نتائج البحث عن (يَعْتَبِرْهُ)
1-العربية المعاصرة (طلب)
طلَبَ يَطلُب، طَلَبًا وطِلابًا وطِلابةً، فهو طالب، والمفعول مَطْلوب.* طلَب المجدَ: سعى للحصول عليه، توخَّاه، نشَده (طلب النجاحَ/الوظيفةَ- جاء لطلب/في طَلَب الدَّين- *من طلَبَ العُلا سهرَ الليالي*- {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [قرآن]) (*) طلبه في التلفون: هاتفه، كالمه تليفونيًّا- طلَب يدَها: تقدَّم للزواج منها، خطبها.
* طلَب إليه الغُفرانَ/طلَب منه الغُفرانَ: سأله إيَّاه، التمسه منه (طلَب إليه عونًا- طلَب منه مساعدةً- {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [قرآن]: والطّالب هنا عابد الصَّنم والمطلوب كُلُّ معبود بغير حقّ).
* طلَب فلانًا بدم فلان: حاول الأخذ بثأره.
* طلَب الليلُ النهارَ: أعقبه وأتى بعده {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} [قرآن].
تطلَّبَ يَتطلّب، تطلُّبًا، فهو مُتطلِّب، والمفعول مُتطلَّب.
* تطلَّب الأمرُ تفكيرًا: استدعى، احتاج واستلزم (تطلّب الدرسُ انتباهًا- يتطلب الوضعُ عملًا سريعًا).
* تطلَّب العطاءَ: طلبه مرّةً بعد مرَّة مع تكلُّف (تطلّب خدمةً/الطعامَ).
طالبَ يُطالِب، مطالبةً وطِلابًا، فهو مُطالِب، والمفعول مُطالَب.
* طالبه بالشّيء: سأل بإلحاح ما يعتبره حقًّا له (طالبه بحصّته/بوفاء دينه/بإرثه/بحقِّه).
طالِب [مفرد]: جمعه طالبون وطَلَبة وطُلاّب، والمؤنث طالبة، والجمع المؤنث طالبات:
1 - اسم فاعل من طلَبَ.
2 - تلميذ يطلب العلم في مرحلتي التعليم الثانوية والجامعيّة (كان طالبًا بجامعة الملك سعود- في الجامعة كثير من الطُلاّب الأجانب) (*) اتّحاد الطَّلَبَة: تنظيم في جامعة أو كلِّيَّة يُوَفِّر التَّسهيلات والمرافق للتَّرويح، مبنى يشتمل على تلك المرافق.
* الطَّالب: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: المتتبِّع غير المُهمِل (أقسم بالله الغالِب الطالِب).
طِلاب [مفرد]: مصدر طلَبَ.
طِلابة [مفرد]: مصدر طلَبَ.
طَلَب [مفرد]: جمعه طلبات (لغير المصدر):
1 - مصدر طلَبَ (*) تحت الطَّلب: طُلِب ولم يصل بعد، يُلبِّي بمجرد طلبه- حسَب الطَّلَب: مصنوع حسب مواصفات طالبها- طَلَب تجاريّ: أمر تسليم بضائع أو بيعها أو شرائها.
2 - التماس يتقدّم به صاحب حاجة (قدَّم طلبًا للحصول على وظيفة- وافق على الترقية بناءً على طلب المدير) (*) طلب استعارة: نموذج مطبوع يقوم باستيفائه الفرد الذي يتقدَّم للمكتبة للحصول على الاستعارة حيث يسجّل عليه معلومات.
3 - [في الاقتصاد] كميَّة يقبلُ الأفرادُ شراءها من سلعةٍ ما بثمن معيّن (*) العَرْضُ والطَّلَبُ: ما يُعْرَض من بضائع للبيع وما يُطلَب شراؤه منها.
4 - [في القانون] ما يتقدَّم به الخصم إلى المحكمة ملتمسًا الحكم به في الدعوى.
* سعر الطَّلب: [في الاقتصاد] أقلّ سِعْر بيع مطلوب لورقةٍ ماليّةٍ ما في سوق الأوراق الماليّة، أو هو السِّعر الذي يمكن للمستثمر أن يشتري به ورقة ماليَّة من السوق كما هي معروضة، ويسمّى أيضًا السِّعر المعروض أو سعر العرض.
طَلِبة [مفرد]: جمعه طَلِبات: بُغية، حقّ يُطالَب به (جعل ذلك طريقًا إلى طَلِبته).
طِلْبَة [مفرد]: جمعه طِلْبات وطِلَب: ما يُطْلب (ما طِلْبَتُك؟).
طَلَبيَّة [مفرد]: مصدر صناعيّ من طلَبَ: شيء مطلوب توريده (سلّمَ طلبيّة إلى المُتعهِّد- وصلت طلبيَّة القماش).
طُلاّبيّ [مفرد]: اسم منسوب إلى طُلاّب: على غير قياس: خاص بالطلاب (اتحاد طلابيّ- مركز الأنشطة الطلابيّة).
مُتَطلَّب [مفرد]: جمعه متطلَّبات:
1 - اسم مفعول من تطلَّبَ.
2 - أمر أو عمل يُطلَب تحقيقه، شيء أساسيّ لا غنى عنه (مُتطلّبات الإنسان/التعيين/الزواج) (*) مُتطلّب جامعيّ: مُقَرّرٌ يجب على جميع طلاب الجامعة دراسته قبل التخرُّج.
مطالبة [مفرد]: جمعه مطالَبات:
1 - مصدر طالبَ.
2 - مراسلة بُعثت إلى مورّد لاستعجال موادّ متأخّرة.
مَطلَب [مفرد]: جمعه مَطَالب:
1 - مصدر ميميّ من طلَبَ.
2 - مقصد، ما يُطلب من حق وغيره (لي عندك مطلب واحد- قدَّم/لبَّى مَطلبًا).
3 - هدف يُسعى إلى تحقيقه (الحريَّة مطلبُ الناس جميعهم- وما نيل المطالب بالتمنِّي.. ولكن تُؤخذ الدُّنيا غِلابا).
4 - مسألة من مسائل العلم (قضى ليلته يفكر في مطلب فيزيائيّ).
مَطْلُوب [مفرد]:
1 - اسم مفعول من طلَبَ (*) وهو المطلوب إثباته: تعبير يكتب غالبًا في نهاية برهان للدلالة على أنّه تمّ التّوصُّل إلى الاستنتاج المطلوب.
2 - رائج (هذه العطور مطلوبة في السُّوق).
3 - [في القانون] طلب، حاصل ما يتقدّم به الخصم إلى المحكمة مُلتمسًا الحكم به في الدَّعوى.
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
2-شمس العلوم (الاعتبار)
الكلمة: الاعتبار. الجذر: عبر. الوزن: الِافْتِعَال.[الاعتبار]: اعتبره به: أي قاسه، يقال: اعتبرْ الصاحبَ بالصاحب؛ وفي حديث ابن سيرين: «إني أعتبر الحديث»: أي يعتبره في تأويل الرؤيا فيعبِّر عليه.
واعتبر: من العِبْرَة، قال الله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ}.
وفي الحديث: «السعيد من اعتبر بغيره، والشقي من اعتبر به الناس».
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
3-البيطرة (مخاطر مقبولة)
مخاطر مقبولة: هي مستوى المخاطر الذي يعتبره كل من أعضاء منظمة OIE مناسب لحماية الحيوان والصحة العامة على أراضيه.البيطرة
4-التأمين (المستحق)
المستحـق: فرد الاسرة الباقي على قيد الحياة بعد وفاة المشترك أو صاحب المعاش او العائدة والذي يعتبره النظام مستحقا للمعاش ويشمل: -التأمين
5-التوقيف على مهمات التعاريف (النبات)
النبات: جسم مركب له صورة نوعية أثرها الشامل لأنواعها التنمية والتغذية مع حفظ التركيب، كذا قرره ابن الكمال. وقال الراغب: النبات والنبت ما يخرج من الأرض من الناميات، سواء كان له ساق كالشجر أم لا كالنجم، لكن خص عرفا بما لا ساق له، بل خص عند العامة بما يأكله الحيوان، ومن يعتبر الحقائق فإنه يعتبره في كل نام نباتا أو حيوانا.التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م
6-المعجم المفصل في النحو العربي (الألفات)
الألفاتهي ذات التّسميات الاصطلاحية التالية: ألف الأداة: هي مثل همزة «أيان» و «إنّ»، و «إن» و «أم»... كقوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها} ألف الاستغاثة، مثل: «يا قوما للمظلوم»، ألف الإشباع، كقول الشاعر:
«أقلّي اللّوم عاذل والعتابا***وقولي إن أصبت لقد أصابا»
ألف الإلحاق، مثل: «أرطى»، «حبلى»، «سبطرى»، ألف الإيجاب، كقوله تعالى: {أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى} ألف التأنيث، مثل: «حمراء» «صحراء»، «سكرى»، «عطشى»، ألف التّثنية مثل: «التلميذان يدرسان» ألف التّخبير، كقوله تعالى: {وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ} ألف التّخيير، مثل قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها} ألف التّفضيل، كقوله تعالى: {كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلادًا} ألف التّقرير، كقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ}.
ألف الجمع، مثل: «مفاتيح»، «قناديل»، «أكارم»، الألف الزائدة، مثل: «أكرم»، «قاتل»، «درسوا». الألف السّاكنة، مثل قوله تعالى: {الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا}. الألف الطّويلة، مثل: «عصا»، «غزا» ألف العبارة مثل: «أنا أعمل ما بوسعي». ألف العوض، مثل: «اشتريت قلما». ألف الفصل مثل: أتقتلنانّ.
الألف المجهولة، مثل: «كاتب» «كويتب».
الألف المحوّلة مثل: «قام» «قوم». ألف المدّة، كقول الشاعر:
«أعوذ بالله من العقراب ***الشّائلات عقد الأذناب»
ألف المضارعة، كقوله تعالى: {قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ}.
ألف المفاعلة، مثل: «قاتل»، «مقاتلة».
الألف المقصورة، مثل: «سكرى» «حبلى».
الألف الممدودة، مثل: «سماء»، «بناء». الألف المهموزة، مثل، «أخذ»، «سأل»، «نشأ» ألف النّداء، مثل: «يا أبتا». ألف النّدبة مثل «يا محسنا للفقير». ألف النّسب، مثل: فاكهاني.
ملاحظات: وردت الهمزة باستعمالات عدّة غير ما سبق منها:
1 ـ الألف الكافّة «بين» عن الإضافة، وهي التي إذا اتصّلت بالظّرف «بين» الذي يلازم الإضافة تكفه عنها، تقول: «صلّيت بين المغرب والعشاء» فالظرف «بين» مضاف «المغرب» مضاف إليه. أمّا إذا دخلت عليه الألف فلا يضاف فتقول: «بينا وقت المغرب والعشاء صلّيت» وتسمّى هذه الألف الكافّة ومنهم من يعتبر أنها جزء من «ما» التي تدخل على «إنّ» فتكفّها عن العمل.
ومنهم من يعتبر أنّها ألف الإشباع. وتضاف «بين» إلى المفرد كالمثل السّابق، وتضاف أيضا إلى الجمع، كقول الشاعر:
«فبينا نسوس النّاس والأمر أمرنا***إذا نحن فيهم سوقة ليس ننصف»
حيث أتى بعد «بينا» جملة فعليّة، وهي جملة «نسوس النّاس» هي في محل جرّ بالإضافة وكقول الشاعر:
«بينا تعانقه الكماة وروغه ***يوما أتيح له كميّ سلفع»
حيث أتى بعد «بينا» اسم مفرد هو مضاف إليه، منهم من يعتبره مجرورا على أنه مضاف إليه والمضاف «بينا» ومنهم من يعتبره مرفوعا على أنّه مبتدأ.
2 ـ الألف المعوّضة من الضّمّة، وتأتي عوضا من الضّمة في اسم الموصول المصغّر، فتقول في تصغير «الذي»: «اللّذيّا» وفي التي: «اللّتيّا» وفي الظّرف «إذا» «ذيّا» وفي تصغير اسم الإشارة «تا”
فنقول: «تيّا» والمثّنى «تان»: «تيّا» وفي الاسم «أولى»: «أوليّا».
3 ـ ألف الاستثبات بـ «من»، وذلك عند الوقف على «من» التي تكون في موضع نصب، وتلزم صورة واحدة في المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكّر، والمؤنّث، فإذا قيل لك: «رأيت ولدا». تجيب: «منا» و «رأيت ولدين» تجيب: «منا» و «رأيت فتاة» فتجيب: «منا» و «رأيت نساء»: فتجيب «منا» أما إذا لم تقف على «من»، فلا تزاد الألف، فتقول: «من يا ولد»، ومن العرب من يلحق بـ «من» علامة التأنيث والتّثنية والجمع ويلحقها بهاء السّكت، فيقول: «منه» و «منين»، «منين»، و «منان».
4 ـ ألف الوقف المبيّنة للحركة. وذلك يكون في الوقف على «أين أنت» فتقول: «أين أنتا» وفي «حيّهل»: «حيّهلا» ومعناها: أقبل.
5 ـ الألف علامة النّصب في الأسماء السّتّة وهي: «أب»، «أخ»، «حم»، «فو»، «ذو»، «هن» إذا كانت غير مصغّرة، وإذا أضيفت إلى غير ياء المتكلّم، مثل قوله تعالى: {يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ} «أخانا» مفعول به منصوب بالألف لأنه من الأسماء السّتّة وهو مضاف و «نا» ضمير متّصل مبنيّ على السّكون في محل جرّ بالإضافة.
حذف الألف: تحذف الألف في مواضع كثيرة أهمّها.
1 ـ تحذف من اسم الجلالة «الله» ومن كلمة «إله» ومن «لكن» ومن كلمة «طه» و «لكنّ» و «أولئك» ومن كلمة «الرحمن» بشرط أن تكون علم على اسم الجلالة مقرونا بـ «أل» أو علما على انسان لذلك لا تحذف من مثل: «أنت رحمان» لأنها غير مقرونة بـ «أل» وليست علما.
2 ـ يجوز حذفها من الكلمات التالية: «يس» وتلفظ «ياسين» ومنهم من يكتبها كما يلفظها، أو بصورة «يسين» كما تحذف من: «مئتين»، «هرون» «اسحق»، «السّموات»، «ثلثمئة»، «مئة»...
3 ـ وتحذف من «هاء» التنبيه إذا اتصلت بضمير مبدوء بهمزة فتقول: «هأنا» ويجوز أن تلحقها «ذا» فتقول: «هأنذا»، و «هأنتما»، «هأنتم»، «هأنتي»، وتحذف من الظّرف هنا المسبوق بـ «هاء» التنبيه فتقول: «ههنا» أما إذا كان الضّمير غير مبدوء بهمزة فلا تحذف فتقول: ها نحن.
4 ـ وتحذف من حرف النّداء «يا» إذا دخل على علم مبدوء بهمزة غير ممدودة، زائدة على ثلاثة أحرف، ولم يحذف منه حرف مثلا، مثل: «يأسعد»، «يأحمد»، أو إذا دخلت «يا» على «أيّها»، مثل: «يأيّها»، أو على كلمة «أهل» فتقول: «يأهل البلد»، كما تحذف من «أم والله لأكتبنّ» أي: أما والله كقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ}.
2 ـ تحذف من «ما» الاستفهاميّة، إذا اقترنت بحرف جرّ، مثل قوله تعالى: {عَمَّ يَتَساءَلُونَ}، أو إذا سبقت بمضاف ولم تركّب مع «ذا» مثل: بمقتضام تصرّفت؟
3 ـ وتحذف من اسم الإشارة «ذا»، إذا اقترن ب لام البعد، فتكتب: «ذلك، ذلكما، ذلكم، ذلكنّ» فتكون «ذا» اسم إشارة. و «اللام» للبعد و «الكاف»: للخطاب، وفي «ذلكما»، «ما» تدل على المثنّى وفي «ذلكم» الميم تدل على الجمع وفي «ذلكنّ» النّون تدل على جمع المؤنث.
4 ـ وتحذف الألف من «ها» التنبيه إذا اقترنت باسم الإشارة الذي لا يبدأ «بتاء» وليس بعده كاف مثل: «هذا»، «هذه»، «هذي»، «هؤلاء»، أمّا إذا كان مبتدئا «بتاء» فلا حذف فتقول: «هاتا»، «هاتان»، «هاتي»، ولا حذف أيضا إذا كان متّصلا بكاف الخطاب، مثل: «هاذاك»، و «هاتيك».
5 ـ وتحذف الألف من كل اسم إذا كانت مسبوقة بهمزة ترسم ألفا، ويستعاض منها بمدّة مثل: «آمن»: «أصلها»: أأمن، ومثل: «مآثر» ومثل: «مكافآت»، ومثل: «ملجآن» ولا تحذف مطلقا إذا وقعت قبلها همزة ترسم «واوا» مثل: «ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا» فلم تحذف من «تؤاخذنا»، أو قبلها همزة ترسم «ياء»، مثل: «هذان قارئان»، ولا تحذف من ضمير المثنى المرفوع مثل: «يقرءان».
زيادة الألف: وتزاد الألف في عدة مواضع أشهرها:
1 ـ تزاد بعد «واو» الجماعة مثل: «كلوا»، «لم يأكلوا»، أمّا إذا اتصل الفعل بضمير بعد «واو» الجماعة فلا تزاد، فتقول: «كلوه»، «لم يأكلوه»، ولا تزاد أيضا إذا كانت «الواو» حرف علّة وهي «لام» الفعل، مثل: «يغزو»، «يرجو»، «يدعو» ولا تزاد بعد «الواو» التي هي علامة جمع المذكّر السّالم المضاف، فتقول: جاء معلمو المدرسة، أو التي هي علامة في الملحق بجمع المذكّر السّالم، مثل: «جاء بنو تميم إلى قراهم» «بنو» فاعل مرفوع بالواو لأنه ملحق بجمع المذكر السّالم وهو مضاف «تميم» مضاف إليه مجرور بالفتحة عوضا عن الكسرة لأنه ممنوع من الصّرف.
2 ـ تزاد الألف للإطلاق في آخر الأبيات الشعريّة، كقول الشاعر:
«قفي يا أخت يوشع خبّرينا***أحاديث القرون الغابرينا»
حيث أضيفت الألف في «الغابرينا» للإطلاق.
3 ـ وتزاد في الاسم المنتهي بتنوين النّصب، بدون تاء التأنيث المربوطة، وبدون ألف، ولا همزة على ألف، ولا همزة قبلها ألف، مثل: «قرأت كتابا».
4 ـ كما تزاد في كلمة «مائة» وفي مركباتها مثل: «أربعمائة»، «خمسمائة»، «ستّمائة»...
كتابة الألف: لا تكتب الألف منفردة في أول الكلام، بل تكتب بشكل همزة، ولكنها تكتب في وسطه ممدودة أصيلة كانت، مثل: «قال، ساد، كاتب» أو غير أصيلة مثل: «إلام الخلف بينكم إلام» والأصل: «إلى ما» ومثل: «علام الضّجة الكبرى علام» والأصل: «على ما». أما إذا تطرّفت فتخضع لقواعد ثابتة، فتكتب ممدودة أو مقصورة، من هذه القواعد:
أولا: تكتب ممدودة في آخر الفعل الثّلاثي إذا كان أصلها «واوا» مثل: «غزا الجيش»، و «دعا القائد للهجوم» فالفعل «غزا» منته بالألف الممدودة لأن أصلها «واو» بدليل تحويله في المضارع إلى «يغزو»، ومثله: «دعا يدعو» إمّا إذا كان أصلها «ياء» فتكتب مقصورة، مثل: «مشى الطّفل ورمى اللعبة» فالفعل «مشى» ينتهى بألف
مقصورة لأن أصلها «ياء» بدليل المضارع «يمشي» ومثله: الفعل: «رمى» «يرمي» ويعرف أصل هذه الألف باتباع إحدى الطرق التالية:
أ ـ بتحويل الفعل إلى مصدره مثل: «دعا» «دعوة» «رمى رمية»، «دنا دنوّا».
ب ـ بتحويله إلى المضارع مثل: «دعا يدعو»، «مشى يمشي».
ج ـ بإسناده إلى ضمير رفع متحرك، مثل: «دنا دنوت» و «مشى مشيت» على أن هناك أفعال تكتب بالواو أو بالياء، لأن لها أصلان: أصل واويّ وأصل يائي وهذه الأفعال هي: «جبا، جبى»، أي: جمع، «سحا، سحى» أي: جرف، «زقا، زقى» أي: زقزق، «حثا حثى» أي: صبّ، «رعا، رعى» أي: راقب، «حما، حمى» أي: حفظ: «حكا، حكى»، «رثا، رثى»، «نفا، نفى»، «حلا، حلى»، «حنا، حنى»، «نضا، نضى» أي: جرّد، «نثا، نثى» أي: أشاع «خفا، خفى»، «دحا دحى» أي: بسط، ومنه قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها}، «ربا ربى» «عنا، عنى»، أي شغل: «قلا، قلى» أي: كره ومنه قوله تعالى: {وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى} «قنا، قنى»، أي جمع، «كنا، كنى» أي: ذكر الشيء ليدل على غيره، كناية «لحا، لحى»، «غفا، غفى»، «غلا، غلى»، «محا، محى»، «صغا صغى» أي: انتبه واستمع، «طحا، طحى» أي: بسط ومنه قوله تعالى: {وَالسَّماءِ وَما بَناها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها} «طلا، طلى» أي: دهن، «طفا، طفى» أي جاوز الحدّ، «طما، طمى» أي: ارتفع، «طها، طهى»، أي: ذهب في الأرض، أو عالج بالطّبخ، «نما، نمى» أي: كبر، ارتفع، زاد، «هما همى» أي: سال، «شكا شكى» أي: تظلّم، «فشا، فشى» أي: انتشر.
ثانيا: تكتب الألف مقصورة في الفعل فوق الثّلاثي إلّا إذا سبقتها «ياء» فترسم ممدودة، مثل: «اعتلى واستعصى» ومثل: «تزيّا واستحيا» وكذلك الفعل المجهول «يدعى» فإنه يكتب بالألف المقصورة لأنه يعدّ من الرّباعي إذ يعدّ حرف المضارعة من أحرف الفعل.
ثالثا: تكتب الألف ممدودة في آخر الاسم الثّلاثي إذا كان أصلها «واوا» ومقصورة إذا كان أصلها «ياء» مثل: «عصا» فالألف أصلها «واو»، ومثل: «فتى» الألف أصلها «ياء»، وضوابط كتابة الألف المقصورة والممدودة كثيرة منها:
1 ـ الإتيان بمثنّى الاسم، فتقول: «عصا، عصوان» و «فتى فتيان».
2 ـ الإتيان بالجمع فتقول: «عصا عصوات»، و «فتى فتيان»،
3 ـ الإتيان بصفة مؤنثة، مثل: «لما لمياء»، و «عشا عشواء».
4 ـ إذا كانت الكلمة جمعا فتأتي بمفردها، مثل: «قرى، قرية»، «ذرا، ذروة» وضبط البصريّون كتابة «الألف» ممدودة في الأسماء الثّلاثية إذا كانت منقلبة عن واو. بينما يكتب الكوفيّون بالألف المقصورة الاسم المضموم الأول إذا كان أصل ألفه واوا، فكتبوا بالألف المقصورة الكلمات: «الضّحى»، «الرّبى»، «الخطى»، «الدّجى» خلافا للقياس وتبعهم بذلك كثيرون.
وهناك أسماء كثيرة تكتب بالوجهين مثل: «المها»، «المهى» أي: البقرة الوحشية والجمع: «مهوات»، «مهيات». ومثل: «الرّحا، الرّحى»، أي: حجر الطاحون والجمع، «رحوان»، «رحيان»، ومثل: «الأسا» «الأسى» أي: الحزن، ويقال: «أسوان» و «أسيان»، ومثل: «الحشا»، «الحشى» أي: ما في البطن، ومثناه: «حشوان»، «حشيان» ومثل: «القرا»، «القرى»: أي: الظّهر، ومثناه: «قروان» و «قريان»، ومثل: «القطا»، القطى» أي: طائر بحجم الحمامة، ويجمع على: «قطوات»، «قطيات»، ومثل: «النّسا»، «النّسى» وهو العرق من الورك إلى الكعب ويثنّى على: «نسوان» و «نسيان»، ومثل: «النّقا»، «النّقى» وهو القطعة من الرمل المحدودبة ويثنى على: «نقوان» و «نقيان».
رابعا: وتكتب الألف مقصورة في آخر الاسم فوق الثّلاثي إذا لم تسبقها «ياء» مثل: «بشرى، سعدى، ذكرى، مستشفى» وممدودة إذا تلت «ياء، مثل: «ثريّا»، «دنيا»، «رعايا» ويأتي شذوذا الاسم المنقول عن فعل، مثل: «يحيى» أو عن اسم تفضيل: مثل: «أحيى»، أو عن جمع، مثل: «روابي»، أو عن صفة، مثل: «ربّى» علم لمؤنّث، فهي كلّها تكتب شذوذا بالألف المقصورة رغم أنها تلت «ياء»، وذلك للتّفرقة بينها وبين ما نقلت عنه.
خامسا: تكتب الألف ممدودة في آخر الأسماء المبنيّة، مثل: «إذا»، «مهما»، «حيثما»، «أنتما»، وتكتب شذوذا بالألف المقصورة الأسماء التّالية: «لدى»، «أنّى»، «متى»، «أولى» اسم الإشارة، «الألى» اسم موصول.
سادسا: وتكتب الألف ممدودة في آخر الأسماء الأعجميّة، مثل: «طنطا» اسم بلد في مصر، «فرنسا»، «أوستراليا»، و «حيفا» و «يافا» «رومانيا»، «بلغاريا» تركيّا، «هنغاريا»، «سويسرا»، «يوغسلافيا»، «سيبيريا»، «آسيا»، «كندا»، «أميركا» وتخرج عن هذا القياس فتكتب بالألف المقصورة الأسماء التّالية: «عيسى» «موسى»، «كسرى»، «بخارى»، «متّى». أما كلمة «موسيقى» فالقياس يقتضي كتابتها بالألف الممدودة، ولكن معظم الكتّاب يكتبونها مقصورة.
سابعا: وتكتب الألف ممدودة في معظم الحروف، مثل: «إلّا»، «ألا»، «أما»، «أمّا»، «أيا»، وشذت حروف كتبت ألفها مقصورة مثل: «إلى»، «بلى»، «حتى»، «على» وتكتب الألف ممدودة، إذا كانت منقلبة عن نون «إذن» فتكتب: «إذا» أو زائدة بعد «التاء» المنقلبة عن «ياء» «المتكلم» في النّداء، أو هي المنقلبة عن «ياء» المتكلم في النّداء مثل: «يا أبتا»، وفي النّدبة، مثل: «واحسرتا»، «واكبدا» ويجوز إلحاق هاء السّكت بعد الألف في النّداء والنّدبة فتقول: «يا أبتاه»، «واكبداه» «واحسرتاه»، وتكتب ممدودة إذا كانت منقلبة عن «نون» التّوكيد الخفيفة، كقوله تعالى: {كَلَّا لَئِنْ لَمْ} تنته {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} والأصل: لنسفعن، ونظم أحدهم ضوابط كتابة الهمزة بأبيات قال فيها:
«نحو الفتى والعصا متى تثنّيه ***تعرف كتابته بياء أو ألف»
«والفعل زده التّاء تعرف أصله ***كعفوت ثم الواو تبدل بالألف»
«واكتب مزيدا عن ثلاثيّ بيا***فعلا أو اسما إنّ ذا لا يختلف “
«فإن التقى ياءان تكتب بالألف ***واستثن يحيى اسما وريّى واعترف»
«واستثن من مبني الاسماء الألى ***وأولى متى أنّى لدى باليا عرف»
«ومن الحروف: إلى بلى حتّى على ***بالياء واكتب غير ذلك بالألف»
«وكذاك عند توسّطها كفتاي من ***أعطاه مولاه وأرضاه يقف»
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
7-المعجم المفصل في النحو العربي (آ)
آ:حرف لنداء القريب أو البعيد، والأكثر أنه للبعيد لسهولة مدّ الصوت. ويروي سيبويه عن العرب أن الهمزة هي لنداء القريب وما عداها يكون للبعيد.
انظر حروف النداء في المنادى ومثله: حرف النّداء «آي» منهم من يعتبره لنداء القريب ومنهم من يعتبره لنداء البعيد، ولم يذكره سيبويه. مثل:
«أفاطم مهلا بعض هذا التدلّل ***وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي»
حيث استعملت الهمزة لنداء القريب وكقول الشاعر:
«أبنيّ إنّ أباك كارب يومه ***فإذا دعيت إلى المكارم فاعجل»
حيث وردت الهمزة لنداء القريب، وتقول في نداء الله تعالى: «آلله انصرنا على من يعادينا».
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
8-المعجم المفصل في النحو العربي (الأحد)
الأحدهو أحد أيّام الأسبوع، منهم من يعتبره أول يوم من أيّام الأسبوع باعتبار الإثنين ثانيها ومنهم من يعتبره آخر أيّام الأسبوع باعتبار الإثنين أوّلها، ويجمع لفظ الأحد جمع قلّة على «آحاد» وجمع كثرة على «أحود» فتقول: «ثلاثة آحاد»، و «أربعة أحود». وأصله: «وحد»، فاستثقلوا البدء بالواو، فأبدلوها همزة.
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
9-المعجم المفصل في النحو العربي (إذا الظرفية)
إذا الظّرفيّةاصطلاحا: هي ظرف لما يستقبل من الزّمان متضمّنة معنى الشّرط، وأكثر ما يكون الفعل بعدها ماضيا مرادا به المستقبل، وقد يأتي مضارعا وهو في كلا الحالين في محل جرّ بالإضافة على أنّه فعل الشّرط، وجملة الجواب تكون لا محل لهّا من الإعراب. مثل:
«والنّفس راغبة إذا رغّبتها***وإذا تردّ إلى قليل تقنع»
حيث أتى بعد «إذا» في صدر البيت فعل ماض هو فعل الشّرط ومحل جملته الجرّ بالإضافة، وأتى بعد «إذا» في عجزه فعل مضارع وجملته في محل جرّ بالإضافة، وهي بتضمّنها معنى الشّرط واتّخاذها فعلين هما: فعل الشّرط وجوابه، إلّا أنها لا تجزمهما كالبيت السّابق وكقول الشاعر:
«إذا ما ترعرع فينا الغلام ***فما إن يقال له من هوه»
حيث أتت «إذا»: ظرفيّة شرطيّة ولم تجزم فعل الشّرط «ترعرع» الذي بعدها ومحل جملته الجرّ بالإضافة، وجاء جواب الشّرط جملة مقترنة بالفاء، و «ما» في صدر البيت زائدة وفي عجزه نافية. وقد تجزم «إذا» الفعلين في الشّعر للضّرورة، كقول الشاعر:
«وإذا تصبك خصاصة فارج الغنى ***وإلى الذي يعطي الرّغائب فارغب»
حيث أتى فعل الشّرط بعد «إذا» مجزوما وهو: «تصبك» وكذلك الجواب «فارج» وتأتي جازمة الفعلين في قول الشّاعر الآتي:
«استغن ما أغناك ربّك بالغنى ***وإذا تصبك خصاصة فتجمّل»
حيث جزم فعل الشّرط «تصبك» وكذلك جوابه «فتجمّل» ولكنّه كسر للقافية، وقد ورد هذا البيت على النّحو التّالي: وإذا تكون خصاصة فتحمّل.
حيث يأتي الفعل بعد «إذا» مرفوعا وهو «يكون» فلا جزم إذا في الشّعر.
وإذا الظرفيّة الشرطيّة لا يليها إلّا الفعل حسب رأي سيبويه. فقد يكون الفعل ظاهرا كالأمثلة السّابقة وكقوله تعالى: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجًا، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّابًا} حيث أتى بعد «إذا» فعل ظاهر، هو «جاء» وجملته في محل جر بالإضافة وجواب الشّرط هو جملة «فسبّح» المقرونة بالفاء والتّى لا محل لها من الإعراب. وقد يكون الفعل بعدها مقدّرا كقوله تعالى: {إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ} حيث تعرب «السّماء» فاعلا لفعل محذوف يفسّره الفعل الظّاهر، والجملة من الفعل المحذوف وفاعله في محلّ جرّ بالإضافة، والجملة التّالية، «انشقّت» لا محلّ لها من الإعراب لأنها تفسيريّة ويصير التّقدير: إذا انشقّت السّماء انشقّت، ومنهم من أجاز وقوع الاسم بعدها على أنه مبتدأ كما في قول الشاعر:
«إذا باهليّ تحته حنظليّة***له ولد فذاك المذرّع»
فيعربون «باهليّ»: مبتدأ والجملة الإسمية «تحته حنظلية» خبره. وضعّف هذا التأويل.
والأحسن إعراب باهليّ فاعل لفعل محذوف تقديره «كان» التامّة أو اسم «كان» النّاقصة وجملة «تحته حنظلية» «خبر كان». ومنهم من يعرب «حنظلية» فاعل لفعل محذوف تقديره «استقرّ» و «باهليّ» فاعل لفعل محذوف يفسّره العامل المحذوف في «حنظليّة» وهذا تأويل ضعيف أيضا بسبب حذف المفسّر والمفسّر معا، وربّما اعتبر الظّرف «تحته» ممّا يدل على المفسّر فكأنّه لم يحذف فيصحّ التّأويل. ومن رأي الجمهور أنّ «إذا» تكون دائما مضافة إلى الجملة التي بعدها والمكوّنة فعل الشّرط، وعاملها هو الجواب، فتكون منصوبة على الظرفيّة بالجواب، ومنهم من يرى أنها ليست مضافة إلى جملة فعل الشرط بل هو عامل النّصب فيها.
ثانيا: هي ظرف لما يستقبل من الزّمان دون تضمنها معنى الشرط، كقوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى} حيث أتت «إذا» ظرفية لا تتضمّن معنى الشّرط والجملة بعدها «هوى» ماضوية بمعنى المستقبل، وجملة «ما ضلّ» لا محلّ لها من الإعراب لأنها جواب القسم في كلمة «والنّجم». ومثل قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى} حيث أتى بعدها الفعل «يغشى» في المضارع وقد تضمنت معنى الظّرف دون معنى الشّرط.
ثالثا: هي ظرف لما مضى من الزّمان، وتقع موقع «إذ» كقوله تعالى: {وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْها} والتّقدير: وإذ رأوا... ومنهم من يرفض هذا التّقدير.
رابعا: هي ليست ظرفا بل هي اسم مجرور بـ «حتّى»، كقوله تعالى: {حَتَّى إِذا جاؤُها} فتكون «إذا» اسما مجرورا بـ «حتى» الجارّة. ومنهم من يرفض هذا الرأي فيعتبر «حتى» في الآية، ابتدائية، ومنهم من يرى أنها اسم هو مبتدأ، كما في قوله تعالى: {إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ خافِضَةٌ رافِعَةٌ، إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} «فإذا» الأولى: اسم مبنيّ على السّكون في محل رفع مبتدأ، خبره «إذا رجّت»، باعتبار «خافضة رافعة» منصوبتين على الحال، وقد تكون «إذا» مفعولا به كحديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم، لعائشة رضي الله عنها: «إنّني لأعلم إذا كنت عنّي راضية، وإذا كنت عليّ غضبى» فتكون «إذا» مفعولا به لفعل «أعلم»، ومنهم من يعتبره ظرفا لمفعول به محذوف والتّقدير: إنّي لأعلم شأنك إذا...، ومنهم من يعتبر «إذا» في: {إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} بدلا من «إذا» في: {إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ} وهي ظرف متضمّن معنى الشرط، ويكون فعله جملة «وقعت» وجوابه محذوف.
وهذا التقدير حسن، لطول الكلام وفهم المعنى والتقدير الواقع بعد «إذا» الثانية: انقسمتم وكنتم أزواجا ثلاثة.
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
10-المعجم المفصل في النحو العربي (الذي)
الّذياصطلاحا: اسم موصول على الأغلب ومنهم من يعتبره حرفا مصدريّا والجملة بعده مؤوّلة بمصدر ومنهم من يعتبره حرفا موصولا، كقوله تعالى: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا} والتّقدير: كخوضهم. ومنهم من يعتبره للجنس، والتّقدير: كخوض الذين خاضوا.
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
11-المعجم المفصل في النحو العربي (أولو)
أولوبمعنى «ذوو» أي: أصحاب وهو اسم لفظه لفظ الجمع ولا واحد له من لفظه، ومنهم من يعتبره اسم جمع وله مفرد من معناه لا من لفظه هو «ذو» وهو يعرب بالحروف إعراب الملحق بجمع المذكر السّالم.
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
12-المعجم المفصل في النحو العربي (الظرف)
الظّرف1 ـ تعريفه
لغة: الوعاء.
واصطلاحا: هو اسم منصوب يدل على زمان الفعل أو مكانه ويتضمّن معنى «في» باطّراد. وإذا لم يتضمّن معنى «في» فلا يكون ظرفا بل يكون إعرابه كسائر الأسماء المعربة، حسب ما يقتضيه العامل في الجملة.
فيكون مبتدأ، مثل: «يومنا مشرق» أو خبرا، مثل: «يومنا يوم مبارك». أو فاعلا، مثل: «جاء شهر رمضان»... ويسمى الظّرف أيضا مفعولا فيه.
وسمّيت الأمكنة والأزمنة ظروفا، لأن الأفعال تحصل فيها فصارت كالأوعية لها، مثل: «صمت شهر رمضان» ومثل: «جلست عندك أمام الطّاولة».
2 ـ نوعاه: الظرف نوعان: ظرف زمان ويدل على زمن حصول الفعل مثل: «مشيت ساعة» وظرف مكان ويدل على مكان حصول الفعل، مثل: «القلم فوق الطاولة».
3 ـ أقسامه 1 ـ من حيث الإبهام والتحديد هو قسمان: الظّرف المبهم والظّرف المحدود.
2 ـ من حيث التصرّف هو قسمان: الظّرف المتصرّف، والظّرف غير المتصرّف.
3 ـ من ناحية الإعراب هو أربعة أقسام: الظّرف المعرب، الظّرف المبنيّ، الظرف النّحويّ، الظرف المجازيّ.
4 ـ من ناحية التعلّق هو قسمان: الظرف اللّغو، والظرف المستقرّ.
5 ـ من ناحية الإفادة هو قسمان: الظرف المؤسس، والظرف المؤكّد وهو في الاصطلاح: الجار والمجرور، حرف الجر.
4 ـ ملاحظات: وهناك ظروف عدّة غير متصرّفة
مختلفة في معناها وأحكامها، منها:
1 ـ «ذا» و «ذات» بشرط إضافتهما إلى زمان، مثل: «قابلته ذا صباح أو ذات مساء» أو إلى مكان، مثل: التفتّ ذات اليمين وذات الشّمال.
2 ـ «حوال»، «حوالي»، «حول»، «حولي»، «أحوال»، «أحوالي» وكلها ظروف وليس المقصود منها التّثنية أو الجمع بل الإحاطة، وقد يستعمل «حواليك» مصدرا، لأن «الحول»، «والحوال» بمعنى جانب الشيء المحيط به، ويكونان بمعنى «القوّة».
3 ـ «شطر» بمعنى ناحية، كقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} ومنها «زنة الجبل» أي: إزاءه؛ ومنها: صددك وصقبك، مثل: «مكتبي صدد بيتك»، أي: قربه أو قبالته.
4 ـ الظروف المكانيّة المسموعة، مثل: «مطرنا السّهل والجبل»، ومثل: «ضرب العدوّ البطن والظّهر».
5 ـ قد تنزّل بعض الظروف منزلة أداة الشّرط والجملة بعدها بمنزلة الجواب، وقد تقترن بالفاء، كقوله تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ} وفيها جملة «فسيقولون» لا محل لها من الإعراب لأنها واقعة جواب الشرط ومقترنة بالفاء.
5 ـ عامل الظرف: قد يكون عامل الظّرف فعلا مثل: «سألتقي بك غدا»، أو مصدرا، مثل: «قدومك غدا يفرحني»، أو صفة أي: مشتق كاسم الفاعل وغيره، مثل: «أنا قادم غدا» «وأنت مشكور غدا»، أو وصفا بالتأويل، أي: اسما جامدا المقصود منه وصف باحدى الصّفات المعنويّة، مثل: «أتت الخليفة عند الحكم في أمور النّاس»، «وأنت معاوية ساعة الغضب»، فكلمة «عند» ظرف عامله «الخليفة» اسم جامد والمقصود «العادل». وكلمة «ساعة» ظرف عامله «معاوية» اسم جامد والمقصود منه «الحليم ساعة الغضب».
6 ـ وجود العامل: قد يكون عامل الظّرف مذكورا كالأمثلة السّابقة، وهذا الأصل، أو قد يكون محذوفا جوازا، مثل: «يوم الجمعة» جوابا لمن سألك متى سافرت؟ أو «يومين» جوابا لمن سألك: كم يوما غبت؟ أو يكون محذوفا وجوبا ويكون في مواضع عدّة منها: أن يقع الظّرف صلة، مثل: «جاء الّذين عندك» والتقدير: موجودون، أو صفة مثل: «شاهدت حمامة فوق الغصن»، والتقدير: موجودة، أو حالا مثل: «رأيت اللّاعبين في الملعب بين رفاقهم» والتقدير واقفين، أو خبرا مثل: «زيد عندك» أو مشتغلا عنه، مثل: «يوم الخميس صمت فيه». والتقدير: حصل الصيام يوم الخميس، أو مسموعا بالحذف مثل: «حينئذ الآن» والتقدير: «فعل ذلك حينئذ» وأعرفه الآن.
7 ـ ملاحظات 1 ـ عند حذف العامل وجوبا منهم من يعتبر أن الظرف نفسه هو الخبر أو الصفة، أو الحال، أو الصلة، إذ يعتبرون أن معنى العامل والضمير الذي يتضمّنه قد انتقل إلى الظّرف، فلا مانع إذن أن يكون الظرف هو الخبر.
2 ـ قد يكون الظرف اسما عرضت دلالته على اسم الزمان أو المكان وهو أربعة أشياء: العدد المميّز بالظرف مثل: «سرت عشرين يوما وأربعين فرسخا»، وما دلّ على كليّة أو جزئيّة من هذا الظرف، مثل: «سرت كل اليوم وبعض اللّيل» وما كان صفة لاسم الزمان والمكان، مثل: «نمت قليلا من الدّهر»، ومثل: «بيتي شرقيّ الجامعة»، أو ما كان مخفوضا مضافا إلى اسم زمان أو مكان ثم حذف الظّرف وحلّ المضاف إليه مكانه في الإعراب، مثل: «جئتك قدوم الحج»، أي: زمن قدوم و «زرتك صلاة العصر» أي: وقت صلاة ومثل: «لا أكلّمه القارظين» أي: «مدة غياب القارظين»، ومثل: «جلست قرب زيد» أي: في مكان قريب من زيد.
3 ـ وقد يكون ظرفا ما يجري مجرى الظرف من ألفاظ مسموعة منصوبة على معنى «في»، مثل: «أفي الحقّ أنت ناجح»، وكقول الشاعر:
«أفي الحقّ أنّي مغرم بك هائم ***وأنّك لا خلّ هواك ولا خمر»
والتقدير: أحقّا، وفي كلمة «حقا» اختلاف فمنهم من يعتبر أنها مصدر باق على مصدريّته ومنهم من يعتبره خارجا عن مصدريّته إلى الظّرفية ومنهم من يعتبر أنه منصوب على المفعول المطلق.
4 ـ ويخرج عن الظّرفية فلا يعد ظرفا مسائل عدّة منها:
أـ ما لا يدلّ على زمان أو مكان ولو كان بمعنى «في» كقوله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ} بتقدير: في أن تنكحوهنّ ولكن ليس بظرف.
ب ـ ما ليس على معنى «في» فلا يكون ظرفا، كقوله تعالى: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ} وكقوله تعالى: {يَخافُونَ يَوْمًا}.
فكلمة «حيث» مفعول به ومثلها كلمة «يوما» هي مفعول به لأنهما ليستا على معنى «في».
ج ـ وقد يكون النّصب على التوسّع باسقاط الخافض لا على الظّرفية، كقول الشاعر:
«تمرّون الدّيار ولم تعوجوا***كلامكم عليّ إذا حرام»
«الديار» اسم منصوب على نزع الخافض وليس ظرفا.
5 ـ قد يكون الظرف اسم إشارة، مثل: «وقفت تلك الناحية» ومثل: «قضيت ذلك اليوم بنزهة جميلة».
إعراب ظرف الزّمان: كل أسماء الزمان الظّاهرة سواء أكانت مبهمة أم مختصة تكون منصوبة على الظرفيّة، مثل: «سرت حينا».
فكلمة «حينا» هي ظرف زمان منصوب على الظرفيّة، ومثل: «سرت يوما». فكلمة «يوما» ظرف مختصّ لأنه يدلّ على وقت محدّد، وهو منصوب على الظرفيّة وينصب ظرف الزمان سواء أكان مشتقا، أي: على وزن «مفعل» أو «مفعل» جاريا على صيغة العامل، مثل: «قعدت مقعد الزّائر» أي: زمن قعود الزائر. أو جامدا، مثل: «نمت ساعة» و «صمت يوما». أما أسماء الزّمان المضمرة فلا تكون منصوبة بل مجرورة بحرف الجر «في»، مثل: «يوم الجمعة صمت فيه» فالضمير «الهاء» المتصل بـ «في» في محل جر.
إعراب ظرف المكان: ما يصلح للنّصب من أسماء المكان هو:
أـ المبهم، أي: الذي ليس له هيئة ولا شكل محسوس، ولا حدود تحصره وتحدد جوانبه، مثل: «وقفت أمام الدّار»، فالظرف «أمام» مبهم منصوب. أمّا المكان المختصّ فلا يكون منصوبا بل مجرورا بالحرف، مثل: «جلست في البيت» إلا إذا كان عامل الظرف هو الفعل «دخل» أو «سكن» أو «نزل» أو «ذهب» فهو ظرف منصوب، أو اسم منصوب على نزع الخافض، ومنهم من يعربه مفعولا به مثل: «ذهبت الشام» و «توجّهت مكة» و «نزلت بيروت»، و «دخلت المتحف» و «سكنت الدّار» فكل من «الشام» و «مكة» و «بيروت» و «المتحف» مفعول به للفعل السابق عليه.
ب ـ المقادير، فلا توجد «في» باطراد معها وإنما تتضمنّها أحيانا قليلة، لأن ناصبها لا بدّ أن يكون من أفعال السّير، مثل: «سرت ميلا»، أو تكون من مادّة فعله وتحوي حروفه، مثل: «وقفت موقفا»، و «جلست مجلسا». ومثل: «مشيت غلوة» و «سرت فرسخا». فكلمة «فرسخا» تتضمن معنى «في» لأن فعلها يدل على السّير وكلمة «مجلسا» هي من مادة عاملها جلست وتحوي حروفه.
ج ـ ومنها ما صيغ على وزن «مفعل» أو «مفعل» وعامله مشترك معه في مثل حروفه ومشتملا عليها، كالأمثلة السّابقة، ومثل: «صنعت مصنع الزجاج، وبنيت مبناه»، فلو كان العامل من غير لفظه لوجب الجر بحرف الجر «في»، مثل: «جلست في موقف السيّارة» و «لعبت في مرمى الكرة». والجدير بالذكر أن صيغة «مفعل» و «مفعل» تصلح للزمان وللمكان حسب ما تشير إليه القرائن، كأن تسأل: متى جلست؟ فيجاب: «جلست محضر الطائرة» أي: زمن حضور الطائرة. وإذا سألت: أنى جلست؟ فيجاب: «جلست محضر الأساتذة».
ملاحظات
1 ـ يجوز أن يتعدّد الظّرف لعامل واحد بشرط اختلاف جنسه زمانا ومكانا بدون أن يكون الثّاني تابعا للأوّل أي: نعتا له، أو توكيدا له، أو بدلا منه، أو معطوفا عليه، مثل: «استرح عندنا ساعة» و «صلّ عندنا ظهرا». أما إذا اتفقت الظّروف في جنسها فتتعدد إذا كان الثّاني بدلا من الأوّل، مثل:
«أقابلك يوم الامتحان صباحا». فكلمة «صباحا» هي بدل من «يوم» بدل بعض من كل؛ أو إذا كان العامل اسم تفضيل، مثل: «الطبيب اليوم أمهر منه الشهر الماضي». فكلمة «اليوم» وكلمة «الشهر» ظرفان عاملهما «أمهر» أفعل التفضيل وقد تقدم عليه ظرف منهما وتأخّر عنه الثاني.
2 ـ يجوز عطف ظرف الزمان على ظرف المكان وبالعكس، مثل: «جلست أمامك ويوم العيد»، ومثل: «قرأت الرسالة هنا وفي يوم الجمعة».
3 ـ قد يقع الظّرف بنوعيه: الزّمان والمكان خبرا للمبتدأ، مثل: «الكرسيّ وراء الطاولة».
و «السفر يوم الجمعة». فكلمة «وراء» ظرف مكان هو خبر للمبتدأ أو هو منصوب متعلق بخبر المبتدأ المحذوف تقديره: موجود؛ ومثله ظرف الزمان «يوم». فهو ظرف منصوب خبر المبتدأ، أو متعلق بمحذوف هو خبر المبتدأ.
الظرف من ناحية البناء: من الظروف ما تكون مبنيّة على السكون، مثل: «إذ» و «مذ» و «لدن»، أو على الضمّ، مثل: «منذ»، أو على فتح الجزأين إذا كانت مركّبة تركيبا مزجيا، مثل: «صباح مساء»، «يوم يوم»، «بين بين»، «صباح صباح»، فإن فقد الظرف التركيب المزجي، أو أضيف الأول إلى الثاني يكون معربا ويتغيّر معناه فيصير «كلّ صباح»، و «كلّ مساء». وكلمة «بين» إذا فقدت التركيب أعربت كقوله تعالى: {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ}. «بين»: مضاف إليه مجرور بالكسرة، وهو مضاف و «كم» في محل جر بالإضافة.
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
13-المعجم المفصل في علم الصرف (جمع التكسير)
جمع التكسيرهو ما دلّ على أكثر من اثنين، وتغيّر بناء مفرده، إمّا بزيادة على أصول مفرده، نحو: «قلب ـ قلوب» و «قلم ـ أقلام»، وإمّا بنقص عن أصول المفرد، نحو: «قيمة ـ قيم» و «تخمة ـ تخم»، وإمّا باختلاف الحركات مع الزيادة، نحو: «مصباح ـ مصابيح» و «مفتاح ـ مفاتيح»، وإمّا باختلاف الحركات مع النقصان، نحو: «رسول ـ رسل» و «صحيفة ـ صحف»، وإمّا باختلاف الحركات دون زيادة أو نقصان، نحو: «أسد ـ أسد» و «وثن ـ وثن».
ويسمّى أيضا: الجمع المكسّر، والمكسّر، والتكسير، وجمع التكثير، والجمع الذي يكسّر عليه الواحد، والجمع الذي لم يبن على وحده.
أنواعه: لجمع التكسير أنواع، هي:
أ ـ جمع القلّة، نحو: «أرجل». راجع: جمع القلّة.
ب ـ جمع الكثرة، نحو: «مجالس» راجع: جمع الكثرة.
ج ـ اسم الجمع، نحو: «قوم» (عند من يلحقه بجمع التكسير). راجع: اسم الجمع.
د ـ اسم الجنس الجمعيّ، نحو: «عرب» (عند من يعتبره من جموع التكسير).
راجع: اسم الجنس الجمعيّ.
المعجم المفصل في علم الصرف-راجي الأسمر-صدر:1414هـ/1993م
14-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (النصرانية)
النصرانيةالتعريف:
هي الرسالة التي أُنزلت على عيسى عليه الصلاة والسلام، مكمِّلة لرسالة موسى عليه الصلاة والسلام، ومتممة لما جاء في التوراة من تعاليم، موجهة إلى بني إسرائيل، داعية إلى التوحيد والفضيلة والتسامح، ولكنها جابهت مقاومة واضطهادًا شديدًا، فسرعان ما فقدت أصولها، مما ساعد على امتداد يد التحريف إليها، فابتعدت كثيرًا عن أصولها الأولى لامتزاجها بمعتقدات وفلسفات وثنية.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
مرت النصرانية بعدة مراحل وأطوار تاريخية مختلفة، انتقلت فيها من رسالة منزلة من عند الله تعالى إلى ديانة مُحرَّفة ومبدلة، تضافر على صنعها بعض الكهان ورجال السياسة، ويمكن تقسيم هذه المراحل كالتالي:
المرحلة الأولى:
النصرانية المُنزَّلة من عند الله التي جاء بها عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام:
- هي رسالة أنزلها الله تعالى على عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام إلى بني إسرائيل بعد أن انحرفوا وزاغوا عن شريعة موسى عليه السلام، وغلبت عليهم النزعات المادية. وافترقوا بسبب ذلك إلى فرق شتى، فمنهم من يؤمن بأن غاية الإنسان هي الحياة الدنيا، حي
- المبلِّغ: عيسى ابن مريم عليه السلام، أمُّه البتول مريم ابنة عمران أحد عظماء بني إسرائيل، نذرتها أمها قبل أن تحمل بها لخدمة المسجد، وكفلها زكريا أحد أنبياء بني إسرائيل وزوج خالتها، فكانت عابدة قانتة لله تعالى، حملت به من غير زوج بقدرة الله تعالى، وولدته
- بُعث عيسى عليه السلام نبيًّا إلى بني إسرائيل، مؤيَّدًا من الله تعالى بعدد من المعجزات الدالة على نبوته، فكان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرًا بإذن الله. ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله.
كما كان يخبر الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم بإذن الله.
وقد أيده الله هو وحواريِّيه بمائدة من السماء أنزلها عليهم لتكون عيدًا لأولهم وأخرهم.
- تآمر اليهود على قتله برئاسة الحبر الأكبر (كايافاس) وأثاروا عليه الحاكم الروماني لفلسطين (بيلاطس) لكنه تجاهلهم أولًا، ثم لما كذبوا عليه وتقوَّلوا على عيسى عليه السلام بأنه يدعو نفسه مسيحًا ملكًا، ويرفض دفع الجزية للقيصر، دفع ذلك الحاكم إلى إصدار أمرًا با
- اختفى عيسى وأصحابه عن أعين الجند، إلا أن أحد أصحابه دلَّ جند الرومان على مكانه، فألقى الله تعالى شبه عيسى عليه الصلاة والسلام وصورته عليه، ويقال إنه يهوذا الإسخريوطي وقيل غيره، فنُفِّذ حكم الصلب فيه بدلًا من عيسى عليه الصلاة والسلام حيث رفعه الله إليه،
- آمن بدعوة المسيح عليه السلام الكثير ولكنه اصطفى منهم اثني عشر حواريًّا كما هم مذكورون في إنجيل متى.
- وهناك الرسل السبعون الذين يقال بأن المسيح عليه السلام اختارهم ليعلِّموا النصرانية في القرى المجاورة.
المرحلة الثانية:
ويسميها مؤرِّخو الكنيسة بالعصر الرسولي، وينقسم هذا العصر إلى قسمين: التبشير وبداية الانحراف، والاضطهاد الذي يستمر حتى بداية العهد الذهبي للنصارى.
التبشير وبداية الانحراف:
بعدما رُفع المسيح عليه الصلاة والسلام، واشتد الإيذاء والتنكيل بأتباعه وحوارييه بوجه خاص؛ حيث قُتل يعقوب بن زبدي أخو يوحنا الصياد فكان أول من قتل من الحواريين، وسجن بطرس، وعذب سائر الرسل، وحدثت فتنة عظيمة لأتباع المسيح عليه الصلاة والسلام حتى كادت النصرانية أن تفنى.
وفي ظل هذه الأجواء المضطربة أعلن شاول الطرسوسي اليهودي الفريسي، صاحب الثقافات الواسعة بالمدارس الفلسفية والحضارات في عصره، وتلميذ أشهر علماء اليهود في زمانه عمالائيل، أعلن شاول الذي كان يُذيق أتباع المسيح سوءَ العذاب، إيمانه بالمسيح بعد زعمه رؤيته عند عودته من دمشق، مؤنبًا له على اضطهاده لأتباعه، آمرًا له بنشر تعاليمه بين الأمم، فاستخف الطرب النصارى، في الوقت الذي لم يصدقه بعضهم، إلا أن برنابا الحواري دافع عنه وقدمه إلى الحواريين فقبلوه، وبما يمتلكه من حدة ذكاء وقوة حيلة ووفرة نشاط استطاع أن يأخذ مكانًا مرموقًا بين الحواريين وتسمى بـ بولس.
- انطلق الحواريون للتبشير بين الأمم اليهودية في البلدان المجاورة، التي سبق أن تعرفت على دعوة المسيح عليه السلام أثناء زيارتها لبيت المقدس في عيد العنصرة، وتذكر كتب التاريخ النصراني بأن متَّى ذهب إلى الحبشة، وقُتل هناك بعد أن أسس فيها كنيسة ورسَّم – عيَّن-
- أما بولس فذهب إلى روما وأفسس وأثينا وأنطاكية، وأسس فيها كنائس نصرانية نظير كنيسة أورشليم ورسَّم لهم أساقفة. وفي أحد جولاته في أنطاكية صحبه برنابا فوجدا خلافًا حادًّا بين أتباع الكنيسة حول إكراه الأمميين على إتباع شريعة التوراة فعادا إلى بيت المقدس لعرض
بداية الانحراف:
- فيما بين عام 51 – 55م عقد أول مجمع يجمع بين الحواريين – مجمع أورشليم – تحت رئاسة يعقوب بن يوسف النجار المقتول رجمًا سنة 62م ليناقش دعوى استثناء الأمميين، وفيه تقرر – إعمالًا لأعظم المصلحتين – استثناء غير اليهود من الالتزام بشريعة التوراة إن كان ذلك هو ا
- عاد بولس بصحبة برنابا إلى أنطاكية مرة أخرى، وبعد صحبة غير قصيرة انفصلا وحدث بينهما مشادة عظيمة نتيجة لإعلان بولس نسخ أحكام التوراة وقوله أنها: "كانت لعنة تخلَّصنا منها إلى الأبد" و"أن المسيح جاء ليبدل عهدًا قديمًا بعهد جديد" ولاستعارته من فلاسفة اليونان
- قد استمرت المقاومة الشديدة لأفكار بولس عبر القرون الثلاثة الأولى: ففي القرن الثاني الميلادي تصدى هيولتس، وإيبيي فايتس، وأوريجين لها، وأنكروا أن بولس كان رسولًا، وظهر بولس الشمشاطي في القرن الثالث، وتبعه فرقته البوليسية إلا أنها كانت محدودة التأثير. وهكذ
الاضطهاد:
- عانت الدعوة النصرانية أشدَّ المعاناة من سلسلة الاضطهادات والتنكيل على أيدي اليهود الذين كانت لهم السيطرة الدينية، ومن الرومان الذين كانت لهم السيطرة والحكم، ولذلك فإن نصيب النصارى في فلسطين ومصر كان أشد من غيرهم، حيث اتخذ التعذيب والقتل أشكالًا عديدة؛ م
- من أعنف الاضطهادات وأشدها:
1- اضطهاد نيرون سنة 64م الذي قُتل فيه بطرس وبولس.
2- واضطهاد دمتيانوس سنة 90م وفيه كتب يوحنا إنجيله في أفسس باللغة اليونانية.
3- واضطهاد تراجان سنة 106م وفيه أمر الإمبراطور بإبادة النصارى وحرق كتبهم، فحدثت مذابح مُروِّعة قُتل فيها يعقوب البار أسقف أورشليم.
4- ومن أشدها قسوة وأعنفها اضطهادُ الإمبراطور دقلديانوس 284م الذي صمم على أن لا يكف عن قتل النصارى حتى تصل الدماء إلى ركبة فرسه، وقد نفذ تصميمه؛ وهدم الكنائس وأحرق الكتب، وأذاقهم من العذاب صنوفًا وألوانًا، مما دفع النصارى من أقباط مصر إلى اتخاذ يوم 29 أغسطس 284م بداية لتقويمهم تخليدًا لذكرى ضحاياهم.
- هكذا استمر الاضطهاد يتصاعد إلى أن استسلم الإمبراطور جالير لفكرة التسامح مع النصارى لكنه مات بعدها، ليعتلي قسطنطين عرش الإمبراطورية.
- سعى قسطنطين بما لأبيه من علاقات حسنة مع النصارى إلى استمالة تأييدهم له لفتح الجزء الشرقي من الإمبراطورية حيث يكثر عددهم، فأعلن مرسوم ميلان الذي يقضي بمنحهم الحرية في الدعوة والترخيص لديانتهم ومساواتها بغيرها من ديانات الإمبراطورية الرومانية، وشيَّد لهم
نشأة الرهبانية والديرية وتأثير الفلسفة على النصرانية:
- في خلال هذه المرحلة ظهرت الرهبنة في النصرانية في مصر أولًا على يد القديس بولس الطبي 241 – 356م والقديس أنطوان المعاصر له، إلا أن الديرية – حركة بناء الأديرة – نشأت أيضًا في صعيد مصر عام 315 – 320م أنشأها القديس باخوم، ومنها انتشرت في الشام وآسيا الصغرى.
العهد الذهبي للنصارى:
- يطلق مؤرخو الكنيسة اسم العهد الذهبي للنصارى ابتداء من تربُّع الإمبراطور قسطنطين على عرش الإمبراطورية الرومانية عام 312م لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل تاريخ النصرانية.
ويمكن تقسيم ذلك العهد إلى مرحلتين رئيسيتين:
* مرحلة جمع النصارى على عقيدة واحدة (عصر المجامع أو عهد الخلافات والمناقشات):
- ما إن أعلن قسطنطين إعلان ميلان حتى قرَّب النصارى وأسند إليهم الوظائف الكبيرة في بلاط قصره، وأظهر لهم التسامح، وبنى لهم الكنائس، وزعمت أمه هيلينا اكتشاف الصليب المقدس، الذي اتخذه شعارًا لدولته بجانب شعارها الوثني، فنشطت الدعوة إلى النصرانية، ودخل الكثير
- وفي وسط هذه العقائد المختلفة والفرق المتضاربة مابين من يُؤَلِّه المسيح وأمه (الريمتين) أو من يؤله المسيح فقط، أو يدعي وجود ثلاثة آلهة: إله صالح، وإله طالح، وآخر عدل بينهما (مقالة مرقيون). أعلن آريوس أحد قساوسة كنيسة الإسكندرية صرخته المدوية بأن المسيح ع
1- لعن آريوس الذي يقول بالتوحيد ونفيه وحرق كتبه، ووضع قانون الإيمان النيقاوي (الأثناسيوسي) الذي ينص على ألوهية المسيح.
2- وضع عشرين قانونًا لتنظيم أمور الكنيسة والأحكام الخاصة بالأكليريوس.
3- الاعتراف بأربعة أناجيل فقط: (متى، لوقا، مرقس، يوحنا) وبعض رسائل العهد الجديد والقديم، وحرق باقي الأناجيل لخلافها عقيدة المجمع.
- للتغلب على عوامل انهيار وتفكك الإمبراطورية أنشأ قسطنطين مدينة روما الجديدة عام 324م في بيزنطة القديمة باليونان على نفس تصميم روما القديمة، وأنشأ بها كنيسة كبيرة (أجياصوفيا) ورسم لهم بطريركًا مساويًا لبطاركة الإسكندرية وأنطاكية في المرتبة على أن الإمبراط
- تمهيدًا لانتقال العاصمة إلى روما الجديدة (القسطنطينية) اجتمع قسطنطين بآريوس حيث يدين أهل القسطنطينية والجزء الشرقي من الإمبراطورية بعقيدته، وإحساسًا منه بالحاجة إلى استرضاء سكان هذا القسم أعلن الإمبراطور موافقته لآريوس على عقيدته، وعقد مجمع صور سنة 334م
مرحلة الانفصال السياسي:
- قسَّم قسطنطين الإمبراطورية قبل وفاته عام 337م على أبنائه الثلاثة: فأخذ قسطنطين الثاني الغرب، وقسطنطيوس الشرق، وأخذ قنسطانس الجزء الأوسط من شمال أفريقيا، وعمد كل منهم إلى تأييد المذهب السائد في بلاده لترسيخ حكمه. فاتجه قسطنطيوس إلى تشجيع المذهب الآريوسي،
- توحدت الإمبراطورية تحت حكم قسطنطيوس عام 353 – 361م بعد وفاة قسطنطين الثاني، ومقتل قنسطانس، ووجد الفرصة سانحة لفرض مذهبه الآريوسي على جميع أجزاء الإمبراطورية شرقًا وغربًا.
- لم يلبث الأمر طويلًا حتى اعتلى فلؤديوس عرش الإمبراطورية 379 – 395م الذي اجتهد في إلغاء المذهب الآريوسي والتنكيل بأصحابه، والانتصار للمذهب الأثناسيوسي. ولذا ظهرت في عهده دعوات تنكر الأقانيم الثلاثة ولاهوت الروح القدس، فقرر عقد مجمع القسطنطينية الأول 382م
نشأة البابوية:
- على إثر تقسيم الإمبراطورية إلى شرقية وغربية، ونتيجة لضعف الإمبراطورية الغربية تم الفصل بين سلطان الدولة والكنيسة، بعكس الأمر في الإمبراطورية الشرقية حيث رسخ الإمبراطور قسطنطين مبدأ القيصرية البابوية، ومن هنا زادت سلطات أسقف روما وتحوَّل كرسيه إلى بابوية
بداية الصراع والتنافس على الزعامة الدينية بين الكنيستين:
- ظهر الصراع والتنافس بين كنيسة روما بما تدعي لها من ميراث ديني، وبين كنيسة القسطنطينية عاصمة الدولة ومركز أباطرتها في مجمع أفسس الأول عام 431م حيث نادى نسطور أسقف القسطنطينية بانفصال طبيعة اللاهوت عن الناسوت في السيد المسيح عليه السلام، وبالتالي فإن اللا
- ويسبب دعوى أرطاخي باتحاد الطبيعتين في السيد المسيح عقد له أسقف القسطنطينية فلافيانوس مجمعًا محليًّا وقرر فيه قطعه من الكنيسة ولعنه؛ لكن الإمبراطور ثاؤديوس الصغير قبل التماس أرطاخي، وقرر إعادة محاكمته، ودعا لانعقاد مجمع أفسس الثاني عام 449م برئاسة بطريرك
انفصال الكنيسة مذهبيًّا:
- لم يعترف أسقف روما ليو الأول بقرارات مجمع أفسس الثاني 449م وسعى الإمبراطور مركيانوس لعقد مجمع آخر للنظر في قرارات ذلك المجمع، فوافق الإمبراطور على عقد المجمع في القسطنطينية، ثم في كلدونية 451م لمناقشة مقالة بابا الإسكندرية ديسقورس: من أن للمسيح طبيعتين
نشأة الكنيسة اليعقوبية:
- واجه الإمبراطور جستنيان 527 – 565م صعوبة بالغة في تحقيق طموحه بتوحيد مذهبي الإمبراطورية لتتحقق له سلطة الإمبراطورية والبابوية معًا. وبعد انتصاره في إيطاليا ودخول جيوشه روما حاول إرضاء زوجته بفرض مذهب الطبيعة الواحدة (المونوفيزتية) على البابا فجليوس الذي
- ومن آثار هذا المجمع استقلالُ أصحاب مذهب الطبيعة الواحدة إقامةُ كنيسة منفصلة لهم، تعرف بالكنيسة اليعقوبية، تحت رئاسة مؤسسها يعقوب البرادعي أسقف الرَّها مما زاد في عداء البابوية للإمبراطورية الشرقية.
نشأة الكنيسة المارونية:
في عام 678 – 681م عمل الإمبراطور قسطنطين الرابع على استرضاء البابا أجاثون بعدما فقد المراكز الرئيسية لمذهب الطبيعة الواحدة في مصر والشام لفتح المسلمين لهما، فتم عقد مجمع القسطنطينية الثالث عام 680م للفصل في قول يوحنا مارون من أن للمسيح طبيعتين ومشيئة واحدة. وفيه تقرر أن للمسيح طبيعتين ومشيئتين، ولعن وطرد من يقول بالطبيعة الواحدة أو بالمشيئة الواحدة، ولذلك انفصلت طائفة المارونية ولحقت بسابقتها من الكنائس المنفصلة.
انفصال الكنيسة إداريًّا:
- جاء هذا الانفصال بعد النزاع والصراع الطويل ابتداءً من الإمبراطور ليو الثالث 726م الذي أصدر مرسومًا يُحرِّم فيه عبادة الأيقونات، ويقضي بإزالة التماثيل والصور الدينية والصلبان من الكنائس والأديرة والبيوت على أنها ضرب من الوثنية، متأثرًا بدعوة المسلمين لإز
- تصدى لهذه الدعوة البابا جريجوري الثاني، ثم خَلَفه البابا جريجوري الثالث ليصدر الإمبراطور قرارًا بحرمان الكراسي الأسقفية في صقلية وجنوب إيطاليا من سلطة البابا الدينية والقضائية وجعلها تحت سلطان بطريرك القسطنطينية. واستمر الوضع على ذلك إلى أن جاء الإمبراط
- ولكن هذه القرارات لم تدم طويلًا حيث أمرت الإمبراطورة الأيقونية إيرين التي خلفت زوجها الإمبراطور ليو الخزري بعقد مجمع نيقية عام 787م بعد تعيينها للبطريرك خرسيوس المتحمس للآيقونية بطريركًا على القسطنطينية، وانتهى المجمع على تقديس صور المسيح ووالدته والقدي
- في عام 869م أثار بطريرك القسطنطينية فوسيوس مسألة انبثاق الروح القدس من الأب وحده، فعارضه – كالعادة – بطريرك روما وقال إن انبثاق الروح القدس من الأب والابن معًا، وعقد لذلك مجمع القسطنطينية الرابع 869م (مجمع الغرب اللاتيني) الذي تقرَّر فيه أن الروح القدس
- وهكذا تم الانفصال المذهبي للكنيسة الشرقية تحت مسمى الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية، أو كنيسة الروم الأرثوذكس برئاسة بطريرك القسطنطينية، ومذهبًا بأن الروح القدس منبثقة من الأب وحده، على أن الكنيسة الغربية أيضًا تميَّزت باسم الكنيسة البطرسية الكاثوليكية، وبزع
ومن أبرز سمات هذه المرحلة الأخيرة – القرون الوسطى – الفساد، ومحاربة العلم والعلماء والتنكيل بهم والاضطهاد لهم، وتقرير أن البابا معصوم له حق الغفران، مما دفع إلى قيام العديد من الحركات الداعية لإصلاح فساد الكنيسة، وفي وسط هذا الجو الثائر ضد رجال الكنيسة انعقد مؤتمر ترنت عام 1542 – 1563م لبحث مبادئ مارتن لوثر التي تؤيدها الحكومة والشعب الألماني، وانتهى إلى عدم قبول آراء الثائرين أصحاب دعوة الإصلاح الديني. ومن هنا انشقَّت كنيسة جديدة هي كنيسة البروتستانت ليستقر قارب النصرانية بين أمواج المجامع التي عصفت بتاريخها على ثلاث كنائس رئيسية لها النفوذ في العالم إلى اليوم، ولكل منها نحلة وعقيدة مستقلة، وهي: الأرثوذكس، الكاثوليك، البروتستانت، بالإضافة إلى الكنائس المحدودة مثل: المارونية، والنسطورية، واليعقوبية، وطائفة الموحدين، وغيرهم.
أهم الأفكار والمعتقدات:
يمكن إجمال أفكار معتقدات النصرانية بشكل عام فيما يلي، علمًا بأنه سيفصل فيما بينهم من خلاف في المباحث التالية:
* الألوهية والتثليث: مع أن النصرانية في جوهرها تُعنى بالتهذيب الوجداني، وشريعتها هي شريعة موسى عليه السلام، وأصل اعتقادها هو دين الإسلام حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الأنبياء أخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد" لكنه بعد ضياع الإنجيل وظهور العشرات من الأناجيل والمجامع والدعاوى المنحرفة استقرت أصول عقائد النصرانية على ما يلي:
- الإله: الإيمان بالله الواحد، الأب مالك كل شيء، وصانع ما يرى وما لا يرى. هكذا في قانون إيمانهم، وواضحٌ تأثُّرهم بألفاظ الفلاسفة في قولهم صانع ما يرى. والأولى قولهم خالق ما يرى وما لا يرى حيث بينهما فرق كبير؛ فالصانع يخلق على أساس مثال سابق، بينما الخالق
- المسيح: إن ابنه الوحيد يسوع المسيح بكر الخلائق ولد من أبيه قبل العوالم، وليس بمصنوع (تعالى الله عن كفرهم علوًّا كبيرًا)، ومنهم من يعتقد أنه هو الله نفسه – سبحانه وتعالى عن إفكهم – وقد أشار القرآن الكريم إلى كلا المذهبين، وبيَّن فسادهما، وكفَّر معتقدهما؛
ـ روح القدس: إن روح القدس الذي حلَّ في مريم لدى البشارة، وعلى المسيح في العماد على صورة حمامة، وعلى الرسل من بعد صعود المسيح، الذي لا يزال موجودًا، وينزل على الآباء والقديسين بالكنيسة يرشدهم ويعلمهم ويحل عليهم المواهب، ليس إلا روح الله وحياته، إله حق من إله حق.
- الأقانيم: ولذلك يؤمنون بالأقانيم الثلاثة: الأب، الابن، الروح القدس، بما يُسمونه في زعمهم وحدانية في تثليث وتثليث في وحدانية. وذل زعمٌ باطل صعُب عليهم فهمه، ولذلك اختلفوا فيه اختلافًا متباينًا، وكفرت كل فرقة من فرقهم الأخرى بسببه، وقد حكم الله تعالى بكفر
- الصلب والفداء: المسيح في نظرهم مات مصلوبًا فداءً عن الخليقة، لشدة حب الله للبشر ولعدالته، فهو وحيد الله – تعالى الله عن كفرهم – الذي أرسله ليخلص العالم من إثم خطيئة أبيهم آدم وخطاياهم، وأنه دفن بعد صلبه، وقام بعد ثلاثة أيام متغلبًا على الموت ليرتفع إلى
- قال تعالى مبينًا حقيقة ما حدث وزيف ما ادعوه: {وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا إتباع الظن وما قتلوه يقينًا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزًا حكيمًا}.
* الدينونة والحساب: يعتقدون بأن الحساب في الآخرة سيكون موكولًا للمسيح عيسى ابن مريم الجالس – في زعمهم – على يمين الرب في السماء؛ لأن فيه من جنس البشر مما يعينه على محاسبة الناس على أعمالهم.
* الصليب: يعتبر الصليب شعارًا لهم، وهو موضع تقديس الأكثرين، وحملُه علامة على أنهم من أتباع المسيح، ولا يخفى ما في ذلك من خفة عقولهم وسفاهة رأيهم، فمن الأولى لهم أن يكرهوا الصليب ويحقروه لأنه كان أحد الأدوات التي صلب عليه إلههم وسبب آلامه. وعلى حسب منطقهم فكان الأولى بهم أن يعظموا قبره الذي زعموا أنه دفن فيه، ولا مس جسده تربته فترة أطول مما لامس الصليب.
مريم البتول: يعتقد النصارى على ما أضيف في قانون الإيمان أن مريم ابنة عمران والدة المسيح عليه السلام، هي والدة الإله، ولذا يتوجَّه البعض منهم إليها بالعبادة.
* الدين: يؤمن النصارى بأن النصرانية دين عالمي غير مختص ببني إسرائيل وحدهم، ولا يخلو اعتقادهم هذا أيضًا من مخالفة لقول المسيح المذكور في إنجيل متى، الإصحاح (10: 5، 6): "إلى طرق الأمم لا تتجهوا، ومدن السامريين لا تدخلوا، بل انطلقوا بالحري إلى الخراف الضالة من آل بني إسرائيل".
* الكتاب المقدس: يؤمن النصارى بقدسية الكتاب المشتمل على:
العهد القديم: والذي يحتوي التوراة – الناموس – وأسفار الأنبياء التي تحمل تواريخ بني إسرائيل وجيرانهم، بالإضافة إلى بعض الوصايا والإرشادات.
العهد الجديد: والذي يشمل الأناجيل الأربعة: (متى، مرقس، لوقا، يوحنا) فقط، والرسائل المنسوبة للرسل، على أن ما في العهد الجديد يلغي ما في العهد القديم، لأنه في اعتقادهم كلمة الله، وذلك على خلاف بين طوائفهم في الاعتقاد في عدد الأسفار والرسائل بل وفي صحة التوراة نفسها.
* المجامع (التقليد): يؤمن النصارى بكل ما صدر عن المجامع المسكونية من أمور تشريعية سواء في العقيدة أو في الأحكام، وذلك على خلاف بينهم في عددها.
* الختان: يؤمن النصارى بعدم الختان للأطفال على عكس شريعة التوراة.
الشعائر والعبادات:
- الصلاة: الأصل عندهم في جميع الصلوات إنما هي الصلاة الربانية، والأصل في تلاوتها أن يتلوها المصلي ساجدًا، أو تكون بألفاظ منقولة أو مرتجلة أو عقلية بأن تنوي الألفاظ ويكون الابتهال قلبيًّا، وذلك على خلاف كبير بين طوائفهم في عددها وطريقة تأديتها. ليس لها عدد
- الصوم: هو الامتناع عن الطعام الدسم وما فيه شيء من الحيوان أو مشتقاته مقتصرين على أكل البقول، وتختلف مدته وكيفيته من فرقة إلى أخرى.
- الأسرار السبعة: والتي ينال بها النصراني النعم غير المنظورة في صورة نعم منظورة، ولا تتم إلا على يد كاهن شرعي، ولذا فهي واجبة على كل نصراني ممارستها وإلا أصبح إيمانه ناقصًا. وبالجملة فإنها من ضمن التشريعات التي لم يُنزل الله بها من سلطان، وإنما هي من تخرّ
- سر التعميد: ويقصد به تعميد الأطفال عقب ولادتهم بغطاسهم في الماء أو الرش به باسم الأب والابن والروح القدس، لتمحي عنهم آثار الخطيئة الأصلية، بزعم إعطاء الطفل شيئًا من الحرية والمقدرة لعمل الخير، وهذا أيضًا على خلاف بينهم في صورته ووقته.
- سر التثبيت (الميرون): ولا يكون إلا مرة واحدة، ولا تكمل المعمودية إلا به، حيث يقوم الكاهن بمسح أعضاء المعتمد بعد خروجه من جرن المعمودية في ستة وثلاثين موضعًا – الأعضاء والمفاصل – بدهن الميرون المقدس.
- سر العشاء الرباني: ويكون بالخمر أو الماء ومعه الخبز الجاف؛ حيث يتحول في زعمهم الماء أو الخمر إلى دم المسيح، والخبز إلى عظامه، وبذلك فإن من يتناوله فإنما يمتزج في تعاليمه بذلك، وكذلك ففرقُهم على خلاف في الاستحالة بل وفي العشاء نفسه.
- سر الاعتراف: وهو الإفضاء إلى رجل الدين بكل ما يقترفه المرء من آثام وذنوب، ويتبعه الغفران والتطهير من الذنب بسقوط العقوبة، وكان الاعتراف يتكرر عدة مرات مدى الحياة، ولكن منذ سنة 1215م أصبح لازمًا مرة واحدة على الأقل، وهذه الشعيرة عندهم أيضًا مما اختُلِف ف
- سر الزواج: يُسمح الزواج بزوجة واحدة مع منع التعدد الذي كان جائزًا في مطلع النصرانية، ويُشترط عند الزواج حضور القسيس ليقيم وحده بين الزوجين، والطلاق لا يجوز إلا في حالة الزنى – على خلاف بينهم – ولا يجوز الزواج بعده مرة أخرى، بعكس الفراق الناشئ عن الموت،
- سر مسحة المرضى: وهو السر السادس بزعم شفاء الأمراض الجسدية المتسببة عن العلل الروحية وهي الخطيئة، ولا يمارس الكاهن صلوات القنديل السبع إلا بعد أن يتثبَّت من رغبة المريض في الشفاء.
