نتائج البحث عن (يُخْبِرْهُ)

1-العربية المعاصرة (خبر)

خبَرَ يَخبُر، خُبْرًا وخِبْرَةً، فهو خابِر وخبير، والمفعول مَخْبور.

* خبَر الحياةَ: علِمها وعرَف حقيقتَها عن تجربة (لقد خَبَرْتك وعرفت صدقَ طويّتك- {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} [قرآن]) (*) مِنْ أين خَبَرْت هذا الأمر؟: أي من أين عرفت حقيقتَه؟.

* خبَرَ الرَّجُلَ: اختبره، امتحنه ليعرفَ حقيقتَه.

خبُرَ/خبُرَ ب يخبُر، خُبْرًا وخِبْرَةً، فهو خبير، والمفعول مَخْبُور به.

* خبُر الشَّخصُ: صار خبيرًا.

* خبُر بالأمرِ: عرفه معرفة جيِّدة (صاحب الكلام أخبر بمعناه- {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [قرآن]).

خبِرَ يَخبِر، خَبَرًا، فهو خابر، والمفعول مَخْبور.

* خبِر الشَّيءَ والشَّخصَ: علمه وعرفه على حقيقته.

أخبرَ يُخبر، إخبارًا، فهو مُخبِر، والمفعول مُخبَر.

* أخبره وقائع المؤتمر/أخبره بوقائع المؤتمر/أخبره عن وقائع المؤتمر: أعلمه وأنبأه بها (أخبر شخصًا بالتفاصيل- أخبرني عن جليّة الأمر: حقيقته).

اختبرَ يختبر، اختبارًا، فهو مختبِر، والمفعول مختبَر.

* اختبر الدَّواءَ: جرَّبه، أخضعه للاختبار، فحصه ليعرف حقيقتَه (اختبر السِّلاحَ).

* اختبر الشَّخصَ: امتحنه (اختبره في القراءة/الكتابة/القيادة/المعلومات العامّة- عقد المدرس اختبارًا مفاجئًا لطلابه).

* اختبر اللهُ النَّاسَ: ابتلاهم امتحانًا لقوّة إيمانهم، وهو أعلم بها.

استخبرَ يستخبر، استخبارًا، فهو مستخبِر، والمفعول مستخبَر.

* استخبره عن الأمر: طلب منه أن يخبره حقيقتَه، سأله عنه والتمس معرفتَه (استخبره عن صحّة/أحوال أبيه- استخبره عمّا يجري في فلسطين).

تخابرَ يتخابر، تخابُرًا، فهو متخابِر.

* تخابر مع صديقه: تبادل معه الأخبارَ (تخابر الشخصان هاتفيًّا- قُبض عليه بتهمة التخابر مع دولة أجنبيّة: بتهمة إمدادها بمعلومات عن بلده).

تخبَّرَ يتخبَّر، تخبُّرًا، فهو متخبِّر، والمفعول متخبَّر.

* تخبَّر الأمرَ: تعرَّفه على حقيقته.

خابرَ يخابر، مُخابَرَةً، فهو مخابِر، والمفعول مخابَر.

* خابر صديقَه:

1 - باحثه، بادله الأخبار (خابره في الأمر فوجد لديه كلّ تفهُّم).

2 - كالمه، اتّصل به هاتفيًّا (أرجو أن تخابرني حال نجاحك).

* خابر المالكُ الفلاَّحَ: [في القانون] سلّمه أرضَه لاستثمارها على نصيب معيّن كالثلث والربع وغيرهما، شاركه في زراعة أرض على نصيب معيَّن.

خبَّرَ يخبِّر، تخبيرًا، فهو مخبِّر، والمفعول مخبَّر.

* خبَّره الأمرَ/خبَّره بالأمر/خبَّره عن الأمر: أخبره به، أعلمه إيّاه وأبلغه به، أنبأه به (من خبَّر بنبأ فقد أنار- خبّره ما جرى في غيابه).

إخبار [مفرد]:

1 - مصدر أخبرَ.

2 - [في القانون] قيام سلطة رسميّة أو موظّف، أو قيام من شاهد اعتداء على الأمن العام أو حياة الناس بإبلاغ المدعي العام التابع له محلّ وقوع الجريمة.

أخباريّ [مفرد]: اسم منسوب إلى أخبار: على غير قياس: مؤرِّخ (الطبري من أبرز الأخباريِّين العرب) (*) صحيفة أخباريّة: تُعنى بالأخبار والأحداث.

إخباريّ [مفرد]: اسم منسوب إلى إخبار: إعلاميّ، مهتمّ بنشر الأخبار (شريط إخباريّ- قام الإخباريّون بتغطية أحداث الحفل وبثِّه على الهواء مباشرة).

* الإخباريّ من الأفعال: الذي يعبِّر عن إخبار، كالفعل قال أو روى.

إخبارِيَّة [مفرد]:

1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى إخبار: (نشرة إخباريّة) (*) رسالة إخباريّة: تقرير مطبوع يُزوَّد بأخبار ومعلومات ذات أهميّة لجماعة مُعيَّنة.

2 - مصدر صناعيّ من إخبار: خبر منقول بطريقة سرِّيَّة (وصلت إلى الشُّرطة إخباريّة بوجود مهرِّبين على الحدود).

3 - [في الفلسفة والتصوُّف] فرقة من الإماميّة، وهم فرقة من الشِّيعة قالوا بالنصِّ الجليّ على إمامة علي رضي الله عنه، وكفَّروا الصحابةَ ووقعوا فيهم وساقوا الإمامة إلى جعفر الصادق.

اختبار [مفرد]: جمعه اختبارات (لغير المصدر):

1 - مصدر اختبرَ.

2 - امتحان، تجربة (اجتاز الاختبارات جميعها بنجاح باهر- جرّبه على سبيل الاختبار- الاختبار مُعلِّم أخرس) (*) اختبار الطَّريق: اختبار يُجرى للمركبات لمعرفة مقدار صلاحيتها للسير على الطرق، فحص للشَّخص الذي يسعى للحصول على رُخصة قيادة لمعرفة قدرته على القيادة في الطرق- اختبار قيادة: امتحان في آداب المرور وقيادة السَّيارة- اختبار معاكس: اختبار يهدف إلى التحقق من أن نتائج اختبار أوَّلٍ صحيحةٌ- بالون اختبار: امتحان أو تجربة لجسّ نبض الرأي العام- تحت الاختبار: موضوع تحت الملاحظة؛ لمعرفة مدى صلاحيته- حَقْل اختبار: حقل للاختبارات الزراعيّة، ومجازًا: إخضاع مجتمع أو جماعات لتجربة أو تجارب يكون الغرض منها تحقيق شعارات- على سبيل الاختبار: للتجربة- ورقة اختبار: ورقة مشبَّعة بصبغة عبَّاد الشمس؛ لإجراء اختبارات كيميائيّة.

* اختبار القُدْرة: قياس قدرة العامل على أداء واجبات معيَّنة كالقدرة الميكانيكيّة، والقدرة الكتابيَّة، والقدرة الفنِّية.

* الاختبار الأحيائيّ: [في الكيمياء والصيدلة] تحديد نوع القوّة أو النَّشاط الحيويّ لمادَّة كالعقار أو الهرمون بمقارنة نتائجه مع تلك التي أجريت على حيوان في مختبر.

* أنبوب اختبار: [في الكيمياء والصيدلة] مخبار، أنبوب زجاجيّ أسطوانيّ مفتوح من جانب ودائريّ من الجانب الآخر ويستخدم في التَّجارب المخبريّة.

* اختبار الحساسيَّة: [في الطب] اختبار لبيان مدى التَّأثُّر بدواء مُعيّن أو بمرض مُعْدٍ، بوضع لزقات على الجلد، أو بإحداث خدوش جلديّة وتعريضِها لجرعاتٍ تُسَبِّبُ المرض أو العدوى.

* اختبار الذَّكاء: [في علوم النفس] نوع من الاختبارات لقياس مستوى الذكاء والقدرات العقليّة، اختبار معياريّ لتحديد مُستوى الذكاء عن طريق قياس القدرة الفرديّة على تكوين المفاهيم وحلّ المشكلات واكتساب المعلومات وتأدية عمليّات ذهنيّة أخرى.

اختباريّ [مفرد]:

1 - اسم منسوب إلى اختبار: تجريبيّ، قائم على الاختبار والملاحظة (أسلوب اختباريّ).

2 - استقرائيّ، ناتج عن بحث وتتبُّع (حُكم اختباريّ).

اختباريَّة [مفرد]:

1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى اختبار: (يقضي المعيّنون الجدد فترة اختباريّة مدّتها ستة أشهر- حفرت الشَّركة عشرين بئرًا اختباريّة تنقيبًا عن البترول).

2 - مصدر صناعيّ من اختبار: قابلية شيء للسَّبْر والامتحان (اختباريّة ذاكرة).

3 - تجريبيّة، مذهب يقول بأن المعرفة كلّها مستمدّة من التّجربة والاختبار.

استخبار [مفرد]: جمعه استخبارات (لغير المصدر):

1 - مصدر استخبرَ.

2 - مُحَرَّر يتضمّن أسئلة عن شئون خاصَّة بالمسئول للإجابة عنها (*) إدارة الاستخبارات/دائرة الاستخبارات: مركز لجمع المعلومات عن العدوّ حماية لأمن الدولة والسلامة العامّة- الاستخبارات العسكريَّة: مركز لجمع المعلومات العسكريَّة.

* جهاز الاستخبارات: مباحث، جهاز رسميّ يتولَّى أعمال التجسُّس على العدوّ والكشف عمّا يعرّض أمن الدولة الداخليّ والخارجيّ للاضطرابات (جنّدتهم أجهزة استخبارات العدوّ عملاء لها).

استخباراتيَّة [مفرد]:

1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى استخبارات: على غير قياس (زعمت مصادر استخباراتيّة أمريكيّة أن لدى العراق أسلحة دمار شامل).

2 - مصدر صناعيّ من استخبارات: معلوماتيّة؛ مجموع التقنيَّات المتعلِّقة بالمعلومات ونقلها.

استخباريَّة [مفرد]:

1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى استخبار: (تم القبض عليه بتهمة القيام بنشاطات استخباريّة لصالح بلد أجنبيّ).

2 - مصدر صناعيّ من استخبار: تجسُّسيّة.

* دوائر استخباريَّة: مراكز لجمع المعلومات من أيّ مكان لحماية أمن الدَّولة أو المؤسَّسة العسكريّة.

خابور [مفرد]: جمعه خَوَابيرُ:

1 - قطعة من خشب أو مطّاط يُسَدّ بها ثقب في الحائط ليسهل دقّ المسمار وتثبيته فيه.

2 - قطعة معدنيّة مدبّبة تمكّن من قرن محورين بالطَّرف أو من فك تقارنهما (خابور ربط).

3 - [في النبات] شجيرة طبيَّة وتزيينيَّة ذات زهر أصفر طيِّب الرائحة وثمارها سوداء.

خَبَر [مفرد]: جمعه أخابيرُ (لغير المصدر) وأخبار (لغير المصدر):

1 - مصدر خبِرَ.

2 - نبأ، ما يُعَبَّر به عن واقعة ما، ما ينقل من معلومات ويُتحدَّث بها قولًا أو كتابةً وتعبّر غالبًا عن أحداث جديدة كتلك المذكورة في الصحف والإذاعة والتليفزيون (تسرّبت الأخبار- نشر خبرًا- سأله عن أخباره- عند جُهَيْنة الخَبَر اليقين [مثل]: يُضرب في معرفة حقيقة الأمر- {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} [قرآن]) (*) أخبار مَحَلِّيَّة: داخليَّة أو خاصَّة ببلدٍ ما، عكسها أخبار أو شئون عالميَّة- أصبح في خبر كان: هلَك وفَنِي- تشويه الأخبار- خبر صاعق: سيِّئ، مفاجئ وغير منتظَر- سأله عن أخباره: استفسر عن أحواله- صادق الخبر: صحيح النبأ، صَدُوق المقال- على هامش الأخبار: تعليق على الأخبار- مُرَمّات الأخبار: أكاذيبها- نشرة الأخبار: ما يقرأه المذيع في الراديو والتلفاز من أخبار محليَّة وخارجيَّة ليطّلع عليها الجمهور أو الرأي العام.

3 - حديث نبويّ (*) خبر متواتر: حديث ترويه جماعة عن جماعة.

4 - عمل {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [قرآن].

5 - [في البلاغة] قول يحتمل الصِّدق والكذب لذاته.

6 - [في النحو والصرف] لفظ مجرد عن العوامل اللفظيّة، أُسند إلى المبتدأ متمّمًا معناه ويصحّ السكوت عليه.

* خبر آحاد: حديث انفرد به راوٍ واحد وإن تعددتِ الطرق إليه.

خُبْر [مفرد]: مصدر خبَرَ وخبُرَ/خبُرَ ب (*) لأَخْبُرنَّ خُبْرك: لأعلمنَّ علمَك.

خِبْرة [مفرد]: جمعه خِبْرات (لغير المصدر) وخِبَر (لغير المصدر):

1 - مصدر خبَرَ وخبُرَ/خبُرَ ب (*) أهل الخِبْرة: الخُبراء ذوو الاختصاص الذين يعود لهم حقّ الاقتراح والتقدير.

2 - نتاج ما مرّ به الشَّخص من أحداث أو رآه أو عاناه، مجموع تجارب المرء وثقافته ومعرفته (له خِبْرة بالاقتصاد العالميّ- الشباب تنقصهم الخِبْرة) (*) تبادُل الخِبْرات: استفادة كلِّ شخص بخِبْرة الآخر.

* شهادة الخِبْرة: مستند لإثبات الخِبْرة.

خَبَرِيَّة [مفرد]:

1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى خبَرَ.

2 - مصدر صناعيّ من خَبَر: نبأ (وصلته خبريّة كاذبة).

* الجملة الخبريَّة: (نح، بغ) الجملة التي تحتمل الصِّدق أو الكذب.

خَبير [مفرد]: جمعه خُبَراءُ:

1 - صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من خبَرَ وخبُرَ/خبُرَ ب: (هم خبراءُ في مجال الطاقة/الزراعة- اختير خبيرًا بمجمع اللُّغة العربيَّة) (*) خبير تربويّ: مختصّ في نظريّات التربية والتعليم- هيئة الخُبَراء: مجموعة من الخُبراء غير الرسميِّين الذين يقومون بإسداء النصح والمشورة لواضعي السياسات خاصّة في حكومة.

2 - عارف بالأمر على حقيقته، عالم بالبواطن والظواهر {إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [قرآن].

3 - [في القانون] مُخْبِر، شخص تعيِّنه محكمة وتكلِّفه بالكشف عن بعض الوقائع وإبداء ملاحظاته في تقرير تستند إليه في حكمها (فجّر تقرير الخبير مفاجأة في القضيّة) (*) خبير مُحلَّف: الذي يؤدِّي اليمينَ أمام المحكمة.

* الخبير: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: العالم بكُنْه الشّيء، المطّلع على حقيقته، الذي لا تخفى عليه خافية {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [قرآن].

مُخابرات [جمع]: مفرده مُخابرة: اتِّصالات لجمع الأخبار (مخابرات سرِّيّة).

* جهاز المخابرات: جهاز الاستخبارات، جهاز رسميّ يتولّى جمع الأخبار لصالح دولة معيّنة لحفظ أمنها، والكشف عمّا يعرِّض أمنها الداخليّ والخارجيّ للاضطرابات (*) إدارة المخابرات/دائرة المخابرات/قلم المخابرات: مركز لجمع المعلومات حمايةً لأمن الدولة.

مخابراتيَّة [مفرد]:

1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى مُخابرات: على غير قياس (تلقَّى دورة مخابراتيّة في إحدى الدول الكبرى).

2 - مصدر صناعيّ من مُخابرات: استخباراتية، معلوماتيّة.

مُخابرة [مفرد]:

1 - مصدر خابرَ (*) مخابرة تليفونيّة/مخابرة سريّة.

2 - [في القانون] أن يُعطي المالكُ الفلاحَ أرضًا يزرعها على بعض ما يخرج منها كالرّبع أو الثلث.

مِخْبار [مفرد]: جمعه مَخابيرُ:

1 - اسم آلة من خبَرَ.

2 - [في الكيمياء والصيدلة] إناء أسطوانيّ مدرّج على شكل أنبوب تقاس به حجوم السوائل والمحاليل في المعامل (مخبار مدرّج).

مَخْبَر [مفرد]: جمعه مَخابِرُ: اسم مكان من خبَرَ: مكان الفحص والمراقبة والتحرِّي وإجراء التجارب (يعمل هذا الشابُّ في مخبر كيميائيّ).

* مَخْبَر الشّخص: دخيلته وحقيقته، عكس مظهره أو منظره (مخبر شيطان في مظهر ملائكيّ- منظره خير من مخبره).

مُخْبِر [مفرد]:

1 - اسم فاعل من أخبرَ.

2 - من يقوم بمهمّة جمع المعلومات أو الأخبار لغرض معيَّن (استعانت الشرطة بالمخبرين في القبض على اللصوص) (*) مُخبر خاصّ: من يقدم خدمات لأفراد أو شركات- مُخبر صحفيّ: من يزوّد الصَّحيفةَ بالأخبار.

مِخْبَرَة [مفرد]: جمعه مَخابِرُ:

1 - اسم آلة من خبَرَ.

2 - [في الطبيعة والفيزياء] أداة تتركّب من موصل يُجعل عادة على شكل قرص صغير، له يد عازلة تُستخدم في اختبار الشُّحنات الكهربائيّة.

مُخْتَبَر [مفرد]:

1 - اسم مفعول من اختبرَ.

2 - اسم مكان من اختبرَ.

3 - [في الكيمياء والصيدلة] مَعْمَل، مكان مجهَّز تُجرى فيه التجاربُ العلميَّة والاختبارات والتحليلات الكيماويَّة وغيرها (مختبر الكيمياء/الفيزياء/اللغة/الفضاء- مختبر نوويّ).

مُخْتَبَرِيّ [مفرد]: اسم منسوب إلى مُخْتَبَر: قائم على التجربة والاختبار في المعامل والمُختبرات (أبحاث/تحاليل مختبريّة).

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


2-المعجم الوسيط (اسْتَخْبَرَهُ)

[اسْتَخْبَرَهُ]: سأَلَهُ عن الخَبَر وطلب أن يُخْبرَه به.

ويقال: استخْبر الخبَر.

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


3-المعجم الجغرافي للسعودية (مغاير الكفار)

مغاير الكفار: هذا الاسم أطلقه فلبي ـ أو من سمع منه ـ على آثار دارسة وصفها في كتابه «أرض مدين» وتقدم كلامه في (عينونا) وكثير من الأسماء التي يوردها فلبي في كتبه ليست صحيحة، لأنه إذا سأل أحد مرافقيه الذين أرسلوا معه ليدلّوه إلى ما يريد من المواضع ـ إذا سأل أحدهم عن اسم موضع لا يعرفه، فلم يخبره وأظهر جهله، يغضب وقد يطرد المسؤول، فكان كثير من مرافقيه يرتجلون له الأسماء ويختلقونها.

المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية-حمد الجاسر-صدر: 1398هـ/1978م


4-معجم البلدان (حضرموت)

حَضْرَمَوْت:

بالفتح ثم السكون، وفتح الراء والميم:

اسمان مركبان، طولها إحدى وسبعون درجة، وعرضها اثنتا عشرة درجة، فأما إعرابها فإن شئت بنيت الاسم الأول على الفتح وأعربت الثاني بإعراب ما لا ينصرف فقلت: هذا حضرموت، وإن شئت رفعت الأول في حال الرفع وجررته ونصبته على حسب العوامل وأضفته على الثاني فقلت: هذا حضرموت، أعربت حضرا وخفضت موتا، ولك أن تعرب الأول وتخير في الثاني بين الصرف وتركه، ومنهم من يضم ميمه فيخرجه مخرج عنكبوت، وكذلك القول في سرّ من رأى ورامهرمز، والنسبة إليه حضرميّ، والتصغير حضيرموت تصغير الصدر منهما، وكذلك الجمع، يقال: فلان من الحضارمة مثل المهالبة، وقيل: سميت بحاضر ميّت وهو أول من نزلها، ثم خفف بإسقاط الألف، قال ابن الكلبي: اسم حضرموت في التوراة حاضر ميت، وقيل: سميت بحضرموت بن يقطن بن عامر بن شالخ، وقيل: اسم حضرموت عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائلة بن الغوث بن قطن بن عريب ابن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير بن سبأ، وقيل:

حضرموت اسمه عامر بن قحطان وإنما سمي حضرموت لأنه كان إذا حضر حربا أكثر فيها من القتل فلقب بذلك، ثم سكّنت الضاد للتخفيف، وقال أبو عبيدة: حضرموت بن قحطان نزل هذا المكان فسمي به، فهو اسم موضع واسم قبيلة. وحضرموت:

ناحية واسعة في شرقي عدن بقرب البحر، وحولها رمال كثيرة تعرف بالأحقاف، وبها قبر هود، عليه السلام، ويقربها بئر برهوت المذكورة فيما تقدم، ولها مدينتان يقال لإحداهما تريم وللأخرى شبام، وعندها قلاع وقرى، وقال ابن الفقيه: حضرموت مخلاف من اليمن بينه وبين البحر رمال، وبينه وبين مخلاف صداء ثلاثون فرسخا، وبين حضرموت وصنعاء اثنان وسبعون فرسخا، وقيل: مسيرة أحد عشر يوما، وقال الإصطخري: بين حضرموت وعدن مسيرة شهر، وقال عمرو بن معدي كرب:

«والأشعث الكنديّ، حين إذ سما لنا *** من حضرموت، مجنّب الذكران»

«قاد الجياد، علىّ وجاها أشريا، *** قبّ البطون نواحل الأبدان»

وقال عليّ بن محمد الصليحي الخارج باليمن:

«وألذّ من قرع المثاني عنده، *** في الحرب، ألجم يا غلام وأسرج»

«خيل بأقصى حضرموت أسدها، *** وزئيرها بين العراق ومنبج»

وأما فتحها: فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان قد راس أهلها فيمن راسل فدخلوا في طاعته وقدم عليه الأشعث بن قيس في بضعة عشر راكبا مسلما، فأكرمه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما أراد الانصراف سأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يولي عليهم رجلا منهم، فولى عليهم زياد ابن لبيد البياضي الأنصاري وضم إليه كندة، فبقي على ذلك إلى أن مات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فارتدّت بنو وليعة بن شرحبيل بن معاوية، وكان من حديثه أن أبا بكر، رضي الله عنه، كتب إلى زياد بن لبيد يخبره بوفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، ويأمره بأخذ البيعة على من قبله من أهل حضرموت، فقام فيهم زياد خطيبا وعرّفهم موت النبي، صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى بيعة أبي بكر، فامتنع الأشعث بن قيس من البيعة واعتزل في كثير من كندة وبايع زيادا خلق آخرون وانصرف إلى منزله وبكر لأخذ الصدقة كما كان يفعل، فأخذ فيما أخذ قلوصا من فتى من كندة، فصيّح الفتى وضجّ واستغاث بحارثة بن سراقة بن معدي كرب بن وليعة ابن شرحبيل بن معاوية بن حجر القرد بن الحارث:

الولّادة يا أبا معدي كرب! عقلت ابنة المهرة، فأتى حارثة إلى زياد فقال: أطلق للغلام بكرته، فأبى وقال: قد عقلتها ووسمتها بميسم السلطان، فقال حارثة: أطلقها أيها الرجل طائعا قبل أن تطلقها وأنت كاره! فقال زياد: لا والله لا أطلقها ولا نعمة عين! فقام حارثة فحلّ عقالها وضرب على جنبها

فخرجت القلوص تعدو إلى ألّافها، فجعل حارثة يقول:

«يمنعها شيخ بخدّيه الشيب *** ملمّع كما يلمّع الثوب»

ماض على الرّيب إذا كان الريب

فنهض زياد وصاح بأصحابه المسلمين ودعاهم إلى نصرة الله وكتابه، فانحازت طائفة من المسلمين إلى زياد وجعل من ارتدّ ينحاز إلى حارثة، فجعل حارثة يقول:

«أطعنا رسول الله ما دام بيننا، *** فيا قوم ما شأني وشأن أبي بكر؟»

«أيورثها بكرا، إذا مات، بعده، *** فتلك، لعمر الله، قاصمة الظهر! »

فكان زياد يقاتلهم نهارا إلى الليل، وجاءه عبد له فأخبره أن ملوكهم الأربعة، وهم: مخوس ومشرح وجمد وأبضعة وأختهم العمرّدة بنو معدي كرب ابن وليعة في محجرهم قد ثملوا من الشراب، فكبسهم وأخذهم وذبحهم ذبحا، وقال زياد:

«نحن قتلنا الأملاك الأربعة: *** جمدا ومخوسا ومشرحا وأبضعه»

وسمّوا ملوكا لأنه كان لكلّ واحد منهم واد يملكه، قال: وأقبل زياد بالسبي والأموال فمرّ على الأشعث بن قيس وقومه فصرخ النساء والصبيان، فحمي الأشعث أنفا وخرج في جماعة من قومه فعرض لزياد ومن معه وأصيب ناس من المسلمين وانهزموا، فاجتمعت عظماء كندة على الأشعث فلما رأى ذلك زياد كتب إلى أبي بكر يستمدّه، فكتب أبو بكر إلى المهاجر بن أبي أمية، وكان واليا على صنعاء قبل قتل الأسود العنسي، فأمره بإنجاده، فلقيا الأشعث ففضّا جموعه وقتلا منهم مقتلة كبيرة، فلجؤوا إلى النّجير حصن لهم، فحصرهم المسلمون حتى أجهدوا، فطلب الأشعث الأمان لعدّة منهم معلومة هو أحدهم، فلقيه الجفشيش الكندي واسمه معدان بن الأسود بن معدي كرب، فأخذ بحقوه وقال: اجعلني من العدّة، فأدخله وأخرج نفسه ونزل إلى زياد بن لبيد والمهاجر فقبضا عليه وبعثا به إلى أبي بكر، رضي الله عنه، أسيرا في سنة 12، فجعل يكلم أبا بكر وأبو بكر يقول له: فعلت وفعلت، فقال الأشعث: استبقني لحربك فو الله ما كفرت بعد إسلامي ولكني شححت على مالي فأطلقني وزوّجني أختك أمّ فروة فإني قد تبت مما صنعت ورجعت منه من منعي الصدقة، فمنّ عليه أبو بكر، رضي الله عنه، وزوّجه أخته أمّ فروة، ولما تزوّجها دخل السوق فلم يمرّ به جزور إلا كشف عن عرقوبها وأعطى ثمنها وأطعم الناس، وولدت له أمّ فروة محمدا وإسحاق وأمّ قريبة وحبّانة، ولم يزل بالمدينة إلى أن سار إلى العراق غازيا، ومات بالكوفة، وصلّى عليه الحسن بعد صلح معاوية.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


5-معجم البلدان (رصافة نيسابور)

رُصافَة نيسابور:

ذكر عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر في تاريخه قال: قال عبد العزيز بن سليمان: لما ولدت كتب أبي إلى عبد الله بن أحمد بن طاهر يخبره بمولدي وأنّه قد أخّر تسميتي إلى أن يختار لي الأمير الاسم، فكتب إليه: إنّي قد سميته عبد العزيز وقد أقطعته الرصافة ضيعة بنيسابور، فلم يزل التوقيع عند أبي، رحمه الله، ذكر ذلك في أخبار سنة 296.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


6-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (الاستخبار)

الاستخبار:

الاستخبار من استخبر، واستخبر: سأله عن الخبر وطلب أن يخبره، ويقال: تخبرت الخبر واستخبرته، وتخبرت الجواب واستخبرته. والاستخبار والتخبر: السؤال عن الخبر، واستخبر إذا سأل عن الأخبار ليعرفها.

وكان ثعلب قد ذكر أنّ قواعد الشعر أربع: أمر، ونهي، وخبر، واستخبار. ولم يعرّف الاستخبار وإنّما قال إنه كقول قيس بن الخطيم:

«أنّى سربت وكنت غير سروب ***وتقرّب الأحلام غير قريب “

«ما تمنعي يقظى فقد تؤتينه ***في النّوم غير مصرّد محسوب »

فالاستخبار عنده هو الاستفهام، وهو ما ذهب اليه ابن قتيبة حينما قال: «الكلام أربعة: أمر، وخبر، واستخبار، ورغبة». ولكنهما لم ينصا على ذلك وإن كان ذلك مفهوما من تقسيمهما الكلام، غير أنّ ابن فارس قال عنه: «الاستخبار: طلب خبر ما ليس عند المستخبر، وهو الاستفهام. وذكر ناس أنّ بين الاستخبار والاستفهام أدنى فرق، قالوا: وذلك أنّ اولى الحالين الاستخبار؛ لانك تستخبر فتجاب بشيء فربما فهمته وربما لم تفهمه، فاذا سألت ثانية فانت مستفهم، تقول: أفهمني ما قلته لي. قالوا: والدليل على ذلك ان الباري ـ جل ثناؤه ـ يوصف بالخبر ولا يوصف بالفهم». وذكر الزركشي مثل ذلك وقال إنّ الاستخبار بمعنى الاستفهام، وأشار الى من فرّق بينهما نقلا عن ابن فارس. ولكنّ البلاغيين أداروا مصطلح «الاستفهام» في مباحثهم وكتبهم، وهو ما استعمله النحاة حينما تحدثوا عن أدوات الاستفهام، في حين أنّ عبد القاهر قد قال إنّ الاستفهام استخبار، «والاستخبار هو طلب من المخاطب أن يخبرك».

معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م


7-معجم دمشق التاريخي (صفة الدعاء)

صفّة الدعاء: موضع ذكره الاستاذ دهمان نقلا عن ألسنة الناس كان في أعلى مقبرة الروضة [في حي الصالحية]، أما أسفل المقبرة فلم يخبره فيها أحد. كما ذكر ابن طولون أن «الحوّاقة» كانت لصيق صفّة الدعاء.

معجم دمشق التاريخي-قتيبة الشهابي-صدر: 1420هـ/1999م


8-موسوعة الفقه الكويتية (اجتهاد)

اجْتِهَاد

التَّعْرِيفُ:

1- الِاجْتِهَادُ فِي اللُّغَةِ بَذْلُ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ فِي طَلَبِ أَمْرٍ لِيَبْلُغَ مَجْهُودَهُ وَيَصِلَ إِلَى نِهَايَتِهِ. وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

أَمَّا الْأُصُولِيُّونَ فَمِنْ أَدَقِّ مَا عَرَّفُوهُ بِهِ أَنَّهُ بَذْلُ الطَّاقَةِ مِنَ الْفَقِيهِ فِي تَحْصِيلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ ظَنِّيٍّ، فَلَا اجْتِهَادَ فِيمَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، كَوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ، وَكَوْنِهَا خَمْسًا.

وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مِنْ دَلِيلِهِ الْقَطْعِيِّ لَا تُسَمَّى اجْتِهَادًا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْقِيَاسُ:

2- الَّذِي عَلَيْهِ الْأُصُولِيُّونَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ أَعَمُّ مِنْ الْقِيَاسِ. فَالِاجْتِهَادُ يَكُونُ فِي أَمْرٍ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ، بِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ لَهُ، لِوُجُودِ عِلَّةِ الْأَصْلِ فِيهِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ. وَيَكُونُ الِاجْتِهَادُ أَيْضًا فِي إِثْبَاتِ النُّصُوصِ بِمَعْرِفَةِ دَرَجَاتِهَا مِنْ حَيْثُ الْقَبُولُ وَالرَّدُّ، وَبِمَعْرِفَةِ دَلَالَاتِ تِلْكَ النُّصُوصِ، وَمَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ مِنْ أَدِلَّتِهَا الْأُخْرَى غَيْرِ الْقِيَاسِ، مِنْ قَوْلِ صَحَابِيٍّ، أَوْ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، أَوِ الِاسْتِصْحَابِ، أَوِ الِاسْتِصْلَاحِ أَوْ غَيْرِهَا، عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهَا.

التَّحَرِّي:

3- هُوَ لُغَةً الطَّلَبُ وَالِابْتِغَاءُ، وَشَرْعًا طَلَبُ شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ. عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالْعِبَادَاتِ لِأَنَّهُمْ كَمَا قَالُوا (التَّحَرِّي) فِيهَا، قَالُوا (التَّوَخِّي) فِي الْمُعَامَلَاتِ. وَالتَّحَرِّي غَيْرُ الشَّكِّ وَالظَّنِّ، فَإِنَّ الشَّكَّ أَنْ يَسْتَوِيَ طَرَفَا الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، وَالظَّنُّ تَرَجُّحُ أَحَدِهِمَا مِنْ دَلِيلٍ، وَالتَّحَرِّي تَرَجُّحُ أَحَدِهِمَا بِغَالِبِ الرَّأْيِ. وَهُوَ دَلِيلٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى طَرَفِ الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَا يُوجِبُ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ. كَذَا قَالَ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ. وَفِيهِ أَيْضًا: الِاجْتِهَادُ مَدْرَكٌ مِنْ مَدَارِكِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ الشَّرْعُ لَا يَثْبُتُ بِهِ ابْتِدَاءً، وَكَذَلِكَ التَّحَرِّي مَدْرَكٌ مِنْ مَدَارِكِ التَّوَصُّلِ إِلَى أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِبَادَةُ لَا تَثْبُتُ بِهِ ابْتِدَاءً.

الِاسْتِنْبَاطُ:

4- وَهُوَ اسْتِخْرَاجُ الْعِلَّةِ أَوِ الْحُكْمِ إِذَا لَمْ يَكُونَا مَنْصُوصَيْنِ، بِنَوْعٍ مِنَ الِاجْتِهَادِ.

أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ:

5- اشْتَرَطَ الْأُصُولِيُّونَ فِي الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا صَحِيحَ الْفَهْمِ عَالِمًا بِمَصَادِرِ الْأَحْكَامِ، مِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ وَإِجْمَاعٍ وَقِيَاسٍ، وَبِالنَّاسِخِ مِنْهَا وَالْمَنْسُوخِ، عَالِمًا بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ نَحْوِهَا وَصَرْفِهَا وَبَلَاغَتِهَا، عَالِمًا بِأُصُولِ الْفِقْهِ.

وَالْمُرَادُ بِمَعْرِفَةِ الْكِتَابِ مَعْرِفَةُ آيَاتِ الْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حِفْظُهَا بَلْ مَعْرِفَةُ مَوَاقِعِهَا بِحَيْثُ يَسْتَطِيعُ الْوُصُولَ إِلَيْهَا بِيُسْرٍ وَسُهُولَةٍ، وَيَسْتَطِيعُ مَعْرِفَةَ مَعَانِيهَا كَذَلِكَ. وَالْمُرَادُ بِمَعْرِفَةِ السُّنَّةِ مَعْرِفَةُ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حِفْظَهَا، وَإِنَّمَا يَكْفِي أَنْ يَكُونَ لَدَيْهِ أَصْلٌ جَامِعٌ لِغَالِبِيَّةِ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَعَرَّفَ فِيهِ بِيُسْرٍ وَسُهُولَةٍ مَوَاقِعَ كُلِّ بَابٍ مِنْهَا لِيُرْجَعَ إِلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ الْمَقْبُولَ مِنْهَا مِنَ الْمَرْدُودِ. وَاشْتُرِطَتْ مَعْرِفَتُهُ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ؛ لِئَلاَّ يُفْتِيَ بِمَا هُوَ مَنْسُوخٌ. وَاشْتُرِطَتْ مَعْرِفَتُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ لِكَيْ يَتَمَكَّنَ مِنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى وَجْهِهِمَا الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُمَا وَرَدَا بِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَجَرَيَا عَلَى أَسَالِيبِ كَلَامِهِمْ. وَاشْتُرِطَتْ مَعْرِفَتُهُ بِأُصُولِ الْفِقْهِ لِكَيْ لَا يَخْرُجَ فِي اسْتِنْبَاطِهِ لِلْأَحْكَامِ وَفِي التَّرْجِيحِ عِنْدَ التَّعَارُضِ، عَنِ الْقَوَاعِدِ الصَّحِيحَةِ لِذَلِكَ.

وَهَذِهِ الشُّرُوطُ إِنَّمَا هِيَ لِلْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ الْمُتَصَدِّي لِلِاجْتِهَادِ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ.

دَرَجَاتُ الِاجْتِهَادِ:

6- الِاجْتِهَادُ قَدْ يَكُونُ مُطْلَقًا كَاجْتِهَادِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُطْلَقٍ وَفِي دَرَجَاتِهِ تَفْصِيلٌ مَوْطِنُهُ الْمُلْحَقُ الْأُصُولِيُّ.

صِفَةُ الِاجْتِهَادِ بِالِاسْتِعْمَالِ الْأُصُولِيِّ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ)

7- الِاجْتِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ؛ إِذْ لَا بُدَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنِ اسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ لِمَا يَحْدُثُ مِنَ الْأُمُورِ.

وَيَتَعَيَّنُ الِاجْتِهَادُ عَلَى مَنْ هُوَ أَهْلُهُ إِنْ سُئِلَ عَنْ حَادِثَةٍ وَقَعَتْ فِعْلًا، وَلَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ، وَضَاقَ الْوَقْتُ بِحَيْثُ يَخَافُ مَنْ وَقَعَتْ بِهِ فَوَاتَهَا إِنْ لَمْ يَجْتَهِدْ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِتَحْصِيلِ الْحُكْمِ فِيهَا.

وَقِيلَ: يَتَعَيَّنُ أَيْضًا إِذَا وَقَعَتِ الْحَادِثَةُ بِالْمُجْتَهِدِ نَفْسِهِ وَكَانَ لَدَيْهِ الْوَقْتُ لِلِاجْتِهَادِ فِيهَا.

وَهَذَا رَأْيُ الْبَاقِلاَّنِيِّ وَالْآمِدِيِّ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ غَيْرُهُمْ: يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ مُطْلَقًا، وَقَالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ فِي أَحْوَالٍ مُعَيَّنَةٍ.

وَتَفْصِيلُ مَا يَتَّصِلُ بِالِاجْتِهَادِ مَوْطِنُهُ الْمُلْحَقُ الْأُصُولِيُّ.

صِفَةُ الِاجْتِهَادِ بِالِاسْتِعْمَالِ الْفِقْهِيِّ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ)

8- يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ نَوْعًا آخَرَ مِنَ الِاجْتِهَادِ سِوَى الِاجْتِهَادِ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُ فِي الْقِيَامِ بِالْعِبَادَاتِ عِنْدَ حُصُولِ الِاشْتِبَاهِ.

فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْدِيدِ الْقِبْلَةِ لِأَجْلِ اسْتِقْبَالِهَا فِي صَلَاتِهِ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا لَا يَجِدُ مَنْ يُخْبِرُهُ بِالْجِهَةِ، فَيَسْتَدِلُّ عَلَيْهَا بِأَدِلَّتِهَا الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا، كَمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَمَطَالِعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاتِّجَاهِ الرِّيحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَيَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي مَبَاحِثِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي مُقَدِّمَاتِ الصَّلَاةِ.

وَمِنْ ذَلِكَ الِاجْتِهَادُ عِنْدَ اشْتِبَاهِ ثِيَابٍ طَاهِرَةٍ بِثِيَابٍ نَجِسَةٍ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا، أَوْ مَاءٍ طَهُورٍ بِمَاءٍ نَجِسٍ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُمَا، وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي مَبَاحِثِ شَرْطِ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ فِي مُقَدِّمَاتِ الصَّلَاةِ كَذَلِكَ.

وَمِنْهُ أَيْضًا اجْتِهَادُ مَنْ حُبِسَ فِي مَكَانٍ لَا يَعْرِفُ فِيهِ دُخُولَ وَقْتِ الصَّلَاةِ، أَوْ وَقْتِ الصَّوْمِ، وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي مَبْحَثِ مَعْرِفَةِ دُخُولِ الشَّهْرِ مِنْ أَبْوَابِ الصَّوْمِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


9-موسوعة الفقه الكويتية (استقبال 1)

اسْتِقْبَال -1

التَّعْرِيفُ:

1- الِاسْتِقْبَالُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ اسْتَقْبَلَ الشَّيْءَ إِذَا وَاجَهَهُ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لَيْسَتَا لِلطَّلَبِ، فَاسْتَفْعَلَ هُنَا بِمَعْنَى فَعَلَ، كَاسْتَمَرَّ وَاسْتَقَرَّ وَمِثْلُهُ الْمُقَابَلَةُ.

وَيُقَابِلُهُ بِهَذَا الْمَعْنَى الِاسْتِدْبَارُ.

وَيَرِدُ الِاسْتِقْبَالُ فِي اللُّغَةِ أَيْضًا بِمَعْنَى: الِاسْتِئْنَافِ، يُقَالُ اقْتَبَلَ الْأَمْرَ وَاسْتَقْبَلَهُ: إِذَا اسْتَأْنَفَهُ.

وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَيْنِ الْإِطْلَاقَيْنِ فَيَقُولُونَ: اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ أَيْ مُقَابَلَتُهَا وَيَقُولُونَ: اسْتَقْبَلَ حَوْلَ الزَّكَاةِ أَيِ: ابْتَدَأَهُ وَاسْتَأْنَفَهُ.

وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ إطْلَاقَهُ عَلَى طَلَبِ الْقَبُولِ الَّذِي يُقَابِلُ الْإِيجَابَ فِي الْعُقُودِ، فَقَالُوا: يَصِحُّ الْبَيْعُ بِالِاسْتِقْبَالِ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِنَحْوِ: اشْتَرِ مِنِّي، فَإِنَّهُ اسْتِقْبَالٌ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِيجَابِ، وَمِثْلُ الْبَيْعِ الرَّهْنُ، فَيَصِحُّ بِنَحْوِ: ارْتَهِنْ دَارِي بِكَذَا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ

أ- الِاسْتِئْنَافُ:

2- الِاسْتِئْنَافُ: ابْتِدَاءُ الْأَمْرِ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ مُرَادِفٌ لِلِاسْتِقْبَالِ فِي أَحَدِ إطْلَاقَاتِهِ.

ب- الْمُسَامَتَةُ:

3- الْمُسَامَتَةُ بِمَعْنَى: الْمُقَابَلَةِ وَالْمُوَازَاةِ، وَهِيَ مُرَادِفَةٌ لِلِاسْتِقْبَالِ عِنْدَ الَّذِينَ فَسَّرُوا الِاسْتِقْبَالَ بِمَعْنَى التَّوَجُّهِ إلَى الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ بِلَا انْحِرَافٍ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً.وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي الِاسْتِقْبَالِ هَذَا الشَّرْطَ كَالْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا، فَخَصُّوا الْمُسَامَتَةَ بِاسْتِقْبَالِ عَيْنِ الشَّيْءِ تَمَامًا بِجَمِيعِ الْبَدَنِ، وَجَعَلُوا الِاسْتِقْبَالَ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ، لِصِدْقِهِ بِخُرُوجِ شَيْءٍ مِنَ الْبَدَنِ عَنْ مُحَاذَاةِ الْعَيْنِ.

ج- الْمُحَاذَاةُ:

4- الْمُحَاذَاةُ بِمَعْنَى: الْمُوَازَاةِ.وَمَا قِيلَ فِي الْمُسَامَتَةِ يُقَالُ هُنَا أَيْضًا.

د- الِالْتِفَاتُ:

5- الِالْتِفَاتُ صَرْفُ الْوَجْهِ ذَاتَ الْيَمِينِ أَوِ الشِّمَالِ.وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الِانْحِرَافُ بِالْوَجْهِ وَالصَّدْرِ أَيْضًا كَمَا وَرَدَ فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: «فَجَعَلَتْ تَلْتَفِتُ خَلْفَهَا» وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّحَوُّلَ إلَى خَلْفٍ لَا يَكُونُ إلاَّ بِالْوَجْهِ وَالصَّدْرِ.

6- هَذَا وَالِاسْتِقْبَالُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ قَدْ يَكُونُ إلَى الْقِبْلَةِ، وَقَدْ يَكُونُ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ.وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ قَدْ يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي غَيْرِهَا

وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَاحِدًا بَعْدَ الْآخَرِ.

اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ:

7- الْمُرَادُ بِالْقِبْلَةِ مَوْضِعُ الْكَعْبَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ نُقِلَ بِنَاؤُهَا إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ وَصُلِّيَ إلَيْهِ لَمْ يَجُزْ.وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ يُقَابِلُونَهَا فِي صَلَاتِهِمْ.وَمَا فَوْقَ الْكَعْبَةِ إلَى السَّمَاءِ يُعَدُّ قِبْلَةً، وَهَكَذَا مَا تَحْتَهَا مَهْمَا نَزَلَ، فَلَوْ صَلَّى فِي الْجِبَالِ الْعَالِيَةِ وَالْآبَارِ الْعَمِيقَةِ جَازَ مَا دَامَ مُتَوَجِّهًا إلَيْهَا، لِأَنَّهَا لَوْ زَالَتْ صَحَّتِ الصَّلَاةُ إلَى مَوْضِعِهَا، وَلِأَنَّ الْمُصَلِّي عَلَى الْجَبَلِ يُعَدُّ مُصَلِّيًا إلَيْهَا.

اسْتِقْبَالُ الْحِجْرِ:

8- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لَوِ اسْتَقْبَلَ الْمُصَلِّي الْحِجْرَ دُونَ الْكَعْبَةِ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنَ الْبَيْتِ مَظْنُونٌ لَا مَقْطُوعٌ بِهِ، وَهُوَ لَا يُكْتَفَى بِهِ فِي الْقِبْلَةِ احْتِيَاطًا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَاللَّخْمِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ إلَى الْحِجْرِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْبَيْتِ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْحِجْرُ مِنَ الْبَيْتِ».وَفِي رِوَايَةٍ: «سِتُّ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ مِنَ الْبَيْتِ» وَلِأَنَّهُ لَوْ طَافَ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ.وَهُوَ وَجْهٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الْأَصَحِّ فِي مَذْهَبِهِمْ، وَقَدَّرَهُ الْحَنَابِلَةُ بِسِتِّ أَذْرُعٍ وَشَيْءٍ، فَمَنِ اسْتَقْبَلَ عِنْدَهُمْ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ أَلْبَتَّةَ.عَلَى أَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الطَّوَافِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ خُرُوجِهِ عَنْ جَمِيعِهِ احْتِيَاطًا.

حُكْمُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ:

9- لَا خِلَافَ فِي أَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ، لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} أَيْ جِهَتَهُ.

وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَحْوَالٌ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الِاسْتِقْبَالُ، كَصَلَاةِ الْخَوْفِ، وَالْمَصْلُوبِ، وَالْغَرِيقِ، وَنَفْلِ السَّفَرِ الْمُبَاحِ وَغَيْرِهَا، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الِاسْتِقْبَالِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عَلَى الرَّاجِحِ، اُنْظُرِ الْكَلَامَ عَلَى النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ.

تَرْكُ الِاسْتِقْبَالِ:

10- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مِنْ مُفْسِدَاتِ الصَّلَاةِ تَحْوِيلُ الْمُصَلِّي صَدْرَهُ عَنِ الْقِبْلَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ اتِّفَاقًا، وَإِنْ تَعَمَّدَ الصَّلَاةَ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ يَكْفُرُ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ مَعَ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ لِلشَّرِيعَةِ.

وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا إِذَا صَلَّى بِلَا تَحَرٍّ فَظَهَرَ أَنَّهُ أَصَابَ الْقِبْلَةَ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، لِبِنَاءِ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ، فَإِنْ ظَهَرَ ذَلِكَ بَعْدَ الصَّلَاةِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّ مَا فُرِضَ لِغَيْرِهِ- كَالِاسْتِقْبَالِ الْمَشْرُوطِ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ- يُشْتَرَطُ حُصُولُهُ لَا تَحْصِيلُهُ، وَقَدْ حَصَلَ وَلَيْسَ فِيهِ بِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ لِجِهَةٍ فَخَالَفَهَا وَصَلَّى مُتَعَمِّدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ صَادَفَ الْقِبْلَةَ، وَيُعِيدُ أَبَدًا.وَأَمَّا لَوْ صَلَّى لِغَيْرِهَا نَاسِيًا وَصَادَفَ الْقِبْلَةَ فَهَلْ يَجْرِي فِيهِ مِنَ الْخِلَافِ مَا يَجْرِي فِي النَّاسِي إِذَا أَخْطَأَ، أَوْ يُجْزَمُ بِالصِّحَّةِ لِأَنَّهُ صَادَفَ وَهُوَ الظَّاهِرُ؟.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ اسْتِقْبَالُهَا بِجَهْلٍ وَلَا غَفْلَةٍ وَلَا إكْرَاهٍ وَلَا نِسْيَانٍ، فَلَوْ اسْتَدْبَرَ نَاسِيًا لَمْ يَضُرَّ لَوْ عَادَ عَنْ قُرْبٍ.وَيُسَنُّ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَسْجُدَ لِلسَّهْوِ لِأَنَّ تَعَمُّدَ الِاسْتِدْبَارِ مُبْطِلٌ.وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أُمِيلَ عَنْهَا قَهْرًا فَإِنَّهَا تَبْطُلُ، وَإِنْ قَلَّ الزَّمَنُ لِنُدْرَةِ ذَلِكَ.وَلَوْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِاجْتِهَادٍ ثُمَّ ظَهَرَ الْخَطَأُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.

وَأَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ الْقَوْلَ بِأَنَّ مِنْ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ اسْتِدْبَارَ الْقِبْلَةِ حَيْثُ شُرِطَ اسْتِقْبَالُهَا.كَمَا نَصُّوا فِي بَابِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ لَا تَسْقُطُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا أَوْ جَهْلًا.

هَذَا، وَلَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا حَوَّلَ وَجْهَهُ وَصَدْرَهُ عَنِ الْقِبْلَةِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، حَيْثُ بَقِيَتْ رِجْلَاهُ إلَى الْقِبْلَةِ.وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ بِلَا ضَرُورَةٍ، وَقَالُوا: إنَّ هَذِهِ الْكَرَاهَةَ فِي حَقِّ مُعَايِنِ الْكَعْبَةِ حَيْثُ لَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ مِنْ بَدَنِهِ، فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ أُصْبُعًا مِنْ سَمْتِهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.

مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ:

11- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَكُونَ بِالصَّدْرِ لَا بِالْوَجْهِ، خِلَافًا لِمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ ظَاهِرِ قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَجْهِ هُنَا الذَّاتُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الذَّاتِ بَعْضُهَا وَهُوَ الصَّدْرُ فَهُوَ مَجَازٌ مَبْنِيٌّ عَلَى مَجَازٍ.وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الِاسْتِقْبَالُ بِالْقَدَمَيْنِ.

أَمَّا الِاسْتِقْبَالُ بِالْوَجْهِ فَهُوَ سُنَّةٌ، وَتَرْكُهُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.

وَهَذَا فِي حَقِّ الْقَائِمِ وَالْقَاعِدِ.أَمَّا الَّذِي يُصَلِّي مُسْتَلْقِيًا أَوْ مُضْطَجِعًا لِعَجْزِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمَا الِاسْتِقْبَالُ بِالْوَجْهِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي صَلَاةِ الْمَرِيضِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِقْبَالِ التَّوَجُّهُ بِالصَّدْرِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ فَهُوَ التَّوَجُّهُ بِالرِّجْلَيْنِ.

عَلَى أَنَّ الْفُقَهَاءَ تَعَرَّضُوا لِأَعْضَاءٍ أُخْرَى يَسْتَقْبِلُ بِهَا الْمُصَلِّي الْقِبْلَةَ فِي مُنَاسِبَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، نَكْتَفِي بِالْإِشَارَةِ إلَى بَعْضِهَا دُونَ تَفْصِيلٍ لِكَوْنِهَا بِتِلْكَ الْمَوَاطِنِ أَلْصَقَ، وَلِسِيَاقِ الْفُقَهَاءِ أَنْسَبَ مِنْ جِهَةٍ، وَتَفَادِيًا لِلتَّكْرَارِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى.وَمِنْ ذَلِكَ:

اسْتِحْبَابِ الِاسْتِقْبَالِ بِبُطُونِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَبِالْيَدَيْنِ وَبِأَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ فِي السُّجُودِ، وَبِأَصَابِعِ يُسْرَاهُ فِي التَّشَهُّدِ.وَذَلِكَ حِينَ الْكَلَامِ عَلَى «صِفَةِ الصَّلَاةِ».فَمَنْ أَرَادَهَا بِالتَّفْصِيلِ فَلْيَرْجِعْ إلَى مَوَاطِنِهَا هُنَاكَ.

اسْتِقْبَالُ الْمَكِّيِّ لِلْقِبْلَةِ:

اسْتِقْبَالُ الْمَكِّيِّ الْمُعَايِنِ:

12- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي أَنَّ مَنْ كَانَ يُعَايِنُ الْكَعْبَةَ فَعَلَيْهِ إصَابَةُ عَيْنِهَا فِي الصَّلَاةِ، أَيْ مُقَابَلَةُ ذَاتِ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ يَقِينًا، وَلَا يَكْفِي الِاجْتِهَادُ وَلَا اسْتِقْبَالُ جِهَتِهَا، لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْيَقِينِ وَالْعَيْنِ تَمْنَعُ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالْجِهَةِ الْمُعَرَّضَيْنِ لِلْخَطَأِ.وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنِ انْحَرَفَ عَنْ مُقَابَلَةِ شَيْءٍ فَهُوَ لَيْسَ مُتَوَجِّهًا نَحْوَهُ.

وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ- وَأَقَرُّوهُ- أَنَّ الْمُصَلِّيَ فِي مَكَّةَ وَمَا فِي حُكْمِهَا مِمَّنْ تُمْكِنُهُ الْمُسَامَتَةُ لَوِ اسْتَقْبَلَ طَرَفًا مِنَ الْكَعْبَةِ بِبَعْضِ بَدَنِهِ وَخَرَجَ بَاقِيهِ- لَوْ عُضْوًا وَاحِدًا- عَنِ اسْتِقْبَالِهَا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ.وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَكْفِي التَّوَجُّهُ بِبَعْضِ بَدَنِهِ.

صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ قُرْبَ الْكَعْبَةِ:

13- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- وَهُوَ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ الْحَنَابِلَةِ- أَنَّهُ إنِ امْتَدَّ صَفٌّ طَوِيلٌ بِقُرْبِ الْكَعْبَةِ وَخَرَجَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْمُحَاذَاةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، لِعَدَمِ اسْتِقْبَالِهِمْ لَهَا، بِخِلَافِ الْبُعْدِ عَنْهَا، فَيُصَلُّونَ فِي حَالَةِ الْقُرْبِ دَائِرَةً أَوْ قَوْسًا إنْ قَصُرُوا عَنِ الدَّائِرَةِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِمَكَّةَ تُؤَدَّى هَكَذَا مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إلَى يَوْمِنَا هَذَا.

اسْتِقْبَالُ الْمَكِّيِّ غَيْرِ الْمُعَايِنِ:

14- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ حَائِلٌ فَهُوَ كَالْغَائِبِ عَلَى الْأَصَحِّ، فَيَكْفِيهِ اسْتِقْبَالُ الْجِهَةِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ مَذْهَبِهِمْ فِي إصَابَةِ الْجِهَةِ فِي «اسْتِقْبَالِ الْبَعِيدِ عَنْ مَكَّةَ».وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ بِالْمَسْجِدِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِمْ عَلَيْهِ إصَابَةُ الْعَيْنِ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَتَفْصِيلُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا إصَابَةَ الْعَيْنِ يَقِينًا عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَوْ نَاشِئًا بِهَا مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ مُحْدَثٍ كَالْحِيطَانِ.

وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا وَهُوَ غَائِبٌ عَنِ الْكَعْبَةِ فَفَرْضُهُ الْخَبَرُ، كَمَا إِذَا وَجَدَ مُخْبِرًا يُخْبِرُهُ عَنْ يَقِينٍ، أَوْ كَانَ غَرِيبًا نَزَلَ بِمَكَّةَ فَأَخْبَرَهُ أَهْلُ الدَّارِ بِهَا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ عَلَى مَنْ نَشَأَ بِمَكَّةَ وَهُوَ غَائِبٌ عَنِ الْكَعْبَةِ إصَابَةُ الْعَيْنِ إنْ تَيَقَّنَ إصَابَتَهَا، وَإِلاَّ جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ لِمَا فِي تَكْلِيفِهِ الْمُعَايَنَةَ مِنَ الْمَشَقَّةِ إِذَا لَمْ يَجِدْ ثِقَةً يُخْبِرُهُ عَنْ عِلْمٍ.

15- الِاسْتِقْبَالُ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ فِي الْكَعْبَةِ:

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ دَاخِلَ الْكَعْبَةِ.مِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالثَّوْرِيُّ، لِحَدِيثِ بِلَالٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ».قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِقْبَالُ جُزْءٍ مِنْهَا غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ الْجُزْءُ قِبْلَةً بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ.وَمَتَى صَارَ قِبْلَةً فَاسْتِدْبَارُ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ مُفْسِدًا.وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنَّهُ لَوْ صَلَّى رَكْعَةً إلَى جِهَةٍ أُخْرَى لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَدْبِرًا الْجِهَةَ الَّتِي صَارَتْ قِبْلَةً فِي حَقِّهِ بِيَقِينٍ بِلَا ضَرُورَةٍ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَا تُصَلَّى الْفَرِيضَةُ وَالْوِتْرُ فِي الْكَعْبَةِ، لِأَنَّهَا مِنَ الْمَوَاطِنِ السَّبْعِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِخْلَالِ بِالتَّعْظِيمِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} قَالُوا: وَالشَّطْرُ: الْجِهَةُ.وَمَنْ صَلَّى فِيهَا أَوْ عَلَى سَطْحِهَا فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ لِجِهَتِهَا، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُسْتَدْبِرًا مِنَ الْكَعْبَةِ مَا لَوِ اسْتَقْبَلَهُ مِنْهَا وَهُوَ فِي خَارِجِهَا صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى ظَهْرِهَا قَدْ وَرَدَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «سَبْعُ مَوَاطِنَ لَا تَجُوزُ فِيهَا الصَّلَاةُ: ظَهْرُ بَيْتِ اللَّهِ وَالْمَقْبَرَةُ»..إِلَخْ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا لِأَنَّهَا سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى.وَتَوَجُّهُ الْمُصَلِّي فِي دَاخِلِهَا إلَى الْجِدَارِ لَا أَثَرَ لَهُ، إذِ الْمَقْصُودُ الْبُقْعَةُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُصَلِّي لِلْبُقْعَةِ حَيْثُ لَا جِدَارَ.وَإِنَّمَا جَازَ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ مَعَ أَنَّهُ أَعْلَى مِنْ بِنَائِهَا لِأَنَّ الْمُصَلِّي عَلَيْهِ مُصَلٍّ لَهَا، وَأَمَّا الْمُصَلِّي عَلَى ظَهْرِهَا فَهُوَ فِيهَا.

وَهُنَاكَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ مَعَ الْكَرَاهَةِ.

الِاسْتِقْبَالُ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ فَوْقَ الْكَعْبَةِ:

16- وَأَمَّا صَلَاةُ الْفَرِيضَةِ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ فَقَدْ أَجَازَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَهُمْ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى عَدَمِ جَوَازِ الْفَرْضِ وَالْوِتْرِ عَلَيْهَا لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ.

صَلَاةُ النَّافِلَةِ فِي الْكَعْبَةِ وَعَلَيْهَا:

17- ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ إلَى جَوَازِ صَلَاةِ النَّفْلِ الْمُطْلَقِ دَاخِلَ الْكَعْبَةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى فِيهَا، وَلِلْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ، وَأَمَّا السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى جَوَازِهَا فِي الْكَعْبَةِ كَذَلِكَ.وَلِلْمَالِكِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْحُرْمَةُ بِأَدِلَّتِهِمْ عَلَى مَنْعِ الْفَرِيضَةِ، وَالْجَوَازُ قِيَاسًا عَلَى النَّفْلِ الْمُطْلَقِ، وَالثَّالِثُ الْكَرَاهَةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ.

وَذَهَبَ أَصْبَغُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- فِيمَا حُكِيَ عَنْهُ إلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ النَّافِلَةِ فِيهَا.

أَمَّا صَلَاةُ النَّافِلَةِ عَلَى ظَهْرِهَا فَتَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي اسْتِقْبَالُ الْهَوَاءِ أَوِ اسْتِقْبَالُ قِطْعَةٍ مِنَ الْبِنَاءِ وَلَوْ مِنْ حَائِطِ السَّطْحِ.

هَذَا، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى جَوَازِهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ لِبُعْدِهِ عَنِ الْأَدَبِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَرِيضَةِ.

هَذَا، وَمَا وَرَدَ فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ يَرِدُ فِي الْحِجْرِ (الْحَطِيمِ) لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْكَعْبَةِ.

18- وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، إلَى أَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي تَجُوزُ فِي الْكَعْبَةِ، تَصِحُّ لِأَيِّ جِهَةٍ وَلَوْ لِجِهَةِ بَابِهَا مَفْتُوحًا، وَلَوْ لَمْ يَسْتَقْبِلْ شَيْئًا فِي هَذِهِ الْحَالِ، لِأَنَّ الْقِبْلَةَ هِيَ الْعَرْصَةُ وَالْهَوَاءُ إلَى عَنَانِ السَّمَاءِ، وَلَيْسَتْ هِيَ الْبِنَاءُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ نُقِلَ إلَى عَرْصَةٍ أُخْرَى وَصَلَّى إلَيْهِ لَمْ يَجُزْ، وَلِأَنَّهُ لَوْ صَلَّى عَلَى جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ جَازَتْ بِالْإِجْمَاعِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ إلَى الْبِنَاءِ.وَشَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ لِجَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ وَعَلَيْهَا أَنْ يَسْتَقْبِلَ جِدَارًا مِنْهَا أَيًّا كَانَ، أَوْ يَسْتَقْبِلَ الْبَابَ إنْ كَانَ مَفْتُوحًا وَكَانَ لَهُ عَتَبَةٌ قَدْرَ ثُلُثَيْ ذِرَاعٍ بِذِرَاعِ الْآدَمِيِّ تَقْرِيبًا عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، لِأَنَّ هَذَا الْمِقْدَارَ هُوَ سُتْرَةُ الْمُصَلِّي فَاعْتُبِرَ فِيهِ قَدْرُهَا.

وَاخْتَارَ أَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ أَنْ يُشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا شَاخِصٌ يَتَّصِلُ بِهَا، كَالْبِنَاءِ وَالْبَابِ وَلَوْ مَفْتُوحًا، فَلَا اعْتِبَارَ بِالْآجُرِّ غَيْرِ الْمَبْنِيِّ، وَلَا الْخَشَبِ غَيْرِ الْمَسْمُورِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يُقَدِّرُوا ارْتِفَاعَ الشَّاخِصِ.وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْكَعْبَةِ إِذَا سَجَدَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَاخِصٌ، اخْتَارَهَا الْمُوَفَّقُ فِي الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ وَهِيَ الْمَذْهَبُ.

اسْتِقْبَالُ الْبَعِيدِ عَنْ مَكَّةَ:

19- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يَكْفِي الْمُصَلِّي الْبَعِيدَ عَنْ مَكَّةَ اسْتِقْبَالُ جِهَةِ الْكَعْبَةِ بِاجْتِهَادٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إصَابَةُ الْعَيْنِ، فَيَكْفِي غَلَبَةُ ظَنِّهِ أَنَّ الْقِبْلَةَ فِي الْجِهَةِ الَّتِي أَمَامَهُ، وَلَوْ لَمْ يُقَدَّرْ أَنَّهُ مُسَامِتٌ وَمُقَابِلٌ لَهَا.

وَفَسَّرَ الْحَنَفِيَّةُ جِهَةَ الْكَعْبَةِ بِأَنَّهَا الْجَانِبُ الَّذِي إِذَا تَوَجَّهَ إلَيْهِ الْإِنْسَانُ يَكُونُ مُسَامِتًا لِلْكَعْبَةِ، أَوْ هَوَائِهَا تَحْقِيقًا أَوْ تَقْرِيبًا.

وَاسْتَدَلُّوا بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} وَقَالُوا: شَطْرَ الْبَيْتِ نَحْوَهُ وَقِبَلَهُ، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: «مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ»

وَهَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، وَمَا فِي حُكْمِهَا مِنَ الْأَمَاكِنِ الْمَقْطُوعِ بِقِبْلَتِهَا، عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي اسْتِقْبَالِ الْمَحَارِيبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِابْنِ الْقَصَّارِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ تَلْزَمُ إصَابَةُ الْعَيْنِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} أَيْ جِهَتَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْجِهَةِ هُنَا الْعَيْنُ؛ وَكَذَا الْمُرَادُ بِالْقِبْلَةِ هُنَا الْعَيْنُ أَيْضًا، لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ قِبَلَ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ: هَذِهِ الْقِبْلَةُ» فَالْحَصْرُ هُنَا يَدْفَعُ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى الْجِهَةِ.وَإِطْلَاقُ الْجِهَةِ عَلَى الْعَيْنِ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا.

اسْتِقْبَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَا فِي حُكْمِهَا:

20- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ- كَغَيْرِهَا- الِاجْتِهَادُ لِإِصَابَةِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ جَارٍ مَعَ الْأَصْلِ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ (وَأَرَادُوا بِالْمَدَنِيِّ مَنْ فِي مَسْجِدِهِ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ): يَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي فِي الْمَدِينَةِ إصَابَةُ عَيْنِ الْقِبْلَةِ لِثُبُوتِ مِحْرَابِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِالْوَحْيِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ مُشَاهِدًا لِلْبَيْتِ، بَلْ أَوْرَدَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ أَنَّهُ رُفِعَتْ لَهُ الْكَعْبَةُ حِينَ بَنَى مَسْجِدَهُ- صلى الله عليه وسلم-.

اسْتِقْبَالُ مَحَارِيبِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ:

21- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ مَحَارِيبَ الصَّحَابَةِ، كَجَامِعِ دِمَشْقَ، وَجَامِعِ عَمْرٍو بِالْفُسْطَاطِ، وَمَسْجِدِ الْكُوفَةِ وَالْقَيْرَوَانِ وَالْبَصْرَةِ، لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ مَعَهَا فِي إثْبَاتِ الْجِهَةِ، لَكِنْ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ الِانْحِرَافِ الْيَسِيرِ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً، وَلَا تَلْحَقُ بِمَحَارِيبِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إذْ لَا يَجُوزُ فِيهَا أَدْنَى انْحِرَافٍ.

وَكَذَلِكَ مَحَارِيبُ الْمُسْلِمِينَ، وَمَحَارِيبُ جَادَّتِهِمْ أَيْ مُعْظَمُ طَرِيقِهِمْ وَقُرَاهُمُ الْقَدِيمَةُ الَّتِي أَنْشَأَتْهَا قُرُونٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ جَمَاعَاتٌ مِنْهُمْ صَلُّوا إلَى هَذَا الْمِحْرَابِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ طَعَنَ فِيهَا، لِأَنَّهَا لَمْ تُنْصَبْ إلاَّ بِحَضْرَةِ جَمْعٍ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْأَدِلَّةِ، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْخَبَرِ.

لَكِنْ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: إنْ فَرَضَ مَنْ كَانَ فِيهَا إصَابَةَ الْعَيْنِ بِبَدَنِهِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى قِبْلَتِهِ، مُعَلِّلِينَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ.

الْإِخْبَارُ عَنِ الْقِبْلَةِ:

22- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَحَارِيبُ مَنْصُوبَةً فِي الْحَضَرِ، فَيَسْأَلُ مَنْ يَعْلَمُ بِالْقِبْلَةِ مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ مِمَّنْ يَكُونُ بِحَضْرَتِهِ.أَمَّا غَيْرُ مَقْبُولِ الشَّهَادَةِ، كَالْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ فَلَا يُعْتَدُّ بِإِخْبَارِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ.

وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ فَلِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنِ اجْتِهَادٍ، فَلَا يُتْرَكُ اجْتِهَادُهُ بِاجْتِهَادِ غَيْرِهِ.

وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ أَحَدٌ فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَرْعُ الْأَبْوَابِ.

وَأَمَّا فِي الْمَفَازَةِ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا النُّجُومُ كَالْقُطْبِ، وَإِلاَّ فَمِنْ أَهْلِهَا الْعَالِمِ بِهَا مِمَّنْ لَوْ صَاحَ بِهِ سَمِعَهُ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالنُّجُومِ فِي الْمَفَازَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّؤَالِ، وَالسُّؤَالُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّحَرِّي.

اخْتِلَافُ الْمُخْبِرِينَ:

23- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ عِنْدَ اخْتِلَافِ اثْنَيْنِ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْقِبْلَةِ: أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ فَيَأْخُذُ بِقَوْلِ أَحَدِهِمَا، وَقِيلَ: يَتَسَاقَطَانِ وَيَجْتَهِدُ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَحَدِهِمَا إلاَّ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الِاجْتِهَادِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ اُضْطُرَّ لِلْأَخْذِ بِقَوْلِ أَحَدِهِمَا، أَمَّا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَالْمُخْبِرَانِ اخْتَلَفَا فِي عَلَامَةٍ وَاحِدَةٍ لِعَارِضٍ فِيهَا وَهُوَ مُوجِبٌ لِلتَّسَاقُطِ.

وَمَا صَرَّحُوا بِهِ لَا تَأْبَاهُ قَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى.

أَدِلَّةُ الْقِبْلَةِ:

24- سَبَقَ مَا يَتَّصِلُ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْقِبْلَةِ بِالْمَحَارِيبِ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فَهُنَاكَ عَلَامَاتٌ يُمْكِنُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا عِنْدَ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهَا، مِنْهَا:

أ- النُّجُومُ:

وَأَهَمُّهَا الْقُطْبُ، لِأَنَّهُ نَجْمٌ ثَابِتٌ وَيُمْكِنُ بِهِ مَعْرِفَةُ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ، وَبِذَلِكَ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْقِبْلَةِ وَلَوْ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ.وَتَخْتَلِفُ قِبْلَةُ الْبِلَادِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ اخْتِلَافًا كَبِيرًا.

ب- الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ:

يُمْكِنُ التَّعَرُّفُ بِمَنَازِل الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ عَلَى الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ، وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ الِاعْتِدَالَيْنِ (الرَّبِيعِيِّ وَالْخَرِيفِيِّ) بِالنِّسْبَةِ لِلشَّمْسِ، وَاسْتِكْمَالُ الْبَدْرِ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَمَرِ.وَفِي غَيْرِ الِاعْتِدَالَيْنِ يُنْظَرُ إلَى اتِّجَاهِ تِلْكَ الْمَنَازِلِ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ لِأَهْلِ الْخِبْرَةِ فَيُرْجَعُ إلَيْهِمْ فِيهِ، وَفِي كُتُبِ الْفِقْهِ تَفَاصِيلُ عَنْ ذَلِكَ.وَيُتَّبَعُ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ بِمَطَالِعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَغَارِبِهِمَا.

ج- الْإِبْرَةُ الْمِغْنَاطِيسِيَّةُ:

مِنَ الِاسْتِقْرَاءِ الْمُفِيدِ لِلْيَقِينِ تَبَيَّنَ أَنَّهَا تُحَدِّدُ جِهَةَ الشَّمَالِ تَقْرِيبًا، وَبِذَلِكَ تُعْرَفُ الْجِهَاتُ الْأَرْبَعُ وَتُحَدَّدُ الْقِبْلَةُ.

تَرْتِيبُ أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ:

25- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى الْقِبْلَةِ فِي الْمَفَاوِزِ وَالْبِحَارِ النُّجُومُ كَالْقُطْبِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ لِوُجُودِ غَيْمٍ أَوْ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ بِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ عَالِمًا بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ يَسْأَلُهُ أَوْ لَمْ يُخْبِرْهُ الْمَسْئُولُ عَنْهَا فَيَتَحَرَّى.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ تَعَارَضَتْ الْأَدِلَّةُ عَلَى الْقِبْلَةِ فَيَنْبَغِي تَقْدِيمُ خَبَرِ جَمْعٍ بَلَغَ عَدَدُهُمْ حَدَّ التَّوَاتُرِ، لِإِفَادَتِهِ الْيَقِينَ، ثُمَّ الْإِخْبَارُ عَنْ عِلْمٍ بِرُؤْيَةِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ رُؤْيَةُ الْمَحَارِيبِ الْمُعْتَمَدَةِ، ثُمَّ رُؤْيَةُ الْقُطْبِ.

وَأَمَّا بَيْتُ الْإِبْرَةِ فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ مُخَيَّرٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الِاجْتِهَادِ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ خَبَرَ الْمُخْبِرِ عَنْ يَقِينٍ مُقَدَّمٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ.

تَعَلُّمُ أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ:

26- تَعَلُّمُ الْعَلَامَاتِ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا الْقِبْلَةُ مَطْلُوبٌ شَرْعًا، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ بِأَنَّ هَذَا وَاجِبٌ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ.وَقَدْ يُصْبِحُ تَعَلُّمُ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ وَاجِبًا عَيْنِيًّا، كَمَنْ سَافَرَ سَفَرًا يَجْهَلُ مَعَهُ اتِّجَاهَ الْقِبْلَةِ، وَيَقِلُّ فِيهَا الْعَارِفُونَ بِهَا، وَكَانَتْ عِنْدَهُ قُدْرَةٌ عَلَى تَعَلُّمِ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَحْقِيقًا لِإِصَابَةِ الْقِبْلَةِ.

وَهَلْ يَجُوزُ تَعَلُّمُهَا مِنْ كَافِرٍ؟ قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ لَا تَمْنَعُ ذَلِكَ.لِأَنَّهُ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي اتِّجَاهِ الْقِبْلَةِ، وَإِنَّمَا فِي مَعْرِفَةِ الْعَلَامَاتِ الَّتِي لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا الْكَافِرُ عَنِ الْمُسْلِمِ، وَذَلِكَ كَتَعَلُّمِ سَائِرِ الْعُلُومِ.

الِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ:

27- اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ فِي الْجُمْلَةِ.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إنْ فَقَدَ الْمُصَلِّي مَا ذُكِرَ مِنَ الرُّؤْيَةِ وَالْمَحَارِيبِ وَالْمُخْبِرِ وَأَمْكَنَهُ الِاجْتِهَادُ، بِأَنْ كَانَ بَصِيرًا يَعْرِفُ أَدِلَّةَ الْقِبْلَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ، إذْ كُلُّ مَنْ عَلِمَ أَدِلَّةَ شَيْءٍ كَانَ مُجْتَهِدًا فِيهِ، وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ عِنْدَ وُجُودِهِ وَجَبَ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ عِنْدَ خَفَائِهِ، وَذَكَرُوا أَيْضًا أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ حَرُمَ عَلَيْهِ التَّقْلِيدُ، لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنِ اسْتِقْبَالِهَا بِدَلِيلِهِ.

وَقَالُوا: أَنَّهُ إِذَا ضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ عَنْ الِاجْتِهَادِ صَلَّى حَسَبَ حَالِهِ وَلَا يُقَلِّدُ، كَالْحَاكِمِ لَا يَسَعُهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ يُعِيدُ الصَّلَاةَ.وَصَرَّحَ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّ شَرْطَ الِاجْتِهَادِ لَا يَسْقُطُ بِضِيقِ الْوَقْتِ مَعَ إمْكَانِهِ.

الشَّكُّ فِي الِاجْتِهَادِ وَتَغَيُّرُهُ:

28- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ عَمِلَ بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي حَتْمًا، إِنْ تَرَجَّحَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَعَمِلَ بِالْأَوَّلِ إِنْ تَرَجَّحَ عَلَى الثَّانِي.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَإِنْ شَكَّ فِي اجْتِهَادِهِ لَمْ يَزُلْ عَنْ جِهَتِهِ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ ظَاهِرٌ فَلَا يَزُولُ عَنْهُ بِالشَّكِّ.وَلَا يُعِيدُ مَا صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ، كَالْحَاكِمِ لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فِي الْحَادِثَةِ الثَّانِيَةِ عَمِلَ فِيهَا بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي، وَلَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ الْأَوَّلُ بِغَيْرِ خِلَافٍ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ إِذَا تَحَوَّلَ رَأْيُهُ اسْتَدَارَ وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ.

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ تَغَيُّرِ اجْتِهَادِهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَبَعْدَهَا، فَإِنْ كَانَ فِيهَا اسْتَدَارَ وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لِأَرْبَعِ جِهَاتٍ بِالِاجْتِهَادِ جَازَ، لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى جِهَةٍ، فَلَمْ تَجُزْ لَهُ الصَّلَاةُ إلَى غَيْرِهَا، كَمَا لَوْ أَرَادَ صَلَاةً أُخْرَى، وَلَيْسَ فِيهِ نَقْضٌ لِاجْتِهَادِهِ، لِأَنَّا لَمْ نُلْزِمْهُ إعَادَةَ مَا مَضَى، وَإِنَّمَا نُلْزِمُهُ الْعَمَلَ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنْ تَبَيَّنَ لِمَنْ صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ خَطَأُ اجْتِهَادِهِ فِي الصَّلَاةِ يَقِينًا أَوْ ظَنًّا وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ قَطَعَهَا وُجُوبًا.أَمَّا بَعْدَ إتْمَامِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُعِيدُهَا نَدْبًا لَا وُجُوبًا.قِيَاسًا عَلَى الْقَاضِي إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ خَطَأُ الدَّلِيلِ قَبْلَ بَتِّ الْحُكْمُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِاجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ حَكَمَ بِهِ نُقِضَ.أَمَّا إنْ شَكَّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُتِمُّ صَلَاتَهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ.

الِاخْتِلَافُ فِي الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ:

29- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ مُجْتَهِدَيْنِ لَمْ يَتَّبِعْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَلَا يَؤُمُّهُ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُ خَطَأَ الْآخَرِ فَلَمْ يَجُزْ الِائْتِمَامُ.

وَعِنْدَ ابْنِ قُدَامَةَ أَنَّ قِيَاسَ الْمَذْهَبِ جَوَازُ ذَلِكَ.وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ، ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُ صِحَّةَ صَلَاةِ الْآخَرِ، وَأَنَّ فَرْضَهُ التَّوَجُّهُ إلَى مَا تَوَجَّهَ إلَيْهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ اخْتِلَافُ الْجِهَةِ الِاقْتِدَاءَ بِهِ، كَالْمُصَلِّينَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ.

وَلَوِ اتَّفَقَا فِي الْجِهَةِ وَاخْتَلَفَا فِي الِانْحِرَافِ يَمِينًا أَوْ شِمَالًا فَالْمَذْهَبُ صِحَّةُ الِائْتِمَامِ بِلَا خِلَافٍ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْجِهَةِ، وَهِيَ كَافِيَةٌ فِي الِاسْتِقْبَالِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ اجْتَهَدَ اثْنَانِ فِي الْقِبْلَةِ، وَاتَّفَقَ اجْتِهَادُهُمَا، فَاقْتَدَى أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَزِمَهُ الِانْحِرَافُ إلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ، وَيَنْوِي الْمَأْمُومُ الْمُفَارَقَةَ وَإِنْ اخْتَلَفَا تَيَامُنًا وَتَيَاسُرًا، وَذَلِكَ عُذْرٌ فِي الْمُفَارَقَةِ فَلَا تَفُوتُهُ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ حَيْثُ عَلِمَ الْمَأْمُومُ بِانْحِرَافِ إمَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ إلاَّ بَعْدَ السَّلَامِ فَالْأَقْرَبُ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ فَتَحَوَّلَ رَأْيُ مَسْبُوقٍ وَلَاحِقٍ اسْتَدَارَ الْمَسْبُوقُ، لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيمَا يَقْضِيهِ، وَاسْتَأْنَفَ اللاَّحِقُ، لِأَنَّهُ مُقْتَدٍ فِيمَا يَقْضِيهِ.وَالْمُقْتَدِي إِذَا ظَهَرَ لَهُ وَرَاءَ الْإِمَامِ أَنَّ الْقِبْلَةَ غَيْرُ الْجِهَةِ الَّتِي يُصَلِّي إلَيْهَا الْإِمَامُ لَا يُمْكِنُهُ إصْلَاحُ صَلَاتِهِ، لِأَنَّهُ إنِ اسْتَدَارَ خَالَفَ إمَامَهُ فِي الْجِهَةِ قَصْدًا وَهُوَ مُفْسِدٌ، وَإِلاَّ كَانَ مُتِمًّا صَلَاتَهُ إلَى مَا هُوَ غَيْرُ الْقِبْلَةِ عِنْدَهُ وَهُوَ مُفْسِدٌ أَيْضًا.

خَفَاءُ الْقِبْلَةِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ:

30- خَفَاءُ الْقِبْلَةِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَوْ فِي أَثْنَائِهَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ التَّحَرِّي أَوْ بَعْدَهُ، وَسَنَتَنَاوَلُ بِالْبَحْثِ كُلًّا عَلَى حِدَةٍ.

خَفَاءُ الْقِبْلَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَالتَّحَرِّي:

31- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَخَفِيَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ لِفَقْدِهَا أَوْ لِغَيْمٍ أَوْ حَبْسٍ أَوِ الْتِبَاسٍ مَعَ ظُهُورِهَا، حَيْثُ تَعَارَضَتْ عِنْدَهُ الْأَمَارَاتُ، فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى وَيُصَلِّي، وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ عِنْدَئِذٍ، لِأَنَّهُ بَذَلَ وُسْعَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ مَعَ عِلْمِهِ بِأَدِلَّتِهِ، أَشْبَهَ الْحَاكِمَ إِذَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ، فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا حِيَالَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَنَزَلَ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وَعَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ التَّحَرِّيَ بِأَنَّهُ بَذْلُ الْجُهُودِ لِنَيْلِ الْمَقْصُودِ.وَأَفَادَ ابْنُ عَابِدِينَ بِأَنَّ قِبْلَةَ التَّحَرِّي مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُجَرَّدِ شَهَادَةِ الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ أَمَارَةٍ، وَعَبَّرَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يَتَخَيَّرُ جِهَةً مِنَ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ يُصَلِّي إلَيْهَا صَلَاةً وَاحِدَةً، وَلَا إعَادَةَ لِسُقُوطِ الطَّلَبِ عَنْهُ، وَهَذَا مَا رَجَّحَهُ ابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ بِتَكْرَارِ الصَّلَاةِ إلَى الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ فِي حَالَةِ التَّحَرِّي وَعَدَمِ الرُّكُونِ إلَى جِهَةٍ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُصَلِّي كَيْفَ كَانَ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ، وَيَقْضِي لِنُدْرَتِهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


10-موسوعة الفقه الكويتية (استقبال 2)

اسْتِقْبَال -2

تَرْكُ التَّحَرِّي:

32- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ بِالْأَدِلَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرَعَ فِي الصَّلَاةِ دُونَ أَنْ يَتَحَرَّى وَإِنْ أَصَابَ، لِتَرْكِهِ فَرْضَ التَّحَرِّي، إلاَّ أَنَّهُ لَا يُعِيدُ إنْ عَلِمَ إصَابَتَهُ بَعْدَ فَرَاغِهِ اتِّفَاقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، بِخِلَافِ إِذَا عَلِمَ الْإِصَابَةَ قَبْلَ التَّمَامِ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ لِأَنَّهُ بَنَى قَوِيًّا عَلَى ضَعِيفٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ الَّذِي تَخْفَى عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الْقِبْلَةِ يَتَخَيَّرُ جِهَةً مِنَ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ، وَيُصَلِّي إلَيْهَا وَيَسْقُطُ عَنْهُ الطَّلَبُ لِعَجْزِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُعِيدُ مَنْ صَلَّى بِلَا تَحَرٍّ أَوْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ التَّحَرِّي، سَوَاءٌ ظَهَرَ لَهُ الصَّوَابُ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ أَوْ بَعْدَهَا.

ظُهُورُ الصَّوَابِ لِلْمُتَحَرِّي:

33- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُتَحَرِّيَ إنْ ظَهَرَ صَوَابُهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَفْسُدُ، وَعِنْدَ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ لَا خِلَافَ فِي صِحَّتِهَا.

وَعِبَارَةُ الْبَحْرِ الرَّائِقِ: وَالصَّحِيحُ كَمَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْخَانِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ صَلَاتَهُ كَانَتْ جَائِزَةً مَا لَمْ يَظْهَرِ الْخَطَأُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ لَا يَتَغَيَّرُ حَالُهُ.وَقِيلَ: تَفْسُدُ، لِأَنَّ افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ كَانَ ضَعِيفًا، وَقَدْ قَوِيَ حَالُهُ بِظُهُورِ الصَّوَابِ، وَلَا يُبْنَى الْقَوِيُّ عَلَى الضَّعِيفِ.

التَّقْلِيدُ فِي الْقِبْلَةِ:

34- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لَا يُقَلِّدُ الْمُجْتَهِدُ مُجْتَهِدًا غَيْرَهُ، لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الِاجْتِهَادِ تَمْنَعُ مِنَ التَّقْلِيدِ.

وَمَنْ عَلِمَ أَدِلَّةَ الْقِبْلَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ مُطْلَقًا، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُقَلِّدَ الْمُجْتَهِدَ، لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.

وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ أَكْثَرُ مِنْ مُجْتَهِدٍ فَالْمُقَلِّدُ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَحَدَهُمْ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَخْتَارَ مَنْ يَثِقُ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ.

تَرْكُ التَّقْلِيدِ:

35- لَيْسَ لِمَنْ فَرْضُهُ التَّقْلِيدُ وَوَجَدَ مَنْ يُقَلِّدُهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِمُجَرَّدِ مَيْلِ نَفْسِهِ إلَى جِهَةٍ، فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ: أَنَّهُ إنْ تَرَكَ التَّقْلِيدَ وَاخْتَارَ لَهُ جِهَةً تَرْكَنُ لَهَا نَفْسُهُ وَصَلَّى لَهَا كَانَتْ صَلَاتُهُ صَحِيحَةً إنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ خَطَؤُهُ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنْ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ فِي الصَّلَاةِ قَطَعَهَا حَيْثُ كَانَ كَثِيرًا، وَإِنْ تَبَيَّنَ بَعْدَهَا فَقَوْلَانِ بِالْإِعَادَةِ أَبَدًا أَوْ فِي الْوَقْتِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي «تَبَيُّنِ الْخَطَأِ فِي الصَّلَاةِ».

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ مُطْلَقًا وَإِنْ صَادَفَ الْقِبْلَةَ.

اسْتِقْبَالُ الْأَعْمَى وَمَنْ فِي ظُلْمَةٍ لِلْقِبْلَةِ:

36- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْأَعْمَى عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْقِبْلَةِ، لِأَنَّ مُعْظَمَ الْأَدِلَّةِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُشَاهَدَةِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْهَا تَحَرَّى، وَكَذَا لَوْ سَأَلَهُ عَنْهَا فَلَمْ يُخْبِرْهُ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ أَخْبَرَهُ بَعْدَمَا صَلَّى لَا يُعِيدُ.

وَلَوْ لَمْ يَسْأَلْهُ وَتَحَرَّى: إنْ أَصَابَ جَازَ وَإِلاَّ لَا.

وَلَوْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَسَوَّاهُ رَجُلٌ إلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ وَجَدَ الْأَعْمَى وَقْتَ الشُّرُوعِ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْهَا فَلَمْ يَسْأَلْهُ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ، وَإِلاَّ بَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا، وَلَا يَجُوزُ لِهَذَا الرَّجُلِ الِاقْتِدَاءُ بِهِ.

وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْأَدِلَّةِ عَدْلًا فِي الرِّوَايَةِ لِيَهْتَدِيَ بِهَا إلَى الْقِبْلَةِ.

تَبَيُّنُ الْخَطَأِ فِي الْقِبْلَةِ:

37- أَطْلَقَ الْحَنَفِيَّةُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْمُصَلِّيَ الَّذِي لَمْ يَشُكَّ فِي الْقِبْلَةِ وَلَمْ يَتَحَرَّ إِذَا ظَهَرَ لَهُ خَطَؤُهُ فِي الْقِبْلَةِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، بِخِلَافِ مَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَشَكَّ فِيهَا وَتَحَرَّى، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ خَطَؤُهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ اسْتَدَارَ إلَى الْجِهَةِ الَّتِي انْتَهَى إلَيْهَا تَحَرِّيهِ، أَمَّا إِذَا ظَهَرَ لَهُ خَطَؤُهُ بَعْدَ انْتِهَاءِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ صَحِيحَةٌ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ وَالْمُقَلِّدِ إِذَا كَانَتْ عَلَامَاتُ الْقِبْلَةِ ظَاهِرَةً ثُمَّ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ فِيهَا، لِأَنَّهُ لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي الْجَهْلِ بِالْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ.أَمَّا دَقَائِقُ عِلْمِ الْهَيْئَةِ وَصُوَرُ النُّجُومِ الثَّوَابِتِ فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي الْجَهْلِ بِهَا فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ.وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ الْأَدِلَّةُ ظَاهِرَةً فَاشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ أَوْ خَفِيَتْ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَتْ أَدِلَّةٌ خَفِيَّةٌ، لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ فِي الْحَالَيْنِ وَعَجَزَ عَنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَاسْتَوَيَا فِي عَدَمِ الْإِعَادَةِ.أَمَّا فِي الْقَوْلِ الْأَظْهَرِ لِلشَّافِعِيَّةِ فَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِأَنَّهُ أَخْطَأَ فِي شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ.

الْعَجْزُ عَنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ.

38- ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ إلَى أَنَّ مَنْ بِهِ عُذْرٌ حِسِّيٌّ يَمْنَعُهُ مِنْ الِاسْتِقْبَالِ كَالْمَرِيضِ، وَالْمَرْبُوطِ يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، وَلَوْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، لِأَنَّ الِاسْتِقْبَالَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ وَقَدْ عَجَزَ عَنْهُ فَأَشْبَهَ الْقِيَامَ.

وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالصَّاحِبَانِ مِنِ الْحَنَفِيَّةِ لِسُقُوطِ الْقِبْلَةِ عَنْهُ أَنْ يَعْجِزَ أَيْضًا عَمَّنْ يُوَجِّهُهُ وَلَوْ بِأَجْرِ الْمِثْلِ، كَمَا اسْتَظْهَرَهُ.الشَّيْخُ إسْمَاعِيلُ النَّابُلُسِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ.وَبِالنِّسْبَةِ لِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ خِلَافًا تَفْصِيلُهُ فِي مَبَاحِثِ الصَّلَاةِ.

وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْقَادِرَ بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ عَاجِزٌ.وَبِقَوْلِهِمَا جَزَمَ فِي الْمُنْيَةِ وَالْمِنَحِ وَالدُّرِّ وَالْفَتْحِ بِلَا حِكَايَةِ خِلَافٍ.

وَلَوْ وَجَدَ أَجِيرًا بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهُ اسْتِئْجَارُهُ إِذَا كَانَتِ الْأُجْرَةُ دُونَ نِصْفِ دِرْهَمٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ كَمَا فَسَّرُوهُ فِي التَّيَمُّمِ.

أَمَّا مَنْ بِهِ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ يَمْنَعُهُ مِنَ الِاسْتِقْبَالِ فَقَدْ تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِلصُّوَرِ الْآتِيَةِ مِنْهُ وَهِيَ:

الْخَوْفُ عَلَى النَّفْسِ، وَذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَذَلِكَ كَالْخَوْفِ مِنْ سَبُعٍ وَعَدُوٍّ، فَلَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى جِهَةٍ قَدَرَ عَلَيْهَا، وَمِثْلُهُ الْهَارِبُ مِنَ الْعَدُوِّ رَاكِبًا يُصَلِّي عَلَى دَابَّتِهِ.

وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ صُوَرِ الْعُذْرِ: الْخَوْفَ مِنْ الِانْقِطَاعِ عَنْ رُفْقَتِهِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ: الِاسْتِيحَاشَ وَإِنْ لَمْ يَتَضَرَّرْ بِانْقِطَاعِهِ عَنْ رُفْقَتِهِ.

وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مِنَ الْأَعْذَارِ: الْخَوْفَ مِنْ أَنْ تَتَلَوَّثَ ثِيَابُهُ بِالطِّينِ وَنَحْوِهِ لَوْ نَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ.

وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ عَجْزَهُ عَنِ النُّزُولِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ نَزَلَ وَصَلَّى وَاقِفًا بِالْإِيمَاءِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْقُعُودِ دُونَ السُّجُودِ أَوْمَأَ قَاعِدًا.

وَعَدَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ مِنَ الْأَعْذَارِ: مَا لَوْ خَافَ عَلَى مَالِهِ- مِلْكًا أَوْ أَمَانَةً- لَوْ نَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ.

وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ مِنَ الْأَعْذَارِ: الْعَجْزَ عَنِ الرُّكُوبِ فِيمَنْ احْتَاجَ فِي رُكُوبِهِ بَعْدَ نُزُولِهِ لِلصَّلَاةِ إلَى مُعِينٍ وَلَا يَجِدُهُ، كَأَنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ جَمُوحًا، أَوْ كَانَ هُوَ ضَعِيفًا فَلَهُ أَلاَّ يَنْزِلَ.

وَمِنَ الْأَعْذَارِ: الْخَوْفُ وَقْتَ الْتِحَامِ الْقِتَالِ، فَقَدِ اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنْ يَسْقُطَ شَرْطُ الِاسْتِقْبَالِ فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ وَقْتَ الْتِحَامِ الصُّفُوفِ فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ إِذَا عَجَزَ الْمُصَلِّي عَنْهُ.وَلِمَعْرِفَةِ مَاهِيَّةِ هَذَا الْقِتَالِ، وَمَا يَلْحَقُ بِهِ، وَوَقْتُ صَلَاتِهِ، وَإِعَادَتُهَا حِينَ الْأَمْنِ، وَبَقِيَّةُ أَحْكَامِهَا (ر: صَلَاةُ الْخَوْفِ).

اسْتِقْبَالُ الْمُتَنَفِّلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ:

39- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّنَفُّلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ لِجِهَةِ سَفَرِهِ وَلَوْ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ وَلَوْ بِلَا عُذْرٍ، لِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم-: «كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ» وَفُسِّرَ قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} بِالتَّوَجُّهِ فِي نَفْلِ السَّفَرِ.

وَفِي الشُّرُوطِ الْمُجَوِّزَةِ لِذَلِكَ خِلَافٌ فَصَّلَهُ الْفُقَهَاءُ فِي مَبْحَثِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ.

اسْتِقْبَالُ الْمُتَنَفِّلِ مَاشِيًا فِي السَّفَرِ:

40- مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لِلْمُسَافِرِ الْمَاشِي الصَّلَاةُ فِي حَالِ مَشْيِهِ، لِأَنَّ النَّصَّ إنَّمَا وَرَدَ فِي الرَّاكِبِ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْمَاشِي عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى عَمَلٍ كَثِيرٍ، وَمَشْيٌ مُتَتَابِعٌ يُنَافِي الصَّلَاةَ فَلَمْ يَصِحَّ الْإِلْحَاقُ.

وَمَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ ثَانِيَةُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مَاشِيًا قِيَاسًا عَلَى الرَّاكِبِ، لِأَنَّ الْمَشْيَ إحْدَى حَالَتَيْ سَيْرِ الْمُسَافِرِ، وَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ فَكَذَا فِي النَّافِلَةِ.وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النَّاسَ مُحْتَاجُونَ إلَى الْأَسْفَارِ، فَلَوْ شَرَطَا فِيهَا الِاسْتِقْبَالَ لِلتَّنَفُّلِ لأَدَّى إلَى تَرْكِ أَوْرَادِهِمْ أَوْ مَصَالِحِ مَعَايِشِهِمْ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ يَنْحَرِفُ إلَى جِهَةِ سَيْرِهِ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ فِي السَّلَامِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ.

اسْتِقْبَالُ الْمُفْتَرِضِ عَلَى السَّفِينَةِ وَنَحْوِهَا:

41- اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى وُجُوبِ اسْتِقْبَالِ الْمُفْتَرِضِ عَلَى السَّفِينَةِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ صَلَاتِهِ، وَذَلِكَ لِتَيَسُّرِ الِاسْتِقْبَالِ عَلَيْهِ.وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يَدُورُ مَعَهَا إِذَا دَارَتْ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (الصَّلَاةُ فِي السَّفِينَةِ).

اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ:

42- قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ جِهَةَ الْقِبْلَةِ هِيَ أَشْرَفُ الْجِهَاتِ، وَلِذَا يُسْتَحَبُّ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا حِينَ الْجُلُوسِ، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ سَيِّدَ الْمَجَالِسِ مَا اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ».

قَالَ صَاحِبُ الْفُرُوعِ: وَيُتَّجَهُ فِي كُلِّ طَاعَةٍ إلاَّ لِدَلِيلٍ.

وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ التَّوَجُّهِ إلَيْهَا تَغْلِيطُ الْأَمْرِ وَإِلْقَاءُ الرَّهْبَةِ فِي قَلْبِ مَنْ طُلِبَ مِنْهُ التَّوَجُّهُ إلَيْهَا، كَمَا فِي تَغْلِيظِ الْقَاضِي الْيَمِينَ عَلَى حَالِفِهَا بِذَلِكَ (ر: إثْبَاتٌ ف 26).

عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ أَحْوَالٌ تَرْفَعُ هَذَا الِاسْتِحْبَابَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ اسْتِقْبَالُهَا حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا (ر: قَضَاءُ الْحَاجَةِ.اسْتِنْجَاء).

وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ زَائِرَ قَبْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- يَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ وَيَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ الشَّرِيفَ.

اسْتِقْبَالُ غَيْرِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ:

43- الْأَصْلُ فِي اسْتِقْبَالِ الْمُصَلِّي لِلْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ، مَا دَامَ مُتَوَجِّهًا إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، لَكِنْ هُنَاكَ أَشْيَاءُ مُعَيَّنَةٌ نُهِيَ الْمُصَلِّي عَنْ أَنْ يَجْعَلَهَا أَمَامَهُ لِاعْتِبَارَاتٍ خَاصَّةٍ فِيهَا، كَأَنْ يَكُونَ فِي وُجُودِهَا أَمَامَهُ تَشَبُّهٌ بِالْمُشْرِكِينَ، كَمَا فِي الصَّنَمِ وَالنَّارِ وَالْقَبْرِ، أَوْ لِكَوْنِهَا قَذِرَةً أَوْ نَجِسَةً يُصَانُ وَجْهُ الْمُصَلِّي وَنَظَرُهُ عَنْهَا، كَمَا فِي الصَّلَاةِ إلَى الْحَشِّ وَالْمَجْزَرَةِ، أَوْ قَدْ يَكُونُ أَمَامَهُ مَا يُشَوِّشُ عَلَيْهِ فِكْرَهُ كَمَا فِي الصَّلَاةِ إلَى الطَّرِيقِ.وَقَدْ تَنَاوَلَهَا الْفُقَهَاءُ بِالْبَحْثِ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَكْرُوهَاتِ الصَّلَاةِ.

وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي أَمَامَ الْمُصَلِّي أَمْرًا مَرْغُوبًا فِيهِ، لِكَوْنِهِ عَلَامَةً عَلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ لِمَنْعِ الْمَارِّينَ مِنَ الْمُرُورِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، كَمَا فِي الصَّلَاةِ إلَى السُّتْرَةِ.وَقَدْ بَحَثَهَا الْفُقَهَاءُ ضِمْنَ سُنَنِ الصَّلَاةِ.

اسْتِقْبَالُ غَيْرِ الْقِبْلَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ:

44- الْأَصْلُ فِي تَوَجُّهِ الْإِنْسَانِ إلَى الْأَشْيَاءِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ الْإِبَاحَةُ أَيْضًا، وَلَكِنْ قَدْ يُطْلَبُ التَّوَجُّهُ إلَى الْمَوَاطِنِ الشَّرِيفَةِ فِي الْأَحْوَالِ الشَّرِيفَةِ طَلَبًا لِخَيْرِهَا وَفَضْلِهَا، كَاسْتِقْبَالِ السَّمَاءِ بِالْبَصَرِ وَبِبُطُونِ الْكَفَّيْنِ فِي الدُّعَاءِ.

كَمَا يُطْلَبُ عَدَمُ التَّوَجُّهِ إلَيْهَا فِي الْأَحْوَالِ الْخَسِيسَةِ، كَاسْتِقْبَالِ قَاضِي الْحَاجَةِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَوِ الْمُصْحَفَ الشَّرِيفَ (ر: قَضَاءُ الْحَاجَةِ).

وَقَدْ يُطْلَبُ تَجَنُّبُ اسْتِقْبَالِهَا صِيَانَةً لَهُ عَنْهَا لِنَجَاسَتِهَا أَوْ حِفْظًا لِبَصَرِهِ عَنِ النَّظَرِ إلَيْهَا، كَاسْتِقْبَالِ قَاضِي الْحَاجَةِ مَهَبَّ الرِّيحِ، وَاسْتِقْبَالِ الْمُسْتَأْذِنِ لِلدُّخُولِ بَابَ الْمَكَانِ الَّذِي يُرِيدُ الدُّخُولَ إلَيْهِ.

وَقَدْ يُطْلَبُ الِاسْتِقْبَالُ حِفَاظًا عَلَى الْآدَابِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَتَوْفِيرًا لِحُسْنِ الْإِصْغَاءِ، كَمَا فِي اسْتِقْبَالِ الْخَطِيبِ لِلْقَوْمِ وَاسْتِقْبَالِهِمْ لَهُ، وَاسْتِقْبَالِ الْإِمَامِ النَّاسَ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ.

وَكَمَا فِي اسْتِقْبَالِ الضُّيُوفِ وَالْمُسَافِرِينَ إبْقَاءً عَلَى الرَّوَابِطِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مَتِينَةً.

وَمِنْ هَذِهِ الطَّاعَاتِ: الْوُضُوءُ، وَالتَّيَمُّمُ، وَالْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ، وَمِنْهُ الدُّعَاءُ بَعْدَ الْوُضُوءِ، وَالدُّعَاءُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَالذِّكْرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْحَجُّ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ، تُعْلَمُ بِتَتَبُّعِ كِتَابِ الْحَجِّ كَالْإِهْلَالِ، وَشُرْبِ مَاءِ زَمْزَمَ، وَتَوْجِيهِ الْهَدْيِ حِينَ الذَّبْحِ لِلْقِبْلَةِ، وَقَضَاءِ الْقَاضِي بَيْنَ الْخُصُومِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوَاضِعِهَا.

كَمَا يُسْتَحَبُّ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي مَوَاطِنَ خَاصَّةٍ طَلَبًا لِبَرَكَتِهَا وَكَمَالِ الْعَمَلِ بِاسْتِقْبَالِهَا، كَمَا فِي تَوْجِيهِ الْمُحْتَضَرِ إلَيْهَا، وَكَذَا الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ عِنْدَ الدَّفْنِ (ر: كِتَابُ الْجَنَائِزِ)، وَمِثْلُهُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنَامَ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَذْبَحَ ذَبِيحَةً فَيُسَنُّ لَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِهَا الْقِبْلَةَ (ر: كِتَابُ الذَّبَائِحِ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


11-موسوعة الفقه الكويتية (استقسام)

اسْتِقْسَام

التَّعْرِيفُ:

1- يَأْتِي الِاسْتِقْسَامُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى: طَلَبِ الْقَسْمِ بِالْأَزْلَامِ وَنَحْوِهَا، وَالْقَسْمُ هُنَا: مَا قُدِّرَ لِلْإِنْسَانِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى طَلَبِ: الْقَسْمِ الْمُقَدَّرِ مِمَّا هُوَ شَائِعٌ، وَالْقَسْمُ هُنَا: النَّصِيبُ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ وَالْمُفَسِّرُونَ فِي الْمَقْصُودِ بِالِاسْتِقْسَامِ فِي قوله تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ}.فَقَالَ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمُ الْأَزْهَرِيُّ وَالْهَرَوِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَالْقَفَّالُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: مَعْنَى الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ طَلَبُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِوَاسِطَةِ ضَرْبِ الْقِدَاحِ، فَكَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا، أَوْ غَزْوًا، أَوْ تِجَارَةً، أَوْ نِكَاحًا، أَوْ أَوْ أَمْرًا آخَرَ ضَرَبَ بِالْقِدَاحِ، وَكَانُوا قَدْ كَتَبُوا عَلَى بَعْضِهَا «أَمَرَنِي رَبِّي» وَعَلَى بَعْضِهَا «نَهَانِي رَبِّي» وَتَرَكُوا بَعْضَهَا خَالِيًا عَنِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ خَرَجَ الْأَمْرُ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ، وَإِنْ خَرَجَ النَّهْيُ أَمْسَكَ، وَإِنْ خَرَجَ الْغُفْلُ أَعَادَ الْعَمَلَ مَرَّةً أُخْرَى، فَهُمْ يَطْلُبُونَ مِنَ الْأَزْلَامِ أَنْ تَدُلَّهُمْ عَلَى قَسْمِهِمْ.

وَقَالَ الْمُؤَرَّجُ وَالْعَزِيزِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: الِاسْتِقْسَامُ هُنَا هُوَ الْمَيْسِرُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَالْأَزْلَامُ قِدَاحُ الْمَيْسِرِ، وَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَيْسِرُوا ابْتَاعُوا نَاقَةً بِثَمَنٍ مُسَمًّى يَضْمَنُونَهُ لِصَاحِبِهَا، وَلَمْ يَدْفَعُوا الثَّمَنَ حَتَّى يَضْرِبُوا بِالْقِدَاحِ عَلَيْهَا، فَيَعْلَمُوا عَلَى مَنْ يَجِبُ الثَّمَنُ.

وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ اللُّغَوِيِّينَ وَالْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّهُ الِامْتِثَالُ لِمَا تُخْرِجُهُ الْأَزْلَامُ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي شُئُونِ حَيَاتِهِمْ، وَالْأَقْدَاحُ هِيَ أَقْدَاحُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الطَّرْقُ:

2- مِنْ مَعَانِي الطَّرْقِ: الضَّرْبُ بِالْحَصَى، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ التَّكَهُّنِ، وَشَبِيهُ الْخَطِّ فِي الرَّمْلِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «الْعِيَافَةُ وَالطِّيَرَةُ وَالطَّرْقُ مِنَ الْجِبْتِ» وَمِنْ ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الطَّرْقَ بِالْحَصَى وَالِاسْتِقْسَامَ كِلَاهُمَا لِطَلَبِ مَعْرِفَةِ الْحُظُوظِ.

ب- الطِّيَرَةُ:

3- هِيَ التَّشَاؤُمُ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْعَرَبِيَّ كَانَ إِذَا أَرَادَ الْمُضِيَّ لِمُهِمٍّ مَرَّ بِمَجَاثِمِ الطَّيْرِ وَأَثَارِهَا، فَإِنْ تَيَامَنَتْ مَضَى، وَإِنْ تَشَاءَمَتْ تَطَيَّرَ وَعَدَلَ.فَنَهَى الشَّارِعُ عَنْ ذَلِكَ فَفِي الْحَدِيثِ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ» وَهِيَ بِهَذَا تُشْبِهُ الِاسْتِقْسَامَ فِي أَنَّهَا طَلَبُ مَعْرِفَةِ قَسْمِهِ مِنَ الْغَيْبِ.

ج- الْفَأْلُ:

4- الْفَأْلُ هُوَ أَنْ تَسْمَعَ كَلَامًا حَسَنًا فَتَتَيَمَّنَ بِهِ، وَالْفَأْلُ ضِدُّ الطِّيَرَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يُحِبُّ الْفَأْلَ وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ».

وَالْفَأْلُ مُسْتَحْسَنٌ إِذَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْكَلِمَةِ الْحَسَنَةِ يَسْمَعُهَا الرَّجُلُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، نَحْوُ: يَا فَلاَّحُ وَيَا مَسْعُودُ فَيَسْتَبْشِرُ بِهَا.

وَالْفَأْلُ بِهَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِقْسَامِ (الْمَنْهِيِّ عَنْهُ) أَمَّا إِذَا قَصَدَ بِالْفَأْلِ طَلَبَ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ مِنَ الشَّرِّ عَنْ طَرِيقِ أَخْذِهِ مِنْ مُصْحَفٍ، أَوْ ضَرْبِ رَمْلٍ، أَوْ قُرْعَةٍ وَنَحْوِهَا- وَهُوَ يَعْتَقِدُ هَذَا الْمَقْصِدَ إنْ خَرَجَ جَيِّدًا اتَّبَعَهُ، وَإِنْ خَرَجَ رَدِيًّا اجْتَنَبَهُ- فَهُوَ حَرَامٌ، لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِقْسَامِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.

