةِ لِلْمَاضِي، فَأَمَّا الْمُسْتَقْبَلُ فَلَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَبْرَأَتْ مِنَ الْوَطْءِ لَمْ يَصِحَّ إِبْرَاؤُهَا وَكَانَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِحَقِّهَا مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ بِطِيبِ نَفْسِهَا بِتَرْكِ الْمُطَالَبَةِ بِالنَّفَقَةِ وَبِالْكَوْنِ عِنْدَهَا، فَأَمَّا أَنْ تُسْقِطَ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ فَلَا، وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُعْطِيَهَا عِوَضًا عَلَى تَرْكِ حَقِّهَا مِنَ الْقَسْمِ أَوِ الْوَطْءِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، أَوْ ذَلِكَ حَقٌّ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ وَهُوَ عَقْدُ النِّكَاحِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَنْوَاعُ الصُّلْحِ كُلُّهَا مُبَاحَةٌ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ، بِأَنْ يُعْطِيَ الزَّوْجُ عَلَى أَنْ تَصْبِرَ هِيَ، أَوْ تُعْطِيَ هِيَ عَلَى أَنْ يُؤْثِرَ الزَّوْجُ، أَوْ عَلَى أَنْ يُؤْثِرَ وَيَتَمَسَّكَ بِالْعِصْمَةِ، أَوْ يَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى الصَّبْرِ وَالْأَثَرَةِ مِنْ غَيْرِ عَطَاءٍ، فَهَذَا كُلُّهُ مُبَاحٌ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَانَ الرَّجُلُ لَا يَتَعَدَّى عَلَى امْرَأَتِهِ، وَإِنَّمَا يَكْرَهُ صُحْبَتَهَا لَكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَيُعْرِضُ عَنْهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَيُسَنُّ لَهَا اسْتِعْطَافُهُ بِمَا يُحِبُّ، كَأَنْ تَسْتَرْضِيَهُ بِتَرْكِ بَعْضِ حَقِّهَا، كَمَا تَرَكَتْ سَوْدَةُ نَوْبَتَهَا لِعَائِشَةَ- رضي الله عنهما- لَمَّا خَافَتْ أَنْ يُطَلِّقَهَا- صلى الله عليه وسلم-، كَمَا أَنَّهُ يُسَنُّ لَهُ إِذَا كَرِهَتْ صُحْبَتَهُ لِمَا ذُكِرَ أَنْ يَسْتَعْطِفَهَا بِمَا تُحِبُّ مِنْ زِيَادَةِ النَّفَقَةِ وَنَحْوِهَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ خَافَتِ امْرَأَةٌ نُشُوزَ زَوْجِهَا وَإِعْرَاضَهُ عَنْهَا لِكِبَرٍ أَوْ غَيْرِهِ كَمَرَضٍ أَوْ دَمَامَةٍ، فَوَضَعَتْ عَنْهُ بَعْضَ حُقُوقِهَا أَوْ كُلَّ حُقُوقِهَا، تَسْتَرْضِيهِ بِذَلِكَ جَازَ، لِأَنَّهُ حَقُّهَا وَقَدْ رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِهِ، وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ فِي ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَا رُجُوعَ لَهَا فِي الْمَاضِي، وَإِنْ شَرَطَا مَالًا يُنَافِي نِكَاحًا لَزِمَ وَإِلاَّ فَلَا، فَلَوْ صَالَحَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ مِنْ نَفَقَتِهَا أَوْ قَسْمِهَا، أَوْ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ جَازَ، فَإِنْ رَجَعَتْ فَلَهَا ذَلِكَ، قَالَ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ يَغِيبُ عَنِ امْرَأَتِهِ فَيَقُولُ لَهَا: إِنْ رَضِيتِ عَلَى هَذَا وَإِلاَّ فَأَنْتِ أَعْلَمُ، فَتَقُولُ: قَدْ رَضِيتُ، فَهُوَ جَائِزٌ، فَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ.

تَعَدِّي الزَّوْجِ:

22- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ تَعَدَّى عَلَى زَوْجَتِهِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ أَوِ الْقَاضِيَ يَكُفُّهُ عَنْ ذَلِكَ.

وَنَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَوِ الْحَاكِمِ أَنْ يُعَزِّرَ الزَّوْجَ، وَلَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ وَلَيْسَ مَعَهَا أَحَدٌ يُسَاكِنُهَا، فَشَكَتْ إِلَى الْقَاضِي أَنَّ الزَّوْجَ يَضْرِبُهَا وَيُؤْذِيهَا، سَأَلَ الْقَاضِي جِيرَانَهَا، فَإِنْ أَخْبَرُوا بِمَا قَالَتْ- وَهُمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ- فَالْقَاضِي يُؤَدِّبُهُ وَيَأْمُرُهُ بِأَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهَا، وَيَأْمُرُ جِيرَانَهُ أَنْ يَتَفَحَّصُوا عَنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَالْجِيرَانُ قَوْمًا صَالِحِينَ أَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ يُحَوِّلَهَا إِلَى جِيرَانٍ صَالِحِينَ، فَإِنْ أَخْبَرُوا الْقَاضِيَ بِخِلَافِ مَا قَالَتْ أَقَرَّهَا هُنَاكَ وَلَمْ يُحَوِّلْهَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ تَعَدَّى الزَّوْجُ عَلَى الزَّوْجَةِ لِغَيْرِ مُوجِبٍ شَرْعِيٍّ بِضَرْبٍ أَوْ سَبٍّ وَنَحْوِهِ، وَثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ زَجَرَهُ الْحَاكِمُ بِوَعْظٍ فَتَهْدِيدٍ، فَإِنْ لَمْ يَنْزَجِرْ بِالْوَعْظِ ضَرَبَهُ إِنْ ظَنَّ إِفَادَتَهُ فِي زَجْرِهِ وَمَنْعِهِ، وَإِلاَّ فَلَا، وَهَذَا إِذَا اخْتَارَتِ الْبَقَاءَ مَعَهُ فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ وَعَظَهُ فَقَطْ دُونَ ضَرْبٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ مَنَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ حَقًّا لَهَا كَقَسْمٍ وَنَفَقَةٍ أَلْزَمَهُ الْقَاضِي تَوْفِيَتَهُ إِذَا طَلَبَتْهُ لِعَجْزِهَا عَنْهُ، بِخِلَافِ نُشُوزِهَا فَإِنَّ لِلزَّوْجِ إِجْبَارَهَا عَلَى إِفَاءِ حَقِّهِ لِقَدْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ مُكَلَّفًا أَوْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ أُلْزِمَ وَلَيُّهُ تَوْفِيَتَهُ.

فَإِنْ أَسَاءَ خُلُقَهُ وَآذَاهَا بِضَرْبٍ أَوْ غَيْرِهِ بِلَا سَبَبٍ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا يُعَزِّرُهُ، فَإِنْ عَادَ إِلَيْهِ وَطَلَبَتْ تَعْزِيرَهُ مِنَ الْقَاضِي عَزَّرَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ لِتَعَدِّيهِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يُعَزِّرْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ جَوَازَهُ إِذَا طَلَبَتْهُ قَالَ السُّبْكِيُّ: لَعَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّ إِسَاءَةَ الْخُلُقِ تَكْثُرُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَالتَّعْزِيرُ عَلَيْهَا يُورِثُ وَحْشَةً بَيْنَهُمَا، فَيَقْتَصِرُ أَوَّلًا عَلَى النَّهْيِ لَعَلَّ الْحَالَ يَلْتَئِمُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ عَادَ عَزَّرَهُ وَأَسْكَنَهُ بِجَنْبِ ثِقَةٍ يَمْنَعُ الزَّوْجَ مِنَ التَّعَدِّي عَلَيْهَا.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَيُحَالُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَعُودَ إِلَى الْعَدْلِ، وَلَا يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ فِي الْعَدْلِ، وَإِنَّمَا يُعْتَمَدُ قَوْلُهَا وَشَهَادَةُ الْقَرَائِنِ.

وَفَصَّلَ الْإِمَامُ فَقَالَ: إِنْ ظَنَّ الْحَاكِمُ تَعَدِّيَهُ وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ تَحَقَّقَهُ أَوْ ثَبَتَ عِنْدَهُ وَخَافَ أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرْبًا مُبَرِّحًا- لِكَوْنِهِ جَسُورًا- حَالَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَظُنَّ أَنَّهُ عَدْلٌ، إِذْ لَوْ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُمَا وَاقْتَصَرَ عَلَى التَّعْزِيرِ لَرُبَّمَا بَلَغَ مِنْهَا مَبْلَغًا لَا يُسْتَدْرَكُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا وَقَعَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ شِقَاقٌ نَظَرَ الْحَاكِمُ، فَإِنْ بَانَ لَهُ أَنَّهُ مِنَ الْمَرْأَةِ فَهُوَ نُشُوزٌ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ مِنَ الرَّجُلِ أَسْكَنَهُمَا إِلَى جَنْبِ ثِقَةٍ يَمْنَعُهُ مِنَ الْإِضْرَارِ بِهَا وَالتَّعَدِّي عَلَيْهَا.

تَعَدِّي كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ:

23- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنَّ صَاحِبَهُ تَعَدَّى عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَمْرَهُمَا يُرْفَعُ إِلَى الْقَاضِي فَيَنْظُرُهُ، وَيَأْمُرُ فِيهِ بِمَا يَمْنَعُ الِاعْتِدَاءَ وَيَزْجُرُ الْمُتَعَدِّي، وَإِلاَّ نَصَّبَ حَكَمَيْنِ لِلنَّظَرِ فِي الشِّقَاقِ وَمُحَاوَلَةِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ وَادَّعَى الزَّوْجُ النُّشُوزَ، وَادَّعَتْ هِيَ عَلَيْهِ ظُلْمَهُ وَتَقْصِيرَهُ فِي حُقُوقِهَا، حِينَئِذٍ يَبْعَثُ الْحَاكِمُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا لِيَتَوَلَّيَا النَّظَرَ فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَيَرُدَّا إِلَى الْحَاكِمِ مَا يَقِفَانِ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِمَا، وَإِنَّمَا يُوَجَّهُ الْحَكَمَانِ لِيَعِظَا الظَّالِمَ مِنْهُمَا وَيُنْكِرَا عَلَيْهِ ظُلْمَهُ وَإِعْلَامَ الْحَاكِمِ بِذَلِكَ لِيَأْخُذَ هُوَ عَلَى يَدِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ ثَبَتَ تَعَدِّي كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ- عِنْدَ الْحَاكِمِ- وَعَظَهُمَا ثُمَّ ضَرَبَهُمَا بِاجْتِهَادِهِ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ ذَلِكَ فَالْوَعْظُ فَقَطْ، وَسَكَّنَهَا بَيْنَ قَوْمٍ صَالِحِينَ إِنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ كَانَتْ بَيْنَهُمْ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُمْ يُوصَوْنَ عَلَى النَّظَرِ فِي حَالِهِمَا لِيُعْلَمَ مَنْ عِنْدَهُ ظُلْمٌ مِنْهُمَا، وَإِنْ أُشْكِلَ الْأَمْرُ بَعَثَ الْحَاكِمُ حَكَمَيْنِ مِنْ أَهْلِهِمَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ قَالَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ: إِنَّ صَاحِبَهُ مُتَعَدٍّ عَلَيْهِ وَأَشْكَلَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا، تَعَرَّفَ الْقَاضِي الْحَالَ الْوَاقِعَةَ بَيْنَهُمَا بِثِقَةٍ وَاحِدٍ يُخْبِرُهُمَا وَيَكُونُ جَارًا لَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ أَسْكَنَهُمَا فِي جَنْبِ ثِقَةٍ يَتَعَرَّفُ حَالَهُمَا ثُمَّ يُنْهِي إِلَيْهِ مَا يَعْرِفُهُ، وَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ حَالُهُمَا مَنَعَ الظَّالِمَ مِنْ عَوْدِهِ لِظُلْمِهِ، وَطَرِيقِهُ فِي الزَّوْجِ مَا سَلَفَ فِي «تَعَدِّي الزَّوْجِ» وَفِي الزَّوْجَةِ بِالزَّجْرِ وَالتَّأْدِيبِ كَغَيْرِهَا.

وَاكْتُفِيَ هُنَا بِثِقَةِ وَاحِدٍ تَنْزِيلًا لِذَلِكَ مَنْزِلَةَ الرِّوَايَةِ، لِمَا فِي إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ مِنَ الْعُسْرِ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الثِّقَةِ أَنْ يَكُونَ عَدْلَ شَهَادَةٍ بَلْ يَكْفِي عَدْلَ الرِّوَايَةِ، وَلِهَذَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِمِ اعْتِبَارُ مَنْ تَسْكُنُ النَّفْسُ بِخَبَرِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ لَا الشَّهَادَةِ.

وَقَالُوا: إِنِ اشْتَدَّ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا، بِأَنِ اسْتَمَرَّ الْخِلَافُ وَالْعَدَاوَةُ، وَدَامَ التَّسَابُّ وَالتَّضَارُبُ، وَفَحُشَ ذَلِكَ، بَعَثَ الْقَاضِي حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا وَقَعَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ شِقَاقٌ نَظَرَ الْحَاكِمُ، فَإِنْ بَانَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَعَدٍّ، أَوِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الْآخَرَ ظَلَمَهُ، أَسْكَنَهُمَا إِلَى جَانِبِ مِنْ يُشْرِفُ عَلَيْهِمَا وَيُلْزِمُهُمَا الْإِنْصَافُ، فَإِنْ لَمْ يَتَهَيَّأْ ذَلِكَ وَتَمَادَى الشَّرُّ بَيْنَهُمَا، وَخِيفَ الشِّقَاقُ عَلَيْهِمَا وَالْعِصْيَانُ، بَعَثَ الْحَاكِمُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا.

التَّحْكِيمُ عِنْدَ الشِّقَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ:

24- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَدَّ خِلَافُ الزَّوْجَيْنِ، وَأَشْكَلَ أَمْرُهُمَا، وَلَمْ يُدْرَ مِمَّنِ الْإِسَاءَةُ مِنْهُمَا، وَخِيفَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا إِلَى حَدٍّ يُؤَدِّي إِلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَالظُّلْمِ، فَإِنَّ التَّحْكِيمَ بَيْنَهُمَا يَكُونُ مَشْرُوعًا بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا}.

وَمَشْرُوعِيَّةُ التَّحْكِيمِ فِي الشِّقَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَالَ بِهَا الْفُقَهَاءُ، اتِّبَاعًا لِلْحُكْمِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ، وَعَمَلًا بِهِ.

وَقَدْ بَسَطَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ التَّحْكِيمِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي مَسَائِلَ، مِنْهَا:

أ- الْحَالُ الَّتِي يُبْعَثُ عِنْدَهَا الْحَكَمَانِ:

25- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ إِنْ نَشَزَتْ وَلَمْ يُجْدِ فِي تَأْدِيبِهَا وَكَفِّهَا عَنِ النُّشُوزِ الضَّرْبُ أَوْ مَا يَسْبِقُهُ مِنْ وَسَائِلِ التَّأْدِيبِ وَالرَّدْعِ، فَإِنَّ الزَّوْجَ يَرْفَعُ أَمْرَهَا إِلَى الْقَاضِي لِيُوَجِّهَ إِلَيْهِمَا الْحَكَمَيْنِ.

وَكَذَلِكَ إِذَا أَشْكَلَ الْأَمْرُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلَمْ يُدْرَ مِمَّنِ الْإِسَاءَةُ مِنْهُمَا، وَاسْتَمَرَّ الْإِشْكَالُ بَعْدَ إِسْكَانِهَا بَيْنَ قَوْمٍ صَالِحِينَ، أَوْ كَانَتْ بَيْنَهُمُ ابْتِدَاءً، أَوْ لَمْ يُمْكِنِ السُّكْنَى بَيْنَهُمْ، أَوْ إِذَا اشْتَدَّ الْخِلَافُ وَالشِّقَاقُ وَالْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمَا، وَدَامَ التَّسَابُّ وَالتَّضَارُبُ وَفَحُشَ ذَلِكَ، وَتَمَادَى الشَّرُّ بَيْنَهُمَا وَخَشَى أَنْ يُخْرِجَهُمَا إِلَى الْعِصْيَانِ بَعَثَ الْقَاضِي الْحَكَمَيْنِ.

ب- الْخِطَابُ بِبَعْثِ الْحَكَمَيْنِ وَحُكْمُهُ:

26- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخِطَابَ بِبَعْثِ الْحَكَمَيْنِ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} لِلْحُكَّامِ وَالْأُمَرَاءِ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ وَيَمْنَعُونَ مِنَ التَّعَدِّي وَالظُّلْمِ.

وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَقِيلَ: لِلزَّوْجَيْنِ، فَيَكُونُ لِلْأَوْلِيَاءِ وَلِلزَّوْجَيْنِ إِقَامَةُ حَكَمَيْنِ لِلْحُكْمِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُمَا كَحُكْمِ مَنْ عَيَّنَهُمَا الْقَاضِي لِذَلِكَ.

وَنَصَّ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ بَعْثَ الْحَكَمَيْنِ وَاجِبٌ عَلَى الْحَاكِمِ أَوِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ آيَةَ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، فَالْعَمَلُ بِهَا وَاجِبٌ، وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ دَفْعِ الظِّلَامَاتِ، وَهُوَ مِنَ الْفُرُوضِ الْعَامَّةِ عَلَى الْقَاضِي، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: صَحَّحَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ، وَجَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَقَالَ الْأَذْرُعِيُّ: ظَاهِرُ نَصِّ الْأُمِّ الْوُجُوبُ.

وَنَصُّ الْأُمِّ هُوَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِذَا ارْتَفَعَ الزَّوْجَانِ الْمَخُوفُ شِقَاقُهُمَا إِلَى الْحَاكِمِ فَحَقَّ عَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


145-موسوعة الفقه الكويتية (نصيب)

نَصِيبٌ

التَّعْرِيفُ:

1- النَّصِيبُ لُغَةً: الْحِصَّةُ وَالْحَظُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْجَمْعُ أَنْصِبَاءٌ وَأَنْصِبَةٌ وَنُصُبٌ، وَالنَّصْبُ لُغَةً فِي النَّصِيبِ، وَأَنْصَبَهُ: جَعَلَ لَهُ نَصِيبًا، وَهُمْ يَتَنَاصَبُونَهُ: أَيْ يَقْتَسِمُونَهُ.

وَالنَّصِيبُ اصْطِلَاحًا: لَا يَخْرُجُ مَعْنَاهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَهُوَ دَائِرٌ بَيْنَ الْحَظِّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْجُزْءُ مِنَ الشَّيْءِ الْمَقْسُومِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْفَرْضُ:

2- الْفَرْضُ فِي اللُّغَةِ مِنْ مَعَانِيهِ: الْقَطْعُ وَالتَّقْدِيرُ وَالْوُجُوبُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ- فِي بَابِ الْمَوَارِيثِ- هُوَ نَصِيبٌ مُقَدَّرٌ شَرْعًا لِلْوَارِثِ.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ نَصِيبٍ وَفَرْضٍ هِيَ أَنَّ كُلَّ نَصِيبٍ فَرْضٌ وَلَيْسَ كُلُّ فَرْضٍ نَصِيبًا.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّصِيبِ:

تَتَعَلَّقُ بِالنَّصِيبِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

أَوَّلًا: النَّصِيبُ فِي الْمِيرَاثِ:

3- حَدَّدَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ الْأَنْصِبَةَ الْمُقَدَّرَةَ شَرْعًا لِكُلِّ وَارِثٍ، وَالَّتِي لَا تَخْرُجُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ سِتَّةٍ وَهِيَ: النِّصْفُ، وَالرُّبْعُ، وَالثُّمْنُ، وَالثُّلُثَانِ، وَالثُّلُثُ وَالسُّدْسُ.

وَهَذِهِ الْأَنْصِبَةُ السِّتَّةُ تَضَمَّنَتْهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ وَهُنَّ قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيم}.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وَالتَّفْصِيلُ فِي بَيَانِ أَصْحَابِ هَذِهِ الْأَنْصِبَةِ وَشُرُوطِ تَوْرِيثِهِمْ فِي مُصْطَلَحِ (إِرْث ف 25- 44).

ثَانِيًا: النَّصِيبُ فِي الشَّرِكَةِ:

لِلنَّصِيبِ فِي الشَّرِكَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا: التَّصَرُّفُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ:

4- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَصَرُّفِ الشَّرِيكِ فِي نَصِيبِهِ مِنَ الشَّرِكَةِ كَبَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ إِعَارَةٍ لِشَرِيكِهِ أَوْ لِغَيْرِ شَرِيكِهِ عَلَى أَقْوَالٍ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (شَرِكَة ف 4- 7).

ضَمَانُ نَصِيبِ الشَّرِيكِ:

5- اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ يَدَ الشَّرِيكِ يَدُ أَمَانَةٍ فَلَا تُضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّقْصِيرِ، فَإِذَا تَعَدَّى ضَمِنَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (شَرِكَة الْعَقْدِ ف 85، تَجْهِيل ف 2 وَمَا بَعْدَهَا، ضَمَان ف 7- 11، تَعَدِّي ف 11).

ثَالِثًا: النَّصِيبُ فِي الْقِسْمَةِ:

لِلنَّصِيبِ فِي الْقِسْمَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

تَوْزِيعُ أُجْرَةِ الْقِسْمَةِ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِ الْمُتَقَاسِمِينَ:

6- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْزِيعِ أُجْرَةِ الْقِسْمَةِ: هَلْ تُقَسَّمُ عَلَى عَدَدِ الرُّؤُوسِ أَوْ تُقَسَّمُ بِمِقْدَارِ نَصِيبِ كَلِّ مُتَقَاسِمٍ؟.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (قِسْمَة ف 35- 36).

النَّصِيبُ فِي قِسْمَةِ الْعَقَارِ:

7- الْعَقَارُ مَحَلُّ الْقِسْمَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ أَوْ فِي مَحَالٍّ مُتَعَدِّدَةٍ، فَإِنْ كَانَ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَإِمَّا أَنْ تَتَشَابَهَ الْأَجْزَاءُ بِلَا أَدْنَى تَفَاوُتٍ أَمْ لَا.

وَنَصِيبُ كُلِّ مُنْقَسِمٍ مُتَنَوِّعٌ عَلَى حَسَبِ مَحَلِّ الْعَقَارِ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (قِسْمَة ف 42).

تَعْيِينُ النَّصِيبِ فِي الْقِسْمَةِ:

8- إِذَا عَيَّنَ الْقَاسِمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ نَصِيبَهُ أَصْبَحَتِ الْقِسْمَةُ تَامَّةً وَيَلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ بِالنَّصِيبِ الَّذِي أُفْرِزَ لَهُ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (قِسْمَة ف 51).

مِلْكُ النَّصِيبِ فِي الْقِسْمَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ:

9- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُتَقَاسِمَ بَعْدَ تَمَامِ الْقِسْمَةِ يَكُونُ مُسْتَقِلًّا بِمِلْكِ نَصِيبِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (قِسْمَة.ف 52 وَمَا بَعْدَهَا).

انْتِفَاعُ الشَّرِيكِ بِنَصِيبِ صَاحِبِهِ فِي الْمُهَايَأَةِ:

10- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِنَصِيبِ صَاحِبِهِ أَوْ حِصَّتِهِ عِنْدَهُ لِقَاءَ انْتِفَاعِ صَاحِبِهِ بِنَصِيبِهِ أَوْ حِصَّتِهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (قِسْمَة ف 58، 59، وَمُهَايَأَة).

رَابِعًا: النَّصِيبُ فِي الشُّفْعَةِ:

لِلنَّصِيبِ فِي الشُّفْعَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

تَمَلُّكُ الشَّفِيعِ النَّصِيبَ (الشِّقْصَ الْمَشْفُوعَ فِيهِ):

11- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَتَمَلَّكُ بِهِ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ الْمَشْفُوعَ فِيهِ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ، هَلْ يَتَمَلَّكُهُ بِالتَّسْلِيمِ مِنَ الْمُشْتَرِي، أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِدَفْعِ الثَّمَنِ لِلْمُشْتَرِي أَوْ رِضَاهُ بِالتَّأْجِيلِ أَوِ الْإِشْهَادِ بِالْأَخْذِ؟.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (شُفْعَة ف 44- 47).

بِنَاءُ الْمُشْتَرِي فِي النَّصِيبِ (الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ):

12- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي فِي الْأَرْضِ الْمَشْفُوعِ فِيهَا أَوْ غَرَسَ أَوْ زَرَعَ.

هَلْ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ بِقِيمَتِهِ مَقْلُوعًا، وَبَيْنَ أَنْ يَجْبُرَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى قَلْعِهَا لِيَأْخُذَ الْأَرْضَ فَارِغَةً، أَوْ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ أَوِ الْغَرْسِ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ الشُّفْعَةُ.

أَوْ يَقْلَعُ الشَّفِيعُ مَا بَنَاهُ الْمُشْتَرِي أَوْ غَرَسَهُ أَوْ زَرَعَهُ مَجَّانًا.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (شُفْعَة ف 48).

اسْتِحْقَاقُ النَّصِيبِ (الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ لِلْغَيْرِ):

13- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ النَّصِيبَ (الشِّقْصَ الْمَشْفُوعَ فِيهِ) ثُمَّ تَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِلْغَيْرِ.

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الشَّفِيعَ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَدَّاهُ لِلْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، سَوَاءٌ اسْتَحَقَّ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ إِلَيْهِ أَوْ بَعْدَهُ، وَإِنْ أَدَّاهُ لِلْبَائِعِ وَاسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ وَهُوَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الثَّمَنِ لِلشَّفِيعِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (شُفْعَة ف 49).

تَبِعَةُ هَلَاكِ النَّصِيبِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ:

14- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَبِعَةِ هَلَاكِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا بِسَبَبٍ مِنَ الْمُشْتَرِي أَوْ مِنْ غَيْرِهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (شُفْعَة ف 50).

خَامِسًا: عِتْقُ النَّصِيبِ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرِكِ:

15- إِذَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنَ الْعَبْدِ الْمُشْتَرِكِ مَعَ غَيْرِهِ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُكْمِ تَبَعًا لِكَوْنِ الْمُعْتِقِ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا.فَإِذَا كَانَ مُوسِرًا: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَعْتِقُ كُلُّهُ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ بَاقِيهِ لِشَرِيكِهِ.

وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا عَتَقَ نَصِيبُهُ فَقَطْ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا فَشَرِيكُهُ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ أَعْتَقَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُعْتِقُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَبْعِيض ف 40، عِتْق ف 16).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


146-موسوعة الفقه الكويتية (نفاق)

نِفَاقٌ

التَّعْرِيفُ:

1- النِّفَاقُ لُغَةً: مَصْدَرُ نَافَقَ، يُقَالُ: نَافَقَ الْيَرْبُوعُ إِذَا دَخَلَ فِي نَافِقَائِهِ، وَمِنْهُ قِيلُ: نَافَقَ الرَّجُلُ: إِذَا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ لِأَهْلِهِ وَأَضْمَرَ غَيْرَ الْإِسْلَامِ وَأَتَاهُ مَعَ أَهْلِهِ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

قَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ: وَالنِّفَاقُ اسْمٌ مِنَ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي وَضَعَهَا الشَّرْعُ، لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً بِمَعْنَاهَا الِاصْطِلَاحِيِّ هَذَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الَّذِي يَسْتُرُ كُفْرَهُ وَيُظْهِرُ إِسْلَامَهُ.

عَلَى أَنَّ النِّفَاقَ يُطْلَقُ تَجَوُّزًا عَلَى مَنِ ارْتَكَبَ خَصْلَةً مِنْ خِصَالِ النِّفَاقِ الْآتِي ذِكْرُهَا، كَالْكَذِبِ وَإِخْلَافِ الْوَعْدِ، أَوْ يُقَالُ: هَذَا نِفَاقٌ عَمَلِيٌّ، وَلَيْسَ اعْتِقَادِيًّا حَقِيقِيًّا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْكُفْرُ:

2- الْكُفْرُ لُغَةً هُوَ: السَّتْرُ.

وَاصْطِلَاحًا: هُوَ إِنْكَارُ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.

وَالْعِلَاقَةُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ.

ب- التَّقِيَّةُ:

3- التَّقِيَّةُ وَالتُّقَاةُ اسْمَا مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الِاتِّقَاءِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ السَّرَخْسِيُّ: التَّقِيَّةُ أَنْ يَقِيَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ بِمَا يُظْهِرُهُ، وَإِنْ كَانَ يُضْمِرُ خِلَافَهُ.

وَالصِّلَةُ أَنَّ كُلًّا مِنَ التَّقِيَّةِ وَالنِّفَاقِ فِيهِمَا إِظْهَارُ خِلَافِ مَا يُبْطِنُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَقِيَّةٌ ف 1، 4).

ج- الرِّيَاءُ:

4- أَصْلُ الرِّيَاءِ الرِّئَاءُ، مَصْدَرُ رَاءَى يُرَائِي.وَالرِّيَاءُ شَرْعًا: الْمُرَاءَاةُ، أَيْ أَنْ يَقْصِدَ الْإِنْسَانُ بِأَقْوَالِهِ أَوْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ لِيَظُنُّوهُ مُؤْمِنًا، أَوْ يَسْتَحْسِنُوا فِعْلَهُ.

فَالرِّيَاءُ أَمْرٌ يَتَّصِفُ بِهِ الْمُنَافِقُونَ فِي أَعْمَالِ الْإِيمَانِ الَّتِي يَتَظَاهَرُونَ بِهَا، كَمَا قَدْ يَتَّصِفُ بِهِ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ كَانَ صَحِيحَ الْإِيمَانِ، وَلَكِنْ يَعْرِضُ لَهُ الرِّيَاءُ.

أَنْوَاعُ النِّفَاقِ:

5- قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: النِّفَاقُ فِي الشَّرْعِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ:

الْأَوَّلُ: النِّفَاقُ الْأَكْبَرُ، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ الْإِنْسَانُ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيُبْطِنُ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ.وَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِذَمِّ أَهْلِهِ وَتَكْفِيرِهِمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.

وَالثَّانِي: النِّفَاقُ الْأَصْغَرُ، أَوْ نِفَاقُ الْعَمَلِ، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ الْإِنْسَانُ عَلَانِيَةً صَالِحَةً، وَيُبْطِنَ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ.

وَمِنْ هُنَا فَإِنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ وَعِيدٍ لِلْكَافِرِينَ يَدْخُلُ فِيهِ أَهْلُ النِّفَاقِ الْأَكْبَرِ؛ لِأَنَّ كُفْرَهُمُ اعْتِقَادِيٌّ حَقِيقِيٌّ، لَيْسَ مَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ شَيْءٌ.وَحَيْثُ قُرِنَ الْكُفَّارُ بِالْمُنَافِقِينَ فِي وَعِيدٍ، يُرَادُ بِالْكُفَّارِ مَنْ كَانَ كُفْرُهُمْ مُعْلَنًا ظَاهِرًا، وَبِالْمُنَافِقِينَ أَهْلُ الْكُفْرِ الْبَاطِنِ.

أَمَّا أَهْلُ النِّفَاقِ الْعَمَلِيِّ- الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ نِفَاقُ اعْتِقَادٍ- فَلَا يَدْخُلُونَ فِي وَعِيدِ الْكَافِرِينَ، وَإِنَّمَا هُمْ مِنْ عُصَاةِ أَهْلِ الْمِلَّةِ.وَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ النِّفَاقِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ عَلَى مَنْ يَرْتَكِبُ خَصْلَةً مِنْ خِصَالِ النِّفَاقِ الْآتِي بَيَانُهَا.

اجْتِمَاعُ النِّفَاقِ وَالْإِيمَانِ:

6- قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: كَانَ الصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَكُونُ فِي الْعَبْدِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ، وَنَقَلَ عَنْ حُذَيْفَةَ- رضي الله عنه-، أَنَّهُ قَالَ: «الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ» فَذَكَرَ مِنْهَا «وَقَلْبٌ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ ثُمَّ ذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: » النِّفَاقُ يَبْدُو لُمْظَةً سَوْدَاءَ فِي الْقَلْبِ، فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ نِفَاقًا ازْدَادَ الْقَلْبُ سَوَادًا، حَتَّى إِذَا اسْتَكْمَلَ النِّفَاقَ اسْوَدَّ الْقَلْبُ وَقَالَ: بَلْ يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَان} قَالَ: وَلِلنِّفَاقِ شُعَبٌ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ مَعَ شُعَبِ النِّفَاقِ شُعَبٌ مِنَ الْإِيمَانِ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ أَقَلُّ الْقَلِيلِ لَمْ يَخْلُدْ فِي النَّارِ.قَالَ: وَضَعْفُ الْإِيمَانِ هُوَ الَّذِي يُوقِعُ فِي الْمَعَاصِي، أَمَّا مَنْ كَانَ مُخْلِصًا لِلَّهِ حَقَّ الْإِخْلَاصِ فَإِنَّهُ يُعْصَمُ مِنْهَا.

عُقُوبَةُ الْمُنَافِقِ:

7- حُكْمُ الْمُنَافِقِ حُكْمُ الزِّنْدِيقِ الْمُظْهِرِ لِلْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُقْتَلُ إِذَا نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، أَوْ وُجِدَ مِنْهُ مُكَفِّرٌ، وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَلَمْ يَتُبْ قَبْلَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ.

إِلاَّ أَنَّ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَالَ: فَحَيْثُمَا كَانَ لِلْمُنَافِقِينَ ظُهُورٌ، وَتُخَافُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِتْنَةٌ أَكْبَرُ مِنْ بَقَائِهِ- عَمِلْنَا بِآيَةِ {وَدَعْ أَذَاهُمْ} وَحَيْثُمَا حَصَلَ لَنَا الْقُوَّةُ وَالْعِزُّ خُوطِبْنَا بِقَوْلِهِ: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}.

وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا قَالَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ: يَتَوَجَّهُ جَوَازُ الْقَتْلِ، وَتَرْكُهُ، لِمُعَارِضٍ.

مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ عُقُوبَةُ الْمُنَافِقِ:

8- لَمَّا كَانَ الْمُنَافِقُ يَسْتُرُ كُفْرَهُ وَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ حَتَّى يَقُومَ عَلَيْهِ أَمْرٌ بَيِّنٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْقَتْلَ، وَيَثْبُتُ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ.

تَوْبَةُ الْمُنَافِقِ:

9- الْمُنَافِقُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِنْ تَابَ تَوْبَةً صَادِقَةً مِنْ قَلْبِهِ بِلَا خِلَافٍ وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي فَتَحَتْ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}.

أَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَحُكْمُ الْمُنَافِقِ حُكْمُ الزِّنْدِيقِ الْمُظْهِرِ لِلْإِسْلَامِ، وَفِيهِ خِلَافٌ، تَفْصِيلُهُ فِي (زَنْدَقَةٌ ف 5، وَتَوْبَةٌ ف 12- 13).

الْمَعْصِيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى النِّفَاقِ:

10- لَيْسَتْ كُلُّ مَعْصِيَةٍ أَوْ بِدْعَةٍ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِ النِّفَاقِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ قَدْ تَصْدُرُ عَنْ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ، أَوْ وُجُودِ الشُّبْهَةِ، أَوِ التَّأَوُّلِ، أَوِ اسْتِعْجَالِ الْحُصُولِ عَلَى الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ عَنْهُ، مَعَ نَوْعٍ مِنَ الْجَهَالَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَالْغَفْلَةِ عَنْ مُرَاقَبَتِهِ.وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِفَاعِلِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ إِيمَانٌ بِاللَّهِ تَعَالَى وَحُبٌّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِنُعَيْمَانَ، وَقَدْ جُلِدَ فِي الْخَمْرِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ: إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ».

إِجْرَاءُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ:

11- يُجْرَى عَلَى الْمُنَافِقِينَ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةُ، مَا دَامَ كُفْرُهمْ مَخْفِيًّا غَيْرَ مُعْلَنٍ، وَكَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ؛ لِأَنَّ كُفْرَهُمْ مَظْنُونٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَيُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّاتِهِمْ.

أَمَّا مَنْ يُعْلَمُ نِفَاقُهُ بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ فَتُجْرَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْكَافِرِ الْمُرْتَدِّ، فَمِنْ ذَلِكَ:

أ- الصَّلَاةُ خَلْفَ الْمُنَافِقِ:

12- يَذْكُرُ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مَنْ كَانَ نِفَاقُهُ غَيْرَ مُعْلَنٍ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ يَسْتَسِرُّ بِهِ، فَمَنْ صَلَّى خَلْفَهُ ثُمَّ عَلِمَ نِفَاقَهُ، فَفِي وُجُوبِ إِعَادَةِ الصَّلَاةِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: يُعِيدُ مُطْلَقًا وَلَوْ طَالَتْ إِمَامَتُهُ بِالنَّاسِ.

وَالثَّانِي: لَا يُعِيدُ فِي حَالِ الطُّولِ، لِلْمَشَقَّةِ.

ب- صَلَاةُ الْجِنَازَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ:

13- «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ، حَتَّى نَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}.فَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ».وَكَانَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ صَلَّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَافِقٌ، وَمَنْ عُلِمَ أَنَّهُ مُنَافِقٌ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ.وَكَانَ عُمَرُ- رضي الله عنه- إِذَا مَاتَ مَيِّتٌ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهِ حُذَيْفَةُ- لِأَنَّ حُذَيْفَةَ كَانَ قَدْ عَلِمَ أَعْيَانَ الْمُنَافِقِينَ.

فَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ لَمْ يُظْهِرُوا نِفَاقَهُمْ.يُصَلَّى عَلَيْهِمْ إِذَا مَاتُوا، وَيُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، وَالْمَقْبَرَةُ الَّتِي كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَحَيَاةِ خُلَفَائِهِ يُدْفَنُ فِيهَا كُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ.

ج- الْجِهَادُ:

1- كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَخْرُجُونَ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَغَازِي، كَمَا خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَخَرَجَ بَعْضُهُمْ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ، وَتَخَلَّفَ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ فِي الْمَدِينَةِ.وَأَرَادَ بَعْضُهُمْ قَتْلَهُ- صلى الله عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، وَأَخْبَرَ حُذَيْفَةُ بِأَسْمَاءِ أَصْحَابِ تِلْكَ الْمُحَاوَلَةِ مِنْهُمْ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا وَمَعَ ذَلِكَ فَفِي الظَّاهِرِ تُجْرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ.

د- الْحَذَرُ مِنْ دُخُولِ أَهْلِ النِّفَاقِ فِي شُئُونِ السِّيَاسَةِ وَالْحَرْبِ وَالْإِدَارَةِ:

15- يَجِبُ أَخْذُ الْحَذَرِ مِنْ دُخُولِ أَهْلِ النِّفَاقِ فِي شُئُونِ الْحَرْبِ وَالسِّيَاسَةِ وَالْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُمْ يَبْغُونَ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ الْمَهَالِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ.هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} وَالْبِطَانَةُ: مَنْ يَسْتَبْطِنُ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ وَيَطَّلِعُ عَلَى دَخَائِلِ أُمُورِهِمْ.

وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ إِذَا سَارَ بِالْمُسْلِمِينَ لِلْجِهَادِ أَنْ يَمْنَعَ خُرُوجَ الْمُخَذِّلِينَ عَنِ الْجِهَادِ، وَالْمُرْجِفِينَ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَ بِقُوَّةِ الْكُفَّارِ وَضَعْفِنَا، وَمَنْ يُكَاتِبُ بِأَخْبَارِنَا، وَمَنْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِنِفَاقٍ أَوْ زَنْدَقَةٍ.

وَأَمَّا الْإِدَارَةُ فَإِنَّ الْأَمَانَةَ وَالْعَدَالَةَ مُشْتَرَطَةٌ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ، وَلَيْسَ الْمُنَافِقُ مِنْ أَهْلِهَا.

هـ- الْمِيرَاثُ:

16- يَذْكُرُ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الزِّنْدِيقَ إِنْ مَاتَ قَبْلَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، ثُمَّ ثَبَتَتْ زَنْدَقَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، أَوْ تَابَ فِي الْحَيَاةِ وَجَاءَ تَائِبًا قَبْلَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ ثُمَّ مَاتَ، أَوْ قُتِلَ بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ وَبَعْدَ تَوْبَتِهِ لِعَدَمِ قَبُولِهَا مِنْهُ، يَكُونُ مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ، أَمَّا إِنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَتُبْ وَلَمْ يُنْكِرْهَا شَهِدَ عَلَيْهِ بِهِ حَتَّى قُتِلَ أَوْ مَاتَ، فَإِنَّ مَالَهُ لَا يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ، بَلْ يَكُونُ لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ.

وَهَكَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.حَيْثُ قَالُوا: الزِّنْدِيقُ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُسَمَّى مُنَافِقًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، لَا يَرِثُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مِنَ الْكُفَّارِ، وَلَا يُورَثُ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


147-موسوعة الفقه الكويتية (نفط)

نِفْطٌ

التَّعْرِيفُ:

1- النِّفْطُ لُغَةً- بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ، وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ-: الدُّهْنُ، وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: هُوَ الَّذِي تُطْلَى بِهِ الْإِبِلُ لِلْجَرَبِ وَالدَّبَرِ وَالْقِرْدَانِ، وَهُوَ دُونَ الْكُحَيْلِ.

وَالنِّفْطُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ أَحَدُ الْأَجْزَاءِ الْمُسْتَقِرَّةِ الَّتِي رَكَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَهَا، وَهُوَ دُهْنٌ يَعْلُو الْمَاءَ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي خَارِجِهَا.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنِّفْطِ:

أ- زَكَاةُ النِّفْطِ:

2- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي مَعْدِنِ النِّفْطِ.

فَقَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَأَمَّا (الْمَعْدِنُ) الْمَائِعُ كَالْقِيرِ وَالنِّفْطِ وَالْمِلْحِ....فَلَا شَيْءَ فِيهَا.

وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: إِنَّمَا يُزَكَّى مَعْدِنُ عَيْنٍ (ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ) لَا غَيْرُهُمَا مِنَ الْمَعَادِنِ كَنُحَاسٍ وَحَدِيدٍ وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ مُعَلِّقًا عَلَى عِبَارَةِ الدَّرْدِيرِ: أَدْخَلَ بِالْكَافِ الرَّصَاصَ وَالْقَزْدِيرَ وَالْكُحْلَ وَالْعَقِيقَ وَالْيَاقُوتَ وَالزُّمُرُّدَ وَالزِّئْبَقَ وَالزِّرْنِيخَ وَالْمَغْرَةَ وَالْكِبْرِيتَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَعَادِنَ كُلَّهَا لَا زَكَاةَ فِيهَا.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الْمُسْتَخْرَجَ مِنَ الْمَعْدِنِ إِذَا كَانَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَأَمَّا غَيْرُهُمَا مِنَ الْجَوَاهِرِ كَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَالْفَيْرُوزِ وَالْبَلُّورِ وَالْمَرْجَانِ وَالْعَقِيقِ وَالزُّمُرُّدِ وَالزَّبَرْجَدِ وَالْكُحْلِ وَغَيْرِهَا فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، هُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كُتُبِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ فِي الطُّرُقِ كُلِّهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ شَاذٍّ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ- وَهُوَ مُفَادُ قَوْلَيْنِ نَقَلَهُمَا الْقَيْصَرِيُّ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ الْقَدِيمِ- إِلَى أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ يَتَعَلَّقُ بِالنِّفْطِ وَبِكُلِّ مَا خَرَجَ مِنَ الْأَرْضِ مِمَّا يُخْلَقُ فِيهَا مِنْ غَيْرِهَا مِمَّا لَهُ قِيمَةٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قوله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} وَلِأَنَّهُ مَعْدِنٌ فَتَعَلَّقَتِ الزَّكَاةُ بِالْخَارِجِ مِنْهُ كَالْأَثْمَانِ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ لَوْ غَنِمَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ خُمْسُهُ، فَإِذَا أَخْرَجَهُ مِنْ مَعْدِنٍ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالذَّهَبِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ قَدْرَ الْوَاجِبِ فِيهِ رُبْعُ الْعُشْرِ، وَصِفَتُهُ أَنَّهُ زَكَاةٌ.

وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ: يَجِبُ الْخَرَاجُ فِي نَفْسِ عَيْنِ الْقِيرِ وَالنِّفْطِ إِذَا كَانَتْ فِي أَرْضِ خَرَاجٍ.

(ر: مَعْدِنٌ ف 6).

ب- تَمَلُّكُ مَعْدِنِ النِّفْطِ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِقْطَاعِ:

3- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَعَادِنَ النِّفْطِ وَالْقِيرِ وَالْمِلْحِ وَالْمَاءِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ لَا تُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ، وَلَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهَا لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ فَقَدْ «وَرَدَ أَنَّ أَبْيَضَ بْنَ حَمَّالٍ وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَاسْتَقْطَعَهُ الْمِلْحَ فَقَطَعَ لَهُ، فَلَمَّا أَنْ وَلَّى قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمَجْلِسِ: أَتَدْرِي مَا قَطَعْتَ لَهُ؟ إِنَّمَا قَطَعْتَ لَهُ الْمَاءَ الْعَذْبَ، قَالَ: فَانْتَزَعَهُ مِنْهُ».

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ حُكْمَ الْمَعْدِنِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ مَعْدِنَ عَيْنٍ (الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) أَوْ غَيْرَهُمَا كَالْقَصْدِيرِ وَالْعَقِيقِ وَالْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ وَالزِّرْنِيخِ وَالْمَغْرَةِ وَالْكِبْرِيتِ لِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ يَقْطَعُهُ لِمَنْ شَاءَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ يَجْعَلُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِمَنَافِعِهِمْ لَا لِنَفْسِهِ، وَلَوْ وُجِدَ بِأَرْضِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ رَبُّ الْأَرْضِ، إِلاَّ أَرْضَ الصُّلْحِ إِذَا وُجِدَ بِهَا مَعْدِنٌ فَلَهُمْ وَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ فِيهِ، فَإِنْ أَسْلَمُوا رَجَعَ الْأَمْرُ لِلْإِمَامِ وَهُوَ الرَّاجِحُ.

وَإِذَا أَقْطَعَ الْإِمَامُ الْمَعْدِنَ لِشَخْصٍ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ لِبَيْتِ الْمَالِ، فَلَا يَأْخُذُ الْإِمَامُ عَنْهُ إِلاَّ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ.قَالَ الْبَاجِيُّ: وَإِذَا أَقْطَعَهُ فَإِنَّمَا يَقْطَعُهُ انْتِفَاعًا لَا تَمْلِيكًا، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ أَقْطَعَهُ لَهُ الْإِمَامُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَلَا يُورَثُ عَمَّنْ أَقْطَعَهُ لَهُ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُمْلَكُ لَا يُورَثُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


148-موسوعة الفقه الكويتية (نقض 1)

نَقْضٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- النَّقْضُ لُغَةً: إِفْسَادُ مَا أَبْرَمْتَهُ مِنْ عَقْدٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، يُقَالُ: نَقَضْتُ الْحَبْلَ نَقْضًا حَلَلْتُ بَرْمَهُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: نَقَضْتُ مَا أَبْرَمَهُ: إِذَا أَبْطَلْتَهُ، فَالنَّقْضُ ضِدُّ الْإِبْرَامِ.

وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالنَّقْضُ بِاعْتِبَارِهِ مِنْ قَوَادِحِ الْعِلَّةِ: هُوَ إِبْدَاءُ الْوَصْفِ الْمُدَّعَى عِلِّيَّتُهُ بِدُونِ وُجُودِ الْحُكْمِ فِي صُورَةٍ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِتَخْصِيصِ الْوَصْفِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْإِبْرَامُ:

2- الْإِبْرَامُ فِي اللُّغَةِ مِنْ أَبْرَمَ الْأَمْرَ وَبَرَمَهُ: أَحْكَمَهُ، قَالَ الْخَلِيلُ: أَبْرَمْتُ الْأَمْرَ أَحْكَمْتُهُ، وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: إِبْرَامُ الشَّيْءِ تَقْوِيَتُهُ، وَأَصْلُهُ فِي تَقْوِيَةِ الْحَبْلِ، وَهُوَ فِي غَيْرِهِ مُسْتَعَارٌ.

وَيَسْتَعْمِلُ الْفُقَهَاءُ هَذَا اللَّفْظَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْعُقُودِ، فَيُقَالُ: أَبْرَمَ عَقْدَ الْبَيْعِ وَأَبْرَمَ عَقْدَ النِّكَاحِ، وَالْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ يَتَوَلَّى إِبْرَامَ عَقْدِ الذِّمَّةِ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّقْضِ وَالْإِبْرَامِ التَّضَادُّ.

ب- الْعَقْدُ:

3- الْعَقْدُ فِي اللُّغَةِ: نَقِيضُ الْحَلِّ، يُقَالُ: عَقَدَهُ يَعْقِدُهُ عَقْدًا، وَعَقْدُ كُلِّ شَيْءٍ إِبْرَامُهُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْعَقْدُ رَبْطُ أَجْزَاءِ التَّصَرُّفِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّقْضِ وَالْعَقْدِ هِيَ التَّضَادُّ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّقْضِ:

تَتَعَلَّقُ بِالنَّقْضِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

أَوَّلًا: نَقْضُ الطَّهَارَةِ:

4- الْمُرَادُ بِنَقْضِ الطَّهَارَةِ: إِفْسَادُ مَا قَامَ بِهِ الْمُكَلَّفُ مِنْ فِعْلٍ مَوْضُوعٍ لِرَفْعِ حَدَثٍ أَوْ إِزَالَةِ خَبَثٍ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُمَا.

وَنَوَاقِضُ الطَّهَارَةِ تَشْمَلُ: نَوَاقِضَ الْوُضُوءِ وَنَوَاقِضَ التَّيَمُّمِ وَنَوَاقِضَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ- نَوَاقِضُ الْوُضُوءِ:

5- عَدَّدَ الْفُقَهَاءُ نَوَاقِضَ الْوُضُوءِ، وَهِيَ فِي الْجُمْلَةِ: خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ، وَخُرُوجُ نَجِسٍ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، وَزَوَالُ الْعَقْلِ (السُّكْرُ- الْجُنُونُ- الْإِغْمَاءُ)، وَالنَّوْمُ، وَاللَّمْسُ، وَمَسُّ فَرْجِ الْآدَمِيِّ، وَالْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلَاةِ، وَأَكْلُ لَحْمِ الْجَزُورِ، وَغَسْلُ الْمَيِّتِ، وَالرِّدَّةُ، وَالشَّكُّ فِي الْحَدَثِ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَقْضِ الْوُضُوءِ بِبَعْضِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَدَث ف 6- 20).

ب- نَوَاقِضُ التَّيَمُّمِ:

6- يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ أُمُورٌ، بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمِنْهَا: كُلُّ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لِأَنَّهُ بَدَلًا مِنْهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُ، وَخُرُوجُ الْوَقْتِ، وَوُجُودُ مَاءٍ لِعَادِمِهِ، وَزَوَالُ الْعُذْرِ الْمُبِيحِ لَهُ إِذَا قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ بِلَا ضَرَرٍ كَأَنْ تَيَمَّمَ لِمَرَضٍ فَعُوفِيَ أَوْ لِبَرْدٍ فَزَالَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (تَيَمُّم ف 33).

ج- نَوَاقِضُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ:

7- يَنْقُضُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ أُمُورٌ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمِنْهَا: كُلُّ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْهُ فَيَنْقُضُهُ نَاقِضُ أَصْلِهِ كَالتَّيَمُّمِ، وَنَزْعُ الْخُفَّيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَيَغْسِلُ الْقَدَمَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ السَّابِقَ عَنِ الطَّهَارَةِ يَسْرِي عَلَى الْقَدَمَيْنِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ، وَمُضِيِّ مُدَّةِ الْمَسْحِ، وَحُدُوثِ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مَسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ ف 11).

ثَانِيًا: نَقْضُ الْعُهُودِ:

نَقْضُ الْعُهُودِ يَشْمَلُ نَقْضَ الْهُدْنَةِ، وَنَقْضَ الْأَمَانِ، وَنَقْضَ عَقْدِ الذِّمَّةِ.

أ- نَقْضُ الْهُدْنَةِ:

8- إِذَا تَعَاهَدَ الْمُسْلِمُونَ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَفَاءُ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}.

وَتُنْقَضُ الْهُدْنَةُ بِأُمُورٍ مِنْهَا:

- نَقْضُ الْإِمَامِ إِنْ عَلَّقَ بَقَاءَهَا بِمَشِيئَتِهِ أَوْ مَشِيئَةِ غَيْرِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا رَأَى فِي نَقْضِهَا مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ.

- صُدُورُ خِيَانَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُهَادِنِينَ كَقَتْلِ مُسْلِمٍ وَقِتَالِ مُسْلِمِينَ بِلَا شُبْهَةٍ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ وَإِيوَاءِ جَاسُوسٍ يَنْقُلُ أَخْبَارَ الْمُسْلِمِينَ وَمَوَاضِعَ الضَّعْفِ فِيهِمْ لِأَهْلِ الْحَرْبِ.

- نَقْضُ مَنْ عَقَدَ لَهُمْ بِصَرِيحِ الْقَوْلِ أَوْ دَلَالَتِهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (هُدْنَة).

ب- نَقْضُ الْأَمَانِ:

9- إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ أَوْ مُسْلِمٌ بَالِغٌ حُرٌّ مِنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ حَرْبِيًّا أَوْ عَدَدًا مَحْصُورِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ وَلَا أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ نَقْضُهُ لِخَبَرِ: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخَفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» إِلاَّ أَنْ يَخَافَ الْإِمَامُ خِيَانَةً مِنْهُمْ، لِأَنَّ الْأَمَانَ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَجَائِزٌ مِنْ جِهَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَهُمْ أَنْ يَنْقُضُوهُ وَقْتَمَا شَاءُوا، فَإِنْ خَافَ خِيَانَتَهُمْ بِأَمَارَاتٍ ظَاهِرَةٍ، فَلَهُ نَبْذُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ لِلْإِمَامِ نَقْضَ الْأَمَانِ مَتَى شَاءَ وَإِنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ مَا يُخَالِفُ عَقْدَ الْأَمَانِ وَلَمْ تَظْهَرْ مِنْهُمْ أَمَارَاتُهَا.

ج- نَقْضُ عَقْدِ الذِّمَّةِ:

10- يَنْتَقِضُ عَقْدُ الذِّمَّةِ بِأُمُورٍ مِنْهَا:

لُحُوقُ الذِّمِّيِّ بِدَارِ الْحَرْبِ، أَوِ التَّطَلُّعُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (أَهْل الذِّمَّةِ ف 42).

ثَالِثًا: نَقْضُ الِاجْتِهَادِ:

11- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ قِي قَضِيَّةٍ أَوْ أَفْتَى الْمُفْتِي فِي مَسْأَلَةٍ- وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ- لَمْ يَجُزِ النَّقْضُ، إِلاَّ إِذَا بَانَ أَنَّ حُكْمَهُ خِلَافُ نَصِّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْإِجْمَاعِ.

وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَانَ لِمُخَالَفَةِ قِيَاسٍ جَلِيٍّ، وَهُوَ مَا قُطِعَ فِيهِ بِعَدَمِ تَأْثِيرِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، كَقِيَاسِ تَحْرِيمِ الضَّرْبِ عَلَى التَّأْفِيفِ بِالْوَالِدَيْنِ فِي قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} أَيِ الْوَالِدَيْنِ.

وَكَقِيَاسِ مَا فَوْقَ الذَّرَّةِ بِالذَّرَّةِ فِي قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}.

وَمَا قُطِعَ بِهِ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْفَرْعُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنَ الْأَصْلِ، كَقِيَاسِ الْأَمَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي السِّرَايَةِ فِيمَا إِذَا أَعْتَقَ الْمُوسِرُ بَعْضَهُ، وَقِيَاسُ غَيْرِ السَّمْنِ مِنَ الْمَائِعَاتِ عَلَى السَّمْنِ فِي حُكْمِ وُقُوعِ الْفَأْرَةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

رَابِعًا: نَقْضُ الْقَضَاءِ:

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِنَقْضِ الْقَضَاءِ:

12- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا خَالَفَ فِي حُكْمِهِ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا كَانَ قَضَاؤُهُ فَاقِدًا لِشَرْطٍ وَوَجَبَ نَقْضُهُ، إِذْ أَنَّ شَرْطَ الْحُكْمِ بِالِاجْتِهَادِ عَدَمُ النَّصِّ بِدَلِيلِ خَبَرِ مُعَاذٍ- رضي الله عنه-: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو» وَلِأَنَّهُ إِذَا تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَقَدْ فَرَّطَ، فَوَجَبَ نَقْضُ حُكْمِهِ، إِذْ لَا مَسَاغَ لِلِاجْتِهَادِ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ، وَزَادَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ زِيَادَاتٍ أُخْرَى كَالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ.

وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي حُكْمِ مَا يُنْقَضُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ أَنْ يَنْقُضَ مِنْ حُكْمِ قَاضٍ صَالِحٍ لِلْقَضَاءِ شَيْئًا لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ إِلَى نَقْضِ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ وَإِلَى أَلاَّ يَثْبُتَ حُكْمٌ أَصْلًا، غَيْرَ مَا خَالَفَ نَصَّ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةٍ مُتَوَاتِرَةٍ أَوْ سُنَّةٍ آحَادٍ أَوْ خَالَفَ إِجْمَاعًا قَطْعِيًّا، بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ.

مَا يُنْقَضُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَمَا لَا يُنْقَضُ:

13- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُنْقَضُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَمَا لَا يُنْقَضُ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَوَسَّعَ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَصَرَ النَّقْضَ فِي نِطَاقِ الْمُخَالَفَةِ الصَّرِيحَةِ لِلنَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ، وَمَنَعَهُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ.

وَفِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّ أَحْكَامَ الْقَاضِي لَا تَخْلُو عَنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:

قِسْمٌ يُنْقَضُ بِكُلِّ حَالٍ، وَقِسْمٌ يُمْضَى بِكُلِّ حَالٍ، وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا يُنْقَضُ مِنَ الْأَحْكَامِ:

14- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ نَقْضُ الْحُكْمِ إِذَا خَالَفَ نَصَّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْإِجْمَاعَ.

وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مَا ذُكِرَ: مَا يَشِذُّ مَدْرَكُهُ أَيْ دَلِيلُهُ، أَوْ مُخَالَفَةُ الْقَوَاعِدِ، أَوِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، وَقَيَّدَ الْقَرَافِيُّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ قَوْلَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ حُكْمَ الْقَاضِي يُنْقَضُ إِذَا خَالَفَ الْقَوَاعِدَ أَوِ الْقِيَاسَ أَوِ النَّصَّ- فَالْمُرَادُ مِنْهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مُعَارِضٌ رَاجِحٌ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ لَهَا مُعَارِضٌ فَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ، وَقَالُوا: إِذَا كَانَ الْحُكْمُ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ فَلَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ وَيَجِبُ نَقْضُهُ، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِأَنَّ الْمِيرَاثَ كُلَّهُ لِلْأَخِ دُونَ الْجَدِّ، فَهَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، لأَنَّ الْأُمَّةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْمَالُ كُلُّهُ لِلْجَدِّ أَوْ يُقَاسِمُ الْأَخَ، وَأَمَّا حِرْمَانُ الْجَدِّ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَّةِ.

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا خَالَفَ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ خَالَفَ مِنْ قِيَاسِ الْمَعْنَى الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ، أَوْ خَالَفَ مِنْ قِيَاسِ الشَّبَهِ قِيَاسَ التَّحْقِيقِ- نُقِضَ بِهِ حُكْمُهُ وَحُكْمُ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- عَدَلَ عَنِ اجْتِهَادٍ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ حِينَ أَخْبَرَهُ حَمْلُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى فِيهِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. وَكَانَ لَا يُوَرِّثُ امْرَأَةً مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا حَتَّى رَوَى لَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَرَّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا فَوَرَّثَهَا عُمَرُ».

وَقَضَى فِي الْأَصَابِعِ بِقَضَاءٍ، ثُمَّ أُخْبِرَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ» وَنَقَضَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- قَضَاءَ شُرَيْحٍ فِي ابْنَيْ عَمٍّ، أَحَدُهُمَا أَخٌ لأُِمٍّ- بِأَنَّ الْمَالَ لِلْأَخِ مُتَمَسِّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} فَيَحْتَمِلُ أَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- نَقَضَ ذَلِكَ الْحُكْمَ لِمُخَالَفَةِ نَصِّ هَذِهِ الْآيَةِ.فَهَذِهِ كُلُّهَا آثَارٌ لَمْ يَظْهَرْ لَهَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، فَكَانَتْ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَصْلُ الْإِجْمَاعِ.وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنْ تَبَيَّنَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ خَالَفَ قَطْعِيًّا كَنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ مُتَوَاتِرَةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، أَوْ ظَنًّا مُحْكَمًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَوْ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، فَيَلْزَمُهُ نَقْضُ حُكْمِهِ، أَمَّا إِنْ تَبَيَّنَ لَهُ بِقِيَاسٍ خَفِيٍّ رَآهُ أَرْجَحَ مِمَّا حَكَمَ بِهِ وَأَنَّهُ الصَّوَابُ، فَلْيَحْكُمْ فِيمَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَخَوَاتِ الْحَادِثَةِ بِمَا رَآهُ ثَانِيًا، وَلَا يَنْقُضُ مَا حَكَمَ بِهِ أَوَّلًا، بَلْ يُمْضِيهِ، ثُمَّ مَا نَقَضَ بِهِ قَضَاءَ نَفْسِهِ نَقَضَ بِهِ قَضَاءَ غَيْرِهِ، وَمَا لَا فَلَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَتَتَبَّعُ قَضَاءَ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَنْقُضُهُ إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ، وَلَهُ تَتَبُّعُ قَضَاءِ نَفْسِهِ لِيَنْقُضَهُ.

وَقَالَ: مَا يَنْقُضُ مِنَ الْأَحْكَامِ لَوْ كُتِبَ بِهِ إِلَيْهِ لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَقْبَلُهُ وَلَا يُنَفِّذُهُ.وَأَمَّا مَا لَا يَنْقُضُ وَيَرَى غَيْرَهُ أَصْوَبَ مِنْهُ فَنَقَلَ ابْنُ كَجٍّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُعْرِضُ عَنْهُ وَلَا يُنَفِّذُهُ لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ خَطَأً، وَقَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: لَا أُحِبُّ تَنْفِيذَهُ.وَفِي هَذَا إِشْعَارٌ بِتَجْوِيزِ تَنْفِيذِهِ.

وَصَرَّحَ السَّرَخْسِيُّ (الشَّافِعِيُّ) بِنَقْلِ الْخِلَافِ فَقَالَ: إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ حُكْمُ قَاضٍ قَبْلَهُ فَلَمْ يَرَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي النَّقْضَ، لَكِنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَى غَيْرِهِ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُعْرِضُ عَنْهُ، وَأَصَحُّهُمَا: يُنْفِذُهُ، وَعَلَى هَذَا الْعَمَلُ، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ تَغَيُّرًا لَا يَقْتَضِي النَّقْضَ، وَتَرَافَعَ الْخُصُومُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يُمْضِي حُكْمَهُ الْأَوَّلَ وَإِنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَصْوَبُ مِنْهُ.

وَيَرَى فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمُخَالَفَةِ الْكِتَابِ مُخَالَفَةُ النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ الَّذِي لَمْ يَخْتَلِفِ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} فَإِنَّ السَّلَفَ اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَزَوُّجِ امْرَأَةِ الْأَبِ وَجَارِيَتِهِ الَّتِي وَطِئَهَا الْأَبُ، فَلَوْ حَكَمَ قَاضٍ بِجَوَازِ ذَلِكَ نَقَضَهُ مَنْ رُفِعَ إِلَيْهِ.

وَإِنَّ الْمُرَادَ بِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ كَالْحُكْمِ بِحِلِّ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بِمُجَرَّدِ النِّكَاحِ بِدُونِ إِصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي، فَإِنَّ اشْتِرَاطَ الدُّخُولِ ثَابِتٌ بِحَدِيثِ الْعُسَيْلَةِ.

وَالْمُرَادُ بِالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَيْ جُلُّ النَّاسِ وَأَكْثَرُهُمْ، وَمُخَالَفَةُ الْبَعْضِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافٌ لَا اخْتِلَافٌ، وَقَالُوا: يُنْقَضُ الْحُكْمُ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ حُكْمًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ قَطْعًا.

الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يُنْقَضُ مِنَ الْأَحْكَامِ:

15- لَا يُنْقَضُ مِنَ الْأَحْكَامِ كُلُّ حُكْمٍ وَافَقَ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، فَإِذَا أَصَابَ الْقَاضِي فِي حُكْمِهِ فَالْأَصْلُ أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ كَمَا إِذَا حَكَمَ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ كَانَ حُكْمُهُ نَافِذًا وَحُكْمُ غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ بِهِ نَافِذًا، لَا يُتَعَقَّبُ بِفَسْخٍ وَلَا نَقْضٍ، لِأَنَّ هَذَا الْقَضَاءَ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ فَنَفَذَ، وَلَزِمَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ إِبْطَالُهُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقْضِي بِالْقَضَاءِ، وَيَنْزِلُ الْقُرْآنُ بِغَيْرِ مَا قَضَى، فَيَسْتَقْبِلُ حُكْمَ الْقُرْآنِ وَلَا يَرُدُّ قَضَاءَهُ الْأَوَّلَ» وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- «أَنَّهُ حَكَمَ بِحِرْمَانِ الْإِخْوَةِ الْأَشِقَّاءِ مِنَ التَّرِكَةِ فِي الْمُشْرِكَةِ، ثُمَّ شَرَّكَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْقُضْ قَضَاءَهُ الْأَوَّلَ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ قَالَ: ذَلِكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَهَذَا عَلَى مَا نَقْضِي»، وَقَضَى فِي الْجَدِّ بِقَضَايَا مُخْتَلِفَةٍ وَلَمْ يَرُدَّ الْأُولَى، وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى نَقْضِ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ الْحُكْمُ أَصْلًا، لِأَنَّ الْقَاضِيَ الثَّانِيَ يُخَالِفُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالثَّالِثُ يُخَالِفُ الثَّانِيَ، فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ.

وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ لَوْ قَضَى عَلَى خِلَافِ قِيَاسٍ خَفِيٍّ- وَهُوَ مَا لَا يُزِيلُ احْتِمَالَ الْمُفَارَقَةِ وَلَا يَبْعُدُ كَقِيَاسِ الْأُرْزِ عَلَى الْبُرِّ فِي بَابِ الرِّبَا بِعِلَّةِ الطَّعَامِ- فَلَا يَنْقُضُ الْحُكْمُ الْمُخَالِفَ لَهُ، لِأَنَّ الظُّنُونَ الْمُتَعَادِلَةَ لَوْ نَقَضَ بَعْضُهَا بَعْضًا لَمَا اسْتَمَرَّ حُكْمٌ وَلَشَقَّ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنِ اجْتَهَدَ مِنَ الْحُكَّامِ فَقَضَى بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ رَأَى أَنَّ اجْتِهَادَهُ خَطَأٌ، فَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ لَمْ يَرُدَّهُ، وَحَكَمَ فِيمَا يَسْتَأْنِفُ بِالَّذِي هُوَ أَصْوَبُ.

وَيُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ وَالْحُكْمِ الْمُجْتَهَدِ فِيهِ.

فَالْحُكْمُ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَسَبَبِ الْقَضَاءِ، كَمَا لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودِينِ بِالْقَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَكَانَ الْقَاضِي يَرَى سَمَاعَ شَهَادَتِهِمَا، فَإِذَا رُفِعَ إِلَى قَاضٍ آخَرَ لَا يَرَى ذَلِكَ يُمْضِيهِ وَلَا يَنْقُضْهُ.وَكَذَا لَوْ قَضَى لِامْرَأَةٍ بِشَهَادَةِ زَوْجِهَا وَآخَرَ أَجْنَبِيٍّ، فَرُفِعَ لِمَنْ لَا يُجِيزُ هَذِهِ الشَّهَادَةَ أَمْضَاهُ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَضَى بِمُجْتَهَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ، لِأَنَّ الْمُجْتَهَدَ فِيهِ سَبَبُ الْقَضَاءِ، وَهُوَ أَنَّ شَهَادَةَ هَؤُلَاءِ هَلْ تَصِيرُ حُجَّةً لِلْحُكْمِ أَوْ لَا؟

فَالْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَسَبَبِ الْحُكْمِ لَا فِي نَفْسِ الْحُكْمِ.

وَفَصَّلُوا مَسْأَلَةَ الْمُجْتَهَدِ فِيهِ، فَقَالُوا: إِنْ حَكَمَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُجْمَعًا عَلَى كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْتَلَفًا فِي كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَى كَوْنِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ هُوَ الْمَقْضِيَّ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْسَ الْقَضَاءِ.

فَإِنْ كَانَ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ هُوَ الْمَقْضِيَّ بِهِ، فَرُفِعَ إِلَى قَاضٍ آخَرَ لَمْ يَنْقُضْهُ الثَّانِي بَلْ يُنْفِذُهُ لِكَوْنِهِ قَضَاءً مُجْمَعًا عَلَى صِحَّتِهِ، لِمَا عُلِمَ أَنَّ النَّاسَ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِأَيِّ الْأَقْوَالِ الَّذِي مَالَ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَكَانَ قَضَاءً مُجْمَعًا عَلَى صِحَّتِهِ، فَلَوْ نَقَضَهُ إِنَّمَا يَنْقُضُهُ بِقَوْلِهِ، وَفِي صِحَّتِهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ النَّاسِ، فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ مَا صَحَّ بِالِاتِّفَاقِ بِقَوْلٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَ الثَّانِي دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ بَلِ اجْتِهَادِيٌّ، وَصِحَّةُ قَضَاءِ الْقَاضِي الْأَوَّلِ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ وَهُوَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ بِأَيِّ وَجْهٍ اتَّضَحَ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ مَا مَضَى بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ، وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ تُوجِبُ الْقَوْلَ بِلُزُومِ الْقَضَاءِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَأَنْ لَا يَجُوزَ نَقْضُهُ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ نَقْضُهُ بِرَفْعِهِ إِلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَ رَأْيِ الْأَوَّلِ فَيَنْقُضُهُ، ثُمَّ يَرْفَعُهُ الْمُدَّعِي إِلَى قَاضٍ ثَالِثٍ يَرَى خِلَافَ رَأْيِ الْقَاضِي الثَّانِي فَيَنْقُضُ نَقْضَهُ، وَيَقْضِي كَمَا قَضَى الْأَوَّلُ، فَيُؤَدِّي إِلَى أَنْ لَا تَنْدَفِعَ الْخُصُومَةُ وَالْمُنَازَعَةُ أَبَدًا، وَالْمُنَازَعَةُ فَسَادٌ، وَمَا أَدَّى إِلَى الْفَسَادِ فَسَادٌ.

فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي الثَّانِي رَدَّ الْحُكْمَ، فَرَفَعَهُ إِلَى قَاضٍ ثَالِثٍ- نُفِّذَ قَضَاءُ الْأَوَّلِ وَأُبْطِلَ قَضَاءُ الْقَاضِي الثَّانِي، لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِ الِاجْتِهَادَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَقَدْ تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَلَا يُنْتَقَضُ بِمَا هُوَ دُونَهُ، كَمَا أَنَّ قَضَاءَ الْأَوَّلِ كَانَ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ، وَالْقَضَاءُ بِالْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَكَانَ الْقَضَاءُ مِنَ الثَّانِي مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ، فَيَكُونُ بَاطِلًا، وَلِأَنَّهُ لَا يُنْقَضُ الِاجْتِهَادُ بِالِاجْتِهَادِ، وَالدَّعْوَى مَتَى فَصَلَتْ مَرَّةً بِالْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ لَا تُنْتَقَضُ وَلَا تُعَادُ، فَيَكُونُ قَضَاءُ الْأَوَّلِ صَحِيحًا، وَقَضَاءُ الثَّانِيَ بِالرَّدِّ بَاطِلًا وَشَرْطُ نَفَاذِ الْقَضَاءِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ أَنْ يَكُونَ فِي حَادِثَةٍ وَدَعْوَى صَحِيحَةٍ، فَإِنْ فَاتَ هَذَا الشَّرْطُ كَانَ فَتْوَى لَا حُكْمًا.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْقَضَاءُ نَفْسُهُ مُجْتَهَدًا فِيهِ، أَوْ كَانَ فِي مَحَلٍّ اخْتَلَفُوا أَنَّهُ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَهُوَ الْحُكْمُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي النَّازِلَةِ مَوْضُوعِ الدَّعْوَى يَرْفَعُ الْخِلَافَ، فَلَا يَجُوزُ لِمُخَالِفٍ فِيهَا نَقْضُهَا، فَإِذَا حَكَمَ بِفَسْخِ عَقْدٍ أَوْ صِحَّتِهِ لِكَوْنِهِ يَرَى ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ لِقَاضٍ غَيْرِهِ وَلَا لَهُ نَقْضُهُ، وَهَذَا فِي الْخِلَافِ الْمُعْتَبَرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَبَيَّنَ لَهُ بِقِيَاسٍ خَفِيٍّ رَآهُ أَرْجَحَ مِمَّا حَكَمَ بِهِ وَأَنَّهُ الصَّوَابُ فَلَا يَنْقُضُ حُكْمَهُ، بَلْ يُمْضِيهِ وَيَحْكُمُ فِيمَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا رَآهُ ثَانِيًا.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِي نَقْضِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ:

الْأَحْكَامُ الَّتِي يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيهَا بَيْنَ الْقَوْلِ بِنَقْضِهَا وَالْقَوْلِ بِعَدَمِ النَّقْضِ مُتَعَدِّدَةٌ، وَيَتَعَذَّرُ حَصْرُهَا، وَأَهَمُّهَا:

أ- الْحُكْمُ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ:

16- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْحُكْمُ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ: هُوَ مَا يَقَعُ الْخِلَافُ فِيهِ بَعْدَ وُجُودِ الْحُكْمِ، فَقِيلَ: يَنْفُذُ، وَقِيلَ: يَتَوَقَّفُ عَلَى إِمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ فَيَجُوزُ لِلْقَاضِي الثَّانِي أَنْ يَنْقُضَ قَضَاءَ الْأَوَّلِ إِذَا مَالَ اجْتِهَادُهُ إِلَى خِلَافِ اجْتِهَادِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ قَضَاءَهُ لَمْ يُجَزْ بِقَوْلِ الْكُلِّ، بَلْ بِقَوْلِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، فَلَمْ يَكُنْ جَوَازُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلنَّقْضِ بِمِثْلِهِ، فَلَوْ أَبْطَلَهُ الثَّانِي بَطَلَ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُجِيزَهُ كَمَا لَوْ قَضَى لِوَلَدِهِ عَلَى أَجْنَبِيٍّ أَوْ لِامْرَأَتِهِ، لأَنَّ نَفْسَ الْقَضَاءِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.

أَمَّا إِذَا أَمْضَاهُ الْقَاضِي الثَّانِي فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ حَكَمَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، فَلَيْسَ لِلثَّالِثِ نَقْضُهُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْقَضَاءُ فِي مَحَلٍّ أَجْمَعُوا عَلَى كَوْنِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ فِي مَحَلٍّ اخْتَلَفُوا أَنَّهُ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ كَبَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَنْفُذُ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي جَوَازِ بَيْعِهَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَنْفُذُ لِوُقُوعِ الِاتِّفَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، فَخَرَجَ عَنْ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُتَأَخِّرَ لَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ- عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ- أَمَّا مُحَمَّدٌ فَيَرَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُتَأَخِّرَ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ، فَكَانَ هَذَا الْفَصْلُ مُخْتَلَفًا فِي كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ رَأْيِ الْقَاضِي الثَّانِي أَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَلَا يَرُدُّهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ رَأْيِهِ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الِاجْتِهَادِ وَصَارَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ لَا يَنْفُذُ، بَلْ يَنْقُضُهُ لِأَنَّ قَضَاءَ الْأَوَّلِ وَقَعَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ فَكَانَ بَاطِلًا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ- فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ- فَحَكَمَ بِمَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَهُ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بِاجْتِهَادٍ ثَانٍ أَنَّ الصَّوَابَ خِلَافُهُ فَلَا يَنْقُضُهُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ نَقْضُ هَذَا لِرَأْيِهِ الثَّانِي لَكَانَ لَهُ نَقْضُ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَلَا يَقِفُ عَلَى حَدٍّ، وَلَا يَثِقُ أَحَدٌ بِمَا قُضِيَ لَهُ بِهِ، وَذَلِكَ ضَرَرٌ شَدِيدٌ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، فَقَالُوا: يُفْسَخُ الْحُكْمُ.

وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مَا سَبَقَ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَاضِي حَكَمَ بِقَضِيَّةٍ فِيهَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَوَافَقَ قَوْلًا شَاذًّا نَقَضَ حُكْمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَاذًّا لَمْ يَنْقُضْ حُكْمَهُ.قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: سَمِعْتُ ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُولُ: الَّذِي يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ فَيَرْفَعُ أَمْرَهُ إِلَى مَنْ لَا يَرَى الْبَتَّةَ فَجَعَلَهَا وَاحِدَةً، فَتَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ- أَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: وَلَسْتُ أَرَاهُ، لَا يَرْجِعُ الْقَاضِي عَمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ وَلَا إِلَى مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ حَتَّى يَكُونَ الْأَوْلَى خَطَأً بَيِّنًا صُرَاحًا.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي الْمُسْتَنِدِ إِلَى اجْتِهَادِهِ الْمُخَالِفِ خَبَرَ الْوَاحِدِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ إِلاَّ تَأْوِيلًا بَعِيدًا يَنْبُو الْفَهْمُ عَنْ قَبُولِهِ- يُنْقَضُ، وَقِيلَ: لَا يُنْقَضُ، مِثَالُهُ الْقَضَاءُ بِنَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ- عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ- وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ بِلَا وَلِيٍّ.وَقِيلَ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ فِي مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ، وَصَحَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ قَضَى بِاجْتِهَادِهِ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، ثُمَّ بَانَ لَهُ فَسَادُ اجْتِهَادِهِ لَمْ يَجُزْ نَقْضُ حُكْمِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلاَّ بِاجْتِهَادٍ ثَانٍ دُونَ الْأَوَّلِ، وَلَوْ بَانَ لَهُ فَسَادُ الِاجْتِهَادِ قَبْلَ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ بِهِ حَكَمَ بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، قِيَاسًا عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِي الْقِبْلَةِ إِنْ بَانَ لَهُ بِالِاجْتِهَادِ خَطَأُ مَا تَقَدَّمَ مِنِ اجْتِهَادِهِ قَبْلَ صَلَاتِهِ عَمِلَ عَلَى اجْتِهَادِهِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ بَانَ لَهُ بَعْدَ صَلَاتِهِ لَمْ يُعِدْ، وَصَلَّى، وَاسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ الثَّانِيَةَ بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ إِذَا رَفَعَ إِلَى قَاضٍ حَكَمَ فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ لَا يَلْزَمُهُ نَقْضُهُ لِيُنَفِّذَهُ لَزِمَهُ تَنْفِيذُهُ فِي الْأَصَحِّ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ الْمَرْفُوعُ إِلَيْهِ صَحِيحًا، لِأَنَّهُ حُكْمٌ سَاغَ الْخِلَافُ فِيهِ، فَإِذَا حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ لَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ فَوَجَبَ تَنْفِيذُهُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ نَفْسُ الْحُكْمِ مُخْتَلَفًا فِيهِ كَحُكْمِهِ بِعِلْمِهِ وَقِيلَ: يَحْرُمُ تَنْفِيذُ الْحُكْمِ إِذَا كَانَ الْقَاضِي الثَّانِي لَا يَرَى صِحَّةَ الْحُكْمِ، وَفِي الْمُحَرَّرِ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ قَاضٍ آخَرُ قَبْلَهُ.

ب- عَدَمُ عِلْمِ الْقَاضِي بِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ:

17- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا رُفِعَ إِلَى قَاضٍ حُكْمُ قَاضٍ آخَرَ نَفَّذَهُ، أَيْ: أُلْزِمَ الْحُكْمَ وَالْعَمَلَ بِمُقْتَضَاهُ، لَوْ مُجْتَهِدًا فِيهِ عَالِمًا بِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ، وَلَا يُمْضِيهِ الثَّانِي فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، لَكِنْ فِي الْخُلَاصَةِ: وَيُفْتَى بِخِلَافِهِ- وَكَأَنَّهُ- تَيْسِيرًا.

وَأَضَافَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا قَضَى الْمُجْتَهِدُ فِي حَادِثَةٍ، لَهُ فِيهَا رَأْيٌ مُقَرَّرٌ قَبْلَ قَضَائِهِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ الَّتِي قَصَدَ فِيهَا الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ، فَحَصَلَ حُكْمُهُ فِي الْمَحَلِّ الْمُخْتَلَفِ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، ثُمَّ بَانَ أَنَّ قَضَاءَهُ هَذَا عَلَى خِلَافِ رَأْيِهِ الْمُقَرَّرِ قَبْلَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ فَحِينَئِذٍ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَأَمَّا إِذَا وَافَقَ قَضَاؤُهُ رَأْيَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَعْلَمْ حَالَ قَضَائِهِ أَنَّ فِيهَا خِلَافًا، فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ حُكْمُ الْقَاضِي بِعَدَمِ عِلْمِهِ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ، لِأَنَّ عِلْمَهُ بِالْخِلَافِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي صِحَّةِ الْحُكْمِ وَلَا بُطْلَانِهِ حَيْثُ وَافَقَ مُقْتَضَى الشَّرْعِ.

ج- الْخَطَأُ فِي الْحُكْمِ:

18- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا قَصَدَ الْحُكْمَ بِشَيْءٍ فَأَخْطَأَ عَمَّا قَصَدَهُ لِغَفْلَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ أَوِ اشْتِغَالِ بَالٍ يُنْقَضُ حُكْمُهُ إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ فَيَنْقُضُهُ الَّذِي أَصْدَرَهُ دُونَ غَيْرِهِ.

وَكَذَلِكَ يُنْقَضُ حُكْمُهُ إِذَا حَكَمَ بِالظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ وَلَا اجْتِهَادٍ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَضَى فِي الْمُجْتَهَدِ فِيهِ مُخَالِفًا لِرَأْيِهِ نَاسِيًا لِمَذْهَبِهِ نَفَذَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَ عَامِدًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْهُ، وَوَجْهُ النَّفَاذِ: أَنَّهُ لَيْسَ بِخَطَأٍ بِيَقِينٍ لِأَنَّ رَأْيَهُ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُ الصَّوَابَ، وَرَأْيُ غَيْرِهِ يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُ خَطَأً، فَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا خَطَأً بِيَقِينٍ، فَكَانَ حَاصِلُهُ قَضَاءً فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ، وَوَجْهُ عَدَمِ النَّفَاذِ أَنَّ قَضَاءَهُ مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ غَيْرُ حَقٍّ عَبَثٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ.وَبِهَذَا أَخَذَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْأَوْزَجَنْدِيُّ، وَبِالْأَوَّلِ أَخَذَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَنْفُذُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ قَضَى بِمَا هُوَ خَطَأٌ عِنْدَهُ.

د- إِذَا خَالَفَ مَا يَعْتَقِدُهُ أَوْ خَالَفَ مَذْهَبَهُ:

19- إِذَا خَالَفَ الْقَاضِي الْمُجْتَهِدُ مَذْهَبَهُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ غَفْلَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ اجْتَهَدَ، وَبِذَلِكَ لَا يَجُوزُ نَقْضُ حُكْمِهِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ مُقَلِّدًا وَقَضَى فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ مُخَالِفًا لِمَذْهَبِهِ أَوْ رَأْيِ مُقَلَّدِهِ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَنْقُضُ هُوَ حُكْمَهُ دُونَ غَيْرِهِ.

وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْمُقَلِّدُ غَيْرَ مُتَبَحِّرٍ، وَأَنْ تَكُونَ الْمُخَالَفَةُ لِلْمُعْتَمَدِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، وَأَنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَذْهَبِ مَنْ قَلَّدَهُ لَمْ يُنْقَضْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِلْمُقَلِّدِ تَقْلِيدَ مَنْ شَاءَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الْقَاضِي مُتَّبِعًا لِإِمَامٍ فَخَالَفَهُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ لِقُوَّةِ دَلِيلٍ أَوْ قَلَّدَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ أَوْ أَتْقَى مِنْهُ فَحَسَنٌ، وَلَمْ يُقْدَحْ فِي عَدَالَتِهِ.

وَقَدْ جَاءَ فِي شَرْحِ مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: أَنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِ مُجْتَهِدٍ خِلَافَ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي أُمِرَ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ فِي الْمَسَائِلِ الْمُجْتَهَدِ فِيهَا، فَإِنْ عَمِلَ وَحَكَمَ لَا يُنَفَّذُ حُكْمُهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ بِالْحُكْمِ بِمَا يُنَافِي ذَلِكَ الرَّأْيَ لَمْ يَكُنِ الْقَاضِي قَاضِيًا لِلْحُكْمِ بِالرَّأْيِ الْمَذْكُورِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ الْمُجْتَهِدَ وَالْمُقَلِّدَ إِذَا حَكَمَ فِي قَضِيَّةٍ ثُمَّ جَدَّتْ أُخْرَى مُمَاثِلَةً فَإِنَّ حُكْمَهُ لَا يَتَعَدَّى لِلدَّعْوَى الْأُخْرَى، فَالْمُجْتَهِدُ يَجْتَهِدُ فِي النَّازِلَةِ الْجَدِيدَةِ، وَالْمُقَلِّدُ يَحْكُمُ بِمَا حَكَمَ بِهِ أَوَّلًا مِنْ رَاجِحِ قَوْلِ مُقَلَّدِهِ، وَلِغَيْرِهِ مِنْ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ أَنْ يَحْكُمَ بِضِدِّهِ، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِفَسْخِ نِكَاحِ مَنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِلَا وَلِيٍّ، ثُمَّ تَجَدَّدَ مِثْلُهَا، فَنَظَرَهَا قَاضٍ يَرَى صِحَّةَ الزَّوَاجِ بِدُونِ وَلِيٍّ، فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بِصِحَّتِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا ارْتَفَعَ فِيهَا الْخِلَافُ وَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ نَقْضُهُ، حَتَّى وَلَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْقَضِيَّةِ الْأُولَى هِيَ ذَاتَ الْمَرْأَةِ فِي الْقَضِيَّةِ الثَّانِيَةِ.

وَإِذَا خَالَفَ الْقَاضِي مَا يَعْتَقِدُهُ: بِأَنْ حَكَمَ بِمَا لَا يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ يَلْزَمُهُ نَقْضُهُ لِاعْتِقَادِهِ بُطْلَانَهُ، فَإِنِ اعْتَقَدَهُ صَحِيحًا وَقْتَ الْحُكْمِ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ وَلَا نَصَّ وَلَا إِجْمَاعَ لَمْ يَنْقُضْهُ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


149-موسوعة الفقه الكويتية (وقف 1)

وَقْفٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الْوَقْفِ فِي اللُّغَةِ: الْحَبْسُ، يُقَالُ: وَقَفْتُ الدَّارَ وَقْفًا: حَبَسْتُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمِنْهَا الْمَنْعُ، يُقَالُ: وَقَفْتُ الرَّجُلَ عَنِ الشَّيْءِ وَقْفًا: مَنَعْتُهُ عَنْهُ، وَمِنْهَا السُّكُونُ، يُقَالُ: وَقَفَتِ الدَّابَّةُ تَقِفُ وَقْفًا وَوُقُوفًا: سَكَنَتْ.

وَيُطْلَقُ الْوَقْفُ أَيْضًا عَلَى الشَّيْءِ الْمَوْقُوفِ تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ، وَجَمْعُهُ أَوْقَافٌ كَثَوْبٍ وَأَثْوَابٍ.

وَالْوَقْفُ اصْطِلَاحًا عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِتَعْرِيفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ:

فَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى وَصَرْفُ مَنْفَعَتِهَا عَلَى مَنْ أَحَبَّ، وَهَذَا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ.

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ.

وَعَرَّفَهُ ابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالَ: الْوَقْفُ- مَصْدَرًا- إِعْطَاءُ مَنْفَعَةِ شَيْءٍ مُدَّةَ وَجُودِهِ لَازِمًا بَقَاؤُهُ فِي مِلْكِ مُعْطِيهِ وَلَوْ تَقْدِيرًا، وَالْوَقْفُ- اسْمًا- مَا أَعْطَيْتَ مَنْفَعَتَهُ مُدَّةَ وُجُودِهِ.

وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ حَبْسُ مَالٍ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ بِقَطْعِ التَّصَرُّفِ فِي رَقَبَتِهِ عَلَى مَصْرِفٍ مُبَاحٍ مَوْجُودٍ.

وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ تَحْبِيسُ مَالِكٍ مُطْلَقِ التَّصَرُّفِ مَالَهُ الْمُنْتَفَعَ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ بِقَطْعِ تَصَرُّفِهِ وَغَيْرِهِ فِي رَقَبَتِهِ يُصْرَفُ رِيعُهُ إِلَى جِهَةِ بِرٍّ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

أ- التَّبَرُّعُ:

2- التَّبَرُّعُ لُغَةً مَأْخُوذٌ مِنْ بَرَعَ، يُقَالُ: بَرَعَ الرَّجُلُ بَرَاعَةً: فَاقَ أَصْحَابَهُ فِي الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ، وَتَبَرَّعَ بِالْأَمْرِ: فَعَلَهُ غَيْرَ طَالِبٍ عِوَضًا.

وَالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لِلتَّبَرُّعِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ التَّطَوُّعَ بِالشِّيْءِ غَيْرَ طَالِبٍ عِوَضًا، بِقَصْدِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ غَالِبًا.

وَعَلَى ذَلِكَ فَالتَّبَرُّعُ أَعَمُّ مِنَ الْوَقْفِ..

ب- الصَّدَقَةُ:

3- الصَّدَقَةُ فِي اللُّغَةِ: مَا يُعْطَى فِي ذَاتِ اللَّهِ، أَوْ مَا يُعْطَى عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَى وَجْهِ الْمَكْرُمَةِ، أَوْ مَا تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ.فِي الِاصْطَلَاحِ هِيَ تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ.

وَيَقُولُ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ: الصَّدَقَةُ مَا يُخْرِجُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ كَالزَّكَاةِ، لَكِنَّ الصَّدَقَةَ فِي الْأَصْلِ لِلْمُتَطَوَّعِ بِهِ، وَالزَّكَاةُ تُقَالُ لِلْوَاجِبِ.

وَالْغَالِبُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الصَّدَقَةِ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَالصَّدَقَةُ أَعَمُّ مِنَ الْوَقْفِ؛ إِذْ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْوَقْفِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- «أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ فِيمَا أَصَابَهُ مِنْ أَرْضٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا».

وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ الْوَقْفِ، فَفِي حَدِيثِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ».

ج- الْهِبَةُ:

4- الْهِبَةُ لُغَةً: الْعَطِيَّةُ بِلَا عِوَضٍ.

وَهُوَ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ أَيْضًا، يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْهَدِيَّةُ وَالْعَطِيَّةُ مَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَكُلُّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَاسْمُ الْعَطِيَّةِ شَامِلٌ لِجَمِيعِهِا.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْهِبَةِ أَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فَيهَا.

أَمَّا الْهِبَةُ فَهِيَ تَمْلِيكٌ لِلْعَيْنِ، فَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا بِمَا يَشَاءُ.

د- الْعَارِيَّةُ:

5- الْعَارِيَّةُ فِي اللُّغَةِ: الِاسْمُ مِنَ الْإِعَارَةِ، وَتُطْلَقُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُعَارِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ هِيَ الْعَيْنُ الْمَأْخُوذَةُ مِنْ مَالِكٍ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا بِلَا عِوَضٍ، أَوْ هِيَ إِبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِمَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْعَارِيَّةِ أَنَّ كِلَيْهِمَا إِبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ الْعَارِيَّةَ مَمْلُوكَةٌ لِصَاحِبِهَا فَتُرَدُّ إِلَيْهِ، أَمَّا الْوَقْفُ: فَالْعَيْنُ فِيهِ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى.

هـ- الْوَصِيَّةُ:

6- الْوَصِيَّةُ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذَةٌ مِنْ وَصَّيْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ أَصِيهِ وَصَلْتُهُ، وَوَصَّيْتُ إِلَى فُلَانٍ تَوْصِيَةً، وَأَوْصَيْتُ إِلَيْهِ إِيصَاءً.

وَالِاسْمُ: الْوِصَايَةُ، وَأَوْصَيْتُ إِلَيْهِ بِمَالٍ جَعَلْتُهُ لَهُ، وَأَوْصَيْتُهُ بِوَلَدِهِ اسْتَعْطَفْتُهُ عَلَيْهِ، وَأَوْصَيْتُهُ بِالصَّلَاةِ أَمَرْتُهُ بِهَا.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ عَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ: بِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: هِيَ تَبَرُّعٌ بِحَقٍّ مُضَافٍ وَلَوْ تَقْدِيرًا لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ أَنَّ كِلَيْهِمَا تَبَرُّعٌ، لَكِنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَدْ تَكُونُ بِالْعَيْنِ، وَقَدْ تَكُونُ بِالْمَنْفَعَةِ، أَمَّا الْوَقْفُ فَهُوَ تَبَرُّعٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَبِالْمَنْفَعَةِ فَقَطْ.

مَشْرُوعِيَّةُ الْوَقْفِ:

7- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَقْفِ وَلُزُومِهِ وَاعْتِبَارِهِ مِنَ الْقُرَبِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهَا وَذَلِكَ لِمَا رَوَى ابْنُ عَمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: «أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَأْمِرْهُ فِيهَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا.قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ، وَتَصَدَّقَ بَهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَفِي الْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالضَّيفِ، وَلَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ وَيَطْعَمَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ، وَفِي لَفْظٍ: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا».

وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ».

وَقَالَ جَابِرٌ- رضي الله عنه-: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَانَ لَهُ مَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إِلاَّ حَبَسَ مَالًا مِنْ صَدَقَةٍ مُؤَبَّدَةٍ لَا تُشْتَرَى أَبَدًا وَلَا تُوهَبُ وَلَا تُورثُ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ((فَإِنَّ الَّذِي قَدَرَ مِنْهُمْ عَلَى الْوَقْفِ وَقَفَ وَاشْتَهَرَ ذَلِكِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا.

وقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: الْأَحْبَاسُ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ عَمِلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ بَعْدِهِ.

وَنَقَلَ ابْنُ عَابدِينَ عَنِ الْإِسْعَافِ: أَنَّ الْوَقْفَ جَائِزٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُجِيزُ الْوَقْفَ فَأَخَذَ بَعْضُ النَّاسِ بِظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ وَقَالَ: لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عِنْدَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنَدَ الْكُلِّ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي اللُّزُومِ وَعَدَمِهِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ جَوَازَ الْإِعَارَةِ فَتُصْرَفُ مَنْفَعَتُهُ إِلَى جِهَةِ الْوَقْفِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْوَاقِفِ، وَلَوْ رَجَعَ عَنْهُ حَالَ حَيَاتِهِ جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَيُورَثُ عَنْهُ، وَلَا يَلْزَمُ إِلاَّ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْقَاضِي، أَوْ يُخْرِجَهُ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ.

وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ لَمْ يَرَ الْوَقْفَ وَقَالَ: لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ.

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ- صلى الله عليه وسلم- بِإِطْلَاقِ الْحَبْسِ.

وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ- صلى الله عليه وسلم- بِبَيْعِ الْحَبِيسِ، وَهَذَا مِنْهُ رِوَايَةٌ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَوْقُوفِ لِأَنَّ الْحَبِيسَ هُوَ الْمَوْقُوفُ- فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ- إِذِ الْوَقْفُ حَبْسٌ لُغَةً، فَكَانَ الْمَوْقُوفُ مَحْبُوسًا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الرَّقَبَةِ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

8- الْأَصْلُ فِي الْوَقْفِ أَنَّهُ مِنَ الْقُرَبِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهَا، وَقَدْ تَعْتَرِيهِ أَحْكَامٌ أُخْرَى فِي حَالَاتٍ مُعَيَّنَةٍ: فَقَدْ يَكُونُ الْوَقْفُ فَرْضًا وَهُوَ الْوَقْفُ الْمَنْذُورُ كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ قَدِمَ وَلَدِي فَعَلَيَّ أَنْ أَقِفَ هَذِهِ الدَّارَ عَلىَ ابْنِ السَّبِيلِ وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا إِذَا كَانَ بِلَا قَصْدِ الْقُرْبَةِ، وَلِذَا يَصِحُّ مِنَ الذِّمِّيِّ وَلَا ثَوَابَ لَهُ، وَيَكُونُ قُرْبَةً إِذَا كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِ.

وَقَدْ يَكُونُ الْوَقْفُ حَرَامًا كَمَا لَوْ وَقَفَ مُسْلِمٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ كَوَقْفِهِ عَلَى كَنِيسَةٍ.

وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمْالِكِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْوَقْفَ قَدْ يَكُونُ حَرَامًا وَذَلِكَ كَالْوَقْفِ عَلِى الْبَنِينَ دُونَ الْبَنَاتِ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ فِعْلَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ حِرْمَانِ الْبَنَاتِ مِنْ إِرْثِ أَبِيهِمْ، لَكِنْ رَجَّحَ بَعْضُهُمُ الْكَرَاهَةَ فَيَمْضِي الْوَقْفُ، وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَصَرَّحَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَلَى التَّنْزِيهِ.

أَرْكَانُ الْوَقْفِ:

أَرْكَانُ الْوَقْفِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- أَرْبَعَةٌ:

الصِّيغَةُ، وَالْوَاقِفُ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ، وَالْمَوْقُوفُ، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَالرُّكْنُ هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ.

وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ ذَلِكَ:

الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: الصِّيغَةُ:

9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَنْعَقِدُ إِلَا بِالْإِيجَابِ، وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ لِانْعِقَادِهِ.

أ- صِيغَةُ الْإِيجَابِ:

10- الإِيجَابُ فِي صِيغَةِ الْوَقْفِ هُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ الْوَاقِفِ مِنْ لَفْظٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ إِشَارَةٍ مُفْهِمَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ فِعْلٍ.

وَيَنْقَسِمُ اللَّفْظُ إِلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ، وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُعْتَبَرُ صَرِيحًا مِنَ الْأَلْفَاظِ وَمَا يُعَتَبَرُ كِنَايَةً.وَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لَفْظَ «وَقَفْتُ» مِنَ الْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَذَلِكَ لِاشْتِهَارِهِ لُغَةً وَعُرْفًا.

وَكَذَلِكَ لَفْظُ «حَبَسْتُ» مِنَ الصِّرِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَكَذَا «سَبَلْتُ» عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

فَمَتَى أَتَى الْوَاقِفُ بِلَفْظٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ: وَقَفْتُ كَذَا عَلَى كَذَا، أَوْ قَالَ: أَرْضِي مَوْقُوفَةٌ عَلَى كَذَا أَوْ حَبَسْتُ أَوْ سَبَلْتُ صَارَ وَقْفًا مِنْ غَيْرِ انْضِمَامِ أَمْرٍ زَائِدٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ ثَبَتَ لَهَا عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ بَيْنَ النَّاسِ وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ عُرْفُ الشَّرْعِ «بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعُمَرَ- رضي الله عنه-: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا».

وَمْقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ لَفْظَيْ: حَبَسْتُ وَسَبَلْتُ مِنَ الْكِنَايَاتِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَشْتَهِرَا اشْتِهَارَ الْوَقْفِ.وَكَذَلِكَ لَفْظُ «سَبَلْتُ» عِنْدَ الْحَارِثِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَالَ: تَصَدَّقْتُ بِكَذَا صَدَقَةٍ مُحَرَّمَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ مَوْقُوفَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ لَا تُبَاعُ أَوْ لَا تُوَهَبُ فَصَرِيحٌ فِي الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ فِي الْأُمِّ؛ لِأَنَّ لَفْظَ التَّصَدُّقِ مَعَ هَذِهِ الْقَرَائِنِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْوَقْفِ وَهَذَا صَرِيحٌ بِغَيْرِهِ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ أَنَّهُ كِنَايَةٌ لِاحْتِمَالِ التَّمْلِيكِ الْمَحْضِ.

أَمَّا أَلْفَاظُ الْكِنَايَةِ فَمِنْهَا لَفْظُ تَصَدَّقْتُ وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَتْ مُجَرَّدَةً فَقَالُوا: إِنَّ لَفْظَ تَصَدَّقْتُ فَقَطْ لَيْسَ بِصَرِيحٍ، وَإِنْ نَوَى الْوَقْفَ لِتَرَدُّدِ اللَّفْظِ بَيْنَ صَدَقَةِ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ وَالصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ إِلاَّ أَنْ يُضِيفَ إِلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ كَالْفُقَرَاءِ وَيَنْوِيَ الْوَقْفَ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَكُونُ صَرِيحًا حِينَئِذٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ فِي كُتُبِهِ وَالنَّوَوِيِّ فِي الرَّوْضَةِ عَدَمُ الصَّرَاحَةِ، وَإِنَّمَا إِضَافَتُهُ إِلَى الْجِهَةِ الْعَامَّةِ صَيَّرَتْهُ كِنَايَةً حَتَّى تُعْمَلَ فِيهِ النِّيَّةُ، وَهُوَ الصَّوَابُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ، لِأَنَّ الصَّرِيحَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ.

وَمِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ أَيْضًا: حَرَّمْتُ وَأَبَّدْتُ وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، قَالُوا: لِأَنَّ لَفْظَةَ الصَّدَقَةِ وَالتَّحْرِيمِ مُشْتَرَكَةٌ، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ تُسْتَعْمَلُ فِي الزَّكَاةِ وَالْهِبَاتِ، وَالتَّحْرِيمَ يُسْتَعْمَلُ فِي الظِّهَارِ وَالْأَيْمَانِ، وَيَكُونُ تَحْرِيمًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَالتَّأْبِيدُ يَحْتَمِلُ تَأْبِيدَ التَّحْرِيمِ وَتَأْبِيدَ الْوَقْفِ، وَلَمْ يَثْبُتْ لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ فَلَا يَحْصُلُ الْوَقْفُ بِمُجَرَّدِهَا فَإِنِ انْضَمَّ إِلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ حَصَلَ الْوَقْفُ بِهَا:

أَحَدُهَا: أَنْ يُضَمَّ عَلَيْهَا أَحَدُ أَلْفَاظٍ خَمْسَةٍ؛ وَهِيَ الصَّرَائِحُ الثَّلَاثُ وَالْكِنَايَاتِ فَيَقُولُ: تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً، أَوْ تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً مُحْبَسَةً، أَوْ تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً مُؤَبَّدَةً، أَوْ تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً مُسْبَلَةً، أَوْ تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً مُحَرَّمَةً.

الثَّانِي: أَنْ يَصِفَهَا بِصِفَاتِ الْوَقْفِ، فَيَقُولُ: صَدَقَةٌ لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ وَلَا تُورَثُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقَرِينَةَ تُزِيلُ الِاشْتِرَاكَ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَنْوِيَ الْوَقْفَ فَيَكُونُ عَلَى مَا نَوَى إِلاَّ أَنَّ النِّيَّةَ تَجْعَلُهُ وَقْفًا فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ لِعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا فِي الضَّمَائِرِ، فَإِنِ اعْتَرَفَ بِمَا نَوَاهُ لَزِمَ فِي الْحُكْمِ لِظُهُورِهِ، وَإِنْ قَالَ: مَا أَرَدْتُ الْوَقْفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا نَوَى.

وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ «حَرَّمْتُ، وَأَبَّدْتُ» مِنَ الْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ لِإِفَادَةِ الْغَرَضِ كَالتَّسْبِيلِ، وَلِأَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّأْبِيدَ فِي غَيْرِ الْأَبْضَاعِ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِالْوَقْفِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرُوا بَعْضَ الصِّيَغِ دُونَ بَيَانِ مَا هُوَ صَرِيحٌ وَمَا هُوَ كِنَايَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَضْمُونِهِ قَرِيبًا مِمَّا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ.

أَلْفَاظُ الْوَقْفِ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:

11- وَأَمَّا رُكْنُهُ فَالْأَلْفَاظُ الْخَاصَّةُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ هِيَ:

الْأَوَّلُ: أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ مُؤَبَّدَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ، الثَّانِي: صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ، فَهِلَالٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَغَيْرُهُمَا عَلَى صِحَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ صَدَقَةً عَرَّفَ مَصْرِفَهُ وَانْتَفَى بِقَوْلِهِ: «مَوْقُوُفَةٌ» احْتِمَالُ كَوْنِهِ نَذْرًا.

الثَّالِثُ: حَبْسُ صَدَقَةٍ، الرَّابِعُ: صَدَقَةٌ مُحَرَّمَةٌ وَهُمَا كَالثَّانِي، الْخَامِسُ: مَوْقُوفَةٌ فَقَطْ لَا يَصِحُّ إِلاَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَجْعَلُهَا بِمُجَرَّدِ هَذَا اللَّفْظِ مَوُقُوفَةً عَلَى الْفُقَرَاءِ وَإِذَا كَانَ مُفِيدًا لِخُصُوصِ الْمَصْرِفِ؛ أَعْنِي الْفُقَرَاءَ لَزِمَ كَوْنُهُ مُؤَبَّدًا لِأَنَّ جِهَةَ الْفُقَرَاءِ لَا تَنْقَطِعُ، قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَمَشَايِخُ بَلْخٍ يُفْتُونَ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَنَحْنُ نُفْتِي بِقَوْلِهِ أَيْضًا لِمَكَانِ الْعُرْفِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ رَدُّ هِلَالٍ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ بِأَنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَيَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ إِذَا كَانَ يَصْرِفُهُ إِلَى الْفُقَرَاءِ كَانَ كَالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِمْ، السَّادِسُ: مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ صَحَّ عِنْدَ هِلَالٍ أَيْضًا لِزَوَالِ الِاحْتِمَالِ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، السَّابِعُ: مَحْبُوسَةٌ، الثَّامِنُ: حَبْسٌ، وَهُمَا بَاطِلَانِ، وَلَوْ كَانَ فِي «حَبْسٌ» مِثْلُ هَذَا الْعُرْفِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَقَوْلِهِ: مَوْقُوفَةٌ، التَّاسِعُ: لَوْ قَالَ: هِيَ لِلسَّبِيلِ، إِنْ تَعَارَفُوهُ وَقْفًا مُؤَبَّدًا لِلْفُقَرَاءِ كَانَ كَذَلِكَ وَإِلَا سُئِلَ فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ الْوَقْفَ صَارَ وَقْفًا لِأَنَّهُ مْحْتَمِلٌ لَفْظَهُ، أَوْ قَالَ: أَرَدْتُ مَعْنَى صَدَقَةٍ فَهُوَ نَذْرٌ فَيَتَصَدَّقُ بِهَا أَوْ بِثَمَنِهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ كَانَتْ مِيرَاثًا، ذَكَرَهُ فِي النَّوَازِلِ، الْعَاشِرِ: جَعَلْتُهَا لِلْفُقَرَاءِ، إِنْ تَعَارَفُوهُ وَقْفًا عَمِلَ بِهِ وَإِلَا سُئِلَ، فَإِنْ أَرَادَ الْوَقْفَ فَهِيَ وَقْفٌ، أَوِ الصَّدَقَةَ فَهِيَ نَذْرٌ، وَهَذَا عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ لِأَنَّهُ أَدْنَى، فَإِثْبَاتُهُ بِهِ عِنْدَ الِاحْتِمَالِ أَوْلَى، الْحَادِيَ عَشَرَ: مُحَرَّمَةٌ، الثَّانِيَ عَشَرَ: وَقْفٌ، وَهُوَ صَحِيحٌ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ، الثَّالِثَ عَشَرَ: حَبْسٌ مَوْقُوفَةٌ، وَهُوَ كَالِاقْتِصَارِ عَلَى مَوْقُوفَةٍ، الرَّابِعَ عَشَرَ: جَعَلْتُ نُزُلَ كَرْمِي وَقْفًا، صَارَ وَقْفًا فِيهِ ثَمَرَةٌ أَوْ لَا، الْخَامِسَ عَشَرَ: جَعَلْتُ غَلَّتَهُ وَقْفًا كَذَلِكَ، السَّادِسَ عَشَرَ: مَوْقُوفَةٌ لِلَّهِ بِمَنْزِلَةِ صَدَقَةٍ مَوْقُوفَةٍ، الْكُلُّ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَجَزَمَ فِي الْبَزَّازِيَةِ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ بِقَوْلِهِ: وَقْفٌ أَوْ مَوْقُوفَةٌ، السَّابِعَ عَشَرَ: صَدَقَةٌ فَقَطْ كَانَتْ صَدَقَةً فَإِنْ لَمْ يَتَصَدَّقْ حَتَّى مَاتَ كَانَتْ مِيرَاثًا، كَذَا فِي الْخَصَّافِ.الثَّامِنَ عَشَرَ: هَذِهِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى وَجْهِ الْخَيْرِ أَوْ عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ تَكُونُ وَقْفًا عَلَى الْفُقَرَاءِ.التَّاسِعَ عَشَرَ: صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ فِي الْحَجِّ عَنِّي وَالْعُمْرَةِ عَنِّي يَصِحُّ الْوَقْفُ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ عَنِّي لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ.الْعِشْرُونَ: صَدَقَةٌ لَا تُبَاعُ تَكُونُ نَذْرًا بِالصَّدَقَةِ لَا وَقْفًا وَلَوْ زَادَ «وَلَا تُوهَبُ وَلَا تُورَثُ» صَارَتْ وَقْفًا عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَالثَّلَاثَةُ فِي الْإِسْعَافِ.الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: اشْتَرُوا مِنْ غَلَّةِ دَارِي هَذِهِ كُلَّ شَهْرٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ خُبْزًا وَفَرِّقُوهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، صَارَتِ الدَّارُ وَقَفًا.الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: هَذِهِ بَعْدَ وَفَاتِي صَدَقَةٌ يُتَصَدَّقُ بِعَيْنِهَا، أَوْ تُبَاعُ وَيُتَصَدَّقُ بِثَمَنِهَا، ذَكَرَهُمَا فِي الذَّخِيرَةِ، الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: أَوْصَى أَنْ يُوقَفَ ثُلُثُ مَالِهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَيَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ إِلاَّ أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ أَبَدًا كَذَا فِي التَّتَارْخَانِيَّةِ، الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: هَذَا الدُّكَّانُ مَوْقُوفَةٌ بَعْدَ مَوْتِي وَمُسْبَلٌ، وَلَمْ يُعَيِّنْ مَصْرِفًا لَا يَصِحُّ، الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: دَارِي هَذِهِ مُسْبَلَةٌ إِلَى الْمَسْجِدِ بَعْدَ مَوْتِي يَصِحُّ إِنْ خَرَجَتْ مِنَ الثُّلُثِ وَعَيَّنَ الْمَسْجِدَ وَإِلاَّ فَلَا.السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: سَبَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ فِي وَجْهِ إِمَامِ مَسْجِدِ كَذَا عَنْ جِهَةِ صَلَوَاتِي، وَصِيَامَاتِي تَصِيرُ وَقْفًا وَإِنْ لَمْ تَقَعْ عَنْهُمَا، وَالثَّلَاثَةُ فِي الْقُنْيَةِ، السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: جَعَلْتُ حُجْرَتِي لِدُهْنِ سِرَاجِ الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ صَارَتِ الْحُجْرَةُ وَقْفًا عَلَى الْمَسْجِدِ، كَمَا قَالَ: وَلَيْسَ لِلْمُتَوَلِّي أَنْ يَصْرِفَ إِلَى غَيْرِ الدُّهْنِ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ، الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: ذَكَرَ قَاضِيخَانُ مِنْ كِتَابِ الْوَصَايَا: رَجُلٌ قَالَ: ثُلُثُ مَالِي وَقْفٌ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ أَبُو نَصْرٍ: إِنْ كَانَ مَالُهُ نَقْدًا فَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: هَذِهِ الدَّرَاهِمُ وَقْفٌ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ ضِيَاعًا تَصِيرُ وَقَفًا عَلَى الْفُقَرَاءِ.

مَا يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ:

12- كَمَا يَصِحُّ الْوَقْفُ بِاللَّفْظِ فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ مَا يَأْتِي:

أ- الْإِشَارَةُ الْمُفْهَمَةُ مِنَ الْأَخْرَسِ.

ب- الْكِتَابَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الْأَخْرَسِ أَمْ مِنَ النَّاطِقِ كَالْكِتَابَةِ عَلَى أَبْوَابِ الْمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ وَالْكُتُبِ، لَكِنْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا وَجَدَ مَكْتُوبًا عَلَى كِتَابٍ: وَقْفٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ بِالْمَدْرَسَةِ الْفُلَانِيَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ مَشْهُورَةً بِالْكُتُبِ ثَبَتَتْ وَقْفِيَّتُهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَشْهُورَةً بِذَلِكَ لَمْ تَثْبُتْ وَقْفِيَّتُهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَصِحُّ الْوَقْفُ بِكِتَابَةِ النَّاطِقِ مَعَ نِيَّتِهِ.

ج- الْفِعْلُ: كَمَنْ يَبْنِي مَسْجِدًا أَوْ رِبَاطًا أَوْ مَدْرَسَةً وَيُخَلِّي بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ مَا أَعَدَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ وَقْفًا وَلَوْ لَمْ يَتَلَفَّظْ، وَكَمَنَ يَجْعَلُ أَرْضَهُ مَقْبَرَةً وَيَأْذَنُ لِلنَّاسِ إِذْنًا عَامًا بِالدَّفْنِ فِيهَا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَصِحُّ إِلاَّ بِاللَّفْظِ أَوِ الْإِشَارَةِ أَوِ الْكِتَابَةِ إِلاَّ أَنَّهُمُ اسْتَثْنُوا مِنِ اشْتِرَاطِ اللَّفْظِ مَا إِذَا بَنَى شَخْصٌ مَسْجِدًا فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ، وَنَوَى جَعْلَهُ مَسْجِدًا، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَسْجِدًا وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى لَفْظٍ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مَعَ النِّيَّةِ هُنَا مُغْنِيَانِ عَنِ الْقَوْلِ، وَوَجَّهَهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّ الْمَوَاتَ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ مَنْ أَحْيَاهُ مَسْجِدًا.

قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَقِيَاسُ ذَلِكَ إِجْزَاؤُهُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ أَيْضًا مِنَ الْمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ وَغَيْرِهَا.

أَمَّا مَنْ بَنَى مَسْجِدًا فِي مِلْكِهِ فَلَا يَصِيرُ وَقَفًا إِلاَّ بِالْقَوْلِ، قَالَ الشِّيرَازِيُّ فِي الْمُهَذَّبِ: لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ إِلاَّ بِالْقَوْلِ، فَإِنْ بَنَى مَسْجِدًا وَصَلَّى فِيهِ أَوْ أَذِنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ لَمْ يَصِرْ وَقْفًا؛ لِأَنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ مَعَ الْقُدْرَةِ كَالْعِتْقِ.

وَقَالَ الرَّمْلِيُّ: لَوْ قَالَ: أَذِنْتُ فِي الِاعْتِكَافِ فِيهِ صَارَ مَسْجِدًا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَصِحُّ إِلاَّ فِي مَسْجِدٍ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَصِحُّ إِلاَّ بِالْقَوْلِ وَحْدَهُ.

ب- الْقَبُولُ:

13- يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي:

إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ جِهَةً لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهَا الْقَبُولُ كَالْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ، أَوْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ جِهَةً غَيْرَ مَحْصُورَةٍ، كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَإِنَّ الْوَقْفَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ وَيَكْفِي الْإِيجَابُ فِي انْعِقَادِهِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي احْتِمَالٍ ذَكَرَهُ النَّاظِمُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يُشْتَرُطُ الْقَبُولُ فِي الْمَوْقُوفِ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَيَقْبَلُهُ نَائِبُ الْإِمَامِ.

وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا كَزَيْدٍ مَثَلًا فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِ قَبُولِهِ:

فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ قَبُولُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ مَثَلًا قَبِلَ عَنْهُ وَلِيُّهُ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ قَبُولُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمَنْفَعَةِ كَاسْتِحْقَاقِ الْعَتِيقِ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ بِالْإِعْتَاقِ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ إِزَالَةُ مِلْكٍ يَمْنَعُ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ وَالْمِيرَاثَ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْقَبُولُ.

وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ- عَلَى الْقَوْلِ بِاشْتِرَاطِ الْقَبُولِ مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ كَمَا فِي الْأَصَحِّ- أَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ عَلَى الْفَوْرِ عَقِبَ الْإِيجَابِ إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ أَوْ وَلِيُّهُ حَاضِرًا، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَلَا تُشْتَرَطُ الْفَوْرِيَّةُ فِي الْقَبُولِ عَقِبَ الْإِيجَابِ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ عَقِبَ بُلُوغِ الْخَبَرِ إِلَيْهِ وَإِنْ طَالَ الزَّمَنُ.قَالَ الشَّبْرَامَلْسِيُّ: وَلَوْ مَاتَ الْوَاقِفُ هَلْ يَكْفِي قَبُولُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ لَا يَكْفِي؟ فِيهِ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ صِحَّةِ الْقَبُولِ لِإِلْحَاقِهِمُ الْوَقْفَ بِالْعُقُودِ دُونَ الْوَصِيَّةِ.

وَقَالَ الْحَارِثِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يُشْتَرَطُ اتِّصَالُ الْقَبُولِ بِالْإِيجَابِ فَإِنْ تَرَاخَى عَنْهُ بَطَلَ كَمَا يَبْطُلُ فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، لَكِنْ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: إِذَا اشْتُرِطَ الْقَبُولُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ الْمَجْلِسَ، بَلْ يُلْحَقُ بِالْوَصِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ، فَيَصِحُّ مُعَجَّلًا وَمُؤَجَّلًا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَأَخْذُ رِيْعِهِ قَبُولٌ، وَتَصَرُّفُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ يَقُومُ مَقَامَ الْقَبُولِ بِالْقَوْلِ.

رَدُّ الْمَوْقُوفِ:

14- الرَّدُّ لَا يُتَصَوَّرُ إِلاَّ مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ، فَإِذَا رَدَّ وَلَمْ يَقْبَلْ مَا وُقِفَ عَلَيْهِ فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ كَانَ الْوَقْفُ لَشَخْصٍ بِعَيْنِهِ وَآخِرُهُ لِلْفُقَرَاءِ فَإِنْ قَبِلَهُ كَانَتِ الْغَلَّةُ لَهُ، وَإِنْ رَدَّهُ تَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ مَاتَ، وَمَنْ قَبِلَ مَا وُقِفَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ بَعْدَهُ، وَمَنْ رَدَّهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ لَيْسَ لَهُ الْقَبُولُ بَعْدَهُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ رَدَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنَ فَالْمَنْقُولُ فِي الْمَسْأَلَةِ كَمَا فِي ابْنِ شَاسٍ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَابْنِ عَرَفَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا لِلْإِمَامِ مَالِكٍ وَهُوَ الرَّاجِحُ: أَنَّهُ يَكُونُ وَقْفًا عَلَى غَيْرِ مَنْ رَدَّهُ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، وَهَذَا إِذَا جَعَلَهُ الْوَاقِفُ حَبْسًا مُطْلَقًا، أَمَّا إِنْ قَصَدَ الْوَاقِفُ الْمُعَيِّنُ بِخُصُوصِهِ فَرَدَّ، فَإِنَّهُ يَعُودُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِمُطَرِّفٍ: وَهُوَ أَنَّهُ يَرْجِعُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ أَوْ لِوَرَثَتِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ رَدَّ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنُ الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ بَطَلَ حَقُّهُ، سَوَاءً اشْتَرَطَ الْقَبُولَ مِنَ الْمُعَيِّنِ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ، وَلَوْ رَجَعَ بَعْدَ الرَّدِّ لَمْ يَعُدْ لَهُ، لَكِنْ قَالَ الرُّويَانِيُّ: إِنْ رَجَعَ قَبْلَ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِرَدِّهِ إِلَى غَيْرِهِ كَانَ لَهُ، وَإِنْ حَكَمَ بِهِ لِغَيْرِهِ بَطَلَ حَقُّهُ، وَهَذَا فِي الْبَطْنِ الْأَوَّلِ، أَمَّا الْبَطْنُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَنَقَلَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ قَبُولُهُ قَطْعًا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ لَا يَتَّصِلُ بِالْإِيجَابِ، وَنَقَلَا فِي ارْتِدَادِهِ بِرَدِّهِمْ وَجْهَيْنِ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ فِي الْوَقْفِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ أَمْ كَانَ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يَبْطُلُ الْوَقْفُ عَلَى الْمُعَيَّنِ بِرَدِّهِ، فَقَبُولُهُ وَرَدُّهُ سَوَاءٌ، وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: إِنَّهُ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ كَالْوَكِيلِ إِذَا رَدَّ الْوَكَالَةَ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَهَا الْقَبُولُ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِاشْتِرَاطِ الْقَبُولِ فَإِنْ رَدَّهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بَطَلَ فِي حَقِّهِ دُونَ مَنْ بَعْدَهُ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ قُلْنَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ فَرَدَّهُ مَنْ وُقِفَ عَلَيْهِ بَطَلَ فِي حَقِّهِ، وَصَارَ كَالْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ الِابْتِدَاءِ، يَخْرُجُ فِي صِحَّتِهِ فِي حَقِّ مَنْ سِوَاهُ وَبُطْلَانِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّتِهِ فَهَلْ يَنْتَقِلُ فِي الْحَالِ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ أَوْ يُصْرَفُ فِي الْحَالِ إِلَى مَصْرِفِ الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ الَّذِي رَدَّهُ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.

لُزُومُ الْوَقْفِ:

15- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي لُزُومِ الْوَقْفِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْوَقْفَ مَتَى صَدَرَ مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ مُسْتَكْمِلًا شَرَائِطَهُ أَصْبَحَ لَازِمًا، وَانْقَطَعَ حَقُّ الْوَاقِفِ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ بِأَيِّ تَصَرُّفٍ يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ مِنَ الْوَقْفِ، فَلَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-: «تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ، وَلَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ» (وَلِأَنَّ الْوَقْفَ تَبَرُّعٌ يَمْنَعُ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ وَالْمِيرَاثَ فَلَزِمَ بِمُجَرَّدِ صُدُورِ الصِّيغَةِ مِنَ الْوَاقِفِ كَالْعِتْقِ، وَيُفَارِقُ الْهِبَةَ فَإِنَّهَا تَمْلِيكٌ مُطْلَقٌ، وَالْوَقْفُ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ، فَهُوَ بِالْعِتْقِ أَشْبَهُ، فَإِلْحَاقُهُ بِهِ أَوْلَى..

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْوَقْفُ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ- كَمَا سَبَقَ- وَلِلْوَاقِفِ الرُّجُوعُ فِيهِ حَالَ حَيَاتِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَيُورِثُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْوَقْفُ عِنْدَهُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْقَاضِي، أَوْ يُخْرِجَهُ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ اللُّزُومُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْفَتْحِ: وَالْحَقُّ تَرْجِيحُ قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ بِلُزُومِهِ؛ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ مُتَضَافِرَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ عَمَلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَتَرَجَّحَ قَوْلُهُمَا.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَلْزَمُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ وَإِخْرَاجِ الْوَاقِفِ لَهُ عَنْ يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِمَالٍ لَمْ يُخْرِجْهُ عَنِ الْمَالِيَّةِ، فَلَمْ يَلْزَمْ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ.

قَبْضُ الْمَوْقُوفِ:

16- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ قَبْضِ الْمَوْقُوفِ لِتَمَامِ الْوَقْفِ وَلُزُومِهِ: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ لِتَمَامِ الْوَقْفِ وَلُزُومِهِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْرَاجٌ لَهُ عَنْ مِلْكِهِ إِلَى الْوَقْفِ فَأَشْبَهَ الْإِعْتَاقَ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ لَا يَتِمُّ الْوَقْفُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، كَالصَّدَقَةِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ التَّسْلِيمِ، وَيُعَبِّرُ الْمَالِكِيَّةُ عَنِ الْقَبْضِ بِالْحَوْزِ، قَالَ الْخَرَشِيُّ: إِذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى كَبِيرٍ وَلَمْ يَحُزْهُ قَبْلَ مَوْتِ الْوَاقِفِ، أَوْ قَبْلَ فَلَسِهِ، أَوْ قَبْلَ مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَإِنَّ الْحَبْسَ يَبْطُلُ، وَإِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ صَغِيرًا فَإِنَّ وَلِيَّهُ يَحُوزُ عَنْهُ، وَالْحَوْزُ- أَيِ الْقَبْضُ- إِمَّا أَنْ يَكُونَ حِسِّيًّا، وَذَلِكَ بِقَبْضِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لِلْمَوْقُوفِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حُكْمِيًّا، وَذَلِكَ بِتَخْلِيَةِ الْوَاقِفِ لِلْمَوْقُوفِ وَرَفْعِ يَدِهِ عَنْهُ، وَذَلِكَ فِي وَقْفِ مِثْلِ الْمَسْجِدِ وَالْقَنْطَرَةِ وَالْبِئْرِ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ.

وَإِنَّمَا يَبْطُلُ الْوَقْفُ قَبْلَ الْحَوْزِ إِذَا حَصَلَ الْمَانِعُ مِنْ مَوْتٍ أَوْ فَلَسٍ أَوْ مَرَضِ مَوْتٍ إِذَا لَمْ يُطَّلَعْ عَلَى الْوَقْفِ إِلاَّ بَعْدَ حُصُولِ الْمَانِعِ.وَلِذَلِكَ قَالَ الْعَدَوِيّ: لَوِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَرَضِ أَوِ الْفَلَسِ أَوِ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى التَّحْوِيزِ وَالتَّخْلِيَةِ، وَإِذَا أَرَادَ الرُّجُوعَ فِي الْوَقْفِيَّةِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ يَلْزَمُ بِالْقَوْلِ.

وَقَالَ الْخَرَشِيُّ: وَالْمُرَادُ بِالْبُطْلَانِ عَدَمُ التَّمَامِ لَا حَقِيقَتُهُ.

وَيُعَبِّرُ الْحَنَفِيَّةُ عَنِ الْقَبْضِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ بِالتَّسْلِيمِ، وَتَسْلِيمِ كُلِّ شَيْءٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ: فَفِي الْمَسْجِدِ بِالْإِفْرَازِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ، وَفِي الْمَقْبَرَةِ بِدَفْنٍ وَاحِدٍ فَصَاعِدًا، وَفِي السِّقَايَةِ بِشُرْبٍ وَاحِدٍ، وَفِي الْخَانِ بِنُزُولٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمَارَّةِ، لَكِنَّ السِّقَايَةَ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى صَبِّ الْمَاءِ فِيهَا، وَالْخَانَ الَّذِي يَنْزِلُهُ الْحُجَّاجُ بِمَكَّةَ وَالْغُزَاةُ بِالثَّغْرِ لَا بُدَّ فِيهِمَا مِنَ التَّسْلِيمِ إِلَى الْمُتَوَلِّي؛ لِأَنَّ نُزُولَهُمْ يَكُونُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً فَيُحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِ وَإِلَى مَنْ يَصُبُّ الْمَاءَ فِيهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


150-موسوعة الفقه الكويتية (وقف 2)

وَقْفٌ -2

الرُّجُوعُ فِي الْوَقْفِ:

17- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْوَقْفَ مَتَى أَصْبَحَ لَازِمًا فَلَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ، فَلَا يُبَاعُ وَلَا يُرْهَنُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ.وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ شَرَطَ حِينَ الْوَقْفِ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ فِيهِ، أَوْ شَرَطَ أَنْ لَهُ الْخِيَارَ، فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الشَّرْطُ وَلَا الْوَقْفُ، فَيَكُونُ الْوَقْفُ بَاطِلًا، وَفِي احْتِمَالٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ذَكَرَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَصِحُّ الْوَقْفُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: لَوْ وَقَفَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ أَوْ قَالَ: وَقَفْتُ بِشَرْطِ أَنِّي أَبِيعُهُ أَوْ أَرْجِعُ فِيهِ مَتَى شِئْتُ فَبَاطِلٌ، وَاحْتَجُّوا لَهُ بِأَنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَالْعِتْقِ، أَوْ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَة، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهَذَا شَرْطٌ مُفْسِدٌ، لَكِنْ فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ: أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَفْسُدُ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْعِتْقَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَلَبَةِ وَالسِّرَايَةِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ يَبِيعَ الْمَوْقُوفَ مَتَى شَاءَ أَوْ يَهَبَهُ أَوْ يَرْجِعَ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ وَلَا الْوَقْفُ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَفْسُدَ الشَّرْطُ وَيَصِحَّ الْوَقْفُ بِنَاءً عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ شَرَطَ الْخِيَارَ فِي الْوَقْفِ فَسَدَ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَلَمْ يَصِحَّ، وَلِأَنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ كَالْعَقْدِ.

وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ حِينَ الْوَقْفِ، فَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الْخِيَارِ مَعْلُومَةً كَأَنْ قَالَ: وَقَفْتُ دَارِي هَذِهِ عَلَى كَذَا عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَمَامُ الْقَبْضِ عِنْدَهُ فَيَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْوَقْفُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُ تَمَامُ الْقَبْضِ لِيَنْقَطِعَ حَقُّ الْوَاقِفِ، وَبِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ يَفُوتُ هَذَا الشَّرْطُ، وَاخْتَارَ هِلَالٌ قَوْلَ مُحَمَّدٍ.

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَقْفَ جَائِزٌ وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ، وَهُوَ قَوْلُ يُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ السَّمْتِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ كَالْإِعْتَاقِ فِي أَنَّهُ إِزَالَةُ الْمِلْكِ لَا إِلَى مَالِكٍ، وَلَوْ أَعْتَقَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ عَتَقَ وَبَطَلَ الشَّرْطُ، فَكَذَا يَجِبُ هَذَا.

وَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الْخِيَارِ مَجْهُولَةً، بِأَنْ وَقَفَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ دُونَ تَحْدِيدِ مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَالْوَقْفُ وَالشَّرْطُ بَاطِلَانِ بِالِاتِّفَاقِ، هَكَذَا ذَكَرَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ، لَكِنَّ الطَّرَابُلُسِيَّ ذَكَرَ فِي الْإِسْعَافِ أَنَّ يُوسُفَ بْنَ خَالِدٍ السَّمْتِيَّ قَالَ: الْوَقْفُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

وَلَوْ قَالَ الْوَاقِفُ حِينَ الْوَقْفِ: عَلَى أَنَّ لِي إِبْطَالَهُ أَوْ بَيْعَهُ أَوْ رَهْنَهُ، أَوْ عَلَى أَنَّ لِفُلَانٍ أَوْ لِوَرَثَتِي أَنْ يُبْطِلُوهُ أَوْ يَبِيعُوهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، كَانَ الْوَقْفُ بَاطِلًا عَلَى قَوْلِ الْخَصَّافِ وَهِلَالٍ، وَجَائِزًا عَلَى قَوْلِ يُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ السَّمْتِيِّ لِإِبْطَالِهِ الشَّرْطَ بِإِلْحَاقِهِ إِيَّاهُ بِالْعِتْقِ.

وَمَا مَرَّ مِنَ الْخِلَافِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ أَوِ الْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ حِينَ الْوَقْفِ، إِنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ وَقْفِ الْمَسْجِدِ، أَمَّا فِي وَقْفِ الْمَسْجِدِ لَوِ اشْتَرَطَ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ أَوِ اشْتَرَطَ إِبْطَالَهُ أَوْ بَيْعَهُ صَحَّ الْوَقْفُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ بِاتِّفَاقٍ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَالَ الدُّسُوقِيُّ: يَلْزَمُ الْوَقْفُ وَلَوْ لَمْ يَحُزْ، فَإِذَا أَرَادَ الْوَاقِفُ الرُّجُوعَ فِي الْوَقْفِ لَا يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَحُزْ عَنْهُ أُجْبِرَ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَلْزَمُ، وَلَوْ قَالَ الْوَاقِفُ: وَلِيَ الْخِيَارُ كَمَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَبَحَثَ فِيهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُوَفَّى لَهُ بِشَرْطِهِ، كَمَا قَالُوا: أَنَّهُ يُوَفَّى لَهُ بِشَرْطِهِ إِذَا شَرَطَ أَنَّهُ إِنْ تَسَوَّرَ عَلَيْهِ قَاضٍ رَجَعَ لَهُ، وَأَنَّ مَنِ احْتَاجَ مِنَ الْمُحْبَسِ عَلَيْهِمْ بَاعَ.

وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: إِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ لِنَفْسِهِ الرُّجُوعَ أَوِ الْبَيْعَ إِنِ احْتَاجَ لَهُ فَلَهُ ذَلِكَ.

شُرُوطُ الصِّيغَةِ:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: التَّنْجِيزُ:

18- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ التَّنْجِيزِ فِي الصِّيغَةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ، إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ الْوَقْفِ مُنْجَزَةً، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعَلَّقَةً عَلَى شَرْطٍ فِي الْحَيَاةِ غَيْرِ كَائِنٍ، فَإِذَا قَالَ الْوَاقِفُ: إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَقَدْ وَقَفْتُ كَذَا عَلَى كَذَا لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَقْتَضِي نَقْلَ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ لَمْ يُبْنَ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، لَكِنْ يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِكَائِنٍ مَوْجُودٍ فِي الْحَالِ، أَيْ بِأَمْرٍ مُتَحَقِّقِ الْوُجُودِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ قَالَ: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَرْضُ مِلْكِي فَهِيَ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ التَّكَلُّمِ صَحَّ الْوَقْفُ وَإِلاَّ فَلَا؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ الْكَائِنِ تَنْجِيزٌ.

لَكِنْ يُسْتَثْنَى عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْوَقْفُ الْمُعَلَّقُ عَلَى الْمَوْتِ، كَمَا إِذَا قَالَ: إِنْ مُتُّ فَأَرْضِي هَذِهِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَإِنَّ الْوَقْفَ يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مَشْرُوطٌ بِالْمَوْتِ، وَيُعْتَبَرُ وَصِيَّةً بِالْوَقْفِ، وَعِنْدَئِذٍ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ فِي اعْتِبَارِهِ مِنَ الثُّلُثِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ تَعْلِيقِ الْوَقْفِ بِالْمَوْتِ وَاعْتِبَارِهِ وَصِيَّةً أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- وَصَّى فَكَانَ فِي وَصِيَّتِهِ: هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثُ الْمَوْتِ أَنَّ ثَمْغًا صَدَقَةٌ (، وَوَقْفُهُ هَذَا كَانَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَاشْتُهِرَ فِي الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكَرْ، فَكَانَ إِجْمَاعًا.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ أَنَّ صِيغَةَ الْوَقْفِ تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ وَأَنَّ التَّنْجِيزَ لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْوَقْفِ، فَلَوْ قَالَ الْوَاقِفُ: إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَدَارِي هَذِهِ وَقْفٌ عَلَى كَذَا صَحَّ الْوَقْفُ وَيَلْزَمُ إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: التَّأْبِيدُ:

19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ تَأْبِيدِ الْوَقْفِ عَلَى رَأْيَيْنِ:

الرَّأْيُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّأْبِيدُ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ إِزَالَةُ الْمِلْكِ لَا إِلَى حَدٍّ فَلَا يُحْتَمَلُ التَّوْقِيتُ كَالْإِعْتَاقِ، وَجَعْلِ الدَّارِ مَسْجِدًا.إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ ذِكْرِ التَّأْبِيدِ لَفْظًا.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ- وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ- وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ ذِكْرَ التَّأَبِيدِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَيَصِحُّ الْوَقْفُ سَوَاءٌ ذُكِرَ التَّأْبِيدُ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى، كَأَنْ وَقَفَهُ عَلَى جِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَعَنِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمْ هَذَا الشَّرْطُ ذِكْرًا وَتَسْمِيَةً، وَلِأَنَّ قَصْدَ الْوَاقِفِ أَنْ يَكُونَ آخِرُهُ لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ، فَكَانَ تَسْمِيَةُ هَذَا الشَّرْطِ ثَابِتًا دَلَالَةً، وَالثَّابِتُ دَلَالَةً كَالثَّابِتِ نَصًّا.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ أَنْ يُنَصَّ عَلَى التَّأْبِيدِ.

ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ وَقْفٍ وَقَّتَهُ الْوَاقِفُ بِشَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ مَثَلًا وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الْوَقْفَ يَنْعَقِدُ مُؤَبَّدًا وَيَلْغُو التَّوْقِيتُ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَصِحُّ.

الرَّأْيُ الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّأْبِيدُ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ، فَيَصِحُّ الْوَقْفُ مُدَّةً مُعَيَّنَةً.

الرُّكْنُ الثَّانِي: الْوَاقِف:

مَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَاقِفِ:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: كَوْنُ الْوَاقِفِ أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ:

20- الْوَقْفُ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ، وَلِذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي الْوَاقِفِ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ.

وَتَتَحَقَّقُ أَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ بِمَا يَأْتِي:

أ- أَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ مُكَلَّفًا، أَيْ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا بَالِغًا فَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ مِنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تُزِيلُ الْمِلْكَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ.

ب- أَنْ يَكُونَ حُرًّا، فَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ مِنَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ إِزَالَةُ مِلْكٍ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ.

ج- أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا، فَلَا يَصِحُّ وَقْفُ الْمُكْرَهِ.

د- أَلاَّ يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ تَبَرُّعٌ، وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَتْحِ: أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ إِذَا وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَى جِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ يَنْبَغِي أَنْ

يَصِحَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَعِنْدَ الْكُلِّ إِذَا حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَظْهَرِ عَلَى أَنَّ وَقْفَ الْمُفْلِسِ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ صَحِيحٌ إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ فَاضِلًا عَنِ الدَّيْنِ.

أَمَّا وَقْفُ الْمَدِينِ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ وَقْفِهِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ إِلَى أَنَّ الْمَدِينَ الَّذِي لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ يَصِحُّ وَقْفُهُ وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِمَالِهِ إِذَا كَانَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ قَصَدَ بِهِ الْمُمَاطَلَةَ لِأَنَّهُ صَادَفَ مِلْكَهُ كَمَا فِي أَنْفَعِ الْوَسَائِلِ عَنِ الذَّخِيرَةِ، قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَهُوَ لَازِمٌ لَا يَنْقُضُهُ أَرْبَابُ الدُّيُونِ إِذَا كَانَ قَبْلَ الْحَجْرِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُمْ بِالْعَيْنِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ، وَبِهِ أَفْتَى فِي الْخَيْرِيَّةِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ أَفْتَى بِهِ ابْنُ نُجَيْمٍ.

وَفِيَ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: الْمَدِينُ الَّذِي لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ لَوْ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ، وَشَرَطَ وَفَاءَ دَيْنِهِ مِنْ غَلَّتِهِ صَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ يُوَفَّى مِنَ الْفَاضِلِ عَنْ كِفَايَتِهِ بِلَا سَرَفٍ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: أَيْ إِذَا فَضَلَ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ شَيْءٌ عَنْ قُوتِهِ فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْغَلَّةَ بَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى غَيْرِهِ فَغَلَّتُهُ لِمَنْ جَعَلَ لَهُ خَاصَّةً.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ وَقْفِ الْمَدِينِ، فَقَدْ نَقَلَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ عَنْ مَعْرُوضَاتِ الْمُفْتِي أَبِي السُّعُودِ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ وَهَرَبَ مِنَ الدُّيُونِ هَلْ يَصِحُّ؟ فَأَجَابَ: لَا يَصِحُّ وَلَا يَلْزَمُ، وَالْقُضَاةُ مَمْنُوعُونَ مِنَ الْحُكْمِ وَتَسْجِيلِ الْوَقْفِ بِمِقْدَارِ مَا شُغِلَ بِالدَّيْنِ.

وَيُفَرِّقُ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ بَعْدَ الدَّيْنِ أَوْ قَبْلَهُ، وَبَيْنَ حَوْزِ الْمَوْقُوفِ وَعَدَمِهِ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ سَابِقًا عَلَى الْوَقْفِ فَإِنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ بَاطِلًا، وَيُبَاعُ لِلدَّيْنِ تَقْدِيمًا لِلْوَاجِبِ عَلَى التَّبَرُّعِ.

وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ سَابِقًا عَلَى الدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ قَدْ حَازَ الْمَوْقُوفَ قَبْلَ حُصُولِ الدَّيْنِ كَانَ الْوَقْفُ صَحِيحًا وَتَعَلَّقَ الدَّيْنُ بِذِمَّةِ الْوَاقِفِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ لَمْ يَحُزِ الْوَقْفَ حَتَّى حَصَلَ الدَّيْنُ فَلِلْغَرِيمِ إِبْطَالُ الْوَقْفِ، أَيْ عَدَمُ إِتْمَامِهِ وَأَخْذِهِ فِي دَيْنِهِ، وَلَهُ إِمْضَاؤُهُ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ.

وَإِنْ جَهِلَ سَبْقَ أَحَدِهِمَا، أَيْ جَهِلَ سَبْقَ الْوَقْفِ عَلَى الدَّيْنِ أَوْ سَبْقَ الدَّيْنِ عَلَى الْوَقْفِ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ قَدْ خَرَجَ مِنْ تَحْتِ يَدِ الْوَاقِفِ وَحَازَهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ كَانَ الْوَقْفُ بَاطِلًا يُبَاعُ لِلدَّيْنِ، وَإِنْ وَقَفَ شَخْصٌ عَلَى مَحْجُورِهِ وَحَصَلَ الدَّيْنُ بَعْدَ الْوَقْفِ وَحَازَهُ الْأَبُ لِمَحْجُورِهِ قَبْلَ حُصُولِ الدَّيْنِ- أَيِ اسْتَمَرَّ الْمَوْقُوفُ تَحْتَ يَدِ الْوَاقِفِ- فَإِنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ صَحِيحًا، لَكِنْ بِشُرُوطٍ أَرْبَعَةٍ: وَهِيَ أَنْ يُشْهِدَ الْوَاقِفُ عَلَى الْوَقْفِ، وَأَنْ يَصْرِفَ الْغَلَّةَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ الْمَوْقُوفُ دَارًا يَسْكُنُهَا الْوَاقِفُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مَا وَقَفَهُ الْوَاقِفُ عَلَى مَحْجُورِهِ مُشَاعًا وَلَمْ يُعَيَّنْ لَهُ حِصَّةٌ فِيهِ.فَإِنْ لَمْ تَتَحَقَّقْ هَذِهِ الشُّرُوطُ أَوْ أَحَدُهَا كَانَ الْوَقْفُ بَاطِلًا.

أَمَّا إِنْ وَقَفَ عَلَى مَحْجُورِهِ وَجَهِلَ سَبْقَ الدَّيْنِ عَلَى الْوَقْفِ أَوْ سَبْقَ الْوَقْفِ عَلَى الدَّيْنِ وَتَحَقَّقَتِ الشُّرُوطُ مِنَ الْإِشْهَادِ وَصَرْفِ الْغَلَّةِ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَكَوْنِ الْمَوْقُوفِ غَيْرَ دَارِ سُكْنَاهُ، فَإِنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ بَاطِلًا إِذَا حَازَ الْأَبُ لِمَحْجُورِهِ، وَيُبَاعُ لِلدَّيْنِ تَقْدِيمًا لِلْوَاجِبِ عَلَى التَّبَرُّعِ لِضَعْفِ الْحَوْزِ، أَمَّا لَوْ حَازَهُ لِلْمَحْجُورِ عَلَيْهِ أَجْنَبِيٌّ بِإِذْنِ الْأَبِ فِي صِحَّتِهِ فَإِنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ صَحِيحًا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَصِحُّ وَقْفُ الْمَدِينِ الَّذِي لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: مَا فَعَلَهُ الْمُفْلِسُ قَبْلَ حَجْرِ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ نَافِذٌ؛ لِأَنَّهُ رَشِيدٌ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ فَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ كَغَيْرِهِ.

وَقَالَ الْبَهُوتِيُّ: تَصَرُّفُ الْمُفْلِسِ فِي مَالِهِ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ صَحِيحٌ نَصًّا لَوِ اسْتَغْرَقَ دَيْنُهُ جَمِيعَ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ رَشِيدٌ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْمَنْعِ الْحَجْرُ فَلَا يَتَقَدَّمُ سَبَبُهُ، وَيَحْرُمُ إِنْ أَضَرَّ بِغَرِيمِهِ، ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ الْبَغْدَادِيُّ.

وَقْفُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ:

21- الْوَقْفُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ يَخْرُجُ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ فِي حَقِّ نُفُوذِهِ مِنَ الثُّلُثِ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى غَيْرِ وَارِثٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَارِثٍ.فَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ وَارِثٍ كَأَنْ يَقِفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَإِنْ كَانَ مَا وَقَفَهُ لَا يَزِيدُ عَلَى ثُلُثِ التَّرِكَةِ صَارَ الْوَقْفُ لَازِمًا، وَيُعْتَبَرُ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ فِي اعْتِبَارِهِ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَإِذَا خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ جَازَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْوَرَثَةِ، وَإِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْوَاقِفِ تَوَقَّفَ لُزُومُهُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازُوهُ نَفَذَ الْوَقْفُ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ الْوَرَثَةُ نَفَذَ فِي الثُّلُثِ فَقَطْ، وَبَطَلَ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَ بِالْمَالِ بِوُجُودِ الْمَرَضِ فَمَنَعَ التَّبَرُّعَ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْوَرَثَةِ: فَإِنْ كَانَ عَلَى بَعْضِهِمْ وَكَانَ الْمَوْقُوفُ ثُلُثَ التَّرِكَةِ فَأَقَلَّ صَحَّ الْوَقْفُ، سَوَاءٌ أَجَازَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ أَوْ لَمْ يُجِيزُوا، وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ تَوَقَّفَ الزَّائِدُ عَنِ الثُّلُثِ عَلَى إِجَازَةِ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ، وَجَازَ وَقْفُ جَمِيعِ التَّرِكَةِ عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ، وَمَنْ رَدَّ مِنْهُمُ اعْتُبِرَ وَارِثًا بِمِقْدَارِ نَصِيبِهِ فَرْضًا، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (، وَلَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ فِي قِسْمَةِ الْغَلَّةِ، بَيَانُهُ كَالْآتِي: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: امْرَأَةٌ وَقَفَتْ مَنْزِلًا فِي مَرَضِهَا عَلَى بَنَاتِهَا، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِنَّ عَلَى أَوْلَادِهِنَّ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِنَّ أَبَدًا مَا تَنَاسَلُوا، فَإِذَا انْقَرَضُوا فَلِلْفُقَرَاءِ، ثُمَّ مَاتَتْ مِنْ مَرَضِهَا وَخَلَّفَتْ بِنْتَيْنِ وَأُخْتًا لِأَبٍ، وَالْأُخْتُ لَا تَرْضَى بِمَا صَنَعَتْ وَلَا مَالَ لَهَا سِوَى الْمَنْزِلِ جَازَ الْوَقْفُ فِي الثُّلُثِ وَلَمْ يَجُزْ فِي الثُّلُثَيْنِ، فَيُقَسَّمُ الثُّلُثَانِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى قَدْرِ سِهَامِهِمْ، وَيَكُونُ الثُّلُثُ وَقْفًا، وَمَا خَرَجَ مِنْ غَلَّتِهِ يُقَسَّمُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ كُلِّهِمْ عَلَى قَدْرِ سِهَامِهِمْ مُدَّةَ حَيَاةِ الْبِنْتَيْنِ، فَإِذَا مَاتَتَا صُرِفَتِ الْغَلَّةُ إِلَى أَوْلَادِهِمَا وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِمَا كَمَا شَرَطَتِ الْوَاقِفَةُ، لَا حَقَّ لِلْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا وَقَفَ عَلَى بَعْضِ وَرَثَتِهِ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى أَوْلَادِهِمْ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَإِنْ أَجَازَ الْوَارِثُ الْآخَرُ كَانَ الْكُلُّ وَقْفًا وَاتَّبَعَ الشَّرْطَ وَإِلاَّ (أَيْ وَإِنْ لَمْ يُجِزِ الْوَارِثُ الْآخَرُ) كَانَ الثُّلُثَانِ مِلْكًا بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالثُّلُثُ وَقْفًا، مَعَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْبَعْضِ لَا تَنْفُذُ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَحَّضْ لِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَهُ لِغَيْرِهِ، فَاعْتُبِرَ الْغَيْرُ بِالنَّظَرِ إِلَى الثُّلُثِ، وَاعْتُبِرَ الْوَارِثُ بِالنَّظَرِ إِلَى غَلَّةِ الثُّلُثِ الَّذِي صَارَ وَقْفًا، فَلَا يُتْبَعُ الشَّرْطُ مَا دَامَ الْوَارِثُ حَيًّا، وَإِنَّمَا تُقْسَمُ غَلَّةُ هَذَا الثُّلُثِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا انْقَرَضَ الْوَارِثُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ اعْتُبِرَ شَرْطُهُ فِي غَلَّةِ الثُّلُثِ.

وَلَوْ وَقَفَ رَجُلٌ فِي مَرَضِهِ دَارًا لَهُ عَلَى ثَلَاثِ بَنَاتٍ لَهُ وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُنَّ فَالثُّلُثُ مِنَ الدَّارِ وَقْفٌ، وَالثُّلُثَانِ مُطْلَقٌ يَصْنَعْنَ بِهِمَا مَا شِئْنَ، قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: هَذَا إِذَا لَمْ يُجِزْنَ، أَمَّا إِذَا أَجَزْنَ صَارَ الْكُلُّ وَقْفًا عَلَيْهِمْ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ وَقَفَ دَارًا لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا عَلَى ابْنِهِ وَبِنْتِهِ بِالسَّوِيَّةِ فَرَدَّا، فَثُلُثُهَا وَقْفٌ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ وَلَا يُحْتَاجُ لِإِجَازَةٍ، وَثُلُثَاهَا مِيرَاثٌ، وَإِنْ رَدَّ الِابْنُ وَحْدَهُ فَلَهُ ثُلُثَا الثُّلُثَيْنِ إِرْثًا، وَلِلْبِنْتِ ثُلُثُهُمَا وَقْفًا، وَإِنْ رَدَّتِ الْبِنْتُ وَحْدَهَا فَلَهَا ثُلُثُ الثُّلُثَيْنِ إِرْثًا وَلِلِابْنِ نِصْفُهُمَا وَقْفًا وَسُدُسُهُمَا إِرْثًا لِرَدِّ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ.

وَلَوْ وَصَّى بِوَقْفِ ثُلُثِهِ عَلَى بَعْضِ الْوَرَثَةِ صَحَّ مُطْلَقًا سَوَاءً أَجَازَ ذَلِكَ بَاقِي الْوَرَثَةِ أَوْ رَدُّوهُ فِي الصِّحَّةِ أَوْ فِي الْمَرَضِ نَصًّا؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُمْلَكُ مِلْكًا تَامًّا لِتَعَلُّقِ حَقِّ مَنْ يَأْتِي مِنَ الْبُطُونِ بِهِ، وَكَذَا لَوْ وَقَفَ زَائِدًا عَلَى الثُّلُثِ فَإِنَّهُ يُنَفَّذُ إِنْ أَجَازَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا لَمْ يُنَفَّذِ الزَّائِدُ عَلَى الثُّلُثِ وَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ بِزَائِدٍ عَلَى الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ رَدَّهُ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِهِ، فَكَذَا إِذَا كَانَ عَلَى نَفْسِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى وَارِثِهِ بِمَرَضِ مَوْتِهِ بَطَلَ وَلَوْ حَمَّلَهُ الثُّلُثَ وَلَوْ حَازَهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَالْوَصِيَّةِ وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، إِلاَّ أَنْ يُجِيزَهُ لَهُ بِقِيَّةُ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازُوهُ لَمْ يَبْطُلْ؛ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ وَقْفٍ مِنْهُمْ وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ أَصْلِهِمْ فِي عَدَمِ جَوَازِ الْوَقْفِ عَلَى الْوَارِثِ مَسْأَلَةً تُعْرَفُ بِمَسْأَلَةِ وَلَدِ الْأَعْيَانِ، وَهُوَ أَنْ يَقِفَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَلَى أَوْلَادِهِ لِصُلْبِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ وَعَقِبِهِمْ، فَإِنَّ هَذَا الْوَقْفَ يَصِحُّ، وَلَكِنْ مَا يَخُصُّ الْوَارِثَ يُعْتَبَرُ كَالْمِيرَاثِ فِي الْقِسْمَةِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لَا مِيرَاثٌ حَقِيقِيٌّ، فَلَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمِلْكِ مِنْ بَيْعٍ وَهِبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِأَيْدِيهِمْ وَقْفٌ لَا مِلْكٌ، فَلَوْ كَانَ لَهُ فِي هَذَا الْمِثَالِ ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ لِصُلْبِهِ وَأَرْبَعَةُ أَوْلَادِ أَوْلَادٍ، وَتَرَكَ مَعَ ذَلِكَ أُمًّا وَزَوْجَةً وَلَمْ يَذْكُرْهُمْ فِي الْوَقْفِ، فَيُقْسَمُ الْوَقْفُ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى أَوْلَادِهِ الثَّلَاثَةِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ الْأَرْبَعَةِ، يَخُصُّ أَوْلَادَهُ الثَّلَاثَةَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَيُشَارِكُهُمْ فِيهَا الْأُمُّ وَالزَّوْجَةُ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ يَرِثُ، فَيَكُونُ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ، وَهَذَا مِنْ نَصِيبِ أَوْلَادِهِ الثَّلَاثَةِ، وَيَكُونُ الْبَاقِي لَهُمْ، ثُمَّ يَكُونُ لِأَوْلَادِ الْأَوْلَادِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ حَسَبَ شَرْطِ الْوَاقِفِ مِنْ تُفَاضِلٍ وَتَسْوِيَةٍ، وَمَا خَصَّ أَوْلَادَهُ الثَّلَاثَةَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ كَالْمِيرَاثِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ خِلَافَ ذَلِكَ، وَيَدْخُلُ مَعَهُمْ فِي نَصِيبِهِمْ مَنْ لَهُ سَهْمٌ مِنَ الْوَرَثَةِ، وَلِكَوْنِهِ وَقْفًا مُعَقَّبًا لَمْ يَبْطُلْ مَا نَابَ الْأَوْلَادُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ غَيْرِهِمْ بِهِ، وَلِكَوْنِهِمْ لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَضِ شَارَكَهُمْ غَيْرُهُمْ مِنَ الْوَرَثَةِ.

وَلَوْ وَقَفَ عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ وَعَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ وَعَقِبِهِمْ، فَإِنَّ الْوَقْفَ يُقْسَمُ عَلَى رُءُوسِ الْجَمِيعِ ابْتِدَاءً، ثُمَّ يُقْسَمُ مَا نَابَ الْوَرَثَةَ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا نَابَ أَوْلَادَ الْأَوْلَادِ يُقْسَمُ عَلَى حَسَبِ شَرْطِ الْوَاقِفِ.

وَلَوْ لَمْ يَذْكُرِ الْوَاقِفُ عَقِبًا كَأَنْ قَالَ: وَقْفٌ عَلَى أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي بَطَلَ الْوَقْفُ عَلَى الْأَوْلَادِ وَصَحَّ عَلَى أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ، فَالتَّعْقِيبُ شَرْطٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَتُقْسَمُ ذَاتُ الْوَقْفِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَأَوْلَادِ الْأَوْلَادِ، فَمَا نَابَ الْأَوْلَادَ تَكُونُ ذَاتُهُ إِرْثًا، وَمَا نَابَ أَوْلَادَ الْأَوْلَادِ يَكُونُ وَقْفًا.

وَقْفُ الْمَرِيضِ الْمَدِينِ:

22- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ الْمَدِينُ بِدَيْنٍ مُحِيطٍ بِمَالِهِ نُقِضَ الْوَقْفُ وَبِيعَ فِي دَيْنِهِ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَوَاكِهِ الْبَدْرِيَّةِ أَنَّ الدَّيْنَ الْمُحِيطَ بِالتَّرِكَةِ مَانِعٌ مِنْ نُفُوذِ الْوَقْفِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ إِلاَّ بِإِجَازَةِ الدَّائِنِينَ، أَمَّا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ مُحِيطٍ بِمَالِهِ فَإِنَّ الْوَقْفَ يَجُوزُ فِي ثُلُثِ مَا بَقِيَ بَعْدَ وَفَاءِ الدَّيْنِ لَوْ كَانَ وَرَثَةٌ وَلَمْ يُجِيزُوا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَرَثَةٌ أَوْ كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ وَأَجَازُوا جَازَ الْوَقْفُ فِي كُلِّ مَا بَقِيَ بَعْدَ وَفَاءِ الدَّيْنِ..

وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: مَنْ وَقَفَ وَقْفًا مُسْتَقِلًّا ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يُمْكِنْ وَفَاءُ الدَّيْنِ إِلاَّ بِبَيْعِ شَيْءٍ مِنَ الْوَقْفِ وَهُوَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ بِيعَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَقْفُ الذِّمِّيِّ:

23- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ مُسْلِمًا، فَإِنَّ الْوَقْفَ يَصِحُّ مِنَ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَيْسَ مَوْضُوعًا لِلتَّعَبُّدِ بِهِ بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ أَصْلًا، بَلِ التَّقَرُّبُ بِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى نِيَّةِ الْقُرْبَةِ، فَهُوَ بِدُونِهَا مُبَاحٌ حَتَّى يَصِحَّ مِنَ الْكَافِرِ كَالْعِتْقِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ. (إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَصِحُّ وَقْفُهُ وَمَا لَا يَصِحُّ وَقْفُهُ مِنَ الذِّمِّيِّ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ الْمَوْقُوفِ..

وَقْفُ الْمُرْتَدِّ:

24- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا وَقَفَ الْمُرْتَدُّ حَالَ رِدَّتِهِ..فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَوْ وَقَفَ حَالَ رِدَّتِهِ فَإِنَّ وَقْفَهُ يَكُونُ مَوْقُوفًا، فَإِنْ عَادَ وَأَسْلَمَ كَانَ وَقْفُهُ صَحِيحًا، وَإِلاَّ- بِأَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ- كَانَ وَقْفُهُ بَاطِلًا، وَهَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْحَنَابِلَةِ عَدَا أَبِي بَكْرٍ؛ حَيْثُ قَالُوا: لَا يُحْكَمُ بِزَوَالِ مِلْكِ الْمُرْتَدِّ لِمُجَرَّدِ رِدَّتِهِ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: يَجُوزُ مِنَ الْمُرْتَدِّ مَا يَجُوزُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ انْتَقَلَ إِلَى دِينِهِمْ.وَيَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَقْفُ الْمُرْتَدَّةِ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَقْفُ الْمُرْتَدِّ بَاطِلٌ.أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَقْفُ قَدْ صَدَرَ مِنَ الْمُسْلِمِ ثُمَّ ارْتَدَّ فَإِنَّ وَقْفَهُ يَكُونُ بَاطِلًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ حَتَّى وَلَوْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَاسْتَظْهَرَ الشَّيْخُ عِلِيشٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ وَقْفَهُ صَحِيحٌ وَلَا يَبْطُلُ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: كَوْنُ الْوَاقِفِ مَالِكًا لِلْمَوْقُوفِ:

يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ مَالِكًا لِلْمَوْقُوفِ وَقْتَ الْوُقُوفِ مِلْكًا بَاتًّا وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ بَيَانُ الْحُكْمِ فِي وَقْفِ الْفُضُولِيِّ وَوَقْفِ الْحَاكِمِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا: وَقْفُ الْفُضُولِيِّ:

25- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ وَقْفِ الْفُضُولِيِّ: فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي الْقَدِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّ وَقْفَ الْفُضُولِيِّ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، فَإِنْ أَجَازَهُ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ إِذَا أَجَازَ فِعْلَ الْفُضُولِيِّ كَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ فِي الْحَقِيقَةِ صَادِرًا مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ الْمَالِكُ لَمْ يَجُزْ..

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ وَالْمَالِكِيَّةِ- فِي الْمَشْهُورِ- وَفِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقْفُ الْفُضُولِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ وَلَوْ أَجَازَهُ الْمَالِكُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا وَلِيٍّ وَلَا وَكِيلٍ.وَعَلَّلَ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الْحُكْمَ بِخُرُوجِ الْمَوْقُوفِ بِغَيْرِ عِوَضٍ بِخِلَافِ الْمَبِيعِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِعِوَضٍ. (ر: فُضُولِيُّ ف11)..

ثَانِيًا: وَقْفُ الْحَاكِمِ:

26- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقِفَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الْخَيْرَاتِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ أَنَّ لِلْفُقَهَاءِ بَعْضَ الْقُيُودِ وَالتَّفْصِيلِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ وَحَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: وَلَوْ وَقَفَ السُّلْطَانُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِمَصْلَحَةٍ عَمَّتْ كَالْوَقْفِ عَلَى الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ وَأَوْلَادِهِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ حَتَّى وَإِنْ جَعَلَ آخِرَهُ لِلْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ هُوَ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا أَبَّدَهُ عَلَى مَصْرِفِهِ الشَّرْعِيِّ يُثَابُ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ أُمَرَاءَ الْجَوْرِ الَّذِينَ يَصْرِفُونَهُ فِي غَيْرِ مَصْرِفِهِ الشَّرْعِيِّ، فَيَكُونُ قَدْ مَنَعَ مَنْ يَجِيءُ مِنْهُمْ وَيَتَصَرَّفُ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَا يَقِفُهُ السَّلَاطِينُ عَلَى الْخَيْرَاتِ مَعَ عَدَمِ مِلْكِهِمْ لِمَا حَبَسُوهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ السُّلْطَانَ وَكِيلٌ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ كَوَكِيلِ الْوَاقِفِ، فَوَقْفُهُ صَحِيحٌ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ سَمَاعِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، لَكِنْ تَأَوَّلَهُ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ عَلَى مَا إِذَا حَبَسَ الْمُلُوكُ مُعْتَقِدِينَ فِيهِ أَنَّهُمْ وُكَلَاءُ الْمُلاَّكِ، فَإِنْ حَبَسُوهُ مُعْتَقِدِينَ أَنَّهُ مِلْكُهُمْ بَطَلَ تَحْبِيسُهُمْ، وَبِذَلِكَ أَفْتَى الْعَبْدُوسِيُّ وَنَقَلَهُ ابْنُ غَازِيٍّ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِصِحَّةِ وَقْفِ الْإِمَامِ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَأَفْتَى بِهِ أَيْضًا أَبُو سَعِيدِ بْنُ عَصْرُونَ لِلسُّلْطَانِ نُورِ الدِّينِ الشَّهِيدِ مُتَمَسِّكًا بِوَقْفِ عُمَرَ- رضي الله عنه- سَوَادَ الْعِرَاقِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْوَقْفُ عَلَى مُعَيَّنٍ أَوْ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: لَوْ رَأَى الْإِمَامُ وَقْفَ أَرْضِ الْغَنِيمَةِ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ- رضي الله عنه- جَازَ إِذَا اسْتَطَابَ قُلُوبَ الْغَانِمِينَ فِي النُّزُولِ عَنْهَا بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِهِ.

وَتَوَقَّفَ السُّبْكِيُّ فِي وَقْفِ الْإِمَامِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ أَمْ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ.

وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ الْأَرْضَ الْمَغْنُومَةَ وَأَنْ يَقِفَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، قَالَ الْبَهُوتِيُّ: الْأَوْقَافُ الَّتِي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَكَأَوْقَافِ السَّلَاطِينِ فَيَجُوزُ لِمَنْ لَهُ الْأَخْذُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ التَّنَاوُلُ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرِ الْمَشْرُوطَ.

شُرُوطُ الْوَاقِفِينَ:

27- الْوَقْفُ قُرْبَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ يَضَعُهَا الْوَاقِفُ فِيمَنْ يَشَاءُ وَبِالطَّرِيقَةِ الَّتِي يَخْتَارُهَا، وَلَهُ أَنْ يَضَعَ مِنَ الشُّرُوطِ عِنْدَ إِنْشَاءِ الْوَقْفِ مَا لَا يُخَالِفُ حُكْمَ الشَّرْعِ، وَالشُّرُوطُ الَّتِي يَضَعُهَا الْوَاقِفُ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا، وَلَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا إِذَا لَمْ تُخَالِفِ الشَّرْعَ أَوْ تُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ؛ إِذْ إِنَّ شَرْطَ الْوَاقِفِ كَنَصِّ الشَّرْعِ كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ.

فَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: شَرَائِطُ الْوَاقِفِ مُعْتَبَرَةٌ إِذَا لَمْ تُخَالِفِ الشَّرْعَ وَهُوَ مَالِكٌ، فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ مَالَهُ حَيْثُ شَاءَ مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً، وَلَهُ أَنْ يَخُصَّ صِنْفًا مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَلَوْ كَانَ الْوَضْعُ فِي كُلِّهِمْ قُرْبَةً (وَفِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ لِلدَّرْدِيرِ: وَاتُّبِعَ وُجُوبًا شَرْطُ الْوَاقِفِ إِنْ جَازَ شَرْعًا، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ لَمْ يُتَّبَعْ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ شَرَائِطَ الْوَاقِعِ مَرْعِيَّةٌ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يُنَافِي الْوَقْفَ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الشُّرُوطُ إِنَّمَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا إِذَا لَمْ تُفْضِ إِلَى الْإِخْلَالِ بِالْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ، وَلَا يَجُوزُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى بَعْضِهَا مَعَ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ.

وَيُقَسِّمُ ابْنُ الْقَيِّمِ شُرُوطَ الْوَاقِفِينَ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: شُرُوطٌ مُحَرَّمَةٌ فِي الشَّرْعِ، وَشُرُوطٌ مَكْرُوهَةٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَرَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَشُرُوطٌ تَتَضَمَّنُ تَرْكَ مَا هُوَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَشُرُوطٌ تَتَضَمَّنُ فِعْلَ مَا هُوَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَالْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْأُولَى لَا حُرْمَةَ لَهَا وَلَا اعْتِبَارَ، وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ هُوَ الشَّرْطُ الْمُتَّبَعُ الْوَاجِبُ الِاعْتِبَارِ.

28- وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الشُّرُوطِ الَّتِي تُعْتَبَرُ جَائِزَةً وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا، وَالشُّرُوطُ الَّتِي تُخَالِفُ الشَّرْعَ أَوْ تُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ، وَبِتَتَبُّعِ مَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ مِنَ الشُّرُوطِ يُمْكِنُ تَقْسِيمُهَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.

أ- شُرُوطٌ بَاطِلَةٌ وَمُبْطِلَةٌ لِلْوَقْفِ، مَانِعَةٌ مِنِ انْعِقَادِهِ؛ لِأَنَّهَا تُنَافِي لُزُومَ الْوَقْفِ.

ب- شُرُوطٌ بَاطِلَةٌ إِذَا شَرَطَهَا الْوَاقِفُ صَحَّ الْوَقْفُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ.

ج- شُرُوطٌ صَحِيحَةٌ يَصِحُّ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ فِيهَا، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ بِأَنْوَاعِهَا تَخْتَلِفُ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى مَذْهَبٍ.

فَقَدْ يَكُونُ الشَّرْطُ بَاطِلًا فِي مَذْهَبٍ صَحِيحًا فِي مَذْهَبٍ آخَرَ، بَلْ أَحْيَانًا يَخْتَلِفُ فُقَهَاءُ الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ فِي الْمِثَالِ الْوَاحِدِ فَيُبْطِلُهُ بَعْضُهُمْ وَيُصَحِّحُهُ غَيْرُهُمْ.

وَبَيَاْنُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

29- الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: شُرُوطٌ بَاطِلَةٌ وَمُبْطِلَةٌ لِلْوَقْفِ مَانِعَةٌ مِنِ انْعِقَادِهِ، وَهِيَ الشُّرُوطُ الَّتِي تُنَافِي لُزُومَ الْوَقْفِ وَتُنَافِي مُقْتَضَاهُ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْقِسْمِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ عِنْدَ إِنْشَاءِ الْوَقْفِ أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ؛ أَيْ فِي إِبْقَاءِ وَقْفِهِ وَالرُّجُوعِ فِيهِ مَتَى شَاءَ، أَوْ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنَّ لَهُ حَقَّ بَيْعِهِ أَوْ هِبَتِهِ أَوْ رَهْنِهِ.

وَمِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي تُفْسِدُ الْوَقْفَ وَتُبْطِلُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ وَمُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ قَضَاءَ دَيْنِهِ مِنَ الْوَقْفِ أَوِ انْتِفَاعِهِ بِهِ، وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى- وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ أَنْ يُنْفِقَ مِنَ الْوَقْفِ عَلَى نَفْسِهِ.

وَمِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ لَا يَنْتَفِعَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بِالْوَقْفِ، أَوْ شَرَطَ أَنْ يُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ وَيُدْخِلَ مَنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ، لِأَنَّهَا شُرُوطٌ تُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ فَأَفْسَدَتْهُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


151-موسوعة الفقه الكويتية (وقف 5)

وَقْفٌ -5

ج- الْوَقْفُ عَلَى الْعَقِبِ:

58- لَوْ قَالَ الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ عَلَى عَقِبِي فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- فِي الْمَذْهَبِ- يَدْخُلُ فِي الْوَقْفِ أَوْلَادُ الْوَاقِفِ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ، وَأَوْلَادُ الذُّكُورِ مِنْ أَوْلَادِهِ دُونَ أَوْلَادِ الْإِنَاثِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَزْوَاجُهُنَّ مِنْ وَلَدَ وَلَدِهِ الذُّكُورِ، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلاَّ أَنْ يَجْرِيَ عُرْفٌ بِدُخُولِ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ، لِأَنَّ مَبْنَى أَلْفَاظِ الْوَاقِفِ عَلَى الْعُرْفِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْعَقِبِ.

الْوَقْفُ عَلَى الْقَرَابَةِ:

59- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَشْمَلُهُ لَفْظُ الْقَرَابَةِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْقَرَابَةِ فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: قَرَابَتُهُ وَأَرْحَامُهُ وَأَنْسَابُهُ كُلُّ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى أَبَوَيْهِ إِلَى أَقْصَى أَبٍ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الَّذِي أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ أَسْلَمَ أَوْ لَمْ يُسْلِمْ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ إِسْلَامُ الْأَبِ الْأَعْلَى وَلَا يَشْمَلُ ذَلِكَ أَبَوَيْهِ وَوَلَدَهُ لِصُلْبِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يُسَمَّوْنَ قَرَابَةً اتِّفَاقًا وَكَذَا مَنْ عَلَا مِنْهُمْ أَوْ سَفُلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فَقَدْ عَدَّهُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَتَنَاوَلُ لَفْظُ الْأَقَارِبِ أَقَارِبَ جِهَةِ أَبِيهِ وَجِهَةِ أُمِّهِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَسَوَاءٌ كَانَ مَنْ يَقْرُبُ لِأُمِّهِ مِنْ جِهَةِ أَبِيهَا أَوْ جِهَةِ أُمِّهَا، ذُكُورًا وَإِنَاثًا كَوَلَدِ الْخَالِ أَوِ الْخَالَةِ وَلَوْ كَانُوا كُفَّارًا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لِصِدْقِ اسْمِ الْقَرَابَةِ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ وَقَفَ عَلَى أَقَارِبِهِ دَخَلَ فِيهِ كُلُّ مَنْ تُعْرَفُ قَرَابَتُهُ غَيْرَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي الْأَصَحِّ، فَإِنْ كَانَ لِلْوَاقِفِ أَبٌ يُعْرَفُ بِهِ وَيُنْسَبُ إِلَيْهِ دَخَلَ فِي وَقْفِهِ كُلُّ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى ذَلِكَ الْأَبِ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى أَخِي الْأَبِ أَوْ أَبِيهِ، وَيَسْتَوِي فِيمَنْ يَدْخُلُ مَنْ قَرُبَ وَبَعُدَ مِنْ أَقَارِبِهِ وَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى لِتَسَاوِي الْجَمِيعِ فِي الْقَرَابَةِ، وَإِنْ حَدَثَ قَرِيبٌ بَعْدَ الْوَقْفِ دَخَلَ فِيهِ.

وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ أَنَّ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ يَدْخُلُونَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ وَقَفَ عَلَى قَرَابَتِهِ أَوْ قَرَابَةِ زَيْدٍ فَهُوَ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَبِيهِ وَهُمْ إِخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ، وَأَوْلَادُ جَدِّهِ وَهُمْ أَبُوهُ وَأَعْمَامُهُ وَعَمَّاتُهُ، وَأَوْلَادُ جَدِّ أَبِيهِ وَهُمْ جَدُّهُ وَأَعْمَامُهُ وَعَمَّاتُ أَبِيهِ فَقَطْ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يُجَاوِزْ بَنِي هَاشِمٍ بِسَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى فَلَمْ يُعْطِ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ كَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ شَيْئًا وَإِنَّمَا أَعْطَى بَنِي الْمُطَّلِبِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُوهُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ وَلَمْ يُعْطِ قَرَابَتَهُ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ وَهُمْ بَنُو زُهْرَةَ شَيْئًا مِنْهُ.

وَيُسَوَّى مَنْ يُعْطَى مِنْهُمْ فَلَا يُفَضِّلُ أَعْلَى وَلَا فَقِيرًا وَلَا ذَكَرًا عَلَى مَنْ سِوَاهُ وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْوَقْفِ عَلَى قَرَابَتِهِ مَنْ يُخَالِفُ دِينَهُ دِينَ الْوَاقِفِ، فَإِنْ كَانَ الْوَاقِفُ مُسْلِمًا لَمْ يَدْخُلْ فِي قَرَابَتِهِ كَافِرُهُمْ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يَدْخُلِ الْمُسْلِمُ فِي قَرَابَتِهِ إِلاَّ بِقَرِينَةٍ.

الْوَقْفُ عَلَى الْآلِ وَالْأَهْلِ:

60- الْآلُ وَالْأَهْلُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَلَكِنَّ مَدْلُولَهُمَا يَخْتَلِفُ، وَلِذَلِكَ يَخْتَلِفُ مَنْ يَشْمَلُهُ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْآلِ وَالْأَهْلِ:

فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْآلِ وَالْأَهْلِ كَالْوَقْفِ عَلَى الْقَرَابَةِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْآلِ وَالْأَهْلِ يَشْمَلُ الْعَصَبَةَ.

انْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي مُصْطَلَحِ (آلِ ف3).

انْقِرَاضُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ:

61- الِانْقِرَاضُ فِي اللُّغَةِ: الِانْقِطَاعُ، وَانْقَرَضَ الْقَوْمُ: دَرَجُوا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَهُ بِنَفْسِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَهُمْ تَارَةً يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ (انْقِرَاضٍ) وَتَارَةً يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ (انْقِطَاعٍ) وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ عِنْدَهُمَا إِلاَّ أَنَّهُمْ غَالِبًا مَا يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ انْقِرَاضٍ فِي تَرْتِيبِ الطَّبَقَاتِ أَوِ الْبُطُونِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْوَقْفِ وَذَلِكَ اتِّبَاعًا لِشَرْطِ الْوَاقِفِ، فَإِذَا قَالَ الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ عَلَى وَلَدَيَّ هَذَيْنِ فَإِذَا انْقَرَضَا فَهِيَ عَلَى أَوْلَادِهِمَا أَبَدًا مَا تَنَاسَلُوا، قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ: إِذَا انْقَرَضَ أَحَدُ الْوَلَدَيْنِ وَخَلَّفَ وَلَدًا يُصْرَفُ نِصْفُ الْغَلَّةِ إِلَى الْبَاقِي، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ فَإِذَا مَاتَ الْوَلَدُ الْآخَرُ يُصْرَفُ جَمِيعُ الْغَلَّةِ إِلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ شَرْطِ الْوَاقِفِ لَازِمَةٌ فِي الْوَقْفِ وَهُوَ إِنَّمَا جَعَلَ لِأَوْلَادِ الْأَوْلَادِ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا يُصْرَفُ الْغَلَّةُ إِلَى الْفُقَرَاءِ.

وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَ الْبُطُونِ قَدْ يَكُونُ بِحَرْفِ الْعَطْفِ (ثُمَّ) أَوِ (الْفَاءِ) فَلَوْ قَالَ الْوَاقِفُ وَقَفْتُ عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِي ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِ أَوْلَادِي مَا تَنَاسَلُوا أَوْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ فَتُصْرَفُ غَلَّةُ الْوَقْفِ إِلَى الْبَطْنِ الْأَوَّلِ وَهُمْ أَوْلَادُهُ، لَا يُصْرَفُ إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي شَيْءٌ إِلاَّ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ وَلَا يُصْرَفُ إِلَى الْبَطْنِ الثَّالِثِ شَيْءٌ مَا بَقِيَ مِنَ الْبَطْنِ الثَّانِي وَاحِدٌ.

وَقَدْ يَقْصِدُ بِالِانْقِرَاضِ انْقِطَاعَ جِهَةِ الْوَقْفِ وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَقْفِ عَلَى جِهَةٍ تَنْقَرِضُ دُونَ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَهَا جِهَةً أُخْرَى كَالْوَقْفِ عَلَى الْأَوْلَادِ فَقَطْ.

وَقَدْ تَمَّ تَفْصِيلُ ذَلِكَ وَبَيَانُ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ فِيهِ فِي فِقْرَةِ (48).

تَعَطُّلُ الْجِهَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهَا:

62- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ تَعَطَّلَتِ الْجِهَةُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهَا فَإِنَّ رَيْعَ الْوَقْفِ يُصْرَفُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى مُمَاثِلَةٍ لِلْجِهَةِ الَّتِي تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهَا وَلَمْ يُرْجَ عَوْدُهَا.

فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ وَقْفٌ عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ حَوْضٍ فَخَرِبَ الْمَسْجِدُ أَوِ الرِّبَاطُ أَوِ الْحَوْضُ وَأَصْبَحَ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا، فَإِنَّ مَا وُقِفَ عَلَى الْمَسْجِدِ يُصْرَفُ عَلَى مَسْجِدٍ آخَرَ وَلَا يُصْرَفُ إِلَى حَوْضٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ رِبَاطٍ وَمَا وُقِفَ عَلَى الْحَوْضِ أَوِ الْبِئْرِ أَوِ الرِّبَاطِ يُصْرَفُ وَقْفُهَا لِأَقْرَبِ مُجَانِسٍ لَهَا.

وَمَا حُبِسَ عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ بِمَحَلٍّ عَيَّنَهُ الْوَاقِفُ، ثُمَّ تَعَذَّرَ الطَّلَبُ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ الْحَبْسُ، وَتُصْرَفُ الْغَلَّةُ عَلَى الطَّلَبَةِ بِمَحَلٍّ آخَرَ، وَمَا حُبِسَ عَلَى مَدْرَسَةٍ فَخَرِبَتْ وَلَمْ يُرْجَ عَوْدُهَا صُرِفَ فِي مِثْلِهَا حَقِيقَةً إِنْ أَمْكَنَ، فَتُصْرَفُ الْغَلَّةُ لِمَدْرَسَةٍ أُخْرَى فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ صُرِفَ فِي مِثْلِهَا نَوْعًا فِي قُرْبَةٍ أُخْرَى، وَإِنْ رُجِيَ عَوْدُهَا وُقِفَ لَهَا لِيُصْرَفَ فِي التَّرْمِيمِ أَوِ الْإِحْدَاثِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْإِصْلَاحِ.

وَلَوْ وَقَفَ عَلَى ثَغْرٍ فَاتَّسَعَتْ خُطَّةُ الْإِسْلَامِ حَوْلَهُ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تُحْفَظُ غَلَّةُ الْوَقْفِ لِاحْتِمَالِ عَوْدِهِ ثَغْرًا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوِ اخْتَلَّ الثَّغْرُ صُرِفَ الْمَوْقُوفُ فِي ثَغْرٍ مِثْلِهِ أَخْذًا مِنْ مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْوَقْفِ إِذَا خَرِبَ، إِذِ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ هُنَا الصَّرْفُ إِلَى الْمُرَابِطِ، فَإِعْمَالُ شَرْطِ الثَّغْرِ الْمُعَيَّنِ مُعَطِّلٌ لَهُ فَوَجَبَ الصَّرْفُ إِلَى ثَغْرٍ آخَرَ، قَالَ فِي التَّنْقِيحِ: وَعَلَى قِيَاسِهِ مَسْجِدٌ وَرِبَاطٌ وَنَحْوُهُمَا وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَارِثِيُّ، قَالَ: وَالشَّرْطُ قَدْ يُخَالَفُ لِلْحَاجَةِ كَالْوَقْفِ عَلَى الْمُتَفَقِّهَةِ عَلَى مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ فَإِنَّ الصَّرْفَ يَتَعَيَّنُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُتَفَقِّهَةِ عَلَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ إِلَى الْمُتَفَقِّهَةِ عَلَى مَذْهَبٍ آخَرَ.

الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْمَوْقُوفُ:

مَا يَجُوزُ وَقْفُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ وَقْفُهُ:

63- لَمْ يَتَّفِقِ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَعْرِيفٍ مُحَدَّدٍ لِمَا يَجُوزُ وَقْفُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ، فَقَدْ عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَا جَاءَ فِي ابْنِ عَابِدِينَ: بِأَنَّهُ الْمَالُ الْمُتَقَوَّمُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عَقَارًا أَوْ مَنْقُولًا، فِيهِ تَعَامُلٌ، أَوْ هُوَ مَا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ كَالْعَقَارِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَجُوزُ وَقْفُ الْمَنْقُولِ مَقْصُودًا كَمَا قَالَ الْكَاسَانِيُّ وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ مَا مُلِكَ مِنْ ذَاتٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ.

وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: عَيْنٌ مُعَيَّنَةٌ مَمْلُوكَةٌ مِلْكًا يَقْبَلُ النَّقْلَ، وَيَحْصُلُ مِنْهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا فَائِدَةٌ، أَوْ مَنْفَعَةٌ يُسْتَأْجَرُ لَهَا.

وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: عَيْنٌ يَصِحُّ بَيْعُهَا وَيُنْتَفَعُ بِهَا عُرْفًا مَعَ بَقَائِهَا.

وَالْأَصْلُ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَيْنًا مَمْلُوكَةً يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ إِذْ يَصِحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَقْفُ الْمَنْفَعَةِ، وَالْعَيْنُ تَشْمَلُ الْعَقَارَ وَالْمَنْقُولَ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

أَوَّلًا: وَقْفُ الْعَقَارِ:

64- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ وَقْفُ الْعَقَارِ مِنْ أَرْضٍ وَدُورٍ وَآبَارٍ وَقَنَاطِرَ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ وَقْفِ الْعَقَارِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهما- أَجْمَعِينَ وَقَفُوا ذَلِكَ، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: «أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا، قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ، وَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالضَّيْفِ».

مَا يَتْبَعُ الْعَقَارَ فِي الْوَقْفِ وَمَا لَا يَتْبَعُهُ:

65- فَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ فِي بَابِ الْوَقْفِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْإِسْعَافِ: يَدْخُلُ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ مَا فِيهَا مِنَ الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ دُونَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَيَدْخُلُ أَيْضًا الشِّرْبُ وَالطَّرِيقُ كَالْإِجَارَةِ، وَلَوْ جَعَلَ الْأَرْضَ مَقْبَرَةً وَفِيهَا أَشْجَارٌ عِظَامٌ وَأَبْنِيَةٌ لَا تَدْخُلُ، وَلَوْ زَادَ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ وَقَالَ: بِحُقُوقِهَا وَجَمِيعِ مَا فِيهَا وَمِنْهَا، وَعَلَى الشَّجَرَةِ ثَمَرَةٌ قَائِمَةٌ يَوْمَ الْوَقْفِ قَالَ هِلَالٌ: لَا تَدْخُلُ قِيَاسًا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِهَا عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ لَا الْوَقْفِ، وَذَكَرَ النَّاطِفِيُّ: إِذَا قَالَ: بِحُقُوقِهَا تَدْخُلُ فِي الْوَقْفِ وَهَذَا أَوْلَى خُصُوصًا إِذَا زَادَ: بِجَمِيعِ مَا فِيهَا وَمِنْهَا، وَلَوْ وَقَفَ دَارًا بِجَمِيعِ مَا فِيهَا وَفِيهَا حَمَامَاتٌ يَطِرْنَ، أَوْ بَيْتًا وَفِيهِ كِوَارَاتُ عَسَلٍ يَدْخُلُ الْحَمَامُ وَالنَّحْلُ تَبَعًا لِلدَّارِ وَالْعَسَلُ كَمَا لَوْ وَقَفَ ضَيْعَةً وَذَكَرَ مَا فِيهَا مِنَ الْعَبِيدِ وَالدَّوَالِيبِ وَآلَاتِ الْحِرَاثَةِ.

وَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: لَوْ وَقَفَ الْعَقَارَ بِبَقَرِهِ وَأَكَرَتِهِ- أَيْ عَبِيدُهُ الْحَرَّاثُونَ- صَحَّ اسْتِحْسَانًا تَبَعًا لِلْعَقَارِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لِأَنَّهُ قَدْ يَثْبُتُ مِنَ الْحُكْمِ تَبَعًا مَا لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا كَالشِّرْبِ فِي الْبَيْعِ وَالْبِنَاءِ فِي الْوَقْفِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مَعَهُ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا أَجَازَ إِفْرَادَ بَعْضِ الْمَنْقُولِ بِالْوَقْفِ فَبِالتَّبَعِ أَوْلَى.

أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فَلَمْ يَذْكُرُوا مِثْلَ هَذَا التَّفْصِيلِ فِي بَابِ الْوَقْفِ وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُ الْكَلَامِ عَنِ الْوَقْفِ اسْتِطْرَادًا فِي بَابِ الْبَيْعِ وَاعْتَبَرُوا أَنَّ مَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْأُصُولِ كَالْأَرْضِ وَالدَّارِ وَالشَّجَرِ يَدْخُلُ فِي وَقْفِهَا كَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَقْفَ نَاقِلٌ لِلْمَلِكِ كَالْبَيْعِ، مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي التَّفْصِيلِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ إِجْمَالًا فِيمَا يَأْتِي:

أ- وَقْفُ الْأَرْضِ يُدْخِلُ مَا فِيهَا مِنْ بِنَاءٍ وَشَجَرٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ شَرْطٌ أَوْ عُرْفٌ، وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الشَّجَرَ بِكَوْنِهِ رَطْبًا لَا يَابِسًا.

وَفِي الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ لَا يَدْخُلُ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ مَا فِيهَا مِنْ زَرْعٍ، وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَسَائِرِ الزُّرُوعِ، أَمَّا الْبَذْرُ وَالْأُصُولُ الَّتِي تَبْقَى فِي الْأَرْضِ سَنَتَيْنِ- كَالْقَتِّ- فَإِنَّهَا تَدْخُلُ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ.

ب- وَقْفُ الدَّارِ يُدْخِلُ فِيهَا الْأَرْضَ وَالْبِنَاءَ وَالْفِنَاءَ وَالْأَشْيَاءَ الثَّابِتَةَ الْمُتَّصِلَةَ بِهَا وَكَذَلِكَ يُدْخِلُ فِيهَا الشَّجَرَ الْمَغْرُوسَ لَكِنْ قَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الشَّجَرَ بِالشَّجَرِ الرَّطْبِ دُونَ الْيَابِسِ، كَذَلِكَ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ وَقْفَ الدَّارِ يَتَنَاوَلُ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا الدَّارُ إِنْ لَمْ تَكُنِ الْأَرْضُ مَوْقُوفَةً كَمِصْرَ وَالشَّامِ وَسَوَادِ الْعِرَاقِ.

ج- وَقْفُ الشَّجَرِ يَدْخُلُ فِيهِ الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا الشَّجَرُ وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَيَتَنَاوَلُ حَرِيمَهَا، وَقِيلَ: لَا يَتَنَاوَلُهُ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ وَقْفَ الشَّجَرِ لَا يَتَنَاوَلُ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا الشَّجَرُ لِأَنَّ اسْمَ الشَّجَرِ لَا يَتَنَاوَلُهُ.

ذِكْرُ الْحُدُودِ فِي وَقْفِ الْعَقَارِ:

66- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ وَقْفَ الْعَقَارِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذِكْرُ حُدُودِهِ إِذَا كَانَ مَشْهُورًا، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْكَمَالِ بْنِ الْهُمَامِ قَوْلَهُ: إِذَا كَانَتِ الدَّارُ مَشْهُورَةً مَعْرُوفَةً صَحَّ وَقْفُهَا وَإِنْ لَمْ تُحَدَّدْ، اسْتِغْنَاءً لِشُهْرَتِهَا عَنْ تَحْدِيدِهَا.

وَقَدْ عَلَّقَ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ظَاهِرُهُ اشْتِرَاطُ التَّحْدِيدِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، بَلْ ذَلِكَ شَرْطٌ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ بِوَقْفِيَّتِهَا.

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: بَابٌ إِذَا وَقَفَ أَرْضًا وَلَمْ يُبَيِّنِ الْحُدُودَ فَهُوَ جَائِزٌ.

وَقَدْ عَلَّقَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: كَذَا أَطْلَقَ الْجَوَازَ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ أَوِ الْمُتَصَدَّقُ بِهِ مَشْهُورًا مُتَمَيِّزًا بِحَيْثُ يُؤْمَنُ أَنْ يَلْتَبِسَ بِغَيْرِهِ، وَإِلاَّ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّحْدِيدِ اتِّفَاقًا، لَكِنْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّ مَنْ قَالَ: اشْهَدُوا عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَمْلَاكِي وَقْفٌ عَلَى كَذَا وَذَكَرَ مَصْرِفَهَا وَلَمْ يُحَدِّدْ شَيْئًا مِنْهَا صَارَتْ جَمِيعُهَا وَقْفًا وَلَا يَضُرُّ جَهْلُ الشُّهُودِ بِالْحُدُودِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْوَقْفَ يَصِحُّ بِالصِّيغَةِ الَّتِي لَا تَحْدِيدَ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِقَادِ الْوَاقِفِ وَإِرَادَتِهِ لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ التَّحْدِيدُ لِأَجْلِ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ لِيُبَيِّنَ حَقَّ الْغَيْرِ.

ثَانِيًا: وَقْفُ الْمَنْقُولِ:

67- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى جَوَازِ وَقْفِ الْمَنْقُولِ مِنْ أَثَاثٍ وَحَيَوَانٍ وَسِلَاحٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِيمَانًا بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرِيَّهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَمَّا خَالِدٌ فَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».

وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَقْفُ الْمَنْقُولِ قَصْدًا، وَهَذَا عَلَى إِطْلَاقِهِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ وَقَفَ الْمَنْقُولِ إِذَا كَانَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ اسْتِحْسَانًا كَمَا إِذَا وَقَفَ ضَيْعَةً بِبَقَرِهَا وَأَكَرَتِهَا وَكَذَا سَائِرُ آلَاتِ الْحِرَاثَةِ، لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ فِي تَحْصِيلِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَقَدْ يَثْبُتُ مِنَ الْحُكْمِ تَبَعًا مَا لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا كَالشِّرْبِ فِي الْبَيْعِ وَالْبِنَاءِ وَفِي الْوَقْفِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَجُوزُ وَقْفُ الْكُرَاعِ- وَهِيَ الْخَيْلُ وَالسِّلَاحُ- اسْتِحْسَانًا لِلْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «وَأَمَّا خَالِدٌ فَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ قَالَ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَانْظُرُوا سِلَاحِي وَفَرَسِي فَاجْعَلُوهُ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَتَأْخُذُ الْإِبِلُ حُكْمَ الْخَيْلِ لِأَنَّ الْعَرَبَ يُجَاهِدُونَ عَلَيْهَا وَكَذَا السِّلَاحُ يُحْمَلُ عَلَيْهَا، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَقْفُ الْمَنْقُولِ لِأَنَّ شَرْطَ الْوَقْفِ التَّأْبِيدُ، وَالْمَنْقُولُ لَا يَتَأَبَّدُ، فَتُرِكَ الْقِيَاسُ لِلْآثَارِ الَّتِي وَرَدَتْ.

وَيَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ- خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ- وَقْفُ الْمَنْقُولِ قَصْدًا إِذَا كَانَ مُتَعَارَفًا وَفِيهِ تَعَامُلٌ لِلنَّاسِ كَالْفَأْسِ وَالْقَدُومِ وَالْقِدْرِ وَالْجِنَازَةِ وَثِيَابِهَا وَالْمُصْحَفِ وَالْكُتُبِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ قَدْ يُتْرَكُ بِالتَّعَامُلِ، لِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-: مَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ بِخِلَافِ مَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ، أَيْ لَمْ يَجُزِ التَّعَامُلُ بِوَقْفِهِ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ وَالْمَتَاعِ، وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ وَمِنْهُمُ السَّرَخْسِيُّ، أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ وَقْفُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ إِنَّمَا يُتْرَكُ بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ.

ثَالِثًا: وَقْفُ الْمَنْفَعَةِ:

68- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ وَقْفِ الْمَنْفَعَةِ إِذْ إِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَيْنًا يُنْتَفَعُ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا كَمَا أَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ تَأْبِيدَ الْوَقْفِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ وَقْفِ الْمَنْفَعَةِ فَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا مُدَّةً مَعْلُومَةً فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقِفَ مَنْفَعَتَهَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَيَنْقَضِيَ الْوَقْفُ بِانْقِضَائِهَا، لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ تَأْبِيدُ الْوَقْفِ.

مَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ:

يُشْتَرَطُ فِي الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ مَا يَلِي:

أ- أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ مُعَيَّنَةً:

69- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ أَنْ تَكُونَ مُعَيَّنَةً فَلَا يَصِحُّ وَقْفُ الْمُبْهَمِ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ مَعْلُومًا فَلَوْ وَقَفَ شَيْئًا مِنْ أَرْضِهِ وَلَمْ يُسَمِّهِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ وَلَوْ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ، إِذْ رُبَّمَا يُبَيِّنُ شَيْئًا قَلِيلًا لَا يُوقَفُ عَادَةً، وَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُ هَذِهِ الْأَرْضَ أَوْ هَذِهِ الْأَرْضَ كَانَ بَاطِلًا لِمَكَانِ الْجَهَالَةِ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَصِحُّ إِلاَّ فِي عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ فَإِنْ وَقَفَ عَبْدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ أَوْ فَرَسًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَالْوَقْفُ بَاطِلٌ، وَكَذَا لَوْ وَقَفَ أَحَدَ دَارَيْهِ أَوْ أَحَدَ عَبْدَيْهِ لَا يَصِحُّ، لأَنَّ الْوَقْفَ نَقْلُ مِلْكٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَالصَّدَقَةِ فَلَا يَصِحُّ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَمَا لَا يَصِحْ فِي عَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ كَدَارٍ وَعَبْدٍ وَلَوْ مَوْصُوفًا.

وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ- كَمَا جَاءَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ- أَنَّهُ يَجُوزُ الْوَقْفُ الْمُعَلَّقُ كَقَوْلِ الْوَاقِفِ: إِنْ مَلَكْتُ دَارَ فُلَانٍ فَهِيَ وَقْفٌ.وَعَلَّقَ الدُّسُوقِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَانْظُرْ هَلْ لَا بُدَّ فِي التَّعْلِيقِ مِنْ تَعْيِينِ الْمُعَلَّقِ فِيهِ أَوْ يَدْخُلُ فِيهِ مَا إِذَا قَالَ: كُلُّ مَا تَجَدَّدَ لِي مِنْ عَقَارٍ أَوْ غَيْرِهِ وَدَخَلَ فِي مِلْكِي فَهُوَ مُلْحَقٌ بِوَقْفِي؟ أَقُولُ: الْمَأْخُوذُ مِنْ كَلَامِ الرَّصَاعِ فِي شَرْحِ الْحُدُودِ أَنَّهُ إِذَا عَمَّ التَّعْلِيقُ فَإِنَّ الْوَقْفَ لَا يَلْزَمُ لِلتَّحْجِيرِ كَالطَّلَاقِ.

ب- أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ:

70- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمَوْقُوفِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَالْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَقْفُ مَا يُسْتَهْلَكُ كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ فِي اسْتِهْلَاكِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقْفُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِلتَّزْيِينِ وَالتَّحَلِّي بِهَا، أَوْ لِلْوَزْنِ، أَوْ لِيُنْتَفَعَ بِإِقْرَاضِهَا، لِأَنَّ الْوَقْفَ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ، وَمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إِلاَّ بِإِتْلَافِهِ لَا يَصِحُّ فِيهِ ذَلِكَ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَصِحُّ وَقْفُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَلَى قَوْلِ مَنْ أَجَازَ إِجَارَتَهَا.

وَيَصِحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقْفُ الْمَشْمُومِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ كَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالْعُودِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَصِحُّ وَقْفُ النَّدِّ وَالصَّنْدَلِ وَقِطَعِ الْكَافُورِ.

أَمَّا الْمَشْمُومُ الَّذِي لَا تَبْقَى عَيْنُهُ فَلَا يَجُوزُ وَقْفُهُ عِنْدَهُمْ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ فَقَدْ أَجَازُوا وَقْفَ الطَّعَامِ كَالْحِنْطَةِ وَوَقْفَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إِذَا وَقَفَ ذَلِكَ لِلسَّلَفِ وَرَدِّ الْبَدَلِ، وَاعْتَبَرُوا أَنَّ رَدَّ الْبَدَلِ قَائِمٌ مُقَامَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، أَمَّا وَقْفُهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا فَلَا يَجُوزُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الدَّرَاهِمُ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا لَكِنَّ بَدَلَهَا قَائِمٌ مَقَامَهَا لِعَدَمِ تَعَيُّنِهَا فَكَأَنَّهَا بَاقِيَةٌ وَلَا شَكَّ أَنَّهَا مِنَ الْمَنْقُولِ، فَحَيْثُ جَرَى فِيهَا تَعَامُلٌ دَخَلَتْ فِيمَا أَجَازَهُ مُحَمَّدٌ، وَيَجُوزُ وَقْفُ كُرٍّ مِنْ حِنْطَةٍ عَلَى شَرْطِ أَنْ يُقْرَضَ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ لَا بَذْرَ لَهُمْ لِيَزْرَعُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ قَدْرَ الْقَرْضِ ثُمَّ يُقْرَضُ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ أَبَدًا عَلَى هَذَا السَّبِيلِ، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ وَقْفُ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لِيُبَاعَ وَيُدْفَعَ ثَمَنُهُ مُضَارَبَةً، وَكَذَا يُفْعَلُ فِي وَقْفِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَمَا خَرَجَ مِنَ الرِّبْحِ يُتَصَدَّقُ بِهِ فِي جِهَةِ الْوَقْفِ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ وَقْفُ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَيُرَدُّ بَدَلُهُ، لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ فِي اسْتِهْلَاكِهِ وَالْوَقْفُ إِنَّمَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ.

جـ- أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ حَقُّ الْغَيْرِ:

71- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ وَقْفِ الْعَيْنِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ كَأَنْ تَكُونَ مَرْهُونَةً أَوْ مُؤَجَّرَةً.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى صِحَّةِ وَقْفِ الْعَيْنِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ، فَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى صِحَّةِ وَقْفِ الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ أَوِ الْمُؤَجَّرَةِ وَتَعُودُ الْعَيْنُ بَعْدَ افْتِكَاكِهَا مِنَ الرَّهْنِ وَبَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ، وَوَافَقَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ.

وَأَمَّا الْمَرْهُونَةُ فَفِيهَا عِنْدَهُمْ وَجْهَانِ:

الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَصِحُّ وَقْفُ الْمَرْهُونِ كَالْعِتْقِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَصِحُّ إِسْقَاطُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَصَارَ كَالْعِتْقِ.

وَفِي الْوَجْهِ الْآخَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَصِحُّ وَقْفُ الْمَرْهُونِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ لَا يَسْرِي إِلَى مِلْكِ الْغَيْرِ فَلَا يَصِحُّ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ.

وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ صِحَّةَ وَقْفِ الْمَرْهُونِ بِمَا إِذَا كَانَ الْوَقْفُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّ مَنْعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ وَقَدْ أَسْقَطَهُ بِإِذْنِهِ وَبَطَلَ الرَّهْنُ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ يَمْنَعُ الرَّهْنَ ابْتِدَاءً فَامْتَنَعَ مَعَهُ دَوَامًا.

وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ إِذْ لِكُلِّ مَذْهَبٍ نَوْعٌ مِنَ التَّفْصِيلِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْإِسْعَافِ وَغَيْرِهِ: لَوْ وَقَفَ الْمَرْهُونَ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ صَحَّ وَأَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى دَفْعِ مَا عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا أَبْطَلَ الْوَقْفَ وَبَاعَهُ فِيمَا عَلَيْهِ.

وَإِنْ وَقَفَ الْمَرْهُونَ وَافْتَكَّهُ جَازَ فَإِنْ مَاتَ عَنْ عَيْنٍ تَفِي بِالدَّيْنِ صَحَّ الْوَقْفُ وَلَا يُغَيَّرُ، وَإِنْ لَمْ يَفِ مَا تَرَكَهُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُبْطِلُ الْوَقْفَ وَيَبِيعُهُ لِلدَّيْنِ.

وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ صِحَّةَ وَقْفِ الْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ بِمَا إِذَا قَصَدَ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا بَعْدَ الْخَلَاصِ مِنَ الرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَقْفِ التَّنْجِيزُ.

د- أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ:

72- اشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ الشَّافِعِيَّةُ بِكَوْنِهِ مِمَّا يَقْبَلُ النَّقْلَ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا يَصِحُّ وَقْفُ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمَرْهُونِ وَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَسَائِرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلصَّيْدِ وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ الَّتِي لَا يُصَادُ بِهَا، لِأَنَّ الْوَقْفَ نَقْلٌ لِلْمِلْكِ فِيهَا فِي الْحَيَاةِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ وَمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لَا يَحْصُلُ فِيهِ تَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ وَالْكَلْبُ أُبِيحَ الِانْتِفَاعُ بِهِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِلضَّرُورَةِ فَلَمْ يَجُزِ التَّوَسُّعُ فِيهَا، وَالْمَرْهُونُ فِي وَقْفِهِ إِبْطَالُ حَقِّ الْمُرْتَهَنِ مِنْهُ فَلَمْ يَجُزْ إِبْطَالُهُ.

وَمَثَّلَ الشَّافِعِيَّةُ بِمَا لَا يَصِحُّ وَقْفُهُ بِأُمِّ الْوَلَدِ وَالْحَمْلِ وَالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ، وَهَذَا فِي الْأَصَحِّ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ يَصِحُّ وَقْفُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ، أَمَّا الْكَلْبُ غَيْرُ الْمُعَلَّمِ فَلَا يَصِحُّ وَقْفُهُ جَزْمًا.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا هَذَا الشَّرْطَ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: صَحَّ وَقْفُ مَمْلُوكٍ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْمَمْلُوكُ الَّذِي أُرِيدَ وَقْفُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَجِلْدِ أُضْحِيَةٍ وَكَلْبِ صَيْدٍ وَعَبْدٍ آبِقٍ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ.

وَالْحَنَفِيَّةُ لَمْ يَنُصُّوا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ وَإِنْ كَانَتْ قَوَاعِدُهُمْ لَا تَأْبَاهُ، فَالْأَصْلُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ جَوَازِ وَقْفِ الْمَنْقُولِ إِلاَّ تَبَعًا أَوْ مَا جَرَى فِيهِ التَّعَامُلُ بَيْنَ النَّاسِ.

قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ وَقْفُ كُلِّ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ قِيَاسًا عَلَى الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، قُلْنَا: الْأَصْلُ عَدَمُ جَوَازِ الْوَقْفِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ وَهُوَ الْعَقَارُ وَالْكُرَاعُ وَالسِّلَاحُ، وَأَوْرَدَ الْمِرْغِينَانِيُّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ ثُمَّ قَالَ: وَلَنَا أَنَّ الْوَقْفَ فِيهِ لَا يَتَأَبَّدُ (يَقْصِدُ الْمَنْقُولَ) بِخِلَافِ الْعَقَارِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


152-موسوعة الفقه الكويتية (وقف 7)

وَقْفٌ -7

ب- حُكْمُ مَا إِذَا كَانَتِ الْإِجَارَةُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ ثُمَّ زَادَتِ الْأُجْرَةُ:

79- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا أَجَّرَ النَّاظِرُ الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، ثُمَّ زَادَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ أَثْنَاءَ مُدَّةِ الْعَقْدِ أَوْ ظَهَرَ طَالِبٌ بِالزِّيَادَةِ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- هِيَ رِوَايَةُ فَتَاوَى سَمَرْقَنْدَ وَعَلَيْهَا مَشَى فِي التَّجْنِيسِ لِصَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَالْإِسْعَافِ- وَفِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ صَحِيحًا لَازِمًا وَكَانَ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَلَا يُفْسَخُ الْعَقْدُ بِزِيَادَةِ الْأُجْرَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ يُعْتَبَرُ وَقْتَ الْعَقْدِ وَفِي وَقْتِهِ كَانَ الْمُسَمَّى أَجْرَ الْمِثْلِ، فَلَا يَضُرُّ التَّغْيِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ، وَلِأَنَّهُ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ قَدْ جَرَى بِالْغِبْطَةِ فِي وَقْتِهِ فَأَشْبَهَ مَا إِذَا بَاعَ الْوَلِيُّ مَالَ الطِّفْلِ ثُمَّ ارْتَفَعَتِ الْقِيَمُ بِالْأَسْوَاقِ أَوْ ظَهَرَ طَالِبٌ بِالزِّيَادَةِ.

وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْعَقْدَ يُفْسَخُ وَيُعْقَدُ ثَانِيَةً بِالزِّيَادَةِ أَيْ أَنَّهُ يُجَدِّدُ الْعَقْدَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ بِالْأُجْرَةِ الزَّائِدَةِ، جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ نَقْلاً عَنِ الْأَشْبَاهِ: لَوْ زَادَ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي نَفْسِهِ بِلَا زِيَادَةِ أَحَدٍ فَلِلْمُتَوَلِّي فَسْخُ الْإِجَارَةِ وَبِهِ يُفْتَى وَمَا لَمْ يَفْسَخْ فَلَهُ الْمُسَمَّى، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَبُولَ الْمُسْتَأْجِرِ الزِّيَادَةَ يَكْفِي عَنْ تَجْدِيدِ الْعَقْدِ.وَقَدَ وَضَعَ الْحَنَفِيَّةُ عِدَّةَ قُيُودٍ عَلَى الْقَوْلِ الْأَصَحِّ هَذَا هِيَ كَمَا ذَكَرَهَا ابْنُ عَابِدِينَ:

أ- أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالزِّيَادَةِ مَا يَشْمَلُ زِيَادَةَ تَعَنُّتٍ أَيْ إِضْرَارٍ مِنْ وَاحِدٍ أَوِ اثْنَيْنِ فَإِنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، بَلِ الْمُرَادُ أَنْ تَزِيدَ فِي نَفْسِهَا عِنْدَ الْكُلِّ- أَيْ كُلِّ النَّاسِ- كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِسْبِيجَابِيُّ.

ب- أَنَّ الزِّيَادَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مِنْ نَفْسِ الْوَقْفِ أَيْ بِسَبَبِ زِيَادَةِ أُجْرَةِ الْأَرْضِ فِي نَفْسِهَا، لَا بِسَبَبِ عِمَارَةِ الْمُسْتَأْجِرِ بِمَالِهِ لِنَفْسِهِ كَمَا فِي الْأَرْضِ الْمُحْتَكَرَةِ لِأَجْلِ الْعِمَارَةِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: مُسْتَأْجِرُ أَرْضِ الْوَقْفِ إِذَا بَنَى فِيهَا ثُمَّ زَادَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ بِسَبَبِ الْعِمَارَةِ وَالْبِنَاءِ فَلَا تَلْزَمُ الزِّيَادَةُ لِأَنَّهَا أُجْرَةُ عِمَارَتِهِ وَبِنَائِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ بِسَبَبِ زِيَادَةِ أُجْرَةِ الْأَرْضِ فِي نَفْسِهَا فَإِنَّ الزِّيَادَةَ تَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ.

ج- أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ بِمُجَرَّدِ الزِّيَادَةِ بَلْ يَفْسَخُهُ الْمُتَوَلِّي كَمَا حَرَّرَهُ فِي أَنْفَعِ الْوَسَائِلِ وَقَالَ: فَإِنِ امْتَنَعَ يَفْسَخُهُ الْقَاضِي.

د- أَنَّهُ قَبْلَ الْفَسْخِ لَا يَجِبُ إِلاَّ الْمُسَمَّى وَإِنَّمَا تَجِبُ الزِّيَادَةُ بَعْدَهُ.

ثُمَّ إِذَا قَبِلَ الْمُسْتَأْجِرُ الْأَوَّلُ الزِّيَادَةَ كَانَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلِ الزِّيَادَةَ وَكَانَتِ الْأَرْضُ خَالِيَةً مِنَ الزِّرَاعَةِ آجَرَهَا الْمُتَوَلِّي مِنَ الثَّانِي، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ مَشْغُولَةً بِالزِّرَاعَةِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ تَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ مِنْ وَقْتِهَا- أَيْ وَقْتِ الزِّيَادَةِ- إِلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ، لِأَنَّ شَغْلَهَا بِمِلْكِهِ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ إِيجَارِهَا لِغَيْرِهِ، فَإِذَا اسْتُحْصِدَ فُسِخَ وَأُجِّرَ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ بَنَى فِي الْأَرْضِ أَوْ غَرَسَ لَكِنَّ هَذَا يَبْقَى إِلَى انْتِهَاءِ الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ مَعْلُومَةً لِلْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ بِخِلَافِ الزَّرْعِ، فَإِذَا انْتَهَى الْعَقْدُ وَلَمْ يَقْبَلِ الزِّيَادَةَ أُمِرَ بِرَفْعِ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ وَتُؤَجَّرُ لِغَيْرِهِ.

وَقَدْ نَبَّهَ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى أَنَّ أَوْلَوِيَّةَ الْمُسْتَأْجِرِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا زَادَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ الْعَقْدِ قَبْلَ فَرَاغِ الْأُجْرَةِ وَقَدْ قَبِلَ الزِّيَادَةَ، أَمَّا إِذَا انْتَهَتْ مُدَّةُ الْعَقْدِ فَلَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ بَلْ لِنَاظِرِ الْوَقْفِ أَنْ يُؤَجِّرَهَا مِمَّنْ أَرَادَ وَإِنْ قَبِلَ الْمُسْتَأْجِرُ الْأَوَّلُ الزِّيَادَةَ لِزَوَالِ عِلَّةِ الْأَحَقِّيَّةِ وَهِيَ بَقَاءُ مُدَّةِ إِجَارَتِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ لَهُ فِيهَا حَقُّ الْقَرَارِ بِالْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ وَلَوْ بَعْدَ تَمَامِ الْمُدَّةِ إِذَا قَبِلَ الزِّيَادَةَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ مَعَ عَدَمِ الضَّرَرِ عَلَى الْوَقْفِ.

وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ إِذَا كَانَ لِلزِّيَادَةِ وَقْعٌ وَالطَّالِبُ ثِقَةٌ لِتَبَيُّنِ وُقُوعِهِ عَلَى خِلَافِ الْغِبْطَةِ.

انْتِهَاءُ إِجَارَةِ الْوَقْفِ:

إِجَارَةُ الْمَوْقُوفِ تَنْتَهِي إِمَّا بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَوِ الْمَوْتِ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلاً: انْتِهَاءُ إِجَارَةِ الْوَقْفِ بِالْمَوْتِ:

80- الْأَصْلُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، بَلْ تَبْقَى إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ فَلَا تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ، وَيَخْلُفُ الْمُسْتَأْجِرَ وَارِثُهُ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا إِذَا كَانَ قَدْ عَقَدَهَا لِنَفْسِهِ.

وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِجَارَةَ الْمَوْقُوفِ لَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ نَاظِرِ الْوَقْفِ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ إِذَا كَانَ النَّاظِرُ الَّذِي آجَرَ هُوَ الْوَاقِفَ أَوِ الْحَاكِمَ أَوْ نَائِبَهُ أَوْ كَانَ النَّاظِرُ الْمَشْرُوطُ لَهُ النَّظَرُ مِنَ الْوَاقِفِ أَجْنَبِيًّا بِأَنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ كَالْوَكِيلِ عَنِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ وَالْعُقُودُ لَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْوَكِيلِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الَّذِي آجَرَ الْمَوْقُوفَ هُوَ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمْ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ بَيَانُهُ مَا يَلِي:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ آجَرَ مُسْتَحِقُّ الْوَقْفِ بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ تُفْسَخُ وَهَذَا إِذَا كَانَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ وَلَا ضَرُورَةَ لِلْإِجَارَةِ بِالْأَقَلِّ.

وَفِي الْخَانِيَّةِ: وَقْفٌ عَلَى أَرْبَابٍ وَأَحَدُهُمْ مُتَوَلٍّ فَأَجَّرَهُ مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ هَذَا الْمُتَوَلِّي لَا تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لِلْمَوْقُوفِ فَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْعَاقِدِ كَمَا لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْوَكِيلِ فِي الْإِجَارَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَكْرَى الْمُسْتَحِقُّ لِوَقْفٍ سِنِينَ، وَمَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ لِانْقِطَاعِ حَقِّهِ مِنَ الْوَقْفِ بِمُجَرَّدِ مَوْتِهِ وَانْتِقَالِ الْحَقِّ لِمَنْ يَلِيهِ فِي تَرْتِيبِ الْوَقْفِ عَلَى الْأَصَحِّ مِنَ الْخِلَافِ عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ وَغَيْرِهِ.

وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ: إِذَا أَكْرَى الْمُسْتَحِقُّ الْوَقْفَ مُدَّةً يَجُوزُ لَهُ كِرَاؤُهُ فِيهَا وَمَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَإِنَّ كِرَاءَهُ لَا يَنْفَسِخُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَانَ النَّاظِرُ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِلْوَقْفِ وَآجَرَ بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ فَإِذَا مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ، وَلَوْ آجَرَ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمُ الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ مُدَّةً وَمَاتَ الْبَطْنُ الْمُؤَجِّرُ قَبْلَ تَمَامِ الْمُدَّةِ وَكَانَ الْوَاقِفُ قَدْ شَرَطَ لِكُلِّ بَطْنٍ مِنْهُمُ النَّظَرَ فِي حِصَّتِهِ مُدَّةَ اسْتِحْقَاقِهِ فَقَطْ، فَالْأَصَحُّ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ.

لِأَنَّ الْوَقْفَ انْتَقَلَ اسْتِحْقَاقُهُ بِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ لِغَيْرِهِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ وَلَا نِيَابَةَ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ كَالْمِلْكِ، وَلَوْ أَجَّرَ أَحَدُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمُ الْمَشْرُوطُ لَهُ النَّظَرُ بِالْأَرْشَدِيَّةِ ثُمَّ مَاتَ انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْأَذْرُعِيُّ وَاعْتَمَدَهُ الْغُزِّيُّ فِي الْفَتْوَى.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ آجَرَ النَّاظِرُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْوَقْفِ وَكَانَ الْوَاقِفُ قَدْ وَقَفَهُ عَلَيْهِ وَشَرَطَ لَهُ النَّظَرَ ثُمَّ مَاتَ لَمْ تَنْفَسِخِ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِهِ، لِأَنَّهُ أَجَّرَ بِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ أَشْبَهَ الْأَجْنَبِيَّ، وَإِنْ أَجَّرَ الْمُسْتَحِقُّ لِكَوْنِهِ أَحَقَّ بِالنَّظَرِ مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ أَوْ لِكَوْنِ الْوَقْفِ عَلَيْهِ لَمْ تَنْفَسِخِ الْإِجَارَةُ فِي وَجْهٍ كَمَا لَوْ أَجَّرَ وَلِيٌّ مَالَ مُوَلِّيهِ أَوْ نَاظِرٌ أَجْنَبِيٌّ ثُمَّ زَالَتْ وِلَايَتُهُ.قَالَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ: هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَشْهَرُ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ.

وَقَالَ فِي التَّنْقِيحِ: وَإِنْ مَاتَ الْمُؤَجِّرُ انْفَسَخَتْ إِنْ كَانَ الْمُؤَجِّرُ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ أَصْلُ الِاسْتِحْقَاقِ.وَقِيلَ: لَا تَنْفَسِخُ كَمِلْكِهِ وَهُوَ أَشْهَرُ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ.

81- وَمَا سَبَقَ مِنْ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُؤَجِّرِ، أَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ إِذَا مَاتَ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْفَسِخُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي عَدَمِ فَسْخِ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّ إِجَارَةَ الْمَوْقُوفِ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ، لِأَنَّهُ عَاقِدٌ لِنَفْسِهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي أَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا إِذَا كَانَ قَدْ عَقَدَهَا لِنَفْسِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ جَمَاعَةً فَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ بَعْضِهِمْ قَبْلَ تَمَامِ الْمُدَّةِ وَتُصْرَفُ حِصَّةُ الْمَيِّتِ إِلَى وَرَثَتِهِ.

ثَانِيًا: انْتِهَاءُ إِجَارَةِ الْمَوْقُوفِ بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ:

82- إِذَا انْتَهَتِ الْمُدَّةُ الْمُعَيَّنَةُ فِي عَقْدِ إِجَارَةِ الْمَوْقُوفِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ لِأَنَّ الثَّابِتَ إِلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ إِلاَّ إِذَا وُجِدَ عُذْرٌ يَقْتَضِي بَقَاءَ الْإِجَارَةِ بَعْدَ انْتِهَاءِ مُدَّتِهَا.

فَلَوِ انْتَهَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وَلِلْمُسْتَأْجِرِ فِي الْأَرْضِ مِلْكٌ لَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ كَزَرْعٍ لَمْ يَبْلُغْ حَصَادَهُ فَإِنَّ الْأَرْضَ تَبْقَى فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ إِلَى أَنْ يَحْصُدَ الزَّرْعَ، لِأَنَّهُ بِهَذَا يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ بِالْوَقْفِ مَا دَامَ يَسْتَحِقُّ لَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِجَارَةٍ ف60).

الْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ فِي الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ:

83- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ فِي أَرْضِ الْوَقْفِ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَانِي أَوِ الْغَارِسُ هُوَ الْوَاقِفَ أَوِ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ أَوِ الْمُسْتَأْجِرَ لِأَرْضِ الْوَقْفِ أَوْ كَانَ أجنبيًّا مَا دَامَ الْبِنَاءُ أَوِ الْغِرَاسُ مُفِيدًا لِلْوَقْفِ، لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي مِلْكِيَّةِ هَذَا الْبِنَاءِ أَوِ الْغِرَاسِ هَلْ تَكُونُ لِلْبَانِي أَوِ الْغَارِسِ فَيَكُونُ لَهُ حَقُّ نَقْضِهِ وَقَلْعِهِ أَمْ تَكُونُ وَقْفًا كَالْأَرْضِ وَهُمْ يَبْنُونَ ذَلِكَ عَلَى أُمُورٍ كَنِيَّةِ الْبَانِي أَوْ إِشْهَادِهِ عَلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلِكُلِّ مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ بَيَانُهُ فِيمَا يَلِي:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ لِمُسْتَأْجِرِ أَرْضِ الْوَقْفِ غَرْسُ الْأَشْجَارِ وَالْكُرُومِ فِيهَا إِذَا لَمْ يُضِرَّ بِالْأَرْضِ بِدُونِ صَرِيحِ الْإِذْنِ مِنَ الْمُتَوَلِّي دُونَ حَفْرِ الْحِيَاضِ، وَإِنَّمَا يَحِلُّ لِلْمُتَوَلِّي الْإِذْنُ فِيمَا يَزِيدُ بِهِ الْوَقْفُ خَيْرًا وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ حَقُّ قَرَارِ الْعِمَارَةِ فِيهَا، أَمَّا إِذَا كَانَ لَهُ حَقُّ الْقَرَارِ فَيَجُوزُ لَهُ الْحَفْرُ وَالْغَرْسُ وَالْحَائِطُ مِنْ تُرَابِهَا لِوُجُودِ الْإِذْنِ فِي مِثْلِهَا دَلَالَةً، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَمَحَلُّهُ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرَرِ بِالْأَرْضِ.

وَمَا بَنَاهُ الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ غَرَسَهُ وَكَانَ مِنْ مَالِهِ بِلَا إِذْنِ النَّاظِرِ فَهُوَ لَهُ مَا لَمْ يَنْوِ أَنَّهُ لِلْوَقْفِ، وَإِنْ كَانَ الْبَانِي هُوَ مُتَوَلِّيَ الْوَقْفِ فَإِنْ كَانَ بِمَالِ الْوَقْفِ فَهُوَ وَقْفٌ، سَوَاءً بَنَاهُ لِلْوَقْفِ أَوْ لِنَفْسِهِ أَوْ أَطْلَقَ، وَإِنْ كَانَ الْبِنَاءُ مِنْ مَالِهِ لِلْوَقْفِ أَوْ أَطْلَقَ فَهُوَ وَقْفٌ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْبَانِي هُوَ الْوَاقِفَ وَأَطْلَقَ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ بَنَاهُ الْمُتَوَلِّي مِنْ مَالِهِ لِنَفْسِهِ وَأَشْهَدَ أَنَّهُ لَهُ قَبْلَ الْبِنَاءِ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْبَانِي مُتَوَلِّيًا فَإِنْ بَنَى بِإِذْنِ الْمُتَوَلِّي لِيَرْجِعَ فَهُوَ وَقْفٌ، وَإِلاَّ فَإِنْ بَنَى لِلْوَقْفِ فَوَقْفٌ، وَإِنْ بَنَى لِنَفْسِهِ أَوْ أَطْلَقَ لَهُ رَفَعَهُ إِنْ لَمْ يُضِرَّ بِالْأَرْضِ، وَلَوْ غَرَسَ فِي الْمَسْجِدِ يَكُونُ لِلْمَسْجِدِ، لِأَنَّهُ لَا يَغْرِسُ فِيهِ لِنَفْسِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْبَانِي أَوِ الْغَارِسُ فِي أَرْضِ الْوَقْفِ مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ وَلَوْ بِالْوَصْفِ كَالْإِمَامِ وَالْمُدَرِّسِ وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْبِنَاءَ أَوِ الْغِرَاسَ مَمْلُوكٌ لَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ وَيَسْتَحِقُّهُ وَارِثُهُ بِالْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّةِ إِنْ مَاتَ، وَإِنْ بَيَّنَ أَنَّهُ وَقْفٌ أَوْ مَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَهُوَ وَقْفٌ فَلَا يُورَثُ عَنْهُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَلَوْ كَانَ الْبَانِي أَوِ الْغَارِسُ أَجْنَبِيًّا فَإِنْ بَيَّنَ أَنَّهُ وَقْفٌ كَانَ وَقْفًا وَإِنْ بَيَّنَ أَنَّهُ مِلْكُهُ أَوْ مَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَهُوَ مِلْكٌ لَهُ وَلِوَارِثِهِ وَلَهُ نَقْضُهُ أَوْ قِيمَتُهُ مَنْقُوضًا، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْوَقْفُ لَا يَحْتَاجُ لَهُ وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ يَحْتَاجُ لِهَذَا الْبِنَاءِ فَيُوَفَّى لَهُ مِنْ غَلَّتِهِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ بَنَى النَّاظِرُ أَوْ أَصْلَحَ فَإِنَّهُ يُوَفَّى لَهُ جَمِيعُ مَا صَرَفَهُ فِي الْبِنَاءِ وَيُجْعَلُ الْبِنَاءُ وَقْفًا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ وَقَفَ أَرْضًا غَيْرَ مَغْرُوسَةٍ عَلَى مُعَيَّنٍ، امْتَنَعَ عَلَيْهِ غَرْسُهَا وَيَنْتَفِعُ بِهَا فِيمَا تَصْلُحُ لَهُ غَيْرَ مَغْرُوسَةٍ إِلاَّ إِنْ نَصَّ الْوَاقِفُ عَلَيْهِ أَوْ شَرَطَ لَهُ جَمِيعَ الِانْتِفَاعَاتِ كَمَا رَجَّحَهُ السُّبْكِيُّ، وَمِثْلُ الْغَرْسِ الْبِنَاءُ.فَلَوْ وَقَفَ أَرْضًا خَالِيَةً مِنَ الْبِنَاءِ لَا يَجُوزُ بِنَاؤُهَا، مَا لَمْ يُشْتَرَطْ لَهُ جَمِيعُ الِانْتِفَاعَاتِ، وَضَابِطُهُ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ كُلُّ مَا غَيَّرَ الْوَقْفَ بِالْكُلِّيَّةِ عَنِ اسْمِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ حَالَ الْوَقْفِ، بِخِلَافِ مَا يَبْقَى الِاسْمُ مَعَهُ، نَعَمْ إِنْ تَعَذَّرَ الْمَشْرُوطُ جَازَ إِبْدَالُهُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ غَرَسَ أَوْ بَنَى نَاظِرٌ فِيمَا هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ وَحْدَهُ فَالْغَرْسُ أَوِ الْبِنَاءُ لِغَارِسِهِ أَوْ بَانِيهِ، وَهُوَ مِلْكٌ مُحْتَرَمٌ لَهُ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ طَلَبُهُ بِقَلْعِهِ، لِمِلْكِهِ لَهُ وَلِأَصْلِهِ، وَإِنْ كَانَ الْغَارِسُ أَوِ الْبَانِي شَرِيكًا فِي الْوَقْفِ بِأَنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى جَمَاعَةٍ فَغَرَسَ فِيهِ أَحَدُهُمْ أَوْ بَنَى فَالْغَرْسُ وَالْبِنَاءُ لَهُ غَيْرُ مُحْتَرَمٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْغَارِسُ أَوِ الْبَانِي نَاظِرًا فَقَطْ أَيْ غَيْرَ مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ فَغَرْسُهُ وَبِنَاؤُهُ لَهُ غَيْرُ مُحْتَرَمٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِبْقَاؤُهُ بِغَيْرِ رِضَا أَهْلِ الْوَقْفِ.

وَيَتَوَجَّهُ إِنْ غَرَسَ أَوْ بَنَى مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ أَوْ نَاظِرٌ فِي وَقْفٍ أَنَّهُ لَهُ إِنْ أَشْهَدَ أَنَّ غَرْسَهُ وَبِنَاءَهُ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ بِذَلِكَ فَهُمَا لِلْوَقْفِ لِثُبُوتِ يَدِ الْوَقْفِ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ غَرَسَهُ أَوْ بَنَاهُ لِلْوَقْفِ أَوْ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ فَهُوَ وَقْفٌ، وَيَتَوَجَّهُ فِي غَرْسِ أَجْنَبِيٍّ وَبِنَائِهِ أَنَّهُ لِلْوَقْفِ بِنِيَّتِهِ، وَالتَّوْجِيهَانِ لِصَاحِبِ الْفُرُوعِ، وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: يَدُ الْوَقْفِ ثَابِتَةٌ عَلَى الْمُتَّصِلِ بِهِ مَا لَمْ تَأْتِ حُجَّةٌ تَدْفَعُ مُوجِبَهَا كَمَعْرِفَةِ كَوْنِ الْغَارِسِ غَرَسَهَا لَهُ بِحُكْمِ إِجَارَةٍ أَوْ إِعَارَةٍ أَوْ غَصْبٍ وَيَدُ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ فَلَيْسَ لَهُ دَعْوَى الْبِنَاءِ بِلَا حُجَّةٍ، وَيَدُ أَهْلِ عَرْصَةٍ مُشْتَرَكَةٍ ثَابِتَةٌ عَلَى مَا فِيهَا بِحُكْمِ الِاشْتِرَاكِ إِلاَّ مَعَ بَيِّنَةٍ بِاخْتِصَاصِهِ بِبِنَاءٍ وَنَحْوِهِ.

قِسْمَةُ الْمَوْقُوفِ بَيْنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ:

84- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُتَّبَعُ شَرْطُ الْوَاقِفِ فِي قِسْمَةِ غَلَّةِ الْمَوْقُوفِ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ مِنْ تَسْوِيَةٍ أَوْ تَفْضِيلٍ بَيْنَهُمْ أَوْ تَقْدِيمِ أَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ وَهَكَذَا.

وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْأَوْقَافِ الَّتِي لَهَا غَلَّةٌ وَشَرَطَ الْوَاقِفُ كَيْفِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَقَدْ تَمَّ تَفْصِيلُ ذَلِكَ وَبَيَانُ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ فِيهِ فِي الشُّرُوطِ الصَّحِيحَةِ لِلْوَاقِفِينَ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ دَارًا لِلسُّكْنَى مَثَلاً أَوْ أَرْضًا مَوْقُوفَةً لِلزِّرَاعَةِ وَكَانَتِ الدَّارُ أَوِ الْأَرْضُ لَا تَسْتَوْعِبُ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِمْ فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- إِلَى أَنَّ قِسْمَةَ أَعْيَانِ الْوَقْفِ بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّينَ لَا تَجُوزُ، لِأَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ لَا مِلْكَ لَهُ فِي الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءِ إِنَّمَا حَقُّهُ فِي مَنْفَعَةِ الْمَوْقُوفِ، فَإِذَا جَازَتِ الْقِسْمَةُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّمَا تَجُوزُ فِي الْمَنَافِعِ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَوْقُوفِ يَكُونُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ.وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَضَى قَاضٍ بِجَوَازِ وَقْفِ الْمُشَاعِ وَنَفَذَ قَضَاؤُهُ وَصَارَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْمُخْتَلِفَاتِ، فَإِنْ طَلَبَ بَعْضُهُمُ الْقِسْمَةَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُقَسَّمُ وَلَكِنْ يَتَهَايَئُونَ.

وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ فَتَاوَى ابْنِ الشَّلَبِيِّ أَنَّ الْقِسْمَةَ بِطَرِيقِ التَّهَايُؤِ التَّنَاوُبُ فِي الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ كَمَا إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ أَرْضًا مَثَلاً بَيْنَ جَمَاعَةٍ فَتَرَاضَوْا عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَأْخُذُ مِنَ الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ قِطْعَةً مُعَيَّنَةً يَزْرَعُهَا لِنَفْسِهِ هَذِهِ السَّنَةَ، ثُمَّ فِي السَّنَةِ الْأُخْرَى يَأْخُذُ كُلٌّ مِنْهُمْ قِطْعَةً غَيْرَهَا فَذَلِكَ سَائِغٌ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ فَلَهُمْ إِبْطَالُهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ بِقِسْمَةٍ، إِذِ الْقِسْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ أَنْ يَخْتَصَّ بِبَعْضٍ مِنَ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الدَّوَامِ.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَا يَجُوزُ اسْتِدَامَةُ التَّهَايُؤِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي فِي طُولِ الزَّمَانِ إِلَى دَعْوَى الْمِلْكِيَّةِ أَوْ دَعْوَى كُلٍّ مِنْهُمْ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ.

وَبَيَّنَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ قِسْمَةَ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ قِسْمَةَ مِلْكٍ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ لَا تَجُوزُ، لِأَنَّ حَقَّهُمْ لَيْسَ فِي الْعَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي جَوَازِ قِسْمَةِ الْوَقْفِ قِسْمَةَ مُهَايَأَةٍ، فَقَدْ جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: أَمَّا الْحَبْسُ (أَيِ الْوَقْفُ) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَسْمُ رِقَابِهِ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا قِسْمَتُهُ لِلِاغْتِلَالِ بِأَنْ يَأْخُذَ هَذَا كِرَاءَهُ شَهْرًا مَثَلاً وَالْآخَرُ كَذَلِكَ فَقِيلَ: يُقَسَّمُ وَيُجْبَرُ مَنْ أَبَى لِمَنْ طَلَبَ، وَيَنْفُذُ بَيْنَهُمْ إِلَى أَنْ يَحْصُلَ مَا يُوجِبُ تَغْيِيرَ الْقِسْمَةِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ يُوجِبُ التَّغْيِيرَ.

وَقِيلَ: لَا يُقَسَّمُ بِحَالٍ وَهُوَ مَا يُفِيدُهُ كَلَامُ الْإِمَامِ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ.

وَقِيلَ: يُقَسَّمُ قِسْمَةَ اغْتِلَالٍ بِتَرَاضِيهِمْ، فَإِنْ أَبَى أَحَدُهُمُ الْقِسْمَةَ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا، وَاسْتَظْهَرَ الْحَطَّابُ الْقَوْلَ الثَّالِثَ.

وَسَوَاءٌ عَلَى مَا اسْتَظْهَرَهُ قُسِّمَ قِسْمَةَ اغْتِلَالٍ أَوْ قِسْمَةَ انْتِفَاعٍ بِأَنْ يَنْتَفِعَ كُلُّ وَاحِدٍ بِالسُّكْنَى بِنَفْسِهِ أَوْ بِالزِّرَاعَةِ بِنَفْسِهِ مُدَّةً، وَإِنْ كَانَتِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ إِنَّمَا هِيَ فِي قِسْمَةِ الِاغْتِلَالِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ قِسْمَةَ الْوَقْفِ بَيْنَ أَرْبَابِهِ مُمْتَنِعَةٌ مُطْلَقًا، لِأَنَّ فِيهِ تَغْيِيرًا لِشَرْطِ الْوَاقِفِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ مُهَايَأَةٍ رَضُوا بِهَا كُلُّهُمْ إِذْ لَا تَغْيِيرَ فِيهَا لِعَدَمِ لُزُومِهَا.

وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَوْقُوفِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ أَجَازُوا قِسْمَةَ عَيْنِ الْمَوْقُوفِ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ.

فَقَدْ جَاءَ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: يَصِحُّ قَسْمُ مَوْقُوفٍ وَلَوْ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْفُرُوعِ، قَالَ عَنْ شَيْخِهِ تَقِيِّ الدِّينِ: صَرَّحَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ الْوَقْفَ إِنَّمَا تَجُوزُ قِسْمَتُهُ إِذَا كَانَ عَلَى جِهَتَيْنِ، فَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا تُقَسَّمُ عَيْنُهُ قِسْمَةً لَازِمَةً اتِّفَاقًا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ، لَكِنْ تَجُوزُ الْمُهَايَأَةُ بِلَا مُنَاقَلَةٍ، ثُمَّ قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا عَنِ الْأَصْحَابِ وَجْهٌ، يَعْنِي كَغَيْرِهِ مِنَ الْوُجُوهِ الْمَحْكِيَّةِ، قَالَ: وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْوَقْفِ عَلَى جِهَةٍ أَوْ جِهَتَيْنِ، وَفِي الْمَنْهَجِ: لُزُومُهَا إِذَا اقْتَسَمُوا بِأَنْفُسِهِمْ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ قِسْمَةَ الْمُهَايَأَةِ الَّتِي يَقُولُ بِهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِنَّمَا تَكُونُ إِذَا كَانَتْ عَلَى قَوْمٍ أَوْ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ لَا يُحَاطُ بِهِمْ كَالْفُقَرَاءِ فَإِنَّ النَّاظِرَ يُعْطِي مِنَ الْغَلَّةِ بِالِاجْتِهَادِ.

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُفَضِّلُ النَّاظِرُ أَهْلَ الْحَاجَةِ وَالْعِيَالَ الْفُقَرَاءَ بِالِاجْتِهَادِ فِي غَلَّةٍ وَسُكْنَى.

التَّصَرُّفَاتُ اللاَّزِمَةُ عِنْدَ تَعَطُّلِ الْمَوْقُوفِ:

إِذَا تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُ الْمَوْقُوفِ فَالتَّصَرُّفَاتُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تُجْرَى عَلَيْهِ هِيَ:

أ- عِمَارَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْعِمَارَةِ إِنْ أَمْكَنَ.

ب- بَيْعُهُ وَالِاسْتِبْدَالُ بِهِ غَيْرَهُ.

ج- رُجُوعُهُ إِلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ.

وَلِلْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ تَفْصِيلٌ بَيَانُهُ كَالْآتِي: أَوَّلاً: عِمَارَةُ الْمَوْقُوفِ:

85- الْغَرَضُ مِنْ عِمَارَةِ الْمَوْقُوفِ بَقَاءُ عَيْنِهِ صَالِحَةً لِلِانْتِفَاعِ تَحْقِيقًا لِلْغَرَضِ الْأَصْلِيِّ مِنَ الْوَقْفِ.

وَتَتِمُّ عِمَارَةُ الْمَوْقُوفِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:

أَوَّلُهُمَا: تَعَهُّدُهُ بِالْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ وَعَمَلِ مَا يُحَقِّقُ الِانْتِفَاعَ بِهِ عَلَى الدَّوَامِ حَتَّى وَلَوْ كَانَ صَالِحًا لِلِانْتِفَاعِ بِهِ الْآنَ وَلَيْسَ بِهِ خَلَلٌ.

يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ تَعْلِيقًا عَلَى قَوْلِ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ «وَيَبْدَأُ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ بِعِمَارَتِهِ قَبْلَ الصَّرْفِ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ»: وَالْعِمَارَةُ اسْمٌ لِمَا يُعْمَرُ بِهِ الْمَكَانُ بِأَنْ يُصْرَفَ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ حَتَّى يَبْقَى إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ دُونَ الزِّيَادَةِ إِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ شَجَرًا يُخَافُ هَلَاكُهُ كَانَ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ غَلَّتِهِ قَصِيلاً (زَرْعًا) فَيَغْرِزُهُ، لِأَنَّ الشَّجَرَ يَفْسُدُ عَلَى امْتِدَادِ الزَّمَانِ...وَكَذَا إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ سَبِخَةً لَا يَنْبُتُ فِيهَا شَيْءٌ كَانَ لَهُ أَنْ يُصْلِحَهَا، وَمِنْ ذَلِكَ دَفْعُ الْمَرْصَدِ (أَيِ الدَّيْنِ) الَّذِي عَلَى الْمَوْقُوفِ فَإِنَّ الْمَرْصَدَ دَيْنٌ عَلَى الْوَقْفِ لِضَرُورَةِ تَعْمِيرِهِ فَإِذَا وُجِدَ فِي الْوَقْفِ مَالٌ وَلَوْ فِي كُلِّ سَنَةٍ شَيْءٌ دُفِعَ حَتَّى تَتَخَلَّصَ رَقَبَةُ الْوَقْفِ وَيَصِيرَ يُؤَجَّرُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ لَزِمَ النَّاظِرَ ذَلِكَ، وَكَوْنُ

التَّعْمِيرِ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْخَرَابُ بِصُنْعِ أَحَدٍ.

وَمِمَّا يُصْرَفُ فِيهِ رَيْعُ الْمَوْقُوفِ عَلَى عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ- كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ- السُّلَّمُ، وَالْبَوَارِي لِلتَّظْلِيلِ بِهَا، وَالْمَكَانِسُ لِيُكْنَسَ بِهَا، وَالْمَسَاحِي لِيُنْقَلَ بِهَا التُّرَابُ، وَظُلَّةٌ تَمْنَعُ إِفْسَادَ خَشَبِ الْبَابِ بِمَطَرٍ وَنَحْوِهِ إِنْ لَمْ يَضُرَّ بِالْمَارَّةِ.

ثَانِيهُمَا: أَنْ تَتِمَّ الْعِمَارَةُ بِالْبِنَاءِ وَالتَّرْمِيمِ وَالتَّجْصِيصِ لِمَا تَشَقَّقَ أَوْ تَهَدَّمَ مِنَ الْأَبْنِيَةِ الْمَوْقُوفَةِ.

يَقُولُ الْخَرَشِيُّ: يَبْدَأُ بِمَرَمَّةِ الْوَقْفِ وَإِصْلَاحِهِ لِبَقَاءِ عَيْنِهِ وَدَوَامِ مَنْفَعَتِهِ.

وَيَقُولُ الشِّرْبِينِيُّ: يُصْرَفُ رَيْعُ الْمَوْقُوفِ عَلَى عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ فِي الْبِنَاءِ وَالتَّجْصِيصِ الْمُحْكَمِ وَالسُّلَّمِ وَالْبَوَارِي...إِلَخْ.

أ- تَقْدِيمُ الْعِمَارَةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْمَصَارِفِ:

86- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ عِمَارَةَ الْوَقْفِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْمَصَارِفِ الْأُخْرَى، سَوَاءٌ شَرَطَ الْوَاقِفُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ، لِأَنَّ قَصْدَ الْوَاقِفِ صَرْفُ الْغَلَّةِ مُؤَبَّدًا، وَلَا تَبْقَى دَائِمَةً إِلاَّ بِالْعِمَارَةِ، فَيَثْبُتُ شَرْطُ الْعِمَارَةِ اقْتِضَاءً.

بَلْ إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْوَاقِفَ لَوْ شَرَطَ عَدَمَ الْبَدْءِ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ بِإِصْلَاحِهِ، أَوْ شَرَطَ عَدَمَ الْبَدْءِ بِنَفَقَتِهِ فِيمَا يَحْتَاجُ لِنَفَقَةٍ فَلَا يُتَّبَعُ شَرْطُهُ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى إِبْطَالِ الْوَقْفِ مِنْ أَصْلِهِ بَلْ يَبْدَأُ بِمَرَمَّتِهِ وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ مِنْ غَلَّتِهِ لِتَبْقَى عَيْنُهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُتَبَّعُ شَرْطُ الْوَاقِفِ، فَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ كَالْعَقَارِ وَنَحْوِهِ مِنْ سِلَاحٍ وَمَتَاعٍ وَكُتُبٍ لَمْ تَجِبْ عِمَارَتُهُ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ بِشَرْطٍ، فَإِنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ عِمَارَتَهُ عُمِلَ بِهِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ شَرَطَ الْبَدَاءَةَ بِالْعِمَارَةِ أَوْ تَأْخِيرَهَا فَيُعْمَلُ بِمَا شَرَطَ، فَإِنْ شَرَطَ تَقْدِيمَ الْجِهَةِ عَلَى الْعِمَارَةِ عُمِلَ بِهِ، لَكِنْ قَالَ الْحَارِثِيُّ: مَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى تَعْطِيلِ الْوَقْفِ، فَإِنْ أَدَّى إِلَيْهِ قُدِّمَتِ الْعِمَارَةُ حِفْظًا لِأَصْلِ الْوَقْفِ، فَإِنْ أَطْلَقَ الْوَاقِفُ وَلَمْ يُحَدِّدْ فَإِنَّ الْعِمَارَةَ تُقَدَّمُ عَلَى أَرْبَابِ الْوَظَائِفِ، قَالَ فِي التَّنْقِيحِ: مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى تَعْطِيلِ مَصَالِحِهِ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا حَسَبَ الْإِمْكَانِ.

وَقَدْ فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْعِمَارَةِ

الضَّرُورِيَّةِ وَغَيْرِ الضَّرُورِيَّةِ، فَإِذَا كَانَتِ الْعِمَارَةُ ضَرُورِيَّةً وَاحْتِيجَ إِلَيْهَا كَرَفْعِ سَقْفٍ أَوْ بِنَاءِ جِدَارٍ فَإِنَّهَا تُقَدَّمُ عَلَى جَمِيعِ جِهَاتِ الْمَصَارِفِ، إِذْ لَيْسَ مِنَ النَّظَرِ خَرَابُ الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ مَا يُعْطَى لِلْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ، فَإِنْ فَضَلَ عَنِ التَّعْمِيرِ شَيْءٌ يُعْطَى مَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِمَّا فِي قَطْعِهِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِمَارَةُ غَيْرَ ضَرُورِيَّةٍ بِحَيْثُ لَا يُؤَدِّي تَرْكُهَا إِلَى خَرَابِ الْعَيْنِ لَوْ أَخَّرَ الْعِمَارَةَ إِلَى غَلَّةِ السَّنَةِ الْقَادِمَةِ فَيُقَدَّمُ الْأَهَمُّ فَالْأَهَمُّ.

وَفِي الْبَحْرِ عَنِ الْخَانِيَّةِ: إِذَا اجْتَمَعَ مِنْ غَلَّةِ الْأَرْضِ فِي يَدِ الْقَيِّمِ، فَظَهَرَ لَهُ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ نَحْوُ فَكِّ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ إِعَانَةِ الْغَازِي الْمُنْقَطِعِ، وَكَانَ الْوَقْفُ مُحْتَاجًا إِلَى الْإِصْلَاحِ وَالْعِمَارَةِ، وَيَخَافُ الْقَيِّمُ لَوْ صَرَفَ الْغَلَّةَ إِلَى الْعِمَارَةِ يُفَوِّتُ ذَلِكَ الْبِرَّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تَأْخِيرِ إِصْلَاحِ الْأَرْضِ وَمَرَمَّتِهِ إِلَى الْغَلَّةِ الثَّانِيَةِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ يُخَافُ خَرَابُ الْوَقْفِ فَإِنَّهُ يَصْرِفُ الْغَلَّةَ إِلَى ذَلِكَ الْبِرِّ، وَتُؤَخَّرُ الْمَرَمَّةُ إِلَى الْغَلَّةِ الثَّانِيَةِ.

وَإِنْ كَانَ فِي تَأْخِيرِ الْمَرَمَّةِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ فَإِنَّهُ يَصْرِفُ الْغَلَّةَ إِلَى الْمَرَمَّةِ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ يُصْرَفُ إِلَى ذَلِكَ الْبِرِّ.قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَجُوزُ الصَّرْفُ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ وَتَأْخِيرُ الْعِمَارَةِ إِلَى الْغَلَّةِ الثَّانِيَةِ إِذَا لَمْ يُخَفْ ضَرَرٌ بَيِّنٌ.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: وَلَوْ صَرَفَ الْمُتَوَلِّي عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ وَهُنَاكَ عِمَارَةٌ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا، لِأَنَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْوَقْفُ مِنَ الْعِمَارَةِ وَالْمُؤْنَةِ مُسْتَثْنًى عَنْ حَقِّ الْفُقَرَاءِ، فَإِذَا دَفَعَ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ ضَمِنَ.

كَمَا نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ تَقْدِيمَ الْعِمَارَةِ ثُمَّ يُصْرَفُ الْفَاضِلُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمُسْتَحِقِّينَ، لَزِمَ النَّاظِرَ إِمْسَاكُ قَدْرِ الْعِمَارَةِ كُلَّ سَنَةٍ وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْهُ الْآنَ، لِجَوَازِ أَنْ يَحْدُثَ حَدَثٌ وَلَا غَلَّةٌ، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ ذَلِكَ فَيُفَرَّقُ بَيْنَ اشْتِرَاطِ تَقْدِيمِ الْعِمَارَةِ كُلَّ سَنَةٍ وَالسُّكُوتِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ مَعَ السُّكُوتِ تُقَدَّمُ الْعِمَارَةُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا وَلَا يُدَّخَرُ لَهَا عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَمَعَ الِاشْتِرَاطِ تُقَدَّمُ الْعِمَارَةُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَيُدَّخَرُ لَهَا عِنْدَ عَدَمِهَا ثُمَّ يُفَرَّقُ الْبَاقِي، لِأَنَّ الْوَاقِفَ إِنَّمَا جَعَلَ الْفَاضِلَ عَنْهَا لِلْفُقَرَاءِ.

كَمَا نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَا انْهَدَمَ مِنْ بِنَاءِ الْوَقْفِ وَآلَتِهِ صَرَفَهُ الْحَاكِمُ فِي الْعِمَارَةِ، فَإِنْ كَانَ التَّهَيُّؤُ لِلْعِمَارَةِ ثَابِتًا فِي الْحَالِ صَرَفَهُ إِلَيْهَا، وَإِلاَّ حَفِظَهُ حَتَّى يَتَهَيَّأَ ذَلِكَ وَتَتَحَقَّقَ الْحَاجَةُ.

وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ، فَقَدْ جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: يَدَّخِرُ مِنْ زَائِدِ غَلَّةِ الْمَسْجِدِ عَلَى مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِمَّا يُعَمِّرُهُ بِتَقْدِيرِ هَدْمِهِ، وَيَشْتَرِي لَهُ بِالْبَاقِي عَقَارًا وَيَقِفُهُ، لِأَنَّهُ أَحْفَظُ لَهُ لَا بِشَيْءٍ مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَى عِمَارَتِهِ لِأَنَّ الْوَاقِفَ وَقَفَ عَلَيْهَا.

ب- الْجِهَةُ الَّتِي يُنْفَقُ مِنْهَا عَلَى الْمَوْقُوفِ وَعِمَارَتِهِ:

87- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجِهَةِ الَّتِي يُنْفَقُ مِنْهَا عَلَى الْمَوْقُوفِ وَعِمَارَتِهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجِهَةَ الَّتِي يُنْفَقُ مِنْهَا عَلَى الْمَوْقُوفِ وَعِمَارَتِهِ، وَإِصْلَاحِ مَا وَهَى مِنْ بِنَائِهِ وَسَائِرِ مُؤْنَاتِهِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا تَكُونُ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ، سَوَاءٌ شَرَطَ الْوَاقِفُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ لِأَنَّ الْوَقْفَ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَجْرِي إِلاَّ بِهَذَا الطَّرِيقِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ غَيْرَ ذَلِكَ بَطَلَ شَرْطُهُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ وَقَفَ دَارَهُ عَلَى سُكْنَى وَلَدِهِ فَالْعِمَارَةُ عَلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى، وَلَوْ مُتَعَدِّدًا مِنْ مَالِهِ لَا مِنَ الْغَلَّةِ، إِذِ الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ، وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَهُ فَكَانَتِ الْمُؤْنَةُ عَلَيْهِ فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْعِمَارَةِ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا لِفَقْرِهِ آجَرَهَا الْقَاضِي مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَعَمَّرَهَا بِالْأُجْرَةِ كَعِمَارَةِ الْوَاقِفِ، وَلَا يُجْبَرُ الْآبِي عَلَى الْعِمَارَةِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْفَرَسُ الْمَوْقُوفُ لِلْغَزْوِ يُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَلَا تَلْزَمُ نَفَقَتُهُ الْوَاقِفَ وَلَا الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَدِمَ بَيْتُ الْمَالِ بِيعَ وَعُوِّضَ بِثَمَنِهِ سِلَاحٌ وَنَحْوُهُ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ لِنَفَقَةٍ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُتَّبَعُ شَرْطُ الْوَاقِفِ.

فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْمَوْقُوفِ وَمُؤْنَةَ تَجْهِيزِهِ وَعِمَارَتِهِ مِنْ حَيْثُ شُرِطَتْ، سَوَاءٌ شَرَطَهَا الْوَاقِفُ مِنْ مَالِهِ أَوْ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ، وَإِلاَّ فَمِنْ مَنَافِعِ الْمَوْقُوفِ كَكَسْبِ الْعَبْدِ وَغَلَّةِ الْعَقَارِ، فَإِذَا تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُ فَالنَّفَقَةُ وَمُؤَنُ التَّجْهِيزِ لَا الْعِمَارَةُ تَكُونُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، كَمَنْ أَعْتَقَ مَنْ لَا كَسْبَ لَهُ، أَمَّا الْعِمَارَةُ فَلَا تَجِبُ عَلَى أَحَدٍ حِينَئِذٍ كَالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ لِصِيَانَةِ رُوحِهِ وَحُرْمَتِهِ.

وَبِمِثْلِ ذَلِكَ قَالَ الْحَنَابِلَةُ، فَقَدْ جَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: يُرْجَعُ إِلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْمَوْقُوفِ إِذَا كَانَ حَيَوَانًا أَوْ غَيْرَهُ وَخَرِبَ، بِأَنْ يَقُولَ: يُنْفَقُ عَلَيْهِ أَوْ يُعَمَّرُ مِنْ جِهَةِ كَذَا، فَإِنْ عَيَّنَ الْوَاقِفُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ مِنْ غَلَّتِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا عُمِلَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ وَكَانَ الْمَوْقُوفُ ذَا رُوحٍ كَالرَّقِيقِ وَالْخَيْلِ فَإِنَّهُ يُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ غَلَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَلَّةٌ فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ لِعَجْزِهِ بِيعَ وَصُرِفَ ثَمَنُهُ فِي عَيْنٍ أُخْرَى تَكُونُ وَقْفًا، وَإِنْ أَمْكَنَ إِجَارَتُهُ أُجِّرَ بِقَدْرِ نَفَقَتِهِ، وَكَذَا لَوِ احْتَاجَ خَانٌ مُسْبِلٌ إِلَى مَرَمَّةٍ أُوجِرَ مِنْهُ بِقَدْرِ ذَلِكَ.

وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْمَسَاكِينِ فَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ.

وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَقَارًا وَنَحْوَهُ كَسِلَاحٍ وَمَتَاعٍ لَمْ تَجِبْ عِمَارَتُهُ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ.

ج- حُكْمُ التَّعَدِّي عَلَى عِمَارَةِ الْوَقْفِ:

88- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَعَدَّى عَلَى الْوَقْفِ بِهَدْمٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْبَحْرِ أَنَّ كَوْنَ التَّعْمِيرِ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْخَرَابُ بِصُنْعِ أَحَدٍ، وَلِذَا قَالَ فِي الْوَلْوَالِجِيَّةِ: رَجُلٌ آجَرَ دَارَ الْوَقْفِ فَجَعَلَ الْمُسْتَأْجِرُ رِوَاقَهَا مَرْبِطًا لِلدَّوَابِّ وَخَرَّبَهَا يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ فَعَلَ بِغَيْرِ إِذْنٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَمَنْ هَدَمَ وَقْفًا تَعَدِّيًا فَعَلَيْهِ إِعَادَتُهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْمَهْدُومُ بَالِيًا، لِأَنَّ الْهَادِمَ ظَالِمٌ بِتَعَدِّيهِ وَالظَّالِمُ أَحَقُّ بِالْحَمْلِ عَلَيْهِ، وَلَا تُؤْخَذُ قِيمَةُ الْمَهْدُومِ، وَذَلِكَ كَمَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَابْنُ شَاسٍ.وَالرَّاجِحُ: أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ كَسَائِرِ الْمَتْلَفَاتِ وَهُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَشَهَّرَهُ عِيَاضٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ.

وَإِلَى مِثْلِ ذَلِكَ- أَيِ الضَّمَانِ بِالتَّعَدِّي- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: الْكُتُبُ الْمَوْقُوفَةُ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ لَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ مِنْهَا بِلَا تَعَدٍّ وَإِنْ تَعَدَّى ضَمِنَ.وَمِنَ التَّعَدِّي اسْ

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


153-موسوعة الفقه الكويتية (ولاء 1)

وَلَاءٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1 ـ الْوَلَاءُ لُغَةً مِنَ الْوَلْيِ، وَهُوَ أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى الْقُرْبِ.قَالَ الرَّاغِبُ: وَيُسْتَعَارُ ذَلِكَ لِلْقُرْبِ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانُ، وَمِنْ حَيْثُ النِّسْبَةُ، وَمِنْ حَيْثُ الدِّينُ، وَمِنْ حَيْثُ الصَّدَاقَةُ وَالنُّصْرَةُ وَالِاعْتِقَادُ.

وَمِنَ الْبَابِ: الْمَوْلَى، وَيُقَالُ لِابْنِ الْعَمِّ وَالنَّاصِرِ وَالْحَلِيفِ وَالصَّاحِبِ وَالْمُعِينِ وَالْمُعْتَقِ وَالْجَارِ وَغَيْرِهِمْ.

أَمَّا الْوِلَاءُ ـ بِالْكَسْرِ ـ وَالتَّوَالِي، فَمَعْنَاهُمَا الْمُتَابَعَةُ، وَهِيَ أَنْ يَحْصُلَ شَيْئَانِ فَصَاعِدَا حُصُولًا لَيْسَ بَيْنَهُمَا مَا لَيْسَ مِنْهُمَا.

وَالْبَابُ كُلُّهُ- كَمَا قَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي مُعْجَمِ مَقَايِيسِ اللُّغَةِ- رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْبِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ الْوَلَاءُ اصْطِلَاحًا: فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَصَرُوهُ عَلَى الْقَرَابَةِ الْحُكْمِيَّةِ النَّاشِئَةِ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ عَنِ الرَّقِيقِ بِالْحُرِّيَّةِ.

فَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ «اتِّصَالٌ كَالنَّسَبِ نَشَأَ عَنْ عِتْقٍ».

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: «الْوَلَاءُ شَرْعًا: عُصُوبَةٌ نَاشِئَةٌ عَنْ حُرِّيَّةٍ حَدَثَتْ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكٍ، مُتَرَاخِيَةٌ عَنْ عُصُوبَةِ نَسَبٍ، تَقْتَضِي لِلْمُعْتِقِ وَعَصَبَتِهِ الْإِرْثَ وَوِلَايَةَ النِّكَاحِ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَالْعَقْلَ عَنْهُ».

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: هُوَ ثُبُوتُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ- أَيْ عُصُوبَةٍ ثَابِتَةٍ- بِعِتْقٍ أَوْ تَعَاطِي سَبَبِهِ كَاسْتِيلَادٍ وَتَدْبِيرٍ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَقَدْ عَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ قَرَابَةٌ حُكْمِيَّةٌ حَاصِلَةٌ مِنْ عِتْقٍ أَوْ مُوَالَاةٍ، وَمِنْ آثَارِهِ الْإِرْثُ وَالْعَقْلُ وَوِلَايَةُ النِّكَاحِ.حَيْثُ إِنَّ الْوَلَاءَ عِنْدَهُمْ نَوْعَانِ:

ـ وَلَاءُ عَتَاقَةٍ: وَيُسَمَّى وَلَاءَ نِعْمَةٍ.وَسَبَبُهُ الْإِعْتَاقُ.

ـ وَوَلَاءُ مُوَالَاةٍ: وَسَبَبُهُ الْعَقْدُ الْمَعْرُوفُ بِالْمُوَالَاةِ.وَهُوَ أَنْ يُعَاهِدَ شَخْصٌ شَخْصًا آخَرَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ جَنَى فَعَلَيْهِ أَرْشُهُ، وَإِنْ مَاتَ فَمِيرَاثُهُ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَا رَجُلَيْنِ أَوِ امْرَأَتَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا رَجُلًا وَالْآخَرُ امْرَأَةً.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ

أ- الْعِتْقُ:

2- الْعِتْقُ فِي اللُّغَةِ الْحُرِّيَّةُ.

وَاصْطِلَاحًا: هُوَ قُوَّةٌ حُكْمِيَّةٌ يَصِيرُ بِهَا الْعَبْدُ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَّلَاءِ وَالْعِتْقِ أَنَّ الْعِتْقَ سَبَبٌ لِلْوَلَاءِ.

ب- الْإِرْثُ:

3 ـ أَصْلُ الْإِرْثِ لُغَةً أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ لِقَوْمٍ ثُمَّ يَصِيرَ إِلَى آخَرِينَ بِنَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ.أَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، فَيُطْلَقُ عَلَى مَا خَلَّفَهُ الْمَيِّتُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحُقُوقِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا بِمَوْتِهِ مَنْ ثَبَتَ لَهُ ذَلِكَ شَرْعًا.

فَهُوَ حَقٌّ قَابِلٌ لِلتَّجَزُّؤِ يَثْبُتُ لِمُسْتَحِقِّهِ بَعْدَ مَوْتِ مَنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِقَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا أَوْ نَحْوِهَا.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْوَلَاءِ وَالْإِرْثِ أَنَّ الْوَلَاءَ سَبَبٌ لِلْإِرْثِ.

ج- الْعَقْلُ:

4- الْمُرَادُ بِالْعَقْلِ: الدِّيَةُ.وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: الْمَالُ الَّذِي يُعْطَى بَدَلًا لِلنَّفْسِ.

َوَالْعَقْلُ اصْطِلَاحًا: الْمَالُ الْوَاجِبُ بِالْجِنَايَةِ فِي نَفْسٍ أَوْ مَا دُونَ النَّفْسِ

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَلَاءِ وَالْعَقْلِ أَنَّ الْوَلَاءَ سَبَبٌ لِلْعَقْلِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ باِلْوَلَاءِ:

يُقَسِّمُ الْفُقَهَاءُ الْوَلَاءَ إِلَى وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ.

وَنَتَنَاوَلُ فِيمَا يَلِي بَيَانَ أحكام كُلٍّ مِنْهُمَا

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ:

5- وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ أَوِ الْعِتْقِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: هُوَ عُصُوبَةٌ مُتَرَاخِيَةٌ عَنْ عُصُوبَةِ النَّسَبِ تَقْتَضِي لِلْمُعْتِقِ- وَلِعَصَبَتِهِ الذُّكُورِ مِنْ بَعْدِهِ- الْإِرْثَ وَالْعَقْلَ وَوِلَايَةَ أَمْرِ النِّكَاحِ وَالصَّلَاةَ عَلَى مَنْ أَعْتَقَهُ.

وَاسْمُ «مَوْلَى الْعَتَاقَةِ» يَقَعُ عَلَى الْمُعْتِقِ وَعَلَى الْعَتِيقِ وَقِيلَ: هُوَ مَنْ لَهُ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ، وَهُوَ الْمُعْتِقُ.

مَشْرُوعِيَّةُ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ:

6- ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ».

سَبَبُ ثُبُوتِ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ:

7- سَبَبُ ثُبُوتِ هَذَا الْوَلَاءِ الْعِتْقُ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ مَحْظُورًا فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ، سَوَاءٌ كَانَ الْعِتْقُ حَاصِلًا بِصُنْعِهِ وَهُوَ الْعَتَاقُ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْعَتَاقِ شَرْعًا كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ وَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ، أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ بِأَنْ وَرِثَ قَرِيبَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِعْتَاقُ بِغَيْرِ بَدَلٍ أَوْ بِبَدَلٍ، وَهُوَ الْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مُضَافًا إِلَى وَقْتٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ صَرِيحًا أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ، أَوْ كِنَايَةً أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْكِنَايَةِ، وَكَذَا الْعِتْقُ الْحَاصِلُ بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ صَرِيحُ التَّدْبِيرِ وَالْإِعْتَاقُ وَالِاسْتِيلَادُ وَالْكِتَابَةُ، وَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ لَهُ إِذَا أَعْتَقَهُ عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ كَالْإِعْتَاقِ عَنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ أَوِ الظِّهَارِ أَوِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ، أَوِ الْإِيلَاءِ، أَوِ الْيَمِينِ أَوِ النَّذْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا وَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ عَلَى الْمُعْتَقِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ.

الْوَلَاءُ فِي الْعِتْقِ الْمَحْظُورِ:

8 ـ الْعِتْقُ قَدْ يَكُونُ مَحْظُورًا: وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْإِعْتَاقِ الْمُحَرَّمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الْإِعْتَاقُ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُعْتِقِ أَنَّهُ إِنْ أَعْتَقَهُ يَذْهَبُ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ يَرْتَدُّ، أَوْ يُخَافُ مِنْهُ السَّرِقَةُ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ، وَكَذَلِكَ الْإِعْتَاقُ لِلشَّيْطَانِ وَلِلصَّنَمِ.

وَقَالُوا: يَنْفُذُ الْعِتْقُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ مَعَ تَحْرِيمِهِ.

وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الْمُعْتِقَ يَكْفُرُ عَلَى الْأَظْهَرِ بِالْإِعْتَاقِ لِلشَّيْطَانِ وَالصَّنَمِ.

وَفِي قَوْلٍ يَكْفُرُ بِالْإِعْتَاقِ لِلصَّنَمِ، وَيَأْثَمُ بِالْإِعْتَاقِ لِلشَّيْطَانِ.وَفِي كُلِّ هَذِهِ الصُّوَرِ يَثْبُتُ الْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ.

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ ضِمْنَ أَمْثِلَةِ الْعِتْقِ الْمَحْظُورِ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَقُ مِمَّا يُخَافُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ وَالرُّجُوعُ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، أَوْ يُخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ كَعَبْدٍ يُخَافُ أَنَّهُ إِذَا أُعْتِقَ وَاحْتَاجَ سَرَقَ وَفَسَقَ وَقَطَعَ الطَّرِيقَ، أَوْ جَارِيَةٍ يُخَافُ مِنْهَا الزِّنَا وَالْفَسَادُ.

وَقَالُوا: يُكْرَهُ الْإِعْتَاقُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ.وَأَمَّا إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ إِفْضَاءُ الْإِعْتَاقِ إِلَى الْمَحْظُورِ كَانَ الْإِعْتَاقُ مُحَرَّمًا لِأَنَّ التَّوَسُّلَ إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ صَحَّ لِأَنَّهُ إِعْتَاقٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ كَإِعْتَاقِ غَيْرِهِ.

وَقَالُوا: كُلُّ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا أَوْ عَتَقَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُعْتِقْهُ سَائِبَةً فَلَهُ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ.

الْوَلَاءُ فِي الْإِعْتَاقِ سَائِبَةً:

9- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ لَهُ الْوَلَاءُ فِي الْإِعْتَاقِ سَائِبَةً:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْأَصَحِّ وَابْنُ نَافِعٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ- فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْمَدِينَةِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى- إِلَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ سَائِبَةً كَقَوْلِهِ: أَعْتَقْتُكَ سَائِبَةً، فَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ وَرَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ وَحَمْزَةَ بْنِ حَبِيبٍ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ».

وَلِأَنَّهُ كَمَا لَا يَزُولُ نَسَبُ إِنْسَانٍ وَلَا وَلَدٍ عَنْ فِرَاشٍ بِشَرْطٍ لَا يَزُولُ وَلَاءٌ عَنْ عَتِيقٍ بِذَلِكَ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي حُكْمِ الْإِعْتَاقِ سَائِبَةً:

فَذَهَبُوا فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى ذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ سَائِبَةٌ، وَقَصَدَ بِهِ الْعِتْقَ.

وَقَالَ أَصْبَغُ: يَجُوزُ الْإِعْتَاقُ سَائِبَةً.

وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ: يُمْنَعُ الْإِعْتَاقُ سَائِبَةً.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَهُ الْوَلَاءُ فِي الْعِتْقِ بِلَفْظِ سَائِبَةٍ:

فَذَهَبُوا فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيِّ وَمَكْحُولٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا وَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ عَلَى مُعْتَقِهِ فِي الْإِعْتَاقِ سَائِبَةً.

وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ هَذَا الِاتِّجَاهِ فِيمَا رَجَعَ مِنْ مِيرَاثِ الْمُعْتِقِ عَلَى رَأْيَيْنِ:

الرَّأْيُ الْأَوَّلُ: يَشْتَرِي بِهِ رِقَابًا يُعْتِقُهُمْ.

الرَّأْيُ الثَّانِي: مِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ.قَالَ الْمَرْدَاوِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ. اخْتِلَافُ الدِّينِ وَأَثَرُهُ فِي ثُبُوتِ الْوَلَاءِ:

10- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ إِذَا اخْتَلَفَ دِينُهُ عَنْ دِينِ مُعْتَقِهِ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا يُبَايِنُهُ فِي دِينِهِ فَلَهُ وَلَاؤُهُ.

وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِاسْتِحْقَاقِ الْمُعْتِقِ الْوَلَاءَ أَنْ يَتَسَاوَى الْمُعْتِقُ وَالْمُعْتَقُ فِي الدِّينِ.فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ كَافِرًا فَلَا وَلَاءَ لَهُ عَلَى عَتِيقِهِ الْمُسْلِمِ بَلْ يَكُونُ وَلَاؤُهُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لَا يَعُودُ إِلَيْهِ بِإِسْلَامِهِ.

وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: الْمُرَادُ بِالْوَلَاءِ هُنَا بِمَعْنَى الْمِيرَاثِ لَا بِمَعْنَى اللُّحْمَةِ إِذْ هُوَ ثَابِتٌ لِمَنْ أَعْتَقَ وَلَوْ كَافِرًا.وَلَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِقَالِ الْمَالِ انْتِقَالُهَا.

بَيْعُ الْوَلَاءِ وَهِبَتُهُ:

11- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْوَلَاءِ وَلَا هِبَتُهُ.وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ.وَقَالَ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ».وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ».وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُوَرَّثُ بِهِ، فَلَا يَنْتَقِلُ، كَالْقَرَابَةِ.

انْتِقَالُ الْوَلَاءِ بِالْمَوْتِ:

12- ذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ ثُمَّ لِعَصَبَتِهِ بِنَفْسِهَا دُونَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ.وَلَا تَرِثُ امْرَأَةٌ بِالْوَلَاءِ إِلاَّ مِنْ عَتِيقِهَا وَأَوْلَادِهِ وَعُتَقَائِهِ. وَيَرَى إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَشُرَيْحٌ وَطَاوُسٌ أَنَّ الْوَلَاءَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَالِ فَيُوَرَّثُ مِنَ الْمُعْتِقِ كَمَا يُوَرَّثُ سَائِرُ أَمْوَالِهِ.

الْمِيرَاثُ بِالْوَلَاءِ

13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ يَرِثُ فِي الْحَالَاتِ الَّتِي يَثْبُتُ لَهُ فِيهَا الْوَلَاءُ جَمِيعَ مَالِ عَتِيقِهِ إِذَا مَاتَ، وَاتَّفَقَ دِينَاهُمَا، وَلَمْ يُخَلِّفْ وَارِثًا سِوَاهُ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ».وَالنَّسَبُ يُوَرَّثُ بِهِ، وَلَا يُورَثُ، كَذَلِكَ الْوَلَاءُ.وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: «إِنَّ ابْنَةَ حَمْزَةَ أَعْتَقَتْ غُلَامًا لَهَا، فَتُوُفِّيَ، وَتَرَكَ ابْنَتَهُ وَابْنَةَ حَمْزَةَ، فَقَسَمَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لَهَا النِّصْفَ وَلِابْنَتِهِ النِّصْفَ».

وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمِيرَاثُ لِلْعَصَبَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةٌ فَالْوَلَاءُ».وَعَنْهُ «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: مَا تَرَى فِي مَالِهِ؟ قَالَ: «إِنْ مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا فَهُوَ لَكَ».

وَيُقَدَّمُ الْمَوْلَى فِي الْمِيرَاثِ عَلَى الْرَدِّ وَذَوِي الْأَرْحَامِ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.

وَإِنْ كَانَ لِلْمُعْتَقِ عَصَبَةٌ مِنْ نَسَبِهِ، أْو َذَوُو فُرُوضٍ تَسْتَغْرِقُ فُرُوضُهُمُ الْمَالَ، فَلَا شَيْءَ لِلْمَوْلَى.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا تَرَكَتِ الْفُرُوضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ».وَفِي لَفْظٌ: «فِلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ».وَالْعَصَبَةُ مِنَ الْقَرَابَةِ أَوْلَى مِنْ ذِي الْوَلَاءِ، لِأَنَّهُ مُشَبَّهٌ بِالْقَرَابَةِ، وَالْمُشَبَّهُ بِهِ أَقْوَى مِنَ الْمُشَبَّهِ، وَلِأَنَّ النَّسَبَ أَقْوَى مِنَ الْوَلَاءِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ وَالنَّفَقَةُ وَسُقُوطُ الْقِصَاصِ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِالْوَلَاءِ.

(ر: إِرْث فَقْرَةَ 51)

أ َمَّا إِذَا اخْتَلَفَ دِينُ الْمُعْتِقِ وَدِينُ الْمُعْتَقِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمَا.

فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرِثُ الْمُعْتِقُ الْمُعْتَقَ مَعَ اخْتِلَافِ دِينَيْهِمَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ».وَلِأَنَّهُ مِيرَاثٌ، فَيَمْنَعُهُ اخْتِلَافُ الدِّينِ، كَمِيرَاثِ النَّسَبِ، وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ مَانِعٌ مِنَ الْمِيرَاثِ، فَمَنْعُ الْمِيرَاثِ بِالْوَلَاءِ كَالْقَتْلِ وَالرِّقِّ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْمِيرَاثَ بِالنَّسَبِ أَقْوَى، فَإِذَا مُنِعَ الْأَقْوَى فَالْأَضْعَفُ أَوْلَى وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَلْحَقَ الْوَلَاءَ بِالنَّسَبِ بِقَوْلِهِ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ».وَكَمَا يَمْنَعُ اخْتِلَافُ الدِّينِ التَّوَارُثَ مَعَ صِحَّةِ النَّسَبِ وَثُبُوتِهِ، كَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مَعَ صِحَّةِ الْوَلَاءِ وَثُبُوتِهِ.فَإِذَا اجْتَمَعَا عَلَى الْإِسْلَامِ تَوَارَثَا كَالْمُتَنَاسِبَيْنِ، وَهَذَا أَصَحُّ فِي الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَعْتَقَ الْكَافِرُ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ فَإِنَّ الْوَلَاءَ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ لَا لِلْمُعْتِقِ الْكَافِرِ وَلَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ.

أَمَّا لَوْ أَعْتَقَ الْكَافِرُ عَبْدَهُ الْكَافِرَ ثُمَّ أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَإِنَّ وَلَاءَهُ يَنْتَقِلُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ عَصَبَتِهِ لِسَيِّدِهِ النَّصْرَانِيِّ.فَإِنْ أَسْلَمَ سَيِّدُهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْوَلَاءَ يَعُودُ إِلَيْهِ.

قَالَ الْعَدَوِيُّ: وَالْمُرَادُ بِعَوْدِ الْوَلَاءِ هُنَا إِنَّمَا هُوَ الْمِيرَاثُ فَقَطْ.

وَإِذَا أَعْتَقَ مُسْلِمٌ كَافِرًا فَيَكُونُ الْمِيرَاثُ لِبَيْتِ الْمَالِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِ أَقَارِبُ كُفَّارٌ فَيَكُونُ الْوَلَاءُ لَهُمْ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ مِنَ الْكَافِرِ وَالْكَافِرَ مِنَ الْمُسْلِمِ بِالْوَلَاءِ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ النُّصَرْاَنِيَّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ».

14- وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَقَ لَا يَرِثُ مَنْ يُعْتِقُهُ لِأَنَّهُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا أُلْحِقَ الْوَلَاءُ بِالنَّسَبِ فِي حَقِّ الْمُعْتِقِ حَيْثُ أَنْعَمَ عَلَى عَبْدِهِ بِالْإِعْتَاقِ وَتَسَبَّبَ إِلَى حَيَاتِهِ مَعْنًى، فَجُوزِيَ بِاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ صِلَةً لَهُ وَكَرَامَةً.وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ مِنَ الْعَبْدِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ.

وَحُكِيَ عَنْ شُرَيْحٍ وَطَاوُسٍ أَنَّهُمَا وَرَّثَا الْمُعْتَقِ مِنَ الْمُعْتِقِ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَجُلًا مَاتَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا إِلاَّ عَبْدًا هُوَ أَعْتَقَهُ فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مِيرَاثَهُ».

تَحَمُّلُ الدِّيَةِ بِالْوَلَاءِ:

15- نَصَّ جَمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْعَاقِلَةَ (وَهِيَ الَّتِي تَتَحَمَّلُ الدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ هُمُ الْعَصَبَةُ النَّسَبِيَّةُ ثُمَّ الْعَصَبَةُ بِسَبَبِ الْعِتْقِ.

فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْقَاتِلِ دِيوَانٌ فَعَاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ مِنَ النَّسَبِ لِأَنَّ اسْتِنْصَارَهُ بِهِمْ.وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُعْتِقًا أَوْ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ فَعَاقِلَتُهُ مَوْلَاهُ وَقَبِيلَةُ مَوْلَاهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ».

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: فِي الْمُعْتَمَدِ: عَاقِلَةُ الْجَانِي عَصَبَتُهُ النَّسَبِيَّةُ فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَالْمُوَالُونَ الْأَعْلَوْنَ وَهُمُ الْمُعْتِقُونَ- بِكَسْرِ التَّاءِ- لِأَنَّهُمْ عَصَبَةُ سَبَبٍ، وَلَوْ أُنْثَى حَيْثُ بَاشَرَتِ الْعِتْقَ، وَيُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَسْفَلُونَ (الْمُعْتَقُونَ- بِفَتْحِ التَّاءِ- حَيْثُ لَمْ يُوجَدْ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْأَعْلَيْنِ، فَبَيْتُ الْمَالِ، إِنْ كَانَ الْجَانِي مُسْلِمًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْتُ مَالٍ فَتُنَجَّمُ عَلَى الْجَانِي.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: عَاقِلَةُ الْإِنْسَانِ الْجَانِي هُمْ عَصَبَتُهُ النَّسَبِيَّةُ إِلاَّ الْأَصْلَ وَإِنْ عَلَا، وَإِلاَّ الْفَرْعَ وَإِنْ سَفَلَ، ثُمَّ بَعْدَ عَصَبَةِ النَّسَبِ إِنْ فُقِدُوا، أَوْ لَمْ يُوَفُّوا مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَاجِبِ فِي الْجِنَايَةِ فَمُعْتِقٍ، ثُمَّ إِنْ فُقِدَ الْمُعْتِقُ أَوْ لَمْ يُوَفِّ مَا عَلَيْهِ فَعَصَبَةُ الْمُعْتِقِ مِنْ نَسَبٍ غَيْرِ أَصْلِهِ وَفَرْعِهِ، ثُمَّ مُعْتِقُ الْمُعْتِقِ ثُمَّ عَصَبَتُهُ وَهَكَذَا أَبَدًا.فَإِنْ فُقِدَ الْعَاقِلُ مِمَّنْ ذُكِرَ أَوْ لَمْ يُوَفِّ مَا عَلَيْهِ فَبَيْتُ الْمَالِ يَعْقِلُ عَنِ الْمُسْلِمِ لِخَبَرِ: «أَنَا وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ أَعْقِلُ عَنْهُ وَأَرِثُهُ». وَلَا يَعْقِلُ عَتِيقٌ عَنْ مُعْتِقِهِ فِي الْأَظْهَرِ كَمَا لَا يَرِثُ، وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ أَنَّهُ يَعْقِلُ، لِأَنّ الْعَقْلَ لِلنُّصْرَةِ وَالْإِعَانَةِ وَالْعَتِيقُ أَوْلَى بِهَا، وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ الْبَلْقِينِيُّ مِنْهُمْ، أَمَّا عَصَبَةُ الْعَتِيقِ فَلَا تَعْقِلُ عَنْ مُعْتِقِهِ قَطْعًا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: عَاقِلَةُ الْإِنْسَانِ: عَصَبَاتُهُ كُلُّهُمْ قَرِيبُهُمْ وَبَعِيدُهُمْ مِنَ النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ إِلاَّ عَمُودَيْ نَسَبِهِ: آبَاؤُهُ وَأَبْنَاؤُهُ.وَقَالُوا: عَاقِلَةُ الْعَبْدِ الْمُعْتَقِ عَصَبَاتُ سَيِّدِهِ.

النَّوْعُ الثَّانِي: وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ

16- الْمُوَالَاةُ لَغُةً مَصْدَرُ الْفِعْلِ وَالَى، فَيُقَالُ: وَالَاهُ مُوَالَاةً وَوَلَاءً؛ أَيْ تَابَعَهُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ الْفِقْهِيِّ: هُوَ أَنْ يُعَاهِدَ شَخْصٌ شَخْصًا آخَرَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ جَنَى فَعَلَيْهِ أَرْشُهُ وَإِنْ مَاتَ فَمِيرَاثُهُ لَهُ.

حُكْمُ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ:

17- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ، وَمَدَى ثُبُوتِ الْوَلَاءِ بِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: (أَحَدُهَا) وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِنَ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم-.وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ.وَهُوَ أَنَّهُ وَلَاءٌ ثَابِتٌ بِعَقْدٍ مَشْرُوعٍ، سَوَاءٌ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ أَوْ لَمْ يُسْلِمْ وَيَقَعُ بِهِ التَّوَارُثُ وَالْعَقْلُ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ.

فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}.إِذِ الْمُرَادُ مِنَ النَّصِيبِ: الْمِيرَاثُ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَضَافَ النَّصِيبَ إِلَيْهِمْ، فَدَلَّ عَلَى قِيَامِ حَقٍّ لَهُمْ مُقَدَّرٍ فِي التَّرِكَةِ، وَهُوَ الْمِيرَاثُ، لِأَنَّ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}.لَكِنْ هَذَا عِنْدَ عَدَمِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَقَدْ عَرَفْنَاهُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}.

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السُّنَّةُ فِي الرَّجُلِ يُسْلِمُ عَلَى يَدَيِ الرَّجُلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ».أَيْ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَحَالِ مَوْتِهِ.قَالَ الْكَاسَانِيُّ: أَرَادَ بِهِ- صلى الله عليه وسلم- مَحْيَاهُ فِي الْعَقْلِ وَمَمَاتَهُ فِي الْمِيرَاثِ.

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ: إِنَّ مَالَ الْإِنْسَانِ حَقُّهُ، فَيَصْرِفُهُ إِلَى حَيْثُ شَاءَ، وَالصَّرْفُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ إِنَّمَا هُوَ ضَرُورَةُ عَدَمِ الْمُسَتَحِقِّ، لَا أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ بَيْتَ الْمَالِ إِنَّمَا يَرِثُ بِوَلَاءِ الْإِيمَانِ فَقَطْ، لِأَنَّهُ بَيْتُ مَالِ الْمُؤْمِنِينَ.قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، وَلِمَوْلَى الْمُوَالَاةِ هَذَا الْوَلَاءُ وَوَلَاءُ الْمُعَاقَدَةِ أَيْضًا، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ.أَلَا تَرَى أَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَوْلَى مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِلتَّسَاوِي فِي وَلَاءِ الْإِيمَانِ، وَالتَّرْجِيحُ لِوَلَاءِ الْعِتْقِ، كَذَا هَذَا.

إِلاَّ أَنَّ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ يَتَأَخَّرُ عَنْ سَائِرِ الْأَقَارِبِ، وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ يَتَقَدَّمُ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَلَاءَ بِالرَّحِمِ فَوْقَ الْوَلَاءِ بِالْعَقْدِ، فَيَتَأَخَّرُ عَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَوَلَاءُ الْعَتَاقَةِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ النِّعْمَةِ بِالْإِعْتَاقِ الَّذِي هُوَ إِحْيَاءٌ وَإِيلَادٌ مَعْنًى أُلْحِقَ بِالتَّعْصِيبِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْهُ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ».

(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَلَا حُكْمَ لِهَذَا الْعَقْدِ، أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ أَوْ لَمْ يُسْلِمْ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إِرْثٌ وَلَا عَقْلٌ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ».لِأَنَّ «إِنَّمَا» فِي الْحَدِيثِ لِلْحَصْرِ، وَالْأَلِفُ وَاللاَّمُ فِي «الْوَلَاءِ» لِلْحَصْرِ أَيْضًا.وَمَعْنَى الْحَصْرِ: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ خَاصًّا بِالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ.وَعَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ وَلَاءٌ بِحَسَبِ مَفْهُومِ هَذَا الْقَوّْلِ إِلاَّ لِلْمُعْتِقِ فَقَطْ.

وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ».قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ ابْنُ رُشْدٍ: مَعْنَاهُ لَا حُكْمَ لَهُ فِي الْمُوَارَثَةِ عَلَى مَا كَانَ يُفْعَلُ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.

وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِأَنَّ فِي عَقْدِ الْمُوَالَاةِ إِبْطَالَ حَقِّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَاقِدِ وَارِثٌ، كَانَ وَرَثَتُهُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ، فَقَامُوا مَقَامَ الْوَرَثَةِ الْمُعَيَّنِينَ.وَكَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إِبْطَالِ حَقِّهِمْ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِبْطَالِ حَقِّ مَنْ قَامَ مَقَامَهُمْ.

(وَالثَّالِثُ) لِإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الْقَوْلِ الْمُقَابِلِ لِلْمَشْهُورِ: وَهُوَ أَنَّ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ إِنَّمَا يَثْبُتُ لِلشَّخْصِ إِذَا أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ آخَرُ، وَلَوْ لَمْ يُوَالِهِ.فَبِنَفْسِ الْإِسْلَامِ عَلَى يَدَيْهِ يَكُونُ وَلَاؤُهُ لَهُ، وَيَرِثُهُ بِهِ.

وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- وَعَطَاءٍ، وَبِهِ قَضَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ.وَحُجَّتُهُمْ حَدِيثُ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ الْآنِفُ الذِّكْرِ.

سَبَبُ ثُبُوتِ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ:

18- ذَهَبَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ هَذَا الْوَلَاءِ نَفْسُ إِسْلَامِ الْمَرْءِ عَلَى يَدِ آخَرَ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ تَمِيمٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: مَا السُّنَّةُ فِي الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ يُسْلِمُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ».

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُمْ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ عَقْدُ الْمُوَالَاةِ، وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ بِأَنْ يَقُولَ لِصَاحِبِهِ: أَنْتَ مَوْلَايَ تَرِثُنِي إِذَا مِتُّ وَتَعْقِلُ عَنِّي إِذَا جَنَيْتُ.فَيَقُولُ: قَبِلْتُ.سَوَاءٌ قَالَ ذَلِكَ لِلَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ أَوْ لآِخَرَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْإِرْثَ وَالْعَقْلَ فِي الْعَقْدِ.وَلَوْ أَسْلَمَ شَخْصٌ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَلَمْ يُوَالِهِ وَوَالَى غَيْرَهُ، فَهُوَ مَوْلًى لِلَّذِي وَالَاهُ.وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} حَيْثُ جَعَلَ الْوَلَاءَ لِلْعَاقِدِ دُونَ غَيْرِهِ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَكَذَا لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَثْبَتُوا الْوَلَاءَ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ، وَكُلُّ النَّاسِ كَانُوا يُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَكَانَ لَا يَقُولُ أَحَدٌ لِمَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ أَحَدٍ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ غَيْرَ الَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّ نَفْسَ الْإِسْلَامِ عَلَى يَدِ رَجُلٍ لَيْسَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْوَلَاءِ لَهُ، بَلِ السَّبَبُ هُوَ الْعَقْدُ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ لَا يَثْبُتُ الْإِرْثُ وَالْعَقْلُ.

شَرَائِطُ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ:

19- شَرَائِطُ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ تِسْعَةٌ:

(أَحَدُهَا) عَقْلُ الْعَاقِدِ: إِذْ لَا صِحَّةَ لِلْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِدُونِ الْعَقْلِ.أَمَّا الْبُلُوغُ، فَهُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ فِي جَانِبِ الْإِيجَابِ، فَلَا يَنْعَقِدُ الْإِيجَابُ مِنَ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَوَالَاهُ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ أَذِنَ أَبُوهُ الْكَافِرُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ، وَعَقْدُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ إِنَّمَا يَقِفُ عَلَى إِذْنِ وَلِيِّهِ، وَلَا وِلَايَةَ لِلْأَبِ الْكَافِرِ عَلَى وَلَدِهِ الْمُسْلِمِ، فَكَانَ إِذْنُهُ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ سَائِرُ عُقُودِهِ بِإِذْنِهِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، كَذَا عَقْدُ الْمُوَالَاةِ.

وَأَمَّا فِي جَانِبِ الْقَبُولِ، فَهُوَ شَرْطُ النَّفَاذِ، حَتَّى لَوْ وَالَى بَالِغٌ صَبِيًّا، فَقَبِلَ الصَّبِيُّ، يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ أَبِيهِ أَوْ وَصِيِّهِ.فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ، لِأَنَّ هَذَا نَوْعُ عَقْدٍ، فَكَانَ قَبُولُ الصَّبِيِّ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ قَبُولِهِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ، ً فَيَجُوزُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ وَوَصِيِّهِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ.

أَمَّا الْإِسْلَامُ، فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ، فَتَصِحُّ وَتَجُوزُ مُوَالَاةُ الذِّمِّيِّ الذِّمِّيَّ وَالذِّمِّيِّ الْمُسْلِمَ وَالْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ، لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ، وَلَوْ أَوْصَى ذِمِّيٌّ لِذِمِّيٍّ أَوْ لِمُسْلِمٍ أَوْ مُسْلِمٌ لِذِمِّيٍّ بِالْمَالِ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ، كَذَا الْمُوَالَاةُ.

وَكَذَا الذُّكُورَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، فَتَجُوزُ مُوَالَاةُ الرَّجُلِ امْرَأَةً وَالْمَرْأَةِ رَجُلًا.وَكَذَا دَارُ الْإِسْلَامِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ أَيْضًا، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ فَوَالَى مُسْلِمًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مَوْلَاهُ، لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ عَقْدٌ مِنَ الْعُقُودِ، فَلَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ وَبِدَارِ الْإِسْلَامِ وَبِدَارِ الْحَرْبِ.

(وَالشَّرْطُ الثَّانِي) أَنْ لَا يَكُونَ لِلْعَاقِدِ وَارِثٌ: وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مِنْ أَقَارِبِهِ مَنْ يَرِثُهُ.فَإِنْ كَانَ لَمْ يَصِحَّ عَقْدُ الْمُوَالَاةِ، لِأَنَّ الْقَرَابَةَ أَقْوَى مِنْهُ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}.فَإِنْ كَانَ لَهُ زَوْجٌ أَوْ زَوْجَةٌ يَصِحُّ الْعَقْدُ، وَيُعْطَى نَصْيِبَهُ أَوْ نَصْيِبَهَا، وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى.

(وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ) أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَلَاءُ عَتَاقَةٍ: فَإِنْ كَانَ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ الْمُوَالَاةِ، لِأَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ أَقْوَى مِنْ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ، لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ، وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ، فَلَا يَجُوزُ رَفْعُ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ.

(وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ) أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَلَاءُ مُوَالَاةٍ مَعَ أَحَدٍ وَقَدْ عَقَلَ عَنْهُ: لِأَنَّهُ لَمَّا عَاقَدَ غَيْرَهُ فَعَقَلَ عَنْهُ، فَقَدْ تَأَكَّدَ عَقْدُهُ وَلَزِمَ، وَخَرَجَ عَنِ احْتِمَالِ النَّقْضِ وَالْفَسْخِ، فَلَا يَصِحُّ مُعَاقَدَةُ غَيْرِهِ.

(وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ) أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ عَقَلَ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ: لِأَنَّهُ إِذَا عَقَلَ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ، فَقَدْ صَارَ وَلَاؤُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَجُوزُ تَحْوِيلُهُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ.

(وَالشَّرْطُ السَّادِسُ) أَنْ يَكُونَ حُرًّا مَجْهُولَ النَّسَبِ: وَذَلِكَ بِأَلاَّ يُنْسَبَ إِلَى غَيْرِهِ إِذْ لَا يُدْرَى لَهُ أَبٌ فِي مَسْقَطِ رَأْسِهِ، لِأَنَّ مَنْ عُرِفَ نَسَبُهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَالِيَ غَيْرَهُ.وهَذَاَ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ.

أَمَّا نِسْبَةُ غَيْرِهِ إِلَيْهِ فَغَيْرُ مَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ مُوَالَاتِهِ.

وَفِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ: كَوْنُهُ مَجْهُولَ النَّسَبِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.

(وَالشَّرْطُ السَّابِعُ) أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الْعَرَبِ: حَتَّى لَوْ وَالَى عَرَبِيٌّ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِهِ، لَمْ يَكُنْ مَوْلَاهُ، وَلَكِنْ يُنْسَبُ إِلَى عَشِيرَتِهِ، وَهُمْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ، لِأَنَّ جَوَازَ الْمُوَالَاةِ لِلتَّنَاصُرِ، وَالْعَرَبُ يَتَنَاصَرُونَ بِقَبَائِلِهِمْ، فَأَغْنَى عَنْ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ.وَإِنَّمَا تَجُوزُ مُوَالَاةُ الْعَجَمِ لِأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قَبِيلَةٌ يَتَنَاصَرُونَ بِهَا، فَتَجُوزُ مُوَالَاتُهُمْ لِأَجْلِ التَّنَاصُرِ.

وَأَمَّا الَّذِي هُوَ مِنَ الْعَرَبِ، فَلَهُ قَبِيلَةٌ يَنْصُرُونَهُ، وَالنُّصْرَةُ بِالْقَبِيلَةِ أَقْوَى، فَلَا يَصِيرُ مَوْلًى.وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَكَذَا وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ.وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ مَعَ أَنَّهُ أَقْوَى، فَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ أَوْلَى بِعَدَمِ الثُّبُوتِ عَلَيْهِ.

وَقَدْ عَلَّقَ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى اشْتِرَاطِ صَاحِبِ الدُّرِّ هَذَا الشَّرْطَ، فَقَالَ: وَيُغْنِي عَنْ هَذَا كَوْنُهُ مَجْهُولَ النَّسَبِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ أَنْسَابُهُمْ مَعْلُومَةٌ.

(وَالشَّرْطُ الثَّامِنُ) أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ مَوَالِي الْعَرَبِ: لِأَنَّ مَوْلَاهُمْ مِنْهُمْ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ».

(وَالشَّرْطُ التَّاسِعُ) أَنْ يَشْتَرِطَ الْعَقْلَ وَالْإِرْثَ: أَيْ أَنْ يَعْقِلَ عَنْهُ إِذَا جَنَى وَيَرِثَهُ إِذَا مَاتَ.

صِفَةُ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ:

20- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَالَاةَ عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ طَرَفَيْهِ أَنْ يَفْسَخَهُ بِإِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ، دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى رِضَا الطَّرَفِ الْآخَرِ.حَتَّى لَوْ وَالَى رَجُلًا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُ بِوَلَائِهِ إِلَى غَيْرِهِ.لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يُمْلَكُ بِهِ شَيْءٌ، فَلَمْ يَكُنْ لَازِمًا، كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ.وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ، وَالْوَصِيَّةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ، فَكَذَا عَقْدُ الْمُوَالَاةِ، إِلاَّ إِذَا عَقَلَ عَنْهُ، فَلَيْسَ لَهُ حِينَئِذٍ فَسْخُهُ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ وَحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ.حَيْثُ إِنَّ وِلَايَةَ التَّحَوُّلِ قَبْلَ أَنْ يَعْقِلَ بِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ، فَإِذَا عَقَلَ عَنْهُ، صَارَ كَالْعِوَضِ فِي الْهِبَةِ.وَلِأَنَّهُ إِذَا عَقَلَ عَنْهُ فَقَدْ تَأَكَّدَ الْعَقْلُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَفِي التَّحَوُّلِ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ فَسْخُ قَضَائِهِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ فَسْخَ الْقَضَاءِ.

وَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَهُ صَرِيحًا قَبْلَ أَنْ يَعْقِلَ عَنْهُ- بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: فَسَخْتُ عَقْدَ الْمُوَالَاةِ مَعَكَ- لِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ غَيْرُ لَازِمٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَهُ إِلاَّ بِحَضْرَةِ الْآخَرِ، أَيْ بِعِلْمِهِ، لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْآخَرِ، فَلَا يَمْلِكُ إِسْقَاطَهُ مَقْصُورًا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ، كَعَزْلِ الْوَكِيلِ مَقْصُورًا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ، إِلاَّ أَنْ يُوَالِيَ الْأَسْفَلُ (أَيِ الْمَوْلَى الْمُوجِبُ) آخَرَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ نَقْضًا دَلَالَةً، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ صَاحِبُهُ، أَوِ انْتِقَاضًا ضَرُورَةً، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مُوَالَاةَ غَيْرِهِ إِلاَّ بِانْفِسَاخِ عَقْدِهِ الْأَوَّلِ فَيَنْفَسِخُ الْأَوَّلُ دَلَالَةً وَضَرُورَةً.إِذْ كَثِيرًا مَا يَثْبُتُ الشَّيْءُ دَلَالَةً أَوْ ضَرُورَةً، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ قَصْدًا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


154-موسوعة الفقه الكويتية (ولاية 1)

وِلَايَـة -1

التَّعْرِيفُ:

1 ـ الْوِلَايَةُ بِالْكَسْرِ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْوَلْيِ، وَهُوَ الْقُرْبُ.يُقَالُ: وَلِيَهُ وَلْيًا، أَيْ دَنَا مِنْهُ.وَأَوْلَيْتُهُ إِيَّاهُ: أَدْنَيْتَهُ مِنْهُ.وَوَلِيَ الْأَمْرَ: إِذَا قَامَ بِهِ، وَتَوَلَّى الْأَمْرَ؛ أَيْ تَقَلَّدَهُ، وَتَوَلَّى فُلَانًا: اتَّخَذَهُ وَلِيًّا.

وَالْوَلِيُّ- فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ- مِنْ وَلِيَهُ: إِذَا قَامَ بِهِ.وَمِنْهُ قوله تعالى {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا}.

وَبِمَعْنَى مَفْعُولٍ فِي حَقِّ الْمُطِيعِ.وَمِنْهُ قِيل: الْمُؤْمِنُ وَلِيُّ اللَّهِ.وَالْمَصْدَرُ الْوِلَايَةُ.وَكَذَلِكَ تَأْتِي بِمَعْنَى السَّلْطَنَةِ، وَمِنْهُ قِيلَ: الْعِلْمُ مِنْ أَشْرَفِ الْوِلَايَاتِ، يَأْتِي إِلَيْهِ الْوَرَى وَلَا يَأْتِي، أَمَّا الْوَلَايَةُ- بِالْفَتْحِ- فَتَعْنِي النُّصْرَةَ وَالْمَحَبَّةَ.

وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَكُلٌّ مَنْ وَلِيَ أَمْرَ آخَرَ فَهُوَ وَلِيُّهُ.وَمِنْهُ وَلِيُّ الْيَتِيمِ وَوَلِيُّ الْقَتِيلِ وَوَلِيُّ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ الْقَائِمُ بِهِمْ وَالْمُتَصَرِّفُ فِي أَمْرِهِمْ.وَوَالِي الْبَلَدِ: وَهُوَ نَاظِرُ أُمُورِ أَهْلِهِ الَّذِي يَلِي الْقَوْمَ بِالتَّدْبِيرِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.

وَالْوِلَايَةُ اصْطِلَاحًا: اسْتَعْمَلَ جُلُّ الْفُقَهَاءِ كَلِمَةَ الْوِلَايَةِ بِمَعْنَى تَنْفِيذِ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ أَوْ أَبَى فَتَشْمَلُ الْإِمَامَةَ الْعُظْمَى وَالْخُطَّةَ كَالْقَضَاءِ، وَالْحِسْبَةِ وَالْمَظَالِمِ وَالشُّرَطَةِ وَنَحْوِهَا، كَمَا تَشْمَلُ قِيَامَ شَخْصٍ كَبِيرٍ رَاشِدٍ عَلَى شَخْصٍ قَاصِرٍ فِي تَدْبِيرِ شُؤُونِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ.قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُقَالُ لِلْمَحْجُورِ فِيهَا مَوْلِيٌّ عَلَيْهِ وَمُوَلًّى عَلَيْهِ كَذَلِكَ وَرَدَتْ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ بِمَعْنَى إِقَامَةِ الْغَيْرِ مَقَامَ النَّفْسِ فِي تَصَرُّفٍ جَائِزٍ مَعْلُومٍ، فَتَنَاوَلَتِ الْوَكَالَةَ وَنِظَارَةَ الْوَقْفِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَبِمَعْنَى أَحَقِّيَّةِ الْمُطَالَبَةِ بِدَمِ الْقَتِيلِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ، وَسَمَّوْا صَاحِبَهَا «وَلِيَّ الدَّمِ».كَمَا عَبَّرُوا عَنْ سُلْطَةِ الزَّوْجِ فِي تَأْدِيبِ زَوْجَتِهِ النَّاشِزِ، وَالْوَالِدِ فِي تَأْدِيبِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَالْمُعَلِّمِ فِي تَأْدِيب تَلَامِيذِهِ بِالْوِلَايَةِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا.

وَاسْتَعْمَلَهَا فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ بِمَعْنَى الْآصِرَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْإِرْثِ.فَقَالَ ابْنُ جُزَيٍّ: الْوِلَايَةُ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ: وِلَايَةُ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُورَثُ بِهَا إِلاَّ مَعَ عَدَمِ غَيْرِهَا.وَوِلَايَةُ الْحِلْفِ، وَوِلَايَةُ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ يُتَوَارَثُ بِهِمَا أَوَّلَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ.وَوِلَايَةُ الْقَرَابَةِ، وَوِلَايَةُ الْعِتْقِ، وَالْمِيرَاثُ بِهِمَا ثَابِتٌ.

2- وَقَدْ أَوْضَحَ الْقَاضِي ابْنُ رُشْدٍ مُرَادَهُمْ بِذَلِكَ فَقَالَ:

فَأَمَّا وِلَايَةُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ نَصَّ عَلَيْهَا فِي مُحْكَمِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وَهِيَ وِلَايَةٌ عَامَّةٌ.

وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحِلْفِ (وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ، فَقِيلَ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِهَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}.

وَقِيلَ: إِنْ ذَلِكَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أُمِرُوا أَنْ يُؤْتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ النَّصْرِ وَالنَّصِيحَةِ وَالْمَعُونَةِ وَالْمَشُورَةِ، وَلَا مِيرَاثَ.وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ.

(ر: مَوْلَى الْمُوَالَاةِ).

وَأَمَّا وِلَايَةُ الْهِجْرَةِ، فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِهَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ.قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.فَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ وَالْمُؤَاخَاةِ الَّتِي آخَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِهَا بَيْنَهُمْ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: (فِي كِتَابِ اللَّهِ) عَلَى مَا قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ: أَيْ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ، فَالْمُرَاد بِأُولِي الْأَرْحَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ سَمَّى اللَّهُ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ أَوْ دَخَلَ فِيهَا بِالْمَعْنَى وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ.

وَأَمَّا وِلَايَةُ النَّسَبِ، فَمَوْجُودَةٌ أَيْضًا فِي الْقُرْآنِ.قَالَ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}.وَقَالَ حَاكِيًا عَنْ زَكَرِيَّا- عليه السلام-: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا}.

يَقُولُ: وَإِنِّي خِفْتُ بَنِي عَمِّي وَعَصَبَتِي مِنْ بَعْدِي أَنْ يَرِثُونِي {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}.أَيْ وَلَدًا وَارِثًا مُعِينًا يَرِثُ مَالِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّ زَكَرِيَّا كَانَ مَنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ، فَوَهَبَ اللَّهُ لَهُ يَحْيَى.

وَأَمَّا وِلَايَةُ الْعِتْقِ، فَإِنَّهَا تُوجِبُ الْمِيرَاثَ عِنْدَ انْقِطَاعِ النَّسَبِ بِحَقِّ الْإِنْعَامِ بِالْعِتْقِ وَالْمَنِّ بِهِ عِنْدَ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ.

(ر: مَوْلَى الْعَتَاقَةِ) 3- أَمَّا «وَلَايَةُ اللَّهِ تَعَالَى» لِلْمُؤْمِنِينَ، فَمَدْلُولُهُ أَنَّهُمْ أَقْبَلُوا عَلَى اللَّهِ بِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، فَقَرُبَ مِنْهُمْ بِالْمَحَبَّةِ وَالْهِدَايَةِ وَالنُّصْرَةِ، وَتَوَلَّى أَمْرَهُمْ فَلَمْ يَكِلْهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ لَحْظَةً، وَكَفَلَ مَصَالِحَهُمْ وَرَعَاهُمْ بِحِفْظِهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ قَالَ الشَّرِيفُ الْجُرْجَانِيُّ وَغَيْرُهُ: الْوَلِيُّ- فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ- هُوَ مَنْ تَوَالَتْ طَاعَتُهُ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ عِصْيَانٍ.أَوْ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَهُوَ مَنْ يَتَوَالَى عَلَيْهِ إِحْسَانُ اللَّهِ وَإِفْضَالُهُ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وِلَايَةُ اللَّه تَعَالَى نَوْعَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ.

فَالْعَامَّةُ: وِلَايَةُ كُلِّ مُؤْمِنٍ.فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا لِلَّهِ تَقِيًّا، كَانَ اللَّهُ لَهُ وَلِيًّا، وَفِيهِ مِنَ الْوِلَايَةِ بِقَدْرِ إِيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ.

وَالْخَاصَّةُ: وِلَايَةُ الْقَائِمِ لِلَّهِ بِجَمِيعِ حُقُوقِهِ، الْمُؤْثِرِ لَهُ عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ، الَّذِي صَارَتْ مَرَاضِي اللَّهِ وَمَحَابِّهِ هَمَّهُ وَمُتَعَلَّقَ خَوَاطِرِهِ، يُصْبِحُ وَيُمْسِي وَهَمُّهُ مَرْضَاةُ رَبِّهِ وَإِنْ سَخِطَ الْخَلْقُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ

أ ـ النِّيَابَةُ:

4 ـ النِّيَابَةُ فِي اللُّغَةِ: جَعْلُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ نَائِبًا عَنْهُ فِي الْأَمْرِ، يُقَالُ: نَابَ عَنْهُ فِي الْأَمْرِ: إِذَا قَامَ مَقَامَهُ.

وَالنِّيَابَةُ فِي الاصْطِلِاحِ: قِيَامُ الإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ بِفِعْلِ أَمْرٍ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَالْوِلَايَةُ أَعَمُّ مُطْلَقًا مِنَ النِّيَابَةِ، وَالْأَخَصُّ يَسْتَلْزِمُ دَائِمًا مَعْنَى الْأَعَمِّ وَلَا عَكْسَ، فَكُلُّ نِيَابَةٍ وِلَايَةٌ وَلَا عَكْسَ.

ب ـ الْعِمَالَةُ:

5 ـ يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: عَمِلْتُهُ عَلَى الْبَلَدِ، أَيْ وَلَّيْتُهُ عَمَلَهُ.وَعَمِلْتُ عَلَى الصَّدَقَةِ: أَيْ سَعَيْتُ فِي جَمْعِهَا.وَاسْتَعْمَلْتُهُ: أَيْ جَعَلْتُهُ عَامِلاً.وَالْجَمْعُ عُمَّالٌ وَعَامِلُونَ.وَالْعُمَالَةُ بِضَمِّ الْعَيْنِ: أُجْرَةُ الْعَامِلِ، وَالْكَسْرُ لُغَةٌ، وَأَصْلُ الْعُمَالَةِ أُجْرَةُ مَنْ يَلِي الصَّدَقَةَ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا حَتَّى أُجْرِيَتْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوِلَايَةِ وَالْعُمَالَةِ: أَنَّ الْوِلَايَةَ أَعَمُّ مِنَ الْعُمَالَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ عَمِلَ السُّلْطَانِ فَهُوَ وَالٍ، فَالْقَاضِي وَالٍ، وَالْأَمِيرُ وَالٍ وَالْعَامِلُ وَالٍ، وَلَيْسَ الْقَاضِي عَامِلاً وَلَا الْأَمِيرُ، وَإِنَّمَا الْعَامِلُ مَنْ يَلِي جِبَايَةَ الْمَالِ فَقَطْ.فَكُلُّ عَامِلٍ وَالٍ، وَلَيْسَ كُلُّ وَالٍ عَامِلاً.

جـ ـ الْقِوَامَةُ:

6 ـ الْقِوَامَةُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذَةٌ مَنْ قَامَ عَلَى الشَّيْءِ يَقُومُ قِيَامًا، أَيْ حَافَظَ عَلَيْهِ وَرَاعَى مَصَالِحَهُ.وَمِنْ ذَلِكَ: الْقَيِّمُ، وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ عَلَى شَأْنِ شَيْءٍ وَيَلِيهِ وَيُصْلِحُهُ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}.وَكُلُّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْقِيَامِ الْمَجَازِيِّ، لِأَنَّ شَأْنَ الَّذِي يَهْتَمُّ بِالْأَمْرِ وَيَعْتَنِي بِهِ أَنْ يَقِفَ لِيُدَبِّرَ أَمْرَهُ وَيَرْعَاهُ.

وَلَا يَخْرُجُ الِاسْتِعْمَالُ الْفِقْهِيُّ لِلْكَلِمَةِ عَنْ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ، وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ «الْقَيِّمِ» بِمَعْنَى الْمُتَوَلِّي وَالنَّاظِرِ، فَيَقُولُونَ: الْقَيِّمُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ، وَالْقَيِّمُ عَلَى مَالِ الْوَقْفِ.وَيُرِيدُونَ بِهِ الْأَمِينَ الَّذِينَ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ وَيَقُومُ بِمَصَالِحِهِ قِيَامَ الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقِوَامَةَ أَخَصُّ مِنَ الْوِلَايَةِ.

د ـ الْوِصَايَةُ:

7 ـ الْوِصَايَةُ لُغَةً مَصْدَرُ وَصَّى، تَعْنِي طَلَبَ شَخْصٍ شَيْئًا مِنْ غَيْرِهِ لِيَفْعَلَهُ عَلَى غَيْبٍ مِنْهُ حَالَ حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ.

أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ الْفِقْهِيِّ فَهِيَ: إِقَامَةُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ لِيَنْظُرَ فِي شُؤُونِ تَرِكَتِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ دُيُونٍ وَوَصَايَا وَفِي شُؤُونِ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَرِعَايَتِهِمْ.وَيُسَمَّى ذَلِكَ الشَّخْصُ الْمُقَامُ وَصِيًّا.أَمَّا إِقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ فِي الْقِيَامِ بِبَعْضِ أُمُورِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، فَلَا يُقَالُ لَهُ فِي اصْطِلَاحِهِمْ وِصَايَةٌ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى وِكَالَةً.

وَالْوِصَايَةُ عَلَى ذَلِكَ أَخَصُّ مِنَ الْوِلَايَةِ.

هـ الْوَكَالَةُ:

8 ـ الْوَكَالَةُ فِي اللُّغَةِ: التَّفْوِيضُ إِلَى الْغَيْرِ وَرَدُّ الْأَمْرِ إِلَيْهِ.

وَمَعْنَاهَا فِي الِاصْطِلَاحِ الْفِقْهِيِّ: تَفْوِيضُ شَخْصٍ مَا لَهُ فِعْلُهُ مِمَّا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ إِلَى غَيْرِهِ لِيَفْعَلَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَقَدْ عَرَّفَهَا الْمَنَاوِيُّ بِأَنَّهَا: اسْتِنَابَةُ جَائِزِ التَّصَرُّفِ مِثْلَهُ فِيمَا لَهُ عَلَيْهِ تَسَلُّطٌ أَوْ وِلَايَةٌ لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ.وَقَالَ التَّهَانَوِيُّ: هِيَ إِقَامَةُ أَحَدٍ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي تَصَرُّفٍ شَرْعِيٍّ مَعْلُومٍ مُوَرِّثٍ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ.كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ الْمُوَرِّثَيْنِ لِلْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَالْوِكَالَةُ أَخَصُّ مِنَ الْوِلَايَةِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوِلَايَةِ

الْوِلَايَةُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَامَّةً أَوْ خَاصَّة وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِهَا:

أَوَّلاً: الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ:

9 ـ الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ: سُلْطَةٌ عَلَى إِلْزَامِ الْغَيْرِ وَإِنْفَاذِ التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ بِدُونِ تَفْوِيضٍ مِنْهُ، تَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالنَّفْسِ وَالْمَالِ، وَتُهَيْمِنُ عَلَى مَرَافِقِ الْحَيَاةِ الْعَامَّةِ وَشُؤُونِهَا، مِنْ أَجْلِ جَلْبِ الْمَصَالِحِ لِلْأُمَّةِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَنْهَا.

وَهِيَ مَنْصِبٌ دِينِيٌّ وَدُنْيَوِيٌّ، شُرِعَ لِتَحْقِيقِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَالْحُكْمُ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ.قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَالْمَقْصُودُ الْوَاجِبُ بِالْوِلَايَاتِ: إِصْلَاحُ دِينِ الْخَلْقِ الَّذِي مَتَى فَاتَهُمْ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا نَعِمُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِصْلَاحُ مَا لَا يَقُومُ الدِّينُ إِلاَّ بِهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُمْ.

10- وَلِلْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ مَرَاتِبُ وَاخْتِصَاصَاتٌ تَتَفَاوَتُ فِيمَا بَيْنَهَا وَتَتَدَرَّجُ مِنْ وِلَايَةِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ إِلَى وِلَايَةِ نُوَّابِهِ وَوُلَاتِهِ وَنَحْوِهِمْ، وَبِهَا يُنَاطُ تَجْهِيزُ الْجُيُوشِ، وَسَدُّ الثُّغُورِ، وَجِبَايَةُ الْأَمْوَالِ مِنْ حِلِّهَا، وَصَرْفُهَا فِي مَحِلِّهَا، وَتَعْيِينُ الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ، وَإِقَامَةُ الْحَجِّ وَالْجَمَاعَاتِ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ، وَقَمْعُ الْبُغَاةِ وَالْمُفْسِدِينَ وَحِمَايَةُ بَيْضَةِ الدِّينِ، وَفَصْلُ الْخُصُومَاتِ، وَقَطْعُ الْمُنَازَعَاتِ، وَنَصْبُ الْأَوْصِيَاءِ وَالنُّظَّارِ وَالْمُتَوَلِّينَ وَمُحَاسَبَتِهِمْ.وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَسْتَتِبُّ بِهَا الْأَمْنُ، وَيُحَكَّمُ شَرْعُ اللَّهِ.قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ جَمِيعَ الْوِلَايَاتِ فِي الْإِسْلَامِ مَقْصُودُهَا أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِذَلِكَ، وَبِهِ أَنْزَلَ الْكُتُبَ، وَلَهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ، وَعَلَيْهِ جَاهَدَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ.

11- وَلِهَذَا اعْتَبَرَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ وِلَايَةَ أَمْرِ النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الدِّينِ، بَلْ لَا قِيَامَ لِلدِّينِ إِلاَّ بِهَا، لِأَنَّ بَنِي آدَمَ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُمْ إِلاَّ بِالِاجْتِمَاعِ، لِحَاجَةِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مِنْ رَأْسٍ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ».فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَأْمِيرَ الْوَاحِدِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْقَلِيلِ الْعَارِضِ فِي السَّفَرِ، تَنْبِيهًا بِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الِاجْتِمَاعِ...كَذَلِكَ أَوْجَبَ اللَّهُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلاَّ بِقُوَّةٍ وَسُلْطَانٍ، وَكَذَا سَائِرُ مَا أَوْجَبَهُ مِنَ الْجِهَادِ وَالْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْحَجِّ وَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَهِيَ لَا تَتِمُّ إِلاَّ بِالْقُوَّةِ وَالْإِمَارَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ.

الشُّرُوطُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ:

يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِتَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ تَوَفُّرَ الشُّرُوطِ التَّالِيَةِ:

أ ـ الْإِسْلَامُ:

12- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ لِصِحَّةِ تَوَلِّي جَمِيعِ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}.حَيْثُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ عَلَى الْمُسْلِمِ بِوَجْهٍ.وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}.قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: أُولُو الْأَمْرِ هُمُ الْأَئِمَّةُ وَالسَّلَاطِينُ وَالْقُضَاةُ وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ لَهُ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ.فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مُسْتَحِقِّي الطَّاعَةِ أُولُو الْأَمْرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ، فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ وَلَا طَاعَةَ.

ب ـ الْبُلُوغُ:

13- أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ لِصِحَّةِ تَوَلِّي جَمِيعِ الْوِلَايَاتِ، لِأَنَّ الصَّغِيرَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ يَلِي أَمْرَهُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَلِيَ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ.يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوَيُفِيقَ».حَيْثُ أَفَادَ عَدَمَ تَكْلِيفِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُ الْأُمُورَ، وَمَنْ كَانَ هَذَا حَالَهُ لَمْ يَصِحَّ تَوْلِيَتُهُ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ رَأْسِ السَّبْعِينَ وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ».

جـ ـ الْعَقْلُ:

14- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَقْلِ لِصِحَّةِ تَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، فَالْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ لَا تَجُوزُ وِلَايَتُهُ فِي قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ شَرْعًا، وَالتَّكْلِيفُ مِلَاكُ الْأَمْرِ، وَلِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَلِي أَمْرَهُ، فَلَا يَلِي أَمْرَ غَيْرِهِ.

د ـ الْحُرِّيَّةُ:

15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ صِحَّة تَوَلِّي الْعَبْدِ الْوِلَايَةَ الْعَامَّةَ، لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِخِدْمَةِ مَالِكِهِ، وَلِأَنَّ نَقْصَ الْعَبْدِ عَنْ وِلَايَةِ نَفْسِهِ يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ وِلَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ.

هـ ـ الذُّكُورَةُ:

16- ذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ لِصِحَّةِ تَوَلِّي الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} حَيْثُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ هُوَ الْقَائِمُ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَكَيْفَ تَقُومُ هِيَ عَلَى شُؤُونِ الْأُمَّةِ؟ وَلِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً».فَقَدْ قَرَنَ الرَّسُول- عليه الصلاة والسلام- عَدَمَ الْفَلَاحِ لِلْأُمَّةِ بِتَوَلِّي الْمَرْأَةِ شُؤُونَهَا.

و ـ الْعَدَالَةُ:

17- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ لِصِحَّةِ تَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ.وَالْعَدَالَةُ: هِيَ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَالْمُرُوءَةُ، فَالصَّلَاحُ فِي الدِّينِ هُوَ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ بِعَدَمِ ارْتِكَابِ الْكَبَائِرِ وَعَدَمِ الْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ، وَأَنْ يَكُونَ بَعِيدًا عَنْ مَوَاطِنِ الرِّيَبِ، مَأْمُونًا فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ.

وَأَمَّا الْمُرُوءَةُ فَهِيَ: اسْتِعْمَالُ مَا يُجَمِّلُهُ وَيُزَيِّنُهُ، وَتَرْكُ مَا يُدَنِّسُهُ وَيَشِينُهُ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ.

وَإِنَّمَا اشْتُرِطَتِ الْعَدَالَةُ هَهُنَا لِأَنَّ الْفَاسِقَ مُتَّهَمٌ فِي دِينِهِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَلَا يُوثَقُ بِتَصَرُّفَاتِهِ وَلَا يُؤْمَنُ مَعَهُ مِنَ الْحَيْفِ فِي الْأَحْكَامِ، فَلَا يَصِحُّ تَوْلِيَتُهُ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ.

ز ـ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ

18- اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لِتَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ الْعِلْمَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

قَالَ السِّمْنَانِيُّ: يُشْتَرَطُ فِي الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأُصُولِ الدِّينِ وَمِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي فُرُوعِهِ لِيُمْكِنَهُ حَلُّ الشُّبَهِ وَإِرْشَادُ الضَّالِّ وَفُتْيَا الْمُسْتَفْتِي وَالْحُكْمُ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَهَذَا شَرْطٌ عَلَيْهِ سَائِرُ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ فِي اعْتِبَارِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَسَائِرِ الْمُخْتَلِفِينَ، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ فِرَقِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ، لَا يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ فِي ذَلِكَ.

ثُمَّ نَقَلَ السِّمْنَانِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي عَصْرِهِ وَهُوَ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّ اعْتِبَارَ الْعِلْمِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ لَا يَصِحَّ لِإِمَامٍ إِمَامَةٌ فِي الْعَصْرِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ بَصَرٌ وَعَقْلٌ وَرَأْيٌ وَيُقَوِّي كُلَّ فَرِيقٍ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ «وَيَتَوَلَّوْنَ ذَلِكَ عَنْهُ» كَمَا يَتَوَلاَّهُ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ كَلَّفْنَاهُ الْعِلْمَ بِذَلِكَ مَعَ ضِيقِ الزَّمَانِ وَكَثْرَةِ الْأَشْغَالِ لأَدَّى ذَلِكَ إِلَى انْقِطَاعِ زَمَانِهِ وَفَوَاتِ تَدْبِيرِ أُمُورِ الْخَلْقِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ كَثِيرٌ وَالْمَسَائِلَ صَعْبَةٌ، وَلَا يَكَادُ يَجْتَمِعُ جَمِيعُ الْعُلُومِ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ إِلاَّ نَادِرًا شَاذًّا، وَيَجْتَمِعُ مَجْمُوعُ الْعُلُومِ فِي الْأَشْخَاصِ، فَإِذَا احْتَاجَ إِلَى نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَقَاسَ ذَلِكَ عَلَى الْقَضَاءِ.

ح ـ الْكِفَايَةُ الْجِسْمِيَّةُ

19- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّة تَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ كَوْنَهُ سَمِيعًا بَصِيرًا نَاطِقًا، لِأَنَّ الِاخْتِلَالَ الْوَاقِعَ فِي تِلْكَ الْأَعْضَاءِ أَوِ الْحَوَاسِّ يُؤَدِّي إِلَى الْعَجْزِ عَنْ كَمَالِ التَّصَرُّفِ، وَيُفْضِي إِلَى الْخَلَلِ فِي قِيَامِ ذِي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ بِمَا جُعِلَ وَأُسْنِدَ إِلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ.

وَقَدْ ذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ أَنَّ فَقْدَ الْحَوَاسِّ كَالْبَصَرِ وَالسَّمْعِ وَالْكَلَامِ يَحُولُ دُون الِانْتِهَاضِ فِي الْمُلِمَّاتِ وَالْحُقُوقِ، وَيَجُرُّ إِلَى الْمُعْضِلَاتِ عِنْد مَسِيسِ الْحَاجَاتِ.وَالْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ تَسْتَدْعِي كَمَالَ الْأَوْصَافِ، وَالْأَعْمَى وَالْأَصَمُّ وَالْأَبْكَمُ وَمَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ.

ط ـ الرَّأْيُ وَالْكِفَايَةُ:

20- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ تَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ الرَّأْيُ وَالْكِفَايَةُ.وَهَذِهِ الصِّفَةُ تَخْتَلِفُ مُتَطَلَّبَاتُهَا بِحَسْبِ الْوِلَايَةِ الَّتِي يُرَادُ إِسْنَادُهَا، فَمَا يَلْزَمُ تَوَفُّرُهُ فِي الْخَطِيرِ مِنْهَا كَالْإِمَامَةِ الْعُظْمَى مِنَ الْمَقْدِرَةِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ وَالصَّرَامَةِ وَالشَّفَقَةِ وَالْمَضَاءِ وَالدَّهَاءِ لَا يُشْتَرَطُ فِيمَا دُونَهَا مِنَ الْوِلَايَاتِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ بِحَسْبِهَا.

وَقَدْ نَبَّهَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، فِيمَا رَوَاهُ «أَبُو ذَرٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا» فَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي عَدَمِ جَوَازِ إِسْنَادِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ لِمَنْ كَانَ فِيهِ ضَعْفٌ عَنِ الْقِيَامِ بِوَظَائِفِهَا وَأَعْبَائِهَا وَمُوجِبَاتِهَا، لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ.وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ.قِيلَ:كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ».

هَذِهِ هِيَ الشُّرُوطُ الْمُشْتَرَكَةُ لِتَوَلِّي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ، وَهُنَاكَ شُرُوطٌ أُخْرَى فَوْقَهَا تُضَافُ لِبَعْضِ أَنْوَاعِهَا، مِثْلَ شَرْطِ الْقُرَشِيَّةِ لِلْخِلَافَةِ.ر: الْإِمَامَةُ الْعُظْمَى ف 11، وَقَضَاء ف 18.

تَقْدِيمُ الْأَمْثَلِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ:

21- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَ اجْتِمَاعُ كُلِّ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي النَّاسِ، وَفُقِدَ مُكْتَمِلُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، فَلَا يُعَطَّلُ إِسْنَادُ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ فِي الدَّوْلَةِ، بَلْ يَجِبُ تَقْدِيمُ الْأَصْلَحِ وَالْأَمْثَلِ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ بِحَسْبِهَا، إِذِ الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، وَلِأَنَّ حِفْظَ بَعْضِ الْمَصَالِحِ أَوْلَى مِنْ تَضْيِيعِهَا كُلِّهَا، فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ أَصْلِ الْمَصَالِحِ لِوُجُودِ بَعْضِ الْفِسْقِ فِي وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلِأَنَّ الْبَعِيدَ مَعَ الْأَبْعَدِ قَرِيبٌ، وَأَهْوَنَ الشَّرَّيْنِ خَيْرٌ بِالْإِضَافَةِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فَعَلَّقَ تَحْصِيلَ التَّقْوَى عَلَى الِاسْتِطَاعَةِ، فَكَذَا الْمَصَالِحُ كُلُّهَا.

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ إِلاَّ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَأَنَّ الْأَمْرَ يَسْقُطُ بِالْعَجْزِ.وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: لَوْ تَعَذَّرَتِ الْعَدَالَةُ فِي جَمِيعِ النَّاسِ لَمَا جَازَ تَعْطِيلُ الْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُضَاةِ وَالْخُلَفَاءِ وَالْوُلَاةِ، بَلْ قَدَّمْنَا أَمْثَلَ الْفَسَقَةِ فَأَمْثَلَهُمْ، وَأَصْلَحَهُمْ لِلْقِيَامِ بِذَلِكَ فَأَصْلَحَهُمْ، بِنَاءً عَلَى أَنَّا إِذَا أُمِرْنَا بِأَمْرٍ أَتَيْنَا مِنْهُ بِمَا قَدَرْنَا عَلَيْهِ، وَيَسْقُطُ عَنَّا مَا عَجَزْنَا عَنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ حِفْظَ الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ تَضْيِيعِ الْكُلِّ.

22- وَمَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَوْلِيَةُ غَيْرِ الْأَهْلِ لِلضَّرُورَةِ إِذَا كَانَ أَصْلَحَ الْمَوْجُودِ، فَيَجِبُ مَعَ ذَلِكَ السَّعْيُ فِي إِصْلَاحِ الْأَحْوَالِ حَتَّى يَكْمُلَ فِي النَّاسِ مَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ مِنْ أُمُورِ الْوِلَايَاتِ وَالْإِمَارَاتِ وَنَحْوِهَا، كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُعْسِرِ السَّعْيُ فِي وَفَاءِ دِينِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ إِلاَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَكَمَا يَجِبُ الِاسْتِعْدَادُ لِلْجِهَادِ بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ فِي وَقْتِ سُقُوطِهِ لِلْعَجْزِ، فَإِنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.

وَاجِبَاتُ صَاحِبِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ:

23- تَخْتَلِفُ وَاجِبَاتُ أَصْحَابِ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ بِحَسْبِ الْوِلَايَةِ الَّتِي يَتَقَلَّدُهَا كُلٌّ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ لِتَبَايُنِ الْوَظَائِفِ وَالْأَعْبَاءِ وَالِاخْتِصَاصَاتِ وَالْمَسْئُولِيَّاتِ الْمَنُوطَةِ بِكُلِّ ذِي وِلَايَةٍ، فَوَاجِبَاتُ الْخَلِيفَةِ مَثَلاً مُخْتَلِفَةٌ عَنْ وَاجِبَـاتِ وَالِي الشُّرَطَةِ، وَوَاجِبَاتُ الْوَزِيرِ مُخْتَلِفَةٌ عَنْ وَاجِبَاتِ الْقَاضِي، وَوَاجِبَاتُ أَمِيرِ الْجَيْشِ مُخْتَلِفَةٌ عَنْ وَاجِبَاتِ الْمُحْتَسِبِ، وَهَذِهِ الْوَاجِبَاتُ هِيَ كَمَا يَلِي:

أ ـ الِالْتِزَامُ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ:

24- الِالْتِزَامُ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ عَلَى صَاحِبِ الْوِلَايَةِ، وَذَلِكَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ، فَإِنَّهُ مِلَاكُ الْأَمْرِ وَجِمَاعُ الْخَيْرِ فِيهِ.فَمُتَقَلِّدُ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قُدْوَةً حَسَنَةً لِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ، بِأَنْ يَتَعَهَّدَ نَفْسَهُ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى قَبْلَ أَنْ يَطْلُبَ ذَلِكَ مِنَ الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَى امْتِثَالِهِمْ، وَأَقْوَى أَثَرًا فِي صَلَاحِهِمْ وَفَلَاحِهِمْ.

ب ـ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ:

25- وَمِنْ وَاجِبَاتِ صَاحِبِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، حَيْثُ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي وُلَاةِ الْأُمُورِ.

وَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ اسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنْ عِصَابَةٍ، وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَخَانَ رَسُولَهُ وَخَانَ الْمُؤْمِنِينَ».

وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَدًا مُحَابَاةً، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلاً حَتَّى يُدْخِلَهُ جَهَنَّمَ».

وَعَلَى ذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيمَا تَحْتَ يَدِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أَصْلَحَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَأَمْثَلَهُمْ وَأَفْضَلَهُمْ، أَدَاءً لِلْأَمَانَةِ وَبُعْدًا عَنِ الْخِيَانَةِ.قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْأَحَقِّ الْأَصْلَحِ إِلَى غَيْرِهِ لِأَجْلِ قَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا، أَوْ وَلَاءِ عَتَاقَةٍ، أَوْ صَدَاقَةٍ، أَوْ مُوَافَقَةٍ فِي بَلَدٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ طَرِيقَةٍ أَوْ جِنْسٍ، كَالْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ، أَوْ لِرِشْوَةٍ يَأْخُذُهَا مِنْهُ مِنْ مَالٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ، أَوْ لِضِغْنٍ فِي قَلْبِهِ عَلَى الْأَحَقِّ، أَوْ عَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَدَخَلَ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.

وَأَدَاءُ أَوْلِيَاءِ الْأُمُورِ لِلْأَمَانَةِ- كَمَا قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ- مَبْنِيٌّ عَلَى ثَلَاثِ شُعَبٍ: خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَلاَّ يَشْتَرِيَ بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً، وَتَرْكُ خَشْيَةِ النَّاسِ.

(ر: أَمَانَةُ ف3)

جـ ـ الْعَدْلُ بَيْنَ النَّاسِ:

26- الْعَدْلُ مِيزَانُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ قِوَامُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَسَبَبُ صَلَاحِ الْخَلْقِ، وَبِهِ قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ.قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}.وَوَرَدَ عَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

وَلِهَذَا نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ إِذَا شَمِلَهَا الْعَدْلُ كَانَتْ مِنْ أَفْضَلِ الطَّاعَاتِ، وَأَنَّ الْعَادِلَ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ جَمِيعِ الْأَنَامِ.

قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا يَجْرِي عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَدَرْءِ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ فَيَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا مِائَةَ أَلْفِ مَظْلِمَةٍ فَمَا دُونَهَا، أَوْ يَجْلِبُ بِهَا مِائَةَ أَلْفِ مَصْلَحَةٍ فَمَا دُونَهَا، فَيَا لَهُ مِنْ كَلَامٍ يَسِيرٍ وَأَجْرٍ كَبِيرٍ.

أَمَّا وُلَاةُ الْجَوْرِ وَقُضَاةُ السُّوءِ فَأَعْظَمُ النَّاسِ وِزْرًا، وَأَحَطُّهُمْ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِعُمُومِ مَا يَجْرِي عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ جَلْبِ الْمَفَاسِدِ وَدَرْءِ الْمَصَالِحِ، وَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُولُ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ فَيَأْثَمُ بِهَا أَلْفَ إِثْمٍ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى حَسَبِ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَا لَهَا مِنْ صَفْقَةٍ خَاسِرَةٍ وَتِجَارَةٍ بَايِرَةٍ.

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ جِمَاعَ السِّيَاسَةِ الْعَادِلَةِ وَالْوِلَايَةِ الصَّالِحَةِ: أَدَاءُ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَالْحُكْمُ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ.وَحَكَى: إِنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَلَا يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَلَوْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً.

د ـ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ:

27- إِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوِلَايَاتِ فِي الْإِسْلَامِ: إِصْلَاحُ دِينِ الْخَلْقِ الَّذِي مَتَى فَاتَهُمْ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا نَعِمُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِصْلَاحُ مَا لَا يَقُومُ الدِّينُ إِلاَّ بِهِ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا.وَذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا.

- 16- قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَإِذَا كَانَ جِمَاعُ الدِّينِ وَجَمِيعِ الْوِلَايَاتِ هُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، فَالْأَمْرُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ هُوَ النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهَذَا نَعْتُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَالْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}.

وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ قَادِرٍ، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَيَصِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْقَادِرِ إِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ، وَالْقُدْرَةُ هِيَ السُّلْطَانُ وَالْوِلَايَةُ، فَذَوُو السُّلْطَانِ أَقْدَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَعَلَيْهِمْ مِنَ الْوُجُوبِ مَا لَيْسَ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ مَنَاطَ الْوُجُوبِ هُوَ الْقُدْرَةُ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ بِحَسْبِ قُدْرَتِهِ.

وَجَمِيعُ الْوِلَايَاتِ إِنَّمَا مَقْصُودُهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وِلَايَةُ الْحَرْبِ الْكُبْرَى مِثْلُ نِيَابَةِ السَّلْطَنَةِ، وَالصُّغْرَى مِثْلُ وِلَايَةِ الشُّرَطَةِ، وَوِلَايَةِ الْحُكْمِ، وَوِلَايَةِ الْمَالِ- وَهِيَ وِلَايَةُ الدَّوَاوِينِ الْمَالِيَّةِ- وَوِلَايَةِ الْحِسْبَةِ.لَكِنَّ مِنَ الْمُتَوَلِّينَ مَنْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ الْمُؤْتَمَنِ، وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ الصِّدْقُ، مِثْلُ الشُّهُودِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَمِثْلُ صَاحِبِ الدِّيوَانِ الَّذِي وَظِيفَتُهُ أَنْ يَكْتُبَ الْمُسْتَخْرَجَ وَالْمَصْرُوفَ، وَالنَّقِيبِ وَالْعَرِيفِ الَّذِي وَظِيفَتُهُ إِخْبَارُ ذِي الْأَمْرِ بِالْأَحْوَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْأَمِينِ الْمُطَاعِ، وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْعَدْلُ، مِثْلُ الْأَمِيرِ وَالْحَاكِمِ وَالْمُحْتَسِبِ.وَبِالصِّدْقِ فِي كُلِّ الْأَخْبَارِ، وَالْعَدْلِ فِي الْإِنْشَاءِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ تَصْلُحُ جَمِيعُ الْأَحْوَالِ.

هـ ـ مَشُورَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَذَوِي الرَّأْيِ وَالتَّجْرِبَةِ:

28- مَشُورَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَذَوِي الرَّأْيِ وَالتَّجْرِبَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى صَاحِبِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ لِظَاهِرِ وَعُمُومِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْمُشَاوَرَةُ أَصْلُ الدِّينِ، وَسُنَّةُ اللَّهِ فِي الْعَالَمِينَ، وَهِيَ حَقٌّ عَلَى عَامَّةِ الْخَلِيقَةِ مِنَ الرَّسُولِ إِلَى أَقَلِّ خَلْقٍ بَعْدَهُ فِي دَرَجَاتِهِمْ، وَهِيَ اجْتِمَاعٌ عَلَى أَمْرٍ يُشِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ بِرَأْيِهِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِشَارَةِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَيَلْزَمُ ذَا الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ اسْتِشَارَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْخِبْرَةِ فِيمَا خَفِيَ عَنْهُ أَوْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ مِـنَ الْأُمُورِ وَالْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِوِلَايَتِـهِ وَسُلْطَانِهِ، فَالشُّورَى أُلْفَةٌ لِلْجَمَاعَةِ، وَمِسْبَارٌ لِلْعُقُولِ، وَسَبَبٌ إِلَى الصَّوَابِ، وَمَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ إِلاَّ هُدُوا.

قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادَ: وَاجِبٌ عَلَى الْوُلَاةِ مُشَاوَرَةُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ، وَفِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَوُجُوهِ الْجَيْشِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُرُوبِ، وَوُجُوهِ النَّاسِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ، وَوُجُوهِ الْكُتَّابِ وَالْعُمَّالِ وَالْوُزَرَاءِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْبِلَادِ وَعِمَارَتِهَا.

وَقَدْ مَدَحَ اللَّه مَنْ عَمِلَ بِهَا فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}.قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَيْ لَا يَسْتَبِدُّونَ بِأَمْرٍ، وَيَتَّهِمُونَ رَأْيَهُمْ حَتَّى يَسْتَعِينُوا بِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُظَنُّ بِهِ أَنَّ عِنْدَهُ مَدْرَكًا لِغَرَضِهِ.وَهَذِهِ سِيرَةٌ أَوَّلِيَّةٌ، وَسُنَّةٌ نَبَوِيَّةٌ، وَخَصْلَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ مَرَضِيَّةٌ.

(ر: شُورَى ف 5 ـ 8).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


155-موسوعة الفقه الكويتية (ولد 1)

وَلَدٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْوَلَدُ فِي اللُّغَةِ: بِفَتْحَتَيْنِ: الْمَوْلُودُ.يُقَالُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَقَدْ يُجْمَعُ عَلَى أَوْلَادٍ وَوِلْدَةٍ وَإِلْدَةٍ وَؤُلْدٍ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الِابْنُ:

2- عَرَّفَ الْجُرْجَانِيُّ الِابْنَ بِأَنَّهُ: حَيَوَانٌ ذَكَرٌ يَتَوَلَّدُ مِنْ نُطْفَةِ شَخْصٍ آخَرَ مِنْ نَوْعِهِ.

وَقَالَ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ: وَسُمِّيَ ابْنًا لِكَوْنِهِ بِنَاءً لِلْأَبِ، فَإِنَّ الْأَبَ هُوَ الَّذِي بَنَاهُ وَجَعَلَهُ اللَّهُ بَنَّاءَ فِي إِيجَادِهِ، وَيُقَالُ لِكُلِّ مَا يَحْصُلُ مِنْ جِهَةِ شَيْءٍ أَوْ مِنْ تَرْبِيَتِهِ أَوْ بِتَفَقُّدِهِ أَوْ كَثْرَةِ خِدْمَتِهِ لَهُ أَوْ قِيَامِهِ بِأَمْرِهِ هُوَ ابْنُهُ، نَحْوَ فُلَانِ ابْنِ حَرْبٍ، وَابْنِ السَّبِيلِ وَابْنِ اللَّيْلِ وَابْنِ الْعِلْمِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الِابْنِ وَالْوَلَدِ هِيَ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، لِأَنَّ الِابْنَ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ، أَمَّا الْوَلَدُ فَيُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى.

ب- الْبِنْتُ:

3- الْبِنْتُ وَالِابْنَةُ مُؤَنَّثُ ابْنٍ، وَأُرِيدَ بِهِ الْفُرُوعُ مِنَ الْأُنْثَى فِي قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} بِطَرِيقِ عُمُومِ الْمَجَازِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْبِنْتِ وَالْوَلَدِ: أَنَّ الْبِنْتَ تُطْلَقُ عَلَى الْأُنْثَى، أَمَّا الْوَلَدُ فَيُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى.

ج- الْحَفِيدُ:

4- الْحَفِيدُ فِي اللُّغَةِ: يُطْلَقُ عَلَى وَلَدِ الْوَلَدِ وَعَلَى الْأَعْوَانِ وَالْخَدَمِ وَالْأَخْتَانِ وَالْأَصْهَارِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْحَفِيدُ هُوَ: وَلَدُ الْوَلَدِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَلَدِ وَبَيْنَ الْحَفِيدِ هِيَ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، فَكُلُّ حَفِيدٍ وَلَدٌ، وَلَيْسَ كُلُّ وَلَدٍ حَفِيدًا.

د- السِّبْطُ:

5- السِّبْطُ هُوَ: وَلَدُ الِابْنِ وَالِابْنَةِ، قَالَ الْعَسْكَرِيُّ: وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ السِّبْطُ فِي وَلَدِ الْبِنْتِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ يُطْلَقُ السِّبْطُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى وَلَدِ الْبِنْتِ، وَأَمَّا وَلَدُ الِابْنِ فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْحَفِيدِ عِنْدَهُمْ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُطْلَقُ كُلٌّ مِنَ الْحَفِيدِ وَالسِّبْطِ عَلَى وَلَدِ الِابْنِ وَوَلَدِ الْبِنْتِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَلَدِ وَالسِّبْطِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ.

هـ- الذُّرِّيَّةُ:

6- الذُّرِّيَّةُ فِي اللُّغَةِ قِيلَ: نَسْلُ الثَّقَلَيْنِ، وَقِيلَ: هِيَ وَلَدُ الرَّجُلِ، وَقِيلَ: مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ تَجِيءُ تَارَةً بِمَعْنَى الْأَبْنَاءِ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ نُوحٍ: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} وَتَجِيءُ تَارَةً بِمَعْنَى الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ كَمَا فِي قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}.

وَقِيلَ: إِنَّ الذُّرِّيَّةَ النُّطَفُ، حَمَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي بُطُونِ النِّسَاءِ تَشْبِيهًا بِالْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، قَالَهُ سَيِّدُنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه-.

وَالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ: أَنَّ الذُّرِّيَّةَ تُطْلَقُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَبْنَاءِ الشَّخْصِ وَبَنَاتِهِ وَأَوْلَادِهِمْ.وَفِي رَأْيٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ فِي الذُّرِّيَّةِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الذُّرِّيَّةِ وَالْوَلَدِ أَنَّ الذُّرِّيَّةَ أَعَمُّ مِنَ الْوَلَدِ.

و- النَّسْلُ:

7- النَّسْلُ: الْوَلَدُ، وَتَنَاسَلُوا: وَلَدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ عِبَارَةٌ عَنْ خُرُوجِ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ مُطْلَقًا، نَسَلَ الشَّيْءُ نُسُولًا: انْفَصَلَ عَنْ غَيْرِهِ وَسَقَطَ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّسْلِ وَالْوَلَدِ أَنَّ النَّسْلَ أَعَمُّ مِنَ الْوَلَدِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَلَدِ:

تَنْقَسِمُ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَلَدِ إِلَى قِسْمَيْنِ: أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِوَلَدِ الْآدَمِيِّ، وَأَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِوَلَدِ الْحَيَوَانِ.

أَوَّلًا: الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِوَلَدِ الْآدَمِيِّ:

تَبَعِيَّةُ الْوَلَدِ فِي الدِّينِ:

8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ على أَنَّ الْوَلَدَ يَتَّبِعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا.

فَلَوْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مُسْلِمًا، فَالْوَلَدُ عَلَى دِينِهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَلَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ صَارَ وَلَدُهُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ، لِأَنَّ فِي جَعْلِهِ تَبَعًا لَهُ نَظَرًا لَهُ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا، وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا، فَالْوَلَدُ كِتَابِيٌّ، لأَنَّ فِيهِ نَوْعَ نَظَرٍ لَهُ، إِذِ الْمَجُوسِيَّةُ شَرٌّ، كَمَا اشْتَرَطُوا لِتَبَعِيَّةِ الْوَلَدِ لِخَيْرِ الْأَبَوَيْنِ دِينًا اتِّحَادَ الدَّارِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، بِأَنْ كَانَ الصَّغِيرُ فِي دَارِنَا وَالْأَبُ فِي دَارِ الْكُفْرِ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ بِأَنْ كَانَ الْأَبُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالصَّغِيرُ فِي دَارِ الْكُفْرِ فَإِنَّهُ لَا يَتْبَعُهُ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (رِدَّة ف 46، وَاخْتِلَافُ الدِّينِ ف 7- 8، وَتَبَعِيَّة ف 3).

رِدَّةُ الصَّبِيِّ:

9- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ رِدَّةِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ.

فَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ وَقَوْلٌ لِأَحْمَدَ إِلَى أَنَّ رِدَّةَ الصَّبِيِّ لَا تَصِحُّ.لِأَنَّ أَقْوَالَ الصَّبِيِّ غَيْرُ صَحِيحَةٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَكَمٌ كَالطَّلَاقِ وَالْإِقْرَارِ وَالْعُقُودِ، وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ فِيهِ نَفْعُهُ، وَالْكُفْرَ فِيهِ ضَرَرُهُ، وَيَجُوزُ تَصَرُّفُهُ النَّافِعُ دُونَ الضَّارِّ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ: يُحْكَمُ بِرِدَّةِ الصَّبِيِّ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَمَالُ الْعَقْلِ دُونَ الْبُلُوغِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ بَلَغَ غَيْرَ عَاقِلٍ لَمْ يَصِحَّ إِسْلَامُهُ، وَالْعَقْلُ يُوجَدُ مِنَ الصَّغِيرِ كَمَا يُوجَدُ مِنَ الْكَبِيرِ، وَلِأَنَّهُ أَتَى بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ مَعَ الْإِقْرَارِ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ طَائِعًا دَلِيلُ الِاعْتِقَادِ، وَالْحَقَائِقَ لَا تُرَدُّ، وَإِذَا صَارَ مُسْلِمًا، فَإِذَا ارْتَدَّ تَصِحُّ كَالْبَالِغِ، وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ عَقْدٌ وَالرِّدَّةُ حَلُّهُ، وَكُلُّ مَنْ مَلَكَ عَقْدًا مَلَكَ حَلَّهُ كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَلِأَنَّ مَنْ كَانَ بِيَدِهِ الِاعْتِقَادُ تُصُوِّرَ مِنْهُ تَبْدِيلُهُ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِ الِاعْتِرَافُ دَلَّ عَلَى تَبْدِيلِ الِاعْتِقَادِ كَالْمُسْلِمِ.

وَإِذَا ثَبَتَتْ رِدَّةُ الصَّبِيِّ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا أَحْكَامُ الرِّدَّةِ، فَلَا يَرِثُ وَلَا يُوَرَّثُ، وَتَبِينُ امْرَأَتُهُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ لَوْ مَاتَ مُرْتَدًا، وَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ لِأَنَّا لَمَّا حَكَمْنَا بِإِسْلَامِهِ لَا يُتْرَكُ عَلَى الْكُفْرِ كَالْبَالِغِ، وَلِأَنَّ بِالْجَبْرِ يَنْدَفِعُ عَنْهُ مَضَرَّةُ حِرْمَانِ الْإِرْثِ وَبَيْنُونَةِ الزَّوْجَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَإِنَّمَا لَا يُقْتَلُ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يُبَاحُ قَتْلُهُ بِالْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ لَا يُبَاحُ بِالرِّدَّةِ، لِأَنَّ إِبَاحَةَ الْقَتْلِ بِنَاءً عَلَى أَهْلِيَّةِ الْحِرَابِ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ عُقُوبَةٌ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الصَّبِيِّ كَالْقِصَاصِ، وَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ لَا يَعْقِلُ لَا يَصِحُّ إِسْلَامُهُ وَلَا ارْتِدَادُهُ، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْكُفْرَ يَتْبَعَانِ الْعَقْلَ.

وَوَرَدَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي صَبِيٍّ أَبَوَاهُ مُسْلِمَانِ كَبُرَ كَافِرًا وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالْإِسْلَامِ بَعْدَمَا بَلَغَ قَالَ: لَا يُقْتَلُ وَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا يُقْتَلُ مَنْ أَقَرَّ بِالْإِسْلَامِ بَعْدَمَا بَلَغَ ثُمَّ كَفَرَ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْحُدُودُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُسْلِمًا بِفِعْلِهِ وَإِنَّمَا بِالتَّبَعِيَّةِ، وَحُكْمُ أَكْسَابِهِ كَالْمُرْتَدِّ.

وَلَا يُقْتَلُ الصَّبِيُّ قَبْلَ بُلُوغِهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ رِدَّتِهِ، بَلْ لَا يُقْتَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حَتَّى بَعْدَ بُلُوغِهِ.

انْظُرْ مُصْطَلَحَ (رِدَّة ف 3، 4)

الْأَذَانُ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ:

10- يُسَنُّ الْأَذَانُ فِي يُمْنَى أُذُنَيِ الْمَوْلُودِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى حِينَ يُولَدُ، وَالْإِقَامَةُ بِيُسْرَاهُمَا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَذَان ف 51)

تَقْدِيمُ الْوَلَدِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ:

11- يُقَدَّمُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ أَبُوهُ، ثُمَّ ابْنُهُ، ثُمَّ ابْنُ ابْنِهِ وَإِنْ سَفَلَ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (جَنَائِز ف 41)

إِمَامَةُ وَلَدِ الزِّنَى:

12- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إِمَامَةِ وَلَدِ الزِّنَى.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِمَامَة ف 24)

إِمَامَةُ وَلَدِ اللِّعَانِ:

13- نَصَّ الْحَنَابِلَةُ: عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِمَامَةِ الْوَلَدِ الْمَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ إِذَا سَلِمَ دِينُهُ وَكَانَ صَالِحًا لِلْإِمَامَةِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ» وَصَلَّى التَّابِعُونَ خَلْفَ ابْنِ زِيَادٍ وَهُوَ مِمَّنْ فِي نَسَبِهِ نَظَرٌ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- لَمَّا سُئِلَتْ عَنْ وَلَدِ الزِّنَا: «لَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةِ أَبَوَيْهِ شَيْءٌ» وَقَرَأَتْ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وَلِأَنَّهُ حُرٌّ مَرْضِيٌّ فِي دِينِهِ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ كَغَيْرِهِ.

دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَى وَلَدِ الْمُزَكِّي:

14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَى وَلَدِهِ، لِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَمْلَاكِ بَيْنَهُمْ مُتَّصِلَةٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّمْلِيكُ عَلَى الْكَمَالِ.

وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاة ف 177).

زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنِ الْوَلَدِ:

15- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ يُخْرِجُهَا الشَّخْصُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ كُلِّ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَمِنْهُمْ أَوْلَادُهُ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةُ الْفِطْرِ ف 7 وَمَا بَعْدَهَا).

إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنِ الْوَلَدِ الَّذِي مَاتَ أَوْ وُلِدَ بَعْدَ وَقْتِ الْوُجُوبِ:

16- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنِ الْوَلَدِ الَّذِي مَاتَ أَوْ وُلِدَ بَعْدَ وَقْتِ الْوُجُوبِ.فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى وُجُوبِ إِخْرَاجِهَا عَنْهُ.وَذَهَبَ الْبَعْضُ الْآخَرُ إِلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ.

وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةُ الْفِطْرِ ف 8).

حَجُّ الْوَلَدِ عَنْ وَالِدَيْهِ:

17- يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ حَجُّ الْوَلَدِ عَنْ وَالِدَيْهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ».

وَالتَّفْصِيلُ فِي (حَجّ ف 114، 117، أَدَاء ف 16، نِيَابَة ف 13، 28) نَسَبُ الْوَلَدِ:

18- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْ أُمِّهِ بِالْوِلَادَةِ مِنْهَا، وَمِنْ أَبِيهِ بِالْفِرَاشِ وَالْإِقْرَارِ وَالْبَيِّنَةِ، وَلَا يَنْتَفِي إِلاَّ بِاللِّعَانِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ، وَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِنَسَبِ الْوَلَدِ مِنْ مَبَاحِثَ، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (نَسَب ف 10 وَمَا بَعْدَهَا، وَلِعَان ف 25 وَمَا بَعْدَهَا، وَاسْتِلْحَاق ف2)

التَّضْحِيَةُ عَنِ الْوَلَدِ:

19- الْوَلَدُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَبِيرًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا، فَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ كَبِيرًا فَلَا يَجِبُ عَلَى وَالِدِهِ التَّضْحِيَةُ عَنْهُ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْوَلَدُ صَغِيرًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى وَالِدِهِ التَّضْحِيَةُ عَنْهُ، لِأَنَّ وَلَدَ الرَّجُلِ جُزْؤُهُ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ نَفْسِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ وَلَدِهِ بِالْقِيَاسِ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ.وَعَنْهُ: لَا تَجِبُ التَّضْحِيَةُ عَنْهُ، لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ مَحْضَةٌ، وَالْقُرْبَةُ لَا تَجِبُ بِسَبَبِ الْغَيْرِ؛ لقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} وقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَإِنَّهَا مَؤُونَةٌ، وَسَبَبُهَا رَأَسُ يَمُونُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ، وَصَارُوا كَالْعَبِيدِ يُؤَدَّى عَنْهُمْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَلَا يُضَحَّى عَنْهُمْ، وَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ عَلَى الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ الْكَبِيرِ.

ثُمَّ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ يُسْتَحَبُّ لِلْوَالِدِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ لِلصَّبِيِّ مَالٌ ضَحَّى عَنْهُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ، خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ، وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَقِيلَ: الْأَصَحُّ أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ بِإِجْمَاعِ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ فَلَا يُخَاطَبُ بِهَا، بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ الْإِرَاقَةُ، وَالتَّصَدُّقُ بِهَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي مَالِ الصَّبِيِّ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَكْلِ جَمِيعِهَا عَادَةً وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا فَلَا تَجِبُ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ: الصَّحِيحُ أَنَّهَا تَجِبُ وَلَا يُتَصَدَّقُ بِهَا لِأَنَّهُ تَطَوُّعٌ، وَلَكِنْ يَأْكُلُ مِنْهَا الصَّغِيرُ وَعِيَالُهُ، وَيَدَّخِرُ لَهُ مَا يُمْكِنُهُ، وَيَبْتَاعُ لَهُ بِالْبَاقِي مَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ، كَمَا يَجُوزُ لِلْبَالِغِ ذَلِكَ فِي الْجَلَدِ، وَالْجَدُّ مَعَ الْحَفَدَةِ كَالْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْإِنْسَانِ التَّضْحِيَةُ مِنْ مَالِهِ عَنْ أَبَوَيْهِ الْفَقِيرَيْنِ وَوَلَدِهِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَبْلُغَ الذَّكَرُ، وَيَدْخُلَ بِالْأُنْثَى زَوْجُهَا، وَيُخَاطَبُ وَلِيُّ الْيَتِيمِ بِفِعْلِهَا عَنْهُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ كَمَا يُقْبَلُ فِي زَكَاةِ مَالِهِ، وَيُخَاطَبُ الْأَبُ بِهَا عَمَّنْ وُلِدَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ أَوْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا عَمَّنْ فِي الْبَطْنِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ الطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَحْجُورِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ التَّضْحِيَةُ عَنْهُمْ مِنْ مَالِهِمَا، كَمَا أَنَّ لَهُ إِخْرَاجَ فِطْرَتِهِ مِنْ مَالِهِ عَنْهُ، لِأَنَّ فِعْلَهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ دُونَ غَيْرِهِمَا، لِأَنَّهُ لَا يُسْتَقَلُّ بِتَمْلِيكِهِ فَتَضْعُفُ وِلَايَتُهُ عَنْهُ فِي هَذِهِ التَّضْحِيَةِ.

الْعَقِيقَةُ عَنِ الْوَلَدِ

20- الْعَقِيقَةُ: مَا يُذَكَّى عَنِ الْوَلَدِ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى بِنِيَّةٍ وَشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ.

وَهِيَ سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمَنْدُوبَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُبَاحَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عَقِيقَة ف4 وَمَا بَعْدَهَا) خِتَانُ الْوَلَدِ:

21- الْخِتَانُ: اسْمٌ مِنَ الْخَتْنِ: وَهُوَ قَطْعُ الْقُلْفَةِ مِنَ الذَّكَرِ، وَالنَّوَاةِ مِنَ الْأُنْثَى.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى وُجُوبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى سُنِّيَتَهُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (خِتَان ف2 وَمَا بَعْدَهَا)

تَسْمِيَةُ الْوَلَدِ:

22- بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ حُكْمَ تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَمَا يُكْرَهُ مِنْهَا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَسْمِيَة ف 5 وَمَا بَعْدَهَا)

حَضَانَةُ الْوَلَدِ:

23- الْحَضَانَةُ هِيَ حِفْظُ مَنْ لَا يَسْتَقِلُّ بِأُمُورِهِ وَتَرْبِيَتُهُ بِمَا يُصْلِحُهُ.

وَبَيَّنَ الْفُقَهَاءُ حُكْمَهَا وَالْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَشُرُوطَ اسْتِحْقَاقِهَا، وَحُكْمَ طَلَبِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا، وَوَقْتَ انْتِهَائِهَا.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (حَضَانَة ف 5 وَمَا بَعْدَهَا)

إِرْضَاعُ الْوَلَدِ:

24- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ إِرْضَاعُ الْمَوْلُودِ إِذَا كَانَ فِي سِنِّ الرَّضَاعِ، وَكَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ.

وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِهِ فِي مُصْطَلَحِ رَضَاعٍ (ف 3- 6، خُلْع ف 25)

نَفَقَةُ الْوَلَدِ:

25- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْوَلَدِ تَجِبُ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلاَّ وَجَبَتْ عَلَى أَبِيهِ بِشُرُوطٍ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَة ف 54، 58)

تَعْلِيمُ الْوَلَدِ:

26- يَلْزَمُ الْوَالِدَيْنِ تَعْلِيمُ الْوَلَدِ فِي صِغَرِهِ كُلَّ مَا يَلْزَمُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَيُعَلِّمُهُ مَا تَصِحُّ بِهِ عَقِيدَتُهُ مِنْ: إِيمَانٍ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَا تَصِحُّ بِهِ عِبَادَتُهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.

انْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَعَلُّم وَتَعْلِيم ف 11، وَوِلَايَة)

تَأْدِيبُ الْوَلَدِ:

27- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ تَأْدِيبُ الْوَلَدِ لِتَرْكِهِ الصَّلَاةَ وَالطَّهَارَةَ، وَسَائِرَ الْفَرَائِضِ وَنَحْوَ ذَلِكَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَأْدِيب ف 3 وَمَا بَعْدَهَا، وِلَايَة)

طَاعَةُ الْوَلَدِ لِلْوَالِدَيْنِ وَبِرُّهُمَا:

28- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ أَنْ يُطِيعَ وَالِدَيْهِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَأَنْ يَبَرَّهُمَا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (بِرِّ الْوَالِدَيْنِ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا) وَطَاعَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدَيْهِ فِي تَرْكِ النَّوَافِلِ أَوْ قَطْعِهَا أَوْ تَطْلِيقِ زَوْجَتِهِ يُنْظَرُ حُكْمُهُ فِي مُصْطَلَحِ (بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ف 10، 12)

دُعَاءُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ:

29- دُعَاءُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا يَحْصُلُ ثَوَابُهُ لِلْوَالِدِ، لِأَنَّ عَمَلَ وَلَدِهِ مِنْ جُمْلَةِ عَمَلِهِ لِتَسَبُّبِهِ فِي وُجُودِهِ لِحَدِيثِ: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»، حَيْثُ جَعَلَ دُعَاءَ الْوَلَدِ مِنْ عَمَلِ الْوَالِدِ.قَالَ الشَّرْوَانِيُّ: أَوْ لِأَنَّ ثَوَابَ الدُّعَاءِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ شَرْعًا لِلْوَلَدِ، وَالْوَالِدُ يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابٌ فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِصُدُورِ هَذَا الْعَمَلِ فِي الْجُمْلَةِ.

كَرَاهَةُ أَنْ يَدْعُوَ الْوَلَدُ أَبَاهُ بِاسْمِهِ:

30- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَدْعُوَ الرَّجُلُ أَبَاهُ بِاسْمِهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ لَفْظٍ يُفِيدُ التَّعْظِيمَ كَيَا سَيِّدِي وَنَحْوِهِ لِمَزِيدِ حَقِّهِ عَلَى الْوَلَدِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ التَّزْكِيَةِ، لِأَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَدْعُوِّ بِأَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِمَا يُفِيدُهَا، لَا إِلَى الدَّاعِي الْمَطْلُوبُ مِنْهُ التَّأَدُّبَ مَعَ مَنْ فَوْقَهُ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِوَلَدِ الشَّخْصِ وَتِلْمِيذِهِ وَغُلَامِهِ أَنْ لَا يُسَمِّيَهُ بِاسْمِهِ وَلَوْ فِي الْمَكْتُوبِ.

نَهْيُ الْمُكَلَّفِ عَنْ دُعَائِهِ عَلَى وَلَدِهِ:

31- نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَدْعُوَ الْإِنْسَانُ عَلَى وَلَدِهِ، فَقَدْ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءً فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ».

وَقَالَ الشَّرْوَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ إِنْ قَصَدَ الْوَالِدُ بِالدُّعَاءِ عَلَى الْوَلَدِ تَأْدِيبَهُ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ إِفَادَتُهُ جَازَ كَضَرْبِهِ، بَلْ أَوْلَى.

تَفْضِيلُ بَعْضِ الْأَوْلَادِ عَلَى بَعْضٍ فِي الْعَطِيَّةِ:

32- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَوْلَادِ عَلَى بَعْضٍ فِي الْعَطِيَّةِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْوَالِدِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِي الْعَطِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ وطَاوُسٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْعَطِيَّةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَسْوِيَة ف 11)

تَفْضِيلُ بَعْضِ الْأَوْلَادِ فِي الْمَحَبَّةِ:

33- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَوْلَادِ عَلَى بَعْضٍ فِي الْمَحَبَّةِ، لِأَنَّهَا عَمَلُ الْقَلْبِ.

وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (مُحِبَّة ف 8)

هِبَةُ الْأَبِ لِوَلَدِهِ شَيْئًا مَشْغُولًا:

34- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ هِبَةَ الْمَشْغُولِ لَا تَجُوزُ، كَأَنْ وَهَبَ الْأَبُ لِطِفْلِهِ دَارًا وَالْأَبُ يَسْكُنُهَا أَوْ لَهُ فِيهَا مَتَاعٌ، لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِمَتَاعِ الْقَابِضِ.

وَفِي الْخَانِيَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُجَرَّدِ تَجُوزُ، وَيَصِيرُ قَابِضًا لِابْنِهِ.

وَتَصِحُّ كَذَلِكَ هِبَةُ الدَّارِ الْمُعَارَةِ، فَلَوْ وَهَبَ طِفْلَهُ دَارًا يَسْكُنُ فِيهَا قَوْمٌ بِغَيْرِ أَجْرٍ جَازَ، وَيَصِيرُ قَابِضًا لِابْنِهِ أَمَّا لَوْ كَانَ بِأَجْرٍ فَلَا يَجُوزُ.

الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ لِلْوَلَدِ:

35- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ رُجُوعِ الْأَبِ عَنْ هِبَتِهِ لِوَلَدِهِ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ فِي هِبَةِ وَلَدِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (هِبَة ف 39 وَمَا بَعْدَهَا).

الْوَقْفُ عَلَى الْأَوْلَادِ:

36- إِذَا قَالَ الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلَادِي فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى دُخُولِ أَوْلَادِهِ الصُّلْبِيِّينَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي دُخُولِ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (وَقْف) دُخُولُ الْوَلَدِ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ:

37- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ أَوْصَى رَجُلٌ لِأَقَارِبِهِ، أَوْ لِأَقَارِبَ فَلَانٍ، دَخَلَ أَقَارِبُهُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِنْ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ وَارِثٍ، وَلَا يَدْخُلُ الْوَالِدَانِ وَالْوَلَدُ، وَأَمَّا الْجَدُّ وَوَلَدُ الْوَلَدِ فَيَدْخُلُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا كَانَ لَهُ أَقَارِبُ لِأَبِيهِ لَا يَرِثُونَ اخْتُصُّوا بِالْوَصِيَّةِ، أَمَّا الَّذِينَ يَرِثُونَ فَلَا يَدْخُلُونَ فِي الْوَصِيَّةِ.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَقَارِبُ لِأَبٍ غَيْرُ وَارِثِينَ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَخْتَصُّ بِأَقَارِبِهِ لأُِمِّهِ، وَعَلَى ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ الْأَوْلَادُ لِأَنَّهُمْ يَرِثُونَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى عَدَمِ دُخُولِ الْوَالِدَانِ وَالْوَلَدِ، أَمَّا الْجَدُّ وَالْأَحْفَادُ فَيَدْخُلُونَ لِشُمُولِ الِاسْمِ لَهُمْ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، يَدْخُلُ الْوَالِدَانِ وَالْوَلَدُ؛ لِأَنَّهُمَا يَدْخُلَانِ فِي الْوَصِيَّةِ لِأَقْرَبِ الْأَقَارِبِ فَكَيْفَ لَا يَدْخُلَانِ فِي الْأَقَارِبِ؟ قَالَ السُّبْكِيُّ: وَهَذَا أَظْهَرُ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَوْ وَصَّى لأَقْرَبِ أَقَارِبِهِ دَخَلَ الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ أَيِ الْأَبَوَانِ وَالْأَوْلَادُ.

عَطِيَّةُ الْوَلَدِ لِوَالِدَيْهِ:

38- يُسَنُّ لِلْوَلَدِ أَنْ يَعْدِلَ فِي الْعَطِيَّةِ الشَّامِلَةِ لِلصَّدَقَةِ وَالْوَقْفِ وَالْهَدِيَّةِ وَالْكَلَامِ وَالتَّوَدُّدِ لِوَالِدَيْهِ، قَالَ الدَّارِمِيُّ: فَإِنْ فَضَّلَ، فَلْيُفَضِّلِ الْأُمَّ.

(ر: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ف 4 5)

اسْتِئْذَانُ الْوَالِدَيْنِ لِلسَّفَرِ:

39- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ سَفَرٍ لَا يُؤْمَنُ فِيهِ الْهَلَاكُ، وَيَشْتَدُّ فِيهِ الْخَطَرُ، فَلَيْسَ لِلْوَلَدِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ بِغَيْرِ إِذَنْ وَالِدَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا يُشْفِقَانِ عَلَى وَلَدِهِمَا، فَيَتَضَرَّرَانِ بِذَلِكَ، وَكُلُّ سَفَرٍ لَا يَشْتَدُّ فِيهِ الْخَطَرُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا، إِذَا لَمْ يُضَيِّعْهُمَا، لِانْعِدَامِ الضَّرَرِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ف9، وَاسْتِئْذَان ف 29)

إِذْنُ الْوَالِدَيْنِ لِلْوَلَدِ فِي الْجِهَادِ:

40- لَا يَجُوزُ الْجِهَادُ إِلاَّ بِإِذْنِ الْأَبَوَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ أَوْ بِإِذْنِ أَحَدِهِمَا إِنْ كَانَ الْآخَرُ كَافِرًا، إِلاَّ إِذَا تَعَيَّنَ الْجِهَادُ، كَأَنْ يَنْزِلَ الْعَدُوُّ بِقَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ف 11، جِهَاد ف 11- 12)

أَخْذُ الْأَبَوَيْنِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِمَا:

41- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوَالِدَ لَا يَأْخُذُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ شَيْئًا إِلاَّ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا احْتَاجَ الْأَبُ إِلَى مَالِ وَلَدِهِ، فَإِنْ كَانَا فِي الْمِصْرِ وَاحْتَاجَ الْوَالِدُ لِفَقْرِهِ أَكَلَ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَا فِي الْمَفَازَةِ وَاحْتَاجَ إِلَيْهِ لِانْعِدَامِ الطَّعَامِ مَعَهُ فَلَهُ الْأَكْلُ بِالْقِيمَةِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا شَاءَ وَيَتَمَلَّكُهُ مَعَ حَاجَةِ الْأَبِ إِلَى مَا يَأْخُذُهُ وَمَعَ عَدَمِهَا، صَغِيرًا كَانَ الْوَلَدُ أَوْ كَبِيرًا بِشَرْطَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُجْحِفَ بِالِابْنِ وَلَا يَضُرَّ بِهِ، وَلَا يَأْخُذَ شَيْئًا تَعَلَّقَتْ بِهِ حَاجَتُهُ.

الثَّانِي: أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ فَيُعْطِيهِ وَلَدَهُ الْآخَرَ.نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ تَخْصِيصِ بَعْضِ وَلَدِهِ بِالْعَطِيَّةِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَلأَنْ يُمْنَعَ مِنْ تَخْصِيصِهِ بِمَا أَخَذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ الْآخَرِ أَوْلَى.

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَسْرُوقًا زَوَّجَ ابْنَتَهُ بِصَدَاقٍ عَشَرَةِ آلَافٍ فَأَخَذَهَا وَأَنْفَقَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَالَ لِلزَّوْجِ: جَهِّزِ امْرَأَتَكَ.

وَلِمَا رَوَتْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ.قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ».

وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنَّ لِي مَالًا وَعِيَالًا، وَإِنَّ لِأَبِي مَالًا وَعِيَالًا، وَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْوَلَدَ مَوْهُوبًا لِأَبِيهِ فَقَالَ: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} وَقَالَ: {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} وَقَالَ زَكَرِيَّا: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} وَمَا كَانَ مَوْهُوبًا لَهُ كَانَ لَهُ أَخْذُ مَالِهِ كَعَبْدِهِ.

وَفِي مَسَائِلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لِابْنِ هَانِئٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: كُلُّ شَيْءٍ يَأْخُذُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ فَيَقْبِضُهُ، فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَيَعْتِقَ، وَسُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يَسْرِقُ الْوَالِدُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ عَلَيْهِ الْقَطْعُ؟ قَالَ: لَا يُقَالُ سَرَقَ، لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ وَلَا يُقْطَعُ.

وَقَالَ أَيْضًا: يَأْخُذُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا شَاءَ لِحَدِيثِ «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ».

وَقَالَ أَيْضًا: لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا شَاءَ، وَلَيْسَ لِوَلَدِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ.إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بِسَرَفٍ فَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ الْقُوتَ.

وَسُئِلَ عَنِ الْمَرْأَةِ تَتَصَدَّقُ مِنْ مَالِ ابْنِهَا؟ قَالَ: لَا تَتَصَدَّقُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ.

الْخُلْعُ عَلَى نَفَقَةِ الْوَلَدِ وَإِرْضَاعِهِ:

42- الْوَلَدُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَضِيعًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَطِيمًا.

فَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ فَطِيمًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْخُلْعُ عَلَى نَفَقَةِ هَذَا الْوَلَدِ إِذَا وَقَّتَا مُدَّةً مُعَيَّنَةً، لِأَنَّ نَفَقَتَهُ طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، وَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ، لِأَنَّهُ يَأْكُلُ مُدَّةَ عُمُرِهِ، فَلَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ بِدُونِ تَوْقِيتٍ لِلْجَهَالَةِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَلَدُ رَضِيعًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْخُلْعُ عَلَى نَفَقَتِهِ وَكَذَا عَلَى إِرْضَاعِهِ، وَنَفَقَتِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِرْضَاعُهُ أَيْضًا، سَوَاءٌ وَقَّتَا مُدَّةً مُعَيَّنَةً أَوْ لَمْ يُوَقِّتَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي حَالَةِ عَدَمِ الِاتِّفَاقِ عَلَى وَقْتٍ مُحَدَّدٍ، تُرْضِعُهُ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، إِنْ كَانَ الْخُلْعُ عِنْدَ وِلَادَتِهِ أَوْ إِلَى تَتِمَّةِ الْحَوْلَيْنِ إِنْ مَضَى مِنْهُمَا شَيْءٌ، لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} وَحَدِيثِ: «لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ» أَيِ الْعَامَيْنِ، فَحُمِلَ الْمُطْلَقُ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الْمَعْهُودُ شَرْعًا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَصِحُّ الْخُلْعُ إِذَا لَمْ يُوَقِّتْ مُدَّةً مُعَيَّنَةً، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهَا لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ لِفَسَادِ الْعِوَضِ.

وَلَوْ عَادَ الزَّوْجُ وَتَزَوَّجَهَا، أَوْ هَرَبَتِ الزَّوْجَةُ، أَوْ مَاتَتْ، أَوْ مَاتَ الْوَلَدُ خِلَالَ الْمُدَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا أَوْ خِلَالَ مُدَّةِ الرَّضَاعِ رَجَعَ الزَّوْجُ بِبَقِيَّةِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ خِلَالَ الْمُدَّةِ الْمُتَبَقِّيَةِ.لِأَنَّهُ عِوَضٌ مُعَيَّنٌ تَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ فَوَجَبَ بَدَلُهُ، كَمَا لَوْ خَالَعَتْهُ عَلَى قَفِيزٍ فَتَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ.

وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ رُجُوعَهُ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عُرْفٌ أَوْ شَرْطٌ يَقْضِي بِعَدَمِ رُجُوعِهِ فَيَعْمَلُ بِهِمَا، وَيُقَدِّمُ الشَّرْطَ عَلَى الْعُرْفِ إِذَا تَعَارَضَا.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (خُلْع ف 25)

الْخُلْعُ عَلَى حَضَانَةِ الْوَلَدِ:

43- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوِ اخْتَلَعَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى أَنْ تَتْرُكَ وَلَدَهَا عِنْدَ الزَّوْجِ فَالْخُلْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَقَّ الْوَلَدِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أُمِّهِ مَا كَانَ إِلَيْهَا مُحْتَاجًا، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُبْطِلَهُ بِالشَّرْطِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْفُقَهَاءُ الثَّلَاثَةُ أَبُو اللَّيْثِ وَالْهِنْدُوَانِيُّ وَخَوَاهَرْ زَادَهْ قَالَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: فَإِنْ لَمْ يُوجِدْ غَيْرَهَا أَوْ لَمْ يَأْخُذِ الْوَلَدُ ثَدْيَ غَيْرِهَا أُجْبِرَتْ بِلَا خِلَافٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ الْخُلْعُ عَلَى إِسْقَاطِ حَضَانَةِ الْأُمِّ لِوَلَدِهَا لِأَبِيهِ، وَيَنْتَقِلُ الْحَقُّ فِي الْحَضَانَةِ لِلْأَبِ، وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا غَيْرُهُ قَبْلَهُ.وَهَذَا مُقَيَّدٌ بِأَنْ لَا يَخْشَى عَلَى الْمَحْضُونِ ضَرَرًا مَا بِعُلُوقِ قَلْبِهِ بِأُمِّهِ، أَوْ لِكَوْنِ مَكَانِ الْأَبِ غَيْرَ حَصِينٍ، وَإِلاَّ فَلَا تَسْقُطُ الْحَضَانَةُ حِينَئِذٍ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا تَسْقُطُ حَضَانَةُ الْأُمِّ بِنِكَاحِ غَيْرِ أَبِي الطِّفْلِ لَوِ اخْتَلَعَتْ بِالْحَضَانَةِ مُدَّةً مَعْلُومَةً فَنُكِحَتْ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهَا إِجَارَةٌ لَازِمَةٌ.

مِيرَاثُ الْوَلَدِ:

44- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَوْرِيثِ الْوَلَدِ مِنْ وَالِدَيْهِ، وَالْوَالِدَيْنِ مِنْ وَلَدِهِمَا بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِرْث ف 26، 39، 45)

مِيرَاثُ وَلَدِ الزِّنَى:

45- وَلَدُ الزِّنَى هُوَ: الْوَلَدُ الَّذِي تَأْتِي بِهِ أُمُّهُ مِنْ سِفَاحٍ لَا مِنْ نِكَاحٍ، وَهَذَا الْوَلَدُ يُنْسَبُ إِلَى أُمِّهِ وَيَرِثُ بِجِهَتِهَا فَقَطْ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِرْث ف125) مِيرَاثُ وَلَدِ اللِّعَانِ:

46- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ وَلَدَ اللِّعَانِ لَا تَوَارُثَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُلَاعِنِ، لِانْتِفَاءِ نَسَبِهِ مِنْهُ وَلُحُوقِهِ بِأُمِّهِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِرْث ف 126)

النَّذْرُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ:

47- مَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَنْحَرَ وَلَدِي فَفِي الْقِيَاسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عِنْدَهُمْ يَلْزَمُهُ شَاةٌ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ لَزِمَهُ مَكَانَ كُلِّ وَلَدٍ شَاةٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَالْحَنَابِلَةِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا شَيْءَ عَلَى مَنْ نَذَرَ ذَبْحَ الْوَلَدِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ ذَبْحُ وَلَدِي لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ.

وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ فِي امْرَأَةٍ نَذَرَتْ نَحْرَ وَلَدِهَا وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ: تَذْبَحُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ كَبْشًا وَتُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهَا.وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ كَفَّارَةَ نَذْرِ ذَبْحِ الْوَلَدِ كَبْشٌ، فَجُعِلَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ، لِأَنَّ لَفْظَ الْوَاحِدِ إِذَا أُضِيفَ اقْتَضَى التَّعْمِيمَ فَكَانَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ كَبْشٌ، فَإِنْ عَيَّنَتْ بِنَذْرِهَا وَاحِدًا فَإِنَّمَا عَلَيْهَا كَبْشٌ وَاحِدٌ، بِدَلِيلِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ- عليه السلام- لَمَّا أُمِرَ بِذَبْحِ ابْنِهِ الْوَاحِدِ فَدَى بِكَبْشٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَفْدِ غَيْرَ مَنْ أُمِرَ بِذَبْحِهِ مِنْ أَوْلَادِهِ، كَذَا هَهُنَا، وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ لَمَّا نَذَرَ ذَبْحَ ابْنٍ مِنْ بَنِيهِ إِنْ يَبْلُغُوا عَشَرَةً لَمْ يَفْدِ مِنْهُمْ إِلاَّ وَاحِدًا.

وَسَوَاءٌ نَذَرْتَ مُعَيَّنًا أَوْ عَيَّنْتَ وَاحِدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ.

شَقُّ بَطْنِ الْمَيْتَةِ لِإِخْرَاجِ وَلَدِهَا:

48- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شَقِّ بَطْنِ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ لِإِخْرَاجِ وَلَدِهَا قَبْلَ مَوْتِهِ.

فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى شَقِّ بَطْنِهَا وَإِخْرَاجِ الْوَلَدِ.

وَذَهَبَ الْبَعْضُ الْآخَرُ إِلَى حُرْمَةِ ذَلِكَ.

وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (جَنَائِز ف9).

مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَنْ وُلِدَ مَيِّتًا مِنْ أَحْكَامٍ:

49- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ أَوْ صَدَرَ مِنْهُ مَا يُعْرَفُ بِهِ حَيَاتُهُ أَخَذَ حُكْمَ الْأَحْيَاءِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَأَمَّا إِذَا وُلِدَ مَيِّتًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ وَلَدًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَتَنْتَهِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَالدَّمُ بَعْدَهُ نِفَاسٌ، وَيَقَعُ بِهِ الْمُعَلَّقُ عَلَى وِلَادَتِهِ مِنْ طَلَاقٍ وَغَيْرِهِ.

وَأَمَّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ تَغْسِيلِهِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ الْإِرْثَ وَالْوَصِيَّةُ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (إِرْث ف 112، 113، وَتَغْسِيلُ الْمَيِّتِ ف 25، وَجَنِين ف 10، 22، وَسَقْط ف 2، وَعِدَّة ف22 وَمَا بَعْدَهَا، وَنِفَاس ف 7)

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


156-الغريبين في القرآن والحديث (حمل)

(حمل)

قوله: {حمولة وفرشًا} الحمولة: التي تحمل عليها، والفرش: صغار الإبل.

قوله: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها} قال: ابن عرفة: أي: حملوا الإيمان بها فحرفوها.

وقوله: {إن تحمل عليه يلهث} أي إن تحمل عليه فتطرده كما يحمل المقاتل على قرنه.

قوله: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها} قال أبو إسحاق الزجاج: أي لم يحمل الامانة أي أدتها أمانة، وكل من خان الأمانة فقد حملها وكل من أثم فقد حمل الإثم. قال الله تعالى: {وليحملن أثقالهم وأثقالًا مع أثقالهم} فأعلم الله أن من باء بالإثم فهو حامل الإثم.

وقوله} وحملها الإنسان} قال الحسن: يعني الكافر والمنافق حملا الأمانة أي خانا ولم يطيعا.

وقوله: {فالحاملات وقر} يعني السحاب.

وقوله: {فإن تولوا فإنما عليه ما حمل} يعني البلاغ} وعليكم ما حملتم} [175 ب] من الإيمان وبما جاء به.

وقوله: {حملت حملًا خفيفًا} يعني المني، والحمل في البطن والحمل على الظهر.

وفي الحديث: (في قوم يخرجون من النار فينبتون كما نبت الحبة في حميل السيل) قال الأصمعي: هو ما حمله السيل، وكل محمول فهو حميل كما تقول للمقتول قتيل، وقال أبو سعيد الضرير: حميل السيل ما جاء

به من طين أو غثاء، فإذا اتفق فيه الحبة، واستقرت على شط مجرى السيل فإنها تنبت في يوم وليلة، وهي أسرع نابتة نباتًا، وإنما أخبر بسرعة نباتهم.

وفي حديث آخر: (حمائل السيل) وهو جمع حميل السيل.

وفي الحديث (يضغط المؤمن في هذا -يعني في القبر- ضغطه تزول منها حمائله) قال الأزهري: يعني: عروق أنثييه.

وأما قوله: (الحميل لا يورث إلا ببينة) ففيه قولان: يقال: هو الذي يحمل من بلاده صغيرًا إلى بلاد الإسلام، ويقال: هو المحمول النسب، وذلك أن يقول الرجل هذا أخي، أو أبي، أو ابني ليزوي ميراثه عن مواليه فلا يصدق إلا ببينة.

وفي الحديث: ى (لا تحل المسالة إلا لثلاثة: رجل تحمل بحمالة بين قوم) هو أن تقع حرب بين فريقين تسفك فيها الدماء فيتحمل تلك الديات رجل ليصلح ذات البين.

الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م


157-الغريبين في القرآن والحديث (عبأ)

(عبأ)

قوله عز ومجل: {قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم} قال مجاهد: أي ما يفعل بكم، وقال أبو إسحاق الزجاج: أي: أي وزن لكم عنده، لولا توحيدكم، يقال: ما عبأت بفلان أي: لم أبال به، والعب: الحمل الثقيل والجمع أعباء، وفي الحديث: (إن الله تعالى وضع عنكم عيبة الجاهلية) يعني الكبر وهي العيبة والعيبة بكسر العين وضمها، وقال بعض أصحابنا هو من العبء، وقال الأزهري بل هو مأخوذ من العب، وهي النور والضياء يقال: هذا عب الشمس، وأصله عبؤ الشمس، قال: وقد قيل فيه غير ذلك.

وفي الحديث: (مصوا الماء مصا ولا تعبوه عبا) قال الشيخ: العب شرب بلا تنفس، وقيل: أنه يورث الكباد، وهو وجع الكبد.

وفي الحديث: (طرت بعبابها وفزت حبابها) عباب الماء أوله وحبابه معظمه، يقول: سبقت إلى جمة الإسلام فشربت صفوه، يقول: أدركت أوائله وفضائله.

الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م


158-الغريبين في القرآن والحديث (كلل)

(كلل)

قوله تعالى: {وهو كل على مولاه} أي: ثقل على وليه.

قوله تعالى: {وإن كان رجلا يورث كلالة} قال السدى: الذي لا بدع والدا ولا ولدا، قال أبو منصور: أصلها من تكلله النسب إلى لم يكن الذي يرثه ابنه ولا أباه، فالكلالة: ما خلا الوالد والولد كأنه قال: وإن كان رجل يورث متكللا لهم نسبا، وتكون الكلالة الوارث وتكون ا

وفي حديث جابر (مرضت مرضا أشفيت منه على الموت فأتاني النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إني رجل ليس يرثني إلا كلالة) أي: يرثني ورقة ليسوا بولد ولا والد، وإنما كان يرثه أخواله.

وفي الحديث (تبرق أكاليل وجهه) وهي الجبهة، وما يتصل بها الجبين، وذلك أن الإكليل يوضع هنالك.

وفي الحديث (نهى عن تقصيص القبور وتكليلها) قال الدبري: صاحب عبد الرزاق التكليل: رفعها ببناء مثل الله، وهي الصوامع والقباب التي تبنى على القبور، وقال غيره: وهو ضرب الكلة عليه وهو ستر مربع يضرب على القبور.

وفي الحديث (أنه قال - صلى الله عليه وسلم - تقع فتن كأنها الظلل، فقال أعرابي: كلا يا رسول الله) أي: ساءه ذلك، وكلا ردع في الكلام وتنبيه، والظلل السحاب.

الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م


159-الغريبين في القرآن والحديث (هلل)

(هلل)

قوله تعالى: {وما أهل لغير الله به} أي: ما ذكر عليه غير اسم الله وقال

ابن عرفة: الإهلال: رفع الذابح صوته بذكر الله وكل رافع صوته مهل ومستهل.

ومنه الحديث في استهلال الصبي: (قال لا يورث حتى يستهل صارخًا) وذلك أنه يستدل بصوته على أنه ولد حيا، وأهل بالحج إذا لبى ورفع صوته.

قوله تعالى: {ويسألونك عن الأهلة} الواحد: هلال والقمر: إذا بدا دقيقا في أول الشهر يقال له في الثلث الأول هلال قال أبو العباس: وإنما قيل: له هلالًا، لأن الناس يرفعون أصواتهم بالأخبار عنه ويقال: أهلنا الهلال: إذا دخلنا فيه، واسم القمر الزبرقان واسم دارته الهالة واسم ضوئه الخفت واسم ظله السمير، ومنه قيل للمتحديثين ليلا سمار.

وفي حديث النابعة الجعدي قال: (فنيف على المائة وكأن فاه البرد المنهل) كل شيء انصب فقد انههل يقال: انهل السماء بالمطر ينهل انهلالا وهو شدة انصبابه، وسمعت الأزهري يقول: هل السماء بالمطر هلا قال: ويقال: للمطر: هلل، واهلول.

وقوله تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} أي: قد أتيت على الإنسان ومعناه الخبر وقد تأتي هل خبرًا وتأتي جحدًا وتأتي استفهامًا وقيل أراد إذا لم يأت على الإنسان يقرره بذلك، وتأتي شرطًا وتأتي توبيخًا وتأتي أمرًا وتأتي تنبيهًا.

ومنه قوله الله: {فهل أنتم منتهون} فإذا زدت على هذا ألفًا كان بمعنى التسكين.

الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م


160-الفروق اللغوية للعسكري (الفرق بين المدح والإطراء)

الْفرق بَين الْمَدْح والإطراء

أَن الْمَدْح فِي الْوَجْه وَمِنْه قَوْلهم الإطراء يُورث الْغَفْلَة يُرِيدُونَ الْمَدْح فِي الْوَجْه والمدح يكون مُوَاجهَة وَغير مُوَاجهَة وَمِمَّا يُخَالف ذَلِك الهجو.

الفروق اللغوية-أبو هلال الحسن بن عبدالله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري-توفي:نحو: 395هـ/1005م


161-المغرب في ترتيب المعرب (‏سقط-‏سقط‏)

‏ (‏سقط‏) ‏‏

(‏سَقَطَ‏) ‏ الشَّيْءُ سُقُوطًا وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ وَسَقَطَ النَّجْمُ أَيْ غَابَ مَجَازًا ‏ (‏وَمِنْهُ‏) ‏ قَوْلُهُ حِينَ يَسْقُطُ الْقَمَرُ ‏ (‏وَسَوَاقِطُ‏) ‏ فِي حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ‏ [‏مَا يَسْقُطُ مِنْ الثِّمَارِ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ‏] ‏ جَمْعُ سَاقِطَةٍ ‏ (‏وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ‏) ‏ ‏ [‏أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْطَى خَيْبَرَ بِالشَّطْرِ وَقَالَ لَكُمْ السَّوَاقِطُ‏] ‏ أَيْ مَا يَسْقُطُ مِنْ النَّخْلِ فَهُوَ لَكُمْ مِنْ غَيْرِ قِسْمَةٍ ‏ (‏وَعَنْ‏) ‏ خُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ الْمُرَادَ مَا يَسْقُطُ مِنْ الْأَغْصَانِ لَا الثِّمَارِ لِأَنَّهَا لِلْمُسْلِمِينَ ‏ (‏وَيُقَالُ‏) ‏ أَسْقَطْتُ الشَّيْءَ فَسَقَطَ ‏ (‏وَأَسْقَطَتْ الْحَامِلُ‏) ‏ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْمَفْعُولِ إذَا أَلْقَتْ سِقْطًا وَهُوَ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ الْوَلَدُ يَسْقُطُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَيِّتًا وَهُوَ مُسْتَبِينُ الْخَلْقِ وَإِلَّا فَلَيْسَ بِسِقْطٍ وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ أَسْقَطَتْ سِقْطًا لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ وَكَذَا فَإِنْ أُسْقِطَ الْوَلَدُ سِقْطًا ‏ (‏وَالسَّقَطُ‏) ‏ بِفَتْحَتَيْنِ مِنْ الْخَطَأِ فِي الْكِتَابَةِ ‏ (‏وَمِنْهُ‏) ‏ سَقَطُ الْمُصْحَفُ وَرَجُلٌ ‏ (‏سَاقِطٌ‏) ‏ لَئِيمُ الْحَسَبِ وَالنَّفْسِ وَالْجَمْعُ سُقَّاطٌ ‏ (‏وَمِنْهُ‏) ‏ وَلَا أَنْ يَلْعَبُوا مَعَ الْأَرَاذِلِ وَالسُّقَّاطِ ‏ (‏وَالسُّقَاطَةُ‏) ‏ فِي مَصْدَرِهِ خَطَأٌ وَقَدْ جَاءَ بِهَا عَلَى الْمُزَاوَجَةِ مَنْ قَالَ وَالصَّبِيُّ يُمْنَعُ عَمَّا يُورِثُ الْوَقَاحَةَ وَالسُّقَاطَةَ ‏ (‏وَسَقَطُ‏) ‏ الْمَتَاعِ رُذَالُهُ وَيُقَالُ لِبَائِعِهِ سَقَطِيٌّ ‏ (‏وَأَنْكَرَ‏) ‏ بَعْضُهُمْ السَّقَّاطَ فِي مَعْنَاهُ ‏ (‏وَقَدْ جَاءَ‏) ‏ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَغْدُو فَلَا يَمُرُّ بِسَقَّاطٍ وَلَا صَاحِبِ بِيعَةٍ إلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ وَالْبِيعَةُ مِنْ الْبَيْعِ كَالرُّكْبَةِ مِنْ الرُّكُوبِ وَالْجِلْسَةِ مِنْ الْجُلُوسِ وَيُقَالُ إنَّهُ لَحَسَنُ الْبِيعَةِ كَذَا فَسَّرَهَا الثِّقَاتُ‏.

المغرب في ترتيب المعرب-ناصر بن عبدالسيد أبى المكارم ابن على، أبو الفتح، برهان الدين الخوارزمي المُطَرِّزِىّ-توفي: 610هـ/1213م


162-المغرب في ترتيب المعرب (‏فتت)

‏ (‏فتت‏) ‏‏

(‏فِي كَرَاهِيَةِ الْوَاقِعَات‏) ‏ ‏ (‏الْفَتِيتَةُ‏) ‏ تَأْكُلُهَا الْمَرْأَةُ لِتَسْمَنَ هِيَ أَخَصُّ مِنْ الْفَتِيت وَهُوَ الْخُبْزُ الْمَفْتُوتُ كَالسَّوِيقِ وَمِثْلُهُ‏) ‏ الْفَتُوتُ وَأُخْبِرْتُ أَنَّ الْخُبْزَ إذَا فُتَّ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ يُورِثُ سِمَنًا‏.

المغرب في ترتيب المعرب-ناصر بن عبدالسيد أبى المكارم ابن على، أبو الفتح، برهان الدين الخوارزمي المُطَرِّزِىّ-توفي: 610هـ/1213م


163-المغرب في ترتيب المعرب (‏كلل-‏الكلالة‏)

‏ (‏كلل‏) ‏‏

(‏الْكَلَالَةُ‏) ‏ مَا خَلَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَوْرُوثِ وَالْوَارِثِ وَعَلَى الْقَرَابَةِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ فَمِنْ الْأَوَّلِ‏: ‏ ‏ {‏قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ‏} ‏ وَمِنْ الثَّانِي مَا يُرْوَى أَنَّ جَابِرًا قَالَ إنِّي رَجُلٌ لَيْسَ يَرِثُنِي إلَّا ‏ (‏كَلَالَةٌ‏) ‏ وَمِنْ الثَّالِثِ قَوْلُهُمْ مَا وَرِثَ الْمَجْدَ عَنْ كَلَالَةٍ وقَوْله تَعَالَى‏: ‏ ‏ {‏وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً‏} ‏ يَحْتَمِلُ الْأَوْجُهَ عَلَى اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ وَالتَّقْدِيرَاتِ وَهِيَ مِنْ الْكَلَالِ الضَّعْفِ أَوْ مِنْ ‏ (‏الْإِكْلِيلِ‏) ‏ الْعِصَابَةِ وَمِنْهُ السَّحَابُ ‏ (‏الْمُكَلَّلُ‏) ‏ الْمُسْتَدِيرُ أَوْ مَا تَكَلَّلَهُ الْبَرْقُ ‏ (‏وَالْكَلُّ‏) ‏ الْيَتِيمُ وَمَنْ هُوَ عِيَالٌ وَثِقَلٌ عَلَى صَاحِبِهِ ‏ (‏وَمِنْهُ‏) ‏ الْحَدِيثَ ‏ [‏وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا فَعَلَيَّ وَإِلَيَّ‏] ‏ وَالْمُثْبَتُ فِي الْفِرْدَوْسِ بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِلَيْنَا وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ وَلَدًا لَا كَافِئَ لَهُ وَلَا كَافِلَ فَأَمْرُهُ مُفَوَّضٌ إلَيْنَا نُصْلِحُ أَحْوَالَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ‏.

المغرب في ترتيب المعرب-ناصر بن عبدالسيد أبى المكارم ابن على، أبو الفتح، برهان الدين الخوارزمي المُطَرِّزِىّ-توفي: 610هـ/1213م


164-المغرب في ترتيب المعرب (‏هجن-‏وناقة هجان‏)

‏ (‏هـجن‏) ‏‏

جَمَلٌ ‏ (‏وَنَاقَةٌ هِجَانٌ‏) ‏ أَبْيَضُ سَوَاءٌ فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَيُسْتَعَارُ لِلْكَرِيمِ كَالْأَبْيَضِ فَيُقَالُ ‏ (‏رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ هِجَانٌ‏) ‏ وَقَوْمٌ هِجَانٌ ‏ (‏وَالْهَجِينُ‏) ‏ الَّذِي وَلَدَتْهُ أَمَةٌ أَوْ غَيْرُ عَرَبِيَّةٍ وَخِلَافُهُ الْمُقْرَفُ وَالْجَمْعُ هُجُنٌ قَالَ الْمُبَرِّدُ أَصْلُهُ بَيَاضُ الرُّومِ وَالصَّقَالِبَةِ وَيُقَالُ لِلَّئِيمِ ‏ (‏هَجِينٌ‏) ‏ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ ‏ (‏وَقَدْ هَجُنَ هَجَانَةً وَهُجْنَةً‏) ‏ وَمِنْهَا قَوْلُهُ الصَّبِيُّ يُمْنَعُ عَمَّا يُورِثُ ‏ (‏الْهُجْنَةَ‏) ‏ وَالْوَقَاحَةَ يَعْنِي الْعَيْبَ ‏ (‏وَقَدْ هَجَّنَهُ تَهْجِينًا‏) ‏‏.

المغرب في ترتيب المعرب-ناصر بن عبدالسيد أبى المكارم ابن على، أبو الفتح، برهان الدين الخوارزمي المُطَرِّزِىّ-توفي: 610هـ/1213م


165-المعجم الغني (كَلالَةٌ)

كَلالَةٌ- [كلل]، (مصدر: كَلَّ):

1- "رَجُلٌ كَلَالَةٌ": لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ.

{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} [النساء: 12]:

2- "كَلَالَةُ البَصَرِ": ضَعْفُهُ.

3- "أَرْهَقَتْهُ الكَلَالَةُ": التَّعَبُ، الإِعْيَاءُ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


166-المعجم الغني (نَشَاطٌ)

نَشَاطٌ- الجمع: أَنْشِطَةٌ. [نشط]، (مصدر: نَشَطَ)، "تَمَيَّزَ نَشَاطُهُ بِالْحَيَوِيَّةِ": حَرَكَتُهُ الدَّائِمَةُ وَمُمَارَسَتُهُ لِلْعَمَلِ. "ثَرْوَتُهُ الوَحِيدَةُ وَحَسَاسِيَتُهُ الْمُفْرِطَةُ كَانَتْ تُعَرْقِلُ نَشَاطَهُ". (عبد الله العروي) "قَالَ الْحُكَمَاءُ: النَّشَاطُ يُوَرِّثُ الغِنَى، وَالكَسَلُ يُوَرِّثُ الفَقْرَ، وَالشَّرَاهَةُ تُوَرِّثُ الْمَرَضَ".

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


167-المعجم الغني (وَخَمٌ)

وَخَمٌ- [وخم]، (طب): دَاءٌ نَاتِجٌ عَنْ تَعَفُّنِ الْهَوَاءِ يُورِثُ أَمْرَاضًا وَبَائِيَّةً.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


168-لغة الفقهاء (المخدر)

المخدر: بضم الميم وكسر الدال المشددة من خدر، كل ما يورث فتورا واسترخاء ملحوظين في البدن... anaesthetic, Narcotic

معجم لغة الفقهاء-محمد رواس قلعه جي/حامد صادق قنيبي-صدر: 1405هـ/1985م


169-لغة الفقهاء (المفتر)

المفتر: بضم الميم وفتح الفاء وكسر التاء المشددة، ما يورث استرخاء وتثاقلا في البدن، ومنه (نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر)... Tranquilizer

معجم لغة الفقهاء-محمد رواس قلعه جي/حامد صادق قنيبي-صدر: 1405هـ/1985م


170-تعريفات الجرجاني (المزدارية)

المزدارية: هم أصحاب أبي موسى عيسى بن صبيح المزدار، قال: الناس قادرون على مثل القرآن وأحسن منه نظمًا وبلاغة، وكفر القائل بقدمه، وقال: من لازم السلطان كافر لا يورث منه ولا يرث، وكذا من قال بخلق الأعمال وبالرؤية كافر أيضًا.

التعريفات-علي بن محمد الجرجاني-توفي: 816هـ/1413م


171-طِلبة الطلبة (وهم)

(وهـم):

لَوْ قَالَ هَذِهِ أُخْتِي مِنْ الرَّضَاعَةِ ثُمَّ قَالَ أَوْهَمْتُ أَوْ أَخْطَأْتُ أَوْ نَسِيتُ الْمَكْتُوبُ فِي النُّسَخِ أَوْهَمْتُ بِالْأَلِفِ وَالصَّحِيحُ هَاهُنَا وَهِمْت مِنْ بَابِ عَلِمَ أَيْ سَهَوْت وَغَلِطْتُ فَأَمَّا وَهَمْتُ إلَيْهِ مِنْ بَابِ ضَرَبَ فَمَعْنَاهُ ذَهَبَ وَهْمُ قَلْبِي إلَيْهِ وَأَوْهَمْتُ إيهَامًا فَمَعْنَاهُ أَسْقَطْتُ يُقَالُ أَوْهَمَ مِنْ حِسَابِهِ مِائَةً وَأَوْهَمَ مِنْ صَلَاتِهِ رَكْعَةً وَتَوَهَّمْتُ أَيْ ظَنَنْتُ. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُتْعَةِ: لَوْ كُنْتُ تَقَدَّمْتُ فِي هَذَا لَرَجَمْتُ يَعْنِي لَوْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمْ قَبْلَ هَذَا إنَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ لَا يَثْبُتُ بِهِ حِلٌّ، وَإِنَّ الْوَطْءَ بَعْدَهُ حَرَامٌ، وَأَظْهَرْتُ لَكُمْ ذَلِكَ لَرَجَمْتُ الْآنَ مَنْ دَخَلَ بِالْمَرْأَةِ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: نَسْخُهَا آيَةُ الطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةِ، وَالْمِيرَاثِ يَعْنِي أَنَّ النِّكَاحَ هُوَ الَّذِي يُورَثُ بِهِ، وَيُشْرَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ، وَتَجِبُ فِيهِ الْعِدَّةُ، وَالْمُتْعَةُ لَا يَثْبُتُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ هَذَا فَعُلِمَ أَنَّهَا لَيْسَ بِنِكَاحٍ.

طلبة الطلبة-أبوحفص النسفي-توفي: 537هـ/1142م


172-طِلبة الطلبة (وقف)

(وقف):

الْوَقْفُ الْحَبْسُ لُغَةً وَوَقْفُ الضَّيْعَةِ هُوَ حَبْسُهَا عَنْ تَمَلُّكِ الْوَاقِفِ وَغَيْرِ الْوَاقِفِ وَاسْتِغْلَالُهَا لِلصَّرْفِ إلَى مَا سُمِّيَ مِنْ الْمَصَارِفِ وَلِذَا سُمِّيَ حَبِيسًا فِيمَا رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ جَاءَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَيْعِ الْحَبِيسِ أَيْ بِجَوَازِ مَا حَبَسُوهُ بِالْوَقْفِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ» أَيْ لَا مَالَ يُحْبَسُ بَعْدَ مَوْتِ صَاحِبِهِ عَنْ الْقِسْمَةِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ «اسْتَفَادَ مَالًا نَفِيسًا أَيْ مَلَكَ ذَلِكَ وَكَانَ يُدْعَى ثَمْغًا هُوَ اسْمُ تِلْكَ الضَّيْعَةِ الَّتِي مَلَكَهَا فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ وَلَكِنْ لِيُنْفَقَ ثَمَرَتُهُ فَتَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ لِلْغُزَاةِ وَفِي الرِّقَابِ أَيْ الْمُكَاتِبِينَ وَفِي الضَّيْفِ وَفِي الْمَسَاكِينِ وَلِذِي الْقُرْبَى أَيْ لِأَقْرِبَائِهِ» وَكَانَ فِيهِ وَلَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَيْ بَاشَرَ أَمْرَهُ بِنَفْسِهِ وَتَوَلَّاهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ أَوْ يُؤَكِّلُ صَدِيقًا لَهُ أَيْ يُطْعِمُ صَدِيقَهُ أَيْضًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ أَيْ غَيْرَ جَامِعٍ الْمَالَ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ هَذَا الْوَقْفِ لَكِنْ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ وَمَا رُوِيَ لَا تَجُوزُ الصَّدَقَةُ إلَّا مَقْبُوضَةٌ مَحُوزَةٌ أَيْ مَجْمُوعَةٌ وَقَدْ حَازَ يَحُوزُ حَوْزًا وَحِيَازَةً إذَا جَمَعَ فَالْمُرَادُ بِهِ الْقِسْمَةُ فَإِنَّهَا جَمْعُ الْأَنْصِبَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ فِي مَحَلٍّ أَبَدًا مَا تَنَاسَلُوا أَيْ تَوَالَدُوا وَالنَّسْلُ الْوَلَدُ.

طلبة الطلبة-أبوحفص النسفي-توفي: 537هـ/1142م


173-طِلبة الطلبة (حمل)

(حمل):

وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُوَرَّثُ الْحَمِيلُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ» أَيْ الْوَلَدُ الْمَحْمُولُ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ مِنْ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالْقَتِيلِ بِمَعْنَى الْمَقْتُولِ أَيْ الَّذِي لَا يُعْرَفُ نَسَبَهُ حَقِيقَةً لِكَوْنِهِ غَيْبًا لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ بِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ.

طلبة الطلبة-أبوحفص النسفي-توفي: 537هـ/1142م


174-طِلبة الطلبة (ورث)

(ورث):

وقَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} [النساء: 12] الرَّجُلُ هَاهُنَا هُوَ الْمَيِّتُ وَقَوْلُهُ يُورَثُ أَيْ يُنَالُ مِيرَاثُهُ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ مِنْ قَوْلِك وَرِثَ لَا مِنْ قَوْلِك أَوْرَثَ وَيَصِحُّ فِعْلُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ تَقُولُ وَرِثْت فُلَانًا وَلَا تَقُولُ وَرِثْت مِنْ فُلَانٍ قَالَ تَعَالَى {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء: 11] وَقَالَ {وَهُوَ يَرِثُهَا} [النساء: 176] وَقَالَ {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُد} [النمل: 16] وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ رِوَايَةً مَشْهُورَةً وَظَنَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ نُوَرِّثُ بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ لَا نُوَرِّثُ أَمْوَالَنَا وَرَثَتَنَا وَالصَّحِيحُ الْمَنْقُولُ لَا نُورَثُ أَيْ لَا يَرِثُنَا أَحَدٌ وَقَوْلُهُ {يُورَثُ كَلَالَةً} [النساء: 12] أَيْ يُنَالُ إرْثُهُ عَلَى كَوْنِهِ مَيِّتًا لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ وَالْكَلَالَةُ مَصْدَرُ الْكَلِّ وَهُوَ الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ لَهُ بَلْ لَهُ إخْوَةٌ وَأَخَوَاتٌ مِنْ قَوْلِك تَكَلَّلَ بِهِ الشَّيْءُ أَيْ أَحَاطَ بِهِ فَتَفَهَّمْهُ فَقَدْ شَرَحْت الْآيَةَ شَرْحًا شَافِيًا {وَوَرِثَهُ} [النساء: 11] أَيْ بَقِيَ بَعْدَهُ فَأَخَذَ مَالَهُ وَاَللَّهُ الْوَارِثُ أَيْ بَعْدَ فِنَاءِ خَلْقِهِ وَهُوَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ.

طلبة الطلبة-أبوحفص النسفي-توفي: 537هـ/1142م


175-تاج العروس (رحب)

[رحب]: الرُّحْبُ، بالضَّمِّ: موضع لِهُذَيْلٍ وضَبَطَه الصاغانيّ بالفَتْحِ من غيرِ لامٍ.

ورُحَابُ كغُرَابٍ: موضع بحَوْرَانَ نقلَه الصاغانيّ أَيضًا.

وَرَحُبَ الشي‌ءُ كَكَرُمَ وسَمِعَ الأَخِيرُ حكاه الصاغانيّ رُحْبًا بالضَّمِّ ورَحَابَةً ورَحَبًا مُحَرَّكَةً، نقله الصاغانيّ فَهُوَ رَحْبٌ ورَحِيبٌ ورُحَابٌ بالضَّمِّ: اتَّسَعَ، كَأَرْحَبَ، وأَرْحَبَهُ: وَسَّعَهُ قال الحَجَّاجُ حِينَ قَتَلَ ابْنَ القِرِّيَّةِ، أَرْحِبْ يَا غُلَامُ جُرْحَهُ.

ويقالُ لِلْخَيْلِ: أَرْحِبْ وأَرْحِبِي، وهُمَا زَجْرَان لِلْفَرَسِ؛ أَي تَوَسَّعِي وتَبَاعَدِي وتَنَحَّيْ قَال الكُمَيْتُ بنُ مَعْرُوفٍ:

نُعَلِّمُهَا هَبِي وهَلًا وأَرْحِبْ *** وَفِي أَبْيَاتِنَا وَلَنَا افتُلِينَا

وامْرَأَةٌ رُحَابٌ وقِدْرٌ رُحَابٌ بالضَّمِّ أَي وَاسِعَةٌ وقالُوا: رَحُبَتْ عَلَيْكَ، وطُلَّتْ؛ أَي رَحُبَتْ عليكَ البِلَادُ، وقال أَبُو إِسحاقَ: أَيِ اتَّسَعَتْ وأَصَابَهَا الطَّلُّ، وفي حديثِ ابن زِمْل «عَلَى طَرِيقٍ رَحْبٍ» أَيْ وَاسِعٍ. وَرَجُلٌ رَحْبُ الصَّدْرِ، ورُحْبُ الصَّدْرِ، وَرَحِيبُ الجَوْفِ: وَاسِعُهُمَا، ومن المجاز: فلَانٌ رَحِيبُ الصَّدْرِ أَي وَاسِعُهُ، ورَحْبُ الذِّرَاعِ أَي واسِعُ القُوَّةِ عندَ الشَّدَائِدِ، ورَحْبُ الذِّرَاعِ والبَاعِ ورحِيبُهُمَا أَي سَخِيٌّ.

وَرَحُبَتِ الدَّارُ وأَرْحَبَتْ بمعنًى، أَيِ اتَّسَعَتْ.

والرَّحْبُ بالفَتْحِ والرَّحِيبُ: الشَّيْ‌ءُ الوَاسِعُ، تقولُ منه: بَلَدٌ رَحْبٌ وأَرْضٌ رَحْبَةٌ. ومن المجاز قولُهم: هذا أَمْرٌ إِنْ تَرَحَّبَتْ مَوَارِدُهُ فَقَدْ تَضَايَقَتْ مَصَادِرُهُ.

وقولهم في تَحِيَّةِ الوَارِدِ: أَهْلًا ومَرْحَبًا وسَهْلًا قال العَسْكَرِيُّ: أَوَّلُ مَنْ قَالَ مَرْحَبًا: سَيْفُ بنُ ذِي يَزَنَ أَيْ صَادَفْتَ وفي الصَّحَاحِ: أَتَيْتَ سَعَةً وأَتَيْتَ أَهْلًا، فَاسْتأْنِسْ وَلَا تَسْتَوْحِشْ وقال شَمِرٌ: سَمِعْتُ ابنَ الأَعرابيّ يقول: مَرْحَبَكَ اللهُ ومَسْهَلَكَ، ومَرْحَبًا بِكَ اللهُ ومَسْهَلًا بِكَ اللهُ، وتقولُ العرب: لَا مَرْحَبًا بِكَ؛ أَي لَا رَحُبَتْ عَلَيْكَ بِلَادُكَ، قال: وهي من المَصَادِرِ التي تَقَعُ في الدُّعَاءِ للرَّجُلِ، وَعَلَيْهِ، نحو: سَقْيًا وَرَعْيًا، وجَدْعًا وَعَقْرًا، يُرِيدُونَ سَقَاكَ الله وَرَعَاكَ الله، وقال الفرّاءُ: معناهُ رَحَّبَ اللهُ بِكَ مَرْحَبًا، كأَنَّهُ وُضِعَ مَوْضِعَ التَّرْحِيبِ، وقال الليثُ مَعْنَى قَوْلِ العَرَبِ مَرْحَبًا: انْزِلْ فِي الرَّحْبِ والسَّعَةِ وأَقِمْ فَلَكَ عِنْدَنَا ذلكَ، وسُئلَ الخَلِيلُ عن نَصْبِ مَرْحَبًا فقَالَ: فيه كَمِينُ الفِعْلِ، أُرِيدَ: بِهِ انْزِلْ أَوْ أَقِمْ فَنُصِبَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، فلمَّا عُرِفَ مَعْنَاهُ المُرَادُ به أُمِيتَ الفِعْلُ، قال الأَزهريّ: وقال غيرُه في قولِهِم: مَرْحَبًا: أَتَيْتَ أَوْ لَقِيتَ رُحْبًا وَسَعَةً لا ضِيقًا، وكذلك إِذا قالَ: سَهْلًا أَرَادَ نَزَلْتَ بَلَدًا سَهْلًا لا حَزْنًا غَلِيظًا.

ورَحَّبَ به تَرْحِيبًا: دَعَاهُ إِلى الرَّحْبِ والسَّعَةِ، ورَحَّبَ به: قال له مَرْحَبًا، وفي الحديثِ «قالَ لِخُزَيْمَةَ بنِ حُكَيمٍ مَرْحَبًا» أَي لَقِيتَ رَحْبًا وسَعَةً، وقيلَ مَعْنَاهُ رَحَّبَ الله بِكَ مَرْحَبًا، فَجَعَلَ المَرْحَبَ مَوْضِعَ التَّرْحِيبِ.

ورَحَبَةُ المَكَانِ كالمَسْجِدِ والدَّارِ بالتَّحْرِيكِ وتُسَكَّنُ: سَاحَتُهُ ومُتَّسَعُهُ وكان عليٌّ رضي ‌الله‌ عنه يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ في رَحَبَةِ مَسْجِدِ الكُوفَةِ، وهي صَحْنُهُ، وعن الأَزْهَرِيّ: قالَ الفرّاءُ: يقالُ للصَّحْرَاءِ بَيْنَ أَفْنِيَةِ القَوْمِ والمَسْجِدِ رَحَبَةٌ وَرَحْبَةٌ، وسُمِّيَتِ الرَّحَبَةُ رَحَبَةً لِسَعَتِهَا بِمَا رَحُبَتْ؛ أَي بما اتَّسَعَتْ، يقالُ: مَنْزِلٌ رَحِيبٌ ورَحْبٌ، وذَهَبَ أَيضًا إِلى أَنَّه يقالُ: بَلَدٌ رَحْبٌ وبِلَادٌ رَحْبَةٌ، كما يقال: بَلَدٌ سَهْلٌ وبِلَادٌ سَهْلَةٌ، وقَدْ رَحُبَتْ تَرْحُبُ، ورَحُبَ يَرْحُبُ رُحْبًا ورَحَابَةً، ورَحِبَتْ رَحَبًا، قال الأَزهريّ: وأَرْحَبَتْ لُغَةٌ بذلك المَعْنَى، وقولُ اللهِ عَزَّ وجَلّ {ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ} أَي عَلَى رُحْبِهَا وسَعَتِهَا، وأَرْضٌ رَحِيبَة: وَاسِعَةٌ.

والرَّحْبَةُ، بالوَجْهَيْنِ، مِنَ الوَادِي: مَسِيلُ مَائِهِ مِنْ جَانِبَيْهِ فيهِ، جَمْعهُ رِحَابٌ، وهي مَوَاضِعُ مُتَوَاطِئَةٌ يَسْتَنْقِعُ المَاءُ فِيهَا، وهي أَسْرَعُ الأَرْضِ نَبَاتًا، تَكُونُ عندَ مُنْتَهَى الوَادِي وفي وسَطِه، وقد تكونُ في المَكَانِ المُشْرِفِ يَسْتَنْقِع فيها المَاءُ وما حوْلَها مُشْرِفٌ عليها، ولا تَكُونُ الرِّحَابُ في الرَّمْلِ، وتكونُ في بُطُونِ الأَرْضِ وفي ظَواهِرِها.

والرَّحَبَةُ مِنَ الثُّمَامِ كغُرابٍ: مُجْتَمَعُهُ وَمَنْبَتُه.

والرَّحَبَةُ بالتَّحْرِيكِ: مَوْضِعُ العِنَب، بمَنْزِلةِ الجَرِينِ للتَّمْرِ، وقالَ أَبو حنيفة: الرَّحَبَةُ والرَّحْبَة، والتَّثْقِيلُ أَكْثَرُ: الأَرْضُ الوَاسِعَةُ المِنْبَاتُ المِحْلَالُ، الجمع: رِحَابٌ ورَحَبٌ ورَحَبَاتٌ، مُحَرَّكَتَيْنِ، ويُسَكَّنَانِ قال سيبويه: رَحَبَةٌ ورِحَابٌ كرَقَبَةٍ ورِقَابٍ، وعن ابن الأَعرابيّ: الرَّحَبَةُ: مَا اتَّسَعَ مِنَ الأَرْضِ، وجَمْعُهَا: رُحَبٌ مِثْلُ قَرْيَةٍ وقُرًى، قال الأَزهريّ: وهَذَا يَجِي‌ءُ شَاذًّا، في باب النَّاقِصِ فأَمَّا السَّالمُ فَمَا سَمِعْتُ فَعْلَةً جُمِعَتْ عَلَى فُعَلٍ، قال: وابْنُ الأَعْرَابِيِّ ثِقَةٌ لا يَقُولُ إِلَّا ما قَدْ سَمِعَهُ. كذا في لسان العرب.

ويُحْكَى عن نَصْرِ بنِ سَيَّارٍ رَحُبَكُمُ الدُّخُولُ فِي طَاعَتِهِ أَيِ ابن الكِرْمَانِيّ كَكَرُمَ أَي وَسِعَكُمْ فَعَدَّى فَعُلَ، وهو شَاذٌّ لِأنَّ فَعُلَ لَيْسَتْ مُتَعَدِّيَةً عند النَّحويينَ إِلَّا أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الفَارِسيَّ حَكَى عن هُذَيْلٍ القَبِيلَةِ المَعْهُودَةِ تَعْدِيَتَهَا أَي إِذا كانتْ قابلةً للتَّعَدي بمعناها كقوله:

وَلَمْ تَبْصُرِ العَيْنُ فِيهَا كِلَابَا

وقال أَئِمَّةُ الصَّرْفِ: لَمْ يَأْتِ فَعُلَ بضَم العَيْنِ مُتَعَدِّيًا إِلَّا كَلِمَةٌ واحِدَةٌ رَوَاهَا الخَلِيلُ وهي قولُهم: رَحُبَتْكَ الدَّارُ، وحَمَلَه السَّعْدُ في شَرْحِ العِزِّى على الحَذْفِ والإِيصالِ، أَيْ رَحُبَتْ بِكُمُ الدَّارُ، وقال شيخُنَا: نَقَلَ الجَلَالُ السَّيُوطِيُّ عن الفارِسيّ: رَحُبَ اللهُ جَوْفَهُ أَيْ وَسَّعَهُ، وفي الصِّحَاحِ: لَم يَجِي‌ء في الصَّحِيحِ فَعُلَ بضَمِّ العَيْنِ مُتَعَدِّيًا غَيْرَ هَذَا، وأَمَّا المُعْتَلُّ فقدِ اخْتَلَفُوا فيه قال الكسائيّ: أَصْلُ قُلْتُهُ قَوُلْتُهُ، وقال سيبويه: لَا يَجُوزُ ذلكَ لأَنَّه يَتَعَدَّى، وليْسَ كذلك: طُلْتُه، أَلَا تَرَى أَنك تقولُ: طَوِيلٌ، وعنِ الأَزهريّ: قال الليث: هذه كلمةٌ شاذَّةٌ على فَعُلَ مُجَاوِزٍ: وفَعُلَ لا يَكُونُ مجاوزًا أَبدًا قال الأَزهريّ: وَرَحُبَتْكَ لَا يَجُوزُ عند النحويينَ، ونَصْرٌ ليس بحُجَّةٍ.

والرُّحْبَى كَحُبْلَى: أَعْرَضُ ضِلَعٍ في الصَّدْرِ، وإنَّمَا يكونُ النّاحِزُ في الرُّحْبَيَيْنِ.

والرُّحْبَى: سِمَةٌ تَسِمُ بها العَرَبُ في جَنْبِ البَعِيرِ، والرُّحْبَيَانِ الضِّلَعَانِ اللَّتَانِ تَلِيَانِ الإِبْطَيْنِ في أَعْلَى الأَضْلَاعِ، أَو الرُّحْبَى: مَرْجِعُ المِرْفَقَيْنِ وهُمَا رُحْبَيَانِ، والرُّحَيْبَاءُ منَ الفَرَسِ أَعْلَى الكَشْحَيْنِ، وهُمَا رُحَيْبَاوَانِ، عن ابن دريد، أَوْ هي أَي الرُّحْبَى مَنْبِضُ القَلْبِ مِنَ الدَّوابِّ والإِنْسَانِ؛ أَي مكانُ نَبْضِ قَلْبِهِ وخَفَقَانِهِ، قاله الأَزْهريّ: وقيلَ: الرُّحْبَى ما بَيْنَ مَغْرِزِ العُنُقِ إِلى مُنْقَطَعِ الشَّرَاسِيفِ، وقيل: هي ما بينَ ضِلَعَيْ أَصْلِ العُنُقِ إِلى مَرْجِعِ الكَتِفِ.

والرُّحْبَةُ بالضَّمِّ: مَاءَةٌ بِأَجَإِ أَحَدِ جَبَلَيْ طَيِّ‌ءٍ وبِئْرٌ في ذي ذَرَوَانَ من أَرْضِ مَكَّةَ زِيدَتْ شَرَفًا بِوَادِي جَبَلِ شَمَنْصِيرٍ، يَأْتِي بَيَانُه.

والرُّحْبَةُ: قرية حِذَاءَ القَادِسِيَّةِ، وَوَادٍ قُرْبَ صَنْعَاء اليمن و: ناحِيَةٌ بَيْنَ المَدِينَةِ والشِّأْمِ قُرْبَ وَادِي القُرَى و: موضع بِنَاحِيَةِ اللَّجَاةِ.

وبِالفَتْحِ: رَحْبَةُ مَالِكِ بنِ طَوْقٍ مَدِينَةٌ أَحْدَثَهَا مَالِكٌ عَلَى شاطِئِ الفُرَاتِ، ورَحْبَةُ: قرية بِدِمَشْقَ، ورَحْبَةُ: مَحَلَّةٌ بها أيضًا، ورَحْبَةُ: مَحَلَّةٌ بالكُوفَةِ تُعْرَفُ برَحْبَةِ خُنَيْسٍ ورَحْبَةُ موضع ببغدادَ تُعْرَفُ بِرَحْبَةِ يَعْقُوبَ منسوبةٌ إلى يعقوبَ بنِ داوودَ وَزِيرِ المَهْدِيِّ، ورَحْبَةُ: وادٍ يَسِيلُ في الثَّلَبُوتِ وقد تَقَدَّم في «ثلب» أَنَّه وادٍ أَو أَرضٌ، ورَحْبَةُ: موضع بالبادِيَةِ، ورَحْبَةُ: قرية باليَمَامَةِ تُعْرَفُ بِرَحْبَةِ الهَدَّار، وصَحَرَاءُ بها أَيضًا فيها مياهٌ وقُرًى، والنِّسْبَةُ إليها في الكُلِّ رَحَبِيٌّ، مُحَرَّكَةً.

وبَنُو رَحْبَةَ بنِ زُرْعَةَ بنِ الأَصْغَرِ بنِ سَبَإِ: بَطْنٌ مِنْ حِمْيَرَ إِليه نُسِبَ حَرِيزُ بنُ عُثْمَانَ المعدودُ في الطَّبَقَةِ الخَامِسَةِ من طَبَقَاتِ الحُفَّاظِ، قاله شيخُنَا.

ورُحَابَةُ كقُمَامَةٍ: موضع وفي لسان العرب: أُطُمٌ بالمَدِينَةِ معروفٌ.

والرِّحابُ كَكِتَابِ: اسْمُ، ناحِيَةٍ بِأَذْرَبِيجَانَ ودَرَبَنْدَ، وَأَكْثَرُ أَرْمِينِيَةَ يَشْمَلُهَا هذا الاسمُ، نقله الصَّاغَانيّ.

بَنُو رَحَبٍ مُحَرَّكَةً: بَطْنٌ مِنْ هَمْدَانَ من قَبَائِلِ اليَمَنِ.

وأَرْحَبُ: قَبِيلَةٌ مِنْهُم أَي هَمْدَانَ، قال الكُميت:

يَقُولُونَ لَمْ يُورَثْ ولَوْ لَا تُرَاثُهُ *** لقَد شَرِكَتْ فِيهِ بَكِيلٌ وأَرْحَبُ

وقرأْتُ في كتاب الأَنْسَابِ للبَلَاذُرِيّ ما نَصُّه: أَخْبَرَنيِ مُحَمَّدُ بنُ زِيَادٍ الأَعْرابيُّ الرَّاوِيَةُ عَن هِشَامِ بنِ مُحَمَّدٍ الكَلْبِيِّ قال: من قَبَائِلِ حَضْرَمَوْتَ: مَرْحَبٌ وجُعْشُمٌ، وهم الجَعَاشِمَةُ، وَوَائِلٌ وأَنْسَى قال بعضُهم:

وَجَدِّي الأَنْسَوِيُّ أَخُو المَعَالِي *** وخَالِي المَرْحَبِيُّ أَبُو لَهِيعَهْ

ويَزِيدُ بنُ قَيْسٍ، وعَمْرُو بنُ سَلَمَةَ، ومَالِكُ بنُ كَعْبٍ الأَرْحَبِيُّونَ مِنْ عُمَّالِ سَيِّدِنا عليٍّ رضي ‌الله‌ عنه أَوْ فَحْلٌ كذا قاله الأَزهريّ، وقال: رُبَّمَا تُنْسَبُ إِليه النَّجَائِبُ لِأَنَّهَا من نَسْلِهِ، وقال الليثُ: أَرْحَبُ: حَيٌّ أَو مَكَانٌ وفي المعجم: أَنَّهُ مِخْلَافٌ باليَمَنِ يُسَمَّى بقَبِيلَةٍ كَبِيرَةٍ منْ هَمْدَانَ، واسْمُ أَرْحَبَ: مُرَّةُ بن ذُعَامِ بنِ مالكِ بنِ مُعَاوِيَةَ بنِ صَعْبِ بنِ دُومَانَ بنِ بَكِيلِ بنِ جُشَمَ بنِ خَيْرَانَ بنِ نَوْفِ بنِ هَمْدَانَ ومِنْهُ النَّجَائبُ الأَرْحَبِيَّاتُ وفي «كِفَايَةِ المُتَحَفِّظ»: الأَرْحَبِيَّةُ: إِبِلٌ كَرِيمَةٌ مَنْسُوبَةٌ إِلى بَنِي أَرْحَبَ مِنْ بَنِي هَمْدَانَ، وعليه اقْتَصَرَ الجَوْهريُّ، ونَقَلَهُ الشريفُ الغَرْنَاطِيُّ في شرح مَقْصُورَةِ حازِمٍ، وفي المعجم: أَرْحَبُ: بَلَدٌ على ساحِلِ البَحْرِ بَيْنَهُ وبَيْنَ ظَفَارِ نحوُ عَشَرَةِ فَرَاسخَ.

والرَّحِيبُ كأَمِيرٍ: الأَكُولُ ورَجُلٌ رَحِيبُ الجَوْفِ: أَكُولٌ، نقله السَّيُوطِيّ.

ورَحَائِبُ التُّخُومِ، ويوجدُ في بعض النسخ: النُّجُومِ، وهو غَلَطٌ أَي سَعَةُ أَقْطَارِ الأَرْضِ. وسموا رَحْبًا. ومُرَحَّبًا كَمُعَظَّم ومَرْحَبًا ك مَقْعَدٍ، وقال الجوهريّ: أَبُو مَرْحَبٍ: كُنْيَةُ الظِّلِّ، وبه فُسِّرَ قَوْلُ النَّابِغَةِ الجَعْدِيِّ:

وَبَعْضُ الأَخْلَاءِ عِنْدَ البَلا *** ءِ والرُّزْءِ أَرْوَغُ مِنْ ثَعْلَبِ

وكَيْفَ تُوَاصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ *** خَلَالَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ

وهو أَيضًا كُنْيَةُ عُرْقُوبٍ صاحِبِ المَوَاعِيدِ الكَاذِبَةِ.

ومَرْحَبٌ كَمَقْعَدٍ: فَرَسُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدٍ الحَنَفِيِّ ومَرْحَبٌ: صَنَمٌ كَانَ بِحَضَرْمَوْت اليَمَن وذُو مَرْحَبٍ: رَبِيعَةُ بنُ مَعْدِ * يكَرِبَ، كَانَ سَادنَهُ أَيْ حَافِظَه.

ومِرْحَبٌ اليَهُودِيَّ كَمِنبَرٍ: الذي قَتَلَه سَيِّدُنَا عَلِيُّ رضي ‌الله‌ عنه يَوْمَ خَيْبَرْ.

وَرُحَيِّبٌ مُصَغَّرًا: مَوْضِعٌ في قَوْلِ كُثَيّر:

وذَكَرْتُ عَزَّةَ إِذْ تُصَاقِبُ دَارُها *** بِرُحَيِّبٍ فأُرَيْنةٍ فنُخَالِ

كذا في المعجم.

ورُحْبَى، كحُبْلَى: مَوْضِعٌ آخَرُ، وهذه عن الصاغانيّ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


176-تاج العروس (فلج)

[فلج]: الفَلْجُ بفتحٍ فسكونٍ: الظَّفَرُ والفَوْز، هذا هو المنقول فيه، كالإِفْلاجِ رُبَاعيًّا. صَرَّحَ به ابنُ القَطّاع في الأَفْعَال، والسَّرَقُسْطيّ، وصاحبُ الواعِي، وثابتٌ، وأَبو عُبَيْدَةَ، وقُطْرُبٌ في فَعَلْت وأَفْعَلت، وغيرُهم. واقتصرَ ثعلبٌ في الفَصِيح على الثلاثيّ، ومُقْتَضَى كلامِه أَن يكون الرباعيُّ منه غيرَ فَصيح. ولم يُتَابَعْ على ذلك. يقال: فَلَجَ الرَّجلُ على خَصْمِه وأَفْلَجَ إِذا عَلاهُم وفاتَهم. وكذلك فَلَجَ الرّجُلُ أَصحابَه. وفَلَجَ بحُجَّته، وفي حُجَّتِه، يَفْلُجُ فَلْجًا وفُلْجًا وفَلَجًا وفُلُوجًا، وكذلك وفَلَجَ سَهْمُه وأَفْلَجَ: فازَ: وأَفْلَجَه اللهُ عَلَيْه فَلْجًا وفُلُوجًا.

والاسم للمصدر من كلّ ذلك الفُلْجُ، بالضّمّ فالسكون، كالفُلْجَة بزيادة الهاءِ. وهذا الّذي ذكرَه المصنِّف من الضّمّ في اسم المصدر هو المعروف في قواعدِ اللُّغويّين والصَّرفيّين. وحكَى بعضٌ فيه الفَلَجَ، محرَّكَةً، فهو مستدرك عليه.

قال الزَّمَخْشَريّ في شرح مقاماته: الفُلْجُ والفَلَجُ ـ كالرُّشْد والرَّشَد ـ: الظَّفَر. ومِثْلُه في الأَساس. ونَقَلَه شُرّاحُ الفَصِيح.

وفي اللسان: والاسمُ من جميع ذلك الفُلْجُ والفَلَجُ، يقال: لِمَن الفُلْجُ والفَلَجُ؟.

قلت: هو نصُّ عِبَارةِ اللِّحْيَانيّ في النَّوادر. وقال كُراع في المُجرَّد: يقال في المصدر من فَلَجَ: الفُلْج، بضمّ الفاءِ وتسكين اللّام، والفَلَجُ، بفتح الفاءِ واللّام.

قلت: وقد أَنكَره الدَّمَامِينيّ، وتَبِعَه غيرُ واحِدٍ، ولم يُعوّل عليه.

والفَلْجُ: القَسْمُ، في الصّحاح: فَلَجْتُ الشيْ‌ءَ أَفْلِجْه، بالكسر، فَلْجًا: إِذا قَسَمْته.

وفي المحكم واللسان: فَلَجَ الشَّيْ‌ءَ بينهما يَفْلِجُه، بالكسر، فَلْجًا: قَسَمَه بِنصْفَيْن. وهو التَّفْريق والتَّقْسِيم، كالتَّفْليجِ. ومنهم من خَصَّه بالمال، باللَّام، وآخرون بالماءِ الجارِي؛ والكلُّ صحيحٌ. قال شَمِرٌ: فَلَّجْتُ المالَ بينهم: أَي قَسَمْته. وقال أَبو دُواد:

فَفريقٌ يُفْلِّجُ اللَّحْمَ نِيئًا *** وفَرِيقٌ لِطَابِخِيهِ، قُتَارُ

وهو يُفَلِّجُ الأَمْرَ؛ أَي يَنظر فيه ويُقَسِّمه ويُدَبِّره؛ كذا في اللسان والمصباح، وسيأْتي القولْ الثاني.

والفَلْجُ أَيضًا: الشَّقُّ نِصْفَيْنِ. يقال: فَلَجْت الشيْ‌ءَ فِلْجَيْن؛ أَي شَقَقْته نِصْفَيْن، وهي الفُلُوجُ، الوَاحِد فَلْج وفِلْجٌ.

والفَلْج: شَقُّ الأَرْضِ للزِّرَاعَة، يقال؛ فَلَجْت الأَرْضَ للزِّراعَة، وكلُّ شَيْ‌ءٍ شَقَقْتَه فقد فَلَجْتَه.

والفَلْجُ في الجِزْيَة: فَرْضُها، وفي نُسخة شيخنا التي شَرَحَ عليها «والجِزْيَةَ: فَرَضَهَا» ثمّ نقلَ عن شفاءِ الغليل: أَنه مُعَرَّب.

وفي حديث عُمَرَ «أَنه بَعثَ حُذَيفَةَ وعُثْمَانَ بنَ حُنَيْفٍ إِلى السَّوَادِ ففَلَجَا الجِزْيَةَ على أَهْلَها» فَسَّرَه الأَصمعيّ فقال: أَي قَسَمَاها، وأَصلُه من الفِلْج، وهو المِكْيَالُ الذي يُقَال له: الفَالِجُ. قال: وإِنّمَا سُمِّيَت القِسْمَةُ بالفَلْجُ لأَنّ خَرَاجَهُم كان طعامًا.

وفي الأَساس: وفَلَجُوا الجِزْيَةَ بينَهُم قَسَمُّوهَا. وفَلِّجْ بين أَعْشِرائِك لا تَخْتَلِطْ؛ أَي فَرِّقْ.

وفي المحكم والتهذيب واللسان فَلَجْتُ الجِزْيَةَ على القَوْمِ: إِذا فَرَضْتَهَا عليهم. قال أَبو عُبيد: هو مأْخُوذٌ من القَفيزِ الفالِجِ.

وفَلَجَ القَوْمَ، وعَلَى القَوْمِ، يَفْلُجُ ويَفْلِج، بالضّمّ والكسر، فَلْجًا، واقتصر الجماهيرُ على أَن الفعْل الثلاثيَّ منه كنَصَرَ لا غيرُ، وبه صَرَّحَ في الصّحَاح وغيره، قاله شيخُنَا.

ثمّ إِن هذا الذي ذَكرْناه من الوَجْهَيْن إِنما هو في: فَلَج القَوْمَ: إِذا ظَفِرَ بهم. والمصنِّف يدَّعي أَنه في الكُلّ من فَلَجَ: إِذا ظَفِرَ، وفَلَجَ: إِذا قَسَمَ، وفَلَجَ: إِذا شَقّ، وفَلَج: إِذا فَرَض. ولم يُصَرِّحْ بذلك أَربابُ الأَفعال. فالمعروف في فَلَجَ: إِذا قَسَمَ، أَنه من حَدِّ ضَرَب لا غيرُ، وما عَدَاهَا كَنَصَر لا غَيْرُ، فلتُرَاجَعْ في مَظَانِّهَا. ثم إِنه لم يتعرَّض لتَعْدِيَتِه بنفْسِه أَو بأَحَدِ الحُرُوف. فالمشهورُ الذي عليه الجمهورُ أَنه يتَعَدَّى بعَلَى، واقتصر عليه في الفصيح ونَظْمه. وصَرَّحَ ابنُ القَطَّاع بتعْدِيته بنفْسه، وتابَعَه جماعةٌ.

وعن ابن سيده: الفَلْجُ: موضع، بين البَصْرَة وحِمَى ضَرِيَّةَ مُذكَّر. وقيل: هو وَادٍ بطريقِ البَصْرةِ إِلى مكَّة، ببطْنِه منازلُ للحاجِّ، مَصْرُوفٌ. قال الأَشْهَبُ بنُ رُمَيْلةَ:

وإِنّ الّذي حَانَتْ بفَلْجٍ دِمَاؤُهمْ *** هُمُ القَوْمُ كلُّ القَوْمِ يا أُمَّ خالدِ

وقيل: هو بَلدٌ. ومنه قِيل. لطريقٍ مأْخَذُهُ من البَصرَةِ إِلى اليمامَةِ: طريقُ بَطْنِ فَلْجٍ. قال ابن بَرّيّ: النّحويّون يستشهدون بهذا البيت على حذف النّون من «الذين لضرورة الشِّعْر، والأَصل فيه: «وإِنّ الّذِين» فحَذَفَ النّونَ ضرورةً.

والفِلْج، بالكسْر: مِكْيَالٌ ضَخْمٌ معروف أَي معروف يُقْسَم به، ويقال له: الفَالِجُ. وقِيل: هو القَفِيزُ. وأَصلُه بالسُّرْيانِيَّة «فالِغَاءُ» فعُرِّبَ. قال الجَعْدِيّ يَصف الخَمْر:

أُلْقِيَ فيها فِلْجَانِ من مِسْكِ دَا *** رِينَ وفِلْجٌ مِن فُلْفُلٍ ضَرِمِ

قلت: ومن هنا يُؤْخَذ قولهم للظَّرْف المُعَدِّ لشُرْبِ القَهْوَةِ وغيرِهَا «فِلْجَان» والعَامّة تقول: فِنْجَان، وفِنْجَال، ولا يصحّانِ.

والفِلْج من كل شيْ‌ءٍ: النِّصْفُ، وقد فَلَجَه: جعلَه نِصْفَين. ويُفْتَح في هذه، ويقال: هُمَا فِلْجَانِ. وقال سِيبويه: الفِلْج: الصِّنْف من الناس، يُقَال: الناسُ فِلْجَانِ: أَي صِنْفَانِ من داخلٍ وخارجٍ. وقال السِّيرَافيّ الفَلْج: الّذي هو النِّصْف والصِّنْف مُشْتَقّ من الفِلْج الّذي هو القَفيز، فالفلْج على هذا القَوْل عربيّ، لأَنّ سيبويه إِنما حَكَى الفلْج على أَنه عربيّ، غير مشتقّ من هذا الأَعجميّ: كذا في اللسان.

والفَلَجُ، بالتحريك: تَبَاعُدُ ما بين القَدَمَيْنِ أُخُرًا. وقيل: الفَلَجُ اعْوجاجُ اليَدَيْن، وهو أَفْلَجُ، فإِن كان في الرِّجْلَيْن فهو أَفْحَجُ، وقال ابن سيده: الفَلَجُ: تَبَاعُدُ ما بين السّاقَيْن، وهو الفَحَجُ، وهو أَيضًا تَبَاعُدُ ما بينَ الأَسنانِ، فَلِجَ فَلَجًا وهو أَفْلَجُ، وثَغْرٌ مُفَلَّجُ أَفْلَجُ، ورجُلٌ أَفْلَجُ: إِذا كان في أَسنانِه تَفرُّقٌ، وهو التَّفْليجُ أَيضًا. وفي التّهذيب والصّحاح: الفَلَجُ في الأَسنانِ: تَباعُدُ ما بينَ الثَّنَايَا والرَّبَاعِيَاتِ خِلْقةً، فإِنْ تُكُلِّفَ فهو التَّفْليج. وهو أَفْلَجُ الأَسنانِ وامرأَةٌ فَلْجَاءُ الأَسنان. قال ابن دُريد: لا بُدَّ من ذِكْر الأَسنانِ، نقله الجوهَرِيّ.

وقد جاءَ في وَصْفه صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم: «كان أَفْلَجَ الثَّنِيَّتَيْنِ» وفي روايةٍ «مُفَلَّجَ الأَسنانِ»، كما في الشَّمائل. وفي الشِّفَاءِ «كان أَفْلَجَ أَبْلَجَ» قال شيخنا: وإِذا عَرفتَ هذا، ظهرَ لك أَن ما قالَه ابنُ دُرَيْدٍ: إِنْ أَراد لا بُدّ من ذكر الأَسنان وما بمعناها كالثَّنَايَا كان على طريقِ التَّوْصيف، أَو لأَخفّ الأَمرِ، ولكنه غيرُ مسلَّم أَيضًا، لمَا ذَكَره أَهلُ اللّغَة من أَن في الجمهرة أُمورًا غير مُسلَّمة. وبما ذُكِرَ تَبَيَّن أَنه لا اعتراضَ على ما في الشّفاءِ، ولا يَأْبَاه كونُ أَفلَجَ له معنًى آخَرُ، لأَن القَرِينَةَ مُصَحِّحةٌ للاستعمال.

انتهى. ثم إِن الفَلَجَ في الأَسنان إِن كَانَ المرادُ تَباعُدَ ما بينها وتَفْرِيقَها كلَّهَا فهو مذمومٌ، ليس من الحُسْنِ في شَيْ‌ءٍ، وإِنما يَحْسُن بين الثنايا، لتفصيلِه بين ما ارْتَصَّ من بَقِيَّة الأَسنان وتَنفُّسِ المتكلِّم الفَصِيح منه، فَلْيُحَقَّقْ كلامُ ابن دُرَيْدٍ في الجمهرةِ.

وفي الأَساس: استَقَيْتُ الماءَ من الفَلَجِ: أَي الجَدْوَلِ.

قال السُّهَيْليّ في الرَّوْض: الفَلَجُ: العَيْنُ الجارِيَةُ، والماءُ الجارِي، يقال ماءٌ فَلَجٌ، وعَيْنٌ فَلَجٌ، والجمع فَلَجَاتٌ وقال ابن السِّيد في الفَرْق: الفَلَج: الجارِي من العين. والفَلَجِ: البِئرُ الكبيرة، عن ابن كُنَاسة. وماءٌ فَلَجٌ: جارٍ. وذكره أَبو حنيفة الدِّينَوريّ بالحاءِ المهملة، وقال في موضع آخَر: سُمِّيَ الماءُ الجاري فَلَجًا، لأَنه قد حَفَر في الأَرضِ وفَرَّقَ بينَ جانِبَيْهَا، مأْخُوذٌ من فَلَجِ الأَسنانِ.

قلتُ: فهو إِذنْ من المجاز.

وفي اللسان: الفَلَج، بالتَّحْرِيك: النَّهْرُ، عن أَبي عُبَيْدٍ.

وقيل: هو النَّهْرُ الصَّغِيرُ، وقيل: هو الماءُ الجَارِي. قال عَبِيدٌ:

أَو فَلَج ببَطْنِ وادٍ *** للماءِ من تَحْتِه قَسِيبُ

قال الجوهريّ: «ولو رُوِيَ: في بطون وادٍ»، لاسْتَقَامَ وَزْنُ البيتِ. والجمعُ أَفلاجٌ. وقال الأَعشى:

فما فَلَجٌ يَسْقِي جَدَاوِلَ صَعْنَبَى *** له مَشْرَعٌ سَهْلٌ إِلى كُلِّ مَوْرِدِ

وغَلِطَ الجوهَريّ في تسكين لامه. نَصُّه في صحاحه:

والفَلْج: نَهرٌ صغيرٌ. قال العَجّاج:

فَصَبَّحَا عَيْنًا رِوىً وفَلْجَا

قال: والفَلَجُ، بالتحريك، لغة فيه. قال ابن بَرِّيّ: صوابُ إِنشادِه:

تَذَكَّرَا عَيْنًا رِوًى وفَلَجَا

بتحريك الّلام. وبعده:

فرَاحَ يَحْدُوهَا وبَاتَ نَيْرَجَا

والجمع أَفْلَاجٌ. قال امرؤ القَيْس:

بعَيْنَيّ ظُعْنُ الحَيِّ لمَّا تَحَمَّلوا *** لَدَى جانِبِ الأَفْلَاجِ مِن جَنْب تَيْمَرَا

وقد يُوصَف به، فيقال: ماءٌ فَلَجٌ، وعَيْنٌ فَلَجٌ. وقيل:

الفَلَج: الماءُ الجارِي من العَين؛ قاله اللّيْث. وقال ياقوت في معجم البلدان: الفَلَجُ: مدينةٌ بأَرضِ اليَمَامة لبنِي جَعْدَةَ وقُشَيْرٍ ابْنَيْ كَعْبِ بنِ رَبيعَةَ بنِ عامِرِ بنِ عامِرِ بنِ صَعْصَعةَ، كما أَن حَجْرًا مدينةٌ لبني رَبِيعَةَ بنِ نِزارِ بنِ مَعَدّ بنِ عَدْنَانَ، قال الجَعْديّ:

نَحْنُ بنُو جَعْدَةَ أَصحابُ الفَلَجْ

قلت: وأَنشد ابنُ هِشَام في المُغْني قول الرّاجز:

نحن بنو ضَبَّةَ أَصحابُ الفَلَجْ

قال البَدْرُ الدَّمامِينيّ في شرْحه: إِنّ التحريكَ غيرُ معروف، وإِنه وقعَ للرَاجز على جِهة الضرورة والإِتباع للفَتْحة. قال شيخُنا: وهذا منه قُصورُ وعدمُ اطّلاع، واغترارٌ بما في القَامُوس والصّحاح من الاقتصار الّذي يُنافي دَعْوَى الإِحاطَةِ والاتّساع، ثم قال: وما قَاله الدّمامينيّ مَبْنَيٌّ على شَرْح الفَلْج بالظَّفَرِ، وشَرَحه غيرُهُ بأَنّه اسمُ مَوضعٍ. انتهى.

والأَفْلَج: البَعيدُ ما بين اليَدَيْنِ.

وفي اللسان: وقيل الأَفلجُ: الّذي اعْوِجاجُه في يَدَيْه، فإِن كان في رِجْليه فهو أَفْحَجُ.

وغَلِطَ الجوهريّ في قوله: البعيدُ ما بين الثَّدْيَيْنِ.

وفي اللسان: الأَفلجُ أَيضًا من الرجال: البَعيدُ ما بين الثَّدْيَينِ. قال شيخُنا: وقد تَعَقَّبوه بأَنّ المعنى واحدٌ، وهو المقصود من التعبير، وقالوا: يَلزمُ عادَةً من تَبَاعُدِ ما بينِ الثَّدْيَين تباعُدُ ما بَيْن اليَدَينِ، والثَّدْيُ عامٌّ في الرِّجال والنِّسَاءِ، كما تقدّم، فلا غلطَ.

والفَلْجُ والفَالِجُ: البَعِيرُ ذو السَّنامَيْن، وهو الّذي بين البُخْتِيّ والعَرَبيّ، سُمِّيَ بذلك لأَن سَنامه نِصْفَانِ، والجمع الفَوالِجُ. وفي الصّحَاح: الفالِجُ: الجَمَلُ الضَّخْمُ ذو السَّنامَيْن يُحْمَل من السِّنْدِ البلادِ المعروفةِ للفِحْلَةِ، بالكسر.

وقد ورد في الحديث: «أَنّ فالِجًا تَردَّى في بِئرٍ».

وقيل: سُمِّيَ بذلك لأَن سَنَامَيْه يَخْتِلف مَيْلُهما.

والفَلْج والفُلْج: القَمْر.

والفَالِجُ في حديث عليّ رضي ‌الله‌ عنه: «إِن المُسلِمَ ما لَمْ يَغْشَ دنَاءَةً يَخْشَعُ لها إِذا ذُكِرَتْ وتُغْرِي به لِئامَ النّاسِ كاليَاسِرِ الفالِجِ» اليَاسِرُ المُقَامِرُ والفالِجُ: الفائزُ من السِّهَام. سَهْمٌ فَالِجٌ: فائزٌ. وقد فَلَجَ أَصحابَه وعلى أَصحابه، إِذا غَلَبَهُم.

وفي حديثٍ آخَرَ: «أَيُّنَا [فَلَجَ] فَلَجَ أَصحابَه».

وفي حديث سعدٍ: «فأَخذْتُ سَهْمي الفالِجَ»: أَي القامِرَ الغالِبَ. قال: ويجوز أَن يكون السّهْمَ الّذي سَبَقَ به في النِّضَال.

والفالِجُ: مَرَضٌ من الأَمراضِ يَتَكوَّنُ من اسْتِرْخَاءِ أَحدِ شِقَّيِ البَدَنِ طُولًا؛ هذا نَصُّ الزَّمَخْشَريّ في الأَسَاس.

وزاد في شَرْحِ نَظْم الفصيح: فيَبْطُلُ إِحساسُه وحَرَكَتُه، وربما كان في عُضْوٍ واحدٍ. وفي اللسان هو رِيحٌ يأْخُذُ الإِنسانَ فَيَذْهَب بشِقِّه. ومثلُه قول الخَليل في كتاب العَين.

وقد يَعْرِض ذلك لأَحَدِ شِقَّيِ البَدَنِ ويَحْدُث بَغْتةً لانْصِبابِ خِلْطٍ بَلْغَمِيّ، فأَوّلُ ما يُورِث إِنه تَنْسَدّ منه مَسالِكُ الرُّوحِ، وهو حاصلُ كلامِ الأَطباءِ.

وفي حديث أَبي هُرَيْرَةَ رضي ‌الله‌ عنه: «الفالِجُ داءُ الأَنبياءِ».

وقال التَّدْمُريّ في شرح الفصيح: الفالِج: داءٌ يُصيب الإِنسانَ عند امتلاءِ بُطُون الدِّماغ من بعضِ الرُّطوبات، فيَبْطُل منه الحِسُّ وحَركاتُ الأَعضاءِ، ويَبْقَى العَليلُ كالمَيتِ لا يَعْقِل شيئًا.

والمَفْلُوجُ: صاحبُ الفالِج.

وقد فُلِجَ كعُنِيَ ـ اقتصر عليه ثعلبٌ في الفَصِيح، وتَبعَه المشاهيرُ من الأَئمّة، زاد شيخُنَا: وبَقِيَ على المصنّف أَنه يقال: فَلِجَ، بالكسر، كَعَلِمَ؛ حكاهَا ابنُ القَطَّاع والسَّرَقُسْطِيّ وغيرُهُمَا ـ فهو مَفْلُوجٌ، قال ابن دُرَيْد: لأَنّه ذَهَبَ نِصْفُه. وقال ابن سيده: فُلِجَ فالِجًا، أَحَدُ ما جاءَ من المصادرِ على مِثَالِ فاعِلٍ.

وبلا لامٍ: ابنُ خَلَاوَةَ الأَشْجَعِيّ، اسمُ رَجلٍ، وكان من قِصَّته أَنه قِيلَ له يَوْمَ الرَّقَم ـ محرّكةً من أَيّامهم المشهورة ـ لمّا قَتَلَ أُنَيْسٌ الأَسْرَى، هكذا في نسختنا، وفي بعضها: لمّا قتلَ أَنيسٌ الأَسَديّ، ولا يصحّ: أَتَنْصُر أُنَيْسًا؟ فقال: إِني منه بَرِي‌ءٌ. وَمنه قولُ المُتَبَرِّي‌ء من الأَمْر: فُلانٌ يَدَّعِي عَلَيَّ فَوْدَيْن وعِلاوَةً وأَنا منه فالِجُ بنُ خَلَاوَة: أَي أَنا منه بَرِي‌ءٌ؛ قاله الأَصمعيُّ، وعن أَبي زيدٍ: يقال للرجل إِذا وَقَعَ في أَمْرٍ قدْ كان منه بمَعْزِلٍ: كنتَ من هذَا فالِجَ بنَ خَلَاوَةَ، يا فَتى. وفي اللّسَان: ومثلُه قول الأَصمعيّ: لا نَاقَة لي في هذا ولا جَمَلَ؛ رواه شَمِرٌ لابنِ هانِئٍ، عنه.

والفَلُّوجَةُ، كسَفُّودَة: القَرْيَةُ من السَّوَادِ. وهي أَيضًا الأَرضُ المُصْلَحَةُ الطّيِّبَةُ البيضاءُ المُسْتَخْرَجَةُ للزَّرْع، والجمع: فَلالِيجُ. ومنه سُمِّيَ موضع؛ مَوْضِعٌ بالعِراق فَلُّوجَةَ. وفي اللسان: «بالفُرات» بدل: «العِراق».

وقال ابن دُريد في المفلوجِ: سُمِّيَ به لأَنه ذَهَب نِصْفُه.

ومنه قيلَ: الفَلِيجَةُ، كسَفِينَة، وهو شُقَّةٌ من شُقَق البَيتِ.

وقال الأَصمعيّ: من شُقَقِ الخِبَاءِ. قال: ولا أَدرِي أَين تكون هي. قال عُمَر بن لَجَإِ:

تَمَشَّى غَيرَ مُشْتَمِل بثَوْبٍ *** سِوَى خَلِّ الفَلِيجَةِ بالخِلَالِ

وفي المُحْكَم: وقول سَلْمَى بن المُقْعَد الهُذَليّ:

لَظَلَّتْ عليه أُمُّ شِبْل كأَنَّها *** إِذا شَبِعَتْ منه فَلِيجٌ مُمَدَّدُ

يجوز أَن يكون أَراد: فَلِيجَةً ممدَّدَةً، فحذَف، ويجوز أَن يكون ممّا يقال بالهاءِ وبغير الهاءِ، ويجوز أَن يكون من الجمع الذي لا يُفَارقُ واحِدَه إِلّا بالهاءِ.

وفي قول ابن طُفَيْل.

تَوَضَّحْنَ في عَلْيَاءَ قَفْرٍ كأَنّها *** مَهَارِقُ فَلُّوجٍ يُعَارِضْنَ تالِيَا

قال ابنُ جَنْبةَ: هو كالتَّنُّورِ: الكاتِبُ قلت: ويُطْلَق على المدبِّر الحاسِبِ، من قَولِهم: هو يُفلِّج الأَمْرَ؛ أَي ينظر فيه ويُقَسِّمه ويدَبِّره.

وفَلُّوجٌ: موضع.

ويقال: أَمْرٌ مُفَلَّجٌ، كمُعَظَّم: غيرُ مُستقيمٍ على جِهَته ورَجلٌ مُفَلَّجُ الثَّنَايَا وفَلِجُها أَي مُتَفَرِّجُها، الأَخيرة من الأَساس؛ هكذا في النّسخ، وفي بعضها: مُنْفَرِجُها، من بابِ الانفعال، وهو خلافُ المُتَراصّ الأَسنانِ.

وفي صِفته صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم: «أَنه كان مُفَلَّجَ الأَسْنَانِ»، وفي روايةٍ: «أَفْلَجَ الأَسنانِ»، وفي أُخْرَى: «أَفْلَجَ الثَّنِيَّتَيْن».

وإِفْلِيجُ، كإِزْمِيل: موضع.

وفُلْجَةُ، بالتسكين: موضع بَين مَكَّةَ والبَصرَةِ، وقيل: هو الفَلَج، المتقدّم ذِكْرُه.

وفي المثل: «مَنْ يَأْتِ الحَكَمَ وَحْدَه يَفْلُجْ».

وأَفْلَجَه اللهُ عليه فَلْجًا وفُلُوجًا: أَظْفَره وغَلَّبَه وفَضَّلَه.

وأَفْلَجَ اللهُ بُرْهَانَه: قَوَّمَه وأَظْهَرَه. والاسم من جميع ذلك الفُلْجُ والفَلَجُ، يقال: لِمَن الفُلْجُ والفَلَجُ؟ وفي حديث مَعْنِ بن يَزيد: «بايَعتُ رسولَ الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم وخاصمتُ [إِليه] فَأَفْلَجَني» أَي حَكَمَ لي وغَلَّبَني على خَصْمي.

وتَفَلَّجَتْ قَدَمُه: إِذا تَشَقَّقتْ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ من هذه المادّة: امرأَة مُتَفَلِّجَة: وهي الّتي تَفعل ذلك بأَسنانها رَغْبةً في التَّحسين. ومنه‌الحديث «أَنه لَعَنَ المُتَفلِّجاتِ للحُسْن».

والفَلَج، محَرَّكةً: انْقِلابُ القَدَم على الوَحْشِيّ وزَوَالُ الكَعْب.

وهَنٌ أَفْلَجُ: مُتَبَاعِدُ الأَسْكَتَيْن. وفَرَسٌ أَفْلَجُ: متباعِدُ الحَرْقَفتَين. ويقال من ذلك كلّه: فَلِجَ فَلَجًا وفَلَجَةً، عن اللِّحْيَانيّ.

والفِلْجَةُ: القِطْعَة من البِجَادِ.

وتَعَالَ: أُفَالِجْك أُمورًا من الحَقِّ، [أَي] أُسَابِقك إِلى الفَلَج لأَيِّنا يكون، من فالَجَ فُلانًا ففَلَجه يَفْلُجه: خاصَمَه فخَصَمَه وغَلَبَه.

ورجلٌ فالِجٌ في حُجَّتهِ وفَلْجٌ، كما يقال: بالِغٌ وبَلْغٌ، وثابِتٌ وثَبْتٌ.

والفُلُجُ، بضمّتين: السّاقِيَةُ الّتي تَجْرِي إِلى جَميعِ الحائطِ.

والفُلْجَانُ: سَوَاقِي الزَّرْعِ.

والفَلَجَاتُ: المَزَارِعُ. قال:

دَعُوا فَلَجَاتِ الشَّأْمِ قدْ حالَ دُونَهَا *** طعَانٌ كأَفْواه المَخَاضِ الأَوراكِ

وهو مذكور في الحاءِ.

والفَلَج: الصُّبْح. قال حُميدُ بنُ ثَوْرٍ:

عن القَرَاميصِ بأَعْلَى لاحِبٍ *** مُعبَّدٍ من عَهْدِ عادٍ كالفَلجْ

وانْفَلَجَ الصُّبْحُ كانْبَلَجَ.

واسْتَفْلَجَ فُلانٌ بأَمْرِه ـ بالجيم والحاءِ ـ مَلَكَه.

وفَلجَتْ فُلَانَةُ بقَلْبي: ذَهَبَتْ به، وهذه وما قبلها من الأَساس.

وفي الحديث ذِكْرُ فَلَجَ، وهو محرَّكةً: قَريةٌ عظيمةٌ من ناحيةِ اليَمامة، ومَوضعٌ باليَمن من مساكنِ عادٍ؛ كذا في أَنساب أَبي عُبيدٍ البَكْرِيّ. قلت: ومن الأَخير ابنُ المُهَاجِر؛ ذَكَر ذلك الهَمْدَانيُّ في أَسماءِ الشُّهور والأَيّام.

وفَالُوجَةُ: قَرْيَةٌ بِفِلَسْطِينَ.

وفَالِجٌ: اسْمٌ. قال الشّاعِر:

مَنْ كَانَ أَشْرَكَ في تَفَرُّقِ فَالِجٍ *** فَلَبُونُه جَرِبَتْ مَعًا وأَغَدَّتِ

وفالجانُ: قريةٌ بتُونسَ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


177-تاج العروس (رسح)

[رسح]: الرَّسَح، محرَّكةً: قِلَّةُ لَحْمِ الأَلْيتَيْنِ ولُصوقُهما.

رجُلٌ أَرْسحُ، بيِّن الرَّسَحِ: قَليلُ لحْم العَجُزِ والفَخِذيْن.

وامرأَةٌ رَسْحاءُ. وقد رَسِحَ رَسحًا. والأَرْسح: الذِّئْب.

وكلُّ ذِئْبٍ أَرْسحُ، لخِفَّةِ وَرِكَيْهِ. وقيل للسِّمْعِ الأَزلّ: أَرْسحُ. والرَّسْحاءُ: القَبيحَةُ من النِّساءِ، وهي الزَّلّاءُ والمِزْلَاجُ. وإِنكارُ شَيخِنا إِيّاه قُصورٌ ظاهر. الجمع: رُسْحٌ بضمّ فسكون، هكذا هو مضبوط في الصحاح. وفي الحديث. «لا تَسْتَرْضِعوا أَولادَكم الرُّسْحَ ولا العُمْشَ فإِنّ الَّلبنَ يُورِث الرَّسَحَ».

وقيل لامرأَة: ما بالُنا نَراكُنَّ رُسْحًا؟ فقالت: أَرْسَحَتْنا نارُ الزَّحْفَتَيْن. كذا في الصّحاح والأَساس. وفي شرْح شيخنا: أَرْسَحَهنّ عَرْفَجُ الهَبَاءِ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


178-تاج العروس (نصح)

[نصح]: نَصَحَه ينصَحُهُ، ونصَحَ لَهُ، كمنَعَه ـ وباللام أَعلَى، كما صرَّح به الجوهريّ وغيره، وهي اللُّغَة الفُصْحَى. قال أَبو جعفر الفِهْرِيّ في شرح الفصيح: الأَصل في نَصَحَ أَن يَتَعَدَّى هكذا بحرفِ الجرّ، ثم يُتَوَسَّع في حذْف حرْف الجرّ فيصِل الفعلُ بنفْسه. فتقول: نَصحْت زيدًا. وقال الفَرّاءُ في كتاب المصادر له: العربُ لا تكاد تقول نَصَحْتُك، إِنّمَا يقولونَ نَصَحْتُ لك، وقد يقولون نَصحْتُك يريدون نَصحْت لك. قال النابغة:

نَصَحتُ بَنِي عَوفٍ فلم يَتقَبَّلوا *** رَسُولِي ولَم تَنْجَح إِليهم وَسَائِلي

وقال ابنُ دُرُسْتويْه: هو يَتعَدَّى إِلى مفعولٍ واحدٍ، نحْو.

قَولك نَصحْت زيدًا، وإِذا دخلَت اللّامُ صارَ يَتعدَّى إِلى اثنين، فتقول: نَصحْت لزيدٍ رَأْيَه. وقد يُحذَف المفعول إِذَا فُهِم المعنَى، فتقول: نَصحْت لزيدٍ، وأَنت تريد نَصحْت لزيدٍ رَأْيَه، وتحْذف حرْفَ الجرِّ من المفعول الثاني، فيَتَعدّى الفِعل بنفسه إِليهما جميعًا، فتقول.. نصحْتُ زيدًا رأْيَه. قال أَبو جعفر: وما قاله ابنُ دُرُسْتويه من أَنّ نَصحْت يَتعدَّى إِلى اثنين أحدهما بنفْسه والثاني بحرْف الجرّ، نحْو نصَحْت لزيدٍ رأْيَه، دَعْوَى، وهو مُطَالَب بإِثباتها، ولو كان يَتعدَّى إِلى اثنين لسُمِع في مَوضع ما، وفي عدم سماعه دليلٌ على بُطلانه. قال شيخُنا رحمه ‌الله تعالى: وهو كلامٌ ظاهرٌ، وابن دُرُسْتويه كثيرًا ما يَرتكِب مثْلَ هذه التمحُّلات: وقد ذَكَر مثْل هذا في شكر وقال: تقديره شكَرْت نعْمَته. وأطال في تقريره ـ نُصْحًا بضمّ فسكون، ونَصَاحَةً، كَسَحَابة، ونِصَاحَةً، بالكسر، أَوردَه صاحبُ اللّسان، ونَصَاحِيَةً، كَكَرَاهِيَة، ونُصُوحًا، بالضّم، حكاه أَربابُ الأفعال، ونَصْحًا، بفتح فسكون، أورَده صاحب اللِّسان. وهو ناصحٌ ونَصِيحٌ، من قَوم نُصَّحٍ، بضمّ فتشديدِ ونُصَّاح، كُرمّان، ونُصَحاءَ.

ويقال: نَصَحْتُ له نَصيحتي نُصُوحًا؛ أَي أَخلَصْتُ وصَدَقْت، والاسمُ النَّصيحَة.

قال شيخنا: الأَكثر من أَئمّة الاشتقاق على أَنّ النُّصْح تَصفية العَسلِ وخِياطة الثّوبِ، ثم استُعمِل في ضدِّ الغِشّ، وفي الإِخلاصِ والصدق كالتَّوبةِ النَّصوحِ. وقيل: النُّصْحُ والنَّصِيحةُ والمُنَاصَحةُ: إِرادةُ الخَيْرِ للغَيرِ وإِرْشَادُه له، وهي كلمةٌ جامعةٌ لإِرادةِ الخَيْر. وفي النهاية: النَّصِيحَة كلمةٌ يُعبَّر بها عن جُملةٍ، هي إِرادة الخيرِ للمَنصوح له، وليس يُمْكن أَن يُعبَّر عَن هذا المعنَى بكلمةٍ واحدة تَجمَع مَعناه غيرها.

وقال الخَطّابيّ: النَّصِيحَةُ كلمةٌ جامعةٌ معنَاهَا حِيازةُ الحَظّ للمَنصوح له. قال: ويقال هو من وَجِيزِ الأَسماءِ ومختَصَر الكلامِ، وأَنّه ليس في كلام العرب كلمةٌ مفردة تُسْتَوفَى بها العِبَارَة عن معنَى هذه الكَلمة، كما قالوا في الفَلَاح. وفي شَرْح الفصيح للَّبْليّ: النّصيحة: الإِرشادُ إِلى ما فيه صَلاحُ المَنْصوحِ له، ولا يكون إِلّا قَولًا، فإِن استُعْمِل في غَير القَول كان مجازًا. والنُّصْح: بَذْلُ الاجتهادِ في المَشورةِ، وهو النَّصِيحَة أَيضًا، عن صاحِب الجَامع. هذا زبدةُ كلامهم في النّصيحة انتهى.

قلْت: وهذا الّذي نقله شيخُنَا من أَنَّ النُّصح تَصفيةُ العسَل عند الأَكثرِ، قد رَدّه المصنّف في البصائر وقال: النُّصْح: الخلوص مُطلقًا، ولا تَقييد له بالعَسلِ ولا بغَيره.

وقال في محلٍّ آخرَ: النَّصِيحة كلمةٌ جامعَةٌ، مُشتقَّة من مادّة ن ص ح الموضوعة لمعنيَينِ: أَحدهما الخُلوص والنّقَاء، والثاني الالْتئامُ والرِّفَاءُ، إِلى آخِرِ ما قال.

ونَصَحَ الشيْ‌ءُ: خَلَصَ، وكلُّ شيْ‌ءٍ خَلَصَ فقد نَصَحَ.

ومن المجاز: نَصَحَ الخيّاطُ الثَّوْبَ والقَمِيصَ: خَاطَهُ، يَنْصَحه نَصْحًا، أَو أَنْعَمَ خِياطَتَه، كَتَنَصَّحَهُ. ونَصَحَ الرَّجلُ الرِّيَّ نَصْحًا، إِذا شَرِبَ حَتّى رَوِيَ. وفي بعض الأُمّهات «حتى يَرْوَى» قال:

هذا مقامِي لك حتَّى تَنْصَحِي *** رِيًّا وتَجْتَازِي بَلاطَ الأَبطَحِ

ويُروَى «حتّى تَنْضَحي» بالضاد المعجمة، وليس بالعالي.

ومن المجاز قال النضْر: نَصَحَ الغَيْثُ البَلَدَ نَصْحًا: سَقَاه حتَّى اتَّصَلَ نَبْتُه فلم يكُنْ فيه فَضَاءٌ ولا خَلَلٌ. وقال غيرُه: نَصَحَ الغَيْثُ البِلادَ ونَصَرَهَا بمعنًى واحدٍ.

ومن المجاز قولُهم: رجُلٌ ناصحُ الجَيْبِ: نَقِيُّ الصَّدْرِ ناصِحُ القلب، لا غِشَّ فِيه. وفي الجامع للقزّاز: النُّصْحُ: الاجتهادُ في المَشُورَةِ، وقد يستعار فيقال: فلانٌ ناصحُ الجَيْبِ؛ أَي ناصِحُ القَلْبِ، ليس في قَلْبه غِشٌّ. وقيل: ناصِحُ الجَيبِ مثل قولهم: طاهرُ الثَّوْب، وكلُّه على المثَل. قال النابغة:

أَبْلِغِ الحَارِثَ بنَ هِنْدٍ بأَنّي *** ناصِحُ الجَيْبِ باذلٌ للثَّوَابِ

ومن المجاز: سقاني ناصِحَ العَسَلِ؛ أَي ماذِيَّه.

والنَّاصح: العَسَل الخالِصُ. وفي الصّحاح عن الأَصمعيّ: هو الخَالِصُ من العَسَل وغيرِهَا، مثْل الناصِع. ووجدْت في هامشه ما نَصُّه: العربُ تُذكِّر العسَلَ وتُؤَنّثه، والتأْنِيث أَكثرُ، كذا قال الأَزهريّ في كتابه، انتهى. قال ساعدة بن جُؤَيّة الهذليّ يَصِف رَجلًا مَزَجَ عَسَلًا صافيًا بماءٍ حتّى تَفرَّق فيه:

فأَزالَ مُفرِطَهَا بأَبيضَ نَاصحٍ *** من ماءِ أَلْهَاب بهنَّ التَّأْلَبُ

وقال أَبو عمرو: النَّاصِح: النَّاصِعُ في بيت ساعدةَ.

قال: وقال النَّضرُ: أَرادَ أَنّه فَرّقَ بين خالِصِها ورَديئها بأَبيضَ مُفْرَط؛ أَي بماءِ غدِير مملوءٍ.

والناصِح الخَيّاطُ، كالنَّصَّاح والنَّاصِحِيّ. وقميصٌ منصوحٌ و [آخَرُ] مُنْصَاحٌ [أَي منشق].

والناصِح: فَرَسُ الحَارث بن مَرَاغَةَ أَوْ فَضَالَةَ بنِ هِنْد، وفَرَسُ سُوِيدِ بن شَدّادٍ.

ومن المجاز: صَلِّبْ نِصَاحَكَ. النِّصَاح ككِتَابِ: الخَيْطُ، وبه سُمِّيَ الرَّجلُ نِصَاحًا. والسِّلْكُ يُخَاط به، الجمع: نُصُحٌ بضمتين، ونِصَاحةٌ، الكسرة في الجميع غير الكسرة في الواحد، والأَلف فيه غير الأَلف، والهاءُ لتأْنيثِ الجميعِ.

ونِصَاحٌ: والدُ شَيْبَة القارِئ، وكان أَبو سعد الإِدريسيّ يقوله بفتح فتشديد، قاله الحافظ ابن حجر.

والمِنْصَحَةُ، بالكسر: المِخْيَطَة كالمِنْصَح، بغير هاءٍ، وهي الإِبرة، فإِذا غلُظَت فهي الشَّعيرة.

ومن المجاز: المُتَنَصَّحُ: المَتَرقَّعُ كلاهما على صيغةِ المفعولِ. ويقولُون: في ثوبِه مُتَنصَّح لمَنْ يُصلِحه؛ أَي موضِعُ إِصلاحٍ وخِيَاطةٍ، كما يُقَال إِنّ فيه مُتَرقَّعًا. قال ابن مُقْبل:

ويُرعَدُ إِرعادَ الهَجِينِ أَضاعَه *** غَدَاةَ الشَّمَالِ الشُّمْرُجُ المُتَنصَّحُ

وقال أَبو عمرٍو: المُتَنَصَّحُ: المُخَيَّطُ جيِّدًا، وأَنشد بيت ابن مُقْبل.

ومن المجاز أَرْضٌ مَنصوحةٌ: مَجُودَةٌ، نُصِحَتْ نَصْحًا، قاله أَبو زيدٍ. وحكى ابنُ الأَعرابيّ: أَرضٌ مَنصوحة: مُتَّصِلة بالغَيْث كما يُنصَح الثّوبُ. قال ابن سيده: وهذه عبارةٌ رَدِيئة، إِنَّمَا المنصوحَة الأَرضُ المتَّصلةُ النَّبَاتِ بعضه ببعضٍ، كأَنَّ تلك الجُوَبَ التي بين أَشخاصِ النَّبَات خِيطَت حتّى اتّصلَ بعضُها ببعض.

ومن المجاز: نَصَحَتِ الإِبلُ الشّرْبَ تَنصَح نُصُوحًا: صَدَقَتْه. وأَنْصَحَ الإِبلَ: أَرْوَاهَا، عن ابن الأَعرابيّ، كما في الصحاح.

والنِّصَاحات كجِمالاتٍ: الجُلودُ، قال الأَعشى:

فتَرَى القَوْمَ نَشَاوَى كُلَّهُمْ *** مِثْلَما مُدّتْ نِصَاحاتُ الرُّبَحْ

قال الأَزهريّ: أَراد بالرُّبَح الرُّبَعَ في قول بعضهم.

وقال ابن سيده: الرُّبَح من أَولاد الغَنَم، وقيل: هو الطائرُ الّذي يُسمَّى بالفارسية زَاغ وقال المؤرِّج: النِّصَاحاتُ: حَبَالاتٌ يُجعَلُ لها حَلَقٌ وتُنْصَبُ فيُصَادُ بها القُرُودُ. وذلك أَنّهم إِذا أَرادوا صَيْدَهَا يَعمِد رَجلٌ فيعمَل عِدّة حِبَالٍ ثم يأْخذ قِرْدًا فيجعله في حَبْلٍ منها، والقُرُود تَنظُرُ إِليه من فوقِ الجَبَل، ثم يَتنحَّى الحابلُ فتنزلُ القُرُودُ فتدخلُ في الحِبَالِ وهو ينظر إِليها من حيث لا تراه ثم ينزل إِليها فيأْخذ ما نَشِب في الحِبال. وبه فسَّر بعضُهم قول الأَعشى، والرُّبَح القُرُودُ أصلها الرُّبّاح وقد تقدّم.

والنِّصَاحَات: جِبَالٌ بالسَّرَاة.

والنَّصْحاءُ، بفتح فسكون: موضع ومِنْصَحٌ كمِنْبَرٍ: د، والذي في المعجم أَنّه وادٍ بتهامة وراءَ مكَّة. قال امرؤ القيسِ بن عابسٍ السَّكُونيّ:

أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَرَى الوَرْدَ مَرَّةً *** يُطَالِب سِرْبًا مُوكَلًا بِغِوَارِ

امامَ رَعِيلٍ أَو برَوْضَةِ مِنْصَحٍ *** أُبادرُ أَنعامًا وإِجْلَ صُوَارِ

والْمَنْصَحيَّةُ، بالفتح وياءِ النّسبة ماءٌ بتِهَامَةَ لبني هُذَيْل.

ومَنْصَحٌ، كمَسْكَنٍ: موضع آخرُ والصواب في هذا أن يكون بالضاد المعجمة كما سيأْتي.

وتَنَصَّحَ الرَّجلُ، إِذا تَشَبَّه بالنُّصَحاءِ، وانْتَصَحَ فلانٌ قَبِلَهُ أَي النُّصْحَ. وفي اللسان: انتصِحْ كِتَابَ الله؛ أَي اقْبَلْ نُصْحَه. وأَنشدوا:

تقولُ انْتَصِحْني إِنّني لك ناصِحٌ *** وما أَنا إِنْ خبَّرْتُهَا بأَمينِ

قال ابن بَرّيّ: هذا وَهَمٌ، لأَنّ انْتَصَح بمعنَى قبِلَ النصيحةَ لا يَتعدّى أَنّه مطاوعُ نَصحتُه فانتَصَح، كما تَقُول رَددته فارْتَدّ، وسدَدْته فاستَدّ، ومدَدْته فامتدّ، فأمّا انتصَحْتُه بمعنَى اتَّخذْته نَصيحًا فهو متعدٍّ إِلى مفعول، فيكون قوله انتصِحْني إِنّني لك ناصح، بمعنَى اتَّخِذْني ناصحًا لك، ومنه قولهم: لا أُريد منك نُصْحًا ولا انْتِصَاحًا؛ أَي لا أُريد منك أَن تَنْصَحنِي ولا أَن تتّخذني نَصِيحًا، فهذا هو الفَرْق بين النُّصح والانتصاح. والنُّصْح مصدر نَصَحْته، والانتصاح مصدر انتَصَحْتُه أَي اتخذْتُه نَصيحًا، أَو قَبِلْت النَّصِيحَةَ، فقد صار للانْتِصَاح معنيانَ.

ومِن المجازِ: نَصَحَتْ تَوْبَتُهُ نُصُوحًا، التَّوْبَةُ النَّصُوحُ هي الصَّادقةُ. قال أَبو زيد: نَصَحْته أَي صَدَقْته. وقال الجوهَرِيّ: هو مأْخُوذ من نَصَحْت الثَّوْبَ، إِذَا خِطْته، اعتبارًا بقوله صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم: «من اغتابَ خَرَقَ، ومن استغفَرَ الله رَفَأَ».

أَو التَّوْبة النَّصوح: الخَالِصَة وهي أَنْ لا يَرجِعَ العَبْدُ إِلى ما تَابَ عَنْهُ.

وفي حديث أُبَيّ: «سأَلتُ النّبيّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم عن التّوبَة النَّصُوح فقال: هي الخالِصَةُ التي لا يُعَاوِدُ بَعْدَها الذّنْب».

وفَعولٌ من أَبنية المبالغة، يَقع على الذّكر والأُنثَى، فكأَنّ الإِنسانَ بالغَ في نُصْح نفْسِه بها. وقال أَبو إِسحاقَ: تَوْبَة نَصُوحٌ: بَالغةٌ في النُّصْح، أَوْ هي أَن لا يَنْوِيَ الرُّجُوعَ ولا يُحدِّث نَفْسَه إِذا تَاب من ذلك الذَّنب العَوْدَ إِليه أَبدًا. قال الفرّاءُ: قرأَ أَهل المدينة نَصُوحًا بفتح النُّون، وُذكِرَ عن عاصِمٍ بضمّ النّون. فالذين قَرَأوا بالفتح جعلوه من صفة التَّوبَة، والذين قرأوا بالضّمّ أَرادوا المصدر مثل القُعود.

وقال المفضّل: بات عَزُوبًا وعُزُوبًا، وعَرُوسًا وعُرُوسًا.

وسَمَّوْا ناصِحًا ونَصِيحًا ونَصَّاحًا.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

انتصَح: ضِدّ اغتشَّ. ومنه قول الشاعر:

أَلَا رُبَّ مَن تَغْتَشُّه لك ناصِحٌ *** ومُنتصِحٍ بادٍ عليكَ غوائلُه

تَغْتَشُّه: تَعتدُّه غاشًّا لك. وتَنتصِحه: تَعتدّه ناصحًا لك.

واستنصَحَه: عَدَّه نَصيحًا.

والتَّنصُّح: كثرةُ النُّصْح. ومنه‌قول أَكثَمَ بن صَيفيّ: «إِيّاكم وكَثرةَ التَّنصُّح فإِنّه يُورِث التُّهَمَة».

ونَاصَحَه مُناصَحَةً.

ومن المجاز غُيوثٌ نواصِحُ: مُترادِفةٌ، كما في الأَساس.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


179-تاج العروس (تلد)

[تلد]: التّالِدُ، كصاحِبٍ، والتَّلْد، بالفتْح، والضّمّ، والتحريك، والتِّلَادُ، بالكسر، والتَّلِيد، كأَمِير، والإِتلَادُ، كالإِسنام، والمُتْلَد، كمُكْرَم، الأَخيرة عن ابن جِنِّى، فهذه ثَمان لُغاتٍ ذَكرَها ابن سيده في المحكم: ما وُلِدَ عندَك من مالِكَ أَو نُتِجَ، ولذلك حكَمَ يعقوبُ أَنَّ تاءَه بَدلٌ من الواو، وهذا لا يَقْوَى، لأَنّه لو كان ذلك لرُدَّ في بعْضِ تَصاريفه إِلى الأَصْل. وقال بعض النَّحوِّيين: هذا كلُّه من الواو. فإِذا كان ذلك فهو معتلٌّ وقيل: التِّلاد: كلُّ مالٍ قديمٍ من حيوان وغيره يُورَث عن الآباءِ، وهو نَقيض الطارفِ.

تَلَدَ المالُ يَتْلُدُ ويَتْلِد تُلُودًا كعُقُودِ، وأَتْلَدَه هُوَ. وأَتْلَدَ الرَّجُلُ، إِذَا اتّخذَ مالًا.

ومالٌ مُتْلَدٌ: قديمٌ. وخُلُقٌ، بضمّتين مُتَلَّدٌ، كمُعظَّم، هكذا في النُّسخ، وقد سقطَ من بعضِ النُّسخ: قَدِيمٌ، والصواب أَنّه كمُكْرَم، لما أَنشد ابنُ الأَعرابيّ:

ماذَا رُزِئْنا منكِ أُمَّ مَعْبد *** مِن سَعَةِ الخُلْقِ وخُلْقٍ مُتْلَدِ

والتَّلِيدُ والتَّلَدُ، محرّكَةً: مَنْ وُلِد بالعَجَمِ فحُمِلَ صَغِيرًا فنَبَتَ، هكذا في النُّسخ بالنُّون، وفي بعضها بالمثلّثة ثمّ بالموحّدة، ببِلادِ الإِسلام. ورُوِيَ عن الأَصمعيّ أَنّه قال: التَّليد: ما وُلِد عند غيرك ثم اشترَيْتَه صغيرًا فثَبتَ عندَك، والتِّلاد: ما وَلَدْتَ أَنت. قال أَبو منصور: سَمعْت رَجلًا من أَهل مكّةَ يقول: تِلَادِي بمكّة؛ أَي مِيلادي، وقال اللِّحْيَانيّ: رَجلٌ تَلِيدٌ في قوم تُلَداءَ، وامرأَةٌ تَليدٌ في نِسْوَة تَلَائدَ وتُلُدِ.

وتَلِدَ الرَّجلُ في بنِي فُلانٍ، كنَصَر وفَرِحَ، وهذه عن الفراءِ، يَتلُد ويَتلَدُ: أَقَامَ فِيهِم. وتَلَدَ بالمكان تُلودًا: أَقام بِه. وجاريةٌ تَليدةٌ، إِذا وَرِثَها الرَّجلُ، فإِذا وُلِدَت عندَه فهي وَليدةٌ.

ورُوِيَ عن شُريحٍ: أَنّ رَجلًا اشتَرَى جاريةً وشَرَط أَنّها مُوَلَّدة فوَجدَها تَليدَةً، فرَدَّهَا شُرَيحٌ. قال القُتَيبيّ: التَّليدة هي الّتي وُلِدَت ببلادِ العَجَم وحُمِلتْ فنشأَت ببلاد العرَب.

والمُوَلَّدَة بمنْزلَةِ التِّلاد، وهو الَّذي وُلِدَ عندَك. وقيل: المُوَلَّدة: الّتي وُلِدَت في بلادِ الإِسلام. وعن ابن شُميلٍ: التَّلِيد: الّذي وُلِدَ عندك، وهو المُوَلَّد والأُنثَى المولَّدَة.

والمُوَلَّدُ والمُوَلَّدةُ والتَّلِيد واحدٌ عندنا. رَواه المَصاحفيّ عنه.

ورَوَى شَمِرٌ عنه أَنّه قال: تِلادُ المالِ ما تَوالَدَ عندَك فتَلَد مِن رَقيقٍ أَو سائمةٍ: وتَلَدَ فُلانٌ عندنا؛ أَي وَلَدْنَا أُمَّه وأَبَاهُ.

وفي حديث عائشةَ: «أَنَّهَا أَعتقَتْ عن أَخيها عبدِ الرحمن تِلَادًا مِنْ تِلَادِهَا، فإِنّه ماتَ في مَنَامِه» وفي نُسخة «تِلادًا من أَتْلاده».

والأَتْلادُ، بالفتْح: بُطُونٌ من عَبدِ القَيْسِ، يقال لهم أَتْلادُ عُمَانَ، لأَنّهم سَكنوها قديمًا، كذا في الصّحاح.

وفي حديث ابن مسعود: «آل حم مِنْ تِلَادِي» أَي أَوّل ما أَخَذْتُه وتعلَّمْته بمكَّةَ.

والتُّلْدُ، بالضّم: فَرْخُ العُقَابِ.

وتَلَّدَ الرَّجُلُ تَتْلِيدًا: جَمَعَ وَمَنَعَ، عن ابن الأَعرابيّ واللِّحْيَانيّ.

وتليدٌ، كَأَمِيرِ وزُبَيرٍ: اسمان.

وتَلْد، بفتح فسكون: أَبو المَوَاهِب يحيى بن أَبي نصْر بن تَلْدٍ الأَزديّ، عن ابن نصر، وعنه أَبو محمد بن الخشّاب النّحويّ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


180-تاج العروس (حرد)

[حرد]: حَرَدهُ يَحْرِدُهُ، بالكسر، حَرْدًا: قَصدَهُ ومنَعَهُ، كلاهما عن ابن الأَعرابيّ، وقد فُسِّرَ بهما قوله تعالى: {وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ}: كَحرَّدَهُ تَحريدًا، قال:

كأَنَّ فَداءَهَا إِذ حَرَّدُوهُ *** أَطافُوا حوْلَهُ سُلَكٌ يَتِمُ

وقال الفرّاءُ: تقول للرَّجل: وقد أَقبلْتُ قِبَلَكَ، وقَصَدتُ قَصْدَك، وحرَدْتُ حَرْدَك.

وحرَدَه: ثَقَبَهُ، ورجُلٌ حَرْدٌ، كعَدْلٍ، وحارِدٌ، وحَرِدٌ، ككَتِفٍ، وحَرِيدٌ، ومُتَحَرِّدٌ، وحَرْدانُ، من قَوْمٍ حِرَادٍ، بالكسر، جمع حَرِدٍ ككَتِفٍ، وحُرَدَاءَ، جمع حَرِدٍ: مَعْتَزِلٌ مُتَنِحٍّ، وامرأَة حَرِيدةٌ، ولم يقولوا: حَرْدَى، وحَيٌّ حَرِيدٌ: مُنْفَرِدٌ مُعْتَزلٌ من جماعة القَبِيلةِ، ولا يُخالِطهم في ارْتحاله وحُلُوله؛ إِمَّا لِعِزَّتِهِ، أَو لِقِلَّتِهِ وذِلَّته. وقالوا: كلُّ قليلٍ في كثير حَرِيدٌ، قال جَرِير:

نَبْنِي عَلَى سنَنِ العَدُوِّ بُيُوتَنا *** لا نَسْتجِيرُ ولا نَحُلُّ حَرِيدَا

يعني أَننا لا نَنْزِل في قَوْمٍ من ضَعْف وذِلّة، لما نَحن عليه من القُوَّةِ والكَثْرة.

وقد حَرَدَ يَحْرِدُ حُرُودًا إِذا تَنَحَّى واعْتزلَ عن قَوْمه ونَزلَ مُنْفرِدًا لم يُخَالِطْهم، قال الأَعشَى يَصِف رَجُلًا شَديد الغَيْرةِ على امرأَته، فهو يَبْعُد بها إِذا نَزَل الحيُّ قريبًا من ناحِيَتهِ:

إِذا نَزَل الحَيُّ حَلَّ الجَحِيش *** حرِيدَ المحَلِّ غَوِيًّا غَيُورًا

والجَحِيشُ: المتنَحِّي عن الناسِ أَيضًا.

وفي حديثِ صَعْصَعَةَ: «فرُفعَ لي بَيْتٌ حَرِيدٌ» أَي مُنْتبِذٌ مُتْنَحٍّ عن النّاسِ.

وحَرِدَ عَلَيه كضَرَبَ وسَمِعَ، حَرَدًا، محرّكةً، وحَرْدًا، كلاهما: غَضِبَ، وفي التهذيب: الحَرْد، جَزْمٌ، والحَرَدُ، لغتان، يقالَ: حَرِد الرجلُ إِذا اغتاظَ فتحرَّشَ بالّذِي غاظَه وهَمَّ به، فهو حارِدٌ وَحرِدٌ، وأَنشد:

أُسُودُ شَرًى لاقَتْ أُسُودَ خَفِيَّةٍ *** تَسَاقَيْنَ سُمًّا كُلُّهُنَّ حَواردُ

قال ابن سِيدَه: فأَمَّا سيبويه، فقال: حَرِدَ حَرْدًا ورجل حَرِدٌ وحاردٌ [غضْبانُ] قال أَبو العباس، وقال أَبو زيد، والأَصمعيّ، وأَبو عُبَيْدَةَ: الذي سمِعْنَا من العرب الفُصحاءِ، في الغضب: حَرِدَ يَحْرَد حَرَدًا، بتحريك الرّاءِ، قال أَبو العَبّاس: وسأَلْت ابنَ الأَعرابيّ عنها فقال: صَحِيحَةٌ، إِلّا أَن المُفَضَّل رَوَى أَنّ من العَرب من يقول: حَرِدَ حَرَدًا وحَرْدًا، والتسكين أَكثر، والأُخْرَى فَصيحةٌ، قال: وقَلَّمَا يَلْحَن النّاسُ في اللُّغَة.

وفي الصّحاح: الحَرَدُ: الغَضَبُ، وقال أَبو نْصَرٍ أَحمَدُ بنُ حاتمٍ، صاحبُ الأَصمعيّ: هو مُخَفَّف، وأَنشد للأَعْرَج المَغْنِيّ:

إِذا جِيادُ الخَيْلِ جاءَت تَرْدِي *** مَمْلوءَةً من غَضَبٍ وحَرْدِ

وقال الآخر:

يَلُوكُ من حرْد عَلَيَّ الأُرَّما

وقال ابن السّكّيت: وقد يُحَرَّك فيقال منه: حَرِدَ، بالكسر، فهو حارِدٌ وحَرْدانُ، ومنه قيل: أَسَدٌ حارِدٌ، ولُيوثٌ حَوارِدُ.

وقال ابن بَرِّيّ: الَّذِي ذَكَرَه سيبويه: حَرِدَ يَحْرَدُ حَرْدًا، بسكونِ الراءِ، إِذا غَضِبَ، قال: وهكذا ذَكَرَه الأَصمعيّ وابن دريد وعليُّ بن حَمْزَة، قال: وشاهده قولُ الأَشهَبِ بن رُمَيْلةَ:

أُسودُ شَرًى لَاقَتَ أُسُودَ خَفِيَّةٍ *** تَسَاقَوْا على حَرْدٍ دِمَاءَ الأَساوِدِ

والحِرْدُ، بالكسر: قِطْعَةٌ من السَّنَامِ، قال الأَزهَرِيّ: ولم أَسمعْ بهذا لغير اللّيْث، وهو خطأٌ، إِنما الحِرْدُ: المِعَى.

والحِرْد. بالكسر: مَبْعَرُ البَعِيرِ والنّاقَةِ، كالحِرْدَة، بالكسر أَيضًا. وهذه نقلها الصاغانيّ، والجمع حُرُودٌ.

وأَحرادُ الإِبل: أَمعاؤُهَا، وخَلِيقٌ أَن يكون واحدُها حِرْدا كوَاحِدِ الحُرودِ الّتي هي مَبَاعِرُهَا، لأَن المَبَاعِرَ والأَمعاءَ متقارِبَةٌ.

وقال الأَصمعيّ: الحُرُودُ مَباعِرُ الإِبلِ، واحِدُهَا حِرْدٌ وحِرْدَةٌ، قال شَمِرٌ: وقال ابنُ الأَعرابيّ: الحُرُود: الأَمعاءُ، قال: وأَقرَأَنَا لابنِ الرِّقاعِ:

بُنِيتْ على كَرِش كأَنَّ حُرُودَها *** مُقُطٌ مُطَوَّاةٌ أُمِرَّ قُوَاهَا

وزيادُ بن الحَرِد، كَكَتِف، مَولَى عمْرِو بن العاصِ، روى عن سَيِّده المذكورِ.

وحاردَتِ الإِبِلُ حِرَادًا: انقَطعَتْ أَلبانُها أَو قلَّتْ، أَنشد ثعلب:

سَيَرْوِي عقيلًا رِجْلُ ظَبْيٍ وعُلْبَةٌ *** تَمطَّتْ به مَصلوبةٌ لم تُحارِدِ

واستعاره بعضهم للنساءِ فقال:

وبِتْنَ علَى الأَعضادِ مُرْتفِقاتِها *** وحارَدْنَ إِلَّا ما شَرِبْن الحَمائِمَا

ييقول: انقَطعَتْ أَلبانُهنّ إِلّا أن يَشرَبْن الحَمِيمَ، وهو الماءُ يُسَخِّنَّه فيشْرَبْنَهُ، وإِنَّمَا يُسَخِّنَّهُ لأَنهنّ إِذا شَرِبْنَه بارِدًا على غيرِ مأْكُول عَقَرَ أَجوافَهُنّ.

ومن المجاز: حَارَدَت السَّنَةُ: قَلَّ ماؤُها ومَطَرُهَا، وقد استُعِير في الآنِيَة إِذَا نَفِذَ شَرَابُهَا، قال:

ولنا باطِيَةٌ مَمْلوءَةٌ *** جَوْنَةٌ يَتْبَعُهَا بِرْزِينُهَا

فإِذا ما حاردَتْ أَو بَكَأَتْ *** فُتَّ عن حاجِبِ أُخْرَى طِينُهَا

البِرْزِينُ: إِنَاءٌ يُتَّخَذُ مِن قِشْرِ طَلْعِ الفُحَّالِ، يُشْرَب به.

ويقال: ناقةٌ حَرُودٌ، كصَبُور، ومُحَارِدٌ، ومحَارِدَةٌ، بيّنَةُ الحِرَاد شَدِيدَته، وهي القليلةُ الدَّرِّ.

والحَرَدُ، محرّكةً داءٌ في قَوائم الإِبِلِ إِذا مَشَى نَفَضَ قَوَائِمَه فضَرَب بهنَّ الأرضَ كثيرًا.

أَو هو داءٌ يأْخُذ الإِبلَ من العِقَالِ في اليَدَيْنِ دُون الرِّجْلَيْن، بعيرٌ أَحرَدُ، وقد حَردَ حَرَدًا، بالتحريك لا غيرُ.

أَو الحَرَدُ يُبْسُ عَصَبِ إِحداهُما أَي إِحدى اليدين من العِقال، وهو فَصيلٌ فيَخْبِطُ بِيَدَيْه الأَرضَ أَو الصَّدْرَ إِذا مَشَى، وقيل: الأَحْرَد: الذي إِذا مَشَى رَفَعَ قَوائمَه رَفْعًا شَديدًا ووضَعَهَا مكانَهَا من شِدَّة قَطَافَتِه، يكون في الدَّوَابِّ وغيرِهَا، والحَرَدُ مَصْدَره.

وفي التهذيب: الحَرَد في البعير حَادِثٌ ليس بِخِلْقةٍ.

وقال ابن شُميلٍ: الحَرَد أَن تَنْقَطِعَ عَصَبَةُ ذِراعِ البَعِيرِ فتَسترْخِيَ يدُه، فلا يَزال يَخْفِق بها أَبَدًا، وإِنما تَنقطِع العَصَبةُ من ظاهِرِ الذِّراع، فترَاهَا إِذا مَشَى البَعيرُ كأَنّها تَمُدُّ مدًّا من شِدَّة ارتفاعها من الأِرض ورَخَاوَتِهَا.

والحَرَدُ: أَن تَثْقُلَ الدِّرْعُ على الرَّجُلِ فلَم يستَطع ولم يَقْدِرْ على الانْتِشَاطِ ـ وفي بعض النُّسخ: الانْبِسَاط. وهو الصواب ـ في المَشْيِ وقد حَرِدَ حَرَدًا، ورَجلٌ أَحْرَدُ، وأَنشد الأَزهَريّ:

إِذَا ما مَشَى في دِرْعِه غَيرَ أَحْرَدِ

والحَرَدُ: أَن يكون بعْضُ قُوَى الوَتَرِ أَطْوَل من بَعضٍ وقد حَرِدَ الوَتَرُ.

وفِعْلُ الكُلّ حَرِدَ كفَرِحَ، فهو حَرِدٌ ككَتِف.

والحُرْدِيُّ والحُرْدِيَّةُ، بضمّهما، حِيَاصَةُ الحَظِيرَةِ التي تُشَدّ على حائِط القَصَبِ عَرْضًا، قال ابنُ دريد: هي نَبَطيَّة.

وقد حَرَّده تَحريدًا، والجمع الحَرَادِيُّ.

وقال ابن الأَعرابيّ: يقال لخَشَبِ السَّقْف: الرَّوَافِدُ، ولِما يُلقَى عليها من أَطيانِ القَصبِ: حَرادِيُّ. وغُرْفَةٌ مُحَرَّدةٌ: فيها حَرَادِيُّ القَصبِ عَرْضًا. ولا يقال الهُرْديّ.

والمُحَرَّد، كمُعَظَّم: الكُوخُ المُسنَّم وبَيْت مِحَرَّد.

مُسَنَّم. والكُوخ فارسيّته لأنه ذُكِر في الخاءِ المعجمة: الكُوخ والكَاخ: بَيتٌ مُسَنَّم من قَصَبٍ بلا كُوَّةٍ، فذِكْرُ المُسَنَّمِ بعد الكُوخ كالتكرار.

والمُحَرَّد من كلِّ شيْ‌ءٍ: المُعْوَجُّ وتَحْرِيدُ الشيْ‌ءِ: تَعويجه كهَيئا الطَّاق.

والمُحَرَّد اسم البَيْتِ فيه حَرادِيُّ القَصَبِ عَرْضًا. وغُرْفَة مُحَرَّدة كذلك، وقد تقدّم.

وحَبْلٌ مُحَرَّدٌ، إِذا ضُفِرَ فصارَتْ له حُروفٌ لاعْوِجاجِه.

وحَرَّدَ الحَبْلَ تَحريدًا: أَدْرَج فَتْلَه فجاءَ مُستديرًا، حكاه أَبو حنيفةَ. وقال مَرَّةً: حَبْلٌ حَرِدٌ مِن الحَرَدِ: غيرُ مُسْتَوِي القُوَى.

وقال الأَزهريُّ: سَمِعْتُ العَرَبَ تقول لِلْحَبْلِ إِذا اشتدَّتْ إِغارة قُوَاهُ حَتَّى تَتَعَقَّد وتَتراكَب: جاءَ بِحَبْلٍ فيه حُرُودٌ.

وحَرَّدَ الشَّيْ‌ءَ: عَوَّجه كهيئةِ الطَّاق.

وفي التهذيب: وحَرَّدَ زَيْدٌ تَحْريدًا، إِذا آوَى إِلى كُوخٍ، هكذا نَصُّ عبارتِه.

وأَمّا قول المصنّف: مُسَنَّم، فليسَ في التهذيب، ولا في غَيْره. ومَرَّ الكلامُ عليه آنِفًا.

وتَحَرَّدَ الأدِيمُ: أُلْقِيَ مَا عَلَيْهِ من الشَّعَر.

وقولُهُم: قَطًا حُرْدٌ؛ أَي سِرَاعٌ، فقد قال الأَزهريُّ: هذا خَطاٌ. والقَطَا الحُرْد: القِصَارُ الأَرْجلِ. وهي موصوفةٌ بذلك.

والحَرِيد: السَّمَك المُقَدَّد، عن كُراع.

وأَحْرَدَهُ: أَفْرَدَهُ ونَحَّاه، عن الزَّجَّاج.

وأَحْرَدَ في السَّيْرِ: أَغَذَّ؛ أَي أَسْرَعَ.

ومن المجاز: الأَحْرَدُ: البَخِيلُ من الرجال، اللَّئيمُ.

قال رؤبة:

وكُلّ مِخلافٍ ومُكْلَئِزِّ *** أَحْرَدَ أَو جَعْدِ اليَدَينِ جِبْزِ

ويقال له: أَحْردُ اليَدَيْنِ أَيضًا؛ أَي فيهما انقِباضٌ عن العَطاءِ. كذا في التهذيب.

وفي الأَساس: حردَ زيدٌ: كان يُعطِي ثم أَمسَكَ.

والحُرَيْدَاءُ: رَمْلَةٌ ببلاد بني أَبي بَكْرِ بنِ كِلابِ بن ربيعةَ، نقله الصاغانيّ. والحُرَيْدَاءُ عَصَبَةٌ تكون في مَوْضِع العِقَال تَجعَل الدّابَّةَ حَرْدَاءَ تَنْفُض إِحدَى يَدَيْهَا إِذا مَشَتْ وقد يكون ذلك خِلْقَةً.

ويقال جاءَ بِحَبْل فيه حُرُودٌ، الحُرُود، بالضَّمّ: حُرُوفُ الحَبْلِ، كالحَرادِيدِ، وقد حَرَّدَ حَبْلَه.

والمَحَارِدُ: المَشَافِر، نقله الصاغانيّ.

وانْحَرَدَ النَّجْمُ: انْقَضَّ، والمُنْحَرِدُ: المُنْفَرِد، في لُغَة هُذَيل، قال أَبو ذُؤَيب:

كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ بالجَوِّ مُنحَرِدُ

ورواه أَبو عَمْرٍو بالجيم، وفسَّره بمنفرد، وقال: هو سُهَيْل.

وفي الصّحاح: كوكب حَرِيدٌ: مُعْتَزِلٌ عن الكَوَاكِب.

وحُرْدَانُ كعُثْمَانَ: قرية بدمَشْقَ، نقله الصاغانيُّ.

ورُوي أَن بَرِيدًا من بعِض المُلوكِ جاءَ يسأَل الزُّهْرِيَّ عن رَجلٍ، معه ما مع المرأَةِ: كيف يُوَرَّث. قال: مِن حيْثُ يخرجُ الماءُ الدّافقُ، فقال في ذلك قائلُهم:

ومُهِمَّةٍ أَعْيَا القُضَاةَ قَضاؤُهَا *** تَذَرُ الفَقِيهَ يَشُكُّ مثلَ الجاهِلِ

عَجَّلتَ قبلَ حَنيذِها بشِوائها *** وقَطعْتَ مَحْرِدَهَا بحُكْمٍ فاصِلِ

المَحْرِد كمَجْلِس مَفْصِلُ العُنُقِ أَو مَوضِع الرَّحْلِ. يقال: حَرَدْتُ من سَنامِ البَعيرِ حَرْدًا، إِذا قَطَعْت منه قِطْعةً، أَرادَ أَنَّك عَجَّلْتَ الفَتْوَى فيها ولم تَسْتَأْنِ في الجَوابِ، فشبَّهه برَجُلٍ نَزلَ به ضَيْفٌ فعجَّلَ قِراهُ بما قَطَعَ له مِن كَبِدِ الذَّبِيحة ولَحْمِها، ولم يَحْبِسْه على الحَنِيذِ والشِّواءِ، وتَعجِيلُ القِرَى عندهُم مَحمودٌ، وصاحبُه مَمْدُوحٌ.

والحَرْدَاءُ، كصَحْرَاءَ: لَقَبْ بني نَهْشَلِ بن الحَارِثِ، قاله أَبو عُبَيْد، وأَنشد للفرزْدَقِ:

لَعَمْرُ أَبيكَ الخَيْرِ ما زَعْمُ نَهْشَلٍ *** عَلَيَّ ولا حَرْدَاؤُها بِكَبِيرِ

وقد عَلِمَتْ يومَ القُبَيْبَاتِ نَهْشَلٌ *** وأَحْرَادُها أَن قد مُنُوا بِعَسيرِ

والحِرْدَة، بالكسر: د، بساحِلِ بَحْرِ اليَمَنِ، أَهلُه ممَّن سارَعَ إِلى مُسَيْلِمَةَ الكَذَّابِ. وقيل بِفَتْح الحاءِ.

* وممَّا يستدرك عليه:

الحَرْدُ: الجِدُّ، وهكذا فَسَّرَ الليثُ في كتابِه الآية {عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ} قال: على جِدٍّ من أَمْرِهم. قال الأَزهريُّ: وهكذا وَجدْتُه مُقَيَّدًا. والصَّوابُ على حَدٍّ؛ أَي مَنْعٍ، قال: هكذا قاله الفَرَّاءُ. ورُوِيَ في بعض التفاسير أَن قَرْيَتهم كان اسمُها: حَرْدًا. ومثله في المراصد.

وتَحْريد الشِّعر: طلوعه منفردًا، وهو عيب، لأنه بُعْدٌ وخِلافٌ للنَّظِير.

والمُحَرَّد، كمُعَظَّم، من الأَوتارِ: الحَصَدُ الّذي يظْهَرُ بَعْضُ قُوَاه على بَعْض، وهو المُعَجر.

ورجل حُرْدِيٌّ، بالضّمّ: واسِعُ الأَمعاءِ.

وقال يونُسُ: سَمِعْت أعرابيًّا يَسْأَل ويَقُول: مَنْ يَتَصَدَّق على المسكينِ الحَرِدِ؛ أَي المُحْتاجِ.

وككِتَاب، حِرَادُ بن نَداوةَ بن ذُهْلٍ، في مُحَارِبِ خَصَفَةَ.

وحِرَاد بن شَلخَب الأَكبر في حَضْرَمَوْتَ.

وكغُراب. حُرَادُ بنُ مالِكِ بن كِنانة بن خُزَيمة.

وحُرَاد بن نَصْر بن سَعْد بن نَبْهَانَ في طَيِّئ.

وحُرَادُ بن مَعْن بن مالِك في الأَزْد. وحُرَادُ بنُ ظالِم بن ذُهلٍ في عبد القَيْس، قاله الحافظُ.

وأَحْرَاد وأُمُّ أَحْراد: بئِرٌ قَدِيمةٌ بمكةَ، احتفَرَها بنو عبْدِ الدَّارِ، لها ذكْرٌ في الحَدِيثِ.

وذكر القاليُّ في أَماليه من معانِي الحَرْد: القِلّة والحقْد.

وزاد غيره: السُّرْعَة.

قال شيخُنَا: ومن غريب إِطلاقاته ما رَوَاه بَعْضُ الأَئِمَّةِ عن الشّيْبَانِيُّ، أَنَّه قال: الحَرْدُ: الثَّوْبُ، وأَنشد لتأَبَّطَ شَرًّا:

أَترَكْتَ سَعْدًا للِّرمَاحِ دَرِيئةً *** هَبِلَتْكَ أُمُّكَ أَيَّ حَرْدٍ تَرْقَعُ

وقال الفَسَوِيُّ: الحَرْدُ في هذا البيتِ: الثَّوبُ الخَلَقُ.

واستَبْعَده غيرُهما وقال: إِنّه في البيت بالجِيم، قال البكريُّ في شرح الأَماليّ: وهو المعروفُ في الثَّوْبِ الخَلَقِ.

قال شيخُنَا: هو كذلك، إِلّا أَنَّ الرِّوَايَة مُقدَّمَةٌ، والحافظُ حُجَّةٌ.

ومن الأَمثال قولهم: «تَمَسَّكْ بِحَرْدِكَ حتى تُدْرِكَ حَقَّك» أَي دُمْ على غَيْظِكَ.

ومن المجاز: حارَدَتْ حالِي، إِذا تَنَكَّدَتْ. كذا في الأَساس.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


181-تاج العروس (رشد)

[رشد]: رَشَد كنَصَرَ يَرْشد، وهو الأَشهر، والأَفصح، ورَشِدَ يَرْشَد، مثل فَرِح، رُشْدًا بضمّ فسكون، مصدر رَشَدَ كنَصر، ورَشَدًا محرَّكَةً وَرَشَادًا كسَحَاب، مصدر رَشِدَ، كفَرِحَ: اهْتَدَى وأَصابَ وَجْهَ الأَمر والطَّريق، فهو رَشيدٌ وراشدٌ. والرَّشَاد نَقيضُ الضَّلال ـ ونقل شيخُنا عن بعض أَرباب الاشتقاق أَن الرُّشْد يستعمل في كُلّ ما يُحْمَد، والغَيّ في كلّ ما يُذَمّ. وجماعةٌ فَرَّقُوا بين المضموم والمحرّك فقالوا: الرُّشْد، بالضّمّ يكون في الأُمور الدُّنيوية والأُخْرُويّة، وبالتحريك إِنما يكون في الأُخرويّة خاصَّة، قال وهذا لا يوافقه السَّماع، فإِنهم استعملوا اللُّغَتين، وورَدَت القرَاءَات بالوَجْهَيْن، في آيات مُتَعَدّدة. والله أَعلم ـ كاسْتَرْشَدَ يقال:

اسْترْشَدَ فُلانٌ لأَمره، إِذا اهْتَدَى له، وأَرْشَدْتُه فلم يَسْتَرْشد، واسْتَرْشَدَ هُ: طَلَبَهُ؛ أَي طلب منه الرشدَ، والرَّشَدَى، محرَّكةً كجَمَزَى: اسم منه؛ أَي من الرشْد. عن ابن الأَنباريّ قال: ومثله امرأَة غَيْرَى من الغَيْرة، وحَيْرَى من التَّحيُّر. وأَنشد الأَحمر:

لا نَزَلْ كَذَا أَبَدًا *** ناعِمِينَ في الرَّشَدَى

وأَرْشَدَهُ الله تعالى ورَشَّدَه: هَدَاه.

والرُّشْد، بالضّم: الاستقامةُ على طَريق الحَقِّ مع تَصَلُّبٍ فيه.

والرَّشيدُ في صفات الله تعالى: الهادِي إِلى سَواءِ الصِّراط فَعيل بمعنى مُفْعِل.

والرَّشيد أَيضًا: هو الذي حَسُنَ تَقْديرُهُ فيما قَدَّرَ، أَو الذي تَنْسَاقُ تَدبيراتُه إِلى غاياتِها على سَبيلِ السَّدادِ من غير إِشارةِ مُشيرٍ ولا تَسْدِيدِ مُسدِّد.

ورَشِيدُ: قرية قُرْب الإِسكَنْدريَّةِ وقد دَخَلْتُهَا، وهي مدينَةٌ معمورة، حَسنة العِمَارةِ، على بَحْرِ النيل. وقد نُسبَ إِليهَا بعضُ المتأَخّرِين من المحدِّثينَ.

والرَّشِيدِيَّةُ: طعامٌ. معروف كأَنّه منسوبٌ إِلى الرَّشِيد، في الظاهر، وليس كذلك، وإِنما هو مُعرَّبٌ فارِسِيَّتُه رَشْتَه، بفتح الراءِ وكسرها.

ويقال: هو يَهْدِي إِلى المَرَاشِد أَي مَقاصِدِ الطُّرْقِ، قال أُسامةُ بنُ حَبِيبٍ الهُذليّ:

تَوَقَّ أَبا سَهْمٍ ومَنْ لم يَكُنْ لَهُ *** مِنَ اللهِ واق لم تُصِبْهُ المَراشِدُ

وليس له واحِدٌ، إِنما هو من باب: مَحَاسِنَ ومَلامِحَ.

ومن المجاز: وُلِدَ فُلانٌ لِرَشْدَةٍ، بفتح الراءِ، ويُكْسَر، إِذا صَحَّ نَسَبُه، ضِدُّ لِزَنْيَة.

وفي الحديث: «مَن ادَّعَى وَلَدًا لغَيْر رِشْدَةٍ فلا يَرِثُ ولا يُورَثُ» يقال: هذا وَلَدُ رِشْدَةٍ إِذا كان لنِكَاح صَحيحٍ، كما يقال في ضِدّه: وَلَدُ زِنْيَةٍ، بالكسر فيهما. ويقال بالفتح، وهو أَفصح اللُّغَتَيْن.

قال الفرّاءُ في كتاب المصادر: وُلِدَ فُلانٌ لغيرِ رَشْدَة ووُلِدَ لغَيَّةٍ ولزَنْيةٍ كلّها بالفتح. وقال الكسائيّ: يجوز لرِشْدة وزِنْيَة، قال: وهو اختيارُ ثَعلب في «الفصيح»، فأَمّا غَيَّة فهو بالفتح.

وقال أَبو زيد والفَرَّاءُ: هما بالفَتْح. ونحو ذلك قال اللَّيْث. وأَنشد أَبو زَيدٍ هذا البيتَ بالفتح:

لِذي غَيَّةٍ من أُمِّهِ ولرَشْدَةٍ *** فيَغْلُبُهَا فَحْلٌ على النَّسْلِ مُنْجِبُ

وكذلك قول ذي الرُّمَّة:

وكائِنْ تَرَى مِنْ رَشْدةِ في كَرِيهَة *** ومِن غَيَّةٍ تُلْقَى عليها الشَّراشِرُ

يقول: كم رُشْد لَقِيتَه فيما تَكْرَهه، وكم من غَيٍّ فيما تُحِبّه وتَهْوَاه، والشّراشر: النّفس والمَحَبّة.

إِذا عرفت هذا فقولُ شيخِنا: والفتحُ لُغَةٌ مَرْجوحَة، محلُّ تأَمُّل وأُمُّ راشِدٍ: كُنْيَةُ الفَأْرة.

وسَمَّوْا راشِدًا ورُشْدًا، ورَشِيدًا، ورُشَيْدًا، ورَشَدًا، ورَشْدَانَ، ورشَادًا، ومَرْشَدًا، ومُرْشِدًا كقُفْل وأَمِير وزُبَيْر وجَبَلٍ وسَحْبَانَ وسَحَابٍ ومَسْكَن ومُظْهِرٍ.

والرَّشَادَةُ: الصَّخْرَةُ.

وقال أَبو منصور: سَمِعت غير واحد من العرب يقول: الرَّشادَةُ: الحَجَرُ الذي يَمْلأُ الكَفَّ، ج: رَشَادٌ قال: وهو صحيحٌ.

وقال أَيضًا حَبُّ الرَّشَادِ: الحُرْفُ، كقُفْلِ، عند أَهل العراق، سَمَّوْهُ بِهِ تَفاؤُلًا، لأَن الحُرْفَ مَعْناه الحِرْمَانُ، وهم يَتطيَّرون به.

والرَّاشِدِيَّةُ: قرية ببغدادَ، نقله الصاغانيُّ.

وبَنُو رَشْدَانَ بالفتح، ويُكْسَر: بَطْنٌ من العرب كانوا يُسمَّوْنَ بَنِي غَيَّانَ، فَغَيَّرَه النّبيُّ صلَّى الله تعالى عليه وسلَّم، وسمَّاهم بني رَشْدَانَ، ورواه قوم بالكسر. وقال لرَجل: ما اسْمُك؟ قال: غَيَّانُ. فقال: بل رَشْدَانُ» وفتح الرّاءِ لتُحَاكِيَ غَيَّانَ قال ابن سيّده: وهذا واسع [كثير] في كلام العرب، يحافظون عليه، ويَدَعونَ غيره إِليه، أَعني أَنهم قد يُؤْثِرُون المُحَاكَاةَ، والمُنَاسَبَةَ بين الأَلفاظ، تاركينَ لطرِيق القياس. قال: ونَظِير مُقَابَلة غَيَّان بِرَشْدان، ليوفَّق بين الصِّيغتين استجازتُهم تَعليق فِعل على فاعل لا يَلِيق به ذلك الفِعْلُ، لتقدُّمِ تَعْلِيقِ فِعْل على فاعل يَلِيقُ به ذلك الفِعْلُ.

وكلُّ ذلك على سبيلِ المُحاكاة، كقوله تعالى {إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} والاستهزاءُ من الكُفَّار حَقيقةٌ وتَعليقُه باللهِ عزّ وجلّ مَجازٌ، جَلَّ ربُّنا وتقدَّس عن الاستهزاءِ، بل هو الحَقُّ، ومنه الحقُّ.

* ومما يُسْتَدْرَك عليه:

رَشِدَ أَمرَهُ: رَشِدَ فيه. وقيل: إِنما يُنْصَب على تَوَهُّمِ:

رَشَدَ أَمْرَه، وإِن لم يُستعمل هكذا. ونظيره: بَطِرْتَ عَيْشَكَ وسَفِهْتَ نَفْسَك.

والطريق الأَرْشد نحو الأَقصد ويقَال: يا رَاشدينُ، بمعنى: يا راشدُ. ورِشْدِينُ بنُ سعد، مُحَدِّث.

والرَّشَّاد، كَكتَّانٍ. كثيرُ الرُّشْد، وبه قُرئَ في الشواذِّ إِلَّا سَبيلَ الرَّشَّاد عن ابن جنّى.. وبَنُو رَشْدَةَ: بطنٌ من العرب.

ورُشَيْد بنُ رُمَيض مصغرَيْن: شاعِرٌ.

والرَّواشِدُ: بَطْن من العرب، ومُنْيَةُ مُرْشِدٍ قَريَةٌ بمصْر.

والرّاشِدِيّة: أُخْرَى بها، وقد دَخَلْتُ كُلًّا منهما.

والرَّشِيد: لَقَبُ هَارُونَ الخلِيفةِ العَبّاسيّ. وكذا الراشد، والمسترشِد، من أَلقابهِم.

وَرَاشدَةُ بن أَدب قبيلةٌ من لَخْم.

والرُّشَيْدِيّة، مُصغّرًا: طائفةٌ من الخوارج.

وأَبو رَشِيدٍ، كأَميرٍ، محمّدُ بنُ أَحمدَ الأَدميّ، شيخ للخطيب.

وأَبو رشيدٍ أَحمدُ بن محمّد الخَفيفيّ عن زاهرِ بن طاهر.

وعبد اللّطيف بن رَشيد التِّكريتيّ، التاجر، حدَّث عن النَّجيب الحَرّانيّ.

وأَحمد بن رَشَد بن خَيْثم الكوفيّ، محرَّكَةً، عن عَمّه، وعنه أَبو حاتم وغيْرُه، قاله ابن نقطة.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


182-تاج العروس (بحر)

[بحر]: البَحْرُ: الماءُ الكثيرُ، مِلْحًا كان أَو عَذْبًا، وهو خلافُ البَرِّ، سُمِّيَ بذلك لعُمْقِه واتِّسَاعه، أَو الْمِلْحُ فَقَطْ، وقد غَلَب عليه حتى قَلَّ في العَذْب، وهو قولٌ مرجُوجٌ أَكْثَرِيٌّ. الجمع: أَبْحُرٌ وبُحُورٌ وبِحَارٌ. وماءٌ بَحْرٌ: مِلْحٌ، قَلَّ أَو كَثُرَ، قال ابنُ بَرِّيّ، هذا القولُ هو قولُ الأُمَوِيِّ، لأَنّه كان يجعلُ البحرَ من الماء المِلْح فقط، قال: وسُمِّيَ بَحْرًا لِمُلُوحَتِه، وأَمّا غيرُه فقال: إِنّمَا سُمِّيَ البحرُ بحرًا لسَعَتِه وانبِسَاطِه، ومنه قولُهُم: إِنّ فلانًا لَبَحْرٌ؛ أَي واسعُ المعروفِ، وقال: فعلَى هذا يكونُ البحرُ للمِلْح والعَذْبِ، وشاهدُ العَذْب قولُ ابن مُقْبِلٍ:

ونحنُ مَنَعْنَا البَحْرَ أَن يَشْرَبُوا به *** وقد كانَ منكُم ماؤُه بمَكانِ

قال شيخُنَا: في قوله: الماءُ الكثيرُ، قيل: المرادُ بالبَحْر الماءُ الكثيرُ، كما للمصنِّف، وقيل: المرادُ الأَرضُ التي فيها الماءُ؛ ويَدُلُّ له قولُ الجوهريِّ: لعُمْقِه واتِّسَاعِه، وجَزَمَ في النّامُوس بأَنّ كلَامَ المصنِّفِ على حَذْفِ مُضَافٍ، وأَنّ المُرَادَ مَحَلّ الماءِ، قال: بدليلِ ما سيأْتي مِن أَنّ البَرَّ ضِدُّ البَحْرِ، ولِحَدِيث: «هو الطَّهُورُ ماؤُه»، يَعْنِي والشي‌ءُ لا يُضَافُ إِلى نفسه، قال شيخُنَا: ووَصْفُه بالعُمْق والاتِّساع قد يَشْهَدُ لكلِّ من الطَّرفين.

قلت: وقال ابن سِيدَه: وكلُّ نَهْرٍ عظيمٍ بَحْرٌ، وقال الزَّجّاج: وكلُّ نَهْرٍ لا يَنْقطعُ ماؤُه فهو بَحْرٌ، قال الأَزهريّ: كلُّ نهرٍ لا ينقطعُ ماؤُه مثلُ دِجْلَةَ والنِّيلِ، وما أَشبَههما من الأَنهار العَذْبَةِ الكِبَارِ، فهو بَحْرٌ، وأَمّا البحرُ الكبيرُ الذي هو مَغِيضُ هذِه الأَنهارِ فلا يكونُ ماؤُه إِلّا مِلْحًا أُجاجًا، ولا يكون ماؤُه إِلّا راكدًا، وأَمّا هذه الأَنهارُ العذبةُ فماؤُهَا جارٍ، وسُمِّيَتْ هذِه الأَنهارُ بِحَارًا؛ لأَنها مَشْقُوقَةٌ في الأَرض شَقًّا.

وقال المصنِّف في البَصائر: وأَصْل البَحْرِ مكانٌ واسِعٌ جامعٌ للماءِ الكثيرِ، ثم اعْتُبِرَ تارةً سَعَتُه المَكَانِيَّةُ، فيقال: بَحَرْتُ كذا: وسَّعْتُه سَعَةَ البَحْرِ؛ تَشْبِيهًا به، ومنه: بَحَرْتُ البَعِيرَ: شَقَقْتُ أُذُنَه شَقًّا واسِعًا، ومنه: البَحِيرَةُ، وسَمَّوْا كلَّ متوسِّعٍ في شيْ‌ءٍ بَحْرًا؛ فالرجلُ المتوسِّعُ في عِلْمه بَحْرٌ، والفَرَسُ المتوسِّعُ في جَرْيه بَحْرٌ. واعتُبر من البحر تارةً مُلوحتُه فقيل: ماءٌ بَحْرٌ؛ أَي مِلْحٌ، وقد بَحرَ المَاءُ.

والتَّصْغِيرُ أُبَيْحِرٌ لا بُحَيْرٌ، قال شيخُنا: هو من شواذّ التَّصْغِيرِ كما نَبَّه عليه النُّحاةُ، وإن لم يَتَعَرَّض له الجوهريُّ وغيره، وأَما قولُه: لا بُحَيْر؛ أَي على القياسِ. فغيرُ صحيح، بل يقال على الأَصلِ وإِنْ كان قليلًا، وسوَاه نادِرٌ قياسًا واستعمالًا، انتهى. قلتُ: وظاهرُ سِيَاقِه يَقْتَضِي أَنّ أُبَيْحِر تصغيرُ بَحْرٍ، ومنع بُحَيْر؛ أَي كَزُبَيْر، كما فَهِمَه شيخُنَا من ظاهر سياقِه كما تَرَى، وليس كذلك، وإِنّمَا يَعْنِي تصغيرَ بحارٍ وبُحُورٍ، والممنوعُ هو بُحَيِّر بالتَّشْدِيد، وأَصلُ السِّيَاق لابن السِّكِّيت. قال في كتاب التَّصغير له: تصغيرُ بُحُورٍ وبِحَارٍ أُبَيْحِرٌ، ولا يجوزُ أَن تُصَغِّر بحارًا على لفظِهَا فتقول: بُحَيِّرُ. لأَن ذلك يضارعُ الواحِدُ، فلا يكونُ بين تصغيرِ الواحدِ وتصغيرِ الجَمْعِ إِلّا التَّشْدِيدُ، والعَربُ تُنْزِلُ المُشَدَّدَ منزلةَ المُخَفَّفِ. انتهى. فَتَأَمَّلْ ذلك.

ومن المجاز: البَحْرُ: الرَّجُلُ الكَرِيمُ الكثيرُ المعروفِ؛ سُمِّيَ لِسَعَةِ كَرَمِه.

وفي الحديث: «أَبَى ذلك البَحْرُ ابنُ عَبّاسٍ»، سُمِّي [بحرًا] لسَعَةِ عِلْمِه وكَثْرَتِه.

ومن المجاز: البَحْرُ: الفَرَسُ الجَوَادُ الواسعُ الجَرْي، ومنه‌قولُ النبيِّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم في مَنْدُوبٍ فَرَسِ أَبِي طلحةَ وقد رَكِبَه عُرْيًا: «إِنِّي وَجَدْتُه بَحْرًا»؛ أَي واسع الجَرْي.

قال أَبو عُبَيْد: يقال للفَرَسِ الجَوَادِ: إِنّ لَبَحْرٌ لا يُنْكَشُ حُضْرُه.

قال الأَصمعيُّ: يقال: فَرَسٌ بَحْرٌ وَفْيَضٌ وَسَكْبٌ وحَتٌّ، إِذا كان جَوَادًا، كَثِيرَ العَدْوِ.

وقال ابنُ جِنِّي في الخَصَائص: الحقيقةُ: ما أُقِرّ في الاستعمال على أَصْل وَضْعِه في اللغة. والمجاز: ما كان بِضِدِّ ذلك، وإِنما يقعُ المجازُ ويُعدَلُ إِليه عن الحقيقة لمعانٍ ثلاثة، وهي: الاتِّساعُ، والتَّوْكِيدُ، والتَّشْبِيهُ، فإِن عُدِمَت الثلاثةُ تَعَيَّنت الحقيقة، فمِن ذلك

قولُه صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم [في الفرس] «هو بَحْرٌ»؛ فالمعانِي الثلاثةُ موجودةٌ فيه، أَمّا الاتِّساعُ فلأَنّه زادَ في أَسماءِ الفَرَسِ التي هي فَرَسٌ وطِرْفٌ وجَوَادٌ، ونحوُها البحْر، حتى إنه إن احْتِيجَ إِليه في شِعْرٍ أَو سَجْعٍ أَو اتَّساعٍ استُعمِلَ استعمالَ بَقِيَّةِ تلك الأَسماءِ، لكنْ لا يُفْضَى إِلى ذلك إِلا بقَرِينَةٍ تُسقِطُ الشُّبهةَ، وذلك كأَن يقول الشاعر:

عَلَوْتَ مَطَا جَوادِكَ يَوْمَ يومٍ *** وقد ثُمِدَ الجِيَادُ فكان بَحْرَا

وكأَنْ يقول السّاجِعُ: فَرَسُكَ هذا إِذا سَمَا بغُرَّتِه كان فَجْرًا، وإِذا جَرَى إِلى غايَتِه كان بَحْرًا، فإِن عَرِىَ عن دليلٍ فلا؛ لئلَّا يكونَ إِلباسًا وإِلْغازًا، وأَمّا التشبيهُ فلأَنَّ جَرْيَه يَجْرِي في الكَثْرَةِ مثلَ [مجرى] مائِه، وأَمّا التوكيدُ فلأَنَّه شَبَّه العَرَضَ بالجَوْهَرِ، وهو أَثْبَتُ في النفوس منه. قال شيخُنَا: وهو كلامٌ ظاهرٌ إِلّا أَن كلامَه في التوكيد وأَنه شَبَّه العَرَضَ بالجوهرِ لا يخلُو عن نَظَرٍ ظاهر، وتناقُضٍ في الكلام غيرُ خَفيّ. وقال الإِمامُ الخطّابيّ: قال نِفْطَوَيْهِ: إِنّمَا شَبَّه الفَرَسَ بالبَحْر، لأَنه أَراد أَنّ جَرْيَه كجَرْي ماءِ البحر، أَو لأَنه يَسْبَحُ في جَرْيِه كالبحرِ إِذا ماجَ فَعَلَا بعضُ مائِه على بعض.

والبَحْرُ: الرِّيفُ، وبه فَسَّر أَبو عليٍّ قولَه عَزَّ وجلَّ: {ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}، لأَنّ البحرَ الذي هو الماءُ لا يظهرُ فيه فسادٌ ولا صَلاحٌ. وقال الأَزهرنُّي: معنى هذه الآيةِ: أَجْدَبَ البَرُّ، وانقطعتْ مادَّةُ البحرِ، بذُنُوبِهم كان ذلك، لِيَذُوقُوا الشِّدَّةَ بذُنُوبِهم في العاجِلِ. وقال الزَّجّاج: معناه ظَهَرَ الجَدْبُ في البَرِّ والقَحْطُ في مُدُنِ البَحْرِ التي على الأَنهار، وقولُ بعضِ الأَغفال:

وأَدَمَتْ خُبْزِيَ مِن صُيَيْرِ *** مِن صِيْرِ مِصْرَيْنِ أَو البُحَيْرِ

قال: يجوزُ أَن يَعْنِيَ بالبُحَيْرِ البَحْرَ الذي هو الرِّيف، فصغَّره للوَزْنِ وإِقامةِ القافِية، ويجوزُ أَن يكونَ قَصَدَ البُحَيْرَةَ فرَخَّمَ اضطرارًا.

والبَحْرُ: عُمْقُ الرَّحِمِ وقَعْرُهَا، ومنه قيل للدَّم الخالِصِ الحُمْرَةِ: باحِرٌ وبَحْرَانِيٌّ، وسيأْتي.

والبَحْرُ في كلامِ العرب: الشَّقُّ، ويقال: إِنّمَا سُمِّيَ البَحْرُ بَحْرًا لأَنّه شَقَّ في الأَرض شَقًّا، وجَعَلَ ذلك الشَّقَّ لمائِه قَرَارًا، وفي حديث عبدُ المُطَّلِبِ: «وحَفَرَ زَمْزَمَ ثُمَّ بَحَرَها بَحْرًا»؛ أَي شَقَّها ووسَّعَها حتى لا تُنْزَفَ.

ومنه البَحْرُ: شَقُّ الأُذُنِ. قال ابنُ سِيدَه: بَحَرَ النّاقَةَ والشّاةَ يَبْحَرُها بَحْرًا: شَقَّ أُذُنَهَا بِنِصْفَيْن، وقيل بنصفَيْن طُولًا.

ومنه البَحِيرَةُ، كسَفينةٍ، كانوا إِذا نُتِجَتِ النّاقةُ أَو الشّاةُ عَشَرَةَ أَبْطُنٍ بَحَرُوها فلا يُنتفَعُ منها بلَبَنٍ ولا ظَهْرٍ، وتَرَكُوها تَرْعَى وتَرِدُ الماءَ، وحَرَّمُوا لَحْمَهَا إِذا ماتَتْ على نِسائِهم وأَكَلَهَا الرِّجالُ، فنَهَى الله تعالَى عن ذلك، فقال: {ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ}.

أَو البَحِيرَةُ هي التي خُلِّيَتْ بلا راعٍ.

أَو هي التي إِذا نُتِجَتْ خمْسَةَ أَبْطُنٍ، والخامِسُ ذَكَرٌ نَحَرُوه فأَكَلَه الرِّجالُ والنِّسَاءُ، وإِن كان أَي الخامسُ ـ وفي بعض النُّسَخ: كانت ـ أُنْثَى بَحَرُوا أُذُنَهَا؛ أَي شَقُّوها ـ وفي بعض النُّسَخ: نَحَرُوا، بالنُّون؛ أَي خَرَقُوا ـ فكان حَرامًا عليهم لَحْمُهَا ولَبَنُهَا ورُكُوبُها، فإِذا ماتَتْ حَلَّتْ للنِّسَاءِ وهذا الأَخيرُ من الأَقوال حَكَاه الأَزهَريُّ عن ابن عرَفَه أَو هي ابنةُ السّائِبَةِ، وقد فُسِّرَت السّائبةُ في مَحَلِّهَا، وهذا قولُ الفَرّاءِ. وقال الجوهَرِيُّ: وحُكْمُهَا حُكْمُ أُمِّها؛ أَي حُرِّم منها ما حُرِّم من أُمِّها.

أَو هي ـ أَي البَحِيرةُ ـ في الشَّاءِ خاصّةً إِذا نُتِجَتْ خمسةَ أَبْطُنٍ فكان آخرُهَا ذكرًا بُحِرَتْ؛ أَي شُقَّ أُذُنُهَا وتُرِكَتْ فلا يَمَسُّهَا أَحدٌ. قال الأَزهريُّ: والقولُ هو الأَولُ.

وقال أَبو إِسحَاقَ النحويُّ: أَثْبتُ ما رَوَيْنَا عن أَهلِ اللغةِ في البَحِيرَةِ أَنّها الناقةُ كانت إِذا نُتِجَتْ خمسةَ أَبْطُن، فكان آخرُهَا ذَكَرًا بَحَرُوا أُذُنَها؛ أَي شَقُّوهَا، وأَعْفَوْا ظَهْرَها من الرُّكوبِ والحَمْل، والذَّبْح، ولا تُحَلأُ عن ماءٍ تَرِدُه، ولا تُمْنَعُ مِن مَرْعىً، وإِذا لَقِيَها المُعْيِى المُنْقَطَعُ به لم يَركبها، وجاءَ في الحديث: «أَوّلُ مَن بَحَرَ البَحَائِرَ وحَمَى الحَامِيَ وغَيَّرَ دِينَ إِسماعيلَ عَمْرُو بنُ لُحَيِّ بنِ قَمَعَةَ بنِ خِنْدِف.

وهي الغَزِيرةُ أَيضًا وأَنشدَ شَمِرٌ لابنِ مُقْبِل:

فيه مِن الأَخْرَجِ المُرْتاعِ قَرْقَرَةٌ *** هَدْرَ الدَّيَامِيِّ وَسْطَ الهَجْمَةِ البُحُرِ

قال: البُحُر: العِزَار، والأَخرجُ المُرْتَاعُ: المُكّاءُ.

الجمع: بَحائِرُ كعَشِيرَةٍ وعَشَائِرَ. وبُحُرٌ، بضَمَّتَيْن، وهو جمعٌ غريبٌ في المُؤَنَّث إِلّا أَن يكونَ قد حَمَلَه على المُذَكَّر، نحو نَذِيرٍ ونُذُر، على أَنّ بَحِيرَةً فَعِيلَةٌ بمعنى مَفْعُولَةٍ نحو قَتِيلَةٍ، قال: ولم يُسمَع في جَمْعِ مثلِه فُعُلٌ. وحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ: بَحِيرَةٌ وبُحُرٌ وصَرِيمَةٌ وصُرُمٌ، وهي التي صُرِمَتْ أُذُنُهَا؛ أَي قُطِعَتْ.

والبَاحِرُ: الأَحْمَقُ الذي إِذا كُلِّمَ بَحِرَ وبَقِيَ كالمَبْهُوتِ، وقيل: هو الذي لا يَتَمَالَكُ حُمْقًا.

والباحِرُ: الدَّمُ الخالِصُ الحُمْرَةِ، يقال: أَحمرُ باحِرٌ وبَحْرَانِيُّ وقال ابن الأَعرابيّ: يقال: أَحْمَرُ قانِي‌ءٌ، وأَحمَرُ باحرِيُّ وذَرِيحِيُّ، بمعنىً واحدٍ. وفي المُحْكَم: ودَمٌ باحِرٌ وبَحْرَانِيُّ، خالصُ الحُمْرة مِن دَمِ الجَوْفِ. وعَمَّ بعضُهم به، فقال: أَحمرُ باحِريُّ وبَحْرانِيُّ، ولم يَخُصَّ به دَمَ الجَوْفِ ولا غيرَه.

وفي التَّهذِيب: والباحِرُ: الكَذّابُ، والبَاحِرُ: الفُضُولِيُّ. والباحِرُ: دَمُ الرَّحِمِ، كالبَحْرَانِيّ. وسُئِلَ ابنُ عباس عن المرأَة تُستَحاضُ ويَستمرُّ بها الدَّمُ، فقال: أتُصَلِّي وتَتَوَضَّأُ لكلِّ صلاةٍ، فإِذا رأَتِ الدَّمَ البَحْرَانِيَّ قَعَدَتْ عن الصَّلاة».

قال ابنُ الأَثِير: دَمٌ بَحْرَانِيُّ: شديدُ الحُمْرَةِ؛ كأَنّه قد نُسِبَ إِلى البَحْرِ وهو اسمُ قَعْرِ الرَّحم، وزادُوه في النَّسَب أَلِفًا ونُونًا للمبالَغَةِ، يُريدُ الدَّمَ الغَلِيظَ الواسِعَ، وقيل: نُسِب إِلى البحْرِ؛ لكَثْرتِه وسَعَتِه، ومن الأَوّل قولُ العَجَّاج:

وَرْدٌ مِن الجَوْفِ وبَحْرَانِيُّ

وفي الأَساس: ومن المَجَاز: دَمٌ بَحْرَانِيٌّ؛ أَي أَسودُ؛ نُسِبَ إِلى بَحْرِ الرَّحِمِ و [هو] عُمْقُه.

والباحِرُ: الذي إِذا كُلِّمَ بَحِرَ، مثلُ المَبْهُوت.

والبَحْرَةُ: الأَرْضُ، والبَلْدَةُ، يقال: هذه بَحْرَتُنَا؛ أَي أَرضُنا، وقد وَرَدَ بالتَّصْغِير أَيضًا، كما في التَّوشِيح للجَلال.

والبَحْرَةُ: المُنْخَفِض من الأَرْضِ، قاله ابن الأَعْرَابِيِّ: وقد وَرَدَ بالتَّصغِير أَيضًا.

والبَحْرَةُ: الرُّوْضَةُ العظيمةُ مع سَعَةٍ. وقال الأَزْهرِيُّ: يقال للرَّوضَةِ بَحْرَةٌ.

والبَحْرَةُ: مُسْتَنْقَعُ الماءِ، قاله شَمِرٌ.

وقد أَبْحَرَت الأَرضُ، إِذا كَثُرَ مَناقِعُ الماءِ فيها.

والبَحْرَةُ: اسمُ مدينةِ النبيِّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم، كالبُحَيْرَةِ، مُصَغَّرًا، والبَحِيرَةِ كسَفِينَةٍ. الثلاثةُ عن كُراع، ونقلَهَا السَّيِّدُ السَّمْهُودِيُّ في التاريخ. وفي حديثِ عبدِ اللهِ بن أُبَيٍّ: «لقد اصطلحَ أَهلُ هذه البُحَيْرَةِ على أَن يُتَوِّجُوه» يَعْنِي يُمَلِّكُوه فيُعَصِّبُوه بالعِصَابَةِ، وهي تصغيرُ البَحْرةِ، وقد جاءَ في رواية مُكَبَّرًا، الثلاثةُ اسمُ مدينةِ النبيِّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم، كذا في اللِّسَان.

والبَحْرَةُ: قرية بالبَحْرَينِ لِعَبْد القَيْسِ.

والبَحْرَة: كُلُّ قَرْيَةٍ لها نَهْر جارٍ وماءٌ ناقِعٌ، وفي بعض النُّسَخ، نهرٌ ناقعٌ، والصَّوابُ الأَولُ، والعربُ تقول لكلِّ قَرْيَة: هذه بَحْرَتُنا.

وبَحْرَةُ الرُّغاءِ: موضعٌ بالطّائفِ. وفي حديث القَسَامةِ: «قتلَ رجلًا ببَحْرَةِ الرُّغاءِ على شَطِّ لِيَّةَ» وهو أَولُ دمٍ أُقِيدَ به في الإِسلامِ رَجلٌ مِن بني لَيْث، قَتَلَ رجلًا من هُذَيْل، فقتله به.

الجمع: بِحَرٌ، بكسرٍ ففتحٍ، وبِحَارٌ، والعربُ تُسَمِّي المُدُنَ والقُرَى البِحَارَ. وقال أَبو حَنِيفَةَ: قال أَبو نَصْرٍ: البِحَارُ: الواسِعَةُ من الأَرْض، الواحدةُ بَحْرَةٌ، وأَنشدَ لكُثَيِّرٍ في وَصفِ مَطَرٍ.

يُغَادِرْنَ صَرْعَى مِن أَرَاكٍ وتَنْضُبٍ *** وزُرْقًا بأَجْوَارِ البِحَارِ تُغادَرُ

وقال مَرَّةً: البَحْرَةُ: الوادِي الصَّغِير يكونُ في الأَرض الغَلِيظةِ.

والبِحَارُ الرِّياضُ، قال النَّمرُ بنُ تَوْلَب:

وكَأَنَّهَا دَقَرَى تُخَايِلُ، نَبْتُهَا *** أُنُفٌ يَعُمُّ الضَّالَ نَبْتُ بِحَارِهَا

وبُحَيْرٌ كزُبَيْرٍ: جَبَلٌ بتِهَامَةَ وضَبَطَه ياقُوتٌ في المُعْجَم كأَميرٍ.

وبُحَيْرٌ: رجلٌ أَسَدِيُّ، حَكَى عنه سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ الهِلاليُّ الفقيةُ الزّاهِدُ المشهورُ خَبَرًا.

وعليُّ بنُ بُحَيْرٍ تابِعيُّ، روَى عنه عائِذُ بنُ ربيعةَ.

وكذا عاصمُ بنُ بُحَيْرٍ، واختُلِفَ في ضَبْطِه فقيل هكذا، أَو هو كأَمِيرٍ وعبدُ الرحمن بن بُحَيْرٍ اليَشْكُرِيُّ محدِّث، عن ابنِ المُسَيِّب، أَو هو كأَمِيرٍ، بالجيمِ أَمّا بالحاءِ فَذَكَرَه أَحمدُ بنُ حَنْبَل، وأَمّا بالجِيم فهو ضَبْطُ البُخَارِيِّ، وكلُّ منهما بالتَّصْغِير، ولم أَرَ أَحدًا ضَبَطَه كأَمِيرٍ، ففي كلام المصنِّف مخالفةٌ ظاهرةٌ.

وبَحِرَ الرَّجلُ كفَرِحَ يَبْحَرُ بَحَرًا إِذا تَحَيَّرَ من الفَزَع مثلُ بَطِرَ.

ويقال أَيضًا: بَحِرَ، إِذا اشتدَّ عَطَشُه فلم يَرْوَ من الماءِ.

وبَحِرَ لَحْمُه: ذَهَبَ من السِّلِّ.

وبَحِرَ الرجلُ والبَعِيرُ، إِذا اجتَهدَ في العَدْوِ طالبًا أَو مَطْلُوبًا فَضَعُفَ وَانقطعَ حتَّى اسْوَدَّ وجهُه وتَغَيَّرَ.

والنَّعْتُ من الكلِّ: بَحِرٌ ككَتِفٍ.

وقال الفَرّاءُ: البَحَرُ: أَنْ يَلْغَى البَعِيرُ بالمَاءِ فيُكْثِرَ منه حتى يُصِيبَه منه داءٌ، يقال: بَحِرَ يَبْحَرُ بَحَرًا فهو بَحِرٌ، وأَنشدَ:

لأُعْلِطَنَّه وَسْمًا لا يُفَارِقُه *** كما يُحَزُّ بِحَمْي المِيسَمِ البَحِرُ

قال: وإِذا أَصابَه الدّاءُ كُوَى في مَواضعَ فَيَبْرَأُ. قال الأَزهريُّ: الداءُ الذي يُصِيبُ البَعِيرَ فلا يَرْوَى من الماءِ هو النَّجَرُ، بالنُّونِ والجيمِ، والبَحَرُ، بالباءِ والجِيمِ [وكذلك البَقْرُ]، وأَمّا البَحَرُ فهو داءٌ يُورِثُ السِّلَّ.

وأَبحَرَ الرَّجُل، إِذا أَخَذَه السِّلُّ.

والبَحِيرُ، كأَمِيرٍ: مَن به السِّلُّ، كالبَحِرِ، ككَتِفٍ، ورجلٌ بَحِيرٌ وبَحِرٌ: مَسْلُولٌ، ذاهِبُ اللَّحْمِ، عن ابنِ الأَعرابيِّ، وأَنشدَ:

وغِلْمَتِي منهمْ سَحِيرٌ وبَحِرْ *** وآبِقٌ مِن جَذْبِ دَلْوَيْهَا هَجِرْ

قال أَبو عَمْرو: البَحِيرُ والبَحِرُ: الذي به السِّلُّ، والسَّحِيرُ الذي انقطعتْ رِئَتُه، ويقال: سَحِرٌ.

وبَحِيرٌ، كأَمِيرٍ: أَربعةٌ صَحَابِيُّونَ، وهم بَحِيرٌ الأَنْمَارِيُّ، أَوردَه ابنُ ماكُولا، ويُكْنَى أَبا سَعِيد الخَيْرِ، وبَحِيرُ بنُ أَبي رَبِيعَةَ المَخْزُومِيُّ، سَمَّاه النبيُّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم. وبَحِير الرّاهِبُ، ذَكَره ابنُ منده وابنُ ماكُولا، وبَحِير آخَرُ استدركَه أَبو موسى.

وبَحِيرٌ، كأَمِير: أَربعةٌ تابِعِيُّون، وهم بَحِيرُ بنُ رَيْسَانَ اليَمَانِيُّ، وبَحِيرُ بنُ ذاخِرٍ المَعافِرِيُّ، صاحِبُ عمْرِو بنِ العاص، وبَحِيرُ بنُ أَوْسٍ، وبَحِيرُ بن سعْدٍ الحِمْصِيُّ.

وبقِي عليه منهم: بَحِيرُ بنُ سالِمٍ، وبَحِيرُ بنُ أَحمرَ، ذَكرهما ابن حبّانَ في الثَّقات.

وأَبو الحُسَيْن، ويقال: أَبو عُمَرَ أَحمدُ بنُ محمّدِ بنِ جعفر بنِ محمّدِ بنِ بَحِير بن نُوح النَّيْسَابُورِيُّ، الحافظُ، حَدَّث عن ابن خُزَيمةَ والباغنديِّ، تَرْجَمه الذهبيُّ والسمعانيُّ، توفي سنة 378. وابنُه أَبو عمرٍو محمّدٌ صاحبُ الأَربعين، حدَّث توفِّيَ سنة 390. وحفِيدُه أَبو عثمانَ سَعِيدُ بنُ محمّدٍ شيخ زاهر، رَوَى عن جَدِّه، وأَخوه أَبو حامدٍ بَحِيرُ بنُ محمّد، رَوَى عن جَدِّه وأَبو القاسم المُطَهَّرُ بن بَحِيرِ بنِ محمّدِ، حدث عن الحاكم، وعنه ابنُ طاهر. وإِسماعيلُ بنُ عَوْنٍ، هكذا في النُّسخ، والذي في كتب الأَنساب: ابن عمرِو بنِ محمّدِ بنِ أَحمدَ بن محمّد بنِ جعفر، شافعيُّ من كِبارهم، تَفَقَّه على ناصِر العُمَرِيِّ، وسمع من أَبي حَسّانَ الزَّكيِّ، وأَمْلَى مدّةً، مات سنة 501.