- سر الكهنوت: وهو السر الذي ينال به الإنسان بزعمهم النعمة التي تؤهِّله لأن يؤدي رسالة السيد المسيح بين إخوانه من البشر، ولا يتم إلا بوضع يد الأسقف على رأس الشخص المنتخب ثم يتلى عليه الصلوات الخاصة برسم الكهنة.
- الرهبانية: اختلفت طوائفهم في مدى لزوم الرهبنة التي يأخذ رجال الدين أنفسهم بها.
* التنظيم الكهنوتي: تختلف كل كنيسة – فرقة – عن الأخرى في التنظيم الكهنوتي، ولكنه بوجه عام هو تنظيمٌ استعارته الكنيسة في عهودها الأولى من الرومان حيث كان يرأسها أكبرهم سنًّا على أمل عودة المسيح، ويقدسون رهبانهم ورجال كنيستهم، ويجعلون لهم السلطة المطلقة في الدين وفي منح صكوك الغفران؛ يقول تعالى مبينًا انحرافهم: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله}. [التوبة: 31].
* الهرطقة ومحاربتها: حاربت الكنيسة العلوم والاكتشافات العلمية وكل المحاولات الجديدة لفهم كتابهم المقدس، ورمت ذلك كله بالهرطقة، وواجهت هذه الاتجاهات بمنتهى العنف والقسوة، مما أوجد ردة فعل قوية تمثَّلت في ظهور المذاهب العلمانية والأفكار الإلحادية.
- الجذور الفكرية والعقائدية:
أساسها نصوص العهد القديم، فقد انعكست الروح والتعاليم اليهودية من خلاله، ذلك أن النصرانية قد جاءت مكملة لليهودية، وهي خاصة بخراف بني إسرائيل الضالة، كما تذكر أناجيلهم.
- لقد أدخل أمنيوس المتوفى سنة 242م أفكارًا وثنية إلى النصرانية بعد أن اعتنقها وارتدَّ عنها إلى الوثنية الرومانية.
- عندما دخل الرومان في الديانة النصرانية نقلوا معهم إليها أبحاثهم الفلسفية وثقافتهم الوثنية، ومزجوها بالمسيحية التي صارت خليطًا من كل ذلك.
- لقد كانت فكرة التثليث التي أقرَّها مجمع نيقية 325م انعكاسًا للأفلوطونية الحديثة التي جلبت معظم أفكارها من الفلسفة الشرقية، وكان لأفلوطين المتوفى سنة 270م أثر بارز على معتقداتها، فأفلوطين هذا تتلمذ في الإسكندرية، ثم رحل إلى فارس والهند، وعاد بعدها وفي جع
1- المُنشئ الأزلي الأول.
2- العقل.
3- الروح التي هي مصدر تتشعب منه الأرواح جميعًا.
بذلك يضع أساسًا للتثليث إذ أن المنشئ هو الله، والعقل هو الابن، والروح هو الروح القدس.
- تأثرت النصرانية بديانة متراس التي كانت موجودة في بلاد فارس قبل الميلاد بحوالي ستة قرون التي تتضمن قصة مثيلة لقصة العشاء الرباني.
- في الهندوسية تثليث، وأقانيم، وصلب للتكفير عن الخطيئة، وزهد ورهبنة، وتخلُّص من المال للدخول في ملكوت السموات، والإله لديهم له ثلاثة أسماء فهو فشنو أي الحافظ وسيفا المهلك وبرهما المُوجِد. وكل ذلك انتقل إلى النصرانية بعد تحريفها.
- انتقلت بعض معتقدات وأفكار البوذية التي سبقت النصرانية بخمسة قرون إلى النصرانية المحرَّفة، وإن علم مقارنة الأديان يكشف تطابقًا عجيبًا بين شخصية بوذا وشخصية المسيح عليه السلام (انظر العقائد الوثنية في الديانة النصرانية لمحمد طاهر التنير).
- خالطت عقيدة البابليين القديمة النصرانية إذ أن هناك محاكمة لبعل إله الشمس تُماثِل وتطابق محاكمة المسيح عليه السلام.
وبالجملة فإن النصرانية قد أخذت من معظم الديانات والمعتقدات التي كانت موجودة قبلها، مما أفقدها شكلها وجوهرها الأساسي الذي جاء به عيسى عليه السلام من لدن رب العالمين.
الانتشار ومواقع النفوذ:
* تنتشر النصرانية اليوم في معظم بقاع العالم، وقد أعانها على ذلك الاستعمار والتنصير الذي تدعمه مؤسسات ضخمة عالمية ذات إمكانات هائلة.
يتضح مما سبق:
* لم تكن عقيدة التثليث معروفة في عصر الحواريين (العصر الرسولي) تقول دائرة المعارف الفرنسية: "وإن تلاميذ المسيح الأوّلين الذين عرفوا شخصه وسمعوا قوله كانوا أبعد الناس عن اعتقاد أنه أحد الأركان الثلاثة المكوِّنة لذات الخالق، وما كان بطرس حواريه يعتبره أكثر من رجل يوحي إليه من عند الله". وتستشهد على ذلك بأقوال قدماء المؤرخين مثل جوستن ماراستر من القرن الثاني الميلادي حيث يصرح بأنه كان في زمنه في الكنيسة مؤمنون يعتقدون أن عيسى هو المسيح، ويعتبرونه إنسانًا بحتًا، وأنه كان أرقى من غيره من الناس، وحدث بعد ذلك أنه كلما تنصَّر عدد من الوثنيين ظهرت عقائد جديدة لم تكن من قبل.
* لضياع النصوص الأصلية من الأناجيل نتيجة للاضطهاد من جانب وللاحتكاك والتأثر بالفلسفات والحضارات الشرقية والوثنية من جانب آخر، حملت الديانة النصرانية المحرفة عوامل اختلافها وتناقض نصوصها، الذي ظهر بشكل واضح من خلال المجامع المختلفة التي عقدت لوضع أصول الدين وتشريعاته بشكل لم يَرِد عن المسيح عليه السلام ولا عن حوارييه.
* سيطرت عقائد وأفكار بولس على النصرانية؛ يقول دبليو ريد "إن بولس قد غيَّر النصرانية لدرجة أنه أمسى مؤسسها الثاني، إنه في الواقع مؤسس المسيحية الكنسية". ويؤيده لوني دنيله، وستون استيورت، جيمبرلين في أن بولس أضفى على المسيحية بتمزيقها إطارًا غير اليهودية ولذلك فبات خالق الكنائس التي أسست باسم اليسوع. ويقول لوني نيك: "لو لم يكن بولس لعادت المسيحية فرقة من الديانة اليهودية، ولما كانت ديانة كونيه".
* كل ما ذكر عن برنابا وبطرس في رسائل بولس فإنما هي قبل الافتراق، حيث كان لتلاميذ بولس من أمثال لوقا ويوحنا دورٌ كبير في إخفاء تاريخهما بعد الخلاف بينهما، وهذا ما أيدته دائرة المعارف البريطانية من أن قوة نفوذ وأتباع بولس أخفت تاريخ كل من يعارض بولس مثل برنابا وبطرس.
- هناك رسالتان تُنسبان لبطرس يوافق فيهما أفكار بولس، أثبتت دائرة المعارف البريطانية أنهما ليستا له وأنهما مزوَّرتان عليه حيث تتعلق بتاريخ ما بعد موته، ولم تقبلهما كنيسة روما إلا في سنة (264م) بينما اعترفت بهما الإسكندرية في القرن الثالث، وكذلك بالنسبة للرس
* لم تُعرف الأناجيل الأربعة المتفق عليها عند النصارى اليوم المعرفة الكاملة قبل مجمع نيقية (335م) حيث تم اختيارها من بين عشرات الأناجيل، وأما الرسائل السبع فلم يعترف المجمع المذكور بالكثير منها، وإنما تم الاعتراف بها فيما بعد.
- إن تلاميذ المسيح عليه السلام ليسوا بكتَّاب هذه الأناجيل فهي مقطوعة الإسناد، والنصوص الأصلية المترجَم عنها مفقودة، بل ونصوص الإنجيل الواحد متناقضة مع بعضها فضلًا عن تناقضها مع غيرها من نصوص الأناجيل الأخرى مما يبطل دعوى أنها كُتبت بإلهام من الله تعالى.
- بعد الدراسة المتأنية لنصوص الإنجيل نجد فضلًا عن التناقضات، لا بين نصوص الإنجيل الواحد أو الأناجيل المختلفة فقط، وإنما بين نصوص الأناجيل ورسائل الرسل المزعومة، وأيضًا بينها وبين نصوص العهد القديم ما يدلِّل ويؤكد التحريف سواء كان بقصد أو بغير قصد.
- هناك مئات النصوص في الأناجيل الأربعة تدل على أن عيسى إنسان وليس إلهًا، وأنه ابن الإنسان وليس ابن الله، وأنه جاء رسولًا إلى بني إسرائيل فقط، مكملًا لشريعة موسى وليس ناقضًا لها.
- وهناك نصوص أخرى تدل على أن عيسى لم يُصلب وإنما أنجاه الله ورفعه إلى السماء، وتدحض كذلك عقيدة الغفران، وتبين أن الغفران يُنال بالتوبة وصلاح الأعمال. وهناك نصوص إنجيلية تؤكد بشارة عيسى بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
- بل إن هناك نصوصًا عديدة في الرسائل تثبت زيف زعم بولس بأنه يوحي إليه، وتبين كذلك تناقضه مع نفسه ومع عيسى عليه السلام.
* رأينا كيف تدخلت السياسة والحكام في تقرير عقائد الكنيسة وتبديلها من خلال المجامع المختلفة، وأن الأصل في الخلاف بين الكنيستين الشرقية والغربية نشأ لا عن موقف عقدي بقدر ما هو محاولة إثبات الوجود والسيطرة.
* لقد ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن في آيات عديدة إفكَ النصارى وقولهم في مريم، واعتقادهم في المسيح على اختلاف مذاهبهم، مبيِّنًا انحرافهم، ومصحِّحًا عقائدهم، وداعيًا إياهم عدم الغلو في الدين وأن لا يقولوا على الله إلا الحق.
وعمومًا فإن النصارى يُعتبرون بالنسبة للمسلمين أهل كتاب مثل اليهود، وحكمهم في الإسلام سواء، فقد كذَّبوا برسول الله وآياته، وأشركوا بالله، فهم بذلك كفار لهم نار جهنم خالدين فيها. يقول تعالى: {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية}. [البينة: 6]. لكنهم مع ذلك يعاملون بما أمر الله تعالى به من الإحسان والبر والقسط إليهم، وأكل طعامهم والتزوج من نسائهم، طالما أنهم لم يقاتلونا في الدين ولم يخرجونا من ديارنا، فهم أهل ذمة إذا عاشوا في ديار المسلمين،؛ ما لم ينقضوا عهدهم فإن نكثوا عهدهم وتجرؤوا على الإسلام والمسلمين؛ بأن حاولوا الدعوة إلى باطلهم وكفرهم بين أبناء المسلمين، أو طعنوا في الدين مثلًا، فلابد من قتالهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
(page)
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م
15-موسوعة الفقه الكويتية (احتساب)
احْتِسَابٌالتَّعْرِيفُ:
1- تَأْتِي كَلِمَةُ «احْتِسَابٍ» فِي اللُّغَةِ بِمَعَانٍ عَدِيدَةٍ مِنْهَا:
أ- الِاعْتِدَادُ بِالشَّيْءِ، مِنَ الْحَسْبِ، وَهُوَ الْعَدُّ.
ب- طَلَبُ الثَّوَابِ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْفُقَهَاءُ هَذَا اللَّفْظَ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ كِلَيْهِمَا، عَلَى أَنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إِلَى مَعْنَى طَلَبِ الثَّوَابِ.
الِاحْتِسَابُ بِمَعْنَى الِاعْتِدَادِ أَوِ الِاعْتِبَارِ:
2- يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ «احْتِسَابٍ» عِنْدَمَا يَأْتِي الْمُكَلَّفُ بِالْفِعْلِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْكَمَالِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الشَّارِعَ يَعْتَبِرُهُ صَحِيحًا مَقْبُولًا.
فَالْمَسْبُوقُ فِي الصَّلَاةِ إِذَا أَدْرَكَ الرُّكُوعَ مَعَ الْإِمَامِ احْتُسِبَتْ لَهُ رَكْعَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِالْفَرَائِضِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَرَأَى الْجَمَاعَةَ قَائِمَةً لِصَلَاةِ الظُّهْرِ فَنَوَى تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ وَصَلَاةَ الظُّهْرِ وَدَخَلَ مَعَهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ، احْتُسِبَتْ لَهُ تِلْكَ الصَّلَاةُ تَحِيَّةَ مَسْجِدٍ وَصَلَاةَ ظُهْرٍ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي «الصَّلَاةِ».
الِاحْتِسَابُ بِمَعْنَى طَلَبِ الثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى:
3- طَلَبُ الثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالِاحْتِسَابِ يَتَحَقَّقُ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا:
أ- تَنَازُلُ الْمُسْلِمِ عَنْ حَقِّهِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْغَيْرِ طَلَبًا لِثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا عَجْزًا كَعِتْقِ الرَّقِيقِ، احْتِسَابًا، وَوَضْعِ السَّيِّدِ بَعْضَ مَالِ الْكِتَابَةِ احْتِسَابًا وَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ دُونَ مُقَابِلٍ احْتِسَابًا، وَإِرْضَاعِ الصَّغِيرِ دُونَ مُقَابِلٍ احْتِسَابًا.
ب- أَدَاءُ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ كَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ دُونَ طَلَبٍ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الْمَحْضَةِ، وَفِيمَا لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ حَقٌّ غَالِبٌ مُؤَكَّدٌ وَهُوَ مَا لَا يَتَأَثَّرُ بِرِضَا الْآدَمِيِّ- كَطَلَاقٍ، وَعِتْقٍ، وَعَفْوٍ عَنْ قِصَاصٍ، وَبَقَاءِ عِدَّةٍ، وَانْقِضَائِهَا، وَحَدٍّ، وَنَسَبٍ.
وَقَدْ فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ عِنْدَ كَلَامِهِمْ عَلَى مَا يُؤَدَّى حِسْبَةً مِنَ الشَّهَادَاتِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِأَحْكَامِ الْمُحْتَسِبِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ «حِسْبَةٌ».
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
16-موسوعة الفقه الكويتية (إرث 5)
إِرْثٌ -583- وَإِنِ اسْتَوَتْ دَرَجَاتُهُمْ فِي الْقُرْبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ وَلَدٌ وَارِثٌ كَبِنْتِ ابْنِ الْبِنْتِ، وَابْنِ بِنْتِ الْبِنْتِ، أَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ يُدْلُونَ بِوَارِثٍ، كَابْنِ الْبِنْتِ وَبِنْتِ الْبِنْتِ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ يُعْتَبَرُ أَشْخَاصُ الْفُرُوعِ الْمُتَسَاوِيَةِ الدَّرَجَاتِ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ حَالِ ذُكُورَتِهِمْ وَأُنُوثَتِهِمْ، سَوَاءٌ أَكَانَ أُصُولُهُمْ مُتَّفِقِينَ فِي الذُّكُورَةِ أَوِ الْأُنُوثَةِ أَمْ لَا.فَإِنْ كَانَتِ الْفُرُوعُ ذُكُورًا فَقَطْ، أَوْ إِنَاثًا فَقَطْ تَسَاوَوْا فِي الْقِسْمَةِ.وَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ حَالُ أُصُولِهِمْ مِنَ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ.وَهُوَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَيَعْتَبِرُ مُحَمَّدٌ أَشْخَاصَ الْفُرُوعِ إِنِ اتَّفَقَتْ صِفَةُ الْأُصُولِ فِي الذُّكُورَةِ أَوِ الْأُنُوثَةِ، وَيَعْتَبِرُ الْأُصُولَ إِنِ اخْتَلَفَتْ صِفَاتُهُمْ، وَيُعْطِي الْفُرُوعَ مِيرَاثَ الْأُصُولِ.وَهُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِأَبِي يُوسُفَ وَأَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَجِهَةُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْفُرُوعِ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَعْنًى فِيهِمْ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ، لَا لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِمْ، فَقَدِ اتَّحَدَتِ الْجِهَةُ، وَهِيَ الْوِلَادَةُ، فَيَتَسَاوَى الِاسْتِحْقَاقُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الصِّفَةُ فِي الْأُصُولِ.وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنَّ صِفَةَ الْكُفْرِ أَوِ الرِّقِّ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْمُدْلَى بِهِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُعْتَبَرُ صِفَةُ الْمُدْلِي، فَكَذَا تُعْتَبَرُ فِيهِ صِفَةُ الذُّكُورَةِ أَوِ الْأُنُوثَةِ فَقَطْ.
وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ تَرَكَ عَمَّةً وَخَالَةً، فَإِنَّ لِلْعَمَّةِ الثُّلُثَيْنِ، وَلِلْخَالَةِ الثُّلُثَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ، وَلَوْ كَانَتِ الْعِبْرَةُ بِأَشْخَاصِ الْفُرُوعِ لَكَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ الْمُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ صِفَةَ الْأَصْلِ الْمُدْلَى بِهِ، وَهُوَ الْأَبُ فِي الْعَمَّةِ، وَالْأُمُّ فِي الْخَالَةِ.
84- وَلَوْ تَرَكَ بِنْتَ ابْنِ بِنْتٍ، وَابْنَ بِنْتِ بِنْتٍ فَالْمَالُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ أَثْلَاثًا: ثُلُثَاهُ لِابْنِ بِنْتِ الْبِنْتِ، لِكَوْنِهِ ذَكَرًا، وَثُلُثُهُ لِلْبِنْتِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُ الْمَالُ بَيْنَ الْأُصُولِ (الْبَطْنُ الثَّانِي)، وَهُوَ أَوَّلُ مَا وَقَعَ فِيهِ الِاخْتِلَافُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، وَهُوَ بِنْتُ الْبِنْتِ وَابْنُ الْبِنْتِ أَثْلَاثًا: لِبِنْتِ ابْنِ الْبِنْتِ ثُلُثَاهُ، لِأَنَّهُ نَصِيبُ أَبِيهَا، وَثُلُثُهُ لِابْنِ بِنْتِ الْبِنْتِ، لِأَنَّهُ نَصِيبُ أُمِّهِ.وَكَمَا اُعْتُبِرَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ حَالُ الْأُصُولِ فِي الْبَطْنِ الثَّانِي، فَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ عِنْدَهُ حَالُ الْأُصُولِ الْمُتَعَدِّدَةِ، إِذَا كَانَ فِي أَوْلَادِ الْبَنَاتِ الْمُتَسَاوِيَةِ فِي الدَّرَجَةِ بُطُونٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَحِينَئِذٍ يُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى أَوَّلِ بَطْنٍ اخْتَلَفَ فِي الْأُصُولِ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، ثُمَّ يَجْعَلُ الذُّكُورَ مِنْ أَوَّلِ بَطْنٍ اخْتَلَفَ فِيهِ عَلَى حِدَةٍ، وَالْإِنَاثَ أَيْضًا طَائِفَةً أُخْرَى عَلَى حِدَةٍ، بَعْدَ الْقِسْمَةِ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، فَمَا أَصَابَ الذُّكُورَ مِنْ أَوَّلِ بَطْنٍ وَقَعَ فِيهِ الِاخْتِلَافُ يَجْمَعُ وَيُعْطِي فُرُوعَهُمْ بِحَسَبِ صِفَاتِهِمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ فُرُوعِهِمْ مِنَ الْأُصُولِ اخْتِلَافٌ فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، بِأَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا ذُكُورًا فَقَطْ أَوْ إِنَاثًا فَقَطْ.
85- وَإِنْ كَانَ مَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا فِيهِ اخْتِلَافٌ، بِأَنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا يَجْمَعُ مَا أَصَابَ الذُّكُورَ وَيُقْسَمُ عَلَى أَعْلَى أَوَّلِ دَرَجَةٍ اُخْتُلِفَ فِيهَا ذُكُورَةً وَأُنُوثَةً فِي أَوْلَادِهِمْ، وَيَجْعَلُ الذُّكُورَ طَائِفَةً وَالْإِنَاثَ طَائِفَةً أُخْرَى حَسْبَمَا سَبَقَ، وَكَذَلِكَ مَا أَصَابَ الْإِنَاثَ يُعْطِي فُرُوعَهُنَّ، إِنْ لَمْ تَخْتَلِفِ الْأُصُولُ الَّتِي بَيْنَهُمَا، فَإِنِ اخْتَلَفَتْ يَجْمَعُ مَا أَصَابَهُنَّ وَيُقْسَمُ عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ وَهَكَذَا يَكُونُ الْحَالُ.
هَذَا وَإِنَّ مَشَايِخَ بُخَارَى أَخَذُوا بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ- رحمه الله- (فِي مَسَائِلِ ذَوِي الْأَرْحَامِ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ.
الصِّنْفُ الثَّانِي:
86- وَهُمُ الرَّحِمِيُّونَ مِنَ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ، وَالْحُكْمُ فِي تَوْرِيثِهِمْ أَنَّ أَوْلَاهُمْ بِالْمِيرَاثِ أَقْرَبُهُمْ إِلَى الْمَيِّتِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ، مِنْ جِهَةِ الْأَبِ أَوِ الْأُمِّ، فَأَبُو الْأُمِّ أَوْلَى مِنْ أَبِي أُمِّ الْأُمِّ.
وَعِنْدَ الِاسْتِوَاءِ فِي دَرَجَاتِ الْقُرْبِ يُقَدَّمُ مَنْ يُدْلِي بِوَارِثٍ عَلَى مَنْ لَا يُدْلِي بِوَارِثٍ عِنْدَ أَبِي سَهْلٍ الْفَرْضِيِّ وَأَبِي فَضْلٍ الْخِفَافِ وَعَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْبَصْرِيِّ؛ إِذْ عِنْدَهُمْ يَكُونُ أَبُو أُمِّ الْأُمِّ أَوْلَى مِنْ أَبِي أَبِي الْأُمِّ، لِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي الدَّرَجَةِ، لَكِنَّ أَبَا أُمِّ الْأُمِّ يُدْلِي بِوَارِثٍ، وَهِيَ الْجَدَّةُ الصَّحِيحَةُ (أُمُّ الْأُمِّ) وَالثَّانِي يُدْلِي بِغَيْرِ وَارِثٍ، وَهُوَ الْجَدُّ الرَّحِمِيُّ أَبُو الْأُمِّ، وَهُوَ لَا يَرِثُ مَعَ الْأُمِّ.
وَعِنْدَ أَبِي سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيِّ وَأَبِي عَلِيٍّ الْبُسْتِيِّ لَا تَفْضِيلَ لِمَنْ يُدْلِي بِوَارِثٍ عَلَى مَنْ لَا يُدْلِي بِوَارِثٍ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ أَثْلَاثًا: ثُلُثَاهُ لِأَبِي أَبِي الْأُمِّ، وَثُلُثُهُ لِأَبِي أُمِّ الْأُمِّ، مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ التَّرْجِيحَ فِي هَؤُلَاءِ بِالْإِدْلَاءِ بِوَارِثٍ يُؤَدِّي إِلَى جَعْلِ الْأَصْلِ- وَهُوَ الْجَدُّ وَالْجَدَّةُ- تَابِعًا لِلْفَرْعِ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْقُولِ.
87- وَإِنِ اسْتَوَتْ دَرَجَاتُهُمْ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، وَلَيْسَ فِيهِمْ مَعَ ذَلِكَ مَنْ يُدْلِي بِوَارِثٍ كَأَبِي أَبِي أُمِّ الْأَبِ، وَأُمِّ أَبِي أُمِّ الْأَبِ، أَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ يُدْلُونَ بِوَارِثٍ، كَأَبِي أُمِّ أَبِي أَبِي الْأَبِ، وَأَبِي أُمِّ أُمِّ أُمِّ الْأَبِ، وَاتَّفَقَتْ صِفَةُ مَنْ يُدْلُونَ بِهِمْ فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، فَإِنَّ الْجَدَّ وَالْجَدَّةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُتَّحِدَانِ فِيمَنْ يُدْلِيَانِ بِهِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ اخْتِلَافٌ فِي صِفَةِ الْمُدْلَى بِهِ، فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ حِينَئِذٍ عَلَى أَشْخَاصِهِمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَيَكُونُ لِأَبِي أَبِي أُمِّ الْأَبِ الثُّلُثَانِ، وَلِأَبِي أَبِي أُمِّ الْأَبِ الثُّلُثُ.
وَإِنِ اسْتَوَتِ الدَّرَجَةُ وَاخْتَلَفَتْ صِفَةُ مَنْ يُدْلُونَ بِهِمْ فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، كَأَبِي أُمِّ أَبِي أَبِي الْأَبِ وَأَبِي أُمِّ أُمِّ أُمِّ الْأَبِ، يُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى أَوَّلِ بَطْنٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ، كَمَا فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ، فَيَجْعَلُ لِلذَّكَرِ مِثْلَ ضِعْفِ نَصِيبِ الْأُنْثَى، وَيَتْبَعُ مَا اتُّبَعَ فِي تَوْرِيثِ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ.
88- وَإِنِ اخْتَلَفَتْ قَرَابَتُهُمْ مَعَ اسْتِوَاءِ دَرَجَاتِهِمْ، كَمَا إِذَا تَرَكَ أُمَّ أَبِي أُمِّ أَبِي الْأَبِ، وَأُمَّ أَبِي أَبِي أَبِي الْأُمِّ، فَالثُّلُثَانِ لِقَرَابَةِ الْأَبِ وَهُوَ نَصِيبُ الْأَبِ، وَالثُّلُثُ لِقَرَابَةِ الْأُمِّ، لِأَنَّ الَّذِينَ يُدْلُونَ بِالْأَبِ يَقُومُونَ مَقَامَهُ، وَالَّذِينَ يُدْلُونَ بِالْأُمِّ يَقُومُونَ مَقَامَهَا، فَيَجْعَلُ الْمَالَ أَثْلَاثًا، كَأَنَّهُ تَرَكَ أَبًا وَأُمًّا.ثُمَّ مَا أَصَابَ كُلَّ فَرِيقٍ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ، كَمَا لَوِ اتَّحَدَتْ قَرَابَتُهُمْ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يُقْسَمُ الثُّلُثَانِ عَلَى قَرَابَةِ الْأَبِ، وَالثُّلُثُ عَلَى قَرَابَةِ الْأُمِّ.وَالضَّابِطُ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ اسْتِوَاءٌ فِي الدَّرَجَةِ أَوْ لَا.فَإِنْ لَمْ يَكُنِ اسْتِوَاءٌ فَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوْلَى بِالْمِيرَاثِ، وَإِنْ وُجِدَ اسْتِوَاءٌ فِي الدَّرَجَةِ فَإِمَّا أَنْ تَتَّحِدَ الْقَرَابَةُ أَوْ تَخْتَلِفَ، فَإِنِ اخْتَلَفَتْ يُقْسَمُ الْمَالُ أَثْلَاثًا.وَإِنِ اتَّحَدَتْ: فَإِنِ اتَّفَقَتْ صِفَةُ الْأُصُولِ فَالْقِسْمَةُ عَلَى أَشْخَاصِ الْفُرُوعِ.وَإِنْ لَمْ تَتَّفِقْ يُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى الْخِلَافِ كَمَا فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ.
الصِّنْفُ الثَّالِثُ:
89- وَهُمْ أَوْلَادُ الْأَخَوَاتِ، وَبَنَاتُ الْإِخْوَةِ مُطْلَقًا، وَبَنُو الْإِخْوَةِ لِأُمٍّ.
وَالْحُكْمُ فِيهِمْ أَنَّ أَوْلَاهُمْ بِالْمِيرَاثِ أَقْرَبُهُمْ دَرَجَةً إِلَى الْمَيِّتِ، فَبِنْتُ الْأُخْتِ أَوْلَى مِنِ ابْنِ بِنْتِ الْأَخِ، لِقُرْبِهَا، وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي دَرَجَةِ الْقُرْبِ فَوَلَدُ الْعَصَبَةِ أَوْلَى مِنْ وَلَدِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، كَبِنْتِ ابْنِ الْأَخِ، وَابْنِ بِنْتِ الْأُخْتِ، سَوَاءٌ أَكَانَ كِلَاهُمَا لِأَبٍ وَأُمٍّ، أَمْ لِأَبٍ، أَمْ مُخْتَلِفَيْنِ، فَالْمَالُ كُلُّهُ لِبِنْتِ ابْنِ الْأَخِ، لِأَنَّهَا وَلَدُ الْعَصَبَةِ.وَإِنْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِنْتَ ابْنِ الْأَخِ، وَابْنَ الْأَخِ لِأُمٍّ، كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِاعْتِبَارِ الْأَشْخَاصِ.لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَوَارِيثِ تَفْضِيلُ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى، وَإِنَّمَا تُرِكَ هَذَا الْأَصْلُ فِي أَوْلَادِ الْأُمِّ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَهُوَ قوله تعالى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} وَمَا كَانَ مَخْصُوصًا عَنِ الْقِيَاسِ لَا يَلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ.وَلَيْسَ أَوْلَادُ هَؤُلَاءِ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إِذْ لَا يَرِثُونَ بِالْفَرْضِيَّةِ شَيْئًا، فَيَجْرِي فِيهِمْ ذَلِكَ الْأَصْلُ وَهُوَ أَنَّ لِلذَّكَرِ ضِعْفَ الْأُنْثَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ تَوْرِيثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ بِمَعْنَى الْعُصُوبَةِ، فَيَفْضُلُ فِيهِ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى، كَمَا فِي حَقِيقَةِ الْعُصُوبَةِ.
وَعِنْدَ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ: الْمَالُ بَيْنَهُمَا مُنَاصَفَةً بِاعْتِبَارِ الْأُصُولِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمَا لِلْمِيرَاثِ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَا تَفْضِيلَ لِلذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى أَصْلاً، بَلْ رُبَّمَا تَفْضُلُ الْأُنْثَى عَلَيْهِ، فَإِنَّ أُمَّ الْأُمِّ صَاحِبَةُ فَرْضٍ بِخِلَافِ أَبِي الْأُمِّ، فَإِنْ لَمْ تَفْضُلِ الْأُنْثَى هُنَا فَلَا أَقَلَّ مِنَ التَّسَاوِي.
90- وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْقُرْبِ وَلَيْسَ بَعْضُهُمْ وَلَدَ الْعَصَبَةِ، وَبَعْضُهُمْ وَلَدُ ذَوِي الْأَرْحَامِ، كَأَنْ يَكُونَ الْكُلُّ أَوْلَادَ الْعَصَبَةِ، كَبِنْتِ أَخٍ شَقِيقٍ، وَبِنْتِ أَخٍ لِأَبٍ، أَوْ يَكُونَ الْكُلُّ أَوْلَادَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، كَثَلَاثَةِ أَوْلَادِ ثَلَاثِ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، أَوْ يَكُونَ الْكُلُّ أَوْلَادَ ذِي الرَّحِمِ كَبِنْتِ بِنْتِ أَخٍ، وَابْنِ بِنْتِ أَخٍ آخَرَ، أَوْ يَكُونَ الْبَعْضُ وَلَدَ الْعَصَبَةِ، وَالْبَعْضُ الْآخَرُ وَلَدَ صَاحِبِ الْفَرْضِ، كَثَلَاثِ بَنَاتِ ثَلَاثَةِ إِخْوَةٍ مُفْتَرِقِينَ، فَأَبُو يُوسُفَ- رحمه الله- (يَعْتَبِرُ الْأَقْوَى فِي الْقَرَابَةِ، فَعِنْدَهُ يَجْعَلُ الْمَالَ أَوَّلاً لِأَوْلَادِ بَنِي الْأَعْيَانِ، ثُمَّ لِأَوْلَادِ بَنِي الْعَلاَّتِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ أَوْلَادُ بَنِي الْأَعْيَانِ، ثُمَّ لِأَوْلَادِ بَنِي الْأَخْيَافِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ أَوْلَادُ بَنِي الْعَلاَّتِ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
91- وَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الْأَقْوَى بِأَنْ يَتَسَاوَوْا فِي الْقُوَّةِ، يُقْسَمُ الْمَالُ بَيْنَ أَبْدَانِهِمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَمُحَمَّدٌ- رحمه الله- (يُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، كَمَا لَوْ كَانُوا هُمُ الْوَرَثَةَ دُونَ فُرُوعِهِمْ، مَعَ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْفُرُوعِ وَالْجِهَاتِ فِي الْأُصُولِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ- رحمه الله- (، ثُمَّ يُقْسَمُ مَا أَصَابَ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْ تِلْكَ الْأُصُولِ بَيْنَ فُرُوعِهِمْ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ، مِثَالُ ذَلِكَ: لَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنَاتِ إِخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ وَثَلَاثَ بَنِينَ وَثَلَاثَ بَنَاتٍ مِنْ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ بِهَذِهِ الصُّورَةِ:
مَيِّتٌ
1- بِنْتُ أَخٍ لِأَبَوَيْنِ
2- ابْنٌ وَبِنْتُ أُخْتٍ لِأَبَوَيْنِ
3- بِنْتُ أَخٍ لِأَبٍ
4- ابْنٌ وَبِنْتُ أُخْتٍ لِأَبٍ
5- بِنْتُ أَخٍ لِأُمٍّ
6- ابْنٌ وَبِنْتُ أُخْتٍ لِأُمٍّ
عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ- رحمه الله- (يُقْسَمُ كُلُّ الْمَالِ بَيْنَ فُرُوعِ بَنِي الْأَعْيَانِ، ثُمَّ بَيْنَ فُرُوعِ بَنِي الْعَلاَّتِ، ثُمَّ بَيْنَ فُرُوعِ بَنِي الْأَخْيَافِ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أَرْبَاعًا، بِاعْتِبَارِ أَبْدَانِ الْفُرُوعِ وَصِفَاتِهِمْ، فَيُعْطِي بِنْتَ الْأَخِ لِأَبَوَيْنِ النِّصْفَ، وَبِنْتَ الْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ الرُّبُعَ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فُرُوعُ بَنِي الْأَعْيَانِ، يُقْسَمُ عَلَى فُرُوعِ بَنِي الْعَلاَّتِ.أَرْبَاعًا أَيْضًا بِاعْتِبَارِ أَبْدَانِهِمْ، لِابْنِ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ النِّصْفُ، وَلِبِنْتِ الْأَخِ مِنَ الْأَبِ الرُّبُعُ، وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ الرُّبُعُ.فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فُرُوعُ بَنِي الْعَلاَّتِ يُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى فُرُوعِ بَنِي الْأَخْيَافِ أَرْبَاعًا أَيْضًا بِاعْتِبَارِ الْأَبْدَانِ، وَقَدَّمَ أَوْلَادَ بَنِي الْعَلاَّتِ عَلَى أَوْلَادِ بَنِي الْأَخْيَافِ، لِأَنَّ قَرَابَةَ الْأَبِ أَقْوَى مِنْ قَرَابَةِ الْأُمِّ، فَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى رَأْيِهِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَمِنْهَا تَصِحُّ.وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ- رحمه الله- (يُقْسَمُ ثُلُثُ الْمَالِ بَيْنَ فُرُوعِ بَنِي الْأَخْيَافِ عَلَى السَّوِيَّةِ أَثْلَاثًا، لِاسْتِوَاءِ أُصُولِهِمْ فِي الْقِسْمَةِ، فَإِذَا اُعْتُبِرَ عَدَدُ الْفُرُوعِ فِي الْأُخْتِ، صَارَتْ كَأَنَّهَا أُخْتَانِ لِأُمٍّ، فَتَأْخُذُ هِيَ ثُلُثَيِ الْمَالِ وَيَأْخُذُ الْأَخُ لِأُمٍّ ثُلُثَهُ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ مَا أَصَابَ الْأَخَ، وَهُوَ تُسْعُ الْمَالِ لِبِنْتِهِ، وَمَا أَصَابَ الْأُخْتَ وَهُوَ تُسْعُ الْمَالِ إِلَى ابْنِهَا وَابْنَتِهَا بِالسَّوِيَّةِ، وَثُلُثَا الْمَالِ يُقْسَمُ بَيْنَ بَنِي الْأَعْيَانِ أَنْصَافًا، بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الْفُرُوعِ فِي الْأُصُولِ، نِصْفُهُ لِبِنْتِ الْأَخِ نَصِيبُ أَبِيهَا، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ وَلَدَيِ الْأُخْتِ الْمُقَدَّرَةِ بِأُخْتَيْنِ أَثْلَاثًا، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، بِاعْتِبَارِ الْأَبْدَانِ، وَلَا شَيْءَ لِفُرُوعِ بَنِي الْعَلاَّتِ، لِأَنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ بِبَنِي الْأَعْيَانِ كَمَا سَبَقَ، فَتَصِحُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ- رحمه الله- (مِنْ تِسْعَةٍ، ثَلَاثَةٌ مِنْهَا لِفُرُوعِ بَنِي الْأَخْيَافِ الثَّلَاثَةِ بِالسَّوِيَّةِ، وَثَلَاثَةٌ لِبِنْتِ الْأَخِ لِأَبَوَيْنِ، وَثَلَاثَةٌ لِوَلَدَيِ الْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
الصِّنْفُ الرَّابِعُ:
92- هُوَ الَّذِي يَنْتَسِبُ إِلَى أَحَدِ جَدَّيِ الْمَيِّتِ أَوْ جَدَّتَيْهِ، وَهُمُ الْعَمَّاتُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْأَعْمَامُ لِأُمٍّ، وَالْأَخْوَالُ وَالْخَالَاتُ مُطْلَقًا.
وَالْحُكْمُ فِيهِمْ: أَنَّهُ إِذَا انْفَرَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ اسْتَحَقَّ الْمَالَ كُلَّهُ، لِعَدَمِ الْمُزَاحِمِ.فَإِذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ عَمَّةً وَاحِدَةً، أَوْ عَمًّا وَاحِدًا لِأُمٍّ، أَوْ خَالاً وَاحِدًا، أَوْ خَالَةً وَاحِدَةً، كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْوَاحِدِ الْمُنْفَرِدِ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ الْأَصْنَافِ.
فَإِذَا اجْتَمَعُوا، وَكَانُوا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، كَالْأَعْمَامِ لِأُمٍّ، وَالْعَمَّاتِ (فَإِنَّهُمْ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ)، أَوِ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ (فَإِنَّهُمْ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ)، فَالْحُكْمُ فِيهِمْ: أَنَّ الْأَقْوَى مِنْهُمْ فِي الْقَرَابَةِ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ إِجْمَاعًا، فَمَنْ كَانَ شَقِيقًا فَهُوَ أَوْلَى مِمَّنْ كَانَ لِأَبٍ.وَمَنْ كَانَ لِأَبٍ فَهُوَ أَوْلَى مِمَّنْ كَانَ لِأُمٍّ.وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْأَقْرَبُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، فَعَمَّةٌ شَقِيقَةٌ أَوْلَى مِنْ عَمَّةٍ لِأَبٍ أَوْ عَمَّةٍ لِأُمٍّ أَوْ عَمٍّ لِأُمٍّ، لِقُوَّةِ قَرَابَتِهَا، وَكَذَا الْخَالُ أَوِ الْخَالَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ.
93- وَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَاتَّحَدَتْ جِهَةُ الْقَرَابَةِ، وَاسْتَوَتْ قَرَابَتُهُمْ فِي الْقُوَّةِ، بِأَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ أَشِقَّاءَ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ، كَانَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، كَعَمٍّ وَعَمَّةٍ كِلَاهُمَا لِأُمٍّ.أَوْ خَالٍ وَخَالَةٍ كِلَاهُمَا شَقِيقٌ، أَوْ لِأَبٍ، أَوْ لِأُمٍّ، لِأَنَّ الْعَمَّ وَالْعَمَّةَ مُتَّحِدَانِ فِي الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْأَبُ، وَكَذَلِكَ أَصْلُ الْخَالِ وَالْخَالَةِ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْأُمُّ.وَمَتَى اتَّفَقَ الْأَصْلُ فَالْعِبْرَةُ فِي الْقِسْمَةِ بِالْأَشْخَاصِ عِنْدَ الْجَمِيعِ.
94- وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَةُ قَرَابَتِهِمْ، بِأَنْ كَانَتْ قَرَابَةُ بَعْضِهِمْ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ، وَقَرَابَةُ بَعْضِهِمْ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ فَلَا اعْتِبَارَ لِقُوَّةِ الْقَرَابَةِ.فَإِذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ عَمَّةً شَقِيقَةً وَخَالَةً لِأُمٍّ، أَوْ خَالاً شَقِيقًا وَعَمَّةً لِأُمٍّ، فَالثُّلُثَانِ- وَهُوَ نَصِيبُ الْأَبِ- لِقَرَابَةِ الْأَبِ، وَالثُّلُثُ- وَهُوَ نَصِيبُ الْأُمِّ- لِقَرَابَةِ الْأُمِّ.
كَيْفِيَّةُ تَوْرِيثِ أَوْلَادِ الصِّنْفِ الرَّابِعِ:
95- الْحُكْمُ السَّابِقُ فِي تَوْرِيثِ الصِّنْفِ الرَّابِعِ لَا يَسْرِي عَلَى أَوْلَادِهِمْ، لِأَنَّ أَوْلَى الْأَوْلَادِ بِالْمِيرَاثِ أَقْرَبُهُمْ إِلَى الْمَيِّتِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ، فَبِنْتُ الْعَمَّةِ أَوِ ابْنُهَا أَوْلَى مِنْ بِنْتِ بِنْتِ الْعَمَّةِ وَابْنِ بِنْتِهَا، لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْمَيِّتِ.
وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْقُرْبِ إِلَى الْمَيِّتِ، وَكَانَتْ جِهَةُ قَرَابَتِهِمْ مُتَّحِدَةً، بِأَنْ تَكُونَ قَرَابَةُ الْكُلِّ مِنْ جَانِبِ أَبِي الْمَيِّتِ، أَوْ مِنْ جَانِبِ أُمِّهِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ قُوَّةُ الْقَرَابَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ قُوَّةُ الْقَرَابَةِ، فَإِذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ ثَلَاثَةَ أَوْلَادِ عَمَّاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ لِوَلَدِ الْعَمَّةِ الشَّقِيقَةِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَلِوَلَدِ الْعَمَّةِ لِأَبٍ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَلِوَلَدِ الْعَمَّةِ لِأُمٍّ، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي أَوْلَادِ أَخْوَالٍ مُتَفَرِّقِينَ، أَوْ خَالَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ.
96- وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْقَرَابَةِ بِحَسَبِ الدَّرَجَةِ وَقُوَّةِ الْقَرَابَةِ، وَكَانَتْ جِهَةُ الْقَرَابَةِ مُتَّحِدَةً، بِأَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مِنْ جِهَةِ أَبِي الْمَيِّتِ أَوْ جِهَةِ أُمِّهِ، فَوَلَدُ الْعَصَبَةِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، كَبِنْتِ الْعَمِّ وَابْنِ الْعَمَّةِ الشَّقِيقَةِ، أَوْ لِأَبٍ، أَوْ لِأُمٍّ، فَالْمَالُ كُلُّهُ لِبِنْتِ الْعَمِّ، لِأَنَّهَا وَلَدُ الْعَصَبَةِ، دُونَ ابْنِ الْعَمَّةِ، لِأَنَّهُ وَلَدُ رَحِمٍ.
وَإِنْ كَانَ الْعَمُّ أَوِ الْعَمَّةُ شَقِيقًا، وَالْآخَرُ لِأَبٍ، كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ لِبِنْتِ الْعَمِّ الشَّقِيقِ، لِقُوَّةِ الْقَرَابَةِ، فَلَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ ابْنَ عَمَّةٍ شَقِيقَةٍ، وَبِنْتَ عَمٍّ لِأَبٍ، فَالْمَالُ كُلُّهُ لِابْنِ الْعَمَّةِ الشَّقِيقَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِقُوَّةِ قَرَابَتِهِ دُونَ بِنْتِ الْعَمِّ، وَإِنْ كَانَتْ بِنْتَ وَارِثٍ.
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ، بِنَاءً عَلَى رِوَايَةٍ غَيْرِ ظَاهِرَةٍ، الْمَالُ كُلُّهُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ لِبِنْتِ الْعَمِّ لِأَبٍ، لِأَنَّهَا وَلَدُ الْعَصَبَةِ، بِخِلَافِ ابْنِ الْعَمَّةِ، فَإِنَّهُ وَلَدُ ذَاتِ رَحِمٍ.
97- وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْقُرْبِ، وَاخْتَلَفَتْ جِهَةُ قَرَابَتِهِمْ، بِأَنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ، وَبَعْضُهُمْ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ، فَلَا اعْتِبَارَ لِقُوَّةِ الْقَرَابَةِ وَلَا لِوَلَدِ الْعَصَبَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَلَا يَكُونُ وَلَدُ الْعَمَّةِ الشَّقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ وَلَدِ الْخَالِ الشَّقِيقِ أَوِ الْخَالَةِ الشَّقِيقَةِ، لِعَدَمِ اعْتِبَارِ قُوَّةِ قَرَابَةِ وَلَدِ الْعَمَّةِ.وَكَذَا بِنْتُ الْعَمِّ الشَّقِيقِ لَيْسَتْ أَوْلَى مِنْ بِنْتِ الْخَالِ أَوِ الْخَالَةِ الشَّقِيقَةِ، لِعَدَمِ اعْتِبَارِ كَوْنِ بِنْتِ الْعَمِّ وَلَدَ عَصَبَةٍ، لَكِنْ يُقْسَمُ الْمِيرَاثُ بِاعْتِبَارِ الثُّلُثَيْنِ لِقَرَابَةِ الْأَبِ، وَالثُّلُثِ لِقَرَابَةِ الْأُمِّ، لِقِيَامِ قَرَابَةِ الْأَبِ مَقَامَهُ وَقَرَابَةِ الْأُمِّ مَقَامَهَا.
ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مَا أَصَابَ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ أَوْ جِهَةِ الْأُمِّ، يُقْسَمُ عَلَى أَشْخَاصِ فُرُوعِهِمْ مَعَ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْجِهَاتِ فِي الْفُرُوعِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى أَوَّلِ بَطْنٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ، مَعَ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْفُرُوعِ وَالْجِهَاتِ فِي الْأُصُولِ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ وَهَكَذَا.
هَذِهِ هِيَ أَحْكَامُ تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ فِي مَذْهَبِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ
مَذْهَبُ أَهْلِ التَّنْزِيلِ:
98- مَعْنَى التَّنْزِيلِ:
أَنَّ مَنْ أَدْلَى مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ إِلَى الْمَيِّتِ بِوَارِثٍ قَامَ مَقَامَ ذَلِكَ الْوَارِثِ، فَوَلَدُ الْبَنَاتِ، وَوَلَدُ بَنَاتِ الِابْنِ، وَوَلَدُ الْأَخَوَاتِ مُطْلَقًا كَأُمَّهَاتِهِمْ.وَبَنَاتُ الْإِخْوَةِ، وَبَنَاتُ الْأَعْمَامِ الْأَشِقَّاءِ، أَوْ لِأَبٍ، وَبَنَاتُ بَنِيهِمْ، وَأَوْلَادُ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ، وَأَوْلَادُ الْأَعْمَامِ لِأُمٍّ كَآبَائِهِمْ.وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِهِ عَلْقَمَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ.
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ، وَاسْتَثْنَيَا مِنْ هَذَا الْأَصْلِ مَسْأَلَتَيْنِ:
1- أَنَّهُمَا نَزَّلَا الْخَالَ وَالْخَالَةَ وَلَوْ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ مَنْزِلَةَ الْأُمِّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَنَزَّلَا جَدَّ الْمَيِّتِ لِأُمٍّ مَنْزِلَةَ الْأُمِّ عَلَى الْأَصَحِّ.
2- نَزَّلَا الْأَعْمَامَ لِأُمٍّ وَالْعَمَّةَ مُطْلَقًا مَنْزِلَةَ الْأَبِ عَلَى الْأَصَحِّ.
وَقَدْ رَجَّحَ الْإِمَامَانِ مَذْهَبَ أَهْلِ التَّنْزِيلِ، لِأَنَّهُ مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْقَائِلِينَ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، فَلَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ بِنْتَ بِنْتٍ، وَبِنْتَ بِنْتِ ابْنٍ، فَعَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ الْمَالُ بَيْنَهُمَا: ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِبِنْتِ الْبِنْتِ، وَرُبُعُهُ لِبِنْتِ بِنْتِ الِابْنِ فَرْضًا وَرَدًّا. 99- وَمَذْهَبُ أَهْلِ التَّنْزِيلِ كَمَذْهَبِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ فِي أَنَّ مَنِ انْفَرَدَ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ يَأْخُذُ جَمِيعَ التَّرِكَةِ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى.
لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ يَظْهَرُ فِي اجْتِمَاعِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، فَأَهْلُ التَّنْزِيلِ حِينَئِذٍ يَجْعَلُونَ الْفُرُوعَ قَائِمِينَ مَقَامَ أُصُولِهِمْ، وَيَأْخُذُونَ أَنْصِبَتَهُمْ.فَإِنْ أَدْلَوْا بِعَاصِبٍ أَخَذُوا نَصِيبَهُ تَعْصِيبًا.وَإِنْ أَدْلَوْا بِذِي فَرْضٍ أَخَذُوا نَصِيبَهُ فَرْضًا وَرَدًّا، وَيُقْسَمُ عَلَى الْجَمِيعِ بِالتَّسَاوِي بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، لِأَنَّهُمْ يَرِثُونَ بِالرَّحِمِ الْمُجَرَّدِ، فَيَسْتَوُونَ كَأَوْلَادِ الْأُمِّ.وَذَهَبَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الذَّكَرَ يَأْخُذُ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
فَفِي بِنْتِ بِنْتٍ، وَابْنٍ، وَبِنْتٍ مِنْ بِنْتٍ أُخْرَى، إِذَا رُفِعُوا دَرَجَةً صَارُوا فِي مَنْزِلَةِ بِنْتَيْنِ، فَتَكُونُ التَّرِكَةُ مُنَاصَفَةً، تَأْخُذُ بِنْتُ الْبِنْتِ نِصْفَهَا، وَيَأْخُذُ الِابْنُ وَالْبِنْتُ النِّصْفَ الْآخَرَ، فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.وَعِنْدَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ تَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ، لِأَنَّ أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةٌ.وَذَلِكَ فِي غَيْرِ أَوْلَادِ الْأُمِّ لِأَنَّهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي النَّصِيبِ بِالنَّصِّ.
مَذْهَبُ أَهْلِ الرَّحِمِ:
100- هُمُ الَّذِينَ يُسَوُّونَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ فِي التَّوْرِيثِ، فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ صِنْفٍ وَصِنْفٍ، وَلَا بَيْنَ دَرَجَةٍ وَدَرَجَةٍ، وَلَا بَيْنَ قَرَابَةٍ قَوِيَّةٍ وَأُخْرَى ضَعِيفَةٍ.
فَلَوْ كَانَ لِلْمُتَوَفَّى بِنْتُ أُخْتٍ، وَبِنْتُ بِنْتٍ، فَإِنَّ الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ، وَلَوْ تَرَكَ ابْنَ أُخْتٍ، وَبِنْتَ ابْنِ أَخٍ، فَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْمِيرَاثِ هُوَ الرَّحِمُ، وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْجَمِيعِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ، وَتَحَقُّقُهَا فِي الْجَمِيعِ بِقَدْرٍ مُشْتَرَكٍ، فَثَبَتَ الْمِيرَاثُ لِلْجَمِيعِ بِالتَّسَاوِي.وَلَقَدْ كَانَ مِنْ أَنْصَارِ هَذَا الرَّأْيِ حَسَنُ بْنُ مُيَسَّرٍ وَنُوحُ بْنُ ذُرَاحٍ، وَلَمْ يَأْخُذْ هَذَا الرَّأْيَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ.
إِرْثُ ذَوِي الْأَرْحَامِ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ:
101- لَا خِلَافَ بَيْنَ مَنْ وَرَّثُوا ذَوِي الْأَرْحَامِ فِي أَنَّهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا نَصِيبُهُ كَامِلاً، فَلَا يُحْجَبُ الزَّوْجُ مِنَ النِّصْفِ إِلَى الرُّبُعِ، وَلَا تُحْجَبُ الزَّوْجَةُ مِنَ الرُّبُعِ إِلَى الثُّمُنِ بِأَحَدٍ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ.وَذَلِكَ لِأَنَّ فَرْضَ الزَّوْجَيْنِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ، وَإِرْثُ ذَوِي الْأَرْحَامِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فَلَا يُعَارِضُهُ.وَمَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ يَكُونُ لِذَوِي الْأَرْحَامِ.
102- لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْرِيثِهِمْ: فَقَالَ أَهْلُ الْقَرَابَةِ: يُخْرَجُ نَصِيبُ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ أَوَّلاً، ثُمَّ يُقْسَمُ الْبَاقِي عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ، كَمَا يُقْسَمُ عَلَى الْجَمِيعِ لَوِ انْفَرَدُوا.
وَلِأَهْلِ التَّنْزِيلِ مَذْهَبَانِ: أَصَحُّهُمَا مَا قَالَهُ أَهْلُ الْقَرَابَةِ: رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُمْ يَرِثُونَ مَا فَضَلَ كَمَا يَرِثُونَ الْمَالَ إِذَا انْفَرَدُوا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيِّ وَعَامَّةِ مَنْ وَرَّثَهُمْ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى نِسْبَةِ سِهَامِ الَّذِينَ يُدْلِي بِهِمْ ذَوُو الْأَرْحَامِ مِنَ الْوَرَثَةِ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ يَحْيَى بْنِ آدَمَ وَضِرَارٍ.وَيُعْرَفُ الْقَائِلُونَ بِالْأَوَّلِ بِأَصْحَابِ: (اعْتِبَارِ مَا بَقِيَ).وَالْقَائِلُونَ بِالثَّانِي بِأَصْحَابِ: (اعْتِبَارِ الْأَصْلِ).وَلَا خِلَافَ فِي التَّوْرِيثِ إِذَا كَانَ ذَوُو الْأَرْحَامِ يُدْلُونَ بِذِي فَرْضٍ فَقَطْ، أَوْ بِعَصَبَةٍ فَقَطْ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الْخِلَافُ إِذَا كَانَ بَعْضُهُمْ يُدْلِي بِعَصَبَةٍ، وَبَعْضُهُمْ يُدْلِي بِذِي فَرْضٍ.فَلَوْ مَاتَتِ امْرَأَةٌ، عَنْ زَوْجٍ، وَبِنْتِ بِنْتٍ، وَخَالَةٍ، وَبِنْتِ عَمٍّ شَقِيقٍ أَوْ لِأَبٍ.فَعِنْدَ أَهْلِ الْقَرَابَةِ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْبِنْتِ وَحْدَهَا.وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِبِنْتِ الْبِنْتِ نِصْفُ الْبَاقِي، وَلِلْخَالَةِ سُدُسُ الْبَاقِي، وَلِبِنْتِ الْعَمِّ الْبَاقِي.فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ: لِلزَّوْجِ مِنْهَا سِتَّةٌ، وَلِبِنْتِ الْبِنْتِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْخَالَةِ وَاحِدٌ، وَلِبِنْتِ الْعَمِّ اثْنَانِ.وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: إِذَا نَزَلُوا حَصَلَ مَعَ الزَّوْجِ أُمٌّ، وَعَمٌّ، وَبِنْتٌ بِالتَّنْزِيلِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ بِنْتُ ابْنٍ وَهِيَ كَالْبِنْتِ فِي التَّنْزِيلِ لَا فِي الْحَجْبِ، فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ.يَخْرُجُ نَصِيبُ الزَّوْجِ أَوَّلاً الرُّبُعُ، ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ يَخْرُجُ تَمَامُ نَصِيبِ النِّصْفِ لِلزَّوْجِ لِعَدَمِ الْحَجْبِ الْحَقِيقِيِّ، فَيَبْقَى سِتَّةٌ، تُقْسَمُ عَلَى التِّسْعَةِ، فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِلزَّوْجِ تِسْعَةٌ، وَلِبِنْتِ الْبِنْتِ سِتَّةٌ، وَلِلْخَالَةِ اثْنَانِ، وَلِبِنْتِ الْعَمِّ وَاحِدٌ.
الْمِيرَاثُ مِنْ جِهَتَيْنِ:
103- قَدْ يَكُونُ لِأَحَدِ الْوَرَثَةِ جِهَتَانِ لِلْمِيرَاثِ.فَإِذَا كَانَتِ الْجِهَتَانِ مَعًا مِنْ طَرِيقِ الْعُصُوبَةِ وَرِثَ بِأَقْوَاهِمَا.فَإِذَا مَاتَتِ امْرَأَةٌ عَنِ ابْنٍ، هُوَ ابْنُ ابْنِ عَمٍّ.فَإِنَّ التَّرِكَةَ تَكُونُ لَهُ بِاعْتِبَارِهِ ابْنًا وَلَا شَيْءَ لَهُ بِالْقَرَابَةِ الْأُخْرَى، لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْعُمُومَةِ.
فَإِذَا اخْتَلَفَتْ جِهَتَا إِرْثٍ تَقْتَضِي كُلٌّ مِنْهُمَا الْمِيرَاثَ، وَرِثَ بِالْجِهَتَيْنِ.فَإِذَا مَاتَ شَخْصٌ عَنْ أَخَوَيْنِ لِأُمٍّ، أَحَدُهُمَا ابْنُ عَمٍّ شَقِيقٍ.فَإِنَّ لِلْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثَ فَرْضًا مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا، وَالْبَاقِي يَنْفَرِدُ بِهِ الْأَخُ لِأُمٍّ الَّذِي هُوَ ابْنُ عَمٍّ شَقِيقٍ بِاعْتِبَارِهِ عَاصِبًا فَيَأْخُذُ الْبَاقِيَ.
وَقَدْ يُحْجَبُ الشَّخْصُ عَنِ الْمِيرَاثِ بِإِحْدَى الْجِهَتَيْنِ فَيَرِثُ بِالْأُخْرَى، لِعَدَمِ وُجُودِ حَاجِبٍ لَهُ فِيهَا، كَمَا إِذَا تُوُفِّيَ عَنْ بِنْتٍ، وَابْنَيْ عَمٍّ شَقِيقٍ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ، فَإِنَّ لِلْبِنْتِ النِّصْفَ فَرْضًا، وَالْبَاقِي لِابْنَيِ الْعَمِّ الشَّقِيقِ تَعْصِيبًا مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا، وَلَا شَيْءَ لِابْنِ الْعَمِّ الثَّانِي بِاعْتِبَارِهِ أَخًا لِأُمٍّ، لِأَنَّهُ مَحْجُوبٌ بِالْبِنْتِ.
مِيرَاثُ الْخُنْثَى:
104- الْخُنْثَى لُغَةً: مَنْ لَهُ مَا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا، جَمْعُهُ خَنَاثَى وَخَنَاثٌ.وَالْخَنِثُ كَكَتِفٍ مَنْ فِيهِ انْخِنَاثٌ، أَيْ تَكَسُّرٌ وَتَثَنٍّ.وَقَدْ خَنِثَ كَفَرِحَ وَانْخَنَثَ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: مَنْ لَهُ آلَةُ الرِّجَالِ وَآلَةُ النِّسَاءِ مَعًا.أَوْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْهُمَا أَصْلاً
، فَقَدْ سُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَنْ مِيرَاثِ مَوْلُودٍ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْآلَتَيْنِ وَيَخْرُجُ مِنْ سُرَّتِهِ شِبْهُ بَوْلٍ غَلِيظٍ، فَاعْتَبَرَهُ أُنْثَى. وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى مُشْكِلٍ وَغَيْرِ مُشْكِلٍ.فَاَلَّذِي يَتَبَيَّنُ فِيهِ عَلَامَاتُ الذُّكُورِيَّةِ أَوِ الْأُنُوثِيَّةِ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ فَلَيْسَ بِمُشْكِلٍ، إِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ فِيهِ خِلْقَةٌ زَائِدَةٌ، أَوِ امْرَأَةٌ فِيهَا خِلْقَةٌ زَائِدَةٌ.
105- وَحُكْمُهُ فِي إِرْثِهِ وَسَائِرِ أَحْكَامِهِ: حُكْمُ مَا ظَهَرَتْ عَلَامَاتُهُ فِيهِ.وَيُعْتَبَرُ بِمَبَالِهِ فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْخُنْثَى يُورَثُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ.فَإِنْ بَالَ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ الرَّجُلُ فَهُوَ رَجُلٌ، وَإِنْ بَالَ مِنْ حَيْثُ تَبُولُ الْمَرْأَةُ فَهُوَ امْرَأَةٌ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ: عَلِيٌّ وَمُعَاوِيَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ مَوْلُودٍ لَهُ قُبُلٌ وَذَكَرٌ: مِنْ أَيْنَ يُورَثُ؟ قَالَ: مِنْ حَيْثُ يَبُولُ».وَرُوِيَ أَنَّهُ- عليه السلام- «أُتِيَ بِخُنْثَى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: وَرِّثُوهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَبُولُ مِنْهُ».
وَلِأَنَّ خُرُوجَ الْبَوْلِ أَعَمُّ الْعَلَامَاتِ، لِوُجُودِهَا مِنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ.وَسَائِرُ الْعَلَامَاتِ إِنَّمَا تُوجَدُ بَعْدَ الْكِبَرِ مِثْلَ نَبَاتِ اللِّحْيَةِ، وَتَفَلُّكِ الثَّدْيِ (اسْتِدَارَتُهُ)، وَخُرُوجِ الْمَنِيِّ، وَالْحَيْضِ، وَالْحَبَلِ، وَإِنْ بَالَ مِنْهُمَا جَمِيعًا اُعْتُبِرَ أَسْبَقُهُمَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
فَإِنْ خَرَجَا مَعًا وَلَمْ يَسْبِقْ أَحَدُهُمَا، فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: يَرِثُ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي يَنْزِلُ مِنْهُ أَكْثَرُ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.وَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ.وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عَنْهُ، وَإِنِ اسْتَوَى الْمِقْدَارُ الْخَارِجُ مِنَ الْمَحَلَّيْنِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا عِلْمَ لَنَا بِذَلِكَ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ مُشْكِلاً.
106- فَإِنْ مَاتَ لَهُ مَنْ يَرِثُهُ.فَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: يُوقَفُ الْأَمْرُ حَتَّى يَبْلُغَ، فَيَتَبَيَّنَ فِيهِ عَلَامَاتُ الرِّجَالِ مِنْ نَبَاتِ اللِّحْيَةِ، وَخُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْ ذَكَرِهِ، وَكَوْنِهِ مَنِيَّ رَجُلٍ، أَوْ عَلَامَاتُ النِّسَاءِ مِنَ الْحَيْضِ، وَالْحَبَلِ، وَتَفَلُّكِ الثَّدْيَيْنِ.وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ.
فَإِنِ احْتِيجَ إِلَى قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ أُعْطِي هُوَ وَبَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ الْيَقِينَ، وَوُقِفَ الْبَاقِي إِلَى حِينِ بُلُوغِهِ، فَتَعْمَلُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّهُ ذَكَرٌ ثُمَّ عَلَى أَنَّهُ أُنْثَى، وَيَدْفَعُ إِلَى كُلِّ وَارِثٍ أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ، وَيُوقَفُ الْبَاقِي حَتَّى يَبْلُغَ.
107- وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ بُلُوغِهِ، أَوْ بَلَغَ مُشْكِلاً فَلَمْ تَظْهَرْ فِيهِ عَلَامَةٌ.وَرِثَ نِصْفَ مِيرَاثِ ذَكَرٍ، وَنِصْفَ مِيرَاثِ أُنْثَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالثَّوْرِيِّ وَاللُّؤْلُؤِيِّ وَشَرِيكٍ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَيَحْيَى بْنِ آدَمَ وَضِرَارِ بْنِ صُرَدٍ وَنُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ.وَوَرَّثَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَسْوَأِ حَالَاتِهِ، وَأَعْطَى الْبَاقِيَ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ، وَأَعْطَاهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ مَعَهُ الْيَقِينَ، وَوَقَفَ الْبَاقِي حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ أَوْ يَصْطَلِحَ الْوَرَثَةُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَابْنُ جَرِيرٍ.وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ شَاذَّةٌ غَيْرُ هَذِهِ.
108- وَإِذَا أَخْبَرَ الْخُنْثَى بِحَيْضٍ، أَوْ مَنِيٍّ، أَوْ مَيْلٍ إِلَى الرِّجَالِ أَوِ النِّسَاءِ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَظْهَرَ كَذِبُهُ يَقِينًا، مِثْلَ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّهُ رَجُلٌ، ثُمَّ تَلِدَ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُتْرَكُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ السَّابِقِ.
مِيرَاثُ الْحَمْلِ:
109- الْحَمْلُ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ إِذَا عُلِمَ بِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُورَثِ وَانْفَصَلَ حَيًّا.وَيُعْلَمُ وُجُودُهُ فِي الْبَطْنِ إِذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مُنْذُ مَوْتِ الْمُورَثِ، إِذَا كَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، لِأَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.
وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً، وَجَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ بَائِنٍ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.وَفِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُ أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ أَرْبَعُ سِنِينَ، وَذَلِكَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحَدُ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَهُمْ: أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ خَمْسُ سِنِينَ.وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: سَنَةٌ.
وَدَلِيلُ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَمْلِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فَإِنَّهَا قَالَتْ: «لَا يَبْقَى الْوَلَدُ فِي رَحِمِ أُمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، وَلَوْ بِفَلْكَةِ مِغْزَلٍ».وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْرَفُ قِيَاسًا بَلْ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-
وَدَلِيلُ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَقْصَى الْمُدَّةِ الِاسْتِقْرَاءُ، وَأَنَّ عُمَرَ قَالَ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ: تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ.وَسَبَبُ التَّقْدِيرِ بِالْأَرْبَعِ أَنَّهَا نِهَايَةُ مُدَّةِ الْحَمْلِ.
وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: (وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَرْجُوعٌ فِيهَا إِلَى الْعَادَةِ وَالتَّجْرِبَةِ.وَقَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَقْرَبُ إِلَى الْمُعْتَادِ.وَالْحُكْمُ إِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِالْمُعْتَادِ لَا بِالنَّادِرِ وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِيلاً).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
17-موسوعة الفقه الكويتية (إرسال 1)
إِرْسَالٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْإِرْسَالُ لُغَةً: مَصْدَرُ (أَرْسَلَ) يُقَالُ: أَرْسَلَ الشَّيْءَ: أَطْلَقَهُ وَأَهْمَلَهُ، وَيُقَالُ: أَرْسَلَ الْكَلَامَ أَيْ أَطْلَقَهُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَأَرْسَلَ الرَّسُولَ: بَعَثَهُ بِرِسَالَةٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِ شَيْئًا: سَلَّطَهُ عَلَيْهِ، وَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}.
وَيَسْتَعْمِلُ الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ الْإِرْسَالِ بِإِطْلَاقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا مَا يَلِي:
الْإِرْخَاءُ، كَإِرْسَالِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِرْسَالِ طَرَفِ الْعِمَامَةِ، وَإِرْسَالِ الشَّعْرِ بِعَدَمِ رَبْطِهِ.وَالتَّوْجِيهُ، كَإِرْسَالِ شَخْصٍ إِلَى آخَرَ بِمَالٍ أَوْ رِسَالَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.وَالتَّخْلِيَةُ، وَذَلِكَ كَإِرْسَالِ الْمُحْرِمِ مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ صَيْدٍ.وَالْإِهْمَالُ، كَإِرْسَالِ الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْحَيَوَانِ.وَالتَّسْلِيطُ، كَإِرْسَالِ الْحَيَوَانِ أَوِ السَّهْمِ عَلَى الصَّيْدِ.
وَبِمَعْنَى عَدَمِ الْإِضَافَةِ وَعَدَمِ الْإِطْلَاقِ، وَمِثَالُ ذَلِكَ مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ فِيمَا إِذَا جَرَى الْخُلْعُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ فَإِلَيْهَا الْقَبُولُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَدَلُ مُرْسَلًا أَمْ مُطْلَقًا، أَمْ مُضَافًا إِلَى الْمَرْأَةِ أَوِ الْأَجْنَبِيِّ إِضَافَةَ مِلْكٍ أَوْ ضَمَانٍ.وَمَتَى جَرَى الْخُلْعُ بَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ وَالزَّوْجِ، فَإِنْ كَانَ الْبَدَلُ مُرْسَلًا (أَيْ مُعَيَّنًا بِغَيْرِ الْإِضَافَةِ) فَالْقَبُولُ إِلَيْهَا كَقَوْلِهَا: اخْلَعْنِي عَلَى هَذِهِ الدَّارِ، فَإِنْ قَدَرَتْ عَلَى تَسْلِيمِهَا سَلَّمَتْهَا، وَإِلاَّ فَالْمِثْلُ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ، وَالْقِيمَةُ فِي الْقِيَمِيِّ، وَتَتِمَّةُ هَذَا فِي الْخُلْعِ.وَالْمُطْلَقُ كَقَوْلِهَا: خَالَعَنِي عَلَى ثَوْبٍ.وَالْمُضَافُ كَقَوْلِهَا: خَالَعَنِي عَلَى دَارِي.
وَيَسْتَعْمِلُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ الْإِرْسَالَ فِي الْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ؛ لِأَنَّهَا كُلُّ مَصْلَحَةٍ أَطْلَقَهَا الشَّارِعُ فَلَمْ يَعْتَبِرْهَا وَلَمْ يُلْغِهَا.
وَالْإِرْسَالُ فِي الْحَدِيثِ لَهُ إِطْلَاقٌ خَاصٌّ سَيَأْتِي فِيمَا يَلِي:
الْإِرْسَالُ فِي الْحَدِيثِ:
2- يُطْلَقُ لَفْظُ الْإِرْسَالِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى تَرْكِ التَّابِعِيِّ الْوَاسِطَةَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- بِأَنْ رَفَعَ التَّابِعِيُّ الْحَدِيثَ لِلرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- سَوَاءٌ أَكَانَ كَبِيرًا أَمْ صَغِيرًا، بِأَنْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَذَا، أَوْ فَعَلَ كَذَا، أَوْ فُعِلَ بِحَضْرَتِهِ كَذَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.وَبَعْضُهُمْ خَصَّهُ بِرَفْعِ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ، وَهُوَ الَّذِي رَأَى جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ وَجَالَسَهُمْ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَمْثَالِهِمَا.
أَمَّا إِذَا انْقَطَعَ الْإِسْنَادُ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى التَّابِعِيِّ، بِأَنْ كَانَ فِيهِ رَاوٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الْمَذْكُورِينَ فَوْقَهُ، فَلَيْسَ بِمُرْسَلٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، بَلْ يُسَمَّى مُنْقَطِعًا، إِنْ كَانَ السَّاقِطُ وَاحِدًا فَحَسْبُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ سُمِّيَ مُعْضَلًا، وَأَمَّا عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ فَكُلُّ ذَلِكَ يُسَمَّى مُرْسَلًا.وَذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ الْخَطِيبُ وَقَطَعَ بِهِ.وَجَاءَ فِي مُسْلِمِ الثُّبُوتِ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: مَا رَوَاهُ الْعَدْلُ مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ لِيَشْمَلَ الْمُنْقَطِعَ.وَأَمَّا عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَالْمُرْسَلُ قَوْلُ التَّابِعِيِّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ كَذَا، وَالْمُعْضَلُ مَا سَقَطَ مِنْ إِسْنَادِهِ اثْنَانِ مِنَ الرُّوَاةِ، وَالْمُنْقَطِعُ مَا سَقَطَ وَاحِدٌ مِنْهَا، وَالْمُعَلَّقُ مَا رَوَاهُ مَنْ دُونَ التَّابِعِيِّ مِنْ غَيْرِ سَنَدٍ، وَالْكُلُّ دَاخِلٌ فِي الْمُرْسَلِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِكَثِيرِ الِاصْطِلَاحِ وَالْأَسَامِي فَائِدَةٌ.
أَقْسَامُ وَحُكْمُ الْحَدِيثِ الْمُرْسَلِ:
3- يَنْقَسِمُ الْمُرْسَلُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ هِيَ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا أَرْسَلَهُ الصَّحَابِيُّ: حُكْمُهُ أَنَّهُ مَقْبُولٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: إِرْسَالُ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ أَيِ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْعُلَمَاءِ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ، إِذْ أَنَّهُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَشْهَرِ رِوَايَتَيِ الْحَنَابِلَةِ، إِذَا كَانَ الْمُرْسِلُ عَدْلًا.
أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلَا يَعْتَبِرُهُ حُجَّةً إِلاَّ إِذَا تَأَيَّدَ بِآيَةٍ، أَوْ سُنَّةٍ مَشْهُورَةٍ، أَوْ مُوَافَقَةِ قِيَاسٍ صَحِيحٍ، أَوْ قَوْلِ صَحَابِيٍّ، أَوْ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، أَوِ اشْتَرَكَ فِي إِرْسَالِهِ عَدْلَانِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ شَيْخَاهُمَا مُخْتَلِفَيْنِ، أَوْ ثَبَتَ اتِّصَالُهُ بِوَجْهٍ آخَرَ، بِأَنْ أَسْنَدَهُ غَيْرُ مُرْسِلِهِ، أَوْ أَسْنَدَهُ مُرْسِلُهُ مُرَّةً أُخْرَى.
وَلِثُبُوتِ الِاتِّصَالِ بِوَجْهٍ آخَرَ قُبِلَتْ مَرَاسِيلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ؛ لِأَنَّهَا بِالتَّتَبُّعِ وُجِدَتْ مُسْنَدَةً (أَيْ مُتَّصِلَةً مَرْفُوعَةً إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَكْثَرُهَا مِمَّا سَمِعَهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي احْتِجَاجِهِ بِالْمُرْسَلِ أَوْ عَدَمِهِ.
وَأَمَّا رَأْيُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَيَتَّضِحُ بِمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ شَرْحِ رَوْضَةِ النَّاظِرِ، وَمُفَادُهُ أَنَّ لِلْإِمَامِ رِوَايَتَيْنِ أَشْهَرُهُمَا أَنَّهُ حُجَّةٌ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا أَرْسَلَهُ الْعَدْلُ مِنْ غَيْرِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ: وَيُعْتَبَرُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَرَاسِيلِ حُجَّةً عِنْدَ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ؛ لِأَنَّ إِرْسَالَ الْعَدْلِ يُقْبَلُ فِي كُلِّ عَصْرٍ، إِذْ أَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي تُوجِبُ قَبُولَ مَرَاسِيلِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الْعَدَالَةُ وَالضَّبْطُ، تَشْمَلُ سَائِرَ الْقُرُونِ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا أُرْسِلَ مِنْ وَجْهٍ وَاتَّصَلَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَهُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّ الْمُرْسِلَ سَاكِتٌ عَنْ حَالِ الرَّاوِي، وَالْمُسْنِدُ نَاطِقٌ، وَالسَّاكِتُ لَا يُعَارِضُ النَّاطِقَ، مِثْلَ حَدِيثِ: «لَا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ» رَوَاهُ إِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ مُسْنَدًا، وَرَوَاهُ شُعْبَةُ مُرْسَلًا.وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يُقْبَلُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَرَاسِيلِ؛ لِأَنَّ سُكُوتَ الرَّاوِي عَنْ ذِكْرِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَرْحِ فِيهِ، وَإِسْنَادُ الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْدِيلِ، وَإِذَا اجْتَمَعَ الْجُرْحُ وَالتَّعْدِيلُ يُعْمَلُ بِالْجَرْحِ.
أَوَّلًا: الْإِرْسَالُ بِمَعْنَى الْإِرْخَاءِ
كَيْفِيَّةُ وَضْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ:
4- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَضَعَ الْمُصَلِّي يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى، وَهُوَ اخْتِيَارُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رِوَايَةُ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالُوا: إِنَّهُ السُّنَّةُ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَلِي:
أ- مَا رَوَاهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: «كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الْمُصَلِّي الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ.قَالَ أَبُو حَازِمٍ: لَا أَعْلَمُهُ إِلاَّ يَنْمِي ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- ».
ب- مَا رُوِيَ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ فِي صِفَةِ صَلَاةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى كَفِّهِ الْيُسْرَى وَالرُّسْغِ وَالسَّاعِدِ».
ج- مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «مَرَّ بِي النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا وَاضِعٌ يَدِي الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى فَأَخَذَ بِيَدِي الْيُمْنَى فَوَضَعَهَا عَلَى الْيُسْرَى».
الثَّانِي: اسْتِحْبَابُ الْإِرْسَالِ وَكَرَاهِيَةُ الْقَبْضِ فِي الْفَرْضِ، وَالْجَوَازُ فِي النَّفْلِ، قِيلَ: مُطْلَقًا، وَقِيلَ: إِنْ طَوَّلَ.وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ وَشُرَّاحُ مَتْنِهِ كَالدَّرْدِيرِ وَالدُّسُوقِيِّ، وَعُلِّلَتِ الْكَرَاهَةُ فِي الْفَرْضِ بِأَنَّ الْقَبْضَ فِيهِ اعْتِمَادٌ عَلَى الْيَدَيْنِ فَأَشْبَهَ الِاسْتِنَادَ، وَلِذَلِكَ قَالَ الدَّرْدِيرُ: فَلَوْ فَعَلَهُ لَا لِلِاعْتِمَادِ بَلِ اسْتِنَانًا لَمْ يُكْرَهْ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا التَّعْلِيلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَعَلَيْهِ فَيَجُوزُ فِي النَّفْلِ مُطْلَقًا، بِجَوَازِ الِاعْتِمَادِ فِيهِ بِلَا ضَرُورَةٍ.
الثَّالِثُ: إِبَاحَةُ الْقَبْضِ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي سَمَاعِ أَشْهَبَ وَابْنِ نَافِعٍ.
وَذَكَرَ الْحَطَّابُ نَقْلًا عَنِ ابْنِ فَرْحُونَ: وَأَمَّا إِرْسَالُهُمَا «أَيِ الْيَدَيْنِ» بَعْدَ رَفْعِهِمَا فَقَالَ سَنَدٌ: لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يُرْسِلَهُمَا حَالَ التَّكْبِيرِ، لِيَكُونَ مُقَارِنًا لِلْحَرَكَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُرْسِلَهُمَا بِرِفْقٍ.
هَذَا، وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ مَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ الْمَالِكِيَّةِ إِذْ قَالَ الشِّرْبِينِيُّ مَا نَصُّهُ: «وَالْقَصْدُ مِنَ الْقَبْضِ الْمَذْكُورِ- يَعْنِي قَبْضَ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ- تَسْكِينُ الْيَدَيْنِ فَإِنْ أَرْسَلَهُمَا وَلَمْ يَعْبَثْ فَلَا بَأْسَ»
الرَّابِعُ: مَنْعُ الْقَبْضِ فِيهِمَا، حَكَاهُ الْبَاجِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ عَرَفَةَ، وَلَكِنْ قَالَ الْمِسْنَاوِيُّ: هَذَا مِنَ الشُّذُوذِ.
إِرْسَالُ الْعَذَبَةِ مِنَ الْعِمَامَةِ وَالتَّحْنِيكُ بِهَا:
5- أَوْرَدَ الْحَطَّابُ نَقْلًا عَنِ الْمَدْخَلِ لِابْنِ الْحَاجِّ أَنَّ الْعِمَامَةَ بِغَيْرِ عَذَبَةٍ وَلَا تَحْنِيكٍ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، فَإِنْ فَعَلَهُمَا فَهُوَ الْأَكْمَلُ، وَإِنْ فَعَلَ أَحَدَهُمَا فَقَدْ خَرَجَ بِهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عَبْدِ الْحَقِّ الْإِشْبِيلِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَسُنَّةُ الْعِمَامَةِ بَعْدَ فِعْلِهَا أَنْ يُرْخِيَ طَرَفَهَا وَيَتَحَنَّكَ، فَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ طَرَفٍ وَلَا تَحْنِيكٍ فَيُكْرَهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ.