د- الْقُرْعَةُ:

5- الْقُرْعَةُ: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الِاقْتِرَاعِ وَهُوَ الِاخْتِيَارُ بِإِلْقَاءِ السِّهَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.وَلَيْسَتِ الْقُرْعَةُ مِنَ الْمَيْسِرِ كَمَا يَقُولُ الْبَعْضُ، لِأَنَّ الْمَيْسِرَ هُوَ الْقِمَارُ، وَتَمْيِيزُ الْحُقُوقِ لَيْسَ قِمَارًا.

وَلَيْسَتْ مِنْ الِاسْتِقْسَامِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، لِأَنَّ الِاسْتِقْسَامَ تَعَرُّضٌ لِدَعْوَى عِلْمِ الْغَيْبِ، وَهُوَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، فِي حِينِ أَنَّ الْقُرْعَةَ تَمْيِيزُ نَصِيبٍ مَوْجُودٍ، فَهِيَ أَمَارَةٌ عَلَى إثْبَاتِ حُكْمٍ قَطْعًا لِلْخُصُومَةِ، أَوْ لِإِزَالَةِ الْإِبْهَامِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَالْقُرْعَةُ الَّتِي تَكُونُ لِتَمْيِيزِ الْحُقُوقِ مَشْرُوعَةٌ.

أَمَّا الْقُرْعَةُ الَّتِي يُؤْخَذُ مِنْهَا الْفَأْلُ، أَوِ الَّتِي يُطْلَبُ بِهَا مَعْرِفَةُ الْغَيْبِ وَالْمُسْتَقْبَلِ فَهِيَ فِي مَعْنَى الِاسْتِقْسَامِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

هـ- الْكِهَانَةُ:

6- الْكِهَانَةُ أَوِ التَّكَهُّنُ: ادِّعَاءُ عِلْمِ الْغَيْبِ، وَالْكَاهِنُ هُوَ الَّذِي يُخْبِرُ عَنْ بَعْضِ الْمُضْمَرَاتِ، فَيُصِيبُ بَعْضَهَا، وَيُخْطِئُ أَكْثَرَهَا، وَيَزْعُمُ أَنَّ الْجِنَّ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، وَمِثْلُ الْكَاهِنِ: الْعَرَّافُ، وَالرَّمَّالُ، وَالْمُنَجِّمُ، وَهُوَ الَّذِي يُخْبِرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِطُلُوعِ النَّجْمِ وَغُرُوبِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ» وَ «مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ».وَعَلَى ذَلِكَ فَالْكِهَانَةُ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِقْسَامِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

صِفَةُ الِاسْتِقْسَامِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):

7- الِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا- سَوَاءٌ كَانَ لِطَلَبِ الْقَسْمِ فِي أُمُورِ الْحَيَاةِ الْغَيْبِيَّةِ، أَوْ كَانَ لِلْمُقَامَرَةِ- وَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ خَيْرًا- حَرَامٌ، كَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}.

وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}...إلَى قَوْلِهِ {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ}.

فَهُوَ خُرُوجٌ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ تَعَرُّضٌ لِعِلْمِ الْغَيْبِ، أَوْ نَوْعٌ مِنَ الْمُقَامَرَةِ، وَكِلَاهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ.

إِحْلَالُ الشَّرْعِ الِاسْتِخَارَةَ مَحَلَّ الِاسْتِقْسَامِ:

8- لَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ بِطَبْعِهِ يَمِيلُ إلَى التَّعَرُّفِ عَلَى طَرِيقِهِ، وَالِاطْمِئْنَانِ إلَى أُمُورِ حَيَاتِهِ، فَقَدْ أَوْجَدَ الشَّرْعُ لِلْإِنْسَانِ مَا يُلْجَأُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِيَشْرَحَ صَدْرَهُ لِمَا فِيهِ الْخَيْرُ فَيَتَّجِهُ إلَيْهِ.وَالِاسْتِخَارَةُ طَلَبُ الْخِيَرَةِ فِي الشَّيْءِ وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِخَارَةٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


12-موسوعة الفقه الكويتية (إعارة 2)

إِعَارَةٌ -2

الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمُعِيرِ وَالْمُسْتَعِيرِ:

18- تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْعَارِيَّةَ مِنَ الْأَمَانَاتِ فَلَا تُضْمَنُ.وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَا لَا يَخْفَى.وَفَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا لَا تُضْمَنُ، إِلاَّ بِالتَّعَدِّي، وَأَنَّ الْأَمِينَ يُصَدَّقُ فِيمَا يَدَّعِيهِ بِيَمِينِهِ.وَاعْتِبَارُ الْمَقْبُوضِ عَارِيَّةً أَوْ غَيْرَ عَارِيَّةً، وَأَنَّ هُنَاكَ تَعَدِّيًا أَمْ لَا، يُرْجَعُ فِيهِ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ.

فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الدَّابَّةِ وَالْمُسْتَعِيرُ فِيمَا أَعَارَهَا لَهُ، وَقَدْ عَقَرَهَا الرُّكُوبُ أَوِ الْحُمُولَةُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّابَّةِ.وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَعِيرِ.وَحُجَّتُهُ أَنَّ رَبَّ الدَّابَّةِ يَدَّعِي عَلَى الْمُسْتَعِيرِ سَبَبَ الضَّمَانِ، وَهُوَ الْمُخَالَفَةُ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ.

وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْإِذْنَ فِي الِاسْتِعْمَالِ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ، وَلَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْإِذْنِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَنْكَرَ الْإِذْنَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي انْتَفَعَ بِهِ الْمُسْتَعِيرُ.

وَفِي الولوالجية: إِذَا جَهَّزَ الْأَبُ ابْنَتَهُ ثُمَّ مَاتَ فَجَاءَ وَرَثَتُهُ يَطْلُبُونَ قِسْمَةَ الْجِهَازِ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ اشْتَرَى لَهَا الْجِهَازَ فِي صِغَرِهَا أَوْ بَعْدَمَا كَبِرَتْ، وَسَلَّمَهُ إِلَيْهَا فِي حَالِ صِحَّتِهِ، فَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ حَقٌّ فِيهِ بَلْ هُوَ لِلْبِنْتِ خَاصَّةً.

فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَبُولَ قَوْلِ الْمَالِكِ أَنَّهَا عَارِيَّةً بِيَمِينِهِ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلْ ذَلِكَ إِذَا صَدَّقَهُ الْعُرْفُ.

وَقَالُوا: كُلُّ أَمِينٍ ادَّعَى إِيصَالَ الْأَمَانَةِ إِلَى مُسْتَحِقِّهَا قُبِلَ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، كَالْمُودَعِ إِذَا ادَّعَى الرَّدَّ وَالْوَكِيلِ وَالنَّاظِرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ مُسْتَحِقِّهَا أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، إِلاَّ فِي الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ، إِذَا ادَّعَى بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَكِّلِ أَنَّهُ قَبَضَهُ وَدَفَعَهُ لَهُ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ.

وَلَوْ جَهَّزَ ابْنَتَهُ بِمَا يُجَهَّزُ بِهِ مِثْلُهَا، ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ أَعَرْتُهَا الْأَمْتِعَةَ.إِنْ كَانَ الْعُرْفُ مُسْتَمِرًّا بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ الْأَبَ يَدْفَعُ الْجِهَازَ مِلْكًا لَا إِعَارَةً، لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إِنَّهُ إِعَارَةٌ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ.وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْعُرْفُ كَذَلِكَ أَوْ تَارَةً وَتَارَةً فَالْقَوْلُ لَهُ فِي جَمِيعِ الْجِهَازِ، لَا فِي الزَّائِدِ عَلَى جِهَازِ مِثْلِهَا، وَالْفَتْوَى عَلَى ذَلِكَ.وَإِنْ كَانَ الْجِهَازُ أَكْثَرَ مِمَّا يُجَهَّزُ بِهِ مِثْلُهَا فَالْقَوْلُ لَهُ اتِّفَاقًا.

وَالْمَالِكِيَّةُ كَالْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، إِذْ قَالُوا: إِذَا هَلَكَتِ الْعَيْنُ الْمُعَارَةُ وَاخْتَلَفَ الْمُعِيرُ وَالْمُسْتَعِيرُ فِي سَبَبِ هَلَاكِهَا أَوْ تَعَيُّبِهَا، فَقَالَ الْمُعِيرُ: هَلَكَتْ أَوْ تَعَيَّبَتْ بِسَبَبِ تَفْرِيطِكَ، وَقَالَ الْمُسْتَعِيرُ: مَا فَرَّطْتُ، فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ أَنَّهَا مَا هَلَكَتْ أَوْ تَعَيَّبَتْ بِسَبَبِ تَفْرِيطِهِ.فَإِنْ نَكَلَ غَرِمَ بِنُكُولِهِ.وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي لِأَنَّهَا يَمِينُ تُهْمَةٍ.

وَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ فَعَلَيْهِ جَمِيعُ قِيمَتِهِ فِي حَالَةِ الْهَلَاكِ، أَوْ عَلَيْهِ الْفَرْقُ بَيْنَ قِيمَتِهِ سَلِيمًا وَمُتَعَيَّبًا.

وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَعَارُ غَيْرَ آلَةِ حَرْبٍ كَفَأْسٍ وَنَحْوِهِ، وَأَتَى بِهِ إِلَى الْمُعِيرِ مَكْسُورًا فَلَا يُخْرِجُهُ مِنَ الضَّمَانِ، إِلاَّ أَنْ تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ اسْتِعْمَالًا مَعْهُودًا فِي مِثْلِهِ، فَإِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ بِعَكْسِهِ فَكُسِرَ لَزِمَهُ الضَّمَانُ.

وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمَالِكُ وَالْمُنْتَفِعُ فِي كَوْنِ الْعَيْنِ عَارِيَّةً أَوْ مُسْتَأْجَرَةً يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أَجْرٌ، رُدَّتِ الْعَيْنُ إِلَى مَالِكِهَا، وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ هُنَا بِتَحْلِيفِ مُدَّعِي الْإِعَارَةِ.

وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أَجْرٌ، فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الْمُنْتَفِعَ يَسْتَفِيدُ مِنَ الْمَالِكِ مِلْكَ الِانْتِفَاعِ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لَهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَالِكِ فِي التَّعْيِينِ، لَكِنْ مَعَ الْيَمِينِ، دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ.

19- وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي كَوْنِهَا عَارِيَّةً أَوْ مُسْتَأْجَرَةً بَعْدَ تَلَفِ الْعَيْنِ: فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنِ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أَجْرٌ وَتَلِفَتِ الْبَهِيمَةُ، وَكَانَ الْأَجْرُ بِقَدْرِ قِيمَتِهَا، أَوْ كَانَ مَا يَدَّعِيهِ الْمَالِكُ مِنْهُمَا أَقَلَّ مِمَّا يَعْتَرِفُ بِهِ الرَّاكِبُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ بِغَيْرِ يَمِينٍ.سَوَاءٌ ادَّعَى الْإِجَارَةَ أَوِ الْإِعَارَةَ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي الْيَمِينِ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَرِفُ لَهُ بِهِ.وَيُحْتَمَلُ أَلاَّ يَأْخُذَهُ إِلاَّ بِيَمِينٍ، لِأَنَّهُ يَدَّعِي شَيْئًا لَا يُصَدَّقُ فِيهِ، وَيَعْتَرِفُ لَهُ الرَّاكِبُ بِمَا يَدَّعِيهِ فَيَحْلِفُ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ، وَإِنْ كَانَ مَا يَدَّعِيهِ الْمَالِكُ أَكْثَرَ، مِثْلُ إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْبَهِيمَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِهَا فَادَّعَى الْمَالِكُ أَنَّهَا عَارِيَّةً لِتَجِبَ لَهُ الْقِيمَةُ، وَأَنْكَرَ اسْتِحْقَاقَ الْأُجْرَةِ، وَادَّعَى الرَّاكِبُ أَنَّهَا مُكْتَرَاةٌ، أَوْ كَانَ الْكِرَاءُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا، فَادَّعَى الْمَالِكُ أَنَّهُ أَجَّرَهَا لِيَجِبَ لَهُ الْكِرَاءُ، وَادَّعَى الرَّاكِبُ أَنَّهَا عَارِيَّةً، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ فِي الصُّورَتَيْنِ، فَإِذَا حَلَفَ اسْتَحَقَّ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ.

وَقَوَاعِدُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ تَقْتَضِي أَنَّ الْقَوْلَ حِينَئِذٍ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْإِعَارَةَ، لِأَنَّهُ يَنْفِي الْأُجْرَةَ.وَأَمَّا الضَّمَانُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ.

فَإِنْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ قَبْلَ رَدِّهَا تَلَفًا تُضْمَنُ بِهِ الْعَارِيَّةُ فَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى الضَّمَانِ لَهَا، لِضَمَانِ كُلٍّ مِنَ الْعَارِيَّةِ وَالْمَغْصُوبِ.

وَإِذَا اخْتَلَفَا، فَادَّعَى الْمَالِكُ الْغَصْبَ، وَادَّعَى الْمُنْتَفِعُ الْإِعَارَةَ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ وَالدَّابَّةُ تَالِفَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْتَفِعِ، لِأَنَّهُ يَنْفِي الضَّمَانَ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الِاسْتِعْمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْهَلَاكَ جَاءَ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ عَقِيبَ الْعَقْدِ، وَالدَّابَّةُ قَائِمَةٌ لَمْ يَتْلَفْ مِنْهَا شَيْءٌ، فَلَا مَعْنَى لِلِاخْتِلَافِ، وَيَأْخُذُ الْمَالِكُ بَهِيمَتَهُ.

وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ تَالِفَةً، لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَجِبُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ كَوُجُوبِهَا عَلَى الْغَاصِبِ.

وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أَجْرٌ فَالِاخْتِلَافُ فِي وُجُوبِهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ، لِأَنَّهُ يُنْكِرُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ إِلَى الرَّاكِبِ، وَالرَّاكِبُ يَدَّعِيهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِانْتِقَالِ، فَيَحْلِفُ وَيَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ.

نَفَقَةُ الْعَارِيَّةِ:

20- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- مَا عَدَا الْقَاضِي حُسَيْنٍ- وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْعَارِيَّةِ الَّتِي بِهَا بَقَاؤُهَا كَالطَّعَامِ مُدَّةَ الْإِعَارَةِ عَلَى مَالِكِهَا، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لَكَانَ كِرَاءً، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنَ الْكِرَاءِ فَتَخْرُجُ الْعَارِيَّةُ عَنِ الْمَعْرُوفِ إِلَى الْكِرَاءِ، وَلِأَنَّ تِلْكَ النَّفَقَةَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَغَيْرُ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، لِأَنَّ مَالِكَ الدَّابَّةِ فَعَلَ مَعْرُوفًا فَلَا يَلِيقُ أَنْ يُشَدَّدَ عَلَيْهِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ فِي اللَّيْلَةِ وَاللَّيْلَتَيْنِ، وَعَلَى الْمُعِيرِ فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ كَمَا فِي الْمَوَّاقِ، وَقَدْ عَكَسَ عَبْدُ الْبَاقِي الزَّرْقَانِيُّ.

مَئُونَةُ رَدِّ الْعَارِيَّةِ:

21- فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ مَئُونَةَ رَدِّ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، لِخَبَرِ «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ»، وَلِأَنَّ الْإِعَارَةَ مَكْرُمَةٌ فَلَوْ لَمْ تُجْعَلِ الْمَئُونَةُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْهَا.وَهَذَا تَطْبِيقٌ لِقَاعِدَةِ «كُلُّ مَا كَانَ مَضْمُونَ الْعَيْنِ فَهُوَ مَضْمُونُ الرَّدِّ».

وَعَلَى الْمُسْتَعِيرِ رَدُّهَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ، إِلاَّ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى رَدِّهَا إِلَى مَكَانِ غَيْرِهِ، لِأَنَّ مَا لَزِمَ رَدُّهُ وَجَبَ رَدُّهُ إِلَى مَوْضِعِهِ كَالْمَغْصُوبِ.

مَا يَبْرَأُ بِهِ الْمُسْتَعِيرُ:

22- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَوْ رَدَّ الدَّابَّةَ إِلَى مَالِكِهَا أَوْ وَكِيلِهِ فِي قَبْضِهَا فَإِنَّهُ يَبْرَأُ مِنْهَا.أَمَّا إِنْ رَدَّهَا بِوَاسِطَةِ آخَرِينَ وَإِلَى غَيْرِ الْمَالِكِ وَالْوَكِيلِ فَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الِاسْتِحْسَانِ وَالْمَالِكِيَّةِ: إِنْ رَدَّ الْمُسْتَعِيرُ الدَّابَّةَ مَعَ خَادِمِهِ أَوْ بَعْضِ مَنْ هُوَ فِي عِيَالِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ عَطِبَتْ، لِأَنَّ يَدَ مَنْ هُوَ فِي عِيَالِهِ فِي الرَّدِّ كَيَدِهِ، كَمَا أَنَّ يَدَ مَنْ فِي عِيَالِهِ فِي الْحِفْظِ كَيَدِهِ.وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَرُدُّ الْمُسْتَعَارَ بِيَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ وَلِهَذَا يَعُولُهُمْ، فَكَانَ مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهَا دَلَالَةً.وَكَذَلِكَ إِنْ رَدَّهَا إِلَى خَادِمِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهَا، فَهُوَ بَرِيءٌ اسْتِحْسَانًا.وَالْقِيَاسُ أَلاَّ يَبْرَأَ مَا لَمْ تَصِلْ إِلَى صَاحِبِهَا، كَالْمُودَعِ إِذَا رَدَّ الْوَدِيعَةَ لَا يَبْرَأُ عَنِ الضَّمَانِ مَا لَمْ تَصِلْ إِلَى يَدِ صَاحِبِهَا.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ صَاحِبَهَا إِنَّمَا يَحْفَظُ الدَّابَّةَ بِسَائِسِهَا.وَلَوْ دَفَعَ الْمُسْتَعِيرُ الدَّابَّةَ إِلَى مَالِكِهَا فَهَذَا يَدْفَعُهَا إِلَى السَّائِسِ، فَكَذَلِكَ إِذَا رَدَّهَا عَلَى السَّائِسِ.وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ أَنَّ صَاحِبَ الدَّابَّةِ يَأْمُرُ السَّائِسَ بِدَفْعِهَا إِلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَبِاسْتِرْدَادِهَا مِنْهُ إِذَا فَرَغَتْ، فَيَصِيرُ مَأْذُونًا فِي دَفْعِهَا إِلَيْهِ دَلَالَةً.وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُعَارِ النَّفِيسِ، إِذْ فِيهِ لَا بُدَّ مِنَ التَّسْلِيمِ لِلْمَالِكِ، وَإِلاَّ لَمْ يَبْرَأْ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ الرَّدُّ إِلَى الْحَاكِمِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْمُعِيرِ أَوِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ، فَلَوْ رَدَّ الدَّابَّةَ إِلَى الْإِسْطَبْلِ، وَالثَّوْبَ وَنَحْوَهُ لِلْبَيْتِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ لَمْ يَبْرَأْ، إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ بِهِ الْمَالِكُ أَوْ يُخْبِرَهُ بِهِ ثِقَةٌ.

وَكَذَلِكَ لَا يَبْرَأُ عِنْدَهُمْ بِالرَّدِّ إِلَى وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ، حَتَّى وَلَوْ لَمْ يَجِدِ الْمَالِكَ أَوْ وَكِيلَهُ، بَلْ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا بِالرَّدِّ إِلَيْهَا، فَإِنْ أَرْسَلَاهَا إِلَى الْمَرْعَى وَتَلِفَتْ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا، لِحُصُولِ التَّلَفِ فِي يَدِهِمَا، حَتَّى لَوْ غَرِمَا لَمْ يَرْجِعَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَلَوْ غَرِمَ الْمُسْتَعِيرُ رَجَعَ عَلَيْهِمَا. وَالْحَنَابِلَةُ كَالشَّافِعِيَّةِ فِي أَنَّهُ إِذَا رَدَّهَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ، أَوْ إِلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا لَمْ يَبْرَأْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّهَا إِلَى مَالِكِهَا وَلَا نَائِبِهِ فِيهَا، كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إِلَى أَجْنَبِيٍّ.

وَإِنْ رَدَّهَا إِلَى مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِحُصُولِ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْهِ، كَزَوْجَتِهِ الْمُتَصَرِّفَةِ فِي مَالِهِ، أَوْ رَدِّ الدَّابَّةِ إِلَى سَائِسِهَا، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَبْرَأُ، قَالَهُ الْقَاضِي.وَقَاسَ ذَلِكَ عَلَى الْوَدِيعَةِ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيهَا: إِذَا سَلَّمَهَا الْمُودَعُ إِلَى امْرَأَتِهِ لَمْ يَضْمَنْهَا، لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي ذَلِكَ عُرْفًا أَشْبَهَ مَا لَوْ أَذِنَ فِيهِ نُطْقًا.

مَا تَنْتَهِي بِهِ الْإِعَارَةُ:

23- تَنْتَهِي الْإِعَارَةُ بِأَحَدِ الْأَسْبَابِ الْآتِيَةِ:

(1) انْتِهَاءُ الْمُدَّةِ فِي الْإِعَارَةِ الْمُؤَقَّتَةِ.

(2) رُجُوعُ الْمُعِيرِ فِي الْحَالَاتِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الرُّجُوعُ.

(3) جُنُونُ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.

(4) الْحَجْرُ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ.

(5) مَوْتُ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.

(6) هَلَاكُ الْعَيْنِ الْمُعَارَةِ.

(7) اسْتِحْقَاقُهَا لِلْغَيْرِ. اسْتِحْقَاقُ الْعَارِيَّةِ، وَتَلَفُ الْمُسْتَعَارِ الْمُسْتَحَقِّ، وَنُقْصَانُهُ:

24- يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي رُجُوعِ الْمُسْتَحِقِّ عَلَى الْمُعِيرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ عِنْدَ تَلَفِ الْمُسْتَعَارِ الْمُسْتَحَقِّ أَوْ نُقْصَانِهِ، وَفِيمَنْ يَكُونُ عَلَيْهِ قَرَارُ الضَّمَانِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ رَأْيَانِ:

الْأَوَّلُ: يَرْجِعُ الْمُسْتَحِقُّ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُعِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.

وَقَدْ عَلَّلَ الْحَنَفِيَّةُ لِذَلِكَ بِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّهَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ، وَالْمُعِيرُ غَيْرُ عَامِلٍ لَهُ، فَلَا يَسْتَحِقُّ السَّلَامَةَ، وَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْغُرُورُ.

الثَّانِي: الرُّجُوعُ عَلَى الْمُعِيرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَالرُّجُوعُ عَلَى الْمُعِيرِ لِتَعَدِّيهِ بِالدَّفْعِ لِلْغَيْرِ، وَأَمَّا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ فَلِقَبْضِهِ مَالَ غَيْرِهِ- وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ- بِغَيْرِ إِذْنِهِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ قَرَارُ الضَّمَانِ، فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ رَجَعَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى مَنْ أَعَارَهُ، لِأَنَّ التَّلَفَ أَوِ النَّقْصَ كَانَ مِنْ فِعْلِهِ، وَلَمْ يَغُرَّ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فَيَرْجِعُ بِهِ، وَإِنْ ضَمِنَهُ الْمُعِيرُ فَمَنِ اعْتَبَرَ الْعَارِيَّةَ مَضْمُونَةً قَالَ: لِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، لِأَنَّهُ كَانَ ضَامِنًا، وَمَنِ اعْتَبَرَ الْعَارِيَّةَ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ رَجَعَ عَلَى الْمُعِيرِ بِمَا غَرِمَ، لِأَنَّهُ غَرَّهُ وَغَرِمَهُ، مَا لَمْ يَكُنِ الْمُسْتَعِيرُ عَالِمًا بِالْحَالِ فَيَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمَالِكُ الْمُعِيرَ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَى أَحَدٍ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُسْتَعِيرُ عَالِمًا، وَإِلاَّ رَجَعَ عَلَيْهِ.

أَثَرُ اسْتِحْقَاقِ الْعَارِيَّةِ عَلَى الِانْتِفَاعِ:

25- صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِذَا اسْتَعَارَ شَخْصٌ شَيْئًا فَانْتَفَعَ بِهِ ثُمَّ ظَهَرَ مُسْتَحَقًّا، فَلِمَالِكِهِ أَجْرُ مِثْلِهِ، يُطَالِبُ بِهِ الْمُعِيرَ أَوِ الْمُسْتَعِيرَ.فَإِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ رَجَعَ عَلَى الْمُعِيرِ بِمَا غَرِمَ، لِأَنَّهُ غَرَّهُ وَغَرِمَهُ، لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ اسْتَعَارَ عَلَى أَلاَّ أَجْرَ عَلَيْهِ.وَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْمُعِيرِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ.وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى لَا تَأْبَى ذَلِكَ.

الْوَصِيَّةُ بِالْإِعَارَةِ:

26- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ بِالْإِعَارَةِ إِذَا خَرَجَ مُقَابِلُ الْمَنْفَعَةِ مِنَ الثُّلُثِ بِاعْتِبَارِهَا وَصِيَّةً بِالْمَنْفَعَةِ.وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


13-موسوعة الفقه الكويتية (إعذار 1)

إِعْذَارٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الْإِعْذَارِ لُغَةً: الْمُبَالَغَةُ، يُقَالُ: أَعْذَرَ فِي الْأَمْرِ، إِذَا بَالَغَ فِيهِ، وَفِي الْمَثَلِ: أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ، يُقَالُ ذَلِكَ لِمَنْ يَحْذَرُ أَمْرًا يُخَافُ، سَوَاءٌ حَذَّرَ أَمْ لَمْ يُحَذِّرْ، وَأَعْذَرَ أَيْضًا: صَارَ ذَا عُذْرٍ، قِيلَ: وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ.وَعَذَرْتُ الْغُلَامَ وَالْجَارِيَةَ عُذْرًا: خَتَنْتُهُ فَهُوَ مَعْذُورٌ، وَأَعْذَرْتُهُ لُغَةً فِيهِ، وَالْإِعْذَارُ أَيْضًا: طَعَامٌ يُتَّخَذُ لِسُرُورٍ حَادِثٍ، وَيُقَالُ: هُوَ طَعَامُ الْخِتَانِ خَاصَّةً، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُسَمًّى بِهِ، يُقَالُ: أَعْذَرَ إِعْذَارًا: إِذَا صَنَعَ ذَلِكَ الطَّعَامَ.

وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَاهُ فِي الِاصْطِلَاحِ عَنِ الْمَعَانِي السَّابِقَةِ.

قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَالْإِعْذَارُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الْعُذْرِ، وَمِنْهُ أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ، أَيْ قَدْ بَالَغَ فِي الْإِعْذَارِ مَنْ تَقَدَّمَ إِلَيْكَ فَأَنْذَرَكَ، وَمِنْهُ إِعْذَارُ الْقَاضِي إِلَى مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ حَقٌّ يُؤْخَذُ مِنْهُ، فَيُعْذِرُ إِلَيْهِ فِيمَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْإِنْذَارُ:

2- الْإِنْذَارُ: الْإِبْلَاغُ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي التَّخْوِيفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} أَيْ خَوِّفْهُمْ عَذَابَ هَذَا الْيَوْمِ.فَيَجْتَمِعُ مَعَ الْإِعْذَارِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إِبْلَاغٌ مَعَ تَخْوِيفٍ إِلاَّ أَنَّ فِي الْإِعْذَارِ الْمُبَالَغَةَ.

ب- الْإِعْلَامُ:

3- الْإِعْلَامُ: مَصْدَرُ أَعْلَمَ.يُقَالُ أَعْلَمْتُهُ الْخَبَرَ: أَيْ عَرَّفْتُهُ إِيَّاهُ، فَهُوَ يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِعْذَارِ فِي أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَعْرِيفًا، إِلاَّ أَنَّ فِي الْإِعْذَارِ الْمُبَالَغَةَ.

ج- الْإِبْلَاغُ:

4- الْإِبْلَاغُ: مَصْدَرُ أَبْلَغَ، وَالِاسْمُ مِنْهُ الْبَلَاغُ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْإِيصَالِ.يُقَالُ: أَبْلَغْتُهُ السَّلَامَ: أَيْ أَوْصَلْتُهُ إِيَّاهُ.فَهُوَ يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِعْذَارِ فِي أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إِيصَالًا لِمَا يُرَادُ، لَكِنَّ الْإِعْذَارَ يَنْفَرِدُ بِالْمُبَالَغَةِ.

د- التَّحْذِيرُ:

5- التَّحْذِيرُ: التَّخْوِيفُ مِنْ فِعْلِ الشَّيْءِ.يُقَالُ: حَذَّرْتُهُ الشَّيْءَ فَحَذِرَهُ: إِذَا خَوَّفْتُهُ فَخَافَهُ، فَهُوَ يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِعْذَارِ فِي التَّخْوِيفِ، وَيَنْفَرِدُ الْإِعْذَارُ بِأَنَّهُ لِقَطْعِ الْعُذْرِ.

هـ- الْإِمْهَالُ:

6- الْإِمْهَالُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَمْهَلَ، وَهُوَ التَّأْخِيرُ.وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَاهُ فِي الِاصْطِلَاحِ عَنْ ذَلِكَ.وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِعْذَارِ: أَنَّ الْإِعْذَارَ قَدْ يَكُونُ مَعَ ضَرْبِ مُدَّةٍ وَقَدْ لَا يَكُونُ.وَالْإِمْهَالُ لَا يَكُونُ إِلاَّ مَعَ ضَرْبِ مُدَّةٍ.كَمَا أَنَّ الْإِمْهَالَ لَا تُلَاحَظُ فِيهِ الْمُبَالَغَةُ-

و- التَّلَوُّمُ:

7- التَّلَوُّمُ لُغَةً: الِانْتِظَارُ وَالتَّمَكُّثُ، وَالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ، إِذْ يُرَادُ بِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَدَمُ الْفَوْرِيَّةِ فِي الْأَمْرِ، بَلْ يُطْلَقُ الِانْتِظَارُ فِي كُلِّ أَمْرٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ.

وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَحْثِ خَاصٌّ بِالْإِعْذَارِ بِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي قَطْعِ الْعُذْرِ.أَمَّا بِمَعْنَى الْخِتَانِ أَوِ الطَّعَامِ الْمَصْنُوعِ لِسُرُورٍ حَادِثٍ فَيُنْظَرُ الْكَلَامُ فِيهِمَا تَحْتَ عِنْوَانَيْ: (خِتَانٌ، وَوَلِيمَةٌ).

حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:

8- مَوَاطِنُ الْإِعْذَارِ مُتَعَدِّدَةٌ، وَلَيْسَ لَهَا حُكْمٌ وَاحِدٌ يَجْمَعُهَا، لَكِنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ مَطْلُوبٌ، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِحَسَبِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَرَاهُ وَاجِبًا فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَاهُ مُسْتَحَبًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ عَلَى نَحْوِ مَا يَأْتِي.

دَلِيلُ الْمَشْرُوعِيَّةِ:

9- الْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْإِعْذَارِ قوله تعالى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وقوله تعالى فِي سُورَةِ النَّمْلِ فِي قِصَّةِ الْهُدْهُدِ: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأُولَى: أَنَّ اللَّهَ لَا يُهْلِكُ أُمَّةً بِعَذَابٍ إِلاَّ بَعْدَ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِمْ وَالْإِنْذَارِ، وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْعَذَابِ.

وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالثَّانِيَةِ: أَنَّ فِيهَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَ عُذْرَ رَعِيَّتِهِ، وَيَدْرَأَ الْعُقُوبَةَ عَنْهُمْ فِي ظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ بِبَاطِنِ أَعْذَارِهِمْ، لِأَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يُعَاقِبِ الْهُدْهُدَ حِينَ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ.

الْإِعْذَارُ فِي الرِّدَّةِ (الِاسْتِتَابَةُ):

10- (الرِّدَّةُ): الرُّجُوعُ عَنِ الْإِسْلَامِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِيمَا يَكُونُ رِدَّةً أَوْ لَا يَكُونُ، يُنْظَرُ تَحْتَ عِنْوَانَيْ: (إِسْلَامٌ، رِدَّةٌ).

حُكْمُ الْإِعْذَارِ إِلَى الْمُرْتَدِّ:

11- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ اسْتِتَابَةَ الْمُرْتَدِّ مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً، فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مَنِ ارْتَدَّ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ اسْتِحْبَابًا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَتُكْشَفُ شُبْهَتُهُ وَيُحْبَسُ وُجُوبًا، وَقِيلَ: نَدْبًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا إِنْ طَلَبَ الْمُهْلَةَ لِيَتَفَكَّرَ، فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ مُهْلَةً بَعْدَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ وَكَشْفِ شُبْهَتِهِ قُتِلَ مِنْ سَاعَتِهِ، إِلاَّ إِذَا رُجِيَ إِسْلَامُهُ فَإِنَّهُ يُمْهَلُ، قِيلَ: وُجُوبًا، وَقِيلَ: اسْتِحْبَابًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ.

وَإِذَا ارْتَدَّ ثَانِيًا ثُمَّ تَابَ ضَرَبَهُ الْإِمَامُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَإِنِ ارْتَدَّ ثَالِثًا ضَرَبَهُ الْإِمَامُ ضَرْبًا وَجِيعًا وَحَبَسَهُ حَتَّى تَظْهَرَ عَلَيْهِ آثَارُ التَّوْبَةِ، وَيَرَى أَنَّهُ مُخْلِصٌ ثُمَّ يُخَلِّي سَبِيلَهُ، فَإِنْ عَادَ فُعِلَ بِهِ هَكَذَا.

لَكِنْ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ آخَرِ حُدُودِ الْخَانِيَّةِ مَعْزِيًّا لِلْبَلْخِيِّ مَا يُفِيدُ قَتْلَهُ بِلَا اسْتِتَابَةٍ، لِحَدِيثِ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»، وَكُرِهَ تَنْزِيهًا قَتْلُهُ قَبْلَ الْعَرْضِ عَلَيْهِ، فَإِنْ قَتَلَهُ قَبْلَ الْعَرْضِ فَلَا ضَمَانَ، لِأَنَّ الْكُفْرَ مُبِيحٌ لِلدَّمِ.

وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ وُجُوبِ الِاسْتِتَابَةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وَلَمْ يَذْكُرِ اسْتِتَابَتَهُ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يُسْتَتَابَ وُجُوبًا، وَمُدَّةُ الِاسْتِتَابَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا، وَفِي قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، أَنَّهُ يُسْتَتَابُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَالْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ، هِيَ مِنْ يَوْمِ الثُّبُوتِ لَا مِنْ يَوْمِ الْكُفْرِ، وَلَا يُحْسَبُ يَوْمُ الرَّفْعِ إِلَى الْحَاكِمِ، وَلَا يَوْمُ الثُّبُوتِ إِنْ كَانَ الثُّبُوتُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلَا يُعَاقَبُ بِجُوعٍ وَلَا عَطَشٍ وَلَا بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِقَابِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ بِالتَّوْبَةِ فَإِنْ تَابَ تُرِكَ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ فِي الْحَالِ بِلَا اسْتِتَابَةٍ.

دَلِيلُ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ:

12- احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الِاسْتِتَابَةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ أَنْ يُسْتَتَابَ الْمُرْتَدُّ، وَبِمَا رَوَى الْإِمَامُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِيَّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: هَلْ مِنْ مُغْرِبَةِ خَبَرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ.رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، فَقَالَ: مَا فَعَلْتُمْ بِهِ؟ قَالَ: قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ.فَقَالَ عُمَرُ: فَهَلاَّ حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا، فَأَطْعَمْتُمُوهُ رَغِيفًا كُلَّ يَوْمٍ وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ أَوْ يُرَاجِعُ أَمْرَ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَحْضُرْ، وَلَمْ أَرْضَ إِذْ بَلَغَنِي.

وَلَوْ لَمْ تَجِبِ اسْتِتَابَتُهُ لَمَا بَرِئَ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَ اسْتِصْلَاحُهُ فَلَمْ يَجُزْ إِتْلَافُهُ قَبْلَ اسْتِصْلَاحِهِ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ، وَأَمَّا الْأَمْرُ بِقَتْلِهِ فِي قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ».فَالْمُرَادُ بِهِ قَتْلُهُ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ.

الْإِعْذَارُ إِلَى الْمُرْتَدَّةِ:

13- مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ أَوِ الْمُرْتَدَّةِ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ إِنْ لَمْ يَرْجِعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ فِي وُجُوبِ الْإِعْذَارِ أَوِ اسْتِحْبَابِهِ.رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهما-، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَمَكْحُولٌ وَحَمَّادٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّهَا تُسْتَرَقُّ وَلَا تُقْتَلُ، لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَرَقَّ نِسَاءَ بَنِي حَنِيفَةَ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ وَلَا تُقْتَلُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَقْتُلُوا امْرَأَةً» وَلِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ بِالْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ فَلَا تُقْتَلُ بِالطَّارِئِ.

وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ إِذْ قَالُوا: إِنَّهَا تُقْتَلُ إِنْ لَمْ تَرْجِعْ إِلَى الْإِسْلَامِ، لَكِنْ تُسْتَبْرَأُ قَبْلَ الْقَتْلِ بِحَيْضَةٍ، خَشْيَةَ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا، فَإِنْ حَاضَتْ أَيَّامَ الِاسْتِتَابَةِ انْتُظِرَ تَمَامُهَا فَيُنْتَظَرُ أَقْصَرُ الْأَجَلَيْنِ، فَإِنْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ أُخِّرَتْ حَتَّى تَضَعَ.

وَمُقْتَضَى مَا ذُكِرَ أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُسْتَتَابُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ رَجَعَتْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَإِلاَّ قُتِلَتْ، وَأَنَّ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ جَبْرُهَا عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ.

الْإِعْذَارُ فِي الْجِهَادِ:

14- الْحَرْبِيُّونَ هُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ بِبِلَادِ الْكُفْرِ، وَلَا صُلْحَ لَهُمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ.فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يُحَارَبُونَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}.وَشَرْطُ مُحَارَبَتِهِمْ بُلُوغُ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِمْ فَلَا تَجُوزُ مُحَارَبَتُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَمْرٌ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}

وَلَكِنْ هَلْ يَجِبُ تَكْرَارُ دَعْوَتُهُمْ إِذَا تَكَرَّرَتْ مُحَارَبَتُهُمْ؟ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَكْرَارُ دَعْوَتِهِمْ، بَلْ يُسْتَحَبُّ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَى الْغُزَاةِ الِافْتِتَاحُ بِهِ حَالَةَ الْوَقْعَةِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ، فَإِنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ قَدْ بَلَغَتْهُمْ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ، فَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَةُ لَمْ تَبْلُغْهُمْ فَعَلَيْهِمُ الِافْتِتَاحُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِاللِّسَانِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {اُدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وَلَا يَجُوزُ لَهُمُ الْقِتَالُ قَبْلَ الدَّعْوَةِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ، فَاسْتَحَقُّوا الْقَتْلَ بِالِامْتِنَاعِ، لَكِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَرَّمَ قِتَالَهُمْ قَبْلَ بَعْثِ الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام-، وَبُلُوغِ الدَّعْوَةِ إِيَّاهُمْ فَضْلًا مِنْهُ وَمِنَّةً، قَطْعًا لِمَعْذِرَتِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ، لَمَّا أَقَامَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي لَوْ تَأَمَّلُوهَا حَقَّ التَّأَمُّلِ وَنَظَرُوا فِيهَا لَعَرَفُوا حَقَّ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِمْ، لَكِنْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ ( ( ( (، لِئَلاَّ يَبْقَى لَهُمْ شُبْهَةُ عُذْرٍ فَيَقُولُونَ: {رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلِأَنَّ الْقِتَالَ مَا فُرِضَ لِعَيْنِهِ، بَلْ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ.

وَالدَّعْوَةُ دَعْوَتَانِ: دَعْوَةُ بِالْبَنَانِ وَهِيَ الْقِتَالُ، وَدَعْوَةُ بِالْبَيَانِ وَهِيَ اللِّسَانُ، وَذَلِكَ بِالتَّبْلِيغِ، وَالثَّانِيَةُ أَهْوَنُ مِنَ الْأُولَى، لِأَنَّ فِي الْقِتَالِ مُخَاطَرَةَ الرُّوحِ وَالنَّفْسِ وَالْمَالِ، وَلَيْسَ فِي دَعْوَةِ التَّبْلِيغِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا احْتَمَلَ حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِأَهْوَنِ الدَّعْوَتَيْنِ لَزِمَ الِافْتِتَاحُ بِهَا، هَذَا إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَةُ لَمْ تَبْلُغْهُمْ.فَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ جَازَ لَهُمْ أَنْ يَفْتَتِحُوا الْقِتَالَ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحُجَّةَ لَازِمَةٌ، وَالْعُذْرُ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْقَطِعٌ، وَشُبْهَةُ الْعُذْرِ انْقَطَعَتْ بِالتَّبْلِيغِ مَرَّةً، لَكِنْ مَعَ هَذَا الْأَفْضَلُ أَلاَّ يَفْتَتِحُوا الْقِتَالَ إِلاَّ بَعْدَ تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ لِرَجَاءِ الْإِجَابَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَكُنْ يُقَاتِلُ الْكَفَرَةَ حَتَّى يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ.فِيمَا كَانَ دَعَاهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ.دَلَّ أَنَّ الِافْتِتَاحَ بِتَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ أَفْضَلُ، ثُمَّ إِذَا دَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَسْلَمُوا كَفُّوا عَنْهُمُ الْقِتَالَ، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا» وَقَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام- «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي دَمَهُ وَمَالَهُ» فَإِنْ أَبَوِا الْإِجَابَةَ إِلَى الْإِسْلَامِ دَعَوْهُمْ إِلَى الذِّمَّةِ إِلاَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ (لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلاَّ الْإِسْلَامُ) فَإِنْ أَجَابُوا كَفُّوا عَنْهُمْ، وَإِنْ أَبَوْا اسْتَعَانُوا بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى قِتَالِهِمْ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّهُمْ يُدْعَوْنَ وُجُوبًا سَوَاءٌ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ أَمْ لَا، مَا لَمْ يُعَاجِلُونَا بِالْقِتَالِ أَوْ يَكُونُ الْجَيْشُ قَلِيلًا، قَالُوا: وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَانَتْ إِغَارَةُ سَرَايَاهُ- عليه الصلاة والسلام-.

وَلِلْحَنَابِلَةِ تَفْصِيلٌ بَيَّنَهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِقَوْلِهِ: أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسُ لَا يُدْعَوْنَ قَبْلَ الْقِتَالِ، لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قَدِ انْتَشَرَتْ وَعَمَّتْ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ إِلاَّ نَادِرًا بَعِيدًا.وَأَمَّا عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ فَإِنَّ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ مِنْهُمْ لَا يُدْعَوْنَ، وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ دُعِيَ قَبْلَ الْقِتَالِ، قَالَ أَحْمَدُ: كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَدْعُو إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُحَارِبَ حَتَّى أَظْهَرَ اللَّهُ الدِّينَ وَعَلَا الْإِسْلَامُ، وَلَا أَعْرِفُ الْيَوْمَ أَحَدًا يُدْعَى، قَدْ بَلَغَتِ الدَّعْوَةُ كُلَّ أَحَدٍ، فَالرُّومُ قَدْ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ وَعَلِمُوا مَا يُرَادُ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الدَّعْوَةُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ دَعَا فَلَا بَأْسَ. الْإِعْذَارُ إِلَى الْبُغَاةِ:

15- الْبُغَاةُ: هُمُ الْخَارِجُونَ عَلَى الْإِمَامِ الْحَقِّ بِتَأْوِيلٍ، وَلَهُمْ مَنَعَةٌ.وَقَدِ اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمُ الْإِمَامُ أَمِينًا فَطِنًا نَاصِحًا يَسْأَلُهُمْ مَا يَنْقِمُونَ، فَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلَمَةً أَوْ شُبْهَةً أَزَالَهَا، فَإِنْ أَصَرُّوا بَعْدَ الْإِعْذَارِ نَصَحَهُمْ، بِأَنْ يَعِظَهُمْ وَيَأْمُرَهُمْ بِالْعَوْدَةِ إِلَى طَاعَتِهِ، فَإِنِ اسْتَمْهَلُوهُ اجْتَهَدَ فِي الْإِمْهَالِ، وَفَعَلَ مَا رَآهُ صَوَابًا.

وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يُعَاجِلُوا بِالْقِتَالِ، فَإِنْ عَاجَلُوا قُوتِلُوا.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ دَعْوَتَهُمْ إِلَى طَاعَةِ الْإِمَامِ وَكَشْفَ شُبْهَتِهِمْ أَمْرٌ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ وَاجِبًا، وَلَوْ قَاتَلَهُمْ بِلَا دَعْوَةٍ جَازَ.

الْإِعْذَارُ فِي الدَّعْوَى:

16- الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ كُلُّ مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ حَقٌّ، إِمَّا بِإِقْرَارٍ، إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَصِحُّ إِمْرَارُهُ، وَإِمَّا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ عَجْزِهِ عَنْ دَفْعِ الدَّعْوَى وَبَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِ قَبْلَ الْحُكْمِ، وَإِمَّا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِ الِاسْتِبْرَاءِ، إِنْ كَانَ الْحَقُّ عَلَى مَيِّتٍ أَوْ عَلَى غَائِبٍ، وَإِمَّا بِلَدَدِهِ وَتَغَيُّبِهِ عَنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَقِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَإِمَّا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ وَلَدَدِهِ عَنِ الْجَوَابِ عَنِ الدَّعْوَى.

وَالْمَقْضِيُّ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعٌ: مِنْهُمُ الْحَاضِرُ الْمَالِكُ أَمْرَهُ، وَمِنْهُمُ الْغَائِبُ الصَّغِيرُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمُ السَّفِيهُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَمِنْهُمُ الْوَرَثَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ فِي مَالِ الْمَيِّتِ وَفِيهِمُ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ.

فَإِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَاضِرًا بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَادُّعِيَتِ الدَّعْوَى وَكَانَتْ مُسْتَوْفِيَةَ الشُّرُوطِ، طَلَبَ الْقَاضِي مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْجَوَابَ عَنْهَا، وَسَارَ الْقَاضِي فِيهَا حَسْبَمَا هُوَ مُدَوَّنٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ.

فَإِنْ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْحَقِّ الْمُدَّعَى، فَهَلْ يَحْكُمُ الْقَاضِي بِمُقْتَضَى الْإِقْرَارِ حَالًا، أَوْ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ إِجْرَاءً آخَرَ جَائِزًا أَوْ وَاجِبًا؟

قَالَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ: يُقْضَى عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ آخَرَ كَالْإِعْذَارِ وَنَحْوِهِ.

وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لَا بُدَّ لِلْحُكْمِ بِمُقْتَضَى الْإِقْرَارِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْإِقْرَارِ شَاهِدَانِ.

وَفِي الْمَذَاهِبِ تَفْصِيلَاتٌ فِي الْإِعْذَارِ إِلَى الْغَائِبِ عَنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، فِي حُكْمِ الْإِعْذَارِ وَفِي وَقْتِهِ، وَفِي الْمَسَافَةِ الَّتِي يُعْذَرُ إِلَيْهِ فِيهَا، وَفِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي يَمْتَنِعُ الْإِعْذَارُ إِلَيْهِ.

وَفُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ عَنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ إِلاَّ بَعْدَ الْإِعْذَارِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُقْضَى عَلَيْهِ.وَتَخْتَلِفُ الْمَذَاهِبُ فِي زَمَنِ الْإِعْذَارِ وَكَيْفِيَّتِهِ.

مَا يَسْقُطُ بِهِ الْإِعْذَارُ:

17- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: كُلُّ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِحَقٍّ مِنْ مُعَامَلَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، أَوْ دَعْوَى بِفَسَادٍ أَوْ تَعَدٍّ أَوْ غَصْبٍ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِ قَبْلَ الْحُكْمِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ الظَّاهِرِ، أَوْ مِنَ الزَّنَادِقَةِ الْمَشْهُورِينَ بِمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ، فَلَا يُعْذَرُ إِلَيْهِمْ فِيمَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِمْ.كَمَا حَدَثَ بِالنِّسْبَةِ لِأَبِي الْخَيْرِ الزِّنْدِيقِ، لَمَّا شَهِدَ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَاهِدًا أَمَامَ قَاضِي الْجَمَاعَةِ مُنْذِرِ بْنِ سَعِيدٍ بِأَنَّهُ يُصَرِّحُ بِالْكُفْرِ وَالِانْسِلَاخِ مِنَ الْإِيمَانِ، فَأَشَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنْ يُعْذَرَ إِلَيْهِ فِيمَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ، وَأَشَارَ قَاضِي الْجَمَاعَةِ وَبَعْضٌ آخَرُ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهُ يُقْتَلُ بِغَيْرِ إِعْذَارٍ، لِأَنَّهُ مُلْحِدٌ كَافِرٌ، وَقَدْ وَجَبَ قَتْلُهُ بِدُونِ مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ فَقُتِلَ بِغَيْرِ إِعْذَارٍ، فَقِيلَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَذْكُرَ لَهُمْ وَجْهَ الْحُكْمِ، فَذُكِرَ أَنَّ الَّذِي اعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي الْفُتْيَا بِالْقَتْلِ بِدُونِ إِعْذَارٍ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ قَطْعُ الْإِعْذَارِ عَمَّنِ اسْتَفَاضَتْ عَلَيْهِ الشَّهَادَاتُ فِي الظُّلْمِ، وَعَلَى مَذْهَبِهِ فِي السَّلاَّبَةِ وَالْمُغَيِّرِينَ وَأَشْبَاهِهِمْ، إِذَا شَهِدَ عَلَيْهِمُ الْمَسْلُوبُونَ وَالْمُنْتَهَبُونَ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهِمْ- إِذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ- بِدُونِ إِعْذَارٍ.وَكَذَلِكَ لَا يُعْذَرُ فِي مِثْلِ رَجُلٍ يَتَعَلَّقُ بِرَجُلٍ، وَجُرْحُهُ يُدْمِي، فَيُصَدَّقُ بِقَوْلِهِ.وَفِي الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالرَّجُلِ فِي الْمَكَانِ الْخَالِي وَقَدْ فَضَحَتْ نَفْسَهَا بِإِصَابَتِهِ لَهَا، فَتُصَدَّقُ بِفَضِيحَةِ نَفْسِهَا.وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ» وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ وَلَا إِعْذَارَ فِيهِ.وَكَذَلِكَ كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَإِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ- رضي الله عنهم-، وَهُمَا أَيْضًا مَلَاذُ الْحُكَّامِ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَا إِعْذَارَ مِنْهُمَا وَلَا إِقَالَةَ مِنْ حُجَّةٍ وَلَا كَلِمَةٍ، غَيْرَ أَنَّ الْإِعْذَارَ فِيمَا يَتَحَاكَمُ فِيهِ النَّاسُ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِ الدِّيَانَاتِ اسْتِحْسَانٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، فَأَمَّا فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي الْإِلْحَادِ وَالزَّنْدَقَةِ وَتَكْذِيبِ الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام- فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ عِنْدَهُمْ.قَالُوا: وَمَا يَمْتَنِعُ فِيهِ الْإِعْذَارُ كَثِيرٌ وَلَمْ يُعْثَرْ عَلَى أَقْوَالٍ فِي الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى فِي مِثْلِ هَذَا.

التَّأْجِيلُ فِي الْإِعْذَارِ:

18- الْإِعْذَارُ يَكُونُ إِلَى الْمُدَّعِي، فَيَقُولُ لَهُ الْقَاضِي: أَبَقِيَتْ لَكَ حَجَّةٌ؟ وَقَدْ يَكُونُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَسْأَلُهُ الْقَاضِي: أَلَكَ دَفْعٌ فِيمَا ادَّعَى بِهِ عَلَيْكَ؟ فَإِذَا أَعْذَرَ الْقَاضِي إِلَى مَنْ تَوَجَّهَ الْإِعْذَارُ إِلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُدَّعِيًا أَمْ مُدَّعًى عَلَيْهِ.وَقَالَ: نَعَمْ، وَسَأَلَهُ التَّأْجِيلَ، ضَرَبَ لَهُ أَجَلًا بِحَسَبِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ حَسَبَ اجْتِهَادِهِ فِي بُلُوغِ مَنْ أُجِّلَ لَهُ الْوُصُولُ إِلَى قَصْدِهِ بِغَيْرِ إِضْرَارٍ بِخَصْمِهِ، فَإِنْ كَانَ التَّأْجِيلُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَتَى بِدَفْعٍ فِيمَا شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ، وَسَأَلَ الْمُدَّعِي التَّأْجِيلَ أَيْضًا، وَزَعَمَ أَنَّ لَهُ دَفْعًا فِيمَا جَاءَ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ضَرَبَ لَهُ أَجَلًا أَيْضًا، وَتَلَوَّمَ عَلَيْهِ (انْتَظَرَ) حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْحَقُّ، وَيَظْهَرَ عَجْزُ أَحَدِهِمَا، فَيُقْضَى عَلَى نَحْوِ مَا ثَبَتَ.وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ.

آجَالٌ مُقَدَّرَةٌ مِنَ الشَّارِعِ:

19- هُنَاكَ آجَالٌ لَا يَدْخُلُهَا اجْتِهَادُ الْحَاكِمِ، بَلْ هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ لِأَجْلِ الْإِعْذَارِ، مِنْهَا: تَأْجِيلُ الْعِنِّينِ، وَسَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي (أَجَلٌ) وَيَأْتِي فِي (عُنَّةٌ).

إِعْذَارُ الْمُولِي:

20- فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، عَرَّفُوا الْإِيلَاءَ بِأَنَّهُ: الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ الزَّوْجِ وَطْءَ زَوْجَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.

وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ وَطْءِ الزَّوْجَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ، فَالْخِلَافُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ فِي أَقَلِّ الْمُدَّةِ الَّتِي يَحْلِفُ عَلَى التَّرْكِ فِيهَا، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَالْإِعْذَارُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمُولِي يَقِفُهُ (يُحْضِرُهُ) الْقَاضِي بَعْدَ تَمَامِ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ، إِذَا رَافَعَتْهُ امْرَأَتُهُ فَيَأْمُرُهُ بِالْفَيْئَةِ، فَإِنْ أَبَى أَمَرَهُ بِالطَّلَاقِ، وَلَا تَطْلُقُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَهَذَا هُوَ رَأْيُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةَ وَمُجَاهِدٍ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَقْرَبْهَا، فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِنْشَاءِ تَطْلِيقٍ، أَوِ الْحُكْمِ بِالتَّفْرِيقِ.

وَالْمُرَادُ بِالْأَشْهُرِ الْأَشْهُرُ الْقَمَرِيَّةُ، وَتَبْدَأُ مِنْ تَارِيخِ الْحَلِفِ وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ.وَيُنْظَرُ أَيْضًا مُصْطَلَحُ (أَجَلٌ) وَمُصْطَلَحُ (إِيلَاءٌ).

إِعْذَارُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ:

21- الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي مَذْهَبَيِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، أَنَّ الزَّوْجَةَ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْوَطْءِ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً يَسْتَقِرُّ بِهَا الْمَهْرُ وَهَذَا فِي الْقَضَاءِ، وَأَمَّا دِيَانَةً فَلَهَا الْحَقُّ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مَرَّةً، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهَا أَجَلًا لِمَنْ آلَى مِنِ امْرَأَتِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْوَطْءَ وَاجِبٌ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ.وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: لَا يَجِبُ إِلاَّ أَنْ يَتْرُكَ لِلْإِضْرَارِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْمَوَّاقُ أَنَّ مَنْ وَاصَلَ الْعِبَادَةَ وَتَرَكَ الْوَطْءَ لَمْ يُنْهَ عَنْ تَبَتُّلِهِ، وَقِيلَ لَهُ: إِمَّا وَطِئْتَ أَوْ فَارَقْتَ.قَالَ مَالِكٌ: وَأَرَى أَنْ يُقْضَى بِذَلِكَ.قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: إِنْ كَانَ زَاهِدًا قَاضَتْهُ امْرَأَتُهُ، وَقِيلَ لَهُ: تَخْلُو مَعَهَا فِي كُلِّ أَرْبَعِ لَيَالٍ لَيْلَةً، وَهُوَ قَسْمُ الْمَرْأَةِ مَعَ ضَرَائِرِهَا، قَالَ خَلِيلٌ: بِلَا أَجَلٍ عَلَى الْأَصَحِّ.وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ يُضْرَبُ لَهُ أَجَلٌ بِمِقْدَارِ أَجَلِ الْإِيلَاءِ.

وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ (فِي حَادِثَةِ غَيْبَةِ أَحَدِ الْغُزَاةِ غَيْبَةً طَوِيلَةً عَنْ زَوْجَتِهِ) سَأَلَ حَفْصَةَ- زَوْجَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَمْ تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنِ النِّكَاحِ؟ فَقَالَتْ: أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَبَعْدَهَا يَفْنَى صَبْرُهَا أَوْ يَقِلُّ، فَنَادَى حِينَئِذٍ أَلاَّ تَزِيدَ غَزْوَةٌ عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَفِي حَاشِيَةِ سَعْدِي جَلَبِي: وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَهَا حَقًّا فِي الْجِمَاعِ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مَرَّةً لَا أَقَلَّ، يُؤَيِّدُهُ قِصَّةُ عُمَرَ- رضي الله عنه- حِينَ سَمِعَ مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ مَا سَمِعَ.

وَاسْتَدَلُّوا «بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ.صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ.فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا»

فَأَخْبَرَ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ عَلَيْهِ حَقًّا.وَقَدِ اشْتَهَرَتْ قِصَّةُ كَعْبِ بْنِ سُورٍ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ الزَّوْجَيْنِ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا، وَهُوَ مُفْضٍ إِلَى دَفْعِ ضَرَرِ الشَّهْوَةِ عَنِ الْمَرْأَةِ، كَإِفْضَائِهِ إِلَى دَفْعِ ذَلِكَ عَنِ الرَّجُلِ، فَيَجِبُ تَعْلِيلُهُ بِذَلِكَ، وَيَكُونُ النِّكَاحُ حَقًّا لَهُمَا جَمِيعًا.وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِيهِ حَقٌّ لَمَا وَجَبَ اسْتِئْذَانُهَا فِي الْعَزْلِ.

الْإِعْذَارُ إِلَى الْمُمْتَنِعِ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى زَوْجَتِهِ:

22- الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ الْإِنْفَاقَ عَلَى زَوْجَتِهِ مَتَى تَحَقَّقَتِ الشُّرُوطُ الْمُوجِبَةُ لِذَلِكَ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْإِنْفَاقِ فَفِي كُلِّ مَذْهَبٍ شُرُوطٌ وَتَفْصِيلَاتٌ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا طَلَبَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْقَاضِي أَنْ يَفْرِضَ لَهَا النَّفَقَةَ، فَفَرَضَ وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَأْمُرُهَا بِالِاسْتِدَانَةِ، ثُمَّ تَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا أَيْسَرَ، وَلَا يَحْبِسُهُ فِي النَّفَقَةِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُعْسِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْقَاضِي أَنَّهُ مُعْسِرٌ، وَسَأَلَتِ الْمَرْأَةُ حَبْسَهُ بِالنَّفَقَةِ، لَا يَحْبِسُهُ الْقَاضِي فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، وَلَكِنْ يَأْمُرُهُ بِالْإِنْفَاقِ وَيُعْذَرُ إِلَيْهِ، بِأَنْ يُخْبِرَهُ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ إِنْ لَمْ يُنْفِقْ.فَإِنْ عَادَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَبَسَهُ الْقَاضِي، وَكَذَا فِي دَيْنٍ آخَرَ غَيْرِ النَّفَقَةِ.وَإِذَا حَبَسَهُ الْقَاضِي شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ أَرْبَعَةً يُسْأَلُ عَنْهُ.وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ، بَلْ هُوَ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي، إِنْ كَانَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَضْجَرُ وَيُؤَدِّي الدَّيْنَ يُخَلَّى سَبِيلُهُ، وَلَا يُمْنَعُ الطَّالِبُ عَنْ مُلَازَمَتِهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ عَنِ التَّصَرُّفِ.وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا لَا يُخْرِجُهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ الدَّيْنَ وَالنَّفَقَةَ إِلاَّ بِرِضَى الطَّالِبِ.فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ أَخَذَ الْقَاضِي الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ مِنْ مَالِهِ، وَيُؤَدِّي مِنْهَا النَّفَقَةَ وَالدَّيْنَ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ لَوْ ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَكَذَا إِذَا ظَفِرَ بِطَعَامٍ فِي النَّفَقَةِ.وَالْعَجْزُ عَنِ الْإِنْفَاقِ لَا يُوجِبُ حَقَّ الْفِرَاقِ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ لِلزَّوْجَةِ الْفَسْخَ بِطَلْقَةٍ رَجْعِيَّةٍ، إِنْ عَجَزَ زَوْجُهَا عَنْ نَفَقَةٍ حَاضِرَةٍ، وَلَهَا أَنْ تَبْقَى مَعَهُ، وَإِنْ عَلِمَتْ فَقْرَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ.وَإِذَا أَرَادَتِ الْفَسْخَ رَفَعَتِ الْأَمْرَ لِلْحَاكِمِ فَيَأْمُرُهُ- إِنْ لَمْ يَثْبُتْ عُسْرُهُ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ تَصْدِيقِهَا بِالنَّفَقَةِ أَوِ الْكِسْوَةِ إِنْ شَكَتْ عَدَمَهَا، أَوِ الطَّلَاقَ- وَيَقُولُ لَهُ: إِمَّا أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهَا أَوْ تُطَلِّقَهَا.وَإِنْ أَثْبَتَ عُسْرَهُ ابْتِدَاءً، أَوْ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالطَّلَاقِ، تَصْبِرُ لَهُ بِالِاجْتِهَادِ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِيَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَزِيدَ فِي مُدَّةِ التَّلَوُّمِ إِنْ مَرِضَ أَوْ سُجِنَ بَعْدَ إِثْبَاتِ الْعُسْرِ، لَا فِي زَمَنِ إِثْبَاتِهِ، فَيُزَادُ بِقَدْرِ مَا يُرْجَى لَهُ شَيْءٌ، وَهَذَا إِذَا رُجِيَ بُرْؤُهُ مِنَ الْمَرَضِ وَخَلَاصُهُ مِنَ السِّجْنِ عَنْ قُرْبٍ، وَإِلاَّ طَلَّقَ عَلَيْهِ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ غِيَابُ الزَّوْجِ أَوْ حُضُورُهُ، وَالزَّوْجُ الْغَائِبُ الَّذِي يُتَلَوَّمُ لَهُ هُوَ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ مَا يُقَابِلُ النَّفَقَةَ، وَلَمْ يُعْلَمْ مَوْضِعُهُ، أَوْ زَادَتْ غَيْبَتُهُ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ.

وَأَمَّا قَرِيبُ الْغَيْبَةِ كَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنَّهُ يُرْسِلُ إِلَيْهِ الْحَاكِمُ، إِمَّا أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهَا أَوْ يُطَلِّقَ عَلَيْكَ.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ مِنَ الْإِنْفَاقِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا.

فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَعِنْدَهُمْ قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ لَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ حَاضِرًا كَانَ الزَّوْجُ أَوْ غَائِبًا، لِانْتِفَاءِ الْإِعْسَارِ الْمُوجِبِ لِلْفَسْخِ، وَهِيَ مُتَمَكِّنَةٌ مِنْ تَحْصِيلِ حَقِّهَا بِالرَّفْعِ إِلَى الْحَاكِمِ.وَالثَّانِي: أَنَّ لَهَا الْفَسْخَ لِتَضَرُّرِهَا بِالْمَنْعِ.

وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، فَإِنْ صَبَرَتْ، وَأَنْفَقَتْ مِنْ مَالِهَا أَوِ الْقَرْضِ صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَإِلاَّ فَلَهَا الْفَسْخُ فِي الْأَظْهَرِ، كَمَا تَفْسَخُ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ، بَلْ هَذَا أَوْلَى، لِأَنَّ الصَّبْرَ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِمْتَاعِ أَسْهَلُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى عَدَمِ النَّفَقَةِ، وَالثَّانِي: لَا فَسْخَ لَهَا لِأَنَّ الْمُعْسِرَ مُنْظَرٌ، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وَلَا فَسْخَ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَ قَاضٍ إِعْسَارُهُ بِالْإِقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ.

ثُمَّ فِي قَوْلٍ يُنَجَّزُ الْفَسْخُ لِلْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ وَقْتَ وُجُوبِ تَسْلِيمِهَا وَهُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ، وَلَا يَلْزَمُ الْإِمْهَالُ، وَالْأَظْهَرُ إِمْهَالُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِيَتَحَقَّقَ عَجْزُهُ، وَهِيَ مُدَّةٌ قَرِيبَةٌ يُتَوَقَّعُ فِيهَا الْقُدْرَةُ بِقَرْضٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَهَا الْفَسْخُ صَبِيحَةَ الرَّابِعِ بِنَفَقَتِهِ إِلاَّ أَنْ يُسَلِّمَ نَفَقَتَهُ.

وَلَوْ رَضِيَتْ بِإِعْسَارِهِ الْعَارِضِ، أَوْ نَكَحَتْهُ عَالِمَةً بِإِعْسَارِهِ فَلَهَا الْفَسْخُ بَعْدَهُ.وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَنَّ زَوْجَةَ الْمُعْسِرِ مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ الصَّبْرِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ فِرَاقِهِ.رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَرَبِيعَةُ وَحَمَّادٌ وَغَيْرُهُمْ- رضي الله عنهم- أَجْمَعِينَ.

وَلَمْ يُعْثَرْ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى نَصٍّ فِي لُزُومِ الْإِعْذَارِ لِلْإِعْسَارِ عَنِ النَّفَقَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ يُطَلِّقُ عَلَى الْفَوْرِ.

وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فِي مُصْطَلَحَيْ (إِعْسَارٌ، وَنَفَقَةٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


14-موسوعة الفقه الكويتية (تجسس)

تَجَسُّسٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّجَسُّسُ لُغَةً: تَتَبُّعُ الْأَخْبَارِ، يُقَالُ: جَسَّ الْأَخْبَارَ وَتَجَسَّسَهَا: إِذَا تَتَبَّعَهَا، وَمِنْهُ الْجَاسُوسُ، لِأَنَّهُ يَتَتَبَّعُ الْأَخْبَارَ وَيَفْحَصُ عَنْ بَوَاطِنِ الْأُمُورِ، ثُمَّ اُسْتُعِيرَ لِنَظَرِ الْعَيْنِ.وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنِيِّ اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّحَسُّسُ:

2- التَّحَسُّسُ هُوَ: طَلَبُ الْخَبَرِ، يُقَالُ: رَجُلٌ حَسَّاسٌ لِلْأَخْبَارِ أَيْ: كَثِيرُ الْعِلْمِ بِهَا، وَأَصْلُ الْإِحْسَاسِ: الْإِبْصَارُ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} أَيْ: هَلْ تَرَى، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي الْوِجْدَانِ وَالْعِلْمِ بِأَيِّ حَاسَّةٍ كَانَتْ، وَقَدْ قُرِئَ قوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} بِالْحَاءِ «وَلَا تَحَسَّسُوا» قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ، وَقِيلَ: إِنَّ التَّجَسُّسَ غَالِبًا يُطْلَقُ عَلَى الشَّرِّ، وَأَمَّا التَّحَسُّسُ فَيَكُونُ غَالِبًا فِي الْخَيْرِ.

ب- التَّرَصُّدُ:

3- التَّرَصُّدُ: الْقُعُودُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَمِنْهُ الرَّصَدِيُّ: الَّذِي يَقْعُدُ عَلَى الطَّرِيقِ يَنْظُرُ النَّاسَ لِيَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا.فَيَجْتَمِعُ التَّجَسُّسُ وَالتَّرَصُّدُ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَتَبُّعُ أَخْبَارِ النَّاسِ، غَيْرَ أَنَّ التَّجَسُّسَ يَكُونُ بِالتَّتَبُّعِ وَالسَّعْيِ لِتَحْصِيلِ الْأَخْبَارِ وَلَوْ بِالسَّمَاعِ أَوِ الِانْتِقَالِ، أَمَّا التَّرَصُّدُ فَهُوَ الْقُعُودُ وَالِانْتِظَارُ وَالتَّرَقُّبُ.

التَّنَصُّتُ:

4- التَّنَصُّتُ هُوَ: التَّسَمُّعُ.يُقَالُ: أَنْصَتَ إِنْصَاتًا أَيِ: اسْتَمَعَ، وَنَصَتَ لَهُ أَيْ: سَكَتَ مُسْتَمِعًا، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّجَسُّسِ؛ لِأَنَّ التَّنَصُّتَ يَكُونُ سِرًّا وَعَلَانِيَةً.

حُكْمُ التَّجَسُّسِ التَّكْلِيفِيِّ:

5- التَّجَسُّسُ تَعْتَرِيهِ أَحْكَامٌ ثَلَاثَةٌ: الْحُرْمَةُ وَالْوُجُوبُ وَالْإِبَاحَةُ.

فَالتَّجَسُّسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَصْلِ حَرَامٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لقوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} لِأَنَّ فِيهِ تَتَبُّعَ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَمَعَايِبِهِمْ وَالِاسْتِكْشَافَ عَمَّا سَتَرُوهُ.وَقَدْ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ».

قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَالسَّتْرُ وَاجِبٌ إِلاَّ عَنِ الْإِمَامِ وَالْوَالِي وَأَحَدِ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ فِي الزِّنَى.

وَقَدْ يَكُونُ التَّجَسُّسُ وَاجِبًا، فَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ قَالَ: اللُّصُوصُ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ أَرَى أَنْ يُطْلَبُوا فِي مَظَانِّهِمْ وَيُعَانَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُقْتَلُوا أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ بِالْهَرَبِ.وَطَلَبُهُمْ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِالتَّجَسُّسِ عَلَيْهِمْ وَتَتَبُّعِ أَخْبَارِهِمْ.

وَيُبَاحُ فِي الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ بَعْثُ الْجَوَاسِيسِ لِتُعْرَفَ أَخْبَارُ جَيْشِ الْكُفَّارِ مِنْ عَدَدٍ وَعَتَادٍ وَأَيْنَ يُقِيمُونَ وَمَا إِلَى ذَلِكَ.

وَكَذَلِكَ يُبَاحُ التَّجَسُّسُ إِذَا رُفِعَ إِلَى الْحَاكِمِ أَنَّ فِي بَيْتِ فُلَانٍ خَمْرًا، فَإِنْ شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ شُهُودٌ كَشَفَ عَنْ حَالِ صَاحِبِ الْبَيْت، فَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِمَا شُهِدَ عَلَيْهِ أُخِذَ، وَإِنْ كَانَ مَسْتُورًا فَلَا يُكْشَفُ عَنْهُ.وَقَدْ سُئِلَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنِ الشُّرْطِيِّ يَأْتِيهِ رَجُلٌ يَدْعُوهُ إِلَى نَاسٍ فِي بَيْتٍ اجْتَمَعُوا فِيهِ عَلَى شَرَابٍ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ فِي بَيْتٍ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَا يَتَتَبَّعُهُ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ يَتَتَبَّعُهُ.

وَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَكْشِفَ عَلَى مُرْتَكِبِي الْمَعَاصِي؛ لِأَنَّ قَاعِدَةَ وِلَايَةِ الْحِسْبَةِ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ.

التَّجَسُّسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْبِ:

6- الْجَاسُوسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَقَدْ أَجَابَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ سُؤَالِ هَارُونَ الرَّشِيدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ فِيهِمْ، فَقَالَ: وَسَأَلْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْجَوَاسِيسِ يُوجَدُونَ وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِمَّنْ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَعْرُوفِينَ فَأَوْجِعْهُمْ عُقُوبَةً، وَأَطِلْ حَبْسَهُمْ حَتَّى يُحْدِثُوا تَوْبَةً.

وَقَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: وَإِذَا وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا- مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ- عَيْنًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَكْتُبُ إِلَيْهِمْ بِعَوْرَاتِهِمْ فَأَقَرَّ بِذَلِكَ طَوْعًا فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ، وَلَكِنَّ الْإِمَامَ يُوجِعُهُ عُقُوبَةً.ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَقِيقَةً، وَلَكِنْ لَا يُقْتَلُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ مَا بِهِ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ فَلَا يَخْرُجُ عَنِ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ مَا لَمْ يَتْرُكْ مَا بِهِ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى مَا فَعَلَ الطَّمَعُ، لَا خُبْثُ الِاعْتِقَادِ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْوَجْهَيْنِ، وَبِهِ أُمِرْنَا.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ «حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، فَإِنَّهُ كَتَبَ إِلَى قُرَيْشٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَغْزُوكُمْ فَخُذُوا حِذْرَكُمْ، فَأَرَادَ عُمَرُ- رضي الله عنه- قَتْلَهُ، فَقَالَ الرَّسُولُ لِعُمَرِ: مَهْلًا يَا عُمَرُ، فَلَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» فَلَوْ كَانَ بِهَذَا كَافِرًا مُسْتَوْجِبًا لِلْقَتْلِ مَا تَرَكَهُ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- بَدْرِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ بَدْرِيٍّ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَزِمَهُ الْقَتْلُ بِهَذَا حَدًّا مَا تَرَكَهُ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- وَفِيهِ نَزَلَ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} فَقَدْ سَمَّاهُ مُؤْمِنًا، وَعَلَيْهِ دَلَّتْ قِصَّةُ أَبِي لُبَابَةَ حِينَ اسْتَشَارَهُ بَنُو قُرَيْظَةَ، فَأَمَرَّ أُصْبُعَهُ عَلَى حَلْقِهِ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَتَلَهُمْ، وَفِيهِ نَزَلَ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ}.

وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ هَذَا ذِمِّيٌّ فَإِنَّهُ يُوجَعُ عُقُوبَةً وَيُسْتَوْدَعُ السِّجْنَ، وَلَا يَكُونُ هَذَا نَقْضًا مِنْهُ لِلْعَهْدِ، لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ مُسْلِمٌ لَمْ يَكُنْ بِهِ نَاقِضًا أَمَانَهُ، فَإِذَا فَعَلَهُ ذِمِّيٌّ لَا يَكُونُ نَاقِضًا أَمَانَهُ أَيْضًا.أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ فَقَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ لَمْ يَكُنْ بِهِ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ، وَإِنْ كَانَ قَطْعُ الطَّرِيقِ مُحَارَبَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بِالنَّصِّ فَهَذَا أَوْلَى.وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ مُسْتَأْمَنٌ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ نَاقِضًا لِأَمَانِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ، إِلاَّ أَنَّهُ يُوجَعُ عُقُوبَةً فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ وَقَصَدَ بِفِعْلِهِ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ.

فَإِنْ كَانَ حِينَ طَلَبَ الْأَمَانَ قَالَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ: أَمَّنَّاكَ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَمَّنَّاكَ عَلَى أَنَّكَ إِنْ أَخْبَرْتَ أَهْلَ الْحَرْبِ بِعَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا أَمَانَ لَكَ- وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا- فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَكُونُ مَعْدُومًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَقَدْ عُلِّقَ أَمَانُهُ هَاهُنَا بِشَرْطِ أَلاَّ يَكُونَ عَيْنًا، فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ عَيْنٌ كَانَ حَرْبِيًّا لَا أَمَانَ لَهُ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ.

وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَصْلُبَهُ حَتَّى يَعْتَبِرَ بِهِ غَيْرُهُ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَهُ فَيْئًا فَلَا بَأْسَ بِهِ أَيْضًا كَغَيْرِهِ مِنَ الْأُسَرَاءِ، إِلاَّ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقْتُلَهُ هَاهُنَا لِيَعْتَبِرَ غَيْرُهُ.فَإِنْ كَانَ مَكَانَ الرَّجُلِ امْرَأَةٌ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهَا أَيْضًا، لِأَنَّهَا قَصَدَتْ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْحَرْبِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، كَمَا إِذَا قَاتَلَتْ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ صَلْبُهَا لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ أَوْلَى.

وَإِنْ وَجَدُوا غُلَامًا لَمْ يَبْلُغْ، بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنَّهُ يُجْعَلُ فَيْئًا وَلَا يُقْتَلُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ، فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ خِيَانَةً يَسْتَوْجِبُ الْقَتْلَ بِهَا، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ.وَهُوَ نَظِيرُ الصَّبِيِّ إِذَا قَاتَلَ فَأُخِذَ أَسِيرًا لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ إِذَا قَاتَلَتْ فَأُخِذَتْ أَسِيرَةً فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهَا.

وَالشَّيْخُ الَّذِي لَا قِتَالَ عِنْدَهُ وَلَكِنَّهُ صَحِيحُ الْعَقْلِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا.وَإِنْ جَحَدَ الْمُسْتَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ، وَقَالَ: الْكِتَابُ الَّذِي وَجَدُوهُ مَعَهُ إِنَّمَا وَجَدَهُ فِي الطَّرِيقِ وَأَخَذَهُ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْتُلُوهُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، لِأَنَّهُ آمِنٌ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، فَمَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ مَا يَنْفِي أَمَانَهُ كَانَ حَرَامَ الْقَتْلِ.فَإِنْ هَدَّدُوهُ بِضَرْبٍ أَوْ قَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ حَتَّى أَقَرَّ بِأَنَّهُ عَيْنٌ فَإِقْرَارُهُ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ، وَإِقْرَارُ الْمُكْرَهِ بَاطِلٌ سَوَاءٌ أَكَانَ الْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ أَمْ بِالْقَتْلِ، وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ عَيْنًا إِلاَّ بِأَنْ يُقِرَّ بِهِ عَنْ طَوْعٍ، أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِذَلِكَ، وَيُقْبَلُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ، لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ فِينَا وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ حُجَّةٌ عَلَى الْحَرْبِيِّ.

وَإِنْ وَجَدَ الْإِمَامُ مَعَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ مُسْتَأْمَنٍ كِتَابًا فِيهِ خَطُّهُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ، إِلَى مَلِكِ أَهْلِ الْحَرْبِ يُخْبِرُ فِيهِ بِعَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَحْبِسُهُ، وَلَا يَضْرِبُهُ بِهَذَا الْقَدْرِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ مُحْتَمَلٌ فَلَعَلَّهُ مُفْتَعَلٌ، وَالْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ بِمِثْلِ هَذَا الْمُحْتَمَلِ، وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ نَظَرًا لِلْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَمْرُهُ: فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ خَلَّى سَبِيلَهُ، وَرَدَّ الْمُسْتَأْمَنَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَدَعْهُ لِيُقِيمَ بَعْدَ هَذَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَوْمًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الرِّيبَةَ فِي أَمْرِهِ قَدْ تَمَكَّنَتْ وَتَطْهِيرُ دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ مِثْلِهِ مِنْ بَابِ إِمَاطَةِ الْأَذَى فَهُوَ أَوْلَى.

7- مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْجَاسُوسَ الْمُسْتَأْمَنَ يُقْتَلُ، وَقَالَ سَحْنُونٌ فِي الْمُسْلِمِ يَكْتُبُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ بِأَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ: يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ وَلَا Bدِيَةَ لِوَرَثَتِهِ كَالْمُحَارِبِ.وَقِيلَ: يُجْلَدُ نَكَالًا وَيُطَالُ حَبْسُهُ وَيُنْفَى مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَقِيلَ: يُقْتَلُ إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ، وَقِيلَ: إِلاَّ أَنْ يُعْذَرَ بِجَهْلٍ.وَقِيلَ: يُقْتَلُ إِنْ كَانَ مُعْتَادًا لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ فَلْتَةً ضُرِبَ وَنُكِّلَ.

وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} مَا يَأْتِي:

مَنْ كَثُرَ تَطَلُّعُهُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِمْ وَيُعَرِّفُ عَدَدَهُمْ بِأَخْبَارِهِمْ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا بِذَلِكَ، إِذَا كَانَ فِعْلُهُ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ وَاعْتِقَادُهُ عَلَى ذَلِكَ سَلِيمٌ، كَمَا فَعَلَ حَاطِبٌ حِينَ قَصَدَ بِذَلِكَ اتِّخَاذَ الْيَدِ وَلَمْ يَنْوِ الرِّدَّةَ عَنِ الدِّينِ.وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا فَهَلْ يُقْتَلُ بِذَلِكَ حَدًّا أَمْ لَا؟ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ: يَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ.وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِذَا كَانَتْ عَادَتُهُ ذَلِكَ قُتِلَ لِأَنَّهُ جَاسُوسٌ.وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ الْجَاسُوسُ- وَهُوَ صَحِيحٌ- لِإِضْرَارِهِ بِالْمُسْلِمِينَ وَسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَلَعَلَّ ابْنَ الْمَاجِشُونِ إِنَّمَا اتَّخَذَ التَّكْرَارَ فِي هَذَا لِأَنَّ حَاطِبًا أُخِذَ فِي أَوَّلِ فِعْلِهِ.

فَإِنْ كَانَ الْجَاسُوسُ كَافِرًا، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَكُونُ نَقْضًا لِعَهْدِهِ، وَقَالَ أَصْبَغُ: الْجَاسُوسُ الْحَرْبِيُّ يُقْتَلُ، وَالْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ يُعَاقَبَانِ إِلاَّ إِنْ تَظَاهَرَا عَلَى الْإِسْلَامِ فَيُقْتَلَانِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِعَيْنٍ لِلْمُشْرِكِينَ اسْمُهُ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَلَ، فَصَاحَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أُقْتَلُ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَخَلَّى سَبِيلَهُ.ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ أَكِلُهُ إِلَى إيمَانِهِ، مِنْهُمْ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ»

8- وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ: أَنَّ الْجَاسُوسَ الْمُسْلِمَ يُعَزَّرُ وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ.وَإِنْ كَانَ ذَا هَيْئَةٍ (أَيْ مَاضٍ كَرِيمٍ فِي خِدْمَةِ الْإِسْلَامِ) عُفِيَ عَنْهُ لِحَدِيثِ حَاطِبٍ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمِّيِّ بِالدَّلَالَةِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِ الْأَمَانِ ذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ، وَفِي غَيْرِهِ يُنْتَقَضُ بِالشَّرْطِ.

9- وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يُنْتَقَضُ عَهْدُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِأَشْيَاءَ وَمِنْهَا: تَجَسَّسَ أَوْ آوَى جَاسُوسًا، لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

وَمِمَّا تَقَدَّمَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجَاسُوسَ الْحَرْبِيَّ مُبَاحُ الدَّمِ يُقْتَلُ عَلَى أَيِّ حَالٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ، أَمَّا الذِّمِّيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُ يُقْتَلُ.

وَلِلشَّافِعِيَّةِ أَقْوَالٌ أَصَحُّهَا أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمِّيِّ بِالدَّلَالَةِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْعَقْدِ.وَأَمَّا الْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ وَلَا يُقْتَلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُقْتَلُ.

التَّجَسُّسُ عَلَى الْكُفَّارِ:

10- التَّجَسُّسُ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ لِمَعْرِفَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ وَمَا مَعَهُمْ مِنْ سِلَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ صَلَّى هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرُ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ- يَشْتَرِطُ لَهُ النَّبِيُّ أَنْ يَرْجِعَ- أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَالَ رَاوِي الْحَدِيثِ حُذَيْفَةُ: فَمَا قَامَ رَجُلٌ، ثُمَّ صَلَّى إِلَى..أَنْ قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَمَا قَامَ رَجُلٌ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَشِدَّةِ الْبَرْدِ وَشِدَّةِ الْجُوعِ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ دَعَانِي أَيْ دَعَا الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- حُذَيْفَةَ فَلَمْ يَكُنْ لِي بُدٌّ مِنَ الْقِيَامِ حِينَ دَعَانِي، فَقَالَ الرَّسُولُ: يَا حُذَيْفَةُ اذْهَبْ فَادْخُلْ فِي الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَاذَا يَفْعَلُونَ، وَلَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنَا.قَالَ: فَذَهَبْتُ فَدَخَلْتُ فِي الْقَوْمِ، وَالرِّيحُ وَجُنُودُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَفْعَلُ بِهِمْ مَا تَفْعَلُ، لَا تَقِرُّ لَهُمْ قِدْرٌ وَلَا نَارٌ وَلَا بِنَاءٌ، فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لِيَنْظُرْ كُلُّ امْرِئٍ مَنْ جَلِيسُهُ، قَالَ حُذَيْفَةُ: فَأَخَذْتُ بِيَدِ الرَّجُلِ الَّذِي إِلَى جَنْبِي فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ وَاَللَّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مَقَامٍ، لَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاعُ وَالْخُفُّ، وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ، وَبَلَغَنَا عَنْهُمُ الَّذِي نَكْرَهُ...» إِلَخْ فَهَذَا دَلِيلُ جَوَازِ التَّجَسُّسِ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ.

تَجَسُّسُ الْحَاكِمِ عَلَى رَعِيَّتِهِ:

11- سَبَقَ أَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ التَّجَسُّسِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا}

وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ وَلِيِّ الْأَمْرِ لِوُرُودِ نُصُوصٍ خَاصَّةٍ تَنْهَى أَوْلِيَاءَ الْأُمُورِ عَنْ تَتَبُّعِ عَوْرَاتِ النَّاسِ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ مُعَاوِيَةُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- Bقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنِ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ» فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: كَلِمَةٌ سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا.وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ الْأَمِيرَ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ فِي النَّاسِ أَفْسَدَهُمْ».

وَلَكِنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَلَى رَعِيَّتِهِ إِذَا كَانَ فِي تَرْكِ التَّجَسُّسِ انْتِهَاكُ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا، مِثْلُ أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ أَنَّ رَجُلًا خَلَا بِرَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ، أَوِ امْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا، فَيَجُوزُ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَتَجَسَّسَ وَيَقْدَمَ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ مَا لَا يُسْتَدْرَكُ مِنِ انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ وَارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ، وَهَكَذَا لَوْ عَرَفَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ جَازَ لَهُمُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكَشْفِ وَالْإِنْكَارِ.

أَمَّا مَا كَانَ دُونَ ذَلِكَ فِي الرِّيبَةِ فَلَا يَجُوزُ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ وَلَا كَشْفُ الْأَسْتَارِ عَنْهُ.وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ عُمَرَ دَخَلَ عَلَى قَوْمٍ يَتَعَاقَرُونَ عَلَى شَرَابٍ وَيُوقِدُونَ فِي أَخْصَاصٍ فَقَالَ: نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْمُعَاقَرَةِ فَعَاقَرْتُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الْإِيقَادِ فِي الْأَخْصَاصِ فَأَوْقَدْتُمْ.فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ نَهَى اللَّهُ عَنِ التَّجَسُّسِ فَتَجَسَّسْتَ، وَعَنِ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَدَخَلْتَ.فَقَالَ: هَاتَانِ بِهَاتَيْنِ وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُمْ.

وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِيمَا سُتِرَ مِنَ الْمُنْكَرِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ هَلْ يُنْكَرُ؟ فَرَوَى ابْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ اللَّهِ فِي الْمُنْكَرِ يَكُونُ مُغَطًّى، مِثْلَ طُنْبُورٍ وَمُسْكِرٍ وَأَمْثَالِهِ فَقَالَ: إِذَا كَانَ مُغَطًّى لَا يُكْسَرُ.وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ يُكْسَرُ.

فَإِنْ سَمِعَ أَصْوَاتَ الْمَلَاهِي الْمُنْكَرَةِ مِنْ دَارٍ تَظَاهَرَ أَهْلُهَا بِأَصْوَاتِهِمْ أَنْكَرَهُ خَارِجَ الدَّارِ، وَلَمْ يَهْجُمْ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْشِفَ عَمَّا سِوَاهُ مِنَ الْبَاطِنِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ مُهَنَّا الْأَنْبَارِيِّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ طَبْلٍ فِي جِوَارِهِ، فَقَامَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَجْلِسِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَنَهَاهُمْ.

وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْبٍ فِي الرَّجُلِ يَسْمَعُ الْمُنْكَرَ فِي دَارِ بَعْضِ جِيرَانِهِ قَالَ: يَأْمُرُهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ جَمَعَ عَلَيْهِ الْجِيرَانَ وَيُهَوِّلُ عَلَيْهِ.وَقَالَ الْجَصَّاصُ عِنْدَ قوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ سُوءِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ الَّذِي ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ وَالسَّتْرُ، ثُمَّ قَالَ: نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ التَّجَسُّسِ، بَلْ أَمَرَ بِالسَّتْرِ عَلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ إِصْرَارٌ.ثُمَّ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ Bمَسْعُودٍ قِيلَ لَهُ: هَذَا فُلَانٌ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّا قَدْ نُهِينَا عَنِ التَّجَسُّسِ، وَلَكِنْ إِنْ يَظْهَرْ لَنَا شَيْءٌ نَأْخُذْ بِهِ.

تَجَسُّسُ الْمُحْتَسِبِ:

12- الْمُحْتَسِبُ هُوَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا ظَهَرَ تَرْكُهُ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ إِذَا ظَهَرَ فِعْلُهُ.قَالَ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وَهَذَا وَإِنْ صَحَّ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ لَكِنَّ الْمُحْتَسِبَ مُتَعَيَّنٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ وِلَايَتِهِ، لَكِنَّ غَيْرَهُ فُرِضَ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ.

وَمَا لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ فَلَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَنْهَا وَلَا أَنْ يَهْتِكَ الْأَسْتَارَ حَذَرًا مِنَ الِاسْتِتَارِ بِهَا، فَقَدْ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا، فَمَنْ أَلَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ».

فَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اسْتِتَارُ قَوْمٍ بِهَا لِأَمَارَاتٍ دَلَّتْ وَآثَارٍ ظَهَرَتْ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي انْتِهَاكِ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا مِثْلُ أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِهِ أَنَّ رَجُلًا خَلَا بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا أَوْ رَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ، فَيَجُوزُ لَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَتَجَسَّسَ وَيَقْدَمَ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ مَا لَا يُسْتَدْرَكُ مِنِ ارْتِكَابِ الْمَحَارِمِ وَفِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا خَرَجَ عَنْ هَذَا الْحَدِّ وَقَصُرَ عَنْ حَدِّ هَذِهِ الرُّتْبَةِ، فَلَا يَجُوزُ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ وَلَا كَشْفُ الْأَسْتَارِ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ.

عِقَابُ التَّجَسُّسِ عَلَى الْبُيُوتِ:

13- رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِمْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ»

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ Bبَعْضُهُمْ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَيَحِلُّ لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَ الْمُطَّلِعِ حَالَ الِاطِّلَاعِ، وَلَا ضَمَانَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: لَيْسَ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ، فَإِنْ فَقَأَ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَالْخَبَرُ مَنْسُوخٌ، وَكَانَ قَبْلَ نُزُولِ قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَرَجَ عَلَى وَجْهِ الْوَعِيدِ لَا عَلَى وَجْهِ الْحَتْمِ، وَالْخَبَرُ إِذَا كَانَ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ.

وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَتَكَلَّمُ بِالْكَلَامِ فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ يُرِيدُ شَيْئًا آخَرَ، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ «أَنَّ عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ لَمَّا مَدَحَهُ قَالَ لِبِلَالٍ: قُمْ فَاقْطَعْ لِسَانَهُ» وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْقَطْعَ فِي الْحَقِيقَةِ.

وَهَذَا أَيْضًا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ فَقْءَ الْعَيْنِ وَالْمُرَادُ: أَنْ يَعْمَلَ بِهِ عَمَلًا حَتَّى لَا يَنْظُرَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ.

وَفِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ: وَلَوْ نَظَرَ مِنْ كُوَّةٍ أَوْ مِنْ بَابٍ فَفَقَأَ عَيْنَهُ صَاحِبُ الدَّارِ ضَمِنَ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى زَجْرِهِ وَدَفْعِهِ بِالْأَخَفِّ، وَلَوْ قَصَدَ زَجْرَهُ بِذَلِكَ فَأَصَابَ عَيْنَهُ وَلَمْ يَقْصِدْ فَقْأَهَا فَفِي ضَمَانِهِ خِلَافٌ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ الْمُطَّلِعِ إِلاَّ بِفَقْءِ عَيْنِهِ فَفَقَأَهَا لَا ضَمَانَ، وَإِنْ أَمْكَنَ بِدُونِ فَقْءِ عَيْنِهِ فَفَقَأَهَا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ.

أَمَّا إِذَا تَجَسَّسَ وَانْصَرَفَ فَلَيْسَ لِلْمُطَلَّعِ عَلَيْهِ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَهُ اتِّفَاقًا.وَيُنْظَرُ لِلتَّفْصِيلِ: (دَفْعُ الصَّائِلِ).

أَمَّا عُقُوبَةُ الْمُتَجَسِّسِ فَهِيَ التَّعْزِيرُ، إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ مُعَيَّنٌ، وَالتَّعْزِيرُ يَخْتَلِفُ وَالْمَرْجِعُ فِي تَقْدِيرِهِ إِلَى الْإِمَامِ (ر: تَعْزِيرٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


15-موسوعة الفقه الكويتية (تحري)

تَحَرِّي

التَّعْرِيفُ:

1- التَّحَرِّي فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ وَالِابْتِغَاءُ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَتَحَرَّى مَسَرَّتَكَ، أَيْ أَطْلُبُ مَرْضَاتَكَ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا}

أَيْ قَصَدُوا طَرِيقَ الْحَقِّ وَتَوَخَّوْهُ.وَمِنْهُ حَدِيثُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «تَحَرُّوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ...» الْحَدِيثَ.أَيِ اعْتَنُوا بِطَلَبِهَا.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي طَلَبِ الْمَقْصُودِ، أَوْ طَلَبُ الشَّيْءِ بِغَالِبِ الظَّنِّ عِنْدَ عَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الِاجْتِهَادُ:

2- الِاجْتِهَادُ وَالتَّحَرِّي لَفْظَانِ مُتَقَارِبَا الْمَعْنَى، وَمَعْنَاهُمَا: بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي طَلَبِ الْمَقْصُودِ، إِلاَّ أَنَّ لَفْظَ الِاجْتِهَادِ صَارَ فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ مَخْصُوصًا بِبَذْلِ الْمُجْتَهِدِ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي تَعَرُّفِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ مِنَ الدَّلِيلِ.

أَمَّا التَّحَرِّي فَقَدْ يَكُونُ بِدَلِيلٍ، وَقَدْ يَكُونُ بِمُجَرَّدِ شَهَادَةِ الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ أَمَارَةٍ.فَكُلُّ اجْتِهَادٍ تَحَرٍّ، وَلَيْسَ كُلُّ تَحَرٍّ اجْتِهَادًاٌ.

ب- التَّوَخِّي:

3- التَّوَخِّي مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَخْيِ، بِمَعْنَى الْقَصْدِ، فَالتَّحَرِّي وَالتَّوَخِّي سَوَاءٌ، إِلاَّ أَنَّ لَفْظَ التَّوَخِّي يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ.كَمَا قَالَ- صلى الله عليه وسلم- لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ اخْتَصَمَا فِي الْمَوَارِيثِ: «اذْهَبَا وَتَوَخَّيَا، وَاسْتَهِمَا، وَلْيُحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ».

وَأَمَّا التَّحَرِّي فَيُسْتَعْمَلُ غَالِبًا فِي الْعِبَادَاتِ.كَمَا قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ»

ج- الظَّنُّ:

4- الظَّنُّ: هُوَ إِدْرَاكُ الطَّرَفِ الرَّاجِحِ مَعَ احْتِمَالِ النَّقِيضِ، فَفِي الظَّنِّ يَكُونُ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ فَهُوَ مَذْمُومٌ، وَيَكُونُ التَّرْجِيحُ فِي التَّحَرِّي بِغَالِبِ الرَّأْيِ، وَهُوَ دَلِيلٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى طَرَفِ الْعِلْمِ وَإِنْ كَانَ لَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَا يُوجِبُ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الظَّنُّ بِمَعْنَى الْيَقِينِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ}.

د- الشَّكُّ:

5- الشَّكُّ: تَرَدُّدٌ بَيْنَ احْتِمَالَيْنِ مُسْتَوِيَيْنِ، أَيْ مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ عِنْدَ الشَّاكِّ.فَالتَّحَرِّي وَسِيلَةٌ لِإِزَالَةِ الشَّكِّ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

6- التَّحَرِّي مَشْرُوعٌ وَالْعَمَلُ بِهِ جَائِزٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُولُ:

أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}.

وَذَلِكَ يَكُونُ بِالتَّحَرِّي وَغَالِبِ الرَّأْيِ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَالْحَدِيثَانِ السَّابِقَانِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ التَّوَخِّي.

وَأَمَّا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعْقُولِ: فَهُوَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ جَائِزٌ لِلْعَمَلِ بِهِ، وَذَلِكَ عَمَلٌ بِغَالِبِ الرَّأْيِ، ثُمَّ جُعِلَ مَدْرَكًا مِنْ مَدَارِكِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَحْكَامُ لَا تَثْبُتُ بِهِ ابْتِدَاءً، فَكَذَلِكَ التَّحَرِّي مَدْرَكٌ مِنْ مَدَارِكِ التَّوَصُّلِ إِلَى أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ وَإِنْ كَانَتِ الْعِبَادَةُ لَا تَثْبُتُ بِهِ ابْتِدَاءً.

هَذَا، وَالتَّحَرِّي فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَرَدَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ مَوَاطِنِهِ: أَوَّلًا: التَّحَرِّي لِمَعْرِفَةِ الطَّاهِرِ مِنْ غَيْرِهِ حَالَةَ الِاخْتِلَاطِ:

أ- اخْتِلَاطُ الْأَوَانِي:

7- إِذَا اخْتَلَطَتِ الْأَوَانِي الَّتِي فِيهَا مَاءٌ طَاهِرٌ بِالْأَوَانِي الَّتِي فِيهَا مَاءٌ نَجِسٌ، وَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَاءٌ طَاهِرٌ سِوَى ذَلِكَ، وَلَا يُعْرَفُ الطَّاهِرُ مِنَ النَّجِسِ:

فَإِنْ كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلْأَوَانِي الطَّاهِرَةِ، يَتَحَرَّى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ، وَبِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الطَّاهِرِ، وَإِصَابَتُهُ بِتَحَرِّيهِ مَأْمُولَةٌ، وَلِأَنَّ جِهَةَ الْإِبَاحَةِ قَدْ تَرَجَّحَتْ.

وَإِنْ كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلْأَوَانِي النَّجِسَةِ أَوْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى إِلاَّ لِلشُّرْبِ حَالَةَ الضَّرُورَةِ، إِذْ لَا بَدِيلَ لَهُ، بِخِلَافِ الْوُضُوءِ فَإِنَّ لَهُ بَدِيلًا.

وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ عَدَمُ جَوَازِ التَّحَرِّي، وَإِنْ كَثُرَ عَدَدُ الْأَوَانِي الطَّاهِرَةِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ التَّحَرِّي فِي الْحَالَيْنِ، فَيَتَوَضَّأُ بِالْأَغْلَبِ، لِأَنَّهُ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ، فَجَازَ التَّحَرِّي مِنْ أَجْلِهِ كَالْقِبْلَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ ثَلَاثَةُ أَوَانٍ نَجِسَةٍ أَوْ مُتَ نَجِّسَةٍ وَاثْنَانِ طَهُورَانِ، وَاشْتَبَهَتْ هَذِهِ بِهَذِهِ، فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ ثَلَاثَةَ وُضُوءَاتٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوَانٍ عَدَدَ الْأَوَانِي النَّجِسَةِ، وَيَتَوَضَّأُ وُضُوءًا رَابِعًا مِنْ إِنَاءٍ رَابِعٍ، وَيُصَلِّي بِكُلِّ وُضُوءٍ صَلَاةً.

وَحَكَى ابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَوَانِي وُضُوءًا وَيُصَلِّي بِهِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (اشْتِبَاهٌ).

ب- اخْتِلَاطُ الثِّيَابِ:

8- إِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَى الشَّخْصِ ثِيَابٌ طَاهِرَةٌ بِنَجِسَةٍ، وَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهَا، وَلَيْسَ مَعَهُ ثَوْبٌ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ غَيْرَهَا، وَلَا مَا يَغْسِلُهَا بِهِ، وَلَا يَعْرِفُ الطَّاهِرَ مِنَ النَّجِسِ، وَاحْتَاجَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ مَا عَدَا الْمُزَنِيَّ، وَيُصَلِّي فِي الَّذِي يَقَعُ تَحَرِّيهِ عَلَى أَنَّهُ طَاهِرٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلثِّيَابِ النَّجِسَةِ أَمِ الطَّاهِرَةِ، أَوْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يَجُوزُ التَّحَرِّي، وَيُصَلِّي فِي ثِيَابٍ مِنْهَا بِعَدَدِ النَّجِسِ مِنْهَا، وَيَزِيدُ صَلَاةً فِي ثَوْبٍ آخَرَ.وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَتَحَرَّى فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ.

وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ: لَا يُصَلِّي فِي شَيْءٍ مِنْهَا، كَقَوْلِهِمَا فِي الْأَوَانِي.

ج- اخْتِلَاطُ الْمُذَكَّاةِ بِالْمَيْتَةِ:

9- إِذَا اخْتَلَطَتِ الْمُذَكَّاةُ بِالْمَيْتَةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّحَرِّي فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلْمُذَكَّاةِ أَمْ لِلْمَيْتَةِ أَوْ تَسَاوَيَا.

وَفِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ لَا يَجُوزُ التَّحَرِّي إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلْحَلَالِ.

وَأَمَّا الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمُ التَّحَرِّي مُطْلَقًا فِي هَذَا الْمَجَالِ.

د- التَّحَرِّي فِي الْحَيْضِ:

10- إِذَا نَسِيَتِ امْرَأَةٌ عَدَدَ أَيَّامِ حَيْضِهَا وَمَوْضِعَهَا، وَاشْتَبَهَ عَلَيْهَا حَالُهَا فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فَالْمُتَبَادَرُ مِنْ أَقْوَالِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تَتَحَرَّى، فَإِنْ وَقَعَ أَكْبَرُ رَأْيِهَا عَلَى أَنَّهَا حَائِضٌ أُعْطِيَتْ حُكْمَهُ، وَإِنْ وَقَعَ أَكْبَرُ رَأْيِهَا عَلَى أَنَّهَا طَاهِرَةٌ أُعْطِيَتْ حُكْمَ الطَّاهِرَاتِ؛ لِأَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ مِنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَأَمَّا إِذَا تَحَيَّرَتْ وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهَا شَيْءٌ، فَهِيَ الْمُتَحَيِّرَةُ أَوِ الْمُضَلَّةُ، فَعَلَيْهَا الْأَخْذُ بِالْأَحْوَطِ فِي الْأَحْكَامِ.

وَلِتَفْصِيلِ أَحْكَامِهَا يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (حَيْضٌ، اسْتِحَاضَةٌ).

ثَانِيًا: مَعْرِفَةُ الْقِبْلَةِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالتَّحَرِّي:

11- إِنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَكَانَ بِمَكَّةَ وَفِي حَالِ مُشَاهَدَةِ الْكَعْبَةِ وَمُعَايَنَتِهِ لَهَا، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ عَلَيْهِ التَّوَجُّهَ إِلَى عَيْنِ الْكَعْبَةِ، وَمُقَابَلَةَ ذَاتِهَا.

وَإِنْ كَانَ نَائِيًا عَنِ الْكَعْبَةِ غَائِبًا عَنْهَا: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَكْفِيهِ اسْتِقْبَالُ جِهَةِ الْكَعْبَةِ بِاجْتِهَادٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِصَابَةُ الْعَيْنِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ.

وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ تَلْزَمُهُ إِصَابَةُ الْعَيْنِ.

وَلَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مَعَ وُجُودِ مَحَارِيبِ الصَّحَابَةِ، وَكَذَلِكَ مَحَارِيبُ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي تَكَرَّرَتِ الصَّلَوَاتُ إِلَيْهَا.

كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ إِذَا كَانَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يَسْأَلُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَكَانِ الْعَالِمِ بِهَا، بِشَرْطِ كَوْنِهِ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ، فَالذِّمِّيُّ وَالْجَاهِلُ وَالْفَاسِقُ وَالصَّبِيُّ لَا يُعْتَدُّ بِإِخْبَارِهِ فِي هَذَا الْمَجَالِ.

فَإِذَا عَجَزَ الْمُصَلِّي عَنْ إِصَابَةِ عَيْنِ الْكَعْبَةِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَى جِهَتِهَا اسْتِدْلَالًا بِالْمَحَارِيبِ الْمَنْصُوبَةِ الْقَدِيمَةِ، أَوْ سُؤَالِ مَنْ هُوَ عَالِمٌ بِالْقِبْلَةِ، مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَكَانِ: فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ، فَعَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ.وَالْمُجْتَهِدُ فِي الْقِبْلَةِ هُوَ: الْعَالِمُ بِأَدِلَّتِهَا وَهِيَ: النُّجُومُ، وَالشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ، وَالرِّيَاحُ، وَالْجِبَالُ، وَالْأَنْهَارُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْوَسَائِلِ وَالْمَعَالِمِ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ.فَإِنَّ كُلَّ مَنْ عَلِمَ بِأَدِلَّةِ شَيْءٍ كَانَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهِ، وَإِنْ جَهِلَ غَيْرَهُ.

وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِأَدِلَّتِهَا، أَوْ كَانَ أَعْمَى فَهُوَ مُقَلِّدٌ وَإِنْ عَلِمَ غَيْرَهَا.

فَالْمُصَلِّي الْقَادِرُ عَلَى الِاجْتِهَادِ إِنْ صَلَّى بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ، فَالْمُتَبَادَرُ مِنْ أَقْوَالِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ وَقَعَتْ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَدَّاهُ الِاجْتِهَادُ إِلَى جِهَةٍ فَصَلَّى إِلَى غَيْرِهَا، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ، فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، لِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ، كَمَا لَوْ صَلَّى ظَانًّا أَنَّهُ مُحْدِثٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ.

وَلِتَفْصِيلِ ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ: (اسْتِقْبَالٌ).

12- مَنْ عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ بِالِاسْتِدْلَالِ، بِأَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ لِحَبْسٍ أَوْ غَيْمٍ، أَوِ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ أَوْ تَعَارَضَتْ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يُخْبِرُهُ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّ عَلَيْهِ التَّحَرِّيَ وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَالْإِمْكَانِ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ إِلاَّ التَّحَرِّي.

وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُصَلِّي كَيْفَ كَانَ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ أَمْ لَا، وَيَقْضِي لِنُدْرَةِ حُصُولِ ذَلِكَ.

وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ مَا رُوِيَ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ، فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا عَلَى خَيَالِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَنَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} » وَقَالَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه-: قِبْلَةُ الْمُتَحَرِّي جِهَةُ قَصْدِهِ.

ثَالِثًا: التَّحَرِّي فِي الصَّلَاةِ:

13- مَنْ شَكَّ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَ يَعْرِضُ لَهُ الشَّكُّ كَثِيرًا فِي الصَّلَاةِ، وَكَانَ لَهُ رَأْيٌ تَحَرَّى، وَبَنَى عَلَى أَكْبَرِ رَأْيِهِ، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ شَكَّ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ».

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَبْنِي عَلَى الْأَقَلِّ، وَيَأْتِي بِمَا شَكَّ فِيهِ مُطْلَقًا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا شَكَّ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ الْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ.وَلَوْ شَكَّ بَعْدَ السَّلَامِ فَقَوْلَانِ عِنْدَهُمْ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُومَ إِلَى التَّدَارُكِ، كَأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ.وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ بَعْدَ الْفَرَاغِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُسْرِ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِمْ.فَمَنْ كَانَ إِمَامًا وَشَكَّ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى تَحَرَّى وَبَنَى عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ، وَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَيَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ (الْأَقَلِّ)، وَفِي رِوَايَةٍ يَبْنِي عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ كَالْإِمَامِ، هَذَا إِذَا كَانَ لَهُ رَأْيٌ، أَمَّا إِذَا اسْتَوَى عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ إِمَامًا كَانَ أَوْ مُنْفَرِدًا.