وابنِ عمِّه عبدُ الحميد بنُ عبدِ الرحمن بنِ محمّدٍ، رَوَى عن أَبي نُعيم الأَسْفَرَايِنِي، وابنُ أَخيه عبدُ الرحمن بنُ عبدِ الله ابن عبد الرحمن، حَدَّث عن عَمِّه. وابنُه أَبو بكر، رَوَى عن البَيْهَقِيِّ، أَخَذَ عنه ابنُ السّمْانِيِّ. وعليُّ بنُ محمّدِ بنِ عبد الحميدِ، ذَكَرَه ابنُ السّمْانِيِّ. البَحِيرِيُّونَ: مُحَدِّثُون؛ نسبةٌ إِلى جَدٍّ لهم، وهو بَحِيرُ بن نُوحٍ.

وبَحِيرَى، بالأَلف المقصورة، وبَيْحَرٌ كجعفر، وبَيْحَرَةُ بزيادةِ الهاءِ، وبَحْرٌ، بفتحٍ فسكونٍ، أَسماءٌ لهم. والبَحُورُ، كصَبُورٍ: فَرَسٌ يَزِيدُهُ الجَرْيُ جَوْدَةً، ونَصُّ التَّكْمِلَةِ: البَحُورُ من الخيل: الذي يَجْرِي فلا يَعْرَقُ ولا يَزِيدُ على طُولِ الجَرْيِ إِلّا جَوْدَةٌ، انتهى. وهو مَجَازٌ.

والباحُورُ: القَمَرُ، عن أَبي عليٍّ في البَصْرِيّاتِ له.

وفي الأَمثال: لَقيَه صَحْرَة بَحْرَةَ، بفتحٍ فسكونٍ فيهما.

قال شيخُنَا: هما من الأَحوال المركَّبةِ، وقيل مِن المصادرِ.

والصَّوابُ الأَوّلُ، يُقال بالفتحِ كما هو إِطلاقُ المصنِّف، وبالضَّمِّ أَيضًا ما في شُرُوحِ التَّسْهِيلِ والكافِيَةِ وغيرِهما، وآخرهُمَا يُبْنَى للتركيب كثيرًا، ويُنَوَّنانِ بنَصْبٍ، عن الصّاغانيّ؛ أَي مُنكشفَيْن بلا حِجابٍ، وفي اللِّسَان: أَي بارزًا ليس بينكَ وبينَه شيْ‌ءٌ، قال شيخُنَا: ويُزَادُ عليه: «نَحْرَة»، بالنُّون، كما سيأْتي، وحينئذٍ يَتَعَيَّنُ التَّنْوِينُ والإِعرابُ، ويمتنعُ التَّركِيبُ. وبناتُ بَحْرٍ ـ بالحَاءِ والخاءِ جميعًا، وعلى الأَول اقتصرَ اللَّيْثُ، أَو الصّوابُ بالخاءِ أي مُعْجَمَة، بناتُ بَخْرٍ، ووَهِمَ الجوهَرِيُّ، وقال الأَزهريُّ: وهذا تصحيفٌ مُنْكَرٌ ـ: سَحائِبُ رِقَاقٌ مُنْتصباتٌ، يَجِئْنَ قُبُلَ الصَّيْفِ. وقال أَبو عُبَيْدٍ عنِ الأَصمعيِّ: يُقَال لِسَحائِبَ يَأْتِينَ قُبُلَ الصَّيْفِ مُنْتَصِباتٍ: نباتُ بَخْرٍ، وبناتُ مَخْرٍ، بالباءِ والميمِ والخاءِ، ونحْو ذلك قال اللِّحْيَانيُّ وغيرُه.

وبُحْرَانُ المَرِيضِ، بالضَّمِّ، مُولَّدٌ، وهو عند الأَطِبّاءِ التَّغَيُّر الّذي يَحدُثُ للعَلِيلِ دَفْعَة في الأَمراضِ الحادَّةِ.

ويقولون: هذا يومُ بُحْرانٍ، مضافا، كذا في الصّحاح، وفي نُزْهَةِ الشيخِ داودَ الأَنطاكيّ: البُحْرَانُ بالضّمِّ ـ لفظةٌ يونانيةٌ، وهو عبارةٌ عن الانتقالِ من حالةٍ إِلى أُخرَى، في وَقْتٍ مضبوطٍ بحركةٍ عُلْوِيةٍ، قال: وأَكثَرُ ارتباطِه بحركةِ القَمَرِ، لأَنه شكلٌ خفيفُ الحركةِ يَقْطَعُ دَوْرَه بسرعةٍ، ولا يمكنُ إِتقانُه بغيرِ يَدٍ طائِلَةٍ في التَّنْجِيمِ، ثم الانتقالُ المذكورُ إِمّا إِلى الصِّحَّةِ أَو إِلى المَرَض، والأَولُ البُحْرانُ الجَيِّدُ، والثاني الرَّدِي‌ءُ، وأَطال في تَقْسِيمه فراجِعْه.

ويَومٌ باحُورِيٌّ، على غَيرِ قياسٍ فكأَنَّه منسوبٌ إِلى باحُورٍ وباحُوراءَ، مثل عاشُورٍ وعاشُوراءَ، وهُوَ موَلَّدٌ، وعلى غير قياسٍ، كما في الصّحَاح. قال ابن بَرِّيّ: ويَقْتَضِي قولُه أَنّ قياسَه باحِرِيّ وكان حَقُّه أَن يَذْكُرَه؛ لأَنّه يقال: دَمٌ باحِريّ؛ أَي خالِصُ الحُمْرَةِ، ومنه قولُ المُثَقِّبِ العَبْدِيِّ:

باحِرِيُّ الدَّم مُرُّ لَحْمُه *** يُبْرِيُّ الكَلْبَ إِذا عَضَّ وهَرّ

والبَحْرِيْنِ بالتَّحْتِيَّةِ، كذا في أُصول القاموس والصّحاح وغيرِهما من الدَّواوِين، وفي المِصباح واللِّسَان بالأَلِف على صِيغَةِ المثنَّى المرفوعِ: بلد بين البَصْرةِ وعُمَانَ، وهو من بلاد نَجْدٍ، ويُعرَبُ إِعراب المثنَّى، ويجوزُ أَن تَجعلَ النُّونَ محلَّ الإِعراب مع لُزُوم الياءِ مطلقًا، وهي لغةٌ مشهورةٌ، واقتَصر عليها الأَزهريُّ؛ لأَنه صار عَلَمًا مُفْرَدًا لدلالةٍ، فأَشْبَه المُفْرَداتِ، كذا في المِصْبَاح. والنِّسْبَةُ بَحْرِيُّ وبَحْرَانِيُّ، أَو كُرِهَ بَحْرِيُّ لئلا يَشْتَبِهَ بالمَنْسوب إِلى البَحْر. وهذا رُوِيَ عن أَبي محمّد اليَزِيديِّ، قال: سَأَلنِي المَهْدِيُّ وسأَلَ الكِسَائيَّ عن النِّسْبَة إِلى البَحْرَينِ وإِلى حِصْنَيْنِ: لِمَ قالُوا: حِصْنِيٌّ وبَحرَانِيٌّ. فقال الكِسَائيُّ: كَرِهُوا أَن يقولوا حِصْنانِيُّ؛ لاجتماع النُّونَيْن، قال: وقلتُ أَنا: كَرِهُوا أَن يقولوا: بَحْرِيٌّ فيُشْبِهَ النِّسْبَةَ إِلى البَحْر. قال الأَزهَرِيُّ: وإِنّمَا ثَنُّوا البَحْرَيْنِ؛ لأَنَّ في ناحِيَةِ قُرَاهَا بُحَيْرَةٌ على باب الأَحساءِ وقُرَى هَجَرَ بينها وبين البَحْرِ الأَخضَرِ عشرةُ فراسِخَ، وقُدِّرَت البُحَيْرَةُ ثلاثةَ أَميالٍ في مِثلها، ولا يَغِيضُ ماؤُهَا، وماؤُها راكِدٌ زُعَاقٌ، وقد ذَكَرَها الفَرَزْدَقُ فقال:

كأَنَّ دِيَارًا بين أَسْمِنَة النَّقَا *** وبين هَذَا لِيلِ البُحَيْرَةِ مُصْحَفُ

قال الصّاغانيُّ: هكذا أَنشدَه الأَزْهَريُّ. وفي النَّقائض: النَّحيزة.

وفي اللِّسَان: قال السُّهَيْليُّ في الرَّوْض: زَعَمَ ابنُ سِيدَه في كتاب المُحْكَم أَن العَرَب تَنْسَبُ إِلى البَحْر بَحْرَانِيّ، على غير قياسٍ، وأَنّه من شَواذِّ النَّسَب، ونَسَبَ هذا القولَ إِلى سيبَوَيْه والخَليل، رَحمَهما اللهُ تعالى، وما قالَه سيبويه قَطُّ، وإِنما قال في شواذِّ النَّسَب: تقولُ في بَهْرَاءَ بَهْرانيّ، وفي صَنْعَاءَ صَنْعانيّ، كما تقول: بَحْرَانيُّ في النَّسَب إِلى البَحْرين التي هي مدينةٌ. قال: وعلى هذا تَلَقَّاه جميعُ النُّحَاة وتَأَوَّلُوه من كلام سيبويه، قال: وإِنّمَا شُبِّهَ على ابن سيدَه لقول الخليل في هذه المسأَلة، أَعْني مسأَلَة النَّسَب إِلى البَحْرَيْن؛ كأَنَّهم بَنَوُا البَحْرَ على بَحْرَان، وإِنما أَرادَ لفظَ البَحْرَيْن، أَلا تراه يقولُ في كتاب العَيْن: يقولُ: بَحْرَانيّ في النَّسَب إِلى البَحْرَيْن. ولم يَذكُر النَّسَبَ إِلى البَحْر أَصْلًا للعلْم به، وأَنّه على قياسٍ جارٍ. قال: وفي الغَريب المصنَّف عن اليَزيديِّ أَنه قال: إِنّمَا قالوا: بَحْرَانيّ في النَّسَب إِلى البَحْرَيْن ولم يقولوا: بَحْريّ، ليُفَرِّقُوا بينه وبين النَّسَب إِلى البَحْر، قال: وما زَالَ ابنُ سيدَه يَعْثُرُ في هذا الكتاب وغيره عَثَراتٍ يَدْمَى منها الأَطَلُّ، ويَدْحَضُ دَحَضَاتٍ تخْرِجُه إِلى سَبيل مَن ضلّ. قال شيخُنَا: وذَكَرَ الصَّلاحُ الصَّفَديُّ في نَكْت الهيْمَان الإِمَامَ ابنَ سيدَه، وذَكَرَ بحثَ السُّهَيْليِّ معه بما لا يَخْلُوا عن نَظَرٍ، وما نَسَبَه لسيبَوَيْه والخَليل فقد صَرَّح به شُرّاحُ التَّسْهيل.

ومحمّدُ بنُ المُعْتَمر، كذا في النُّسَخ، وفي التَّبْصير: محمّدُ بنُ مَعْمَر بن رِبْعيّ القَيْسيُّ، بَصْريّ ثِقَةٌ، حدَّث عنه البُخَاريُّ والجماعةُ، مات سنةَ 350. والعبّاسُ بنُ يَزيدَ بن أَبي حَبيب، ويُعْرَفُ بَعبّاسَوِيْه، حدَّث عن خالد بن الحارث، ويَزيدَ بن زُرَيْعٍ، رَوَى عَنْه البَاغَنْديُّ وابنُ صاعد وابنُ مخلد، وهو من الثِّقات، البَحْرَانيّان: مُحَدِّثانِ.

وفاتَه:

زكريّا بنُ عطيّةَ البَحْرَانيُّ، سَمعَ سلّامًا أَبا المُنْذِر، ويعقوب بن يوسفَ بنِ أَبي عيسى، شيخ لابن أَبي داودَ، وهارونُ بنُ أَحمدَ بنِ داودَ البَحْرَانيُّ: شيخٌ لابن شاهيِن، وعليّ بنُ مقرّبِ بن منصورٍ البَحْرَانِيّ، أَديبٌ، سَمِعَ ابنُ نُقْطَةَ. وداودُ بنُ غَسّانَ بنِ عيسى البَحْرَانِيّ، ذَكَرَه ابنُ الفَرضِيِّ، ومُوَفَّقُ الدِّين البَحْرَانِيُّ: أَديبٌ بإِرْبل، مشهورٌ بعد السِّتِّمائة.

والبَاحِرَةُ: شجرةٌ شاكَةٌ من أَشجار الجِبَال.

والباحِرَةُ من النُّوقِ: الصَّفِيَّةُ المُخْتَارَة، نقلَه الصَّاغانيّ، وهو مَجَازٌ.

وبُحُرُ بنُ ضُبُعٍ، بضمَّتَيْن فيهما الرُّعَيْنِيّ، صَحابيّ، ذَكَرَه ابنُ يونس، وله وِفَادةٌ.

والقاضي أَبو بكر عُمَر بنُ محمودِ بنِ بَحَرٍ، كجَبَلٍ، ابن الأَحنفِ بنِ قيس الواذِنَانِيُّ، واوٌ وذالٌ معجَمَةٌ ونُونان. وابنُ عَمِّه محمّدُ بنُ أَحمدَ بنِ عُمَر، رَوَى عنه يوسفُ الشِّيرازيُّ، سَمِعَا من ابن رَبذةَ بأَصْفَهَانَ.

وفاته:

أبو جعفرٍ أَحمدُ بنُ مالِكِ بنِ بَحرٍ.

وهشامُ بنُ بُحْرَانَ، بالضّمّ، محدِّثون، الأَخيرُ سَرْخَسِيّ، رَوَى عن بَكْرِ بن يوسفَ.

وأَبْحَرَ الرجلُ: رَكِبَ الْبَحْرَ، عن يعقُوبَ وابنِ سِيدَه.

وأَبْحَرَ: أَخَذَه السِّلُّ.

وأَبْحَرَ: صادَفَ إِنسانًا بِلَا ـ ونَصُّ المُحكم: على غير اعتمادٍ وقَصْدٍ لِرُؤْيَتِه. وهو مِن قولِهم: لَقيتُه صَحْرَةَ بَحْرَةَ، وقد تقدَّم. وأَبْحَرَ، إِذا اشتدَّتْ حُمْرَةُ أَنْفِه.

وأَبْحَرتِ الأَرْضُ: كَثُرتْ مناقِعُها، ونصُّ التَّهذيب: كَثُرَتْ مناقُع الماءِ فيها.

وفي المُحكَم: أَبْحَرَ الماءُ: مَلُحَ؛ أَي صار مِلْحًا، قال نُصَيْب:

وقد عادَ ماءُ الأَرض بَحْرًا وزادَني *** إِلى مَرَضي أَنْ أَبْحَرَ المَشْرَبُ العَذْبُ

وأَبْحَرَ الرَّجلُ المَاءَ: وَجَدَه بَحْرًا؛ أَي مِلْحًا لم يَسُغْ، هكذا في النُّسَخ، وفيه تحريفٌ شنيعٌ؛ فإِنّ الصَّاغانيّ ذَكَرَ ما نَصُّه بعدَ قوله؛ أَبْحَرت الأَرْضُ: ولو قيلَ: أَبْحَرْتُ الماءَ؛ أَي وَجَدْتُه بحْرًا؛ أَي ملْحًا، لم يَمْتَنعْ، فتأَمَّلْ.

ومن المَجَاز: اسْتَبْحَر الرجلُ في العِلْم والمال: انْبَسطَ، كَتبحَّرَ. وكذلك استبحرَ المَحَلُّ، إِذا اتَّسَعَ.

واسْتَبحَرَ الشّاعرُ، وكذا الخَطيبُ: اتَّسَعَ له القَوْلُ، كذا في التَّكْملَة، ونصُّ المُحكَم: اتَّسَع في القَوْل. وفي الأَساس: وفي مَديحكَ يَسْتَبْحِرُ الشاعرُ، قال الطِّرمّاح:

بمثْلِ ثَنَائكَ يَحْلُو المَديحُ *** وتَسْتَبْحِرُ الأَلْسُنُ المادحَهْ

والتَّبَحُّرُ والاستبحارُ: الانبساطُ والسَّعَةُ؛ وسُمِّيَ البحرُ بحْرًا لذلك، ومن المَجَاز: تَبَحَّرَ الرجلُ في المال، إِذا اتَّسَعَ وكَثُرَ مالُه وتَبَحَّرَ في العِلْم: تَعَمَّقَ وتَوسَّعَ تَوَسُّعَ البحر.

وبَحْرَانَةُ، بالفتح: قرية، باليَمن، وفي التكملة: بلدٌ باليَمَن.

وفي الحديث ذكْرُ بَحْرَان بالفتح ويُضَمّ، وهو موضع بناحيةِ الفُرْع من الحجَاز، به مَعْدنٌ للحَجّاج بن عِلَاط البَهْزِيِّ، له ذكْرٌ في سَرِيَّة عبد الله بن جَحْشٍ، قَيَّدَه ابنُ الفُرات بالفتح، كالعمْرانيِّ، والزَّمخْشريِّ، والضَّمُّ روايةٌ عن بعضهم، وهو المشهورُ، كذا في المُعجَم.

ويَبْحَرُ بنُ عامرٍ كيَمْنَعُ، وضَبَطَه الذهبيُّ بتقديم الموحَّدة على التحتيَّة، صحابيّ، وقيل: بجراة، له حديثٌ من رواية أَولاده.

والبَحْريَّةُ، وفي بعض النسخ: البَحيريَّةُ وهو الصَّوابُ: موضع باليَمَامة لعبد القَيْس عن الحَفْصيِّ.

وبَحيرَ ابادْ: قرية، بمَرْوَ يُنسَب إِليها أَبو المظفَّر عبدُ الكريم بنُ عبد الوهّاب، حدَّث عنه السّمْعانيُّ، ذَكَره ياقوت في المعجم.

والبَحّار كَكتّانٍ: المَلّاحُ؛ لمُلَازَمته البَحْرَ، وهم بَحّارةٌ، كالحَمَّالَة.

وبَنُو بَحْريٌّ: بَطْنٌ من العرب.

وذُو بِحَارٍ، ككَتَابٍ: جَبَلٌ، أَو أَرضٌ سهلةٌ تَحُفُّهَا جبالٌ، قال بشْرُ بنُ أَبي خازم:

أَلَيْلَى على شَطِّ المَزَارِ تَذَكَّرُ *** ومِن دُونِ لَيْلَى ذُو بِحَارٍ ومَنْوَرُ

وقال الشَّمّاخ:

صَبَا صَبْوَةٍ مِنْ ذِي بِحَارٍ فَجَاوَرَت *** إِلى آلِ لَيْلَى بَطْنَ غَوْلٍ فَمَنْعَجِ

وقال أَبو زِيَادٍ: ذو بِحَارٍ: وادٍ بأَعْلَى السَّرِير لعَمْرِو بنِ كِلابٍ، وقيل: ذو بِحار، ومَنْوَر، جَبَلانِ في ظَهْر حَرَّةِ بني سُلَيْم، قال الجوهَرِيُّ، وقال نَصْرٌ: ذو بِحَار: ماءٌ لغَنِيّ في شرقيّ النِّير، وقيل: في بلاد اليمن.

وبِحَارٌ، مصرُوفًا، ويُمْنَعُ: موضع بنَجْد، عن ابن دُرَيْد، ورواه الغوريُّ بالفتح، قال بَشامةُ بنُ الغَدير:

لِمَنِ الدِّيَارُ عَفَوْنَ بالجَزْعِ *** بالدَّوْمِ بين بِحَارَ فالجرْعِ

وبُحَارٌ كغُرابٍ: موضعٌ آخرُ عن السِّيرافيّ، كذا ضَبَطَه السُّكّرِيُّ في قول البُرَيْق، أَو لغةٌ في الكَسْرِ.

وبَحْرَةُ: والدُ صَفِيَّةَ التّابِعيَّةِ، رَوَى عنها أَيُّوبُ بنُ ثابت، وهي رَوَتْ عن أَبي محذورةَ، ذَكَرها البُخَاريُّ في التَّاريخ.

وبَحْرَةُ جَدُّ يُمَيْنِ بنِ مُعاوِيَةَ العائشيّ الشّاعرِ.

وبَحْرَةُ: موضع بالبَحْرَيْنِ، و: قرية، بالطائفِ، وقد تقدَّم ذكرُهما، فهو تكرار.

والباحُورُ والباحُوراءُ: كعاشُورٍ وعاشُوراءَ: شِدَّةُ الحَرِّ في تَمُّوزَ، وهو مُوَلَّدٌ، قال شيخُنَا: وقد جاءَ في كلام بعضِ رُجّازِ العربِ، فلو قالوا: هو مُعَرَّبٌ كان أَوْلى.

وبُحَيْرَةُ، كجُهَيْنَةَ: خمْسة عَشَرَ موضعًا، منها: بُحَيْرَةُ طَبَرِيَّةَ، فإِنها بحرٌ عظيمٌ نحو عشرة أَميال في ست أَميال، وبُحيرةُ تِنِّيسَ بمصر، وبُحيرةُ أَرْجِيشَ، وبُحيرةُ أُرْمِيَةَ، وبُحيرةُ أَرْيَغَ، وبُحيرةُ الإِسكندريَّة، وبُحيرةُ أَنطاكِيَةَ، وبُحيرةُ الحَدَث، وبُحيرةُ خُوَارزْمَ، وبُحيرةُ رَزَهْ، وبُحيرةُ قَدَسَ، وبُحيرةُ المَرْجِ، وبُحيرةُ المُنْتِنَةِ، وبُحيرةُ هَجَرَ، وبُحيرةُ بَغْرَا، وبُحيرةُ ساوَهْ.

* وممّا يُستدرَكَ عليه:

البَحْرُ: الفُراتُ، قال عَدِيُّ بنُ زَيْد:

وتَذَكَّرْ رَبَّ الخَوَرْنَقِ إِذْ أَشْ *** رَفَ يومًا ولِلْهُدَى تَذْكِيرُ

سَرَّه مالُه وكَثْرَةُ ما يَمْ *** لِكُ والبَحْرُ مُعْرِضًا والسَّدِيرُ

قالُوا: أَراد بالبحرِ هاهنا الفُراتَ؛ لأَنّ رَبَّ الخَوَرْنَقِ كان يُشْرِفُ على الفُرات. قُلتُ: وهذا فيه ما فيه؛ فإِنّ البحرَ في الأَصل المِلْحُ دُونَ العَذْبِ، كما قاله بعضُهم، وقوله تعالى: {وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ... وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ}. قالوا: سُمِّيَ العَذْبُ بَحْرًا؛ لكَوْنِه مع المِلْح، كما يُقَال للشَّمْسِ والقَمَرِ قَمَرانِ، كذا في البصائر للمصنِّف.

وفي حديث مازِنٍ: «كان لهم صَنَمٌ يُقَال له باحَرٌ»، بفتح الحاءِ، ويُرْوَى بالجِيم، وقد تَقَدَّم.

وتبحَّرَ الرَّاعِي في رَعْيٍ كثيرٍ: اتَّسَعَ.

وبَحِرَ الرَّجلُ، كفَرِحَ، إِذا رَأَى البَحْرَ، فَفَرِقَ حتى دَهِشَ، وكذلك بَرِقَ، إِذا رأَى سَنَا البَرْقِ فتحيَّر، وبَقِرَ، إِذا رَأَى البَقَرَ الكثيرَ، ومثلُه خَرِقَ، وعَقِرَ.

وفي المُحْكَم: يقال: للبَحْرِ الصَّغير: بُحَيْرَةٌ؛ كأَنَّهم تَوَهَّمُوا بَحْرَةً، وإِلّا فلا وَجْهَ للهاءَ.

وقوله: يا هادِيَ اللَّيْلِ جُرْتَ، إِنّمَا هو البَحْرُ أَو الفَجْرُ، فَسَّره ثعلبٌ فقال: إِنّما هو الهَلاكُ أَو تَرَى الفَجْرَ؛ شَبَّه الليلَ بالبَحْر، ويُرْوَى بالجِيم، وقد تَقَدَّم.

والبَحْرَةُ: الفَجْوَةُ مِن الأَرض تَتَّسعُ.

والبُحَيْرَةُ: المُنخفِضُ من الأَرض.

وتَبَحَّرَ الخَبَرَ: تَطَلَّبه.

وكانت أَسْمَاءُ بنتُ عُمَيْسٍ يقال لها: البَحْرِيَّةُ؛ لأَنّهَا كانت هاجَرَتْ إِلى بلاد النَّجَاشِيّ فَرِكبت البحرَ. وكلُّ ما نُسِبَ إِلى البحر فهو بَحْرِيٌّ.

والذي في الأَساس: ومِن المَجَاز: امرأَةٌ بَحْرِيَّةٌ؛ أَي عَظِيمَةُ البَطْنِ؛ شُبِّهَتْ بأَهْلِ البَحْرَيْنِ، وهم مَطاحِيلُ عِظَامُ البُطُونِ.

ويُقَال للحارَاتِ والفَجَوَاتِ: البِحَارُ.

وقال اللَّيْثُ: إِذا كان البحرُ صغيرًا قيل له: بُحَيْرةٌ.

والبَحْرِيُّ: المَلَّاحُ.

والمُفَضَّل بنُ المطهَّر بنِ الفَضْل بنِ عُبَيْد الله بنِ بَحَرٍ، كَجَبَلٍ: الكاتبُ الأَصْبَهانيُّ، سَمِعَ منه ابنُ السّمعانيِّ وابنُ عساكر. وذَكْوَانُ بنُ محمّدِ بنِ العبّاسِ بنِ أَحمدَ بنِ بَحرٍ الأَصبهاني، ويُدْعَى اللَّيْث، ذَكَره ابنُ نقْطَةَ.

وكأَمِيرٍ: عبدُ الله بن عيسى بن بَحِير: شيخٌ لعبدِ الرزّاق، وعبدُ العزيز بنُ بَحِيرِ بن رَيسانَ: أَحدُ الأَجوادِ، رَوَى.

وبَحِيرُ بنِ جُبَيْر: تابعيُّ.

وبَحِيرُ بنُ نُوح، عن أَبي حنيفةَ.

وبَحِيرُ بنُ عامر: شاعرٌ جاهليُّ.

وبَحِيرُ بنُ عبد الله فارسُ قُشَيْر.

وسعدُ بنُ بَحِيرِ بنِ معاويةَ: له صُحْبَةٌ.

ومُحَمّدُ بنُ بَحِيرٍ الأَسْفَراينِيُّ، سمع الحمَيديّ. وآخرون.

والبُحَيْر، كزُبَيْرٍ: لَقَبُ عَمرِو بنِ طَرِيفِ بنِ عمرِو بنِ ثُمَامةَ؛ لجوده:

والحُسَيْن بنُ محمّدِ بنِ موسى بن بُحَيْر: شيخُ ابنِ رَشِيق، ضَبَطَه الحُمَيديّ.

والفتحُ بنُ كَثِيرِ بنِ بُحَيْر الحَضرميّ، ذَكَرَه ابنُ ماكُولا.

وبَحْرٌ: والدُ عمرٍو الجاحظِ.

وبَيْحَرٌ وبَيْحَرةُ، أسْماءٌ.

وبَحْرَةُ ويبحرُ: موضعانِ.

وبَحِيرَاءُ الرَّاهِبُ، كأَمِيرٍ مَمْدُودًا، هكذا ضَبَطَه الذَّهَبِيُّ وشُرّاحُ المَوَاهِبِ، وفي روايةٍ بالأَلفِ المَقْصُورةِ، وفي أُخْرَى كَأَمِيرٍ، وأَما تَصْغِيرُه فغَلَطٌ، كما صَرَّحُوا به.

وبَحِيرَةُ، كسَفينة: موضعٌ.

وأَبو بَحْرٍ صَفوانُ بنُ إِدريسَ، أَديبٌ أَندلسيُّ.

وأَبو بَحْرٍ سُفيانُ بنُ العاصِي.

وبَنُو البَحْرِ: قبيلةٌ باليمن.

وبُحَيْر آباذ، بالضّمّ: مِن قُرَى جُوَيْن من نَوَاحِي نَيْسَابُورَ، ومنها أَبو الحسن عليُّ بنُ محمّدِ بنِ حَمّويه الجُوَيْنِيّ، من بيتِ فَضْلٍ، ولهم عقبٌ بمصر.

وإِسحاقُ بنُ إِبراهيمَ بنِ محمّدٍ البَحْرِيُّ، الحافظُ، لأَنّه كان يُسَافر إِلى البحر، تُوُفِّيَ سنةَ 337. وأَبو بكرٍ عبدُ اللهِ بنُ عليِّ بنِ بَحْرٍ البَحْرِيُّ البَلْخِيُّ، نُسِبَ إِلى جَدِّه بَحْرٍ.

وبَحْرٌ جَدُّ الأَحْنَفِ بنِ قَيْس التَّمِيميِّ البَصْرِيِّ.

والبُحَيْرَةُ، مصغَّرًا: كُورةٌ واسعةٌ بمصر.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


183-تاج العروس (شقر)

[شقر]: الأَشْقَرُ من الدّوَابِّ: الأَحْمَرُ في مُغْرَةٍ حُمْرَةٍ صافيةٍ يَحْمَرُّ منها العُرْفُ، بالضّمّ، والناصِيَةُ والسَّبِيبُ؛ أَي الذَّنَبُ، فإِن اسْوَدَّا فهو الكُمَيْتُ، والعَرَبُ: تقول: أَكْرَمُ الخَيْل وذَوَاتُ الخَيْرِ منها شُقْرُها، حكاه ابنُ الأَعرابِيّ: والأَشْقَرُ من النّاسِ: من يَعْلُو بَيَاضَه حُمْرَةٌ صافِيَةٌ.

وفي الصّحاح: والشُّقْرَةُ: لَوْنُ الأَشْقَرِ، وهي في الإِنسانِ حُمْرَةٌ صافِيَةٌ، وبَشَرَتُه مائِلَةٌ إِلى البياضِ. شَقِرَ، كفَرِحَ، وكَرُمَ، شَقْرًا، بفتْحٍ فسكون، وشُقْرَةً، بالضَّمِّ. واشْقَرَّ اشْقِرَارًا، وهو أَشْقَرُ قال العَجّاج:

وقد رَأَى في الجَوِّ إِشْقِرارَا

وقال اللَّيْثُ: الشَّقْرُ، والشُّقْرَةُ مَصْدَرَا الأَشْقَرِ، والفِعْل شَقُرَ يَشْقُرُ شُقْرَةً، وهو الأَحْمَرُ من الدّوَابِّ.

وقال غيرُه: الأَشْقَرُ من الإِبِل: الذي يُشْبِهُ لَوْنُه لَوْنَ الأَشْقَرِ من الخَيْلِ، وبَعِيرٌ أَشْقَرُ؛ أَي شَدِيدُ الحُمْرَةِ.

والأَشْقَرُ: من الدَّمِ: ما صارَ عَلَقًا ولم يَعْلُه غُبَارٌ.

والأَشْقَرُ: فَرسُ مَرْوانَ بنِ مُحَمَّدٍ، من نسلِ الذَّائِدِ.

والأَشْقَرُ أَيضًا: فَرَسُ قُتَيْبَةَ بنِ مُسْلِمٍ الباهِلِيّ.

والأَشْقَرُ: فَرَسُ لَقِيطُ بن زُرَارَةَ التَّمِيمِيّ.

والشَّقْرَاءُ: فرسُ الرُّقَادِ بنِ المُنْذِرِ الضَّبِّيِّ ولها يقول:

إِذا المُهْرَةُ الشَّقْرَاءُ أُدْرِكَ ظَهْرُها *** فشَبَّ إِلهِي الحَرْبَ بينَ القَبَائِلِ

وأَوْقَدَ نارًا بيْنَهُمْ بضِرَامِهَا *** لها وَهَجٌ للمُصْطَلِي غيرِ طائِلِ

إِذا حَمَلَتْنِي والسِّلاح مُغِيرَةً *** إِلى الحَرْبِ لم آمُرْ بِسَلْمٍ لوائِلِ

وفَرَسُ زُهَيْرِ بنِ جَذِيمَةَ العَبْسِيّ، أَو هي فرس خَالِدِ بن جَعْفَر بن كِلَاب، وبها ضُرِبَ المَثَلُ: «شَيْئًا مّا يَطْلُبُ السَّوْطَ إِلى الشَّقْرَاءِ» لأَنّه رَكِبها، فجَعَلَ كُلَّمَا ضَرَبَهَا زادَتْهُ جَرْيًا، يُضْرَبُ هذا المثلُ لمَنْ طَلَبَ حاجَةً وجَعَلَ يَدْنُو مِن قَضَائِها، والفَرَاغِ منها.

والشَّقْرَاءُ أَيضًا: فَرَسُ أَسِيدِ، كأَمِيرِ، ابنِ حِنَّاءَةَ السَّلِيطِيّ.

وكذلك للطُّفَيْلِ بنِ مالكٍ الجَعْفَرِيّ فرسٌ تُسَمَّى الشَّقْرَاءَ، ذَكَره الصاغانيّ، وأَغفله المُصَنِّف.

والشَّقْرَاءُ أَيضًا: فَرَسُ شَيْطَانِ بنِ لاطِمٍ، قُتِلَتْ وقُتِلَ صاحبُهَا، فقِيل: «أَشْأَمُ من الشَّقراءِ» وفي الأَساس: قُتِلَتْ وقَتَلَتْ صاحِبَها. أَو جَمَحَتْ بصاحِبِهَا يومًا، فَأَتَت على وادٍ، فأَرادَتْ أَن تَثِبَه، فقَصَّرَتْ في الوُثُوبِ، فوقَعَتْ فانْدَقَّتْ عُنُقُهَا، وسَلِمَ صاحِبُها، فسُئِلَ عنها، فقال: إِنّ الشَّقْرَاءَ لم يَعْدُ شَرُّها رِجْلَيْهَا. أَو هذِه الشَّقْرَاءُ كانَتْ لابْنِ غَزِيَّةَ بنِ جُشَمَ بن مُعَاوِيَةَ، والذي في التَّكْمِلَة: إِن هذا الفَرَسَ لغَزِيَّةَ بنِ جُشَمَ، لا ابْنِه، فَرَمَحَتْ غُلامًا، فأَصابَتْ فَلُوَّها، فَقَتَلَتْهُ، والذي في اللسان ما نَصُّه: الشَّقْرَاءُ اسمُ فَرَسٍ رَمَحَت ابْنَها، فقَتَلَتْه، قال بِشْر بنُ أَبي خازم الأَسَدِيّ يَهْجُو عُتْبَةَ بنَ جَعفرِ بن كِلَابٍ، وكان عُتْبَةُ قد أَجارَ رجلًا من بني أَسَدٍ، فقَتَلَه رَجلٌ من بني كِلَابٍ، فلم يَمْنَعْه:

فأَصْبَحَ كالشَّقْرَاءِ لم يَعْدُ شَرُّها *** سَنَابِكَ رِجْلَيْهَا، وعِرْضُك أَوْفَر

والشَّقْرَاءُ أَيضًا: فَرَسُ مُهَلْهِلِ بنِ رَبِيعَة، وله فيها أَشعار.

والشَّقْرَاءُ أَيضًا: فَرَسُ حَوْطِ الفَقْعِسيّ. ذَكرَهما الصّاغانيّ.

والشَّقْرَاءُ بِنْتُ الزَّيْتِ والزَّيْتُ هذِه فَرَس مُعَاوِيَةَ بنِ سَعْد بنِ عَبْدِ سَعْدٍ، وقد تقدَّم في مَحلّه.

والشَّقْرَاءُ أَيضًا: اسمُ فَرَسِ رَبِيعَةَ بنِ أُبِيٍّ، أَوردَه صاحِب اللسان، وأَغفلَه المصنّف.

والشَّقْرَاءُ ماءٌ بالعُرَيْمَةِ بين الجَبَلَيْنِ، يَعْنِي جَبَلَيْ طَيِّئٍ.

والشَّقْرَاءُ: ماءَةٌ بالبَادِيَةِ لبني قَتَادَةَ بنِ سَكَنٍ، لها ذِكْرٌ في حديثِ عَمْرِو بنِ سَلَمَةَ بنِ سَكَنٍ الكِلابيِّ، رضي ‌الله‌ عنه، أَحدِ بني أَبي بكرِ بنِ كُلابٍ، لمّا وَفَدَ علَى رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم اسْتَقْطَعَه ما بين السَّعْدِيَّة والشَّقْرَاءِ، فأَقطَعَه، وهي رَحْبَةٌ طُولُهَا تِسْعَةُ أَميالٍ، وعَرْضُها ستّةُ أَميالٍ، وهما ماءَان.

والشَّقْرَاءُ: قرية بناحِيَةِ اليَمَامَةِ، بينها وبين اليَمَن.

والشَّقِرُ، ككَتِفٍ: شَقائِقُ النُّعْمَانِ، الواحِدَةُ شَقِرَةٌ، بهاءٍ، وبها سُمِّيَ الرّجلُ شَقِرَةَ، الجمع: شَقِرَاتٌ، كالشُّقّارِ، كرُمَّانٍ.

والشُّقْرَانِ كعُثْمَان، وضَبطه الصاغانيّ بفتح فكسر، وقال: هكذا ذُكِر في كِتَاب الأَبْنِيَةِ، وقال ابنُ دُرَيْدٍ ـ في باب فَعِلان بكسر العين ـ: الشَّقِرانُ أَحْسبه مَوْضِعًا أَو نَبْتًا.

والشُّقّارَى، كسُمّانَى، ويُخَفّفُ قال طَرَفَةُ:

وتَسَاقَى القَوْمُ كَأْسًا مُرَّةً *** وعَلَى الخَيْلِ دِمَاءٌ كالشَّقِرْ

وقيل: الشُّقَّارُ، والشُّقّارَى: نِبْتَةٌ ذاتُ زُهَيْرَةٍ شُكَيْلاءَ، ووَرَقُهَا لطيفٌ أَغْبَرُ تُشْبِهُ نِبْتَتُهَا نِبْتَةَ القَضْبِ، وهي تُحْمَد في المَرْعَى، ولا تَنْبُت إِلّا في عامٍ خَصِيبٍ.

أَو الشَّقِرُ نَبْتٌ آخرُ، غير الشَّقائِقِ إِلّا أَنّه أَحْمَرُ مثله.

وقال أَبو حَنِيفَة: الشُّقَّارَى بالضّمّ فالتَّشْدِيد: نَبْتٌ، وقيل: نَبْتٌ في الرّمْلِ، ولها رِيحٌ ذَفِرَةٌ وتُوجَدُ في طَعْمِ اللَّبَنِ، قال: وقد قيل: إِنّ الشُّقّارَى هو الشَّقِرُ نَفْسُه، وليس ذلك بقَوِيّ، وقيل: الشُّقَّارَى نَبْتٌ لَهُ نَوْرٌ فيه حُمْرَةٌ ليستْ بناصِعَةٍ، وحَبُّه يقال له: الخِمْخِمُ.

والشُّقّارُ، كرُمّان: سَمَكَةٌ حَمْرَاءُ لَهَا سَنَامٌ طَوِيلٌ.

وفي التهذيب الشَّقِرَةُ، كزَنِخَةٍ السِّنْجَرْفُ، وهو بالفَارِسيّة شنْكرف، وأَنشد:

عليهِ دِمَاءُ البُدْنِ كالشَّقِراتِ

وشَقِرَةُ: لَقَبُ مُعَاويَة بنِ الحَارِثِ بنِ تَمِيمٍ: أَبو قَبِيلَةٍ من ضَبَّة بن أُدّ بن أُدَدَ، لُقِّبَ بذلك لقوله:

وقد أَتْرُكُ الرُّمْحَ الأَصَمَّ كُعُوبُه *** بهِ منْ دِمَاءِ القَوْمِ كالشَّقِرَاتِ

قاله ابن الكَلْبِيّ والنِّسْبَةُ شَقَرِيُّ، بالتَّحْرِيكِ، كما يُنْسَبُ إِلى النَّمِرِ بن قاسِطٍ نَمَرِيّ، ويقال لهذه القَبِيلَة بنو شَقِيرَة أَيضًا، والنِّسبة كالأَوّل، منهم أَبو سَعِيدٍ المُسَيَّبُ بنُ شَرِيكٍ الشَّقَرِيّ، عن الأَعمش وهِشامِ بنُ عُرْوَة، قال أَبو حاتم: ضَعِيفُ الحَدِيثِ.

والشُّقُورُ، بالضَّمِّ: الحاجَةُ يقال: أَخْبَرْتُه بِشُقُورِي، كما يقال أَفْضَيْتُ إِليه بعُجَرِي وبُجَرِي. وقد يُفْتَح، عن الأَصمعِيّ، وأَبِي الجَرّاحِ، وقال أَبو عُبَيْد: الضّمّ أَصَحُّ؛ لأَنّ الشُّقُورَ بالضَّمّ بمعنَى الأُمور اللّاصِقَة بالقَلْبِ المُهِمَّة له، جَمْع شَقْرٍ، بالفتح.

ومن أَمثالِ العَرَبِ في سِرَارِ الرَّجُلِ إِلى أَخيه ما يَسْتُرُه عن غَيْره: «أَفْضَيْتُ إِليه بشُقُورِي» أَي أَخْبَرْتُه بأَمْرِي، وأَطْلَعْتُه على ما أُسِرُّه من غَيْره، وبَثَّهُ شُقُورَه وشَقُورَهُ؛ أَي شَكَا إِليه حالَه، قال شيْخُنَا: وفي لحن العامة للزُّبَيْدِيّ: الشَّقُور: مَذْهَبُ الرجلِ وباطِنُ أَمرِه، فتأَمَّلْ، انتهى.

قلت: لا يُحْتَاج في ذلك إِلى تأَمُّل، فإِنّه عَنَى بما ذُكِرَ سِرَّ الرَّجل الذي يَستُره عن غيره، وأَنشد الجَوْهَرِيّ للعَجّاج:

جارِيَ لا تَسْتَنْكِرِي عَذِيرِي *** سَيْرِي وإِشْفَاقِي على بَعِيرِي

وكَثْرَةَ الحَديثِ عن شَقُورِي *** مع الجَلَا ولائِحِ القَتِير

قال شيخُنَا: وقالوا: أَخْبَرْتُه خُبُورِي وشُقُورِي وبُقُورِي، قال الفَرّاءُ: كلُّه مضمومُ الأَوّل، وقال أَبو الجَرّاح: بالفَتْحِ، قلْت: وكان الأَصْمعِيّ يقوله بفتح الشين. ثم قال: وبخطّ أَبي الهَيْثَمِ شَقُورِي، بفتح الشّينِ والمَعْنَى أَخْبَرْتُه خَبَرِي.

قلت: الذي رَوَى المُنْذِرِيُّ عن أَبي الهَيْثَمِ أَنه أَنشدَه بيتَ العَجّاج، فقال: رُوِيَ شُقُورِي وشَقُورِي، والشُّقُورُ: الأُمورُ المُهِمَّة الواحِدُ شَقْرٌ، وقيل: الشَّقُورُ، بالفَتْح: بَثُّ الرَّجلِ وهَمُّه، وقيل: هو الهمُّ المُسْهِرُ.

والشُّقَرُ، كصُرَدٍ: الدِّيكُ، عن ابن الأَعرابِيّ.

والشُّقَرُ: الكَذِبُ، قال ابنُ دُرَيْدُ: يقال: جاءَ فلانٌ بالشُّقَرِ والبُقَرِ، إِذا جاءَ بالكَذِب، قال الصّاغانِيّ: هكذا قاله ابنُ دُرَيْدٍ، والصّوابُ عندي بالصّاد، وبالسين المهملة.

وشُقْرُونُ، بالضَّمّ: عَلَم جَمَاعَةٍ من المحَدَّثين. وشُقْرَانُ، كعُثْمَانَ: مَوْلًى للنَّبِيِّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم، وهو لقبٌ له، واخْتُلِف في اسمه، فقيل: اسمُه صالِحُ بن عَدِيّ، أَو ابنُه صالح، قال شيخُنَا: وَرِثَهُمَا النّبيُّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم من أَبِيه، كما أَشارَ إِليه مُحَشِّي المَوَاهِبِ أَثناءَ مَبْحَثِ «كَوْنه يَرِثُ أَو لَا يَرِث».

لِمَا وَقَعَ فيه الخِلافُ بين الكُوفِيِّين وبقيّةِ المُجْتَهِدِين، بخِلافِ «كَوْنه لا يُورَثُ» فهو مُجْمَعٌ عليه بين الأَئِمَّة، خلافًا للرّافِضَةِ وبعضِ الشِّيعَةِ.

قلْت: وكان حَبَشِيًّا، وقيل: فارِسِيًّا، أَهداهُ له عبدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ، وقيل: بل اشتراه منه وأَعْتَقَه، روى عنه عبدُ الله بنُ أَبي رافِعٍ، ويَحْيَى بنُ عُمَارَةَ المازِنِيّ.

وقال ابنُ الأَعرابيّ: شُقْرَانُ السُّلَامِيّ: رَجُلٌ من قُضَاعَةَ.

والشِّقْرَى، كذِكْرَى: تَمْرٌ جَيِّدٌ، وهو المعروف بالمُشَقَّرِ، كمُعَظَّمٍ، عِنْدَنَا بزَبِيد، حَرَسَها الله تعالى.

والشِّقْرَى: موضع بِدِيارِ خُزَاعَةَ، ذكره الصاغانيّ.

والمُشَقَّرُ، كمُعَظَّمٍ: حِصْنٌ بالبَحْرَيْنِ قَدِيمٌ، يقال: وَرِثَهُ امرُؤُ القَيْسِ، قال لَبِيد:

وأَفْنَى بَنَاتُ الدَّهْرِ أَرْبَابَ ناعِطٍ *** بمُسْتَمَعٍ دُونَ السَّمَاءِ ومَنْظَرِ

وأَنْزَلْنَ بالدُّومِيِّ مِنْ رَأْسِ حِصْنِه *** وأَنْزَلْنَ بالأَسْبَابِ رَبَّ المُشَقَّرِ

أَرادَ بالدُّومِيّ أُكَيْدِرًا صاحبَ دُومَةِ الجَنْدَل، وقال المُخَبَّلُ:

فَلِئنْ بَنَيْتَ ليَ المُشَقَّرَ في *** صَعْبٍ تُقَصِّرُ دُونَهُ العُصْمُ

لتُنَقِّبَنْ عَنِّي المَنِيَّةُ إِنّ *** الله ليسَ كعِلْمِه عِلْمُ

أَرادَ: فَلَئِنْ بَنَيْتَ لي حِصْنًا مِثْلَ المُشَقَّرِ.

والمُشَقَّر: قِرْبَةٌ مِنْ أَدَمٍ.

والمُشَقَّرُ: القَدَحُ العَظِيمُ.

وشَقُورُ، كصَبُور: د، بالأَنْدَلُسِ شَرقيَّ مُرْسِيَة، وهو شَقُورَةُ.

وشَقْرٌ، بالفَتْح: جَزِيرَةٌ بها، شَرْقِيَّهَا.

وشُقْرٌ، بالضَّمّ: ماءٌ بالرَّبَذَةِ عند جبل سَنَام.

وشُقْرٌ: بلد للزَّنْجِ، يُجْلَبُ منه جِنْسٌ منهم مرغُوبٌ فيه، وهم الذين بأَسْفَلِ حواجِبِهِم شَرْطتانِ أَو ثلاثٌ.

وشَقْرَةُ، بالفَتْح، ابنُ نَبْتِ بن أُدَدَ، قاله ابنُ حبيب.

وشَقْرَةُ بنُ رَبِيعَةَ بنِ كَعْب بنِ سَعْدِ بن ضبَّةَ بنِ أُدّ، قاله الرُّشَاطِيّ.

وشُقْرَةُ، بالضَّمّ، ابنُ نِكْرَةَ بنِ لُكَيْز بن أَفْضَى بن عبْدَ القَيْسِ.

وشُقُرٌ، بضَمَّتَيْنِ: مَرْسىً ببَحْرِ اليَمَنِ بَيْنَ أَحْوَرَ وأَبْيَنَ، وضَبَطَه الصّاغانِيّ هكذا: شُقُرَة والمَشَاقِرُ في قَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ الشاعر:

كأَنّ عُرَا المَرْجانِ مِنْهَا تَعَلَّقَتْ *** عَلَى أُمِّ خَشْفٍ من ظِبَاءِ المَشَاقِرِ

: موضع خاصّةً، وقيل: جمْع مَشْقَرِ الرَّمْلِ، وقيل: واحدُهَا مُشَقَّر، كمُذَمَّرٍ.

وقال بعضُ العَرَبِ لراكِبٍ ورَدَ عليه: من أَيْنَ وَضَحَ الرّاكِبُ؟ قال: من الحِمَى، قال: وأَيْنَ كانَ مَبِيتُك؟ قال: بإِحدَى هذِه المَشَاقِر. والمَشَاقِرُ من الرَّمْلِ: المُتَصَوِّبُ في الأَرضِ المُنْقَادُ المطمئِنُّ، أَو المَشَاقِرُ: أَجْلَدُ الرَّمْلِ، والصوابُ أَنّ أَجْلَدَ الرِّمالِ ما انْقَادَ وتَصَوَّبَ في الأَرضِ، فهما قَوْلٌ واحِد، كما صَرَّح به غيرُ واحِدٍ من الأَئِمَّة، والمصنّفُ جاءَ بأَو الدالّةِ على تَنْوِيعِ الخِلَاف، فتأَمَّلْ.

والمَشَاقِرُ: مَنَابِتُ العَرْفَجِ، واحِدَتُهَا مَشْقَرَةٌ.

والشَّقِيرُ، كأَمِيرٍ: أَرْضٌ، قال الأَخْطَلُ.

وأَقْفَرَتِ الفَرَاشَةُ والحُبَيَّا *** وأَقْفَرَ بعدَ فاطِمَةَ الشَّقِيرُ

والشُّقَيْرُ، ككُمَيْتٍ: ضَرْبٌ مِنَ الحِرْبَاءِ أَو الجَنَادِبِ، وهي الصَّراصِيرُ. والشُّقَّارَى: الكَذِبُ، لم يَضْبُطُه، فأَوْهَم أَن يكونَ بالفَتْحِ وليس كذلك، والصَّوابُ في ضَبْطِه بضَمِّ الشين، وتَشْدِيدُ القَافِ وتخفِيفُها لغتانِ، يقال: جاءَ بالشُّقّارَى والبُقّارَى والشُّقَارَى والبُقَارَى، مُثَقّلًا ومخَفّفًا؛ أَي بالكَذِب.

والأَشَاقِرُ: حَيٌّ باليَمَنِ من الأَزْدِ، والنِّسْبَة إِليهم أَشْقَرِيٌّ.

وبنُو الأَشْقَرِ: حَيُّ أَيضًا، يقال لأُمِّهِم: الشُّقَيْرَاءُ، وقيل: أَبوهم الأَشْقَر سَعْدُ بنُ مالِكِ بنِ عَمْرِو بنِ مالِكِ بن فَهْم، منهم كَعْبُ بنُ مَعْدَانَ الأَشْقَرِيّ، نَزَلَ مَرْوَ، رَوَى عن نافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ مناولَةً، ذَكَرَه الأَميرُ.

والأَشَاقِرُ: جِبَالٌ بينَ الحَرَمَيْنِ شَرَفُهَما الله تَعَالَى.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

الشَّقِرَانُ ـ بفتحٍ فكسر ـ: ـ دَاءٌ يَأْخُذُ الزَّرْعَ، وهو مِثْلُ الوَرْسِ يعلو الأَذَنَةَ، ثم يُصَعِّدُ في الحَبِّ والثَّمَرِ.

والشَّقْرَاءُ: قَرْيَةٌ لِعُكْلٍ، بها نَخْلٌ، حكاه أَبو رِيَاشٍ، في تفسير أَشْعَارِ الحَمَاسَة، وأَنشد لزِيَادِ بن جميل:

مَتَى أَمُرّ على الشَّقْرَاءِ مُعْتَسِفًا *** خَلَّ النَّقَى بِمَرُوحٍ لَحْمُهَا زِيَمُ

وأَشْقَرُ، وشُقَيْرٌ: اسمانِ.

وجَزِيرَةُ شُقْرٍ، بالضّمّ: قريةٌ من أَعمالِ مِصْر.

وأَبو بكرٍ أَحمَدُ بنُ الحَسَنِ بنِ العَبّاسِ بنِ الفَرَجِ بنِ شُقَيْرٍ النَّحْوِيّ، بَغْدَادِيٌّ، رَوَى عنه أَبو بَكْرِ بنُ شَاذَانَ، توفِّي سنة 317.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


184-تاج العروس (غرز)

[غرز]: غرَزَه بالإِبْرَةِ يَغْرِزُه، من حَدِّ ضَرَبَ: نَخَسَه.

ومن المَجَاز: غَرَزَ رِجْلَه في الغَرْز يَغْرِزُهَا غَرْزًا ـ وهو؛ أَي الغَرْزُ، بالفَتْح: رِكَابٌ الرَّحْلِ من جِلْدٍ مَخْزُوزٍ، فإِذا كان من حَدِيدٍ أَو خَشَب فهُو رِكَابٌ ـ: وَضَعَهَا فيه لِيَرْكَبَ، وأَثْبَتهَا، وكذا إِذا غَرَزَ رِجْلَه في الرِّكابِ، كاغْتَرَزَ. وقال ابنُ الأَعْرَابيِّ: الغَرْزُ للنّاقَةِ مثلُ الحِزَامِ للفَرَسِ، وقال غيرُه: الغَرْزُ للجَمَلِ مثلُ الرِّكَابِ للبَغْلِ. وقال لَبِيدٌ في غَرْزِ النَّاقةِ:

وإِذا حَرَّكْتُ غَرْزِي أَجْمَزَتْ *** أَو قِرَابِي عَدْوَ جَوْنٍ قد أَتلْ

وفي الحَدِيث: «كان إِذا وَضَعَ رِجْلَه في الغرْزِ ـ يرِيد السَّفرَ ـ يقولُ: باسمِ الله». وفي الحديث: «أَنّ رَجلًا سأَلَه عن أَفْضَلِ الجِهَادِ، فسكتَ عنه، حتّى اغْتَرَزَ في الجَمْرَةِ الثّالثةِ»؛ أَي دَخلَ فيهَا، كما يَدْخُلُ قَدَمُ الرّاكبِ في الغَرْز.

وغَرِزَ الرَّجلُ، كسَمِعَ: أَطاعَ السُّلْطَانَ بعد عِصْيَانٍ، نقلَه الصّاغَانِيُّ؛ وكأَنَّه أَمْسَكَ بغَرْزِ السُّلْطَان، وسارَ بسيْرِه، وهو مَجَازٌ.

وغَرَزَتِ النَّاقَةُ تَغْرُزُ غَرْزًا، بالفَتْح، وغِرَازًا، بالكَسْر: قلَّ لَبَنُهَا، وهي غَارِزٌ، من إِبِل غُرَّزٍ، وكَذلِك الأَتَانُ إِذا قَلَّ لَبَنَهَا، يقَال: غَرَزَتْ. وقال الأَصْمَعِيُّ: الغَارِزُ: النّاقَةُ التي قد جَذَبَتْ لَبَنهَا فَرَفَعَتْه. وقال القُطَامِيُّ:

كأَنَّ نُسُوعَ رَحْلِي حينَ ضَمَّتْ *** حَوَالِبَ غُرَّزًا ومِعًا جِيَاعَا

نَسَبَ ذلك إِلى الحَوَالِبِ، لأَنّ اللَّبَنَ إِنّمَا يكُونُ في العُرُوق.

والغُرُوزُ، بالضّمّ: الأَغصانُ تُغْرَز في قُضْبَان الكَرْمِ للوَصْلِ، جَمْعُ غَرْزٍ، بالفَتْح.

ويقال: جَرَادةٌ غارِزٌ، ويقال: غارِزَةٌ، ويقال: مُغَرِّزَةٌ: قد رَزَّتْ ذَنَبَها في الأَرض ـ أَي أَثْبَتَتْه ـ لِتَسْرَأَ؛ أَي لتَبِيضَ، وقد غَرَّزَتْ وغَرَزَتْ.

ومن المَجَاز: هو غارِزٌ رَأْسَه في سِنَتِه، بكسْرِ السِّين، قال الصّاغَانِيُّ: عِبارَةٌ عن الجَهْل والذَّهَابِ عَمَّا عليه وله من التَّحَفُّظ؛ أَي جاهِلٌ، قال ابنُ زَيّابَةَ واسْمُه سَلَمَةُ بنُ ذُهْلٍ التَّيْمِيُّ:

نُبِّئْتُ عَمْرًا غارِزًا رَأْسَه *** في سِنَةٍ يُوعِدُ أَخْوَالَهُ

ولم يَعُدَّه الزَّمَخْشَرِيُّ مَجَازًا في الأَساس، وهو غَرِيبٌ.

والغَرَزُ، محرَّكةً: ضَرْبٌ من الثُّمَام صغيرٌ يَنْبُتُ على شُطُوطِ الأَنْهَارِ لا وَرَقَ لها؛ إِنَّمَا هي أَنابِيبُ مُرَكَّبٌ بعضُها في بَعض، وهو من الحَمْضِ، وقيل: الأَسَلُ، وبه سُمِّيَتِ الرِّمَاحُ، على التَّشْبِيه. وقال الأَصْمَعِيُّ: الغَرَزُ: نَبْتٌ رأَيتُه في البادِيَةِ، يَنْبُتُ في سُهُولَةِ الأَرْض. أَو نَباتُه كنَبَاتِ الإِذْخِرِ، من شَرِّ ـ وقال أَبو حنيفة: من وَخِيمِ ـ المَرْعَى؛ وذلِك أَنّ الناقَةَ التي تَرْعَاه تُنْحَرُ، فيُوجَدُ الغَرَزُ في كَرِشِهَا مُتَمَيِّزًا عن الماءِ، لا يَتَفَشَّى، ولا يُورِثُ المالَ قُوَّةً، وَاحِدَتُه غَرَزَةٌ، وهو غيرُ العَرَزِ الذي تقدَّم ذِكْرُه في العَيْن المهملَة، وجَعَلَه المُصَنِّفُ تَصْحِيفًا، وغَلَّطَ الأَئِمَّةَ المصنِّفِين هناك تَبَعًا للصّاغانيِّ، مع أَن الصّاغَانيَّ ذَكرَه هنا ثانِيًا من غَيْر تَنْبِيهٍ عليه. قلتُ: وبه فُسِّرَ‌ حديثُ عُمَرَ رضيَ الله عنه أَنه رَأَى‌ في رَوْثِ فَرَسٍ شَعِيرًا في عام مَجَاعةٍ فقال: لَئِنْ عِشْتُ لاجْعَلنَّ له مِن غَرَزِ النَّقِيعِ ما يُغْنِيه عن قُوتِ المسلمين».

والنَّقِيعُ: مَوضعٌ حَمَاه لِنَعَمِ الفَيْ‌ءِ والخَيْلِ المُعَدَّةِ للسَّبِيل.

ووَادٍ مُغْرِزٌ، كمُحْسِنٍ: به الغَرَزُ. وقد أَغْرَزَ الوَادِي، إِذا أَنْبَتَه.

والتَّغَارِيزُ: ما حُوِّلَ من فَسِيلِ النَّخْلِ وغيرِه، والواحِدُ تَغْرِيزٌ، قالَه القُتَيْبِيُّ، وقال: سُمِّيَ بذلك لأَنّه يُحوَّلُ من مَوْضعٍ إِلى مَوضعٍ فيُغْرَزُ، ومثله في التَّقْدِير التَّنَاوِيرُ، لِنَوْرِ الشَّجَرِ، وبه فُسِّرَ‌ الحديثُ: «أَنَّ أَهلَ التَّوحِيدِ إِذا خَرَجُوا من النّار وقد امْتُحِشُوا يَنْبُتُون كما تَنْبُتُ التَّغَارِيزُ»، ورواه بعضُهم بالثّاءِ المُثَلَّثَةِ والعَيْنِ المُهْمَلَةِ والرّاءَيْن، وقد ذُكِرَ في مَوْضِعِه.

والغَرِيزَةُ، كسَفِينَةٍ: الطَّبِيعَةُ.

والقَرِيحَةُ والسَّجِيَّةُ، من خيرٍ أَو شَرٍّ. وقال اللَّحْيَانِيُّ: هي الأَصْلُ، والطَّبِيعَةُ، قال الشاعر:

إِنّ الشَّجَاعَةَ في الفَتَى *** والجُودَ مِنْ كَرَمِ الغَرَائِزْ

وفي حديث عُمَرَ رضِيَ الله عنه: «الجُبْنُ والجُرْأَةُ غَرَائِزُ»؛ أَي أَخْلاقٌ وطبائعُ صالحةٌ أَو ردِيئَةٌ.

وغَرْزَةُ، بالفَتْح: موضع، بين مكّةَ والطّائفِ، وقال الصّاغَانِيّ ببلادِ هُذَيْل.

وغُرَيْزٌ كزُبَيْرٍ: ماءٌ بضَرِيَّةَ في مُمْتَنِعٍ من العَلَمِ يَسْتَعْذِبُهَا الناسُ، أَو هو ببِلادِ أَبي بَكْرِ بنِ كِلَابٍ.

وغَرَازِ كقَطَامِ وسَحَابٍ. ع.

وغَرَّزَتِ الناقةُ تَغْرِيزًا: تُرِكَ حَلْبُهَا، أَو كُسِعَ ضَرْعُهَا بماءٍ بارِدٍ؛ ليَنْقَطِعَ لبنُهَا ويَذهَبَ، أَو تُرِكَتْ حَلْبَةً بين حَلْبَتَيْن؛ وذلِك إِذا أَدْبَرَ لبنُ الناقَةِ. وقال أَبو حَنِيفَةَ: التَّغْرِيزُ: أَن يُنْضَحَ ضَرْعُ النّاقَةِ بالمَاءِ، ثمّ يُلَوِّثَ الرَّجُلُ يدَه بالتُّرَاب، ثمّ يَكْسَعَ الضَّرْعَ كَسْعًا، حتى يَدْفَعَ اللَّبَنَ إِلى فَوْق، ثمّ يَأْخذ بذَنَبِهَا فيجتذبَها به اجتذابًا شديدًا، ثم يَكْسَعَها به كَسْعًا شديدًا، وتُخَلَّى؛ فإِنّها تَذْهَبُ حينئذٍ على وَجْهِها ساعةً. وفي حديث عَطاءٍ: وسُئِلَ عن تَغْرِيزِ الإِبلِ فقال: «إِنْ كَان مُبَاهَاةً فلا، وإِنْ كَان يُرِيدُ أَنْ تَصْلُحَ للبَيْع فنَعَمْ» قال ابنُ الأَثِير: ويجوزُ أَن يكونَ تَغْرِيزُهَا نِتَاجَهَا وسِمَنَهَا؛ مِنْ غَرْزِ الشَّجَرِ، قال: والأَوَّلُ الوَجْهُ.

ومن المَجَاز: اغْتَرَزَ السَّيْرَ اغترازًا؛ إِذا دَنَا مَسِيرُه، وأَصْلُه مِن الغَرْز.

ومن المَجاز: الْزَمْ غَرْزَ فُلانٍ؛ أَي أَمْرَه ونَهْيَه.

وكذا قولُهُمْ: اشْدُدْ يَدَيْكَ بغَرْزِه؛ أَي حُثَّ نفْسَك على التَّمَسُّكِ به، ومنه‌ حديثُ أَبي بكر: «أَنه قَال لعُمَرَ رضيَ الله عنهما: اسْتَمْسِكْ بغَرْزِه»؛ أَي اعْتَلِقْ به وأَمْسِكْه واتَّبعْ قَولَه وفِعْلَه، ولا تُخَالِفْه؛ فاستعارَ له الغَرْزَ، كالذي يُمْسِكُ برِكَابِ الرّاكِبِ، ويَسِيرُ بِسَيْرِه.

* وممّا يُسْتَدْرَك عليه:

غَرَزَ الإِبْرَةَ في الشَّيْ‌ءِ، وغَرَّزَهَا: أَدخَلَها. وكُلُّ مَا سُمِّرَ في شي‌ءٍ فقد غُرِزَ وغُرِّزَ. وفي حديث الحَسَن: «وقد غَرَزَ ضَفْرَ رَأَسِه»؛ أَي لَوَى شَعرَه وأَدخَلَ أَطْرافَه في أُصُولِه.

وفي حديث الشَّعْبِيِّ: «ما طَلَعَ السِّمَاكُ قَطُّ إِلاّ غَارِزًا ذَنَبَه في بَرْدٍ»، أَرادَ السِّمَاكَ الأَعْزَلَ، وهو الكَوكبُ المَعْرُوفُ في بُرْجِ المِيزَانِ، وطُلُوعُه يكونُ مع الصُّبْحِ لِخَمْسٍ تَخْلُو مِن تشْرِينَ الأَوَّلِ، وحينئذٍ يبتدئُ البَرْدُ.

والمَغْرَزُ، كمَقْعَدٍ: مَوضعُ بَيْضِ الجَرَادِ.

وغَرَزْتُ عُودًا في الأَرْض ورَكَزْتُه، بمعنًى وَاحدٍ.

ومَغْرِزُ الضِّلَعِ والضَّرْعِ والرِّيشَةِ ونحوِهَا، كمَجْلِسٍ: أَصلُهَا، وهي المَغَارِزُ.

ومَنْكِبٌ مُغَرَّزٌ، كمُعَظَّمٍ: مُلْزَقٌ بالكَاهِلِ.

وقال أَبو زَيْد: غَنَمٌ غَوَارِزُ، وعُيُونٌ غَوَارِزُ: ما تَجْرِي لهنّ دُمُوعٌ، والأَخِيرُ مَجَازٌ.

وغَرَزَتِ الغَنَمُ غَرَزًا وغَرَّزَها صاحِبُها، إِذا قَطَعَ حَلْبَها، وأَرادَ أَن تَسْمَنَ.

والغَارِزُ: الضَّرْعُ القَلِيلُ اللَّبَنِ.

ومِن الرِّجَال: القَلِيلُ النِّكَاحِ، وهو مَجازٌ، والجمعُ غُرَّزٌ.

ويقال: اطْلُبِ الخَيرَ في مَغَارِسِه ومَغَارِزِه، وهو مَجازٌ.

وقَيْسُ بنُ غَرَزَةَ بنِ عُمَيْرِ بنِ وَهْبٍ الغِفَارِيُّ، محرّكةً: صَحابيٌّ كُوفِيٌّ، رَوَى عنه أَبو وَائِلٍ حديثًا صَحِيحًا، ومِن وَلَدِه: أَحمدُ بنُ حازِمِ بنِ أَبِي غَرَزَةَ صاحِبُ المُسْنَد.

وابنُ غُرَيْزَةَ ـ مُصَغَّرًا ـ هو كَبِير بنُ عبدِ الله بنِ مالِكِ بنِ هُبَيْرَةَ الدّارِمِيُّ: شاعِرٌ مُخَضْرَمٌ، وغُرَيْزَةُ أُمُّه، وقيل: جَدَّتُه.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


185-تاج العروس (حبس)

[حبس]: الحَبْسُ: المَنْعُ والإِمْساكُ، وهو ضِدُّ التَّخْلِيَة، كالمَحْبَسِ، كمقْعَد، قاله بعضُهم، ونَظِيره قولُه تَعَالَى: {إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ} أَي رُجُوعُكُم وَ {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} قال ابنُ سِيدَه: وليسَ هذا بمُطّردٍ، إِنّمَا يُقْتَصَر منه على ما سُمِعَ، قال سِيبَويْهِ: المَحْبِسُ على قِيَاسِهِم: المَوْضِعُ الذِي يُحْبَسُ فيه، والمَحْبَسُ المَصْدرُ، وقالَ اللّيْثُ: المَحْبِسُ يَكُونُ سِجْنًا، ويَكُونُ فِعْلًا، كالحَبْسِ، حَبَسَهُ يَحْبِسُه، من حَدّ ضَرَبَ، حَبْسًا، فهو مَحْبُوسٌ وَحبِيسٌ.

والحَبْسُ: الشَّجاعَةُ، عن ابنِ الأَعْرَابِيِّ.

والحَبْسُ: موضع أَو جَبَلٌ في دِيَارِ بَنِي أَسَد، ويُكْسَرُ، وبهما رُوِيَ بيتُ الحارِث بنِ حِلِّزَةَ اليَشْكُرِيِّ:

لِمَن الدِّيَارُ عَفَوْنَ بالحَبْسِ *** آيَاتُهَا كمَهَارِقِ الفُرْسِ

نَقَلَهُمَا الصَّاغَانِيُّ، ورُوِيَ بالضَّمِّ أَيْضًا، فهو إِذًا مُثَلَّثٌ. والحَبْسُ: الجَبَلُ الأَسْوَدُ العَظِيمُ، عن أَبِي عَمْرو، وأَنْشَدَ:

كأَنَّهُ حَبْسٌ بلَيْلٍ مُظْلِمُ *** جَلَّلَ عِطْفَيْهِ سَحابٌ مُرْهِمُ

وقال ثَعْلبٌ: يكونُ الجَبَلُ خَوْعًا؛ أَي أَبيَضَ ويكونُ فيه بُقْعَةٌ سَوْدَاءُ، ويكونُ الجَبَلُ حَبْسًا؛ أَي أَسْوَدَ تكونُ فيه بُقْعَةٌ بَيْضاءُ.

والحِبْسُ بالكَسْرِ: خَشَبةٌ أَو حِجَارَةٌ تُبْنَى في مَجْرَى الماءِ لِتَحْبِسه كي يَشْرَبَ القَوْمُ ويَسْقُوا أَموالهُم. ويُفْتَحُ، حكاهُ العامِرِيُّ، والجَمْعُ أَحْبَاسٌ، وقِيل: ما سُدَّ بِهِ مَجْرَى الوَادِي في أَيِّ مَوْضِعٍ: حبْسٌ، وقال ابنُ الأعرابي: هي حِجَارَةٌ تُوضَعُ في فُوَّهَةِ النَّهْرِ تَمنَعُ طُغْيَانَ المَاءِ.

وقالَ أَبو عَمْرو: الحِبْس كالمَصْنَعَةِ تُجْعَلُ للماءِ، والجَمْعُ أَحْبَاسٌ.

والحِبْسُ: نِطَاقُ الهَوْدَج.

والحِبْسُ: المِقْرَمةُ، وهي: ثَوْبٌ يُطْرَحُ على ظَهْرِ الفِرَاشِ للنَّوْمِ عَليْهِ.

وقال ابنُ عَبّاد: الحِبْسُ: الماءُ المَجْمُوعُ الذِي لا مَادَّةَ لَهُ، سُمِّيَ باسْمِ ما يُسَدُّ بهِ، كما يُقَالُ له: نِهْيٌ أَيضًا، قال أَبو زُرْعَة التَّمِيْمِيُّ:

من كَعْثَبٍ مُسْتَوْفِزِ المَجَسِّ *** رابٍ مُنِيفٍ مثْلِ عَرْضِ التُّرْسِ

فشِمْتُ فيها كعَمُودِ الحِبْس *** أَمْعَسُهَا يا صاحِ أَيَّ مَعْسِ

حَتّى شفَيْتُ نَفْسها من نَفْسِي *** تِلْك سُليْمَى فاعْلَمَنَّ عِرْسي

والحِبْسُ: سِوارٌ من فِضَّةٍ يُجْعلُ في وَسَطِ القِرَامِ، وهو سِتْرٌ يُجْمَع بهِ ليُضِي‌ءَ البَيْتُ.

وفي حَدِيثِ الفَتْحِ: أَنَّه بَعَثَ أَبا عُبَيْدَةَ على الحُبُسِ، ضبَطَه الزَّمخْشرِيُّ بضمَّتَيْنِ وقال: همُ الرَّجّالَةُ. قال‌ القُتَيْبِيُّ: ورواه بضمٍّ فسُكُون، سُمُّوا بذلك لتحَبُّسِهِمْ عنِ الرُّكْبانِ وتَأَخُّرِهِمْ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لحَبْسِهِم الخَيّالَةَ ببُطْءِ مَشْيِهِم، كأَنّه جمعُ حَبُوس، أَو لأَنَّهم يَتَخَلَّفُونَ عنهُم، ويحْتَبسُون عن بُلُوغِهِم، كأَنّه جَمْعُ حَبِيسٍ، وقال القُتيْبِيُّ: وأَحْسبُ الوَاحِدَ حَبِيسًا، فَعِيلٌ بمعنَى مفْعُول، ويجوز أَنْ يَكُون حابِسًا، كأَنَّهُ يَحْبِسُ مَن يَسِيرُ من الرُّكْبانِ بمَسِيرِه، كالحُبَّسِ، كرُكَّع. قال ابنُ الأَثِيرِ: وأَكْثرُ مَا يُرْوى هكذا، فإِن صَحَّتِ الرِّوَايَةُ فلا يَكُونُ واحِدُهَا إِلاّ حَابِسًا، كشاهِدٍ وشُهَّدٍ، قال: وأَمّا حَبِيسٌ فلا يُعْرَفُ في جَمْعِ فَعِيل فُعَّلٌ، وإِنّمَا يُعْرَفُ فيه فُعُلٌ كنَذِيرٍ ونُذُرٍ.

ومن المَجَازِ: الحُبُسُ: كُلُّ شَيْ‌ءٍ وَقَفَه صاحبُه وَقْفًا مُحَرَّمًا لا يُبَاع ولا يُورَثُ من نَخْلٍ أَو كَرْمٍ أَو غَيْرها، كأَرْضٍ أَو مُسْتَغَلٍّ يُحَبَّسُ أَصلُه وتُسَبَّلُ غَلَّتُه هكذا في سائر الأُصول، وفي بعض الأُمَّهاتِ: ثَمَرَتُه؛ أَي تَقَرُّبًا إِلى الله تعالَى، كما‌ قالَ النَّبِيُّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم لعُمَرَ في نَخْلٍ له أَرادَ أَن يَتَقَرَّبَ بصَدَقَته إِلى الله عَزَّ وجَلَّ، فقالَ لَهُ: «حَبِّس الأَصْلَ وسَبِّل الثَّمَرَةَ.

أَي اجْعَلْهُ وَقْفًا حُبُسًا.

وما‌ رُوِيَ عن شُرَيْحٍ أَنّه قالَ: «جَاءَ مُحَمّدٌ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم بإِطْلاق الحُبُس» إِنّمَا أَرادَ بهَا ما كانَ من أَهْل الجَاهليَّة يَحْبِسُونَه من السَّوَائب، والبَحَائِر، والحَوَامِي، وغيرهَا، والمَعنَى: أَنَّ الشَّريعَةَ أَطْلَقَتْ ما حَبَسُوا وحَلَّلَتْ ما حَرَّمُوا، وهو جَمْعُ حَبِيسٍ، وقد رَواهُ الهَرَويُّ في الغَريبَيْن بإِسْكَان الباءِ، قال ابنُ الأَثير: فإِنْ صَحَّ فيكونُ قد خَفَّفَ الضَّمَّةَ، كما قَالُوا، في جَمْعَ رَغيفٍ: رُغْفٌ، بالسُكُون، والأَصْلُ الضّمُ.

والحُبْسَةُ، بالضّمِّ: الاسْمُ من الاحْتبَاس، يقال: الصَّمْتُ حُبْسَةٌ، وهو تَعَذُّرُ الكَلَامِ وتَوَقُّفُه عند إِرادَتهِ، قالَهُ المُبَرِّدُ في «بابِ عِلَلِ اللِّسَانِ» قال: والعُقْلَةُ: الْتِوَاءُ اللِّسَانِ عندَ إِرادَةِ الكَلَامِ، قال الزَّمَخْشَرِيُّ: الحُبْسَةُ: ثِقْلٌ يَمْنَعُ من البَيَانِ، فإِن كانَ الثِّقَلُ من العُجْمَةِ فهي حُكْلَةٌ.

ومن المَجَازِ: الحَبِيسُ من الخَيْلِ، كأَمِيرٍ: الموْقُوفُ في سَبِيل الله على الغُزاةِ يَرْكَبُونَه في الجِهَادِ، كالمَحْبُوسِ والمُحْبَسِ كمُكْرَمٍ، قالَهُ اللّيْثُ، وكلُّ ما حُبِسَ بوَجْهٍ من الوُجُوهِ، حَبِيسٌ، وقَدْ حَبَسَه حَبْسًا وأَحْبَسَه إِحْباسًا، وحَبَّسَه تَحْبيسًا، قالَ ابنُ دُرَيْدٍ: وهذا أَحَدُ ما جَاءَ عَلَى فَعِيلٍ من أَفْعَلَ، قال شيخُنَا: وقال قَومٌ: الفَصِيحُ: أَحْبَسَه وحَبَّسَه تَحْبِيسًا. وحَبَسَه، مُخَفَّفًا، لُغَةٌ رَدِيئَةٌ، وبالعَكْسِ وَقَفَه وأَوْقَفَه؛ فإِنَّ الأَفْصَحَ وَقَفَه مُخَفّفًا، ووَقَّفَ مُشَدّدًا مُنْكَرَةٌ قَلِيلَةٌ. قلتُ: وفي شَرْح الفَصِيح لابْنِ دَرَسْتَوَيْهِ: أَمّا قَوْلُه: أَحْبَسْتُ فَرسًا في سَبِيلِ الله، بمعْنَى جَعَلْتُه مَحْبُوسًا، فدَخَلَتِ الأَلِفُ لِهذَا المَعْنَى؛ لأَنَّه من مَوَاضِعِها، ولا يَمْتَنِعُ أَن يُقَالَ: حَبَسْتُ فَرَسِي في سَبِيلِ الله، كما تَقُولُه العَامَّةُ؛ لأَنّه إِذا أُحْبِسَ فقد حُبِسَ، ولكن قد اسْتُعْمِلَ هذا في الوَقْفِ من الخَيْلِ وسائِرِ الأَمْوَالِ التي مُنِعَتْ من البَيْعِ والْهِبَةِ، للفَرْقِ بينَ المَوْقُوفِ المَمْنُوعِ، وبَيْنَ المُطْلَقِ غير الممنوع.

والحَبِيس: قَد يَكُونُ فَعِيلًا في مَوْضِعِ مَفْعُولٍ، مثْل قتِيلٍ وجَرِيحٍ، وقد يَقَعُ في مَوْضِع المُفْعَل؛ لأَنَّهُمَا جَمِيعًا في المَعْنَى مَفْعُولان، وإِنْ كانَ لفْظُ أَحَدِهِمَا مُفْعَلا، فلذلك قِيلِ: حَبَسْتُ فَرَسي فهو حَبِيسٌ.

والحَبِيسُ؛ موضع، بالرَّقَّةِ فيه قُبُورُ جماعَةٍ شَهِدُوا صِفِّينَ مع عليٍّ رَضِيَ الله عَنْه.

وذَاتُ حَبِيسٍ: موضع، بمَكَّةَ شَرَّفها الله تَعَالَى، جاءَ ذِكْرُه في الحَدِيثِ وهُنَاكَ الجَبَلُ الأَسْوَدُ المُلَقَّبُ بالظُّلَمِ كصُرَدٍ.

وحَبَسْتُ الفِرَاشَ بالمِحْبَسِ، بالكسرِ: اسمٌ للمِقْرَمَةِ وهي، السِّتْرُ؛ أَي سَتَرْته، كحَبَّسْتُه تَحْبِيسًا.

والحابِسَةُ، والحَابِسُ: الإِبِلُ كانَتْ تُحْبَسُ عندَ البُيُوتِ لكَرَمِهَا، وهي الحَبَائِسُ أَيْضًا، وفي حَدِيث الحَجّاجِ: «أَنَّ الإِبِلَ ضُمُرٌ حُبُسٌ ما جُشِّمَتْ جَشِمَتْ» قال ابنُ الأَثِيرِ: هكَذا رَواهُ الزمَخشَرِيُّ، وقال: الحُبُسُ: جمْع حابِسٍ، من حَبَسَه، إِذا أَخَّرَه؛ أَي أَنَّهَا صَوَابِرُ على العَطَشِ تُؤَخِّرُ الشرْبَ، والرِّوَايَةُ بالخَاءِ والنُّونِ.

وحُبْسَانُ، بالضّمّ: ماءٌ قُرْبَ الكُوفَةِ غَرْبِيَّ طَرِيقِ الحَاجِّ منهَا.

وتَحْبِيسُ الشَّيْ‌ءِ: أَن يَبْقَى أَصْلُه، ومَعْنَاه: أَن لا يُورَثَ ولا يُبَاع ولا يُوهَبَ، ولكن يُتْرَكُ أَصْلُه ويُجْعَلُ ثَمَرُه في سَبِيلٍ الله، هكذا فُسِّر به حَدِيثُ عُمَرَ السَابِقُ.

واحْتَبَسَه: حَبَسَه، فاحْتَبَسَ، لازِمٌ مُتَعَدٍّ.

وتَحَبَّسَ علَى كَذا؛ أَي حَبَسَ نَفْسَه عليهِ.

وحابَسَ صاحِبَهُ، قال العَجّاجُ:

إِذا الوَلُوعُ بالوَلُوعِ لَبَّسَا *** حَتْفَ الحِمَامِ والنُّحُوسَ النُّحَّسَا

وحابَسَ النّاسُ الأُمورَ الحُبَّسَا *** وجَدْتَنَا أَعَزَّ مَنْ تَنَفَّسَا

وفُنُونُ بِنْتُ أَبِي غالِبِ بنِ مَسْعُودِ بنِ الحَبُوسِ، كصَبُورٍ، الحَرْبِيَّةُ: مُحَدِّثَةٌ، رَوَتْ عن عُبَيْدِ الله بنِ أَحْمَدَ بنِ يُوسُفَ.

* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:

حَبَسَه: ضَبَطه، قاله سِيبَوَيْهِ.

واحْتَبَسَهُ: اتَّخَذَه حَبِيسًا، وقِيل: احْتِبَاسُك إِيّاه: اخْتِصَاصُكَ بهِ نَفْسَكَ، تقولُ: احْتَبَسْتُ الشّيْ‌ءَ، إِذا اخْتصَصْتَه لنَفْسِكَ خاصَّةً.

وإِبِلٌ مُحْبَسَةٌ: داجِنَةٌ، كأَنَّهَا قد حُبِسَتْ عن الرَّعْيِ، «ولا يُحْبَسُ دَرُّكُم» أَي لا تُحْبسُ ذوَاتُ الدَّرِّ. وفي حَدِيثِ الحُدَيْبِيَةِ: «حَبَسَها حابِسُ الفِيلِ» أَي فِيل أَي فِيل أَبْرَهَةَ الحَبَشِيِّ الذِي جَاءَ يَقْصِدُ خَرَابَ الكَعْبَةِ فحَبَسَ الله الفِيلَ فلَمْ يَدْخُلِ الحَرَمَ، ورَدَّ رَأْسَه راجعًا من حيثُ جاءَ.

والمَحْبِسُ: مَعْلَفُ الدّابَّةِ.

وفي النَّوَادِرِ: جَعَلَنِي الله رَبِيطَةً لكَذَا وحَبِيسَةً؛ أَي تَذْهَبُ فتفْعلُ الشَّي‌ءَ وأُوخَذُ به.

والحَابِسُ: مَصْنَعَةُ الماءِ. وزِقٌّ حَابِسٌ: مُمْسِكٌ للماءِ.

والحُبُسُ، بالضّمّ: ما وُقِفَ.

والحَبَائِسُ: جمْع حَبِيسَةٍ، وهي ما حُبِسَ في سَبِيلِ الخَيْرِ.

وحبْسُ سَيَلَ: إِحْدَى قُرَى سُلَيْمٍ، وهُمَا حَرّتَانِ بَيْنَهُمَا فَضَاءٌ، كِلْتَاهُمَا أَقَلُّ من مِيلَيْنِ، وقيل: هو بَيْنَ حَرَّةِ بني سُلَيْمٍ وبينَ السُّوَارِقِيَّةِ، وقيل: هو بضَمِّ الحَاءِ، وقيل: هو طَرِيقٌ في الحَرَّةِ يَجْتَمِعُ فيه ماءٌ لو وَرَدَتْ عليه أُمَّةٌ لوَسِعَهُم.

والحُبَاسَةُ والحِبَاسَةُ كالحِبْسِ، بالكَسْرِ، وقالَ اللّيْثُ: الحُبَاسَاتُ في الأَرْضِ التي تُحِيطُ بالدَّبْرَةِ، وهي المَشَارَةُ يُحْبَسُ فيها المَاءُ حتَّى تَمْتَلِئَ، ثمّ يُسَاق [الماءُ] إِلى غَيْرِهَا.

وكَلأٌ حَابِسٌ: كثيرٌ يَحْبس المالَ.

وقد سَمَّوا حابِسًا وحُبَيْسًا.

والأَقْرَعُ بنُ حابِسٍ التَّمِيمِيُّ مَشْهُورٌ.

وحَابِسُ بنُ سَعْد كانَ عَلى طَيِّئٍ بالشّامِ مَعَ مُعَاوِيَة فقُتِلَ يَوْمَ صِفِّينَ.

وأَبُو مَنْصُورِ بنُ حَبَاسَةَ، كسَحابَة، صاحبُ المَدْرَسَةِ بالإِسْكَنْدَرِيّة، وآلُ بَيْتِه حَدَّثُوا.

والخُسُّ بنُ حابِسٍ الإِيَادِيُّ، يَأْتِي ذِكْرُه في «خس».

وأَبو حَبِيسٍ كأَمِيرٍ: محمّد بنُ شُرَحْبِيل، شَيْخٌ لعُبَيْدِ الله ابنِ مُوسَى.

وحَبِيسُ بنُ عابِدٍ الْمِصْرِيُّ وَالِدُ جَعْفَرٍ وعَلِيٍّ، حَدَّثَ هو ووَلَداهُ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


186-تاج العروس (حرص)

[حرص]: الحِرْصُ، بالكَسْرِ: الجَشَعُ؛ وهو شِدَّةُ الإِرادَةِ والشَّرَه إِلَى المَطْلُوبِ، وَقَدْ حَرصَ عَلَيْه كضَرَبَ وسَمِعَ، ومِنَ الأَخِيرَةِ قِرَاءَةُ الحَسَنِ والنَّخَعِيِّ وأَبِي حَيْوَةَ وأبِي البَرَهْسَمِ: إِنْ تَحْرَصْ عَلَى هُدَاهُم بفَتْح الرّاء، كَمَا نَقَلَه الصّاغَانِيُّ، قال شَيْخُنَا: وبَقِيَ عَلَيْه: حَرَصَ كَنَصَر، ذَكَرَهُ ابنُ القَطّاعِ وصاحِبُ الاقْتِطافِ، وتَرَكَهُ المُصَنِّفُ قُصُورًا، ومِنَ الغَرِيبِ قَوْلُ القُرْطُبِيِّ: إِنَّ حَرَصَ كَضَرَبَ ضَعِيفَةٌ، مع أَنَّهَا وَرَدَتْ في القُرْآنِ العَظِيمِ الجَامِعِ، انْتَهَى.

قُلْتُ: قَالَ الأَزْهَرِيّ: واللُّغَةُ العَالِيَةُ حَرَصَ يَحْرِصُ، وأَمّا حَرِصَ يَحْرَصُ فلُغَةٌ رَدِيئَةٌ، قالَ: والقُرَّاءُ مُجْمَعُون عَلَى ولَوْ حَرِصْتَ بِمُؤْمِنِينَ المُرَادُ باللُّغَة العالِيَةِ حَرَصَ كضَرَبَ الَّذِي صَدَّرَ به الجَوْهَرِيُّ وغَيْرُه، والرّديئَة: حَرِصَ: كسَمِعَ، بدَلِيلِ قَوْلِهِ فِيمَا بَعْدُ والقُرّاءُ مُجْمِعُون إِلَى آخِرِه، فعُلِمَ بذلِكَ أَنّ مُرَادَ القُرْطِبِي مِنْ قَوْلِهِ: حَرَصَ ضَعِيفَةٌ، إِنَّمَا يَعْنِي به كسَمِعَ لا كضَرَبَ، وقد اشْتَبَه على شَيْخِنَا فتَأَمَّلْ.

ثمّ اخْتَلَفُوا في اشْتِقَاقِ الحِرْصِ، فقِيلَ: هُوَ من حَرَص القَصّارُ الثَّوْبَ، إِذَا قَشَرَهُ بِدَقِّهِ، وهُوَ قَوْلُ الرّاغِبِ، وقَالَ الأَزْهَرِيُّ: أَصْلُ الحَرْصِ الشَّقُّ، وقِيلَ للشَّرِهِ حَرِيصٌ، لأَنَّهُ يَقْشِرُ بحِرْصِهِ وُجُوهَ النّاسِ، وقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ من السَّحَابَةِ الحارِصَةِ الَّتِي تَقْشِرُ وَجْهَ الأكرْضِ، كأَنَّ الحَارِصَ يَنَالُ مِنْ نَفْسِهِ، بشِدَّةِ اهْتمَامِه بتَحْصِيلِ ما هو حَرِيصٌ عليه، وهو قَوْلُ صاحِبِ الاقْتِطَافِ، وقد نَقَلَهُ شَيْخُنَا واسْتَبعَدَهُ، وقالَ: الَّذِي عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الحِرْصَ هو الأَصْلُ، وغَيْرُه مَأْخُوذٌ مِنْه.

قُلْتُ: وهذا خِلَافُ ما نَقَلَه الأَزْهَرِيُّ والرّاغِبُ، وتَبِعَهُم المُصَنّف في البَصَائِرِ، فَقَدْ صَرَّحُوا أَنَّ أَصْلَ الحَرْصِ القَشْرِ، فكَلامُ شَيْخِنَا لا يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ وتَأَمُّلٍ، ثُمَّ إِنَّ الحَرْصَ يَتَعَدَّى بِعَلَى، وهو المَعْرُوفُ، وأَمّا تَعْدِيَتُه بالباءِ فِي قَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ:

ولَقَدْ حَرِصْتُ بِأَنْ أُدَافِعَ عَنْهُمُ *** فإِذَا المَنِيَّةُ أَقْبَلَتْ لا تُدْفَعُ

فَلِأَنَّهُ بِمَعْنَى هَمَمْتُ، فهُوَ حَرِيصٌ، من قَوْمٍ حُرَّاصٍ وحُرَصاءَ، وامْرَأَةٌ حَرِيصَةٌ مِنْ نِسْوَةٍ حِرَاصٍ وحَرَائِصَ، قالَ الأَزْهَرِيُّ: وقَوْلُ العَرَبِ: حَرِيصٌ عَلَيْكَ، مَعْنَاه: حَرِيصٌ عَلَى نَفْعِكَ.

قُلْتُ: ومِنْهُ قَوْلُه تَعَالَى حَرِيصٌ {عَلَيْكُمْ} أَي عَلَى نَفْعِكُم، أَو شَفُوقٌ عليكم رَؤُوفٌ بكم، فالحِرْصُ في القُرآنِ على وَجْهَيْن: فَرْط الشَّرَهِ، كقَوْلِه تَعَالَى {وَلَتَجِدَنَّهُمْ} أَحْرَصَ {النّاسِ عَلى حَياةٍ} والشَّفَقَة والرَّأْفَة كقَوْلِهِ تعَالَى: حَرِيصٌ {عَلَيْكُمْ} و‌مِنَ الحِكَمِ: البَخِيلُ مَذْمُومٌ، والحَسُودُ مَرْجُومٌ، والحَرِيصُ مَحْرُومٌ‌. و‌يُقَال: لا تَكُنْ عَلَى الدُّنْيَا حَرِيصًا تَكُنْ حافِظًا؛ فإِنَّ الحِرْصَ عَلَى الدُّنْيَا يُورِثُ النِّسْيَانَ.

ومِنْ كَلامِهِم: قُرِنَ الحِرْصُ بالحِرْمَانِ.

والحَرَصَةُ، مُحَرّكةً، مُسْتَقَرُّ وَسَطِ كُلِّ شَيْ‌ءً، وهو مأْخُوذٌ من نَصِّ الأَزْهَرِيِّ، ولكِنَّهُ ضَبَطَه بالفَتْحِ، وكَذلِكَ ابنُ سِيدَه، ونَصُّهُما: والحَرْصَةُ كالعَرْصَةِ، زادَ الأَزْهَرِيُّ: إِلاَّ أَنَّ الحَرْصَةَ مُسْتَقَرُّ وَسَطِ كُلِّ شَيْ‌ءٍ، والعَرْصَة: الدّارُ، قالَ: ولَمْ أَسْمَعْ حَرْصَة بمَعْنَى العَرْصَة لِغَيْرِ اللَّيْثِ، وأَمَّا الصَّرْحَةُ فمَعْرُوفَةٌ.

والحَارِصَةُ: السَّحَابَةُ الَّتِي تَقْشرُ وَجْهَ الأَرْضِ بمَطَرِهَا، كالحَرِيصَةِ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ، أَيْ تُؤَثِّرُ فيها بشِدَّةِ وَقْعِهَا، قال الحُوَيْدِرَةُ:

ظَلَمَ البِطَاحَ لَهُ انْهِلَالُ حَرِيصَةِ *** فصَفَا النِّطافُ لَه بُعَيْدَ المُقْلَعِ

ومن سَجَعَاتِ الأَسَاسِ: رَأَيْتُ [العَرَبَ] حَرِيصَة، على وَقْعِ الحَرِيصَة.

والحَارِصَةُ: الشَّجَّةُ، قيل: هي أَوّلُ الشِّجَاجِ، وهي التي تَشُقُّ الجِلْدَ قَلِيلًا، كالحَرْصَةِ، بِالفَتْحِ، والحَرِيصَةِ، وحَكَى الأَزْهَرِيُّ عن ابنِ الأَعْرَابِيِّ: الحَرْصَةُ والشَّقْفَةُ والرَّعْلَةُ والسَّلْعَةُ: الشَّجَّةُ.

والحَرْصُ: الشَّقُّ، وثَوْبٌ حَرِيصٌ، يُقَالُ: حَرَصَ القَصّارُ الثَّوْبَ يَحْرِصُه حَرْصًا؛ أَي خَرَقَه، وقِيلَ: شَقَّه، وقِيلَ: خَرَقَه بالدَّقِّ، وقيلَ: هو أَن يَدُقَّهُ حَتَّى يَجْعَلَ فِيه ثُقَبًا وشُقُوقًا.

والحَرْصَةُ، بالفَتح: تَفَرُّقُ الشُّخْبِ فِي الإِنَاءِ لاتِّسَاعِ خَرْقٍ في الطُّبْيِ مِنْ جُرْحٍ يَحْصُلُ من الصِّرَارِ، أَو بَثْرَةٍ مِنْهُ، فَيُصِيبُ اللَّبَنُ ثِيَابَ الحَالِبِ. قَالَهُ النَّضْرُ، قالَ: وإِنَّمَا تُصِيبُ الحَرْصَةُ الثَّرَّةَ مِنَ الإِبِلِ. والحِرْصِيانُ بالكَسْرِ: باطِنُ جِلْدِ البَطْنِ، وبِهِ فُسِّرَ قَوْلُه تَعَالَى: {فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ} هي الحِرْصِيَانُ والغِرْسُ والبَطْنُ، فالحِرْصِيانُ مَا ذُكِرَ، والغِرْسُ: مَا يَكُونُ فِيه الوَلَدُ، وبِهِ فُسِّر أَيْضًا قولُ الطِّرِمّاحِ:

وقَدْ ضُمِّرَتْ حَتَّى انْطَوَى ذُو ثَلَاثِهَا *** إِلَى أَبْهَرَيْ دَرْمَاءِ شَعْبِ السّناسِنِ

وقِيلَ؛ بَلْ عَنَى بِهِ: الحِرْصِيَانَ والرَّحِمَ والسّابِيَاءَ.

وقالَ ابنُ الأَعْرَابِيِّ: الحِرْصِيَانُ: بَاطِنُ جِلْدِ الفِيلِ.

وقالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الحِرْصِيَانُ: جِلْدَةٌ حَمْرَاءُ بَيْنَ الجِلْدِ الأَعْلَى واللَّحْمِ، تُقْشَرُ بعدَ السَّلْخِ، وقالَ ابنُ سِيدَه: هِيَ قِشْرَةٌ رَقِيقَةٌ بَيْنَ الجِلْدِ واللَّحْمِ، يَقْشِرُهَا القَصّابُ بَعْدَ السَّلْخِ ج: حِرْصِيَانَاتٌ، قالَ: ولا يُكَسّر، وهو فِعْلِيَانٌ من الحَرْص، بالفَتْحِ، وهو القَشْرُ، كحِذْرِيَانٍ من الحَذَرِ، وصِلِّيَانٍ مِنَ الصَّلَى.

وحُرِصَ المَرْعَى، كعُنِيَ: لَمْ يُتْرَك مِنْهُ شيْ‌ءٌ، كأَنَّهُ قُشِرَ عن وَجْهِ الأَرْضِ، قَالَهُ ابنُ فارِسٍ، وأَرْضٌ مَحْرُوصَةٌ: مَرْعِيَّةُ مُدَعْثَرَةٌ.

ويُقَالُ: إِنَّهُ يَتَحَرّصُ غَدَاءَهُم وعَشَاءَهُمْ أَيْ يَتَحَيَّنُهُمَا وهُوَ مِنَ الحِرْصِ بمَعْنَى شِدَّةِ الشَّرَهِ والرَّغْبَةِ في الشَّيْ‌ءِ والمُبَالَغَةِ فِي تَحْصِيلِه.

واحْتَرَصَ الرّجُلُ: حَرَصَ، وعن أَبِي عَمْرٍو: جَهِدَ في تَحْصِيلِ شَيْ‌ءٍ.

* وممّا يُسْتَدْرَك عَلَيْه:

الحَرْصَةُ، بالفَتْحِ: الشَّقَّةُ في الثَّوْبِ.

وحِمَارٌ مُحَرَّصٌ، كمُعَظَّمٍ: مُكَدَّحٌ.

وقَدْ سَمَّوْا حَرِيصًا.

وأَحْمَدُ بنُ عُبَيْدِ بنِ الحَرِيصِ، كأَمِيرٍ: مُحَدِّثٌ.

قلت: وهو أَبو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بنُ عُبَيْدِ الله بنِ مُحَمَّدِ بنِ حامِدٍ البَزَّازُ الحَرِيصِيُّ المَعْرُوفُ بابنِ الحَرِيصِ، بَغْدَادِيٌّ‌ سَكَنَ الرَّمْلَةَ، رَوَى عن أَبي بَكْرِ بنِ زِيادٍ، وعنه أَبو عَلِيّ بنُ دَرْماءَ.

والأَحْرَاصُ: مَوْضِعٌ في شِعْرِ أَمَيَّةَ بنِ أَبي عائِذٍ الهُذَلِيّ، وقَدْ تَقَدَّمَ إِنْشَادُه في «ب وص»، قالَ السُّكَّرِيُّ: ويُرْوَى بالخَاء مُعْجَمَةً، وسَيَأْتِي.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


187-تاج العروس (ربض)

[ربض]: الرَّبَضُ، مُحَرَّكَةً: الأَمْعَاءُ، كما في الصّحاح.

أَو هو كُلُّ ما فِي البَطْن من المَصَارِين وغَيْرِهَا، سِوَى القَلْبِ والرِّئَة. ويُقَال: رَمَى الجَزَّارُ بالحَشْوِ والرَّبَضِ. ويُقَال: اشْتَرَيْتُ منه رَبَضَ شَاتِهِ وهو مَجَازٌ. وقال اللَّيْثُ: الرَّبَضُ: ما تَحَوَّى من مَصَارِينِ البَطْنِ، ومِثْلُه قولُ أَبي عُبَيْد.

وقال أَبو حاتِم: الَّذِي يَكُونُ في بُطُونِ البَهَائِم مُتَثَنِّيًا: المَرْبِضُ، والذي أَكبَرُ منها: الأَمْغَالُ. وَاحِدُهَا مُغْل.

والذي مثل الأَثْنَاءِ. حَفِثٌ وفَحِثٌ. والجَمْعُ أَحْفَاثٌ وأَفْحَاثٌ.

ومن المَجَاز: الرَّبَضُ: سُورُ المَدِينَة وما حَوْلَهَا. ومنه‌ الحَدِيث «أَنا زعيمٌ لِمَنْ آمَنَ بِي وأَسْلَم وهَاجَر بِبَيْتٍ في رَبَضِ الجَنَّة» ‌وقيل: الرَّبَض: الفَضَاءُ حَوْلَ المَدِينَة.

ويقَال: نَزَلُوا في رَبَضِ المَدِينَةِ والقَصْرِ أَي ما حَوْلَهَا من المَسَاكن.

والرَّبَضُ: مَأْوَى الغَنَمِ، نَقَلَه الجَوْهَرِيّ، وأَنشد للعَجّاجِ يَصِفُ الثَّوْرَ الوَحْشِيّ:

واعْتَادَ أَرْبَاضًا لَهَا آرِيُّ *** مِنْ مَعْدِنِ الصَّيرانِ عُدْمُلِيُّ

العُدْمُلِيُّ: القَدِيمُ. وأَراد بِالْأَرْبَاضِ جَمْعَ رَبَضٍ. شَبَّهَ كِنَاسَ الثَّوْرِ بمَأْوَى الغَنَمِ.

وفي الحَدِيث: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَالشَّاةِ بَيْنَ الرَّبَضَيْنِ، إِذَا أَتَتْ هذِه نَطَحَتْهَا، وإِذَا أَتَتْ هذه نَطَحَتْهَا» ‌كما فِي العُبَابِ.

قُلتُ: ويُرْوَى: بينَ الرِّبَيضَيْن. والرَّبِيضُ: الغَنَمُ نَفْسُها، كَمَا يَأْتِي. فالمَعْنَى عَلَى هذا أَنَّه مُذَبْذَبٌ كالشَّاةِ الوَاحِدَةِ بَيْن قَطِيعَيْنِ مِنَ الغَنَمِ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ مَأْوَى الغَنَمِ رَبَضًا لِأَنَّهَا تَرْبِضُ فيه. وكَذلِكَ رَبَضُ الوَحْشِ: مَأْوَاه وكِنَاسُهُ.

ومن المَجَاز: الرَّبَضُ: حَبْلُ الرَّحْلِ الَّذِي يُشَدُّ به، أَو ما يَلِي الأَرْضَ مِنْه؛ أَي من حَبْلِ الرَّحْلِ، لا ما فَوْقَ الرَّحْلِ.

وقال اللَّيْثُ: الرَّبَضُ: ما وَلِيَ الأَرْضَ مِنَ البَعِير إِذا بَرَكَ، والجَمْع الْأَرْبَاض. وأَنْشَدَ:

أَسْلَمَتْهَا مَعَاقِدُ الأَرْبَاضِ

أَي مَعَاقِدُ الجِبَالِ على أَرْبَاضِ البُطُونِ. وقال الطِّرِمَّاح:

وأَوَتْ بِلَّةُ الكَظُومِ إِلَى الفَظِّ *** وجَالَتْ مَعَاقِدُ الْأَرْبَاضِ

وإِنَّمَا تَجُولُ الْأَرْبَاضُ من الضُّمْرِ، هكذَا قَالَهُ اللَّيْث: وغَلَّطَهُ الْأَزْهَرِيُّ. وقال: إِنَّمَا الْأَرْبَاضُ الْحِبَالُ. وبه فَسَّرَ أَبو عُبَيْدَة قَوْلَ ذِي الرُّمَّة:

إِذَا مَطَوْنَا نُسُوعَ الرَّحْلِ مُصعِدَةً *** يَسْلُكْنَ أَخْرَاتَ أَرْبَاضِ المَدَارِيجِ

قال: والأَخْرَاتُ: حَلَقُ الحِبَالِ. قُلتُ: وفَسَّرَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ الْأَرْبَاضِ في البَيْت ببُطُونِ الْإِبِلِ، كما ذَهَبَ إِليه اللَّيْثُ.

ومن المَجَازِ: الرَّبَضُ: قُوتُك الَّذِي يُقِيمُك ويَكْفِيكَ من اللَّبَن، نقله الجَوْهَريُّ. قال: ومِنه المَثَلُ: «مِنْكَ رَبَضُكَ وإِنْ كانَ سَمَارًا» أَي مِنْكَ أَهْلُك وخَدَمُكَ ومَنْ تَأْوِي إِليه وإِنْ كانُوا مُقَصِّرِينَ. قال: وهذا كقَوْلِهِم: «أَنْفُكَ مِنْك ولَوْ كانَ أجْذَعَ». وزادَ في العُبَاب: وكَذَا «مِنْك عِيصُكَ وإِنْ كان أَشِبًا». وفي اللِّسَان: السَّمَارُ: اللَّبَنُ الكَثِيرُ المَاءِ.

والمَعْنَى: قَيِّمُكَ منك لأَنّه مُهْتَمٌّ بك، وإِنْ لَمْ يَكُن حَسَنَ القيَامِ عَلَيْكَ. ثمّ إِنّ قَوْلَه في المَثَل: رَبَضُكَ، مُحَرَّكَةً كما يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ المُصَنِّف وهكَذَا وُجِدَ بخَطِّ الجَوْهَرِيّ.

ورأَيتُ في هَامِش الصّحاح ما نَصَّه: وَجَدْت في كتابِ المِعْزَى لأَبِي زَيْد نُسْخَةً مَقْروءة على أَبِي سَعِيدٍ السِّيرَافِيّ ويقال: «مِنْكَ رُبُضُكَ وإِن كان سَمَارًا» هكذَا بضَمَّتَيْنِ صُورَةً لا مُقَيَّدًا، يقول: مِنْكَ فَصِيلَتُكَ، وهم بَنُو أَبِيه، وإِنْ كانُوا قومَ سُوءٍ لَا خَيْرَ فِيهِم. قال: ووَجَدْتُ في التَّهْذِيب للأَزْهَرِيِّ بخَطّه ما نَصُّه: ثَعْلَب عن ابْنِ الأَعْرَابِيّ: «منك رُبْضُك» هكذا بضمّ الراءِ غير مُقَيَّدٍ بوَزْنٍ، قال: والرُّبْض: قَيِّمُ بَيْته. وهكَذَا وَجَدتُ أَيضًا في كتاب الأَمْثَال للأَصْمَعِيّ.

والرَّبَضُ: النَّاحِيَةُ من الشَّيْ‌ءِ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ عن الكِسائيّ.

وقال أَبو زَيْدٍ: الرَّبَضُ: سَفِيفٌ كالنَّطَاقِ يُجْعَل في حِقْوَيِ النَّاقَةِ حَتَّى يُجَاوِزَ الوَرِكَيْنِ من الناحِيَتَيْن جَمِيعًا وفي طَرَفَيْه حَلْقَتَانِ يُعْقَدُ فيهِمَا الأَنْسَاعُ ويُشَدُّ به الرَّحْلُ.

ومن المَجَازِ: الرَّبَضُ: كُلُّ مَا يُؤْوَى إِلَيْه ويُسْتَرَاحُ لَدَيْه، مِنْ أَهْلٍ، وقَرِيب، ومالٍ، وبَيْتٍ، ونَحْوِه، كالغَنَمِ، والمَعِيشةِ، والقُوتِ، ومنه قَولُ الشَّاعِر:

جَاءَ الشِّتَاءُ ولَمّا أَتَّخِذْ رَبَضًا *** يَا وَيْحَ كَفَّيَّ من حَفْرِ القَرامِيصِ

قال الجَوْهَرِيُّ: ومنه أُخِذَ الرَّبَضُ لِمَا يَكْفِي الإِنْسَانَ مِنَ اللَّبَنِ، كما تَقَدَّمَ.

وقوله: «من أَهْلٍ» يَشْمَلُ المَرأَةَ وغَيْرَهَا، فقد قَالُوا أَيْضًا: الرَّبَضُ: كُلُّ امرأَةٍ قَيِّمَةِ بَيْتٍ، وقد رَبَضَتْه تَرْبِضُه، من حَدِّ ضَرَبَ: قامَت في أمُورِه وأَوَتْه، ونُقِلَ عن ابْن الأَعْرَابِيّ: تَرْبُضُهُ أَيْضًا؛ أَي من حَدِّ نَصَرَ، ثمّ رَجَعَ عن ذلِكَ، الجمع: الكُلِّ أَرْبَاضٌ، كسَبَب وأَسْبابٍ.

والرِّبْضُ، بالكَسْر، منَ البَقَر: جَمَاعَتُهُ حَيْثُ تَرْبِضُ أَي تَأْوِي وتَسْكُنُ. نُقِلَ ذلِكَ عن صاحِبِ كِتَاب المُزْدَوَجِ من اللُّغَات فَقَط. ونَقَلَه صاحِبُ اللِّسَان أَيضًا، ونَصُّه: الرِّبْضُ والرِّبْضَةُ للغَنَم، ثمّ استُعمِلَ في البَقَرِ والنّاس.

والرُّبْضُ، بالضَّم: وَسَطُ الشَّيْ‌ءِ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ عن الكِسَائِيّ. قال الصّاغَانِيّ: وكَذلِكَ قَوْلُ الأَصْمَعِيّ، وأَنْكَرَه شَمِرٌ، كما في التَّهْذِيب.

وقال بَعْضُهُم: الرُّبْضُ: أَساسُ البِنَاءِ والمَدِينَةِ، وضَبَطَهُ ابن خالَوَيْه «بضَمَّتَيْن» وقيل: هو والرَّبَضُ بالتَّحْرِيك سَوَاءٌ مِثْلُ سُقْم وسَقَمٍ.

وقال شَمِرٌ: الرُّبْضُ: ما مَسَّ الأَرْضَ مِنَ الشَّيْ‌ءِ. وقال ابنُ شُمَيْلٍ: رُبْضُ الأَرْضِ: ما مَسَّ الأَرْض مِنْه.

وقال ابنُ الأَعْرَابِيّ: الرُّبْضُ: الزَّوْجَةُ، وكذلك الرُّبُضُ، بضَمَّتَيْن، ويُفْتح ويُحَرَّكُ، فَهِيَ أَربعُ لُغَات، وليْس في نَصِّ الصَّاغَانِيّ في كِتَابَيْه الرُّبُض، بضَمَّتَيْن عن لُغَات فَقَط، وهكَذَا في اللِّسَان أَيضًا قال لأَنَّهَا تُرَبَّضُ زَوْجَهَا؛ أَي تَقُومُ في أُموره وتُؤْوِيهِ. قال: أَو الأُمُّ أَو الأُخْتُ تُعزِّبُ ذا قَرَابَتِهَا؛ أَي تَقُومُ عَلَيْه. ومِن ذلِك قولهم: ماله رُبْضٌ يَرْبِضُه.

وفي الأَسَاسِ: ومن المَجَاز: مَا رَبَضَ امْرَأَةً أَمْثَلُ من أُخْتٍ؛ أَي كَانَتْ رُبْضًا له ومَسْكَنًا، كما تَقُول أَبَوْتُه وأَمَمْتُه؛ أَي كُنتُ لَه أَبًا وأُمًّا.

والرُّبْضُ: عَيْن ماءٍ.

والرُّبْضُ: جَمَاعَةُ الطَّلْحِ والسَّمُرِ، وقِيلَ: جَمَاعَةُ الشَّجَرِ المُلْتَفِّ.

والرُّبْضَةُ بالضَّمِّ: القِطْعَةُ العَظِيمَةُ مِنَ الثَّرِيدِ، عن ابن دُرَيْد.

والرُّبْضَةُ: الرَّجُلُ المُتَرَبِّضُ؛ أَي المُقِيمُ العَاجِزُ، كالرُّبَضَةِ، كهُمَزَةٍ، وهو مَجَاز.

وقال اللَّيْث: الرِّبْضَةُ، بالكَسْر: مَقْتَلُ كُلِّ قَوْمٍ قُتِلُوا في بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وضَبَطَه الصّاغَانِيّ في التَّكْمِلَة «بالتَّحْرِيك» فوَهِم، وَهُو في العُبَاب على الصحّة. قال إِبْرَاهِيمُ الحَرْبِيّ: قَالَ بَعْضُهم: رَأَيْتُ القُرَّاءَ يَوْمَ الجَمَاجِمِ رِبْضَةً.

والرِّبْضَةُ: الجُثَّةُ. قال ابن دُرَيْد: ومنه قَوْلُهُم: ثَرِيدٌ كَأَنَّهُ رِبْضَةُ أَرْنَبٍ؛ أَي جُثَّتُه. هكذَا في النُّسَخ، والصَّوَاب جُثَّتُهَا، بدَلِيل قَوْلِه فيما بَعْد: جاثِمَةً؛ أَي حالة كَونها جاثِمَةً: وبارِكَةً. قال ابنُ سِيدَه: ولم أَسْمَعْ به إِلاَّ في هذَا المَوْضِعِ. ويُقَال: أَتَانَا بتَمْر مِثْلِ رِبْضَةِ الخَرُوفِ؛ أَي قَدْرِ الخَرُوفِ الرَّابِضِ. ومنه أَيضًا: كرُبْضَةِ العَنْزِ، بالضَّمِّ والكَسْر؛ أَي جُثَّتها إِذَا بَرَكَتْ.

والرِّبْضَةُ من النَّاسِ: الجَمَاعَةُ مِنْهُم، وكَذَا من الغَنَمِ.

يقال: فيها رِبْضَةٌ من النَّاس، والأَصْلُ للغَنَمِ، كما في اللِّسَان.

وقال ابنُ دُرَيْد: رَبَضَتِ الشَّاةُ وغَيْرُهَا من الدَّوَابِّ، كالبَقَر والفَرَسِ والكَلْبِ تَرْبِضُ، ومن حَدّ ضَرَبَ، رَبْضًا ورَبْضَةً، بفَتْحِهِمَا، ورُبُوضًا، بالضَّمّ، ورِبْضَةً حَسَنَةً، بالكَسْرِ، كبَرَكَت، في الإبلِ، وجَثُمَتْ، في الطَّيْر.

ومَوْضِعُهَا مَرَابِضُ، كالمَعَاطِنِ للإِبل. وو أَربَضَها غَيْرُهَا، كَذَا في النُّسَخِ. ولو قَال: «هُوَ»، بَدَلَ «غَيْرها» كان أَخصَرَ.

وأَمّا‌ قولُه صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم للضَّحّاكِ بن سُفْيانَ بنِ عَوْن العامِرِيّ أَبِي سَعِيدٍ وقد بَعَثَهُ إِلى قَوْمِه بَنِي عامِرِ بنِ صَعْصَعَةَ بْن كِلاب: «إِذَا أَتَيْتَهُمْ فارْبِضْ في دارِهم ظَبْيًا».

قال ابنُ سِيدَه: قِيلَ في تَفْسِيره قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَيْ أَقمْ في دِيَارِهِم آمِنًا كالظَّبْيِ الآمِنِ في كِنَاسِه، قد أَمِنَ حَيْثُ لا يَرَى إِنْسِيًّا، وهو قَولُ ابنِ قُتَيْبَةَ عن ابْنِ الأَعْرَابِيّ. أَو المَعْنَى: لَا تَأْمَنْهُم، بل كُنْ يَقِظًا مُتَوَحِّشًا مُسْتَوْفِزًا، فإِنَّكَ بَيْنَ أَظْهُرِ الكَفَرَةِ، فإِذا رَابَكَ مِنْهُم رَيْبٌ، نَفَرْتَ عَنْهُم شَارِدًا، كما يَنْفِرُ الظَّبْيُ، وهو قَوْلُ الأَزْهَرِيّ: و«ظَبْيًا» في القَوْلَيْنِ مُنْتَصِبٌ على الحالِ، وأَوقَعَ الاسْمَ مَوْقِعَ اسْمَ الفَاعِل، كَأَنَّه قَدَّرَه مُتَظَبِّيًا كما حَكَاه الهَرَوِيّ في الغَرِيبَيْن.

قُلتُ: والَّذِي‌

صَرَّحَ به الحافِظُ الذَّهَبِيُّ وغَيْرُه أَنَّ النَّبيَّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم إِنَّمَا أَرْسَلَه إِلى مَنْ أَسْلَم مِنْ قَوْمِه، وكَتَب إِليه أَن يُوَرَّثَ امرأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابيّ من دِيَةِ زَوْجِهَا، فالوَجْهُ الأَوَّلُ هو المُنَاسِبُ للمَقَام، ولأَنَّه كان أَحَدَ الأَبْطَال مَعْدُودًا بِمِائَةِ فارِس، كما رُوِيَ ذلك، وكان مُسْتَوْحِشًا منهم، فَطَمَّنَهُ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم، وأَزالَ عنه الوَحْشَةَ والخَوْفَ، وأَمَرَهُ بأَن يَقَرَّ في بُيُوتِهِم قَرَارَ الظَّبْي في كِنَاسِه، ولا يَخْشَى من بَأْسِهِم، فتَأَمَّلْ.

وفي حَدِيث الفِتَنِ رُوِيَ عن النَّبِيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم أَنَّه ذَكَرَ: «من أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَنْطِقَ الرُّوَيْبِضَةُ في أُمُورِ العَامَّة» ‌وهو تَصْغِير الرَّابِضَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَرْعَى الرَّبِيضَ، كما نَقَلَه الأزْهَرِيّ.

وبَقِيَّةُ الحَدِيثِ: «قِيلَ: وما الرُّوَيبِضَةُ يا رَسُولَ اللهِ؟ قال: الرَّجُلُ التَّافِهُ ـ أَي الحَقِيرُ ـ يَنْطِقُ في أَمْرِ العَامَّةِ».

وهذا تَفْسِيرُ النَّبِيِّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم لِلْكَلِمةِ. بأَبِي وأُمّي، وليس في نَصِّه كَلمةُ «أَيْ»، بَيْنَ التّافِه والحَقِير. قلتُ: وقَرَأْتُ في الكَامل لابن عَدِىٍّ في تَرْجَمَة مُحَمّد بْنِ إِسحاقَ عن عَبْدِ الله بنِ دِينَار عن أَنس، «قِيلَ: يا رَسُولَ الله، ما الرُّوَيْبِضَةُ؟ قال: الفاسقُ يَتَكَلَّم في أَمرِ العَامَّة».

انْتَهَى. وقال أَبو عُبَيْد: ومِمّا يُثْبِتُ حَدِيثَ الرُّوَيْبَضَةِ‌ الحَدِيثُ الآخَرُ من أَشرَاطِ السَّاعَةِ «أَن يُرَى رعَاءُ الشاءِ رُؤُوسَ النَّاسِ».

وقال الأزْهَرِيُّ: الرُّوَيْبِضَةُ هو الَّذِي يَرْعَى الغَنَم، وقيل: هو العَاجِز الَّذِي رَبَضَ عن مَعَالِي الأُمُورِ وقَعَدَ عن طَلَبِهَا: وزِيَادَةُ الهاءِ في الرّابضَةِ لِلْمُبَالَغَةِ. كما يُقَال دَاهِيَة ـ قال: والغَالِبُ عِنْدِي أَنَّه قِيلَ للتّافِهِ من النّاسِ: رابِضَةٌ ورُوَيْبِضَةٌ، لِرُبُوضه في بَيْتِه وقِلَّةِ انْبِعَاثِه في الأمُور الجَسِيمَةِ. قال: ومنه قيل: رَجُلٌ رُبُضٌ على، هكَذَا في النُّسَخ، وصَوَابُه عن الحَاجَاتِ والأَسْفَار، بضَمَّتَيْن، إِذا كَانَ لَا يَنْهَضُ فِيهَا، وهو مَجاز. وقال اللِّحْيَانِيّ: أَي لا يَخْرُج فيها. ومن المَجَازِ: قال اللَّيْثُ: فانْبَعَثَ لَه وَاحدٌ من الرّابِضَة، قال: الرّابِضَة: ملائِكَةٌ أَهْبِطُوا مع آدمَ عَلَيْه السَّلامُ يَهْدُون الضُّلاَّلَ. قال: ولَعَلَّه من الإِقامَةِ.

وفي الصّحاح: الرَّابِضَةُ بَقِيَّةُ حَمَلَةِ الحُجَّةِ، لا تَخْلُو الأَرْضُ مِنْهُم. وهو في الحَدِيث، ونَصُّ الصحاح: منه الأَرْضُ.

ومن المَجَازِ: الرَّبُوضُ، كصَبُورٍ: الشَّجَرَةُ العَظِيمَةُ، قاله أَبو عُبَيْد، زاد الجَوْهَرِيّ: الغَلِيظَةُ، وزاد غَيْرُه: الضَّخْمَةِ. وقوله: الوَاسِعَة. مَا رَأَيْتُ أَحَدًا من الأَئِمَّةِ وَصَفَ الشَجَّرَةَ بِهَا، وإِنَّمَا وَصَفُوا بها الدِّرْعَ والقِرْبَةَ، كما سَيَأْتي.

وأَنشدَ الجَوْهَرِيّ قَوْلَ ذِي الرُّمَّة:

تَجَوَّفَ كُلَّ أَرْطَاةٍ رَبُوضٍ *** مِنَ الدَّهْنَا تَفَرَّعَتِ الحِبَالا

والحِبَالُ: الرِّمالُ المُسْتَطِيلَةُ.

ج: رُبُضٌ، بضَمَّتَيْن. ومنه قَولُ العَجَّاج يَصِف النِّيرَان:

فهُنَّ يَعْكِفْنَ بهِ إِذا حَجَا *** برُبُضِ الأَرْطَى وحِقْفٍ أَعْوَجَا

عَكْفَ النَّبِيطِ ويَلْعَبُون الفَنْزَجَا.

والرَّبُوضُ: الكَثُيرَةُ الأَهْل من القُرَى، نَقَله الصّاغَانِيّ.

ويقال: قَرْيَةُ رَبُوضٌ: عَظِيمَةٌ مُجْتَمِعَةٌ. ومنه‌ الحدِيث: «إِنّ قَوْمًا من بَني إِسرائيلَ بَاتُوا بقَرْيَةٍ رَبُوضٍ».

ومن المَجَاز: الرَّبُوضُ: الضَّخْمَةُ مِنَ السَّلاسلِ، وأَنشَدَ الأَصْمَعيّ:

وقالوا رَبُوضٌ ضَخْمَةٌ في جِرَانِهِ *** وأَسْمَرُ من جِلْدِ الذِّرَاعَيْنِ مُقْفَلُ

أَراد بالرَّبُوضِ سِلْسِلَةً رَبُوضًا أُوثِقَ بها، جَعَلَهَا ضَخْمَةً ثَقِيلَةً. وأَرادَ بالأَسْمَرِ قِدَّا غُلَّ به فيَبِسَ عليه.

ومنه‌ حَدِيثُ أَبِي لُبَابَةَ رَضِيَ الله عَنْه: «أَنَّه ارْتَبَطَ بسِلْسلَةٍ رَبُوض إِلى أَن تَابَ الله عَلَيْه» ‌قال القُتَيْبِيّ: هي الضَّخْمَة الثَّقِيلَةُ، زاد غَيْرُه: الَّلازِقَةُ بصَاحِبِهَا، وفَعُولٌ منْ أَبْنِيَة المُبَالَغَة يَسْتوِي فيه المُذَكَّر والمُؤَنَّث.

ومن المَجَازِ: الرَّبُوضُ: الوَاسِعَةُ من الدُّرُوعِ، ويقال: هي الضَّخْمَة، كما في الأَساس.

قلت: وقد رَوَى الصّاغَانِيُّ حَدِيثَ أَبي لُبَابَةَ بتَمَامِه بسَنَدٍ له مُتَّصِل، وذَكَرَ فيه أَنَّ النَّبِيَّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم هو الَّذِي حَلَّه. وقَرَأْتُ في الرَّوْض للسُّهَيْلي أَنَّ الَّذِي حَلَّه فاطمةُ، رَضِيَ الله عنها، ولمَّا أَبَى لِأَجْلِ قَسَمِه، قال صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم: «إِنَّمَا فَاطِمَةُ بِضُعَةُ مِنِّي» فحَلَّتْهُ. فانْظُره.

وفي حَدِيثِ مُعَاوَيَةَ: «لا تَبْعَثُوا الرَّابِضَيْنِ» ‌الرَّابِضَانِ: التُّرْكُ والحَبَشَةُ أَي المُقِيمَيْنِ السَّاكِنَيْن، يُرِيد: لا تُهَيِّجوهم عَلَيْكم ما دَامُوا لا يَقْصدُونَكُم.

قلت: وهُو مِثْلُ‌ الحَدِيث الآخر: «اتْرُكُوا التُّرْكَ ما تَرَكُوكُم، ودَعُوا الحَبَشَةَ ما وَدَعُوكُم».

والرَّبِيضُ، كأَميرٍ: الغَنَمُ برُعَاتهَا المُجْتَمعَةُ في مَرَابِضها، كأَنَّه اسمٌ للجَمْع، كالرَّبْضَة، بالكَسْر. يُقَال: هذا رَبِيضُ بَنِى فُلانٍ ورِبْضَتُهم. قال امرْؤُ القَيْسِ:

ذَعَرْتُ به سِرْبًا نَقِيًّا جُلُودُه *** كما ذَعَرَ السِّرْحَانُ جَنْبَ الرَّبِيضِ

والرَّبِيضُ مُجْتَمَعُ الحَوايا كالمَرْبَضِ، كمَجْلِسٍ ومَقْعَدٍ، والرَّبَض، مُحَرَّكَةً أَيضًا، كُلُّ ذلِكَ عَنِ ابْنِ الأَعْرَابِيّ.

والرَّبَّاض، ككَتّانٍ: الأَسَدُ الَّذِي يَرْبِضُ على فَرِيسَتِه.

قال رُؤْبَةُ:

كَمْ جَاوَزَتْ مِنْ حَيَّةٍ نَضْنَاضِ *** وأَسَد في غَيلِهِ قَضْقَاضِ

لَيْث على أَقْرَانِه رَبَّاضِ

وقال ابنُ الأَعْرَابِيّ: رَبَضَه يَرْبِضُهُ ويَرْبُضُهُ: أَوَى إِلَيْه كذا في العُبَاب، وقد سَبَقَ أَنَّ ابنَ الأَعْرَابِيّ رَجَعَ عن اللُّغَة الثَّانِيَةِ.

ومن المَجَارِ: رَبَضَ الكَبْشُ عن الغَنَمِ يَرْبِضُ رُبُوضًا: تَرَكَ سِفَادَهَا. وفي الأَسَاسِ: ضِرَابَهَا، ومِثْلُه في الصّحاح. وحَسَرَ وعَدَلَ عنها، أَو عَجَزَ عَنْهَا، ولا يُقَال فيه: جَفَرَ. وقال ابن عَبّادٍ والزَّمَخْشَرِيّ: يُقَال للغَنَم إِذا أَفْضَتْ وحَمَلَتْ: قَدْ رُبِضَ عَنْهَا.

ورَبَضَ الأَسَدُ على فَرِيسَتِه، ورَبَضَ القِرْنُ على قِرْنِه، إِذا بَرَكَ عَلَيْه، وهو رَبَّاضٌ، فيهما.

ومن المَجَازِ: رَبَضَ اللَّيْلُ: أَلقَى بنَفْسِه ولَيْلٌ رَابِضٌ على المَثَلِ، قال:

كأَنَّهَا وقَدْ بَدَا عُوَارِضُ *** واللَّيْلُ بَيْنَ قَنَوَيْنِ رَابِضُ

بجَلْهَةِ الوَادِي قَطًا رَوَابِضُ

والتِّرْباضُ، بالكَسْرِ: العُصْفُرُ، عن ابن الأَعْرَابِيّ.

وقال ابنُ عَبّاد: أَرْبَضَ أَهْلَهُ وأَصْحَابَه، إِذا قَامَ بنَفَقَتِهم.

كما في العُبَاب.

وفي الصّحاح: أرْبَضَتِ الشَّمْسُ، إِذا اشْتَدَّ حَرُّهَا حَتَّى يَرْبِضَ الظَّبْيُ والشَّاةُ؛ أَي مِنْ شِدَّةِ الرَّمْضَاءِ، وهو قَوْلُ الرِّيَاشيّ. وفي العُبَاب: أَرْبَضَت الشَّمْسُ: أَقامَتْ كما‌ تَرْبِضُ الدَّابَّةُ، فبَلَغَتْ غَايَةَ ارْتفَاعهَا، ولَمْ تَبْدَأْ للنُّزولِ، وبه فُسِّرَ حَديثُ الأَنْصَارِيَّة. وهو مَجاز.

ومن المَجازِ: أَرْبَضَ الإِناءُ القَوْمَ: أَرْوَاهُم. يُقَال: شَرِبُوا حتى أَرْبَضَهُمُ الشَّرَابُ. أَي أَثْقَلَهُمْ من الرِّيِّ حَتَّى رَبَضُوا؛ أَي ثَقُلُوا، ونَامُوا مُمْتَدَّين عَلَى الأَرْض. وإِناءٌ مُرْبِضٌ.

وفي حَدِيث أُمّ مَعْبَدٍ: «أَنّ النَّبيَّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم لَمّا قَالَ عِنْدَهَا دَعَا بإِنَاءٍ يُرْبضُ الرَّهْطَ».

قال أَبو عُبَيْد: مَعْنَاه يُرْويهم حَتَّى يُثْقلَهُمْ فيَرْبضُوا فيَنَامُوا، لكَثْرَة اللَّبَن الَّذي شَربُوه، ويَمْتَدُّوا على الأَرْضِ. ومَنْ قال: يُرْيضُ الرَّهْطَ فهُوَ من أَراضَ الوَادِي. وقَدْ ذَكَرَ الجَوْهَرِيُّ الوَجْهَيْنِ. وقال: وقَوْلُهم: دَعَا بإِنَاءٍ، إِلَى آخِرِه. والصَّحِيحُ أَنَّه حَدِيثٌ، كما عَرَفْتَ، وقد نَبَّه عليه الصّاغَانِيّ في التَّكْمِلَةِ.

وَتَرْبِيضُ السَّقَاءِ بالمَاءِ: أَنْ تَجْعَلَ فِيهِ ما يَغْمُرُ قَعْرَهُ، نَقَلَه الصَّاغَانيُّ عن ابنِ عَبّاد، وقد رَبَّضَه تَرْبِيضًا.

* وممّا يُسْتَدْرَك عَلَيْه:

رَبَّضَ الدَّابَّةَ تَرْبِيضًا كَأَرْبَضَها ويقال للدَّابَّة: هي ضَخْمَةُ الرِّبْضَةِ، أَيْ ضَخْمَةُ آثَارِ المرْبَطِ.

وأَسَدٌ رَابِضٌ، كرَبّاضِ، ومنه المَثَلُ: «كَلْبٌ جَوَّالٌ خَيْرٌ من أَسَدٍ رَابِضِ. وفي رِوَايَة: من أَسَدٍ رَبَضَ.

ورَجلٌ رَابِضٌ: مَرِيضٌ، وهو مَجَازٌ.

والرُّبُوضُ، بالضَّمّ، مَصْدَرُ الشَّيْ‌ءِ الرَّابِض، وأَيْضًا جَمْعُ رَابِضٍ. ومنه‌ حَديثُ عَوْف بن مَالك رَضيَ الله عنه: «أَنَّهُ رَأَى في المَنَامِ قُبَّةً من أَدَمٍ حَوْلَها غَنَمٌ رُبُوضٌ» ‌أَي رَابِضَة.

والرِّبْضَةُ، بالكَسْرِ: الرَّبِيضُ. ويُقَال للأَفْطَسِ: أَرْنَبتُهُ رَابِضَةٌ على وَجْهِه؛ أَي مُلْتَزِقَةٌ، وهو مَجَاز، قاله اللَّيْثُ.

والرَّبَضُ، بالتَّحْرِيك: الدُّوَّارَةُ من بَطْنِ الشَّاةِ، وقيل: الرَّبَضُ: أَسْفَلُ من السُّرَّةِ. والمَرْبِضُ: تَحْتَ السُّرَّةِ وفَوْقَ العَانَةِ. ورَبَضُ النَّاقَةِ: بَطْنُهَا، قاله اللَّيْثُ، وقد تَقَدَّم عن الأَزْهَرِيّ إِنْكَارُه، وقيل: إِنَّمَا سُمِّيَ بذلِكَ لأَنَّ حُشْوَتَها في بَطْنِهَا.

ورَبَّضْتُه بالمَكَانِ تَرْبِيضًا: ثَبَّتُّه. قيلَ: ومنه الرَّبَضُ: امْرَأَةُ الرَّجُلِ، لأَنَّهَا تُثَبِّتُهُ فلا يَبْرَحُ. وتَرَكْتُ الوَحْشَ رَوَابِضَ. وهو مَجَاز.

وحَلَبَ مِنَ اللَّبَنِ ما يُرْبِضُ القَوْمَ؛ أَي يَسَعُهُم. وهو مَجَاز.

وقِرْبَةٌ رَبُوضٌ: كَبِيرَةٌ لا تَكَادُ تُقَلُّ، فهي رَابِضَةٌ أَو تَرْبِضُ مَنْ يُريدُ إِقْلالَهَا وهو مَجَازٌ.

ونَقَلَ الجَوْهَرِيُّ عن ابن السِّكِّيت: يُقَال: فُلانٌ ما تَقُومُ رَابِضَتُهُ، إِذا كان يَرْمِي فَيَقْتُلُ، أَو يَعِينُ فيَقْتُل؛ أَي يُصِيبُ بالعَيْن. قال: وأَكْثَرُ مَا يُقَال في العَيْنِ. انْتَهَى. وكَذلِكَ: «مَا تَقومُ لَهُ رَابِضَةٌ»، وهُوَ مَثَلٌ، وعَجِيبٌ من المُصَنِّف تَرْكُه.

والرّابِضَةُ: العَاجِزُ عن مَعالِي الأُمورِ.

وفي الحَدِيث: «كَرَبِيضَةِ الغَنَمِ» ‌أي كالغَنَمِ الرُّبَّضِ.

وصَبَّ الله عليه حُمَّى رَبِيضًا.

ويقال: أَقامَتِ امْرَأَةُ العِنِّينِ عِنْدَه رُبْضَتَهَا، بالضَّمِّ؛ أَي قَدْرَ ما عَلَيْهَا أَنْ تَرْبِضَ عِنْدَه، وهي سَنَةٌ، وهو مَجَاز.

ويقال: صدْتُ أَرْنَبًا رَبُوضًا؛ أَي بَارِكَةً.

ويقال: الْزَمُوا رَبَضَكُمْ، وهو مَسْكَنُ القَوْمِ على حِيَالِه، وهو مَجَازٌ.

ورِبَاضٌ ومُرَبِّضٌ ورَبَّاضٌ، ككِتَابٍ ومُحَدَّثٍ وشَدَّادٍ: أسماءٌ.

والرَّبَضُ، مُحَرِّكَةٌ: مَوْضِعٌ قبلَ قُرْطُبَةَ. وموضعٌ آخر مُتَّصِلٌ بقَصْرِ قُرْطُبَةَ، منه يُوسُفُ بنُ مَطْرُوحٍ الرَّبَضِيّ، تَفَقَّه على أَصحابِ مالِكٍ.

وقال ابْنُ الأَثِير: الرَّبَضُ: حَيٌّ من مَذْحِج.

والرَّبَضُ: اسمُ ما حَوْلَ الرَّقَّةِ. منه الحَسَنُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمن الرَّبَضِيّ الرَّقِّيّ البَزَّاز، نقله السَّمْعانِيّ.

ومِنْ رَبَضِ أَصْبَهَانَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنْ عَلِيّ الرَّبَضِيُّ.

ومن رَبَضِ مَرْو: أَبُو بَكْرٍ، أَحْمَدُ بنُ بَكْرِ بنِ يُونُسَ الرَّبَضِيُّ المَرْوَزِيُّ.

ومن رَبَضِ بَغْدَادَ، أَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ الضَّرِيرُ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


188-تاج العروس (جزع)

[جزع]: جَزَعَ الأرْضَ والوَادِيَ، كمَنَعَ، جَزْعًا: قَطَعَهُ، أَو جَزَعَهُ: قَطَعَه عَرْضًا كما في الصّحاح، وكَذلِكَ المَفَازَة والمَوْضِعُ إذا قَطَعْتَه عَرْضًا فقَدْ جزَعْتَهُ. قالَ الجَوْهَرِيُّ:

ومِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْس:

فَرِيقَانِ: مِنْهُمْ سَالِكٌ بَطْنَ نَخْلَةٍ *** وِآخَرُ مِنْهُمْ جَازِعٌ نَجْدَ كَبْكَبِ

وفي العُبَابِ: ومِنْهُ الحَدِيثُ «أَنَّهُ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم وَقَفَ عَلَى وَادِي مُحَسِّرٍ فقَرَعَ رَاحِلتَه، فخَبَّتْ حَتَّى جَزَعَهُ».

وقالَ زُهَيْرُ بنُ أَبِي سُلْمَى:

ظَهَرْنَ مِنَ السُّوبانِ ثُمَّ جَزَعْنَهُ *** عَلَى كُلِّ قَيْنِيٍّ قَشِيبٍ ومُفْأَمِ

وِالجَزْعُ، بالفَتْحِ، وعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الجَوْهَرِيّ، ويُكْسَرُ، عن كُرَاع، ونَسَبَهُ ابنُ دُرَيْدٍ للعَامَّة: الخَرَزُ اليَمَانِيُّ، كما في الصّحاح، زادَ غَيْرُهُ: الصِّينِيُّ، قالَ الجَوْهَرِيُّ: هو الَّذِي فيه سَوَادٌ وبَيَاضٌ تُشَبَّهُ به الأَعْيُنُ، قالَ امْرُؤُ القَيْسِ:

كأَنَّ عُيُونَ الوَحْشِ حَوْلَ خِبَائِنَا *** وِأَرْحُلِنَا الجَزْعُ الَّذِي لَمْ يُثَقَّبِ

لِأَنَّ عُيُونَها ما دامَتْ حَيَّةً سُودٌ، فإذَا ماتَتْ بَدَا بَياضُهَا، وإنْ لَمْ يُثَقَّبْ كانَ أَصْفَى لَهَا.

وقَالَ أَيْضًا يَصِفُ سِرْبًا:

فأَدْبَرْنَ كالجَزْعِ المُفَصَّلِ بَيْنَهُ *** بجِيدِ مُعِمٍّ في العَشِيرَةِ مُخْوِلِ

وكانَ عِقْدُ عائشَةَ ـ رضي ‌الله‌ عنها ـ مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ. قالَ المُرَقِّشُ الأَكْبَر:

تَحَلَّيْن يَاقُوتًا وشَذْرًا وصِنْعَةً *** وِجَزْعًا ظَفَارِيًّا ودُرًّا تَوَائِمَا

وقَالَ ابْنُ بَرِّي: سُمِّي جَزْعًا لِأَنَّهُ مُجَزَّعٌ، أَيْ مُقَطَّعٌ بأَلْوَانِ مُخْتَلِفَةٍ، أَيْ قُطِّعَ سَوَادُهُ ببَيَاضِه وصُفْرَتِهِ، والتَّخَتُّمُ به لَيْسَ بِحسَنٍ، فإِنَّهُ يُورِثُ الهَمَّ والحُزْنَ والأَحْلامَ المُفَزِّعَةَ، ومُخَاصَمَةَ النَّاسِ، عن خاصَّةٍ فِيه، ومِنْ خَوَاصِّهِ إنْ لُفَّ به شَعرُ مُعْسِرٍ وَلَدَتْ مِنْ سَاعَتِهَا.

وِجِزْعُ الوَادِي، بالكَسْرِ، كَما في الصّحاحِ والعُبَابِ واللِّسَانِ، وقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: اللائِقُ به أَنْ يَكُونَ مَفْتُوحًا، وهو مُنْعَطَفُ الوَادِي، كَما في الصِّحاحِ، زَادَ ابنُ دُرَيْدٍ: وقِيلَ: وَسَطُهُ أَو مُنْقَطَعُه، ثَلاثُ لُغَاتٍ، أَو مُنْحَنَاهُ، قالَهُ الأَصْمَعِيُّ وقِيلَ: جِزْعُ الوادِي حَيْثُ يَجْزَعُه، أَيْ يَقْطَعُه. وقِيلَ: هو ما اتَّسَعَ مِن مَضَايِقِهِ، أَنْبَتَ أَو لَمْ يُنْبِتْ. وقِيلَ: هو إذا قَطَعْتَهُ إلَى جانِبٍ آخَرَ، أَوْ لا يُسَمَّى جِزْعًا حَتَّى تَكُونَ لَهُ سَعَةٌ تُنْبِتُ الشَّجَرَ وغَيْرَه، نَقَلَهُ اللَّيْثُ عن بَعْضِهِم، وجَمْعُهُ أَجْزَاعٌ.

واحْتَجَّ بقَوْلِ لَبِيدٍ ـ رضي ‌الله‌ عنه ـ:

حُفِزَتْ وزَايَلَهَا السَّرَابُ كَأَنَّهَا *** أَجْزَاعُ بِيشَةَ أَثْلُهَا ورُضَامُهَا

قالَ: أَلا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ الأَثْل وهو الشَّجَرُ. وقَالَ آخَرُ: بَلْ يَكُونُ جِزْعًا بغَيْرِ نَبَاتٍ. وأَنْشَدَ غَيْرُهُ لِأَبِي ذُؤَيْبٍ يَصِفُ الحُمُر:

فكَأَنَّهَا بالجِزْعِ بَيْنَ نُبَايِعٍ *** وِأُولاتِ ذِي العَرْجَاءِ نَهْبٌ مُجْمَعُ

ويُرْوَى «بالجِزْعِ جِزْع نُبَايعٍ»، وقد مَرّ إنْشَادُ هذَا البَيْتِ في «ب ي ع» ويَأْتِي أَيْضًا في «ج معروف ع» و«ن ب ع» إنْ شَاءَ الله تَعَالَى، أَوْ هو مَكَانٌ بالوَادِي لا شَجَرَ فِيهِ، عَن ابْنِ الأَعْرَابِيّ ورُبَّمَا كانَ رَمْلًا وقِيلَ: جِزْعَةُ الوَادِي: مَكَانٌ يَسْتَدِيرُ ويَتَّسِعُ.

وِالجِزْعُ: مَحِلَّةُ القَوْمِ، قالَ الكُمَيْتُ:

وِصادَفْنَ مَشْرَبَهُ والمَسَا *** مَ شِرْبًا هَنِيئًا وجِزْعًا شَجِيرًا

وِالجِزْعُ: المُشْرِفُ مِن الأَرْضِ إلَى جَنْبِه طُمَأْنِينَةٌ.

وِقالَ ابنُ عَبّادٍ: الجِزْعُ: خَلِيَّةُ النَّحْلِ، ج: أَجْزَاعٌ.

وِجِزْع: قرية، يَمِينِ الطّائِف، وأُخْرَى عن شِمَالِهَا.

وِقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: الجُزْع، بالضَّمِّ: المِحْوَرُ الَّذِي تَدُورُ فيه المَحَالَةُ، يَمانِيةٌ، ويُفْتَحُ.

وِالجُزْع أَيْضًا: صِبْغٌ أَصْفَرُ، وهو الَّذِي يُسَمَّى الهُرْدَ، والعُرُوقَ الصُّفْرَ في بَعْضِ اللُّغَاتِ، قالَهُ ابنُ دُرَيْدٍ.

وِالجَازِعُ: الخَشَبَةُ الَّتِي تُوضَعُ في العَرِيشِ أَيْضًا عَرْضًا يُطْرَحُ عَلَيْه، كذا في النُّسخ، وفي الصّحاحِ: تُطْرَحُ عَلَيْهَا قُضْبانُ الكَرْمِ. قالَ الجَوْهَرِيُّ: ولَمْ يَعْرِفْهُ أَبُو سَعِيدٍ، وقال غَيْرُهُ: إنَّمَا يُفْعَلُ ذلِكَ لِيَرْفَعَ القُضْبَانَ عَنِ الأَرْضِ، فإِنْ نَعَتَّ تِلْكَ الخَشَبَةَ قُلْتَ: خَشَبَةٌ جَازِعةٌ. قالَ: وكذلِكَ كُلُّ خَشَبَةٍ مَعْروضَة بَيْنَ شَيْئيْن ليُحْمَل عليها شَيْ‌ءٌ، فهي جازِعَةَ.

وِالجِزْعَةُ، بالكَسْر: القَلِيلُ مِن المالِ، ومِن الماءِ، كما في الصّحاح. يُقَالُ: جَزَعَ لَهُ جِزْعَةً من المالِ، أَيْ قَطَعَ له مِنْهُ قِطْعَةً ويُضَمُّ عَن ابنِ دُرَيْدٍ. قالَ: مَا بَقِيَ في الإِنَاءِ إلّا جِزْعَةٌ وجُزَيْعَةٌ، وهِي القَلِيلُ مِنَ الماءِ، وكذلِكَ هي في القِرْبَةِ والإدَاوَةِ. وقالَ غَيْرُهُ: الجُزْعَةُ من الماءِ واللَّبَنِ: ما كان أَقَلَّ مِن نِصْفِ السِّقاءِ والإِناءِ والحَوْضِ. وقال اللِّحْيَانِيُّ مَرَّةٌ: بَقِيَ في السِّقَاءِ جُزْعَةٌ مِن ماءٍ، وفِي الوَطْبِ جُزْعَةٌ من لَبَنٍ، إذا كَانَ فيه شَيْ‌ءٌ قَلِيلٌ، وقَالَ غَيْرُهُ: يُقَالُ: في الغَدِيرِ جُزْعَةٌ، ولا يُقَالُ: في الرَّكِيَّةِ جُزْعَةٌ، وقال ابنُ شُمَيل يقالُ: في الحوضِ جُزْعَةٌ: وهي الثُّلُثُ، أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ، وهي الجُزَعُ. وقَالَ ابْنُ الأَعْرَابِيّ: الجُزْعَةُ، والكُثْبَةُ، والغُرْفَةُ، والخُمْطَةُ: البَقِيَّةُ مِنَ اللَّبَنِ.

وِقال أَبْو لَيْلَى: الجِزْعَةُ: القِطْعَةُ مِن الغَنَمِ.

وِفي الصّحاح: الجِزْعَةُ: طائِفَةٌ مِنَ اللَّيْلِ، زادَ غَيْرُه: ماضِيَةً أو آتِيَةً، يُقَالُ: مَضَتْ جِزْعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ، أَيْ سَاعَةٌ مِنْ أَوّلِهَا وبَقِيَتْ جِزْعَةٌ مِنْ آخِرِهَا، وهو مَجَازٌ. وفي العُبَابِ: ما دونَ النَّصْفِ، وقال غيره: من أَوَّلِهِ أَوْ مِن آخِرِهِ.

وِالجِزْعَةُ: مُجْتَمَعُ الشَّجَر يُرَاحُ فيه المالُ من القُرِّ ويُحْبَسُ فِيهِ إذا كانَ جائعًا، أَوْ صادِرًا أَو مُخْدِرًا والمخْدِرُ: الَّذِي تَحْتَ المَطَرِ.

وِالجِزْعَةُ الخَرَزَةُ اليَمَانِيَةُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُها ويُفْتَحُ، وقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الكَسْرَ نَسَبَهُ ابنُ دُرَيْدٍ للعَّامَّةِ.

وِالجَزَعُ، مُحَرَّكَةً: نَقِيضُ الصَّبْر، كَمَا في الصّحّاح، زادَ في العُبَابِ: وهو انْقِطَاعُ المُنَّةِ من حَمْلِ ما نَزَلَ. وفي المِصْبَاحِ: هو الضَّعْفُ عَمَّا نَزَلَ به. وقالَ جَمَاعَةٌ: هو الحُزْنُ. وقِيلَ: هو أَشَدُّ الحُزْنِ الَّذِي يَمْنَعُ الإنْسَانَ ويَصْرِفُهُ عمّا هُوَ بصَدَدِهِ، ويَقْطَعُه عَنْه، وأَصْلُهُ القَطْعُ، كما حَرَّرَهُ العَلّامَةُ عَبْدُ القَادِرِ البَغْدَادِيُّ، في شَرٌحْ شواهدِ الرَّضِيّ، ونَقَلَهُ شَيْخُنَا، وهذا عَن ابْنِ عَبّاد، وأَصْلُهُ في مُفْرَدَاتِ الراغِبِ، وقد جَزِعَ، وهذا عَن ابْنِ عَبّادٍ، كَفَرِحَ، جَزَعًا وجُزُوعًا، بالضَّمِّ، فهو جازعٌ وجَزِعٌ، ككَتِفٍ، ورَجُل، وصَبُورٍ، وغُرَابٍ. وقِيلَ: إذا كَثُرَ مِنْهُ الجَزَعُ، فهو جَزُوعٌ وجُزَاعٌ، عَنِ ابْنِ الأَعْرَابِيّ، وأَنْشَدَ:

وِلَسْتُ بمِيسَمٍ في الناسِ يَلْحَى *** عَلَى ما فَاتَهُ وَخِمٍ جُزاعِ

وِأَجْزَعَهُ غَيْرُهُ: أَبْقى.

وِيُقَالُ: أَجْزَعَ جِزْعَةً، بالكَسْرِ، والضَّمّ، أَيْ أَبْقَى بَقِيَّةً، كما فِي العُبَابِ. وقِيلَ: ما دُونَ النِّصْفِ.

وِقالَ ابْنُ عَبّادٍ: قالَ أَعْشَى بَاهِلَةَ:

فإِنْ جَزِعْنَا فإِنَّ الشَّرَّ أَجْزَعَنَا *** وِإنْ جَسَرْنا فإِنّا مَعْشَرٌ جُسُرُ

جُزْعَةُ السِّكِّين بالضَّمّ: جُزْأَتُهُ، لُغَةٌ فيه.

وِجَزَّعَ البُسْرُ تَجْزِيعًا فهو مُجَزّعٌ، كمُعَظَّمٍ ومُحَدِّثٍ.

قالَ شَمِرٌ: قَال المَعَرِّيُّ: المُجَزِّعُ، بالكَسْر، وهو عِنْدِي بالنَّصْبِ علَى وَزْنِ مُخَطَّم. قال الأَزْهَرِيُّ: وسَماعِي مِن الهَجَرِيِّينَ: رُطَبٌ مُجَزِّع بِكَسْر الزّاي، كَما رَواه المَعَرِّيّ عَنْ أَبِي عُبَيْد. قُلْتُ: وعَلَى الكَسْرِ اقْتَصَرَ الجَوْهَرِيّ، وقَدْ تَفَرَّدَ شَمِرٌ بالفَتْحِ: أَرْطَبَ إلَى نِصْفِهِ، وقِيلَ: بَلَغَ الإِرْطَابُ مِنْ أَسْفَلِهِ إلَى نِصْفِهِ. وقِيلَ: إلَى ثُلُثَيْهِ، وقِيلَ: بَلَغَ بَعْضَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَدَّ، وكَذلِكَ الرُّطَبُ والعِنَبُ ورُطَبَةٌ مُجَزِّعة كمُحَدِّثَةٍ قالَ ابنُ دُرَيْدٍ: هكَذَا قالَهُ أَبُو حَاتِمٍ، ويُقَالُ: بالفَتْحِ أَيْضًا، إذا أَرْطَبَتْ إلَى نِصْفِهَا أَوْ نَحْوَ ذلِكَ، وقِيلَ: إلَى ثُلُثَيْهَا. وقالَ الرّاغِبُ: هو مُسْتَعَارٌ من الخَرَزِ المُتَلَوِّنُ.

وِجَزَّعَ فُلانًا تَجْزِيعًا: أَزَال جَزَعَهُ، ومِنْهُ الحَدِيثُ: «لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ جَعَلَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي ‌الله‌ عنهما يُجَزِّعُهُ» قالَ ابنُ الأَثِيرِ: أَيْ يَقُولُ لَهُ ما يُسَلِّيهِ ويُزِيلُ جَزَعَهُ، وهو الحُزْنُ والخَوْفُ.

وِجَزَّعَ الحَوْضُ فهُوَ مجَزِّعٌ، كمحَدِّثٍ، إذا لَمْ يَبْقَ فيه إلا جِزْعَةٌ، أَيْ بَقِيَّةٌ من الماءِ.

وِنَوى مُجَزَّعٌ، بالفَتْحِ، ويُكْسَرُ، وهو الَّذِي حُكَّ بَعْضُهُ حَتَّى أَبْيَضَّ، وتُرِكَ البَاقِي علَى لَوْنِهِ، تَشْبِيهًا بالجَزْعِ. وفي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي ‌الله‌ عنه: «أَنَّهُ كانَ يُسَبِّحُ بالنَّوَى المُجَزَّعِ». وكُلُ ما اجْتَمَعَ فِيهِ سَوَادٌ وبَياضٌ فهو مُجَزَّعٌ ومُجَزِّع، بالفَتْحِ والكَسْرِ.

وِانْجَزَعَ الحَبْلُ، إذا انْقَطَعَ أَيًّا كانَ، أَو إذا انْقَطَعَ بنِصْفَيْنِ يُقَالُ: انْجَزَعَ. ولا يُقَالُ: انْجَزَعَ إذا انْقَطَعَ مِنْ طَرَفِهِ.

وِانْجَزَعَت العَصَا، إذا انْكَسَرَتْ بنِصْفَيْنِ. قال سُوَيْدُ بنُ [أَبِي] كاهِلٍ اليَشْكُرِيّ:

تَعْضِبُ القَرْنَ إذا ناطَحَهَا *** وِإذا صابَ بِهَا المِرْدَى انْجَزَعْ

كتَجَزَّعَتْ. يُقَالُ: تَجَزَّعَ الرُّمْحُ، إذا تَكَسَّرَ، وكَذلِكَ السَّهْمُ وغَيْرُهُ قالَ:

إذا رُمْحُهُ فِي الدّارِ عِينَ تَجَزَّعا

وِاجْتَزَعَهُ؛ أَي العُودَ مِنَ الشَّجَرَةِ، إذا كَسَرَهُ وقَطَعَهُ، وفي الصّحاح: اقْتَطَعَهُ واكْتَسَرَهُ، ورَوَاهُ ابْنُ عَبّاد بالرّاءِ أَيْضًا، كما تَقَدَّمَ.

وِالهِجْزَعُ، كدِرْهَم: الجَبَان، هِفْعَلٌ مِنَ الجَزَعِ، هاؤُه بَدَلٌ من الهَمْزَة، عَنِ ابْنِ جِني. قال: ونَظِيره هِجْرَعٌ وهِبْلَع، فِيمَنْ أَخَذَهُ من الجَرْع والبَلْع، ولَمْ يَعْتَبِرْ سِيبَوَيْه ذلِكَ، وسَيَأْتِي ذلِكَ في الهاءِ مَعَ العَيْنِ.

* وممّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْه:

التَّجَزُّعُ: التَّوَزُّع والاقْتِسَامُ، من الجَزْعِ وهو القَطْعُ، ومِنْهُ حَدِيثُ الضَّحِيَّة: «فتَفَرَّقَ النّاسُ عنه إلى غَنِيمَةٍ فتَجَزَّعُوها» أَي اقْتَسَمُوها. وتَمْرٌ مُتَجَزِّعٌ: بَلَغَ الإِرْطَابُ نِصْفَهُ. ولَحْمٌ مُجَزَّعٌ: فيه بَيَاضٌ وحُمْرَةٌ. ووَتَرٌ مُجَزَّعٌ: مُخْتَلِفُ الوَضْعِ، بِعْضُه رَقِيقٌ، وبَعْضُه غَلِيظٌ، كما في اللِّسَانِ. وفي الأَسَاسِ: وَتَرٌ مُجَزَّعٌ: لَمْ يُحْسِنُوا إغَارَتَهُ، فاخْتَلَفَتْ قَوَاهُ. قُلْتُ: وقد تَقَدَّمَ في الرَّاءِ أَيْضًا.

وِجَزَّعْتُ في القِرْبَةِ تَجْزِيعًا: جَعَلْتُ فِيهَا جُزْعَةً.

وقَال أَبو زَيْدٍ: كَلَأٌ جُزَاعٌ، بالضَّمِّ، وهو الكَلأُ الَّذِي يَقْتُلُ الدَّوابَّ، ومِنْهُ الكَلأُ الوَبِيلُ، مثلُ جُدَاعٍ بالدّالِ، نَقَلَهُ الصّاغَانِيُّ، وصاحِبُ اللِّسَان.

وِالجُزَيْعَةُ: القِطْعَةُ من الغَنَمِ، تَصْغِيرُ الجِزْعَةِ، بالكَسْر، وهُوَ القَلِيلُ مِن الشَّيْ‌ءِ، هكَذا هو في نُسَخِ الصّحاحِ بخَطِّ أَبي سَهْلٍ الهَرَوِيّ. وقالَ ابنُ الأَثِيرِ: وهكَذَا ضَبَطَهُ الجَوْهَرِيُّ مُصغَّرًا.

والذِي جَاءَ في المُجْمَلِ لابْنِ فَارِسٍ ـ بفَتْحِ الجِيمِ وكَسْرِ الزَّايِ ـ: الجَزِيعَةُ، وقَالَ: هي القِطْعَةُ من الغَنَمِ، فَعِيلَةٌ بمَعْنَى مَفْعُولَة. قال: ومَا سَمِعْنَاها في الحَدِيثِ إِلّا مُصَغَّرَةً. وفي حَدِيثِ المِقْدَادِ: «أَتَانِي الشَّيْطَانُ فقالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَأْتِي الأَنْصَارَ فَيُتْحِفُونَهُ، ما بِهِ حاجَةٌ إِلى هذِهِ الجُزَيْعَةِ» هي تَصْغِيرُ جِزْعَةٍ، يُرِيدُ القَلِيلَ مِنَ اللِّبَنِ، هكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو أَبُو مُوسَى وشَرَحَه، والَّذِي جاءَ في صَحِيحِ مُسْلِم: «ما به حاجَةٌ إِلَى هذِهِ الجِزْعَةِ»، غَيْر مُصَغَّرَة. وأَكْثَرُ ما يُقْرَأُ في كِتَابِ مُسْلِمٍ «الجُرْعَة»، بضَمِّ الجِيمِ وبِالرَّاءِ، وهِي الدُّفْعَةُ مِن الشُّرْبِ. وقد تَقَدَّمَ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


189-تاج العروس (سعف)

[سعف]: السَّعَفُ، مُحَرَّكَةً: جَرِيدُ النَّخْلِ، هكذا نَقَلَهُ الأَزْهَرِيُّ عن بَعْضِهم.

أَو الصَّوَابُ أنَّ سَعَفَ الجَرِيدِ: وَرَقُهُ الذِي يُسَفُّ منه الزُّبْلانُ والجِلَالُ، والمَرَاوِحُ، وما أَشْبَهَهَا ومنه حديثُ سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، في صِفَةِ نَخْلِ الجَنَّةِ: «كَرَبُهَا ذَهَبٌ، وَسَعَفُهَا كُسْوَةُ أَهْلِ الجَنَّةِ» وقال الشاعِرُ:

إِنِّي علَى العَهْدِ لستُ أَنْقُضُهُ *** مَا اخْضَرَّ في رَأْسِ نَخْلَةٍ سَعَفُ

وقال اللَّيْثُ: أَكْثَرُ ما يُقَالُ له السَّعَف: إِذا يَبِسَتْ، وإذا كَانَتِ السَّعَفَةُ رَطْبَةً، فَشَطْبَةٌ، قال الأَزْهَرِيُّ: ومِمَّا يَدُلُّ على أنَّ السَّعَفَ الوَرَقُ، قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ:

وَأَرْكَبُ في الرَّوْعِ خَيْفَانَةً *** كَسَا وَجْهَهَا سَعَفٌ مُنْتَشِرْ

وَهو مَجَازٌ، شَبَّه بها نَاصِيةَ الفَرَسِ.

والسَّعَفُ: التَّشَعُّثُ حَوْلُ الأَظْفَارِ، وَقد سَعِفَتْ يَدُه، بالكَسْرِ، مِثْل سَئِفَتْ نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ.

وقال ابنُ الأَعْرَابِيِّ: السَّعَفُ جَهَازُ العَرُوسِ، ج: سُعُوفٌ، بالضَّمِّ.

وقال ابنُ السِّكِّيتِ: السَّعَفُ: دَاءٌ يكونُ في أَفْوَاهِ الإِبِلِ كَالْجَرَبِ، يَتَمَعَّطُ مِنْهُ خُرْطُومُهَا، وَشَعَرُ عَيْنِهَا، يُقَال: نَاقَةٌ سَعْفَاءُ، وبَعِيرٌ أَسْعَفُ، نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ عنه، وخَصَّ أَبو عُبَيْدٍ به الإِنَاثَ، وقد سُعِفَتْ، بِالضَّمِّ، هكذا في سائرِ النُّسَخِ، وهو غَلَطٌ، والصَّوابُ: وقد سَعِفَتْ، كَفَرِحَ، وَنَّصُّ الصِّحاحِ: وقد سُعِفَ، ومِثْلُه في الغَنَمِ الغَرَبُ.

وقال ابنُ الأَعْرَابِيِّ: لا يُقَال السَّعَفُ في الجِمَالِ، قال أَبو زَيدٍ: وجَوَّزَ ذلك بعضُهُمْ، وهي لُغَةٌ قَلِيلَةُ، قال ابنُ الأَعْرَابِيِّ: وإِنَّما هي في النُّوقِ، وَمِثْلُه عن أَبي عُبَيْدٍ.

والأَسْعَفُ مِن الخَيْلِ: الأَبْيَضُ، وَنَصُّ الصِّحاحِ: الأَشْيَبُ النَّاصِيَةِ، وَذلك ما دَامَ فيها لَوْنٌ مُخَالِفٌ لِلْبَيَاضِ، فإذا ابْيَضَّتْ كلُّهَا فهو الأَصْبَغُ، كذا في كتابِ الخَيْلِ لأَبِي عُبَيْدَةَ.

والسُّعُوفُ، بِالضَّمِّ: الأَقْدَاحُ الكِبَارُ، عن ابنِ الأَعْرَابِيِّ.

وقال بعضُهُم: السُّعُوفُ: أَمْتِعَةُ البَيْتِ، وَفُرُشُهُ، وخَصَّهَا بعضُهم بالمُحَقَّرَاتِ، كالتَّوْرِ، والدَّلْوِ، والحَبْلِ، ونحوِهَا.

وقال ابنُ الأَعْرَابِيِّ: السُّعُوفُ: طَبَائِعُ النَّاسِ مِن الْكَرَمِ، وغَيْرِهِ، وَقال أَبو عمرٍو: يُقَال للضَّرائِبِ سُعُوفٌ، قال: ولم أَسْمَعْ لها بوَاحِدٍ.

وقال ابنُ الأَعْرابِيِّ: كُلُّ شَيْ‌ءٍ جَادَ وبَلَغَ، مِنْ مَمْلُوكٍ، أو عِلْقٍ، أو دَارٍ مَلَكْتَهَا، فهو سَعَفٌ، مُحَرَّكَةً.

والسَّعْفُ، بِالتَّسْكِينِ: السِّلْعَةُ، يُقَال: إِنَّه سَعْفُ سُوءٍ، أي: مَتاعُ سُوءٍ.

وقال أَبو الهَيْثَمِ: السَّعْفُ: الرَّجُلُ النَّذْلُ.

وقال اللَّيْثُ: السَّعْفَةُ بِهَاءٍ: قُرُوحٌ تَخْرُجُ بِرَأْسِ* الصَّبِيِّ وَوَجْهِهِ، وَنَقَلَهُ الجَوْهرِيُّ، ولم يذكُر الوَجْهَ، وقال بعضُهُم: هي قُرُوحٌ تَخْرُج بالرَّأْسِ، ولم يَخُصَّ به رَأْسَ صَبِيٍّ ولا غيْرِه، وقال كُرَاعٌ: هو دَاءٌ يخرُج بالرَّأْسِ، ولم يُعَيِّنْهُ، وقد سُعِفَ، كَعُنِيَ، وهو مَسْعُوفٌ، وَقال أَبو ليلى: يُقَال: سُعِفَ الصَّبِيُّ: إذا ظَهَرَ ذلك به، وقال أَبو حاتم: السَّعْفَةُ: يُقال لها: دَاءُ الثَّعْلَبِ، يُورِثُ القَرَعَ، والثَّعَالِبُ يُصِيبُهَا هذا الدَّاءُ، فلذلك نُسِبَ إِليها.

وسَعْفَةٌ، بِلَا لامٍ: وَالِدُ أَيُّوبَ العِجْلِيِّ الشَّاعِرِ، نَقَلَهُ الصَّاغَانِيُّ.

وسَعَفَ الرَّجُلَ بِحَاجَتِهِ، كَمَنَعَ سَعْفًا، عن ابنِ عَبَّادٍ، وأَسْعَفَ، إِسْعافًا: قَضَاها لَهُ، قَالَهُ الجَوْهَرِيُّ.

وأَسْعَفَ الشَّيْ‌ءُ: دَنَا، وَكذا أَسْعَفَ بِه، إذا دَنَا منه، قال الرَّاعِي:

وَكَائِنْ تَرَى مِنْ مُسْعِفٍ بِمَنِيَّةٍ *** يُجَنَّبُهَا أو مُعْصِمٍ ليس نَاجِيَا

وَيُرْوَى: «مُجْحِفٍ»، وهما بمعنًى.

وأَسْعَفَ لَهُ الصَّيْدُ: أَمْكَنَهُ.

وأَسْعَفَ بِأَهْلِهِ: أَلَمَّ بهم.

وَمن الإسْعَافِ بمَعْنى القُرْبِ والإِعَانَةِ وقَضاءِ الحَاجَةِ، ما رُوِيَ في الحدِيثِ: «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي، يُسْعِفُنِي ما يُسعِفُهَا» أي: يَنَالُنِي ما يَنَالُهَا، ويُلِمُّ بِي ما يُلِمُّ بها.

والتَّسْعِفُ: تَخْلِيطُ الْمِسْكِ ـ ونَحْوِهِ ـ بِأَفَاوِيهِ الطِّيبِ، وَالأَدْهَانِ الطَّيِّبَةِ، يُقَال: سَعِّفْ لي دُهْنِي، قَالَهُ ابنُ شُمَيْلٍ.

وقال اللَّيْثُ: سَاعَفَهُ: مُسَاعَفَةً: إذا سَاعَدَهُ، أو وَاتَاهُ علَى الأَمْرِ، أي: وَافَقَهُ في حُسْنِ مْصَافَاةٍ، ومُعَاوَنَةٍ، وَأَنْشَدَ:

إِذِ النَّاسُ نَاسٌ والزَّمَانُ بِغِرَّةٍ *** وَإِذْ أُمُّ عَمَّارٍ صَدِيقٌ مُسَاعِفُ

وَأَنْشَدَ غيرُه:

وَإنَّ شِفَاءَ النَّفْسِ لَوْ تُسْعِفُ النَّوَى *** أُولَاتُ الثَّنَايَا الغُرِّ والحَدَقِ النُّجْلِ

أي: لو تَقْرُبُ وتُوَاتِي، قال أَوْسُ بنُ حَجَرٍ:

ظَعَائِنُ لَهْوٍ وُدُّهُنَّ مَسَاعِفُ.

ومَكَانٌ مُسَاعِفٌ أي قَرِيبٌ، دَانٍ، وكذا مَنْزِلٌ مُسَاعِفٌ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

السَّعَفَةُ، مُحَرَّكَةً: النَّخْلَةُ نَفْسُهَا، كما في اللِّسَان، وَجَمْعُ السَّعَفَةِ: سَعَفَاتٌ، ومنه‌قَوْلُ عَمَّارٍ رضي ‌الله‌ عنه: «لو ضَرَبُونَا حتى يَبْلُغُوا بِنا سَعَفَاتِ هَجَرَ».

وَالسَّعَفَةُ: لُغَةٌ في السَّعْفَةِ، بالفَتْحِ، بمَعْنَى داءِ الثَّعْلَبِ.

وَالسُّعَافُ، كغُرَابٍ: شُقَاقٌ حَوْلَ الظُّفُرِ وتَقَشُّرٌ، كذا في المُحِيطِ، واللِّسَانِ.

وَأَسْعَفَ إِليه: تَوَجَّهَ، وقَصَدَ.

وَالسَّعَفُ: ضَرْبٌ مِن الذُّبابِ، نَقَلَهُ ابنُ بَرِّيّ، وأَنْشَدَ:

حَتَّى أَتَيْتُ مُرِيًّا وهْوَ مُنْكَرِسٌ *** كَاللَّيْثِ يَضْرِبُهُ في الغَابَةِ السَّعَفُ

وَسَاعَفَهُ جَدُّهُ: سَاعَدَهُ، وهو مَجازٌ، وكذا: سَاعَفَتْهُ الدُّنْيَا، كما في الأَساسِ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


190-تاج العروس (بكل)

[بكل]: البَكْلُ الخَلْطُ يقالُ: بَكَلْتُ السَّوِيق بالدَّقيقِ أي خَلَطْتُه، وكذلِكَ لَبَكْته.

والبَكْلُ: الغَنَيمَةُ وضَبَطَه الصَّاغَانيُّ بالتَّحْرِيكِ وأَنْشَدَ لأَبي المُثَلَّم الهُذَلِيّ:

كُلُوا هنيئًا فإنْ أُثقِفْتُم بَكَلًا *** مما تُصيب بَنُو الرَّمْدَاءِ فابْتَكِلُوا

كالتَّبَكُّلِ وهذا اسمٌ لا مَصْدَرٌ ونَظِيرُه التَّنَوُّط. وقالَ أَبُو عُبَيْدٍ التَّبَكُّلُ: التَّغَنَّمُ، قالَ أوْسُ بنُ حَجَرَ:

عَلى خَيْرِ ما أَبْصَرْتها من بِضَاعة *** لِمُلْتَمِسٍ بَيْنعًا بها أو تَبَكُّلا

والبَكْلُ: اتَّخاذُ البَكِيلَة كسَفينَةٍ وسَحابَةٍ وهذه عن أَبي زَيْدٍ والأُمَويّ للدَّقيقِ يُخْلَطُ بالرُّبِّ أو يُخْلَطُ بالسَّمْنِ والتمرِ. أو البَكِيلَة سَويقٌ يُبَلُّ بَلًّا أو سَويقٌ بِتَمْرٍ يُؤْكَلان في إِناءٍ واحدٍ. وقد بلّا في لَبَنٍ قالَهُ ابنُ السِّكِّيت أو دَقيقٌ يُخْلَطُ بِسَويقٍ ويُبَلُّ بماءٍ وسَمْنٍ أو زَيْتٍ قالَهُ أَبُو زَيْدٍ، أَو الأَقِطُ الجافُّ يُخْلَطُ به الرُّطَبُ أو طَحينٌ وتَمْرٌ يُخْلَطانِ بزَيْتٍ. وقالَ الأُمَوِيُّ: البَكِيلَة: السَّمْنُ يُخْلَطُ بالأَقِطِ وأَنْشَدَ:

غَضْبَانُ لم تُؤْدَمْ له البَكِيلة

وقال الكلابي: البَكِيلَة الأَقِطُ المَطْحونُ تَبْكلُه بالماءِ فتَشْربه به كأَنَّكَ تُريدُ أَنْ تَعْجِنَه وقَوْلُ الرَّاجزِ:

ليس بغَشٍّ هَمُّه فيمَا أَكَل *** وأَزْمةٌ وَزْمتُه من البَكَل

إِنما أَرَادَ البَكْلِ فحرَّكَه للضَّرورَةِ. والتَّبْكِيلُ التَّخْلِيطُ، والبَكِيلَةُ كسَفِينَةٍ الضَّأنُ والمَعَزُ يَخْتَلِطُ يقالُ: ظَلَّت الغَنَم بَكِيْلةً واحِدَةً وعَبِيْثَة واحِدَةً إذا اخْتَلَطَ بعضُها ببعضِ. والبَكِيلَةُ: الغَنَمُ إذا أَلْقَيْتَ عليها غَنَمًا أُخْرَى فاخْتَلَط بعضَها ببعضٍ. والبَكِيلَةُ: الغَنيمَةُ والبِكْلَةُ بالكسرِ الطَّبيعَةُ والخُلُقُ كالبَكِيلَةِ والبِكْلَةُ: الهَيْئَةُ والزِيُّ وأَيْضًا الحالُ والخِلْقَةُ حَكَاه ثَعْلَب وأَنْشَدَ:

لَسْتُ إذًا لِزَعْبَله *** إنْ لم أُغَيِّرْ بِكْلَتَي

إنْ لم أُسَاوَ بالطُّوَلْ

قال ابنُ بَرِّيّ: هذا البَيْت من مُسَدَّس الرَّجَز جاءَ على التَّمام.

وبَنُو بِكالٍ ككِتابٍ بَطْنٌ من حِمْيَرَ وهم بَنُو بِكالِ بن دعمي بن غَوْث بن سَعْد، منهم نَوْفُ بنُ فُضالَةَ أَبُو يَزِيد أَبُو أَبي عَمْرٍو أَو أَبُو رشيد الحِمْيَري البِكَالِيُّ التَّابِعِيُّ هكذا ضَبَطَه المحدِّثونَ بالكسرِ، ومنهم من ضَبَطَه كشَدَّادٍ وأُمّه كانت امْرَأَةَ كَعْب يَرْوِي القصَصَ، رَوَى عنه أَبُو عُمْران الجونيّ والناس. وبَكِيلُ: كأَميرٍ حَيٌّ من هَمْدانَ وهو بَكِيلُ بنُ جُشَم بن خيران بن نَوْف بن هَمدان قالَ الكُمَيْتُ:

يقُولُونَ لم يُورَثْ ولولا تُرَاثُه *** لقد شركَتْ فيهم بَكِيلٌ وأَرْحَبُ

والتَّبَكُّلُ مُعارَضَةُ شي‌ءٍ بشي‌ءٍ كالبَعيرِ بالأَدَمِ ويقالُ: رجُلٌ جَمِيلٌ بَكيلٌ أي مُتَنَوِّقٌ في لُبْسِهِ ومَشْيِهِ وذو بَكْلانَ كسَحْبانَ بنُ ثابِتٍ بن زَيْد بن رُعَيْن الرُّعَيْنِي من اذواء رُعَيْنٍ وتَبَكَّلَهُ وتَبَكَّلَ عليه إذا عَلاهُ بالشَّتْمِ والضَّرْبِ والقَهْرِ وتَبَكَّلَ في الكَلامِ خَلَّطَ وتَبكلَ في مِشْيَتِهِ اخْتالَ.

* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:

الابْتِكَال: الاغْتِنَامُ وشاهِدُه قَوْل أَبي المثلم الهُذَلِيّ الذي تقدَّمَ.

وبَكَلَ علينا حدِيْثَه وأَمْرَه: جاءَ به على غَيرِ وَجْهِه، والاسمُ البَكِيلَةُ.

وبَكَّلَه تَبْكِيلًا نَحَّاه قَبْلَه كائِنًا ما كان.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


191-تاج العروس (حمل)

[حمل]: حَمَلَهُ على ظَهْرِه يَحْمِلُهُ حَمْلًا وحُمْلانًا بالضم فهو مَحْمولٌ وحَميلٌ ومنه قَوْلُه تعالَى: {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْرًا} وقَوْلُه تعالَى: {فَالْحامِلاتِ وِقْرًا} يعْنِي السَحابَ. وقَوْلُه تعالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} أَي لا تَدَّخِرُ رزْقَها إِنَّما تُصْبح فيرزقُها اللهُ تعالَى.

واحْتَمَلَهُ كذلِكَ قالَ الله تعالَى: {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رابِيًا} وقَوْلُ النابغَةِ:

فَحَمَلْتُ بَرَّة واحْتَمَلْتَ فَجَارِ

عَبَّر عن البَرِّ بالحَمْلِ، وعن الفَجْرةِ بالاحْتِمَالِ، لأَنَّ حَمْلَ البَرةِ بالإِضافَةِ إِلى احْتِمَالِ الفَجْرَةِ أَمْرٌ يَسيرٌ ومُسْتَصْغَرٌ، ومِثْلُه: لها ما كَسَبَتْ وعليها ما اكْتَسَبَتَ.

وقالَ الرَّاغِبُ: الحَمْلُ معْنًى واحِدٍ اعْتُبِرَ في أَشْياءَ كَثِيرةٍ فَسُوِّي بَيْن لَفْظِه في فِعْلٍ وفَرَّقَ بَيْن كَثِيرٍ منها في مَصَادِرِها، فقيلَ، في الأَثْقالِ المَحْمُولَةِ في الظاهِرِ كالشي‌ءِ المَحْمُولِ على الظَّهْرِ حِمْلٌ، وفي الأَثْقالِ المَحْمُولةِ في الباطِنِ حَمْلٌ كالوَلَدِ في البَطْنِ، والماءِ في السَّحَابِ، والثَّمَرَةِ في الشَّجَرةِ تَشْبِيهًا بحَمْلِ المرْأَةِ.

والحِمْلُ بالكسرِ ما حُمِلَ الجمع: أَحْمالٌ وحَمَلَه على الدَّابةِ يَحْمِلُه حَملًا.

والحُملانُ بالضمِ ما يُحْمَلُ عليه من الدَّوابِّ في الهِبَةِ خاصَّةً كذا في المُحْكَمِ والعُبَابِ.

قالَ اللَّيْثُ: ويكونُ الحُملانُ أَجْرًا لِمَا يُحْمَل، زَادَ الصَّاغَانيُّ: وحُمْلانُ الدَّراهِمِ في اصْطِلاحِ الصَّاغَةِ، جَمْعُ صائِغٍ، ما يُحْمَلُ على الدَّراهِمِ من الغِشِّ تَسْمِيةً بالمَصْدَرِ وهو مجازٌ.

وحَمَلَهُ على الأَمرِ يَحْمِلُهُ فانْحَمَلَ أَغْراهُ به عن ابنِ سِيْدَه.

والحَمْلَةُ الكَرَّةُ في الحَربِ يقالُ: حَمَلَ عَلَيه مُنْكَرةً وشَدَّ شدَّةً مُنْكَرَةً نَقَلَه الأَزْهَرِيُّ.

والحُمْلة بالكسرِ والضمِ الاحْتِمالُ من دَارٍ إِلى دَارٍ.

وحَمَّلَهُ الأَمْرَ تَحْميلًا وحِمَّالًا ككِذَّاب فَتَحَمَّلَهُ تَحَمُّلًا وتِحِمَّالًا على تفعال كما هو مَضْبُوطٌ في المُحْكَمِ.

وفي نسخِ القاموسِ بكَسْرَتَيْن مع تَشْدِيدِ الميمِ، وقَوْلُه تعالَى: {فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ}؛ أَي على النبيِّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم، ما أَوحيَ إِليه وكُلَّفَ أَنْ يُبَيِّنَهُ وعليكمُ أَنْتم الاتِّباع.

وقولُهُ تعالى: فَأَبَيْنَ أَنْ {يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها} وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ أَي يَخُنَّها وخانَها الانْسانُ ونَصّ الأَزْهَرِيَّ عَرَّفَنا تعالَى أَنَّها لم تَحْمِلْها أَي أَدَّتْها، وكلُّ من خانَ الأَمانَة فقد حَمَلَها، وكلُّ من حَمَلَ الإِثْم فقَدْ أَثِمَ، ومنه {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ} فأَعْلَم تعالَى أَنَّ من باءَ بالإِثْمِ سُّمِّي حَامِلًا له والسمواتُ والأَرْض أَبَيْن حَمْلَ الأَمَانَة وأَدَّيْنها، وأَدَاؤُها طاعَة اللهِ فيمَا أَمَرَها به والعَمَل به وتَرْكُ المَعْصِيَةِ.

وقالَ الحَسَنُ: الإِنْسانُ هنا الكافرُ والمُنافِقُ أَي خَانَا ولم يُطِيعا، وهكذا نَصّ العُبَاب بعَيْنِه وعَزَاه إِلى الزَّجَّاج. فقَوْلُ شيْخِنا هو مخالِفٌ لِمَا في التَّفَاسِيرِ غَيْر وَجيهٍ فتأَمَّل. واحْتَمَلَ الصَّنيعَةَ تَقَلَّدَها وشَكَرَها وكُلّه من الحَمْلِ قالَهُ ابنُ سِيْدَه، قالَ: وتَحامَلَ في الأَمرِ وتَحامَلَ به تَكَلَّفَه على مَشَقَّةٍ وإِعْياءٍ كما في المُحْكَمِ ومِثْلُ ذلِكَ تَحامَلْتُ على نفسي كما في العُبَابِ. وتَحامَلَ عليه كَلَّفَهُ ما لا يُطيقُ كما في المُحْكَمِ والعُبَابِ. واسْتَحْمَلَهُ نَفْسَه حَمَّلَهُ حَوائِجَهُ وأُمورَهُ كما في المُحْكَمِ والمُحِيطِ قالَ زُهَيْر:

ومن لا يَزَلْ يَسْتَحْمِلُ الناسَ نَفْسَه *** ولا يُغْنِها يَوْمًا من الدَّهْرِ يُسْأَم

وقَوْلُ يَزِيد بن الأَعْورِ:

مُسْتَحْمِلًا أَعْرَفَ قد تَبَيَّنا

يريدُ مُسْتَحْمِلًا سَنامًا أَعْرَف عظيمًا.

ومن المجازِ شَهْرٌ مُسْتَحْمِلٌ يَحْمِلُ أَهْلَهُ في مَشَقَّةٍ لا يكونُ كما يَنْبَغي أَنْ يكونَ. تقوُلُ العَرَبُ: إِذا نَحَرَ هِلال شمالًا كان شهرًا مُسْتَحْمِلًا.

ومن المجازِ حَمَلَ عنه أَي حَلُمَ فهو حَمولٌ كصَبُور ذو حِلْمٍ كما في المُحْكَم: قالَ: والحَمْلُ ما يُحْمَلُ في البَطْنِ من الوَلَدِ، وفي المُحْكَم: من الأَوْلادِ في جَمِيعِ الحَيَوانِ، الجمع: حِمالٌ بالكسر وأَحْمالٌ، ومنه قَوْلُه تعالَى: {وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.

وحَمْلٌ بِلالامٍ قرية باليمن.

وحُمْلانُ كعُثْمانَ قَرْيةٌ أُخْرَى بها.