أَمَّا النَّوَوِيُّ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا كَرَاهَةَ فِي إِرْسَالِ الْعَذَبَةِ وَلَا عَدَمِ إِرْسَالِهَا، إِلاَّ أَنَّ الشَّيْخَ الْكَمَالَ ابْنَ أَبِي شَرِيفٍ قَدْ تَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: بِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ أَنَّهُ مِنَ الْمُبَاحِ الْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ، قَالَ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْإِرْسَالُ مُسْتَحَبٌّ وَتَرْكُهُ خِلَافُ الْأَوْلَى. وَبِالنِّسْبَةِ لِلْحَنَفِيَّةِ فَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُنْدَبُ إِرْسَالُ ذَنَبِ الْعِمَامَةِ بِسِنِّ الْكَتِفَيْنِ إِلَى وَسَطِ الظَّهْرِ، وَقِيلَ لِمَوْضِعِ الْجُلُوسِ، وَقِيلَ شِبْرًا.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَلَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِ الْعِمَامَةِ الْمُحَنَّكَةِ وَكَرَاهَةِ الصَّمَّاءِ، قَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ: يَحْسُنُ أَنْ يُرْخِيَ الذُّؤَابَةَ خَلْفَهُ وَلَوْ شِبْرًا عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ.
وَقَدْ ذَكَرَ السَّخَاوِيُّ عَنْ مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ عَلِيًّا إِلَى خَيْبَرَ فَعَمَّمَهُ بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ، ثُمَّ أَرْسَلَهَا مِنْ وَرَائِهِ أَوْ قَالَ عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ»، وَتَرَدَّدَ رَاوِيهِ فِيهِ، وَرُبَّمَا جَزَمَ بِالثَّانِي.
ثَانِيًا: الْإِرْسَالُ بِمَعْنَى بَعْثِ الرَّسُولِ
الْإِرْسَالُ فِي النِّكَاحِ:
6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى صِحَّةِ الْإِرْسَالِ فِي النِّكَاحِ وَتَرَتُّبِ آثَارِهِ، وَهُنَاكَ تَفْرِيعَاتٌ فِي الْمَذَاهِبِ مِنْهَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، أَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَةٍ رَسُولًا، أَوْ كَتَبَ إِلَيْهَا كِتَابًا قَالَ فِيهِ: تَزَوَّجْتُكِ، فَقَبِلَتْ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ، سَمِعَا كَلَامَ الرَّسُولِ أَوْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ جَازَ ذَلِكَ، لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ كَلَامَ الرَّسُولِ هُوَ كَلَامُ الْمُرْسَلِ لِأَنَّهُ يَنْقُلُ عِبَارَتَهُ، وَكَذَا الْكِتَابُ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ، فَكَانَ سَمَاعُ قَوْلِ الرَّسُولِ أَوْ قِرَاءَةُ الْكِتَابِ سَمَاعَ قَوْلِ الْمُرْسِلِ أَوْ كَلَامِ الْكَاتِبِ مَعْنًى.وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ أَوْ قِرَاءَةَ الْكِتَابِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ: زَوَّجْتُ نَفْسِي يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ أَوْ قِرَاءَةَ الْكِتَابِ.بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهَا: زَوَّجْتُ نَفْسِي شَطْرُ الْعَقْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَالشَّهَادَةُ فِي شَطْرَيِ الْعَقْدِ شَرْطٌ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ عَقْدًا بِالشَّطْرَيْنِ، فَإِذَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ فَلَمْ يُوجَدْ شَطْرُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْعَقْدِ.وَقَوْلُ الزَّوْجِ بِانْفِرَادِهِ عَقْدٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَقَدْ حَضَرَ الشَّاهِدَانِ.هَذَا، وَقَدْ وَافَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدًا فِي قَوْلِهِمَا هَذَا.
الْإِرْسَالُ لِنَظَرِ الْمَخْطُوبَةِ:
7- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْمَخْطُوبَةِ فَلَهُ أَنْ يُرْسِلَ مَنْ يَثِقُ بِهَا مِنَ النِّسَاءِ لِتَنْظُرَ لَهُ الْمَخْطُوبَةَ، ثُمَّ تَصِفَهَا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، اسْتِدْلَالًا بِفِعْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذْ رُوِيَ «أَنَّهُ بَعَثَ أُمَّ سُلَيْمٍ إِلَى امْرَأَةٍ وَقَالَ: اُنْظُرِي عُرْقُوبَيْهَا وَشُمِّي مَعَاطِفَهَا».رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.هَذَا، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الشَّبْرَامَلِّسِيِّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ تَعْلِيقًا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ.قَوْلُهُ: لَوْ أَمْكَنَهُ إِرْسَالُ امْرَأَةٍ تَنْظُرُهَا لَهُ وَتَصِفُهَا لَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ يَتَوَقَّفُ، إِذْ أَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ كَالْعِيَانِ، فَقَدْ يُدْرِكُ النَّاظِرُ مِنْ نَفْسِهِ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ مَا تَقْصُرُ الْعِبَارَةُ عَنْهُ. الْإِرْسَالُ فِي الطَّلَاقِ:
8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَرْسَلَ إِلَى زَوْجَتِهِ كِتَابًا ضَمَّنَهُ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ، فَالْحُكْمُ أَنَّهَا تَطْلُقُ فِي الْحَالِ، سَوَاءٌ وَصَلَ إِلَيْهَا الْكِتَابُ أَمْ لَمْ يَصِلْ، وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ عِدَّتِهَا مِنْ حِينِ كِتَابَتِهِ الْكِتَابَ.
أَمَّا إِذَا كَتَبَ إِلَيْهَا مَا مُفَادُهُ: إِذَا وَصَلَكِ كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَتَاهَا الْكِتَابُ طَلُقَتْ مِنْ تَارِيخِ الْوُصُولِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ هُوَ وُصُولُ الْكِتَابِ إِلَيْهَا.
الْإِرْسَالُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ:
الْإِرْسَالُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ:
9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ شَخْصٌ إِلَى غَيْرِهِ رَسُولًا أَوْ كِتَابًا يَطْلُبُ مِنْهُ فِيهِ أَنْ يَبِيعَهُ شَيْئًا مَا، وَقَبِلَ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ خِلَالَ الْمَجْلِسِ الَّذِي تُلِيَ فِيهِ الْكِتَابُ الْمُرْسَلُ، أَوْ سَمَاعُ أَقْوَالِ الرَّسُولِ فَقَدْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ عَنْ كَلَامِ الْمُرْسِلِ، نَاقِلٌ كَلَامَهُ إِلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ حَضَرَ بِنَفْسِهِ، فَأَوْجَبَ الْبَيْعَ، وَقَبِلَ الْآخَرُ فِي الْمَجْلِسِ.
وَهَذَا الْحُكْمُ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ يَسْرِي عَلَى عَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَالْمُكَاتَبَةِ إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُفَرِّقُونَ فِي حُكْمِ الْإِرْسَالِ بِالشِّرَاءِ تَبَعًا لِلَفْظِ الرَّسُولِ، فَإِذَا أَسْنَدَ الرَّسُولُ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ طُولِبَ بِالثَّمَنِ، لَكِنْ إِذَا أَقَرَّ الْمُرْسِلُ بِأَنَّهُ أَرْسَلَهُ كَانَ لِلْبَائِعِ غَرِيمَانِ، فَيَتْبَعُ أَيَّهُمَا شَاءَ، إِلاَّ أَنْ يَحْلِفَ الْمُرْسِلُ أَنَّهُ دَفَعَ الثَّمَنَ لِلرَّسُولِ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ، وَيَتْبَعُ الرَّسُولَ، أَمَّا إِذَا أَسْنَدَ الشِّرَاءَ لِمَنْ أَرْسَلَهُ فَإِنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِالثَّمَنِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُطَالَبُ بِهِ الْمُرْسِلُ.
هَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ الدَّرْدِيرُ فِي شَرْحِهِ الْكَبِيرِ أَنَّ الرَّسُولَ إِذَا قَالَ: بَعَثَنِي فُلَانٌ لِتَبِيعَهُ كَذَا بِمِائَةٍ، أَوْ لِيَشْتَرِيَ مِنْكَ كَذَا بِمِائَةٍ مَثَلًا، فَرَضِيَ صَاحِبُ السِّلْعَةِ، لَا يُطَالَبُ الرَّسُولُ بِالثَّمَنِ، فَإِنْ أَنْكَرَ فُلَانٌ هَذَا أَنَّهُ أَرْسَلَهُ فَالثَّمَنُ عَلَى الرَّسُولِ.أَمَّا إِذَا قَالَ: بَعَثَنِي فُلَانٌ لِأَشْتَرِيَ لَهُ مِنْكَ، فَيُطَالَبُ الرَّسُولُ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى أَسْنَدَ الشِّرَاءَ لِغَيْرِهِ، وَفِي الْحَالِ الْأَخِيرَةِ أَسْنَدَ الشِّرَاءَ إِلَى نَفْسِهِ.
كَمَا أَجْمَعَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ بِالشِّرَاءِ لَا يَمْلِكُ إِبْطَالَ الْخِيَارِ، وَلَا تَكُونُ رُؤْيَتُهُ رُؤْيَةَ الْمُرْسِلِ، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُرْسِلِ إِذَا لَمْ يَرَهُ.وَقَدْ عَقَّبَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ بِأَنَّ رُؤْيَةَ الرَّسُولِ وَقَبْضَهُ لَا يَلْزَمُ الْمُرْسِلَ الْمَتَاعُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ عِلْمُ الْعَاقِدِ بِأَوْصَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِيَتِمَّ رِضَاهُ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِرُؤْيَةِ الرَّسُولِ، فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ قَبْضَ رَسُولِهِ كَقَبْضِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ قَبَضَ بِنَفْسِهِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ كَانَ بِالْخِيَارِ إِذَا رَآهُ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَرْسَلَ رَسُولًا فَقَبَضَهُ لَهُ.
مِلْكِيَّةُ الشَّيْءِ الْمُرْسَلِ:
10- قَرَّرَ الْأَئِمَّةُ أَنَّ الشَّيْءَ الْمُرْسَلَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مُرْسِلِهِ، حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ، وَمَا دَامَ لَمْ يَقْبِضْهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مُرْسِلِهِ، وَقَدْ عَيَّنَهُ لِإِنْسَانٍ فَلَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ أَخْذُهُ مُطْلَقًا.
الضَّمَانُ فِي الْإِرْسَالِ:
11- ذَكَرَ الدَّرْدِيرُ أَنَّهُ إِنْ زَعَمَ شَخْصٌ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ زَيْدٍ لِاسْتِعَارَةِ حُلِيٍّ لَهُ مِنْ بَكْرٍ، فَدَفَعَ لَهُ بَكْرٌ مَا طَلَبَ، وَزَعَمَ الرَّسُولُ أَنَّهُ تَلِفَ مِنْهُ، ضَمِنَهُ زَيْدٌ (الْمُرْسِلُ) إِنْ صَدَّقَهُ فِي الْإِرْسَالِ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْهُ وَبَرِئَ، ثُمَّ حَلَفَ الرَّسُولُ: لَقَدْ أَرْسَلَنِي وَأَنَّهُ تَلِفَ لَا تَفْرِيطَ مِنِّي وَبَرِئَ أَيْضًا، وَضَاعَ الْحُلِيُّ هَدَرًا.
لَكِنِ الرَّاجِحُ أَنَّ الرَّسُولَ يَضْمَنُ- وَلَا يَبْرَأُ بِالْحَلِفِ- إِلاَّ لِبَيِّنَةٍ بِالْإِرْسَالِ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُرْسِلِ.
أَمَّا قَاضِيخَانْ فَقَدْ قَالَ فِي فَتَاوِيهِ: رَجُلٌ بَعَثَ رَسُولًا إِلَى بَزَّازٍ أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ بِثَوْبِ كَذَا وَكَذَا بِثَمَنِ كَذَا وَكَذَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْبَزَّازُ مَعَ رَسُولِهِ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ، فَضَاعَ الثَّوْبُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْآمِرِ، وَتَصَادَقُوا عَلَى ذَلِكَ وَأَقَرُّوا بِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الرَّسُولِ فِي شَيْءٍ، وَإِنْ بَعَثَ الْبَزَّازُ مَعَ رَسُولِ الْآمِرِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ رَسُولَهُ قَبَضَ الثَّوْبَ عَلَى الْمُسَاوَمَةِ، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ رَبِّ الثَّوْبِ مَعَهُ.فَإِذَا وَصَلَ الثَّوْبُ إِلَى الْآمِرِ يَكُونُ ضَامِنًا.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ أَرْسَلَ رَجُلٌ رَسُولًا إِلَى رَجُلٍ آخَرَ وَقَالَ لَهُ: ابْعَثْ إِلَيَّ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ قَرْضًا فَقَالَ: نَعَمْ، وَبَعَثَ بِهَا مَعَ رَسُولِهِ، كَانَ الْآمِرُ ضَامِنًا لَهَا، إِذَا أَقَرَّ أَنَّ رَسُولَهُ قَبَضَهَا.
وَلَوْ بَعَثَ رَجُلًا لِيَسْتَقْرِضَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَقْرَضَهُ فَضَاعَ فِي يَدِهِ، إِنْ قَالَ الرَّسُولُ أَقْرِضْ فُلَانًا الْمُرْسَلَ.فَهِيَ لِلْمُرْسِلِ وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَإِنْ قَالَ الرَّسُولُ: أَقْرِضْنِي لِفُلَانٍ الْمُرْسِلِ فَأَقْرَضَهُ، وَضَاعَ فِي يَدِهِ، فَعَلَى الرَّسُولِ الضَّمَانُ.فَحَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْإِقْرَاضِ يَجُوزُ، وَبِالِاسْتِقْرَاضِ لَا يَجُوزُ، وَالرِّسَالَةُ بِالِاسْتِقْرَاضِ لِلْآمِرِ جَائِزَةٌ، وَإِنْ أَخْرَجَ الْوَكِيلُ بِالِاسْتِقْرَاضِ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الرِّسَالَةِ يَقَعُ الْقَرْضُ لِلْآمِرِ، وَإِنْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْوَكَالَةِ بِأَنْ أَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ يَصِيرُ مُسْتَقْرِضًا لِنَفْسِهِ، وَيَكُونُ مَا اسْتَقْرَضَ مِنَ الدَّرَاهِمِ لَهُ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الْمُوَكِّلِ.
وَحَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الرَّسُولَ إِنْ كَانَ رَسُولَ رَبِّ الْمَالِ فَالْوَدِيعُ يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ إِلَى الرَّسُولِ وَلَوْ مَاتَ الرَّسُولُ قَبْلَ الْوُصُولِ، وَيَرْجِعُ الْكَلَامُ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَوَرَثَةِ الرَّسُولِ، فَإِنْ مَاتَ الرَّسُولُ قَبْلَ الْوُصُولِ كَانَ الضَّمَانُ فِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْوُصُولِ فَلَا رُجُوعَ، حَمْلًا عَلَى أَنَّهُ أَوْصَلَهُ لِرَبِّ الْمَالِ.
وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ رَسُولَ الْوَدِيعِ فَلَا يَبْرَأُ إِلاَّ بِوُصُولِهِ لِرَبِّ الْمَالِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، فَإِنْ مَاتَ الرَّسُولُ قَبْلَ الْوُصُولِ رَجَعَ الْوَدِيعُ فِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْوُصُولِ فَلَا رُجُوعَ وَهِيَ مُصِيبَةٌ عَلَى الْوَدِيعِ.
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْوَكِيلَ وَالْمُودَعَ وَالرَّسُولَ مُؤْتَمَنُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُوَكِّلِ وَالْمُودِعِ وَالْمُرْسِلِ، فَإِذَا ذَكَرُوا أَنَّهُمْ رَدُّوا مَا دُفِعَ إِلَيْهِمْ إِلَى أَرْبَابِهِ قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ قَدِ ائْتَمَنُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَ قَوْلُهُمْ مَقْبُولًا فِيمَا بَيْنَهُمْ.
كَمَا لَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى رَجُلٍ وَقَالَ: ابْعَثْ إِلَيَّ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ قَرْضًا، فَقَالَ: نَعَمْ، وَبَعَثَ بِهَا مَعَ رَسُولِ الْآمِرِ، فَالْآمِرُ ضَامِنٌ لَهَا إِذَا أَقَرَّ بِأَنَّ رَسُولَهُ قَدْ قَبَضَهَا، وَإِنْ بَعَثَ بِهَا مَعَ غَيْرِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْآمِرِ حَتَّى تَصِلَ إِلَيْهِ.وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَبَعَثَ إِلَى الْمَدْيُونِ رَسُولًا أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ بِالدَّيْنِ الَّذِي لِي عَلَيْكَ، فَإِنْ بَعَثَ بِهِ مَعَ رَسُولِ الْآمِرِ فَهُوَ مِنْ مَالِ الْآمِرِ.
أَمَّا لَوْ بَعَثَ رَجُلٌ إِلَى رَجُلٍ بِكِتَابٍ مَعَ رَسُولٍ أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ ثَوْبَ كَذَا بِثَمَنِ كَذَا، فَفَعَلَ، وَبَعَثَ بِهِ مَعَ الَّذِي أَتَاهُ بِالْكِتَابِ، لَمْ يَكُنْ مِنْ مَالِ الْآمِرِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِ، وَفِي هَذَا إِنَّمَا الرَّسُولُ رَسُولٌ بِالْكِتَابِ.
وَإِذَا أَرْسَلَ الْمُودَعُ (بِفَتْحِ الدَّالِ) الْوَدِيعَةَ لِلْمُودِعِ (بِكَسْرِ الدَّالِ) بِإِذْنِهِ صَحَّ هَذَا الْإِرْسَالُ، أَمَّا إِنْ أَرْسَلَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَتَلِفَتْ أَوْ ضَاعَتْ مِنَ الرَّسُولِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا، إِلاَّ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، هِيَ فِيمَا إِذَا عَرَضَتْ لِلْمُودَعِ إِقَامَةٌ طَوِيلَةٌ فِي الطَّرِيقِ، كَالسَّنَةِ مَثَلًا فَالْحَقُّ أَنَّ لَهُ أَنْ يَبْعَثَهَا مَعَ غَيْرِهِ- وَلَوْ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذَا تَلِفَتْ أَوْ أَخَذَهَا اللِّصُّ، بَلْ بَعْثُهَا إِلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَاجِبٌ وَيَضْمَنُ إِنْ حَبَسَهَا، أَمَّا إِنْ كَانَتِ الْإِقَامَةُ الَّتِي عَرَضَتْ لَهُ قَصِيرَةً كَالْأَيَّامِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إِبْقَاؤُهَا مَعَهُ، فَإِنْ بَعَثَهَا- بِغَيْرِ إِذْنٍ- ضَمِنَهَا إِنْ تَلِفَتْ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْإِقَامَةُ الَّتِي عَرَضَتْ لَهُ مُتَوَسِّطَةً، كَالشَّهْرَيْنِ مَثَلًا خُيِّرَ فِي إِرْسَالِهَا وَفِي إِبْقَائِهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ أَرْسَلَهَا وَتَلِفَتْ، أَوْ حَبَسَهَا أَيْ وَتَلِفَتْ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي وَصِيِّ رَبِّ الْمَالِ، إِذَا أَرْسَلَ الْمَالَ لِلْوَرَثَةِ، أَوْ سَافَرَ هُوَ بِهِ إِلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِمْ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْمَالَ إِذَا ضَاعَ أَوْ تَلِفَ.وَكَذَا الْقَاضِي إِذَا بَعَثَ الْمَالَ لِمُسْتَحِقِّهِ مِنْ وَرَثَةٍ أَوْ غَيْرِهِمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَضَاعَ أَوْ تَلِفَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، خِلَافًا لِقَوْلِ أَصْبَغَ بِعَدَمِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ.وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ قَوْلَهُ فِي رَجُلٍ لَهُ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولًا يَقْبِضُهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مَعَ الرَّسُولِ دِينَارًا، فَضَاعَ مِنَ الرَّسُولِ، فَهُوَ مِنْ مَالِ الْبَاعِثِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِمُصَارَفَتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ ضَمَانِ الْبَاعِثِ لِأَنَّهُ دَفَعَ إِلَى الرَّسُولِ غَيْرَ مَا أَمَرَهُ بِهِ الْمُرْسِلُ.فَإِنَّ الْمُرْسِلَ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِقَبْضِ مَا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ، وَهِيَ الدَّرَاهِمُ، وَلَمْ يَدْفَعْهَا، وَإِنَّمَا دَفَعَ دِينَارًا عِوَضًا عَنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَهَذَا صَرْفٌ يَفْتَقِرُ إِلَى رِضَى صَاحِبِ الدَّيْنِ وَإِذْنِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ، فَصَارَ الرَّسُولُ وَكِيلًا لِلْبَاعِثِ فِي تَأْدِيَتِهِ إِلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ وَمُصَارَفَتِهِ بِهِ، فَإِذَا تَلِفَ فِي يَدِ وَكِيلِهِ كَانَ مِنْ ضَمَانِهِ، اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ يُخْبِرَ الرَّسُولُ الْغَرِيمَ أَنَّ رَبَّ الدَّيْنِ أَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِ الدِّينَارِ عَنِ الدَّرَاهِمِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مِنْ ضَمَانِ الرَّسُولِ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ وَأَخَذَ الدِّينَارَ عَلَى أَنَّهُ وَكِيلٌ لِلْمُرْسِلِ.وَإِنْ قَبَضَ مِنْهُ الدَّرَاهِمَ الَّتِي أُمِرَ بِقَبْضِهَا فَضَاعَتْ مِنَ الرَّسُولِ فَهِيَ مِنْ ضَمَانِ صَاحِبِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ مِنْ يَدِ وَكِيلِهِ.
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ- رضي الله عنه- قَوْلُهُ فِي رَجُلٍ لَهُ عِنْدَ آخَرَ دَنَانِيرُ وَثِيَابٌ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولًا وَقَالَ: خُذْ دِينَارًا وَثَوْبًا، فَأَخَذَ دِينَارَيْنِ وَثَوْبَيْنِ، فَضَاعَتْ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْبَاعِثِ، يَعْنِي الَّذِي أَعْطَاهُ الدِّينَارَيْنِ وَالثَّوْبَيْنِ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الرَّسُولِ، يَعْنِي عَلَيْهِ ضَمَانُ الدِّينَارِ وَالثَّوْبِ الزَّائِدَيْنِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ عَلَيْهِ الضَّمَانَ لِأَنَّهُ دَفَعَهُمَا إِلَى مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِدَفْعِهِمَا إِلَيْهِ، وَيَرْجِعُ بِهِمَا عَلَى الرَّسُولِ لِأَنَّهُ غَرَّهُ وَجَعَلَ التَّلَفَ فِي يَدِهِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَلِلْمُوَكِّلِ تَضْمِينُ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى بِقَبْضِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِقَبْضِهِ، فَإِذَا ضَمِنَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ فِي يَدِهِ فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ.
أَثَرُ الْإِرْسَالِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ لِلْمُرْسِلِ أَوْ عَلَيْهِ:
12- يَتَبَيَّنُ أَثَرُ الْإِرْسَالِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ لِلْمُرْسِلِ، أَوْ عَلَيْهِ مِنْ خِلَالِ مَا ذُكِرَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَقْوَالٍ، فَالْإِمَامُ الْكَاسَانِيُّ يُبَيِّنُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى امْرَأَةٍ يُرِيدُ الزَّوَاجَ مِنْهَا فَكَتَبَ إِلَيْهَا بِذَلِكَ كِتَابًا، فَقَبِلَتْ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ سَمِعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ جَازَ ذَلِكَ؛ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ كَلَامَ الرَّسُولِ كَلَامُ الْمُرْسِلِ، لِأَنَّهُ يَنْقُلُ عِبَارَةَ الْمُرْسِلِ.وَكَذَا الْكِتَابُ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ مِنَ الْكَاتِبِ، فَكَانَ سَمَاعُ قَوْلِ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةُ الْكِتَابِ سَمَاعَ قَوْلِ الْمُرْسِلِ وَكَلَامَ الْكَاتِبِ مَعْنًى، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، بَيْنَمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إِذَا قَالَتْ: زَوَّجْتُ نَفْسِي يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ، إِذْ أَنَّ قَوْلَ الزَّوْجِ بِانْفِرَادِهِ عَقْدٌ عِنْدَهُ وَقَدْ حَضَرَ الشَّاهِدَانِ.فَيَتَّضِحُ أَنَّ الشَّهَادَةَ هُنَا مَأْخُوذٌ بِهَا عِنْدَ السَّمَاعِ لِكَلَامِ الْمُرْسِلِ.هَذَا وَقَدْ أَيَّدَ الدُّسُوقِيُّ الْكَاسَانِيَّ فِي اعْتِبَارِ الشَّهَادَةِ لِلْمُرْسِلِ، إِذْ ذَكَرَ فِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْمُودَعَ يَضْمَنُ الْوَدِيعَةَ إِنْ دَفَعَهَا لِلرَّسُولِ مِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَفَعَ لِغَيْرِ الْيَدِ الَّتِي ائْتَمَنَتْهُ كَانَ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ، فَلَمَّا تَرَكَهُ صَارَ مُفَرِّطًا، وَأَمَّا إِنْ دَفَعَ لَهُ بِإِشْهَادٍ فَقَدْ بَرِئَ، وَيَرْجِعُ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ عَلَى الرَّسُولِ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ.
ثَالِثًا: الْإِرْسَالُ بِمَعْنَى الْإِهْمَالِ
حُكْمُ ضَمَانِ مَا أَتْلَفَتْهُ الْحَيَوَانَاتُ وَالْمَوَاشِي الْمُرْسَلَةُ:
13- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مَعْرِضِ بَيَانِهِمْ لِحُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى التَّفْرِيقِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ بَيْنَ الدَّابَّةِ الَّتِي تُتْلِفُ أَمْوَالَ الْغَيْرِ وَمَعَهَا رَاكِبٌ، وَالدَّابَّةِ الَّتِي تُتْلِفُهَا مِنْ غَيْرِ قَائِدٍ.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا التَّفْرِيقِ فَقَدْ قَالُوا: إِذَا أَتْلَفَتِ الدَّابَّةُ مَالًا أَوْ نَفْسًا، لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، وَكَانَ مَعَهَا رَاكِبُهَا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ، وَعَلَيْهِ تَعَهُّدُهَا وَحِفْظُهَا، وَلِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعَهَا كَانَ فِعْلُهَا مَنْسُوبًا إِلَيْهِ.
وَلَوْ كَانَ مَعَهَا سَائِقٌ وَقَائِدٌ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا سَائِقٌ وَقَائِدٌ مَعَ رَاكِبٍ فَهَلْ يَخْتَصُّ الضَّمَانُ بِالرَّاكِبِ أَوْ يَجِبُ أَثْلَاثًا؟ وَجْهَانِ: أَرْجَحُهُمَا الْأَوَّلُ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا رَاكِبَانِ فَهَلْ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا أَوْ يَخْتَصُّ بِالْأَوَّلِ، دُونَ الرَّدِيفِ؟ وَجْهَانِ: أَوْجَهُهُمَا الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُمَا.
أَمَّا إِذَا أَتْلَفَتِ الدَّابَّةُ أَمْوَالَ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا رَاكِبٌ فَهُنَا يُنْظَرُ إِلَى الزَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْإِتْلَافُ، فَإِنْ كَانَ نَهَارًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِهَا، وَإِنْ كَانَ لَيْلًا ضَمِنَ، لِتَقْصِيرِهِ بِإِرْسَالِهَا لَيْلًا، بِخِلَافِ الْإِرْسَالِ نَهَارًا، لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ.وَهُوَ عَلَى وَفْقِ الْعَادَةِ فِي حِفْظِ الزَّرْعِ وَنَحْوِهِ نَهَارًا وَالدَّابَّةِ لَيْلًا، وَلَوْ تَعَوَّدَ أَهْلُ الْبَلَدِ إِرْسَالَ الدَّوَابِّ وَحِفْظَ الزَّرْعِ لَيْلًا دُونَ النَّهَارِ انْعَكَسَ الْحُكْمُ، فَيَضْمَنُ مُرْسِلُهَا مَا أَتْلَفَتْهُ نَهَارًا دُونَ اللَّيْلِ، اتِّبَاعًا لِمَعْنَى الْخَبَرِ وَالْعَادَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مَا بَحَثَهُ الْبُلْقِينِيُّ أَنَّهُ لَوْ جَرَتْ عَادَةٌ بِحِفْظِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا ضَمِنَ مُرْسِلُهَا مَا أَتْلَفَتْهُ مُطْلَقًا.
هَذَا، وَقَدِ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الدَّوَابِّ الَّتِي يَلْزَمُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِهَا الْحَمَامَ وَغَيْرَهُ مِنَ الطُّيُورِ وَالنَّحْلَ، إِذْ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ بِإِتْلَافِهَا مُطْلَقًا، وَهَذَا الْحُكْمُ حَكَاهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنِ ابْنِ الصَّبَّاغِ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْعَادَةَ إِرْسَالُهَا.
هَذَا، وَقَدْ وَافَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الشَّافِعِيَّةَ فِي أَنَّ الضَّمَانَ لَازِمٌ فِي إِتْلَافِ الدَّوَابِّ إِنْ كَانَ لَيْلًا، أَمَّا إِنْ كَانَ نَهَارًا فَلَا ضَمَانَ فِيهِ.بَيْنَمَا لِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ نَذْكُرُهُ بَعْدَ قَلِيلٍ بِإِذْنِ اللَّهِ.
هَذَا، وَقَدْ وَافَقَ الْمَالِكِيَّةُ الشَّافِعِيَّةَ فِي قَوْلِهِمْ بِتَضْمِينِ رَاكِبِهَا وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا.
أَمَّا حُكْمُ مَا أَتْلَفَهُ الْحَمَامُ وَالنَّحْلُ وَالدَّجَاجُ فَجَاءَ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ فِيهِ رِوَايَتَانِ:
الْأُولَى: تُوَافِقُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ.وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ حُكْمَهَا كَالْمَاشِيَةِ فِي الْإِتْلَافِ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ، إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَرَفَةَ قَدْ قَالَ بِصَوَابِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى.أَمَّا الْبَاجِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: فِي الْمَوَاضِعِ ضَرْبٌ تَنْفَرِدُ فِيهِ الْمَزَارِعُ وَالْحَوَائِطُ، لَيْسَ بِمَكَانِ سَرْحٍ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ إِرْسَالُ الْمَوَاشِي فِيهِ، وَمَا أَفْسَدَتْ فِيهِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَعَلَى أَرْبَابِهَا الضَّمَانُ.وَضَرْبٌ آخَرُ جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ بِإِرْسَالِ مَوَاشِيهِمْ فِيهِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَأَحْدَثَ رَجُلٌ فِيهِ زَرْعًا فَأَتْلَفَتْهُ الْمَوَاشِي، فَلَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِي، سَوَاءٌ وَقَعَ الْإِتْلَافُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا.
وَمِنَ الْمُفِيدِ جِدًّا أَنْ نُشِيرَ إِلَى مَا ذَكَرَهُ مُؤَلِّفُ التَّاجِ وَالْإِكْلِيلِ إِذْ قَالَ: بِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَرْسَلَ فِي أَرْضِهِ نَارًا أَوْ مَاءً فَوَصَلَ إِلَى أَرْضِ جَارِهِ فَأَتْلَفَ زَرْعَهَا، يُنْظَرُ فِي الْأَمْرِ عَلَى ضَوْءِ قُرْبِ الْأَرْضِ وَبُعْدِهَا، فَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ قَرِيبَةً فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً إِلاَّ أَنَّ النَّارَ وَصَلَتْهَا بِسَبَبِ رِيحٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا ضَمَانَ. وَهَذَا الرَّأْيُ قَدْ قَالَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا إِلاَّ أَنَّ لَهُمْ رَأْيًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِرْسَالِ الدَّابَّةِ وَالْكَلْبِ أَرَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ هُنَا، وَمُفَادُ هَذَا الرَّأْيِ هُوَ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ الدَّابَّةِ وَالْكَلْبِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ، حَيْثُ إِنَّهُ إِذَا أَرْسَلَ الْكَلْبَ وَلَمْ يَكُنْ سَائِقًا لَهُ فَلَا ضَمَانَ فِيمَا يُتْلِفُهُ، وَإِنْ أَصَابَ الْمُتْلَفَ مِنْ فَوْرِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ، إِذْ لَا يُمْكِنُهُ اتِّبَاعُهُ، وَالْمُتَسَبِّبُ لَا يَضْمَنُ إِلاَّ إِذَا تَعَدَّى، بَيْنَمَا إِذَا أَرْسَلَ الدَّابَّةَ فَأَتْلَفَتْ أَمْوَالَ الْغَيْرِ عَلَى الْفَوْرِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِإِرْسَالِهَا فِي الطَّرِيقِ مَعَ إِمْكَانِ اتِّبَاعِهَا، إِلاَّ أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا يُوسُفَ لَمْ يُفَرِّقْ فِي لُزُومِ الضَّمَانِ بَيْنَ مَا يُتْلِفُهُ الْكَلْبُ بِإِرْسَالِهِ وَمَا تُتْلِفُهُ الدَّابَّةُ بِإِرْسَالِهَا.
هَذَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَرْسَلَ طَيْرًا سَاقَهُ (أَيْ سَارَ خَلْفَهُ) أَوْ لَا، أَوْ أَرْسَلَ دَابَّةً أَوْ كَلْبًا وَلَمْ يَكُنْ سَائِقًا لَهُ، أَوِ انْفَلَتَتْ دَابَّةٌ بِنَفْسِهَا فَأَصَابَتْ مَالًا أَوْ آدَمِيًّا نَهَارًا أَوْ لَيْلًا فَلَا ضَمَانَ فِي الْكُلِّ، لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» أَيِ الْمُنْفَلِتَةُ هَدَرٌ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
18-موسوعة الفقه الكويتية (استصلاح)
اسْتِصْلَاحٌالتَّعْرِيفُ:
1- الِاسْتِصْلَاحُ فِي اللُّغَةِ: نَقِيضُ الِاسْتِفْسَادِ.
وَعِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ: اسْتِنْبَاطُ الْحُكْمِ فِي وَاقِعَةٍ لَا نَصَّ فِيهَا وَلَا إِجْمَاعَ، بِنَاءً عَلَى مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ لَا دَلِيلَ عَلَى اعْتِبَارِهَا وَلَا إِلْغَائِهَا.وَيُعَبَّرُ عَنْهُ أَيْضًا بِالْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ.
2- وَالْمَصْلَحَةُ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ الْمَفْسَدَةِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَقَاصِدِ الشَّرْعِ الْخَمْسَةِ.
3- وَالْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ: مَا لَا يَشْهَدُ لَهَا أَصْلٌ بِالِاعْتِبَارِ وَلَا بِالْإِلْغَاءِ، لَا بِالنَّصِّ وَلَا بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ عَلَى وَفْقِهِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الِاسْتِحْسَانُ:
4- عَرَّفَهُ الْأُصُولِيُّونَ بِتَعَارِيفَ كَثِيرَةٍ، الْمُخْتَارُ مِنْهَا: الْعُدُولُ إِلَى خِلَافِ النَّظِيرِ بِدَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ، كَدُخُولِ الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِزَمَانِ مُكْثٍ، وَلَا مِقْدَارِ مَاءٍ، لِدَلِيلِ الْعُرْفِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالِاسْتِحْسَانُ يَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ قِيَاسٍ بِقِيَاسٍ، أَوْ بِمُقَابَلَةِ نَصٍّ بِقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ، وَالِاسْتِصْلَاحُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
ب- الْقِيَاسُ:
5- وَهُوَ مُسَاوَاةُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ.
فَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاسْتِصْلَاحِ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ لِلْقِيَاسِ أَصْلًا يُقَاسُ الْفَرْعُ عَلَيْهِ، فِي حِينِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلِاسْتِصْلَاحِ هَذَا الْأَصْلِ.
أَقْسَامُ الْمُنَاسِبِ الْمُرْسَلِ:
6- الْمُنَاسِبُ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ الِاسْتِصْلَاحُ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أ- إِمَّا أَنْ يَعْتَبِرَهُ الشَّارِعُ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الِاعْتِبَارَاتِ.
ب- وَإِمَّا أَنْ يُلْغِيَهُ.
ج- وَإِمَّا أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ.وَالْأَخِيرُ هُوَ الِاسْتِصْلَاحُ.
حُجِّيَّةُ الِاسْتِصْلَاحِ:
7- اخْتُلِفَ فِي حُجِّيَّتِهِ عَلَى مَذَاهِبَ كَثِيرَةٍ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ مَا مِنْ مَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ إِلاَّ يَأْخُذُ بِهِ إِجْمَالًا، وَقَدْ وَضَعَ بَعْضُهُمْ قُيُودًا لِجَوَازِ الْأَخْذِ بِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ، عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ الْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
19-موسوعة الفقه الكويتية (إسقاط 1)
إِسْقَاطٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- مِنْ مَعَانِي الْإِسْقَاطِ لُغَةً: الْإِيقَاعُ وَالْإِلْقَاءُ، يُقَالُ: سَقَطَ اسْمُهُ مِنَ الدِّيوَانِ: إِذَا وَقَعَ، وَأَسْقَطَتِ الْحَامِلُ: أَلْقَتِ الْجَنِينَ، وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ: سَقَطَ الْفَرْضُ، أَيْ سَقَطَ طَلَبُهُ وَالْأَمْرُ بِهِ.
وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ إِزَالَةُ الْمِلْكِ، أَوِ الْحَقِّ، لَا إِلَى مَالِكٍ وَلَا إِلَى مُسْتَحِقٍّ، وَتَسْقُطُ بِذَلِكَ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، لِأَنَّ السَّاقِطَ يَنْتَهِي وَيَتَلَاشَى وَلَا يَنْتَقِلُ، وَذَلِكَ كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ وَالْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ وَبِمَعْنَى الْإِسْقَاطِ: الْحَطُّ، إِذْ يَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَى نَفْسِهِ.وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِي إِسْقَاطِ الْحَامِلِ الْجَنِينَ.وَسَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي (إِجْهَاضٌ).
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْإِبْرَاءُ:
2- الْإِبْرَاءُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ.وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ الْإِبْرَاءَ مِنَ الدَّيْنِ إِسْقَاطًا مَحْضًا، أَمَّا مَنْ يَعْتَبِرُهُ تَمْلِيكًا فَيَقُولُ: هُوَ تَمْلِيكُ الْمَدِينِ مَا فِي ذِمَّتِهِ.وَتَوَسَّطَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فَقَالَ: هُوَ تَمْلِيكٌ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ، إِسْقَاطٌ فِي حَقِّ الْمَدِينِ، وَهَذَا بِالنَّظَرِ لِبَرَاءَةِ الْإِسْقَاطِ لَا لِبَرَاءَةِ الِاسْتِيفَاءِ.
وَيُلَاحَظُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ وَلَا تُجَاهِهِ، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ، فَتَرْكُهُ لَا يُعْتَبَرُ إِبْرَاءً، بَلْ هُوَ إِسْقَاطٌ.وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ.غَيْرَ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ يَعْتَبِرُ الْإِبْرَاءَ أَعَمَّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، إِذْ يَقُولُ: الْإِسْقَاطُ فِي الْمُعَيَّنِ، وَالْإِبْرَاءُ أَعَمُّ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي الْمُعَيَّنِ وَغَيْرِهِ.
ب- الصُّلْحُ:
3- الصُّلْحُ اسْمٌ بِمَعْنَى: الْمُصَالَحَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَالسِّلْمِ.
وَشَرْعًا: عَقْدٌ يَقْتَضِي قَطْعَ النِّزَاعِ وَالْخُصُومَةِ.
وَيَجُوزُ فِي الصُّلْحِ إِسْقَاطُ بَعْضِ الْحَقِّ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَنْ إِقْرَارٍ أَمْ إِنْكَارٍ أَمْ سُكُوتٍ.فَإِذَا كَانَتِ الْمُصَالَحَةُ عَلَى أَخْذِ الْبَدَلِ فَالصُّلْحُ مُعَاوَضَةٌ، وَلَيْسَ إِسْقَاطًا، فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ.
ج- الْمُقَاصَّةُ:
4- يُقَالُ تَقَاصَّ الْقَوْمُ: إِذَا قَاصَّ كُلٌّ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ فِي الْحِسَابِ، فَحَبَسَ عَنْهُ مِثْلَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ.
وَالْمُقَاصَّةُ نَوْعٌ مِنَ الْإِسْقَاطِ، إِذْ هِيَ إِسْقَاطُ مَا لِلْإِنْسَانِ مِنْ دَيْنٍ عَلَى غَرِيمِهِ فِي مِثْلِ مَا عَلَيْهِ.فَهِيَ إِسْقَاطٌ بِعِوَضٍ، فِي حِينِ أَنَّ الْإِسْقَاطَ الْمُطْلَقَ يَكُونُ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ الْمُقَاصَّةُ أَخَصَّ مِنَ الْإِسْقَاطِ.وَلَهَا شُرُوطٌ تُنْظَرُ فِي مَوْضِعِهَا.
د- الْعَفْوُ:
5- مِنْ مَعَانِي الْعَفْوِ: الْمَحْوُ وَالْإِسْقَاطُ وَتَرْكُ الْمُطَالَبَةِ، يُقَالُ: عَفَوْت عَنْ فُلَانٍ إِذَا تَرَكْتَ مُطَالَبَتَهُ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}.أَيِ التَّارِكِينَ مَظَالِمَهُمْ عِنْدَهُمْ لَا يُطَالِبُونَهُمْ بِهَا.فَالْعَفْوُ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي تَرْكِ الْحَقِّ مُسَاوٍ لِلْإِسْقَاطِ فِي الْمَعْنَى، إِلاَّ أَنَّ الْعَفْوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ أَعَمُّ لِتَعَدُّدِ اسْتِعْمَالَاتِهِ.
هـ- التَّمْلِيكُ:
6- التَّمْلِيكُ: نَقْلُ الْمِلْكِ وَإِزَالَتُهُ إِلَى مَالِكٍ آخَرَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَنْقُولُ عَيْنًا كَمَا فِي الْبَيْعِ، أَمْ مَنْفَعَةً كَمَا فِي الْإِجَارَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ بِعِوَضٍ كَمَا سَبَقَ، أَمْ بِدُونِهِ كَالْهِبَةِ.وَالتَّمْلِيكُ بِعُمُومِهِ يُفَارِقُ الْإِسْقَاطَ بِعُمُومِهِ، إِذْ التَّمْلِيكُ إِزَالَةٌ وَنَقْلٌ إِلَى مَالِكٍ، فِي حِينِ أَنَّ الْإِسْقَاطَ إِزَالَةٌ وَلَيْسَ نَقْلًا، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ إِلَى مَالِكٍ، لَكِنَّهُمَا قَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي الْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ، عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُهُ تَمْلِيكًا، كَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَلِذَلِكَ يَشْتَرِطُونَ فِيهِ الْقَبُولَ.
صِفَةُ الْإِسْقَاطِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):
7- الْإِسْقَاطُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْجُمْلَةِ، إِذْ هُوَ تَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ، دُونَ أَنْ يَمَسَّ ذَلِكَ حَقًّا لِغَيْرِهِ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ، وَقَدْ تَعْرِضُ لَهُ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْأُخْرَى.فَيَكُونُ وَاجِبًا، كَتَرْكِ وَلِيِّ الصَّغِيرِ الشُّفْعَةَ الَّتِي وَجَبَتْ لِلصَّغِيرِ، إِذَا كَانَ الْحَظُّ فِي تَرْكِهَا، لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي مَالِهِ بِمَا فِيهِ حَظٌّ وَغِبْطَةٌ لَهُ.وَكَالطَّلَاقِ الَّذِي يَرَاهُ الْحَكَمَانِ إِذَا وَقَعَ الشِّقَاقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَكَذَلِكَ طَلَاقُ الرَّجُلِ إِذَا آلَى مِنْ زَوْجَتِهِ وَلَمْ يَفِئْ إِلَيْهَا.
وَيَكُونُ مَنْدُوبًا إِذَا كَانَ قُرْبَةً، كَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ، وَإِبْرَاءِ الْمُعْسِرِ، وَالْعِتْقِ، وَالْكِتَابَةِ.وَمِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى النَّدْبِ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ}.فَنَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْعَفْوِ وَالتَّصَدُّقِ بِحَقِّ الْقِصَاصِ.وَفِي إِبْرَاءِ الْمَدِينِ قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يَقُولُ الْقُرْطُبِيُّ: نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ إِلَى الصَّدَقَةِ عَلَى الْمُعْسِرِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ خَيْرًا مِنْ إِنْظَارِهِ.، وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ الْمَنْدُوبَ هُنَا وَهُوَ الْإِبْرَاءُ أَفْضَلُ مِنَ الْوَاجِبِ وَهُوَ الْإِنْظَارُ.
وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا، كَطَلَاقِ الْبِدْعَةِ، وَهُوَ طَلَاقُ الْمَدْخُولِ بِهَا فِي حَالِ الْحَيْضِ مِنْ غَيْرِ حَمْلٍ، وَكَذَلِكَ عَفْوُ وَلِيِّ الصَّغِيرِ عَنِ الْقِصَاصِ مَجَّانًا.
وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا، كَالطَّلَاقِ بِدُونِ سَبَبٍ يَسْتَدْعِيهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ».
الْبَاعِثُ عَلَى الْإِسْقَاطِ:
8- تَصَرُّفَاتُ الْمُكَلَّفِينَ فِيمَا يَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ فِيهِ لَا تَأْتِي عَفْوًا، بَلْ تَكُونُ لَهَا بَوَاعِثُ، قَدْ تَكُونُ شَرْعِيَّةً، فَيَكُونُ التَّصَرُّفُ اسْتِجَابَةً لِأَوَامِرِ الشَّرْعِ، وَقَدْ تَكُونُ لِمَصَالِحَ شَخْصِيَّةٍ.
وَالْإِسْقَاطُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَتَأَتَّى فِيهَا الْبَاعِثُ الشَّرْعِيُّ وَالشَّخْصِيُّ.
فَمِنَ الْبَوَاعِثِ الشَّرْعِيَّةِ:
الْعَمَلُ عَلَى حُرِّيَّةِ الْإِنْسَانِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ لِكُلِّ النَّاسِ، وَذَلِكَ الْعِتْقُ الَّذِي حَثَّ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ.
وَمِنْهَا: الْإِبْقَاءُ عَلَى الْحَيَاةِ، وَذَلِكَ بِإِسْقَاطِ حَقِّ الْقِصَاصِ مِمَّنْ ثَبَتَ لَهُ هَذَا الْحَقُّ.
وَمِنْهَا: مُعَاوَنَةُ الْمُعْسِرِينَ، وَذَلِكَ بِإِسْقَاطِ الدَّيْنِ عَنْهُمْ إِنْ وُجِدَ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا: إِرَادَةُ نَفْعِ الْجَارِ، كَمَا فِي وَضْعِ خَشَبِهِ عَلَى جِدَارِ جَارِهِ وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَّسِعُ الْمَقَامُ لِذِكْرِهِ.
أَمَّا الْبَوَاعِثُ الشَّخْصِيَّةُ:
فَمِنْهَا: رَجَاءُ حُسْنِ الْعِشْرَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، مِمَّا يَدْعُو الزَّوْجَةَ إِلَى إِبْرَاءِ زَوْجِهَا مِنَ الْمَهْرِ فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ بَعْدَ الدُّخُولِ أَوْ إِسْقَاطِ الزَّوْجَةِ حَقَّهَا فِي الْقَسْمِ.
وَمِنْهَا: الْإِسْرَاعُ فِي الْحُصُولِ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، وَذَلِكَ كَالْمُكَاتَبِ، إِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْأَجَلِ فِي أَدَاءِ الْمَالِ الْمُكَاتَبِ، عَلَيْهِ، فَعَجَّلَ أَدَاءَ النُّجُومِ (الْأَقْسَاطِ)، فَإِنَّ السَّيِّدَ يَلْزَمُهُ أَخْذُ الْمَالِ، لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّ الْمُكَاتَبِ فَيَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، حَتَّى لَوْ أَبَى السَّيِّدُ أَخْذَ الْمَالِ جَعَلَهُ الْإِمَامُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَحَكَمَ بِعِتْقِهِ.
وَمِنْهَا: الِانْتِفَاعُ الْمَادِّيُّ، كَالْخُلْعِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى مَالٍ.
أَرْكَانُ الْإِسْقَاطِ
9- رُكْنُ الْإِسْقَاطِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ، وَيُزَادُ عَلَيْهَا عِنْدَ غَيْرِهِمُ: الطَّرَفَانِ- الْمُسْقِطُ وَهُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ، وَالْمُسْقَطُ عَنْهُ الَّذِي تَقَرَّرَ الْحَقُّ قِبَلَهُ- وَالْمَحَلُّ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَرِدُ عَلَيْهِ الْإِسْقَاطُ.
الصِّيغَةُ:
10- مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ أَنَّ الصِّيغَةَ تَتَكَوَّنُ مِنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مَعًا فِي الْعَقْدِ، وَهِيَ هُنَا كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ فِي الْإِسْقَاطَاتِ الَّتِي تُقَابَلُ بِعِوَضٍ كَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ.وَفِي غَيْرِهَا اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَبُولِ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
الْإِيجَابُ فِي الصِّيغَةِ:
11- الْإِيجَابُ فِي الصِّيغَةِ، هُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِسْقَاطِ مِنْ قَوْلٍ، أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَى الْقَوْلِ، مِنْ إِشَارَةٍ مُفْهِمَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ سُكُوتٍ.
وَيُلَاحَظُ أَنَّ الْإِسْقَاطَاتِ قَدْ مُيِّزَ بَعْضُهَا بِأَسْمَاءٍ خَاصَّةٍ تُعْرَفُ بِهَا، فَإِسْقَاطُ الْحَقِّ عَنِ الرِّقِّ عِتْقٌ، وَعَنِ اسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ طَلَاقٌ، وَعَنِ الْقِصَاصِ عَفْوٌ، وَعَنِ الدَّيْنِ إِبْرَاءٌ.
وَلِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْإِسْقَاطَاتِ صِيَغٌ خَاصَّةٌ سَوَاءٌ أَكَانَتْ صَرِيحَةً، أَمْ كِنَايَةً تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ أَوْ قَرِينَةٍ.ر: (طَلَاق، عِتْق).
أَمَّا غَيْرُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْإِسْقَاطَاتِ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهَا هُوَ الْإِسْقَاطُ.وَمَا بِمَعْنَاهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَلْفَاظًا مُتَعَدِّدَةً تُؤَدِّي مَعْنَى الْإِسْقَاطِ، وَذَلِكَ مِثْلُ: التَّرْكِ وَالْحَطِّ وَالْعَفْوِ وَالْوَضْعِ وَالْإِبْرَاءِ فِي بَرَاءَةِ الْإِسْقَاطِ وَالْإِبْطَالِ وَالْإِحْلَالِ وَالْمَدَارُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْعُرْفِ وَدَلَالَةِ الْحَالِ، وَلِذَلِكَ جَعَلُوا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِ: الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْعَطِيَّةُ حِينَ لَا يُرَادُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ حَقِيقَتُهَا وَهِيَ التَّمْلِيكُ، وَيَكُونُ الْمَقَامُ دَالًّا عَلَى الْإِسْقَاطِ، فَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: مَنْ أَبْرَأَ مِنْ دَيْنِهِ، أَوْ وَهَبَهُ لِمَدِينِهِ، أَوْ أَحَلَّهُ مِنْهُ، أَوْ أَسْقَطَهُ عَنْهُ، أَوْ تَرَكَهُ لَهُ، أَوْ مَلَّكَهُ لَهُ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ، أَوْ عَفَا عَنِ الدَّيْنِ، صَحَّ ذَلِكَ جَمِيعُهُ، وَكَانَ مُسْقِطًا لِلدَّيْنِ.وَإِنَّمَا صَحَّ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَطِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَيْنٌ مَوْجُودَةٌ يَتَنَاوَلُهَا اللَّفْظُ انْصَرَفَ إِلَى مَعْنَى الْإِبْرَاءِ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَلِهَذَا لَوْ وَهَبَهُ دَيْنَهُ هِبَةً حَقِيقِيَّةً لَمْ يَصِحَّ، لِانْتِفَاءِ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ وَانْتِفَاءِ شَرْطِ الْهِبَةِ.
وَكَمَا يَحْصُلُ الْإِسْقَاطُ بِالْقَوْلِ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِالْكِتَابَةِ الْمُعَنْوَنَةِ الْمَرْسُومَةِ، وَبِالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ مِنْ فَاقِدِ النُّطْقِ.
كَذَلِكَ قَدْ يَحْصُلُ الْإِسْقَاطُ بِالسُّكُوتِ، كَمَا إِذَا عَلِمَ الشَّفِيعُ بِبَيْعِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ، وَسَكَتَ مَعَ إِمْكَانِ الطَّلَبِ، فَإِنَّ سُكُوتَهُ يُسْقِطُ حَقَّهُ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ.
وَيَحْصُلُ الْإِسْقَاطُ أَيْضًا نَتِيجَةَ فِعْلٍ يَصْدُرُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، كَمَنْ يَشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ، ثُمَّ يَتَصَرَّفُ فِي الْمَبِيعِ بِوَقْفٍ أَوْ بَيْعٍ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، فَإِنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا لِحَقِّهِ فِي الْخِيَارِ.
الْقَبُولُ:
12- الْأَصْلُ فِي الْإِسْقَاطِ أَنْ يَتِمَّ بِإِرَادَةِ الْمُسْقِطِ وَحْدَهُ، لِأَنَّ جَائِزَ التَّصَرُّفِ لَا يُمْنَعُ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّهِ، مَا دَامَ لَمْ يَمَسَّ حَقَّ غَيْرِهِ.
وَمِنْ هُنَا فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْإِسْقَاطَ الْمَحْضَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَاَلَّذِي لَمْ يُقَابَلْ بِعِوَضٍ، يَتِمُّ بِصُدُورِ مَا يُحَقِّقُ مَعْنَاهُ مِنْ قَوْلٍ، أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى قَبُولِ الطَّرَفِ الْآخَرِ، كَالطَّلَاقِ، فَلَا يَحْتَاجُ الطَّلَاقُ إِلَى قَبُولٍ.
13- وَيَتَّفِقُونَ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِسْقَاطَ الَّذِي يُقَابَلُ بِعِوَضٍ يَتَوَقَّفُ نَفَاذُهُ عَلَى قَبُولِ الطَّرَفِ الْآخَرِ فِي الْجُمْلَةِ، كَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُعَاوَضَةً، فَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عَلَى قَبُولِ دَفْعِ الْعِوَضِ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ، إِذِ الْمُعَاوَضَةُ لَا تَتِمُّ إِلاَّ بِرِضَى الطَّرَفَيْنِ.
وَقَدْ أَلْحَقَ الْحَنَفِيَّةُ بِهَذَا الْقِسْمِ الصُّلْحَ عَلَى دَمِ الْعَمْدِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَى الْجَانِي، لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} وَالْمُرَادُ بِهِ الصُّلْحُ.وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِلْوَرَثَةِ يَجْرِي فِيهِ الْإِسْقَاطُ عَفْوًا، فَكَذَا تَعْوِيضًا، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى إِحْسَانِ الْأَوْلِيَاءِ وَإِحْيَاءِ الْقَاتِلِ، فَيَجُوزُ بِالتَّرَاضِي.
وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ هُوَ قَوْلٌ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّ مَنْ لَهُ حَقُّ الْقِصَاصِ، إِذَا أَرَادَ أَخْذَ الدِّيَةِ بَدَلَ الْقِصَاصِ، فَلَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ رِضَى الْجَانِي، لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «قَامَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُودَى، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ».وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
14- وَيَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ الْإِسْقَاطُ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، كَإِبْرَاءِ الْمَدِينِ مِنَ الدَّيْنِ.وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْإِسْقَاطِ هُوَ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَسَاسِ مَا فِيهِ مِنْ جَانِبَيِ الْإِسْقَاطِ وَالتَّمْلِيكِ.
فَالْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ وَأَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، نَظَرُوا إِلَى جَانِبِ الْإِسْقَاطِ فِيهِ، فَلَا يَتَوَقَّفُ تَمَامُهُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْقَبُولِ، لِأَنَّ جَائِزَ التَّصَرُّفِ لَا يُمْنَعُ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّهِ أَوْ بَعْضِهِ.وَلِأَنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ مَالٍ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْقَبُولُ، كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَالشُّفْعَةِ.بَلْ إِنَّ الْخَطِيبَ الشِّرْبِينِيَّ قَالَ: لَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ عَلَى الْمَذْهَبِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: الْإِبْرَاءُ تَمْلِيكٌ أَوْ إِسْقَاطٌ.
وَيَسْتَوِي عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءِ التَّعْبِيرُ بِالْإِبْرَاءِ أَوْ بِهِبَةِ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، إِلاَّ مَا فَرَّقَ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْهِبَةِ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَبُولِ.جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: هِبَةُ الدَّيْنِ مِنَ الْكَفِيلِ لَا تَتِمُّ بِدُونِ الْقَبُولِ، وَإِبْرَاؤُهُ يَتِمُّ بِدُونِ قَبُولٍ.
15- وَلَمَّا كَانَ الْإِبْرَاءُ مِنْ بَدَلِ الصَّرْفِ وَرَأْسُ مَالِ السَّلَمِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، مِمَّا يُشْعِرُ بِالتَّعَارُضِ مَعَ رَأْيِهِمْ فِي عَدَمِ تَوَقُّفِ الْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ عَلَى الْقَبُولِ، فَقَدْ عَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ التَّوَقُّفَ عَلَى الْقَبُولِ فِيهِمَا لَيْسَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ هِبَةُ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، وَلَكِنْ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ فِيهِمَا يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ بِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ لِحَقِّ الشَّارِعِ، وَأَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِهِ، فَلِهَذَا تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِ الْآخَرِ.
وَالْأَرْجَحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ إِبْرَاءَ الْمَدِينِ مِنَ الدَّيْنِ يَتَوَقَّفُ تَمَامُهُ عَلَى الْقَبُولِ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ- عَلَى رَأْيِهِمْ- نَقْلٌ لِلْمِلْكِ، فَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَدِينِ مَا فِي ذِمَّتِهِ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْهِبَةِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا الْقَبُولُ.
وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ هِيَ تَرَفُّعُ ذَوِي الْمُرُوءَاتِ عَمَّا قَدْ يَحْدُثُ فِي الْإِبْرَاءِ مِنْ مِنَّةٍ، وَمَا قَدْ يُصِيبُهُمْ مِنْ ضَرَرٍ بِذَلِكَ، لَا سِيَّمَا مِنَ السَّفَلَةِ، فَكَانَ لَهُمُ الرَّفْضُ شَرْعًا، نَفْيًا لِلضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنَ الْمِنَنِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ.
رَدُّ الْإِسْقَاطِ:
16- لَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَاَلَّتِي لَمْ تُقَابَلْ بِعِوَضٍ، كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَالشُّفْعَةِ وَالْقِصَاصِ لَا تَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، لِأَنَّهَا لَا تَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ، وَبِالْإِسْقَاطِ يَسْقُطُ الْمِلْكُ وَالْحَقُّ، فَيَتَلَاشَى وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الرَّدُّ، وَالسَّاقِطُ لَا يَعُودُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.وَلَا يَخْتَلِفُونَ كَذَلِكَ فِي أَنَّ الْإِسْقَاطَاتِ الَّتِي تُقَابَلُ بِعِوَضٍ، كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ، تَرْتَدُّ بِالرَّدِّ مَا لَمْ يَسْبِقْ قَبُولٌ أَوْ طَلَبٌ.
17- أَمَّا مَا فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ كَالْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ رَأْيُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، نَظَرًا لِجَانِبِ التَّمْلِيكِ فِيهِ، وَلِمَا قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى عَدَمِ قَابِلِيَّتِهِ لِلرَّدِّ مِنْ ضَرَرِ الْمِنَّةِ الَّتِي يَتَرَفَّعُ عَنْهَا ذَوُو الْمُرُوءَاتِ.
18- هَذَا مَعَ اسْتِثْنَاءِ الْحَنَفِيَّةِ لِبَعْضِ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يَرْتَدُّ فِيهَا الْإِبْرَاءُ بِالرَّدِّ وَهِيَ:
أ- إِذَا أَبْرَأَ الْمُحَالُ الْمُحَالَ عَلَيْهِ فَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ.
ب- إِذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ فَالْأَرْجَحُ أَنَّهُ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، وَقِيلَ يَرْتَدُّ.
ج- إِذَا طَلَبَ الْمَدِينُ الْإِبْرَاءَ فَأَبْرَأَهُ الدَّائِنُ فَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ.
د- إِذَا قَبِلَ الْمَدِينُ الْإِبْرَاءَ ثُمَّ رَدَّهُ لَا يَرْتَدُّ.
وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ خُرُوجًا عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي سَارَ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، ذَلِكَ أَنَّ الْحَوَالَةَ وَالْكَفَالَةَ مِنَ الْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ وَلَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ مَالٍ.
وَأَمَّا الْقَبُولُ إِذَا تَمَّ فَلَا مَعْنَى لِلرَّدِّ بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ طَلَبُ الْمَدِينِ الْبَرَاءَةَ يُعْتَبَرُ قَبُولًا.
19- وَمَعَ اتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ إِلاَّ أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ مِنْ حَيْثُ تَقْيِيدُ الرَّدِّ بِمَجْلِسِ الْإِبْرَاءِ وَعَدَمُ تَقْيِيدِهِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: هُمَا قَوْلَانِ.وَفِي الْفَتَاوَى الصَّيْرَفِيَّةِ: لَوْ لَمْ يَقْبَلْ وَلَمْ يَرُدَّ حَتَّى افْتَرَقَا، ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ رَدَّ لَا يَرْتَدُّ فِي الصَّحِيحِ.
التَّعْلِيقُ وَالتَّقْيِيدُ وَالْإِضَافَةُ فِي الْإِسْقَاطَاتِ:
20- التَّعْلِيقُ هُوَ رَبْطُ وُجُودِ الشَّيْءِ بِوُجُودِ غَيْرِهِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ أَدَاةِ الشَّرْطِ صَرِيحًا، كَإِنْ وَإِذَا، وَانْعِقَادُ الْحُكْمِ فِيهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ الشَّرْطِ.
21- وَالتَّقْيِيدُ بِالشُّرُوطِ مَا جُزِمَ فِيهِ بِالْأَصْلِ، وَشُرِطَ فِيهِ أَمْرٌ آخَرُ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ أَدَاةِ الشَّرْطِ صَرِيحًا.
22- أَمَّا الْإِضَافَةُ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَمْنَعُ سَبَبِيَّةَ اللَّفْظِ لِلْحُكْمِ إِلاَّ أَنَّهَا تَجْعَلُ الْحُكْمَ يَتَأَخَّرُ الْبَدْءُ بِهِ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ يُحَدِّدُهُ الْمُتَصَرِّفُ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِسْقَاطَاتِ هُوَ:
أَوَّلًا: تَعْلِيقُ الْإِسْقَاطِ عَلَى الشَّرْطِ:
23- يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ تَعْلِيقُ الْإِسْقَاطَاتِ عَلَى الشَّرْطِ الْكَائِنِ بِالْفِعْلِ (أَيِ الْمَوْجُودِ حَالَةَ الْإِسْقَاطِ)، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُنْجَزِ، كَقَوْلِ الدَّائِنِ لِغَرِيمِهِ: إِنْ كَانَ لِي عَلَيْكَ دَيْنٌ فَقَدْ أَبْرَأْتُكَ، وَكَقَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ كَانَتِ السَّمَاءُ فَوْقَنَا وَالْأَرْضُ تَحْتَنَا، وَكَمَنْ قَالَ لآِخَرَ: بَاعَنِي فُلَانٌ دَارَكَ بِكَذَا، فَقَالَ: إِنْ كَانَ كَذَا فَقَدْ أَجَزْتُهُ، وَإِنْ كَانَ فُلَانٌ اشْتَرَى هَذَا الشِّقْصَ بِكَذَا فَقَدْ أَسْقَطْتُ الشُّفْعَةَ.
كَذَلِكَ يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ التَّعْلِيقُ عَلَى مَوْتِ الْمُسْقِطِ، وَيُعْتَبَرُ وَصِيَّةً، كَقَوْلِهِ لِمَدِينِهِ: إِذَا مِتَّ فَأَنْتَ بَرِيءٌ.
وَهَذَا فِيمَا عَدَا مَنْ عَلَّقَ طَلَاقَ زَوْجَتِهِ عَلَى مَوْتِهِ، إِذْ فِيهِ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ تَنْجِيزِ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ عَدَمِ وُقُوعِهِ.
أَمَّا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ فَيُمْكِنُ تَقْسِيمُ الْإِسْقَاطَاتِ بِالنِّسْبَةِ لَهَا فِي الْجُمْلَةِ إِلَى الْآتِي:
24- (أ) إِسْقَاطَاتٌ مَحْضَةٌ لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَلَمْ تُقَابَلْ بِعِوَضٍ.وَهَذِهِ يَجُوزُ فِي الْجُمْلَةِ تَعْلِيقُهَا عَلَى الشَّرْطِ، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَضَعُوا هُنَا ضَابِطًا فَقَالُوا: إِنْ كَانَتِ الْإِسْقَاطَاتُ مِمَّا يُحْلَفُ بِهَا، كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ مُلَائِمًا أَمْ غَيْرَ مُلَائِمٍ.وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُحْلَفُ بِهَا، كَالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ وَتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ الْمُلَائِمِ فَقَطْ، وَهُوَ مَا يُؤَكِّدُ مُوجَبَ الْعَقْدِ.وَيُعَبِّرُ الْحَنَفِيَّةُ أَحْيَانًا بِالشَّرْطِ الْمُتَعَارَفِ.وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا وَاحِدٌ، فَفِي ابْنِ عَابِدِينَ: وَفِي الْبَحْرِ عَنِ الْمِعْرَاجِ: غَيْرُ الْمُلَائِمِ هُوَ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلطَّالِبِ أَصْلًا، كَدُخُولِ الدَّارِ وَمَجِيءِ الْغَدِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ.وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ- بَعْدَ الْكَلَامِ عَنِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي جَوَازِ تَعْلِيقِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ- قَالَ: وَجْهُ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ إِنَّمَا هُوَ إِذَا كَانَ الشَّرْطُ مَحْضًا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ أَصْلًا، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ بَيْنَ النَّاسِ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِشَرْطٍ لَيْسَ لِلنَّاسِ فِيهِ تَعَامُلٌ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ بِشَرْطٍ فِيهِ نَفْعٌ لِلطَّالِبِ، وَلَهُ تَعَامُلٌ، فَتَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ بِهِ صَحِيحٌ.
وَلَمْ يَتَعَرَّضْ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ لِهَذَا التَّقْسِيمِ، وَاَلَّذِي يَبْدُو مِمَّا ذَكَرُوهُ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ تَعْلِيقُ الْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ عَلَى الشَّرْطِ مُطْلَقًا، دُونَ تَفْرِيقٍ بَيْنَ مَا يُحْلَفُ بِهِ وَمَا لَا يُحْلَفُ بِهِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ الضَّابِطُ الَّذِي وَضَعَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ: مَا كَانَ تَمْلِيكًا مَحْضًا لَا مَدْخَلَ لِلتَّعْلِيقِ فِيهِ قَطْعًا كَالْبَيْعِ، وَمَا كَانَ حِلًّا مَحْضًا، يَدْخُلُهُ التَّعْلِيقُ قَطْعًا كَالْعِتْقِ، وَبَيْنَهُمَا مَرَاتِبُ يَجْرِي فِيهَا الْخِلَافُ كَالْفَسْخِ وَالْإِبْرَاءِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَإِنَّ الْمَسَائِلَ الَّتِي ذَكَرُوا أَنَّهَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ تُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى.وَقَدْ وَرَدَ الْكَثِيرُ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي فَتَاوَى الشَّيْخِ عُلَيْشٍ الْمَالِكِيِّ، وَمِنْهَا: إِذَا طَلَبَتِ الْحَاضِنَةُ الِانْتِقَالَ بِالْأَوْلَادِ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ، فَقَالَ الْأَبُ: إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ فَنَفَقَتُهُمْ وَكِسْوَتُهُمْ عَلَيْكَ، لَزِمَهَا ذَلِكَ، لِأَنَّ لِلْأَبِ مَنْعَهَا مِنَ الْخُرُوجِ بِهِمْ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ، فَأَسْقَطَ حَقَّهُ بِذَلِكَ.وَإِذَا قَالَ الشَّفِيعُ: إِنِ اشْتَرَيْتَ ذَلِكَ الشِّقْصَ فَقَدْ سَلَّمْتُ لَكَ شُفْعَتِي عَلَى دِينَارٍ تُعْطِينِي إِيَّاهُ، فَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ مِنْكَ فَلَا جُعْلَ لِي عَلَيْكَ، جَازَ ذَلِكَ.
25- (ب) إِسْقَاطَاتٌ فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، كَالْخُلْعِ وَالْمُكَاتَبَةِ.وَمَا يَلْحَقُ بِهِمَا مِنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ.
فَالطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ وَكَذَا الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ تَعْلِيقُهُمَا جَائِزٌ بِاتِّفَاقٍ، لِأَنَّهُمَا إِسْقَاطٌ مَحْضٌ، وَالْمُعَاوَضَةُ فِيهِمَا مَعْدُولٌ بِهَا عَنْ سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ.
وَأَمَّا الْخُلْعُ فَقَدْ أَجَازَ تَعْلِيقَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ، بِاعْتِبَارِهِ طَلَاقًا، وَمَنَعَهُ الْحَنَابِلَةُ لِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ.
وَأَمَّا الْمُكَاتَبَةُ فَقَدْ أَجَازَ تَعْلِيقَهَا بِالشَّرْطِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَمَنَعَهَا الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، جَاءَ فِي قَوَاعِدِ الزَّرْكَشِيِّ: الْمُعَاوَضَةُ غَيْرُ الْمَحْضَةِ وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ الْمَالُ فِيهَا مَقْصُودًا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ (أَيْ كَالْمُكَاتَبَةِ) لَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ، إِلاَّ فِي الْخُلْعِ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ.
26- (ج) الْإِسْقَاطُ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، كَالْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ.وَقَدْ أَجَازَ تَعْلِيقَهُ عَلَى الشَّرْطِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ.غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَيَّدُوهُ بِالشَّرْطِ الْمُلَائِمِ أَوِ الْمُتَعَارَفِ عَلَى مَا سَبَقَ تَفْسِيرُهُ.وَمَنَعَ تَعْلِيقَهُ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ.
وَقَدِ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ ثَلَاثَ صُوَرٍ يَجُوزُ فِيهَا التَّعْلِيقُ، وَهِيَ:
(1) لَوْ قَالَ: إِنْ رَدَدْتَ ضَالَّتِي فَقَدْ أَبْرَأْتُكَ عَنِ الدَّيْنِ الَّذِي لِي عَلَيْكَ صَحَّ.
(2) تَعْلِيقُ الْإِبْرَاءِ ضِمْنًا، كَمَا إِذَا عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ، ثُمَّ كَاتَبَهُ فَوُجِدَتِ الصِّفَةُ، عَتَقَ، وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ الْإِبْرَاءَ مِنَ النُّجُومِ (أَيِ الْأَقْسَاطِ).
(3) الْبَرَاءَةُ الْمُعَلَّقَةُ بِمَوْتِ الْمُبَرِّئِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ.
ثَانِيًا: تَقْيِيدُ الْإِسْقَاطِ بِالشَّرْطِ:
27- يَصِحُّ فِي الْجُمْلَةِ تَقْيِيدُ الْإِسْقَاطَاتِ بِالشُّرُوطِ، فَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ صَحِيحًا لَزِمَ، وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ فَاسِدًا فَلِكُلِّ مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ فِي الْحُكْمِ عَلَى مَا يُعْتَبَرُ فَاسِدًا مِنَ الشُّرُوطِ وَمَا لَا يُعْتَبَرُ، وَهَلْ يَبْطُلُ التَّصَرُّفُ بِفَسَادِ الشَّرْطِ، أَوْ يَبْطُلُ الشَّرْطُ وَيَصِحُّ التَّصَرُّفُ.وَنَتْرُكُ التَّفَاصِيلَ لِمَوَاضِعِهَا.
لَكِنَّ الْحُكْمَ الْغَالِبَ فِي الْإِسْقَاطَاتِ أَنَّهَا لَوْ قُيِّدَتْ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، صَحَّ وَبَطَلَ الشَّرْطُ.
وَيَتَبَيَّنُ هَذَا مِمَّا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الضَّوَابِطِ، وَمِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي أَوْرَدَهَا غَيْرُهُمْ، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ ذَلِكَ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: كُلُّ مَا جَازَ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِالشَّرْطِ، وَلَا يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ، الْفَاسِدِ.
وَقَالُوا أَيْضًا: مَا لَيْسَ مُبَادَلَةَ مَالٍ بِمَالٍ لَا يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ.وَذَكَرَ صَاحِبُ الدُّرِّ وَابْنُ عَابِدِينَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَصِحُّ وَلَا تَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَمِنْهَا: الطَّلَاقُ وَالْخُلْعُ وَالْعِتْقُ وَالْإِيصَاءُ وَالشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَالْكَفَالَةُ وَالْحَوَالَةُ وَالْوَكَالَةُ وَالْكِتَابَةُ وَالْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالْإِبْرَاءُ عَنْهُ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَلَمْ يَرْبِطُوا بَيْنَ التَّعْلِيقِ وَالتَّقْيِيدِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ أَنَّ مَا يَقْبَلُ الشَّرْطَ وَالتَّعْلِيقَ: الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ قَبُولِ التَّعْلِيقِ قَبُولُ الشَّرْطِ، وَلَا مِنْ قَبُولِ الشَّرْطِ قَبُولُ التَّعْلِيقِ، وَتُطْلَبُ الْمُنَاسَبَةُ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ.وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي وَرَدَتْ عِنْدَهُمْ: لَوْ خَالَعَتْ زَوْجَهَا وَاشْتَرَطَتِ الرَّجْعَةَ، لَزِمَ الْخُلْعُ، وَبَطَلَ الشَّرْطُ.وَلَوْ صَالَحَ الْجَانِي وَلِيَّ الدَّمِ عَلَى شَيْءٍ بِشَرْطِ أَنْ يَرْحَلَ مِنَ الْبَلَدِ، فَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: الشَّرْطُ بَاطِلٌ وَالصُّلْحُ جَائِزٌ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: الشَّرْطُ جَائِزٌ وَالصُّلْحُ لَازِمٌ، وَكَانَ سَحْنُونٌ يُعْجِبُهُ قَوْلُ الْمُغِيرَةِ.
وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: الشَّرْطُ الْفَاسِدُ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَعْضُ أَحْكَامِ الصَّحِيحِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْإِسْقَاطَاتِ الْكِتَابَةُ وَالْخُلْعُ.
وَمِمَّا قَالَهُ الْحَنَابِلَةُ فِي ذَلِكَ: إِذَا قُيِّدَ الْخُلْعُ بِشَرْطٍ فَاسِدٍ صَحَّ الْخُلْعُ وَلَغَا الشَّرْطُ.وَفِي الْمُغْنِي: الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ لَا تُبْطِلُهُمَا الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ.
ثَالِثًا: إِضَافَةُ الْإِسْقَاطِ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ:
28- مِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا يَظْهَرُ أَثَرُهَا وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ بِمُجَرَّدِ تَمَّامِ الصِّيغَةِ، وَلَا تَقْبَلُ إِرْجَاءَ حُكْمِهَا إِلَى زَمَنٍ آخَرَ كَالزَّوَاجِ وَالْبَيْعِ.
وَمِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا تَكُونُ طَبِيعَتُهَا تَمْنَعُ ظُهُورَ أَثَرِهَا إِلاَّ فِي زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، كَالْوَصِيَّةِ.
وَمِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا يَقَعُ حُكْمُهُ مُنْجَزًا، كَالطَّلَاقِ تَنْتَهِي بِهِ الزَّوْجِيَّةُ فِي الْحَالِ، وَيَصِحُّ أَنْ يُضَافَ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ لَا تَنْتَهِي الزَّوْجِيَّةُ إِلاَّ عِنْدَ حُصُولِهِ.
وَإِضَافَةُ الطَّلَاقِ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَهُوَ مُنْجَزٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَلَوْ أَضَافَهُ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّهُ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ أَشْبَهُ بِنِكَاحِ الْمُتْعَةِ.وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ فَإِنَّهُ إِسْقَاطٌ يَقْبَلُ الْإِضَافَةَ.
وَمِمَّا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْإِسْقَاطَاتِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْإِضَافَةَ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ: الْإِبْرَاءُ مِنَ الدَّيْنِ وَإِسْقَاطُ الْقِصَاصِ.وَالْحُكْمُ الْغَالِبُ أَنَّ الْإِسْقَاطَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ تَقْبَلُ الْإِضَافَةَ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ.هَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلِكُلِّ مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ، وَيُنْظَرُ فِي مَوْضِعِهِ.
مَنْ يَمْلِكُ الْإِسْقَاطَ (الْمُسْقِطُ):
29- الْإِسْقَاطُ قَدْ يَكُونُ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ أَسَاسًا، كَإِسْقَاطِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَكُونُ فِي مُبَاشَرَتِهَا مَشَقَّةٌ وَحَرَجٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَكَإِسْقَاطِ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي تَرِدُ عَلَيْهَا شُبْهَةٌ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ.
وَقَدْ يَكُونُ الْإِسْقَاطُ مِنْ قِبَلِ الْعِبَادِ نَتِيجَةً لِأَمْرِ الشَّارِعِ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ كَإِبْرَاءِ الْمُعْسِرِ مِنَ الدَّيْنِ، وَكَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ.
وَقَدْ يَكُونُ الْإِسْقَاطُ مِنَ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ لِأَسْبَابٍ خَاصَّةٍ، كَإِسْقَاطِ حَقِّ الشُّفْعَةِ لِعَدَمِ الرَّغْبَةِ فِي الشِّرَاءِ.عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ.
مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُسْقِطِ:
30- الْإِسْقَاطُ مِنَ الْعِبَادِ يُعْتَبَرُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَتَنَازَلُ فِيهَا الْإِنْسَانُ عَنْ حَقِّهِ، فَهُوَ فِي حَقِيقَتِهِ تَبَرُّعٌ.وَلَمَّا كَانَ هَذَا التَّصَرُّفُ قَدْ يَعُودُ عَلَى الْمُسْقِطِ بِالضَّرَرِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ أَهْلِيَّتُهُ لِلتَّبَرُّعِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا.فَلَا يَصِحُّ الْإِسْقَاطُ مِنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ الْحَنَابِلَةَ يَقُولُونَ بِصِحَّةِ الْخُلْعِ مِنَ الصَّغِيرِ الَّذِي يَعْقِلُهُ، لِأَنَّ فِيهِ تَحْصِيلَ عِوَضٍ لَهُ.
وَيُشْتَرَطُ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ دَيْنٍ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلتَّبَرُّعَاتِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَ وَأَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ وَأَنْ يُخَالِعَ، لَكِنْ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ الْمَالُ، وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ الْخُلْعُ مِنَ الزَّوْجَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا لِسَفَهٍ أَوْ صِغَرٍ، مَعَ مُلَاحَظَةِ أَنَّهُ لَا يُحْجَرُ عَلَى السَّفِيهِ، وَلَا عَلَى الْمَدِينِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.ر: (حَجْر، وَسَفَه، وَأَهْلِيَّة).
وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ ذَا إِرَادَةٍ، فَلَا يَصِحُّ إِسْقَاطُ الْمُكْرَهِ، إِلاَّ مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ صِحَّةِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ مِنَ الْمُكْرَهِ.وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ وَغَيْرِ الْمُلْجِئِ.وَيُنْظَرُ فِي (إِكْرَاهٌ).
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ، إِذَا كَانَ إِسْقَاطُهُ لِكُلِّ مَالِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا مَرَضَ الْمَوْتِ وَقْتَ الْإِسْقَاطِ فَتَصَرُّفُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِلْأَجْنَبِيِّ، أَوْ بِأَقَلَّ لِلْوَارِثِ، يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ.ر: (وَصِيَّة).
وَإِذَا كَانَ الْمَرِيضُ مَدِينًا وَالتَّرِكَةُ مُسْتَغْرَقَةٌ بِالدُّيُونِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِبْرَاءُ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ.
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ.وَفِي تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ خِلَافٌ بَيْنَ مَنْ يُجِيزُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَبَيْنَ مَنْ لَا يُجِيزُهُ وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مَوْضِعُهُ مُصْطَلَحُ (فُضُولِيّ).
وَقَدْ يَكُونُ مَلَكَ التَّصَرُّفَ بِالْوَكَالَةِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَقْتَصِرَ التَّصَرُّفُ عَلَى الْمَأْذُونِ بِهِ لِلْوَكِيلِ.وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِالْخُلْعِ، وَبِالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ، وَبِالصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَفِي إِبْرَاءٍ مِنَ الدَّيْنِ وَلَوْ لِلْوَكِيلِ، إِذَا عَيَّنَهُ الْمُوَكِّلُ وَقَالَ لَهُ: أَبْرِئْ نَفْسَكَ.وَيُرَاعَى فِي كُلِّ ذَلِكَ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ وَمَا أُذِنَ فِيهِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (وَكَالَة).
وَقَدْ يَكُونُ مَلَكَ التَّصَرُّفَ بِالْوِلَايَةِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَقْتَصِرَ تَصَرُّفُهُمَا عَلَى مَا فِيهِ الْحَظُّ لِلصَّغِيرِ وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّبَرُّعُ وَلَا إِسْقَاطُ الْمَهْرِ وَلَا الْعَفْوُ عَلَى غَيْرِ مَالٍ وَلَا تَرْكُ الشُّفْعَةِ إِذَا كَانَ فِي التَّرْكِ ضَرَرٌ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ (ر: وِصَايَة وِلَايَة).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
20-موسوعة الفقه الكويتية (اشتراط)
اشْتِرَاطالتَّعْرِيفُ:
1- الِاشْتِرَاطُ لُغَةً: مَصْدَرٌ لِلْفِعْلِ اشْتَرَطَ، وَاشْتَرَطَ مَعْنَاهُ: شَرَطَ.تَقُولُ الْعَرَبُ: شَرَطَ عَلَيْهِ كَذَا أَيْ أَلْزَمَهُ بِهِ، فَالِاشْتِرَاطُ يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى مَعْنَى الشَّرْطِ.
وَالشَّرْطُ (بِسُكُونِ الرَّاءِ) لَهُ عِدَّةُ مَعَانٍ، مِنْهَا: إِلْزَامُ الشَّيْءِ وَالْتِزَامُهُ.قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الشَّرْطُ إِلْزَامُ الشَّيْءِ وَالْتِزَامُهُ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، كَالشَّرِيطَةِ، وَيُجْمَعُ عَلَى شَرَائِطَ وَشُرُوطٍ.وَالشَّرَطُ (بِفَتْحِ الرَّاءِ) مَعْنَاهُ الْعَلَامَةُ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَشْرَاطٍ.
وَاَلَّذِي يَعْنِي بِهِ الْفُقَهَاءُ هُوَ الشَّرْطُ (بِسُكُونِ الرَّاءِ) وَهُوَ إِلْزَامُ الشَّيْءِ وَالْتِزَامُهُ.فَإِنِ اشْتَرَطَ الْمُوَكِّلُ عَلَى الْوَكِيلِ شَرْطًا فَلَا بُدَّ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِهِ.
وَكَذَلِكَ سَائِرُ الشُّرُوطِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْتِزَامِهَا وَعَدَمِ الْخُرُوجِ عَنْهَا.
أَمَّا الِاشْتِرَاطُ فِي الِاصْطِلَاحِ، فَقَدْ عَرَّفَ الْأُصُولِيُّونَ الشَّرْطَ بِأَنَّهُ: مَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ لِذَاتِهِ، وَلَا يَشْتَمِلُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ فِي ذَاتِهِ بَلْ فِي غَيْرِهِ.
وَالشَّرْطُ بِهَذَا الْمَعْنَى يُخَالِفُ الْمَانِعَ، إِذْ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْعَدَمُ.وَيُخَالِفُ السَّبَبَ، إِذْ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ، وَمِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ.وَيُخَالِفُ جُزْءَ الْعِلَّةِ، لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ، لِأَنَّ جُزْءَ الْمُنَاسِبِ مُنَاسِبٌ.
2- وَالشَّرْطُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ قَدْ يَكُونُ عَقْلِيًّا، أَوْ شَرْعِيًّا، أَوْ عَادِيًّا، أَوْ لُغَوِيًّا، بِاعْتِبَارِ الرَّابِطِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَمَشْرُوطِهِ، إِنْ كَانَ سَبَبُهُ الْعَقْلَ، أَوِ الشَّرْعَ، أَوِ الْعَادَةَ، أَوِ اللُّغَةَ.وَهُنَاكَ أَقْسَامٌ أُخْرَى لِلشَّرْطِ يَذْكُرُهَا الْأُصُولِيُّونَ فِي كُتُبِهِمْ.وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ الْمُلْحَقُ الْأُصُولِيُّ.
3- أَمَّا الشَّرْطُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: الشَّرْطُ الْحَقِيقِيُّ (الشَّرْعِيُّ)، وَثَانِيهَا: الشَّرْطُ الْجَعْلِيُّ.وَفِيمَا يَلِي مَعْنَى كُلٍّ مِنْهُمَا:
أ- الشَّرْطُ الْحَقِيقِيُّ:
4- الشَّرْطُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الشَّيْءِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، كَالْوُضُوءِ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلَاةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ لَا تُوجَدُ بِلَا وُضُوءٍ، لِأَنَّ الْوُضُوءَ شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا.وَأَمَّا الْوُضُوءُ فَإِنَّهُ يُوجَدُ، فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى وُجُودِهِ وُجُودُ الصَّلَاةِ، وَلَكِنْ يَتَرَتَّبُ عَلَى انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ.
ب- الشَّرْطُ الْجَعْلِيُّ:
5- الشَّرْطُ الْجَعْلِيُّ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: الشَّرْطُ التَّعْلِيقِيُّ، وَهُوَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، كَالطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى دُخُولِ الدَّارِ، كَمَا إِذَا قَالَ لَهَا: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ مُرَتَّبٌ عَلَى دُخُولِهَا الدَّارَ، فَلَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ الدُّخُولِ انْتِفَاءُ الطَّلَاقِ، بَلْ قَدْ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِسَبَبٍ آخَرَ.
وَثَانِيهِمَا: الشَّرْطُ الْمُقَيَّدُ، وَمَعْنَاهُ الْتِزَامُ أَمْرٍ لَمْ يُوجَدْ فِي أَمْرٍ وُجِدَ بِصِيغَةٍ مَخْصُوصَةٍ.وَالِاشْتِرَاطُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ فِعْلُ الْمُشْتَرَطِ، بِأَنْ يُعَلِّقَ أَحَدَ تَصَرُّفَاتِهِ، أَوْ يُقَيِّدَهَا بِالشَّرْطِ، فَمَعْنَى الِاشْتِرَاطِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلاَّ فِي الشَّرْطِ الْجَعْلِيِّ.وَسَيَأْتِي التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (شَرْطٌ)
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّعْلِيقُ:
6- فَرَّقَ الزَّرْكَشِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ بَيْنَ الِاشْتِرَاطِ وَالتَّعْلِيقِ، بِأَنَّ التَّعْلِيقَ مَا دَخَلَ عَلَى أَصْلِ الْفِعْلِ بِأَدَاتِهِ، كَإِنْ وَإِذَا، وَالشَّرْطُ مَا جُزِمَ فِيهِ بِالْأَصْلِ، وَشُرِطَ فِيهِ أَمْرٌ آخَرُ.
وَقَالَ الْحَمَوِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى ابْنِ نُجَيْمٍ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا: إِنَّ التَّعْلِيقَ تَرْتِيبُ أَمْرٍ لَمْ يُوجَدْ عَلَى أَمْرٍ يُوجَدُ، بِإِنْ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا، وَالشَّرْطُ الْتِزَامُ أَمْرٍ لَمْ يُوجَدْ فِي أَمْرٍ وُجِدَ بِصِيغَةٍ مَخْصُوصَةٍ.
الِاشْتِرَاطُ الْجَعْلِيُّ وَأَثَرُهُ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ
7- الِاشْتِرَاطُ الْجَعْلِيُّ قَدْ يَكُونُ تَعْلِيقِيًّا، وَقَدْ يَكُونُ تَقْيِيدِيًّا، فَالِاشْتِرَاطُ التَّعْلِيقِيُّ.هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى يَعْتَبِرُهُ الْمُكَلَّفُ، وَيُعَلِّقُ عَلَيْهِ تَصَرُّفًا مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ، كَالطَّلَاقِ، وَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِمَا.وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ التَّعْلِيقَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْتِيبِ أَمْرٍ لَمْ يُوجَدْ عَلَى أَمْرٍ يُوجَدُ، بِإِنْ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا.فَالِاشْتِرَاطُ التَّعْلِيقِيُّ هُوَ فِعْلُ الْمُشْتَرَطِ، كَأَنْ يُعَلِّقَ أَحَدَ تَصَرُّفَاتِهِ عَلَى الشَّرْطِ.
هَذَا، وَلِصِحَّةِ التَّعْلِيقِ شُرُوطٌ يَذْكُرُهَا الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ.
مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَقَعُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، لِأَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا.
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ أَمْرًا مُسْتَقْبَلًا، بِخِلَافِ الْمَاضِي، فَإِنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلتَّعْلِيقِ فِيهِ، فَهُوَ تَنْجِيزٌ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ تَعْلِيقًا فِي الصُّورَةِ.
وَمِنْهَا: أَلاَّ يَفْصِلَ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ بِمَا يُعْتَبَرُ فَاصِلًا فِي الْعَادَةِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيقُ.
وَلِلِاشْتِرَاطِ التَّعْلِيقِيِّ أَثَرُهُ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ إِذَا اشْتَرَطَهُ الْمُشْتَرِطُ، فَإِنَّ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ، وَمِنْهَا مَا لَا يَقْبَلُهُ.
التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي لَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ:
8- مِنْهَا: الْبَيْعُ، وَهُوَ مِنَ التَّمْلِيكَاتِ، لَا يَقْبَلُ الِاشْتِرَاطَ التَّعْلِيقِيَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ فِيهِ انْتِقَالٌ لِلْمِلْكِ مِنْ طَرَفٍ إِلَى طَرَفٍ، وَانْتِقَالُ الْأَمْلَاكِ إِنَّمَا يَعْتَمِدُ الرِّضَا، وَالرِّضَا يَعْتَمِدُ الْجَزْمَ، وَلَا جَزْمَ مَعَ التَّعْلِيقِ.
وَمِنْهَا: النِّكَاحُ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي بَابِ النِّكَاحِ.
التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَقْبَلُ الِاشْتِرَاطَ التَّعْلِيقِيَّ:
9- مِنْهَا: الْكَفَالَةُ، فَإِنَّهَا تَقْبَلُ الِاشْتِرَاطَ التَّعْلِيقِيَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَصَحِّ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ.
هَذَا، وَبِالنَّظَرِ إِلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي التَّصَرُّفَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا مِنَ التَّمْلِيكَاتِ وَالْمُعَاوَضَاتِ وَالِالْتِزَامَاتِ وَالْإِطْلَاقَاتِ وَالْإِسْقَاطَاتِ وَالتَّبَرُّعَاتِ وَالْوِلَايَاتِ، فَإِنَّنَا نَجِدُهُمْ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَا يَقْبَلُ الِاشْتِرَاطَ التَّعْلِيقِيَّ مُطْلَقًا، كَالتَّمْلِيكَاتِ، وَالْمُعَاوَضَاتِ، وَالْأَيْمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَالْإِقْرَارِ.وَبَعْضُهَا يَقْبَلُ الِاشْتِرَاطَ التَّعْلِيقِيَّ مُطْلَقًا، كَالْوِلَايَاتِ وَالِالْتِزَامِ بِبَعْضِ الطَّاعَاتِ، كَالنَّذْرِ مَثَلًا وَالْإِطْلَاقَاتِ.وَبَعْضُهَا فِيهِ الْخِلَافُ مِنْ حَيْثُ قَبُولِهِ الِاشْتِرَاطَ التَّعْلِيقِيَّ أَوْ عَدَمِ قَبُولِهِ لَهُ، كَالْإِسْقَاطَاتِ وَبَعْضِ عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ وَغَيْرِهَا.وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مُصْطَلَحِ: (شَرْط).
الِاشْتِرَاطُ التَّقْيِيدِيُّ وَأَثَرُهُ
10- سَبَقَ أَنَّ الِاشْتِرَاطَ التَّقْيِيدِيَّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مَعْنَاهُ: الْتِزَامُ أَمْرٍ لَمْ يُوجَدْ فِي أَمْرٍ وُجِدَ بِصِيغَةٍ مَخْصُوصَةٍ.أَوْ أَنَّهُ: مَا جُزِمَ فِيهِ بِالْأَصْلِ وَشُرِطَ فِيهِ أَمْرٌ آخَرُ.فَالشَّرْطُ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الِاشْتِرَاطِ، لِأَنَّ الْتِزَامَ أَمْرٍ لَمْ يُوجَدْ فِي أَمْرٍ وُجِدَ، أَوِ اشْتِرَاطُ أَمْرٍ آخَرَ بَعْدَ الْجَزْمِ بِالْأَصْلِ هُوَ الِاشْتِرَاطُ.وَلِهَذَا الشَّرْطُ أَثَرُهُ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ إِذَا اُشْتُرِطَ فِيهَا مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ أَوِ الْبُطْلَانِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ التَّصَرُّفَ إِذَا قُيِّدَ بِشَرْطٍ فَلَا يَخْلُو هَذَا الشَّرْطُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا أَوْ بَاطِلًا.
فَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ صَحِيحًا، كَمَا لَوِ اُشْتُرِطَ فِي الْبَقَرَةِ كَوْنُهَا حَلُوبًا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ صِفَةٌ لِلْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ، وَهِيَ صِفَةٌ مَحْضَةٌ لَا يُتَصَوَّرُ انْقِلَابُهَا أَصْلًا، وَلَا يَكُونُ لَهَا حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ بِحَالٍ.
وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا أَوْ فَاسِدًا، كَمَا لَوِ اشْتَرَى نَاقَةً عَلَى أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا بَعْدَ شَهْرَيْنِ، كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا.
وَكَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ دَارِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي ابْنَتَكَ، أَوْ عَلَى أَنْ أُزَوِّجَكَ ابْنَتِي لَمْ يَصِحَّ، لِاشْتِرَاطِهِ عَقْدًا آخَرَ، وَلِشَبَهِهِ بِنِكَاحِ الشِّغَارِ.
وَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ يَذْكُرُونَ لَهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: صَحِيحٌ، وَفَاسِدٌ، وَبَاطِلٌ.وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الَّذِينَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ، وَيَقُولُونَ بِأَنَّهُمَا وَاحِدٌ، يَذْكُرُونَ لَهُ قِسْمَيْنِ: صَحِيحٌ، وَفَاسِدٌ أَوْ بَاطِلٌ.كَمَا أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَذْكُرُونَ لِلشَّرْطِ الصَّحِيحِ أَنْوَاعًا وَلِلشَّرْطِ الْفَاسِدِ أَنْوَاعًا، وَإِنَّ مِنَ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ مَا يُفْسِدُ التَّصَرُّفَ وَيُبْطِلُهُ، وَمِنْهَا مَا يَبْقَى التَّصَرُّفُ مَعَهُ صَحِيحًا.وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مُصْطَلَحِ (شَرْط).
ضَوَابِطُ الِاشْتِرَاطِ التَّقْيِيدِيِّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ
11- الِاشْتِرَاطُ التَّقْيِيدِيُّ قِسْمَانِ: صَحِيحٌ، وَفَاسِدٌ أَوْ بَاطِلٌ.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الِاشْتِرَاطُ الصَّحِيحُ:
12- الِاشْتِرَاطُ الصَّحِيحُ ضَابِطُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ اشْتِرَاطُ صِفَةٍ قَائِمَةٍ بِمَحَلِّ الْعَقْدِ وَقْتَ صُدُورِهِ، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ أَوْ مَا يُلَائِمُ مُقْتَضَاهُ، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ بِجَوَازِ اشْتِرَاطِهِ، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا جَرَى عَلَيْهِ التَّعَامُلُ بَيْنَ النَّاسِ.
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ اشْتِرَاطُ صِفَةٍ قَائِمَةٍ بِمَحَلِّ الْعَقْدِ وَقْتَ صُدُورِهِ، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلَا يُنَافِيهِ.
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ اشْتِرَاطُ صِفَةٍ قَائِمَةٍ بِمَحَلِّ الْعَقْدِ وَقْتَ صُدُورِهِ، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةً مَشْرُوعَةً لِلْعَاقِدَيْنِ، أَوِ اشْتِرَاطُ الْعِتْقِ لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ.
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ اشْتِرَاطُ صِفَةٍ قَائِمَةٍ بِمَحَلِّ الْعَقْدِ وَقْتَ صُدُورِهِ، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ أَوْ يُؤَكِّدُ مُقْتَضَاهُ، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا أَجَازَ الشَّارِعُ اشْتِرَاطَهُ، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةً لِلْعَاقِدَيْنِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الِاشْتِرَاطُ الْفَاسِدُ أَوِ الْبَاطِلُ:
وَهَذَا النَّوْعُ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يُفْسِدُ التَّصَرُّفَ وَيُبْطِلُهُ، وَثَانِيهِمَا: مَا يَبْقَى التَّصَرُّفُ مَعَهُ صَحِيحًا.وَهَاكَ ضَابِطُ كُلٍّ مِنْهُمَا.
الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: مَا يُفْسِدُ التَّصَرُّفَ وَيُبْطِلُهُ:
13- ضَابِطُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُؤَدِّي إِلَى غَدْرٍ غَيْرِ يَسِيرٍ، أَوِ اشْتِرَاطُ أَمْرٍ مَحْظُورٍ، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِغَيْرِهِمَا، أَوْ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ (إِذَا كَانَ هَذَانِ الْأَخِيرَانِ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ)، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا لَا يُلَائِمُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَلَا مِمَّا جَرَى عَلَيْهِ التَّعَامُلُ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا مِمَّا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ بِجَوَازِهِ.
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: اشْتِرَاطُ أَمْرٍ مَحْظُورٍ، أَوْ أَمْرٍ يُؤَدِّي إِلَى غَدْرٍ، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ.
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: اشْتِرَاطُ أَمْرٍ لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ، أَوِ اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، أَوِ اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةٍ.
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: اشْتِرَاطُ عَقْدَيْنِ فِي عَقْدٍ، أَوْ اشْتِرَاطُ شَرْطَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يُخَالِفُ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعَقْدِ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يُبْطِلُ وَيَبْقَى التَّصَرُّفُ مَعَهُ صَحِيحًا:
14- وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: كُلُّ مَا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلَا يُلَائِمُ مُقْتَضَاهُ، وَلَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ أَوِ الْعُرْفِ دَلِيلٌ بِجَوَازِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، أَوْ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ.فَإِذَا اقْتَرَنَ بِالْعَقْدِ كَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا وَالشَّرْطُ بَاطِلًا.
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: اشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ مِنِ الْعُيُوبِ، أَوِ اشْتِرَاطُ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ دُونَ الْإِخْلَالِ بِمَقْصُودِهِ.
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: اشْتِرَاطُ مَا لَا غَرَضَ فِيهِ، أَوْ مَا يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ دُونَ الْإِخْلَالِ بِمَقْصُودِهِ.
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: اشْتِرَاطُ مَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، أَوِ اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةٍ، أَوْ أَمْرٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ.
هَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مِنَ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ شُرُوطًا تَسْقُطُ إِذَا أَسْقَطَهَا الْمُشْتَرِطُ.وَضَابِطُهَا عِنْدَهُمْ: اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُنَاقِضُ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَيْعِ، أَوْ يُخِلُّ بِالثَّمَنِ فِيهِ، أَوْ يُؤَدِّي إِلَى غَدْرٍ فِي الْهِبَةِ
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
21-موسوعة الفقه الكويتية (اطراد)
اطِّرَادٌالتَّعْرِيفُ:
1- الِاطِّرَادُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ اطَّرَدَ الْأَمْرُ إِذَا تَبِعَ بَعْضُهُ بَعْضًا.يُقَالُ: اطَّرَدَ الْمَاءُ، وَاطَّرَدَتِ الْأَنْهَارُ إِذَا جَرَتْ.وَاطِّرَادُ الْوَصْفِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ الْوَصْفُ وُجِدَ الْحُكْمُ، وَذَلِكَ كَوُجُودِ حُرْمَةِ الْخَمْرِ مَعَ إِسْكَارِهَا، أَوْ لَوْنِهَا، أَوْ طَعْمِهَا، أَوْ رَائِحَتِهَا.وَلَا يَكُونُ الْوَصْفُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ إِلاَّ إِذَا كَانَ مُطَّرِدًا مُنْعَكِسًا مَعَ كَوْنِهِ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ، كَالْإِسْكَارِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ.
كَمَا اسْتَعْمَلَ الْأُصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ الِاطِّرَادَ بِمَعْنَى الْغَلَبَةِ وَالذُّيُوعِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ لِلْعَادَةِ وَالْعُرْفِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْعَكْسُ:
2- الْعَكْسُ فِي اللُّغَةِ: رَدُّ أَوَّلِ الشَّيْءِ عَلَى آخِرِهِ.يُقَالُ عَكَسَهُ عَكْسًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ.وَانْعَكَسَ الشَّيْءُ: مُطَاوِعُ عَكْسِهِ.وَالِانْعِكَاسُ فِي بَابِ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ كُلَّمَا انْتَفَى الْوَصْفُ انْتَفَى الْحُكْمُ، كَانْتِفَاءِ حُرْمَةِ الْخَمْرِ بِزَوَالِ إِسْكَارِهَا، أَوْ رَائِحَتِهَا، أَوْ أَحَدِ أَوْصَافِهَا الْأُخْرَى.وَيُقَالُ لَهُ: الْعَكْسُ أَيْضًا.وَعَلَيْهِ فَهُوَ ضِدُّ الِاطِّرَادِ.
ب- الدَّوَرَانُ:
3- فَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الدَّوَرَانِ وَبَيْنَ الِاطِّرَادِ، فَخَصَّ الدَّوَرَانَ بِالْمُقَارَنَةِ فِي الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَالطَّرْدَ وَالِاطِّرَادَ بِالْمُقَارَنَةِ بِالْوُجُودِ فَقَطْ.
ج- الْغَلَبَةُ:
4- الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُطَّرِدِ وَالْغَالِبِ أَنَّ الْمُطَّرِدَ لَا يَتَخَلَّفُ، بِخِلَافِ الْغَالِبِ فَإِنَّهُ مُتَخَلِّفٌ فِي الْأَقَلِّ، وَإِنْ كَانَ مُطَّرِدًا فِي الْأَكْثَرِ.
د- الْعُمُومُ:
5- اطِّرَادُ الْعُرْفِ أَوِ الْعَادَةِ غَيْرُ عُمُومِهِمَا، فَإِنَّ الْعُمُومَ مُرْتَبِطٌ بِالْمَكَانِ وَالْمَجَالِ، فَالْعُرْفُ الْعَامُّ عَلَى هَذَا: مَا كَانَ شَائِعًا فِي الْبُلْدَانِ، وَالْخَاصُّ مَا كَانَ فِي بَلَدٍ، أَوْ بُلْدَانٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ عِنْدَ طَائِفَةٍ خَاصَّةٍ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
أ- اطِّرَادُ الْعِلَّةِ:
6- ذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى اعْتِبَارِ الِاطِّرَادِ فِي الْعِلَّةِ مَسْلَكًا مِنْ مَسَالِكِهَا الْمُعْتَبَرَةِ لِمَعْرِفَتِهَا، وَإِثْبَاتِهَا بِهَا لِإِفَادَتِهِ الظَّنَّ، وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ الْحَنَفِيَّةُ وَكَثِيرٌ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ، كَالْغَزَالِيِّ وَالْآمِدِيِّ مَسْلَكًا، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلِ مَوْطِنِهِ الْمُلْحَقُ الْأُصُولِيُّ.
ب- الِاطِّرَادُ فِي الْعَادَةِ:
7- ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ أَنَّ الْعَادَةَ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ إِذَا اطَّرَدَتْ أَوْ غَلَبَتْ، وَلِذَا قَالُوا فِي الْبَيْعِ: لَوْ بَاعَ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَكَانَا فِي بَلَدٍ اخْتَلَفَتْ فِيهِ النُّقُودُ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَالِيَّةِ وَالرَّوَاجِ انْصَرَفَ الْبَيْعُ إِلَى الْأَغْلَبِ.
قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فَيَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ إِلَيْهِ..ثُمَّ تَسَاءَلَ ابْنُ نُجَيْمٍ عَنِ الْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ، هَلْ تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ؟ وَقَالَ: قَالَ فِي إِجَارَةِ الظَّهِيرِيَّةِ: وَالْمَعْرُوفُ عُرْفًا كَالْمَشْرُوطِ شَرْطًا.وَمُرَادُ ابْنِ نُجَيْمٍ مِنَ الِاطِّرَادِ فِي عِبَارَتِهِ الْأَخِيرَةِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الِاطِّرَادِ الَّذِي لَا يَتَخَلَّفُ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ دُسْتُورِ الْعُلَمَاءِ، بِدَلِيلِ تَصْرِيحِ ابْنِ نُجَيْمٍ نَفْسِهِ فِي عِبَارَتِهِ الْأُولَى، بِأَنَّ غَلَبَةَ الْعَادَةِ فِي حُكْمِ اطِّرَادِهَا.وَعِبَارَةُ السُّيُوطِيِّ فِي أَشْبَاهِهِ: «إِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْعَادَةُ إِذَا اطَّرَدَتْ فَإِنِ اضْطَرَبَتْ فَلَا»، ثُمَّ مَثَّلَ لِذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ بَاعَ شَيْئًا وَأَطْلَقَ نُزِّلَ عَلَى النَّقْدِ الْغَالِبِ، فَلَوِ اضْطَرَبَتِ الْعَادَةُ فِي الْبَلَدِ وَجَبَ الْبَيَانُ، وَإِلاَّ بَطَلَ الْبَيْعُ.فَتَقْيِيدُهُ النَّقْدَ بِالْغَالِبِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْغَلَبَةَ كَافِيَةٌ هُنَا كَمَا هُوَ وَاضِحٌ.وَتَمَامُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ، وَمُصْطَلَحِ (عَادَةٌ).
هَذَا، وَقَدْ يَحْدُثُ أَنْ يَطَّرِدَ الْعَمَلُ بِأَمْرَيْنِ، يَتَعَارَفُهُمَا النَّاسُ، قَدْ يَكُونَانِ مُتَضَادَّيْنِ، كَأَنْ يَتَعَارَفَ بَعْضُهُمْ قَبْضَ الصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَيَتَعَارَفَ بَعْضُهُمُ الْآخَرُ غَيْرُ ذَلِكَ.مِنْ غَيْرِ غَلَبَةٍ لِأَحَدِهِمَا، فَيُسَمَّى ذَلِكَ بِالْعُرْفِ الْمُشْتَرَكِ.
وَمَوْطِنُ تَفْصِيلِهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى (الْعُرْفِ).
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
8- يَذْكُرُ الْأُصُولِيُّونَ الِاطِّرَادَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مَسَالِكِ الْعِلَّةِ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ، بِاعْتِبَارِهِ مَسْلَكًا مِنْ مَسَالِكِهَا، كَمَا يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ: «الْعَادَةُ مُحَكَّمَةٌ».
وَذَكَرَ الْأُصُولِيُّونَ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، أَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ يَلْزَمُ فِيهِ اطِّرَادُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِيقَةِ فِي جَمِيعِ جُزْئِيَّاتِهِ، وَأَنَّ عَدَمَ الِاطِّرَادِ مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ الْمَجَازُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
22-موسوعة الفقه الكويتية (انعكاس)
انْعِكَاسٌالتَّعْرِيفُ:
1- الِانْعِكَاسُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ انْعَكَسَ مُطَاوِعُ عَكَسَ.وَالْعَكْسُ: رَدُّ أَوَّلِ الشَّيْءِ عَلَى آخِرِهِ.يُقَالُ: عَكَسَهُ يَعْكِسُهُ عَكْسًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ.وَمِنْهُ قِيَاسُ الْعَكْسِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَهُوَ: إِثْبَاتُ عَكْسِ حُكْمِ شَيْءٍ لِمِثْلِهِ لِتَعَاكُسِهِمَا فِي الْعِلَّةِ، كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ: «أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟»
وَالِانْعِكَاسُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ: انْتِفَاءُ الْحُكْمِ بِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ كَانْتِفَاءِ حُرْمَةِ الْخَمْرِ بِزَوَالِ إِسْكَارِهَا.
وَضِدُّ الِانْعِكَاسِ الِاطِّرَادُ، كَمَا أَنَّ ضِدَّ الْعَكْسِ الطَّرْدُ. (ر: اطِّرَادٌ).
2- وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ الِانْعِكَاسَ مَعَ الِاطِّرَادِ مَسْلَكٌ مِنَ الْمَسَالِكِ الَّتِي بِهَا تُعْرَفُ الْعِلَّةُ.وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ الْحَنَفِيَّةُ وَكَثِيرٌ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ كَالْغَزَالِيِّ وَالْآمِدِيِّ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ.
كَمَا ذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ الِانْعِكَاسَ مِنْ شَرَائِطِ الْعِلَّةِ، وَالْآخَرُونَ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِيهَا هَذَا الشَّرْطَ.
وَتَمَامُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ مَوْطِنُهُ الْمُلْحَقُ الْأُصُولِيُّ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3- ذَكَرَ الْأُصُولِيُّونَ الِانْعِكَاسَ فِي مَبَاحِثِ الْعِلَّةِ مِنَ الْقِيَاسِ، فِي شُرُوطِهَا، وَفِي مَسَالِكِهَا، بِاعْتِبَارِهِ أَحَدَ شُرُوطِهَا وَمَسَالِكِهَا عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي تَقَدَّمَ كَمَا ذَكَرُوهُ فِي مَبْحَثِ التَّرْجِيحَاتِ الْقِيَاسِيَّةِ بِاعْتِبَارِهِ أَحَدَ طُرُقِ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْأَقْيِسَةِ، وَفِي الْكَلَامِ عَلَى الْحِكْمَةِ وَالْمَظِنَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي مَظِنَّةِ الْحِكْمَةِ الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ، وَفِي الْكَلَامِ عَلَى قَوَادِحِ الْعِلَّةِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
23-موسوعة الفقه الكويتية (بطلان 1)
بُطْلَانٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْبُطْلَانُ لُغَةً: الضَّيَاعُ وَالْخُسْرَانُ، أَوْ سُقُوطُ الْحُكْمِ.يُقَالُ: بَطَلَ الشَّيْءُ يَبْطُلُ بَطَلًا وَبُطْلَانًا بِمَعْنَى: ذَهَبَ ضَيَاعًا وَخُسْرَانًا، أَوْ سَقَطَ حُكْمُهُ، وَمِنْ مَعَانِيهِ: الْحُبُوطُ.
وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ يَخْتَلِفُ تَبَعًا لِلْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ.
فَفِي الْعِبَادَاتِ: الْبُطْلَانُ: عَدَمُ اعْتِبَارِ الْعِبَادَةِ حَتَّى كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ.كَمَا لَوْ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ.
وَالْبُطْلَانُ فِي الْمُعَامَلَاتِ يَخْتَلِفُ فِيهَا تَعْرِيفُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ غَيْرِهِمْ، فَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ تَقَعَ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ بِأَصْلِهِ وَلَا بِوَصْفِهِ، وَيَنْشَأُ عَنِ الْبُطْلَانِ تَخَلُّفُ الْأَحْكَامِ كُلِّهَا عَنِ التَّصَرُّفَاتِ، وَخُرُوجُهَا عَنْ كَوْنِهَا أَسْبَابًا مُفِيدَةً لِتِلْكَ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، فَبُطْلَانُ الْمُعَامَلَةِ لَا يُوَصِّلُ إِلَى الْمَقْصُودِ الدُّنْيَوِيِّ أَصْلًا؛ لِأَنَّ آثَارَهَا لَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا.
وَتَعْرِيفُ الْبُطْلَانِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ تَعْرِيفُ الْفَسَادِ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ: أَنْ تَقَعَ الْمُعَامَلَةُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ بِأَصْلِهِ أَوْ بِوَصْفِهِ أَوْ بِهِمَا.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْفَسَادُ:
2- الْفَسَادُ: مُرَادِفٌ لِلْبُطْلَانِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) فَكُلٌّ مِنَ الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي يُخَالِفُ وُقُوعُهُ الشَّرْعَ، وَلَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْآثَارُ، وَلَا يَسْقُطُ الْقَضَاءُ فِي الْعِبَادَاتِ.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، فَفِي بَعْضِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ يَأْتِي التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْبُطْلَانِ وَالْفَسَادِ، كَالْحَجِّ وَالْعَارِيَّةِ وَالْكِتَابَةِ وَالْخُلْعِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَالْفَسَادُ يُبَايِنُ الْبُطْلَانَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعَامَلَاتِ، فَالْبُطْلَانُ عِنْدَهُمْ: مُخَالَفَةُ الْفِعْلِ لِلشَّرْعِ لِخَلَلٍ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ أَوْ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ انْعِقَادِهِ.
أَمَّا الْفَسَادُ فَهُوَ: مُخَالَفَةُ الْفِعْلِ لِلشَّرْعِ فِي شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهِ، وَلَوْ مَعَ مُوَافَقَةِ الشَّرْعِ فِي أَرْكَانِهِ وَشَرَائِطِ انْعِقَادِهِ.
ب- الصِّحَّةُ:
3- الصِّحَّةُ فِي اللُّغَةِ.بِمَعْنَى: السَّلَامَةِ فَالصَّحِيحُ ضِدُّ الْمَرِيضِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: وُقُوعُ الْفِعْلِ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ بِاسْتِجْمَاعِ الْأَرْكَانِ وَالشُّرُوطِ.وَأَثَرُهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ: تَرَتُّبُ ثَمَرَةِ التَّصَرُّفِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ عَلَيْهِ، كَحِلِّ الِانْتِفَاعِ فِي الْبَيْعِ، وَالِاسْتِمْتَاعِ فِي النِّكَاحِ.
وَأَثَرُهُ فِي الْعِبَادَاتِ هُوَ سُقُوطُ الْقَضَاءِ بِفِعْلِ الْعِبَادَةِ.
ج- الِانْعِقَادُ:
4- الِانْعِقَادُ: يَشْمَلُ الصِّحَّةَ، وَيَشْمَلُ الْفَسَادَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَهُوَ ارْتِبَاطُ أَجْزَاءِ التَّصَرُّفِ شَرْعًا.أَوْ هُوَ: تَعَلُّقُ كُلٍّ مِنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِالْآخَرِ عَلَى وَجْهٍ مَشْرُوعٍ، يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي مُتَعَلَّقِهِمَا.
فَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ مُنْعَقِدٌ بِأَصْلِهِ، وَلَكِنَّهُ فَاسِدٌ بِوَصْفِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.فَالِانْعِقَادُ ضِدُّ الْبُطْلَانِ.
عَدَمُ التَّلَازُمِ بَيْنَ بُطْلَانِ التَّصَرُّفِ فِي الدُّنْيَا وَبُطْلَانِ أَثَرِهِ فِي الْآخِرَةِ:
5- لَا تَلَازُمَ بَيْنَ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ أَوْ بُطْلَانِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَبَيْنَ بُطْلَانِ أَثَرِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَقَدْ يَكُونُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ فِي الدُّنْيَا، لِاسْتِكْمَالِهِ الْأَرْكَانَ وَالشُّرُوطَ الْمَطْلُوبَةَ شَرْعًا، لَكِنِ اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ مَا يُبْطِلُ ثَمَرَتَهُ فِي الْآخِرَةِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ، بَلْ قَدْ يَلْزَمُهُ الْإِثْمُ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» وَقَدْ يَصِحُّ الْعَمَلُ وَيَسْتَحِقُّ عَامِلُهُ الثَّوَابَ، وَلَكِنْ يُتْبِعُهُ صَاحِبُهُ عَمَلًا يُبْطِلُهُ، فَالْمَنُّ وَالْأَذَى يُبْطِلُ أَجْرَ الصَّدَقَةِ، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}.
6- وَيُوَضِّحُ الشَّاطِبِيُّ ذَلِكَ فَيَقُولُ: يُرَادُ بِالْبُطْلَانِ إِطْلَاقَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَدَمُ تَرَتُّبِ آثَارِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا نَقُولُ فِي الْعِبَادَاتِ: إِنَّهَا غَيْرُ مُجْزِئَةٍ وَلَا مُبَرِّئَةٍ لِلذِّمَّةِ وَلَا مُسْقِطَةٍ لِلْقَضَاءِ، فَهِيَ بَاطِلَةٌ بِهَذَا الْمَعْنَى لِمُخَالَفَتِهَا لِمَا قَصَدَ الشَّارِعُ فِيهَا.وَقَدْ تَكُونُ بَاطِلَةً لِخَلَلٍ فِي بَعْضِ أَرْكَانِهَا أَوْ شُرُوطِهَا، كَكَوْنِهَا نَاقِصَةً رَكْعَةً أَوْ سَجْدَةً.
وَنَقُولُ أَيْضًا فِي الْعَادَاتِ: إِنَّهَا بَاطِلَةٌ، بِمَعْنَى عَدَمِ حُصُولِ فَوَائِدِهَا بِهَا شَرْعًا، مِنْ حُصُولِ إِمْلَاكٍ وَاسْتِبَاحَةِ فُرُوجٍ وَانْتِفَاعٍ بِالْمَطْلُوبِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُرَادَ بِالْبُطْلَانِ عَدَمُ تَرَتُّبِ آثَارِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ الثَّوَابُ.فَتَكُونُ الْعِبَادَةُ بَاطِلَةً بِالْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ، فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا جَزَاءٌ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُطَابِقَةٍ لِمُقْتَضَى الْأَمْرِ بِهَا، كَالْمُتَعَبِّدِ رِئَاءَ النَّاسِ، فَهِيَ غَيْرُ مُجْزِئَةٍ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ثَوَابٌ، وَقَدْ تَكُونُ صَحِيحَةً بِالْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ثَوَابٌ أَيْضًا، كَالْمُتَصَدِّقِ بِالصَّدَقَةِ يُتْبِعُهَا بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ}.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْإِقْدَامِ عَلَى تَصَرُّفٍ بَاطِلٍ مَعَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ:
7- الْإِقْدَامُ عَلَى فِعْلٍ بَاطِلٍ- مَعَ الْعِلْمِ بِبُطْلَانِهِ- حَرَامٌ، وَيَأْثَمُ فَاعِلُهُ؛ لِارْتِكَابِهِ الْمَعْصِيَةَ بِمُخَالَفَتِهِ الْمَشْرُوعَ؛ لِأَنَّ الْبُطْلَانَ وَصْفٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي يَقَعُ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ، كَالصَّلَاةِ بِدُونِ طَهَارَةٍ، وَالْأَكْلِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، أَمْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمُعَامَلَاتِ، كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ، وَكَالِاسْتِئْجَارِ عَلَى النَّوْحِ، وَكَرَهْنِ الْخَمْرِ عِنْدَ الْمُسْلِمِ وَلَوْ كَانَتْ لِذِمِّيٍّ، وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ، أَمْ كَانَ فِي النِّكَاحِ، كَنِكَاحِ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ.
وَهَذَا الْحُكْمُ يَشْمَلُ الْفَاسِدَ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ- كَإِفَادَتِهِ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ مَثَلًا- إِلاَّ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَيْهِ حَرَامٌ، وَيَجِبُ فَسْخُهُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى دَفْعًا لِلْفَسَادِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ مَعْصِيَةٌ، فَعَلَى الْعَاقِدِ التَّوْبَةُ مِنْهُ بِفَسْخِهِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ حُكْمِ الْإِقْدَامِ عَلَى التَّصَرُّفِ الْبَاطِلِ حَالَةُ الضَّرُورَةِ، كَالْمُضْطَرِّ يَشْتَرِي الْمَيْتَةَ.
هَذَا فِيمَنْ يُقْدِمُ عَلَى الْبَاطِلِ مَعَ عِلْمِهِ بِبُطْلَانِهِ.
8- وَأَمَّا الْإِقْدَامُ عَلَى التَّصَرُّفِ الْبَاطِلِ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ، فَهَذَا يَشْمَلُ النَّاسِيَ وَالْجَاهِلَ.وَالْأَصْلُ بِالنِّسْبَةِ لِلْجَاهِلِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى فِعْلٍ حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ، فَمَنْ بَاعَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ فِي الْبَيْعِ، وَمَنْ آجَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ فِي الْإِجَارَةِ، وَمَنْ صَلَّى وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ مَا يُرِيدُ الْإِقْدَامَ عَلَيْهِ، لقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} فَلَا يَجُوزُ الشُّرُوعُ فِي شَيْءٍ حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَهُ، فَيَكُونُ طَلَبُ الْعِلْمِ وَاجِبًا فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ، وَتَرْكُ التَّعَلُّمِ مَعْصِيَةٌ يُؤَاخَذُ بِهَا.
أَمَّا الْمُؤَاخَذَةُ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّصَرُّفِ الَّذِي وَقَعَ بَاطِلًا مَعَ الْجَهْلِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ: أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ قَدْ تَسَامَحَ فِي جَهَالَاتٍ فِي الشَّرِيعَةِ، فَعَفَا عَنْ مُرْتَكِبِهَا، وَأَخَذَ بِجَهَالَاتٍ، فَلَمْ يَعْفُ عَنْ مُرْتَكِبِهَا.وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيلِ مُصْطَلَحَ (جَهْلٌ، نِسْيَانٌ).
الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ فَعَلَ الْبَاطِلَ:
9- إِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُتَّفَقًا عَلَى بُطْلَانِهِ، فَإِنْكَارُهُ وَاجِبٌ عَلَى مُسْلِمٍ.أَمَّا إِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ، فَلَا إِنْكَارَ فِيهِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: الْإِنْكَارُ مِنَ الْمُنْكِرِ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا اجْتُمِعَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَلَا إِنْكَارَ فِيهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، أَوِ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَلَا نَعْلَمُهُ، وَلَمْ يَزَلِ الْخِلَافُ بَيْنَ السَّلَفِ فِي الْفُرُوعِ، وَلَا يُنْكِرُ أَحَدٌ عَلَى غَيْرِهِ أَمْرًا مُجْتَهَدًا فِيهِ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا خَالَفَ نَصًّا، أَوْ إِجْمَاعًا قَطْعِيًّا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْفَاعِلُ لَا يَرَى تَحْرِيمَهُ، فَإِنْ كَانَ يَرَاهُ فَالْأَصَحُّ الْإِنْكَارُ.
وَفِي كُلِّ ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (إِنْكَار، أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، اجْتِهَاد، تَقْلِيد، اخْتِلَاف، إِفْتَاء، رُخْصَة).
الِاخْتِلَافُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْبُطْلَانِ وَالْفَسَادِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ:
10- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبُطْلَانِ وَالْفَسَادِ فِي التَّصَرُّفَاتِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ، كَالصَّلَاةِ مَعَ تَرْكِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا، أَوْ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهَا، أَمْ كَانَ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ، كَالْعَقْدِ عَلَى إِحْدَى الْمَحَارِمِ، أَمْ كَانَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ، كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَالشِّرَاءِ بِالْخَمْرِ، وَالْبَيْعِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الرِّبَا، فَكُلٌّ مِنَ الْبُطْلَانِ وَالْفَسَادِ يُوصَفُ بِهِ الْفِعْلُ الَّذِي يَقَعُ عَلَى خِلَافِ مَا طَلَبَهُ الشَّارِعُ، وَمِنْ أَجْلِ هَذِهِ الْمُخَالَفَةِ لَمْ يَعْتَبِرْهُ، وَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهِ أَيَّ أَثَرٍ مِنَ الْآثَارِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الْفِعْلِ الصَّحِيحِ.
فَالْجُمْهُورُ يُطْلِقُونَهُمَا، وَيُرِيدُونَ بِهِمَا مَعْنًى وَاحِدًا، وَهُوَ: وُقُوعُ الْفِعْلِ عَلَى خِلَافِ مَا طَلَبَهُ الشَّارِعُ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْخِلَافُ رَاجِعًا إِلَى فَوَاتِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْفِعْلِ، أَمْ رَاجِعًا إِلَى فَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّهُمْ- عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ- يُوَافِقُونَ الْجُمْهُورَ فِي أَنَّ الْبُطْلَانَ وَالْفَسَادَ مُتَرَادِفَانِ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَاتِ.أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعَامَلَاتِ، فَإِنَّهُمْ يُخَالِفُونَ الْجُمْهُورَ، فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا، وَيَجْعَلُونَ لِلْفَسَادِ مَعْنًى يُخَالِفُ مَعْنَى الْبُطْلَانِ، وَيَقُومُ هَذَا التَّفْرِيقُ عَلَى أَسَاسِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ أَصْلِ الْعَقْدِ وَوَصْفِهِ.
فَأَصْلُ الْعَقْدِ هُوَ أَرْكَانُهُ وَشَرَائِطُ انْعِقَادِهِ، مِنْ أَهْلِيَّةِ الْعَاقِدِ وَمَحَلِّيَّةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَغَيْرِهِمَا، كَالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ...وَهَكَذَا.
أَمَّا وَصْفُ الْعَقْدِ، فَهِيَ شُرُوطُ الصِّحَّةِ، وَهِيَ الْعَنَاصِرُ الْمُكَمِّلَةُ لِلْعَقْدِ، كَخُلُوِّهِ عَنِ الرِّبَا، وَعَنْ شَرْطٍ مِنَ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَعَنِ الْغَرَرِ وَالضَّرَرِ.وَعَلَى هَذَا الْأَسَاسِ يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا حَصَلَ خَلَلٌ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ- بِأَنْ تَخَلَّفَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهِ، أَوْ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ انْعِقَادِهِ- كَانَ الْعَقْدُ بَاطِلًا، وَلَا وُجُودَ لَهُ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَيُّ أَثَرٍ دُنْيَوِيٍّ؛ لِأَنَّهُ لَا وُجُودَ لِلتَّصَرُّفِ إِلاَّ مِنَ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ، وَيَكُونُ الْعَقْدُ فَائِتَ الْمَعْنَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَعَ وُجُودِ الصُّورَةِ فَحَسْبُ، إِمَّا لِانْعِدَامِ مَحَلِّ التَّصَرُّفِ كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، أَوْ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الْمُتَصَرِّفِ كَالْبَيْعِ الصَّادِرِ مِنَ الْمَجْنُونِ أَوِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ.
أَمَّا إِذَا كَانَ أَصْلُ الْعَقْدِ سَالِمًا مِنَ الْخَلَلِ، وَحَصَلَ خَلَلٌ فِي الْوَصْفِ، بِأَنِ اشْتَمَلَ الْعَقْدُ عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ، أَوْ رِبًا، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ فَاسِدًا لَا بَاطِلًا، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْآثَارِ دُونَ بَعْضٍ.
11- وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالْحَنَفِيَّةِ، يَرْجِعُ إِلَى اخْتِلَافِ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي أَثَرِ النَّهْيِ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِ الْعَمَلِ اللاَّزِمَةِ لَهُ، كَالنَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الرِّبَا أَوْ شَرْطٍ فَاسِدٍ.فَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَقْتَضِي بُطْلَانَ كُلٍّ مِنَ الْوَصْفِ وَالْأَصْلِ، كَأَثَرِ النَّهْيِ الْمُتَوَجِّهِ إِلَى ذَاتِ الْفِعْلِ وَحَقِيقَتِهِ، وَيُطْلِقُونَ عَلَى الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِوَصْفٍ لَازِمٍ لَهُ اسْمَ الْفَاسِدِ أَوِ الْبَاطِلِ، وَلَا يُرَتِّبُونَ عَلَيْهِ أَيَّ أَثَرٍ مِنَ الْآثَارِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ، وَلِهَذَا كَانَ الْبَيْعُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الرِّبَا، أَوْ عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ، أَوْ نَحْوِ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْبَاطِلِ عِنْدَهُمْ أَوِ الْفَاسِدِ.
وَالْحَنَفِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَقْتَضِي بُطْلَانَ الْوَصْفِ فَقَطْ، أَمَّا أَصْلُ الْعَمَلِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ بِخِلَافِ النَّهْيِ الْمُتَوَجِّهِ إِلَى ذَاتِ الْفِعْلِ وَحَقِيقَتِهِ، وَيُطْلِقُونَ عَلَى الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِوَصْفٍ لَازِمٍ لَهُ اسْمَ الْفَاسِدِ لَا الْبَاطِلِ، وَيُرَتِّبُونَ عَلَيْهِ بَعْضَ الْآثَارِ دُونَ بَعْضٍ، وَلِهَذَا كَانَ الْبَيْعُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الرِّبَا، أَوْ عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ وَنَحْوِهِمَا مِنْ قَبِيلِ الْفَاسِدِ عِنْدَهُمْ، لَا مِنْ قَبِيلِ الْبَاطِلِ.
12- وَقَدِ اسْتَدَلَّ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ، أَهَمُّهَا مَا يَأْتِي:
أَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ مَتَى خَالَفَ أَمْرَ الشَّارِعِ صَارَ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فِي نَظَرِهِ، فَلَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ الَّتِي يَقْصِدُهَا مِنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمُخَالَفَةُ رَاجِعَةً إِلَى ذَاتِ الْعَمَلِ وَحَقِيقَتِهِ، أَمْ إِلَى وَصْفٍ مِنَ الْأَوْصَافِ اللاَّزِمَةِ لَهُ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّهُمُ اسْتَنَدُوا إِلَى أَنَّ الشَّارِعَ قَدْ وَضَعَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ أَسْبَابًا لِأَحْكَامٍ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، فَإِذَا نَهَى الشَّارِعُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا لِوَصْفٍ مِنَ الْأَوْصَافِ اللاَّزِمَةِ لَهُ، كَانَ النَّهْيُ مُقْتَضِيًا بُطْلَانَ هَذَا الْوَصْفِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِ، فَيَقْتَصِرُ أَثَرُهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وُجُودُ هَذَا الْوَصْفِ مُخِلًّا بِحَقِيقَةِ التَّصَرُّفِ الْمَوْصُوفِ بِهِ، بَقِيَتْ حَقِيقَتُهُ قَائِمَةً، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مُقْتَضَاهُ.فَإِذَا كَانَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ بَيْعًا مَثَلًا، وَوُجِدَتْ حَقِيقَتُهُ بِوُجُودِ رُكْنِهِ وَمَحَلِّهِ، ثَبَتَ الْمِلْكُ بِهِ نَظَرًا لِوُجُودِ حَقِيقَتِهِ، وَوَجَبَ فَسْخُهُ نَظَرًا لِوُجُودِ الْوَصْفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَبِذَلِكَ يُمْكِنُ مُرَاعَاةُ الْجَانِبَيْنِ، وَإِعْطَاءُ كُلٍّ مِنْهَا حُكْمَهُ اللاَّئِقَ بِهِ.إِلاَّ أَنَّ الْعِبَادَاتِ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا الِامْتِثَالَ وَالطَّاعَةَ، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا إِلاَّ إِذَا لَمْ تَحْصُلْ فِيهَا مُخَالَفَةٌ مَا، لَا فِي الْأَصْلِ وَلَا فِي الْوَصْفِ، كَانَتْ مُخَالَفَةُ أَمْرِ الشَّارِعِ فِيهَا مُقْتَضِيَةً لِلْفَسَادِ وَالْبُطْلَانِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ هَذِهِ الْمُخَالَفَةُ رَاجِعَةً إِلَى ذَاتِ الْعِبَادَةِ، أَمْ إِلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهَا اللاَّزِمَةِ.
بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ نَذْكُرَ أَنَّ الْجُمْهُورَ وَإِنْ كَانُوا لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ- عَلَى مَا جَاءَ فِي قَوَاعِدِهِمُ الْعَامَّةِ- إِلاَّ أَنَّهُ يَتَبَيَّنُ وُجُودُ الْخِلَافِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ نُصُوصِهِمْ، غَيْرَ أَنَّهُمُ اعْتَبَرُوا ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ، أَوْ لِلتَّفْرِقَةِ فِي مَسَائِلِ الدَّلِيلِ كَمَا يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ يُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهِ.
تَجَزُّؤُ الْبُطْلَانِ:
13- الْمُرَادُ بِتَجَزُّؤِ الْبُطْلَانِ: أَنْ يَشْمَلَ التَّصَرُّفَ عَلَى مَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ، فَيَكُونُ فِي شِقٍّ مِنْهُ صَحِيحًا، وَفِي الشِّقِّ الْآخَرِ بَاطِلًا.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ مَا يُسَمَّى بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.وَهِيَ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ.
وَأَهَمُّ الصُّوَرِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي الْبَيْعِ وَهِيَ.
14- عَقْدُ الْبَيْعِ إِذَا كَانَ فِي شِقٍّ مِنْهُ صَحِيحًا، وَفِي الشِّقِّ الْآخَرِ بَاطِلًا، كَبَيْعِ الْعَصِيرِ وَالْخَمْرِ صَفْقَةً وَاحِدَةً، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْمُذَكَّاةِ وَالْمَيْتَةِ، فَالصَّفْقَةُ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ- عَدَا ابْنِ الْقَصَّارِ مِنْهُمْ- وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ (وَادَّعَى فِي الْمُهِمَّاتِ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ)، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَتَى بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْبَعْضِ بَطَلَ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ غَيْرُ مُتَجَزِّئَةٍ، أَوْ لِتَغْلِيبِ الْحَرَامِ عَلَى الْحَلَالِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا، أَوْ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ- قَالُوا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ-
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَوْلُ ابْنِ الْقَصَّارِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ تَجْزِئَةُ الصَّفْقَةِ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِيمَا يَجُوزُ، وَيَبْطُلُ فِيمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِبْطَالَ فِي الْكُلِّ لِبُطْلَانِ أَحَدِهِمَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ تَصْحِيحِ الْكُلِّ لِصِحَّةِ أَحَدِهِمَا، فَيَبْقَيَانِ عَلَى حُكْمِهِمَا، وَيَصِحُّ فِيمَا يَجُوزُ وَيَبْطُلُ فِيمَا لَا يَجُوزُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ عُيِّنَ ابْتِدَاءً لِكُلِّ شِقٍّ حِصَّتُهُ مِنَ الثَّمَنِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نُعْتَبَرُ الصَّفْقَةُ صَفْقَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ، تَجُوزُ فِيهِمَا التَّجْزِئَةُ، فَتَصِحُّ وَاحِدَةٌ، وَتَبْطُلُ الْأُخْرَى.
وَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ فِي شِقٍّ مِنْهُ صَحِيحًا، وَفِي الشِّقِّ الْآخَرِ مَوْقُوفًا، كَالْجَمْعِ بَيْنَ مَا يَمْلِكُهُ وَمَا يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ، وَبَيْعِهِمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَإِنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ فِيهِمَا وَيَلْزَمُ فِي مِلْكِهِ، وَيَقِفُ اللاَّزِمُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ عَلَى إِجَازَتِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ عَدَا زُفَرَ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَاعِدَةِ عَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً، وَجَوَازِ ذَلِكَ بَقَاءً.وَعِنْدَ زُفَرَ: يَبْطُلُ الْجَمِيعُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَالْمَجْمُوعُ لَا يَتَجَزَّأُ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَجْرِي الْخِلَافُ السَّابِقُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ عِنْدَهُمْ بَاطِلٌ فِي الْأَصَحِّ.
15- كَذَلِكَ تَجْرِي التَّجْزِئَةُ فِي النِّكَاحِ، فَلَوْ جُمِعَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ بَيْنَ مَنْ تَحِلُّ وَمَنْ لَا تَحِلُّ، كَمُسْلِمَةٍ وَوَثَنِيَّةٍ، صَحَّ نِكَاحُ الْحَلَالِ اتِّفَاقًا، وَبَطَلَ فِي مَنْ لَا تَحِلُّ. أَمَّا لَوْ جُمِعَ بَيْنَ خَمْسٍ، أَوْ بَيْنَ أُخْتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ الْجَمْعُ، لَا إِحْدَاهُنَّ أَوْ إِحْدَاهُمَا فَقَطْ، وَإِنَّمَا يَجْرِي خِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِيمَا لَوْ جُمِعَ بَيْنَ أَمَةٍ وَحُرَّةٍ مَعًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَبْطُلُ فِيهِمَا، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ صَحَّ نِكَاحُ الْحُرَّةِ، وَبَطَلَ نِكَاحُ الْأَمَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَهُوَ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالْحُكْمُ فِي سَائِرِ عُقُودِ الْمُعَامَلَاتِ كَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِهَا كَالْحُكْمِ فِي الْبَيْعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ عَقَدَ الْفُقَهَاءُ فَصْلًا لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا مِنْ تَصَرُّفَاتٍ.انْظُرْ (تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ).
بُطْلَانُ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ مَا فِي ضِمْنِهِ وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ:
16- مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الْأَشْبَاهِ: إِذَا بَطَلَ الشَّيْءُ بَطَلَ مَا فِي ضِمْنِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: إِذَا بَطَلَ الْمُتَضَمِّنُ (بِالْكَسْرِ) بَطَلَ الْمُتَضَمَّنُ (بِالْفَتْحِ) وَأَوْرَدَ لِذَلِكَ عِدَّةَ أَمْثِلَةٍ مِنْهَا:
أ- لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ دَمِي بِأَلْفٍ، فَقَتَلَهُ وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَلَا يُعْتَبَرُ مَا فِي ضِمْنِهِ مِنَ الْإِذْنِ بِقَتْلِهِ.
ب- التَّعَاطِي ضِمْنَ عَقْدٍ فَاسِدٍ أَوْ بَاطِلٍ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْبَيْعُ.
ج- لَوْ أَبْرَأَهُ أَوْ أَقَرَّ لَهُ ضِمْنَ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَسَدَ الْإِبْرَاءُ.
د- لَوْ جَدَّدَ النِّكَاحَ لِمَنْكُوحَتِهِ بِمَهْرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الثَّانِي لَمْ يَصِحَّ، فَلَمْ يَلْزَمْ مَا فِي ضِمْنِهِ مِنَ الْمَهْرِ.
إِلاَّ أَنَّ أَغْلَبَ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ تُجْرِي الْقَاعِدَةَ عَلَى الْفَسَادِ لَا عَلَى الْبُطْلَانِ؛ لِأَنَّ الْبَاطِلَ مَعْدُومٌ شَرْعًا أَصْلًا وَوَصْفًا، وَالْمَعْدُومُ لَا يَتَضَمَّنُ شَيْئًا، أَمَّا الْفَاسِدُ فَهُوَ فَائِتُ الْوَصْفِ دُونَ الْأَصْلِ، فَلَمْ يَكُنْ مَعْدُومًا بِأَصْلِهِ فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ مُتَضَمَّنًا، فَإِنْ فَسَدَ الْمُتَضَمِّنُ فَسَدَ الْمُتَضَمَّنُ.
17- هَذَا وَالْمَذَاهِبُ الْأُخْرَى- وَهِيَ الَّتِي لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ الْبُطْلَانِ وَالْفَسَادِ- تَسِيرُ عَلَى هَذَا النَّهْجِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ صُوَرًا.فَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: الْفَاسِدُ مِنَ الْعُقُودِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْإِذْنِ، إِذَا صَدَرَتْ مِنَ الْمَأْذُونِ، صَحَّتْ، كَمَا فِي الْوَكَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ إِذَا أَفْسَدْنَاهَا فَتَصَرُّفُ الْوَكِيلِ، صَحَّ لِوُجُودِ الْإِذْنِ، وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ مَعَ شَرْطِ عِوَضٍ فَاسِدٍ لِلْوَكِيلِ، فَالْإِذْنُ صَحِيحٌ وَالْعِوَضُ فَاسِدٌ.
وَفِي الْقَوَاعِدِ لِابْنِ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيِّ: الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ كَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ لَا يَمْنَعُ فَسَادُهَا نُفُوذَ الْمُتَصَرِّفِ فِيهَا بِالْإِذْنِ.ثُمَّ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِذْنِ فِي الْبَيْعِ- وَهُوَ عَقْدُ تَمْلِيكٍ- وَبَيْنَ الْإِذْنِ فِي الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، فَيَقُولُ: الْبَيْعُ وُضِعَ لِنَقْلِ الْمِلْكِ لَا لِلْإِذْنِ، وَصِحَّةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ تُسْتَفَادُ مِنَ الْمِلْكِ لَا مِنَ الْإِذْنِ، بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ فَإِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْإِذْنِ.
وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا تَصَرَّفَ الْعَامِلُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ؛ لِأَنَّهُ أُذِنَ لَهُ فِيهِ، فَإِذَا بَطَلَ الْعَقْدُ بَقِيَ الْإِذْنُ، فَمَلَكَ بِهِ التَّصَرُّفَ.
وَقَوَاعِدُ الْمَالِكِيَّةِ لَا تَأْبَى ذَلِكَ. هَذِهِ هِيَ قَاعِدَةُ التَّضَمُّنِ.لَكِنْ هُنَاكَ قَاعِدَةٌ أُخْرَى شَبِيهَةٌ بِهَا، وَهِيَ: إِذَا سَقَطَ الْأَصْلُ سَقَطَ الْفَرْعُ، وَمِنْهَا: التَّابِعُ يَسْقُطُ بِسُقُوطِ الْمَتْبُوعِ، وَقَدْ مَثَّلَ الْفُقَهَاءُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ أَبْرَأَ الدَّائِنُ الْمَدِينَ مِنَ الدَّيْنِ، فَكَمَا أَنَّهُ يَبْرَأُ الْمَدِينُ يَبْرَأُ مِنْهُ الْكَفِيلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَدِينَ فِي الدَّيْنِ أَصْلٌ، وَالْكَفِيلَ فَرْعٌ.
تَصْحِيحُ الْعَقْدِ الْبَاطِلِ:
18- تَصْحِيحُ الْعَقْدِ الْبَاطِلِ يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ بِصُورَتَيْنِ:
الْأُولَى: إِذَا ارْتَفَعَ مَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ فَهَلْ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا
الثَّانِيَةُ: أَنْ تُؤَدِّيَ صِيغَةُ الْعَقْدِ الْبَاطِلِ إِلَى مَعْنَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ.
19- أَمَّا الصُّورَةُ الْأُولَى: فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ لَا يَصِيرُ الْعَقْدُ الْبَاطِلُ صَحِيحًا عِنْدَهُمْ إِذَا ارْتَفَعَ مَا يُبْطِلُهُ.وَعَلَى ذَلِكَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ فِي الْحِنْطَةِ، وَالزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ، وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، وَالْبَذْرِ فِي الْبِطِّيخِ، وَالنَّوَى فِي التَّمْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ، حَتَّى لَوْ سُلِّمَ اللَّبَنُ أَوِ الدَّقِيقُ أَوِ الْعَصِيرُ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ كَالْمَعْدُومِ حَالَةَ الْعَقْدِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُ الْعَقْدِ بِدُونِهِ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلًا، فَلَا يَحْتَمِلُ التَّصْحِيحَ.
أَمَّا الْجُمْهُورُ (وَهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ فِي الْجُمْلَةِ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ) فَالْحُكْمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كَالْحَنَفِيَّةِ، لَا يَنْقَلِبُ الْعَقْدُ الْبَاطِلُ صَحِيحًا بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ.
فَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ حَذَفَ الْعَاقِدَانِ الْمُفْسِدَ لِلْعَقْدِ، وَلَوْ فِي مَجْلِسِ الْخِيَارِ، لَمْ يَنْقَلِبِ الْعَقْدُ صَحِيحًا؛ إِذْ لَا عِبْرَةَ بِالْفَاسِدِ.
وَفِي مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: الْفَاسِدُ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنَّهُمْ يُوَافِقُونَ الْجُمْهُورَ فِي هَذَا الْحُكْمِ، إِلاَّ فِي الْبَيْعِ بِشَرْطٍ لَا يُؤَدِّي إِلَى الْإِخْلَالِ بِشَيْءٍ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا إِذَا أُسْقِطَ الشَّرْطُ، وَذَلِكَ كَبَيْعِ الثُّنْيَا، وَهُوَ أَنْ يَبْتَاعَ السِّلْعَةَ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ مَتَى رَدَّ الثَّمَنَ فَالسِّلْعَةُ لَهُ، وَكَالْبَيْعِ بِشَرْطِ السَّلَفِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ عِنْدَهُمْ يَكُونُ فَاسِدًا، لَكِنَّهُ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا إِنْ حُذِفَ الشَّرْطُ. 20- أَمَّا الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ تَحَوُّلُ الْعَقْدِ الْبَاطِلِ إِلَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ، فَيَكَادُ الْفُقَهَاءُ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ تَحْوِيلُ الْعَقْدِ الْبَاطِلِ إِلَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ- لِتَوَفُّرِ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ فِيهِ- صَحَّ ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الصِّحَّةُ عَنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، أَمْ عَنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ عِنْدَ الْبَعْضِ الْآخَرِ؛ نَظَرًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِي قَاعِدَةِ: هَلِ الْعِبْرَةُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ مَعَانِيهَا.
21- وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا يَأْتِي:
الْمُضَارَبَةُ، وَهِيَ: أَنْ يَدْفَعَ شَخْصٌ إِلَى آخَرَ مَالَهُ لِيَتَّجِرَ فِيهِ، وَيَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا بِحَسَبِ مَا يَتَّفِقَانِ، وَيُسَمَّى الْقَائِمُ بِالتِّجَارَةِ مُضَارِبًا، فَلَوْ شَرَطَ فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ الرِّبْحَ كُلَّهُ لِلْمُضَارِبِ لَمْ يَكُنْ مُضَارَبَةً، وَلَكِنْ يَكُونُ قَرْضًا، تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ مُضَارَبَةً لَكَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَمْلِكُ رَأْسَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ حَتَّى يَكُونَ الرِّبْحُ كُلُّهُ لَهُ، فَجُعِلَ قَرْضًا؛ نَظَرًا لِلْمَعْنَى، لِيَصِحَّ الْعَقْدُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ الرِّبْحَ كُلَّهُ لِرَبِّ الْمَالِ، اعْتُبِرَ الْعَقْدُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِبْضَاعًا، تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ الْمُضَارِبُ وَكِيلًا مُتَبَرِّعًا لِصَاحِبِ الْمَالِ.نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَبِهِ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَصَحَّحُوا الْوَكَالَةَ إِذَا عُقِدَتْ بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ، وَالْحَوَالَةَ إِذَا عُقِدَتْ بِلَفْظِ الْوَكَالَةِ؛ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى، حَيْثُ قَالُوا: إِنْ أَحَالَ مَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ رَجُلًا عَلَى رَجُلٍ آخَرَ مَدِينٍ لَهُ، لَمْ يَكُنْ هَذَا التَّصَرُّفُ حَوَالَةً، بَلْ وَكَالَةً تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُهَا، وَإِنْ أَحَالَ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ صَاحِبَ الدَّيْنِ عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، لَمْ يُجْعَلْ هَذَا التَّصَرُّفُ حَوَالَةً، بَلِ اقْتِرَاضًا،
وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَحَالَهُ لَا دَيْنَ لَهُ عَلَيْهِ اعْتُبِرَ وَكَالَةً فِي الِاقْتِرَاضِ.
وَفِي الْفِقْهِ الشَّافِعِيِّ: إِذَا وَهَبَ شَخْصٌ لآِخَرَ شَيْئًا بِشَرْطِ الثَّوَابِ، اعْتُبِرَ هَذَا التَّصَرُّفُ بَيْعًا بِالثَّمَنِ لَا هِبَةً، فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ.
الْبَاطِلُ لَا يَصِيرُ صَحِيحًا بِتَقَادُمِ الزَّمَانِ أَوْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ:
22- التَّصَرُّفَاتُ الْبَاطِلَةُ لَا تَنْقَلِبُ صَحِيحَةً بِتَقَادُمِ الزَّمَانِ، وَلَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِنَفَاذِ التَّصَرُّفَاتِ الْبَاطِلَةِ، فَإِنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ وَعَوْدَتِهِ يُعْتَبَرُ قَائِمًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ الِانْتِفَاعُ بِحَقِّ غَيْرِهِ نَتِيجَةَ تَصَرُّفٍ بَاطِلٍ مَا دَامَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ.فَإِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحِلُّ حَرَامًا وَلَا يُحَرِّمُ حَلَالًا.
هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَالْقُضَاةُ إِنَّمَا يَقْضُونَ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ أَدِلَّةٍ وَحُجَجٍ يَبْنُونَ عَلَيْهَا أَحْكَامَهُمْ، وَقَدْ تَكُونُ غَيْرَ صَحِيحَةٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
وَلِذَلِكَ يَقُولُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عَنْهُ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ بِمَا أَسْمَعُ، وَأَظُنُّهُ صَادِقًا، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ».
23- وَمُضِيِّ فَتْرَةٍ مِنَ الزَّمَنِ عَلَى أَيِّ تَصَرُّفٍ، مَعَ عَدَمِ تَقَدُّمِ أَحَدٍ إِلَى الْقَضَاءِ بِدَعْوَى بُطْلَانِ هَذَا التَّصَرُّفِ، رُبَّمَا يَعْنِي صِحَّةَ هَذَا التَّصَرُّفِ أَوْ رِضَى صَاحِبِ الْحَقِّ بِهِ.وَمِنْ هُنَا نَشَأَ عَدَمُ سَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِهَا بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ، وَبِحَسَبِ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى بِهِ، وَبِحَسَبِ الْقَرَابَةِ وَعَدَمِهَا، وَمُدَّةِ الْحِيَازَةِ، لَكِنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ الَّتِي تَمْنَعُ سَمَاعَ الدَّعْوَى لَا أَثَرَ لَهُ فِي صِحَّةِ التَّصَرُّفِ، إِنْ كَانَ بَاطِلًا.يَقُولُ ابْنُ نُجَيْمٍ: الْحَقُّ لَا يَسْقُطُ بِتَقَادُمِ الزَّمَانِ، قَذْفًا أَوْ قِصَاصًا أَوْ لِعَانًا أَوْ حَقًّا لِلْعَبْدِ.
وَيَقُولُ: يَنْفُذُ قَضَاءُ الْقَاضِي فِي الْمَسَائِلِ الْمُجْتَهَدِ فِيهَا، إِلاَّ فِي مَسَائِلَ مِنْهَا: لَوْ قَضَى بِبُطْلَانِ الْحَقِّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، أَوْ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، أَوْ بِسُقُوطِ الْمَهْرِ بِالتَّقَادُمِ.
وَفِي التَّكْمِلَةِ لِابْنِ عَابِدِينَ: مِنَ الْقَضَاءِ الْبَاطِلِ: الْقَضَاءُ بِسُقُوطِ الْحَقِّ بِمُضِيِّ سِنِينَ.ثُمَّ يَقُولُ.عَدَمُ سَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ مُضِيِّ ثَلَاثِينَ سَنَةً، أَوْ بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَى التَّصَرُّفِ، لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى بُطْلَانِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ مَنْعٍ لِلْقَضَاءِ عَنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى، مَعَ بَقَاءِ الْحَقِّ لِصَاحِبِهِ، حَتَّى لَوْ أَقَرَّ بِهِ الْخَصْمُ يَلْزَمُهُ.
وَفِي مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِحَدٍّ قَدِيمٍ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ بِحَقٍّ، فَجَازَتْ مَعَ تَقَادُمِ الزَّمَانِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ- وَإِنْ كَانُوا يَشْتَرِطُونَ لِعَدَمِ سَمَاعِ الدَّعْوَى حِيَازَةَ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى بِهِ مُدَّةً تَخْتَلِفُ بِحَسَبِهِ مِنْ عَقَارٍ وَغَيْرِهِ- إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِ الْمُدَّعِي حَاضِرًا مُدَّةَ حِيَازَةِ الْغَيْرِ، وَيَرَاهُ يَقُومُ بِالْهَدْمِ وَالْبِنَاءِ وَالتَّصَرُّفِ وَهُوَ سَاكِتٌ.أَمَّا إِذَا كَانَ يُنَازِعُهُ فَإِنَّ الْحِيَازَةَ لَا تُفِيدُ شَيْئًا مَهْمَا طَالَتِ الْمُدَّةُ، وَفِي فَتْحِ الْعَلِيِّ لِمَالِكٍ: رَجُلٌ اسْتَوْلَى عَلَى أَرْضٍ بَعْدَ مَوْتِ أَهْلِهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، مَعَ وُجُودِ وَرَثَتِهِمْ، وَبَنَاهَا وَنَازَعَهُ الْوَرَثَةُ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى مَنْعِهِ لِكَوْنِهِ مِنْ رُؤَسَاءِ بَلْدَتِهِمْ، فَهَلْ لَا تُعْتَبَرُ حِيَازَتُهُ وَلَوْ طَالَتْ مُدَّتُهَا؟ أُجِيبَ: نَعَمْ.لَا تُعْتَبَرُ حِيَازَتُهُ وَلَوْ طَالَتْ مُدَّتُهَا...سَمِعَ يَحْيَى مِنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: مَنْ عُرِفَ بِغَصْبِ أَمْوَالِ النَّاسِ لَا يَنْتَفِعُ بِحِيَازَتِهِ مَالَ غَيْرِهِ فِي وَجْهِهِ، فَلَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ شِرَاءٍ أَوْ عَطِيَّةٍ، وَإِنْ طَالَ بِيَدِهِ أَعْوَامًا إِنْ أَقَرَّ بِأَصْلِ الْمِلْكِ لِمُدَّعِيهِ، أَوْ قَامَتْ لَهُ بِهِ بَيِّنَةٌ.قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: هَذَا صَحِيحٌ لَا خِلَافَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحِيَازَةَ لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ، وَإِنَّمَا هِيَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ تُوجِبُ تَصْدِيقَ غَيْرِ الْغَاصِبِ فِيمَا ادَّعَاهُ مَنْ تَصِيرُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ مَالِ أَحَدٍ، وَهُوَ حَاضِرٌ لَا يَطْلُبُهُ وَلَا يَدَّعِيهِ، إِلاَّ وَقَدْ صَارَ إِلَى حَائِزَةٍ إِذَا حَازَهُ عَشَرَةَ أَعْوَامٍ وَنَحْوَهَا.
وَتُنْظَرُ تَفْصِيلَاتُ ذَلِكَ فِي (دَعْوَى.تَقَادُم.حِيَازَة).
وَبِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَاتِ: فَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ مَنْ بَطَلَتْ عِبَادَتُهُ، فَإِنَّ ذِمَّتَهُ تَظَلُّ مَشْغُولَةً بِهَا حَتَّى يَقْضِيَهَا.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
24-موسوعة الفقه الكويتية (البيع الباطل)
الْبَيْعُ الْبَاطِلُالتَّعْرِيفُ:
1- الْبَيْعُ لُغَةً مِنَ الْأَضْدَادِ مِثْلُ الشِّرَاءِ، وَالْأَصْلُ فِي الْبَيْعِ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، وَذَلِكَ حَقِيقَةٌ فِي وَصْفِ الْأَعْيَانِ، لَكِنَّهُ أُطْلِقَ عَلَى الْعَقْدِ مَجَازًا، لِأَنَّهُ سَبَبُ التَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ.وَالْبَاطِلُ مِنْ بَطَلَ الشَّيْءُ: فَسَدَ أَوْ سَقَطَ حُكْمُهُ فَهُوَ بَاطِلٌ.
وَالْبَيْعُ اصْطِلَاحًا: مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ.
وَالْبَيْعُ الْبَاطِلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ: مَا لَمْ يُشْرَعْ لَا بِأَصْلِهِ وَلَا بِوَصْفِهِ.
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ- وَهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ فِي الْجُمْلَةِ- هُوَ مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ أَثَرُهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُثْمِرْ وَلَمْ تَحْصُلْ بِهِ فَائِدَتُهُ مِنْ حُصُولِ الْمِلْكِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْبَيْعُ الصَّحِيحُ:
2- هُوَ: مَا شُرِعَ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ، وَيُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ إِذَا خَلَا مِنَ الْمَوَانِعِ.أَوْ هُوَ: مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ مِنْ حُصُولِ الْمِلْكِ وَالِانْتِفَاعِ بِالْمَبِيعِ.وَعَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مُبَايِنٌ لِلْبَيْعِ الْبَاطِلِ.
ب- الْبَيْعُ الْفَاسِدُ:
3- الْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْبَيْعِ الْبَاطِلِ وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ.أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَجْعَلُونَ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ مَرْتَبَةً بَيْنَ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَالْبَيْعِ الْبَاطِلِ.
وَيُعَرِّفُهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: مَا شُرِعَ بِأَصْلِهِ دُونَ وَصْفِهِ.
أَوْ هُوَ: مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ، وَلَكِنَّهُ مَطْلُوبُ التَّفَاسُخِ شَرْعًا، وَهُوَ مُبَايِنٌ لِلْبَاطِلِ كَمَا يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ فَقَطْ يُبَايِنُ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ أَصْلًا.وَأَيْضًا حُكْمُ الْفَاسِدِ أَنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ، وَالْبَاطِلُ لَا يُفِيدُهُ أَصْلًا، وَتَبَايُنُ الْحُكْمَيْنِ دَلِيلُ تَبَايُنِهِمَا.
ج- الْبَيْعُ الْمَكْرُوهُ:
4- هُوَ مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ، لَكِنْ نُهِيَ عَنْهُ لِوَصْفٍ مُجَاوِرٍ غَيْرِ لَازِمٍ، كَالْبَيْعِ عَقِبَ النِّدَاءِ لِلْجُمُعَةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ، إِذْ النَّهْيُ عِنْدَهُمْ يَقْتَضِي الْفَسَادَ مُطْلَقًا، وَهُوَ يَتَّفِقُ مَعَ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ فِي تَرَتُّبِ أَثَرِهِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ مُبَايِنٌ لَهُ بِاعْتِبَارِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5- الْإِقْدَامُ عَلَى الْبَيْعِ الْبَاطِلِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْبُطْلَانِ حَرَامٌ، وَيَأْثَمُ فَاعِلُهُ، لِارْتِكَابِهِ الْمَعْصِيَةَ بِمُخَالَفَتِهِ الْمَشْرُوعَ، وَعَدَمِ امْتِثَالِهِ لِمَا نَهَى الشَّارِعُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْبَاطِلَ لَمْ يُشْرَعْ لَا بِأَصْلِهِ وَلَا بِوَصْفِهِ.