رَابِعًا: التَّحَرِّي فِي الصَّوْمِ:

14- مَنْ كَانَ مَحْبُوسًا أَوْ كَانَ فِي بَعْضِ النَّوَاحِي النَّائِيَةِ عَنِ الْأَمْصَارِ، أَوْ بِدَارِ حَرْبٍ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ التَّعَرُّفُ عَلَى الْأَشْهُرِ بِالْخَبَرِ وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ: فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادُ فِي مَعْرِفَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ، لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ تَأْدِيَةُ فَرْضٍ بِالتَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ، فَلَزِمَهُ كَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ.

فَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَنْ أَمَارَةٍ تَقُومُ فِي نَفْسِهِ دُخُولُ شَهْرِ رَمَضَانَ صَامَهُ، ثُمَّ إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ شَهْرَ رَمَضَانَ، أَوْ لَمْ يَنْكَشِفْ لَهُ الْحَالُ أَجْزَأَهُ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهُ أَدَّى فَرْضَهُ بِالِاجْتِهَادِ، وَأَدْرَكَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّحَرِّي.

وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَامَ شَهْرًا قَبْلَهُ، فَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ أَدَّى الْعِبَادَةَ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهَا فَلَمْ تُجْزِئْهُ كَمَنْ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ فِي الْقَدِيمِ فِي حَالَةِ تَبَيُّنِ الْأَمْرِ بَعْدَ رَمَضَانَ أَنَّهُ يُجْزِئُ، لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تُفْعَلُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً، فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ فَرْضُهَا بِالْفِعْلِ قَبْلَ الْوَقْتِ عِنْدَ الْخَطَأِ.

أَمَّا إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَامَ شَهْرًا بَعْدَهُ، جَازَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَلِكَ بِشَرْطَيْنِ: إِكْمَالُ الْعِدَّةِ، وَتَبْيِيتُ النِّيَّةِ لِشَهْرِ رَمَضَانَ، لِأَنَّهُ قَضَاءٌ، وَفِي الْقَضَاءِ يُعْتَبَرُ هَذَانِ الشَّرْطَانِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ أَدَاءٌ لِلْعُذْرِ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ قَدْ يَجْعَلُ غَيْرَ الْوَقْتِ وَقْتًا كَمَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ.

وَعَلَى هَذَا فَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي صَامَهُ نَاقِصًا، وَرَمَضَانُ الَّذِي صَامَهُ النَّاسُ تَامًّا، صَامَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ صَوْمَ شَهْرٍ آخَرَ بَعْدَهُ يَكُونُ قَضَاءً، وَالْقَضَاءُ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْفَائِتِ.

وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ- بِأَنَّهُ يَقَعُ أَدَاءً- يُجْزِئُهُ وَلَوْ صَامَهُ نَاقِصًا وَصَامَ النَّاسُ رَمَضَانَ تَامًّا؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ يَقَعُ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ.وَكَذَلِكَ إِنْ وَافَقَ بَعْضَ رَمَضَانَ دُونَ بَعْضٍ، فَمَا وَافَقَ رَمَضَانَ أَوْ بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ، وَمَا وَافَقَ قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِئْهُ.

وَأَمَّا إِنْ ظَنَّ أَنَّ الشَّهْرَ لَمْ يَدْخُلْ فَصَامَ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَلَوْ أَصَابَ، وَكَذَا لَوْ شَكَّ فِي دُخُولِهِ وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ دُخُولُهُ.

وَإِنْ صَامَ مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْأَشْهُرُ بِلَا اجْتِهَادٍ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، وَبِلَا تَحَرٍّ، لَا يُجْزِئُهُ كَمَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ.

وَمَنْ شَكَّ فِي الْغُرُوبِ فِي يَوْمِ غَيْمٍ وَلَمْ يَتَحَرَّ لَا يَحِلُّ لَهُ الْفِطْرُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّهَارِ.

خَامِسًا: التَّحَرِّي فِي مَعْرِفَةِ مُسْتَحِقِّي الزَّكَاةِ:

15- مَنْ شَكَّ فِي حَالِ مَنْ يَدْفَعُ لَهُ الزَّكَاةَ لَزِمَهُ التَّحَرِّي: فَإِنْ وَقَعَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ فَقِيرٌ دَفَعَ إِلَيْهِ، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ فَقِيرٌ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْ حَالِهِ شَيْءٌ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ غَنِيًّا فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ دَفَعَ الزَّكَاةَ بِاجْتِهَادٍ لِغَيْرِ مُسْتَحِقٍّ فِي الْوَاقِعِ كَغَنِيٍّ، أَوْ كَافِرٍ مَعَ ظَنِّهِ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ، لَمْ تُجْزِهِ.

أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَرِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا يُجْزِئُهُ، وَالْأُخْرَى لَا يُجْزِئُهُ.

وَلِمَعْرِفَةِ تَفْصِيلِ أَحْكَامِ ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ).

سَادِسًا: التَّحَرِّي بَيْنَ الْأَقْيِسَةِ الْمُتَعَارِضَةِ:

16- إِذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَلِيلٌ لِتَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَلَمْ يَقَعِ اخْتِيَارُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالْعَمَلِ بِهِ، فَيَجِبُ التَّحَرِّي، خِلَافًا لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا يَجِبُ التَّحَرِّي، بَلْ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْمَلَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ، التَّحَرِّي فِي قَوْلِ صَحَابِيَّيْنِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِحُجِّيَّةِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:

17- وَرَدَ ذِكْرُ التَّحَرِّي فِي فُصُولٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ مِنْهَا: كِتَابُ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَسَجْدَةِ السَّهْوِ، وَأَبْوَابُ الْحَيْضِ وَالطَّهَارَةِ، وَالصَّوْمِ، وَخَصَّصَ صَاحِبُ الْمَبْسُوطِ لِلتَّحَرِّي كِتَابًا مُسْتَقِلًّا بِعِنْوَانِ (كِتَابُ التَّحَرِّي) كَمَا أَنَّهُ يُرْجَعُ لِتَفْصِيلِ أَحْكَامِهِ إِلَى مُصْطَلَحَاتِ (اسْتِقْبَالٌ، وَاسْتِحَاضَةٌ، وَاشْتِبَاهٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


16-موسوعة الفقه الكويتية (تسامع)

تَسَامُعٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّسَامُعُ: مَصْدَرُ تَسَامَعَ النَّاسُ، وَهُوَ مَا حَصَلَ مِنَ الْعِلْمِ بِالتَّوَاتُرِ أَوْ بِالشُّهْرَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، يُقَالُ: تَسَامَعَ بِهِ النَّاسُ أَيِ اشْتَهَرَ عِنْدَهُمْ، وَسَمِعَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَتَسَامَعَ النَّاسُ بِفُلَانٍ: شَاعَ بَيْنَهُمْ عَيْبُهُ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْأَوَّلِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْإِفْشَاءُ:

2- الْإِفْشَاءُ: نَشْرُ الْخَبَرِ، سِرًّا كَانَ أَوْ جَهْرًا، بِبَثِّهِ بَيْنَ النَّاسِ.

ب- الْإِعْلَامُ:

3- الْإِعْلَامُ: إِيصَالُ الْخَبَرِ إِلَى شَخْصٍ أَوْ طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِالْإِعْلَانِ، أَمْ بِالتَّحْدِيثِ مِنْ غَيْرِ إِعْلَانٍ.

ج- الْإِعْلَانُ:

4- الْإِعْلَانُ: الْمُجَاهَرَةُ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ، وَيُلَاحَظُ فِيهِ قَصْدُ الشُّيُوعِ وَالِانْتِشَارِ.

د- الْإِشْهَارُ:

5- الْإِشْهَارُ: مَصْدَرُ أَشْهَرَ، وَالشَّهْرُ مَصْدَرُ شَهَرَ الشَّيْءَ، وَكِلَاهُمَا فِي اللُّغَةِ وَالِاصْطِلَاحِ بِمَعْنَى الْإِعْلَانِ وَالْإِظْهَارِ.

هـ- السَّمْعُ:

6- السَّمْعُ: قُوَّةٌ فِي الْأُذُنِ بِهَا تُدْرَكُ الْأَصْوَاتُ، وَيُسْتَعْمَلُ أَيْضًا بِمَعْنَى الْمَسْمُوعِ، وَبِمَعْنَى الذِّكْرِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ فِي سِتَّةِ أَشْيَاءَ هِيَ: الْعِتْقُ، وَالنَّسَبُ، وَالْمَوْتُ، وَالنِّكَاحُ، وَالْوَلَاءُ، وَالْوَقْفُ.

8- وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى السِّتَّةِ: الْمَهْرُ- عَلَى الْأَصَحِّ- وَالدُّخُولُ بِزَوْجَتِهِ، وَوِلَايَةُ الْقَاضِي، وَمَنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ- سِوَى رَقِيقٍ لَمْ يَعْلَمْ رِقَّهُ وَيُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ.وَفِي عَدِّ الْأَخِيرِ مِنْهَا نَظَرٌ ذَكَرَهُ فِي الْفَتْحِ وَالْبَحْرِ.

9- وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى السِّتَّةِ: الشَّهَادَةُ بِمِلْكِ الشَّيْءِ مِنْ عَقَارٍ أَوْ غَيْرِهِ لِحَائِزٍ لَهُ- وَتُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْبَتِّ بِالْمِلْكِ عَلَى بَيِّنَةِ السَّمَاعِ، إِلاَّ أَنْ تَشْهَدَ بَيِّنَةُ السَّمَاعِ بِنَقْلِ الْمِلْكِ- وَعَزْلُ قَاضٍ، وَتَعْدِيلٌ وَتَجْرِيحٌ لِبَيِّنَةٍ، وَإِسْلَامٌ وَكُفْرٌ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَرُشْدٌ، وَسَفَهٌ لِمُعَيَّنٍ، وَفِي النِّكَاحِ اشْتَرَطُوا: ادِّعَاءَ الْحَيِّ مِنْهُمَا عَلَى الْمَيِّتِ لِيَرِثَهُ، أَوِ ادِّعَاهُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْحَيَّيْنِ وَلَمْ يُنْكِرِ الْآخَرُ، وَكَانَتِ الزَّوْجَةُ فِي عِصْمَتِهِ.وَأَمَّا لَوِ ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ النِّكَاحُ، وَفِي الطَّلَاقِ- وَأَنْ يُخْلَعَ- يَثْبُتُ بِالسَّمَاعِ الطَّلَاقُ لَا دَفْعُ الْعِوَضِ، وَبِضَرَرِ زَوْجٍ لِزَوْجَتِهِ- نَحْوُ: لَمْ نَزَلْ نَسْمَعُ عَنِ الثِّقَاتِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ يُضَارُّهَا فَيُطَلِّقُهَا عَلَيْهِ الْحَاكِمُ- وَبِالْوِلَادَةِ لِإِثْبَاتِ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ، أَوْ لِخُرُوجٍ مِنْ عِدَّةٍ، وَبِالرَّضَاعِ، وَالْحِرَابَةِ، وَالْإِبَاقِ، وَالْأَسْرِ، وَالْفَقْدِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْهِبَةِ، وَاللَّوْثِ- نَحْوُ: لَمْ نَزَلْ نَسْمَعُ بِأَنَّ فُلَانًا قَتَلَ فُلَانًا، فَتَكُونُ الشَّهَادَةُ لَوْثًا تُسَوِّغُ لِلْوَلِيِّ الْقَسَامَةَ- وَالْبَيْعَ، وَالْقِسْمَةَ، وَالْوَصِيَّةَ، وَالْعُسْرَ وَالْيُسْرَ.قَالَ الدُّسُوقِيُّ: فَجُمْلَةُ الْمَسَائِلِ الَّتِي تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ السَّمَاعِ ثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً.

10- وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى السِّتَّةِ: الْمِلْكُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَتَنْبَنِي الشَّهَادَةُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ وَالتَّسَامُعِ.

11- وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ زَادُوا عَلَى السِّتَّةِ: الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ، وَالْوِلَادَةُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْخُلْعُ، وَأَصْلُ الْوَقْفِ وَشَرْطُهُ، وَمَصْرِفُهُ، وَالْعَزْلُ، وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ كَمَا فِي الْمُغْنِي وَالْفُرُوعِ.أَمَّا صَاحِبُ الْإِقْنَاعِ وَشَرْحِ الْمُنْتَهَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهَا فَقَدْ قَالَا: وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

12- وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِجَوَازِ الشَّهَادَةِ بِمَا ذُكِرَ أَنْ يَحْصُلَ عِلْمُ الشَّاهِدِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَنْ خَبَرِ جَمَاعَةٍ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَلَوْ بِلَا شَرْطِ عَدَالَةٍ، أَوْ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ.أَمَّا فِي الْمَوْتِ فَيَكْفِي الْعَدْلُ وَلَوْ أُنْثَى وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَقَيَّدَهُ شَارِحُ الْوَهْبَانِيَّةِ بِأَنْ لَا يَكُونَ الْمُخْبِرُ مُتَّهَمًا كَوَارِثٍ وَمُوصًى لَهُ، وَلَوْ فَسَّرَ الشَّاهِدُ لِلْقَاضِي أَنَّ شَهَادَتَهُ بِالتَّسَامُعِ رُدَّتْ عَلَى الصَّحِيحِ إِلاَّ فِي الْوَقْفِ وَالْمَوْتِ إِذَا فُسِّرَا، وَقَالَا فِيهِ بِأَخْبَرَنَا مَنْ نَثِقُ بِهِ فَتُقْبَلُ عَلَى الْأَصَحِّ.

وَقَالَ فِي الْهِدَايَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا يَجُوزُ الشَّهَادَةُ فِيهِ بِالتَّسَامُعِ: يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِذَا أَخْبَرَهُ بِهَا مَنْ يَثِقُ بِهِ- وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ- وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ تَخْتَصُّ بِالْمُعَايَنَةِ، وَتَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامٌ تَبْقَى عَلَى انْقِضَاءِ الْقُرُونِ، فَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ فِيهَا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ أَدَّى إِلَى الْحَرَجِ وَتَعْطِيلِ الْأَحْكَامِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِالِاشْتِهَارِ، وَذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ، أَوْ بِإِخْبَارِ مَنْ يَثِقُ بِهِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يُخْبِرَهُ رَجُلَانِ عَدْلَانِ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ لِيَحْصُلَ لَهُ نَوْعُ عِلْمٍ، وَقِيلَ: فِي الْمَوْتِ يُكْتَفَى بِإِخْبَارِ وَاحِدٍ أَوْ وَاحِدَةٍ.

13- وَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا: إِنَّ شَرْطَ التَّسَامُعِ- لِيُسْتَنَدَ إِلَيْهِ فِي الشَّهَادَةِ- هُوَ سَمَاعُ الْمَشْهُودِ بِهِ مِنْ جَمْعٍ يُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَيَحْصُلُ الظَّنُّ الْقَوِيُّ بِصِدْقِهِمْ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا مُكَلَّفِينَ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِمْ حُرِّيَّةٌ وَلَا ذُكُورَةٌ وَلَا عَدَالَةٌ، وَقِيلَ: يَكْفِي التَّسَامُعُ مِنْ عَدْلَيْنِ إِذَا سَكَنَ الْقَلْبُ لِخَبَرِهِمَا.

14- وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ فِيمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ، وَاسْتَقَرَّتْ مَعْرِفَتُهُ فِي قَلْبِ الشَّاهِدِ، وَهُوَ مَا يُعْلَمُ بِالِاسْتِفَاضَةِ.

وَالتَّفْصِيلُ لِمَا سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (شَهَادَةٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


17-موسوعة الفقه الكويتية (تقليد 1)

تَقْلِيدٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- التَّقْلِيدُ لُغَةً: مَصْدَرُ قَلَّدَ، أَيْ جَعَلَ الشَّيْءَ فِي عُنُقِ غَيْرِهِ مَعَ الْإِحَاطَةِ بِهِ.

وَتَقُولُ: قَلَّدْتُ الْجَارِيَةَ: إِذَا جَعَلْتَ فِي عُنُقِهَا الْقِلَادَةَ، فَتَقَلَّدَتْهَا هِيَ، وَقَلَّدْتُ الرَّجُلَ السَّيْفَ فَتَقَلَّدَهُ: إِذَا جَعَلَ حَمَائِلَهُ فِي عُنُقِهِ.وَأَصْلُ الْقَلْدِ، كَمَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، لَيُّ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ، نَحْوُ لَيُّ الْحَدِيدَةِ الدَّقِيقَةِ عَلَى مِثْلِهَا، وَمِنْهُ: سِوَارٌ مَقْلُودٌ.

وَفِي التَّهْذِيبِ: تَقْلِيدُ الْبَدَنَةِ أَنْ يُجْعَلَ فِي عُنُقِهَا عُرْوَةُ مَزَادَةٍ، أَوْ حِلَقُ نَعْلٍ، فَيُعْلَمُ أَنَّهَا هَدْيٌ.وَقَلَّدَ فُلَانًا الْأَمْرَ إِيَّاهُ.وَمِنْهُ تَقْلِيدُ الْوُلَاةِ الْأَعْمَالَ.

وَيُسْتَعْمَلُ التَّقْلِيدُ فِي الْعُصُورِ الْمُتَأَخِّرَةِ بِمَعْنَى الْمُحَاكَاةِ فِي الْفِعْلِ، وَبِمَعْنَى التَّزْيِيفِ، أَيْ صِنَاعَةِ شَيْءٍ طِبْقًا لِلْأَصْلِ الْمُقَلَّدِ.وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مَأْخُوذٌ مِنَ التَّقْلِيدِ لِلْمُجْتَهِدِينَ؛ لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ يَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِ الْمُقَلَّدِ دُونَ أَنْ يَدْرِيَ وَجْهَهُ.وَالْأَمْرُ التَّقْلِيدِيُّ مَا يُفْعَلُ اتِّبَاعًا لِمَا كَانَ قَبْلُ، لَا بِنَاءً عَلَى فِكْرِ الْفَاعِلِ نَفْسِهِ، وَخِلَافُهُ الْأَمْرُ الْمُبْتَدَعُ.

وَيَرِدُ التَّقْلِيدُ فِي الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ بِأَرْبَعَةِ مَعَانٍ:

أَوَّلُهَا: تَقْلِيدُ الْوَالِي أَوِ الْقَاضِي وَنَحْوِهِمَا، أَيْ تَوْلِيَتُهُمَا الْعَمَلَ، وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَوْلِيَةٌ).

ثَانِيهَا: تَقْلِيدُ الْهَدْيِ بِجَعْلِ شَيْءٍ فِي رَقَبَتِهِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ هَدْيٌ.

ثَالِثُهَا: تَقْلِيدُ التَّمَائِمِ وَنَحْوِهَا.

رَابِعُهَا: التَّقْلِيدُ فِي الدِّينِ وَهُوَ الْأَخْذُ فِيهِ بِقَوْلِ الْغَيْرِ مَعَ عَدَمِ مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِ.أَوْ هُوَ الْعَمَلُ بِقَوْلِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْإِشْعَارُ:

2- الْإِشْعَارُ حَزُّ سَنَامِ الْبَدَنَةِ حَتَّى يَسِيلَ مِنْهَا الدَّمُ لِيُعْلَمَ أَنَّهَا هَدْيٌ لِلْكَعْبَةِ فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهَا أَحَدٌ.

أَحْكَامُ التَّقْلِيدِ:

أَوَّلًا- تَقْلِيدُ الْهَدْيِ:

3- الْهَدْيُ مَا يُهْدَى إِلَى الْكَعْبَةِ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْحَجِّ لِيُذْبَحَ بِمَكَّةَ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.وَتَقْلِيدُ الْبَهِيمَةِ أَنْ يُجْعَلَ فِي عُنُقِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا هَدِيَّةٌ إِلَى الْبَيْتِ، فَيُتْرَكُ التَّعَرُّضُ لَهَا مِنْ كُلِّ أَحَدٍ تَعْظِيمًا لِلْبَيْتِ وَمَا أُهْدِيَ إِلَيْهِ.وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ} قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَالشَّعَائِرُ: جَمْعُ شَعِيرَةٍ وَهِيَ الْبَدَنَةُ تُهْدَى إِلَى الْبَيْتِ، وَإِشْعَارُهَا أَنْ يُحَزَّ سَنَامُهَا لِيَسِيلَ مِنْهَا الدَّمُ فَيُعْلَمُ أَنَّهَا هَدْيٌ.وَالْقَلَائِدُ قِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا: مَا كَانَ النَّاسُ يَتَقَلَّدُونَهُ أَمَنَةً لَهُمْ.قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ.وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْقَلَائِدِ: مَا يُعَلَّقُ عَلَى أَسْنِمَةِ الْهَدَايَا وَأَعْنَاقِهَا عَلَامَةً عَلَى أَنَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى، مِنْ نَعْلٍ أَوْ غَيْرِهِ.وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أَيْ جَعَلَ الْمَذْكُورَاتِ صَلَاحًا وَمَعَاشًا يَأْمَنُ النَّاسُ فِيهَا وَبِهَا.وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: عَظَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي قُلُوبِهِمُ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، وَأَوْقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ هَيْبَتَهُ، وَعَظَّمَ بَيْنَهُمْ حُرْمَتَهُ، فَكَانَ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ مَعْصُومًا بِهِ، وَكَانَ مَنِ اضْطُهِدَ مَحْمِيًّا بِالْكَوْنِ فِيهِ.وَكَذَلِكَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ.ثُمَّ قَالَ: وَشَرَعَ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ الْكِرَامِ الْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ، فَكَانُوا إِذَا أَخَذُوا بَعِيرًا أَشْعَرُوهُ دَمًا أَوْ عَلَّقُوا عَلَيْهِ نَعْلًا، أَوْ فَعَلَ الرَّجُلُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ مِنَ التَّقْلِيدِ، لَمْ يُرَوِّعْهُ أَحَدٌ حَيْثُ لَقِيَهُ، وَكَانَ الْفَيْصَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ طَلَبَهُ وَظَلَمَهُ، حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ.وَيُذْكَرُ مِنْ حِكْمَةِ تَقْلِيدِ الْهَدْيِ أَيْضًا أَنْ يَعْلَمَ الْمَسَاكِينُ بِالْهَدْيِ، فَيَجْتَمِعُوا لَهُ، وَإِذَا عَطِبَتِ الْهَدِيَّةُ الَّتِي سِيقَتْ إِلَى الْبَيْتِ تُنْحَرُ، ثُمَّ «تُلْقَى قِلَادَتُهَا فِي دَمِهَا» كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى كَوْنِهَا هَدْيًا يُبَاحُ أَكْلُهُ لِمَنْ شَاءَ.

حُكْمُ تَقْلِيدِ الْهَدْيِ:

4- تَقْلِيدُ الْهَدْيِ كَانَ مُتَّبَعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ.قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهِيَ سُنَّةٌ إِبْرَاهِيمِيَّةٌ بَقِيَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَقَرَّهَا الْإِسْلَامُ.وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ» فَتَقْلِيدُ الْهَدْيِ سُنَّةٌ فِي الْجُمْلَةِ.وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ تَرَكَ الْإِشْعَارَ وَالتَّقْلِيدَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَالْأَوْلَى تَقْدِيمُ التَّقْلِيدِ عَلَى الْإِشْعَارِ لِأَنَّهُ السُّنَّةُ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ يُفْعَلُ كَذَلِكَ خَوْفًا مِنْ نِفَارِهَا لَوْ أُشْعِرَتْ أَوْ لَا.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ، وَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ تَقْدِيمُ الْإِشْعَارِ.

مَا يُقَلَّدُ مِنَ الْهَدْيِ وَمَا لَا يُقَلَّدُ:

5- لَا خِلَافَ فِي أَنَّ مِنَ السُّنَّةِ تَقْلِيدَ الْهَدْيِ إِنْ كَانَ مِنَ الْإِبِلِ أَوِ الْبَقَرِ.أَمَّا الْغَنَمُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَقْلِيدِهَا، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا لَا تُقَلَّدُ، وَلَيْسَ تَقْلِيدُهَا سُنَّةً، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَقْلِيدِهَا، إِذْ فَائِدَةُ التَّقْلِيدِ عَدَمُ ضَيَاعِ الْهَدْيِ، وَالْغَنَمُ لَا تُتْرَكُ بَلْ يَكُونُ مَعَهَا صَاحِبُهَا.قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ حَدِيثُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- فِي تَقْلِيدِ الْغَنَمِ، وَنَصُّهُ، قَالَتْ: «أَهْدَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مَرَّةً إِلَى الْبَيْتِ غَنَمًا فَقَلَّدَهَا» أَوْ بَلَغَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ رَدُّوهُ لِانْفِرَادِ الْأَسْوَدِ بِهِ عَنْ عَائِشَةَ

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ تَقْلِيدُهَا أَيْضًا، لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَلِأَنَّهَا هَدْيٌ فَتُقَلَّدُ، كَالْإِبِلِ.وَيَنُصُّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَتْ كُلُّ أَنْوَاعِ الْهَدْيِ تُقَلَّدُ، بَلْ يُقَلَّدُ هَدْيُ التَّطَوُّعِ وَهَدْيُ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، لِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ، وَفِي التَّقْلِيدِ إِظْهَارُهُ وَتَشْهِيرُهُ فَيَلِيقُ بِهِ.وَلَمْ نَجِدْ هَذَا التَّفْصِيلَ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ.وَلَا يُقَلَّدُ دَمُ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ سَتْرَهَا أَلْيَقُ، وَيُلْحَقُ بِهَا دَمُ الْإِحْصَارِ، لِأَنَّهَا دَمٌ يُجْبَرُ بِهِ النَّقْصُ.

مَا يُقَلَّدُ بِهِ، وَكَيْفِيَّةُ التَّقْلِيدِ:

6- يَكُونُ التَّقْلِيدُ بِأَنْ يُجْعَلَ فِي أَعْنَاقِ الْهَدَايَا النِّعَالُ، أَوْ آذَانُ الْقِرَبِ وَعُرَاهَا، أَوْ عِلَاقَةُ إِدَاوَةٍ، أَوْ لِحَاءُ شَجَرَةٍ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا «كَانَتْ تَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ عِهْنٍ» وَالْعِهْنُ: الصُّوفُ الْمَصْبُوغُ فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً، قَالَ: ارْكَبْهَا.قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ.قَالَ: ارْكَبْهَا قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يُسَايِرُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَالنَّعْلُ فِي عُنُقِهَا».وَفِيهِ أَنَّهُ «قَلَّدَ بُدْنَهُ بِيَدِهِ» وَفِي التَّاجِ وَالْإِكْلِيلِ مِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ (يُقَلِّدُ بِمَا شَاءَ.وَمَنَعَ ابْنُ الْقَاسِمِ تَقْلِيدَ الْأَوْتَارِ) أَيْ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي النَّهْيِ عَنْهُ، وَنَصُّهُ «قَلِّدُوا الْخَيْلَ وَلَا تُقَلِّدُوهَا الْأَوْتَارَ».

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: كَيْفِيَّةُ التَّقْلِيدِ أَنْ يَفْتِلَ خَيْطًا مِنْ صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ وَيَرْبِطَ بِهِ نَعْلًا أَوْ عُرْوَةَ مَزَادَةٍ، وَهِيَ السُّفْرَةُ مِنْ جِلْدٍ، أَوْ لِحَاءِ شَجَرَةٍ أَيْ قِشْرَهَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ عَلَامَةً عَلَى أَنَّهُ هَدْيٌ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يَكُونُ تَقْلِيدُهَا وَهِيَ مُسْتَقْبِلَةَ الْقِبْلَةِ، وَيُقَلِّدُ الْبَدَنَةَ وَهِيَ بَارِكَةٌ.وَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَنْبَغِي إِذَا قَلَّدَ نَعْلَيْنِ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا قِيمَةٌ لِيَتَصَدَّقَ بِهِمَا.

تَقْلِيدُ الْهَدْيِ هَلْ يَكُونُ بِهِ الْإِنْسَانُ مُحْرِمًا؟:

7- لَا يَنْعَقِدُ الْإِحْرَامُ إِلاَّ بِنِيَّةِ الدُّخُولِ فِي النُّسُكِ.وَلَا يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ تَلْبِيَةٌ أَوْ ذِكْرٌ مُعَيَّنٌ أَوْ خُصُوصِيَّةٌ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْإِحْرَامِ كَتَقْلِيدِ الْهَدْيِ.وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ).

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَا بُدَّ لِيَكُونَ الرَّجُلُ مُحْرِمًا عِنْدَهُمْ، مَعَ نِيَّةِ الدُّخُولِ فِي النُّسُكِ مِنْ ذِكْرٍ أَوْ خُصُوصِيَّةٍ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْإِحْرَامِ.وَالْخُصُوصِيَّاتُ مِنْهَا: أَنْ يُشْعِرَ بُدْنَهُ، أَوْ يُقَلِّدَهَا، تَطَوُّعًا، أَوْ نَذْرًا، أَوْ جَزَاءَ صَيْدٍ، أَوْ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَيَتَوَجَّهُ مَعَهَا يُرِيدُ الْحَجَّ أَوِ الْعُمْرَةَ.فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَحْرَمَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَلْبِيَةٌ.

قَالُوا: لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «مَنْ قَلَّدَ بُدْنَهُ فَقَدْ أَحْرَمَ».

وَلِأَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ فِي مَعْنَى التَّلْبِيَةِ فِي إِظْهَارِ الْإِجَابَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ إِلاَّ مُرِيدُ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، وَإِظْهَارُ الْإِجَابَةِ قَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ كَمَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ، فَيَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا لِاتِّصَالِ النِّيَّةِ بِفِعْلٍ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ.وَلَوْ قَلَّدَ هَدْيًا دُونَ أَنْ يَنْوِيَ، أَوْ دُونَ أَنْ يَسُوقَهُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْبَيْتِ، فَلَا يَكُونُ مُحْرِمًا.وَلَوْ قَلَّدَهُ وَأَرْسَلَ بِهِ وَلَمْ يَسُقْهُ لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «كُنْتُ أَفْتِلُ الْقَلَائِدَ لِهَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَيَبْعَثُ بِهِ ثُمَّ يُقِيمُ فِينَا حَلَالًا» قَالُوا: ثُمَّ إِنْ تَوَجَّهَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا حَتَّى يَلْحَقَ الْهَدْيَ، لِأَنَّهُ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ هَدْيٌ يَسُوقُهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إِلاَّ مُجَرَّدُ النِّيَّةِ، فَلَا يَصِيرُ بِهَا مُحْرِمًا، إِلاَّ هَدْيُ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُحْرِمًا بِتَقْلِيدِهِ وَبِالتَّوَجُّهِ وَلَوْ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ الْهَدْيَ الَّذِي بَعَثَهُ أَمَامَهُ.هَذَا، وَإِنْ كَانَ الْهَدْيُ الَّذِي قَلَّدَهُ وَسَاقَهُ مِنَ الْغَنَمِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ بِذَلِكَ مُحْرِمًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْغَنَمَ لَا يُسَنُّ تَقْلِيدُهَا عِنْدَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ. تَعَيُّنُ الْهَدْيِ وَلُزُومُهُ بِالتَّقْلِيدِ:

8- يَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَلَّدَ الْهَدْيَ بِالنِّيَّةِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ إِهْدَاؤُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ.قَالَ الدَّرْدِيرُ: يَجِبُ إِنْفَاذُ مَا قَلَّدَ مَعِيبًا لِوُجُوبِهِ بِالتَّقْلِيدِ وَإِنْ لَمْ يُجْزِهِ.أَيْ وَإِنْ لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ هَدْيٍ وَاجِبٍ بِتَمَتُّعٍ أَوْ قِرَانٍ أَوْ نَذْرٍ غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مَا قُلِّدَ مِنَ الْهَدْيِ يُبَاعُ فِي الدُّيُونِ السَّابِقَةِ مَا لَمْ يُذْبَحْ، وَلَا يُبَاعُ فِي الدُّيُونِ اللاَّحِقَةِ.قَالُوا: وَلَوْ وُجِدَ الْهَدْيُ الْمَسْرُوقُ أَوِ الضَّالُّ بَعْدَ نَحْرِ بَدَلِهِ نَحَرَ الْمَوْجُودَ أَيْضًا إِنْ قُلِّدَ، لِتَعَيُّنِهِ بِالتَّقْلِيدِ.وَإِنْ وُجِدَ الضَّالُّ قَبْلَ نَحْرِ الْبَدَلِ نَحَرَهُمَا مَعًا إِنْ قَلِّدَا لِتَعَيُّنِهِمَا بِالتَّقْلِيدِ.وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مُقَلَّدَيْنِ أَوْ كَانَ الْمُقَلَّدُ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ، يَتَعَيَّنُ الْمُقَلَّدُ.وَجَازَ بَيْعُ الْآخَرِ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ.

وَيَنُصُّ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ يَجِبُ بِهِ ذَلِكَ الْهَدْيُ، إِذَا نَوَى أَنَّهُ هَدْيٌ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ بِلِسَانِهِ إِنَّهُ هَدْيٌ، فَيَتَعَيَّنُ بِذَلِكَ وَيَصِيرُ وَاجِبًا مُعَيَّنًا يَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ بِعَيْنِهِ دُونَ ذِمَّةِ صَاحِبِهِ.وَحُكْمُهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ كَالْوَدِيعَةِ يَلْزَمُهُ حِفْظُهُ وَإِيصَالُهُ إِلَى مَحَلِّهِ، فَإِنْ تَلِفَ أَوْ سُرِقَ أَوْ ضَلَّ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَيُصَرِّحُونَ بِأَنَّ تَقْلِيدَ الرَّجُلِ نَعَمَهُ وَإِشْعَارَهَا لَا يَكُونُ بِهِ النَّعَمُ هَدْيًا، وَلَوْ نَوَاهُ مَا لَمْ يَنْطِقْ بِذَلِكَ، عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، كَمَا لَوْ كَتَبَ الْوَقْفَ عَلَى بَابِ دَارِهِ.

ثَانِيًا: تَقْلِيدُ التَّمَائِمِ وَمَا يُتَعَوَّذُ بِهِ:

9- الْمُرَادُ بِتَقْلِيدِ التَّمَائِمِ وَالتَّعْوِيذَاتِ جَعْلُهَا فِي عُنُقِ الصَّبِيِّ أَوِ الصَّبِيَّةِ أَوِ الدَّابَّةِ وَنَحْوِهَا.كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا تَجْلِبُ الْخَيْرَ أَوْ تَدْفَعُ الْأَذَى وَالْعَيْنَ.وَيُنْظَرُ حُكْمُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَعْوِيذَةٌ).

ثَالِثًا: تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ:

10- التَّقْلِيدُ قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، كَأَخْذِ الْعَامِّيِّ مِنَ الْمُجْتَهِدِ فَالرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لَيْسَ تَقْلِيدًا، وَالرُّجُوعُ إِلَى الْإِجْمَاعِ لَيْسَ تَقْلِيدًا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رُجُوعٌ إِلَى مَا هُوَ الْحُجَّةُ فِي نَفْسِهِ. حُكْمُ التَّقْلِيدِ:

11- أَهْلُ التَّقْلِيدِ لَيْسُوا طَبَقَةً مِنْ طَبَقَاتِ الْفُقَهَاءِ، فَالْمُقَلِّدُ لَيْسَ فَقِيهًا، فَإِنَّ الْفِقْهَ مَمْدُوحٌ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَالتَّقْلِيدُ مَذْمُومٌ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعٌ مِنَ التَّقْصِيرِ.

أ- حُكْمُ التَّقْلِيدِ فِي الْعَقَائِدِ:

12- التَّقْلِيدُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ فِي الْعَقَائِدِ، كَوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَوُجُوبِ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَمَعْرِفَةِ صِدْقِ رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- فَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مِنَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْعِلْمِ وَإِلَى طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ، وَمَعْرِفَةِ أَدِلَّةِ ذَلِكَ.وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ لِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ التَّقْلِيدَ فِي الْعَقِيدَةِ بِمِثْلِ قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} وَلَمَّا نَزَلَ قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُِولِي الْأَلْبَابِ} قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ.وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا».

وَلِأَنَّ الْمُقَلِّدَ فِي ذَلِكَ يَجُوزُ الْخَطَأُ عَلَى مُقَلَّدِهِ، وَيَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِي إِخْبَارِهِ، وَلَا يَكْفِي التَّعْوِيلُ فِي ذَلِكَ عَلَى سُكُونِ النَّفْسِ إِلَى صِدْقِ الْمُقَلَّدِ، إِذْ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ سُكُونِ أَنْفُسِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَلَّدُوا أَسْلَافَهُمْ وَسَكَنَتْ قُلُوبُهُمْ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ، فَعَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِالتَّقْلِيدِ فِي الْعَقَائِدِ، وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى الظَّاهِرِيَّةِ.

ثُمَّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ يُلْحَقُ بِالْعَقَائِدِ فِي هَذَا الْأَمْرِ كُلُّ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا تَقْلِيدَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهِ يَحْصُلُ بِالتَّوَاتُرِ وَالْإِجْمَاعِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْأَخْذُ بِأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةِ.

ب- حُكْمُ التَّقْلِيدِ فِي الْفُرُوعِ:

13- اخْتُلِفَ فِي التَّقْلِيدِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى رَأْيَيْنِ:

الْأَوَّلُ: جَوَازُ التَّقْلِيدِ فِيهَا وَهُوَ رَأْيُ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ قَالُوا: لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِيهَا إِمَّا مُصِيبٌ وَإِمَّا مُخْطِئٌ مُثَابٌ غَيْرُ آثِمٍ، فَجَازَ التَّقْلِيدُ فِيهَا، بَلْ وَجَبَ عَلَى الْعَامِّيِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِالْعَمَلِ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْأَدِلَّةِ عَلَيْهَا خَفَاءٌ يُحْوِجُ إِلَى النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ، وَتَكْلِيفُ الْعَوَّامِ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ يُؤَدِّي إِلَى انْقِطَاعِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، وَتَعْطِيلِ الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ، فَيُؤَدِّي إِلَى الْخَرَابِ، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهم- كَانَ يُفْتِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيُفْتُونَ غَيْرَهُمْ، وَلَا يَأْمُرُونَهُمْ بِنَيْلِ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ.وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِسُؤَالِ الْعُلَمَاءِ فِي قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.

الثَّانِي: إِنَّ التَّقْلِيدَ مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ.قَالَ بِذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَابْنُ الْقَيِّمِ، وَالشَّوْكَانِيُّ، وَغَيْرُهُمْ.وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ التَّقْلِيدَ بِقَوْلِهِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} وَقَوْلِهِ {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَإِنَّ الْأَئِمَّةَ قَدْ نَهَوْا عَنْ تَقْلِيدِهِمْ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ بِقَوْلِنَا حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قُلْنَاهُ.وَقَالَ الْمُزَنِيُّ فِي أَوَّلِ مُخْتَصَرِهِ: اخْتَصَرْتُ هَذَا مِنْ عِلْمِ الشَّافِعِيِّ، وَمِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ مَعَ إِعْلَامِهِ نَهْيَهُ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ لِيُنْظَرَ فِيهِ لِدِينِهِ وَيَحْتَاطَ لِنَفْسِهِ وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا تُقَلِّدْنِي، وَلَا تُقَلِّدْ مَالِكًا وَلَا الثَّوْرِيَّ، وَلَا الْأَوْزَاعِيَّ، وَخُذْ مِنْ حَيْثُ أَخَذُوا.

وَفِي بَعْضِ كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ أَنَّ التَّقْلِيدَ الَّذِي يَرَى امْتِنَاعَهُ هُوَ (اتِّخَاذُ أَقْوَالِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ بِمَنْزِلَةِ نُصُوصِ الشَّارِعِ لَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلٍ سِوَاهُ، بَلْ لَا إِلَى نُصُوصِ الشَّارِعِ، إِلاَّ إِذَا وَافَقَتْ نُصُوصَ قَوْلِهِ.قَالَ فَهَذَا هُوَ التَّقْلِيدُ الَّذِي أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ فِي دِينِ اللَّهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الْأُمَّةِ إِلاَّ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ).

وَأَثْبَتَ ابْنُ الْقَيِّمِ وَالشَّوْكَانِيُّ فَوْقَ التَّقْلِيدِ مَرْتَبَةً أَقَلَّ مِنَ الِاجْتِهَادِ، هِيَ مَرْتَبَةُ الِاتِّبَاعِ، وَحَقِيقَتُهَا الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْغَيْرِ مَعَ مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِ، عَلَى حَدِّ مَا وَرَدَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَقَالَتَنَا حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قُلْنَا).غَيْرَ أَنَّ التَّقْلِيدَ يَجُوزُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ.وَمِنْ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَظْفَرِ الْعَالِمُ بِنَصٍّ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، وَلَمْ يَجِدْ إِلاَّ قَوْلَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، فَيُقَلِّدُهُ.أَمَّا التَّقْلِيدُ الْمُحَرَّمُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ مُتَمَكِّنًا مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَعْدِلُ إِلَى التَّقْلِيدِ، فَهُوَ كَمَنْ يَعْدِلُ إِلَى الْمَيْتَةِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمُذَكَّى.

وَالتَّقْلِيدُ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الِاجْتِهَادِ، أَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ لَكِنْ لَمْ يَجِدِ الْوَقْتَ لِذَلِكَ، فَهِيَ حَالُ ضَرُورَةٍ كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ.وَقَدْ أَفْتَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ: إِذَا سُئِلْتُ عَنْ مَسْأَلَةٍ لَمْ أَعْرِفْ فِيهَا خَبَرًا أَفْتَيْتُ فِيهَا بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ إِمَامٌ عَالِمٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَسُبُّوا قُرَيْشًا، فَإِنَّ عَالِمَهَا يَمْلأَُ طِبَاقَ الْأَرْضِ عِلْمًا».

شُرُوطُ مَنْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ:

14- لَا يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يَسْتَفْتِيَ إِلاَّ مَنْ يَعْرِفُهُ بِالْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ، أَمَّا مَنْ عَرَفَهُ بِالْجَهْلِ فَلَا يَسْأَلُهُ اتِّفَاقًا، وَكَذَا لَا يَسْأَلُ مَنْ عَرَفَهُ بِالْفِسْقِ.وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِمَا يَرَاهُ مِنَ انْتِصَابِهِ لِلْفُتْيَا وَأَخْذِ النَّاسِ عَنْهُ بِمَشْهَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمَا يَلْمَحُهُ فِيهِ مِنْ سِمَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالسَّتْرِ، أَوْ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ ثِقَةٌ.قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَفْتَى إِلاَّ مَنْ يُفْتِي بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ.

أَمَّا مَجْهُولُ الْحَالِ فِي الْعِلْمِ فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ إِذْ قَدْ يَكُونُ أَجْهَلَ مِنَ السَّائِلِ.

وَأَمَّا مَجْهُولُ الْحَالِ فِي الْعَدَالَةِ فَقَدْ قِيلَ: لَا بُدَّ مِنَ السُّؤَالِ عَنْهُ مِنْ عَدْلٍ أَوْ عَدْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ كَذِبَهُ وَتَدْلِيسَهُ، وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُ السُّؤَالُ عَنِ الْعَدَالَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُلَمَاءِ الْعَدَالَةُ.

وَلَا يُقَلِّدُ مُتَسَاهِلًا فِي الْفُتْيَا، وَلَا مَنْ يَبْتَغِي الْحِيَلَ الْمُحَرَّمَةَ، وَلَا مَنْ يَذْهَبُ إِلَى الْأَقْوَالِ الشَّاذَّةِ الَّتِي يُنْكِرُهَا الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ.

مَنْ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ:

15- تَقَدَّمَ أَنَّ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ هُوَ الْعَامِّيُّ وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِ مِنْ غَيْرِ الْقَادِرِينَ عَلَى الِاجْتِهَادِ.وَكَذَلِكَ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ إِذَا اسْتَشْعَرَ الْفَوَاتَ لَوِ اشْتَغَلَ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ، فَلَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مُجْتَهِدًا.

فَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ لَوْ أَرَادَ التَّقْلِيدَ مَعَ سَعَةِ الْوَقْتِ وَإِمْكَانِ الِاجْتِهَادِ فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ.وَقِيلَ: يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ. وَدَلِيلُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الِاجْتِهَادَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنَّ اجْتِهَادَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ يُضَاهِي النَّصَّ، فَلَا يَعْدِلُ عَنِ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ إِمْكَانِهِ، كَمَا لَا يَعْدِلُ عَنِ النَّصِّ إِلَى الْقِيَاسِ.أَمَّا إِنِ اجْتَهَدَ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلِاجْتِهَادِ، فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ وَيَصِيرَ إِلَى الْعَمَلِ أَوِ الْإِفْتَاءِ بِقَوْلِ غَيْرِهِ تَقْلِيدًا لِمَنْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ، قَالَ صَاحِبُ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ: «إِجْمَاعًا» أَيْ بِإِجْمَاعِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّ مَا عَلِمَهُ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ فَلَا يَتْرُكُهُ لِقَوْلِ أَحَدٍ.وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ الْقَاضِيَ الْمُجْتَهِدَ حَكَمَ بِالتَّقْلِيدِ نَفَذَ حُكْمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى رِوَايَةٍ، وَلَمْ يَنْفُذْ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَلَا عَلَى قَوْلِ الصَّاحِبَيْنِ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِتَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ يَجِبُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ أَنْ يُقَلِّدَ فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ حُكْمُ الشَّرْعِ فِيهِ، فَيَكُونُ مُجْتَهِدًا فِي الْبَعْضِ مُقَلِّدًا فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَلَكِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مَا دَامَ عَالِمًا فَلَا يُقَلِّدُ إِلاَّ بِشَرْطِ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ وَجْهُ الصِّحَّةِ، بِأَنْ يُظْهِرَهُ لَهُ الْمُجْتَهِدُ الْآخَرُ.

وَأَيْضًا قَدْ يُقَلِّدُ الْعَالِمَ فِي الثُّبُوتِ، كَمَنْ قَلَّدَ الْبُخَارِيَّ فِي تَصْحِيحِ الْحَدِيثِ، ثُمَّ يَجْتَهِدُ فِي الدَّلَالَةِ أَوِ الْقِيَاسِ أَوْ دَفْعِ التَّعَارُضِ بِنَاءً عَلَى مَا ثَبَتَ عِنْدَ غَيْرِهِ.

تَعَدُّدُ الْمُفْتِينَ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى الْمُقَلِّدِ:

16- إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إِلاَّ مُفْتٍ وَاحِدٌ وَجَبَ عَلَى الْمُقَلِّدِ مُرَاجَعَتُهُ وَالْعَمَلُ بِمَا أَفْتَاهُ بِهِ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ.وَإِنْ تَعَدَّدَ الْمُفْتُونَ وَكُلُّهُمْ أَهْلٌ، فَلِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَلَا يَلْزَمُهُ مُرَاجَعَةُ الْأَعْلَمِ، وَذَلِكَ لِمَا عُلِمَ أَنَّ الْعَوَامَّ فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَسْأَلُونَ الْفَاضِلَ وَالْمَفْضُولَ، وَلَمْ يُحْجَرْ عَلَى أَحَدٍ فِي سُؤَالِ غَيْرِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ.فَلَا يَلْزَمُ إِلاَّ مُرَاعَاةُ الْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ.

لَكِنْ إِذَا تَنَاقَضَ قَوْلُ عَالِمَيْنِ، فَأَفْتَاهُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ مَا أَفْتَاهُ بِهِ الْآخَرُ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَخْذُ بِقَوْلِ مَنْ يَرَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ الْأَفْضَلُ مِنْهُمَا فِي عِلْمِهِ وَدِينِهِ.فَوَاجِبُهُ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمُقَلَّدِينَ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ.قَالَ صَاحِبُ مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى: يَحْرُمُ الْحُكْمُ وَالْفُتْيَا بِقَوْلٍ أَوْ وَجْهٍ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي التَّرْجِيحِ إِجْمَاعًا.وَهَذَا لِأَنَّ الْغَلَطَ عَلَى الْأَعْلَمِ أَبْعَدُ وَمِنَ الْأَقَلِّ عِلْمًا أَقْرَبُ.وَلَيْسَ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ بِالْخِيَارِ يَأْخُذُ مَا شَاءَ وَيَتْرُكُ مَا شَاءَ، وَخَاصَّةً إِذَا تَتَبَّعَ الرُّخَصَ لِيَأْخُذَ بِمَا يَهْوَاهُ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي.وَذَلِكَ كَمَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ وَاجِبُهُ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَلَيْسَ لَهُ التَّخَيُّرُ مِنْهَا اتِّفَاقًا.وَاَلَّذِينَ أَجَازُوا التَّخَيُّرَ- وَهُمْ قِلَّةٌ- إِنَّمَا أَجَازُوهُ عِنْدَ عَدَمِ إِمْكَانِ التَّرْجِيحِ.وَيُنْظَرُ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ وَالتَّفْصِيلُ فِيهِ فِي مَوْضِعِهِ مِنَ الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ، إِذْ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ.

تَقْلِيدُ الْمَذَاهِبِ:

17- قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: اخْتَلَفَ الْمُجَوِّزُونَ لِلتَّقْلِيدِ هَلْ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ: يَلْزَمُهُ، وَاخْتَارَهُ إِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ.وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَلْزَمُهُ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ بُرْهَانٍ وَالنَّوَوِيُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ.وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهم- لَمْ يُنْكِرُوا عَلَى الْعَامَّةِ تَقْلِيدَ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ وَبَعْضِهِمْ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ.وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يُقَلِّدُونَ مَنْ شَاءُوا قَبْلَ ظُهُورِ الْمَذَاهِبِ.وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ بِعَزَائِمِهِ وَرُخَصِهِ، إِلاَّ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى بِالِالْتِزَامِ مِنْهُ.قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي أَمْرٍ فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ، وَلَا يَتْبَعُ أَحَدًا فِي مُخَالَفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَيْضًا الْخُرُوجُ عَنْهُ بِتَقْلِيدٍ سَائِغٍ، أَيْ بِتَقْلِيدِ عَالِمٍ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ أَفْتَاهُ.

أَثَرُ الْعَمَلِ بِالتَّقْلِيدِ الصَّحِيحِ:

18- مَنْ عَمِلَ بِتَقْلِيدٍ صَحِيحٍ فَلَا إِنْكَارَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا إِنْكَارَ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ.وَدَعْوَى الْحِسْبَةِ أَيْضًا لَا تَدْخُلُ فِيهَا، وَلِذَلِكَ فَلَا يَمْنَعُهُ الْحَاكِمُ مَا فَعَلَ.وَهَذَا وَاضِحٌ فِيمَا ضَرَرُهُ قَاصِرٌ عَلَى الْمُقَلِّدِ نَفْسِهِ، كَمَنْ مَسَّ فَرْجَهُ ثُمَّ صَلَّى دُونَ أَنْ يَتَوَضَّأَ.لَكِنْ لَوْ كَانَ فِي فِعْلِهِ ضَرَرٌ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْحَاكِمَ أَوِ الْمُحْتَسِبَ إِنْ كَانَ يَرَى حُرْمَةَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ.

وَلَيْسَ مَعْنَى عَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِتَقْلِيدٍ صَحِيحٍ تَرْكَ الْبَيَانِ لَهُ مِنْ عَالِمٍ يَرَى مَرْجُوحِيَّةَ فِعْلِهِ، وَكَانَ الْبَيَانُ دَأْبَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا يَزَالُ، فَضْلًا عَنِ الْأَخْذِ وَالرَّدِّ بَيْنَهُمْ فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ.وَقَدْ يُخَطِّئُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَخَاصَّةً مَنْ خَالَفَ نَصًّا صَحِيحًا سَالِمًا مِنَ الْمُعَارَضَةِ.وَهَذَا وَاضِحٌ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُمُ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ تَخْطِئَةِ الْمُجْتَهِدِ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ.إِلاَّ أَنَّ هَذَا الْبَيَانَ يَكُونُ مَعَ تَمْهِيدِ الْعُذْرِ لِلْمُخَالِفِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَحِفْظِ رُتْبَتِهِ وَإِقَامَةِ هَيْبَتِهِ.وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.وَأَيْضًا لَا تَمْنَعُ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْحَاكِمَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى مُقَلِّدٍ رُفِعَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ بِمَا يَرَاهُ طِبْقًا لِاجْتِهَادِهِ، إِذْ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِخِلَافِ مُعْتَقَدِهِ

إِفْتَاءُ الْمُقَلِّدِ:

19- يُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا، وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ شَرْطَ صِحَّةٍ وَلَكِنَّهُ شَرْطُ أَوْلَوِيَّةٍ، تَسْهِيلًا عَلَى النَّاسِ.

وَصَحَّحَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ إِفْتَاءَ الْمُقَلِّدِ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِ وُجُودِ الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ وَقَيَّدَهُ ابْنُ حَمْدَانَ- مِنَ الْحَنَابِلَةِ- بِالضَّرُورَةِ.وَنَقَلَ الشَّوْكَانِيُّ اشْتِرَاطَ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنْ يَكُونَ الْمُفْتِي أَهْلًا لِلنَّظَرِ مُطَّلِعًا عَلَى مَأْخَذِ مَا يُفْتِي بِهِ وَإِلاَّ فَلَا يَجُوزُ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: الْمُفْتِي يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا سَمِعَ إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُفْتِيًا فِي تِلْكَ الْحَالِ وَإِنَّمَا هُوَ مُخْبِرٌ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَيَكُونُ مَعْمُولًا بِخَبَرِهِ لَا بِفُتْيَاهُ.وَصَحَّحَ الشَّوْكَانِيُّ أَنَّ مَا يُلْقِيهِ الْمُقَلِّدُ عَنْ مُقَلَّدِهِ إِلَى الْمُسْتَفْتِي لَيْسَ مِنَ الْفُتْيَا فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ نَقْلِ قَوْلٍ.قَالَ: الَّذِي أَعْتَقِدُهُ أَنَّ الْمُفْتِيَ الْمُقَلِّدَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ، أَوْ عَنِ الْحَقِّ، أَوْ عَمَّا يَحِلُّ لَهُ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ لَا يَدْرِي بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، بَلْ لَا يَعْرِفُهَا إِلاَّ الْمُجْتَهِدُ.وَهَذَا إِنْ سَأَلَهُ السَّائِلُ سُؤَالًا مُطْلَقًا.وَأَمَّا إِنْ سَأَلَهُ سَائِلٌ عَنْ قَوْلِ فُلَانٍ وَرَأْيِ فُلَانٍ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْقُلَ إِلَيْهِ ذَلِكَ وَيَرْوِيهِ لَهُ إِنْ كَانَ عَارِفًا بِمَذْهَبِهِ.

وَنَقَلَ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنِ الْحَلِيمِيِّ وَالرُّويَانِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِمَا هُوَ مُقَلِّدٌ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُذَكِّرَهُ فِي صُورَةِ مَا يَقُولُهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، بَلْ يُضَيِّفُهُ وَيَحْكِيهِ عَنْ إِمَامِهِ الَّذِي قَلَّدَهُ.قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: فَعَلَى هَذَا مَنْ عَدَدْنَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمُفْتِينَ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ لَيْسُوا عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنَ الْمُفْتِينَ، وَلَكِنَّهُمْ قَامُوا مَقَامَهُمْ وَأَدَّوْا عَنْهُمْ. هَلِ الْمُقَلِّدُ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ؟

20- يَرَى جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْمُقَلِّدَ لَا يُعْتَبَرُ فَقِيهًا، وَلِذَا قَالُوا: إِنَّ رَأْيَهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ عَارِفًا بِالْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ، إِذِ الْجَامِعُ بَيْنَ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ هُوَ الرَّأْيُ، وَلَيْسَ لِلْمُقَلِّدِ رَأْيٌ إِذْ رَأْيُهُ هُوَ عَنْ رَأْيِ إِمَامِهِ.وَهَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَعَلَى أَسَاسِ قَاعِدَةِ جَوَازِ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ، يُعْتَدُّ بِالْمُقَلِّدِ فِي الْإِجْمَاعِ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي يَجْتَهِدُ فِيهَا.

قَضَاءُ الْمُقَلِّدِ:

21- يَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، فِي الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا.وَادَّعَى ابْنُ حَزْمٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وقوله تعالى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وَفَاقِدُ الِاجْتِهَادِ إِنَّمَا يَحْكُمُ بِالتَّقْلِيدِ وَلَا يَعْرِفُ الرَّدَّ إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ وَيَحْكُمَ بِقَوْلِ سِوَاهُ، سَوَاءٌ ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ فَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فِيهِ أَمْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ شَيْءٌ، وَسَوَاءٌ ضَاقَ الْوَقْتُ أَمْ لَمْ يَضِقْ.وَقَالَ سَائِرُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مُقَلِّدًا، لِئَلاَّ تَتَعَطَّلَ أَحْكَامُ النَّاسِ، وَعَلَّلَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ غَرَضَ الْقَضَاءِ فَصْلُ الْخُصُومَاتِ فَإِذَا تَحَقَّقَ بِالتَّقْلِيدِ جَازَ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ تَعَذَّرَ الْقَاضِي الْمُجْتَهِدُ جَازَ تَوْلِيَةُ الْمُقَلِّدِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَتَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ بِأَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يُوَلِّيَهُ سُلْطَانٌ ذُو شَوْكَةٍ، بِخِلَافِ نَائِبِ السُّلْطَانِ، كَالْقَاضِي الْأَكْبَرِ، فَلَا تُعْتَبَرُ تَوْلِيَتُهُ لِقَاضٍ مُقَلِّدٍ ضَرُورَةً.وَيَحْرُمُ عَلَى السُّلْطَانِ تَوْلِيَةُ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُجْتَهِدِ.ثُمَّ لَوْ زَالَتِ الشَّوْكَةُ انْعَزَلَ الْقَاضِي بِزَوَالِهَا.

الثَّانِي: أَنْ لَا يُوجَدَ مُجْتَهِدٌ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، فَإِنْ وُجِدَ مُجْتَهِدٌ صَالِحٌ لِلْقَضَاءِ لَمْ يَجُزْ تَوْلِيَةُ الْمُقَلِّدِ، وَلَمْ تَنْفُذْ تَوْلِيَتُهُ.وَعَلَى قَاضِي الضَّرُورَةِ أَنْ يُرَاجِعَ الْعُلَمَاءَ، وَهَذَا مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ، وَعَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَذْكُرَ مُسْتَنَدَهُ فِي أَحْكَامِهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


18-موسوعة الفقه الكويتية (تهنئة)

تَهْنِئَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّهْنِئَةُ فِي اللُّغَةِ خِلَافُ التَّعْزِيَةِ، يُقَالُ: هَنَّأَهُ بِالْأَمْرِ وَالْوِلَايَةِ تَهْنِئَةً وَتَهْنِيئًا إِذَا قَالَ لَهُ: لِيَهْنِئَك وَلِيَهْنِيكَ، أَوْ هَنِيئًا، وَيُقَالُ: هَنَّأَهُ تَهْنِئَةً وَتَهْنِيًا.وَالْهَنِيءُ وَالْمَهْنَأُ: مَا أَتَاك بِلَا مَشَقَّةٍ وَلَا تَنْغِيصٍ وَلَا كَدَرٍ.

وَالْهَنِيءُ مِنَ الطَّعَامِ: السَّائِغُ، وَاسْتَهْنَأْتُ الطَّعَامَ اسْتَمْرَأْتُهُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: لَا تَخْرُجُ التَّهْنِئَةُ- فِي الْجُمْلَةِ- عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، لَكِنَّهَا فِي مَوَاطِنِهَا قَدْ تَكُونُ لَهَا مَعَانٍ أَخَصُّ كَالتَّبْرِيكِ، وَالتَّبْشِيرِ، وَالتَّرْفِئَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَرِدُ ذِكْرُهُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّبْرِيكُ:

2- التَّبْرِيكُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ بَرَّكَ، يُقَالُ: بَرَّكْتُ عَلَيْهِ تَبْرِيكًا أَيْ قُلْت لَهُ: بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْك، وَبَارَكَ اللَّهُ الشَّيْءَ وَبَارَكَ فِيهِ وَعَلَيْهِ: وَضَعَ فِيهِ الْبَرَكَةَ، وَيَكُونُ مَعْنَى التَّبْرِيكِ عَلَى هَذَا: الدُّعَاءَ لِلْإِنْسَانِ أَوْ غَيْرِهِ بِالْبَرَكَةِ، وَهِيَ النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ وَالسَّعَادَةُ.

وَالتَّبْرِيكُ فِي الِاصْطِلَاحِ: الدُّعَاءُ بِالْبَرَكَةِ وَهِيَ الْخَيْرُ الْإِلَهِيُّ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْ حَيْثُ لَا يُحِسُّ، وَعَلَى وَجْهٍ لَا يُحْصَى وَلَا يُحْصَرُ، وَلِذَا قِيلَ لِكُلِّ مَا يُشَاهَدُ مِنْهُ زِيَادَةٌ غَيْرُ مَحْسُوسَةٍ: هُوَ مُبَارَكٌ، وَفِيهِ بَرَكَةٌ، وَإِلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ أُشِيرُ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ».

ب- التَّبْشِيرُ:

3- وَهُوَ مَصْدَرُ بَشَّرَ، وَمَعْنَاهُ لُغَةً: الْإِخْبَارُ بِالْخَيْرِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِخْبَارِ بِالشَّرِّ إِذَا قُيِّدَ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وَالِاسْمُ: الْبِشَارَةُ، وَالْبِشَارَةُ- بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ- وَالْبِشَارَةُ إِذَا أُطْلِقَتِ اخْتُصَّتْ بِالْخَيْرِ.وَالْبِشَارَةُ- بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ- أَيْضًا: مَا يُعْطَاهُ الْمُبَشِّرُ بِالْأَمْرِ.

وَالتَّبْشِيرُ فِي الِاصْطِلَاحِ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الْبِشَارَةَ بِأَنَّهَا الْخَبَرُ الَّذِي لَا يَكُونُ عِنْدَ الْمُبَشَّرِ عِلْمٌ بِهِ: فَقَدْ عَرَّفَهَا الْعَسْكَرِيُّ بِأَنَّهَا: أَوَّلُ مَا يَصِلُ إِلَيْك مِنَ الْخَبَرِ السَّارِّ فَإِذَا وَصَلَ إِلَيْك ثَانِيًا لَمْ يُسَمَّ بِشَارَةً، وَأَضَافَ: وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ مَنْ قَالَ مَنْ بَشَّرَنِي مِنْ عَبِيدِي بِمَوْلُودٍ فَهُوَ حُرٌّ أَنَّهُ يُعْتَقُ أَوَّلُ مَنْ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ.

وَوُجُودُ الْمُبَشَّرِ بِهِ وَقْتَ الْبِشَارَةِ لَيْسَ بِلَازِمٍ بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقِ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِ التَّبْشِيرِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (بِشَارَةٌ) ج 8 ص 93

ج- التَّرْفِئَةُ:

4- مَصْدَرُ رَفَأَ، يُقَالُ: رَفَّاهُ تَرْفِئَةً وَتَرْفِيًا، وَرَفَّأَهُ تَرْفِئَةً وَتَرْفِيئًا أَيْ دَعَا لَهُ وَقَالَ: بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ، أَيْ: بِالِالْتِئَامِ وَجَمْعِ الشَّمْلِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الرَّفْءِ الِاجْتِمَاعُ وَالتَّلَاؤُمُ، وَمِنْهُ رَفَأَ أَيْ تَزَوَّجَ.

وَعَلَى هَذَا تَكُونُ التَّرْفِئَةُ فِي اللُّغَةِ: التَّهْنِئَةَ بِالنِّكَاحِ.

وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَاهَا فِي الِاصْطِلَاحِ عَنِ الْمَعْنَى فِي اللُّغَةِ.

وَالتَّرْفِئَةُ أَخَصُّ مِنَ التَّهْنِئَةِ؛ لِأَنَّ التَّرْفِئَةَ هِيَ التَّهْنِئَةُ بِالنِّكَاحِ خَاصَّةً، أَمَّا التَّهْنِئَةُ فَتَكُونُ بِالنِّكَاحِ أَوْ بِغَيْرِهِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

5- التَّهْنِئَةُ مُسْتَحَبَّةٌ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّهَا مُشَارَكَةٌ بِالتَّبْرِيكِ وَالدُّعَاءِ- مِنِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ فِيمَا يَسُرُّهُ وَيُرْضِيهِ؛ وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّوَادِّ، وَالتَّرَاحُمِ، وَالتَّعَاطُفِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ تَهْنِئَةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا يَنَالُونَ مِنْ نَعِيمٍ، وَذَلِكَ فِي قوله تعالى {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.

وَالتَّهْنِئَةُ تَكُونُ بِكُلِّ مَا يُسِرُّ وَيُسْعِدُ مِمَّا يُوَافِقُ شَرْعَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ ذَلِكَ: التَّهْنِئَةُ بِالنِّكَاحِ، وَالتَّهْنِئَةُ بِالْمَوْلُودِ، وَالتَّهْنِئَةُ بِالْعِيدِ وَالْأَعْوَامِ وَالْأَشْهُرِ، وَالتَّهْنِئَةُ بِالْقُدُومِ مِنَ السَّفَرِ، وَالتَّهْنِئَةُ بِالْقُدُومِ مِنَ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، وَالتَّهْنِئَةُ بِالطَّعَامِ، وَالتَّهْنِئَةُ بِالْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ.

أَوَّلًا: التَّهْنِئَةُ بِالنِّكَاحِ:

6- وَهِيَ الدُّعَاءُ لِلزَّوْجِ أَوْ لِلزَّوْجَةِ أَوْ لَهُمَا بِالْبَرَكَةِ وَالِالْتِئَامِ وَجَمْعِ الشَّمْلِ وَالذُّرِّيَّةِ الطَّيِّبَةِ.

وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّهْنِئَةِ بِالنِّكَاحِ: أَيِ الدُّعَاءِ لِلزَّوْجِ أَوْ لِلزَّوْجَةِ أَوْ لَهُمَا بِالسُّرُورِ وَعَدَمِ الْكَدَرِ.لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ- رضي الله عنه- أَثَرَ صُفْرَةٍ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: بَارَكَ اللَّهُ لَك، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنه- حِينَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ: بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْك».

وَاسْتِحْبَابُ التَّهْنِئَةِ ثَابِتٌ فِي حَقِّ مَنْ حَضَرَ النِّكَاحَ سَوَاءٌ الْوَلِيُّ أَوْ غَيْرُهُ، وَيَنْبَغِي ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرْ إِذَا لَقِيَ الزَّوْجَ.

وَتَكُونُ التَّهْنِئَةُ عَقِبَ عَقْدِ النِّكَاحِ وَالدُّخُولِ، وَيَطُولُ وَقْتُهَا بِطُولِ الزَّمَنِ عُرْفًا وَذَلِكَ لِمَنْ حَضَرَ الْعَقْدَ أَوِ الدُّخُولَ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَحْضُرْ فَتُسْتَحَبُّ لَهُ التَّهْنِئَةُ إِذَا لَقِيَ الزَّوْجَ مَا لَمْ تَطُلِ الْمُدَّةُ فِي عُرْفِ النَّاسِ.

صِيغَةُ التَّهْنِئَةِ بِالنِّكَاحِ:

7- وَلَفْظُ تَهْنِئَةِ الزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ: بَارَكَ اللَّهُ لَك، وَبَارَكَ عَلَيْك، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثَيْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما- السَّابِقَيْنِ- وَلِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا رَفَّأَ إِنْسَانًا تَزَوَّجَ قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَك، وَبَارَكَ عَلَيْك، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ».

وَلَفْظُ تَهْنِئَةِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ: بَارَكَ اللَّهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا فِي صَاحِبِهِ وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ.

8- وَكَانَتِ التَّرْفِئَةُ بِالنِّكَاحِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِلَفْظِ: بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ، وَجَاءَتِ الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا، وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ التَّرْفِئَةِ بِلَفْظِ، بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّرْفِئَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا كَرَاهَةَ فِيهَا، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يُقَالَ فِي التَّرْفِئَةِ: بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ «عَنْ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي جُشَمَ فَقَالُوا: بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ، فَقَالَ: لَا تَقُولُوا هَكَذَا، وَلَكِنْ قُولُوا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِمْ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ بِمَعْنَاهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «لَا تَقُولُوا ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ نَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، قُولُوا: بَارَكَ اللَّهُ لَهَا فِيك، وَبَارَكَ لَك فِيهَا».

وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ النَّهْيِ عَنِ التَّرْفِئَةِ بِلَفْظِ (بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ)، فَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَا حَمْدَ فِيهِ وَلَا ثَنَاءَ وَلَا ذِكْرَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى بُغْضِ الْبَنَاتِ لِتَخْصِيصِ الْبَنِينَ بِالذِّكْرِ، وَإِلاَّ فَهُوَ دُعَاءٌ بِالِالْتِئَامِ وَالِائْتِلَافِ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- كَرِهَ اللَّفْظَ لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَهُ تَفَاؤُلًا لَا دُعَاءً.فَيَظْهَرُ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ بِصُورَةِ الدُّعَاءِ لَمْ يُكْرَهْ كَأَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَهُمَا وَارْزُقْهُمَا بَنِينَ صَالِحِينَ.

ثَانِيًا: التَّهْنِئَةُ بِالْمَوْلُودِ:

9- التَّهْنِئَةُ بِالْمَوْلُودِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مُسْتَحَبَّةٌ، وَتَكُونُ عِنْدَ الْوِلَادَةِ، وَالْأَوْجَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ امْتِدَادُ زَمَنِهَا ثَلَاثًا بَعْدَ الْعِلْمِ أَوِ الْقُدُومِ مِنَ السَّفَرِ.

وَلَفْظُهَا الَّذِي يَقُولُهُ الْمُهَنِّئُ لِوَالِدِ الْمَوْلُودِ وَنَحْوِهِ، بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي الْوَلَدِ الْمَوْهُوبِ، وَشَكَرْتَ الْوَاهِبَ، وَبَلَغَ أَشُدَّهُ، وَرُزِقْتَ بِرَّهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحُسَيْنِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ عَلَّمَ إِنْسَانًا التَّهْنِئَةَ فَقَالَ: قُلْ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي الْمَوْهُوبِ لَكَ، وَشَكَرْتَ الْوَاهِبَ، وَبَلَغَ أّشُدَّهُ، وَرُزِقْت بِرَّهُ، وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ.

وَيُسْتَحَبُّ لَلْمُهَنَّأِ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الْمُهَنِّئِ فَيَقُولَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، وَرَزَقَكَ مِثْلَهُ، أَوْ: أَجْزَلَ اللَّهُ ثَوَابَك، وَنَحْوَ هَذَا.

ثَالِثًا: التَّهْنِئَةُ بِالْعِيدِ وَالْأَعْوَامِ وَالْأَشْهُرِ:

10- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّهْنِئَةِ بِالْعِيدِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.

فَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ- مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- إِنَّ التَّهْنِئَةَ بِالْعِيدِ بِلَفْظِ» يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ «لَا تُنْكَرُ.

وَعَقَّبَ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا قَالَ- أَيْ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ- كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ فِيهَا شَيْءٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ أَمِيرِ حَاجٍّ: بَلِ الْأَشْبَهُ أَنَّهَا جَائِزَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ فِي الْجُمْلَةِ، ثُمَّ سَاقَ آثَارًا بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي فِعْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَالْمُتَعَامَلُ فِي الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ وَالْمِصْرِيَّةِ: عِيدٌ مُبَارَكٌ عَلَيْكَ وَنَحْوُهُ، وَقَالَ: يُمْكِنُ أَنْ يُلْحَقَ بِذَلِكَ فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ وَالِاسْتِحْبَابِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّلَازُمِ، فَإِنَّ مَنْ قُبِلَتْ طَاعَتُهُ فِي زَمَانٍ كَانَ ذَلِكَ الزَّمَانُ عَلَيْهِ مُبَارَكًا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ الدُّعَاءُ بِالْبَرَكَةِ فِي أُمُورٍ شَتَّى فَيُؤْخَذُ مِنْهُ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ بِهَا هُنَا أَيْضًا.

أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ سُئِلَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ قَوْلِ الرَّجُلِ لِأَخِيهِ يَوْمَ الْعِيدِ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ يُرِيدُ الصَّوْمَ وَفِعْلَ الْخَيْرِ الصَّادِرِ فِي رَمَضَانَ، وَغَفَرَ اللَّهُ لَنَا وَلَكَ فَقَالَ: مَا أَعْرِفُهُ وَلَا أُنْكِرُهُ.قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: مَعْنَاهُ لَا يَعْرِفُهُ سُنَّةً وَلَا يُنْكِرُهُ عَلَى مَنْ يَقُولُهُ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ حَسَنٌ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ، حَتَّى قَالَ الشَّيْخُ الشَّبِيبِيُّ يَجِبُ الْإِتْيَانُ بِهِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِهِ مِنَ الْفِتَنِ وَالْمُقَاطَعَةِ.وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا قَالُوهُ فِي الْقِيَامِ لِمَنْ يَقْدَمُ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ النَّاسِ لِبَعْضِهِمْ فِي الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ: عِيدٌ مُبَارَكٌ، وَأَحْيَاكُمُ اللَّهُ لِأَمْثَالِهِ، لَا شَكَّ فِي جَوَازِ كُلِّ ذَلِكَ بَلْ لَوْ قِيلَ بِوُجُوبِهِ لَمَا بَعُدَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ مَأْمُورُونَ بِإِظْهَارِ الْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ لِبَعْضِهِمْ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ نَقَلَ الرَّمْلِيُّ عَنِ الْقَمُولِيِّ قَوْلَهُ: لَمْ أَرَ لِأَصْحَابِنَا كَلَامًا فِي التَّهْنِئَةِ بِالْعِيدِ وَالْأَعْوَامِ وَالْأَشْهُرِ كَمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ، لَكِنْ نَقَلَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ عَنِ الْحَافِظِ الْمَقْدِسِيِّ أَنَّهُ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَزَالُوا مُخْتَلِفِينَ فِيهِ، وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ مُبَاحٌ لَا سُنَّةَ فِيهِ وَلَا بِدْعَةَ.

ثُمَّ قَالَ الرَّمْلِيُّ: وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: إِنَّهَا مَشْرُوعَةٌ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ الْبَيْهَقِيّ عَقَدَ لِذَلِكَ بَابًا فَقَالَ: بَابُ مَا رُوِيَ فِي قَوْلِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي يَوْمِ الْعِيدِ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْك، وَسَاقَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَخْبَارٍ وَآثَارٍ ضَعِيفَةٍ لَكِنْ مَجْمُوعُهَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَيُحْتَجُّ لِعُمُومِ التَّهْنِئَةِ لِمَا يَحْدُثُ مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ يَنْدَفِعُ مِنْ نِقْمَةٍ بِمَشْرُوعِيَّةِ سُجُودِ الشُّكْرِ وَالتَّعْزِيَةِ، وَبِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ تَوْبَتِهِ لَمَّا تَخَلَّفَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكٍ أَنَّهُ لَمَّا بُشِّرَ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ وَمَضَى إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَامَ إِلَيْهِ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَهَنَّأَهُ.وَكَذَلِكَ نَقَلَ الْقَلْيُوبِيُّ عَنِ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّ التَّهْنِئَةَ بِالْأَعْيَادِ وَالشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ مَنْدُوبَةٌ.قَالَ الْبَيْجُورِيُّ: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.

وَجَاءَ فِي الْمُغْنِي لِابْنِ قُدَامَةَ: قَالَ أَحْمَدُ- رحمه الله-: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ يَوْمَ الْعِيدِ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ، وَقَالَ حَرْبٌ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ قَوْلِ النَّاسِ فِي الْعِيدَيْنِ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، يَرْوِيهِ أَهْلُ الشَّامِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قِيلَ: وَوَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: فَلَا تَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ هَذَا يَوْمَ الْعِيدِ؟ قَالَ: لَا.

وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي تَهْنِئَةِ الْعِيدِ أَحَادِيثَ مِنْهَا أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ زِيَادٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَكَانُوا إِذَا رَجَعُوا مِنَ الْعِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْك، وَقَالَ أَحْمَدُ: إِسْنَادُ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ جَيِّدٌ.

رَابِعًا: التَّهْنِئَةُ بِالْقُدُومِ مِنَ السَّفَرِ:

11- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ تَهْنِئَةَ الْقَادِمِ مِنْ سَفَرٍ وَالسَّلَامَ عَلَيْهِ وَمُعَانَقَتَهُ تَحْسُنُ وَتُسْتَحَبُّ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ تَقْبِيلَ الْقَادِمِ، وَمُصَافَحَتَهُ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَصُنْعَ وَلِيمَةٍ لَهُ تُسَمَّى النَّقِيعَةَ، وَاسْتِقْبَالَهُ وَتَلَقِّيَهُ.مَنْدُوبٌ كَذَلِكَ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ تَعَانَقُوا، وَقَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ فِي بَيْتِي، فَأَتَاهُ فَقَرَعَ الْبَابَ، فَقَامَ إلَيْهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَجُرُّ ثَوْبَهُ فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ».

وَالتَّهْنِئَةُ الْمُسْتَحَبَّةُ لِلْقَادِمِ مِنَ السَّفَرِ تَكُونُ بِلَفْظِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَلَّمَك أَوِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَمَعَ الشَّمْلَ بِكَ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِبْشَارِ بِقُدُومِ الْقَادِمِ.وَلَمْ نَجِدْ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِهَذَا مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.

وَيُهَنَّأُ الْقَادِمُ مِنْ سَفَرٍ كَانَ لِلْغَزْوِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ وَالْعِزِّ وَإِقْرَارِ الْعَيْنِ، وَيُقَالُ لَهُ: مَا وَرَدَ عَلَى لِسَانِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَوْ نَحْوِهِ، فَقَدْ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي غَزْوٍ فَلَمَّا دَخَلَ اسْتَقْبَلْته عَلَى الْبَابِ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَقُلْت: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَصَرَك وَأَعَزَّك وَأَكْرَمَك».

خَامِسًا: التَّهْنِئَةُ بِالْقُدُومِ مِنَ الْحَجِّ:

12- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ أَنْ يُقَالَ لِلْحَاجِّ أَوِ الْمُعْتَمِرِ، تَقَبَّلَ اللَّهُ حَجَّكَ أَوْ عُمْرَتَك، وَغَفَرَ ذَنْبَك، وَأَخْلَفَ عَلَيْك نَفَقَتَك.

التَّهْنِئَةُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ:

13- وَالدُّعَاءُ لِلْآكِلِ وَالشَّارِبِ يَكُونُ بِلَفْظِ هَنِيئًا مَرِيئًا وَنَحْوَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.

التَّهْنِئَةُ بِالنِّعْمَةِ وَدَفْعِ النِّقْمَةِ:

14- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّهْنِئَةِ بِمَا يَحْدُثُ مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ يَنْدَفِعُ مِنْ نِقْمَةٍ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ كَعْبٍ وَتَهْنِئَةِ طَلْحَةَ لَهُ.وَفِيهِ «قَوْلُ كَعْبٍ: فَانْطَلَقْت أَتَأَمَّمُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونَنِي بِالتَّوْبَةِ وَيَقُولُونَ: لِتَهْنِئْكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْك، حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- جَالِسٌ وَحَوْلَهُ النَّاسُ فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ وَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْك مُنْذُ وَلَدَتْك أُمُّك».

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّهْنِئَةَ بِالْأُمُورِ وَالنِّعَمِ الدِّينِيَّةِ الْمُتَجَدِّدَةِ مُسْتَحَبَّةٌ، وَاحْتَجُّوا بِقِصَّةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَمَّا التَّهْنِئَةُ بِالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَأَجَازَهَا بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَحْسُنُ أَوْ تُسْتَحَبُّ.وَلَمْ نَجِدْ مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذَا مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


19-موسوعة الفقه الكويتية (جهل)

جَهْلٌ

التَّعْرِيف:

1- الْجَهْلُ لُغَةً: نَقِيضُ الْعِلْمِ.يُقَالُ جَهِلْتُ الشَّيْءَ جَهْلًا وَجَهَالَةً بِخِلَافِ عَلِمْتُهُ، وَجَهِلَ عَلَى غَيْرِهِ سَفِهَ أَوْ خَطَأَ.

وَجَهِلَ الْحَقَّ أَضَاعَهُ، فَهُوَ جَاهِلٌ وَجَهْلٌ.وَجَهَّلْتُهُ- بِالتَّثْقِيلِ- نَسَبْتُهُ إِلَى الْجَهْلِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قِسْمَانِ: بَسِيطٌ وَمُرَكَّبٌ.

أ- الْجَهْلُ الْبَسِيطُ: هُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ مِمَّنْ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا.

ب- الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ: عِبَارَةٌ عَنِ اعْتِقَادٍ جَازِمٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ.

وَقَدْ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ «جَهَالَةٌ» التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مُصْطَلَحَيْ (جَهْلٌ وَجَهَالَةٌ) فِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ لَهُمَا حَيْثُ يَسْتَعْمِلُونَ الْجَهْلَ فِي حَالَةِ اتِّصَافِ الْإِنْسَانِ بِهِ فِي اعْتِقَادِهِ أَوْ قَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ، وَيَسْتَعْمِلُونَ الْجَهَالَةَ فِي حَالَةِ اتِّصَافِ الشَّيْءِ الْمَجْهُولِ بِهَا (ر: جَهَالَةٌ).

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- النِّسْيَان:

2- النِّسْيَانُ لُغَةً لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: تَرْكُ الشَّيْءِ عَنْ ذُهُولٍ وَغَفْلَةٍ، وَذَلِكَ خِلَافُ الذِّكْرِ لَهُ.

وَالثَّانِي: التَّرْكُ عَنْ تَعَمُّدٍ وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}

أَيْ: لَا تَقْصِدُوا التَّرْكَ وَالْإِهْمَالَ.وَنَسِيتُ رَكْعَةً أَهْمَلْتُهَا ذُهُولًا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنَ الْمَجَازِ نَسِيتُ الشَّيْءَ تَرَكْتُهُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الْغَفْلَةُ عَنْ مَعْلُومٍ فِي غَيْرِ حَالِ السُّنَّةِ، فَلَا يُنَافِي الْوُجُوبَ أَيْ: نَفْسَ الْوُجُوبِ، لَا وُجُوبَ الْأَدَاءِ.

قَالَ الْقَرَافِيُّ: النِّسْيَانُ لَا إِثْمَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، بِخِلَافِ الْجَهْلِ بِمَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِنْسَانِ تَعَلُّمُهُ.وَالنِّسْيَانُ أَيْضًا يَهْجُمُ عَلَى الْعَبْدِ قَهْرًا لَا حِيلَةَ لَهُ فِي دَفْعِهِ عَنْهُ، وَالْجَهْلُ لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِهِ بِالتَّعَلُّمِ.

قَالَ التَّهَانُوِيُّ: وَكَذَا الْغَفْلَةُ وَالذُّهُولُ وَالْجَهْلُ الْبَسِيطُ بَعْدَ الْعِلْمِ يُسَمَّى نِسْيَانًا.

قَالَ الْآمِدِيُّ: إِنَّ الذُّهُولَ وَالْغَفْلَةَ وَالنِّسْيَانَ عِبَارَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، لَكِنْ يَقْرُبُ أَنْ تَكُونَ مَعَانِيهَا مُتَّحِدَةً، وَكُلُّهَا مُضَادَّةٌ لِلْعِلْمِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهَا مَعَهُ.

ب- السَّهْو:

3- السَّهْوُ فِي اللُّغَةِ مِنْ سَهَا يَسْهُو سَهْوًا: أَيْ غَفَلَ، وَالسَّهْوَةُ: الْغَفْلَةُ.

وَفَرَّقُوا بَيْنَ السَّاهِي وَالنَّاسِي بِأَنَّ النَّاسِيَ، إِذَا ذَكَّرْتَهُ تَذَكَّرَ، وَالسَّاهِيَ بِخِلَافِهِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ التَّهَانَوِيُّ: وَيَقْرَبُ مِنْهُ أَيْ مِنَ (الْجَهْلِ) السَّهْوُ وَكَأَنَّهُ جَهْلٌ بَسِيطٌ سَبَبُهُ عَدَمُ اسْتِثْبَاتِ التَّصَوُّرِ حَتَّى إِذَا نُبِّهَ السَّاهِي أَدْنَى تَنْبِيهٍ تَنَبَّهَ.

أَقْسَامُ الْجَهْلِ:

يَنْقَسِمُ الْجَهْلُ إِلَى قِسْمَيْنِ:

أَوَّلًا- الْجَهْلُ الْبَاطِلُ الَّذِي لَا يَصْلُحُ عُذْرًا:

4- وَهَذَا الْقِسْمُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَصْلُحُ عُذْرًا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَقَبُولِ عَقْدِ الذِّمَّةِ مِنَ الذِّمِّيِّ حَتَّى لَا يُقْتَلَ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ عُذْرًا فِي الْآخِرَةِ حَتَّى إِنَّهُ يُعَاقَبُ فِيهَا.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ جَهْلُ الْكُفَّارِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا أَصْلًا، لِأَنَّهُ مُكَابَرَةٌ وَعِنَادٌ بَعْدَ وُضُوحِ الدَّلَائِلِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُبُوبِيَّتِهِ، بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِنْ حُدُوثِ الْعَالَمِ الْمَحْسُوسِ، وَكَذَا عَلَى حَقِّيَّةَ الرَّسُولِ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ.

وَكَذَا جَهْلُ صَاحِبِ الْهَوَى الَّذِي يَقُولُ بِحُدُوثِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ يَقُولُ بِعَدَمِ إِثْبَاتِ صِفَةٍ لَهُ سُبْحَانَهُ.

هَذَا مَا قَالَهُ الْحَمَوِيُّ، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: الْجَهْلُ بِالصِّفَةِ هَلْ هُوَ جَهْلٌ بِالْمَوْصُوفِ مُطْلَقًا أَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ؟

الْمُرَجَّحُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ جَاهِلٌ بِالذَّاتِ مِنْ حَيْثُ صِفَاتُهَا لَا مُطْلَقًا، وَمِنْ ثَمَّ لَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ.

وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ أَيْضًا جَهْلُ مَنْ خَالَفَ فِي اجْتِهَادِهِ الْكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ أَوِ الْإِجْمَاعَ، أَوْ عَمِلَ بِالْغَرِيبِ عَلَى خِلَافِ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعُذْرٍ أَصْلًا.

ثَانِيًا- الْجَهْلُ الَّذِي يَصْلُحُ عُذْرًا:

5- الْجَهْلُ الَّذِي يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا هُوَ الْجَهْلُ الَّذِي يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ الصَّحِيحِ، بِأَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ كَالْمُحْتَجِمِ إِذَا أَفْطَرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْحِجَامَةَ مُفْطِرَةٌ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ جَهْلَهُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ الصَّحِيحِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (حِجَامَةٌ).

وَمِنَ الْجَهْلِ الَّذِي يَصْلُحُ عُذْرًا، الْجَهْلُ بِالشَّرَائِعِ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَكُونُ عُذْرًا مِنْ مُسْلِمٍ أَسْلَمَ فِيهَا وَلَمْ يُهَاجِرْ، حَتَّى لَوْ مَكَثَ فِيهَا وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَغَيْرَهُمَا وَلَمْ يُؤَدِّهَا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهَا خِلَافًا لِزُفَرَ لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ الْخِطَابُ لِعَدَمِ بُلُوغِهِ إِلَيْهِ حَقِيقَةً بِالسَّمَاعِ وَتَقْدِيرًا بِالشُّهْرَةِ، فَيَصِيرُ جَهْلُهُ بِالْخِطَابِ عُذْرًا.بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ إِذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِشُيُوعِ الْأَحْكَامِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ السُّؤَالِ.

قَالَ السُّيُوطِيُّ: كُلُّ مَنْ جَهِلَ تَحْرِيمَ شَيْءٍ مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ غَالِبُ النَّاسِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ دَعْوَى الْجَهْلِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ يَخْفَى فِيهَا مِثْلُ ذَلِكَ، كَتَحْرِيمِ الزِّنَى، وَالْقَتْلِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْخَمْرِ، وَالْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ.

وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لَوْ شَهِدَا بِقَتْلٍ ثُمَّ رَجَعَا وَقَالَا تَعَمَّدْنَا، لَكِنْ مَا عَرَفْنَا أَنَّهُ يُقْتَلُ بِشَهَادَتِنَا فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَصَحِّ، إِذْ لَمْ يَظْهَرْ تَعَمُّدُهُمَا لِلْقَتْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَخْفَى عَلَى الْعَوَامِّ.

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَعْنِي الَّذِي يُقْبَلُ فِيهِ دَعْوَى الْجَهْلِ مُطْلَقًا لِخَفَائِهِ كَوْنُ التَّنَحْنُحِ مُبْطِلًا لِلصَّلَاةِ، أَوْ كَوْنُ الْقَدْرِ الَّذِي أَتَى بِهِ مِنَ الْكَلَامِ مُحَرَّمًا، أَوِ النَّوْعِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ مُفْطِرًا، فَالْأَصَحُّ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ عَدَمُ الْبُطْلَانِ.

وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْجَهْلِ فِي الْأُمُورِ الْمُشْتَهِرَةِ بَيْنَ النَّاسِ كَثُبُوتِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ رَجُلٍ قَدِيمِ الْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ مَا لَا يَعْرِفُهُ إِلاَّ الْخَوَاصُّ.

6- هَذَا وَيَعْقِدُ الْأُصُولِيُّونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بَابًا لِعَوَارِضِ الْأَهْلِيَّةِ، وَيَجْعَلُونَ الْجَهْلَ مِنَ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ، وَقَدْ قَسَّمَ صَاحِبُ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ الْجَهْلَ إِلَى أَنْوَاعٍ هِيَ:

الْأَوَّلُ: الْجَهْلُ الَّذِي يَكُونُ مِنْ مُكَابَرَةِ الْعَقْلِ وَتَرْكِ الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ وَهُوَ جَهْلُ الْكَافِرِ، لَا يَكُونُ عُذْرًا بِحَالٍ، بَلْ يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

الثَّانِي: الْجَهْلُ الَّذِي يَكُونُ عَنْ مُكَابَرَةِ الْعَقْلِ وَتَرْكِ الْحُجَّةِ الْجَلِيَّةِ أَيْضًا، لَكِنَّ الْمُكَابَرَةَ فِيهِ أَقَلُّ مِنْهَا فِي الْأَوَّلِ؛ لِكَوْنِ هَذَا الْجَهْلِ نَاشِئًا عَنْ شُبْهَةٍ مَنْسُوبَةٍ إِلَى الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ.وَهَذَا الْجَهْلُ لِلْفِرَقِ الضَّالَّةِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَهَذَا الْجَهْلُ لَا يَكُونُ عُذْرًا، وَلَا نَتْرُكُهُمْ عَلَى جَهْلِهِمْ، فَإِنَّ لَنَا أَنْ نَأْخُذَهُمْ بِالْحُجَّةِ لِقَبُولِهِمُ التَّدَيُّنَ بِالْإِسْلَامِ.

الثَّالِثُ: جَهْلٌ نَشَأَ عَنِ اجْتِهَادٍ وَدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لَكِنْ فِيمَا لَا يَجُوزُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ بِأَنْ يُخَالِفَ الْكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ أَوِ الْإِجْمَاعَ.

وَحُكْمُهُ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عُذْرًا فِي حَقِّ الْإِثْمِ لَكِنْ لَا يَكُونُ عُذْرًا فِي الْحُكْمِ حَتَّى لَا يَنْفُذَ الْقَضَاءُ بِهِ.

الرَّابِعُ: جَهْلٌ نَشَأَ عَنِ اجْتِهَادٍ فِيهِ مَسَاغٌ كَالْمُجْتَهَدَاتِ وَهُوَ عُذْرٌ أَلْبَتَّةَ وَيَنْفُذُ الْقَضَاءُ عَلَى حَسَبِهِ.

الْخَامِسُ: جَهْلٌ نَشَأَ عَنْ شُبْهَةٍ وَخَطَأٍ كَمَنْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً يَظُنُّ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، وَهَذَا عُذْرٌ يُسْقِطُ الْحَدَّ.

السَّادِسُ: جَهْلٌ لَزِمَهُ ضَرُورَةً بِعُذْرٍ وَهُوَ أَيْضًا عُذْرٌ يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ، كَجَهْلِ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فَلَا يُحَدُّ بِالشُّرْبِ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

الْجَهْلُ بِالتَّحْرِيمِ مُسْقِطٌ لِلْإِثْمِ وَالْحُكْمِ فِي الظَّاهِرِ:

7- الْجَهْلُ بِالتَّحْرِيمِ مُسْقِطٌ لِلْإِثْمِ وَالْحُكْمِ فِي الظَّاهِرِ لِمَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَ الْمُرَتَّبَ عَلَيْهِ لَمْ يُعْذَرْ.

وَلِهَذَا لَوْ جَهِلَ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ عُذِرَ، وَلَوْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ وَجَهِلَ الْإِبْطَالَ بَطَلَتْ.وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ جِنْسَ الْكَلَامِ يَحْرُمُ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ التَّنَحْنُحَ وَالْمِقْدَارَ الَّذِي نَطَقَ بِهِ مُحَرَّمٌ فَمَعْذُورٌ فِي الْأَصَحِّ.وَقَدْ ذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ هُنَا تَنْبِيهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا لَا يَخْتَصُّ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ يَجْرِي فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَفِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا وَادَّعَى الْجَهْلَ بِتَحْرِيمِ الْقَتْلِ وَكَانَ مِثْلُهُ يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي إِسْقَاطِ الْقِصَاصِ وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَفِيمَا قَالَهُ (الْقَاضِي) نَظَرٌ قَوِيٌّ.

الثَّانِي: أَنَّ إِعْذَارَ الْجَاهِلِ مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ لَا مِنْ حَيْثُ جَهْلُهُ.

وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ عُذِرَ الْجَاهِلُ لِأَجْلِ جَهْلِهِ لَكَانَ الْجَهْلُ خَيْرًا مِنَ الْعِلْمِ، إِذْ كَانَ يَحُطُّ عَنِ الْعَبْدِ أَعْبَاءَ التَّكْلِيفِ، وَيُرِيحُ قَلْبَهُ مِنْ ضُرُوبِ التَّعْنِيفِ، فَلَا حُجَّةَ لِلْعَبْدِ فِي جَهْلِهِ بِالْحُكْمِ بَعْدَ التَّبْلِيغِ وَالتَّمْكِينِ؛ {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}.

قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: كُلُّ مَسْأَلَةٍ تَدِقُّ وَيَغْمُضُ مَعْرِفَتُهَا هَلْ يُعْذَرُ فِيهَا الْعَامِّيُّ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ.

الْجَهْلُ بِمَعْنَى اللَّفْظِ مُسْقِطٌ لِحُكْمِهِ:

8- إِذَا نَطَقَ الْأَعْجَمِيُّ بِكَلِمَةِ كُفْرٍ، أَوْ إِيمَانٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ إِعْتَاقٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَلَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ بِمُقْتَضَاهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ إِلَيْهِ.

وَكَذَلِكَ إِذَا نَطَقَ الْعَرَبِيُّ بِمَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ بِلَفْظٍ أَعْجَمِيٍّ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ، فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ.نَعَمْ، لَوْ قَالَ الْأَعْجَمِيُّ: أَرَدْتُ بِهِ مَا يُرَادُ عِنْدَ أَهْلِهِ فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ؛ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ لَا تَتَوَجَّهُ إِلاَّ إِلَى مَعْلُومٍ أَوْ مَظْنُونٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَى اللَّفْظِ لَمْ يَصِحَّ قَصْدُهُ.

وَلَوْ نَطَقَ الْعَرَبِيُّ بِكَلِمَاتٍ عَرَبِيَّةٍ لَكِنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَعَانِيَهَا فِي الشَّرْعِ، مِثْلُ قَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ أَوْ لِلْبِدْعَةِ، وَهُوَ جَاهِلٌ بِمَعْنَى اللَّفْظِ، أَوْ نَطَقَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ أَوِ النِّكَاحِ، فَفِي الْقَوَاعِدِ لِلشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ؛ إِذْ لَا شُعُورَ لَهُ بِمَدْلُولِهِ حَتَّى يَقْصِدَهُ بِاللَّفْظِ.قَالَ: وَكَثِيرًا مَا يُخَالِعُ الْجُهَّالُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ مَدْلُولَ لَفْظِ الْخُلْعِ وَيَحْكُمُونَ بِصِحَّتِهِ لِلْجَهْلِ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ.

مَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ شَيْءٍ وَجَهِلَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ:

9- كُلُّ مَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ شَيْءٍ وَجَهِلَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ لَمْ يُفِدْهُ ذَلِكَ، كَمَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الزِّنَى وَالْخَمْرِ وَجَهِلَ وُجُوبَ الْحَدِّ يُحَدُّ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ حَقُّهُ الِامْتِنَاعَ، وَكَذَا لَوْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الْقَتْلِ وَجَهِلَ وُجُوبَ الْقِصَاصِ يَجِبُ الْقِصَاصُ، أَوْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَجَهِلَ كَوْنَهُ مُبْطِلًا يُبْطِلُ، أَوْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الطِّيبِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَجَهِلَ وُجُوبَ الْفِدْيَةِ تَجِبُ.

الْجَهْلُ عُذْرٌ فِي الْمَنْهِيَّاتِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى:

10- الْجَهْلُ عُذْرٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَنْهِيَّاتِ دُونَ الْمَأْمُورَاتِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ «مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ لَمَّا تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِالْإِعَادَةِ لِجَهْلِهِ بِالنَّهْيِ».وَحَدِيثُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ: حَيْثُ «أَمَرَ - صلى الله عليه وسلم- أَعْرَابِيًّا بِنَزْعِ الْجُبَّةِ عَنْهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْفِدْيَةِ لِجَهْلِهِ».

وَاحْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ مَنْ وَطِئَ فِي الْإِحْرَامِ جَاهِلًا فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ.وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ إِقَامَةُ مَصَالِحِهَا.وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلاَّ بِفِعْلِهَا، وَالْمَنْهِيَّاتُ مَزْجُورٌ عَنْهَا بِسَبَبِ مَفَاسِدِهَا امْتِحَانًا لِلْمُكَلَّفِ بِالِانْكِفَافِ عَنْهَا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالتَّعَمُّدِ لِارْتِكَابِهَا، وَمَعَ الْجَهْلِ لَمْ يَقْصِدْ الْمُكَلَّفُ ارْتِكَابَ الْمَنْهِيِّ، فَعُذِرَ بِالْجَهْلِ فِيهِ.

أَمَّا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَقَدْ لَا يُعْذَرُ، كَمَا لَوْ ضَرَبَ مَرِيضًا جَهِلَ مَرَضَهُ ضَرْبًا يَقْتُلُ الْمَرِيضَ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَصَحِّ.بِخِلَافِ مَا لَوْ حَبَسَ مَنْ بِهِ جُوعٌ وَعَطَشٌ وَلَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ مُدَّةً لَا يَمُوتُ فِيهَا الشَّبْعَانُ عِنْدَ الْحَبْسِ فَلَا قِصَاصَ.

وَكَأَنَّ الْفَرْقَ أَنَّ أَمَارَاتِ الْمَرَضِ لَا تَخْفَى بِخِلَافِ الْجُوعِ.

أَحْكَامُ الْجَهْلِ:

لِلْجَهْلِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ فِي الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ نُجْمِلُهَا فِيمَا يَلِي:

جَهْلُ الْمَرْأَةِ عَادَتَهَا:

11- الْمَرْأَةُ إِذَا جَهِلَتْ عَادَتَهَا لِنِسْيَانٍ أَوْ جُنُونٍ وَنَحْوِهِمَا (وَهِيَ الْمُتَحَيِّرَةُ) سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَحَيُّرِهَا فِي أَمْرِهَا، وَهِيَ الْمُسْتَحَاضَةُ غَيْرُ الْمُمَيِّزَةِ.لَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ؛ لِأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً لِلْقَدْرِ وَالْوَقْتِ، أَوْ لِلْقَدْرِ دُونَ الْوَقْتِ، أَوْ بِالْعَكْسِ.وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي (حَيْضٌ).

الْجَهْلُ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ:

12- مَنْ جَهِلَ الْوَقْتَ لِعَارِضٍ كَغَيْمٍ، أَوْ حَبْسٍ، وَعَدِمَ ثِقَةً يُخْبِرُهُ بِهِ عَنْ عِلْمٍ، اجْتَهَدَ جَوَازًا إِنْ قَدَرَ عَلَى الْيَقِينِ بِالصَّبْرِ أَوِ الْخُرُوجِ وَرُؤْيَةِ الشَّمْسِ مَثَلًا، وَإِلاَّ فَوُجُوبًا بِوِرْدٍ مِنْ قُرْآنٍ، وَدَرْسٍ، وَمُطَالَعَةٍ وَصَلَاةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.وَتَفْصِيلُهُ فِي: (صَلَاةٌ).

الْجَهْلُ بِالنَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ:

13- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى حَامِلًا نَجَاسَةً غَيْرَ مَعْفُوٍّ عَنْهَا وَلَا يَعْلَمُهَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ مِنَ الْخَبَثِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الصِّحَّةِ إِلاَّ حَالَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاةٌ).

الْجَهْلُ بِالْمُطَهَّرِ وَسَاتِرِ الْعَوْرَةِ:

14- إِذَا اخْتَلَطَ مَاءٌ طَاهِرٌ بِآخَرَ نَجِسٍ، وَلَمْ يَعْلَمِ الطَّاهِرَ مِنْهُمَا، هَلْ يَجْتَهِدُ وَيَتَحَرَّى وَيَتَطَهَّرُ وَيُصَلِّي أَمْ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ؟ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (مَاءٌ وَصَلَاةٌ).

وَمِثْلُهُ إِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ ثِيَابٌ طَاهِرَةٌ بِأُخْرَى نَجِسَةٍ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا، وَلَنْ يَجِدَ مَا يُطَهِّرُهَا بِهِ وَاحْتَاجَ إِلَى الصَّلَاةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَالتَّحَرِّي عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيُصَلِّي بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ طَهَارَتُهُ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاةٌ).وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ اشْتِبَاهٌ مِنَ الْمَوْسُوعَةِ ف 13 ج 4 ص 294

الْجَهْلُ بِالْقِبْلَةِ:

15- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} وَمَنْ جَهِلَ الْقِبْلَةَ يَسْأَلُ مَنْ يَعْلَمُهَا، فَإِذَا تَعَذَّرَ السُّؤَالُ اجْتَهَدَ.

عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (اسْتِقْبَالٌ، وَاشْتِبَاهٌ).

الْجَهْلُ بِالْفَاتِحَةِ:

16- مَنْ جَهِلَ الْفَاتِحَةَ بِأَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ مَعْرِفَتُهَا لِعَدَمِ مُعَلِّمٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، أَتَى فِي الصَّلَاةِ بِبَدَلِهَا مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، أَتَى بِالذِّكْرِ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ أَنَّ «رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِينِي عَنْهُ.فَقَالَ: قُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ».وَلَا يُجْزِئُ بِالْأَعْجَمِيَّةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيُجْزِئُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاةٌ).

الْجَهْلُ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ:

17- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ إِنْ جَحَدَهَا وَهُوَ عَالِمٌ بِوُجُوبِهَا يَكْفُرُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ جَاهِلًا بِوُجُوبِهَا كَأَنْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَشَأَ فِي بَادِيَةٍ، أَوْ جَزِيرَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْعُلَمَاءِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي: (رِدَّةٌ، صَلَاةٌ).

الْجَهْلُ بِمُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ:

18- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يُعْذَرُ مَنْ يَجْهَلُ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّكَلُّمَ فِي الصَّلَاةِ يُبْطِلُهَا عَالِمًا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ أَوْ جَاهِلًا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَكَلَّمَ قَلِيلًا جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ إِنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَشَأَ بَعِيدًا عَنِ الْعُلَمَاءِ، بِخِلَافِ مَنْ بَعُدَ إِسْلَامُهُ وَقَرُبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِتَقْصِيرِهِ بِتَرْكِ الْعِلْمِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاةٌ).

قَضَاءُ الْفَوَائِتِ الْمَجْهُولَةِ:

19- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ فَوَائِتُ لَا يَدْرِي عَدَدَهَا وَتَرَكَهَا لِعُذْرٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ حَتَّى يَتَيَقَّنَ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ مِنَ الْفُرُوضِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَعْمَلُ بِأَكْبَرِ رَأْيِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ يَقْضِي حَتَّى يَتَيَقَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ.وَأَمَّا مَنْ تَرَكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءُ الْفَوَائِتِ).

الْجَهْلُ بِوَقْتِ الصَّوْمِ:

20- لَوْ اشْتَبَهَ رَمَضَانُ عَلَى أَسِيرٍ وَمَحْبُوسٍ وَنَحْوِهِمَا، صَامَ وُجُوبًا شَهْرًا بِالِاجْتِهَادِ، كَمَا فِي اجْتِهَادِهِ لِلصَّلَاةِ فِي الْقِبْلَةِ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ بِأَمَارَةٍ كَخَرِيفٍ، أَوْ حَرٍّ، أَوْ بَرْدٍ، فَلَوْ صَامَ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ فَوَافَقَ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِئْهُ لِتَرَدُّدِهِ فِي النِّيَّةِ، (انْظُرْ: اشْتِبَاهٌ ف 15 ج 4 ص 296 وَصَوْمٌ).

جِمَاعُ الصَّائِمِ فِي رَمَضَانَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ:

21- لَا كَفَّارَةَ عَلَى الصَّائِمِ الْجَاهِلِ بِتَحْرِيمِ الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ إِذَا جَامَعَ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (صَوْمٌ، كَفَّارَةٌ).

جِمَاعُ مُحْرِمٍ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ:

22- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الْجِمَاعَ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ جِنَايَةٌ يَجِبُ فِيهَا الْجَزَاءُ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ وَغَيْرُهُمَا.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَاهِلَ إِذَا كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَشَأَ فِي بَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْعُلَمَاءِ لَا يَفْسُدُ إِحْرَامُهُ بِالْجِمَاعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ ف 170 ج 2 ص 190).

الْجَهْلُ لَا يُعْفِي مِنْ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ:

23- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَهْلَ بِكَوْنِ الْمَالِ الْمُتْلَفِ مَالَ الْغَيْرِ لَا يُعْفِيهِ مِنَ الضَّمَانِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (ضَمَانٌ).

الْحَجْرُ عَلَى الطَّبِيبِ الْجَاهِلِ:

24- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِالْحَجْرِ عَلَى الْمُفْتِي الْمَاجِنِ وَالطَّبِيبِ الْجَاهِلِ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ.وَالطَّبِيبُ الْجَاهِلُ: هُوَ مَنْ يَسْقِي النَّاسَ دَوَاءً مُهْلِكًا، وَإِذَا قَوِيَ عَلَيْهِمُ الْمَرَضُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِزَالَةِ ضَرَرِهِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجْرٌ).

طَلَاقُ مَنْ جَهِلَ مَعْنَى الطَّلَاقِ:

25- لَا يَقَعُ طَلَاقُ مَنْ يَجْهَلُ مَعْنَى اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الطَّلَاقِ.

قَالَ فِي الْمُغْنِي: إِنْ قَالَ الْأَعْجَمِيُّ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَلَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُخْتَارٍ لِلطَّلَاقِ فَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ كَالْمُكْرَهِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي: (طَلَاقٌ).

الْجَهْلُ بِتَحْرِيمِ الزِّنَى:

26- يُعْذَرُ الْجَاهِلُ بِتَحْرِيمِ الزِّنَى إِنْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَشَأَ فِي بَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْعُلَمَاءِ أَوْ كَانَ مَجْنُونًا فَأَفَاقَ وَزَنَى قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ الْأَحْكَامَ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلَانِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُودٌ، زِنًى).

الْجَهْلُ بِتَحْرِيمِ السَّرِقَةِ:

27- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ يَدَ السَّارِقِ تُقْطَعُ- بِشَرْطِهِ- سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ أَمْ جَاهِلًا، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ يَدَ السَّارِقِ الْجَاهِلِ لَا تُقْطَعُ.وَتَفْصِيلُهُ فِي: (سَرِقَةٌ).