وحَمَلَتِ المرأَةُ تَحْمِلُ حَمْلًا عَلِقَتْ، قالَ الرَّاغِبُ: والأَصْلُ في ذلِكَ الحَمْلُ على الظَّهْرِ فاسْتُعِير للحَبَلِ بدلالَةِ قَوْلِهم: وسَقَتِ الناقَةُ إِذا حَمَلَتْ، وأَصْلُ الوَسْقِ الحَمْلُ المَحْمُولُ على ظَهْرِ البَعيرِ، ولا يقالُ حَمَلَتْ به أَو قليلٌ قالَ ابنُ جنيّ: حَمَلَتْه ولا يقالُ حَمَلَتْ به إِلَّا أَنَّه حَمَلَتِ المرأَةُ بوَلَدِها وأَنْشَدَ:

حَمَلَتْ به في ليلةٍ مَزْؤُدةً *** كَرْهًا وعَقْدُ نِطاقِها لم يُحْلَلِ

وقد قالَ عزَّ من قائلٍ: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا}، وكأَنَّه إِنَّما جازَ حَمَلَتْ به لمَا كانَ في معْنَى عَلِقَتْ به، ونظيرُه {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ}، لمَا كانَ في معْنَى الإِفْضاءِ عُدِّي بإِلى.

وهي حامِلٌ وحامِلَةٌ على النَّسَبِ وعلى الفِعْلِ إِذا كانَتْ حُبْلى، وفي العُبَابِ والتَّهْذِيبِ: مَنْ قالَ حامِلٌ، قالَ هذا نَعْتٌ لا يكونُ إِلَّا للإِناثِ، ومَنْ قالَ: حامِلَةٌ بَنَاها على حَمَلَتْ فهي حامِلَةٌ وأَنْشَدَ المرزبانيُّ:

تَمَخَّضَتْ المَنُونُ لها بيَوْمٍ *** أَتى ولِكُلِّ حَامِلَة تَمَام

فإِذَا حَمَلَتْ شيئًا على ظَهْرِها أَو على رَأَسِها فهي حامِلَةٌ لا غَيْر، لأَنَّ الهاءَ إِنَّما تلْحَقُ للفَرْقِ فأَمَّا ما لا يكون للمُذكَّرِ فقد اسْتُغْني فيه عن علامةِ التأْنيثِ، فإِن أُتى بها فإنَّما هو الأَصلُ، هذا قَوْلُ أَهْلِ الكُوفةِ، وأمَّا أَهْلُ البَصْرَةِ فإِنَّهم يقُولُون هذا غَيْرُ مُسْتمرّ لِأَنَّ العَرَبَ تقُولُ: رجلٌ أَيِّمٌ وامرَأَةٌ أَيِّمٌ، ورجلٌ عانِسٌ وامرَأَةٌ عانِسٌ، مع الإِشْتِراكِ، وقالُوا: والصوابُ أَنْ يقالَ قَوْلهم حامِلٌ وطالِقٌ وحائِضٌ وأَشْبَاه ذلِكَ من الصِّفاتِ التي لا علامَةَ فيها للتَّأْنيثِ، وإِنَّما هي أَوْصافٌ مُذَكَّرة وُصِفَ بها الإِنَاثُ كما أَنَّ الرَّبْعَة والرَّاوِية والخُجَأَة أَوْصافٌ مُؤَنَّثة وُصِفَ بها الذُّكُران.

والحَمْلُ: ثَمَرُ الشَّجرِ ويُكْسَرُ، الفَتْحُ والكَسْرُ لُغتانِ عن ابنِ دُرَيْدٍ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ وابنُ سِيْدَه.

وشَجَرٌ حامِلٌ، أو الفتحُ لما بَطَنَ من ثَمَرِهِ، والكَسرُ لِمَا ظَهَرَ منه، نَقَلَه ابنُ سِيْدَه، أَو الفتحُ لمَا كان في بَطْنٍ أو على رأسِ شجرةٍ، والكسرُ لما حُمِلَ على ظَهْرِ أو رَأْسٍ، وهذا قَوْلُ ابنِ السِّكِّيت، ومنه قَوْلُه تعالَى: {وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} حِمْلًا، كما في العُبَابِ، وقالَ ابنُ سِيْدَه: هذا هو المَعْرُوفُ في اللُّغةِ، وكذا قالَ بعضُ اللُّغَوِيِّين ما كان لازمًا للشي‌ءِ فهو حَمْلٌ، وما كان بائِنًا فهو حِمْلٌ. أَو ثَمَرُ الشَّجَرِ، الحِمْلُ: بالكسرِ ما لم يَكْبُرْ ويَعْظُمْ فإذا كَبُرَ فبالفتحِ، وهذا قَوْلُ أَبي عُبَيْدَة، ونَقَلَه عنه الأَزْهَرِيُّ في ترْكِيب ش معروف ل، ثم قَوْلُه ما لم يَكْبُرْ بالمُوَحَّدةِ هكذا في نسخِ الكتابِ؛ وفي نسخِ التَّهْذِيبِ: ما لم يَكْثُرْ بالمُثَلَّثَةِ فانْظُرْ ذلِكَ، ولمَّا لم يطَّلِع شيْخُنا على مَنْ عَزَى إليه هذا القَوْل اسْتَغْرَبه على المصنِّفِ وقالَ: هو قيدٌ غَرِيبٌ؛ الجمع: أَحْمالٌ وحُمولٌ وحِمالٌ بالكسرِ، الأَخِيْرُ جَمْع الحَمْل بالفتحِ، ومنه الحدِيثُ: «هذا الحِمَالُ لا حِمَالُ خَيْبَرَ» يعْنِي ثَمَرَ الجَنَّةِ وأَنَّه لا يَنْفَدُ كما في المُحْكَمِ وفي التَّبْصِيرِ: هو قَوْلُ الشاعِرِ.

وشجرةٌ حامِلَةٌ ذاتُ حَمْلٍ.

والحَمَّالُ: كشَدَّادٍ حامِلُ الأَحْمالِ والحِمَالَةُ ككِتابةٍ حِرْفَتُه كما في المُحْكَمِ.

والحَمِيلُ: كأَميرٍ الدَّعِيُّ. وأَيضًا الغَريبُ تَشْبيهًا بالسَّيلِ وبالوَلَدِ في البَطْنِ قالَهُ الرَّاغِبُ، وبهما فسَّرَ قَوْلُ الكُمَيْتِ يُعَاتِبُ قُضاعة في تَحَوُّلِهم الى اليَمَنِ:

عَلامَ نَزَلْتُم من غيرِ فَقْر *** ولا ضَرَّاءَ مَنْزِلةَ الحَمِيل؟

والحَمِيلُ: الشِّراكُ وفي نسخةٍ الشَّرِيكُ، والأُوْلَى مُوَافِقَةٌ لِنصِّ العُبَابِ.

والحَمِيلُ: الكَفِيلُ لكَوْنِه حامِلًا للحقِّ مَعَ مَنْ عَلَيه الحقّ، ومنه الحدِيثُ: «الحَمِيلُ غارِمٌ». والحَمِيلُ: الوَلَدُ في بَطْنِ أُمِّه إذا أُخِذَتْ من أَرْضِ الشِّرْكِ؛ وقالَ ثَعْلَبُ: هو الذي يُحْمَلُ من بلادِ الشِّرْكِ إلى بلادِ الإِسْلامِ فلا يُوَرَّثُ إلَّا بِبَيِّنةٍ.

والحَمِيلُ من السَّيْلِ ما حَمَلَه من الغُثَاءِ ومنه الحدِيثُ: «فَيَنْبُتُون كما تَنْبُت الحِبَّة في حَمِيلِ السَّيْلِ».

والحَمِيلُ: المَنْبُوذُ يَحْمِلُهُ قومٌ فَيُرَبُّونَهُ، وفي بعضِ النسخِ فَيَرثُونَهُ وهو غَلَطٌ، وفي العُبَابِ: هو الذي يُحْمَلُ من بلدِهِ صغيرًا ولم يُولَد في الإِسْلامِ.

والحَمِيلُ: من الثُّمامِ والوَشيجِ والضعةِ والطَّريفَةِ: الذابِلُ، وفي المُحْكَمِ: الدويلُ، الأسْوَدُ منه.

والمَحْمِلُ كمَجْلِسٍ، وضُبِطَ في نسخِ المُحْكَمِ: كمِنْبَرٍ وعَلَيه علامَةُ الصحةِ، شِقَّانِ على البعيرِ يُحْمَلُ فيهما العَديلانِ الجمع: مَحامِلُ وأَوَّلُ من اتَّخَذَها الحجاجُ بنُ يُوسُفَ الثَّقَفيُّ وفيه يقُولُ الشاعِرُ:

أول من اتَّخَذَ المَحَامِلا *** أَخْزاه رَبِّي عاجِلًا وآجِلًا

كذا في المعارفِ لابنِ قتَيْبَةَ. وإلى بَيْعها نُسِبَ الإمامُ المحدِّثُ أَبو الحسنِ أَحمدُ بنُ محمدِ بنِ أَحمدَ بنِ أَبي عُبَيْد القاسِم بن إسْمعيل بن محمدِ بنِ إسْمعيلَ بن سَعِيدٍ بنِ أَبَان الضَّبِّيّ المَحامِلِيُّ وُلِدَ سَنَة 368، تَفَقَّه على أَبي حامِدٍ الأَسْفرَايني وجَده أَبُو الحسنِ أحمد سمع من أَبيهِ، وعنه ابْنُه الحُسَيْنُ وابنُ صاعِدٍ وابنُ منِيْعٍ، مَاتَ سَنَة 334، وأَبُو عَبْدِ الله الحُسَيْنُ بنُ إسْمعيل حدَّثَ، وهم بَيْتُ عِلْمٍ ورِياسَةٍ مَاتَ أَبُو الحَسَنِ هذا في سَنَةِ 415، ومنهم القاضِي أَبُو عَبْدِ الله الحُسَيْن بنُ إِسْمعيل بنِ محمدٍ رَوَى عن البُخَارِيِّ، وكان يَحْضِرُ مَجْلِسَ إمْلائِه عَشَرَةُ آلافِ رَجُلٍ قَضَى بالكُوفَةِ سِتِّين سَنَةً ومَاتَ سَنَة 380، وولدُهُ محمدٌ ويحيى حَفيدُه وأَخوهُ أَبُو القاسِمِ الحُسَيْنُ.

والمَحْمِلُ أَيْضًا ضُبِطَ في المُحْكَمِ كمِنْبَرٍ وصحح عَلَيه الزِّنْبِيلُ الذي يُحْمَلُ فيه العِنَبُ الى الجَرينِ كالحامِلَةِ.

والمِحْمَلُ: كمِنْبَرٍ عِلاقَةُ السَّيْفِ وهو السَّيْرُ الذي يُقَلَّدُه المُتَقَلِّدُ، قالَ امرُؤُ القَيْسِ:

فَفَاضَتْ دُمُوعُ العينِ من صَبَابَةُ *** على النَّحْرِ حتى بَلّ دَمْعِيَ مِحْمَلِي

كالحَمِيلَةِ، وهذه عن ابنِ دُرَيْدٍ. والحِمَالَةِ بالكسرِ، وقالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الحِمالَةُ للقَوْسِ بمنْزلَتِها للسَّيْفِ يُلْقيها المُتَنَكِّبُ في مَنْكِبِه الأَيْمنِ ويُخْرجُ يدَه اليُسْرَى منها فيكونُ القَوْسُ في ظَهْرِه؛ قالَ الخَلِيلُ: جَمْعُ حَمِيلَةٍ حَمَائِلُ، زَادَ الأَزْهَرِيُّ: وجَمْعُ مِحْمَل مَحَامِلُ؛ وقالَ الأَصْمَعِيُّ: لا واحِد لحَمَائِل من لَفْظِها وإنَّما واحِدُها مِحْمَلٌ.

والمِحْمَلُ أَيْضًا: عِرْقُ الشَّجرِ على التَّشْبِيهِ بعِلاقَةِ السَّيْفِ هكذا سَمَّاهُ ذُو الرُّمَّةِ في قَوْلِه:

تَوَخَّاه بالأَظلافِ حتى كأَنَّما *** يُثِيرُ الكُبَابَ الجَعْدَ عن متَنِ مِحْمَلِ

والحَمولَةُ من الإِبِلِ التي تَحْمِلُ، وكذلِكَ كلُّ ما احْتَمَلَ عليه القومُ، وفي المُحْكَمِ: الحَيُّ، من بعيرٍ وحِمارٍ ونحوِه، وفي المُحْكمِ: من بعيرٍ أو حِمارٍ أَو غيرِ ذلِكَ، كانَتْ عليه، وفي المُحْكَمِ: عَلَيها، أَثْقالٌ أو لم تكنْ؛ قالَ الله تعالَى: {وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا}، يكونُ ذلِكَ للواحِدِ فما فَوْقه، وفَعُولٌ تدْخلُه الهاء اذا كان بمعْنَى مَفْعولٍ بها. وقالَ الرَّاغِبُ: الحَمُولَةُ لِمَا يُحْمَلُ عَلَيه كالقَتُوبَةِ والرَّكُوبَةِ؛ وقالَ الأَزْهَرِيُّ: الحَمُولَةُ ما أَطَاقَتِ الحَمْلَ.

والحَمُولَةُ أَيْضًا الأَحْمالُ بعَيْنِها، وظاهِرُه أَنَّه بالفتحِ، وضَبَطَه الصَّاغَانيُّ والجَوْهَرِيُّ بالضمِ، ومِثْلُه في المُحْكَمِ ونصُّه الأَحْمالُ بأَعْيانِها.

والحُمولُ بالضمِ الهَوادِجُ كانَ فيها النِّساءُ أَو لم يكنْ، كما في المُحْكَمِ، أَو الإِبِلُ التي عليها الهَوَادِجُ كانَ فيها النِّساءُ أَمْ لا كما في الصِّحاحِ والعُبَابِ، قالَ ابنُ سِيْدَه: الواحِدُ حِمْلٌ بالكسرِ، زَادَ غيرُه: ويُفْتَحُ، قالَ ابنُ سِيْدَه: ولا يقالُ حُمُولٌ من الإِبِلِ إلَّا لِمَا عَلَيها الهَوادِجُ، قالَ: والحُمُولُ والحُمُولَةُ التي عَلَيها الأَثْقال خاصَّةً، وفي التَّهْذِيبِ: فأَمَّا الحُمُرُ والبغالُ فلا تَدْخلُ في الحَمُولَةِ.

وأَحْمَلَهُ الحِمْلَ أَعانَهُ عليه وحَمَلَهُ فَعَلَ ذلِكَ به، كما في المُحْكَمِ والعُبَابِ، وفي التَّهْذِيبِ ويَجِئُ من انْقُطِعَ به في سَفَرٍ الى رجُلٍ فيقُولُ: احْمِلْنِي أي أَعْطِني ظَهْرًا أَرْكَبُه، وإذا قالَ الرجُلُ: أَحْمِلْنِي بقَطْعِ الأَلفِ فمعْنَاهُ أَعِنِّي على حَمْلِ ما أَحْمِلَهُ.

والحِمَالَةُ: كسَحابةٍ الدِّيَةُ أو الغَرَامَةُ التي يَحْمِلُها قومٌ عن قومٍ ومنه الحدِيثُ: لا تَحِلُّ المسْأَلةُ إلَّا لثَلاثَةٍ، ورجُلٌ تَحَمَّل حَمَالَةً بَيْن قومٍ، وهو أَنْ تَقَعَ حَرْبٌ بَيْن قومٍ وتُسْفَكُ دماءٌ فيَتَحَمَّلُ رُجلٌ الدِّيَات ليُصْلِحَ بَيْنهم، كالحِمَالِ بالكسرِ الجمع: حُمُلٌ ككُتُبٍ، وظاهِرُ سِيَاقِ المُحْكَمِ والتَّهْذِيبِ يدلُ على أَنَّه بالفتحِ، فإنَّه بعْدَ ما ذَكَرَ الحَمَالَة قالَ: وقَدْ تُطْرَحُ منها الهاءُ.

والحِمَالَةُ: ككِتابَةٍ أَفْراسٌ منها: فَرَسٌ كان لِبَنِي سُلَيْمٍ.

قالَ العباسُ بنُ مِرْدَاس السَلميُّ رضي ‌الله‌ عنه:

بَيْنَ الحِمَالَة والقُرَيْظ فقَدْ *** أَنْجَبْت مِن أُمٍّ ومن فَحْلِ

والقُرَيْظُ أَيْضًا لِبني سُلَيْمٍ وهي غَيْرُ التي في كنْدَةَ وقد تقدَّمَ.

وأَيْضًا فَرَسٌ لعامِرِ بنِ الطُّفَيْلِ كانتْ في الأَصْلِ للطُّفَيْلِ بنِ مالِكٍ وفيه يقُولُ سلمة بنُ عَوْف النصريّ:

نحوتُ بنصلِ السَّيفِ لا غمدَ فَوَقَه *** وسرجٌ على ظهرِ الحِمَالَةِ فاترُ

وأيْضًا فَرَسٌ لمُطَيْرٍ بنِ الأَشْيَمِ: وأَيضًا لعَبْايَةَ بنِ شَكْسٍ.

والحَمَّالُ كشَدَّادٍ فَرَسُ أوْفى بنِ مَطَرٍ المَازِنيّ وأَيْضًا لَقَبُ رَافِعِ بنِ نَصْرٍ الفَقِيهِ.

وحُمَيْلٌ كزُبَيْرٍ اسم منهم جرو بنُ حُمَيلٍ رَوَى عن أَبيهِ عن عُمَرَ، وعنه زَيْدُ بنُ جُبَيْرٍ، وحُمَيلُ بنُ شبيبٍ القُضَاعِيُّ وابْنُه سَعِيدٍ كانَ من خدَّامِ مُعَاوِيةٍ وجَارِيةُ بنُ حُمَيْلِ بنِ نُشْبَةَ الأَشْجَعِيّ له صحْبَةٌ، وعَزَّةُ بنتُ حُمَيْلٍ الغَفَارِيَّة صاحِبَةُ كُثَيِّرٍ، وحُمَيْلُ بنُ حَسَّان جَدُّ المُسَيِّبِ بنِ زُهَيْرٍ الضَّبِّيّ.

وحُمَيْلُ أَيْضًا لَقَبُ أَبي نَضْرَةَ، هكذا في النسخِ، وفي أُخْرَى: أَبي نَصْرٍ، وكِلَاهُما غَلَطٌ صوابُه أَبي بَصْرَةَ بالمُوحَّدَةِ والصَّادِ المُهْمَلَةِ كما قيَّدَه الحافِظُ، وهو حُمَيْلُ بنُ بَصْرَةَ بنِ وقَّاص بنِ غَفَارٍ الغِفَارِيِّ، فحُمَيْل اسْمُه لا لَقَبُه، وهو صَحَابيٌّ رَوَى عنه أَبو تَمِيم الجَيْشَانيّ ومَرْثَد أَبُو الخَيْرِ كذا في الكَاشِفِ للذَّهَبيِّ والكنى للبَرْزَالِي والعُبَابِ للصَّاغَانِيّ، زَادَ ابنُ فهدٍ: ويقالُ حَمِيلٌ بالفتحِ، ويقالُ بالجيمِ أَيْضًا، ففي كلامِ المصنِّفِ نَظَرٌ من وُجُوهٍ فتأَمَّل.

وحُمَيْلٌ: فَرَسٌ لبَنِي عِجْلٍ من نَسْلِ الحَرونِ وفيه يقُولُ العجليُّ:

أَغرّ من خَيْلِ بني ميمونْ *** بين الحُمَيْلِيّاتِ والحرونْ

قالَهُ ابنُ الكَلْبي في أَنْسابِ الخَيْلِ؛ وقالَ الحافِظُ: نُسِبَتْ إِلى حُمَيْلِ بنِ شبيبٍ بنِ اسَاف القُضَاعيّ كذا قالَهُ ابنُ السمْعَانيّ.

والحوامِلُ الأَرْجُلُ لأَنَّها تَحْمِلُ الإِنْسانَ.

والحوامِلُ من القَدَمِ والذِّراعِ عَصَبُها ورَوَاهِشُها الواحِدَةُ حامِلَةٌ.

ومَحَامِل الذَّكَرِ وحَمائِلُهُ عُروقٌ في أَصْلِهِ وجِلْدُهُ، كلُّ ذلِكَ في المُحْكَمِ.

وحَمَلَ به يَحْمِلُ حَمالَةً كفَلَ فهو حَمِيلٌ أَي كَفِيلٌ.

وحَمَلَ الغَضَبَ أَظْهَرَه يَحْمِلُه حَمْلًا، وهو مجازٌ؛ قيلَ: ومنه الحدِيثُ: «إِذا بَلَغَ الماءُ قُلَّتَيْن لم يَحْمِلْ خَبَثًا»؛ أَي لم يَظْهَرْ فيه الخَبَثُ، كذا في العُبَابِ، وهذا على ما اخْتَارَه الإِمامُ الشافِعيُّ رضي ‌الله‌ عنه ومن تَبِعَه أَي فلا يُنَجَّسُ، وقالَ الإِمامُ أَبُو حَنِيفَةَ وغَيْرُه من أَهْلِ العِرَاقِ: لضعْفِه يُنَجَّسُ، قالَ شيْخُنا: ورَجَّحَ الجلالُ في شرحِ بَدِيعِيَّتِه مَذْهَبَه، وللأَصُوليِّين فيه كلامٌ واسْتَعْمَلُوه في قلبِ الدَّليل.

واحْتُمِلَ لَوْنُهُ مَبْنيًا للمَفْعول أَي تَغَيَّرَ، وذلِكَ إِذا غَضِبَ ومِثْلُه امْتُقِعَ لَوْنُهُ، وليسَ في المحْكَمِ والعُبَابِ، والمَجمَلِ: لونه وإِنّما فيها: واحْتُمِلَ غَضِبَ. قالَ ابنُ فارِس: هذا قِياسٌ صحيحٌ لأَنَّهم يقُولون احْتَملَه الغَضَبُ وأَقَلَّه الغَضَبُ وذلِكَ إِذا أَزْعَجَه، وقالَ ابنُ السِّكِّيت في قَوْلِ الأَعْشَى:

لا أَعْرِفَنَّك إِنْ جَدَّتْ عَدَاوتُنَا *** والتُمِسَ النَّصْرُ منكُمْ عَوْض واحْتَمَلُوا

إِن الاحتمال الغضب.

وفي التَّهْذِيبِ: يقالُ لمَنْ اسْتَخَفَّه الغَضَبُ قد احْتُمِلَ وأُقِلَّ؛ وقالَ الأَصْمَعِيُّ غَضِبَ فلانٌ حتى احْتُمِلَ.

والمُحْمِلُ: كمُحْسِنٍ المرْأَةُ يَنْزِلُ لبَنُها من غيرِ حَبَلٍ، وكذلِكَ من الإِبِلِ كما في المُحْكَمِ وقد أَحْمَلَتْ، ومِثْلُه في العُبَابِ.

والحَمَلُ: محرَّكةً الخَروفُ، وفي الصِّحاحِ: البَرْقُ، أَو هو الجَذَعُ من أَولادِ الضأْنِ فما دونَهُ، نَقَلَه ابنُ سِيْدَه؛ وقالَ الرَّاغِبُ: الحَمَلُ: المَحْمُولُ وخصَّ الضأْنَ الصغيرَ بذلِكَ لكونِه مَحْمُولًا لعَجْزِهِ ولقُرْبِه من حَمْلِ أُمِّه إِيَّاه، الجمع: حُمْلانٌ بالضمِ، وعليه اقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ والصَّاغَانيُّ زَادَ ابنُ سِيْدَه: وأَحْمالٌ، قالَ: وبه سُمِّيَتِ الأَحْمالُ من بنِي تَمِيم كما سَيَأْتي.

ومن المجَازِ: الحَمَلُ: السَّحابُ الكثيرُ الماءِ كما في المُحْكَمِ، وفي التَّهْذِيبِ: هو السَّحابُ الأَسْودُ، وقيلَ: إِنَّه المَطَرُ بنَوْءِ الحَمَلِ، يقالُ مُطِرْنا بنَوْءِ الحَمَلِ وبنَوْءِ الطَّلِيِّ.

والحَمَلُ: بُرْجٌ في السَّماءِ، يقالُ: هذا حَمَلٌ طالِعًا تُحْذَفُ منه الأَلفُ واللامُ وأَنْتَ تُرِيدُها وتُبْقي الاسمَ على تَعْرِيفِه، وكذا جَمِيْع أَسْماءِ البُرُوجِ لكَ أَنْ تُثْبِت فيها الأَلفَ واللامَ ولَكَ أَنْ تَحْذفَها وأَنْتَ تَنْويها، فتُبْقِي الأَسْماءَ على تَعْريفِها التي كانَتْ عليه. وفي التَّهْذِيبِ: الحَمَلُ أَوَّلُه الشَّرَطانِ وهما قَرْناه، ثم البُطَين، ثم الثُّرَيَّا وهي أَلْيَة الحَمَلِ، هذه النجومُ على هذه الصفَةِ تُسَمَّى حَمَلًا، وقَوْلُ المُتَنَخَّلُ الهُذَليُّ:

كالسُّحُل البِيضِ جَلا لَوْنَها *** سَحُّ نِجاءِ الحَمَل الأَسْوَلِ

فُسِّرَ بالسَّحابِ وبالبُروجِ.

وحَمَلٌ موضع بالشأمِ كذا في المُحْكَمِ، وقالَ نَصْرٌ: هو جَبَلٌ يُذْكَرُ مَعَ أَعفر وهُما في أَرْضِ بلْقِين من أَعْمالِ الشامِ، وأَنْشَدَ الصَّاغَانيُّ لامْرِئِ القَيْسِ:

تَذَكَّرْتُ أَهْلِي الصَّالِحِينَ وقَدْ أَتَتْ *** على حَمَل بنا الرِّكابُ وأَعْفَرَا

ورَوَى الأَصْمَعِيُّ:

على حملى خوص الركاب

وحَمَلٌ: جَبَلٌ قُرْبَ مكةَ عندَ الزَّيْمَةِ وسَوْلَةَ؛ وقالَ نَصْرُ: عندَ نَخْلَة اليَمانِيَّة، ومِثْلُه في العُبَابِ.

وحَمَلٌ بنُ سَعْدانَةَ بنِ جَارِيَة بنِ مَعْقل بنِ كَعْبٍ بنِ عُلَيْم العُلَيْميُّ الصَّحابيُّ، رضي ‌الله‌ عنه، له وِفَادَةٌ عُقِدَ له لوَاءٌ وشَهِدَ مَعَ خالِدِ بنِ الوَلِيدِ، رضي ‌الله‌ عنه، مشاهِدَه كُلّها وهو القائِلُ:

لَبِّثْ قَلِيلًا يَلْحَقِ الهَيْجَا حَمَلْ *** ما أَحْسَنَ المَوْتَ إِذا حَانَ الأَجَلْ

كذا في العُبَابِ، ومثلُه في معجم ابنِ فهدٍ، وهذا البَيْتُ تَمثَّلَ به سَعْدُ بنُ مَعَاذٍ يَوْمَ الخَنْدقِ. وشَهِدَ حَمَلٌ أَيْضًا صِفِّينَ مَعَ مُعَاوِية، وفي المُحْكَمِ: إنَّما يعْنِي به حَمَل بن بَدْرٍ.

قلْتُ وفيه نَظَرٌ.

وحَمَلُ بنُ مالِكِ بنِ النَّابِغَةِ بنِ جابِرِ الهُذَلِيُّ، رَضِيَ الله عنه له صُحْبَةٌ أَيْضًا نَزَلَ البَصْرَةُ يُكَنَّى أَبا نَضْلَة، قيلَ: رَوَى عنه ابنُ عَبَّاسٍ كذا في الكَاشِفِ للذَّهَبِيِّ ومعجمِ ابنِ فهدٍ، ففي كَلامِ المصنِّفِ قُصُورٌ.

وحَمَلُ بنُ بِشرٍ، وفي التَّبْصِيرِ: بَشِيرٍ، الأَسْلَمِيُّ شيْخٌ لسَلَمِ بنِ قُتَيْبَةَ، وفي الثِّقَاتِ لابنِ حَبَّانٍ: حَمَلُ بنُ بَشِيرِ بنِ أَبي حَدْرَدٍ الأَسْلَمِيّ يَرْوِي عن عَمِّه عن أَبي حَدْرَدٍ وعنه سَلَمُ بنُ قُتَيْبَة.

وعَدامُ بنُ حَمَلٍ رَوَى عنه شُعَيْبُ بنُ أَبي حَمْزَةَ.

وعليُّ بنُ السَّرِيِّ بنِ الصَّقْرِ بنِ حَمَلٍ شيْخٌ لعَبْدِ الغَنِيّ بنِ سَعِيدٍ، مُحدِّثونَ.

وفاتَهُ: حَمَلٌ جَدُّ مؤلة بنِ كثيفٍ الصَّحابيّ وسَعِيدُ بنَ حَمَلٍ عن عَكْرَمَةَ.

وحَمَل نَقَا من أَنْقاءِ رَمْلٍ عالِجٍ نَقَلَه نَصْرٌ والصَّاغَانِيُّ.

وحَمَلٌ: جَبَلٌ آخَرُ فيه جَبَلانِ يقالُ لهما طِمِرَّانِ ومنه قَوْلُ الشاعِرِ:

كأَنَّها وقَدْ تَدَلَّى النَّسْرَان *** وضَمَّهَا من حَمَلٍ طِمِرَّان

صَعْبان عن شَمَائِلٍ وأَيْمان

والحَوْمَلُ: السَّيْلُ الصَّافي قالَ:

مُسَلْسَلة المَتْنَيْن ليْسَتْ بشَيْنَة *** كأَنَّ جَنابَ الحَوْمَل الجَوْن ريقُها

والحَوْمَلُ من كلِّ شي‌ءٍ أَوَّلُهُ. وأَيْضًا السَّحابُ الأَسْوَدُ من كَثْرَةِ مائِهِ كما في العُبَابِ.

وحَوْمَلٌ بِلا لامٍ فَرَسُ حارِثَةَ بنِ أَوْسٍ بنِ عَبْدِ ودٍّ بنِ كنانَةَ بنِ عَوْف بن عذْرَةَ بنِ زَيْدِ اللّاتِ بن رَفِيدَة الكَلْبِيّ ولها يقُولُ يَوْمَ هَزَمَتْ بنُو يَرْبُوعٍ بنِي عَبْدِ ودٍ بنِ كَلْب:

ولَوْلَا جَرَى حوملٌ يوم غَدْرٍ *** لخرَّقَنِي وإيّاها السّلاحُ

يثيبُ اثابةَ اليعفورِ لما *** تَنَاوَلَ ربّها الشَّعْث الشحاح

ذَكَرَه ابنُ الكَلْبيّ في أَنْسابِ الخَيْلِ، والصَّاغانيُّ في العُبَابِ.

وحَوْمَلُ أَيْضًا اسمُ امْرأَةٍ كانت لها كَلْبَةٌ تُجيعُها بالنَّهارِ وهي تَحْرُسُها باللَّيْلِ حتى أَكَلَتْ ذَنَبَها جُوعًا فقيلَ: أَجْوَعُ من كَلْبَةِ حَوْمَل، وضُرِبَ بها المَثَلُ.

وحَوْمُل موضع قالَ أُمَيَّةُ بنُ أَبي عائِذٍ الهُذَليُّ:

من الطَّاويات خِلال الغَضَى *** بأَجْماد حَوْمَلَ أَو بالمطَالَي

قالَ ابنُ سِيْدَه: وأَمَّا قَوْلُ امرِئِ القَيْسِ:

... بَيْنَ الدَّخْولِ فحَوْمَلِ

إنّما صَرَفَه ضَرُورَة. والأَحْمالُ: بُطونٌ من تَميمٍ، وفي العُبَابِ: قومٌ من بنِي يَرْبوعٍ وهم سلَيْطو عَمْرُو وصبيرة وثَعْلَبةُ، وفي الصِّحاحِ: هم ثَعْلبةُ وعَمْرُو والحَارِثُ، وبه فُسِّرَ قَوْلُ جَرِيرٍ:

أَبَنِي قُفَيْرةَ من يُوَزَّعُ وِرْدَنا *** أَم من يَقُوم لشَدَّة الأَحْمالِ؟

والمَحْمولَةُ حِنْطَةٌ غَبْراءُ كأَنَّها حَبُّ القَطْنِ، كثيرَةُ الحَبِّ، ضَخْمةُ السُّنْبُلِ، كثيرَةُ الرّيعِ غَيْر أَنَّها لا تُحْمَدُ في اللَّونِ ولا في الطَّعْمِ، كما في المَحْكَمِ.

وبَنُو حَميلٍ: كأَميرٍ بَطْنٌ من العَرَبِ، عن ابنِ دُرَيْدٍ وهكذا ضَبَطَه، وفي المُحْكَمِ: كزُبَيْرٍ.

وقالَ ابنُ عَبَّادٍ: رجُلٌ مَحْمولٌ أي مَجْدودٌ من رُكوبِ الفُرَّهِ جَمْعُ فارِهٍ، من الدَّوابِ وهو مجازٌ.

والحُمَيْلِيَةُ بالضمِ قرية من نَهْرِ المَلِكِ، كما في العُبَابِ، وفي بعضِ النسخِ: والحُمَيْلَةُ ومنها مَنْصورُ بنُ أَحْمد الحُمَيْليُّ عن دعوان بن عليٍّ مَاتَ سَنَة 613.

ومن المجازِ: هو حَميلَةٌ عَلَيْنا أي كَلُّ وعِيالٌ، كما في العُبَابِ.

وقالَ الفرَّاءُ: احْتَمَلَ الرجُلُ: اشْتَرَى الحَميلَ للشي‌ءِ المَحْمولِ من بَلَدٍ إلى بَلَدٍ في السَّبي.

وقالَ ابنُ عَبَّادٍ: حَوْمَلَ إذا حَمَلَ الماءَ.

* وممَّا يُسْتَدْرَكُ عليه:

الحَمَلَةُ: محرَّكةً جَمْعُ حامِلٍ يقالُ حَمَلَةُ العَرْشِ وحَمَلَةُ القُرْآنِ، وعليُّ بنُ أَبي حَمَلَةَ شيْخٌ لضمرة بن ربيعة الفلسطينيّ، وقَوْلُه تعالَى: {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا}، أي المنى. وقالَ أَبُو زَيْدٍ: يقالُ حَمَلْتَ على بنِي فلانٍ إذا أَرَّشْتَ بَيْنهم. وحَمَل على نفْسِه في السَّيْر أَي جَهَدَها فيه.

وحَمَلْت إِدْلالَه أي احْتَمَلْت قالَ:

أَدَلَّتْ فلم أَحْمِل وقالت فلم أُجِبْ *** لَعَمْرُ أَبيها إنَّني لظَلُوم

وأَبْيضُ بنُ حَمَالٍ المَأْرَبيُّ كسَحابٍ وضَبَطَه الحافِظُ بالتَّثْقِيلِ صَحَابيُّ رضي ‌الله‌ عنه رَوَى عنه شمير، ويُرْوَى قَوْلُ قَيْسِ بن عاصِم المنْقَرِيّ، رضي ‌الله‌ عنه:

أَشْبِه أَبَا أَبِيكَ أَو أَشْبِه حَمَل *** ولا تَكُونَنَّ كهلَّوْفِ وكَلْ

بالحاءِ وبالعَيْن.

وحملى: كجمزى مَوْضِعٌ بالشأمِ وبه رُوِيَ قَوْلُ امرِي‌ءِ القَيْسِ:

على حملى خوص الركاب واعفرا

وهي رِوايَةَ الأَصْمَعِيّ وتقدَّمَتْ. ويقالُ: ما على فلانٍ مَحْمِل كمَجْلِسٍ أي مُعْتَمَدٌ نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ، وفي المُحْكَمِ: أي مَوْضِعٌ لتَحْمِيلِ الحَوائجِ.

والحِمَالَةُ بالكسرِ فَرَسُ طُلَيْحَةَ بنِ خُوَيْلِد الأَسَدِيّ وفيها يقُولُ:

نَصَبْتُ لهم صَدْرَ الِحَمالةِ إنَّها *** مُعودةٌ قَبْلَ الكُمَاةِ نَزَالِ

وقالَ الأَصْمَعِيُّ: عَمْرُو بنُ حَمِيلٍ كأَميرٍ أَحَدُ بنِي مضرِّسٍ صاحِبُ الأُرْجُوزَةِ الذَّاليةِ التي أَوَّلُها:

هل تعرفُ الدَّارَ بذي اجراذ

وقالَ غيرُه: حُمَيْل مصغَّرًا. وأَحمدُ بنُ أَبْرَاهيم بنِ محمَّدِ بنِ إبْرَاهيم بنِ حَمِيْلٍ الكرخيُّ كأَميرٍ، سَمِعَ من أَصْحابِ البَغَويِّ، وعنه ابنُ مَاكُولا.

وخَمَّلْته الرِّسالةَ تَحْمِيلًا: كَلَّفْته حَمْلَها، ومنه قَوْلُه تعالَى: {رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ}.

وتَحَمَّل الحَمالَةَ أي حَمَلَها.

وتَحَمَّلُوا ارْتَحَلُوا، قالَ لَبِيدٌ رضي ‌الله‌ عنه:

شَاقَتْكَ ظُعْنُ الحيّ يَوْمَ تَحَمَّلُوا *** فتكنسَّوُا قُطُنًا تَصِرُّ خِيَامُها

ويقالُ: حَمَّلْته أَمْرِي فما تَحَمَّل.

وتَحَامَل عليه أي مَالَ.

والمُتَحَامَلُ بالفتحِ قد يكونُ موضعًا ومَصْدرًا، تقُولُ في المَوْضِع هذا مُتَحَامَلُنا، وتقُولُ في المَصْدرِ: ما في فلانٍ مُتَحامَل أي تَحَامُل.

واسْتَحْمَلْتُه: سَأْلْتُه أَنْ يَحْمِلَنِي.

وحاملت الرَّجُلَ أَي كَافَأْتُ؛ وقالَ أَبُو عَمْرٍو: المُحَامَلَةُ والمُرَامَلَةُ: المُكَافَأَةُ بالمَعْروفِ.

واحْتَمَلَ القومُ أَي تَحَمَّلُوا وذَهَبُوا.

وحَمَلَ فلانًا وتَحَمَّلَ به وعليه في الشفَاعَةِ والحاجَةِ: اعْتَمَد.

وقالُوا حَمَلَتِ الشاةُ والسَّبُعةُ وذلِكَ في أَوَّلِ حَمْلِهما، عن ابنِ الأَعْرَابِيِّ وحْدِه.

وناقَةٌ محملة أي مُثْقَلَة.

والمُجَامِلُ: الذي يَقْدِرُ على جَوابِكَ فَيَدَعُه إبْقاءً على مَوَدَّتِك، والمُجامِلُ بالجيمِ مَرَّ معْنَاه في مَوْضِعِه.

وفلانٌ لا يَحْمِلُ أَي يُظْهِرُ غَضَبَهُ نَقَلَه الأَزْهَرِيُّ وفيه نَوْعُ مُخَالفَةٍ لمَا تقدَّمَ للمصنِّفِ فتأمَّل.

وما على البَعيرِ مَحْمِلٌ من ثِقَلِ الحِمْلِ.

وقَتَادَةُ يُعْرَفُ بصاحِبِ الحمالَةِ لأَنَّه تَحَمَّل بحمَالاتٍ كَثيرةٍ.

وحَمَلَ فلانٌ الحِقْدَ على فلانٍ أَي أَكَنَّه في نفْسِه واضْطَغَنَه.

ويقالُ لمَنْ يَحْلم عمَّنْ يَسبُّه قَدِ احْتَمَلَ.

وسَمَّى الله تعالَى الإِثْمَ حِمْلًا فقالَ: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ‌ءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى}، ويكونُ احْتَمَلَ بمعْنَى حَلُمَ فهو مَعَ قولِهم غَضِبَ ضِدُّ.

وحَمَّالَةُ الحَطَبِ كنَايَةٌ عن النمام. وقيلَ: فلانٌ يَحْمِلُ الحَطَبَ الرّطبَ قالَهُ الرَّاغِبُ.

وهَارُون بنُ عَبْدِ اللهِ الحَمَّالِ كشَدَّادٍ مُحَدّثٌ.

وحَمَلةُ بنُ مُحمدٍ محرّكةً شيْخٌ للطبْرَانيّ، وعَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ عُمَر بنِ حُمَيْلَة المجلد كجُهَيْنَة سَمِعَ ابن مَلّة، ونَصْرُ بنُ يَحْيَى بن حُمَيْلَة رَاوِي المُسْنَدِ عن ابنِ الحُصَيْن، ويَحْيَى بنُ الحُسَيْن بنِ أَحمدَ بنِ حُمَيْلَة الأوانيُّ المُقْرِي الضَّريرُ ذَكَرَه ابنُ نُقْطَةَ، وحَمَلُ بنُ عَبْدِ اللهِ الخَثْعَمِيُّ أَميرُ خَثْعَمَ شَهِدَ صِفِّين مَعَ مُعَاوِية.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


192-تاج العروس (ذهل)

[ذهل]: ذَهَلَهُ وعنه كمَنع ذَهْلًا وذُهُولًا بالضمِ تَرَكَهُ على عَهْدٍ، كذا في النسخِ والصَّوابُ: على عَمَدٍ، كما هو نَصّ المُحْكَمِ، أَو نَسِيَهُ لشُغْلٍ.

وفي التَّهْذِيبِ: الذَّهْلُ: تَرْكُكَ الشي‌ءَ تَنَاساه على عَمْدٍ أَو يَشْغَلك عنه شُغْلٌ.

أو هَو أَي الذّهولُ: السُّلُوُّ وطِيبُ النَّفْسِ عن الإِلْفِ. قالَ اللهُ تعالَى: يَوْمَ {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أَرْضَعَتْ}.

وقالَ الرَّاغِبُ: الذُّهولُ. شَغْلٌ يُورِثُ حزْنًا ونسْيانًا.

وقالَ اللّحْيانيُّ: يقالُ جَاءَ بعْدَ ذَهْلٍ من الليلِ ويُضَمُّ، وهذه عن ابنِ دُرَيْدٍ؛ أَي ساعةٌ منه.

وقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: أَي قِطْعَة عظيمَةٌ نَحْو الثُّلُثِ أَو النصْفِ، قالَ: ولم يَجِئ به غيرُ أَبي مالِكٍ، وما أَدْرِي ما صحَّته، وقيلَ بعْدَ هدْءٍ.

قالَ ابنُ سِيْدَه: والدَّالُ أَعْلى.

والذُّهْلولُ: بالضمِ الفرسُ الجَوادُ الرَّقيقُ.

والذُّهْلُ بالضمِ شَجَرَةٌ البَشامِ نَقَلَه الصَّاغانيُّ.

وبِلا لامٍ ذُهْلُ بنُ شَيْبانَ بنِ ثَعْلَبَةَ بن عُكَابَةَ قبيلةٌ من بَكْرِ بنِ وائِلٍ، قالَ قريط بن أنيف:

لو كنتُ من مازنٍ لم تَسْتِبحْ إبلي *** بنو اللقيطةِ من ذهل بن شيبانا

منها يَحْيَى بنُ محمدِ بنِ يَحْيَى الحافِظُ إمامُ أَهْلِ الحدِيثِ بنَيْسابُور وولدُه محمدُ بنُ يَحْيَى من الحفَّاظِ أَيْضًا، وقد ذَكَرَه المصنِّفُ في ح ي ك؛ والإمامُ صاحِبُ المذْهَبِ أَحْمدُ بنُ محمدِ بنِ حَنْبَل بنِ هلالِ بنِ أسَدِ بنِ إدْريس بنِ عبدِ الله بنِ حَبَّان بنِ أَنَس بن قاسِطِ على الصَّحيحِ وقد تقدَّم ذِكْرُه في ح ن ب ل.

وأَمَّا القاضِي أَبُو الطَّاهِرِ، وفي بَعْضِ النسخِ أَبُو الطَّيِّبِ الذُّهْلِيُّ والأولى الصَّوابُ فَسَدوسِيٌّ وسَدَوسُ هو ابنُ شَيْبان بنِ ذُهْلٍ.

وكزُبَيْرٍ ذُهَيْلُ بنُ عَطِيَّةَ، وذُهَيلُ بنُ عَوْفِ بنِ شماخِ الظهْرِيّ التَّابِعِيُّ عن أَبِي هُرَيرَةَ، رَوَى سهيلُ بنُ أَبِي صالِحٍ عن سُلَيْطِ عنه، قالَهُ ابنُ حَبَّانٍ.

والذُّهْلانِ: ذُهْلُ بنُ شَيْبانَ المَذْكُورُ أَوّلًا، وذُهْلُ بنُ ثَعْلَبَةَ بنِ عُكابَةَ بنِ صَعْبِ بنِ عليِّ بنِ بَكْرِ بنِ وَائِلٍ.

فقَولُ شَيْخِنا: أَوْلادُ ذُهْلِ بنِ ثَعْلَبَةَ أَوْرَدَهُم الجَوْهَرِيُّ والسهيليُّ وابنُ قُتَيْبة والبَغْدادِيُّ في شَرْحِ الشَّواهِدِ وغيرِهم، وأَغْفَلَ ذلِكَ المصنِّفُ تَقْصيرًا محلّ تأمُّلٍ، وتَحْقيقُه ولدُ ثَعْلَبَة بنِ عُكَابَةَ. ويقالُ له ثَعْلَبَةُ الحض: شَيْبان وذهلًا والحارِثِ وأُمُّهم رقاش من بنِي تَغْلب فولد شَيْبان ذهلًا وتيمًا وثَعْلَبَة وعوفًا، فولد ذهل محلمًا ومرَّة وأَبَا رَبيعة، وولد ذهل بن ثَعْلَبَة بنِ عُكَابَةَ شَيْبان وعامِرًا وعمرًا فولد شَيْبان بنُ ذهل سَدُوسًا ومازنًا وعامِرًا وعمرًا ومالكًا وزَيْد مَنَاة، وكلُّ هَؤُلاء، لهم أَعْقابٌ ومحلُّ ذِكْرِهم في كُتُبِ الأَنْسابِ.

وسَمَّوْا ذُهْلانَ كعُثْمانَ، والتَّرْكيبُ يدلُّ على شُغْلٍ في شي‌ءٍ يذعر أو غيرِه وقد شَذَّ عنه الذُّهْلُول الجَوادُ من الخَيْلِ.

* وممَّا يُسْتَدْرَكُ عليه:

ذَهِلَه وذَهِلَ عنه كفَرِحَ لغَةٌ في ذَهَلَه كمَنَعَ نَقَلَه ابنُ سِيْدَه والصَّاغانيُّ والجَوْهَرِيُّ وشُرَّاحُ الفَصِيحِ والفيوميّ.

وأَذْهَلَه الأَمْرُ إذْهالًا وأَذْهَلَه عنه هذا هو المَعْروفُ في تَعْدِيتِه وهو الأَكْثرُ وتَعْدِيته بنَفْسِه قَلِيلٌ بل غيرُ مَعْروفٍ.

وغَسَّانُ بنُ ذُهَيلٍ السليطيُّ شاعِرٌ هَاجَى جَرِيرًا.

وذُهَيلُ بنُ الفرَّاءِ اليَرْبوعيُّ شاعِرٌ ضَبَطَه الرشاطي.

وذُهْلُ بنُ كَعْبٍ تابِعِيٌّ رَوَى عنه سماكُ بنُ حَرْبٍ.

وذُهْلُ بنُ أَوْسِ بنِ نُمَيْر بنِ مشنج من أتْبَاعِ التابِعِين رَوَى عنه زُهَيْرُ بنُ أَبي ثابِتٍ.

وبَنُو ذُهْل أَيْضًا بَطْنٌ في تَغْلِب.

وذُهْلُ بنُ مُعَاوِية في كنْدَةَ.

وذُهْلُ بنُ الحَارِثِ في جعفيِّ بنِ سَعْدِ العَشِيرَةِ.

وذُهْلُ بنُ ردمان بنِ جنْدب في طَيِّئٍ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


193-تاج العروس (سل سلل سلسل)

[سلل]: السَّلُّ: انْتِزاعُكَ الشَّي‌ءَ وإِخْرَاجُهُ في رِفْقٍ، سَلَّهُ يَسُلُّه سَلًّا كالاسْتِلالِ.

وفي حدِيثِ حَسَّان: «لأَسُلَّنَّك منهم كما تُسَلُّ الشَّعَرةُ من العَجِينِ».

وسَيْفٌ سَليلٌ: مَسْلولٌ، وقد سَلَّهُ سَلًّا؛ قالَ كَعْبُ بنُ زُهَيْرٍ، رَضِيَ الله تعالَى عنه:

إِنَّ الرَّسُولَ لنورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ *** مُهَنَّدٌ من سيوفِ الله مَسْلُولُ

ويقالُ: أَتَيْناهُم عندَ السَّلَّةِ ويُكْسَرُ أَي عندَ اسْتِلالِ السُّيوفِ، قالَ حِمَاسُ بنُ قَيْسِ الكنانيُّ، وكانَ بمكَّةَ يعدُّ الأَسْلِحَة لقِتَالِ رَسُولِ الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم:

إِنْ يَلْقَنِي القومُ فما لي علّهْ *** هذا سِلاحٌ كامِلٌ وأَلَّهْ

وذو غِرَارَيْنِ سَرِيعُ السَّلَّةْ

وانْسَلَّ الرَّجُلُ من الزُّحامِ، وتَسَلَّلَ أَي انْطَلَقَ في اسْتِخفْاء.

وفي حدِيثِ عائِشَةَ، رَضِيَ الله تعالَى عنها: «فانْسَلَلْتُ من بَيْن يَدَيْه» أَي مَضَيْتُ وخَرَجْتُ بتَأَنٍّ وتَدْرِيجِ.

وقالَ الجَوْهَرِيُّ: انْسَلَّ من بَيْنهم أَي خَرَجَ.

وفي المَثَلِ: رَمَتْني بدَائِها وانْسَلَّتْ وتَسَلَّل مِثْلُه، انتَهَى.

وقالَ سِيْبَوَيْه: انْسَلَلْت ليْسَتْ للمَطَاوَعَةِ إِنَّما هي كفَعَلْت، وقَوْلُه تعالَى: {يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذًا}، قالَ اللّيْثُ يَتَسَلَّلون ويَنْسَلُّون واحِدٌ.

والسُّلالَةُ: بالضمِ، ما انْسَلَّ من الشَّي‌ءِ.

والنُّطْفَةُ سُلالَةُ الإِنْسانِ؛ قالَ الله تعالَى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ}.

وقالَ الفرَّاءُ: السُّلالَةُ الذي سُلَّ من كلِّ تُرْبةٍ.

وقالَ أَبُو الهَيْثمِ: ما سُلَّ من صُلْب الرجُلِ وتَرَائِبِ المَرْأَةِ كما يُسَلُّ الشي‌ءُ سَلًّا.

ورُوِي عن عَكْرمَةَ أَنَّه قالَ في السُّلالَةِ: الماءُ يُسَلُّ من الظَّهْرِ سَلًّا، ومنه قَوْلُ الشمَّاخِ:

طَوَتْ أَحْشاءَ مُرْتِجَةٍ لوَقْتٍ *** على مَشَجٍ سُلالَتُهُ مَهِينُ

قالَ: والدليلُ على أَنَّه الماءُ قَوْلُه تعالَى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ}، ثم تَرْجَمَ عنه، فقالَ: {مِنْ ماءٍ مَهِينٍ}.

وقالَ قَتَادَة: اسْتُلَّ آدَمُ من طِيْنٍ فسُمِّي سُلالَةٌ؛ قالَ: وإِلى هذا ذَهَبَ الفرَّاءُ.

وقالَ الأَخْفَشُ: السُّلالَةُ الوَلَدُ حِيْن يَخُرُجُ من بَطْنِ أُمِّه كالسَّليلِ سُمِّي سَلِيلًا لأَنَّه خُلِقَ من السُّلالَةِ.

والسَّليلَةُ: البِنْتُ، عن أَبي عَمْرٍو، قالَتْ هنْدُ بِنْتُ النُّعْمان بنِ بَشِير:

وما هِنْدُ إِلَّا مُهْرةٌ عَرَبِيَّةٌ *** سَلِيلةُ أَفْراسٍ تَجَلَّلها بَغْل

والسَّليلَةُ: ما اسْتَطَالَ من لَحْمَةِ المَتْنِ، وقيلَ: هي لَحْمةُ المَتْنَيْن. وأَيْضًا: عَقَبةٌ، أَو عَصَبَةٌ، أَو لَحْمَةٌ إِذا كانَتْ ذات طَرائِقَ، يَنْفَصلُ بعضُها من بعضٍ؟ قالَ الأَعْشَى:

ودَأْيًا لَواحِكَ مِثْلَ الفُؤُو *** سِ لَاءَمَ فيها السَّلِيلُ الفَقَارا

وقالَ الأَصْمَعِيُّ: السَّلائِلُ: طَرائِقُ اللَّحْمِ الطِّوالُ تكونُ ممتدَّةً مَعَ الصُّلْبِ.

وأَيْضًا: سَمَكَةٌ طَويلَةٌ لها منْقَارُ طَويلٌ.

والسَّلِيلُ: كأَميرٍ، المُهْرُ، وهي بهاءٍ؛ قالَ الأَصْمَعِيُّ: إِذا وَضَعَتِ الناقَةُ فوَلَدها ساعَةَ تَضَعُه سَلِيلٌ قَبْلَ أَنْ يُعْلم أَنَّه ذَكَرٌ وأُنْثَى، قالَ الرَّاعِي:

أَلْقَتْ بمُنْحَرِقِ الرِّياحِ سَلِيلًا

وقيلَ: السَّلِيلُ من الأَمْهارِ: ما وُلِدَ في غيرِ ما سِكَةٍ ولا سَلىً وإِلَّا؛ أَي إِنْ كانَ في واحِدَةٍ منهما، فَبَقيرٌ، وقد ذُكِرَ في حَرْفِ الرَّاءِ.

وأَيْضًا: دِماغُ الفَرَسِ، وأَنْشَدَ اللَّيْثُ:

كقَوْنَسِ الطِّرْفِ اوْفى شأْنُ قَمْحَدة *** فيه السَّلِيلُ حَوَاليْه له إِرَمُ

وأَيْضًا: الشَّرابُ الخالِصُ كأَنَّه سُلَّ من القَذَى حتى خلصَ، ومنه الحدِيثُ: «اللهُمَّ اسْقِنا من سَلِيل الجَنَّة» أَي صَافي شرابِها. وقيلَ: هو الشَّرابُ البارِدُ؛ وقيلَ: الصَّافي من القَذَى والكَدَر، فعِيلٌ بمعْنَى مَفْعولٍ، وقيلَ: السَّهْل في الحَلْق، ويُرْوَى: سَلْسَبيل الجَنَّة، ويُرْوَى: سَلْسَال الجَنَّة.

وأَيْضًا: السَّنَّامُ.

وأَيْضًا: مَجْرَى الماءِ في الوادِي أَو وَسَطُه حيث يسِيْلُ مُعْظمُ الماءِ.

وأَيْضًا: النُّخاعُ، وبه فسِّرَ قَوْلُ الأَعْشَى السَّابقِ.

وأَيْضًا: وادٍ واسِعٌ غامِضٌ يُنْبِتُ السَّلَمَ والضَّعَة واليَنَمة والحَلَمة والسَّمُرَ كالسَّالِّ مُشَدَّد اللامِ، قيلَ: هو مَوْضِعٌ فيه شَجَرٌ وجَمْعُهما السُّلَّانُ كرُمَّانٍ، قالَ كراعٌ: السُّلَّانُ جَمْعُ سَلِيلٍ، وقالَ الأَصْمَعِيُّ: السُّلَّانُ واحِدُها سَالٌّ كحائِرٍ وحَورَان وهو المَسِيلُ الضَّيِّقُ في الوادِي؛ أَو جمعُ الثَّانيةِ سَوالُّ، وهو قَوْلُ النَّضْرِ، قالَ السَّالُّ مكانٌ وطِي‌ءٌ وما حَوْلَه مُشْرِف، وجَمْعُه سَوالُّ، يَجْتَمِعُ المَاءُ إليه.

والسَّليلُ: الأَشْجَعِيُّ صحابيٌّ؛ قالَ الحافِظُ مَذْكورٌ في الصَّحابَةِ في رِوَايَةٍ مَغْلوطَةٍ، وإنَّما هو الجَرِيريُّ عن أَبي السَّلِيلِ.

وأَبُو السَّليلِ: صُرَيْبُ بنُ نُقَيْرِ بنِ شميرِ القَيْسيّ الجَرِيريُّ التَّابِعِيُّ من أَهْلِ البَصْرَة، رَوَى عن أَبي ذَرٍّ وعَبْدِ الله بنِ رَبَاحٍ، وعنه كَهْمَسُ بنُ الحَسَنِ وسَعِيدُ بنُ إياسِ الجَرِيريّ وثَّقُوه، وتقدَّمَ ذِكْرُه في «ن ق ر»، ويقالُ: هو نُفَيْرُ بالفاءِ، وقيلَ: نُفَيْلُ باللَّامِ.

وأَبُو السَّلِيلِ: عبدُ الله، هكذا في النسخِ، وفي التَّبْصِيرِ: عُبَيْدُ الله، بنُ إِيادٍ عن أَبيهِ، وعنه أَبُو الوَليدِ.

وأَبُو السَّلِيلِ: أَحمدُ بنُ صاحِبِ آمِدَ عيسى بنِ الشيخِ، وابنُه السَّليلُ بنُ أَحمدَ، رَوَى عن محمدِ بنِ عُثْمان بنِ أَبي شِيْبَةَ.

وسَليلُ بنُ بِشْرِ بنِ رافِع النَّجْرَانيُّ عن أَبيهِ، وعنه ابنُه موسَى أبو السَّلِيلِ.

وعبدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بنِ سَليلٍ عن الزَّهْرِيِّ، وعنه مَغْنُ بنُ عيسى.

وزيْدُ بنُ خَلِيفَةَ بنِ السَّليلِ وآخَرُون محدِّثونَ.

والسَّلَّةُ بالفتحِ، عن ابنِ الأَعْرَابِيِّ، والسُّلُّ بالكسرِ، ويُرْوَى فيه الضمُ أَيْضًا، والسُّلالُ كغُرابٍ مَرَضٌ مَعْروفٌ أَعَاذَنا الله منه؛ وقالَ الأَطِبَّاءُ: هي قَرْحَةٌ تَحْدُثُ في الرِّئَةِ إِمَّا تُعْقِبُ ذاتَ الرِّئَةِ أو ذاتَ الجَنْبِ، أو هو زُكامٌ ونَوازِلُ، أَو سُعالٌ طويلٌ وتَلْزَمُها حُمَّى هادِيَةٌ وفي التَّهْذِيبِ، داءٌ يَهْزِلُ ويُضني ويَقْتُل، قالَ ابنُ أَحْمر:

أَرَانا لا يَزَال لنا حَمِيمٌ *** كَدَاءِ البَطْن سُلًّا أَو صُفَارا

وأَنْشَدَ ابنُ قُتَيْبَة لعُرْوَة بنِ حزَامٍ فيه أَيْضًا:

بيَ السُّلُّ أَو داءُ الهُيام أَصَابني *** فإيَّاكَ عَنِّي لا يَكُن بِكَ ما بِيا.

ومثْلُه قَوْلُ الآخَر:

بِمَنْزِلَةٍ لا يَشْتَكِي السُّلَّ أَهْلُها *** وعَيْش كمَلْسِ السَّابِرِيِّ رقيق

وفي الحدِيثِ: «غُبَارُ ذَيْل المرأَةِ الفاجِرَةِ يُورِثُ السِّلَّ»، يُريدُ أَنَّ من اتَّبع الفَوَاجِر وفَجَرَ ذَهَبَ مالُه وافْتَقَرَ، فشَبَّه خِفَّة المَالِ وذَهَابَه بخِفَّة الجسمِ وذهابِه إذا سُلَّ.

وفي تَرْجَمةِ ظَبْظَبَ قالَ رُؤْبَةُ:

كأَنَّ بيَ سُلًّا وما بي ظَبْظَاب

قالَ ابنُ بَرِّي: في هذا البيتِ شاهِدٌ على صحةِ السُّلِّ لأَنَّ الحَرِيريّ. قالَ في كتابِه دُرَّة الغَوَّاص: إِنَّه من غَلَطِ العامَّةِ، وصَوَابُه عنْدَه السُّلالُ، ولم يُصِبْ في إِنْكَارِهِ السُّلّ لكَثْرَةِ ما جَاءَ في أَشْعارِ الفُصَحاءِ، وذَكَرَه سِيْبَوَيْه أَيْضًا في كتابِهِ. وقد سُلَّ بالضمِ وأَسَلَّهُ الله تعالى وهو مَسْلولٌ شاذٌّ على غيرِ قِياسٍ.

قالَ سِيْبَوَيْه: كأَنَّه وضعَ فيه السُّلّ.

وقالَ الزُّبَيْرُ بنُ بكَّارٍ: الياسُ بنُ مُضَر أَوّلُ من ماتَ من السُّلِّ فسُمِّي السُّلُّ يأْسًا.

والسَّلَّةُ: السَّرِقَةُ الخَفِيَّةُ، يقالُ: لي في بنِي فلانٍ سَلَّةٌ.

ويقالُ: الخَلَّةُ تَدْعو إلى السَّلَّةِ. وقد سَلَّ الرجُلُ الشي‌ءَ يَسُلُّه سَلًّا فهو سَلَّالٌ سَارِقٌ كالإسْلالِ عن ابنِ السِّكِّيت، وقد أَسَلَّ يُسِلُّ إِسْلالًا، وبه فَسَّرَ أَبُو عَمْرٍو الحدِيثَ: «وأَنَّ لا إِغْلالَ ولا إِسْلالَ».

وسَلَّ البَعيرَ وغَيْرَه في جَوْفِ اللَّيلِ إذا انْتَزَعَه من بينِ الإِبِلِ.

والسَّلَّةُ: شبْهُ الجونَةِ المُطْبَقَةِ، وهي السَّبَذَةُ، قالَهُ الأَزْهَرِي؛ الجمع: سِلالٌ بالكسرِ.

والإسْلالُ: الرِّشْوَةُ وبه فُسِّرَ الحدِيثُ أَيْضًا. وقالَ الجَوْهَرِيُّ: الحدِيثُ يَحْتَمِلُ الرِّشْوَةُ والسَّرِقَةَ جَمِيعًا.

وسَلَّ الرَّجُلُ يَسِلُّ: ذَهَبَ أَسْنَانُه، فهو سَلٌّ، وهي سَلَّةٌ، ساقِطَا الأَسْنان، قالَهُ اللّحْيانيُّ، وكذلِكَ الشَّاةُ.

وقالَ ابنُ الأَعْرَابِيِّ: السَّلَّةُ: ارْتِدادُ الرَّبْوِ في جَوْفِ الفرسِ من كَبْوَةٍ يَكْبُوها، فإذا انْتَفَخَ منه قبل سَلَّته فيُرْكَضَ رَكْضًا شَدِيدًا ويُعَرَّقُ ويُلْقَى عليه الجِلالُ فيْخرجُ الرَّبْو.

والمِسَلَّةٌ: بكسرِ الميمِ، مِخْيَطٌ ضَخْمٌ، كما في المحْكَمِ. وقالَ غيرُه: إِبْرَةٌ عظِيْمةٌ، والجَمْعُ المِسَالُّ.

والسُّلَّاءةُ: كرُمَّانَةٍ، شَوْكَةُ النَّخْلِ: الجمع: سُلَّاءٌ؛ قالَ عَلْقمَةُ يَصِفُ ناقَةً أَو فَرَسًا:

سُلَّاءةٌ كعَصا النَّهْديِّ غُلَّ لها *** ذو فَيْئةٍ من نَوَى قُرَّانَ مَعْجومُ

والسَّلَّةُ أَنْ تَخْرِزَ سَيْرَيْنِ في خَرْزَةٍ. ونَصُّ المُحْكَمِ: أَنْ تَخْرِزَ خَرْزَتَيْن في سَلَّةٍ واحدَةٍ.

والسَّلَّةُ: العَيْبُ في الحَوْضِ أَو الخابِيَة، أَو هي الفُرْجَةُ بَيْن أَنْصابِ، ونَصُّ المُحْكَمِ: نَصَائِب الحَوْضِ؛ وأَنْشَدَ:

أَسَلَّةٌ في حَوْضِها أَم انْفَجَرَ

وسَلُولُ: فَخِذٌ من قَيْسِ بنِ هَوَازِن؛ وفي الصِّحاحِ والعُبَابِ: قَبِيلةٌ من هَوَازِن، وهم بَنُو مُرَّةَ بنِ صَعْصَعْةَ بنِ مُعَاوِيَة بنِ بَكْرِ بنِ هَوَازِن؛ وسَلُولُ اسمُ أُمِّهِم نُسِبُوا إليها وهي ابنةُ ذَهْل بنِ شَيْبَان بنِ ثَعْلَبَةَ، منهم عبدُ الله بنُ هَمَّامٍ الشَّاعِرُ السَّلُوليُّ هو من بنِي عَمْرِو بنِ مُرَّةَ بنِ صَعْصَعَة، وهُمْ رَهْطُ أَبي مَرْيم السَّلُوليِّ الصَّحابيِّ. وقالَ ابنُ بَرِّي: حَكَى السِّيرَافيّ عن ابنِ حَبِيبٍ قالَ: في قَيْسِ سَلُول بن مُرَّة بنِ صَعْصَعَة اسمُ رجُلٍ وفيهم يقُولُ:

وإِنَّا أُنَاسٌ لا نَرَى القَتْلَ سُبَّة *** إِذا ما رَأَتْه عامِرٌ وسَلُولُ

يُريدُ عامِرَ بن صَعْصَعَةَ، وسَلُولَ بن مُرَّةَ بن صَعْصَعَة.

وسَلُولُ أَيْضًا: أُمُّ عبدِ الله بنِ أُبيِّ المُنافِقِ؛ ويقالُ جَدَّتُه.

وسُلِّيُّ ككُلِّيٍّ ودُبيَّ موضع لبَنِي عامِرِ بنِ صَعْصَعَةَ، قالَ لَبِيدٌ، رَضِيَ الله تعالَى عنه:

فَوَقْفٍ فَسُلِّيٍّ فأَكْنَافِ ضَلْفَعٍ *** تَرَبَّعُ فيه تارةً وتُقيمُ

وليسَ: بتصحيفِ سُلَيٍّ كسُمَيٍّ ولا بتَصْحيفِ سُلّى كرُبّى.

والسُّلَّانُ: بالضمِ، وادٍ لبَنِي عَمْرِو بنِ تَميمٍ، قالَ جَرِيرُ:

نَهْوَى ثَرَى العِرْقِ إِذ لم نَلْقَ بَعْدَكم *** بالعِرْقِ عِرْقًا وبالسُّلَّانِ سُلَّانا

وقالَ غيرُه:

لِمَنِ الدِّيارُ برَوْضَةِ السُّلَّانِ *** فالرَّقْمَتَيْنِ فجانِبِ الصَّمَّانِ

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

أَسْلَلْت السَّيْفَ، لُغَةٌ في سَلَلْته، وبه فسِّرَ أَيْضًا الحدِيثُ: «لا إِغْلالَ ولا إِسْلالَ»، وقَوْلُ الفَرَزْدَقِ:

غَداةَ تَوَلَّيْتُم كأَنَّ سُيُوفَكُم *** ذَآنِينُ في أَعناقِكُمْ لم تُسَلْسَلِ

قيلَ: هو من فَكّ التَّضْعيفِ كما قالُوا: هو يَتَمَلْمَلُ وإِنَّما هو يَتَمَلَّلُ، وهكذا رَوَاه ابنُ الأَعْرَابيِّ، فأَمَّا ثَعْلَب فرَوَاه لم تُسَلَّل. وفي الحدِيثِ: «اللهُمَّ اسْلُل سَخِيْمَة قَلْبي»، وهو مجازٌ؛ ومنه قَوْلُهم: الهَدَايا تَسُلّ السَخَائِمَ وتَحُلّ الشَّكائِمَ.

وفي حدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: مَضْجَعُه كمَسَلِّ شَطْبَةٍ، هو مصدر بمعنى المفعول أَي ما سُلّ من قشرِهِ والشَّطْبَةُ السَّعْفَةُ الخضراءُ، وقيل السّيف؛ وانسلّ السيفُ من الغِمْدِ انسلت. والسليلةُ: الشَّعَرُ يُنْفَشُ ثم يُطْوَى ويُشَدُّ ثم تَسُلُّ منه المرأَةُ الشي‌ءَ بعْدَ الشي‌ءِ تَغْزِله؛ ويقالُ: سَلِيلةٌ من شَعَر لمَا اسْتُلَّ من ضَرِيْبتِه، وهي شي‌ءٌ يُنْفَش منه ثم يُطْوى ويُدْمَجُ طِوالًا، طولُ كلّ واحِدَةٍ نَحْو من ذِرَاعٍ في غِلَظِ أَسَلَةِ الذِّرَاعِ ويُشَدُّ ثم تَسُّلُّ منه المرأَةُ.

وسلَّ المُهْر: أُخْرِجَ سَليلًا، أَنْشَدَ ثَعْلَب:

أَشَقَّ قَسامِيًّا رَباعِيَّ جانب *** وقارِحَ جَنْبٍ سُلَّ أَقْرَحَ أَشْقَرا

وسَلائِلُ السَّنامِ: طَرائِقُ طِوالٌ تُقْطَعُ منه.

وسَلِيلُ اللّحْمِ: خَصِيلُه، وهي السَّلائِلُ.

والسَّلائِلُ: نَغَفَاتٌ مُسْتطيلَةٌ في الأَنْفِ.

وقالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ: يقالُ سَلِيلٌ من سَمُرٍ كما يقالُ فَرْشٌ من عُرْفُطٍ، وغالٌّ من سَلَمٍ، وقَوْلُ زُهَيْر:

كأَنَّ عَيْني وقد سالَ السَّليلُ بهم *** وجِيرَةٌ مَا هُمُ لو أَنَّهم أَمَمُ

قالَ ابنُ بَرِّي قَوْلُه: سَالَ السَّلِيلُ بهم أَي سَارُوا سيْرًا سَريعًا.

واسْتَلّ بكذَا أَذهب به في خُفْية.

والسَّالُّ والسَّلَّالُ والأَسَلَّ: السَّارِقُ.

والإِسْلالُ: الغارَةُ الظاهِرَةُ، وبه فسِّرَ الحدِيثُ أَيْضًا.

وأَسَلَّ إِذا صَارَ صاحِبَ سَلَّة، وأَيْضًا أَعَانَ غَيْرَه عليه. والمُسَلِّلُ: كمُحَدِّثٍ، اللَّطِيفُ الحِيْلَةِ فى السَّرِقَةِ.

وسَلَّةُ الخُبْزِ مَعْرُوفَةٌ؛ قالَ ابنُ دُرَيْدٍ: لا أَعْرِفُ السَّلَّة عَرَبِيَّة، والجَمْعُ سَلُّ.

قالَ أَبُو الحَسَنِ: سَلٌّ عنْدِي من الجَمْعِ العَزِيزِ لأَنَّه مَصْنوعٌ غيرُ مَخْلوقٍ، وأَنْ يكونَ من بابِ كَوْكَبٍ وكَوْكَبَةٍ أَوْلَى.

والسَّلَّة: الناقَةُ التي سَقَطَتْ أَسْنانُها من الهَرَمِ؛ وقيلَ: هي الهَرِمَةُ التي لم يبْقَ لها سِنُّ، عن ابنِ الأَعْرَابِيِّ.

وسَلَّةُ الفَرَسِ: دَفْعَتُه من بَيْن الخَيْلِ مُحْتضرًا؛ وقيلَ: دَفْعَتُه في سِياقِه. وفَرَسٌ شَدِيدُ السَّلَّةِ. ويقالُ: خَرَجَتْ سَلَّةُ هذا الفَرَسِ على سائِرِ الخَيْلِ، وهو مجازٌ.

والسَّلَّةُ: شُقُوقٌ في الأَرْضِ تَسْرِقُ المَاءَ.

وسلَّى كحنّى، وقيلَ: بكسرِ السِّيْن، بطنٌ في قضَاعة واسْمُه الحَارِثُ بنُ رِفاعَة بنِ عُذْرَةَ بنِ عَدِيِّ بنِ عَبْدِ شَمْسِ بنِ طَرُود بنِ قُدَامَة بنِ جَرْمِ بنِ زَبان بن حُلوان، قالَ الشاعِرُ:

وما تَرَكَتْ سِلَّى بِهِزَّانَ ذلَّةً *** ولكِنْ أَحاظٍ قُسِّمَتْ وجُدُودُ

منهم: أَسْماءُ بنُ رباب بنِ مُعَاوِيَةَ بنِ مالِكِ بنِ سِلَّى الصّحابيُّ، وأَبُو تَمِيْمة طرَيْفُ بنُ مجالِدِ الهجيميُّ من الرُّوَاةِ.

وسِلَّى بكسرِ السِّين وتَشْديدِ اللّامِ المَفْتوحَةِ، ماءٌ لبَنِي ضبَّة بنَوَاحِي اليَمَامَة، قالَهُ نَصْر؛ وبالفتحِ: جَبَلٌ بمَنَاذر من أَعْمالِ الأَهْوازِ كَثِير التمرِ؛ قالَ:

كأَن غَدِيرَهُم بجَنُوبِ سِلَّى *** نَعامٌ فاقَ في بَلَدٍ قِفارِ

قالَ ابنُ بَرِّي: قالَ أَبُو المِقْدام بَيْهَس بنُ صُهَيْب:

بسِلَّى وسِلِّبْرى مَصارِعُ فِتْيةٍ *** كِرامٍ وعَقْرى من كُمَيْت ومن وَرْد

قالَ: سِلَّى وسِلِّبْرى يقالُ لهما العاقُولُ وهي مَناذِرُ الصُّغْرَى كانَتْ بها وَقْعة بَيْن المُهَلَّب والأَزَارِقَة، قُتِل بها إِمَامُهم عُبَيْدُ الله بنُ بَشِير بنِ المَاحُوز المَازِنيُّ.

قالَ ابنُ بَرِّي: وفي قُضَاعَة سَلُولُ بِنْتُ زَبان بن امْرِئِ القَيْسِ بنِ ثَعْلَبَةَ بنِ مالِكِ بنِ كنَانَةَ بنِ القَيْن.

وفي خُزَاعَة: سَلُولُ بنُ كَعْبِ بنِ عَمْرِو بنِ رَبِيْعَة بنِ حَارِثَة.

وقالَ أَبُو عَمْرٍو: المسلولَةُ من الغَنَمِ التي يطول قواها، يقالُ: في فيها سَلَّةٌ.

وتسلَّل الشي‌ءُ اضْطَرَبَ كأَنَّه تُصُوِّرَ فيه تَسَلّلٍ مَتَرَدِّدٌ فردّدَ لَفْظه تَنْبيهًا على تَرَدّدِ مَعْناه، قالَهُ الرَّاغِبُ.

وفي المَثَلِ: رَمَتْني بدَائِها وانْسَلَّت، هو لإِحْدَى ضَرَائِر رَهْمِ بِنْتُ الخزْرج امْرَأَةُ سَعْدِ بنِ زَيْد مَنَاة رَمَتْها رهم بِعَيْبٍ كان فيها، فقالَتْ الضرَّةُ ذلِكَ.

واسْتَلَّ النَّهرُ جَدْولًا: انْشَقّ منه وهو مجازٌ.

والسَّلِيلَةُ: ماءَةٌ بأَعْلَى ثادق، قالَهُ نَصْر.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


194-تاج العروس (كل كلل كلكل)

[كلل]: الكُلُّ بالضَّمّ: اسمٌ لجميعِ الأجزاءِ.

ونَصُّ المحْكَمِ: يَجْمَعُ الأجْزاءَ، يقالُ: كُلُّهم مُنْطلِق وكُلّهنَّ مُنْطَلِقَة، للذَّكَرِ والأُنْثَى.

وفي العُبَابِ والصِّحاحِ: كلُّ لفْظِهِ واحِدٌ ومَعْنَاهُ الجَمْعُ، فعلى هذا تقولُ: كُلٌّ حَضَر وكُلٌّ حَضَروا، على اللَّفْظِ مَرَّةً وعلى المعْنَى أُخْرَى؛ قالَ اللهُ تعالَى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ}؛ وقالَ جلَّ وعَزَّ: {كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ}.

أَو يقالُ: كلُّ رجُلٍ وكُلَّةُ امرأَةٍ. قالَ شيْخُنا. أَنْكَرَه المُحَقِّقُون وقالُوا إنَّه وَقَعَ في كَلامِ بعضِهم ازدواجًا فلا يثبُتُ لُغَة.

وكُلُّهُنَّ مُنْطَلِقٌ. وكُلَّتهُنَّ مُنْطَلِقَةٌ، وهذه حَكَاها سِيْبَوَيْه.

وقالَ أَبو بكرِ بنُ السِّيرافي: إنَّما الكلُّ عبارَةٌ عن أَجْزاءِ الشي‌ءِ؛ فكما جَازَ أن يُضَافَ الجزءُ إلى الجُمْلةِ جَازَ أن تُضافَ الأَجزاءُ كُلُّها إليه، فأمَّا قوْلُه تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ}، و {كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ}، فمَحْمولٌ على المعْنَى دُوْن اللّفْظِ، وكأنَّه إنَّما حملَ عليه هنا لأَنَّ كُلًّا فيه غيرُ مضافَةٍ، فلمَّا لم تُضَفْ إلى جماعَةٍ عُوِّض مِن ذلِكَ ذكرُ الجماعَةِ في الخبرِ، أَلا تَرَى أَنَّه لو قالَ: له قانِتٌ، لم يكُنْ فيه لَفْظ الجَمْع البتَّة؟ ولمَّا قالَ سُبْحانه: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْدًا} *، فجاءَ بلَفْظِ الجماعَةِ مُضافًا إليها، اسْتَغْنى عن ذكرِ الجماعَةِ في الخبرِ؟ وفي التَّهْذِيبِ: قالَ الهَيْثم فيمَا أَفادَني عنه المنْذريّ: تَقَعُ كُلٌّ على اسمٍ مَنْكورٍ موحَّد فتُؤَدِّي معْنَى الجماعَةِ كقَوْلِهم: ما كُلُّ بَيْضاء شَحْمةً، ولا كُلُّ سَوْداء تَمْرةً.

وسُئِلَ أَحْمدُ بنُ يَحْيَى عن قوْلِه تعالَى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}، وعن تَوْكيدِه بكُلِّهم ثم بأَجْمعون فقالَ: لمَّا كانت {كُلُّهُمْ} تَحْتَمِل شَيْئَيْن تكونُ مَرَّةً اسْمًا، ومَرَّةً تَوْكيدًا جَاءَ بالتَّوْكيدِ الذي لا يكونُ إلَّا تَوْكيدًا حَسْب.

وسُئِلَ المبرِّدُ عنها فقالَ: جَاءَ بقَوْلِه {كُلُّهُمْ} لإحاطَةِ الأَجْزاءِ، فقيلَ: له ف {أَجْمَعُونَ} ؟ فقالَ: لو جاءَتْ {كُلُّهُمْ} لاحْتَمَلَ أَنْ يكونَ سَجَدوا كُلّهم في أَوْقات مُخْتِلفات، فجاءَتْ {أَجْمَعُونَ} لتدلَّ أَنَّ السُّجودَ كانَ منهم كُلّهم في وقْتٍ واحِدٍ فدَخَلَت (كُلُّهُمْ) للإحاطَةِ ودَخَلَتْ (أَجْمَعُونَ) لسُرْعةِ الطَّاعةِ.

قلْتُ: وللشيخِ تَقيّ الدِّين بن السّبكي رِسَالةَ مُسْتَقِلَّة في مباحِثِ: كُلّ وما عليه يدلُّ، وهي عنْدِي، وحاصِلُ ما ذَكَرَ فيها ما نَصُّه: لَفْظهُ كُلّ إذا لم تَقَعْ تابِعَةً فإمَّا أنْ تُضافَ لَفْظًا وإمَّا أَن تُجَرَّد، وإذا أُضِيْفَت فإمَّا إلى نَكِرةٍ وإمَّا إلى مَعْرفةٍ:

القسمُ الأوَّل: أن تُضَافَ إلى نَكِرةٍ فيَتَعَيّن اعْتبار المعْنَى فيمَا لها مِن ضَمِيرٍ وغيرِه، والمُرَاد باعْتِبار المعْنَى أنْ يكونَ على حَسَبِ المُضَاف إليه إنْ كانَ مُفْردًا فَمُفْرد، وإن كان مُثَنَّى فمُثَنّى، وإن كان جَمْعًا فجَمْع، وإن كان مُذَكرًا فمذَكَّر، وإن كان مُؤَنَّثًا فمُؤَنَّث؛ ثم أَوْرَدَ لذلِكَ، شواهِد من كَلامِ الشُّعراءِ.

والقسمُ الثاني: أن تُضافَ لَفْظًا إلى مَعْرفةٍ فقد كَثُر إضافَته إلى ضميرِ الجَمْعِ والخَبَر عنه مُفْرد كقَوْلِه تعالَى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْدًا} ونقلَ عن شيخِه أَبي حَيَّان قالَ: ولا يَكادُ يُوجدُ في لسانِ العَرَبِ كُلّهم يَقُومُون ولا كُلّهنَّ قائِمَات، وإن كان مَوْجودًا في تَمْثيلِ كَثِيرٍ مِن النُّحَّاةِ.

ونقلَ عن ابنِ السَّرَّاجِ: أنَّ كُلًّا لا يَقَعُ على واحِدٍ في معْنَى الجَمْعِ إلَّا وذلِكَ الواحِدُ نَكِرَة وهذا يَقْتَضِي امْتِناع إضافَة كُلّ إلى المُفْرد المُعَرَّف بالأَلف واللامِ التي يُرادُ بها العَمُوم.

والقسمُ الثالِثُ: أَن تَجَرَّد عن الإضَافَةِ لَفْظًا فيجوزُ الوَجْهان، قالَ تعالَى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ}؛ و {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}. وقالَ ابنُ مالِكٍ وغيرُه مِن النُّحاةِ هنا: إنَّ الإفْرادَ على اللّفْظِ والجَمْع على المعْنَى، وهذا يدلُّ على أَنَّهم قَدَّروا المُضافَ إليه المَحْذوف في المَوْضِعَيْن جَمْعًا، فتارَةً رُوعِي كما إذا صرّحَ به، وتارَةً رُوعِي لَفْظ كُلّ، وتكونُ حالَةُ الحَذْف مُخالِفَةً لحالَةِ الإثْباتِ. قالَ: ومن لطيفِ القَوْل في كُلّ أَنَّها للاسْتِغْراق سَوَاء كانت للتَّأْكيدِ أَم لا، والاسْتِغْراقُ لإجْزَاء ما دَخَلَتْ عليه إن كانت مَعْرفَةً، ولجزْئِيَّاتِه إن كانت نَكِرةً، وفي أَحْكَامِها إذا قُطِعَت عن الإضافَةِ أن تكون في صَدْرِ الكَلامِ كقوْلِكَ: كُلّ يقُومُ، وكُلًّا ضَرَبْت، وبكلٍّ مَرَرْت. ويقبحُ أَن تقولَ: ضَرَبْت كُلًّا ومَرَرْت بكلٍّ، قالَهُ السّهيليُّ.

فهذا ما اخْتَصَرْت من كَلامِ الشيخِ تَقيّ الدِّيْن، رَحِمَه اللهُ تعالَى، ومحلُّه مُصَنَّفات النَّحْو. وقالَ ابنُ الأثيرِ: مَوْضِعُ كُلّ الإحَاطَةُ بالجَمِيعِ، وقد جَاءَ اسْتِعْمالُه بمعْنَى بعضٍ وعليه حُمِل قَوْلُ عُثْمان، رضي ‌الله‌ عنه حينَ دُخِلَ عليه فقيلَ له: أَبِأَمْرك هذا؟ فقالَ: كُلُّ ذلِكَ أَي بَعْضه عن أَمْرِي وبَعْضه بغيرِ أَمْرِي؛ قالَ: ومنه قَوْلُ الرَّاجزِ:

قالتْ له وقولُها مُرْعِيٌّ *** إنَّ الشَّوَاءَ خَيْرُه الطَّرِيُّ

وكُلُّ ذاك يَفعَل الوَصِيُّ

أَي قد يَفْعَل وقد لا يَفْعَل فهو ضِدٌّ.

قالَ شيْخُنَا: وجَعَلوا منه أَيْضًا قَوْلَه تعالَى: فـ {كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ}، و {أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} قالَ: وقد أَوْرَدَ بعضَ ذلِكَ الفيومي في مِصْباحِهِ وأَشارَ إليه ابنُ السَّيِّد في الانْصافِ.

ويقالُ: كلٌّ وبعضٌ مَعْرِفتانِ، ولم يَجِي‌ءْ عن العَرَبٍ بالأَلِفِ واللَّامِ وهو جائزٌ لأنَّ فيهما معْنَى الإضافَةِ أَضَفْت أو لم تُضِفْ، هذا نَصُّ الجوْهَرِيّ في الصِّحاحِ.

وفي العُبَابِ: قالَ أَبو حاتِمٍ: قلْتُ للأصْمَعِيِّ في كتابِ ابنِ المُقَفَّع العِلْمُ كَثيرٌ ولكن أَخْذ البَعْضِ أَوْلَى مِن تَرْكِ الكُلِّ، فأَنْكَره أَشَدّ الإنْكَارِ وقالَ: الألِفُ واللامُ لا تَدْخُلان في بعضٍ وكلٍّ لأنّهما مَعْرفةٌ بغيرِ أَلِفٍ ولامٍ. قالَ أَبو حاتِمٍ: وقد اسْتَعْمَلَه الناسُ حتى سِيْبَوَيْه والأَخْفَش في كتابَيْهِما لقلَّةِ عِلْمهما بهذا النَّحْوِ فاجْتَنِب ذلِكَ فإنَّه ليسَ مِن كَلامِ العَرَبِ. وكانَ ابنُ دَرَسْتَوَيْه يُجَوِّزُ ذلِكَ فخالَفَهُ جَمِيعُ نُحَّاةِ عَصْرِه، وقد ذُكِرَ في «ب موضع ض» قالَ: والذي يسامحُ ذلِكَ من المُتَأَخِّرين يقولُ فيهما معْنَى الإضْافَةِ أَضْفت أَو لم تُضِفْ.

قالَ شيْخنا: نَقْلًا عن أَبي حَيَّان قالَ: ومن غَريبِ المَنْقولِ ما ذَهَبَ إليه محمدُ بنُ الوَليدِ من جَوَازِ حَذْف تَنْوين كُلّ جعلَه غايَة كقبْل وبَعْد، حَكَاه عنه أَبو جَعْفرٍ النَّحاس، وأَنْكَرَ عَلَيْهِ سُلَيْمان، لأنَّ الظُّروفَ خصَّتْ بعِلّة ليْسَتْ في غيرِها، وفيه كَلامٌ في همعِ الهَوَامع.

وحَكَى سِيْبَوَيْه: هو العالِمُ كُلُّ العالِمِ، قالَ: المرادُ بذلِكَ التَّناهِي وأَنَّه قد بَلَغَ الغايَةَ فيما يَصِفُه به مِن الخِصَالِ.

والكَلُّ، بالفتحِ: قَفا السِّكِّينِ الذي ليسَ بحادِّ؛ وقَفا السَّيفِ أَيْضًا.

وقالَ ابنُ الأعْرَابيِّ: الكَلُّ الوَكِيلُ؛ وأَيْضًا: الصَّنْمُ.

قالَ الأزْهَرِيُّ: أَرَادَ بذلِكَ قَوْلَه تعالَى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا}، ضَرَبَه مَثَلًا للصَّنَم الذي عبَدُوه وهو {لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ‌ءٍ} ف {هُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ} لأنَّه يَحْمِلُه إذا ظَعَن فيُحوِّلُه مِن مكانٍ إلى مكانٍ، فقالَ اللهُ تعالَى: {هَلْ يَسْتَوِي} هذا الصَّنَمُ؟ اسْتِفْهامٌ مَعْناه التَّوْبيخ كأَنَّه قالَ: لا تَسؤُّوا بَيْن الصَّنَم الكَلِّ وبَيْن الخالِقِ، جلَّ جَلالَه.

وأَيْضًا: المُصيبَةُ تَحْدُثُ، والأصْلُ مُن كَلَّ عنه أَي نَبَا وضَعُف.

وأَيْضًا: اليتيمُ، عن ابنِ الأعْرَابيِّ، وأنْشَدَ:

أَكُولٌ لمالِ الكَلِّ قَبْلَ شَبابِه *** إذا كان عَظْمُ الكَلِّ غيرَ شَديدِ

وأَيْضًا: الثقيلُ لا خيرَ فيه.

وأَيْضًا: العَيِّلُ أَي صاحِبُ العِيالِ.

وأَيْضًا: العِيالُ والثِقْلُ على صاحِبِه، وبه فُسِّرَ قَوْلُه تعالَى: {وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ}؛ ومنه الحدِيْث: «مَنْ تَرك كَلًّا فَإلَيَّ وعليَّ».

وفي حدِيْث طَهْفة: «ولا يُوكَل كَلُّكم» أَي عِيالُكم وما لم تُطِيقُوه. وفي حدِيْث البُخَارِي: «كَلَّا إنَّك تَحْمِل الكَلَّ» أَي الثِّقْل مِن كلِّ ما يُتَكَلَّف.

ونَقَلَ ابنُ بَرِّي عن نَفْطَوَيْه في قوْلِه تعالَى: {وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ}، قالَ: هو أُسَيْدُ بنُ أَبي العيصِ وهو الأَبْكم؛ ورُبَّما الجمع: على: كُلولٌ، بالضمِ، في الرجالِ والنّساءِ. والكَلُّ: الإعْياءُ كالكَلالِ والكَلَالَةِ، الأَخيرَةُ عن اللحْيانيّ وأَيْضًا: من لا وَلَدَ له ولا والِدَ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ.

وقد كَلَّ الرَّجُلُ يَكِلُّ فيهما أَي في المَعْنَييْن.

وكَلَّ البَصَرُ والسَّيفُ وغيرُه من الشي‌ءِ الحَدِيدِ؛ وفي بعضِ النسخِ: وغيرُهُما، يَكِلُّ كَلًّا وكِلَّةً، بالكسرِ، وكَلالَةً وكُلولَةً وكُلولًا، بضمِّهِما، وكَلَّلَ تَكْليلًا، فهو كَليلٌ وكَلٌّ: لم يَقْطَعْ؛ وأَنْشَدَ ابنُ بَرِّي في الكُلولِ قَوْلَ ساعِدَةَ:

لِشَانِيك الضرَّاعةُ والكُلُولُ

قالَ: وشاهِدُ الكِلَّة قَوْلُ الطِّرمَّاح:

وذُو البَثِّ فيه كِلَّةٌ وخُشوع

وفي حدِيْث حُنَيْن: «فما زِلْت أَرَى حَدَّهم كَلِيلًا.

وقالَ اللّيْثُ: الكَلِيلُ السيفُ الذي لا حَدَّ له.

وكَلَّ لسانُه يَكِلُّ كَلالَةً وكِلَّةً فهو كَليلُ اللّسانِ.

وكَلَّ بَصَرُه يَكِلُّ كُلولًا: نَبَا ولم يحقِّقِ المَنْظُور فهو كَلِيلُ البَصَرِ وأَكَلَّهُ البُكاءُ، وكذلِكَ اللّسانُ، وقالَ اللّحْيانيُّ: كُلُّها سواءٌ في الفِعْل والمَصْدر.

والكَلالَةُ: مَنْ لا وَلَدَ له ولا والِدَ، وكذلِكَ الكَلُّ، وقد كَلَّ الرجُلُ كَلالةً. وقيلَ: ما لم يكنْ من النَّسَبِ لَحًّا، فهو كَلالَةٌ.

وقالوا هو ابنُ عَمِّ الكَلالةِ، وابنُ عمِّ كَلالةٍ وكَلالةٌ، وابن عمِّي كَلالةً.

وقالَ ابنُ الجرَّاح: إذا لم يكنْ ابن العَمِّ لحًّا وكان رجُلًا مِن العَشِيرَة قالوا: هو ابنُ عَمِّي الكَلالةُ وابنُ عَمِّ كَلالةٍ.

وقالَ الأَزْهَرِيُّ: وهذا يدلُّ على أَنَّ العَصَبة وإن بَعُدوا كَلالَةٌ.

أَو الكَلالَةُ: مَن تَكَلَّلَ نَسَبُهُ بنَسَبِكَ كابنِ العَمِّ وشِبهِهِ، كذا نَصُّ المحْكَمِ.

وفي الصِّحاحِ: ويقالُ: هو مَصْدر من تَكَلَّله النَّسبُ أَي تَطَرَّفه كأَنَّه أَخَذَ طَرَفَيْه. مِن جهةِ الوَلَدِ والوَالدِ وليسَ له منهما أَحدٌ، فسُمِّي بالمَصْدر.

أَو هي الُأخُوَّةُ للُأمِّ، بضمِ الهَمْزَة والخاءِ وتَشْديدِ الواوِ المَفْتُوحة، كذا في النسخِ؛ والذي في المحْكَمِ: قيلَ: هم الإخْوةُ للُأمِّ، وهو المُسْتَعْمل، والعَرَبُ تقولُ: لم يَرِثْه كَلالَةً أَي لم يَرِثه عن عُرُض بل عن قُرْب واسْتِحْقاق؛ قالَ الفَرَزْدقُ.

ورِثْتم قَناةَ المُلْك غيرَ كَلالةٍ *** عن ابْنَيْ مَنافٍ عبدِ شمسٍ وهاشِم

قالَ الأَزْهَرِيُّ: ذَكَرَ اللهُ الكَلالَةَ في سُورَةِ النِّساءِ في مَوْضِعَيْن:

أَحَدُهما: قوْلُه: {وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ}. والمَوْضعُ الثاني في كتابِ اللهِ قوْلُه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ}، الآية؛ فجَعَلَ الكَلالَةَ هنا الأُخْت للأَب والأُمِّ والإِخْوَة للأَب والأُمِّ، فجَعَلَ للأُخْت الواحِدَة نِصْفَ ما تَرَكَ المَيِّتُ، وللأُخْتَين الثُّلُثين، وللإِخْوَة والأَخَوات جَمِيع المَالِ بَيْنهم، {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}، وجَعَلَ للأَخ والأُخْت مِن الأُمِّ في الآيةِ الأُوْلى، الثُّلُث لكلِّ واحدٍ منهما السُّدُس، فبيَّنَ بسِياقِ الآيَتَيْن أَنَّ الكَلالَةَ تَشْتَمل على الإِخْوة للأُمِّ مرَّةً، ومرَّةً على الإِخْوة والأَخَوات للأُمِّ والأَب، ودَلَّ قَوْلُ الشاعِرِ أَنَّ الأَب ليسَ بكَلالَةٍ، وأَنَّ سائِرَ الأَوْلياءِ مِن العَصَبة بعْدَ الوَلدِ كَلالةٌ، وهو قَوْلُه:

فإنَّ أَبا المَرْء أَحْمَى له *** ومَوْلَى الكَلالَةِ لا يَغْضَب

أَرادَ: أنَّ أَبا المَرْء أَغْضَب له إذا ظُلِم، ومَوَالي الكَلالَةِ، وهم الإِخْوة والأَعْمام وبَنُو الأعْمام وسَائِر القَرَابات، لا يَغْضَبونَ للمَرْء غَضَب الأَب.

أَو الكَلَالَةُ: بَنُو العَمِّ الأَباعِدُ، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ.

وحُكِي عن أَعْرابيٍّ أَنَّه قالَ: مالي كثيرٌ ويَرِثُني كَلالَةٌ مُتَراخٍ نَسَبُهم.

أَو الكَلالَةُ مِن القَرَابةِ: ما خَلا الوالدَ والولَدَ، نَقَلَه الأَخْفَش عن الفرَّاءِ قالَ: سموا كَلالَة لاسْتِدارَتِهم بنَسَبِ المَيِّت الأَقْرَب، فالأَقْرَب مَن تَكَلله النَّسَب إذا اسْتدَارَ به، قالَ: وسَمِعْته مرَّةً يقولُ: الكَلالَةُ مَنْ سَقَط عنه طَرَفَاه، وهما أَبوه ووَلَده، فصَارَ كَلًّا وكَلالَةً أَي عِيالًا على الأَصْل، يقولُ: سَقَط مِن الطَّرَفَيْن فصَارَ عِيالًا عليهم؛ قالَ: كَتَبْته حفْظًا عنه، كذا في التّهْذِيبِ.

أَو هي من العَصَبَةِ مَنْ وَرِثَ منه الإخْوَةُ للأُمِّ، ونَصُّ اللّحْيانيّ: مَن وَرِث معه الإِخْوة مِن العَمِّ وقد سَبَقَ قَرِيبًا عن الأَزْهَرِيّ ما يفسِّرُه، فهذه أَقْوالٌ سَبْعة في بَيانِ معْنَى الكَلالَةِ.

ورَوَى المنْذرِيُّ بسَنَده عن أَبي عُبَيْدَةَ أَنَّه قالَ: الكَلالَةُ مَن لم يَرِثه وَلَدٌ أَو أَبٌ أَو أَخٌ ونَحْو ذلِكَ.

وقالَ ابنُ بَرِّي: اعلم أَنَّ الكَلالَةَ في الأَصْل هي مَصْدر كَلَّ المَيِّت يَكِلُّ كَلًّا وكَلالَةً، فهو كَلٌّ إذا لم يخلِّفْ وَلَدًا ولا والدًا يَرِثاه، هذا أَصْلُها، قالَ: ثم قد تَقَعُ الكَلالَةُ على العَيْن دُوْن الحدَثِ، فتكونُ اسمًْا للمَيِّت المَوْرُوث، وإن كانت في الأصْلِ اسْمًا للحَدَثِ على حَدِّ قوْلِهم: {هذا خَلْقُ اللهِ} أَي مَخْلوق اللهِ؛ قالَ وجازَ أَنْ تكونَ اسْمًا للوَارِث على حدِّ قوْلِهم: رجُلٌ عَدْل أَي عَادِل، وماءٌ غَوْر أَي غائِرٌ؛ قالَ: والأَوَّل هو اخْتِيار البَصْرِيِّين مِن أَنَّ الكَلالَةَ اسمٌ للمَوْرُوث، قالَ: وعليه جَاءَ التفْسِير في الآيةِ: إِنَّ الكَلالَةَ الذي لم يخلِّف وَلدًا ولا والدًا فإذا جَعَلْتها للمَيِّت كان انْتِصابها في الآيةِ على وَجْهَيْن:

أَحَدُهما أَنْ تكونَ خَبَرَ كان تقْدِيرُه: وإِن كانَ المَوْرُوث كَلالَةً أَي كَلًّا ليسَ له وَلَدٌ ولا وَالِدٌ.

والوَجْه الثاني: أَن يكونَ انْتِصابها على الحالِ مِن الضميرِ في يُورَث أَي يُورَث وهو كَلالَةٌ، وتكونُ كان هي التامَّةُ التي ليْسَتْ مُفْتقرةً إلى خبَرٍ، قالَ: ولا يصحُّ أَنْ تكونَ الناقِصَةَ كما ذَكَرَه الحوفيّ لأنَّ خبَرَها لا يكونُ إلَّا الكَلالَة، ولا فَائِدة في قوْلِه يُورَث، والتَّقديرُ إِن وَقَعَ أَو حَضَر رجُلٌ يموتُ كَلالَةً أَي يُورَث وهو كَلالَةٌ؛ أَي كَلَّ، وإِن جَعَلْتها للحَدَث دُوْن العَيْن جَازَ انْتِصابها على ثلاثَةِ أَوْجهٍ: أَحَدُها أَنْ يكونَ انْتِصابُها على المَصْدر على تقْديرِ حَذْف مُضاف تقْديرُه يُورَث وِرَاثَة كَلالَةٍ كما قالَ الفَرَزْدق:

ورِثْتُم قَناة المُلْك لا عن كَلالَةٍ

أَي ورِثْتُموها وِرَاثَة قُرْب لا وِراثَةَ بُعْد؛ وقالَ عامِرُ بنُ الطُّفَيْل:

وما سَوَّدْتَني عامِرٌ عن كَلالةٍ *** أَبى اللهُ أَنْ أَسْمُو بأُمٍّ ولا أَب!

ومنه قوْلُهم: هو ابنُ عَمٍّ كَلالةً أَي بَعِيد النَّسَبِ، فإِذا أَرادُوا القُرْب قالوا: هو ابنُ عَمٍّ دِنْيَةً.

والوَجْه الثاني: أَن تكونَ الكَلالَةُ مَصْدرًا واقِعًا مَوْقع الحالِ على حدِّ قَوْلِهم: جَاءَ زَيْدٌ رَكْضًا أَي راكِضًا، وهو ابنُ عَمِّي دِنْيَةً أَي دانيًا، وابنُ عمِّي كَلالَةً أَي بَعِيدًا في النَّسَبِ.

والوَجْه الثالِثُ: أَنْ تكونَ خَبَر كان على تقْديرِ حَذْفِ مُضْاف تقْدِيرُه: وإِن كانَ المَوْرُوث ذا كَلالَةٍ.

قالَ: فهذه خَمْسَة أَوْجهٍ في نَصبِ الكَلالَةِ:

أَحَدُها: أَن تكونَ خَبَرَ كانَ.

الثاني: أَنْ تكونَ حالًا.

الثالِثُ: أَنْ تكونَ مَصْدرًا على تقْديرِ حَذْفِ مُضْاف.

الرابعُ: أَنْ تكونَ مَصْدرًا في مَوْضِعِ الحالِ. الخامِسُ: أَنْ تكونَ خَبَر كانَ على تَقْديرِ حَذْفِ مُضْاف، فهذا هو الوَجْه الذي عليه أَهْل البَصْرَةِ والعُلَماء باللُّغَةِ، يعْنِي أَنْ الكَلالةَ اسمٌ للمَوْرُوثِ دُوْن الوَارِث، قالَ: وقد أَجَازَ قومٌ مِن أَهْل اللُّغَةِ، وهم أَهْلُ الكُوفَة، أَنْ تكونَ الكَلالَةُ اسْمًا للوَارِث واحْتجُّوا في ذلِكَ بأَشْياء منها قِرَاءَة الحَسَن: وإِن كانَ رَجُل يُورِث كَلالَةْ، بكسرِ الرَّاءِ، فالكَلالَةُ على ظاهِرِ هذه القِرَاءَة هي ورثةُ المَيِّت، وهم الإِخْوةُ للأُمِّ، واحْتجُّوا أَيْضًا بقولِ جابِر إنه قالَ: يا رَسُول الله إِنَّما يرِثنِي كَلالَة، فإِذا ثَبَتَ حجَّة هذا الوَجْه كانَ انْتِصابُ {كَلالَةً} أَيْضًا على مِثْل ما انْتَصَبَت في الوَجْهِ الخامِسِ مِن الوَجْه الأَوَّل، وهو أَنْ تكونَ خَبَر كان ويقدر حَذْف مُضاف ليكونَ الثاني هو الأَوَّل، تقْدِيرُه: وإِن كان رجُلٌ يُورِث ذا كَلالَةٍ، كما تقولُ: ذا قَرابَةٍ ليسَ فيهم وَلَدٌ ولا وَالِدٌ، قالَ: وكذلِكَ إِذا جَعَلْتَه حالًا مِن الضَّميرِ في يُورث تقْدِيرُه: ذا كَلالَةٍ، قالَ: وذَهَبَ ابنُ جنيِّ في قِراءَةِ مَنْ قَرَأَ يُورِث كَلالَةً ويُورِّث كَلالَةً أَنَّ مَفْعولي يُورِث ويُوَرِّث مَحْذُوفان أَي يُورِث وارِثَه مالَه، قالَ: فعَلَى هذا يَبْقى كَلالَة على حالِهِ الأُوْلى التي ذَكَرْتها، فيكونُ نَصْبه على خَبَرِ كانَ أَو على المَصْدَرِ، وتكونُ الكَلالَةُ للمَوْرُوث لا للوَارِث، قالَ: والظاهِرُ أَنَّ الكَلالَةَ مَصْدرٌ يَقَعُ على الَوارِثِ وعلى المَوْرُوثِ، والمَصْدَرُ قد يَقَعُ للفاعِلِ تارَةً وللمَفْعُولِ أُخْرَى، واللهُ أَعْلم.

وقالَ ابنُ الأَثيرِ: الأَبُ والابنُ طَرَفان للرجُلِ فإِذا مَاتَ ولم يخلِّفْهما فقد مَاتَ عن ذهابِ طَرَفَيْه، فسُمِّي ذِهابُ الطَّرَفَيْن كَلالَةً.

وفي الأَسَاسِ: ومِن المجازِ: كَلَّ فلانٌ كَلالَةً لم يَكُنْ وَالِدًا ولا وَالِدَ وَالِدٍ أَي كَلَّ عن بُلوغِ القَرابَةِ المُمَاسَّة.

وكَلَّلَ الرَّجُلُ تَكْليلًا: ذَهَبَ وتَرَكَ أَهْلَهُ وعِيالَهُ بمَضْيَعَةٍ: وكَلَّلَ في الأَمْرِ: جَدَّ فيه ومَضَى قُدُمًا ولم يَخِم.

ومِن المجازِ: كَلَّلَ السَّبُعُ تَكْليلًا وتَكْليلَةً: أَي حَمَلَ ولم يُحْجِمْ؛ وأَنْشَدَ الأَصْمَعِيُّ:

حَسَمَ عِرْقَ الداءِ عنه فَقَضَبْ *** تَكْلِيلَةَ اللَّيْثِ إِذا الليثُ وَثَبْ

ورَوَى المُنْذرِيُّ عن أَبي الهَيْثم أَنَّه قالَ: الأَسَدُ يُهَلِّل ويُكَلِّلْ وإِنَّ النَّمرَ يُكَلِّل ولا يُهَلِّل، قالَ: والمُكَلِّل الذي يَحْمِل فلا يَرْجع حتى يَقَعَ بقِرْنه، والمُهَلِّل يَحْمِل على قِرْنِه ثم يُحْجِمُ فيَرْجع.

وكَلَّلَ عن الأمْرِ: أَحْجَمَ، وقد يكونُ كَلَّلَ بمَعْنَى جَبُنَ؛ يقالُ: حَمَلَ فما كَلَّل أي فمَا كَذَبَ وما جَبُنَ كأَنَّه ضِدٌّ، وأَنْشَدَ أَبو زَيْدٍ لجَهْم بنِ سَبَل:

ولا أُكَلِّلُ عن حَرْبٍ مُجَلِّحةٍ *** ولا أُخَدِّرُ للمُلْقِين بالسَّلَمِ

وكَلَّلَ فُلانًا: أَلْبَسَهُ الإِكْليلَ، وكذلِكَ كَلَّه، والإِكْليلُ يأَتِي معْنَاه قَرِيبًا.

والكَلَّةُ: الشَّفْرَةُ الكالَّةُ، عن الفرَّاءِ.

والكُلَّةُ، بالضَّمّ: التأْخيرُ كالكلأةِ عن ابنِ الأَعْرَابيِّ والفرَّاءِ وأَيضًا: تَأْنيثُ الكُلِّ، وقد ذُكِرَ آنِفًا.

والكِلَّةُ، بالكسرِ: الحالَةُ عن الفرَّاءِ؛ يقالُ: باتَ فلانٌ بكِلَّةِ سوءٍ أَي بحالَةِ سُوءٍ.

وأَيْضًا: السِّتْرُ الرَّقيقُ يُخَاطُ كالبَيْتِ.

وفي المحْكَمِ: هو غِشاءٌ مِن ثَوْبٍ رَقيقٌ يُتَوَقَّى به من البَعوِض، وأَنْشَدَ أَبو عُبَيْد:

من كُلِّ مَحْفوفٍ يُظِلُّ عِصِيَّةُ *** روحٌ عليه كِلَّةٌ وقِرامُها

والجَمْعُ: كِلَلٌ.

وقالَ الأَصْمَعِيُّ: الكِلَّةُ الصَّوْقَعةُ، وهي صُوفَةً حَمْراءُ في رأْسِ الهَوْدَجِ، قالَ زُهَيْرُ:

وعالين أَنْماطًا عتاقًا وكِلّةً *** ورادَ الحواشي لونُها لونُ عَنْدَم

والإِكْليلُ، بالكسرِ: التَّاجُ؛ وأَيْضًا: شِبْهُ عِصابَةٍ تُزَيَّنُ بالجَواهِرِ. الجمع: أَكاليلُ على القِياسِ.

وفي حدِيث عائِشَةَ، رَضِيَ اللهُ تعالَى عنها، تصِفُه صلى ‌الله‌ عليه‌وسلم: «دَخَلَ تَبْرُقُ أَكالِيلُ وَجْهه»؛ وهو على وَجْه الاسْتِعارَةِ؛ وقيلَ: أَرادَتْ نَواحِي وَجْهه وما أَحاطَ به إِلى الجَبِيْن. وفي حدِيث الاسْتِسْقاء: «فَنَظَرْت إِلى المدِينَةِ وإِنّها لِفي مِثْل الإِكْلِيل»، يُريدُ أَنَّ الغَيْم تَقَشَّع عنها واسْتَدَار بآفاقِها.

والإِكْليلُ: مَنْزِلٌ للقَمَرِ، وهو أَرْبَعةُ أَنْجُمٍ مُصْطَفَّةٍ.

وقالَ الأَزْهَرِيُّ: الإِكْليلُ رأْسُ بُرْج العَقْرب، ورَقيبُ الثُّرَيَّا مِن الأَنْواءِ هو الإِكْلِيلُ، لأَنَّه يطلُعُ بِغُيُوبِها.

والإِكْلِيلُ: ما أَحاطَ بالظُّفُرِ من اللَّحمِ وأَيْضًا: السَّحابُ الذي تَراهُ كأَنَّ غِشاءً أُلْبِسَه، كما في العُبَابِ.

وإِكْليلُ المَلِكِ: نَبْتانِ أَحَدُهما ورَقُهُ كوَرَقِ الحُلْبَةِ ورائِحَتُه كورَقِ التينِ ونَوْرُهُ أَصْفَرُ في طَرَفِ كلِّ غُصْنٍ منه إِكْليلُ كنِصفِ دائِرَةٍ فيه بزْرٌ كالحُلْبَةِ شَكْلًا ولَوْنُه أَصْفَرُ، وهو المَعْروفُ بأَقْداحِ زُبَيْدة. وثانِيهما ورَقُه كوَرَقِ الحِمَّصِ وهي قُضْبانٌ كثيرَةٌ تَنْبَسِطُ على الأَرْضِ وزَهْرُه أَصْفَرُ وأَبيضُ، في كلِّ غُصْنٍ أَكالِيلُ صِغارٌ مُدَوَّرَةٌ وكِلاهُما مُحَلِّلٌ مُنْضِجٌ مُلَيِّنٌ للأَوْرَامِ الصُّلْبَةِ في المَفاصِلِ والأَحْشاءِ.

وإِكْلِيلُ الجَبَلِ: نَباتٌ آخَرُ ورَقُه طَويلٌ دَقيقٌ مُتكاثِفٌ ولَوْنُه إِلى السَّوادِ وعودُه خَشِنٌ صُلْبٌ وزَهْرُه بين الزُّرْقَةِ والبَياضِ، وله ثَمرٌ صُلْبٌ إِذا جَفَّ تَناثَرَ منه بِزْرٌ أَدَقٌّ من الخَرْدَلِ، ووَرَقُه مُرٌّ حِرِّيفٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ مُدِرٌّ مُحَلِّلٌ مُفَتِّحٌ للسُّدَدِ يَنْفَعُ الخَفَقانَ والسُّعالَ والإِسْتِسْقاءَ.

وتَكَلَّلَ به: أَحاطَ واسْتَدَارَ وأَحْدَقَ، وهو مجازٌ.

ومن المجازِ: رَوْضَةٌ مُكَلَّلَةٌ أَي مَحْفوفَةٌ بالنَّوْرِ.

وانْكَلَّ الرَّجُلُ انْكِلالًا: ضَحِكَ وتَبَسَّم؛ قالَ الأَعْشَى:

ويَنْكَلُّ عن غُرٍّ عِذابٍ كأَنَّها *** جَنى أُقْحُوان نَبْتُه مُتَناعِم

وأَنْشَدَ ابنُ بَرِّي لعُمَر بن أَبي ربيعَةَ:

وتَنْكَلُّ عن عذْبٍ شَتِيتٍ نَباتُه *** له أُشُرٌ كالأُقْحُوان المُنَوِّر

ويقالُ: كَشَرَ وافْتَرَّ وانْكَلَّ، كلُّ ذلِكَ تَبْدو منه الأسْنانُ. وانْكَلَّ السَّيْفُ: ذَهَبَ حَدُّه، عن اللَّحْيانيّ.

ومن المجازِ: انْكَلَّ السَّحابُ عن البَرْقِ، إذا تَبَسَّمَ.

ويقالُ: انْكِلالُ الغَيْم بالبَرْق: هو قدْرُ ما يُرِيْك سَوادُ الغَيْم من بياضِه. كاكتَلَّ، وهذه عن ابنِ الأعْرَابيِّ، وأَنْشَدَ:

عَرَضْنا فقُلْنا إِيهِ سِلْم فسَلَّمت *** كما اكْتَلَّ بالبَرْق الغَمامُ اللوائحُ

وتَكَلَّلَ، ومنه قَوْلُ أَبي ذُؤَيْب:

تَكَلَّل في الغِمادِ فأَرْضِ لَيْلَى *** ثلاثًا ما أُبينُ له انْفِراجَا

وانْكَلَّ البَرْقُ نَفْسُه: لَمَعَ لَمْعًا خَفيفًا. وأَكَلَّ الرَّجُلُ: كَلَّ بعيرُه.

وأَكَلَّ الرَّجُلُ البَعيرَ: أَعْياهُ، كذا في المُحْكَمِ.

والكَلْكَلُ والكَلْكالُ: الصَّدْرُ مِن كلِّ شي‌ءٍ؛ أَو هو ما بينَ التَّرْقُّوَتَيْنِ، أَو هو باطِنُ الزَّوْرِ.

قالَ الجوْهَرِيُّ: ورُبَّما جَاءَ في ضَرُورَةِ الشعْرِ مُشَدَّدًا، قالَ مَنْظورُ الأسَدِيّ:

كأَنَّ مَهْواها على الكَلْكَلِّ *** موقِعُ كَفَّيْ راهِبٍ يُصَلِّي

وقالَ ابنُ بَرِّي: المَعْروفُ الكَلْكَل، وإنَّما جَاءَ الكَلْكَال في الشعْرِ ضَرُورَة في قوْلِ الرَّاجزِ:

قلْتُ وقد خرَّت على الكَلْكَالِ *** يا ناقتي ما جُلْتِ من مَجَالِ

والكَلْكَلُ من الفَرَسِ ما بينَ مَحْزِمه إلى ما مَسَّ الأرضَ منه إذا رَبَضَ، وقد يُسْتعارُ لمَا ليسَ بجسْمٍ كقَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ في صفَةِ لَيْل:

وأَرْدَفَ أَعْجازًا ونَاءَ بكَلْكَلِ

وقالَتْ أَعْرابيَّةٌ تَرْثي ابنَها:

أَلْقَى عليه الدهرُ كَلْكَلَهُ *** مَنْ ذا يقومُ بكَلْكَلِ الدَّهْرِ؟

والكُلْكُلُ، كهُدْهُدٍ: الرَّجُلُ الضَّرْبُ؛ أَو هو القَصيرُ الغَليظُ مع شِدَّةٍ، كالكُلاكِلِ، بالضَّمِّ، وهي بهاءٍ فيهما.

وكَلَّانُ: اسمُ جَبَلٍ؛ قالَ حميدُ بنُ ثوْرٍ، رَضِيَ اللهُ تعالَى عنه:

وآنَسَ مِن كَلَّان شُمًّا كأَنَّها *** أَرَاكِيبُ مِن غَسَّانَ بيضٌ بُرُودُهَا

والكَلَلُ، محرَّكةً: الحالُ، يقالُ: الحَمْد للهِ على كلِّ كَلَلٍ، كذا في المُحيطِ.

والكَلاكِلُ: الجَماعاتُ كالكَراكِرِ، قالَ العَجَّاجُ:

حتى يَحُلُّون الرُّبا بالكَلاكِلا

وابنُ عبدِ يا لِيلَ بنِ عبدِ كُلالٍ، كغُرابٍ، هو الذي عَرَضَ النبيُّ، صلَّى اللهُ تعالَى عليه وسلَّم، نَفْسَه عليه فلم يُجِبْهُ إلى ما أَرادَ، كما في العُبَابِ؛ وإلى عبدِ كُلالٍ هذا نُسِبَ أَسْعدُ بنُ محمدِ الكُلالِيُّ صاحِب اليَمَنِ قَبْل الثلثمائة، ذَكَرَه الهَمَدانيُّ في الأَنْسابِ، وكذلِكَ أَبو الأغرِّ الكُلالِيُّ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

الكِلالُ، بالكسرِ: جَمْع كالٍّ، وهو المُعْيي، كجائِعٍ وجِياعٍ، أَو جَمْع كَلِيلٍ كشَدِيدٍ وشِدَادٍ، وبهما فسِّر قوْلُ الأَسْود بن يَعْفُر:

بأَظفارٍ له حَجْنٍ طِوالٍ *** وأَنْيابٍ له كانت كِلالا

قالَ الجَوْهَرِيُّ: وناسٌ يَجْعلُون كَلَّاءَ البَصْرَة اسْمًا مِن كَلَّ، على فَعْلاء، ولا يصْرفُونَه، والمعْنَى أَنَّه موْضِعٌ تَكِلُّ فيه الريحُ عن عَمَلِها في غيرِ هذا الموْضِعِ؛ قالَ رُؤْبَة:

مُشْتَبِه الأَعْلامِ لَمَّاعِ الخَفَقْ *** يكِلُّ وَفْد الريح من حيث انْخَرَقْ

وأَصْبَحَ فلانٌ مُكِلًّا إذا صارَ ذَوو قَرابَتِه كَلًّا عليه أَي عِيالًا. وأَصْبحتُ مُكِلًّا أَي ذا قَراباتٍ وهم عليَّ عِيالٌ.

وكُلَّ الرجُلُ، بالضمِ: إذا تَعِبَ؛ وأَيْضًا: إذا تَوَكَّل، عن ابنِ الأعْرَابيِّ.

ورأْسُ الكَلِّ، بالفتحِ: رَئِيس اليَهُود، نَقَلَه ابنُ بَرِّي عن ابنِ خَالَوَيْه.

وكَلَّلَ فلانٌ فلانًا: لم يُطِعه؛ قالَ النابِغَةُ:

بَكَرَتْ تلوم وأَمْسِ ما كَلَّلْتها *** ولقد ضَلَلْت بذاك أَيَّ ضلال

وكَلَلْتهُ بالحَجَارَةِ: أَي عَلَوْته بها؛ وكذلِكَ كَلَّه فهو مَكْلولٌ.

ونَهَى عن تَكْلِيلِ القُبور أَي رَفْعُها تُبْنى مِثْل الكِلَل، وهي الصَّوامِعُ والقِبابُ التي تُبْنى على القُبورِ؛ وقيلَ: هو ضَرْب الكِلَّةِ عليها وهي سِتْر مربَّعٌ يضْرَبُ على القُبورِ.

وقد يُجْمَعُ الإِكْليلُ على أَكِلَّةٍ، وأَنْشَدَ ابنُ جنِّي:

قد دَنا الفِصْحُ فالْوَلائِدُ يَنْظِمْ *** نَ سِرَاعًا أَكِلَّةَ المَرْجانِ

لمَّا حُذِفَت الهَمْزَةُ وبَقِيتَ الكافُ ساكِنَةً، فُتِحَت فصَارَت إلى كَلِيلٍ كَدَلِيلٍ، فجُمِعَ على أَكِلَّةٍ كأَدِلَّةٍ.

وغَمامٌ مُكَلَّل: مَحْفوفٌ بقِطَع مِن السَّحابِ كأَنَّه مُكَلَّلٌ بهنَّ؛ وقيلَ: ملمَّعٌ بالبَرْقِ.

ويقالُ: ذئْبٌ مُكِلٌّ: قد وَضَعَ كَلَّهُ على الناسِ.

وذئْبٌ كَلِيلٌ: لا يَعْدُو على أَحَدٍ.

وانْطَلَقَ مُكِلًّا: ذَهَبَ بمَا لا يُبالِي بمَا وَرَاءه.

وجفْنَةٌ مُكَلَّلةٌ بالسَّويقِ، وجِفانٌ مُكَلَّلات، وهو مجازٌ.

وأَبو الإصبع شَبيبُ بنُ حفْص بنِ إسْماعيل بنِ كَلالَةٍ الكَلَالِيُّ بالفتحِ، الهريّ، حَدَّثَ عنه محمدُ بنُ موسى بنِ النُّعْمان، مَاتَ سَنَة 260، ضَبَطَه الحافِظُ.

وقالَ ابنُ بَرِّي: كَلَّا حَرْف رَدْع وزَجْر؛ وقد تأْتي بمعْنَى لا، كقَوْلِ الجعْدِيّ:

فقلْنا لهم: خَلُّوا النَّساءَ لأَهْلِها *** فقالوا لنا: كَلَّا فقلْنا لهم بَلَى

فكَلَّا هنا بمعْنَى لا بدَلِيلِ قوْلِه: فقلْنا لَهُم بَلَى، وبَلَى لا تأْتي إلَّا بعْدَ نَفْي، ومِثْله قَوْله أَيْضًا:

قُرَيْش جِهالُ الناسِ حَيًّا ومَيِّتًا *** فمن قالَ كَلَّا فالمُكَذِّب أَكْذَبُ

وعلى هذا يحْمَل قَوْلُه تعالَى: {رَبِّي أَهانَنِ، كَلّا}.

وقالَ ابنُ الأَثيرِ: كَلَّا رَدْع في الكَلامِ وتَنْبِيه، ومعْناهَا انْتَهِ لا تَفْعل، إلَّا أَنَّها آكَدُ في النَّفْي والرَّدْع مِن لا، لزِيادَةِ الكافِ؛ قالَ: وقد تَرِدُ بمعْنَى حَقًّا كقوْلِه تعالَى: {كَلّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنّاصِيَةِ}؛ وقد جَمَعَ الإمامُ أبو بكرِ بنُ الأنْبارِي أَقْسامَها ومَواضِعَها في بابٍ من كتابِهِ الوَقْف والابْتِداء.

وأَحْمدُ بنُ أَسْعدِ الكلاليُّ مِن أَهْلِ جَزِيرَة كمران، فَقِيهٌ ذَكَرَه الخزْرجيَّ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


195-تاج العروس (حشم)

[حشم]: الحِشْمَةُ، بالكسْرِ: الحَياءُ والانْقِباضُ، زادَ اللّيْثُ: عن أَخِيك في طَلَبِ الحاجَةِ والمَطْعَمِ، وقد احْتَشَمَ منه وعنه، ولا يقالُ احْتَشَمَهُ.

وأَمَّا قولُ القائِلِ: ولم يَحْتَشِمْ ذلِكَ فإنّه حَذَف مِنْ وأَوْصَلَ الفعْلَ. وحَشَمَهُ وأَحْشَمَهُ: أَخْجَلَهُ، نَقَلَه الجوْهَرِيُّ عن ابنِ الأَعْرَابيِّ.

ورُوِي عن ابنِ عَبَّاس: «لكلِّ داخلٍ دَهْشةٌ فابْدَؤُه بالتّحِيَّة، ولكلِّ طاعِمٍ حِشْمَةٌ فابْدَؤُه باليَمِيْن»، وأَنْشَدَ ابنُ بَرِّي لكُثَيِّر في الاحْتِشامِ بمعْنَى الاسْتِحْياءِ:

إِنِّي مَتى لم يَكُنْ عَطاؤُهما *** عنْدِي بما قد فَعَلْتُ أَحْتَشِمُ

وفي حَدِيْث عليٍّ في السارِقِ: «إنِّي لأَحْتَشِمُ أَن لا أَدَعَ له يدًا» أَي أَسْتحيى وأَنْقَبِض.

والحِشْمَةُ: أَنْ يَجْلِسَ إليك الرَّجُلُ فَتُؤْذِيَهُ وتُسْمِعَهُ ما يَكْرَهُ، ويُضَمُّ، وقد حَشَمَهُ يَحْشِمُهُ ويَحْشُمُهُ، مِن حَدَّيْ ضَرَبَ ونَصَرَ، وأَحْشَمَهُ.

ونَقَلَ الجوْهَرِيُّ عن أَبي زيْدٍ: حَشَمْتُ الرجُلَ وأَحْشَمْتُه بمعْنًى، وهو أَنْ يَجْلِسَ إليك فَتُؤْذِيَه وتُغْضِبَه.

وحَشِمَ كفَرِحَ: غَضِبَ.

وحَشِمَهُ، كسَمِعَه: أَغْضَبَهُ، كَأَحْشَمَهُ، وهذه عن ابنِ الأَعْرَابيِّ، وحَشَّمَهُ بالتَّشْدِيدِ.

وقالَ الأصْمَعِيُّ: الحِشْمَةُ إنّما هو بمعْنَى الغَضَبِ لا بمعْنَى الاسْتِحْياءِ.

وحُكِي عن بعضِ فُصَحاءِ العَرَبِ أَنَّه قالَ: إنَّ ذلِكَ لمِمَّا يُحْشِمُ بنِي فلانٍ أَي يغْضِبُهم، كذا في الصِّحاحِ.

وفي أَدَبِ الكاتِبِ: الناسُ يَضَعُون الحشْمَةَ مَوْضِع الاسْتِحْياء، وليسَ كذلِكَ إنَّما هي الغَضَبُ.

قالَ شيْخُنا: ورَدَّه جماعَةٌ بوُرُودِها كَذلِكَ في الحَدِيْث.

وقد أَوْرَدَه الخفاجيُّ في شرْحِ الشّفاءِ مَبْسوطًا.

وصَرَّحَ به السّهيلي في الرَّوْضِ أَثْناء غَزْوَة بَدْرٍ، والبَطْليوسِيُّ في شرْحِ أَدَبِ الكاتِبِ.

وقالَ ابنُ الأثيرِ: مَذْهَبُ ابنِ الأَعْرَابيِّ أَنَّ أَحْشَمْتُه أَغْضَبْتُه، وحَشَمْتُه أَخْجَلْتُه، وغَيْره يقولُ: حَشَمْتُه وأَحْشَمْتُه: أَغْضَبْتُه، وحَشَمْتُه وأَحْشَمْتُه أَيْضًا أَخْجَلْتُه.

وفي الصِّحاحِ: وأَحْشَمْته واحْتَشَمْت منه بمعْنًى، قالَ الكُمَيْت:

ورَأَيتُ الشَّريفَ في أَعْيُنِ النا *** سِ وَضِيعًا وقَلَّ منه احْتِشامي

والاحْتِشامُ: التَّغَضُّبُ.

وحَشَمَةُ الرَّجُلِ وحَشَمُه، محرَّكَتَيْنِ، هكذا في سائِرِ الأُصولِ، والصَّوابُ: وحُشْمَةُ الرجُلِ، بالضمِ، وحَشَمُهُ، محرَّكةً كما هو نصُّ يُونُس، وأَحْشَامُهُ: أَي خاصَّتُهُ الذين يَغْضَبُونَ له مِن أَهْلٍ وعَبيدٍ أَو جِيرَةٍ إذا أَصابَهُ أَمْرٌ.

وفي الصَّحاح: حَشَمُ الرجُلِ: خَدَمُهُ ومَن يَغْضَبُ له، سُمُّوا بذلِكَ لأَنَّهم يَغْضَبُونَ له.

وقالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ: الحَشَمُ، محرَّكةً، للواحِدِ والجَمْعِ، قالَ: ويقالُ هذا الغُلامُ حَشَمٌ لي، فأَرَى أَنَّ أَحْشامًا إنَّما هو جَمْعُ هذا لأَنَّ جَمْعَ الجَمْعِ وجَمْعَ المُفْردِ الذي هو في معْنَى الجَمْعِ غيرُ كثير، وهو؛ أَي الحَشَمُ، العِيالُ والقَرابَةُ أَيْضًا، ومنه حَدِيثُ الأضاحِي: «فَشَكَوْا إلى رَسُولِ اللهِ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم، أَنَّ لهم عِيالًا وحَشَمًا».

وحَشَمَ يَحْشِمُ، مِن حَدِّ ضَرَبَ، حُشومًا، بالضمِ، أَقْبَلَ بعدَ هُزالٍ، والرجُلُ حاشِمٌ.

وحَشَمَتِ الدَّابَّةُ في أَوَّلِ الرَّبيعِ تَحْشِمُ حَشْمًا: وذلِكَ إذا أَصابَتْ منه شَيئًا فَسَمِنَتْ وصَلَحَتْ وعَظُمَ بَطْنُها وحَسُنَتْ.

وفي الصِّحاحِ: قالَ النَّضْر: حَشَمَتِ الدوابُّ: أَي صَلَحَتْ.

ويقالُ: ما حَشَمَ مِن طَعامِنا شَيئًا أَي ما أَكَلَ.

وغَدا يُرِيغُ الصَّيْدَ فما حَشَمَ صافِرًا: أَي ما أَصابَهُ.

وقالَ يُونُس: تقولُ العَرَبُ الحُسُومُ تُورِثُ الحُشُومَ: أَي الإِعْياءُ؛ أَي الدُّؤُوبُ على العَمَلِ يُورِثُ ذلِكَ، وقالَ في قوْلِ مُزاحِم:

فَعنَّتْ عُنونًا وهي صَغْواءُ ما بها *** ولا بالخَوافي الضَّارباتِ حُشُومُ

أَي إعْياء، وقد حُشِمَ حَشْمًا.

وقالَ الأَصْمَعِيُّ: الحُشُومُ الانْقِباضُ، ورَوَى البَيْتَ:

ولا بالخَوافي الخَافِقاتِ حُشُومُ

والحُشُومُ: الطَّلِبَةُ، كالحَشَمِ، محرَّكةً.

والحُشَماءُ: الجِيرانُ والأَضْيافُ، كأَنَّه جَمْعُ حَشِيمٍ، ككَرِيمٍ وكُرَماء.

والذي في المُحْكَمِ: هَؤُلاء أَحْشامِي أَي جِيرَاني وأَضْيافِيِ.

والحُشْمَةُ، بالضمِ: المرأَةُ.

وقالَ يُونُس: له الحُشْمَةُ؛ أَي الذِمامُ.

والحُشْمَةُ أَيْضًا: القَرابَةُ. يقالُ: فيهم حُشْمَةٌ أَي قَرابَةٌ.

والحَشِيمُ، كأَميرٍ: المُحْتَشِمُ، وهو المهيبُ.

ووَقَعَ في بعضِ نسخِ الصِّحاحِ: ورجُلٌ حِشِّمٌ، وَزْنِ سِكِّيت؛ أَي مُحْتَشِمٌ، وكأَنَّه غلطٌ.

وإنِّي لأَتَحَشَّمُ منه تَحَشُّمًا: أَي أَتَذَمَّمُ منه وأَسْتَحي، وقالَ عنْتَرَةُ:

وأَرى مَطاعِمَ لو أَشاءُ حَوَيتُها *** فيَصُدَّني عنها كثيرُ تَحَشَّمِي

والحُشُمُ، بضمَّتَيْن: ذو الحَياءِ، كذا في النسخِ، والصَّوابُ: ذَوُو الحَياءِ التامِّ، كما هو نَصُّ ابنِ الأَعْرَابيّ.

وسَمَّوْا حِشْمًا، بالكسْرِ وحَيْشَمًا، كحَيْدَرٍ، فمِن الأوَّل: حِشْمُ بنُ أَسَدِ بنِ خُلَيْبَة: بَطْنٌ في حَضْرَ مَوْتَ منهم: عبدُ اللهِ بنُ نجيِّ بنِ سَلَمَةَ بنِ حِشْم، الآتي ذِكْره في حَضْرَمَ، وضَبَطَه أَبو سعْدِ بنُ السَّمْعانيّ. بفتْحِ الشِّيْن، والصَّوابُ أَنَّه بالكسْرِ كما ضَبَطَه الأَميرُ.

* وممَّا يُسْتدْركُ عليه: يقالُ للمُنْقَبضِ عن الطَّعامِ: ما الذي حَشَمَكَ، بمعْنَى أَحْشَمَكَ، مِن الحِشْمَةِ وهي الاسْتِحْياء.

وهو يَتَحَشَّمُ المَحارِمَ أَي يَتَوَفَّاها.

والمَحْشومُ: المَغْضوبُ، وأَنْشَدَ الجوْهَرِيُّ:

لعَمْرُكَ إنَّ قُرْصَ أَبي خُبَيْب *** بطي‌ء النُّضْج مَحْشوم الْأَكِيل

وقالَ أَبو عَمْرو: قالَ بعضُ العَرَبِ: إنَّه لمُحْتَشِم بأَمْرِي أَي مُهْتَمُّ.

والحُشُمُ، بضمَّتَيْن: المَمَالِيكُ، عن ابنِ الأَعْرَابيِّ، وقيلَ: الأَتْباعُ مَمَالِيكًا كانوا أَو أَحْرارًا.

وحَشْمُ بنُ جُدامٍ، هكذا ضَبَطَه أَبو سعْدٍ، والصَّوابُ بالكسْرِ كما تقدَّمَ، منهم: السَّلْمُ بنُ مالِكِ بنِ سَلَمَةَ بنِ حِشْم.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


196-تاج العروس (حزن)

[حزن]: الحُزْنُ، بالضَّمِّ ويُحَرَّكُ، لُغتانِ كالرُّشْدِ والرَّشَدِ. قالَ الأَخْفَشُ: والمِثالانِ يَعْتَقِبان هذا الضَّرْب باطِّرادٍ. وقالَ اللَّيْثُ: للعَرَبِ في الحُزْنِ لُغَتانِ، إذا فَتَحُوا ثَقَّلوا، وإذا ضَمُّوا خَفَّفُوا؛ يقالُ: أَصابَهُ حَزَنٌ شَديدٌ وحُزْنٌ شَديدٌ. وقالَ أَبو عَمْرٍو: إذا جاءَ الحزَن مَنْصوبًا فَتَحُوه، وإذا جاءَ مَرْفوعًا أَو مَكْسورًا ضَمُّوا الحاءَ كقَوْلِ اللهِ عزّ وجلّ: {وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ} الْحُزْنِ؛ أَي أَنَّه في مَوْضِع خَفْض. وقالَ: {تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا}؛ أَي أَنَّه في مَوْضِعِ النَّصْبِ. وقالَ: {أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى} {اللهِ} ضمُّوا الحاءَ ههنا: الهَمُّ؛ وفي الصِّحاحِ: خِلافُ السّرورِ.

وفرَّقَ قومٌ بينَ الهَمِّ والحُزْنِ، وقالَ المناوِيُّ: الحُزْنُ الغَمُّ الحاصِلُ لوقوعِ مَكْرُوه أَو فَواتِ مَحْبوبٍ في الماضِي، ويُضادُّه الفَرَحُ.

وقالَ الرَّاغِبُ: الحُزْنُ خُشونَةٌ في النفْسِ لمَا يَحْصَلُ فيه مِن الغَمِّ. الجمع: أَحْزَانٌ، لا يُكْسَّرُ على غيرِ ذلِكَ؛ وقد حَزِنَ، كفَرِحَ، حَزَنًا وتَحَزَّنَ وتَحازَنَ واحْتَزَنَ بمعْنًى؛ قالَ العجَّاجُ:

بَكَيْتُ والمُحْتَزَن البَكِيُّ *** وإنَّما يأْتي الصِّبا الصَّبِيُّ

فهو حَزْنانٌ ومِحزانٌ: شَديدُ الحُزْنِ.

وحَزَنَهُ الأَمْر يَحْزُنُه حُزْنًا، بالضَّمِّ، وأَحْزَنَهُ غيرُهُ، وهُما لُغَتانِ.

وفي الصِّحاحِ: قالَ اليَزِيدِيُّ: حَزَنَه لُغةُ قُرَيْشٍ، وأَحْزَنَه لُغَةُ تَمِيمٍ، وقد قُرِئَ بهما، اه.

وكَوْن الثلاثيّ لُغَة قُرَيْش قد نَقَلَه ثَعْلَب أَيْضًا، وأَقَرَّهما الأَزْهرِيُّ، وهو قَوْل أَبي عَمْرٍو، رَحِمَه اللهُ تعالَى.

وقالَ غيرُهُ: اللغَةُ العالِيةُ حَزَنَه يَحْزُنه، وأَكْثَرُ القرَّاءِ قَرَأُوا {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ}، وكَذلِكَ قَوْله: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ}؛ وأَمَّا الفِعْلُ اللازِمُ فإنَّه يُقالُ فيه حَزِنَ يَحْزَنُ لا غَيْر.

وقالَ أَبو زيْدٍ: لا يَقولُونَ قد حَزَنَه الأَمْرُ، ويقولونَ يَحْزُنه، فإذا قالوا أَفْعَلَه اللهُ فهو بالأَلِفِ. ومالَ إليه صاحِبُ المِصْباحِ.

وقالَ الزَّمَخْشرِيُّ: المَعْروفُ في الاسْتِعْمالِ ماضِي الأَفْعالِ ومُضارِعِ الثلاثيّ، وأَبْدَى له أَصْحابُ الحَواشِي الكشافية والبَيْضاوِيَّة نكتًا وأَسْرارًا مِن كَلامِ العَرَبِ وعَدْلًا في إنْصافِ الكَلِماتِ وإعْطاءِ كلّ واحِدَةٍ نَوْعًا مِن الاسْتِعْمال.

قالَ شيْخُنا، رَحِمَه اللهُ تعالَى: وكُلُّ ذلِكَ عنْدِي لا يَظْهرُ له وَجْه وَجِيه إذ مَناطُه النَّقْل والتَّعْليل بعْدَ الوُقُوعِ، ا ه.

وقالَ الرَّاغِبُ في قوْلِه تعالَى: {وَلا تَحْزَنُوا}، {وَلا تَحْزَنْ}، ليسَ بذلِكَ، نَهْي عن تَحْصِيلِ الحُزْنِ، فالحُزْنُ لا يَحْصَلُ باخْتِيارِ الإنْسانِ، ولكنَّ النَّهْي في الحَقِيقَةِ إنَّما هو عن تَعاطِي ما يُورِثُ الحزنَ واكْتِسابه، وإلى معْنى ذلِكَ أَشارَ القائِلُ:

ومن سَرَّه أَنْ لا يَرى ما يَسُوءُهُ *** فلا يتَّخِذ شيئًا يَخافُ له فَقْدا

وفي النِّهايَةِ: قوْلُه تعالَى: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}؛ قالوا فيه: الحَزَنُ هَمُّ الغَداءِ والعَشاءِ، وقيلَ: هو كُلُّ ما يَحْزُن مِنْ هَمِّ مَعاشٍ أَو حَزَنِ عَذابٍ أَو حَزَنِ موْتٍ.

أَو أَحْزَنَهُ: جَعَلَهُ حَزِينًا، وحَزَنَهُ: جَعَلَ فيه حُزْنًا، كأَفْتَنَه: جَعَلَه فاتِنًا، وفَتَنَه: جَعَلَ فيه فِتنَةً، قاله سِيْبَوَيْه.

وفي الحَدِيْثِ: «كان إذا حَزَنَه أَمْرٌ صلَّى»؛ أَي أَوْقَعَه في الحُزْنِ، ويُرْوَى بالباءِ وقد تقدَّمَ؛ فهو مَحْزونٌ، مِن حَزنَه الثُّلاثيّ.

وقالَ أَبو عَمْرو: يَقولُونَ: أَحْزَنَني فأَنا مُحْزَنٌ وهو مُحْزِنٌ، ويَقولُونَ: صَوْتٌ مُحْزِنٌ وأَمْرٌ مُحْزِنٌ، ولا يَقولُونَ: صَوْتٌ حازِنٌ.

ورجُلٌ حَزِينٌ وحَزِنٌ، بكسْرِ الزَّاي على النَّسَبِ وضَمِّهما، الجمع: حِزانٌ، بالكسْرِ، كظَرِيفٍ وظِرافٍ، وحُزَناءُ ككَرِيمٍ وكُرَماء.

وقد خَلَطَ المصنِّفُ، رَحِمَه اللهُ تعالَى، بينَ اسْمِ فاعِلٍ ومَفْعولٍ وبينَ المَأْخُوذِ مِن الثّلاثِي والرّباعي، وفي المَجْموعِ، ولا يَكادُ يُحَرِّرُه إلّا الماهِرُ بالعُلومِ الصَّرْفيَّةِ، فتأَمَّلْه.

وعامُ الحُزْن، بالضمِّ: العامُ الذي ماتَتْ فيه خَديجَةُ، رَضِيَ اللهُ تعالى عنها، وعَمُّه أَبو طالِبٍ، هكذا سَمَّاه رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلَّم؛ حَكَى ذلك ثَعْلَبُ عن ابنِ الأَعْرابيِّ، قالَ: وماتَا قَبْل الهِجْرةِ بثلاثِ سِنِيْنَ.

والحُزانَةُ، بالضَّمِّ: قَدْمَةُ العَرَبِ على العَجَمِ في أَوَّلِ قُدومِهِم الذي اسْتَحَقُّوا به ما اسْتَحَقّوا من الدُّورِ والضِّياعِ؛ كذا في المُحْكَمِ.

وقالَ الأَزْهرِيُّ: هو شَرْطٌ كانَ للعَرَبِ على العَجَمِ بِخُراسان إذا أَخَذُوا بَلدًا صُلْحًا أَنْ يكون إذا مَرَّ بهم الجيوش أَفْذاذًا أَو جَماعاتٍ أَنْ يُنْزلوهم ثم يَقْرُوهم، ثم يُزَوِّدونَهم إلى ناحيةٍ أُخْرى.

وحُزانَتُكَ: عِيالُكَ الذينَ تَتَحزَّنُ لأَمْرِهِم وتَهْتَم بهم، فيقولُ الرَّجُل لصاحِبِه: كيفَ حَشَمُك وحُزانَتُك؟.

ومِن سَجَعاتِ الأَساسِ: فلانٌ لا يُبالي إذا شَبِعَتْ خِزَانَتُه أَنْ تَجوعَ خُزَانَتُهُ.

والحَزونُ: الشَّاةُ السَّيِّئَةُ الخُلُقِ؛ نَقَلَهُ الجَوْهرِيُّ.

والحَزْنُ، بالفتْحِ: ما غَلُظَ من الأَرضِ؛ كما في الصِّحاحِ.

وقالَ أَبو عَمْرٍو: الحَزْنُ والحَزْمُ: الغَلِيظُ مِن الأَرضِ.

وقالَ غيرُهُ: الحَزْمُ ما احْتَزم مِن السَّيْل مِن نَجَوات المُتُونِ، والحَزْنُ ما غَلُظ مِن الأَرْض في ارْتِفاعٍ، والجَمْعُ حُزُومٌ وحُزُونٌ.

وقالَ ابنُ شُمَيْل: أَوَّلُ حُزُونِ الأَرْضِ قِفافُها وجِبالُها ورَضْمُها، ولا تُعَدُّ أَرضٌ طَيِّبَةٌ، وإن جَلُدَتْ حَزْنًا.

كالحَزْنَةِ: لُغَة في الحَزْنِ؛ وأَحْزَنَ: صار فيها، كأَسْهَلَ: صَارَ في السَّهْلِ.

والحَزْنُ: حَيٌّ من غَسَّان معروف مَعْرُوفٌ، وهُم الذينَ ذَكَرَهم الأَخْطَلُ في قَوْلِه: تَسْأَلُه الصُّبْرُ مِنْ غَسَّان إذْ حَضروا والحَزْنُ كَيْفَ قَراه الغِلْمةُ الجَشَرُ؟ هكذا أَوْرَدَه الجَوْهرِيُّ.

قالَ ابنُ بَرِّي: الصَّوابُ: كَيْفَ قَراكَ، كما أَوْرَدَه غيرُهُ؛ أَي الصُّبْرُ تَسْأَلُ عُمَيْر بنَ الحُباب، وكان قد قُتِل، فتَقولُ له: كيفَ قَراكَ الغِلْمةُ الجَشَر، وإنَّما قالوا له ذلِكَ لأنَّه كانَ يقولُ لهم: إنَّما أنْتُم جَشَرٌ؛ أَي رعاةُ الإبِلِ.

والحَزْنُ: بِلادُ العَرَبِ، هكذا في النسخِ، والذي في الصِّحاحِ بِلادٌ للعَرَبِ، أَو هُما حَزْنانِ: أَحَدُهما: ما بَيْنَ زُبالَةَ وما فَوْقَ ذلِكَ مُصْعِدًا في بِلادِ نَجْدٍ، وله غِلْظٌ وارْتِفاعٌ.

والثاني: موضع لبَني يَرْبوعٍ، وهو مَرْتعٌ مِن مَراتِعِ العَرَبِ، فيه رِياضٌ وقِيعانٌ.

وقالَ نَصْر: صقْعٌ واسِعٌ نَجْدِيٌّ بينَ الكُوفَةِ وفيد مِن دِيارِ بَني يَرْبوعٍ.

وقالَ أَبو حَنيفَةَ: حَزْنُ بَني يَرْبوعٍ قفٌّ غَلِيظٌ مَسِير ثَلاث لَيالٍ في مثْلِها، وهي بَعِيدَةٌ مِن المِياهِ، فليسَ تَرْعاها الشِّياه ولا الحمر، فليسَ فيها دمنٌ ولا أَرْواثٌ.

والحَزْنُ في قوْلِ الأَعْشَى:

ما رَوْضَةٌ مِنْ رياضِ الحَزْن مُعْشِبَةٌ *** خَضْراءُ جادَ عليه مُسْبِلٌ هَطِلُ

موْضِعٌ كانتْ تَرْعَى فيه إبِلُ المُلُوكِ، وهو مِن أَرْضِ بَني أَسَدٍ.

ومنه قوْلُهم: مَنْ تَرَبَّعَ الحَزْنَ وتَشَتَّى الصَّمَّان وتَقَيَّظَ الشَّرَفَ فقد أَخْصَبَ؛ نَقَلَهُ الأَزْهرِيُّ

وحَزْنُ بنُ أَبي وهبِ بنِ عَمْرِو بنِ عائِذِ بنِ عِمْرانَ بنِ مَخْزومٍ المَخْزوميُّ، صَحابيٌّ له هجْرَةٌ، رَوَى عنه ابْنُه المُسَيّبُ أَبو سعِيدٍ، وقُتِلَ يومَ اليَمامَةِ؛ قالَ سَعِيدُ بنُ المُسَيِّبِ: أَرادَ النَبيُّ صَلّى الله عليه وسلّم، أَنْ يغيِّرَ اسْمَ جَدِّي ويُسمِّيَه سَهْلًا فأَبَى وقالَ: لا أُغَيِّرُ اسْمًا سمَّاني به أَبي، فما زَالَتْ فِينَا تِلْكَ الحُزونَةُ بَعْدُ.

والحُزَنُ، كصُبْرَدٍ، الجِبالُ الغِلاظُ الواحِدُ، حُزْنَةٌ، بالضمِّ، كصُبْرَةٍ وصُبَرٍ؛ نَقَلَه الجَوْهرِيُّ عن الأَصْمَعيّ وبه فَسَّرَ قَوْل أَبي ذُؤَيْبٍ السابق في رِوايَةِ مَنْ رَوَى:

فأَنْزَلَ من حُزَن المُغْفِرات

وإنَّما حَذَفَ التَّنْوينَ لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْن.

[وجَبَلٌ] *.

وحَزِينٌ، كأَميرٍ ماءٌ بنَجْدٍ؛ عن نَصْر.

والحَزِينُ: اسْمُ رجُلٍ.

وحَزانٌ، كسَحابٍ، وثُمَامَةَ وزُبَيْرٍ: أَسْماءٌ.

وتَحَزَّنَ عليه: تَوَجَّعَ.

وهو يَقْرأُ بالتَحْزِينِ؛ أَي يُرَقَّقُ صَوْتَهُ به؛ نَقَلَه الجَوْهرِيُّ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

الحُزونَةُ: الخُشُونَةُ في الأَرضِ.

وقد حَزُنَتْ، ككَرُمَ: جاؤُوا به على ضِدِّه، وهو كقوْلِهم؛ مكانٌ سَهْلٌ وقد سَهُل سُهولَةً.

ومَحْزونُ اللِّهْزِمةِ: خَشِنُها، أَو أَنَّ لِهْزِمَته تَدَلَّت مِن الكآبَةِ.

وأَحْزَنَ بِنا المنزلُ: صارَ ذا جُزونَةٍ، كأَخْصَبَ وأَجْدَبَ، أَو أَحْزَنَ: رَكِبَ الحَزْنَ، كأَنَّ المنزلَ أَرْكَبَهم الحُزونَةَ حيثُ نَزلُوا فيه.

وقالَ ابنُ السِّكِّيت: بَعيرٌ حَزْنيٌّ: يَرْعَى في الحَزْنِ مِن الأَرْضِ؛ نَقَلَه الجَوْهرِيُّ.

والحُزَنُ، كصُرَدٍ: الشَّدائدُ؛ وبه فُسِّر قَوْلُ المُتَنَخّل:

وأَكْسُو الحُلَّةَ الشَّوْكاءَ خِدْني *** وبَعْضُ الخَيْرِ في حُزَنٍ وِراطِ

والحَزْنُ مِن الدوابِّ: ما خَشُنَ، صفَةٌ، والأُنثى حَزْنةٌ.

ويَقولُونَ للدابَّةِ إذا لم تكُنْ وَطِيئًا: إِنَّه لحَزْنُ المشْيِ، وفيه حُزُونَةٌ، وهو مجازٌ.

والحُزُنُ، بضَمَّتَيْن في قَوْلِ ابنِ مُقْبِل:

مَرَابِعُهُ الحُمْرُ مِنْ صَاحَةٍ *** ومُصْطَافُهُ في الوُعُولِ الحُزُنْ

قيلَ: لُغَةٌ في الحَزْنِ، بالفتْحِ، وقيلَ: جَمْعٌ له.

وحُزُنٌ، بضمَّتَيْن: جَبَلٌ لهُذَيْل، وبه رُوِي أَيْضًا قَوْلُ أَبي ذُؤَيْبٍ السابِقُ.

وأَرْضٌ حَزْنَةٌ، وقد حَزُنَتْ واسْتَحْزَنَتْ.

وصَوْتٌ حَزِينٌ: رَخِيمٌ.

ورجُلٌ حَزْنٌ: أَي غيرُ سَهْل الخُلُقِ؛ كما في الأَساسِ.

وعَمْرُو بنُ عبيدِ بنِ وهبٍ الكِنانيُّ الشاعِرُ يُلَقَّبُ بالحَزِينِ، وهو القائِلُ في عبدِ اللهِ بنِ عبْدِ المَلِكِ وقد وَفَدَ إليه بمِصْرَ وهو وَالِيها يمدَحُه في أَبْياتٍ مِن جُملتِها:

في كَفِّه خَيزُرانٌ رِيحُه عَبِق *** في كَفِّ أَرْوَعَ في عِرْنِينِه شَمَمُ

يُغْضي حَياءً ويُغْضَى مِن مَهابَتِه *** فما يُكَلَّمُ إلَّا حين يَبْتَسِمُ

وهو القائِلُ أَيْضًا يَهْجو إنْسانًا بالبُخْلِ:

كأَنَّما خُلِقَتْ كَفَّاه منْ حَجَرٍ *** فليسَ بينَ يدَيْهِ والنَّدَى عَمَلُ

يَرى التَّيَمُّمَ في بَرِّ وفي بَحْرٍ *** مَخافَةً أَنْ يُرَى في كَفِّه بَلَلُ

وأَبو حزانَةَ اليَّمَنِيُّ: شاعِرٌ كانَ مع ابنِ الأَشْعَثِ، واسْمُه الوَليدُ بنُ حَنيفَةَ؛ نَقَلَه الحافِظُ.

ومالِكُ الحَزِينِ: طائِرٌ.

وحزنُ بنُ زنْباعٍ: بَطْنٌ؛ عن الهَمدانيِّ.

وحزنُ بنُ خفاجَةَ: بَطْنٌ مِن قَيْسٍ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

الحَيْزَبونُ: العَجوزُ مِن النِّساءِ، والسَّيِّئَةُ الخُلُقِ.

وناقَةٌ حَيزَبون: شَهْمَة حَديدَةٌ.

وقد أَهْمَلَه المصنِّفُ هنا وفي حَزَبَ أَيْضًا، وأَوْرَدَه الجَوْهرِيُّ في حَزَبَ على أَنَّ النّونَ زائِدَةٌ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


197-تاج العروس (حقو)

[حقو]: والحَقْوُ: الكَشْحُ.

وفي الصِّحاحِ: الخَصْرُ.

وقالَ أَبو عبيدٍ: الخاصِرَةُ، وهُما حَقْوان؛ هكذا اقْتَصَرُوا على الفتْحِ.

قالَ شيْخُنا: وبَقِيَ عليه الكَسْر رَوَاه أَئِمَةُ الرِّوايَة في البُخارِي وغيرِه، قالَ: ورُبَّما يُؤْخَذُ مِن قَوْله ويُكْسَرُ ولكن قاعِدَته دالَّة على أَنَّ الضَّبْط يرجعُ لمَا يَلِيه، وإن أَرادَ العمومَ قالَ فيهما أَو فيهنَّ أَو نحْو ذَلِكَ، ثم الكَسْرُ إنَّما هو لُغَةٌ هُذَلِيَّةٌ على ما صَرَّح به غيرُ واحِدٍ.

* قُلْتُ: اقْتَصَرَ الحافِظُ في الفتْحِ على الفَتْحِ ولم يَذْكُرِ الكَسْر، والذي نَقَلَه شيْخُنا مِن ذِكْر الكَسْر فإنَّما حكى ذلِكَ في معْنَى الإِزارِ على ما بَيْنه صاحِبُ المُحْكَم وغيرُهُ، فتأَمَّل ذلك.

ومِن المجازِ: الحَقْوُ: الإزارُ. يقالُ: رَمَى فلانٌ بحَقْوه إذا رَمَى بإِزارِهِ.

وفي حدِيثِ عُمَر قالَ للنِّساءِ: «لا تَزْهَدْنَ في جَفَاءِ الحَقْوِ»؛ أَي لا تَزْهدْنَ في تَغْلِيظِ الإِزارِ وثخَانَتِه ليكونَ أَسْتَرَ لكُنَّ.

وفي حدِيثٍ آخر: أنَّه أَعْطَى النِّساءَ اللَّاتي غَسَّلْنَ ابْنَتَه حينَ ماتَتْ حَقْوَهُ وقالَ: اسفِرْنَها إِيَّاهُ؛ أَي إزاره.

ويُكْسَرُ؛ أَو مَعْقِدُهُ.

وفي الصِّحاحِ: مَشَدُّهُ؛ أَي مِن الجَنْبِ، وهذا هو الأصْلُ فيه، ثم سُمِّي الإِزارُ حَقْوٌ لأنَّهُ يُشَدّ على الحَقْوِ كما تُسَمَّى المَزادَةُ رَاوِيَة لأنَّها على الرَّاوِيَة وهو الجَمَلُ؛ قالَهُ ابنُ برِّي.

وفي حدِيثِ صلَةِ الرَّحمِ: «فأَخَذَتْ بحَقْوِ العَرْشِ»؛ لمَّا جَعَلَ الرَّحِمَ شَجْنة مِن الرحمنِ اسْتَعارَ لها الاسْتِمْساكَ به كما يَسْتَمْسك القريبُ بقرِيبِه والنَّسِيبُ بنَسِيبِه، فالحِقْو فيه مَجازٌ وتَمْثِيلٌ.

كالحَقْوَةِ والحِقاءِ، ككِتابٍ.

قالَ ابنُ سِيدَه: كأَنَّه سُمِّي بما يُلاثُ عليه؛ الجمع: أَحْقٍ في القلَّةِ؛ ومنه حدِيثُ النُّعْمان يوم نهاوَنْدَ: «تَعاهَدُوها بَيْنَكم في أَحْقِيكم».

قالَ الجَوهريُّ: أَصْلُه أَحْقُوٌ على أَفْعُلِ فحُذِفَ لأنَّه ليسَ في الأسْماءِ اسمٌ آخره حَرْف علَّةِ وقَبْلها ضمَّة، فإذا أَدَّى قياسٌ إلى ذلكَ رُفِضَ فأُبْدِلَتْ من الضمَّةِ الكسْرَةِ فصارَ آخِرهُ ياءً مكْسُورًا ما قَبْلها، فإذا صارَ كذلِكَ كانَ بمنْزِلَةِ القاضِي والغازِي في سقوطِ الياءِ لاجْتِماعِ السَّاكِنَيْنِ.

قالَ ابنُ برِّي عنْدَ قَوْله فإذا أَدَّى قياسٌ إلى آخِرِهِ: صَوابُه عَكْس ما ذَكَر لأنَّ الضَّميرَ في قوْلِه فأُبْدِلَت يعودُ على الضمَّة أَي أُبْدِلَتِ الضمَّةُ من الكَسْرةِ، والأَمْرُ بعكْسِ ذلِكَ، وهو أَن يقولَ فأُبْدِلَتِ الكَسْرةُ من الضمَّةِ.

وأَحقاءٌ؛ وأَنْشَدَ الأزهريُّ:

وعُذْتُمْ بأَحْقاءِ الزَّنادِقِ بَعْدَ ما *** عَرَكْتُكُمُ عَرْكَ الرَّحا بثِفالِها

وحِقِيٌّ في الكَثْرةِ.

قالَ الجَوهرِيُّ: هو فُعُولٌ، قُلِبَتِ الواوُ الأُولى ياءً لتُدْغَم في التي بَعْدَها؛ وحِقاءٌ، ككِتابٍ، وهو جَمْعُ حَقْوٍ وحَقْوةٍ بفتْحِهما.

وحَقاهُ حَقْوًا: أَصابَ حَقْوَهُ على القياسِ في ذلِكَ؛ فهو حَقٍ.

وقالَ اللحْيانيُّ: رجُلٌ حَقٍ يَشْتكِي حِقْوَه.

وحُقِيَ، كعُنِيَ، حَقًا، وفي المُحْكَم: حَقْوًا، فهو مَحْقُوٌّ ومَحْقيٌّ: شَكَا حَقْوَه.

قالَ الفرَّاءُ: بُنِي على فُعِلَ كقَوْلِه:

ما أَنا بالجافِي ولا المَجْفِيِّ

بَناهُ على جُفِيَ.

وأَمَّا سِيْبَوَيْه فقالَ: إنَّما فَعَلوا ذلكَ لأنَّهم يَمِيلُون إلى الأَخَفِّ إذِ الياء أَخَفُّ عليهم مِن الواوِ، وكلُّ واحِدَةٍ منهما تَدْخلُ على الأُخْرى في الأَكْثَر.

وتَحَقَّى الرَّجُلُ: شَكَا حَقْوَهُ.

ومِن المجازِ: الحَقْوُ: مَوْضِعٌ غلِيظٌ مُرْتَفِعٌ عن السَّيْلِ؛ وفي المُحْكَم: على السَّيْل؛ الجمع: حِقاءٌ، ككِتابٍ.

قالَ أَبو النجْمِ يَصِفُ مَطَرًا:

يَنْفِي ضِبَاعَ القُفِّ عن حِقَائِه

وقالَ الأصمعيُّ: كلُّ مَوْضِع يَبْلغُه مَسِيلُ الماءِ فهو حَقْوٌ.

وقالَ الزَّمخشريُّ: حَقْوُ الجَبَلِ سَفْحُه.

ومِن المجازِ: الحَقْوُ مِن السَّهْمِ: مَوْضِعُ الرِّيشِ.

وفي الصِّحاحِ: مُسْتَدَقُّه مِن مُؤَخَّره ممَّا يلِي الرِّيشَ؛ وفي الأساسِ: تَحْت الرِّيشِ.

ومِن المجاز: الحَقْوُ من الثَّنِيَّةِ: جانِبَاها.

قالَ اللَّيْثُ: إذا نَظَرْتَ إلى رأْسِ الثَّنيَّةِ مِن ثَنايا الجَبَلِ رأَيْتَ لمَخْرِمَيْها حَقْوَيْنِ.

والحَقْوَةُ، بهاءٍ: وَجَعُ البَطْنِ.

وفي الصِّحاحِ: وَجَعٌ في البَطْنِ؛ ومنه الحدِيثُ: «إنَّ الشَّيْطانَ قالَ ما حَسَدْتُ ابنَ آدَمَ إلَّا على الطُّسْأَةِ والحَقْوَةِ». وخَصَّ بعضُهم فقالَ: مِن أَكْلِ اللحْمِ كالحِقاءِ، بالكسْرِ. وفي المُحْكَم: الحَقْوةُ والحِقاءُ: وَجَعٌ في البَطْنِ يصيبُ الرَّجُل مِن أنْ يأْكُلَ اللَّحْمَ بَحْتًا فيأْخُذَه لذلِكَ سُلاحٌ وفي التهْذِي: يورِثُ نَفْخَةً في الحَقْوَيْن.

وقد حُقِيَ، كعُنِيَ، فهو مَحْقُوٌّ ومَحْقِيٌّ، إذا أَصابَه ذلِكَ الدَّاءُ؛ قالَ رُؤْبة:

من حَقْوَةِ البَطْنِ ودَاءِ الإعْدَادْ

فمَحْقُوٌّ على القِياسِ، ومَحْقِيٌّ على ما قدَّمْنا.

والحَقْوَةُ: دَاءٌ في الإبِلِ نحْو التَّقْطِيعِ يَنْقَطِعُ له بَطْنُه من النُّحازِ، وأَكْثَرُ ما يقالُ الحَقْوة للإِنْسانِ.

وحِقاءٌ، ككِساءٍ: موضع، أَو جَبَلٌ، وتقدَّمَ أَنَّه بالفاءِ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

عاذَ بحَقْوِه: إذا اسْتَجارَ به واعْتَصَمَ؛ وهو مَجازٌ؛ قالَ الشاعِرُ:

سَماعَ اللهِ والعلماءِ أَنِّي *** أَعوذُ بحَقْوِ خالك يا بنَ عَمْروٍ

والحَقْوَةُ: مثْلُ النَّجْوَةِ إلَّا أَنَّه مُرْتَفِع عنه تتحّرز فيه السِّباعُ مِن السَّيْل، والجَمْعُ حِقاءٌ.

وقالَ النَّضْر: حِقِيُّ الأرضِ: سُفُوحُها وأَسْنادُها، واحِدُها حَقْوٌ، وهو الهَدَفُ والسَّنَد؛ والأَحْقَى كَذلِكَ؛ قالَ ذُو الرُّمَّة:

تَلْوِي الثنايا بأَحْقِيها حَواشِيَه *** لَيَّ المُلاءِ بأَثْوابِ التَّفارِيجِ

يعْنِي به السَّرابَ.

وقالَ أَبو عَمْروٍ: الحِقاءُ رِباطُ الجُلِّ على بَطْنِ الفَرَسِ إذا حُنِذَ للتضمير وأنشد لطلق بن عديِّ:

ثم حَططنا الجُلَّ ذا الحِقاءِ *** كمِثْل لونِ خالِصِ الحِنَّاءِ

أَخْبَرَ أَنَّه كُمَيْت.

واحْتَقَى الكَلْبُ في الإِناءِ احْتِقاءً: وَلَغَ؛ نَقَلَهُ الفرَّاءُ عن الدُّبَيْريَّةِ.

وحَقاهُ الماءُ: بَلَغَ حَقْوَة؛ عن الفرَّاء.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


198-المصباح المنير (بنج)

الْبَنْجُ مِثَالُ فَلْسٍ نَبْتٌ لَهُ حَبٌّ يَخْلِطُ بِالْعَقْلِ وَيُورِثُ الْخَيَالَ وَرُبَّمَا أَسْكَرَ إذَا شَرِبَهُ الْإِنْسَانُ بَعْدَ ذَوْبِهِ وَيُقَالُ إنَّهُ يُورِثُ السُّبَاتَ.

المصباح المنير-أبوالعباس الفيومي-توفي: 770هـ/1369م


199-لسان العرب (برأ)

برأ: البارئُ: مِن أَسماءِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَاللَّهُ البارئُ الذَّارِئُ.

وَفِي التنزيلِ العزِيزِ: الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ.

وقالَ تعَالى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ.

قَالَ: البارئُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ الخَلْقَ لَا عَنْ مِثالٍ.

قالَ ولهذِهِ اللفْظَةِ مِن الاخْتِصاصِ بخَلْقِ الحيَوانِ مَا لَيْسَ لَهَا بغَيرهِ مِن المخْلوقات، وقَلَّما تُسْتَعْمَلُ فِي غيرِ الحيوانِ، فيُقال: برَأَ اللهُ النسَمَة وخَلَقَ السَّماوات والأَرضَ.

قَالَ ابنُ سِيدَة: برَأَ اللهُ الخَلْقَ يَبْرَؤُهم بَرءًا وبُرُوءًا: خَلَقَهُم، يكونُ ذلكَ فِي الجَواهِرِ والأَعْراضِ.

وَفِي التنزِيلِ: {مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها} وَفِي التَّهْذِيبِ: والبَرِيَّةُ أَيضًا: الخَلْق، بِلَا هَمْزٍ.

قالَ الفَرَّاءُ: هيَ مِنْ بَرَأَ اللهُ الخَلْقَ أَي خَلَقَهُم.

والبَرِيَّةُ: الخَلْقُ، وأَصْلُها الهمْزُ، وَقَدْ ترَكَت العَرَبُ هَمْزَها.

ونظِيرهُ: النبيُّ والذُّرِّيَّةُ.

وأَهلُ مَكَّةَ يُخالِفُونَ غيرَهُم مِنَ العَرَب، يَهْمِزُونَ البَريئةَ والنَّبيءَ والذّرِّيئةَ، مِنْ ذَرَأَ اللهُ الخلْقَ، وذلِكَ قلِيلٌ.

قالَ الفرَّاءُ: وإِذا أُخِذَت البَرِيَّةُ مِن البرَى، وَهُوَ التُّراب، فأَصلها غَيْرُ الهمْزِ.

وقالَ اللِّحْيَانِيُّ: أَجمَعَتِ العَرَبُ عَلَى ترْكِ هَمْزِ هَذِهِ الثلاثةِ، وَلَمْ يَستثنِ أَهل مكةَ.

وبَرِئْتُ مِن المَرَضِ، وبَرَأَ المرِيضُ يَبْرَأُ ويَبْرُؤُ بَرْءًا وبُرُوءًا، وأَهلُ العَالِيَةِ يَقُولُونَ: بَرَأْتُ أَبْرأُ بَرْءًا وبُروءًا، وأَهلُ الحِجازِ يَقُولُونَ: بَرَأْتُ مِنَ المرَضِ بَرءًا، بالفتحِ، وسائرُ العَرَبِ يَقُولُونَ: بَرِئتُ مِنَ المرَضِ.

وأَصْبَحَ بارِئًا مِنْ مَرَضِهِ وبَرِيئًا مِنْ قومٍ بِراءٍ، كقولكَ صحِيحًا، وصِحاحًا، فذلِكَ ذَلِكَ.

غيرَ أَنه إِنما ذَهَبَ فِي بِراءٍ إِلَى أَنه جَمْعُ بَرِيءٍ.

قَالَ وقدْ يجوزُ أَنْ يَكون بِرَاءٌ أَيضًا جمْع بارِئٍ، كجائعٍ وجِياعٍ وصاحِبٍ وصِحابٍ.

وقدْ أَبرَأَهُ اللهُ مِنْ مَرَضِهِ إِبراءً.

قَالَ ابنُ بَرِّيّ: لَمْ يَذكُر الجوهَري بَرَأْتُ أَبرُؤُ، بالضمِّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

قَالَ: وَقَدْ ذكَرهُ سِيبويهِ وأَبو عثمانَ المازِني وغيرُهُما مِنَ البصرِيين.

قالَ وإِنما ذكَرْتُ هَذَا لأَنَّ بعْضَهُم لَحَّنَ بَشار بنَ بُرْد فِي قولهِ:

نَفَرَ الحَيُّ مِنْ مَكاني، فَقَالُوا: ***فُزْ بصَبْرٍ، لعَلَّ عَيْنَكَ تبْرُو

مَسَّهُ، مِنْ صُدودِ عَبْدةَ، ضُرٌّ، ***فبَنَاتُ الفُؤَادِ مَا تسْتَقِرُّ

وَفِي حدِيثِ مَرَضِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وسَلَّم، قالَ العباسُ لِعَلِيٍّ رضِيَ اللهُ عنهُما: كيفَ أَصْبَحَ رسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ؟ قالَ: أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللهِ بارِئًا، أَي مُعافًى.

يقالُ: بَرَأْتُ مِنَ المَرَضِ أَبرَأُ بَرْءًا، بِالْفَتْحِ، فأَنا بارِئٌ؛ وأَبرَأَني اللهُ مِنَ المرَض.

وغيرُ أَهلِ الحِجازِ يَقُولُونَ: برِئت، بالكسرِ، بُرْءًا، بِالضَّمِّ.

ومِنْهُ قولُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْف لأَبي بَكْرٍ رضيَ اللهُ عنهُما: أَراكَ بَارِئًا.

وَفِي حديثِ الشُّرْب: فإِنهُ أَرْوَى وأَبرَى، أَي يُبرِئهُ مِنْ أَلَمِ العَطَشِ.

أَو أَرادَ أَنهُ لَا يكونُ مِنْهُ مَرَضٌ، لأَنهُ قدْ جاءَ فِي حديثٍ آخَرَ: فإِنهُ يُورِثُ الكُبادَ.

قالَ: وَهَكَذَا يُرْوَى فِي الحديثِ أَبْرى، غيرَ مَهْمُوزةٍ، لأَجلِ أَرْوَى.

والبَرَاءُ فِي المَدِيدِ: الجُزْءُ السَّالِمُ مِنْ زِحَافِ المُعاقبَةِ.

وكلُّ جزءٍ يمكِنُ أَنْ يَدْخُله الزِّحافُ كالمُعاقبَةِ، فيَسْلَمُ منهُ، فَهُوَ بَرِيءٌ.

الأَزهَرِي: وأَما قَوْلُهُمْ بَرِئْتُ مِنَ الدَّينِ، والرَّجُلُ أَبْرَأَ بَراءَةً، وبَرِئتُ إليْكَ مِنْ فلانٍ أَبْرَأُ بَرَاءَةً، فليسَ فِيهَا غَيْرُ هَذِهِ اللغَةِ.

قَالَ الأَزهَري: وَقَدْ رَوَوْا بَرَأْتُ مِنَ المَرَضِ أَبْرُؤُ بُرْءًا.

قَالَ: وَلَمْ نجِدْ فِيمَا لَامُهُ هَمْزةٌ فَعَلْتُ أَفْعُلُ.

قَالَ: وَقَدِ اسْتَقْصَى العلماءُ باللغَةِ هَذَا، فَلَمْ يجدُوهُ إِلا فِي هَذَا الحرْف، ثُمَّ ذكرَ قرَأْتُ أَقْرُؤُ وهَنَأْتُ البعِيرَ أَهْنُؤُه.

وقولهُ عزَّ وجلَّ: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ: فِي رَفعِ بَرَاءةٌ قولانِ: أَحدهُما عَلَى خَبرِ الابتداءِ، الْمَعْنَى: هذهِ الآياتُ بَرَاءَةٌ مِن اللهِ ورسولهِ؛ وَالثَّانِي بَراءَةٌابتداءٌ والخبرُ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ.

قَالَ: وكِلا القَوْلَيْنِ حَسَنٌ.

وأَبْرأْتُه مِمَّا لِي عليْهِ وبَرَّأْتُهُ تَبْرِئةً، وبَرِئَ مِنَ الأَمْرِ يَبْرَأُ ويَبْرُؤُ، والأَخِير نادِرٌ، بَراءَةً وبَراءً، الأَخِيرة عَنِ اللِّحْيَانِيِّ؛ قالَ: وكذلِكَ فِي الدَّينِ والعُيوبِ بَرِئَ إِليكَ مِنْ حَقِّكَ بَراءَةً وبَراءً وبُروءًا وتبرُّؤًا، وأَبرَأَكَ مِنهُ وبَرَّأَكَ.

وَفِي التنزيلِ الْعَزِيزِ: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا}.

وأَنا بَرِيءٌ مِنْ ذلِكَ وبَراءٌ، والجمْعُ بِراءٌ، مِثْلَ كَرِيمٍ وكِرامٍ، وبُرَآءُ، مِثل فقِيه وفُقَهاء، وأَبراء، مِثْلَ شريفٍ وأَشرافٍ، وأَبرِياءُ، مِثْلَ نَصِيبٍ وأَنْصِباء، وبَرِيئون وبَراء.

وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: البُراءُ جمعُ بَريء، وَهُوَ مِنْ بابِ رَخْلٍ ورُخالٍ.

وَحَكَى الفرَّاءُ فِي جَمْعِهِ: بُراء غَيْرَ مصروفٍ عَلَى حذفِ إِحدى الهمزَتين.

وقالَ اللِّحْيَانِيُّ: أَهلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ: أَنا مِنك بَراء.

قَالَ: وَفِي التَّنْزِيلِ العزيزِ: {إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}.

وتَبَرَّأْتُ مِن كَذَا وأَنا بَراءٌ مِنهُ وخَلاءٌ، لَا يُثَنَّى وَلَا يجمَع، لأَنهُ مصدَرٌ فِي الأَصْل، مِثل سَمِعَ سَمَاعًا، فَإِذَا قُلْتَ: أَنا بَرِيءٌ مِنهُ وخَلِيٌّ مِنْهُ ثنَّيت وجَمَعْت وأَنَّثْت.

ولغةُ تميمٍ وَغَيْرِهِمْ مِن العَرَب: أَنا بَرِيءٌ.

وَفِي غيرِ موضعٍ مِن القرآنِ: {إِنِّي بَرِيءٌ}؛ والأُنثى بَريئَةٌ، وَلَا يُقال: بَرَاءَةٌ، وهُما بَريئتانِ، والجمعُ بَرِيئات، وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ: بَرِيَّاتٌ وبَرايا كخَطايا؛ وأَنا البرَاءُ مِنهُ، وكذلِكَ الِاثْنَانِ والجمعُ والمؤَنث.

وَفِي التنزيلِ الْعَزِيزِ {إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}.

الأَزهري: والعَرَبُ تَقُولُ: نحنُ مِنكَ البَراءُ والخَلاءُ والواحِد وَالِاثْنَانِ والجمْعُ مِنَ المذكَّر والمؤَنث يُقال: بَراءٌ لأَنهُ مصدَر.

وَلَوْ قَالَ: بَرِيء، لقِيلَ فِي الاثنينِ: بَريئانِ، وَفِي الْجَمْعِ: بَرِيئونَ وبَراءٌ.

وَقَالَ أَبو إِسحاق: الْمَعْنَى فِي البَراءِ أَي ذُو البَراءِ مِنْكُمْ، ونحنُ ذَوُو البَراءِ مِنْكُمْ.

وزادَ الأَصمَعِي: نحنُ بُرَآء عَلَى فُعَلاء، وبِراء عَلَى فِعالٍ، وأَبْرِياء؛ وَفِي المؤَنث: إِنني بَرِيئةٌ وبَرِيئتانِ، وَفِي الجمْعِ بَرِيئاتٌ وبَرايا.

الْجَوْهَرِيُّ: رجلٌ بَرِيءٌ وبُراءٌ مثلُ عَجِيبٍ وعُجابٍ.

وَقَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: المعروفُ فِي بُراءٍ أَنه جمعٌ لَا واحِدٌ، وعليهِ قولُ الشاعِر:

رأَيتُ الحَرْبَ يَجنُبُها رِجالٌ، ***ويَصْلى، حَرَّها، قَوْمٌ بُراءٌ

قَالَ ومثلهُ لزُهير: إليْكُم إِنَّنا قَوْمٌ بُراءٌ وَنَصَّ ابْنُ جِنِّي عَلَى كونِهِ جَمْعًا، فَقَالَ: يجمَعُ بَرِيءٌ عَلَى أَربَعَةٍ مِن الجُموع: بَرِيءٌ وبِراءٌ، مِثل ظَريفٍ وظِرافٍ، وبَرِيءٌ وبُرَآءُ، مِثْلَ شَرِيفٍ وشُرفاء، وبَرِيءٌ وأَبْرِياءُ، مِثل صَدِيقٍ وأَصدِقاء، وبَريءٌ وبُراءٌ، مِثْلَ مَا جاءَ مِنَ الجُموعِ عَلَى فُعالٍ نَحْوَ تُؤَامٍ ورُباءٍ فِي جمعِ تَوْأَم ورُبَّى.

ابنُ الأَعرابي: بَرِئَ إِذا تخَلَّصَ، وبَرِئَ إِذا تَنَزَّهَ وتباعَدَ، وبَرِئَ، إِذا أَعْذَرَ وأَنذَرَ؛ وَمِنْهُ قولهُ تعالى: {بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}، أَي إِعْذارٌ وإِنذارٌ.

وَفِي حَدِيثِ أَبي هُرَيرة رضيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا دعاهُ عُمَرُ إِلَى العَملِ فأَبَى، فَقَالَ عُمر: «إِنّ يُوسُفَ قَدْ سأَلَ العَمَلَ».

فقالَ: إِنَّ يُوسُفَ مِنِّي بَرِيءٌ وأَنا مِنْه بَرَاء

أَيْ بَرِيءٌ عَنْ مُساواتِهِ فِي الحُكْمِ وأَنْ أُقاسَ بهِ؛ وَلَمْ يُرِدْ بَراءَةَ الوِلايةِ والمَحَبَّةِ لأَنهُ مأْمورٌ بالإِيمانِ بِهِ، والبَرَاءُ والبَرِيءُ سَواءٌ.

وليلةُ البَراءِ لَيْلَةَ يَتَبَرَّأُ القمرُ منَ الشمسِ، وَهِيَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنَ الشهرِ.

التَّهْذِيبُ: البرَاءُ أَوَّلُ يومٍ منَ الشهرِ، وَقَدْ أَبْرأَ: إِذَا دخلَ فِي البَراءِ، وَهُوَ أوّلُ الشهرِ.

وَفِي الصحاحِ البَراءُ، بالفتحِ: أَوَّلُ ليلةٍ مِنْ الشَّهْرِ، وَلَمْ يَقُلْ ليلةُ البَراءِ، قَالَ:

يَا عَيْنُ بَكِّي مالِكًا وعَبْسَا، ***يَوْمًا، إِذا كانَ البَراءُ نَحْسا

أَي إِذا لَمْ يَكُنْ فيهِ مَطَرٌ، وَهُمْ يَسْتَحِبُّونَ المطرَ فِي آخِرِ الشهرِ؛ وجمعهُ أَبْرِئةٌ، حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ثعلبٍ.

قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: آخِرُ لَيْلَةٍ مِنَ الشَّهْرِ تُسَمَّى بَراء لتَبَرُّؤِ الْقَمَرِ فِيهِ مِنَ الشَّمْسِ.

ابْنُ الأَعرابي: يُقَالُ لِآخِرِ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ البَراء لأَنه قد بَرِئَ مِن هَذَا الشَّهْرِ.

وابنُ البَراء: أَوَّل يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ.

ابْنُ الأَعرابي: البَراءُ مِنَ الأَيامِ يَوْمُ سَعْدٍ يُتَبرَّكُ بِكُلِّ مَا يَحدُث فِيهِ، وأَنشد:

كَانَ البَراءُ لَهُمْ نَحْسًا فَغَرَّقَهُم، ***وَلَمْ يَكُنْ ذَاكَ نحْسًا مُذ سَرَى القَمَرُ

وَقَالَ آخَرُ:

إِنَّ عبِيدًا لَا يَكُونُ غُسًّا، ***كَمَا البَراءُ لَا يَكُونُ نحْسا

أَبو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ: أَبْرَأَ الرَّجُل: إِذَا صادَفَ بَرِيئًا، وَهُوَ قَصَبُ السُّكَّرِ.

قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: أَحْسَبُ هَذَا غَيْرَ صَحِيحٍ؛ قَالَ: وَالَّذِي أَعرفه أَبَرْت: إِذَا صادَفْتَ بَرِيًّا، وهو سُكَّر الطَّبَرْزَدِ.

وبارَأْتُ الرَّجل: بَرِئْتُ إِلَيْهِ وبَرِئَ إِليَّ.

وبارَأْتُ شَرِيكي: إِذَا فارَقْتَه.

وبارأَ المرأَةَ والكَرِيَّ مُبارأَةً وبِراءً: صالَحَهما عَلَى الفِراق.

والاستِبراءُ: أَن يَشْتَرِيَ الرَّجلُ جارِيةً، فَلَا يَطَؤُها حَتَّى تَحِيضَ عِنْدَهُ حَيْضةً ثُمَّ تَطْهُرَ؛ وَكَذَلِكَ إِذَا سبَاها لَمْ يَطَأْها حَتَّى يَسْتَبْرِئَها بِحَيْضَةٍ، ومعناهُ: طَلَبُ بَراءَتها مِنَ الحَمْل.

واستَبْرأتُ مَا عِنْدَكَ: غيرُه.

اسْتَبْرَأَ المرأَةَ: إِذَا لَمْ يَطَأْها حَتَّى تحِيضَ؛ وَكَذَلِكَ اسْتَبْرَأَ الرّحِمَ.

وَفِي الْحَدِيثِ فِي اسْتِبْراء الْجَارِيَةِ: لَا يَمَسُّها حَتَّى تَبْرَأَ رَحِمُها ويَتَبَيَّنَ حَالُهَا هَلْ هِيَ حامِلٌ أَم لَا.