هَذَا مَعَ اسْتِثْنَاءِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ، كَالْمُضْطَرِّ يَشْتَرِي الطَّعَامَ بِزِيَادَةٍ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَكَالْعَقْدِ الَّذِي يُخْتَبَرُ بِهِ رُشْدُ الصَّبِيِّ.
فَقَدْ قِيلَ: يَشْتَرِي الْوَلِيُّ شَيْئًا ثُمَّ يَدْفَعُهُ إِلَى آخَرَ، ثُمَّ يَأْمُرُ الطِّفْلَ بِشِرَائِهِ مِنْهُ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْبَيْعِ الْمُتَّفَقِ عَلَى بُطْلَانِهِ، كَبَيْعِ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ، وَكَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ.
أَمَّا الْبَيْعُ الْمُخْتَلَفُ فِي بُطْلَانِهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ بِأَنْ كَانَ بَاطِلًا فِي مَذْهَبٍ وَغَيْرَ بَاطِلٍ فِي مَذْهَبٍ آخَرَ، كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ، وَبَيْعِ الْمُعَاطَاةِ، وَبَيْعِ الْكَلْبِ الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ، فَإِنَّ الْمُقْدِمَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا قَدْ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فَلَا يُعْتَبَرُ الْبَيْعُ بَاطِلًا فِي حَقِّهِ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ تَحَرَّى قَصْدَ الشَّارِعِ بِبَذْلِ الْجُهْدِ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى دَلِيلٍ يُرْشِدُهُ، بِحَيْثُ لَوْ ظَهَرَ لَهُ خِلَافُ مَا رَآهُ بِدَلِيلٍ أَقْوَى لَرَجَعَ إِلَيْهِ، وَالْمُخْطِئُ فِي اجْتِهَادِهِ لَا يُعَاقَبُ، بَلْ يَكُونُ مَعْذُورًا وَمَأْجُورًا.
إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْخُرُوجُ مِنَ الْخِلَافِ، بِمَعْنَى أَنَّ مَنْ يَعْتَقِدُ جَوَازَ الشَّيْءِ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ تَرْكُهُ إِنْ كَانَ غَيْرُهُ يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا.
وَالْمُقَلِّدُ كَذَلِكَ يَأْخُذُ حُكْمَ الْمُجْتَهِدِ فِي سُقُوطِ الْإِثْمِ عَنْهُ، مَا دَامَ مُقَلِّدًا لِإِمَامِهِ تَقْلِيدًا سَائِغًا.وَالْعَامِّيُّ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْوَرَعِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ أَخَذَ بِقَوْلِ أَعْلَمِهِمْ وَأَوْرَعِهِمْ وَأَغْلَبِهِمْ صَوَابًا فِي قَلْبِهِ، وَلَا يَتَخَيَّرُ مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ هَوَاهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى تَتَبُّعِ الْمَذَاهِبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى دَلِيلٍ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ طُرُقٌ إِلَى اللَّهِ.
أَسْبَابُ بُطْلَانِ الْبَيْعِ:
6- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْبَيْعِ الْبَاطِلِ، فَهُمَا مُتَرَادِفَانِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ وَقَعَ عَلَى خِلَافِ مَا طَلَبَهُ الشَّارِعُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْتَبِرْهُ، وَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهِ الْأَثَرَ الَّذِي رَتَّبَهُ عَلَى الْبَيْعِ الصَّحِيحِ مِنْ حُصُولِ الْمِلْكِ وَحِلِّ الِانْتِفَاعِ.
وَأَسْبَابُ فَسَادِ الْبَيْعِ هِيَ أَسْبَابُ بُطْلَانِهِ، وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى الْخَلَلِ الْوَاقِعِ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْعَقْدِ، أَوْ فِي شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ، أَوْ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنِ الْوَصْفِ الْمُلَازِمِ لِلْفِعْلِ، أَوْ عَنِ الْوَصْفِ الْمُجَاوِرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَأْتِي:
أ- الْبَيْعُ الْبَاطِلُ أَوِ الْفَاسِدُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ يَكُونُ حَرَامًا، وَالْحَرَامُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِتَرَتُّبِ الْأَثَرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّصَرُّفِ إِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ قَدْ خَرَجَ عَنِ اعْتِبَارِهِ وَشَرْعِيَّتِهِ.
ب- قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» وَالْبَيْعُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ وَقَعَ عَلَى غَيْرِ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّارِعُ، فَيَكُونُ مَرْدُودًا، فَكَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ.
ج- أَجْمَعَ سَلَفُ الْأُمَّةِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالنَّهْيِ عَلَى الْفَسَادِ فَفَهِمُوا فَسَادَ الرِّبَا مِنْ قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} وَقَوْلَهُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَّ مِثْلًا بِمِثْلٍ» وَ «نَهَى- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ».
هَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّ سَبَبَ بُطْلَانِ الْبَيْعِ عِنْدَهُمْ يَرْجِعُ إِلَى اخْتِلَالِ رُكْنِ الْبَيْعِ أَوْ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ، فَإِذَا تَخَلَّفَ الرُّكْنُ أَوْ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا وَلَا وُجُودَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا وُجُودَ لِلتَّصَرُّفِ إِلاَّ مِنَ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ حَقِيقَةً، وَيَكُونُ الْعَقْدُ فَائِتَ الْمَعْنَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إِمَّا لِانْعِدَامِ مَعْنَى التَّصَرُّفِ كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، أَوْ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ كَبَيْعِ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ.
أَمَّا اخْتِلَالُ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ فَلَا يُجْعَلُ الْبَيْعُ بَاطِلًا، كَمَا هُوَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، بَلْ يَكُونُ فَاسِدًا.
وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ مَشْرُوعٌ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ فِي الْجُمْلَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوعٌ بِأَصَلِهِ: النُّصُوصُ الْعَامَّةُ الْمُطْلَقَةُ فِي بَابِ الْبَيْعِ مِنْ نَحْوِ قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ مِنَ النُّصُوصِ الْعَامَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَيُلْحَظُ هُنَا أَنَّ بَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ يُسَايِرُونَ الْمَذْهَبَ الْحَنَفِيَّ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْبَيْعِ الْبَاطِلِ وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، رَغْمَ أَنَّ الْقَوَاعِدَ الْعَامَّةَ عِنْدَهُمْ تُخَالِفُ ذَلِكَ.
جَاءَ فِي أَسْنَى الْمَطَالِبِ: فَرَّقَ الْأَصْحَابُ بَيْنَ الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ، فَقَالُوا: إِنْ رَجَعَ الْخَلَلُ إِلَى رُكْنِ الْعَقْدِ كَبَيْعِ الصَّبِيِّ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى شَرْطِهِ أَوْ صِفَتِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ.
7- بَعْدَ هَذَا التَّفْرِيقِ بَيْنَ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْجُمْهُورِ، هُنَاكَ مِنَ الْبُيُوعِ الْبَاطِلَةِ مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى بُطْلَانِهَا بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، كَالْبَيْعِ الَّذِي حَدَثَ خَلَلٌ فِي رُكْنِهِ، أَوْ فِي شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ انْعِقَادِهِ، كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ فَهَذِهِ مُتَّفَقٌ عَلَى بُطْلَانِهَا.
وَهُنَاكَ مِنَ الْبُيُوعِ مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِي بُطْلَانِهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، وَهُوَ مَا رَجَعَ الْخَلَلُ فِيهَا لِغَيْرِ مَا سَبَقَ.
فَبَيْعُ الْفُضُولِيِّ مَثَلًا صَحِيحٌ، وَلَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِجَازَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَالْبَيْعُ عِنْدَ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَاطِلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ، وَبَيْعِ الْكَلْبِ الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ، وَبَيْعِ النَّجْشِ، وَهَكَذَا.
وَيَرْجِعُ سَبَبُ الِاخْتِلَافِ فِي الْحُكْمِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْبُيُوعِ بِالْبُطْلَانِ أَوْ عَدَمِهِ إِلَى الِاخْتِلَافِ فِي الدَّلِيلِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَيْعِ الْبَاطِلِ مِنْ أَحْكَامٍ:
8- الْبَيْعُ الْبَاطِلُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ، لِأَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ إِلاَّ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ، وَهُوَ مَنْقُوضٌ مِنْ أَسَاسِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ لِحُكْمِ حَاكِمٍ لِنَقْضِهِ.
وَلَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ، وَالْإِجَازَةُ لَا تَلْحَقُ الْمَعْدُومَ.
وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فِي الْبَيْعِ الْمُجْمَعِ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَأَمَّا الْبَيْعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ،
فَإِنَّهُ إِذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّتِهِ صَحَّ الْعَقْدُ قَضَاءً، حَتَّى عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِبُطْلَانِهِ وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يَرْفَعُ الْخِلَافَ.وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ.
وَإِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ الْبَاطِلُ، فَإِنَّ وُجُودَهُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ يَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْضُ الْأَحْكَامِ.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ- التَّرَادُّ:
9- إِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ الْبَاطِلُ وَحَدَثَ فِيهِ تَسْلِيمُ شَيْءٍ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَجَبَ رَدُّهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْبَاطِلَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ، وَيَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ رَدُّ مَا أَخَذَهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْبُيُوعَ الْفَاسِدَةَ إِذَا وَقَعَتْ وَلَمْ تَفُتْ، حُكْمُهَا الرَّدُّ، أَيْ أَنْ يَرُدَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ، وَيَرُدَّ الْمُشْتَرِي الْمَثْمُونَ
وَرَدُّ الْمَبِيعِ يَكُونُ مَعَ نَمَائِهِ الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْفَصِلِ وَأُجْرَةُ مِثْلِهِ مُدَّةَ بَقَائِهِ فِي يَدِهِ، وَإِنْ نَقَصَ ضَمِنَ نَقْصَهُ، لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، فَأَجْزَاؤُهَا تَكُونُ مَضْمُونَةً أَيْضًا.
صَرَّحَ بِهَذَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مَا تُفِيدُهُ قَوَاعِدُ الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ تَغَيُّرَ الذَّاتِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ يُعْتَبَرُ فَوْتًا يَنْتَقِلُ الْحَقُّ فِيهِ إِلَى الضَّمَانِ
ب- التَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ:
10- إِذَا تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ بَيْعًا بَاطِلًا بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ، فَيَكُونُ قَدْ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ، وَتَكُونُ تَصَرُّفَاتُهُ كَتَصَرُّفَاتِ الْغَاصِبِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ لِعَدَمِ نُفُوذِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْمَبِيعِ يُعْتَبَرُ مُفَوِّتًا، وَيَنْتَقِلُ الْحَقُّ فِيهِ إِلَى الضَّمَانِ.
ج- الضَّمَانُ:
11- إِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ بِالْمِثْلِ فِي الْمِثْلِيِّ وَالْقِيمَةِ فِي الْمُتَقَوَّمِ.
وَالْقِيمَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تُقَدَّرُ بِأَقْصَى الْقِيَمِ فِي الْمُتَقَوَّمِ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ، وَفِي وَجْهٍ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ التَّلَفِ، وَفِي وَجْهٍ يَوْمَ الْقَبْضِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ تَلِفَ بِبَلَدِ قَبْضِهِ فِيهِ، قَالَهُ الْقَاضِي، وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَيْهِ فِي الْغَصْبِ، وَلِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ مَالِكِهِ فَأَشْبَهَ الْعَارِيَّةُ، وَذَكَرَ الْخِرَقِيُّ فِي الْغَصْبِ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مَا كَانَتْ، فَيَخْرُجُ هَاهُنَا كَذَلِكَ، وَهُوَ أَوْلَى، لِأَنَّ الْعَيْنَ كَانَتْ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا فِي حَالِ زِيَادَتِهَا، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِهَا مَعَ زِيَادَتِهَا، فَكَذَلِكَ فِي حَالِ تَلَفِهَا.
وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ، يَقُولُونَ: إِنْ فَاتَ الْمَبِيعُ بِيَدِ الْمُشْتَرِي مَضَى الْمُخْتَلَفُ فِيهِ- وَلَوْ كَانَ الْخِلَافُ خَارِجَ الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ- بِالثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخْتَلَفًا فِيهِ- بَلْ مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ- ضَمِنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ إِنْ كَانَ مُقَوَّمًا حِينَ الْقَبْضِ، وَضَمِنَ مِثْلَ الْمِثْلِيِّ إِذَا بِيعَ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا، وَعُلِمَ كَيْلُهُ أَوْ وَزْنُهُ، وَلَمْ يَتَعَذَّرْ وُجُودُهُ، وَإِلاَّ ضَمِنَ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ.
وَلِلْحَنَفِيَّةِ رَأْيٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَنَّ الْمَبِيعَ يَكُونُ أَمَانَةً عِنْدَ الْمُشْتَرِي، لَا يَضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّفْرِيطِ فِي الْحِفْظِ، لِأَنَّهُ مَالٌ قَبَضَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فِي عَقْدٍ وُجِدَ صُورَةً لَا مَعْنًى، فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ وَبَقِيَ إِذْنُهُ بِالْقَبْضِ.
د- تَجَزُّؤُ الْبَيْعِ الْبَاطِلِ:
12- الْمُرَادُ بِتَجَزُّؤِ الْبَيْعِ الْبَاطِلِ: أَنْ يَشْتَمِلَ الْبَيْعُ عَلَى مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَيَكُونُ فِي شِقٍّ مِنْهُ صَحِيحًا وَفِي الشِّقِّ الْآخَرِ بَاطِلًا، وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ: إِذَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ غُلِّبَ الْحَرَامُ.وَأَدْخَلَ الْفُقَهَاءُ تَحْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا يُسَمَّى بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ،
وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ.
وَعَقْدُ الْبَيْعِ إِذَا كَانَ فِي شِقٍّ مِنْهُ صَحِيحًا، وَفِي الشِّقِّ الْآخَرِ بَاطِلًا، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْعَصِيرِ وَالْخَمْرِ، أَوْ بَيْنَ الْمُذَكَّاةِ وَالْمَيْتَةِ، وَبِيعَ ذَلِكَ صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَالصَّفْقَةُ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ- عَدَا ابْنَ الْقَصَّارِ مِنْهُمْ- وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ (وَادَّعَى الْإِسْنَوِيُّ فِي كِتَابِ الْمُهِمَّاتِ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَتَى بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْبَعْضِ بَطَلَ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ غَيْرُ مُتَجَزِّئَةٍ، أَوْ لِتَغْلِيبِ الْحَرَامِ عَلَى الْحَلَالِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهَا، أَوْ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ.
وَالْقَوْلُ الْأَظْهَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَصَّارِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ تَجْزِئَةُ الصَّفْقَةِ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِيمَا يَجُوزُ، وَيَبْطُلُ فِيمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِبْطَالَ فِي الْكُلِّ لِبُطْلَانِ أَحَدِهِمَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ تَصْحِيحِ الْكُلِّ لِصِحَّةِ أَحَدِهِمَا، فَيَبْقَيَانِ عَلَى حُكْمِهِمَا، وَيَصِحُّ فِيمَا يَجُوزُ، وَيَبْطُلُ فِيمَا لَا يَجُوزُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إِنْ عَيَّنَ ابْتِدَاءً لِكُلِّ شِقٍّ حِصَّتَهُ مِنَ الثَّمَنِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تُعْتَبَرُ الصَّفْقَةُ صَفْقَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ تَجُوزُ فِيهِمَا التَّجْزِئَةُ، فَتَصِحُّ وَاحِدَةٌ وَتَبْطُلُ الْأُخْرَى.
وَهَذِهِ إِحْدَى صُوَرِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.
وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ فِي شِقٍّ مِنْهُ صَحِيحًا، وَفِي الشِّقِّ الْآخَرِ مَوْقُوفًا، كَالْجَمْعِ بَيْنَ دَارِهِ وَدَارِ غَيْرِهِ، وَبَيْعِهِمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَإِنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ فِيهِمَا، وَيَلْزَمُ فِي مِلْكِهِ، وَيُوقَفُ اللُّزُومُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ عَلَى إِجَازَتِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ عَدَا زُفَرَ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَاعِدَةِ عَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً، وَجَوَازُ ذَلِكَ بَقَاءً.
وَعِنْدَ زُفَرَ: يَبْطُلُ الْجَمِيعُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَالْمَجْمُوعُ لَا يَتَجَزَّأُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَجْرِي الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ عِنْدَهُمْ بَاطِلٌ فِي الْأَصْلِ.
وَالصُّورَةُ الثَّالِثَةُ ذَكَرَهَا ابْنُ قُدَامَةَ، وَهِيَ: أَنْ يَبِيعَ مَعْلُومًا وَمَجْهُولًا، كَقَوْلِهِ: بِعْتُكَ هَذِهِ الْفَرَسَ وَمَا فِي بَطْنِ هَذِهِ الْفَرَسِ الْأُخْرَى بِأَلْفٍ، فَهَذَا الْبَيْعُ بَاطِلٌ بِكُلِّ حَالٍ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا أَعْلَمُ فِي بُطْلَانِهِ خِلَافًا.
هـ- تَصْحِيحُ الْبَيْعِ الْبَاطِلِ:
13- تَصْحِيحُ الْبَيْعِ الْبَاطِلِ يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ بِصُورَتَيْنِ.
الْأُولَى: إِذَا ارْتَفَعَ مَا يَبْطُلُ الْعَقْدَ، فَهَلْ يَنْقَلِبُ الْبَيْعُ صَحِيحًا؟
الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَتْ صِيغَةُ الْبَيْعِ الْبَاطِلِ تُؤَدِّي إِلَى مَعْنَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ، فَهَلْ يَتَحَوَّلُ الْبَيْعُ الْبَاطِلُ إِلَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ؟ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي: أَمَّا الصُّورَةُ الْأُولَى: فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبَيْعِ الْبَاطِلِ وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، فَيَصِحُّ عِنْدَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ تَصْحِيحُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِارْتِفَاعِ الْمُفْسِدِ دُونَ الْبَاطِلِ، وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْمُفْسِدِ فِي الْفَاسِدِ يَرُدُّهُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَائِمٌ مَعَ الْفَسَادِ، وَمَعَ الْبُطْلَانِ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا بِصِفَةِ الْبُطْلَانِ، بَلْ مَعْدُومًا.
وَعَلَى ذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ فِي الْحِنْطَةِ، وَالزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ، وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، وَالْبِزْرِ فِي الْبِطِّيخِ، وَالنَّوَى فِي التَّمْرِ، لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ حَتَّى لَوْ سَلَّمَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي اللَّبَنَ، أَوِ الدَّقِيقَ، أَوِ الْعَصِيرَ، لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْدُومٌ حَالَةَ الْعَقْدِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُ الْعَقْدِ بِدُونِهِ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلًا، فَلَا يَحْتَمِلُ النَّفَاذَ.
14- أَمَّا الْجُمْهُورُ (وَهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ) فَالْحُكْمُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْبَيْعَ الْبَاطِلَ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ.
فَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ حَذَفَ الْعَاقِدَانِ الْمُفْسِدَ لِلْعَقْدِ، وَلَوْ فِي مَجْلِسِ الْخِيَارِ، لَمْ يَنْقَلِبِ الْعَقْدُ صَحِيحًا، إِذْ لَا عِبْرَةَ بِالْفَاسِدِ.
وَفِي الْمُغْنِي لِابْنِ قُدَامَةَ: لَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّفَهُ أَوْ يُقْرِضَهُ، أَوْ شَرَطَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ».
وَلِأَنَّهُ اشْتَرَطَ عَقْدًا فِي عَقْدٍ فَفَسَدَ، كَبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، وَلِأَنَّهُ إِذَا اشْتَرَطَ الْقَرْضَ زَادَ فِي الثَّمَنِ لِأَجَلِهِ، فَتَصِيرُ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ عِوَضًا عَنِ الْقَرْضِ وَرِبْحًا لَهُ، وَذَلِكَ رِبًا مُحَرَّمٌ، فَفَسَدَ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ، وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ فَلَا يَعُودُ صَحِيحًا، كَمَا لَوْ بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ ثُمَّ تَرَكَ أَحَدَهُمَا.
وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: مَنْ بَاعَ بِشَرْطِ ضَمَانِ دَرْكِهِ إِلاَّ مِنْ زَيْدٍ لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ لَهُ؛ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ زَيْدٍ مِنْ ضَمَانِ دَرْكِهِ يَدُلُّ عَلَى حَقٍّ لَهُ فِي الْمَبِيعِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي بَيْعِهِ فَيَكُونُ بَاطِلًا، ثُمَّ إِنْ ضَمِنَ دَرْكَهُ مِنْهُ أَيْضًا لَمْ يُعَدَّ الْبَيْعُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا.
وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ يُنَاقِضُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ كَبَيْعِ الثُّنْيَا (بَيْعُ الْوَفَاءِ) - وَهُوَ أَنْ يَبْتَاعَ السِّلْعَةَ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ مَتَى رَدَّ الثَّمَنَ فَالسِّلْعَةُ لَهُ- وَكَذَا كُلُّ شَرْطٍ يُخِلُّ بِقَدْرِ الثَّمَنِ كَبَيْعٍ وَشَرْطٍ سَلَفًا، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ فَاسِدًا.
لَكِنْ يَصِحُّ الْبَيْعُ إِنْ حُذِفَ شَرْطُ السَّلَفِ، وَكَذَا كُلُّ شَرْطٍ يُنَاقِضُ الْمَقْصُودَ، إِلاَّ بَعْضَ الشُّرُوطِ فَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ مَعَهَا، وَلَوْ حُذِفَ الشَّرْطُ وَهِيَ:
(1) مَنِ ابْتَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ عَلَى أَنَّهُ إِنْ مَاتَ فَالثَّمَنُ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُفْسَخُ الْبَيْعُ وَلَوْ أَسْقَطَ هَذَا الشَّرْطَ، لِأَنَّهُ غَرَرٌ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ: إِنْ مَاتَ فَلَا يُطَالِبُ الْبَائِعُ وَرَثَتَهُ بِالثَّمَنِ.
(2) شَرْطُ الثُّنْيَا يُفْسِدُ الْبَيْعَ وَلَوْ أَسْقَطَ الشَّرْطَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ.
(3) شَرْطُ النَّقْدِ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ: قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: لَوْ أَسْقَطَ شَرْطَ النَّقْدِ فَلَا يَصِحُّ.
أَمَّا الشَّرْطُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْإِخْلَالِ بِشَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ فَهَذَا يُوجِبُ الْفَسْخَ، وَلَيْسَ لِلْعَاقِدَيْنِ إِمْضَاؤُهُ.
15- وَمَنَاطُ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِيمَا سَبَقَ كَمَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ هُوَ: هَلْ إِذَا لَحِقَ الْفَسَادُ بِالْبَيْعِ مِنْ قِبَلِ الشَّرْطِ يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ إِذَا ارْتَفَعَ الشَّرْطُ أَمْ لَا يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ؟ كَمَا لَا يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ اللاَّحِقُ لِلْبَيْعِ الْحَلَالِ مِنْ أَجْلِ اقْتِرَانِ الْمُحَرَّمِ الْعَيْنِ بِهِ؟ كَمَنْ بَاعَ فَرَسًا بِمِائَةِ دِينَارٍ وَزِقَّ خَمْرٍ، فَلَمَّا عَقَدَ الْبَيْعَ قَالَ: أَدَعُ الزِّقَّ، وَهَذَا الْبَيْعُ مَفْسُوخٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِإِجْمَاعٍ.
وَهَذَا أَيْضًا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ آخَرَ.وَهُوَ: هَلْ هَذَا الْفَسَادُ حُكْمِيٌّ (تَعَبُّدِيٌّ) أَوْ مَعْقُولٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: حُكْمِيٌّ، لَمْ يَرْتَفِعْ بِارْتِفَاعِ الشَّرْطِ.وَإِنْ قُلْنَا: مَعْقُولٌ، ارْتَفَعَ بِارْتِفَاعِ الشَّرْطِ.
فَمَالِكٌ رَآهُ مَعْقُولًا، وَالْجُمْهُورُ رَأَوْهُ غَيْرَ مَعْقُولٍ.
وَالْفَسَادُ الَّذِي يُوجَدُ فِي بُيُوعِ الرِّبَا وَالْغَرَرِ أَكْثَرُهُ حُكْمِيٌّ، وَلِذَلِكَ لَا يَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ أَصْلًا، وَإِنْ تُرِكَ الرِّبَا بَعْدَ الْبَيْعِ أَوِ ارْتَفَعَ الْغَرَرُ.
16- أَمَّا الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ تَحَوُّلُ الْبَيْعِ الْبَاطِلِ إِلَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ، فَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي قَاعِدَةِ (الْعِبْرَةُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ مَعَانِيهَا).
يَقُولُ السُّيُوطِيُّ: هَلِ الْعِبْرَةُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ مَعَانِيهَا؟ خِلَافٌ، وَالتَّرْجِيحُ مُخْتَلِفٌ فِي الْفُرُوعِ.وَمِنْ ذَلِكَ: لَوْ بَاعَ الْمَبِيعَ لِلْبَائِعِ قَبْلَ قَبْضِهِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ إِقَالَةٌ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَخَرَّجَهُ السُّبْكِيُّ عَلَى الْقَاعِدَةِ، وَالتَّخْرِيجُ لِلْقَاضِي حُسَيْنٍ.
قَالَ: إِنِ اعْتَبَرْنَا اللَّفْظَ لَمْ يَصِحَّ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْمَعْنَى فَإِقَالَةٌ وَهُوَ بَيْعٌ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ وَقَعَ عَلَى الْمَبِيعِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَتَحَوَّلُ إِلَى إِقَالَةٍ صَحِيحَةٍ، إِذْ يَشْتَمِلُ الْعَقْدُ عَلَى جَمِيعِ عَنَاصِرِ الْإِقَالَةِ.
وَفِي الْأَشْبَاهِ لِابْنِ نُجَيْمٍ: الِاعْتِبَارُ لِلْمَعْنَى لَا لِلْأَلْفَاظِ، صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوَاضِعَ.
وَفِي دُرَرِ الْحُكَّامِ: الْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي لَا لِلْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي، وَلِذَا يَجْرِي حُكْمُ الرَّهْنِ فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ.
وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّ مَنْ بَاعَ عَقَارًا أَوْ غَيْرَهُ وَشَرَطَ عَلَى الْمُبْتَاعِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ وَلَا يَهَبَهُ حَتَّى يُعْطِيَهُ الثَّمَنَ فَلَا بَأْسَ بِهَذَا، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ إِذَا كَانَ إِعْطَاءُ الثَّمَنِ لِأَجَلٍ مُسَمًّى.
وَهَكَذَا يَجْرِي حُكْمُ تَحَوُّلِ الْبَيْعِ الْبَاطِلِ إِلَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ ضِمْنَ الْقَاعِدَةِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
25-موسوعة الفقه الكويتية (تعزير 2)
تَعْزِيرٌ -2مِقْدَارُ الْجَلْدِ فِي التَّعْزِيرِ:
15- مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ التَّعْزِيرَ لَا يَبْلُغُ الْحَدَّ، لِحَدِيثِ: «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ» وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي أَقْصَى الْجَلْدِ فِي التَّعْزِيرِ:
فَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ سَوْطًا بِالْقَذْفِ وَالشُّرْبِ، أَخْذًا عَنِ الشَّعْبِيِّ، إِذْ صَرَفَ كَلِمَةَ الْحَدِّ فِي الْحَدِيثِ إِلَى حَدِّ الْأَرِقَّاءِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ.وَأَبُو يُوسُفَ قَالَ بِذَلِكَ أَوَّلاً، ثُمَّ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى اعْتِبَارِ أَقَلِّ حُدُودِ الْأَحْرَارِ وَهُوَ ثَمَانُونَ جَلْدَةً.
وَجْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَّ الْحَدِيثَ ذَكَرَ حَدًّا مُنَكَّرًا، وَأَرْبَعُونَ جَلْدَةً حَدٌّ كَامِلٌ فِي الْأَرِقَّاءِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْقَذْفِ وَالشُّرْبِ، فَيَنْصَرِفُ إِلَى الْأَقَلِّ.وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَمَدَ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِنْسَانِ الْحُرِّيَّةُ، وَحَدُّ الْعَبْدِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ، فَلَيْسَ حَدًّا كَامِلاً، وَمُطْلَقُ الِاسْمِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْكَامِلِ فِي كُلِّ بَابٍ.
وَفِي عَدَدِ الْجَلَدَاتِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ التَّعْزِيرَ يَصِلُ إِلَى تِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ سَوْطًا، وَهِيَ رِوَايَةُ هِشَامٍ عَنْهُ، وَقَدْ أَخَذَ بِذَلِكَ زُفَرُ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَهُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ حَدًّا فَيَكُونُ مِنْ أَفْرَادِ الْمَسْكُوتِ عَنِ النَّهْيِ عَنْهُ فِي حَدِيثِ: «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ...»
وَالثَّانِيَةُ: وَهِيَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ التَّعْزِيرَ لَا يَزِيدُ عَلَى خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ سَوْطًا، وَرُوِيَ ذَلِكَ أَثَرًا عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه-، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَيْضًا، وَأَنَّهُمَا قَالَا: فِي التَّعْزِيرِ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ.وَأَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَخَذَ بِقَوْلِهِمَا فِي نُقْصَانِ الْخَمْسَةِ، وَاعْتُبِرَ عَمَلُهُمَا أَدْنَى الْحُدُودِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَالَ الْمَازِرِيُّ: إِنَّ تَحْدِيدَ الْعُقُوبَةِ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، وَقَالَ: إِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ يُجِيزُ فِي الْعُقُوبَاتِ فَوْقَ الْحَدِّ.وَحُكِيَ عَنْ أَشْهَبَ: أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهُ قَدْ يُزَادُ عَلَى الْحَدِّ.وَعَلَى ذَلِكَ فَالرَّاجِحُ لَدَى الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْإِمَامَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ التَّعْزِيرَ عَنِ الْحَدِّ، مَعَ مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي لَا يَشُوبُهَا الْهَوَى.
وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ: فِعْلُ عُمَرَ فِي مَعْنِ بْنِ زِيَادٍ لَمَّا زَوَّرَ كِتَابًا عَلَى عُمَرَ وَأَخَذَ بِهِ مِنْ صَاحِبِ بَيْتِ الْمَالِ مَالاً، إِذْ جَلَدَهُ مِائَةً، ثُمَّ مِائَةً أُخْرَى، ثُمَّ ثَالِثَةً، وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إِجْمَاعًا، كَمَا أَنَّهُ ضَرَبَ صَبِيغَ بْنَ عِسْلٍ أَكْثَرَ مِنَ الْحَدِّ.وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- أُتِيَ بِالنَّجَاشِيِّ قَدْ شَرِبَ خَمْرًا فِي رَمَضَانَ فَجَلَدَهُ ثَمَانِينَ (الْحَدَّ) وَعِشْرِينَ سَوْطًا، لِفِطْرِهِ فِي رَمَضَانَ.
كَمَا رُوِيَ: أَنَّ أَبَا الْأَسْوَدِ اسْتَخْلَفَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- عَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ فَأُتِيَ بِسَارِقٍ قَدْ جَمَعَ الْمَتَاعَ فِي الْبَيْتِ وَلَمْ يُخْرِجْهُ، فَضَرَبَهُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ سَوْطًا وَخَلَّى سَبِيلَهُ.وَقَالُوا فِي حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ- رضي الله عنه-: «لَا يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» إِنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى زَمَنِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَكْفِي الْجَانِيَ مِنْهُمْ هَذَا الْقَدْرُ، وَتَأَوَّلُوهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فِي حَدٍّ، أَيْ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَعَاصِي الْمُقَدَّرِ حُدُودُهَا لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ التَّعْزِيرَ إِنْ كَانَ بِالْجَلْدِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَنْقُصَ عَنْ أَقَلِّ حُدُودِ مَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ، فَيَنْقُصُ فِي الْعَبْدِ عَنْ عِشْرِينَ، وَفِي الْحُرِّ عَنْ أَرْبَعِينَ، وَهُوَ حَدُّ الْخَمْرِ عِنْدَهُمْ، وَقِيلَ بِوُجُوبِ النَّقْصِ فِيهِمَا عَنْ عِشْرِينَ، لِحَدِيثِ: «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ» وَيَسْتَوِي فِي النَّقْصِ عَمَّا ذُكِرَ جَمِيعُ الْجَرَائِمِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ.وَقِيلَ بِقِيَاسِ كُلِّ جَرِيمَةٍ بِمَا يَلِيقُ بِهَا مِمَّا فِيهِ أَوْ فِي جِنْسِهِ حَدٌّ، فَيَنْقُصُ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ تَعْزِيرُ مُقَدِّمَةِ الزِّنَى عَنْ حَدِّهِ، وَإِنْ زَادَ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ، وَتَعْزِيرُ السَّبِّ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ، وَإِنْ زَادَ عَلَى حَدِّ الشُّرْبِ.وَقِيلَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَزِيدُ فِي أَكْثَرِ الْجَلْدِ فِي التَّعْزِيرِ عَنْ عَشْرِ جَلَدَاتٍ أَخْذًا بِحَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ: «لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» لِمَا اشْتَهَرَ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي، وَقَدْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي قَدْرِ جَلْدِ التَّعْزِيرِ، فَرُوِيَ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ الْحَدَّ.وَقَدْ ذَكَرَ الْخِرَقِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَالْمَقْصُودُ بِمُقْتَضَاهَا: أَنَّهُ لَا يُبْلَغُ بِالتَّعْزِيرِ أَدْنَى حَدٍّ مَشْرُوعٍ، فَلَا يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ أَرْبَعِينَ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ حَدُّ الْعَبْدِ فِي الْخَمْرِ وَالْقَذْفِ، وَلَا يُجَاوِزُ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ سَوْطًا فِي الْحُرِّ، وَلَا تِسْعَةَ عَشَرَ فِي الْعَبْدِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ حَدَّ الْخَمْرِ أَرْبَعُونَ سَوْطًا.
وَنَصُّ مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَنْ لَا يُزَادَ عَلَى عَشْرِ جَلَدَاتٍ فِي التَّعْزِيرِ، لِلْأَثَرِ: «لَا يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلاَّ فِي حَدٍّ...» إِلاَّ مَا وَرَدَ مِنَ الْآثَارِ مُخَصِّصًا لِهَذَا الْحَدِيثِ، كَوَطْءِ جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ بِإِذْنِهَا، وَوَطْءِ جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ الْمَرْوِيِّ عَنْ عُمَرَ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ: أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ التَّعْزِيرُ فِي كُلِّ جَرِيمَةٍ حَدًّا مَشْرُوعًا فِي جِنْسِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى حَدٍّ غَيْرِ جِنْسِهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا.وَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ- رضي الله عنهما- فِيمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ بِإِذْنِهَا: أَنَّهُ يُجْلَدُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَهَذَا تَعْزِيرٌ؛ لِأَنَّ عِقَابَ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ لِلْمُحْصَنِ الرَّجْمُ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- فِي الرَّجُلِ الَّذِي وَطِئَ أَمَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَآخَرَ: أَنَّهُ يُجْلَدُ الْحَدَّ إِلاَّ سَوْطًا وَاحِدًا، وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَحْمَدُ.
وَقَدْ زَادَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ رَأْيًا رَابِعًا: هُوَ أَنَّ التَّعْزِيرَ يَكُونُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَعَلَى قَدْرِ الْجَرِيمَةِ، فَيَجْتَهِدُ فِيهِ وَلِيُّ الْأَمْرِ عَلَى أَلاَّ يَبْلُغَ التَّعْزِيرُ فِيمَا فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ ذَلِكَ الْمُقَدَّرَ، فَالتَّعْزِيرُ عَلَى سَرِقَةِ مَا دُونَ النِّصَابِ مَثَلاً لَا يُبْلَغُ بِهِ الْقَطْعَ، وَقَالَا: إِنَّ هَذَا هُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ، وَإِنَّ السُّنَّةَ دَلَّتْ عَلَيْهِ، كَمَا مَرَّ فِي ضَرْبِ الَّذِي أَحَلَّتْ لَهُ امْرَأَتُهُ جَارِيَتَهَا مِائَةً لَا الْحَدَّ وَهُوَ الرَّجْمُ، كَمَا أَنَّ عَلِيًّا وَعُمَرَ- رضي الله عنهما- ضَرَبَا رَجُلاً وَامْرَأَةً وُجِدَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ مِائَةً مِائَةً، وَحَكَمَ عُمَرُ- رضي الله عنه- فِيمَنْ قَلَّدَ خَاتَمَ بَيْتِ الْمَالِ بِضَرْبِهِ ثَلَاثَمِائَةٍ عَلَى مَرَّاتٍ، وَضَرَبَ صَبِيغَ بْنَ عِسْلٍ لِلْبِدْعَةِ ضَرْبًا كَثِيرًا لَمْ يَعُدُّهُ.
وَخُلَاصَةُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ فِيهِ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ التَّعْزِيرَ لَا يَزِيدُ عَلَى عَشْرِ جَلَدَاتٍ، وَمَنْ يَقُولُ: بِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى أَقَلِّ الْحُدُودِ، وَمَنْ يَقُولُ: بِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُ فِي جَرِيمَةٍ قَدْرَ الْحَدِّ فِيهَا، وَهُنَاكَ مَنْ يَقُولُ: بِأَنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَكُونُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَعَلَى قَدْرِ الْجَرِيمَةِ، فِيمَا لَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ.وَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمُ التَّحْدِيدُ سَوَاءٌ أَكَانَ بِعَشْرِ جَلَدَاتٍ أَمْ بِأَقَلَّ مِنْ أَدْنَى الْحُدُودِ أَمْ بِأَقَلَّ مِنَ الْحَدِّ الْمُقَرَّرِ لِجِنْسِ الْجَرِيمَةِ.
وَمَا ذُكِرَ هُوَ عَنِ الْحَدِّ الْأَعْلَى، أَمَّا عَنِ الْحَدِّ الْأَدْنَى فَقَدْ قَالَ الْقُدُورِيُّ: إِنَّهُ ثَلَاثُ جَلَدَاتٍ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَدَدَ أَقَلُّ مَا يَقَعُ بِهِ الزَّجْرُ.وَلَكِنَّ غَالِبِيَّةَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي أَقَلِّ جَلْدِ التَّعْزِيرِ مَرْجِعُهُ الْحَاكِمُ، بِقَدْرِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَكْفِي لِلزَّجْرِ.
وَقَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: إِنَّ اخْتِيَارَ التَّعْزِيرِ إِلَى الْقَاضِي مِنْ وَاحِدٍ إِلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ، وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ تَصْرِيحُ ابْنِ قُدَامَةَ، فَقَدْ قَالَ: إِنَّ أَقَلَّ التَّعْزِيرِ لَيْسَ مُقَدَّرًا فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ أَوِ الْحَاكِمِ فِيمَا يَرَاهُ وَمَا تَقْتَضِيهِ حَالُ الشَّخْصِ.
ج- التَّعْزِيرُ بِالْحَبْسِ:
16- الْحَبْسُ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}.فَقَدْ قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: إِنَّ الْمَقْصُودَ بِالنَّفْيِ هُنَا الْحَبْسُ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ ثَبَتَ: «أَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- حَبَسَ بِالْمَدِينَةِ أُنَاسًا فِي تُهْمَةِ دَمٍ، وَحَكَمَ بِالضَّرْبِ وَالسَّجْنِ، وَأَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ أَمْسَكَ رَجُلاً لآِخَرَ حَتَّى قَتَلَهُ: اقْتُلُوا الْقَاتِلَ، وَاصْبِرُوا الصَّابِرَ».وَفُسِّرَتْ عِبَارَةُ «اصْبِرُوا الصَّابِرَ» بِحَبْسِهِ حَتَّى الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ حَبَسَ الْمَقْتُولَ لِلْمَوْتِ بِإِمْسَاكِهِ إِيَّاهُ.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ- رضي الله عنهم-، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، عَلَى الْمُعَاقَبَةِ بِالْحَبْسِ.وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَبْسَ يَصْلُحُ عُقُوبَةً فِي التَّعْزِيرِ.وَمِمَّا جَاءَ فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- سَجَنَ الْحُطَيْئَةَ عَلَى الْهَجْوِ، وَسَجَنَ صَبِيغًا عَلَى سُؤَالِهِ عَنِ الذَّارِيَاتِ، وَالْمُرْسَلَاتِ، وَالنَّازِعَاتِ، وَشِبْهِهِ، وَأَنَّ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- سَجَنَ ضَابِئَ بْنَ الْحَارِثِ، وَكَانَ مِنْ لُصُوصِ بَنِي تَمِيمٍ وَفُتَّاكِهِمْ، وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- سَجَنَ بِالْكُوفَةِ.وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ- رضي الله عنه- سَجَنَ بِمَكَّةَ، وَسَجَنَ فِي «دَارِمٍ» مُحَمَّدَ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ لَمَّا امْتَنَعَ عَنْ بَيْعَتِهِ. مُدَّةُ الْحَبْسِ فِي التَّعْزِيرِ:
17- الْأَصْلُ أَنَّ تَقْدِيرَ مُدَّةِ الْحَبْسِ يَرْجِعُ إِلَى الْحَاكِمِ، مَعَ مُرَاعَاةِ ظُرُوفِ الشَّخْصِ، وَالْجَرِيمَةِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ.
وَقَدْ أَشَارَ الزَّيْلَعِيُّ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ لِلْحَبْسِ مُدَّةٌ مُقَدَّرَةٌ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّ الْحَبْسَ تَعْزِيرًا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُجْرِمِ، وَبِاخْتِلَافِ الْجَرِيمَةِ، فَمِنَ الْجَانِينَ مَنْ يُحْبَسُ يَوْمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْبَسُ أَكْثَرُ، إِلَى غَايَةٍ غَيْرِ مُقَدَّرَةٍ.
لَكِنَّ الشِّرْبِينِيَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، ذَكَرَ أَنَّ شَرْطَ الْحَبْسِ: النَّقْصُ عَنْ سَنَةٍ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَصَرَّحَ بِهِ مُعْظَمُ الْأَصْحَابِ.
وَأَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ فِي تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ.
د- التَّعْزِيرُ بِالنَّفْيِ (التَّغْرِيب):
مَشْرُوعِيَّةُ التَّعْزِيرِ بِالنَّفْيِ:
18- التَّعْزِيرُ بِالنَّفْيِ مَشْرُوعٌ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَدَلِيلُ مَشْرُوعِيَّتِهِ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} وَمِنْ ثَمَّ فَهُوَ عُقُوبَةٌ مَشْرُوعَةٌ فِي الْحُدُودِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: «فَإِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى بِالنَّفْيِ تَعْزِيرًا فِي الْمُخَنَّثِينَ، إِذْ نَفَاهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ».
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَإِنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- نَفَى نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ لِافْتِتَانِ النِّسَاءِ بِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ.
وَيَجُوزُ كَوْنُ التَّغْرِيبِ لِأَكْثَرَ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، لِأَنَّ عُمَرَ غَرَّبَ مِنَ الْمَدِينَةِ نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَنَفَى عُثْمَانُ- رضي الله عنه- إِلَى مِصْرَ، وَنَفَى عَلِيٌّ- رضي الله عنه- إِلَى الْبَصْرَةِ.وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ التَّغْرِيبُ لِبَلَدٍ مُعَيَّنٍ، فَلَا يُرْسِلُ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ بِهِ إِرْسَالاً، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ غَيْرَ الْبَلَدِ الْمُعَيَّنِ لِإِبْعَادِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَغْرِيبُ الْجَانِي لِبَلَدِهِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيُّ: أَنْ لَا تَقِلَّ الْمَسَافَةُ بَيْنَ بَلَدِ الْجَانِي وَالْبَلَدِ الْمُغَرَّبِ إِلَيْهِ عَنْ مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ.وَيَرَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى: أَنْ يُنْفَى الْجَانِي إِلَى بَلَدٍ غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي ارْتُكِبَتْ فِيهِ الْجَرِيمَةُ بِحَيْثُ تَكُونُ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الْبَلَدِ الَّذِي يُنْفَى إِلَيْهِ وَبَلَدِ الْجَرِيمَةِ، دُونَ مَسِيرَةِ سَفَرٍ.
مُدَّةُ التَّغْرِيبِ:
19- لَا يَعْتَبِرُ أَبُو حَنِيفَةَ التَّغْرِيبَ فِي الزِّنَى حَدًّا، بَلْ يَعْتَبِرُهُ مِنَ التَّعْزِيرِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّهُ يُجِيزُ أَنْ يَزِيدَ مِنْ حَيْثُ الْمُدَّةُ عَنْ سَنَةٍ.
وَيَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يَزِيدَ التَّغْرِيبُ فِي التَّعْزِيرِ عَنْ سَنَةٍ، مَعَ أَنَّ التَّغْرِيبَ عِنْدَهُ فِي الزِّنَى حَدٌّ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ بِنَسْخِ حَدِيثِ: «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ».وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّعْزِيرِ عَنِ الْحَدِّ، مَعَ مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ غَيْرِ الْمَشُوبَةِ بِالْهَوَى.
وَعَلَى ذَلِكَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ.وَيَرَى الْبَعْضُ الْآخَرُ مِنْهُمْ: أَنَّ مُدَّةَ التَّغْرِيبِ فِي التَّعْزِيرِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَصِلَ إِلَى سَنَةٍ، لِأَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ التَّغْرِيبَ فِي جَرِيمَةِ الزِّنَى حَدًّا، وَإِذَا كَانَتْ مُدَّتُهُ فِيهَا عَامًا فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ فِي التَّعْزِيرِ أَنْ يَصِلَ التَّغْرِيبُ لِعَامٍ، لِحَدِيثِ: «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ».وَتَفْصِيلُهُ فِي (نَفْيٌ). هـ- التَّعْزِيرُ بِالْمَالِ:
مَشْرُوعِيَّةُ التَّعْزِيرِ بِالْمَالِ:
20- الْأَصْلُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ التَّعْزِيرَ بِأَخْذِ الْمَالِ غَيْرُ جَائِزٍ، فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ لَا يُجِيزَانِهِ بَلْ إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي كِتَابٍ مِنْ كُتُبِهِ.أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ: أَنَّ التَّعْزِيرَ بِأَخْذِ الْمَالِ مِنَ الْجَانِي جَائِزٌ إِنْ رُئِيَتْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ.
وَقَالَ الشبراملسي: وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْجَدِيدِ بِأَخْذِ الْمَالِ.يَعْنِي لَا يَجُوزُ التَّعْزِيرُ بِأَخْذِ الْمَالِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدِ وَفِي الْمَذْهَبِ الْقَدِيمِ: يَجُوزُ.
أَمَّا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: التَّعْزِيرُ بِأَخْذِ الْمَالِ قَالَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ.وَقَدْ ذَكَرَ مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةً يُعَزَّرُ فِيهَا بِالْمَالِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ اللَّبَنِ الْمَغْشُوشِ أَيُرَاقُ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ يُتَصَدَّقَ بِهِ، إِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي غَشَّهُ.وَقَالَ فِي الزَّعْفَرَانِ وَالْمِسْكِ الْمَغْشُوشِ مِثْلَ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا، وَخَالَفَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْكَثِيرِ، وَقَالَ: يُبَاعُ الْمِسْكُ وَالزَّعْفَرَانُ عَلَى مَا يُغَشُّ بِهِ، وَيَتَصَدَّقُ بِالثَّمَنِ أَدَبًا لِلْغَاشِّ.
وَأَفْتَى ابْنُ الْقَطَّانِ الْأَنْدَلُسِيُّ فِي الْمَلَاحِفِ الرَّدِيئَةِ النَّسْجِ بِأَنْ تُحَرَّقَ.وَأَفْتَى ابْنُ عَتَّابٍ: بِتَقْطِيعِهَا وَالصَّدَقَةِ بِهَا خِرَقًا.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَحْرُمُ التَّعْزِيرُ بِأَخْذِ الْمَالِ أَوْ إِتْلَافِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ.
وَخَالَفَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ، فَقَالَا: إِنَّ التَّعْزِيرَ بِالْمَالِ سَائِغٌ إِتْلَافًا وَأَخْذًا.
وَاسْتَدَلاَّ لِذَلِكَ بِأَقْضِيَةٍ لِلرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- كَإِبَاحَتِهِ سَلْبَ مَنْ يَصْطَادُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ لِمَنْ يَجِدُهُ، وَأَمْرِهِ بِكَسْرِ دِنَانِ الْخَمْرِ، وَشَقِّ ظُرُوفِهَا، وَأَمْرِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- بِحَرْقِ الثَّوْبَيْنِ الْمُعَصْفَرَيْنِ، وَتَضْعِيفِهِ الْغَرَامَةَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، وَسَارِقِ مَا لَا قَطْعَ فِيهِ مِنَ الثَّمَرِ وَالْكَثَرِ وَكَاتِمِ الضَّالَّةِ.
وَمِنْهَا أَقَضِيَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، مِثْلُ أَمْرِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهما- بِتَحْرِيقِ الْمَكَانِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ، وَأَخْذُ شَطْرِ مَالِ مَانِعِ الزَّكَاةِ، وَأَمْرِ عُمَرَ بِتَحْرِيقِ قَصْرِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ- رضي الله عنه- الَّذِي بَنَاهُ حَتَّى يَحْتَجِبَ فِيهِ عَنِ النَّاسِ.وَقَدْ نَفَّذَ هَذَا الْأَمْرَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ- رضي الله عنه- .
أَنْوَاعُ التَّعْزِيرِ بِالْمَالِ
التَّعْزِيرُ بِالْمَالِ يَكُونُ بِحَبْسِهِ أَوْ بِإِتْلَافِهِ، أَوْ بِتَغْيِيرِ صُورَتِهِ، أَوْ بِتَمْلِيكِهِ لِلْغَيْرِ.
أ- حَبْسُ الْمَالِ عَنْ صَاحِبِهِ:
21- وَهُوَ أَنْ يُمْسِكَ الْقَاضِي شَيْئًا مِنْ مَالِ الْجَانِي مُدَّةً زَجْرًا لَهُ، ثُمَّ يُعِيدُهُ لَهُ عِنْدَمَا تَظْهَرُ تَوْبَتُهُ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَخْذُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ مَالِ إِنْسَانٍ بِغَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ يَقْتَضِي ذَلِكَ.وَفَسَّرَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَبُو يَحْيَى الْخُوَارِزْمِيُّ.وَنَظِيرُهُ مَا يُفْعَلُ فِي خُيُولِ الْبُغَاةِ وَسِلَاحِهِمْ، فَإِنَّهَا تُحْبَسُ عَنْهُمْ مُدَّةً وَتُعَادُ إِلَيْهِمْ إِذَا تَابُوا.وَصَوَّبَ هَذَا الرَّأْيَ الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ التُّمُرْتَاشِيُّ الْخُوَارِزْمِيُّ.
أَمَّا إِذَا صَارَ مَيْئُوسًا مِنْ تَوْبَتِهِ، فَإِنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَصْرِفَ هَذَا الْمَالَ فِيمَا يَرَى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ.
ب- الْإِتْلَافُ:
22- قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ الْمُنْكَرَاتِ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالصِّفَاتِ يَجُوزُ إِتْلَافُ مَحَلِّهَا تَبَعًا لَهَا، فَالْأَصْنَامُ صُوَرُهَا مُنْكَرَةٌ، فَيَجُوزُ إِتْلَافُ مَادَّتِهَا، وَآلَاتُ اللَّهْوِ يَجُوزُ إِتْلَافُهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَبِذَلِكَ أَخَذَ مَالِكٌ، وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ.وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا أَوْعِيَةُ الْخَمْرِ، يَجُوزُ تَكْسِيرُهَا وَتَحْرِيقُهَا، وَالْمَحَلُّ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ يَجُوزُ تَحْرِيقُهُ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِفِعْلِ عُمَرَ- رضي الله عنه- فِي تَحْرِيقِ مَحَلٍّ يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ، وَقَضَاءُ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- تَحْرِيقَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَ يُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ، وَلِأَنَّ مَكَانَ الْبَيْعِ كَالْأَوْعِيَةِ.وَقَالَ: إِنَّ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَمَالِكٍ، وَغَيْرِهِمَا.وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا: إِرَاقَةُ عُمَرَ اللَّبَنَ الْمَخْلُوطَ بِالْمَاءِ لِلْبَيْعِ.وَمِنْهُ مَا يَرَاهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ جَوَازِ إِتْلَافِ الْمَغْشُوشَاتِ فِي الصِّنَاعَاتِ، كَالثِّيَابِ رَدِيئَةِ النَّسْجِ، بِتَمْزِيقِهَا وَإِحْرَاقِهَا، وَتَحْرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- لِثَوْبِهِ الْمُعَصْفَرِ بِأَمْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- .
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ هَذَا الْإِتْلَافَ لِلْمَحَلِّ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْمَعْصِيَةُ نَظِيرُهُ إِتْلَافُ الْمَحَلِّ مِنَ الْجِسْمِ الَّذِي وَقَعَتْ بِهِ الْمَعْصِيَةُ، كَقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ.وَهَذَا الْإِتْلَافُ لَيْسَ وَاجِبًا فِي كُلِّ حَالَةٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَحَلِّ مُفْسِدٌ فَإِنَّ إِبْقَاءَهُ جَائِزٌ، إِمَّا لَهُ أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهِ.وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ أَفْتَى فَرِيقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: بِأَنْ يُتَصَدَّقَ بِالطَّعَامِ الْمَغْشُوشِ.وَفِي هَذَا إِتْلَافٌ لَهُ.
وَكَرِهَ فَرِيقٌ الْإِتْلَافَ، وَقَالُوا بِالتَّصَدُّقِ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ فِي الْمَذْهَبِ.وَقَدِ اسْتَحْسَنَ مَالِكٌ التَّصَدُّقَ بِاللَّبَنِ الْمَغْشُوشِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ عِقَابًا لِلْجَانِي بِإِتْلَافِهِ عَلَيْهِ، وَنَفْعًا لِلْمَسَاكِينِ بِالْإِعْطَاءِ لَهُمْ.وَقَالَ مَالِكٌ فِي الزَّعْفَرَانِ وَالْمِسْكِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ فِي اللَّبَنِ إِذَا غَشَّهُمَا الْجَانِي.وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ بِذَلِكَ فِي الْقَلِيلِ مِنْ تِلْكَ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ بِالْمَغْشُوشِ فِي الْكَثِيرِ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ الثَّمِينَةِ تَضِيعُ بِهِ أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ عَلَى أَصْحَابِهَا، فَيُعَزَّرُونَ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ بِعُقُوبَاتٍ أُخْرَى.وَعِنْدَ الْبَعْضِ: أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ.
وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ مَنْعَ الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَأَخَذَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ كُلٌّ مِنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبِ، وَعِنْدَهُمَا: أَنَّ مَنْ غَشَّ أَوْ نَقَصَ مِنَ الْوَزْنِ يُعَاقَبُ بِالضَّرْبِ، وَالْحَبْسِ، وَالْإِخْرَاجِ مِنَ السُّوقِ، وَأَنَّ مَا غُشَّ مِنَ الْخُبْزِ وَاللَّبَنِ، أَوْ غُشَّ مِنَ الْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ لَا يُفَرَّقُ وَلَا يُنْهَبُ.
ج- التَّغْيِيرُ:
23- مِنَ التَّعْزِيرِ بِالتَّغْيِيرِ نَهْيُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ كَسْرِ سِكَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْجَائِزَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ بِهَا بَأْسٌ، فَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ كُسِرَتْ، وَفِعْلُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- فِي التِّمْثَالِ الَّذِي كَانَ فِي بَيْتِهِ وَالسِّتْرِ الَّذِي بِهِ تَمَاثِيلُ إِذْ قَطَعَ رَأْسَ التِّمْثَالِ فَصَارَ كَالشَّجَرَةِ، وَقَطَعَ السِّتْرَ إِلَى وِسَادَتَيْنِ مُنْتَبَذَتَيْنِ يُوطَآنِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: تَفْكِيكُ آلَاتِ اللَّهْوِ، وَتَغْيِيرُ الصُّوَرِ الْمُصَوَّرَةِ.
د- التَّمْلِيكُ:
24- مِنَ التَّعْزِيرِ بِالتَّمْلِيكِ: «قَضَاءُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَنْ سَرَقَ مِنَ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ إِلَى الْجَرِينِ بِجَلَدَاتِ نَكَالٍ، وَغَرِمَ مَا أَخَذَ مَرَّتَيْنِ» وَفِيمَنْ سَرَقَ مِنَ الْمَاشِيَةِ قَبْلَ أَنْ تُؤْوَى إِلَى الْمَرَاحِ بِجَلَدَاتِ نَكَالٍ، وَغَرِمَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ وَقَضَاءِ عُمَرَ- رضي الله عنه- بِتَضْعِيفِ الْغُرْمِ عَلَى كَاتِمِ الضَّالَّةِ، وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ: أَحْمَدُ، وَغَيْرُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ إِضْعَافُ عُمَرَ وَغَيْرِهِ الْغُرْمَ فِي نَاقَةِ أَعْرَابِيٍّ أَخَذَهَا مَمَالِيكُ جِيَاعٌ، إِذْ أَضْعَفَ الْغُرْمَ عَلَى سَيِّدِهِمْ، وَدَرَأَ الْقَطْعَ. أَنْوَاعٌ أُخْرَى مِنَ التَّعْزِيرِ:
هُنَاكَ أَنْوَاعٌ أُخْرَى مِنَ التَّعْزِيرِ غَيْرِ مَا سَبَقَ.مِنْهَا: الْإِعْلَامُ الْمُجَرَّدُ، وَالْإِحْضَارُ لِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَالتَّوْبِيخُ وَالْهَجْرُ.
أ- الْإِعْلَامُ الْمُجَرَّدُ:
25- الْإِعْلَامُ: صُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْقَاضِي لِلْجَانِي: بَلَغَنِي أَنَّك فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا، أَوْ يَبْعَثُ الْقَاضِي أَمِينَهُ لِلْجَانِي، لِيَقُولَ لَهُ ذَلِكَ.وَقَدْ قَيَّدَ الْبَعْضُ الْإِعْلَامَ، بِأَنْ يَكُونَ مَعَ النَّظَرِ بِوَجْهٍ عَابِسٍ.
ب- الْإِحْضَارُ لِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ:
26- قَالَ الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ التَّعْزِيرِ يَكُونُ بِالْإِعْلَامِ، وَالذَّهَابِ إِلَى بَابِ الْقَاضِي، وَالْخِطَابِ بِالْمُوَاجَهَةِ.
وَقَالَ الْبَعْضُ: إِنَّهُ يَكُونُ بِالْإِعْلَامِ، وَالْجَرِّ لِبَابِ الْقَاضِي، وَالْخُصُومَةِ فِيمَا نُسِبَ إِلَى الْجَانِي.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ وَالْإِعْلَامِ الْمُجَرَّدِ: أَنَّ فِي هَذِهِ الْعُقُوبَةِ يُؤْخَذُ الْجَانِي إِلَى الْقَاضِي زِيَادَةً عَنِ الْإِعْلَامِ، وَذَلِكَ لِيُخَاطِبَهُ فِي الْمُوَاجَهَةِ. وَبِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: تَتَمَيَّزُ هَذِهِ عَنِ الْإِعْلَامِ الْمُجَرَّدِ بِالْخُصُومَةِ فِيمَا نُسِبَ إِلَى الْجَانِي.
وَكَثِيرًا مَا يَلْجَأُ الْقَاضِي لِهَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ أَوْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا كَانَ الْجَانِي قَدِ ارْتَكَبَ الْجَرِيمَةَ عَلَى سَبِيلِ الزَّلَّةِ وَالنُّدُورِ ابْتِدَاءً، إِذَا كَانَ ذَلِكَ زَاجِرًا، عَلَى شَرِيطَةِ كَوْنِ الْجَرِيمَةِ غَيْرَ جَسِيمَةٍ.
ج- التَّوْبِيخُ:
مَشْرُوعِيَّةُ التَّوْبِيخِ:
27- التَّعْزِيرُ بِالتَّوْبِيخِ مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، فَقَدْ «رَوَى أَبُو ذَرٍّ- رضي الله عنه-: أَنَّهُ سَابَّ رَجُلاً فَعَيَّرَهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- يَا أَبَا ذَرٍّ، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ».
وَقَالَ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ».وَقَدْ فُسِّرَ النَّيْلُ مِنَ الْعِرْضِ بِأَنْ يُقَالَ لَهُ مَثَلاً: يَا ظَالِمُ، يَا مُعْتَدٍ.وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ التَّعْزِيرِ بِالْقَوْلِ.وَقَدْ جَاءَ فِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ لِابْنِ فَرْحُونَ: وَأَمَّا التَّعْزِيرُ بِالْقَوْلِ فَدَلِيلُهُ مَا ثَبَتَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فَقَالَ: اضْرِبُوهُ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ، وَمِنَّا الضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ».وَفِي رِوَايَةٍ بِإِسْنَادِهِ: «ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِأَصْحَابِهِ بَكِّتُوهُ فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ يَقُولُونَ: مَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ، مَا خَشِيتَ اللَّهَ، مَا اسْتَحْيَيْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ».وَهَذَا التَّبْكِيتُ مِنَ التَّعْزِيرِ بِالْقَوْلِ.
وَقَدْ عَزَّرَ عُمَرُ- رضي الله عنه- بِالتَّوْبِيخِ.فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَنْفَذَ جَيْشًا فَغَنِمُوا غَنَائِمَ، فَلَمَّا رَجَعُوا لَبِسُوا الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ، فَلَمَّا رَآهُمْ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ، وَأَعْرَضَ عَنْهُمْ، فَقَالُوا: أَعْرَضْتَ عَنَّا، فَقَالَ: انْزَعُوا ثِيَابَ أَهْلِ النَّارِ، فَنَزَعُوا مَا كَانُوا يَلْبَسُونَ مِنَ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ.وَذَلِكَ فِيهِ تَعْزِيرٌ لَهُمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، وَفِيهِ تَوْبِيخٌ لَهُمْ.
كَيْفِيَّةُ التَّوْبِيخِ:
28- التَّوْبِيخُ قَدْ يَكُونُ بِإِعْرَاضِ الْقَاضِي عَنِ الْجَانِي، أَوْ بِالنَّظَرِ لَهُ بِوَجْهٍ عَبُوسٍ، وَقَدْ يَكُونُ بِإِقَامَةِ الْجَانِي مِنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْكَلَامِ الْعَنِيفِ، وَيَكُونُ بِزَوَاجِرِ الْكَلَامِ وَغَايَةِ الِاسْتِخْفَافِ، عَلَى شَرِيطَةِ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ قَذْفٌ، وَمَنَعَ الْبَعْضُ مَا فِيهِ السَّبُّ أَيْضًا.
د- الْهَجْرُ:
29- الْهَجْرُ مَعْنَاهُ: مُقَاطَعَةُ الْجَانِي، وَالِامْتِنَاعُ عَنِ الِاتِّصَالِ بِهِ، أَوْ مُعَامَلَتِهِ بِأَيِّ نَوْعٍ، أَوْ أَيَّةِ طَرِيقَةٍ كَانَتْ.
وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِدَلِيلِ قوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} وَقَدْ «هَجَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَصْحَابَهُ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ».وَعَاقَبَ عُمَرُ صَبِيغًا بِالْهَجْرِ لَمَّا نَفَاهُ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَأَمَرَ أَلاَّ يُجَالِسَهُ أَحَدٌ.وَهَذَا مِنْهُ عُقُوبَةٌ بِالْهَجْرِ.
الْجَرَائِمُ الَّتِي شُرِعَ فِيهَا التَّعْزِيرُ:
30- الْجَرَائِمُ الَّتِي شُرِعَ فِيهَا التَّعْزِيرُ قَدْ تَكُونُ مِنْ قَبِيلِ مَا شُرِعَ فِي جِنْسِهِ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ مِنْ حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ، لَكِنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ لَا تُطَبَّقُ؛ لِعَدَمِ تَوَافُرِ شَرَائِطِ تَطْبِيقِهَا، وَمِنْهَا مَا فِيهِ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ لَا تُطَبَّقُ عَلَيْهَا لِمَانِعٍ، كَوُجُودِ شُبْهَةٍ تَسْتَوْجِبُ دَرْءَ الْحَدِّ، أَوْ عَفْوِ صَاحِبِ الْحَقِّ عَنْ طَلَبِهِ.
وَقَدْ تَكُونُ الْجَرَائِمُ التَّعْزِيرِيَّةُ غَيْرَ مَا ذُكِرَ فَيَكُونُ فِيهَا التَّعْزِيرُ أَصْلاً.وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مَا لَا يَدْخُلُ فِي سَابِقِهِ مِنْ جَرَائِمَ.
وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ.
الْجَرَائِمُ الَّتِي يُشْرَعُ فِيهَا التَّعْزِيرُ بَدِيلاً عَنِ الْحُدُودِ:
جَرَائِمُ الِاعْتِدَاءِ عَلَى النَّفْسِ، وَمَا دُونَهَا:
31- يَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ: الْكَلَامُ فِي جَرَائِمِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى النَّفْسِ، وَهِيَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا إِزْهَاقُ الرُّوحِ، وَالْكَلَامُ فِي جَرَائِمِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ وَهِيَ الَّتِي تَقَعُ عَلَى الْبَدَنِ دُونَ أَنْ تُؤَدِّيَ لِإِزْهَاقِ الرُّوحِ:
جَرَائِمُ الْقَتْلِ (الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ):
الْقَتْلُ الْعَمْدُ:
32- الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ مُوجِبُهُ الْقِصَاصُ، وَيَجِبُ لِذَلِكَ تَوَافُرُ شُرُوطٍ، أَهَمُّهَا: كَوْنُ الْقَاتِلِ قَدْ تَعَمَّدَ تَعَمُّدًا مَحْضًا لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَكَوْنُهُ مُخْتَارًا، وَمُبَاشِرًا لِلْقَتْلِ، وَأَلاَّ يَكُونَ الْمَقْتُولُ جُزْءَ الْقَاتِلِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْصُومَ الدَّمِ مُطْلَقًا.وَفَضْلاً عَنْ ذَلِكَ يَجِبُ لِلْقِصَاصِ: أَنْ يُطْلَبَ مِنْ وَلِيِّ الدَّمِ.
فَإِذَا اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ امْتَنَعَ الْقِصَاصُ، وَفِيهِ التَّعْزِيرُ.
وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (قَتْلٌ- قِصَاصٌ).
الْقَتْلُ شِبْهُ الْعَمْدِ:
33- قَالَ الْبُهُوتِيُّ، نَقْلاً عَنِ (الْمُبْدِعِ): قَدْ يُقَالُ بِوُجُوبِ التَّعْزِيرِ فِي الْقَتْلِ شِبْهِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَتْ لِأَجْلِ الْفِعْلِ، بَلْ بَدَلُ النَّفْسِ الْفَائِتَةِ، فَأَمَّا نَفْسُ الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ- الَّذِي هُوَ الْجِنَايَةُ- فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ. 34- وَمِنَ الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ مَا لَا قِصَاصَ فِيهِ عِنْدَهُمْ كَالْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ (وَهُوَ الْقَتْلُ بِمِثْلِ الْحَجَرِ الْكَبِيرِ أَوِ الْخَشَبَةِ الْعَظِيمَةِ) يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَزِّرَ فِيهِ بِمَا يَصِلُ لِلْقَتْلِ، إِذَا تَكَرَّرَ ارْتِكَابُهُ، مَا دَامَتْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ.وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالُوا بِالتَّعْزِيرِ بِالْقَتْلِ لِمَنْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ الْخَنْقُ، أَوِ التَّغْرِيقُ، أَوِ الْإِلْقَاءُ مِنْ مَكَان مُرْتَفِعٍ، إِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ فَسَادُهُ إِلاَّ بِالْقَتْلِ.
الِاعْتِدَاءُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ:
35- إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ عَمْدًا فَيُشْتَرَطُ لِلْقِصَاصِ فَضْلاً عَنْ شُرُوطِهِ فِي النَّفْسِ: الْمُمَاثَلَةُ، وَإِمْكَانُ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ.
وَيَرَى مَالِكٌ التَّعْزِيرَ أَيْضًا فِي الْجِنَايَةِ الْعَمْدَ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، إِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ، أَوِ امْتَنَعَ لِسَبَبٍ أَوْ لآِخَرَ، فَيَكُونُ فِي الْجَرِيمَةِ التَّعْزِيرُ مَعَ الدِّيَةِ، أَوِ الْأَرْشُ، أَوْ بِدُونِهِ، تَبَعًا لِلْأَحْوَالِ.وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ عَلَى عَظْمٍ خَطَرٍ.إِذِ الْعِظَامُ الْخَطِرَةُ لَا قِصَاصَ فِيهَا عِنْدَهُ، مِثْلُ عِظَامِ الصُّلْبِ، وَالْفَخِذِ، وَالْعُنُقِ، وَمِثْلُ الْمُنَقِّلَةِ، وَالْمَأْمُومَةِ، وَيُقَالُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْجَائِفَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ فِيهَا الْقِصَاصُ وَفِي كُلِّ مَا ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهُ بِالْجِنَايَةِ مَعَ بَقَائِهِ قَائِمًا فِي الْجِسْمِ، وَبَقَاءِ جَمَالِهِ، فَإِذَا ضَرَبَهُ عَلَى عَيْنِهِ فَذَهَبَ بَصَرُهَا، وَبَقِيَ جَمَالُهَا فَلَا قَوَدَ فِيهَا.وَمِثْلُ ذَلِكَ الْيَدِ إِذَا شُلَّتْ وَلَمْ تَبِنْ عَنِ الْجِسْمِ، فَفِي هَذِهِ وَمَا يُمَاثِلُهَا يُعَزَّرُ الْجَانِي مَعَ أَخْذِ الْعَقْلِ مِنْهُ (أَيِ الدِّيَةِ).
وَإِذَا لَمْ يَتْرُكِ الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْجِسْمِ أَثَرًا: فَأَغْلَبُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ التَّعْزِيرَ، لَا الْقِصَاصَ.وَلَدَى بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ الْقِصَاصُ فِي ضَرْبَةِ السَّوْطِ، وَلَوْ لَمْ يُحْدِثْ جُرْحًا وَلَا شَجَّةً، مَعَ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عِنْدَهُمْ فِي اللَّطْمَةِ، وَضَرْبَةِ الْعَصَا، إِلاَّ إِذَا خَلَّفَتْ جُرْحًا أَوْ شَجَّةً.وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ ضَرْبَةَ السَّوْطِ فِي ذَلِكَ كَاللَّطْمَةِ فِيهِ الْأَدَبُ، وَنَقَلَ ذَلِكَ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ أَشْهَبَ.
وَيَرَى ابْنُ الْقَيِّمِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: الْقِصَاصَ فِي اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ.
الزِّنَى الَّذِي لَا حَدَّ فِيهِ، وَمُقَدِّمَاتُهُ:
36- الزِّنَى إِذَا تَوَافَرَتِ الشَّرَائِطُ الشَّرْعِيَّةُ لِثُبُوتِهِ فَإِنَّ فِيهِ حَدَّ الزِّنَى، أَمَّا إِذَا لَمْ يُطَبَّقِ الْحَدُّ الْمُقَدَّرُ لِوُجُودِ شُبْهَةٍ أَوْ لِعَدَمِ تَوَافُرِ شَرِيطَةٍ مِنَ الشَّرَائِطِ الشَّرْعِيَّةِ لِثُبُوتِ الْحَدِّ، فَإِنَّ الْفِعْلَ يَكُونُ جَرِيمَةً شُرِعَ الْحُكْمُ فِيهَا- أَوْ فِي جِنْسِهَا- لَكِنَّهُ لَمْ يُطَبَّقْ.وَكُلُّ جَرِيمَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا قِصَاصَ فَفِيهَا التَّعْزِيرُ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ، سَوَاءٌ كَانَتْ شُبْهَةَ فِعْلٍ أَوْ شُبْهَةَ مِلْكٍ، أَوْ شُبْهَةَ عَقْدٍ، فَإِنَّ الْحَدَّ لَا يُطَبَّقُ.لَكِنَّ الْجَانِيَ يُعَزَّرُ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً لَيْسَتْ فِيهَا عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ.
وَتُعْرَفُ الشُّبْهَةُ بِأَنَّهَا: مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ.أَوْ: هِيَ وُجُودُ الْمُبِيحِ صُورَةً، مَعَ عَدَمِ حُكْمِهِ أَوْ حَقِيقَتِهِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (اشْتِبَاهٌ).
وَإِذَا كَانَتِ الْمَزْنِيُّ بِهَا مَيِّتَةً فَفِي هَذَا الْفِعْلِ التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ زِنًى، إِذْ حَيَاةُ الْمَزْنِيِّ بِهَا شَرِيطَةٌ فِي الْحَدِّ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْفِعْلُ مِنْ رَجُلٍ فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ، بَلِ التَّعْزِيرُ، وَمِنْ ذَلِكَ: الْمُسَاحَقَةُ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْفِعْلُ فِي قُبُلِ امْرَأَةٍ فَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى عَدَمِ الْحَدِّ، لَكِنَّ فِيهِ التَّعْزِيرَ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ فِي الدُّبُرِ.وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ.وَالْقَوْلُ بِالْقَتْلِ عَلَى كُلِّ حَالٍ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ زِنًى، وَفِيهِ الْحَدُّ.
وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ اللِّوَاطَ زِنًى، وَفِيهِ حَدُّ الزِّنَى.وَمِنْ هَؤُلَاءِ: مَالِكٌ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ لَدَى الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ رَأْيُ أَبِي يُوسُفَ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ.وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ فِيهِ حَدَّ الزِّنَى: وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ فِي زَوْجَةِ الْفَاعِلِ فَلَا حَدَّ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ.وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ.
وَمِمَّا يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ فِي هَذَا الْمَجَالِ كُلُّ مَا دُونَ الْوِقَاعِ مِنْ أَفْعَالٍ، كَالْوَطْءِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُسْلِمُ، وَالْكَافِرُ، وَالْمُحْصَنُ، وَغَيْرُهُ.وَمِنْهُ أَيْضًا: إِصَابَةُ كُلِّ مُحَرَّمٍ مِنَ الْمَرْأَةِ غَيْرِ الْجِمَاعِ.وَعِنَاقُ الْأَجْنَبِيَّةِ، أَمْ تَقْبِيلُهَا.
وَمِمَّا فِيهِ التَّعْزِيرُ كَذَلِكَ: كَشْفُ الْعَوْرَةِ لآِخَرَ، وَخِدَاعُ النِّسَاءِ، وَالْقَوَادَةُ، وَهِيَ: الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِلزِّنَى، وَبَيْنَ الرِّجَالِ وَالرِّجَالِ لِلِّوَاطِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
26-موسوعة الفقه الكويتية (تمتع)
تَمَتُّعٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّمَتُّعُ فِي اللُّغَةِ: الِانْتِفَاعُ، وَالْمَتَاعُ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَمَا يُتَبَلَّغُ بِهِ مِنَ الزَّادِ.
وَالْمُتْعَةُ اسْمٌ مِنَ التَّمَتُّعِ، وَمِنْهُ مُتْعَةُ الْحَجِّ وَمُتْعَةُ الطَّلَاقِ، وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ يُطْلَقُ التَّمَتُّعُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
أَوَّلًا: بِمَعْنَى مُتْعَةِ النِّكَاحِ وَهُوَ الْعَقْدُ عَلَى امْرَأَةٍ إِلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ أَوْ مَجْهُولَةٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ مَقَاصِدُ النِّكَاحِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (مُتْعَةٌ).
وَثَانِيًا: بِمَعْنَى الْمُتْعَةِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَفْعَلَ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ أَوْ أَكْثَرَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَأَنْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ إِلْمَامًا صَحِيحًا- وَالْإِلْمَامُ الصَّحِيحُ النُّزُولُ فِي وَطَنِهِ مِنْ غَيْرِ بَقَاءِ صِفَةِ الْإِحْرَامِ- وَيُحْرِمُ لِلْحَجِّ مِنَ الْحَرَمِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ وَيُتَمِّمَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ يَحُجَّ بَعْدَهَا فِي عَامِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَفْرُغَ مِنْهَا، ثُمَّ يُنْشِئَ حَجًّا مِنْ عَامِهِ دُونَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمِيقَاتِ لِلْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ هُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ عَامِهِ مِنْ مَكَّةَ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهَا.
وَسُمِّيَ مُتَمَتِّعًا لِتَمَتُّعِهِ بَعْدَ تَمَامِ عُمْرَتِهِ بِالنِّسَاءِ وَالطِّيبِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ؛ وَلِتَرَفُّقِهِ وَتَرَفُّهِهِ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ.
هَذَا هُوَ مَعْنَى التَّمَتُّعِ الَّذِي يُقَابِلُ الْقِرَانَ وَالْإِفْرَادَ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْإِفْرَادُ:
2- الْإِفْرَادُ فِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ، وَيُحْرِمَ بِهِ مُنْفَرِدًا.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِفْرادٌ).
ب- الْقِرَانُ:
3- الْقِرَانُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ قَرَنَ بِمَعْنَى جَمَعَ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ، أَوْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ يُدْخِلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ عَلَى خِلَافٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِرَانٌ)
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ التَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ:
4- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: الْإِفْرَادُ أَفْضَلُ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ وَعَائِشَةَ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَفْرَدَ الْحَجَّ».
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ- وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِذَا سَاقَ الْهَدْيَ- لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَإِتْمَامُهُمَا أَنْ يُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ؛ وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- حَجَّ قَارِنًا».وَلِحَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا»،، وَلِأَنَّ الْقَارِنَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ بِامْتِدَادِ إِحْرَامِهِمَا، وَالْمَشَقَّةُ فِيهِ أَكْثَرُ، فَيَكُونُ الثَّوَابُ فِي الْقِرَانِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ- بِأَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ إِذَا لَمْ يَسُقْ هَدْيًا، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ اخْتِيَارُ التَّمَتُّعِ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَعَائِشَةُ وَكَثِيرٌ مِنَ التَّابِعِينَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ أَصْحَابَهُ لَمَّا طَافُوا بِالْبَيْتِ أَنْ يُحِلُّوا وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً».فَنَقْلُ النَّبِيِّ إِيَّاهُمْ مِنَ الْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ إِلَى التَّمَتُّعِ يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ التَّمَتُّعِ.
أَرْكَانُ التَّمَتُّعِ:
5- التَّمَتُّعُ جَمْعٌ بَيْنَ نُسُكَيِ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ بِإِحْرَامَيْنِ: إِحْرَامٍ مِنَ الْمِيقَاتِ لِلْعُمْرَةِ، وَإِحْرَامٍ مِنْ مَكَّةَ لِلْحَجِّ؛ وَلِذَلِكَ فَأَرْكَانُ التَّمَتُّعِ هِيَ أَرْكَانُ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ لِلْعُمْرَةِ، ثُمَّ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لِلْحَجِّ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِأَرْكَانِ وَأَعْمَالِ الْحَجِّ كَالْمُفْرِدِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجٌّ).
وَهُنَاكَ شُرُوطٌ خَاصَّةٌ لِلتَّمَتُّعِ ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ كَمَا يَأْتِي: شُرُوطُ التَّمَتُّعِ:
أ- تَقْدِيمُ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ:
6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يُشْتَرَطُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، وَيَأْتِيَ بِأَعْمَالِهَا قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا مِنَ الْمِيقَاتِ أَوْ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي أَعْمَالِهِمَا يُصْبِحُ قَارِنًا.إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: إِذَا طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ صَحَّ تَمَتُّعُهُ.
ب- أَنْ تَكُونَ الْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ:
7- يُشْتَرَطُ لِلْمُتَمَتِّعِ أَنْ تَكُونَ عُمْرَتُهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِنِ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَلَّ مِنْهَا قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا.
وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ أَعْطَوُا الْأَكْثَرَ حُكْمَ الْكُلِّ فَقَالُوا: لَوْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ يُعْتَبَرُ مُتَمَتِّعًا وَإِنْ وَقَعَ الْإِحْرَامُ وَالْأَشْوَاطُ الثَّلَاثَةُ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِعْلُ بَعْضِ رُكْنِ الْعُمْرَةِ وَلَوْ شَوْطًا مِنَ السَّعْيِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ.فَمَنْ أَدَّى شَوْطًا مِنَ السَّعْيِ وَحَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ،
وَإِنْ حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ- فَاشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ وَأَعْمَالِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِهَا فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، وَإِنْ وَقَعَتْ أَفْعَالُهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْإِحْرَامِ- وَهُوَ نُسُكٌ لَا تَتِمُّ الْعُمْرَةُ إِلاَّ بِهِ- فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا كَمَا لَوْ طَافَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ.
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَتَى بِأَفْعَالِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ؛ لِأَنَّ عُمْرَتَهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يَطُوفُ فِيهِ، وَاسْتِدَامَةُ الْإِحْرَامِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَائِهِ فِيهَا.
ج- كَوْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي عَامٍ وَاحِدٍ:
8- يُشْتَرَطُ فِي التَّمَتُّعِ أَنْ تُؤَدَّى الْعُمْرَةُ وَالْحَجُّ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنِ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَمْ يَحُجَّ ذَلِكَ الْعَامَ بَلْ حَجَّ الْعَامَ الْقَابِلَ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ وَإِنْ بَقِيَ حَرَامًا إِلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ (({فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وَهَذَا يَقْتَضِي الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُمَا؛ وَلِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يَعْتَمِرُونَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَإِذَا لَمْ يَحُجُّوا مِنْ عَامِهِمْ ذَلِكَ لَمْ يُهْدُوا.
وَهَذَا الشَّرْطُ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
د- عَدَمُ السَّفَرِ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ:
9- اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي بَيَانِ هَذَا الشَّرْطِ:
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ طَوَافُ الْعُمْرَةِ كُلُّهُ أَوْ أَكْثَرُهُ وَالْحَجُّ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ عَادَ الْمُتَمَتِّعُ إِلَى بَلَدِهِ بَعْدَ الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ بَطَلَ تَمَتُّعُهُ؛ لِأَنَّهُ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ إِلْمَامًا صَحِيحًا فَانْقَطَعَ حُكْمُ السَّفَرِ الْأَوَّلِ.
وَلَوْ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ قَبْلَ إِتْمَامِ الطَّوَافِ ثُمَّ عَادَ وَحَجَّ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الطَّوَافِ فِي السَّفَرِ الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ فِي الثَّانِي كَانَ مُتَمَتِّعًا.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ عَدَمُ رُجُوعِهِ بَعْدَ عُمْرَتِهِ إِلَى بَلَدِهِ أَوْ إِلَى مِثْلِ بَلَدِهِ فِي الْبُعْدِ عَنْ مَكَّةَ، فَإِذَا رَجَعَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا وَلَوْ كَانَ بَلَدُهُ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ.وَأَمَّا إِذَا رَجَعَ إِلَى أَقَلَّ مِنْ بَلَدِهِ ثُمَّ حَجَّ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بَلَدُهُ بَعِيدًا كَتُونِسَ، فَإِنَّ هَذَا إِذَا رَجَعَ إِلَى مِصْرَ بَعْدَ فِعْلِ عُمْرَتِهِ وَقَبْلَ حَجِّهِ وَعَادَ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَعُودَ لِإِحْرَامِ الْحَجِّ إِلَى الْمِيقَاتِ، فَإِنْ رَجَعَ إِلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ لِلْحَجِّ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا وَلَمْ يَلْزَمْهُ الدَّمُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُسَافِرَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ سَفَرًا بَعِيدًا تُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: إِذَا اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَقَامَ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ، فَإِنْ خَرَجَ وَرَجَعَ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ.
هـ- التَّحَلُّلُ مِنَ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ:
10- يُشْتَرَطُ لِلْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَحِلَّ مِنَ الْعُمْرَةِ قَبْلَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ، فَإِنْ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْلَ حِلِّهِ مِنْهَا فَيَكُونُ قَارِنًا وَلَيْسَ مُتَمَتِّعًا، وَهَذَا الشَّرْطُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ لِمَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ، أَمَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَلَا يَحِلُّ مِنْ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ إِلَى أَنْ يُحْرِمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَوْ قَبْلَهُ لِلْحَجِّ كَمَا يُحْرِمُ أَهْلُ مَكَّةَ، فَإِذَا حَلَقَ يَوْمَ النَّحْرِ حَلَّ مِنَ الْإِحْرَامَيْنِ.
و- أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ:
11- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ أَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ لَا يَجِبُ عَلَى حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَلَا تَمَتُّعَ لَهُمْ، إِذْ قَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.
وَلِأَنَّ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِيقَاتُهُمْ مَكَّةُ فَلَا يَحْصُلُ لَهُمُ التَّرَفُّهُ بِتَرْكِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ؛ وَلِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ مَنْ تَكُونُ عُمْرَتُهُ مِيقَاتِيَّةً وَحَجَّتُهُ مَكِّيَّةً وَلَا كَذَلِكَ حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
الْمُرَادُ بِحَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
12- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَهْلُ الْحَرَمِ وَمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ، (وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَمِ) دُونَ مَسَافَةِ قَصْرٍ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْمُرَادُ بِحَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ مِنْ أَهْلِ دَاخِلِ الْمَوَاقِيتِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: هُمْ مُقِيمُو مَكَّةَ وَمُقِيمُو ذِي طُوًى.
وَالْعِبْرَةُ بِالتَّوَطُّنِ، فَلَوِ اسْتَوْطَنَ الْمَكِّيُّ الْمَدِينَةَ مَثَلًا فَهُوَ آفَاقِيٌّ، وَبِالْعَكْسِ مَكِّيٌّ.فَإِنْ كَانَ لِلْمُتَمَتِّعِ مَسْكَنَانِ أَحَدُهُمَا بَعِيدٌ، وَالْآخَرُ قَرِيبٌ اُعْتُبِرَ فِي كَوْنِهِ مِنَ الْحَاضِرِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ كَثْرَةُ إِقَامَتِهِ بِأَحَدِهِمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ.فَإِنِ اسْتَوَتْ إِقَامَتُهُ بِهِمَا فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَاعْتُبِرَ الْأَهْلُ وَالْمَالُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِاعْتِبَارِ الْأَكْثَرِيَّةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ كَانَ لِلْمُتَمَتِّعِ أَهْلَانِ أَهْلٌ بِمَكَّةَ وَأَهْلٌ بِغَيْرِهَا، فَالْمَذْهَبُ اسْتِحْبَابُ الْهَدْيِ وَلَوْ غَلَبَتْ إِقَامَتُهُ فِي أَحَدِهِمَا.
هَذَا وَإِذَا دَخَلَ الْآفَاقِيُّ مَكَّةَ مُتَمَتِّعًا نَاوِيًا الْإِقَامَةَ بِهَا بَعْدَ تَمَتُّعِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ اتِّفَاقًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
ز- عَدَمُ إِفْسَادِ الْعُمْرَةِ أَوِ الْحَجِّ:
13- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ- أَنَّ مِنْ شُرُوطِ التَّمَتُّعِ عَدَمَ إِفْسَادِ الْعُمْرَةِ أَوِ الْحَجِّ، فَإِذَا أَفْسَدَهَا لَا يُعْتَبَرُ مُتَمَتِّعًا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ التَّرَفُّهُ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِذَا أَفْسَدَ الْقَارِنُ وَالْمُتَمَتِّعُ نُسُكَيْهِمَا لَمْ يَسْقُطِ الدَّمُ عَنْهُمَا، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ مَا وَجَبَ فِي النُّسُكِ الصَّحِيحِ وَجَبَ فِي الْفَاسِدِ.
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الدَّمِ أَنْ يَنْوِيَ التَّمَتُّعَ فِي ابْتِدَاءِ الْعُمْرَةِ أَوْ أَثْنَائِهَا، وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ الْآخَرُونَ.
14- وَلَا يُعْتَبَرُ وُقُوعُ النُّسُكَيْنِ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ، فَلَوِ اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ وَحَجَّ عَنْ غَيْرِهِ أَوْ عَكْسَهُ أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ عَنِ اثْنَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: فِي شَرْطِ كَوْنِهِمَا عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ تَرَدُّدٌ، أَنْكَرَهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَخَلِيلٌ فِي مَنَاسِكِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: الْأَشْهَرُ اشْتِرَاطُهُ.
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ مُعْتَبَرَةٌ لِوُجُوبِ الدَّمِ لَا لِكَوْنِهِ مُتَمَتِّعًا، وَلِهَذَا يَصِحُّ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ مِنَ الْمَكِّيِّ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ.وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا تُشْتَرَطُ لِكَوْنِهِ مُتَمَتِّعًا، فَلَوْ فَاتَ شَرْطٌ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا.
سَوْقُ الْهَدْيِ هَلْ يَمْنَعُ التَّحَلُّلَ؟
15- قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الْمُتَمَتِّعُ إِذَا فَرَغَ مِنْ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ يَتَحَلَّلُ، سَاقَ الْهَدْيَ أَمْ لَمْ يَسُقْ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ لِلْمُتَمَتِّعِ إِنْ شَاءَ أَنْ يَسُوقَ الْهَدْيَ- وَهُوَ أَفْضَلُ- وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِذَا دَخَلَ مَكَّةَ طَافَ وَسَعَى لِلْعُمْرَةِ وَلَا يَتَحَلَّلُ، ثُمَّ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَوْ قَبْلَهُ كَمَا يُحْرِمُ أَهْلُ مَكَّةَ.لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً وَتَحَلَّلْتُ مِنْهَا» وَهَذَا يَنْفِي التَّحَلُّلَ عِنْدَ سَوْقِ الْهَدْيِ فَإِذَا حَلَقَ يَوْمَ النَّحْرِ حَلَّ مِنَ الْإِحْرَامَيْنِ وَذَبَحَ دَمَ التَّمَتُّعِ.وَعَدَمُ التَّحَلُّلِ لِمَنْ يَسُوقُ الْهَدْيَ هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ.لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ».
وُجُوبُ الْهَدْيِ فِي التَّمَتُّعِ:
16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْهَدْيُ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ وَذَلِكَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}
وَالْهَدْيُ الْوَاجِبُ شَاةٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ بَعِيرٌ أَوْ سُبُعُ الْبَقَرَةِ أَوِ الْبَعِيرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.وَقَالَ مَالِكٌ هُوَ بَدَنَةٌ وَلَا يَصِحُّ سُبُعُ بَعِيرٍ أَوْ بَقَرَةٍ.
وَوَقْتُ وُجُوبِهِ إِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَهُمْ وَقْتُ وُجُوبِهِ الْوَقْتُ الَّذِي يَتَعَيَّنُ فِيهِ نَحْرُهُ.وَوَقْتُ ذَبْحِهِ وَإِخْرَاجِهِ يَوْمُ النَّحْرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيَجُوزُ ذَبْحُهُ بَعْدَ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ وَلَوْ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إِنْ قَدَّمَ الْمُتَمَتِّعُ الْهَدْيَ قَبْلَ الْعَشْرِ طَافَ وَسَعَى وَنَحَرَ هَدْيَهُ، وَإِنْ قَدَّمَ فِي الْعَشْرِ لَمْ يَنْحَرْ إِلاَّ يَوْمَ النَّحْرِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ: (هَدْيٌ).
بَدَلُ الْهَدْيِ:
17- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إِذَا لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ بِأَنْ فَقَدَهُ أَوْ ثَمَنَهُ أَوْ وَجَدَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ، يَنْتَقِلُ إِلَى صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ؛ وَذَلِكَ لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}.
وَتُعْتَبَرُ الْقُدْرَةُ فِي مَوْضِعِهِ، فَمَتَى عَدِمَهُ فِي مَوْضِعِهِ جَازَ لَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى الصِّيَامِ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْهَدْيِ فِي بَلَدِهِ.
هَذَا وَلَا يَلْزَمُ التَّتَابُعُ فِي الصِّيَامِ بَدَلَ الْهَدْيِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا.وَيُنْدَبُ تَتَابُعُ الثَّلَاثَةِ، وَكَذَا السَّبْعَةُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ.
وَقْتُ الصِّيَامِ وَمَكَانُهُ:
أَوَّلًا- صِيَامُ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ:
18- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ الْوَقْتَ الْمُخْتَارَ لِصِيَامِ الثَّلَاثَةِ هُوَ أَنْ يَصُومَهَا مَا بَيْنَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ وَيَوْمِ عَرَفَةَ، وَيَكُونُ آخِرُ أَيَّامِهَا يَوْمَ عَرَفَةَ، وَعَلَى ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لَهُ تَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ لِيُكْمِلَ الثَّلَاثَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ بَدَلُ الْهَدْيِ فَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ إِلَى آخِرِ وَقْتِهِ رَجَاءَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْأَصْلِ.
وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الثَّلَاثَةُ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ؛ لِأَنَّ صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ.
وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الثَّلَاثَةِ أَوْ يَوْمٍ مِنْهَا عَلَى الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} وَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى وَقْتِ وُجُوبِهَا كَسَائِرِ الصِّيَامِ الْوَاجِبِ؛ وَلِأَنَّ مَا قَبْلَهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ الدَّمُ فَلَمْ يَجُزْ بَدَلُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ إِذَا حَلَّ مِنَ الْعُمْرَةِ.وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ إِحْرَامَ الْعُمْرَةِ أَحَدُ إِحْرَامَيِ التَّمَتُّعِ فَجَازَ الصَّوْمُ بَعْدَهُ كَإِحْرَامِ الْحَجِّ.وَأَمَّا قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} فَالْمُرَادُ بِهِ وَقْتُهُ أَوْ أَشْهُرُ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْحَجِّ- وَهِيَ أَفْعَالٌ مَعْلُومَةٌ- لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِفِعْلٍ آخَرَ وَهُوَ الصَّوْمُ.
وَأَمَّا تَقْدِيمُ الصَّوْمِ عَلَى إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ فَلَا يَجُوزُ اتِّفَاقًا لِعَدَمِ وُجُودِ السَّبَبِ.وَإِنْ فَاتَهُ الصَّوْمُ حَتَّى أَتَى يَوْمُ النَّحْرِ صَامَ أَيَّامَ مِنًى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ- وَهُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَصُومُهَا بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ لِأَنَّهُ صَوْمٌ مُؤَقَّتٌ فَيُقْضَى، وَالْأَظْهَرُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُفَرِّقَ فِي قَضَائِهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّبْعَةِ بِقَدْرِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ (يَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ) وَمُدَّةُ إِمْكَانِ السَّيْرِ إِلَى أَهْلِهِ عَلَى الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يُجْزِئُهُ إِلاَّ الدَّمُ، لِنَهْيِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ؛ وَلِأَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ عَنِ الْهَدْيِ وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ؛ وَلِأَنَّ الْإِبْدَالَ ثَبَتَ شَرْعًا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الدَّمِ وَالصَّوْمِ فَلَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِإِثْبَاتِ الشَّارِعِ، وَالنَّصُّ خَصَّهُ بِوَقْتِ الْحَجِّ، فَإِذَا فَاتَ وَقْتُهُ فَاتَ هُوَ أَيْضًا فَيَظْهَرُ حُكْمُ الْأَصْلِ وَهُوَ الدَّمُ عَلَى مَا كَانَ
ثَانِيًا- صِيَامُ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ:
19- يَصُومُ الْمُتَمَتِّعُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ إِذَا رَجَعَ مِنَ الْحَجِّ لِيُكْمِلَ الْعَشَرَةَ، لقوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَصُومَ السَّبْعَةَ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى أَهْلِهِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ»
وَيَجُوزُ صِيَامُهَا بِمَكَّةَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْحَجِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِذِ الْمُرَادُ مِنَ الرُّجُوعِ الْفَرَاغُ مِنَ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِهِ، فَكَانَ الْأَدَاءُ بَعْدَ السَّبَبِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ: لَا يَجُوزُ صِيَامُهَا إِلاَّ بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى وَطَنِهِ وَأَهْلِهِ لقوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} فَلَا يَجُوزُ صَوْمُهَا فِي الطَّرِيقِ أَوْ فِي مَكَّةَ إِلاَّ إِذَا أَرَادَ الْإِقَامَةَ بِهَا.
ثَالِثًا- الْقُدْرَةُ عَلَى الْهَدْيِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصِّيَامِ:
20- مَنْ دَخَلَ فِي الصِّيَامِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنَ الصَّوْمِ إِلَى الْهَدْيِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ وَجَدَ الْهَدْيَ بَعْدَ صَوْمِ يَوْمَيْنِ بَطَلَ صَوْمُهُ، وَيَجِبُ الْهَدْيُ، وَبَعْدَ التَّحَلُّلِ لَا يَجِبُ كَالْمُتَيَمِّمِ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا فِي الْمَوْضُوعِ وَقَالُوا: إِنْ أَيْسَر بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ وَقَبْلَ إِكْمَالِ الْيَوْمِ يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ لِلْهَدْيِ، وَإِنْ أَيْسَر بَعْدَ إِتْمَامِ الْيَوْمِ وَقَبْلَ إِكْمَالِ الثَّالِثِ يُسْتَحَبُّ لَهُ الرُّجُوعُ، وَإِنْ أَيْسَر بَعْدَ الثَّالِثِ يَجُوزُ لَهُ التَّمَادِي عَلَى الصَّوْمِ وَالرُّجُوعُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
27-موسوعة الفقه الكويتية (تمول)
تَمَوُّلٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّمَوُّلُ فِي اللُّغَةِ: اتِّخَاذُ الْمَالِ، يُقَالُ: تَمَوَّلَ فُلَانٌ مَالًا إِذَا اتَّخَذَ قَنِيَّةً.وَمَالَ الرَّجُلُ يُمَوِّلُ وَيَمَالُ مَوْلًا وَمُؤَوَّلًا إِذَا صَارَ ذَا مَالٍ
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا جَاءَك مِنْهُ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ عَلَيْهِ فَخُذْهُ وَتَمَوَّلْهُ»- أَيِ اجْعَلْهُ لَك مَالًا، وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ
وَالْمَالُ فِي اللُّغَةِ: مَعْرُوفٌ، وَهُوَ مَا مَلَكْتَهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ.
وَشَرْعًا: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِهِ
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (مَالٌ).
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- التَّمَلُّكُ:
2- التَّمَلُّكُ وَالْمَلْكُ وَالْمُلْكُ وَالْمِلْكُ فِي اللُّغَةِ: احْتِوَاءُ الشَّيْءِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الِاسْتِبْدَادِ بِهِ.
وَعَرَّفَهُ الْجُرْجَانِيُّ بِأَنَّهُ: اتِّصَالٌ شَرْعِيٌّ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَ شَيْءٍ يَكُونُ مُطْلَقًا لِتَصَرُّفِهِ فِيهِ وَحَاجِزًا عَنْ تَصَرُّفِ غَيْرِهِ فِيهِ»
ب- الِاخْتِصَاصُ:
3- الِاخْتِصَاصُ فِي اللُّغَةِ: الِانْفِرَادُ بِالشَّيْءِ دُونَ الْغَيْرِ.
قَالَ صَاحِبُ الْكُلِّيَّاتِ: لِلِاخْتِصَاصِ إِطْلَاقَانِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
أ- فَهُوَ يُطْلَقُ فِي الْأَعْيَانِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ التَّمَوُّلَ كَالنَّجَاسَاتِ مِنَ الْكَلْبِ وَالزَّيْتِ النَّجَسِ وَالْمَيِّتِ وَنَحْوِهَا.
ب- وَيُطْلَقُ فِيمَا يَقْبَلُ التَّمَوُّلَ وَالتَّمَلُّكَ مِنَ الْأَعْيَانِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ لِإِرْصَادِهِ لِجِهَةٍ نَفْعُهَا عَامٌّ لِلْمُسْلِمِينَ، كَالْمَسَاجِدِ وَالرُّبُطِ وَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ.
وَفَضْلًا عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ مَلَكَ شَيْئًا لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ مِمَّا يَجُوزُ لَهُ تَمَلُّكُهُ فَقَدِ اخْتَصَّ بِهِ.فَالِاخْتِصَاصُ أَعَمُّ مِنَ التَّمَوُّلِ وَالتَّمَلُّكِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمِلْكِ وَالِاخْتِصَاصِ: أَنَّ الْمِلْكَ يَتَعَلَّقُ بِالْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ، وَالِاخْتِصَاصَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَنَافِعِ، وَبَابُ الِاخْتِصَاصِ أَوْسَعُ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
4- الْأَعْيَانُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
ضَرْبٍ لَا يَقْبَلُ التَّمَوُّلَ، فَلَا يَعْتَبِرُهُ الشَّارِعُ مَالًا، وَإِنْ تَمَوَّلَهُ النَّاسُ، وَيَبْطُلُ بِهِ الْبَيْعُ وَسَائِرُ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ إِنْ جُعِلَ عِوَضًا فِيهَا
وَضَرْبٍ يَقْبَلُ التَّمَوُّلَ، وَيَكُونُ مَالًا شَرْعًا بِتَمَوُّلِ النَّاسِ لَهُ، وَتَنْعَقِدُ بِهِ الْمُعَاوَضَاتُ وَجَمِيعُ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ.
5- وَقَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْمَالَ إِلَى مُتَقَوِّمٍ، وَغَيْرِ مُتَقَوِّمٍ.فَالْمُتَقَوِّمُ عِنْدَهُمْ: هُوَ الْمَالُ الَّذِي أَبَاحَ الشَّارِعُ الِانْتِفَاعَ بِهِ، وَغَيْرُ الْمُتَقَوِّمِ: هُوَ الْمَالُ الَّذِي لَمْ يُبِحِ الشَّارِعُ الِانْتِفَاعَ بِهِ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ، فَالْمَالُ أَعَمُّ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمُتَقَوِّمِ.
وَيَرَى الْجُمْهُورُ أَنَّ الَّذِي لَمْ يُبِحِ الشَّارِعُ الِانْتِفَاعَ بِهِ خَارِجٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَالًا أَسَاسًا.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَنَافِعِ وَالْحُقُوقِ هَلْ تُتَمَوَّلُ أَمْ لَا؟ أَيْ هَلْ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْمَالِ أَمْ لَا؟
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى صِحَّةِ تَمَوُّلِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَنَافِعُهَا لَا ذَوَاتُهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ مَالِيَّتِهَا، وَهِيَ عِنْدَهُمْ مِنْ قَبِيلِ الْمِلْكِ لَا الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُتَصَرَّفَ فِيهِ بِوَصْفِ الِاخْتِصَاصِ، وَالْمَالُ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُدَّخَرَ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ وَقْتَ الْحَاجَةِ.
6- وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ: مِنْهَا فِي الْإِجَارَةِ: فَإِنَّهَا تَنْتَهِي بِمَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ مَالًا حَتَّى تُورَثَ.
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا تَنْتَهِي بِمَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ وَتَظَلُّ بَاقِيَةً حَتَّى تَنْتَهِيَ الْمُدَّةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ مَالٌ، فَتُورَثُ.
وَلِلتَّفْصِيلِ اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ: (مَالٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
28-موسوعة الفقه الكويتية (جودة)
جَوْدَةٌالتَّعْرِيف:
1- الْجَوْدَةُ فِي اللُّغَةِ ضِدُّ الرَّدَاءَةِ مَصْدَرُ جَادَ، يُقَالُ: جَادَ الشَّيْءُ جُودَةً وَجَوْدَةً- بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ- أَيْ صَارَ جَيِّدًا.وَيَكُونُ جَادَ مِنَ الْجُودِ بِمَعْنَى الْكَرَمِ، يُقَالُ: الرَّجُلُ يَجُودُ جُودًا فَهُوَ جَوَادٌ، وَالْجَمْعُ أَجْوَادٌ، وَيُقَالُ: أَجَادَ الرَّجُلُ إِجَادَةً إِذَا أَتَى بِالْجَيِّدِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ.وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجَوْدَةِ:
اعْتِبَارُ الْجَوْدَةِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ:
2- الْجَوْدَةُ عِنْدَ مُبَادَلَةِ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ فِيمَا يَثْبُتُ فِيهِ الرِّبَا لَا اعْتِبَارَ لَهَا شَرْعًا؛ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ سَدًّا لِبَابِ الْبِيَاعَاتِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ؛ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَخْلُو عِوَضَانِ مِنْ جِنْسٍ عَنْ تَفَاوُتٍ مَا، فَلَمْ يُعْتَبَرْ.
فَبَيْعُ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الْوَزْنِ أَوِ الْكَيْلِ، وَالتَّفَاضُلِ فِي النَّوْعِ وَالصِّفَةِ كَالْمَصُوغِ بِالتِّبْرِ، وَالْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ جَائِزٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» وَهُنَاكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رِبًا).
إِظْهَارُ جَوْدَةِ مَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ:
3- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حُصُولِ الْغِشِّ وَالتَّدْلِيسِ بِإِظْهَارِ جَوْدَةِ مَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، إِلاَّ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَطْبِيقَاتِ هَذَا الْمَبْدَأِ.فَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ يَعْتَبِرُهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ غِشًّا وَلَا يَعْتَبِرُهُ كَذَلِكَ بَعْضٌ آخَرُ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْغِشِّ بِإِظْهَارِ جَوْدَةِ مَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ: أ- نَفْخُ اللَّحْمِ بَعْدَ السَّلْخِ وَدَقُّ الثِّيَابِ.
ب- جَمْعُ مَاءِ الرَّحَى وَإِرْسَالُهُ عِنْدَ عَرْضِهَا لِلْبَيْعِ أَوِ الْإِجَارَةِ حَتَّى يَتَوَهَّمَ الْمُشْتَرِي أَوِ الْمُسْتَأْجِرُ كَثْرَتَهُ فَيَزِيدَ فِي عِوَضِهِ.
ج- تَصْرِيَةُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ.وَلِلتَّفْصِيلِ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّدْلِيسِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ: (ر: بَيْعُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، تَدْلِيسٌ، غُرُورٌ، وَغِشٌّ).
ذِكْرُ الْجَوْدَةِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ:
4- يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ ذِكْرَ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ بِهِمَا، فَيُفْضِي تَرْكُهُمَا إِلَى النِّزَاعِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْأَصَحِّ عَدَمَ اشْتِرَاطِ ذِكْرِ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فِيمَا يُسْلَمُ فِيهِ، وَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْجَيِّدِ لِلْعُرْفِ.وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: سَلَمٌ).
ذِكْرُ الْجَوْدَةِ فِي الْحَوَالَةِ:
5- يَرَى الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْأَصَحِّ وُجُوبَ تَسَاوِي الدَّيْنَيْنِ- الْمُحَالِ بِهِ وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ- فِي الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَحْوِيلُ الْحَقِّ، فَيُعْتَبَرُ تَحَوُّلُهُ عَلَى صِفَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِالصِّفَةِ مَا يَشْمَلُ الْجَوْدَةَ وَالرَّدَاءَةَ، وَالصِّحَّةَ وَالتَّكَسُّرَ، وَالْحُلُولَ وَالتَّأْجِيلَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَفِي جَوَازِ تَحَوُّلِهِ بِالْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى صِفَةً أَوْ قَدْرًا، وَمَنْعِهِ تَرَدُّدٌ، وَعُلِّلَ الْجَوَازُ بِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْرُوفِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي الْحَوَالَةِ.
وَعُلِّلَ الْمَنْعُ بِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى التَّفَاضُلِ بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ: تَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِالْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ، وَبِالصَّحِيحِ عَلَى الْمُكَسَّرِ، وَبِالْجَيِّدِ عَلَى الرَّدِيءِ، وَبِالْمُؤَجَّلِ عَلَى الْحَالِّ، وَبِالْأَبْعَدِ أَجَلًا عَلَى الْأَقْرَبِ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَا يَشْتَرِطُونَ لِصِحَّةِ الْحَوَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مَدْيُونًا لِلْمُحِيلِ، وَمِنْ ثَمَّ لَا يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ التَّسَاوِي بَيْنَ الْمَالَيْنِ الْمُحَالِ بِهِ وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ جِنْسًا، أَوْ قَدْرًا، أَوْ صِفَةً.وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: حَوَالَةٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
29-موسوعة الفقه الكويتية (دعوى 3)
دَعْوَى -3شَرْطُ الصِّفَةِ:
41- الْمَقْصُودُ بِهِ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَا شَأْنٍ فِي الْقَضِيَّةِ الَّتِي أُثِيرَتْ حَوْلَهَا الدَّعْوَى، وَأَنْ يَعْتَرِفَ الشَّارِعُ بِهَذَا الشَّأْنِ وَيَعْتَبِرَهُ كَافِيًا لِتَخْوِيلِ الْمُدَّعِي حَقَّ الِادِّعَاءِ، وَلِتَكْلِيفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْجَوَابِ وَالْمُخَاصَمَةِ.
وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْمُدَّعِي إِذَا كَانَ يَطْلُبُ الْحَقَّ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِمَنْ يُمَثِّلُهُ.وَيَحِقُّ لِلدَّائِنِ أَنْ يَرْفَعَ دَعْوَى لِمَدِينِهِ يُطَالِبُ فِيهِ بِحُقُوقِهِ إِذَا أَحَاطَ الدَّيْنُ بِأَمْوَالِهِ وَأُشْهِرَ إِفْلَاسُهُ.
وَالْقَاعِدَةُ فِي هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ مَنْ يَدَّعِي حَقًّا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَقُّ مُنْتَقِلًا إِلَيْهِ صَحَّتْ دَعْوَاهُ، وَإِلاَّ فَلَا، فَتَصِحُّ الدَّعْوَى مِنَ الْوَارِثِ فِيمَا يَدَّعِيهِ لِمُورِثِهِ، وَلَا تَصِحُّ مِنَ الدَّائِنِ الَّذِي يَرْفَعُ دَعْوَى لِمَدِينِهِ إِذَا لَمْ يُشْهَرْ إِفْلَاسُهُ.وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَيْضًا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَا صِفَةٍ، فَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى إِلاَّ إِذَا رُفِعَتْ فِي وَجْهِ مَنْ يَعْتَبِرُهُ الْمُشَرِّعُ خَصْمًا، وَيُجْبِرُهُ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْقَضِيَّةِ، لِيُجِيبَ بِالِاعْتِرَافِ أَوْ بِالْإِنْكَارِ.
وَالْقَاعِدَةُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ مَنِ ادَّعَى عَلَى إِنْسَانٍ شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَوْ أَقَرَّ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بِإِنْكَارِهِ خَصْمًا فِي الدَّعْوَى، وَتَصِحُّ بِتَوْجِيهِهَا إِلَيْهِ.أَمَّا إِذَا كَانَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إِقْرَارِهِ حُكْمٌ لَمْ يَكُنْ خَصْمًا بِإِنْكَارِهِ، وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ حَدَّدَ الْفُقَهَاءُ الْخَصْمَ فِي مُخْتَلَفِ أَنْوَاعِ الدَّعَاوَى:
أ- فَفِي دَعَاوَى الْعَيْنِ يَكُونُ الْخَصْمُ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ.وَذَلِكَ لِأَنَّ أَيَّ شَخْصٍ لَيْسَتِ الْعَيْنُ الْمُدَّعَاةُ فِي يَدِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا، وَالْحَائِزُ لَهَا هُوَ الَّذِي يَمْلِكُ أَنْ يَقْرَبَهَا، فَهُوَ إِذَنِ الْخَصْمُ فِي دَعْوَاهَا.
وَالْيَدُ الَّتِي يَكُونُ صَاحِبُهَا خَصْمًا فِي الدَّعْوَى هِيَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ فِي الظَّاهِرِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ بِأَنْ كَانَتْ يَدًا طَارِئَةً، كَيَدِ مُسْتَأْجِرٍ، أَوْ مُسْتَعِيرٍ، أَوْ مُرْتَهِنٍ، لَمْ يَصِحَّ تَوْجِيهُ الدَّعْوَى إِلَى صَاحِبِهَا مُنْفَرِدًا، وَلَكِنْ يُطْلَبُ مِنَ الْحَائِزِ الْعَرَضِيِّ الْحُضُورُ إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لِيُؤْمَرَ بِتَسْلِيمِ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى عِنْدَ إِثْبَاتِ الدَّعْوَى.وَإِذَا وَجَّهَهَا الْمُدَّعِي إِلَيْهِ، كَانَ لِهَذَا الْحَائِزِ الْعَرَضِيِّ أَنْ يَدْفَعَ الدَّعْوَى بِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ يَدَ مِلْكٍ، وَإِنَّمَا هِيَ يَدٌ عَارِضَةٌ، بِشَرْطِ أَنْ يُبَرْهِنَ عَلَى دَفْعِهِ، وَعِنْدَئِذٍ تُرَدُّ دَعْوَى الْمُدَّعِي.وَيُطْلَبُ مِنْهُ رَفْعُهَا فِي مُوَاجَهَةِ الْمَالِكِ.
وَهَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ مُخْتَصٌّ بِدَعَاوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ عَنِ السَّبَبِ، أَمَّا إِذَا ادَّعَى الْمدَّعِي أَنَّ فُلَانًا غَصَبَ مِنْهُ مَالَهُ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ دَفْعُ هَذِهِ الدَّعْوَى بِحُجَّةِ أَنَّ الْعَيْنَ الْمُدَّعَاةَ لَيْسَتْ فِي يَدِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي دَعْوَى الْفِعْلِ- كَمَا سَيَأْتِي- أَنَّهَا يَصِحُّ تَوْجِيهُهَا ضِدَّ الْفَاعِلِ.
42- وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَا يَأْتِي:
1- إِذَا بَاعَ رَجُلٌ مِلْكَ غَيْرِهِ، وَسَلَّمَهُ بِدُونِ إِذْنِهِ، كَانَ الْخَصْمُ هُوَ الْمُشْتَرِي، وَلَكِنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ إِذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي اسْتِرْدَادَ الْعَيْنِ، أَمَّا إِذَا أَرَادَ التَّضْمِينَ سُمِعَتِ الدَّعْوَى عَلَى الْبَائِعِ الْغَاصِبِ وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِ غَيْرِهِ، لِأَنَّهَا تَكُونُ دَعْوَى فِعْلٍ عِنْدَئِذٍ.
2- إِذَا تُوُفِّيَ شَخْصٌ عَنْ تَرِكَةٍ فِيهَا أَعْيَانٌ وَلَهُ وَرَثَةٌ، وَأَرَادَ شَخْصٌ الِادِّعَاءَ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِهَا كَانَ الْخَصْمُ لَهُ هُوَ الْوَارِثُ الَّذِي فِي يَدِهِ تِلْكَ الْعَيْنُ، وَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى بِهَا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْوَرَثَةِ.
3- إِذَا بِيعَ عَقَارٌ، فَطَلَبَ الشَّفِيعُ أَخْذَهُ بِالشُّفْعَةِ، فَإِنْ تَسَلَّمْهُ الْمُشْتَرِي كَانَ هُوَ الْخَصْمُ لِلشَّفِيعِ، وَإِنْ لَمْ يَتَسَلَّمْهُ كَانَ الْخَصْمُ لَهُ كُلًّا مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَاضِعُ الْيَدِ، فَيَحْضُرُ مِنْ أَجْلِ التَّسْلِيمِ، وَالْآخَرُ مَالِكٌ، فَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى إِلاَّ بِحُضُورِهِمَا جَمِيعًا.
4- إِذَا بَاعَ شَخْصٌ لِغَيْرِهِ عَيْنًا، وَلَمْ يُسَلِّمْهَا إِلَيْهِ، فَأَرَادَ آخَرُ ادِّعَاءَ مِلْكِيَّتِهَا، كَانَ الْخَصْمُ لَهُ كُلًّا مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَاضِعُ الْيَدِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ لِيُؤْمَرَ بِالتَّسْلِيمِ عِنْدَ ثُبُوتِ الدَّعْوَى، وَأَمَّا إِذَا سَلَّمَهَا الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي كَانَ الْخَصْمُ هُوَ الْمُشْتَرِي.فَفِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا الْعَيْنُ الْمُدَّعَاةُ فِي يَدِ غَيْرِ الْمَالِكِ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى بِالْمِلْكِ حُضُورُ الِاثْنَيْنِ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْمَالِكُ لِلْعَيْنِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ يَدُهُ عَلَى الْمُدَّعَى بِهِ فِعْلًا، وَلَكِنَّهَا عَلَيْهِ حُكْمًا، وَالْآخَرُ حِيَازَتُهُ لَهَا عَرَضِيَّةٌ وَمُؤَقَّتَةٌ، وَلِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى إِقْرَارِهِ حُكْمٌ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ حُضُورُ الْآخَرِينَ لِغَايَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ لِلْمُدَّعِي عِنْدَ ثُبُوتِ الدَّعْوَى.
5- وَفِي دَعَاوَى الدَّيْنِ، الْخَصْمُ هُوَ مَنْ كَانَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ أَوْ نَائِبُهُ، لِأَنَّ الْمَدِينَ هُوَ الَّذِي إِذَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ حَمَلَ نَتِيجَةَ إِقْرَارِهِ وَأُلْزِمَ بِهِ.وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ لَا تُوَجَّهُ الدَّعْوَى ضِدُّ حَائِزِ الْعَيْنِ الَّتِي يَتَمَلَّكُهَا الْمَدِينُ، كَالْمُسْتَأْجَرِ مِنْهُ، وَلَا الْغَاصِبِ مِنْهُ، وَلَا الْمُسْتَعِيرِ مِنْهُ.
6- وَفِي دَعْوَى الْفِعْلِ كَالْغَصْبِ وَغَيْرِهِ، الْخَصْمُ هُوَ الْفَاعِلُ، أَيِ الَّذِي يُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَامَ بِالْفِعْلِ.
7- وَفِي دَعْوَى الْقَوْلِ، الْخَصْمُ هُوَ الْقَائِلُ، أَيِ الَّذِي يُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ الْقَوْلَ، فَدَعْوَى الطَّلَاقِ تُقِيمُهَا الزَّوْجَةُ عَلَى زَوْجِهَا، وَكَذَلِكَ دَعْوَى الْقَذْفِ أَوِ الشَّتْمِ.
8- وَفِي دَعْوَى الْعَقْدِ، الْخَصْمُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لَهُ، أَوْ مَنْ قَامَ مَقَامَهُ، كَالْوَكِيلِ، أَوِ الْوَارِثِ، أَوِ الْوَصِيِّ.
9- وَفِي دَعْوَى الْحَقِّ، كَحَقِّ الْحَضَانَةِ وَالرَّضَاعِ، الْخَصْمُ هُوَ كُلُّ شَخْصٍ لَهُ شَأْنٌ فِي الدَّعْوَى، وَهُوَ الَّذِي يُنَازِعُ الْمُدَّعِيَ فِي ذَلِكَ الْحَقِّ، وَيَمْنَعُهُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِهِ.
دَعْوَى الْحِسْبَةِ:
43- الدَّعْوَى هِيَ طَلَبُ شَخْصٍ حَقَّهُ مِنْ آخَرَ فِي حُضُورِ الْحَاكِمِ كَمَا سَبَقَ، فَهِيَ أَصْلًا تَحْتَاجُ إِلَى طَالِبٍ (الْمُدَّعِي) وَمَطْلُوبٍ (الْمُدَّعَى) وَمَطْلُوبٍ مِنْهُ (الْمُدَّعَى عَلَيْهِ).
وَإِذَا كَانَ الْمُدَّعَى مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الدَّعْوَى بِغَيْرِ الطَّلَبِ مِنْ مُدَّعٍ مُعَيَّنٍ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ.أَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالْحُدُودِ وَالتَّعَدِّي عَلَى مَا يَرْجِعُ مَنَافِعُهُ لِلْعَامَّةِ، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى مُدَّعٍ خَاصٍّ، وَتُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ. (أَيْ: لِلْأَجْرِ لَا لِإِجَابَةِ مُدَّعٍ) مَعَ مُرَاعَاةِ طُرُقِ الْإِثْبَاتِ الْخَاصَّةِ بِهَا حَسَبَ تَنَوُّعِ مَوْضُوعَاتِهَا.
فَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَجَلَّةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ سَبْقُ الدَّعْوَى فِي الشَّهَادَةِ بِحُقُوقِ النَّاسِ.
قَالَ الْأَتَاسِيُّ: لِأَنَّ ثُبُوتَ حُقُوقِهِمْ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُطَالَبَتِهِمْ، وَلَوْ بِالتَّوْكِيلِ.بِخِلَافِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، حَيْثُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الدَّعْوَى، لِأَنَّ إِقَامَةَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَكُلُّ أَحَدٍ خَصْمٌ فِي إِثْبَاتِهَا، فَصَارَ كَأَنَّ الدَّعْوَى مَوْجُودَةٌ.
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ: يَنْتَصِبُ أَحَدُ الْعَامَّةِ خَصْمًا عَنِ الْبَاقِينَ مِنَ الْعَامَّةِ فِي الْمَحَالِّ الَّتِي مَنْفَعَتُهَا عَائِدَةٌ إِلَى الْعُمُومِ.ثُمَّ قَالَ نَقْلًا عَنْ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ: بَنَى حَائِطًا عَلَى الْفُرَاتِ وَاتَّخَذَ عَلَيْهِ رَحًى، أَوْ بَنَى فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ، فَخَاصَمَهُ أَحَدٌ يُقْضَى عَلَيْهِ بِهَدْمِهِ.
وَذَكَرَ فِي الدُّرِّ فِي بَحْثِ الشَّهَادَةِ: وَالَّذِي تُقْبَلُ فِيهِ الشَّهَادَةُ حِسْبَةً بِدُونِ الدَّعْوَى أَرْبَعَةَ عَشْرَ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: هِيَ الْوَقْفُ لِلْفُقَرَاءِ أَوْ لِلْمَسْجِدِ وَنَحْوِهِ (أَيْ لِلْعَامَّةِ)، وَطَلَاقُ الزَّوْجَةِ، وَتَعْلِيقُ طَلَاقِهَا، وَحُرِّيَّةُ الْأَمَةِ وَتَدْبِيرُهَا، وَالْخُلْعُ، وَهِلَالُ رَمَضَانَ، وَالنَّسَبُ، وَحَدُّ الزِّنَى، وَحَدُّ الشُّرْبِ، وَالْإِيلَاءُ، وَالظِّهَارُ، وَحُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ، وَدَعْوَى الْمَوْلَى نَسَبَ الْعَبْدِ، وَالشَّهَادَةُ بِالرَّضَاعِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَخْفَى أَنَّ شَاهِدَ الْحِسْبَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَدَّعِيَ مَا يَشْهَدُ بِهِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ مُدَّعٍ آخَرُ.وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ مَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الشَّهَادَةُ حِسْبَةً يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تُقْبَلُ فِيهِ الدَّعْوَى حِسْبَةً.
ثُمَّ عَلَّقَ عَلَى كَلَامِ الدُّرِّ نَقْلًا عَنِ الْأَشْبَاهِ: وَلَيْسَ لَنَا مُدَّعٍ حِسْبَةً إِلاَّ فِي دَعْوَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُدَّعِيًا، أَوْ أَنَّ مُدَّعِيَ الْحِسْبَةَ لَا يَحْلِفُ لَهُ الْخَصْمُ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الشَّهَادَةِ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ فِي بَحْثِ الشَّهَادَةِ أَنَّهُ تَجِبُ الْمُبَادَرَةُ فِي حَقِّ اللَّهِ بِالرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ إِنِ اسْتُدِيمَ ارْتِكَابُ التَّحْرِيمِ عِنْدَ عَدَمِ الرَّفْعِ، كَعِتْقٍ لِرَقِيقٍ، مَعَ كَوْنِ السَّيِّدِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ مِنِ اسْتِخْدَامٍ وَبَيْعٍ وَوَطْءٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَطَلَاقٍ لِزَوْجَةٍ مَعَ كَوْنِ الْمُطَلِّقِ لَمْ يَنْكَفَّ عَنْهَا فَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ بِالرَّفْعِ، وَكَوَقْفٍ عَلَى مُعَيَّنٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مَسْجِدًا أَوْ رِبَاطًا أَوْ مَدْرَسَةً، وَوَاضِعُ الْيَدِ يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ، فَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ بِالرَّفْعِ لِرَدِّهِ إِلَى أَصْلِهِ.وَكَرَضَاعٍ بَيْنَ زَوْجَيْنِ.وَإِنْ لَمْ يَسْتَلْزِمِ ارْتِكَابَ التَّحْرِيمِ بِأَنْ كَانَ التَّحْرِيمُ يَنْقَضِي بِالْفَرَاغِ مِنْ مُتَعَلَّقِهِ كَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ، خُيِّرَ فِي الرَّفْعِ وَعَدَمِهِ، وَالتَّرْكُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنَ السَّتْرِ الْمَطْلُوبِ فِي غَيْرِ الْمُجَاهِرِ، وَإِلاَّ فَالرَّفْعُ أَوْلَى.
وَمِثْلُهُ مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، بِأَنْ يَشْهَدَ بِتَرْكِهَا، وَفِيمَا لَهُ حَقٌّ مُؤَكَّدٌ، كَطَلَاقٍ، وَعِتْقٍ، وَعَفْوٍ عَنْ قِصَاصٍ، وَبَقَاءِ عِدَّةٍ وَانْقِضَائِهَا، بِأَنْ يَشْهَدَ بِمَا ذُكِرَ لِيَمْنَعَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ.وَكَذَلِكَ فِي حَدٍّ لِلَّهِ تَعَالَى، بِأَنْ يَشْهَدَ بِمُوجَبِهِ، كَحَدِّ الزِّنَى، وَالسَّرِقَةِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ.
وَالْأَفْضَلُ فِيهِ السَّتْرُ إِذَا رَأَى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ، وَكَذَا النَّسَبُ عَلَى الصَّحِيحِ.كَمَا ذَكَرُوا مِنْهَا الرَّضَاعَ.
قَالَ الشِّرْبِينِيُّ: تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ أُمِّ الزَّوْجَةِ وَبِنْتِهَا مَعَ غَيْرِهِمَا حِسْبَةً بِلَا تَقَدُّمِ دَعْوَى، لِأَنَّ الرَّضَاعَ تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَبُوهَا وَابْنُهَا، أَوِ ابْنَاهَا بِطَلَاقِهَا مِنْ زَوْجِهَا حِسْبَةً.
وَقَالَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ: وَمَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ هَلْ تُسْمَعُ فِيهِ دَعْوَاهَا؟ وَجْهَانِ: أَوْجَهُهُمَا: «تُسْمَعُ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمُدَّعِي فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُسْمَعُ فِي غَيْرِ حُدُودِ اللَّهِ». وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا فِي بَابِ الشَّهَادَةِ أَنَّهَا تُقْبَلُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ الْخَالِصَةِ حِسْبَةً، كَمَا تُقْبَلُ فِيمَا كَانَ حَقًّا لآِدَمِيٍّ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَلَا تَفْتَقِرُ إِلَى تَقَدُّمِ الدَّعْوَى.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: الْحُقُوقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
44- أَحَدُهُمَا: حَقٌّ لآِدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ، كَالْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُقُودِ، وَالْعُقُوبَاتِ كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَالْوَقْفِ عَلَى آدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ، فَلَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ فِيهِ إِلاَّ بَعْدَ الدَّعْوَى، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِيهِ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ، فَلَا تُسْتَوْفَى إِلاَّ بَعْدَ مُطَالَبَتِهِ وَإِذْنِهِ، وَلِأَنَّهَا حُجَّةٌ عَلَى الدَّعْوَى وَدَلِيلٌ لَهَا فَلَا يَجُوزُ تَقَدُّمُهَا عَلَيْهَا.
45- الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ حَقًّا لآِدَمِيٍّ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، أَوْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ عَلَى مَسْجِدٍ، أَوْ سِقَايَةٍ، أَوْ مَقْبَرَةٍ مُسَبَّلَةٍ، أَوِ الْوَصِيَّةِ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَنَحْوِ هَذَا، أَوْ مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوِ الزَّكَاةِ، أَوِ الْكَفَّارَةِ، فَلَا تَفْتَقِرُ الشَّهَادَةُ بِهِ إِلَى تَقَدُّمِ الدَّعْوَى، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ مُسْتَحِقٌّ مُعَيَّنٌ مِنَ الْآدَمِيِّينَ يَدَّعِيهِ وَيُطَالِبُ بِهِ.وَلِذَلِكَ شَهِدَ أَبُو بَكْرَةَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْمُغِيرَةِ، وَشَهِدَ الْجَارُودُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَشَهِدَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ دَعْوَى فَأُجِيزَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ قَبُولٌ مِنْ أَحَدٍ وَلَا رِضًى مِنْهُ، وَكَذَلِكَ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ أَحَدِ الْغَرِيمَيْنِ كَتَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ بِالطَّلَاقِ، أَوِ الظِّهَارِ، أَوْ إِعْتَاقِ الرَّقِيقِ، تَجُوزُ الْحِسْبَةُ بِهِ وَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ دَعْوَى.
هَذَا وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ كُلَّ مَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الشَّهَادَةُ حِسْبَةً يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تُقْبَلُ فِيهِ الدَّعْوَى حِسْبَةً.
ثَالِثًا: شُرُوطُ الْمُدَّعَى بِهِ:
46- الشَّرْطُ الْأَوَّلُ- يُشْتَرَطُ فِي الْمُدَّعَى بِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَالْمُرَادُ بِعِلْمِ الْمُدَّعَى بِهِ تَصَوُّرُهُ، أَيْ تَمَيُّزُهُ فِي ذِهْنِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالْقَاضِي.وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالدَّعْوَى هُوَ إِصْدَارُ الْحُكْمِ فِيهَا، وَالْمَقْصُودُ بِالْحُكْمِ فَصْلُ الْخُصُومَةِ بِإِلْزَامِ الْمَحْقُوقِ بِرَدِّ الْحَقِّ إِلَى صَاحِبِهِ، وَلَا إِلْزَامَ مَعَ الْجَهَالَةِ.
وَبِنَاءً عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ الْحُكْمُ بِمَا لَا إِلْزَامَ فِيهِ، وَهَكَذَا لَا يَتَحَصَّلُ مَقْصُودُ الدَّعْوَى بِدُونِ الْعِلْمِ فَوَجَبَ اشْتِرَاطُهُ لِصِحَّتِهَا.وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ صِحَّةَ الشَّهَادَةِ مَرْهُونَةٌ بِمُطَابِقَتِهَا لِلدَّعْوَى، فَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى مَجْهُولَةَ الْمُدَّعَى بِهِ لَمْ تَصِحَّ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ عَلَى الْمَجْهُولِ، فَتَكُونُ الدَّعْوَى مَرْفُوضَةً لِعَدَمِ إِمْكَانِ إِثْبَاتِهَا.
حُدُودُ هَذَا الشَّرْطِ:
47- لِلْمُدَّعَى بِهِ جَوَانِبُ مُتَعَدِّدَةٌ: فَهُنَاكَ ذَاتُ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى، وَهَذَا يَخْتَلِفُ حُدُودُهُ حَسَبَ الْأَحْوَالِ، فَيُفْصَلُ فِيهِ بَيْنَ مَا يَكُونُ عَيْنًا وَمَا يَكُونُ دَيْنًا، وَالْأَوَّلُ يُفْصَلُ فِيهِ بَيْنَ مَا هُوَ عَقَارٌ وَمَا هُوَ مَنْقُولٌ.كَمَا أَنَّ الدَّعَاوَى الْأُخْرَى الَّتِي يُطْلَبُ بِهَا غَيْرُ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ، كَدَعْوَى النَّسَبِ لَهَا قَوَاعِدُ تَخْتَلِفُ فِي تَحْدِيدِ الْمُدَّعَى بِهِ.وَهُنَاكَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْمُدَّعَى بِهِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَاقِعَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا الْمُدَّعِي فِي اسْتِحْقَاقِ مَا يَدَّعِيهِ، وَهُنَاكَ أَيْضًا شُرُوطُ هَذَا السَّبَبِ، وَقَدْ وَضَعَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ قَاعِدَةً عَامَّةً فِي كَيْفِيَّةِ الْعِلْمِ بِالْمُدَّعَى بِهِ، فَقَالُوا: (إِنَّمَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى جَهَالَةٌ تَمْنَعُ مِنِ اسْتِيفَاءِ الْمَحْكُومِ بِهِ، وَتَوْجِيهِ الْمُطَالَبَةِ نَحْوَهُ، حَيْثُ يَكُونُ الْمُدَّعَى بِهِ مَجْهُولًا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَوْ ذَاكَ، أَمَّا إِذَا سَلِمَ الْمُدَّعَى بِهِ مِنْ هَذَا، وَكَانَ مَحْصُورًا بِمَا يُضْبَطُ بِهِ فَلَا) وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ هَذَا الشَّرْطِ حَسَبَ أَنْوَاعِ الدَّعَاوَى الْمُخْتَلِفَةِ:
كَيْفِيَّةُ الْعِلْمِ بِالْمُدَّعَى بِهِ فِي دَعَاوَى الْعَيْنِ:
الْمُدَّعَى بِهِ فِي دَعْوَى الْعَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَقَارًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا، وَلِكُلٍّ طَرِيقَةٌ خَاصَّةٌ فِي التَّعْرِيفِ بِهِ:
48- فِي دَعْوَى الْعَقَارِ: يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى ذِكْرُ مَا يُمَيِّزُ الْعَقَارَ الْمُدَّعَى عَنْ غَيْرِهِ، وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِذِكْرِ حُدُودِهِ، وَنَاحِيَتِهِ مِنَ الْبَلَدِ الْمَوْجُودِ فِيهَا.
لَكِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ اشْتَرَطُوا تَخْصِيصَهُ بِقُيُودٍ أَكْثَرَ مِنْ تِلْكَ، فَاشْتَرَطُوا ذِكْرَ الْمَحَلَّةِ وَالسِّكَّةِ الَّتِي يَنْتَمِي إِلَيْهَا ذَلِكَ الْعَقَارُ، مَعَ ذِكْرِ جِهَةِ الْبَابِ الَّتِي يُفْتَحُ عَلَيْهَا.
هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا، وَأَمَّا فِي الْعَقَارِ الْمَشْهُورِ فَلَا يُشْتَرَطُ لِتَحْدِيدِهِ غَيْرُ ذِكْرِ اسْمِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالصَّاحِبَيْنِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْحُدُودِ فِي تَعْرِيفِ الْعَقَارِ سَوَاءٌ أَكَانَ مَشْهُورًا أَمْ غَيْرَ مَشْهُورٍ.
وَيُشْتَرَطُ فِي تَعْرِيفِ الْحُدُودِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يُذْكَرَ أَسْمَاءُ أَصْحَابِهَا وَأَنْسَابُهُمْ إِلاَّ الْمَشْهُورِينَ مِنْهُمْ، فَيُكْتَفَى بِأَسْمَائِهِمْ، وَيُكْتَفَى عِنْدَهُمْ بِذِكْرِ ثَلَاثَةِ حُدُودٍ لِلْعَقَارِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ الدَّعْوَى بِذِكْرِ ثَلَاثَةِ حُدُودٍ بِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ غَالِبًا، وَاشْتَرَطَ زُفَرُ أَنْ تُذْكَرَ جَمِيعُ الْحُدُودِ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الِاكْتِفَاءُ بِالْحَدَّيْنِ وَالْحَدِّ الْوَاحِدِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الْخَطَأَ فِي ذِكْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْحُدُودِ الْأَرْبَعَةِ يَجْعَلُ الدَّعْوَى غَيْرَ مَقْبُولَةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُورِثُ الشَّكَّ فِي مَعْرِفَةِ الْمُدَّعِي لِمَا يَدَّعِيهِ، وَلِعَدَمِ انْطِبَاقِ الدَّعْوَى عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَلَا يُقَاسُ عَلَى حَالَةِ الِابْتِدَاءِ.
وَأَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَقَدِ اشْتَرَطُوا ذِكْرَ جَمِيعِ الْحُدُودِ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لَا يَتِمُّ إِلاَّ بِذِكْرِ الْحُدُودِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَضَافَ عُلَمَاءُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ قَدْ يُكْتَفَى بِثَلَاثَةٍ وَأَقَلِّ مِنْهَا إِذَا عُرِفَ الْعَقَارُ بِهَا.وَقَالُوا: إِنَّ الْمَعْرِفَةَ فِي الْعَقَارِ لَا تَتَقَيَّدُ بِالْحُدُودِ الْأَرْبَعَةِ، فَقَدْ يُعْرَفُ بِالشُّهْرَةِ الْعَامَّةِ فَلَا تَحْتَاجُ لِذِكْرِ حَدٍّ وَلَا غَيْرِهِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ دَعْوَى الْعَقَارِ ذِكْرُ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِ.
وَذَهَبَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى صِحَّةِ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي لَمْ يَقْدُمْ بِنَاؤُهَا، أَيْ حَدِيثَةُ الْعَهْدِ فِي تَأْسِيسِهَا، فَلَا يُسْأَلُ فِيهَا عَنْ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ تَمَلَّكَهُ بِسَبَبِ الْخُطَّةِ، أَيْ: أَنَّهُ يَمْلِكُهُ مِنَ الْأَصْلِ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى مِلْكِهِ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ النَّاقِلَةِ لِلْمِلْكِيَّةِ كَالْبَيْعِ، وَذَلِكَ لِقُرْبِ عَهْدِ تَأْسِيسِهِ، وَأَمَّا دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي قَدُمَ بِنَاؤُهَا، وَطَالَ الْعَهْدُ عَلَى تَأْسِيسِهَا فَلَا تَصِحُّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قِدَمَ الْبِنَاءِ قَرِينَةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَدَّعِيهِ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ النَّاقِلَةِ لِلْمِلْكِيَّةِ، لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ تَمَلَّكَهُ بِسَبَبِ الْخُطَّةِ لِبُعْدِ عَهْدِهَا، فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ السَّبَبِ، إِذْ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْمِلْكِ بِسَبَبٍ مَجْهُولٍ، وَمَا دَامَ حُدُوثُ السَّبَبِ مُتَيَقَّنًا، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُدَّعِي بَاطِلٌ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِلْكٌ.
وَصَرَّحَ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ بِوُجُوبِ ذِكْرِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَمْ يُمَيِّزُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ دَعْوَى الْعَقَارِ وَغَيْرِهَا.بَلْ رَأَى بَعْضُ عُلَمَائِهِمْ أَنَّ الْقَاضِيَ إِنْ لَمْ يَسْأَلْ عَنْهُ وَقَبِلَ الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ كَانَ كَالْخَابِطِ خَبْطَ عَشْوَاءَ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ يَكُونُ فَاسِدًا، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ لِيُعْرَفَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَوِ ادَّعَى الْمُدَّعِي نِسْيَانَ السَّبَبِ لَمْ يُكَلَّفْ بِبَيَانِهِ.
فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ:
49- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الطَّرِيقَةِ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا الْمُدَّعَى بِهِ الْمَنْقُولُ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَنْقُولِ الْقَائِمِ وَالْهَالِكِ، وَبَيْنَ الْمَنْقُولِ الْغَائِبِ عَنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَالْحَاضِرِ فِيهِ:
فَأَمَّا الْمَنْقُولُ الْقَائِمُ الْحَاضِرُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَيُعْلَمُ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ لِأَنَّ هَذِهِ الْوَسِيلَةَ مُمْكِنَةٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَلَا يُصَارُ إِلَى أَقَلٍّ مِنْهَا.
فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْعَيْنُ الْمَنْقُولَةُ حَاضِرَةً فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي: فَإِنْ كَانَ إِحْضَارُهَا إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ مُيَسَّرًا بِحَيْثُ لَا يُكَلِّفُ نَفَقَةً، طُلِبَ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِحْضَارُهَا لِيُشَارَ إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ إِحْضَارُهَا يُكَلِّفُ نَفَقَةً، فَيَذْهَبُ الْقَاضِي أَوْ أَمِينُهُ إِلَى مَكَانِ وُجُودِهَا لِيُشَارَ إِلَيْهَا.
وَأَمَّا الْمَنْقُولُ الْهَالِكُ فَيُعْرَفُ بِذِكْرِ الْقِيمَةِ فَقَطْ، لِأَنَّ عَيْنَ الْمُدَّعَى بِهِ تَعَذَّرَ مُشَاهَدَتُهَا، وَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا بِالْوَصْفِ، إِذِ الْعَيْنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا تُعْرَفُ بِالْوَصْفِ، فَاشْتُرِطَ بَيَانُ الْقِيمَةِ، حَيْثُ تُعْرَفُ بِهَا الْعَيْنُ الْهَالِكَةُ.وَهَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَنْقُولِ الْقِيَمِيِّ، وَأَمَّا الْمِثْلِيُّ فَإِنَّ دَعْوَاهُ تُعْتَبَرُ دَعْوَى دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ، فَيُشْتَرَطُ فِي تَعْرِيفِهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الدَّيْنِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ قَرِيبًا.
وَأَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَلَمْ يَقْصِرُوا طَرِيقَةَ الْعِلْمِ بِالْمَنْقُولِ عَلَى الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، أَوْ كَانَ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَمَّا إِذَا كَانَ غَائِبًا: فَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَجَبَ عَلَى الْمُدَّعِي ذِكْرُ وَصْفِهِ الْمَشْرُوطِ فِي عَقْدِ السَّلَمِ.وَإِنْ كَانَ قِيَمِيًّا: فَإِنْ كَانَ مُنْضَبِطًا بِالْوَصْفِ، فَيَجِبُ وَصْفُهُ بِمَا يَنْضَبِطُ بِهِ، وَإِلاَّ فَيَجِبُ ذِكْرُ قِيمَتِهِ.
وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَنَّ الْأَعْيَانَ الْقِيَمِيَّةَ، هَلْ تَنْضَبِطُ بِالْوَصْفِ أَوْ لَا تَنْضَبِطُ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقِيَمِيَّ لَا يَنْضَبِطُ بِالْوَصْفِ، لِأَنَّ الْعَيْنَ قَدْ تَشْتَرِكُ مَعَ عَيْنٍ أُخْرَى فِي الْوَصْفِ وَالْحِلْيَةِ، وَبِنَاءً عَلَيْهِ قَالُوا: لَا بُدَّ مِنَ الْإِشَارَةِ فِي تَعْرِيفِ الْقِيَمِيِّ، لِأَنَّ الشَّكَّ لَا يَنْقَطِعُ إِلاَّ بِهَا.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَعْيَانِ الْقِيَمِيَّةِ يُمْكِنُ أَنْ تَنْضَبِطَ بِالْوَصْفِ.
وَبِنَاءً عَلَيْهِ ذَهَبُوا إِلَى الِاكْتِفَاءِ بِوَصْفِ مِثْلِ هَذِهِ الْأَعْيَانِ فِي الدَّعْوَى، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا إِحْضَارَهَا لِيُشَارَ إِلَيْهَا.
الْعِلْمُ بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ:
50- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ ذِكْرِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ عَلَى الْآرَاءِ التَّالِيَةِ:
أ- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ دَعْوَى الْمِثْلِيِّ وَدَعْوَى الْقِيَمِيِّ: فَاشْتَرَطُوا ذِكْرَ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِ الْأَسْبَابِ الْمُرَتِّبَةِ لِلدُّيُونِ فِي الذِّمَمِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَمِ مِنَ الدُّيُونِ، فَلَا بُدَّ لِصِحَّةِ دَعْوَى اشْتِغَالِهَا مِنْ بَيَانِ سَبَبِ هَذَا الِاشْتِغَالِ.
ب- وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ ذِكْرِ السَّبَبِ فِي دَعَاوَى الْعَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِثْلِيَّةً أَمْ قِيَمِيَّةً، وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ الْمُدَّعِيَ عَنْ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِ لِلْمُدَّعَى بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْطَنْ لِذَلِكَ كَانَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يُوَجِّهَ هَذَا السُّؤَالَ، فَإِنِ امْتَنَعَ الْمُدَّعِي عَنْ ذِكْرِهِ لَمْ يُكَلَّفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْجَوَابِ عَنِ الدَّعْوَى، وَبِذَلِكَ لَا تُنْتِجُ أَثَرَهَا، وَهُوَ وُجُوبُ الْجَوَابِ عَلَى الْخَصْمِ.وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ يَكُونُ مُعْتَمِدًا فِي دَعْوَاهُ عَلَى سَبَبٍ فَاسِدٍ، كَأَنْ يَكُونَ ثَمَنَ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَيْتَةٍ، فَإِنَّ كُلَّ هَذَا وَنَحْوَهُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ.
ج- وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذِكْرِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ، سَوَاءٌ أَكَانَ قِيَمِيًّا أَمْ مِثْلِيًّا، لِتَعَدُّدِ الْأَسْبَابِ وَكَثْرَتِهَا، وَفِي إِيجَابِ ذِكْرِهَا عَلَى الْمُدَّعِي حَرَجٌ كَبِيرٌ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ ضَيَاعُ حُقُوقِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَوَجَبَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ.
وَفِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي مِنْهَا ذُكُورٌ وَمِنْهَا إِنَاثٌ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ صِفَةِ الْأُنُوثَةِ أَوِ الذُّكُورَةِ فِي الدَّعْوَى.
كَيْفِيَّةُ الْعِلْمِ بِالْمُدَّعَى بِهِ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ:
51- إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ نَقْدًا، فَإِنَّهُ يُعْلَمُ بِبَيَانِ جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ وَوَصْفِهِ وَقَدْرِهِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ النَّقْدُ مُتَعَارَفًا عَلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ لِذِكْرِ غَيْرِ قَدْرِهِ.وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مِثْلِيًّا، فَإِنَّهُ يُعْلَمُ بِمِثْلِ مَا يُعْلَمُ بِهِ النَّقْدُ.وَإِذْ كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ عَيْنًا قِيَمِيَّةً، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا تَكُونُ فِي الدَّعْوَى فِي هَذِهِ الْحَالِ دَعْوَى دَيْنٍ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ هَالِكَةً، فَإِذَا كَانَتْ هَالِكَةً تُعْلَمُ بِذِكْرِ قِيمَتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِلاَّ فَلَا تُعْلَمُ إِلاَّ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا.
وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ تَثْبُتُ الْأَعْيَانُ الْقِيَمِيَّةُ فِي الذِّمَّةِ إِذَا كَانَتْ مِمَّا يَنْضَبِطُ بِالْوَصْفِ، وَعِنْدَئِذٍ تُعْلَمُ عِنْدَهُمْ بِذِكْرِ أَوْصَافِهَا الَّتِي تَنْضَبِطُ بِهَا، وَهِيَ الْأَوْصَافُ الَّتِي يُشْتَرَطُ ذِكْرُهَا فِي عَقْدِ السَّلَمِ.
الْعِلْمُ بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ:
52- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ ذِكْرِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ عَلَى الْآرَاءِ الْآتِيَةِ:
أ- فَذَهَبَ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ ذِكْرِ السَّبَبِ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ، وَإِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُدَّعِي أَنْ يُبَيِّنَ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ تَرَتَّبَ لَهُ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهَلْ هُوَ مِنْ قَرْضٍ أَوْ عَقْدٍ أَوْ إِتْلَافٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ.وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ كُلَّ دَيْنٍ لَا بُدَّ لِتَرَتُّبِهِ فِي الذِّمَّةِ مِنْ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَمِ مِنِ اشْتِغَالِهَا بِالدُّيُونِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ لِكُلِّ دَيْنٍ فَيَجِبُ عَلَى مُدَّعِي الدَّيْنِ بَيَانُ سَبَبِهِ، لِأَنَّ الْأَسْبَابَ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا، فَإِنْ كَانَ سَبَبُ الدَّيْنِ عَقْدَ السَّلَمِ مَثَلًا، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ ثَمَنَ مَبِيعٍ، حَيْثُ يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ.وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى قَدْ يَكُونُ السَّبَبُ بَاطِلًا كَأَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ ثَمَنَ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ نَتِيجَةَ مُقَامَرَةٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَيَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِهِ لِيُعْرَفَ ذَلِكَ.وَمِنْ جِهَةٍ ثَالِثَةٍ فَإِنَّ بَعْضَ الْأَسْبَابِ لَا يَصِحُّ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا فِي دَعْوَى الدَّيْنِ، كَمَا لَوِ ادَّعَى دَيْنًا عَلَى شَخْصٍ وَقَالَ: إِنَّهُ نَتِيجَةٌ لِحِسَابٍ بَيْنَهُمَا، أَوْ أَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِهِ، فَيَدَّعِي عَلَيْهِ بِسَبَبِ هَذَا الْإِقْرَارِ.
ب- وَذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذِكْرُ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ إِلاَّ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مِنَ النُّقُودِ الَّتِي انْقَطَعَ التَّعَامُلُ بِهَا وَفِي الْمِثْلِيَّاتِ.
وَفِي حَالَةِ دَعْوَى الْمَرْأَةِ الدَّيْنَ فِي تَرِكَةِ زَوْجِهَا، لِأَنَّهَا قَدْ تَظُنُّ أَنَّ النَّفَقَةَ تَصْلُحُ سَبَبًا لِإِيجَادِ الدَّيْنِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ مَعَ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ الزَّوْجِ.وَعَلَّلُوا عَدَمَ اشْتِرَاطِ ذِكْرِ السَّبَبِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَاتِ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ يَسْتَحْيِي مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْحَرَجِ، وَبِأَنَّ هُنَاكَ بَعْضَ الْأَسْبَابِ لَا يُمْكِنُ بَيَانُهَا، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا انْتَقَلَ إِلَى الْمُدَّعِي سَنَدُ دَيْنٍ مِنْ مُورِثِهِ، وَكَانَ سَبَبُ الدَّيْنِ غَيْرَ مَذْكُورٍ فِي السَّنَدِ، وَالْمُدَّعِي لَا يَعْرِفُهُ.
ج- وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دَعْوَى الدَّيْنِ تَكُونُ صَحِيحَةً وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى.وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ أَسْبَابَ الْمِلْكِ تَكُونُ مِنْ جِهَاتٍ شَتَّى يَكْثُرُ عَدَدُهَا، كَالْإِرْثِ وَالِابْتِيَاعِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَسَقَطَ وُجُوبُ الْكَشْفِ عَنْ سَبَبِهَا لِكَثْرَتِهَا وَاخْتِلَافِهَا.
كَيْفِيَّةُ الْعِلْمِ بِالْمُدَّعَى بِهِ فِي دَعْوَى الْعَقْدِ:
53- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ ذِكْرِ شُرُوطِ الْعَقْدِ لِصِحَّةِ دَعْوَاهُ عَلَى أَقْوَالٍ:
أ- فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الدَّعْوَى بَيَانُ شُرُوطِ كُلِّ سَبَبٍ لَهُ شُرُوطٌ كَثِيرَةٌ وَمُعَقَّدَةٌ، فَلَا تَصِحُّ دَعْوَى النِّكَاحِ وَالسَّلَمِ إِلاَّ بِذِكْرِ شُرُوطِهِمَا مُفَصَّلَةً.وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ ذِكْرَ الطَّوْعِ وَالرَّغْبَةِ فِي دَعْوَى الْعَقْدِ، وَخَالَفَ آخَرُونَ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ بَيْنَ النَّاسِ هُوَ الطَّوْعُ، وَالْإِكْرَاهُ نَادِرٌ لَا حُكْمَ لَهُ.
ب- وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذِكْرُ شُرُوطِ الْعَقْدِ فِي دَعْوَاهُ، لِأَنَّ ظَاهِرَ عُقُودِ الْمُسْلِمِينَ الصِّحَّةُ، فَتُحْمَلُ الدَّعْوَى عَلَى الصَّحِيحِ.
ج- وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذِكْرُ شُرُوطِ الْعَقْدِ فِي دَعْوَاهُ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْعَقْدُ عَقْدَ نِكَاحٍ، حَيْثُ اشْتَرَطُوا ذِكْرَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ بِشَاهِدَيْنِ وَوَلِيٍّ وَرِضَاهَا.وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْفَائِتَ فِي الزَّوَاجِ بِالْحُكْمِ الْخَاطِئِ لَا يُعَوَّضُ، خِلَافًا لِلْعُقُودِ الْأُخْرَى، فَإِنَّهَا أَقَلُّ خَطَرًا، فَأَشْبَهَتْ دَعْوَاهُ دَعْوَى الْقَتْلِ، حَيْثُ اتُّفِقَ عَلَى وُجُوبِ ذِكْرِ شُرُوطِهِ.وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي أَيِّ عَقْدٍ آخَرَ، وَبِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- خَصَّهُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْعُقُودِ فَقَالَ: «لَا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ».وَلَوْلَا هَذَا التَّخْصِيصُ لَكَانَ كَغَيْرِهِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ حَمَلُوهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ.
د- وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ ذِكْرِ شُرُوطِ الْعَقْدِ فِي دَعْوَاهُ مَهْمَا كَانَ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ عَقْدِ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ، وَلَا بَيْنَ مَا هُوَ كَثِيرُ الشُّرُوطِ وَقَلِيلُهَا.
ذِكْرُ السَّبَبِ فِي الدَّعَاوَى الْجِنَائِيَّةِ:
54- لَمْ يَخْتَلِفِ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ ذِكْرِ السَّبَبِ فِي الدَّعْوَى الْجِنَائِيَّةِ، فَفِي دَعْوَى الْقَتْلِ مَثَلًا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ الْقَتْلِ وَهَلْ هُوَ عَنْ عَمْدٍ أَوْ عَنْ خَطَإٍ، وَإِلاَّ فَإِنَّ الدَّعْوَى لَا تَكُونُ صَحِيحَةً حَتَّى يُصَحِّحَهَا صَاحِبُهَا، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْفَائِتَ بِالْقَتْلِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْجِنَايَاتِ لَا يُعَوَّضُ، وَقَدْ يُحْكَمُ بِشَيْءٍ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ بَعْدَ الْحُكْمِ، وَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ الصَّادِرَةَ فِي هَذِهِ الدَّعَاوَى تَتَعَلَّقُ بِالْأُصُولِ الَّتِي جَاءَ الْإِسْلَامُ لِحِفْظِهَا، وَهِيَ الدِّيْنُ وَالنَّفْسُ وَالْعَقْلُ وَالنَّسْلُ وَالْمَالُ، فَلَا يَجُوزُ التَّهَاوُنُ فِي أَمْرِهَا، وَلِأَنَّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ تُدْفَعُ بِالشُّبُهَاتِ، وَعَدَمُ التَّفْصِيلِ فِي دَعْوَاهَا يُورِثُ شُبْهَةً، فَلَا تُقْبَلُ.
وَلَا بُدَّ فِي دَعْوَى الْإِرْثِ مِنْ ذِكْرِ سَبَبِهِ، فَيَذْكُرُ مِنْ أَيَّةِ جِهَةٍ اسْتَحَقَّ الْإِرْثَ مِنَ الْمَيِّتِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
30-موسوعة الفقه الكويتية (صلاة الجماعة 2)
صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ-2الصَّلَاةُ عِنْدَ قِيَامِ الْجَمَاعَةِ:
18- مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، وَقَدْ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي إِقَامَةِ الصَّلَاةِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الِانْشِغَالُ عَنْهَا بِنَافِلَةٍ، سَوَاءٌ أَخَشِيَ فَوَاتَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَمْ لَمْ يَخْشَ فَوَاتَهَا؛ لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ» وَلِأَنَّ مَا يَفُوتُهُ مَعَ الْإِمَامِ أَفْضَلُ مِمَّا يَأْتِي بِهِ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِهِ، وَقَدْ رَوَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ حِينَ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَرَأَى نَاسًا يُصَلُّونَ، فَقَالَ: أَصَلَاتَانِ مَعًا؟».وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعُرْوَةُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ سُنَّةِ الْفَجْرِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي سُنَّةِ الْفَجْرِ: إِذَا خَافَ فَوْتَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ لِاشْتِغَالِهِ بِسُنَّتِهَا تَرَكَهَا؛ لِكَوْنِ الْجَمَاعَةِ أَكْمَلَ، فَلَا يَشْرَعُ فِيهَا.وَإِذَا رَجَا إِدْرَاكَ رَكْعَةٍ مَعَ الْإِمَامِ فَلَا يَتْرُكُ سُنَّةَ الْفَجْرِ، بَلْ يُصَلِّيهَا، وَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: إِذَا رَجَا إِدْرَاكَ التَّشَهُّدِ مَعَ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي السُّنَّةَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِهِ إِنْ وَجَدَ مَكَانًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَكَانًا تَرَكَهَا وَلَا يُصَلِّيهَا دَاخِلَ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ اشْتِغَالِ الْإِمَامِ بِالْفَرِيضَةِ مَكْرُوهٌ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ دَخَلَ وَالْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فَرَكَعَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَسَنِ، وَمَكْحُولٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ.
19- وَمَنْ كَانَ يُصَلِّي النَّافِلَةَ، ثُمَّ أُقِيمَتْ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ لَمْ يَخْشَ فَوَاتَ الْجَمَاعَةِ بِسَلَامِ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ يُتِمُّ النَّافِلَةَ، وَلَا يَقْطَعُهَا؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ثُمَّ يَدْخُلُ فِي الْجَمَاعَةِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ لَمْ يَخْشَ فَوَاتَ رَكْعَةٍ بِإِتْمَامِ النَّافِلَةِ بِأَنْ تَحَقَّقَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ يُدْرِكُ الْإِمَامَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى عَقِبَ إِتْمَامِ مَا هُوَ فِيهِ أَتَمَّهَا، ثُمَّ دَخَلَ مَعَ الْجَمَاعَةِ.
أَمَّا إِنْ خَشِيَ فَوَاتَ الْجَمَاعَةِ- كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- أَوْ خَشِيَ فَوَاتَ رَكْعَةٍ- كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ- فَإِنَّهُ يَقْطَعُ النَّافِلَةَ وُجُوبًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَنَدْبًا فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوُجُوبًا فِي الْجُمُعَةِ (أَيْ إِنْ كَانَتِ الَّتِي يُصَلِّيهَا الْإِمَامُ هِيَ الْجُمُعَةَ)، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ قُدَامَةَ، إِحْدَاهُمَا: يُتِمُّ النَّافِلَةَ، وَالثَّانِيَةُ: يَقْطَعُهَا؛ لِأَنَّ مَا يُدْرِكُهُ مِنَ الْجَمَاعَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا وَأَكْثَرُ ثَوَابًا مِمَّا يَفُوتُهُ بِقَطْعِ النَّافِلَةِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى صَلَاةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَلَمْ يُقَيِّدُوا الْقَطْعَ أَوِ الْإِتْمَامَ بِإِدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ، أَوْ عَدَمِ إِدْرَاكِهَا؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي النَّافِلَةِ عِنْدَهُمْ يَجْعَلُهَا وَاجِبَةً، وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: الشَّارِعُ فِي نَفْلٍ لَا يَقْطَعُ مُطْلَقًا إِذَا أُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ وَهُوَ فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ، بَلْ يُتِمُّهُ رَكْعَتَيْنِ، وَإِذَا كَانَ فِي سُنَّةِ الظُّهْرِ، أَوْ سُنَّةِ الْجُمُعَةِ، إِذَا أُقِيمَتِ الظُّهْرُ، أَوْ خَطَبَ الْإِمَامُ، فَإِنَّهُ يُتِمُّهَا أَرْبَعًا عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ.
وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْكَمَالِ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ مَا نَصُّهُ: وَقِيلَ: يَقْطَعُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي سُنَّةِ الظُّهْرِ وَالْجُمُعَةِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ قَضَائِهَا بَعْدَ الْفَرْضِ.وَهَذَا حَيْثُ لَمْ يَقُمْ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ.أَمَّا إِنْ قَامَ إِلَيْهَا وَقَيَّدَهَا بِسَجْدَةٍ فَفِي رِوَايَةِ النَّوَادِرِ يُضِيفُ إِلَيْهَا رَابِعَةً وَيُسَلِّمُ، وَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْهَا بِسَجْدَةٍ فَقِيلَ: يُتِمُّهَا أَرْبَعًا، وَيُخَفِّفُ الْقِرَاءَةَ.وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى الْقَعْدَةِ وَيُسَلِّمُ، وَهَذَا أَشْبَهُ، قَالَ فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُتِمَّهَا.
20- وَإِنْ أُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ وَالْمُنْفَرِدُ يُصَلِّي الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ الَّتِي يُؤَدِّيهَا الْإِمَامُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَيَّدَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى بِالسُّجُودِ قَطَعَ صَلَاتَهُ، وَاقْتَدَى، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَقَدَ رَكْعَةً بِالسُّجُودِ، فَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ أَوِ الْمَغْرِبِ قَطَعَ صَلَاتَهُ وَاقْتَدَى بِالْإِمَامِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ قَدْ قَامَ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَقَيَّدَهَا بِالسُّجُودِ فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُتِمُّ صَلَاتَهُ.وَلَا يَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِكَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَبِالثَّلَاثِ فِي الْمَغْرِبِ.
وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ، لَكِنِ الْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: يَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَلَا يَدْخُلُ مَعَهُ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ.وَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ رُبَاعِيَّةً، وَكَانَ الْمُنْفَرِدُ قَدْ قَيَّدَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى بِالسُّجُودِ، شَفَعَ بِرَكْعَةٍ أُخْرَى، وَسَلَّمَ وَاقْتَدَى بِالْإِمَامِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَقَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ لِلْجُلُوسِ، وَيُعِيدُ التَّشَهُّدَ، وَيُسَلِّمُ وَيَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ.وَإِنْ كَانَ قَدْ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ فَإِنَّهُ يُتِمُّ صَلَاتَهُ، وَيَقْتَدِي بِالْإِمَامِ مُتَنَفِّلًا، إِلاَّ فِي الْعَصْرِ، كَمَا هُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِكَرَاهَةِ النَّفْلِ بَعْدَهُ.
21- مَنْ شَرَعَ فِي صَلَاةٍ فَائِتَةٍ وَأُقِيمَتِ الْحَاضِرَةُ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ صَلَاتَهُ، لَكِنَّهُ لَوْ خَافَ فَوْتَ جَمَاعَةِ الْحَاضِرَةِ قَبْلَ قَضَاءِ الْفَائِتَةِ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبَ تَرْتِيبٍ قَضَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَقْتَدِي؛ لِإِحْرَازِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ، مَعَ جَوَازِ تَأْخِيرِ الْقَضَاءِ وَإِمْكَانِ تَلَافِيهِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنِ الْخَيْرِ الرَّمْلِيِّ: وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا، أَوْ فِي حُكْمِ الْوَاجِبِ.
أَمَّا إِذَا شَرَعَ فِي قَضَاءِ فَرْضٍ، وَأُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ فِي ذَلِكَ الْفَرْضِ بِعَيْنِهِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ وَيَقْتَدِي.وَعُزِيَ لِلْخُلَاصَةِ: أَنَّهُ لَوْ شَرَعَ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ، ثُمَّ أُقِيمَتْ لَا يَقْطَعُ، هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ شَرَعَ فِي فَرِيضَةٍ، وَأُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ فِي غَيْرِهَا، بِأَنْ كَانَ فِي ظُهْرٍ، فَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْعَصْرُ مَثَلًا قَطَعَ صَلَاتَهُ الَّتِي فِيهَا إِنْ خَشِيَ، بِأَنْ تَحَقَّقَ أَوْ ظَنَّ فَوَاتَ رَكْعَةٍ مَعَ الْإِمَامِ، وَإِنْ لَمْ يَخْشَ فَوَاتَ رَكْعَةٍ مَعَ الْإِمَامِ بِأَنْ تَحَقَّقَ أَوْ ظَنَّ إِدْرَاكَهُ فِي الْأُولَى عَقِبَ إِتْمَامِ مَا هُوَ فِيهِ فَلَا يَقْطَعُ بَلْ يُتِمُّ صَلَاتَهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ كَانَ يُصَلِّي فَائِتَةً، وَالْجَمَاعَةُ تُصَلِّي الْحَاضِرَةَ فَلَا يَقْلِبُ صَلَاتَهُ نَفْلًا لِيُصَلِّيَهَا جَمَاعَةً، إِذْ لَا تُشْرَعُ فِيهَا الْجَمَاعَةُ حِينَئِذٍ، خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ، فَإِنْ كَانَتِ الْجَمَاعَةُ فِي تِلْكَ الْفَائِتَةِ بِعَيْنِهَا جَازَ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ لَا يُنْدَبُ، أَيْ جَازَ قَطْعُ صَلَاتِهِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَيَقْتَدِي بِالْإِمَامِ.
مَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَصَدَ الْجَمَاعَةَ:
22- يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ إِذَا أَقْبَلَ إِلَى الصَّلَاةِ: أَنْ يُقْبِلَ بِخَوْفٍ وَوَجَلٍ وَخُشُوعٍ وَخُضُوعٍ، وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَإِنْ سَمِعَ الْإِقَامَةَ لَمْ يَسْعَ إِلَيْهَا فِي عَجَلَةٍ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ، وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: فَلَا تَفْعَلُوا، إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا»، وَفِي رِوَايَةٍ: «فَاقْضُوا».
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو إِسْحَاقَ: إِنْ خَافَ فَوَاتَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى فَلَا بَأْسَ أَنْ يُسْرِعَ إِذَا طَمِعَ أَنْ يُدْرِكَهَا مَا لَمْ يَكُنْ عَجَلَةً تَقْبُحُ، جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَجِّلُونَ شَيْئًا إِذَا خَافُوا فَوَاتَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى، وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ اشْتَدَّ إِلَى الصَّلَاةِ وَقَالَ: بَادِرُوا حَدَّ الصَّلَاةِ يَعْنِي التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ لِلصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ لِإِدْرَاكِ فَضْلِهَا إِسْرَاعًا يَسِيرًا بِلَا خَبَبٍ أَيْ بِلَا جَرْيٍ يُذْهِبُ الْخُشُوعَ، فَيُكْرَهُ، وَلَوْ خَافَ فَوَاتَ إِدْرَاكِهَا وَلَوْ جُمُعَةً؛ لِأَنَّ لَهَا بَدَلًا؛ وَلِأَنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا أَذِنَ فِي السَّعْيِ مَعَ السَّكِينَةِ، فَانْدَرَجَتِ الْجُمُعَةُ وَغَيْرُهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلٍّ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهِ وَيَضِيقُ الْوَقْتُ، بِحَيْثُ يَخْشَى فَوَاتَهُ إِنْ لَمْ يُسْرِعْ، فَيَجِبُ حِينَئِذٍ.
كَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ ضَاقَ الْوَقْتُ وَخَشِيَ فَوَاتَهُ فَلْيُسْرِعْ، كَمَا لَوْ خَشِيَ فَوَاتَ الْجُمُعَةِ وَكَذَلِكَ لَوِ امْتَدَّ الْوَقْتُ، وَكَانَتْ لَا تَقُومُ إِلاَّ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يُسْرِعْ لَتَعَطَّلَتْ، قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَارِبَ بَيْنَ خَطْوِهِ لِتَكْثُرَ حَسَنَاتُهُ، فَإِنَّ كُلَّ خُطْوَةٍ يُكْتَبُ لَهُ بِهَا حَسَنَةٌ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: «أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَمْشِي وَأَنَا مَعَهُ فَقَارَبَ فِي الْخُطَى ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرِي لِمَ فَعَلْتُ هَذَا؟ لِتَكْثُرَ خُطَانَا فِي طَلَبِ الصَّلَاةِ».
كَيْفِيَّةُ انْتِظَامِ الْمُصَلِّينَ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ:
23- إِذَا انْعَقَدَتِ الْجَمَاعَةُ بِأَقَلَّ مَا تَنْعَقِدُ بِهِ (وَاحِدٌ مَعَ الْإِمَامِ) فَالسُّنَّةُ أَنْ يَقِفَ الْمَأْمُومُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ إِذَا كَانَ رَجُلًا أَوْ صَبِيًّا يَعْقِلُ، فَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً أَقَامَهَا خَلْفَهُ، وَلَوْ كَانَ مَعَ الْإِمَامِ اثْنَانِ، فَإِنْ كَانَا رَجُلَيْنِ أَقَامَهُمَا خَلْفَهُ، وَإِنْ كَانَا رَجُلًا وَامْرَأَةً أَقَامَ الرَّجُلَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْمَرْأَةَ خَلْفَ الرَّجُلِ.
وَلَوْ كَانَتِ الْجَمَاعَةُ كَثِيرَةً وَفِيهِمْ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ قَامَ الرِّجَالُ فِي الصُّفُوفِ الْأُولَى خَلْفَ الْإِمَامِ، ثُمَّ قَامَ الصِّبْيَانُ مِنْ وَرَاءِ الرِّجَالِ، ثُمَّ قَامَ النِّسَاءُ مِنْ وَرَاءِ الصِّبْيَانِ.
وَفِي جَمَاعَةِ النِّسَاءِ تَقِفُ الَّتِي تَؤُمُّ النِّسَاءَ وَسَطَهُنَّ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ الْإِمَامُ عَنِ الْمَأْمُومِينَ فِي الْمَوْقِفِ، وَلَا يَكُونُ مَوْقِفُ الْإِمَامِ أَعْلَى مِنْ مَوْقِفِ الْمُقْتَدِينَ.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: مُصْطَلَحِ (إِمَامَةُ الصَّلَاةِ ج 6 ف 20- 21- 22).
أَفْضَلِيَّةُ الصُّفُوفِ وَتَسْوِيَتُهَا:
24- يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَقَدَّمَ النَّاسُ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ؛ لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى التَّقَدُّمِ إِلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ، فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ لَكَانَتْ قُرْعَةً» وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الصَّفُّ الْأَوَّلُ عَلَى مِثْلِ صَفِّ الْمَلَائِكَةِ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ فَضِيلَتَهُ لَابْتَدَرْتُمُوهُ».
كَمَا يُسْتَحَبُّ إِتْمَامُ الصُّفُوفِ، وَلَا يَشْرَعُ فِي صَفٍّ حَتَّى يُتِمَّ مَا قَبْلَهُ، فَيَبْدَأُ بِإِتْمَامِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ وَهَكَذَا إِلَى آخِرِ الصُّفُوفِ، فَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ».
وَيُسْتَحَبُّ الِاعْتِدَالُ فِي الصُّفُوفِ، فَإِذَا وَقَفُوا فِي الصَّفِّ لَا يَتَقَدَّمُ بَعْضُهُمْ بِصَدْرِهِ أَوْ غَيْرِهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَيُسَوِّي الْإِمَامُ بَيْنَهُمْ فَفِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ عَنِ الْبَرَاءِ «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَأْتِي نَاحِيَةَ الصَّفِّ وَيُسَوِّي بَيْنَ صُدُورِ الْقَوْمِ وَمَنَاكِبِهِمْ، وَيَقُولُ: لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصُّفُوفِ الْأُوَلِ».
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْأُوَلَ، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ» وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: «أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي وَكَانَ أَحَدُنَا يَلْزَقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ».
كَمَا يُسْتَحَبُّ سَدُّ الْفُرَجِ، وَالْإِفْسَاحُ لِمَنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الصَّفِّ.فَقَدْ وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَقِيمُوا الصُّفُوفَ، وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ وَسُدُّوا الْخَلَلَ، وَلِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ».
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاسْتِحْبَابُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ إِلَى آخِرِهَا- هَذَا الْحُكْمُ مُسْتَمِرٌّ فِي صُفُوفِ الرِّجَالِ بِكُلِّ حَالٍ، وَكَذَا فِي صُفُوفِ النِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ بِجَمَاعَتِهِنَّ عَنْ جَمَاعَةِ الرِّجَالِ، أَمَّا إِذَا صَلَّتِ النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَالِ جَمَاعَةً وَاحِدَةً، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ فَأَفْضَلُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا.
لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا».
صَلَاةُ الرَّجُلِ وَحْدَهُ خَلْفَ الصُّفُوفِ:
25- الْأَصْلُ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُونَ صُفُوفًا مُتَرَاصَّةً كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ- وَلِذَلِكَ يُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَاحِدٌ مُنْفَرِدًا خَلْفَ الصُّفُوفِ دُونَ عُذْرٍ، وَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَتَنْتَفِي الْكَرَاهَةُ بِوُجُودِ الْعُذْرِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: - الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ- وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ «أَبِي بَكْرَةَ: أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ».
قَالَ الْفُقَهَاءُ: يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ لُزُومِ الْإِعَادَةِ، وَأَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي وَرَدَ فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ».هَذَا الْأَمْرُ بِالْإِعَادَةِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ؛ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ صَلَّى وَحْدَهُ رَكْعَةً كَامِلَةً خَلْفَ الصَّفِّ مُنْفَرِدًا دُونَ عُذْرٍ؛ لِحَدِيثِ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ».
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ: «أَنَّهُ صَلَّى بِهِمُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَانْصَرَفَ، وَرَجُلٌ فَرْدٌ خَلْفَ الصَّفِّ، قَالَ: فَوَقَفَ عَلَيْهِ نَبِيُّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ انْصَرَفَ قَالَ: اسْتَقْبِلْ صَلَاتَكَ، لَا صَلَاةَ لِلَّذِي خَلْفَ الصَّفِّ».
فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ فَإِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ نَهَاهُ فَقَالَ: «لَا تُعِدْ»، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَعُذْرُهُ فِيمَا فَعَلَهُ لِجَهْلِهِ بِتَحْرِيمِهِ، وَلِلْجَهْلِ تَأْثِيرٌ فِي الْعَفْوِ.
وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ كَيْفِيَّةِ تَصَرُّفِ الْمَأْمُومِ لِيَجْتَنِبَ الصَّلَاةَ مُنْفَرِدًا خَلْفَ الصَّفِّ، حَتَّى تَنْتَفِيَ الْكَرَاهَةُ، كَمَا يَقُولُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَتَصِحُّ كَمَا يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ:
26- مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَقَدْ أُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ، فَإِنْ وَجَدَ فُرْجَةً فِي الصَّفِّ الْأَخِيرِ وَقَفَ فِيهَا، أَوْ وَجَدَ الصَّفَّ غَيْرَ مَرْصُوصٍ وَقَفَ فِيهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يَصِلُونَ الصُّفُوفَ».
وَإِنْ وَجَدَ الْفُرْجَةَ فِي صَفٍّ مُتَقَدِّمٍ فَلَهُ أَنْ يَخْتَرِقَ الصُّفُوفَ لِيَصِلَ إِلَيْهَا لِتَقْصِيرِ الْمُصَلِّينَ فِي تَرْكِهَا، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ نَظَرَ إِلَى فُرْجَةٍ فِي صَفٍّ فَلْيَسُدَّهَا بِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَمَرَّ مَارٌّ، فَلْيَتَخَطَّ عَلَى رَقَبَتِهِ فَإِنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ».
وَلِأَنَّ سَدَّ الْفُرْجَةِ الَّتِي فِي الصُّفُوفِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لَهُ وَلِلْقَوْمِ بِإِتْمَامِ صَلَاتِهِ وَصَلَاتِهِمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ.وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِسَدِّ الْفُرَجِ.
وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ إِذْ إِنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ يُحَدِّدُ الصُّفُوفَ الَّتِي يَجُوزُ اخْتِرَاقُهَا بِصَفَّيْنِ غَيْرِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ وَاَلَّذِي دَخَلَ فِيهِ، كَذَلِكَ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ كَانَتِ الْفُرْجَةُ بِحِذَائِهِ كُرِهَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَيْهَا عَرْضًا بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ».
27- وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فُرْجَةً فِي أَيِّ صَفٍّ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَهُ حِينَئِذٍ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ لَمْ يَجِدْ فُرْجَةً يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَظِرَ مَنْ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ لِيَصْطَفَّ مَعَهُ خَلْفَ الصَّفِّ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدًا وَخَافَ فَوَاتَ الرَّكْعَةِ جَذَبَ مِنَ الصَّفِّ إِلَى نَفْسِهِ مَنْ يَعْرِفُ مِنْهُ عِلْمًا وَخُلُقًا لِكَيْ لَا يَغْضَبَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ وَقَفَ خَلْفَ الصَّفِّ بِحِذَاءِ الْإِمَامِ، وَلَا كَرَاهَةَ حِينَئِذٍ، لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ الْعُذْرِ، هَكَذَا ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ فِي الْبَدَائِعِ، لَكِنْ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ ذَكَرَ فِي الْفَتْحِ: أَنَّ مَنْ جَاءَ وَالصَّفُّ مَلْآنُ يَجْذِبُ وَاحِدًا مِنْهُ، لِيَكُونَ مَعَهُ صَفًّا آخَرَ، ثُمَّ قَالَ: وَيَنْبَغِي لِذَلِكَ (أَيْ لِمَنْ كَانَ فِي الصَّفِّ) أَنْ لَا يُجِيبَهُ، فَتَنْتَفِيَ الْكَرَاهَةُ عَنْ هَذَا؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ وُسْعَهُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الدُّخُولُ فِي الصَّفِّ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي مُنْفَرِدًا عَنِ الْمَأْمُومِينَ، وَلَا يَجْذِبُ أَحَدًا مِنَ الصَّفِّ، وَإِنْ جَذَبَ أَحَدًا فَلَا يُطِعْهُ الْمَجْذُوبُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْجَذْبِ وَالْإِطَاعَةِ مَكْرُوهٌ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدْ فُرْجَةً وَلَا سِعَةً فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجُرَّ إِلَيْهِ شَخْصًا مِنَ الصَّفِّ لِيَصْطَفَّ مَعَهُ، لَكِنْ مَعَ مُرَاعَاةِ أَنَّ الْمَجْرُورَ سَيُوَافِقُهُ، وَإِلاَّ فَلَا يَجُرُّ أَحَدًا مَنْعًا لِلْفِتْنَةِ، وَإِذَا جَرَّ أَحَدًا فَيُنْدَبُ لِلْمَجْرُورِ أَنْ يُسَاعِدَهُ لِيَنَالَ فَضْلَ الْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى.
وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ- وَهُوَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ- أَنَّهُ يَقِفُ مُنْفَرِدًا، وَلَا يَجْذِبُ أَحَدًا؛ لِئَلاَّ يُحْرِمَ غَيْرَهُ فَضِيلَةَ الصَّفِّ السَّابِقِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا فِي الصَّفِّ يَقِفُ فِيهِ وَقَفَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ إِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَوْقِفُ الْوَاحِدِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْوُقُوفُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ فَلَهُ أَنْ يُنَبِّهَ رَجُلًا مِنَ الصَّفِّ لِيَقِفَ مَعَهُ، وَيُنَبِّهَهُ بِكَلَامٍ أَوْ بِنَحْنَحَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ وَيَتْبَعُهُ مَنْ يُنَبِّهُهُ.وَظَاهِرُهُ وُجُوبًا لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ.وَيُكْرَهُ تَنْبِيهُهُ بِجَذْبِهِ نَصًّا، وَاسْتَقْبَحَهُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: جَوَّزَ أَصْحَابُنَا جَذْبَ رَجُلٍ يَقُومُ مَعَهُ صَفًّا، وَصَحَّحَ ذَلِكَ ابْنُ قُدَامَةَ؛ لِأَنَّ الْحَالَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ، فَجَازَ كَالسُّجُودِ عَلَى ظَهْرِهِ أَوْ قَدَمِهِ حَالَ الزِّحَامِ.وَلَيْسَ هَذَا تَصَرُّفًا فِيهِ، إِنَّمَا هُوَ تَنْبِيهُهُ لِيَخْرُجَ مَعَهُ، فَجَرَى مَجْرَى مَسْأَلَتِهِ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُ، وَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ» فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهُ لَمْ يُكْرِهْهُ وَصَلَّى وَحْدَهُ.
الْأَعْذَارُ الَّتِي تُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ:
الْأَعْذَارُ الَّتِي تُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ: مِنْهَا مَا هُوَ عَامٌّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي: -
أَوَّلًا: الْأَعْذَارُ الْعَامَّةُ:
28- أ- الْمَطَرُ الشَّدِيدُ الَّذِي يَشُقُّ مَعَهُ الْخُرُوجُ لِلْجَمَاعَةِ، وَاَلَّذِي يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى تَغْطِيَةِ رُءُوسِهِمْ.
ب- الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ لَيْلًا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ.
ج- الْبَرْدُ الشَّدِيدُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، وَكَذَلِكَ الْحَرُّ الشَّدِيدُ.وَالْمُرَادُ الْبَرْدُ أَوِ الْحَرُّ الَّذِي يَخْرُجُ عَمَّا أَلِفَهُ النَّاسُ أَوْ أَلِفَهُ أَصْحَابُ الْمَنَاطِقِ الْحَارَّةِ أَوِ الْبَارِدَةِ.
د- الْوَحْلُ الشَّدِيدُ الَّذِي يَتَأَذَّى بِهِ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ وَثِيَابِهِ، وَلَا يُؤْمَنُ مَعَهُ التَّلَوُّثُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنِ الْجَمَاعَةِ فِي طِينٍ وَرَدْغَةٍ فَقَالَ: لَا أُحِبُّ تَرْكَهَا.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَفِي شَرْحِ الزَّاهِدِيِّ عَنْ شَرْحِ التُّمُرْتَاشِيِّ: اخْتُلِفَ فِي كَوْنِ الْأَمْطَارِ وَالثُّلُوجِ وَالْأَوْحَالِ وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ عُذْرًا، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِذَا اشْتَدَّ التَّأَذِّي يُعْذَرُ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- وَهُوَ مُقَابِلُ الصَّحِيحِ- أَنَّ الْوَحْلَ لَيْسَ بِعُذْرٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عُذْرٌ.
هـ- الظُّلْمَةُ الشَّدِيدَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا كَوْنُ الْإِنْسَانِ لَا يُبْصِرُ طَرِيقَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ إِيقَادَ نَحْوِ سِرَاجٍ وَإِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ.وَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ الْأَعْذَارِ السَّابِقَةِ مِنْ مَطَرٍ وَغَيْرِهِ تُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ وَمِنْهَا: -
مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَةِ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ فَقَالَ: «أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةً ذَاتَ بَرْدٍ وَمَطَرٍ يَقُولُ: أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ: «كَانَ يَأْمُرُ مُنَادِيَهُ فِي اللَّيْلَةِ الْمُمْطِرَةِ وَاللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ ذَاتِ الرِّيحِ أَنْ يَقُولَ: أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ».
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ: إِذَا قُلْتَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلَا تَقُلْ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ.قُلْ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ.قَالَ: فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَاكَ.فَقَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَا؟ قَدْ فَعَلَ ذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي.إِنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ.وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ، فَتَمْشُوا فِي الطِّينِ وَالدَّحْضِ».
ثَانِيًا: الْأَعْذَارُ الْخَاصَّةُ:
أ- الْمَرَضُ:
29- وَهُوَ الْمَرَضُ الَّذِي يَشُقُّ مَعَهُ الْإِتْيَانُ إِلَى الْمَسْجِدِ لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنِ الْجَمَاعَاتِ مِنْ أَجْلِ الْمَرَضِ، وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا مَرِضَ تَخَلَّفَ عَنِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» وَمِنْ ذَلِكَ كِبَرُ السِّنِّ الَّذِي يَشُقُّ مَعَهُ الْإِتْيَانُ إِلَى الْمَسْجِدِ.
ب- الْخَوْفُ:
30- وَهُوَ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ-؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ، فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ، قَالُوا: وَمَا الْعُذْرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ، لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّى».
وَالْخَوْفُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: خَوْفٌ عَلَى النَّفْسِ، وَخَوْفٌ عَلَى الْمَالِ، وَخَوْفٌ عَلَى الْأَهْلِ.
الْأَوَّلُ: أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ سُلْطَانًا يَأْخُذُهُ، أَوْ عَدُوًّا أَوْ لِصًّا أَوْ سَبُعًا أَوْ دَابَّةً أَوْ سَيْلًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْذِيهِ فِي نَفْسِهِ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَخَافَ غَرِيمًا لَهُ يُلَازِمُهُ، وَلَا شَيْءَ مَعَهُ يُوَفِّيَهُ؛ لِأَنَّ حَبْسَهُ بِدَيْنٍ هُوَ مُعْسِرٌ بِهِ ظُلْمٌ لَهُ.فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ عُذْرًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ إِيفَاؤُهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ: الْخَوْفُ مِنْ تَوْقِيعِ عُقُوبَةٍ، كَتَعْزِيرٍ وَقَوَدٍ وَحَدِّ قَذْفٍ مِمَّا يَقْبَلُ الْعَفْوَ.فَإِنْ كَانَ يَرْجُو الْعَفْوَ عَنِ الْعُقُوبَةِ إِنْ تَغَيَّبَ أَيَّامًا عَنِ الْجَمَاعَةِ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا.فَإِنْ لَمْ يَرْجُ الْعَفْوَ أَوْ كَانَ الْحَدُّ، مِمَّا لَا يَقْبَلُ الْعَفْوَ كَحَدِّ الزِّنَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ قِصَاصٌ، فَلَمْ يَعْتَبِرْهُ بَعْضُهُمْ عُذْرًا، وَاعْتَبَرَهُ بَعْضُهُمْ عُذْرًا إِنْ رَجَا الْعَفْوَ مَجَّانًا أَوْ عَلَى مَالٍ، وَقَالَ الْقَاضِي: إِنْ كَانَ يَرْجُو الصُّلْحَ عَلَى مَالٍ فَلَهُ التَّخَلُّفُ حَتَّى يُصَالِحَ.أَمَّا الْحُدُودُ، فَمَا كَانَ حَقًّا لآِدَمِيٍّ كَحَدِّ الْقَذْفِ فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ عُذْرًا فِي التَّخَلُّفِ، لَكِنِ ابْنُ مُفْلِحٍ قَالَ فِي كِتَابِهِ الْفُرُوعِ: وَيَتَوَجَّهُ فِيهِ وَجْهٌ: إِنْ رَجَا الْعَفْوَ، قَالَ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ.
أَمَّا الْحُدُودُ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْعَفْوَ فَلَا تُعْتَبَرُ عُذْرًا.
الثَّانِي: أَنْ يَخَافَ عَلَى مَالِهِ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ لِصٍّ، أَوْ يَخَافَ أَنْ يُسْرَقَ مَنْزِلُهُ أَوْ يُحْرَقَ مِنْهُ شَيْءٌ، أَوْ يَكُونَ لَهُ خُبْزٌ فِي تَنُّورٍ أَوْ طَبِيخٌ عَلَى نَارٍ، وَيَخَافُ حَرِيقَهُ بِاشْتِغَالِهِ عَنْهُ، أَوْ يَكُونُ لَهُ غَرِيمٌ إِنْ تَرَكَ مُلَازَمَتَهُ ذَهَبَ بِمَالِهِ، أَوْ يَكُونَ لَهُ بِضَاعَةٌ أَوْ وَدِيعَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ ذَهَبَ، أَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ كَوَدِيعَةٍ أَوْ رَهْنٍ أَوْ عَارِيَّةً مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ حِفْظُهُ، وَيَخَافُ تَلَفَهُ بِتَرْكِهِ.وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْخَوْفُ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ.
الثَّالِثُ: الْخَوْفُ عَلَى الْأَهْلِ: مَنْ وَلَدٍ وَوَالِدٍ وَزَوْجٍ إِنْ كَانَ يَقُومُ بِتَمْرِيضِ أَحَدِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ: الْقِيَامُ بِتَمْرِيضِهِ الْأَجْنَبِيَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِتَمْرِيضِهِ، وَكَانَ يَخْشَى عَلَيْهِ الضَّيَاعَ لَوْ تَرَكَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- اسْتَصْرَخَ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَهُوَ يَتَجَمَّرُ لِلْجُمُعَةِ، فَأَتَاهُ بِالْعَقِيقِ، وَتَرَكَ الْجُمُعَةَ.
ج- حُضُورُ طَعَامٍ تَشْتَاقُهُ نَفْسُهُ وَتُنَازِعُهُ إِلَيْهِ:
31- قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْعَشَاءِ قَبْلَ الصَّلَاةِ؛ لِيَكُونَ أَفْرَغَ لِقَلْبِهِ وَأَحْضَرَ لِبَالِهِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْجَلَ عَنْ عَشَائِهِ أَوْ غَدَائِهِ، فَإِنَّ أَنَسًا رَوَى عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا قَرُبَ الْعَشَاءُ وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ، وَلَا تَعْجَلُوا عَنْ عَشَائِكُمْ» وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَخَافَ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ أَوْ لَا يَخَافَ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ أَنَسٍ: «إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ» وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ وَلَا يَعْجَلُنَّ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ».وَتَعَشَّى ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّمَا يُقَدِّمُ الْعَشَاءَ عَلَى الْجَمَاعَةِ إِذَا كَانَتْ نَفْسُهُ تَتُوقُ إِلَى الطَّعَامِ كَثِيرًا، وَنَحْوَهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ.وَقَالَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ عُمَرُ وَابْنُهُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا نَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ وَفِي أَنْفُسِنَا شَيْءٌ.قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ فَأَكْمَلَ صَلَاتَهُ أَنَّ صَلَاتَهُ تُجْزِئُهُ.
د- مُدَافَعَةُ أَحَدِ الْأَخْبَثَيْنِ:
32- وَمِثْلُهُمَا الرِّيحُ، فَإِنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ يُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ، قَالَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ» وَلِأَنَّ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ مَعَ مُدَافَعَةِ أَحَدِ الْأَخْبَثَيْنِ يُبْعِدُهُ عَنِ الْخُشُوعِ فِيهَا وَيَكُونُ مَشْغُولًا عَنْهَا.
هـ- أَكْلُ ذِي رَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ:
33- وَذَلِكَ كَبَصَلٍ وَثُومٍ وَكُرَّاثٍ وَفُجْلٍ إِذَا تَعَذَّرَ زَوَالُ رَائِحَتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ يُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ، حَتَّى لَا يَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ وَالْمَلَائِكَةُ؛ لِحَدِيثِ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ: الثُّومِ- وَقَالَ مَرَّةً: مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ- فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ».وَالْمُرَادُ أَكْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ نِيئَةً، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْ كَانَتْ حِرْفَتُهُ لَهَا رَائِحَةٌ مُؤْذِيَةٌ، كَالْجَزَّارِ وَالزَّيَّاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.وَمِثْلُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ يَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ، كَجُذَامٍ وَبَرَصٍ، فَفِي كُلِّ ذَلِكَ يُبَاحُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ.
و- الْعُرْيُ:
34- فَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَسْتُرُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ.وَهَذَا إِذَا كَانَ مِنْ عَادَةِ أَمْثَالِهِ الْخُرُوجُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: الْأَلْيَقُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ: أَنَّهُ إِنْ وَجَدَ مَا يَلِيقُ بِأَمْثَالِهِ خَرَجَ لِلْجَمَاعَةِ، وَإِلاَّ فَلَا.
ز- الْعَمَى:
35- اعْتَبَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْعَمَى عُذْرٌ يُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَإِنْ وَجَدَ قَائِدًا.وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عُذْرًا إِلاَّ أَنْ لَا يَجِدَ قَائِدًا، وَلَمْ يَهْتَدِ لِلطَّرِيقِ بِنَفْسِهِ.
ح- إِرَادَةُ السَّفَرِ:
36- مَنْ تَأَهَّبَ لِسَفَرٍ مُبَاحٍ مَعَ رُفْقَةٍ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ، وَكَانَ يَخْشَى إِنْ حَضَرَ الْجَمَاعَةَ أَنْ تَفُوتَهُ الْقَافِلَةُ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ.
ط- غَلَبَةُ النُّعَاسِ وَالنَّوْمِ:
37- فَمَنْ غَلَبَهُ النُّعَاسُ وَالنَّوْمُ إِنِ انْتَظَرَ الْجَمَاعَةَ صَلَّى وَحْدَهُ.وَكَذَلِكَ لَوْ غَلَبَهُ النُّعَاسُ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ «رَجُلًا صَلَّى مَعَ مُعَاذٍ، ثُمَّ انْفَرَدَ فَصَلَّى وَحْدَهُ عِنْدَ تَطْوِيلِ مُعَاذٍ، وَخَوْفِ النُّعَاسِ وَالْمَشَقَّةِ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ أَخْبَرَهُ» وَالْأَفْضَلُ الصَّبْرُ وَالتَّجَلُّدُ عَلَى رَفْعِ النُّعَاسِ وَالصَّلَاةِ جَمَاعَةً.
ي- زِفَافُ الزَّوْجَةِ:
38- فَزِفَافُ الزَّوْجَةِ عُذْرٌ يُبِيحُ لِلزَّوْجِ التَّخَلُّفَ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، لَكِنِ الشَّافِعِيَّةُ قَيَّدُوهُ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَوَاتِ اللَّيْلِيَّةِ فَقَطْ، وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يَعْتَبِرُوا ذَلِكَ عُذْرًا، وَخَفَّفَ مَالِكٌ لِلزَّوْجِ تَرْكَ بَعْضِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ لِلِاشْتِغَالِ بِزَوْجِهِ وَالسَّعْيِ إِلَى تَأْنِيسِهَا وَاسْتِمَالَتِهَا.
39- ك- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْأَعْذَارِ الَّتِي تُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ: الِاشْتِغَالَ بِالْفِقْهِ؛ لَا بِغَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ.كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الْأَعْذَارِ: السِّمَنَ الْمُفْرِطَ.
- رحمه الله-
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
31-موسوعة الفقه الكويتية (عقد 3)
عَقْد -338- أَمَّا عُقُودُ التَّبَرُّعِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ كَوْنِ الْمَحَلِّ مَجْهُولًا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا يَأْتِي:
1- عَقْدُ الْهِبَةِ.
39- يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَوْهُوبِ- وَهُوَ مَحَلُّ عَقْدِ الْهِبَةِ- أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَمُعَيَّنًا، قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: شَرَائِطُ صِحَّةِ الْهِبَةِ فِي الْمَوْهُوبِ: أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا، غَيْرَ مُشَاعٍ، مُمَيَّزًا، غَيْرَ مَشْغُولٍ، فَلَا تَصِحُّ هِبَةُ لَبَنٍ فِي ضَرْعٍ، وَصُوفٍ عَلَى غَنَمٍ، وَنَخْلٍ فِي أَرْضٍ، وَتَمْرٍ فِي نَخْلٍ.
وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: كُلُّ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ تَجُوزُ هِبَتُهُ، وَكُلُّ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا تَجُوزُ هِبَتُهُ، كَمَجْهُولٍ وَمَغْصُوبٍ لِغَيْرِ قَادِرٍ عَلَى انْتِزَاعِهِ، وَضَالٍّ وَآبِقٍ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ تَوَسَّعُوا فِيهَا، فَأَجَازُوا هِبَةَ الْمَجْهُولِ وَالْمُشَاعِ، جَاءَ فِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: أَنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ الْمُعْطَى أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَقْبَلُ النَّقْلَ فِي الْجُمْلَةِ، فَيَشْمَلُ الْأَشْيَاءَ الْمَجْهُولَةَ.
وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (هِبَة)
2- عَقْدُ الْوَصِيَّةِ.
40- تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْمُوصِي بِجُزْءٍ أَوْ سَهْمٍ مِنْ مَالِهِ وَلَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَكُونُ الْبَيَانُ إِلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، وَالْوَصِيَّةُ لَا تَمْتَنِعُ بِالْجَهَالَةِ.
وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ الْوَصِيَّةَ بِالْحَمْلِ إِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمُوصِي، وَالْغَرَرُ وَالْخَطَرُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ عِنْدَهُمْ
كَمَا أَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ الْوَصِيَّةَ بِالْمَجْهُولِ، كَالْحَمْلِ الْمَوْجُودِ فِي الْبَطْنِ مُنْفَرِدًا عَنْ أُمِّهِ أَوْ مَعَهَا، وَكَالْوَصِيَّةِ بِاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، وَالصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (وَصِيَّة).
41- هَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي فُرُوقِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْجَهَالَاتُ وَمَا لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ فَقَالَ: وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي نَهْيِهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَعَنْ بَيْعِ الْمَجْهُولِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَمِنْهُمْ مَنْ عَمَّمَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ- وَهُوَ الشَّافِعِيُّ- فَمَنَعَ مِنَ الْجَهَالَةِ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِبْرَاءِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ- وَهُوَ مَالِكٌ- بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُجْتَنَبُ فِيهِ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ، وَهُوَ بَابُ الْمُمَاكَسَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِتَنْمِيَةِ الْأَمْوَالِ مَا يُقْصَدُ بِهِ تَحْصِيلُهَا، وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُجْتَنَبُ فِيهِ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ وَهُوَ مَا لَا يُقْصَدُ لِذَلِكَ، وَانْقَسَمَتِ التَّصَرُّفَاتُ عِنْدَهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: طَرَفَانِ وَوَاسِطَةٌ، فَالطَّرَفَانِ أَحَدُهُمَا: مُعَاوَضَةٌ صِرْفَةٌ فَيُجْتَنَبُ فِيهَا ذَلِكَ إِلاَّ مَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ...وَثَانِيهِمَا: مَا هُوَ إِحْسَانٌ صِرْفٌ لَا يُقْصَدُ بِهِ تَنْمِيَةُ الْمَالِ كَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ وَالْإِبْرَاءِ.
فَفِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: إِذَا فَاتَ بِالْغَرَرِ وَالْجَهَالَاتِ ضَاعَ الْمَالُ الْمَبْذُولُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ مَنْعَ الْجَهَالَةِ فِيهِ، أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي- أَيِ: الْإِحْسَانُ الصِّرْفُ- فَلَا ضَرَرَ فِيهِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ وَحَثُّهُ عَلَى الْإِحْسَانِ التَّوْسِعَةَ فِيهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، بِالْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْسَرُ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ قَطْعًا، وَفِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إِلَى تَقْلِيلِهِ فَإِذَا وَهَبَ لَهُ عَبْدَهُ الْآبِقَ جَازَ أَنْ يَجِدَهُ فَيَحْصُلَ لَهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْذُلْ شَيْئًا، وَهَذَا فِقْهٌ جَمِيلٌ.
ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الْوَاسِطَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فَهُوَ النِّكَاحُ، فَهُوَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَالَ فِيهِ لَيْسَ مَقْصُودًا، وَإِنَّمَا مَقْصِدُهُ الْمَوَدَّةُ وَالْأُلْفَةُ وَالسُّكُونُ، يَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ فِيهِ الْجَهَالَةُ وَالْغَرَرُ مُطْلَقًا، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ اشْتَرَطَ فِيهِ الْمَالَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} يَقْتَضِي امْتِنَاعَ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ فِيهِ، فَلِوُجُودِ الشَّبَهَيْنِ تَوَسَّطَ مَالِكٌ فَجَوَّزَ فِيهِ الْغَرَرَ الْقَلِيلَ دُونَ الْكَثِيرِ، نَحْوَ عَبْدٍ مِنْ غَيْرِ تَعَيُّنٍ، وَشُورَةِ (أَثَاثِ) بَيْتٍ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْعَبْدِ الْآبِقِ، وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ
د- الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ.
42- يُشْتَرَطُ فِي مَحَلِّ الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، وَهَذَا الشَّرْطُ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ فِي الْجُمْلَةِ، فَالْحَيَوَانُ الضَّالُّ الشَّارِدُ وَنَحْوُهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لِعَقْدِ الْبَيْعِ أَوِ الْإِجَارَةِ أَوِ الصُّلْحِ أَوْ نَحْوِهَا، وَكَذَلِكَ الدَّارُ الْمَغْصُوبَةُ مِنْ غَيْرِ غَاصِبِهَا، أَوِ الْأَرْضُ أَوْ أَيْ شَيْءٍ آخَرُ تَحْتَ يَدِ الْعَدُوِّ.
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: مِنْ شُرُوطِ الْمَبِيعِ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ مَعْجُوزَ التَّسْلِيمِ عِنْدَهُ لَا يَنْعَقِدُ، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ كَبَيْعِ الْآبِقِ حَتَّى لَوْ ظَهَرَ يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ إِلاَّ إِذَا تَرَاضَيَا فَيَكُونُ بَيْعًا مُبْتَدَأً بِالتَّعَاطِي.
وَقَالَ فِي شُرُوطِ الْمُسْتَأْجَرِ: مِنْ شُرُوطِهِ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إِلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِدُونِهِ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْآبِقِ، وَلَا إِجَارَةُ الْمَغْصُوبِ مِنْ غَيْرِ الْغَاصِبِ.
وَفِي الْمَنْثُورِ لِلزَّرْكَشِيِّ: مِنْ حُكْمِ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ فِي الْحَالِ، وَالْجَائِزُ قَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ كَالْجَعَالَةِ تُعْقَدُ عَلَى رَدِّ الْآبِقِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي بَيَانِ شُرُوطِ الْمَبِيعِ: الثَّالِثُ: إِمْكَانُ تَسْلِيمِهِ، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الضَّالِّ وَالْآبِقِ وَالْمَغْصُوبِ، وَعَلَّلَهُ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ بِقَوْلِهِ: لِلْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ ذَلِكَ حَالًا.
وَمِثْلُهُ مَا فِي كُتُبِ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ.
أَمَّا فِي عُقُودِ التَّبَرُّعِ فَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ هِبَةَ الْآبِقِ وَالْحَيَوَانِ الشَّارِدِ، مَعَ أَنَّهُمَا غَيْرُ مَقْدُورَيِ التَّسْلِيمِ حِينَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ إِحْسَانٌ صِرْفٍ، فَإِذَا وَجَدَهُ وَتَسَلَّمَهُ يَسْتَفِيدُ مِنْهُ، وَإِلاَّ لَا يَتَضَرَّرُ كَمَا قَالَ الْقَرَافِيُّ، وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ الْوَصِيَّةَ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْ تَسْلِيمِهِ وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي عُقُودِ التَّبَرُّعِ: لَا غَرَرَ فِي تَعَلُّقِهَا بِالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ وَمَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَمَا لَا يَقْدِرُ.
تَقْسِيمَاتُ الْعُقُودِ.
43- قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْعُقُودَ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَبَيَّنُوا خَوَاصَّهَا وَأَحْكَامَهَا الْفِقْهِيَّةَ بِحَيْثُ تَشْمَلُ مَجْمُوعَةً مِنَ الْعُقُودِ، وَتُمَيِّزُهَا عَنْ مَجْمُوعَةٍ أُخْرَى، وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ هَذِهِ التَّقْسِيمَاتِ:
أَوَّلًا- الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ وَالْعُقُودُ غَيْرُ الْمَالِيَّةِ:
44- الْعَقْدُ إِذَا وَقَعَ عَلَى عَيْنٍ مِنَ الْأَعْيَانِ يُسَمَّى عَقْدًا مَالِيًّا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ نَقْلُ مِلْكِيَّتِهَا بِعِوَضٍ، كَالْبَيْعِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ مِنَ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وَالْمُقَايَضَةِ وَنَحْوِهَا أَمْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، كَالْهِبَةِ وَالْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْأَعْيَانِ وَنَحْوِهَا، أَوْ بِعَمَلٍ فِيهَا، كَالْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَنَحْوِهَا.
أَمَّا إِذَا وَقَعَ عَلَى عَمَلٍ مُعَيَّنٍ دُونَ مُقَابِلٍ كَالْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ، وَالْوِصَايَةِ، أَوِ الْكَفِّ عَنْ عَمَلٍ مُعَيَّنٍ كَعَقْدِ الْهُدْنَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ؛ فَهُوَ عَقْدٌ غَيْرُ مَالِيٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.
وَهُنَاكَ عُقُودٌ تُعْتَبَرُ مَالِيَّةً مِنْ جَانِبٍ، وَغَيْرَ مَالِيَّةٍ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ كَعَقْدِ النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنِ الدَّمِ وَعَقْدِ الْجِزْيَةِ وَنَحْوِهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْعُقُودِ الَّتِي تَقَعُ عَلَى الْمَنَافِعِ، كَالْإِجَارَةِ، وَالْإِعَارَةِ وَنَحْوِهِمَا، فَالْجُمْهُورُ يَعْتَبِرُهَا مِنَ الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ عِنْدَهُمْ أَوْ فِي حُكْمِ الْأَمْوَالِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، حَيْثُ إِنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُعْتَبَرُ أَمْوَالًا عِنْدَهُمْ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: الْعَقْدُ إِمَّا مَالِيٌّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ حَقِيقَةً كَالْبَيْعِ وَالسَّلَمِ، أَوْ حُكْمًا كَالْإِجَارَةِ، فَإِنَّ الْمَنَافِعَ تُنَزَّلُ مَنْزِلَ الْأَمْوَالِ، وَمِثْلُهُ الْمُضَارَبَةُ وَالْمُسَاقَاةُ.
أَوْ غَيْرُ مَالِيٍّ مِنَ الْجَانِبَيْنِ كَمَا فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ، إِذِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي الطَّرَفَيْنِ كَفُّ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنِ الْإِغْرَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ، وَكَعَقْدِ الْقَضَاءِ.
أَوْ مَالِيٌّ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنِ الدَّمِ وَالْجِزْيَةِ.وَغَيْرُ الْمَالِيِّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَشَدُّ لُزُومًا مِنَ الْمَالِيِّ فِيهِمَا، إِذْ يَجُوزُ فِي الْمَالِيِّ فَسْخُهُ بِعَيْبٍ فِي الْعِوَضِ كَالثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ، كَمَا فِي خِيَارِ الْعَيْبِ، وَغَيْرُ الْمَالِيِّ لَا يُفْسَخُ أَصْلًا إِلاَّ لِحُدُوثِ مَا يَمْنَعُ الدَّوَامَ.
وَيَنْقَسِمُ الْمَالِيُّ إِلَى مَحْضٍ وَغَيْرِهِ، فَيَقُولُونَ: مُعَاوَضَةٌ مَحْضَةٌ وَغَيْرُ مَحْضَةٍ، فَالْمَحْضَةُ: يَكُونُ الْمَالُ فِيهَا مَقْصُودًا مِنَ الْجَانِبَيْنِ (كَالْبَيْعِ).وَالْمُعَاوَضَةُ غَيْرُ الْمَحْضَةِ: لَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ إِلاَّ فِي الْخُلْعِ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ (نَحْوُ: إِنْ طَلَّقْتَنِي فَلَكَ أَلْفٌ).
وَقَالَ: يَنْقَسِمُ الْعَقْدُ إِلَى مَا يَرِدُ عَلَى الْعَيْنِ قَطْعًا كَالْبَيْعِ بِأَنْوَاعِهِ، وَإِلَى مَا يَرِدُ عَلَى الْمَنَافِعِ فِي الْأَصَحِّ كَالْإِجَارَةِ، وَلِهَذَا قَالُوا: إِنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَيْنُ لِيُسْتَوْفَى مِنْهَا الْمَنَافِعُ
ثَانِيًا- الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ وَالْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ.
45- الْعَقْدُ اللاَّزِمُ هُوَ: مَا لَا يَكُونُ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فِيهِ حَقُّ الْفَسْخِ دُونَ رِضَا الْآخَرِ، وَمُقَابِلُهُ: الْعَقْدُ الْجَائِزُ أَوْ غَيْرُ اللاَّزِمِ: وَهُوَ مَا يَكُونُ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فِيهِ حَقُّ الْفَسْخِ.
وَقَدْ قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْعَقْدَ بِاعْتِبَارِ اللُّزُومِ وَالْجَوَازِ إِلَى أَنْوَاعٍ:
قَالَ السُّيُوطِيّ: الْعُقُودُ الْوَاقِعَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَلَى أَقْسَامٍ: الْأَوَّلِ: لَازِمٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ قَطْعًا، كَالْبَيْعِ وَالصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالتَّشْرِيكِ، وَصُلْحِ الْمُعَاوَضَةِ، وَالْحَوَالَةِ، وَالْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَالْهِبَةِ لِلْأَجْنَبِيِّ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَالصَّدَاقِ وَعِوَضِ الْخُلْعِ.
الثَّانِي: جَائِزٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ قَطْعًا، كَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْقِرَاضِ، وَالْوَصِيَّةِ وَالْعَارِيَّةِ، الْوَدِيعَةِ وَالْقَرْضِ، وَالْجَعَالَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْوَصَايَا، وَسَائِرِ الْوِلَايَاتِ غَيْرِ الْإِمَامَةِ.
وَالثَّالِثِ: مَا فِيهِ خِلَافٌ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَازِمٌ كَالْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمَا كَالْإِجَارَةِ، وَمُقَابِلُهُ يَقُولُ: إِنَّهُمَا كَالْجَعَالَةِ، وَالنِّكَاحُ لَازِمٌ مِنَ الْمَرْأَةِ قَطْعًا، وَمِنَ الزَّوْجِ عَلَى الْأَصَحِّ، كَالْبَيْعِ، وَقِيلَ: جَائِزٌ مِنْهُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الطَّلَاقِ.
الرَّابِعِ: مَا هُوَ جَائِزٌ وَيَئُولُ إِلَى اللُّزُومِ، وَهُوَ الْهِبَةُ وَالرَّهْنُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْوَصِيَّةُ قَبْلَ الْمَوْتِ.
الْخَامِسُ: مَا هُوَ لَازِمٌ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ جَائِزٌ مِنَ الْآخَرِ، كَالرَّهْنِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَالضَّمَانِ، وَالْكَفَالَةِ، وَعَقْدِ الْأَمَانِ، وَالْإِمَامَةِ الْعُظْمَى.
وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْقِسْمَةَ فِي الْحَقِيقَةِ ثُلَاثِيَّةٌ: لَازِمٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، جَائِزٌ مِنْهُمَا، لَازِمٌ مِنْ أَحَدِهِمَا وَقَالَ: مِنْ حُكْمِ اللاَّزِمِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ فِي الْحَالِ، وَالْجَائِزُ قَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، كَالْجَعَالَةِ تُعْقَدُ عَلَى رَدِّ الْآبِقِ.
وَمِنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ اللاَّزِمِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارٌ مُؤَبَّدٌ، وَلَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، أَوْ بِالْجُنُونِ أَوِ الْإِغْمَاءِ، وَالْجَائِزُ بِخِلَافِهِ، كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيّ.
وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ لَيْسَتْ مُطَّرِدَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ عَقْدٌ لَازِمٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ عِنْدَهُمْ لَكِنَّهَا تَنْفَسِخُ بِالْوَفَاةِ؛ لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَهِيَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَالْمَنَافِعُ الَّتِي تَحْدُثُ بَعْدَ وَفَاةِ الْعَاقِدَيْنِ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً حِينَ الْعَقْدِ، فَتُفْسَخُ الْإِجَارَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِالْوَفَاةِ.
ر: (إِجَارَة ف 72).
ثَالِثًا- تَقْسِيمُ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ قَبُولِهِ الْخِيَارَ:
46- قَسَّمَ ابْنُ قُدَامَةَ الْعَقْدَ بِاعْتِبَارِ قَبُولِهِ الْخِيَارَ أَوْ عَدَمَ قَبُولِهِ إِلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ، وَبَيَّنَ حُكْمَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ كَالتَّالِي: أ- عَقْدٌ لَازِمٌ يُقْصَدُ مِنْهُ الْعِوَضُ، وَهُوَ الْبَيْعُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارَانِ: خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَخِيَارُ الشَّرْطِ، كَالْبَيْعِ فِيمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَالصُّلْحِ بِمَعْنَى الْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ بِعِوَضٍ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْإِجَارَةِ فِي الذِّمَّةِ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: اسْتَأْجَرْتُكَ عَلَى أَنْ تَخِيطَ لِي هَذَا الثَّوْبَ وَنَحْوَهُ، فَهَذَا يَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ، فَأَمَّا الْإِجَارَةُ الْمُعَيَّنَةُ، فَإِنْ كَانَتْ مُدَّتُهَا مِنْ حِينِ الْعَقْدِ دَخَلَهَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ دُونَ خِيَارِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُ يُفْضِي إِلَى فَوْتِ بَعْضِ الْمَنَافِعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا، أَوْ إِلَى اسْتِيفَائِهَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ، كَالصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وَبَيْعِ مَالِ الرِّبَا بِجِنْسِهِ، فَلَا يَدْخُلُهُ خِيَارُ الشَّرْطِ.
ب- عَقْدٌ لَازِمٌ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْعِوَضُ كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهِمَا خِيَارٌ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ إِنَّمَا يَثْبُتُ لِمَعْرِفَةِ الْحَظِّ فِي كَوْنِ الْعِوَضِ جَائِزًا لِمَا يَذْهَبُ مِنْ مَالِهِ، وَالْعِوَضُ هُنَا لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ، وَكَذَلِكَ الْوَقْفُ وَالْهِبَةُ؛ وَلِأَنَّ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ ضَرَرًا.
ج- عَقْدٌ لَازِمٌ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ دُونَ الْآخَرِ، كَالرَّهْنِ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ جَائِزٌ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَسْتَغْنِي بِالْجَوَازِ فِي حَقِّهِ عَنْ ثُبُوتِ خِيَارٍ آخَرَ، وَالرَّاهِنُ يَسْتَغْنِي بِثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ إِلَى أَنْ يَقْبِضَ، وَكَذَلِكَ الضَّامِنُ وَالْكَفِيلُ.
د- عَقْدٌ جَائِزٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ كَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْجَعَالَةِ وَالْوَكَالَةِ الْوَدِيعَةِ وَالْوَصِيَّةِ، فَهَذِهِ لَا يَثْبُتُ فِيهَا خِيَارٌ اسْتِغْنَاءً بِجَوَازِهَا وَالتَّمَكُّنِ مِنْ فَسْخِهَا بِأَصْلِ وَضْعِهَا.
هـ- عَقْدٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْجَوَازِ وَاللُّزُومِ كَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا جَائِزَانِ، فَلَا يَدْخُلُهُمَا خِيَارٌ، وَقِيلَ: هُمَا لَازِمَانِ، فَفِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِيهِمَا وَجْهَانِ.
و- عَقْدٌ لَازِمٌ يَسْتَقِلُّ بِهِ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، كَالْحَوَالَةِ، وَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ فَلَا خِيَارَ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ لَا خِيَارَ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْآخَرِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ.
رَابِعًا- الْعُقُودُ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا الْقَبْضُ، وَالَّتِي لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا:
47- قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْعُقُودَ- بِاعْتِبَارِ اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِيهَا أَوْ عَدَمِهِ- إِلَى نَوْعَيْنِ:
48- الْأَوَّلِ: عُقُودٌ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا قَبْضُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ حِينَ الْعَقْدِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ عَقْدُ الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ، وَالْإِجَارَةُ وَالنِّكَاحُ وَالْوَصِيَّةُ وَالْوَكَالَةُ وَالْحَوَالَةُ وَنَحْوُهَا، فَالْبَيْعُ مَثَلًا يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُهُ: مِنَ انْتِقَالِ مِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَمِلْكِيَّةِ الثَّمَنِ إِلَى الْبَائِعِ، سَوَاءٌ أَحَصَلَ التَّقَابُضُ بَيْنَهُمَا أَمْ لَا، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ كَانَ يَنْتَقِلُ فِي الْبَيْعِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، لَكِنْ لَا يَسْتَقِرُّ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، كَالصَّدَاقِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ.
وَالْإِجَارَةُ تَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا آثَارُهَا بِالْعَقْدِ دُونَ الْحَاجَةِ إِلَى الِاسْتِيفَاءِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: لَا يَمْلِكُ الْمُؤَجِّرُ الْأُجْرَةَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهَا بِالِاسْتِيفَاءِ، أَوِ التَّمَكُّنِ مِنْهُ أَوْ بِالتَّعْجِيلِ، أَوْ بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ، كَمَا لَا يَمْلِكُ الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنَافِعَ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهَا بِالِاسْتِيفَاءِ أَوْ يَوْمًا فَيَوْمًا.
وَالنِّكَاحُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُهُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى قَبْضِ الصَّدَاقِ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ وَالْوَكَالَةُ وَالْحَوَالَةُ لَا تَحْتَاجُ فِي انْعِقَادِهَا إِلَى قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
49- الثَّانِي: عُقُودٌ يُشْتَرَطُ فِيهَا قَبْضُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ حِينَ الْعَقْدِ.
وَهَذِهِ تَنْقَسِمُ إِلَى أَقْسَامٍ:
أ- عُقُودٍ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْقَبْضُ لِنَقْلِ الْمِلْكِيَّةِ، كَالْهِبَةِ وَالْقَرْضِ وَالْعَارِيَّةِ.
أَمَّا الْهِبَةُ- وَهِيَ تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ- فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا: لَا تَنْتَقِلُ الْمِلْكِيَّةُ فِيهَا بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، بَلْ يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى الْقَبْضِ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُشْتَرَطُ لِانْتِقَالِ الْمِلْكِيَّةِ فِي عَقْدِ الْهِبَةِ الْقَبْضُ، بَلْ تَثْبُتُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مِلْكِيَّةُ الْمَوْهُوبِ بِالْعَقْدِ، وَعَلَى الْوَاهِبِ إِقْبَاضُهُ.
وَكَذَلِكَ الْقَرْضُ: فَالْجُمْهُورُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِنَقْلِ مِلْكِيَّتِهِ إِلَى الْمُقْتَرِضِ الْقَبْضُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُقْتَرِضَ يَمْلِكُ الْقَرْضَ بِالْعَقْدِ، وَلَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى قَبْضِ الْعَيْنِ الْمُقْرَضَةِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا هَلَكَتِ الْعَيْنُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّ ضَمَانَهَا عَلَى الْمُقْرِضِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، بِنَاءً عَلَى بَقَاءِ الْمِلْكِيَّةِ لَدَيْهِ.
وَفِي عَقْدِ الْعَارِيَّةِ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ مِلْكَ الْمَنَافِعِ مِنَ الْأَمْوَالِ الْمُعَارَةِ لَا تَنْتَقِلُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، بَلْ يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى قَبْضِ الْمُعَارِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْعَارِيَّةَ إِبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ، فَلَا تَنْتَقِلُ فِيهَا الْمَنَافِعُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَمَلُّكُ مَنْفَعَةِ الْمُعَارِ بِالْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يُقْبَصِ الْمُعَارُ.ر: (عَارِيَّةً).
ب- عُقُودٍ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْقَبْضُ لِصِحَّتِهَا، كَالصَّرْفِ، وَبَيْعِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ، وَالسَّلَمِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَالْمُزَارَعَةِ.
أَمَّا عَقْدُ الصَّرْفِ- وَهُوَ بَيْعُ النَّقْدِ بِالنَّقْدِ- فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهِ التَّقَابُضِ فِي الْبَدَلَيْنِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَّ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَلَا تَشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلاَّ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تَشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ».
وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَنَحْوِهِمَا فَيُشْتَرَطُ فِي بَيْعِهَا بِمِثْلِهَا التَّقَابُضُ لِمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ النَّسِيئَةِ فِي ذَلِكَ، مِنْهَا قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ».
وَأَمَّا عَقْدُ السَّلَمِ- وَهُوَ: بَيْعُ الْآجِلِ بِالْعَاجِلِ- فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهِ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ»، وَالتَّسْلِيفُ هُوَ الْإِعْطَاءُ؛ وَلِأَنَّ الِافْتِرَاقَ قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ يُؤَدِّي إِلَى بَيْعِ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، لِمَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: عَدَمُ اشْتِرَاطِ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فِي السَّلَمِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَقَالُوا بِجَوَازِ تَأْخِيرِهِ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ.
وَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ- وَهِيَ: إِعْطَاءُ مَالٍ لِلتِّجَارَةِ عَلَى جُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنَ الرِّبْحِ- فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ- إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ إِلَى الْعَامِلِ، بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فِي صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ.
ر: (مُضَارَبَةٌ).
وَفِي عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ- وَهُوَ: عَقْدٌ عَلَى دَفْعِ الشَّجَرِ وَالْكُرُومِ إِلَى مَنْ يُصْلِحُهَا بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ ثَمَرِهَا- اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ عَلَى مَالِكِ الْأَشْجَارِ تَسْلِيمَهَا إِلَى الْعَامِلِ لِيَتَعَهَّدَهَا، فَيُقْسَمُ مَا يَحْصُلُ مِنَ الثَّمَرِ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ شَرَطَ كَوْنَهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ أَوْ مُشَارَكَتَهُ فِي الْيَدِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِعَدَمِ حُصُولِ التَّسْلِيمِ.
ر: (مُسَاقَاة).
وَكَذَلِكَ اشْتَرَطَ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ الْمُزَارَعَةِ تَسْلِيمَ الْأَرْضِ إِلَى الْعَامِلِ، حَتَّى لَوِ اشْتَرَطَ فِي الْعَقْدِ الْعَمَلَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ أَوْ شَرَطَ عَمَلَهُمَا مَعًا لَا تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ لِانْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ، عِلْمًا بِأَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ لَا يَقُولُونَ بِجَوَازِ هَذَا الْعَقْدِ أَصْلًا.
وَلِتَفْصِيلِ الْمَسْأَلَةِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (مُزَارَعَة).
ج- عُقُودٍ يُشْتَرَطُ لِلُزُومِهَا الْقَبْضُ: كَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ، فَقَدْ صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: بِأَنَّ عَقْدَ الْهِبَةِ لَا يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَيَكُونُ لِلْوَاهِبِ حَقُّ الرُّجُوعِ مَا دَامَ الْمَوْهُوبُ لَهُ لَمْ يَقْبِضْ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ قَالُوا بِعَدَمِ لُزُومِ الْهِبَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ أَيْضًا، فَلِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِيهَا إِلاَّ فِي حَالَاتٍ خَاصَّةٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْهِبَةَ تَلْزَمُ بِالْقَبْضِ إِلاَّ فِي حَالَاتٍ خَاصَّةٍ.
وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (هِبَة).
وَأَمَّا الرَّهْنُ: فَقَدِ اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي لُزُومِهِ الْقَبْضَ، فَيَبْطُلُ عَقْدُ الرَّهْنِ بِرُجُوعِ الرَّاهِنِ عَنِ الرَّهْنِ بِالْقَوْلِ أَوْ بِتَصَرُّفٍ يُزِيلُ الْمِلْكَ.
وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رَهْن ف 21).
خَامِسًا: عُقُودُ الْمُعَاوَضَةِ وَعُقُودُ التَّبَرُّعِ:
50- قَسَّمَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْعَقْدَ مِنْ حَيْثُ وُجُودُ الْعِوَضِ وَعَدَمُ الْعِوَضِ فِيهِ إِلَى نَوْعَيْنِ: عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ، وَعُقُودِ التَّبَرُّعِ.
فَمِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ: عَقْدُ الْبَيْعِ بِأَنْوَاعِهِ مِنَ الْمُقَايَضَةِ وَالسَّلَمِ وَالصَّرْفِ، وَعَقْدُ الْإِجَارَةِ وَالِاسْتِصْنَاعِ، وَالصُّلْحِ وَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ، وَالْمُضَارَبَةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالشَّرِكَةِ وَنَحْوِهَا.
وَمِنَ النَّوْعِ الثَّانِي: عَقْدُ الْهِبَةِ، وَالْعَارِيَّةِ، الْوَدِيعَةِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالْكَفَالَةِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَدِينِ، وَالرَّهْنِ، وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِهَا.
وَمِنْ آثَارِ هَذَا التَّقْسِيمِ مَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ مِنْ أَنَّهُ حَيْثُ اعْتُبِرَ الْعِوَضُ فِي عَقْدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ- أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا- فَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، كَثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَعِوَضِ الْأُجْرَةِ وَنَحْوِهِمَا، إِلاَّ فِي الصَّدَاقِ وَعِوَضِ الْخُلْعِ، فَإِنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ لَا تُبْطِلُهُ؛ لِأَنَّ لَهُ مَرَدًّا مَعْلُومًا، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَقَدْ يَكُونُ الْعِوَضُ فِي حُكْمِ الْمَجْهُولِ، كَالْعِوَضِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَهُنَاكَ عُقُودٌ يُكْتَفَى فِيهَا بِالْعِلْمِ الطَّارِئِ بِالْعِوَضِ، كَالشَّرِكَةِ مَثَلًا فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ بِقَدْرِ النِّسْبَتَيْنِ فِي الْمَالِ الْمُخْتَلِطِ، مِنْ كَوْنِهِ مُنَاصَفَةً أَوْ مُثَالَثَةً فِي الْأَصَحِّ إِذَا أَمْكَنَ مَعْرِفَتُهُ مِنْ بَعْدُ، وَعُقُودٌ أُخْرَى لَا يُكْتَفَى فِيهَا بِالْعِلْمِ، كَالْقِرَاضِ، وَالْقَرْضِ، وَهَلْ تَكْفِي مُعَايَنَةُ الْحَاضِرِ عَنْ مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ؟ تَخْتَلِفُ الْعُقُودُ حَسْبَ طَبِيعَتِهَا، فَفِي بَعْضِ الْعُقُودِ تَكْفِي مُعَايَنَةُ الْبَعْضِ كَالْبَيْعِ، وَفِي بَعْضِهَا لَا تَكْفِي كَمَا فِي الْقِرَاضِ.
وَأَمَّا عُقُودُ التَّبَرُّعِ:؛ فَلِأَنَّهُ لَا عِوَضَ فِيهَا يُغْتَفَرُ فِيهَا الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ الْيَسِيرَةُ؛ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْيُسْرِ وَالتَّوْسِعَةِ.
وَهُنَاكَ عُقُودٌ تُعْتَبَرُ تَبَرُّعًا فِي الِابْتِدَاءِ لَكِنَّهَا مُعَاوَضَةٌ فِي الِانْتِهَاءِ كَعَقْدِ الْقَرْضِ، فَإِنَّ الْمُقْرِضَ مُتَبَرِّعٌ عِنْدَ الْإِقْرَاضِ لَكِنَّهُ عِنْدَ رُجُوعِهِ عَلَى الْمُقْتَرِضِ بِمِثْلِ مَا أَخَذَ يَئُولُ إِلَى الْمُعَاوَضَةِ.
وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْكَفَالَةِ بِأَمْرِ الْمَدِينِ، فَإِنَّهَا تَبَرُّعٌ فِي الِابْتِدَاءِ، حِينَمَا يَلْتَزِمُ الْكَفِيلُ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمَدِينِ، لَكِنَّهُ إِذَا دَفَعَ الدَّيْنَ لِلدَّائِنِ وَرَجَعَ عَلَى الْمَدِينِ بِمِثْلِ مَا دَفَعَهُ تَصِيرُ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ.
وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ عَنْ عُقُودِ التَّبَرُّعِ فِي أَنَّ الْوَفَاءَ بِمَا يَتَعَهَّدُهُ الْعَاقِدَانِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا وَاجِبٌ، إِذَا تَمَّتْ صَحِيحَةً بِشُرُوطِهَا، عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}؛ لِأَنَّ فِي عَدَمِ الْوَفَاءِ بِهَا ضَرَرًا لِلْعَاقِدِ الْآخَرِ، لِضَيَاعِ مَا بَذَلَهُ مِنَ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَتِهِ، بِخِلَافِ عُقُودِ التَّبَرُّعِ، كَالْهِبَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ، وَنَحْوِهَا، فَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ فِيهَا بِمَا تَعَهَّدَ الْمُتَبَرِّعُ؛ لِأَنَّهُ مُحْسِنٌ، وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، مَعَ تَفْصِيلٍ فِي مُخْتَلَفِ الْعُقُودِ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ صَرَّحُوا بِاسْتِحْبَابِ الْوَفَاءِ فِي عُقُودِ التَّبَرُّعِ؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، وَقَدْ حَثَّ الشَّارِعُ عَلَيْهِمَا فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}.
وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ عِنْدَهُمْ فِي بَعْضِ عُقُودِ التَّبَرُّعِ أَيْضًا، فَالْعَارِيَّةُ الْمُؤَجَّلَةُ لَازِمَةٌ عِنْدَهُمْ إِلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ كَمَا تَلْزَمُ عِنْدَهُمُ الْهِبَةُ بِالْقَبُولِ، فَإِنِ امْتَنَعَ الْوَاهِبُ مِنْ تَسْلِيمِهَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ.
سَادِسًا: الْعَقْدُ الصَّحِيحُ وَالْبَاطِلُ وَالْفَاسِدُ.
51- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ بِاعْتِبَارِ إِقْرَارِ الشَّرْعِ لَهُ وَتَرْتِيبِ آثَارِهِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: الْعَقْدُ الصَّحِيحُ، وَالْعَقْدُ غَيْرُ الصَّحِيحِ.
فَالْعَقْدُ الصَّحِيحُ: هُوَ مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ مَعًا، بِحَيْثُ يَكُونُ مُسْتَجْمِعًا لِأَرْكَانِهِ وَأَوْصَافِهِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ، كَبَيْعِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ الْمَالَ الْمُتَقَوِّمَ الْمَوْجُودَ الْقَابِلَ لِلتَّسْلِيمِ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ مُعْتَبَرَيْنِ شَرْعًا، فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ مِنْ نَقْلِ مِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي وَنَقْلِ مِلْكِيَّةِ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ، وَكَالْإِجَارَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِعَيْنٍ مَوْجُودَةٍ انْتِفَاعًا مَشْرُوعًا، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَثَرُهَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا مِنْ نَقْلِ الِانْتِفَاعِ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَالْأُجْرَةِ إِلَى الْمُؤَجِّرِ وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ إِذَا لَمْ يَقَعْ خَلَلٌ فِي أَرْكَانِهَا أَوْ شُرُوطِهَا.
وَالْعَقْدُ غَيْرُ الصَّحِيحِ: هُوَ مَا لَا يَعْتَبِرُهُ الشَّرْعُ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَقْصُودُهُ.أَوْ هُوَ: مَا لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا أَصْلًا وَوَصْفًا، أَوْ يَكُونُ مَشْرُوعًا أَصْلًا لَكِنْ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا وَصْفًا، مِثَالُ الْأَوَّلِ: عَقْدُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، أَوِ الْعَقْدُ عَلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَكُلِّ مَا لَا يُعْتَبَرُ مَالًا، وَمِثَالُ الثَّانِي: الْعَقْدُ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ، وَالْعَقْدُ عَلَى مَحَلٍّ مَجْهُولٍ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ.
وَقَدْ قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْعَقْدَ غَيْرَ الصَّحِيحِ إِلَى: عَقْدٍ بَاطِلٍ وَعَقْدٍ فَاسِدٍ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (بُطْلَان، فَسَاد)
سَابِعًا- الْعَقْدُ النَّافِذُ، وَالْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ:
52- قَسَّمَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ الْعَقْدَ بِاعْتِبَارِ ظُهُورِ آثَارِهِ وَعَدَمِ ظُهُورِهَا إِلَى قِسْمَيْنِ:
أ- الْعَقْدُ النَّافِذُ، وَهُوَ الْعَقْدُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، وَيُفِيدُ الْحُكْمَ فِي الْحَالِ، أَوْ هُوَ الْعَقْدُ الَّذِي يَصْدُرُ مِمَّنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ وَوِلَايَتُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوِلَايَةُ أَصْلِيَّةً كَمَنْ يَعْقِدُ الْعَقْدَ لِنَفْسِهِ، أَمْ نِيَابِيَّةً كَعَقْدِ الْوَصِيِّ أَوِ الْوَلِيِّ لِمَنْ تَحْتَ وِلَايَتِهِمَا أَوْ عَقْدِ الْوَكِيلِ لِمُوَكِّلِهِ.
وَحُكْمُ الْعَقْدِ النَّافِذِ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي ظُهُورِ آثَارِهِ إِلَى إِجَازَةِ الْغَيْرِ.
ب- الْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ: وَهُوَ الْعَقْدُ الَّذِي يَصْدُرُ مِمَّنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ دُونَ الْوِلَايَةِ، كَمَنْ يَبِيعُ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَوْ هُوَ عَقْدٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ.
وَحُكْمُ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ- عِنْدَ مَنْ يُجِيزُهُ- هُوَ أَنَّهُ عَقْدٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ، فَيُفِيدُ الْحُكْمَ لَكِنْ عَلَى وَجْهِ التَّوَقُّفِ أَيْ: تَتَوَقَّفُ آثَارُهُ وَإِفَادَتُهُ الْحُكْمَ عَلَى إِجَازَةِ مَنْ يَمْلِكُهَا شَرْعًا كَعَقْدِ الْفُضُولِيِّ وَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ وَنَحْوِهِمَا.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ وَصِحَّتِهِ:
فَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَدِيمِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ): إِنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ عَقْدٌ صَحِيحٌ يُفِيدُ الْحُكْمَ عَلَى وَجْهِ التَّوَقُّفِ، فَإِنْ أَجَازَهُ الْمَالِكُ أَوْ مَنْ لَهُ الْإِجَازَةُ وَالتَّصَرُّفُ نَفَذَ وَإِلاَّ بَطَلَ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (الْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ)
ثَامِنًا- الْعُقُودُ الْمُؤَقَّتَةُ وَالْعُقُودُ الْمُطْلَقَةُ:
53- قَسَّمَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْعَقْدَ بِاعْتِبَارِ قَبُولِهِ التَّأْقِيتَ وَعَدَمِ قَبُولِهِ ذَلِكَ إِلَى نَوْعَيْنِ: الْعُقُودُ الْمُؤَقَّتَةُ، وَالْعُقُودُ غَيْرُ الْمُؤَقَّتَةِ.
قَالَ السُّيُوطِيُّ: كُلُّ عَقْدٍ كَانَتِ الْمُدَّةُ رُكْنًا فِيهِ لَا يَكُونُ إِلاَّ مُؤَقَّتًا، كَالْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْهُدْنَةِ، وَكُلُّ عَقْدٍ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلاَّ مُطْلَقًا، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ التَّأْقِيتُ حَيْثُ لَا يُنَافِيهِ، كَالْقِرَاضِ يُذْكَرُ فِيهِ مُدَّةٌ، وَيُمْنَعُ مِنَ الشِّرَاءِ بَعْدَهَا فَقَطْ، وَمِمَّا لَا يَقْبَلُ التَّأْقِيتَ: الْجِزْيَةُ فِي الْأَصَحِّ، وَعَقْدُ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْوَقْفِ، وَمِمَّا يَقْبَلُهُ وَهُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ: الْإِجَارَةُ وَكَذَا الْمُسَاقَاةُ، وَالْهُدْنَةُ فِي الْأَصَحِّ، وَمِمَّا يَقْبَلُ التَّأْقِيتَ وَلَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ: الْوَكَالَةُ، وَالْوِصَايَةُ.
وَقَالَ أَيْضًا: وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا لَا يَقْبَلُ التَّأْقِيتَ- وَمَتَى أُقِّتَ بَطَلَ- الْبَيْعُ بِأَنْوَاعِهِ وَالنِّكَاحُ، وَالْوَقْفُ.
وَذَكَرَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ كَذَلِكَ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ مِنَ الْعُقُودِ الْمُؤَقَّتَةِ.
كَمَا قَالُوا فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ: إِنَّهَا تَقْبَلُ التَّوْقِيتَ وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْمُسَاقَاةِ، فَإِنْ لَمْ يُبَيَّنْ فِيهَا الْوَقْتُ وَقَعَ عَلَى أَوَّلِ ثَمَرٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ تَأْقِيتُ الْمُسَاقَاةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ مُؤَقَّتَةً؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي تَقْدِيرِ مُدَّتِهَا.
وَمِنَ الْعُقُودِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ التَّأْقِيتَ عَقْدُ الرَّهْنِ.
وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فِي الْحَالِ، وَتَمْلِيكُ الْأَعْيَانِ لَا يَصِحُّ مُؤَقَّتًا كَالْبَيْعِ وَاخْتَلَفُوا فِي عَقْدِ الْكَفَالَةِ، هَلْ تَقْبَلُ التَّأْقِيتَ أَوْ لَا؟ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَجُوزُ تَوْقِيتُهَا، وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ مَعَ بَعْضِ الشُّرُوطِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ.
وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَجَل ف 48- 59).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
32-موسوعة الفقه الكويتية (فساد)
فَسَادالتَّعْرِيفُ:
1- الْفَسَادُ فِي اللُّغَةِ: نَقِيضُ الصَّلَاحِ، وَخُرُوجُ الشَّيْءِ عَنْ الِاعْتِدَالِ، قَلِيلًا كَانَ الْخُرُوجُ أَوْ كَثِيرًا، يُقَالُ: فَسَدَ اللَّحْمُ: أَنْتَنَ، وَفَسَدَتِ الْأُمُورُ: اضْطَرَبَتْ، وَفَسَدَ الْعَقْدُ: بَطَلَ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عَرَّفَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْفَسَادَ بِأَنَّهُ: مُخَالَفَةُ الْفِعْلِ الشَّرْعَ بِحَيْثُ لَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْآثَارُ، وَلَا يَسْقُطُ الْقَضَاءُ فِي الْعِبَادَاتِ.
وَعَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ الْفَاسِدَ بِأَنَّهُ مَا شُرِعَ بِأَصْلِهِ دُونَ وَصْفِهِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الصِّحَّةُ:
2- الصِّحَّةُ فِي اللُّغَةِ ضِدُّ السَّقَمِ وَالْمَرَضِ، وَقَدِ اسْتُعِيرَتِ الصِّحَّةُ لِلْمَعَانِي، يُقَالُ: صَحَّتِ الصَّلَاةُ إِذَا سَقَطَ بِهَا وُجُوبُ الْقَضَاءِ، وَيُقَالُ: صَحَّ الْعَقْدُ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ.وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
، فَالصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ مُتَبَايِنَانِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3- فَسَادُ التَّصَرُّفِ يُحَرِّمُهُ وَيُؤَثَّمُ فَاعِلُهُ إِذَا عَلِمَ بِفَسَادِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ، كَالصَّلَاةِ بِدُونِ طَهَارَةٍ، وَالْأَكْلِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، أَمْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمُعَامَلَاتِ، كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَالِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْغِنَاءِ الْمُحَرَّمِ وَالنَّوْحِ، وَكَرَهْنِ الْخَمْرِ عِنْدَ الْمُسْلِمِ وَلَوْ كَانَتْ لِذِمِّيٍّ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ، أَمْ كَانَ فِي النِّكَاحِ، كَنِكَاحِ مُعْتَدَّةِ الْغَيْرِ.
وَفَسَادُ الْبَيْعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ إِلاَّ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَيْهِ حَرَامٌ، وَيَجِبُ فَسْخُهُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ مَعْصِيَةٌ، فَعَلَى الْعَاقِدِ التَّوْبَةُ مِنْهُ بِفَسْخِهِ.
فَسَادُ الْعِبَادَةِ:
4- تَفْسُدُ الْعِبَادَةُ بِأُمُورٍ مِنْهَا:
أ- تَرْكُ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْعِبَادَةِ، كَتَرْكِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، أَوِ الطَّهَارَةِ، أَوِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاةٌ ف 115 وَمَا بَعْدَهَا).
وَكَتَرْكِ الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ فِي الطَّوَافِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (طَوَافٌ ف 22).
ب- تَرْكُ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْعِبَادَةِ، وَذَلِكَ كَتَرْكِ النِّيَّةِ، أَوْ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، أَوِ الْقِيَامِ فِي الْفَرْضِ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاةٌ ف 16- 18).
وَكَتَرْكِ الْإِمْسَاكِ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ فِي الصَّوْمِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَوْمٌ ف 24).