الْجَهْلُ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ:

28- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَهُوَ يَجْهَلُ أَنَّهَا خَمْرٌ لَا يُحَدُّ، أَمَّا إِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا خَمْرٌ لَكِنَّهُ ادَّعَى الْجَهْلَ بِالتَّحْرِيمِ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.يُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (حُدُودٌ، سُكْرٌ).

تَوْلِيَةُ الْجَاهِلِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَضَاءَ:

29- الْأَصْلُ فِيمَنْ يُوَلَّى الْقَضَاءَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَيَجُوزُ تَوْلِيَةُ غَيْرِهِ الْقَضَاءَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِأَنْ لَمْ يُوجَدِ الْعَالِمُ.وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٌ).

الْجَهْلُ بِالْبَيْعَةِ لِلْإِمَامِ الْأَوَّلِ:

30- إِذَا عُقِدَتِ الْبَيْعَةُ لِإِمَامَيْنِ وَجُهِلَ السَّابِقُ مِنْهُمَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ.وَقَدْ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى، وَبَيْعَةٌ).

التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَعَ الْجَهْلِ:

31- قَالَ الْحَمَوِيُّ: إِنَّ مَنْ تَلَفَّظَ بِلَفْظِ الْكُفْرِ عَنِ اعْتِقَادٍ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَكْفُرُ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهَا

لَفْظُ الْكُفْرِ إِلاَّ أَنَّهُ أَتَى بِهِ عَنِ اخْتِيَارٍ فَيَكْفُرُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَلَا يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ.وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَكْفُرُ، وَالْجَهْلُ عُذْرٌ، وَبِهِ يُفْتَى؛ لِأَنَّ الْمُفْتِيَ مَأْمُورٌ أَنْ يَمِيلَ إِلَى الْقَوْلِ الَّذِي لَا يُوجِبُ التَّكْفِيرَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْجَهْلُ عُذْرًا لَحُكِمَ عَلَى الْجُهَّالِ أَنَّهُمْ كُفَّارٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَلْفَاظَ الْكُفْرِ، وَلَوْ عَرَفُوا لَمْ يَتَكَلَّمُوا، قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَهُوَ حَسَنٌ لَطِيفٌ.

وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً فِي زَمَنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ قِيلَ لَهَا: إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَتْ: لَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِهِمْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ عِبَادُهُ، فَسُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا كَفَرَتْ فَإِنَّهَا جَاهِلَةٌ، فَعَلَّمُوهَا حَتَّى عَلِمَتْ.

وَقَالَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: يَكْفُرُ مَنْ نَسَبَ الْأُمَّةَ إِلَى الضَّلَالِ، أَوِ الصَّحَابَةَ إِلَى الْكُفْرِ، أَوْ أَنْكَرَ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ أَوْ غَيَّرَ شَيْئًا مِنْهُ، أَوْ أَنْكَرَ الدَّلَالَةَ عَلَى اللَّهِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِأَنْ قَالَ: لَيْسَ فِي خَلْقِهِمَا دَلَالَةٌ عَلَيْهِ تَعَالَى، أَوْ أَنْكَرَ بَعْثَ اللَّهِ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ بِأَنْ يَجْمَعَ أَجْزَاءَهُمُ الْأَصْلِيَّةَ وَيُعِيدَ الْأَرْوَاحَ إِلَيْهَا، أَوْ أَنْكَرَ الْجَنَّةَ أَوِ النَّارَ، أَوِ الْحِسَابَ أَوِ الثَّوَابَ أَوِ الْعِقَابَ أَوْ أَقَرَّ بِهَا لَكِنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِهَا غَيْرُ مَعَانِيهَا، أَوْ قَالَ: إِنِّي دَخَلْتُ الْجَنَّةَ وَأَكَلْتُ مِنْ ثِمَارِهَا وَعَانَقْتُ حُورَهَا، أَوْ قَالَ: الْأَئِمَّةُ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، هَذَا إِنْ عَلِمَ مَا قَالَهُ، لَا إِنْ جَهِلَ ذَلِكَ لِقُرْبِ إِسْلَامِهِ، أَوْ بُعْدِهِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَكْفُرُ لِعُذْرِهِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّةٌ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


20-موسوعة الفقه الكويتية (حائل)

حَائِلٌ

التَّعْرِيف:

1- الْحَائِلُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ حَالَتِ الْمَرْأَةُ حِيَالًا إِذَا لَمْ تَحْمِلْ.وَيُسْتَعْمَلُ وَصْفًا لِكُلِّ أُنْثَى لَمْ تَحْمِلْ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ.وَضِدُّ الْحَائِلِ: الْحَامِلُ.

وَالْحَائِلُ أَيْضًا: السَّاتِرُ وَالْحَاجِزُ، وَالْحَاجِبُ مِنْ حَالَ يَحُولُ حَيْلُولَةً بِمَعْنَى حَجَزَ وَمَنَعَ الِاتِّصَالَ، يُقَالُ: حَالَ النَّهْرُ بَيْنَنَا حَيْلُولَةً أَيْ حَجَزَ.وَلَا يَخْرُجُ الِاسْتِعْمَالُ الْفِقْهِيُّ عَنِ الْمَعْنَيَيْنِ السَّابِقَيْنِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

السُّتْرَة:

1- السُّتْرَةُ هِيَ مَا يَنْصِبُهُ الْمُصَلِّي قُدَّامَهُ عَلَامَةً لِلصَّلَاةِ مِنْ عَصًا أَوْ تَسْنِيمِ تُرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَسُمِّيَتْ سُتْرَةً لِأَنَّهَا تَسْتُرُ الْمَارَّ مِنَ الْمُرُورِ أَيْ تَحْجُبُهُ، فَهِيَ أَخَصُّ مِنَ الْحَائِلِ بِمَعْنَى الْحَاجِزِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيّ:

أَوَّلًا- حُكْمُ الْحَائِلِ (بِمَعْنَى غَيْرِ الْحَامِلِ):

3- الْحَوَائِلُ مِنَ النِّسَاءِ يَجُوزُ نِكَاحُهُنَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ، كَالْعِدَّةِ مِنَ الطَّلَاقِ أَوِ الْوَفَاةِ، وَإِذَا طُلِّقْنَ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ- حِيَضٍ أَوْ أَطْهَارٍ- عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، أَوْ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ لِمَنْ لَمْ يَحِضْنَ لِصِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ. (ر: نِكَاحٌ، وَعِدَّةٌ).وَتَخْتَلِفُ الْحَامِلُ عَنِ الْحَائِلِ بِأَحْكَامٍ مُبَيَّنَةٍ فِي مُصْطَلَحَيْ: (حَمْلٌ) (وَحَامِلٌ).

ثَانِيًا- حُكْمُ الْحَائِلِ بِمَعْنَى الْحَاجِزِ:

أ- فِي الْوُضُوءِ:

4- مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) لَمْسُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ وَعَكْسُهُ دُونَ حَائِلٍ.لقوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}.

وَكَذَلِكَ مَسُّ قُبُلِ الْآدَمِيِّ يَنْتَقِضُ بِهِ الْوُضُوءُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ حَائِلٍ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا سِتْرٌ وَلَا حِجَابٌ فَلْيَتَوَضَّأْ».

وَيَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ حَلَقَةِ الدُّبُرِ عَلَى الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ الْمَرْأَةِ وَلَوْ بِغَيْرِ حَائِلٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَة- رضي الله عنها- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ».وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ اللَّمْسِ فِي الْآيَةِ الْجِمَاعُ، كَمَا فَسَّرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه-.

كَذَلِكَ لَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ الْفَرْجِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَلَوْ بِغَيْرِ حَائِلٍ، «لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِطَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ حِينَ سَأَلَهُ: هَلْ فِي مَسِّ الذَّكَرِ وُضُوءٌ؟ قَالَ: لَا هَلْ هُوَ إِلاَّ مُضْغَةٌ مِنْكَ أَوْ بَضْعَةٌ مِنْكَ؟».وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (وُضُوءٌ، وَلَمْسٌ).

ب- فِي الْغُسْلِ:

5- مِنْ مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ إِيلَاجُ الْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرِهَا فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ عَلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَتَوَارَتِ الْحَشَفَةُ وَجَبَ الْغُسْلُ».فَإِذَا كَانَ الْإِيلَاجُ بِغَيْرِ حَائِلٍ وَجَبَ الْغُسْلُ اتِّفَاقًا.أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ.أَمَّا إِذَا كَانَ بِحَائِلٍ فَفِيهِ خِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (غُسْلٌ، وَجَنَابَةٌ).

ج- فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ:

6- الْفَرْضُ فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ يُعَايِنُ الْكَعْبَةَ إِصَابَةُ عَيْنِهَا، أَيْ مُقَابَلَةُ ذَاتِ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ يَقِينًا، وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ.

أَمَّا غَيْرُ الْمُعَايِنِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ حَائِلٌ فَهُوَ كَالْغَائِبِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَيَكْفِيهِ اسْتِقْبَالُ الْجِهَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ لِمَنْ قَرُبَ مِنْهَا إِصَابَةُ الْعَيْنِ، ثُمَّ فَصَّلَ الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: إِنْ تَعَذَّرَتْ إِصَابَةُ الْعَيْنِ بِحَائِلٍ أَصْلِيٍّ، كَجَبَلٍ وَنَحْوِهِ اجْتَهَدَ إِلَى عَيْنِهَا، وَمَعَ حَائِلٍ غَيْرِ أَصْلِيٍّ كَالْمَنَازِلِ لَا بُدَّ مِنْ تَيَقُّنِهِ مُحَاذَاةَ الْقِبْلَةِ بِنَظَرٍ أَوْ خَبَرِ ثِقَةٍ.

وَلَمْ يُفَرِّقِ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْحَائِلِ الْخِلْقِيِّ وَالْحَادِثِ فَقَالُوا: لَوْ كَانَ حَاضِرًا بِمَكَّةَ وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ حَائِلٌ خِلْقِيٌّ كَجَبَلٍ، أَوْ حَادِثٌ كَبِنَاءٍ جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ إِذَا فَقَدَ ثِقَةً يُخْبِرُهُ؛ لِمَا فِي تَكْلِيفِهِ الْمُعَايَنَةَ مِنَ الْمَشَقَّةِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ ج 4 ص 64، 65).

د- مَسُّ الْمُصْحَفِ:

7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ بِالْحَدَثِ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِلَا حَائِلٍ.قَالَ تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}.وَفِي كِتَابِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «أَنْ لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ».

وَاخْتَلَفُوا فِي مَسِّهِ بِحَائِلٍ، كَغِلَافٍ أَوْ كُمٍّ أَوْ نَحْوِهِمَا.

فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ بِالتَّحْرِيمِ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ بِحَائِلٍ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ كَانَ الْحَائِلُ ثَخِينًا، حَيْثُ يُعَدُّ مَاسًّا عُرْفًا.وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِحُرْمَةِ مَسِّ الْمُصْحَفِ وَإِنْ مَسَّهُ بِقَضِيبٍ وَنَحْوِهِ وَكَذَلِكَ مَسُّ جِلْدِ الْمُصْحَفِ وَحَمْلُهُ وَإِنْ بِعَلاَّقَةٍ أَوْ وِسَادَةٍ إِلاَّ بِأَمْتِعَةٍ قَصَدَ حَمْلَهَا.

وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ جَوَازُ مَسِّ الْمُصْحَفِ لِلْمُحْدِثِ بِحَائِلٍ مِمَّا لَا يَتْبَعُهُ فِي الْبَيْعِ كَكِيسٍ وَكُمٍّ.لِأَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا وَرَدَ عَنْ مَسِّهِ، وَمَعَ الْحَائِلِ إِنَّمَا يَكُونُ الْمَسُّ لِلْحَائِلِ دُونَ الْمُصْحَفِ.وَمِثْلُهُ مَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ فَرَّقُوا بَيْنَ الْحَائِلِ الْمُنْفَصِلِ وَالْمُتَّصِلِ فَقَالُوا: يَحْرُمُ مَسُّ الْمُصْحَفِ لِلْمُحْدِثِ إِلاَّ بِغِلَافٍ مُتَجَافٍ- أَيْ غَيْرِ مَخِيطٍ- أَوْ بِصُرَّةٍ.وَالْمُرَادُ بِالْغِلَافِ مَا كَانَ مُنْفَصِلًا كَالْخَرِيطَةِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ الْمُتَّصِلَ بِالْمُصْحَفِ مِنْهُ، وَعَلَى ذَلِكَ الْفَتْوَى.وَتَفْصِيلُهُ فِي بَحْثِ: (مُصْحَفٌ).

هـ- الِاقْتِدَاءُ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ:

8- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ إِذَا حَالَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي جِدَارٌ كَبِيرٌ أَوْ بَابٌ مُغْلَقٌ يَمْنَعُ الْمُقْتَدِيَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى إِمَامِهِ لَوْ قَصَدَ الْوُصُولَ إِلَيْهِ.وَيَصِحُّ إِذَا كَانَ الْحَائِلُ صَغِيرًا لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى عَدَمِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْجِدَارُ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا فَقَالُوا بِجَوَازِ الِاقْتِدَاءِ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ سَمَاعِ الْإِمَامِ أَوْ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ أَوْ رُؤْيَةِ فِعْلِ أَحَدِهِمَا.

وَاتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ إِذَا حَالَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي نَهْرٌ كَبِيرٌ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ، وَمِثْلُهُ الطَّرِيقُ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ تَجْرِيَ فِيهِ عَجَلَةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (اقْتِدَاءٌ ج 6 ص 23، 24).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


21-موسوعة الفقه الكويتية (حبس 2)

حَبْسٌ -2

ب- حَبْسُ الْقَاتِلِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ:

47- مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَبَعْضِ فُقَهَاءِ السَّلَفِ كَأَبِي ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ وَعَطَاءٍ وَابْنِ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْقَاتِلَ عَمْدًا لَا يُحْبَسُ إِذَا عُفِيَ عَنْهُ، إِلاَّ إِذَا عُرِفَ بِالشَّرِّ فَيُؤَدِّبُهُ الْإِمَامُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى فِي قَوْلِ أَبِي ثَوْرٍ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُجْلَدُ مِائَةً وَيُسْجَنُ سَنَةً، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه-، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ.

ج- حَبْسُ الْمُتَسَبِّبِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ دُونَ مُبَاشَرَتِهِ:

48- مِنَ الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا: أَنَّ مَنْ أَمْسَكَ رَجُلًا لآِخَرَ لِيَقْتُلَهُ يُقْتَصُّ مِنَ الْقَاتِلِ وَيُحْبَسُ الْمُمْسِكُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَرَبِيعَةُ لِحَدِيثِ: «يُصْبَرُ الصَّابِرُ وَيُقْتَلُ الْقَاتِلُ».

وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْقَوَدَ عَلَى الْقَاتِلِ وَالْمُمْسِكِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْقَتْلِ، إِلاَّ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْمُمْسِكُ أَنَّ صَاحِبَهُ سَيَقْتُلُ فَيُحْبَسُ سَنَةً وَيُضْرَبُ مِائَةً.وَمَنْ كَتَّفَ إِنْسَانًا وَطَرَحَهُ فِي أَرْضٍ مَسْبَعَةٍ أَوْ ذَاتِ حَيَّاتٍ فَقَتَلَتْهُ يُحْبَسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: حَتَّى يَمُوتَ.

وَمَنْ تَبِعَ رَجُلًا لِيَقْتُلَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ فَأَدْرَكَهُ آخَرُ فَقَطَعَ رِجْلَهُ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْأَوَّلُ فَقَتَلَهُ، فَإِنْ كَانَ قَصْدُ الْقَاطِعِ حَبْسَهُ بِالْقَطْعِ لِيَقْتُلَهُ الْأَوَّلُ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْقَطْعِ، وَيُحْبَسُ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُمْسِكِ بِسَبَبِ قَطْعِ رِجْلِ الْمَقْتُولِ.

د- حَبْسُ الْجَانِي عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ بِالْجُرْحِ وَنَحْوِهِ لِتَعَذُّرِ الْقِصَاصِ:

49- مَنْ جَرَحَ غَيْرَهُ جِرَاحَةً لَا يُسْتَطَاعُ فِي مِثْلِهَا قِصَاصٌ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْأَرْشِ، وَعُوقِبَ وَأُطِيلَ حَبْسُهُ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً ثُمَّ يُخَلَّى عَنْهُ.وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي فَقْءِ الْعَيْنِ.

هـ- الْحَبْسُ لِتَعَذُّرِ الْقِصَاصِ فِي الضَّرْبِ وَاللَّطْمِ:

50- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى إِطَالَةِ حَبْسِ مَنْ ضَرَبَ غَيْرَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، إِذَا احْتَاجَ إِلَى زِيَادَةِ تَأْدِيبٍ لِعَظِيمِ مَا اقْتَرَفَ.وَقَالَ آخَرُونَ بِالتَّعْزِيرِ عَامَّةً.وَذَهَبَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى الْقِصَاصِ فِي ذَلِكَ.

و- حَبْسُ الْعَائِنِ:

51- يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَمْرُ الْعَائِنِ بِالْكَفِّ عَنْ حَسَدِهِ وَإِيذَاءِ النَّاسِ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ أَبَى فَلَهُ مَنْعُهُ مِنْ مُدَاخَلَةِ النَّاسِ وَمُخَالَطَتِهِمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِحَبْسِهِ فِي بَيْتِهِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إِنْ كَانَ فَقِيرًا دَفْعًا لِضَرَرِهِ عَنِ النَّاسِ، وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْبَسُ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَكُفَّ عَنْ حَسَدِهِ وَتَصْفُوَ نَفْسُهُ بِالتَّوْبَةِ.

ز- حَبْسُ الْمُتَسَتِّرِ عَلَى الْقَاتِلِ وَنَحْوِهِ:

52- ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ مَنْ آوَى قَاتِلًا وَنَحْوَهُ مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ أَوْ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لآِدَمِيٍّ، وَمَنَعَهُ مِمَّنْ يَسْتَوْفِي مِنْهُ الْوَاجِبَ بِلَا عُدْوَانٍ فَهُوَ شَرِيكُهُ فِي الْجُرْمِ، وَقَدْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيُعَاقَبُ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ حَتَّى يُمَكِّنَ مِنْهُ أَوْ يَدُلَّ عَلَيْهِ؛ لِتَرْكِهِ وَاجِبَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى.

ح- الْحَبْسُ لِحَالَاتٍ تَتَّصِلُ بِالْقَسَامَةِ:

53- مِمَّا يَتَّصِلُ بِالْحَبْسِ فِي الْقَسَامَةِ: أَنَّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ يُحْبَسُ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْحَلِفِ حَتَّى يَحْلِفَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَابِلَةِ، لَكِنَّ أَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ حَدَّدَ مُدَّةَ الْحَبْسِ فِي ذَلِكَ بِسَنَةٍ، فَإِنْ حَلَفَ وَإِلاَّ أُطْلِقَ وَكَانَتْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ مِنْ مَالِهِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ: لَا يُحْبَسُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ لِنُكُولِهِ، وَلَكِنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الدِّيَةُ.

ط- حَبْسُ مَنْ يُمَارِسُ الطِّبَّ مِنْ غَيْرِ الْمُخْتَصِّينَ:

54- نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الطَّبِيبَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَأَخْطَأَ فِي فِعْلِهِ يُضْرَبُ وَيُحْبَسُ.وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُحْجَرُ عَلَى الطَّبِيبِ الْجَاهِلِ، وَذَلِكَ بِمَنْعِهِ مِنْ عَمَلِهِ حِسًّا مَخَافَةَ إِفْسَادِ أَبْدَانِ النَّاسِ.

حَالَاتُ الْحَبْسِ بِسَبَبِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الدِّينِ وَشَعَائِرِهِ:

أ- الْحَبْسُ لِلرِّدَّةِ:

55- إِذَا ثَبَتَتْ رِدَّةُ الْمُسْلِمِ حُبِسَ حَتَّى تُكْشَفَ شُبْهَتُهُ وَيُسْتَتَابَ.وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا الْحَبْسِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ حَبْسَ الْمُرْتَدِّ لِاسْتِتَابَتِهِ قَبْلَ قَتْلِهِ وَاجِبٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ أُخْبِرَ عَنْ قَتْلِ رَجُلٍ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامٍ فَقَالَ لِقَاتِلِيهِ: أَفَلَا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَقَدَّمْتُمْ لَهُ خُبْزًا، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قَتَلْتُمُوهُ..اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَحْضُرْ وَلَمْ آمُرْ وَلَمْ أَرْضَ إِذْ بَلَغَنِي.فَلَوْ كَانَ حَبْسُهُ غَيْرَ وَاجِبٍ لَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ، وَلَمَا تَبَرَّأَ مِنْ عَمَلِهِمْ، وَقَدْ سَكَتَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلِ عُمَرَ فَكَانَ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا.ثُمَّ إِنَّ اسْتِصْلَاحَ الْمُرْتَدِّ مُمْكِنٌ بِحَبْسِهِ وَاسْتِتَابَتِهِ فَلَا يَجُوزُ إِتْلَافُهُ قَبْلَ ذَلِكَ.وَبِنَحْوِ هَذَا فَعَلَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه-.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ حَبْسَ الْمُرْتَدِّ لِاسْتِتَابَتِهِ قَبْلَ قَتْلِهِ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَنْقُولُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَطَاوُسٍ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لِحَدِيثِ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وَلِأَنَّهُ يَعْرِفُ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ جَاءَتْ رِدَّتُهُ عَنْ تَصْمِيمٍ وَقَصْدٍ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَجِبُ حَبْسُهُ لِاسْتِتَابَتِهِ بَلْ يُسْتَحَبُّ طَمَعًا فِي رُجُوعِهِ الْمَوْهُومِ.وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ بَعَثَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُخْبِرُهُ بِفَتْحِ تُسْتَرَ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ قَوْمٍ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ: مَا أَخْبَارُهُمْ؟ فَقَالَ أَنَسٌ: إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَحِقُوا بِالْمُشْرِكِينَ مَا سَبِيلُهُمْ إِلاَّ الْقَتْلُ.فَقَالَ عُمَرُ: لأَنْ آخُذَهُمْ سِلْمًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ.فَقَالَ أَنَسٌ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِمْ؟ قَالَ عُمَرُ: أَعْرِضُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ فَعَلُوا وَإِلاَّ اسْتَوْدَعْتُهُمُ السِّجْنَ.وَيُرْوَى فِي هَذَا أَيْضًا أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَدِمَ عَلَى أَبِي مُوسَى الْيَمَنَ فَوَجَدَ عِنْدَهُ رَجُلًا مُوثَقًا فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامٍ، ثُمَّ دَعَاهُ إِلَى الْجُلُوسِ فَقَالَ مُعَاذٌ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ هَذَا- ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ.

وَفِي الْمُرْتَدِّ الَّذِي يُحْبَسُ، وَمُدَّةِ حَبْسِهِ وَمَسَائِلَ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِالْمُرْتَدِّ تَفْصِيلَاتٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّةٌ).

ب- الْحَبْسُ لِلزَّنْدَقَةِ:

56- يُطْلَقُ لَفْظُ الزِّنْدِيقِ عَلَى كُلِّ مَنْ أَسَرَّ الْكُفْرَ وَأَظْهَرَ الْإِيمَانَ حَتَّى بَدَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى خَبِيئَةِ نَفْسِهِ.وَلِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ فِي حُكْمِ الزِّنْدِيقِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِذَا عُثِرَ عَلَى الزِّنْدِيقِ يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي دَعْوَى التَّوْبَةِ إِلاَّ إِذَا جَاءَ تَائِبًا قَبْلَ أَنْ يُظْهَرَ عَلَيْهِ.وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلُ اللَّيْثِ وَإِسْحَاقَ.

وَعِلَّةُ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَا تَظْهَرُ مِنْهُ عَلَامَةٌ تُبَيِّنُ رُجُوعَهُ وَتَوْبَتَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُظْهِرًا لِلْإِسْلَامِ مُسِرًّا لِلْكُفْرِ، فَإِذَا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ لَمْ يَزِدْ جَدِيدًا.

الْقَوْلُ الثَّانِي: الزِّنْدِيقُ يُحْبَسُ لِلِاسْتِتَابَةِ كَالْمُرْتَدِّ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ كَابْنِ لُبَابَةَ.اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَكُنْ يَقْتُلُ الْمُنَافِقِينَ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِهِمْ، فَهُوَ الْأُسْوَةُ فِي إِبْقَائِهِمْ عَلَى الْحَيَاةِ وَاسْتِتَابَتِهِمْ كَالْمُرْتَدِّينَ.

ج- حَبْسُ الْمُسِيءِ إِلَى بَيْتِ النُّبُوَّةِ:

57- مَنْ سَبَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ يُضْرَبُ وَيُشَهَّرُ وَيُحْبَسُ طَوِيلًا؛ لِاسْتِخْفَافِهِ بِحَقِّ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-.وَمَنْ شَتَمَ الْعَرَبَ أَوْ لَعَنَهُمْ أَوْ بَنِي هَاشِمٍ سُجِنَ وَضُرِبَ.وَمَنِ انْتَسَبَ كَذِبًا إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- ضُرِبَ وَسُجِنَ وَشُهِّرَ بِهِ لِاسْتِخْفَافِهِ بِحَقِّهِ- عليه الصلاة والسلام-، وَلَا يُخَلَّى عَنْهُ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ.وَمَنْ شَتَمَ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- بِمَا بَرَّأَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ يُسْجَنُ لِلِاسْتِتَابَةِ وَإِلاَّ قُتِلَ لِرِدَّتِهِ وَكُفْرِهِ.وَمَنِ اسْتَخَفَّ بِهَا فَعَلَيْهِ الضَّرْبُ الشَّدِيدُ وَالسَّجْنُ الطَّوِيلُ.وَمَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ أَوِ انْتَقَصَهُمْ أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ يُحْبَسُ وَيُشَدَّدُ عَلَيْهِ فِي السِّجْنِ.

د- الْحَبْسُ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ:

58- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ جُحُودًا وَاسْتِخْفَافًا كَافِرٌ مُرْتَدٌّ، يُحْبَسُ لِلِاسْتِتَابَةِ وَإِلاَّ يُقْتَلْ.وَقَدْ ذَكَرُوا: أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ يَحْصُلُ بِتَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ يَخْرُجُ وَقْتُهَا دُونَ أَدَائِهَا مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى ذَلِكَ.

وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ كَسَلًا وَتَهَاوُنًا مَعَ اعْتِقَادِ وُجُوبِهَا يُدْعَى إِلَيْهَا، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى تَرْكِهَا فَفِي عُقُوبَتِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: يُحْبَسُ تَارِكُ الصَّلَاةِ كَسَلًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِلِاسْتِتَابَةِ وَإِلاَّ قُتِلَ حَدًّا لَا كُفْرًا، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَوَكِيعٍ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: يُحْبَسُ تَارِكُ الصَّلَاةِ كَسَلًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِلِاسْتِتَابَةِ وَإِلاَّ قُتِلَ كُفْرًا وَرِدَّةً، حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ مَنْ جَحَدَهَا وَأَنْكَرَهَا لِعُمُومِ حَدِيثِ: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: يُحْبَسُ تَارِكُ الصَّلَاةِ كَسَلًا وَلَا يُقْتَلُ بَلْ يُضْرَبُ فِي حَبْسِهِ حَتَّى يُصَلِّيَ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبِ الزَّانِي، وَالْمَارِقِ مِنَ الدِّينِ التَّارِكِ الْجَمَاعَةَ» وَتَارِكُ الصَّلَاةِ كَسَلًا لَيْسَ أَحَدَ الثَّلَاثَةِ، فَلَا يَحِلُّ دَمُهُ بَلْ يُحْبَسُ لِامْتِنَاعِهِ مِنْهَا حَتَّى يُؤَدِّيَهَا.

هـ- الْحَبْسُ لِانْتِهَاكِ حُرْمَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ:

59- مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ جُحُودًا وَاسْتِهْزَاءً حُبِسَ لِلِاسْتِتَابَةِ وَإِلاَّ قُتِلَ؛ لِأَنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ.

وَمَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ كَسَلًا وَتَهَاوُنًا لَمْ يَزُلْ عَنْهُ وَصْفُ الْإِسْلَامِ وَلَا يُقْتَلُ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ بَلْ يُعَاقَبُ بِالْحَبْسِ، وَيُمْنَعُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ نَهَارًا لِيَحْصُلَ لَهُ صُورَةُ الصِّيَامِ، وَرُبَّمَا حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَنْوِيَهُ فَيَحْصُلُ لَهُ حِينَئِذٍ حَقِيقَتُهُ.وَنَصَّ الْمَاوَرْدِيُّ عَلَى أَنَّهُ يُحْبَسُ مُدَّةَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ.

وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي رَمَضَانَ يُضْرَبُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، ثُمَّ يُحْبَسُ وَيُضْرَبُ عِشْرِينَ جَلْدَةً تَعْزِيرًا لِحَقِّ رَمَضَانَ.وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-.

و- الْحَبْسُ بِسَبَبِ الْعَمَلِ بِالْبِدْعَةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا:

حَبْسُ الْبِدْعِيِّ الدَّاعِيَةِ:

60- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْبِدْعِيَّ الدَّاعِيَةَ يُمْنَعُ مِنْ نَشْرِ بِدْعَتِهِ، وَيُضْرَبُ وَيُحْبَسُ بِالتَّدَرُّجِ، فَإِذَا لَمْ يَكُفَّ عَنْ ذَلِكَ جَازَ قَتْلُهُ سِيَاسَةً وَزَجْرًا؛ لِأَنَّ فَسَادَهُ أَعْظَمُ وَأَعَمُّ، إِذْ يُؤَثِّرُ فِي الدِّينِ وَيُلَبِّسُ أَمْرَهُ عَلَى الْعَامَّةِ.وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُحْبَسُ وَلَوْ مُؤَبَّدًا حَتَّى يَكُفَّ عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى بِدْعَتِهِ وَلَا يُقْتَلُ، وَبِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ.

حَبْسُ الْمُبْتَدِعِ غَيْرِ الدَّاعِيَةِ:

61- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَبْسِ الْمُبْتَدِعِ غَيْرِ الدَّاعِيَةِ وَضَرْبِهِ إِذَا لَمْ يَنْفَعْ مَعَهُ الْبَيَانُ وَالنُّصْحُ، وَقَالَ آخَرُونَ: يُعَزَّرُ.

وَاتَّجَهَ بَعْضُهُمْ إِلَى جَوَازِ قَتْلِهِ إِذَا لَمْ يَتُبْ.وَقَدْ حَبَسَ عُمَرُ- رضي الله عنه- صَبِيغَ بْنَ عِسْلٍ وَضَرَبَهُ مِرَارًا لِتَتَبُّعِهِ مُشْكِلَ الْقُرْآنِ وَمُتَشَابِهَهُ بِقَصْدِ إِرْسَاءِ مَبْدَأِ الِابْتِدَاعِ وَالْكَيْدِ فِي الدِّينِ مُخَالِفًا بِذَلِكَ قَوَاعِدَ التَّسْلِيمِ لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا كَانَ يَفْعَلُ الصَّحَابَةُ.

ز- الْحَبْسُ لِلتَّسَاهُلِ فِي الْفَتْوَى وَنَحْوِهِ:

حَبْسُ الْمُفْتِي الْمَاجِنِ:

62- نَصَّ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَبْسِ وَتَأْدِيبِ الْمُتَجَرِّئِ عَلَى الْفَتْوَى إِذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهَا.وَنَقَلَ مَالِكٌ عَنْ شَيْخِهِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ: بَعْضُ مَنْ يُفْتِي هَاهُنَا أَحَقُّ بِالسِّجْنِ مِنَ السُّرَّاقِ.وَسُئِلَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَنْ رَجُلٍ يَقُولُ: إِنَّ الِاسْتِمْرَارَ فِي شُرْبِ الدُّخَانِ أَشَدُّ مِنَ الزِّنَى فَمَاذَا يَلْزَمُهُ؟ فَأَجَابَ: يَلْزَمُهُ التَّأْدِيبُ اللاَّئِقُ بِحَالِهِ كَالضَّرْبِ أَوِ السِّجْنِ لِتَجَرُّئِهِ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَغْيِيرِهِ لَهَا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الزِّنَى قَطْعِيَّةٌ إِجْمَاعِيَّةٌ، وَفِي حُرْمَةِ الدُّخَانِ خِلَافٌ.

ح- الْحَبْسُ لِلِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الْكَفَّارَاتِ:

63- ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ مَرْجُوحٍ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ مِنْ أَدَاءِ الْكَفَّارَاتِ يُحْبَسُ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُحْبَسُ بَلْ يُؤَدَّبُ.وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الظِّهَارِ: إِنَّ الْمَرْأَةَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا إِذَا خَافَتْ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا زَوْجُهَا قَبْلَ الْكَفَّارَةِ وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى مَنْعِهِ رَفَعَتْ أَمْرَهَا لِلْحَاكِمِ لِيَمْنَعَهُ مِنْهَا، وَيُؤَدِّبُهُ إِنْ رَأَى ذَلِكَ.فَإِنْ أَصَرَّ الْمُظَاهِرُ عَلَى امْتِنَاعِهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ أَلْزَمَهُ الْقَاضِي بِهَا بِحَبْسِهِ وَضَرْبِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الزَّوْجَةِ إِلَى أَنْ يُكَفِّرَ أَوْ يُطَلِّقَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُعَاشَرَةِ يَفُوتُ بِالتَّأْخِيرِ لَا إِلَى خَلَفٍ، فَاسْتَحَقَّ الْحَبْسَ لِامْتِنَاعِهِ.

حَالَاتُ الْحَبْسِ بِسَبَبِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْأَخْلَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ:

أ- حَبْسُ الْبِكْرِ الزَّانِي بَعْدَ جَلْدِهِ:

64- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْبِكْرِ الزَّانِي مِائَةُ جَلْدَةٍ لِلْآيَةِ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}.وَاخْتَلَفُوا فِي نَفْيِهِ الْوَارِدِ فِي «قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِرَجُلٍ زَنَى ابْنُهُ: وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ».

وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّغْرِيبَ جُزْءٌ مِنْ حَدِّ الزِّنَى، وَهُوَ وَاجِبٌ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَيُبْعَدَانِ عَنْ بَلَدِ الْجَرِيمَةِ إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ إِذَا خِيفَ إِفْسَادُ الْمُغَرَّبِ غَيْرَهُ قُيِّدَ وَحُبِسَ فِي مَنْفَاهُ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ التَّغْرِيبَ جُزْءٌ مِنْ حَدِّ الزِّنَى أَيْضًا، وَهُوَ وَاجِبٌ فِي الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ فَلَا تُغَرَّبُ خَشْيَةً عَلَيْهَا.وَيَنْبَغِي حَبْسُ الرَّجُلِ وُجُوبًا فِي مَنْفَاهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْأَوْزَاعِيِّ لِلْمَنْقُولِ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-.وَقَالَ اللَّخْمِيُّ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: إِذَا تَعَذَّرَ تَغْرِيبُ الْمَرْأَةِ سُجِنَتْ بِمَوْضِعِهَا عَامًا، لَكِنِ الْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ التَّغْرِيبَ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ حَدِّ الزِّنَى، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ السِّيَاسَةِ وَالتَّعْزِيرِ، وَذَلِكَ مُفَوَّضٌ إِلَى الْحَاكِمِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ عُمَرَ- رضي الله عنه- بَعْدَ أَنْ نَفَى رَجُلًا وَلَحِقَ بِالرُّومِ: لَا أَنْفِي بَعْدَهَا أَبَدًا.وَبِقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً.وَقَالُوا: إِنَّ الْمُغَرَّبَ يَفْقِدُ حَيَاءَهُ بِابْتِعَادِهِ عَنْ بَلَدِهِ وَمَعَارِفِهِ فَيَقَعُ فِي الْمَحْظُورِ.لَكِنْ إِذَا رَأَى الْحَاكِمُ حَبْسَهُ فِي بَلَدِهِ مَخَافَةَ فَسَادِهِ فَعَلَ.

ب- حَبْسُ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ:

65- لِلْفُقَهَاءِ عِدَّةُ أَقْوَالٍ فِي عُقُوبَةِ اللِّوَاطِ مِنْهَا قَوْلٌ بِحَبْسِهِمَا.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (زِنًى، وَلِوَاطٌ).

ج- حَبْسُ الْمُتَّهَمِ بِالْقَذْفِ:

66- مَنْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا عَلَى قَذْفِهِ حُبِسَ قَاذِفُهُ لِاسْتِكْمَالِ نِصَابِ الشَّهَادَةِ.وَمَنِ ادَّعَى عَلَى آخَرَ قَذْفَهُ وَبَيِّنَتُهُ فِي الْمِصْرِ يُحْبَسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِيُحْضِرَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ حَتَّى قِيَامِ الْحَاكِمِ مِنْ مَجْلِسِهِ وَإِلاَّ خُلِّيَ سَبِيلُهُ بِغَيْرِ كَفِيلٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِخِلَافِ الشَّافِعِيَّةِ.وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ بِالْقَذْفِ: لَا يُجْلَدُ بَلْ يُسْجَنُ أَبَدًا حَتَّى يَحْلِفَ أَنَّهُ مَا أَرَادَ الْقَذْفَ بَلِ الشَّتْمَ وَالسَّبَّ وَالْفُحْشَ فِي الْكَلَامِ.وَقِيلَ: يُسْجَنُ سَنَةً لِيَحْلِفَ، وَقِيلَ: يُحَدُّ.

د- حَبْسُ الْمُدْمِنِ عَلَى السُّكْرِ تَعْزِيرًا بَعْدَ حَدِّهِ:

67- رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ اسْتَحَبَّ أَنْ يَلْزَمَ مُدْمِنُ الْخَمْرِ السِّجْنَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- جَلَدَ أَبَا مِحْجَنٍ الثَّقَفِيَّ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِيَ مَرَّاتٍ، وَأَمَرَ بِحَبْسِهِ، فَأُوثِقَ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ، ثُمَّ أُطْلِقَ بَعْدَ تَوْبَتِهِ.

هـ- الْحَبْسُ لِلدِّعَارَةِ وَالْفَسَادِ الْخُلُقِيِّ:

68- نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ تَتَبُّعِ أَهْلِ الْفَسَادِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ بِالسَّجْنِ حَتَّى يَتُوبُوا.فَمَنْ قَبَّلَ أَجْنَبِيَّةً أَوْ عَانَقَهَا أَوْ مَسَّهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ بَاشَرَهَا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ يُحْبَسُ إِلَى ظُهُورِ تَوْبَتِهِ.وَمَنْ خَدَعَ الْبَنَاتِ وَأَخْرَجَهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَأَفْسَدَهُنَّ عَلَى آبَائِهِنَّ حُبِسَ.

وَتُحْبَسُ الْمَرْأَةُ الدَّاعِرَةُ وَالْقَوَّادَةُ وَتُضْرَبُ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهَا.

و- الْحَبْسُ لِلتَّخَنُّثِ:

69- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى حَبْسِ الْمُخَنَّثِ تَعْزِيرًا لَهُ حَتَّى يَتُوبَ، وَنُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ- رحمه الله- أَنَّهُ يُحْبَسُ إِذَا خِيفَ بِهِ فَسَادُ النَّاسِ.وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِذَا نُفِيَ الْمُخَنَّثُ وَخِيفَ فَسَادُهُ يُحْبَسُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ.

ز- الْحَبْسُ لِلتَّرَجُّلِ:

70- ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ- رحمه الله- أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُتَشَبِّهَةَ بِالرِّجَالِ تُحْبَسُ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؛ لِأَنَّ جِنْسَ هَذَا الْحَبْسِ مَشْرُوعٌ فِي جِنْسِ الْفَاحِشَةِ وَهُوَ الزِّنَى.وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ حَبْسُهَا عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ فَتُحْبَسُ عَنْ بَعْضِهِمْ فِي دَارٍ وَتُمْنَعُ مِنَ الْخُرُوجِ.

ح- الْحَبْسُ لِكَشْفِ الْعَوْرَاتِ فِي الْحَمَّامَاتِ:

71- نَصَّ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ الْقَاضِي الْأَنْدَلُسِيُّ عَلَى سَجْنِ صَاحِبِ الْحَمَّامِ وَغَلْقِ حَمَّامِهِ إِذَا سَهَّلَ لِلنَّاسِ كَشْفَ عَوْرَاتِهِمْ وَرَضِيَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنَ الدُّخُولِ مَكْشُوفِي الْعَوْرَاتِ.

ط- الْحَبْسُ لِاتِّخَاذِ الْغِنَاءِ صَنْعَةً:

72- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى حَبْسِ الْمُغَنِّي حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً لِتَسَبُّبِهِ فِي الْفِتْنَةِ وَالْفَسَادِ غَالِبًا.

حَالَاتُ الْحَبْسِ بِسَبَبِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَالِ:

أ- حَبْسُ الْعَائِدِ إِلَى السَّرِقَةِ بَعْدَ قَطْعِهِ:

73- إِذَا قُطِعَ السَّارِقُ ثُمَّ عَادَ إِلَى السَّرِقَةِ يُحْبَسُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِمَنْعِ ضَرَرِهِ عَنِ النَّاسِ، عَلَى خِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي تَحْدِيدِ عَدَدِ الْمَرَّاتِ الَّتِي يُقْطَعُ أَوْ يُحْبَسُ بَعْدَهَا. (ر: سَرِقَةٌ).

ب- حَبْسُ السَّارِقِ تَعْزِيرًا لِتَخَلُّفِ مُوجِبِ الْقَطْعِ:

74- نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى حَالَاتٍ يُحْبَسُ فِيهَا السَّارِقُ لِتَخَلُّفِ مُوجِبَاتِ الْقَطْعِ وَمِنْ ذَلِكَ: حَبْسُ مَنِ اعْتَادَ سَرِقَةَ أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ، وَحَبْسُ مَنِ اعْتَادَ سَرِقَةَ بَزَابِيزِ الْمِيَضِ (صَنَابِيرِ الْمَاءِ) وَنِعَالِ الْمُصَلِّينَ.وَنَصُّوا عَلَى حَبْسِ الطَّرَّارِ وَالْقَفَّافِ وَالْمُخْتَلِسِ، وَمَنْ يَدْخُلُ الدَّارَ فَيَجْمَعُ الْمَتَاعَ فَيُمْسَكُ وَلَمَّا يُخْرِجْهُ.وَكُلُّ سَارِقٍ انْتَفَى عَنْهُ الْقَطْعُ لِشُبْهَةٍ وَنَحْوِهَا يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ.

ج- حَبْسُ الْمُتَّهَمِ بِالسَّرِقَةِ:

75- نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى حَبْسِ الْمُتَّهَمِ بِالسَّرِقَةِ لِوُجُودِ قَرِينَةٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي ذَلِكَ كَتَجَوُّلِهِ فِي مَوْضِعِ السَّرِقَةِ وَمُعَالَجَتِهِ أُمُورًا تُعْتَبَرُ مُقَدِّمَاتٍ لِذَلِكَ.

د- الْحَبْسُ لِحَالَاتٍ تَتَّصِلُ بِالْغَصْبِ:

76- يَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ، فَإِنْ أَبَى حُبِسَ حَتَّى يَرُدَّهُ، فَإِنِ ادَّعَى هَلَاكَهُ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ مُدَّةً يُعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَاقِيًا لأَظْهَرَهُ، ثُمَّ يَقْضِي عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ.وَقِيلَ: بَلْ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَلَا يُحْبَسُ.وَمَنْ بَلَعَ دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا أَوْ لُؤْلُؤَةً حُبِسَ حَتَّى يَرْمِيَهُ لِصَاحِبِهِ.

هـ- الْحَبْسُ لِلِاخْتِلَاسِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ:

77- ذَهَبَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ إِلَى حَبْسِ مَنِ اخْتَلَسَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- مَعَ مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ.

و- حَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ:

78- نَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى حَبْسِ الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ مَعَ اعْتِقَادِهِ وُجُوبَهَا.

ز- الْحَبْسُ لِلدَّيْنِ: مَشْرُوعِيَّةُ حَبْسِ الْمَدِينِ:

79- الْمَدِينُ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إِمَّا مُعْسِرٌ، وَإِمَّا مُوسِرٌ: فَالْمَدِينُ الَّذِي ثَبَتَ إِعْسَارُهُ يُمْهَلُ حَتَّى يُوسِرَ لِلْآيَةِ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}.

وَالْمَدِينُ الْمُوسِرُ يُعَاقَبُ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ وَفَاءِ الدَّيْنِ الْحَالِّ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ».

وَلِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: يُقْصَدُ بِالْعُقُوبَةِ فِي الْحَدِيثِ الْحَبْسُ، وَهَذَا قَوْلُ شُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَسَوَّارٍ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ.

وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ وَغَيْرُهُمَا؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تُخَلَّصُ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ غَالِبًا إِلاَّ بِهِ وَبِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: الْعُقُوبَةُ فِي الْحَدِيثِ هِيَ الْمُلَازَمَةُ، حَيْثُ يَذْهَبُ الدَّائِنُ مَعَ الْمَدِينِ أَنَّى ذَهَبَ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.وَذَكَرُوا أَنَّ الْمَدِينَ لَا يُحْبَسُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَحْبِسْ بِالدَّيْنِ، وَلَمْ يَحْبِسْ بَعْدَهُ أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، بَلْ كَانُوا يَبِيعُونَ عَلَى الْمَدِينِ مَالَهُ.

مَا يُحْبَسُ بِهِ الْمَدِين:

80- قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الدَّيْنَ إِلَى أَقْسَامٍ: مَا كَانَ بِالْتِزَامٍ بِعَقْدٍ كَالْكَفَالَةِ وَالْمَهْرِ الْمُعَجَّلِ، وَمَا كَانَ بِغَيْرِ الْتِزَامٍ إِلاَّ أَنَّهُ لَازِمٌ، كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَبَدَلِ الْمُتْلَفِ، وَمَا كَانَ عَنْ عِوَضٍ مَالِيٍّ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ.وَلَهُمْ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ فِيمَا يُحْبَسُ بِهِ الْمَدِينُ وَمَا لَا يُحْبَسُ بِهِ.

وَذَكَرُوا أَنَّ أَقَلَّ مِقْدَارٍ يُحْبَسُ بِهِ الْمَدِينُ الْمُمَاطِلُ فِي دَيْنِ آدَمِيٍّ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ.أَمَّا الدُّيُونُ الَّتِي لِلَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ فَلَا حَبْسَ فِيهَا عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ.

الْمَدِينُ الَّذِي يُحْبَس:

81- تُحْبَسُ الْمَرْأَةُ بِالدَّيْنِ إِنْ طَلَبَ غَرِيمُهَا ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ زَوْجَةً أَمْ أَجْنَبِيَّةً.وَاتَّجَهَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُخَدَّرَةَ (الَّتِي تَلْزَمُ بَيْتَهَا وَلَا تَبْرُزُ لِلرِّجَالِ) لَا تُحْبَسُ فِي الدَّيْنِ، بَلْ يُسْتَوْثَقُ عَلَيْهَا وَيُوَكَّلُ بِهَا.

وَيُحْبَسُ الزَّوْجُ بِدَيْنِ زَوْجَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا.وَيُحْبَسُ الْقَرِيبُ بِدَيْنِ أَقْرِبَائِهِ، حَتَّى الْوَلَدُ يُحْبَسُ بِدَيْنِ وَالِدَيْهِ لَا الْعَكْسُ.وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْحَبْسِ لَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الصَّبِيَّ لَا يُحْبَسُ بِالدَّيْنِ بَلْ يُؤَدَّبُ.وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ لِلْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ يُحْبَسُ بِالدَّيْنِ إِذَا أَذِنَ لَهُ بِالْبَيْعِ وَظَلَمَ.

وَيُحْبَسُ الْمُسْلِمُ بِدَيْنِ الْكَافِرِ وَلَوْ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الظُّلْمِ مُتَحَقِّقٌ فِي مُمَاطَلَتِهِ.

مُدَّةُ حَبْسِ الْمَدِينِ:

82- اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ حَبْسِ الْمَدِينِ، وَالصَّحِيحُ تَفْوِيضُ ذَلِكَ لِلْقَاضِي؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي احْتِمَالِ الْحَبْسِ.وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ شَهْرٌ.

وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ شَهْرَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ.وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ مَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إِلَى سِتَّةٍ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُؤَبَّدُ حَبْسُهُ حَتَّى يَقْضِيَ دَيْنَهُ إِذَا عَلِمَ يُسْرَهُ.وَلَمْ نَجِدْ نَصًّا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

ح- الْحَبْسُ لِلتَّفْلِيسِ:

83- يَشْتَرِكُ الْمُفْلِسُ مَعَ الْمَدِينِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَيَفْتَرِقُ عَنْهُ- بِحَسَبِ مَا ذَكَرُوهُ- فِي أَنَّ الْحَاكِمَ يَتَدَخَّلُ لِشَهْرِ الْمُفْلِسِ بَيْنَ النَّاسِ وَإِعْلَانِ عَجْزِهِ عَنْ وَفَاءِ دَيْنِهِ وَجَعْلِ مَالِهِ الْمُتَبَقِّي لِغُرَمَائِهِ.

وَلَا يُحْبَسُ الْمُعْسِرُ وَلَوْ طَلَبَ غُرَمَاؤُهُ ذَلِكَ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}.

وَإِذَا كَانَ الْمُفْلِسُ مَجْهُولَ الْحَالِ لَا يُعْرَفُ غِنَاهُ أَوْ فَقْرُهُ حُبِسَ بِطَلَبٍ مِنَ الْغُرَمَاءِ حَتَّى يَسْتَبِينَ أَمْرُهُ.وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ كَفَالَتِهِ بِوَجْهٍ أَوْ بِمَالٍ حَتَّى تَزُولَ الْجَهَالَةُ.وَقَالُوا: إِذَا أَخْبَرَ بِإِعْسَارِهِ وَاحِدٌ مِنَ الثِّقَاتِ أُخْرِجَ مِنْ حَبْسِهِ.

وَإِذَا حُبِسَ الْمُفْلِسُ الْمَجْهُولُ الْحَالِ وَظَهَرَ أَنَّ لَهُ مَالًا، أَوْ عُرِفَ مَكَانُهُ أُمِرَ بِالْوَفَاءِ.فَإِنْ أَبَى أُبْقِيَ فِي الْحَبْسِ- بِطَلَبِ غَرِيمِهِ- حَتَّى يَبِيعَ مَالَهُ وَيَقْضِيَ دَيْنَهُ.فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى عَدَمِ بَيْعِ مَالِهِ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ بَاعَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ وَقَضَاهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحَبْسِ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَالصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.وَقِيلَ: يُخَيَّرُ الْحَاكِمُ بَيْنَ حَبْسِهِ لِإِجْبَارِهِ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ بِنَفْسِهِ وَبَيْنَ بَيْعِهِ عَلَيْهِ لِوَفَاءِ دَيْنِهِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ الْحَاكِمَ لَا يُجِيبُ الْغُرَمَاءَ إِلَى بَيْعِ مَالِ الْمُفْلِسِ وَعُرُوضِهِ، خَوْفًا مِنْ أَنْ تَخْسَرَ عَلَيْهِ وَيَتَضَرَّرَ.بَلْ يَقْضِي دَيْنَهُ بِجِنْسِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ.فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَيُؤَبِّدُ حَبْسَهُ لِحَدِيثِ: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ».

وَإِذَا قَامَتِ الْقَرَائِنُ أَوِ الْبَيِّنَةُ عَلَى وُجُودِ مَالٍ لِلْمَدِينِ الْمُفْلِسِ، وَلَمْ يُعْلَمْ مَكَانُهُ حُبِسَ حَتَّى يُظْهِرَهُ إِنْ طَلَبَ غَرِيمُهُ ذَلِكَ.وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِلْحَدِيثِ الْآنِفِ ذِكْرُهُ.

حَبْسُ الْمُفْلِسِ بِطَلَبِ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ:

84- إِنْ طَلَبَ بَعْضُ الْغُرَمَاءِ حَبْسَ الْمُفْلِسِ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ إِعْسَارُهُ وَأَبَى بَعْضُهُمْ حُبِسَ وَلَوْ لِوَاحِدٍ، فَإِنْ أَرَادَ الَّذِينَ لَمْ يَحْبِسُوا مُحَاصَّةَ الْحَابِسِ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ الْمَحْبُوسِ فَلَهُمْ ذَلِكَ.وَلَهُمْ أَيْضًا إِبْقَاءُ حِصَصِهِمْ فِي يَدِ الْمُفْلِسِ الْمَحْبُوسِ.وَلَيْسَ لِلْغَرِيمِ الْحَابِسِ إِلاَّ حِصَّتُهُ.

ط- الْحَبْسُ لِلتَّعَدِّي عَلَى حَقِّ اللَّهِ أَوْ حُقُوقِ الْعِبَادِ:

85- شُرِعَ الْحَبْسُ فِي كُلِّ تَعَدٍّ عَلَى حَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى، كَالتَّعَامُلِ بِالرِّبَا، وَبَيْعِ الْخَمْرِ، وَالْغِشِّ وَالِاحْتِكَارِ، أَوِ الزَّوَاجِ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، أَوِ الْجَمْعِ بَيْنَ أُخْتَيْنِ، وَبَيْعِ الْوَقْفِ، وَفِي كُلِّ تَعَدٍّ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ، كَمَنْعِ مُسْتَحِقِّي الْوَقْفِ مِنْ رِيعِهِ، وَالِامْتِنَاعِ مِنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَتَسْلِيمِ الْأُجْرَةِ، أَوْ بَدَلِ الْخُلْعِ، أَوِ الْجِزْيَةِ، أَوِ الْخَرَاجِ، أَوِ الْعُشْرِ، وَجَحْدِ الْوَدِيعَةِ، وَالْخِيَانَةِ فِي الْوَكَالَةِ، وَعَدَمِ الْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يُبَيِّنْ مَا أَبْهَمَهُ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ.

ي- حَبْسُ الْكَفِيلِ لِإِخْلَالِهِ بِالْتِزَامَاتِهِ:

الْكَفَالَةُ نَوْعَانِ بِالْمَالِ وَبِالنَّفْسِ، وَتَتَّصِلُ بِالْحَبْسِ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا: حَبْسُ الْكَفِيلِ بِالْمَالِ لِامْتِنَاعِهِ مِنَ الْوَفَاءِ:

86- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى جَوَازِ حَبْسِ الْكَفِيلِ بِمَالٍ مُسْتَحَقٍّ إِذَا لَمْ يُوفِ الْمَكْفُولُ مَا عَلَيْهِ أَوْ مَاتَ مُعْسِرًا، وَذَلِكَ لِتَخَلُّفِهِ عَمَّا الْتَزَمَهُ، وَلِأَنَّ ذِمَّتَهُ مَضْمُومَةٌ إِلَى ذِمَّةِ الْمَكْفُولِ بِالْمُطَالَبَةِ، فَلِذَا جَازَ حَبْسُهُ إِلاَّ إِذَا ثَبَتَ إِعْسَارُهُ.وَهَذَا مُقْتَضَى كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، بَلْ نُقِلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ.وَالْأَصْلُ فِي هَذَا حَدِيثُ: «الْحَمِيلُ غَارِمٌ».وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ الْقَاضِي قَوْلُهُ: لَا يُحْبَسُ الْكَفِيلُ إِذَا غَابَ الْمَكْفُولُ حَيْثُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِحْضَارُهُ.

ثَانِيًا: حَبْسُ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ:

87- تُعْرَفُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ أَيْضًا بِكَفَالَةِ الْوَجْهِ وَالْبَدَنِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الْكَفَالَةُ بِذَاتِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بَعْدَ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ يُنْتَظَرُ تَزْكِيَتُهُمَا، وَهَذِهِ غَيْرُ جَائِزَةٍ بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ يُحْبَسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِاسْتِكْمَالِ الْإِجْرَاءَاتِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ لَا تُسْتَوْفَى مِنَ الْكَفِيلِ إِذَا تَعَذَّرَ إِحْضَارُ الْمَكْفُولِ، فَضْلًا عَنْ أَنَّهَا لَا تَقْبَلُ النِّيَابَةَ.

النَّوْعُ الثَّانِي: الْكَفَالَةُ بِإِحْضَارِ نَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ أَوْ حَدٌّ لآِدَمِيٍّ، كَقَذْفٍ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَهَذِهِ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ فِيهَا حَقَّ الْعَبْدِ، وَيَحْتَمِلُ إِسْقَاطُهُ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ وَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، فَيَجُوزُ كَفَالَةُ الْمَحْبُوسِ أَوْ مُسْتَحِقِّ الْحَبْسِ فِي ذَلِكَ.

أَحْوَالُ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ:

88- تَنْتَظِمُ أَحْوَالُ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ الْحَالَاتِ التَّالِيَةَ:

الْحَالَةَ الْأُولَى: إِذَا تَعَهَّدَ الْكَفِيلُ بِإِحْضَارِ الْمَكْفُولِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانِ الْمَالِ، أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكَفَالَةِ، فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يُحْبَسُ لِمُمَاطَلَتِهِ إِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَلَمْ يُحْضِرِ الْمَكْفُولَ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ بَذْلُ الْمَالِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِاشْتِرَاطِهِ إِحْضَارَ النَّفْسِ لَا غَيْرِهَا، وَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ.وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا يُحْبَسُ بَلْ يُلْزَمُ بِإِحْضَارِ الْمَكْفُولِ، أَوْ يَغْرَمُ الْمَالَ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا تَعَهَّدَ الْكَفِيلُ بِإِحْضَارِ الْمَكْفُولِ وَصَرَّحَ بِضَمَانِهِ الْمَالَ إِذَا تَخَلَّفَ، فَإِنَّهُ لَا يُحْبَسُ بَلْ يَغْرَمُ الْمَالَ إِذَا لَمْ يُحْضِرِ الْمَكْفُولَ فِي الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ، وَهَذَا قَوْلُ فُقَهَاءِ مَذَاهِبِ الْأَمْصَارِ.فَإِنْ مَاطَلَ فِي الدَّفْعِ وَكَانَ مُوسِرًا حُبِسَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ شَغَلَ ذِمَّتَهُ كَشَغْلِهِ ذِمَّةَ الْمَكْفُولِ.

وَذَكَرُوا أَنَّ السَّجَّانَ وَنَحْوَهُ مِمَّنِ اسْتُحْفِظَ عَلَى بَدَنِ الْغَرِيمِ بِمَنْزِلَةِ كَفِيلِ الْوَجْهِ، فَيَنْبَغِي عَلَيْهِ إِحْضَارُهُ.فَإِنْ أَطْلَقَهُ وَتَعَذَّرَ إِحْضَارُهُ عُومِلَ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَالَتَيْنِ الْآنِفَتَيْنِ.

الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا تَعَهَّدَ الْكَفِيلُ بِإِحْضَارِ النَّفْسِ الَّتِي كَفَلَهَا فِي الْقِصَاصِ وَالْحَدِّ الَّذِي هُوَ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ وَقَصَّرَ فَلَمْ يُحْضِرْهَا فِي الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ يُحْبَسُ إِلَى حُضُورِ الْمَكْفُولِ أَوْ مَوْتِهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


22-موسوعة الفقه الكويتية (حسبة 4)

حِسْبَةٌ -4

31- الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ الْمُسْتَثْنَاةُ مِنِ اشْتِرَاطِ وُجُودِ الْمُنْكَرِ فِي الْحَالِ:

الْإِنْكَارُ عَلَى أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ وَالْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ.

قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي تَفْصِيلِ مَا إِلَى الْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ: فَأَمَّا نَظَرُهُ فِي الدِّينِ فَيَنْقَسِمُ إِلَى: النَّظَرِ فِي أَصْلِ الدِّينِ، وَإِلَى النَّظَرِ فِي فُرُوعِهِ، فَأَمَّا الْقَوْلُ فِي أَصْلِ الدِّينِ فَيَنْقَسِمُ إِلَى حِفْظِ الدِّينِ بِأَقْصَى الْوُسْعِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَدَفْعُ شُبُهَاتِ الزَّائِفِينَ، وَإِلَى دُعَاءِ الْجَاحِدِينَ وَالْكَافِرِينَ إِلَى الْتِزَامِ الْحَقِّ الْمُبِينِ.

قَالَ الشَّاطِبِيُّ: مَنْ أَظْهَرَ بِدْعَتَهُ وَدَعَا إِلَيْهَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ مِنْ تَظَاهَرَ بِمَعْصِيَةِ صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ أَوْ دَعَا إِلَيْهَا، يُؤَدَّبُ، أَوَيُزْجَرُ، أَوْ يُقْتَلُ، إِنِ امْتَنَعَ مِنْ فِعْلِ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكِ مُحَرَّمٍ.

وَيَرَى الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ أَنَّ الْبِدَعَ كُلَّهَا يَنْبَغِي أَنْ تُحْسَمَ أَبْوَابُهَا وَتُنْكَرَ عَلَى الْمُبْتَدِعِينَ بِدَعُهُمْ وَإِنِ اعْتَقَدُوا أَنَّهَا الْحَقُّ.

وَيَرَى ابْنُ الْقَيِّمِ وُجُوبَ إِتْلَافِ الْكُتُبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْبِدْعَةِ، وَأَنَّهَا أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ إِتْلَافِ آنِيَةِ الْخَمْرِ وَآلَاتِ اللَّهْوِ وَالْمَعَازِفِ، وَلِأَنَّ الْحِسْبَةَ عَلَى أَهْلِ الْأَضْوَاءِ وَالْبِدَعِ أَهَمُّ مِنَ الْحِسْبَةِ عَلَى كُلِّ الْمُنْكَرَاتِ.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ ظَاهِرًا لِلْمُحْتَسِبِ بِغَيْرِ تَجَسُّسٍ:

32- التَّجَسُّسُ مَعْنَاهُ طَلَبُ الْأَمَارَاتِ الْمُعَرِّفَةِ فَالْأَمَارَةُ الْمُعَرِّفَةُ إِنْ حَصَلَتْ وَأَوْرَثَتِ الْمَعْرِفَةَ جَازَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا، أَمَّا طَلَبُهَا فَلَا رُخْصَةَ فِيهِ، وَالْحِكْمَةُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ أَنَّنَا أُمِرْنَا أَنْ نُجْرِيَ أَحْكَامَ النَّاسِ عَلَى الظَّوَاهِرِ مِنْ غَيْرِ اسْتِكْشَافٍ عَنِ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ قَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمَّنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ، اللَّهُ يُحَاسِبُ سَرِيرَتَهُ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ وَإِنْ قَالَ إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي قوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} خُذُوا مَا ظَهَرَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ لَا يَبْحَثْ أَحَدُكُمْ عَنْ عَيْبِ أَخِيهِ حَتَّى يَطَّلِعَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَلَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَجَسَّسَ وَلَا أَنْ يَبْحَثَ أَوْ يَقْتَحِمَ عَلَى النَّاسِ دُورَهُمْ بِظَنِّ أَنَّ فِيهَا مُنْكَرًا، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ التَّجَسُّسِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَفِي حُكْمِهِ مَنِ ابْتَعَدَ عَنِ الْأَنْظَارِ وَاسْتَتَرَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَعْلَمُ بِهِ غَالِبًا غَيْرُ مَنْ حَضَرَهُ وَيَكْتُمُهُ وَلَا يُحَدِّثُ بِهِ.وَالنَّاسُ ضَرْبَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَسْتُورٌ لَا يُعْرَفُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَعَاصِي، فَإِذَا وَقَعَتْ مِنْهُ هَفْوَةٌ أَوْ زَلَّةٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ كَشْفُهَا وَهَتْكُهَا وَلَا التَّحَدُّثُ بِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ غِيبَةٌ، وَفِي ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} وَالْمُرَادُ إِشَاعَةُ الْفَاحِشَةِ عَلَى الْمُؤْمِنَ الْمُسْتَتِرِ فِيمَا وَقَعَ مِنْهُ أَوِ اتُّهِمَ بِهِ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ.

وَالثَّانِي: مَنْ كَانَ مُشْتَهِرًا بِالْمَعَاصِي مُعْلِنًا بِهَا وَلَا يُبَالِي بِمَا ارْتَكَبَ مِنْهَا وَلَا بِمَا قِيلَ لَهُ، فَهَذَا هُوَ الْفَاجِرُ الْمُعْلِنُ وَلَيْسَ لَهُ غِيبَةٌ، وَمِثْلُ هَذَا فَلَا بَأْسَ بِالْبَحْثِ عَنْ أَمْرِهِ لِتُقَامَ عَلَيْهِ الْحُدُودُ.

أَمَّا تَسَوُّرُ الْجُدْرَانِ عَلَى مَنْ عُلِمَ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى مُنْكَرٍ فَقَدْ أَنْكَرَهُ الْأَئِمَّةُ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي التَّجَسُّسِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَيَتَحَقَّقُ الْإِظْهَارُ فِي حَالَةِ مَا إِذَا أَتَى مَعْصِيَةً بِحَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ فِي ذَهَابِهِمْ وَإِيَابِهِمْ، أَوْ يُعْلَمُ بِهَا عَنْ طَرِيقِ الْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ بِحَيْثُ لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ كَانَ خَارِجَ الدَّارِ، وَمَا ظَهَرَتْ دَلَالَتُهُ فَهُوَ غَيْرُ مَسْتُورٍ بَلْ هُوَ مَكْشُوفٌ.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَبْحَثَ عَمَّا لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اسْتِسْرَارُ قَوْمٍ بِهَا لِأَمَارَةٍ وَآثَارٍ ظَهَرَتْ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي انْتِهَاكِ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا، مِثْلِ أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ أَنَّ رَجُلًا خَلَا بِرَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ، أَوْ بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا، فَيَجُوزُ لَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَتَجَسَّسَ وَيُقْدِمَ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ مَا لَا يُسْتَدْرَكُ، وَكَذَا لَوْ عَرَفَ ذَلِكَ غَيْرُ الْمُحْتَسِبِ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ جَازَ لَهُمُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكَشْفِ وَالْإِنْكَارِ.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا قَصُرَ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ فَلَا يَجُوزُ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ وَلَا كَشْفُ الْأَسْتَارُ عَنْهُ، فَإِنْ سَمِعَ أَصْوَاتَ الْمَلَاهِي الْمُنْكَرَةِ مِنْ دَارٍ كَانَ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ مِنْ خَارِجِ الدَّارِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا لِأَنَّ الْمُنْكَرَ ظَاهِرٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْشِفَ عَنِ الْبَاطِنِ.

الْإِنْكَارُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ:

الظَّنُّ نَوْعَانِ:

33- نَوْعٌ مَذْمُومٌ نَهَى الشَّارِعُ عَنِ اتِّبَاعِهِ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ مَا لَا يَجُوزُ بِنَاؤُهُ عَلَيْهِ، مِثْلُ أَنْ يَظُنَّ بِإِنْسَانٍ أَنَّهُ زَنَى أَوْ سَرَقَ أَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ أَوْ قَتَلَ نَفْسًا أَوْ أَخَذَ مَالًا أَوْ ثَلَبَ عِرْضًا، فَأَرَادَ أَنْ يُؤَاخِذَهُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ يَسْتَنِدُ إِلَيْهَا ظَنُّهُ، وَأَرَادَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى هَذَا الظَّنِّ فَهَذَا هُوَ الْإِثْمُ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وَحَدِيثُ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ».

وَنَوْعٌ مَحْمُودٌ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ لِأَنَّ مُعْظَمَ الْمَصَالِحِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظُّنُونِ الْمَضْبُوطَةِ بِالضَّوَابِطِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ بِهَذَا النَّوْعِ يُؤَدِّي إِلَى تَعْطِيلِ مَصَالِحَ كَثِيرَةٍ غَالِبَةٍ خَوْفًا مِنْ وُقُوعِ مَفَاسِدَ قَلِيلَةٍ نَادِرَةٍ وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ حِكْمَةِ الْإِلَهِ الَّذِي شَرَعَ الشَّرَائِعَ لِأَجْلِهَا وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ إِنْكَارُ الْمُنْكَرِ فِي مِثْلِ الْحَالَاتِ الْآتِيَةِ:

الْأُولَى: لَوْ رَأَى إِنْسَانًا يَسْلُبُ ثِيَابَ إِنْسَانٍ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ ظَاهِرِ يَدِ الْمَسْلُوبِ.

الثَّانِيَةُ: لَوْ رَأَى رَجُلًا يَجُرُّ امْرَأَةً إِلَى مَنْزِلِهِ يَزْعُمُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ وَهِيَ تُنْكِرُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا ادَّعَاهُ.

الثَّالِثَةُ: لَوْ رَأَى إِنْسَانًا يَقْتُلُ إِنْسَانًا يَزْعُمُ أَنَّهُ كَافِرٌ حَرْبِيٌّ دَخَلَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ وَهُوَ يُكَذِّبُهُ فِي ذَلِكَ، لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ، لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ عِبَادَهُ حُنَفَاءَ، وَالدَّارُ دَالَّةٌ عَلَى إِسْلَامِ أَهْلِهَا لِغَلَبَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا.

فَفِي هَذِهِ الْحَالَاتِ وَأَمْثَالِهَا يُعْمَلُ بِالظُّنُونِ فَإِنْ أَصَابَ مَنْ قَامَ بِهَا فَقَدْ أَدَّى مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذَا قَصَدَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ لَمْ يُصِبْ كَانَ مَعْذُورًا وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ.

وَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَطُوفَ فِي السُّوقِ وَأَنْ يَتَفَحَّصَ أَحْوَالَ أَهْلِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْبِرَهُ أَحَدٌ بِخِيَانَتِهِمْ وَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ التَّجَسُّسِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بَلْ هُوَ مِنْ صَمِيمِ عَمَلِهِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْغَلَهُ عَنْهُ شَاغِلٌ كَمَا سَبَقَ فِي بَحْثِ آدَابِ الْمُحْتَسِبِ.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ مَعْلُومًا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ، فَكُلُّ مَا هُوَ مَحَلٌّ لِلِاجْتِهَادِ فَلَا حِسْبَةَ فِيهِ وَعَبَّرَ صَاحِبُ الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي عَنْ هَذَا الشَّرْطِ بِقَوْلِهِ: أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهِ، أَوْ يَكُونَ مُدْرَكُ عَدَمِ التَّحْرِيمِ فِيهِ ضَعِيفًا وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ، أَوْ مِنَ.الْمُحَرَّمَاتِ الْمَشْهُورَةِ كَالزِّنَى، وَالْقَتْلِ، وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَالْغَصْبِ، وَالرِّبَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَكُلُّ مُسْلِمٍ يَعْلَمُ بِهَا وَلَا يَخْتَصُّ الِاحْتِسَابُ بِفَرِيقٍ دُونَ فَرِيقٍ.

وَالثَّانِي: مَا كَانَ فِي دَقَائِقِ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ مِمَّا لَا يَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ سِوَى الْعُلَمَاءِ، مِثْلُ فُرُوعِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْمُنَاكَحَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَهَذَا الضَّرْبُ عَلَى نَوْعَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِي تَعَلُّقِ الْحِسْبَةِ فِيهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْعَوَامِّ مَدْخَلٌ فِيهِ.

وَالثَّانِي: مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالِاجْتِهَادِ، فَكُلُّ مَا هُوَ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ فَلَا حِسْبَةَ فِيهِ.

وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ بَلِ الْمُرَادُ بِهِ الْخِلَافُ الَّذِي لَهُ دَلِيلٌ، أَمَّا مَا لَا دَلِيلَ لَهُ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ وَيُقَرِّرُ هَذَا الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ بِأَنَّ الْإِنْكَارَ إِمَّا أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى الْقَوْلِ وَالْفَتْوَى، أَوِ الْعَمَلِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ يُخَالِفُ سُنَّةً أَوْ إِجْمَاعًا شَائِعًا وَجَبَ إِنْكَارُهُ اتِّفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّ بَيَانَ ضَعْفِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لِلدَّلِيلِ إِنْكَارُ مِثْلِهِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَإِذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ وَجَبَ إِنْكَارُهُ بِحَسَبِ دَرَجَاتِ الْإِنْكَارِ، وَكَيْفَ يَقُولُ فَقِيهٌ لَا إِنْكَارَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَالْفُقَهَاءُ مِنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ قَدْ صَرَّحُوا بِنَقْضِ حُكْمِ الْحَاكِمِ إِذَا خَالَفَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَافَقَ فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ.وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ سُنَّةٌ أَوْ إِجْمَاعٌ وَلِلِاجْتِهَادِ فِيهَا مَسَاغٌ لَمْ تُنْكَرْ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِهَا مُجْتَهِدًا أَوْ مُقَلِّدًا وَقَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: وَلَا يُنْكِرُ مُحْتَسِبٌ وَلَا غَيْرُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ قَالُوا: لَيْسَ لِلْمُفْتِي وَلَا لِلْقَاضِي أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ إِذَا لَمْ يُخَالِفْ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا.وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ يَنْقُصُ إِذَا خَالَفَ الْكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ أَوِ الْإِجْمَاعَ أَوِ الْقِيَاسَ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (فَتْوَى وَقَضَاءٌ).

أَقْسَامُ الْمُنْكَرِ:

34- الْمُنْكَرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَالثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.

وَالثَّالِثُ: مَا كَانَ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ.

فَأَمَّا النَّهْيُ عَنْهَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَى أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: مَا تَعَلَّقَ بِالْعَقَائِدِ.

وَالثَّانِي: مَا تَعَلَّقَ بِالْعِبَادَاتِ.

وَالثَّالِثُ: مَا تَعَلَّقَ بِالْمَحْظُورَاتِ.

وَالرَّابِعُ: مَا تَعَلَّقَ بِالْمُعَامَلَاتِ. فَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِالْعَقَائِدِ فَإِنَّ الْحَقَّ فِيهَا هُوَ جُمْلَةُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

وَمِنْ أَخَصِّ خَصَائِصِهِمْ أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ أُمَّ الْكِتَابِ وَيَتْرُكُونَ الْمُتَشَابِهَ، وَأُمُّ الْكِتَابِ يَعُمُّ مَا هُوَ مِنَ الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ.

وَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِالْعِبَادَاتِ فَكَالْقَاصِدِ مُخَالَفَةَ هَيْئَتِهَا الْمَشْرُوعَةِ وَالْمُتَعَمِّدِ تَغْيِيرَ أَوْصَافِهَا الْمَسْنُونَةِ، مِثْلَ أَنْ يَقْصِدَ الْجَهْرَ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ، وَالْإِسْرَارَ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ، أَوْ يَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي الْأَذَانِ أَذْكَارًا غَيْرَ مَسْنُونَةٍ، فَلِلْمُحْتَسِبِ إِنْكَارُهَا، وَتَأْدِيبُ الْمُعَانِدِ فِيهَا، إِذَا لَمْ يَقُلْ بِمَا ارْتَكَبَهُ إِمَامٌ مَتْبُوعٌ.

وَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِالْمَحْظُورَاتِ فَهُوَ أَنْ يَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ مَوَاقِفِ الرِّيَبِ وَمَظَانِّ التُّهْمَةِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» فَيُقَدِّمُ الْإِنْكَارَ وَلَا يُعَجِّلُ بِالتَّأْدِيبِ قَبْلَ الْإِنْكَارِ.

وَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِالْمُعَامِلَاتِ الْمُنْكَرَةِ كَالرِّبَا وَالْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ، وَمَا مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهُ مَعَ تَرَاضِي الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِهِ إِذَا كَانَ مُتَّفَقًا عَلَى حَظْرِهِ، فَعَلَى وَالِي الْحِسْبَةِ إِنْكَارُهُ وَالْمَنْعُ مِنْهُ وَالزَّجْرُ عَلَيْهِ.وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَظْرِهِ وَإِبَاحَتِهِ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي إِنْكَارِهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بِمَا ضَعُفَ الْخِلَافُ فِيهِ وَكَانَ ذَرِيعَةً إِلَى مَحْظُورٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، كَرِبَا النَّقْدِ، فَالْخِلَافُ فِيهِ ضَعِيفٌ، وَهُوَ ذَرِيعَةٌ إِلَى رِبَا النَّسَاءِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِهِ.

وَمِمَّا هُوَ عُمْدَةُ نَظَرِهِ الْمَنْعُ مِنَ التَّطْفِيفِ وَالْبَخْسِ فِي الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ وَالصَّنَجَاتِ، وَلَهُ الْأَدَبُ عَلَيْهِ وَالْمُعَاقَبَةُ فِيهِ.وَيَجُوزُ لَهُ إِذَا اسْتَرَابَ بِمَوَازِينِ أَهْلِ السُّوقِ وَمَكَايِيلِهِمْ أَنْ يَخْتَبِرَهَا وَيُعَايِرَهَا، وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا عَايَرَهُ مِنْهَا طَابَعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعَامَّةِ لَا يَتَعَامَلُونَ إِلاَّ بِهِ كَانَ أَحْوَط وَأَسْلَمَ.فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَتَعَامَلَ قَوْمٌ بِغَيْرِ مَا طُبِعَ عَلَيْهِ طَابِعُهُ تَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ- إِنْ كَانَ مَبْخُوسًا- مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لِمُخَالَفَتِهِ فِي الْعُدُولِ عَنْ مَطْبُوعِهِ وَإِنْكَارِهِ مِنَ الْحُقُوقِ السُّلْطَانِيَّةِ.

وَالثَّانِي: لِلْبَخْسِ وَالتَّطْفِيفِ وَإِنْكَارُهُ مِنَ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَعَامَلُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ الْمَطْبُوعِ سَلِيمًا مِنْ بَخْسٍ وَنَقْصٍ تَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ بِحَقِّ السَّلْطَنَةِ وَحْدَهَا لِأَجْلِ الْمُخَالَفَةِ.وَإِنْ زَوَّرَ قَوْمٌ عَلَى طَابِعِهِ كَانَ الزُّورُ فِيهِ كَالْمُبَهْرَجِ عَلَى طَابَعِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَإِنْ قُرِنَ التَّزْوِيرُ بِغِشٍّ كَانَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَالتَّأْدِيبُ مُسْتَحَقًّا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي حَقِّ السَّلْطَنَةِ مِنْ جِهَةِ التَّزْوِيرِ.

وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فِي الْغِشِّ وَهُوَ أَغْلَظُ النُّكْرَيْنِ، وَإِنْ سَلِمَ التَّزْوِيرُ مِنْ غِشٍّ تَفَرَّدَ بِالْإِنْكَارِ لِحَقِّ السَّلْطَنَةِ خَاصَّةً

وَأَمَّا الْحِسْبَةُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةِ:

فَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِيرَانِ مِثْلُ أَنْ يَتَعَدَّى رَجُلٌ فِي حَدٍّ لِجَارِهِ، أَوْ فِي حَرِيمٍ لِدَارِهِ، أَوْ فِي وَضْعِ أَجْذَاعٍ عَلَى جِدَارِهِ، فَلَا اعْتِرَاضَ لِلْمُحْتَسِبِ فِيهِ مَا لَمْ يَسْتَعْدِهِ الْجَارُ، لِأَنَّهُ حَقٌّ يَخُصُّهُ يَصِحُّ مِنْهُ الْعَفْوُ عَنْهُ وَالْمُطَالَبَةُ بِهِ، فَإِنْ خَاصَمَهُ إِلَى الْمُحْتَسِبِ نَظَرَ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا تَنَازُعٌ وَتَنَاكُرٌ، وَأَخَذَ الْمُتَعَدِّيَ بِإِزَالَةِ تَعَدِّيهِ، وَكَانَ تَأْدِيبُهُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ شَوَاهِدِ الْحَالِ.

وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِأَرْبَابِ الْمِهَنِ وَالصِّنَاعَاتِ وَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: مِنْهُمْ مَنْ يُرَاعَى عَمَلُهُ فِي الْوُفُورِ وَالتَّقْصِيرِ.وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَاعَى حَالُهُ فِي الْأَمَانَةِ وَالْخِيَانَةِ.وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَاعَى عَمَلُهُ فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ.

فَأَمَّا مَنْ يُرَاعَى عَمَلُهُ فِي الْوُفُورِ وَالتَّقْصِيرِ فَكَالطَّبِيبِ وَالْمُعَلِّمِينَ، لِأَنَّ لِلطَّبِيبِ إِقْدَامًا عَلَى النُّفُوسِ يُفْضِي التَّقْصِيرُ فِيهِ إِلَى تَلَفٍ أَوْ سَقَمٍ، وَلِلْمُعَلِّمِينَ مِنَ الطَّرَائِقِ الَّتِي يَنْشَأُ الصِّغَارُ عَلَيْهَا مَا يَكُونُ نَقْلُهُمْ عَنْهُ بَعْدَ الْكِبَرِ عَسِيرًا، فَيُقِرُّ مِنْهُمْ مَنْ تَوَفَّرَ عِلْمُهُ وَحَسُنَتْ طَرِيقَتُهُ، وَيَمْنَعُ مَنْ قَصَّرَ وَأَسَاءَ.

وَأَمَّا مَنْ يُرَاعَى حَالُهُ فِي الْأَمَانَةِ وَالْخِيَانَةِ فَمِثْلُ الصَّاغَةِ وَالْحَاكَةِ وَالْقَصَّارِينَ وَالصَّبَّاغِينَ، لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا هَرَبُوا بِأَمْوَالِ النَّاسِ، فَيُرَاعِي أَهْلَ الثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ مِنْهُمْ فَيُقِرُّهُمْ، وَيُبْعِدُ مَنْ ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ.

وَأَمَّا مَنْ يُرَاعَى عَمَلُهُ فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِفَسَادِ الْعَمَلِ وَرَدَاءَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُسْتَعْدِيًا، وَإِمَّا فِي عَمَلٍ مَخْصُوصٍ اعْتَادَ الصَّانِعُ فِيهِ الْفَسَادَ وَالتَّدْلِيسَ، فَإِذَا اسْتَعْدَاهُ الْخَصْمُ قَابَلَ عَلَيْهِ بِالْإِنْكَارِ وَالزَّجْرِ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِذَلِكَ غُرْمٌ رُوعِيَ حَالُ الْغُرْمِ، فَإِنِ افْتَقَرَ إِلَى تَقْدِيرٍ أَوْ تَقْوِيمٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ لِافْتِقَارِهِ إِلَى اجْتِهَادٍ حُكْمِيٍّ، وَكَانَ الْقَاضِي بِالنَّظَرِ فِيهِ أَحَقَّ، وَإِنْ لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى تَقْدِيرٍ وَلَا تَقْوِيمٍ وَاسْتَحَقَّ فِيهِ الْمِثْلَ الَّذِي لَا اجْتِهَادَ فِيهِ وَلَا تَنَازُعَ، فَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ بِإِلْزَامِ الْغُرْمِ وَالتَّأْدِيبِ عَلَى فِعْلِهِ، لِأَنَّهُ أَخْذٌ بِالتَّنَاصُفِ وَزَجْرٌ عَنِ التَّعَدِّي.

وَأَمَّا الْحِسْبَةُ فِي الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ:

فَكَالْمَنْعِ مِنَ الْإِشْرَافِ عَلَى مَنَازِلِ النَّاسِ، وَلَا يَلْزَمُ مَنْ عَلَا بِنَاؤُهُ أَنْ يَسْتُرَ سَطْحَهُ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يُشْرِفَ عَلَى غَيْرِهِ.

وَإِذَا كَانَ فِي أَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ السَّابِلَةِ وَالْجَوَامِعِ الْحَافِلَةِ مَنْ يُطِيلُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَعْجِزَ الضُّعَفَاءُ وَيَنْقَطِعَ بِهَا ذَوُو الْحَاجَاتِ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ فِي الْقُضَاةِ مَنْ يَحْجُبُ الْخُصُومَ إِذَا قَصَدُوهُ بِمَنْعِ النَّظَرِ بَيْنَهُمْ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ حَتَّى تَقِفَ الْأَحْكَامُ وَيَتَضَرَّرَ الْخُصُومُ فَلِلْمُحْتَسِبِ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْأَعْذَارِ، وَلَا يَمْنَعُ عُلُوُّ رُتْبَتِهِ مِنْ إِنْكَارِ مَا قَصَّرَ فِيهِ.

وَإِنْ كَانَ فِي أَرْبَابِ الْمَوَاشِي مَنْ يَسْتَعْمِلُهَا فِيمَا لَا تُطِيقُ الدَّوَامَ عَلَيْهِ أَنْكَرَهُ الْمُحْتَسِبُ عَلَيْهِمْ وَمَنَعَهُمْ مِنْهُ.

وَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَمْنَعَ أَرْبَابَ السُّفُنِ مِنْ حَمْلِ مَا لَا تَسَعُهُ وَيُخَافُ مِنْهُ غَرَقُهَا، وَكَذَلِكَ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْمَسِيرِ عِنْدَ اشْتِدَادِ الرِّيحِ، وَإِذَا حُمِلَ فِيهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ حَجَزَ بَيْنَهُمْ بِحَائِلٍ، وَإِذَا كَانَ فِي أَهْلِ الْأَسْوَاقِ مَنْ يَخْتَصُّ بِمُعَامَلَةِ النِّسَاءِ رَاعَى الْمُحْتَسِبُ سِيرَتَهُ وَأَمَانَتَهُ فَإِذَا تَحَقَّقَ مِنْهُ أَقَرَّهُ عَلَى مُعَامَلَتِهِنَّ.

وَإِنْ بَنَى قَوْمٌ فِي طَرِيقٍ سَابِلًا مَنَعَ مِنْهُ، وَإِنِ اتَّسَعَ لَهُ الطَّرِيقُ، وَيَأْخُذُهُمْ بِهَدْمِ مَا بَنَوْهُ.وَلَوْ كَانَ الْمَبْنِيُّ مَسْجِدًا، لِأَنَّ مَرَافِقَ الطَّرِيقِ لِلسُّلُوكِ لَا لِلْأَبْنِيَةِ، وَيَجْتَهِدُ الْمُحْتَسِبُ، وَإِذَا وَضَعَ النَّاسُ الْأَمْتِعَةَ وَآلَاتِ الْأَبْنِيَةِ فِي مَسَالِكِ الشَّوَارِعِ وَالْأَسْوَاقِ ارْتِفَاعًا لِيَنْقُلُوهُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ مُكِّنُوا مِنْهُ إِنْ لَمْ يَسْتَضِرَّ بِهِ الْمَارَّةُ.وَمُنِعُوا مِنْهُ إِنِ اسْتَضَرُّوا بِهِ.وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي إِخْرَاجِ الْأَجْنِحَةِ وَالْأَسْبِطَةِ وَمَجَارِي الْمِيَاهِ يُقِرُّ مَا لَا يَضُرُّ وَيَمْنَعُ مَا ضَرَّ، وَيَجْتَهِدُ رَأْيَهُ فِيمَا ضَرَّ لَا يَضُرُّ، لِأَنَّهُ مِنَ الِاجْتِهَادِ الْعُرْفِيِّ دُونَ الشَّرْعِيِّ.

وَلِوَالِي الْحِسْبَةِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ نَقْلِ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ إِذَا دُفِنُوا فِي مِلْكٍ أَوْ مُبَاحٍ إِلاَّ مِنْ أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ فَيَكُونُ لِمَالِكِهَا أَنْ يَأْخُذَ مَنْ دَفَنَهُ فِيهَا بِنَقْلِهِ مِنْهَا.

وَيَمْنَعَ مِنْ خِصَاءِ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ وَإِنِ اسْتُحِقَّ فِيهِ قَوَدٌ أَوْ دِيَةٌ اسْتَوْفَاهُ لِمُسْتَحِقِّهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَنَازُعٌ وَتَنَاكُرٌ.

وَيَمْنَعُ مِنَ التَّكَسُّبِ بِالْكِهَانَةِ وَاللَّهْوِ، وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ الْآخِذَ وَالْمُعْطِيَ.

الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمُحْتَسَبُ عَلَيْهِ:

35- الْمُحْتَسَبُ عَلَيْهِ هُوَ الْمَأْمُورُ بِالْمَعْرُوفِ وَالْمَنْهِيُّ عَنِ الْمُنْكَرِ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُلَابِسًا لِمَفْسَدَةٍ وَاجِبَةِ الدَّفْعِ، أَوْ تَارِكًا لِمَصْلَحَةٍ وَاجِبَةِ الْحُصُولِ وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ بِصِفَةِ مَصِيرِ الْفِعْلِ الْمَمْنُوعِ فِي حَقِّهِ مُنْكَرًا، وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مُكَلَّفًا، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ أَنْ يَكُونَا عَاصِيَيْنِ.وَلِهَذَا أَمْثِلَةٌ تَقَدَّمَتْ فِي مَعْنَى الْمُنْكَرِ وَالْمُرَادِ مِنْهُ.

أَوَّلًا- الِاحْتِسَابُ عَلَى الصِّبْيَانِ:

36- صَرَّحَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ بِالْوُجُوبِ، وَنَقَلَ عَنِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ إِنْكَارُ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ، بَلْ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْفِعْلُ مَعْصِيَةً لِخُصُوصِ الْفَاعِلِ، كَمَنْعِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَى.

وَرَجَّحَ ابْنُ مُفْلِحٍ وَالسَّفَارِينِيُّ الْوُجُوبَ عِنْدَ ابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَرَجَّحَ الْحَجَّاوِيُّ الِاسْتِحْبَابَ وَقَالَ: يُسْتَحَبُّ الْإِنْكَارُ عَلَى الْأَوْلَادِ الَّذِينَ دُونَ الْبُلُوغِ سَوَاءٌ أَكَانُوا ذُكُورًا أَمْ إِنَاثًا تَأْدِيبًا لَهُمْ وَتَعْلِيمًا.

ثَانِيًا- الِاحْتِسَابُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ:

37- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْوَلَدِ الِاحْتِسَابُ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُطْلَقَةٌ تَشْمَلُ الْوَالِدَيْنِ وَغَيْرَهُمَا، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لِمَنْفَعَةِ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ، وَالْأَبُ وَالْأُمُّ أَحَقُّ أَنْ يُوصِلَ الْوَلَدُ إِلَيْهِمَا الْمَنْفَعَةَ وَلَكِنْ لَا يَتَجَاوَزُ مَرْتَبَتَيِ التَّعَرُّفِ وَالتَّعْرِيفِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُجَاوِزُ ذَلِكَ بِحَيْثُ يُؤَدِّي إِلَى سَخَطِهِمَا بِأَنْ يَكْسِرَ مَثَلًا عُودًا، أَوْ يُرِيقَ خَمْرًا، أَوْ يَحُلَّ الْخُيُوطَ عَنْ ثِيَابِهِ الْمَنْسُوجَةِ مِنَ الْحَرِيرِ، أَوْ يَرُدَّ مَا يَجِدُهُ فِي بَيْتِهِمَا مِنَ الْمَالِ الْحَرَامِ.

وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ إِلَى أَنَّ لِلْوَلَدِ فِعْلُ ذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَا تَتَعَلَّقُ بِذَاتِ الْأَبِ.فَسَخَطُ الْأَبِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُنْشَؤُهُ حُبُّهُ لِلْبَاطِلِ وَلِلْحَرَامِ.

وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَنَقَلَهُ الْقَرَافِيُّ عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ أَحْمَدَ.قَالَ صَاحِبُ نِصَابُ الِاحْتِسَابِ:

السُّنَّةُ فِي أَمْرِ الْوَالِدَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يَأْمُرَهُمَا بِهِ مَرَّةً فَإِنْ قَبِلَا فَبِهَا، وَإِنْ كَرِهَا سَكَتَ عَنْهُمَا، وَاشْتَغَلَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَكْفِيهِ مَا يُهِمُّهُ مِنْ أَمْرِهِمَا.وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يَجُوزُ لِلْوَلَدِ أَنْ يُخْبِرَ الْمُحْتَسِبَ بِمَعْصِيَةِ وَالِدَيْهِ إِذَا عَلِمَ الْوَلَدُ أَنْ أَبَوَيْهِ لَا يَمْتَنِعَانِ بِمَوْعِظَتِهِ. وَنَقَلَ الْقَرَافِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْوَالِدَيْنِ يُؤْمَرَانِ بِالْمَعْرُوفِ وَيُنْهَيَانِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَخْفِضُ لَهُمَا فِي ذَلِكَ جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ إِذَا رَأَى أَبَاهُ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ يُكَلِّمُهُ بِغَيْرِ عُنْفٍ وَلَا إِسَاءَةٍ، وَلَا يُغَلِّظُ لَهُ فِي الْكَلَامِ، وَلَيْسَ الْأَبُ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ إِذَا كَانَ أَبَوَاهُ يَبِيعَانِ الْخَمْرَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ طَعَامِهِمَا، وَخَرَجَ عَنْهُمَا.

أَمَّا الِاحْتِسَابُ بِالتَّعْنِيفِ وَالضَّرْبِ وَالْإِرْهَاقِ إِلَى تَرْكِ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ الْغَزَالِيَّ يَتَّفِقُ مَعَ غَيْرِهِ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَرَدَ عَامًّا، وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ إِيذَاءِ الْأَبَوَيْنِ فَقَدْ وَرَدَ خَاصًّا فِي حَقِّهِمَا مِمَّا يُوجِبُ اسْتِثْنَاءَهُمَا مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ، إِذْ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْجَلاَّدَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ أَبَاهُ فِي الزِّنَى حَدًّا، وَلَا لَهُ أَنْ يُبَاشِرَ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ، بَلْ لَا يُبَاشِرُ قَتْلَ أَبِيهِ الْكَافِرِ، بَلْ لَوْ قَطَعَ يَدَهُ لَمْ يَلْزَمْ قِصَاصٌ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُؤْذِيَهُ فِي مُقَابَلَتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ إِيذَاؤُهُ بِعُقُوبَةٍ هِيَ حَقٌّ عَلَى جِنَايَةٍ سَابِقَةٍ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ إِيذَاؤُهُ بِعُقُوبَةٍ هِيَ مَنْعٌ عَنْ جِنَايَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ مُتَوَقَّعَةٍ بَلْ أَوْلَى وَتَرَخَّصَ ابْنُ حَجَرٍ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ مُجَاوَزَةِ الرِّفْقِ إِلَى الشِّدَّةِ.

ثَالِثًا- احْتِسَابُ التِّلْمِيذِ عَلَى الشَّيْخِ، وَالزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا، وَالتَّابِعِ عَلَى الْمَتْبُوعِ:

38- عَقَدَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ بَابًا فِي وَعْظِ الْإِنْسَانِ مَنْ هُوَ أَجَلُّ مِنْهُ وَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَابَ مِمَّا تَتَأَكَّدُ الْعِنَايَةُ بِهِ، فَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ النَّصِيحَةُ، وَالْوَعْظُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ لِكُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، إِذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ تَرَتُّبُ مَفْسَدَةٍ عَلَى وَعْظِهِ.

وَأَلْحَقَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ الزَّوْجَةَ بِالنِّسْبَةِ لِزَوْجِهَا بِالْوَلَدِ بِالنِّسْبَةِ لِأَبِيهِ.

وَقَالَ فِي بَابِ مَا يَقُولُهُ التَّابِعُ لِلْمَتْبُوعِ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ نَحْوَهُ: اعْلَمْ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلتَّابِعِ إِذَا رَأَى شَيْخَهُ وَغَيْرَهُ مِمَّنْ يَقْتَدِي بِهِ شَيْئًا فِي ظَاهِرِهِ مُخَالَفَةُ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْهُ بِنِيَّةِ الِاسْتِرْشَادِ، فَإِنْ كَانَ فَعَلَهُ نَاسِيًا تَدَارَكَهُ، وَإِنْ فَعَلَهُ عَامِدًا وَهُوَ صَحِيحٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيَّنَهُ لَهُ، وَأَوْرَدَ جُمْلَةَ آثَارٍ فِي ذَلِكَ.

وَلِلْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ تَفْصِيلٌ، فَبَعْدَ أَنْ قَرَّرَ كَأَصْلٍ عَامٍّ أَنَّ الْمُحْتَرَمَ هُوَ الْأُسْتَاذُ الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ مِنْ حَيْثُ الدِّينُ، وَلَا حُرْمَةَ لِعَالِمٍ لَا يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ وَيُعَامِلُهُ بِمُوجِبِ عِلْمِهِ الَّذِي تَعَلَّمَهُ مِنْهُ.قَالَ بِسُقُوطِ الْحِسْبَةِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ إِذَا لَمْ يَجِدْ إِلاَّ مُعَلِّمًا وَاحِدًا وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الرِّحْلَةِ إِلَى غَيْرِهِ، وَعَلِمَ أَنَّ الْمُحْتَسِبَ عَلَيْهِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَسُدَّ عَلَيْهِ طَرِيقَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، كَكَوْنِ الْعَالِمِ مُطِيعًا لَهُ أَوْ مُسْتَمِعًا لِقَوْلِهِ، فَالصَّبْرُ عَلَى الْجَهْلِ مَحْذُورٌ، وَالسُّكُوتُ عَلَى الْمُنْكَرِ مَحْذُورٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَجِّحَ أَحَدَهُمَا وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِتَفَاحُشِ الْمُنْكَرِ وَشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى الْعِلْمِ لِتَعَلُّقِهِ بِمُهِمَّاتِ الدِّينِ.وَنَاطَ الِاحْتِسَابَ وَتَرَكَهُ بِاجْتِهَادِ الْمُحْتَسِبِ حَتَّى يَسْتَفْتِيَ فِيهَا قَلْبَهُ، وَيَزِنَ أَحَدَ الْمَحْذُورَيْنِ بِالْآخَرِ وَيُرَجِّحَ بِنَظَرِ الدِّينِ لَا بِمُوجِبِ الْهَوَى وَالطَّبْعِ.

رَابِعًا- احْتِسَابُ الرَّعِيَّةِ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ:

39- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ الْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَعَلَى تَحْرِيمِهَا فِي الْمَعْصِيَةِ وَيَرَى الْغَزَالِيُّ أَنَّ الْجَائِزَ فِي الْحِسْبَةِ مِنَ الرَّعِيَّةِ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ رُتْبَتَانِ: التَّعْرِيفُ وَالْوَعْظُ، أَمَّا مَا تَجَاوَزَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُحَرِّكُ الْفِتْنَةَ وَيُهَيِّجُ الشَّرَّ، وَيَكُونُ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مِنَ الْمَحْذُورِ أَكْثَرَ.وَزَادَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَإِنْ لَمْ يَخَفْ إِلاَّ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


23-موسوعة الفقه الكويتية (خطأ 2)

خَطَأٌ -2

20- الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: وَعَبَّرَ عَنْهَا ابْنُ نُجَيْمٍ بِقَوْلِهِ: وَأَمَّا مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعْيِينُ فَالْخَطَأُ فِيهِ يَضُرُّ.

وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعْيِينُ فَالْخَطَأُ فِيهِ مُبْطِلٌ، وَمَا يَجِبُ التَّعَرُّضُ لَهُ جُمْلَةً وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُهُ تَفْصِيلًا إِذَا عَيَّنَهُ وَأَخْطَأَ ضَرَّ.

وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا عِنْدَهُمَا:

1- الْخَطَأُ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ فَإِنَّهُ يَضُرُّ.وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَالَ الْخَرَشِيُّ: إِنْ خَالَفَتْ نِيَّتُهُ لَفْظَهُ، فَالْعِبْرَةُ بِالنِّيَّةِ دُونَ اللَّفْظِ، كَنَاوِي ظُهْرٍ تَلَفَّظَ بِعَصْرٍ مَثَلًا، وَهَذَا إِذَا تَخَالَفَا سَهْوًا، وَأَمَّا إِنْ فَعَلَهُ مُتَعَمِّدًا فَهُوَ مُتَلَاعِبٌ، وَنُقِلَ عَنِ الْإِرْشَادِ أَنَّ الْأَحْوَطَ الْإِعَادَةُ أَيْ فِيمَا إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَهْوًا، قَالَ الشَّيْخُ زَرُّوقٌ فِي شَرْحِهِ: لِلْخِلَافِ فِي الشُّبْهَةِ إِذْ يُحْتَمَلُ تَعَلُّقُ النِّيَّةِ بِمَا سَبَقَ إِلَيْهِ لِسَانُهُ.

2- وَكَذَلِكَ إِذَا نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِزَيْدٍ فَإِذَا هُوَ عَمْرٌو لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ.

وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوِ اقْتَدَى شَخْصٌ بِمَنْ يُصَلِّي إِمَامًا بِمَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ وَلَا يَدْرِي مَنْ هُوَ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ صَحِيحَةٌ، وَكَذَا إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ زَيْدٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَمْرٌو فِيمَا يَظْهَرُ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ الِاقْتِدَاءَ بِهِ إِنْ كَانَ زَيْدًا لَا إِنْ كَانَ عَمْرًا، فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ، وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ زَيْدٌ لِتَرَدُّدِهِ فِي النِّيَّةِ.

3- الْخَطَأُ فِي تَعْيِينِ الْمَيِّتِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ بِأَنْ نَوَى الصَّلَاةَ عَلَى زَيْدٍ فَبَانَ غَيْرُهُ، أَوْ نَوَى الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ الذَّكَرِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أُنْثَى، أَوْ عَكْسُهُ، فَإِنَّهُ يَضُرُّ وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ.

وَوَافَقَهُمَا الْمَالِكِيَّةُ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، فَقَالُوا: إِنْ نَوَى الصَّلَاةَ عَلَى مُعَيَّنٍ مِنْ مَوْتَى يُرِيدُ بِهِ زَيْدًا فَبَانَ غَيْرُهُ جَزَمَ أَبُو الْمَعَالِي أَنَّهَا لَا تَصِحُّ، وَقَالُوا بِالصِّحَّةِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، فَلَوْ نَوَى الصَّلَاةَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ فَبَانَ امْرَأَةً أَوْ عَكْسَهُ، بِأَنْ نَوَى هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَبَانَتْ رَجُلًا، قَالُوا فَالْقِيَاسُ الْإِجْزَاءُ لِقُوَّةِ التَّعْيِينِ عَلَى الصِّفَةِ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ وَغَيْرِهَا.

4- لَوْ نَوَى قَضَاءَ ظُهْرِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَكَانَ عَلَيْهِ ظُهْرُ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ لَمْ يُجْزِئْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.

وَلَا يَضُرُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَنْوِي الْأَيَّامَ اتِّفَاقًا، وَقَالُوا.إِنَّ الْمَشْهُورَ عَدَمُ وُجُوبِ نِيَّةِ الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ وَكَذَا ذِكْرُ الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ فِيهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ كَانَ الظُّهْرَانِ فَائِتَتَيْنِ فَنَوَى ظُهْرًا مِنْهُمَا وَلَمْ يُعَيِّنْهَا لَمْ تُجْزِهِ الظُّهْرُ الَّتِي صَلاَّهَا عَنْ إِحْدَاهُمَا، حَتَّى يُعَيِّنَ السَّابِقَةَ لِأَجْلِ اعْتِبَارِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْفَوَائِتِ.قَالُوا: لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ صَلَوَاتٌ فَصَلَّى أَرْبَعًا يَنْوِي بِهَا مِمَّا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إِجْمَاعًا، فَلَوْلَا اشْتِرَاطُ التَّعْيِينِ لأَجْزَأَهُ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ ظَنَّ أَنَّ عَلَيْهِ ظُهْرًا فَائِتَةً فَقَضَاهَا فِي وَقْتِ ظُهْرِ الْيَوْمِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فَهَلْ يُجْزِئُهُ عَنْ ظُهْرِ الْيَوْمِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُعَيَّنَةٌ، وَإِنَّمَا أَخْطَأَ فِي نِيَّةِ الْوَقْتِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ، كَمَا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الْوَقْتَ قَدْ خَرَجَ فَبَانَ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ، أَوْ كَمَا لَوْ نَوَى ظُهْرَ أَمْسٍ وَعَلَيْهِ ظُهْرُ يَوْمٍ قَبْلَهُ.

وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ عَيْنَ الصَّلَاةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى قَضَاءَ عَصْرٍ لَمْ يُجْزِهِ عَنِ الظُّهْرِ.

الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: الْخَطَأُ فِي الِاعْتِقَادِ دُونَ التَّعْيِينِ:

21- وَمَثَّلَ لَهَا السُّيُوطِيُّ بِجُمْلَةِ أَمْثِلَةٍ مِنْهَا: 1- لَوْ أَدَّى الظُّهْرَ فِي وَقْتِهَا مُعْتَقِدًا أَنَّهُ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ فَكَانَ الثُّلَاثَاءَ صَحَّ.

2- وَلَوْ غَلِطَ فِي الْأَذَانِ فَظَنَّ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ لِلظُّهْرِ وَكَانَتِ الْعَصْرُ، قَالَ: لَا أَعْلَمُ فِيهِ نَقْلًا وَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِعْلَامُ مِمَّنْ هُوَ أَهْلُهُ وَقَدْ حَصَلَ.

وَهَذِهِ الْأَمْثِلَةُ أَوْ بَعْضُهَا مَذْكُورَةٌ فِي الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى.

فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: لَوْ نَوَى قَضَاءَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الصَّوْمِ وَهُوَ يَظُنُّهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَهُوَ غَيْرُهُ جَازَ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: قَالَ الزُّرْقَانِيُّ إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ زَيْدٌ أَيِ: الْإِمَامَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَمْرٌو، فَإِنَّ صَلَاتَهُ صَحِيحَةٌ.وَنَحْوُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

ثَانِيًا: الْخَطَأُ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ:

22- مَنْ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ كُلَّ الصَّلَاةِ أَوْ بَعْضَهَا لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ اتِّفَاقًا، سَوَاءٌ فَعَلَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ كَمَا هُوَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ فَهُوَ شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} أَيْ فَرْضًا مُؤَقَّتًا حَتَّى لَا يَجُوزَ أَدَاءُ الْفَرْضِ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ فُرِضَتْ لِأَوْقَاتِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}

وَلِهَذَا تَكَرَّرَ وُجُوبُهَا بِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ، وَتُؤَدَّى فِي مَوَاقِيتِهَا.فَلَوْ شَكَّ فِي دُخُولِ وَقْتِ الْعِبَادَةِ فَأَتَى بِهَا، فَبَانَ أَنَّهُ فَعَلَهَا قَبْلَ الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُجْزِئُهُ، وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا وَقَعَتْ فِيهِ لِتَرَدُّدِ النِّيَّةِ وَعَدَمِ تَيَقُّنِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ.

وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ مَعْرِفَةَ دُخُولِ الْوَقْتِ يَقِينًا بِأَنْ شَاهَدَ الشَّمْسَ غَارِبَةً، أَوْ ظَنًّا بِأَنِ اجْتَهَدَ لِغَيْمٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَمَنْ صَلَّى بِدُونِ ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ وَإِنْ وَقَعَتْ فِي الْوَقْتِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ دُخُولُ وَقْتِ الصَّلَاةِ تَصِحُّ صَلَاتُهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ أَنْ يَتَيَقَّنَ دُخُولَهُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ.فَإِنْ صَلَّى مَعَ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ أَعَادَ اتِّفَاقًا.

ثَالِثًا: الْخَطَأُ فِي الْقِبْلَةِ:

23- اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ.

فَإِنْ صَلَّى ثُمَّ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فِي الْقِبْلَةِ: فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَتَحَرَّى الْمُصَلِّي لِاشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ وَعَدَمِ الْمُخْبِرِ بِهَا، وَلَمْ يُعِدِ الصَّلَاةَ إِنْ أَخْطَأَ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ، وَلَا وُسْعَ فِي إِصَابَةِ الْجِهَةِ حَقِيقَةً، فَصَارَتْ جِهَةُ التَّحَرِّي هُنَا كَجِهَةِ الْكَعْبَةِ لِلْغَائِبِ عَنْهَا، وَقَدْ قِيلَ فِي قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أَيْ قِبْلَةُ اللَّهِ نَزَلَتْ فِي الصَّلَاةِ حَالَ الِاشْتِبَاهِ، وَلَوْ عَلِمَ خَطَأَهُ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا بِالتَّحَرِّي اسْتَدَارَ فِي الْأَوَّلِ إِلَى جِهَةِ الصَّوَابِ وَفِي الثَّانِي إِلَى جِهَةِ تَحَوُّلِ رَأْيِهِ إِلَيْهَا.

24- وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ لَوْ صَلَّى إِلَى جِهَةِ اجْتِهَادِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ، فَإِنْ كَانَ تَحَرِّيهِ مَعَ ظُهُورِ الْعَلَامَاتِ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ إِنِ اسْتَدْبَرَ، وَكَذَا لَوْ شَرَّقَ أَوْ غَرَّبَ، وَإِنْ كَانَ مَعَ عَدَمِ ظُهُورِهَا فَلَا إِعَادَةَ.

25- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ صَلَّى ثُمَّ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعِيدَ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ فِيمَا يَأْمَنُ مِثْلَهُ فِي الْقَضَاءِ فَلَمْ يُعْتَدَّ بِمَا مَضَى، كَالْحَاكِمِ إِذَا حَكَمَ ثُمَّ وُجِدَ النَّصُّ بِخِلَافِهِ، وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ جِهَةٌ تَجُوزُ الصَّلَاةُ إِلَيْهَا بِالِاجْتِهَادِ فَأَشْبَهَ إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنِ الْخَطَأَ.وَإِنْ صَلَّى إِلَى جِهَةٍ ثُمَّ رَأَى الْقِبْلَةَ فِي يَمِينِهَا أَوْ شِمَالِهَا لَمْ يُعِدْ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ لَا يُعْلَمُ قَطْعًا فَلَا يُنْتَقَضُ بِالِاجْتِهَادِ.

26- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ إِلَى جِهَةٍ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِعَادَةٌ.وَقَالُوا: إِذَا صَلَّى الْبَصِيرُ فِي حَضَرٍ فَأَخْطَأَ، أَوْ صَلَّى الْأَعْمَى بِلَا دَلِيلٍ بِأَنْ لَمْ يَسْتَخْبِرْ مَنْ يُخْبِرُهُ وَلَمْ يَلْمِسَ الْمِحْرَابَ وَنَحْوَهُ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِفَ بِهِ الْقِبْلَةَ أَعَادَا وَلَوْ أَصَابَا، أَوِ اجْتَهَدَ الْبَصِيرُ؛ لِأَنَّ الْحَضَرَ لَيْسَ بِمَحَلِّ اجْتِهَادٍ لِقُدْرَةِ مَنْ فِيهِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْمَحَارِيبِ وَنَحْوِهَا، وَلِوُجُودِ مَنْ يُخْبِرُهُ عَنْ يَقِينٍ غَالِبًا، وَإِنَّمَا وَجَبَتِ الْإِعَادَةُ عَلَيْهِمَا لِتَفْرِيطِهِمَا بِعَدَمِ الِاسْتِخْبَارِ أَوِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمَحَارِيبِ.

رَابِعًا: الْخَطَأُ فِي الْقِرَاءَةِ:

27- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: خَطَأُ الْقَارِئِ إِمَّا فِي الْإِعْرَابِ، أَوْ فِي الْحُرُوفِ، أَوْ فِي الْكَلِمَاتِ، أَوِ الْآيَاتِ، وَفِي الْحُرُوفِ إِمَّا بِوَضْعِ حَرْفٍ مَكَانَ آخَرَ أَوْ تَقْدِيمِهِ، أَوْ تَأْخِيرِهِ، أَوْ زِيَادَتِهِ، أَوْ نَقْصِهِ.

أَمَّا الْإِعْرَابُ فَإِنْ لَمْ يُغَيِّرَ الْمَعْنَى لَا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ تَغْيِيرَهُ خَطَأٌ لَا يُسْتَطَاعُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَيُعْذَرُ، وَإِنْ غَيَّرَ الْمَعْنَى تَغْيِيرًا فَاحِشًا مِمَّا اعْتِقَادُهُ كُفْرٌ، مِثْلُ الْبَارِئِ الْمُصَوَّرِ- بِفَتْحِ الْوَاوِ- وَ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ} بِرَفْعِ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَنَصْبِ الْعُلَمَاءِ- فَسَدَتْ فِي قَوْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ: فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: لَا تَفْسُدُ.وَمَا قَالَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ أَحْوَطُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَعَمَّدَ يَكُونُ كُفْرًا، وَمَا يَكُونُ كُفْرًا لَا يَكُونُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ النَّاسِ الْكُفَّارِ غَلَطًا وَهُوَ مُفْسِدٌ، كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ النَّاسِ سَاهِيًا مِمَّا لَيْسَ بِكُفْرٍ فَكَيْفَ وَهُوَ كُفْرٌ، وَقَوْلُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَوْسَعُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ.

وَيَتَّصِلُ بِهَذَا تَخْفِيفُ الْمُشَدَّدِ، وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْمَدِّ وَالتَّشْدِيدِ كَالْخَطَأِ فِي الْإِعْرَابِ، فَلِذَا قَالَ كَثِيرٌ بِالْفَسَادِ فِي تَخْفِيفِ- {رَبِّ الْعَالَمِينَ} - و- {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} - وَالْأَصَحُّ لَا تَفْسُدُ.

وَأَمَّا فِي الْحُرُوفِ فَإِذَا وَضَعَ حَرْفًا مَكَانَ غَيْرِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَطَأً أَوْ عَجْزًا، فَالْأَوَّلُ إِنْ لَمْ يُغَيِّرَ الْمَعْنَى وَكَانَ مِثْلُهُ مَوْجُودًا فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ- إِنَّ الْمُسْلِمُونَ- لَا تَفْسُدُ، وَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْ وَلَيْسَ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ- قَيَّامِينَ بِالْقِسْطِ- وَالتَّيَّابِينَ- وَالْحَيُّ الْقَيَّامُ- لَمْ تَفْسُدْ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَفْسُدُ.وَإِنْ غَيَّرَ الْمَعْنَى فَسَدَتْ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ.فَلَوْ قَرَأَ أَصْحَابَ الشَّعِيرِ- بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ فَسَدَتِ اتِّفَاقًا- فَالْعِبْرَةُ فِي عَدَمِ الْفَسَادِ عِنْدَهُمَا بِعَدَمِ تَغَيُّرِ الْمَعْنَى- وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْعِبْرَةُ بِوُجُودِ الْمِثْلِ فِي الْقُرْآنِ.

وَأَمَّا التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فَإِنْ غَيَّرَ، نَحْوَ قَوْسَرَةٍ فِي قَسْوَرَةٍ فَسَدَتْ، وَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْ لَا تَفْسُدُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.

وَأَمَّا الزِّيَادَةُ وَمِنْهَا فَكُّ الْمُدْغَمِ، فَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْ نَحْوُ (وَانْهَا عَنِ الْمُنْكَرِ) بِالْأَلِفِ (وَرَادِدُوهُ إِلَيْكَ) لَا تَفْسُدُ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ.وَإِنْ غَيَّرَ نَحْوُ (زَرَابِيبَ) مَكَانَ (زَرَابِيُّ) (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (وَإِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) بِزِيَادَةِ الْوَاوِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ تَفْسُدُ.

وَكَذَا النُّقْصَانُ إِنْ لَمْ يُغَيِّرْ لَا تَفْسُدُ نَحْوُ (جَاءَهُمْ) مَكَانَ (جَاءَتْهُمْ) وَإِنْ غَيَّرَ فَسَدَ نَحْوُ (النَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى مَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) بِلَا وَاوٍ.

أَمَّا الْكَلِمَةُ مَكَانَ الْكَلِمَةِ فَإِنْ تَقَارَبَا مَعْنًى، وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَالْحَكِيمِ مَكَانَ الْعَلِيمِ، لَمْ تَفْسُدِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الْمِثْلُ كَالْفَاجِرِ مَكَانَ الْأَثِيمِ فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ، فَلَوْ لَمْ يَتَقَارَبَا وَلَا مِثْلَ لَهُ فَسَدَتِ اتِّفَاقًا إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَكَرًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ مِمَّا اعْتِقَادُهُ كُفْرٌ كَغَافِلِينَ فِي {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} فَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ عَلَى أَنَّهَا تَفْسُدُ اتِّفَاقًا.

وَأَمَّا التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْ لَمْ تَفْسُدْ نَحْوُ {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا}، وَإِنْ غَيَّرَ فَسَدَتْ نَحْوُ الْيُسْرِ مَكَانَ الْعُسْرِ وَعَكْسُهُ.

وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْ وَهِيَ فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِرًّا) لَا تَفْسُدُ فِي قَوْلِهِمْ، وَإِنْ غَيَّرَتْ فَسَدَتِ الصَّلَاةُ لِأَنَّهُ لَوْ تَعَمَّدَهُ كَفَرَ، فَإِذَا أَخْطَأَ فِيهِ أَفْسَدَ.

مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:

28- بَحَثَ الْمَالِكِيَّةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي صَلَاةِ الْمُقْتَدِي بِاللاَّحِنِ.

فَقَالَ الْخَرَشِيُّ: قِيلَ: تَبْطُلُ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي بِلَاحِنٍ مُطْلَقًا، أَيْ فِي الْفَاتِحَةِ أَوْ غَيْرِهَا، سَوَاءٌ غَيَّرَ الْمَعْنَى كَكَسْرِ كَافِ {إِيَّاكَ} وَضَمِّ تَاءِ {أَنْعَمْتُ} أَمْ لَا، وُجِدَ غَيْرُهُ أَمْ لَا، إِنْ لَمْ تَسْتَوِ حَالَتُهُمَا أَوْ إِنْ كَانَ لَحْنُهُ فِي الْفَاتِحَةِ دُونَ غَيْرِهَا؟ قَوْلَانِ.ثُمَّ قَالَ: وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَنْ عَجَزَ عَنْ تَعَلُّمِ الصَّوَابِ لِضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ لِعَدَمِ مَنْ يُعَلِّمُهُ مَعَ قَبُولِ التَّعْلِيمِ، أَوِ ائْتَمَّ بِهِ مَنْ لَيْسَ مِثْلَهُ لِعَدَمِ وُجُودِ غَيْرِهِ.وَأَمَّا مَنْ تَعَمَّدَ اللَّحْنَ فَصَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنِ اقْتَدَى بِهِ بَاطِلَةٌ بِلَا نِزَاعٍ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِكَلِمَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ فِي صَلَاتِهِ، وَمَنْ فَعَلَهُ سَاهِيًا لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَلَا صَلَاةَ مَنِ اقْتَدَى بِهِ قَطْعًا بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَهَا عَنْ كَلِمَةٍ فَأَكْثَرَ فِي الْفَاتِحَةِ أَوْ غَيْرِهَا.

وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَجْزًا بِأَنْ لَا يَقْبَلَ التَّعْلِيمَ فَصَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنِ اقْتَدَى بِهِ صَحِيحَةٌ أَيْضًا قَطْعًا، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَلْكِنَةِ، وَسَوَاءٌ وُجِدَ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ أَوْ لَا.

وَإِنْ كَانَ عَجْزُهُ لِضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ لِعَدَمِ مَنْ يُعَلِّمُهُ مَعَ قَبُولِهِ التَّعْلِيمَ، فَإِنْ كَانَ مَعَ وُجُودِ مَنْ يَأْتَمُّ بِهِ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ وَصَلَاةَ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ أَكَانَ مِثْلَ الْإِمَامِ فِي اللَّحْنِ أَمْ لَا، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَأْتَمُّ بِهِ فَصَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنِ اقْتَدَى بِهِ صَحِيحَةٌ إِنْ كَانَ مِثْلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُ بِأَنْ كَانَ يَنْطِقُ بِالصَّوَابِ فِي كُلِّ قِرَاءَتِهِ، أَوْ صَوَابُهُ أَكْثَرُ مِنْ صَوَابِ إِمَامِهِ فَإِنَّهُ مَحَلُّ خِلَافٍ.

وَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي بِغَيْرِ مُمَيِّزٍ بَيْنَ ضَادٍ وَظَاءٍ مَا لَمْ تَسْتَوِ حَالَتُهُمَا؟ قَالَ بِالْبُطْلَانِ: ابْنُ أَبِي زَيْدٍ وَالْقَابِسِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ يُونُسَ وَعَبْدُ الْحَقِّ.

وَأَمَّا صَلَاتُهُ هُوَ فَصَحِيحَةٌ، إِلاَّ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ عَمْدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.ثُمَّ قَالَ: وَظَاهِرُهُ جَرَيَانُ هَذَا الْخِلَافِ فِيمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ فِي الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا، وَفِي الْمَوَّاقِ تَقْيِيدُهُ بِمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ بَيْنَهُمَا فِي الْفَاتِحَةِ، وَذَكَرَ الْحَطَّابُ وَالنَّاصِرُ اللَّقَانِيُّ مَا يُفِيدُ أَنَّ الرَّاجِحَ صِحَّةُ الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَهُمَا، وَحَكَى الْمَوَّاقُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ، وَحُكْمُ مَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الصَّادِ وَالسِّينِ كَمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ، وَكَذَا بَيْنَ الزَّايِ وَالسِّينِ.

29- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِلَاحِنٍ بِمَا لَا يُغَيِّرُ الْمَعْنَى كَضَمِّ الْهَاءِ فِي {لِلَّهِ} فَإِنْ غَيَّرَ مَعْنًى فِي الْفَاتِحَةِ كَأَنْعَمْتُ بِضَمٍّ أَوْ كَسْرٍ وَلَمْ يُحْسِنَ اللاَّحِنُ الْفَاتِحَةَ فَكَأُمِّيٍّ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِهِ أَمْكَنَهُ التَّعَلُّمُ أَوْ لَا وَلَا صَلَاتُهُ إِنْ أَمْكَنَهُ التَّعَلُّمُ وَإِلاَّ صَحَّتْ كَاقْتِدَائِهِ بِمِثْلِهِ فَإِنْ أَحْسَنَ اللاَّحِنُ الْفَاتِحَةَ وَتَعَمَّدَ اللَّحْنَ أَوْ سَبَقَ لِسَانُهُ إِلَيْهِ وَلَمْ يُعِدِ الْقِرَاءَةَ عَلَى الصَّوَابِ فِي الثَّانِيَةِلَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ مُطْلَقًا وَلَا الِاقْتِدَاءُ بِهِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ أَوْ فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ كَجَرِّ اللاَّمِ فِي قَوْلِهِ {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْمُقْتَدِي بِهِ حَالَ كَوْنِهِ عَاجِزًا عَنِ التَّعَلُّمِ، أَوْ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ، أَوْ نَاسِيًا كَوْنَهُ فِي الصَّلَاةِ.

30- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا تَصِحُّ إِمَامَةُ الْأُمِّيِّ وَهُوَ مَنْ لَا يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ أَوْ يُدْغِمُ مِنْهَا حَرْفًا لَا يُدْغَمُ، أَوْ يَلْحَنُ فِيهَا لَحْنًا يُحِيلُ الْمَعْنَى كَفَتْحِ هَمْزَةِ اهْدِنَا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِمَعْنَى طَلَبِ الْهَدِيَّةِ لَا الْهِدَايَةِ، وَضَمِّ تَاءِ أَنْعَمْتُ وَكَسْرِهَا وَكَسْرِ كَافِ إِيَّاكَ، فَإِنْ لَمْ يَحِلَّ الْمَعْنَى كَفَتْحِ دَالِ نَعْبُدُ وَنُونِ نَسْتَعِينُ فَلَيْسَ أُمِّيًّا وَإِنْ أَتَى بِاللَّحْنِ الْمُحِيلِ لِلْمَعْنَى مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِصْلَاحِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ كَوْنِهِ قُرْآنًا فَهُوَ كَسَائِرِ الْكَلَامِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ غَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ إِصْلَاحِ اللَّحْنِ الْمُحِيلِ لِلْمَعْنَى قَرَأَهُ فِي فَرْضِ الْقِرَاءَةِ لِحَدِيثِ: « إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ » وَمَا زَادَ عَنِ الْفَاتِحَةِ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِعَمْدِهِ.

خَامِسًا: الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ خَطَأٌ:

31- إِنْ أَرَادَ الْمُصَلِّي قِرَاءَةً أَوْ ذِكْرًا فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ كَلَامُ النَّاسِ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: فَإِنْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا مُخْطِئًا أَوْ قَاصِدًا اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ لِحَدِيثِ « وَلْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ » فَدَلَّ أَنَّ بَعْدَ الْكَلَامِ لَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ قَطُّ وَلِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: « إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ ».هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَمَّا عِنْدَ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ يَسِيرِ الْكَلَامِ وَكَثِيرِهِ وَقَالُوا: إِنَّ الْيَسِيرَ مِنْهُ خَطَأٌ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَيُفْسِدُهَا الْكَلَامُ الْكَثِيرُ.وَتَفْصِيلُهُ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاةٌ).

سَادِسًا: شَكُّ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ:

32- إِنْ سَهَا الْإِمَامُ فِي صَلَاتِهِ فَسَبَّحَ اثْنَانِ يَثِقُ الْإِمَامُ بِقَوْلِهِمَا لَزِمَهُ قَبُولُهُ وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ سَوَاءٌ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صَوَابُهُمَا أَوْ خَطَؤُهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- رَجَعَ إِلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رضي الله عنهما- فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ لَمَّا سَأَلَهُمَا « أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ ».فَقَالَا نَعَمْ.مَعَ أَنَّهُ كَانَ شَاكًّا بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَنْكَرَ مَا قَالَ ذُو الْيَدَيْنِ وَسَأَلَهُمَا عَنْ صِحَّةِ قَوْلِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ خَطَؤُهُمَا لَمْ يَعْمَلْ بِقَوْلِهِمَا.لِأَنَّ مَنْ شَكَّ فِي فِعْلِ نَفْسِهِ لَمْ يَرْجِعْ فِيهِ إِلَى قَوْلِ غَيْرِهِ. أَمَّا إِذَا تَيَقَّنَ الْإِمَامُ مِنْ صَوَابِهِ وَخَطَأِ الْمَأْمُومِينَ لَمْ يَجُزْ لَهُ مُتَابَعَتُهُمْ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ وَجُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَصَحَّحَهُ الْمُتَوَلِّي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ الْمُخْبِرِينَ إِذَا كَانُوا كَثِيرِينَ كَثْرَةً ظَاهِرَةً بِحَيْثُ يَبْعُدُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْخَطَأِ لَزِمَهُ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِهِمْ كَالْحَاكِمِ يَحْكُمُ بِالشَّاهِدَيْنِ وَيَتْرُكُ يَقِينَ نَفْسِهِ.

سَابِعًا: الْخَطَأُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ:

33- رَأَى الْمُسْلِمُونَ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ سَوَادًا فَظَنُّوهُ خَطَأً عَدُوًّا وَصَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَدُوًّا، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ حَائِلٌ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إِلَيْهِمُ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْأَوَّلُ: تَلْزَمُهُمْ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الْمُبِيحُ فَأَشْبَهَ مَنْ ظَنَّ الطَّهَارَةَ ثُمَّ عَلِمَ بِحَدَثِهِ، سَوَاءٌ اسْتَنَدَ الظَّنُّ لِخَبَرِ ثِقَةٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلِأَنَّهُمْ تَيَقَّنُوا الْغَلَطَ فِي الْقِبْلَةِ.

الثَّانِي: لَا يُعِيدُونَ وَتُجْزِئُهُمْ صَلَاتُهُمْ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ.وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِوُجُودِ الْخَوْفِ حَالَ الصَّلَاةِ.

ج- الزَّكَاةُ:

أَوَّلًا: الْخَطَأُ فِي الْخَرْصِ:

34- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا خَرَصَ الثَّمَرَةَ فَوُجِدَتْ أَكْثَرُ مِمَّا خَرَصَ يَأْخُذُ زَكَاةَ الزَّائِدِ، قِيلَ: وُجُوبًا، وَقِيلَ: اسْتِحْبَابًا، وَمَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ حَمَلَهُ عَلَى الْحَاكِمِ يَحْكُمُ ثُمَّ يَظْهَرُ أَنَّهُ خَطَأٌ صُرَاحٌ، وَمَنْ قَالَ بِالِاسْتِحْبَابِ حَمَلَهُ عَلَى التَّعْلِيلِ بِقِلَّةِ إِصَابَةِ الْخِرَاصِ.

أَمَّا إِذَا ثَبَتَ نَقْصُ الثَّمَرَةِ، فَإِنْ ثَبَتَ النَّقْصُ بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ عَمِلَ بِهَا، وَإِلاَّ لَمْ تَنْقُصِ الزَّكَاةُ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ رَبِّهَا فِي نَقْصِهَا لِاحْتِمَالِ كَوْنِ النَّقْصِ مِنْهُ.وَلَوْ تَحَقَّقَ أَنَّ النَّقْصَ مِنْ خَطَأِ الْخَارِصِ نَقَصَتِ الزَّكَاةُ.

وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَةِ- الْوَاجِبُ الِاجْتِهَادُ أَوِ الْإِصَابَةُ. 35- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنِ ادَّعَى الْمَالِكُ أَنَّ الْخَارِصَ أَخْطَأَ أَوْ غَلِطَ فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنَ الْقَدْرَ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ بِلَا خِلَافٍ.وَإِنْ بَيَّنَهُ، وَكَانَ يَحْتَمِلُ الْغَلَطَ فِي مِثْلِهِ كَخَمْسَةِ أَوْسُقٍ فِي مِائَةٍ قُبِلَ قَوْلُهُ، وَحُطَّ عَنْهُ مَا ادَّعَاهُ، فَإِنِ اتَّهَمَهُ حَلَّفَهُ، وَفِي الْيَمِينِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا مُسْتَحَبَّةٌ.هَذَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى فَوْقَ مَا يَقَعُ بَيْنَ الْكَيْلَيْنِ، أَمَّا إِذَا ادَّعَى بَعْدَ الْكَيْلِ غَلَطًا يَسِيرًا فِي الْخَرْصِ بِقَدْرِ مَا يَقَعُ بَيْنَ الْكَيْلَيْنِ كَصَاعٍ مِنْ مِائَةٍ فَهَلْ يُحَطُّ مِنْهُ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا.لَا يُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقِ النَّقْصُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْكَيْلِ، وَلَوْ كِيلَ ثَانِيًا لَوَفَّى.وَالثَّانِي: يُقْبَلُ وَيُحَطُّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْكَيْلَ تَعَيَّنَ وَالْخَرْصُ تَخْمِينٌ فَالْإِحَالَةُ عَلَيْهِ أَوْلَى.

أَمَّا إِذَا ادَّعَى نَقْصًا فَاحِشًا لَا يُجَوِّزُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ وُقُوعَ مِثْلِهِ غَلَطًا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي حَطِّ جَمِيعِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَهَلْ يُقْبَلُ فِي حَطِّ الْمُمْكِنِ فِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا يُقْبَلُ.

36- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنِ ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ غَلَطَ الْخَارِصِ وَكَانَ مَا ادَّعَاهُ مُحْتَمَلًا قُبِلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ غَلَطَ النِّصْفِ أَوْ نَحْوِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ فَيُعْلَمُ كَذِبُهُ، وَإِنْ قَالَ لَمْ يَحْصُلْ فِي يَدِيَّ غَيْرُ هَذَا قُبِلَ مِنْهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتْلَفُ بَعْضُهَا بِآفَةٍ لَا نَعْلَمُهَا.

ثَانِيًا: الْخَطَأُ فِي مَصْرِفِ الزَّكَاةِ:

37- إِذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ لِمَنْ ظَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا فَبَانَ خَطَؤُهُ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْأَوَّلُ: يُجْزِئُهُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمَالِكٍ إِذَا كَانَ الدَّافِعُ هُوَ السُّلْطَانُ أَوِ الْوَصِيُّ أَوْ مُقَدَّمُ الْقَاضِي وَتَعَذَّرَ رَدُّهَا.

وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ « مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- أَنَا وَأَبِي وَجَدِّي، وَخَطَبَ عَلِيٌّ فَأَنْكَحَنِي وَخَاصَمْتُ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبِي يَزِيدَ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ، فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ، وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ » فَجَوَّزَ - صلى الله عليه وسلم- ذَلِكَ وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ أَنَّ الصَّدَقَةَ كَانَتْ فَرِيضَةً أَوْ تَطَوُّعًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَالَ لَا تَخْتَلِفُ، أَوْ لِأَنَّ مُطْلَقَ الصَّدَقَةِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْفَرِيضَةِ، وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا هُوَ بِالِاجْتِهَادِ لَا الْقَطْعِ فَيُبْنَى الْأَمْرُ عَلَى مَا يَقَعُ عِنْدَهُ كَمَا إِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ، وَلَوْ فُرِضَ تَكَرُّرُ خَطَئِهِ فَتَكَرَّرَتِ الْإِعَادَةُ أَفْضَى إِلَى الْحَرَجِ لِإِخْرَاجِ كُلِّ مَالِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزَّكَاةُ خُصُوصًا مَعَ كَوْنِ الْحَرَجِ مَدْفُوعًا عُمُومًا.

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: لَا يُجْزِئُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ إِلاَّ أَنَّهُ قَالَ لَا يَسْتَرِدُّهُ.وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ أَيْضًا إِذَا كَانَ الدَّافِعُ هُوَ رَبُّ الْمَالِ.وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَ الدَّافِعُ هُوَ الْإِمَامُ وَيَسْتَرْجِعُ مِنَ الْمَدْفُوعِ إِلاَّ أَنْ يَتَعَذَّرَ الِاسْتِرْجَاعُ مِنَ الْقَابِضِ فَلَا ضَمَانَ، وَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ هُوَ رَبُّ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ عَنِ الْفَرْضِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيَّنَ أَنَّهَا زَكَاةٌ لَمْ يَرْجِعْ، وَإِنْ بَيَّنَ رَجَعَ فِي عَيْنِهَا فَإِنْ تَلِفَتْ فَفِي بَدَلِهَا، فَإِنْ تَعَذَّرَ الِاسْتِرْجَاعُ فَفِي الضَّمَانِ وَإِخْرَاجِ بَدَلِهَا قَوْلَانِ: قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَذْهَبُ أَنَّهَا لَا تُجْزِئُهُ وَيَلْزَمُهُ الْإِخْرَاجُ.

وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ فِي غَيْرِ مَنْ ظَنَّهُ فَقِيرًا فَبَانَ غَنِيًّا وَقَالُوا: يَسْتَرِدُّهَا رَبُّهَا بِزِيَادَتِهَا مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَّصِلَةً أَمْ مُنْفَصِلَةً.

وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ: بِأَنَّهُ ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ، وَكَانَ بِإِمْكَانِهِ الْوُقُوفُ عَلَى مَدَى اسْتِحْقَاقِهِ أَوْ عَدَمِهِ فَصَارَ كَالْأَوَانِي وَالثِّيَابِ، فَإِذَا تَحَرَّى فِي الْأَوَانِي الطَّاهِرَةِ الْمُخْتَلِطَةِ بِالنَّجِسَةِ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ الْخَطَأُ يُعِيدُ الْوُضُوءَ، وَكَذَلِكَ الثِّيَابُ إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ مِنْهَا بِالتَّحَرِّي ثُمَّ ظَهَرَ خَطَؤُهُ أَعَادَ الصَّلَاةَ، وَمِثْلُهُ إِذَا قَضَى الْقَاضِي بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ.وَلِأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ وَهُوَ لَا يَخْفَى حَالُهُ غَالِبًا فَلَمْ يُعْذَرْ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ.

وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ دَفْعِهَا خَطَأً إِلَى مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا لِكُفْرٍ أَوْ شَرَفٍ، وَبَيْنَ دَفْعِهَا لِمَنْ ظَنَّهُ فَقِيرًا فَبَانَ غَنِيًّا، فَقَالُوا: لَا تُجْزِئُ إِذَا دَفَعَهَا لِلْكَافِرِ أَوْ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا لِكَوْنِهِ هَاشِمِيًّا، وَلَهُ حَقُّ اسْتِرْدَادِ مَا دَفَعَ.لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِبْرَاءُ الذِّمَّةِ بِالزَّكَاةِ وَلَمْ يَحْصُلْ لِدَفْعِهَا لِلْكَافِرِ، فَيَمْلِكُ الرُّجُوعَ بِخِلَافِ دَفْعِهَا لِلْغَنِيِّ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الثَّوَابُ وَلَمْ يَفُتْ.

وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي عَدَمِ الِاسْتِرْدَادِ أَنَّ فَسَادَ جِهَةِ الزَّكَاةِ لَا يَنْقُضُ الْأَدَاءَ. د- الصَّوْمُ:

أَوَّلًا: الْخَطَأُ فِي صِفَةِ نِيَّةِ صَوْمِ رَمَضَانَ:

38- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَطْلَقَ الصَّائِمُ نِيَّةَ الصَّوْمِ فِي أَدَاءِ رَمَضَانَ، أَوْ نَوَى النَّفَلَ أَوْ وَصَفَهُ وَأَخْطَأَ الْوَصْفَ صَحَّ صَوْمُهُ.

قَالَ فِي الدُّرَرِ: وَصَحَّ الصَّوْمُ بِمُطْلَقِهَا أَيِ النِّيَّةِ، وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ، وَبِخَطَأِ الْوَصْفِ فِي أَدَاءِ رَمَضَانَ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الْوَقْتَ مُتَعَيِّنٌ لِصَوْمِ رَمَضَانَ، وَالْإِطْلَاقُ فِي الْمُتَعَيِّنِ تَعْيِينٌ، وَالْخَطَأُ فِي الْوَصْفِ لَمَّا بَطَلَ بَقِيَ أَصْلُ النِّيَّةِ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْمُطْلَقِ، نَظِيرُهُ الْمُتَوَحِّدُ فِي الدَّارِ إِذَا نُودِيَ بِيَا رَجُلُ أَوْ بِاسْمٍ غَيْرِ اسْمِهِ يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ بِخِلَافِ قَضَاءِ رَمَضَانَ حَيْثُ لَا تَعْيِينَ فِي وَقْتِهِ إِلاَّ إِذَا وَقَعَتِ النِّيَّةُ مِنْ مَرِيضٍ أَوْ مُسَافِرٍ حَيْثُ يَحْتَاجُ حِينَئِذٍ إِلَى التَّعْيِينِ وَلَا يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ.

وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (صَوْمٌ، نِيَّةٌ).

ثَانِيًا: الْخَطَأُ فِي الْإِفْطَارِ:

39- مَنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلصَّوْمِ فَأَفْطَرَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَمَا إِذَا تَمَضْمَضَ فَدَخَلَ الْمَاءُ فِي حَلْقِهِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ: يَبْطُلُ الصَّوْمُ وَيَلْزَمُ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ عُذْرٌ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ بِخِلَافِ النِّسْيَانِ فَإِنَّهُ عُذْرٌ غَالِبٌ؛ وَلِأَنَّ الْوُصُولَ إِلَى الْجَوْفِ مَعَ التَّذَكُّرِ فِي الْخَطَأِ لَيْسَ إِلاَّ لِتَقْصِيرٍ فِي الِاحْتِرَازِ فَيُنَاسِبُ الْفَسَادَ، إِذْ فِيهِ نَوْعُ إِضَافَةٍ إِلَيْهِ بِخِلَافِ النِّسْيَانِ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: عَدَمُ الْبُطْلَانِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ كَغُبَارِ الطَّرِيقِ وَغَرْبَلَةِ الدَّقِيقِ وَالذُّبَابِ.

وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ بَالَغَ أَفْطَرَ وَإِلاَّ فَلَا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ « بَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِمًا » فَنَهَاهُ عَنِ الْمُبَالَغَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ وُصُولُ الْمَاءِ فِي الْمُبَالَغَةِ يُبْطِلُ صَوْمَهُ لَمْ يَكُنْ لِلنَّهْيِ عَنِ الْمُبَالَغَةِ مَعْنًى، وَلِأَنَّ الْمُبَالِغَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا فِي الصَّوْمِ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ سَبَبٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فَهُوَ كَالْمُبَاشَرَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا جَرَحَ إِنْسَانًا فَمَاتَ جُعِلَ كَأَنَّهُ بَاشَرَ قَتْلَهُ.

ثَالِثًا: الْخَطَأُ فِي تَعْيِينِ رَمَضَانَ لِلْأَسِيرِ:

40- إِنِ اشْتَبَهَتِ الشُّهُورُ عَلَى أَسِيرٍ لَزِمَهُ أَنْ يَتَحَرَّى وَيَصُومَ، فَإِنْ وَافَقَ صَوْمُهُ شَهْرًا قَبْلَ رَمَضَانَ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى عَدَمِ الْإِجْزَاءِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْعِبَادَةَ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهَا، فَلَمْ تُجْزِهِ كَمَنْ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ وَلِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ فِيمَا يَأْمَنُ مِثْلَهُ فِي الْقَضَاءِ فَلَمْ يُعْتَدَّ لَهُ بِمَا فَعَلَهُ، كَمَا لَوْ تَحَرَّى فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْوَقْتِ.

وَيَرَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ النَّوَوِيُّ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


24-موسوعة الفقه الكويتية (ظن)

ظَنٌّ

التَّعْرِيفُ:

1- الظَّنُّ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ ظَنَّ، مِنْ بَابِ قَتَلَ وَهُوَ خِلَافُ الْيَقِينِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْيَقِينِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْمُلَاقُو رَبِّهِمْ} وَمِنْهُ الْمَظِنَّةُ بِكَسْرِ الظَّاءِ لِلْمَعْلَمِ وَهُوَ حَيْثُ يُعْلَمُ الشَّيْءُ، وَالْجَمْعُ الْمَظَانُّ، قَالَ ابْنُ فَارِسٍ مَظِنَّةُ الشَّيْءِ مَوْضِعُهُ وَمَأْلَفُهُ، وَالظِّنَّةُ بِالْكَسْرِ: التُّهْمَةُ.

وَالظَّنُّ فِي الِاصْطِلَاحِ- كَمَا عَرَّفَهُ الْجُرْجَانِيُّ- هُوَ: الِاعْتِقَادُ الرَّاجِحُ مَعَ احْتِمَالِ النَّقِيضِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْيَقِينِ وَالشَّكِّ، وَقِيلَ: الظَّنُّ أَحَدُ طَرَفَيِ الشَّكِّ بِصِفَةِ الرُّجْحَانِ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكُلِّيَّاتِ: أَنَّ الظَّنَّ مِنَ الْأَضْدَادِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ يَقِينًا وَيَكُونُ شَكًّا، كَالرَّجَاءِ يَكُونُ أَمْنًا وَخَوْفًا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الظَّنَّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ قَبِيلِ الشَّكِّ؛ لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ التَّرَدُّدَ بَيْنَ وُجُودِ الشَّيْءِ وَعَدَمِهِ، سَوَاءٌ اسْتَوَيَا أَوْ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا.

وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ.

وَنَقَلَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ الزَّرْكَشِيَّ أَوْرَدَ ضَابِطَيْنِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الظَّنِّ الْوَارِدِ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْيَقِينِ، وَالظَّنِّ الْوَارِدِ فِيهِ بِمَعْنَى الشَّكِّ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَيْثُ وُجِدَ الظَّنُّ مَحْمُودًا مُثَابًا عَلَيْهِ فَهُوَ الْيَقِينُ، وَحَيْثُ وُجِدَ مَذْمُومًا مُتَوَعَّدًا عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ فَهُوَ الشَّكُّ.

الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ ظَنٍّ يَتَّصِلُ بِهِ (أَنْ) الْمُخَفَّفَةُ فَهُوَ شَكٌّ نَحْوُ قوله تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} وَكُلُّ ظَنٍّ يَتَّصِلُ بِهِ (إِنَّ) الْمُشَدَّدَةُ فَهُوَ يَقِينٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّيمُلَاقٍ حِسَابِيَهْ}.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الشَّكُّ:

2- الشَّكُّ فِي اللُّغَةِ: الِارْتِيَابُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ بِلَا تَرْجِيحٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ عِنْدَ الشَّاكِّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الظَّنِّ وَالشَّكِّ: أَنَّ الشَّكَّ مَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ، وَهُوَ الْوُقُوفُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ لَا يَمِيلُ الْقَلْبُ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَإِذَا تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُطْرَحِ الْآخَرُ فَهُوَ ظَنٌّ، فَإِذَا طَرَحَهُ فَهُوَ غَالِبُ الظَّنِّ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ.

ب- الْوَهْمُ:

3- الْوَهْمُ فِي اللُّغَةِ: سَبْقُ الْقَلْبِ إِلَى الشَّيْءِ مَعَ إِرَادَةِ غَيْرِهِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ إِدْرَاكُ الطَّرَفِ الْمَرْجُوحِ، أَيْ مَا يُقَابِلُ الظَّنَّ.

ج- الْيَقِينُ:

4- الْيَقِينُ فِي اللُّغَةِ: الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَلِهَذَا لَا يُسَمَّى عِلْمُ اللَّهِ يَقِينًا.

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَهُوَ: جَزْمُ الْقَلْبِ بِوُقُوعِ الشَّيْءِ أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

5- الظَّنُّ عَلَى أَضْرُبٍ: مَحْظُورٌ، وَمَأْمُورٌ بِهِ، وَمَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَمُبَاحٌ.

فَأَمَّا الْمَحْظُورُ.فَمِنْهُ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَرْضٌ وَوَاجِبٌ مَأْمُورٌ بِهِ، وَسُوءُ الظَّنِّ بِهِ تَعَالَى مَحْظُورٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَعَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ يَقُولُ: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ».

وَمِنَ الظَّنِّ الْمَحْظُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ سُوءُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ ظَاهِرُهُمُ الْعَدَالَةُ، فَعَنْ صَفِيَّةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مُعْتَكِفًا، فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا، فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ فَانْقَلَبْتُ، فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي، وَكَانَ سَكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ- رضي الله عنهما-، فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَسْرَعَا، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا سُوءًا أَوْ قَالَ: شَيْئًا»

ثُمَّ إِنَّ كُلَّ ظَنٍّ فِيمَا لَهُ سَبِيلٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ مِمَّا تُعُبِّدَ بِعِلْمِهِ فَهُوَ مَحْظُورٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَعَبَّدًا بِعِلْمِهِ، وَنُصِبَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَتْبَعِ الدَّلِيلَ وَحَصَلَ عَلَى الظَّنِّ كَانَ تَارِكًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ.

وَأَمَّا مَا لَمْ يَنْصِبْ لَهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يُوصِلُهُ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَقَدْ تُعُبِّدَ بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ فِيهِ، فَالِاقْتِصَارُ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ وَإِجْرَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ نَحْوُ مَا تُعُبِّدْنَا بِهِ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْعُدُولِ، وَتَحَرِّي الْقِبْلَةِ، وَتَقْوِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ بِمَقَادِيرِهَا تَوْقِيفٌ، فَهَذِهِ وَمَا كَانَ مِنْ نَظَائِرِهَا قَدْ تُعُبِّدْنَا فِيهَا بِتَنْفِيذِ أَحْكَامِ غَالِبِ الظَّنِّ.

وَأَمَّا الظَّنُّ الْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ فَهُوَ: حُسْنُ الظَّنِّ بِالْأَخِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ مُثَابٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الضَّرْبُ مِنَ الظَّنِّ مَنْدُوبًا وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا كَمَا كَانَ سُوءُ الظَّنِّ مَحْظُورًا لِوُجُودِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ احْتِمَالٌ أَنْ لَا يَظُنَّ بِهِ شَيْئًا فَكَانَ مَنْدُوبًا.

وَأَمَّا الظَّنُّ الْمُبَاحُ، فَمِنْهُ: ظَنُّ الشَّاكِّ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّحَرِّي وَالْعَمَلِ عَلَى مَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ، فَإِنْ عَمِلَ بِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ ظَنُّهُ كَانَ مُبَاحًا، وَإِنْ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى الْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ كَانَ جَائِزًا.

وَذَكَرَ الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الظَّنَّ يَنْقَسِمُ فِي الشَّرْعِ إِلَى وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ وَحَرَامٍ وَمُبَاحٍ، فَالْوَاجِبُ حُسْنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَالْحَرَامُ سُوءُ الظَّنِّ بِهِ تَعَالَى، وَبِكُلٍّ مَنْ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُبَاحُ الظَّنُّ بِمَنِ اشْتَهَرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِمُخَالَطَةِ الرِّيَبِ وَالْمُجَاهَرَةِ بِالْخَبَائِثِ فَلَا يَحْرُمُ ظَنُّ السُّوءِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا أَنَّ مَنْ سَتَرَ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَظُنَّ النَّاسُ بِهِ إِلاَّ خَيْرًا، وَمَنْ دَخَلَ مَدْخَلَ السُّوءِ اتُّهِمَ، وَمَنْ هَتَكَ نَفْسَهُ ظَنَنَّا بِهِ السُّوءَ، مِنَ الظَّنِّ الْجَائِزِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَظُنُّ الشَّاهِدَانِ فِي التَّقْوِيمِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، وَمَا يَحْصُلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْأَحْكَامِ بِالْإِجْمَاعِ.

الْحُكْمُ بِالظَّنِّ:

6- ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ لِلظَّنِّ حَالَتَيْنِ: حَالَةٌ تُعْرَفُ وَتَقْوَى بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْأَدِلَّةِ فَيَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا، وَأَكْثَرُ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، كَالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ.

وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَقَعَ فِي النَّفْسِ شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ ضِدِّهِ، فَهَذَا هُوَ الشَّكُّ، فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهِ، وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} وَفِي قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ».

وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ وَالْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ الَّذِي تُنَاطُ بِهِ الْأَحْكَامُ غَالِبًا، بَلِ الْمُرَادُ تَحْقِيقُ الظَّنِّ الَّذِي يَضُرُّ بِالْمَظْنُونِ بِهِ، وَكَذَا مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَذَلِكَ أَنَّ أَوَائِلَ الظُّنُونِ إِنَّمَا هِيَ خَوَاطِرُ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا، وَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لَا يُكَلَّفُ بِهِ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا».

عَدَمُ اعْتِبَارِ الظَّنِّ إِذَا ظَهَرَ خَطَؤُهُ:

7- مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّهُ: لَا عِبْرَةَ بِالظَّنِّ الْبَيِّنِ خَطَؤُهُ، وَمَعْنَاهَا أَنَّ الظَّنَّ الَّذِي يَظْهَرُ خَطَؤُهُ لَا أَثَرَ لَهُ وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ.

وَمِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي تَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَوْ ظَنَّ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ تَضَيَّقَ عَلَيْهِ، فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ ثُمَّ عَاشَ وَفَعَلَهُ فَأَدَاءٌ عَلَى الصَّحِيحِ.

وَمِنْ فُرُوعِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا ذَكَرُوهُ فِي بَابِ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ مِنْ أَنَّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ الْعِشَاءَ فِي وَقْتِهَا، وَظَنَّ أَنَّ وَقْتَ الْفَجْرِ ضَاقَ، فَصَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ بَطَلَ الْفَجْرُ، فَإِذَا بَطَلَ يُنْظَرُ؛ فَإِنْ كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ يُصَلِّي الْعِشَاءَ ثُمَّ يُعِيدُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ سَعَةٌ يُعِيدُ الْفَجْرَ فَقَطْ.

وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَسَائِلُ:

مِنْهَا: لَوْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَظُنُّهُ مُتَطَهِّرًا، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ عَمَلًا بِظَنِّهِ.

وَمِنْهَا: مَا لَوْ رَأَى الْمُتَيَمِّمُ رَكْبًا فَظَنَّ أَنَّ مَعَهُمْ مَاءً بَطَلَ تَيَمُّمُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مَاءٌ، لِتَوَجُّهِ الطَّلَبِ عَلَيْهِ.

وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْيَقِينِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالظَّنِّ فِيمَا يُتَعَبَّدُ فِيهِ بِالنَّصِّ قَطْعًا، كَالْمُجْتَهِدِ الْقَادِرِ عَلَى النَّصِّ لَا يَجْتَهِدُ، وَكَذَا إِنْ كَانَ بِمَكَّةَ لَا يَجْتَهِدُ فِي الْقِبْلَةِ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالظَّنِّ فِيمَا لَمْ يُتَعَبَّدْ فِيهِ بِالنَّصِّ، كَالِاجْتِهَادِ بَيْنَ الطَّاهِرِ وَالنَّجِسِ مِنَ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى طَاهِرٍ بِيَقِينٍ فِي الْأَصَحِّ، وَلَوِ اجْتَهَدَ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ جَازَتِ الصَّلَاةُ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ عِلْمِهِ فِي الْأَصَحِّ.

أَثَرُ الظَّنِّ فِي التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ:

8- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ التَّعَارُضَ لَا يَقَعُ بَيْنَ دَلِيلَيْنِ قَطْعِيَّيْنِ اتِّفَاقًا، سَوَاءٌ كَانَا عَقْلِيَّيْنِ أَوْ نَقْلِيَّيْنِ، وَكَذَلِكَ التَّرْجِيحُ لَا يَجُوزُ فِي الْأَدِلَّةِ الْيَقِينِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي التَّعَارُضِ تَسَاوِي الدَّلِيلَيْنِ قُوَّةً، وَيَثْبُتُ التَّعَارُضُ فِي دَلِيلَيْنِ قَطْعِيَّيْنِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الْمَظْنُونِ نَجَاسَتُهُ:

9- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ ظَنَّ نَجَاسَتَهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا جَازَ وُضُوءُهُ.

وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا تَغَيَّرَ مَاءُ الْبِئْرِ وَنَحْوُهَا، وَتَحَقَّقَ أَوْ ظَنَّ أَنَّ الَّذِي غَيَّرَهُ مِمَّا يَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ وَالطَّاهِرِيَّةَ لِقُرْبِهَا مِنَ الْمَرَاحِيضِ وَرَخَاوَةِ أَرْضِهَا فَإِنَّهُ يَضُرُّ، وَإِنْ تَحَقَّقَ أَوْ ظَنَّ أَنَّ مُغَيِّرَهُ مِمَّا لَا يَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ فَالْمَاءُ طَهُورٌ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيلَ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، وَشَكَّ هَلْ هُوَ قُلَّتَانِ أَمْ لَا؟ فَاَلَّذِي جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْحَاوِي وَآخَرُونَ أَنَّهُ نَجِسٌ، لِتَحَقُّقِ النَّجَاسَةِ، وَلِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِيهِ احْتِمَالَانِ، وَالْمُخْتَارُ بَلِ الصَّوَابُ الْجَزْمُ بِطَهَارَتِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهُ وَشَكَكْنَا فِي نَجَاسَةِ مُنَجِّسِهِ (أَيْ فِي تَنَجُّسِ الْمَاءِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ) وَلَا يَلْزَمُ مِنَ النَّجَاسَةِ التَّنْجِيسُ.

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ الَّذِي ظُنَّ نَجَاسَتُهُ مَكْرُوهٌ، بِخِلَافِ مَا شَكَّ فِي نَجَاسَتِهِ فَلَا يُكْرَهُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (نَجَاسَة).

الظَّنُّ فِي دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ:

10- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ شَكَّ فِي دُخُولِ وَقْتِ الْعِبَادَةِ فَأَتَى بِهَا، فَبَانَ أَنَّهُ فَعَلَهَا فِي الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ..وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ أَذَانُ الْوَاحِدِ لَوْ عَدْلًا، وَإِلاَّ تَحَرَّى، وَبَنَى عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَرَدَّدَ الْمُصَلِّي هَلْ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ أَوْ لَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ؟ أَوْ ظَنَّ دُخُولَهُ ظَنًّا غَيْرَ قَوِيٍّ، أَوْ ظَنَّ عَدَمَ الدُّخُولِ وَتَوَهَّمَ الدُّخُولَ، سَوَاءٌ حَصَلَ لَهُ مَا ذُكِرَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ طَرَأَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا فَإِنَّ صَلَاتَهُ لَا تُجْزِيهِ، لِتَرَدُّدِ النِّيَّةِ وَعَدَمِ تَيَقُّنِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، سَوَاءٌ تَبَيَّنَ بَعْدَ فَرَاغِ الصَّلَاةِ أَنَّهَا وَقَعَتْ قَبْلَهُ أَوْ وَقَعَتْ فِيهِ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ شَيْءٌ، اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ظَنُّهُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ قَوِيًّا، فَإِنَّهَا تُجْزِئُ إِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا وَقَعَتْ فِيهِ، كَمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْإِرْشَادِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ لِغَيْمٍ أَوْ حَبْسٍ فِي مُظْلِمٍ أَوْ غَيْرِهِمَا اجْتَهَدَ، مُسْتَدِلًّا بِالدَّرْسِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَوْرَادِ وَشَبَهِهَا، وَحَيْثُ لَزِمَ الِاجْتِهَادُ فَصَلَّى بِلَا اجْتِهَادٍ وَجَبَتِ الْإِعَادَةُ وَإِنْ صَادَفَ الْوَقْتَ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ دَلَالَةٌ أَوْ كَانَتْ فَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ شَيْءٌ صَبَرَ إِلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى قَلْبِهِ دُخُولُ الْوَقْتِ، وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يُؤَخِّرَ إِلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ خَرَجَ الْوَقْتُ.

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنْ شَكَّ فِي دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَمْ يُصَلِّ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ دُخُولُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ دُخُولِهِ، فَإِنْ صَلَّى مَعَ الشَّكِّ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَإِنْ وَافَقَ الْوَقْتَ؛ لِعَدَمِ صِحَّةِ صَلَاتِهِ، كَمَا لَوْ صَلَّى مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ.

وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى ظَنِّ بَقَاءِ الْوَقْتِ فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ نَظَرًا لِلْأَصْلِ، إِذِ الْأَصْلُ بَقَاءُ الْوَقْتِ.

الْأَخْذُ بِالظَّنِّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ:

11- مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَإِنَّهُ يَجْتَهِدُ وَيُصَلِّي إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهَا الْقِبْلَةُ، فَإِنْ تَغَيَّرَ رَأْيُهُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا، حَتَّى لَوْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ إِلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ بِالِاجْتِهَادِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ، لِمَا وَرَدَ «أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ كَانُوا مُتَوَجِّهِينَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَأُخْبِرُوا بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْقِبْلَةِ، وَأَقَرَّهُمُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى ذَلِكَ» وَيَلْزَمُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي حَالِ تَغَيُّرِ ظَنِّهِ الِاسْتِدَارَةُ عَلَى الْفَوْرِ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يَظُنُّ أَنَّهَا الْقِبْلَةُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَمَكَثَ قَدْرَ رُكْنٍ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ.

وَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ إِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى جِهَةٍ وَخَالَفَهَا بِصَلَاتِهِ لِغَيْرِهَا عَامِدًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ لَمْ يُصَادِفِ الْقِبْلَةَ فِي الَّتِي صَلَّى إِلَيْهَا، بَلْ وَإِنْ صَادَفَهَا فِي الْجِهَةِ الَّتِي صَلَّى إِلَيْهَا، فَيُعِيدُهَا أَبَدًا، لِدُخُولِهِ عَلَى الْفَسَادِ وَتَعَمُّدِهِ إِيَّاهُ.

وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ لِلْمُجْتَهِدِ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ إِذَا ظَهَرَ لَهُ الْخَطَأُ فِي اجْتِهَادِهِ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَظْهَرَ لَهُ الْخَطَأُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ أَعْرَض عَنْهُ وَاعْتَمَدَ الْجِهَةَ الَّتِي يَعْلَمُهَا أَوْ يَظُنُّهَا الْآنَ، وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ، بَلْ ظَنَّ أَنَّ الصَّوَابَ جِهَةٌ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ دَلِيلُ الِاجْتِهَادِ الثَّانِي عِنْدَهُ أَوْضَحَ مِنَ الْأَوَّلِ الْآنَ اعْتَمَدَ الثَّانِيَ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَوْضَحَ اعْتَمَدَهُ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فَلَهُ الْخِيَارُ فِيهِمَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: يُصَلِّي إِلَى الْجِهَتَيْنِ مَرَّتَيْنِ.

الثَّانِي: أَنْ يَظْهَرَ لَهُ الْخَطَأُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ تَيَقَّنَهُ وَجَبَتِ الْإِعَادَةُ عَلَى الْأَظْهَرِ، سَوَاءٌ تَيَقَّنَ الصَّوَابَ أَيْضًا أَمْ لَا، وَقِيلَ: الْقَوْلَانِ إِذَا تَيَقَّنَ الْخَطَأَ وَتَيَقَّنَ الصَّوَابَ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنِ الصَّوَابَ فَلَا إِعَادَةَ قَطْعًا، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.

وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنِ الْخَطَأَ بَلْ ظَنَّهُ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، فَلَوْ صَلَّى أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ إِلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ بِاجْتِهَادَاتٍ فَلَا إِعَادَةَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَلَى وَجْهٍ شَاذٍّ يَجِبُ إِعَادَةُ الْأَرْبَعِ، وَقِيلَ: يَجِبُ إِعَادَةُ غَيْرِ الْأَخِيرَةِ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَظْهَرَ لَهُ الْخَطَأُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ ضَرْبَانِ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يَظْهَرَ الصَّوَابُ مُقْتَرِنًا بِظُهُورِ الْخَطَأِ فَإِنْ كَانَ الْخَطَأُ مُتَيَقَّنًا فَيَبْنِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَيَقُّنِ الْخَطَأِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَيَقَّنًا بَلْ مَظْنُونًا فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَنْحَرِفُ وَيَبْنِي حَتَّى لَوْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ إِلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ فَلَا إِعَادَةَ كَالصَّلَوَاتِ، وَخُصَّ ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ الدَّلِيلُ الثَّانِي أَوْضَحَ مِنَ الْأَوَّلِ، فَإِنِ اسْتَوَيَا تَمَّمَ صَلَاتَهُ إِلَى الْجِهَةِ الْأُولَى وَلَا إِعَادَةَ.

الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَظْهَرَ الصَّوَابُ مَعَ الْخَطَأِ فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الصَّوَابِ بِالِاجْتِهَادِ عَلَى الْقُرْبِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ عَلَى الْقُرْبِ، فَهَلْ يَنْحَرِفُ وَيَبْنِي أَمْ يَسْتَأْنِفُ؟ فِيهِ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الضَّرْبِ الْأَوَّلِ، وَالْأَوْلَى الِاسْتِئْنَافُ، قَالَ النَّوَوِيُّ وَهُوَ الصَّوَابُ.

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَإِنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ فَفَرْضُهُ التَّوَجُّهُ إِلَى مَحَارِيبِهِمْ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ مَحَارِيبُ لَزِمَهُ السُّؤَالُ عَنِ الْقِبْلَةِ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِأَدِلَّتِهَا فَفَرْضُهُ الرُّجُوعُ إِلَى مَنْ يُخْبِرُهُ عَنْ يَقِينٍ إِنْ وَجَدَهُ، وَلَا يَجْتَهِدُ قِيَاسًا عَلَى الْحَاكِمِ إِذَا وَجَدَ النَّصَّ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي وَجَدَهُ يُخْبِرُهُ عَنْ ظَنٍّ فَفَرْضُهُ تَقْلِيدُهُ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَكَانَ عَالِمًا بِأَدَاتِهَا وَضَاقَ الْوَقْتُ وَإِلاَّ لَزِمَهُ التَّعَلُّمُ وَالْعَمَلُ بِاجْتِهَادِهِ.

وَإِنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فِي السَّفَرِ- وَكَانَ عَالِمًا بِأَدَاتِهَا- فَفَرْضُهُ الِاجْتِهَادُ فِي مَعْرِفَتِهَا لِأَنَّ مَا وَجَبَ اتِّبَاعُهُ عِنْدَ وُجُودِهِ وَجَبَ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ عِنْدَ خَفَائِهِ كَالْحُكْمِ فِي الْحَادِثَةِ فَإِذَا اجْتَهَدَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ جِهَةٌ أَنَّهَا الْقِبْلَةُ صَلَّى إِلَيْهَا لِتَعَيُّنِهَا قِبْلَةً لَهُ، إِقَامَةً لِلظَّنِّ مَقَامَ الْيَقِينِ لِتَعَذُّرِهِ، فَإِنْ تَرَكَهَا- أَيِ الْجِهَةَ الَّتِي غَلَبَتْ عَلَى ظَنِّهِ- وَصَلَّى إِلَى غَيْرِهَا أَعَادَ مَا صَلاَّهُ إِلَى غَيْرِهَا وَإِنْ أَصَابَ لِأَنَّهُ تَرَكَ فَرْضَهُ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الْقِبْلَةَ الْمُتَيَقَّنَةَ، وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ- لِغَيْمٍ وَنَحْوِهِ كَمَا لَوْ كَانَ مَطْمُورًا أَوْ كَانَ بِهِ مَانِعٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ كَرَمَدٍ وَنَحْوِهِ أَوْ تَعَادَلَتْ عِنْدَهُ الْأَمَارَاتُ- صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ بِلَا إِعَادَةٍ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِقْبَال ف 28، وَاشْتِبَاه ف 20).

الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مُسَافِرٌ:

12- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا اقْتَدَى بِإِمَامٍ لَا يَدْرِي أَمُسَافِرٌ هُوَ أَمْ مُقِيمٌ؟ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِحَالِ الْإِمَامِ شَرْطُ الْأَدَاءِ بِجَمَاعَةٍ.

وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا دَخَلَ مُصَلٍّ عَلَى قَوْمٍ ظَنَّ أَنَّهُمْ مُسَافِرُونَ فَظَهَرَ خِلَافُهُ، أَعَادَ أَبَدًا إِنْ كَانَ الدَّاخِلُ مُسَافِرًا، لِمُخَالَفَةِ إِمَامِهِ نِيَّةً وَفِعْلًا إِنْ سَلَّمَ مِنِ اثْنَتَيْنِ، وَإِنْ أَتَمَّ فَقَدْ خَالَفَهُ نِيَّةً، وَفَعَلَ خِلَافَ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ، وَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَيْضًا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ، لِحُصُولِ الشَّكِّ فِي الصِّحَّةِ وَهُوَ يُوجِبُ الْبُطْلَانَ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الدَّاخِلُ مُقِيمًا فَإِنَّهُ يُتِمُّ صَلَاتَهُ، وَلَا يَضُرُّهُ كَوْنُهُمْ عَلَى خِلَافِ ظَنِّهِ، لِمُوَافَقَتِهِ لِلْإِمَامِ نِيَّةً وَفِعْلًا كَعَكْسِهِ وَهُوَ أَنْ يَظُنَّهُمْ مُقِيمِينَ فَيَنْوِيَ الْإِتْمَامَ فَيَظْهَرَ أَنَّهُمْ مُسَافِرُونَ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ شَيْءٌ فَإِنَّهُ يُعِيدُ أَبَدًا إِنْ كَانَ مُسَافِرًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ إِنْ قَصَرَ لِمُخَالَفَةِ فِعْلِهِ لِنِيَّتِهِ، وَأَمَّا إِنْ أَتَمَّ فَكَانَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ الصِّحَّةَ كَاقْتِدَاءِ مُقِيمٍ بِمُسَافِرٍ.

وَفَرَّقَ بِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَمَّا دَخَلَ عَلَى الْمُوَافَقَةِ فَتَبَيَّنَ لَهُ الْمُخَالَفَةُ لَمْ يُغْتَفَرْ لَهُ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمُقِيمِ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ عَلَى الْمُخَالَفَةِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ فَاغْتُفِرَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ مُقِيمًا صَحَّتْ وَلَا إِعَادَةَ، لِأَنَّهُ مُقِيمٌ اقْتَدَى بِمُسَافِرٍ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَوِ اقْتَدَى بِمَنْ ظَنَّهُ مُسَافِرًا فَنَوَى الْقَصْرَ الَّذِي هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسَافِرِ أَنْ يَنْوِيَهُ فَبَانَ مُقِيمًا أَتَمَّ لِتَقْصِيرِهِ فِي ظَنِّهِ إِذْ شِعَارُ الْإِقَامَةِ ظَاهِرٌ، أَوِ اقْتَدَى نَاوِيًا الْقَصْرَ بِمَنْ جَهِلَ سَفَرَهُ- أَيْ شَكَّ فِي أَنَّهُ مُسَافِرٌ أَوْ مُقِيمٌ أَتَمَّ- وَإِنْ بَانَ مُسَافِرًا قَاصِرًا، لِتَقْصِيرِهِ فِي ذَلِكَ، لِظُهُورِ شِعَارِ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ، وَالْأَصْلُ الْإِتْمَامُ، وَقِيلَ: يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ إِذَا بَانَ كَمَا ذُكِرَ.

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ مَعَ مَنْ يَظُنُّهُ مُقِيمًا أَوْ شَكَّ فِيهِ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ وَإِنْ قَصَرَ إِمَامُهُ اعْتِبَارًا بِالنِّيَّةِ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُسَافِرٌ لِدَلِيلٍ فَلَهُ أَنْ يَنْوِيَ الْقَصْرَ وَيَتْبَعَ إِمَامَهُ، فَيَقْصُرَ بِقَصْرِهِ وَيُتِمَّ بِإِتْمَامِهِ، وَإِنْ أَحْدَثَ إِمَامُهُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِحَالِهِ فَلَهُ الْقَصْرُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مُسَافِرٌ.

ظَنُّ الْخَوْفِ الْمُرَخَّصِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ:

13- لَوْ رَأَى الْمُسْلِمُونَ سَوَادًا فَظَنُّوهُ عَدُوًّا فَصَلَّوْا صَلَاةَ الْخَوْفِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ خِلَافُ ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ اشْتِدَادَ الْخَوْفِ لَيْسَ شَرْطًا فِي أَدَاءِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، بَلِ الشَّرْطُ حُضُورُ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ فَلَوْ رَأَوْا سَوَادًا ظَنُّوهُ عَدُوًّا صَلَّوْهَا، فَإِنْ تَبَيَّنَ كَمَا ظَنُّوا جَازَتْ لِتَبَيُّنِ سَبَبِ الرُّخْصَةِ، وَإِنْ ظَهَرَ خِلَافُهُ لَمْ تَجُزْ إِلاَّ إِنْ ظَهَرَ بَعْدَ أَنِ انْصَرَفَتِ الطَّائِفَةُ مِنْ نَوْبَتِهَا فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ تَتَجَاوَزَ الصُّفُوفَ، فَإِنَّ لَهُمْ أَنْ يَبْنُوا اسْتِحْسَانًا، كَمَنِ انْصَرَفَ عَلَى ظَنِّ الْحَدَثِ يَتَوَقَّفُ الْفَسَادُ إِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ عَلَى مُجَاوَزَةِ الصُّفُوفِ.

وَيَكْفِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي عَدَمِ الْإِعَادَةِ مُجَرَّدُ الْخَوْفِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُحَقَّقًا أَمْ مَظْنُونًا، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِلِ الْأَظْهَرِ، لِوُجُودِ الْخَوْفِ عِنْدَ الصَّلَاةِ، كَسَوَادٍ ظُنَّ بِرُؤْيَةٍ أَوْ بِإِخْبَارِ ثِقَةٍ أَنَّهُ عَدُوٌّ فَصَلَّوْا صَلَاةَ الْتِحَامٍ أَوْ صَلَاةَ قَسْمٍ ثُمَّ ظَهَرَ خِلَافُ ذَلِكَ فَلَا إِعَادَةَ، وَالظَّنُّ الْبَيِّنُ خَطَؤُهُ لَا عِبْرَةَ بِهِ إِذَا أَدَّى إِلَى تَعْطِيلِ حُكْمٍ، لَا إِلَى تَغَيُّرِ كَيْفِيَّةٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُتَيَمِّمِ الْخَائِفِ مِنْ لِصٍّ وَنَحْوِهِ ثُمَّ يَظْهَرُ خِلَافُهُ، فَإِنَّهُ يُعِيدُ؛ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِشَرْطٍ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُمْ لَوْ صَلَّوْا لِسَوَادٍ ظَنُّوهُ عَدُوًّا فَبَانَ بِخِلَافِ ظَنِّهِمْ كَإِبِلٍ أَوْ شَجَرٍ قَضَوْا فِي الْأَظْهَرِ، لِتَرْكِهِمْ فُرُوضًا مِنَ الصَّلَاةِ بِظَنِّهِمْ الَّذِي تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ، وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ لِوُجُودِ الْخَوْفِ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْخِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} وَسَوَاءٌ فِي جَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ أَكَانُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَمْ دَارِ الْإِسْلَامِ، اسْتَنَدَ ظَنُّهُمْ إِلَى إِخْبَارٍ أَمْ لَا، وَقِيلَ: إِنْ كَانُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ لَمْ يَسْتَنِدْ ظَنُّهُمْ إِلَى إِخْبَارٍ وَجَبَ الْقَضَاءُ قَطْعًا.

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنْ رَأَى سَوَادًا فَظَنَّهُ عَدُوًّا فَصَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ غَيْرُ عَدُوٍّ، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَا يَمْنَعُ الْعُبُورَ أَعَادَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الْمُبِيحُ، فَأَشْبَهَ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ فَصَلَّى ثُمَّ عَلِمَ بِحَدَثِهِ.

ظَنُّ الصَّائِمِ غُرُوبَ الشَّمْسِ أَوْ طُلُوعَ الْفَجْرِ:

14- يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ مَنْ تَسَحَّرَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَإِذَا هُوَ قَدْ طَلَعَ، أَوْ أَفْطَرَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَإِذَا هِيَ لَمْ تَغْرُبْ فَإِنَّ صَوْمَهُ يَبْطُلُ.

وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (صَوْم).

الظَّنُّ فِي الْمَسْرُوقِ الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ السَّارِقُ:

15- ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ ظَنَّ السَّارِقِ فِي تَعْيِينِ نَوْعِ مَا سَرَقَهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْقَطْعِ، فَلَوْ سَرَقَ دَنَانِيرَ ظَنَّهَا فُلُوسًا، أَوْ سَرَقَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَهُوَ يَظُنُّهَا حِينَ أَخْرَجَهَا مِنَ الْحِرْزِ أَنَّهَا فُلُوسٌ لَا تُسَاوِي قِيمَتُهَا النِّصَابَ قُطِعَ وَلَا يُعْذَرُ بِظَنِّهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الشَّكُّ فِي قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ فِي كَوْنِهِ هَلْ يَبْلُغُ نِصَابًا أَوْ لَا لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ.

ظَنُّ الْمُكْرَهِ سُقُوطَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ:

16- قَالَ النَّوَوِيُّ: لَوْ أَكْرَهَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى أَنْ يَرْمِيَ إِلَى طَلَلٍ عَلِمَ الْآمِرُ أَنَّهُ إِنْسَانٌ، وَظَنَّهُ الْمَأْمُورُ حَجَرًا أَوْ صَيْدًا، أَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَرْمِيَ إِلَى سُتْرَةٍ وَرَاءَهَا إِنْسَانٌ وَعَلِمَهُ الْآمِرُ دُونَ الْمَأْمُورِ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْمَأْمُورِ، وَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْآمِرِ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِنَّهُ آلَةٌ لَهُ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّهُ شَرِيكٌ مُخْطِئٌ، فَإِنْ آلَ الْأَمْرُ إِلَى الدِّيَةِ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا تَجِبُ كُلُّهَا عَلَى الْآمِرِ وَاخْتَارَهُ الْبَغَوِيُّ، وَالثَّانِي: عَلَيْهِ نِصْفُهَا وَعَلَى عَاقِلَةِ الْمَأْمُورِ، نِصْفُهَا.

لَا أَثَرَ لِلظَّنِّ فِي الْأُمُورِ الثَّابِتَةِ بِيَقِينٍ:

17- مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّ مَا ثَبَتَ بِيَقِينٍ لَا يَرْتَفِعُ إِلاَّ بِيَقِينٍ، وَقَدِ اسْتَنْبَطَ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ «عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الرَّجُلَ الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: لَا يَنْفَتِلُ أَوْ لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدُ رِيحًا».

وَمِنْ فُرُوعِهَا: أَنَّ مَنْ تَيَقَّنَ طَهَارَةً أَوْ حَدَثًا وَشَكَّ فِي ضِدِّهِ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ بِيَقِينِهِ.

وَمِنْهَا: مَا لَوْ نَسِيَ صَلَاةً مِنَ الْخَمْسِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخَمْسُ، لِاشْتِغَالِ ذِمَّتِهِ بِكُلٍّ مِنْهَا يَقِينًا.

وَمِنْهَا: أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِالشَّكِّ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ مُسْتَيْقَنٌ، فَإِذَا شَكَّ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا؟ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، وَهَلْ طَلَّقَ ثِنْتَيْنِ أَوْ وَاحِدَةً فَوَاحِدَةً.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَفْقُودَ لَا يُقْسَمُ مَالُهُ وَلَا تُنْكَحُ زَوْجَتُهُ مَا لَمْ تَمْضِ مُدَّةٌ يُتَيَقَّنُ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ أَمْثَالُهُ فِيهَا؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْحَيَاةِ مُتَيَقَّنٌ، فَلَا نَرْفَعُهُ إِلاَّ بِيَقِينٍ.

أَثَرُ الظَّنِّ فِي مَصَارِفِ الزَّكَاةِ:

18- إِذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ لِمَنْ ظَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا، فَبَانَ خَطَؤُهُ: اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْإِجْزَاءُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ.

وَالْآخَرُ: لَا يُجْزِئُهُ، وَفِي الِاسْتِرْدَادِ قَوْلَانِ.يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ: (خَطَأ ف 11).

أَثَرُ الظَّنِّ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ:

19- لَوْ وَقَفَ الْحَجِيجُ الْعَاشِرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ التَّاسِعُ، فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (خَطَأ ف 42).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


25-موسوعة الفقه الكويتية (غبن)

غَبْن

التَّعْرِيفُ:

1- الْغَبْنُ فِي اللُّغَةِ.الْغَلَبُ وَالْخَدْعُ وَالنَّقْصُ.قَالَ الْكَفَوِيُّ: الْغَبْنُ بِالْمُوَحَّدَةِ السَّاكِنَةِ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَمْوَالِ، وَبِالْمُتَحَرِّكَةِ فِي الْآرَاءِ وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ بِالْفَتْحِ، وَفِي الرَّأْيِ بِالْإِسْكَانِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ الْحَطَّابُ: الْغَبْنُ عِبَارَةٌ عَنْ بَيْعِ السِّلْعَةِ بِأَكْثَرَ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ أَنَّ النَّاسَ لَا يَتَغَابَنُونَ بِمِثْلِهِ إِذَا اشْتَرَاهَا كَذَلِكَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّدْلِيسُ:

2- التَّدْلِيسُ: كِتْمَانُ عَيْبِ السِّلْعَةِ عَنِ الْمُشْتَرِي، يُقَالُ دَلَّسَ الْبَائِعُ تَدْلِيسًا: كَتَمَ عَيْبَ السِّلْعَةِ عَنِ الْمُشْتَرِي وَأَخْفَاهُ، وَمِنْهُ التَّدْلِيسُ فِي الْإِسْنَادِ.وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا اللَّفْظَ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ نَفْسِهِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ التَّدْلِيسِ وَالْغَبْنِ هُوَ: أَنَّ التَّدْلِيسَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلْغَبْنِ.

ب- الْغِشُّ:

3- الْغِشُّ هُوَ الِاسْمُ مِنَ الْغِشِّ مَصْدَرُ غَشَّهُ: إِذَا لَمْ يَمْحَضْهُ النُّصْحَ وَزَيَّنَ لَهُ غَيْرَ الْمَصْلَحَةِ أَوْ أَظْهَرَ لَهُ خِلَافَ مَا أَضْمَرَهُ وَيَكُونُ الْغِشُّ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْغَبْنِ.

ح- الْغَرَرُ:

4- الْغَرَرُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ مِنَ التَّغْرِيرِ وَهُوَ الْخَطَرُ وَالْخُدْعَةُ وَتَعْرِيضُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ أَوْ مَالَهُ لِلْهَلَكَةِ.

وَقَالَ الْجُرْجَانِيِّ: الْغَرَرُ مَا يَكُونُ مَجْهُولَ الْعَاقِبَةِ، لَا يُدْرَى أَيَكُونُ أَمْ لَا؟ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

5- الْغَبْنُ مُحَرَّمٌ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّغْرِيرِ لِلْمُشْتَرِي وَالْغِشِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَيَحْرُمُ تَعَاطِي أَسْبَابِهِ.لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ الْغَبْنَ فِي الدُّنْيَا مَمْنُوعٌ بِإِجْمَاعٍ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا إِذْ هُوَ مِنْ بَابِ الْخِدَاعِ الْمُحَرَّمِ شَرْعًا فِي كُلِّ مِلَّةٍ.لَكِنَّ الْيَسِيرَ مِنْهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ لِأَحَدٍ فَمَضَى فِي الْبُيُوعِ، إِذْ لَوْ حَكَمْنَا بِرَدِّهِ مَا نَفَذَ بَيْعٌ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ كَثِيرًا أَمْكَنَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَجَبَ الرَّدُّ بِهِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ مَعْلُومٌ.

أَنْوَاعُ الْغَبْنِ:

6- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْغَبْنَ نَوْعَانِ: غَبْنٌ يَسِيرٌ وَغَبْنٌ فَاحِشٌ.وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَحْدِيدِ كُلٍّ مِنَ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ وَالْيَسِيرِ أَقْوَالٌ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْيَسِيرَ: مَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ.وَالْفَاحِشَ: مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ، فَيُعْذَرُ فِيمَا يُشْتَبَهُ؛ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَلَا يُعْذَرُ فِيمَا لَا يُشْتَبَهُ لِفُحْشِهِ، وَلِإِمْكَانِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي مِثْلِهِ عَادَةً إِلاَّ عَمْدًا.

وَقِيلَ: حَدُّ الْفَاحِشِ فِي الْعُرُوضِ نِصْفُ عُشْرِ الْقِيمَةِ، وَفِي الْحَيَوَانِ عُشْرُ الْقِيمَةِ، وَفِي الْعَقَارِ خُمُسُ الْقِيمَةِ، وَفِي الدَّرَاهِمِ رُبُعُ عُشْرِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْغَبْنَ يَحْصُلُ بِقِلَّةِ الْمُمَارَسَةِ فِي التَّصَرُّفِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.

هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ سِعْرُهُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بَيْنَ النَّاسِ وَيَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَالْمَوْزِ لَا يُعْفَى فِيهِ الْغَبْنُ وَإِنْ قَلَّ وَإِنْ كَانَ فَلْسًا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْغَبْنَ عِبَارَةٌ عَنْ بَيْعِ السِّلْعَةِ بِأَكْثَرَ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ أَنَّ النَّاسَ لَا يَتَغَابَنُونَ بِمِثْلِهِ، وَهِيَ الزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ وَقِيلَ: الثُّلُثُ وَأَمَّا مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فَلَا يُوجِبُ الرَّدَّ بِاتِّفَاقٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْغَبْنُ الْيَسِيرُ هُوَ مَا يُحْتَمَلُ غَالِبًا فَيُغْتَفَرُ فِيهِ، وَالْغَبْنُ الْفَاحِشُ هُوَ مَا لَا يُحْتَمَلُ غَالِبًا، وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ عُرْفُ بَلَدِ الْبَيْعِ وَالْعَادَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُرْجَعُ فِي الْغَبْنِ إِلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ نَصَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْأَصْحَابِ، وَقِيلَ: يُقَدَّرُ الْغَبْنُ بِالثُّلُثِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِرْشَادِ.وَنَقَلَ الْمِرْدَاوِيُّ عَنِ الْمُسْتَوْعِبِ: الْمَنْصُوصُ أَنَّ الْغَبْنَ الْمُثْبِتَ لِلْفَسْخِ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ.وَحَدَّهُ أَصْحَابُنَا بِقَدْرِ ثُلُثِ قِيمَةِ الْبَيْعِ.

أَثَرُ الْغَبْنِ فِي الْعُقُودِ:

7- إِذَا كَانَ الْغَبْنُ الْمُصَاحِبُ لِلْعَقْدِ يَسِيرًا فَلَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّتِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ.اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْغَبْنَ فِي الْبَيْعِ بِمَا لَا يُوحِشُ لَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّتِهِ.

إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اسْتَثْنَوْا بَعْضَ الْمَسَائِلِ، وَاعْتَبَرُوا الْغَبْنَ يُؤَثِّرُ فِيهَا حَتَّى لَوْ كَانَ يَسِيرًا.

أَمَّا الْغَبْنُ الْفَاحِشُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِهِ عَلَى الْعُقُودِ حَسَبَ الِاتِّجَاهَاتِ الْآتِيَةِ:

الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ، وَلَا يُوجِبُ الرَّدَّ.

قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: لَا رَدَّ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَبِهِ أَفْتَى بَعْضُهُمْ مُطْلَقًا.

وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: وَلَا يُرَدُّ الْمَبِيعُ بِغَبْنٍ بِأَنْ يَكْثُرَ الثَّمَنُ أَوْ يَقِلَّ جِدًّا، وَلَوْ خَالَفَ الْعَادَةَ بِأَنْ خَرَجَ عَنْ مُعْتَادِ الْعُقَلَاءِ.

وَجَاءَ فِي رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ: مُجَرَّدُ الْغَبْنِ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ وَإِنْ تَفَاحَشَ، وَلَوْ اشْتَرَى زُجَاجَةً بِثَمَنٍ كَبِيرٍ يَتَوَهَّمُهَا جَوْهَرَةً فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَلَا نَظَرَ إِلَى مَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْغَبْنِ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ مِنْهُ حَيْثُ لَمْ يُرَاجِعْ أَهْلَ الْخِبْرَةِ.

وَقَدِ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بَعْضَ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ، وَقَالُوا بِأَثَرِ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يُصَاحِبْهُ تَغْرِيرٌ، وَمِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ:

أ- تَصَرُّفُ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْوَصِيِّ وَالْمُتَوَلِّي وَالْمُضَارِبِ وَالْوَكِيلِ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، يُعْفَى فِيهِ يَسِيرُ الْغَبْنِ دُونَ فَاحِشِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ.

وَقَالَ الْمَوَّاقُ نَقْلًا عَنْ أَبِي عُمَرَ الْمَالِكِيِّ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ النَّائِبَ عَنْ غَيْرِهِ فِي بَيْعٍ وَشِرَاءٍ مِنْ وَكِيلٍ أَوْ وَصِيٍّ إِذَا بَاعَ أَوِ اشْتَرَى مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ أَنَّهُ مَرْدُودٌ.

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَحْكَامِ خِيَارِ غَبْنِ الْقَاصِرِ وَشِبْهِهِ ر: (خِيَارُ الْغَبْنِ ف 13 وَمَا بَعْدَهَا)

ب- بَيْعُ الْمُسْتَسْلِمِ الْمُسْتَنْصِحِ قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَلَا رَدَّ بِغَبْنٍ وَلَوْ خَالَفَ الْعَادَةَ، إِلاَّ أَنْ يَسْتَسْلِمَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ صَاحِبَهُ بِأَنْ يُخْبِرَهُ بِجَهْلِهِ، كَأَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي: أَنَا لَا أَعْلَمُ قِيمَةَ هَذِهِ السِّلْعَةِ، فَبِعْنِي كَمَا تَبِيعُ النَّاسَ فَقَالَ الْبَائِعُ: هِيَ فِي الْعُرْفِ بِعَشْرَةٍ فَإِذَا هِيَ بِأَقَلَّ: أَوْ يَقُولُ الْبَائِعُ: أَنَا لَا أَعْلَمُ قِيمَتَهَا فَاشْتَرِ مِنِّي كَمَا تَشْتَرِي مِنَ النَّاسِ فَقَالَ: هِيَ فِي عُرْفِهِمْ بِعَشْرَةٍ، فَإِذَا هِيَ بِأَكْثَرَ، فَلِلْمَغْبُونِ الرَّدُّ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، بَلْ بِاتِّفَاقٍ.

الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ- مِنْهُمُ ابْنُ الْقَصَّارِ- وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلْمَغْبُونِ حَقَّ الْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ وَإِنْ لَمْ يُصَاحِبِ الْغَبْنَ تَغْرِيرٌ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْحَمَوِيِّ: فَقَدْ تَحَرَّرَ أَنَّ الْمَذْهَبَ عَدَمُ الرَّدِّ بِهِ (بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ) وَلَكِنْ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَفْتَى بِالرَّدِّ مُطْلَقًا.

وَقَالَ الْمَوَّاقُ نَقْلًا عَنِ الْمُتَيْطِيِّ: تَنَازَعَ الْبَغْدَادِيُّونَ فِي هَذَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ زَادَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ عَلَى قِيمَةِ الثُّلُثِ فَأَكْثَرُ فُسِخَ الْبَيْعُ، وَكَذَلِكَ إِنْ بَاعَ بِنُقْصَانِ النَّاسِ مِنْ قِيمَتِهِ عَلَى مَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ، وَحَكَى ابْنُ الْقَصَّارِ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ: لِلْمَغْبُونِ الرَّدُّ إِذَا كَانَ فَاحِشًا وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمَغْبُونُ جَاهِلًا بِالْقِيَمِ.

وَالْحَنَابِلَةُ يَقُولُونَ بِإِعْطَاءِ الْعَاقِدِ الْمَغْبُونِ حَقَّ الْخِيَارِ فِي ثَلَاثِ صُوَرٍ إِحْدَاهَا: تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «لَا تَلَقَّوُا الْجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ أَيْ صَاحِبُهُ السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ» (ر: بَيْع مَنْهِيّ عَنْهُ ف 129.131).

وَالثَّانِيَةُ: بَيْعُ النَّاجِشِ وَلَوْ بِلَا مُوَاطَأَةٍ مِنَ الْبَائِعِ، وَمِنْهُ أُعْطِيتُ كَذَا وَهُوَ كَاذِبٌ وَالثَّالِثَةُ: الْمُسْتَرْسِلُ إِذَا اطْمَأَنَّ وَاسْتَأْنَسَ وَغَبَنَ، ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ وَلَا أَرْشَ مَعَ إِمْسَاكٍ.

الِاتِّجَاهُ الثَّالِثُ: إِعْطَاءُ الْمَغْبُونِ حَقَّ الْخِيَارِ إِذَا صَاحَبَ الْغَبْنَ تَغْرِيرٌ بِهَذَا يَقُولُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَصَحَّحَهُ الزَّيْلَعِيُّ وَأَفْتَى بِهِ صَدْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ. (ر: خِيَارُ الْغَبْنِ ف 12 وَمَا بَعْدَهَا)

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


26-موسوعة الفقه الكويتية (غش)

غِشٌّ

التَّعْرِيفُ:

1- الْغِشُّ بِالْكَسْرِ فِي اللُّغَةِ نَقِيضُ النُّصْحِ، يُقَالُ: غَشَّ صَاحِبَهُ: إِذَا زَيَّنَ لَهُ غَيْرَ الْمَصْلَحَةِ، وَأَظْهَرَ لَهُ غَيْرَ مَا أَضْمَرَ، وَلَبَنٌ مَغْشُوشٌ: أَيْ مَخْلُوطٌ بِالْمَاءِ.

وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّدْلِيسُ:

2- التَّدْلِيسُ: الْخَدِيعَةُ وَهُوَ مَصْدَرُ دَلَّسَ، وَالدُّلْسَةُ: الظُّلْمَةُ، وَالتَّدْلِيسُ فِي الْبَيْعِ: كِتْمَانُ عَيْبِ السِّلْعَةِ عَنِ الْمُشْتَرِي، يُقَالُ: دَلَّسَ الْبَائِعُ تَدْلِيسًا: كَتَمَ عَيْبَ السِّلْعَةِ عَنِ الْمُشْتَرِي وَأَخْفَاهُ، وَمِنْهُ التَّدْلِيسُ فِي الْإِسْنَادِ.

فَالتَّدْلِيسُ مِنْ أَنْوَاعِ الْغِشِّ.

ب- التَّغْرِيرُ:

3- التَّغْرِيرُ هُوَ: الْخَطَرُ وَالْخُدْعَةُ، وَتَعْرِيضُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ أَوْ مَالَهُ لِلْهَلَكَةِ، وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: الْغَرَرُ: مَا يَكُونُ مَجْهُولَ الْعَاقِبَةِ لَا يُدْرَى أَيَكُونُ أَمْ لَا.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: التَّغْرِيرُ تَوْصِيفُ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ صِفَتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ.وَبَيْعُ الْغَرَرِ هُوَ الْبَيْعُ الَّذِي فِيهِ خَطَرُ انْفِسَاخِهِ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ.

وَالتَّغْرِيرُ مِنْ أَنْوَاعِ الْغِشِّ.

ج- الْخِلَابَةُ:

4- الْخِلَابَةُ بِالْكَسْرِ: الْمُخَادَعَةُ، وَقِيلَ: الْخَدِيعَةُ بِاللِّسَانِ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ كَانَ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ: «إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ».وَالْخِلَابَةُ نَوْعٌ مِنَ الْغِشِّ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْغِشَّ حَرَامٌ سَوَاءٌ أَكَانَ بِالْقَوْلِ أَمْ بِالْفِعْلِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ بِكِتْمَانِ الْعَيْبِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوِ الثَّمَنِ أَمْ بِالْكَذِبِ وَالْخَدِيعَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْمُعَامَلَاتِ أَمْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمَشُورَةِ وَالنَّصِيحَةِ.

وَقَدْ وَرَدَ فِي تَحْرِيمِ الْغِشِّ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنِّي».وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا».

وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَأَمْثَالَهُ غَيْرُ مَحْمُولٍ عَلَى الظَّاهِرِ، فَالْغِشُّ لَا يُخْرِجُ الْغَاشَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ لَيْسَ عَلَى سِيرَتِنَا وَمَذْهَبِنَا.

وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ الْجَدُّ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ، حَدِيثٌ قَالَ: مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا أَيْ: لَيْسَ عَلَى مِثْلِ هُدَانَا وَطَرِيقَتِنَا، إِلاَّ أَنَّ الْغِشَّ لَا يُخْرِجُ الْغَاشَّ مِنَ الْإِيمَانِ، فَهُوَ مَعْدُودٌ فِي جُمْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى هُدَاهُمْ وَسَبِيلِهِمْ؛ لِمُخَالَفَتِهِ إِيَّاهُمْ فِي الْتِزَامِ مَا يَلْزَمُهُ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ..فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مُسْلِمٍ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً مِنَ السِّلَعِ أَوْ دَارًا أَوْ عَقَارًا أَوْ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ- وَهُوَ يَعْلَمُ فِيهِ عَيْبًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ- حَتَّى يُبَيِّنَ ذَلِكَ لِمُبْتَاعِهِ، وَيَقِفَهُ عَلَيْهِ وَقْفًا يَكُونُ عِلْمُهُ بِهِ كَعِلْمِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَكَتَمَهُ الْعَيْبَ وَغَشَّهُ بِذَلِكَ لَمْ يَزَلْ فِي مَقْتِ اللَّهِ وَلَعْنَةِ مَلَائِكَةِ اللَّهِ.ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» عَلَى ظَاهِرِهِ فِيمَنْ غَشَّ الْمُسْلِمِينَ مُسْتَحِلًّا لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنِ اسْتَحَلَّ التَّدْلِيسَ بِالْعُيُوبِ وَالْغِشَّ فِي الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا، فَهُوَ كَافِرٌ حَلَالُ الدَّمِ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِلَ.

وَلَا تَخْتَلِفُ كَلِمَةُ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ النُّصْحَ فِي الْمُعَامَلَةِ وَاجِبٌ.

وَقَدْ بَيَّنَ الْغَزَالِيُّ ضَابِطَ النُّصْحِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْمُعَامَلَةِ فِي أَرْبَعَةِ أُمُورٍ: أَنْ لَا يُثْنِيَ عَلَى السِّلْعَةِ بِمَا لَيْسَ فِيهَا، وَأَنْ لَا يَكْتُمَ مِنْ عُيُوبِهَا وَخَفَايَا صِفَاتِهَا شَيْئًا أَصْلًا، وَأَنْ لَا يَكْتُمَ فِي وَزْنِهَا وَمِقْدَارِهَا شَيْئًا، وَأَنْ لَا يَكْتُمَ مِنْ سِعْرِهَا مَا لَوْ عَرَفَهُ الْمُعَامِلُ لَامْتَنَعَ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ أَخْفَاهُ كَانَ ظَالِمًا غَاشًّا، وَالْغِشُّ حَرَامٌ، وَكَانَ تَارِكًا لِلنُّصْحِ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَالنُّصْحُ وَاجِبٌ.

وَقَدْ رَجَّحَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْغِشَّ كَبِيرَةٌ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يَفْسُقُ فَاعِلُهُ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ، وَقَدْ عَلَّلَ ابْنُ عَابِدِينَ هَذَا التَّرْجِيحَ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ الْغِشَّ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ.

الْغِشُّ فِي الْمُعَامَلَاتِ:

6- يَحْصُلُ الْغِشُّ كَثِيرًا فِي الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْمُعَاوَضَاتِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ صُوَرًا لِلْغِشِّ الْوَاقِعِ فِي زَمَانِهِمْ بَيْنَ التُّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ.

وَلِلْغِشِّ صُوَرٌ مُخْتَلِفَةٌ كَالْغِشِّ بِالتَّدْلِيسِ وَالْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ لِلْغِشِّ آثَارًا مُتَنَوِّعَةً كَالْغَبْنِ وَالْغَرَرِ وَنَحْوِهَا.

أَوَّلًا- الْغِشُّ بِالتَّدْلِيسِ وَالتَّصْرِيَةِ:

7- يَقَعُ الْغِشُّ فِي الْمُعَامَلَاتِ كَثِيرًا بِصُورَةِ التَّدْلِيسِ الْقَوْلِيِّ، كَالْكَذِبِ فِي سِعْرِ الْمَبِيعِ، أَوِ الْفِعْلِيِّ كَكِتْمَانِ عُيُوبِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، أَوْ بِصُورَةِ التَّصْرِيَةِ كَأَنْ يَتْرُكَ الْبَائِعُ حَلْبَ النَّاقَةِ أَوْ غَيْرِهَا مُدَّةً قَبْلَ بَيْعِهَا لِيُوهِمَ الْمُشْتَرِيَ كَثْرَةَ اللَّبَنِ، وَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ يُخْدَعُ الْمُشْتَرِي، فَيُبْرِمُ الْعَقْدَ وَهُوَ غَيْرُ رَاضٍ بِذَلِكَ إِذَا عَلِمَ الْحَقِيقَةَ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ التَّدْلِيسَ عَيْبٌ، فَإِذَا اخْتَلَفَ الثَّمَنُ لِأَجْلِهِ فِي الْمُعَامَلَاتِ يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَعْلَمَ الْمُدَلَّسُ عَلَيْهِ الْعَيْبَ قَبْلَ الْعَقْدِ أَوْ عِنْدَهُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ الْعَيْبُ ظَاهِرًا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَدْلِيس ف 7 وَمَا بَعْدَهَا)

وَفِي الْغِشِّ بِصُورَةِ التَّصْرِيَةِ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ تَصْرِيَةَ الْحَيَوَانِ عَيْبٌ يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَذَلِكَ لِحَدِيثِ: «لَا تُصَرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا: إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ».

وَلَا يَعْتَبِرُ أَبُو حَنِيفَةَ التَّصْرِيَةَ عَيْبًا مُثْبِتًا لِلْخِيَارِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُصَرَّاةً فَوَجَدَهَا أَقَلَّ لَبَنًا مِنْ أَمْثَالِهَا لَمْ يَمْلِكْ رَدَّهَا، وَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِأَرْشِهَا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَصْرِيَة ف 3 وَمَا بَعْدَهَا)

ثَانِيًا- الْغِشُّ الْمُسَبِّبُ لِلْغَبْنِ:

8- الْغِشُّ يُؤَثِّرُ كَثِيرًا فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ بِصُورَةِ الْغَبْنِ، فَيَحْصُلُ النَّقْصُ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ أَوْ بَدَلِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْغَبْنَ الْيَسِيرَ- وَهُوَ مَا يُحْتَمَلُ غَالِبًا، أَوْ يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ- لَا يَثْبُتُ خِيَارًا لِلْمَغْبُونِ.

أَمَّا الْغَبْنُ الْفَاحِشُ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِهِ عَلَى الْعَقْدِ وَثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمَغْبُونِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (غَرَر) (وَغَبْن) (وَخِيَارُ الْغَبْنِ ف 3 وَمَا بَعْدَهَا)

التَّعَامُلُ بِالنَّقْدِ الْمَغْشُوشِ:

9- أَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِنْفَاقَ الْمَغْشُوشِ مِنَ النُّقُودِ إِذَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ وَظَهَرَ غِشُّهُ، وَلَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ التَّفْصِيلُ التَّالِي:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ جَائِزٌ، وَذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْغِشُّ فِيهَا غَالِبًا وَالْفِضَّةُ مَغْلُوبَةً، سَوَاءٌ أَكَانَ بِالْوَزْنِ أَوِ الْعَدَدِ حَسَبَ تَعَامُلِ النَّاسِ لَهَا كَالْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ.

وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْفِضَّةُ فِيهَا غَالِبَةً أَوْ مُتَسَاوِيَةً مَعَ الْغِشِّ، إِلاَّ أَنَّهَا هُنَا إِذَا قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا جَازَ التَّعَامُلُ بِهَا وَزْنًا لَا عَدَدًا؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ وَزْنِيَّةٌ فِي الْأَصْلِ وَالْغَالِبُ لَهُ حُكْمُ الْكُلِّ، أَمَّا فِي صُوَرِ التَّسَاوِي فَالْحُكْمُ بِالْفَسَادِ عِنْدَ تَعَارُضِ جِهَتَيِ الْجَوَازِ وَالْفَسَادُ أَحْوَطُ، كَمَا عَلَّلَهُ الْكَاسَانِيُّ.

أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ نَقَلَ الْحَطَّابُ عَنِ الْعُتْبِيَّةِ أَنَّ الْعَامَّةَ إِذَا اصْطَلَحَتْ عَلَى سِكَّةٍ وَإِنْ كَانَتْ مَغْشُوشَةً فَلَا تُقْطَعُ (أَيْ لَا تُمْنَعُ مِنَ التَّدَاوُلِ) لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى إِتْلَافِ رُءُوسِ أَمْوَالِ النَّاسِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْفَتْوَى عَلَى قَطْعِ الدَّرَاهِمِ الزَّائِفَةِ الَّتِي يُزَادُ فِي غِشِّهَا حَتَّى صَارَتْ نُحَاسًا.وَكَذَا الذَّهَبُ الْمُحَلاَّةُ لِعَدَمِ ضَبْطِهَا فِي الْغِشِّ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ ضَرْبُ الْمَغْشُوشِ لِخَبَرِ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَلِئَلاَّ يَغُشَّ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ بَعْضًا.فَإِنْ عَلِمَ مِعْيَارَهَا صَحَّتِ الْمُعَامَلَةُ بِهَا مُعَيَّنَةً وَفِي الذِّمَّةِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا الصِّحَّةُ مُطْلَقًا كَبَيْعِ الْغَالِيَةِ وَالْمَعْجُونَاتِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ رَوَاجُهَا وَهِيَ رَائِجَةٌ، وَلِحَاجَةِ الْمُعَامَلَةِ بِهَا،

وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا كَاللَّبَنِ الْمَخْلُوطِ بِالْمَاءِ، وَالثَّالِثُ: وَإِنْ كَانَ الْغِشُّ مَغْلُوبًا صَحَّ التَّعَامُلُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ غَالِبًا لَمْ يَصِحَّ، وَالرَّابِعُ: يَصِحُّ التَّعَامُلُ بِهَا فِي الْعَيْنِ دُونَ الذِّمَّةِ.

وَلِلْحَنَابِلَةِ فِي الْمَغْشُوشِ مِنَ النُّقُودِ رِوَايَتَانِ: أَظْهَرُهُمَا الْجَوَازُ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: نَقَلَ صَالِحٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي دِرْهَمٍ يُقَالُ لَهَا الْمُسَيِّبِيَّةُ عَامَّتُهَا نُحَاسٌ إِلاَّ شَيْئًا فِيهَا فِضَّةٌ، فَقَالَ: إِذَا كَانَ شَيْئًا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ- مِثْلَ الْفُلُوسِ- وَاصْطَلَحُوا عَلَيْهَا فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهَا بَأْسٌ.

وَالثَّانِيَةُ: التَّحْرِيمُ: نَقَلَ حَنْبَلٌ فِي دَرَاهِمَ مَخْلُوطَةٍ يُشْتَرَى بِهَا وَيُبَاعُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَاعَ بِهَا أَحَدٌ، كُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْغِشِّ فَالشِّرَاءُ بِهِ وَالْبَيْعُ حَرَامٌ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ أَحْمَدَ فِي الْجَوَازِ عَلَى الْخُصُوصِ فِيمَا ظَهَرَ غِشُّهُ وَاصْطُلِحَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُعَامَلَةَ بِهِ جَائِزَةٌ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ اشْتِمَالِهِ عَلَى جِنْسَيْنِ لَا غَرَرَ فِيهِمَا، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِمَا كَمَا لَوْ كَانَا مُتَمَيِّزَيْنِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (فُلُوس).

صَرْفُ الْمَغْشُوشِ بِجِنْسِهِ أَوْ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:

10- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا غَلَبَ ذَهَبُهُ أَوْ فِضَّتُهُ حُكْمُهُ حُكْمُ النُّقُودِ الْخَالِصَةِ.فَلَا يَجُوزُ صَرْفُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَلَا بِالْخَالِصَةِ إِلاَّ مُتَسَاوِيًا وَزْنًا مَعَ التَّقَابُضِ.

وَمَا غَلَبَ غِشُّهُ عَلَى الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْعُرُوضِ، يَصِحُّ بَيْعُهُ بِالْخَالِصِ إِنْ كَانَ الْخَالِصُ أَكْثَرَ مِمَّا فِي الْمَغْشُوشِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ مُتَسَاوِي الْغِشِّ وَالْفِضَّةِ، فَيُصْرَفُ فِضَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى غِشِّ الْآخَرِ وَبِالْعَكْسِ.

وَيَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بَيْعُ نَقْدٍ مَغْشُوشٍ بِمِثْلِهِ وَلَوْ لَمْ يَتَسَاوَ غِشُّهُمَا، وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِمْ جَوَازُ بَيْعِ الْمَغْشُوشِ بِصِنْفِهِ الْخَالِصِ أَيْضًا إِذَا كَانَ يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالْغِشُّ الْمُخَالِطُ فِي الْمَوْزُونِ مَمْنُوعٌ عِنْدَهُمْ مُطْلَقًا، قَلِيلًا كَانَ أَمْ كَثِيرًا، فَلَا تُبَاعُ فِضَّةٌ خَالِصَةٌ بِمَغْشُوشَةٍ، وَلَا فِضَّةٌ مَغْشُوشَةٌ بِفِضَّةٍ مَغْشُوشَةٍ، وَمِثْلُهُ الذَّهَبُ.

وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ بَيْعَ الْأَثْمَانِ الْمَغْشُوشَةِ بِالْمَغْشُوشَةِ إِذَا كَانَ الْغِشُّ فِيهِمَا مُتَسَاوِيًا وَمَعْلُومَ الْمِقْدَارِ.وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ إِذَا كَانَ الْغِشُّ فِي الثَّمَنِ أَوِ الْمُثَمَّنِ مُتَفَاوِتًا أَوْ غَيْرَ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأَثْمَانِ الْمَغْشُوشَةِ بِأَثْمَانٍ خَالِصَةٍ مِنْ جِنْسِهَا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَرْف ف 41- 44) الْغِشُّ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ:

11- لَقَدْ عَظَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَأَمَرَ بِالْوَفَاءِ فِيهِمَا، وَنَهَى عَنِ الْغِشِّ بِالْبَخْسِ وَالتَّطْفِيفِ فِيهِمَا، وَذَلِكَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ، مِنْهَا قوله تعالى: (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) وَتَوَعَّدَ الْمُطَفِّفِينَ بِالْوَيْلِ وَهَدَّدَهُمْ بِعَذَابٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي قوله تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ).

وَذَكَرَهُ الذَّهَبِيُّ فِي الْكَبَائِرِ وَقَالَ: وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ السَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي وَظَائِفِ الْمُحْتَسِبِ أَنَّ مِمَّا هُوَ عُمْدَةٌ نَظَرُهُ الْمَنْعُ مِنَ التَّطْفِيفِ وَالْبَخْسِ فِي الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ وَالصَّنَجَاتِ، وَأَنْ يَطْبَعَ عَلَيْهَا طَابَعُهُ، وَلَهُ الْأَدَبُ عَلَيْهِ وَالْمُعَاقَبَةُ فِيهِ، فَإِنْ زَوَّرَ قَوْمٌ عَلَى طَابَعِهِ كَانَ الزُّورُ فِيهِ كَالْمُبَهْرَجِ عَلَى طَابَعِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَإِنْ قُرِنَ التَّزْوِيرُ بِغِشٍّ كَانَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَالتَّأْدِيبُ مُسْتَحَقًّا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي حَقِّ السَّلْطَنَةِ مِنْ جِهَةِ التَّزْوِيرِ، وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فِي الْغِشِّ، وَهُوَ أَغْلَظُ الْمُنْكَرَيْنِ، وَإِنْ سَلِمَ التَّزْوِيرُ مِنْ غِشٍّ تَفَرَّدَ بِالْإِنْكَارِ لِحَقِّ السَّلْطَنَةِ خَاصَّةً.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَطْفِيف ف 3، 4) (وَحِسْبَة ف 34).

الْغِشُّ فِي الْمُرَابَحَةِ:

12- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ شَيْئًا مُرَابَحَةً فَقَالَ: هُوَ عَلَيَّ بِمِائَةٍ بِعْتُكَ بِهَا وَبِرِبْحِ عَشَرَةٍ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ رَأْسَ مَالِهِ تِسْعُونَ، فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا زَادَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ عَشَرَةٌ وَحَظُّهَا مِنَ الرِّبْحِ- وَهُوَ دِرْهَمٌ- فَيَبْقَى عَلَى الْمُشْتَرِي بِتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ.

وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ إِذَا اشْتَرَاهُ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ وَبَاعَهُ بِرِبْحِ خَمْسَةٍ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الْبَائِعَ اشْتَرَاهُ بِثَمَانِيَةٍ فَإِنَّهُ يَحُطُّ قَدْرَ الْخِيَانَةِ مِنَ الْأَصْلِ وَهُوَ الْخُمُسُ- أَيْ دِرْهَمَانِ وَمَا قَابَلَهُ مِنَ الرِّبْحِ- وَهُوَ دِرْهَمٌ، فَيَأْخُذُ الثَّوْبَ بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا.

وَقَدْ عَلَّلَ الشَّافِعِيَّةُ حَطَّ الزِّيَادَةِ وَرِبْحَهَا بِقَوْلِهِمْ: لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِاعْتِمَادِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَتُحَطُّ الزِّيَادَةُ عَنْهُ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَحُطُّ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَمَّى عِوَضًا وَعَقَدَ بِهِ.

وَبِنَاءً عَلَى الْحَطِّ فَهَلْ لِلْمُشْتَرِي خِيَارٌ؟ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَلَا لِلْبَائِعِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ بَاقِيًا أَمْ تَالِفًا، أَمَّا الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّهُ إِذَا رَضِيَ بِالْأَكْثَرِ فَبِالْأَقَلِّ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَأَمَّا الْبَائِعُ فَلِتَدْلِيسِهِ.

وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، كَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ.

وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَخْذِ الْمَبِيعِ بِرَأْسِ مَالِهِ وَحِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ.وَبَيْنَ تَرْكِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ الْخِيَانَةَ فِي هَذَا الثَّمَنِ أَيْضًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَذَبَ الْبَائِعُ فِي إِخْبَارِهِ، كَأَنْ يُخْبِرَهُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِخَمْسِينَ وَقَدْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِأَرْبَعِينَ- سَوَاءٌ أَكَانَ عَمْدًا أَمْ خَطَأً- لَزِمَ الْبَيْعُ الْمُشْتَرِيَ إِنْ حَطَّ الْبَائِعُ الزَّائِدَ الْمَكْذُوبَ.وَإِلاَّ خُيِّرَ بَيْنَ التَّمَاسُكِ وَالرَّدِّ، وَإِذَا غَشَّ بِأَنِ اشْتَرَاهُ بِثَمَانِيَةٍ مَثَلًا وَيُرَقِّمُ عَلَيْهَا عَشْرَةً، ثُمَّ يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً فَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَتَمَاسَكَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الَّذِي نَقَدَهُ- وَهُوَ الثَّمَانِيَةُ وَرِبْحُهَا- أَوْ يَرُدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ وَيَرْجِعَ بِثَمَنِهِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ ظَهَرَتْ خِيَانَةُ الْبَائِعِ فِي مُرَابَحَةٍ أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي بِكُلِّ ثَمَنِهِ أَوْ رَدَّهُ لِفَوَاتِ الرِّضَا.

وَلِلْغِشِّ فِي الْمُرَابَحَةِ صُوَرٌ وَأَحْكَامٌ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (مُرَابَحَة)

الْغِشُّ فِي التَّوْلِيَةِ:

13- إِذَا ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي التَّوْلِيَةِ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ بِأَنِ اشْتَرَى شَيْئًا نَسِيئَةً، ثُمَّ بَاعَهُ تَوْلِيَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ نَسِيئَةً، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارَ فِي رَدِّ الْمَبِيعِ وَأَخْذِهِ إِنْ كَانَ قَائِمًا، وَإِذَا هَلَكَ أَوِ اسْتُهْلِكَ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ حَالًا مَعَ تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ يَأْخُذُ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِالثَّمَنِ مُؤَجَّلًا بِالْأَجَلِ الَّذِي اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ إِلَيْهِ، وَلَا خِيَارَ لَهُ.

وَإِنْ ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحُطُّ قَدْرَ الْخِيَانَةِ، وَيَلْزَمُ الْعَقْدُ بِالثَّمَنِ الْبَاقِي دُونَ خِيَارٍ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ حَطَّ الْبَائِعُ الزَّائِدَ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ، وَإِلاَّ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ السِّلْعَةَ أَوْ يَأْخُذَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَوْلِيَة ف 18، 19)

الْغِشُّ فِي الْوَضِيعَةِ:

14- حُكْمُ الْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ فِي الْوَضِيعَةِ يُشْبِهُ حُكْمَ الْغِشِّ فِي الْمُرَابَحَةِ؛ لِأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ رِبْحُ الْمُشْتَرِي.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَضَيْعَة)

غِشُّ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ فِي النِّكَاحِ:

15- إِذَا غَشَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْآخَرَ بِكِتْمَانِ عَيْبٍ فِيهِ يُنَافِي الِاسْتِمْتَاعَ أَوْ كَمَالَ الِاسْتِمْتَاعِ، يَثْبُتُ لِلْمُتَضَرِّرِ مِنْهُمَا خِيَارُ الْفَسْخِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (طَلَاق ف 93 وَمَا بَعْدَهَا)

غِشُّ وُلَاةِ الْأُمُورِ لِرَعِيَّتِهِمْ:

16- الْمُرَادُ بِأُولِي الْأَمْرِ الْأُمَرَاءُ وَالْحُكَّامُ وَكُلُّ مَنْ تَقَلَّدَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ حَمَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا يَعُمُّ الْأُمَرَاءَ وَالْعُلَمَاءَ.

وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ غِشِّهِمْ لِلرَّعِيَّةِ أَحَادِيثُ، مِنْهَا، مَا رَوَاهُ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَسْتَرْعِي اللَّهُ عَبْدًا رَعِيَّةً يَمُوتُ حِينَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهَا إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» وَفِي رِوَايَةٍ: «مَا مِنْ وَالٍ يَلِي رَعِيَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».

وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّاعِيَ وَالْوَالِيَ الْغَاشَّ مَحْرُومٌ مِنَ الْجَنَّةِ أَبَدًا، لَكِنَّ النَّوَوِيَّ قَالَ فِي مَعْنَى: «حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» فِيهِ تَأْوِيلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ، وَالثَّانِي: حَرَّمَ عَلَيْهِ دُخُولَهَا مَعَ الْفَائِزِينَ السَّابِقِينَ، وَمَعْنَى التَّحْرِيمِ هُنَا الْمَنْعُ.وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْأَوْلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِلِّ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الزَّجْرُ وَالتَّغْلِيظُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا وَلاَّهُ عَلَى عِبَادِهِ لِيُدِيمَ لَهُمُ النَّصِيحَةَ- لَا لِيَغُشَّهُمْ- حَتَّى يَمُوتَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا قَلَبَ الْقَضِيَّةَ اسْتَحَقَّ أَنْ يُعَاقَبَ.

وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ قَوْلَهُ: مَعْنَاهُ بَيِّنٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ غَشِّ الْمُسْلِمِينَ لِمَنْ قَلَّدَهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِمْ وَاسْتَرْعَاهُ عَلَيْهِمْ وَنَصَّهُ لِمَصْلَحَتِهِمْ فِي دِينِهِمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ، فَإِذَا خَانَ فِيمَا اؤْتُمِنَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْصَحْ فِيمَا قَلَّدَهُ: إِمَّا بِتَضْيِيعِهِ تَعْرِيفَهُمْ مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ دِينِهِمْ وَأَخْذِهِمْ بِهِ، وَإِمَّا بِالْقِيَامِ بِمَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِ شَرَائِعِهِمْ، وَالذَّبِّ عَنْهَا لِكُلِّ مُتَصَدٍّ لِإِدْخَالِهِ دَاخِلَةً فِيهَا أَوْ تَحْرِيفٍ لِمَعَانِيهَا أَوْ إِهْمَالِ حُدُودِهِمْ أَوْ تَضْيِيعِ حُقُوقِهِمْ أَوْ تَرْكِ حِمَايَةِ حَوْزَتِهِمْ وَمُجَاهَدَةِ عَدُوِّهِمْ أَوْ تَرْكِ سِيرَةِ الْعَدْلِ فِيهِمْ فَقَدْ غَشَّهُمْ.

17- وَقَدْ عَدَّ الذَّهَبِيُّ غِشَّ الْوُلَاةِ مِنَ الْكَبَائِرِ وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ فَاسِقٌ، وَالْفِسْقُ مُنَافٍ لِلْعَدَالَةِ.

وَيَخْتَلِفُ أَثَرُ فِسْقِ الْوُلَاةِ حَسَبَ نَوْعِيَّةِ الْوِلَايَةِ وَمَدَى سُلْطَتِهِمْ عَلَى الرَّعِيَّةِ.

فَفِي الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْعَدَالَةَ، فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي دَوَامِ الْإِمَامَةِ، فَلَا يَنْعَزِلُ السُّلْطَانُ بِالظُّلْمِ وَالْفِسْقِ وَتَعْطِيلِ الْحُقُوقِ، وَلَا يَجِبُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ وَعْظُهُ وَدَعْوَتُهُ إِلَى الصَّلَاحِ، بَلْ إِنَّ بَعْضَهُمْ قَالُوا بِحُرْمَةِ الْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَامِ الْجَائِرِ تَحَرُّزًا عَنِ الْفِتْنَةِ، وَتَقْدِيمًا لِأَخَفِّ الْمَفْسَدَتَيْنِ، إِلاَّ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ إِمَامٌ عَدْلٌ فَيَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ وَإِعَانَةُ ذَلِكَ الْقَائِمِ.

وَتَخْتَلِفُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ فِي سَائِرِ الْوِلَايَاتِ كَالْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ وَنَحْوِهِمَا حَسَبَ اخْتِلَافِ طَبِيعَتِهَا.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحَاتِ (الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى ف 12) (وَعَزْل) (وَقَضَاء).

الْغِشُّ فِي الْمَشُورَةِ وَالنَّصِيحَةِ:

18- يَنْبَغِي عَلَى الْمُسْتَشَارِ أَنْ يُشِيرَ إِلَى مَا فِيهِ رُشْدُ الْمُسْتَشِيرِ وَخَيْرُهُ، فَإِنْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ صَوَابٍ فَقَدْ غَشَّهُ فِي مَشُورَتِهِ، وَخَانَهُ بِكِتْمَانِ مَصْلَحَتِهِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنِ اسْتَشَارَهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رُشْدٍ فَقَدْ خَانَهُ».

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» أَيِ الَّذِي طُلِبَ مِنْهُ الْمَشُورَةُ وَالرَّأْيُ فِيمَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ أَمِينٌ فِيمَا يُسْأَلُ مِنَ الْأُمُورِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخُونَ الْمُسْتَشِيرَ بِكِتْمَانِ مَصْلَحَتِهِ.

التَّعْزِيرُ عَلَى الْغِشِّ:

19- الْغَاشُّ يُؤَدَّبُ بِالتَّعْزِيرِ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ زَاجِرًا وَمُؤَدِّبًا لَهُ، فَالْمُقَرَّرُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ عُقُوبَةَ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ التَّعْزِيرُ، وَلَا يَمْنَعُ التَّعْزِيرُ عَنِ الْحُكْمِ بِالرَّدِّ وَفَسْخِ الْعَقْدِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْغِشِّ إِذَا تَحَقَّقَتْ شُرُوطُ الرَّدِّ.

وَنَقَلَ الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ رُشْدٍ قَوْلَهُ: مِمَّا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى مَنْ غَشَّ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ أَوْ غَرَّهُ أَوْ دَلَّسَ لَهُ بِعَيْبٍ أَنْ يُؤَدَّبَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


27-موسوعة الفقه الكويتية (محراب)

مِحْرَابٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْمِحْرَابُ فِي اللُّغَةِ: الْغُرْفَةُ، وَصَدْرُ الْبَيْتِ وَأَكْرَمُ مَوَاضِعِهِ، وَمَقَامُ الْإِمَامِ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَالْمَوْضِعُ يَنْفَرِدُ بِهِ الْمَلِكُ فَيَتَبَاعَدُ عَنِ النَّاسِ، وَالْأَجَمَةُ، وَعُنُقُ الدَّابَّةِ.

قَالَ الْفَيُّومِيُّ: الْمِحْرَابُ صَدْرُ الْمَجْلِسِ، وَيُقَالُ: هُوَ أَشْرَفُ الْمَجَالِسِ، وَهُوَ حَيْثُ يَجْلِسُ الْمُلُوكُ وَالسَّادَاتُ وَالْعُظَمَاءُ وَمِنْهُ مِحْرَابُ الْمُصَلِّي.

وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُبَيْدٍ: سُمِّيَ مِحْرَابًا لِانْفِرَادِ الْإِمَامِ إِذَا قَامَ فِيهِ وَبُعْدِهِ عَنِ الْقَوْمِ.

وَالْمِحْرَابُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ: مَقَامُ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْجِهَةُ الَّتِي يُصَلِّي نَحْوَهَا الْمُسْلِمُونَ، قَالَ الطَّحْطَاوِيُّ، بَعْدَ تَعْرِيفِ الْقِبْلَةِ تَعْرِيفًا شَرْعِيًّا: وَتُسْمَى- أَيِ الْقِبْلَةُ- أَيْضًا مِحْرَابًا؛ لِأَنَّ مُقَابِلَهَا يُحَارِبُ الشَّيْطَانَ وَالنَّفْسَ، أَيْ بِإِحْضَارِ قَلْبِهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْقِبْلَةُ:

2- الْقِبْلَةُ فِي اللُّغَةِ: الْجِهَةُ، يُقَالُ: لَيْسَ لِفُلَانِ قِبْلَةٌ.

أَيْ جِهَةٌ، وَيُقَالُ: أَيْنَ قِبْلَتُكَ؟ أَيْ جِهَتُكَ، وَالْقِبْلَةُ أَيْضًا: وُجْهَةُ الْمَسْجِدِ وَنَاحِيَةُ الصَّلَاةِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: الْقِبْلَةُ صَارَتْ فِي الشَّرْعِ حَقِيقَةَ الْكَعْبَةِ لَا يُفْهَمُ مِنْهَا غَيْرُهَا، سُمِّيَتْ قِبْلَةً لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يُقَابِلُهَا.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمِحْرَابِ وَالْقِبْلَةِ: أَنَّ الْمِحْرَابَ الَّذِي نُصِبَ بِاجْتِهَادِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ- فِي الْجُمْلَةِ- أَمَارَةً عَلَى الْقِبْلَةِ.

ب- الْمَسْجِدُ:

3- الْمَسْجِدُ فِي اللُّغَةِ: بَيْتُ الصَّلَاةِ، وَمَوْضِعُ السُّجُودِ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ، وَالْجَمْعُ مَسَاجِدُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْأَرْضُ الَّتِي جَعَلَهَا مَالِكُهَا مَسْجِدًا بِقَوْلِهِ: جَعَلْتُهَا مَسْجِدًا وَأَفْرَزَ طَرِيقَهُ وَأَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِيهِ.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْمِحْرَابِ وَالْمَسْجِدِ: أَنَّ الْمِحْرَابَ جُزْءٌ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَمَقَامُ الْإِمَامِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ.

ج- الطَّاقُ:

4- الطَّاقُ فِي اللُّغَةِ: مَا عُطِفَ مِنَ الْأَبْنِيَةِ وَجُعِلَ كَالْقَوْسِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْمِحْرَابُ، وَالظُّلَّةُ الَّتِي عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ حَوْلَهُ.وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمِحْرَابِ وَالطَّاقِ التَّرَادُفُ عَلَى الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ الْأَوَّلِ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بِنَاءٌ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي رَحَبَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي.

حُكْمُ اتِّخَاذِ الْمِحْرَابِ:

5- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ اتِّخَاذِ الْمِحْرَابِ: فَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: اتِّخَاذُ الْمِحْرَابِ مُبَاحٌ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ، أَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ وَاخْتَارَهُ الْآجُرِيُّ وَابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَابْنُ تَمِيمٍ، لِيَسْتَدِلَّ بِهِ الْجَاهِلُ، وَكَانَ أَحْمَدُ يَكْرَهُ كُلَّ مُحْدَثٍ، وَاقْتَصَرَ ابْنُ الْبَنَّاءِ عَلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَالَ بِهِ.

وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: كَرِهَ بَعْضُ السَّلَفِ اتِّخَاذَ الْمَحَارِيبِ فِي الْمَسْجِدِ

وَعِبَارَةُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى إِبَاحَتِهِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْإِمَامَ- الرَّاتِبَ- لَوْ تَرَكَ الْمِحْرَابَ وَقَامَ فِي غَيْرِهِ يُكْرَهُ وَلَوْ كَانَ قِيَامُهُ وَسَطَ الصَّفِّ لِأَنَّهُ خِلَافُ عَمَلِ الْأُمَّةِ.

وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: الْمَشْهُورُ أَنَّ الْإِمَامَ يَقُومُ فِي الْمِحْرَابِ حَالَ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ كَيْفَ اتَّفَقَ.

أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ الْمِحْرَابَ

6- لَمْ يَكُنْ لِلْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ مِحْرَابٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-، وَلَا فِي عَهْدِ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ، وَأَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ الْمِحْرَابَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَحْدَثَهُ وَهُوَ عَامِلُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ عِنْدَمَا أَسَّسَ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا هَدَمَهُ وَزَادَ فِيهِ، وَكَانَ هَدْمُهُ لِلْمَسْجِدِ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ لِلْهِجْرَةِ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَفَرَغَ مِنْهُ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ- وَهُوَ أَشْبَهُ- وَفِيهَا حَجَّ الْوَلِيدُ.

وَيَعْنِي بِمِحْرَابِ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- مُصَلاَّهُ وَمَوْقِفُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمِحْرَابَ الْمَعْرُوفَ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-.

تَزْوِيقُ الْمِحْرَابِ وَوَضْعُ مُصْحَفٍ فِيهِ

7- نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَزْوِيقُ مِحْرَابِ الْمَسْجِدِ بِذَهَبٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ فِيهِ، بِخِلَافِ تَجْصِيصِهِ فَيُسْتَحَبُّ، وَتَعَمُّدُ مُصْحَفٍ فِي الْمِحْرَابِ أَيْ جَعْلُهُ فِيهِ عَمْدًا لِيُصَلِّيَ لَهُ، أَيْ إِلَى جِهَةِ الْمُصْحَفِ أَوْ لِيُصَلِّيَ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ الْمُصْحَفُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُعَلَّقُ فِيهِ لَمْ تُكْرَهِ الصَّلَاةُ لِجِهَتِهِ.

وَنَقَلَ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يُكْتَبَ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ- أَيْ مِحْرَابِهِ- آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَأَرْدَفَ الزَّرْكَشِيُّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَجَوَّزَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ}.

الْآيَةَ، وَلِمَا رُوِيَ مِنْ فِعْلِ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- ذَلِكَ بِمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ.

قِيَامُ الْإِمَامِ فِي الْمِحْرَابِ:

8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ قِيَامِ الْإِمَامِ فِي الْمِحْرَابِ أَثَنَاءَ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ الْقِيَامُ فِي الْمِحْرَابِ حَالَ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى كَرَاهَةِ قِيَامِ الْإِمَامِ فِي الْمِحْرَابِ حَالَ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ فِي الْجُمْلَةِ.

وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقُومَ فِي غَيْرِ الْمِحْرَابِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ وُقُوفُ الْإِمَامِ فِي الْمِحْرَابِ.

وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ تَفْصِيلٌ: لَخَّصَ ابْنُ عَابِدِينَ اخْتِلَافَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ بِقَوْلِهِ: حَاصِلُهُ أَنَّهُ صَرَّحَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِالْكَرَاهَةِ وَلَمْ يُفَصِّلْ، فَاخْتَلَفَ الْمَشَائِخُ فِي سَبَبِهَا: فَقِيلَ: كَوْنُهُ يَصِيرُ مُمْتَازًا عَنْهُمْ فِي الْمَكَانِ؛ لِأَنَّ الْمِحْرَابَ فِي مَعْنَى بَيْتٍ آخَرَ، وَذَلِكَ صَنِيعُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي الْهِدَايَةِ، وَاخْتَارَهُ السَّرَخْسِيُّ وَقَالَ إِنَّهُ الْأَوْجَهُ.

وَقِيلَ: اشْتِبَاهُ حَالِهِ عَلَى مَنْ فِي يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ.

فَعَلَى الْأَوَّلِ يُكْرَهُ مُطْلَقًا، وَعَلَى الثَّانِي لَا يُكْرَهُ عِنْدَ عَدَمِ الِاشْتِبَاهِ.

وَأَيَّدَ الثَّانِيَ فِي الْفَتْحِ بِأَنَّ امْتِيَازَ الْإِمَامِ فِي الْمَكَانِ مَطْلُوبٌ، وَتَقَدُّمُهُ وَاجِبٌ، وَغَايَتُهُ اتِّفَاقُ الْمِلَّتَيْنِ فِي ذَلِكَ، وَارْتَضَاهُ فِي الْحِلْيَةِ وَأَيَّدَهُ.

لَكِنْ نَازَعَهُ فِي الْبَحْرِ بِأَنَّ مُقْتَضَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْكَرَاهَةُ مُطْلَقًا، وَبِأَنَّ امْتِيَازَ الْإِمَامِ الْمَطْلُوبِ حَاصِلٌ بِتَقَدُّمِهِ بِلَا وُقُوفٍ فِي مَكَانٍ آخَرَ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْوَلْوَالِجِيَّةِ وَغَيْرِهَا: إِذَا لَمْ يَضِقِ الْمَسْجِدُ بِمَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ لَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ تَبَايُنَ الْمَكَانَيْنِ.

انْتَهَى، يَعْنِي وَحَقِيقَةُ اخْتِلَافِ الْمَكَانِ تَمْنَعُ الْجَوَازَ فَشُبْهَةُ الِاخْتِلَافِ تُوجِبُ الْكَرَاهَةَ، وَالْمِحْرَابُ وَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَصُورَتُهُ وَهَيْئَتُهُ اقْتَضَتْ شُبْهَةَ الِاخْتِلَافِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: أَيْ لِأَنَّ الْمِحْرَابَ إِنَّمَا بُنِيَ عَلَامَةً لِمَحَلِّ قِيَامِ الْإِمَامِ لِيَكُونَ قِيَامُهُ وَسَطَ الصَّفِّ كَمَا هُوَ السُّنَّةُ، لَا لِأَنْ يَقُومَ فِي دَاخِلِهِ، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِنْ بِقَاعِ الْمَسْجِدِ لَكِنْ أَشْبَهَ مَكَانًا آخَرَ فَأَوْرَثَ الْكَرَاهَةَ، لَكِنِ التَّشَبُّهُ إِنَّمَا يُكْرَهُ فِي الْمَذْمُومِ وَفِيمَا قُصِدَ بِهِ التَّشَبُّهُ لَا مُطْلَقًا، وَلَعَلَّ هَذَا مِنَ الْمَذْمُومِ.

وَفِي حَاشِيَةِ الْبَحْرِ لِلرَّمْلِيِّ: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ مِنْ بَابِ الْإِمَامَةِ: الْأَصَحُّ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقُومَ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ أَوْ زَاوِيَةٍ أَوْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ أَوْ إِلَى سَارِيَةٍ؛ لِأَنَّهُ بِخِلَافِ عَمَلِ الْأُمَّةِ.

وَفِيهِ أَيْضًا: السُّنَّةُ أَنْ يَقُومَ الْإِمَامُ إِزَاءَ وَسَطِ الصَّفِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَحَارِيبَ مَا نُصِبَتْ إِلاَّ وَسَطَ الْمَسَاجِدِ وَهِيَ قَدْ عُيِّنَتْ لِمَقَامِ الْإِمَامِ.

وَفِي التَّتَارْخَانِيِّةِ: وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُومَ فِي غَيْرِ الْمِحْرَابِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، وَمُقْتَضَاهُ: أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ تَرَكَ الْمِحْرَابَ وَقَامَ فِي غَيْرِهِ يُكْرَهُ، وَلَوْ كَانَ قِيَامُهُ وَسَطَ الصَّفِّ، لِأَنَّهُ خِلَافُ عَمَلِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْإِمَامِ الرَّاتِبِ دُونَ غَيْرِهِ وَالْمُنْفَرِدِ.

وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْإِمَامَ يَقِفُ فِي الْمِحْرَابِ حَالَ صَلَاتِهِ الْفَرِيضَةَ كَيْفَمَا اتَّفَقَ، وَقِيلَ: يَقِفُ خَارِجَهُ لِيَرَاهُ الْمَأْمُومُونَ، وَيَسْجُدُ فِيهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي الْمِحْرَابِ وَلَمْ يَزَلْ عَمَلُ النَّاسِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ الصَّلَاةُ فِي الْمِحْرَابِ إِذَا كَانَ يُمْنَعُ الْمَأْمُومُ مُشَاهَدَتَهُ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْإِمَامَ يَسْتَتِرُ عَنْ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ، أَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حِجَابٌ، إِلاَّ مِنْ حَاجَةٍ كَضِيقِ الْمَسْجِدِ وَكَثْرَةِ الْجَمْعِ فَلَا يُكْرَهُ لِدُعَاءِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَلَا يُكْرَهُ سُجُودُ الْإِمَامِ فِي الْمِحْرَابِ إِذَا كَانَ وَاقِفًا خَارِجَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَحَلَّ مُشَاهَدَتِهِ، وَيَقِفُ الْإِمَامُ عَنْ يَمِينِ الْمِحْرَابِ إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ وَاسِعًا نَصًّا، لِتَمَيُّزِ جَانِبِ الْيَمِينِ. وَنَقَلَ الْجِرَاعِيُّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ وُقُوفُ الْإِمَامِ فِي الْمِحْرَابِ.

تَنَفُّلُ الْإِمَامِ فِي الْمِحْرَابِ

9- نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ التَّنَفُّلُ بِالْمِحْرَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلاَّ حَالَ كَوْنِهِ إِمَامًا، وَلِأَنَّهُ قَدْ يُوهِمُ غَيْرَهُ أَنَّهُ فِي صَلَاةٍ فَيَقْتَدِيَ بِهِ.

وَقَالُوا: يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ الْجُلُوسُ فِي الْمِحْرَابِ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى هَيْئَةِ الصَّلَاةِ وَيَخْرُجُ مِنَ الْكَرَاهَةِ بِتَغْيِيرِ الْهَيْئَةِ لِحَدِيثِ سَمُرَةِ بْنِ جُنْدَبٍ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ»، أَيِ الْتَفَتَ إِلَيْهِمْ يَمِينًا أَوْ شِمَالًا وَلَمْ يَسْتَدْبِرِ الْقِبْلَةَ لِكَرَاهَةِ ذَلِكَ.

دَلَالَةُ الْمِحْرَابِ عَلَى الْقِبْلَةِ:

10- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمِحْرَابَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا الْقِبْلَةُ، وَأَنَّهُ يُعْتَمَدُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهَا، وَلَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ أَوْ تَحَرِّيهَا مَعَ وُجُودِ الْمِحْرَابِ الْمُعْتَمَدِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهَا وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ. فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تُعْرَفُ الْقِبْلَةُ بِالدَّلِيلِ، وَهُوَ فِي الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ مَحَارِيبُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْمَحَارِيبُ الْقَدِيمَةُ، وَهِيَ لَا يَجُوزُ تَحَرِّي الْقِبْلَةَ مَعَهَا، بَلْ تُعْتَمَدُ هَذِهِ الْمَحَارِيبُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْقِبْلَةِ، لِئَلاَّ يَلْزَمَ تَخْطِئَةُ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَجَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَقَامُوا هَذِهِ الْمَحَارِيبَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْمُسْلِمُ الَّذِي يُرِيدُ الصَّلَاةَ وَهُوَ فِي غَيْرِ مَكَّةَ وَلَا مَا لَحِقَ بِهَا يَجْتَهِدُ فِي اسْتِقْبَالِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ بِأَنْوَارِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم-، أَوْ بِجَامِعِ عَمْرٍو بِمِصْرَ الْعَتِيقَةِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ الْمُؤَدِّي لِمُخَالَفَةِ مِحْرَابِهِمَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ مِحْرَابِهِمَا، لِأَنَّ مِحْرَابَ الْمَدِينَةِ بِالْوَحْيِ، وَمِحْرَابَ جَامِعِ عَمْرٍو بِإِجْمَاعِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ نَحْوِ الثَّمَانِينَ، وَلَا يُقَلِّدُ الْمُجْتَهِدُ مِحْرَابًا مَنْصُوبًا إِلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ إِلاَّ مِحْرَابًا لِمِصْرَ- أَيْ بَلَدٍ عَظِيمٍ- حَضَرَ نَصْبَ مِحْرَابِهِ إِلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ، وَذَلِكَ كَبَغْدَادَ وَمِصْرَ والإسكندرية، وَالْمَحَارِيبُ الَّتِي جُهِلَ حَالُ نَاصِبِيهَا دَاخِلَةٌ فِيمَا قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمَحَارِيبُ الَّتِي قَطَعَ الْعَارِفُونَ بِخَطَئِهَا لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ إِلَيْهَا لَا لِمُجْتَهِدٍ وَلَا لِغَيْرِهِ.

وَقَلَّدَ الْجَاهِلُ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي تُحَدِّدُ الْقِبْلَةَ مِحْرَابًا- وَلَوْ لِغَيْرِ مِصْرَ- لَمْ يَتَبَيَّنْ خَطَؤُهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْمِحْرَابُ يَجِبُ اعْتِمَادُهُ وَلَا يَجُوزُ مَعَهُ الِاجْتِهَادُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاحْتَجَّ لَهُ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الْمَحَارِيبَ لَا تُنْصَبُ إِلاَّ بِحَضْرَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِسَمْتِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَدِلَّةِ فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْخَبَرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمِحْرَابَ إِنَّمَا يُعْتَمَدُ بِشَرْطٍ أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ كَبِيرٍ، أَوْ فِي قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ يَكْثُرُ الْمَارُّونَ بِهَا بِحَيْثُ لَا يُقِرُّونَهُ عَلَى الْخَطَأِ، فَإِنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ لَا يَكْثُرُ الْمَارُّونَ بِهَا لَمْ يَجُزِ اعْتِمَادُهُ، قَالَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ: لَوْ رَأَى عَلَامَةً فِي طَرِيقٍ يَقِلُّ فِيهِ مُرُورُ النَّاسِ، أَوْ فِي طَرِيقٍ يَمُرُّ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَلَا يَدْرِي مَنْ نَصَبَهَا، أَوْ رَأَى مِحْرَابًا فِي قَرْيَةٍ لَا يَدْرِي بَنَاهُ الْمُسْلِمُونَ أَوِ الْمُشْرِكُونَ، أَوْ كَانَتْ قَرْيَةٌ صَغِيرَةٌ لِلْمُسْلِمَيْنِ اتَّفَقُوا عَلَى جِهَةٍ يَجُوزُ وُقُوعُ الْخَطَأِ لِأَهْلِهَا فَإِنَّهُ يَجْتَهِدُ فِي كُلِّ هَذِهِ الصُّوَرِ وَلَا يَعْتَمِدُهُ، وَكَذَا قَالَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ: لَوْ كَانَ فِي صَحْرَاءَ أَوْ قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ أَوْ فِي مَسْجِدٍ فِي بَرِّيَّةٍ لَا يَكْثُرُ بِهِ الْمَارَّةُ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ، قَالَ: وَلَوْ دَخَلَ بَلَدًا قَدْ خَرِبَ وَانْجَلَى أَهْلُهُ فَرَأَى فِيهِ مَحَارِيبَ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا مِنْ بِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ اعْتَمَدَهَا وَلَمْ يَجْتَهِدْ، وَإِنِ احْتَمَلَ أَنَّهَا مِنْ بِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَاحْتَمَلَ أَنَّهَا مِنْ بِنَاءِ الْكُفَّارِ لَمْ

يَعْتَمِدْهَا بَلْ يَجْتَهِدُ، وَنَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ هَذَا التَّفْصِيلَ فِي الْبَلَدِ الْخِرَابِ عَنْ أَصْحَابِنَا كُلِّهِمْ.

وَأَضَافَ النَّوَوِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا إِذَا صَلَّى فِي مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَمِحْرَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَقِّهِ كَالْكَعْبَةِ، فَمَنْ يُعَايِنُهُ يَعْتَمِدُهُ، وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ بِالِاجْتِهَادِ بِحَالٍ، وَفِي مَعْنَى مِحْرَابِ الْمَدِينَةِ سَائِرُ الْبِقَاعِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا ضُبِطَ الْمِحْرَابُ، وَكَذَا الْمَحَارِيبُ الْمَنْصُوبَةُ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ بِالشَّرْطِ السَّابِقِ فَلَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فِي الْجِهَةِ بِلَا خِلَافٍ وَأَمَّا الِاجْتِهَادُ فِي التَّيَامُنِ وَالتَّيَاسُرِ فَإِنْ كَانَ مِحْرَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَجُزْ بِحَالٍ، وَإِنْ كَانَ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ فَفِيهِ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا يَجُوزُ.

قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَبَهْ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ فِي الْكُوفَةِ خَاصَّةً، وَالثَّالِثُ: لَا يَجُوزُ فِيهَا وَلَا فِي الْبَصْرَةِ لِكَثْرَةِ مَنْ دَخَلَهَا مِنَ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم-.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْأَعْمَى يَعْتَمِدُ الْمِحْرَابَ إِذَا عَرَفَهُ بِالْمَسِّ حَيْثُ يَعْتَمِدُهُ الْبَصِيرُ، وَكَذَا الْبَصِيرُ فِي الظُّلْمَةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّ الْأَعْمَى إِنَّمَا يَعْتَمِدُ مِحْرَابًا رَآهُ قَبْلَ الْعَمَى، وَلَوِ اشْتَبَهَ عَلَى الْأَعْمَى مَوَاضِعُ لَمَسَهَا صَبَرَ حَتَّى يَجِدَ مَنْ يُخْبِرُهُ، فَإِنْ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ وَتَجِبُ الْإِعَادَةُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ أَمْكَنَ مَنْ يُرِيدُ الصَّلَاةَ أَوِ التَّوَجُّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ مَعْرِفَةُ الْقِبْلَةِ بِالِاسْتِدْلَالِ بِمَحَارِيبِ الْمُسْلِمِينَ لَزِمَهُ الْعَمَلُ بِهِ إِذَا عَلِمَهَا لِلْمُسْلِمِينَ، عُدُولًا كَانُوا أَوْ فُسَّاقًا؛ لِأَنَّ اتِّفَاقَهُمْ عَلَيْهَا مَعَ تَكْرَارِ الْأَعْصَارِ إِجْمَاعٌ عَلَيْهَا وَلَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا، قَالَ فِي الْمُبْدِعِ: وَلَا يَنْحَرِفُ لِأَنَّ دَوَامَ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ كَالْقَطْعِ، وَإِنْ وَجَدَ مَحَارِيبَ بِبَلَدٍ خِرَابٍ لَا يَعْلَمُهَا لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَا دَلَالَةَ فِيهَا لِاحْتِمَالِ كَوْنِهَا لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا آثَارُ الْإِسْلَامِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْبَانِي مُشْرِكًا عَمِلَهَا لِيَغِرَّ بِهَا الْمُسْلِمِينَ، قَالَ فِي الشَّرْحِ: إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ هَذَا الِاحْتِمَالُ، وَيَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ أَنَّهُ مِنْ مَحَارِيبِ الْمُسْلِمِينَ فَيَسْتَقْبِلُهُ، وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا عَلِمَهَا لِلْكُفَّارِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ لَا يُرْجَعُ إِلَيْهِ فَمَحَارِيبُهُمْ أَوْلَى.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِمَحَارِيبِ الْكُفَّارِ إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ قِبْلَتَهُمْ، كَالنَّصَارَى يُعْلَمُ أَنَّ قِبْلَتَهُمُ الْمَشْرِقُ، فَإِذَا رَأَى مَحَارِيبَهُمْ فِي كَنَائِسِهِمْ عَلِمَ أَنَّهَا مُسْتَقْبِلَةُ الْمَشْرِقَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


28-الغريبين في القرآن والحديث (غبب)

(غبب)

في الحديث: (زرغبا تزدد حبا) يقال غب الرجل إذا جاء زائرا بعد أيام وأغبنا عطاؤه إذا جاء غبا والغب من أوراد الإبل: أن ترد يوما ويوما لا.

وفي الحديث: (لا تقبل شهادة ذي تغبة) أي عيب، قاله أبو عمرو الشيباني قال أبو حمزة: صح عن أبي زيد والنضر تغبة وهو الصواب، وهو الذي يستحل الشهادة بالزور فهم أصحاب فساد، يقال للفاسد الغاب وحكى شمر تغبة، ولم يذكر تغبة في غريب الحديث.

وفي الأخبار (كتب الجنيد إلى هشام يغبب عن هلاك المسلمين) المعنى لم يخبره بكثرة من هلك منهم قال أبو حمزة: ويمكن أن يكون مأخوذا من الغبة، وهي البلغة من العيش أو من الغب في الورد يقال سألت فلانا حاجة فغبب فيها أي لم يبالغ قال المسيب بن علي:

*فإن لنا أخوة يحدبون علينا وعن غيرنا غببوا*

الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م


29-الفروق اللغوية للعسكري (الفرق بين البشر والهشاشة والبشاشة)

الْفرق بَين الْبشر والهشاشة والبشاشة

أَن الْبشر أول مَا يظْهر من السرُور بلقى من يلقاك وَمِنْه الْبشَارَة وَهِي أول مَا يصل اليك من الْخَبَر السار فَإِذا وصل إِلَيْك ثَانِيًا لم يسم بِشَارَة وَلِهَذَا قَالَت الْفُقَهَاء إِن من قَالَ من بشرني بمولود من عَبِيدِي فَهُوَ حر فَإِنَّهُ يعْتق أول من يُخبرهُ بذلك والنغية هِيَ الْخَبَر السار وصل أَولا أَو أخيرا وَفِي الْمثل الْبشر علم من أَعْلَام النجح والهشاشة هِيَ الخفة للمعروف وَقد هششت يَا هَذَا بِكَسْر الشين وَهُوَ من قَوْلك شَيْء هش إِذا كَانَ سهل المتناول فاذا كَانَ الرجل سهل الْعَطاء قيل هُوَ هش بَين الهشاشة والبشاشة إِظْهَار السرُور بِمن تَلقاهُ وَسَوَاء كَانَ أَولا أَو أخيرا.

الفروق اللغوية-أبو هلال الحسن بن عبدالله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري-توفي:نحو: 395هـ/1005م


30-المعجم الغني (اِسْتَخْبَرَ)

اِسْتَخْبَرَ- [خبر]، (فعل: سدا. متعدٍّ، مزيد بحرف)، اِسْتَخْبَرَ، يَسْتَخْبِرُ، المصدر: اِسْتِخْبَارٌ.

1- "اِسْتَخْبَرَهُ عَنْ أَحْوَالِهِ": سَأَلَ عَنْهَا.

2- "اِسْتَخْبَرَ الرَّجُلُ عَنْ حَقِيقَةِ الأَمْرِ": اِلْتَمَسَ مِنْهُ أَنْ يُخْبِرَهُ حَقِيقَةَ الأمْرِ. "اِسْتَخْبَرَهُ الخَبَرَ أَو الحَقِيقَةَ".

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


31-المعجم الغني (اِسْتَفْهَمَ)

اِسْتَفْهَمَ- [فهم]، (فعل: سدا. لازم ومتعدٍّ. مزيد بحرف)، اِسَْفْهَمْتُ، أَسْتَفْهِمُ، اِسْتَفْهِمْ، المصدر: اِسْتِفْهامٌ.

1- "اِسْتَفْهَمَ عَن أَشْياءَ لا يَعْرِفُها": طَرَحَ أَسْئِلَةً لِيَفْهَمَ وَيُخْبَرَ عَنْها.

2- "اِسْتَفْهَمَهُ الحَدَثَ": طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُخْبِرَهُ عَنِ الحَدَثِ وَأَمْرِهِ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


32-المعجم الغني (شَافَهَ)

شَافَهَ- [شفه]، (فعل: رباعي. متعدٍّ)، شَافَهْتُ، أُشَافِهُ، شَافِهْ، المصدر: مُشَافَهَةٌ.

1- "شَافَهَهُ أمَامَ الجُمْهُورِ": خَاطَبَهُ مُتَكَلِّمًا مَعَهُ.

2- "أرَادَ أنْ يُخْبِرَهُ بِسِرٍّ فَشَافَهَهُ": قَرَّبَ شَفَتَهُ مِنْ شَفَتِهِ وَكَلَّمَهُ.

3- "شَافَهَ الأمْرَ": قَرُبَ مِنْهُ. "شَافَهَ مَحَلَّ سُكْنَاهُ" "شافَهَ البَلَدَ".

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


33-معجم الرائد (اسْتَخْبَرَ)

اسْتَخْبَرَ اسْتِخْبَارًا:

1- اسْتَخْبَرَهُ: سأله عن الخبر.

2- اسْتَخْبَرَهُ: طلب أن يخبره بالخبر.

الرائد-جبران مسعود-صدر: 1384هـ/1965م


34-معجم الرائد (اسْتَعْلَمَ)

اسْتَعْلَمَ اسْتِعْلَامًا: - اسْتَعْلَمَهُ الخبر: طلب منه أن يخبره إياه.

الرائد-جبران مسعود-صدر: 1384هـ/1965م


35-معجم الرائد (اسْتَفْهَمَ)

اسْتَفْهَمَ اسْتِفْهَامًا:

1- اسْتَفْهَمَهُ: طلب منه أن يفهمه.

2- اسْتَفْهَمَهُ الأمر: طلب منه أن يخبره عنه.

الرائد-جبران مسعود-صدر: 1384هـ/1965م


36-معجم الرائد (اسْتَوْحَى)

اسْتَوْحَى اسْتِيحَاءً:

1- اسْتَوْحَاهُ الشيء: استفهمه، طلب منه أن يخبره عنه.

2- اسْتَوْحَاهُ: استعجله، دفعه، حثه.

3- اسْتَوْحَاهُ: دعاه ليساعده.

4- اسْتَوْحَى الشيء: حركه.

5- اسْتَوْحَاهُ: دعاه ليرسله في مهمة.

الرائد-جبران مسعود-صدر: 1384هـ/1965م


37-تاج العروس (غب غبب غبغب)

[غبب]: الغِبُّ بالكَسْرِ: عَاقِبَةُ الشَّي‌ءِ أَي آخِرُه. وغبّ الأَمْرُ: صَارَ إِلَى آخِرِه، وكذلك غَبَّت الأُمُورُ، إِذَا صارت إِلى أَواخِرهَا، وأَنْشَدَ:

غِبَّ الصَّباح يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرَى

كالمَغَبَّة بالفَتْح: ويُقَال: إِنّ لهذا الأَمرِ مغبَّةً طَيِّبَةً أَي عَاقِبَة.

والغِبُّ: وِرْدُ يَوْمٍ وظِمْ‌ءُ، بالكسر، آخر، وقيل: هُو لِيَوْم ولَيْلَتَيْن، وقيل: هو أَنْ تَرْعَى يومًا وتَردَ من الغَدِ. ومن كلامهم: لأَضْرِبَنَّكَ غِبَّ الحِمارِ وَظَاهِرَة الفَرَس؛ فغِبُّ الحِمَار أَنْ يَرْعَى يَوْمًا ويَشْرَب يومًا، وظاهِرَةُ الفَرسِ: أَن يَشْرب كُلّ يوم نِصْفَ النّهَار. والغِبُّ في الزِّيَارَة: أَنْ تَكُونَ في كُلّ أُسْبُوع مَرَّة. قاله الحَسَن. قال أَبو عَمْرو: يقال غَبَّ الرَّجلُ، إِذا جَاءَ زائرًا بَعْدَ أَيّامٍ. ومنه «زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا». قال ابنُ الأَثير: نُقِل الغِبُّ في أَوراد الإِبِل إِلى الزِّيارَة، قال: وإِن جَاءَ بَعْدَ أَيَّام، يقال: غَبَّ الرجلُ إِذَا جَاءَ زَائِرًا بَعْدَ أَيَّام. والغِبُّ من الحُمَّى: ما تَأْخُذُ يومًا وتَدَعُ يَوْمًا، هكَذَا في النُّسَخ، وفي أُخْرَى وتدَعُ آخَرَ، وهو مُشْتَقّ من غِبِّ الوِرْدِ، لأَنَّهَا تأْخذ يَوْمًا وتُرَفِّه يَوْمًا، وهي حُمَّى غِبٌّ على الصِّفَة للحُمَّى قد أغبَّتْهُ الحُمَّى وأغَبَّتْ عَلَيهِ وغَبَّتْ غِبًّا، ورجل مُغِبٌّ، رُوِي عن أَبي زَيْد على لَفْظِ الفَاعِل.

والغَبُّ بالفَتْح: مَصْدَر غبَّت المَاشِيَةُ تَغِبُّ بالكَسْر إِذا شَرِبَت غِبًّا، كالغُبُوبِ بالضَّم، وقد أَغَبَّهَا صَاحِبُها، وإِبِل بَنِي فُلانٍ غَابَّةٌ وغَوابُّ وذَلِكَ إِذا شَرِبَت يَوْمًا وغَبَّت يَوْمًا، قالَه الأَصْمَعيُّ.

وقال ابنُ دُرَيْدٍ: الغُبُّ بالضَّم: الضَّارِبُ مِنَ البَحْرِ حَتَّى يُمْعِنَ في الأَرْض، ونَصُّ ابْنِ دُرَيْد في البَرِّ، قال: وهو مِنَ الأَسْمَاء التي لا تَصْرِيف لهَا، وجَمْعُه غُبَّانٌ كما يَأْتي، والغُبُّ: الغَامِضُ مِنَ الأَرْض. قال:

كأَنَّها في الغُبِّ ذي الغِيطانِ *** ذِئَابُ دَجْنٍ دَائِمُ التَّهْتَانِ

ج: أَغْبَابٌ وغُبُوبٌ بالضَّم وغُبَّانٌ. ومن كلامهم: أَصابَنَا مطرٌ سَالَ منه الهُجَّان والغُبَّان. والهُجَّانُ مَذْكُورٌ في مَحلِّه.

وأَغَبَّ الزَّائِرُ القَوْمَ بالنَّصب مَفْعُولُ أَغبَّ أَي جَاءَهم يَوْمًا وَتَرَك يَوْمًا، كَغَبَّ عَنْهُم، ثُلَاثيًّا، وهما من الغَبّ بمَعْنَى الإِتْيانِ في اليَوْمَيْن ويَكُون أَكْثَرَ، وأَغَبَّت الإِبلُ، إِذَا لم تَأْتِ كُلَّ يَوْم بلَبَن. وفي الحَديث «أَغِبُّوا في عِيَادَةِ المَرِيضِ وأَرْبِعُوا» يقول: عُدْ يَوْمًا ودَعْ يَوْمًا أَو دَعْ يَوْمَيْن وعُد اليَومَ الثَّالِث؛ أَي لا تَعودُوه في كُلِّ يَوْمِ لِمَا يَجِدُه من ثِقَل العُوَّاد. وقال الكِسَائِيُّ: أَغْبَبْتُ القَوْمَ وغَبَبْتُ عنْهُم من الغِبّ: جِئتُهم يوْمًا وتَرَكْتُهُم يَوْمًا فإِذا أَردْتَ الدَّفْعَ قلت: غَبَّبْتُ عنه، بالتَّشْدِيد، كما يأْتي. وفي التَّهْذِيب: أَغَبَّ اللَّحْمُ إِذا أَنْتَنَ كغَبَّ ثُلَاثِيًّا. وفي حَدِيثِ الغِيبَة: «فقَاءَتْ لَحْمًا غَابًّا» أَي مُنْتِنًا.

وفي لِسَانِ العَرَبِ: يُقَال: غَبّ الطَّعَامُ والتَّمْرُ يَغِبُّ غَبًّا وغِبًّا وغُبُوبًا وغُبُوبَةً فهو غَابٌّ: باتَ لَيْلَةً، فَسَد أَو لم يَفْسُد، وخَصَّ بَعْضُهم اللَّحْمَ. وقيل: غَبَّ الطَّعَامُ: تَغَيَّرتْ رَائِحَتُه، ثم قال: ويُسَمَّى اللحْمُ البَائِتُ غَابًّا وغَبِيبًا. وقال جَرِيرٌ يَهْجُو الأَخْطَل:

والتَّغلَبِيَّةُ حِينَ غَبَّ غَبِيبُهَا *** تَهْوِي مشافِرُها بِشَرِّ مَشَافِرِ

أَرَاد بقوله: غَبَّ غَبِيبُهَا: ما أَنْتَنَ من لُحُومِ مَيْتَتِها وخَنَازيرِها.

ثم قَال: وغبَّ فلانٌ عنْدَنَا غِبُّا، وأَغَبَّ: بَاتَ. ومنه سُمِّيَ اللحمُ البَائِت غَابًّا. ومنه قَوْلُهم: رُوَيْدَ الشِّعْرِ يَغِبّ، ولا يكُونُ يَغِبّ، ومعْنَاه دَعْه يَمْكُثْ يومًا أَو يَوْمَيْن.

والتَّغْبِيبُ في الحَاجَةِ تَرْكُ. وفي بَعْضِ الأَمَّهَات: عَدَمُ المُبَالَغَة فيهَا. و: أَخْذُ الذِّئْبِ بحَلْقِ الشَّاةِ. يقال: غَبَّبَ الذّئْبُ [على الغنم]، إِذَا شَدَّ على الغَنَم فَفَرَسَ، وغَبَّب الفرَسُ: دقَّ العُنُقَ. والتَّغْبِيبُ أَيضًا: أَن يَدَعها وبِهَا شَيْ‌ءٌ مِن حيَاة، كذا في لسان العرب. والتَّغْبِيب عَن القَوْمِ: الدَّفْعُ عَنْهُم قاله الكِسَائِيُّ وثَعْلَب، وقد أَشرنا لَهُ آنِفًا.

والمُغِبُّ، على صِيغَة اسْمِ الفَاعِل: من أَسْمَاء الأَسَد، نقله الصَّاغَانِيّ.

والغَبْغَبُ كجَعْفَر: صَنَمٌ كان يُذْبَح علَيْهِ في الجَاهِليَّة، وقيل: هو حَجَرٌ يُنْصَب بين يَدَيِ الصَّنَمِ كان لِمنَافٍ مُسْتَقْبلَ رُكْنِ الحَجَر الأَسْوَد وكَانَا اثْنَيْن. قال ابْنُ دُرَيْد، وقال قَوْمٌ: هو العَبْعَبُ، بالمُهْمَلَة، وقد تَقَدَّم ذِكْرُه. وفي التَّهْذِيب: قال أَبُو طَالبٍ في قوْلِهِم: «رُبَّ رَمْيَةٍ من غيْر رَامٍ» أَوَّلُ منْ قاله الحَكمُ بْنُ عبد يَغُوثَ، وكان أَرْمَى أَهْل زمَانِه، فآلى لَيَذْبَحَنَّ على الغَبْغَبِ مَهاةً فحَمَل قوسَه وكِنانَتَه فلم يَصْنَع شَيْئًا، فقال: لأَذْبَحَنَّ نَفْسِي، فقال له أَخُوهُ: اذْبَحْ مَكَانَها عَشْرًا من الإِبِل، ولا تَقْتُلْ نَفْسَكَ.

فقال: لا أَظْلِم عَاتِرَةً، وأَتْرُكُ النَّافِرَةَ، ثم خَرج ابنُه مَعَه فَرَمَى بَقَرَةً فَأَصَابَهَا فقال أَبُوهُ «رُبَّ رَمْيَةٍ منْ غَيْر رَام».

وغَبْغَبَ، إِذَا خَانَ في شِرَائه وبَيْعِه، قاله أَبُو عَمْرو.

وعن الأَصْمَعِيّ: الغَبْغَبُ: هو اللَّحْمُ المُتَدلِّي تَحْتَ الحَنَك، كالغَبَب مُحَرَّكة. وقال الليثُ: الغَبَبُ للبَقَر والشَّاءِ: ما تَدَلَّى عند النَّصِيل تَحْتَ حَنَكها. والغَبْغَبُ للدِّيكِ والثَّوْر. والغَبَبُ والغَبْغَبُ: ما تَغَضَّنَ من جِلْدِ مَنْبِت العُثْنُونِ الأَسْفَل. وخَصَّ بعضُهُم بِهِ الدِّيَكَة والشَّاءَ والبَقَر.

واسْتعارَهُ العَجَّاج في الفَحْل فقال يَعْنِي شِقْشِقَةَ البَعِيرِ:

بِذَاتِ أَثْنَاءٍ تَمَسُّ الغَبْغَبَا

واستعارَه آخر للحِرْبَاء فقال:

إِذَا جَعَلَ الحِرْبَاءُ يَبْيَضُّ رأْسُه *** وتَخْضَرُّ من شَمْسِ النَّهارِ غَبَاغِبُهْ

وعن الفَرَّاء: يُقال: غَبَبٌ وغَبْغَبٌ وعن الكِسَائِيّ: عجُوز غَبْغَبُها شِبْر، وهو الغَبَبُ. والنَّصِيلُ: مفْصِل ما بَيْن العُنُقِ والرَّأْسِ من تَحْتِ اللَّحْيَيْنِ.

وقِيل: الغَبْغَبُ: المَنْحَر، وهو جُبَيْلٌ بمِنًى فخَصَّص قال الشَّاعِر:

والرَّاقِصَاتِ إِلى مِنًى فالغَبْغَبِ

وقيلَ: هو المَوْضِع الذِي كَانَ فِيهِ اللَّاتُ بالطّائِف، أَو كَانُوا ينْحَرُون لِلّاتِ فِيهِ بها، وقيل: كُلُّ مَنْحَر بمنًى غَبْغَبٌ.

وأَبُو غَبَابٍ بالفَتْح كَسحابٍ: كُنْيَة جِرانُ بالكَسْر العَوْدِ بالفَتْح، هو لَقَبُ شَاعِرٍ إِسْلَامِيّ. وغُبَابٌ كَغُرابِ: لَقَبُ ثَعْلَبة بنِ الحارِث بْنِ تَيْم اللهِ بْنِ ثَعْلَبَة بْن عُكَابَة، سُمِّيَ بِذَلِك لأَنَّه قال في حَرْب كَلْب:

أَغْدُو إِلَى الحَرْب بقَلْبِ امْرِئٍ *** يضْربُ ضَرْبًا غَيْرَ تَغْبِيبِ

وغُبَيْب كَزُبَيْر: موضع بالمدينَة المُنَوَّرة، على ساكِنها أَفضلُ الصَّلَاة والسَّلام. ونَاحِيَةٌ مُتّسعَةٌ باليمَامة نقله الصاغانيّ.

والغُبَّةُ بالضم: البُلْغَةُ منَ العيْش كالغُفَّة، نَقَله الصَّاغانيّ.

وبِلَا لَام فَرْخُ عُقَابٍ كان لِبَنِي يَشْكُرَ وله حَديث.

والغَبِيبَةُ كالحبِيبَة عن ابْن الأَعْرَابِيّ: هو من أَلْبانِ الإِبل مثل المُرَوّبِ، ويقال للرَّائِبِ من اللَّبَن: غَبِيبَة. وقال الجَوْهَرِيّ: هُو مِنْ أَلْبانِ الإِبِل لَبَنُ الغُدْوَةِ أَي يُحْلَبُ غُدْوَةً ثم يُحْلَبُ عَلَيْه مِنَ اللَّيْل، ثم يَمْخَضُ من الغَدِ.

وغَبَّ فلانٌ عِنْدَنَا: بَاتَ، كأَغَبَّ قيل. ومنه سُمِّي اللَّحمُ البائِتُ الغَابَّ. ومِنْهُ على ما قَاله المَيْدَانيّ والزَّمَخْشَرِيّ قَوْلُهُم: رُوَيْدَ الشِّعْرِ يَغِبَّ بالنَّصْب أَي دعْهَ حَتَّى تَأْتِيَ عَلَيْه أَيَّامٌ فتَنْظُرَ كيف خَاتِمَتُه أَيُحْمَدُ أَم يُذَمّ، وقِيل غيرُ ذَلِك.

انْظُرْه في مَجْمَع الأَمْثَال.

والمُغَبَّبَةُ كمُعَظَّمَة: الشَّاهُ تُحْلَبُ يومًا وتُتْرَكُ يَوْمًا، عن ابن الأَعْرَابِيّ. ويقال: مِياهٌ أَغْبَابٌ إِذَا كانَت بَعِيدَة قال ابْنُ هَرْمَةَ:

يَقُولُ لا تُسْرِفُوا في أَمْرِ رَبِّكُمُ *** إِنَّ المِيَاهَ بجَهْدِ الرَّكْبِ أَغْبَابُ

هؤلاءِ قَوْمٌ سَفْر ومعَهُم من الماء ما يَعْجِز عن رِيِّهم، فلم يَتَرَاضَوا إِلَّا بِتَرْك السَّرَف في المَاء.

وفي حدِيثِ الزُّهْرِيّ «لا تُقْبَلُ شَهَادَةُ ذِي تَغِبَّة».

التَّغِبَّةُ: شَهَادَةُ الزُّورِ قال ابْنُ الأَثِير: هكذا جَاءَ في رِوَايَة وهي تَفْعِلَة مِن غَبَّبَ الذِّئْبُ في الغَنَم إِذَا عَاثَ فِيهَا أَو من غَبَّب مُبالَغَة في غَبَّ الشيْ‌ءُ إِذا فَسَدَ.

وما يُغِبُّهم لُطْفِي؛ أَي ما يَتَأَخَّر عَنْهُم يومًا، بل يَأْتِيهِم كُلَّ يَوْم، قال:

على مُعْتَفِيه ما تُغِبُّ فَوَاضلُه

وفلانٌ لا يُغِبُّنَا عَطَاؤُه أَي لا يَأْتِينَا يَومًا دُونَ يوْم، بل يَأْتِينَا كُلَّ يَوْم.

ومِمَّا يُسْتَدْرَكُ به على المُؤَلِّف: قال ثَعْلَب: غَبَّ الشي‌ءُ في نَفْسه يَغِبّ غَبًّا وأَغَبَّنِي: وقَع بِي. وفي حدِيث هِشَام «كَتَبَ إِلَيْه [الجُنيد] يُغَبِّبُ عن هَلَاكِ المُسْلِمِين»؛ أَي لم يُخْبِره بكَثْرة مَنْ هَلَكَ منهم. وفيه اسْتعارَةٌ، كأَنَّه قَصَّر في الإِعْلام بكُنْهِ الأَمْرِ.

والغَبِيبُ كَأَمِير: المَسِيلُ الصَّغير الضَّيِّق مِن مَتْنِ الجَبل ومَتْن الأَرْض، وقِيلَ: في مُسْتَوَاها. وغَبَّ بِمَعْنَى بعُدَ قَال:

غِبَّ الصَّباح يَحْمَدُ القَومُ السُّرَى

ومنه قولُهُم: غَبَّ الأَذَانُ، وغَبَّ السَّلام. وفي الأَسَاس: نجْمٌ غَابٌّ أَي ثَابِت وأَغبَّت الحَلُوبَةُ: دَرَّت غِبًّا. وتَقُولُ: الحُبُّ يَزِيدُ مع الإِغْبَابِ ويَنْقُصُ مع الإِكْبَابِ. ومَاءٌ غِبٌ: بَعِيدٌ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


38-تاج العروس (خبر)

[خبر]: الخَبَرُ، مُحرَّكَةً: النَّبَأُ، هكذا في المُحْكَم. وفي التَّهْذِيب: الخَبَر: ما أَتَاكَ مِن نَبَإِ عَمَّن تَسْتَخْبِرُ. قال شَيْخُنَا: ظاهِرُه بل صَرِيحُه أَنَّهُما مُتَرادِفَان، وقد سَبق الفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وأَنَّ النَّبَأَ خَبَرٌ مُقَيَّدٌ بكَوْنِه عن أَمْر عَظيم كما قَيَّد به الرَّاغِب وغيرُه من أَئِمَّة الاشْتِقَاقِ والنَّظَرِ في أُصولِ العَرَبِيَّة. ثم إِنَّ أَعلامَ اللُّغَةِ والاصْطِلاح قَالوا: الخَبَر عُرْفًا ولُغَة: ما يُنْقَل عن الغَيْر، وزادَ فيه أَهْلُ ما يُنْقَل عن الغَيْر، وزادَ فيه أَهْلُ العَرَبِيَّة: واحْتَمَلَ الصِّدْقَ والكَذِبَ لِذَاتِه.

والمُحَدِّثُون استَعْمَلُوه بمَعْنَى الحَدِيث. أَو الحَدِيثُ: ما عَن النَّبِيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم، والخَبَر: ما عَنْ غَيْرِه.

وقال جَماعَة من أَهْلِ الاصْطِلاح: الخَبَر أَعَمُّ، والأَثَرُ هو الذي يُعَبَّرُ به عن غَيْر الحَدِيث كما لِفُقَهاءِ خُراسَانَ. وقد مَرَّ إِيماءٌ إِليه في «أَثر» وبَسْطه في عُلُوم اصْطِلاح الحَدِيث. الجمع: أَخْبارٌ. وجج؛ أَي جَمْع الجَمْع أَخابِيرُ.

ويقال: رَجُلٌ خَابِرٌ وخَبِيرٌ: عالِمٌ بالخَبَر. والخَبِيرُ: المُخْبِر.

[وخَبِرٌ] * قال أَبُو حَنِيفَة في وَصْف شَجَر: أَخْبَرَني بذلِك الخَبِرُ. فجاءَ به ككَتِف. قال ابنُ سِيده: وهذا لا يَكَادُ يُعْرَف إِلّا أَنْ يُكونَ على النَّسَب. ويُقَالُ: رَجُلٌ خُبْرٌ، مثل جُحْر؛ أَي عَالِمٌ بِهِ؛ أَي بالخَبَر، على المُبَالَغَة، كزيد عَدْل.

وأَخْبَره خُبُورَه، بالضّمّ؛ أَي أَنْبَأَه ما عِنْدَه. والخُبْرُ والخُبْرَة، بكَسْرِهِما ويُضَمَّان، والمَخْبَرةُ، بفَتْح المُوَحَّدة، والمَخْبُرَة بضَمِّها: العِلْمُ بالشَّيْ‌ءِ، تقول: لي به خُبْرٌ وخُبْرة، كالاخْتِبار والتَّخَبُّرِ. وقد اخْتَبَرَه وتَخَبَّرَه. يقال: مِنْ أَيْنَ خَبَرْتَ هذا الأَمرَ؟ أَي من أَيْن عَلِمْت. ويقال: «صَدَّقَ الخَبَرَ الخُبْرُ». وقال بَعضُهم: الخُبْر، بالضَّمّ: العِلْمُ بالباطِن الخَفِيِّ، لاحْتِياج العِلْم به للاخْتبار. والخِبْرَةُ: العِلْم بالظَّاهر والباطنِ، وقيلَ: بالخَفَايَا البَاطِنَةِ ويَلْزَمُها مَعْرِفَةُ الأُمورِ الظَّاهِرة. وقد خَبُرَ الرَّجُلُ، ككَرُمَ، خُبُورًا، فهو خَبيرٌ.

والخَبْرُ، بفَتْح فَسُكُون: المَزَادَةُ العَظِيمَة، كالخَبْرَاءِ، مَمْدُودًا، الأَخِير عن كُرَاع.

ومِنَ المَجَازِ: الخَبْرُ: النَّاقَةُ الغَزِيرَةُ اللَّبنِ، شُبِّهت بالمَزَادة العَظِيمة في غُزْرِها، وقد خَبَرَتْ خُبُورًا عن اللِّحْيَانِيّ، ويُكْسرُ، فِيهِمَا، وأَنْكَر أَبو الهَيْثم الكَسْرَ في المَزادَة، وقال غيرُه: الفَتْحُ أَجْودُ.

ج؛ أَي جمْعهما، خُبُورٌ.

والخَبْرُ: قرية: بِشِيرازَ، بها قَبْرُ سَعِيدٍ أَخِي الحَسَن البَصْرِيّ. مِنْهَا أَبُو عَبْدِ الله الفَضْلُ بنُ حَمَّادٍ الخَبْرِيّ الحافظ صاحِبُ المُسْنَد، وكان يُعَدُّ من الأَبدَال، ثِقَةٌ ثَبتٌ، يَرْوِي عن سَعِيد بن أَبي مَرْيَمَ وسَعِيدِ بنِ عُفَير، وعَنْه أَبُو بَكْر بْنُ عَبدانَ الشِّيرازِيّ، وأَبو بَكْر عبد الله بن أَبي داوود السِّجِسْتَانيّ، وتُوفِّيَ سنة 264، والخَبْرُ: قرية باليَمَن، نَقَلَه الصَّاغانِيُّ.

والخَبْرُ: الزَّرْعُ.

والخَبْرُ: مَنْقَعُ الماءِ في الجَبَل، وهو ما خَبِرَ المسِيلُ في الرُّءُوس، فتَخُوضُ فيه.

والخَبْرُ: السِّدْرُ والأَرَاكُ وما حَوْلَهُمَا من العُشْب. قال الشاعر:

فجادَتْكَ أَنواءُ الرَّبِيعِ وهَلَّلَتْ *** عليكَ رِيَاضٌ من سَلَامٍ ومِن خَبْرِ

كالخَبِر، ككَتِفٍ، عن اللَّيث واحِدَتُهما خَبْرة وخَبِرَةٌ.

والخَبْرَاءُ: القاعُ تُنْبِتُه؛ أَي السِّدْرَ، كالخَبِرَة، بفَتْح فكَسْر، وجمْعُه خَبِرٌ. وقال اللّيث: الخَبْراءُ شَجْراءُ في بَطْنِ رَوْضَةٍ يَبْقَى فِيها المَاءُ إِلى القَيْظ، وفيها يَنْبُت الخَبْرُ وهو شَجَر السِّدْرِ والأَراكِ وحَوالَيْهَا عُشْبٌ كَثِيرٌ، وتُسَمَّى الخَبِرةَ، الجمع: الخَبَارى، بفتح الرّاءِ، والخَبَارِي، بكَسْرِهَا مثل الصَّحَارَى والصَّحَارِي. والخَبْراواتُ والخبَارُ، بالكَسْرِ.

وفي التَّهْذِيب في «نَقْع»: النَّقَائع: خَبَارَى في بِلادِ تَميم.

والخَبْرَاءُ: منْقَعُ المَاءِ. وخَصَّ بَعْضُهم به مَنْقَعَ المَاءِ في أُصُولِهِ؛ أَي السِّدرِ. وفي التَّهْذِيب الخَبْرَاءُ: قَاعٌ مُسْتَدِيرٌ يَجْتَمِع فيه المَاءُ.

والخَبَارُ كسَحَاب: مَالانَ مِنَ الأَرْضِ واسْتَرْخَى وكانَت فِيهَا جِحَرَةٌ، زاد ابْنُ الأَعْرَابِيّ: وتَحَفَّر. وقال غيره: هو ما تَهوَّرَ وساخَتْ فيه القَوَائِمُ. وفي الحَدِيث «فدَفَعْنَا في خَبَارٍ من الأَرض»؛ أَي سَهْلَةٍ لَيِّنة. وقال بَعضُهم: الخَبَارُ: أَرضٌ رِخْوَة تَتعْتَع فيها الدَّوابُّ، وأَنشد:

تَتَعْتع في الخَبَارِ إِذَا عَلَاه *** وتَعْثُرُ في الطَّرِيق المُسْتَقِيمِ

والخَبَارُ: الجرَاثِيمُ، جَمْعُ جُرْثُومٍ؛ وَهُوَ التُّرابُ المُجْتَمِع بأُصولِ الشَّجرِ. والخَبَارُ: حِجَرَةُ الجُرْذانِ، واحدَتُه خَبَارَةٌ. و«مَنْ تَجَنَّبَ الخَبَارَ أَمِنَ العِثَارَ» مَثَلٌ ذَكَرَه المَيْدَانِيّ في مَجْمَعِه والزَّمَخْشَريّ في المُسْتَقْصَى والأَساس.

وخَبِرَتِ الأَرْضُ خَبَرًا، كفَرِح كَثُر خَبَارُهَا. وخَبِر المَوْضِعُ، كفَرِحَ، فَهُو خَبِرٌ: كَثُرَ به الخَبْرُ، وهو السِّدْر.

وأَرضٌ خَبِرَةٌ، وهذا قَدْ أَغفلَهَ المُصنِّفُ.

وفَيْفَاءُ أَو فَيْفُ الخَبَارِ: موضع بِنَواحِي عَقِيقِ المَدِينَةِ، كانَ عَلَيْه طَرِيقُ رَسُول اللهِ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم حِينَ خَرَجَ يُرِيدُ قُرَيشًا قبل وَقْعَة بَدْرٍ، ثم انْتَهَى منه إِلى يَلْيَلَ.

والمُخَابَرَةُ: المُزَارَعَةُ*، عَمَّ بها اللِّحْيَانيّ. وقال غَيْره: على النِّصْفِ ونَحْوِه؛ أَي الثُّلُث. وقال ابنُ الأَثير:

المُخَابَرةُ: المُزارَعَة على نَصِيبٍ مُعَيَّن، كالثُّلُث والرُّبع وغَيْرِهما.

وقال غَيرُه: هو المُزارَعَة ببَعْض ما يَخْرُج من الأَرض، كالخِبْرِ، بالكَسْر. وفي الحَدِيث: «كُنَّا نُخَابِرُ ولا نَرى بِذلك بَأْسًا حتّى أَخْبَرَ رافِعٌ أَنَّ رَسولَ الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم نَهَى عَنْهَا» قيل: هو من خَبِرَتِ الأَرْضُ خَبَرًا: كَثُر خَبَارُهَا. وقيل: أَصْلُ المُخَابَرة من خَيْبَر، لأَنَّ النَّبِيَّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم أَقَرَّها في أَيْدِي أَهْلِهَا على النِّصف من مَحْصُولِها، فقيل: خَابَرَهُم؛ أَي عامَلَهُم في خَيْبر.

والمُخَابَرَة أَيْضًا المُؤَاكَرَةُ: والخَبِيرُ: الأَكَّارُ، قال:

تَجُزُّ رُءُوس الأَوْسِ من كُلِّ جانِبٍ *** كجَزِّ عَقَاقِيلِ الكُرُومِ خَبِيرُها

رفع خَبِيرُهَا على تَكْرِيرِ الفِعْل. أَراد جَزَّه خَبِيرُها؛ أَي أَكَّارُها.

والخَبِيرُ: العالِمُ بالله تَعَالَى، بمَعْرِفَة أَسمائِه وصِفَاتِه، والمُتَمكِّن من الإِخْبار بما عَلِمَه والذي يَخْبُرُ الشَّيْ‌ءَ بعِلْمه.

والخَبِير: الوَبَرُ يَطْلُع على الإِبِل، واستعاره أَبو النّجم لحمِير وَحْشٍ فقال:

حَتَّى إِذا ما طَارَ من خَبِيرِهَا

ومن المَجَاز في حَدِيثِ طَهْفَة: «نَسْتَخْلِبُ الخَبِيرَ»؛ أَي نَقْطَع النَّبَات والعُشْب ونأْكلُه. شُبِّه بخَبِير الإِبِل وهو وَبَرُهَا، لأَنَّه يَنْبُت كما يَنْبُت الوَبَر؛ واستِخْلابُه: احتِشاشُه بالمِخْلَبِ وهو المِنْجلُ.

والخَبِيرُ: الزَّبَدُ، وقيل: زَبَدُ أَفْوَاهِ الإِبِلِ. وأَنْشَدَ الهُذَلِيّ:

تَغَذَّمْنَ في جَانِبَيْه الخَبِي *** ر لَمَّا وهَي مُزْنهُ واستُبِيحَا

تَغَدَّمْنَ يَعْنِي الفُحُول؛ أَي مَضَغْن الزَّبَدَ وعَمَيْنَه.

والخَبِيرُ: نُسَالَةُ الشَّعرِ. قال المُتَنَخِّلُ الهُذَلِيّ:

فآبُوا بالرِّماح وهُنَّ عُوجٌ *** بِهِنّ خَبَائِرُ الشَّعَرِ السِّقَاطِ

وخَبِير: جَدُّ والدِ أَحْمَدَ بْنِ عِمْرانَ بنِ مُوسَى بنِ خَبِير الغَوَيْدِينِيّ المُحَدِّثِ النَّسَفِيّ، عن مُحَمّد بنِ عَبْدِ الرحمن الشّاميّ وغَيْرِه.

والخَبِيرَةُ، بالهاءِ، اسمُ الطَّائِفَة مِنْه؛ أَي من نُسَالَةِ الشعر.

والخَبِيرَةُ: الشَّاةُ تُشْتَرَى بَيْن جماعةٍ بأَثْمانِ مُخْتَلفة، فتُذْبَحُ ثم يقْتَسِمُونها، فيُسْهِمُون، كُلُّ واحد على قَدْر ما نَقَد، كالخُبْرة، بالضَّمِّ، وتَخَبَّروا خُبْرةً فَعَلُوا ذلِك أَي اشتَرُوا شاةَ فذَبَحُوها واقْتَسَمُوها. وشاةٌ خَبِيرَةٌ: مُقْتَسَمَةٌ. قال ابنُ سِيدَه: أُرَاهُ على طَرْحِ الزَّائد.

والخُبْرة: الصُّوفُ الجَيِّد من أَوَّل الجَزِّ، نقله الصّاغانِيّ.

والمَخْبَرَةُ، بفتح المُوَحّدة: المَخْرأَةُ، موضع الخِراءَة، نقلَه الصَّاغانِيّ.

والمَخْبَرةُ: نَقِيضُ المَرْآةِ، وضَبَطه ابنُ سِيدَه بضَمِّ المُوَحَّدَة. وفي الأَساس: ومن المَجاز: تُخْبِرُ عن مَجْهُولِه مَرْآتُه.

والخُبْرَة، بالضَّمِّ: الثَّرِيدَةُ الضَّخْمَةُ الدَّسِمة.

والخُبْرَة: النَّصِيبُ تَأْخذُه من لَحْمٍ أَو سَمَكٍ، وأَنْشَد:

باتَ الرَّبِيعِيُّ والخامِيزُ خُبْرَتُه *** وطَاحَ طَيْ مِن بَنِي عَمْرِو بْنِ يَرْبُوعِ

والخُبْرَة: ما تَشْتَرِيه لأَهْلِك، وخَصَّه بعضُهم باللَّحْم، كالخُبْرِ بغير هَاءٍ، يقال للرّجال ما اخْتَبَرْتَ لأَهْلك؟

والخُبْرَة: الطَّعامُ من اللَّحْم وغَيْرِه. وقيل: هو اللَّحْمُ يَشْتَرِيه لأَهْلِه، والخُبْرة: مَا قُدِّمَ مِنْ شَيْ‌ءٍ، وحَكَى اللِّحْيَانيّ أَنَّه سمِع العرب تقول: اجْتَمعوا على خُبْرَته، يَعْنُون ذلك، وقيل: الخُبْرَة: طَعَامٌ يَحْمِلُه المُسَافِرُ في سُفْرَتِه يَتَزوَّدُ به، والخُبْرَة: قَصْعَةٌ فِيهَا خُبْزٌ ولَحْمٌ بينَ أَرْبَعَةٍ أَو خَمْسَةٍ.

والخَابُورُ: نَبْتٌ أَو شَجَر له زَهْرٌ زَاهِي المَنْظَرِ أَصفرُ جَيِّدُ الرائِحَةِ، تُزيَّنُ به الحَدائِقُ، قال شيخُنا: ما إِخَالُه يُوجَد بالمَشْرِق. قال:

أَيَا شجَر الخَابُورِ مَا لَك مُورِقًا *** كأَنَّكَ لم تَجْزَعْ عَلَى ابْنِ طَرِيفِ

والخَابُورُ: نَهرٌ بَيْنَ رَأْسِ عَيْنٍ والفُراتِ مَشْهُور.

والخَابُورُ: نَهْرٌ آخَرُ شَرقِيَّ دِجْلَةِ المَوْصِلِ، بينه وبين الرَّقَّة، عليه قُرًى كَثِيرةٌ وبُلَيْدَاتٌ. ومنها عَرَابَان منها أَبُو الرّيّان سريح بن رَيّان بن سريح الخَابُورِيّ، كَتَبَ عنه السَّمْعَانيّ.

والخَابُورُ: وَادٍ بالجَزِيرة وقيل بسِنْجَار، منه هِشام القَرْقسائيّ الخَابُورِيّ القَصّار، عن مَالِك، وعنه عُبَيْد بن عَمرٍو الرَّقِّيّ. وقال الجوهريّ: مَوْضِع بناحية الشَّام؛ وقيل بَنواحِي ديِاربَكْرٍ، كما قاله السّيد والسّعد في شَرْحَيِ الْمِفْتَاح والمُطَوَّل، كما نَقَله شيخُنَا. ومُرادُه في شَرْحِ بَيْت التَّلْخِيص والمِفْتَاح:

أَيَا شَجَرَ الخَابُورِ مَا لَك مُورِقًا

المُتَقَدّم ذِكْرُه.

وخَابُورَاءُ: موضع. ويضاف إِلى عَاشُورَاءَ وما مَعَه.

وخَيْبَرُ، كصَيْقَل: حِصْنٌ م؛ أَي معروف، قُرْبَ المَدِينَةِ المُشَرَّفَة، على ثَمَانِيةِ بُرُدٍ منها إِلى الشّام، سُمِّيَ باسم رَجُل من العَمَالِيقِ، نزَل بها، وهُو خَيْبَرُ بن قَانِيَة بن عَبِيل بن مهلان بن إِرَم بن عَبِيل، وهو أَخُو عَاد. وقال قوْم: الخَيْبَر بلسَان اليَهُودِ: الحِصْن، ولذا سُمِّيَت خَبائِرَ، أَيْضًا، وخَيْبَرُ مَعْرُوفٌ، غَزَاه النّبِيُّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم، وله ذِكْرٌ في الصَّحِيح وغيره، وهو اسْمٌ للوِلَايَة، وكانت به سَبْعَةُ حُصُونٍ، حَوْلَها مَزارِعُ ونَخْلٌ، وصادفت قوله صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم: «الله أَكْبَر، خَرِبَت خَيْبَر». وهذه الحُصُونُ السَّبْعَة أَسماؤُهَا: شِقّ ووَطِيح ونَطَاة وقَمُوص وسُلَالِم وكَتِيبة ونَاعِم.

وأَحمَدُ بْنُ عَبْدِ القَاهِر اللَّخْمِيّ الدِّمَشْقِيّ، يَرْوِي عن مُنَبِّه بنِ سُلَيْمَان. قلت: وهو شَيْخٌ للطَّبَرَانِيّ. ومُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ العَزِيز أَبو مَنْصُور الأَصْبهانيّ، سَمِع من أَبي مُحَمّد بن فارِس، الخَيْبَرِيَّانِ، كأَنَّهُمَا وُلِدَا بِهِ، وإِلّا فلَم يخرُجْ منه مَنْ يُشارُ إِليه بالفَضْل.

وعَلِيُّ بنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَيْبَرَ، مُحَدِّثٌ، وَهُو شَيْخٌ لأَبِي إِسْحَاق المُسْتَمْلِي.

والخَيْبَرَى، بفتحِ الرَّاءِ وأَلِفٍ مَقْصُورَة، ومِثْلُه في التَّكْمِلَة، وفي بعضِ النُّسَخ بكَسْرِها ويَاءِ النِّسْبَة: الحَيَّةُ السَّوْدَاءُ. يُقَال: بَلَاه الله بالخَيْبَرَى، يَعْنُون به تِلْك، وكَأَنَّه لَمَّا خَرِبَ صار مَأْوَى الحَيَّاتِ القَتّالة.

وخَبَرَه خُبْرًا، بالضَّمّ، وخِبرَةً، بالكَسْرِ: بَلَاهُ وجَرَّبَه، كاخْتَبَرَه: امْتَحَنَه.

وخَبَرَ الطَّعَامَ يَخْبُره خَبْرًا: دَسَّمَه. ويقال: اخْبُر طَعَامَك؛ أَي دَسِّمْه. ومنه الخُبْرَةُ: الإِدام. يقال: أَتَانَا بخُبْزَة، ولم يأْتِنَا بخُبْرة. ومنه تَسْمِيَة الكَرج المُلاصِقِ أَرضهم بعِراق العَجَم التمرَ خُبْرَةً، هذا أَصْل لُغَتِهم، ومِنْهم من يَقْلِب الرَّاءَ لامًا.

وخابَرَانُ، بفتح المُوحَّدة: نَاحِيَةٌ بَيْنَ سَرَخْسَ وأَبيوَرْد، ومن قُراها مِيهَنَةُ. ومِمَّن نُسِب إِلى خَابَرَانَ أَبُو الفَتْحِ فَضْلُ الله بنُ عَبْد الرَّحْمن بْنِ طَاهِرٍ الخَابَرانِيّ المُحَدِّث. وخَابَرَانُ موضع آخَرُ.

واسْتَخْبَرَه: سأَلَه عن الخَبَر وطلَب أَن يُخْبِرَه، كتَخَبَّرَه.

يقال: تَخَبَّرْتُ الخَبَرَ واستَخْبرْتُه، ومِثْله تَضَعَّفْت الرَّجلَ واستَضْعَفْته. وفي حدِيث الحُدَيْبِيَة: «أَنَّه بَعَث عَيْنًا من خُزَاعَةَ يَتَخَبَّر له خَبَرَ قُرَيْشٍ» أَي يَتَعَرَّف ويَتَتَبَّع. يقال: تَخَبَّر الخَبَرَ واستَخْبَرَ، إِذا سَأَل عن الأَخبار ليَعْرِفَها. وخَبَّره تَخْبِيرًا: أَخْبَرَه. يقال: اسْتَخْبَرْتُه فأَخْبَرَنِي وخَبَّرَني.

وخَبْرِينُ، كقَزْوِينَ: قرية بِبُسْتَ. ومنها أَبُو عَليّ الحُسَيْن بْنُ اللَّيْث بن فُدَيْك الخَبْرِينِيّ البُسْتِيّ، من تاريخ شِيرَازَ.

والمخْبُورُ: الطَّيِّب الإِدَامِ، عن ابْنِ الأَعْرابِيّ؛ أَي الكَثِيرُ الخُبْرَةِ؛ أَي الدَّسم.

وخَبُورٌ، كصبُورٍ: الأَسَدُ.

وخَبِرَةُ، كنَبِقَة: ماءٌ لِبَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْدٍ في حِمَى الرَّبذَةِ، وعنده قَلِيبٌ لأَشْجَعَ.

وخَبْرَاءُ العِذْقِ: موضع بالصَّمَّانِ، في أَرْضِ تَمِيم لِبَنِي يَرْبُوع.

والخَبَائِرَةُ مِن وَلَد ذِي جَبَلَة بْنِ سَواءٍ، أَبُو بَطْن من الكُلَاع، وهو خَبَائِرُ بْنُ سَوَاد بنِ عَمْرِو بْنِ الكلاع بن شَرَحْبِيل. مِنْهُم أَبُو عَلِيّ يُونُس بْن ياسِر بن إِيَادٍ الخَبَائِرِيّ، روى عنه سَعِيدُ بْنُ كثير بن عُفَيْر، في الأَخبار. وسُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ أَبو يَحْيَى الخَبَائِرِيّ، تَابِعيٌّ مِنْ ذِي الكَلَاعِ، عن أَبَي أُمَامَةَ، وعنه مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، وعَبْدُ الله بْنُ عَبدِ الجَبَّارِ الخَبَائِرِيُّ الحِمْصيّ، لَقَبُه زُرَيْق، عن إِسْمَاعِيل بنِ عَيّاش، وعنه مُحَمَّد بنُ عَبْد الرحمن بن يُونُس السّرّاج، وأَبُو الأَحْوَص، وجَعْفَرٌ الفِرْيَابيّ، قالَه الدَّارَقُطْنِيّ.

وقَوْلُهم: لأَخْبُرَنَّ خَبَرَكَ، هكذا هو مَضْبُوطٌ عِنْدَنَا محرّكةً: وفي بعْضِ الأُصول الجَيِّدة بضَمٍّ فَسُكُون؛ أَي لأَعْلَمَنَّ عِلْمَك. والخُبْرُ والخَبَرُ: العِلْم بالشَّيْ‌ءِ، والحَدِيثُ الّذِي رَوَاه ابُو الدَّرْدَاءِ وأَخْرَجَه الطَّبَرانِيّ في الكَبِير، وأَبُو يَعْلَى في المُسْنَد «وَجَدْتُ النَّاسَ اخْبُرْ تَقْلَهِ» أَي وَجَدْتُهُم مَقُولًا فِيهِم هَذا القَوْلُ. أَي مَا مِنْ أَحَد إِلَّا وهو مَسْخُوطُ الفِعْلِ عِنْدَ الخِبْرَة والامْتِحانِ، هكذَا في التَّكْمِلة، وفي اللِّسَانِ والأَساسِ وتَبِعَهُم المُصَنِّفُ في البَصَائِر: يُرِيدُ أَنَّك إِذَا خَبَرْتَهُم قَلَيْتَهُم؛ أَي أَبْغَضْتَهم، فأَخْرَجَ الكلامَ علَى لَفْظِ الأَمْرِ، وَمَعْنَاه الخَبَر.

وأَخْبَرْتُ اللِّقْحَةَ: وَجدْتُهَا مَخْبُورَةً؛ أَي غَزِيرَةً، نقله الصَّاغانِيّ كأَحْمَدْته: وَجَدْتُه مَحْمُودًا.

ومُحَمَّدُ بْنُ عَليٍّ الخَابِرِيُّ، مُحَدِّثٌ، عن أَبي يَعْلَى عَبْدِ المُؤْمن بْنِ خَلَف النَّسَفِيّ، وعنه عَبْدُ الرَّحِيم بنُ أَحمدَ البُخَارِيّ.

* ومما يُسْتَدْرَك عليه:

الخَبِير مِن أَسْمَاءِ الله عَزَّ وجَلَّ: العالِمُ بِما كَانَ وبِمَا يَكُون. وفي شَرْح التِّرْمَذِيّ: هو العَلِيم ببَواطِنِ الأَشْيَاءِ.

والخَابِرُ: المُخْتَبِرُ المُجَرِّب.

والخَبِيرُ: المُخْبِر.

ورجلٌ مَخْبَرانِيٌّ: ذو مَخْبَرٍ، كما قالوا: مَنْظَرَانِيّ: ذُو مَنْظَرٍ.

والخَبْرَاءُ: المُجَرَّبَة بالغُزْرِ.

والخَبِيرُ: الزَّرْعُ.

والخَبِيرُ: الفَقِيه، والرَّئِيسُ.

والخَبِير: الإِدَام، والخَبِيرُ: المَأْدُومُ: ومنه‌حَدِيثُ أَبي هُرَيْرَة: «حينَ لا آكُل الخَبيرَ». وجَمَلٌ مُخْتَبِرٌ: كَثيرُ اللَّحْمِ. ويقال: عليه الدَّبَرَى وحُمَّى خَيْبَرى. وحُمَّى خَيْبَرَ، مُتَنَاذَرَةٌ، قال الأَخْنَس بْنُ شِهَاب:

كَمَا اعْتَادَ مَحْمُومًا بخَيْبَرَ صالِبُ

والأَخْبَارِيّ المُؤَرّخ، نُسِب للفْظ الأَخْبَار، كالأَنْصَارِي والأَنْماطي وشِبْههما. واشْتَهَر بها الهَيْثَم بنُ عَديّ الطَّائيّ.

والخَبَائرَةُ: بَطْنٌ من العَرَب، ومَساكنُهُم في جِيزةِ مِصْر.

ومن أَمْثَالهم: «لا هُلْكَ بوَادِي خبرٍ» بالضَّمّ.

والخَبِيرَة: الدَّعْوَةُ على عَقِيقَة الغُلام، قاله الحَسَنُ بنُ عَبْد الله العَسْكَرِيّ في كتاب «الأَسْمَاء والصِّفات».

والخَيَابِرُ: سَبْعَةُ حُصُونٍ، تقدَّم ذِكرُهُم.

وخَيْبَرِيّ بن أَفْلَت بن سِلْسِلَة بن غَنْم بن ثَوْب بن مَعْن، قبيلة في طَيِّئ، منهم إِياسُ بنُ مَالِك بنِ عَبْدِ الله بن خَيْبَرِيّ الشاعر، وله وِفَادَة، قاله ابنُ الكَلْبيّ. وخَيْبَرُ بنُ أُوَام بن حَجْوَر بن أَسْلم بن عَلْيَانَ: بَطْن من هَمْدَان.

وخَيْبَر بنُ الوَلِيد، عن أَبيه عن جَدِّه عن أَبي موسى، ومُدْلِجُ بنُ سُوَيْد بن مَرْثَد بن خَيْبَرِيّ الطَّائيّ، لقَبُه مُجِيرُ الجَرادِ. والخَيْبرِيّ بنُ النُّعمان الطائِيّ: صحابيّ. وسِمَاكٌ الإِسرائِيلِيُّ الخَيْبَرِيُّ، ذَكَره الرُّشاطِيّ في الصَّحَابَة.

وإِبْراهِيمُ بنُ عبدِ الله بْنِ عُمَر بن أَبي الخَيْبَرِيّ القَصَّار العَبْسِيّ الكُوفِيّ، عن وَكِيع وغيرِه. وجَمِيل بن مَعْمَر بنِ خَيْبَرِيّ العُذْرِيّ الشَّاعِرُ المَشْهُور.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


39-تاج العروس (دور)

ودارَ الشيْ‌ءُ يَدُورُ دَوْرًا، بفَتْح فسُكُون، ودَوَرَانًا، مُحَرَّكةً، ودُوُورًا، كقُعُود، واسْتَدَارَ، وأَدَرْتُهُ، أَنا ودَوَّرْتُه، وأَدارَه غيرُه ودَوَّر به. ودُرْت به، وأَدَرْتُ: استَدَرْتُ. وفي الحَدِيث: «إِن الزَّمَان قد استدَارَ كَهَيْئَته يومَ خَلَقَ اللهُ السَّمواتِ والأَرضَ»، يقال: دَارَ يَدُورُ واستدَارَ يَسْتَدِير، إِذا طاف حَوْلَ الشَّيْ‌ءِ، وإِذا عادَ إِلى المَوضع الذي ابتدأَ منه.

ومعنَى الحَدِيث أَنَّ العَرب كانوا يُؤَخِّرُون المُحَرَّم إِلى صفَر، وهو النَّسِي‌ءُ، ليُقاتلوا فيه، ويَفْعَلُون ذلك سَنَةً بعد سَنَةٍ، فينْتَقِل المُحَرَّم من شَهْر إِلى شَهْر، حتى يَجْعَلُوه في جَمِيع شُهور السَّنَة، فلما كان تلك السنة كان قد عادَ إِلى زَمَنِه المَخْصُوص به قبل النَّقْل ودارَت السَّنَةُ كَهَيْئتِهَا الأُولَى.

ودَاوَرَه مُدَاوَرَةً ودِوَارًا، الأَخير بالكَسْر: دَارَ معه، قال أَبو ذُؤَيْب:

حتَّى أُتِيحَ له يَومًا بمَرْقَبَةٍ *** ذُو مِرَّةٍ بِدِوَارِ الصَّيْدِ وَجَّاسُ

والدَّهْرُ دَوَّارٌ به ودَوَّارِيٌّ؛ أَي دَائِرٌ، به، على إِضافة الشيْ‌ءِ إِلى نفْسه. قال ابنُ سِيده: هذا قول اللُّغَوِيّين، قال الفارِسِيّ: هو على لَفْظِ النَّسَب وليس بِنَسَبٍ، ونَظِيرهُ بُخْتِيّ وكُرْسِيّ، ومن المُضَاعَف أَعْجَمِيٌّ في مَعْنَى: أَعْجَم. وقال اللَّيْث: الدَّوَّارِيُّ: الدَّهرُ بالإِنْسَان أَحْوالا. قال العَجَّاجُ:

والدَّهْرُ بالإِنْسَان دَوَّارِيُّ *** أَفْنَى القُرونَ وهو قَعْسَرِيُّ

وقال الزَّمَخْشَرِيّ: معناه يَدُورُ بأَحْوَاله المُخْتَلِفة.

والدُّوَارُ، بالضَّم وبالفَتْح: شِبْه الدَّوَرانِ يأْخُذُ في الرّأْسِ. ويقال: دِيرَ به، ودِيرَ عليه، وأُدِيرَ بهِ: أَخَذَه.

وفي الأَساس: أَصابه الدُّوارُ. من دُوَارِ الرأْس. ودُوَّارَةُ الرَّأْسِ، كرُمّانة ويُفْتَح: طائِفَةٌ منه مستديرةٌ.

والدُّوَّارَة من البَطنِ، بالضمّ والفَتْح عن ثَعْلَب: ما تَحَوَّى من أَمعاءِ الشّاةِ.

والدَّوَّارُ، ككَتَّان، ويُضَمُّ: الكَعْبَةُ، عن كُرَاع. واسم صَنَم، ويُخَفَّف، وهو الأَشْهَر. قال الأَزْهَرِيّ: وهو صَنَمٌ كانت العَرَبُ تَنْصِبُه يَجعلون موضِعًا حوْلَه يَدُورون به، واسمُ ذلِك الصَّنَمِ والموضعِ الدُّوَّار. ومنه قولُ امْرئِ القَيْسِ:

فعَنَّ لنا سِرْبٌ كأَنّ نِعَاجَهُ *** عَذَارَى دُوَارٍ في مُلَاءٍ مُذَيَّلِ

أَراد بالسِّربِ البَقرَ، ونِعَاجُه إِناثُه شَبَّهَها في مَشْيِها وطُولِ أَذنابِها بجَوارٍ يَدُرْنَ حَولَ صَنَمٍ وعليهن المُلَاءُ المُذَيَّل؛ أَي الطَّوِيل المُهَدَّب.

قال شيخُنَا: وقيل: إِنَّهُم كانُوا يَدُورون حولَه أَسابِيعَ كما يُطاف بالكَعْبَة.

ونقل الخَفَاجِيّ عن ابن الأَنباريّ: حِجَارَةٌ كانوا يَدُورُون حَوْلَهَا تَشْبِيهًا بالطائِفين بالكَعْبَة، ولِذَا كَرِه الزَّمَخْشَرِيُّ وغيرُه أَن يُقَال دَارَ بالبَيْت، بل يُقال: طافَ به.

والدَّوَّارَةُ، كجَبَّانةٍ: الفِرْجَارُ، وهو بالفارسيّة بَرْكَار، وهي من أَدواتِ النَّقَّاش والنَّجّار، لها شُعْبَتَانِ يَنْضمّان ويَنْفَرِجان لتَقْدِيرِ الدَّارات.

والدُّوَّارُ، بالضّمّ: مُسْتَدَارُ رَمْل يَدُورُ حَوْلَه الوَحْشُ.

أَنشد ثَعْلب:

فمَا مُغْزِلٌ أَدْمَاءُ نَامَ غَزَالُهَا *** بدُوَّارِ نِهْيٍ ذِي عَرَارٍ وحُلَّبِ

بأَحْسَنَ مِن لَيْلَى ولا أُمُّ شادِنٍ *** غَضِيضَةُ طَرْفٍ رُعْتُهَا وَسْطَ رَبْرَبِ

وعن ابن الأَعرابيّ: يقال لكلِّ ما لم يَتَحَرَّكْ ولم يَدُرْ: دَوَّارَةٌ وفَوَّارَةٌ؛ أَي بفَتْحِهما، فإِذا تَحَرَّكَ أَو دَارَ ـ ونَصُّ النّوادر: ودَار ـ فهو دُوَّارَة وفُوَّارَة؛ أَي بضمِّهما.

والدّائِرَةُ: الحَلْقَةُ أَو شِبْهُها أَو الشَّيْ‌ءُ المُسْتَدِير.

والدَّائِرةُ: الشَّعرُ المُسْتَدِيرُ على قَرْنِ الإِنْسَانِ.

ومن أَمثالهم: «اقشَعَرَّت له دَائرتِي» بُضرَب مَثَلًا لمن يَتَهَدَّدُكَ بالأَمر لا يَضُرُّك، أَو الدّائرة: مَوْضعُ الذَّؤَابَةِ، قاله ابنُ الأَعرابيّ.

والدَّائِرة: الهَزِيمَةُ والسُّوءُ. يقال: {عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ} وقوله تعالى: {نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ} قال أَبو عُبَيْدة أَي دَوْلة، والدَّوائر تَدُور والدَّوائِلُ تَدُول.

والدَّائِرة الّتِي تَحْتَ الأَنْفِ يقال لها الدِّيرة، والدَّائِرة كالدَّوّارَةِ، بالتشديد.

والدَّارِيُّ: العَطَّارُ. يقال: إِنه مَنْسُوبٌ إِلى دَارِينَ فُرْضَةٍ بالبَحْرَينِ بها سُوقٌ كان يُحْمَلُ المِسْكُ من أَرض الهِنْدِ إِليها. وقال الجَعْدِيّ:

أُلْقِيَ فيها فِلْجَانِ من مِسْكِ دَا *** رِينَ وفِلْجٌ من فُلْفُلٍ ضَرِمِ

وسَأَل كِسْرَى عن دَارِينَ مَتَى كانَت؟ فلم يَجِد أَحَدًا يُخْبِره عنها إِلّا أَنَّهم قالوا هي عَتِيقَةٌ بالفارسيّة فسُمِّيَت بها.

وفي الحديث: «مَثَلُ الجَلِيس الصَّالِح مَثَلُ الدّارِيّ إِن لم يُحْذِك من عِطْرِه عَلِقَك من رِيحِه». وقال الشاعر:

إِذَا التَّاجِرُ الدَّارِيُّ جاءَ بفَأْرَةٍ *** مِن المِسْكِ رَاحَتْ في مَفَارِقِها تَجْرِي

والدَّارِيّ: رَبُّ النَّعَمِ، سُمِّيَ بذلك لأَنه مُقِيم في دَارِه، فنُسِب إِليها.

والدَّارِيّ: المَلَّاحُ الذي يَلِي الشِّرَاعَ؛ أَي القِلعَ.

والدّارِيّ: اللازمُ لِدارِه لا يَبْرَح ولا يَطلُب مَعَاشًا، كالدَّارِيَّةِ.

والدَّارِيّ مِنَ الإِبِل: المُتَخلِّفُ في مَبْرَكِه لا يَخْرُج إِلى المَرْعَى، وكذلك شاةٌ دَارِيَّةٌ. والمُدَاوَرَةُ كالمُعَالَجَة في الأُمور، وهو طَلَبُ وُجُوهِ مَأْتَاهَا، وهو مَجَازٌ. قال سُحَيْم بنُ وَثِيلٍ:

أَخُو خَمْسِينَ مُجْتَمِعٌ أَشُدِّي *** ونَجَّذَنِي مُدَاوَرَةُ الشُّؤُونِ

ودُوَّار، كرُمَّانٍ: موضع، وهو جَبَلٌ نَجْدِيٌّ أَو رَمْلٌ بنَجْد. قال النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيّ:

لا أَعرِفَنْ رَبْرَبًا حُورًا مَدَامِعُهَا *** كأَنَّهُنَّ نِعَاجٌ حَوْلَ دُوَّارِ

ودَوَّار ككَتَّانٍ: سِجْنٌ باليمَامَة. قال جَحْدُر بنُ مُعَاوِية العُكْلِيّ.

كانَتْ منازِلُنَا التي كُنَّا بِهَا *** شَتَّى فأَلَّفَ بَيْنَنَا دَوَّارُ

وسالِمَ بنُ دارَةَ: من الفُرْسانِ الشُّعراءِ، وفي المَثَل:

مَحَا السَّيفُ ما قَالَ ابنُ دَارَةَ أَجْمَعَا

وسَبَبُه أَن ابنَ دَارَةَ هَجَا فَزَارةَ فَقَال:

أَبْلِغْ فَزَارةَ أَنّي لا أُصالِحُها *** حتَّى يَنِيكَ زُمَيْلٌ أُمَّ دِينارِ

فبلغَ ذلِك زُمَيْلًا فَلَقِي ابنَ دَارةَ في طَرِيقِ المَدِينَة فقَتَله وقال:

أَنا زُمَيْلٌ قاتِلُ ابْنِ دَارَهْ *** ورَاحِضُ المَخْزَاةِ عن فَزَارَهْ

والدَّارُ: صَنَمٌ به سُمِّيَ عبدُ الدّارِ بنُ قُصيِّ بْنِ كِلاب، أَبو بَطْن، والنِّسْبَة إِليه: العَبْدَرِيّ. قال سيبويه: هو مِن الإِضافَة التي أُخِذَ فيها من لَفْظ الأَوَّل والثَّاني، كما أُدْخِلَت في السِّبَطْر حروف السَّبِط. قال أَبو الحَسَن: كأَنَّهم صَاغُوا من عَبْد الدّار اسْمًا على صِيغَة جَعْفَر، ثمّ وَقعَت الإِضافَةُ إِليه، وهو أَكبَرُ وَلَدِ أَبيه وأَحبُّهم إِليه، وكان جَعَل له الحِجَابَة واللِّوَاءَ والسِّقَاءَ والنَّدْوَةَ والرِّفَادَة. ومنهم عُثْمَانُ بنُ طَلْحَةَ بنِ أَبي طَلْحَة عَبْد الله بن [عبد] العُزّى بن عُثْمَان بن عبد الدَّارِ صاحِب مِفْتاح الكَعْبَة. والدّارُ بنُ هانِيِ بنِ حَبِيب بنِ نُمارة بن لَخْم، أَبُو بَطْن من لَخْم كما تَرَى. مِنْهُم أَبو رُقَيَّة ـ كُنِيَ بابْنَةٍ له لم يُولَد له غَيْرُهَا كما حَقَّقه ابن حَجَر المَكّي في «شَرْحِ الأَرْبَعِين» ـ تَمِيمُ بنُ أَوْس بنِ خارِجَةَ بن سُوَيْد بن جَذِيمْة بن الذرّاع بن عَدِيِّ بن الدَّارِ، أَسلم سنةَ تِسْع، وسَكَن المَدِينةَ، ثم انْتَقَل إِلى الشَّام. وأَمّا تَمِيمٌ الدَّارِيُّ المَذْكُور في قِصَّة الجَام فذاك نَصْرَانِي من أَهل دَارِين، كذا وَجدتُ في هامِش التَّجْرِيد للذَّهَبِيّ.

وأَبُو هِنْد بُرَيْر، كزُبَيْر، كذا هو بخَطّ أَبي العَلاءِ القُرْطُبِيّ، وقيل بَرُّ بنُ رَزِيْنٍ، وقيل ابنُ عَبْدِ الله، وغَلِطَ فيه البُخَارِيّ وغَيْرُه فقال هو أَخو تَمِيم الدّارِيّ، الدّارِيّانِ الصَّحَابِيّان. ويقال في الأَخِير أَيضًا: أَبو هِنْد بنُ بَرّ.

ودَارِينُ: موضع بالشّامِ، وهو غير دَارِينِ البَحْرَينِ.

وذُو دَوْرَان كحَوْرانَ: موضع بين قُدَيْدٍ والجُحْفَةِ، وهو وادٍ يَفْرُع فيه سَيْلُ شَمَنْصِير. قال حَسَّانُ بنُ ثَابِت:

وأَعْرَضَ ذُو دَوْرانَ تَحْسَب سَرْحَه *** مِنَ الجَدْبِ أَعْنَاقَ النِّساءِ الحَواسِرِ

ودَارَا، هكذا بالأَلف المقصورة: د، بَيْن نَصِيبِينَ ومارِدِينَ بِدِيار رَبِيعَة، بَيْنها وبَيْنَ نَصِيبِين خَمْسَةُ فَراسِخَ، بناها ـ هكذا في النُّسَخ والصواب بَناه ـ دَارَا بنُ دارَا المَلِك، وهو آخِر مُلُوك الفُرْس الجَامِعِين للمَمَالِك، وهو الذي قتَلَه الإِسْكَنْدَرُ الرّوميّ.

ودارا: قَلْعَةٌ بطَبَرِسْتان، من بَنَاءِ دَارَا المَلِك. ودَارَا: وادٍ بدِيارِ بني عامر بْنِ صَعْصَعَةَ بنِ كِلابٍ. ودَارَا: ناحِيَةٌ بالبَحْرَيْنِ لعَبْد القَيْس، ويُمَدُّ، قال الشَّاعر:

لَعَمْرُك ما مِيعادُ عَيْنِك والبُكَا *** بدَارَاءَ إِلَّا أَن تَهُبَّ جَنُوبُ

أُعَاشِرُ في دَارَاءَ مَنْ لا أَوَدُّه *** وبالرَّمْلِ مَهْجُورٌ إِليّ حَبِيبُ

ودارُ البَقَر: قَرْيَتَانِ بِمصرَ، بالغَرْبِيَّة منها البَحَرِيَّة والقِبْلِيَّة، والنِّسْبَة إِليهما للجُزْءِ الأَخير.

ودارُ عُمَارَةَ: مَحَلَّتَانِ ببَغْدادَ شَرْقِيَّة وغَرْبِيَّة، خَرِبتَا.

ودارُ القُطْن: مَحَلَّةٌ بها؛ أَي ببغدادَ، منها الإِمامُ الحَافظ نَسِيجُ وَحْدِه وقَرِيعُ دَهْرِه في صِنَاعَة الحَدِيث ومعرفة رجاله أَبو الحَسَن عَلِيُّ بنُ عُمَر بن أَحمَد بن مَهْدِيّ. قيل لابن البَيِّع: أَرأَيتَ مِثْلَ الدّارقُطْنيّ؟ فقال: هو لم يَر مِثْلَ نَفْسِه فكَيْفَ أَرَى أَنا مِثْلَه؟ روَى عن أَبي القَاسِم البَغَوِيّ وأَبِي بَكْر بن أَبي دَاوود، وعنه أَبو بَكْر البرقانيّ وأَبو نُعَيم الأَصْبَهَانيّ، وله كِتَابُ السُّنَن، مشهور رويناه عن شيوخنا.

تُوُفِّيَ ببَغْدَاد سنة 385 وصَلَّى عليه أَبُو حامد الإِسفِراينيّ، ودُفِن بجَنْب مَعْرُوفٍ الكَرْخِيّ.

ودارُ القُطْنِ أَيضًا: مَحَلَّةٌ بحَلَبَ مَشْهُورة. مِنْهَا الإِمام المُحَدِّث عُمَرُ بنُ علِيِّ بن محمّدٍ المَعرُوف بابْنِ قُشَامٍ، كغُرَاب، ذو التَّصانِيفِ الكَثِيرَةِ المَبْسُوطَةِ في الفُنُونِ العَدِيدةِ. رَوَى عن أَبي بَكْرِ بن ياسرٍ الجَيَّانيّ، وعنه ابنُ شِحَاتةَ.

ودُرْنَى، بالضَّمّ: موضع في شِقِّ اليَمَامَة، سُمِّيَ بالجُمْلَة، وعلى هذا فالصواب أَن يكتب هكذا دُرْنَا، على صِيغَة المتكلم، من دَارَ، لا بالأَلف المَقْصُورَة ومَوْضِعُ ذِكْرِهَا في النُّون إِذا كان فُعْلَى كما سيأْتي.

ويقال: ما به دَارِيٌّ ودَيَّارٌ ودُورِيٌّ، بالضَّمّ، ودَيَّورٌ، كتَنُّور، على إِبدال الواو من الياءِ أَي ما بها أَحَدٌ.

قال الجَوْهَرِيّ: والدَّيَّار فَيْعَال من دارَ يَدُور، وأَصله دَيْوَار، فالوَاو إِذا وَقعَتْ بعد ياءٍ ساكنة قبلها فتحة قُلِبَت ياءً وأُدغِمَت، مثل أَيّام وقَيّام، لا يُسْتَعْمَل إِلّا في النَّفْي، كذا قالوا.

ونقل شَيْخُنا عن ابْنِ سِيده في العَوِيص: قد غَلِط يَعْقُوب في اخْتِصاص ثاغ وراغ بالنَّفْي، فإِنهما قد يُسْتَعملان في غَيْر النَّفْي، قال: وكذلك دَيَّار لأَنّ ذَا الرُّمة قد استَعْمَله في الواجب قال:

إِلى كُلِّ دَيَّارٍ تَعَرَّفْن شَخْصَه *** من القَفْرِ حتَّى تَقْشَعِرَّ ذَوائِبُه

قال: وكذَا عين فإِنّه، يُسْتَعْمل في الإِيجاب أَيضًا، انتهى.

وفي اللسان: وجَمْع الدَّيّار والدَّيُّور، لو كُسِّر، دَوَاوِير، صَحَّت الواو لبُعْدِهَا من الطَّرَفِ.

ومن المَجَاز: أَدارَه عنِ الأَمرِ: حاولَه أَن يَتركُه. وأَدارَه عَلَيْه: حاوَلَه أَن يَفْعَله، وعلى الأَوّل

قَولُ عَبْد الله بن عُمَر رَضي الله عَنْهُمَا:

يُدِيرُونَنِي عن سَالِمٍ وأُدِيرُهُمْ *** وجِلْدَةُ بَيْن العَيْنِ والأَنْفِ سالِمُ

ودَاوَرَه: لَاوَصَهُ، وفي حديث الإِسراءِ: «قال له موسى عَلَيْه السّلام: لقد دَاوَرْتُ بنِي إِسْرَائِيلَ على أَدْنَى مِنْ هذا فَضَعُفُوا». ويُرْوَى «رَاوَدْتُ».

ودَارَةُ، مَعرِفَةً لا يَنْصَرِف: من أَسماءِ الدّاهِيَة، عن كُرَاع، قال:

يَسْأَلْنَ عَنْ دَارَةَ أَن تَدُورَا

والمُدَارَةُ، بالضَّمّ: جِلْدٌ يُدَارُ ويُخْرَزُ علي هَيْئَة الدَّلْوِ ويُسْتَقَى به. وفي بعض الأُصول: فيُسْتَقَى بِهَا. قال الراجز.

لا يَسْتَقِي في النَّزَحِ المَضْفُوفِ *** إِلّا مُدَارَاتُ الغُرُوبِ الجُوفِ

يقول: لا يُمكِن أَن يُسْتَقَى من الماءِ القَلِيلِ إِلا بدِلَاءٍ واسِعَةِ الأَجوافِ قَصِيرَةِ الجَوَانِبِ لتَنْغَمِس في الماء وإِن كان قليلًا فَتَمْتَلِئ منه. ويقال: هي من المُدَاراةِ في الأُمور، فمَنْ قال هذا فإِنه يكسِر التاءَ في موضع النَّصْب؛ أَي بمُدارَاة الدِّلاءِ ويقول: «لا يُسْتَقَى» على ما لم يُسَمَّ فاعِلُه.

والمُدَارَةُ: إِزارٌ مُوَشًّى، كأَنَّ فيها دَارَاتِ وَشْيٍ، والجمع المُدَارَاتُ أَيضًا. قال الراجز:

وذُو مُدَارَاتٍ عليَّ خُضْرِ

ودَوَّرَه تَدْوِيرًا: جَعَلَه مُدَوَّرًا، كأَدَارَه.

والدَّوْدَرَى، كضَوْطَرَى: الجَارِيَةُ القَصِيرَةُ الدَّمِيمَةُ.

قال:

إِذَا هي قامَتْ دَوْدَرَى جَيْدَرِيَّة

وهذا مَحَلُّ ذِكْره، كأَنَّه جعَله من الدَّور، وسبق له في «درّ» الدَّوْدَرَّى، بتشديد الراءِ الثانية المفتوحة، وفسّره بالآدَر.

والدُّوَيْرَة، مصَغَّرًا: د، بالرِّيف، يَعنِي به رِيفَ العِرَاق.

والدُّوَيْرَةُ: موضع ببغدادَ، سَكَنه حَسُّونُ، هَكذا في النُّسخ، والصَّواب حَسْنُون بنُ الهَيْثَم أَبو عَلِيّ المُقْرِي‌ء البَغْدَادِيّ الدُّوَيْرِيّ، روى عن مُحَمّد بن كَثيرٍ الفِهْريّ، وعنه أَبو بَكرٍ يَحْيَى بن كُوَيْر.

وقال ابن الأَثِير: الدُّوَيْرة: مَوضعٌ ببغدادَ، منه أَبو مُحَمَّد حَمَّادُ بنُ محمّد بن عَبْدِ الله الفَزَارِيّ الأَزْرَق، كُوفيّ سكنَ بغدادَ، عن مُحَمَّد بن طَلْحَة بن مُصرِّف، ومَقاتِل بن سَليمانَ، وعنه عَبّاسُ الدُّوريّ وصالِحٌ جَزَرَةُ، وتُوفِّيَ سنة 230.

والدَّوِيرَةُ، كصَحِيفة: قرية بنَيْسَابُور، على فَرْسخ منها.

منها أَبو غَالِيَةَ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله بن يوسُفَ بنِ خُرْشِيدَ، سمعَ قُتَيْبَةَ بنَ سَعِيد وابْنَ رَاهَوَيْه، وعنه أَبو حامدٍ الشرقيّ وغيره. قال ابن الأَثير: ويقال لها أَيضًا دَبيرَوَانَه. يقال لمحمّد بن عبد الله هذا الدَّبِيرِيّ أَيضًا. وقد ذَكَرَه المصنّف في مَحَلَّيْن من غير تَنْبِيه عليه، فيَظُنّ الظّانّ أَنَّهُمَا قريتان وأَنَّهما رَجلانِ، فتفَطَّن لذلك.

والدُّورُ، بالضَّمِّ: قَرْيَتَانِ، بينَ سُرَّ مَنْ رَأَى وتَكْرِيتَ، عُلْيَا وسُفْلَى. ومنها*؛ أَي من إِحداهما أَبُو الطَّيّب محمّدُ بنُ الفَرُّخانِ بن رُوزْبَةَ، يَرْوِي عن أَبي خَليفَةَ الجُمَحِيّ مَناكِيرَ لا يُتابَع عليها، مات قبْل الثلاثمائة.

وقال الذَّهَبِيّ: قال الخَطِيب: غيرُ ثِقَةٍ.

وأَبو البقَاءِ نُوحُ بنُ عليّ بن رسن بن الحسن الدُّورِيّ نزيل بغدادَ من شيوخ الدِّمْياطيّ، كذا أَورَدَه في مَعجمه.

والدُّورُ: نَاحِيَةٌ من دُجَيْل، نَهْر بالعراق، تُعرَف بدُورِ بَنِي أَوْقَرَ.

والدُّور: مَحَلَّةٌ ببغدادَ قُرْبَ مَشْهَدِ الإِمام الأَعْظَم أَبِي حنيفةَ النُّعْمَانِ بن ثابت، رضي ‌الله‌ عنه وأَرضاه عَنَّا، مِنْها أَبو عبد الله مُحَمّدُ بنُ مَخْلَدِ بْنِ حَفْص العَطَّار البَغْدَادِيّ عن يَعْقُوبَ الدَّوْرَقيّ، والزُّبيْر بنُ بَكَّار، وعنه الدَّارَقُطْنِيّ، وأَبو بكْرٍ الآجُريّ وابْنُ الجِعَابِيّ ثِقَة، تُوفِّيَ سنة 331 ذكره ابن الأَثير. وزاد السَّمْعَانيّ: ومنها أَبُو عُمر حَفْص بنُ عُمَر بن عَبْد العزيز بن صُهْبَانَ الأَزديّ المُقْرِئ الضرير. قال ابنُ أَبِي حاتم عن أَبِيه: صَدُوقٌ، سَكَنَ سامُرَّا، عن إِسماعيلَ بنِ جَعْفَرٍ وأَبي إِسماعيلَ المُؤدِّب والكِسَائِيّ، وعنه أَبو زُرْعَة والفَضْل بنُ شَاذَانَ، تُوُفِّيَ سنة 246.