وَكَذَلِكَ الاسْتِبْراءُ الَّذِي يُذْكَر مَعَ الاسْتِنْجاء فِي الطَّهارة، وَهُوَ أَن يَسْتَفْرِغَ بَقِيَّةَ الْبَوْلِ، ويُنَقِّي مَوْضِعَه ومَجْراه، حَتَّى يُبْرِئَهما مِنْهُ أَي يُبِينَه عَنْهُمَا، كَمَا يَبْرَأُ مِنَ الدَّين والمَرَض.

والاسْتِبْراءُ: اسْتِنقاء الذَّكَر عَنِ الْبَوْلِ.

واسْتَبْرأَ الذَّكَرَ: طَلَبَ بَراءَتَه مِن بَقِيَّةِ بَوْلٍ فِيهِ بِتَحْرِيكِهِ ونَتْرِه وَمَا أَشبه ذَلِكَ، حَتَّى يَعْلَم أَنه لَمْ يَبْقَ فِيهِ شَيْءٌ.

ابْنُ الأَعرابي: البَرِيءُ: المُتَفصِّي مِنَ القَبائح، المُتنَجِّي عَنِ الْبَاطِلِ والكَذِبِ، البعِيدُ مِن التُّهم، النَّقِيُّ القَلْبِ مِنَ الشِّرك.

والبَرِيءُ الصحِيحُ الجِسمِ والعقلِ.

والبُرْأَةُ، بالضمِّ: قُتْرةُ الصَّائِدِ الَّتِي يَكْمُن فيها،

وَالْجَمْعُ بُرَأٌ.

قَالَ الأَعشى يَصِفُ الْحَمِيرَ:

فأَوْرَدَها عَيْنًا، مِنَ السِّيف، رَيَّةً، ***بِها بُرَأ مِثْلُ الفَسِيلِ المُكَمَّمِ

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


200-لسان العرب (رحب)

رحب: الرُّحْبُ، بِالضَّمِّ: السَّعةُ.

رَحُبَ الشيءُ رُحْبًا ورَحابةً، فَهُوَ رَحْبٌ ورَحِيبٌ ورُحابٌ، وأَرْحَبَ: اتَّسَعَ.

وأَرْحَبْتُ الشيءَ: وسَّعْتُه.

قَالَ الحَجّاجُ، حِينَ قَتَلَ ابْنَ القِرِّيَّة: أَرْحِبْ يَا غُلامُ جُرْحَه وَقِيلَ لِلْخَيْلِ: أَرْحِبْ، وأَرْحِبي أَي تَوَسَّعِي وتَباعَدي

وتَنَحِّي؛ زَجْرٌ لَهَا؛ قَالَ الْكُمَيْتُ بْنُ مَعْرُوفٍ:

نُعَلِّمُها: هَبي، وهَلًا، وأَرْحِبْ، ***وَفِي أَبْياتِنا ولَنا افْتُلِينا

وَقَالُوا: رَحُبَتْ عليكَ وطُلَّتْ أَي رَحُبَتِ البِلادُ عَلَيْكَ وطُلَّتْ.

وَقَالَ أَبو إِسحاق: رَحُبَتْ بِلادُكَ وطُلَّت أَي اتَّسَعَتْ وأَصابَها الطَّلُّ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ زِمْلٍ: «عَلَى طريقٍ رَحْبٍ»أَي واسِعٍ.

ورجُل رَحْبُ الصَّدْرِ، ورُحْبُ الصَّدْرِ، ورحِيبُ الجَوْفِ: واسِعُهما.

وَفُلَانٌ رحِيبُ الصَّدْر؛ أي وَاسِعُ الصَّدْرِ؛ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَوْفٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «قَلِّدوا أَمْرَكُم رَحْب الذِّراع»أَي واسِعَ القُوَّةِ عِنْدَ الشَّدائد.

ورَحُبَت الدَّارُ وأَرْحَبَتْ بِمَعْنًى أَي اتَّسَعَتْ.

وامرأَةٌ رُحابٌ أَي واسِعةٌ.

والرَّحْبُ، بِالْفَتْحِ، والرَّحِيبُ: الشَّيْءُ الواسِعُ، تَقُولُ مِنْهُ: بَلَدٌ رَحْبٌ، وأَرضٌ رَحْبةٌ؛ الأَزهري: ذَهَبَ الْفَرَّاءُ إِلى أَنه يُقَالُ بَلَدٌ رَحْبٌ، وبِلادٌ رَحْبةٌ، كَمَا يُقَالُ بَلَدٌ سَهْلٌ، وبِلادٌ سَهْلة، وَقَدْ رَحُبَت تَرْحُبُ، ورَحُبَ يَرْحُبُ رُحْبًا ورَحابةً، ورَحِبَتْ رَحَبًا؛ قَالَ الأَزهري: وأَرْحَبَتْ، لُغَةٌ بِذَلِكَ الْمَعْنَى.

وقِدْرٌ رُحابٌ أَي واسِعةٌ.

وَقَوْلُ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ: {ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ}؛ أَي عَلَى رُحْبِها وسَعَتها.

وَفِي حَدِيثِ كَعْب بْنِ مَالِكٍ: «فنحنُ»، كَمَا قَالَ اللَّهُ تعالى: {ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ}.

وأَرضٌ رَحِيبةٌ: واسِعةٌ.

ابْنُ الأَعرابي: والرَّحْبةُ مَا اتَّسع مِنَ الأَرض، وجمعُها رُحَبٌ، مِثْلَ قَرْيةٍ وقُرًى؛ قَالَ الأَزهري: وَهَذَا يَجِيءُ شَاذًّا فِي بَابِ النَّاقِصِ، فأَما السَّالِمُ فَمَا سَمِعْتُ فَعْلةً جُمعت عَلَى فُعَلٍ؛ قَالَ: وَابْنُ الأَعرابي ثِقَةٌ، لَا يَقُولُ إِلا مَا قَدْ سَمِعَه.

وَقَوْلُهُمْ فِي تَحِيَّةِ الْوَارِدِ: أَهْلًا ومَرْحَبًا أَيْ صادَفْتَ أَهْلًا ومَرْحبًا.

وَقَالُوا: مَرْحَبَك اللهُ ومَسْهَلَكَ.

وَقَوْلُهُمْ: مَرْحَبًا وأَهْلًا أَي أَتَيْتَ سَعَةً، وأَتَيْتَ أَهْلًا، فاسْتَأْنِس وَلَا تَسْتَوْحِشْ.

وَقَالَ اللَّيْثُ: مَعْنَى قَوْلِ الْعَرَبِ مَرْحَبًا: انْزِلْ فِي الرَّحْب والسَّعةِ، وأَقِمْ، فلَكَ عِندنا ذَلِكَ.

وَسُئِلَ الْخَلِيلُ عَنْ نَصْبِ مَرْحَبًا، فَقَالَ: فِيهِ كَمِينُ الفِعْل؛ أَراد: بِهِ انْزِلْ أَو أَقِمْ، فنُصِب بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، فَلَمَّا عُرِف مَعْنَاهُ الْمُرَادُ بِهِ، أُمِيتَ الفِعلُ.

قَالَ الأَزهري، وَقَالَ غَيْرُهُ، فِي قَوْلِهِمْ مَرْحَبًا: أَتَيْتَ أَو لَقِيتَ رُحْبًا وسَعةً، لَا ضِيقًا؛ وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ: سَهْلًا، أَراد: نَزَلْت بلَدًا سَهْلًا، لَا حَزْنًا غَلِيظًا.

شَمِرٌ: سَمِعْتُ ابْنَ الأَعرابي يَقُولُ: مَرْحَبَكَ اللهُ ومَسْهَلَكَ ومَرْحَبًا بِكَ اللهُ؛ ومَسْهَلًا بِكَ اللهُ وَتَقُولُ الْعَرَبُ: لَا مَرْحَبًا بِكَ أَي لَا رَحُبَتْ عَلَيْكَ بلادُك قَالَ: وَهِيَ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي تَقَعُ فِي الدُّعاءِ لِلرَّجُلِ وَعَلَيْهِ، نَحْوَ سَقْيًا ورَعْيًا، وجَدْعًا وعَقْرًا؛ يُرِيدُونَ سَقاكَ اللهُ ورَعاكَ اللهُ؛ وَقَالَ الفراءُ: مَعْنَاهُ رَحَّبَ اللهُ بِكَ مَرْحَبًا؛ كأَنه وُضِعَ مَوْضِعَ التَّرْحِيبِ.

ورَحَّبَ بِالرَّجُلِ تَرْحِيبًا: قَالَ لَهُ مَرْحَبًا؛ ورَحَّبَ بِهِ دَعَاهُ إِلى الرَّحْبِ والسَّعَةِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «قَالَ لِخُزَيمةَ بْنِ حُكَيْمٍ: مَرْحَبًا» أَي لَقِيتَ رَحْبًا وسَعةً؛ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ رَحَّبَ اللهُ بِكَ مَرْحَبًا؛ فجعلَ المَرْحَبَ مَوْضِعَ التَّرْحِيب.

ورَحَبَةُ المسجِد والدارِ، بِالتَّحْرِيكِ: ساحَتُهما ومُتَسَعُهما.

قَالَ سِيبَوَيْهِ: رَحَبَةٌ ورِحابٌ، كرَقَبةٍ ورِقابٍ، ورَحَبٌ ورَحَباتٌ.

الأَزهري، قَالَ الفراءُ: يُقَالُ للصَّحْراءِ بَيْنَ أَفْنِيَةِ الْقَوْمِ والمَسْجِد: رَحْبَةٌ ورَحَبَةٌ؛ وَسُمِّيَتِ الرَّحَبَةُ رَحَبَةً، لسَعَتِها بِمَا رَحُبَتْ أَي بِمَا اتَّسَعَتْ.

يُقَالُ: مَنْزِلٌ رَحِيبٌ ورَحْبٌ.

ورِحابُ الوادِي: مَسايِلُ الماءِ مِنْ جانِبَيْه فِيهِ، وَاحِدَتُهَا رَحَبةٌ.

ورَحَبَةُ الثُّمام: مُجْتَمَعُه ومَنْبِتُه.

ورَحائبُ التُّخوم: سَعةُ أَقْطارِ الأَرض.

والرَّحَبةُ: مَوضِعُ العِنَبِ، بِمَنْزِلَةِ الجَرينِ للتَّمر، وكلُّه مِنْ الِاتِّسَاعِ.

وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: الرَّحْبَةُ والرَّحَبةُ، وَالتَّثْقِيلُ أَكثر: أَرض واسِعةٌ، مِنْباتٌ، مِحْلالٌ.

وَكَلِمَةٌ شَاذَّةٌ تُحْكَى عَنْ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ: أَرَحُبَكُم الدُّخولُ فِي طاعةِ ابْنِ الكِرْمانِي أَي أَوَسِعَكم، فعَدَّى فَعُلَ، وَلَيْسَتْ مُتَعدِّيةً عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، إِلا أَن أَبا عَلِيٍّ الْفَارِسِيَّ حَكَى أَن هُذَيْلًا تُعَدِّيهَا إِذا كَانَتْ قَابِلَةً لِلتَّعَدِّي بِمَعْنَاهَا؛ كَقَوْلِهِ:

وَلَمْ تَبْصُرِ العَيْنُ فِيهَا كِلابا

قَالَ فِي الصِّحَاحِ: لَمْ يجئْ فِي الصَّحِيحِ فَعُلَ، بِضَمِّ الْعَيْنِ، مُتَعَدِّيًا غَيْرُ هَذَا.

وأَمَّا الْمُعْتَلُّ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: أَصل قُلْتُه قَوُلْتُه، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لأَنه لَا يَتَعَدَّى، وَلَيْسَ كَذَلِكَ طُلْته، أَلا تَرَى أَنك تَقُولُ طَوِيلٌ؟ الأَزهري، قَالَ اللَّيْثُ: هَذِهِ كَلِمَةٌ شَاذَّةٌ عَلَى فَعُلَ مُجاوِزٌ، وفَعُلَ لَا يَكُونُ مُجاوِزًا أَبدًا.

قَالَ الأَزهري: لَا يَجُوزُ رَحُبَكُم عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، وَنَصَرَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.

والرُّحْبَى، عَلَى بناءِ فُعْلَى: أَعْرَضُ ضِلَعٍ فِي الصدرِ، وإِنما يَكُونُ الناحِزُ فِي الرُّحْبَيَيْنِ، وَهُمَا مَرْجِعا المِرْفقين.

والرُّحْبَيانِ: الضِّلَعانِ اللَّتَانِ تَلِيانِ الإِبْطَيْنِ فِي أَعْلَى الأَضْلاع؛ وَقِيلَ: هُمَا مَرْجِعا المِرْفقين، وَاحِدُهُمَا رُحْبَى.

وَقِيلَ: الرُّحْبى مَا بَيْنَ مَغْرِز العُنق إِلى مُنْقَطَعِ الشَّراسِيف؛ وَقِيلَ: هِيَ مَا بَيْنَ ضِلَعَي أَصل العُنق إِلى مَرْجع الكَتِف.

والرُّحْبى: سِمةٌ تَسِمُ بِهَا العرَبُ عَلَى جَنْبِ البَعِير.

والرُّحَيْباءُ مِنَ الْفَرَسِ: أَعْلَى الكَشْحَيْنِ، وَهُمَا رُحَيْباوانِ.

الأَزهري: الرُحْبَى مَنْبِضُ القَلْبِ مِنَ الدَّوابِّ والإنسانِ أَي مكانُ نَبْض قَلْبِهِ وخَفَقانِه.

ورَحْبةُ مَالِكِ بْنِ طَوْقٍ: مَدينةٌ أَحْدَثَها مالكٌ عَلَى شاطِئِ الفُراتِ.

ورُحابةُ: موضعٌ معروفٌ.

ابْنُ شُمَيْلٍ: الرِّحابُ فِي الأَودية، الْوَاحِدَةُ رحْبةٌ، وَهِيَ مَوَاضِعُ مُتَواطِئةٌ يَسْتَنْقِعُ فِيهَا الماءُ، وَهِيَ أَسْرَعُ الأَرض نَبَاتًا، تَكُونُ عِنْدَ مُنْتَهَى الوادِي، وَفِي وَسَطِه، وَقَدْ تَكُونُ فِي المكانِ المُشْرِف، يَسْتَنْقِعُ فِيهَا الماءُ، وَمَا حَوْلَها مُشْرِفٌ عَلَيْهَا، وإِذا كَانَتْ فِي الأَرضِ المُسْتَوِيَةِ نزلَها الناسُ، وإِذا كَانَتْ فِي بَطْنِ المَسايِل لَمْ يَنْزلْها الناسُ؛ فإِذا كَانَتْ فِي بَطْنِ الْوَادِي، فَهِيَ أُقْنَةٌ أَي حُفْرةٌ تُمْسِكُ الماءَ، لَيْسَتْ بالقَعِيرة جِدًّا، وسَعَتُها قَدْرُ غلْوةٍ، والناسُ يَنْزِلُون نَاحِيَةً مِنْهَا، وَلَا تَكُونُ الرِّحابُ فِي الرَّمل، وَتَكُونُ فِي بُطُونِ الأَرضِ، وَفِي ظَواهِرِها.

وبنُو رَحْبةَ: بَطْنٌ مِن حِمْيَر.

وبنُو رَحَبٍ: بَطْن مِنْ هَمْدانَ.

وأَرْحَبُ: قَبِيلَةٌ مِنْ هَمْدانَ.

وبنُو أَرْحَبَ: بَطْنٌ مِنْ هَمْدانَ، إِليهم تُنْسَبُ النَّجائبُ الأَرْحَبِيَّةُ.

قَالَ الْكُمَيْتُ، شَاهِدًا عَلَى الْقَبِيلَةِ بَنِي أَرْحَبَ.

يَقُولونَ: لَمْ يُورَثْ، ولَوْلا تُراثُه، ***لَقَدْ شَرِكَتْ فِيهِ بَكِيلٌ وأَرْحَبُ

اللَّيْثُ: أَرْحَبُ حَيٌّ، أَو مَوْضِعٌ يُنْسَبُ إِليه النَّجائبُ الأَرْحَبِيَّةُ؛ قَالَ الأَزهري: وَيُحْتَمَلُ أَن يَكُونَ أَرْحَبُ فَحْلًا تُنْسَبُ إِليه النَّجَائِبُ، لأَنها مِنْ نَسْلِه.

والرَّحِيبُ: الأَكُولُ.

ومَرْحَبٌ: اسْمٌ.

ومَرْحَبٌ: فَرَسُ عبدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدٍ.

والرُّحابةُ: أُطُمٌ بِالْمَدِينَةِ؛ وَقَوْلُ النَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ:

وبعضُ الأَخِلَّاءِ، عِنْدَ البَلاءِ ***والرُّزْءِ، أَرْوَغُ مِنْ ثَعْلَبِ

وكيفَ تُواصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ ***خَلالَتُه كأَبِي مَرْحَبِ؟

أَراد كخَلالَةِ أَبي مَرْحَبٍ، يَعْنِي به الظِّلَّ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


201-لسان العرب (عبب)

عبب: العَبُّ: شُرْبُ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ مَصٍّ؛ وَقِيلَ: أَن يَشْرَبَ الماءَ وَلَا يَتَنَفَّس، وَهُوَ يُورِثُ الكُبادَ.

وَقِيلَ: العَبُّ أَن يَشْرَبَ الماءَ دَغْرَقَةً بِلَا غَنَثٍ.

الدَّغْرَقَةُ: أَن يَصُبَّ الماءَ مَرَّةً وَاحِدَةً.

والغَنَثُ: أَن يَقْطَعَ الجَرْعَ.

وَقِيلَ: العَبُّ الجَرعُ، وَقِيلَ: تَتابُعُ الجَرْعِ.

عَبَّه يَعُبُّه عَبًّا، وعَبَّ فِي الماءِ أَو الإِناءِ عَبًّا: كرَع؛ قَالَ:

يَكْرَعُ فِيهَا فَيَعُبُّ عَبّا، ***مُحَبَّبًا، فِي مَائِهَا، مُنْكَبَّا

وَيُقَالُ فِي الطَّائِرِ: عَبَّ، وَلَا يُقَالُ شرِبَ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «مُصُّوا الماءَ مَصًّا، وَلَا تَعُبُّوه عَبًّا»؛ العَبُّ: الشُّرْبُ بِلَا تَنَفُّس، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «الكُبادُ مِنَ العبِّ».

الكُبادُ: داءٌ يَعْرِضُ للكَبِدِ.

وَفِي حَدِيثِ الْحَوْضِ: «يَعُبُّ فِيهِ مِيزابانِ»أَي يَصُبّانِ فَلَا يَنْقَطِعُ انْصِبابُهما؛ هَكَذَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ؛ وَالْمَعْرُوفُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقَهَا.

والحمامُ يَشْرَبُ الْمَاءَ عَبًّا، كَمَا تَعُبُّ الدَّوابُّ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: الحمامُ مِنَ الطَّيْرِ مَا عَبَّ وهَدَر؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَمَامَ يَعُبُّ الْمَاءَ عَبًّا وَلَا يَشرب كَمَا يَشْرَبُ الطَّير شَيْئًا فَشَيْئًا.

وعَبَّتِ الدَّلْوُ: صَوَّتَتْ عِنْدَ غَرْفِ الْمَاءِ.

وتَعَبَّبَ النبيذَ: أَلَحَّ فِي شُرْبه، عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.

وَيُقَالُ: هُوَ يَتَعَبَّبُ النَّبِيذَ أَي يَتَجَرَّعُه.

وَحَكَى ابْنُ الأَعرابي: أَن الْعَرَبَ تَقُولُ: إِذا أَصابت الظِّباءُ الماءَ، فَلَا عَبابَ، وإِن لَمْ تُصِبْهُ فَلَا أَباب أَي إِن وَجَدَتْه لَمْ تَعُبَّ، وإِن لَمْ تَجِدْهُ لَمْ تَأْتَبَّ لَهُ، يَعْنِي لَمْ تَتَهَيَّأْ لِطَلَبِهِ وَلَا تَشْرَبْهُ؛ مِنْ قَوْلِكَ: أَبَّ للأَمر وائْتَبَّ لَهُ: تَهَيَّأَ.

وَقَوْلُهُمْ: لَا عَبابَ أَي لَا تَعُبّ فِي الْمَاءِ، وعُبَابُ كُلِّ شَيْءٍ: أَوَّلُه.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّا حَيٌّ مِنْ مَذحِجٍ، عُبَابُ سَلَفِها ولُبابُ شرَفِها».

عُبابُ الماءِ: أَوَّلهُ ومُعْظَمُه.

وَيُقَالُ: جاؤوا بعُبابهِم أَي جاؤوا بأَجمعهم.

وأَراد بسَلَفِهم مَنْ سَلَفَ مِنْ آبَائِهِمْ، أَو مَا سَلَفَ مِنْ عِزِّهم ومَجْدِهم.

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ يَصِفُ أَبا بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: «طِرْتَ بعُبابها وفُزْتَ بِحَبَابِهَا» أَي سبَقْتَ إِلى جُمَّة الإِسلام، وأَدْرَكْتَ أَوائلَه، وشَرِبتَ صَفْوَه، وحَوَيْتَ فَضائِلَه.

قَالَ ابْنُ الأَثير: هَكَذَا أَخرج الْحَدِيثَ الهَرَوي والخَطَّابيُّ وغيرُهما مِنْ أَصحاب الْغَرِيبِ.

وَقَالَ بعضُ فُضلاء المتأَخرين: هَذَا تَفْسِيرُ الْكَلِمَةِ عَلَى الصَّوَابِ، لَوْ ساعدَ النقلُ.

وَهَذَا هُوَ حَدِيثُ أُسَيْدِ بنِ صَفْوانَ، قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبو بَكْرٍ، جاءَ عليٌّ فَمَدَحَهُ، فَقَالَ فِي كَلَامِهِ: طِرْتَ بِغَنائها، بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالنُّونِ، وفُزْتَ بحِيائها، بالحاءِ الْمَكْسُورَةِ وَالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِهَا؛ هَكَذَا ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طُرُق فِي كِتَابِ: مَا قَالَتِ الْقَرَابَةُ فِي الصَّحَابَةِ، وَفِي كِتَابِهِ الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ ابنُ بَطَّة فِي الإِبانةِ.

والعُبابُ: الخُوصَةُ؛ قَالَ المَرّارُ:

رَوافِعَ للحِمَى مُتَصَفِّفاتٍ، ***إِذا أَمْسى، لصَيِّفه، عُبابُ

والعُبابُ: كَثْرَةُ الماءِ.

والعُبابُ: المَطَرُ الْكَثِيرُ.

وعَبَّ النَّبْتُ أَي طَالَ.

وعُبابُ السَّيْل: مُعْظمُه وارتفاعُه وَكَثْرَتُهُ؛ وَقِيلَ: عُبابُه مَوجُه.

وَفِي التَّهْذِيبِ: العُبابُ مُعْظَمُ السَّيْلِ.

ابْنُ الأَعرابي: العُبُبُ المياهُ الْمُتَدَفِّقَةُ.

والعُنْبَبُ: كَثْرَةُ الْمَاءِ، عَنِ ابْنِ الأَعرابي؛ وأَنشد:

فَصَبَّحَتْ، والشمسُ لَمْ تُقَضِّبِ، ***عَيْنًا، بغَضْيانَ، ثَجُوجَ العُنْبَبِ

ويُرْوى: نَجُوجَ.

قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: جَعَلَ العُنْبَبَ، الفُنْعَلَ، مِنَ العَبِّ، وَالنُّونُ لَيْسَتْ أَصلية، وَهِيَ كَنُونِ العُنْصَل.

والعَنْبَبُ وعُنْبَبٌ: كِلَاهُمَا وادٍ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَنه يَعُبُّ الماءَ، وَهُوَ ثُلَاثِيٌّ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وسيأْتي ذِكْرُهُ.

ابْنُ الأَعرابي: العُبَبُ عِنَبُ الثَّعلب، قَالَ: وشجَرَةٌ يُقَالُ لَهَا الرَّاءُ، مَمْدُودٌ؛ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: هُوَ العُبَبُ؛ وَمَنْ قَالَ عِنَبُ الثعلبِ، فَقَدْ أَخطأَ.

قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: عِنَبُ الثَّعْلَبِ صَحِيحٌ لَيْسَ بخطإٍ.

والفُرْسُ تُسَمِّيهِ: رُوسْ أَنْكَرْدَهْ.

ورُوسْ: اسْمُ الثَّعْلَبِ؛ وأَنْكَرْدَهْ: حَبُّ العِنَب.

ورُوِيَ عَنِ الأَصمعي أَنه قَالَ: الفَنا، مَقْصُورٌ، عِنَبُ الثَّعْلَبِ، فَقَالَ عِنَبُ وَلَمْ يَقُلْ عُبَبُ؛ قَالَ الأَزهري: وجَدْتُ بَيْتًا لأَبي وَجْزَة يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ الأَعرابي وَهُوَ:

إِذا تَرَبَّعْتَ، مَا بَينَ الشُّرَيْقِ إِلى ***أَرْضِ الفِلاجِ، أُولاتِ السَّرْحِ والعُبَبِ

والعُبَبُ: ضَرْبٌ مِنَ النَّبَاتِ؛ زَعَمَ أَبو حَنِيفَةَ أَنه مِنَ الأَغلاثِ.

وبَنُو العَبّابِ: قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ، سُمُّوا بِذَلِكَ لأَنهم خالَطوا فارِسَ، حَتَّى عَبَّتْ خيلُهم فِي الفُرات.

واليَعْبوبُ: الفَرَسُ الطويلُ السَّرِيعُ؛ وَقِيلَ: الكَثير الجَرْيِ؛ وَقِيلَ: الجوادُ السَّهْل فِي عَدْوه؛ وَهُوَ أَيضًا: الجَوادُ البعيدُ القَدْرِ فِي الجَرْي.

واليَعْبُوبُ: فرسُ الرَّبِيعِ بْنِ زِيَادٍ، صفةٌ غَالِبَةٌ.

واليَعْبُوبُ: الجَدْوَلُ الْكَثِيرُ الْمَاءِ، الشديدُ الجِريةِ، وَبِهِ شُبِّه الفَرَسُ الطويلُ اليَعْبُوبُ؛ وَقَالَ قُسٌّ:

عِذْقٌ بساحَةِ حائِرٍ يَعْبُوبِ

الْحَائِرُ: الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ الوَسَطِ، المرتفعُ الحُروف، يَكُونُ فِيهِ الماءُ، وَجَمْعُهُ حُورانٌ.

واليَعْبوبُ: الطويلُ؛ جَعَلَ يَعْبوبًا مِنْ نَعْتِ حَائِرٍ.

واليَعبوبُ: السَّحابُ.

والعَبِيبةُ: ضَرْبٌ مِنَ الطَّعام.

والعَبيبةُ أَيضًا: شرابٌ يُتَّخَذُ مِنَ العُرْفُطِ، حُلْوٌ.

وَقِيلَ: العَبيبةُ الَّتِي تَقْطُرُ مِنْ مَغافِيرِ العُرْفُطِ.

وعَبيبةُ اللَّثَى: غُسالَتُه؛ واللَّثَى: شيءٌ يَنْضَحُه الثُّمامُ، حُلْوٌ كالناطِفِ، فإِذا سَالَ مِنْهُ شيءٌ فِي الأَرض، أُخِذَ ثُمَّ جُعِلَ فِي إِناءٍ، وَرُبَّمَا صُبَّ عَلَيْهِ ماءٌ، فشُرِب حُلْوًا، وَرُبَّمَا أُعْقِدَ.

أَبو عُبَيْدٍ: العَبِيبةُ الرَّائِبُ مِنَ الأَلبان؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: هَذَا تَصْحِيفٌ مُنْكَر.

وَالَّذِي أَقرأَني الإِياديُّ عَنْ شَمِرٍ لأَبي عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْمُؤْتَلِفِ: الغَبيبةُ، بَالِغِينَ مُعْجَمَةٌ: الرَّائِبُ مِنَ اللَّبَنِ.

قَالَ: وَسَمِعْتُ الْعَرَبَ تَقُولُ للَّبنِ البَيُّوتِ فِي السِّقاءِ إِذا رابَ مِنَ الغَدِ: غَبِيبةٌ؛ والعَبيبةُ، بِالْعَيْنِ، بِهَذَا الْمَعْنَى، تَصْحِيفٌ فَاضِحٌ.

قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: رأَيتُ بِالْبَادِيَةِ جِنْسًا مِنَ الثُّمام، يَلْثَى صَمْغًا حُلْوًا، يُجْنى مِنْ أَغصانِه وَيُؤْكَلُ، يُقَالُ لَهُ: لَثَى الثُّمام، فإِن أَتَى عَلَيْهِ الزمانُ، تَناثر فِي أَصل الثُّمام، فيؤخَذُ بتُرابه، ويُجْعَلُ فِي ثَوْبٍ، ويُصَبُّ عَلَيْهِ الماءُ ويُشْخَلُ بِهِ أَي يُصَفَّى، ثُمَّ يُغْلى بالنارِ حَتَّى يَخْثرَ، ثُمَّ يُؤكل؛ وَمَا سَالَ مِنْهُ فَهُوَ العَبِيبَة؛ وَقَدْ تَعَبَّبْتُها أَي شَرِبْتُها.

وَقِيلَ: هُوَ عِرْقُ الصَّمْغِ، وَهُوَ حُلْو يُضْرَبُ بمِجْدَحٍ، حَتَّى يَنْضَجَ ثُمَّ يُشْرَبَ.

والعَبِيبةُ: الرِّمْثُ إِذا كَانَ فِي وَطاءٍ مِنَ الأَرض.

والعُبَّى، عَلَى مِثَالِ فُعْلى، عَنْ كُرَاعٍ: المرأَةُ الَّتِي لَا تَكادُ يموتُ لَهَا ولدٌ.

والعُبِّيَّة والعِبِّيَّةُ: الكِبْرُ والفَخْرُ.

حَكَى اللِّحْيَانِيُّ: هَذِهِ عُبِّيَّةُ قُريشٍ وعِبِّيَّةُ.

وَرَجُلٌ فِيهِ عُبِّيَّة وعِبِّيَّة أَي كِبر وَفَخْرٌ.

وعُبِّيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ: نَخْوَتُها.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِن اللَّهَ وضَعَ عَنْكم عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وتَعَظُّمَها بِآبَائِهَا»، يَعْنِي الكِبْرَ، بِضَمِّ الْعَيْنِ، وتُكْسَر.

وَهِيَ فُعُّولة أَو فُعِّيلة، فإِن كَانَ فُعُّولة، فَهِيَ مِنَ التَّعْبِيةِ، لأَن الْمُتَكَبِّرَ ذُو تَكَلُّفٍ وتَعْبِيَةٍ، خلافُ المُسترسِل عَلَى سَجِيَّتِه؛ وإِن كَانَتْ فُعِّيلَة، فَهِيَ مِنْ عُباب الماءِ، وَهُوَ أَوَّلُه وارتفاعُه؛ وَقِيلَ: إِن الباءَ قُلِبَتْ يَاءً، كَمَا فَعَلوا فِي تَقَضَّى الْبَازِي.

والعَبْعَبُ: الشَّبابُ التامُّ.

والعَبْعَبُ: نَعْمَةُ الشَّبابِ؛ قَالَ الْعَجَّاجُ:

بَعْدَ الجَمالِ والشَّبابِ العَبْعَبِ

وشبابٌ عَبْعَبٌ: تامٌّ.

وشابٌّ عَبْعَبٌ: مُمْتَلِئُ الشَّباب.

والعَبْعَبُ: ثَوْبٌ واسِعٌ.

والعَبْعَبُ: كِساءٌ غَلِيظٌ، كَثِيرُ الغَزْلِ، ناعمٌ يُعْمَلُ مِنْ وَبَرِ الإِبِلِ.

وَقَالَ اللَّيْثُ: العَبْعَبُ مِنَ الأَكْسِية، الناعمُ الرَّقِيقُ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

بُدِّلْتِ، بعدَ العُرْي والتَّذَعْلُبِ، ***ولُبْسِكِ العَبْعَبَ بعدَ العَبْعَبِ،

نَمارِقَ الخَزِّ، فَجُرِّي واسْحَبي

وَقِيلَ: كِساءٌ مُخَطَّطٌ؛ وأَنشد ابْنُ الأَعرابي:

تَخَلُّجَ المجنونِ جَرَّ العَبْعَبا

وَقِيلَ: هُوَ كِسَاءٌ مِنْ صُوفٍ.

والعَبْعَبَةُ: الصوفةُ الْحَمْرَاءُ.

والعَبْعَبُ: صَنَمٌ، وَقَدْ يُقَالُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ؛ وَرُبَّمَا سُمِّيَ موضعُ الصَّنَمِ عَبْعَبًا.

والعَبْعَبُ والعَبْعابُ: الطويلُ مِنَ النَّاسِ.

والعَبْعَبُ: التَّيسُ مِنَ الظِّباءِ.

وَفِي النَّوَادِرِ: تَعَبْعَبْتُ الشيءَ، وتَوَعَّبْتُه، واستوعبْتُه، وتَقَمْقَمْتُه، وتَضَمَّمْتُه إِذا أَتيتَ عَلَيْهِ كُلِّهِ.

ورجلٌ عَبْعابٌ قَبْقابٌ إِذا كَانَ واسِعَ الحَلْقِ والجَوْفِ، جليلَ الْكَلَامِ؛ وأَنشد شَمِرٌ:

بَعْدَ شَبابٍ عَبْعَبِ التَّصْوِيرِ

يَعْنِي ضَخمَ الصُّورة، جليلَ الْكَلَامِ.

وعَبْعَبَ إِذا انْهَزَمَ، وعَبَّ إِذا شَرِبَ، وعَبَّ إِذا حَسُنَ وجهُه بَعْدَ تَغيُّر، وعَبُ الشمسِ: ضُوءُها، بِالتَّخْفِيفِ؛ قَالَ:

ورَأْسُ عَبِ الشَّمْسِ المَخُوفُ ذِماؤُها وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: عَبُّ الشمسِ، فيشدِّد الْبَاءَ.

الأَزهري: عَبُّ الشمسِ ضَوءُ الصُّبْح.

الأَزهري، فِي تَرْجَمَةِ عَبْقَرَ، عِنْدَ إِنشاده: كأَنَّ فَاهَا عَبُّ قُرٍّ بارِدِ

قَالَ: وَبِهِ سُمِّيَ عَبْشَمْسٌ؛ وَقَوْلُهُمْ: عَبُّ شمسٍ؛ أَرادوا عَبْدَ شَمْسٍ.

قَالَ ابْنُ شُمَيْلٍ فِي سَعْدٍ: بَنُو عَبِّ الشَّمْسِ، وَفِي قريشٍ: بَنُو عبدِ الشمسِ.

ابْنُ الأَعرابي: عُبْ عُبْ إِذا أَمرته أَن يَسْتَتِر.

وعُباعِبُ: مَوْضِعٌ؛ قَالَ الأَعشى:

صَدَدْتَ، عَنِ الأَعْداءِ يومَ عُباعِبٍ، ***صُدودَ المَذاكي أَفْرَعَتْها المَساحِلُ

وعَبْعَبٌ: اسم رجل.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


202-لسان العرب (رسح)

رسح: الرَّسَحُ: خِفَّةُ الأَلْيَتَين وَلُصُوقُهُمَا.

رَجُلٌ أَرْسَحُ بَيِّنُ الرَّسَح: قَلِيلُ لَحْمِ الْعَجُزِ وَالْفَخِذَيْنِ، وامرأَة رَسْحاءُ؛ وَقَدْ رَسِحَ رَسَحًا.

وَفِي حَدِيثِ الْمُلَاعَنَةِ: «إِن جَاءَتْ بِهِ أَرْسَحَ، فَهُوَ لِفُلَانٍ»»؛ الأَرْسَحُ: الَّذِي لَا عَجُزَ لَهُ؛ وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَسْتَرْضِعُوا أَولادكم الرُّسْحَ وَلَا العُمْشَ، فإِن اللَّبَنَ يُورثُ الرَّسَحَ؛ اللَّيْثُ: الرَّسَحُ أَن لَا يَكُونَ للمرأَة عَجِيزَةٌ، وَقَدْ رَسِحَتْ رَسَحًا، وَهِيَ الزَّلَّاء والمِزْلاجُ.

والأَرْسَحُ: الذِّئْبُ، لِذَلِكَ، وَكُلُّ ذِئْبٍ أَرْسَحُ لأَنه خَفِيفُ الوَرِكَينِ، وَقِيلَ لامرأَةٍ مِنَ الْعَرَبِ: مَا بالُنا نراكُنَّ رُسْحًا؟ فَقَالَتْ: أَرْسَحَتْنا نارُ الزَّحْفَتَينِ.

وَقِيلَ للسِّمْع الأَزَلِّ: أَرْسَحُ.

والرَّسْحاءُ: الْقَبِيحَةُ مِنَ النِّسَاءِ، وَالْجَمْعُ رُسْحٌ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


203-لسان العرب (نصح)

نصح: نَصَحَ الشيءُ: خَلَصَ.

والناصحُ: الْخَالِصُ مِنَ الْعَسَلِ وَغَيْرِهِ.

وَكُلُّ شيءٍ خَلَصَ، فَقَدْ نَصَحَ؛ قَالَ ساعدةُ بْنُ جُؤَيَّةَ الْهُذَلِيُّ يَصِفُ رَجُلًا مَزَجَ عَسَلًا صَافِيًا بماءٍ حَتَّى تَفَرَّقَ فِيهِ:

فأَزالَ مُفْرِطَها بأَبيضَ ناصِحٍ، ***مِنْ ماءِ أَلْهابٍ، بهنَّ التَّأْلَبُ

وَقَالَ أَبو عَمْرٍو: النَّاصِحُ النَّاصِعُ فِي بَيْتِ ساعدة، قال: وَقَالَ النَّضْرُ أَراد أَنه فَرَّقَ بِهِ خَالِصَهَا وَرَدِيئَهَا بأَبيض مُفْرِطٍ أَي بِمَاءِ غَدِيرٍ مَمْلُوءٍ.

والنُّصْح: نَقِيضُ الغِشّ مُشْتَقٌّ مِنْهُ نَصَحه وَلَهُ نُصْحًا ونَصِيحة ونَصاحة ونِصاحة ونَصاحِيةً ونَصْحًا، وَهُوَ بِاللَّامِ أَفصح؛ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ}.

وَيُقَالُ: نَصَحْتُ لَهُ نَصيحتي نُصوحًا أَي أَخْلَصْتُ وصَدَقْتُ، وَالِاسْمُ النَّصِيحَةُ.

والنصيحُ: النَّاصِحُ، وَقَوْمٌ نُصَحاء؛ وَقَالَ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ:

نَصَحْتُ بَنِي عَوْفٍ فَلَمْ يَتَقَبَّلوا ***رَسُولي، وَلَمْ تَنْجَحْ لَدَيْهِمْ وَسائِلي

وَيُقَالُ: انْتَصَحْتُ فُلَانًا وَهُوَ ضِدُّ اغْتَشَشْتُه؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ:

أَلا رُبَّ مَنْ تَغْتَشُّه لَكَ ناصِحٌ، ***ومُنْتَصِحٍ بادٍ عَلَيْكَ غَوائِلُهْ

تَغْتَشُّه: تَعْتَدُّه غَاشًّا لَكَ.

وتَنْتَصِحُه: تَعْتَدُّه نَاصِحًا لَكَ.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وانْتَصَحَ فُلَانٌ أَي قَبِلَ النَّصِيحَةَ.

يُقَالُ: انْتَصِحْني إِنني لَكَ نَاصِحٌ؛ وأَنشده ابْنُ بَرِّيٍّ:

تقولُ انْتَصِحْني إِنني لَكَ ناصِحٌ، ***وَمَا أَنا، إِن خَبَّرْتُها، بأَمِينِ

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: هَذَا وَهَمٌ مِنْهُ لأَن انْتَصَحَ بِمَعْنَى قَبِلَ النَّصِيحَةَ لَا يتعدَّى لأَنه مُطَاوِعُ نَصَحْتُهُ فَانْتَصَحَ، كَمَا تَقُولُ رَدَدْتُهُ فارْتَدَّ، وسَدَدْتُه فاسْتَدَّ، ومَدَدْتُه فامْتَدَّ، فأَما انْتَصَحْتُهُ بِمَعْنَى اتَّخَذْتُهُ نَصِيحًا، فَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلى مَفْعُولٍ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ انتصحْني إِنني لَكَ نَاصِحٌ، يَعْنِي اتَّخِذْنِي نَاصِحًا لَكَ؛ ومنه قولهم: لا أُ ريد مِنْكَ نُصْحًا وَلَا انْتِصَاحًا أَي لَا أُريد مِنْكَ أَن تَنْصَحَنِي وَلَا أَن تَتَّخِذَنِي نَصِيحًا، فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ النُّصْح وَالِانْتِصَاحِ.

والنُّصْحُ: مَصْدَرُ نَصَحْتُه.

والانتصاحُ: مَصْدَرُ انْتَصَحْته أَي اتَّخَذْتُهُ نَصِيحًا، وَمَصْدَرُ انْتَصَحْتُ أَيضًا أَي قَبِلْتُ النَّصِيحَةَ، فَقَدْ صَارَ لِلِانْتِصَاحِ مَعْنَيَانِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِن الدِّينَ النصيحةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ ولأَئمة الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: النَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةٍ هِيَ إِرادة الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ، فَلَيْسَ يُمْكِنُ أَن يُعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تَجْمَعُ مَعْنَاهَا غَيْرُهَا.

وأَصل النُّصْحِ: الْخُلُوصُ.

وَمَعْنَى النصيحة لله: صِحَّةُ الِاعْتِقَادِ فِي وَحْدَانِيَّتِهِ وإِخلاص النِّيَّةِ فِي عِبَادَتِهِ.

وَالنَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللَّهِ: هُوَ التَّصْدِيقُ بِهِ وَالْعَمَلُ بِمَا فِيهِ.

وَنَصِيحَةُ رَسُولِهِ: التَّصْدِيقُ بِنُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ وَالِانْقِيَادُ لِمَا أَمر بِهِ وَنُهِيَ عَنْهُ.

وَنَصِيحَةُ الأَئمة: أَن يُطِيعَهُمْ فِي الْحَقِّ وَلَا يَرَى الْخُرُوجَ عَلَيْهِمْ إِذا جَارُوا.

وَنَصِيحَةُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ: إِرشادهم إِلى الْمَصَالِحِ؛ وَفِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ نظرٌ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ نَصِيحَةُ الأَئمة أَن يُطِيعَهُمْ فِي الْحَقِّ وَلَا يَرَى الْخُرُوجَ عَلَيْهِمْ إِذا جَارُوا، فأَيّ فَائِدَةٍ فِي تَقْيِيدِ لَفْظِهِ بِقَوْلِهِ يُطِيعُهُمْ فِي الْحَقِّ مَعَ إِطلاق قَوْلِهِ وَلَا يَرَى الْخُرُوجَ عَلَيْهِمْ إِذا جَارُوا؟ وإِذا مَنَعَهُ الْخُرُوجُ إِذا جَارُوا لَزِمَ أَن يُطِيعَهُمْ فِي غَيْرِ الْحَقِّ.

وتَنَصَّح أَي تَشَبَّه بالنُّصَحاء.

واسْتَنْصَحه: عَدَّه نَصِيحًا.

وَرَجُلٌ ناصحُ الجَيْب: نَقِيُّ الصَّدْرِ نَاصِحُ الْقَلْبِ لَا غِشَّ فِيهِ، كَقَوْلِهِمْ طَاهِرُ الثَّوْبِ، وَكُلُّهُ عَلَى الْمَثَلِ؛ قَالَ النَّابِغَةُ:

أَبْلِغِ الحرثَ بنَ هِنْدٍ بأَني ***ناصِحُ الجَيْبِ، بازِلٌ للثوابِ

وقومٌ نُصَّح ونُصَّاحٌ.

والتَّنَصُّح: كَثْرَةُ النُّصْحِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ: إِياكم وكثرةَ التَّنَصُّح فإِنه يُورِثُ التُّهَمَة.

وَالتَّوْبَةُ النَّصُوح: الْخَالِصَةُ، وَقِيلَ: هِيَ أَن لَا يَرْجِعَ الْعَبْدُ إِلى مَا تَابَ عَنْهُ؛ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {تَوْبَةً نَصُوحًا}؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: قرأَ أَهل الْمَدِينَةِ نَصُوحًا، بِفَتْحِ النُّونِ، وَذَكَرَ عَنْ عَاصِمٍ نُصُوحًا، بِضَمِّ النُّونِ؛ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كأَنّ الَّذِينَ قرأُوا نُصُوحًا أَرادوا الْمَصْدَرَ مِثْلَ القُعود، وَالَّذِينَ قرأُوا نَصُوحًا جَعَلُوهُ مِنْ صِفَةِ التَّوْبَةِ؛ وَالْمَعْنَى أَن يُحَدّث نَفْسَهُ إِذا تَابَ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ أَن لَا يَعُودُ إِليه أَبدًا، وَفِي حَدِيثِ أُبيّ: «سأَلت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ فَقَالَ: هِيَ الْخَالِصَةُ الَّتِي لَا يُعاوَدُ بَعْدَهَا الذنبُ»؛ وفَعُول مِنْ أَبنية الْمُبَالَغَةِ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ والأُنثى، فكأَنَّ الإِنسانَ بَالَغَ فِي نُصْحِ نَفْسِهِ بِهَا، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ النُّصْح وَالنَّصِيحَةِ.

وَسُئِلَ أَبو عَمْرٍو عَنْ نُصُوحًا فَقَالَ: لَا أَعرفه؛ قَالَ الْفَرَّاءُ وَقَالَ المفضَّل: بَاتَ عَزُوبًا وعُزُوبًا وعَرُوسًا وعُرُوسًا؛ وقال أَبو إِسحاق: توبةٌ نَصُوح بَالِغَةٌ فِي النُّصْح، وَمَنْ قرأَ نُصُوحًا فَمَعْنَاهُ يَنْصَحُون فِيهَا نُصوحًا.

وَقَالَ أَبو زَيْدٍ: نَصَحْتُه أَي صَدَقْتُه؛ وَمِنْهُ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ، وَهِيَ الصَّادِقَةُ.

والنِّصاحُ: السِّلكُ يُخاط بِهِ.

وَقَالَ اللَّيْثُ: النِّصاحة السُّلوك الَّتِي يُخَاطُ بِهَا، وَتَصْغِيرُهَا نُصَيِّحة.

وَقَمِيصٌ مَنْصُوح أَي مَخِيط.

وَيُقَالُ للإِبرة: المِنْصَحة فإِذا غَلُظَتْ، فَهِيَ الشُّعَيْرَةُ.

والنُّصْحُ: مَصْدَرُ قَوْلِكَ نَصَحْتُ الثوبَ إِذا خِطْتَه.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَمِنْهُ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اغتابَ خَرَقَ وَمَنِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ رَفَأَ.

ونَصَحَ الثوبَ وَالْقَمِيصَ يَنْصَحُه نَصْحًا وتَنَصَّحه: خَاطَهُ.

وَرَجُلٌ نَاصِحٌ وناصِحِيٌّ ونَصَّاحٌ: خَائِطٌ.

والنِّصاحُ: الخَيْطُ وَبِهِ سُمِّيَ الرَّجُلُ نِصاحًا، وَالْجَمْعُ نُصُحٌ ونِصاحةٌ، الْكَسْرَةُ فِي الْجَمْعِ غَيْرَ الْكَسْرَةِ فِي الْوَاحِدِ، والأَلف فِيهِ غَيْرُ الأَلف، وَالْهَاءُ لتأْنيث الْجَمْعِ.

والمِنْصَحة: المِخْيَطة.

والمِنْصَحُ: المِخْيَطُ.

وفي ثَوْبِهِ مُتَنَصِّحٌ لَمْ يُصلحه أَي مَوْضِعُ إِصلاح وَخِيَاطَةٍ، كَمَا يُقَالُ: إِن فِيهِ مُتَرَقَّعًا؛ قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:

ويُرْعِدُ إِرعادَ الهجِينِ أَضاعه، ***غَداةَ الشَّمالِ، الشُّمْرُخُ المُتَنَصَّحُ

وَقَالَ أَبو عَمْرٍو: المُتَنَصَّحُ المَخيطُ، وأَنشد بَيْتَ ابْنِ مُقْبِلٍ.

وأَرض مَنْصوحة: متصلة بالغيت كَمَا يُنْصَحُ الثوبُ، حَكَاهُ ابْنُ الأَعرابي؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَهَذِهِ عِبَارَةٌ رَدِيئَةٌ إِنما المَنْصُوحة الأَرض الْمُتَّصِلَةُ النَّبَاتِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، كأَنَّ تِلْكَ الجُوَبَ الَّتِي بَيْنَ أَشخاص النَّبَاتِ خِيطَتْ حَتَّى اتَّصَلَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ.

قَالَ النَّضْرُ: نَصَحَ الغيثُ البلادَ نَصْحًا إِذا اتَّصَلَ نَبْتُهَا فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضاء وَلَا خَلَلٌ؛ وَقَالَ غَيْرُهُ: نَصَحَ الغيثُ البلادَ ونَضَرها بِمَعْنًى وَاحِدٍ؛ وَقَالَ أَبو زَيْدٍ: الأَرض الْمَنْصُوحَةُ هِيَ المَجُودةُ نُصِحتْ نَصْحًا.

ونَصَحَ الرجلُ الرِّيَّ نَصْحًا إِذا شَرِبَ حَتَّى يَرْوى؛ وَكَذَلِكَ نَصَحتِ الإِبلُ الشُّرْبَ تَنْصَحُ نُصُوحًا: صَدَقَتْه.

وأَنْصَحْتُها أَنا: أَرويتها؛ قَالَ:

هَذَا مَقامِي لكِ حَتَّى تَنْصَحِي ***رِيًّا، وتَجْتازي بَلاطَ الأَبْطَحِ

وَيُرْوَى: حَتَّى تَنْضَحِي، بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَلَيْسَ بِالْعَالِي.

البَلاطُ: القاعُ.

وأَنْصَح الإِبلَ: أَرْواها.

والنِّصاحاتُ: الجلودُ؛ قَالَ الأَعشى يَصِفُ شَرْبًا:

فتَرى القومَ نَشاوى كلَّهُمْ، ***مِثْلَمَا مُدَّتْ نِصاحاتُ الرُّبَحْ

قَالَ الأَزهري: أَراد بالرُّبَحِ الرُّبَعَ فِي قَوْلِ بَعْضُهُمْ؛ وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الرُّبَحُ مِنْ أَولاد الْغَنَمِ، وَقِيلَ: هُوَ الطَّائِرُ الَّذِي يُسَمَّى بِالْفَارِسِيَّةِ زَاغَ؛ وَقَالَ المُؤَرِّج: النِّصاحاتُ حِبَالٌ يُجْعَلُ لَهَا حَلَقٌ وَتُنْصَبُ للقُرود إِذا أَرادوا صَيْدَهَا: يَعْمدُ رَجُلٌ فيجعلُ عِدّة حِبَالٍ ثُمَّ يأْخذ قِرْدًا فَيَجْعَلُهُ فِي حَبْلٍ مِنْهَا، وَالْقُرُودُ تَنْظُرُ إِليه مِنْ فَوْقِ الْجَبَلِ، ثُمَّ يَتَنَحَّى الْحَابِلُ فَتَنْزِلُ الْقُرُودُ فَتَدْخُلُ فِي تِلْكَ الْحِبَالِ وَهُوَ يَنْظُرُ إِليها مِنْ حَيْثُ لَا تَرَاهُ، ثُمَّ يَنْزِلُ إِليها فيأْخذ مَا نَشِبَ فِي الْحِبَالِ؛ قَالَ وَهُوَ قَوْلُ الأَعشى:

مِثْلَمَا مُدَّتْ نِصَاحَاتُ الربح

قال: والرُّبَحُ القرود وأَصلها الرُّباح.

وشَيْبَةُ بْنُ نِصاحٍ: رَجُلٌ مِنَ الْقُرَّاءِ.

والنَّصْحاء ومَنْصَح: مَوْضِعَانِ؛ قَالَ سَاعِدَةُ بْنُ جُؤَيَّةَ:

لهنَّ بِمَا بَيْنَ الأَصاغِي ومَنْصَحٍ ***تَعاوٍ، كَمَا عَجَّ الحَجِيحُ المُبَلِّدُ

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


204-لسان العرب (تلد)

تلد: التَّالِدُ: الْمَالُ الْقَدِيمُ الأَصلِيُّ الَّذِي وُلد عِنْدَكَ، وَهُوَ نَقِيضُ الطَّارِفِ.

ابْنُ سِيدَهْ: التَّلْدُ والتُّلْدُ والتِّلادُ والتَّلِيدُ والإِتْلادُ كالإِسْنامِ والمُتْلَدُ، الأَخيرة عَنِ ابْنِ جِنِّي: مَا وُلد عِنْدَكَ مِنْ مَالِكٍ أَو نُتج، وَلِذَلِكَ حَكَمَ يَعْقُوبُ أَن تَاءَهُ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ، وَهَذَا لَا يَقْوَى، لأَنه لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَرُدَّ فِي بَعْضِ تَصَارِيفِهِ إِلى الأَصل.

وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: هَذَا كُلُّهُ مِنَ الْوَاوِ فإِذا كَانَ

ذَلِكَ، فَهُوَ مُعْتَلٌّ؛ وَقِيلَ: التِّلاد كُلُّ مَالٍ قَدِيمٍ مِنْ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ يُورَثُ عَنِ الْآبَاءِ، وَهُوَ التَّالِدُ وَالتَّلِيدُ والمُتْلَدُ؛ قَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ خَيْلًا:

تَلائِدٌ نَحْنُ افْتَلَيْنا هُنَّهْ، ***نِعْمَ الحُصُونُ والعَتادُ هُنَّهْ

وتَلَدَ المالُ يَتْلِدُ ويَتْلُدُ تُلودًا وأَتْلَدَه هُوَ وأَتلد الرجلُ إِذا اتَّخَذَ مَالًا.

وَمَالٌ مُتْلَد وخُلُقٌ مُتْلَد: قديم؛ أَنشد ابْنُ الأَعرابي:

مَاذَا رُزِينا مِنْكِ أُمَّ مَعْبَدِ، ***مِنْ سَعَةِ الحِلْم وخُلْقٍ مُتْلَدِ

وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنه قَالَ فِي سُورَةِ بَنِي إِسرائيل والكهف ومريم وطه والأَنبياء: «هُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تِلادِي يَعْنِي السُّوَرَ» أَي مِنْ قَدِيمِ مَا أَخذتُ مِنَ الْقُرْآنِ، شَبَّهَهُنَّ بِتلاد الْمَالِ.

وَفِي رِوَايَةٍ أُخرى: آلُ حم مِنْ تِلادِي أَي مِنْ أَوّل مَا أَخذته وتعلمتُه بِمَكَّةَ.

وَفِي حَدِيثِ الْعَبَّاسِ: «فَهِيَ لَهُمْ تالِدةٌ بالِدةٌ يَعْنِي الْخِلَافَةَ»، والبالدُ إِتباع التَّالِد.

وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: رَجُلٌ تَلِيدٌ فِي قَوْمٍ تُلَداءَ وامرأَة تلِيد فِي نِسْوَةٍ تَلائِدَ وتُلُدٍ.

وتَلِدَ فِيهِمْ يَتْلَدُ: أَقام.

ابْنُ الأَعرابي: تَلَّدَ الرجلُ إِذا جَمَعَ وَمَنَعَ.

وَجَارِيَةٌ تلِيدة إِذا وَرِثَهَا الرَّجُلُ فإِذا وُلِدتْ عِنْدَهُ فَهِيَ وَلِيدَة.

وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ: أَن رَجُلًا اشْتَرَى جَارِيَةً وَشَرَطَ أَنها مُوَلَّدةٌ فَوَجَدَهَا تَليدَةً فَرَدَّهَا شُرَيْحٌ.

قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: التَّليدة هِيَ الَّتِي وُلدت بِبِلَادِ الْعَجَمِ وحُملت فنشأَت بِبِلَادِ الْعَرَبِ، والمُوَلَّدة بِمَنْزِلَةِ التِّلاد: وَهُوَ الَّذِي وُلد عِنْدَكَ؛ وَقِيلَ: المُوَلَّدَةُ الَّتِي وُلدت فِي بِلَادِ الإِسلام، وَالْحُكْمُ فِيهِ إِن كَانَ هَذَا الِاخْتِلَافُ يُؤَثِّرُ فِي الْغَرَضِ أَو الْقِيمَةِ وَجَبَ لَهُ الرَّد، وإِلَّا فلا؛ وَرُوِيَ عَنِ الأَصمعي أَنه قَالَ: التَّلِيدُ مَا وُلِدَ عِنْدَ غَيْرِكَ ثُمَّ اشْتَرَيْتَهُ صَغِيرًا فَثَبَتَ عِنْدَكَ، والتِّلادُ مَا وَلَدْتَ أَنت؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ أَهل مَكَّةَ يَقُولُ: تِلَادِي بِمَكَّةَ أَي مِيلَادِي.

ابْنُ شُمَيْلٍ: التَّلِيدُ الَّذِي وُلد عِنْدَكَ، وَهُوَ المُوَلَّد والأُنثى المُوَلَّدةُ، والمُوَلَّد والمُوَلَّدةُ وَالتَّلِيدُ وَاحِدٌ عِنْدَنَا، رَوَاهُ الْمَصَاحِفِيُّ عَنْهُ.

وَرَوَى شَمِرٌ عَنْهُ أَنه قَالَ: تِلادُ الْمَالِ مَا تَوالَدَ عِنْدَكَ فتَلِدَ مِنْ رَقِيقٍ أَو سَائِمَةٍ.

وَتَلِدَ فُلَانٌ عِنْدَنَا أَي وَلَدْنا أُمه وأَباه؛ قَالَ الأَعشى:

تَدِرُّ، عَلَى غَيْرِ أَسمائها، ***مُطَرَّفَةٌ بَعْدَ إِتْلادِها

يَقُولُ: كَانَتْ مِنْ تِلادِهم فَصَارَتْ طَارِفًا عِنْدَكَ حِينَ أَخذتها.

وتَلَدَ فُلَانٌ فِي بَنِي فُلَانٍ يَتْلُد: أَقام فِيهِمْ، وتَلَدَ بِالْمَكَانِ تَلُودًا أَي أَقام بِهِ.

وأَتْلَدَ أَي اتَّخَذَ الْمَالَ.

وَالتَّلِيدُ: الَّذِي وُلد بِبِلَادِ الْعَجَمِ ثُمَّ حُمِلَ صَغِيرًا فَثَبَتَ فِي بِلَادِ الإِسلام.

وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: «أَنها أَعتقت عَنْ أَخيها عَبْدِ الرَّحْمَنِ تِلادًا مِنْ تِلادها»، فإِنه مَاتَ فِي مَنَامِهِ؛ وَفِي نُسْخَةٍ تِلادًا مِنْ أَتلاده.

والأَتْلادُ: بُطُونٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، يُقَالُ لَهُمْ أَتْلادُ عُمانَ، وَذَلِكَ لأَنهم سَكَنُوهَا قَدِيمًا.

والتُّلْدُ: فَرْخُ العُقاب.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


205-لسان العرب (حرد)

حرد: الحَرْدُ: الجِد وَالْقَصْدُ.

حَرَدَ يَحْرِد، بِالْكَسْرِ، حَرْدًا: قَصَدَ.

وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ}؛ والحَرْدُ: الْمَنْعُ، وَقَدْ فُسِّرَتِ الْآيَةُ علىهَذَا، وحَرَّد الشيءَ: مَنَعَهُ؛ قال:

كأَن فِداءها، إِذا حَرَّدوُه ***أَطافوا حولَه، سلَكٌ يتيم

ويروى: جَرَّدوه أَي نَقَّوْهُ مِنَ التِّبْنِ.

ابْنُ الأَعرابي: الحَرْدُ: الْقَصْدُ، والحَرْدُ: الْمَنْعُ، والحَرْدُ الْغَيْظُ وَالْغَضَبُ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ؛ قَالَ: وَرُوِيَ فِي بَعْضِ التَّفْسِيرِ أَن قَرْيَتَهُمْ كَانَ اسْمُهَا حَرْدَ؛ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ، يُرِيدُ عَلَى حَدٍّ وقُدْرة فِي أَنفسهم.

وَتَقُولُ لِلرَّجُلِ: قَدْ أَقبلتُ قِبَلَكَ وَقَصَدْتُ قَصْدَكَ وحَرَدْتُ حَرْدَكَ؛ قَالَ وأَنشدت:

وَجَاءَ سيْل كَانَ مِنْ أَمر اللَّهْ، ***يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنَّةِ المُغِلَّهْ

يُرِيدُ: يَقْصِدُ قَصْدَهَا.

قَالَ وَقَالَ غَيْرُهُ: وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ، قَالَ: مَنَعُوا وَهُمْ قَادِرُونَ أَي وَاجِدُونَ، نُصِبَ قَادِرِينَ عَلَى الْحَالِ.

وَقَالَ الأَزهري فِي كِتَابِ اللَّيْثِ: وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ، قَالَ: عَلَى جِدٍّ مِنْ أَمرهم، قَالَ: وَهَكَذَا وَجَدْتُهُ مُقَيَّدًا وَالصَّوَابُ عَلَى حَدٍّ أَي عَلَى مَنْعٍ؛ قَالَ: هَكَذَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ.

وَرَجُلٌ حَرْدانُ: متنحٍّ مُعْتَزِلٌ، وحَرِدٌ مِنْ قَوْمٍ حِرادٍ وحَريدٌ مِنْ قَوْمٍ حُرَداءَ.

وامرأَة حَريدَةٌ، وَلَمْ يَقُولُوا حَرْدَى.

وَحَيٌّ حَريد: مُنْفَرِدٌ مُعْتَزِلٌ مِنْ جَمَاعَةِ الْقَبِيلَةِ وَلَا يُخَالِطُهُمْ فِي ارْتِحَالِهِ وَحُلُولِهِ، إِما مِنْ عِزَّتِهِمْ وإِما مِنْ ذِلَّتِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ.

وَقَالُوا: كُلُّ قَلِيلٍ فِي كَثِيرٍ: حَريدٌ؛ قَالَ جَرِيرٌ:

نَبني عَلَى سَنَنِ العَدُوِّ بُيُوتَنَا، ***لَا نَسْتَجِيرُ، وَلَا نَحُلُّ حَريدَا

يَعْنِي إِنَّا لَا نَنْزِلُ فِي قَوْمٍ مِنْ ضَعْفٍ وَذِلَّةٍ لِمَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْكَثْرَةِ.

وَقَدْ حَرَدَ يَحْرِدُ حُرودًا، الصِّحَاحُ: حَرَدَ يَحْرِدُ حُرودًا أَي تَنَحَّى وَتَحَوَّلَ عَنْ قَوْمِهِ وَنَزَلَ مُنْفَرِدًا لَمْ يُخَالِطْهُمْ؛ قَالَ الأَعشى يَصِفُ رَجُلًا شَدِيدَ الْغَيْرَةِ عَلَى امرأَته، فَهُوَ يَبْعُدُ بِهَا إِذا نَزَلَ الحيُّ قَرِيبًا مِنْ نَاحِيَتِهِ:

إِذا نَزَلَ الحيُّ حَلَّ الجَحِيشُ ***حَرِيدَ المَحَلِّ، غَويًّا غَيُورا

والجَحِيش: الْمُتَنَحِّي عَنِ النَّاسِ أَيضًا.

وَقَدْ حَرَدَ يَحْرِدُ حُرودًا إِذا تَرَكَ قَوْمَهُ وَتَحَوَّلَ عَنْهُمْ.

وَفِي حَدِيثِ صَعْصَعَةَ: «فَرُفِعَ لِي بَيْتٌ حَريدٌ»أَي مُنْتَبِذٌ مُتَنَحٍّ عَنِ النَّاسِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: تَحَرَّدَ الْجَمَلُ إِذا تَنَحَّى عَنِ الإِبل فَلَمْ يَبْرِكْ، وَهُوَ حَرِيدٌ فَرِيدٌ.

وكَوْكَبٌ حريدٌ: طَلَعَ مُنْفَرِدًا، وَفِي الصِّحَاحِ: مُعْتَزِلٌ عَنِ الْكَوَاكِبِ، وَالْفِعْلُ كَالْفِعْلِ وَالْمَصْدَرُ كَالْمَصْدَرِ؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

يَعْتَسِفَانِ الليلَ ذَا السُّدودِ، ***أَمًّا بِكُلِّ كَوْكَبٍ حَرِيدِ

وَرَجُلٌ حَريد: فَريد وحيدٌ.

والمُنحَرِد: الْمُنْفَرِدُ، فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ؛ قَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ:

كأَنه كَوْكَبٌ فِي الْجَوِّ مُنْحَرِدٌ

وَرَوَاهُ أَبو عَمْرٍو بِالْجِيمِ وَفَسَّرَهُ مُنْفَرِدٌ، وَقَالَ: هُوَ سُهَيْلٌ؛ وَمِنْهُ التَّحْرِيدُ فِي الشِّعْرِ وَلِذَلِكَ عُدَّ عَيْبًا لأَنه بُعْدٌ وَخِلَافٌ لِلنَّظِيرِ، وحَرِدَ عَلَيْهِ حَرَدًا وحَرَد يَحْرِدُ حَرْدًا: كِلَاهُمَا غَضِبَ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: فأَما سِيبَوَيْهِ فَقَالَ حَرِدَ حَرْدًا.

وَرَجُلٌ حَرِدٌ وَحَارِدٌ: غَضْبَانُ.

الأَزهري: الحَرْدُ جَزْمٌ، والحَرَدُ لُغَتَانِ.

يُقَالُ: حَرِدَ الرَّجُلُ، فَهُوَ حَرِدٌ إِذا اغْتَاظَ فَتَحَرَّشَ بِالَّذِي غَاظَهُ وهَمَّ بِهِ، فَهُوَ حَارِدٌ؛ وأَنشد:

أُسودُ شَرًى لاقتْ أُسُودَ خَفِيَّةٍ، ***تَساقَيْن سُمًّا، كلُّهُنَّ حَوارِدُ

قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ، وَقَالَ أَبو زيد والأَصمعي وأَبو عُبَيْدَةَ: الَّذِي سَمِعْنَا مِنَ الْعَرَبِ الْفُصَحَاءِ فِي الْغَضَبِ حَرِدَ يَحْرَدُ حَرَدًا، بِتَحْرِيكِ الرَّاءِ؛ قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: وسأَلت ابْنَ الأَعرابي عَنْهَا فَقَالَ: صَحِيحَةٌ، إِلا أَن المفضَّل أَخبر أَن مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ حَرِدَ حَرَدًا وحَرْدًا، وَالتَّسْكِينُ أَكثر والأُخرى فَصِيحَةٌ؛ قَالَ: وَقَلَّمَا يَلْحَنُ النَّاسُ فِي اللُّغَةِ.

الْجَوْهَرِيُّ: الحَرَدُ الْغَضَبُ؛ وَقَالَ أَبو نَصْرٍ أَحمد بْنُ حَاتِمٍ صَاحِبُ الأَصمعي: هُوَ مُخَفَّفٌ؛ وأَنشد للأَعرج الْمُغْنِي:

إِذا جِيَادُ الْخَيْلِ جَاءَتْ تَرْدِي، ***مَمْلُوءَةً مِنْ غَضَبٍ وحَرْدِ

وَقَالَ الْآخَرُ: يَلُوكُ مِنْ حَرْدٍ عليَّ الأُرَّمَا

قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: وَقَدْ يُحَرَّكُ فَيُقَالُ مِنْهُ حَرِدَ، بِالْكَسْرِ، فَهُوَ حَارِدٌ وحَرْدَانُ؛ وَمِنْهُ قِيلَ: أَسد حَارِدٌ وَلُيُوثٌ حَوَارِدُ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الَّذِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ حَرِدَ يَحْرَدُ حَرْدًا، بِسُكُونِ الرَّاءِ، إِذا غَضِبَ.

قَالَ: وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الأَصمعي وَابْنُ دريد وعلي بْنُ حَمْزَة؛ قَالَ: وَشَاهِدُهُ قَوْلُ الأَشهب بْنِ رُمَيْلَةَ:

أُسُودُ شَرًى لاقتْ أُسُودَ خَفِيَّةٍ، ***تَسَاقَوْا عَلَى حَرْدٍ دِماءَ الأَساوِدِ

وحارَدَتِ الإِبل حِرادًا أَي انْقَطَعَتْ أَلبانها أَو قلَّت؛ أَنشد ثَعْلَبٌ:

سَيَرْوِي عَقِيلًا رجْلُ ظَبْيٍ وعُلْبةٌ، ***تَمَطَّتْ بِهِ، مَصْلُوبَةٌ لَمْ تُحارِدِ

مَصْلُوبَةٌ: مَوْسُومَةٌ.

وَنَاقَةٌ مُحارِدٌ ومُحارِدَة: بَيِّنَةُ الحِرادِ؛ وَاسْتَعَارَهُ بَعْضُهُمْ لِلنِّسَاءِ فَقَالَ:

وبِتْنَ عَلَى الأَعْضادِ مُرْتَفِقاتِها؛ ***وحارَدْنَ إِلَّا مَا شَرِبْنَ الحَمائما

يَقُولُ: انْقَطَعَتْ أَلبانهنّ إِلا أَن يَشْرَبْنَ الْحَمِيمَ وَهُوَ الْمَاءُ يُسَخِّنَّه فَيَشْرَبْنَهُ، وإِنما يُسَخِّنَّه لأَنهنّ إِذا شَرِبْنَهُ بَارِدًا عَلَى غَيْرِ مأْكول عَقَر أَجوافهن.

وَنَاقَةٌ مُحارِدٌ، بِغَيْرِ هَاءٍ: شَدِيدَةُ الحِراد؛ وَقَالَ الْكُمَيْتُ:

وحَارَدَتِ النُّكْدُ الجِلادُ، وَلَمْ يَكُنْ، ***لعُقْبَةِ قِدرِ المُسْتَعيرينَ، مُعْقِبُ

النَّكْدُ: الَّتِي مَاتَتْ أَولادها.

وَالْجِلَادُ: الْغِلَاظُ الْجُلُودِ، الْقِصَارُ الشُّعُورِ، الشِّدَادُ الْفُصُوصِ، وَهِيَ أَقوى وأَصبر وأَقل لَبَنًا مِنَ الخُورِ، والخُورُ أَغزر وأَضعف.

وَالْحَارِدُ: الْقَلِيلَةُ اللَّبن مِنَ النُّوق.

والحَرُودُ مِنَ النُّوقِ: الْقَلِيلَةُ الدرِّ.

وَحَارَدَتِ السَّنَةُ: قَلَّ مَاؤُهَا وَمَطَرُهَا، وَقَدِ اسْتُعِيرَ فِي الْآنِيَةِ إِذا نَفِدَ شَرَابُهَا؛ قَالَ:

وَلَنَا باطيةٌ مملوءةٌ، ***جَونَةٌ يَتْبَعُهَا بِرْزِينُها

فإِذا مَا حارَدَتْ أَو بَكَأَتْ، ***فُتّ عَنْ حاجِبِ أُخرى طِينُها

الْبِرْزِينُ: إِناء يُتَّخَذُ مِنْ قِشْرِ طَلْعِ الفُحَّالِ يُشْرَبُ بِهِ.

والحَرَدُ: دَاءٌ فِي الْقَوَائِمِ إِذا مَشَى البعيرُ نفَض قَوَائِمَهُ فَضَرَبَ بِهِنَّ الأَرض كَثِيرًا؛ وَقِيلَ: هُوَ دَاءٌ يأْخذ الإِبل مِنَ العِقالِ فِي الْيَدَيْنِ دُونَ الرِّجْلَيْنِ.

بَعِيرٌ أَحْرَدُ وَقَدْ حَرِدَ حَرَدًا، بِالتَّحْرِيكِ لَا غَيْرُ؛ وَبَعِيرٌ أَحْرَدُ: يَخْبِطُ بِيَدَيْهِ إِذا مِشى خَلْفَهُ؛ وَقِيلَ: الحَرَدُ أَن يَيْبَسَ عَصَبُ إِحدى الْيَدَيْنِ مِنَ العِقال وَهُوَ فَصِيلٌ، فإِذا مَشى ضَرَبَ بِهِمَا صدرَه؛ وَقِيلَ: الأَحْرَدُ الَّذِي إِذا مَشَى رَفَعَ قَوَائِمَهُ رَفْعًا شَدِيدًا وَوَضَعَهَا مَكَانَهَا مِنْ شَدَّةِ قَطافَتِه، يَكُونُ فِي الدَّوَابِّ وَغَيْرِهَا، والحَرَدُ مَصْدَرُهُ.

الأَزهري: الحَرَدُ فِي الْبَعِيرِ حَادِثٌ لَيْسَ بِخِلْقَةٍ.

وَقَالَ ابْنُ شُمَيْلٍ: الحَرَدُأَن تَنْقَطِعَ عَصَبَةُ ذِرَاعِ الْبَعِيرِ فَتَسترخي يَدُهُ فَلَا يَزَالُ يَخْفِقُ بِهَا أَبدًا، وإِنما تَنْقَطِعُ الْعَصَبَةُ مِنْ ظَاهِرِ الذِّرَاعِ فَتَرَاهَا إِذا مَشَى الْبَعِيرُ كأَنها تَمُدُّ مَدًّا مِنْ شِدَّةِ ارْتِفَاعِهَا مِنَ الأَرض وَرَخَاوَتِهَا، والحَرَدُ إِنما يَكُونُ فِي الْيَدِ، والأَحْرَدُ يُلَقِّفُ؛ قَالَ: وَتَلْقِيفُهُ شِدَّةُ رَفْعِهِ يَدَهُ كأَنما يَمُدّ مَدًّا كَمَا يَمُدُّ دَقَّاقُ الأَرز خَشَبَتَهُ الَّتِي يدُق بِهَا، فَذَلِكَ التَّلْقِيفُ.

يُقَالُ: جَمَلٌ أَحْرَدُ وَنَاقَةٌ حَرْداءُ؛ وأَنشد:

إِذا مَا دُعيتمْ لِلطِّعانِ أَجَبْتُمُ، ***كَمَا لَقَّفَتْ زُبٌّ شآمِيَةٌ حُرْدُ

الْجَوْهَرِيُّ: بَعِيرٌ أَحرد وَنَاقَةٌ حَرْدَاءُ، وَذَلِكَ أَن يَسْتَرْخِيَ عَصَبُ إِحدى يَدَيْهِ مِنْ عِقال أَو يَكُونَ خِلْقَةً حَتَّى كأَنه يَنْفُضُهَا إِذا مَشَى؛ قَالَ الأَعشى:

وأَذْرَتْ بِرِجْلَيْهَا النَّفيَّ، وراجَعَتْ ***يَداها خِنافًا لَيِّنًا غيرَ أَحْردِ

وَرَجُلٌ أَحرد إِذا ثَقُلَتْ عَلَيْهِ الدِّرْعُ فَلَمْ يَسْتَطِعِ الانبساطَ فِي الْمَشْيِ، وَقَدْ حَرِدَ حَرَدًا؛ وأَنشد الأَزهري:

إِذا مَا مَشَى فِي دِرْعِهِ غيرَ أَحْرَدِ

والمُحَرَّدُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: المُعَوَّجُ.

وتَحْرِيد الشَّيْءِ: تَعْوِيجُهُ كَهَيْئَةِ الطَّاقِ.

وحَبْلٌ مُحَرَّد إِذا ضُفِرَ فَصَارَتْ لَهُ حُرُوفٌ لِاعْوِجَاجِهِ.

وحَرَّدَ حَبْلَهُ: أَدرج فَتْلَه فَجَاءَ مُسْتَدِيرًا، حَكَاهُ أَبو حَنِيفَةَ.

وَقَالَ مُرَّةُ: حَبْلٌ حَرِدٌ مِنَ الحَرَدِ غَيْرُ مُستوي القُوَى.

قَالَ الأَزهري: سَمِعْتُ الْعَرَبَ تَقُولُ لِلْحَبْلِ إِذا اشْتَدَّتْ غارةُ قُواه حَتَّى تَتَعَقَّدَ وَتَتَرَاكَبَ: جَاءَ بِحَبْلٍ فِيهِ حُرُودٌ، وَقَدْ حَرَّدَ حَبْلَهُ.

والحُرْدِيُّ والحُرْدِيَّةُ: حِيَاصَةُ الْحَظِيرَةِ الَّتِي تُشَدُّ عَلَى حَائِطِ الْقَصَبِ عَرْضًا؛ قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: هِيَ نَبَطِيَّةٌ وَقَدْ حَرَّده تَحْرِيدًا، وَالْجَمْعُ الحَراديُّ.

الأَزهري: حَرَّدَ الرجُلُ إِذا أَوى إِلى كُوخٍ.

ابْنُ الأَعرابي: يُقَالُ لِخَشَبِ السَّقْفِ الرَّوافِدُ، وَيُقَالُ لِمَا يَلْقَى عَلَيْهَا مِنْ أَطيان الْقَصَبِ حَرادِيُّ.

وغُرْفَةٌ مُحَرَّدَةٌ: فِيهَا حَرَادِيُّ الْقَصَبِ عَرْضًا.

وَبَيْتٌ مُحَرّد: مسنَّم، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ كُوخ، والحُرْدِيُّ مِنَ الْقَصَبِ، نَبَطِيٌّ معرَّب، وَلَا يُقَالُ الهُرْدِيُّ.

وحَرِدَ الوَتَرُ حَرَدًا، فَهُوَ حَرِدٌ إِذا كَانَ بعضُ قُواه أَطولَ مِنْ بَعْضٍ.

والمُحَرَّدُ مِنَ الأَوتار: الحَصَدُ الَّذِي يَظْهَرُ بَعْضُ قُوَاهُ عَلَى بَعْضٍ وَهُوَ المُعَجَّرُ.

والحِرْدُ: قِطْعَةٌ مِنَ السَّنام؛ قَالَ الأَزهري: لَمْ أَسمع بِهَذَا لِغَيْرِ اللَّيْثِ وَهُوَ خطأٌ إِنما الحِرْدُ الْمِعَى.

حَكَى الزُّهْرِيُّ: أَن بَريدًا مِنْ بَعْضِ الْمُلُوكِ جَاءَ يسأَله عَنْ رَجُلٍ مَعَهُ مَا مَعَ المرأَة كَيْفَ يُوَرَّثُ؟ قَالَ: مِنْ حَيْثُ يَخْرُجُ الْمَاءُ الدَّافِقُ؛ فَقَالَ فِي ذَلِكَ قَائِلُهُمْ:

ومُهِمَّةٍ أَعيا القضاةَ قَضَاؤُهَا، ***تَذَرُ الفقيهَ يَشُكُّ مِثلَ الْجَاهِلِ

عَجَّلْتَ قَبْلَ حَنِيذِهَا بِشِوائها، ***وقطعتَ مُحْرَدَها بِحُكْمٍ فَاصِلِ

المحرَدُ: المُقَطَّعُ.

يُقَالُ: حَرَدْتُ مِنْ سَنام الْبَعِيرِ حَرْدًا إِذا قَطَعْتَ مِنْهُ قِطْعَةً؛ أَراد أَنك عَجَّلْتَ الْفَتْوَى فِيهَا وَلَمْ تستأْن فِي الْجَوَابِ، فَشَبَّهَهُ بِرَجُلٍ نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ فَعَجَّلَ قِرَاهُ بِمَا قَطَعَ لَهُ مِنْ كَبِد الذَّبِيحَةِ وَلَحْمِهَا، وَلَمْ يَحْبِسْهُ عَلَى الْحَنِيذِ وَالشِّوَاءِ؛ وَتَعْجِيلُ الْقِرَى عِنْدَهُمْ مَحْمُودٌ وَصَاحِبُهُ مَمْدُوحٌ.

والحِرْدُ، بِالْكَسْرِ: مَبْعَرُ الْبَعِيرِ وَالنَّاقَةِ، وَالْجَمْعُ حُرود.

وأَحرادُ الإِبل: أَمعاؤها، وَخَلِيقٌ أَن يَكُونَ وَاحِدُهَا حِرْدًا لِوَاحِدِ الحُرود الَّتِي هِيَ مَبَاعِرُهَا لأَنالمباعر والأَمعاء متقاربة؛ وأَنشد ابْنُ الأَعرابي:

ثُمَّ غَدَتْ تَنْبِضُ أَحرادُها، ***إِنْ مُتَغَنَّاةً وإِنْ حادِيَهْ

تَنْبِضُ: تَضْطَرِبُ.

مُتَغَنَّاةً: مُتَغَنِّيَةٌ وَهَذَا كَقَوْلِهِمُ النَّاصَاةُ فِي النَّاصِيَةِ، وَالْقَارَاةُ فِي الْقَارِيَةِ.

الأَصمعي: الحُرود مُبَاعِرُ الإِبل، وَاحِدُهَا حِرْدٌ وحِرْدَة، بِكَسْرِ الْحَاءِ.

قَالَ شَمِرٌ وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: الحُرود الأَمعاء؛ قَالَ وأَقرأَنا لَابْنِ الرِّقَاع:

بُنِيَتْ عَلَى كَرِشٍ، كأَنَّ حُرودَها ***مُقُطٌ مُطَوَّاةٌ، أُمِرَّ قُواها

وَرَجُلٌ حُرْدِيٌّ: وَاسْعُ الأَمعاء.

وَقَالَ يُونُسُ: سَمِعْتُ أَعرابيًّا يسأَل يَقُولُ: مَن يَتَصَدَّقُ عَلَى الْمِسْكِينِ الحَرِد؟ أَي الْمُحْتَاجِ.

وَتَحَرَّدَ الأَديمُ: أَلقى مَا عَلَيْهِ مِنَ الشَّعَرِ.

وقَطًا حُرْدٌ: سِراعٌ؛ قَالَ الأَزهري: هَذَا خطأٌ وَالْقَطَا الحُرْدُ القصارُ الأَرجل وَهِيَ مَوْصُوفَةٌ بِذَلِكَ؛ قَالَ: وَمِنْ هَذَا قِيلَ لِلْبَخِيلِ أَحْرَدُ الْيَدَيْنِ أَي فِيهِمَا انْقِبَاضٌ عَنِ الْعَطَاءِ؛ قَالَ: وَمِنْ هَذَا قَوْلِ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ}، أَي عَلَى مَنْعٍ وَبُخْلٍ.

والحَريد: السَّمَكُ المُقَدَّد؛ عَنْ كُرَاعٍ.

وأَحراد، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْحَاءِ وَدَالٍ مُهْمَلَةٍ: بِئْرٌ قَدِيمَةٌ بِمَكَّةَ لَهَا ذِكْرٌ فِي الْحَدِيثِ.

أَبو عُبَيْدَةَ: حَرْدَاءُ، عَلَى فَعْلَاءَ مَمْدُودَةً، بَنُو نهشل بن الحرث لَقَبٌ لُقِّبُوا بِهِ: وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:

لَعَمْرُ أَبيك الخيْرِ، مَا زَعْمُ نَهْشَل ***وأَحْرادها، أَن قَدْ مُنُوا بِعَسِير

فَجَمَعَهُمْ عَلَى الأَحراد كما ترى.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


206-لسان العرب (رشد)

رشد: فِي أَسماء اللَّهِ تَعَالَى الرشيدُ: هُوَ الَّذِي أَرْشَد الْخَلْقَ إِلى مَصَالِحِهِمْ أَي هَدَاهُمْ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهَا، فَعِيل بِمَعْنَى مُفْعل؛ وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي تَنْسَاقُ تَدْبِيرَاتُهُ إِلى غَايَاتِهَا عَلَى سَبِيلِ السَّدَادِ مِنْ غَيْرِ إِشارة مُشِيرٍ وَلَا تَسْديد مُسَدِّد.

الرُّشْد والرَّشَد والرَّشاد: نَقِيضُ الْغَيِّ.

رَشَد الإِنسان، بِالْفَتْحِ، يَرْشُد رُشْدًا، بِالضَّمِّ، ورَشِد، بِالْكَسْرِ، يَرْشَد رَشَدًا ورَشادًا، فَهُوَ راشِد ورَشيد، وَهُوَ نَقِيضُ الضَّلَالِ، إِذا أَصاب وَجْهَ الأَمر وَالطَّرِيقِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي»؛ الراشدُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ رَشَد يَرْشُد رُشْدًا، وأَرْشَدته أَنا.

يُرِيدُ بِالرَّاشِدِينَ أَبا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَرِضْوَانُهُ، وإِن كَانَ عَامًّا فِي كُلِّ مَنْ سَارَ سِيرَتَهم مِنَ الأَئمة.

ورَشِدَ أَمرَه: رَشِدَ فِيهِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا يُنْصَبُ عَلَى تَوَهُّمِ رَشَدَ أَمرَه، وإِن لَمْ يُسْتَعْمَلْ هَكَذَا.

وَنَظِيرُهُ: غَبِنْتَ رأْيَك وأَلِمْتَ بطنَك ووفِقْتَ أَمرَك وبَطِرْتَ عَيْشَكَ وسَفِهْتَ نفسَك.

وأَرشَدَه اللَّهُ وأَرشَدَه إِلى الأَمر ورشَّده: هَدَاهُ.

واستَرْشَده: طَلَبَ مِنْهُ الرُّشْدَ.

وَيُقَالُ: استَرْشَد فُلَانٌ لأَمره إِذا اهْتَدَى لَهُ، وأَرشَدْتُه فَلَمْ يَسْتَرْشِد.

وَفِي الْحَدِيثِ: «وإِرشاد الضَّالِّ» أَي هِدَايَتُهُ الطريقَ وَتَعْرِيفُهُ.

والرَّشَدى: اسْمٌ لِلرَّشَادِ.

إِذا أَرشدك إِنسان الطَّرِيقِ فَقُلْ: لَا يَعْمَ عَلَيْكَ الرُّشْد.

قال

أَبو مَنْصُورٍ: وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ رَشَدَ يَرْشُدُ ورَشِدَ يَرْشَد بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي الْغَيِّ وَالضَّلَالِ.

وَالْإِرْشَادُ: الْهِدَايَةُ وَالدَّلَالَةُ.

والرَّشَدى: مِنَ الرُّشْدِ؛ وأَنشد الأَحمر:

لَا نَزَلْ كَذَا أَبدا، ***ناعِمين فِي الرَّشَدى

وَمِثْلُهُ: امرأَة غَيَرى مِنَ الغَيْرَة وحَيَرى مِنَ التحير.

وقوله تعالى: {يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ}، أَي أَهدكم سبيلَ القصدِ سبيلَ اللَّهِ وأُخْرِجْكم عَنْ سَبِيلِ فِرْعَوْنَ.

والمَراشِدُ: الْمَقَاصِدُ؛ قَالَ أُسامة بْنُ حَبِيبٍ الْهُذَلِيُّ:

تَوَقَّ أَبا سَهْمٍ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ***مِنَ اللَّهِ واقٍ، لَمْ تُصِبْه المَراشِد

وَلَيْسَ لَهُ وَاحِدٌ إِنما هُوَ مِنْ بَابِ محاسِنَ وملامِحَ.

والمراشِدُ: مقاصِدُ الطُّرُقِ.

والطريقُ الأَرْشَد نَحْوَ الأَقصد.

وَهُوَ لِرِشْدَة، وَقَدْ يُفْتَحُ، وَهُوَ نَقِيضُ زِنْيَة.

وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنِ ادَّعَى وَلَدًا لِغَيْرِ رِشْدَة فَلَا يرِث وَلَا يُورِثُ».

يُقَالُ: هَذَا وَلَدُ رِشْدَة إِذا كَانَ لِنِكَاحٍ صَحِيحٍ، كَمَا يُقَالُ فِي ضِدِّهِ: وَلد زِنْية، بِالْكَسْرِ فِيهِمَا، وَيُقَالُ بِالْفَتْحِ وَهُوَ أَفصح اللُّغَتَيْنِ؛ الْفَرَّاءُ فِي كِتَابِ الْمَصَادِرِ: وُلِدَ فُلَانٌ لِغَيْرِ رَشْدَةٍ، وَوُلِدَ لِغَيَّةٍ ولِزَنْيةٍ، كُلُّهَا بِالْفَتْحِ؛ وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: يَجُوزُ لِرِشْدَة ولِزَنْيةٍ؛ قَالَ: وَهُوَ اخْتِيَارُ ثَعْلَبٍ فِي كِتَابِ الْفَصِيحِ، فأَما غَيَّة، فَهُوَ بِالْفَتْحِ.

قَالَ أَبو زَيْدٍ: قَالُوا هُوَ لِرَشْدة ولِزِنْية، بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالزَّايِ مِنْهُمَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ قَالَ اللَّيْثُ وأَنشد:

لِذِي غَيَّة مِنْ أُمِّهِ ولِرَشْدة، ***فَيَغْلِبها فَحْلٌ عَلَى النَّسْلِ مُنْجِبُ

وَيُقَالُ: يَا رِشْدينُ بِمَعْنَى يا راشد؛ وقال ذُو الرُّمَّةِ:

وكائنْ تَرى مِنْ رَشْدة فِي كَرِيهَةٍ، ***وَمِنْ غَيَّةٍ يُلْقَى عَلَيْهِ الشراشرُ

يَقُولُ: كَمْ رُشد لَقَيْتُهُ فِيمَا تَكْرَهُهُ وَكَمْ غَيّ فِيمَا تُحِبُّهُ وَتَهْوَاهُ.

وَبَنُو رَشدان: بَطْنٌ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يسمَّوْن بَنِي غَيَّان فأَسماهم سَيِّدُنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي رَشْدان؛ وَرَوَاهُ قَوْمٌ بَنُو رِشْدان، بِكَسْرِ الرَّاءِ؛ وَقَالَ لِرَجُلٍ: مَا اسْمُكَ؟ فَقَالَ: غَيَّان، فَقَالَ: بَلْ رَشدان، وإِنما قَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، رَشْدان عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ لِيُحَاكِيَ بِهِ غَيَّان؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَهَذَا وَاسِعٌ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يُحَافِظُونَ عَلَيْهِ ويَدَعون غَيْرَهُ إِليه، أَعني أَنهم قَدْ يُؤْثِرُونَ الْمُحَاكَاةَ وَالْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ الأَلفاظ تَارِكِينَ لِطَرِيقِ القياس، كَقَوْلِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

ارجِعْنَ مأْزورات غَيْرَ مأْجورات، وَكَقَوْلِهِمْ: عَيْناء حَوراء مِنَ الْحِيرِ الْعِينِ، وإِنما هُوَ الحُور فآثَروا قَلْبَ الْوَاوِ يَاءً فِي الْحُورِ إِتباعًا لِلْعِينِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: إِني لَآتِيُهُ بِالْغَدَايَا وَالْعَشَايَا، جَمَعُوا الْغَدَاةَ عَلَى غَدَايَا إِتباعًا لِلْعَشَايَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ تَكْسِيرُ فُعْلة عَلَى فَعائل، وَلَا تَلْتَفِتَنَّ إِلى مَا حَكَاهُ ابْنُ الأَعرابي مِنْ أَن الْغَدَايَا جَمْعُ غَدِيَّة فإِنه لَمْ يَقُلْهُ أَحد غَيْرُهُ، إِنما الْغَدَايَا إِتباع كَمَا حَكَاهُ جَمِيعُ أَهل اللُّغَةِ، فإِذا كَانُوا قَدْ يَفْعَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ مُحْتَشِمِينَ مِنْ كَسْرِ الْقِيَاسِ، فأَن يَفْعَلُوهُ فِيمَا لَا يَكْسِرُ الْقِيَاسَ أَسوغ، أَلا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ: رأَيت زَيْدًا، فَيُقَالُ: مَنْ زَيْدًا؟ وَمَرَرْتُ بِزَيْدٍ، فَيُقَالُ: مَنْ زَيْدٍ؟ وَلَا عُذْرَ فِي ذَلِكَ إِلا مُحَاكَاةُ اللَّفْظِ؛ وَنَظِيرُ مُقَابَلَةِ غَيَّان بِرَشْدان لِيُوَفِّقَ بني الصِّيغَتَيْنِ اسْتِجَازَتُهُمْ تَعْلِيقَ فِعْل عَلَى فاعِل لَا يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ، لِتَقَدُّمِ تعليق فِعْل على فاعل يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ الفِعْل، وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُحَاكَاةِ، كَقَوْلِهِ تعالى: {إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ}، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ؛ وَالِاسْتِهْزَاءُ مِنَ الْكُفَّارِ حَقِيقَةً، وَتَعْلِيقُهُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَجَازٌ، جَلَّ رَبُّنَا وَتَقَدَّسَ عَنِ الِاسْتِهْزَاءِ بَلْ هُوَ الْحَقُّ وَمِنْهُ الْحَقُّ؛ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {يُخادِعُونَ اللَّهَ}، وَهُوَ خادِعُهُمْ؛ والمُخادَعة مِنْ هَؤُلَاءِ فِيمَا يُخَيَّلُ إِليهم حَقِيقَةً، وَهِيَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَجَازٌ، إِنما الِاسْتِهْزَاءُ والخَدع مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مكافأَة لَهُمْ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:

أَلا لَا يَجْهَلَنْ أَحدٌ عَلَيْنَا، ***فنَجْهَلَ فوقَ جَهْلِ الجاهِلينا

أَي إِنما نكافئهُم عَلَى جَهْلهم كَقَوْلِهِ تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ}؛ وَهُوَ بَابٌ وَاسِعٌ كَبِيرٌ.

وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ يسمَّوْن بَنِي زِنْية فَسَمَّاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَنِي رِشْدة.

والرَّشاد وَحَبُّ الرَّشَادِ: نَبْتٌ يُقَالُ لَهُ الثُّفَّاء؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: أَهل الْعِرَاقِ يَقُولُونَ للحُرْف حَبُّ الرَّشَادِ يَتَطَيَّرُونَ مِنْ لَفْظِ الحُرْف لأَنه حِرْمان فَيَقُولُونَ حَبُّ الرَّشَادِ؛ قَالَ: وَسَمِعْتُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُ لِلْحَجَرِ الَّذِي يملأُ الْكَفَّ الرَّشادة، وَجَمْعُهَا الرَّشاد، قَالَ: وَهُوَ صَحِيحٌ.

وراشِدٌ ومُرْشِد ورُشَيْد ورُشْد ورَشاد: أَسماء.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


207-لسان العرب (بحر)

بحر: البَحْرُ: الماءُ الكثيرُ، مِلْحًا كَانَ أَو عَذْبًا، وَهُوَ خِلَافُ البَرِّ، سُمِّيَ بذلك لعُمقِهِ واتساعه، قد غَلَبَ عَلَى المِلْح حَتَّى قَلّ فِي العَذْبِ، وَجَمْعُهُ أَبْحُرٌ وبُحُورٌ وبِحارٌ.

وماءٌ بَحْرٌ: مِلْحٌ، قَلَّ أَو كَثُرَ؛ قَالَ نُصَيْبٌ:

وَقَدْ عادَ ماءُ الأَرضِ بَحْرًا فَزادَني، ***إِلى مَرَضي، أَنْ أَبْحَرَ المَشْرَبُ العَذْبُ

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: هَذَا القولُ هُوَ قولُ الأُمَوِيّ لأَنه كَانَ يَجْعَلُ الْبَحْرَ مِنَ الْمَاءِ الْمِلْحِ فَقَطْ.

قَالَ: وَسُمِّيَ بَحْرًا لِمُلُوحَتِهِ، يُقَالُ: ماءٌ بَحْرٌ أَي مِلْحٌ، وأَما غَيْرُهُ فَقَالَ: إِنما سُمِّيَ البَحْرُ بَحْرًا لِسِعَتِهِ وَانْبِسَاطِهِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ إِن فُلَانًا لَبَحْرٌ أَي وَاسِعُ الْمَعْرُوفِ؛ قَالَ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ البحرُ للملْح والعَذْبِ؛ وشاهدُ الْعَذْبِ قولُ ابْنِ مُقْبِلٍ:

ونحنُ مَنَعْنا البحرَ أَنْ يَشْرَبُوا بِهِ، ***وَقَدْ كانَ مِنْكُمْ مَاؤُهُ بِمَكَانِ

وَقَالَ جَرِيرٌ:

أَعْطَوْا هُنَيْدَةَ تَحْدُوها ثمانِيَةٌ، ***مَا فِي عطائِهِمُ مَنٌّ وَلَا سَرَفُ

كُومًا مَهارِيسَ مثلَ الهَضْبِ، لَوْ وَرَدَتْ ***ماءَ الفُراتِ، لَكادَ البَحْرُ يَنْتَزِفُ

وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ:

وتَذَكَّرْ رَبَّ الخَوَرْنَقِ إِذْ أَشْرَفَ ***يَوْمًا، وللْهُدَى تَذْكِيرُ

سَرَّه مالُهُ وكَثْرَةُ ما يَمْلِكُ، ***والبحرُ مُعْرِضًا والسَّدِيرُ

أَراد بِالْبَحْرِ هَاهُنَا الْفُرَاتَ لأَن رَبَّ الْخَوَرْنَقِ كَانَ يشرِفُ عَلَى الْفُرَاتِ؛ وَقَالَ الْكُمَيْتُ:

أُناسٌ، إِذا وَرَدَتْ بَحْرَهُمْ ***صَوادِي العَرائِبِ، لَمْ تُضْرَبِ

وَقَدْ أَجمع أَهل اللُّغَةِ أَن اليَمَّ هُوَ الْبَحْرُ.

وجاءَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ: فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ؛ قَالَ أَهل التَّفْسِيرِ: هُوَ نِيلُ مِصْرَ، حَمَاهَا اللَّهُ تَعَالَى.

ابْنُ سِيدَهْ: وأَبْحَرَ الماءُ صَارَ مِلْحًا؛ قَالَ: وَالنَّسَبُ إِلى الْبَحْرِ بَحْرانيٌّ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ.

قَالَ سِيبَوَيْهِ: قَالَ الْخَلِيلُ: كأَنهم بَنَوُا الِاسْمَ عَلَى فَعْلان.

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُكَرَّمِ: شَرْطِي فِي هَذَا الْكِتَابِ أَن أَذكر مَا قَالَهُ مُصَنِّفُو الْكُتُبِ الْخَمْسَةِ الَّذِينَ عَيَّنْتُهُمْ فِي خُطْبَتِهِ، لَكِنَّ هَذِهِ نُكْتَةٌ لَمْ يَسَعْنِي إِهمالها.

قَالَ السُّهَيْلِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: {زَعَمَ ابْنُ سِيدَهْ فِي كِتَابِ الْمُحْكَمِ أَن الْعَرَبَ تَنْسُبُ إِلى الْبَحْرِ بَحْرانيّ}، عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وإِنه مِنْ شَوَاذِّ النِّسَبِ، وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْلَ إِلى سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ قَطُّ، وإِنما قَالَ فِي شَوَاذِّ النِّسَبِ: تَقُولُ فِي بَهْرَاءَ بَهْرَانِيٌّ وَفِي صَنْعَاءَ صَنْعَانِيٌّ، كَمَا تَقُولُ بَحْرَانِيٌّ فِي النَّسَبِ إِلَى الْبَحْرِينِ الَّتِي هِيَ مَدِينَةٌ، قَالَ: وَعَلَى هَذَا تلقَّاه جَمِيعُ النُّحَاةِ وتأَوَّلوه مِنْ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، قَالَ: وإِنما اشْتَبَهَ عَلَى ابْنِ سِيدَهْ لِقَوْلِ الْخَلِيلِ فِي هَذِهِ المسأَلة أَعني مسأَلة النِّسَبِ إِلى الْبَحْرِينِ، كأَنهم بَنَوُا الْبَحْرَ عَلَى بَحْرَانَ، وإِنما أَراد لَفْظَ الْبَحْرِينِ، أَلا تَرَاهُ يَقُولُ فِي كِتَابِ الْعَيْنِ: تَقُولُ بَحْرَانِيٌّ في النسب إِلى البحرين، وَلَمْ يَذْكُرِ النَّسَبَ إِلى الْبَحْرِ أَصلًا، لِلْعِلْمِ بِهِ وأَنه عَلَى قِيَاسٍ جَارٍ.

قَالَ: وَفِي الْغَرِيبِ الْمُصَنَّفِ عَنِ الزَّيْدِيِّ أَنه قَالَ: إِنما قَالُوا بَحْرانيٌّ فِي النسب إِلى البَحْرَيْنِ، ولم يَقُولُوا بَحْرِيٌّ لِيُفَرِّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّسَبِ إِلَى الْبَحْرِ.

قَالَ: وَمَا زَالَ ابْنُ سِيدَهْ يَعْثَرُ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ عَثَرَاتٍ يَدْمَى مِنْهَا الأَظَلُّ، ويَدْحَضُ دَحَضَات تُخْرِجُهُ إِلى سَبِيلِ مَنْ ضَلَّ، أَلا تَرَاهُ قَالَ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَذَكَرَ بُحَيْرَة طَبَرَيَّة فَقَالَ: هِيَ مِنْ أَعلام خُرُوجِ الدَّجَّالِ وأَنه يَيْبَسُ ماؤُها عِنْدَ خُرُوجِهِ، وَالْحَدِيثُ إِنما جَاءَ فِي غَوْرِ زُغَرَ، وإِنما ذُكِرَتْ طَبَرِيَّةُ فِي حَدِيثِ يأْجوج ومأْجوج وأَنهم يَشْرَبُونَ مَاءَهَا؛ قَالَ: «وَقَالَ فِي الجِمَار فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ: إِنما هِيَ الَّتِي تُرْمَى بِعَرَفَةَ وَهَذِهِ هَفْوَةٌ لَا تُقَالُ»، وَعَثْرَةٌ لَا لَعًا لَهَا؛ قَالَ: وَكَمْ لَهُ مِنْ هَذَا إِذا تَكَلَّمَ فِي النِّسَبِ وَغَيْرِهِ.

هَذَا آخِرُ مَا رأَيته مَنْقُولًا عَنِ السُّهَيْلِيِّ.

ابْنُ سِيدَهْ: وكلُّ نَهْرٍ عَظِيمٍ بَحْرٌ.

الزَّجَّاجُ: وَكُلُّ نَهْرٍ لَا يَنْقَطِعُ ماؤُه، فَهُوَ بَحْرٌ.

قَالَ الأَزهري: كُلُّ نَهْرٍ لَا يَنْقَطِعُ مَاؤُهُ مِثْلُ دِجْلَةَ والنِّيل وَمَا أَشبههما مِنَ الأَنهار الْعَذْبَةِ الْكِبَارِ، فَهُوَ بَحْرٌ.

وأَما الْبَحْرُ الْكَبِيرُ الَّذِي هُوَ مَغِيضُ هَذِهِ الأَنهار فَلَا يَكُونُ ماؤُه إِلَّا مِلْحًا أُجاجًا، وَلَا يَكُونُ مَاؤُهُ إِلَّا رَاكِدًا؛ وأَما هَذِهِ الأَنهار الْعَذْبَةُ فماؤُها جَارٍ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الأَنهار بِحَارًا لأَنها مَشْقُوقَةٌ فِي الأَرض شَقًّا.

وَيُسَمَّى الْفَرَسُ الْوَاسِعُ الجَرْي بَحْرًا؛ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْدُوبٍ فَرَسِ أَبي طَلْحَةَ وَقَدْ رَكِبَهُ عُرْيًا: إِني وَجَدْتُهُ بَحْرًا أَي وَاسِعَ الجَرْي؛ قَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ لِلْفَرَسِ الْجَوَادُ إِنه لَبَحْرٌ لَا يُنْكَش حُضْرُه.

قَالَ الأَصمعي: يُقَالُ فَرَسٌ بَحْرٌ وفَيضٌ وسَكْبٌ وحَتٌّ إِذا كَانَ جَوَادًا كثيرَ العَدْوِ وَفِي الْحَدِيثِ: «أَبَى ذَلِكَ البَحرُ ابنُ عَبَّاسٍ»؛ سُمِّيَ" بَحْرًا لِسِعَةِ عِلْمِهِ وَكَثْرَتِهِ.

والتَّبَحُّرُ والاستِبْحَارُ: الِانْبِسَاطُ والسَّعة.

وَسُمِّيَ البَحْرُ بَحْرًا لاسْتبحاره، وَهُوَ انْبِسَاطُهُ وَسِعَتُهُ.

وَيُقَالُ: إِنما سُمِّيَ البَحْر بَحْرًا لأَنه شَقَّ فِي الأَرض شَقًّا وَجَعَلَ ذَلِكَ الشَّقَّ لِمَائِهِ قَرَارًا.

والبَحْرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الشَّقُّ.

وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: «وَحَفَرَ زَمْزَمَ ثُمَّ بَحَرَها بَحرًا»أَي شقَّها ووسَّعها حَتَّى لَا تُنْزَفَ؛ وَمِنْهُ قِيلَ لِلنَّاقَةِ الَّتِي كَانُوا يَشُقُّونَ فِي أُذنها شَقًّا: بَحِيرَةٌ.

وبَحَرْتُ أُذنَ النَّاقَةِ بَحْرًا: شَقَّقْتُهَا وَخَرَقْتُهَا.

ابْنُ سِيدَهْ: بَحَرَ الناقةَ والشاةَ يَبْحَرُها بَحْرًا شقَّ أُذنها بِنِصْفَين، وَقِيلَ: بِنِصْفَيْنِ طُولًا، وَهِيَ البَحِيرَةُ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ بِهِمَا ذَلِكَ إِذا نُتِجَتا عشرةَ أَبْطن فَلَا يُنْتَفَع مِنْهُمَا بِلَبَنٍ وَلَا ظَهْرٍ، وتُترك البَحِيرَةُ تَرْعَى وَتَرِدُ الْمَاءَ ويُحَرَّمُ لَحْمُهَا عَلَى النِّسَاءِ، ويُحَلَّلُ لِلرِّجَالِ، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ؛ قَالَ: وَقِيلَ البَحِيرَة مِنَ الإِبل الَّتِي بُحِرَتْ أُذنُها أَي شُقت طُولًا، وَيُقَالُ: هِيَ الَّتِي خُلِّيَتْ بِلَا رَاعٍ، وَهِيَ أَيضًا الغَزِيرَةُ، وجَمْعُها بُحُرٌ، كأَنه يُوهِمُ حَذْفَ الْهَاءِ.

قَالَ الأَزهري: قَالَ أَبو إِسحاق النَّحْوِيُّ: أَثْبَتُ مَا رَوَيْنَا عَنْ أَهل اللُّغَةِ فِي البَحِيرَة أَنها النَّاقَةُ كَانَتْ إِذا نُتِجَتْ خَمْسَةَ أَبطن فَكَانَ آخِرُهَا ذَكَرًا، بَحَرُوا أُذنها أَي شَقُّوهَا وأَعْفَوا ظَهْرَهَا مِنَ الرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ وَالذَّبْحِ، وَلَا تُحلأُ عَنْ مَاءٍ تَرِدُهُ وَلَا تُمْنَعُ مِنْ مَرْعًى، وإِذا لَقِيَهَا المُعْيي المُنْقَطَعُ بِهِ لَمْ يَرْكَبْهَا.

وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَن أَوَّل مَنْ بَحَرَ البحائرَ وحَمَى الحامِيَ وغَيَّرَ دِين إِسماعيل عَمْرُو بْنُ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَة بنِ جُنْدُبٍ»؛ وَقِيلَ: البَحِيرَةُ الشَّاةُ إِذا وَلَدَتْ خَمْسَةَ أَبطُن فَكَانَ آخِرُهَا ذَكَرًا بَحَرُوا أُذنها أَي شَقُّوهَا وتُرِكَت فَلَا يَمَسُّها أَحدٌ.

قَالَ الأَزهري: وَالْقَوْلُ هُوَ الأَوَّل لِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبي الأَحوص الجُشَمِيِّ عَنْ أَبيه أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «أَرَبُّ إِبلٍ أَنتَ أَم ربُّ غَنَمٍ؟ فَقَالَ: مِنْ كلٍّ قَدْ آتَانِي اللهُ فأَكْثَرَ، فَقَالَ: هَلْ تُنْتَجُ إِبلُك وَافِيَةً آذانُها فَتَشُقُّ فِيهَا وَتَقُولُ بُحُرٌ؟»يُرِيدُ بِهِ جَمْعَ البَحِيرة.

وَقَالَ الْفَرَّاءُ: البَحِيرَةُ هِيَ ابْنَةُ السَّائِبَةِ، وَقَدْ فَسَّرْتُ السَّائِبَةَ فِي مَكَانِهَا؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَحُكْمُهَا حُكْمُ أُمها.

وَحَكَى الأَزهري عَنِ ابْنِ عَرَفَةَ: البَحيرة النَّاقَةُ إِذا نُتِجَتْ خمسةَ أَبطن وَالْخَامِسُ ذَكَرٌ نَحَرُوهُ فأَكله الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وإِن كَانَ الْخَامِسُ أُنثى بَحَروا أُذنها أَي شَقُّوهَا فَكَانَتْ حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ لَحْمُهَا وَلَبَنُهَا وَرُكُوبُهَا، فإِذا مَاتَتْ حَلَّتْ لِلنِّسَاءِ؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «فَتَقْطَعُ آذانَها فتقُولُ بُحُرٌ»؛ وأَنشد شَمِرٌ لِابْنِ مُقْبِلٍ:

فِيهِ مِنَ الأَخْرَجِ المُرْتَاعِ قَرْقَرَةٌ، ***هَدْرَ الدَّيامِيِّ وَسْطَ الهجْمَةِ البُحُرِ

البُحُرُ: الغِزارُ.

والأَخرج: المرتاعُ المُكَّاءٌ.

وَوَرَدَ ذِكْرُ البَحِيرة فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: كَانُوا إِذا وَلَدَتْ إِبلهم سَقْبًا بَحَروا أُذنه أَي شَقُّوهَا، وَقَالُوا: اللَّهُمَّ إِن عَاشَ فَقَنِيٌّ، وإِن مَاتَ فَذَكيٌّ؛ فإِذا مَاتَ أَكلوه وَسَمَّوْهُ الْبَحِيرَةَ، وَكَانُوا إِذا تَابَعَتِ النَّاقَةُ بَيْنَ عَشْرِ إِناث لَمْ يُرْكب ظهرُها، وَلَمْ يُجَزّ وَبَرُها، وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنَها إِلا ضَيْفٌ، فَتَرَكُوهَا مُسَيَّبَةً لِسَبِيلِهَا وسمُّوها السَّائِبَةَ، فَمَا وُلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أُنثى شَقُّوا أُذنها وخلَّوا سَبِيلَهَا، وَحَرُمَ مِنْهَا مَا حَرُمَ مِنْ أُمّها، وسَمّوْها البحِيرَةَ، وجمعُ البَحِيرَةِ عَلَى بُحُرٍ جمعٌ غريبٌ فِي الْمُؤَنَّثِ إِلا أَن يَكُونَ قَدْ حَمَلَهُ عَلَى الْمُذَكِّرِ، نَحْوَ نَذِيرٍ ونُذُرٍ، عَلَى أَن بَحِيرَةً فَعَيْلَةٌ بِمَعْنَى مُفَعْوِلَةٍ نَحْوَ قَتِيلَةٍ؛ قَالَ: وَلَمْ يُسْمَعْ فِي جَمْعٍ مِثْلِهِ فُعُلٌ، وَحَكَى الزمَخْشري بَحِيرَةٌ وبُحُرٌ وصَريمَةٌ وصُرُمٌ، وَهِيَ الَّتِي صُرِمَتْ أُذنها أَي قُطِعَتْ.

واسْتَبْحَرَ الرَّجُلُ فِي الْعِلْمِ وَالْمَالِ وتَبَحَّرَ: اتَّسَعَ وَكَثُرَ مَالُهُ.

وتَبَحَّرَ فِي الْعِلْمِ: اتَّسَعَ.

واسْتَبْحَرَ الشاعرُ إِذا اتَّسَعَ فِي القولِ؛ قَالَ الطِّرِمَّاحُ:

بِمِثْلِ ثَنائِكَ يَحْلُو الْمَدِيحُ، ***وتَسْتَبْحِرُ الأَلسُنُ المادِحَهْ

وَفِي حَدِيثِ مَازِنٍ: «كَانَ لَهُمْ صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ باحَر»، بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَيُرْوَى بِالْجِيمِ.

وتَبَحَّر الرَّاعِي فِي رعْيٍ كَثِيرٍ: اتَّسَعَ، وكلُّه مِنَ البَحْرِ لِسِعَتِهِ.

وبَحِرَ الرجلُ إِذا رأَى الْبَحْرَ فَفَرِقَ حَتَّى دَهِشَ، وَكَذَلِكَ بَرِقَ إِذا رأَى سَنا البَرْقِ فَتَحَيَّرَ، وبَقِرَ إِذا رأَى البَقَرَ الكثيرَ، وَمِثْلُهُ خَرِقَ وعَقِرَ.

ابْنُ سِيدَهْ: أَبْحَرَ القومُ رَكِبُوا البَحْرَ.

وَيُقَالُ للبَحْرِ الصَّغِيرِ: بُحَيْرَةٌ كأَنهم تَوَهَّمُوا بَحْرَةً وإِلا فَلَا وَجْهَ لِلْهَاءِ، وأَما البُحَيْرَةُ الَّتِي فِي طَبَرِيَّةَ وَفِي الأَزهري الَّتِي بِالطَّبَرِيَّةِ فإِنها بَحْرٌ عَظِيمٌ نَحْوَ عَشَرَةِ أَميال فِي سِتَّةِ أَميال وغَوْرُ مَائِهَا، وأَنه ".

عَلَامَةٌ لِخُرُوجِ الدَّجَّالِ تَيْبَس حَتَّى لَا يَبْقَى فِيهَا قَطْرَةُ مَاءٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَا قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ فِي هَذَا الْمَعْنَى.

وَقَوْلُهُ: يَا هادِيَ الليلِ جُرْتَ إِنما هُوَ البَحْرُ أَو الفَجْرُ؛ فَسَّرَهُ ثَعْلَبٌ فَقَالَ: إِنما هُوَ الْهَلَاكُ أَو تَرَى الْفَجْرَ، شَبَّهَ اللَّيْلَ بِالْبَحْرِ.

وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إِنما هُوَ الفَجْرُ أَو البَجْرُ»، وَقَدْ تَقَدَّمَ؛ وَقَالَ: مَعْنَاهُ إِن انْتَظَرْتَ حَتَّى يُضِيءَ الْفَجْرُ أَبصرت الطريق، وإِن خبطت الظلماء أَفضت بِكَ إِلى الْمَكْرُوهِ.

قَالَ: وَيُرْوَى الْبَحْرُ، بِالْحَاءِ، يُرِيدُ غَمَرَاتِ الدُّنْيَا شَبَّهَهَا بِالْبَحْرِ لِتَحَيُّرِ أَهلها فِيهَا.

والبَحْرُ: الرجلُ الكريمُ الكثيرُ الْمَعْرُوفُ.

وفَرسٌ بَحْرٌ: كَثِيرُ العَدوِ، عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْبَحْرِ.

والبَحْرُ: الرِّيفُ، وَبِهِ فَسَّرَ أَبو عَلِيٍّ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}؛ لأَن الْبَحْرَ الَّذِي هُوَ الْمَاءُ لَا يَظْهَرُ فِيهِ فَسَادٌ وَلَا صَلَاحٌ؛ وَقَالَ الأَزهري: مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَجدب الْبَرُّ وَانْقَطَعَتْ مَادَّةُ الْبَحْرِ بِذُنُوبِهِمْ، كَانَ ذَلِكَ لِيَذُوقُوا الشدَّة بِذُنُوبِهِمْ فِي الْعَاجِلِ؛ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ ظَهَرَ الْجَدْبُ فِي الْبِرِّ وَالْقَحْطُ في مُدُنِ الْبَحْرِ الَّتِي عَلَى الأَنهار؛ وَقَوْلُ بَعْضِ الأَغفال:

وأَدَمَتْ خُبْزِيَ مِنْ صُيَيْرِ، ***مِنْ صِيرِ مِصْرَيْنِ، أَو البُحَيْرِ

قَالَ: يَجُوزُ أَن يَعْني بالبُحَيْرِ الْبَحْرَ الَّذِي هُوَ الرِّيفُ فَصَغَّرَهُ لِلْوَزْنِ وَإِقَامَةِ الْقَافِيَةِ.

قَالَ: وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ قَصَدَ البُحَيْرَةَ فَرَخَّمَ اضْطِرَارًا.

وَقَوْلُهُ: مِنْ صُيَيْر مِن صِيرِ مِصْرَيْنِ يَجُوزُ أَن يَكُونَ صِيرِ بَدَلًا مِنْ صُيَيْر، بإِعادة حَرْفِ الْجَرِّ، وَيَجُوزُ أَن تَكُونَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ كأَنه أَراد مِنْ صُيَيْر كَائِنٍ مَنْ صِيرِ مِصْرَيْنِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ قَرْيَةٍ: هَذِهِ بَحْرَتُنا.

والبَحْرَةُ: الأَرض وَالْبَلْدَةُ؛ يُقَالُ: هَذِهِ بَحْرَتُنا أَي أَرضنا.

وَفِي حَدِيثِ القَسَامَةِ: «قَتَلَ رَجُلًا بِبَحْرَةِ الرِّعاءِ عَلَى شَطِّ لِيَّةَ»، البَحْرَةُ: البَلْدَةُ.

وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبيّ: «اصْطَلَحَ أَهلُ هَذِهِ البُحَيْرَةِ أَن يَعْصِبُوه بالعِصَابَةِ»؛ البُحَيْرَةُ: مَدِينَةُ سَيِّدِنَا رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ تَصْغِيرُ البَحْرَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ مُكَبَّرًا.

والعربُ تُسَمِّي المُدُنَ وَالْقُرَى: البحارَ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «وكَتَبَ لَهُمْ بِبَحْرِهِم»؛ أَي بِبَلَدِهِمْ وأَرضهم.

وأَما حَدِيثُ" عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبيّ فَرَوَاهُ الأَزهري بِسَنَدِهِ عَنْ عُرْوَةَ أَن أُسامة بْنَ زَيْدٍ أَخبره: أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ حِمَارًا عَلَى إِكافٍ وَتَحْتَهُ قَطِيفةٌ فركبه وأَرْدَفَ "أُسامةَ، وَهُوَ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبادَةَ، وَذَلِكَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَلَمَّا غَشِيَتِ المجلسَ عَجاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ عبدُ اللَّهِ بنُ أُبيّ أَنْفَه ثُمَّ قَالَ: لَا تُغَبِّرُوا، ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَقَفَ وَدَعَاهُمْ إِلى اللَّهِ وقرأَ القرآنَ، فَقَالَ لَهُ عبدُ اللَّهِ: أَيها المَرْءُ إِن كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَلَا تُؤْذِنَا فِي مَجْلِسِنَا وارجعْ إِلى رَحْلك، فَمَنْ جاءَك منَّا فَقُصَّ عَلَيْهِ؛ ثُمَّ رَكِبَ دَابَّتَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ لَهُ: أَي سَعْدُ أَلم تسمعْ مَا قَالَ أَبو حُباب؟ قَالَ كَذَا، فَقَالَ سعدٌ: اعْفُ واصفَحْ فو الله لَقَدْ أَعطاك اللهُ الَّذِي أَعطاك، وَلَقَدِ اصْطَلَحَ أَهلُ هَذِهِ البُحَيْرةِ عَلَى أَن يُتَوِّجُوه، يَعْنِي يُمَلِّكُوهُ فَيُعَصِّبوه بِالْعِصَابَةِ، فَلَمَّا ردَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعطاكَ شَرِقَ لِذَلِكَ فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رأَيْتَ، فَعَفَا عَنْهُ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

والبَحْرَةُ: الفَجْوَةُ مِنَ الأَرض تَتَّسِعُ؛ وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: قَالَ أَبو نَصْرٍ البِحارُ الواسعةُ مِنَ الأَرض، الْوَاحِدَةُ بَحْرَةٌ؛ وأَنشد لِكُثَيِّرٍ فِي وَصْفِ مَطَرٍ:

يُغادِرْنَ صَرْعَى مِنْ أَراكٍ وتَنْضُبٍ، ***وزُرْقًا بأَجوارِ البحارِ تُغادَرُ

وَقَالَ مُرَّةُ: البَحْرَةُ الْوَادِي الصَّغِيرُ يَكُونُ فِي الأَرض الْغَلِيظَةِ.

والبَحْرةُ: الرَّوْضَةُ العظيمةُ مَعَ سَعَةٍ، وجَمْعُها بِحَرٌ وبِحارٌ؛ قَالَ النَّمِرُ بْنُ تَوْلَبٍ:

وكأَنها دَقَرَى تُخايِلُ، نَبْتُها ***أُنُفٌ، يَغُمُّ الضَّالَ نَبْتُ بِحارِها

الأَزهري: يُقَالُ للرَّوْضَةِ بَحْرَةٌ.

وَقَدْ أَبْحَرَتِ الأَرْضُ إِذا كَثُرَتْ مَنَاقِعُ الْمَاءِ فِيهَا.

وَقَالَ شَمِرٌ: البَحْرَةُ الأُوقَةُ يُسْتَنْقَعُ فِيهَا الْمَاءُ.

ابْنُ الأَعرابي: البُحَيْرَةُ الْمُنْخَفِضُ مِنَ الأَرض.

وبَحِرَ الرجلُ والبعيرُ بَحَرًا، فَهُوَ بَحِرٌ إِذا اجْتَهَدَ فِي العدوِ طَالِبًا أَو مَطْلُوبًا، فَانْقَطَعَ وَضَعُفَ وَلَمْ يَزَلْ بِشَرٍّ حَتَّى اسودَّ وَجْهُهُ وَتَغَيَّرَ.

قَالَ الْفَرَّاءُ: البَحَرُ أَن يَلْغَى البعيرُ بِالْمَاءِ فَيُكْثِرُ مِنْهُ حَتَّى يُصِيبَهُ مِنْهُ دَاءٌ.

يُقَالُ: بَحِرَ يَبْحَرُ بَحَرًا، فَهُوَ بَحِرٌ؛ وأَنشد:

لأَعْلِطَنَّه [لأَعْلُطَنَّه] وَسْمًا لَا يُفارِقُه، ***كما يُحَزُّ بِحُمَّى المِيسَمِ البَحِرُ

قَالَ: وإِذا أَصابه الداءُ كُويَ فِي مَوَاضِعَ فَيَبْرأُ.

قَالَ الأَزهري: الدَّاءُ الَّذِي يُصِيبُ الْبَعِيرَ فَلَا يَرْوَى مِنَ الْمَاءِ، هُوَ النَّجَرُ، بِالنُّونِ وَالْجِيمِ، والبَجَرُ، بِالْبَاءِ وَالْجِيمِ، وأَما البَحَرُ، فَهُوَ دَاءٌ يُورِثُ السِّلَّ.

وأَبْحَرَ الرجلُ إِذا أَخذه السِّلُّ.

ورجلٌ بَحِيرٌ وبَحِرٌ: مسْلُولٌ ذاهبُ اللَّحْمِ؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي وأَنشد:

وغِلْمَتي مِنْهُمْ سَحِيرٌ وبَحِرْ، ***وآبقٌ، مِن جَذْبِ دَلْوَيْها، هَجِرْ

أَبو عَمْرٍو: البَحِيرُ والبَحِرُ الَّذِي بِهِ السِّلُّ، والسَّحِيرُ: الَّذِي انْقَطَعَتْ رِئَتُه، وَيُقَالُ: سَحِرٌ.

وبَحِرَ الرجلُ.

بُهِتَ.

وأَبْحَرَ الرَّجُلُ إِذَا اشتدَّتْ حُمرةُ أَنفه.

وأَبْحَرَ إِذا صَادَفَ إِنسانًا عَلَى غَيْرِ اعتمادٍ وقَصدٍ لِرُؤْيَتِهِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَقِيتُهُ صَحْرَةَ بَحْرَةَ أَي بَارِزًا لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ.

والباحِر، بِالْحَاءِ: الأَحمق الَّذِي إِذا كُلِّمَ بَحِرَ وَبَقِيَ كَالْمَبْهُوتِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا يَتَمالكُ حُمْقًا.

الأَزهري: الباحِرُ الفُضولي، والباحرُ الْكَذَّابُ.

وتَبَحَّر الخبرَ: تَطَلَّبه.

والباحرُ: الأَحمرُ الشديدُ الحُمرة.

يُقَالُ: أَحمر باحرٌ وبَحْرانيٌّ.

ابن الأَعرابي: "يُقَالُ أَحْمَرُ قانِئٌ وأَحمرُ باحِرِيٌّ وذَرِيحِيٌّ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ المرأَة تُسْتَحَاضُ وَيَسْتَمِرُّ بِهَا الدَّمُ، فَقَالَ: تُصَلِّي وتتوضأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، فإِذا رأَتِ الدَّمَ البَحْرانيَّ قَعَدَتْ عَنِ الصَّلَاةِ؛ دَمٌ بَحْرَانيٌّ: شَدِيدُ الْحُمْرَةِ كأَنه قَدْ نُسِبَ إِلى البَحْرِ، وَهُوَ اسْمُ قَعْرِ الرَّحِمِ، مَنْسُوبٌ إِلى قَعْرِ الرَّحِمِ وعُمْقِها، وَزَادُوهُ فِي النَّسَبِ أَلِفًا وَنُونًا لِلْمُبَالَغَةِ يُرِيدُ الدَّمَ الْغَلِيظَ الْوَاسِعَ؛ وَقِيلَ: نُسِبَ إِلى البَحْرِ لِكَثْرَتِهِ وَسِعَتِهِ؛ وَمِنَ الأَول قَوْلُ الْعَجَّاجِ: " وَرْدٌ مِنَ الجَوْفِ وبَحْرانيُ "أَي عَبِيطٌ خالصٌ.

وَفِي الصِّحَاحِ: البَحْرُ عُمْقُ الرَّحِمِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلدَّمِ الْخَالِصِ الْحُمْرَةِ: باحِرٌ وبَحْرانيٌّ.

ابْنُ سِيدَهْ: ودَمٌ باحِرٌ وبَحْرانيٌّ خَالِصُ الْحُمْرَةِ مِنْ دَمِ الْجَوْفِ، وَعَمَّ بعضُهم بِهِ فَقَالَ: أَحْمَرُ باحِرِيٌّ وبَحْرَانيٌّ، وَلَمْ يَخُصَّ بِهِ دَمَ الْجَوْفِ وَلَا غَيْرَهُ.

وبَناتُ بَحْرٍ: سحائبُ يجئنَ قَبْلَ الصَّيْفِ مُنْتَصِبَاتٍ رِقَاقًا، بِالْحَاءِ وَالْخَاءِ، جَمِيعًا.

قَالَ الأَزهري: قَالَ اللَّيْثَ: بَناتُ بَحْرٍ ضَرْبٌ مِنَ السَّحَابِ، قَالَ الأَزهري: وَهَذَا تَصْحِيفٌ مُنْكَرٌ وَالصَّوَابُ بَناتُ بَخْرٍ.

قَالَ أَبو عُبَيْدٍ عَنِ الأَصمعي: يُقَالُ لِسَحَائِبَ يأْتين قَبْلَ الصَّيْفِ مُنْتَصِبَاتٍ: بَناتُ بَخْرٍ وبَناتُ مَخْرٍ، بِالْبَاءِ وَالْمِيمِ وَالْخَاءِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ قَالَ اللِّحْيَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَسَنَذْكُرُ كُلًّا مِنْهُمَا فِي فَصْلِهِ.

الْجَوْهَرِيُّ: بَحِرَ الرجلُ، بِالْكَسْرِ، يَبْحَرُ بَحَرًا إِذا تَحَيَّرَ مِنَ الْفَزَعِ مِثْلَ بَطِرَ؛ وَيُقَالُ أَيضًا: بَحِرَ إِذا اشتدَّ عَطَشُه فَلَمْ يَرْوَ مِنَ الْمَاءِ.

والبَحَرُ أَيضًا: داءٌ فِي الإِبل، وَقَدْ بَحِرَتْ.

والأَطباء يُسَمَّوْنَ التَّغَيُّرَ الَّذِي يَحْدُثُ لِلْعَلِيلِ دُفْعَةً فِي الأَمراض الْحَادَّةِ: بُحْرانًا، يَقُولُونَ: هَذَا يَوْمُ بُحْرَانٍ بالإِضافة، ويومٌ باحُوريٌّ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، فكأَنه مَنْسُوبٌ إِلى باحُورٍ وباحُوراء مِثْلَ عَاشُورٍ وَعَاشُورَاءَ، وَهُوَ شِدَّةُ الْحَرِّ فِي تَمُّوزَ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ مُوَلَّدٌ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ عِنْدَ قَوْلِ الْجَوْهَرِيِّ: إِنه مُوَلَّدٌ وإِنه عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ؛ قَالَ: وَنَقِيضُ قَوْلِهِ إِن قِيَاسَهُ باحِرِيٌّ وَكَانَ حَقُّهُ أَن يَذْكُرَهُ لأَنه يُقَالُ دَمٌ باحِرِيٌّ أَي خَالِصُ الْحُمْرَةِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ المُثَقِّب العَبْدِي:

باحِريُّ الدَّمِ مُرٌّ لَحْمُهُ، ***يُبْرئُ الكَلْبَ، إِذا عَضَّ وهَرّ

والباحُورُ: القَمَرُ؛ عَنْ أَبي عَلِيٍّ فِي الْبَصَرِيَّاتِ لَهُ.

والبَحْرانِ: مَوْضِعٌ بَيْنَ الْبَصْرَةِ وعُمانَ، النَّسَبُ إِليه بَحْريٌّ وبَحْرانيٌّ؛ قَالَ الْيَزِيدِيُّ: كَرِهُوا أَن يَقُولُوا بَحْريٌّ فَتُشْبِهُ النسبةَ إِلى البَحْرِ؛ اللَّيْثُ: رَجُلٌ بَحْرانيٌّ مَنْسُوبٌ إِلى البَحْرَينِ؛ قَالَ: وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ الْبَصْرَةِ وعُمان؛ وَيُقَالُ: هَذِهِ البَحْرَينُ وَانْتَهَيْنَا إِلى البَحْرَينِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبي مُحَمَّدٍ الْيَزِيدِيِّ قَالَ: سأَلني الْمَهْدِيُّ وسأَل الْكِسَائِيُّ عَنِ النِّسْبَةِ إِلى الْبَحْرِينِ وإِلى حِصْنَينِ: لِمَ قَالُوا حِصْنِيٌّ وبَحْرانيٌّ؟ فَقَالَ الْكِسَائِيُّ: كَرِهُوا أَن يَقُولُوا حِصْنانيٌّ لِاجْتِمَاعِ النُّونَيْنِ، قَالَ وَقُلْتُ أَنا: كَرِهُوا أَن يَقُولُوا بَحْريٌّ فَتُشْبِهُ النِّسْبَةَ إِلى الْبَحْرِ؛ قَالَ الأَزهري: وإِنما ثَنَوُا البَحْرَ لأَنَّ فِي نَاحِيَةِ قُرَاهَا بُحَيرَةً عَلَى بَابِ الأَحساء وَقُرَى هَجْرٍ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبَحْرِ الأَخضر عَشْرَةَ فَرَاسِخَ، وقُدِّرَت البُحَيرَةُ ثلاثةَ أَميال فِي مِثْلِهَا وَلَا يَغِيضُ ماؤُها، وماؤُها رَاكِدٌ زُعاقٌ؛ وَقَدْ ذَكَرَهَا الْفَرَزْدَقُ فَقَالَ:

كأَنَّ دِيارًا بَيْنَ أَسْنِمَةِ النَّقا ***وبينَ هَذالِيلِ البُحَيرَةِ مُصْحَفُ

وَكَانَتْ أَسماء بِنْتُ عُمَيْسٍ يُقَالُ لَهَا البَحْرِيَّة لأَنها كَانَتْ هَاجَرَتْ إِلى بِلَادِ النَّجَاشِيِّ فَرَكِبَتِ الْبَحْرَ، وكلُّ مَا نُسِبَ إِلى البَحْرِ، فَهُوَ بَحْريٌّ.

وَفِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ بَحْرانَ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا وَسُكُونِ الْحَاءِ، مَوْضِعٌ بِنَاحِيَةِ الفُرْعِ مِنَ الْحِجَازِ، لَهُ ذِكْرٌ فِي سَرِيَّة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ.

وبَحْرٌ وبَحِيرٌ وبُحَيْرٌ وبَيْحَرٌ وبَيْحَرَةُ: أَسماء.

وَبَنُو بَحْريّ: بَطْنٌ.

وبَحْرَةُ ويَبْحُرُ: مَوْضِعَانِ.

وبِحارٌ وَذُو بِحارٍ: مَوْضِعَانِ؛ قَالَ الشَّمَّاخُ:

صَبَا صَبْوَةً مِن ذِي بِحارٍ، فَجاوَرَتْ، ***إِلى آلِ لَيْلى، بَطْنَ غَوْلٍ فَمَنْعَجِ

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


208-لسان العرب (غرز)

غرز: غَرَزَ الإِبْرَةَ فِي الشَّيْءِ غَرْزًا وغَرَّزَها: أَدخلها.

وكلُّ مَا سُمِّرَ فِي شَيْءٍ فَقَدْ غُرِزَ وغُرِّزَ، وغَرَزْتُ الشيءَ بالإِبرة أَغْرِزُه غَرْزًا.

وَفِي حَدِيثِ أَبي رَافِعٍ: «مَرَّ بِالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ»، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَدْ غَرَزَ ضَفْرَ رأْسه أَي لَوَى شَعْرَهُ وأَدخل أَطرافه فِي أُصوله.

وَفِي حَدِيثِ الشَّعْبيِّ: «مَا طَلَع السِّماكُ قَطُّ إِلا غارِزًا ذَنَبَه فِي بَرْدٍ»؛ أَراد السِّماكَ الأَعْزَلَ، وَهُوَ الْكَوْكَبُ الْمَعْرُوفُ فِي بُرْجِ الْمِيزَانِ وَطُلُوعِهِ يَكُونُ مَعَ الصُّبْحِ لِخَمْسٍ تَخْلُو مِنْ تَشْرِينَ الأَوّل، وحينئذ يبتدئ البرد، وَهُوَ مِنْ غَرَزَ الجرادُ ذَنَبه فِي الأَرض إِذا أَراد أَن يَبِيضَ.

وغَرَزت الجَرادَةُ وَهِيَ غارِزٌ وغرَّزَتْ: أَثبتت ذَنَبها فِي الأَرض لِتَبِيضَ، مِثْلَ رَزَّتْ؛ وجَرادةٌ غارِزٌ، وَيُقَالُ: غارِزَةٌ إِذا رَزَّتْ ذَنَبها فِي الأَرض لِتَسْرَأَ؛ والمَغْرَزُ بِفَتْحِ الرَّاءِ: مَوْضِعُ بَيْضِهَا.

وَيُقَالُ: غَرَزْتُ عُودًا فِي الأَرض ورَكَزْتُه بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

ومَغْرِزُ الضِّلَع والضِّرْس وَالرِّيشَةِ وَنَحْوِهَا: أَصْلُها، وَهِيَ المغارِزُ.

ومَنْكِب مُغَرَّزٌ: مُلْزَقٌ بِالْكَاهِلِ.

والغَرْزُ: رِكابُ الرحْل، وَقِيلَ: رِكَابُ الرحْل مِنْ جُلود مَخْرُوزَةٍ، فإِذا كَانَ مِنْ حَدِيدٍ أَو خَشَبٍ فَهُوَ رِكابٌ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِساكًا للرِّجْلَين فِي المَرْكَب غَرْزٌ.

وغَرَزَ رِجْلَه فِي الغَرْزِ يَغْرِزُها غَرْزًا: وَضَعَهَا فِيهِ لِيَرْكَبَ وأَثبتها.

واغْتَرَزَ: رَكِبَ.

ابْنُ الأَعرابي: والغَرْزُ لِلنَّاقَةِ مِثْلُ الْحِزَامِ لِلْفَرَسِ.

غَيْرُهُ: الغَرْزُ للجَمَلِ مِثْلُ الرِّكَابِ لِلْبَغْلِ؛ وَقَالَ لَبِيدٌ فِي غَرْز النَّاقَةِ:

وإِذا حَرَّكْتُ غَرْزِي أَجْمَرَتْ ***أَو قِرابي، عَدْوَ جَوْنٍ قَدْ أَبَلْ

وَفِي الْحَدِيثِ: «كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا وَضَع رِجْلَه فِي الغَرْزِ، يُرِيدُ السفرَ، يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ»؛ الغَرْزُ: رِكابُ كُورِ الجَمَلِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن رَجُلًا سأَله عَنْ أَفضل الْجِهَادِ فَسَكَتَ عَنْهُ حَتَّى اغْتَرَزَ فِي الجَمْرَةِ الثَّالِثَةِ» أَي دخَل فِيهَا كَمَا يَدْخُلُ قَدَمُ الرَّاكِبِ فِي الغَرْزِ.

وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبي بَكْرٍ أَنه قَالَ لِعُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: اسْتَمْسِكْ بغَرْزِه "أَي اعْتَلِقْ بِهِ وأَمسِكْه واتَّبِعْ قولَهُ وفعلَهُ وَلَا تُخالِفْه؛ فَاسْتَعَارَ لَهُ الغَرْزَ كَالَّذِي يُمسِكُ بِرِكَابِ الرَّاكِبِ وَيَسِيرُ بِسَيْرِهِ.

واغْتَرَزَ السَّيْرَ اغْتِرازًا إِذا دَنَا مَسِيرُه، وأَصله مِنَ الغَرْزِ.

والغارِزُ مِنَ النُّوقِ: القليلةُ اللَّبَنِ.

وغَرَزَتِ الناقَةُ تَغْرُزُ غِرازًا وَهِيَ غارِزٌ مِنْ إِبل غُرَّزٍ: قَلَّ لَبَنُهَا؛ قَالَ القُطامي:

كأَنَّ نُسُوعَ رَحْلي، حينَ ضَمَّتْ ***حَوالِبَ غُرَّزًا ومِعًى جِياعا

نُسِبَ ذَلِكَ إِلى الْحَوَالِبِ لأَن اللَّبَنَ إِنما يَكُونُ فِي الْعُرُوقِ.

وغَرَّزَها صاحِبُها: تَرَكَ حَلَبَهَا أَو كَسَع ضَرْعَها "بِمَاءٍ بَارِدٍ لِيَذْهَبَ لِبَنُهَا وَيَنْقَطِعَ، وَقِيلَ: التَّغْرِيزُ أَن تَدَعَ حَلْبَةً بَيْنَ حَلْبَتَيْنِ وذلك إِذا أَدبر لبن النَّاقَةِ.

الأَصمعي: الغارِزُ الناقةُ الَّتِي قَدْ جَذَبَتْ لَبَنَهَا فَرَفَعَتْهُ؛ قَالَ أَبو حَنِيفَةَ: التَّغْرِيزُ أَن يَنْضَح ضَرْعَ النَّاقَةِ بِالْمَاءِ ثُمَّ يُلَوِّثَ الرجلُ يَدَه فِي التُّرَابِ، ثُمَّ يَكْسَعَ الضَّرْعَ كَسْعًا حَتَّى يَدْفَعَ اللَّبَنَ إِلى فَوْقَ، ثُمَّ يأْخذ بِذَنَبِهَا فَيَجْتَذِبَهَا بِهِ اجْتِذَابًا شَدِيدًا، ثُمَّ يَكْسَعَهَا بِهِ كَسْعًا شَدِيدًا وتُخَلَّى، فإِنها تَذْهَبُ حِينَئِذٍ عَلَى وَجْهِهَا سَاعَةً.

وَفِي حَدِيثِ عَطَاءَ: «وَسُئِلَ عَنْ تَغْرِيزِ الإِبل فَقَالَ: إِن كَانَ مُباهاةً فَلَا»، وإِن كَانَ يُرِيدُ أَن تَصْلُحَ لِلْبَيْعِ فَنَعَمْ.

قَالَ ابْنُ الأَثير: وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ تَغْرِيزُها نِتاجَها وسِمَنَها مِنْ غَرْزِ الشَّجَرِ، قَالَ: والأَول الوجه.

وغَرَزَتِ الأَتانُ: قَلَّ لَبَنُهَا أَيضًا.

أَبو زَيْدٍ: غَنَمٌ غَوارِزُ وعُيونٌ غَوارِزُ مَا تَجْرِي لَهُنَّ دُموع.

وَفِي الْحَدِيثِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِن غَنَمَنَا قَدْ غَرَزَتْ "أَي قَلَّ لَبَنُهَا.

يُقَالُ: غَرَزَت الْغَنَمُ غِرازًا وغَرَّزَها صاحبُها إِذا قَطَعَ حَلَبَهَا وأَراد أَن تَسْمَنَ؛ وَمِنْهُ قَصِيدُ كَعْبٍ:

تمرُّ، مِثلَ عَسِيبِ النَّخْلِ ذَا خُصَلٍ ***بغارِزٍ لَمْ تُخَوِّنْهُ الأَحالِيلُ

الغارِزُ: الضَّرْعُ قَدْ غَرَزَ وقَلَّ لَبَنُهُ، وَيُرْوَى بِغَارِبٍ.

والغارِزُ مِنَ الرِّجَالِ: الْقَلِيلُ النِّكَاحِ، وَالْجَمْعُ غُرَّزٌ.

والغَرِيزَةُ: الطبيعةُ والقريحةُ والسَّجِيَّة مِنْ خَيْرٍ أَو شَرٍّ؛ وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: هِيَ الأَصل وَالطَّبِيعَةُ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

إِنّ الشَّجاعَةَ، فِي الفَتى ***والجُودَ مِنْ كَرَمِ الغَرائزْ

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «الجُبْنُ والجُرْأةُ غَرائزُ»أَي أَخلاق وَطَبَائِعُ صَالِحَةٌ أَو رَدِيئَةٌ، وَاحِدَتُهَا غَرِيزَة.

وَيُقَالُ: الْزَمْ غَرْزَ فُلَانٍ أَي أَمره وَنَهْيَهُ.

الأَصمعي: والغَرَزُ، مُحَرَّكٌ، نَبَتٌ رأَيته فِي الْبَادِيَةِ يَنْبُتُ فِي سُهولة الأَرض.

غَيْرُهُ: الغَرَزُ ضَرْبٌ مِنَ الثُّمامِ صَغِيرٌ يَنْبُتُ عَلَى شُطُوط الأَنهار لَا وَرَقَ لَهَا، إِنما هِيَ أَنابيب مُرَكَّبٌ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، فإِذا اجْتَذَبْتَهَا خَرَجَتْ مِنْ جَوْفِ أُخرى كأَنها عِفاصٌ أُخرج مِنْ مُكْحُلَة وَهُوَ مِنَ الحَمْضِ؛ وَقِيلَ: هُوَ الأَسَلُ، وَبِهِ سُمِّيَتِ الرِّمَاحُ عَلَى التَّشْبِيهِ، وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: هُوَ مِنْ وَخِيمِ المَرْعى، وَذَلِكَ أَن النَّاقَةَ الَّتِي تَرْعَاهُ تُنْحَرُ فَيُوجَدُ الغَرَزُ فِي كَرَشِهَا مُتَمَيِّزًا عَنِ الْمَاءِ لَا يَتَفَشَّى وَلَا يُورِثُ الْمَالَ قُوَّةً، وَاحِدَتُهَا غَرَزَةٌ، وَهُوَ غَيْرُ العَرَز الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ.

وَرُوِيَ عَنْ" عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنه رأَى فِي رَوْث فَرَسٍ شعِيرًا فِي عَامِ مَجاعةٍ فَقَالَ: لَئِنْ عِشْتُ لأَجعلنّ لَهُ مِنْ غَرَزِ النَّقِيعِ مَا يُغْنيه عَنْ قُوتِ الْمُسْلِمِينَ "أَي يَكُفُّه عَنْ أَكل الشَّعِيرِ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ قُوتًا غَالِبًا لِلنَّاسِ يَعْنِي الْخَيْلَ والإِبل؛ عَنى بالغَرَزِ هَذَا النَّبْتَ؛ وَالنَّقِيعُ: مَوْضِعٌ حَمَاهُ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لِنَعَم الفَيْءِ وَالْخَيْلِ المُعَدَّةِ لِلسَّبِيلِ.

وَرُوِيَ عَنْ" نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَى غَرَزَ النَّقِيع لِخَيْلِ الْمُسْلِمِينَ "؛ النَّقِيعُ، بِالنُّونِ: مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنَ الْمَدِينَةِ كَانَ حِمًى لِنِعَمِ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَةِ.

وَفِي الْحَدِيثِ أَيضًا: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُعالِجُنَّ غَرَزَ النَّقِيع.

والتَّغارِيزُ: مَا حُوِّلَ مِنْ فَسِيل النَّخْلِ وَغَيْرِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِن أَهل التَّوْحِيدِ إِذا أُخرجوا مِنَ النَّارِ وَقَدِ امْتُحِشُوا يَنْبُتون كَمَا تَنْبُتُ التَّغارِيزُ»؛ قَالَ القُتَيْبيُّ: هُوَ مَا حُوِّلَ مِنْ فَسِيل النَّخْلِ وَغَيْرِهِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَنه يحوَّل مِنْ مَوْضِعٍ إِلى مَوْضِعٍ فيُغْرَزُ، وَهُوَ التَّغْريزُ والتَّنْبِيتُ، وَمِثْلُهُ فِي التَّقْدِيرِ التَّناوِيرُ لنَوْرِ الشَّجَرِ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ والعين المهملة والراءين.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


209-لسان العرب (حبس)

حبس: حَبَسَه يَحْبِسُه حَبْسًا، فَهُوَ مَحْبُوس وحَبِيسٌ، واحْتَبَسَه وحَبَّسَه: أَمسكه عَنْ وَجْهِهِ.

والحَبْسُ: ضِدُّ التَّخْلِيَةِ.

واحْتَبَسَه واحْتَبَسَ بِنَفْسِهِ، يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى.

وتَحَبَّسَ عَلَى كَذَا أَي حَبَس نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ.

والحُبْسة، بِالضَّمِّ: الِاسْمُ مِنَ الاحْتِباس.

يُقَالُ: الصَّمْتُ حُبْسَة.

سِيبَوَيْهِ: حَبَسَه ضَبَطَهُ واحْتَبَسَه اتَّخَذَهُ حَبيسًا، وَقِيلَ: احْتِباسك إِياه اختصاصُك نَفْسَكَ بِهِ؛ تَقُولُ: احْتَبَسْتُ الشَّيْءَ إِذا اخْتَصَصْتَهُ لِنَفْسِكَ خَاصَّةً.

والحَبْسُ والمَحْبَسَةُ والمَحْبِسُ: اسْمُ الْمَوْضِعِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: المَحْبِسُ يَكُونُ مَصْدَرًا كالحَبْس، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تعالى: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ}؛ أَي رُجُوعكم؛ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ؛ أَي الحَيْضِ؛ وَمِثْلُهُ مَا أَنشده سِيبَوَيْهِ لِلرَّاعِي:

بُنِيَتْ مَرافِقُهُنَّ فوقَ مَزَلَّةٍ، ***لَا يَسْتَطِيعُ بِهَا القُرادُ مَقِيلا

أَي قَيْلُولة.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَلَيْسَ هَذَا بِمُطَّرِدٍ إِنَّمَا يُقْتَصَرُ مِنْهُ عَلَى مَا سُمِعَ.

قَالَ سِيبَوَيْهِ: المَحْبِسُ عَلَى قِيَاسِهِمُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُحْبَس فِيهِ، والمَحْبَس الْمَصْدَرُ.

اللَّيْثُ: المَحْبِسُ يَكُونُ سِجْنًا وَيَكُونُ فِعْلًا كَالْحَبْسِ.

وإِبل مُحْبَسَة: داجِنَة كأَنها قَدْ حُبِسَتْ عَنِ الرَّعْي.

وَفِي حَدِيثِ طَهْفَةَ: «لَا يُحْبَسُ دَرُّكُم» أَي لَا تُحْبَسُ ذواتُ الدَّرِّ، وَهُوَ اللَّبَنُ، عَنِ المَرْعَى بحَشْرِها وسَوْقِها إِلى المُصَدِّقِ ليأْخذ مَا عَلَيْهَا مِنَ الزَّكَاةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الإِضرار بِهَا.

وَفِي حَدِيثِ الحُدَيبِية: «حَبَسها حابِسُ الْفِيلِ»؛ هُوَ فِيلُ أَبْرَهَةَ الحَبَشِيِّ الَّذِي جَاءَ يَقْصِدُ خَرَابَ الْكَعْبَةِ فَحَبَس اللَّه الفيلَ فَلَمْ يَدْخُلِ الْحَرَمَ ورَدَّ رأْسَه رَاجِعًا مِنْ حَيْثُ جَاءَ، يَعْنِي أَن اللَّه حَبَسَ نَاقَةَ رَسُولِهِ لَمَّا وَصَلَ إِلى الْحُدَيْبِيَةِ فَلَمْ تَتَقَدَّمْ وَلَمْ تَدْخُلِ الْحَرَمَ لأَنه أَراد أَن يَدْخُلَ مَكَّةَ بِالْمُسْلِمِينَ.

وَفِي حَدِيثِ الْحَجَّاجِ: «إِن الإِبل ضُمُر حُبْسٌ مَا جُشِّمَتْ جَشِمَتْ»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هَكَذَا رَوَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَالَ: الحُبُسُ جَمْعُ حَابِسٍ مِنْ حَبَسَه إِذا أَخره؛ أي أَنها صَوَابِرُ عَلَى الْعَطَشِ تُؤَخِّرُ الشُّرْبَ، وَالرِّوَايَةُ بالخاء والنون.

و [المَحْبِسُ] المَحْبَسُ: مَعْلَفُ الدَّابَّةِ.

والمِحْبَسُ: المِقْرَمَةُ يَعْنِي السِّتْرَ، وَقَدْ حَبَسَ الفِراشَ بالمِحْبَس، وَهِيَ المِقْرَمَةُ الَّتِي تُبْسَطُ عَلَى وَجْهِ الفِراشِ لِلنَّوْمِ.

وَفِي النَّوَادِرِ: جَعَلَنِي اللَّه رَبيطَةً لِكَذَا وحَبِيسَة أَي تَذْهَبُ فَتَفْعَلُ الشَّيْءَ وأُوخَذُ بِهِ.

وزِقٌّ حابِسٌ: مُمْسِك لِلْمَاءِ، وَتُسَمَّى مَصْنَعَة الماءِ حابِسًا، والحُبُسُ، بِالضَّمِّ: مَا وُقِفَ.

وحَبَّسَ الفَرَسَ فِي سَبِيلِ اللَّه وأَحْبَسَه، فَهُوَ مُحَبَّسٌ وحَبيسٌ، والأُنثى حَبِيسَة، وَالْجَمْعُ حَبائس؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

سِبَحْلًا أَبا شِرْخَيْنِ أَحْيا بَناتِه ***مَقالِيتُها، فَهِيَ اللُّبابُ الحَبائِسُ

وَفِي الْحَدِيثِ: «ذَلِكَ حَبيسٌ فِي سَبِيلِ اللَّه»؛ أَي مَوْقُوفٌ عَلَى الْغُزَاةِ يَرْكَبُونَهُ فِي الْجِهَادِ، والحَبِيسُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ.

وَكُلُّ مَا حُبِسَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ حَبيسٌ.

اللَّيْثُ: الحَبيسُ الْفَرَسُ يُجْعَلُ حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّه يُغْزى عَلَيْهِ.

الأَزهري: والحُبُسُ جَمْعُ الحَبِيس يَقَعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَقَفَهُ صَاحِبُهُ وَقْفًا مُحَرَّمًا لَا يُورَثُ وَلَا يُبَاعُ مِنْ أَرض وَنَخْلٍ وَكَرْمٍ ومُسْتَغَلٍّ، يُحَبَّسُ أَصله وَقْفًا مُؤَبَّدًا وتُسَبَّلُ ثَمَرَتُهُ تَقَرُّبًا إِلى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا" قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ فِي نَخْلٍ لَهُ أَراد أَن يَتَقَرَّبَ بِصَدَقَتِهِ إِلى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ لَهُ: حَبِّسِ الأَصلَ وسَبِّل الثَّمَرَةَ "؛ أَي اجْعَلْهُ وَقْفًا حُبُسًا، وَمَعْنَى تَحْبِيسِهِ أَن لَا يُورَثَ وَلَا يُبَاعَ وَلَا يُوهَبَ وَلَكِنْ يُتْرَكُ أَصله وَيُجْعَلَ ثَمَرُهُ فِي سُبُلِ الْخَيْرِ، وأَما مَا رُوِيَ عَنْ شُرَيْح أَنه قَالَ: جاءَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإِطلاق الحُبْس فإِنما أَراد بِهَا الحُبُسَ، هُوَ جَمْعُ حَبِيسٍ، وَهُوَ بِضَمِّ الْبَاءِ، وأَراد بِهَا مَا كَانَ أَهل الْجَاهِلِيَّةِ يَحْبِسُونه مِنَ السَّوَائِبِ وَالْبَحَائِرِ وَالْحَوَامِي وَمَا أَشبهها، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ بإِحلال مَا كَانُوا يُحَرِّمُونَ مِنْهَا وإِطلاق مَا حَبَّسوا بِغَيْرِ أَمر اللَّه مِنْهَا.

قَالَ ابْنُ الأَثير: وَهُوَ فِي كِتَابِ الْهَرَوِيِّ بِإِسْكَانِ الْبَاءِ لأَنه عَطَفَ عَلَيْهِ الْحُبُسُ الَّذِي هُوَ الْوَقْفُ، فإِن صَحَّ فَيَكُونُ قَدْ خَفَّفَ الضَّمَّةَ، كَمَا قَالُوا فِي جَمْعِ رَغِيفٍ رُغْفٌ، بِالسُّكُونِ، والأَصل الضَّمُّ، أَو أَنه أَراد بِهِ الْوَاحِدَ.

قَالَ الأَزهري: وأَما الحُبُسُ الَّتِي وَرَدَتِ السنَّة بِتَحْبِيسِ أَصلها وَتَسْبِيلِ ثَمَرِهَا فَهِيَ جَارِيَةٌ عَلَى مَا سَنَّها الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى مَا أَمر بِهِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فِيهَا.

وَفِي حَدِيثِ الزَّكَاةِ: «أَن خَالِدًا جَعَلَ رَقِيقَه وأَعْتُدَه حُبُسًا فِي سَبِيلِ اللَّه»؛ أي وَقْفًا عَلَى الْمُجَاهِدِينَ وَغَيْرِهِمْ.

يُقَالُ: حَبَسْتُ أَحْبِسُ حَبْسًا وأَحْبَسْتُ أُحْبِسُ إِحْباسًا أَي وَقَفْتُ، وَالِاسْمُ الحُبس، بِالضَّمِّ؛ والأَعْتُدُ: جَمْعُ العَتادِ، وَهُوَ مَا أَعَدَّه الإِنسان مِنْ آلَةِ الْحَرْبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ قَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا حُبْسَ بَعْدَ سُورَةِ النِّسَاءِ»؛ أي لَا يُوقَف مَالٌ وَلَا يُزْوَى عَنْ وَارِثِهِ، إِشارة إِلى مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ حَبْس مَالِ الْمَيِّتِ وَنِسَائِهِ، كَانُوا إِذا كَرِهُوا النِّسَاءَ لِقُبْحٍ أَو قِلَّةِ مَالٍ حَبَسُوهُنَّ عَنِ الأَزواج لأَن أَولياء الْمَيِّتِ كَانُوا أَولى بِهِنَّ عِنْدَهُمْ.

قَالَ ابْنُ الأَثير: وَقَوْلُهُ لَا حُبْسَ، يَجُوزُ بِفَتْحِ الْحَاءِ عَلَى الْمَصْدَرِ وَبِضَمِّهَا عَلَى الِاسْمِ.

والحِبْسُ: كلُّ مَا سدَّ بِهِ مَجْرى الْوَادِي فِي أَيّ مَوْضِعٍ حُبِسَ؛ وَقِيلَ: الحِبْس حِجَارَةٌ أَو خَشَبٌ تُبْنَى فِي مَجْرَى الْمَاءِ لِتَحْبِسَهُ كَيْ يَشْرَبَ القومُ ويَسقوا أَموالَهُم، وَالْجَمْعُ أَحْباس، سُمِّيَ الْمَاءُ بِهِ حِبْسًا كَمَا يُقَالُ لَهُ نِهْيٌ؛ قَالَ أَبو زُرْعَةَ التَّيْمِيُّ:

مِنْ كَعْثَبٍ مُسْتَوْفِز المَجَسِّ، ***رَابٍ مُنِيفٍ مثلِ عَرْضِ التُّرْسِ

فَشِمْتُ فِيهَا كعَمُود الحِبْسِ، ***أَمْعَسُها يَا صاحٍ، أَيَّ مَعْسِ

حَتَّى شَفَيْتُ نَفْسَها مِنْ نَفْسي، ***تِلْكَ سُلَيْمَى، فاعْلَمَنَّ، عِرْسِي

الكَعْثَبُ: الرَّكَبُ.

والمَعْسُ: النِّكَاحُ مِثْلُ مَعْسِ الأَديم إِذا دُبِغَ ودُلِكَ دَلْكًا شَدِيدًا فَذَلِكَ مَعْسُه.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه سأَل أَين حِبْسُ سَيَل فإِنه يُوشِكُ أَن يَخْرُجَ مِنْهُ نَارٌ تُضِيءُ مِنْهَا أَعناق الإِبل بِبُصْرَى»؛ هُوَ مِنْ ذَلِكَ.

وَقِيلَ: هُوَ فلُوقٌ فِي الحَرَّة يَجْتَمِعُ فِيهَا مَاءٌ لَوْ وَرَدَتْ عَلَيْهِ أُمَّة لَوَسِعَهُمْ.

وحِبْسُ سَيَل: اسْمُ مَوْضِعٍ بِحَرَّةِ بَنِي سُلَيْمٍ، بَيْنَهَا وَبَيْنَالسَّوارِقيَّة مَسِيرَةُ يَوْمٍ، وَقِيلَ: حُبْسُ سَيَل، بِضَمِّ الْحَاءِ، الْمَوْضِعُ الْمَذْكُورُ.

والحُباسَة والحِباسَة كالحِبْس؛ أَبو عَمْرٍو: الحَبْس مِثْلُ المَصْنَعة يُجْعَلُ لِلْمَاءِ، وَجَمْعُهُ أَحْباسٌ.

والحِبْس: الْمَاءُ الْمُسْتَنْقَعُ، قَالَ اللَّيْثُ: شَيْءٌ يُحْبَسُ بِهِ الْمَاءُ نَحْوَ الحُباسِ [الحِباسِ] فِي المَزْرَفَة يُحْبَس بِهِ فُضول الْمَاءِ، والحُباسة فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: المَزْرَفَة، وهي الحُباسات [الحِباسات] فِي الأَرض قَدْ أَحاطت بالدَّبْرَةِ، وَهِيَ المَشارَةُ يُحْبَسُ فِيهَا الْمَاءُ حَتَّى تمتلئَ ثُمَّ يُساق الْمَاءُ إِلى غَيْرِهَا.

ابْنُ الأَعرابي: الحَبْسُ الشَّجَاعَةُ، والحِبْسُ، بِالْكَسْرِ، حِجَارَةٌ تَكُونُ فِي فُوْهَة النَّهْرِ تَمْنَعُ طُغْيانَ الماءِ.

والحِبْسُ: نِطاق الهَوْدَج.

والحِبْسُ: المِقْرَمَة.

والحِبْسُ: سِوَارٌ مِنْ فِضَّةٍ يُجْعَلُ فِي وَسَطِ القِرامِ، وَهُوَ سِتْرٌ يُجْمَعُ بِهِ ليُضِيء الْبَيْتَ.

وكَلأٌ حابسٌ: كَثِيرٌ يَحْبِسُ المالَ.

والحُبْسَة والاحْتِباس فِي الْكَلَامِ: التَّوَقُّفُ.

وتحَبَّسَ فِي الْكَلَامِ: توقَّفَ.

قَالَ الْمُبَرِّدُ فِي بَابِ عِلَلِ اللِّسَانِ: الحُبْسَةُ تَعَذُّرُ الْكَلَامِ عِنْدَ إِرادته، والعُقْلَة الْتِوَاءُ اللِّسَانِ عِنْدَ إِرادة الْكَلَامِ.

ابْنُ الأَعرابي: يَكُونُ الْجَبَلُ خَوْعًا أَي أَبيض وَيَكُونُ فِيهِ بُقْعَة سَوْدَاءُ، وَيَكُونُ الجبلُ حَبْسًا أَي أَسودَ وَيَكُونُ فِيهِ بُقْعَةٌ بَيْضَاءُ.

وَفِي حَدِيثِ الْفَتْحِ: «أَنه بَعَثَ أَبا عُبَيْدَةَ عَلَى الحُبْسِ»؛ قَالَ القُتَيبي: هُمُ الرَّجَّالة، سُمُّوا بِذَلِكَ لِتَحَبُّسِهِمْ عَنِ الرُّكْبَانِ وتأَخرهم؛ قَالَ: وأَحْسِبُ الْوَاحِدَ حَبيسًا، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ حَابِسًا كأَنه يَحْبِسُ مَنْ يَسِيرُ مِنَ الرُّكبان بِمَسِيرِهِ.

قَالَ ابْنُ الأَثير: وأَكثر مَا يُرْوَى الحُبَّس، بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ وَفَتْحِهَا، فإِن صَحَّتِ الرِّوَايَةُ فَلَا يَكُونُ وَاحِدُهَا إِلا حَابِسًا كَشَاهِدٍ وشُهَّد، قَالَ: وأَما حَبيس فَلَا يُعْرَفُ فِي جَمْعِ فَعِيل فُعَّلٌ، وإِنما يُعْرَفُ فِيهِ فُعُل كنَذِير ونُذُر، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الحُبُسُ، بِضَمِّ الْبَاءِ وَالتَّخْفِيفِ، الرَّجَّالة، سُمُّوا بِذَلِكَ لِحَبْسِهِمُ الْخَيَّالَةَ ببُطْءِ مَشْيِهِمْ، كأَنه جَمْعُ حَبُوس، أَو لأَنهم يَتَخَلَّفُونَ عَنْهُمْ وَيَحْتَبِسُونَ عَنْ بُلُوغِهِمْ كأَنه جَمْعُ حَبِيسٍ؛ الأَزهري: وَقَوْلُ الْعَجَّاجِ: " حَتْف الحِمام والنُّحُوسَ النُّحَّسا الَّتِي لَا يَدْرِي كَيْفَ يَتَّجِهُ لَهَا.

وحابَسَ الناسُ الأُمُورَ الحُبَّسا أَراد: وحابَسَ الناسَ الحُبَّسُ الأُمورُ، فَقَلَبَهُ وَنَصَبَهُ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ.

وَقَدْ سَمَّتْ حابِسًا وحَبِيسًا، والحَبْسُ: مَوْضِعٌ.

وَفِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ ذَاتَ حَبِيس، بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بِمَكَّةَ.

وحَبِيس أَيضًا: مَوْضِعٌ بالرَّقَّة بِهِ قُبُورُ شُهَدَاءِ صِفِّينَ.

وحابِسٌ: اسْمُ أَبي الأَقرع التميمي.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


210-لسان العرب (ملق)

ملق: المَلَقُ: الوُدّ وَاللُّطْفُ الشَّدِيدُ، وأَصله التَّلْيِينُ وَقِيلَ: المَلَقُ شِدَّةُ لُطْفِ الْوُدِّ، وَقِيلَ: التَّرَفُّقُ وَالْمُدَارَاةُ، وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ، مَلِقَ مَلَقًا وتمَلَّقَ وتَملَّقَهُ وتمَلّقَ لَهُ تمَلُّقًا وتِمِلَّاقًا أَي تَوَدَّدَ إِلَيْهِ وَتَلَطَّفَ لَهُ: قَالَ الشَّاعِرُ:

ثَلَاثَةُ أَحْبابٍ: فَحُبُّ عَلاقَةٍ، ***وحُبُّ تِمِلَّاقٍ، وحُبٌّ هُوَ القَتْل

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَيْسَ مِنَ خُلُق الْمُؤْمِنِ المَلَقُ»؛ هُوَ بِالتَّحْرِيكِ الزِّيَادَةُ فِي التَّوَدُّد وَالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ فَوْقَ مَا يَنْبَغِي.

وَقَدْ مَلِقَ، بِالْكَسْرِ، يَمْلَقُ مَلَقًا.

وَرَجُلٌ مَلِقٌ: يُعْطِي بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُتَنَخِّلِ:

أَرْوَى بجِنّ العَهْد سَلْمَى، وَلَا ***يُنْصِبْكَ عَهْدُ المَلِقِ الحُوَّلِ

قَوْلُهُ بجِنّ العَهْد أَي سَقَاهَا اللَّهُ بحِدْثان الْعَهْدِ لأَنه يُثْبِتُ وَيَدُومُ، وجِنُّ الشَّبَابِ: أَوَّلُهُ وَقَوْلُهُ: وَلَا يُنْصِبْكَ عَهْدُ المَلِق أَي مَنْ كَانَ مَلِقًا ذَا حِوَلٍ فَصَرَمَك فَلَا يُنْصِبْكَ صَرْمهُ؛ وَرَجُلٌ مَلِقٌ ومَلَّاق، وَقِيلَ: المَلَّاق الَّذِي لَا يَصْدُقُ وُدُّه.

والمَلِقُ أَيضًا: الَّذِي يَعِدُك ويُخْلِفك فَلَا يَفِي وَيَتَزَيَّنُ بِمَا لَيْسَ عِنْدَهُ.

أَبو عَمْرٍو: المَلَقُ اللِّينُ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْكَلَامِ والصُّخور.

والمَلَقُ: الدُّعَاءُ وَالتَّضَرُّعُ؛ قَالَ:

لاهُمّ، ربَّ البَيْتِ والمُشَرَّقِ، ***إيّاكَ أَدْعُو، فتَقَبَّل مَلَقِي

يَعْنِي دُعَائِي وتضرُّعي.

وَيُقَالُ: إِنَّهُ لمَلَّاق مُتَمَلِّق ذُو مَلَقٍ، وَلَا يُقَالُ مِنْهُ فَعِلَ يَفْعَلُ إلَّا عَلَى يَتَمَلَّقُ، والمَلَقُ مِنَ التَّمَلُّق، وَأَصْلُهُ مِنَ التَّلْيِينِ.

وَيُقَالُ للصَّفاة الْمَلْسَاءِ اللَّيِّنَةِ مَلَقةٌ، وَجَمْعُهَا مَلَقات؛ وَقَالَ الرَّاجِزُ: " وحَوْقل ساعِدهُ قَدِ امَّلَقْ أَي لانَ.

خَالِدُ بْنُ كُلْثُومٍ: المَلِقُ مِنَ الْخَيْلِ الَّذِي "لَا يُوثق بِجَرْيِهِ، أُخذ مِنْ مَلَق الإِنسان الَّذِي لَا يَصْدُقُ فِي مودَّته؛ قَالَ الْجَعْدِيُّ:

وَلَا مَلِقٌ يَنْزُو ويُندِر رَوْثَهُ ***أُحادَ، إِذَا فَأْسُ اللِّجَامِ تَصَلْصلا

أَبُو عُبَيْدٍ: فَرَسٌ مَلِقٌ والأَنثى مَلِقةٌ وَالْمَصْدَرُ المَلَقُ وَهُوَ أَلطف الحُضْر وأَسرعه، وأَنشد بَيْتَ الْجَعْدِيِّ أَيضًا.

ومَلَّق الشيءَ: مَلَّسَهُ.

وانْمَلَق الشَّيْءُ وامَّلَق، بالإِدغام، أَي صَارَ أَملس؛ قَالَ الرَّاجِزُ:

وحَوْقل ساعدُهُ قَدِ انْمَلَقْ، ***يَقُولُ: قَطْبًا ونِعِمّا، إِنْ سَلَقْ

قَوْلُهُ انْمَلَقَ يَعْنِي انْسَحَجَ مِنْ حَمْل الأَثقال.

وانْمَلَق مِنِّي أَي أَفْلت.

والمَلَق: الصُّفُوح اللَّيِّنَةُ الْمُلْتَزِقَةُ مِنَ الْجَبَلِ، وَاحِدَتُهَا مَلَقة، وَقِيلَ: هِيَ الْآكَامُ الْمُفْتَرِشَةُ، والمَلَقةُ: الصَّفاةُ الْمَلْسَاءُ؛ قَالَ صَخْرُ الْغَيِّ الْهُذَلِيُّ:

وَلَا عُصْمًا أَوابِدَ فِي صُخُور، ***كُسِينَ عَلَى فَراسِنِها خِدامَا

أُتِيحَ لَهَا أُقَيْدِر ذُو حَشيف، ***إِذَا سامَتْ عَلَى المَلَقات سَامَا

والإِمْلاق: الافْتِقار.

قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ}.

وَفِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: «أَما مُعَاوِيَةُ فَرَجُلٌ أَمْلق مِنَ الْمَالِ»؛ أي فَقِيرٌ مِنْهُ قَدْ نَفِد مَالُهُ.

يُقَالُ: أَمْلَق الرَّجُلُ، فَهُوَ مُمْلِق، وأَصل الإِملاق الإِنْفاق.

يُقَالُ: أَمْلَق مَا مَعَهُ إمْلاقًا، ومَلَقه مَلْقًا إِذَا أَخرجه مِنْ يَدِهِ وَلَمْ يَحْبِسْهُ، وَالْفَقْرُ تَابِعٌ لِذَلِكَ، فَاسْتَعْمَلُوا لَفْظَ السَّبَبِ فِي مَوْضِعِ الْمُسَبَّبِ حَتَّى صَارَ بِهِ أَشهر.

وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: «ويَرِيشُ مُمْلِقَها»؛ أي يُغْنِي فَقِيرَهَا.

والإِمْلاق: كَثْرَةُ إِنْفَاقِ الْمَالِ وَتَبْذِيرِهِ حَتَّى يُورِثَ حَاجَةً، وَقَدْ أَمْلَقَ وأَمْلَقَه اللَّهُ، وَقِيلَ: المُمْلِق الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن امرأَة سأَلت ابْنَ عَبَّاسٍ: أَأُنفق مِنْ مَالِي مَا شئت؟ قال: نَعَمْ أَمْلقي مِنْ مَالِكِ مَا شِئْتِ قَالَ اللَّهُ تعالى: {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}، مَعْنَاهُ خَشْيَةَ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ».

ابْنُ شُمَيْلٍ: إِنَّهُ لمُمْلِق أَيْ مُفْسِدٌ.

والإِملاق: الإِفساد؛ قَالَ شَمِرٌ: أَمْلَقَ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ.

يُقَالُ: أَمْلَقَ الرجلُ، فَهُوَ مُمْلِقٌ إِذَا افْتَقَرَ فَهَذَا لَازِمٌ، وأَمْلَقَ الدهرُ مَا بِيَدِهِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ أَوس:

لَمَّا رأَيتُ العُدْمَ قَيَّدَ نائِلي، ***وأَمْلَقَ مَا عِنْدِي خُطُوب تَنَبَّلُ

وأَمْلَقَتْهُ الخُطُوب أَي أَفقرته.

وَيُقَالُ: أَمْلَقَ مَالِي خُطُوبُ الدَّهْرِ أَي أَذهبه.

ومَلَقَ الأَديمَ يَمْلُقه مَلْقًا إِذَا دَلَّكَهُ حَتَّى يَلِينَ.

وَيُقَالُ: مَلَقْتُ جِلْدَهُ إِذَا دَلَّكْتَهُ حَتَّى يَمْلاسّ؛ قَالَ:

رأَت غُلَامًا جِلْدُه لَمْ يُمْلَقِ ***بماءِ حَمَّامٍ، وَلَمْ يُخَلَّقِ

يَعْنِي وَلَمْ يُمَلَّس مِنَ الخَلْق وَهُوَ الْمَلَّاسَةُ.

ومَلَقَ الثوبَ والإِناء يَمْلُقه مَلْقًا: غَسَلَهُ.

والمَلْقُ: الرُّضَّعُ.

ومَلَقَ الجَدْي أُمه يَمْلُقُها مَلْقًا: رَضَعَهَا، وَكَذَلِكَ الفَصِيل وَالصَّبِيُّ، وَقُرِئَ عَلَى الْمُنْذِرِيِّ: مَلَقَ الْجِدْيُ أُمه يَمْلِقُها، قَالَ: وأَحسب مَلَقَ الْجِدْيُ أُمه يَمْلُقها إِذَا رَضَعَهَا لُغَةً.

ومَلَقَ الرَّجُلُ جَارَيْتَهُ ومَلَجَها إِذَا نَكَحَهَا، كَمَا يَمْلُق الْجَدْيُ أُمه إِذَا رَضَعَهَا.

وَفِي حَدِيثِ عَبِيدَةَ السَّلْمانِيّ: «أَن ابْنَ سِيرِينَ قَالَ لَهُ مَا يُوجِبُ الْجَنَابَةَ؟ قَالَ: الرَّفّ والاسْتِمْلاقُ»؛ الرَّفّ الْمَصُّ، والاسْتِملاق الرَّضْعُ، وَهُوَ اسْتِفْعال مِنْهُ، وَكَنَّى بِهِ عَنِ الْجِمَاعِ لأَن الْمَرْأَةَ تَرْتَضِعُ مَاءَ الرَّجُلِ، مِنْ مَلَق الْجَدْيُ أُمه إِذَا رَضَعَهَا، وأَراد أَن الَّذِي يُوجِبُ الْغُسْلَ امْتِصَاصُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ إِذَا خَالَطَهَا كَمَا يَرْضَعُ الرَّضِيعُ إِذَا لَقَمَ حَلَمة الثَّدْي.

ومَلَقَ عَيْنَهُ يَمْلُقُها مَلْقًا: ضَرَبَهَا.

ومَلَقهُ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا يَمْلُقه مَلْقًا: ضَرَبَهُ.

وَيُقَالُ: مَلَقهُ مَلَقاتٍ إِذَا ضَرَبَهُ.

والمَلْقُ: ضَرْبُ الْحِمَارِ بِحَوَافِرِهِ الأَرض؛ قَالَ رُؤْبَةُ يَصِفُ حِمَارًا:

مُعْتَزِم التَّجْليح مَلَّاخ المَلَقْ، ***يَرْمي الجَلامِيدَ بجُلْمُودٍ مِدَقْ

أَراد المَلْقَ فثقَّله؛ يَقُولُ: لَيْسَ حَافِرُ هَذَا الْحِمَارِ بِثَقِيلِ الوَقْع عَلَى الأَرض.

والمَلَقُ: مَا اسْتَوَى مِنَ الأَرض، وأَنشد بَيْتَ رُؤْبَةَ: مَلَّاخ المَلَقْ، وَقَالَ: الْوَاحِدَةُ مَلَقَة.

والمَلْقُ: مِثْلُ المَلْخِ وَهُوَ السَّيْرُ الشَّدِيدُ.

والمَيْلَقُ: السَّرِيعُ؛ قَالَ الزَّفَيَانُ:

ناجٍ مُلحّ فِي الخَبَارِ مَيْلَقُ، ***كأَنه سُوذانِقٌ أَو نِقْنِقُ

والمَلْقُ: الْمَحْوُ مِثْلُ اللَّمْقِ.

ومَلْقُ الأَدِيم: غَسْلُهُ.

والمَلْقُ: الحُضْر الشَّدِيدُ.

والمَلْقُ: المَرّ الْخَفِيفُ.

يُقَالُ: مَرّ يَمْلُقُ الأَرض مَلْقًا.

وَرَجُلٌ مَلِقٌ: ضَعِيفٌ.

والمالَقُ: الْخَشَبَةُ الْعَرِيضَةُ الَّتِي تَشُدُّ بِالْحِبَالِ إِلَى الثَّوْرين فَيَقُومُ عَلَيْهَا الرَّجُلُ وَيَجُرُّهَا الثَّوْرَانِ فيُعَفِّي آثَارَ اللُّؤَمَةِ والسِّنّ؛ وَقَدْ مَلَّقُوا أَرضهم يُمَلِّقُونها تَمْلِيقًا إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ بِهَا؛ قَالَ الأَزهري: مَلَّقوا ومَلَّسوا وَاحِدٌ وَهِيَ تملِّسُ الأَرض، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ المالَقَ عَرَبِيًّا؛ وَقِيلَ: المالَقُ الَّذِي يَقْبِضُ عَلَيْهِ الْحَارِثُ.

وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: المِمْلَقة خَشَبَةٌ عَرِيضَةٌ يَجُرُّهَا الثِّيرَانُ.

اللَّيْثُ: المالَقُ الَّذِي يُمَلِّسُ الْحَارِثُ بِهِ الأَرض المُثارة.

أَبو سَعِيدٍ: يُقَالُ لمالَج الطَّيّان مالَقُ ومِمْلَقٌ.

وَيُقَالُ: وَلَدَتِ النَّاقَةُ فَخَرَجَ الْجَنِينُ مَلِيقًا مِنْ بَطْنِهَا أَي لَا شَعْرَ عَلَيْهِ.

والمَلقُ: المُلوسة.

وَقَالَ الأَصمعي: الْجَنِينُ مَلِيطٌ، بالطاء، بهذا المعنى.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


211-لسان العرب (بكل)

بكل: البَكْل: الدَّقِيق بالرُّبّ؛ قَالَ:

لَيْسَ بغَشٍّ هَمُّه فِيمَا أَكَل، ***وأَزْمةٌ وَزْمتُه مِنَ البَكَل

أَراد البَكْل فحَرَّك لِلضَّرُورَةِ.

والبَكِيلَة والبَكَالَةُ جَمِيعًا: الدَّقِيقُ يُخْلط بالسَّوِيق والتَّمْرُ يُخْلَط بالسَّمْن فِي إِناءٍ وَاحِدٍ وَقَدْ بُلَّا باللَّبَن، وَقِيلَ: تخلِطُه بِالسَّوِيقِ ثُمَّ تَبُلُّه بِمَاءٍ أَو زَيْتٍ أَو سَمْن، وَقِيلَ: البَكِيلَة الأَقِطُ الْمَطْحُونُ تَخْلِطُهُ بِالْمَاءِ فتُثَرِّيه كأَنك تُرِيدُ أَنْ تَعْجِنه.

وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: البَكِيلَة الدَّقِيقُ أَو السَّويق الَّذِي يُبَلُّ بَلًّا، وَقِيلَ: البَكِيلَة الجافُّ مِنَ الأَقِط الَّذِي يُخْلَط بِهِ الرَّطْبُ، وَقِيلَ: البَكِيلَة طَحِينٌ وتَمْر يُخْلَط فيُصَبُّ عَلَيْهِ الزَّيْتُ أَو السَّمْنُ وَلَا يُطْبَخ.

والبَكِيلُ: مَسُوطُ الأَقِط.

الْجَوْهَرِيُّ عَنِ الأُموي: البَكِيلَة السَّمْن يُخْلَط بالأَقِط؛ وأَنشد:

هَذَا غُلامٌ شَرِثُ النَّقِيلَه، ***غَضْبَانُ لَمْ تُؤْدَمْ لَهُ البَكِيلَه

قَالَ: وَكَذَلِكَ البَكَالَة.

وَقَوْلُهُ لَمْ تؤْدم أَي لَمْ يُصَبَ "عَلَيْهَا زَيْتٌ أَو إِهَالة، وَيُقَالُ: نَعْلٌ شَرِثَة أَي خَلَقٌ.

وَقِيلَ: البَكِيلَة السَّوِيق وَالتَّمْرُ يُؤْكَلان فِي إِناءٍ واحد وقد بُلَّا باللبن.

وبَكَلْت البَكِيلة أَبْكُلُها بَكْلًا أَي اتَّخَذْتُهَا.

وبَكَلْت السَّوِيق بِالدَّقِيقِ أَي خَلَطْتُهُ.

وَيُقَالُ: بَكَلَ ولَبَك بِمَعْنًى مِثْلَ جَبَذَ وجَذَبَ.

والبَكْل: الخَلْط؛ قَالَ الْكُمَيْتُ:

يَهِيلون مِنْ هَذَاك فِي ذَاكَ، بَينَهُم ***أَحاديثُ مَغْرورِين بَكْلٌ مِنَ البَكْل

أَحاديث مُبْتَدَأٌ وَبَيْنَهُمُ الْخَبَرُ.

وبَكَلَه إِذا خَلَطه.

وبَكَّلَ عَلَيْهِ: خَلَّط.

الأُموي: البَكْل الأَقِط بالسَّمْن.

وَيُقَالُ: ابْكُلِي واعْبِثي.

والبَكِيلَة: الضأْن والمَعَز تَخْتلط، وَكَذَلِكَ الغَنَم إِذا لَقِيَتْ غَنَمًا أُخرى، وَالْفِعْلُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بَكَلَ يَبْكُل بَكْلًا.

وَيُقَالُ للغَنم إِذا لَقِيت غَنَمًا أُخرى فدَخَلت فِيهَا: ظَلَّت عَبِيثَة وَاحِدَةً وبَكِيلَة وَاحِدَةً أَي قَدِ اخْتَلَطَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَهُوَ مَثَل، أَصلُه مِنَ الدَّقِيقِ والأَقِط يُبْكَلُ بالسَّمْن فيؤْكل؛ وبَكَلَ عَلَيْنَا حَديثَه وأَمْرَه يَبْكُلُهُ بَكْلًا: خَلَطَهُ وجاءَ بِهِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، وَالِاسْمُ البَكِيلة؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.

وَمِنْ أَمثالهم فِي الْتِبَاسِ الأَمر: بَكْلٌ مِنَ البَكْل، وَهُوَ اخْتِلَاطُ الرأْي وارْتِجانُه.

وتَبَكَّل الرَّجُلُ فِي الْكَلَامِ أَي خَلَطَ.

وَفِي حَدِيثِ الْحَسَنِ: «سأَله رَجُلٌ عَنْ مسأَلة ثُمَّ أَعادها فقَلَبها، فَقَالَ: بَكَّلْتَ عَلَيَ»أَي خَلَّطت، مِنَ البَكِيلة وَهِيَ السَّمْنُ وَالدَّقِيقُ الْمَخْلُوطُ.