ج- ارْتِكَابُ فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُفْسِدُ الْعِبَادَةَ، وَذَلِكَ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي الصَّلَاةِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاةٌ ف 107- 114).
وَكَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَمْدًا فِي الصَّوْمِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَوْمٌ ف 32- 39).
وَمِثْلُ ذَلِكَ الْجِمَاعُ فِي الِاعْتِكَافِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اعْتِكَافٌ ف 27).
د- رَفْضُ نِيَّةِ الْعِبَادَةِ فِي أَثْنَاءِ الْقِيَامِ بِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ: رَفْضُ نِيَّةِ الصَّلَاةِ فِي أَثْنَائِهَا بِأَنْ قَطَعَ النِّيَّةَ أَوْ عَزَمَ عَلَى قَطْعِهَا.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (رَفْضٌ ف 6)
هـ- مُخَالَفَةُ النَّهْيِ الْوَارِدِ عَلَى ذَاتِ الْفِعْلِ أَوْ عَلَى الْوَصْفِ الْمُلَازِمِ لِلْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ فِي الْجُمْلَةِ، كَالنَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ.
أَمَّا النَّهْيُ الْوَارِدُ عَلَى الْوَصْفِ الْمُجَاوِرِ لِلْفِعْلِ، كَالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، فَلَا يُفِيدُ الْفَسَادَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ يُفِيدُ الْفَسَادَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَهْي) وَالْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
أَثَرُ فَسَادِ الْعِبَادَةِ:
5- فَسَادُ الْعِبَادَةِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عِدَّةُ آثَارٍ، مِنْهَا: أ- بَقَاءُ انْشِغَالِ الذِّمَّةِ بِالْعِبَادَةِ إِلَى أَنْ تُؤَدَّى، إِنْ كَانَتِ الْعِبَادَةُ لَيْسَ لَهَا وَقْتٌ مُحَدَّدٌ كَالزَّكَاةِ، وَعَبَّرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِيهَا بِالْإِعَادَةِ.
أَوْ تُقْضَى إِنْ كَانَتِ الْعِبَادَةُ لَا يَتَّسِعُ وَقْتُهَا لِمِثْلِهَا كَرَمَضَانَ، أَوْ تُعَادُ إِنْ كَانَ وَقْتُهَا يَتَّسِعُ لِغَيْرِهَا مَعَهَا كَالصَّلَاةِ، فَإِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ كَانَتْ قَضَاءً أَوْ يُؤْتَى بِالْبَدَلِ كَالظُّهْرِ لِمَنْ فَسَدَتْ جُمُعَتُهُ.
ب- الْعُقُوبَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ، كَالْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَ الْإِفْطَارَ بِالْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ.
ج- عَدَمُ الْمُضِيِّ فِي الْفَاسِدِ إِلاَّ فِي الصِّيَامِ وَالْحَجِّ، إِذْ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ فِي الصَّوْمِ، وَالْمُضِيُّ فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ، مَعَ الْقَضَاءِ فِيهِمَا.
د- قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى فَسَادِ الْعِبَادَةِ فَسَادُ عِبَادَةٍ أُخْرَى، كَالْوُضُوءِ يَفْسُدُ بِفَسَادِ الصَّلَاةِ بِالْقَهْقَهَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
هـ- حَقُّ اسْتِرْدَادِ الزَّكَاةِ إِذَا أُعْطِيتْ لِغَيْرِ مُسْتَحِقٍّ لَهَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ.
وَتَفْصِيلُ كُلِّ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِهِ.
أَسْبَابُ الْفَسَادِ فِي الْمُعَامَلَاتِ:
6- لَا يُفَرِّقُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلَانِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ كَالصَّلَاةِ بِدُونِ طَهَارَةٍ، أَمْ فِي النِّكَاحِ كَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ، أَمْ فِي عُقُودِ الْمُعَامَلَاتِ كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْبَيْعِ بِالْخَمْرِ- ذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلَانِ يَدُلاَّنِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ وَقَعَ عَلَى خِلَافِ مَا طَلَبَهُ الشَّارِعُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْتَبِرْهُ وَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهِ الْأَثَرَ الَّذِي رَتَّبَهُ عَلَى الْفِعْلِ الصَّحِيحِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَأَسْبَابُ الْفَسَادِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هِيَ أَسْبَابُ الْبُطْلَانِ، وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى الْخَلَلِ الْوَاقِعِ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْفِعْلِ، أَوْ فِي شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ، أَوْ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنِ الْوَصْفِ الْمُلَازِمِ لِلْفِعْلِ، أَوْ عَنِ الْوَصْفِ الْمُجَاوِرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ: أَسْبَابُ الْفَسَادِ الْعَامَّةُ فِي الْبَيْعِ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: تَحْرِيمُ عَيْنِ الْمَبِيعِ، وَالثَّانِي: الرِّبَا، وَالثَّالِثُ: الْغَرَرُ، وَالرَّابِعُ: الشُّرُوطُ الَّتِي تَئُولُ إِلَى أَحَدِ هَذَيْنِ أَوْ لِمَجْمُوعِهِمَا.
وَيُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلَانِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، عَلَى أَسَاسِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ أَصْلِ الْعَقْدِ وَوَصْفِهِ.
وَأَسْبَابُ الْبُطْلَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ حُدُوثُ خَلَلٍ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، بِأَنْ تَخَلَّفَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهِ أَوْ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ انْعِقَادِهِ.
أَمَّا أَسْبَابُ الْفَسَادِ، فَهِيَ حُدُوثُ خَلَلٍ فِي وَصْفِ الْعَقْدِ مَعَ سَلَامَةِ الْمَاهِيَّةِ، فَإِذَا اخْتَلَّ الْوَصْفُ: بِأَنْ دَخَلَ الْمَحَلَّ شَرْطٌ فَاسِدٌ، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ لَا بَاطِلٌ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (عَقْد) وَفِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي فَرَّقَ فِيهَا الْجُمْهُورُ بَيْنَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلَانِ:
7- الْأَصْلُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ عَدَمُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلَانِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ:
فَالْمَالِكِيَّةُ فَرَّقُوا بَيْنَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلَانِ فِي عَقْدِ الْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ.
وَالشَّافِعِيَّةُ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا فِي عُقُودٍ ذَكَرَهَا الزَّرْكَشِيُّ فَقَالَ: الْفَاسِدُ وَالْبَاطِلُ سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ عِنْدَنَا، وَاسْتَثْنَى النَّوَوِيُّ: الْحَجَّ وَالْخُلْعَ وَالْكِتَابَةَ وَالْعَارِيَّةَ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَأْتِي التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلَانِ فِي الْوَكَالَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ اللَّحَّامِ الْحَنْبَلِيُّ: الْبُطْلَانُ وَالْفَسَادُ عِنْدَنَا مُتَرَادِفَانِ...ثُمَّ قَالَ: إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَذَكَرَ أَصْحَابُنَا مَسَائِلَ فَرَّقُوا فِيهَا بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ ثُمَّ ذَكَرَ أَمْثِلَةً كَثِيرَةً لِلْمَسَائِلِ الَّتِي فَرَّقُوا فِيهَا بَيْنَ الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَسَادِ مِنْ أَحْكَامٍ:
8- يَتَعَلَّقُ بِالْفَسَادِ أَحْكَامٌ أَوْرَدَهَا الْفُقَهَاءُ فِي صُورَةِ قَوَاعِدَ فِقْهِيَّةٍ أَوْ أَحْكَامٍ لِلْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ، مِنْهَا:
أَوَّلًا- فَسَادُ الْمُتَضَمِّنِ يُوجِبُ فَسَادَ الْمُتَضَمَّنِ:
9- هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مِنَ الْقَوَاعِدِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ فِي كُتُبِهِمْ، وَعَبَّرَ عَنْهَا ابْنُ نُجَيْمٍ بِلَفْظٍ آخَرَ هُوَ: (الْمَبْنِيُّ عَلَى الْفَاسِدِ فَاسِدٌ) وَوَضَّحُوا هَذِهِ الْقَاعِدَةَ فَقَالُوا: يَجُوزُ بَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَيَجِبُ قَطْعُهَا لِلْحَالِ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَ الشَّجَرَ إِلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَعَامُلَ فِي إِجَارَةِ الْأَشْجَارِ الْمُجَرَّدَةِ، فَلَا يَجُوزُ، وَطَابَتْ لَهُ الزِّيَادَةُ- وَهِيَ مَا زَادَ فِي ذَاتِ الْمَبِيعِ- وَذَلِكَ لِبَقَاءِ الْإِذْنِ.
وَلَوِ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ إِلَى أَنْ يُدْرِكَ الزَّرْعُ- أَيْ إِلَى وَقْتِ إِدْرَاكِهِ- فَسَدَتِ الْإِجَارَةُ لِجَهَالَةِ الْمُدَّةِ، وَلَمْ تَطِبِ الزِّيَادَةُ لِفَسَادِ الْإِذْنِ بِفَسَادِ الْإِجَارَةِ، وَفَسَادُ الْمُتَضَمِّنِ يُوجِبُ فَسَادَ الْمُتَضَمَّنِ، بِخِلَافِ الْبَاطِلِ، فَإِنَّهُ مَعْدُومٌ شَرْعًا أَصْلًا وَوَصْفًا فَلَا يَتَضَمَّنُ شَيْئًا، فَكَانَتْ مُبَاشَرَتُهُ عِبَارَةً عَنِ الْإِذْنِ.
وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ الْفَاسِدَ لَهُ وُجُودٌ؛ لِأَنَّهُ فَائِتُ الْوَصْفِ دُونَ الْأَصْلِ، فَكَانَ الْإِذْنُ ثَابِتًا فِي ضِمْنِهِ، فَيَفْسُدُ، أَمَّا الْبَاطِلُ فَلَا وُجُودَ لَهُ أَصْلًا، فَلَمْ يُوجَدْ إِلاَّ الْإِذْنُ.
وَفِي حَاشِيَةِ الشَّلَبِيِّ عَلَى الزَّيْلَعِيِّ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِذْنِ الثَّابِتِ فِي ضِمْنِ الْإِجَارَةِ الْبَاطِلَةِ وَبَيْنَهُ فِي ضِمْنِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ: أَنَّ الْإِذْنَ فِي الْإِجَارَةِ الْبَاطِلَةِ صَارَ أَصْلًا مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْبَاطِلَ لَا وُجُودَ لَهُ، وَالْمَعْدُومَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُتَضَمِّنًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْإِجَارَةُ الْفَاسِدَةُ، لِأَنَّ الْفَاسِدَ لَيْسَ مَعْدُومًا بِأَصْلِهِ، فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ مُتَضَمِّنًا، فَإِذَا فَسَدَ الْمُتَضَمِّنُ فَسَدَ الْمُتَضَمَّنُ.
وَالْحُكْمُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ يَظْهَرُ فِي الْعُقُودِ الَّتِي يُفَرِّقُونَ فِيهَا بَيْنَ الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ، كَالْعُقُودِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْإِذْنِ، مِثْلِ الشَّرِكَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالْوَكَالَةِ، فَهَذِهِ الْعُقُودُ لَا يَمْنَعُ فَسَادُهَا صِحَّةَ تَصَرُّفِ الْمَأْذُونِ لِبَقَاءِ الْإِذْنِ.
فَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: الْفَاسِدُ مِنَ الْعُقُودِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْإِذْنِ إِذَا صَدَرَتْ مِنَ الْمَأْذُونِ صَحَّتْ، كَمَا فِي الْوَكَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ إِذَا أَفْسَدْنَاهَا فَتَصَرَّفَ الْوَكِيلُ، صَحَّ لِوُجُودِ الْإِذْنِ، وَطَرَدَهُ الْإِمَامُ فِي سَائِرِ صُوَرِ الْفَسَادِ.
وَفِي الْقَوَاعِدِ لِابْنِ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيِّ: الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ كَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ لَا يَمْنَعُ فَسَادُهَا نُفُوذَ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالْإِذْنِ.
وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا تَصَرَّفَ الْعَامِلُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِيهِ، فَإِذَا بَطَلَ الْعَقْدُ بَقِيَ الْإِذْنُ، فَمَلَكَ بِهِ التَّصَرُّفَ.
وَقَوَاعِدُ الْمَالِكِيَّةِ لَا تَأْبَى ذَلِكَ.
ثَانِيًا- الْمِلْكُ:
10- التَّصَرُّفُ الْفَاسِدُ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ، فَلَا يُفِيدُ الْمِلْكَ كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
يَقُولُ الزَّرْكَشِيُّ: الْفَاسِدُ لَا يُمْلَكُ فِيهِ شَيْءٌ، وَيَلْزَمُهُ الرَّدُّ وَمُؤْنَتُهُ، وَلَيْسَ لَهُ حَبْسُهُ لِقَبْضِ الْبَدَلِ، وَلَا يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ إِنْ عَلِمَ الْفَسَادَ، وَكَذَا إِنْ جَهِلَ فِي الْأَصَحِّ.
وَيُسْتَثْنَى صُورَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: الْكِتَابَةُ الْفَاسِدَةُ فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ فِيهَا أَكْسَابَهُ.
الثَّانِيَةُ: إِذَا صَالَحْنَا كَافِرًا بِمَالٍ عَلَى دُخُولِ الْحَرَمِ، فَدَخَلَ وَأَقَامَ، فَإِنَّا نَمْلِكُ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ.
وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ حَكَمْنَا بِفَسَادِ الْعَقْدِ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ مِلْكٌ، سَوَاءٌ اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ أَوْ لَمْ يَتَّصِلْ، وَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي فِيهِ بِبَيْعٍ وَلَا هِبَةٍ وَلَا عِتْقٍ وَلَا غَيْرِهِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّ التَّصَرُّفَ الْفَاسِدَ يُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَهُمْ بِالْقَبْضِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَيَمْلِكُ الْقَابِضُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ، لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْفَسْخِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ، وَلِذَلِكَ فَهُوَ مَضْمُونٌ.
وَفِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ: الْأَصْلُ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ أَنَّ كُلَّ مَا يُمْلَكُ بِبَيْعٍ جَائِزٍ يُمْلَكُ بِفَاسِدٍ، فَلَوْ شَرَى قِنًّا بِخَمْرٍ- وَهُمَا مُسْلِمَانِ- مَلَكَ الْقِنَّ مُشْتَرِيهِ بِقَبْضِهِ بِإِذْنٍ، وَلَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ الْخَمْرَ.
وَالْهِبَةُ الْفَاسِدَةُ تُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ، وَبِهِ يُفْتَى، وَهِيَ مَضْمُونَةٌ.
وَالْمَقْبُوضُ بِالْقِسْمَةِ الْفَاسِدَةِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ وَيَنْفُذُ التَّصَرُّفُ، كَالْمَقْبُوضِ بِالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَتَقَرَّرُ الْمِلْكُ فِي الْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ بِالْفَوَاتِ:
يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ: الْبُيُوعُ الْفَاسِدَةُ عِنْدَ مَالِكٍ تَنْقَسِمُ إِلَى مُحَرَّمَةٍ وَإِلَى مَكْرُوهَةٍ: فَأَمَّا الْمُحَرَّمَةُ فَإِنَّهَا إِذَا فَاتَتْ مَضَتْ بِالْقِيمَةِ، وَأَمَّا الْمَكْرُوهَةُ فَإِنَّهَا إِذَا فَاتَتْ صَحَّتْ عِنْدَهُ، وَرُبَّمَا صَحَّ عِنْدَهُ بَعْضُ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ بِالْقَبْضِ، لِخِفَّةِ الْكَرَاهَةِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ.
ثَالِثًا- الضَّمَانُ:
11- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الْفَاسِدَةَ تُرَدُّ إِلَى حُكْمِ صَحِيحِهَا بِالنِّسْبَةِ لِلضَّمَانِ وَعَدَمِهِ، فَإِنِ اقْتَضَى التَّصَرُّفُ الصَّحِيحُ الضَّمَانَ فَفَاسِدُهُ كَذَلِكَ، وَإِنِ اقْتَضَى عَدَمَ الضَّمَانِ فَفَاسِدُهُ كَذَلِكَ.
وَلِلْحَنَفِيَّةِ قَاعِدَةٌ شَبِيهَةٌ بِمَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهِيَ: الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا قُبِضَ بِجِهَةِ التَّمَلُّكِ ضُمِنَ، وَكُلَّ مَا قُبِضَ لَا بِجِهَةِ التَّمَلُّكِ لَمْ يُضْمَنْ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَمَان ف 35، وَمَا بَعْدَهَا).
رَابِعًا- سُقُوطُ الْمُسَمَّى فِي التَّصَرُّفَاتِ الْفَاسِدَةِ:
12- الْوَاجِبُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا تَسْمِيَةُ نَحْوِ الْأَجْرِ أَوِ الرِّبْحِ أَوِ الْمَهْرِ، هُوَ الْمُسَمَّى، فَإِذَا فَسَدَتْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ، فَإِنَّ الْمُسَمَّى يَسْقُطُ، وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ إِذَا سَقَطَ الْمُسَمَّى وَمِنْ ذَلِكَ:
أ- الْإِجَارَةُ:
13- إِذَا فَسَدَتِ الْإِجَارَةُ وَاسْتَوْفَى الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنْفَعَةَ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، أَيْ وَلَوْ زَادَ عَلَى الْمُسَمَّى.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَزِيدَ عَنِ الْمُسَمَّى إِذَا كَانَ فِي الْعَقْدِ تَسْمِيَةٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ تَسْمِيَةٌ وَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي: (إِجَارَة ف 43- 44).
ب- الْمُضَارَبَةُ:
14- الْوَاجِبُ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ هُوَ الرِّبْحُ الْمُسَمَّى لِلْمُضَارِبِ، فَإِذَا فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ الرِّبْحَ الْمُسَمَّى، لِأَنَّهَا تَسْمِيَةٌ لَمْ تَصِحَّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ أُجْرَةُ مِثْلِ عَمَلِهِ إِذَا عَمِلَ، وَيَكُونُ الرِّبْحُ جَمِيعُهُ لِرَبِّ الْمَالِ، لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ.
وَالْمُضَارِبُ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، سَوَاءٌ أَرَبِحَتِ الْمُضَارَبَةُ أَمْ لَمْ تَرْبَحْ، لِأَنَّهُ عَمِلَ طَامِعًا فِي الْمُسَمَّى، فَإِذَا فَاتَ وَجَبَ رَدُّ عَمَلِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ، فَتَجِبُ قِيمَتُهُ وَهِيَ الْأُجْرَةُ.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- غَيْرَ أَبِي يُوسُفَ- وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ غَيْرَ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا لِلْمُضَارِبِ قِرَاضَ الْمِثْلِ فِي مَسَائِلَ مَعْدُودَةٍ، وَأُجْرَةَ الْمِثْلِ فِيمَا عَدَاهَا، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ضَابِطٌ، هُوَ: كُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنْ حَقِيقَةِ الْقِرَاضِ مِنْ أَصْلِهَا فَفِيهَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَأَمَّا إِنْ شَمَلَهَا الْقِرَاضُ، لَكِنِ اخْتَلَّ مِنْهَا شَرْطٌ، فَفِيهَا قِرَاضُ الْمِثْلِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (مُضَارَبَة)
ج- النِّكَاحُ:
15- الْمَهْرُ يَسْقُطُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ- سَوَاءٌ اتُّفِقَ عَلَى فَسَادِهِ أَمْ لَا- إِذَا حَصَلَ التَّفْرِيقُ قَبْلَ الدُّخُولِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَبْلَ الْخَلْوَةِ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
هَذَا مَعَ اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا نِصْفُ الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ، كَمَا إِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ رَضَاعًا مُحَرِّمًا بِلَا بَيِّنَةٍ، وَكَذَّبَتْهُ الزَّوْجَةُ، فَإِنَّهُ يُفْسَخُ النِّكَاحُ وَعَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بِالدُّخُولِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا».
فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- لَهَا الْمَهْرَ فِيمَا لَهُ حُكْمُ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَعَلَّقَهُ بِالدُّخُولِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ وُجُوبَهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَاجِبِ مِنَ الْمَهْرِ، هَلْ هُوَ الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ أَوِ الْأَقَلُّ مِنْهُمَا؟ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- غَيْرَ زُفَرَ- لَهَا الْأَقَلُّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا وَمِنَ الْمُسَمَّى.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَهَا الْمُسَمَّى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى كَنِكَاحِ الشِّغَارِ فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَهَا الْمُسَمَّى فِي الْفَاسِدِ (وَهُوَ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ) وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْبَاطِلِ (وَهُوَ مَا اتُّفِقَ عَلَى فَسَادِهِ).
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (مَهْر- نِكَاح).
خَامِسًا: الْفَسَادُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَادِّيَّةِ:
16- يَرِدُ الْفَسَادُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَادِّيَّةِ كَعَطَبِ الْأَطْعِمَةِ، وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ مِنْ حَيْثُ إِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، كَمَا فِي الرَّهْنِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ الْتِقَاطُهَا، أَوْ مِنْ حَيْثُ اعْتِبَارُهَا عَيْبًا فِي الْمَبِيعِ يُوجِبُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ- رَهْنُ مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ:
17- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ رَهْنُ مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: يَصِحُّ رَهْنُ مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ إِنْ أَمْكَنَ تَجْفِيفُهُ، كَرُطَبٍ وَعِنَبٍ يَتَجَفَّفَانِ، فَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ تَجْفِيفُهُ وَلَكِنْ رُهِنَ بِدَيْنٍ حَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ لَكِنَّهُ يَحِلُّ قَبْلَ الْفَسَادِ وَلَوِ احْتِمَالًا جَازَ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَجْفِيفُهُ وَرُهِنَ بِمُؤَجَّلٍ يَحِلُّ بَعْدَ فَسَادِهِ أَوْ مَعَهُ، لَمْ يَجُزْ إِلاَّ إِنْ شَرَطَ أَنْ يَبِيعَهُ عِنْدَ خَوْفِ فَسَادِهِ، وَأَنْ يَكُونَ ثَمَنُهُ رَهْنًا.
وَلَوْ رُهِنَ مَا لَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ فَحَدَثَ قَبْلَ الْأَجَلِ مَا عَرَّضَهُ لِلْفَسَادِ- كَحِنْطَةٍ ابْتَلَتْ وَتَعَذَّرَ تَجْفِيفُهَا- لَمْ يَنْفَسِخِ الرَّهْنُ، بَلْ يُبَاعُ وُجُوبًا وَيُجْعَلُ ثَمَنُهُ رَهْنًا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ رَهْنُ مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ إِصْلَاحُهُ بِالتَّجْفِيفِ كَالْعِنَبِ وَالرُّطَبِ، أَوْ لَا يُمْكِنُ تَجْفِيفُهُ كَالْبِطِّيخِ وَالطَّبِيخِ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ مِمَّا يُجَفَّفُ، فَعَلَى الرَّاهِنِ تَجْفِيفُهُ، لِأَنَّهُ مِنْ مُؤْنَةِ حِفْظِهِ وَتَبْقِيَتِهِ، فَيَلْزَمُ الرَّاهِنَ كَنَفَقَةِ الْحَيَوَانِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُجَفَّفُ، فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُقْضَى الدَّيْنُ مِنْ ثَمَنِهِ إِنْ كَانَ حَالًّا، أَوْ يَحِلُّ قَبْلَ فَسَادِهِ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لَا يَحِلُّ قَبْلَ فَسَادِهِ، جُعِلَ ثَمَنُهُ رَهْنًا مَكَانَهُ، سَوَاءٌ شُرِطَ فِي الرَّهْنِ بَيْعُهُ أَوْ أُطْلِقَ، لِأَنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يُعَرِّضُ مِلْكَهُ لِلتَّلَفِ وَالْهَلَاكِ، فَإِذَا تَعَيَّنَ حِفْظُهُ فِي بَيْعِهِ حُمِلَ عَلَيْهِ مُطْلَقُ الْعَقْدِ، كَتَجْفِيفِ مَا يَجِفُّ، وَأَمَّا إِذَا شَرَطَ أَنْ لَا يُبَاعَ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ شَرَطَ مَا يَتَضَمَّنُ فَسَادَهُ وَفَوَاتَ الْمَقْصُودِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يُجَفَّفَ مَا يَجِفُّ.
وَفِي وَجْهٍ ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَنَّ الرَّاهِنَ لَوْ أَطْلَقَ لَا يَصِحُّ.
وَإِذَا شَرَطَ لِلْمُرْتَهِنِ بَيْعَهُ، أَوْ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ، أَوِ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ الرَّاهِنُ أَوْ غَيْرُهُ، بَاعَهُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ بَاعَهُ الْحَاكِمُ وَجَعَلَ ثَمَنَهُ رَهْنًا، وَلَا يُقْضَى الدَّيْنُ مِنْ ثَمَنِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَعْجِيلُ وَفَاءِ الدَّيْنِ قَبْلَ حُلُولِهِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِنْ رَهَنَهُ ثِيَابًا يُخَافُ فَسَادُهَا، كَالصُّوفِ، قَالَ أَحْمَدُ فِيمَنْ رَهَنَ ثِيَابًا يُخَافُ فَسَادُهَا كَالصُّوفِ: أَتَى السُّلْطَانَ فَأَمَرَهُ بِبَيْعِهَا.
وَنَقَلَ الْحَصْكَفِيُّ عَنِ الذَّخِيرَةِ: لَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ بَيْعُ ثَمَرَةِ الرَّهْنِ وَإِنْ خَافَ تَلَفَهَا، لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الْحَبْسِ لَا الْبَيْعِ، وَيُمْكِنُ رَفْعُهُ إِلَى الْقَاضِي، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُهُ الرَّفْعُ لِلْقَاضِي أَوْ كَانَ الْمَرْهُونُ بِحَالٍ يَفْسُدُ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ، جَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا إِذَا لَمْ يُبِحِ الرَّاهِنُ لَهُ الْبَيْعَ.
وَفِي الْبِيرِيِّ عَنِ الْوَلْوَالِجِيَّةِ: وَيَبِيعُ مَا يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، وَيَكُونُ رَهْنًا فِي يَدِهِ، قَالَ الْبِيرِيُّ: يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا جَوَازُ بَيْعِ الدَّارِ الْمَرْهُونَةِ إِذَا تَدَاعَتْ لِلْخَرَابِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْأَصْلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ بَيْعُ الْمَرْهُونِ إِلاَّ إِنْ خَشِيَ فَسَادَهُ، فَإِنْ خَشِيَ فَسَادَهُ جَازَ بَيْعُهُ.
ب- الْتِقَاطُ مَا يُسْرِعُ فَسَادُهُ:
18- مَنِ الْتَقَطَ مَا لَا يَبْقَى وَيَفْسُدُ بِالتَّأْخِيرِ، كَاللَّحْمِ وَاللَّبَنِ وَالْفَوَاكِهِ، فَإِنَّهُ يُعَرِّفُهُ إِلَى أَنْ يَخْشَى فَسَادَهُ، ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهِ خَوْفًا مِنَ الْفَسَادِ.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْأَوْلَى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنِ الْتَقَطَ شَيْئًا مِمَّا يُسْرِعُ فَسَادُهُ وَلَا يَبْقَى بِعِلَاجٍ، فَإِنَّ آخِذَهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ خَصْلَتَيْنِ: فَإِنْ شَاءَ بَاعَهُ اسْتِقْلَالًا إِنْ لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا، وَبِإِذْنِهِ إِنْ وَجَدَهُ وَعَرَّفَ الْمَبِيعَ بَعْدَ بَيْعِهِ لِيَتَمَلَّكَ ثَمَنَهُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ، وَإِنْ شَاءَ تَمَلَّكَهُ فِي الْحَالِ وَأَكَلَهُ وَغَرِمَ قِيمَتَهُ.
وَإِنْ أَمْكَنَ بَقَاءُ مَا يُسْرِعُ فَسَادُهُ بِعِلَاجٍ، كَرُطَبٍ يَتَجَفَّفُ، فَإِنْ كَانَتِ الْغِبْطَةُ فِي بَيْعِهِ بِيعَ جَمِيعُهُ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ إِنْ وَجَدَهُ، وَإِلاَّ بَاعَهُ اسْتِقْلَالًا، وَإِنْ كَانَتِ الْغِبْطَةُ فِي تَجْفِيفِهِ وَتَبَرَّعَ بِهِ الْوَاجِدُ لَهُ أَوْ غَيْرُهُ، جَفَّفَهُ، لِأَنَّهُ مَالُ غَيْرِهِ، فَرُوعِيَ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَرَّعْ بِتَجْفِيفِهِ بِيعَ بَعْضُهُ بِقَدْرِ مَا يُسَاوِي التَّجْفِيفَ لِتَجْفِيفِ الْبَاقِي، طَلَبًا لِلْأَحَظِّ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنِ الْتَقَطَ مَا لَا يَبْقَى عَامًا وَكَانَ مِمَّا لَا يَبْقَى بِعِلَاجٍ وَلَا غَيْرِهِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَكْلِهِ وَبَيْعِهِ وَحِفْظِ ثَمَنِهِ، فَإِنْ أَكَلَهُ ثَبَتَتِ الْقِيمَةُ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنْ بَاعَهُ وَحَفِظَ ثَمَنَهُ جَازَ، وَلَهُ أَنْ يَتَوَلَّى بَيْعَهُ بِنَفْسِهِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى إِذْنِ الْحَاكِمِ، وَعَنْ أَحْمَدَ: لَهُ بَيْعُ الْيَسِيرِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا دَفَعَهُ إِلَى السُّلْطَانِ.
وَإِنْ أَكَلَهُ أَوْ بَاعَهُ حَفِظَ صِفَاتِهِ، ثُمَّ عَرَّفَهُ عَامًا.
وَإِنْ كَانَ مَا الْتَقَطَهُ مِمَّا يُمْكِنُ إِبْقَاؤُهُ بِالْعِلَاجِ، كَالْعِنَبِ وَالرُّطَبِ، فَيَنْظُرُ مَا فِيهِ الْحَظُّ لِصَاحِبِهِ: فَإِنْ كَانَ فِي التَّجْفِيفِ جَفَّفَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِلاَّ ذَلِكَ، وَإِنِ احْتَاجَ التَّجْفِيفُ إِلَى غَرَامَةٍ بَاعَ بَعْضَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْحَظُّ فِي بَيْعِهِ بَاعَهُ وَحَفِظَ ثَمَنَهُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ بَيْعُهُ وَلَمْ يُمْكِنْ تَجْفِيفُهُ تَعَيَّنَ أَكْلُهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْلُهُ أَنْفَعَ لِصَاحِبِهِ فَلَهُ أَكْلُهُ لِأَنَّ الْحَظَّ فِيهِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
33-موسوعة الفقه الكويتية (مناسبة)
مُنَاسَبَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْمُنَاسَبَةُ فِي اللُّغَةِ: الْمُلَاءَمَةُ.
قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ: الْمُنَاسَبَةُ وَصْفٌ ظَاهِرٌ مُنْضَبِطٌ، يَحْصُلُ عَقْلًا مِنْ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لِلْعُقَلَاءِ مِنْهُ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ، أَوْ دُنْيَوِيَّةٌ، أَوْ دَفْعُ مَفْسَدَةٍ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
2- الْمُنَاسَبَةُ مِنَ الطُّرُقِ الْمَعْقُولَةِ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا: بِالْإِخَالَةِ، وَبِالْمَصْلَحَةِ، وَالِاسْتِدْلَالِ، وَبِرِعَايَةِ الْمَقَاصِدِ، وَيُسَمَّى اسْتِخْرَاجُهَا تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ، لِأَنَّهُ إِبْدَاءُ مَنَاطِ الْحُكْمِ.
دَلِيلُ إِفَادَةِ الْمُنَاسَبَةِ لِلْعِلِّيَّةِ:
3- احْتَجَّ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَلَى إِفَادَةِ الْمُنَاسَبَةِ لِلْعِلِّيَّةِ بِتَمَسُّكِ الصَّحَابَةِ بِهَا، فَإِنَّهُمْ يُلْحِقُونَ غَيْرَ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ، إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ أَنَّهُ يُضَاهِيهِ لِمَعْنًى أَوْ يُشْبِهُهُ، ثُمَّ قَالَ: فَالْأَوْلَى الِاعْتِمَادُ لِإِفَادَةِ الْمُنَاسَبَةِ لِلْعِلِّيَّةِ عَلَى الْعُمُومَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْقِيَاسِ.
تَقْسِيمُ الْمُنَاسِبِ:
4- يَنْقَسِمُ الْمُنَاسِبُ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَالْإِقْنَاعُ: إِلَى حَقِيقِيٍّ وَإِقْنَاعِيٍّ، لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ إِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَزُولُ بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ فَهُوَ الْحَقِيقِيُّ وَإِلاَّ فَهُوَ الْإِقْنَاعِيُّ.
وَالْحَقِيقِيُّ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا هُوَ: وَاقِعٌ فِي مَحَلِّ الضَّرُورَةِ، أَوْ مَحَلِّ الْحَاجَةِ، أَوْ مَحَلِّ التَّحْسِينِ.
تَقْسِيمُ الْمُنَاسَبَةِ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِبَارُ الشَّرْعِيُّ وَعَدَمُهُ
تَنْقَسِمُ الْمُنَاسَبَةُ بِاعْتِبَارِ شَهَادَةِ الشَّرْعِ لَهَا بِالْمُلَاءَمَةِ وَالتَّأْثِيرِ وَعَدَمِهَا، إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يُلْغِيَهُ الشَّارِعُ:
5- إِذَا أَوْرَدَ الشَّارِعُ الْفُرُوعَ عَلَى عَكْسِ الْمُنَاسَبَةِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِهِ، وَذَلِكَ كَإِيجَابِ صَوْمِ شَهْرَيْنِ فِي كَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَبْلَغَ فِي رَدْعِهِ مِنَ الْعِتْقِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّارِعَ بِإِيجَابِهِ الْإِعْتَاقَ ابْتِدَاءً أَلْغَاهُ، فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ.
الثَّانِي: أَنْ يَعْتَبِرَهُ الشَّارِعُ:
6- وَذَلِكَ بِأَنْ يُورِدَ الشَّارِعُ الْفُرُوعَ عَلَى وَفْقِ الْمُنَاسَبَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِاعْتِبَارِهِ: أَنْ يَنُصَّ الشَّارِعُ عَلَى الْعِلَّةِ أَوْ يُومِئَ إِلَيْهَا، وَإِلاَّ لَمْ تَكُنِ الْعِلَّةُ مُسْتَفَادَةً مِنَ الْمُنَاسَبَةِ.
الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُعْلَمَ اعْتِبَارُ الشَّارِعِ وَلَا إِلْغَاؤُهُ:
7- وَهُوَ الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ بِالِاعْتِبَارِ وَلَا بِالْإِلْغَاءِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى «بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ» وَقَدِ اعْتَبَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ أَدِلَّةِ الْفِقْهِ.
تَقْسِيمُ الْمُنَاسَبَةِ مِنْ حَيْثُ التَّأْثِيرُ وَالْمُلَاءَمَةُ
تَنْقَسِمُ الْمُنَاسَبَةُ إِلَى مُؤَثِّرٍ وَمُلَائِمٍ وَغَرِيبٍ:
8- الْأَوَّلُ: الْمُؤَثِّرُ: وَهُوَ مَا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي الْحُكْمِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، وَسُمِّيَ مُؤَثِّرًا، لِظُهُورِ تَأْثِيرِ الْوَصْفِ فِي الْحُكْمِ.
فَالنَّصُّ كَمَسِّ الْمُتَوَضِّئِ ذَكَرَهُ، فَإِنَّهُ اعْتُبِرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحَدَثِ بِنَصِّ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ: «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلَا يُصَلِّ حَتَّى يَتَوَضَّأَ»
وَالْإِجْمَاعُ: كَقِيَاسِ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ فِي سُقُوطِ الصَّلَاةِ بِالْحَيْضِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَشَقَّةِ التَّكْرَارِ، إِذْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَكِنْ فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ، فَعُدِّيَ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ.
وَهَذَا لَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ.
9- الثَّانِي: الْمُلَائِمُ: وَهُوَ أَنْ يَعْتَبِرَ الشَّارِعُ عَيْنَهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، بِتَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِ النَّصِّ، لَا بِنَصٍّ وَلَا إِجْمَاعٍ، وَسُمِّيَ مُلَائِمًا لِكَوْنِهِ مُوَافِقًا لِمَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ دُونَ مَا قَبْلَهَا، وَمَثَّلَهُ صَاحِبُ رَوْضَةِ النَّاظِرِ مِنْ أُصُولِيِّ الْحَنَابِلَةِ: بِظُهُورِ الْمَشَقَّةِ فِي إِسْقَاطِ الصَّلَاةِ عَنِ الْحَائِضِ، فَإِنَّهُ ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِ الْحَرَجِ فِي إِسْقَاطِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ عَنِ الْحَائِضِ كَتَأْثِيرِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ فِي إِسْقَاطِ الرَّكْعَتَيْنِ السَّاقِطَتَيْنِ بِالْقَصْرِ.
10- الثَّالِثُ: الْغَرِيبُ: وَهُوَ أَنْ يَعْتَبِرَ عَيْنَهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ فَتَرَتَّبَ الْحُكْمُ وَفْقَ الْوَصْفِ فَقَطْ، وَلَا يُعْتَبَرُ عَيْنُ الْوَصْفِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ وَلَا عَيْنِهِ، وَلَا جِنْسُهُ فِي جنْسِهِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، كَالْإِسْكَارِ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، فَإِنَّهُ اعْتُبِرَ عَيْنُ الْإِسْكَارِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، وَيَتَرَتَّبُ التَّحْرِيمُ عَلَى الْإِسْكَارِ فَقَطْ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمُنَاسِبِ الْغَرِيبِ: تَوْرِيثُ الْمَبْتُوتَةِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ إِلْحَاقًا بِالْقَاتِلِ الْمَمْنُوعِ مِنَ الْمِيرَاثِ تَعْلِيلًا بِالْمُعَارَضَةِ بِنَقِيضِ الْقَصْدِ، فَإِنَّ الْمُنَاسَبَةَ ظَاهِرَةٌ، وَلَكِنْ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ لَمْ يُعْهَدِ اعْتِبَارُهُ فِي غَيْرِ هَذَا فَكَانَ غَرِيبًا.
وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
34-موسوعة الفقه الكويتية (نظر 2)
نَظَرٌ -2نَظَرُ الرَّجُلِ إِلَى الْمَرْأَةِ عَنْ طَرِيقِ الْمَاءِ وَالْمِرْآةِ:
15- نَظَرُ الرَّجُلِ إِلَى صُورَةِ مَا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَى عَيْنِهِ مِنَ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ أَشَارَ إِلَى حُكْمِهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ، حَيْثُ قَالَ: لَمْ أَرَ مَا لَوْ نَظَرَ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ مِنَ الْمِرْآةِ أَوِ الْمَاءِ، وَقَدْ صَرَّحُوا فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ بِرُؤْيَةِ فَرْجٍ مِنْ مِرْآةٍ أَوْ مَاءٍ لِأَنَّ الْمَرْئِيَّ مِثَالُهُ لَا عَيْنُهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَظَرَ مِنْ زُجَاجٍ أَوْ مَاءٍ هِيَ فِيهِ، لأَنَّ الْبَصَرَ يَنْفُذُ فِي الزُّجَاجِ وَالْمَاءِ فَيَرَى مَا فِيهِ، وَمُفَادُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ نَظَرُ الْأَجْنَبِيَّةِ مِنَ الْمِرْآةِ أَوِ الْمَاءِ، إِلاَّ أَنْ يُفَرَّقَ بِأَنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ بِالنَّظَرِ وَنَحْوِهِ شُدِّدَ فِي شُرُوطِهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْحَلُّ، بِخِلَافِ النَّظَرِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا مُنِعَ مِنْهُ خَشْيَةَ الْفِتْنَةِ وَالشَّهْوَةِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ هُنَا، وَرَأَيْتُ فِي فَتَاوَى ابْنِ حَجَرٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ذَكَرَ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَهُمْ وَرَجَّحَ الْحُرْمَةَ بِنَحْوِ مَا قُلْنَاهُ وَقَالَ الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ شَارِحًا لِقَوْلِ النَّوَوِيِّ فِي الْمِنْهَاجِ: وَيَحْرُمُ نَظَرُ فَحْلٍ بَالِغٍ إِلَى عَوْرَةِ حُرَّةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، خَرَجَ مِثَالُهَا، فَلَا يَحْرُمُ نَظَرُهُ فِي نَحْوِ مِرْآةٍ، كَمَا أَفْتَى بِهِ جَمْعٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرَهَا...مَا لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً.
نَظَرُ الرَّجُلِ إِلَى الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ:
16- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ حُكْمَ نَظَرِ الرَّجُلِ إِلَى الْمَرْأَةِ بَعْدَ مَوْتِهَا كَحُكْمِهِ فِي حَيَاتِهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا إِلَى غَيْرِ مَا كَانَ يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ حَالَ الْحَيَاةِ، إِلاَّ إِذَا وُجِدَتْ ضَرُورَةٌ تَقْتَضِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا تَرْتَفِعُ بِهِ الْحُرْمَةُ، بَلْ تَتَأَكَّدُ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ لِحَقِّ الشَّرْعِ، وَالْآدَمِيُّ مُحْتَرَمٌ شَرْعًا حَيًّا وَمَيِّتًا.
وَانْظُرْ (تَغْسِيلَ الْمَيِّتِ ف 11 وَمَا بَعْدَهَا).
نَظَرُ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ:
17- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ نَظَرُ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ بِشَهْوَةٍ أَوْ بِقَصْدِ التَّلَذُّذِ كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ مِنَ الرَّجُلِ إِلَى عَوْرَتِهِ بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ، وَلَوْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، وَيَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إِلَى مَا سِوَاهَا، لِمَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ وَلَا الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ، وَلَا يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَلَا تُفْضِي الْمَرْأَةُ إِلَى الْمَرْأَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ».
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ عَوْرَةِ الرَّجُلِ الَّتِي يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا، وَقَدْ ذَهَبَ مُعْظَمُهُمْ إِلَى أَنَّ عَوْرَةَ الرَّجُلِ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي دُخُولِ كُلٍّ مِنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ فِي عَوْرَتِهِ، وَكَذَلِكَ الْفَخِذُ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَةٍ ف 8).
نَظَرُ الرَّجُلِ إِلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ:
18- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَى الْأَمْرَدِ عَنْ شَهْوَةٍ أَوْ بِقَصْدِ التَّلَذُّذِ وَالتَّمَتُّعِ بِمَحَاسِنِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَدِ الصَّبِيحِ وَغَيْرِهِ، بَلْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ إِلَى الْأَمْرَدِ بِشَهْوَةٍ أَشَدُّ إِثْمًا مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ بِشَهْوَةٍ، لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ بِحَالٍ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ النَّظَرُ إِلَى الْأَمْرَدِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَلَا قَصْدِ التَّلَذُّذِ فَإِمَّا أَنْ يَخَافَ مِنَ النَّظَرِ ثَوَرَانَ الشَّهْوَةِ، أَوْ يَأْمَنَ مِنْ ثَوَرَانِهَا، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (أَمْرَدَ ف 4).
نَظَرُ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُلِ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُلِ بِاخْتِلَافِ كَوْنِهِ أَجْنَبِيًّا أَوْ مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهَا:
نَظَرُ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ:
19- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إِلَى أَيِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ يَكُونُ حَرَامًا إِذَا قَصَدَتْ بِهِ التَّلَذُّذَ أَوْ عَلِمَتْ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهَا وُقُوعُ الشَّهْوَةِ أَوْ شَكَّتْ فِي ذَلِكَ، بِأَنْ كَانَ احْتِمَالُ حُدُوثِ الشَّهْوَةِ وَعَدَمِ حُدُوثِهَا مُتَسَاوِيَيْنِ، لِأَنَّ النَّظَرَ بِشَهْوَةٍ إِلَى مَنْ لَا يَحِلُّ بِزَوْجِيَّةٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ نَوْعُ زِنًا، وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.
وَفِي مُقَابِلِ الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا وَرَدَ فِي كِتَابِ الْأَصْلِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَغُضَّ بَصَرَهَا عَمَّا سِوَى الْعَوْرَةِ مِنَ الرَّجُلِ إِذَا عَلِمَتْ وُقُوعَ الشَّهْوَةِ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهَا ذَلِكَ أَوْ شَكَّتْ فِيهِ، بِمَعْنَى أَنَّ نَظَرَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ مَكْرُوهًا وَلَيْسَ مُحَرَّمًا، بِخِلَافِ الرَّجُلِ، فَإِنَّ نَظَرَهُ إِلَى مَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَرْأَةِ بِدُونِ شَهْوَةٍ يَحْرُمُ إِذَا كَانَ مَعَ الشَّهْوَةِ، أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وُقُوعُهَا، أَوْ شَكَّ فِي ذَلِكَ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ بِحَسَبِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الشَّهْوَةَ عَلَى النِّسَاءِ غَالِبَةٌ، وَالْغَالِبُ كَالْمُتَحَقِّقِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا نَظَرَ الرَّجُلُ إِلَى الْمَرْأَةِ مُشْتَهِيًا وُجِدَتِ الشَّهْوَةُ فِي الْجَانِبَيْنِ: فِي جَانِبِهِ حَقِيقَةً، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَفْرُوضُ، وَفِي جَانِبِهَا اعْتِبَارًا وَإِنْ لَمْ يَقَعْ بِالْفِعْلِ، لِقِيَامِ الْغَلَبَةِ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ، وَإِذَا نَظَرَتْ إِلَيْهِ مُشْتَهِيَةً لَمْ تُوجَدِ الشَّهْوَةُ مِنْ جَانِبِهِ حَقِيقَةً، لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ، وَلَا اعْتِبَارَ لِعَدَمِ الْغَلَبَةِ، فَكَانَتِ الشَّهْوَةُ مِنْ جَانِبِهَا فَقَطْ، وَالْمُتَحَقِّقُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فِي الْإِفْضَاءِ إِلَى الْمُحَرَّمِ أَقْوَى مِنَ الْمُتَحَقِّقِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ لَا مَحَالَةَ.
أَمَّا إِذَا كَانَ نَظَرُ الْمَرْأَةِ إِلَى الْأَجْنَبِيِّ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ يَقِينًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَحِلُّ لَهَا النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنْهُ وَمَا لَا يَحِلُّ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ مِنَ الرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ إِلَى مَا سِوَى عَوْرَتِهِ أَيْ إِلَى مَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَتَحْتَ الرُّكْبَةِ، حَيْثُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ مِنَ الرَّجُلِ، وَأَمَّا السُّرَّةُ وَالرُّكْبَةُ وَالْفَخِذُ مِنْهُ فَفِي كَوْنِهَا مِنَ الْعَوْرَةِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، فَمَنِ اعْتَبَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَوْرَةً قَالَ بِعَدَمِ جَوَازِ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْهُ كَذَلِكَ قَالَ بِالْجَوَازِ وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَة ف 8).
وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ أَيْضًا وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ.
أَمَّا السُّنَّةُ فَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: «اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضَعِينَ ثِيَابَكِ» وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتُرُنِي وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ» كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا فَرَغَ مِنْ خُطْبَةِ الْعِيدِ أَتَى إِلَى النِّسَاءِ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِِينَ بِأَيْدِيهِنَّ يَقْذِفْنَهُ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ، ثُمَّ انْطَلَقَ هُوَ وَبِلَالٌ إِلَى بَيْتِهِ».
وَمِنَ الْمَعْقُولِ اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النِّسَاءَ لَوْ مُنِعْنَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الرِّجَالِ مُطْلَقًا لَوَجَبَ عَلَى الرِّجَالِ الْحِجَابُ كَمَا وَجَبَ عَلَى النِّسَاءِ، وَلِأَنَّ مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ يَسْتَوِي فِي حُكْمِ النَّظَرِ إِلَيْهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ مَادَامَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، كَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ، فَكَانَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ مِنَ الرَّجُلِ مَا لَيْسَ عَوْرَةً، كَمَا لَهُ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ عِنْدَ عَدَمِ الْخَوْفِ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِأَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَحْضُرْنَ الصَّلَاةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ نَظَرُهُنَّ إِلَى الرِّجَالِ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُنَّ بِحُضُورِ الْمَسْجِدِ وَالْمُصَلَّى.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ حُكْمُهُ كَحُكْمِ نَظَرِ الرَّجُلِ إِلَى مَحَارِمِهِ، فَيَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ مِنَ الرَّجُلِ إِلَى مِثْلِ مَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ، وَيَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَى مَا عَدَا ذَلِكَ، وَذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ الْحَنَفِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الصَّحِيحِ (وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ لِمُحَمَّدٍ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهَا النَّظَرُ إِلَى مَا يَبْدُو مِنْهُ فِي الْمِهْنَةِ.
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ حُكْمَ النَّظَرِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ غِلَظٌ فِي الشَّرْعِ عَنْ حُكْمِهِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، مِمَّا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَظَرُ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُلِ أَغْلَظَ فِي الْحُكْمِ مِنْ نَظَرِ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ، وَإِنْ كَانَتْ عَوْرَتُهُ لَا تَخْتَلِفُ، حَتَّى إِنَّهُ لَا يُبَاحُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُغَسِّلَ الرَّجُلَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَوْ كَانَتْ هِيَ فِي النَّظَرِ إِلَيْهِ كَالرَّجُلِ فِي النَّظَرِ إِلَى الرَّجُلِ لَجَازَ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ حُكْمَ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ كَحُكْمِ نَظَرِهِ إِلَيْهَا، فَلَا يَحِلُّ أَنْ تَرَى مِنْهُ إِلاَّ مَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرَى مِنْهَا، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ، وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ قَدَّمَهَا فِي الْهِدَايَةِ وَالْمُسْتَوْعِبِ وَالْخُلَاصَةِ وَالرِّعَايَتَيْنِ وَالْحَاوِي الصَّغِيرِ، وَقَطَعَ بِهَا ابْنُ الْبَنَّا وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، لَكِنَّ النَّوَوِيَّ جَعَلَهَ هُوَ الْأَصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، تَبَعًا لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْأَصْحَابِ وَمَا قَطَعَ بِهِ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْقَوْلَ الصَّحِيحَ الَّذِي عَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ مِنَ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ الشَّابَّةِ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهَا، وَأَنَّ مُقَابِلَهُ جَوَازُ نَظَرِهِ إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ مَعَ الْكَرَاهَةِ.وَبِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ فِي حُكْمِ نَظَرِ الرَّجُلِ إِلَى الْمَرْأَةِ يَكُونُ مُقْتَضَى هَذَا الْقَوْلِ فِي حُكْمِ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ هُوَ التَّحْرِيمُ مُطْلَقًا، لَكِنْ قَالَ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ: هَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْأَصْحَابِ، وَاتَّفَقَتِ الْأَوْجُهُ عَلَى جَوَازِ نَظَرِهَا إِلَى وَجْهِ الرَّجُلِ وَكَفَّيْهِ عِنْدَ الْأَمْنِ مِنَ الْفِتْنَةِ.
وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى النِّسَاءَ بِغَضِّ أَبْصَارِهِنَّ كَمَا أَمَرَ الرِّجَالَ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ «عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَمَيْمُونَةَ، إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: احْتَجِبَا مِنْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَيْسَ هَذَا أَعْمَى لَا يُبْصِرُنَا وَلَا يَعْرِفُنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا؟ أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ؟».فَلَوْ كَانَ نَظَرُ النِّسَاءِ إِلَى الرِّجَالِ مُبَاحًا لَمَا أَمَرَهُمَا الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- بِالِاحْتِجَابِ عَنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ- رضي الله عنه- وَهُوَ أَعْمَى وَلَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمَا النَّظَرَ إِلَيْهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِالْمَعْقُولِ، وَهُوَ أَنَّ النِّسَاءَ أَحَدُ نَوْعَيِ الْآدَمِيِّينَ، فَحَرُمَ عَلَيْهِنَّ النَّظَرُ إِلَى النَّوْعِ الْآخَرِ، قِيَاسًا عَلَى الرِّجَالِ، يُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُحَرِّمَ لِلنَّظَرِ هُوَ خَوْفُ الْفِتْنَةِ، وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الرِّجَالِ، بَلْ أَشَدُّ شَهْوَةً وَأَسْرَعُ افْتِتَانًا.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى وَجْهِ الرَّجُلِ وَكَفَّيْهِ وَقَدَمَيْهِ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا النَّظَرُ إِلَى مَا سِوَى ذَلِكَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ، وَاعْتَبَرَهُ ظَاهِرَ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَالْقَاضِي.
نَظَرُ الْمَرْأَةِ إِلَى مَحَارِمِهَا مِنَ الرِّجَالِ:
20- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنْ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إِلَى مَحَارِمِهَا مِنَ الرِّجَالِ لَا يَحِلُّ إِذَا كَانَ بِشَهْوَةٍ أَوْ بِقَصْدِ اللَّذَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَحِلُّ لَهَا النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنَ الرَّجُلِ الْمَحْرَمِ عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ مِنْ مَحْرَمِهَا إِلَى مَا سِوَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَمْ تُفَرِّقْ عِبَارَاتُهُمْ فِي حُكْمِ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُلِ بَيْنَ الْمَحْرَمِ وَغَيْرِهِ، وَأَنَّهُ يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ مِنْهُ إِلَى مَا سِوَى الْعَوْرَةِ، أَيْ إِلَى السُّرَّةِ وَمَا فَوْقَهَا، وَمَا تَحْتَ الرُّكْبَةِ، وَهَذَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِهِمْ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ فَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ إِلاَّ إِلَى مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ، حَتَّى يَحْرُمَ عَلَيْهَا أَنْ تَنْظُرَ إِلَى ظَهْرِهِ وَبَطْنِهِ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالَ الْمَرْدَاوِيُّ: يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ إِلَى مَا لَا يَظْهَرُ غَالِبًا، وَإِلَى الرَّأْسِ وَالسَّاقَيْنِ وَهَذَا الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، وَحُكْمُ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ حُكْمُ الْأَمَةِ الْمُسْتَامَةِ فِي النَّظَرِ، خِلَافًا وَمَذْهَبًا، عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَقَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُ.
ثُمَّ قَالَ الْمَرْدَاوِيُّ: وَحُكْمُ الْمَرْأَةِ فِي النَّظَرِ إِلَى مَحَارِمِهَا حُكْمُهُمْ فِي النَّظَرِ إِلَيْهَا، قَالَهُ فِي الْفُرُوعِ وَغَيْرِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إِلَى ذِي مَحْرَمِهَا كَنَظَرِهِ إِلَيْهَا.
نَظَرُ الْمَرْأَةِ إِلَى الْمَرْأَةِ:
21- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى الْمَرْأَةِ مَهْمَا كَانَتْ إِذَا كَانَ هَذَا النَّظَرُ بِشَهْوَةٍ أَوْ بِقَصْدِ التَّلَذُّذِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَقَدْ فَرَّقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ نَظَرِ الْمُسْلِمَةِ إِلَى الْمَرْأَةِ، وَنَظَرِ الْكَافِرَةِ إِلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ، وَفِي نَظَرِ الْمُسْلِمَةِ فَرَّقُوا بَيْنَ الْفَاجِرَةِ وَالْعَفِيفَةِ:
نَظَرُ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ إِلَى الْمَرْأَةِ:
22- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ نَظَرِ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ إِلَى الْمَرْأَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ أَنْ تَنْظُرَ مِنَ الْمَرْأَةِ إِلَى مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ مِنَ الرَّجُلِ، فَيَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ مِنَ الْمَرْأَةِ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهَا مَا عَدَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِحَدِيثِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ وَلَا الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ».وَذَلِكَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- بَيَّنَ عَوْرَةَ الرَّجُلِ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَوْرَةَ الْمَرْأَةِ مَعَ الْمَرْأَةِ مِثْلُهُ، لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَمَا عَدَا الْعَوْرَةَ لَا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ، فَيَبْقَى النَّظَرُ إِلَيْهِ جَائِزًا.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى نَظَرِ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ بِجَامِعِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَعَدَمِ الْخَوْفِ مِنَ الشَّهْوَةِ وَالْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ، وَبِأَنَّ الشَّرْعَ أَبَاحَ لِلنِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ تَجْرِيدَ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَمُوتُ لِغُسْلِهَا، وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ لِلرِّجَالِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ مَحَارِمِهَا، فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَوْرَةَ الْمَرْأَةِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ كَعَوْرَةِ الرَّجُلِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ، كَذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ الضَّرُورَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى الِانْكِشَافِ فِيمَا بَيْنَ النِّسَاءِ.الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُسْلِمَةَ يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ مِنَ الْمَرْأَةِ مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ، حَتَّى لَا يُبَاحَ لَهَا النَّظَرُ إِلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ.
وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا وَرَدَ مِنْ نَهْيِ النِّسَاءِ عَنْ دُخُولِ الْحَمَّامَاتِ بِمِئْزَرٍ وَبِغَيْرِ مِئْزَرٍ، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّهَا سَتُفْتَحُ لَكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ وَسَتَجِدُونَ فِيهَا بُيُوتًا يُقَالُ لَهَا الْحَمَّامَاتُ، فَلَا يَدْخُلَنَّهَا الرِّجَالُ إِلاَّ بِالْأُزُرِ، وَامْنَعُوهَا النِّسَاءَ إِلاَّ مَرِيضَةً أَوْ نُفَسَاءَ».
نَظَرُ الْكَافِرَةِ إِلَى الْمُسْلِمَةِ:
23- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَمْكِينِ الْمُسْلِمَةِ الْمَرْأَةَ الْكَافِرَةَ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا عَلَى أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ الْكَافِرَةَ فِي نَظَرِهَا إِلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ كَالرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ، فَلَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمَةِ أَنْ تُمَكِّنَهَا مِنَ النَّظَرِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهَا سِوَى مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ مِنْهَا، وَهَذَا قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اعْتَبَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَالْبُلْقِينِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَالْقَاضِي وَغَيْرُهُمْ هُوَ الْأَصَحُّ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ.
وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ يَرَوْنَ أَنَّهُ يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ أَنْ تُمَكِّنَ الْكَافِرَةَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا، وَيَحْرُمُ عَلَيْهَا تَمْكِينُهَا مِنَ النَّظَرِ إِلَى مَا سِوَى ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الْمُعْتَمَدِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ تَيْمِيَةَ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمَةِ أَنْ تُمَكِّنَ الْكَافِرَةَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهَا، وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ إِذَا كَانَتِ الْكَافِرَةُ غَيْرَ مَحْرَمٍ لِلْمُسْلِمَةِ (أَيْ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الرَّجُلِ الْمَحْرَمِ) وَغَيْرَ مَمْلُوكَةٍ لَهَا، أَمَّا هُمَا فَيَجُوزُ لَهُمَا النَّظَرُ إِلَيْهَا.
وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} فَقَدْ فَسَّرَهَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهُنَّ النِّسَاءُ الْمُسْلِمَاتُ الْحَرَائِرُ، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- مِنْ قَوْلِهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: هُنَّ الْمُسْلِمَاتُ لَا تُبْدِيهِ لِيَهُودِيَّةٍ وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لِلْكَافِرَةِ النَّظَرُ إِلَى الْمُسْلِمَةِ لَمْ يَبْقَ لِلتَّخْصِيصِ الْوَارِدِ فِي الْآيَةِ بِالْإِضَافَةِ فَائِدَةٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ صِنْفٌ مِنَ النِّسَاءِ هُنَّ الْمُسْلِمَاتُ.وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ- رضي الله عنه-: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ نِسَاءً مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَاتِ وَمَعَهُنَّ نِسَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَامْنَعْ ذَلِكَ وَحُلْ دُونَهُ وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَوْرَتِهَا إِلاَّ أَهْلَ مِلَّتِهَا أَيْ مَا يُعَرَّى وَيَنْكَشِفُ مِنْهَا.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَضَعُ الْمُسْلِمَةُ خِمَارَهَا عِنْدَ مُشْرِكَةٍ، وَلَا تُقَبِّلُهَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} فَلَيْسَتْ مِنْ نِسَائِهِنَّ.كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ كَشْفَ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ عَنْ بَدَنِهَا أَمَامَ الْكَافِرَةِ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ تَصِفَهَا لِزَوْجِهَا أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ دِينَهَا لَا يَمْنَعُهَا عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْمُسْلِمَةُ فَإِنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ فَتَنْزَجِرُ عَنْهُ.
وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ تُقَبِّلَ النَّصْرَانِيَّةُ الْمُسْلِمَةَ أَوْ تَرَى عَوْرَتَهَا وَيَتَأَوَّلُ {أَوْ نِسَائِهِنَّ}.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ الْكَافِرَةِ إِلَى الْمُسْلِمَةِ كَنَظَرِ الْمُسْلِمَةِ إِلَى الْمُسْلِمَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدِ اسْتَظْهَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، فَقَدْ قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِنِسَائِهِنَّ مَنْ يَصْحَبُهُنَّ مِنَ الْحَرَائِرِ مَسْلَمَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا، وَالنِّسَاءُ كُلُّهُنَّ فِي حِلِّ نَظَرِ بِعْضِهِنَّ إِلَى بَعْضٍ سَوَاءٌ.وَيُسْتَفَادُ مِثْلُ هَذَا مِنْ قَوْلِ السَّرَخْسِيِّ: إِنْ كَانَ مَعَ الرِّجَالِ امْرَأَةٌ كَافِرَةٌ عَلَّمُوهَا الْغُسْلَ لِتُغَسِّلَهَا، لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْمُوَافَقَةِ فِي الدِّينِ وَالْمُخَالَفَةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اعْتَبَرَهُ الْغَزَالِيُّ هُوَ الْأَصَحُّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، جَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ وَغَيْرِهِ وَقَدَّمَهُ فِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ الْكَبِيرِ وَنَصَرَاهُ، وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ الْكَافِي، وَقَدْ رَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، حَيْثُ نَقَلَ عَنْهُ الْأَلُوسِيُّ أَنَّهُ قَالَ: وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا كَالْمُسْلِمَةِ، وَالْمُرَادُ بِنِسَائِهِنَّ جَمِيعُ النِّسَاءِ، وَقَوْلُ السَّلَفِ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ.وَكَذَلِكَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، حَيْثُ قَالَ: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِجَمِيعِ النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِالضَّمِيرِ لِلِاتِّبَاعِ، فَإِنَّهَا آيَةُ الضَّمَائِرِ، إِذْ فِيهَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ضَمِيرًا، لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ لَهَا نَظِيرٌ.
وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ كُنَّ يَدْخُلْنَ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، فَلَمْ يَكُنَّ يَتَحَجَّبْنَ وَلَا أُمِرْنَ بِحِجَابٍ وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَى نَظَرِ الرَّجُلِ الْكَافِرِ لِلرَّجُلِ الْمُسْلِمِ بِجَامِعِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، فَكَمَا لَمْ يُفَرَّقْ فِي حُكْمِ النَّظَرِ بَيْنَ الرِّجَالِ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِهِ بَيْنَ النِّسَاءِ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي مُنِعَ بِهِ الرِّجَالُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى النِّسَاءِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي النَّظَرِ بَيْنَ النِّسَاءِ، سَوَاءٌ اتَّحَدَ الدِّينُ أَمِ اخْتَلَفَ، وَلِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَرْفَقُ بِالنَّاسِ وَيَرْفَعُ حَرَجًا عَنْهُمْ، إِذْ لَا يَكَادُ يُمْكِنُ احْتِجَابُ الْمُسْلِمَاتِ عَنِ الذِّمِّيَّاتِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمَةِ أَنْ تُمَكِّنَ الْكَافِرَةَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى مَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ مَحَارِمُهَا، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَصَفَهُ النَّوَوِيُّ بِالْأَشْبَهِ وَالرَّمْلِيُّ وَالْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ بِالْمُعْتَمِدِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
نَظَرُ الْفَاجِرَةِ إِلَى الْعَفِيفَةِ:
24- نَصَّ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهَا الْمَرْأَةُ الْفَاجِرَةُ، لِأَنَّهَا تَصِفُهَا عِنْدَ الرِّجَالِ، فَلَا تَضَعُ جِلْبَابَهَا وَلَا خِمَارَهَا أَمَامَهَا.
وَذَهَبَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْفَاسِقَةَ مَعَ الْعَفِيفَةِ كَالْكَافِرَةِ مَعَ الْمُسْلِمَةِ، يَعْنِي أَنَّ الْمُسْلِمَةَ الْعَفِيفَةَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا تَمْكِينُ الْفَاسِقَةِ مِنَ النَّظَرِ إِلَى بَدَنِهَا، وَتَابَعَهُ آخَرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ كَالزَّرْكَشِيِّ، لَكِنَّ بَعْضَهُمْ قَصَرَ هَذَا الْحُكْمَ عَلَى نَوْعٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْفَاسِقَاتِ هُنَّ الْمُسَاحِقَاتِ، أَوْ مَنْ كَانَ عِنْدَهُنَّ مَيْلٌ إِلَى النِّسَاءِ، وَعَمَّمَهُ آخَرُونَ عَلَى كُلِّ فَاسِقَةٍ سَوَاءٌ أَكَانَ فِسْقُهَا بِسَبَبِ تَعَاطِي السِّحَاقِ أَمْ بِسَبَبِ الزِّنَا أَمْ بِسَبَبِ الْقِيَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَكِنَّ أَكْثَرَ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ يَرَوْنَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَغَيْرُهُ، لِأَنَّ الْفَاسِقَةَ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ، وَالْفِسْقُ لَا يُخْرِجُهَا عَنِ الْإِيمَانِ.
وَدَلِيلُ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ هُوَ قِيَاسُ الْفَاجِرَةِ عَلَى الْكَافِرَةِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَظِنَّةُ نَقْلِ مَا تَرَاهُ مِنْ مَحَاسِنِ الْمَرْأَةِ الْعَفِيفَةِ إِلَى زَوْجِهَا أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ، فَيَحْرُمُ نَظَرُهَا وَيَحْرُمُ تَمْكِينُهَا مِنَ النَّظَرِ كَالرَّجُلِ.
النَّظَرُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ:
25- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُبَاحُ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِ صَاحِبِهِ بِدُونِ كَرَاهَةٍ سِوَى الْفَرْجِ وَالدُّبُرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ النَّظَرُ بِشَهْوَةٍ أَمْ بِغَيْرِهَا، مَادَامَتِ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً بَيْنَهُمَا، وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ نَظَرِ الْوَاحِدِ مِنْهُمَا إِلَى فَرْجِ الْآخَرِ أَوْ دُبُرِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى إِبَاحَةِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَحِلُّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِ الْآخَرِ، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَيُّ عُضْوٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} فَاسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ مِنَ الْأَمْرِ بِحِفْظِ الْفُرُوجِ، الزَّوْجَاتِ وَالْمَمْلُوكَاتِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الِاسْتِمْتَاعُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي دُخُولِ الْمَسِّ وَالْوَطْءِ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ، فَكَذَلِكَ النَّظَرُ مِنْ بَابِ أَوْلَى وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ «عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ» وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى إِبَاحَةِ النَّظَرِ إِلَى عَوْرَةِ الزَّوْجَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأَوْلَى لِلزَّوْجَيْنِ أَنْ لَا يَنْظُرَ أَحَدُهُمَا إِلَى عَوْرَةِ صَاحِبِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: مَا نَظَرْتُ أَوْ مَا رَأَيْتُ فَرْجَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَطُّ.
وَاسْتَثْنَى أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ مِنْ حِلِّ النَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ النَّظَرَ إِلَى فَرْجِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا، وَقَالَا: يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إِلَى الشَّعْرِ وَالظَّهْرِ وَالصَّدْرِ مِنْهَا، وَتَرَدَّدَ صَاحِبُ الدُّرِّ فِي حِلِّ النَّظَرِ إِلَى فَرْجِ الْحَائِضِ مَعَ الْقَطْعِ بِتَحْرِيمِ قُرْبَانِهَا فِيمَا تَحْتَ الْإِزَارِ، وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ النَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ حَالَ الْحَيْضِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي نَظَرِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ إِلَى فَرْجِ صَاحِبِهِ إِلَى مِثْلِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، فَيَحِلُّ بِدُونِ كَرَاهَةٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ النَّظَرِ إِلَى الدُّبُرِ، فَقَالَ الْأَقْفَهَسِيُّ: لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ التَّمَتُّعُ بِهِ، فَيَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى فَرْجِ الْآخَرِ، وَتَشْتَدُّ الْكَرَاهَةُ إِذَا كَانَ النَّظَرُ إِلَى بَاطِنِ الْفَرْجِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: مَا نَظَرْتُ إِلَى فَرْجِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَطُّ أَوْ مَا رَأَيْتُ فَرْجَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَطُّ.
ثُمَّ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ جَوَازِ النَّظَرِ مَعَ الْكَرَاهَةِ إِلَى فَرْجِ الزَّوْجَةِ النَّظَرَ إِلَى فَرْجِ الزَّوْجَةِ الْمُعْتَدَّةِ عَنْ وَطْءِ أَجْنَبِيٍّ بِشُبْهَةٍ، فَهَذِهِ لَا يَحِلُّ النَّظَرُ مِنْهَا إِلاَّ إِلَى مَا عَدَا مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا وَرُكْبَتِهَا، وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى إِبَاحَةِ النَّظَرِ إِلَى الدُّبُرِ وَالتَّلَذُّذِ بِهِ بِمَا سِوَى الْإِيلَاجِ، وَذَهَبَ الدَّارِمِيُّ مِنْهُمْ إِلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَى الدُّبُرِ، أَيْ إِلَى حَلْقَتِهِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِحَالِ الْحَيَاةِ.
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ لَا يَحِلُّ لَهَا النَّظَرُ إِلَى فَرْجِ زَوْجِهَا إِذَا مَنَعَهَا مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْعَكْسِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ التَّمَتُّعَ بِهَا بِخِلَافِ الْعَكْسِ نَقَلَهُ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ عَنِ الزَّرْكَشِيِّ وَاسْتَظْهَرَهُ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ التَّوَقُّفُ فِيهِ.
نَظَرُ الْإِنْسَانِ إِلَى عَوْرَةِ نَفْسِهِ:
26- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَةِ نَظَرِ الشَّخْصِ إِلَى فَرْجِ نَفْسِهِ بِلَا حَاجَةٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَنَظَرُهُ إِلَى بَاطِنِهِ أَشَدُّ كَرَاهَةً.وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ».
نَظَرُ الْخُنْثَى:
27- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى يُعَامَلُ فِي نَظَرِهِ إِلَى غَيْرِهِ وَفِي نَظَرِ غَيْرِهِ إِلَيْهِ بِالْأَحْوَطِ، فَيُعْتَبَرُ مَعَ النِّسَاءِ رَجُلًا أَوْ مُرَاهِقًا، وَيَعْتَبَرُ مَعَ الرِّجَالِ امْرَأَةً أَوْ مُرَاهِقَةً، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةِ، وَمُسْتَنَدُهُمْ وُجُوبُ الْأَخْذِ بِالْأَحْوَطِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ سَبَبِ الْحَظْرِ وَسَبَبِ الْإِبَاحَةِ، وَهُمَا مَوْجُودَانِ فِي الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ لِتَسَاوِي احْتِمَالِ كَوْنِهِ ذَكَرًا مَعَ احْتِمَالِ كَوْنِهِ أُنْثَى.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ يُقَابِلُ الْأَصَحَّ، وَهُوَ أَنَّهُ يُسْتَصْحَبُ فِيهِ حُكْمُ الصِّغَرِ، فَيُعَامَلُ بِمَا كَانَ يُعَامَلُ بِهِ فِي الصِّغَرِ، وَلِلْحَنَابِلَةِ قَوْلَانِ آخَرَانِ فِي حُكْمِ الْخُنْثَى:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَالرَّجُلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا تَشَبَّهَ بِذَكَرٍ عُومِلَ كَالرَّجُلِ، وَإِنْ تَشَبَّهَ بِأُنْثَى عُومِلَ كَالْمَرْأَةِ.
التَّرْخِيصُ بِالنَّظَرِ إِلَى مَالَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهِ:
28- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ إِلَى مَا لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهِ فِي الْأَصْلِ يُبَاحُ فِي مَوْضِعَيْنِ:
الْأَوَّلُ: إِذَا وَقَعَ عَلَى سَبِيلِ الْفَجْأَةِ.
الثَّانِي: إِذَا دَعَتْ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ أَوْ حَاجَةٌ، وَفِيمَا يَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ:
نَظَرُ الْفُجَاءَةِ:
29- الْفُجَاءَةُ بِالضَّمِّ وَالْمَدِّ، وَكَذَلِكَ الْفَجْأَةُ وِزَانُ تَمْرَةٍ، هِيَ الْبَغْتَةُ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ سَبَبٍ وَيُقْصَدُ بِنَظَرِ الْفَجْأَةِ النَّظَرُ غَيْرُ الْمَقْصُودِ مِنَ النَّاظِرِ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ هَذَا النَّظَرَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ وَلَا إِثْمَ فِيهِ، لِمَا وَرَدَ «عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِثْمَ فِي اسْتِدَامَةِ النَّظَرِ بَعْدَ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ، وَلَيْسَ فِي النَّظْرَةِ الْأُولَى غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ أَيُّ إِثْمٍ، وَلِمَا وَرَدَ عَنْ بُرَيْدَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَلِيٍّ: يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ».فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّظْرَةَ الْأُولَى إِذَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَا إِثْمَ فِيهَا.
نَظَرُ الْحَاجَةِ:
30- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ عَلَى إِبَاحَةِ النَّظَرِ لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ إِلَى مَا يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ عِنْدَ تَحَقُّقِهَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ فِي تَحْدِيدِ الْحَاجَاتِ الْمُبِيحَةِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهَا، وَشُرُوطِ الْإِبَاحَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْحَاجَاتِ الْمُبِيحَةِ لِلنَّظَرِ: الْخِطْبَةَ وَالتَّدَاوِيَ وَالْقَضَاءَ وَالشَّهَادَةَ وَالْمُعَامَلَةَ وَالتَّعْلِيمَ وَغَيْرَهَا.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
35-المعجم الغني (اِنْتَفى)
اِنْتَفى- [نفي]، (فعل: خماسي. لازم, مزيد بحرف)، اِنْتَفى، يَنْتَفي، المصدر: اِنْتِفاءٌ.1- "اِنْتَفَى شَعْرُ رَأْسِهِ": تَساقَطَ، سَقَطَ.
2- "اِنْتَفَى الرَّجُلُ": اِبْتَعَدَ عَنْ وَطَنِهِ مَطْرُودًا.
3- "اِنْتَفَى الشَّجَرُ مِنَ الْوَادِي": اِنْقَطَعَ، اِنْعَدَمَ.
4- "اِنْتَفَى الخَبَرُ": لَمْ يَثْبُتْ.
5- "اِنْتَفَى الوَلَدَ مِنْ أَوْلادِهِ": لَمْ يَعْتَبِرْهُ مِنْ أَوْلادِهِ، تَبَرَّأَ مِنْهُ. "اِنْتَفَى مِنْ وَلَدِهِ".
6- "اِنْتَفَى مِنَ التُّهْمَةِ": تَبَرَّأَ مِنْها، بَرَّأَ نَفْسَهُ مِنْها، تَنَصَّلَ مِنْها.
الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
36-المعجم الغني (سَاعِدٌ)
سَاعِدٌ(سَاعِدَةٌ )- الجمع: سَوَاعِدُ. [سعد]:1- "أُصِيبَ بِكَسْرٍ فِي سَاعِدِهِ": مَا بَيْنَ الْمَرْفِقِ والكَفِّ.
2- "شَدَّ عَلَى سَاعِدِهِ": عَاوَنَهُ، آزَرَهُ، عَاضَدَهُ. "شَمَّرَ الرِّجَالُ عَلَى سَوَاعِدِهِمْ".
3- "كَانَ سَاعِدَهُمُ الأكْبَرَ": مُعَاوِنَهُمْ.
4- "يَعْتَبِرُهُ سَاعِدَهُ الأيْمَنَ": أَيِ الشَّخْصَ الرَّئِيسَ الَّذِي يَعْتَمِدُ عَليْهِ فِي أعْمَالِهِ.
5- "مَا لَهُمْ سَاعِدٌ يَعْتَمِدُونَهُ": أيْ مَا لَهُمْ رَئِيسٌ.
6- "سَاعِدا الطَّائِرِ": مِجْدافاهُ، جَنَاحَاهُ.
7- "سَوَاعِدُ النَّهْرِ أَوِ البَحْرِ": رَوَافِدُهُ، أيْ شِعَابُهُ الَّتِي يَنْتَقِلُ مِنْهَا الْمَاءُ إلَى النَّهْرِ الكَبِيرِ أَوِ البَحْرِ.
8- "سَوَاعِدُ الْمُخِّ": مَجَارِيهِ فِي العَظْمِ.
9- "سَوَاعِدُ الطَّيْرِ": أَجْنِحَتُهَا.
10- "سَوَاعِدُ الضَّرْعِ": مَجارِي اللَّبَنِ فِيهِ.
11- "سَاعِدَةُ السَّاقِ": شَظِيَّتُهَا.
الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
37-المعجم الغني (مَرْفُوعٌ)
مَرْفُوعٌ(مَرْفُوعَةٌ )- الجمع: (مَرْفُوعُونَ، مَرْفُوعَاتٌ ). [رفع]، (اسم مفعول مِنْ: رَفَعَ):1- "مَرْفُوعُ الرَّأْسِ": عَالِي الرَّأْسِ. "أُحِبُّ أَنْ أَمُوتَ مَرْفُوعَ العُيُونِ". (عبد الرفيع جواهري):
2- "حَرْفٌ مَرْفُوعٌ": أَيْ فِي حَالَةِ الرَّفْعِ، عَلَيْهِ ضَمَّةٌ.
3- "حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ": هُوَ مَا يَعْتَبِرُهُ الْمُحَدِّثُونَ مُتَّصِلَ الرِّوَايَةِ بِالنَّبِيِّ. (.
الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م
38-معجم الرائد (انْتَفَى)
انْتَفَى انْتِفَاءً:1- انْتَفَى: إبتعد.
2- انْتَفَى: طرد.
3- انْتَفَى الشعر: تساقط.
4- انْتَفَى الشيء: لم يثبت «انتفى الخبر».
5- انْتَفَى الشجر أو غيره: انعدم.
6- انْتَفَى الولد من أولاده: لم يعتبره من أولاده.
7- انْتَفَى من الشيء: برأ نفسه منه.
الرائد-جبران مسعود-صدر: 1384هـ/1965م
39-تاج العروس (حكش)
المستحـق: فرد الاسرة الباقي على قيد الحياة بعد وفاة المشترك أو صاحب المعاش او العائدة والذي يعتبره النظام مستحقا للمعاش ويشمل:تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
40-القانون (عوض كافي)
عوض كافي: مقابل وفاء يعتبره القانون كافيا لصحة المبايعة او العقد.المعجم القانوني (الفاروقي)
41-القانون (وحش بشري؛ مخلوق غريب)
وحش بشري؛ مخلوق غريب: مولود بشري غريب الشكل إلى حد يجعله أدنى إلى الحيوان منه إلى الإنسان ولا يعتبره القانون أهلًا لوراثة الأرض.المعجم القانوني (الفاروقي)
42-القانون (حضور استدلالي؛ حضور تقديري أو حكمي)
حضور استدلالي؛ حضور تقديري أو حكمي: دنو الشخص من موقع الفعل دنوًا يعتبره القانون في حكم الحضور.ويتوافر فعليًا بحيث يعتبر كالحاضر في نظر القانون من كان على تعاون أو اتصال دائم بشخص حاضر فعلًا.
المعجم القانوني (الفاروقي)