والدُّور: مَحَلَّة بنَيْسَابور. منها أَبُو عَبْدِ الله الدُّورِيِّ، يَروِي حكاياتٍ لأَحمدَ بنِ سَلَمة النَّيْسَابُورِيّ. والدُّورُ: د، بالأَهْوَازِ، وهو الذي عند دُجَيْلٍ وقال فيه: إِنه ناحية به، لأَن دُجَيْلًا هو نَهر الأَهوازِ بعَيْنه. والدُّور: موضع بِالبَادِيَة، وإِليه تُنسب الدَّارَة، وقد تَقدَّمَ بيانُه. والدُّورَةُ، بهاءٍ: قرية بينَ القُدْس والخَلِيلِ، منها بنو الدُّورِيّ، قَوْمٌ بِمِصْر.

ودُورَانُ، بالضّمّ: موضع خَلْفَ جِسْرِ الكُوفةِ، هناك قصرٌ لإِسْماعيلَ القَسْريّ أَخِي خالد.

ودَوَّرَانُ، بفَتْح الدّالِ والواوُ مشدَّدَة: قرية بالصُلْحِ قُرْبَ واسِطِ العراقِ.

ودَارَيَّا، بفَتْح الرَّاءِ والياءُ مُشَدَّدةٌ: قرية بالشأْم: والنِّسْبَةُ إِليها دَارَانِيٌّ، على غيرِ قياسٍ. منها الإِمَام أَبُو سُلَيْمان الدَّارانِيّ عبدُ الرَّحْمن بنُ أَحْمَد بن عَطِيَّةَ الزَاهِد، عن الرَّبِيع بنِ صُبَيْح وأَهلِ العراق، وعنه أَحمَدُ بنُ أَبي الحُوَّارَي صاحِبُه، ذكرَه ابنُ الأَثِير.

وقال سيبويهِ: دَارَانُ: مَوضعٌ، وإِنما اعتَلَّت الواوُ فيه: لأَنَّهُم جَعلوا الزِّيَادَةَ في آخرِه بمنزلةِ ما في آخرِه الهاءُ، وجَعَلُوه مُعتَلًّا كاعْتِلاله، ولا زِيَادَةَ فيه، وإِلَّا فقد كان حُكْمُه أَن يَصِحّ كَمَا صَحَّ الجَوَلانُ.

وتَدْوِرَةُ: دارَةٌ بين جِبَالٍ، وربما قَعَدُوا فيها وشَرِبُوا، وتقدّم شاهدُه من كلام ابنِ مُقْبِل.

والمُدْوَرَةُ من الإِبلِ، بضَمّ الميمِ وفتح الواو: التي يَدُورُ فيها الراعِي ويَحْلُبُهَا، هكذا أُخْرِجَت على الأَصْلِ ولم تُقلَب وَاوُهَا أَلِفًا مع وُجُودِ شُرُوطِ القَلْب، ولها نظائرُ تأْتي.

* ومما يُسْتَدْرَك عليه: قَمر مُسْتَدِيرٌ؛ أَي مُنِيرٌ.

والدَّوْر: دَوْرُ العِمَامَة وغَيْرِهَا.

والتَّدْوِرَة: المَجْلِس، عن السِّيرَافيّ.

والدَّائِرة في العَرُوض هي التي حَصَرَ بها الخَلِيلُ الشُّطُور، لأَنها على شَكْل الدَّائِرَة التي هي الحَلْقة، وهي خَمْس دَوَائِرَ.

ودائِرةُ الحَافِرِ: ما أَحَاطَ به. وقال أَبو عُبَيْدة: دَوائِرُ الخَيْل ثَمَانِي عَشرَةَ دائِرةً، يُكرَه منها دَائِرَةُ اللَّطَاةِ.

والدَّوَائِر: الدَّواهِي وصُرُوفُ الزَّمان والمَوْتُ والقَتل.

والدائِرَة خَشَبةٌ تُرْكَز وَسْطَ الكُدْسِ تَدُور بها البَقَرُ.

وقال اللَّيْث: المَدَارُ مَفْعَلٌ، يكون مَوْضعًا، ويكون مَصْدَرًا، كالدَّوَرَان ويُجْعَل اسمًا، نحْو مَدَارِ الفَلَك في مَدَارِه.

وتَدَيَّرَ المكانَ: اتَّخَذَه دارًا.

واستدارَ بما في قَلْبي: أَحَاطَ، وهو مَجَازٌ.

وفُلان يَدُور على أَربعِ نِسْوةٍ ويَطُوف عليهن؛ أَي يَسُوسُهن ويَرْعاهُنّ، وهو مَجَاز أَيضًا.

والدَّارصِينيّ معروفٌ عند الأَطباءِ، وكذا الدّارفُلْفُل.

والدائرة: الحادِثُة، قاله ابن عَرَفَة..

وقوله تعالى: {سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ} قيل: مَصِير، قال مُجاهدٌ: أَي مَصِيرَهم في الآخرة.

والدَّوْرَة في المكْرُوه، كالدَّائِرَة. والإِدارة: المُدَاوَلةُ والتَّعَاطِي من غير تَأْجِيل، وبه فُسِّر قولُه تعالى؛ {تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ}.

ودار الجَامُوس. قَرْيَة بمِصْر من الدّنجاوية.

وزَيدُ بن دَارَةَ: مَوْلَى عُثْمَانَ بن عَفَّان. روَى عنه حديثَ الوضوءِ، ذكرَه البُخَارِيّ في التاريخ.

والدَّيَّار: الدَّيْرانيّ.

ودُور حَبِيب: قَرْيَة من أَعمالِ الدُّجَيْل.

ودَارَانُ: قَرْية من أَعمالِ إِرْبِلَ، فيها ماءٌ يكون في أَوَّلِ النَّهَار وآخِره أَبيض، وفي وَسَطِه أَسودَ.

ودُورُ صُدَىّ قَريَة بدُجَيْل.

وفي طَرفِ بَغْدَادَ قُرْبَ دَيرِ الرُّوم مَحَلَّة يقال لها الدُّور، وهي الآنَ خرابٌ. والدُّورُ: قَرْيَةٌ قُرْبَ سُمَيْساطَ.

وقال ابن دُرَيد: تَدْوِرَةُ: مَوضع بعَيْنه.

وسُمِّيَ نَوْعٌ من العَصافير دُورِيّا، وهي هذه التي تُعَشِّش في البيوت.

والدُّوَّار كرُمَّان: المنزِل، جمْعُه دَوَاوِيرُ.

والدِّيرَة، بالكسر: الدَّارَة.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


40-تاج العروس (روع)

[روع]: الرَّوْعُ: الفَزَعُ، راعَهُ الأَمْرُ يَرُوعُه رَوْعًا، وفي حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ: «إِذا شَمِطَ الإِنْسَانُ في عَارِضَيْهِ فذلِكَ الرَّوْعُ» كأَنَّهُ أَرادَ الإِنْذَارَ بالمَوْتِ. وقالَ اللَّيْثُ: كُلُّ شَيْ‌ءٍ يَرُوعُكَ منه جَمَالٌ وكَثْرَةٌ تقولُ: رَاعَنِي فهو رائعٌ، كالارْتِيَاعِ، قالَ النّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ يصفُ ثَوْرًا:

فارْتاعَ مِنْ صَوْتِ كَلّابٍ فبَاتَ لهُ *** طَوْعَ الشَّوامِتِ من خَوْفٍ ومِنْ صَرَدِ

ويُقَالُ: ارْتَاعَ مِنْه، وله. والتَّرَوُّعِ قال رُؤْبَةُ:

وِمَثَلُ الدُّنْيَا لِمَنْ تَرَوَّعَا *** ضَبَابَةٌ لا بُدَّ أَنْ تَقَشَّعَا

أَو حَصْدُ حَصْدٍ بعدَ زَرْعٍ أَزْرَعَا

وِالرَّوْعُ: د، باليَمَنِ قُرْبَ لَحْجٍ، نَقَلَه الصّاغانِيّ.

وِالرَّوْعَةُ: الفَزْعَةُ، وهي المَرَّةُ الوَاحِدَةُ من الرَّوْعِ: الفَزَعِ، والجَمْعُ رَوْعَاتٌ، ومنه‌الحَدِيثُ: «اللهُمَّ آمِنْ رَوْعَاتِي، واسْتُرْ عَوْرَاتِي» وفي الحَدِيثِ: «فأَعْطَاهُمْ برَوْعَةِ الخَيْل» يريدُ أَنَّ الخَيْلَ راعَتْ نِساءَهم وصِبْيَانَهم، فأَعْطَاهُم شَيْئًا لِمَا أَصابَهُمْ من هذِه الرَّوْعَة.

وِقال ابنُ الأَعْرَابِيِّ: الرَّوْعَة: المَسْحَةُ من الجَمَالِ: والرَّوْقَة: الجَمَالُ الرّائِقُ.

وِقال الأَزْهَرِيّ: يُقَال: هذِهِ شَرْبَةٌ رَاعَ بها فُؤَادِي أَي: بَرَدَ بِهَا غُلَّةُ رُوعِي، ومنه قَوْلُ الشاعِر:

سَقَتْنِي شَرْبَةً رَاعَتْ فُؤادِي *** سَقَاها الله مِنْ حَوْضِ الرَّسُولِ

صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم.

وِرَاعَ فُلانٌ: أَفْزَعَ، كرَوَّعَ تَرْوِيعًا، لازِمٌ مُتَعَدٍّ، فارْتَاعَ، نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ، ومنه‌الحَدِيثُ: «لَنْ تُرَاعُوا، ما رَأَيْنَا مِنْ شَيْ‌ءٍ» وقد رِيعَ يُرَاعُ: إِذا فَزِعَ.

وقولهم: لا تُرَعْ؛ أَي لا تَخَفْ ولا يَلْحَقْك خَوْفٌ، قال أَبُو خِراشٍ:

رَفَوْنِي وقالُوا: يا خُوَيْلِدُ لا تُرَعْ *** فقُلْتُ ـ وأَنْكَرْتُ الوُجُوهَ ـ: هُمُ هُمُ

وللأُنْثَى: لا تُرَاعِي، قال قَيْسُ بن عامر:

أَيا شِبْهَ لَيْلَى لا تُرَاعِي فإِنَّنِي *** لَكِ اليَوْمَ مِنْ وَحْشِيَّةٍ لَصَدِيقُ

وِراعَ فُلانًا الشَّي‌ءُ: أَعْجَبَهُ نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ، ومنه‌الحَدِيثُ في صِفَةِ أَهْلِ الجَنَّةِ: «فيَرُوعُه ما عَلَيْه من اللِّبَاسِ» أَي يُعْجِبُه حُسْنُه.

وِرَاعَ في يَدِي كَذَا وراقَ؛ أَي أَفادَ، نَقَلَه الصّاغَانِيُّ هكَذا في كتابَيْه، ولكِنَّه فِيهِمَا «فادَ» بغيرِ أَلف، ثمّ وَجَدْتُ صاحِبَ اللِّسَانِ ذَكَرَه عن النّوادِرِ في «ر ى ع»: «رَاعَ في يدِي كذا وكذا، وراقَ مثلُه، أَي: زادَ» فعُلِمَ من ذلِكَ أَنَّ الصَّاغَانِيَّ صَحَّفَه، وقَلَّدَهُ المُصَنِّف في ذِكرِه هنا، وصَوابُه أَنْ يُذْكَر في الَّتِي تَلِيها، فتَأَمَّلْ.

وِراعَ الشَّيْ‌ءُ يَرُوعُ، ويَرِيعُ رُوَاعًا، بالضّمّ: رَجَعَ إِلى مَوْضِعه.

وِارْتَاعَ، كارْتَاحَ، نَقَلَه ابنُ دُرَيْدٍ، وأَوْرَدَه الجَوْهَريُّ في «ر ى ع» فإِنّ الحَرْفَ وَاوِيٌّ يائِيٌّ، وذَكَرَ هنا أَنه «سُئلَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ عن القَيْ‌ءِ يَذْرَعُ الصائمَ، فقالَ: هَلْ راعَ منه شَيْ‌ءٌ؟ فقال له السائلُ: ما أَدْرِي ما تَقُولُ؟ فقالَ: هل عادَ مِنْه شَيْ‌ءٌ؟». ورائِعَةُ: مَنْزِلٌ بين مَكَّةَ والبَصْرَةِ، أَو هو مَاءٌ لبَنِي عُمَيْلَةَ وموضِعٌ بَيْن إِمَّرَةَ وضَرِيَّةَ، كما في العُبَابِ أَو هُو؛ أَي هذا المَوْضِعُ المَذْكُور بالبَاءِ المُوَحَّدَةِ، وهذا خَطأٌ، والصّوابُ: أَو هو بالغَيْنِ المُعْجَمَة، ففِي مُعْجَمِ البَكْرِيِّ: رَائِغَةُ، بالغَيْنِ: منزلٌ لِحَاجِّ البَصْرَة بينَ إِمَّرَةَ وطَخْفَةَ، كما سَيَأْتِي إِن شَاءَ اللهُ تَعالَى في «ر وغ».

وِدَارُ رائِعةَ: موضِعٌ بمَكَّةَ، شَرَّفَها الله تَعالَى، جاءَ ذِكْرُه في الحَدِيثِ. هكَذَا ضَبَطَهُ الصاغانِيُّ بالعَيْن المُهْمَلَة، وفي التَّبْصِير للحافِظِ: رَائِغَة. بالغَيْنِ المُعْجَمَةِ: امْرَأَةٌ تُنْسَبُ إِليها دَارٌ بمكَّةَ، يقالُ لها: دَارُ رائِغَةَ، قَيَّدَهَا مُؤْتَمَنٌ السّاجِيُّ هكَذَا، فتَنَبَّه لذلِكَ، به* قَبْرُ آمِنَةُ أُمِّ النَّبِيِّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم، ورضي ‌الله‌ عنها، في قولٍ، وقِيلَ: في شِعْبِ أَبِي دُبٍّ بمَكَّة أَيْضًا، وقِيلَ: بالأَبْوَاءِ بينَ مَكَّةَ والمَدِينَةِ، شرَّفَهُما اللهُ تعالى، والقَوْلُ الأَخيرُ هو المَشْهُورُ.

وِرائعٌ: فِنَاءٌ من أَفْنِيَةِ المَدِينَةِ، على ساكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلام.

وِكشَدَّاد: الرَّوّاعُ بنُ عَبْدِ المَلِكِ التُّجِيبِيّ. وسُلَيْمَانُ بنُ الرَّوّاعِ الخُشَنِيُّ شيخٌ لسَعِيدِ بن عُفَيْر، وأَحْمَدُ بنُ الرَّوّاعِ بنِ بُرْدِ بنِ نَجِيحٍ المِصْرِيّ المُحَدِّثُون، ذَكَرَهُم ابنُ يُونُسَ هكذا، وأَوْرَدَهُم الصّاغَانِيُّ في هذا البابِ، وهو خَطَأٌ، والصَّوابُ بالغَيْن المُعْجَمَةِ في الكُلِّ، كما ضَبَطَه الحافظُ بن حَجَرٍ، وسَيَأْتي للصّاغانِيّ في الغَيْنِ أَيْضًا على الصّواب، وتَبِعَه المُصَنِّف هُنَاك من غير تَنْبِيهٍ، فليُتَنَبَّه لذلِك.

وِالرَّواعُ: امْرَأَةٌ شَبَّبَ بِهَا رَبِيعَةُ بنُ مَقْرُومٍ الضَّبِّيُّ.

مُقْتَضَى سِيَاقهِ أَنَّه كشَدَّادٍ، وهو المَفْهُومُ من سِيَاقِ العُبَابِ، فإِنَّه أَوْرَدَه عَقِبَ ذِكْرِه الأَسْمَاءَ الَّتِي تَقَدَّمَت، وضبطهم كشَدّادٍ، والصَّوابُ أَنَّه كسَحابٍ، كما هو مَضْبوطٌ في التَّكْمِلَة، أَو هي كغُرابٍ وهذا أَكْثرُ حيثُ يَقُولُ:

أَلا صَرَمَتْ مَوَدَّتَك الرُّوَاعُ *** وَجَدَّ البَيْنُ مِنْهَا والوَدَاعُ

وقال بِشْرُ بنُ أَبِي خازِمٍ:

تَحَمَّلَ أَهلُهَا مِنْهَا فبانُوا *** فَأَبْكَتْنِي مَنازِلُ للرُّوَاعِ

وِأَبو رَوْعَةَ الجُهَنِيُّ: ممَّنْ وَفَدَ على النَّبِيِّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم المَدِينَةَ مع أَخِيهِ لِأُمِّه عبدِ العُزَّى بنِ بَدْرٍ الجُهَنِيّ، رضي ‌الله‌ عنهما، ولم يَذْكُر أَبا رَوْعَة الذَّهَبِيُّ ولا إبنُ فَهْدٍ، فهو مُسْتَدْرَكٌ عليهِمَا في مُعْجَمَيْهِما.

وِالرُّوعُ، بالضَّمِّ: القَلْبُ، كما في الصّحاحِ، أَو الرُّوعُ: مَوْضِعُ الرَّوْعِ؛ أَي الفَزَعِ منه؛ أَي من القَلْب، أَو رُوعُ القَلْبِ: سَوَادُه، وقِيلَ: الذِّهْنُ، وقِيل: العَقْلُ، الأَخِيرُ نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ. ويُقَالُ: وَقَع ذلِكَ في رُوعِي، أَي: نَفْسِي وَخَلَدِي وبَالِي، وفي الحَدِيثِ: «إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَها، فاتَّقُوا الله وأَجْمِلُوا في الطَّلَبِ» قال أَبُو عُبَيْدَةَ: معناهُ: في نَفْسِي وخَلَدِي، ونحو ذلِك. ومنه الحَديثُ قالَ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم لعُرْوَةَ بنِ مُضَرِّسِ بنِ أَوْسِ بنِ حارِثَةَ بنِ لَأْمٍ الطّائيِّ رضِيَ اللهُ عنه ـ حِينَ انْتَهَى إِلَيْه، وهو بجَمْعٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الغَدَاةَ، فقالَ: يا نَبِيَّ اللهِ طَوَيْتُ الجَبَلَيْنِ، ولَقِيتُ شِدَّةً ـ: «أَفْرَخَ رُوعُكَ، مَنْ أَدْرَكَ إِفاضَتنا هذِه فقَدْ أَدْرَكَ» يعنِي الحَجَّ؛ أَي خَرَجَ الفَزَعُ من قَلْبِك، هكَذا فسَّرَه أَبُو الهَيْثَمِ، ويُرْوَى رَوْعُك، بالفَتْحِ، أَو هي الرِّوايَةُ فَقَطْ. قال الأَزْهَرِيُّ: كلُّ مَنْ لَقِيتُه من اللُّغَوِيِّينَ يَقولُ: أَفْرَخَ رَوْعُه، بفتحِ الرّاءِ، إِلّا ما أَخْبَرَنِي به المُنْذِرِيُّ عن أَبِي الهَيْثَمِ أَنَّه كانَ يَقُولُ: إِنّما هو أَفْرَخَ رُوعُه، بالضَّمِّ.

وفِي العُبَابِ: قالَ أَبُو أَحْمَدَ الحَسَنُ بنُ عبدِ الله بنِ سَعِيدٍ العَسْكَرِيُّ: أَفْرَخَ رَوْعُك، أَيْ زالَ عنكَ ما تَرْتَاعُ له وتَخافُ، وذَهَبَ عنكَ، وانْكَشَفَ، كأَنَّهُ مَأْخُوذٌ من خُرُوجِ الفَرْخِ من البَيْضَةِ وانْكِشافِ الغُمَّةِ عنه، وقالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَفْرِخْ رَوْعَكَ، تَفْسِيرُه: ليَذْهَبْ رُعْبُكَ وفَزَعُكَ، فإِنَّ الأَمْرَ ليسَ عَلَى ما تُحاذِرُه.

وِفي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ رضي ‌الله‌ عنه: أَنَّهُ كَتَبَ إِلى زِيادٍ وذلِكَ أَنَّهُ كانَ عَلَى البَصْرَةِ، وكانَ المُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ على الكُوفَةِ، فتُوفِّيَ بها، فخافَ زِيَادٌ أَنْ يُوَلِّيَ مُعاوِيةُ عبدَ الله بنَ عامرٍ مَكَانَه، فكَتَبَ إِلى مُعَاوِيَةَ يُخْبِرُه بوَفَاةِ المُغِيرَةِ، ويُشيرُ عليهِ بتَوْلِيَةِ الضَّحّاكِ بنِ قَيْسٍ مكَانَه، ففَطِنَ له مُعَاوِيَةَ، وكَتَبَ إِليه: قد فَهِمْتُ كِتَابَكَ، وليُفْرِخْ رُوعُكَ أَبا المُغِيرَةِ، وقد ضَمَمْنَا إِلَيْك الكُوفَةَ مع البَصْرَةِ».

المَشْهُورُ عندَ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ بالفَتْحِ، إِلّا أَبا الهَيْثَمِ، فإِنَّه رَواه بالضَّمِّ، والمَعْنَى: أَي أَخْرِجِ الرَوْعَ من رُوعِك؛ أَي الفَزَعَ من قلْبِك.

قال أَبو الهَيْثَمِ: ويُقَالُ: أَفْرَخَتِ البَيْضَةُ، إِذا خَرَجَ الفَرْخُ مِنْهَا، قال: والرَّوْعُ، بالفَتْح: الفَزعُ، والفَزَعُ لا يَخْرُجُ من الفَزَعِ، وإِنّما يَخْرُجُ من مَوْضِعٍ يكونُ فيه الفَزَع، وهو الرُّوعُ، بالضَّمِّ، قال: والرَّوْعُ في الرُّوعِ كالفَرْخ في البَيْضَةِ، يُقَالُ: أَفْرَخَتِ البَيْضَةُ، إِذا تَفَلَّقَتْ عن الفَرْخِ، فَخَرَجَ منها وأَفْرَخَ فُؤَادُ رَجُل: إِذا خَرَجَ رَوْعُهُ، قالَ: وقَلَبَه ذُو الرُّمَّةِ عَلَى المَعْرِفَةِ بالمَعْنَى، فقالَ يَصِفُ ثَوْرًا:

وَلَّى يَهُزُّ اهْتِزازًا وَسْطَهَا زَعِلًا *** جَذْلانَ قد أَفْرَخَتْ عن رُوعِهِ الكُرَبُ

قال: ويُقَالُ: أَفْرِخْ رُوعَكَ، على الأَمْرِ؛ أَي اسْكُنْ، وأْمَنْ، قال الأَزْهَرِيُّ: والذي قالَهُ أَبو الهَيْثَمِ بَيِّنٌ، غيرَ أَنِّي اسْتَوْحِشُ منه؛ لانْفِرَادِه بقَوْلِه. وقد يَسْتَدْرِكُ الخَلَفُ على السَّلَفِ أَشْيَاءَ رُبَّمَا زَلُّوا فيها. فلا نُنْكِر إِصابَة أَبِي الهَيْثَم فيما ذَهَب إِليهِ، وقد كانَ له حَظٌّ من العِلْم مَوْفُورٌ، رَحِمَه اللهُ تَعالَى.

وِنَاقَةٌ رُوَاعَةُ الفُؤادِ، ورُوَاعُهُ، بضَمِّهِما، إِذا كانَت شَهْمَة ذَكِيَّة، قالَ ذُو الرُّمَّةِ:

رَفَعْتُ له رَحْلِي عَلَى ظَهْرِ عِرْمِسٍ *** رُوَاعِ الفُؤادِ حُرَّةِ الوَجْهِ عَيْطَلِ

وِالرَّوْعَاءُ: الفَرَسُ والنّاقَةُ الحَدِيدَةُ الفُؤَادِ، ولا يُوصَفُ به الذَّكَر، كما في الصّحاح، وفي التَّهْذِيبِ: فَرَسٌ رُوَاعٌ. بغير هاءٍ. وقال ابنُ الأَعْرَابِيِّ: فَرَسٌ رَوْعَاءُ: لَيْسَتْ من الرّائِعَةِ، ولكِنَّهَا الَّتِي كأَنَّ بها فَزَعٌ من ذَكائِها، وخِفَّةِ رُوحِها.

وِالأَرْوَعُ من الرِّجَالِ: مَنْ يُعْجِبُكَ بحُسْنِهِ وجَهَارَةِ مَنْظَرِه مع الكَرَمِ والفَضْلِ والسُّؤْدُدِ، أَوْ بِشَجَاعَتِه، وقِيلَ: هو الجَمِيلُ الَّذِي يَرُوعُك حُسْنُه، ويُعْجِبُك إِذا رَأَيْتَه، قال ذُو الرُّمَّةِ:

إِذا الأَرْوَعُ المَشْبُوبُ أَضْحَى كَأَنَّه *** على الرَّحْلِ ممّا مَنَّه السَّيْرُ أَحْمَقُ

وقِيلَ: هو الحَدِيدُ، ورَجُلٌ أَرْوَعُ: حَيُّ النَّفْسِ ذَكِيٌّ، كالرّائِعِ، ج: أَرْوَاعُ ورُوعٌ، بالضَمِّ. أَمّا الرُّوعُ فجمعُ أَرْوَع، يُقَال: رِجَالٌ رُوعٌ، ونِسْوَةٌ رُوعٌ. وأَمّا الأَرْوَاعُ فجَمْعُ رَائعٍ، كشَاهِدٍ وأَشْهَادٍ، وصَاحِبٍ وأَصْحَابٍ، ومنه حديث وائلِ بنِ حُجْرٍ: «إلى الأَقْيَالِ العَبَاهِلَةِ الأَرْوَاعِ المَشَابِيبِ» وهم الحِسَانُ الوُجُوهِ، الَّذِين يَرُوعُونَ بجَهَارَةِ المَنَاظِرِ، وحُسْنِ الشّاراتِ. وقِيلَ: هُم الَّذِينَ يَرُوعُونَ النّاسَ؛ أَي يُفْزِعُونَهُم بمَنْظَرِهم؛ هَيْبَةً لهم، والأَوَّلُ أَوْجَه.

وِالاسْمُ: الرَّوَعُ، محرَّكةً، يُقَالُ: هو أَرْوَعُ بَيِّنُ الرَّوَعِ، وهي رَوْعاءُ بَيِّنَةُ الرَّوَعِ، والفِعْلُ من كُلِّ ذلِك وَاحِدٌ، فالمُتَعَدِّي كالمُتَعَدِّي، وغَيْرُ المُتَعَدِّي كَغَيْرِ المُتَعَدِّي. قالَ الأَزْهَريُّ: والقِيَاسُ في اشْتِقَاقِ الفِعْل منه رَوِعَ يَرْوَعُ رَوَعًا.

وِقال شَمِرٌ: رَوَّعَ خُبْزَهُ بالسَّمْنِ تَرْوِيعًا ورَوَّغَه، إِذا رَوّاهُ به.

وقالَ ابنُ عَبّادٍ: أَرْوَعَ الرّاعِي بالغَنَمِ، إِذا لَعْلَعَ بها، قال: وهوَ زَجْرٌ لها.

وِالمُرَوَّع، كمُعَظَّمٍ: مَنْ يُلْقَي في صَدْرِه صِدْقُ فِرَاسَةٍ، أَو مَنْ يُلْهَمُ الصَّوابَ، وبهما فُسِّرَ الحَدِيثُ المَرْفُوع: «إِنَّ في كُلِّ أُمَّةٍ مُحَدِّثِينَ ومُرَوَّعِينَ، فإِنْ يَكُنْ في هذه الأُمَّةِ أَحَدٌ فإِنَّ عُمَرَ مِنْهُم! » وكذلك المُحَدَّثُ، كأَنَّه حُدِّثَ بالحَقِّ الغَائِب، فنَطَقَ به.

وِتَرَوَّعَ الرَّجُل: تَفَزَّعَ، وهذا قد تَقَدَّمَ له في أَوَّلِ المادَةِ، وأَنْشَدْنا هُنَاك شاهِدَه من قَوْلِ رُؤْبَةَ، فهو تَكْرَارٌ.

* وممّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْه:

الرُّوَاعُ، بالضَّمِّ: الفَزَعُ، رَاعَنِي الأَمْرُ رُوَاعًا، بالضَّمِّ، ورُوُوعًا، ورُؤُوعًا، عن ابْنِ الأَعْرَابِيِّ. كذلِكَ حَكَاهُ بغَيْرِ هَمُزٍ، وإِنْ شِئْتَ هَمَزْتُ، وكذلِك رَوّعَهُ، إِذا أَفْزَعَه بكَثْرَتِه أَو جَمَالِه.

ورَجُلٌ رَوِعٌ، ورَائعٌ: مُتَرَوِّعٌ، كِلاهُما على النَّسَبِ، صَحَّت الواوُ في رَوِعَ؛ لأَنَّهم شَبَّهُوا حَرَكَةَ العَيْنِ التّابِعَةِ لها بحَرْفِ اللِّينِ التّابع لها، فكأَنَّ فَعِلًا فَعِيلٌ، وقد يَكُونُ رَائِعٌ فَاعِلًا في مَعْنَى، مَفْعُول، كقَوْلِهِ:

ذَكَرْتُ حَبِيبًا فَاقِدًا تَحْتَ مَرْمَسِ

وقَوْلُ الشّاعِر:

شُذَّانُهَا رَائِعَةُ من هَدْرِهِ

أَي: مُرْتاعَةٌ، وقالَ الأَزْهَرِيُّ: وقالُوا: رَاعَهُ أَمرُ كذا؛ أَي بَلَغَ الرَّوْعُ رُوعَهُ.

وِالرّائِعُ من الجَمَالِ: الّذِي يُعْجِبُ رُوعَ مَنْ رَآه، فيَسُرُّه.

وكَلامٌ رائعٌ؛ أَي فائقٌ، وهو مَجَازٌ.

وزِينَةٌ رائعةٌ؛ أَي حَسَنَةٌ.

وفَرَسٌ رَوْعَاءُ، ورائعةٌ: تَرُوعُكَ بعِتْقِها وخِفَّتِهَا، قال:

رائِعَةٌ تَحْمِلُ شَيْخًا رَائِعَا *** مُجَرَّبًا قدْ شَهِدَ الوَقائِعا

ونِسْوَةٌ رَوَائِع، ورُوعٌ.

وقلبٌ أَرْوَعُ ورُوَاعٌ: يَرْتاع لِحِدَّته ـ من كلِّ ما سَمِعَ أَو رأَى. وقال ابنُ الأَعْرَابِيّ: فَرَسٌ أَرْوَعُ، كرَجُلٍ أَرْوَعَ.

وشَهِدَ الرَّوْعَ؛ أَي الحَرْبَ. وهو مَجاز. وثَاب إِلَيْه رُوعُه، بالضّمّ؛ أَي ذَهَب إِلى شَيْ‌ءٍ، ثم عاد إِلَيْه.

ويقال: ما رَاعَنِي إِلَّا مَجِيئُك، معناه: ما شَعَرْتُ إِلّا بمَجِيئِكَ، كأَنَّهُ قال: ما أَصابَ رُوعِي إِلّا ذلِكَ، وهو مَجازٌ، وفي حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسِ: «فلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا رَجُلٌ آخِذٌ بمَنْكِبِي» أَي لم أَشْعُر، كأَنَّهُ فاجَأَه بَغْتَةً من غَيْرِ مَوْعِدٍ ولا مَعْرِفَةٍ، فراعَهُ ذلِكَ وأَفْزَعَه.

وقال أَبو زَيْد: ارْتَاعَ للخَيْرِ، وارْتَاحَ له، بمَعْنًى وَاحِدٍ. وأَبو الرُّوَاعِ، كغُرَابٍ: من كُنَاهُمْ.

وِالرُّواعُ بنتُ بَدْرِ بنِ عَبْدِ الله بنِ الحارِث بن نُمَيْرٍ: أُمُّ زُرْعَةَ، وعَلَسٍ ومَعْبَدٍ، وحارِثَةَ، بني عَمْرِو بن خُوَيْلِدِ بن نُفَيْلِ بنِ عَمْرِو بنِ كِلابٍ.

وِالأَرْوَعُ: الَّذِي يُسْرعُ إِليهِ الارْتِيَاعُ، نقله ابنُ بَرِّيّ في ترجمة «عجس».

وِمَرْوَعٌ، كَمَقْعَدٍ: مَوْضِعٌ، قال رُؤْبَةُ:

فباتَ يَأْذَى مِنْ رَذَاذٍ دَمَعَا *** مِنْ واكِفِ العِيدانِ حَتَّى أَقْلَعا

في جَوْفِ أَحْبَى من حِفَافَيْ مَرْوَعَا

وِراعَ الشَّيْ‌ءُ يَرُوعُ: فَسَدَ، وهذا نَقَلَه شَيْخُنا عن الاقْتِطَافِ.

والمُرَاوَعَةُ ـ مُفَاعَلَة من الرَّوْع ـ: قَرْيَةٌ باليَمَنِ، وبِهَا دُفِنَ الإِمَامُ أَبُو الحَسَنِ عليُّ بنُ عُمَرَ الأَهْدَلُ، أَحَدُ أَقْطَاب اليَمَنِ، وَوَلَدُه بها، بارَكَ الله في أَمْثَالِهم.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


41-لسان العرب (غبب)

غبب: غِبُّ الأَمْرِ ومَغَبَّتُه: عاقبتُه وآخِرُه.

وغَبَّ الأَمرُ: صارَ إِلى آخِرِهِ؛ وَكَذَلِكَ غَبَّتِالأُمورُ إِذا صارتْ إِلى أَواخرها؛ وأَنشد:

غِبَّ الصَّباحِ يَحمَدُ القومُ السُّرى

وَيُقَالُ: إِن لِهَذَا العِطرِ مَغَبَّةً طَيِّبَةً أَي عَاقِبَةً.

وغَبَّ: بِمَعْنَى بَعُدَ.

وغِبُّ كلِّ شيءٍ: عاقبتُه.

وجئتُه غِبَّ الأَمر أَي بَعْدَه.

والغِبُّ: وِرْدُ يَوْمٍ، وظِمءُ آخرَ؛ وَقِيلَ: هُوَ لِيَوْمٍ وَلَيْلَتَيْنِ؛ وَقِيلَ: هُوَ أَن تَرعى يَوْمًا، وتَرِدَ مِنَ الغَدِ.

وَمِنْ كَلَامِهِمْ: لأَضرِبَنَّكَ غِبَّ الحِمارِ وظاهرةَ الفَرس؛ فغِبُّ الْحِمَارِ: أَن يَرعى يَوْمًا ويَشرَبَ يَوْمًا، وظاهرةُ الفرَس: أَن تَشرَبَ كلَّ يَوْمٍ نصفَ النَّهَارِ.

وغَبَّتِ الماشيةُ تَغبُّ غَبًّا وغُبوبًا: شَرِبَت غِبًّا؛ وأَغَبَّها صاحبُها؛ وإيلُ بَنِي فُلَانٍ غابَّةٌ وغَوابُّ.

الأَصمعي: الغِبُّ إِذا شَرِبَت الإِبلُ يَوْمًا، وغَبَّتْ يَوْمًا؛ يُقَالُ: شَرِبَتْ غِبًّا؛ وَكَذَلِكَ الغِبُّ مِنَ الحُمَّى.

وَيُقَالُ: بَنُو فُلَانٍ مُغِبُّون إِذا كَانَتْ إِبلُهم تَرِدُ الغِبَّ؛ وبعيرٌ غابٌ، وإِبلٌ غَوابُّ إِذا كَانَتْ تَرِدُ الغِبَّ.

وغَبَّتِ الإِبلُ، بِغَيْرِ أَلف، تَغِبُّ غِبًّا إِذا شَرِبَتْ غِبًّا؛ وَيُقَالُ للإِبل بَعْدَ العِشر: هِيَ تَرْعى عِشْرًا وغِبًّا وعِشْرًا ورِبْعًا، ثُمَّ كَذَلِكَ إِلى العِشرين.

والغِبُّ، مِنْ وِرْدِ الماءِ: فَهُوَ أَن تَشرَبَ يَوْمًا، وَيَوْمًا لا.

وغَبَّتِ الإِبلُ: مِنْ غِبِّ الوِرْدِ.

والغِبُّ مِنَ الحُمَّى: أَن تأْخذ يَوْمًا وتَدَعَ آخرَ؛ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ غِبِّ الوِرْدِ، لأَنها تأْخذ يَوْمًا، وتُرَفِّه يَوْمًا؛ وَهِيَ حُمَّى غِبٌّ: عَلَى الصِّفَةِ للحُمَّى.

وأَغَبَّته الحُمَّى، وأَغَبَّتْ عَلَيْهِ، وغَبَّتْ غِبًّا وغَبًّا.

وَرَجُلٌ مُغِبٌّ: أَغَبَّتْهُ الحُمَّى؛ كَذَلِكَ رُوي عَنْ أَبي زَيْدٍ، عَلَى لَفْظِ الْفَاعِلِ.

وَيُقَالُ: زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا.

وَيُقَالُ: مَا يُغِبُّهُم بِرِّي.

وأَغبَّتِ الحُمَّى وغَبَّتْ: بِمَعْنًى.

وغَبَّ الطعامُ والتمرُ يَغِبُّ غَبًّا وغِبًّا وغُبُوبًا وغُبُوبَةً، فَهُوَ غابٌّ: باتَ لَيْلَةً فَسَدَ أَو لَمْ يَفْسُدْ؛ وخَصَّ بعضُهم بِهِ اللحمَ.

وَقِيلَ: غَبَّ الطعامُ تغيرتْ رَائِحَتُهُ؛ وَقَالَ جَرِيرٌ يَهْجُو الأَخطل:

والتَّغْلَبِيَّةُ، حِينَ غَبَّ غَبِيبُها، ***تَهْوي مَشافِرُها بشَرِّ مَشافِر

أَراد بِقَوْلِهِ: غَبَّ غَبِيبُها، مَا أَنْتَنَ مِنْ لُحوم مَيْتتها وخَنازيرها.

وَيُسَمَّى اللَّحْمُ البائتُ غَابًّا وغَبِيبًا.

وغَبَّ فلانٌ عِنْدَنَا غَبًّا وغِبًّا، وأَغَبَّ: باتَ، وَمِنْهُ سُمِّيَ اللحمُ البائتُ: الغابَّ.

وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: رُوَيْدَ الشِّعرِ يُغِبَّ وَلَا يكونُ يُغِبُّ؛ مَعْنَاهُ: دَعْه يمكثْ يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ؛ وَقَالَ نَهْشَل بنُ جُرَيٍّ:

فَلَمَّا رَأَى أَنْ غَبَّ أَمْرِي وأَمْرُه، ***ووَلَّتْ، بأَعجازِ الأُمورِ، صُدُورُ

التَّهْذِيبُ: أَغَبَّ اللحمُ، وغَبَّ إِذا أَنْتَن.

وَفِي حديثِ الغِيبةِ: فقاءَتْ لَحْمًا غَابًّا

أَي مُنْتِنًا.

وغَبَّتِ الحُمَّى: مِنَ الغِبِّ، بِغَيْرِ أَلف.

وَمَا يُغِبُّهم لُطْفِي أَي مَا يتأَخر عَنْهُمْ يَوْمًا بَلْ يأْتيهم كلَّ يَوْمٍ؛ قَالَ:

عَلَى مُعْتَفِيه مَا تُغِبُّ فَواضلُه

وفلانٌ ما يُغِبُّنا عَطاؤُه أَي لَا يأْتينا يَوْمًا دُونَ يَوْمٍ، بَلْ يأْتينا كلَّ يَوْمٍ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزُ:

وحُمَّراتٌ شُرْبُهُنَّ غِبُ أَي كلَّ ساعةٍ.

والغِبُّ: الإِتيانُ فِي الْيَوْمَيْنِ، وَيَكُونُ أَكثر.

وأَغَبَّ القومَ، وغَبَّ عَنْهُمْ: جاءَ يَوْمًا وَتَرَكَ يَوْمًا.

وأَغَبَّ عَطاؤُه إِذا لَمْ يأْتنا كلَّ يَوْمٍ.

وأَغَبَّتِ الإِبلُ إِذا لَمْ تأْتِ كلَّ يَوْمٍ بلَبن.

وأَغَبَّنا فلانٌ: أَتانا غِبًّا.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَغِبُّوا فِي عِيادَة الْمَرِيضِ وأَرْبِعُوا»؛ يَقُولُ: عُدْ يَوْمًا، ودَعْ يَوْمًا، أَو دَعْ يَوْمَيْنِ، وعُدِ اليومَ الثالثَ أَي لَا تَعُدْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، لِما يَجِدُهُ مِنْ ثِقَل العُوَّاد.

الْكِسَائِيُّ: أَغْبَبْتُ القومَ وغَبَبْتُ عَنْهُمْ، مِنَ الغِبِّ: جئْتُهم يَوْمًا، وَتَرَكْتُهُمْ يَوْمًا، فإِذا أَردت الدَّفْعَ، قُلْتَ: غَبَّبْتُ عَنْهُمْ، بِالتَّشْدِيدِ.

أَبو عَمْرٍو: غَبَّ الرجلُ إِذا جاءَ زَائِرًا يَوْمًا بَعْدَ أَيام؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا.

وَقَالَ ثَعْلَبٌ: غَبَّ الشيءُ فِي نَفْسِهِ يَغِبُّ غَبًّا، وأَغَبَّني: وَقَعَ بِي.

وغَبَّبَ عَنِ الْقَوْمِ: دَفَع عَنْهُمْ.

والغِبُّ فِي الزِّيَارَةِ، قَالَ الْحَسَنُ: فِي كُلِّ أُسبوع.

يُقَالُ: زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا.

قَالَ ابْنُ الأَثير: نُقِل الغِبُّ مِنْ أَوراد الإِبل إِلى الزِّيَارَةِ.

قَالَ: وإِن جاءَ بَعْدَ أَيام يُقَالُ: غَبَّ الرجلُ إِذا جاءَ زَائِرًا بَعْدَ أَيام.

وَفِي حَدِيثِ هِشَامٍ: «كَتَبَ إِليه يُغَبِّب عَنْ هَلاك الْمُسْلِمِينَ»أَي لَمْ يُخْبِرْه بِكَثْرَةِ مَنْ هَلَك مِنْهُمْ؛ مأْخوذ مِنَ الغِبِّ الوِرْدِ، فَاسْتَعَارَهُ لِمَوْضِعِ التَّقْصِيرِ فِي الإِعلام بكُنْه الأَمر.

وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الغُبَّةِ، وَهِيَ البُلْغَةُ مِنَ العَيْش.

قَالَ: وسأَلتُ فُلَانًا حَاجَةً، فَغَبَّبَ فِيهَا أَي لَمْ يُبَالِغْ.

والمُغَبَّبةُ: الشاةُ تُحْلَبُ يَوْمًا، وتُتْرَك يَوْمًا.

والغُبَبُ: أَطْعمة النُّفَساءِ؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي.

والغَبِيبَةُ، مِنْ أَلبان الْغَنَمِ: مثلُ المُرَوَّبِ؛ وَقِيلَ: هُوَ صَبُوحُ الْغَنَمِ غُدْوةً، يُتْركُ حَتَّى يَحْلُبوا عَلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَمْخَضُوه مِنَ الغَدِ.

وَيُقَالُ لِلرَّائِبِ مِنَ اللَّبَنِ: الغَبِيبةُ.

الْجَوْهَرِيُّ: الغَبِيبةُ مِنْ أَلبان الإِبل، يُحْلَبُ غُدْوة، ثُمَّ يُحْلَبُ عَلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ يُمْخَضُ مِنَ الْغَدِ.

وَيُقَالُ: مياهٌ أَغْبابٌ إِذا كَانَتْ بَعِيدَةً؛ قَالَ:

يَقُولُ: لَا تُسْرِفُوا فِي أَمْرِ رِيِّكُمُ ***إِنَّ المِياهَ، بجَهْدِ الرَّكْبِ، أَغْبابُ

هؤُلاءِ قومٌ سَفْر، وَمَعَهُمْ مِنَ الماءِ مَا يَعْجِزُ عَنْ رِيِّهِم، فَهُمْ يَتَواصَوْن بِتَرْكِ السَّرَفِ فِي الماءِ.

والغَبِيبُ: المسيلُ الصَّغِيرُ الضَّيِّقُ مِنْ مَتْنِ الْجَبَلِ، ومَتْنِ الأَرض؛ وَقِيلَ: فِي مُسْتَواها.

والغُبُّ: الغامِضُ مِنَ الأَرض؛ قَالَ:

كأَنَّها، فِي الغُبِّ ذِي الغِيطانِ، ***ذِئابُ دَجْنٍ دَائِمِ التَّهْتانِ

وَالْجَمْعُ: أَغبابٌ وغُبوبٌ وغُبَّانٌ؛ وَمِنْ كَلَامِهِمْ: أَصابنا مطرٌ سَالَ مِنْهُ الهُجَّانُ والغُبَّانُ.

والهُجَّانُ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ.

والغُبُّ: الضاربُ مِنَ الْبَحْرِ حَتَّى يُمْعِنَ فِي البَرِّ.

وغَبَّبَ فلانٌ فِي الْحَاجَةِ: لمْ يُبَالِغْ فِيهَا.

وغَبَّبَ الذئبُ عَلَى الْغَنَمِ إِذا شَدَّ عَلَيْهَا ففَرَسَ.

وغَبَّبَ الفَرَسُ: دَقَّ العُنُقَ؛ والتَّغْبِيبُ أَن يَدَعَها وَبِهَا شيءٌ مِنَ الْحَيَاةِ.

وَفِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ: «لَا تُقْبل شهادةُ ذِي تَغِبَّة»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هَكَذَا جاءَ فِي رِوَايَةٍ، وَهِيَ تَفْعِلَة، مِن غَبَّب الذِّئبُ فِي الغَنم إِذا عاثَ فِيهَا، أَو مِن غَبَّبَ، مُبَالَغَةً فِي غَبَّ الشيءُ إِذا فَسَد.

والغُبَّةُ: البُلْغة مِنَ العَيْش، كالغُفَّة.

أَبو عَمْرٍو: غَبْغَبَ إِذا خَانَ فِي شِرائه وبَيعِه.

الأَصمعي: الغَبَبُ والغَبْغَبُ الجِلْدُ الَّذِي تَحْتَ الحَنَك.

وَقَالَ اللَّيْثُ: الغَبَبُ لِلْبَقَرِ والشاءِ مَا تَدَلَّى عِنْدَ النَّصيل تَحْتَ حَنَكها، والغَبْغَبُ للدِّيكِ وَالثَّوْرِ.

والغَبَبُ والغَبْغَبُ: مَا تَغَضَّنَ مِنْ جِلْدِ مَنْبِتِ العُثْنُونِ الأَسْفَلِ؛ وخَصَّ بعضُهم بِهِ الدِّيَكة والشاءَ وَالْبَقَرَ؛ وَاسْتَعَارَهُ الْعَجَّاجُ فِي الفَحل، فَقَالَ:

بذاتِ أَثناءٍ تَمَسُّ الغَبْغَبا

يَعْنِي شِقْشِقة الْبَعِيرِ.

وَاسْتَعَارَهُ آخَرُ للحِرْباءِ؛ فَقَالَ:

إِذا جَعلَ الحِرْباءُ يَبْيَضُّ رأْسُه، ***وتَخْضَرُّ مِنْ شمسِ النَّهَارِ غَباغِبُهْ

الفراءُ: يُقَالُ غَبَبٌ وغَبْغَبٌ.

الْكِسَائِيُّ: عَجُوزٌ غَبْغَبُها شِبْر، وَهُوَ الغَبَبُ.

والنَّصِيلُ: مَفْصِلُ مَا بَيْنَ العُنُقِ والرأْس مِنْ تَحْتِ اللِّحْيَيْن.

والغَبْغَبُ: المَنْحَر بِمِنًى.

وَقِيلَ: الغَبْغَبُ نُصُبٌ كانَ يُذْبَحُ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.

وَقِيلَ: كلُّ مَذْبَحٍ بِمِنًى غَبْغَبٌ.

وَقِيلَ: الغَبغَبُ المَنْحَر بِمِنًى، وَهُوَ جَبَل فَخَصَّصَ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

والراقِصات إِلى مِنًى فالغَبْغَبِ

وَفِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ غَبْغَبٍ، بِفَتْحِ الْغَيْنَيْنِ، وَسُكُونِ الباءِ الأُولى: مَوْضِعُ الْمَنْحَرِ بِمِنًى؛ وَقِيلَ: الْمَوْضِعُ الَّذِي كَانَ فِيهِ اللاتُ بِالطَّائِفِ.

التَّهْذِيبُ، أَبو طَالِبٍ فِي قَوْلِهِمْ: رُبَّ رَمْيةٍ مِنْ غَيْرِ رامٍ؛ أَوَّلُ مَنْ قَالَهُ الحَكَمُ بنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَكَانَ أَرْمَى أَهلِ زَمَانِهِ، فَآلَى لَيَذْبَحَنَّ عَلَى الغَبْغَب مَهاةً، فَحَمَل قوسَه وكنانتَه، فَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، فَقَالَ: لأَذْبَحَنَّ نَفْسِي فَقَالَ لَهُ أَخوه: اذْبَحْ مَكَانَهَا عَشْرًا مِنَ الإِبل، وَلَا تَقْتُلْ نَفْسَك فَقَالَ: لَا أَظلم عَاتِرَةً، وأَتْرُكُ النافرةَ.

ثُمَّ خرجَ ابنُه مَعَهُ، فرمَى بَقَرَةً فأَصابها؛ فَقَالَ أَبوه: رُبَّ رَمْيةٍ مِنْ غَير رامٍ.

وغُبَّةُ، بِالضَّمِّ: فَرْخُ عُقابٍ كَانَ لَبَنِي يَشْكُر، وَلَهُ حَدِيثٌ، وَاللَّهُ تعالى أَعلم.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


42-لسان العرب (عبد)

عبد: الْعَبْدُ: الإِنسان، حُرًّا كَانَ أَو رَقِيقًا، يُذْهَبُ بِذَلِكَ إِلى أَنه مَرْبُوبٌ لِبَارِيهِ، جَلَّ وَعَزَّ.

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ فِي الْفِدَاءِ: «مكانَ عَبْدٍ عَبْدٌ»، كَانَ مِنْ مَذْهَبِ عُمَرَ، رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، فِيمَنْ سُبيَ مِنَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وأَدركه الإِسلام، وَهُوَ عِنْدَ مَنْ سَبَاهُ، أَن يُرَدَّ حُرًّا إِلى نَسَبِهِ وَتَكُونَ قِيمَتُهُ عَلَيْهِ يؤَدّيها إِلى مَنْ سَبَاهُ، فَجَعل مَكَانَ كُلِّ رأْس مِنْهُمْ رأْسًا مِنَ الرَّقِيقِ؛ وأَما قَوْلُهُ:

وَفِي ابْنِ الأَمة عَبْدان، فإِنه يُرِيدُ الرَّجُلَ الْعَرَبِيَّ يَتَزَوَّجُ أَمة لِقَوْمٍ فَتَلِدُ مِنْهُ وَلَدًا فَلَا يَجْعَلُهُ رَقِيقًا، وَلَكِنَّهُ يُفْدَى بِعَبْدَيْنِ، وإِلى هَذَا ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ رَاهَوَيْهِ، وسائرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى خِلَافِهِ.

والعَبْدُ: الْمَمْلُوكُ خِلَافُ الْحُرِّ؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: هُوَ فِي الأَصل صِفَةٌ، قَالُوا: رَجُلٌ عَبْدٌ، وَلَكِنَّهُ استُعمل اسْتِعْمَالَ الأَسماء، وَالْجَمْعُ أَعْبُد وعَبِيد مِثْلُ كَلْبٍ وكَليبٍ، وَهُوَ جَمْع عَزيزٌ، وعِبادٌ وعُبُدٌ مِثْلُ سَقْف وسُقُف؛ وأَنشد الأَخفش:

انْسُبِ العَبْدَ إِلى آبائِه، ***أَسْوَدَ الجِلْدَةِ مِنْ قَوْمٍ عُبُدْ

وَمِنْهُ قرأَ بعضُهم: وعُبُدَ الطاغوتِ؛ وَمِنَ الْجَمْعِ أَيضًا عِبْدانٌ، بِالْكَسْرِ، مِثْلَ جِحْشانٍ.

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: «هؤُلاء قَدْ ثَارَتْ مَعَهُمْ عِبْدانُكم».

وعُبْدانٌ، بِالضَّمِّ: مِثْلُ تَمْرٍ وتُمْرانٍ.

وعِبِدَّان، مُشَدَّدَةُ الدَّالِ، وأَعابِدُ جَمْعُ أَعْبُدٍ؛ قَالَ أَبو دُوَادٍ الإِيادي يَصِفُ نَارًا:

لَهنٌ كَنارِ الرأْسِ، بالْعَلْياءِ، ***تُذْكيها الأَعابِدْ

وَيُقَالُ: فُلَانٌ عَبْدٌ بَيِّن العُبُودَة والعُبودِيَّة والعَبْدِيَّةِ؛ وأَصل العُبودِيَّة الخُضوع والتذلُّل.

والعِبِدَّى، مَقْصُورٌ، والعبدَّاءُ، مَمْدُودٌ، والمَعْبوداء، بِالْمَدِّ، والمَعْبَدَة أَسماءُ الْجَمْعِ.

وَفِي حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ: «لَا يَقُل أَحدكم لِمَمْلُوكِهِ عَبْدي وأَمَتي وَلْيَقُلْ فتايَ وَفَتَاتِي»؛ هَذَا عَلَى نَفْيِ الِاسْتِكْبَارِ عَلَيْهِمْ وأَنْ يَنْسُب عُبُودِيَّتَهُمْ إِليه، فإِن الْمُسْتَحِقَّ لِذَلِكَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ رَبُّ الْعِبَادِ كُلِّهِمْ والعَبيدِ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ العِباد لِلَّهِ، وغيرَه مِنَ الْجَمْعِ لِلَّهِ وَالْمَخْلُوقِينَ، وَخَصَّ بَعْضُهُمْ بالعِبِدَّى العَبيدَ الَّذِينَ وُلِدوا فِي المِلْك، والأُنثى عَبْدة.

قَالَ الأَزهري: اجْتَمَعَ الْعَامَّةُ عَلَى تَفْرِقَةِ مَا بَيْنَ عِباد اللَّهِ وَالْمَمَالِيكِ فَقَالُوا هَذَا عَبْد مِنْ عِباد اللَّهِ، وهؤُلاء عَبيدٌ مَمَالِيكُ.

قَالَ: وَلَا يُقَالُ عَبَدَ يَعْبُدُ عِبادة إِلا لِمَنْ يَعْبُد اللَّهَ، وَمَنْ عَبَدَ دُونَهُ إِلهًا فَهُوَ مِنَ الْخَاسِرِينَ.

قَالَ: وأَما عَبْدٌ خَدَمَ مَوْلَاهُ فَلَا يُقَالُ عَبَدَه.

قَالَ اللَّيْثُ: وَيُقَالُ لِلْمُشْرِكِينَ هُمْ عَبَدَةُ الطَّاغُوتِ، وَيُقَالُ لِلْمُسْلِمِينَ عِبادُ اللَّهِ يَعْبُدُونَ اللَّهَ.

وَالْعَابِدُ: المُوَحِّدُ.

قَالَ اللَّيْثُ: العِبِدَّى جَمَاعَةُ العَبِيد الَّذِينَ وُلِدوا فِي العُبودِيَّة تَعْبِيدَةٌ ابْنُ تَعْبِيدَةٍ أَي فِي العُبودة إِلى آبَائِهِ، قَالَ الأَزهري: هَذَا غَلَطٌ، يُقَالُ: هَؤُلَاءِ عِبِدَّى اللَّهِ أَي عِبَادُهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ:

هَؤُلَاءِ عِبِدَّاكَ بِفِناءِ حَرَمِك؛ العِبِدَّاءُ، بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، جَمْعُ الْعَبْدِ.

وَفِي حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ: «أَنه قَالَ لِلنَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا هَذِهِ العِبِدَّى حوْلَك يَا مُحَمَّدُ؟»أَراد فقَراءَ أَهل الصُّفَّة، وَكَانُوا يَقُولُونَ اتَّبَعَه الأَرذلون.

قَالَ شَمِرٌ: وَيُقَالُ لِلْعَبِيدِ مَعْبَدَةٌ؛ وأَنشد لِلْفَرَزْدَقِ:

وَمَا كَانَتْ فُقَيْمٌ، حيثُ كَانَتْ ***بِيَثْرِبَ، غيرَ مَعْبَدَةٍ قُعودِ

قَالَ الأَزهري: ومثلُ مَعْبَدة جَمْعِ العَبْد مَشْيَخَةٌ جَمْعُ الشيْخ، ومَسْيَفة جَمْعُ السَّيْفِ.

قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: عَبَدْتُ اللَّهَ عِبادَة ومَعْبَدًا.

وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، الْمَعْنَى مَا خَلَقْتُهُمْ إِلا لأَدعوهم إِلى عِبَادَتِي وأَنا مُرِيدٌ لِلْعِبَادَةِ مِنْهُمْ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ مَنْ يَعْبُدُهُ مِمَّنْ يَكْفُرُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ خَلَقَهُمْ لِيُجْبِرَهُمْ عَلَى الْعِبَادَةِ لَكَانُوا كُلُّهُمْ عُبَّادًا مُؤْمُنِينَ؛ قَالَ الأَزهري: وَهَذَا قَوْلُ أَهل السنَّة وَالْجَمَاعَةِ.

والَعبْدَلُ: العبدُ، وَلَامُهُ زَائِدَةٌ.

والتِّعْبِدَةُ: المُعْرِقُ فِي المِلْكِ، وَالِاسْمُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ العُبودةُ والعُبودِيَّة وَلَا فِعْلَ لَهُ عِنْدَ أَبي عُبَيْدٍ؛ وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ: عَبُدَ عُبودَة وعُبودِية.

اللَّيْثُ: وأَعْبَدَه عَبْدًا مَلَّكه إِياه؛ قَالَ الأَزهري: وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهل اللُّغَةِ أَعْبَدْتُ فُلَانًا أَي استَعْبَدْتُه؛ قَالَ: وَلَسْتُ أُنْكِرُ جَوَازَ مَا قَالَهُ اللَّيْثُ إِن صَحَّ لِثِقَةٍ مِنَ الأَئمة فإِن السَّمَاعَ فِي اللُّغَاتِ أَولى بِنَا مِنْ خَبْطِ العَشْواءِ، والقَوْلِ بالحَدْس وابتداعِ قياساتٍ لَا تَطَّرِدُ.

وتَعَبَّدَ الرجلَ وعَبَّده وأَعْبَدَه: صيَّره كالعَبْد، وتَعَبَّدَ اللَّهُ العَبْدَ بِالطَّاعَةِ أَي اسْتَعْبَدَهُ؛ وَقَالَ الشَّاعِرُ:

حَتَّامَ يُعْبِدُني قَوْمي، وَقَدْ كَثُرَت ***فيهمْ أَباعِرُ، ما شاؤوا، وعِبْدانُ؟

وعَبَّدَه واعْتَبَده وَاسْتَعْبَدَهُ؛ اتَّخَذَهُ عَبْدًا؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ؛ قَالَ رُؤْبَةُ:

يَرْضَوْنَ بالتَّعْبِيدِ والتَّأَمِّي أَراد: والتَّأْمِيَةِ.

يُقَالُ: تَعَبَّدْتُ فُلَانًا أَي اتخذْتُه عَبْدًا مِثْلُ عَبَّدْتُه سَوَاءٌ.

وتأَمَّيْتُ فُلَانَةً أَي اتخذْتُها أَمَة.

وَفِي الْحَدِيثِ: «ثَلَاثَةٌ أَنا خَصْمُهم: رَجُلٌ اعْتَبَدَ مُحَرَّرًا»، وَفِي رِوَايَةٍ: أَعبَدَ مُحَرَّرًا أَي اتَّخَذَهُ عَبْدًا، وَهُوَ أَن يُعْتِقَه ثُمَّ يكْتمه إِياه، أَو يَعْتَقِلَه بَعْدَ العِتْقِ فَيَسْتَخْدِمَهُ كُرْهًا، أَو يأْخذ حُرًّا فيدَّعيه عَبْدًا وَيَتَمَلَّكَهُ؛ وَالْقِيَاسُ أَن يَكُونَ أَعبَدْتُه جَعَلْتُهُ عَبدًا.

وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ}؛ قَالَ الأَزهري: وَهَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ وَسَنَذْكُرُ مَا قِيلَ فِيهَا وَنُخْبِرُ بالأَصح الأَوضح.

قَالَ الأَخفش فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ}، قَالَ: يُقَالُ هَذَا اسْتِفْهَامٌ كأَنه قَالَ أَو تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ ثُمَّ فَسَّرَ فَقَالَ: أَن عَبَّدْتَ بَنِي إِسرائيل، فَجَعَلَهُ بَدَلًا مِنَ النِّعْمَةِ؛ قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: وَهَذَا غَلَطٌ لَا يَجُوزُ أَن يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ مُلْقًى وَهُوَ يُطْلَبُ، فِيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ كَاْلَخَبَرِ؛ وَقَدِ استُقْبِحَ وَمَعَهُ أَمْ وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، اسْتَقْبَحُوا قَوْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ:

تروحُ مِنَ الحَيِّ أَم تَبْتَكِرْ

قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَتَروحُ مِنَ الحَيِّ أَم تَبْتَكِر فحذفُ الِاسْتِفْهَامِ أَولى وَالنَّفِيُ تَامٌّ؛ وَقَالَ أَكثرهم: الأَوّل خَبَرٌ وَالثَّانِي اسْتِفْهَامٌ فأَما وَلَيْسَ مَعَهُ أَم لَمْ يَقُلْهُ إِنسان.

قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ، لأَنه قَالَ وأَنت مِنَ الْكَافِرِينَ لِنِعْمَتِي أَي لِنِعْمَةِ تَرْبِيَتِي لَكَ فأَجابه فَقَالَ: نَعَمْ هِي نِعْمَةٌ عَلَيَّ أَن عبَّدْت بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَسْتَعْبِدْنِي، فَيَكُونُ مَوْضِعُ أَن رَفْعًا وَيَكُونُ نَصْبًا وَخَفْضًا، مَنْ رَفَعَ رَدَّهَا عَلَى النِّعْمَةِ كأَنه قَالَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ تَعْبِيدُك بَنِي إِسرائيل وَلَمْ تُعَبِّدْني، وَمَنْ خَفَضَ أَو نَصَبَ أَضمر اللَّامَ؛ قَالَ الأَزهري: وَالنَّصْبُ أَحسن الْوُجُوهِ؛ الْمَعْنَى: أَن فِرْعَوْنَ لَمَّا قَالَ لِمُوسَى: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ، فاعْتَدَّ فِرْعَوْنُ عَلَى مُوسَى بأَنه ربَّاه وَلِيدًا منذُ وُلدَ إِلى أَن كَبِرَ فَكَانَ مِنْ جَوَابِ مُوسَى لَهُ: تِلْكَ نِعْمَةٌ تَعْتَدُّ بِهَا عَلَيَّ لأَنك عبَّدْتَ بَنِي إِسرائيل، وَلَوْ لَمْ تُعَبِّدْهم لكَفَلَني أَهلي وَلَمْ يُلْقُوني فِي الْيَمِّ، فإِنما صَارَتْ نِعْمَةً لِمَا أَقدمت عَلَيْهِ مِمَّا حَظَرَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ؛ قَالَ أَبو إِسحاق: الْمُفَسِّرُونَ أَخرجوا هَذِهِ عَلَى جِهَةِ الإِنكار أَن تَكُونَ تِلْكَ نِعْمَةً، كأَنه قَالَ: وأَيّ نِعْمَةٍ لَكَ عَلَيَّ فِي أَن عَبَّدْتَ بَنِي إِسرائيل، وَاللَّفْظُ لَفْظُ خَبَرٍ؛ قَالَ: وَالْمَعْنَى يَخْرُجُ عَلَى مَا قَالُوا عَلَى أَن لَفْظَهُ لَفْظُ الْخَبَرِ وَفِيهِ تَبْكِيتُ الْمُخَاطَبِ، كأَنه قَالَ لَهُ: هَذِهِ نِعْمَةٌ أَنِ اتَّخَذْتَ بَنِي إِسرائيلَ عَبيدًا وَلَمْ تَتَخِذْنِي عَبْدًا.

وعَبُدَ الرجلُ عُبودَةً وعُبودِيَّة وعُبِّدَ: مُلِكَ هُوَ وآباؤَه مِنْ قبلُ.

والعِبادُ: قَوْمٌ مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى مِنْ بطونِ الْعَرَبِ اجْتَمَعُوا عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ فأَنِفُوا أَن يَتَسَمَّوْا بالعَبِيدِ وَقَالُوا: نَحْنُ العِبادُ، والنَّسَبُ إِليه عِبادِيّ كأَنصارِيٍّ، نَزَلُوا بالحِيرَة، وَقِيلَ: هُمُ العَباد، بِالْفَتْحِ، وَقِيلَ لِعَبادِيٍّ: أَيُّ حِمَارَيْكَ شَرٌّ؟ فَقَالَ: هَذَا ثُمَّ هَذَا.

وَذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ: العَبادي، بِفَتْحِ الْعَيْنِ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: هَذَا غَلَطٌ بَلْ مَكْسُورُ الْعَيْنِ؛ كَذَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ وَغَيْرُهُ؛ وَمِنْهُ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ العِبادي، بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَكَذَا وُجِدَ بِخَطِّ الأَزهري.

وعَبَدَ اللَّهَ يَعْبُدُه عِبادَةً ومَعْبَدًا ومَعْبَدَةً: تأَلَّه لَهُ؛ وَرَجُلٌ عَابِدٌ مِنْ قَوْمٍ عَبَدَةٍ وعُبُدٍ وعُبَّدٍ وعُبَّادٍ.

والتَّعَبُّدُ: التَّنَسُّكُ.

والعِبادَةُ: الطَّاعَةُ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَمِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}؛ قرأَ أَبو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ وأَبو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلِيٍّ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ ومَن عَبَدَ الطاغوتَ}؛ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قَوْلُهُ: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ، نَسَقٌ عَلَى مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ؛ الْمَعْنَى مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَمَنْ عبَدَ الطاغوتَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ وتأْويلُ عبدَ الطاغوتَ أَي أَطاعه يَعْنِي الشيطانَ فِيمَا سَوّلَ لَهُ وأَغواه؛ قَالَ: والطاغوتُ هُوَ الشَّيْطَانُ.

وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ أَي نُطِيعُ الطاعةَ الَّتِي يُخْضَعُ مَعَهَا، وَقِيلَ: إِياك نُوَحِّد، قَالَ: وَمَعْنَى العبادةِ فِي اللُّغَةِ الطاعةُ مَعَ الخُضُوعِ، وَمِنْهُ طريقٌ مُعَبَّدٌ إِذا كَانَ مُذَلَّلًا بِكَثْرَةِ الوطءِ.

وقرأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّاب والأَعمش وَحَمْزَةُ: وعَبُدَ الطاغوتِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَا أَعلم لَهُ وَجْهًا إِلا أَن يَكُونَ عَبُدَ بِمْنْزِلَةِ حَذُرٍ وعَجُلٍ.

وَقَالَ نَصْرٌ الرَّازِيُّ: عَبُدَ وَهِمَ مَنْ قرأَه وَلَسْنَا نَعْرِفُ ذَلِكَ فِي الْعَرَبِيَّةِ.

قَالَ اللَّيْثُ: وعَبُدَ الطاغوتُ مَعْنَاهُ صَارَ الطاغوتُ يُعْبَدُ كَمَا يُقَالُ ظَرُفَ الرَّجُلُ وفَقُه؛ قَالَ الأَزهري: غَلِطَ اللَّيْثُ فِي الْقِرَاءَةِ وَالتَّفْسِيرِ، مَا قرأَ أَحد مِنْ قرَّاء الأَمصار وَغَيْرِهِمْ وعَبُدَ الطاغوتُ، بِرَفْعِ الطَّاغُوتِ، إِنما قرأَ حَمْزَةُ وعَبُدَ الطاغوتِ وَهِيَ مَهْجُورَةٌ أَيضًا؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وقرأَ بَعْضُهُمْ وعَبُدَ الطاغوتِ وأَضافه؛ قَالَ: وَالْمَعْنَى فِيمَا يُقَالُ خَدَمُ الطاغوتِ، قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا بِجَمْعٍ لأَن فَعْلًا لَا يُجْمَعُ عَلَى فَعُلٍ مِثْلَ حَذُرٍ ونَدُسٍ، فِيَكُونُ الْمَعْنَى وخادِمَ الطاغوتِ؛ قَالَ الأَزهري: وَذَكَرَ اللَّيْثُ أَيضًا قِرَاءَةً أُخرى مَا قرأَ بِهَا أَحد قَالَ وَهِيَ: وَعَابِدُو الطاغوتِ جَمَاعَةٌ؛ قَالَ: وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَلِيلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقِرَاآتِ، وَكَانَ نَوْلُه أَن لَا يَحكي القراآتِ الشاذَّةَ وَهُوَ لَا يَحْفَظُهَا، وَالْقَارِئُ إِذا قرأَ بِهَا جَاهِلٌ، وَهَذَا دَلِيلُ أَن إِضافته كِتَابَهُ إِلى الْخَلِيلِ بْنِ أَحمد غَيْرُ صَحِيحٍ، لأَن الْخَلِيلَ كَانَ أَعقل مِنْ أَن يُسَمِّيَ مِثْلَ هَذِهِ الْحُرُوفِ قِرَاآتٍ فِي الْقُرْآنِ وَلَا تَكُونُ مَحْفُوظَةً لِقَارِئٍ مَشْهُورٍ مِنْ قُرَّاءِ الأَمصار، ونسأَل اللَّهَ الْعِصْمَةَ وَالتَّوْفِيقَ لِلصَّوَابِ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وقُرِئَ وعُبُدَ الطاغوتِ جماعةُ عابِدٍ؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ جَمْعُ عَبيدٍ كَرَغِيفٍ ورُغُف؛ وَرُوِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ أَنه قرأَ: وعُبْدَ الطاغوتِ، بإِسكان الْبَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ، وَقُرِئَ وعَبْدَ الطاغوتِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحدهما أَن يَكُونَ مُخَفَفًا مِنْ عَبُدٍ كَمَا يُقَالُ فِي عَضُدٍ عَضْدٌ، وَجَائِزٌ أَن يَكُونَ عَبْدَ اسْمُ الْوَاحِدِ يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ وَيَجُوزُ فِي عَبْدٍ النَّصْبَ وَالرَّفْعَ، وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَن أُبَيًّا وَعَبْدَ اللَّهِ قَرَآ: وعَبَدوا الطاغوتَ؛ وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنه قرأَ: وعُبَّادَ الطاغوتِ، وَبَعْضُهُمْ: وعابِدَ الطاغوتِ؛ قَالَ الأَزهري: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وعُبِّدَ الطاغوتُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيضًا: وعُبَّدَ الطاغوتِ، وَمَعْنَاهُ عُبَّاد الطاغوتِ؛ وَقُرِئَ: وعَبَدَ الطاغوتِ، وَقُرِئَ: وعَبُدَ الطاغوتِ.

قَالَ الأَزهري: وَالْقِرَاءَةُ الْجَيِّدَةُ الَّتِي لَا يَجُوزُ عِنْدِي غَيْرُهَا هِيَ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ الَّتِي بِهَا قرأَ الْقُرَّاءُ الْمَشْهُورُونَ، وعَبَدَ الطاغوتَ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي بَيَّنْتُهُ أَوّلًا؛ وأَما قَوْلُ أَوْسِ بْنِ حَجَر:

أَبَنِي لُبَيْنَى، لَسْتُ مُعْتَرِفًا، ***لِيَكُونَ أَلأَمَ مِنْكُمُ أَحَدُ

أَبَني لُبَيْنى، إِنَّ أُمَّكُمُ ***أَمَةٌ، وإِنَّ أَباكُمُ عَبُدُ

فإِنه أَراد وإِن أَباكم عَبْد فَثَقَّل لِلضَّرُورَةِ، فَقَالَ عَبُدُ لأَن الْقَصِيدَةَ مِنَ الْكَامِلِ وَهِي حَذَّاء.

وَقَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ}؛ أَي دَائِنُونَ.

وكلُّ مَنْ دانَ لِمَلِكٍ فَهُوَ عَابِدٌ لَهُ.

وَقَالَ ابْنُ الأَنباري: فُلَانٌ عَابِدٌ"""" وَهُوَ الْخَاضِعُ لِرَبِّهِ الْمُسْتَسْلِمُ المُنْقاد لأَمره.

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}؛ أَي أَطيعوا رَبَّكُمْ.

وَالْمُتَعَبِّدُ: الْمُنْفَرِدُ بِالْعِبَادَةِ.

والمُعَبَّد: المُكَرَّم المُعَظَّم كأَنه يُعْبَد؛ قَالَ:

تقولُ: أَلا تُمْسِكْ عليكَ، فإِنَّني ***أَرى المالَ عندَ الباخِلِينَ مُعَبَّدَا؟

سَكَّنَ آخِرَ تُمْسِكْ لأَنه تَوَهَّمَ سِكُعَ مَنْ تُمْسِكُ عليكَ بِناءً فِيهِ ضَمَّةٌ بَعْدَ كَسْرَةٍ، وَذَلِكَ مُسْتَثْقَلٌ فَسَكَّنَ، كَقَوْلِ جَرِيرٍ:

سِيروا بَني العَمِّ، فالأَهْوازُ مَنْزِلُكم ***ونَهْرُ تِيرَى، وَلَا تَعْرِفْكُمُ العَربُ

والمُعَبَّد: المُكَرَّم فِي بَيْتِ حَاتِمٍ حَيْثُ يَقُولُ:

تقولُ: أَلا تُبْقِي عَلَيْكَ، فإِنَّني ***أَرى المالَ عِنْدَ المُمْسِكينَ مُعَبَّدا؟

أَي مُعَظَّمًا مَخْدُومًا.

وبعيرٌ مُعَبَّدٌ: مُكَرَّم.

والعَبَدُ: الجَرَبُ، وَقِيلَ: الجربُ الَّذِي لَا يَنْفَعُهُ دَوَاءٌ؛ وَقَدْ عَبِدَ عَبَدًا.

وَبَعِيرٌ مُعَبَّد: أَصابه ذَلِكَ الجربُ؛ عَنْ كُرَاعٍ.

وبعيرٌ مُعَبَّدٌ: مَهْنُوءٌ بالقَطِران؛ قَالَ طَرَفَةُ:

إِلى أَن تَحامَتْني العَشِيرَةُ كُلُّها، ***وأُفْرِدْتُ إِفْرادَ البعيرِ المُعَبَّدِ

قَالَ شَمِرٌ: المُعَبَّد مِنَ الإِبل الَّذِي قَدْ عُمَّ جِلدُه كلُّه بالقَطِران؛ وَيُقَالُ: المُعَبَّدُ الأَجْرَبُ الَّذِي قَدْ تَسَاقَطَ وَبَرهُ فأُفْرِدَ عَنِ الإِبل لِيُهْنَأَ، وَيُقَالُ: هُوَ الَّذِي عَبَّدَه الجَرَبُ أَي ذَلَّلَهُ؛ وَقَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:

وضَمَّنْتُ أَرْسانَ الجِيادِ مُعَبَّدًا، ***إِذا مَا ضَرَبْنا رأْسَه لَا يُرَنِّحُ

قَالَ: المُعَبَّد هَاهُنَا الوَتِدُ.

قَالَ شَمِرٌ: قِيلَ لِلْبَعِيرِ إِذا هُنِئَ بالقَطِرانِ مُعَبَّدٌ لأَنه يَتَذَلَّلُ لِشَهْوَتِه القَطِرانَ وَغَيْرَهُ فَلَا يَمْتَنِعُ.

وَقَالَ أَبو عَدْنَانَ: سَمِعْتُ الْكِلَابِيِّينَ يَقُولُونَ: بَعِيرٌ مُتَعَبِّدٌ ومُتَأَبِّدٌ إِذا امْتَنَعَ عَلَى النَّاسِ صُعُوبَةً وَصَارَ كآبِدَةِ الْوَحْشِ.

والمُعَبَّدُ: الْمُذَلَّلُ.

وَالتَّعَبُّدُ: التَّذَلُّلُ، وَيُقَالُ: هُوَ الَّذِي يُترَك وَلَا يُرْكَبُ.

وَالْتَعْبِيدُ: التَّذْلِيلُ.

وبعيرٌ مُعَبَّدٌ: مُذَلَّلٌ.

وَطَرِيقٌ مُعَبَّد: مَسْلُوكٌ مُذَلَّلٌ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي تَكْثُرُ فِيهِ الْمُخْتَلِفَةُ؛ قَالَ الأَزهري: والمعبَّد الطَّرِيقُ الْمَوْطُوءُ فِي قَوْلِهِ:

وَظِيفًا وَظِيفًا فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ وأَنشد شَمِرٌ:

وبَلَدٍ نَائِي الصُّوَى مُعَبَّدِ، ***قَطَعْتُه بِذاتِ لَوْثٍ جَلْعَدِ

قَالَ: أَنشدنيه أَبو عدنانَ وَذَكَرَ أَن الْكِلَابِيَّةَ أَنشدته وَقَالَتِ: المعبَّد الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أَثر وَلَا علَم وَلَا مَاءٌ والمُعَبَّدة: السَّفِينَةُ المُقَيَّرة؛ قَالَ بِشْرٌ فِي سَفِينَةٍ رَكِبَهَا:

مُعَبَّدَةُ السَّقائِفِ ذاتُ دُسْرٍ، ***مُضَبَّرَةٌ جَوانِبُها رَداحُ

قَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: المُعَبَّدةُ المَطْلِيَّة بِالشَّحْمِ أَو الدُّهْنِ أَو الْقَارِ؛ وَقَوْلُ بِشْرٍ:

تَرى الطَّرَقَ المُعَبَّدَ مِن يَدَيها، ***لِكَذَّانِ الإِكامِ بِهِ انْتِضالُ

الطَّرَقُ: اللِّينُ فِي اليَدَينِ.

وَعَنَى بالمعبَّد الطَّرَق الَّذِي لَا يُبْس يَحْدُثُ عَنْهُ وَلَا جُسُوءَ فكأَنه طَرِيقٌ مُعَبَّد قَدْ سُهِّلَ وذُلِّلَ.

والتَّعْبِيدُ: الاسْتِعْبَادُ وَهُوَ أَن يَتَّخِذَه عَبْدًا وَكَذَلِكَ الاعْتِبادُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «ورجلٌ اعْتَبَدَ مُحَرَّرًا»، والإِعبادُ مِثْلُه وَكَذَلِكَ التَّعَبُّد؛ وَقَالَ:

تَعَبَّدَني نِمْرُ بْنُ سَعْدٍ، وَقَدْ أُرَى ***ونِمْرُ بْنُ سَعْدٍ لِي مُطيعٌ ومُهْطِعُ

وعَبِدَ عَلَيْهِ عَبَدًا وعَبَدَةً فَهُوَ عابِدٌ وعَبدٌ: غَضِب؛ وَعَدَّاهُ الْفَرَزْدَقُ بِغَيْرِ حَرْفٍ فَقَالَ:

عَلَامَ يَعْبَدُني قَوْمي، وَقَدْ كَثُرَتْ ***فِيهِمْ أَباعِرُ، ما شاؤُوا، وعُبْدانُ [عِبْدانُ] ؟

أَنشده يَعْقُوبُ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى يُعْبِدُني؛ وَقِيلَ: عَبِدَ عَبَدًا فَهُوَ عَبِدٌ وعابِدٌ: غَضِبَ وأَنِفَ، وَالِاسْمُ العَبَدَةُ.

والعَبَدُ: طُولُ الْغَضَبِ؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: عَبِد عَلَيْهِ وأَحِنَ عَلِيْهِ وأَمِدَ وأَبِدَ أَي غَضِبَ.

وَقَالَ الغَنَوِيُّ: العَبَدُ الحُزْن والوَجْدُ؛ وَقِيلَ فِي قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:

أُولئِكَ قَوْمٌ إِنْ هَجَوني هَجَوتُهم، ***وأَعْبَدُ أَن أَهْجُو كُلَيْبًا بِدارِمِ

أَعبَدُ أَي آنَفُ؛ وَقَالَ ابْنُ أَحمر يَصِفُ الغَوَّاص:

فأَرْسَلَ نَفْسَهُ عَبَدًا عَلَيها، ***وَكَانَ بنَفْسِه أَرِبًا ضَنِينا

قِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ عَبَدًا أَي أَنَفًا.

يَقُولُ: أَنِفَ أَن تَفُوتَهُ الدُّرَّة.

وَفِي التَّنْزِيلِ: {قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ، ويُقْرأُ: العَبِدينَ}؛ قَالَ اللَّيْثُ: العَبَدُ، بِالتَّحْرِيكِ، الأَنَفُ والغَضَبُ والحَمِيَّةُ مِنْ قَوْلٍ يُسْتَحْيا مِنْهُ ويُسْتَنْكَف، وَمَنْ قرأَ العَبِدِينَ فَهُوَ مَقْصُورٌ مِنْ عَبِدَ يَعْبَدُ فَهُوَ عَبِدٌ؛ وَقَالَ الأَزهري: هَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ وأَنا ذَاكِرُ أَقوال السَّلَفِ فِيهَا ثُمَّ أُتْبِعُها بِالَّذِي قَالَ أَهل اللُّغَةِ وأُخبر بأَصحها عَنْدِي؛ أَما الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ اللَّيْثُ فِي قراءَة الْعَبِدِينَ، فَهُوَ قَوْلُ أَبي عُبَيْدَةَ عَلَى أَني مَا عَلِمْتُ أَحدًا قرأَ فأَنا أَول العَبِدين، وَلَوْ قرئَ مَقْصُورًا كَانَ مَا قَالَهُ أَبو عُبَيْدَةَ مُحْتَمَلًا، وإِذ لَمْ يقرأْ بِهِ قَارِئٌ مَشْهُورٌ لَمْ نعبأْ بِهِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي مَا رُوِيَ عَنِ"""" ابْنِ عْيَيْنَةَ أَنه سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: مَعْنَاهُ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فأَنا أَوّل الْعَابِدِينَ، يَقُولُ: فَكَمَا أَني لَسْتُ أَول مَنْ عَبَدَ اللَّهَ فَكَذَلِكَ لَيْسَ لِلَّهِ وَلَدٌ؛ وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ: قُلْ إِن كَانَ عَلَى الشَّرَطِ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ كَمَا تَقُولُونَ لَكُنْتُ أَوّل مَنْ يُطِيعُهُ وَيَعْبُدُهُ؛ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِن كَانَ مَا كَانَ وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ عَلَى مَعْنَى مَا كَانَ، فأَنا أَوّل الْعَابِدِينَ أَوّل مَنْ عَبْدَ اللَّهِ مَنْ هَذِهِ الأُمة؛ قَالَ الْكِسَائِيُّ: قَالَ بَعْضُهُمْ إِن كَانَ أَي مَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ فأَنا أَول الْعَابِدِينَ أَي الْآنِفِينَ، رَجُلٌ عابدٌ وعَبِدٌ وآنِف وأَنِفٌ أَي الغِضاب الْآنِفِينَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَقَالَ فأَنا أَول الْجَاحِدِينَ لِمَا تَقُولُونَ، وَيُقَالُ أَنا أَوَّل مَنْ تَعبَّده عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ مُخالَفَةً لَكُمْ.

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقِيلَ لَهُ: «أَنت أَمرت بِقَتْلِ عُثْمَانَ أَو أَعَنْتَ عَلَى قَتْلِهِ فَعَبِدَ وضَمِدَ»أَي غَضِبَ غَضَبَ أَنَفَةٍ؛ عَبِدَ، بِالْكَسْرِ، يَعْبَدُ عَبَدًا، بِالتَّحْرِيكِ، فَهُوَ عابِدٌ وعَبِدٌ؛ وَفِي رِوَايَةٍ أُخرى عَنْ"""" عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، أَنه قَالَ: عَبِدْتُ فصَمَتُ

أَي أَنِفْتُ فسَكَتُّ؛ وَقَالَ ابْنُ الأَنباري: مَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، وَالْوَقْفُ عَلَى الْوَلَدِ ثُمَّ يَبْتَدِئُ: فأَنا أَوّل الْعَابِدِينَ لَهُ، عَلَى أَنه لَا وَلَدَ لَهُ وَالْوَقْفُ عَلَى الْعَابِدِينَ تَامٌّ.

قَالَ الأَزهري: قَدْ ذَكَرْتُ الأَقوال وَفِيهِ قَوْلٌ أَحْسَنُ مِنْ جَمِيعِ مَا قَالُوا وأَسْوَغُ فِي اللُّغَةِ وأَبْعَدُ مِنَ الِاسْتِكْرَاهِ وأَسرع إِلى الْفَهْمِ.

رُوِيَ عَنْ"""" مُجَاهِدٍ فِيهِ أَنه يَقُولُ: إِن كَانَ لِلَّهِ وَلَدٌ فِي قَوْلِكُمْ فأَنا أَوّل مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَكَذَّبَكُمْ بِمَا تَقُولُونَ؛ قَالَ الأَزهري: وَهَذَا وَاضِحٌ، وَمِمَّا يَزِيدُهُ وُضُوحًا أَن اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ لنبيِّه: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْكُفَّارِ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فِي زَعْمِكُمْ فأَنا أَوّل الْعَابِدِينَ إِلهَ الخَلْق أَجمعين الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وأَوّل المُوَحِّدِين لِلرَّبِّ الْخَاضِعِينَالْمُطِيعِينَ لَهُ وَحْدَهُ لأَن مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَاعْتَرَفَ بأَنه مَعْبُودُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَقَدْ دَفَعَ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ فِي دَعْوَاكُمْ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهُوَ مَعْبُودِي الَّذِي لَا ولَدَ لَهُ وَلَا والِدَ؛ قَالَ الأَزهري: وإِلى هَذَا ذَهَبَ إِبراهيم بْنُ السريِّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ ذَوِي الْمَعْرِفَةِ؛ قَالَ: وَهُوَ الَّذِي لَا يَجُوزُ عِنْدِي غَيْرُهُ.

وتَعَبَّدَ كَعَبِدَ؛ قَالَ جَرِيرٌ:

يَرَى المُتَعَبَّدُونَ عليَّ دُوني ***حِياضَ المَوْتِ، واللُّجَجَ الغِمارا

وأَعْبَدُوا بِهِ: اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ يَضْرِبُونَهُ.

وأُعْبِدَ بِفُلانٍ: ماتَتْ راحِلَتُه أَو اعْتَلَّت أَو ذهَبَتْ فانْقُطِعَ بِهِ، وَكَذَلِكَ أُبْدِعَ بِهِ.

وعَبَّدَ الرجلُ: أَسْرعَ.

وَمَا عَبَدَك عَنِّي أَي مَا حَبَسَك؛ حَكَاهُ ابْنُ الأَعرابي.

وعَبِدَ بِهِ: لَزِمَه فَلَمْ يُفارِقْه؛ عَنْهُ أَيضًا.

والعَبَدَةُ: البَقاءُ؛ يُقَالُ: لَيْسَ لِثَوبِك عَبَدَةٌ أَي بَقاءٌ وَقُوَّةٌ؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.

والعَبَدَةُ: صَلاءَةُ الطِّيب.

ابْنُ الأَعرابي: العَبْدُ نَبات طَيِّبُ الرَّائِحَةِ؛ وأَنشد:

حَرَّقَها العَبْدُ بِعُنْظُوانِ، ***فاليَوْمُ مِنْهَا يومُ أَرْوَنانِ

قَالَ: والعَبْدُ تُكلَفُ بِهِ الإِبلُ لأَنه مَلْبَنَة مَسْمَنَةٌ، وَهُوَ حارُّ المِزاجِ إِذا رَعَتْهُ الإِبِلُ عَطِشَتْ فطلَبَت الْمَاءَ.

والعَبَدَةُ: النَّاقَةُ الشَّدِيدَةُ؛ قَالَ مَعْنُ بْنُ أَوس:

تَرَى عَبَداتِهِنَّ يَعُدْنَ حُدْبًا، ***تُناوِلُهَا الفَلاةُ إِلى الفلاةِ

وناقةٌ ذاتُ عَبَدَةٍ أَي ذاتُ قوَّةٍ شديدةٍ وسِمَنٍ؛ وَقَالَ أَبو دُوادٍ الإِيادِيُّ:

إِن تَبْتَذِلْ تَبْتَذِلْ مِنْ جَنْدَلٍ خَرِسٍ ***صَلابَةً ذاتَ أَسْدارٍ، لهَا عَبَدَه

والدراهمُ العَبْدِيَّة: كَانَتْ دراهمَ أَفضل مِنْ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ وأَكثر وَزْنًا.

وَيُقَالُ: عَبِدَ فُلَانٌ إِذا نَدِمَ عَلَى شَيْءٍ يَفُوتُهُ يَلُومُ نَفْسَهُ عَلَى تَقْصِيرِ مَا كَانَ مِنْهُ.

والمِعْبَدُ: المِسْحاةُ.

ابْنُ الأَعرابي: المَعَابِدُ المَساحي والمُرورُ؛ قَالَ عَدِيّ بْنُ زَيْدٍ العِبَادِي:

إِذ يَحْرُثْنَه بالمَعَابِدِ

وَقَالَ أَبو نَصْرٍ: المَعَابِدُ العَبيدُ.

وتَفَرَّقَ القومُ عَبادِيدَ وعَبابيدَ؛ والعَباديدُ والعَبابيدُ: الْخَيْلُ الْمُتَفَرِّقَةُ فِي ذَهَابِهَا وَمَجِيئِهَا وَلَا وَاحِدَ لَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا يَقَعُ إِلا فِي جَمَاعَةٍ وَلَا يُقَالُ لِلْوَاحِدِ عبْدِيدٌ.

الْفَرَّاءُ: العباديدُ والشَّماطِيطُ لَا يُفْرَد لَهُ واحدٌ؛ وَقَالَ غَيْرُهُ: وَلَا يُتكلم بِهِمَا فِي الإِقبال إِنما يُتَكَلَّمُ بِهِمَا فِي التَّفَرُّق وَالذَّهَابِ.

الأَصمعيُّ: يُقَالُ صَارُوا عَبادِيدَ وعَبابيدَ أَي مُتَفَرِّقِين؛ وَذَهَبُوا عَباديدَ كَذَلِكَ إِذا ذَهَبُوا مُتَفَرِّقِينَ.

وَلَا يُقَالُ أَقبلوا عَبادِيدَ.

قَالُوا: وَالنِّسْبَةُ إِليهم عَبَادِيدِيُّ؛ قَالَ أَبو الْحَسَنِ ذهَبَ إِلى أَنه لَوْ كَانَ لَهُ واحدٌ لَرُدَّ فِي النَّسَبِ إِليه.

والعبادِيدُ: الآكامُ.

والعَبادِيدُ: الأَطرافُ الْبَعِيدَةُ؛ قَالَ الشَّمَّاخُ:

والقَوْمُ آتَوْكَ بَهْزٌ دونَ إِخْوَتِهِم، ***كالسَّيْلِ يَرْكَبُ أَطرافَ العَبَادِيدِ

وبَهْزٌ: حيٌّ مِنْ سُلَيمٍ.

قَالَ: هِيَ الأَطرافُ الْبَعِيدَةُ والأَشياء المتفَرِّقةُ.

قَالَ الأَصمعي: العَبابيدُ الطُّرُقُ الْمُخْتَلِفَةُ.

والتَّعْبيدُ: مِنْ قَوْلِكَ مَا عَبَّدَ أَن فعَلَ ذَلِكَ أَي مَا لَبِثَ؛ وَمَا عَتَّمَ وَمَا كَذَّبَ كُلُّه: مَا لَبِثَ.

وَيُقَالُ انثَلَّ يَعْدُو وانْكَدَرَ يَعْدُووعَبَّدَ يَعْدُو إِذا أَسْرَع بعضَ الإِسْراعِ.

والعَبْدُ: وَادٍ معروف في جبال طيء.

وعَبُّودٌ: اسْمُ رَجُلٍ ضُرِبَ بِهِ المَثَلُ فَقِيلَ: نامَ نَوْمَةَ عَبُّودٍ، وَكَانَ رَجُلًا تَماوَتَ عَلَى أَهله وَقَالَ: انْدُبِيني لأَعلم كَيْفَ تَنْدبينني، فَنَدَبَتْهُ فَمَاتَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ؛ قَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ سَلَمَةَ: كَانَ عَبُّودٌ عَبْدًا أَسْوَدَ حَطَّابًا فَغَبَر فِي مُحْتَطَبِه أُسبوعًا لَمْ يَنَمْ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَبَقِيَ أُسبوعًا نَائِمًا، فَضُرِبَ بِهِ الْمَثَلُ وَقِيلَ: نَامَ نومةَ عَبُّودٍ.

وأَعْبُدٌ ومَعْبَدٌ وعُبَيْدَةُ وعَبَّادٌ وعَبْدٌ وعُبادَةُ وعابِدٌ وعُبَيْدٌ وعِبْدِيدٌ وعَبْدانُ وعُبَيْدانُ، تصغيرُ عَبْدانَ، وعَبِدَةُ وعَبَدَةُ: أَسماءٌ.

وَمِنْهُ علقمةُ بْنُ عَبَدَة، بِالتَّحْرِيكِ، فإِما أَن يَكُونَ مِنَ العَبَدَةِ الَّتِي هِيَ البَقاءُ، وإِما أَن يَكُونَ سُمِّيَ بالعَبَدَة الَّتِي هِيَ صَلاءَةُ الطِّيبِ، وعَبْدة بْنُ الطَّبيب، بِالتَّسْكِينِ.

قَالَ سِيبَوَيْهِ: النَّسب إِلى عَبْدِ الْقَيْسِ عَبْدِيٌّ، وَهُوَ مِنَ الْقِسْمِ الَّذِي أُضيف فِيهِ إِلى الأَول لأَنهم لَوْ قَالُوا قَيْسِيٌّ، لَالْتَبَسَ بِالْمُضَافِ إِلى قَيْس عَيْلانَ وَنَحْوِهِ، وَرُبَّمَا قَالُوا عَبْقَسِيٌّ؛ قَالَ سُوِيدُ بْنُ أَبي كَاهِلٍ:

وهُمْ صَلَبُوا العَبْدِيَّ فِي جِذْعِ نَخْلَةٍ، ***فَلَا عَطَسَتْ شَيْبانُ إِلَّا بِأَجْدَعَا

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قَوْلُهُ بِأَجْدَعَا أَي بأَنْفٍ أَجْدَعَ فحَذَفَ الْمَوْصُوفَ وأَقام صِفَتَهُ مَكَانَهُ.

والعَبيدتانِ: عَبيدَةُ بنُ مُعَاوِيَةَ وعَبيدَةُ بْنُ عَمْرٍو.

وَبَنُو عَبيدَة: حيٌّ، النَّسَبُ إِليه عُبَدِيٌّ، وَهُوَ مِنْ نَادِرِ مَعْدُولِ النَّسَبِ.

والعُبَيْدُ، مُصَغَّرٌ: اسْمُ فَرَسُ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْداسٍ؛ وَقَالَ:

أَتَجْعَلُ نَهْبي ونَهْبَ العُبَيْدِ ***بَيْنَ عُيَيْنَةَ والأَقْرَعِ؟

وعابِدٌ: مَوْضِعٌ.

وعَبُّودٌّ: مَوْضِعٌ أَو جبلٌ.

وعُبَيْدانُ: مَوْضِعٌ.

وعُبَيْدانُ: ماءٌ مُنْقَطِعٌ بأَرض الْيَمَنِ لَا يَقْرَبُه أَنِيسٌ وَلَا وَحْشٌ؛ قَالَ النَّابِغَةُ:

فهَلْ كنتُ إِلَّا نَائِيًا إِذْ دَعَوْتَني، ***مُنادَى عُبَيْدانَ المُحَلَّاءِ باقِرُهْ

وَقِيلَ: عُبَيْدانُ فِي الْبَيْتِ رَجُلٌ كَانَ رَاعِيًا لِرَجُلٍ مِنْ عَادٍ ثُمَّ أَحد بَنِي سُوَيْدٍ وَلَهُ خَبَرٌ طَوِيلٌ؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وعُبَيْدانُ اسْمُ وَادٍ يُقَالُ إِن فِيهِ حيَّة قَدْ مَنَعَتْه فَلَا يُرْعَى وَلَا يُؤْتَى؛ قَالَ النَّابِغَةُ:

لِيَهْنَأْ لَكُمْ أَنْ قَدْ نَفَيْتُمْ بُيوتَنا، ***مُنَدَّى عُبَيْدانَ المُحَلَّاءِ باقِرُهْ

يَقُولُ: نَفَيْتُمْ بُيُوتَنَا إِلى بُعْدٍ كبُعْدِ عُبَيْدانَ؛ وَقِيلَ: عُبَيْدَانُ هُنَا الْفَلَاةُ.

وَقَالَ أَبو عَمْرٍو: عُبَيْدَانُ اسْمُ وَادِي الْحَيَّةِ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَوَابُ إِنشاده: المُحَلِّئِ باقِرَه، بِكَسْرِ اللَّامِ مِنَ المُحَلِّئِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مِنْ باقِرَه، وأَوّل الْقَصِيدَةِ:

أَلا أَبْلِغَا ذُبيانَ عَنِّي رِسَالَةً، ***فَقَدْ أَصْبَحَتْ عَنْ مَنْهَجِ الحَقِّ جائِرَهْ

وَقَالَ: قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: عُبَيْدانُ رَاعٍ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي سُوَيْدِ بْنِ عَادٍ وَكَانَ آخِرَ عَادٍ، فإِذا حَضَرَ عُبَيْدَانُ الْمَاءَ سَقَى مَاشِيَتَهُ أَوّل النَّاسِ وتأَخر النَّاسُ كُلُّهُمْ حَتَّى يَسْقِي فَلَا يُزَاحِمُهُ عَلَى الْمَاءِ أَحد، فَلَمَّا أَدرك لُقْمَانَ بْنَ عَادٍ وَاشْتَدَّ أَمره أَغار عَلَى قَوْمِ عُبَيْدَانَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ حَتَّى ذُلُّوا، فَكَانَ لُقْمَانُ يُورِدُ إِبلهُ فَيَسْقِي ويَسْقِي عُبَيْدانُ مَاشِيَتَهُ بَعَدَ أَن يَسْقِيَ لُقْمَانُ فَضَرَبَهُ النَّاسُ مَثَلًا.

والمُنَدَّى: المَرْعَى يَكُونُ قَرِيبًا مِنَ الْمَاءِ يَكُونُ فِيهِ الحَمْضُ، فإِذا شَرِبَتِ الإِبلُ أَوّل شَرْبَةٍ نُحِّيَتْ إِلى المُنَدَّى لِتَرْعَى فِيهِ، ثُمَّ تُعَادُ إِلى الشُّرْبِ فَتَشْرَبُ حَتَّى تَرْوَى وَذَلِكَ أَبقى للماءِ فِي أَجوافها.

والباقِرُ: جَمَاعَةُ البَقَر.

والمُحَلِّئُ: الْمَانِعُ.

الفرَّاء: يُقَالُ صُكَّ بِهِ فِي أُمِّ عُبَيْدٍ، وَهِي الفلاةُ، وَهِي الرقَّاصَةُ.

قَالَ: وَقُلْتُ لِلْعَتَّابِيِّ: مَا عُبَيْدٌ؟ فَقَالَ: ابْنُ الْفَلَاةِ؛ وعُبَيْدٌ فِي قَوْلِ الأَعشى:

لَمْ تُعَطَّفْ عَلَى حُوارٍ، ولم يَقْطَعْ ***عُبَيْدٌ عُرُوقَهَا مِن خُمالِ

اسْمُ بَيْطارٍ.

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي}؛ أَي فِي حِزْبي.

والعُبَدِيُّ: مَنْسُوبٌ إِلى بَطْنٍ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ جَنابٍ مِنْ قُضاعَةَ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو العُبَيْدِ، كَمَا قَالُوا فِي النِّسْبَةِ إِلى بَنِي الهُذَيْل هُذَلِيٌّ، وَهُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ الأَعشى بِقَوْلِهِ:

بَنُو الشَّهْرِ الحَرامِ فَلَسْتَ مِنْهُمْ، ***ولَسْتَ مِنَ الكِرامِ بَني العُبَيْدِ

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: سَبَبُ هَذَا الشِّعْرِ أَن عَمْرو بنَ ثعلبةَ بنِ الحَرِث بنِ حضْرِ بنِ ضَمْضَم بْنِ عَدِيِّ بْنِ جنابٍ كَانَ رَاجِعًا مِنْ غَزاةٍ، وَمَعَهُ أُسارى، وَكَانَ قَدْ لَقِيَ الأَعشى فأَخذه فِي جُمْلَةِ الأُسارى، ثُمَّ سَارَ عَمْرٌو حَتَّى نَزَلَ عِنْدَ شُرَيْحِ بنِ حصْنِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ السَّمَوْأَل بْنِ عَادِيَاءَ فأَحسن نُزُلَهُ، فسأَل الأَعشى عَنِ الَّذِي أَنزله، فَقِيلَ لَهُ هُوَ شُرَيْحُ بْنُ حِصْنٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدِ امْتَدَحْتُ أَباه السَّمَوْأَل وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ خلَّةٌ، فأَرسل الأَعشى إِلى شُرَيْحٍ يُخْبِرُهُ بِمَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبيه، وَمَضَى شُرَيْحٌ إِلى عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ فَقَالَ: إِني أُريد أَنْ تَهَبَنِي بعضَ أُساراكَ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ: خُذْ مِنْهُمْ مَنْ شِئتَ، فَقَالَ: أَعطني هَذَا الأَعمى، فَقَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهَذَا الزَّمِنِ؟ خُذْ أَسيرًا فِداؤُه مائةٌ أَو مِائَتَانِ مِنَ الإِبل، فَقَالَ: مَا أُريدُ إِلا هَذَا الأَعمى فإِني قَدْ رَحِمْتُهُ، فَوَهَبَهُ لَهُ، ثُمَّ إِنَّ الأَعشى هَجَا عَمْرَو بْنَ ثَعْلَبَةَ بِبَيْتَيْنِ وَهُمَا هَذَا الْبَيْتُ [بَنُو الشَّهْرِ الْحَرَامِ] وَبَعْدَهُ:

وَلَا مِنْ رَهْطِ جَبَّارِ بنِ قُرْطٍ، ***وَلَا مِن رَهْطِ حارثَةَ بنِ زَيْدِ

فَبَلَغَ ذَلِكَ عَمْرَو بْنَ ثَعْلَبَةَ فأَنْفَذ إِلى شُرَيْحٍ أَنْ رُدَّ عليَّ هِبَتي، فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: مَا إِلى ذَلِكَ سَبِيلٌ، فَقَالَ: إِنه هَجَانِي، فَقَالَ شُرَيْحٌ: لَا يَهْجُوكَ بَعْدَهَا أَبدًا؛ فَقَالَ الأَعشى يَمْدَحُ شُرَيْحًا:

شُرَيْحُ، لَا تَتْرُكَنِّي بعد ما عَلِقَتْ، ***حِبالَكَ اليومَ بَعْدَ القِدِّ، أَظْفارِي

يَقُولُ فِيهَا:

كُنْ كالسَّمَوْأَلِ إِذْ طافَ الهُمامُ بِهِ ***فِي جَحْفَلٍ، كَسَوادِ الليلِ، جَرَّارِ

بالأَبْلَقِ الفَرْدِ مِن تَيْماءَ مَنْزِلهُ، ***حِصْنٌ حَصِينٌ، وجارٌ غيرُ غدَّارِ

خَيَّرَه خُطَّتَيْ خَسْفٍ، فَقَالَ لَهُ: ***مَهْمَا تَقُلْه فإِني سامِعٌ حارِي

فَقَالَ: ثُكْلٌ وغَدْرٌ أَنتَ بَيْنَهُمَا، ***فاخْتَرْ، وَمَا فِيهِمَا حَظٌّ لمُخْتارِ

فَشَكَّ غيرَ طويلٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ: ***اقْتُلْ أَسِيرَكَ إِني مانِعٌ جَارِي

وَبِهَذَا ضُرِبَ المثلُ فِي الْوَفَاءِ بالسَّمَوْأَلِ فَقِيلَ: أَوفى مِنَ السَّمَوْأَل.

وكان الحرث الأَعرج الْغَسَّانِيُّ قَدْ نَزَلَ عَلَى السموأَل، وَهُوَ فِي حِصْنِهِ، وَكَانَ وَلَدُهُ خَارِجَ الْحِصْنِ فأَسره الْغَسَّانِيُّ وَقَالَ للسموأَل: اخْتَرْ إِمّا أَن تُعْطِيَني السِّلاحَ الَّذِي أَوْدَعك إِياه إمرُؤُ الْقَيْسِ، وإِمّا أَن أَقتل وَلَدَكَ؛ فأَبى أَن يُعْطِيَهُ فَقَتَلَ وَلَدَهُ.

والعَبْدانِ فِي بَنِي قُشَيْرٍ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُشَيْرٍ، وَهُوَ الأَعور، وَهُوَ ابْنُ لُبَيْنى، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ بْنُ قُشَير، وَهُوَ سَلَمَةُ الْخَيْرِ.

والعَبيدَتانِ: عَبيدَةُ"""" ابن معاويةَ بْنِ قُشَيْر، وعَبيدَةُ بْنَ عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ.

والعَبادِلَةُ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


43-لسان العرب (خبر)

خبر: الخَبِيرُ: مِنْ أَسماء اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْعَالِمُ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ.

وخَبُرْتُ بالأَمر.

أَي عَلِمْتُهُ.

وخَبَرْتُ الأَمرَ أَخْبُرُهُ إِذا عَرَفْتَهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيرًا}؛ أَي اسأَل عَنْهُ خَبِيرًا يَخْبُرُ.

والخَبَرُ، بِالتَّحْرِيكِ: وَاحِدُ الأَخبْار.

والخَبَرُ: مَا أَتاك مِنْ نَبإٍ عَمَّنْ تَسْتَخْبِرُ.

ابْنُ سِيدَهْ: الخَبَرُ النَّبَأُ، وَالْجَمْعُ أَخْبَارٌ، وأَخابِير جَمْعُ الْجَمْعِ.

فأَما قَوْلُهُ تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها}؛ فَمَعْنَاهُ يَوْمَ تُزَلْزَلُ تُخْبِرُ بِمَا عُمِلَ عَلَيْهَا.

وخَبَّرَه بِكَذَا وأَخْبَرَه: نَبَّأَهُ.

واسْتَخْبَرَه: سأَله عَنِ الخَبَرِ وَطَلَبَ أَن يُخْبِرَهُ؛ وَيُقَالُ: تَخَبَّرْتُ الخَبَرَ واسْتَخْبَرْتُه؛ وَمِثْلُهُ تَضَعَّفْتُ الرَّجُلَ واسْتَضْعَفْتُه، وتَخَبَّرْتُ الْجَوَابَ واسْتَخْبَرْتُه.

والاسْتِخْبارُ والتَّخَبُّرُ: السُّؤَالُ عَنِ الخَبَر.

وَفِي حَدِيثِ الْحُدَيْبِيَةِ: «أَنه بَعَثَ عَيْنًا مِنْ خُزَاعَةَ يَتَخَبَّر لَهُ خَبَرَ قُرَيْشٍ»؛ أي يَتَعَرَّفُ؛ يُقَالُ: تَخَبَّرَ الخَبَرَ واسْتَخْبَر إِذا سأَل عَنِ الأَخبْارِ لِيَعْرِفَهَا.

والخابِرُ: المُخْتَبِرُ المُجَرِّبُ وَرَجُلٌ خَابِرٌ وخَبِير: عَالِمٌ بالخَبَرِ.

والخَبِيرُ: المُخْبِرُ؛ وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ فِي وَصْفِ شَجَرٍ: أَخْبَرَني بِذَلِكَ الخَبِرُ، فَجَاءَ بِهِ عَلَى مِثَالِ فَعِلٍ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَهَذَا لَا يَكَادُ يُعْرَفُ إِلَّا أَن يَكُونَ عَلَى النَّسَبِ.

وأَخْبَرَهُ خُبُورَهُ: أَنْبأَهُ مَا عِنْدَهُ.

وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ: مَا يُدْرَى لَهُ أَيْنَ خَبَرٌ وَمَا يُدْرَى لَهُ مَا خَبَرٌ أَي مَا يُدْرَى، وأَين صِلَةٌ وَمَا صِلَةٌ.