والمُتَبَكِّل: المخلِّط فِي كَلَامِهِ.

وتَبَكَّلُوا عَلَيْهِ: عَلَوْه بالشَّتْم وَالضَّرْبِ والقَهْر.

وتَبَكَّلَ فِي مِشْيَتهِ.

اختالَ.

والإِنسان يَتَبَكَّلُ أَي يَخْتال.

وَرَجُلٌ جَمِيل بَكِيلٌ: مُتَنَوِّق فِي لِبْسَته ومَشْيه.

والبَكِيلَة: الْهَيْئَةُ والزِّيُّ.

والبِكْلَة: الخُلُق.

والبِكْلَة: الحَالُ والخِلْقة؛ حَكَاهُ ثَعْلَبٌ؛ وأَنشد:

لَسْتُ إِذًا لِزَعْبَله، ***إِنْ لَمْ أُغَيِّرْ بِكْلَتِي،

إِن لَمْ أُسَاوَ بالطُّوَلْ "قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَهَذَا الْبَيْتُ مِنْ مُسَدَّس الرَّجَز جَاءَ عَلَى التَّمَامِ.

والبَكْل: الغَنِيمة وَهُوَ التَّبَكُّل، اسْمٌ لَا مَصْدَرٌ، ونظِيره التَّنَوُّط؛ قَالَ أَوس بْنُ حَجَر:

عَلى خَيْرِ مَا أَبْصَرْتها مِنْ بِضَاعة، ***لِمُلْتَمِسٍ بَيْعًا لَهَا أَو تَبَكُّلا

أَي تَغَنُّمًا.

وبَكَّلَه إِذا نَحَّاه قِبَله كائِنًا مَا كَانَ.

وبَنُو بَكِيلٍ: حَيٌّ مِنْ هَمْدان؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الْكُمَيْتِ:

يقولونَ: لَمْ يُورَثْ، وَلَوْلَا تُرَاثُه، ***لَقَدْ شركَتْ فِيهِ بَكِيلٌ وأَرْحَبُ

وبَنُو بِكَالٍ: مِنْ حِمْيَر مِنْهُمْ نَوْفٌ البِكَاليُّ صَاحِبُ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.

وَقَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قَالَ الْمُهَلَّبِيُّ بِكَالَةُ قَبِيلَةٌ مِنَ الْيَمَنِ، والمُحَدِّثون يقولونَ نَوْفٌ البَكَّاليُّ، بِفَتْحِ الباء والتشديد.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


212-لسان العرب (حمل)

حمل: حَمَلَ الشيءَ يَحْمِلُهُ حَمْلًا وحُمْلانًا فَهُوَ مَحْمول وحَمِيل، واحْتَمَلَه؛ وَقَوْلُ النَّابِغَةِ: " فَحَمَلْتُ بَرَّة واحْتَمَلْتَ فَجَارِ "عَبَّر عَنِ البَرَّة بالحَمْل، وَعَنِ الفَجْرة بالاحْتِمَال، لأَن حَمْل البَرَّة بالإِضافة إِلى احْتِمَالِ الفَجْرَة أَمر يَسِيرٌ ومُسْتَصْغَر؛ وَمِثْلُهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ اسْمُهُ: لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ؛ وَقَوْلُ أَبي ذُؤَيْبٍ:

مَا حُمِّلَ البُخْتِيُّ عَامَ غِيَاره، ***عَلَيْهِ الوسوقُ: بُرُّها وشَعِيرُها

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: إِنما حُمِّل فِي مَعْنَى ثُقِّل، وَلِذَلِكَ عَدَّاه بِالْبَاءِ؛ أَلا تَرَاهُ قَالَ بَعْدَ هَذَا: " بأَثْقَل مِمَّا كُنْت حَمَّلت خَالِدَا وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاح فَلَيْسَ مِنَّا» أَي مِنْ حَمَلَ السِّلَاحَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِكَوْنِهِمْ مُسْلِمِينَ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ، فإِن لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَيْهِمْ لإِجل كَوْنِهِمْ مُسْلِمِينَ فَقَدِ اخْتُلِف فِيهِ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَيْسَ مِنَّا أَي لَيْسَ مِثْلَنَا، وَقِيلَ: لَيْسَ مُتَخَلِّقًا بأَخلاقنا وَلَا عَامِلًا بِسُنَّتِنا، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا}؛ قَالَ: مَعْنَاهُ وَكَمْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَدَّخِر رِزْقَهَا إِنما تُصْبح فَيَرْزُقُهَا اللَّهُ.

والحِمْل: مَا حُمِل، وَالْجَمْعُ أَحْمَال، وحَمَلَه عَلَى الدَّابَّةِ يَحْمِلُه حَمْلًا.

والحُمْلان: مَا يُحْمَل عَلَيْهِ مِنَ الدَّواب فِي الهِبَة خَاصَّةً.

الأَزهري: وَيَكُونُ الحُمْلان أَجْرًا لِمَا يُحْمَل.

وحَمَلْت الشيءَ عَلَى ظَهْرِي أَحْمِلُه حَمْلًا.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْرًا خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا}؛ أَي وِزْرًا.

وحَمَلَه عَلَى الأَمر يَحْمِلُه حَمْلًا فانْحَمَلَ: أَغْراه بِهِ؛ وحَمَّلَه عَلَى الأَمر تَحْمِيلًا وحِمَّالًا فَتَحَمَّلَه تَحَمُّلًا وتِحِمَّالًا؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: أَرادوا فِي الفِعَّال أَن يَجِيئُوا بِهِ عَلَى الإِفْعال فَكَسَرُوا أَوله وأَلحقوا الأَلف قَبْلَ آخِرِ حَرْفٍ فِيهِ، وَلَمْ يُرِيدُوا أَن يُبْدِلوا حَرْفًا مَكَانَ حَرْفٍ كَمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَفْعَل واسْتَفْعَل.

وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي هَدْم الْكَعْبَةِ وَمَا بَنَى ابنُ الزُّبَيْر مِنْهَا: «وَدِدت أَني تَرَكْتُه وَمَا تَحَمَّل مِنَ الإِثم فِي هَدْم الْكَعْبَةِ وَبِنَائِهَا».

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ}، قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى يَحْمِلْنها يَخُنَّها، والأَمانة هُنَا: الْفَرَائِضُ الَّتِي افْتَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى آدَمَ وَالطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ، وَكَذَا جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ والإِنسان هُنَا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ، وَقَالَ أَبو إِسحاق فِي الْآيَةِ: إِن حَقِيقَتَهَا، وَاللَّهُ أَعلم، أَن اللَّهَ تَعَالَى ائْتَمَن بَنِي آدَمَ عَلَى مَا افْتَرَضَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ طَاعَتِهِ وأْتَمَنَ السَّمَاوَاتِ والأَرض وَالْجِبَالَ بِقَوْلِهِ: ائْتِيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ}؛ فَعَرَّفنا اللَّهُ تَعَالَى أَن السَّمَاوَاتِ والأَرض لَمْ تَحْمِل الأَمانة أَي أَدَّتْها؛ وَكُلُّ مَنْ خَانَ الأَمانة فَقَدْ حَمَلَها، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ أَثم فَقَدْ حَمَلَ الإِثْم؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ، الْآيَةَ، فأَعْلم اللهُ تَعَالَى أَن مَنْ بَاءَ بالإِثْم يُسَمَّى حَامِلًا للإِثم والسماواتُ والأَرض أَبَيْن أَن يَحْمِلْنها، يَعْنِي الأَمانة.

وأَدَّيْنَها، وأَداؤها طاعةُ اللَّهِ فِيمَا أَمرها بِهِ والعملُ بِهِ وتركُ الْمَعْصِيَةِ، وحَمَلها الإِنسان، قَالَ الْحَسَنُ: أَراد الْكَافِرَ وَالْمُنَافِقَ حَمَلا الأَمانة أَي خَانَا وَلَمْ يُطِيعا، قَالَ: فَهَذَا الْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعلم، صَحِيحٌ وَمَنْ أَطاع اللَّهَ مِنَ الأَنبياء والصِّدِّيقين وَالْمُؤْمِنِينَ فَلَا يُقَالُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، قَالَ: وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ مَا يَتْلُو هَذَا مِنْ قَوْلُهُ: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ، إِلى آخِرِهَا؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: وَمَا عَلِمْتُ أَحدًا شَرَح مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا شَرَحَهُ أَبو إِسحاق؛ قَالَ: وَمِمَّا يُؤَيِّدُ قَوْلَهُ فِي حَمْل الأَمانة إِنه خِيَانَتُها وَتَرْكُ أَدائها قَوْلُ الشَّاعِرِ:

إِذا أَنت لَمْ تَبْرَح تُؤَدِّي أَمانة، ***وتَحْمِل أُخْرَى، أَفْرَحَتْك الودائعُ

أَراد بِقَوْلِهِ وتَحْمِل أُخرى أَي تَخُونها وَلَا تؤَدِّيها، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ أَفْرَحَتْك الْوَدَائِعُ أَي أَثْقَلَتْك الأَمانات الَّتِي تَخُونُهَا وَلَا تُؤَدِّيها.

وَقَوْلُهُ تعالى: {فَإِنَّما عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ}؛ فَسَّرَهُ ثَعْلَبٌ فَقَالَ: عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أُوحيَ إِليه وكُلِّف أَن يُنَبِّه عَلَيْهِ، وَعَلَيْكُمْ أَنتم الاتِّباع.

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: «لَا تُنَاظِروهم بِالْقُرْآنِ فإِن الْقُرْآنَ حَمَّال ذُو وُجُوه» أَي يُحْمَل عَلَيْهِ كُلُّ تأْويل فيحْتَمِله، وَذُو وُجُوهٍ أَي ذُو مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ.

الأَزهري: وَسَمَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الإِثْم حِمْلًا فَقَالَ: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى "؛ يَقُولُ: وإِن تَدْعُ نَفْسٌ مُثْقَلة بأَوزارها ذَا قَرابة لَهَا إِلى أَن يَحْمِل مِنْ أَوزارها شَيْئًا لَمْ يَحْمِل مِنْ أَوزارها شَيْئًا.

وَفِي حَدِيثِ الطِّهَارَةِ: «إِذا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْن لَمْ يَحْمِل الخَبَث»أَي لَمْ يُظْهِرْهُ وَلَمْ يَغْلب الخَبَثُ عَلَيْهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ فُلَانٌ يَحْمِل غَضَبه؛ أي لَا يُظْهِره؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: وَالْمَعْنَى أَن الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ بِوُقُوعِ الْخَبَثِ فِيهِ إِذا كَانَ قُلَّتَين، وَقِيلَ: مَعْنَى لَمْ يَحْمل خَبَثًا أَنه يَدْفَعُهُ عَنْ نَفْسِهِ، كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ لَا يَحْمِل الضَّيْم إِذا كَانَ يأْباه وَيَدْفَعُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنه إِذا كَانَ قُلَّتَين لَمْ يَحْتَمِل أَن يَقَعَ فِيهِ نَجَاسَةٌ لأَنه يَنْجُسُ بِوُقُوعِ الْخَبَثِ فِيهِ، فَيَكُونُ عَلَى الأَول قَدْ قَصَدَ أَوَّل مَقَادِيرِ الْمِيَاهِ الَّتِي لَا تَنْجُسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهَا، وَهُوَ مَا بَلَغَ القُلَّتين فَصَاعِدًا، وَعَلَى الثَّانِي قَصْدُ آخِرِ الْمِيَاهِ الَّتِي تَنْجُسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهَا، وَهُوَ مَا انْتَهَى فِي القلَّة إِلى القُلَّتَين، قَالَ: والأَول هُوَ الْقَوْلُ، وَبِهِ قَالَ مَنْ ذَهَبَ إِلى تَحْدِيدِ الْمَاءِ بالقُلَّتَيْن، فأَما الثَّانِي فَلَا.

واحْتَمَلَ الصَّنِيعَةَ: تَقَلَّدها وَشَكَرها، وكُلُّه مِنَ الحَمْل.

وحَمَلَ فُلَانًا وتَحَمَّلَ بِهِ وَعَلَيْهِ فِي الشَّفَاعَةِ وَالْحَاجَةِ: اعْتَمد.

والمَحْمِل، بِفَتْحِ الْمِيمِ: المُعْتَمَد، يُقَالُ: مَا عَلَيْهِ مَحْمِل، مِثْلَ مَجْلِس، أَي مُعْتَمَد.

وَفِي حَدِيثِ قَيْسٍ: «تَحَمَّلْت بعَليّ عَلَى عُثْمان فِي أَمر»أَي اسْتَشْفَعْتُ بِهِ إِليه.

وتَحامل فِي الأَمر وَبِهِ: تَكَلَّفه عَلَى مَشَقَّةٍ وإِعْياءٍ.

وتَحَامَلَ عَلَيْهِ: كَلَّفَه مَا لَا يُطِيق.

واسْتَحْمَلَه نَفْسَه: حَمَّله حَوَائِجَهُ وأُموره؛ قَالَ زُهَيْرٌ:

وَمَنْ لَا يَزَلْ يَسْتَحْمِلُ الناسَ نَفْسَه، ***وَلَا يُغْنِها يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، يُسْأَم

وَفِي الْحَدِيثِ: «كَانَ إِذا أَمَرَنا بِالصَّدَقَةِ انْطَلَقَ أَحَدُنا إِلى السُّوقِ فَتَحَامَلَ» أَي تَكَلَّف الحَمْل بالأُجْرة ليَكْسِب مَا يتصدَّق بِهِ.

وتَحَامَلْت الشيءَ: تَكَلَّفته عَلَى مَشَقَّة.

وتَحامَلْت عَلَى نَفْسِي إِذا تَكَلَّفت الشيءَ عَلَى مَشَقَّةٍ.

وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: كُنَّا نُحَامِلُ عَلَى ظُهُورِنَا أَي نَحْمِل لِمَنْ يَحْمِل لَنَا، مِنَ المُفاعَلَة، أَو هُوَ مِنَ التَّحامُل.

وَفِي حَدِيثِ الفَرَع والعَتِيرة: «إِذا اسْتَحْمَلَ ذَبَحْته فَتَصَدَّقت بِهِ»أَي قَوِيَ عَلَى الحَمْل وأَطاقه، وَهُوَ اسْتَفْعل مِنَ الحَمْل؛ وَقَوْلُ يَزِيدُ بْنُ الأَعور الشَّنِّي: " مُسْتَحْمِلًا أَعْرَفَ قَدْ تَبَنَّى "يُرِيدُ مُسْتَحْمِلًا سَنامًا أَعْرَف عَظِيمًا.

وَشَهْرٌ مُسْتَحْمِل: يَحْمِل أَهْلَه فِي مَشَقَّةٍ لَا يَكُونُ كَمَا يَنْبَغِي أَن يَكُونَ؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي؛ قَالَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ إِذا نَحَر هِلال شَمالًا كَانَ شَهْرًا مُسْتَحْمِلًا.

وَمَا عَلَيْهِ مَحْمِل أَي مَوْضِعٌ لِتَحْمِيلِ الْحَوَائِجِ.

وَمَا عَلَى الْبَعِيرِ مَحْمِل مِنْ ثِقَل الحِمْل.

وحَمَلَ عَنْهُ: حَلُم.

ورَجُل حَمُول: صاحِب حِلْم.

والحَمْل، بِالْفَتْحِ: مَا يُحْمَل فِي الْبَطْنِ مِنَ الأَولاد فِي جَمِيعِ الْحَيَوَانِ، وَالْجَمْعُ حِمَال وأَحْمَال.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَ}.

وحَمَلْت المرْأَةُ والشجرةُ تَحْمِلُ حَمْلًا: عَلِقَت.

وَفِي التَّنْزِيلِ: {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا}؛ قَالَ ابْنُ جِنِّي: حَمَلَتْه وَلَا يُقَالُ حَمَلَتْ بِهِ إِلَّا أَنه كَثُرَ حَمَلَتِ المرأَة بِوَلَدِهَا؛ وأَنشد لأَبي كَبِيرٍ الهذلي:

حَمَلَتْ بِهِ، فِي لَيْلَةٍ، مَزْؤُودةً ***كَرْهًا، وعَقْدُ نِطاقِها لَمْ يُحْلَل

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {حَمَلَتْهُ أُمُّه كَرْهًا}، وكأَنه "إِنما جَازَ حَمَلَتْ بِهِ لَمَا كَانَ فِي مَعْنَى عَلِقَت بِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ، لَمَا كَانَ فِي مَعْنَى الإِفضاء عُدِّي بإِلى.

وامرأَة حَامِل وحَامِلَة، عَلَى النَّسَبِ وَعَلَى الْفِعْلِ.

الأَزهري: امرأَة حَامِل وحَامِلَة إِذا كَانَتْ حُبْلى.

وَفِي التَّهْذِيبِ: إِذا كَانَ فِي بَطْنِهَا وَلَدٌ؛ وأَنشد لِعَمْرِو بْنِ حَسَّانَ وَيُرْوَى لِخَالِدِ بْنِ حَقٍّ:

تَمَخَّضَتِ المَنُونُ لَهُ بِيَوْمٍ ***أَنى، ولِكُلِّ حَامِلَة تَمام

فَمَنْ قَالَ حَامِل، بِغَيْرِ هَاءٍ، قَالَ هَذَا نَعْتٌ لَا يَكُونُ إِلا لِلْمُؤَنَّثِ، وَمَنْ قَالَ حَامِلَة بَنَاهُ عَلَى حَمَلَتْ فَهِيَ حَامِلَة، فإِذا حَمَلَتْ المرأَةُ شَيْئًا عَلَى ظَهْرِهَا أَو عَلَى رأْسها فَهِيَ حَامِلَة لَا غَيْرَ، لأَن الْهَاءَ إِنما تَلْحَقُ لِلْفَرْقِ فأَما مَا لَا يَكُونُ لِلْمُذَكَّرِ فَقَدِ اسْتُغني فِيهِ عَنْ عَلَامَةِ التأْنيث، فإِن أُتي بِهَا فإِنما هُوَ عَلَى الأَصل، قَالَ: هَذَا قَوْلُ أَهل الْكُوفَةِ، وأَما أَهل الْبَصْرَةِ فإِنهم يَقُولُونَ هَذَا غَيْرُ مُسْتَمِرٍّ لأَن الْعَرَبَ قَالَتْ رَجُل أَيِّمٌ وامرأَة أَيّم، وَرَجُلٌ عَانِسٌ وامرأَة عَانِسٌ، عَلَى الِاشْتِرَاكِ، وَقَالُوا امرأَة مُصْبِيَة وكَلْبة مُجْرِية، مَعَ غَيْرِ الِاشْتِرَاكِ، قَالُوا: وَالصَّوَابُ أَن يُقَالَ قَوْلُهُمْ حَامِل وَطَالِقٌ وَحَائِضٌ وأَشباه ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي لَا عَلَامَةَ فِيهَا للتأْنيث، فإِنما هِيَ أَوْصاف مُذَكَّرة وُصِفَ بِهَا الإِناث، كَمَا أَن الرَّبْعَة والرَّاوِية والخُجَأَة أَوصاف مُؤَنَّثَةٌ وُصِفَ بِهَا الذُّكْران؛ وَقَالُوا: حَمَلَتِ الشاةُ والسَّبُعة وَذَلِكَ فِي أَول حَمْلِها، عَنِ ابْنِ الأَعرابي وَحْدَهُ.

والحَمْل: ثَمَرُ الشَّجَرَةِ، وَالْكَسْرُ فِيهِ لُغَةٌ، وشَجَر حَامِلٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا ظَهر مِنْ ثَمَرِ الشَّجَرَةِ فَهُوَ حِمْل، وَمَا بَطَن فَهُوَ حَمْل، وَفِي التَّهْذِيبِ: مَا ظَهَرَ، وَلَمْ يُقَيِّده بِقَوْلِهِ مِنْ حَمْل الشَّجَرَةِ وَلَا غَيْرِهِ.

ابْنُ سِيدَهْ: وَقِيلَ الحَمْل مَا كَانَ فِي بَطْنٍ أَو عَلَى رأْس شَجَرَةٍ، وَجَمْعُهُ أَحْمَال.

والحِمْل بِالْكَسْرِ: مَا حُمِل عَلَى ظَهْرٍ أَو رأْس، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ مَا كَانَ لَازِمًا لِلشَّيْءِ فَهُوَ حَمْل، وَمَا كَانَ بَائِنًا فَهُوَ حِمْل؛ قَالَ: وَجَمْعُ الحِمْل أَحْمَال وحُمُول؛ عَنْ سِيبَوَيْهِ، وَجَمْعُ الحَمْلِ حِمَال.

وَفِي حَدِيثِ بِنَاءِ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ: «هَذَا الحِمَال لَا حِمَال خَيْبَر»، يَعْنِي ثَمَرَ الْجَنَّةِ أَنه لَا يَنْفَد.

ابْنُ الأَثير: الحِمَال، بِالْكَسْرِ، مِنَ الحَمْل، وَالَّذِي يُحْمَل مِنْ خَيْبَرَ هُوَ التَّمْرُ أَي أَن هَذَا فِي الْآخِرَةِ أَفضل مِنْ ذَاكَ وأَحمد عَاقِبَةً كأَنه جَمْعُ حِمْل أَو حَمْل، وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ مَصْدَرَ حَمَلَ أَو حَامَلَ؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" عُمَرَ: فأَيْنَ الحِمَال؟ "يُرِيدُ مَنْفَعَةَ الحَمْل وكِفايته، وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بالحَمْل الَّذِي هُوَ الضَّمَانُ.

وَشَجَرَةٌ حَامِلَة: ذَاتُ حَمْل.

التَّهْذِيبُ: حَمْل الشَّجَرِ وحِمْله.

وَذَكَرَ ابْنُ دُرَيْدٍ أَن حَمْل الشَّجَرِ فِيهِ لُغَتَانِ: الْفَتْحُ وَالْكَسْرُ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: أَما حَمْل البَطْن فَلَا خِلَافَ فِيهِ أَنه بِفَتْحِ الْحَاءِ، وأَما حَمْل الشَّجَرِ فَفِيهِ خِلَافٌ، مِنْهُمْ مَنْ يَفْتَحُهُ تَشْبِيهًا بحَمْل الْبَطْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْسِرُهُ يُشْبِهُهُ بِمَا يُحْمل عَلَى الرأْس، فكلُّ مُتَّصِلٍ حَمْل وكلُّ مُنْفَصِلٍ حِمْل، فحَمْل الشَّجَرَةِ مُشَبَّه بحَمْل المرأَة لِاتِّصَالِهِ، فَلِهَذَا فُتِح، وَهُوَ يُشْبه حَمْل الشَّيْءِ عَلَى الرأْس لبُروزه وَلَيْسَ مستبِطنًا كَحَمْل المرأَة، قال: وجمع الحَمْل أَحْمَال؛ وَذَكَرَ ابْنُ الأَعرابي أَنه يُجْمَعُ أَيضًا عَلَى حِمَال مِثْلَ كَلْبٍ وَكِلَابٍ.

والحَمَّال: حامِل الأَحْمال، وحِرْفته الحِمَالَة.

وأَحْمَلْتُهُ أَي أَعَنْته عَلَى الحَمل، والحَمَلَة جَمْعُ الحَامِل، يُقَالُ: هُمْ حَمَلَة الْعَرْشِ وحَمَلَة الْقُرْآنِ.

وحَمِيل السَّيْل: مَا يَحْمِل مِنَ الغُثاء وَالطِّينِ.

وَفِي حَدِيثِ الْقِيَامَةِ فِي وَصْفِ قَوْمٍ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ: «فَيُلْقَون فِي نَهَرٍ فِي الْجَنَّةِ فَيَنْبُتُون كَمَا تَنْبُت الحِبَّة فِي حَمِيل السَّيْل»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هُوَ مَا يَجِيءُ بِهِ السَّيْلُ، فَعيل بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فإِذا اتَّفَقَتْ فِيهِ حِبَّة واستقرَّت عَلَى شَطِّ مجرَى السَّيْلِ فإِنها تَنْبُتُ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فشُبِّه بِهَا سُرْعَةُ عَوْد أَبدانهم وأَجسامهم إِليهم بَعْدَ إِحراق النَّارِ لَهَا؛ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: " كَمَا تَنْبُتُ الحِبَّة فِي حَمَائِل السَّيْلِ "، وَهُوَ جَمْعُ حَمِيل.

والحَوْمل: السَّيْل الصَّافِي؛ عَنِ الهَجَري؛ وأَنشد:

مُسَلْسَلة المَتْنَيْن لَيْسَتْ بَشَيْنَة، ***كأَنَّ حَباب الحَوْمَل الجَوْن ريقُها

وحَميلُ الضَّعَة والثُّمام والوَشِيج والطَّريفة والسَّبَط: الدَّوِيل الأَسود مِنْهُ؛ قَالَ أَبو حَنِيفَةَ: الحَمِيل بَطْن السَّيْلِ وَهُوَ لَا يُنْبِت، وَكُلُّ مَحْمول فَهُوَ حَمِيل.

والحَمِيل: الَّذِي يُحْمَل مِنْ بَلَدِهِ صَغِيرًا وَلَمْ يُولَد فِي الإِسلام؛ وَمِنْهُ قَوْلُ" عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي كِتَابِهِ إِلى شُرَيْح: الحَمِيل لَا يُوَرَّث إِلا بِبَيِّنة "؛ سُمِّي حَميلًا لأَنه يُحْمَل صَغِيرًا مِنْ بِلَادِ الْعَدُوِّ وَلَمْ يُولَدْ فِي الإِسلام، وَيُقَالُ: بَلْ سُمِّي حَمِيلًا لأَنه مَحْمُولُ النَّسَبِ، وَذَلِكَ أَن يَقُولَ الرَّجُلُ لإِنسان: هَذَا أَخي أَو ابْنِي، لِيَزْوِي ميراثَه عَنْ مَوالِيه فَلَا يُصَدَّق إِلَّا ببيِّنة.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: والحَمِيل الْوَلَدُ فِي بَطْنِ أُمه إِذا أُخِذَت مِنْ أَرض الشِّرْكِ إِلى بِلَادِ الإِسلام فَلَا يُوَرَّث إِلا بِبيِّنة.

والحَمِيل: الْمَنْبُوذُ يحْمِله قَوْمٌ فيُرَبُّونه.

والحَمِيل: الدَّعِيُّ؛ قَالَ الكُميت يُعَاتِبُ قُضاعة فِي تَحوُّلهم إِلى الْيَمَنِ بِنَسَبِهِمْ:

عَلامَ نَزَلْتُمُ مِنْ غَيْرِ فَقْر، ***وَلَا ضَرَّاءَ، مَنْزِلَة الحَمِيل؟

والحَمِيل: الغَريب.

والحِمَالَة، بِكَسْرِ الْحَاءِ، والحَمِيلَة: عِلاقة السَّيف وَهُوَ المِحْمَل مِثْلَ المِرْجَل، قَالَ: عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِيَ مِحْمَلي "وَهُوَ السَّيْر الَّذِي يُقَلَّده المُتَقَلِّد؛ وَقَدْ سَمَّاهُ ذُو الرُّمَّةِ عِرْق الشَّجَر فَقَالَ:

تَوَخَّاه بالأَظلاف، حَتَّى كأَنَّما ***يُثِرْنَ الكُبَاب الجَعْدَ عَنْ مَتْنِ مِحْمَل

وَالْجَمْعُ الحَمَائِل.

وَقَالَ الأَصمعي: حَمَائِل السَّيْفِ لَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا وإِنما وَاحِدُهَا مِحْمَل؛ التَّهْذِيبُ: جَمْعُ الحِمَالَة حَمَائِل، وَجَمْعُ المِحْمَل مَحَامِل؛ قَالَ الشَّاعِرُ: " دَرَّتْ دُموعُك فَوْقَ ظَهْرِ المِحْمَل وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: الحِمَالَة لِلْقَوْسِ بِمَنْزِلَتِهَا لِلسَّيْفِ يُلْقيها المُتَنَكِّب فِي مَنْكِبه الأَيمن وَيُخْرِجُ يَدَهُ الْيُسْرَى مِنْهَا فَيَكُونُ الْقَوْسُ فِي ظَهْرِهِ.

والمَحْمِل: وَاحِدُ مَحَامِل الحَجَّاج.

قَالَ الرَّاجِزُ: أَوَّل عَبْد عَمِل المَحَامِلا والمِحْمَل: الَّذِي يُرْكَبُ عَلَيْهِ، بِكَسْرِ الْمِيمِ.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: المِحْمَل شِقَّانِ عَلَى الْبَعِيرِ يُحْمَل فِيهِمَا العَدِيلانِ.

والمِحْمَل والحَامِلَة: الزَّبِيل الَّذِي يُحْمَل فِيهِ العِنَب إِلى الجَرين.

واحْتَمَلَ القومُ وتَحَمَّلُوا: ذَهَبُوا وارتحلوا.

والحَمُولَة، بِالْفَتْحِ: الإِبل الَّتِي تَحْمِل.

ابْنُ سِيدَهْ: الحَمُولَة كُلُّ مَا احْتَمَل عَلَيْهِ الحَيُّ مِنْ بَعِيرٍ أَو حِمَارٍ أَو غَيْرِ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَتْ عَلَيْهَا أَثقال أَو لَمْ تَكُنْ، وفَعُول تَدْخُلُهُ الْهَاءُ إِذا كَانَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ بِهِ.

وَفِي حَدِيثِ تَحْرِيمِ الْحُمُرِ الأَهلية، قِيلَ: «لأَنها حَمُولَة النَّاسِ»؛ الحَمُولَة، بِالْفَتْحِ، مَا يَحْتَمِل عَلَيْهِ الناسُ مِنَ الدَّوَابِّ سَوَاءٌ كَانَتْ عَلَيْهَا الأَحمال أَو لَمْ تَكُنْ كالرَّكُوبة.

وَفِي حَدِيثِ قَطَن: «والحَمُولَة الْمَائِرَةُ لَهُمْ لاغِية»؛ أي الإِبل الَّتِي تَحْمِل المِيرَة.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا}؛ يَكُونُ ذَلِكَ لِلْوَاحِدِ فَمَا فَوْقَهُ.

والحُمُول والحُمُولَة، بِالضَّمِّ: الأَجمال الَّتِي عَلَيْهَا الأَثقال خَاصَّةً.

والحُمُولة: الأَحمال بأَعيانها.

الأَزهري: الحُمُولَة الأَثقال.

والحَمُولة: مَا أَطاق العَمل والحَمْل.

والفَرْشُ: الصِّغار.

أَبو الْهَيْثَمِ: الحَمُولة مِنَ الإِبل الَّتِي تَحْمِل الأَحمال عَلَى ظُهُورِهَا، بِفَتْحِ الْحَاءِ، والحُمُولة، بِضَمِّ الْحَاءِ: الأَحمال الَّتِي تُحْمَل عَلَيْهَا، وَاحِدُهَا حِمْل وأَحْمَال وحُمُول وحُمُولَة، قَالَ: فأَما الحُمُر والبِغال فَلَا تَدْخُلُ فِي الحَمُولة.

والحُمُول: الإِبل وَمَا عَلَيْهَا.

وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ حُمُولَة يأْوي إِلى شِبَع فليَصُمْ رَمَضَانَ حَيْثُ أَدركه»؛ الحُمُولة، بِالضَّمِّ: الأَحمال، يَعْنِي أَنه يَكُونُ صَاحِبَ أَحمال يُسَافِرُ بِهَا.

والحُمُول، بِالضَّمِّ بِلَا هَاءٍ: الهَوادِج كَانَ فِيهَا النِّسَاءُ أَو لَمْ يَكُنْ، وَاحِدُهَا حِمْل، وَلَا يُقَالُ حُمُول مِنَ الإِبل إِلّا لِمَا عَلَيْهِ الهَوادِج، والحُمُولَة والحُمُول وَاحِدٌ؛ وأَنشد: " أَحَرْقاءُ للبَيْنِ اسْتَقَلَّت حُمُولُها "والحُمُول أَيضًا: مَا يَكُونُ عَلَى الْبَعِيرِ.

اللَّيْثُ: الحَمُولة الإِبل الَّتِي تُحْمَل عَلَيْهَا الأَثقال.

والحُمُول: الإِبل بأَثقالها؛ وأَنشد لِلنَّابِغَةِ:

أَصاح تَرَى، وأَنتَ إِذًا بَصِيرٌ، ***حُمُولَ الحَيِّ يَرْفَعُها الوَجِينُ

وَقَالَ أَيضًا: تَخالُ بِهِ رَاعِيَ الحَمُولَة طَائِرًا "قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ فِي الحُمُول الَّتِي عَلَيْهَا الْهَوَادِجُ كَانَ فِيهَا نِسَاءٌ أَو لَمْ يَكُنِ: الأَصل فِيهَا الأَحْمَال ثُمَّ يُتَّسَع فِيهَا فتُوقَع عَلَى الإِبل الَّتِي عَلَيْهَا الْهَوَادِجُ؛ وَعَلَيْهِ قَوْلُ أَبي ذُؤَيْبٍ:

يَا هَلْ أُرِيكَ حُمُول الحَيِّ غادِيَةً، ***كالنَّخْل زَيَّنَها يَنْعٌ وإِفْضاخُ

شَبَّه الإِبل بِمَا عَلَيْهَا مِنَ الْهَوَادِجِ بِالنَّخْلِ الَّذِي أَزهى؛ وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ فِي الأَحْمَال وَجَعَلَهَا كالحُمُول:

مَا اهْتَجْتُ حَتَّى زُلْنَ بالأَحْمَال، ***مِثْلَ صَوادِي النَّخْل والسَّيَال

وَقَالَ الْمُتَنَخِّلُ:

ذَلِكَ مَا دِينُك إِذ جُنِّبَتْ ***أَحْمَالُها، كالبُكُر المُبْتِل

عِيرٌ عَلَيْهِنَّ كِنانِيَّةٌ، ***جارِية كالرَّشَإِ الأَكْحَل

فأَبدل عِيرًا مِنْ أَحمالها؛ وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ فِي الحُمُول أَيضًا:

وحَدِّثْ بأَن زَالَتْ بَلَيْلٍ حُمُولُهم، ***كنَخْل مِنَ الأَعْراض غَيْرِ مُنَبَّق

قَالَ: وَتَنْطَلِقُ الحُمُول أَيضًا عَلَى النِّسَاءِ المُتَحَمِّلات كَقَوْلِ مُعَقِّر:

أَمِنْ آلِ شَعْثاءَ الحُمُولُ البواكِرُ، ***مَعَ الصُّبْحِ، قَدْ زَالَتْ بِهِنَّ الأَباعِرُ؟

وَقَالَ آخَرُ:

أَنَّى تُرَدُّ ليَ الحُمُول أَراهُم، ***مَا أَقْرَبَ المَلْسُوع مِنْهُ الدَّاءُ

وَقَوْلُ أَوس: وَكَانَ لَهُ العَيْنُ المُتاحُ حُمُولَة "فَسَّرَهُ ابْنُ الأَعرابي فَقَالَ: كأَنَّ إِبله مُوقَرَةٌ مِنْ ذَلِكَ.

وأَحْمَلَه الحِمْل: أَعانه عَلَيْهِ، وحَمَّلَه: فَعَل ذَلِكَ بِهِ.

وَيَجِيءُ الرجلُ إِلى الرَّجُلِ إِذا انْقُطِع بِهِ فِي سَفَرٍ فَيَقُولُ لَهُ: احْمِلْني فَقَدْ أُبْدِع بِي أَي أَعْطِني ظَهْرًا أَركبه، وإِذا قَالَ الرَّجُلُ أَحْمِلْني، بِقَطْعِ الأَلف، فَمَعْنَاهُ أَعنِّي عَلَى حَمْل مَا أَحْمِله.

وَنَاقَةٌ مُحَمَّلَة: مُثْقَلة.

والحَمَالة، بِالْفَتْحِ: الدِّيَة والغَرامة الَّتِي يَحْمِلها قَوْمٌ عَنْ قَوْمٍ، وَقَدْ تُطْرَحُ مِنْهَا الْهَاءُ.

وتَحَمَّلَ الحَمَالَة أَي حَمَلَها.

الأَصمعي: الحَمَالة الغُرْم تَحْمِله عَنِ الْقَوْمِ ونَحْو ذَلِكَ قَالَ اللَّيْثُ، وَيُقَالُ أَيضًا حَمَال؛ قَالَ الأَعشَى:

فَرْع نَبْعٍ يَهْتَزُّ في غُصُنِ المَجْدِ، ***عَظِيمُ النَّدَى، كَثِير الحَمَال

وَرَجُلٌ حَمَّال: يَحْمِل الكَلَّ عَنِ النَّاسِ.

الأَزهري: الحَمِيل الكَفِيل.

وَفِي الْحَدِيثِ: «الحَمِيل غارِمٌ»؛ هُوَ الْكَفِيلُ أَي الكَفِيل ضَامِنٌ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «كَانَ لَا يَرى بأْسًا فِي السَّلَم بالحَمِيل»؛ أي الْكَفِيلِ.

الْكِسَائِيُّ: حَمَلْت بِهِ حَمَالة كَفَلْت بِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَحِلُّ المسأَلة إِلا لِثَلَاثَةٍ، ذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلٌ تَحَمَّل حَمالة عَنْ قَوْمٍ»؛ هِيَ بِالْفَتْحِ مَا يَتَحَمَّله الإِنسان عَنْ غَيْرِهِ مِنْ دِيَة أَو غَرامة مِثْلَ أَن تَقَعَ حَرْب بَيْنَ فَرِيقين تُسْفَك فِيهَا الدِّمَاءُ، فَيَدْخُلُ بَيْنَهُمْ رَجُلٌ يَتَحَمَّل دِياتِ القَتْلى ليُصْلِح ذاتَ البَيْن، والتَّحَمُّل: أَن يَحْمِلها عَنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ ويسأَل النَّاسَ فِيهَا.

وقَتَادَةُ صاحبُ الحَمَالَة؛ سُمِّي بِذَلِكَ لأَنه تَحَمَّل بحَمالات كَثِيرَةٍ فسأَل فِيهَا وأَدَّاها.

والحَوامِل: الأَرجُل.

وحَوامِل القَدَم وَالذِّرَاعِ: عَصَبُها، وَاحِدَتُهَا حَامِلَة.

ومَحامِل الذَّكَرِ وحَمَائِلُه: العروقُ الَّتِي فِي أَصله وجِلْدُه؛ وَبِهِ فسَّر الهَرَوي قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ عَذَابِ الْقَبْرِ: «يُضْغَط الْمُؤْمِنُ فِي هَذَا، يُرِيدُ الْقَبْرَ، ضَغْطَة تَزُول مِنْهَا حَمَائِلُه»؛ وَقِيلَ: هِيَ عُرُوقٌ أُنْثَييه، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَن يُرَادَ مَوْضِعُ حَمَائِل السَّيْفِ؛ أي عَوَاتِقُهُ وأَضلاعه وَصَدْرُهُ.

وحَمَلَ بِهِ حَمَالَة: كَفَل.

يُقَالُ: حَمَلَ فُلَانٌ الحِقْدَ عَلَى نَفْسِهِ إِذا أَكنه فِي نَفْسِهِ واضْطَغَنَه.

وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذا اسْتَخَفَّه الغضبُ: قَدِ احتُمِلَ وأُقِلَّ؛ قَالَ الأَصمَعي فِي الْغَضَبِ: غَضِب فُلَانٌ حَتَّى احتُمِلَ.

وَيُقَالُ لِلَّذِي يَحْلُم عَمَّنْ يَسُبُّه: قَدِ احْتُمِلَ، فَهُوَ مُحْتَمَل؛ وَقَالَ الأَزهري فِي قول الجَعْدي:

كلبابى حس ما مَسَّهُ، ***وأَفانِين فُؤَادٍ مُحْتَمَل»

أَي مُسْتَخَفٍّ مِنَ النَّشَاطِ، وَقِيلَ غَضْبَانُ، وأَفانِين فُؤَادٍ: ضُروبُ نَشَاطِهِ.

واحْتُمِل الرَّجُلُ: غَضِب.

الأَزهري عَنِ الْفَرَّاءِ: احْتُمِل إِذا غَضِبَ، وَيَكُونُ "بِمَعْنَى حَلُم.

وحَمَلْت بِهِ حَمَالة أَي كَفَلْت، وحَمَلْت إِدْلاله واحْتَمَلْت بِمَعْنًى؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

أَدَلَّتْ فَلَمْ أَحْمِل، وَقَالَتْ فَلَمْ أُجِبْ، ***لَعَمْرُ أَبيها إِنَّني لَظَلُوم

والمُحَامِل: الَّذِي يَقْدِر عَلَى جَوَابِكَ فَيَدَعُه إِبقاء عَلَى مَوَدَّتِك، والمُجامِل: الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى جَوَابِكَ فَيَتْرُكُهُ ويَحْقِد عَلَيْكَ إِلى وَقْتٍ مَا.

وَيُقَالُ: فُلَانٌ لَا يَحْمِل أَي يَظْهَرُ غَضَبُهُ.

والمُحْمِل مِنَ النِّسَاءِ والإِبل: الَّتِي يَنْزِل لبنُها مِنْ غَيْرِ حَبَل، وَقَدْ أَحْمَلَت.

والحَمَل: الخَرُوف، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ وَلَدِ الضأْن الجَذَع فَمَا دُونَهُ، وَالْجَمْعُ حُمْلان وأَحْمَال، وَبِهِ سُمِّيت الأَحْمَال، وَهِيَ بُطُونٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ.

والحَمَل: السَّحَابُ الْكَثِيرُ الْمَاءِ.

والحَمَل: بُرْج مِنْ بُروج السَّمَاءِ، هُوَ أَوَّل الْبُرُوجِ أَوَّلُه الشَّرَطانِ وَهُمَا قَرْنا الحَمَل، ثُمَّ البُطَين ثَلَاثَةُ كَوَاكِبَ، ثُمَّ الثُّرَيَّا وَهِيَ أَلْيَة الحَمَل، هَذِهِ النُّجُومُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ تُسَمَّى حَمَلًا؛ قُلْتُ: وَهَذِهِ الْمَنَازِلُ وَالْبُرُوجُ قَدِ انْتَقَلَتْ، والحَمَل فِي عَصْرِنَا هَذَا أَوَّله مِنْ أَثناء الفَرْغ المُؤَخَّر، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَحْرِيرِ دَرَجه وَدَقَائِقِهِ.

الْمُحْكَمُ: قَالَ ابْنُ سِيدَهْ قَالَ ابْنُ الأَعرابي يُقَالُ هَذَا حَمَلُ طَالِعًا، تَحْذِف مِنْهُ الأَلف وَاللَّامَ وأَنت تُرِيدُهَا، وتُبْقِي الِاسْمَ عَلَى تَعْرِيفِهِ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ أَسماء الْبُرُوجِ لَكَ أَن تُثْبِت فِيهَا الأَلف وَاللَّامَ وَلَكَ أَن تَحْذِفَهَا وأَنت تَنْويها، فتُبْقِي الأَسماء عَلَى تَعْرِيفِهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ.

والحَمَل: النَّوْءُ، قَالَ: وَهُوَ الطَّلِيُّ.

يُقَالُ: مُطِرْنا بنَوْء الحَمَل وبِنَوْء الطَّلِيِّ؛ وَقَوْلُ المتنخِّل الْهُذَلِيُّ:

كالسُّحُل البِيضِ، جَلا لَوْنَها ***سَحُّ نِجاءِ الحَمَل الأَسْوَل

فُسِّر بِالسَّحَابِ الْكَثِيرِ الْمَاءِ، وفُسِّر بِالْبُرُوجِ، وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ النِّجاء: السَّحَابُ الَّذِي نَشَأَ فِي نَوْءِ الحَمَل، قَالَ: وَقِيلَ فِي الحَمَل إِنه الْمَطَرُ الَّذِي يَكُونُ بنَوْءِ الحَمَل، وَقِيلَ: النِّجاء السَّحَابُ الَّذِي هَرَاق مَاءَهُ، وَاحِدُهُ نَجْوٌ، شَبَّه الْبَقَرَ فِي بَيَاضِهَا بالسُّحُل، وَهِيَ الثِّيَابُ الْبِيضُ، وَاحِدُهَا سَحْل؛ والأَسْوَل: المُسْتَرْخِي أَسفل الْبَطْنِ، شَبَّه السَّحَابَ الْمُسْتَرْخِيَ بِهِ؛ وَقَالَ الأَصمعي: الحَمَل هَاهُنَا السَّحَابُ الأَسود وَيُقَوِّي قَوْلَهُ كَوْنُهُ وَصَفَهُ بالأَسْوَل وَهُوَ الْمُسْتَرْخِي، وَلَا يُوصَفُ النَّجْو بِذَلِكَ، وإِنما أَضاف النِّجَاء إِلى الحَمَل، والنِّجاءُ: السحابُ لأَنه نَوْعٌ مِنْهُ كَمَا تَقُولُ حَشَف التَّمْرُ لأَن الحَشَف نَوْعٌ مِنْهُ.

وحَمَلَ عَلَيْهِ فِي الحَرْب حَمْلة، وحَمَلَ عَلَيْهِ حَمْلة مُنْكَرة، وشَدَّ شَدَّة مُنكَرة، وحَمَلْت عَلَى بَنِي فُلَانٍ إِذا أَرَّشْتَ بَيْنَهُمْ.

وحَمَلَ عَلَى نَفْسِهِ فِي السَّيْر أَي جَهَدَها فِيهِ.

وحَمَّلْتُه الرِّسَالَةَ أَي كلَّفته حَمْلَها.

واسْتَحْمَلته: سأَلته أَن يَحْمِلني.

وَفِي حَدِيثِ تَبُوكَ: «قَالَ أَبو مُوسَى أَرسلني أَصحابي إِلى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَله الحُمْلان»؛ هُوَ مَصْدَرُ حَمَلَ يَحْمِلُ حُمْلانًا، وَذَلِكَ أَنهم أَنفذوه يَطْلُبُونَ شَيْئًا يَرْكَبُونَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ تَمَامُ الْحَدِيثِ: قَالَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَنا حَمَلْتُكم وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلكم، أَراد إِفْرادَ اللَّهِ بالمَنِّ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: أَراد لَمَّا سَاقَ اللَّهُ إِليه هَذِهِ الإِبل وَقْتَ حَاجَتِهِمْ كَانَ هُوَ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: كَانَ نَاسِيًا لِيَمِينِهِ أَنه لَا يَحْمِلهم فَلَمَّا أَمَر لَهُمْ بالإِبل قَالَ: مَا أَنا حَمَلْتكم وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكم، كَمَا قَالَ لِلصَّائِمِ الَّذِي أَفطر نَاسِيًا: اللَّهُ أَطْعَمَك وسَقاك.

وتَحَامَلَ عَلَيْهِ أَي مَالَ، والمُتَحَامَلُ قَدْ يَكُونُ مَوْضِعًا وَمَصْدَرًا، تَقُولُ فِي الْمَكَانِ هَذَا مُتَحَامَلُنا، وَتَقُولُ فِي الْمَصْدَرِ مَا فِي فُلَانٍ مُتَحَامَل أَي تَحامُل؛ والأَحْمَالُ فِي قَوْلِ جَرِيرٍ:

أَبَنِي قُفَيْرَةَ، مَنْ يُوَرِّعُ وِرْدَنا، ***أَم مَنْ يَقوم لشَدَّة الأَحْمال؟

قومٌ مِنْ بَنِي يَرْبُوع هُمْ ثَعْلَبَةُ وَعَمْرٌو والحرث.

يُقَالُ: وَرَّعْت الإِبلَ عَنِ الْمَاءِ رَدَدْتها، وقُفَيْرة: جَدَّة الفَرَزْدَق أُمّ صَعْصَعة بْنِ ناجِية بْنِ عِقَال.

وحَمَلٌ: مَوْضِعٌ بالشأْم.

الأَزهري: حَمَل اسْمُ جَبَل بِعَيْنِهِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: " أَشْبِه أَبا أُمِّك أَو أَشْبِه حَمَل "قَالَ: حَمل اسْمُ جَبَلٍ فِيهِ جَبَلان يُقَالُ لَهُمَا طِمِرَّان؛ وَقَالَ:

كأَنَّها، وقَدْ تَدَلَّى النَّسْرَان، ***ضَمَّهُمَا مِنْ حَمَلٍ طِمِرَّان،

صَعْبان عَنْ شَمائلٍ وأَيمان "قَالَ الأَزهري: ورأَيت بِالْبَادِيَةِ حَمَلًا ذَلُولًا اسْمُهُ حَمال.

وحَوْمَل: مَوْضِعٌ؛ قَالَ أُمَيَّة بْنُ أَبي عَائِذٍ الْهُذَلِيُّ:

مِنَ الطَّاويات، خِلال الغَضَا، ***بأَجْماد حَوْمَلَ أَو بالمَطَالي

وَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: بَيْنَ الدَّخُول فَحَوْمَلِ "إِنما صَرَفه ضَرُورَةً.

وحَوْمَل: اسْمُ امرأَة يُضْرب بكَلْبتها المَثَل، يُقَالُ: أَجْوَع مِنْ كَلْبة حَوْمَل.

والمَحْمُولة: حِنْطة غَبْراء كأَنها حَبُّ القُطْن لَيْسَ فِي الحِنْطة أَكبر مِنْهَا حَبًّا وَلَا أَضخم سُنْبُلًا، وَهِيَ كَثِيرَةُ الرَّيْع غَيْرَ أَنها لَا تُحْمَد فِي اللَّوْنِ وَلَا فِي الطَّعْم؛ هَذِهِ عَنْ أَبي حَنِيفَةَ.

وَقَدْ سَمَّتْ حَمَلًا وحُمَيلًا.

وَبَنُو حُمَيْل: بَطْن؛ وَقَوْلُهُمْ: " ضَحِّ قَلِيلًا يُدْرِكِ الهَيْجَا حَمَل "إِنما يَعْنِي بِهِ حَمَل بْنَ بَدْر.

والحِمَالة: فَرَس طُلَيْحَة بْنِ خُوَيلِد الأَسدي؛ وَقَالَ يَذْكُرُهَا:

عَوَيْتُ لَهُمْ صَدْرَ الحِمَالة، إِنَّها ***مُعاوِدَةٌ قِيلَ الكُمَاةِ نَزَالِ

فَيوْمًا تَراها فِي الجِلال مَصُونَةً، ***ويَوْمًا تَرَاهَا غيرَ ذاتِ جِلال

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: يُقَالُ لَهَا الحِمَالَة الصُّغْرَى، وأَما الحِمَالة الْكُبْرَى فَهِيَ لِبَنِي سُلَيْم؛ وَفِيهَا يَقُولُ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاس:

أَما الحِمَالَة والقُرَيْظُ، فَقَدْ ***أَنْجَبْنَ مِنْ أُمٍّ ومن فَحْل

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


213-لسان العرب (سلل)

سلل: السَّلُّ: انتزاعُ الشَّيْءِ وإِخراجُه فِي رِفْق، سَلَّه يَسُلُّه سَلًّا واسْتَلَّه فانْسَلَّ وسَلَلْتُه أَسُلُّه سَلًّا.

والسَّلُّ: سَلُّك الشعرَ مِنَ الْعَجِينِ وَنَحْوِهِ.

والانْسِلالُ: المُضِيُّ وَالْخُرُوجُ مِنْ مَضِيق أَو زِحامٍ.

سِيبَوَيْهِ: انْسَلَلْت لَيْسَتْ لِلْمُطَاوَعَةِ إِنما هِيَ كفَعَلْت كَمَا أَن افْتَقَرَ كضَعُف؛ وَقَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:

غَدَاةَ تَوَلَّيْتُم، كأَنَّ سُيُوُفَكُم ***ذَآنِينُ فِي أَعناقِكُمْ، لَمْ تُسَلْسَل

فَكَّ التضعيفَ كَمَا قَالُوا هُوَ يَتَمَلْمَلُ وإِنما هُوَ يَتَمَلَّل، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ الأَعرابي، فأَما ثَعْلَبٌ فَرَوَاهُ لَمْ تُسَلَّل، تُفَعَّل مِنَ السَّلِّ.

وسَيْف سَلِيلٌ: مَسْلُول.

وسَلَلْت السيفَ وأَسْلَلْته بِمَعْنًى.

وأَتيناهم عِنْدَ السَّلَّة أَي عِنْدَ اسْتِلال السيوف؛ قال حِمَاس بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ الْكِنَانِيُّ:

هَذَا سِلاحٌ كامِلٌ وأَلَّهْ، ***وَذُو غِرَارَيْنِ سَرِيعُ السَّلَّهْ

وانْسَلَّ وتَسَلَّلَ: انْطَلَق في استخفاء.

الجوهري: وانْسَلَّ مِنْ بَيْنِهِمْ أَي خَرَجَ.

وَفِي الْمَثَلِ: رَمَتْني بِدائها وانْسَلَّتْ، وتَسَلَّل مثلُه.

وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: «فانْسَلَلْتُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ»؛ أي مَضَيْتُ وَخَرَجْتُ بتَأَنٍّ وَتَدْرِيجٍ.

وَفِي حَدِيثِ حَسَّان: «لأَسُلَّنَّك مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعَرة مِنَ الْعَجِينِ».

وَفِي حَدِيثِ الدُّعَاءِ: «اللَّهُمَّ اسْلُل سَخِيمةَ قَلْبِي».

وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: مَنْ سَلَّ سَخِيمَتَه فِي طَرِيقِ النَّاسِ.

وَفِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: «مَضْجَعُه كمَسَلِّ شَطْبَةٍ»؛ المَسَلُّ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى المَسْلُول؛ أي مَا سُلَّ مِنْ قِشْرِهِ، والشَّطْبة: السَّعَفة الْخَضْرَاءُ، وَقِيلَ السَّيْف.

والسُّلالَةُ: مَا انْسَلَّ مِنَ الشَّيْءِ.

وَيُقَالُ: سَلَلْت السيفَ مِنَ الغِمْد فانْسَلَّ.

وانْسَلَّ فُلَانٌ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ يَعْدو إِذا خَرَجَ فِي خُفْية يَعْدُو.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذًا}؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: يَلُوذُ هَذَا بِهَذَا يَسْتَتِر ذَا بِذَا؛ وَقَالَ اللَّيْثُ: يَتَسَلَّلون ويَنْسَلُّون واحدٌ.

والسَّلِيلَةُ: الشَّعَر يُنْفَش ثُمَّ يُطْوَى وَيُشَدُّ ثُمَّ تَسُلُّ مِنْهُ المرأَة الشيءَ بَعْدَ الشَّيْءِ تَغْزِله.

وَيُقَالُ: سَلِيلةٌ مَنْ شَعَر لِمَا اسْتُلَّ مِنْ ضَريبته، وَهِيَ شَيْءٌ يُنْفَش مِنْهُ ثُمَّ يُطْوى ويُدْمَج طِوالًا، طُولُ كُلِّ وَاحِدَةٍ نَحْوٌ مِنْ ذِرَاعٍ فِي غِلَظ أَسَلة الذِّرَاعِ ويُشَدُّ ثُمَّ تَسُلُّ مِنْهُ المرأَةُ الشيءَ بَعْدَ الشَّيْءِ فتَغْزِله.

وسُلالةُ الشَّيْءِ: مَا اسْتُلَّ مِنْهُ، والنُّطْفة سُلالَة الإِنسان؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّمَّاخِ:

طَوَتْ أَحْشاءَ مُرْتِجَةٍ لوَقْتٍ، ***عَلَى مَشَجٍ، سُلالتُه مَهِينُ

وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:

فجاءت به عَضْبَ الأَدِيم غَضَنْفَرًا، ***سُلالةَ فَرْجٍ كَانَ غَيْر حَصِين

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ}؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: السُّلالة الَّذِي سُلَّ مِنْ كُلِّ تُرْبة؛ وَقَالَ أَبو الْهَيْثَمِ: السُّلالة مَا سُلَّ مِنْ صُلْب الرَّجُلِ وتَرائب المرأَة كَمَا يُسَلُّ الشيءُ سَلًّا.

والسَّليل: الْوَلَدُ سُمِّي سَليلًا لأَنه خُلق مِنَ السُّلالة.

والسَّلِيلُ: الْوَلَدُ حِينَ يَخْرُجُ مِنْ بَطْنِ أُمه، وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنه قَالَ فِي السُّلالة: إِنه الْمَاءُ يُسَلُّ مِنَ الظَّهر سَلًّا؛ وَقَالَ الأَخفش: السُّلالة الوَلَد، والنُّطفة السُّلالة؛ وَقَدْ جَعَلَ الشَّمَّاخُ السُّلالة الْمَاءَ فِي قَوْلِهِ: " عَلَى مَشَجٍ سُلالَتُه مَهِينُ قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنه الْمَاءُ قَوْلُهُ تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ}، يَعْنِي آدَمَ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ "، ثُمَّ تَرْجَمَ عَنْهُ فَقَالَ: مِنْ ماءٍ مَهِينٍ؛ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ}؛ أَراد بالإِنسان وَلد آدَمَ، جُعِل الإِنسان اسْمًا لِلْجِنْسِ، وَقَوْلُهُ مِنْ طِينٍ أَراد أَن تِلْكَ السُّلالة تَوَلَّدت مِنْ طِيْنٍ خُلق مِنْهُ آدمُ فِي الأَصل، وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْتُلَّ آدَمُ مِنْ طِينٍ فسُمّي سُلالة، قَالَ: وإِلى هَذَا ذَهَبَ الْفَرَّاءُ؛ وَقَالَ الزجَّاج: مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، سُلالة فُعالة، فخَلق اللَّهُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ....

والسُّلالَة والسَّليل: الْوَلَدُ، والأُنثى سَلِيلَة.

أَبو عَمْرٍو: السَّلِيلة بِنْتُ الرَّجُلِ مِنْ صُلْبه؛ وَقَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ النُّعمان:

وَمَا هِنْدُ إِلّا مُهْرةٌ عَرَبِيَّةٌ، ***سَلِيلةُ أَفراس تَجَلَّلها بَغْل

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنها تَصْحِيفٌ وأَن صَوَابَهُ نَغْل، بِالنُّونِ، وَهُوَ الخَسِيس مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ لأَن البَغْل لَا يُنْسِل.

ابْنُ شُمَيْلٍ: يُقَالُ للإِنسان أَيضًا أَوّلَ مَا تَضَعُه أُمُّه سَلِيلٌ.

والسَّلِيل والسَّلِيلَة: المُهْر والمُهْرة، وَقِيلَ: السَّلِيل المُهْر يُولَد فِي غَيْرِ ماسِكَة وَلَا سَلًى، فإِن كَانَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَهُوَ بَقِيرٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ؛ وَقَوْلُهُ أَنشده ثَعْلَبٌ:

أَشَقَّ قَسامِيًّا رَباعِيَّ جانِبٍ، ***وقارِحَ جَنْبٍ سُلَّ أَقرَحَ أَشقَرا

مَعْنَى سُلَّ أُخْرِج سَلِيلًا.

والسَّلِيل: دِماغ الْفَرَسِ؛ وأَنشد اللَّيْثُ:

كقَوْنَسِ الطِّرْفِ أَوفى شأْنُ قَمْحَدة، ***فِيهِ السَّلِيلُ حَوَاليْه لَهُ إِرَمُ

والسَّلِيلُ: السَّنام.

الأَصمعي: إِذا وَضَعَت الناقةُ فَوَلَدُهَا ساعةَ تَضَعه سَلِيلٌ قَبْلَ أَن يُعلم أَذكر هُوَ أَم أُنثى.

وسَلائِلُ السَّنام: طَرائق طِوالٌ تُقْطَع مِنْهُ.

وسَلِيل اللَّحْمِ: خَصِيله، وَهِيَ السَّلائل.

وَقَالَ الأَصمعي: السَّلِيل طَرَائِقُ اللَّحْمِ الطِّوال تَكُونُ ممتدَّة مَعَ الصُّلْب.

وسَلْسَلَ إِذا أَكل السِّلْسِلَة، وَهِيَ القِطْعة الطَّوِيلَةُ مِنَ السَّنام، وَقَالَ أَبو عَمْرٍو هِيَ اللَّسْلَسة، وَقَالَ الأَصمعي هِيَ اللِّسْلِسَة، وَيُقَالُ سَلْسَلة.

وَيُقَالُ انْسَلَّ وانْشَلَّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، يُقَالُ ذَلِكَ فِي السَّيل وَالنَّاسِ: قَالَهُ شَمِرٌ.

والسَّلِيلُ: لَحْمُ المَتْنِ؛ وَقَوْلُ تَأَبَّطَ شَرًّا: " وأَنْضُو المَلا بالشَّاحِب المُتَسَلْسِل "هُوَ الَّذِي قَدْ تَخَدَّد لحمُه وقَلَّ، وَقَالَ أَبو مَنْصُورٍ: أَراد بِهِ نَفْسَهُ، أَراد أَقْطَعُ المَلا وَهُوَ مَا اتَّسَعَ مِنَ الفَلاة وأَنا شاحبٌ مُتَسَلْسِلٌ؛ وَرَوَاهُ غَيْرُهُ: " وأَنْضُو الْمَلَا بِالشَّاحِبِ المُتَشَلْشِل "بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وسيأْتي ذِكْرُهُ، وفَسَّره أَنْضو أَجُوزُ، والمَلا الصَّحْراء، وَالشَّاحِبُ الرَّجُلُ الغَزَّاء، قَالَ: وَقَالَ الأَصمعي الشاحبُ سَيْفٌ قَدْ أَخْلَق جَفْنُه، والمُتشَلْشِلُ الَّذِي يَقْطُر الدمُ مِنْهُ لِكَثْرَةِ مَا ضُرِب بِهِ.

والسَّلِيلة: عَقَبة أَو عَصَبة أَو لُحْمَةٌ ذَاتُ طَرَائِقَ يَنْفَصِلُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ.

وسَلِيلة المَتْن: مَا اسْتَطَالَ مِنْ لَحْمِهِ.

والسَّلِيل: النُّخاع؛ قَالَ الأَعشى:

ودَأْيًا لَواحِكَ مِثْل الفُؤوسِ، ***لَاءَمَ مِنْهَا السَّلِيلُ الفَقَارا

وَقِيلَ: السَّليل لُحْمَةُ المَتْنَين، والسَّلائل: نَغَفات مُسْتَطِيلَةٌ فِي الأَنف.

والسَّلِيل: مَجْرَى الْمَاءِ فِي الْوَادِي، وَقِيلَ السَّلِيل وَسَطُ الْوَادِي حَيْثُ يَسِيل مُعْظَمُ الْمَاءِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «اللَّهم اسْقِنا مِنْ سَلِيل الجَنَّة، وَهُوَ صَافِي شَرَابِهَا، قِيلَ لَهُ سَلِيلٌ لأَنه سُلَّ حَتَّى خَلَص، وَفِي رِوَايَةٍ: اللَّهُمَّ اسْقِ عبدَ الرَّحْمن مِنْ سَلِيل الجنَّة»؛ قَالَ: هُوَ الشَّرَابُ الْبَارِدُ، وَقِيلَ: السَّهْل فِي الحَلْق، وَيُرْوَى: سَلْسَبيل الجنَّة "وَهُوَ عَيْنٌ فِيهَا؛ وَقِيلَ الْخَالِصُ الصَّافِي مِنَ القَذَى والكدَر، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَيُرْوَى سَلْسال وسَلْسَبيل.

والسَّلِيل: وادٍ وَاسِعٌ غَامِضٌ يُنْبِت السَّلَم والضَّعَة واليَنَمة والحَلَمة والسَّمُر، وَجَمْعُهُ سُلَّانٌ؛ عَنْ كُرَاعٍ، وَهُوَ السَّالُّ وَالْجَمْعُ سُلَّانٌ أَيضًا.

التَّهْذِيبِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ: السَّالُّ مكانٌ وَطِيءٌ وَمَا حَوْلَه مُشْرِف، وَجَمْعُهُ سَوالُّ، يَجْتَمِعُ إِليه الْمَاءُ.

الْجَوْهَرِيُّ: والسَّالُّ المَسِيل الضَّيِّق فِي الْوَادِي.

الأَصمعي: السُّلّان وَاحِدُهَا سَالٌّ وَهُوَ المَسِيل الضَّيِّقُ فِي الْوَادِي، وَقَالَ غَيْرُهُ: السِّلْسِلة الوَحَرةُ، وَهِيَ رُقَيْطاءُ لَهَا ذَنَبٌ دَقِيقٌ تَمْصَع بِهِ إِذا عَدَتْ، يُقَالُ إِنها مَا تَطَأُ طَعَامًا وَلَا شَرابًا إِلَّا سَمَّتْه فَلَا يأْكله أَحَدٌإِلَّا وَحِرَ وأَصابه داءٌ رُبَّما مَاتَ مِنْهُ.

ابْنُ الأَعرابي: يُقَالُ سَلِيلٌ مِنْ سَمُرٍ، وغالٌّ مِنْ سَلَم، وفَرْشٌ مِنْ عُرْفُطٍ؛ قَالَ زُهَيْرٌ:

كأَنَّ عَيْني وَقَدْ سَالَ السَّليلُ بِهِم ***وجِيرَةٌ مَّا هُمُ، لَوْ أَنَّهم أمَمُ

وَيُرْوَى: وعِبْرةٌ مَّا هُمُ لَوْ أَنَّهُم أمَمُ "قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قَوْلُهُ سَالَ السَّلِيلُ بِهِمْ أَي سَارُوا سَيْرًا سَرِيعًا، يَقُولُ انْحَدَروا بِهِ فَقَدْ سَالَ بِهِمْ، وَقَوْلُهُ مَا هُمْ، مَا زَائِدَةٌ، وهُمْ مُبْتَدَأٌ، وعِبْرةٌ خَبَرُهُ أَي هُمْ لِي عِبْرةٌ؛ وَمَنْ رَوَاهُ وجِيرَة مَّا هُم، فَتَكُونُ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً أَي أَيُّ جِيرَةٍ هُم، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لجِيرة، وجِيرة خَبَرُ مبتدإِ مَحْذُوفٍ.

والسَّالُّ: مَوْضِعٌ فِيهِ شَجَرٌ.

والسَّلِيل والسُّلّان: الأَودية.

وَفِي حَدِيثِ زِيَادٍ: «بسُلالةٍ مِنْ ماءِ ثَغْبٍ»أَي مَا اسْتُخْرج مِنْ مَاءِ الثَّغْب وسُلَّ مِنْهُ.

والسُّلُّ والسِّلُّ والسُّلال: الدَّاءُ، وَفِي التَّهْذِيبِ: دَاءٌ يَهْزِل ويُضْني ويَقْتُل؛ قَالَ ابْنُ أَحمر:

أَرَانا لَا يَزال لَنَا حَمِيمٌ، ***كَدَاء البَطْن سُلًّا أَو صُفَارا

وأَنشد ابْنُ قُتَيْبَةَ لِعُرْوة بْنِ حِزَامٍ فِيهِ أَيضًا:

بِيَ السُّلُّ أَو داءُ الهُيام أَصَابني، ***فإِيَّاكَ عَنِّي، لا يَكُن بِكَ مَا بِيا

وَمِثْلُهُ قَوْلُ ابْنِ أَحمر:

بِمَنْزِلةٍ لا يَشْتَكِي السُّلَّ أَهْلُها، ***وعَيْش كمَلْسِ السَّابِرِيِّ رَقِيقِ

وَفِي الْحَدِيثِ: «غُبَارُ ذَيْل المرأَة الْفَاجِرَةِ يُورِث السِّلَ»؛ يُرِيدُ أَن مَنِ اتَّبَعَ الْفَوَاجِرَ وَفَجَرَ ذَهَب مالُه وَافْتَقَرَ، فشَبَّه خِفَّة الْمَالِ وذهابَه بخِفَّة الْجِسْمِ وذهابِه إِذا سُلَّ، وَقَدْ سُلَّ وأَسَلَّه اللهُ، فَهُوَ مَسْلُول، شَاذٌّ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: كأَنه وُضع فِيهِ السُّلُّ؛ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُكَرَّمِ: رأَيت حَاشِيَةً فِي بَعْضِ الأُصول عَلَى تَرْجَمَةِ أَمَمَ عَلَى ذِكْرِ قُصَيٍّ: قَالَ قُصَيٌّ وَاسْمُهُ زَيْدٌ كَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا:

إِنِّي، لَدى الحَرْب، رَخِيٌّ لَبَبي ***عِنْدَ تَنَاديهم بهَالٍ وهَبِ

مُعْتزِمُ الصَّوْلَةِ عالٍ نَسَبي، ***أُمَّهَتي خِنْدِفُ، والياسُ أَبِي

قَالَ: هَذَا الرَّجَزُ حُجَّة لِمَنْ قَالَ إِن الْيَاسَ بْنَ مُضَر الأَلف وَاللَّامُ فِيهِ لِلتَّعْرِيفِ، فأَلفه أَلف وَصْلٍ؛ قَالَ المفضَّل بْنُ سَلَمَةَ وَقَدْ ذكَرَ إلياسَ النبيَّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: فأَما الياسُ بْنُ مُضَر فأَلفه أَلف وَصْلٍ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ اليأْسِ وَهُوَ السُّلُّ؛ وأَنشد بَيْتَ عُرْوة بْنِ حِزام: " بِيَ السُّلُّ أَو داءُ الهُيام أَصابني وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: الياسُ بْنُ مُضَر هُوَ أَول مَنْ مَاتَ مِنَ السُّلِّ فَسُمِّيَ السُّلُّ يأْسًا، وَمَنْ قَالَ إِنه إِلْياسُ بْنُ مُضَر بِقَطْعِ الأَلف عَلَى لَفْظِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنشد بَيْتَ قُصَيٍّ: أُمَّهَتي خِنْدِف والياسُ أَبي ".

قَالَ وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ قَوْلِهِمُ رَجُلٌ أَلْيَسُ أَي شُجَاع، والأَلْيَسُ: الَّذِي لَا يَفِرُّ وَلَا يَبْرَحُ؛ وَقَدْ تَلَيَّس أَشدَّ التلَيُّس، وأُسودٌ لِيسٌ ولَبُوءَةٌ لَيْساءُ.

والسَّلَّةُ: السَّرِقة، وَقِيلَ السَّرِقة الخَفِيَّةُ.

وَقَدْأَسَلَّ يُسِلُّ إِسْلالًا أَي سَرَق، وَيُقَالُ: فِي بَني فُلَانٍ سَلَّةٌ، وَيُقَالُ لِلسَّارِقِ السَّلَّال.

وَيُقَالُ: الخَلَّة تَدْعُو إِلى السَّلَّة.

وسَلَّ الرجلُ وأَسَلَّ إِذا سَرَق؛ وسَلَّ الشيءَ يَسُلُّه سَلًّا.

وَفِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبه" سَيِّدنا رسول الله، صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بالحُدَيبية حِينَ وَادَعَ أَهل مَكَّةَ: وأَن لَا إِغلالَ وَلَا إِسْلال "؛ قَالَ أَبو عَمْرٍو: الإِسْلال السَّرِقة الخَفِيَّة؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَهَذَا يَحْتَمِلُ الرَّشْوة وَالسَّرِقَةَ جَمِيعًا.

وسَلَّ البعيرَ وغيرَه فِي جَوْفِ اللَّيْلِ إِذا انْتَزَعَهُ مِنْ بَيْنِ الإِبل، وَهِيَ السَّلَّة.

وأَسَلَّ إِذا صَارَ ذَا سَلَّة وإِذا أَعان غَيْرَهُ عَلَيْهِ.

وَيُقَالُ: الإِسْلال الغارَةُ الظَّاهِرَةُ، وَقِيلَ: سَلُّ السُّيُوفِ.

وَيُقَالُ: فِي بَنِي فُلَانٍ سَلَّة إِذا كَانُوا يَسْرِقون.

والأَسَلُّ: اللِّصُّ.

ابْنُ السِّكِّيتِ: أَسَلَّ الرجلُ إِذا سَرَق، والمُسَلِّل اللَّطِيفُ الْحِيلَةِ فِي السَّرَق.

ابْنُ سِيدَهْ: الإِسلال الرَّشوة وَالسَّرِقَةُ.

والسَّلُّ والسَّلَّة كالجُؤْنَة المُطْبَقَة، وَالْجَمْعُ سَلٌّ وسِلالٌ.

التَّهْذِيبِ: والسَّلَّة السَّبَذَة كالجُؤْنة المُطْبقة.

قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: رأَيت أَعرابيًا مَنْ أَهل فَيْد يَقُولُ لِسَبَذة الطِّين السَّلَّة، قَالَ: وسَلَّةُ الخُبْز مَعْرُوفَةٌ؛ قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: لَا أَحْسَب السَّلَّة عَرَبِيَّةً، وَقَالَ أَبو الْحَسَنِ: سَلٌّ عِنْدِي مِنَ الْجَمْعِ الْعَزِيزِ لأَنه مَصْنُوعٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وأَن يَكُونَ مِنْ بَابِ كَوْكَبٍ وكَوْكَبةٍ أَولى، لأَن ذَلِكَ أَكثر مِنْ بَابِ سَفِينةٍ وسَفِين.

وَرَجُلٌ سَلٌّ وامرأَة سَلَّة: سَاقِطَا الأَسنان، وَكَذَلِكَ الشَّاةُ.

وسَلَّتْ تَسِلُّ: ذَهَبَ أَسنانُها؛ كُلُّ هَذَا عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.

ابْنُ الأَعرابي: السَّلَّة السُّلُّ [السِّلُ] وَهُوَ الْمَرَضُ؛ وَفِي تَرْجَمَةِ ظَبْظَبَ قَالَ رُؤْبَةُ: " كأَنَّ بِي سُلًّا وَمَا بِيَ ظَبْظاب "قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: فِي هَذَا الْبَيْتِ شَاهِدٌ عَلَى صِحَّةِ السُّلِّ لأَن الْحَرِيرِيَّ قَالَ فِي كِتَابِهِ دُرَّة الغَوَّاص: إِنه مِنْ غَلَط العامَّة، وَصَوَابُهُ عِنْدَهُ السُّلال، وَلَمْ يُصِبْ فِي إِنكاره السُّلَّ لِكَثْرَةِ مَا جَاءَ فِي أَشعار الْفُصَحَاءِ، وَذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ أَيضًا فِي كِتَابِهِ.

والسَّلَّة: استلالُ السُّيُوفِ عِنْدَ الْقِتَالِ.

والسَّلَّة: النَّاقَةُ الَّتِي سَقَطَت أَسنانُها مِنَ الهَرَم، وَقِيلَ: هِيَ الهَرِمة الَّتِي لَمْ يَبْقَ لَهَا سِنٌّ.

والسَّلَّة: ارْتِدَادُ الرَّبْو فِي جَوْفِ الْفَرَسِ مِنْ كَبْوة يَكْبُوها، فإِذا انْتَفَخَ مِنْهُ قِيلَ أَخْرَجَ سَلَّته، فيُرْكَض رَكْضًا شَدِيدًا ويُعَرَّق ويُلْقَى عَلَيْهِ الجِلال فَيَخْرُجُ ذَلِكَ الرَّبْو؛ قَالَ المَرَّار:

أَلِزًا إِذ خَرَجَتْ سَلَّتُه، ***وَهِلًا تَمْسَحُه مَا يَسْتَقِر

الأَلِزُ: الوَثَّاب، وسَلَّة الفَرَس: دَفْعتُه مِنْ بَيْنِ الْخَيْلِ مُحْضِرًا، وَقِيلَ: سَلَّته دَفْعته فِي سِباقه.

وَفَرَسٌ شَدِيدُ السَّلَّة: وَهِيَ دَفْعته فِي سِباقه.

وَيُقَالُ: خَرَجَتْ سَلَّةُ هَذَا الْفَرَسِ عَلَى سَائِرِ الْخَيْلِ.

والمِسَلَّة، بِالْكَسْرِ: وَاحِدَةُ المَسَالِّ وَهِيَ الإِبَرُ الْعِظَامُ، وَفِي الْمُحْكَمِ: مِخْيَطٌ ضَخْم.

والسُّلَّاءة: شَوْكة النَّخْلَةِ، وَالْجَمْعُ سُلَّاءٌ؛ قَالَ عَلْقَمَةُ يَصِفُ نَاقَةً أَو فَرَسًا:

سُلَّاءةٌ كعَصا النَّهْديِّ غُلَّ لَهَا ***ذُو فَيْئة، مِنْ نَوى قُرَّان، مَعْجومُ

والسَّلَّة: أَن يَخْرِزَ خَرْزَتَيْن فِي سَلَّةٍ وَاحِدَةٍ.

والسَّلَّة: العَيْب فِي الحَوْض أَو الْخَابِيَةِ، وَقِيلَ: هِيَ الفُرْجة بَيْنَ نَصائب الْحَوْضِ؛ وأَنشد: " أَسَلَّةٌ فِي حَوْضِها أَم انْفَجَر "والسَّلَّة: شُقوق فِي الأَرض تَسْرِق الْمَاءَ.

وسَلُولُ: فَخِذٌ مِنْ قَيْس بْنِ هَوازِن؛ الْجَوْهَرِيُّ: وسَلُولُ قَبِيلَةٌ مِنْ هَوازِن وَهُمْ بَنُو مُرَّة بْنِ صَعْصَعة بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوازن، وسَلُول: اسْمُ أُمهم نُسِبوا إِليها، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَمَّام السَّلُوليُّ الشَّاعِرُ.

وسُلَّان: مَوْضِعٌ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

لِمَنِ الدِّيارُ برَوْضَةِ السُّلَّانِ ***فالرَّقْمَتَيْنِ، فجانِبِ الصَّمَّانِ؟

وسِلَّى: اسْمُ مَوْضِعٍ بالأَهواز كَثِيرُ التَّمْرِ؛ قَالَ:

كأَن عَذِيرَهُم بجَنُوب سِلَّى ***نَعامٌ، فَاقَ فِي بَلَدٍ قِفارِ

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَقَالَ أَبو المِقْدام بَيْهَس بْنُ صُهَيْب:

بسِلَّى وسِلِّبْرى مَصارِعُ فِتْيةٍ ***كِرامٍ، وعَقْرى مِنْ كُمَيْت وَمِنْ وَرْد

وسِلَّى وسِلِّبْرى يُقَالُ لَهُمَا العاقُولُ، وَهِيَ مَناذِر الصُّغْرى كَانَتْ بِهَا وقْعة بين المُهَلَّب والأَزارقة، قُتِل بِهَا إِمامهم عُبَيد اللَّهِ بْنُ بَشِير بْنِ الماحُوز الْمَازِنِيُّ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وسِلَّى أَيضًا اسْمُ الحرث بْنِ رِفاعة بْنِ عُذْرة بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَقِيلَ شُمَيس بْنُ طَرود بْنِ قُدامة بْنِ جَرْم بْنِ زَبان بْنِ حُلْوان بْنِ عَمْرِو بْنِ الحافِ بْنِ قُضاعة؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

وَمَا تَرَكَتْ سِلَّى بِهِزَّانَ ذِلَّةً، ***ولكِنْ أَحاظٍ قُسِّمَتْ وجُدُودُ

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: حَكَى السِّيرَافِيُّ عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ قَالَ فِي قَيْسٍ سَلُول بْنُ مُرَّة بْنِ صَعْصَعة بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوازِن اسْمُ رَجُلٍ فِيهِمْ، وَفِيهِمْ يَقُولُ الشَّاعِرُ:

وإِنَّا أُناسٌ لَا نَرى القَتْل سُبَّةً، ***إِذا مَا رَأَتْه عامِرٌ وسَلُول

يُرِيدُ عامرَ بْنَ صَعْصَعة، وسَلُول بْنَ مُرَّة بْنِ صَعْصَعَةَ؛ قَالَ: وَفِي قُضاعة سَلُول بنت زَبان بْنُ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ القَيْن بْنِ الجَرْم بْنِ قُضاعة، قَالَ: وَفِي خُزاعة سَلُولُ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حَارِثَةَ، قَالَ: وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَمَّام هُوَ مِنْ بَنِي مُرَّة بْنِ صَعْصَعَةَ أَخي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ مِنْ قَيْسِ عَيْلانَ، وبَنُو مُرَّة يُعْرفون بِبَنِي سَلُولَ لأَنها أُمُّهم، وَهِيَ بِنْتُ ذُهْل بْنُ شَيْبان بْنِ ثَعْلَبَةَ رَهْط أَبي مَرْيَمَ السَّلُولي، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ورأَيت فِي حَاشِيَةٍ: وسَلُولُ جَدّة عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ المُنافق.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


214-لسان العرب (كلل)

كلل: الكُلُّ: اسْمٌ يَجْمَعُ الأَجزاء، يُقَالُ: كلُّهم منطلِق وكُلُّهن مُنْطَلِقَةٌ وَمُنْطَلِقٌ، الذَّكَرُ والأُنثى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَحَكَى سِيبَوَيْهِ: كُلَّتُهُنَّ منطلِقةٌ، وَقَالَ: العالِمُ كلُّ العالِم، يُرِيدُ بِذَلِكَ التَّناهي وأَنه قَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ فِيمَا يَصِفُهُ بِهِ مِنَ الْخِصَالِ.

وَقَوْلُهُمْ: أَخذت كُلَّ الْمَالِ وَضَرَبْتُ كلَّ الْقَوْمِ، فَلَيْسَ الكلُّ هُوَ مَا أُضيف إِليه.

قَالَ أَبو بَكْرِ بْنُ السِّيرَافِيِّ: إِنما الكلُّ عِبَارَةٌ عَنْ أَجزاء الشَّيْءِ، فَكَمَا جَازَ أَن يُضَافَ الْجُزْءُ إِلى الْجُمْلَةِ جَازَ أَن تُضَافَ الأَجزاء كُلُّهَا إِليها، فأَما قَوْلُهُ تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ} {وكُلٌّ لَهُ قانِتُونَ}، فَمَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وكأَنه إِنما حُمِلَ عَلَيْهِ هُنَا لأَن كُلًّا فِيهِ غَيْرُ مُضَافَةٍ، فَلَمَّا لَمْ تُضَفْ إِلى جَمَاعَةٍ عُوِّض مِنْ ذَلِكَ ذِكْرُ الْجَمَاعَةِ فِي الْخَبَرِ، أَلا تَرَى أَنه لَوْ قَالَ: لَهُ قانِتٌ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ لَفْظُ الْجَمْعِ البتَّة؟ وَلَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْدًا "، فَجَاءَ بِلَفْظِ الْجَمَاعَةِ مُضَافًا إِليها، اسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْجَمَاعَةِ فِي الْخَبَرِ؟ الْجَوْهَرِيُّ: كُلٌّ لَفْظُهُ وَاحِدٌ وَمَعْنَاهُ جَمْعٌ، قَالَ: فَعَلَى هَذَا تَقُولُ كُلٌّ حَضَرَ وكُلٌّ حَضَرُوا، عَلَى اللَّفْظِ مَرَّةً وَعَلَى الْمَعْنَى أُخرى، وكُلٌّ وَبَعْضٌ مَعْرِفَتَانِ، وَلَمْ يجئْ عَنِ الْعَرَبِ بالأَلف وَاللَّامِ، وَهُوَ جَائِزٌ لأَن فِيهِمَا مَعْنَى الإِضافة، أَضفت أَو لَمْ تُضِف.

التَّهْذِيبُ: اللَّيْثُ وَيُقَالُ فِي قَوْلِهِمْ كِلا الرَّجُلَيْنِ إِن اشْتِقَاقَهُ مِنْ كُلّ الْقَوْمِ، وَلَكِنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ، بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلِ؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهل اللُّغَةِ: لَا تَجْعَلُ كُلًّا مِنْ بَابِ كِلا وكِلْتا وَاجْعَلْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ، قَالَ: وأَنا مُفَسِّرٌ كِلَا وَكِلْتَا فِي الثُّلَاثِيِّ المعتلِّ، إِن شَاءَ اللَّهُ؛ قَالَ: وَقَالَ أَبو الْهَيْثَمِ فِيمَا أَفادني عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ: تَقَعُ كُلٌّ عَلَى اسْمٍ مَنْكُورٍ موحَّد فَتُؤَدِّي مَعْنَى الْجَمَاعَةِ كَقَوْلِهِمْ: مَا كُلُّ بَيْضَاءَ شَحْمةً وَلَا كُلُّ سَوْداء تَمْرَةً، وتمرةٌ جَائِزٌ أَيضًا، إِذا كَرَّرْتَ مَا فِي الإِضمار.

وَسُئِلَ أَحمد بْنُ يَحْيَى عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}، وَعَنْ تَوْكِيدِهِ بِكُلِّهِمْ ثُمَّ بأَجمعون فَقَالَ: لَمَّا كَانَتْ كُلُّهُمْ تَحْتَمِلُ شَيْئَيْنِ تَكُونُ مَرَّةً اسْمًا ومرة توكيدًا جاء بالتوكيد الَّذِي لَا يَكُونُ إِلا تَوْكِيدًا حَسْب؛ وَسُئِلَ الْمُبَرِّدُ عَنْهَا فَقَالَ: لَوْ جَاءَتْ {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ} احْتَمَلَ أَن يَكُونَ سَجَدَ بَعْضُهُمْ، فَجَاءَ بِقَوْلِهِ {كُلُّهُمْ} لإِحاطة الأَجزاء، فَقِيلَ لَهُ: ف {أَجمعون} ؟ فَقَالَ: لَوْ جَاءَتْ كُلُّهُمْ لَاحْتَمَلَ أَن يَكُونَ سَجَدُوا كُلُّهُمْ فِي أَوقات مُخْتَلِفَاتٍ، فَجَاءَتْ أَجمعون لِتَدُلَّ أَن السُّجُودَ كَانَ مِنْهُمْ كلِّهم فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَدَخَلَتْ كُلُّهُمْ للإِحاطة وَدَخَلَتْ أَجمعون لِسُرْعَةِ الطَّاعَةِ.

وكَلَّ يَكِلُّ كَلًّا وكَلالًا وكَلالة؛ الأَخيرة عَنِ اللِّحْيَانِيِّ: أَعْيا.

وكَلَلْت مِنَ الْمَشْيِ أَكِلُّ كَلالًا وكَلالة أَي أَعْيَيْت، وَكَذَلِكَ الْبَعِيرُ إِذا أَعيا.

وأَكَلَّ الرجلُ بعيرَه أَي أَعياه.

وأَكَلَّ الرجلُ أَيضًا أَي كَلَّ بعيرُه.

ابْنُ سِيدَهْ: أَكَلَّه السيرُ وأَكَلَّ القومُ كَلَّت إِبلُهم.

والكَلُّ: قَفَا السَّيْفِ والسِّكِّين الَّذِي لَيْسَ بحادٍّ.

وكَلَّ السيفُ والبصرُ وَغَيْرُهُ مِنَ الشَّيْءِ الْحَدِيدِ يَكِلُّ كَلًّا وكِلَّة وكَلالة وكُلُولة وكُلولًا وكَلَّل، فَهُوَ كَلِيل وكَلٌّ: لَمْ يَقْطَعْ؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ فِي الكُلول قَوْلَ سَاعِدَةَ: " لِشَانِيك الضَّراعةُ والكُلُولُ قَالَ: وَشَاهِدُ الكِلَّة قَوْلُ الطِّرِمَّاحِ: وذُو البَثِّ فِيهِ كِلَّةٌ وخُشوع وَفِي حَدِيثِ حُنَيْنٍ: «فَمَا زِلْت أَرى حَدَّهم كَلِيلًا»؛ كَلَّ السيفُ: لَمْ يَقْطَعْ.

وطرْف كَلِيل إِذا لَمْ يحقِّق الْمَنْظُورَ.

اللِّحْيَانِيُّ: انْكَلَّ السَّيْفُ ذَهَبَ حدُّه.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَلَّ بصرُه كُلولًا نَبَا، وأَكلَّه الْبُكَاءُ وَكَذَلِكَ اللِّسَانُ، وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: كُلُّهَا سَوَاءٌ فِي الْفِعْلِ وَالْمَصْدَرِ؛ وَقَوْلُ الأَسود بْنِ يَعْفُر:

بأَظفارٍ لَهُ حُجْنٍ طِوالٍ، ***وأَنيابٍ له كَانَتْ كِلالا

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: يَجُوزُ أَن يَكُونَ جَمْعَ كالٍّ كَجَائِعٍ وجِياع وَنَائِمٍ ونِيام، وأَن يَكُونَ جَمْعَ كَلِيل كَشَدِيدٍ وشِداد وحَديد وحِداد.

اللَّيْثُ: الكَلِيل السَّيْفُ الَّذِي لَا حدَّ لَهُ.

وَلِسَانٌ كَلِيل: ذُو كَلالة وكِلَّة، وَسَيْفٌ كَلِيل الحدِّ، وَرَجُلٌ كَلِيل اللِّسَانِ، وكَلِيل الطرْف.

قَالَ: وَنَاسٌ يَجْعَلُونَ كَلَّاءَ للبَصْرة اسْمًا مِنْ كَلَّ، عَلَى فَعْلاء، وَلَا يَصْرِفُونَهُ، وَالْمَعْنَى أَنه مَوْضِعٌ تَكِلُّ فِيهِ الريحُ عَنْ عمَلها فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ قَالَ رُؤْبَةُ:

مُشْتَبِهِ الأَعْلامِ لَمَّاعِ الخَفَقْ، ***يكِلُّ وَفْد الرِّيحِ مِنْ حَيْثُ انْخَرَقْ

والكَلُّ: الْمُصِيبَةُ تحدث، والأَصل مِنْ كَلَّ عَنْهُ أَي نَبَا وضعُف.

والكَلالة: الرَّجُلُ الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ.

وَقَالَ اللَّيْثُ: الكَلُّ الرَّجُلُ الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، كَلَّ الرَّجُلُ يَكِلُّ كَلالة، وَقِيلَ: مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ النَّسَبِ لَحًّا فَهُوَ كَلالةٌ.

وَقَالُوا: هُوَ ابْنُ عمِّ الكَلالَةِ، وابنُ عمِّ كَلالةٍ وكَلالةٌ، وَابْنُ عَمِّي كَلالةً، وَقِيلَ: الكَلالَةُ مِنْ تَكَلَّل نسبُه بِنَسَبِكَ كَابْنِ الْعَمِّ وَمَنْ أَشبهه، وَقِيلَ: هُمُ الإِخْوة للأُمّ وَهُوَ الْمُسْتَعْمَلُ.

وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: الكَلالة مِنَ العصَبة مَنْ ورِث مَعَهُ الإِخوة مِنَ الأُم، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: لَمْ يَرِثه كَلالةً أَي لَمْ يَرِثْهُ عَنْ عُرُض بَلْ عَنْ قرْب وَاسْتِحْقَاقٍ؛ قَالَ الْفَرَزْدَقُ:

ورِثْتم قَناةَ المُلْك، غيرَ كَلالةٍ، ***عَنِ ابْنَيْ مَنافٍ: عبدِ شمسٍ وَهَاشِمِ

ابْنُ الأَعرابي: الكَلالةُ بَنُو الْعَمِّ الأَباعد.

وَحُكِيَ عَنْ أَعرابي أَنه قَالَ: مَالِي كثيرٌ ويَرِثُني كَلالة مُتَرَاخٍ نسبُهم؛ وَيُقَالُ: هُوَ مَصْدَرٌ مِنْ تكَلَّله النسبُ أَي تطرَّفه كأَنه أَخذ طَرَفيه مِنْ جِهَةِ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْهُمَا أَحد، فَسُمِّيَ بِالْمَصْدَرِ.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً} (الْآيَةَ)؛ وَاخْتَلَفَ أَهل الْعَرَبِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ الكَلالة فَرَوَى الْمُنْذِرِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبي عُبَيْدَةَ أَنه قَالَ: الكَلالة كُلُّ مَنْ لَمْ يرِثه وَلَدٌ أَو أَب أَو أَخ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ قَالَ الأَخفش: وَقَالَ الْفَرَّاءُ الكَلالة مِنَ الْقَرَابَةِ مَا خلا الوالد والولد، سموا كَلالة لِاسْتِدَارَتِهِمْ بِنَسَبِ الْمَيِّتِ الأَقرب، فالأَقرب مِنْ تكَلله النَّسَبُ إِذا اسْتَدَارَ بِهِ، قَالَ: وَسَمِعْتُهُ مَرَّةً يَقُولُ الكَلالة مَنْ سَقَطَ عَنْهُ طَرَفاه، وَهُمَا أَبوه وَوَلَدُهُ، فَصَارَ كَلًّا وكَلالة أَي عِيالًا عَلَى الأَصل، يَقُولُ: سَقَطَ مِنَ الطَّرَفين فَصَارَ عِيالًا عَلَيْهِمْ؛ قَالَ: كَتَبْتُهُ حِفْظًا عَنْهُ؛ " قَالَ الأَزهري: وَحَدِيثُ جَابِرٍ يُفَسِّرُ لَكَ الكَلالة وأَنه الوارِث لأَنه يَقُولُ مَرِضْت مَرَضًا أَشفيت مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فأَتيت النبي، صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إِني رَجُلٌ ليس يرثني إِلا كَلالةٌ "؛ أَراد أَنه لَا وَالِدَ لَهُ وَلَا وَلَدَ، فَذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الكَلالة فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي مَوْضِعَيْنِ، أَحدهما قَوْلُهُ: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ؛ فَقَوْلُهُ يُورَثُ مِنْ وُرِث يُورَث لَا مِنْ أُورِث يُورَث، وَنَصَبَ كَلالة عَلَى الْحَالِ، الْمَعْنَى أَن مَنْ مَاتَ رَجُلًا أَو امرأَة فِي حَالِ تكَلُّلِه نَسَبَ ورثِته أَي لَا وَالِدَ لَهُ وَلَا وَلَدَ وَلَهُ أَخ أَو أُخت مِنْ أُم فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، فَجَعَلَ الميت هاهنا كَلالة وَهُوَ المورِّث، وَهُوَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْوَارِثُ: «فَكُلُّ مَن مَاتَ وَلَا وَالِدَ لَهُ وَلَا وَلَدَ فَهَوَ كلالةُ ورثتِه»، وكلُّ وَارِثٍ لَيْسَ بِوَالِدٍ لِلْمَيِّتِ وَلَا ولدٍ لَهُ فَهُوَ كلالةُ مَوْرُوثِه، وَهَذَا مُشْتَقٌّ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ مُوَافِقٌ لِلتَّنْزِيلِ والسُّنة، وَيَجِبُ عَلَى أَهل الْعِلْمِ مَعْرِفَتُهُ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ عَلَيْهِمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِليه مِنْهُ؛ وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الكَلالة قَوْلُهُ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ} (الْآيَةَ)؛ فَجَعَلَ الكَلالة هَاهُنَا الأُخت للأَب والأُم والإِخوة للأَب والأُم، فَجَعَلَ للأُخت الْوَاحِدَةِ نصفَ مَا تَرَكَ الْمَيِّتُ، وللأُختين الثُّلُثَيْنِ، وللإِخوة والأَخوات جَمِيعَ الْمَالِ بَيْنَهُمْ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثيين، وَجَعَلَ للأَخ والأُخت مِنَ الأُم، فِي الْآيَةِ الأُولى، الثُّلُثَ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، فَبَيَّنَ بسِياق الْآيَتَيْنِ أَن الكَلالة تَشْتَمِلُ عَلَى الإِخوة للأُم مرَّة، وَمَرَّةً عَلَى الإِخوة والأَخوات للأَب والأُم؛ وَدَلَّ قَوْلُ الشَّاعِرِ أَنَّ الأَب لَيْسَ بكَلالة، وأَنَّ سَائِرَ الأَولياء مِنَ العَصَبة بَعْدَ الْوَلَدِ كَلالة؛ وَهُوَ قَوْلُهُ:

فإِنَّ أَب المَرْء أَحْمَى لَهُ، ***ومَوْلَى الكَلالة لَا يغضَب

أَراد: أَن أَبا الْمَرْءِ أَغضب لَهُ إِذا ظُلِم، وَمَوَالِي الْكَلَالَةِ، وَهُمُ الإِخوة والأَعمام وَبَنُو الأَعمام وَسَائِرُ الْقِرَابَاتِ، لَا يغضَبون لِلْمَرْءِ غَضَب الأَب.

ابن الْجَرَّاحِ: إِذا لَمْ يَكُنِ ابْنُ الْعَمِّ لَحًّا وَكَانَ رَجُلًا مِنَ الْعَشِيرَةِ قَالُوا: هُوَ ابْنُ عَمِّي الكَلالةُ وابنُ عَمِّ كَلالةٍ؛ قَالَ الأَزهري: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَن العَصَبة وإِن بَعُدوا كَلالة، فَافْهَمْهُ؛ قَالَ: وَقَدْ فسَّرت لَكَ مِنْ آيَتَيِ الكَلالة وإِعرابهما مَا تَشْتَفِي بِهِ ويُزيل اللَّبْسَ عَنْكَ، فَتَدَبَّرْهُ تَجِدْهُ كَذَلِكَ؛ قَالَ: قَدْ ثَبَّجَ اللَّيْثُ مَا فَسَّرَهُ مِنَ الكَلالة فِي كِتَابِهِ وَلَمْ يُبَيِّنِ الْمُرَادَ مِنْهُ، وَقَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: اعْلَمْ أَن الكَلالة فِي الأَصل هِيَ مَصْدَرُ كَلَّ الميتُ يَكِلُّ كَلًّا وكَلالة، فَهُوَ كَلٌّ إِذا لَمْ يُخَلِّفْ وَلَدًا وَلَا وَالِدًا يرِثانه، هَذَا أَصلها، قَالَ: ثُمَّ قَدْ تَقَعُ الكَلالة عَلَى الْعَيْنِ دُونَ الحدَث، فَتَكُونُ اسْمًا لِلْمَيِّتِ المَوْروث، وإِن كَانَتْ فِي الأَصل اسْمًا للحَدَث عَلَى حدِّ قَوْلِهِمْ: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ أَي مَخْلُوقُ اللَّهِ؛ قَالَ: وَجَازَ أَن تَكُونَ اسْمًا لِلْوَارِثِ عَلَى حدِّ قَوْلِهِمْ: رَجُلٌ عَدْل أَي عَادِلٌ، وماءٌ غَوْر أَي غَائِرٌ؛ قَالَ: والأَول هُوَ اخْتِيَارُ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ أَن الكَلالة اسْمٌ لِلْمَوْرُوثِ، قَالَ: وَعَلَيْهِ جاء التَّفْسِيرِ فِي الْآيَةِ: إِن الكَلالة الَّذِي لَمْ يخلِّف وَلَدًا وَلَا وَالِدًا، فإِذا جَعَلْتَهَا لِلْمَيِّتِ كَانَ انْتِصَابُهَا فِي الْآيَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحدهما أَن تَكُونَ خَبَرَ كَانَ تَقْدِيرُهُ: وإِن كَانَ الْمَوْرُوثُ كَلالةً أَي كَلًّا لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَن يَكُونَ انْتِصَابُهَا عَلَى الْحَالِ من الضمير في يُورَث أَي يورَث وَهُوَ كَلالة، وَتَكُونُ كَانَ هِيَ التَّامَّةَ الَّتِي لَيْسَتْ مُفْتَقِرَةً إِلى خَبَرٍ، قَالَ: وَلَا يَصِحُّ أَن تَكُونَ النَّاقِصَةَ كَمَا ذَكَرَهُ الْحَوْفِيُّ لأَن خَبَرَهَا لَا يَكُونُ إِلا الكَلالة، وَلَا فَائِدَةَ فِي قَوْلِهِ يورَث، وَالتَّقْدِيرُ إِن وقَع أَو حضَر رَجُلٌ يَمُوتُ كَلالة أَي يورَث وَهُوَ كَلالة أَي كَلّ، وإِن جَعَلْتَهَا للحدَث دُونَ الْعَيْنِ جَازَ انْتِصَابُهَا عَلَى ثَلَاثَةُ أَوجه: أَحدها أَن يَكُونَ انْتِصَابُهَا عَلَى الْمَصْدَرِ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ يورَث وِراثة كَلالةٍ كَمَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ: " ورِثْتُم قَناة المُلْك لَا عَنْ كَلالةٍ "أَي وَرِثْتُمُوهَا وِراثة قُرْب لَا وِراثة بُعْد؛ وَقَالَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْل:

وَمَا سَوَّدَتْني عامِرٌ عَنْ كَلالةٍ، ***أَبى اللهُ أَنْ أَسْمُو بأُمٍّ وَلَا أَب

وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: هُوَ ابْنُ عَمٍّ كَلالةً أَي بَعِيدَ النِّسَبِ، "فإِذا أَرادوا القُرْب قَالُوا: هُوَ ابْنُ عَمٍّ دِنْيَةً، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَن تَكُونَ الكَلالة مَصْدَرًا وَاقِعًا مَوْقِعَ الْحَالِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: جَاءَ زَيْدٌ رَكْضًا أَي راكِضًا، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي دِنيةً أَي دَانِيًا، وَابْنُ عَمِّي كَلالةً أَي بَعِيدًا فِي النسَب، وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ أَن تَكُونَ خَبَرَ كَانَ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضَافٍ، تَقْدِيرُهُ وإِن كَانَ المَوْروث ذَا كَلالة؛ قَالَ: فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَوجه فِي نَصْبِ الْكَلَالَةِ: أَحدها أَن تَكُونَ خَبَرَ كَانَ، الثَّانِي أَن تَكُونَ حَالًا، الثَّالِثُ أَن تَكُونَ مَصْدَرًا عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضَافٍ، الرَّابِعُ أَن تَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، الْخَامِسُ أَن تَكُونَ خَبَرَ كَانَ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضَافٍ، فَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الَّذِي عَلَيْهِ أَهل الْبَصْرَةِ وَالْعُلَمَاءُ بِاللُّغَةِ، أَعني أَن الكَلالة اسْمٌ لِلْمَوْرُوثِ دُونَ الْوَارِثِ، قَالَ: وَقَدْ أَجاز قَوْمٌ مِنْ أَهل اللُّغَةِ، وَهُمْ أَهل الْكُوفَةِ، أَن تَكُونَ الكَلالة اسْمًا للوارِث، واحتجُّوا فِي ذَلِكَ بأَشياء مِنْهَا قِرَاءَةُ" الْحَسَنِ: وإِن كان رجل يُورِث كَلالةً، بِكَسْرِ الرَّاءِ، فالكَلالة عَلَى ظَاهِرِ هَذِهِ القِراءة هِيَ ورثةُ الْمَيِّتِ، وَهُمُ الإِخوة للأُم، واحتجُّوا أَيضًا بِقَوْلِ جَابِرٍ إِنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنما يرِثني كَلالة، وإِذا ثَبَتَ حُجَّةُ هَذَا الْوَجْهِ كَانَ انْتِصَابُ كَلالة أَيضًا عَلَى مِثْلِ مَا انْتَصَبَتْ فِي الْوَجْهِ الْخَامِسِ مِنَ الْوَجْهِ الأَول، وَهُوَ أَن تَكُونَ خَبَرَ كَانَ وَيُقَدَّرُ حَذْفُ مُضَافٍ لِيَكُونَ الثَّانِي هُوَ الأَول، تَقْدِيرُهُ: وإِن كَانَ رَجُلٌ يورِث ذَا كَلالة، كَمَا تَقُولُ ذَا قَرابةٍ لَيْسَ فِيهِمْ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ، قَالَ: وَكَذَلِكَ إِذا جعلتَه حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُورِثُ تَقْدِيرُهُ ذَا كَلالةٍ، قَالَ: وَذَهَبَ ابْنُ جِنِّي فِي قِرَاءَةِ مَنْ قرأَ يُورِث كَلالة ويورِّث كَلالة "أَن مَفْعُولَيْ يُورِث ويُوَرِّث مَحْذُوفَانِ أَي يُورِث وارثَه مالَه، قَالَ: فَعَلَى هَذَا يَبْقَى كَلالة عَلَى حَالِهِ الأُولى الَّتِي ذَكَرْتُهَا، فَيَكُونُ نَصْبُهُ عَلَى خَبَرِ كَانَ أَو عَلَى الْمَصْدَرِ، وَيَكُونُ الكَلالة للمَوْروث لَا لِلْوَارِثِ؛ قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَن الكَلالة مَصْدَرٌ يَقَعُ عَلَى الْوَارِثِ وَعَلَى الْمَوْرُوثِ، وَالْمَصْدَرُ قَدْ يَقَعُ لِلْفَاعِلِ تَارَةً وَلِلْمَفْعُولِ أُخرى، وَاللَّهُ أَعلم؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: الأَب وَالِابْنُ طرَفان لِلرَّجُلِ فإِذا مَاتَ وَلَمْ يخلِّفهما فَقَدْ مَاتَ عَنْ ذَهَابِ طَرَفَيْه، فَسُمِّيَ ذَهَابُ الطرَفين كَلالة، وَقِيلَ: كُلُّ مَا احْتَفَّ بِالشَّيْءِ مِنْ جَوَانِبِهِ فَهُوَ إِكْلِيل، وَبِهِ سُمِّيَتْ، لأَن الوُرَّاث يُحيطون بِهِ مِنْ جَوَانِبِهِ.

والكَلُّ: الْيَتِيمُ؛ قَالَ:

أَكُولٌ لِمَالِ الكَلِّ قَبْلَ شَبابِه، ***إِذا كَانَ عَظْمُ الكَلِّ غيرَ شَديد

والكَلُّ: الَّذِي هُوَ عِيال وثِقْل عَلَى صَاحِبِهِ؛ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ}، أَي عِيال.

وأَصبح فُلَانٌ مُكِلًّا إِذا صَارَ ذَوُو قَرابته كَلًّا عَلَيْهِ أَي عِيالًا.

وأَصبحت مُكِلًّا أَي ذَا قراباتٍ وَهُمْ عليَّ عِيَالٌ.

والكالُّ: المُعْيي، وَقَدْ كَلَّ يَكِلُّ كَلالًا وكَلالةً.

والكَلُّ: العَيِّل والثِّقْل، الذكَر والأُنثى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَرُبَّمَا جُمِعَ عَلَى الكُلول فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، كَلَّ يَكِلُّ كُلولًا.

وَرَجُلٌ كَلٌّ: ثَقِيلٌ لَا خَيْرَ فِيهِ.

ابْنُ الأَعرابي: الكَلُّ الصَّنَمُ، والكَلُّ الثقيلُ الرُّوحِ مِنَ النَّاسِ، والكَلُّ الْيَتِيمُ، والكَلُّ الوَكِيل.

وكَلَّ الرَّجُلُ إِذا تعِب.

وكَلَّ إِذا توكَّل؛ قَالَ الأَزهري: الَّذِي أَراد ابنُ الأَعرابي بِقَوْلِهِ الكلُّ الصنَم قَوْلَهُ تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا}؛ ضَرَبَهُ مَثَلًا للصَّنَم الَّذِي عبدُوه وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ" لأَنه يحمِله إِذا ظَعَن ويحوِّله مِنْ مَكَانٍ إِلى مَكَانٍ، فَقَالَ اللَّهُ تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي هَذَا الصَّنَم الكَلُّ وَمَنْ يأْمر بِالْعَدْلِ}، اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ كأَنه قَالَ: لَا تسوُّوا بَيْنَ الصَّنَمِ الكَلِّ وَبَيْنَ الْخَالِقِ جَلَّ جَلَالُهُ.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَقَالَ نِفْطَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ: هُوَ أُسيد بْنُ أَبي الْعِيصِ وَهُوَ الأَبْكم، قَالَ: وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ ورأْس الكَلّ رَئِيسُ الْيَهُودِ.

الْجَوْهَرِيُّ: الكَلُّ العِيال والثِّقْل.

وَفِي حَدِيثِ خَدِيجَةَ: «كَلَّا إِنَّك لَتَحْمِل الكَلَ»؛ هُوَ، بِالْفَتْحِ: الثِّقْل مِنْ كُلِّ مَا يُتكلَّف.

والكَلُّ: العِيال؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «مَنْ تَرك كَلًّا فَإِلَيَّ وعليَّ».

وَفِي حَدِيثِ طَهْفة: «وَلَا يُوكَل كَلُّكم»؛ أي لَا يوكَل إِليكم عِيالكم وَمَا لَمْ تُطِيقُوهُ، ويُروى: أُكْلُكم أَي لَا يُفْتات عَلَيْكُمْ مَالُكُمْ.

وكَلَّلَ الرجلُ: ذَهَبَ وَتَرَكَ أَهلَه وعيالَه بمضْيَعَةٍ.

وكَلَّلَ عَنِ الأَمر: أَحْجَم.

وكَلَّلَ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ وكَلَّلَ السبعُ: حَمَلَ.

ابْنُ الأَعرابي: والكِلَّة أَيضًا حالُ الإِنسان، وَهِيَ البِكْلَة؛ يُقَالُ: بَاتَ فُلَانٌ بكِلَّة سُوءٍ أَي بِحَالِ سُوءٍ قَالَ: والكِلَّة مَصْدَرُ قَوْلِكَ سَيْفٌ كَلِيل بَيِّنُ الكِلَّة.

وَيُقَالُ: ثقُل سَمْعُهُ وكَلَّ بَصَرُهُ وذَرَأَ سِنُّه.

والمُكَلِّل: الجادُّ، يُقَالُ: حَمَل وكَلَّلَ أَي مَضَى قُدُمًا وَلَمْ يَخِم؛ وأَنشد الأَصمعي:

حَسَمَ عِرْقَ الداءِ عَنْهُ فقَضَبْ، ***تَكْلِيلَةَ اللَّيْثِ إِذا الليثُ وَثَبْ

قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ كَلَّلَ بِمَعْنَى جَبُن، يُقَالُ: حَمَلَ فَمَا كَلَّلَ أَي فَمَا كذَب وَمَا جبُن كأَنه مِنَ الأَضداد؛ وأَنشد أَبو زَيْدٍ لجَهْم بْنِ سَبَل:

وَلَا أُكَلِّلُ عَنْ حَرْبٍ مُجَلِّحةٍ، ***وَلَا أُخَدِّرُ للمُلْقِين بالسَّلَمِ

وَرَوَى الْمُنْذِرِيُّ عَنْ أَبي الْهَيْثَمِ أَنه يُقَالُ: إِن الأَسد يُهَلِّل ويُكَلِّلُ، وإِن النَّمِرَ يُكَلِّلُ وَلَا يُهَلِّل، قال: والمُكَلِّل الَّذِي يحمِل فَلَا يَرْجِعُ حَتَّى يقَع بقِرْنه، والمُهَلِّل يَحْمِلُ عَلَى قِرْنه ثُمَّ يُحْجِم فَيَرْجِعُ؛ وَقَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ:

بَكَرَتْ تَلُومُ، وأَمْسِ مَا كَلَّلْتها، ***وَلَقَدْ ضَلَلْت بِذَاكَ أَيَّ ضَلَالِ

ما: صِلة، كَلَّلْتها: أَدْعَصْتها.

يُقَالُ: كَلَّلَ فُلَانٌ فُلَانًا أَي لَمْ يُطِعه.

وكَلَلْتُه بِالْحِجَارَةِ أَي عَلَوْتُهُ بِهَا؛ وقال: " وفرحه بِحَصَى المَعْزاءِ مَكْلولُ.

والكُلَّة: الصَّوْقَعة، وَهِيَ صُوفة حَمْرَاءُ فِي رأْس الهَوْدَج.

وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «نَهَى عَنْ تَقْصِيص القُبور وتَكْلِيلها»؛ قِيلَ: التّكْلِيل رفعُها تُبْنَى مِثْلَ الكِلَل، وَهِيَ الصَّوامع والقِباب الَّتِي تُبْنَى عَلَى الْقُبُورِ، وَقِيلَ: هُوَ ضَرْب الكِلَّة عَلَيْهَا وَهِيَ سِتْر مربَّع يضرَب عَلَى الْقُبُورِ، وَقَالَ أَبو عُبَيْدٍ: الكِلَّة مِنَ السُّتور مَا خِيطَ فَصَارَ كَالْبَيْتِ؛ وأَنشد:

مِنْ كُلِّ مَحْفوفٍ يُظِلُّ عِصِيَّهُ ***زَوْجٌ عَلَيْهِ كِلَّةٌ وقِرامُها

والكِلَّة: السِّتر الرَّقِيقُ يُخاط كَالْبَيْتِ يُتَوَقّى فِيهِ مِنَ البَقِّ، وَفِي الْمُحْكَمِ: الكِلَّة السِّتر الرَّقِيقُ، قَالَ: والكِلَّة غشاءٌ مِنْ ثَوْبٍ رَقِيقٍ يُتوقَّى بِهِ مِنَ البَعُوض.

والإِكْلِيل: شِبْهُ عِصابة مزيَّنة بِالْجَوَاهِرِ، وَالْجَمْعُ أَكالِيل عَلَى الْقِيَاسِ، وَيُسَمَّى التَّاجُ إِكْلِيلًا.

وكَلَّلَه أَي أَلبسه الإِكْلِيل؛ فأَما قَوْلُهُ أَنشده ابْنُ جِنِّي:

قَدْ دَنا الفِصْحُ، فالْوَلائدُ يَنْظِمْنَ ***سِراعًا أَكِلَّةَ المَرْجانِ

فَهَذَا جَمْعُ إِكْلِيل، فَلَمَّا حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ وَبَقِيَتِ الْكَافُ سَاكِنَةً فُتِحَتْ، فَصَارَتْ إِلى كَلِيلٍ كَدَلِيلٍ فَجُمِعَ عَلَى أَكِلَّة كأَدِلَّة.

وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبْرُقُ أَكالِيل وَجْهه»؛ هِيَ جَمْعُ إِكْلِيل، قَالَ: وَهُوَ شِبْهُ عِصابة مزيَّنة بالجَوْهَر، فجعلتْ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكالِيلَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعَارَةِ؛ قَالَ: وَقِيلَ أَرادتْ نَوَاحِيَ وَجْهِهِ وَمَا أَحاط بِهِ إِلى الجَبِين مِنَ التَّكَلُّل، وَهُوَ الإِحاطة ولأَنَّ الإِكْلِيل يُجْعَلُ كالحَلْقة وَيُوضَعُ هُنَالِكَ عَلَى أَعلى الرأْس.

وَفِي حَدِيثِ الِاسْتِسْقَاءِ: «فَنَظَرْتُ إِلى الْمَدِينَةِ وإِنها لَفِي مثْل الإِكْلِيل»؛ يُرِيدُ أَن الغَيْم تَقَشَّع عَنْهَا وَاسْتَدَارَ بِآفَاقِهَا.

والإِكْلِيل: منزِل مِنْ مَنَازِلِ الْقَمَرِ وَهُوَ أَربعة أَنجُم مصطفَّة.

قَالَ الأَزهري: الإِكْلِيل رأْس بُرْج الْعَقْرَبِ، ورقيبُ الثُّرَيَّا مِنَ الأَنْواء هُوَ الإِكْلِيل، لأَنه يطلُع بِغُيُوبها.

والإِكْلِيل: مَا أَحاط بالظُّفُر مِنَ اللَّحْمِ.

وتَكَلَّله الشيءُ: أَحاط بِهِ.

وَرَوْضَةٌ مُكَلَّلة: مَحْفُوفَةٌ بالنَّوْر.

وَغَمَامٌ مُكَلَّل: مَحْفُوفٌ بقِطَع مِنَ السَّحَابِ كأَنه مُكَلَّل بهنَّ.

وانْكَلَّ الرجلُ: ضَحِكَ.

وانْكَلَّت المرأَة فَهِيَ تَنْكَلُّ انْكِلالًا إِذا مَا تبسَّمت؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ لِعُمَرَ بْنِ أَبي رَبِيعَةَ:

وتَنْكَلُّ عَنْ عذْبٍ شَتِيتٍ نَباتُه، ***لَهُ أُشُرٌ كالأُقْحُوان المُنَوِّر

وانْكَلَّ الرَّجُلُ انْكِلالًا: تبسَّم؛ قَالَ الأَعشى:

ويَنْكَلُّ عَنْ غُرٍّ عِذابٍ كأَنها ***جَنى أُقْحُوان، نَبْتُه مُتَناعِم

يُقَالُ: كَشَرَ وافْتَرَّ وانْكَلَّ، كُلُّ ذَلِكَ تَبْدُو مِنْهُ الأَسنان.

وانْكِلال الغَيْم بالبَرْق: هُوَ قَدْرُ مَا يُرِيك سَوَادَ الْغَيْمِ مِنْ بَيَاضِهِ.

وانْكَلَّ السَّحَابُ بِالْبَرْقِ إِذا مَا تبسَّم بِالْبَرْقِ.

والإِكْلِيل: السحابُ الَّذِي تَرَاهُ كأَنَّ غِشاءً أُلْبِسَه.

وَسَحَابٌ مُكَلَّل أَي ملمَّع بِالْبَرْقِ، وَيُقَالُ: هُوَ الَّذِي حَوْلَهُ قِطع مِنَ السَّحَابِ.

واكْتَلَّ الغمامُ بِالْبَرْقِ أَي لَمَعَ.

وانكَلَّ السَّحَابُ عَنِ الْبَرْقِ واكْتَلَّ: تَبَسَّمَ؛ الأَخيرة عَنِ ابْنِ الأَعرابي؛ وأَنشد:

عَرَضْنا فقُلْنا: إِيهِ سِلْم فسَلَّمتْ ***كَمَا اكْتَلَّ بالبرقَ الغَمامُ اللوائحُ

وَقَوْلُ أَبي ذُؤَيْبٍ:

تَكَلَّلَ فِي الغِماد فأَرْضِ لَيْلَى ***ثَلَاثًا، مَا أَبين لَهُ انْفِراجَا

قِيلَ: تَكَلَّل تَبَسَّمَ بِالْبَرْقِ، وَقِيلَ: تنطَّق وَاسْتَدَارَ.

وانكلَّ البرقُ نَفْسُهُ: لَمَعَ لَمَعًا خَفِيفًا.

أَبو عُبَيْدٍ عَنْ أَبي عَمْرٍو: الْغَمَامُ المُكَلَّل هُوَ السَّحَابَةُ يَكُونُ حَوْلَهَا قِطَع مِنَ السَّحَابِ فَهِيَ مكَلَّلة بهنَّ؛ وأَنشد غَيْرُهُ لِامْرِئِ الْقَيْسِ:

أَصَاحِ تَرَى بَرْقًا أُرِيك وَمِيضَه، ***كَلَمْع اليَدَيْن فِي حَبيٍّ مُكَلَّلِ

وإِكْلِيل المَلِك: نَبْتٌ يُتداوَى بِهِ.

والكَلْكَل والكَلْكال: الصَّدْرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَقِيلَ: هُوَ مَا بَيْنَ التَّرْقُوَتَيْن، وَقِيلَ: هُوَ بَاطِنُ الزَّوْرِ؛ قَالَ: " أَقول، إِذْ خَرَّتْ عَلَى الكَلْكَالِ "قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَرُبَّمَا جَاءَ فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ مُشَدَّدًا؛ وَقَالَ مَنْظُورُ بْنُ مَرْثَدٍ الأَسدي:

كأَنَّ مَهْواها، عَلَى الكَلْكَلِّ، ***موضعُ كَفَّيْ راهِبٍ يُصَلِّي

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَصَوَابُهُ موقِعُ كفَّيْ رَاهِبٍ، لأَن بَعْدَ قَوْلِهِ عَلَى الكَلْكَلِّ: ومَوْقِفًا مِنْ ثَفِناتٍ زُلِ قَالَ: وَالْمَعْرُوفُ الكَلْكَل، وإِنما جَاءَ الكَلْكَال فِي الشِّعْرِ ضَرُورَةً فِي قَوْلُ الرَّاجِزِ:

قلتُ، وَقَدْ خرَّت عَلَى الكَلْكَالِ: ***يَا ناقَتي، مَا جُلْتِ مِنْ مَجَالِ

والكَلْكَل مِنَ الْفَرَسِ: مَا بَيْنَ مَحْزِمه إِلى مَا مسَّ الأَرض مِنْهُ إِذا رَبَضَ؛ وَقَدْ يُسْتَعَارُ الكَلْكَل لِمَا لَيْسَ بِجِسْمٍ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ فِي صِفَةِ لَيْل:

فقلتُ لَهُ لمَّا تَمَطَّى بِجَوْزِه، ***وأَرْدَفَ أَعْجازًا وَنَاءَ بِكَلْكَل

وَقَالَتْ أَعرابية تَرْثي ابْنَهَا:

أَلْقَى عَلَيْهِ الدهرُ كَلْكَلَهُ، ***مَنْ ذَا يقومُ بِكَلْكَلِ الدَّهْرِ؟

فَجَعَلَتْ لِلدَّهْرِ كَلْكَلًا؛ وَقَوْلُهُ:

مَشَقَ الهواجِرُ لَحْمَهُنَّ مَعَ السُّرَى، ***حَتَّى ذَهَبْنَ كَلاكلًا وصُدورًا

وَضَعَ الأَسماء مَوْضِعَ الظُّرُوفِ كَقَوْلِهِ ذَهَبْنَ قُدُمًا وأُخُرًا.

وَرَجُلٌ كُلْكُلٌ: ضَرْبٌ، وَقِيلَ: الكُلْكُل والكُلاكِل، بِالضَّمِّ، الْقَصِيرُ الْغَلِيظُ الشَّدِيدُ، والأُنثى كُلْكُلَة وكُلاكِلة، والكَلاكِل الْجَمَاعَاتُ كالكَراكِر؛ وأَنشد قَوْلَ الْعَجَّاجِ: " حَتَّى يَحُلُّون الرُّبى الكَلاكِلا الْفَرَّاءُ: الكُلَّة التأْخير، والكَلَّة الشَّفْرة الكالَّة، والكِلَّة الحالُ حالُ الرجُل.

وَيُقَالُ: ذِئْبٌ مُكِلّ قَدْ وَضَعَ كَلَّهُ عَلَى النَّاسِ.

وذِئب كَلِيل: لَا يَعْدُو عَلَى أَحد.

وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ: «أَنه دُخِل عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ أَبِأَمْرك هَذَا؟ فَقَالَ: كُلُّ ذَلِكَ»أَي بَعْضُهُ عَنْ أَمري وَبَعْضُهُ بِغَيْرِ أَمري؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: مَوْضِعُ كُلّ الإِحاطة بِالْجَمِيعِ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى الْبَعْضِ قَالَ: وَعَلَيْهِ حُمِل قولُ عُثْمَانَ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:

قالتْ لَهُ، وقولُها مَرْعِيُّ: ***إِنَّ الشِّواءَ خَيْرُه الطَّرِيُّ،

وكُلُّ ذَاكَ يَفْعَل الوَصِيُ "أَي قَدْ يفعَل وَقَدْ لَا يفعَل.

وَقَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وكَلّا حَرْفُ رَدْع وزَجْر؛ وَقَدْ تأْتي بِمَعْنَى لَا كَقَوْلِ الْجَعْدِيِّ:

فقلْنا لَهُمْ: خَلُّوا النِّساءَ لأَهْلِها ***فَقَالُوا لَنَا: كَلَّا فقلْنا لَهُمْ: بَلى

فكَلَّا هُنَا بِمَعْنَى لَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فَقُلْنَا لَهُمْ بَلَى، وبَلى لَا تأْتي إِلا بَعْدَ نَفْيٍ؛ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ أَيضًا:

قُرَيْش جِهازُ النَّاسِ حَيًّا ومَيِّتًا، ***فَمَنْ قَالَ كَلَّا، فالمُكذِّب أَكْذَبُ

وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ تعالى: {فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ كَلَّا}.

وَفِي الْحَدِيثِ: «تَقَع فَتِنٌ كأَنها الظُّلَل، فَقَالَ أَعرابي: كَلَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: كَلَّا رَدْع فِي الْكَلَامِوَتَنْبِيهٌ وَمَعْنَاهَا انْتَهِ لَا تَفْعَلْ، إِلا أَنها آكَدُ فِي النَّفْيِ والرَّدْع مِنْ لَا، لِزِيَادَةِ الْكَافِ؛ وَقَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى حَقًّا كَقَوْلِهِ تعالى: {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ}؛ والظُّلَل: السَّحاب.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


215-لسان العرب (هلل)

هلل: هَلَّ السحابُ بِالْمَطَرِ وهَلَّ المطرُ هَلًّا وانْهَلَّ بِالْمَطَرِ انْهِلالًا واسْتَهَلَّ: وَهُوَ شدَّة انْصِبَابِهِ.

وَفِي حَدِيثِ الِاسْتِسْقَاءِ: «فأَلَّف اللَّهُ السَّحَابَ وهَلَّتْنَا».

قَالَ ابْنُ الأَثير: كَذَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، يُقَالُ: هَلَّ السحابُ إِذا أَمطر بشدَّة، والهِلالُ الدُّفْعَةُ مِنْهُ، وَقِيلَ: هُوَ أَوَّل مَا يُصِيبُكَ مِنْهُ، وَالْجَمْعُ أَهِلَّة عَلَى الْقِيَاسِ، وأَهَالِيلُ نَادِرَةٌ.

وانْهَلَّ الْمَطَرُ انْهِلالًا: سَالَ بشدَّة، واسْتَهَلَّتِ السماءُ فِي أَوَّل الْمَطَرِ، وَالِاسْمُ الهِلالُ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: هَلَّ السَّحَابُ إِذا قَطَر قَطْرًا لَهُ صوْت، وأَهَلَّه اللَّهُ؛ وَمِنْهُ انْهِلالُ الدَّمْع وانْهِلالُ الْمَطَرِ؛ قَالَ أَبو نَصْرٍ: الأَهَالِيل الأَمْطار، وَلَا وَاحِدَ لَهَا فِي قَوْلِ ابْنُ مُقْبِلٍ:

وغَيْثٍ مَرِيع لَمْ يُجدَّع نَباتُهُ، ***ولتْه أَهَالِيلُ السِّماكَيْنِ مُعْشِب

وَقَالَ ابْنُ بُزُرْج: هِلال وهَلالُهُ وَمَا أَصابنا هِلالٌ وَلَا بِلالٌ وَلَا طِلالٌ؛ قَالَ: وَقَالُوا الهِلَلُ الأَمطار، وَاحِدُهَا هِلَّة؛ وأَنشد: " مِنْ مَنْعِجٍ جَادَتْ رَوابِيهِ الهِلَلْ وانْهَلَّتِ السماءُ إِذا صبَّت، واسْتَهَلَّتْ إِذا ارْتَفَعَ صوتُ وَقْعِهَا، وكأَنَّ استِهْلالَ الصَّبِيِّ مِنْهُ.

وَفِي حَدِيثِ النَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ قَالَ: «فنَيَّف عَلَى الْمِائَةِ وكأَنَّ فاهُ البَرَدُ المُنْهَلُ»؛ كُلُّ شَيْءٍ انصبَّ فَقَدِ انْهَلَّ، يُقَالُ: انْهَلَّ السَّمَاءُ بِالْمَطَرِ يَنْهَلُّ انْهِلالًا وَهُوَ شِدَّةُ انْصِبابه.

قَالَ: وَيُقَالُ هَلَّ السَّمَاءُ بِالْمَطَرِ هَلَلًا، وَيُقَالُ لِلْمَطَرِ هَلَلٌ وأُهْلُول.

والهَلَلُ: أَول الْمَطَرِ.

يُقَالُ: اسْتَهَلَّتِ السَّمَاءُ وَذَلِكَ فِي أَول مَطَرِهَا.

وَيُقَالُ: هُوَ صَوْتُ وَقْعِه.

واسْتَهَلَّ الصبيُّ بالبُكاء: رَفَعَ صوتَه وَصَاحَ عِنْدَ الوِلادة.

وَكُلُّ شَيْءٍ ارْتَفَعَ صوتُه فَقَدِ اسْتَهَلَّ.

والإِهْلالُ بِالْحَجِّ: رفعُ الصَّوْتِ بالتَّلْبية.

وكلُّ مُتَكَلِّمٍ رَفَعَ صَوْتَهُ أَو خَفَضَهُ فَقَدْ أَهَلَّ واسْتَهَلَّ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «الصبيُّ إِذا وُلِد لَمْ يُورَث وَلَمْ يَرِثْ حَتَّى يَسْتَهِلَّ صَارِخًا».

وَفِي حَدِيثِ الجَنِين: «كَيْفَ نَدِي مَن لَا أَكَل وَلَا شَرِبَ وَلَا اسْتَهَلَّ؟» وَقَالَ الرَّاجِزُ:

يُهِلُّ بالفَرْقَدِ رُكْبانُها، ***كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ المُعْتَمِرْ

وأَصله رَفْعُ الصوَّت.

وأَهَلَّ الرَّجُلُ واسْتَهَلَّ إِذا رَفَعَ صوتَه.

وأَهَلَّ المُعْتَمِرُ إِذا رَفَعَ صوتَه بالتَّلْبية، وَتَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ الإِهْلال، وَهُوَ رفعُ الصَّوْتِ بالتَّلْبِية.

أَهَلَّ المحرِمُ بِالْحَجِّ يُهِلُّ إِهْلالًا إِذا لَبَّى ورفَع صوتَه.

والمُهَلُّ، بِضَمِّ الْمِيمِ: موضعُ الإِهْلال، وَهُوَ الْمِيقَاتُ الَّذِي يُحْرِمون مِنْهُ، وَيَقَعُ عَلَى الزَّمَانِ وَالْمَصْدَرِ.

اللَّيْثُ: المُحرِمُ يُهِلُّ بالإِحْرام إِذا أَوجب الحُرْم عَلَى نَفْسِهِ؛ تَقُولُ: أَهَلَّ بحجَّة أَو بعُمْرة فِي مَعْنَى أَحْرَم بِهَا، وإِنما قِيلَ للإِحرامِ إِهْلال لِرَفْعِ المحرِم صَوْتَهُ بالتَّلْبِيَة.

والإِهْلال: التَّلْبِيَةُ، وأَصل الإِهْلال رفعُ الصوتِ.

وَكُلُّ رافِعٍ صوتَه فَهُوَ مُهِلٌّ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}؛ هُوَ مَا ذُبِحَ لِلْآلِهَةِ وَذَلِكَ لأَن الذَّابِحَ كَانَ يسمِّيها عِنْدَ الذَّبْحِ، فَذَلِكَ هُوَ الإِهْلال؛ قَالَ النَّابِغَةُ يَذْكُرُ دُرَّةً أَخرجها غَوَّاصُها مِنَ الْبَحْرِ:

أَو دُرَّة صَدَفِيَّة غَوَّاصُها ***بَهِجٌ، متى يَره يُهِلَّ ويَسْجُدِ

يَعْنِي بإِهْلالِه رفعَه صوتَه بِالدُّعَاءِ وَالْحَمْدِ لِلَّهِ إِذا رَآهَا؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ فِي اسْتِهْلال الصبيِ" أَنه إِذا وُلد لَمْ يَرِثْ وَلَمْ يُورَثْ حَتَّى يَسْتَهِلَّ صَارِخًا "وَذَلِكَ أَنه يُستدَل عَلَى أَنه وُلد حَيًّا بِصَوْتِهِ.

وَقَالَ أَبو الْخَطَّابِ: كُلُّ مُتَكَلِّمٍ رافعِ الصَّوْتِ أَو خافضِه فَهُوَ مُهِلٌّ ومُسْتَهِلٌّ؛ وأَنشد:

وأَلْفَيْت الخُصوم، وهُمْ لَدَيْهِ ***مُبَرْسمَة أَهَلُّوا ينظُرونا

وَقَالَ:

غَيْرَ يَعفور أَهَلَّ بِهِ ***جَابَ دَفَّيْه عَنِ الْقَلْبِ

قِيلَ فِي الإِهْلال: إِنه شَيْءٌ يَعْتَرِيهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَخْرُجُ مِنْ جَوْفِهِ شَبِيهٌ بالعُواء الْخَفِيفِ، وَهُوَ بَيْنَ العُواء والأَنين، وَذَلِكَ مِنْ حاقِّ الحِرْص وَشِدَّةِ الطَّلَبِ وَخَوْفِ الفَوْت.

وانْهَلَّتِ السَّمَاءُ مِنْهُ يَعْنِي كَلْبَ الصَّيْدِ إِذا أُرسل عَلَى الظَّبْي فأَخذه؛ قَالَ الأَزهري: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ أَبو عُبَيْدٍ وَحَكَاهُ عَنْ أَصحابه قَوْلُ السَّاجِعِ عِنْدَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَضى فِي الجَنين إِذا سقَط مَيِّتًا بغُرَّة فَقَالَ: أَرأَيت مَن لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلْ، وَلَا صَاحَ فاسْتَهَلّ، وَمِثْلُ دَمِه يُطَلُّ، فَجَعَلَهُ مُسْتَهِلًّا برفعِه صَوْتَهُ عِنْدَ الوِلادة.

وانْهَلَّتْ عينُه وتَهَلَّلَتْ: سَالَتْ بِالدَّمْعِ.

وتَهَلَّلَتْ دموعُه: سَالَتْ.

واسْتَهَلَّتِ الْعَيْنُ: دمَعت؛ قَالَ أَوس: " لَا تَسْتَهِلُّ مِنَ الفِراق شُؤوني "وَكَذَلِكَ انْهَلَّتِ العَيْن؛ قَالَ: " أَو سُنْبُلًا كُحِلَتْ بِهِ فانْهَلَّتِ والهَلِيلَةُ: الأَرض الَّتِي استهلَّ بِهَا الْمَطَرُ، وَقِيلَ: الهَلِيلَةُ الأَرض المَمْطورة وَمَا حَوالَيْها غيرُ مَمطور.

وتَهَلَّلَ السحابُ بالبَرْق: تَلأْلأَ.

وتَهَلَّلَ وَجْهُهُ فَرَحًا: أَشْرَق واستهلَّ.

وَفِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ، عَلَيْهَا السَّلَامُ: «فَلَمَّا رَآهَا استبشَر وتَهَلَّلَ وجهُه»أَي اسْتَنَارَ وَظَهَرَتْ عَلَيْهِ أَمارات السُّرُورِ.

الأَزهري: تَهَلَّلَ الرَّجُلُ فَرَحًا؛ وأَنشد:

تَراه، إِذا مَا جئتَه، مُتَهَلِّلًا ***كأَنك تُعطيه الَّذِي أَنت سائلُهْ

واهْتَلَّ كتَهَلَّلَ؛ قَالَ:

وَلَنَا أَسامٍ مَا تَليقُ بغيرِنا، ***ومَشاهِدٌ تَهْتَلُّ حِينَ تَرانا

وَمَا جَاءَ بِهِلَّة وَلَا بِلَّة؛ الهِلَّة: مِنَ الْفَرَحِ وَالِاسْتِهْلَالِ، والبِلَّة: أَدنى بَللٍ مِنَ الْخَيْرِ؛ وَحَكَاهُمَا كُرَاعٌ جَمِيعًا بِالْفَتْحِ.

وَيُقَالُ: مَا أَصاب عِنْدَهُ هِلَّة وَلَا بِلَّة أَي شَيْئًا.

ابْنُ الأَعرابي: هَلَّ يَهِلُّ إِذا فَرِحَ، وهَلَّ يَهِلُّ إِذا صَاحَ.

والهِلالُ: غِرَّةُ الْقَمَرِ حِينَ يُهِلُّه الناسُ فِي غُرَّةِ الشَّهْرِ، وَقِيلَ: يُسَمَّى هِلالًا لِلَيْلَتَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ ثُمَّ لَا يسمَّى بِهِ إِلى أَن يَعُودَ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي، وَقِيلَ: يُسَمَّى بِهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ ثُمَّ يُسَمَّى قَمَرًا، وَقِيلَ: يَسِمَاهُ حَتَّى يُحَجِّر، وَقِيلَ: يُسَمَّى هِلالًا إِلى أَن يَبْهَرَ ضوءُه سَوَادَ اللَّيْلِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلا فِي اللَّيْلَةِ السَّابِعَةِ.

قَالَ أَبو إِسحاق: وَالَّذِي عِنْدِي وَمَا عَلَيْهِ الأَكثر أَن يسمَّى هِلالًا ابنَ لَيْلَتَيْنِ فإِنه فِي الثَّالِثَةِ يَتَبَيَّنُ ضوءُه، وَالْجَمْعُ أَهِلَّة؛ قال:

يُسيلُ الرُّبى واهِي الكُلَى عَرِضُ الذُّرَى، ***أَهِلَّةُ نضّاخِ النَّدَى سابِغ القَطْرِ

أَهَلَّة نَضَّاخِ النَّدَى كَقَوْلِهِ:

تَلَقَّى نَوْءُهُنّ سِرَارَ شَهْرٍ، ***وخيرُ النَّوْءِ مَا لَقِيَ السِّرَارا

التَّهْذِيبُ عَنْ أَبي الْهَيْثَمِ: يسمَّى الْقَمَرُ لِلَيْلَتَيْنِ مِنْ أَول الشَّهْرِ هِلالًا، وَلِلَيْلَتَيْنِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ ستٍّ وَعِشْرِينَ وسبعٍ وَعِشْرِينَ هِلالًا، وَيُسَمَّى مَا بَيْنَ ذَلِكَ قَمَرًا.

وأَهَلَّ الرجلُ: نَظَرَ إِلى الهِلال.

وأَهْلَلْنا هِلال شَهْرِ كَذَا واسْتَهْلَلْناه: رأَيناه.

وأَهْلَلْنا الشَّهْرَ واسْتَهْلَلْنَاه: رأَينا هِلالَه.

الْمُحْكَمُ: وأَهَلَّ الشَّهْرُ واسْتَهَلَّ ظَهَرَ هِلالُه وتبيَّن، وَفِي الصِّحَاحِ: وَلَا يُقَالُ أَهَلَّ.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَقَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ؛ الْمُحْكَمُ أَيضًا: وهَلَّ الشَّهْرُ وَلَا يُقَالُ أَهَلَّ.

وهَلَّ الهِلالُ وأَهَلَّ وأُهِلَّ واستُهِلَّ، عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ: ظهَر، وَالْعَرَبُ تَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: الحمدُ لِلَّهِ إِهْلالَك إِلى سِرارِك يَنْصِبُونَ إِهْلالَك عَلَى الظَّرْفِ، وَهِيَ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي تَكُونُ أَحيانًا لِسَعَةِ الْكَلَامِ كخُفوق النَّجْمِ.

اللَّيْثُ: تَقُولُ أُهِلَّ الْقَمَرُ وَلَا يُقَالُ أُهِلَّ الهِلالُ؛ قَالَ الأَزهري: هَذَا غَلَطٌ وَكَلَامُ الْعَرَبِ أُهِلَّ الهِلالُ.

رَوَى أَبو عُبَيْدٍ عَنْ أَبي عَمْرٍو: أُهِلَّ الهلالُ واستُهِلَّ لَا غَيْرُ، وَرَوِيَ عَنِ ابْنِ الأَعرابي: أُهِلَّ الهلالُ واسْتُهِلَّ، قَالَ: واسْتَهَلَّ أَيضًا، وَشَهْرٌ مُسْتَهلٌّ؛ وأَنشد:

وَشَهْرٌ مُسْتَهلٌّ بَعْدَ شهرٍ، ***ويومٌ بَعْدَهُ يومٌ جَدِيدُ

قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: وَسُمِّيَ الهلالُ هِلالًا لأَن النَّاسَ يَرْفَعُونَ أَصواتهم بالإِخبار عَنْهُ.

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَن نَاسًا قَالُوا لَهُ إِنَّا بَيْنَ الجِبال لَا نُهِلُّ هِلالًا إِذا أَهَلَّه النَّاسُ»أَي لَا نُبْصِره إِذا أَبصره النَّاسُ لأَجل الْجِبَالِ.

ابْنُ شُمَيْلٍ: انطَلِقْ بِنَا حَتَّى نُهِلَّ الهِلال أَي نَنْظُر أَنَراه.

وأَتَيْتُك عِنْدَ هِلَّةِ الشَّهْرِ وهِلِّه وإِهْلاله أَي اسْتِهلاله.

وهَالَّ الأَجيرَ مُهَالَّةً وهِلالًا: استأْجره كُلَّ شَهْرٍ مِنَ الهِلال إِلى الهِلال بِشَيْءٍ؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ، وهَالِلْ أَجيرَك كَذَا؛ حَكَاهُ اللِّحْيَانِيُّ عَنِ الْعَرَبِ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: فَلَا أَدري أَهكذا سَمِعَهُ مِنْهُمْ أَم هُوَ الَّذِي اخْتَارَ التَّضْعِيفَ؛ فأَما مَا أَنشده أَبو زَيْدٍ مِنْ قَوْلُهُ:

تَخُطُّ لامَ أَلِفٍ مَوْصُولِ، ***والزايَ والرَّا أَيَّما تَهْلِيلِ

فإِنه أَراد تَضَعُها عَلَى شكْلِ الهِلال، وَذَلِكَ لأَن مَعْنَى قَوْلِهِ تَخُطُّ تُهَلِّلُ، فكأَنه قَالَ: تُهَلِّلُ لَامَ أَلِفٍ مَوْصولٍ تَهْلِيلًا أَيَّما تَهْليل.

والمُهَلِّلَةُ، بِكَسْرِ اللَّامِ، مِنَ الإِبل: الَّتِي قَدْ ضَمَرت وتقوَّست.

وحاجِبٌ مُهَلَّلٌ: مشبَّه بِالْهِلَالِ.

وَبَعِيرٌ مُهَلَّل، بِفَتْحِ اللَّامِ: مقوَّس.

والهِلالُ: الجمَل الَّذِي قَدْ ضرَب حَتَّى أَدَّاه ذلك إِلى الهُزال والتقوُّس.

اللَّيْثُ: يُقَالُ لِلْبَعِيرِ إِذا اسْتَقْوَس وحَنا ظهرُه وَالْتَزَقَ بَطْنُهُ هُزالًا وإِحْناقًا: قَدْ هُلِّلَ الْبَعِيرُ تَهْلِيلًا؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

إِذا ارْفَضَّ أَطرافُ السِّياطِ، وهُلِّلَتْ ***جُرُومُ المَطايا، عَذَّبَتْهُنّ صَيْدَحُ

وَمَعْنَى هُلِّلَتْ أَي انحنتْ كأَنها الأَهِلَّة دِقَّةً وضُمْرًا.

وهِلالُ الْبَعِيرِ: مَا اسْتَقْوَسَ مِنْهُ عِنْدَ ضُمْره؛ قَالَ ابْنُ هَرِمَةَ:

وطارِقِ هَمٍّ قَدْ قَرَيْتُ هِلالَهُ، ***يَخُبُّ، إِذا اعْتَلَّ المَطِيُّ، ويَرْسِمُ [يَرْسُمُ]

أَراد أَنه قَرَى الهَمَّ الطارقَ سيْر هَذَا الْبَعِيرِ.

والهِلالُ: الْجَمَلُ الْمَهْزُولُ مِنْ ضِراب أَو سَيْرٍ.

والهِلال: حَدِيدَةٌ يُعَرْقَب بِهَا الصَّيْدُ.

والهِلالُ: الْحَدِيدَةُ الَّتِي تضمُّ مَا بَيْنَ حِنْوَيِ الرَّحْل مِنْ حَدِيدٍ أَو خَشَبٍ، وَالْجَمْعُ الأَهِلَّة.

أَبو زَيْدٍ: يُقَالُ لِلْحَدَائِدِ الَّتِي تضمُّ مَا بَيْنَ أَحْناءِ الرِّحال أَهِلَّة، وَقَالَ غَيْرُهُ: هلالُ النُّؤْي مَا استقْوَس مِنْهُ.

والهِلالُ: الحيَّة مَا كَانَ، وَقِيلَ: هُوَ الذكَر مِنَ الْحَيَّاتِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:

إِلَيك ابْتَذَلْنا كلَّ وَهْمٍ، كأَنه ***هِلالٌ بدَا فِي رَمْضةٍ يَتَقَلَّب

يَعْنِي حيَّة.

والهِلال: الحيَّة إِذا سُلِخَت؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

تَرَى الوَشْيَ لَمَّاعًا عَلَيْهَا كأَنه ***قَشيبُ هِلال، لَمْ تقطَّع شَبَارِقُهْ

وأَنشد ابْنُ الأَعرابي يَصِفُ دِرْعًا شَبَّهَهَا فِي صَفائها بسَلْخ الحيَّة:

فِي نَثْلةٍ تَهْزَأُ بالنِّصالِ، ***كأَنها مِنْ خِلَعِ الهِلالِ

وهُزْؤُها بالنِّصال: ردُّها إِياها.

والهِلالُ: الْحِجَارَةُ المَرْصوف بعضُها إِلى بعضٍ.

والهِلالُ: نِصْف الرَّحَى.

والهلالُ: الرَّحَى؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:

ويَطْحَنُ الأَبْطالَ والقَتِيرا، ***طَحْنَ الهِلالِ البُرَّ والشَّعِيرَا

والهِلالُ: طَرَفُ الرَّحَى إِذا انْكَسَرَ مِنْهُ.

والهِلالُ: الْبَيَاضُ الَّذِي يَظْهَرُ فِي أُصول الأَظْفار.

والهِلالُ: الغُبار، وَقِيلَ: الهِلالُ قِطْعَةٌ مِنَ الغُبار.

وهِلالُ الإِصبعِ: المُطيفُ بِالظُّفْرِ.

والهِلالُ: بقيَّة الْمَاءِ فِي الْحَوْضِ.

ابْنُ الأَعرابي: والهِلالُ مَا يَبْقَى فِي الْحَوْضِ مِنَ الْمَاءِ الصَّافِي؛ قَالَ الأَزهري: وَقِيلَ لَهُ هِلالٌ لأَن الْغَدِيرَ عِنْدَ امْتِلَائِهِ مِنَ الْمَاءِ يَسْتَدِيرُ، وإِذا قلَّ مَاؤُهُ ذَهَبَتِ الاستدارةُ وَصَارَ الْمَاءُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهُ.

اللَّيْثُ: الهُلاهِلُ مِنْ وَصْفِ الْمَاءِ الْكَثِيرِ الصَّافِي، والهِلالُ: الْغُلَامُ الحسَن الْوَجْهِ، قَالَ: وَيُقَالُ للرَّحى هِلال إِذا انْكَسَرَتْ.

والهِلالُ: شَيْءٌ تُعرقَبُ بِهِ الحميرُ.

وهِلالُ النَّعْلِ: ذُؤابَتُها.

والهَلَلُ: الفَزَع والفَرَقُ؛ قَالَ:

ومُتَّ مِنِّي هَلَلًا، إِنما ***مَوْتُك، لَوْ وارَدْت، وُرَّادِيَهْ

يُقَالُ: هَلَكَ فُلَانٌ هَلَلًا وهَلًّا أَي فَرَقًا، وحَمل عَلَيْهِ فَمَا كذَّب وَلَا هَلَّلَ أَي مَا فَزِع وَمَا جبُن.

يُقَالُ: حَمَل فَمَا هَلَّلَ أَي ضَرَبَ قِرْنه.

وَيُقَالُ: أَحجم عنَّا هَلَلًا وهَلًّا؛ قَالَهُ أَبو زَيْدٍ.

والتَّهْلِيل: الفِرارُ والنُّكوصُ؛ قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:

لَا يقَعُ الطَّعْنُ إِلا فِي نُحورِهِمُ، ***وَمَا لهمْ عَنْ حِياضِ المَوْتِ تَهْلِيلُ

أَي نُكوصٌ وتأَخُّرٌ.

يُقَالُ: هَلَّلَ عَنِ الأَمر إِذا ولَّى عَنْهُ ونَكَص.

وهَلَّل عَنِ الشَّيْءِ: نَكَل.

وَمَا هَلَّلَ عَنْ شَتْمِي أَي مَا تأَخر.

قَالَ أَبو الْهَيْثَمِ: لَيْسَ شَيْءٌ أَجْرأَ مِنَ النَّمِرِ، وَيُقَالُ: إِنّ الأَسد يُهَلِّلُ ويُكَلِّل، وإِنَّ النَّمِر يُكَلِّل وَلَا يُهَلِّلُ، قَالَ: والمُهَلِّل الَّذِي يَحْمِلُ عَلَى قِرْنه ثُمَّ يجبُن فَيَنْثَني وَيَرْجِعُ، وَيُقَالُ: حَمَل ثُمَّ هَلَّلَ، والمُكَلِّل: الَّذِي يَحْمِلُ فَلَا يَرْجِعُ حَتَّى يَقَعَ بقِرْنه؛ وَقَالَ:

قَوْمي عَلَى الإِسْلام لمَّا يَمْنَعُوا ***ماعُونَهُمْ، ويُضَيِّعُوا التَّهْلِيلا

أَي لمَّا يَرْجِعُوا عمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الإِسلام، مِنْ قَوْلِهِمْ: هَلَّلَ عَنْ قِرْنه وكَلَّس؛ قَالَ الأَزهري: أَراد ولمَّا يُضَيِّعوا شَهَادَةُ أَن لَا إِله إِلا اللَّهُ وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالشَّهَادَةِ، وَهَذَا عَلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَاهُ ويُضَيِّعوا التَّهْليلا، وَقَالَ اللَّيْثُ: التَّهْليل قَوْلُ لَا إِله إِلا اللَّهُ؛ قَالَ الأَزهري: وَلَا أَراه مأْخوذًا إِلا مِنْ رَفْعِ قَائِلِهِ بِهِ صَوْتَهُ؛ وَقَوْلُهُ أَنشده ثَعْلَبٌ:

وَلَيْسَ بِهَا رِيحٌ، وَلَكِنْ وَدِيقَةٌ ***يَظَلُّ بِهَا السَّامي يُهِلُّ ويَنْقَعُ

فَسَّرَهُ فَقَالَ: مرَّة يَذْهَبُ رِيقُه يَعْنِي يُهِلُّ، وَمَرَّةً يَجيء يَعْنِي يَنْقَع؛ وَالسَّامِي الَّذِي يَصْطَادُ وَيَكُونُ فِي رِجْلِهِ جَوْرَبان؛ وَفِي التَّهْذِيبِ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْبَيْتِ: السَّامِي الَّذِي يَطْلُبُ الصَّيْدَ فِي الرَّمْضاء، يَلْبَسُ مِسْمَاتَيْه ويُثير الظِّباء مِنْ مَكانِسِها، فإِذا رَمِضت تشقَّقت أَظْلافها ويُدْرِكها السَّامِي فيأْخذها بِيَدِهِ، وَجَمْعُهُ السُّمَاة؛ وَقَالَ الْبَاهِلِيُّ فِي قَوْلِهِ يُهِلُّ: هُوَ أَن يَرْفَعَ الْعَطْشَانُ لِسَانَهُ إِلى لَهاته فَيَجْمَعُ الرِّيقَ؛ يُقَالُ: جَاءَ فُلَانٌ يُهِلُّ مِنَ الْعَطَشِ.

والنَّقْعُ: جَمْعُ الرِّيقِ تَحْتَ اللِّسَانِ.

وتَهْلَلُ: مِنْ أَسماء الْبَاطِلِ كَثَهْلَل، جَعَلُوهُ اسْمًا لَهُ عَلَمًا وَهُوَ نَادِرٌ، وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: ذَهَبُوا فِي تَهْلَل إِلى أَنه تَفْعَل لمَّا لَمْ يَجِدُوا فِي الْكَلَامِ [ت هـ ل] مَعْرُوفَةً وَوَجَدُوا [هـ ل ل] وَجَازَ التَّضْعِيفُ فِيهِ لأَنه عَلَمٌ، والأَعلام تُغَيَّرُ كَثِيرًا، وَمِثْلُهُ عِنْدَهُمْ تَحْبَب.

وَذَهَبَ فِي هِلِيَّانٍ وَبِذِي هِلِيَّانٍ أَي حَيْثُ لَا يدرَى أَيْنَ هُوَ.

وامرأَة هِلٌّ: متفضِّلة فِي ثَوْبٍ واحدٍ؛ قَالَ:

أَناةٌ تَزِينُ البَيْتَ إِمَّا تلَبَّسَتْ، ***وإِن قَعَدَتْ هِلًّا فأَحْسنْ بِهَا هِلَّا

والهَلَلُ: نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ، وَيُقَالُ لِنَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ الهَلَل والهَلْهَلُ.

وهَلَّلَ الرجلُ أَي قَالَ لَا إِله إِلا اللَّهُ.

وَقَدْ هَيْلَلَ الرجلُ إِذا قَالَ لَا إِله إِلا اللَّهُ.

وَقَدْ أَخذنا فِي الهَيْلَلَة إِذا أَخذنا فِي التَّهْليل، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ حَوْلَقَ الرَّجُلُ وحَوْقَلَ إِذا قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ؛ وأَنشد:

فِداكَ، مِنَ الأَقْوام، كُلُّ مُبَخَّل ***يُحَوْلِقُ إِمَّا سالهُ العُرْفَ سائلُ

الْخَلِيلُ: حَيْعَل الرَّجُلُ إِذا قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ.

قَالَ: وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ هَذَا إِذا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُمْ لِلْكَلِمَتَيْنِ ضَمُّوا بَعْضَ حُرُوفِ إِحداهما إِلى بَعْضِ حُرُوفِ الأُخرى، مِنْهُ قَوْلُهُمْ: لَا تُبَرْقِل عَلَيْنَا؛ والبَرْقَلة: كَلَامٌ لَا يَتْبَعه فِعْلٌ، مأْخوذ مِنَ البَرْق الَّذِي لَا مَطَرَ مَعَهُ.

قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: الحَوْلَقة والبَسْملة والسَّبْحَلة والهَيْلَلة، قَالَ: هَذِهِ الأَربعة أَحرف جَاءَتْ هَكَذَا، قِيلَ لَهُ: فالْحَمدلة؟ قَالَ: وَلَا أُنْكِرُهُ.

وأَهَلَّ بِالتَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}؛ أَي نودِيَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ.

وَيُقَالُ: أَهْلَلْنا عَنْ لَيْلَةِ كَذَا، وَلَا يُقَالُ أَهْلَلْناه فهَلَّ كَمَا يُقَالُ أَدخلناه فدَخَل، وَهُوَ قِيَاسُهُ.

وَثَوْبٌ هَلٌّ وهَلْهَلٌ وهَلْهَالٌ وهُلاهِل ومُهَلْهَل: رَقِيقٌ سَخيفُ النَّسْج.

وَقَدْ هَلْهَلَ النَّسَّاج الثوبَ إِذا أَرقّ نَسْجه وخفَّفه.

والهَلْهَلَةُ: سُخْفُ النسْج.

وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: هَلْهَلَه بالنَّسْج خَاصَّةً.

وَثَوْبٌ هَلْهَلٌ رَديء النسْج، وَفِيهِ مِنَ اللُّغَاتِ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ فِي الرَّقِيقِ؛ قَالَ النَّابِغَةُ:

أَتاك بقولٍ هَلْهَلِ النَّسْجِ كاذبٍ، ***وَلَمْ يأْتِ بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ ناصِعُ

وَيُرْوَى: لَهْلَه.

وَيُقَالُ: أَنْهَجَ الثوبُ هَلْهَالًا.

والمُهَلْهَلَة مِنَ الدُّروع: أَرْدَؤها نسْجًا.

شَمِرٌ: يُقَالُ ثَوْبٌ مُلَهْلَةٌ ومُهَلْهَل ومُنَهْنَةٌ؛ وأَنشد:

ومَدَّ قُصَيٌّ وأَبْناؤه ***عَلَيْكَ الظِّلالَ، فَمَا هَلْهَلُوا

وَقَالَ شَمِرٌ فِي كِتَابِ السِّلَاحِ: المُهَلْهَلَة مِنَ الدُّروع قَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ الحَسنة النسْج لَيْسَتْ بِصَفِيقَةٍ، قَالَ: وَيُقَالُ هِيَ الْوَاسِعَةُ الحَلَق.

قَالَ ابْنُ الأَعرابي: ثَوْبٌ لَهْلَهُ النَّسْجِ أَي رَقِيقٌ لَيْسَ بِكَثِيفٍ.

وَيُقَالُ: هَلْهَلْت الطَّحِينَ أَي نَخَلْتَهُ بِشَيْءٍ سَخيف؛ وأَنشد لأُمية:.

كَمَا تَذْرِي المُهَلْهِلةُ الطَّحِينا "وَشِعْرٌ هَلْهَلٌ: رقيقٌ.

ومُهَلْهِل: اسْمُ شَاعِرٍ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِرَداءة شعْره، وَقِيلَ: لأَنه أَوَّل مَنْ أَرقَّ الشعْر وَهُوَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ رَبِيعَةَ أَخو كُليب وَائِلٍ؛ وَقِيلَ: سُمِّيَ مُهَلْهِلًا بِقَوْلِهِ لِزُهَيْرِ بْنِ جَناب:

لمَّا تَوَعَّرَ فِي الكُراعِ هَجِينُهُمْ، ***هَلْهَلْتُ أَثْأَرُ جَابِرًا أَو صِنْبِلا

وَيُقَالُ: هَلهَلْت أُدرِكه كَمَا يُقَالُ كِدْت أُدْرِكُه، وهَلْهَلَ يُدْركه أَي كان يُدركه، وَهَذَا الْبَيْتُ أَنشده الْجَوْهَرِيُّ: لَمَّا تَوَغَّلَ فِي الكُراع هَجِينُهم "قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَالَّذِي فِي شِعْرِهِ لَمَّا توعَّر كَمَا أَوردْناه عَنْ غَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ لَمَّا توَعَّر أَي أَخذ فِي مَكَانٍ وعْر.

وَيُقَالُ: هَلْهَلَ فُلَانٌ شعْره إِذا لَمْ ينَقِّحه وأَرسله كَمَا حضَره وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الشَّاعِرُ مُهَلهِلًا.

والهَلْهَل: السَّمُّ القاتِل، وَهُوَ معرَّب؛ قَالَ الأَزهري: لَيْسَ كُلُّ سَمّ قَاتِلٍ يسمَّى هَلْهَلًا وَلَكِنِ الهَلْهَلُ سَمٌّ مِنَ السُّموم بِعَيْنِهِ قاتِلٌ، قَالَ: وَلَيْسَ بِعَرَبِيٍّ وأَراه هنْدِيًّا.

وهَلْهَلَ الصوْتَ: رجَّعه.

وماءٌ هُلاهِلٌ: صافٍ كَثِيرٌ.

وهَلْهَلَ عَنِ الشَّيْءِ: رجَع.

والهُلاهِلُ: الْمَاءُ الْكَثِيرُ الصَّافِي.

والهَلْهَلَةُ: الِانْتِظَارُ والتأَني؛ وَقَالَ الأَصمعي فِي قَوْلِ حَرملة بْنِ حَكيم:

هَلهِلْ بكَعْبٍ، بَعْدَ مَا وَقَعَتْ ***فَوْقَ الجَبِين بساعِدٍ فَعْمِ

وَيُرْوَى: هَلِّلْ وَمَعْنَاهُمَا جَمِيعًا انْتَظِرْ بِهِ مَا يَكُونُ مِنْ حَالِهِ مِنْ هَذِهِ الضرْبة؛ وَقَالَ الأَصمعي: هَلْهِلْ بكَعْب أَي أَمْهِله بَعْدَ مَا وَقَعَتْ بِهِ شَجَّة عَلَى جَبِينِهِ، وَقَالَ شَمِرٌ: هَلْهَلْت تَلَبَّثت وتنظَّرت.

التَّهْذِيبُ: وَيُقَالُ أَهَلَّ السيفُ بِفُلَانٍ إِذا قَطَعَ فِيهِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنُ أَحمر:

وَيْلُ امِّ خِرْقٍ أَهَلَّ المَشْرَفِيُّ بِهِ ***عَلَى الهَباءَة، لَا نِكْسٌ وَلَا وَرَع

وَذُو هُلاهِلٍ: قَيْلٌ مِنْ أَقْيال حِمْير.

وهَلْ: حَرْفُ اسْتِفْهَامٍ، فإِذا جَعَلْتَهُ اسْمًا شَدَّدْتَهُ.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: هَلْ كَلِمَةُ اسْتِفْهَامٍ هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ، قَالَ: وَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ أَم لِلِاسْتِفْهَامِ، وَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ بَلْ، وَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَدْ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟} قَالُوا: مَعْنَاهُ قَدِ امْتَلأْت؛ قَالَ ابْنُ جِنِّي: هَذَا تَفْسِيرٌ عَلَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ وهَلْ مُبقاة عَلَى اسْتِفْهَامِهَا، وقولهاهَلْ مِن مَزِيدٍ أَي أَتعلم يَا ربَّنا أَن عِنْدِي مَزِيدًا، فَجَوَابُ هَذَا مِنْهُ عزَّ اسْمُهُ لَا، أَي فكَما تَعْلَمُ أَن لَا مَزيدَ فَحَسْبِي مَا عِنْدِي، وَتَكُونُ بِمَعْنَى الْجَزَاءِ، وَتَكُونُ بِمَعْنَى الجَحْد، وَتَكُونُ بِمَعْنَى الأَمر.

قَالَ الْفَرَّاءُ: سَمِعْتُ أَعرابيًّا يَقُولُ: هَلْ أَنت سَاكِتٌ؟ بِمَعْنَى اسْكُتْ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: هَذَا كُلُّهُ قَوْلُ ثَعْلَبٍ وَرِوَايَتُهُ.

الأَزهري: قَالَ الْفَرَّاءُ هَلْ قَدْ تَكُونُ جَحْدًا وَتَكُونُ خبَرًا، قَالَ: وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ}؛ قَالَ: مَعْنَاهُ قَدْ أَتى عَلَى الإِنسان مَعْنَاهُ الْخَبَرُ، قَالَ: والجَحْدُ أَن تَقُولَ: وهَلْ يقدِر أَحد عَلَى مِثْلِ هَذَا؛ قَالَ: وَمِنَ الخبَر قَوْلُكَ لِلرَّجُلِ: هَلْ وعَظْتك هَلْ أَعْطَيتك، تقرَّره بأَنك قَدْ وعَظْته وأَعطيته؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: وَقَالَ الْكِسَائِيُّ هَلْ تأْتي اسْتِفْهَامًا، وَهُوَ بابُها، وتأْتي جَحْدًا مِثْلَ قَوْلِهِ: " أَلا هَلْ أَخو عَيْشٍ لذيذٍ بِدَائِمِ "مَعْنَاهُ أَلا مَا أَخو عيشٍ؛ قَالَ: وتأْتي شرْطًا، وتأْتي بِمَعْنَى قَدْ، وتأْتي تَوْبيخًا، وتأْتي أَمرًا، وتأْتي تَنْبِيهًا؛ قَالَ: فإِذا زِدْتَ فِيهَا أَلِفًا كَانَتْ بِمَعْنَى التَّسْكِينِ، وَهُوَ مَعْنَى" قَوْلِهِ إِذا ذُكِر الصَّالِحُونَ فحَيَّهَلًا بعُمَر "، قَالَ: مَعْنَى حَيّ أَسرِعْ بِذِكْرِهِ، وَمَعْنَى هَلًا أَي اسْكُن عِنْدَ ذِكْرِهِ حَتَّى تَنْقُضِي فَضَائِلَهُ؛ وأَنشد: " وأَيّ حَصانٍ لَا يُقال لَها هَلًا "أَي اسْكُني لِلزَّوْجِ؛ قَالَ: فإِن شَدَّدْت لامَها صَارَتْ بِمَعْنَى اللوْم والحضِّ، اللومُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ، والحَضُّ عَلَى مَا يأْتي مِنَ الزَّمَانِ، قَالَ: وَمِنَ الأَمر قَوْلُهُ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ".

وهَلًا: زجْر لِلْخَيْلِ، وهَالٍ مِثْلُهُ أَي اقرُبي.

وَقَوْلُهُمْ: هَلًا اسْتِعْجَالٌ وَحَثٌّ.

وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ: «هَلَّا بكْرًا تُلاعِبُها وتُلاعِبُك»؛ هَلَّا، بِالتَّشْدِيدِ: حَرْفٌ مَعْنَاهُ الحثُّ والتحضيضُ؛ يُقَالُ: حَيَّ هَلا الثريدَ، وَمَعْنَاهُ هَلُمَّ إِلى الثَّرِيدِ، فُتحت يَاؤُهُ لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنَ وبُنِيَت حَيّ وهَلْ اسْمًا وَاحِدًا مِثْلَ خَمْسَةَ عَشَرَ وسمِّي بِهِ الْفِعْلُ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُؤَنَّثُ، وإِذا وَقَفْتَ عَلَيْهِ قُلْتَ حَيَّهَلا، والأَلف لِبَيَانِ الْحَرَكَةِ كَالْهَاءِ فِي قَوْلِهِ {كِتابِيَهْ} و {حِسابِيَهْ} لأَنَّ الأَلِف مِنْ مَخْرَجِ الْهَاءِ؛ وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذا ذكِرَ الصَّالِحُونَ فحَيَّهَلَ بعُمَرَ، بِفَتْحِ اللَّامِ مِثْلُ خَمْسَةَ عَشَرَ؛ أي فأَقْبِلْ بِهِ وأَسرِع، وَهِيَ كَلِمَتَانِ جُعِلَتَا كَلِمَةً وَاحِدَةً، فحَيَّ بمعنى أَقبِلْ وهَلا بمعنى أَسرِعْ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ عَلَيْكَ بعُمَر»؛ أي أَنه مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ، وَيَجُوزُ فحَيَّهَلًا، بِالتَّنْوِينِ، يُجْعَلُ نَكِرَةً، وأَما حَيَّهَلا بِلَا تَنْوِينٍ فإِنما يَجُوزُ فِي الْوَقْفِ فأَما فِي الإِدراج فَهِيَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قَدْ عرَّفت الْعَرَبُ حَيَّهَلْ؛ وأَنشد فِيهِ ثَعْلَبٌ:

وَقَدْ غَدَوْت، قَبْلَ رَفْعِ الحَيَّهَلْ، ***أَسوقُ نابَيْنِ وَنَابًا مِلإِبِلْ

وَقَالَ: الحَيَّهَل الأَذان.

والنابانِ: عَجُوزان؛ وَقَدْ عُرِّف بالإِضافة أَيضًا فِي قَوْلِ الْآخَرِ:

وهَيَّجَ الحَيَّ مِنْ دارٍ، فظلَّ لَهُمْ ***يومٌ كَثِيرٌ تَنادِيه، وحَيَّهَلُهْ

قَالَ: وأَنشد الْجَوْهَرِيُّ عَجُزَهُ فِي آخِرِ الْفَصْلِ: هَيْهاؤُه وحَيْهَلُهْ "وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: الحَيْهَل نَبْتٌ مِنْ دِقّ الحَمْض، وَاحِدَتُهُ حَيْهَلة، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لسُرعة نَبَاتِهَا كَمَا يُقَالُ فِي السُّرْعَةِ والحَثّ حَيَّهَل؛ وأَنشد لِحُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ:

بِمِيثٍ بَثاءٍ نَصِيفِيَّةٍ، ***دَمِيثٍ بِهَا الرِّمْثُ والحَيْهَلُ

وأَما قَوْلُ لَبِيدٍ يَذْكُرُ صاحِبًا لَهُ فِي السَّفَرِ كَانَ أَمَرَه بالرَّحِيل:

يَتمارَى فِي الَّذِي قلتُ لَهُ، ***وَلَقَدْ يَسْمَعُ قَوْلي حَيَّهَلْ

فإِنما سَكَّنَهُ لِلْقَافِيَةِ.

وَقَدْ يَقُولُونَ حَيَّ مِنْ غَيْرِ أَن يَقُولُوا هَلْ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الأَذان: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الفَلاح إِنما هُوَ دُعَاءٌ إِلى الصَّلاةِ والفَلاحِ؛ قَالَ ابْنُ أَحمر:

أَنْشَأْتُ أَسأَلهُ: مَا بالُ رُفْقَتِهِ ***حَيَّ الحُمولَ، فإِنَّ الركْبَ قَدْ ذهَبا

قَالَ: أَنْشَأَ يسأَل غُلَامَهُ كَيْفَ أَخذ الرَّكْبُ.

وَحَكَى سِيبَوَيْهِ عَنْ أَبي الْخَطَّابِ أَن بَعْضَ الْعَرَبِ يَقُولُ: حَيَّهَلا الصَّلَاةَ، يَصِلُ بهَلا كَمَا يُوصَلُ بعَلَى فَيُقَالُ حَيَّهَلا الصَّلَاةَ، وَمَعْنَاهُ ائْتُوا الصَّلَاةَ واقربُوا مِنَ الصَّلَاةِ وهَلُمُّوا إِلى الصَّلَاةِ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الَّذِي حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ عَنْ أَبي الْخَطَّابِ حَيَّهَلَ الصلاةَ بِنَصْبِ الصَّلَاةِ لَا غَيْرُ، قَالَ: وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ حَيَّهَلَ الثريدَ، بِالنَّصْبِ لَا غَيْرُ.

وَقَدْ حَيْعَلَ المؤَذن كَمَا يُقَالُ حَوْلَقَ وتَعَبْشَمَ مُرَكَّبًا مِنْ كَلِمَتَيْنِ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

أَلا رُبَّ طَيْفٍ منكِ باتَ مُعانِقي ***إِلى أَن دَعَا دَاعِي الصَّباح، فَحَيْعَلا

وَقَالَ آخَرُ:

أَقولُ لَهَا، ودمعُ العينِ جارٍ: ***أَلمْ تُحْزِنْك حَيْعَلةُ المُنادِي؟

وَرُبَّمَا أَلحقوا بِهِ الْكَافَ فَقَالُوا حَيَّهَلَك كَمَا يُقَالُ رُوَيْدَك، وَالْكَافُ لِلْخِطَابِ فَقَطْ وَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الإِعراب لأَنها لَيْسَتْ بِاسْمٍ.

قَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: سَمِعَ أَبو مَهْدِيَّة الأَعرابي رَجُلًا يَدْعُو بِالْفَارِسِيَّةِ رَجُلًا يَقُولُ لَهُ زُوذْ، فَقَالَ: مَا يَقُولُ؟ قُلْنَا: يَقُولُ عَجِّل، فَقَالَ: أَلا يَقُولَ: حَيَّهَلك أَي هَلُمَّ وتَعَال؛ وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: " هَيْهاؤه وحَيْهَلُهْ "فإِنما جَعَلَهُ اسْمًا وَلَمْ يأْمر بِهِ أَحدًا.

الأَزهري: عَنْ ثَعْلَبٍ أَنه قَالَ: حَيهل أَي أَقبل إِليَّ، وَرُبَّمَا حُذِفَ فَقِيلَ هَلا إِليَّ، وَجَعَلَ أَبو الدُّقَيْشِ هَل الَّتِي لِلِاسْتِفْهَامِ اسْمًا فأَعربه وأَدخل عَلَيْهِ الأَلف وَاللَّامَ، وَذَلِكَ أَنه قَالَ لَهُ الْخَلِيلُ: هَلْ لَكَ فِي زُبدٍ وَتَمْرٍ؟ فَقَالَ أَبو الدُّقَيْشِ: أَشَدُّ الهَلِّ وأَوْحاهُ، فَجَعَلَهُ اسْمًا كَمَا تَرَى وعرَّفه بالأَلف وَاللَّامِ، وَزَادَ فِي الِاحْتِيَاطِ بأَن شدَّده غَيْرَ مُضْطَرٍّ لتتكمَّل لَهُ عدّةُ حُرُوفِ الأُصول وَهِيَ الثَّلَاثَةُ؛ وَسَمِعَهُ أَبو نُوَاس فَتَلَاهُ فَقَالَ لِلْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ:

هَلْ لكَ، والهَلُّ خِيَرْ، ***فيمَنْ إِذا غِبْتَ حَضَرْ؟

وَيُقَالُ: كلُّ حَرْفِ أَداة إِذا جَعَلْتَ فِيهِ أَلِفًا وَلَامًا صَارَ اسْمًا فقوِّي وثقِّل كَقَوْلِهِ: إِنَّ لَيْتًا وإِنَّ لَوًّا عَناءُ قَالَ الْخَلِيلُ: إِذا جَاءَتِ الْحُرُوفُ الليِّنة فِي كَلِمَةٍ نَحْوِ لَوْ وأَشباهها ثقِّلت، لأَن الْحَرْفَ الليِّن خَوَّار أَجْوَف لَا بدَّ لَهُ مِنَ حَشْوٍ يقوَّى بِهِ إِذا جُعل اسْمًا، قَالَ: وَالْحُرُوفُ الصِّحاح القويَّة مُسْتَغْنِيَةٌ بجُرُوسِها لَا "تَحْتَاجُ إِلى حَشْو فتتركْ عَلَى حَالِهَا، وَالَّذِي حَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي حِكَايَةِ أَبي الدُّقَيْشِ عَنِ الْخَلِيلِ قَالَ: قُلْتُ لأَبي الدُّقيْش هَلْ لَكَ فِي ثريدةٍ كأَنَّ ودَكَها عُيُونُ الضَّيَاوِن؟ فَقَالَ: أَشدُّ الهَلِّ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قَالَ ابْنُ حَمْزَةَ رَوَى أَهل الضَّبْطِ عَنِ الْخَلِيلِ أَنه قَالَ لأَبي الدُّقَيْشِ أَو غَيْرِهِ هَلْ لَكَ فِي تَمْرٍ وزُبْدٍ؟ فَقَالَ: أَشَدُّ الهَلِّ وأَوْحاه، وَفِي رِوَايَةٍ أَنه قَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ فِي الرُّطَب؟ قَالَ: أَسْرعُ هَلٍّ وأَوْحاه؛ وأَنشد:

هَلْ لَكَ، والهَلُّ خِيَرْ، ***فِي ماجدٍ ثبْتِ الغَدَرْ؟

وَقَالَ شَبيب بْنُ عَمْرٍو الطَّائِيُّ:

هَلْ لَكَ أَن تدخُل فِي جَهَنَّمِ؟ ***قلتُ لَهَا: لَا، والجليلِ الأَعْظَمِ،

مَا ليَ مِنْ هَلٍّ وَلَا تكلُّمِ "قَالَ ابْنُ سَلَامَةَ: سأَلت سِيبَوَيْهِ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ}؛ عَلَى أَي شَيْءٍ نُصِبَ؟ قَالَ: إِذا كَانَ مَعْنَى إِلَّا لَكِنَّ نُصِبَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ" أُبيّ فهَلَّا "، وَفِي مُصْحَفِنَا فَلَوْلا، قَالَ: وَمَعْنَاهَا أَنهم لَمْ يُؤْمِنُوا ثُمَّ اسْتَثْنَى قَوْمَ يُونُسَ بِالنَّصْبِ عَلَى الِانْقِطَاعِ مِمَّا قَبْلَهُ كأَنَّ قَوْمَ يُونُسَ كَانُوا منقطِعين مِنْ قَوْمٍ غَيْرِهِ؛ وَقَالَ الْفَرَّاءُ أَيضًا: لَوْلَا إِذا كَانَتْ مَعَ الأَسماء فَهِيَ شَرْطٌ، وإِذا كَانَتْ مَعَ الأَفعال فَهِيَ بِمَعْنَى هَلَّا، لَوْمٌ عَلَى مَا مَضَى وتحضيضٌ عَلَى مَا يأْتي.

وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ}، مَعْنَاهُ هَلَّا.

وهَلْ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى مَا؛ قَالَتِ ابْنَةُ الحُمارِس:

هَلْ هِيَ إِلَّا حِظَةٌ أَو تَطْلِيقْ، ***أَو صَلَفٌ مِنْ بَيْنِ ذَاكَ تَعْلِيقْ

أَي مَا هِيَ وَلِهَذَا أُدخلت لَهَا إِلا.

وَحُكِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنه قَالَ: هَلْ زِلْتَ تَقُولُهُ بِمَعْنَى مَا زِلْتَ تَقُولُهُ، قَالَ: فَيَسْتَعْمِلُونَ هَلْ بِمَعْنَى مَا.

وَيُقَالُ: مَتَى زِلْت تَقُولُ ذَلِكَ وَكَيْفَ زِلْت؛ وأَنشد:

وهَلْ زِلْتُمُ تأْوِي العَشِيرةُ فيكُم، ***وتنبتُ فِي أَكناف أَبلَجَ خِضْرِمِ؟

وَقَوْلُهُ:

وإِنَّ شِفائي عَبْرَةٌ مُهَرَاقَة، ***فهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دارسٍ مِنْ مُعَوَّل؟

قَالَ ابْنُ جِنِّي: هَذَا ظَاهِرُهُ اسْتِفْهَامٌ لِنَفْسِهِ وَمَعْنَاهُ التَّحْضِيضُ لَهَا عَلَى الْبُكَاءِ، كَمَا تَقُولُ أَحسنت إِليّ فَهَلْ أَشْكُرك أَي فَلأَشْكُرَنَّك، وَقَدْ زُرْتَني فَهَلْ أُكافِئَنَّك أَي فَلأُكافِئَنَّك.

وَقَوْلُهُ: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ "؟ قَالَ أَبو عُبَيْدَةُ: مَعْنَاهُ قَدْ أَتَى؛ قَالَ ابْنُ جِنِّي: يُمْكِنُ عِنْدِي أَن تَكُونَ مُبْقاةً فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى مَا بِهَا مِنَ الِاسْتِفْهَامِ فكأَنه قَالَ، وَاللَّهُ أَعلم: وَهَلْ أَتَى عَلَى الإِنسان هَذَا، فَلَا بُدَّ فِي جَوابهم مِنْ نَعَمْ مَلْفُوظًا بِهَا أَو مُقَدَّرَةً أَي فَكَمَا أَن ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَيَنْبَغِي للإِنسان أَن يَحْتَقِرَ نَفْسَهُ وَلَا يُباهي بِمَا فُتِحَ لَهُ، وَكَمَا تَقُولُ لِمَنْ تُرِيدُ الِاحْتِجَاجَ عَلَيْهِ: بِاللَّهِ هَلْ سأَلتني فأَعطيتك أَم هَلْ زُرْتَني فأَكرمتك أَي فَكَمَا أَن ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَجِبُ أَن تعرِف حَقِّي عَلَيْكَ وإِحْساني إِليك؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: إِذا جَعَلْنَا مَعْنَى هَلْ أَتى قَدْ أَتى فَهُوَ بِمَعْنَى أَلَمْ يأْتِ عَلَى الإِنسان حينٌ مِنَ الدَّهْر؛ قَالَ ابْنُ جِنِّي: ورَوَيْنا عَنْ قُطْرُبٍ عَنْ أَبي عُبَيْدَةَ أَنهم يَقُولُونَ أَلْفَعَلْت، يُرِيدُونَ هَلْ فَعَلْت.

الأَزهري: ابْنُ السِّكِّيتِ إِذا قِيلَ هَلْ لَكَ فِي كَذَا وَكَذَا؟ قُلْتَ: لِي فِيهِ، وإِن لِي فِيهِ، وَمَا لِي فِيهِ، وَلَا تَقُلْ إِن لِي فِيهِ هَلًّا، والتأْويل: هَلْ لَكَ فِيهِ حَاجَةٌ فَحُذِفَتِالْحَاجَةُ لمَّا عُرف الْمَعْنَى، وَحَذَفَ الرادُّ ذِكْر الْحَاجَةِ كَمَا حَذَفَهَا السَّائِلُ.

وَقَالَ اللَّيْثُ: هَلْ حَقِيقَةً اسْتِفْهَامٌ، تَقُولُ: هَلْ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وهَلْ لَكَ فِي كَذَا وَكَذَا؛ قَالَ: وَقَوْلُ زُهَيْرٍ: " أَهَلْ أَنت وَاصِلُهُ اضْطِرَارٌ لأَن هَلْ حَرْفُ اسْتِفْهَامٍ وَكَذَلِكَ الأَلف، وَلَا يُسْتَفْهَمُ بحَرْفي اسْتِفْهَامٍ.

ابْنُ سِيدَهْ: هَلَّا كَلِمَةُ تَحْضِيضٍ مُرَكَّبَةٍ مِنْ هَلْ وَلَا.

وَبَنُو هِلَالٍ: قَبِيلَةٌ مِنَ الْعَرَبِ.

وهِلال: حيٌّ مِنْ هَوازن.

والهِلالُ: الْمَاءُ الْقَلِيلُ فِي أَسفل الرُّكيّ.

والهِلال: السِّنانُ الَّذِي لَهُ شُعْبتان يصاد به الوَحْش.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


216-لسان العرب (حسم)

حَسَمَ: الحَسْمُ: الْقَطْعُ، حَسَمَهُ يَحْسِمُهُ حَسْمًا فانْحَسَمَ: قَطعه.

وحَسَمَ العِرْقَ: قَطَعَهُ ثُمَّ كواهُ لِئَلَّا يَسِيلَ دَمُهُ، وَهُوَ الحَسْمُ.

وحَسَمَ الداءَ: قَطَعَهُ بِالدَّوَاءِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «عَلَيْكُمْ بِالصَّوْمِ فإِنه مَحْسَمةٌ للعِرْق ومَذْهَبَةٌ للأَشَرِ»أَي مَقْطَعَةٌ لِلنِّكَاحِ؛ وَقَالَ الأَزهري: أَي مَجْفَرة مَقْطعة للباهِ.

والحُسامُ: السَّيْفُ الْقَاطِعُ.

وَسَيْفٌ حُسامٌ: قَاطِعٌ، وَكَذَلِكَ مُدْيَةٌ حُسامٌ كَمَا قَالُوا مُدْيَةٌ هُذام وجُرازٌ؛ حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ؛ وَقَوْلُ أَبي خِراش الْهُذَلِيِّ:

وَلَوْلَا نَحْنُ أَرْهَقَهُ صُهَيْبٌ، ***حُسامَ الحَدِّ مَذْروبًا خَشيبا

يَعْني سَيْفًا حديدَ الحدِّ، وَيُرْوَى: حُسامَ السيفِ أَي طَرَفَهُ.

وَخَشِيبًا أَي مَصْقولًا.

وحُسامُ السَّيْفِ: طرَفُهُ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَنه يَحْسِمُ، الدَّمَ أَي يَسْبِقُهُ فكأَنه يَكْوِيهِ.

والحَسْمُ: الْمَنْعُ.

وحَسَمَه الشيءَ يَحْسِمُهُ حَسْمًا: مَنَعَهُ إِياه.

والمَحْسُومُ: الَّذِي حُسِمَ رَضاعُه وغِذاؤُه أَي قُطِعَ.