والمَخْبَرُ: خِلَافُ المَنْظَرِ، وَكَذَلِكَ المَخْبَرَةُ والمَخْبُرَةُ، بِضَمِّ الْبَاءِ، وَهُوَ نَقِيضُ المَرْآةِ والخِبْرُ والخُبْرُ والخِبْرَةُ والخُبْرَةُ والمَخْبَرَةُ والمَخْبُرَةُ، كُلُّهُ: العِلْمُ بِالشَّيْءِ؛ تَقُولُ: لِي بِهِ خِبْرٌ، وَقَدْ خَبَرَهُ يَخْبُره خُبْرًا وخُبْرَةً [خِبْرَةً] وخِبْرًا واخْتَبَره وتَخَبَّرهُ؛ يُقَالُ: مَنْ أَين خَبَرْتَ هَذَا الأَمر أَي مِنْ أَين عَلِمْتَ؟ وَقَوْلُهُمْ: لأَخْبُرَنَّ خُبْرَكَ أَي لأَعْلَمَنَّ عِلْمَك؛ يُقَالُ: صَدَّقَ الخَبَرَ الخُبْرُ.

وأَما قَوْلُ أَبي الدَّرْدَاءِ: وجدتُ الناسَ اخْبُرْ نَقْلَه؛ فَيُرِيدُ أَنك إِذا خَبَرْتَهُم قَلَيْتَهُمْ، فأَخرج الْكَلَامَ عَلَى لَفْظِ الأَمر، وَمَعْنَاهُ الخَبَرُ.

والخُبْرُ: مَخْبُرَةُ الإِنسان.

والخِبْرَةُ: الاختبارُ؛ وخَبَرْتُ الرَّجُلَ أَخْبُرُه خُبْرًا [خِبْرًا] وخُبْرَةً [خِبْرَةً].

والخَبِيرُ: الْعَالِمُ؛ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ سَمِعْتُ ثَعْلَبًا يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " كَفَى قَوْمًا بِصاحِبِهمْ خَبِيرا "فَقَالَ: هَذَا مَقْلُوبٌ إِنما يَنْبَغِي أَن يَقُولَ كَفَى قَوْمًا بِصَاحِبِهِمْ خُبْرًا؛ وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: يَقُولُ كَفَى قَوْمٌ.

والخَبِيرُ: الَّذِي يَخْبُرُ الشَّيْءَ بِعِلْمِهِ؛ وَقَوْلُهُ أَنشده ثَعْلَبٌ: " وشِفَاءُ عِيِّكِ خابِرًا أَنْ تَسْأَلي "فَسَّرَهُ فَقَالَ: مَعْنَاهُ مَا تَجِدِينَ فِي نَفْسِكَ مِنَ الْعِيِّ أَن تَسْتَخْبِرِي.

وَرَجُلٌ مَخْبَرانِيٌّ: ذُو مَخْبَرٍ، كَمَا قَالُوا مَنْظَرانِيّ أَي ذُو مَنْظَرٍ.

والخَبْرُ والخِبْرُ: المَزادَةُ الْعَظِيمَةُ، وَالْجَمْعُ خُبُورٌ، وَهِيَ الخَبْرَاءُ أَيضًا؛ عَنْ كُرَاعٍ؛ وَيُقَالُ: الخِبْرُ، إِلَّا أَنه بِالْفَتْحِ أَجود؛ وَقَالَ أَبو الْهَيْثَمِ: الخَبْرُ، بِالْفَتْحِ، الْمَزَادَةُ، وأَنكر فِيهِ الْكَسْرَ؛ وَمِنْهُ قِيلَ: نَاقَةٌ خَبْرٌ إِذا كَانَتْ غَزِيرَةً.

والخَبْرُ والخِبْرُ: النَّاقَةُ الْغَزِيرَةُ اللَّبَنِ.

شُبِّهَتْ بِالْمَزَادَةِ فِي غُزْرِها، وَالْجَمْعُ كَالْجَمْعِ؛ وَقَدْ خَبَرَتْ خُبُورًا؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.

والخَبْراءُ: المجرَّبة بالغُزْرِ.

والخَبِرَةُ: الْقَاعُ يُنْبِتُ السِّدْرَ، وَجَمْعُهُ خَبِرٌ، وَهِيَ الخَبْراءُ أَيضًا، وَالْجَمْعُ خَبْراوَاتٌ وخَبَارٌ؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وخَبَارٌ كَسَّرُوها تَكْسِيرَ الأَسماء وَسَلَّموها عَلَى ذَلِكَ وإِن كَانَتْ فِي الأَصل صِفَةً لأَنها قَدْ جَرَتْ مَجْرَى الأَسماء.

والخَبْراءُ: مَنْقَعُ الْمَاءِ، وَخَصَّ بَعْضُهُمْ بِهِ مَنْقَعَ الْمَاءِ فِي أُصول السِّدْرِ، وَقِيلَ: الخَبْراءُ الْقَاعُ يُنْبِتُ السِّدْرَ، وَالْجَمْعُ الخَبَارَىوالخَبارِي مِثْلُ الصحارَى والصحارِي وَالْخَبْرَاوَاتُ؛ يُقَالُ: خَبِرَ الموضعُ، بِالْكَسْرِ، فَهُوَ خَبِرٌ؛ وأَرض خَبِرَةٌ.

والخَبْرُ: شَجَرُ السِّدْرِ والأَراك وَمَا حَوْلَهُمَا مِنَ العُشْبِ؛ وَاحِدَتُهُ خَبْرَةٌ.

وخَبْراءُ الخَبِرَةِ: شَجَرُهَا؛ وَقِيلَ: الخَبْرُ مَنْبِتُ السِّدْرِ فِي القِيعانِ.

والخَبْرَاءُ: قَاعٌ مُسْتَدِيرٌ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ، وَجَمْعُهُ خَبَارَى وخَبَاري.

وَفِي تَرْجَمَةِ نَقَعَ: النَّقائعُ خَبَارَى فِي بِلَادِ تَمِيمٍ.

اللَّيْثُ: الخَبْراءُ شَجْراءُ فِي بَطْنِ رَوْضَةٍ يَبْقَى فِيهَا الْمَاءُ إِلى الْقَيْظِ وَفِيهَا ينْبت الخَبْرُ، وَهُوَ شَجَرُ السِّدْرِ والأَراك وَحَوَالَيْهَا عُشْبٌ كَثِيرٌ، وَتُسَمَّى الخَبِرَةَ، وَالْجَمْعُ الخَبِرُ.

وخَبْرُ الخَبِرَةِ: شجرُها قَالَ الشَّاعِرُ:

فَجادَتْكَ أَنْواءُ الرَّبيعِ، وهَلَّلَتْ ***عليكَ رِياضٌ مِنْ سَلامٍ وَمِنْ خَبْرِ

والخَبْرُ مِنْ مَوَاقِعِ الْمَاءِ: مَا خَبِرَ المَسِيلُ فِي الرُّؤُوسِ فَتَخُوضُ فِيهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «فَدَفعنا فِي خَبَارٍ مِنَ الأَرض»؛ أَي سَهْلَةٍ لَيِّنَةٍ.

والخَبارُ مِنَ الأَرض: مَا لانَ واسْتَرخَى وَكَانَتْ فِيهِ جِحَرَةٌ.

والخَبارُ: الجَراثيم وجِحَرَةُ الجُرْذانِ، وَاحِدَتُهُ خَبارَةٌ.

وَفِي الْمَثَلِ: مَنْ تَجَنَّبَ الخَبَارَ أَمِنَ العِثارَ.

والخَبارُ: أَرض رِخْوَةٌ تَتَعْتَعُ فِيهِ الدوابُّ؛ وأَنشد:

تَتَعْتَع فِي الخَبارِ إِذا عَلاهُ، ***ويَعْثُر فِي الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ

ابْنُ الأَعرابي: والخَبارُ مَا اسْتَرْخَى مِنَ الأَرض وتَحَفَّرَ؛ وَقَالَ غَيْرُهُ: وَهُوَ مَا تَهَوَّرَ وساخَتْ فِيهِ الْقَوَائِمُ.

وخَبِرَتِ الأَرضُ خَبَرًا: كَثُرَ خَبارُها.

والخَبْرُ: أَن تُزْرَعَ عَلَى النِّصْفِ أَو الثُّلْثِ مِنْ هَذَا، وَهِيَ المُخابَرَةُ، وَاشْتُقَّتْ مِنْ خَيْبَرَ لأَنها أَول مَا أُقْطِعَتْ كَذَلِكَ.

والمُخابَرَةُ: الْمُزَارَعَةُ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنَ الأَرض، وَهُوَ الخِبْرُ أَيضًا، بِالْكَسْرِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «كُنَّا نُخابر وَلَا نَرَى بِذَلِكَ بأْسًا حَتَّى أَخْبَرَ رافعٌ أَن رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا».

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه نَهَى عن المُخابرة»؛ قِيلَ: هِيَ الْمُزَارَعَةُ عَلَى نَصِيبٍ مُعَيَّنٍ كَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَغَيْرِهِمَا؛ وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الخَبارِ، الأَرض اللَّيِّنَةُ، وَقِيلَ: أَصل المُخابرة مِنْ خَيْبر، " لأَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقرها فِي أَيدي أَهلها عَلَى النِّصْفِ مِنْ مَحْصُولِهَا "؛ فَقِيلَ: خابَرَهُمْ أَي عَامَلَهُمْ فِي خَيْبَرَ؛ وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: هِيَ الْمُزَارَعَةُ فَعَمَّ بِهَا.

والمُخَابَرَةُ أَيضًا: الْمُؤَاكَرَةُ.

والخَبِيرُ: الأَكَّارُ؛ قَالَ:

تَجُزُّ رؤُوس الأَوْسِ مِنْ كلِّ جانِبٍ، ***كَجَزِّ عَقاقِيلِ الكُرومِ خَبِيرُها

رَفَعَ خَبِيرَهَا عَلَى تَكْرِيرِ الْفِعْلِ، أَراد جَزَّه خَبِيرُها أَي أَكَّارُها.

والخَبْرُ الزَّرْعُ.

والخَبِيرُ: النَّبَاتُ.

وَفِي حَدِيثِ طَهْفَةَ: «نَسْتَخْلِبُ الخَبِيرَ»أَي نَقْطَعُ النَّبَاتَ وَالْعُشْبَ ونأْكله؛ شُبّهَ بِخَبِيرِ الإِبل، وَهُوَ وبَرُها لأَنه يَنْبُتُ كَمَا يَنْبُتُ الْوَبَرُ.

وَاسْتِخْلَابُهُ: احْتِشاشُه بالمِخْلَبِ، وَهُوَ المِنْجَلُ.

والخَبِيرُ: يَقَعُ عَلَى الْوَبَرِ وَالزَّرْعِ والأَكَّار.

والخَبِيرُ: الوَبَرُ؛ قَالَ أَبو النَّجْمِ يَصِفُ حَمِيرَ وَحْشٍ: " حَتَّى إِذَا مَا طَارَ مِنْ خَبِيرِها "والخَبِيرُ: نُسَالة الشِّعْرِ، والخَبِيرَةُ: الطَّائِفَةُ مِنْهُ؛ قَالَ الْمُتَنَخِّلُ الْهُذَلِيُّ:

فَآبُوا بالرماحِ، وهُنَّ عُوجٌ، ***بِهِنَّ خَبائِرُ الشَّعَرِ السِّقَاطُ

والمَخْبُورُ: الطَّيِّب الأَدام.

والخَبِيرُ: الزَّبَدُ؛ وَقِيلَ: زَبَدُ أَفواه الإِبل؛ وأَنشد الْهُذَلِيِّ:

تَغَذّمْنَ، فِي جانِبيهِ، الخَبِيرَ ***لَمَّا وَهَى مُزنُهُ واسْتُبِيحَا

تَغَذَّمْنَ يَعْنِي الْفُحُولَ أَي مَضَغْنَ الزَّبَدَ وعَمَيْنَهُ.

والخُبْرُ والخُبْرَةُ: اللَّحْمُ يَشْتَرِيهِ الرَّجُلُ لأَهله؛ يُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا اختَبَرْتَ لأَهلك؟ والخُبْرَةُ: الشَّاةُ يَشْتَرِيهَا الْقَوْمُ بأَثمان مُخْتَلِفَةٍ ثُمَّ يَقْتَسِمُونَهَا فَيُسْهِمُونَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا نَقَدَ.

وتَخَبَّرُوا خُبْرَةً: اشْتَرَوْا شَاةً فَذَبَحُوهَا وَاقْتَسَمُوهَا.

وَشَاةٌ خَبِيرَةٌ: مُقْتَسَمَةٌ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: أُراه عَلَى طَرْحِ الزَّائِدِ.

والخُبْرَةُ، بِالضَّمِّ: النَّصِيبُ تأْخذه مِنْ لَحْمٍ أَو سَمَكٍ؛ وأَنشد:

باتَ الرَّبِيعِيُّ والخامِيز خُبْرَتُه، ***وطاحَ طَيُّ بَنِي عَمْرِو بْنِ يَرْبُوعِ

وَفِي حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ: «حِينَ لَا آكلُ الخَبِيرَ»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هَكَذَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ؛ أي المَأْدُومَ.

والخَبير والخُبْرَةُ: الأَدام؛ وَقِيلَ: هُوَ الطَّعَامُ مِنَ اللَّحْمِ وَغَيْرِهِ؛ وَيُقَالُ: اخْبُرْ طَعَامَكَ أَي دَسِّمْهُ؛ وأَتانا بِخُبْزَةٍ وَلَمْ يأْتنا بخُبْرَةٍ.

وَجَمَلٌ مُخْتَبِرٌ: كَثِيرُ اللَّحْمِ.

والخُبْرَةُ: الطَّعَامُ وَمَا قُدِّم مِنْ شَيْءٍ.

وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ أَنه سَمِعَ الْعَرَبَ تَقُولُ: اجْتَمَعُوا عَلَى خُبْرَتِه، يَعْنُونَ ذَلِكَ.

والخُبْرَةُ: الثَّرِيدَةُ الضَّخْمَةُ.

وخَبَرَ الطعامَ يَخْبُرُه خَبْرًا: دَسَّمَهُ.

والخابُور: نَبْتٌ أَو شَجَرٌ؛ قَالَ:

أَيا شَجَرَ الخابُورِ مَا لَكَ مُورِقًا؟ ***كأَنَّكَ لَمْ تَجْزَعْ عَلَى ابنِ طَرِيفِ

والخابُور: نَهْرٌ أَو وَادٍ بِالْجَزِيرَةِ؛ وَقِيلَ: مَوْضِعٌ بِنَاحِيَةِ الشَّامِ.

وخَيْبَرُ: مَوْضِعٌ بِالْحِجَازِ قَرْيَةٌ مَعْرُوفَةٌ.

وَيُقَالُ: عَلَيْهِ الدَّبَرَى.

وحُمَّى خَيْبَرى.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


44-لسان العرب (دور)

دَوَرَ: دَارَ الشيءُ يَدُورُ دَوْرًا ودَوَرَانًا ودُؤُورًا واسْتَدَارَ وأَدَرْتُه أَنا ودَوَّرْتُه وأَدَارَه غَيْرُهُ ودَوَّرَ بِهِ ودُرْتُ بِهِ وأَدَرْت اسْتَدَرْتُ، ودَاوَرَهُ مُدَاوَرَةً ودِوَارًا: دَارَ مَعَهُ؛ قَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ:

حَتَّى أُتِيح لَهُ يَوْمًا بِمَرْقَبَةٍ ***ذُو مِرَّةٍ، بِدِوَارِ الصَّيْدِ، وَجَّاسُ

عَدَّى وَجَّاسُ بِالْبَاءِ لأَنه فِي مَعْنَى قَوْلِكَ عَالِمٌ بِهِ.

وَالدَّهْرُ دَوَّارٌ بالإِنسان ودَوَّارِيٌّ أَي دَائِرٌ بِهِ عَلَى إِضافة الشَّيْءِ إِلى نَفْسِهِ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: هَذَا قَوْلُ اللغويين، قال الفارسي: هُوَ عَلَى لَفْظِ النَّسَبِ وَلَيْسَ بِنَسَبٍ، وَنَظِيرُهُ بُخْتِيٌّ وكُرْسيٌّ وَمِنَ الْمُضَاعَفِ أَعْجَمِيٌّ فِي مَعْنَى أَعجم.

اللَّيْثُ: الدَّوَّارِيُّ الدَّهْرُ الدائرُ بالإِنسان أَحوالًا؛ قَالَ الْعَجَّاجُ:

والدَّهْرُ بالإِنسانِ دَوَّارِيُّ، ***أَفْنَى القُرُونَ، وَهُوَ قَعْسَرِيُ

وَيُقَالُ: دَارَ دَوْرَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ يدُورُها.

قَالَ: والدَّوْرُ قَدْ يَكُونُ مَصْدَرًا فِي الشِّعْرِ وَيَكُونُ دَوْرًا وَاحِدًا مِنْ دَوْرِ الْعِمَامَةِ، ودَوْرِ الْخَيْلِ وَغَيْرِهِ عَامٌّ فِي الأَشياء كُلِّهَا.

والدُّوَارُ والدَّوَارُ: كالدَّوَرَانِ يأْخذ فِي الرأْس.

ودِيرَ بِهِ وَعَلَيْهِ وأُدِيرَ بِهِ: أَخذه الدُّوَارُ مِنْ دُوَارِ الرأْس.

وتَدْوِيرُ الشَّيْءِ: جَعْلُهُ مُدَوَّرًا.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِن الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَار كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ والأَرض».

يُقَالُ: دَارَ يَدُورُ وَاسْتَدَارَ يَسْتَدِيرُ بِمَعْنًى إِذا طَافَ حَوْلَ الشَّيْءِ وإِذا عَادَ إِلى الْمَوْضِعِ الَّذِي ابتدأَ مِنْهُ؛ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَن الْعَرَبَ كَانُوا يُؤَخِّرُونَ الْمُحَرَّمَ إِلى صَفَرٍ، وَهُوَ النَّسِيءُ، لِيُقَاتِلُوا فِيهِ وَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ سَنَةً بَعْدَ سَنَةٍ فَيَنْتَقِلُ الْمُحَرَّمُ مِنْ شَهْرٍ إِلى شَهْرٍ حَتَى يَجْعَلُوهُ فِي جَمِيعِ شُهُورِ السَّنَةِ، فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ السَّنَةُ كَانَ قَدْ عَادَ إِلى زَمَنِهِ الْمَخْصُوصِ بِهِ قَبْلَ النَّقْلِ وَدَارَتِ السَّنَةُ كَهَيْئَتِهَا الأُولى.

ودُوَّارَةُ الرأْس ودَوَّارَتُه: طَائِفَةٌ مِنْهُ.

ودَوَّارَةُ الْبَطْنِ ودُوَّارَتُه؛ عَنْ ثَعْلَبٍ: مَا تَحَوَّى مِنْ أَمعاء الشَّاةِ.

والدَّائرة والدَّارَةُ، كِلَاهُمَا: مَا أَحاط بِالشَّيْءِ.

والدَّارَةُ: دَارَةُ الْقَمَرِ الَّتِي حَوْلَهُ، وَهِيَ الهَالَةُ.

وَكُلُّ مَوْضِعٍ يُدَارُ بِهِ شَيْءٌ يَحْجُرُه، فَاسْمُهُ دَارَةٌ نَحْوُ الدَّاراتِ الَّتِي تتخذ في المباطخ وَنَحْوِهَا وَيُجْعَلُ فِيهَا الْخَمْرُ؛ وأَنشد:

تَرَى الإِوَزِّينَ فِي أَكْنافِ دَارَتها ***فَوْضَى، وَبَيْنَ يَدَيْهَا التِّبْنُ مَنْثُورُ

قَالَ: وَمَعْنَى الْبَيْتِ أَنه رأَى حَصَّادًا أَلقى سَنَبُلَهُ بَيْنَ يَدَيْ تِلْكَ الإِوز فَقَلَعَتْ حَبًّا مِنْ سَنَابِلِهِ فأَكلت الْحَبَّ وَافْتَضَحَتِ التِّبْنَ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَهل النَّارِ يَحْتَرِقُونَ إِلا دَارَاتِ وُجُوهِهِمْ»؛ هِيَ جَمْعُ دَارَةٍ، وَهُوَ مَا يُحِيطُ بِالْوَجْهِ مِنْ جَوَانِبِهِ، أَراد أَنها لَا تأْكلها النَّارُ لأَنها مَحَلُّ السُّجُودِ.

وَدَارَةُ الرَّمْلِ: مَا اسْتَدَارَ مِنْهُ، وَالْجَمْعُ دَارَاتٌ ودُورٌ؛ قَالَ الْعَجَّاجُ: " مِنَ الدَّبِيلِ ناشِطًا لِلدُّورِ "الأَزهري: ابْنُ الأَعرابي: الدِّيَرُ الدَّارَاتُ فِي الرَّمْلِ.

ابْنُ الأَعرابي: يُقَالُ دَوَّارَةٌ وقَوَّارَةٌ لِكُلِّ مَا لَمْ يَتَحَرَّكْ وَلَمْ يَدُرْ، فإِذا تَحَرَّكَ وَدَارَ، فَهُوَ دَوَّارَةٌ وقَوَّارَةٌ.

والدَّارَةُ: كُلُّ أَرض وَاسِعَةٍ بَيْنَ جِبَالٍ، وَجَمْعُهَا دُورٌ ودَارَات؛ قَالَ أَبو حَنِيفَة: وَهِيَ تُعَدُّ مِنْ بُطُونِ الأَرض الْمُنْبِتَةِ؛ وَقَالَ الأَصمعي: هِيَ الجَوْبَةُ الْوَاسِعَةُ تَحُفُّها الْجِبَالُ، وَلِلْعَرَبِ دَارَاتٌ؛ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُكَرَّمِ: وَجَدْتُ هُنَا فِي بَعْضِ الأُصول حَاشِيَةً بِخَطِّ سَيِّدِنَا الشَّيْخِ الإِمام الْمُفِيدِ بَهَاءِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ النَّحَّاسِ النَّحْوِيِّ، فَسَّحَ اللَّهُ فِي أَجله: قَالَ كُرَاعٌ الدارةُ هِيَ البُهْرَةُ إِلا أَن البُهْرَة لَا تَكُونُ إِلا سَهْلَةً وَالدَّارَةُ تَكُونُ غَلِيظَةً وَسَهْلَةً.

قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ أَبي فَقْعَسٍ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: الدَّارَةُ كلُّ جَوْبَةٍ تَنْفَتِحُ فِي الرَّمْلِ، وَجَمْعُهَا دُورٌ كَمَا قِيلَ سَاحَةٌ وسُوحٌ.

قَالَ الأَصمعي: وعِدَّةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى دَخَلَ كَلَامُ بَعْضِهِمْ فِي كَلَامِ بَعْضٍ: فَمِنْهَا دَارَةُ جُلْجُل ودارةُ القَلْتَيْنِ ودارةُ خَنْزَرٍ ودارةُ صُلْصُلٍ ودارةُ مَكْمَنٍ ودارةُ مَاسِلٍ وَدَارَةُ الجَأْبِ وَدَارَةُ الذِّئْبِ وَدَارَةُ رَهْبى ودارةُ الكَوْرِ ودارةُ مَوْضُوعٍ ودارةُ السَّلَمِ ودارةُ الجُمُدِ ودارةُ القِدَاحِ ودارةُ رَفْرَفٍ ودارةُ قِطْقِطٍ ودارةُ مُحْصَنٍ ودارةُ الخَرْجِ وَدَارَةُ وَشْحَى ودارةُ الدُّورِ، فَهَذِهِ عِشْرُونَ دَارَةً وَعَلَى أَكثرها شَوَاهِدُ، هَذَا آخِرُ الْحَاشِيَةِ.

والدَّيِّرَةُ مِنَ الرَّمْلِ: كالدَّارةِ، وَالْجَمْعُ دَيِّرٌ، وَكَذَلِكَ التَّدْوِرَةُ، وأَنشد سِيبَوَيْهِ لِابْن مُقْبِلٍ:

بِتْنَا بِتَدْوِرَة يُضِيءُ وُجُوهَنَا ***دَسَمُ السَّلِيطِ، يُضِيءُ فَوْقَ ذُبالِ

وَيُرْوَى: بِتْنَا بِدَيِّرَةٍ يُضِيءُ وُجُوهَنَا "والدَّارَةُ: رَمْلٌ مُسْتَدِيرٌ، وَهِيَ الدُّورَةُ، وَقِيلَ: هِيَ الدُّورَةُ والدَّوَّارَةُ والدَّيِّرَةُ، وَرُبَّمَا قَعَدُوا فِيهَا وَشَرِبُوا.

والتَّدْوِرَةُ.

المجلسُ؛ عَنِ السِّيرَافِيِّ.

ومُدَاوَرَةُ الشُّؤُون: مُعَالَجَتُهَا.

والمُدَاوَرَةُ: الْمُعَالَجَةُ؛ قَالَ سُحَيْمُ بْنُ وَثِيلٍ:

أَخُو خَمْسِينَ مُجْتَمِعٌ أَشُدِّي، ***ونَجَّدَنِي مُدَاوَرَةُ الشُّؤُونِ

والدَّوَّارَةُ: مِنْ أَدوات النَّقَّاشِ والنَّجَّارِ لَهَا شُعْبَتَانِ تَنْضَمَّانِ وَتَنْفَرِجَانِ لِتَقْدِيرِ الدَّارات.

والدَّائِرَةُ فِي العَرُوض: هِيَ الَّتِي حَصَرَ الْخَلِيلُ بِهَا الشُّطُورَ لأَنها عَلَى شَكْلِ الدَّائِرَةِ الَّتِي هِيَ الْحَلْقَةُ، وَهِيَ خَمْسُ دَوَائِرَ: الأُولى فِيهَا ثَلَاثَةُ أَبواب الطَّوِيلُ وَالْمَدِيدُ وَالْبَسِيطُ، وَالدَّائِرَةُ الثَّانِيَةُ فِيهَا بَابَانِ الْوَافِرُ وَالْكَامِلُ، وَالدَّائِرَةُ الثَّالِثَةُ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَبواب الْهَزَجُ وَالرَّجَزُ وَالرَّمَلُ، وَالدَّائِرَةُ الرَّابِعَةُ فِيهَا سِتَّةُ أَبواب السَّرِيعُ وَالْمُنْسَرِحُ وَالْخَفِيفُ وَالْمُضَارِعُ وَالْمُقْتَضَبُ وَالْمُجْتَثُّ، وَالدَّائِرَةُ الْخَامِسَةُ فِيهَا الْمُتَقَارِبُ فَقَطْ.

وَالدَّائِرَةُ: الشَّعَرُ الْمُسْتَدِيرُ عَلَى قَرْنِ الإِنسان؛ قَالَ ابْنُ الأَعرابي: هُوَ مَوْضِعُ الذُّؤَابَةِ.

وَمِنْ أَمثالهم: مَا اقْشَعَرَّتْ لَهُ دَائِرَتِي؛ يُضْرَبُ مَثَلًا لِمَنْ يَتَهَدَّدُكَ بالأَمر لَا يَضُرُّكَ.

وَدَائِرَةُ رأْس الإِنسان: الشَّعْرُ الَّذِي يَسْتَدِيرُ عَلَى القَرْنِ، يُقَالُ: اقْشَعَرَّتْ دَائِرَتُهُ.

وَدَائِرَةُ الْحَافِرِ: مَا أَحاط بِهِ مِنَ التِّبْنِ.

وَالدَّائِرَةُ: كَالْحَلْقَةِ أَو الشَّيْءِ الْمُسْتَدِيرِ.

وَالدَّائِرَةُ: وَاحِدَةُ الدَّوَائِرِ؛ وَفِي الْفَرَسِ دَوَائِرُ كَثِيرَةٌ: فَدَائِرَةُ القَالِع والنَّاطِحِ وَغَيْرِهِمَا؛ وَقَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: دَوَائِرُ الْخَيْلِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ دَائِرَةً: يُكْرَهُ مِنْهَا الهَقْعَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ فِي عُرضِ زَوْرِه، وَدَائِرَةُ القَالِعِ، وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ تَحْتَ اللِّبْدِ، وَدَائِرَةُ النَّاخِسِ، وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ تَحْتَ الجَاعِرَتَيْنِ إِلى الفَائِلَتَيْنِ، ودائرةُ اللَّطَاةِ فِي وَسَطِ الْجَبْهَةِ وَلَيْسَتْ تُكْرَهُ إِذا كَانَتْ وَاحِدَةً فإِن كَانَ هُنَاكَ دَائِرَتَانِ قَالُوا: فَرَسٌ نَطِيحٌ، وَهِيَ مَكْرُوهَةٌ وَمَا سِوَى هَذِهِ الدَّوَائِرِ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ.

ودَارَتْ عَلَيْهِ الدَّوائِرُ أَي نَزَلَتْ بِهِ الدَّوَاهِي.

وَالدَّائِرَةُ: الْهَزِيمَةُ وَالسُّوءُ.

يُقَالُ: عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «فَيَجْعَلُ الدَّائِرَةَ عَلَيْهِمْ» أَي الدَّوْلَة بِالْغَلَبَةِ وَالنَّصْرِ.

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ}؛ قِيلَ: الْمَوْتُ أَو الْقَتْلُ.

والدُّوَّارُ: مُسْتَدَارُ رَمْلٍ تَدُورُ حَوْلَهُ الْوَحْشُ؛ أَنشد ثَعْلَبٌ:

فَمَا مُغْزِلٌ أَدْماءُ نَامَ غَزَالُها، ***بِدُوَّارِ نِهْيٍ ذِي عَرَارٍ وحُلَّبِ

بأَحْسَنَ مِنْ لَيْلَى، وَلَا أُمُّ شَادِنٍ ***غَضِيضَةُ طَرْفٍ رُعْتُها وَسْطَ رَبْرَبِ

وَالدَّائِرَةُ: خَشَبَةٌ تُرَكَّزُ وَسَطَ الكُدْسِ تَدُورُ بِهَا الْبَقَرُ.

اللَّيْثُ: المَدَارُ مَفْعَلٌ يَكُونُ مَوْضِعًا وَيَكُونُ مَصْدَرًا كالدَّوَرَانِ، وَيُجْعَلُ اسْمًا نَحْوَ مَدَار الفَلَكِ فِي مَدَارِه.

ودُوَّارٌ، بِالضَّمِّ: صَنَمٌ، وَقَدْ يُفْتَحُ، وَفِي الأَزهري: الدَّوَّارُ صَنَمٌ كَانَتِ الْعَرَبُ تَنْصِبُهُ يَجْعَلُونَ مَوْضِعًا حَوْلَهُ يَدُورُون بِهِ، وَاسْمُ ذَلِكَ الصَّنَمِ وَالْمَوْضِعِ الدُّوَارُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:

فَعَنَّ لَنَا سِرْبٌ كأَنَّ نِعاجَهُ ***عَذَارَى دُوَارٍ، فِي مُلاءٍ مُذَيَّلِ

السِّرْبُ: الْقَطِيعُ مِنَ الْبَقَرِ وَالظِّبَاءِ وَغَيْرِهَا، وأَراد بِهِ هَاهُنَا الْبَقَرَ، وَنِعَاجُهُ إِناثه، شَبَّهَهَا فِي مَشْيِهَا وَطُولِ أَذنابها بِجَوَارٍ يَدُرْنَ حَوْلَ صَنَمٍ وَعَلَيْهِنَّ الْمِلَاءُ.

وَالْمُذَيَّلُ: الطَّوِيلُ الْمُهَدَّبُ.

والأَشهر في اسم الصنم دَوَارٌ، بِالْفَتْحِ، وأَما الدُّوَارُ، بِالضَّمِّ، فَهُوَ مِنْ دُوَارِ الرأْس، وَيُقَالُ فِي اسْمِ الصَّنَمِ دُوارٌ، قَالَ: وَقَدْ تُشَدَّدُ فَيُقَالُ دُوَّارٌ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ}؛ قَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: أَي دَوْلَةٌ، وَالدَّوَائِرُ تَدُورُ والدَّوائل تَدولُ.

ابْنُ سِيدَهْ: والدَّوَّار والدُّوَّارُ؛ كِلَاهُمَا عَنْ كُرَاعٍ، مِنْ أَسماء الْبَيْتِ الْحَرَامِ.

والدَّارُ: الْمَحَلُّ يَجْمَعُ الْبِنَاءَ وَالْعَرْصَةَ، أُنثى؛ قَالَ ابْنُ جِنِّي: هِيَ مِنْ دَارَ يَدُورُ لِكَثْرَةِ حَرَكَاتِ النَّاسِ فِيهَا، وَالْجَمْعُ أَدْوُرٌ وأَدْؤُرٌ فِي أَدنى الْعَدَدِ والإِشمام لِلْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَفعل مِنَ الْفِعْلِ وَالْهَمْزُ لِكَرَاهَةِ الضَّمَّةِ عَلَى الْوَاوِ؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْهَمْزَةُ فِي أَدؤر مُبْدَلَةٌ مِنْ وَاوٍ مَضْمُومَةٍ، قَالَ: وَلَكَ أَن لَا تَهْمِزَ، وَالْكَثِيرُ دِيارٌ مِثْلُ جَبَلٍ وأَجْبُلٍ وجِبالٍ.

وَفِي حَدِيثِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ: «سلامٌ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ»؛ سُمِّيَ مَوْضِعُ الْقُبُورِ دَارًا تَشْبِيهًا بِدَارِ الأَحياء لِاجْتِمَاعِ الْمَوْتَى فِيهَا.

وَفِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: «فأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِه»؛ أي فِي حَضْرَةٍ قُدْسِهِ، وَقِيلَ: فِي جَنَّتِهِ، فإِن الْجَنَّةَ تُسَمَّى دَارَ السَّلَامِ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ السَّلَامُ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ فِي جَمْعِ الدَّارِ: آدُرٌ، عَلَى الْقَلْبِ، قَالَ: حَكَاهَا الْفَارِسِيُّ عَنْ أَبي الْحَسَنِ؛ ودِيارَةٌ ودِيارَاتٌ ودِيرَانٌ ودُورٌ ودُورَاتٌ؛ حَكَاهَا سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ جَمْعِ الْجَمْعِ فِي قِسْمَةِ السَّلَامَةِ.

والدَّارَةُ: لُغَةٌ فِي الدَّارِ.

التَّهْذِيبُ: وَيُقَالُ دِيَرٌ ودِيَرَةٌ وأَدْيارٌ ودِيرَانٌ ودَارَةٌ ودَارَاتٌ ودُورٌ ودُورَانٌ وأَدْوَارٌ ودِوَارٌ وأَدْوِرَةٌ؛ قَالَ: وأَما الدَّارُ فَاسْمٌ جَامِعٌ لِلْعَرْصَةِ وَالْبِنَاءِ والمَحَلَّةِ.

وكلُّ مَوْضِعٍ حَلَّ بِهِ قَوْمٌ، فَهُوَ دَارُهُمْ.

وَالدُّنْيَا دَارُ الفَناء، وَالْآخِرَةُ دَارُ القَرار ودَارُ السَّلام.

قَالَ: وَثَلَاثُ أَدْؤُرٍ، هُمِزَتْ لأَن الأَلف الَّتِي كَانَتْ فِي الدَّارِ صَارَتْ فِي أَفْعُلٍ فِي مَوْضِعِ تَحَرُّكٍ فأُلقي عَلَيْهَا الصَّرْفُ وَلَمْ تُرَدَّ إِلى أَصلها.

وَيُقَالُ: مَا بِالدَّارِ دَيَّارٌ أَي مَا بِهَا أَحد، وَهُوَ فَيْعَالٌ مِنْ دَارَ يَدُورُ.

الْجَوْهَرِيُّ: وَيُقَالُ مَا بِهَا دُورِيٌّ وَمَا بِهَا دَيَّارٌ أَي أَحد، وَهُوَ فَيْعَالٌ مِنْ دُرْتُ وأَصله دَيْوَارٌ؛ قَالُوا: وإِذا وَقَعَتْ وَاوٌ بَعْدَ يَاءٍ سَاكِنَةٍ قَبْلَهَا فَتْحَةٌ قُلِبَتْ يَاءً وأُدغمت مِثْلُ أَيَّام وقَيَّام.

وَمَا بالدّارِ دُورِيٌّ وَلَا دَيَّارٌ وَلَا دَيُّورٌ عَلَى إِبدال الْوَاوِ مِنَ الْيَاءِ، أَي مَا بِهَا أَحد، لَا يُسْتَعْمَلُ إِلا فِي النَّفْيِ، وَجَمْعُ الدَّيَّارِ والدَّيُّورِ لَوْ كُسِّرَ دَواوِيرُ، صَحَّتِ الْوَاوُ لِبُعْدِهَا مِنَ الطَّرَفِ؛ وَفِي الْحَدِيثِ: «أَلا أُنبئكم بِخَيْرِ دُورِ الأَنصار؟ دُورُ بَنِي النَّجَّارِ ثُمَّ دُور بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ وَفِي كلِّ دُورِ الأَنصارِ خَيْرٌ»؛ الدُّورُ: جَمْعُ دَارٍ، وَهِيَ الْمَنَازِلُ الْمَسْكُونَةُ والمَحَالُّ، وأَراد بِهِ هَاهُنَا الْقَبَائِلَ؛ والدُّورُ هَاهُنَا: قَبَائِلُ اجْتَمَعَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ فِي مَحَلَّةٍ فَسُمِّيتِ المَحَلَّةُ دَارًا وَسُمِّيَ سَاكِنُوهَا بِهَا مَجَازًا عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَي أَهل الدُّورِ.

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: " مَا بقيتْ دَارٌ إِلَّا بُنِيَ فِيهَا مَسْجِدٌ "؛ أَي مَا بَقِيَتْ قَبِيلَةٌ.

وأَما قَوْلُهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: " وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ دَارٍ؟ فإِنما يُرِيدُ بِهِ الْمَنْزِلَ لَا الْقَبِيلَةَ.

الْجَوْهَرِيُّ: الدَّارُ مُؤَنَّثَةٌ وإِنما قَالَ تعالى: {وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ}؛ فذكَّر عَلَى مَعْنَى المَثْوَى وَالْمَوْضِعِ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا}، فأَنث عَلَى الْمَعْنَى.

والدَّارَةُ أَخص مِنَ الدَّارِ؛ وَفِي حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ:

«يَا لَيْلَةً مِنْ طُولها وعَنَائِها، ***عَلَى أَنها مِنْ دَارَةِ الكُفْرِ نَجَّتِ»

وَيُقَالُ للدَّارِ: دَارَة.

وَقَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى: وَفِي الصِّحَاحِ قَالَ أُمية بْنُ أَبي الصَّلْتِ يَمْدَحُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُدْعان:

لَهُ دَاعٍ بمكةَ مُشْمَعِلٌّ، ***وآخَرُ فَوْقَ دَارَتِه يُنادِي

والمُدَارَات: أُزُرٌ فِيهَا دَارَاتٌ شَتَّى؛ وَقَالَ الشَّاعِرُ: " وذُو مُدَارَاتٍ عَلَى حَصِير والدَّائِرَةُ: الَّتِي تَحْتَ الأَنف يُقَالُ لَهَا دَوَّارَةٌ ودَائِرَةٌ ودِيرَةٌ.

والدَّارُ: الْبَلَدُ.

حَكَى سِيبَوَيْهِ: هَذِهِ الدَّارُ نَعِمَتِ البلدُ فأَنث الْبَلَدَ عَلَى مَعْنَى الدَّارِ.

وَالدَّارُ: اسْمٌ لِمَدِينَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ}.

والدَّارِيُّ: اللازِمُ لِدَارِهِ لَا يَبْرَحُ وَلَا يَطْلُبُ مَعَاشًا.

وَفِي الصِّحَاحِ: الدَّارِيُّ رَبُّ النِّعَمِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَنه مُقِيمٌ فِي دَارِهِ فَنُسِبَ إِليها؛ قَالَ:

لَبِّثْ قَلِيلًا يُدْرِكِ الدَّارِيُّون، ***ذَوُو الجيادِ الُبدَّنِ المَكْفِيُّون،

سَوْفَ تَرَى إِن لَحِقُوا مَا يُبْلُون "يَقُولُ: هُمْ أَرباب الأَموال وَاهْتِمَامُهُمْ بإِبلهم أَشد مِنِ اهْتِمَامِ الرَّاعِي الَّذِي لَيْسَ بِمَالِكٍ لَهَا.

وبَعِيرٌ دَارِيٌّ: مُتَخَلِّفٌ عَنِ الإِبل فِي مَبْرَكِه، وَكَذَلِكَ الشَّاةُ والدَّارِيُّ: المَلَّاحُ الَّذِي يَلِي الشِّرَاعَ.

وأَدَارَهُ عَنِ الأَمر وَعَلَيْهِ ودَاوَرَهُ: لاوَصَهُ.

وَيُقَالُ: أَدَرْتُ فُلَانًا عَلَى الأَمر إِذا حاوَلْتَ إِلزامَه إِياه، وأَدَرْتُهُ عَنِ الأَمر إِذا طَلَبْتَ مِنْهُ تَرْكَهُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ:

يُديرُونَنِي عَنْ سَالِمٍ وأُدِيرُهُمْ، ***وجِلْدَةُ بينَ العَيْنِ والأَنْفِ سَالِمُ

وَفِي حَدِيثِ الإِسراء: «قَالَ لَهُ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَقَدْ دَاوَرْتُ بَنِي إِسرائيل عَلَى أَدْنَى مِنْ هَذَا فَضَعُفُوا»؛ هُوَ فاعَلْتُ مِنْ دَارَ بِالشَّيْءِ يَدُورُ بِهِ إِذا طَافَ حَوْلَهُ، وَيُرْوَى: رَاوَدْتُ.

الْجَوْهَرِيُّ: والمُدَارَةُ جِلْدٌ يُدَارُ ويُخْرَزُ عَلَى هَيْئَةِ الدَّلْوِ فَيُسْتَقَى بِهَا؛ قَالَ الرَّاجِزُ:

لَا يَسْتَقِي فِي النَّزَحِ المَضْفُوفِ ***إِلَّا مُدَارَاتُ الغُرُوبِ الجُوفِ

يَقُولُ: لَا يُمْكِنُ أَن يُسْتَقَى مِنَ الْمَاءِ الْقَلِيلِ إِلا بِدِلَاءٍ وَاسِعَةِ الأَجواف قَصِيرَةِ الْجَوَانِبِ لِتَنْغَمِسَ فِي الْمَاءِ وإِن كَانَ قَلِيلًا فَتَمْتَلِئَ مِنْهُ؛ وَيُقَالُ: هِيَ مِنَ المُدَارَاةِ فِي الأُمور، فَمَنْ قَالَ هَذَا فإِنه يَنْصِبُ التَّاءَ فِي مَوْضِعِ الْكَسْرِ، أَي بِمُدَارَاةِ الدِّلَاءِ، وَيَقُولُ لَا يُسْتَقَى عَلَى مَا لَمْ يسمَّ فَاعِلُهُ.

ودَارٌ: مَوْضِعٌ؛ قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:

عادَ الأَذِلَّةُ فِي دَارٍ، وكانَ بِهَا ***هُرْتُ الشَّقاشِقِ ظَلَّامُونَ للجُزُرِ

وابنُ دَارَةَ: رَجُلٌ مِنْ فُرْسَانِ الْعَرَبِ؛ وَفِي الْمَثَلِ: " مَحَا السَّيْفُ مَا قَالَ ابنُ دَارَةَ أَجْمَعَا "والدَّارِيُّ: العَطَّارُ، يُقَالُ: إِنه نُسِبَ إِلى دَارِينَ فُرْضَةٍ بالبَحْرَيْنِ فِيهَا سُوق كَانَ يُحْمَلُ إِليها مِسْكٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْهِنْدِ؛ وَقَالَ الْجَعْدِيُّ:

أُلْقِيَ فِيهَا فِلْجانِ مِنْ مِسْكِ دَارِينَ، ***وفِلْجٌ مِنْ فُلْفُلٍ ضَرِمِ

وَفِي الْحَدِيثِ: «مَثَلُ الجَلِيس الصالِح مَثَلُ الدَّارِيِّ إِن لَمْ يُحْذِكَ مِنْ عِطْرِه عَلِقَكَ مِنْ رِيحِهِ»؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

إِذا التَّاجِرُ الدَّارِيُّ جاءَ بفَأْرَةٍ ***مِنَ المِسْكِ، رَاحَتْ فِي مَفَارِقِها تَجْري

والدَّارِيُّ، بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ: العَطَّارُ، قَالُوا: لأَنه نُسِبَ إِلى دَارِينَ، وَهُوَ مَوْضِعٌ فِي الْبَحْرِ يُؤْتَى مِنْهُ بِالطِّيبِ؛ ومنه كَلَامِ" عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: كأَنه قِلْعٌ دَارِيٌ "أَي شِراعٌ مَنْسُوبٌ إِلى هَذَا الْمَوْضِعِ الْبَحْرِيِّ؛ الْجَوْهَرِيُّ: وَقَوْلُ زُمَيْلٍ الفَزَارِيِّ:

فَلَا تُكْثِرَا فِيهِ المَلامَةَ، إِنَّهُ ***مَحا السَّيْفُ مَا قالَ ابنُ دَارَةَ أَجْمَعا

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الشِّعْرُ للكُمَيت بْنِ مَعْرُوف، وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: هُوَ لِلْكُمَيْتِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الأَكبر؛ قَالَ: وَصَدْرُهُ:

فَلَا تُكْثِرُوا فِيهِ الضَّجَاجَ، فإِنه ***مَحا السَّيْفُ ***

وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ فِيهِ تَعْودُ عَلَى الْعَقْلِ فِي الْبَيْتِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ:

خُذُوا العَقْلَ، إِنْ أَعْطاكمُ العَقْلَ قَومُكُم، ***وكُونُوا كَمَنْ سَنَّ الهَوَانَ فَأَرْتَعَا

قَالَ: وَسَبَبُ هَذَا الشِّعْرِ أَن سَالِمَ بْنَ دَارَةَ هَجَا فَزَارَةَ وَذَكَرَ في هجائه زُمَيْلَ بْنِ أُم دِينَارٍ الفَزَارِيَّ فَقَالَ:

أَبْلِغْ فَزَارَةَ أَنِّي لَنْ أُصالِحَها، ***حَتَّى يَنِيكَ زُمَيْلٌ أُمَّ دِينارِ

ثُمَّ إِن زُمَيْلًا لَقِيَ سَالِمَ بْنَ دَارَةَ فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ فَقَتَلَهُ وَقَالَ:

أَنا زُمَيْلٌ قاتِلُ ابنِ دَارَهْ، ***ورَاحِضُ المَخْزَاةِ عَنْ فَزَارَهْ

وَيُرْوَى: وكاشِفُ السُّبَّةِ عَنْ فَزَارَهْ.

وَبَعْدَهُ: ثُمَّ جَعَلْتُ أَعْقِلُ البَكَارَهْ "جَمْعُ بَكْرٍ.

قَالَ: يَعْقِلُ الْمَقْتُولَ بَكارَةً.

ومَسَانّ وعبدُ الدَّار: بطنٌ مِنْ قُرَيْشٍ النَّسَبُ إِليهم عَبْدَرِيٌّ؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَهُوَ مِنَ الإِضافة الَّتِي أُخذ فِيهَا مِنْ لَفْظِ الأَول وَالثَّانِي كَمَا أُدخلت فِي السِّبَطْر حروفُ السَّبِطِ؛ قَالَ أَبو الْحَسَنِ: كأَنهم صَاغُوا مِنْ عَبْدِ الدَّارِ اسْمًا عَلَى صِيغَةِ جَعْفَرٍ ثُمَّ وَقَعَتِ الإِضافة إِليه.

ودارِين: مَوْضِعٌ تُرْفَأُ إِليه السُّفُنُ الَّتِي فِيهَا الْمِسْكُ وَغَيْرُ ذَلِكَ فَنَسَبُوا الْمِسْكَ إِليه، وسأَل كِسْرَى عَنْ دَارِينَ: مَتَّى كَانَتْ؟ فَلَمْ يَجِدْ أَحدًا يُخْبِرُهُ عَنْهَا إِلا أَنهم قَالُوا: هِيَ عَتِيقَةٌ بِالْفَارِسِيَّةِ فَسُمِّيَتْ بِهَا.

ودَارَانُ: مَوْضِعٌ؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنما اعتلَّت الْوَاوُ فِيهِ لأَنهم جَعَلُوا الزِّيَادَةَ فِي آخِرِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا فِي آخِرِهِ الْهَاءُ وَجَعَلُوهُ مُعْتَلًّا كَاعْتِلَالِهِ وَلَا زِيَادَةَ فِيهِ وإِلا فَقَدْ كَانَ حُكْمُهُ أَن يَصِحَّ كَمَا صَحَّ الجَوَلانُ ودَارَاءُ: مَوْضِعٌ؛ قَالَ:

لَعَمْرُكَ مَا مِيعادُ عَيْنِكَ والبُكَا ***بِدَارَاءَ إِلا أَنْ تَهُبَّ جَنُوبُ

ودَارَةُ: مِنْ أَسماء الدَّاهِيَةِ، مَعْرِفَةٌ لَا يَنْصَرِفُ؛ عَنْ كُرَاعٍ، قَالَ: " يَسْأَلْنَ عَنْ دَارَةَ أَن تَدُورَا ودَارَةُ الدُّور: مَوْضِعٌ، وأُراهم إِنما بَالَغُوا بِهَا، كَمَا تَقُولُ: رَمْلَةُ الرِّمالِ.

ودُرْنَى: اسْمُ مَوْضِعٍ، سُمِّيَ عَلَى هَذَا بِالْجُمْلَةِ، وَهِيَ فُعْلى.

ودَيْرُ النَّصَارَى: أَصله الْوَاوُ، وَالْجَمْعُ أَدْيارٌ.

والدَّيْرَانِيُّ: صَاحِبُ الدَّيْرِ.

وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذا رأَس أَصحابه: هو رأْس الدَّيْرِ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


45-لسان العرب (روع)

روع: الرَّوْعُ والرُّواع والتَّرَوُّع: الفَزَعُ، راعَني الأَمرُ يَرُوعُني رَوْعًا ورُووعًا؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي، كَذَلِكَ حَكَاهُ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وإِن شِئْتَ هَمَزْتَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «إِذا شَمِطَ الإِنسانُ فِي عارِضَيْه فَذَلِكَ الرَّوْعُ»، كأَنه أَراد الإِنذار بِالْمَوْتِ.

قَالَ اللَّيْثُ: كُلُّ شَيْءٍ يَروعُك مِنْهُ جَمَالٌ وكَثرة تَقُولُ رَاعَنِي فَهُوَ رَائِعٌ.

والرَّوْعةُ: الفَزْعة.

وَفِي حَدِيثِ الدُّعَاءِ: «اللَّهُمَّ آمِنْ رَوعاتي»؛ هِيَ جَمْعُ رَوْعة وَهِيَ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الرَّوْع الفَزَعِ.

وَمِنْهُ حَدِيثِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ ليَدِيَ قَوْمًا قتَلَهم خالدُ بْنُ الْوَلِيدِ فأَعطاهم مِيلَغةَ الْكَلْبِ ثُمَّ أَعطاهم بِرَوْعةِ الْخَيْلِ "؛ يُرِيدُ أَن الْخَيْلَ رَاعَتْ نِساءهم وصبْيانهم فأَعطاهم شَيْئًا لِما أَصابهم مِنْ هَذِهِ الرَّوْعة.

وَقَوْلُهُمْ فِي الْمَثَلِ: أَفْرَخَ رَوْعُه أَي ذَهب فَزَعُه وَانْكَشَفَ وسكَن.

قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: أَفْرِخ رَوعك، تَفْسِيرُهُ لِيَذْهَبْ رُعْبُك وفزَعُك فإِن الأَمر لَيْسَ عَلَى مَا تُحاذِر؛ وَهَذَا الْمَثَلُ" لِمُعَاوِيَةَ كَتَبَ بِهِ إِلى زِيَادٍ، وَذَلِكَ أَنه كَانَ عَلَى الْبَصْرَةَ وَكَانَ المُغيرةُ بْنُ شُعْبَةَ عَلَى الْكُوفَةِ، فتُوُفِّيَ بِهَا فَخَافَ زِيَادٌ أَن يُوَلِّيَ مُعاويةُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ مَكَانَهُ، فَكَتَبَ إِلى مُعَاوِيَةَ يُخْبِرُهُ بِوَفَاةِ الْمُغِيرَةِ ويُشير عَلَيْهِ بِتَوْلِيَةِ الضَّحَّاك بْنِ قَيْسٍ مَكَانَهُ، ففَطِن لَهُ مُعَاوِيَةُ وَكَتَبَ إِليه: قَدْ فَهِمْت كِتَابَكَ فأَفْرِخْ رَوْعَكَ أَبا الْمُغِيرَةِ وَقَدْ ضَمَمْنَا إِليك الْكُوفَةَ مَعَ الْبَصْرَةَ "؛ قَالَ الأَزهري: كُلٌّ مَنْ لَقِيتُهُ مِنَ اللُّغَوِييِنَ يَقُولُ أَفْرَخَ رَوْعه، بِفَتْحِ الرَّاءِ مِنْ رَوَّعَهُ، إِلا مَا أَخبرني بِهِ الْمُنْذِرِيُّ عَنْ أَبي الْهَيْثَمِ أَنه كَانَ يَقُولُ: إِنما هُوَ أَفْرَخَ رُوعهُ، بِضَمِّ الرَّاءِ، قَالَ: وَمَعْنَاهُ خَرَجَ الرَّوْعُ مِنْ قَلْبِهِ.

قَالَ: وأَفْرِخْ رُوعَك أَي اسْكُن وأْمَنْ.

والرُّوع: مَوْضِعُ الرَّوْع وَهُوَ الْقَلْبُ؛ وأَنشد قَوْلَ ذِي الرُّمَّةِ: " جَذْلانَ قَدْ أَفْرَخَتْ عَنْ رُوعِه الكُرَبُ "قال: وَيُقَالُ أَفرخت الْبَيْضَةُ إِذا خَرَجَ الْوَلَدُ مِنْهَا.

قَالَ: والرَّوْع الفزَعُ، والفزَعُ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْفَزْعِ، إِنما يَخْرُجُ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ، وَهُوَ الرُّوع.

قَالَ: والرَّوْعُ فِي الرُّوعِ كالفَرْخِ فِي الْبَيْضَةِ.

يُقَالُ: أَفرخت الْبَيْضَةُ إِذا انْفَلَقَتْ عَنِ الفرْخ فَخَرَجَ مِنْهَا، قَالَ: وأَفْرَخَ فؤادُ الرَّجُلِ إِذا خَرَجَ رَوْعه مِنْهُ؛ قَالَ: وقلَبَه ذُو الرُّمَّةِ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِالْمَعْنَى فَقَالَ: " جذلانَ قَدْ أَفرخت عَنْ رُوعه الْكُرَبُ قَالَ الأَزهري: وَالَّذِي قَالَهُ أَبو الْهَيْثَمِ بَيِّنٌ غَيْرَ أَني أَستوحش مِنْهُ لِانْفِرَادِهِ بِقَوْلِهِ، وَقَدِ استدرَكَ الخلف عن السَّلَفِ أَشياء رُبَّمَا زَلُّوا فِيهَا فَلَا نُنْكِرُ إِصابة أَبي الْهَيْثَمِ فِيمَا ذَهَبَ إِليه، وَقَدْ كَانَ لَهُ حَظّ مِنَ الْعِلْمِ "مُوَفَّر، رَحِمَهُ اللَّهُ.

وارْتاعَ مِنْهُ وَلَهُ ورَوَّعه فتَرَوَّعَ أَي تَفَزَّعَ.

ورُعْت فُلَانًا ورَوَّعْتُه فارْتاعَ أَي أَفْزَعْتُه فَفَزِعَ.

وَرَجُلٌ رَوِعٌ ورائعٌ: متروِّع، كِلَاهُمَا عَلَى النَّسَبِ، صَحَّتِ الْوَاوُ فِي رَوِع لأَنهم شَبَّهُوا حَرَكَةَ الْعَيْنِ التَّابِعَةِ لَهَا بِحَرْفِ اللِّين التابِع لَهَا، فكأَنَّ فَعِلًا فَعِيل، كَمَا يَصِحُّ حَويل وطَويل فعَلى نحْوٍ مِنْ ذَلِكَ صَحَّ رَوِعٌ؛ وَقَدْ يَكُونُ رَائِعٌ فَاعِلًا فِي مَعْنَى مَفْعُولٍ كَقَوْلِهِ: " ذَكَرْت حَبِيبًا فاقِدًا تَحْتَ مَرْمَسِ وَقَالَ: شُذَّانُها رائعةٌ مِن هَدْرِه أَي مُرْتاعة.

ورِيعَ فُلَانٌ يُراع إِذا فَزِع.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ فَرَسًا لأَبي طَلْحَةَ لَيْلًا لِفَزَعٍ نابَ أَهلَ الْمَدِينَةِ فَلَمَّا رجَع قَالَ: لَنْ تُراعُوا لَنْ تُرَاعُوا إِنّي وجدْته بَحْرًا»؛ مَعْنَاهُ لَا فزَع وَلَا رَوْعَ فاسْكنوا واهْدَؤوا؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" ابْنِ عُمَرَ: فَقَالَ لَهُ المَلك لَمْ تُرَعْ أَي لَا فزَعَ وَلَا خَوْف.

وراعَه الشيءُ رُؤوعًا ورُوُوعًا، بِغَيْرِ هَمْزٍ؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي، ورَوْعةً: أَفْزَعَه بِكَثْرَتِهِ أَو جَمَالِهِ.

وَقَوْلُهُمْ لَا تُرَعْ أَي لَا تَخَف وَلَا يَلْحَقْك خَوْفٌ؛ قَالَ أَبو خِراش:

رَفَوْني وَقَالُوا: يَا خُوَيْلِد لَا تُرَعْ ***فقلتُ، وأَنْكَرْتُ الوُجوهَ: هُمُ هُمُ

وللأُنثى: لَا تُراعِي؛ وَقَالَ مَجْنُونُ قَيْسِ بْنُ مُعاذ الْعَامِرِيُّ، وَكَانَ وَقَعَ فِي شرَكه ظَبْيَةٌ فأَطْلَقها وَقَالَ:

أَيا شِبْهَ لَيْلى، لَا تُراعِي فَإِنَّني ***لَكِ اليومَ مِن وَحْشيّةٍ لَصَدِيقُ

وَيَا شِبْهَ لَيْلَى لَا تَزالي بِرَوضَةٍ، ***عَلَيْكِ سَحابٌ دائمٌ وبُرُوقُ

أَقُولُ، وَقَدْ أَطْلَقْتُها مِنْ وِثاقِها: ***لأَنْتِ لِلَيْلى، مَا حَيِيتُ، طَلِيقُ

فَعَيْناكِ عَيْناها وجِيدُكِ جِيدُها، ***سِوى أَنَّ عَظْمَ السَّاقِ مِنْكِ دَقِيقُ

قَالَ الأَزهري: وَقَالُوا راعَه أَمْرُ كَذَا أَي بلَغ الرَّوْعُ رُوعَه.

وَقَالَ غَيْرُهُ: رَاعَنِي الشيءُ أَعجبني.

والأَرْوَعُ مِنَ الرِّجَالِ: الَّذِي يُعْجِبُك حُسْنه.

والرائعُ مِنَ الجَمال: الَّذِي يُعْجِب رُوع مَن رَآهُ فيَسُرُّه.

والرّوْعةُ: المَسْحةُ مِنَ الْجَمَالِ، والرَّوْقةُ: الجَمال الرَّائِقُ.

وَفِي حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ: «إِلى الأَقْيال العَباهِلة الأَرْواعِ»؛ الأَرواعُ: جَمْعُ رَائِعٍ، وَهُمُ الحِسانُ الوُجوهِ، وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ يَرُوعُون النَّاسَ؛ أي يُفْزِعُونهم بمنْظَرِهم هَيْبةً لَهُمْ، والأَوّل أَوجَه.

وَفِي حَدِيثِ صِفَةِ أَهل الْجَنَّةِ: «فيَرُوعُه مَا عَلَيْهِ مِنَ اللِّباس»أَي يُعْجبه حُسنه؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ عَطَاءٍ: " يُكره للمُحرِم كلُّ زِينةٍ رائعةٍ "أَي حَسَنة، وَقِيلَ: كلُّ مُعْجِبة رائقةٍ.

وَفَرَسٌ روْعاء ورائعةٌ: تَرُوعك بعِتْقِها وَصِفَتِهَا؛ قَالَ:

رَائِعَةٌ تَحْمِلُ شَيْخًا رَائِعَا ***مُجَرَّبًا، قَدْ شَهِدَ الوَقائعا

وَفَرَسٌ رائعٌ وامرأَة رَائِعَةٌ كَذَلِكَ، ورَوْعاء بَيِّنة الرَّوَعِ مِنْ نِسْوَةٍ رَوائعَ ورُوعٍ.

والأَرْوَعُ: الرَّجُلُ الْكَرِيمُ ذُو الجِسْم والجَهارة وَالْفَضْلِ والسُّودَد، وَقِيلَ: هُوَ الْجَمِيلُ الَّذِي يَرُوعُك حُسنه ويُعجبك إِذا رأَيته، وَقِيلَ: هُوَ الْحَدِيدُ، وَالِاسْمُ الرَّوَعُ، وَهُوَ بَيِّنُ الرَّوَعِ، وَالْفِعْلُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ وَاحِدٌ، فالمتعدِّي "كَالْمُتَعَدِّي، وَغَيْرُ الْمُتَعَدِّي كَغَيْرِ الْمُتَعَدِّي؛ قَالَ الأَزهري: وَالْقِيَاسُ فِي اشْتِقَاقِ الْفِعْلِ مِنْهُ رَوِعَ يَرْوَعُ رَوَعًا.

وَقَلْبٌ أَرْوَعُ ورُواعٌ: يَرْتاع لحِدّته مِنْ كُلِّ مَا سَمِع أَو رَأَى.

وَرَجُلٌ أَرْوعُ ورُواعٌ: حَيُّ النَّفْسِ ذَكيٌّ.

وَنَاقَةٌ رُواعٌ ورَوْعاء: حديدةُ الفؤادِ.

قَالَ الأَزهري: نَاقَةٌ رُواعة الْفُؤَادِ إِذا كَانَتْ شَهْمةً ذَكِيّة؛ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

رَفَعْتُ لَهَا رَحْلي عَلَى ظَهْرِ عِرْمِسٍ، ***رُواعِ الفُؤادِ، حُرّةِ الوَجْهِ عَيْطَلِ

وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: رَوْعاء مَنْسِمُها رَثِيمٌ دَامِي وَكَذَلِكَ الْفَرَسُ، وَلَا يُوصَفُ بِهِ الذَّكَرُ.

وَفِي التَّهْذِيبِ: فَرَسٌ رُواعٌ، بِغَيْرِ هَاءٍ، وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: فَرَسٌ رَوْعاء لَيْسَتْ مِنَ الرَّائِعَةِ وَلَكِنَّهَا الَّتِي كأَنّ بِهَا فزَعًا مِنْ ذَكائها وخِفّةِ روحِها.

وَقَالَ: فَرَسٌ أَروع كَرَجُلٍ أَروع.

وَيُقَالُ: مَا راعَني إِلا مَجِيئك، مَعْنَاهُ مَا شَعَرْت إِلا بِمَجِيئِكَ كأَنه قَالَ: مَا أَصاب رُوعي إِلا ذَلِكَ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «فَلَمْ يَرُعْني إِلا رَجُلٌ أَخذَ بمَنْكِبي»أَي لَمْ أَشعُر، كأَنه فاجأَه بَغْتةً مِنْ غَيْرِ مَوْعِد وَلَا مَعْرِفة فَرَاعَهُ ذَلِكَ وأَفزعه.

قَالَ الأَزهري: وَيُقَالُ سَقَانِي فُلَانٌ شَرْبةً راعَ بِهَا فُؤادِي أَي بَرَدَ بِهَا غُلّةُ رُوعي؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

سَقَتْني شَرْبةً راعَت فؤادِي، ***سَقاها اللهُ مِن حَوْضِ الرَّسُولِ

قَالَ أَبو زَيْدٍ: ارْتاعَ للخَبَر وارتاحَ لَهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

ورُواعُ القَلْبِ ورُوعُه: ذِهْنُه وخَلَدُه.

والرُّوعُ، بِالضَّمِّ: القَلبُ والعَقْل، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي رُوعِي أَي نَفْسي وخَلَدِي وَبَالِي، وَفِي حديثٍ: نَفْسِي.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ رُوح القُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعي، وَقَالَ: إِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفيَ رِزْقَها فاتَّقُوا اللَّهَ وأَجْمِلُوا فِي الطلَب»؛ قَالَ أَبو عُبَيْدَةُ: مَعْنَاهُ فِي نفْسي وخَلَدي وَنَحْوِ ذَلِكَ، ورُوحُ القُدُس: جِبْرِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.

وَفِي بَعْضِ الطُّرق: " إِنَّ رُوحَ الأَمين نفَثَ فِي رُوعي.

والمُرَوَّعُ: المُلْهَم كأَنّ الأَمر يُلْقَى فِي رُوعه.

وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: إِنّ فِي كُلِّ أُمة مُحَدَّثِين ومُرَوَّعِين، فإِن يَكُنْ فِي هَذِهِ الأُمةِ مِنْهُمْ أَحد فَهُوَ عُمر "؛ المُرَوَّعُ: الَّذِي أُلقي فِي رُوعه الصَّوَابُ والصِّدْق، وَكَذَلِكَ المُحَدَّث كأَنه حُدِّثَ بِالْحَقِّ الْغَائِبِ فَنَطَقَ بِهِ.

وراعَ الشيءُ يَروعُ رُواعًا: رجَع إِلى مَوْضِعِهِ.

وارْتاع كارْتاح.

والرُّواع: اسْمُ امرأَة؛ قَالَ بُشَيْرُ بْنُ أَبي خَازِمٍ:

تَحَمَّلَ أَهلُها مِنْهَا فَبانُوا، ***فأَبْكَتْني مَنازِلُ للرُّواعِ

وَقَالَ رَبِيعة بْنُ مَقْرُوم:

أَلا صَرَمَتْ مَوَدَّتَكَ الرُّواعُ، ***وجَدَّ البَيْنُ مِنْهَا والوَداعُ

وأَبو الرُّواعِ: مِنْ كُناهم.

شَمِرٌ: رَوَّع فُلَانٌ خُبْزه ورَوَّغَه إِذا رَوَّاه.

وَقَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ فِي تَرْجَمَةِ عَجَسَ فِي شَرْحِ بَيْتِ الرَّاعي يَصِفُ إِبلًا: غَيْر أَروعا، قَالَ: الأَرْوَعُ الَّذِي يَرُوعك جَماله؛ قَالَ: وَهُوَ أَيضًا الَّذِي يُسْرِعُ إِليه الارْتياعُ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


46-لسان العرب (علم)

علم: مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ العَلِيم والعالِمُ والعَلَّامُ؛ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}، وَقَالَ: {عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ}، وَقَالَ: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ}، فَهُوَ اللهُ العالمُ بِمَا كَانَ وَمَا يكونُ قَبْلَ كَوْنِه، وبِمَا يكونُ ولَمَّا يكُنْ بعْدُ قَبْل أَنْ يَكُونَ، لَمْ يَزَل عالِمًا وَلَا يَزالُ عَالِمًا بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خافيةٌ فِي الأَرض وَلَا فِي السَّمَاءِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أحاطَ عِلْمُه بِجَمِيعِ الأَشياء باطِنِها وظاهرِها دقيقِها وجليلِها عَلَى أَتَمِّ الإِمْكان.

وعَليمٌ، فَعِيلٌ: مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالِغَةِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ للإِنسان الَّذِي عَلَّمه اللهُ عِلْمًا مِنَ العُلوم عَلِيم، كَمَا قَالَ يُوسُفُ للمَلِك: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ.

وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ: فأَخبر عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ مِنْ عبادِه مَنْ يَخْشَاهُ}، وَأَنَّهُمْ هُمُ العُلمَاء، وَكَذَلِكَ صِفَةُ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَانَ عَلِيمًا بأَمْرِ رَبِّهِ وأَنه وَاحِدٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ إِلَى مَا عَلَّمه اللَّهُ مِنْ تأْويل الأَحاديث الَّذِي كَانَ يَقْضِي بِهِ عَلَى الْغَيْبِ، فَكَانَ عَلِيمًا بِمَا عَلَّمه اللهُ.

وَرَوَى الأَزهري عَنْ سَعْدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ المُقْري فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ}، قَالَ: لَذُو عَمَلٍ بِمَا عَلَّمْناه، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِمَّن سَمِعْتَ هَذَا؟ قَالَ: مِنِ ابْنِ عُيَيْنةَ، قلتُ: حَسْبي.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الْحَدِيثِ وَلَكِنَّ العِلْم بالخَشْية "؛ قَالَ الأَزهري: وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ قولُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ}.

وَقَالَ بَعْضُهُمُ: العالمُ الَّذِي يَعْملُ بِمَا يَعْلَم، قَالَ: وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ ابْنِ عُيَيْنَةَ.

والعِلْمُ: نقيضُ الْجَهْلِ، عَلِم عِلْمًا وعَلُمَ هُوَ نَفْسُه، وَرَجُلٌ عالمٌ وعَلِيمٌ مِنْ قومٍ عُلماءَ فِيهِمَا جَمِيعًا.

قَالَ سِيبَوَيْهِ: يَقُولُ عُلَماء مَنْ لَا يَقُولُ إِلَّا عالِمًا.

قَالَ ابْنُ جِنِّي: لمَّا كَانَ العِلْم قَدْ يَكُونُ الْوَصْفُ بِهِ بعدَ المُزاوَلة لَهُ وطُولِ المُلابسةِ صَارَ كَأَنَّهُ غريزةٌ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى أَوَّلِ دُخُولِهِ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مُتعلِّمًا لَا عالِمًا، فَلَمَّا خَرَجَ بِالْغَرِيزَةِ إِلَى بَابِ فَعُل صَارَ عالمٌ فِي الْمَعْنَى كعَليمٍ، فكُسِّرَ تَكْسيرَه، ثُمَّ حملُوا عَلَيْهِ ضدَّه فَقَالُوا جُهَلاء كعُلَماء، وَصَارَ عُلَماء كَحُلَماء لأَن العِلمَ محْلَمةٌ لِصَاحِبِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ جَاءَ عَنْهُمْ فاحشٌ وفُحشاء لَمَّا كَانَ الفُحْشُ مِنْ ضُرُوبِ الْجَهْلِ وَنَقِيضًا للحِلْم، قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وجمعُ عالمٍ عُلماءُ، وَيُقَالُ عُلّام أَيْضًا؛ قَالَ يَزِيدُ بْنُ الحَكَم:

ومُسْتَرِقُ القَصائدِ والمُضاهِي، ***سَواءٌ عِنْدَ عُلّام الرِّجالِ

وعَلّامٌ وعَلّامةٌ إِذَا بَالَغْتَ فِي وَصْفِهِ بالعِلْم أَيْ عَالِمٌ جِدًا، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ، كَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ دَاهِيَةً مِنْ قَوْمٍ عَلّامِين، وعُلّام مِنْ قَوْمٍ عُلّامين؛ هَذِهِ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.

وعَلِمْتُ الشيءَ أَعْلَمُه عِلْمًا: عَرَفْتُه.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَتَقُولُ عَلِمَ وفَقِهَ أَي تَعَلَّم وتَفَقَّه، وعَلُم وفَقُه أَيْ سادَ العلماءَ والفُقَهاءَ.

والعَلّامُ والعَلّامةُ: النَّسَّابةُ وَهُوَ مِنَ العِلْم.

قَالَ ابْنُ جِنِّي: رَجُلٌ عَلّامةٌ وَامْرَأَةٌ عَلّامة، لَمْ تَلْحَقِ الْهَاءُ لتأْنيث الموصوفِ بِمَا هِيَ فِيهِ، وَإِنَّمَا لَحِقَتْ لإِعْلام السَّامِعِ أَنَّ هَذَا الموصوفَ بِمَا هِيَ فِيهِ قَدْ بلَغ الغايةَ والنهايةَ، فَجَعَلَ تأْنيث الصِّفَةِ أَمارةً لِمَا أُريدَ مِنْ تأْنيث الْغَايَةِ والمُبالغَةِ، وسواءٌ كَانَ الموصوفُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ مُذَكَّرًا أَوْ مُؤَنَّثًا، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْهَاءَ لَوْ كَانَتْ فِي نَحْوِ امْرَأَةٍ عَلّامة وفَرُوقة وَنَحْوِهِ إِنَّمَا لَحِقت لأَن الْمَرْأَةَ مُؤَنَّثَةٌ لَوَجَبَ أَنْ تُحْذَفَ فِي المُذكَّر فَيُقَالُ رَجُلٌ فَروقٌ، كَمَا أَنَّ الْهَاءَ فِي قَائِمَةٍ وظَريفة لَمَّا لَحِقَتْ لتأْنيث الْمَوْصُوفِ حُذِفت مَعَ تَذْكِيرِهِ فِي نَحْوِ رَجُلٍ قَائِمٍ وَظَرِيفٍ وَكَرِيمٍ، وَهَذَا وَاضِحٌ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} الَّذِي لَا يَعْلَمُه إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.

وعَلَّمه العِلْم وأَعْلَمه إِيَّاهُ فتعلَّمه، وَفَرَّقَ سِيبَوَيْهِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: عَلِمْتُ كأَذِنْت، وأَعْلَمْت كآذَنْت، وعَلَّمْته الشيءَ فتَعلَّم، وَلَيْسَ التشديدُ هُنَا لِلتَّكْثِيرِ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: « إِنَّكَ غُلَيِّمٌ مُعَلَّم أَيْ مُلْهَمٌ للصوابِ والخيرِ كَقَوْلِهِ تعالى: {مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أَيْ لَهُ مَنْ يُعَلِّمُه} ».

ويقالُ: تَعلَّمْ فِي مَوْضِعِ اعْلَمْ.

وَفِي حَدِيثِ الدَّجَّالِ: « تَعَلَّمُوا أَنَّ رَبَّكم لَيْسَ بأَعور بِمَعْنَى اعْلَمُوا، وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: تَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَيْسَ يَرَى أحدٌ مِنْكُمْ رَبَّه حَتَّى يَمُوتَ »، كُلُّ هَذَا بِمَعْنَى اعْلَمُوا؛ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ:

تَعَلَّمْ أنَّ خيْرَ الناسِ طُرًّا ***قَتِيلٌ بَيْنَ أحْجارِ الكُلاب

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الْبَيْتُ لمعديكرِب بن الحرث بْنِ عَمْرِو بْنِ حُجْر آكِلِ المُرار الكِنْدي الْمَعْرُوفُ بغَلْفاء يَرْثي أَخَاهُ شُرَحْبِيل، وَلَيْسَ هُوَ لِعَمْرِو بْنِ معديكرب الزُّبَيدي؛ وَبَعْدَهُ:

تَداعَتْ حَوْلَهُ جُشَمُ بنُ بَكْرٍ، ***وأسْلَمَهُ جَعاسِيسُ الرِّباب

قَالَ: وَلَا يُسْتَعْمَلُ تَعَلَّمْ بِمَعْنَى اعْلَمْ إِلَّا فِي الأَمر؛ قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ زُهَيْرٍ: " تَعَلَّمْ أنَّ خَيْرَ الناسِ مَيْتًا وقول الحرث بْنِ وَعْلة: فَتَعَلَّمِي أنْ قَدْ كَلِفْتُ بِكُمْ "قَالَ: واسْتُغْني عَنْ تَعَلَّمْتُ بِعَلِمْتُ.

قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: تَعَلَّمْتُ أَنَّ فُلَانًا خَارِجٌ بِمَنْزِلَةِ عَلِمْتُ.

وتعالَمَهُ الجميعُ أَيْ عَلِمُوه.

وعالَمَهُ فَعَلَمَه يَعْلُمُه، بِالضَّمِّ: غَلَبَهُ بالعِلْم أَيْ كَانَ أعْلَم مِنْهُ.

وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ: مَا كُنْتُ أُراني أَن أَعْلُمَه؛ قَالَ الأَزهري: وَكَذَلِكَ كَلُّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ بِالْكَسْرِ فِي يَفْعلُ فَإِنَّهُ فِي بَابِ الْمُغَالَبَةِ يَرْجِعُ إِلَى الرَّفْعِ مِثْلَ ضارَبْتُه فَضَرَبْتُهُ أضْرُبُه.

وعَلِمَ بِالشَّيْءِ: شَعَرَ.

يُقَالُ: مَا عَلِمْتُ بِخَبَرِ قُدُومِهِ أَيْ مَا شَعَرْت.

وَيُقَالُ: اسْتَعْلِمْ لِي خَبَر فُلَانٍ وأَعْلِمْنِيه حَتَّى أَعْلَمَه، واسْتَعْلَمَني الخبرَ فأعْلَمْتُه إِيَّاهُ.

وعَلِمَ الأَمرَ وتَعَلَّمَه: أَتقنه.

وَقَالَ يَعْقُوبُ: إِذَا قِيلَ لَكَ اعْلَمْ كَذَا قُلْتَ قَدْ عَلِمْتُ، وَإِذَا قِيلَ لَكَ تَعَلَّمْ لَمْ تَقُلْ قَدْ تَعَلَّمْتُ؛ وَأَنْشَدَ:

تَعَلَّمْ أنَّهُ لَا طَيْرَ إِلَّا ***عَلى مُتَطَيِّرٍ، وَهِيَ الثُّبُور

وعَلِمْتُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَلِذَلِكَ أَجازوا عَلِمْتُني كَمَا قَالُوا ظَنَنْتُني ورأَيْتُني وحسِبْتُني.

تَقُولُ: عَلِمْتُ عَبْدَ اللَّهِ عَاقِلًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ عَلِمْتُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى عَرَفْته وخَبَرْته.

وعَلِمَ الرَّجُلَ: خَبَرَه، وأَحبّ أَنْ يَعْلَمَه أَيْ يَخْبُرَه.

وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}.

وَأَحَبَّ أَنْ يَعْلَمه أَيْ أَنْ يَعْلَمَ مَا هُوَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ}.

قَالَ الأَزهري: تَكَلَّمَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، قَالَ: وأبْيَنُ الْوُجُوهِ الَّتِي تأوَّلوا أَنَّ الملَكين كَانَا يُعَلِّمانِ الناسَ وَغَيْرَهُمْ مَا يُسْأَلانِ عَنْهُ، ويأْمران بِاجْتِنَابِ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ وطاعةِ اللَّهِ فِيمَا أُمِروا بِهِ ونُهُوا عَنْهُ، وَفِي ذَلِكَ حِكْمةٌ لأَن سَائِلًا لَوْ سَأَلَ: مَا الزِّنَا وَمَا اللِّوَاطُ؟ لَوَجَبَ أَنْ يُوقَف عَلَيْهِ وَيُعْلَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ، فَكَذَلِكَ مجازُ إِعْلَامِ المَلَكين الناسَ السحرَ وأمْرِهِما السائلَ بِاجْتِنَابِهِ بَعْدَ الإِعلام.

وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ الأَعرابي أَنَّهُ قَالَ: تَعَلَّمْ بِمَعْنَى اعْلَمْ، قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ، قَالَ: وَمَعْنَاهُ أَنَّ السَّاحِرَ يَأْتِي الْمَلَكَيْنِ فَيَقُولُ: أخْبراني عَمَّا نَهَى اللهُ عَنْهُ حَتَّى أَنْتَهِيَ، فَيَقُولَانِ: نَهَى عَنِ الزِّنَا، فَيَسْتَوْصِفُهما الزِّنَا فيَصِفانِه فيقول: وعمَّا ذا؟ فَيَقُولَانِ: وَعَنِ اللِّوَاطِ، ثُمَّ يقول: وعَمَّا ذا؟ فَيَقُولَانِ: وَعَنِ السِّحْرِ، فَيَقُولُ: وَمَا السِّحْرُ؟ فَيَقُولَانِ: هُوَ كَذَا، فَيَحْفَظُهُ وَيَنْصَرِفُ، فَيُخَالِفُ فَيَكْفُرُ، فَهَذَا مَعْنَى يُعلِّمان إِنَّمَا هُوَ يُعْلِمان، وَلَا يَكُونُ تَعْلِيمُ السِّحْرِ إِذَا كَانَ إعْلامًا كُفْرًا، وَلَا تَعَلُّمُه إِذَا كَانَ عَلَى مَعْنَى الْوُقُوفِ عَلَيْهِ لِيَجْتَنِبَهُ كُفْرًا، كَمَا أَنَّ مَنْ عَرَفَ الزِّنَا لَمْ يأْثم بِأَنَّهُ عَرَفه إِنَّمَا يأْثم بِالْعَمَلِ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ}؛ قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّهُ جلَّ ذكرُه يَسَّرَه لأَن يُذْكَر، وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَّمَهُ الْبَيانَ" فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ عَلَّمَه الْقُرْآنَ الَّذِي فِيهِ بَيانُ كُلِّ شَيْءٍ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَّمَهُ البيانَ جَعَلَهُ مميَّزًا، يَعْنِي الإِنسان، حَتَّى انْفَصَلَ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ.

والأَيَّامُ المَعْلُوماتُ: عَشْرُ ذِي الحِجَّة آخِرُها يومُ النَّحْر، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَعْلِيلُهَا فِي ذِكْرِ الأَيام الْمَعْدُودَاتِ، وَأَوْرَدَهُ الْجَوْهَرِيُّ مُنْكِرًا فَقَالَ: والأَيام المعلوماتُ عَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَلَا يُعْجِبني.

ولقِيَه أَدْنَى عِلْمٍ أَيْ قبلَ كُلِّ شَيْءٍ.

والعَلَمُ والعَلَمة والعُلْمة: الشَّقُّ فِي الشَّفة العُلْيا، وَقِيلَ: فِي أَحَدِ جَانِبَيْهَا، وَقِيلَ: هُوَ أَن تنشقَّ فتَبينَ.

عَلِمَ عَلَمًا، فَهُوَ أَعْلَمُ، وعَلَمْتُه أَعْلِمُه عَلْمًا، مِثْلُ كَسَرْته أكْسِرهُ كَسْرًا: شَقَقْتُ شَفَتَه العُليا، وَهُوَ الأَعْلمُ.

وَيُقَالُ لِلْبَعِيرِ أَعْلَمُ لِعَلَمٍ فِي مِشْفَرِه الأَعلى، وَإِنْ كَانَ الشَّقُّ فِي الشَّفَةِ السُّفْلَى فَهُوَ أَفْلَحُ، وَفِي الأَنف أَخْرَمُ، وَفِي الأُذُن أَخْرَبُ، وَفِي الجَفْن أَشْتَرُ، وَيُقَالُ فِيهِ كلِّه أَشْرَم.

وَفِي حَدِيثِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو: « أَنَّهُ كَانَ أَعْلمَ الشَّفَةِ »؛ قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: العَلْمُ مَصْدَرُ عَلَمْتُ شَفَتَه أَعْلِمُها عَلْمًا، وَالشَّفَةُ عَلْماء.

والعَلَمُ: الشَّقُّ فِي الشَّفَةِ العُلْيا، والمرأَة عَلْماء.

وعَلَمَه يَعْلُمُه ويَعْلِمُه عَلْمًا: وَسَمَهُ.

وعَلَّمَ نَفسَه وأَعْلَمَها: وَسَمَها بِسِيما الحَرْبِ.

وَرَجُلٌ مُعْلِمٌ إِذَا عُلِم مكانهُ فِي الْحَرْبِ بعَلامةٍ أَعْلَمَها، وأَعْلَمَ حمزةُ يومَ بَدْرٍ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ:

فَتَعَرَّفوني، إنَّني أَنَا ذاكُمُ ***شاكٍ سِلاحِي، فِي الحوادِثِ، مُعلِمُ

وأَعْلَمَ الفارِسُ: جَعَلَ لِنَفْسِهِ عَلامةَ الشُّجعان، فَهُوَ مُعْلِمٌ؛ قَالَ الأَخطل:

مَا زالَ فِينَا رِباطُ الخَيْلِ مُعْلِمَةً، ***وَفِي كُلَيْبٍ رِباطُ اللُّؤمِ والعارِ

مُعْلِمَةً، بِكَسْرِ اللَّامِ.

وأَعْلَم الفَرَسَ: عَلَّقَ عَلَيْهِ صُوفًا أَحْمَرَ أَوْ أَبْيَضَ فِي الْحَرْبِ.

وَيُقَالُ عَلَمْتُ عِمَّتي أَعْلِمُها عَلْمًا، وَذَلِكَ إِذَا لُثْتَها عَلَى رأْسك بعَلامةٍ تُعْرَفُ بِهَا عِمَّتُك؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

ولُثْنَ السُّبُوبَ خِمْرَةً قُرَشيَّةً ***دُبَيْرِيَّةً، يَعْلِمْنَ فِي لوْثها عَلْما

وقَدَحٌ مُعْلَمٌ: فِيهِ عَلامةٌ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: " رَكَدَ الهَواجِرُ بالمَشُوفِ المُعْلَمِ "والعَلامةُ: السِّمَةُ، وَالْجَمْعُ عَلامٌ، وَهُوَ مِنَ الْجَمْعِ الَّذِي لَا يُفَارِقُ وَاحِدَهُ إلَّا بِإِلْقَاءِ الْهَاءِ؛ قَالَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ:

عَرَفْت بِجَوِّ عارِمَةَ المُقاما ***بِسَلْمَى، أَوْ عَرَفْت بِهَا عَلاما

والمَعْلَمُ مكانُها.

وَفِي التَّنْزِيلِ فِي صِفَةِ عِيسَى، صَلَوَاتُ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَكْثَرِ الْقُرَّاءِ، وقرأَ بَعْضُهُمْ: وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ "؛ الْمَعْنَى أَنَّ ظُهُورَ عِيسَى وَنُزُولَهُ إِلَى الأَرض عَلامةٌ تَدُلُّ عَلَى اقْتِرَابِ السَّاعَةِ.

وَيُقَالُ لِما يُبْنَى فِي جَوادِّ الطَّرِيقِ مِنَ الْمَنَازِلِ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى الطَّرِيقِ: أَعْلامٌ، وَاحِدُهَا عَلَمٌ.

والمَعْلَمُ: مَا جُعِلَ عَلامةً وعَلَمًا للطُّرُق وَالْحُدُودِ مِثْلَ أَعلام الحَرَم ومعالِمِه الْمَضْرُوبَةِ عَلَيْهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: « تَكُونُ الأَرض يَوْمَ الْقِيَامَةِ كقُرْصَة النَّقيِّ لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لأَحد »، هُوَ مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: المَعْلَمُ الأَثر.

والعَلَمُ: المَنارُ.

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: والعَلامةُ والعَلَم الفصلُ يَكُونُ بَيْنَ الأَرْضَيْنِ.

والعَلامة والعَلَمُ: شَيْءٌ يُنْصَب فِي الفَلَوات تَهْتَدِي بِهِ الضالَّةُ.

وَبَيْنَ الْقَوْمِ أُعْلُومةٌ: كعَلامةٍ؛ عَنْ أَبِي العَمَيْثَل الأَعرابي.

وقوله تعالى: {وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِكَالْأَعْلامِ}؛ قَالُوا: الأَعْلامُ الجِبال.

والعَلَمُ: العَلامةُ.

والعَلَمُ: الْجَبَلُ الطَّوِيلُ.

وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: العَلَمُ الْجَبَلُ فَلَمْ يَخُصَّ الطويلَ؛ قَالَ جَرِيرٌ:

إِذَا قَطَعْنَ عَلَمًا بَدا عَلَم، ***حَتَّى تناهَيْنَ بِنَا إِلَى الحَكَم

خَلِيفةِ الحجَّاجِ غَيْرِ المُتَّهَم، ***فِي ضِئْضِئِ المَجْدِ وبُؤْبُؤِ الكَرَم

وَفِي الْحَدِيثِ: « لَيَنْزِلَنَّ إِلَى جَنْبِ عَلَم »، وَالْجَمْعُ أَعْلامٌ وعِلامٌ؛ قَالَ:

قَدْ جُبْتُ عَرْضَ فَلاتِها بطِمِرَّةٍ، ***واللَّيْلُ فَوْقَ عِلامِه مُتَقَوِّضُ

قَالَ كُرَاعٌ: نَظِيرُهُ جَبَلٌ وأَجْبالٌ وجِبالٌ، وجَمَلٌ وأَجْمال وجِمال، وقَلَمٌ وأَقلام وقِلام.

واعْتَلَمَ البَرْقُ: لَمَعَ فِي العَلَمِ؛ قَالَ:

بَلْ بُرَيْقًا بِتُّ أَرْقُبُه، ***بَلْ لَا يُرى إلَّا إِذَا اعْتَلَمَا

خَزَمَ فِي أَوَّل النِّصْفِ الثَّانِي؛ وَحُكْمُهُ: " لَا يُرَى إِلَّا إِذَا اعْتَلَما "والعَلَمُ: رَسْمُ الثوبِ، وعَلَمهُ رَقْمُه فِي أَطْرَافِهِ.

وَقَدْ أَعْلَمَه: جَعَلَ فِيهِ عَلامةً وجعَلَ لَهُ عَلَمًا.

وأَعلَمَ القَصَّارُ الثوبَ، فَهُوَ مُعْلِمٌ، والثوبُ مُعْلَمٌ.

والعَلَمُ: الرَّايَةُ الَّتِي تَجْتَمِعُ إِلَيْهَا الجُنْدُ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُعْقَد عَلَى الرُّمْحِ؛ فأَما قَوْلُ أَبي صَخْرٍ الْهُذَلِيِّ:

يَشُجُّ بِهَا عَرْضَ الفَلاةِ تَعَسُّفًا، ***وأَمَّا إِذَا يَخْفى مِنَ ارْضٍ عَلامُها

فَإِنَّ ابْنَ جِنِّيٍّ قَالَ فِيهِ: يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنه أَراد عَلَمُها، فأَشبع الْفَتْحَةَ فنشأَت بَعْدَهَا أَلِفٌ كَقَوْلِهِ: ومِنْ ذَمِّ الرِّجال بمُنْتزاحِ "يُرِيدُ بمُنْتزَح.

وأَعلامُ القومِ: سَادَاتُهُمْ، عَلَى الْمَثَلِ، الواحدُ كَالْوَاحِدِ.

ومَعْلَمُ الطَّرِيقِ: دَلالتُه، وَكَذَلِكَ مَعْلَم الدِّين عَلَى الْمَثَلِ.

ومَعْلَم كلِّ شَيْءٍ: مظِنَّتُه، وَفُلَانٌ مَعلَمٌ لِلْخَيْرِ كَذَلِكَ، وَكُلُّهُ رَاجِعٌ إِلَى الوَسْم والعِلْم، وأَعلَمْتُ عَلَى مَوْضِعِ كَذَا مِنَ الْكِتَابِ عَلامةً.

والمَعْلَمُ: الأَثرُ يُستَدَلُّ بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ، وَجَمْعُهُ المَعالِمُ.

والعالَمُون: أَصْنَافُ الخَلْق.

والعالَمُ: الخَلْق كلُّه، وَقِيلَ: هُوَ مَا احْتَوَاهُ بطنُ الفَلك؛ قَالَ الْعَجَّاجُ: " فخِنْدِفٌ هامةَ هَذَا العالَمِ جَاءَ بِهِ مَعَ قَوْلِهِ: يَا دارَ سَلْمى يَا اسْلَمي ثمَّ اسْلَمي فأَسَّسَ هَذَا الْبَيْتَ وَسَائِرُ أَبْيَاتِ الْقَصِيدَةِ غَيْرُ مؤسَّس، فعابَ رؤبةُ عَلَى أَبِيهِ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ: قَدْ ذَهَبَ عَنْكَ أَبا الجَحَّاف مَا فِي هَذِهِ، إِنَّ أَباك كَانَ يَهْمِزُ العالمَ والخاتمَ، يَذْهَبُ إِلَى أَن الْهَمْزَ هَاهُنَا يُخْرِجُهُ مِنَ التأْسيس إِذْ لَا يَكُونُ التأْسيس إِلَّا بالأَلف الْهَوَائِيَّةِ.

وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ عَنْهُمْ: بَأْزٌ، بِالْهَمْزِ، وَهَذَا أَيضًا مِنْ ذَلِكَ.

وَقَدْ حَكَى بَعْضُهُمْ: قَوْقَأَتِ الدجاجةُ وحلَّأْتُ السَّويقَ ورَثَأَتِ المرأَةُ زوجَها ولَبَّأَ الرجلُ بِالْحَجِّ، وَهُوَ كُلُّهُ شَاذٌّ لأَنه لَا أَصْلُ لَهُ فِي الْهَمْزِ، وَلَا وَاحِدَ للعالَم مِنْ لَفْظِهِ لأَن عالَمًا جَمَعَ أَشياء مُخْتَلِفَةً، فَإِنْ جُعل عالَمٌ اسْمًا لِوَاحِدٍ مِنْهَا صَارَ جَمْعًا لأَشياء مُتَّفِقَةٍ، وَالْجَمْعُ عالَمُون، وَلَا يُجْمَعُ شَيْءٌ عَلَى فاعَلٍ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ إِلَّا هَذَا، وَقِيلَ: جَمْعُ العالَم الخَلقِ العَوالِم.

وَفِي التَّنْزِيلِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَبِّ الْجِنِّ والإِنس، وَقَالَ قَتَادَةُ: رَبُّ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ.

قَالَ الأَزهري: الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا}؛ وَلَيْسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَذِيرًا لِلْبَهَائِمِ وَلَا لِلْمَلَائِكَةِ وَهُمْ كُلُّهُمْ خَلق اللَّهِ، وَإِنَّمَا بُعث مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَذِيرًا لِلْجِنِّ والإِنس.

وَرُوِيَ" عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ قَالَ: لِلَّهِ تَعَالَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ألفَ عالَم، الدُّنْيَا مِنْهَا عالَمٌ وَاحِدٌ، وَمَا العُمران فِي الْخَرَابِ إِلَّا كفُسْطاطٍ فِي صَحْرَاءَ "؛ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى العالمِينَ كُلَّ مَا خَلق اللَّهُ، كَمَا قَالَ: وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ جَمْعُ عالَمٍ، قَالَ: وَلَا وَاحِدَ لعالَمٍ مِنْ لَفْظِهِ لأَن عالَمًا جَمَعَ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةً، فَإِنْ جُعل عالَمٌ لِوَاحِدٍ مِنْهَا صَارَ جَمْعًا لأَشياء مُتَّفِقَةٍ.

قَالَ الأَزهري: فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِ العالَم، وَهُوَ اسْمٌ بُنِيَ عَلَى مِثَالِ فاعَلٍ كَمَا قَالُوا خاتَمٌ وطابَعٌ ودانَقٌ.

والعُلامُ: الباشِق؛ قَالَ الأَزهري: وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْجَوَارِحِ، قَالَ: وَأَمَّا العُلَّامُ، بِالتَّشْدِيدِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ الأَعرابي أَنه الحِنَّاءُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَحَكَاهُمَا جَمِيعًا كُرَاعٌ بِالتَّخْفِيفِ؛ وَأَمَّا قَوْلُ زُهَيْرٍ فِيمَنْ رَوَاهُ كَذَا:

حَتَّى إِذَا مَا هَوَتْ كَفُّ العُلامِ لَهَا ***طارَتْ، وَفِي كَفِّه مِنْ ريشِها بِتَكُ

فَإِنَّ ابْنَ جِنِّي رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَعْبَدِيِّ عَنِ ابْنِ أُخت أَبي الْوَزِيرِ عَنِ ابْنِ الأَعرابي قَالَ: العُلام هُنَا الصَّقْر، قَالَ: وَهَذَا مِنْ طَريف الرِّوَايَةِ وَغَرِيبِ اللُّغَةِ.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: لَيْسَ أَحد يَقُولُ إِنَّ العُلَّامَ لُبُّ عَجَم النَّبِق إلَّا الطَّائِيَّ؛ قَالَ:

******يَشْغَلُها ***عَنْ حاجةِ الحَيِّ عُلَّامٌ وتَحجِيلُ

وأَورد ابْنُ بَرِّيٍّ هَذَا الْبَيْتُ مُسْتَشْهِدًا بِهِ عَلَى الْبَاشَقِ بِالتَّخْفِيفِ.

والعُلامِيُّ: الرَّجُلُ الْخَفِيفُ الذكيُّ مأْخوذ مِنَ العُلام.

والعَيْلَمُ: الْبِئْرُ الْكَثِيرَةُ الْمَاءِ؛ قَالَ الشَّاعِرُ: " مِنَ العَيالِمِ الخُسُف وَفِي حَدِيثِ الْحَجَّاجِ: « قَالَ لِحَافِرِ الْبِئْرِ أَخَسَفْتَ أَم أَعْلَمْتَ »؛ يُقَالُ: أعلَمَ الحافرُ إِذَا وَجَدَ الْبِئْرَ عَيْلَمًا أَيْ كَثِيرَةَ الْمَاءِ وَهُوَ دُونُ الخَسْفِ، وَقِيلَ: العَيْلَم المِلْحة مِنَ الرَّكايا، وَقِيلَ: هِيَ الْوَاسِعَةُ، وَرُبَّمَا سُبَّ الرجلُ فقيل: يا ابن العَيْلَمِ يَذْهَبُونَ إِلَى سَعَتِها.

والعَيْلَم: الْبَحْرُ.

والعَيْلَم: الْمَاءُ الَّذِي عَلَيْهِ الأَرض، وَقِيلَ: العَيْلَمُ الْمَاءُ الَّذِي عَلَتْه الأَرضُ يَعْنِي المُنْدَفِن؛ حَكَاهُ كُرَاعٌ.

والعَيْلَمُ: التَّارُّ الناعِمْ.

والعَيْلَمُ: الضِّفدَع؛ عَنِ الْفَارِسِيِّ.

والعَيْلامُ: الضِّبْعانُ وَهُوَ ذَكَرُ الضِّباع، وَالْيَاءُ والأَلف زَائِدَتَانِ.

وَفِي خَبَرِ" إِبْرَاهِيمَ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّهُ يَحْمِلُ أَباه ليَجوزَ بِهِ الصراطَ فَيَنْظُرُ إِلَيْهِ فَإِذَا هو عَيْلامٌ أَمْدَرُ "؛ هو ذَكَرُ الضِّباع.

وعُلَيْمٌ: اسْمُ رَجُلٍ وَهُوَ أَبُو بَطْنٍ، وَقِيلَ: هُوَ عُلَيم بْنُ جَناب الْكَلْبِيُّ.

وعَلَّامٌ وأَعلَمُ وَعَبْدُ الأَعلم: أَسْمَاءٌ؛ قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: وَلَا أَدري إِلَى أَيِّ شَيْءٍ نُسِبَ عَبْدُ الأَعلم.

وَقَوْلُهُمْ: عَلْماءِ بَنُو فُلَانٍ، يُرِيدُونَ عَلَى الْمَاءِ فَيَحْذِفُونَ اللَّامَ تَخْفِيفًا.

وَقَالَ شَمِرٌ فِي كِتَابِ السِّلَاحِ: العَلْماءُ مِنْ أَسماء الدُّروع؛ قَالَ: وَلَمْ أَسمعه إِلَّا فِي بَيْتِ زُهَيْرِ بْنِ جَنَابٍ:

جَلَّحَ الدَّهرُ فانتَحى لِي، وقِدْمًا ***كانَ يُنْحِي القُوَى عَلَى أَمْثالي

وتَصَدَّى لِيَصْرَعَ البَطَلَ الأَرْوَعَ ***بَيْنَ العَلْماءِ والسِّرْبالِ

يُدْرِكُ التِّمْسَحَ المُوَلَّعَ في اللُّجَّةِ ***والعُصْمَ في رُؤُوسِ الجِبالِ

وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي ترجمة عله.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


47-تهذيب اللغة (روع ريع)

روع ـ ريع: الرَّوْع: الفرع.

يقال: راعني هذا الأمر يروعني، وارتعْت منه، وروَّعته

فتروَّع.

وقال الليث: وكذلك كل شيء يَروعك منه جمال وكثرة، تقول: راعني فهو رائع.

وفرس رائع.

والأرْوع من الرجال: من له جسم وجَهَارة وفضل وسؤدد.

وهو بيِّن الرَّوَع.

قال والقياس في اشتقاق الفعل منه روع يَرْوَع رَوَعًا.

قال ورُوع القلب: ذهنه وخَلَده.

وفي حديث النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم أنه قال: «إن رُوح القدس نفث في رُوعي وقال: إن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقَها، فاتّقوا الله وأجملوا في الطلب».

قال أبو عبيد: معناه كقولك: في خَلَدي وفي نفْسي ونحو ذلك.

ومن أمثال العرب: أَفرخَ رَوْعُك أي انكشف فزعك، هكذا رُوي لنا عن أبي عبيد: أفرخ رَوْعك، وفسّره لنا: ليذهبْ رُعبك وفزعك؛ فإن الأمر ليس على ما تحاذِر قال: وهذا المثل لمعاوية، كتب به إلى زياد.

وذلك أنه كان على البصرة، والمغيرة بن شُعبة على الكوفة فتوفِّي بها، فخاف زياد أن يولِّي معاويةُ عبدَ الله بن عامر مكانه، فكتب إلى معاوية يخبره بوفاة المغيرة، ويشير عليه بتولية الضحاك بن قيس مكانه ففطن له معاوية وكتب إليه: قد فهمت كتابك، فأمَرِخ رَرْعَك أبا المغيرة، قد ضممنا إليك الكوفة مع البصرة.

قلت: وكلّ من لقيتُه من اللغويين يقول: أفرخ رَوعُه بفتح الراء من روعه، إلا ما أخبرني به المنذري عن أبي الهيثم أنه كان يقول: إنما هو أفرخ رُوعه بضم الراء.

قال ومعناه: خرج الرَّوْع من قلبه قال وأفرِخْ رُوعَك أي اسكُن وامْن.

فالرُوع موضع الرَّوْع وهو القلب.

وأنشد قول ذي الرمة:

* جذلان قد أفرخت عن رُوعِه الكُرَب*

قال: ويقال: أفرخت البيضة إذا خرج الولد منها.

قال: والرَّوْع الفزع، والفزع لا يخرج من الفزع، إنما يخرج من الموضع الذي يكون فيه، وهو الرُّوع.

قال والرَّوع في الروع كالفرخ في البيضة.

يقال أفرخت البيضة إذا انفلقَت عن الفرخ فخرج منها.

قال: وأفرخ فؤاد الرجل إذا خرج رَوْعه منه.

قال وقلبه ذو الرمة على المعرفة بالمعنى فقال:

* جذلان قد أفرخت عن رُوعه الكرب*

قلت: والذي قاله أبو الهيثم بيّن، غير أني أستوحِش منه؛ لانفراده بقوله.

وقد يَستدرك الخلف على السلف أشياء ربما زلّوا فيها، فلا ينكَر إصابة أبي الهيثم فيما ذهب إليه، وقد كان له حظّ من العلم موفور رَحِمه اللهُ.

وفي الحديث المرفوع «إن في كل أمة محدَّثين ومروَّعين، فإن يكن في هذه الأمة منهم أحد فهو عمر».

والمروع الذي ألقي في رُوعه الصواب والصدق، وكذلك المحدَّث؛ كأنه حُدِّث بالحق الغائب فنطق به.

ويقال ما راعني إلّا مجيئك، معناه: ما شعَرت إلّا بمجيئك، كأنه قال: ما أصاب رُوعي إلّا ذلك.

وقالوا: راعه أمر كذا أي بلغ الرَّوْع منه رُوعه.

قال ابن الأنباري: راعني كذا وأنا مَروع أي وقع في رُوعي، وهو النفْس.

والرَّوْع.

الخوف.

ويقال: سقاني فلان شربةً راع بها فؤادي أي بَرَد بها غُلَّة رُوعي بها ومن قول الشاعر:

سقتني شربةً راعت فؤادي *** سقاها الله من حوض الرسول

وقيل: الرائع من الجَمَال: الذي يُعجب رُوع من رآه فيسرّه.

ونحو ذلك قال يعقوب ابن السكيت.

وفي «النوادر»: راع في يدي كذا وكذا، وراق مثله، أي فاد.

ورِيع فلان يُراع إذا فزع.

وفي الحديث أن النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم ركب فرسًا لأبي طلحة عُرْيًا ليلًا لفزع ناب أهل المدينة فلما رجع قال: لن تراعوا، لن تراعوا، إني وجدته بحرًا، معناه: لا فزع ولا رَوْع فاسكُتوا واهدءوا.

ثعلب عن ابن الأعرابي: الرَّوْعة: المَسْحة من الجمال.

والرَدْقة الجمال الرائق.

والوَعْرة: البُقعة المخيفة.

ويقال ناقة رُواعة الفؤاد إذا كانت شهمة ذكيّة.

ويقال فرس رُوَاع بغير هاء.

وقال ذو الرمة:

رفعت له رحلي على ظهر عِرْمس *** رُواع الفؤاد حرَّة الوجه عيطل

أبو زيد ارتاع للخير وارتاح للخير.

شمر روّع فلان خبزه بالسمن وروّغه إذا روّاه.

أبو عبيد: أراعت الحنطة إذا زكت وأرْبَتْ تُربي بمعناها، وبعضهم يقول راعت، وهو قليل.

قال: وقال الأموي: أراعت الإبلُ إذا كثر أولادها.

وناقة مِرْياع؛ وهي التي يعاد عليها السفر.

الحراني عن ابن السكيت قال: الرَيْع: الزيادة يقال طعام كثير الرَّيع.

والرِّيع: المكان المرتفع.

قال الله جلّ وعزّ: {أَتَبْنُونَ بِكُلِ رِيعٍ آيَةً} [الشُّعَرَاء: 128] قال وقال عُمارة: الرِيع: الجبل.

وقال أبو يوسف: الرَّيع مصدر راع عليه القيء يَريعُ إذا عاد إلى جوفه.

ورُوي عن الحسن البصري أنه سئل عن الصائم يَذْرعه القيءُ هل يفطر؟ فقال: إن راع منه إلى جوفه شيء فقد أفطر.

قال أبو عبيد: معناه: إن عاد.

وكذلك كلّ شيء رجع إليك فقد راع يريع.

وقال طرفة:

تَرِيع إلى صوت المُهيب وتتّقي *** بذي خُصَل روعاتِ أكلف مُلْبِد

وقال أبو إسحاق في قول الله جلّ وعزّ: (أَتَبْنُونَ بِكُلِ رِيعٍ آيَةً) قال: يقال رِيع ورَيْع، ومعناهما الموضع من الأرض المرتفعُ.

ومن ذلك كم رَيْع أرضك أي كم ارتفاع أرضك قال: وجاء في التفسير بكل رِيع: كل فج.

قال: والفج الطريق المنفرج في

الجبال خاصّة.

وقال الفراء: الرِيع والرَيع لغتان مثل الرِير والرَير.

وأخبرني المنذري عن ثعلب عن ابن الأعرابي قال: الرِيع: مَسِيل الوادي من كل مكان مشرف.

وجمعه أرياع وريوع.

قال: وأنشد للراعي يصف إبلًا:

لها سَلَف يعوز بكل رِيع *** حَمَى الحوزات واشتهر الإفالا

قال: السلف: الفحل.

حمى الحوزات أي حمى حَوْزاته ألّا يدنو منهن فحل سواه.

واشتهر الإفال: جاء بها تشبهه.

وقال الليث: الرَيْع: فضل كل شيء على أصله؛ نحو رَيْع الدقيق، وهو فضله على كَيل البُرّ، وريع البَذْر: فضل ما يخرج من النُزْل على أصل البَذْر.

ورَيْع الدرع فضول كُمَتِها على أطراف الأنامل.

قال: ورَيْعان كل شيء أفضله وأوله، ورَيْعان المطر أوّله.

قال والرِّيع: السبيل سُلِك أو لم يسلك.

شمر عن أبي عمرو والأصمعيّ وابن الأعرابي: راع يَرِيع وراه يريه أي رجع.

وراع القيء عليه وراه عليه أي رجع.

وتَريَّع السرابُ وتريَّه إذا ذهب وجاء.

وتريَّعت الإهالةُ في الإناء إذا ترقرقت، وتريَّعت يده بالجود إذا فاضت.

وناقة لها رَيْع إذا جاءت بسير بعد سير، كقولهم: بئر ذات غَيِّث.

شمر قال ابن شميل: تريَّع السمنُ على الخبزة وتريَّغ وهو خُلوف بعضه بأعقاب بعض.

وتريَّعْتُ وتورعْت يعني: تلبَّثْت، وتوقّفت.

وأنا متريِّع عن هذا الأمر، ومُثْنَوْنٍ، ومنتقِض، أي منتشر.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com