وَيُقَالُ لِلصَّبِيِّ السَّيِء الْغِذَاءِ: مَحسُومٌ.

وَتَقُولُ: حَسَمَتْه الرَّضاعَ أُمُّه تَحْسِمُهُ حَسْمًا، وَيُقَالُ: أَنا أَحْسِمُ عَلَى فُلَانٍ الأَمر أَي أَقطعه عَلَيْهِ لَا يَظْفَرُ مِنْهُ بِشَيْءٍ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه أُتيَ بِسَارِقٍ فَقَالَ اقْطعوه ثُمَّ احْسِموه»أَي اقْطَعُوا يَدَهُ ثُمَّ اكْوُوهَا لِيَنْقَطِعَ الدَّمُ.

والمَحْسومُ: السَّيِءُ الغِذاء؛ وَمِنْ أَمثالهم: وَلْغُ جُرَيّ كَانَ مَحْسومًا؛ يُقَالُ عِنْدَ اسْتِكْثَارِ الْحَرِيصِ مِنَ الشَّيْءِ، لَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ فقَدَرَ عَلَيْهِ، أَو عِنْدَ أَمره بِالِاسْتِكْثَارِ حِينَ قَدَرَ.

والحُسُوم: الشُّؤْمُ.

وأَيام حُسومٌ، وُصِفَتْ بِالْمَصْدَرِ: تَقْطَعُ الخيرَ أَو تَمْنَعُهُ، وَقَدْ تُضَافُ، وَالصِّفَةُ أَعلى.

وَفِي التَّنْزِيلِ: {سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا}؛ وَقِيلَ: الأَيام الحُسومُ الدَّائِمَةُ فِي الشَّرِّ خَاصَّةً، وَعَلَى هَذَا فَسَّرَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي تَلَوْنَاهَا، وَقِيلَ: هِيَ المُتَواليةُ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وأُراه الْمُتَوَالِيَةَ فِي الشَّرِّ خَاصَّةً؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: الحُسومُ التِّباعُ، إِذا تَتابع الشيءُ فَلَمْ يَنْقَطِعْ أَولهُ عَنْ آخِرِهِ قِيلَ لَهُ حُسومٌ.

وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي قَوْلِهِ: ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًاأَي مُتَتَابِعَةً؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: أَراد مُتَتَابِعَةً لَمْ يُقطع أَوله عَنْ آخِرِهِ كَمَا يُتابَعُ الكَيُّ عَلَى الْمَقْطُوعِ ليَحْسِمَ دمَهُ أَي يَقْطَعُهُ، ثُمَّ قِيلَ لِكُلِّ شَيْءٍ تُوبِعَ: حاسِمٌ، وَجَمْعُهُ حُسومٌ مِثْلُ شاهِدٍ وشُهودٍ.

وَيُقَالُ: اقْطَعُوهُ ثُمَّ احْسِموهُ أَي اقْطَعُوا عَنْهُ الدَّمَ بِالْكَيِّ، والحَسْمُ: كَيُّ العِرْقِ بِالنَّارِ.

وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ: «أَنه كَوَاهُ فِي أَكْحَلِهِ ثُمَّ حَسَمَهُ»أَي قَطَعَ الدَّمَ عَنْهُ بالكَيّ.

الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ اللَّيَالِي الحُسُومُ لأَنها تَحْسِمُ الْخَيْرَ عَنْ أَهلها، قِيلَ: إِنما أُخِذَ مِنْ حَسْمِ الدَّاءِ إِذا كُوِيَ صاحبُه، لأَنه يُحْمَى يُكوى بالمِكْواة ثُمَّ يتابَعُ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِي توجِبُه اللغةُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ حُسومًا أَي تَحْسِمُهُمْ حُسومًا أَي تُذْهبهم وتُفْنيهم؛ قَالَ الأَزهري: وَهَذَا كَقَوْلِهِ عَزَّ وَعَلَا: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا.

وَقَالَ يُونُسُ: الحُسُومُ يورِثُ الحُشومَ، وَقَالَ: الحُسومُ الدُّؤوبُ، قال: والحُشومُ الإِعْياءُ.

وَيُقَالُ: هَذِهِ لَيَالِي الحُسوم تَحْسِمُ الخيرَ عَنْ أَهلها كَمَا حُسِمَ عَنْ عَادٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} أَي شُؤْمًا عَلَيْهِمْ ونَحْسًا.

والحَيْسُمانُ والحَيْمُسان جَمِيعًا: الآدَمُ، وَبِهِ سُمِّيَ الرَّجُلُ حَيْسُمانًا.

والحَيْسُمانُ: اسْمُ رَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: " وعَرَّدَ عَنّا الحَيْسُمانُ بْنُ حَابِسٍ الْجَوْهَرِيُّ: وحِسْمَى، بِالْكَسْرِ، أَرض بِالْبَادِيَةِ فِيهَا جِبَالٌ شَواهِقُ مُلسُ الْجَوَانِبِ لَا يَكَادُ القَتامُ يُفَارِقُهَا.

وَفِي حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ: «لتُخْرِجَنَّكم الرُّومُ مِنْهَا كَفْرًا كَفْرًا إِلى سُنْبُكٍ مِنَ الأَرض، قِيلَ: وَمَا ذَاكَ السُّنْبُكُ؟ قَالَ: حِسْمى جُذامَ»؛ ابْنُ سِيدَهْ حِسْمى مَوْضِعٌ بِالْيَمَنِ، وَقِيلَ: قَبِيلَةُ جُذامَ.

قَالَ ابْنُ الأَعرابي: إِذا لَمْ يَذْكُرْ كُثَيِّرٌ غَيْقَةَ فحِسْمَى، وإِذا ذَكَرَ غَيْقَة فَحَسْنا؛ وأَنشد الْجَوْهَرِيُّ لِلنَّابِغَةِ:

فأَصبَحَ عاقِلًا بِجِبَالٍ حِسْمَى، ***دِقاقَ التُّرْبِ مُحْتَزِمَ القَتامِ

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: أَي حِسْمى قَدْ أَحاط بِهِ القَتامُ كَالْحِزَامِ لَهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «فَلَهُ مِثْلُ قُورِ حِسْمَى»؛ حِسْمى، بِالْكَسْرِ وَالْقَصْرِ: اسْمُ بَلَدِ جُذام.

والقُور: جَمْعُ قارةٍ وَهِيَ دُونَ الْجَبَلِ.

أَبو عَمْرٍو: الأَحْسَمُ الرجلُ البازِل الْقَاطِعُ للأُمور.

وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: الحَيْسَمُ الرَّجُلُ الْقَاطِعُ للأُمور الكيِّس.

وَقَالَ ثَعْلَبٌ: حِسْمَى وحُسُمٌ وَذُو حُسُمٍ وحُسَمٌ وحاسِمٌ مَوَاضِعُ بِالْبَادِيَةِ؛ قَالَ النَّابِغَةُ:

عَفا حُسُمٌ مِنْ فَرْتَنا فالفَوارِعُ، ***فجَنْبا أَريكٍ، فالتِّلاعُ الدَّوافِعُ

وَقَالَ مُهَلْهِلٌ:

أَليْلَتَنا بِذِي حُسُمٍ أَنِيري، ***إِذا أَنْتِ انقضيْتِ فَلَا تَحُوري

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


217-لسان العرب (حشم)

حشم: الحِشْمَةُ: الحَياءُ والانْقِباضُ، وَقَدِ احْتَشَمَ عَنْهُ وَمِنْهُ، وَلَا يُقَالُ احْتَشَمَهُ.

قَالَ اللَّيْثُ: الحِشْمَةُ الِانْقِبَاضُ عَنْ أَخيك فِي المَطْعَمِ وطلبِ الحاجةِ؛ تَقُولُ: احْتَشَمْتَ وَمَا الَّذِي أَحْشَمَكَ، وَيُقَالُ حَشَمَكَ، فأَما قَوْلُ الْقَائِلِ: وَلَمْ يَحْتَشِمْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ حَذَفَ مِنْ وأَوصل الفعلَ.

والحِشْمَةُ والحُشْمَةُ: أَن يَجْلِسَ إِلَيْكَ الرَّجُلُ فتؤذِيَهُ وتُسْمِعَهُ مَا يَكْرَهُ، حَشَمَه يَحْشِمُهُ ويَحْشُمُه حَشْمًا وأَحْشَمَهُ.

وحَشَمْتُه: أَخجلته، وأَحْشَمْتُهُ: أَغضبته.

قَالَ ابْنُ الأَثير: مَذْهَبُ ابْنِ الأَعرابي أَن أَحْشَمْتُه أَغضبته، وحَشَمْتُه أَخجلته، وَغَيْرُهُ يَقُولُ: حَشَمْتُه وأَحْشَمْتُه أَغضبته، وحَشَمْتُه وأَحْشَمتُه أَيضًا أَخْجَلْتُه.

وَيُقَالُ للمُنْقَبِض عَنِ الطَّعَامِ: مَا الَّذِي حَشَمَكَ وأَحْشَمكَ، مِنَ الحِشْمَةِ وَهِيَ الِاسْتِحْيَاءُ.

قَالَ أَبو زَيْدٍ: الإِبَةُ الحَياء، يُقَالُ: أَوْأَبْتُه فاتّأَبَ أَي احْتَشَمَ.

وَرُوِيَ" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنه قَالَ: لِكُلِّ داخلٍ دَهشةٌ فابْدَؤُوه بالتَّحِيَّةِ، وَلِكُلِّ طَاعِمٍ حشْمَةٌ فابدؤوه بِالْيَمِينِ، وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ لكُثَيِّر فِي الاحتِشام بِمَعْنَى الِاسْتِحْيَاءِ:

إنِّي، مَتى لَمْ يَكُنْ عَطاؤهما ***عِنْدِي بِمَا قد فَعَلْتُ، أَحْتَشِمُ

وَقَالَ عَنْتَرَةُ:

وأَرى مَطاعِمَ لَوْ أَشاءُ حَوَيتُها، ***فيَصُدُّني عَنْهَا كثيرُ تَحَشُّمِي

وَقَالَ سَاعِدَةُ:

إِن الشَّبابَ رِداءٌ مَنْ يَزِنْ تَرَهُ ***يُكْسَى جَمالًا ويُفْسِدْ غَيْرَ مُحتَشِم

وَفِي الْحَدِيثِ حَدِيثِ عَلِيٍّ فِي السَّارِقِ: إِنِّي لأَحْتَشِمُ أَن لَا أَدَعَ لَهُ يَدًا "أَي أَستحي وأَنقبص.

والحِشْمةُ: الِاسْتِحْيَاءُ.

وَهُوَ يَتَحَشَّم المَحارم أَي يَتَوَقَّاهَا.

وحَشِمَ حَشَمًا: غَضِبَ.

وحَشَمهُ يَحْشِمُه حَشْمًا وأَحْشمهُ: أَغضبه؛ وأَنشدوا فِي ذَلِكَ:

لَعَمْرُكَ إِنَّ قُرْصَ أَبي خُبَيْب ***بَطِيءُ النُّضْج، مَحْشوم الأَكيل

أَي مُغْضَب، وَالِاسْمُ الحِشْمة، وَهُوَ الِاسْتِحْيَاءُ وَالْغَضَبُ أَيضًا.

وَقَالَ الأَصمعي: الحِشْمَةُ إِنما هُوَ بِمَعْنَى الْغَضَبِ لَا بِمَعْنَى الِاسْتِحْيَاءِ.

وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ فُصَحاء الْعَرَبِ أَنه قَالَ: إِن ذَلِكَ لَمِمَّا يُحْشِمُ بَنِي فُلَانٍ أَي يُغْضِبُهُمْ، واحْتَشَمْتُ واحْتَشَمْتُ مِنْهُ بِمَعْنًى؛ قَالَ الْكُمَيْتُ:

ورأَيتُ الشَّريفَ فِي أَعْيُنِ النَّاس ***وَضِيعًا، وقَلَّ مِنْهُ احْتِشامي

والاحْتِشامُ: التَّغَضُّبُ.

وحَشَمْتُ فُلَانًا وأَحْشمْتُه أَي أَغضبته.

وحُشْمَةُ الرَّجُلِ وحَشَمُهُ وأَحْشامُهُ: خاصَّتُهُ الَّذِينَ يَغْضَبُونَ لَهُ مِنْ عبيدٍ أَو أَهلٍ أَو جِيرةٍ إِذا أَصَابَهُ أَمر.

ابْنُ سِيدَهْ: وَحَكَى ابْنُ الأَعرابي أَن الحَشَمَ واحدٌ وَجَمْعٌ، قَالَ: يُقَالُ هَذَا الْغُلَامُ حَشَمٌ لِي، فأُرى أَحْشامًا إِنما هُوَ جَمْعٌ هَذَا لأَن جَمْعَ الْجَمْعِ وَجَمْعَ الْمُفْرَدِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ غَيْرُ كَثِيرٍ.

وحَشَمُ الرَّجُلِ أَيضًا: عِيَالُهُ وَقَرَابَتُهُ.

الأَزهري: والحَشَمُ خَدَمُ الرَّجُلِ، وسُمُّوا بِذَلِكَ لأَنهم يَغْضَبُونَ لَهُ.

والحُشْمَةُ، بِالضَّمِّ: الْقَرَابَةُ.

يُقَالُ: فِيهِمْ حُشْمَةٌ أَي قُرَابَةٌ.

وَهَؤُلَاءِ أَحشامي أَي جِيرَانِي وأَضيافي.

وَقَالَ أَبو عَمْرٍو: قَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ إِنَّهُ لمُحْتَشمِ بِأَمْرِي أَي مُهْتَمّ بِهِ.

وَقَالَ يُونُسُ: لَهُ الحُشْمةُ الذِّمامُ، وَهِيَ الحُشْمُ، قَالَ: وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ الحُشْمَة والحَشَمُ، وإِني لأَتَحَشَّمُ مِنْهُ تَحَشُّمًا أَي أَتَذَمَّمُ وأَستحي.

ابْنُ الأَعرابي: الحُشُمُ ذَوُو الْحَيَاءِ التَّامِّ، والحُسُمُ، بِالسِّينِ، الأَطِبَّاء، وَالْحَشَمُ الِاسْتِحْيَاءُ.

والحُشُمُ: الْمَمَالِيكُ.

والحُشُم: الأَتباع، مماليكَ كَانُوا أَو أَحرارًا.

وَفِي حَدِيثِ الأَضاحي: «فشكَوْا إِلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن لَهُمْ عِيَالًا وحَشَمًا»؛ الحَشَمُ، بِالتَّحْرِيكِ: جَمَاعَةُ الإِنسان اللَّائذون بِهِ لِخِدْمَتِهِ.

والحُشومُ: الإِقبال بَعْدَ الْهُزَالِ؛ حَشَمَ يَحْشِمُ حُشومًا: أَقبل بَعْدَ هُزَالٍ، وَرَجُلٌ حاشِمٌ.

وحَشَمَتِ الدوابُّ فِي أَول الرَّبِيعِ تَحْشِمُ حَشْمًا: وَذَلِكَ إِذا أَصابت مِنْهُ شَيْئًا فصَلَحَتْ وسَمِنَتْ وَعَظُمَتْ بُطُونُهَا وحَسُنَتْ.

وحَشَمَتِ الدوابُّ: صاحَتْ.

وَمَا حَشَمَ مِنْ طَعَامِهِ شَيْئًا أَي مَا أَكل.

وغَدَوْنا نُريغُ الصَّيْدَ فَمَا حَشَمْنا صَافِرًا أَي مَا أَصبنا.

يُونُسُ: تَقُولُ الْعَرَبُ الحُسُومُ يُورِثُ الحُشُومَ، قَالَ: والحُسُومُالدُّؤُوب، والحُشُوم الإِعْياء؛ وَقَالَ فِي قَوْلِ مُزاحم:

فَعنَّتْ عُنونًا، وَهْيَ صَغْواءُ، مَا بِهَا، ***وَلَا بالخَوافي الضَّارباتِ، حُشُومُ

أَي إِعياء؛ وَقَدْ حُشِم حَشْمًا.

وَقَالَ الأَصمعي: فِي يَدَيْهِ حُشُومٌ أَيِ انْقِبَاضٌ، وَرَوَى الْبَيْتَ: " وَلَا بِالْخَوَافِي الخافقاتِ حُشوم وَرَجُلٌ حَشِيمٌ أي مُحْتَشِمٌ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


218-لسان العرب (حقا)

حقا: الحَقْوُ والحِقْوُ: الكَشْحُ، وَقِيلَ: مَعْقِدُ الإِزار، وَالْجَمْعُ أَحْقٍ وأَحْقَاء وحِقِيٌّ وحِقَاء، وفي الصحاح: الحِقْ والخَصْرُ ومَشَدُّ الإِزار مِنَ الجَنْب.

يُقَالُ: أَخذت بحَقْوِ فُلَانٍ.

وَفِي حَدِيثِ صِلةِ الرَّحِمِ قَالَ: « قَامَتِ الرَّحِمُ فأَخَذَت بِحَقْو العَرْشِ »؛ لمَّا جعلَ الرَّحِمَ شَجْنة مِنَ الرَّحْمَنِ اسْتَعَارَ لَهَا الِاسْتِمْسَاكَ بِهِ كَمَا يَستمسك القريبُ بِقَرِيبِهِ والنَّسيب بنسيبه، والحِقْو [الحَقْو] فِيهِ مَجَازٌ وَتَمْثِيلٌ.

وَفِي حَدِيثِ النُّعمان يَوْمَ نِهاوَنْدَ [نُهاوَنْدَ]: « تَعاهَدُوها بَيْنكم فِي أَحْقِيكمْ »؛ الأَحْقِي: جَمْعُ قِلَّةٍ للحَقْو مَوْضِعُ الإِزار.

وَيُقَالُ: رَمى فلانٌ بحَقْوِه إِذَا رَمى بِإِزَارِهِ.

وحَقاهُ حَقوًا: أَصابَ حَقْوَه.

والحَقْوانِ والحِقْوانِ: الخاصِرَتان.

ورجلٌ حَقٍ: يَشْتَكي حَقْوَه [حِقْوَه]؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.

وحُقِيَ حَقْوًا، فَهُوَ مَحْقُوٌّ ومَحْقِيٌّ: شَكا حَقْوه؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: بُنِيَ عَلَى فُعِلَ كَقَوْلِهِ: " مَا أَنا بِالْجَافِي وَلَا المَجْفِيِ "قَالَ: بَنَاهُ عَلَى جُفِيَ، وأَما سِيبَوَيْهِ فَقَالَ: إِنَّمَا فَعَلوا ذَلِكَ لأَنهم يَميلون إِلَى الأَخَفِّ إِذِ الْيَاءُ أَخَفُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَاوِ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَدْخُلُ عَلَى الأُخْرى فِي الأَكثر، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: عُذْتُ بحَقْوِه إِذَا عَاذَ بِهِ ليَمْنَعه؛ قَالَ:

سَماعَ اللهِ والعلماءِ أَنِّي ***أَعوذُ بحَقْوِ خَالِكَ، يَا ابنَ عَمْرِو

وأَنشد الأَزهري:

وعُذْتُمْ بِأَحْقَاءِ الزَّنادِقِ، بَعْدَ ما ***عَرَكْتُكُمُ عَرْكَ الرَّحى بِثِفالِها

وَقَوْلُهُمْ: عُذْتُ بحَقْوِ فُلَانٍ إِذَا اسْتَجَرْت بِهِ واعْتَصَمْت.

والحَقْوُ والحِقْوُ والحَقْوَةُ والحِقاءُ، كُلُّهُ: الإِزارُ، كأَنه سُمِّي بِمَا يُلاثُ عَلَيْهِ، وَالْجَمْعُ كَالْجَمْعِ.

الْجَوْهَرِيُّ: أَصل أَحْقٍ أَحْقُوٌ عَلَى أَفْعُلٍ فحذِف لأَنه لَيْسَ فِي الأَسماء اسْمٌ آخِرُهُ حَرْفُ عِلَّةِ وَقَبْلَهَا ضَمَّةٌ، فَإِذَا أَدّى قياسٌ إِلَى ذَلِكَ رُفِضَ فأُبْدِلت مِنَ الْكَسْرَةِ فَصَارَتِ الْآخِرَةُ يَاءً مَكْسُورًا مَا قَبْلَهَا، فَإِذَا صَارَتْ كَذَلِكَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي وَالْغَازِي فِي سُقُوطِ الْيَاءِ لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ، وَالْكَثِيرُ فِي الْجَمْعِ حُقِيٌّ وحِقِيٌّ، وَهُوَ فُعُول، قُلِبَتِ الْوَاوُ الأُولى يَاءً لِتُدْغَمَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ فِي قَوْلِ الْجَوْهَرِيِّ فَإِذَا أَدَّى قياسٌ إِلَى ذَلِكَ رُفِض فأُبدلت مِنَ الْكَسْرَةِ قَالَ: صَوَابُهُ عَكْسُ مَا ذُكِرَ لأَن الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ فأُبدلت يَعُودُ عَلَى الضَّمَّةِ أَي أُبدلت الضَّمَّةُ مِنَ الْكَسْرَةِ، والأَمر بِعَكْسِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَن يَقُولَ فأُبدلت الْكَسْرَةُ مِنَ الضَّمَّةِ.

وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه أَعطَى النساءَ اللَّاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَه حِينَ ماتَتْ حَقْوَهُ وقال: أَشْعِرْنها إيَّاهُ "؛ الحَقْو: الإِزار هَاهُنَا، وَجَمْعُهُ حِقِيٌّ.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الأَصل في الحِقْوِ [الحَقْوِ] معقدُ الإِزار ثُمَّ سُمِّيَ الإِزار حَقْوًا لأَنه يُشَدُّ عَلَى الحَقْوِ، كَمَا تسمى المَزادة راوِيَة لأَنها عَلَى الراوِية، وَهُوَ الجمَل.

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ للنساء: « لَا تَزْهَدْنَ فِي جَفَاءِ الحَقْوِ »أَي لَا تَزْهَدْنَ فِي تَغْليظ الإِزار وثخَانَتِه لِيَكُونَ أَسْتَر لَكُنَّ.

وَقَالَ أَبو عُبَيْدٍ: الحِقْو والحَقْو الْخَاصِرَةُ.

وحَقْو السهمِ: مَوْضِعُ الرِّيشِ، وَقِيلَ: مُسْتَدَقُّه مِنْ مُؤَخَّره مِمَّا يَلِي الرِّيشَ.

وحَقْوُ الثَّنِيَّةِ: جَانِبَاهَا.

والحَقْوُ: مَوْضِعٌ غَلِيظٌ مُرْتَفِعٌ عَلَى السَّيْلِ، وَالْجَمْعُ حِقَاءٌ؛ قَالَ أَبو النَّجْمِ يَصِفُ مَطَرًا: " يَنْفِي ضِبَاعَ القُفِّ مِنْ حِقَائِه "وَقَالَ النَّضِرُ: حِقِيٌّ الأَرض سُفُوحُها وأَسنادُها، وَاحِدُهَا حَقْوٌ، وَهُوَ السَّنَد والهَدَف.

الأَصمعي: كُلُّ مَوْضِعٍ يَبْلُغُهُ مَسِيلُ الْمَاءِ فَهُوَ حَقْوٌ.

وَقَالَ اللَّيْثُ: إِذَا نَظَرتَ عَلَى رأْس الثَّنيَّة مِنْ ثَنَايَا الْجَبَلِ رأَيت لِمَخْرِمَيْها حَقْوَيْنِ؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

تَلْوي الثَّنَايَا، بأَحْقِيها حَواشِيَه ***لَيَّ المُلاءِ بأَبْوابِ التَّفارِيجِ

يَعْنِي بِهِ السَّرابَ.

والحِقاءُ: جَمْعُ حَقْوَةٍ، وَهُوَ مُرْتَفِع عَنِ النَّجْوة، وَهُوَ مِنْهَا مَوْضِعُ الحَقْوِ مِنَ الرِّجْلِ يَتَحَرَّزُ فِيهِ الضِّبَاعُ مِنَ السَّيْلِ.

والحَقْوة والحِقاءُ: وجَعٌ فِي الْبَطْنِ يُصِيبُ الرجلَ مِنْ أَنْ يأْكل اللحمَ بَحْتًا فيأْخُذَه لِذَلِكَ سُلاحٌ، وَفِي التَّهْذِيبِ: يُورِثُ نَفْخَةً فِي الحَقْوَيْن، وَقَدْ حُقِيَ فَهُوَ مَحْقُوٌّ ومَحْقِيٌّ إِذَا أَصابه ذَلِكَ الداءُ؛ قال رُؤْبَةُ: " مِنْ حَقْوَةِ البطْنِ ودَاءِ الإِغْدَادْ فمَحْقُوٌّ عَلَى الْقِيَاسِ، ومَحْقِيٌّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « أَنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ مَا حَسَدْتُ ابنَ آدَمَ إلَّا عَلَى الطُّسْأَةِ والحَقْوَة »؛ الحَقْوة: وَجَع فِي الْبَطْنِ.

والحَقْوة فِي الإِبل: نَحْوُ التَّقْطِيع يأْخذها مِنَ النُّحازِ يَتَقَطَّع لَهُ البطنُ، وأَكثر مَا تُقَالُ الحَقْوة للإِنسان، حَقِيَ يَحْقَى حَقًا فَهُوَ مَحْقُوٌّ.

وَرَجُلٌ مَحْقُوٌّ: مَعْنَاهُ إِذَا اشْتَكَى حَقْوَه.

أَبو عَمْرٍو: الحِقاءُ رِباط الجُلِّ عَلَى بَطْنِ الفَرَس إِذَا حُنِذَ للتَّضْمِير؛ وأَنشد لطَلْقِ بنِ عَدِيٍّ:

ثُمَّ حَطَطْنا الجُلَّ ذَا الحِقاءِ، ***كَمِثْلِ لونِ خالِصِ الحِنَّاءِ

أَخْبَرَ أَنه كُمَيْت.

الْفَرَّاءُ: قَالَتِ الدُّبَيْرِيَّةُ يُقَالُ وَلَغَ الكلبُ فِي الإِناءِ ولَجَنَ واحْتَقَى يَحْتَقِي احْتِقَاءً بمعنىً واحد.

وحِقاءٌ: موضع أَو جَبَل.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


219-لسان العرب (عنا)

عنا: قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ}.

قَالَ الْفَرَّاءُ: عَنَتِ الْوُجُوهُ نَصِبَتْ لَهُ وعَمِلتْ لَهُ، وَذُكِرَ أَيضًا أَنه وضْعُ المُسْلِمِ يَدَيْه وجَبْهَته وركْبَتَيْه إِذا سَجَد ورَكَع، وَهُوَ فِي مَعْنَى العَرَبيَّة أَن تَقُولَ لِلرَّجُلِ: عَنَوْتُ لَكَ خَضَعْت لَكَ وأَطَعْتُك، وعَنَوْتُ للْحَقِّ عُنُوًّا خَضَعْت.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَقِيلَ: كلُّ خاضِعٍ لِحَقٍّ أَو غيرِه عانٍ، وَالِاسْمُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ العَنْوَة.

والعَنْوَة: القَهْرُ.

وأَخَذْتُه عَنْوَةً أَي قَسْرًا وقَهْرًا، مِنْ بَابِ أَتَيْته عَدْوًا.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَلَا يَطَّرِدُ عندَ سِيبَوَيْهِ، وَقِيلَ: أَخَذَه عَنْوَة أَي عَنْ طَاعَة وَعَنْ غيرِ طاعَةٍ.

وفُتِحَتْ هَذِهِ البلدةُ عَنْوَةً أَي فُتِحَت بِالْقِتَالِ، قُوتِل أَهلُها حَتَّى غُلِبوا عَلَيْهَا، وفُتِحَت البلدةُ الأُخرى صُلْحًا أَي لَمْ يُغْلبوا، وَلَكِنْ صُولِحُوا عَلَى خَرْج يؤدُّونه.

وَفِي حَدِيثِ الْفَتْحِ: « أَنه دَخَل مَكَّة عَنْوَةً »أَي قَهْرًا وغَلَبةً.

قَالَ ابْنُ الأَثير: هُوَ مِنْ عَنا يَعْنُو إِذا ذلَّ وخَضَع، والعَنْوَة المَرَّة مِنْهُ، كأَنَّ المأْخُوذَ بِهَا يَخْضَع ويَذلُّ.

وأُخِذَتِ البلادُ عَنْوَةً بالقَهْرِ والإِذْلالِ.

ابْنُ الأَعرابي: عَنَا يَعْنُو إِذا أَخَذَ الشيءَ قَهْرًا.

وعَنَا يَعْنُو عَنْوَةً فِيهِمَا إِذا أَخَذَ الشيءَ صُلْحًا بإكْرام ورِفْقٍ.

والعَنْوَة أَيضًا: الموَدَّة.

قَالَ الأَزهري: قَوْلُهُمْ أَخَذْتُ الشيءَ عَنْوَةً يَكُونُ غَلَبَةً، وَيَكُونُ عَنْ تَسْلِيمٍ وَطَاعَةٍ مِمَّنْ يؤْخَذُ مِنْهُ الشَّيْءُ؛ وأَنشد الْفَرَّاءُ لكُثَيِّر:

فَمَا أَخَذُوها عَنْوَةً عَنْ مَوَدَّة، ***ولكِنَّ ضَرْبَ المَشْرَفيِّ اسْتَقالهَا

فَهَذَا عَلَى مَعْنَى التَّسْلِيم والطَّاعَة بِلَا قِتالٍ.

وَقَالَ الأَخْفش فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ}؛ اسْتَأْسَرَتْ.

قَالَ: والعَانِي الأَسِيرُ.

وَقَالَ أَبو الْهَيْثَمِ: العَانِي الخاضِعُ، والعَانِي العَبْدُ، والعَانِي السائِلُ مِنْ ماءٍ أَوْ دَمٍ.

يُقَالُ: عَنَت القِرْبة تَعْنُو إِذا سالَ ماؤُها، وَفِي الْمُحْكَمِ: عَنَتِ القِرْبَةُ بماءٍ كَثِيرٍ تَعْنُو، لَمْ تَحْفَظْه فَظَهَرَ؛ قَالَ المُتَنَخِّل الهُذَلي:

تَعْنُو بمَخْرُوتٍ لَهُ ناضحٌ، ***ذُو رَيِّقٍ يَغْذُو، وذُو شَلْشَل

وَيُرْوَى: قاطِر بدَلَ ناضِحٍ.

قَالَ شَمِرٌ: تعْنُو تَسِيلُ بمَخْرُوتٍ أَي مِنْ شَقّ مَخْرُوتٍ، والخَرْتُ: الشَّقُّ فِي الشَّنَّة، والمَخْرُوتُ: المَشْقُوقُ، رَوَّاه ذُو شَلْشَلٍ.

قَالَ الأَزهري: مَعْنَاهُ ذُو قَطَرانٍ مِنَ "الْوَاشِنِ، وَهُوَ القاطِرُ، وَيُرْوَى: ذُو رَوْنَقٍ.

ودَمٌ عانٍ: سائِلٌ؛ قَالَ:

لمَّا رأَتْ أُمُّه بالبابِ مُهْرَتَه، ***عَلَى يَدَيْها دَمٌ مِنْ رَأْسِه عانِ

وعَنَوْت فِيهِمْ وعَنَيْت عُنُوًّا وعَناءً: صرتُ أَسيرًا.

وأَعْنَيْته: أَسَرْته.

وَقَالَ أَبو الْهَيْثَمِ: العَنَاء الحَبْس فِي شِدَّةٍ وذُلٍّ.

يُقَالُ: عَنَا الرجُلُ يَعْنُو عُنُوًّا وعَناءً إِذا ذلَّ لَكَ واسْتَأْسَرَ.

قَالَ: وعَنَّيْتُه أُعَنّيه تَعْنِيَةً إِذا أَسَرْتَه وحَبَسْته مُضَيِّقًا عَلَيْهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « اتَّقُوا اللهَ فِي النِّساء فإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوانٍ »أَي أَسْرى أَو كالأَسْرَى، وَاحِدَةُ العَوَانِي عانِيَةٌ، وَهِيَ الأَسيرة؛ يَقُولُ: إِنَّمَا هُنَّ عِنْدَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الأَسْرى.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: والعَوَانِي النساءُ لأَنَّهُنَّ يُظْلَمْنَ فَلَا يَنْتَصِرْنَ.

وَفِي حَدِيثِ المِقْدامِ: « الخالُ وارِثُ منْ لَا وارِثَ لَهُ يَفُكُّ عانَه»؛ أي عانِيَه، فحذَف الْيَاءَ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَفُكُّ عُنِيَّه، بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ.

يُقَالُ: عَنَا يَعْنُو عُنُوًّا وعُنِيًّا، وَمَعْنَى الأَسر فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَلْزَمهُ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ بِسَبَبِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي سَبيلُها أَن يَتَحَمَّلَها العاقلَة، هَذَا عِنْدَ مَنْ يُوَرِّث الخالَ، وَمَنْ لَا يُوَرِّثه يكونُ مَعْنَاهُ أَنها طُعْمَة يُطْعَمُها الخالُ لَا أَن يَكُونَ وَارِثًا، ورجلٌ عانٍ وَقَوْمٌ عُنَاة ونِسْوَةٌ عَوَانٍ؛ وَمِنْهُ" قَوْلُ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: عُودُوا المَرْضى وفُكُّوا العَانِيَ، يَعْنِي الأَسيرَ.

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: أَطْعِموا الجائِعَ وفُكُّوا العَانِيَ "، قَالَ: وَلَا أُراه مأْخُوذًا إِلا مِنَ الذُّلِّ والخُضُوع.

وكلُّ مَن ذَلَّ واسْتَكان وخَضَع فَقَدْ عَنَا، وَالِاسْمُ مِنْهُ العَنْوَة؛ قَالَ القُطاميّ:

ونَأَتْ بحاجَتِنا، ورُبَّتَ عَنْوَةٍ ***لكَ مِنْ مَواعِدِها الَّتِي لَمْ تَصْدُقِ

اللَّيْثُ: يُقَالُ للأَسِير عَنَا يَعْنُو وعَنِيَ يَعْنى، قَالَ: وإِذا قُلْتَ أَعْنُوه فَمَعْنَاهُ أَبْقُوه فِي الإِسار.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ عَنَى فِيهِمْ فلانٌ أَسيرًا أَي أَقامَ فِيهِمْ عَلَى إِسارِه واحْتَبسَ.

وعَنَّاه غيرُه تَعْنِيةً: حَبَسه.

والتَّعْنِيَة: الحَبس؛ قَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ:

مُشَعْشَعة مِنْ أَذْرِعاتٍ هَوَتْ بِهَا ***رِكابٌ، وعَنَّتْها الزِّقاقُ وَقارُها

وَقَالَ سَاعِدَةُ بْنُ جُؤيَّة:

فَإِنْ يَكُ عَتَّابٌ أَصابَ بِسَهْمِه ***حَشاه، فعَنَّاه الجَوَى والمَحارِفُ

دَعا عَلَيْهِ بالحَبْسِ والثِّقَلِ مِنَ الجِراحِ.

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: « أَنه كَانَ يُحَرِّضُ أَصحابَه يومَ صِفِّينَ ويقولُ: اسْتَشْعِرُوا الخَشْيَةَ وعَنُّوا بالأَصْواتِ »أَي احْبِسُوها وأَخْفُوها.

مِنَ التَّعْنِيَة الحَبْسِ والأَسْرِ، كأَنه نَهاهُمْ عَنِ اللَّغَط ورفْعِ الأَصواتِ.

والأَعْنَاء: الأَخْلاطُ مِنَ النَّاسِ خاصَّة، وَقِيلَ: مِنَ النَّاسِ وَغَيْرِهِمْ، واحدُها عِنْوٌ.

وعَنَى فِيهِ الأَكْلُ يَعْنَى، شاذَّةٌ: نَجَعَ؛ لَمْ يَحكِها غيرُ أَبي عُبَيْدٍ.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: حَكَمْنَا علَيها أَنَّها يائيَّة لأَنَّ انْقِلاب الأَلف لَامًا عَنِ الْيَاءِ أَكثرُ مِنِ انْقِلَابِهَا عَنِ الْوَاوِ.

الْفَرَّاءُ: مَا يَعْنَى فِيهِ الأَكْلُ أَي مَا يَنْجَعُ، عَنَى يَعْنَى.

الْفَرَّاءُ: شَرِبَ اللبنَ شَهْرًا فَلَمْ يَعْنَ فِيهِ، كَقَوْلِكَ لَمْ يُغْنِ عَنْهُ شَيْئًا، وَقَدْ عَنِيَ يَعْنَى عُنِيًّا، بِكَسْرِ النُّونِ مِنْ عَنِيَ.

وَمِنْ أَمثالهم: عَنِيَّتُه تَشْفِي الجَرب؛ يُضْرَبُ مَثَلًا لِلرَّجُلِ إِذا كَانَ جَيِّد الرأْي، وأَصل العَنِيَّة، فِيمَا رَوَى أَبو عُبَيْدٍ، أَبوالُ الإِبل يُؤْخَذُ مَعَهَا أَخلاط فَتُخْلَطُ ثُمَّ تُحْبس زَمَانًا فِي الشَّمْسِ ثُمَّ تَعَالَجُ بِهَا الإِبلالجَرْبَى، سُمِّيت عَنِيَّةً مِنَ التَّعْنِيَة وَهُوَ الْحَبْسُ.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: والعَنِيَّة عَلَى فَعيلَةٍ.

والتَّعْنِيَة: أَخلاطٌ مِنْ بَعَرٍ وبَوْلٍ يُحْبَس مُدَّة ثُمَّ يُطْلى بِهِ الْبَعِيرُ الجَرِبُ؛ قَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ:

كأَنَّ كُحَيلًا مُعْقَدًا أَو عَنِيَّةً، ***عَلَى رَجْعِ ذِفْراها، مِنَ اللِّيتِ، واكِفُ

وَقِيلَ: العَنِيَّة أَبوالُ الإِبلِ تُسْتَبالُ فِي الرَّبِيعِ حِينَ تَجْزَأُ عَنِ الماءِ، ثُمَّ تُطْبَخ حَتَّى تَخْثُر، ثُمَّ يُلْقَى عَلَيْهَا مِنْ زَهْرِ ضُروبِ العُشْبِ وحبِّ المَحْلَبِ فتُعْقدُ بِذَلِكَ ثُمَّ تُجْعلُ فِي بساتِيقَ صغارٍ، وَقِيلَ: هُوَ الْبَوْلُ يُؤخذُ وأَشْياءَ مَعَهُ فيُخْلَط ويُحْبَس زَمَنًا، وَقِيلَ: هُوَ البَوْلُ يوضَعُ فِي الشَّمْسِ حَتَّى يَخْثُر، وَقِيلَ: العَنِيَّة الهِناءُ مَا كَانَ، وَكُلُّهُ مِنَ الخَلْط والحَبْسِ.

وعَنَّيت الْبَعِيرَ تَعْنِيَة: طَلَيْته بالعَنِيَّة؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ أَيضًا.

والعَنِيَّة: أَبوالٌ يُطْبَخ مَعَهَا شيءٌ مِنَ الشجرِ ثُمَّ يُهْنَأُ بِهِ البعيرُ، واحِدُها عِنْو.

وَفِي حَدِيثِ الشَّعبي: « لأَنْ أَتَعَنَّى بعَنِيَّةٍ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَن أَقولَ فِي مسأَلة بِرَأْيي »؛ العَنِيَّة: بولٌ فِيهِ أَخلاطٌ تُطْلَى بِهِ الإِبل الجَرْبَى، والتَّعَنِّي التَّطَلِّي بِهَا، سُمِّيَتْ عَنِيَّة لِطُولِ الحَبسِ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

عِنْدِي دَواءُ الأَجْرَبِ المُعَبَّدِ، ***عَنِيَّةٌ مِنْ قَطِرانٍ مُعْقَدِ

وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

كأَنَّ بذِفْراها عَنِيَّةَ مُجْربٍ، ***لَهَا وَشَلٌ فِي قُنْفُذِ اللِّيت يَنْتَح

والقُنْفُذُ: مَا يَعْرَقُ خَلْف أُذُن البعيرِ.

وأَعْنَاءُ السماءِ: نَوَاحِيهَا، الواحدُ عِنْوٌ.

وأَعْنَاءُ الْوَجْهِ: جوانِبُه؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي؛ وأَنشد:

فَمَا بَرِحتْ تَقْرِيه أَعَنَاءَ وَجْهِها ***وجَبْهَتها، حَتَّى ثَنَته قُرونُها

ابْنُ الأَعرابي: الأَعْنَاء النَّواحي، واحدُها عَنًا، وَهِيَ الأَعْنان أَيضًا؛ قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:

لَا تُحْرِز المَرْء أَعْنَاءُ البلادِ وَلَا ***تُبْنَى لَهُ، فِي السماواتِ، السَّلالِيمُ

وَيُرْوَى: أَحجاء.

وأَورد الأَزهري هُنَا حَدِيثِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنه سُئِلَ عَنِ الإِبل فَقَالَ أعْنانُ الشياطِين "؛ أَراد أَنها مثلُها، كأَنه أَراد أَنها مِنْ نَواحِي الشَّيَاطِينِ.

وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: يُقَالُ فِيهَا أَعْنَاءٌ مِنَ النَّاسِ وأَعْراءٌ مِنَ النَّاسِ، وَاحِدُهُمَا عِنْوٌ وعِرْوٌ أَي جَمَاعَاتٌ.

وَقَالَ أَحمد بْنُ يَحْيَى: بِهَا أَعْنَاءٌ مِنَ النَّاسِ وأَفْناءٌ أَي أَخلاط، الْوَاحِدُ عِنْوٌ وفِنْوٌ، وَهُمْ قومٌ مِنْ قبَائِلَ شَتَّى.

وَقَالَ الأَصمعي: أَعْنَاءُ الشَّيْءِ جَوانِبُه، وَاحِدُهَا عِنْوٌ، بِالْكَسْرِ.

وعَنَوْت الشيءَ: أَبْدَيْته.

وعَنَوْت بِهِ وعَنَوْته: أَخْرَجْته وأَظْهَرْته، وأَعْنَى الغَيْثُ النَّباتَ كَذَلِكَ؛ قَالَ عَدِيُّ بنُ زَيْدٍ:

ويَأْكُلْنَ مَا أَعْنَى الوَلِيُّ فَلَمْ يَلِتْ، ***كأَنَّ بِحافاتِ النِّهاءِ المَزارِعَا

فَلم يَلِتْ أَي فَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْئًا؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ واوِيَّة ويائِيَّة.

وأَعْنَاه المَطَرُ: أَنبَته.

ولَمْ تَعْنِ بلادُنا العامَ بِشَيْءٍ أَي لَمْ تُنْبِتْ شَيْئًا، وَالْوَاوُ لُغَةٌ.

الأَزهري: يُقَالُ للأَرض لَمْ تَعْنُ بِشَيْءٍ أَي لَمْ تُنْبِت شَيْئًا، وَلَمْ تَعْنِ بِشَيْءٍ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ كَمَا يُقَالُ حَثَوْت عَلَيْهِ التُّرَابَ وحَثَيْت.

وَقَالَ الأَصمعي: سأَلته فَلَمْ يَعْنُ لِي بِشَيْءٍ، كَقَوْلِكَ: لَمْيَنْدَ لِي بِشَيْءٍ وَلَمْ يَبِضَّ لِي بِشَيْءٍ.

وَمَا أَعْنَتِ الأَرضُ شَيْئًا أَي مَا أَنْبَتَت؛ وَقَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ فِي قَوْلِ عَدِيٍّ: " ويَأْكُلْنَ مَا أَعْنَى الوَلِيُ "قَالَ: حَذَفَ الضَّمِيرَ الْعَائِدَ عَلَى مَا أَي مَا أَعْناهُ الوَلِيُّ، وَهُوَ فِعْلٌ مَنْقُولٌ بِالْهَمْزِ، وَقَدْ يَتَعدَّى بِالْبَاءِ فَيُقَالُ: عَنَتْ بِهِ فِي مَعْنَى أَعْنَتْهُ؛ وَعَلَيْهِ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: " مِمَّا عَنَتْ بِهِ "وَسَنَذْكُرُهُ عَقِبَهَا.

وعَنَت الأَرضُ بالنباتِ تَعْنُو عُنُوًّا وتَعْني أَيضًا وأَعْنَتْهُ: أَظْهَرَتْه.

وعَنَوْت الشيءَ: أَخرجته؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

وَلَمْ يَبْقَ بالخَلْصاءِ، مِمَّا عَنَتْ بِهِ ***مِن الرُّطْبِ، إِلَّا يُبْسُها وهَجِيرُها

وأَنشد بَيْتَ المُتَنَخِّل الهُذَلي: تَعْنُو بمَخْرُوتٍ لَهُ ناضِحٌ "وعَنَا النَّبْتُ يَعْنُو إِذا ظَهَرَ، وأَعْنَاهُ المَطَرُ إِعْنَاءً.

وعَنا الماءُ إِذا سالَ، وأَعْنَى الرجلُ إِذا صادَف أَرضًا قَدْ أَمْشَرَتْ وكَثُرَ كَلَؤُها.

وَيُقَالُ: خُذْ هَذَا وَمَا عَانَاه أَي مَا شاكَلَه.

وعَنَا الكلبُ لِلشَّيْءِ يَعْنُو: أَتاهُ فشَمَّه.

ابْنُ الأَعرابي: هَذَا يَعْنُو هَذَا أَي يأْتيه فيَشَمُّه.

والهُمُومُ تُعَانِي فُلَانًا أَي تأْتيه؛ وأَنشد:

وإِذا تُعانِيني الهُمُومُ قَرَيْتُها ***سُرُحَ اليَدَيْنِ، تُخالِس الخَطَرانا

ابْنُ الأَعرابي: عَنَيْت بأَمره عِناية وعُنِيًّا وعَناني أَمره سواءٌ فِي الْمَعْنَى؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: إِيَّاكِ أَعْنِي؛ واسْمَعي يَا جارَهْوَيُقَالُ: عَنِيتُ وتعَنَّيْت، كلٌّ يُقَالُ.

ابْنُ الأَعرابي: عَنَا عَلَيْهِ الأَمرُ أَي شَقَّ عَلَيْهِ؛ وأَنشد قَوْلَ مُزَرِّد:

وشَقَّ عَلَى امْرِئٍ، وعَنَا عَلَيْهِ ***تَكاليفُ الَّذِي لَنْ يَسْتَطِيعا

وَيُقَالُ: عُنِيَ بِالشَّيْءِ، فَهُوَ مَعْنِيٌّ بِهِ، وأَعْنَيْته وعَنَّيْتُه بِمَعْنًى وَاحِدٍ؛ وأَنشد:

وَلَمْ أَخْلُ فِي قَفْرٍ وَلَمْ أُوفِ مَرْبَأً ***يَفاعًا، وَلَمْ أُعنِ المَطِيَّ النَّواجِيا

وعَنَّيْتُه: حَبَسْتُه حَبْسًا طَوِيلًا، وَكُلُّ حَبْسٍ طَوِيلٍ تَعْنِيَةٌ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ:

قَطَعْتَ الدَّهْرَ، كالسَّدِمِ المُعَنَّى، ***تُهَدِّرُ فِي دِمَشْقَ، وَمَا تَريمُ

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَقِيلَ إِنَّ المُعَنَّى فِي هَذَا الْبَيْتِ فَحْلٌ لَئيمٌ إِذا هَاجَ حُبِسَ فِي العُنَّة، لأَنه يُرغبُ عَنْ فِحْلتِه، وَيُقَالُ: أَصلُه معَنَّن فأُبدِلت مِنْ إِحدى النُّونَاتِ ياءٌ.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: والمُعَنَّى فَحْلٌ مُقْرِفٌ يُقَمَّط إِذا هَاجَ لأَنه يُرغب عَنْ فِحْلتِه.

وَيُقَالُ: لَقِيتُ مِنْ فُلَانٍ عَنْيةً وعَنَاءً أَي تَعَبًا.

وعَناهُ الأَمرُ يَعْنِيه عِنَايةً وعُنِيًّا: أَهَمَّه.

وَقَوْلُهُ تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}، وَقُرِئَ يعْنيه، فَمَنْ قرأَ يعْنيه، بِالْعَيْنِ الْمُهْمِلَةِ، فَمَعْنَاهُ لَهُ شأْن لَا يُهِمُّه مَعَهُ غيرهُ، وَكَذَلِكَ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أَي لَا يَقْدِرُ مَعَ الِاهْتِمَامِ بِهِ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِغَيْرِهِ.

وَقَالَ أَبو تُرَابٍ: يُقَالُ مَا أَعْنَى شَيْئًا وَمَا أَغنى شَيْئًا بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

واعْتَنَى هُوَ بأَمره: اهْتَمَّ.

وعُنِيَ بالأَمر عِنَايَةً، وَلَا يُقَالُ مَا أَعْنَانِي بالأَمر، لأَن الصِّيغَةَ مَوْضُوعَةٌ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَصِيغَةُ التَّعَجُّبِ إِنَّمَا هِيَ لَمَّا سُمِّي فَاعِلُهُ.

وَجَلَسَ أَبو عُثْمَانَ إِلى أَبي عُبَيْدَةَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فسأَله فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ تأْمر مِنْ قَوْلِنَا عُنِيتُ بِحَاجَتِكَ؟ فَقَالَ لَهُ أَبو عُبَيْدَةَ: أُعْنَ بِحَاجَتِي، فأَوْمأْتُ إِلى الرَّجُلِ أَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَلَمَّا خَلَوْنا قُلْتُ لَهُ: إِنما يُقَالُ لِتُعْنَ بِحَاجَتِي، قَالَ: فَقَالَ لِي أَبو عُبَيْدَةَ لَا تدخُلْ إِليّ، قُلْتُ: لِمَ؟ قَالَ: لأَنك كُنْتَ مَعَ رَجُلٍ دُورِيٍّ سَرَقَ مِنِّي عامَ أَولَ قطِيفةً لِي، فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ مَا الأَمر كَذَلِكَ، ولكنَّك سَمِعْتَنِي أَقول مَا سَمِعْتَ، أَو كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ.

وَحَكَى ابْنُ الأَعرابي وَحْدَهُ: عَنِيتُ بأَمره، بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، عِنَايةً وعُنِيًّا فأَنا بِهِ عَنٍ، وعُنِيتُ بأَمرك فأَنا مَعْنِيٌّ، وعَنِيتُ بأَمرك فأَنا عانٍ.

وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ هُوَ مَعْنِيٌّ بأَمره وعانٍ بأَمره وعَنٍ بأَمره بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: إِذا قُلْتَ عُنِيتُ بِحَاجَتِكَ، فعدَّيتَه بِالْبَاءِ، كَانَ الفعلُ مضمومَ الأَولِ، فإِذا عَدَّيتَه بِفِي فَالْوَجْهُ فتحُ الْعَيْنِ فَتَقُولُ عَنِيت؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

إِذا لمْ تَكُنْ فِي حاجةِ المَرءِ عانِيًا ***نَسِيتَ، ولمْ يَنْفَعْكَ عَقدُ الرَّتائمِ

وَقَالَ بَعْضُ أَهل اللُّغَةِ: لَا يُقَالُ عُنِيتُ بِحَاجَتِكَ إِلا عَلَى مَعْنى قصَدْتُها، مِنْ قَوْلِكَ عَنَيْتُ الشَّيْءَ أَعْنِيه إِذا كُنْتَ قاصِدًا لَهُ، فأَمَّا مِنَ العَنَاء، وَهُوَ العِنَايَةُ، فَبِالْفَتْحِ نحوُ عَنَيتُ بِكَذَا وعَنَيت فِي كَذَا.

وَقَالَ الْبَطَلْيَوْسِيُّ: أَجاز ابْنُ الأَعرابي عَنِيتُ بِالشَّيْءِ أَعْنَى بِهِ، فأَنا عانٍ؛ وأَنشد:

عانٍ بأُخراها طَويلُ الشُّغْلِ، ***لَهُ جَفِيرانِ وأَيُّ نَبْلِ

وعُنِيتُ بِحَاجَتِكَ أُعْنَى بِهَا وأَنا بِهَا مَعْنِيٌّ، عَلَى مَفْعُولٍ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « مِنْ حُسنِ إِسلامِ المَرْءِ تَرْكُه مَا لَا يَعْنِيه» أَي لَا يُهِمُّه.

وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا اشْتَكى أَتَاهُ جبريلُ فَقَالَ بسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كلِّ داءٍ يَعْنيك، مِنْ شرِّ كلِّ حاسدٍ وَمِنْ شرِّ كلِّ عَين "؛ قَوْلُهُ يَعْنِيك أَي يشغَلُك.

وَيُقَالُ: هَذَا الأَمر لَا يَعْنِيني أَي لَا يَشْغَلُني وَلَا يُهِمُّني؛ وأَنشد:

عَناني عنكَ، والأَنْصاب حَرْبٌ، ***كأَنَّ صِلابَها الأَبْطالَ هِيمُ

أَراد: شَغَلَني؛ وَقَالَ آخَرُ:

لَا تَلُمْني عَلَى البُكاء خَلِيلي، ***إِنه مَا عَناكَ قِدْمًا عَنَانِي

وَقَالَ آخَرُ:

إِنَّ الفَتى لَيْسَ يَعْنِيهِ ويَقمَعُه ***إِلَّا تَكَلُّفُهُ مَا لَيْسَ يَعْنِيهِ

أَي لَا يَشْغَله، وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلُ جِبْرِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَعْنِيكَ أَي يَقْصِدُك.

يُقَالُ: عَنَيْتُ فُلَانًا عَنْيًا أَي قَصَدْتُه.

ومَنْ تَعْنِي بِقَوْلِكَ أَي مَنْ تَقْصِد.

وعَنَانِي أَمرُك أَي قَصَدني؛ وَقَالَ أَبو عَمْرٍو فِي قَوْلِهِ الْجَعْدِيِّ: " وأَعْضادُ المَطِيّ عَوَاني أَي عَوامِلُ.

وَقَالَ أَبو سَعِيدٍ: مَعْنَى قَوْلِهِ عَوَانِي أَي قَواصِدُ فِي السَّيْرِ.

وفُلانٌ تَتَعَنَّاه الحُمَّى أَي تَتَعَهَّده، وَلَا تُقَالُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي غَيْرِ الحُمَّى.

وَيُقَالُ: عَنِيتُ فِي الأَمر أَي تَعَنَّيْتُ فِيهِ، فأَنا أَعْنَى وأَنا عَنٍ، فإِذا سَأَلْتَ قُلْتَ: كَيْفَ مَن تُعْنى بأَمره؟ مَضْمُومٌ لأَن الأَمْرَ عَنَاهُ، وَلَا يُقَالُ كيف مَنْ تَعْنَى بأَمره.

وعَانَى الشيءَ: قَاسَاهُ.

والمُعَانَاةُ: المُقاساة.

يُقَالُ: "عَانَاه وتَعَنَّاه وتَعَنَّى هُوَ؛ وَقَالَ:

فَقُلْتُ لَهَا: الحاجاتُ يَطْرَحْنَ بالفَتَى، ***وهَمّ تَعَنَّاه مُعَنّىً رَكائبُهْ

وَرَوَى أَبو سَعِيدٍ: المُعَانَاة المُداراة؛ قَالَ الأَخطل:

فإِن أَكُ قَدْ عَانَيْتُ قَوْمي وهِبْتُهُمْ، ***فَهَلْهِلْ وأَوِّلْ عَنْ نُعَيْم بنِ أَخْثَما

هَلْهِلْ: تَأَنَّ وانْتَظِرْ.

وَقَالَ الأَصمعي: المُعَانَاة والمُقَاناةُ حُسْنُ السِّياسة.

وَيُقَالُ: مَا يُعَانُونَ مالَهُم وَلَا يُقانُونه أَي مَا يَقُومُونَ عَلَيْهِ.

وَفِي حَدِيثِ عُقْبَة بْنِ عامِرٍ فِي الرَّمْيِ بِالسِّهَامِ: « لَوْلا كلامٌ سَمِعْتُه مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمْ أُعَانِهِ »؛ مُعَانَاةُ الشيءِ: مُلابَسَته ومُباشَرَته.

والقَوْمُ يُعَانُون مالَهُم أَي يَقُومُونَ عَلَيْهِ.

وعَنَى الأَمْرُ يَعْنِي واعْتَنَى: نَزَلَ؛ قَالَ رُؤْبَةُ:

إِني وَقَدْ تَعْنِي أُمورٌ تَعْتَنِي ***عَلَى طريقِ العُذْر، إِنْ عَذَرْتَني

وعَنَتْ بِهِ أُمورٌ: نَزَلَتْ.

وعَنَى عَنَاءً وتَعَنَّى: نَصِبَ.

وعَنَّيْتُه أَنا تَعْنِيَةً وتَعَنَّيْتُه أَيضًا فَتَعَنَّى، وتَعَنَّى العَناء: تَجَشَّمَه، وعَنَّاه هُوَ وأَعْنَاه؛ قَالَ أُمَيَّة:

وإِني بِلَيْلَى، والدِّيارِ الَّتِي أَرَى، ***لَكالْمُبْتَلَى المُعْنَى بِشَوْقٍ مُوَكَّلِ

وَقَوْلُهُ أَنشده ابْنُ الأَعرابي: عَنْسًا تُعَنِّيها وعَنْسًا تَرْحَلُ "فَسَّرَهُ فَقَالَ: تُعَنِّيها تَحْرُثُها وتُسْقِطُها.

والعَنْيَةُ: العَناء.

وعَنَاءٌ عَانٍ ومُعَنٍّ: كَمَا يُقَالُ شِعْرٌ شاعِرٌ ومَوْتٌ مائتٌ؛ قَالَ تَميم بْنُ مُقْبِل:

تَحَمَّلْنَ مِنْ جَبَّانَ بَعْدَ إِقامَةٍ، ***وبَعْدَ عَنَاءٍ مِنْ فُؤادِك عانِ

وَقَالَ الأَعشى:

لَعَمْرُكَ مَا طُولُ هَذَا الزَّمَنْ، ***عَلَى المَرْءِ، إِلَّا عَنَاءٌ مُعَنُ

ومَعْنى كلِّ شَيْءٍ: مِحْنَتُه وحالُه الَّتِي يَصِيرُ إِلَيْهَا أَمْرُه.

وَرَوَى الأَزهري عَنْ أَحمد بْنِ يَحْيَى قَالَ: المَعْنَى والتفسيرُ والتَّأْوِيل واحدٌ.

وعَنَيْتُ بِالْقَوْلِ كَذَا: أَردت.

ومَعْنَى كُلِّ كلامٍ ومَعْنَاتُه ومَعْنِيَّتُه: مَقْصِدُه، وَالِاسْمُ العَنَاء.

يُقَالُ: عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي مَعْنَى كلامِه ومَعْنَاةِ كَلَامِهِ وَفِي مَعْنِيِّ كلامِه.

وَلَا تُعَانِ أَصحابَك أَي لَا تُشاجِرْهُم؛ عَنْ ثَعْلَبٍ.

والعَنَاء: الضُّرُّ.

وعُنْوَانُ الْكِتَابِ: مُشْتَقّ فِيمَا ذَكَرُوا مِنَ المَعْنَى، وَفِيهِ لُغَاتٌ: عَنْوَنْتُ وعَنَّيْتُ وعَنَّنْتُ.

وَقَالَ الأَخْفش: عَنَوْتُ الْكِتَابَ واعْنُه؛ وأَنشد يُونُسُ:

فَطِنِ الكِتابَ إِذا أَرَدْتَ جوابَه، ***واعْنُ الكتابَ لِكَيْ يُسَرَّ ويُكْتما

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: العُنْوَانُ والعِنْوَانُ سِمَةُ الكِتابِ.

وعَنْوَنَه عَنْوَنَةً وعِنْوَانًا وعَنَّاهُ، كِلاهُما: وَسَمَه بالعُنوان.

وَقَالَ أَيضًا: والعُنْيَانُ سِمَةُ الْكِتَابِ، وَقَدْ عَنَّاه وأَعْنَاه، وعَنْوَنْتُ الْكِتَابَ وعَلْوَنْته.

قَالَ يَعْقُوبُ: وسَمِعْتُ مَنْ يَقُولُ أَطِنْ وأَعِنْ أَي عَنْوِنْه واخْتِمْه.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَفِي جَبْهَتِه عُنْوانٌ مِنْ كَثْرَةِ السُّجودِ أَي أَثَر؛ حَكَاهُ اللِّحْيَانِيُّ؛ وأَنشد:

وأَشْمَطَ عُنْوانٌ بِهِ مِنْ سُجودِه، ***كَرُكْبَةِ عَنزٍ مِنْ عُنوزِ بَني نَصْرِ

والمُعَنَّى: جَمَلٌ كَانَ أَهلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَنزِعُونَ سناسِنَ فِقْرَتِهِ ويَعْقِرُون سَنامَه لئلَّا يُرْكَب وَلَا يُنْتَفَع بظَهْرِه.

قَالَ اللَّيْثُ: كَانَ أَهل الْجَاهِلِيَّةِ إِذا بَلَغَتْ إِبلُ الرَّجُلِ مِائَةً عَمَدُوا إِلى الْبَعِيرِ الَّذِي أَمْأَتْ بِهِ إِبلُه فأَغْلقوا ظَهْرَه لِئَلَّا يُرْكَب وَلَا يُنْتَفَع بظَهْره، لِيُعْرَفَ أَن صاحِبَها مُمْئٍ، وإِغْلاق ظَهْرِه أَن يُنْزَع مِنْهُ سناسِنُ مِنْ فَقْرته ويُعْقر سَنامَه؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَهَذَا يَجُوزُ أَن يكونَ مِنْ العَنَاءِ الَّذِي هُوَ التَّعَب، فَهُوَ بِذَلِكَ مِنَ المُعْتلّ بِالْيَاءِ، وَيَجُوزُ أَن يكونَ مِنَ الحَبْسِ عَنِ التَّصَرُّفِ فَهُوَ عَلَى هَذَا مِنَ المعتَلِّ بِالْوَاوِ؛ وَقَالَ فِي قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:

غَلَبْتُكَ بالمُفَقَّئِ والمُعَنِّي، ***وبَيْتِ المُحْتَبي والخافقاتِ

يَقُولُ: غَلَبْتُك بأَربع قَصَائِدَ مِنْهَا المُفَقِّئُ، وَهُوَ بَيْتُهُ:

فلَسْتَ، وَلَوْ فَقَّأْتَ عَينَك، وَاجِدًا ***أَبًا لكَ، إِن عُدَّ المَساعِي، كَدارِم

قَالَ: وأَراد بالمُعَنِّي قَوْلَهُ تَعَنَّى فِي بَيْتِهِ:

تَعَنَّى يَا جَرِيرُ، لِغَيرِ شيءٍ، ***وَقَدْ ذهَبَ القَصائدُ للرُّواةِ

فَكَيْفَ تَرُدُّ مَا بعُمانَ مِنْهَا، ***وَمَا بِجِبالِ مِصْرَ مُشَهَّراتِ؟

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَمِنْهَا قَوْلُهُ:

فإِنّكَ، إِذ تَسْعَى لتُدْرِكَ دارِمًا، ***لأَنْتَ المُعَنَّى يَا جَرِيرُ، المُكَلَّف

وأَراد بالمُحْتَبي قَوْلَهُ:

بَيْتًا زُرارَةُ مُحْتَبٍ بِفنائه، ***ومُجاشِعٌ وأَبو الفَوارسِ نَهْشَلُ

لَا يَحْتَبي بفِناءِ بَيْتِك مِثْلُهُم ***أَبدًا، إِذا عُدَّ الفعالُ الأَفْضَلُ

وأَراد بِالْخَافِقَاتِ قَوْلُهُ:

وأَيْنَ يُقَضِّي المالِكانِ أُمُورَها ***بِحَقٍّ، وأَينَ الخافِقاتُ اللَّوامِعُ؟

أَخَذْنا بآفاقِ السَّماءِ عَلَيْكُمُ، ***لَنَا قَمَرَاها والنُّجُومُ الطَّوالِعُ

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


220-لسان العرب (عيا)

عيا: عَيَّ بالأَمرِ عِيًّا وعَيِيَ وتَعايا واسْتَعْيا؛ هَذِهِ عَنِ الزجَّاجي، وَهُوَ عَيٌّ وعَيِيٌّ وعَيَّانُ: عَجَزَ عَنْهُ وَلَمْ يُطِقْ إحْكامه.

قَالَ سِيبَوَيْهِ: جَمْعُ العَيِيِّ أَعْيِياءُ وأَعِيَّاءُ، وَالتَّصْحِيحُ مِنْ جِهَةِ أَنه لَيْسَ عَلَى وَزْنِ الفِعْلِ، والإِعْلال لاسْتِثقالِ اجْتِمَاعِ الياءَينِ، وَقَدْ أَعْيَاه الأَمرُ؛ فأَمَّا قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ:

وَمَا ضَرَبٌ بَيْضاءُ، يأْوِي مَلِيكُها ***إِلَى طُنُفٍ أَعْيَا بِراقٍ ونازِلِ

فَإِنَّمَا عَدّى أَعْيَا بِالْبَاءِ لأَنه فِي مَعْنَى برَّح، فكأَنه قَالَ برَّح بِراقٍ ونازِلٍ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عَدَّاه بِالْبَاءِ.

وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَوْمٌ أَعْيَاء وأَعْيِيَاء، قَالَ: وَقَالَ سِيبَوَيْهِ أَخبرنا بِهَذِهِ اللُّغَةِ يُونُسُ، قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَوَابُهُ وَقَوْمٌ أَعِيّاء وأَعْيِيَاء كَمَا ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَقَالَ، يَعْنِي الْجَوْهَرِيَّ، وسَمِعْنا مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ أَعْيِيَاء وأَحْيِيَةٌ فيُبَيِّن؛ قَالَ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ: أَحْيِيَةٌ جَمْعُ حَياء لفَرْج النَّاقَةِ، وَذَكَرَ أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُدْغِمُه فَيَقُولُ أَحِيَّة.

الأَزهري: قَالَ اللَّيْثُ العِيُّ تأْسِيسٌ أَصله مِنْ عَين وياءَيْن وَهُوَ مَصْدَرُ العَيِيِّ، قَالَ: وَفِيهِ لُغَتَانِ رَجُلٌ عَيِيٌّ، بِوَزْنِ فَعِيلٍ؛ وَقَالَ الْعَجَّاجُ: " لَا طائِشٌ قاقٌ وَلَا عَيِيُ "وَرَجُلٌ عَيٌّ: بوَزْنِ فَعْلٍ، وَهُوَ أَكثر مِنْ عَييٍّ، قَالَ: وَيُقَالُ عَيِيَ يَعْيا عَنْ حُجَّته عَيًّا، وعَيَّ يَعْيَا، وكلُّ ذَلِكَ يُقَالُ مِثْلُ حَيِيَ يَحْيَا وحَيَّ؛ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}، قَالَ: والرَّجلُ يَتَكَلَّف عَمَلًا فيَعْيَا بِهِ وعَنه إِذَا لم يَهْتَدِلوجِه عَمَله.

وَحُكِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ قَالَ: يُقَالُ فِي فِعْلِ الْجَمِيعِ مِنْ عَيَّ عَيُّوا؛ وأَنشد لِبَعْضِهِمْ:

يَحِدْنَ بِنَا عَنْ كلِّ حَيٍّ، كأَنَّنا ***أَخاريسُ عَيُّوا بالسَّلامِ وبالنَّسَبْ

وَقَالَ آخَرُ:

مِنَ الَّذِينَ إِذَا قُلْنا حديثَكُمُ ***عَيُّوا، وإنْ نَحْن حَدَّثْناهُمُ شَغِبُوا

قَالَ: وَإِذَا سُكِّن مَا قَبْلَ الْيَاءِ الأُولى لَمْ تُدْغَمْ كَقَوْلِكَ هُوَ يُعْيي ويُحْيي.

قَالَ: وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ أَدغَمَ فِي مثلِ هَذَا؛ وأَنشد لِبَعْضِهِمْ:

فكَأَنَّها بينَ النِّسَاءِ سَبيكةٌ ***تَمْشي بسُدَّة بَيتها، فتُعِيُ

وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ النَّحْوِيُّ: هَذَا غيرُ جائزٍ عِنْدَ حُذَّاق النَّحْوِيِّينَ.

وَذَكَرَ أَنَّ البيتَ الَّذِي اسْتَشْهد بِهِ الْفَرَّاءُ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ؛ قَالَ الأَزهري: وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ أَبو إِسْحَاقَ وكلامُ الْعَرَبِ عَلَيْهِ وأَجمع القُرّاء عَلَى الإِظْهار فِي قَوْلِهِ يُحْيِي وَيُمِيتُ.

وَحُكِيَ عَنْ شِمْرٍ: عَيِيتُ بالأَمر وعَيَيْتُه وأَعْيَا عليَّ ذَلِكَ وأَعْيَانِي.

وَقَالَ اللَّيْثُ: أَعْيَانِي هَذَا الأَمرُ أَن أَضْبِطَه وعَيِيت عَنْهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: عَيِيتُ فُلَانًا أَعْيَاهُ أَي جَهِلْته.

وَفُلَانٌ لَا يَعْيَاه أَحدٌ أَيْ لَا يَجْهَله أحدٌ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنْ لا تَعْيا عَنِ الإِخبارِ عَنْهُ إِذَا سُئِلْتَ جَهْلًا بِهِ؛ قَالَ الرَّاعِي: " يسأَلْنَ عَنْكَ ولا يَعْياك مسؤولُ أَي لَا يَجْهَلُك.

وعَيِيَ فِي المَنْطِق عِيًّا: حَصِرَ.

وأَعْيَا الْمَاشِي: كلَّ.

وأَعْيَا السيرُ البَعيرَ ونحوَه: أَكَلَّه وطَلَّحه.

وإبلٌ مَعَايَا: مُعْيِيَة.

قَالَ سِيبَوَيْهِ: سَأَلْتُ الخليلَ عَنْ مَعايا فَقَالَ: الوَجْه مَعَايٍ، وَهُوَ المُطَّرد، وَكَذَلِكَ قَالَ يُونُسُ، وَإِنَّمَا قَالُوا مَعايا كَمَا قَالُوا مَدارى وصَحارى وَكَانَتْ مَعَ الْيَاءِ أَثقلَ إِذَا كَانَتْ تُستَثقَل وحدَها.

ورجلٌ عَياياءُ: عَيِيٌّ بالأُمور.

وَفِي الدُّعَاءِ: عَيٌّ لَهُ وشَيٌ، والنَّصْبُ جائِزٌ.

والمُعَايَاةُ: أَن تأْتيَ بكلامٍ لَا يٌهتَدى لَهُ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَن تأْتي بشيءٍ لَا يُهْتَدَى لَهُ، وَقَدْ عَايَاهُ وعَيَّاه تَعْيِيَةً.

والأُعْيِيَّةُ: مَا عايَيْتَ بِهِ.

وفَحْلٌ عَيَاءٌ: لَا يَهْتَدي لِلضِّرَابِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَمْ يَضْرِبْ نَاقَةً قطُّ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي لَا يَضْرِبُ، وَالْجَمْعُ أَعْياءٌ، جمَعُوه عَلَى حَذْفِ الزَّائِدِ حَتَّى كأَنهم كسَّروا فَعَلًا كَمَا قَالُوا حياءُ الناقةِ، وَالْجَمْعُ أَحْياءٌ.

وفَحْلٌ عَيَايَاءُ: كعَياءٍ، وَكَذَلِكَ الرجُلُ.

وَفِي حَدِيثِ أُمّ زَرْعٍ: « أَنَّ المرأَة السَّادِسَةَ قَالَتْ زَوْجِي عَيَايَاءُ طَبافاءُ كلُّ داءٍ لَهُ داءٌ »؛ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: العَيَايَاءُ مِنَ الإِبلِ الَّذِي لَا يَضْرِبُ وَلَا يُلْقِحُ، وَكَذَلِكَ هُوَ مِنَ الرِّجَالِ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير فِي تَفْسِيرِهِ: العَيَايَاءُ العِنِّينُ الَّذِي تُعْييهِ مُباضَعَة النِّسَاءِ.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: ورَجلٌ عَيَايَاءُ إِذَا عَيَّ بالأَمْر والمَنْطِقِ؛ وَذَكَرَ الأَزهري فِي تَرْجَمَةِ عَبَا: " كَجَبْهَةِ الشَّيخِ العَباء الثَّطِّ وَفَسَّرَهُ بالعَبام، وَهُوَ الْجَافِي العَيِيُّ، ثُمَّ قَالَ: وَلَمْ أَسْمَع العَباءَ بِمَعْنَى العَبام لِغَيْرِ الليث، قال: وأَما الرَّجَز فَالرِّوَايَةُ عَنْهُ: كَجَبْهَة الشَّيْخِ العَيَاء بِالْيَاءِ.

يُقَالُ: شَيْخٌ عَيَاءٌ وعَيَايَاءُ، وَهُوَ العَبامُ الَّذِي لَا حَاجَةَ لَهُ إِلَى النِّسَاءِ، قَالَ: وَمَنْ قَالَهُ بِالْبَاءِ فَقَدْ صَحَّف.

وداءٌ عَيَاءٌ: لَا يُبْرَأُ مِنْهُ، وَقَدْ أَعْيَاه "الداءُ؛ وَقَوْلُهُ: " وداءٌ قَدْ اعْيَا بالأَطبَّاء ناجِسُ "أَرَادَ أَعْيا الأَطِبَّاءَ فعَدَّاه بالحَرْفِ، إِذْ كَانَتْ أَعْيا فِي مَعْنَى بَرَّحَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ.

الأَزهري: وداءٌ عَيٌّ مثلُ عَياءٍ، وعَيِيٌّ أَجود؛ قال الحرث بْنُ طُفَيل:

وتَنْطِقُ مَنْطِقًا حُلْوًا لَذِيذًا، ***شِفاءَ البَثِّ والسُّقْمِ العَيِيِ

كأَن فَضِيضَ شارِبه بكأْس ***شَمُول، لَوْنُها كالرَّازِقِيِ

جَمِيعًا يُقْطَبانِ بِزَنْجَبيلٍ ***عَلَى فَمِها، مَعَ المِسْكِ الذَّكِيِ

وَحُكِيَ عَنِ اللَّيْثِ: الداءُ العَيَاءُ الَّذِي لَا دَواءَ لَهُ، قَالَ: وَيُقَالُ الداءُ العَيَاءُ الحُمْقُ.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: داءٌ عَيَاءٌ أَي صعبٌ لَا دواءَ لَهُ كأَنه أَعْيا عَلَى الأَطِباء.

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: « فِعْلُهم الداءُ العَيَاءُ »؛ هُوَ الَّذِي أَعْيا الأَطِباء وَلَمْ يَنْجَعْ فِيهِ الدواءُ.

وَحَدِيثُ" الزُّهْري: أَنَّ بَرِيدًا مِنْ بَعْضِ المُلوك جاءَه يَسْأَلُهُ عَنْ رَجُلٍ مَعَهُ مَا مَعَ الْمَرْأَةِ كَيْفَ يُوَرَّث؟ قَالَ: مِنْ حيثُ يخرجُ الماءُ الدافِقُ "؛ فَقَالَ فِي ذَلِكَ قَائِلُهُمْ:

ومُهِمَّةٍ أَعْيا القُضاةَ عَياؤُها ***تَذَرُ الفقيهَ يَشُكُّ شَكَّ الجاهِلِ

عَجَّلْتَ قبلَ حَنِيذها بِشِوَائِها، ***وقَطَعْتَ مَحْرِدَها بحُكْمٍ فاصِلِ

قَالَ ابْنُ الأَثير: أَرادَ أَنك عجلتَ الفَتْوى فِيهَا وَلَمْ تَسْتَأْنِ فِي الْجَوَابِ، فشَبَّهه برجُلٍ نَزلَ بِهِ ضيفٌ فعَجَّل قِراهُ بِمَا قَطعَ لَهُ مِنْ كَبِدِ الذَّبيحة ولَحْمِها وَلَمْ يَحْبِسُه عَلَى الحَنيذِ وَالشِّوَاءِ، وتَعْجيلُ القِرى عِنْدَهُمْ محمودٌ وصاحبُه مَمْدُوحٌ.

وتَعَيَّا بالأَمر: كَتَعَنَّى؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي؛ وأَنشد:

حَتَّى أَزُورَكُم وأَعْلَمَ عِلْمَكُمْ، ***إنَّ التَّعَيِّيَ لِي بأَمرِك مُمْرِضُ

وَبَنُو عَيَاءٍ: حَيٌّ مِنْ جَرْمٍ.

وعَيْعَايَةُ: حَيٌّ مِنْ عَدْوان فِيهِمْ خَساسة.

الأَزهري: بَنُو أَعْيَا يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ أَعْيَوِيٌّ، قَالَ: وَهُمْ حَيٌّ مِنَ الْعَرَبِ.

وعَاعَى بالضأْنِ عَاعَاةً وعِيعَاءً: قَالَ لَهَا عَا، وَرُبَّمَا قَالُوا عَوْ وعَايْ وعاءِ، وعَيْعَى عَيْعَاةً وعِيعَاءً كَذَلِكَ؛ قَالَ الأَزهري: وَهُوَ مِثَالُ حاحَى بالغَنَم حِيحاءً، وَهُوَ زَجْرُها.

وَفِي الْحَدِيثِ شِفاءُ العِيِّ السؤالُ "؛ العِيُّ: الجهلُ، عَيِيَ بِهِ يَعْيا عِيًّا وعَيَّ، بالإِدغام وَالتَّشْدِيدِ، مثلُ عَييَ.

وَمِنْهُ حَدِيثِ الهَدْي: " فأَزْحَفَتْ عَلَيْهِ بِالطَّرِيقِ فعَيَّ بشأْنِها أَي عَجَزَ عَنْهَا وأَشكل عَلَيْهِ أَمرُها.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: العِيُّ خلافُ البيانِ، وَقَدْ عَيَّ فِي مَنْطِقِه.

وَفِي الْمَثَلِ: أَعْيَا مِنْ باقِلٍ.

وَيُقَالُ أَيضًا: عَيَّ بِأَمرِه وعَيِيَ إِذَا لَمْ يَهْتَدِ لوجهِه، والإِدْغامُ أَكثر، وَتَقُولُ فِي الْجَمْعِ: عَيُوا، مخَفَّفًا، كَمَا قُلْنَاهُ فِي حَيُوا، وَيُقَالُ أَيضًا: عَيُّوا، بِالتَّشْدِيدِ، وَقَالَ عَبِيدُ بْنُ الأَبرص:

عَيُّوا بأَمرِهِمُ، كَمَا ***عَيَّتْ ببَيْضتِها الحَمامَهْ

وأَعْيَانِي هُوَ؛ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ حَسَّانٍ مِنْ بَنِي الحَرِث بنِ همَّام:

فإنَّ الكُثْرَ أَعْيَانِي قَديمًا، ***وَلَمْ أُقْتِرْ لَدُنْ أَنّي غُلامُ

يَقُولُ: كُنْتُ مُتَوَسِّطًا لَمْ أَفْتَقر فَقْرًا شَدِيدًا وَلَا "أَمكَنني جمعُ الْمَالِ الْكَثِيرِ، ويُرْوى: أَعْنَانِي أَي أَذَلَّني وأَخْضَعني.

وَحَكَى الأَزهري عَنِ الأَصمعي: عَيِيَ فُلَانٌ، بياءَين، بالأَمر إِذَا عَجَز عَنْهُ، وَلَا يُقَالُ أَعْيا بِهِ.

قَالَ: وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ عَيَّ بِهِ، فيُدْغِمُ.

وَيُقَالُ فِي المَشْي: أَعْيَيْت وأَنا عَيِيّ؛ قَالَ النَّابِغَةِ: " عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بالرَّبْعِ مِنْ أَحد "قَالَ: وَلَا يُنْشَدُ أَعْيَتْ جَوَابًا؛ وأَنشد لِشَاعِرٍ آخَرَ فِي لُغَةِ مَنْ يَقُولُ عَيِيَ:

وَحَتَّى حسِبْناهمْ فوارِسَ كَهْمَسٍ، ***حَيُوا بعد ما ماتُوا مِنَ الدَّهْرِ أَعْصُرَا

وَيُقَالُ: أَعْيَا عليَّ هَذَا الأَمرُ وأَعْياني، وَيُقَالُ: أَعْيَانِي عَيَاؤه؛ قَالَ المرَّارُ: " وأَعْيَتْ أَن تُجِيبَ رُقىً لِرَاقِ "قَالَ: وَيُقَالُ أَعْيَا بِهِ بَعِيرُهُ وأَذَمَّ سواءٌ.

والإِعْيَاءُ: الكَلال؛ يُقَالُ: مَشَيْت فأَعْيَيْت، وأَعْيَا الرجلُ فِي المَشْيِ، فَهُوَ مُعْيٍ؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ:

إِنَّ البَراذِينَ إِذَا جَرَيْنَهْ، ***مَعَ العِتاقِ ساعَةً، أَعْيَينَهْ

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَلَا يُقَالُ عَيَّانٌ.

وأَعْيَا الرجلُ وأَعْيَاهُ اللَّهُ، كِلَاهُمَا بالأَلف.

وأَعْيَا عَلَيْهِ الأَمْرُ وتَعَيَّا وتَعايا بِمَعْنًى.

وأَعْيَا: أَبو بَطْنٍ مِنْ أَسَدٍ، وَهُوَ أَعْيَا أَخو فَقْعسٍ ابْنَا طَريفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الحَرِثِ بْنِ ثَعْلبة بْنِ دُوادانَ بْنِ أَسدٍ؛ قَالَ حُرَيث بنُ عتَّابٍ النَّبْهاني:

تَعالَوْا أُفاخِرْكُمْ أَأَعْيَا، وفَقْعَسٌ ***إِلَى المَجْدِ أَدْنَى أَمْ عَشِيرَةُ حاتِمِ

والنسبَة إِلَيْهِمْ أَعْيَوِيّ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


221-أساس البلاغة (نصح)

نصح

نصحته ونصحت له نصحًا ونصيحة، وأنا لك نصيح، وتنصحت له، وعن أكثم: يا بني إياكم وكثرة التّنصح فإنه يورث التهمة، وناصحته مناصحة. وناصح نفسه في التوبة إذا أخلصها. واستنصحته وانتصحته. قال الكميت:

تركت حل السوء إذ لم يواني *** ولم أنتصح فيه المنيم المهدهدا

وهو الذي ينيم الصبيّ ويناغيه حتى يهدأ. قال النابغة:

فلا عمر الذي أثنى إليه *** وما رفع الحجيج إلى ألال

لما أغفلت شكرك فانتصحني *** وكيف ومن عطائك جلّ مالي

أي فعمر الذي فزاد لا. وانتصح كتاب الله: اقبل نصحه.

ومن المجاز: هو ناصح الجيب. ونصح الغيث البلاد: جادها ووصل نبتها، وأرض منصوحة. ونصحت الإبل الريّ: صدقته. قال يخاطب إبله:

هذا مقامي لك حتى تنصحي *** ريًا وتجتازي بلاد الأبطح

وغيوث نواصح: مترادفة. ونصح الخياط الثوب إذا أنعم خياطته ولم يترك فيه فتقًا ولا خللًا شبّه ذلك بالنصح. وصلّب نصاحك: خيطك. وقميص منصوح وآخر منصاح أي منشق، وبوب متنصّح، وإن في ثوبك لمترقّعا ومتنصّحا: موضع خياطة وترقيع. وسقاني ناصح العسل: ماذيّه، يقال: نصح العسل ونصع، وتوبة نصوح، وقد نصحت توبته نصوحًا.

أساس البلاغة-أبوالقاسم الزمخشري-توفي: 538هـ/1143م


222-أساس البلاغة (نفج)

نفج

الثدي الناهد ينفج الدرع. يرفعه. ورجل وجمل منتفج الجنبين: مرتفعهما. ونفج اليربوع وهو أرخى عدوه. وأنفج الصيد: أثاره من مجثمه. ونفجت الفرّوجة: خرجت من بيضتها.

ونفجت الريح: جاءت بقوة، وريح نافجة، ورياح نوافج. قال ذو الرمة:

يرقد في ظل عرّاص ويطرده *** حفيف نافجة عثنونها حصب

ومن المجاز: فلان نفّاج، وفيه نفج، وسمعت من يقول: فيه نفاجة، وقد نفج ينفج. وكانوا يقولون: هنيئًا لك النافجة وهي البنت لأنه كان يأخذ مهرها فينفج ماله أي يوسّعه ويعظّمه، ومنه: النّفّاجة: للبنة القميص لأنها توسّعه. وأنشد الجاحظ:

وليس تلادي من وراثة والدي *** ولا شان مالي مستفاد النوافج

يعني أن أباه كان جوادًا لم يدّخر ما يورث.

أساس البلاغة-أبوالقاسم الزمخشري-توفي: 538هـ/1143م


223-صحاح العربية (رحب)

[رحب] الرُحْبُ بالضم: السَعَةُ.

تقول منه: فُلانٌ رُحْبُ الصَدْرِ.

والرَحْبُ، بالفتح: الواسِعُ، تقول منه بلدٌ رَحْبٌ وأرضٌ رَحْبَةٌ، وقد رَحُبَتْ بالضم تَرْحُبُ رُحْبًا ورَحابَةً.

وقولهم: مرحبًا وأهلًا، أي أَتَيْتَ سَعَةٌ وأَتَيْتَ أهلًا فاستأنِسْ ولا تستوحِشْ.

وقد رَحَّبَ به ترحيبًا، إذا قال له مرحَبًا.

وقول الشاعر: وكيف تُواصِلُ من أَصْبَحَتْ *** خَلالَتُهُ كَأَبي مَرْحَبِ يعني به الظِلَّ.

وقِدْرٌ رُحابٌ، أي واسعةٌ.

والرُحْبي: أَعْرَضُ الأضلاعِ.

وإنما يكون الناحز في الرُحبَيَين وهما مَرجِع المرفقين.

وهو أيضًا سِمَة في جنب البعير.

والرَحيبُ: الأكولُ.

وفلان رحيبُ الصَدرِ، أي واسعُ الصدرِ.

ورحائبُ التُخومِ: سَعَةُ أقطارِ الأرضِ.

ورَحُبَتِ الدارُ وأَرْحَبَتْ بمعنىً، أي اتَّسَعَتْ.

قال الخليل: قال نصر بن سيار: " أرحبكم الدخول

في طاعة الكرماني " أي أوسعكم.

قال: وهى شاذة، ولم يجئ في الصحيح فعل بضم العين متعديا غيره.

وأما المعتل فقد اختلفوا فيه.

قال الكسائي: أصل قلته قولته.

وقال سيبويه: لا يجوز ذلك لانه يتعدى.

وليس كذلك طلته، ألا ترى أنك تقول طويل.

وأرحبت الشئ: وسعته.

قال الحجاج حين قتل ابن القِرِّيَّة: " أَرْحِبْ يا غُلامُ جُرْحَهُ ".

ويقال أيضًا في زجر الفرس: أرحب وأرحبى، أي توسعى وتباعدي.

قال الشاعر:

نعلمها هبى وهلا وأرحب *** ورحبة المسجد، بالتحريك: ساحَتُهُ، والجمع رَحَبٌ ورَحَباتٌ ورحاب.

وبنو رحب أيضا: بطن من همدان.

وأرحب: قبيلة من همدان.

قال الكميت: يقولون لم يورث ولولا تراثه *** لقد شركت فيه بكيل وأرحب وتنسب إليها الارحبيات من الابل.

صحاح العربية-أبونصر الجوهري-توفي: 393هـ/1003م


224-المحيط في اللغة (حقو)

الحَقْوَانِ: الخاصِرَتانِ، والجَميعُ: الأحْقاءُ، والعَدَدُ: أحْقٍ، وعُذْتُ بِحَقْوِ فلانٍ: إذا عاذَ به ليَمْنَعَه.

وحَقْوا الثَّنِيَّةِ في الجَبَلِ: مَخْرِماها.

ورَمى فلانٌ حَقْوَه: أي ازارَه.

والحَقْوَةُ: داءٌ يأخُذُ في البَطْنِ يُوْرِثُ نَفْخَةً في الحَقْوَيِنِ، حُقِيَ الرَّجُلُ فهو مَحْقُوٌّ.

والحِقَاءُ: شِبْهُ كِسَاءٍ يُدْخَلُ بين حَقْوَيِ البَعيرِ ثُمَّ يُشَدُّ به وَسطُ الرَّحْلِ، وجَمْعُه: أحْقِيَةٌ.

وهو أيضًا: الحِزَامُ الذي يكونُ عند الثِّيْلِ.

وحَقْوُ السَّهْمِ: مُسْتَدَقُّه من مُؤخَّرِه ممّا يَلي الرِّيْشَ.

وما أَشْرَفَ من الأرْضِ: الحَقْوُ، وجَمْعُه: حِقَاءٌ.

المحيط في اللغة-الصاحب بن عباد-توفي: 385هـ/995م


225-المحيط في اللغة (ملق)

المَلَقُ: الوُدُّ واللَّطَفُ الشَّدِيدُ.

والدُّعاءُ والتَّضَرُّعُ.

وهو مَلاقٌ مُتمَلِّقٌ.

والإِمْلاقُ: الإِنْفَاقُ للمال حتّى يُوْرِثَ الفَقْرَ، أمْلَقَ الرَّجُلُ: أخْفَقَ.

والمَلْقُ: السيْرُ الرَّفِيقُ.

والمَيْلَقُ: السَّرِيْعُ.

وهو يملق الأرْضَ بحَوافره: أي يضْربُ.

وأمْلَقُ من الأرْض: مِثْلُ أمْلَسَ.

ومَلِقَ الجَدْيُ أمَّه: رَضَعَها.

وامْتَلَقَها ومَلَقَها: جامَعَها.

وفَرَسٌ مَمْلُوقُ الذَّكَرِ: حَدِيثُ العَهْدِ بالنِّزَاء.

وامْتَلَقَ الفَرَسُ قَضِيْبَه من الحَيَاءِ: أخْرَجَه.

ومَلَقَه بالعَصا: ضَرَبَه بها، وبلسانِه - أيضًا -: مِثْلُ سَلَقَه.

وأمْلَقَتِ الفَرَسُ: مِثْلُ أزْلَقَت، والوَلَدُ مَلِيْقٌ.

ومَلِقَ الخاتَمُ: مَرجَ.

والمَلَقَةُ: الصَّفَاةُ المَلْسَاءُ.

وتَمْلِيْقُ الأرض: تَمْلِيْسُها بالمِمْلَقَةِ بَعْدَ البَذْرِ.

والمالَقُ: خَشَبَةُ الفَدّانِ.

ومالَجُ الطَّيّانِ والمَلَقُ: ما اسْتَوى من الأرض.

وأمْلَقْتُ الثَّوْبَ: غَسَلْته.

والتِّمْلاَقُ: التَّمَلُّقُ.

المحيط في اللغة-الصاحب بن عباد-توفي: 385هـ/995م


226-المحيط في اللغة (ورث)

ورث: المِيْرَاثُ: ما يُوْرَثُ، وَرِثَ يَرِثُ، ووَرَّثَه وأوْرَثَه.

وأوْرَثْتُه هَمًّا.

والإِرْثُ: أصْلُه وِرْثٌ.

والتُّرَاثُ تاؤه واوٌ: تَرِكَةُ المِيْرَاثِ، ولا يُجْمَعُ كجَمْعِ المَوَارِيْثِ.

وفي الدُّعَاءِ: (اللَّهُمَّ أمْتِعْني بسَمْعي وبَصَرِي واجْعَلْهُما الوارِثَ مِنّي)، أرَادَ: أَبْقِهما مَعي حَتّى أموتَ.

والمُوْرِثُ: المُبْقِي، والوارِثُ: الباقي.

ووَرِثَ: يكونُ لازِمًا ومُتَعدِّيًا.

وفلانٌ في إرْثِ مَجْدٍ.

والوَرْثُ: الطَّرِيُّ من الأشْيَاء.

ووَرْثَانُ: اسْمُ مَوْضِعٍ.

المحيط في اللغة-الصاحب بن عباد-توفي: 385هـ/995م


227-تهذيب اللغة (حشم)

حشم: الليث: الحَشَم.

خَدَم الرجل.

وقال غيره: حَشَمُ الرجل.

مَنْ يغضب له إذا أصابه أمر.

وقال ابن السِّكِّيت: حَشَمتُ الرجلَ أَحْشِمه حَشْمًا إذا أَغْضَبْته، قال ذلك الفراء وغيره، وأنشد في ذلك:

لعَمرُك إنَّ قُرْصَ أبي خُبَيْبٍ *** بطيءُ النُّضْج محشوم الأكيل

أي: مُغضَب.

قال: وحَشَمُ الرجل: قَرَابته وعياله ومَنْ يغضب له.

وقال الليث: الحِشْمة: الانقباض عن أخيك في المَطعم وطلب الحاجة.

تقول: احْتَشَمْتَ، وما الذي أحشمك ويقال حَشَمك.

وقال الليث: الحُشوم: الإقبال بعد الهزال يقال: حشَم يحشِم حُشومًا، ورجل حاشم وقد حَشَمت الدَّوابُّ في أول الربيع، وذلك إذا أصابت منه شيئًا فَحَسُنت بطونها وعَظُمت.

وقال يونس: تقول العرب: الحُسوم يورث الحُشوم، قال: والحسوم: الدُّؤوب، والحُشوم: الإعياء.

وقال في قول مُزاحِم:

فعنَّت عُنونًا وهي صغْواءٌ ما بها *** ولا بالخوافي الضاربات حشُوم

أي: إعياء، وقد حُشِم حَشما.

وقال الأصمعي: في يديه حُشوم أي انقباض، وروى الليث:

* ولا بالخوافي الخافقات حُشُوم *

وقال اللِّحياني: الحُشْمة بالضَّم: القرابة يقال: لي فيهم حُشْمة أي قَرابة.

وهؤلاء أحشامي أي جيراني وأضيافي.

وقال أبو عمرو: قال بعض العرب: إنه لمُحْتَشِم بأمري أي مهتم به.

قال: وأحشمتُ الرجلَ: أغضبتُه.

والاحتِشام.

التَغَضُّب.

شمر: وقال يونس: له الحُشمة: الذِّمام وهي الحُشْم، قال: وبعضهم يقول: الحُشْمة والحَشَم.

وإني لأتحشَّم منه تحشُّمًا أي أتذمم وأستحي، قال: وحَشَمت فلانًا وأحْشمته أي أغضبته.

أبو عُبَيد عن الكسائي: حَشَمت الرجلَ وأحشمته وهو يجلس إليك فتُؤذيه وتُسْمِعُه ما يكره.

ثعلب عن ابن الأعرابي: الحُشُم.

ذوو الحياء التام، والْحُسُم بالسين: الأطبّاء.

عمرو عن أبيه قال: الحُشُم: المماليك، والحُشُم: الأتباع، مماليك كانوا أو أحرارًا.

والحَشَم.

الاستحياء.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


228-تهذيب اللغة (نصح)

نصح: قال الليث: فلانٌ ناصِحُ الجَيْبِ معناه ناصِحُ القلبِ ليس فيه غِشٌّ.

قال: ويقال: نَصَحْتُ فلانًا ونَصَحْتُ له نُصْحًا ونَصِيحةً، وإنّ فلانًا لَنَاصِحُ الجيْب، مثل قولهم: طاهر الثياب.

يريدون به ناصح الصدر.

وقال الليث: النِّصاحَةُ: السُّلُوكُ التي يُخَاطُ بهَا، وتصغيرها نُصَيِّحَةٌ، وقميص منصوح أي مَخِيط.

أبو عُبَيد عن أبي عَمرو قال: النِّصَاحات الجُلُودُ، وقال فيه الأعْشى:

فَتَرَى القومَ نَشَاوَى كُلَّهُم *** مِثْلَما مُدَّتْ نِصَاحَاتُ الرُّبَحْ

والرُّبَحُ، قال بعضهم: أراد به الرُّبَع.

وقال المؤرّج: النِّصَاحَاتُ: حِبَال يُجْعَل لها حَلَق وتنصب للقُرُودِ إذا أرادوا صيدها، يَعْمِد رجل فيجعل عِدَّةَ حِبَالٍ، ثم يأخذ قِرْدًا فيجعله في حبل منها، والقرود تنظر إليه من فوق الجبل، ثم يَتَنَحّى الحابِلُ فتنزل القرودُ فتدخل في تلك الحبال، وهو ينظر إليها من حيث لا تراه، ثم ينزل إليها فيأخذ ما نشب في الحبال، وهو قول الأعشى:

* مِثْلَما مُدَّت نِصَاحَاتُ الرُّبَحْ*

قالت: والرُّبَحُ: القُرُودُ، وأَصْلُه الرُّباحُ.

أبو عُبَيد عن الأصمعي وأبي زيد: نصَحْتُ القيمصَ أَنْصَحُه نَصْحًا إذا خِطْتَه، قال: والنِّصَاحُ: الخَيْطُ، وبه سُمِّي الرَّجُلُ نِصَاحًا.

وقال أبو عَمْرو: المُتَنَصَّحُ: المُخَيَّطُ وقال ابن مقبل:

* غَدَاةَ الشَّمال الشُّمْرُخُ المُتَنَصَّحُ *

وروى عن أكثم بن صَيْفي أنه قال: «إياكم وكثرة التنصح فإنه يُورِثُ التُّهمَة.

وقال الفَرَّاءُ في قول الله جلّ وعزّ: {تَوْبَةً نَصُوحًا} [التّحْريم: 8] قرأها أَهْلُ المدينة بفتح النون.

وذكر عن عاصم (نُصُوحًا) بضم النون.

قال الفرَّاء: وكان الذين قرأوا (نُصُوحًا) أرادوا المصدر مثل القُعود، والذين قرأوا (نَصُوحًا) جعلوه من صفة التوبة، والمعنى أن يُحَدِّثَ نفسه إذا تاب من ذلك الذنب ألَّا يعود إليه أبدًا.

وسُئِل أبو عمرو عن نُصوحًا فقال: لا أعرفه.

قال الفرّاء: قال المُفَضَّل: بات عَذُوبًا

وعُذوبًا، وعَرُوسًا وعُرُوسًا.

وقال أبو إسحاق: تَوْبَةٌ نَصُوحٌ: بالِغَةٌ في النُّصْح.

قال: ومن قرأ نُصُوحًا فمعناه يَنْصَحُون فيها نُصُوحًا.

وقال غيره: النَّاصِحُ: الخالِصُ، وقال الهُذَلِيُّ:

فأَزَالَ نَاصِحَها بأَبْيض مُفْرَطٍ *** من ماء أَلْخَابٍ عليه التَّأْلَبُ

يصف رجلا مَزَجَ عسلا صافيًا بماء حتى تَفَرَّقَ فيه.

وقال أبو زيد: نَصَحْتُه أي صَدَقْتُه، وتَوْبَةٌ نَصُوحٌ: صادِقَةٌ.

وقال أبو عمرو: النَّاصِحُ: النَّاصِعُ في بيت ساعدة الهُذَلِيّ، حكاه أبو تُرَاب، قال: وقال النَّضْرُ: أراد أنَّه فرّق بين خالصها ورديئها بأبيض مُفْرَط أي بماء غدير مَمْلُوء.

أبو عُبَيد عن الأصْمَعي: إذا شَرِبَ حتى يَرْوَى قال: نَصَحْتُ الرِّيّ بالصاد وبَضَعْتُ ونَقَعْتُ مثله.

ويقال: إن في ثوبك مُتَنَصَّحًا أي مَوضعَ خِياطة وإصلاح، كما يقال: إن فيه مُتَرَقَّعًا.

وقال النَّضر: نَصَح الغيْثُ البلاد نَصْحًا إذا اتصل نَبْتُها فلم يكن فيه فضاءٌ ولا خَلَلٌ، وقال غيره: نَصَح الغيثُ البلادَ ونصَرَها بمعنى واحد.

وقال أبو زيد: الأرضُ المنصوحةُ هي المَجُودَةُ نُصِحت نَصحًا.

ثعلب عن ابن الأعرابي: يقال للإِبْرَة: المنْصَحَة فإذا غَلُظَت فهي الشَّغِيزَةُ.

ويقال: انْتَصَحْتُ فلانًا وهو ضد اغْتَشَشْته ومنه قوله:

ألا رُبّ من تَغْتَشُّه لك ناصحٌ *** ومُنتَصِحٍ بادٍ عليك غَوائلُهْ

تَغْتَشُّه: تعُدُّه غاشًّا لك، وتَنْتَصِحُه: تعدُّه ناصحًا لك.

ويقال: نصَحْتُ فلانًا نصْحًا، وقد نصَحْتُ له نصيحتي نُصوحًا أي أَخْلَصتُ وصَدَقْتُ.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


229-تهذيب اللغة (حبس)

حبس: قال الليث: الحبْسُ والمَحْبِسُ: موضعان للمَحبوسِ.

قال: والمَحْبِسُ يكون سِجْنًا ويكون فعلًا كالحَبْسِ.

قلت: المَحبَسُ: مصدر، والمحبِسُ: اسم للموضع.

قال الليث: والحَبِيسُ: الفرسُ يُجْعَلُ حَبِيسًا في الله سبيل يُغْزَى عَلَيْه.

قلت: والحُبُسُ جمع الحَبِيس، يقع على كل شيء وقفَه صاحبِه وقفا مُحَرَّمًا لا يُورَثُ ولا يُباع من أرض ونخل وكَرْم ومُسْتَغَلّ يُحَبَّسُ أصلُه وقفًا مُؤبّدًا وتُسَبَّلُ ثَمَرَتُه تَقَرُّبا إلى الله كما قال النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم لعُمَر في نَخْلٍ له أراد أن يتقرّب بصدقته إلى الله جلّ وعزّ، فقال له: «حَبِّس الأصلَ وسَبِّل الثّمَرَة»، ومعنى تَحْبِيسه: ألّا يُورَثَ ولا يُبَاعَ ولا يُوهَبَ، ولكن يُترَكُ أصلُه ويُجْعَلُ ثمرُه في سُبُل الخير.

وأما ما رُوِي عن شُرَيْح أنه قال: جاء محمد صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم بإطلاق الحُبُسِ، فإنما أراد بها الحُبُسَ التي كان أهل الجاهلية يَحْبِسُونها من السوائب والبَحَائِر والحام وما أشبهها، فنزل القرآن بإحْلال ما كانوا يُحرِّمون منها وإطلاق ما حَبَّسُوا بغير أمر الله منها.

وأما الحُبُس التي وردت السُّنَنُ بتَحْبِيس أصلها وتَسْبِيل ثَمَرِها فهي جاريَة على ما سَنَّها المصطفى عليه‌السلام، وعلى ما أُمِرَ به عُمَرُ فيها.

وقال الليث: الحِبَاسُ: شيءٌ يُحْبَسُ به الماء نحو الحِبَاس في المَزْرَفَةِ يُحْبَس به فُضُولُ الماءِ.

والحُباسَةُ في كلام العجم: المَزْرَفَةُ: وهي الحُباسَات في الأرض قد أحاطت بالدّبْرَة: وهي المَشَارَةُ يحْبَس فيها الماءُ حتى تمتلىء ثم يُساقُ الماءُ إلى غيرها.

قال: وتقول: حَبَّسْتُ الفرَاش بالمِحْبَس، وهي المِقْرَمَةُ التي تُبَسط على وجه الفراش للنوم.

وتقول: احتسبتُ الشَيْءَ إذا اخْتَصَصْتَه لنفسك خاصة.

وفي «النوادر»: يقال: جعلني فلانٌ رَبِيطَةً لكذا وحَبِيسَةً أي يَذْهَبُ فيفعل الشيء وأُوخَذُ به.

وقال المُبَرّد في باب عِلَلِ اللسان: الحُبْسَةُ: تَعَذُّر الكلام عند إرادته، والغُقْلَةُ: التواء اللسان عند إرادة الكلام.

أبو عُبَيد عن أبي عمرو: الحِبْسُ مثل المَصْنَعة وجمعه أَحْبَاسٌ يُجْعَل للماء، والحِبْسُ: الماء المُسْتَنْقِع.

وقال غيره: الحِبْسُ: حِجارَةٌ تُبْنَى في مَجْرى الماء لتَحْبِسَه للشَّارِبَة، فيُسمّى الماءُ حِبْسًا كما يقال نِهْيٌ.

ثعلب عن ابن الأعرابي قال: يكون الجبل خَوْعًا أي أبيض، وتكون فيه بُقْعَةٌ سوداء، ويكون الجبل حَبْسًا أي أسود، وتكون فيه بقعة بيضاء.

قال: والحَبْسُ: الشَّجَاعةُ.

والحِبْس بالكَسْرِ: حِجَارَةٌ تكون في فُوَّهَةِ النَّهْر تَمْنَعُ طُغْيَان الماءِ.

والحِبْسُ: نِطاقُ الهَوْدَج.

والحِبْسُ: المِقْرَمَةُ.

والحِبْسُ: سِوَار من فِضَّة يُجْعَل في وسط القِرام، وهو سِتْرٌ يُجْمَعُ به ليضيءَ البيت.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


230-تهذيب اللغة (حسم)

حسم: قال الليث: الحَسْم: أن تَحْسِم عرقا فتكويه بالنار كيلا يَسِيلَ دمه.

والحَسْم: المَنْع.

قال: والمَحْسوم الذي حُسم رَضَاعه وغِذَاؤه.

تقول حَسَمَتْه الرَّضَاعَ أمُّه تَحسِمه حَسْمًا.

وتقول: أنا أَحْسِم على فلان الأمر أي أقطعه عليه حتى لا يَظْفَر منه بِشَيْء.

أبو عُبَيد عن الأصمعي: الحُسامُ: السيف القاطع، وقال الكِسائي: حُسَام السَّيْف: طَرَفه الذي يضرب به.

وقال الفراء في قوله تعالى: {وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحَاقَّة: 7] الحُسُوم: التِّبَاع إذا تَتَابع الشيء فلم ينقطع أوَّلُه عن آخره.

قيل فيه حُسومٌ.

قال وإنما أُخِذَ من حَسْم الدَّاء إذا كُوِيَ صاحِبُه: لأنه يُحْمَى يُكْوى بالمِكواة ثم يُتابع ذلك عليه.

وقال الزَّجَّاج: الذي تُوجِبُه اللُّغة في معنى قوله: حُسُومًا أي تَحْسِمهم حسومًا أي تُذْهِبهم وتُفْنِيهم.

قلت: وهذا كقوله جَلّ وعَزَّ: {فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنعَام: 45].

وقال يونس: تقول العرب: الحُسُوم يُورِث الحُشُوم.

وقال: الحُسُوم.

الدُّءوبُ.

قال: والحُشوم.

الإعياء، روى ذلك شمِر ليونس.

وقال الليث: الحُسُوم.

الشُّؤْم.

يقال.

هذه ليالي الحُسُوم تَحْسِم الخَيْرَ عن أهْلِها.

كما حُسِمَ عن عاد في قول الله: {وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحَاقَّة: 7] أي شُؤْمًا عليهم ونَحسًا.

وذو حُسُم: موضع.

قال: والْحَيْسُمَانُ اسم رجل من خُزَاعَة.

ومنه قول الشاعر:

* وعَرَّد عَنَّا الْحَيْسُمَان بن حابس*

وقال غيره: الحَسْمُ: القطع.

وفي الحديث: «عليكم بالصَّوْم فإنه مَحْسَمة * أي مَجْفَرَةٌ مَقْطَعَةٌ لِلبَاءَةِ.

ابن هانىء عن ابن كُثْوَة: قال من أمثالهم «وَلْغُ جُرَيٍّ كان محسومًا» يقال عند استكثار الحريص من الشيء لم يكن يَقْدِر عليه فقَدَر عليه أو عند أمره بالاستكثار حين قَدَر.

والمَحْسومُ: السّيِءُ الغِذاء.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


231-تهذيب اللغة (بحر)

بحر: أبو العباس عن ابن الأعرابي: أبْحَرَ الرجلُ إذا أخذه السُّلُّ.

وأبْحَرَ الرجلُ إذا اشتدَّتْ حُمْرَةُ أَنْفِه.

وأَبْحَرَ إذا صادفَ إنسانًا على غير اعتماد وقصد لرؤيته.

وهو من قولهم لقيته صَحْرة بَحْرَةً وقال اللَّيثُ: سُمِّي البحرُ بَحْرًا لاستبْحاره، وهو انْبِسَاطُه وسَعَتُه.

ويقال استبْحَرَ فلانٌ في العلم.

وتَبَحَّرَ الراعي في رَعْي كثيرٍ، وتَبَحَّر فلانٌ في العلم، وتبحّر في المال، إذا كثُرَ مَالُه، وقال غيره: سمي البَحْرُ بَحْرًا لأنه شَقَّ في الأرض شَقًّا، وجَعَلَ ذلك الشَّقٌّ لمائه قَرارًا، والبحرُ في كلام العرب الشَّقَ، ومنه قيل للنَّاقَةِ التي كانوا يَشُقّون في أذنها شَقًّا: بَحِيرَةٌ.

وقال أبو إسحاق النحوي في قول الله جلّ وعزّ: {ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ} [المَائدة: 103] أثْبَتُ ما رَوَيْنا عن أهل اللغة في البَحِيرَةِ أنها النّاقة كانت إذا نُتِجَتْ خمسةَ أَبْطُنٍ فكان آخرُها ذكرًا بَحَرُوا أُذُنَها أي شقوها، وأعْفَوْا ظهرَها من الرُّكوب والحَمْلِ والذَّبْح ولا تُحَلأُ عَنْ مَاءٍ تَرِدُه

ولا تُمْنَع من مَرْعى، وإذا لقيها المُعْيِى المنقطَعُ بِه لم يركبْها.

وجاء في الحديث أن أول من بَحَّرَ البحائر وحَمَى الحَامِي وغيَّر دينَ إسماعيل عمرو بن لُحَيّ بن قَمَعَة بن خِنْدِفٍ.

وقيل: البحيرةُ الشاة إذا وَلَدتْ خمسةَ أَبْطُن فكان آخرُها ذكرًا بحروا أُذنها أي شقُّوها وتُركت فلا يَمَسُّها أحد.

قلت: والقولُ هو الأوَّل لما جاء في حديث أبي الأحوص الجشميّ عن أبيه أن النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم قال له «أَرَبُّ إبِلٍ أَنْتَ أَمْ رَبُّ غَنَمٍ؟ فقال: منْ كُلٍّ قد آتاني الله فأَكثَرَ.

فقال له: هل تُنْتَجُ إبِلُك وافيةً أَذُنُها فَتَشُقّ فيها وتقول بُحُر؟» يريد جمعَ البَحِيرة.

وقال الليث: البحيرةُ: الناقةُ إذا نُتِجَتْ عَشْرَةَ أَبْطُنٍ لم تُرْكَبْ ولم يُنْتَفع بظهرها فَنَهى الله عَنْ ذلك.

قلت والقولُ هو الأول فقال الفرَّاء: البحيرَةُ: هي ابْنَةُ السائِبة، وسنفسر السائِبة في موضعها.

وقال اللَّيْثُ: إذا كان البحرُ صغيرًا قيل له بُحَيْرَةٌ.

قال وأما البُحَيْرةُ التي بالطَبريَّة فإنها بحر عظيم وهو نحوٌ من عَشْرَةِ أَمْيالٍ في ستة أميال، وغُؤُور مائِها علامةٌ لخروج الدَّجَّال.

قلتُ: والعربُ تقول: لِكلِّ قرية هذه بَحْرَتُنا وروى أبو عبيد عن الأُمَويّ أنه قال: البَحْرَةُ الأرْضُ والبلدةُ.

قال: ويقال: هذه بَحْرَتُنَا.

قال: والماءُ البَحْرُ هو المِلْح، وقد أبحر الماء إذا صار مِلْحًا وقال نُصَيْبٌ:

وقد عَادَ ماءُ الأرْض بَحْرًا فَزَادَنِي *** إلى مرضي أن أَبْحَرَ المَشْرَبُ العَذْبُ

وحدّثنا محمد بن إسحاق السعديُّ قال حدّثنا الرّمادي قال حدّثنا عبد الرزاق عن مَعْمَر عن الزُّهري عن عُرْوَة أن أُسَامَةَ بن زيد أخبره «أن النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم رَكِب حِمَارًا عَلَى إكافٍ وتَحْتَهُ قطيفَةٌ فَرَكِبَه وأَرْدَف أُسامة ـ وهو يَعُود سَعْدَ بنَ عُبَادة ـ وذلك قَبْل وقْعة بدر فلما غشيت المجْلِسَ عجاجَةُ الدّابَّة خمَّر عبدُ الله بنُ أُبَيٍّ أنْفَه، ثم قال لا تُغَبِّرُوا عليْنَا، ثم نزل النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم فوقف وَدَعاهم إلى الله وقَرَأَ القرآنَ فقال له عبد الله: أيها المرء إن كان ما تقول حَقًّا فلا تؤذِنا في مَجْلِسنا، وارْجِعْ إلى أهلِكَ فمن جاءك منّا فقُصَّ عليه.

ثمَّ ركب دَابّته حتى دخَلَ على سعدِ بن عُبَادةَ، فقال: أَيْ سَعْدُ، ألم تسمع ما قال أبو حُبَاب؟ قال كذا: فقال سعد: اعْفُ عَنْه واصْفَحْ فوالله لَقَدْ أعطاك الله الذي أعطاك، ولقد اصْطَلَحَ أهل هذه البُحَيْرَةِ على أن يُتَوِّجُوه، يعني يُمَلِّكُوه فَيُعَصِّبوه بالعِصابة، فلمَّا رَدّ الله ذلك بالحقِّ الذي أعْطَاكَهُ شَرِقَ لذلك فذلك فعل به ما رأيت فعفا عنه النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم».

وقال الفراء في قول الله جلّ وعزّ {ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الرُّوم: 41] الآية معناه: أَجْدَبَ البَرُّ، وانْقَطَعت مادّةُ البَحْرِ بذنوبهم، كان ذلك ليذُوقوا الشِّدَّةَ بذُنُوبهم في العاجل.

وقال الزَّجّاج معناه: ظَهَرَ الجَدْبُ في البَرِّ، والقحطُ في مُدُن البحر التي على الأنهار.

قال: وكل نَهر ذِي ماءٍ فهو بَحرٌ.

قلت: كل نهر لا يَنْقَطِعُ ماؤه: مثل دِجْلة

والنّيلِ وما أشبههما من الأنهارِ العذْبة الكبارِ فهي بحارٌ.

وأما البحرُ الكبير الذي هو مَغِيضُ هذه الأنهار الكبارِ فلا يكون ماؤه إلا مِلْحًا أُجَاجًا، ولا يكون ماؤه إلا رَاكِدًا، وأما هذه الأنهارُ العذْبَةُ فماؤها جارٍ.

وسميت هذه الأنهارُ بحارًا لأنها مَشْقُوقَةٌ في الأرض شَقًّا.

ويقال للرَّوْضَةِ بَحْرَةٌ وقد أبْحَرَتِ الأرضُ إذا كثُر مناقع الماء فيها.

وقال شمر: البَحْرَةُ الأُوقَةُ يَسْتنقِع فيها الماءُ.

وروى أبو العباس عن ابن الأعرابي أنه قال: البَحْرَةُ: المنخفض من الأرض وأنشد شمر لابن مقبل:

فيه من الأخرج المرباع قرقرة *** هدر الديافيّ وسط الهجمة البُحُر

قال: البُحْر الغِزَارُ والأَخْرَجُ المِرْبَاعُ المكَّاءُ.

ابن السكيت أَبْحَر الرجلُ إذا ركب البحرَ والماءَ، وقد أبرَّ إذا ركب البرَّ، وأرْيَفَ إذا صار إلى الرِّيف.

وقال الليث: رَجُلٌ بَحْرَانِيٌ منسوب إلى البَحْرَيْنِ.

قال وهو مَوْضِعٌ بين البصرة وعُمَانَ.

قال: ويقولون هذه البَحْريْنُ وانتهينا إلى البحرين.

وقال أبو عبيد قال أبو محمد اليزيدي سألني المهْدِيُّ وسأل الكسائي عن النسبة إلى البحرين وإلى الْحِصْنَيْن، لِمَ قالوا حِصْنِيٌّ وبَحْرَانِيٌ؟

فقال الكسائي: كرهوا أن يقولوا حِصْنَانِي لاجتماع النونين، قال وقلت أنا: كرهوا أن يقولوا بَحْرِيُ فيشبه النسبة إلى البَحْرِ.

قلت أنَا وإِنمَا ثَنَّوْا البحرين لأنَّ في ناحية قُراها بُحَيْرَةً على باب الأحساء، وقرى هَجَرَ بينها وبين البحر الأخْضَرِ عَشْرَةُ فَرَاسخ، وقَدَّرْتُ البُحَيْرَة ثلاثةَ أميالٍ في مثلها، ولا يَغِيضُ ماؤها، وماؤها راكد زُعاق.

وقد ذكرها الفرزدقُ فقال:

كأنّ ديارًا بين أَسْنُمَة النَّقا *** وبين هَذَا لِيل البُحَيْرَة مُصْحَفُ

وقال الليث: بنات بحرٍ ضرب من السَّحَاب.

قلت: وهذا تصحيف منكر والصواب بَنَات بَخْرِ قال أبو عبيد عن الأصمعي: يقال لسَحَائِبَ يأتينَ قُبُلَ الصيفِ مُنْتَصباتٍ بَنَاتُ بَخْر وَبَناتُ مَخْر بالباء والميم، وَنحو ذلك قال اللحيانيّ وغيره، وإياها أراد طرفَةُ بقوله:

كبنات المَخرِ يَمْأَدْن إذا *** أَنْبَت الصَّيْف عَسَاليجَ الْخَضِر

وقال الليث: الباحر الأحمقُ الذي إذا كُلِّمَ بَحِرِ كالمبْهوت، وروى أبو عبيد عن الفرّاء أنه قال: الباحرُ الأحمق.

وقال ابن الأعرابيّ الباحرُ الفُضُوليّ، والباحرُ الكذّاب، والباحرُ الأحْمَرُ الشديد الحُمْرَة، يقال أحْمَرُ باحِرِيُ وبَحْرَانِيّ.

وقال ابنُ السكيت

قال ابن الأعرابيّ: أحمرُ قانِىءٌ وأحمرُ باحِرِيّ وذَرِيحيٌّ بمعنى واحد.

وسئل ابنُ عباس عن المرأة تُسْتَحَاض ويستمرُّ بها الدم، فقال تُصَلِّي وتتوضَّأ لكل صلاة فإذا رأَتِ الدَّم البَحْرَانِيَ قعدت عن الصلاة.

وقيل الدَّمُ البحرانيُ منسوب إلى قَعْر الرَّحِمِ وعُمْقِها.

وقال العجاج:

وِرْدٌ من الجوف وبَحْرَانِيّ

أي: عبيط خالص.

ويقال دَمٌ بَاحِرِيٌ أيضًا إذا كان شديدَ الحُمْرَة.

شمر يقال بَحِرَ الرجلُ إذا رأى البحر فَفَرِقَ حتى دُهِش، وكذلك بَرِقَ إذا رأى سَنَا البرق فتحير وَبقِر إذا رأى البقر الكثير ومثله خَرِق وعقر وفَرِي.

عمرو عن أبيه: قال البحير والبَحِرُ: الذي به السُّل، والسَّحيرُ: الذي قد انقطعت رِئَتُه ويقال سَحِرٌ.

وتاجر بَحْرِيٌ أي حَضَرِيّ وأنشد أبو العميثل:

كأنّ فيها تاجرًا بحريًا

ويقال للعظيم البطن بحريٌ وقال الطرماح:

ولم ينتطق بحريَّةٌ من مُجَاشع *** عليه ولم يُدْعَمْ له جانب المهد

ومن سكن البحرين عَظُمَ طِحَالُه.

والبَحْرَةُ مَنبِتُ الثُّمام من الأوْدِيَة.

وفي حديث أنس بن مالك أنّ النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم ركب فَرَسًا لأبي طلحة عُرْيًا فقال إني «وجدته بَحْرًا.

قال أبو عبيدة يقال للفرس الجواد إنه لبَحْرٌ لا يُنكش حُضُرُه.

وقال أبو عبيد قال الأصمعي: يقال فرس بَحْر وفَيْضٌ وسَكْبٌ وحَثٌّ إذا كان جوادًا كثير العدْو.

وقال الفراءُ البَحَرُ أن يَلْغَى البعيرُ بالماء فيُكثر منه حتى يصيبَه منه داءٌ يقال بَحِرَ يَبْحَرُ بَحَرًا فهو بَحِرٌ وأنشد:

لأُعْلِطَنَّهُ وسْمًا لا يُفَارِقُه *** كما يُحَزُّ بِحَمْيِ الميسم البَحِرُ

قال وإذا أصابه الداء كَوِيَ في مواضِعَ فيبرأ قلت: الداءُ الذي يصيب البعيرَ فلا يَرْوَى من الماء هو النَّجَرُ بالنون والجيم، والبَجَرُ بالباء والجيم، وكذلك البَقْرُ، وأما البَحْرُ فهو داءٌ يورِث السُّل.

وأخبرني المنذري عن الطوسي عن أبي جعفر أنه سمع ابن الأعرابي يقول: البحير المسلول الجسم الذاهب اللحم وأنشد:

وغِلْمَتي منهم سَحِيرٌ وبَحِرْ *** وآبقٌ من جَذْبِ دَلْوبْهَا هَجِرْ

ويقال استبحر الشاعر إذا اتّسع له القول وقال الطرماح:

بمثل ثنائك يحلو المديح *** وتَسْتَبحر الأَلْسُنُ المادِحَه

وكانت أسماءُ بنت عُمَيْسٍ يقال لها البَحْرِيَّة لأنها كانت هاجَرَت إلى بلاد النَّجَاشِيّ فركبت البَحْرَ، وكل ما نُسِبَ إلى البَحْرِ فهو بَحْرِيٌ.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


232-تهذيب اللغة (حمل)

حمل: قال الليث: الحَمَلُ الخروف والجميع الحُمْلَانُ.

والحَمَلُ بُرْجٌ من بُرُوجِ السَّمَاءِ، أوله الشَّرْطانِ وهما قرْنَا الحَمَل ثم البُطيْن

ثلاثة كَوَاكِب ثم الثُّريا وهي أَلْيَةُ الحَمَل، هذه النجومُ على هذه الصفة تسمى حَمَلًا.

سلمة عن الفرَّاء: المُحَامِلُ الذي يَقْدر على جوابك فيدعُه إبقاءً على مودتك، والمُجَامِل الذي لا يَقْدر على جوابك فيتركُه ويحقدُ عليك إلى وقتٍ مّا.

ويقال فلان لا يَحْمِلُ أي يُظْهِر غَضَبَهُ.

سلمة عن الفراء قال الحَمَلُ النَّوْءُ قال وهو الطَّلِيُّ، يقال مُطِرْنَا بِنَوْءِ الحَمَلِ وبِنَوْءِ الطَّلِيِّ.

الليث: حَمَلَ الشيءَ يَحْمِلُه حَمْلًا وحُمْلَانًا ويكون الْحُمْلَانُ أجرًا لما يُحْمَلُ.

قال والحُمْلَانُ ما يُحْمَلُ عليه من الدوابّ في الهِبَةِ خاصةً.

الحرانيّ عن ابن السكيت: الحَمْلُ ما كان في بَطْنٍ أو على رأس شجرةٍ، وجمعه أحْمَال والحِمْلُ ما كان على ظهْر أو على رأسٍ.

وقال غيرُه حَمْل الشجر وحمْلُه.

وقال بعضهم ما ظهر فهو حِمْلٌ وما بطن فهو حَمْلٌ.

وقيل ما كان لازمًا للشيء فهو حَمْلٌ وما كان بائنًا فهو حِمْل.

والصواب ما قال ابن السكيت.

وقال الفراء في قوله الله جلّ وعزّ: {وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام: 142] الحَمُولَةُ ما أَطاق العَمَل والحَمْل، والفرشُ الصِّغَارُ.

وحدثنا السعديُّ قال حدثنا عمرُ بن شبة عن غندر عن شُعبةَ عن أبي الفيض قال سمعت سعيد بن جبير يحدث عن أبيه أَنَّ أبا بكر شيَّع قومًا فقال لهم: تَرَاحَمُوا تُرْحَمُوا وتَحَامَلُوا تُحْمَلُوا، معناه أبقوا على غيركم يُبْق عَلَيْكم وهابوا الناس تُهابُوا.

وقال الفراء في قول الله جلّ وعزّ: ما أَطاق العَمل والحَمْل والفرشُ الصِّغَارُ.

وقال أَبُو الهيثم الحَمُولَةُ من الإبل التي تَحْمِلُ الأحمال على ظهورها بفتح الحاء.

قال والحُمُولة بضم الحاء هي الأَحْمَال التي تُحْمَل عليها، وَاحِدُها حِمْلٌ وأَحْمَالٌ وحُمُولٌ وحُمُولة.

قال فأما الحُمُر والبغالُ فلا تدخل في الحَمُولة.

وقال الأصمعي الحُمُولُ الإبلُ وما عليها، وقال غيره: هي الهَوادِجُ واحدها حِمْل ويقال الحُمُولة والحُمُول واحد وأنشد:

أَحَزْقَاءُ للبَيْنِ استقلَّت حُمُولَها

قال والحُمُول أيضًا ما يكون على البعير.

وقال أبو زيد الحُمُولة ما احْتَمَلَ عليه الحيُّ، والحُمُولة الأثقال.

أبو عبيد عن أبي زيد قال الحُمُولة الحُمُول واحدها حِمل وهي الهوادج أيضًا كان فيها نساء أو لا، وقال ابن السكيت قال أبو زيد الحُمولة ما احتمل عليه الحيّ من بعير أو حمار أو غيره، كان عليها أَحْمالٌ أو لم تكن.

وأنكر أبو الهيثم ما قاله أبو زيد فردّ عليه قوله وقال الليث: الحَمُولة الإبِلُ التي يُحْمَلُ عليها الأثقالُ.

والحُمُول الإبل بأثقالها وأنشد:

أَصَاحِ تَرى وأَنْتَ إذًا بعيرٌ *** حُمُول الحيِّ يرفعها الوَجِينُ

الوجين ما غلظ من الأرض قاله النابغة، وقال أَيْضًا:

يُخالُ به راعي الحَمُولة طائرا

الأصمعي: الحَمَالَةُ الغُرْم تُحمل عن القوم، ونَحوَ ذلك قال اللَّيث: وقال يقال أيضًا حَمَالٌ، وأنشد قول الأعشى:

فرع نَبْعٍ يهتزُّ في غُصُن المجد *** عظيمُ الندى كثير الحَمَالِ

وقال الأصمعي الحِمَالةُ بكسر الحاء عِلاقة السيف والجميع الحمائِل وكذلك المِحْمَل عِلاقة السيف وجمعه محامل قال الشاعر:

ذرفت دموعك فوق ظهر المِحْمَل

والمِحْمَل الذي يُرْكَبُ عليه بكسر الميم أيضًا والمَحْمِل بفتح الميم المعتمد يقال ما عليه مَحْمِلٌ أي معتمد.

وقال الليث: ما على فلان مَحْمِلٌ من تحميل الحوائج وما على البعير مَحْمِلٌ من ثِقَل الحِمْلِ.

أبو عبيد عن أبي زيد قال المُحْمِلُ المرأةُ التي ينزل لبنها من غير حَبَل وقد أَحْمَلَتْ ويقال ذلك للناقة أيضًا.

وروي عن النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم أنه قال في قوم يخرجُون من النار حُمَمًا فَيَنْبُتُون كما تنبت الحِبّة في حَمِيلِ السيل، قال أبو عبيد قال الأصمعي: الحَمِيلُ ما حمله السيل وكل مَحْمُولٍ فهو حَمِيلٌ.

قال أبو عبيد ومنه قول عمر في الحَمِيل إنه لا يُوَرَّث إلا ببيّنة، سمي حَمِيلًا لأنه يُحْمَلُ صغيرًا من بلاد العَدُوّ ولم يولدْ في الإسلام، ويقال بل سمي حَمِيلا لأنه محمول النَّسَب، ويقال للدعيّ أيضًا حَمِيلٌ وقال الكميت يعاتب قضاعَة في تحويلهم إلى اليمن بنسبهم:

عَلَامَ نزلتُمُ من غير فَقْرٍ *** ولا ضَرَّاءَ مَنْزِلةَ الحَمِيلِ

وقال الليث: الحميل المنبوذُ يَحْمِلُه قوم فَيُرَبُّونه، قال ويسمى الولَدُ في بطن الأُمِّ إذ أُخِذَت من أرض الشرك حَميلًا.

وقال الأصمعي الحَمِيلُ الكفيلُ.

وقال الكسائي حَمَلْتُ به حَمَالَةً كَفَلْتُ به وفي الحديث «لا تحل المسألة إلا لثَلاثَةٍ» ذكر منهم رجلًا تَحَمَّلَ بِحَمَالةٍ بين قوم وهو أن يقع حربٌ بين فريقين تُسفك فيها الدماءُ فيتحمّل رجلٌ تلك الدياتِ ليُصلح بينهم ويسأل الناس فيها، وقتادة صاحب الحَمَالَة سمّي بذلك لأنه بحمَالَةٍ كثيرة فسأَل فيها وأَدَّاها.

ويجيء الرجلُ الرجلَ إذا انقطع به في سَفَرٍ فيقولُ له احْمِلْني فقد أُبْدِعَ بي أي أَعطني ظهرًا أرْكُبُه.

وإذا قال الرجل للرجل أَحْمِلْني بقطع الألف فمعناه أَعنِي على حَمْلِ ما أَحْمِلُه.

وقال أبو إسحاق في قول الله جلّ وعزّ: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] فقال بعد ما ذكر أقاويل المفسِّرين في هذه الآية: إن حقيقَتَها والله أعلم وهو موافق لما فسروا أن الله جلّ وعزّ ائْتَمن بني آدمَ على ما افْترضَه عليهم من طاعتِهِ وائْتمَن السماواتِ والأرضَ والجبال بقول {ائْتِيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} [فُصَلَت: 11]، فعرفنا الله أَنّ السماواتِ

والأرضَ لم تَحْمِل الأمانة أي أدَّتْها، وكلُّ من خَانَ الأمانَةَ لقد حَمَلها، وكَذلك كل من أَثِمَ فقد حَمَل الإثْم، ومنه قول الله جلّ وعزّ: {وَلَيَحْمِلُنَ أَثْقالَهُمْ} [العَنكبوت: 13] الآية، فأعلم الله أنّ من بَاء بالإثْم يسمى حاملًا للإثم، والسمواتُ والأرضُ أَبَيْنَ أن يَحْمِلْنَ الَأَمَانَةَ وأَدَّيْنَها، وأَدَاؤُها طاعَةُ الله فيما أمرها به والعملُ به وتركُ المعصية، وحَمَلَهَا الإنسانُ.

قال الحسن أراد الكافرَ والمنافقَ حَمَلا الأَمَانَةَ أي خَانَا ولم يُطِيعَا فهذا المعنى والله أَعْلَمُ صحيح ومن أطاع من الأنبياء والصِّدِّيقين والمؤمنين فلا يقال {كانَ ظَلُومًا جَهُولًا}، وتصديقُ ذلك ما يَتْلو هذا من قوْله {لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ} [الأحزَاب: 73] إلى آخرها، قلت وما علمتُ أحدًا شرح من تفسير هذه الآية ما شرحَهُ أبو إسحاق، وممّا يُؤيِّدُ قولَه في حمل الأمانة أَنَّ خِيَانَتَها وترك أَدَائِها قولُ الشاعر أنشده أبو عبيد:

إذا أَنْتَ لم تَبْرَحْ تؤدّي أمانةً *** وتحملُ أخرى أَفْرَحَتْك الوَدَائعُ

أراد بقوله وتحملُ أخرى أي تخونها فلا تُؤديها يدلك على ذلك قوله أَفْرَحَتْك الودائع، أي أثقل ظهرَكَ الأماناتُ التي تخونُها ولا تؤدِّيها، يقال حَمَلَ فلانٌ الحِقْدَ على فلان إذا أَكَنَّه في نفسه واضْطغنه ويقال للرجل إذا استخفّه الغَضَبُ قد احتُمل وأُقِلَّ ويقال للذي تحَلَّم عمن يَسُبُّه قد احْتَمَل فهو مُحْتَمِل وقال أبو عبيد عن أصحابه في قول المتنخل الهذلي:

كالسُّحُل البيضِ جَلَا لَوْنُها *** هَطْلُ نَجَاءُ الحَمَلِ الأسولِ

الحَمَلُ السحاب الأسود، قال وقيل في الحمل إنه المَطَرُ للّذي يكون بِنَوْءِ الَحَملِ وسمى الله جلّ وعزّ الإثْم حِمْلًا فقال {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى} [فَاطِر: 18] يقول إنْ تَدْعُ نَفْسٌ مُثْلَةٌ بأوزارها ذَا قَرابة لها أن يَحْمِلَ وِزْرَها شيئًا لم يَحْمِل من أوزَارها شيئًا.

ابن السكيت عن الفراء: يقال امرأة حامِلٌ وحامِلَةٌ إذا كان في بطنها ولد وأنشد:

تمخَّضَت المنون له بيوم *** أنى ولكل حاملة تُمَامُ

فمن قال حاملٌ بغير هاء وهذا نعت لا يكون إلا للمُؤنَّث ومن قال حاملةٌ بناه على حَمَلَتْ فهي حاملةٌ فإذا حَمَلَت المرأة شيئًا على ظهرِها أو على رأْسِها فهي حاملةٌ لا غَيْرُ؛ لأن هذا قد يكون للذَّكر.

وحَمَلٌ اسم رجل بعينه وقال الراجز:

اشْبِهْ أَبَا أُمِّك أو أَشْبِه حَمَلْ

وحَمَلٌ اسم جبل بعينه.

سلمة عن الفراء احْتَمَلَ الرجل إذا غَضِبَ ويكون بمعنى حَلُم.

وقال الأصمعيُّ في الغضب غضب فلان حتى احْتَمَل ويقال حَمَل عليه حَمْلَةً منكَرة (وشد عليه شدة منكرة) ورجل حَمَّالٌ يحمل الكَلَّ عن النَّاس ورأيت جبلًا في البادية اسمه حَمّال

وحَمَلٌ اسم جبل فيه جَبَلانِ يقال لهما طِمِرَّان وقال:

كأنها وقد تدلّى النَّسران *** ضمهما من حمل طِمِرَّان

صعبانُ عن شمائِلٍ وأَيْمَان

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


233-تهذيب اللغة (حقي)

حقي: وروي عن النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم أنه أعطى غَسَلَةَ ابنته حَقْوَه وقال أشعرْنَها إيَّاه، وذلك حين توفيت وغُسِّلَتْ وكفنت.

الحَقْوُ: الإزَارِ ههنا وجمعه حُقِيّ.

وقال أبو عبيد الحَقْو مَعقِد الإزار من الجَنْبِ، يقال أخذتُ بحَقْوِ فلان.

وجمعُ الحَقْوِ حِقَاءٌ.

وقال الليث الحَقْوانِ الخاصرتَان.

والجميع الأَحْقَاءُ.

والعدد أَحْقٍ كما ترى تقول عُذْتُ بِحَقْوِ فلان إذا عاذَ به ليمنَعَه، وأنشد:

وعذتم بأَحْقَاءِ الزّنادِق بعد ما *** عركتكم عَرْكَ الرّحى بِثِفَالها

وأخبرني المنذري عن بشر بن موسى عن الأصمعي قال: كلُّ موضع يَبْلُغُه سيلُ الماءِ فهو حَقْوٌ.

وقال الليث: إذا نظرت إلى رأس الثَّنِيَّةِ من ثَنَايا الجبل رأيت لِمَخرِمَيْها حَقْوَينِ وقال ذو الرمة:

تَلْوِي الثنايا بأَحْقِيَها حواشيه *** لَيَّ المُلَاءِ بأبوابِ التَّفَاريج

التفاريج: خَصَاص الدَرَابَزِين بنحِقرات قاله ثعلب يعني السّراب.

ويقال: رمى فلانٌ بِحَقْوٍ، أي رمى بإزاره.

والحَقْوَةُ داءُ يأخذ في البَطْن يورِث نَفْخَةً في الحَقْوَيْنِ تقول: حُقِيَ الرجل فهو مَحْقُوُّ إذا أصابه ذلك الداء قال رؤبة:

من حَقْوَةِ الداء وراء الأعْداد

أبو عبيد عن أبي عمرو: الحَقْوَةُ داءُ يكون في البطن من أن يَأكُلَ الرجُلُ اللحم بَحتَاتٍ فيقع عليه المشي وقد حُقِيَ فهو مَحْقُوٌّ.

وقال ابن الأَعرابي الحَقْوة في الإبل نحو التَّقْطيع يأخُذُها من النُّحَازِ.

قال: وأكثرُ ما تقع الحَقْوَةُ للإنسان.

وروى عنه أبو العباس أنه قال حَقِي يَحْقَى حَقًا مقصورٌ ورجل مَحْقُوٌّ قال أبو بكر معناه إذا اشتكى حَقْوَهُ أبو عمرو الحِقَاءُ رِباط الجُلّ على بطن الفرس إذا حُنذ للتَّضْمير وأنشد لطَلْق بن عدي:

ثم حَطَطْنا الجُلَّ ذا الحِقَاء *** كمثل لَوْن خَالِصِ الحِنَّاءِ

أخبر أنه كُمَيْتٌ.

قال: الحِقاء جمع حَقْوةٍ، وهو مرتفع عن النَّجْدَةِ وهو منها موضع الحَقْوِ من الرجل يتحرَّزُ فيه الضباع من السيل.

قال أبو النجم يصف مطرًا:

يَنْفِي ضِبَاع القُفّ من حِفائه

وقال النضر: حُقِيُ الأرض سُفوحها وأسنادها واحدها حَقْوٌ وهو السَّنَدُ والهَدَفُ.

ثعلب عن سلمة عن الفراء قالت الدُّبَيرية يقال: ولغ الكلب في الإناء ولجن واحْتَقَى يَحْتَقي احتقاءً بمعنى واحد.

أبو عبيد عن الأصمعي قال: حَقْوُ السَّهْم مُسْتَدَقُّه مما يلي الريش.

ويقال حَقْوُ السهم موضع الريش وجمع الْحَقْوِ حِقَاءٌ وحُقِيٌ.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


234-تهذيب اللغة (هل)

وتقول: هل كان كذا وكذا؟ وهل لك في كذا وكذا؟ قال: وقول زهير:

أَهَلْ أَنْتَ وَاصِلُه

اضطرار، لأن هل حرف استفهام، وكذلك الألف، ولا يستفهَم بحرفي استفهام.

وقال الخليل لأبي الدُّقَيْش: هلْ لكَ في الرُّطَبِ؟ قال: أَشَدُّ هَلْ وأوْحَاه، فخفَّف، وبعض يقول: أشدُّ الهلّ وأوحاه بتثقيل.

ويقول: كل حرف أداةٍ إذا جعلت فيه ألفًا ولامًا صار اسمًا فقوّي وثُقِّل، كقول الشاعر:

إن لَيْتًا وإنَّ لَوَّا عَنَاءُ

قال الخليل: إذا جاءت الحروف الليّنة في كلمة نحو لَوْ وأشبها وأشباهها ثُقِّلت، لأن الحرف اللين خَوَّارٌ أجوف، لا بد له من حَشْوٍ يُقَوَّى به إذا جُعِل اسمًا.

قال: والحروف الصحاح القوية مستغنيةٌ بِجُرُوسها لا تحتاج إلى حشوٍ فتترك على حالها.

سلمة عن الفرّاء {هل} قد تكون جَحْدًا وتكون خَبرًا.

قال: وقول الله: {هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسَان: 1] من الخَبَر، معناه: قَدْ أَتَى على الإنسان حِينٌ من الدَّهْر.

قال: والجَحْدُ أن تقول: هل زلت تقوله، بمعنى ما زلت تقوله.

قال: فيستعملون هل، تأتي استفهامًا، وهو بابها، وتأتي جحدًا مثل قوله.

وهَلْ يقدر أحدٌ على مثل هذا.

قال: ومن الخبر قولك للرجل: هَلْ وَعَظْتُك؟ هل أعطيْتُك؟ تُقَرِّره بأنّك قد وعَظْتَه وأعطيْتَه.

حُكِيَ عن الكسائيّ أنه قال: تقول: هَلْ زِلْتَ تقوله، بمعنى ما زِلْتَ تقوله، قال: فيستعملون هَلْ بمعنى ما.

قال: ويقال: متى زِلْتَ تقول ذلك وكيف زلت؛ وأنشد:

وهَلْ زِلْتُم تَأوِي العَشِيرَةُ فيكُم *** وتُنْبِتُ في أكنافِ أبْلَح خِضْرِمِ

وقال الفرّاء: وقال الكسائي: هلْ تأتي استفهامًا، وهو بَابُها، وتأتي جَحْدًا، مثل قوله:

أَلَا هَلْ أَخُو عَيْشٍ لذيذٍ بدائم

معناه: ألا مَا أخو عَيْشٍ.

قال: وتأتي شَرْطًا، وتأتي بمعنى قد، وتأتي توبيخًا، وتأتي أمْرًا، وتأتي تنبيهًا، وقال: فإذا زِدْتَ فيها ألفًا كانت بمعنى التسكين.

وهو معنى قوله «إذا ذُكِرَ الصالِحُون فحي هَلَا بِعُمَرَ» قال: معنى حيّ أسرِعْ بذكره، ومعنى هلا؛ أي: اسْكُنْ عند ذكره حتى تنقضي فضائله؛ وأنشد:

وأَيّ حَصَانٍ لا يُقَالُ لها هَلا

أي: اسكني للزَّوْج؛ قال: فإِن شدَّدْتَ لامها، فقلت: هلَّا، صارت بمعنى اللَّوْم والحضّ، فاللَّوْمُ: على ما مضى من الزمان، والحضُّ: على ما يأتي من الزمان، ومن الأمر قوله جلَّ وعزَّ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] وأخبرني المنذريُّ عن ثعلب أنه قال: حَيَ هَلْ؛ أي: أَقْبِلْ إليّ، وربما حذف حيّ فقيل: هَلَا إليّ.

وقال الزّجّاج: إذا جعلنا معنى {هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ} [الإنسان: 1] قد أتى على الإنسان، فهو بمعنى ألَمْ يأتِ على الإنسان {حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ}.

أخبرني المنذريّ عن فهمٍ عن ابن سلام قال: سألت سيبويهِ

عن قوله: {فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [يُونس: 98] على أي شيءٍ نُصِبَ؟ قال: إذا كان معنى إلا لكن نُصِبَ.

وقال الفرّاء في قراءة أُبيّ {فهلّا} وفي مصحفنا {فَلَوْ لا}.

قال: ومعناها أنهم لم يؤمنوا ثم استثنى قومَ يونس بالنصب على الانقطاع بما قبله.

كأن قومَ يونس كانوا منقطعين من قومِ غيرهِ.

وقال الفرَّاء أيْضًا: لو لا إذا كانت مع الأسماء، فهي شرطٌ، وإذا كانت مع الأفعال، فهي بمعنى هلَّا، لَوْمٌ على ما مضى وتحضيض لِمَا يأتِي.

وقال الزّجّاج في قوله: {لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [المنَافِقون: 10] معناه هلّا.

قال الليث: تقول: هَلّ السحابُ بالمطر وانهلّ بالمطر انْهِلالًا؛ وهو شدة انصبابه، ويتهلَّلُ السحابُ ببَرْقه؛ أي: يتَلأْلأُ، ويتهلّل الرجل فَرَحًا؛ وقال زهير:

تَرَاهُ إذا ما جِئْتَهُ مُتَهَلِّلًا *** كأَنَّكَ تُعطِيهِ الذي أَنْتَ سَائِلُهْ

قال: والهَلِيلَةُ: الأرض التي استُهِلّ بها المطر، وما حواليها غيرُ ممطور، قال: والهِلال: غُرَّةُ القمر حين يُهِلُّه الناس في أول الشهر.

تقول: أُهِلَ القَمَرُ.

ولا يقال: أُهِلَ الهلالُ.

قلت: هذا غلط.

وكلام العرب: أُهِلَ الهِلالُ.

وروى أبو عبيد عن أبي عمرو: أُهِلَ الهلال واستُهِلّ، لا غيرُ.

وروى أبو العباس عن ابن الأعرابي: أَهَلَ الهلالُ واسْتَهَلَ وأهلّ الصبيُّ واستَهَلَ.

وقال: الشهرُ الهلالُ بعينه.

وقال شمر: أُهِلّ الهلالُ واستُهلّ، قال واستَهَلَ أيضًا، وشهر مستهِلٌ؛ وأنشد:

وشهر مستهِلٌ بعدَ شَهْرٍ *** ويوم بعده يومٌ قريبُ

قال أبو بكر: قال أبو العباس: سُمِّي الهلالُ هلالًا، لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه.

وأَهَلَ الرجلُ واستَهلَ: إذا رفع صوته؛ وقول الشاعر:

غيرَ يَعْفُورٍ أَهَلَ به *** جَابَ دَفَّيْه عن القَلْبِ

قيل في الإهلال: إنه شيء يعتريه في ذلك الوقت يخرج من جوفه شبيهٌ بالعُواء الخفيف، وهو بين العواء والأنين، وذلك من حاقِّ الحِرْص وشدّة الطلب وخوف الفَوْتِ.

وانهلّت السماء منه يعني كلبَ الصيد إذا أُرسل على الظّبْي فأخذه.

أبو زيد: استهلَّت السماء في أول المطر، والاسم الهلَلُ.

وقال غيره: هَلَ السحابُ: إذا قطَرَ قَطْرًا له صوتٌ، وأهَلَّه اللهُ، ومنه انْهِلَالُ الدمع وانْهِلالُ المطر.

وأخبرني المنذريُّ عن أبي الهيثم قال: يسمّى القمر لِلَيْلَتَيْن من أَوَّل الشَّهر هِلَالًا، ولليلتين من آخر الشهر ليلة ستّ وسبع وعشرين هلالًا.

ويسمّى ما بين ذلك قَمَرًا، ويقال: أَهْلَلْنَا الهِلَال واستهلَلْنَاه.

وقال الليث: المُحْرِم يُهِلُ بالإحرام: إذا أوجب الحُرُم على نفسه، تقول: أَهَلَ فلانٌ بعمرة أو بِحَجَّة؛ أي: أَحْرَمَ بها، وإنما قيل للإِحرام إِهْلالٌ، لأن إحرامهم كان عند إهلال الهلال.

قلت: هذا غلط إنما قيل للإحرام: هلالٌ لرفع

المُحرم صوتَه بالتلبية.

قال أبو عبيد: قال الأصمعيّ وغيره: الإهلالُ: التلبية، وأصل الإهلال رفْعُ الصوت، وكل شيء رافعٍ صوتَه فهو مُهِلٌ.

قال أبو عبيد: وكذلك قول اللهِ جلّ وعزّ في الذبيحة {وَما أُهِلَ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [المَائدة: 3] هو ما ذبح للآلهة، وذلك لأن الذَّابِحَ كان يُسَمِّيها عند الذبح، فذلك هو الإهْلَالُ؛ وقال النابغة: يذكر دُرّةً أخرجها غَوَّاصُها من البحر:

أو دُرَّةٍ صَدَفيةٍ غَوَّاصُها *** بَهِجٌ مَتَى يَرَهَا يُهِلَ ويَسْجُدِ

يعني بإهلاله رفعَه صوتَه بالدعاءِ والحمد لِلَّهِ إذَا رآها.

وقال أبو عبيد: وكذلك الحديثُ في استهلال الصبيّ إذا وُلد لم يَرِثْ ولم يُورَثْ حتى يستهلَ صارخًا، وذلك أنه يُسْتَدَلُّ على أنه وُلِدَ حيًّا بصوته؛ وقال ابن أحمر:

يُهِلُ بالفَرْقَدِ رُكْبَانُها *** كما يُهِلُ الرّاكِبُ المُعْتَمِرْ

وقال الليث: قال أبو الخطاب: كل متكلّمٍ رافع الصوتَ أو خافضِه فهو مُهلً ومُسْتَهِلّ؛ وأنشد:

وأَلْفَيْتُ الخُصُومَ وَهُمْ لَدَيْهِ *** مُبَرْشِمَةً أَهلُّوا يَنْظُرونا

قلت: والدليل على صحة ما قاله أبو عبيد، وحكاه عن أصحابه، قول السَّاجِع عند رسول الله صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم، حين قضى في الجنين الذي أسقطته أمّه ميتًا بغُرَّة، فقال: أرأيت من لا شَرِبَ ولا أَكَل، ولا صَاحَ فاستَهَلّ، مثل دمه يُطَل، فجعله مُسْتَهِلًّا بصياحه عند الولادة.

وقال الليث: يقال للبعير إدا استَقْوَس وحَنَى ظهره والتزق بطنُه هُزَالًا، وإحناقًا: قد هُلِّلَ البعير تهليلًا؛ وقال ذو الرُّمَّة:

إذا ارفَضَّ أطرافُ السِّيَاطِ وهُلِّلَتْ *** جُرُومُ المَطَايا عذَّبَتْهُنّ صَيْدَحُ

ومعنى هُلِّلت؛ أي: انحنت حتى كأنّها الأَهِلّة دِقة وضُمْرًا.

وقال الليث: الهَلَلُ: الفَزَعُ.

يقال: حَمَل في هَلَل، إِنْ ضرب قِرْنه.

ويقال: أحجم عنّا هَلَلًا؛ قاله أبو زيد.

وقال: مات فلان هَلَلًا ووَهَلًا؛ أي: فَرَقًا.

وقال أبو عبيد: التهليل: النُّكُوص؛ وقال كعب بن زهير:

وما بِهِمْ عَنْ حِياضِ الموتِ تَهْلِيلُ

وأخبرني المنذريّ عن أبي الهيثم أنه قال: ليس شيء أجرأَ من النمرِ.

ويقال: إن الأسد يُهلِّل ويكلّل، وإن النَمر يُكَلِّلُ ولا يُهَلِّلُ.

قال: والمهلّل: الذي يحمل على قِرْنه ثم يجبن فينثني ويرجع، يقال: حَمَلَ ثم هلّل، والمكلِّل: الذي يحمل فلا يرجع حتى يقع بِقرنه؛ وقال الراعي:

قَوْمٌ على الإسلامِ لمّا يَمْنعَوا *** ما عُونَهُمْ ويُهلّلوا تَهْلِيلًا

أي: لما يُهَلَلّوا؛ أي: لمّا يرجعوا عمَّا هم عليه من الإسلام، من قولهم: هَلّلَ عن قِرْنه وكَلَّس.

قلت: أراد لما يُضَيِّعوا شهادة أن لا إله إلا اللهُ، وهو رفع الصوت بالشهادة.

هذا على قول من رواه

«.

.

.

ويضيعوا التهليلا»

.

وقال اللَّيْثُ: التهليل: قول لا إله إلّا اللهُ، قلت: ولا

أَرَاهُ مأخوذًا إلا مِنْ رفع قائِله به صوتَه.

وقيل: هو مأخوذ من حُرُوف لا إله إلا اللهُ.

قلت: وهذا أَوْلَى بقول الرّاعي من التهليل بمعنى النكوص إذا روي.

.

.

«ويضيّعوا التهليلا».

وقال الليث: الهِلَال: الحيَّةُ الذَّكَر.

قلت: الهلال، عند العرب: الحيّة ذكرًا كان أو غيرَ ذكرٍ، كذلك قال ابن الأعرابي؛ وأنشد:

في نَثْلَةٍ تَهْزَأُ بالنِّصال *** كأَنَّها من خِلَع الهِلالِ

يصِفُ دِرْعًا، شبَّهها في صفائِها بِسَلْخِ الحيَّةِ.

وهزؤها بالنصال: ردُّها إيّاها.

وقال ابن الأعرابي: الهلالُ، أيضًا: ما يبقى في الحوضِ من الماء الصافي.

قلت: وقيل له هلالٌ، لأنّ الغدير إذا امتلأ من الماء استدار، وإذا قَلَّ ماؤه صار الماءُ في ناحِيَةٍ منه فاستقْوَس.

قال: والهلال: الغُلام الحسنُ الوجهِ.

ويقال لِلرَّحَى: هلال، إذا انكسرت.

وقال الليث: الهَلْهَل: السّمُّ القاتل، قلت: ليس كل سُمٍّ يكون قاتلًا يسمى هَلْهَلًا، ولكن الهَلْهَل ضربٌ من السموم بعينه يَقْتُل من ذاق منه، وإخاله هنديًا.

وقال الليث: الهَلْهلة: سخافة النسج.

ثوبٌ مُهَلْهَلٌ.

قال: والمهلهَلة من الدروع: أرْدؤها.

أبو عبيد عن الأحمر قال: اللهَلَهُ والنّهْنَهُ: الثوب الرقيق النسجِ.

وقال شمر: يقال ثوب مُلَهْلَهٌ ومهلهَلٌ ومنَهْنَهٌ؛ وأنشد:

ومَدَّ قُصَيٌّ وأبْنَاؤُه *** عليكَ الضِّلَالَ فما هَلْهَلُوا

وقال شمر في كتاب «السلاح»: المُهلْهَلَةُ، من الدروع، قال بعضهم: هي الحسنَةُ النَّسْج الرقيقة ليست بصفيقة.

قال: ويقال: هي الواسعة الحَلَق.

قال: وقال ابنُ الأعرابي: ثوب لَهْلَهُ النسج؛ أي: رقيقٌ ليس بكثيف.

ويقال: هلْهَلْتُ الطَّحِينَ: إذا نخلته بشيء سخيف، وقال أمية:

كما تُذْرِي المُهَلْهِلَةُ الطَّحِينا

وقال النابغة:

أَتَاكَ بِقْولٍ لَهْلَهِ النَّسْجِ كَاذِبٍ *** ولم يأْتِكَ الحقُّ الذي هو نَاصِعُ

وقال الليث: الهُلَاهِلُ، من وصف الماء: الكثيرُ الصَّافي.

قال: ويقال أنهج الثوب هلهالًا، وأنشد شمر قول رؤبة:

ومُخْفِقٍ من لَهْلَهٍ ولَهْلَهِ *** من مهمه يَجْتَبْنَهُ ومَهْمَهِ

قال ابن الأعرابي: اللُّهلُه الوادي الواسع.

وقال غيره: اللهَالِهُ ما استوى من الأرض.

وقال الليث: اللُّهلهُ المكان الذي يضطرب فيه السراب.

وقال الأصمعي: اللهْلَهُ ما استوى من الأرض.

وقال أبو نصر: أهالِيلُ الأمطار، لا واحدَ لها في قول ابن مقبل:

وغَيْثٍ مَرِيعٍ لم يُجَدَّعْ نَبَاتُهُ *** وَلَتْهُ أهالِيلُ السِّماكَيْنِ مُعْشِب

وقال ابن الأنباريّ: قال أبو عكرمة الضبي: يقال: هَيْلَلَ الرجلُ: إذا قال لا إله إلا اللهُ، وقد أخذنا في الهَيْلَلَةِ: إذا أخذنا في التَّهْلِيل.

قال أبو بكر: وهو مثل قولِهمْ حَوْلَقَ الرجلِ وحَوْقَلَ: إذا قال لا حول ولا قوة إلا باللهِ؛ وأنشد:

فِدَاكَ من الأقوامِ كلُّ مُبَخَّل *** يُحَوْلِقُ إمّا سالَهُ العُرْفَ سائلُ

قال: وقال الخليل: حَيْعَلَ الرجل إذا قال: حيّ على الصلاة، قال: والعرب تفعل هكذا إذا كثُر استعمالهم الكلمتين ضمّوا بعضَ حروف إحداهما إلى بَعْضِ حروف الأخرى، قولهم: لا تُبَرْقِلْ علينا؛ والبَرْقلة: كلام لا يتبعه فعل، مأخوذ من البَرْقِ الذي لا مَطَر معه.

أخبرني المنذريّ عن أبي العباس، أنه قال: الحوقلة والبسملة والسبحلة والهيللة، قال هذه الأربعةُ جاءت هكذا، قيل له: فالحمدَلةُ، فقال: لا، وَأَنْكَرَه.

ابن بزرج: هَلال المطر وهِلالُه، وما أصابنا هِلَال ولا بِلال ولا طِلَالٌ.

قال وقالوا: الهِلَلُ للأمطار، واحدها هِلَّةٌ؛ وأنشد:

مِنْ مَنْعِجٍ جَادَتْ رَوَابِيهِ الهِلَلُ

أبو عبيد عن الأصمعيّ: انهلّت السماء: إذا صبّت، واستهلّت: إذا ارتفَع صوتُ وقعها، وكأن استهلال الصبيّ منه.

وقال أعرابي: ما جاد فلان لنا بهِلَّةٍ ولا بِلّة.

ويقال أهَلَ السيفُ بفلان: إذا قطع فيه؛ وقال ابن أحمر:

وَيْلُ أُمِّ خِرْقٍ أَهَلَ المَشْرَفِيُّ به *** عَلَى الهَبَاءَةِ لا نِكْسٌ ولا وَرعُ

وهلال البعير: ما استقْوَس منه عند ضُمْرِه؛ وقال ابن هرمة:

وَطَارِقِ همٍّ قد قَرَيْتُ هِلَالَهُ *** يَخُبُّ إذا اعْتَلَّ المَطِيُّ ويَرْسُمُ

أراد أنه قد فرَى الهمُّ الطارقُ سير هذا البعير؛ وأما قوله:

وليستْ لها رِيحٌ ولكن وَدِيقَةٌ *** يَظَلُّ بها السَّامي يُهِلُ وَيَنْقَعُ

فالسَّامي الذي يطلب الصيد في الرمضاء، يلبس مِسْحَاتَيْهِ ويُثِيرُ الظِّباء من مَكانِسها، رَمِضَتْ تشقّقت أظلافها ويُدْرِكها السامي فيأخذها بيده، وجمعه السُّمَاةُ.

وقال الباهليّ في قوله: يُهِل: هو أن يرفَع العطشانُ لسانه إلى لهاتِه فيجمع الريق؛ يقال جاء فلان يُهِلُ من العطش.

والنقْعُ جمع الريق تحت اللسان.

أبو عبيد عن أبي زيد: يقال للحدَائِد التي تقم ما بين أحْنَاءِ الرحال: أهِلَّة، واحدها هلال.

وقال غيره هِلَال النَّوْءِ: ما استقْوَسَ منه.

وقال اللحيانيّ: هالَلْتُ الأَجِيرَ مهالَّةً وهِلَالًا: إذا استأجَرْته من الهلال إلى الهلال بشيء معلوم.

أبو عبيد عن أبي عمرو: هَلْهَلْتُ أُدْرِكُه؛ أي: كنتُ أدركه.

وقال ابن الأعرابيّ: الهلْهَلَةُ: الانتظار والتأنّي.

وقال الأصمعيّ في قول حَرْمَلة بن حكيم:

هَلْهِلْ بِكَعْبٍ بَعْدَ ما وقَعَتْ *** فوقَ الجَبِين بِسَاعدٍ فَعْمِ

قال: هَلْهِلْ بكعبٍ؛ أي: أمهله بعدما وقعت به شَجَّةٌ على جبينه.

ويقال: هَلْهَلَ

فلان شِعْره: إذا لم يُنَقِّحْه، وأرسله كما حضره، وكذلك سمِّي الشاعرُ مهلهِلًا.

وقال شمر: هلْهَلْتُ: تَلَبَّثتُ وتنظَّرْتُ قال: وسمي مهلهل مهلهلًا بقوله لزهير بن جَناب:

لمّا توغَّلَ في الكُرَاعِ هَجِينُهُم *** هَلْهَلْتُ أثأَرُ جَابِرًا أو صِنْبِلا

أخبرني به أبو بكر عنه.

ويقال: أهَلَّت أرض بِعَالمها: إذا ذكرت به؛ وقال جرير:

هنيئًا للمدينةِ إذْ أَهلَّتْ *** بأهلِ العِلْمِ أبدأ ثم عادا

وقال أبو عمرو: يقال لنسج العنكبوت: الهَلَلُ والهَلْهَلُ.

ثعلب عن ابن الأعرابيّ: هلَ: إذا فرح، وهلّ: إذا صاح.

وقال في موضع آخر: هَلَ يَهُل: إذا فرح، وهلَ يَهِلُ: إذا صاح.

وبنو هلال: قبيلة من العرب.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


235-تهذيب اللغة (ملق)

ملق: قال الليث: المَلَق: الوُدُّ واللُّطْف الشديد.

قال العجّاج:

إيّاك أَدْعو فتَقبَّل مَلَقي

قال: يعني دُعائي وتضرُّعي.

ويقال: إنّه لمَلّاق متملِّق ذو مَلق، ولا يقال منه فَعَل يَفعَل، إلّا على يتملَّق.

الحَرّانيُّ عن ابن السكيت: المَلْق: الرّضعُ.

يقال: مَلَقَ الجَدْيُ أُمَّه يَملقُها: إذا رضعَها.

والمَلْقُ أيضًا: المرُّ الخفيف.

يقال: مرَّ يَملُق الأرض مَلْقًا، ويقال: مَلَقه مَلقاتٍ: إذا ضرَبه.

والمَلق من التملّق، وأصله من التليين.

ويقال للصَّفاة الملساء اللَّينة مَلَقة، وجمعها مَلَقات.

قال الهُذَلي:

أتيحَ لها أقَيْدِرُ ذو حَشِيفٍ *** إذا سامَتْ عَلَى المَلقات ساما

وقال الراجز:

وحَوْفل ساعِدُهُ قد امَّلقْ

أي: لانَ.

وقال الليث: الإملاق: كثرة إنفاق المال وتبذيرُه حتَّى يُورِّث حاجة.

وفي الحديث: أنَّ امرأةً سألت ابنَ عباس: أَأُنفق مِن مالي ما شئتُ؟ قال: نعم أمْلِقِي من مالك ما شئت.

قال الله: {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31]، معناه خشية الفقر والحاجة.

وقال ابن شميل: إنّه لمُملِق، أي: مُفْسِد.

والإملاق: الإفساد.

وقال شمِر: أَمْلق لازم ومُتعدّ، يقال: أَمْلق الرجُل فهو مُملق: إذا افتقَر فهذا لازمٌ.

وأَمْلق الدَّهرُ ما بيده.

وقال أَوْس بن حَجَر:

لما رأيتُ العُدْمَ قَيّدَ نَائِلي *** وأَمْلَق ما عندي خُطوبٌ تَنَبَّلُ

وقال الليث: المالَق: الذي يملِّسُ به الحارثُ الأرضَ المُثَارَةَ.

وقال أبو سعيد: يقال لمالج الطيان مالق ومِمْلَق.

وقال النضر: قال الجَعْديّ: المالق: خشبةٌ عريضةٌ تُشَدُّ بالحبال إلى ثَوْرَيْن يقوم عليها رجلٌ ويجرُّها الثوران فتعفِّي آثار السِّنّ.

وقد مَلَّقوا الأرض تمليقًا: إذا فعلوا ذلك بها.

قلتُ: مَلَّقُوا وملَّسُوا واحد، وهي تمليس الأرض، فكأَنّه جعل المالق عربيًّا.

وقال غيره: مَلَق الرجُلُ جاريتَه ومَلَجَها:

إذا نكحها كما يَمْلُق الجَدْي أُمَّه: إذا رَضَعها.

أبو عبيد: مَلَقْتُ الثَّوْبَ أملُقُه مَلقًا: إذا غَسَلْتَه.

وقال خالد بن كلثوم: الملِق من الخيل: الذي لا يوثق بجَرْيه، أُخِذَ من مَلق الإنسان الذي لا يَصْدُق في مودَّته.

وقال الجعديّ:

ولا مَلِق يَنْزُو ويُنْدِرُ رَوْثَه *** أحادَ إذا فأسُ اللِّجام تَصَلصَلَا

وقال الأصمعي: الملق: الضعيف.

وقال أبو عبيدة: فرسٌ مَلِقٌ والأنثى ملقة، والمَصْدَر الملَق، وهو أَلْطَفُ الحُضْر وأسرعُه.

وأنشد بيت الجَعْدِيّ.

ويقال: وَلَدَتْ الناقةُ فخرج الْجَنين مَلِيقًا من بطنها، أي: لا شَعَرَ عَليه.

والملَق: المُلوسَة.

وقال الأصمعيّ: الْجَنين مَليط بالطاء بهذا المعنى.

عمرو عن أبيه: الملَق: اللِّينُ من الحيوان والكلامِ والصُّخُور.

وفي حديثِ عَبيدةَ السَّلْمانيّ: أنَّ ابنَ سِيرِين قال له: ما يوجب الْجَنابة؟ قال: «الرَّفُّ والاستملاق».

الرفّ: المصُّ.

والاستملاق مَنْ مَلق الجديُ أمّه إذا رضَعَها.

وأراد أنَّ الذي يُوجب الغُسل امتصاصُ فمِ رحم المرأة ماءَ الرجل: إذا خالطها، كما يَرضَع الرضيعُ إذا لَقِمَ حَلمةَ الثدي.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


236-تهذيب اللغة (كل)

كل: أبو العباس عن ابن الأعرابي: الكَلُ: الصَّنَم.

والكَلُ: الثقيل الروح من الناس.

والكَلُ: اليتيم.

والكَلُ: الوكيل.

وكَلَ الرجُل: إذا أُتعِبَ.

وكَلَ: إذا تَوكَّلَ.

وقال الليث: الكَلّ: الرجل الذي لا وَلد له ولا والد، وقد كلَ يَكلُ كلالةً.

والكَلُ: اليتيم.

وأنشد:

أكولٌ لمالِ الكَلِ قبلَ شَبابه *** إذا كان عَظمُ الكَلِ غيرَ شديدِ

قال: والكَلّ: الذي هو عِيالٌ وثِقْل على صاحبه.

قال الله جل وعز: {وَهُوَ كَلٌ عَلى مَوْلاهُ} [النمل: 76]، أي: عِيال.

قلت: والذي أراد ابنُ الأعرابيّ بقوله: الكَلُ: الصَّنم.

قول الله جلّ وعزّ: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا} [النحل: 75]، ضَرَبه مَثلًا للصَّنم الذي عَبَدُوه، وهو لا يقدر على شيء، فهو كلٌ على مولاه، لأنه يَحمله إذا ظعَن ويحوِّله من مكانٍ إلى مكانٍ إذا تحوَّلَ فقال الله: هل يَستوي هذا الصنم؟ استفهامٌ معناه التوبيخ؛ كأَنه قال: لا تُسَوُّوا بين الصَّنم الكَلِ وبين الخالق جل جلاله.

وجاء في الحديث: «نُهي عن تقصيص القبور وتكليلها»، رواه الدَّبَريّ عن عبد الرزاق عن يحيى بن العلاء عن الأحوص بن حكيم عن راشد بن سعد.

قال الدَّبَريّ: حكى عن البجليّ أنه قال: التكليل: رفعها ببناءٍ مثل الكِلَل، وهي الصوامع والقِباب التي تبنَى على القبور.

وقال الله جل وعزّ: {وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} [النساء: 12]، الآية.

وقد اختلف أهل العربية في تفسير الكلالَة فأخبرني المنذرُ عن الحُسَين بن فَهم عن سَلَمة عن أبي عبيدة أنه قال: الكلالة كلُ مَن لم يَرِثْه ولدٌ أو أبٌ أو أَخٌ ونحو ذلك قال الأخفش.

وأخبرني المنذريّ عن أبي طالب عن أبيه عن الفراء أنه قال: الكلالةَ: ما خلا الوالد والولد.

قال: وسمعتُ أبا العباس يقول: الكلالة من القَرابة: ما خلا الوالد والولَد، سُمُّوا كلالةً لاستدارتهم بنَسَب الميِّت الأقرَب فالأقرب مِن تكلّله النّسَبُ: إذا استدارَ به.

قال: وسمعتُه مرةً يقول: الكلالة مَن سَقَط عنه طرفاه، وهما أبوه وولدُه، فصار كَلًّا وكلالةً، أي: عِيالًا على الأصل.

يقول: سقَطَ من الطَّرَفين فصار عِيالًا عليهم.

قال: كتبتُه حِفظًا عنه.

قلتُ: وحديثُ جابر يفسِّر لك الكلالةَ وأنه الوارث، لأنه يقول: مَرِضتُ مرضًا أشفيت منه على الموت، فأتيتُ النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم فقلتُ: إني رجلٌ ليس يَرثُني إلّا كلالَة، أراد أنه لا والد له ولا وَلَد.

وذكَر الله جل وعزّ: الكلالةَ في سورة النساء في موضعين: أحدهما: قوله تعالى: {وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12].

فقوله: (يُورَثُ) مِن وُرِث يُورَثُ لا من أُورثَ يُورَثُ.

ونَصَب (كَلالَةً) على الحال، المعنى: وإن مات رجلٌ في حال تَكلُّلِه نسَب ورثَته، أي: لا والد له ولا وَلد، (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) من أمٍّ، (فَلِكُلِ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ)، فجعل الميِّت هاهنا كلالةً، وهو المورِّث، وهو في حديث جابرٍ الوارث.

فكلُ من مات ولا والدَ له ولا ولد، فهو كلالةُ وَرَثَتِه.

وكلُ وارثٍ وليس بوالد لميّتٍ ولا ولدٍ له فهو كلالةُ مَوْرُوثِه.

وهذا مستوٍ من جهة العربيّة، موافقٌ للتنزيل والسنة، ويجب على أهل العلم معرفتُه لئلا يلتبس عليهم ما يحتاجون إليه منه.

والموضع الثاني: مِن كتاب الله جلَّ وعزَّ في الكَلالة قوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ} [النساء: 176]، الآية، فجَعَل الكلالة هنا الأخت للأب والأُمّ، والإخوة للأب والأمّ؛ فجعل للأخت الواحدةِ نصفَ ما تَرَك الميْت، وللأختين الثلثين، وللإِخوة والأخوات جميعَ المال بينهم {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}، وجَعَل للأخ والأخت من الأمّ في الآية الأولى الثُّلُث، {لِكُلِ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ}، فبيَّنَ سياقُ الآيتين أنّ الكَلالة تشتمل على الأخوة للأُمّ مرَّة ومرَّة على الأخوة والأخوات للأب والأمِّ.

ودَلَّ قولُ الشاعر أنَّ الأبَ، ليس من الكَلالة، وأنَّ سائر الأولياء مِن العَصَبةِ بَعد الوَلَد كَلالة، هو قولُه:

فإنّ أبا المرء أحْمَى له *** ومَوْلَى الكَلالَة لا يَغضَبُ

أراد أنّ أبا المرء أغضَبُ له إذا ظُلم، ومَوالي الكلالة، وهم الإخوة والأعمام وبنو الأعمام وسائر القرابات، لا يغضبون للمرء غَضَب الأب.

أبو عبيد عن أبي الجرّاح قال: إذا لم يكنْ ابن العَمِّ لَحًّا، وكان رجلًا مِن العشيرة قالوا: هو ابنُ عَمِّي الكلالةُ، وابن عَمٍّ كلَالةً وابنَ عمِّي كلالةً.

قلت: وهذا يَدلُّ على أن العَصَبة وإن

بَعُدوا يُسَمَّوْن كلالة، فافهمْه.

وقد فسّرتُ لك مِن آيتَي الكلالة وإعرابهما ما تشتفي به ويزيل اللبس عنك فتدبره تجده كذلك إِن شاء الله.

قال الليث: الكليل: السيف الذي لا حدّ له، ولسان كليل: ذو كلة وكلالة، الكال: المعيي، وقد كل يَكِلّ كلالًا وكلالةً.

وقال أبو عبيد: الكلة من السُّتُور: ما خِيط فصارَ كالبيت.

وأنشد للبيد:

من كلِ محفوفٍ يُظِلّ عصيّه *** زوجٌ عليه كِلّةٌ وقِرامُها

ثعلب عن ابن الأعرابي: الكلّة أيضًا: حالُ الإنسان، وهي البِكْلة؛ يقال: باتَ فلان بِكلَّة سَوْء أي بحال سَوْءِ.

والكِلّة: مَصدَرُ قولك: سيفٌ كَلِيلُ بيِّن الكِلّة.

ويقال: ثقُل سَمعه وكلَ بَصرُه وذَرا سِنُّه.

وأخبرني المنذري عن أبي الهيثم أنّه قال: يقال: إنَّ الأسد يُهَلِّل أو يُكَلل، وإنَّ النَّمِر يُكَلِّل ولا يُهَلِّل.

قال: والمكلِّل: الذي يَحمِل فلا يرجع حتّى يَقع بِقرنه.

والمهلِّل: الذي يَحْمِلُ على قِرْنه ثم يُحجِم فيرجع.

قال الجعديُّ:

بَكَرَتْ تلومُ وأمس ما كلّلتها *** ولقد ضللت كذاك أيَّ ضلالِ

«ما» صلةٌ.

كلّلتها، أي: عصَيتها.

يقال: كلّل فلانٌ فلانًا، أي: لم يطعْه.

وأصبحَ فلانٌ مُكِلًّا: إذا صار ذوو قرابته كلًّا عليه، أي: عيالًا.

وكللتُه بالحجارة، أي: علوته بها، قال:

وفرجُه بحصَى المَعْزاء مكلولُ

والكِلّة: الصُّوقعة، وهي صُوفةٌ حمراء في رأس الهودج.

وقال الأصمعي: انكلّتْ المرأة فهي تَنكَلُ انكَلالًا: إذا تبسَّمَتْ.

وانْكَلَ السحابُ بالبَرق: إذا تَبسَّم بالبرق.

أبو عبيد عن أبي عمرو: الغمام المكَلَّلُ: السحابة تكون حَولَها قِطَعٌ مِن السَّحاب، فهي مكلَّلة بهنَّ.

وأنشد غيره لامرئ القيس:

أَصاحِ تَرَى بَرْقًا أريكَ ومَيضَه *** كلَمْعِ اليَدَيْن في حَبِّي مكلل

قلت: ويقال: تأكلَ السَّيف تأكلًا وتأكل، البرق تأكُّلًا: إذا تلألأ.

وليس من هذا الباب.

وقال الليث: الإكليل: شِبه عِصابة مزيَّنة بالجواهر.

قال: والإكليل: منزلٌ من منازل القمر.

قلت: الإكليل: رأسُ بُرج العقرب.

ورَقيبُ الثريّا من الأنواءِ هو الإكليل، لأنه يطلُع بغُيوبها.

وقال الليث: كلَّل الرجلُ: إذا ذهبَ وتركَ عيالَه بمَضْيَعَة.

قال: وأما كُلٌ فإِنّه اسمٌ يجمع الأجزاء.

ويقال في قولهم: كِلَا الرَّجُلين، إن اشتقاقَه من كَلَ القوم، ولكِنَّهم فرقوا بين التثنية والجميع بالتخفيف والتثقيل.

قلت: وقال غيره من النحويِّين: كلا وكلتا ليستا من باب كَلَ.

وأنا مفسِّر كلا وكلتا في الثلاثيِّ المعتلِّ من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

وقال أبو الهيثم فيما أفادني عنه المنذريُّ: يقع كَلٌ على اسم منكور موحَّد، فيؤدِّي معنى الجماعة، كقولهم: ما كل بيضاء شَحمةً ولا كل سوداء تمرةً، وتمرةٌ جائزة أيضًا إذا كرَّرت ما في الإضمار.

وسئل أحمد بن يحيى عن قول الله عزوجل: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30]، وعن توكيده بكلّهم ثم بأجمعين فقال: لما كانت كلهم تحتمل شيئين: مرةً اسمًا ومرة توكيدًا، جاء بالتوكيد الذي لا يكون إلا توكيدًا حَسْبُ.

وسئل المبرد عنها فقال: لو جاءت فسجد الملائكةُ احتمل أن يكون سجد بعضُهم، فجاء بقوله: (كُلُّهُمْ) لإحاطة الأجزاء.

فقيل له: فـ (أَجْمَعُونَ) ؟.

فقال: لو جاءت (كُلُّهُمْ) لاحتمل أن يكونوا سجدوا كلُّهم في أوقات مختلفاتٍ، فجاءت (أَجْمَعُونَ) لتدلَّ أن السجود كان منهم كلِّهم في وقت واحد، فدخلت (كُلُّهُمْ) للإِحاطة ودخلت (أَجْمَعُونَ) لسُرعة الطاعة.

وقال أبو عبيد عن الأصمعيّ: إذا كان الرجلُ فيه قِصَرٌ وغِلَظ مع شدة قيل: رجلٌ كُلكُلٌ وكُلاكِل وكَوَأْلَلٌ.

وأما الكَلْكَل فهو الصدر.

وقال الليث: الكلاكل: هي الجماعات كالكَراكر.

وأنشد قول العجاج:

حتى يحُلُّون الرُّبا الكلاكلا

وروي عن الأصمعيّ أنه قال: الكِلَّة: الصَّوقَعة، وهي صُوفة حمراء في رأس الهودج.

سلمة عن الفراء: الكُلَّة: التأخير.

والكَلَّة: الشَّفرة.

والكِلّة: الحالُ حالُ الرجل.

ويقال: ذئب كليل: لا يَعدو على أحد.

وباتَ بِكلّة سَوءٍ، أي: بحال سَوء.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


237-معجم العين (نصح)

نصح: فلانٌ ناصح الجيب: أي ناصح القَلْب مثل طاهرُ الثياب أي الصدر.

ونَصَحْتُه ونَصَحْتُ له نُصحًا ونَصيحةً، قال:

النُصْحُ مجّانٌ فمن شاء قبِل *** ومنْ أبَى لا شكَّ يَخْسَرْ ويَضِلّ

والناصِحُ: الخيّاط، وقميصٌ مَنْصُوحٌ: أي مَخيطٌ.

نَصَحتُه أنصَحُه نَصْحًا منَ النِّصاحة.

والنِّصاحة: السُلُوكُ التي يُخاطُ بها وتصغيرها نصيحة، قال:

وسَلَبْناهُ بُرْدَه المَنْصُوحا

والتنصح: كثرة النصيحة،

قال أكتم بن صيفي: إيّاكمْ وكثْرة التَنَصُّح فإنه يُورِثُ التُهَمَة.

والتَوْبةُ النّصوحُ: أن لا يعُودَ إلى ما تاب عنه.

والنِّصاحات: الجُلود، قال الأعشى:

فتَرَى القَومَ نَشاوىَ كلَّهُمْ *** مثلَ ما مُدَّت نِصاحاتُ الرُبَحْ

العين-الخليل بن أحمد الفراهيدي-توفي: 170هـ/940م


238-معجم العين (حقو)

حقو: الحَقْوانِ: الخاصرتان.

والجميع: الأحقاء.

والعدد: أَحْقٍ.

وإذا نظرتَ إلى رأسِ الثَّنيّةِ من ثنايا الجَبَل رأيت لمَخْرِمَيْها حَقْوَيْن من جانِبَيْها.

قال ذو الرمة:

تلوي الثّنايا بأَحْقيها حواشَيُه *** لَيَّ المُلاءِ بأبوابِ التّفاريج

يعني السّراب.

يقول: كما تلتوي السّتور بأبواب المصاريع.

وعُذْتُ بحَقْوِه إذا عاذَبه ليمنعَه.

قال:

أعوذُ بحَقْوَيْ عاصمٍ وابنِ عاصم

ورمى فلانٌ بحَقْوِه، أي: بإزاره.

والحَقْوُة: داءٌ يأخذُ في البْطنِ يُورِثُ نفخةً في الحَقْوينِ.

حقا الرّجلُ فهو مَحقُوٌّ من ذلك الداء.

العين-الخليل بن أحمد الفراهيدي-توفي: 170هـ/940م


239-معجم العين (ملق)

ملق: المَلَقُ: الود واللطف الشديد، قال:

إياك أدعو فتقبل مَلَقي

أي دعائي وتضرعي.

وإنه لَمَلاَّقٌ مُتَمِّلقٌ ذو مَلَقٍ، ولا يقال منه فعل إلا على تَمَلَّقَ.

والإِملاقُ: كثرة إنفاق المال والتبذير حتى يورث حاجة، وقوله تعالى:

{خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}

أي الفقر والحاجة.

وأخفق وأمْلَقَ وأورَقَ واحد.

العين-الخليل بن أحمد الفراهيدي-توفي: 170هـ/940م


240-معجم العين (ورث)

ورث: الإيراث: الإبقاءُ للشّيء.. يُورِثُ، أي: يُبقي ميراثًا.

وتقول: أورثه العِشقُ هَمًّا، وأورثته الحُمَّى ضَعفًا فوَرِثَ يَرِثُ.

والتُّراث: تاؤه واوٌ، ولا يُجْمَعُ كما يُجْمَعُ الميراث.

والإرث: ألفه واوٌ، لكنّها لما كُسِرَتْ هُمِزَتْ بلغة من يهمز الوسادَ والوِعاء، وشبهه كالوِكاف والوِشاح.. وفلان في إرث مَجْدٍ.

وتقول: إنّما هو مالي من كَسبي وإرْثِ آبائي.

العين-الخليل بن أحمد الفراهيدي-توفي: 170هـ/940م


241-القانون (مواريث؛ أموال عقارية؛ تراث)

مواريث؛ أموال عقارية؛ تراث: كل ما يورث أو يقبل الوراثة.

المعجم القانوني (الفاروقي)


242-القانون (مواريث معنوية)

مواريث معنوية: ليس لها كيان مادي، تراث معنوي أو أدبي، كل ما يورث مما لا يلمس ولا يرى.

المعجم القانوني (الفاروقي)


243-القانون ([في المواريث] يقال)

[في المواريث] يقال: تخصيص أنصبة أو توفيرها لصغار الأولاد raising portions for younger children بحيث إذا أراد والد أن يورث أرضه مثلًا ولده الأكبر دون الباقين من إخوته ولم يشأ في الحين ذاته أن يحرم هؤلاء بعض المقابل، كان له أحيانًا أن يخصص أنصباء معلومة to raise a portion بالصغار المذكورين تكون في شكل تكليف نقدي مقرر على الأرض يؤدي لكل منهم.

المعجم القانوني (الفاروقي)


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com